المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام

جواد علي

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... مقدمة: هذا كتاب في تاريخ العرب قبل الإسلام، وهو في الواقع كتاب جديد، يختلف عن كتابي السابق الذي ظهرت منه ثمانية أجزاء، يختلف عنه في إنشائه، وفي تبوبيه وترتيبه، وفي كثير من مادته أيضًا؛ فقد ضمّنته مادة جديدة، خلا منها الكتاب السابق، تهيأت لي من قراءاتي لكتابات جاهلية عُثر عليها بعد نشر ما نشرت منه، ومن صور كتابات أو ترجماتها أو نصوصها لم تكن قد نشرت من قبل، ومن مراجعاتي لموارد نادرة لم يسبق للحظ أن سعد بالظفر بها أو الوقوف عليها، ومن كتب ظهرت حديثًا بعد نشر هذه الأجزاء، فرأيت إضافتها كلها إلى معارفي السابقة التي جسّدتها في ذلك الكتاب. وقد رأى أستاذي العالم الفاضل السيد محمد بهجت الأثري تسميته: "المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، لما فيه من تفصيل لم يرد في الكتاب السابق؛ فوجدت في اقتراحه رأيًا صائبًا ينطبق كل الانطباق على ما جاء فيه، فسميته بما سمّاه به، مُقَدِّمًا إليه شكري الجزيل على هذا التوجيه الجميل. وكتاباي هذان، هما عمل فردٍ عليه جمع المادة بنفسه، والسهر في تحريرها وتحبيرها، وعليه الإنفاق من ماله الخاص على شراء موارد غير متيسّرة في بلاده، أو ليس في استطاعته مراجعتها بسبب القيود المفروضة على إعارة الكتب، أو لاعتبارات أخرى، ثم عليه البحث عن ناشر يوافق على نشر الكتاب، ثم عليه تصحيح المسودات بنفسه بعد نجاحه في الحصول على ناشر، إلى غير ذلك من أمور تسلبه راحته وتستبد به وتضنيه، ولولا الولع الذي يتحكم في المؤلفين في هذه البلاد، لما أقدم إنسان على تأليف كتاب.

وإن عملًا يتم بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة، لا يمكن أن يرضي المؤلف أو يسعده؛ لأنه عمل يعتقد أنه مهما اتفق فيه من جهد وطاقة واجتهاد؛ فلن يكون على الشكل الذي يتوخّاه أو يريده، والصورة التي رسمها في فكره وتصوّرها له. ولولا طمع المؤلف في كرم القراء بتبرّعهم في تقويم عوجه وإصلاح أغلاطه وإرشاده إلى خير السبل المؤدية إلى التقويم والإصلاح، ولولا اعتقاده أن في التردد أو الإحجام سلبية لا تنفع، بل إن فيها ضررًا، وإن كتابًا يؤلَّف وينشر على ما يجمع من عيوب ونقائص خير من لا شيء. أقول: لولا هذه الاعتبارات لما تجرأت، فأخرجت كتابًا وعددتني مؤلفًا من المؤلفين. وأنا إذ أقول هذا القول وأثبته، لا أريد أن أكون مرائيًا لابسًا ثوب التواضع لأتظاهر به على شاكلة كثير من المرائين. وإنما أقول ذلك حقًا وصدقًا؛ فأنا رجل أعتقد أن الإنسان مهما حاول أن يتعلم، فإنه يبقى إلى خاتمة حياته جاهلًا، كل ما يصل إليه من العلم هو نقطة من بحر لا ساحل له. ثم إني ما زلت أشعر أني طالب علم، كلما ظننت أني انتهيت من موضوع، وفرحت بانتهائي منه، أدرك بعد قليل أن هناك علمًا كثيرًا فاتني، وموارد جمّة لم أتمكن من الظفر بها، فأتذكر الحكمة القديمة "العجلة من الشيطان". وقد رأيت في هذا الكتاب شأني في الكتاب السابق، ألّا أنصِّب نفسي حاكمًا تكون وظيفته إصدار أحاكم قاطعة، وإبداء آراء في حوادث تاريخية مضى زمن طويل عليها؛ بل أكتفي بوصف الحادث وتحليله كما يبدو لي. وقد لا تُعجب طريقتي هذه كثيرًا من القراء، وعذري أني لا أكتب لإرضاء الناس، ولا أدوّن لشراء العواطف؛ وإنما أكتب ما أعتقده وأراه بحسب علمي وتحقيقي، والرأي عندي أن التأريخ تحليل ووصف لما وقع ويقع، وعلى المؤرخ أن يجهد نفسه كل الإجهاد للإحاطة به، بالتفتيش عن كل ما ورد عنه، ومناقشة ذلك مناقشة تمحيص ونقد عميقين، ثم تدوين ما يتوصل إليه بجدّه واجتهاده تدوينًا صادقًا على نحو ما ظهر له وما شعر به، متجنبًا إبداء الأحكام والآراء الشخصية القاطعة على قدر الاستطاعة. لقد قلت في مقدمة الجزء الأول من كتابي السابق: "والكتاب بحث، أردت جهد طاقتي أن يكون تفصيليًّا، وقد يعاب عليّ ذلك، وعذري في هذا

التفصيل أنني أريد تمهيد الجادة لمن يأتي بعدي فيرغب في التأليف في هذا الموضوع، وأنني أكتب للمتتبِّعين والمتخصصين، ومن حق هؤلاء المطالبة بالمزيد. وقد فعلت في هذا الكتاب ما فعلته في الأجزاء الثمانية من الكتاب السابق من تقصّي كل ما يرد عن موضوع من الموضوعات في الكتابات وفي الموارد الأخرى، وتسجيله وتدوينه؛ ليقدم للقارئ أشمل بحث وأجمع مادة في موضوع يطلبه؛ لأن غايتي من هذا الكتاب أن يكون "موسوعة" في الجاهلية والجاهليين، لا أدعِ شيئًا عنها أو عنهم إلا ذكرته في محله؛ ليكون تحت متناول يد القارئ، فكتابي هذا وذاك هما للمتخصصين وللباحثين الذين يطمعون في الوقوف على حياة الجاهلية بصورة تفصيلية، ولم يكتبا للذين يريدون الإلمام بأشياء مجملة عن تلك الحياة. والكتاب لذلك سيخرج في أجزاء، لا أستطيع تحديد عددها الآن ولكني أقول بكل تأكيد أنها ستزيد على العشرة، وأنها ستتناول كل نواحي الحياة عند الجاهليين: من سياسية، واجتماعية، ودينية، وعلمية، وأدبية، وفنية، وتشريعية. لقد أشار عليّ بعض الأصدقاء أن أُدخل في العرب كل الساميّين، وأن أتحدث عنهم في كتابي هذا كما أتحدث عن العرب؛ لأن وطن الساميين الأول هو جزيرة العرب، ومنه هاجروا إلى الأماكن المعروفة التي استقروا فيها؛ فهم في ذلك مثل القبائل العربية التي تركت بلاد العرب، واستقرت في العراق وفي بادية الشام وبلاد الشام، لا يختلفون عنهم في شيء، ثم قالوا: فإذا كنت قد تحدثت عن تلك القبائل المهاجرة على أنها قبائل عربية، فلِمَ تسكت عن أولئك الساميين، ولم تجعلهم من العرب؟ وجوابي أن القبائل العربية المهاجرة هي قبائل معروفة الأصل وقد نصّت الكتابات والموارد الأخرى على عروبتها، ونسبت نفسها إلى جزيرة العرب، ولهجاتها لهجات عربية، لا ريب في ذلك ولا نزاع، وثقافتها عربية. أما الشعوب السامية؛ فليس بين العلماء -كما سنرى- اتفاق على وطنها الأول، وليس بينها شعب واحد نسب نفسه إلى العرب، وليس في الموارد التأريخية الواصلة إلينا مورد واحد يشير إلى أنها عربية؛ ولهجاتها وإن اشتركت كلها في أمور،

فإنها تختلف أيضًا في أمور كثيرة، هي أكثر من مواطن الاشتراك والالتقاء، ففرق كبير إذن بين هذه الشعوب وبين القبائل العربية من حيث العروبة. ثم إن العروبة في نظري ليس بها حاجة إلى ضم هذه الشعوب إليها، لإثبات أنها ذات أصل تئول إليه؛ فقد أعطى الله تلك الشعوب تأريخًا ثم محاه عنهم، وأعطى العرب تأريخًا أينع في القديم واستمر حتى اليوم، ثم إن لهم من الحضارة الإسلامية ما يغنيهم عن التفتيش عن مجد غيرهم وعن تركاتهم، لإضافتها إليهم؛ فليس في العرب مركب نقص حتى نضيف إليهم من لم يثبُت أنهم منهم، لمجرد أنهم كانوا أصحاب حضارة وثقافة، وأن جماعة من العلماء ترى أنهم كانوا من جزيرة العرب، والرأي عندي أن العرب لو نبشوا تربة اليمن وبقيّة الترب لما احتاجوا إلى دعوة من يدعو إلى هذا الترقيع؛ فأنا من أجل هذا لا أستطيع أن أضم أحدًا من هؤلاء إلى الأسرة العربية بالمعنى الاصطلاحي المعروف المفهوم، من لفظة العرب عندنا؛ إلا إذا توافرت الأدلة، وثبت بالنص أنهم من العرب حقًا، وأنهم كانوا في جزيرة العرب حقًا. نعم، لقد قلت إن مصطلح الشعوب العربية هو أصدق اصطلاح يمكن إطلاقه على تلك الشعوب، وإن الزمان قد حان لاستبدال مصطلح "عربي" و"عربية" بـ"سامي" و"سامية"، وقلت أشياء أخرى شرحتها في الجزء الثاني من الكتاب السابق في تعليل ترجيح هذه التسمية1. ولكن لم أقصد ولن أقصد أن تلك الشعوب هي قبائل عربية مثل الشعوب والقبائل العربية المعروفة. فالسامية وحدة ثقافية، اصطلح عليها اصطلاحًا، والعروبة وحدة ثقافية وجنسية وروابط دموية وتأريخية، وبين المفهومين فرق كبير. إن مما يثير الأسف -والله- في النفوس أن نرى الغربيين يعنون بتأريخ الجاهلية ويجدّون في البحث عنه والكشف عن مخلفاته وتركاته في باطن الأرض، ونشره بلغاتهم، ولا نرى حكوماتنا العربية ولا سيما حكومات حزيرة العرب، إلا منصرفة عنه، لا تعنى بالآثار العناية اللازمة لها، ولا تسأل الخبراء رسميًا وباسمها البحث عن العاديات والتنقيب في الخرائب الجاهلية لاستخراج ما فيها من كنوز، وجمعها في دار للمحافظة عليها ولاطلاع الناس عليها. وقد يكون عذر هذه الحكومات

_ 1 "ص287"

أن الناس هناك ينظرون إلى التماثيل نظرتهم إلى الأصنام والأوثان، وإلى استخراج الآثار والتنقيب عن العاديات نظرتهم إلى بعث الوثنية وإحياء معالم الشرك، وهي من أجل هذا تخشى الرأي العام، وإني على كل حال أرجو أن تزول هذه الأحوال في المستقبل القريب، وأن يدرك عرب الجزيرة أهمية الآثار في الكشف عن تأريخ هذه الأمة العربية القديمة. كذلك أرجو أن تنتبه حكومات جزيرة العرب لأهمية موضوع التخصص بتأريخ العرب القديم، وأن تكلف شبانها دراسة علم الآثار ودراسة لهجات العرب قبل الإسلام والأقلام العربية الجاهلية، ليقوموا هم أنفسهم بالبحث والتنقيب في مواطن العاديات المنبثة في مواطن كثيرة من الجزيرة. ورجاء آخر أتمنى على جامعة الدول العربية والدول العربية أن يحققوه، وهو إرسال بعثات من المتخصصين بالآثار وباللهجات والأقلام العربية القديمة إلى مواطن الآثار في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية والمواضع الأخرى من جزيرة العرب للتنقيب عن الآثار، والكشف عن تأريخ الجزيرة المطمور تحت الأتربة والرمال، ونشره نشرًا علميًا، بدلًا من أن يكون اعتمادنا في ذلك على الغربيين. أفلا يكون من العار علينا أن نكون عالة عليهم في كل أمر. حتى في الكشف عن تأريخنا القديم! وأضيف إلى هذا الرجاء رجاء آخر هو أن تقوم أيضا بتدوين معجم في اللهجات العربية الجاهلية، تستخرجه من الكتابات التي عُثر عليها، وبتأليف كتب في نحوها وصرفها، وترجمة الكتب الأمهات التي وضعها المؤلفون الأجانب في تأريخ الجاهلية، ترجمة دقيقة تنأى عن المسخ الذي وقع في ترجمة بعض تلك المؤلفات فأشاع الغلط ونشر التخريف. لقد راجعت بعض المستشرقين الباحثين في تأريخ العرب القديم، وسألت بعض من ساح في جزيرة العرب في هذه الأيام، وبعض الشركات العاملة فيها، في آخر ما توصلوا إليه من بحوث، وعثروا عليه من عاديات؛ فوجدت منهم كل معونة، وأرسلوا وما برحوا يرسلون أجوبتهم إليّ بكل ترحاب ولطف، وكتبت إلى بعض حكومات جزيرة العرب وإلى بعض المسئولين من أصحاب المكانة فيها والنفوذ مرارًا، وأسألها وأسألهم عن العاديات وعن الآثار التي عثر عليها

حديثًًا في بلادهم؛ فلم أسمع من الاثنين جوابًا، وإني إذ أكتب هذه الملاحظة المرّة المؤسفة؛ إنما أرمي بها إلى التنبيه ولفت أنظار أولي الأمر أصحاب الحكم والسلطان؛ فمن واجب المسئول إجابة السائل، ولا سيما أن القضية قضية تخص البلاد المذكورة بالذات والعرب عمومًا، وقبيح أن ينبري الغريب، فيساعد طالب بحث عن تأريخ أمته وإخوته، ويستنكف المسئولون من أبناء هذه الأمة عن تنفيذ طلب لا يكلفهم شيئًا، وهو خطير يتعلق بتأريخ هذه الأمة قبل الإسلام وإذاعته أولًا، وهو واجب من واجباتهم التي نصبوا من أجلها ثانيًا. لقد تمكن الباحثون في التأريخ الجاهلي، من سياح وعلماء، من الارتقاء بتأريخ الجاهلية بمئات من السنين قبل الميلاد، وذلك على وجه صحيح لا مجال للشك فيه، مع أن بحوثهم هذه لم تنزل سوى أمتار في باطن الآثار وفي أماكن محدودة معينة، وسوف يرتفع مدى هذه التأريخ إلى مئات أخرى، وربما يتجاوز الألفي سنة أو أكثر قبل الميلاد إذا أتيحت الفرص للعلماء في الحفر في مواضع الآثار حفرًا علميًا بالمعنى الحديث المفهوم من "الحفر". وأنا لا أستبعد بلوغ هذا التأريخ الجاهلي في يوم من الأيام التأريخ الذي وصل إليه العلماء في مصر وفي العراق، أو في أماكن أخرى عرفت بقدم تأريخها، بل لا أستبعد أيضًا أن يتقدم هذا التأريخ تأريخ بعض الأماكن المذكورة. وبعد هذا، لا بد لي هنا من الاعتراف بفضل رجل، له على هذا الكتاب وعلى الكتاب الأول يد ومنّة، وله كذلك على مؤلفهما فضل سابق، يسبق زمن تأليف كتابيه بأمد طويل، هو فضل الإرشاد والتوجيه والتعليم. وأريد به الأستاذ العلامة الفاضل السيد محمد بهجت الأثري، العضو العامل في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وعضو المجمع العلمي العربي بدمشق، وعضو المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة؛ فلقد كان لي ولأمثالي من الدارسين والباحثين -ولا يزال- مرشدًا وموجهًا ومشوقًا لدراسة التراث العربي والتراث الإسلامي والتأليف وفي ذلك، مذ كنت تلميذه في الإعدادية المركزية ببغداد أتلقى عنه في جملة من كانوا يتلقون عنه الأدب العربي؛ فكان يشوّقنا بأسلوبه الجذاب، وبتأثيره القوي المعروف، إلى التوسع في دراسة الأدب العربي وتأريخ الأمة العربية، وهو ما برح يحثّني على الإسراع في إتمام هذا الكتاب وإخراجه للناس، قارئًا مسوداته، ومبديًا آراءه، وإرشاداته وملاحظاته القيمة، التي أفادتني -والحق

أقول- كثيرًا. وهما فضلان لن ينساهما تلميذ يقدّر الفضل لأستاذ كريم يفني نفسه في تربية الأجيال ونشر الأدب والعلم. وبعد؛ فهذا الكتاب هو جمعي وترتيبي، فأنا المسئول عنه وحدي، وليس لأحد محاسبة غيري عليه، اجتهدت ألا أضمّنه إلا الحق والصواب من العلم على قدر طاقتي واجتهادي، فإن أكن قد وفقت فيما قصدت إليه وأردته؛ فذلك حسبي وكفى، لا أريد حمدًا ولا شكرًا؛ لأني قمت بواجب، وعملت عن شوق ورغبة وولع قديم بهذا الموضوع يرجع إلى أيام دارستي الأولى؛ فليس لي فضل ولا منّة، وإن كان فيه حسنًا فهو للعلماء الذين اعتمدت عليهم وأخذت منهم، وليس لي فيه غير الجمع والتأليف. وإن أخفقت فيه فذلك مبلغ علمي واجتهادي، أديته بعد تعب، لا أملك أكبر منه، وبغيتي حسن التوجيه والإرشاد وتقويم الأود، وتصحيح الأغلاط؛ فالنقد العلمي الحق إنشاء وبناء، والمدح والإطراء في نظري إبعاد لطالبي العلم من أمثالي عن العمل والتقدم، وسبب يؤدي إلى الخيلاء والضلال، وفوق كل ذي علم عليم. جواد علي

الفصل الأول: تحديد لفظة العرب

الفصل الأول: تحديد لفظة العرب نطلق لفظة "العرب" اليوم على سكّان بلاد واسعة، يكتبون ويؤلفون وينشرون ويخاطبون بالإذاعة والتلفزيون" بلغة واحدة، نقول لها: لغة العرب أو لغة الضاد أو لغة القرآن الكريم. وإن تكلموا وتفاهموا وتعاملوا فيما بينهم وفي حياتهم اليومية أدّوا ذلك بلهجات محلية متباينة؛ ذلك لأن تلك اللهجات إذا أًرجعت رجعت إلى أصل واحد هو اللسان العربي المذكور، وإلى ألسنة قبائل عربية قديمة، وإلى ألفاظ أعجمية دخلت تلك اللهجات بعوامل عديدة لا يدخل البحث في بيان أسبابها في نطاق هذا البحث. ونحن إذْ نطلق لفظة "عرب" و"العرب" على سكان البلاد العربية؛ فإنما نطلقها إطلاقًًا عامًا على البدو وعلى الحضر، لا نفرق بين طائفة من الطائفتين، ولا بين بلد وبلد. نطلقها بمعنى جنسية وقومية وعلم على رسٍّ له خصائص وسمات وعلامات وتفكير يربط الحاضرين بالماضين كما يربط الماضي بالحاضر. واللفظة بهذا المعنى وبهذا الشكل، مصطلح يرجع إلى ما قبل الإسلام؛ ولكنه لا يرتقي تأريخيًّا إلى ما قبل الميلاد، بل لا يرتقي عن الإسلام إلى عهد جدّ بعيد؛ فأنت إذا رجعت إلى القرآن الكريم، وإلى حديث رسول الله، وجدت للفظة مدلولًا يختلف عن مدلولها في النصوص الجاهلية التي عُثر عليها حتى الآن أو في التوراة والإنجيل والتلمود وبقية كتب اليهود والنصارى وما بقي من مؤلفات

يونانية ولاتينية تعود إلى ما قبل الإسلام. فهي في هذه أعراب أهل وبر، أي طائفة خاصة من العرب. أما في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي، وفي الشعر المعاصر للرسول؛ فإنها علم على الطائفتين واسم للسان الذي نزل به القرآن الكريم، لسان أهل الحضر ولسان أهل الوبر على حد سواء. {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 2. وإذا ما سألتني عن معنى لفظة "عرب" عند علماء العربية؛ فإني أقول لك: إن لعلماء العربية آراء في المعنى، تجدها مسطورة في كتب اللغة وفي المعجمات؛ ولكنها كلها من نوع البحوث المألوفة المبنية على أقوال وآراء لا تعتمد على نصوص جاهلية ولا على دراسات عميقة مقارنة، وُضعت على الحدس والتخمين، وبعد حيرة شديدة في إيجاد تعليل مقبول فقالوا ما قالوه مما هو مذكور في الموارد اللغوية المعروفة، وفي طليعتها المعجمات وكتب الأدب، وكل آرائهم تفسير اللفظة وفي محاولة إيجاد أصلها ومعانيها، هو إسلامي، دوّن في الإسلام. وترى علماء العربية حَيَارى في تعيين أول من نطق بالعربية؛ فبينما يذهبون إلى أن "يعرب" كان أول من أعرب في لسانه وتكلم بهذا اللسان العربي، ثم يقولون: ولذلك عرف هذا اللسان باللسان العربي، وتراهم يجعلون العربية لسان أهل الجنة ولسان آدم، أي: أنهم يرجعون عهده إلى مبدأ الخليقة، وقد كانت الخليقة قبل خَلْق "يعرب" بالطبع بزمان طويل، ثم تراهم يقولون: أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيلُ، أُلْهِم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهامًا، وكان أول من فُتِق لسانه بالعربية المبينة، وهو ابن أربع عشرة سنة3. وإسماعيل هو جدّ العرب المستعربة على حد قولهم. والقائلون إن "يعرب" هو أول من أعرب في لسانه، وإنه أول من نطق

_ 1 سورة النحل. رقم 16 الآية 103. 2 سورة فصلت. رقم 41 الآية 44. 3 تاج العروس "2/ 352"، طبعة الكويت" "عرب"، اللسان "2/ 75" المزهر "1/ 30"، فما بعدها"، ابن خلدون "2/ 86".

بالعربية، وإن العربية إنما سميت به؛ فأخذت من اسمه، إنما هم القحطانيون، وهم يأتون بمختلف الروايات والأقوال لإثبات أن القحطانيين هم أصل العرب، وأن لسانهم هو لسان العرب الأول، ومنهم تعلّم العدنانيون العربية، ويأتون بشاهد من شعر "حسان بن ثابت" على إثبات ذلك، يقولون: إنه قاله، وإن قوله هذا هو برهان على أن منشأ اللغة العربية هو من اليمن. يقولون إنه قال: تعلمتم من منطق الشيخ يعرب ... أبينا؛ فصرتم معربين ذوي نفر وكنتم قديمًا ما بكم غير عجمة ... كلام، وكنتم كالبهائم في القفر1 ولم يكن يخطر ببال هؤلاء أن سكان اليمن قبل الإسلام كانوا ينطقون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، وأن من سيأتي سيكتشف سرّ "المسنَد"، ويتمكن بذلك من قراءة نصوصه والتعرف على لغته، وأن عربيته هي عربية تختلف عن هذه العربية التي ندوّن بها، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام بالطبع إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الجنوبية الأخرى من العربية، وقصر العربية على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وعلى ما تفرع منها من لهجات كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. وهو رأي يمثل رأي العدنانيين خصوم القحطانيين. والقائلون إن يعرب هو جدّ العربية وموجدها، عاجزون عن التوفيق بين رأيهم هذا ورأيهم في أن العربية قديمة قدم العالم، وأنها لغة آدم في الجنة، ثم هم عاجزون أيضًا عن بيان كيف كان لسان أجداد "يعرب" وكيف اهتدى "يعرب" إلى استنباطه لهذه اللغة العربية، وكيف تمكن من إيجاده وحده لها من غير مؤازرة ولا معين؟ إلى غير ذلك من أسئلة لم يكن يفطن لها أهل الأخبار في ذلك الزمن، وللإخباريين بعد كلام في هذا الموضوع طويل، الأشهر منه القولان المذكوران ووفق البعض بينهما بأن قالوا: إن "يعرب" أول من نطق

_ 1 كتاب الإكليل: "1/ 116" تحقيق "محمد بن علي الأكوع الحوالي"، القاهرة سنة 1963 "مطبعة السنة المحمدية"، المكتبة اليمنية "2"، الأصمعي.

بمنطق العربية، وإسماعيل هو أول من نطق بالعربية الخالصة الحجازية التي أنزل عليها القرآن1. أما المستشرقون وعلماء التوراة المحدثون؛ فقد تتبعوا تأريخ الكلمة، وتتبعوا معناها في اللغات السامية، وبحثوا عنها في الكتابات الجاهلية وفي كتابات الآشوريين فيه لفظة "عرب" هو نصّ آشوري من أيام الملك "شلمنصر الثالث" "الثاني؟ " ملك آشور2. وقد تبين لهم أن لفظة "عرب" لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه عندنا من معنى، بل كانوا يقصدون بها بداوة وإمارة "مشيخة" كانت تحكم في البادية المتاخمة للحدود الآشورية، كان حكمها يتوسع ويتقلص في البادية تبعًا للظروف السياسية ولقوة شخصية الأمير، وكان يحكمها أمير يلقب نفسه بلقب "ملك" يقال له "جنديبو" أي "جندب" وكانت صلاته سئية بالآشوريين. ولما كانت الكتابة الآشورية لا تحرك المقاطع، صعُب على العلماء ضبط الكلمة؛ فاختلفوا في كيفية المنطق بها، فقرئت: "aribi" و "arubu" و "aribu" و "arub" و "arabi" و "urbi" و "arbi" إلى غير ذلك من قراءات3. والظاهر أن صيغة "urbi" كانت من الصيغ القليلة الاستعمال، ويغلب على الظن أنها استعملت في زمن متأخر4، وأنها كانت بمعنى "أعراب" على نحو ما يقصد من كلمي "عُربي" و"أعرابي" في لهجة أهل العراق لهذا العهد. وهي تقابل كلمة "عرب" التي هي من الكلمات المتأخرة كذلك على رأي بعض المستشرقين. وعلى كل حال فإن الآشوريين كانوا يقصدون بكلمة "عربي" على اختلاف أشكالها بداوة ومشيخة كانت تحكم في أيامهم البادية تمييزًا لها عن قبائل أخرى كانت مستقرة في تخوم البادية5".

_ 1 تاج العروس "2/ 352"، "طبعة الكويت". 2 Margoltouth, The Relations between Arabs and Israelites Prior to the rise of Islam, P. 3, The Jewish Encyclopedia, New York, 1902, P. 41, Reallexikon der Aaayriologie, erster Band, Zwelte Lieferung-, S., 125, James A. Montgomery, Arabia and the Bible, PP. 27. 3 Erich Ebling und Bruno Meissner, Reallexikon der Assyriologte, Erster Band, Berlin and leipzig 1922, P. 125. 4 Ency, Bibli. Vol., I, P. 273, E. Schrader Keilinschriften und Geschichtforschung, t PP. 100, Fr. Delityech, wo lag das Paradise?, P. 295, 304, P, Caussin de Perceval, Hlstoire des Arabes I, P., 4ff. 5 ENCYCLOPEDIA BIBLICA, by cheyne, vol., I, p. 273.

ووردت في الكتابات البابلية جملة "ماتواربي" "matu a-ra-bi"، "Matu arabaai"، ومعنى "ماتو" "متو" أرض، فيكون المعنى "أرض عربي"، أي "أرض العرب"، أو "بلاد العرب"، أو "العربية"، أو "بلاد الأعراب" بتعبير أصدق وأصح؛ إذ قصد بها البادية، وكانت تحفل بالأعراب1. وجاءت في كتابة "بهستون" بيستون"2 "behistun" لدار الكبير "داريوس"3 لفظة "أرباية" "عرباية"4 "arabaya"، وذلك في النص الفارسي المكتوب باللغة "الأخمينية"، ولفظة "arpaya"" "m ar payah" في النص المكتوب بلهجة أهل السوس "susian" "susiana" وهي اللهجة

_ 1 W. Muss Arnolt, j assyriach - english - Deutscbes handwort-erbuch, Berlin, 1903, s., 616, Winclder, A-O.P-, Band, 2, S., 465, Margoliouth, The relations between Arabs and Israelites prior to the rise of Islam, London, 1924, p., 3. 2 "بهستون" و"بسيستون". "بهستون" "بالفتح ثم الكسر": قرية بين همدان وحلوان، اسمها ساسباتان، بينها وبين همدان أربع مراحل، وبينها وبين قرميسين ثمانية فراسخ، وجبل بهستون، عالٍ مرتفع ممتنع، لا يُرتقى إلى ذروته، وطريق الحاج تحته سواء، ووجهه من أعلاه إلى أسفله أملس كأنه منحوت، ومقدار قامات كثيرة من الأرض قد نحت وجهه وملس، فزعم بعض الناس أن الأكاسرة أراد أن يتخذ حول هذا الجبل موضع سوق ليدل به على عزته وسلطانه، وعلى ظهر الجبل بقرب الطريق مكان يشبه الغار وفيه عين ماء جارية، وهناك صورة دابة كأحسن ما يكون من الصور، زعموا أنها صورة دابة كسرى المسماة شبديز، وعليها كسرى، وقد ذكرته مبسوطا في باب الشين"، البلدان "2/ 315"، "طبعة وستفلد" "1/ 769" "شيداز: بكسر أوله وسكون ثانيه ثم دال مهملة وآخره زاي. ويقال: شيديز بالياء المثناة من تحت ... منزل بين حلوان وقرميسين في لحف جبل بيستو، سمي باسم فرس كان لكسرى، وقد وصف ياقوت الحموي الموضع، وذكر آراء الناس فيه والقصص التي كانت تروى عن الصور، البلدان "5/ 228". 3 يعرف في الكتب العربية ب"دارا"، كتاب تأريخ سني ملوك الأرض والأنبياء ص" 20"، مروج الذهب "1/ 196، 245"، "دارا الكبير" "دارا الأكبر" تأريخ الطبري "1/ 687، 706، 719" طبعة أوروبة. 4 The Sculptures and inscription of Darius the great on the Rock of Behlstun in persia, London, 1907, p.,

العيلامية لغة عيلام1. ومراد البابليين أو الآشوريين أو الفرس من "العربية" أو "بلاد العرب". البادية التي في غرب نهر الفرات الممتدة إلى تخوم بلاد الشام. وقد ذكرت "العربية" بعد آشور وبابل وقبل مصر في نصّ "دارا" المذكور2. فحمل ذلك بعض العلماء على إدخال طور سيناء في جملة هذه الأرضين3. وقد عاشت قبائل عربية عديدة في منطقة سيناء قبل الميلاد. وبهذا المعنى أي معنى البداوة والأعرابية والجفاف والقفر، وردت اللفظة في العبرانية وفي لغات سامية أخرى، ويدل ذلك على أن لفظة "عرب" في تلك اللغات المتقاربة هو البداوة وحياة البادية، أي بمعنى "أعراب". وإذا راجعنا المواضع التي وردت فيها كلمة "عربي" و "عرب" في التوراة، تجدها بهذا المعنى تمامًا؛ ففي كل المواضع التي وردت فيها في سفر "أشعياء" "Isaiah" مثلًا نرى أنها استعملت بمعنى بداوة وأعرابية، كالذي جاء فيه: "ولا يخيم هناك أعرابي4". فقصد بلفظة "عرب" في هذه الآية الأخيرة البادية موطن العزلة والوحشة والخطر، ولم يقصد بها قومية وعلمية لمجلس معين بالمعنى المعروف المفهوم. ولم يقصد بجملة "بلاد العرب" في الآية المذكورة والتي هي ترجمة "مسا

_ 1 "السوس بضم أوله وسكون ثانيه وسين مهملة أخرى. بلفظ السوس الذي يقع في الصواف: بلدة بخوزستان، فيها قبر دانيال عليه السلام. قال حمزة: السوس تعريب الشوش بنقط الشين، ومعناه الحسن والنزه والطيب ... قال ابن المقفع: أول سور وضع في الأرض بعد الطوفان سور السوس وتستر ولا يدري من بنى السوس وتستر والأبلة. وقال ابن الكلبي: السوس بن سام بن نوح"، البلدان "5/ 171 وما بعدها". 2 Sculp. P., 4, 95, 161. 3 Ency., Bibli., P., 273, Hastings, P. 46.' Encyclopaedia Biblica, by Cneyne, I, PP., 267, J. Hastings, A Dictionary of the Bible, I, P., 131, J. Hastings, A Dictionary of the Bible dealing with its Language Literature and Contents, p., 84. 4 الإصحاح الثالث عشر، آية 20 "ولا يضرب أعرابي فيها خباء"، الترجمة الكاثوليكية، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1960. 5 الإصحاح الحادي والعشرين، الأية 13، J. Simons, The Georgraphical and Topographical Texts of the Old Testament, Leiden, 1959, P., 4.

هـ- عراب" "MASSA HA-arab، المعنى المفهوم من "بلاد العرب" في الزمن الحاضر أو في صدر الإسلام؛ وإنما المراد بها البادية، التي بين بلاد الشام والعراق وهي موطن الأعراب1. وبهذا المعنى أيضًا وردت في "أرميا"، ففي الآية "وكل ملوك العرب" الواردة في الإصحاح الخامس والعشرين2، تعني لفظة "العرب" الأعرابي"، أي "عرب البادية" والمراد من "وكل ملوك العرب" و "كل رؤساء العرب" و" مشايخهم"، رؤساء قبائل ومشايخ. لا ملوك مدن وحكومات. وأما الآية: "في الطرقات جلست لهم كأعرابي في البرية"3، فإنها واضحة، وهي من الآيات الواردة في "أرميا". والمراد بها أعرابي من البادية، لا حضري من أهل الحاضرة. فالمفهوم إذن من لفظة "عرب" في إصحاحات "أرميا" إنما هو البداوة والبادية والأعرابية ليس غير. ومما يؤيد هذا الرأي ورود "ها عرابة ha 'arabah" في العبرانية، ويراد بها ما يقال له: "وادي العربة"، أي الوادي الممتد من البحر الميت أو من بحر الجليل إلى خليج العقبة4. وتعني لفظة "عرابة" في العبرانية الجفاف وحافة الصحراء وأرض محروفة، أي معاني ذات صلة بالبداوة والبادية، وقد أقامت في هذا الوادي قبائل بدوية شملتها لفظة "عرب". وفي تقارب لفظة "عرب" و "عرابة"، وتقارب معناها، دلالة على الأصل المشترك للفظتين. ويعدّ وادي "العربة" وكذلك "طور سيناء" في بلاد العرب. وقصد بـ "العربية" برية سورية في "رسالة القديس بوليس إلى أهل غلاطية"5.

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 88 فما بعدها". A Religios Encylopaedla or Dictionary of Biblical, Historical Doctorinal, and Practical Theology, by, Philip Schaff, 1894, Vol., I, P., 122. 2 الآية24 The Bible DicUonary, I, P., 98 3 الإصحاح الثالث، الآية الثانية. 4 Ency. Bibli., I, P., 271. 5 "مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان: أحدهما من الأَمَة، والآخر من الحرة؛ غير أن الذي من الأمة ولد بقوة الجسد، أما الذي من الحرة فبقوة الموعد، وذلك إنما هو رمز؛ لأن هاتين هما الوصيتان إحداهما من طور سيناء تلد للعبودية؛ فهي هاجر؛ فإن سيناء هو جبل في ديار العرب، ويناسب أورشليم الحالية؛ لأن هذه حاصلة في العبودية مع بنيها"، رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية"، الرسالة الرابعة، 22 فما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "2/ 89".

وقد عرف علماء العربية هذه الصلة بين كلمة "عرب" و"عرابة" أو "عربة"؛ فقالوا: "إنهم سمّوا عربًا باسم بلدهم العربات، وقال إسحاق بن الفرج: عربة باحة العرب، وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام"1. وقالوا: "وأقامت قريش بعربة فتنخت بها، وانتشر سائر العرب في جزيرتها؛ فنسبوا كلهم إلى عربة؛ لأن أباهم إسماعيل، صلى الله عليه وسلم، نشأ وربّى أولاده فيها فكثروا. فلما لم تحتملهم البلاد، انتشروا، وأقامت قريش بها2، وقد هب بعضهم إلى أن عربة من تهامة3، وهذا لا ينفي على كل حال وجود الصلة بين الكلمتين. ورواية هؤلاء العلماء، مأخوذة من التوراة، أخذوها من أهل الكتاب، ولا سيما من اليهود وذلك باتصال المسلمين بهم، واستفسارهم منهم عن أمور عديدة وردت في التوراة، ولا سيما في الأمور التي وردت مجملًا في القرآن الكريم والأمور التي تخص تأريخ العرب وصلاتهم بأهل الكتاب. ويرى بعض علماء التوراة أن كلمة "عرب" إنما شاعت وانتشرت عند العبرانيين بعد ضعف "الإشماعيليين" "الإسماعيليين" وتدهورهم وتغلب الأعراب عليهم حتى صارت اللفظة مرادفة عندهم لكلمة "إشماعيليين". ثم تغلبت عليهم؛ فصارت تشملهم، مع أن "الإشماعيليين" كانوا أعرابًا كذلك، أي قبائل بدوية تتنقل من مكان إلى مكان، طلبًا للمرعى وللماء. وكانت تسكن أيضًا في المناطق التي سكنها الأعراب، أي أهل البادية. ويرى أولئك العلماء أن كلمة "عرب" لفظة متأخرة، اقتبسها العبرانيون من الآشوريين والبابليين، بدليل ورودها في النصوص الآشورية والبابلية، وهي نصوص يعود عهدها إلى ما قبل التوراة. ولشيوعها بعد لفظة "إشماعيليين"، ولأدائها المعنى ذاته المراد من اللفظة، ربط بينهما وبين لفظة "إشماعيليين"، ولأدائها المعنى ذاته المراد من اللفظة، ربط بينها وبين لفظة "إشماعيليين"، وصارت نسبًا، فصُير جد هؤلاء العرب "إشماعيل"، وعدوًّا من أبناء إسماعيل4.

_ 1 "اللسان "2/ 72"، القاموس المحيط "1/ 102". 2 اللسان "2/ 72"، تاج العروس "3/ 344"، "طبعة الكويت". 3 اللسان "2/ 76"، تاج العروس "3/ 344"، "الكويت". 4 راجع الألفاظ: "عرب" "ويشماعيل" في معجمات التوراة.

هذا ما يخص التوراة، أما "التمود"؛ فقد قصدت بلفظة "عرب" و "عريم" "arbim" "عربئيم" "arbi'im" الأعراب كذلك، أي المعنى نفسه الذي ورد في الأسفار القديمة، وجعلت لفظة "عربي" مرادفة لكلمة "إسماعيل" في بعض المواضع1. وقبل أن أنتقل من البحث في مدلول لفظه "عرب" عند العبرانيين إلى البحث في مدلولها عند اليونان، أود أن أشير إلى أن العبرانيين كانوا إذا تحدثوا عن أهل المدر، أي الحضر ذكروهم بأسمائهم. وفي سلاسل النسب الواردة في التوراة، أمثلة كثيرة لهذا النوع، سوف أتحدث عنها. وأول من ذكر العرب من اليونان هو "أسكيلوس، أسخيلوس" "أشيلس" "أخيلوس" "Aeschylus"، "525- 456 قبل الميلاد" من أهل الأخبار منهم، ذكرهم في كلامه على جيش "أحشويرش" "xerxes"، وقال: إنه كان في جيشه ضابط عربي من الرؤساء مشهور2. ثم تلاه "هيرودوتس" شيخ المؤرخين "نحو 484- 425 قبل الميلاد،؛ فتحدث في مواضيع من تأريخه عن العرب حديثًا يظهر منه أنه كان على شيء من العلم بهم. وقد أطلق لفظة "arabae" على بلاد العرب، البادية وجزيرة العرب والأرضين الواقعة إلى الشرق من نهر النيل3؛ فأدخل "طور سيناء" وما بعدها إلى ضفاف النيل في بلاد العرب. فلفظة "العربية" "arabae" عند اليونان والرومان، هي في معنى "بلاد العرب". وقد شملت جزيرة العرب وبادية الشام. وسكانها هم عرب على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم، على سبيل التغليب؛ لاعتقادهم أن البداوة كانت هي الغالبة على هذه الأرضين؛ فأطلقوها من ثم على الأرضين المذكورة. وتدل المعلومات الواردة في كتب اليونان واللاتين المؤلفة بعد "هيرودوتس" على تحسن وتقدم في معارفهم عن بلاد العرب، وعلى أن حدودها قد توسعت في مداركهم فشملت البادية وجزيرة العرب وطور سيناء في أغلب الأحيان؛ فصارت لفظة "arabae" عندهم علمًا على الأرضين المأهولة بالعرب والتي تتغلب عليها

_ 1 موعيد قطان 124 2 Ency. Bibli., I, P., 273 3 Ency. Bibli., I, P., 271

الطبيعة الصحراوية، وصارت كلمة "عربي" عندهم علمًا للشخص المقيم في تلك الأرضين، من بدو ومن حضر؛ إلا أن فكرتهم عن حضر بلاد العرب لم تكن ترتفع عن فكرتهم عن البدوي، بمعنى أنهم كانوا يتصوّرون أن العرب هم أعراب. ووردت في جغرافية "سترابون" كلمة "أرمي" "erembi"، ومعناها اللغوي الدخول في الأرض أو السكنى في حفر الأرض وكهوفها، وقد أشار إلى غموض هذه الكلمة وما يقصد بها، أيقصد بها أهل "طرغلوديته" "troglodytea" أي "سكان الكهوف" أم العرب؟ ولكنه ذكر أن هناك من كان يريد بها العرب، وأنها كانت تعني هذا المعنى عند بعضهم في الأيام المتقدمة، ومن الجائز أن تكون تحريفًا لكلمة "arabi" فأصبحت بهذا الشكل1. أما الإرميون؛ فلم يختلفوا عن الآشوريين والبابليين في مفهوم "بلاد العرب". أي ما يسمى بـ"بادية الشام" وبادية السماوة. وهي البادية الواسعة الممتدة من نهر الفرات إلى تخوم الشام. وقد أطلقوا على القسم الشرقي من هذه البادية، وهو القسم الخاضع لنفوذ الفرس، اسم "بيت عرباية" "beth' arb'aya" و "باعرباية" "ba'arabaya"، ومعناها "أرض العرب". وقد استعملت هذه التسمية في المؤلفات اليونانية المتأخرة2. وفي هذا الاستعمال أيضًا معنى الأعرابية والسكنى في البادية. ووردت لفظة "عرب" في عدد من كتابات "الحضر". وردت مثلًا في النص الذي وسم ب"79" حيث جاء في السطرين التاسع والعاشر "وبجندا دعرب"، أي: "وبجنود العرب". وفي السطر الرابع عشر: "وبحطر وعرب"، أي "وبالحضر وبالعرب"3. ووردت في النص: "193": "ملكادي عرب"، أي "ملك العرب" وفي النص "194" وفي نصوص أخرى4. وقد وردت اللفظة في كل هذه النصوص بمعنى "أعراب"، ولم ترد علمًا على قوم وجنس، أي بالمعنى المفهوم من اللفظة في الوقت الحاضر5.

_ 1 Strabo, Vol., 3, P., 215. 2 Ency. Bibli., Vol., I, P., 273, Hastings, P., 46, Schroder, Keillnschr. und Gesch. S., 100, Delitzsch, Wo 2Jag das Parodies? S., 295. وسيكون رمزه Delitmych 3 مجلة سومر، السنة 1961، Die Araber, IV, S., 243. ff 4 سومر، 1961،Die Araber, IV, S., 261 5 انجليزي 5 Die Araber, IV, S., 269.

هذا، وليست لدينا كتابات جاهلية من النوع الذي يقول له المستشرقون "كتابات عربية شمالية"، فيها اسم "العرب"، غير نصّ واحد، هو النص الذي يعود إلى "امرئ القيس بن عمرو". وقد ورد فيه: "مر القيس بر عمرو، ملك العرب كله، ذو إسرالتج وملك الأسدين ونزروا وملوكهم وهرب مذحجو ... "1. ولورد لفظة "العرب" في هذا النص الذي يعود عهده إلى سنة "328م" شأن كبير؛ "غير أننا لا نستطيع أن نقول: إن لفظة "العرب" هنا، يراد بها العرب بدوًا وحضرًا، أي: يراد بها العلم على قومية، بل يظهر من النص بوضوح وجلاء أنه قصد "الأعراب"، أي القبائل التي كانت تقطن البادية في تلك الأيام. أما النصوص العربية الجنوبية؛ فقد وردت فيها لفظة "أعرب" بمعنى "أعراب"، ولم يقصد بها قومية، أي علم لهذا الجنس المعروف، الذي يشمل كل سكان بلاد العرب من بدو ومن حضر، فورد: "وأعرب ملك حضرموت"، أي "وأعراب ملك حضرموت"2، وورد: "وأعرب ملك سبأ"، أي "وأعراب ملك سبأ"3. وكالذي ورد في نصّ "أبرهة"، نائب ملك الحبشة على اليمن4؛ ففي كل هذه المواضع ومواضع أخرى، وردت بمعنى أعراب"5. أما أهل المدن والمتحضرون، فكانوا يعرفون بمدنهم أو بقبائلهم، وكانت مستقر في الغالب. ولهذا قيل "سبأ"و "هَمْدَان" و"حِمْيَر" وقبائل أخرى، بمعنى أنها قبائل مستقرة متحضرة، تمتاز عن القبائل المتنقلة المسماة "أعرب" في النصوص العربية الجنوبية؛ مما يدل على أن لفظة "عرب" و "العرب" لم

_ 1 Ephemeris, 2-34, nabia, p. 4, Plate, 2, dussaud, in rev Archeologique, II, "1902", 409, ff, Arabes en syrie avant l'islam, P. 34, montgoery, Arabia and the bible, p. 28. وسيكون رمزه Montgomery. 2 لما كان المسند لا يعرف الحركات، صعب علينا قراءة الكلمات قراءة صحيحة فتجوز قراءة كلمة "أعرب" مثلًا: "أعرب" وتجوز قراءتها "أعراب". 3 نشر نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب وشرحها، بقلم الدكتور خليل يحيى نامي "ص92"، النقش 71 سطر 2، وسأشير إليه ب: نشر، "ص93 نصّ رقم 72، و73. 4 Glser, zwei inschriften uber den dammbruch bon maribg, s, 33, Ency, Bibli, I, p. 275, cis 541 Glasser, 618. 5 Glaser, zwei inschriften uber den dammbruch von marib, s. 33. Ency, Bibli I, p. 275, cis, 541 Glasser, 618. Albert Jamme, Sabaean Inscriptions from Magram Biqis Baltimore, 1962, p. 445

تكن تؤدي معنى الجنس والتقومية ذلك في الكتابات العربية الجنوبية المدونة والواصلة إلينا إلى قُبيل الإسلام بقليل "449م" "542م"1. والرأي عندي أن العرب الجنوبيين لم يفهموا هذا المعنى من اللفظة إلا بعد دخولهم في الإسلام، ووقوفهم على القرآن الكريم، وتكلمهم باللغة التي نزل بها، وذلك بفضل الإسلام بالطبع. وقد وردت لفظة "عرب" في النصوص علمًا لأشخاص2. وقد عرف البدو، أي سكان البادية، بالأعراب في عربية القرآن الكريم. وقد ذكروا في مواضع من كتاب الله، وقد نعتوا فيه بنعوت سيئة3، تدل على أثر خلق البادية فيهم. وقد ذكر بعض العلماء أن الأعراب بادية العرب، وأنهم سكان البادية4. والنص الوحيد الوحيد الذي وردت فيه لفظة "العرب" علمًا على العرب جميعًا من حضر وأعراب، ونعت فيه لسانهم باللسان العربي، هو القرآن الكريم. وقد ذهب "د. هـ. ملر" إلى أن القرآن الكريم هو الذي خصص الكلمة وجعلها علمًا لقومية تشمل كل العرب. وهو يشك في صحة ورود كلمة "عرب" علمًا لقومية في الشعر الجاهلي، كالذي ورد في شعر لامرئ القيس، وفي الأخبار المدونة في كتب الأدب على ألسنة بعض الجاهليين5. ورأي "ملر" هذا رأي ضعيف لا يستند إلى دليل؛ إذ كيف تعقل مخاطبة القرآن قومًا بهذا المعنى لو لم يكن لهم علم سابق به؟ وفي الآيات دلالة واضحة على أن القوم كان لهم إدراك لهذا المعنى قبل الإسلام، وأنهم كانوا ينعتون لسانهم باللسان العربي، وأنهم كانوا يقولون للألسنة الأخرى ألسنة أعجمية: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} 6. {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا

_ 1 Margoliouth, the Relations, p. 2. Glaser, 554, 2. MVAG, VI, 7, CIH, 79. 9. CIH, 373, 397, 7. CIH IV, Pars Himyaritica, Nos, 79, 343, 397 Montgomery. P. 27. 2 نشر "ص89" نص69، Ansaldi, cesare il yemen, nella storia e nella legenda,m roma 1933, Nr, 17 69, Ryckmans, in le museon, VoI, I, part, 3, "1937". Nr. 180. 3 التوبة، الآية 97، 101، الفتح، الآية 11، الحجرات، الآية 14. 4 بلوغ الأرب "1/ 13"، تاج العروس "3/ 333 فما بعدها". 5 D.H Muller, in Neue Frele Presse, "1894" 20th April, Ency. Bibli, I. P. 274. 6 سورة فصلت رقم 41، الآية 44.

عَرَبِيّاً} 1. {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 2. {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 3؛ ففي هذه الآيات وآيات أخرى غيرها دلالة على أن الجاهلين كانوا يطلقون على لسانهم لسانًا عربيًا، وفي ذلك دليل على وجود الحس بالقومية قبيل الإسلام4. ونحن لا نزال نميز الأعراب عن الحضر، ونعتدّهم طبقة خاصة تختلف عن الحضر، فنطلق عليهم لفظة: "عرب" في معنى بدو وأعراب، أي بالمعنى الأصلي القديم، ونرى أن عشيرة "الرولة" وعشائر أخرى تقسم سكان الجزيرة إلى قسمين: حضر و"عرب". وتقصد بالعرب أصحاب الخيام أي المتنقّلين، وتقسم العرب، أي البدو إلى "عرب القبيلة"، وهو "عرب الديرة"، وهم العرب المقيمون على حافات البوادي والأرياف، أي في معنى "عرب الضاحية" و "عرب الضواحي" في اصطلاح القدامى. ثم تقسم الحضر وتسميهم أيضًا بـ"أهل الطين" إلى "قارين"، والواحد "قروني"، وهم المستقرون الذين لهم أماكن ثابتة ينزلونها أبدًا، وإلى "راعية" والمفرد راع، وهم أصحاب أغنام وشبه حضر، ويقال لهم" شوّاية" وو"شيّان" و "شاوية" و "رحم الديرة" بحسب لغات القبائل5. وأشبه مصطلح من المصطلحات القديمة بمصطلح "شوّاية" و "شاوية"، هو "الأرحاء"، وهي القبائل التي لا تنتجع ولا تبرح مكانها؛ إلا أن ينتجع بعضها في البرحاء وعام الجدب6. وخلاصة ما تقدم أن لفظة "ع ر ب"، "عرب" هي بمعنى التبدي والأعرابية في كل اللغات السامية، ولم تكن تفهم إلا بهذا المعنى في أقدم

_ 1 سورة الرعد رقم 13، الآية 37 2 سورة الأحقاف، رقم 46 الآية 12 3 النحل، السورة رقم 16، الآية 103 4 سورة يوسف الآية 2، سورة طه الآية 113، سورة الزمر الآية 28، سورة الشورى الآية 7، سورة الزخرف الآية 3. 5 B-R. 527 (Restricted) , Geographical Handbook Series for Official use only, Western Arabia and the Red Sea, June 1946, Naval Intelligence Division, PP., 398. "شاوية" 6 العقد الفريد" 3/ 335"

النصوص التاريخية التي وصلت إلينا، وهي النصوص الآشورية، وقد عنت بها البدو عامة، مهما كان سيدهم أو رئيسهم. وبهذا المعنى استعملت عند غيرهم. ولما توسعت مدارك الأعاجم وزاد اتصالهم واحتكاكهم بالعرب وبجزيرة العرب، توسعوا في استعمال اللفظة؛ حتى صارت تشمل أكثر العرب على اعتبار أنهم أهل بادية وأن حياتهم حياة أعراب. ومن هنا غلبت عليهم وعلى بلادهم، فصارت علَمية عند أولئك الأعاجم على بلاد العرب وعلى سكانها، وأطلق لذلك كتبة اللاتين واليونان على بلاد العرب لفظة "arabae" "Arabia" أي "العربية" بمعنى بلاد العرب. لقد أوقعنا هذا الاستعمال في جهل بأحوال كثير من الشعوب والقبائل، ذكرت بأسمائها دون أن يشار إلى جنسها. فحرنا في أمرها، ولم نتمكن من إدخالها في جملة العرب؛ لأن الموارد التي تملكها اليوم لم تنص على أصلها؛ فلم تكن من عادتها، ولم يكن في مصطلح ذلك اليوم كما قلت إطلاق لفظة "عرب" إلا على الأعراب عامة، وذلك عند جهل اسم القبيلة، وكانت تلك القبيلة بادية غير مستقرة، وقد رأينا أن العرب أنفسهم لم يكونوا يسمون أنفسهم قبل الميلاد، إلا بأسمائهم، ولولا وجودهم في جزيرة العرب ولولا عثورنا على كتابات أو موارد أشارت إليهم، لكان حالهم حال من ذكرنا، أي لما تمكّنّا من إدخالهم في العرب، ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئًا تجاه القبائل المذكورة، وليس لنا إلا الانتظار؛ فلعل الزمن يبعث نصًّا يكشف عن حقيقة بعض تلك القبائل. هذا ويُلاجظ أن عددًا من القبائل العربية الضاربة في الشمال والساكنة في العراق وفي بلاد الشام، تأثرت بلغة بين إرم، فكتبت بها، كما فعل غيرهم من الناس الساكنين في هذه الأرضين، مع أنهم لم يكونوا من بني إرم. ولهذا حسبوا على بني إرم، مع أن أصلهم من جنس آخر. وفي ضمن هؤلاء قبائل عربية عديدة، ضاع أصلها؛ لأنها تثقفت بثقافة بني إرم، فظن لذلك أنها منهم. الآن وقد انتهت من تحديد معنى "عرب" وتطورها إلى قبيل الإسلام، أرى لزامًا عليّ أن أتحدث عن ألفاظ أخرى استعملت بمعنى "عرب" في عهد من العهود، وعند بعض الشعوب؛ فقد استعمل اليونان كلمة "saraceni"

و "saracenes"، واستعملها اللاتين على هذه الصورة "saracenus"، وذلك في معنى "العرب"1 وأطلقوها على قبائل عربية كانت تقيم في بادية الشأم2 وفي طور سيناء3، وفي الصحراء بأدوم4، وقد توسع مدلولها بعد الميلاد، ولا سيما في القرن الرابع والخامس والسادس؛ فأطلقت على العرب عامة، حتى إن كتبة الكنيسة ومؤرخي هذا العصر قلما استعملوا كلمة "عرب" في كتبهم، مستعيضين عنها بكلمة5 "saraceni"، وأقدم من ذكرها هو "ديوسقوريدسdioscurides of anazarbos" الذي عاش في القرن الأول للميلاد6، وشاع استعمالها في القرون الوسطى حيث أطلقها النصارى على جميع العرب، وأحيانًا على جميع المسلمين7. ونجد الناس يستعملونها في الإنكليزية في موضع "عرب" ومسلمين حتى اليوم. وقد أطلق بعض المؤرخين من أمثال "يوسبيوس" "أويسبيوس" "eusebius" و"هيرونيموس""Hieronymus هذه اللفظة على "الإشماعيليين" الذين كانوا يعيشون في البراري في "قادش" في برية "فاران"، أو مدين حيث جيل "حوريب"8. وقد عرفت أيضًا ب"الهاجريين" "hagerene ثم دعيت بـ9saracenes. لم يتحدث أحد من الكتبة اليونان والرومان والسريان عن أصل لفظة "saraceni" "sarakenoi". ولم يلتفت العلماء إلى البحث في أصل التسمية إلا بعد النهضة العلمية الأخيرة؛ ولذلك اختلفت آراؤهم في التعليل، فزعم بعضهم أنه مركب من "سارة" زوج إبراهيم، ولفظ آخر ربما هو "قين"،

_ 1 Forster, Vol., 2, P., 9, Webester's New International Dictionary of English Language, Vol., 2, P., 2216, Ency. Brita., Vol., 19, P. 987 2 Ency. Brita., Vol., 19, P., 987 3 Forster, Band, 2, S., 9, Ptolemy, 5, 16, Ency. of Islam, Vol., 4. P. 155. 4 Forster, Vol., P. 20. i. 5 Ency. of Islam, Vol., 4, P., 156. Ency وسيكون الرمز: 6 Ency., Vol., 4, P., 155, Bretzl, Botanische Forachungen des Alx Alexanderzuges, S., 282. 7 Eney. Vol. 4 P., 155. 8 قاموس الكتاب المقدس "1/ 395. 9 Ency., Vol., 4, P., 156, Eusebius, (ed. Schoene) , II, 13, Chron. Pasch., 94. 18.

فيكون المعنى "عبيد سارة"1، وقال آخرون: إنه مشتق من "سرق"، فيكون المراد من كلمة "saraceni" "سراكين" "السراقين" أو "السارقين" إشراة إلى غزوهم وكثرة سطوهم2. أو من "saraka بمعنى "sherk" أي "شرق"3، ويراد بذلك الأرض التي تقع إلى شرق النبط. وقال "ونكلر" إنه من لفظة "شرقوا"، وتعني "سكان الصحراء" أو "أولاد الصحراء". استنتج رأيه هذا من ورود اللفظة في نصّ من أيام "سرجون"4. ويرى آخرون أنه تصحيف "شرقيين"، أو "شارق"5 على نحو ما يفهم من كلمة "قدموني" "qadmoni" في التوراة6، بمعنى شرق، أو أبناء الشرق7 "bene kedem" "bene qedhem"، وكانت تطلق خاصة على القبائل التي رجع النسابون العبرانيون نسبها إلى "قطورة"8. وقد مال إلى هذا الرأي الأخير أكثر من بحث في هذه التسمية من المستشرقين؛ فعندهم أن "سرسين" أو "سركين" أو "sarakenoi" من "شرق"، وإن "bene kedem و "qadmoni" العبرانيتين هما ترجمتان للفظة9 "saraceni". ولهذا يرجحون هذا الرأي ويأخذون به.

_ 1 الهلال السنة السادسة، الجزء "15 ديسمبر" 1897، ص296، المشرق: السنة السابعة، الجزء 7، ص340، حيث رأى "الأب انستاس ماري الكرملي" أن sarrasins" من "سرحة"، وهو مخلاف باليمن، وعلى هذا فهم "السرحيون". "وسمعتهم يقولون: سراكنوا، سراكنو، ومعناه المسلمون"، رحلة ابن بطوطة "2/ 441" "طبعة أوربة"، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تهذيب رحلة ابن بطوطة، بقلم أحمد العوامري بك ومحمد أحمد جاد المولى بك، "بولاق 1934"، "1/ 288"، "قل لهذا السركنو يعني المسلم" "ص293"، "وكانت الروم تسمي العرب سارقيوس، يعني ذوي سارة، بسبب هاجر أم إسماعيل"، ابن الأثير: الكامل "1/ 117". 2 الهلال: السنة 6: "ج8" "1897" ص296. 3 Musil, Arabia Deserta, p. 311, Stephen of Byzantium, Ethnica, p. 556, "meineke. 4 Ency. VoI, 4, p. 156, Winckler, Altorient. Forschungen, II, ser, I, 771. 5 الهلال: الجزء المذكور، ص 296، مجلة لغة العرب، الجزء 4 السنة 7 "1929، ص293، Ency. VOI, 4, p. 156 6 التكوين: الإصحاح الخامس عشر، الآية 19. 7 قاموس الكتاب المقدس "2/ 206". Hastings, p, 512, 8 التكوين 25، الآية 1- 6 Hastings, p. 512, 9 Musil, Deserta, P. 494

والقاتلون إن "سارقين" من أصل لفظتين "سارة"، زوج إبراهيم، ومن "قين" بمعنى "عبد" وأن المعنى هو "عبيد سارة"، متأثرون برواية التوراة عن سارة وبالشروح الواردة عنها1، وليست لأصحاب هذا الرأي أية أدلة أخرى غير هذا التشابه اللفظي الذي نلاحظه بين "سرسين" وبين "سارقين"، وهو من قبيل المصادفة والتلاعب بالألفاظ ولا شك، وغير هذه القصة الواردة في التوراة: قصة "سارة" التي لا علاقة لها بالسرسين. هذا وما زال أهل العراق يطلقون لفظة "شروك" و "شروكية" على جماعة من العرب هم من سكان "لواء العمارة" والأهوار في الغالب، وينظرون إليهم نظرة خاصة، ولا شك عندي أن لهذه التسمية علاقة بتلك التسمية القديمة. ويستعمل أهل العراق في الوقت الحاضر لفظة أخرى، وهي "الشرجية"، أي "الشرقية"، ويقصدون بها جهة المشرق. وتقابل لفظة "بني قديم" في العبرانية، وهي من بقايا المصطلحات العراقية القديمة التي تعبر عن مصطلح "شركوني" و "بني قديم". هذا وقد عرف العرب أن الروم يسمونهم "ساراقينوس"؛ فقد ذكر "المسعودي" أن الروم إلى هذا الوقت "أي إلى وقته" تسمي العرب "ساراقينوس". وذكر خبرًا طريفًا عن ملك الروم "نقفور" المعاصر ل"هارون الرشيد". فقد زعم أنه "أنكر على الروم تسميتهم العرب ساراقينوس. تفسير ذلك عبيد سارة، طعنًا منهم على هاجر وابنها إسماعيل، وأنها كانت أمةً لسارة، وقال: تسميتهم عبيد سارة، كذب2. وقد كانت منازل "القدمونيين"، "هقدمني"، "هاقدموني" "kadmonites"، في المناطق الشرقية لفلسطين، أي في بادية الشام، ولما كان "قيدما" "kedemeh" هو أحد أبناء إسماعيل في اصطلاح "التوراة"، فيكون أبناء "قيدما" من العرب الإسماعيليين3. وقد ذكر في موضع من التوراة أنهم كانوا يقطنون المناطق الشرقية لفلسطين قرب "البحر الميت" المعروف في

_ 1 لغة العرب ج4، من السنة 7، ص 294. 2 التنبيه "ص143" "طبعة عبد الله إسماعيل الصاوي". 3 Hastings, P. 512, Hastngs, A Dictionary of the bible, I, p. 633.

العبرانية ب"هايم هقدموني"، أي: "البحر القدموني" "البحر الشرقي"1. وقد كان "القدمونيون" أي "بنو قديم" أعرابًا يقطنون في بادية الشام. وأشباه أعراب، أي رعاة وأشباه حضريين، واللفظة لا تعني قبيلة واحدة معينة، أي علمية، ولا تعني قبائل معينة؛ وإنما هي لفظة عامة أطلقت على الساكنين في الأماكن الشرقية بالنسبة إلى العبرانيين2. ونجد في الكتب اليونانية لفظة لها علاقة بطائفة من العرب. هي "skenitae" "scenitae"، وقد أطلقت خاصة على أعراب بادية الشام. وقصد بها الأعراب سكان الخيام، أي "أهل الوبر" في اصطلاح العرب. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها من "الخيمة" التي هي منزل الأعرابي؛ لأن الخيمة هي "skene" "skynai" في اليونانية؛ فالمعنى إذن "سكان الخيام"3. وقد ذكر "سترابون" أن ال "senitae" كانوا نازلين على حدود "سورية" الشرقية، كما ذكر أن منهم من كان ينزل شمال "العربية السعيدة" وهم سكان خيام4. وقد فرق "سترابون" بينهم وبين البدو تفريقًا ظاهرًا، وميزهم عن غيرهم من الأعراب بسكناهم في الخيام. وقال عنهم في موضع آخر: أنهم يمثلون بصورة عامة "بدو" العراق5. وأنهم يعتنون بتربية الإبل. وقد ذكرهم أيضا في أثناء كلامه على ساحل "maranitae" فقال: إنه مأهول بالفلاحين وبال "scenitae" وأراد بهم الأعراب الذين لا يسكنون إلا الخيام ويعيشون على تربية الإبل، وقد ذكر أنهم كانوا قبائل ومشيخات6. وقد ذكرهم "بلينيوس" كذلك، فدعاهم ب7"scenitae". وقد كانوا يقيمون في البادية. وقد حاربهم "سبتيموس سفيروس"، وسأتحدث

_ 1 Hastings, A Dictionary, I, P., 8311, حزقيال، الإصحاح 44، الآية 18 2 X Simons, The Geographical and Topographical Texts of the Old Testament, P., 13 3 Webester's New International Dictionary of the Englisch Language, Vol, 2, P. 2233, Strabo, XVI, 2: 2, Vol., I, P., 63, 196, 441, Vol., 2. P. 219. 252. Vol. 3. P. 160. 166, ,185, 190, 204, (Hamilton) . 4 Strabo, Vol., I, P., 196, 441. 5 Musll, Palmyrena, p., 209, Strabo, Vol., 3, P., 166, 190. 204. 6 راجع المواضع المشار إليها من جغرافية "سترابون"، 7 o., P., 254, A Qyclopaedia of Biblical Literature, by, John Kitto, I, P., 184

عن ذلك فيما بعد، كما أشار غيره إليهم. والظاهر أن لفظة "nomas" "nomadas" التي تعني "البدو" لا تؤدي معنى "scenitae" أي سكان الخيام؛ إذ فرَّق الكتبة اليونان في مؤلفاتهم بين اللفظتين. وأغلب ظني أن المراد بسكان الخيام الأعراب المستقرون بعض الاستقرار، أي الذين عاشوا في مضارب عيشة شِبْه مستقرة، لهم خيامهم وإبلهم وحيواناتهم على مَقْربة من الريف والحضارة. أما الـ"نومادس" "nomades" "nomadas"؛ فقد كانوا قبائل رحلًا يعيشون في البوادي لا يستقرون في مكان واحد، متى وجدوا فرصة اغتنموها فأغاروا على من يجدونهم أمامهم، للعيش على ما يقع في أيديهم. ولذلك كانت ظروف ضعف الحكومات أم انشغالها بالحروب من أحسن الفرص المناسبة لهم. ومن هنا فرّق الكتبة اليونان وغيرهم بين الجماعتين1. إننا لا نستطيع أن نحدد الزمان الذي ظهر فيه مصطلح "سكينيته" بين اليونان واللاتين. وقد يكون ترجمة للفظة أخذوها من الفرس أو الآشوريين أو غيرهم من الشعوب. ومصطلح "أهل الوبر" هو مصطلح يقابل جملة "سكان الخيام" في نظري. أما مصطلح "أهل بادية" أو "أعراب بادية" أو "سكان البوادي"؛ فإنه تعبير يقابل "nomadas" عند اليونان. وعرف العرب عند الفرس وعند بني إرم بتسمية أخرى، هي: "tayayo" و"taiy". أما علماء عهد التلمود من العبرانيين، فأطلقوا عليهم لفظة "ط ي ي ع ا" "طيعا" و"طيايا" "طياية"2 وأصل الكلمتين واحد على ما يظهر، أخذ من لفظة "طيء" اسم القبيلة العربية الشهيرة على رأي أكثر العلماء3. وكان تنزل في البادية في الأرضين المتاخمة لحدود إمبراطورية الفرس، وكانت من أقوى القبائل العربية في تلك الأيام، ولهذا صار اسمها مرادفًًا للفظة "العرب" "عرب". وقد ذكر "برديصان" اسم "tayaye" "tayoye" مع4 "sarakoye"

_ 1 Der Araber, I, S., 178. 2 The Unl. Jew. Ency., Vol., 2, P., 43, Margoliouth, P., 57, Ency, Vol. 4. p. 598. 3 Ency., Vol., 4, P., 598, - 4 Ency., Vol., 4, P., 598, Cureton, SpicU. Syr., P., 16, Noldeke, in ZDMG. IXIX. 713, Margollouth, The Relations, P., 57, Kraus, in ZDMG, IXX, 321, foil.

وقد شاعت هذه التسمية قرب الميلاد، وانتشرت في القرون الأولى للميلاد، كما يتبين ذلك من الموارد السريانية والموارد اليهودية1. واستعملت النصوص "الفهلوية" "pahlawi" لفظة "تاجك" "tahdgik" "tachik" "tashik" في مقابل "عرب". كما استعملت الفارسية لفظة "تازي" بهذا المعنى أيضًا، واستعمل الأرمن كلمة "تجك" "tachik" في معنى عرب ومسلمين، واستعمل الصينيون لفظة "تشي" tashi" لهذه التسمية. وقد عُرف سكان آسية الوسطى الذين دخلوا في الإسلام بهذه التسمية، كما أطلق الأتراك على الإيرانيين لفظة "تجك" من تلك التسمية، حتى صارت لفظة "تجك" تعني "الإيراني" في لغة التركية2. ويرى بعض العلماء أن "تاجك" و "تجك" , و "تازك"، هي من الأصل المتقدم. من أصل لفظة "طيء"3. ولكلمة "تازي" في الفارسية معنى "صحراوي"، من "تاز" "taz"، بمعنى الأرض المقفرة الخالية، ولذلك نسب بعض الباحثين كلمة "تازي" إلى هذا المعنى، فقالوا: إنها أطلقت على العرب لما اشتهر عنهم أنهم صحراويون4. وقد زعم "حمزة الأصفهاني" أن الفرس أطلقوا على العرب لفظة "تاجيان"، نسبة إلى "تاج بن فروان بن سيامك بن مشى بن كيومرث"، وهو جد العرب5. وبعض هذه التسميات المذكورة، لا يزال حيًا مستعملًا، ولكنه لم يبلغ مبلغ لفظة "عرب" و"العرب" في الشهرة والانتشار؛ فقد صارت لفظة "عرب"، علمًا على قومية وجنس معلوم، له موطن معلوم، وله لسان

_ 1 O'leary, Arabia, p. 18, J. Obermeyer, die Landschaft Babylonien, s. 233 f. 2 Ency. Vol. 4. p. 598. 3 Ency. Vol. 4. p. 598. 4 الرسالة: الجزء 654، السنة 1946، تعليق بقلم "ح. م. ع" من النجف على كلمة "تاجك"، وكنت قد كتبت فيها في مجلة الرسالة المصرية قبل هذا الجزء. 5 حمزة "24".

خاص به يميزه عن سائر الألسنة، من بعد الميلاد حتى اليوم. وقد وسع الإسلام رقعة بلاد العرب، كما وسع مجال اللغة العربية، حتى صارت بفضله لغة عالمية خالدة ذات رسالة كبيرة. غمرت بفضل الإسلام بعض اللغات مثل الفارسية والتركية والأردية ولغات أخرى، فزودتها بمادة غزيرة من الألفاظ، دخلت فيها حتى صارت جزءًا من تلك اللغات، يظن الجاهل أنها منها لاستعماله لها، ولكنها في الواقع من أصل عربي. وربّ سائل يقول: لقد كان للعرب قبل الإسلام لغات، مثل المعينية والسبئية والحميرية والصفوية والثمودية واللحيانية وأمثالها، اختلفت عن عربية القرآن الكريم اختلافًًا كبيرًا؛ حتى إن أحدنا إذا قرأ نصًّا مدوّنًا بلغة من تلك اللغات عجز عن فهمه، وظن إذا لم يكن له علم بلغات العرب الجاهليين أنه لغة من لغات البرابرة أو الأعاجم، فماذا سيكون موقفنا من أصحاب هذه اللغات، وهل نعدّهم عربًا؟ والجواب أن هؤلاء، وإن اختلفت لغتهم عن لغتنا وباينت ألسنتهم ألسنتنا؛ فإنهم عرب لحمًا ودمًا، ولدوا ونشأوا في بلاد العرب، لم يردّوا إليها من الخارج، ولم يكونوا طارئين عليها من أمة غريبة. فهم إذن عرب مثل غيرهم، وكل لغات العرب هي لغات عربية، وإن اختلفت وتباينت، وما اللغة التي نزل بها القرآن الكريم إلّا لغة واحدة من تلك اللغات، ميّزت من غيرها، واكتسبت شرف التقدم والتصدر بفضل الإسلام، وبفضل نزول الكتاب بها، فصارت "اللغة العربية الفصحى" ولغة العرب أجمعين. وحكمنا هذا ينطبق على النبط أيضًا وعلى من كان على شاكلتهم، وإن عدهم علماء النسب والتاريخ واللغة والأخبار من غير العرب، وأبعدوهم عن العرب والعربية؛ فقد كان أولئك وهؤلاء عربًا أيضًا، مثل عرب اليمن المذكورين ومثل ثمود والصفويين واللحيانيين، لهم لهجاتهم الخاصة؛ وإن تأثروا بالإرمية وكتبوا بها، فقد تكلم اليهود بالإرمية ونسي كثير منهم العبرانية، ولكن نسيان أولئك اليهود العبرانية، لم يخرجهم مع ذلك عن العبرانيين. وسترد في بحثنا عن تاريخ الجاهلية أسماء قبائل عربية كثيرة عديدة لا عهد للإسلاميين بها، ولا علم لهم عنها، ذُُكروا في التوراة وفي كتب اليهود الأخرى

وفي الموارد اللاتينية، واليونانية والكتابات الجاهلية. وإذا جاز لأحد الشك في أصل بعض القبائل المذكورة في كتب اليهود أو في مؤلفات الكتبة "الكلاسيكيين" على اعتبار أنها أخطأت في إدخالها في جماعة العرب، فإن هذا الجواز يسقط حتما بالنسبة إلى القبائل المذكورة في الكتابات الجاهلية، وبالنسبة إلى القبائل التي دوّنت تلك الكتابات. فهي كتابات عربية، وإن اختلفت عن عربيتنا وباينت لغتها لغتنا؛ لأنها لهجة قوم عاشوا في بلاد العرب ونبتوا فيها، وقد كان لسانهم هذا اللسان العربي المكتوب. فسبيلنا في هذا الكتاب إذن، هو البحث في كل العرب: العرب الذين تعارف العلماء الإسلاميون على اعتبارهم عربًا. فمنحوهم شهادة العروبة، بحسب طريقتهم في تقسيمهم إلى طبقات، وفي وضعهم في أشجار نسب ومخططات، والعرب المجهولين الذين لم يمنحوا هذه الشهادة بل حرموا منها، ونصّ على إخراجهم من العرب كالنبط على ما ذكرت، والعرب المجهولين كل الجهل الذين لم يكن للمسلمين علم ما بهم، ولم يكن لهم علم حتى بأسمائهم. سنتحدث عن هؤلاء جميعًا، على اعتبار أنهم عرب، جهلهم العرب، لأنهم بادوا قبل الإسلام، أو لأنهم عاشوا في بقاع معزولة نائية، فلم يصل خبرهم إلى الإسلاميين؛ فلما شرع المسلمون في التدوين، لم يعرفوا عنهم شيئًا، فأُهملوا، ونسوا مع كثير غيرهم من المنسيين. سئل أحد علماء العربية عن لسان حمير، فقال: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"1؛ ولكن علماء العربية لم يتنصلوا من عروبة حمير، ولا من عروبة غيرهم ممن كان يتكلم بلسان آخر مخالف للساننا، بل عدّوهم من صميم العرب ومن لبّها، ونحن هنا لا نستطيع أن ننكر على الأقوام العربية المنسية عروبتها، لمجرد اختلاف لسانها عن لساننا، ووصول كتابات منها مكتوبة بلغة لا نفهمها، فلغتها هي لغة عربية، ما في ذلك شك ولا شبهة، وإن اختلفت عن لسان يعرب أو أي جدّ آخر يزعم أهل الأخبار أنه كان أول من أعرب في لسانه؛ فتكلم بهذه العربية التي أخذت تسميتها من

_ 1 الجمحي: طبقات الشعراء "ص4 وما بعدها".

ذلك الإعراب. وبعد أن عرفنا معنى لفظة العرب والألفاظ المرادفة لها، أقول إن بلاد العرب أو "العربية"، هي البوادي والفلوات التي أطلق الأشوريون ومن جاء بعدهم على أهلها لفظة "الأعراب"، وعلى باديتهم "arabeae" و "arabae" وما شاكل ذلك. وهي جزيرة العرب وامتدادها الذي يكون بادية الشام حتى نهايتها عند اقتراب الفرات من أرض بلاد الشام؛ فالفرات هو حدها الشرقي. أما حدها الغربي: فأرض الحضر في بلاد الشام. وتدخل في العربية بادية فلسطين و"طور سيناء" إلى شواطئ النيل. وقد أطلق بعض الكتاب اليونان على الأرضين الواقعة شرق ال "araxe"، أي الخابور اسم1 "Arabia"، كما أدخل "هيرودوتس" أرض طور سيناء إلى شواطئ نهر النيل في "العربية" "Arabia" أي بلاد العرب2. أما الآن وقد عرفنا لفظة عرب، وكيف تحددت، وتطورت، أرى لزامًا علينا الدخول في صلب موضوعنا وهو تاريخ العرب، مبتدئين بمقدمة عن الجاهلية وعن الموارد التي استقينا منها أخبارها، ثم بمقدمات عن جزيرة العرب وعن طبيعتها وعن الساميين وعقليتهم وعن العقلية العربية، تليها بحوث في أنساب العرب، ثم ندخل بعد ذلك في التاريخ السياسي للعرب، ثم بقية أقسام تاريخ العرب من حضارة ومدنية ودينية واجتماعية ولغوية. ولما كان الإسلام أعظم حادث نجم على الإطلاق في تاريخ العرب، أخرجهم من بلادهم إلى بلاد أخرى واسعة فسيحة، وميّزهم أمة تؤثر تأثيرًا خطيرًا في حياة الناس.. صار ظهوره نهاية لدور ومبدأ لتاريخ دور، ونهاية أيام عرفت ب"الجاهلية" وبداية عهد عرف ب"الإسلام" ما زال قائمًا مستمرًا، وسيستمر إلى ما شاء الله، به أُرخ تاريخ العرب، فما وقع قبل الإسلام، عرف بتاريخ العرب قبل الإسلام، وما وقع بعده قيل له: تاريخ العرب بعد الإسلام. وسيكون بحثنا هنا، أعني في هذه الأجزاء المتتالية في القسم الأول من

_ 1 Xenophon, An. I, 5, I, Der Araber, In der Alten Weit, I, s. 165 2 Heredot, 2, 15, Der Araber, I, s. 166

تاريخ العرب، وهو قسم تاريخ العرب قبل الإسلام، أما القسم الثاني، وهو تاريخ العرب في الإسلام، فستأتي أجزاؤه بالتتالي أيضًا بعد الانتهاء من هذا القسم. وبعد هذه المقدمة؛ فلننظر صفحات هذا الفصل، ولننتقل إلى فصل جديد، هو الفصل الثاني من هذه الفصول، فصل: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي.

الفصل الثاني: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي

الفصل الثاني: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي مدخل ... الفصل الثاني: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي اعتاد الناس أن يسموا تأريخ العرب قبل الإسلام "التأريخ الجاهلي"، أو "تأريخ الجاهلية"، وأن يذهبوا إلى أن العرب كانت تغلب عليهم البداوة، وأنهم كانوا قد تخلفوا عمن حولهم في الحضارة؛ فعاش أكثرهم عيشة قبائل رحّل، في جهل وغفلة، لم تكن لهم صلات بالعالم الخارجي، ولم يكن للعالم الخارجي اتصال بهم أميّون عبدة أصنام، ليس لهم تاريخ حافل، لذلك عرفت تلك الحقبة التي سبقت الإسلام عندهم ب"الجاهلية". و"الجاهلية" اصطلاح مستحدث، ظهر بظهور الإسلام، وقد أطلق على حال قبل الإسلام تمييزًا وتفريقًا لها عن الحالة التي صار عليها العرب بظهور الرسالة، على النحو الذي يحدث عندنا وعند غيرنا من الأمم من إطلاق تسميات جديدة للعهود القائمة، والكيانات الموجودة بعد ظهور أحداث تزلزلها وتتمكن منها، وذلك لتمييزها وتفريقها عن العهود التي قد تسميها أيضًا بتسميات جديدة1. وفي التسميات التي تطلق على العهود السابقة، ما يدل ضمنا على شيء من الازدراء والاستهجان للأوضاع السابقة في غالب الأحيان. وقد سبق للنصارى أن أطلقوا على العصور التي سبقت المسيح والنصرانية

_ 1 "وفي كتاب لابن خالويه أن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة"، المزهر "176"، بلوغ الأرب "1/ 15".

"الجاهلية"، أي "أيام الجاهلية"، أو "زمان الجاهلية"، استهجانًا لأمر تلك الأيام، وازدراءً بجهل أصحابها لحالة الوثنية التي كانوا عليها، ولجاهلة الناس؛ إذ ذاك وارتكابهم الخطايا التي أبعدتهم، في نظر النصرانية، عن العلم، وعن ملكوت الله. "وقد أغضى الله عن أزمنة هذا الجهل فيبشر الآن جميع الناس في كل مكان إلى أن يتوبوا"1. وقد وردت لفظة "الجاهلية"، في القرآن الكريم، وردت في السور المدنية"2. دون السور المكية؛ فدل ذلك على أن ظهورها كان بعد هجرة الرسول إلى المدينة، وأن إطلاقها بهذا المعنى كان بعد الهجرة، وأن المسلمين استعملوها منذ هذا العهد فما بعده. وقد فهم جمهور من الناس أن الجاهلية من الجهل الذي هو ضد العلم أو عدم اتباع العلم، ومن الجهل بالقراءة والكتابة، ولهذا ترجمت اللفظة في الإنكليزية بـ "the time of tgnorance"، وفي الألمانية ب3"zeit der unwissenheit" وفهمها آخرون أنها من الجهل بالله وبرسوله وبشرائع الدين وباتباع الوثنية والتعبد لغير الله، وذهب آخرون إلى أنها من المفاخرة بالأنساب والتباهي بالأحساب والكبر والتجبر وغيرذلك من الخلال التي كانت من أبرز صفات الجاهليين4. ويرى المستشرق "كولدتزهير" goldziher" أن المقصود الأول من الكلمة

_ 1 أعمال الرسل، الإصحاح السابع عشر، الآية 30. 2 آل عمران، الآية 154، المائدة، الآية 50، الأحزاب، الآية 23، الفتح، الآية 26. 3 Ency, vol. I, p. 999, zwemer, Arabia the Cradle of Islam, p. 158. 4 لسان العرب "13/ 137، أساس البلاغة "1/ 145، صحاح الجوهري"2/ 169"، القاموس المحيط "3/ 253"، "الطبعة الرابعة"، ذيل أقرب الموارب"ص147"، شرح المعلقات السبع للزوزني "176"، شرح ديوان عنترة بن شداد، "ص126"، الأغاني "21/ 207"، بلوغ الارب "1/ 16"، فجر الإسلام "1/ 87". لامية العرب، للشنفرى، "ولا يزدهي الأجهال حلمي"، 53 فجر الإسلام ص 86، "الطبعة الثالثة"، الأساطير العربية قبل الإسلام ص3، "وهذا يؤيد قول المستشرق كولدزهير الذي أثبت أن الجهل ضد الحلم، لا ضد العلم". Ency, vol. P. 999, muh. Stu. I,s, 219. f. Nicholson, A literary, 1941 P. 30

"السفه" الذي هو الحلم، والأنفة والخفة والغضب وماإلى ذلك من معان، وهي أمور كانت جد واضحة في حياة الجاهليين، ويقابلها الإسلام، الذي هو مصطلح مستحدث أيضًا ظهر بظهور الإسلام، وعمادة الخضوع لله والانقياد له1 ونبذ التفاخر بالأحساب والأنساب والكبر وما إلى ذلك من صفات نهى عنها القرآن الكريم والحديث. وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم في مواضع منه2، منها آية سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 3، وآية سورة البقرة: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 4، وآية سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 5، وآية هود: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 6. وفي كل هذه المواضع ما ينم على أخلاق الجاهلية. وقد ورد في الحديث: "إذا كان أحدكم صائمًا، فلا يرفث ولا يجهل" 7، وورد أيضًا: "إنك امرؤ فيك جاهلية" 8 وبهذا المعنى تقريبًا وردت الكلمة في قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق الجاهلينا9 أي: لا يسفه أحد علينا، فنسفه عليهم فوق سفههم، أي نجازيهم جزاء يربي عليه.

_ 1 فجر الإسلام "ص87، Ency, vol. I, p. 999, ,uh. Stud. Bd. I, s. 244 f. 2 راجع فهارس القرآن الكريم 3 سورة الفرقان، اية 63، تفسير الطبري "19/ 21" "إنهم يمشون عليها بالحلم، لا يجهلون على من جهل عليهم"، بلوغ الأرب" 1/ 16". 4 سورة البقرة، آية 67. 5 سورة الأعراف 7 آية 198، تفسير الطبري "9/ 104"، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري، هامش تفسير الطبري" 9/ 105". 6 سورة هود11 آية 46. 7 بلوغ الأرب"1/ 16". 8 ذيل أقرب الموارد" 3/ 115"، فجر الإسلام "1/ 87"، بلوغ الأرب "1/ 16 فما بعدها". 9 بلوغ الأرب "1/ 16"، محيط المحيط ص309، أساس البلاغة "1/ 145، فجر الإسلام "1/ 87"، شرح المعلقات السبع للزوزني 151.

واستعمال هذا اللفظ بهذا المعنى كثير1. وجاء في سورة المائدة: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2 أي أحكام الملة الجاهلية وما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام والتفريق بين الناس في المنزلة والمعاملة3. وأطلقوا على "الجاهلية الجهلاء"، والجهلاء صفة للأولى يراد بها التوكيد، وتعني "الجاهلية القديمة"4. وكانوا إذا عابوا شيئًا واستبشعوه، قالوا: "كان ذلك في الجاهلية الجهلاء".5 و"الجاهلية الجهلاء" هي الوثنية التي حاربها الإسلام. وقد أنب القرآن المشركين على حميتهم الوثنية؛ فقال: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} 6. والرأي عندي أن الجاهلية من السفه والحمق والأنفة والخفة والغضب وعدم الانقياد لحكم وشريعة وإرادة إلهية وما إلى ذلك من حالات انتقصها الإسلام؛ فهي في معنى "اذهب يا جاهل" نقولها في العراق لمن يتسفه ويتحمق وينطق بكلام لا يليق صدوره من رجل، فلا يبالي أدبًا ولا يراعي عرفًا، و "رجل جاهل" نطلقه على من لا يهتم بمجتمع ودين، ولا يتورع من النطق بأفحش الكلام. ولا يشترط بالطبع أن يكون ذلك الرجل جاهلًا أميا، أي ليس له علم، وليس بقارئ كاتب. وقد اختلف المفسرون في المراد من الجاهلية الأولى في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} 7، فقيل: "الجاهلية الأولى التي

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 16". 2 سورة المائدة 5 آية 50 تفسير الخازن "1/ 516"، مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي، حاشية على الخازن "1/ 516". 3 محيط المحيط "309"، تفسير الخازن "1/ 516". 4 محيط المحيط 309، أساس البلاغة "1/ 145"، صحاح الجوهري "2/ 169"، أقرب الموارد ص "147" "وقالوا الجاهلية الجهلاء فبالغوا". لسان العرب "13/ 137" شمس العلوم، "ج 1 ي2، ص 368" 5 أقرب الموارد 147. 6 سورة الفتح 48 آية 26. عن الجاهلية والجهل وما ورد بهذا المعنى في القرآن الكريم، راجع تفصيل آيات القرآن الحكيم، تأليف جون لابوم، نقله إلى العربية محمد فؤاد عبد الباقي ص621. 7 سورة الأحزاب رقم 33، آية 33.

ولد فيها إبراهيم، والجاهلية الأخرى التي ولد فيها محمد"1. وقيل "الجاهلية الأولى بين عيسى ومحمد"2، وقد أدى اختلافهم في مفهوم هذه الآية إلى تصور وجود جاهليتين جاهلية قديمة، وجاهلية أخرى هي التي كانت عند ولادة الرسول3. واختلف العلماء في تحديد مبدأ الجاهلية، أو العصر الجاهلي؛ فذهب بعضهم إلى أن الجاهلية كانت فيما بين نوح وإدريس4. وذهب آخرون إلى أنها كانت بين آدم ونوح، أو أنها بين موسى وعيسى، أو الفترة التي كانت ما بين عيسى ومحمد5. وأما منتهاها، فظهور الرسول ونزول الوحي عند الأكثرين، أو فتح مكة عند جماعة6. وذهب ابن خالوية إلى أن هذه اللفظة أطلقت في الإسلام على الزمن الذي كان قبل البعثة7. والذي يفهم خاصة من كتب الحديث أن أصحاب الرسول كانوا يعنون بـ "الجاهلية" الزمان الذي عاشوا فيه قبل الإسلام، وقبل نزول الوحي؛ فكانوا يسألون الرسول عن أحكامها، وعن موقفهم منها بعد إسلامهم، وعن العهود التي قطعوها على أنفسهم في ذلك العهد، وقد أقر الرسول بعضها، ونهى عن بعض آخر8، وذلك يدل على أن هذا المعنى كان قد تخصص منذ ذلك الحين،

_ 1 طبقات ابن سعد "8/ 143، 145". 2 بلوغ الأرب "1/ 17"، مفتاح كنوز السنة "تأليف فنستك" ص109. 3 "وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى، وقد أوقع لفظ الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام كما لا يخفى" بلوغ الأرب "1/ 18". 4 تأريخ الطبري "1/ 83"، الأساطير العربية قبل الإسلام ص2. 5 بلوغ الأرب "1/ 16 فما بعدها"، "والفترة ما بين كل نبيين. وفي الصحاح: ما بين كل رسولين من رسل الله عز وجل من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة، وفي الحديث فترة ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام"، لسان العرب "13/ 137". 6 بلوغ الأرب "1/ 16 فما بعدها". 7 بلوغ الأرب "1/ 15"، المزهر 176 وفي "كتاب ليس" لابن خالويه: أن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة". 8 صحيح مسلم "1/ 79"، صحيح البخاري ك 24 ب24، ك34 ب100، ك49 ب12، ك78 ب16، ك88 ب1، ك 33 ب5، 15، ك 64، ب54، "قال صلى الله عليه وسلم: أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، بلوغ الآرب "1/ 17"، مسند أحمد بن حنبل "2/ 11، 103، 187"، "3/ 425"، مفتاح كنوز السنة ص108.

وأصبح للفظة "الجاهلية" مدلول خاص في عهد الرسول. وأطلق بعض العلماء على الذين عاشوا بين الميلاد ورسالة الرسول "أهل الفترة" وهم في نظهر جماعة من أهل التوحيد ممن يقر بالبعث، ذكروا منهم: "حنظلة بن صفوان" نبي "أصحاب الرّس" وأصحاب الأخدود، وخالد بن سنان العبسي، و"وثاب السني" وأسعد أبا كرب الحميري، وقس بن ساعدة الإيادي وأمية بن أبي الصّلت، وورقة بن نوفل، وعداس مولى عتبة بن أبي ربيعة، وأبا قيس صربة بن أبي أنس من الأنصار، وأبا عامر الأوسي، وعبد الله بن جحش وآخرين1. فهم إذن طبقة خاصة من الجاهليين، ميزوا عن غيرهم بهذه السمة؛ لأنهم لم يكونوا على ملة أهل الجاهلية من عبادة الأصنام والأوثان. فلفظة "الجاهلية" إذن نعت إسلامي من نوع النعوت التي تطلق في العهود السابقة على حركة ما أو انقلاب أطلقه المسلمون على ذلك العهد، كما نطلق اليوم نعوتًا وأسماء على العهود الماضية التي يثور الناس عليها، من مثل مصطلح "العهد المباد" الذي أطلق في العراق على العهد الملكي منذ ثورة 14 تموز 1958، ومثل المصطلحات الأخرى الشائعة في الأقطار العربية الأخرى، والتي اطلقت على العهود السابقة للثورات والانقلابات.

_ 1 مروج الذهب "1/ 38 فما بعدها".

موارد التاريخ الجاهلي

موارد التاريخ الجاهلي مدخل ... موارد التاريخ الجاهلي: تاريخ الجاهلية هو أضعف قسم كتبه المؤرخون العرب في تاريخ العرب، يعوزه التحقيق والتدقيق والغربلة. وأكثر ما ذكروه على أنه تاريخ هذه الحقبة، هو أساطير وقصص شعبي، وأخبار أخذت عن أهل الكتاب ولا سيما اليهود، وأشياء وضعها الوضاعون في الإسلام، لمأرب اقتضتها العواطف والمؤثرات الخاصة. وقد تداول العلماء وغير أصحاب العلم هذه الأخبار على أنها تاريخ الجاهلية حتى القرن التاسع عشر؛ فلما انتهت إلى المستشرقين، شكّوا في أكثرها فتناولوها بالنقد؛ استنادًا إلى طرق البحث الحديثة التي دخلت على العلوم النظرية، وتفتحت بذلك آفاق واسعة في عالم التاريخ الجاهلي لم تكن معروفة، ووضعوا الأسس للجادات التي ستوصل عشاق التاريخ إلى البحث في تاريخ جزيرة العرب.

وكان أهم عمل رائع قام به المستشرقون هو البحث عن الكتابات العربية التي دوّنها العرب قبل الإسلام، وتعليم الناس قراءتها بعد أن جهلوها مدة تنيف على ألف عام، وقد فتحت هذه النصوص باب تاريخ الجاهلية، ومن هذا الباب يجب أن نصل إلى التاريخ الجاهلي الصحيح. لقد كلف البحث عن هذه الكتابات العلماء والسياح، ثمنا غاليًا كلفهم حياتهم في بعض الأحيان، ولم يكن من السهل تجول هؤلاء الأوروبيين بأزياء مختلفة في أماكن تغلب عليها الطبيعة الصحراوية للحصول على معلومات عن الخرائب والعاديات والحصول على ما يمكن الحصول عليه من نقوش وكتابات. والتاريخ الجاهلي مع ذلك في أول مرحلة من مراحله وفي الدرجات الأولى من سلم طويل متعب. ولا يُنتظر التقدم أكثر من ذلك؛ إلا إذا سهّل للعلماء التجوال في بلاد العرب، لدراستها من جميع الوجوه، وللبحث عن العاديات، ويسرت لهم سبل البحث، ووضعت أمامهم كل المساعدات الممكنة التي تأخذ بأيديهم إلى الكشف عن مواطن ذلك التاريخ والبحث عن مدافن كنوز الآثار تحت الأتربة واستخراجها وحلّ رموزها، لجعلها تنطق بأحوالها في تلك الأيام. وتلك مسئولية لن تُفهم إلّا إذا فهم العرب وعلى رأسهم الحاكمون منهم أن من واجبهم المحافظة على تأريخ العرب القديم بصيانة موطن الآثار ومنع الاعتداء عليها، بإنزال أشدّ العقوبات فيمن يحطم تمثالًا؛ لاعتقاده بإنه صنم، أو يهدم أثرًا للاستفادة من حجره، أو ما شابه ذلك من هدم وتخريب. لم يطمئن المستشرقون إلى هذا المرويّ في الكتب العربية عن التاريخ الجاهلي ولم يكتفوا به، بل رجعوا إلى مصادر وموارد ساعدتهم في تدوين هذا الذي نعرفه عن تاريخ الجاهلية، وهو شيء قليل في الواقع؛ ولكنه مع ذلك خير من هذا القديم المتعارف وأقرب منه إلى التأريخ، وقد تجمعت مادته من هذه الموارد: 1 النقوش والكتابات. 2 التوراة والتلمود والكتب العبرانية الأخرى. 3 الكتب اليونانية واللاتينية والسريانية ونحوها. 4 المصادر العربية الإسلامية.

النقوش والكتابات

1- النقوش والكتابات: تعد النقوش والكتابات في طليعة المصادر التي تكوّن التاريخ الجاهلي، وهي وثائق ذات شأن؛ لأنها الشاهد الناطق الحي الوحيد الباقي من تلك الأيام، وأريد أن أقسمها إلى قسمين: نقوش وكتابات غير عربية تطرقت إلى ذكر العرب كبعض النصوص الأشورية أو البابلية، ونصوص وكتابات عربية كتبت بلهجات مختلفة، منها ما عثر عليها في العربية الجنوبية، ويدخل ضمنها تلك التي وجدت في مصر أو في بعض جزر اليونان أو في الحبشة، وهي من كتابات المعينيين والسبئيين، ومنها ما عثر عليها في مواضع أخرى من جزيرة العرب، مثل أعالي الحجاز وبلاد الشام والعربية السعودية والكويت ومواضع أخرى، وكل ما عثر أو سيعثر عليه من نصوص في جزيرة العرب مدونًا بلهجة من اللهجات التي تعارف علماء العرب أو المستشرقون على اعتدادها من لغات العرب. وأغلب الكتابات الجاهلية التي عثر عليها هي، ويا للأسف، في أمور شخصية، ولذلك انحصرت فوائدها في نواحٍ معينة، في مثل الدراسات اللغوية، وأقلها النصوص التي تتعرض لحالة العرب الساسية، أو الأحوال الاجتماعية أو العلمية أو الدينية أو النواحي الثقافية والحضارية الأخرى، ولهذا بقيت معارفنا في هذه النواحي ضحلة غير عميقة. وكل أملنا هو في المستقبل؛ فلعله سيكون سخيًا كريمًا، فيمدنا بفيض من مدونات لها صلة وعلاقة بهذه الأبواب، وينقذنا بذلك من هذا الجهل الفاضح الذي نحن فيه، بتاريخ العرب قبل الإسلام. بل حتى النصوص العربية الجنوبية التي عثر عليها حتى الآن هي في أمور شخصية في الغالب، من مثل إنشاء بيت، أو بناء معبد، أو بناء سور، أو شفاء من مرض، ولكنها أفادتنا، مع ذلك، فائدة كبيرة في تدوين تاريخ العرب الجنوبيين؛ فقد أمدتنا بأسماء عدد من الملوك، ولولاها لما عرفنا عنهم شيئًا. ونظرًا إلى ما نجده في بعض النصوص من إشارات إلى حروب1، ومن صلات بين ملوك الدول العربية الجنوبية، ونظرًا إلى كون بعض الكتابات أوامر ملكية وقوانين في تنظيم الضرائب وتعيين حقوق الغرباء وفي أمور عامة أخرى لها

_ 1 Roportoire D'Epigraphie Semitique, Nr. 2633, 2687, 3943

علاقة بصلة الحكومات بشعوبها، ونظرًا إلى ما عرفناه من ميل إلى الحضارة والاستقرار والعمل والبناء، وفي حكوماتهم من تنظيم وتنسيق في الأعمال؛ فإننا نأمل الحصول في المستقبل على وثائق تعطينا مادة مهمة جديدة عن تأريخ العرب كتابة عثر عليها في ظفار بعمان، ويعود عهدها إلى القرن الثاني بعد الميلاد من كتاب "qataban and sheba" "ص304" الجنوبيين وعن صلاتهم ببقية العرب أو بالعالم الخارجي؛ لأن جماعة تهتم هذا الاهتمام بالأمور المذكورة، لا يمكن أن تكون في غفلة عن أهمية تدوين التاريخ وتختلف الكتابات العربية الجنوبية طولًا وقصرًا تبعًا للمناسبات وطبيعة الموضوع،

وتتشابه في المضمون وفي إنشائها في الغالب؛ لأنها كتبت في أغراض شخصية متماثلة. ومن النصوص الطويلة المهمة، نصّ رقمة العلماء رقم: "c.i.h. 1450"، وقد كتب لمناسبة الحرب التي نشبت بين قبائل حاشد وقبائل حمير في مدينة "ناعط"1، ونص رقمة "c.i.h 4334"، وقد أمر بتدوينه الملك "شعر أوتر بن علهان نهفان" "شعر أوتر بن علهن نهفن"، "80- 50 ق. م"2، ونص "أبرهة" نائب ملك الحبشة على اليمين "عزلي"، وهو يحوي كتابة مهمة تتألف من "136" سطرًا، يرتقي تاريخها إلى سنة 658 الحميرية أو 543م وقد كتب بحميرية رديئة ركيكة، ونص يرتقي تاريخه إلى سنة 554م. أما الكتابات المكتوبة باللهجات التي يطلق عليها المستشرقون اللهجات العربية الشمالية؛ فقليلة. ويراد بهذه اللهجات القريبة من عربية القرآن الكريم، وأما الكتابات التي وجد أنها مكتوبة بالثمودية أو اللحيانية أو الصفوية؛ فإنها عديدة، وهي قصيرة، وفي أمور شخصية، وقد أفادتنا في استخراج أسماء بعض الأصنام وبعض المواضع وفي الحصول على أسماء بعض القبائل وأمثال ذلك.

_ 1 Margoliouth, Lectures on Arabic Historians, Calcutta, 1930, p. 29 وسأرز إليه بـ Lectures P. 30 2، "شعراوتي"، "شاعر أوتر" "شاعر أوتار". وقد ورد الاسم في كتاب "الإكليل" كتوبا كتابة صحيحة "شعرم أوتر" في طبعة نبيه فارس، واخطأ فيه أنستاس الكرملي فكتبه "سعوان أوثر"، كما ورد في إحدى المخطوطات التي اعتمد عليها، طبعة الكرملي 24.

تأريخ الكتابات

تاريخ الكتابات: والكتابات المؤرخة قليلة. هذا أمر يؤسف عليه؛ إذ يكون المؤرخ في حيرة من أمره في ضبط الزمن الذي دوّن فيه النص، ولم نتمكن حتى الآن من الوقوف على تقويم ثابت كان يستعمله العرب قبل الإسلام، مدة طويلة في جزيرة العرب. والذي تبين لنا حتى الآن هو أنهم استعملوا جملة طرق في تأريخهم للحوادث، وتثبيت زمانها؛ فأرخوا بحكم الملوك، فكانوا يشيرون إلى الحادث بأنه حدث في أيام الملك فلان، أو في السنة كذا في حكم الملك فلان. وأرخوا كذلك بأيام الرؤساء وسادات القبائل وأرباب الأسر وهي طريقة عرفت عند المعينين والسبئيين والقتبانيين وعند غيرهم من مختلف أنحاء جزيرة العرب.

والكتابات المؤرخة بهذه الطريقة، وإن كانت أحسن حالًا من الكتابات المهملة التي لم يؤرخها أصحابها بتاريخ؛ إلا أننا قلما نستفيد منها فائدة تذكر؛ إذ كيف يستطيع مؤرخ أن يعرف زمانها بالضبط، وهو لا يعرف شيئًا عن حياة الملك الذي أرخت به الكتابة أو حكمه، أو زمانه، أو زمان الرجال الذين أرخ بهم؟ لقد فات أصحاب هذه الكتابات أن شهرة الإنسان لا تدوم، وأن الملك فلانًا، أو رب الأسرة فلانًا، أو الزعيم فلانًا ربما لا يعرف بعد أجيال، وقد يصبح نسيًا منسيًا، لذلك لا يجدي التأريخ به شيئا، وذاكرة الإنسان لا تعي إلا الحوادث الجسام. لهذا السبب لم نستفيد من كثير من هذه الكتابات المؤرخة على وفق هذه الطريقة، وأملنا الوحيد هو أن يأتي يوم قد نستفيد فيه منها في تدوين التأريخ. وترد التواريخ في الكتابات العربية الجنوبية، ولا سيما الكتابات القتبانية، على هذه الصورة: "ورخس ذو سحر خرف ... "1، أو "ورخس ذو تمنع خرف ... "2، أي: "وأرخ في شهر سحر من سنة....." و "أرخ في شهر تمنع من سنة ... ". ويلاحظ أن "ورخ" و "توريخ" مثل "أرخ" و "تاريخًا"، هما قريبتان من استعمال تميم؛ إذ هي تقول: "ورخت الكتاب توريخًا" أي "أرخت الكتاب تأريخًا"3. وأما حرف "السين" اللاحق بكلمة "ورخ"؛ فإنه أداة التنكير. ويلي التاريخ اسم الشهر، مثل شهر "ذو تمنع" و "ذو سحر" وغير ذلك. وقد تجمعت لدينا أسماء عدد من الشهور في اللهجات العربية الجنوبية المختلفة تحتاج إلى دارسة لمعرفة ترتبيها بالنسبة إلى الموسم والسنة. ثم تلي الشهور في العادة كلمة "خرف" أي "خريف"، وهي في العربية الجنوبية، السنة أو العام أو الحول. وعندئذ يذكر اسم الملك أو الرجل الذي أرخ به؛ فيقال: "خرف شهر يكل" أي سنة "شهريكول"، وهو ملك من ملوك قتبان. وهكذا بالنسبة إلى الملوك أو غيرهم. نرى من ذلك أن التاريخ بأعوام الرجال كان يتضمن شهورًا؛ غير أننا لا

_ 1 N. Rhodokanakis, Katabanische texte zur Bodenwirtschaft, Bd. I, s. 123. وسأرمز إليه بـ: KTB 2 Glaser 1395 – 1604, Se 84. Glaser 1412 – 1612, SE81, KTB, BD, 130 3 بلوغ الأرب 3/ 214.

نستطيع أن نجزم بأن هذه الشهور كانت ثابتة لا تتغير بتغير الرجال، أو أنها كانت تتبدل بتبدل الرجال. والرأي الغالب هو أنها وضعت في وضع يلائم المواسم وأوقات الزراعة. ويظهر أنهم كانوا يستعلمون أحيانًا مع هذا التقويم تقويمًا آخر هو التقويم الحكومي، وكان يستند إلى السنين المالية، أي سني جمع الضرائب. وتختلف أسماء شهور هذا التقويم عن أسماء شهور التقاويم التي تؤرخ بالرجال1. ويظهر أن العرب الجنوبيين كانوا يستعملون التقويم الشمسي في الزراعة، كما كانوا يستعملون التقويم القمري والتقويم النجمي أي التقويم الذي يقوم على رصد النجوم2. وقد اتخذ الحميريون منذ سنة "115 ق. م" تقويمًا ثابتًا يؤرخون به، وهي السنة التي قامت فيها الدولة الحميرية -على رأي بعض العلماء- فأخذ الحميريون يؤرخون بهذا الحادث، واعتدوه مبدأ لتقويهم. وقد درسه المستشرقون؛ فوجدوه يقابل السنة المذكورة قبل الميلاد والكتابات المؤرخة بموجب هذه الطريقة لها فائدة كبيرة جدًا في تثبيت التاريخ. وقد ذهب بعض الباحثين حديثًا إلى أن مبدأ تأريخ حمير يقابل السنة "109 ق. م" أي بعد ست سنوات تقريبًا من التقدير المذكور، وهو التقدير المتعارف عليه. والفرق بين التقديرية غير كبير3. ومن النصوص المؤرخة، نصّ تأريخه سنة 385 من سني التقويم الحميري. وإذا ذهبنا مذهب الغالبية التي تجعل بداية هذا التقويم سنة "115 ق. م"، عرفنا أن تاريخ هذا النص هو سنة 27م تقريبًا، وصاحبه هو الملك "يسر يهنعم"

_ 1 KTB., I, S., 81. f. 2 N. Rhodokanakis, Studien zur Lexlkographie untl Grammatik des Altsudarabischen, 2 BD., BD., 2, S., 145. LEXX وسأرمز إليه Sab, Denkm, 21, Glaser, Zwei Inschriften, 47, note 7, ZDMG.', 46, Glaser Die Sternkunde der SiidarabUchen Qabylen, in SBWA, Winckler, AOP., 2, 35. ff. 3 للوقوف على مبدأ التقويم الحميري، راجع: Glaser, Skizze, I, S. (3. ff., F. Hommel, GeschlcMe SiidarabienB, 1, 1937, S. 96. Ryckmans, Chronologie Sabeenne, C. Read. Ac. Inscr. et Belles. Lettres, 1943, P., 236 — 246, Le MusSon, 1964, 3 — 4, P., 407 — 427, 429. f

"ياسر يهنعم" "ياسر ينعم" ملك سبأ وذو ريدان وابنه "شمر يهرعش"1، وللملك "ياسر يهنعم" نصّ آخر يعود تاريخه إلى سنة 374 من سني التقويم كتابة قتبانية عثر عليها في تحنع وهي لرجل اسمه ثويب من كتاب qataban صفحة "102" الحميري، أي إلى سنة "295م"2. "ولشمر يهرعش"3 كتابة أمر بتدوينها سنة 396 للتقويم الحميري، أي سنة 281م4. وقد ورد

_ 1 نص رقم C.I.H. 46, Hartmann, Arabische Frage, S., 174, Rhodokanakls, WZKM, XXXVH, S., 148, J.H. Mordtmann und EUgen Mittwoch, Sabaische Inschriften, Hamburg, 1931, S-. I. ff. وسأرمز إليه بـ:Sab. Inschr. 2 يعرف في الكتب العربية بـ "ياسر أنعم" "ياسر أنعم الحميري"، "ياسر ناشر النعم" "مالك ناشر النعم"، الإكليل"8/ 207 فما بعدها، "طبعة نبيه"، النيجان 170 فما بعدها، 119 فما بعدها، والطبري "1/ 683 فما بعدها، "1/ 566" "طبعة دار المعارف" "تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم". 3 ويعرف بـ "شمر يرعش" في الموارد العربية، الإكليل8 "208"، التيجان "ص222 فما بعدها، الإكليل"10/ 19، 33". 4 MMI50 – C.I.H. 448

اسمه في نصوص أخرى، وقد لقّب نفسه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان"، ولقّب نفسه في مكان آخر بلقب "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت"، مما يدل على أنه كان قد وسّع ملكه، وأخضع الأرضين المذكورة لحكمه1، وهي نصوص متأخرة بالنسبة إلى النصوص الأخرى. ولما أراد الملك "شرحبيل يعفر بن أبي كرب أسعد" "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال والسواحل" بناء السدّ، أمر بنقش تاريخ البناء على جداره. وقد عثر عليه، وإذا به يقول: إن العمل كان في سنة 564 -565 الحميرية، وهذا يوافق عامي 449- 450 من الأعوام الميلادية2. وبعد ثماني سنوات من هذا التأريخ، أي في عام 457- 458 من التأريخ الميلادي "572- 573 حميري"، وضع عبد كلال نصًّا تاريخيًا يذكر فيه اسم "الرحمن"، ولهذين النَّصّين أهمية عظيمة جدًا من الناحية الدينية. يذكر النص الأول "إله السماوات والأرضين"، ويذكر الثاني "الرحمن". وتظهر من هذه الإشارة فكرة التوحيد على لسان ملوك اليمن وزعمائها3. وقد عثر على نصَّين آخرين ورد فيهما اسم الملك، "شرحب آل يكف" و "شرحبيل يكيف". تأريخ أحدهما عام 582 الحميري "467م"، وتأريخ النص الثاني هو سنة 585 الحميرية، الموافقة لسنة 470م4. ومن النصوص الآثارية المهمة، نصّ حصن غراب. وهذا النص أمر بكتابته "السميفع أشوى" "السميفع أشوع" وأولاده، تخليدًا لذكرى انتصار الأحباش على اليمانيين في عام 525م "سنة 640 الحميرية"5. ويليه النص الذي أمر أبرهة حاكم اليمن في عهد الأحباش بوضعه على جدران سدّ مأرب لما قام بترميم السدّ وإصلاحه في عام 657 الحميري، الموافق لعام 542م6. وآخر ما نجده من نصوص مؤرخة، نصّ وضع في عام 669 لتقويم حمير "يوافق عام 554م"7. ولم يعثر المنقبون بعد هذا النص على نصّ آخر يحمل

_ 1 C.I.H. 628, C.I.H. 353, 407, 430, 431, 438 2 Sab. Inschr., S-, 2, CIH 540. 3 BOASOR, 83 (1941) , PP., 22, Sab. Inschr., S-, 2. 4 CIH 537, 644, Sab. Inachr., S., 2 5 b. Inschri., S-, 2 6 b. Inschr., S., 2, CIH 541, Margollouth, P., 32 7 sab. Inschr., S., 2, CIH 325

تأريخًا. نعم، عثروا على نصوص كثيرة تشابه في مضمونها وعباراتها وألفاظها النصوص التي أقيمت في الفترة بين 439م وسنة 554م، وهذا يبعث على احتمال كون هذه النصوص مكررة، وأنها من هذا العهد الذي بحثنا عنه آنفًا1. هذا، وإن مما يلاحظ على الكتابات العربية الجنوبية أن التي ترجع منها إلى العهود القديمة من تأريخ جنوب بلاد العرب قليلة. وكذلك الكتابات التي ترجع إلى العصور الحميرية المتأخرة، أي القريبة المتصلة بالإسلام؛ ولذلك أصبحت أكثر الكتابات التي عثر عليها حتى الآن من العهود الوسطى المحصورة بين أقدم عهد من عهود تأريخ اليمن وبين أقرب عهود اليمن إلى تأريخ الإسلام، وأكثرها خلو من التأريخ غير عدد منها يرد فيه أسماء ملوك وملكات أرخت بأياّمهم. لكننا لا نستطيع تعيين تأريخ مضبوط لزمانهم؛ لعدم وجود سلسلة لمن حكم أرض اليمن، ولعدم وجود جداول بمدد حكمهم، ولفقدان الإشارة إلى من كان يعاصرهم من الملوك والأجانب. وقد كان ما قدمناه يتعلق بالكتابات العربية الجنوبية المؤرخة. أما الكتابات العربية الشمالية المؤرخة، فهي معدودة، وهي لا تعطينا لهذا السبب فكرة علمية عن تأريخ الكتابات في الأقسام الشمالية والوسطى من بلاد العرب. وقد أرخ شاهد قبر "امرئ القيس" في يوم 7 بكسلول من سنة 223 "328م". وهذه السنة هي من سني تقويم بصرى bostra، وكان أهل الشام وحوران وما يليهما يؤرخون بهذا التقويم في ذلك العهد، ويبدأ بدخول بصرى في حوزة الروم سنة 105 م2. وعثر على كتابة في خرائب "زيد" بين قنسرين ونهر الفرات جنوب شرقي حلب، كتبت بثلاث لغات: اليونانية والسريانية والعربية، يرجع تأريخها إلى سنة "823 للتقويم السلوقي"، الموافقة لسنة 512م. والمهم عندنا، هو النص العربي؛ ولا سيما قلمه العربي. أما من حيث مادته اللغوية، فإن أكثر ما ورد فيه أسماء الرجال الذين سعوا في بناء الكنسية التي وضعت فيها الكتابة3.

_ 1 Sab. Inschr., S-, 2, CIH 541, dH 45, KTB, S-, 140. 2 العرب قبل الإسلام 203، مجلة سومر، الجزء الأول، كانون الثاني، 1947 المجلد الثالث، ص131. 3 Dussaud, Les Arabes en Syrle, PP,, 34, Nabia, P., 4. Grand., I, S., 156, Edward Sachau, Eine Dreiaprachige Inschrift aus Zebed, Monatsberlcht der Preuasiche Akademl der Wissenschaftcn, Berlin, 10 Febr., 1881, S., 169 — 190, zur TriUgiiis Zebedaea, in ZDMG., 36 (1882) S.. 345 — 352.

وأرخت كتابة "حرّان" اليونانية بسنة أربع مائة وثلاث وستين من الأندقطية الأولى، وهي تقابل سنة 568م، والأندقطية، هي دائرة ثماني سنين عند الرومانيين، وكانت تستعمل في تصحيح تقويم السنة1. أما النص العربي، فقد أرخ "بسنة 463 بعد مفسد خيبر بعم "عام"2. ورأي الأستاذ "ليتمن" أن عبارة "بعد مفسد خيبر بعم" تشير إلى غزوة قام بها أحد أمراء غسان لخيبر3. وفي استعمال هذه الجملة التي لم ترد في النص اليوناني، دلالة على أن العرب الشماليين كانوا يستعملون التورايخ المحلية، كما كانوا يؤرخون بالحوادث الشهيرة التي تقع بينهم. أما الكتابات الصفوية والثمودية واللحيانية، فإن من بينها كتابات مؤرخة؛ إلا أن توريخها لم يفدنا شيئًا أيضًا. فقد أرخت على هذا الشكل: "يوم نزل هذا المكان" أو "سنة جاء الروم". ومثل هذه الحوادث مبهمة، لا يمكن أن يستفاد منها في ضبط حادث ما. هذا وقد أشار "المسعودي" إلى طرق للجاهليين في توريخ الحوادث، تتفق مع ما عثر عليه في الكتابات الجاهلية المؤرخة، فقال: "وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة؛ فأما حمير وكهلان ابنا سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بأرض اليمن، فإنهم كانوا يؤرخون بملوكهم السالفة من التبابعة وغيرهم"4. ثم ذكر أنهم أرخوا أيضًا بما كان يقع لديهم من أحداث جسيمة في نظرهم، مثل "نار صوان"، وهي نار كانت تظهر ببعض الحرار من أقاصي بلاد اليمن، ومثل الحروب التي وقعت بين القبائل والأيام الشهيرة. وقد أورد جريدة بتواريخ القبائل إلى ظهور الإسلام5. وذكر "الطبري" أن العرب "لم يكونوا يؤرخون بشيء من قبل ذلك؛ غير أن قريشًا كانوا -فيما ذكر- يؤرخون قبل الإسلام بعام الفيل، وكان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المذكورة كتأريخهم بيوم جبلة وبالكلاب الأول والكلاب الثاني"6.

_ 1 ولغنستون، تاريخ اللغات السامية ص192، وسأرمز إليه ب: السامية. 2 السامية 192، سومر، العدد المذكور ص132. 3 Rivista. Degli studi orientali, 1911, P. 195 4 التنبيه والإشراف "ص172" القاهرة 1938" "جار الصاوي" 5 التنبيه والإشراف "ص172 وما بعدها" 6 الطبري "1/ 193" "طبعة دار المعارف".

وقد ذكر المسعودي أن قدوم أصحاب الفيل مكة، كان يوم أحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثمانية واثنين وثمانين سنة للإسكندر، وست عشرة سنة ومائتين من تاريخ العرب الذي أوله حجة العدد1 "حجة الغدر"2، ولسنة أربعين من ملك كسرى أنوشروان3. ولم يشر المسعودي إلى العرب الذين أرَّخوا بالتقويم المذكور؛ غير أننا نستطيع أن نقول إن "المسعودي" قصد بهم أهل مكة، لأن حملة "أبرهة" كانت قد وجهت إلى مدينتهم، وأن الحملة المذكورة كانت حادثًا تاريخيًّا بالنسبة إليهم، ولذلك أرَّخوا بوقت وقوعها. ويرى كثير من المستشرقين والمشتغلين بالتقاويم وبتحويل السنين وبتثبيتها، وفقًا لها، أن عام الفيل يصادف سنة "570" أو "571" للميلاد، وبذلك يمكن اتخاذ هذا العام مبدئًا نؤرخ به على وجه التقريب الحوادث التي وقعت في مكة أو في بقية الحجاز والتي أرخت بالعام المذكور.

_ 1 "حجة العدد" مروج الذهب "1/ 282"، "حجة العدد"، مروج "2/ 170" "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد" ,سنة ثمان مائة واثنتين وثلاثين سنة للإسكندر، مروج "2/ 8" "تحقيق محمد محيي الدين" 2 "حجة الغدر"، البدء والتاريخ "4/ 131 وما بعدها" 3 مروج "2/ 170" "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد" "وسنة أربع وأربعين من ملك أنوشروان بن قباذ"، البدء والتاريخ "4/ 131".

التوراة والتلمود والتفاسير والشروح العبرانية

2- التوراة والتلمود والتفاسير والشروح العبرانية: وقد جاء ذكر العرب في مواضع من أسفار التوراة تشرح علاقات العبرانيين بالعرب. والتوراة مجموعة أسفار كتبها جماعة من الأنبياء في أوقات مختلفة، كتبوا أكثرها في فلسطين. وأما ما تبقى منها، مثل حزقيال والمزامير؛ فقد كتب في وادي الفرات أيام السبي، وأقدم أسفار التوراة هو سفر "عاموس" "amos"، ويظن أنه كتب حوالي سنة 750 ق. م1.

_ 1 أحد الأنبياء، وكان راعيًا في "تقوع" "تقوعة" مدينة صغيرة جنوبي يهوذا على بعد نحو "12" ميلًا من جنوب القدس. عاش في أيام عزيا ملك يهوذا ويربعام ملك إسرائل نحو سنة 800 ق. م. وسفر عاموس هو الثلاثون من أسفار التوراة، قاموس الكتاب المقدس "ترجمة الدكتور جورج بوست" 2/ 59 Hastings, Dictionary of the Bible, P. 147. وسأرمز إليه بـ: Hastings

وأما آخر ما كتب منها، فهو سفر "دانيال" "Daniel" والإصحاحان الرابع والخامس من سفر "المزامير". وقد كتب هذه في القرن الثاني قبل المسيح1. فما ذكر في التوراة عن العرب يرجع تاريخه إذن إلى ما بين سنة 750 والقرن الثاني قبل المسيح. وقد وردت في التلمود "Talmud" إشارات إلى العرب كذلك. وهناك نوعان من التلمود الفلسطيني أو التلمود الأورشليمي "yeruschalmi" كما يسميه العبرانيون اختصارًا، والتلمود البابلي نسبة إلى "بابل" بالعراق، ويعرف عندهم باسم "بابلي" اختصارًا. أما التلمود الفلسطيني؛ فقد وضع، كما يفهم من اسمه، في فلسطين. وقد تعاونت على تحبيره المدارس اليهودية "academies" في الكنائس "الكنيس". وقد كانت هذه مراكز الحركة العلمية عند اليهود في فلسطين، وأعظمها هو مركز "طبرية" "tiberias"، وفي هذا المحل وضع الحبر "رابي يوحان" "rabbi jochanan" التلمود الأورشليمي في أقدم صورة من صوره في أواسط القرن الثالث الميلادي وتلاه بعد ذلك الأحبار الذين جاءوا بعد "يوحنان" وهم الذين وضعوا شروحًا وتفاسير عدة تكون منها هذا التلمود الذي اتخذ هيأته النهائية في القرن الرابع الميلادي. وأما التلمود البابلي؛ فقد بدأ بكتابته –على ما يظهر- الحبر "آشي" "rabbi ashi" المتوفى عام 430م، وأكمله الأحبار من بعده، واشتغلوا به

_ 1 "التلمود" "تعليم" Learning راجع عن التلمود المصادر الآتية: Hastings, P., 890, Ency. Britani., Vol., 21, P. 769, J.Z. Iauterbacli, Mishna and W. Bacher, Talmud, In Jew. ESncy., Funk, Entstehung-des Talmud, Leipzig, 1910, Rodkinson, History of the Talmud, New York, 1903, Strack, Einleitung in den Talmud, 1908. ويتألف التلمود من "المشنة" mishnah، وهو الموضوع ومن "جمارة" "كماره gemara". وهو التفسير. فالمشنة "التكرار" عبارة عن مجموعة تقاليد أعطيت لموسى حين كان على الجبل ثم تداولها هارون وإليعازر ويشوع، وسلموها للأنبياء ثم انتقلت عن الأنبياء إلى أعضاء المجمع العظيم وخلفائهم حتى القرن الثاني بعد المسيح حينما جمعها الحاخام "يهوذا" وكتبها، ومن ثم صار يعد جامعًا للمشنة. و"الجمارة" "الكمارة" "التعليم"، وهو مجموعة المناظرات والتعليم والتفاسير التي جرت في المدارس العالية بعد انتهاء المشنة، قاموس الكتاب المقدس "1/ 290، pirqee aboth, 1,1,

حتى اكتسب صيغته النهائية في أوائل القرن السادس للميلاد1. ولكل تلمود من التلمودين طابع خاص به، هو طابع البلد الذي وضع فيه؛ ولذلك يغلب على التلمود الفلسطيني طابع التمسك بالرواية والحديث. وأما التلمود البابلي، فيظهر عليه الطابع العراقي الحر وفيه عمق في التفكير، وتوسع في الأحكام والمحاكمات، وغني في المادة. وهذه الصفات غير موجودة في التلمود الفلسطيني2. وبهذا يكمل التلمود أحكام التوراة، وتفيدنا إشارته من هذه الناحية في تدوين تأريخ العرب. أما الفترة بين الزمن الذي انتهى فيه من كتابة التوراة والزمن الذي بدأ فيه بكتابة التلمود؛ فيمكن أن يستعان في تدوين تاريخها بعض الاستعانة بالأخبار التي ذكرها بعض الكتاب، ومنهم المؤرخ اليهودي "يوسف فلافيوس" "جوسفوس فلافيوس "josephUs flavius" الذي عاش بين سنة 37 و 100 للمسيح تقريبًا. وله كتاب باللغة اليونانية في تأريخ عاديات اليهود "Joudaike archaioloigia"، تنتهي حوادثه بسنة 66 للميلاد، وكتاب آخر في تأريخ حروب اليهود3 "peri tou JOUDIAKOU POLEMOU" من استيلاء "أنطيوخس أفيفانوس" "Antiochus epiphanos" على القدس سنة 170 قبل الميلاد، إلى الاستيلاء عليها مرة ثانية في عهد "طيطس" "titus" سنة 70 بعد الميلاد، وكان شاهد عيان لهذه الحادثة. وقد نال تقدير "فسبازيان" "vespasIan" و"طيطس" وأنعم عليه بالتمتع بحقوق المواطن الروماني4. وفي كتبه معلومات ثمينة عن العرب، وأخبار مفصلة عن العرب الأنباط، لا نجدها في كتاب ما آخر قديم. وكان الأنباط في أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات، فتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى تتصل بالبحر الأحمر5. وقد عاصرهم هذا المؤرخ؛ غير أنه لم يهتم بهم إلا من ناحية علاقة الأنباط بالعبرانين، ولم تكن بلاد العرب عنده إلا مملكة الأنباط6.

_ 1 Hastings, P., 891. 2 Hastings, P., 891. 3 Peri tou Joudalkon Polemou, De Bello Judiaco. 4 Harvey The Oxford Companion to Classical Literature, P., 228, Simon Dubnow, Weltgeschichte des Judischen Volkes, BD., 2, s., 83. «-, BD. 3, s., 105, Ency. Brita. Vol., 13, P., 153. 5 Josephus, AntiquiUes, BK., XTV, Ch., 14, I, The Jewish War, BK., I, ch. 1. 3. 6 Ch. 4. 2.

هذا وإن للشروح والتفاسير المدونة على التوراة والتلمود قديما وحديثًا، وكذلك للمصطلحات العبرانية القديمة على اختلاف أصنافها أهمية كبيرة في تفهم تاريخ الجاهلية، وفي شرح المصطلحات الغامضة التي ترد في النصوص العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام؛ لأنها نفسها وبتسمياتها ترد عند العبرانيين في المعاني التي وضعها الجاهليون لها. وقد استفدت كثيرًا من الكتب المؤلفة عن التوراة مثل المعجمات في تفهم أحوال الجاهلية، وفي زيادة معارفي بها، ولهذا أرى أن من اللازم لمن يريد درس أحوال الجاهلية، التوغل في دارسة تلك الموارد وجميع أحوال العبرانيين قبل الإسلام.

الكتب الكلاسيكية

3- الكتب الكلاسيكية: وأقصد بالكتب "الكلاسيكية" الكتب اليوانية واللاتينية المؤلفة قبل الإسلام ولهذه الكتب -على ما فيها من خطأ- أهمية كبيرة؛ لأنها وردت فيها أخبار تاريخية وجغرافية كبيرة الخطورة، ووردت فيها أسماء قبائل عربية كثيرة لولاها لم نعرف عنها شيئًا. وقد استقى مؤلفوها وأصحابها معارفهم من الرجال الذين اشتركوا في الحملات التي أرسلها اليونان أو الرومان إلى بلاد العرب، ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل بلاد العرب أو أقاموا مدة بين ظهرانيهم، ولا سيما في بلاد الأنباط، ومن التجار وأصحاب السفن الذين كانوا يتوغلون في البحار وفي بلاد العرب للمتاجرة، وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تعنى عناية خاصة بجمع الأخبار عن بلاد العرب وعادات سكانها وما ينتج فيها لتقديمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط. وقد استقى كثير من الكتّاب "الكلاسيكيين" معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصارد التجارية العالمية. وتتحدث الكتب الكلاسيكية جازمةً عن وجود علاقات قديمة كانت بين سواحل بلاد العرب وبلاد اليونان والرومان، وتتجاوز بعض هذه الكتب هذه الحدود فتتحدث عن نظرية قديمة كانت شائعة بين اليونان، وهي وجود أصل دموي مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان. وتفصح هذه النظرية، على ما يبدو منها من سذاجة، على العلاقات العريقة في القِدَم التي كانت تربط سكان

البحر المتوسط الشماليين بسكان الجزيرة العربية1. ومن أقدم من ذكر العرب من اليونانيين "أخيلس" "aescylus" "525- 456 ق. م"، و "هيرودتس" "480- 425 ق. م" وقد زار مصر، وتتبع شئون الشرق وأخباره بالمشاهدة والسماع، ودوّن ما سمعه، ووصف ما شاهده في كتاب تاريخي. وهو أول أوروبي ألّف كتابًا بأسلوب منمق مبوب في التاريخ ووصل مؤلفه إلينا، وقد لقبه "شيشرون" "Cicero" الشهير بلقب "أيي التأريخ". تناول "هيرودتس" تاريخ الصراع بين اليونان والفرس، وإن شئت فسمه "النزاع الأوروبي الآسيوي"؛ فألف عن تاريخه. والظاهر أنه لم يتمكن من إتمامه؛ ففيه فصول وضعت بعد وفاته. وهو أول كاتب يوناني اتخذ من الماضي موضوعًا للحاضر ومادة للمناقشة، بعد أن كان البحث في أخبار الأيام السالفة مقصورًا على ذكر الأساطير والقصص الشعبية والدينية. وهو مع حرصه على النقد والمحاكمة، لم يتمكن أن يكون بنجوة من الأفكار الساذجة التي كانت تغلب على ذلك العالم الابتدائي في ذلك العهد2؛ فحشر في كتابه قصصًا ساذجًا وحكايات لا يصدقها العقل، متأثرًا بعقلية زمانه في التصديق بأمثال هذه الأمور. ومنهم "ثيوفراستوس" "Theophrastus"، "حوالي 371- 287 ق. م"، مؤلف كتاب "historia plantarum" وكتاب "de causis plantarum" وفي خلال حديثه عن النبات تطرّق إلى ذكر البقاع العربية التي كانت تنمو بها مختلف الأشجار، ولا سيما المناطق الجنوبية التي كانت تصدر التمر واللبان والبخور والأفاويه3. و "إيراتو ستينس" "eratosthenes" "276- 194 ق. م". وقد استفاد الكتّاب اليونانيون الذين جاءوا من بعده من كتاباته، ونجد في مواضع مختلفة من جغرافية "سترابون أقوالًا معزوّة إليه4".

_ 1 Agatharchides, De Rubro Mari, Opud Geograph, Vet Script mlnton, I, P., 59, ed,, Oxon, 1698, Ch. Forster, The Historical Geography of Arabia, in two Vol., Vol., I, PP., XXXVI, Forster: وسأرمو إليه بـ: Pliny, Nat. History, Vol., VI, P., 32, Vol., 2, PP., 718. ed. Paris! 1828. 8 Vol. 2 الإنكليزية،George Rawlinson اعتمدت على ترجمة 3 The History of Herodotus, Translated by George Rawlinson, In 2 Vol., London, 1920 4 Theopheophrastus, Historia Plantarum, Ed., Hort, 1916. H. Berger, Die Geogr. Fragtnente des Eratosthenes, 1880.

ونضيف إلى من تقدموا "ديودورس الصقلي" diodorus siculus" "40ق. م". وقد ألف باللغة اليونانية تاريخًا عامًا سماه "المكتبة التأريخية" bibliotheke historike، تناول تاريخ العالم من عصر الأساطير حتى فتح "يوليوس قيصر" لإقليم "الغال". وهو في أربعين جزءًا، لم يبقَ منها سوى خمسة عشر جزءًا، تبحث في الحقبة المهمة التي تبتدئ بسنة 480 ق. م. وتنتهي بسنة 323 ق. م1. ويعوز هذا المؤرخ النقد؛ لأنه جمع في كتابه كل ما وجده في الكتب القديمة من أخبار ولم يمحصها، وقد امتلأ كتابه بالأساطير، والعالم مع ذلك مدين له إلى حد كبير بمعرفة أخبار الماضين؛ ولا سيما الأساطير الدينية القديمة. ومن المؤلفين الكلاسيكيين، "سترابون" "سترابو" "straabon" "strabo" "64ق. م- 19 م" وهو رحالة كتب كتابًا مهما باللغة اليونانية في سبعة عشر جزءًا سماه "جغرافيا"2 "geographica". وقد وصف فيه الأحوال الجغرافية الطبيعية لمقاطعات الإمبراطورية الرومانية الرئيسية، وتاريخها، وحالات سكانها، وغريب عهاداتهم وعقائدهم. وللكتاب شأن كبير؛ إذا اشتمل على كثير من الأخبار التي لا تتيسر في كتاب آخر. وقد اعتمد فيه على ما ذكره الكتّاب السابقون. وقد أفرد "سترابون" في جغرافيته فصلًا خاصًا من الكتاب السادس عشر ببلاد العرب، ذكر فيه مدائن العرب وقبائلهم في عهده، ووصف أحوالهم التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وحملة "أوليوس غالوس" "أوليوس كالوس" "aelius gallus" المعروفة لفتح بلاد العرب وما كان من إخفاقه. ولأخبار هذه الحملة التي دوّنها "سترابوان" في جغرافيته، أهيمة خاصة؛ إذ جاءت بمعلومات عن نواحي من تأريخ العرب نجهلها، وقد شارك هو نفسه في الحملة، وقد كان صديقًا لقائدها؛ فوصفه وصف شاهد عيان3. وقد استهل وصف

_ 1 Diodorus Siculus, Bibliotheca Historica, Vol., 1-3, Edited by Friedrich Vogel, Vol., 4 and 5, Edited by C.T. Fischer, in Bibliotheca Scriptorum Graeco rum et Romanum Teubneriana, Leipzig, 1888-1906. 2 Hamilton وقيل "66ق. م – 24م"، اعتمدت ترجمة: The Geography of Strao, Translated by Hamilton, London, 1912, in 3 Vols., Strabo, Geographia, Edited by August Meineke, in 3 Vola. Leipzig, 1907-1913, 3 Strabo, BK, 16, Clia., I, ed. Hamiton, Vol., 3, PP., 170 209.

الحملة بهذه العبارة: "لقد علمتنا الحملة التي قام بها الرومان على بلاد العرب بقيادة أوليوس غالوس في أيامنا هذه أشياء كثيرة عن تلك البلاد1. وممن تحدث عن العرب "بلينيوس" "بليني الأقدم" "pliny the elder" "galus plinius secundus" المتوفى سنة 79م، ومن كتبه المهمة كتابه "التأريخ الطبيعي" "naturalis historia" في سبعة وثلاثين قسمًا، وقد نقل في كتابه عمن تقدمه، ولا سيما معلوماته عن بلاد العرب والشرق وجميع ما أمكنه جمعه؛ غير أنه أتى في أماكن متعددة من كتابه بأخبار لم يرد لها ذكر من كتب المؤرخين الآخرين2. وهناك مؤلف يوناني مجهول، وضع كتابًا سماه "الطواف حول بحر الأريتريا"3 "The Periplus of the Erythraean Sea" "Periplus Maris Erythraei" أتمه في نهاية القرن الأول للمسيح في رأي بعض العلماء، أو بعد ذلك في حوالي النصف الأول من القرن الثالث للميلاد في رأي بعض آخر4. وقد وصف فيه تطوافه في البحر الأحمر وسواحل البلاد العربية الجنوبية. والظاهر أنه كان علامًا بأحوال الهند وشواطئ إفريقية الشرقية، ولعله كان تاجرًا من التجار الذين كانوا يطوفون في هذه الأنحاء للاتجار، ولم يعتنِ إلا بأحوال السواحل. أما الأقسام الداخلية من جزيرة العرب، فيظهر أنه لم يكن ملمًا بها إلمامًا كافيًا. وقد ذهب "إلبرايت" إلى أن الكتاب المذكور قد ألف في حوالي السنة "80" بعد الميلاد5. وذهب آخرون إلى أن مؤلفه قد ألفه في حوالي السنة "225" أو "210" بعد الميلاد6.

_ 1 Strabo, Vol., 3, PP., 209, O'Leary, Arabia, P., 75 Strabo. BK. 16 Ch. 4. 22. 2 Pliny, Naturalis Hiatoria, edited by, C. Mayerhoff, Teubner Series, 1882-1909, 2end Edition, 6 Vols., Leipzig, 1892-1909, D. Detlefson Die Geographischen Bucher (H.242 VI Schluss) , Der Naturalis Hiatoria des G. Plinius mit VoUstandigen Kritischen Appart., Edited by W. SiegUn, Vol., 9, Berlin, 1904. 3 The Periplus of the Erythraean Sea, Translated by W. H. Schof, New York, 1912. 4 Franz Altheim und 4 Ruth Stiehl, Die Araber in der Alten Welt, Berlin, 1964, Bd., I, 108. 5 BASOR., Num. 176, 1964, P., 51. 6 J. Pirenne, La Date du Periple de la Mer Erythree, Journal Asiatique, 1961, PP., 441., P. Altheim, Geschichte der Hunnen, V. Berlin, 1962, PP., II, Lo Museon, 1964, 3-4, P., 478.

وهناك طائفة من الكتاب الذين تركوا لنا آثارًا وردت فيها إشارات إلى العرب والبلاد العربية، مثل "أبولودورس" "apollodorus" "المتوفى سنة 140 بعد المسيح". و "بطلميوس" "claudius ptolemaes" الذي عاش في الإسكندرية في القرن الثاني للمسيح. وهو صاحب مؤلفات في الرياضيات منها "كتاب المجسطي" المعروف في اللغة العربية. وله كتاب مهم في الجفرافية سمّاه "geographike hyphegesisi" ويعرف باسم "جغرافية بطلميوس"1. ولهذا الكتاب شهرة واسعة، وقد درَّس في أكثر من مدارس العالم إلى ما بعد انتهاء القرون الوسطى. جمع فيه بطلميوس ما عرفه العلماء اليونان وما سمعه هو بنفسه وما شاهده هو بعينه، وقسم الأقاليم بحسب درجات الطول والعرض. وقد تكلم في كتابه على مدن البلاد العربية وقبائلها وأحوالها، وزيّن الكتاب بالخارطات التي تصور وجهة نظر العلم إلى العالم في ذلك العهد2. ويرى بعض الباحثين أن ما ذكره "بطلميوس" عن حضرموت يشير إلى أن المنبع الذي أخذ منه كان يعلم شيئًا عنها، وأنه كان قد أقام مدة في "شبوة" العاصمة. ويرون أن ذلك المنبع قد يكون تاجرًا روميًّا، أو أحد المبعوثين الرومان في تلك المدينة؛ لأن وصف "بطلميوس" للأودية، والأماكن الحضرمية يشير إلى وجود معرفة بالأماكن عند صاحبه. أما ما ذكره "بطلميوس" عن أرض "سبأ" والسبئيين؛ فإنه لا يدل، على حد قول المذكورين على علم بالأماكن، وإجادة لأسمائها، وأن الذي أخذ منه "بطلميوس" لم يكن قد شاهدها3. ومن الذين أوردوا شيئًا عن أحوال بلاد العرب "أريان" "arrian" "flavius arrianus" "95- 175م"، وقد ألف كتبًا عديدة. منها

_ 1 Geographia, Edited by C.P. Nobbe, 3 Vols, Leipzig, 1843-1845, Vol., I, Part, I, Carolus Mullerus, Paris, 1884, Vol., I, P., 2, by C. Th. Fisher, Paris, 1901. 2 "قال المسعودي: وقد ذكر بطلميوس في الكتاب المعروف بجغرافيا صفة الأرض ومدنها وجبالها وما فيها من البحار والجزائر والأنهار والعيون، ووصف المدن المسكونة والمواضع العامرة، وأعددها أربعة آلاف وخمس مائة وثالثون مدينة في عصره وسماها مدينة مدينة في إقليم إقليم...."، مروج الذهب "1/ 73. 3 Le Museon, 1964, 3-4, P., 466.

كتابه "anabasis Alexander the great" في خمسة عشر قسمًا، وصف في سبعة منها حملات الإسكندر الكبير، وفي الثمانية الأخرى وصف الهند وأحوال الهنود ورحلة القائد "nearchus" "نيرخس" "أميرال الإسكندر في الخليج العرابي1. ومنهم "هيروديان" "herodianus" "165- 250 ب. م"، وهو مؤرخ سرياني ألف في اليونانية كتابًا في تأريخ قياصرة الروم من وفاة القيصر "ماركوس أوربليوس" إلى سنة 238م2.

_ 1 Anabasis, Edited by, A.G. Ross, Leipzig-, 1907, C. Muller, Paris, 1846, Hlatoria fixdlca, Edited by Carl MuUer, In his Geographi Graeci Minoris, Vol., I, Paris, 1861, PP., 306-369. 2 Herodlanus, Ab Exceasu divi marcl Ubri Octo, Edited by L. Mendelssohn, Leipzig, 1883.

الموارد النصرانية

الموارد النصرانية: وللمواد النصرانية أهمية كييرة في تدوين تأريخ انتشار النصرانية في بلاد العرب وتاريخ القبائل العربية، وعلاقات العرب باليونان والفرس، وقد كُتب أغلبها باليونانية والسريانية. ولها في نظري قيمة تأريخية مهمة؛ لأنها عند عرضها للحوادث تربطها بتأريخ ثابت معين، مثل المجامع الكنيسية، أو تواريخ القديسين، والحروب وأوقاتها في الغالب مضبوطة مثبتة. ومن أشهر هذه الموارد مؤلفات المؤرخ الشهير" أوبسبيوس" المعروف بـ"أوبسبيوس القيصري" "eusebius of caesarea" "263- 340م" "265- 340" وبـ"أبي التأريخ الكنائسي" father of ecclesiastical history" وبـ "هيرودتس النصاري"1. وكان على اتصال بكبار رجال الحكومة وبرؤساء الكنيسة؛ فاستطاع بذلك أن يقف على كثيرمن أسرار الدولة وأن يراجع المخطوطات والوثائق الثمينة التي كانت تحويها خزائن الحكومة وخزائن كتب الرؤساء والأغنياء. وكان قد ألّف كتابًا في التاريخ باللغة اليوناينة، عرف بـ" the chronicon"، حوى بالإضافة إلى التاريخ العام تقاويم وجداول بالحوادث التي حدثت في أيامه.

_ 1 Wiliiam Smith, A Dictionary of the Bible, VoL, 3, P., 107.

وقد أفاد هذا الكتاب فائدة كبيرة في معرفة تاريخ اليونان والرومان حتى سنة 325م، ولم يبقَ من أصله غير قطع صغيرة؛ غير أن له ترجمة باللاتينية عملها "جيروم" "Jerome" وأخرى باللغة الأرمنية، وقد سدّ "جوزيف سكالكر" "joseph scaliger" النقص الذي طرأ على النسخة الأصلية، باستفادته من هاتين الترجمتين1. ولهذا الأسقف كتب مهمة أخرى، في مقدمتها كتاب "التاريخ الكنائسي" "ecclesiastical history" وهو في عشر كتب، يبدأ بأيام المسيح، وينتهي بوفاة الإمبراطور "licinius" سنة 324م. وقد استقى كتابه هذا من مصادر قديمة، وأورد فيه أمورًا انفرد بها2. ومن مؤلفاته: كتاب "شهداء فلسطين" "the martyrs of palastine" تحدث فيه عن تعذيبهم واستشهادهم في أيام "Diocletian" و "maximin" "303- 310م" وكتاب "سيرة قسطنطين" "the life of Constantine"، وكتاب في فلسفة اليونان وديانتهم3. ومن مؤرخي الكنيسة: "athanasius" "حوالي 296- 371"و "gelastius" "حوالي 320- 394م" أسقف قيصرية، وله تتمة لتاريخ "eusebius". و"روفينوس تيرانيوس" "rufinus tyranius" المتوفى سنة 410م، وصاحب كتاب "historiae ecclesiaticae" وقد ضمّنه أقسامًا من تاريخ "أوبسبيوس" و "إيرينوس" "irenaeus" "444م"، وكان أسقفًا على "صور" "tyre"، وقد كتب مؤلفًا عن مجمع "أفسوس" للنظر في النزاع مع النساطرة، وكان يميل إليهم. والمؤرخ "سقراط" "socrates"، وهو من الفقهاء في الكنيسة، وقد اعتمد في تواريخه على من كتب قبله من المؤرخين، وقد وردت في ثناياها أخبار عن بلاد

_ 1 Eusebtus, Chronicorum, Edited by Alfred Schoene, in 2 Vols., Berlin, 1866-1875, Onomastikon der Biblischen Ortsnamen, by Erich Klostermann, Vol., n, Part, I, Eusebius, Vol., 3, Part, I, Leipzig, 1904 2 تاريخ الكنيسة، تأليف يوسابيوس القيصري، ترجمة القس مرقس داود، الناشر، دار الكرنك، القاهرة 1960. 3 Smith, A dictionary, Vol.,3, P., 40, 107

العرب1. والمؤرخ "سوزومينوس" "sozomenus" "400- 443"، وله كتاب في التأريخ الكنائسي2. و "ثيودوريث" "theodoret" المتوفى حوالي سنة 457 للميلاد. و "زوسيموس" "zosimus"، وهو مؤرخ يوناني ألّف في تاريخ الإمبراطورية الرومانية -اليونانية؛ فأشار إلى العرب وعلاقاتهم بها. و "شمعون الأرشامسي" "simeon of beit arshamوهو صاحب "رسائل الشهداء الحميريين"4 التي تبحث في تعذيب ذي نواس للنصارى في نجران، وقد جمع أخبارهم "على ما يدعيه" من بلاط ملك الحيرة أيام أوفده إليه إمبراطور الروم في مهمة رسمية. و"بروكوبيوس" "procopius" من رجال القرن السادس للميلاد، وكان أمين سر القائد "بليزاريوس" "belisarius" أعظم قوّاد "يوسطنيانوس"5، وقد رافقه عدة سنين في بلاد فارس وشمال إفريقية وجزيرة صقلية. ومن مؤلفاته مؤلف في تأريخ زمانه؛ لا سيما حروب "يوسطنيانوس"، وكتاب "de bello persico" وقد وردت فيه أخبار ذات بال بالنسبة لبلاد العرب6. ومن هؤلاء "زكريا" "zacharias"، المتوفى حوالي سنة 568م7. ويوحنا"

_ 1 Smith, A Dictionary, VoL, 3, P., 107. if., Socrates, Ecclesiastical History, Oxon., 1844. 2 Sozomenos, Ecclesiasticae Hlatria, in, J.P., Migne Patrologlae, 67, 1859, Smith, A Dictionary, P., 107. ff 3 Zosimus, Historia Nova, Edited by L. Mendelssohn, Leipzig, 1887 4 Simeon of Bejt Arsham, (524) , Letter on the Himiarite Martyrs, by Ign Guidi, entitled, La Lettra di Semeone Vescova di Beth Arsham (524) , Spora i Lincei atti, Anno, CCrxXVm, Storlche e Filologiche, Vol., 7, Rome. 1881, PP., 471-515. 5 "يوسطنيانس" حمزة الأصفهاني في كتابه تأريخ سني ملوك الأرض والأنبياء، "طبع مطبعة كاوياني ببرلين"، ص47" يوسطانيوس، مروج الذهب "1/ 277"، و"تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. 6 J. Haury, Procopius De Bello Persico, in Bibliotheca Scriptorum Graecanim et iRjomanorum, Leipzig, 1905 7 Zacbarias, Historia Miscellanea, Edited by JJ.N. Land, Entitled Zacharia vE^ilscopi mitylenes Aliorumuae Scripta Historica Graece Plerumque deperdita, Constituting J.PJT. Land, Anecdata Syriaca, Vol., 3, Leiden, 1870. Zachariah of Mtiylene, The Syriac Chronicle, Translated by Hamilton and Brooks, London, 1893. وربما توفي ما بين 536-553 للميلاد.

ملالا" "john malalas" المتوفى سنة 578م1. و "ميننذر" "menandar" "protector" المتوفى حوالي سنة 582م2. و"يوحنا الأفسي" john of ephesus" وقد ولد في حوالي سنة 505م، وتوفي سنة 585م تقريبًا، وله مؤلفات عديدة منها كتابه: "التأريخ الكنائسي" "ecclesiastica historia"، وهو في ثلاثة أقسام يبتدئ بأيام "يوليوس قيصر" وينتهي بسنة 585م4. وكتاب "تأريخ القديسين الشرقيين"، وقد فرغ من تأليفه سنة 569م3. ومن هؤلاء "إسطيفان البيزنطي" "stephanus byzantinus" المتوفى سنة 600م5. و"إيواكريوس" "evagrius" المعروف بـ "scholasticus" أي "المدرسي" المتوفى سنة 600م. وهو صاحب كتاب "التأريخ الكنائسي" "historiae ecclesiasticae" في ستة أقسام. يبتدئ بذكر "المجمع الأفسوسي" المنعقد عام 431م وينتهي بسنة 593.وهو من الكتب المهمة؛ لأن مؤلفه لم يكتب عن هوى شأن أكثر مؤرخي الكنيسة. وقد استعان بالنصوص الأصلية وبالكتب المؤلفة سابقًا6. ومن هؤلاء أيضًا "ثيوفليكت" "theophylactus simocatta" المتوفى سنة 640م7 و "ثيوفانس" "theophanes the confessor" المتوفى سنة 818م8. و"إيليا النصيبي"9 "dlijah "elis" of nisibis"، و"ميخائيل السوري"10

_ 1 Jofrn Malades, Chronographia, In J.P. Migne Patrologiae cursus Completus, Series Graeca, Vol., 97, Paris, 1865, Cols., 65-716, Also, Dindorf, Bonn 1831 2 Menander Protector, (582) , De Legationibus, in JJ» . Migne, Patrologlae Cursua Completus, Series Graeca, Vol., 113, Paris, 1864, Cola 791-928 3 John of Ephesus, Ecclesiastical History, Part, 3, Edited by William Cureton, Oxford, 1853 4 Land, Anecdata Syriaca, 3 Vote., Leiden, 1862-1870, 1-288 5 Ethnica, by AwgTist Meineke, Ethnicormn Quae Superaunt, Vol. 1, Berlin, 1879. 6 Bvagrius Scholasticus, Historia Ecclesiasticae, Libri sex, in J.P. Migne, Fetrologiae Graeca, Vol., 86, Part, 2, Paris, 1865, Cols, 2405-2906, Bury Byzant Texts, London, 1898 7 Historiae, Edited by, C. De Boor, Leipzig-, 1887 8 Theophanes the Confessor, Chronograpfaia, in J. P. Migne, Patrologlae Cursus Completus, Series Graea, Vol., 108, Paris, 1863, Cols, 1-1010, Also Edited by C. De Boor, Leipzig, 1887 9 Elijah of Niaibis, Opus Cnronologicum, Edited and Translated by, P.W, Brooks, (Part) and J-P. Chabot, (Part 2) , in Corpus Scriptorum Cbristlanorum Orientalium, Ser., 3, Vol., 7 and 8, Paris, 19091911. 10 Michael the Syrian, Chronicle, by XB. Chabot, Chronique de Michel le Syrien, Patriarche Jacobite D'Antioehe (1166-1199) , 4 Vols, Paris, 1899-1906

وفي قائمة المخطوطات السريانية في المتحف البريطاني أسماء مخطوطات تاريخية ودينية أخرى ذات فائدة كبيرة في هذا الباب1. وفي مجموعة الكتابات اليونانية واللاتينية2 وفي المجموعات التي تبحث في أعمال القديسين وفي انتشار النصرانية، إشارات مهمة إلى بلاد العرب. وهناك كتاب نشره المستشرق "كارل مولر carl muller" لمؤلف مجهول اسمه "glaucus" يبحث في "آثار بلاد العرب"3. وهناك طائفة من المؤرخين النصارى من روم وسريان عاشوا في أيام الدولة الأموية والدولة العباسية، ألفوا في التاريخ العام وفي تواريخ النصرانية إلى أيامهم، فتحدثوا لذلك عن العرب في الجاهلية وفي الإسلام. ومؤلفات هؤلاء مفيدة من ناحية ورود معارف فيها لا ترد في المؤلفات الإسلامية عن الجاهلية والإسلام، تفيد في سد الثغر في التاريخ الجاهلي وفي الوقوف على النصرانية بين العرب وعلى صلات الروم والفرس بالعرب. وأكثر الموارد المذكورة هي، ويا للأسف، مخطوطة، مخطوطة، ليس من المتيسر الاستفادة منها، أو مطبوعة ولكنها نادة؛ لأنها طبعت منذ عشرات من السنين فصارت نسخها محدودة معدودة لا توجد إلا في عدد قليل من المكتبات. ثم إنها في اليونانية أو اللاتينية أو السريانية، أي في لغاتها الأصلية، ولهذا صعب على من لا يتقن هذه اللغات الاستفادة منها، ولهذه الأمور ولأمثالها، لم يستفد منها الراغبون في البحث في التاريخ الجاهلي حتى المستشرقون منهم استفادة واسعة، فحرمنا الوقوف علىأمور كثيرة من أخبار الجاهلية كان في الإمكان الوقوف عليها لو تيسرت لنا هذه الكنوز.

_ 1 Wrigrht, W., Catalogue of the Syriao Manuscripts in the British Museum, in 3 Vols, London, 1870-1872. 2 Corpus Inscriptlonum Lattnarum, Conailio et Auctoritate Acad&miae litterarum Regiae Porussicae, Berlin, 1862, (15 Vola) . 3 Glauciis, Archaelogla Arabics, by, Carl Muller, In Pragmenta Historicorum Graecorum, Vol., 4, Paris,

الموارد العربية الإسلامية

الموارد العربية الإسلامية: وأعني بها الموارد التي دوّنت في الإسلام وقد جمعت مادتها عن الجاهلية من

الأفواه، خلا ما يتعلق منها بأخبار صلات الفرس بالعرب وبأخبار آل نصر وآل غسان وبأخبار اليمن المتأخرة، فقد أخذت من موارد مرتبة يظهر أنها كانت مكتوبة كما سأتحدث عن ذلك. والموارد المذكورة كثيرة، منها مصنفات في التاريخ، ومنها مصنفات في الأدب بنوعيه. من نثر ونظم، ومنها كتب في البلدان والرحلات والجغرافيا وفي موضوعات أخرى عديدة، هي وإن كانت في أمور لا تعد من صميم التاريخ، إلا أنها مورد من الموارد التي يجب الاستعانة بها في تدوين تاريخ الجاهلية؛ لأنها تتضمن مادة غزيرة تتعلق بتاريخ الجاهلية القريبة من الإسلام والمتصلة به، لا نجد لها ذكرًا في كتب التاريخ؛ فلا بد لمؤرخ الجاهلية من الأخذ منها لإتمام التاريخ. الحق أننا أردنا البحث عن مورد يصور لنا أحوال الحياة الجاهلية، ويتحدث لنا عن تفكير أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، فلا بد لنا من الرجوع إلى القرآن الكريم ولا بد من تقديمه على سائر المراجع الإسلامية، وهو فوقها بالطبع. ولا أريد أن أدخله فيها؛ لأنه كتاب مقدس، لم ينزل كتابًا في التاريخ أو اللغة أو ما شاكل ذلك، ولكنه نزل كتابًا عربيًا، لغته هي اللغة العربية التي كان يتكلم بها أهل الحجاز، وقد خاطب قومًا نتحدث عنهم في هذا الكتاب؛ فوصف حالتهم وتفكيرهم وعقائدهم، ونصحهم وذكَّرهم بالأمم والشعوب العربية الخالية1، وطلب منهم ترك ما هم عليه، وتطرّق إلى ذكر تجاراتهم، وسياساتهم وغير ذلك. وقد مثّلهم أناس كانت لهم صلات بالعالم الخارجي، واطلاع على أحوال من كان حولهم. وفيه تفنيد لكثير من الآراء المغلوطة التي نجدها في المصادر العربية الإسلامية؛ فهو مرآة صافية للعصر الجاهلي، وهو كتاب صدق لا سبيل إلى الشك في صحة نصه. وفي القرآن الكريم ذكر لبعض أصنام أهل الحجاز، وذكر لجدلهم مع الرسول

_ 1 سورة هود سورة 11 آية 95، سورة الحج، سورة 22 آية42، سورة الشعراء، سورة 26 آية 141، سورة الحاقة، سورة 69 آية 4، سورة ق، سورة 50 آية 14، سورة الدخان، سورة 44 آية 37، سورة الفيل، سورة 105، آية 1، سورة البروج، سورة 85 آية 4.

في الإسلام وفي الحياة وفي المثل الجاهلية. وفيه تعرّض لنواحٍ من الحياة الاقتصادية والسياسية عندهم، وذكر تجارتهم مع العالم الخارجي، ووقوفهم على تيارات السياسة العالمية، وانقسام الدول إلى معسكرين، وفيه أمور أخرى تخص الجاهلية وردت فيه على قدر ما كان لها من علاقة بمعارضة قريش للقرآن والإسلام. وفي كل ما وردت فيه دليل على أن صورة الأخباريين التي رسموها للجاهلية، لم تكن صورة صحيحة متقنة، وأن ما زعموه من عزلة جزيرة العرب، وجهل العرب وهمجيتهم في الجاهلية الجهلاء، كان زعمًا لا يؤيده القرآن الكريم الذي خالف كثيرًا مما ذهبوا إليه. والتفسير، مصدر آخر من المصادر المساعدة لمعرفة تأريخ العرب قبل الإسلام. وفي كتب التفسير ثروة تأريخية قيمة تفيد المؤرخ في تدوين هذا التأريخ، تشرح ما جاء مقتضبًا في كتاب الله، وتبسط ما كان عالقًا بأذهان الناس عن الأيام التي سبقت الإسلام، وتحكي ما سمعوه وما وعوه عن القبائل العربية البائدة التي ورد لها ذكر مقتضب في السور، وما ورد عندهم من أحكام وآراء ومعتقدات. ولكن كتب التفاسير -ويا للأسف- غير مفهرسة ولا مطبوعة طبعًا حديثًا، وهي في أجزاء ضخمة عديدة في الغالب، ولهذا صعب على الباحثين الرجوع إليها لاستخراج ما يُحتاج إليه من مادة عن التأريخ الجاهلي، حتى إن المستشرقين المعروفين بصبرهم وبجلدهم وبعدم مبالاتهم بالتعب، لم يأخذوا من معينها إلا قليلًا، مع أن فيها مادة غنية عن نواحٍ كثيرة من أمور الجاهلية المتصلة بالإسلام. وكتب الحديث وشروحها، هي أيضًا مورد غني من الموارد التي لا بد منها لتدوين أخبار الجاهلية المتصلة بالإسلام؛ إذ نجد فيها أمورًا تتحدث عن نواحٍ عديدة من أحوال الجاهلية لا نجدها في مورد آخر. فلا مندوحة من الرجوع إليها والأخذ منها في تدوين تأريخ الجاهلية، ولكن أكثر من بحث في التأريخ الجاهلي لم يغرف من هذا المنهل الغزير، بسبب عدم انتباههم لأهميته في تدوين تأريخ عرب الحجاز عند ظهور الإسلام؛ فعلينا نحن اليوم واجب الأخذ منه، لنزيد علمنا بتأريخ هذه الجاهلية المتصلة بالإسلام. والشعر الجاهلي، مورد آخر من الموارد التي تساعدنا في الوقوف على تأريخ الجاهلية والاطلاع على أحوالها، وقديمًا قيل فيه إنه "ديوان العرب". "عن عكرمة. قال: ما سمعت ابن عبّاس فسّر آية من كتاب الله؛ عز وجلّ،

إلّا نزع فيها بيتًا من الشعر، وكان يقول: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله؛ فاطلبوه في الشعر؛ فإنه ديوان العرب، وبه حُفظت الأنساب، وعُرفت المآثر، ومنه تُعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله وغريب حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحديث صحابته والتابعين"1. "وعن ابن سيربن قال: قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"2. وقال الجمحيّ فيه، أي في الشعر الجاهلي: "وكان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون3". وقد جُمع الشعر الجاهلي في الإسلام، جمعه رواة حاذقون، تخصصوا برواية شعر العرب. قال "محمد بن سلام الجمحي": "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، حمّاد الرواية، وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار"4. واشتهر بجمعه أيضًا "أبو عمرو بن العلاء" المتوفى سنة "154" للهجرة5، وخلف بن حيّان أبو محرز الأحمر6، وأبو عبيدة، والأصمعي، والمفضَّل بن محمد الضبي الكوفي7 صاحب المفضليات، وهي ثمان وعشرون قصيدة، قد تزيد وقد تنقص وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية8.

_ 1 المزهر "2/ 470"، "وأخرج أبو بكر الأنباري في "كتاب الوقف" من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب"، المزهر "2/ 302"، التبريزي، شرح الحماسة "1/ 3". 2 الجمحي: طبقات الشعراء "ص10" "طبعة لندن". 3 طبقات الشعراء "ص10". 4 طبقات الشعراء "ص14"، توفي حماد سنة 156 للهجرة، الفهرست "ص140". 5 البيان والتبيين "1/ 321"، المزهر "2/ 304"، الفهرس "ص48". 6 "وكان من أمرس الناس لبيت شعر، وكان شاعرًا يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم.. وله من الكتب: كتاب العرب وما قيل فيها من الشعر"، الفهرست "ص80". 7 طبقات الشعراء "ص9"، الفهرست "ص108". 8 الفهرست "ص108".

وأبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني المتوفى سنة 206 للهجرة1، قيل: إنه جمع أشعار العرب؛ فكانت نيفا وثمانين قبيلة2. وأبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، المتوفى سنة 231 للهجرة3، وأبو محمد جنّاد بن واصل الكوفي4، وخلّاد بن يزيد الباهلي5، وغيرهم ممن تفرغوا له، وصرفوا جلّ وقتهم في جمعه وحفظه وروايته. "قال ابن عوف عن ابن سيرين. قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه؛ فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد، وغزوا فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يألوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، فألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم أكثره"6. وورد عن "أبي عمرو بن العلاء" أنه قال: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم علم وشعر كثير"7. ولا جدال بين العلماء حتى اليوم في موضوع ذهاب أكثر الشعر الجاهلي، وفي أن الباقي الذي وصل إلينا مدونًا في الكتب، هو قليل من كثير. وقد عللوا سبب اندثار أكثره وذهابه بسبب عدم تدوين الجاهليين له، واكتفائهم بروايته حفظًا، فضاع بتقادم الزمان، وبموت الرواة، وبانطماس أثره من الذاكرة، وبانشغال الناس بأمور أخرى عن روايته؛ ولا سيما رواية القديم منه الذي لم يعد يؤثر في العواطف تأثير الجديد منه الذي قيل قبيل الإسلام. نعم جاء في الأخبار أنه "قد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار

_ 1 "وأخذ عند دواوين أشعار القبائل كلها"، "قيل مات في اليوم الذي مات فيه أبو العتاهية وإبراهيم الموصلي سنة ثلاث عشرة ومائتين"، الفهرست "ص107 وما بعدها". 2 الفهرست "ص107". 3 الفهرست "ص108 وما بعدها". 4 "كان من أعلم الناس بأشعار العرب وأيامها" الفهرست "ص141". 5 الفهرست "ص162". 6 طبقات الشعراء "ص10". 7 المصدر نفسه.

الفحول وما مدح به هو وأهل بيته؛ فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه"1. وورد عن "حماد الرواية" أنه ذكر أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطّنوح، وهي الكراريس؛ فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض. فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار2. ووردت عنه أيضًا حكاية أهل مكة للمعلقات على الكعبة3. ووردت أخبار أخرى تدل على وجود تدوين للشعر عند الجاهليين؛ إلا أننا لا نجد حمادًا ولا غير حماد ينص على أنه نقل ما دوّنه من تلك الموارد المدونة أو من غيرها مما وجده مدوّنًا. وهذا ما حدا بالعلماء قديمًا وحديثًا إلى البحث في هذا الموضوع: موضوع الشعر الجاهلي من ناحية وجود تدوين له، أو عدم وجود تدوين له. وأثر ذلك على درجة ذلك الشعر من حيث الصحة والأصالة والصفاء والنقاء4. وفي الشعر الجاهلي الواصل إلينا، شعر صحيح وشعر موضوع منحول حمل على الشعراء. وقد شخص أهل الفراسة بالشعر الصحيح منه ونصوا على أكثر الفاسد منه. ولم يقل أحد منهم أن الشعر الجاهلي موضوع كله فاسد لا أصل له. فدعوى مثل هذه، هي دعوى كبيرة لا يمكن أن يقولها أحد؛ إنما اختلفوا في درجة نسبة الصحيح إلى الفاسد، أو نسبة الفاسد إلى الصحيح. "وكان ممن هجّن الشعر وأفسده وحمل كل غُثاء، محمد بن إسحاق مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. وكان من علماء الناس بالسير فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها، ويقول لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله،

_ 1 طبقات الشعراء "ص10"، المزهر "2/ 474". 2 تاج العروس "2/ 70"، لسان العرب "2: 142" الخصائص لابن جني "1/ 392 وما بعدها". 3 المزهر "2/ 480"، ياقوت، إرشاد الأديب "4/ 140" 4 طه حسين، في الشعر الجاهلي، 1926، ثم في الأدب الجاهلي، مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب، وتحت راية القرآن، محمد الخضري: محاضرات في بيان الأخطاء العلمية التاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي محمد الخضر حسين: نقض كتاب في الشعر الجاهلي، محمد أحمد الغمراوي. النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي، محمد فريد وجدي: نقد كتاب الشعر الجاهلي، محمد أحمد الغمراوي. النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي، محمد فريد وجدي: نقد كتاب الشعر الجاهلي، محمد لطفي جمعة: الشهاب الراصد.

ولم يكن ذلك له عذرًا؛ فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قطّ، وأشعار النساء فضلًا عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود أفلا يرجع إلى نفسه: فيقول من حمل هذا الشعر، ومن أداه منذ ألوف من السنين، والله يقول: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} وقال في عاد: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} . 1 وآتهم "حمّاد الرواية" بالكذب وبوضع الشعر على ألسنة الشعراء، فقيل فيه:"وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار"2. وقال "أبو جعفر النحاس" المتوفى سنة 328 للهجرة في أمر "المعلقات": "إن حمّادًا هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"3، واتهم غيره ممن ذكرت من جهابذة حفظة الشعر الجاهلي بالوضع كذلك. وقد نصوا في كثير من الأحايين على ما وضعوه، وحملوه على الجاهليين. وذكروا أسباب ذلك بتفصيل4، كالذي فعله مصطفى صادق الرافعي في "تأريخ آداب العرب"5. وبعد هذه الكلمة القصيرة في الشعر الجاهلي – الذي سأتحدث عنه بإطناب في الجزء الخاص باللغة- أقول: إن إليه يعود فضل بقاء كثير من الأخبار المتعلقة بالجاهلية، فلولاه لم نعرف من أمرها شيئًا. ولست مبالغًا إذا قلت إن كثيرا من الأخبار قد ماتت لموت الشعر الذي قيل في مناسباتها، وإن أخبارًا خلقت خلقًا؛ لأن واضع الشعر أو راويه اضطر إلى ذكر المناسبة التي قيل فيها، فعمد إلى الخلق والوضع. وهو من ثم صار سببًا في تخليد الأخبار6، لسهولة حفظه، ولاضطرار راويه إلى قص المناسبة التي قيل فيها. وما قلته في أهمية الشعر الجاهلي بالقياس إلى عمل مؤرخ الجاهلية، ينطبق

_ 1 طبقات الشعراء "ص4". 2 طبقات الشعراء "ص14". 3 المزهر "2/ 480". 4 طبقات الشعراء "ص15، 60، 61 وما بعدها، ومواضع عديدة أخرى" 5 راجع الصفحات 277 فما بعدها. 6 دائرة المعارف الإسلامية، مادة "تأريخ" "ص484"، الترجمة العربية،

أيضًا على أهمية شعر الشعراء المخضرمين بالقياس إلى عمل هذا المؤرخ؛ فقد أسهم أكثر الشعراء المخضرمين في أحداث وقعت في الجاهلية، وكان منهم من جالس "آل نصر" و "آل غسان"، وبقية سادات العرب، فورد في شعرهم أخبارهم وأحوالهم وطباعهم وغير ذلك. كما نجد في شعرهم مادة عن الحياة العقلية والمادية في أيامهم. ثم إن حياتهم اتصلت بالإسلام؛ فلم يكن شعرهم وما قالوه ورووه بعيد عهد عن أهل الأخبار ورواة الشعر، وهو من ثم أقرب إلى المنطق والواقع من شعر الجاهليين لبعدهم عن الرواة بعض البعد. ولم ينج هذا الشعر أيضًا من الوضع؛ فحمل على بعض الشعراء مثل "حسان ابن ثابت" بعض الشعر لأغراض، منها العصبية القبيلة، كما سأتحدث عن ذلك بعد. وفي الجملة إن المؤرخ الحاذق الناقد لن تفوته هذه الملاحظة حين رجوعه إلى هذا الشعر إلى ما ورد على ألسنة الشرّاح. وتعرضت كتب السِيَر والمغازي لأخبار الجاهلية بقدر ما كان للجاهلية من صلة بتاريخ الرسول، كما تعرضت لها كتب الأدب وكتب الأنساب والمثالب والبيوتات ومجامع الأمثال والكتب التي ألّفت في أخبار المعمرين، وفي الأيام، وفي البلدان، وفي المعجمات والجغرافية والسياحات وغير ذلك، فورد في ثناياها أخبار قيّمة عن هذه الجاهلية المتصلة بالإسلام. وهي موارد عظيمة الأهمية لمؤرخ هذه الحقبة، كثيرة العدد، هيأها عدد كبير من العلماء لا يمكن استقصاؤهم في هذه المقدمة، ولا التحدث عن مؤلفاتهم، وهو حديث يحتاج إلى فصول. على أنّا يجب أن نأخذ بعض هذه الموارد المذكورة بحذر جدّ شديد، ولا سيما كتب "الأخبار والمثالب والمناقب والمآثر والأنساب"، فإن مجال الوضع والصنعة بها واسع كبير، لما للعواطف القبيلية فيها من يد ودخل، وللحزبية والأغراض فيها من تأثير. وطالما نسمع أن فلانًا وضع كتابًا في مثالب القبيلة الفلانية أو في مدحها ترضية لرجال تلك القبيلة، أو لحصوله على مال منها. ومن هنا وجب الاحتراس كل الاحتراس من هذه الموارد، ووجوب نقد كل رواية فيها قبل الاعتماد عليها والأخذ بها كمورد صحيح دقيق. وفي كتب الأدب ثروة تأريخية قيمة، مبثوثة في صفحاتها، لا نجد لها مثيلًا ولا مكانًا في كثير من الأحايين في كتب أهل التأريخ عن التأريخ الجاهلي، حتى إني لأستطيع أن أقول إن ما أورده رجال الأدب عنه هو أضعاف أضعاف ما

رواه المؤرخون عن ذلك التأريخ، وأن ما جاءت به كتب الأدب عن ملوك الحيرة وعن الغساسنة، وعن ملوك كندة وعن أخبار القبائل العربية، هو أكثر بكثير مما جاءت به كتب التأريخ، بل هو أحسن منها عرضًا وصفاءً، وأكثر منها دقة. ويدل عرضه بأسلوبه الأدبي المعروف على أنه مستمد من موارد عريبة خالصة، وقد أخذ من أفواه شهود عيان، شهدوا ما تحدثوا عنه. وقد أفادنا كثيرًا في تدوين تأريخ الجاهلية الملاصقة للإسلام، ولشأنه هذا أودّ أن ألفت أنظار من يريد تدوين تأريخ هذه الحقبة إليه، وأن يرعاه بالرعاية والعناية وبالنقد، وسيحصل عندئذ على رأي لا يستطيع العثور عليه في كتب أهل التأريخ. وقد صارت كتب المؤرخين المسلمين لذلك ضعيفة جدًّا في باب تأريخ العرب قبل الإسلام، ومادتها عن الجاهلية هزيلة جدّ قليلة بالقياس إلى ما نجده في كتب التفسير والحديث والفقه والأدب وشروح دواوين الشعراء الجاهليين والمخضرمين والموارد الأخرى. والغريب أن تلك الكتب اكتفت في الغالب بإيراد جريدة لأسماء ملوك الحيرة أو الغساسنة أو كندة أو حمير، مع ذكر بعض ما وقع لهم في بعض الأحيان، على حين نجد كتب الأدب تتبسط في الحديث عنهم، وتتحدث عن حوادث وأمور لا نجد لها ذكرًا في كتب المؤرخين؛ بل نجد فيها أسماء ملوك لم تعرفها كتب التأريخ، مما صيرها في نظري أكثر فائدة وأعظم نفعًا لتأريخ الجاهلية من كتب المؤرخين.

المؤرخون المسلمون

المؤرخون المسلمون: لا نتمكن من الاطمئنان إلى هذه الأخبار والروايات المدونة في الموارد الإسلامية عن الجاهلية؛ إلا إذا وقفنا بها إلى حدود القرن السادس للميلاد أو القرن الخامس على أكثر تقدير. أما ما روي على أنه فوق ذلك، فإننا لا نتمكن من الاطمئنان إليه؛ لأنه لم يرد به سند مدون، ولم يؤخذ من نصّ مكتوب، وإنما أخذ من أفواه الرجال، ولا يؤتمن على مثل هذا النوع من الرواية؛ لأننا حتى إذا سلمنا إن رواة تلك الأخبار كانوا منزهين عن الميول والعواطف، وأنهم كانوا صدوقين في كل ما رووا، وكانوا أصحاب ملكة حسنة ذات قدرة في النقد وفي

التمييز بين الصحيح والفاسد؛ فإننا لا نتمكن من أن نسلم أن في استطاعة الذاكرة أن تحافظ على صفاء الرواية وأن تروي القصة وما فيها من كلام وحديث بالنص والحرف حقبة طويلة. لذا وجب علينا الحذر في الاعتماد على هذه الموارد وتمحيص هذا المدون الوارد، وإن تكاثر واشتهر وتواتر؛ فقد كان من عادة رواة الأخبار رواية الخبر الواحد دون الإشارة إلى منبعه، ويُتداول في الكتب، فيظهر وكأنه من النوع المتواتر في حين أنه من الأخبار الآحاد في الأصل. ولا أدري كيف يمكن الاطمئنان إلى نصّ قصة طويلة فيها كلام وحوار أو قصيدة طويلة زعم أن التبع فلانًا نظمها، في حين أننا نعلم أن الذاكرة لا يمكن أن تحفظ نصًّا بالحرف الواحد إذا لم يكن مدوّنًا مكتوبا، ولهذا جوّز أهل الحديث رواية حديث الرسول بالمعنى، إذا تعذرت روايته بالنص. ولا أعتقد أن عناية العرب المسلمين بحديث رسول الله كانت أقل من عنايتهم برواية ما جرى مثلًا بين النعمان بن المنذر وبين كسرى من كلام، أو من رواية ذلك الكلام المنمق، والحديث الطويل العذب، الذي جرى بين وفد النعمان الذي اختاره من خيرة ألسنة القبائل المعروفة بالكلام، وبين كسرى المذكور1. ومن هذا القبيل نصوص المفاخرات والمنافرات، فإن مجال لعب العاطفة فيها واسع رحيب. وكذلك كل الأخبار والروايات النابعة عن الخصومات والمنافسات بين القبائل أو الأشخاص، فإن الوضع والافتعال فيها شائع كثير، ولا مجال للكلام عليه في هذا الموضع؛ لأنه يخرجنا من حدود التأريخ الجاهلي، إلى موضوع آخر، هو نقد الروايات والأخبار والرواة، وهو خارج عن هذا الموضوع. لقد تحدث أهل الأخبار عن عاد وثمود وطسم وجديس وجُرْهُم وغيرهم من الأمم البائدة، وتكلموا على المباني "العادية" وعن جنّ سليمان وأسحلة سليمان، ورووا شعرًا ونثرًا نسبوه إلى الأمم المذكورة وإلى التبابعة، بل نسبوا شعرا إلى آدم، زعموا أنه قاله حين حزن على ولده وأسف على فقده، ونسبوا شعرًا إلى "إبليس"، قالوا إنه نظمه في الردّ على شعر "آدم" المذكور، وأنه أسمعه

_ 1 راجع النصوص في بلوغ الأرب "1/ 147 فما بعدها".

"آدم" بصوته دون أن يراه1. ورووا أشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل. ولكن هل يمكن الاطمئنان إلى قصص كهذا يرجع أهل الأخبار زمانه إلى مئات من السنين قبل الإسلام، وإلى أكثر من ذلك، ونحن نعلم، بتجاربنا معهم، أن ذاكرتهم اختلفت في أمور وقعت قبيل الإسلام، واضطربت في تذكر حوادث حدثت في السنين الأولى من الإسلام. كيف يمكننا الاطمئنان إلى ما ذكروه عن التبابعة وعن أناس زعموا أنهم عاشوا دهرًا طويلًا قبل الإسلام، ونحن نعلم من كتابات المسند ومن المؤلفات اليونانية والسريانية، أنهم لم يكونوا على ما ذكروه عنهم، وأنهم عاشوا في أيام لم تبعد بعدًا كبيرًا عن الإسلام، وأنهم كانوا يكتبون بالمسند وبلسان يختلف عن هذا اللسان الذي نزل به القرآن. ثم خذ ما ذكروه عن حملة "أبرهة" على مكة وعن أبرهة نفسه، وعن "أبي رغال"، وعن حادث نجران وذي نواس، وعن خراب سدّ مأرب، وعن أمثال ذلك من حوادث وأشخاص سيرد الكلام عليها في أجزاء هذا الكتاب، تجد أن ما ذكروه عنها وعنهم يتحدث بجلاء وبكل وضوح عن جهل بالواقع وعن عدم فهم لما وقع، وعن عدم إدارك للزمان والمكان، وعن عدم معرفة بالأشخاص. فرفعوا تواريخ بعض تلك الحوادث إلى مئات من السنين، وخلطوا في بعض منها، وفي كل ذلك دلالة على أن ما حفظته الذاكرة، لم يكن نقيًا خالصًا من الشوائب، وأن الذاكرة لا يمكن أن تحافظ على ما تحفظه أمدًا طويلًا وأن آفات النسيان وتلاعب الزمان بالحفظ لا بد أن يغيّر من طبائع المحفوظ. والأخباريون إذا رووا ذلك ودوّنوه، لم يكونوا أول من وضع وصنع وافتعل وجاء بالقصص والأساطير على أنها باب من أبواب التأريخ؛ فقد فعل فعلهم اليونان والرومان والعبرانيون وسائر الشعوب الآخرى، يوم أرادوا تدوين تواريخ العصور التي سبقت عندهم عصور الكتابة والتدوين؛ إذ لم يجدوا أمامهم غير هذا النوع من الروايات الشفوية البدائية التي عبث بصفائها الزمان كلما طال أجلها إلى زمن التدوين، فدوّنوه ورووه، إلى أن وصل إلينا على النحو المكتوب. وللسبب المذكور نرى في الأخبار الواردة عن ملوك الحيرة، أو عن صلات الفرس بالعرب أخبارًا قريبة إلى منطق التاريخ وإلى الواقع يمكن أن نأخذ بها وأن

_ 1 مروج الذهب "1/ 26 وما بعدها"، "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد".

نستعين بها في تدوين تاريخ الحيرة وتاريخ الساسانيين مع العرب. ويعود سبب ذلك إلى رجوع الرواة إلى موارد مدونة، أو إلى شهود عيان أدركوا أنفسهم الحوادث، وكلها من الحوادث القريبة من الإسلام والتي وقع بعضها في أيام الرسول. أما حوادث آل نصر، أو أخبار الفرس مع العرب البعيدة؛ فلا نجد فيها هذا الصفاء والنقاء، بل نجد فيها قترة وغبرة، لنقلها بالسماع والمشافهة وتقادم العهد على السماع. وهكذا صار تاريخ الحيرة المروي في التواريخ غيومًا تتخلّلها فجوات متبعثرة تنبعث منها أشعة الشمس. نعم جاء أن أهل الحيرة كانوا يعنون بتدوين أخبارهم وأنساب ملوكهم وأعمار من ملك منهم، وكانوا يضعون ذلك في بيع الحيرة1. وورد أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطّنوح، وهي الكراريس، فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض؛ فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار2. وذكر ابن سلام الجُمَحِي أنه "كان عند النعمان بن المنذر ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته؛ فصار ذلك إلى بني مروان، أو ما صار منه"3. ولكنني على الرغم من ورود هذ الأخبار لا أستطيع أن أقف منها الآن موقفًا إيجابيًّا؛ إذ لم أسمع أن أحدًا من رواة الشعر ذكر أنه رجع إلى تلك الطّنوج والدواوين فأخذ منهما، أو أن بني مروان عرضوها على أحد. ولو كانت تلك الدواوين موجودة، لم يسكت عنها رواة الشعر الجاهلي وطلابه الذين كانوا يبحثون عنه في كل مكان. ثم إن الأخباريين يذكرون أن "الوليد بن يزيد بن عبد الملك"، كان يرسل إلى "حمّاد" رسلًا ليأتوا إليه بما يريد الوقوف عليه من الشعر الجاهلي، وأنه "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك وردّ الديوان إلى حمّاد وجناد"4، وأنه أحضر5 إلى الشام، واستنشده أشعار "بَلِيّ" وأشعارًا أخرى، ولو كان لدى "بني

_ 1 الطبري "2/ 37". 2 تاج العروس "2/ 70"، لسان العرب "3/ 142"، ابن جني، الخصائص "1/ 392 وما بعدها". 3 طبقات فحول الشعراء "ص10، المزهر "2/ 474". 4 الفهرست "ص140". 5 الأغاني "6/ 94".

مروان" ديوان "النعمان بن المنذر" الذي جمع فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، لما احتاج "الوليد" إلى أن يسأل حمادًا وجنادًا ليرسلا إليه ديوان العرب، وهو ديوان لا ندري اليوم من أمره شيئًا، ولم يذكر "ابن النديم" صاحب الخبر، ما علاقة الرجلين المذكورين بذلك الديوان. هل كانا اشتركا معًا في جمعه، أو أن كل واحد منهما قد جمع بنفسه الأشعار في ديوان؛ فأرسل الوليد إليهما يطلب منهما ما جمعاه، ليجمعه مع ما عنده في ديوان. ثم إننا لم نسمع أحدًا يقول:"كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر ابن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم، لآل كسرى، وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها"1؛ غير الرواية "هشام بن محمد الكلبي". فَلِمَ وقف "ابن الكلبي" وحده على تلك الكنوز، ولم يلجأ غيره إلى بيع الحيرة، ليأخذ منها أخبار نصر؟ ألم يعلم بوجودها أحد غيره؟ ثم لِمَ اختلفت روايات "ابن الكلبي" وتناقضت في أمور من تأريخ الحيرة، ما كان من الواجب وقوع اختلاف فيها، ولِمَ لجأ أيضًا إلى رواية القصص والأساطير عن منشأ "الحيرة"، وعن "عمرو بن عدي"، وعن جذيمة، وعن "قصر الحورنق" وعن غير ذلك، ليقصها على أنها تأريخ آل نصر2. أيعد هذا دليلًا على أخذه من موارد قديمة مكتوبة مدوّنة؟ نعم، من الجائز أن يكون قد أخذ من صحف كانت قد دوّنت أسماء آل نصر المتأخرين، وبعض الأخبار المتعلقة بهم، أما نه أخذ أخبارهم كاملة مدونة من كتاب أو من كتب تأريخ بالمعنى المفهوم من الكتاب؛ فذلك ما أشك فيه، لأن الذي ينقل أخباره من كتاب في التأريخ لا يروي تاريخ تلك الأسرة وتاريخ عربها على الشكل الذي رواه. قال "الطبري": "كان أمر آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمّالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق عند أهل الحيرة، متعالمًا، مثبتًا عندهم في كنائسهم وأسفارهم"3، وتدل هذه الملاحظة التي تؤيد رواية "ابن الكلبي" المتقدمة -ولعلّ "الطبري" أخذها من رواية لابن

_ 1 الطبري "1/ 628" "طبعة دار المعارف بمصر". 2 الطبري "1/ 609 وما بعدها" "طبعة دار المعارف بمصر". 3 الطبري "1/ 628" "طبعة دار المعارف بمصر".

الكلبي، دون أن يشير إليه- على وجود أسفار في تواريخ أهل الحيرة؛ إلا أني أعود فأقول إن أكثر المروي عنهم، لا يدل على أنه منقول من موارد مدوّنة: لما فيه من اضطراب وتناقض، ولغلبة طابع الروايات الشفوية عليه. والأخبار الوحيدة التي يمكن أن تكون منقولة من موارد مدوّنة، هي الأخبار المتأخرة التي تعود إلى أواخر أيام الحيرة، الأيام المقاربة للإسلام إلى زمن فتح المسلمين لها. ثم إن لقربها من زمن التدوين علاقة بوضوح هذه الأخبار المتأخرة وبدرجة صفائها. ولا تعني هذه الملاحظات أننا ننكر وجود مدوّنات عند أهل الحيرة في التاريخ أو في الشعر أو في أي موضوع آخر، ولا أعتقد أن في استطاعة أحد نكران وجود التأليف عندهم. فقد ورد في التواريخ الكنائسية أسماء رجال من أهل الحيرة ساهموا في المجالس الكنائسية التي انعقدت للنظر في أمور الكنيسة ومشكلاتها، ومنهم من برز وألّف في موضوعات دينية وتاريخية، كما ورد في أخبار أهل الأخبار أن أهل الحيرة كانوا يتداولون قصص رستم واسفنديار وملوك فارس، وأن "النضر بن الحارث" الذي كان يعارض الرسول، تعلّم منهم، وكان يحدّث أهل مكة بأخبارهم معارضًا رسول الله، ويقول: أينا أحسن حديثًا؟ أنا أم محمد1؟ ولا بد أن يكون معين القصص الذي تعلمه "النضر بن الحارث هو في هذا المعين المدون في كتب الفرس. وقد كانت للفرس كتب في سير ملوكهم وآدابهم ترجم بعضها في الإسلام، مثل كتاب "سير العجم"2، أو "كتاب خداي نامه"3، أو كتاب "سير الملوك" أو "سير ملوك العجم"، ترجمة "عبد الله بن المقفع"4 و "كتاب التاج"5 للمترجم نفسه، وكتب أخرى لم تترجم

_ 1 سيرة ابن هاشم "1/ 381" "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد". 2 ابن قتبية: عيون الأخبار "1/ 117". 3 الفهرست "ص172"، "خداي نامة، وهو الكتاب الذي لما نقل من الفارسية إلى العربية سمي كتاب تأريخ ملوك الفرس"، حمزة "ص15"، وهو في حكاية جمل ما في خداي نامة لم يحكها ابن المقفع ولا ابن الجهم، فجئت بها في آخر هذا الكتاب ... "، "كتاب خدينامه في السير"، حمزة "ص43". 4 عيون الأخبار "1/ 117". 5 عيون الأخبار "1/ 5"، "كتاب التاج في سيرة انوشروان"، الفهرست "ص 172".

كانت شائعة عند الفرس معروفة، يحافظون عليها ويتداولونها، منها استمد المؤرخون العرب الإسلاميون أخبار الفرس ومن حكم منهم من ملوك1. ولقد قال "كولد تزهير" و "بروكلمن" بوجود أثر فارسي في ظهور علم التأريخ عند المسلمين2. أما أثر الموارد الفارسية في مادية الفصول المدونة عن الفرس وعن ملوك الحيرة، فواضح ظاهر، ولا يمكن لأحد الشك فيه، وأما أثرها فيما عدا ذلك، ولا سيما في كيفية عرض التأريخ وفي أسلوب تدوينه وتبويبه؛ فدعوى أراها غير صحيحة؛ لأن طريقة الابتداء بالزمان ثم ابتداء الخلق وعدد أيام الخلق وخلق آدم ثم التحدث العام عن الأنبياء بحسب تسلسل رسالاتهم، وهي الطريقة التي سار عليها من دوّن في التأريخ العام للمسلمين مثلًا، كما فعل "الطبري" في تأريخه، طريقة لا يمكن أن تكون فارسية؛ لأن الفرس مجوس، والمجوس لا يعتقدون بهؤلاء الرسل والأنبياء. والصحيح أنها طريقة المؤرخين الذين جاءوا بعد الميلاد؛ فهم الذين روّجوا الأسلوب المذكور في تدوين التأريخ. ويمكن إدارك ذلك من المقابلة بين الأسلوبين: الأسلوب الإسلامي في تدوين التأريخ وفي كيفية تبويبه وتصنيفه وأسلوب الكتب التأريخية المدوّنة في اليونانية وفي السريانية إلى زمن تدوين التأريخ عند المسلمين. والرأي عندي أن علمنا بأسلوب التأريخ عند الفرس: كيفية عرضه وطرقه وتبويبه علم نزر؛ لأن ما وصل إلينا من كتبهم معدود محدود، وما ورد فيه سير ملوكهم وأيامهم وما نجده مترجمًا ومنشورًا في المؤلفات العربية، هو من نوع القصص الذي يغلب عليه الطابع الأدبي، فيه أدب السلوك ومواعظ الحكم وأقوال في الحكمة، وحتى القسم المتصل منه بالتأريخ قد وضع بأسلوب عاطفي أدبي. ومن هنا ابتعد عن أسلوب المؤرخين اليونان واللاتين، وعن أسلوب المؤرخين الذين ظهروا بعد الميلاد. وقد يكون لاختلاف الذوق دخل في اختلاف الأسلوبين. ومهما يكن من أمر فأنا لا أريد أن أكون متسرعًا عجولًا في إصدار حكم على فن التأريخ عند الفرس، فأبغض الأشياء إليّ التسرُّع في إصدار الأحكام

_ 1 المسعودي: مروج "1/ 146"، "وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، عن عمر كسرى في كتاب له في أخبار الفرس يصف فيه طبقات ملوكهم ممن سلف وخلف...."، المروج "1/ 199"، والتنبيه والإشراف "ص92". 2 الموسوعة الإسلامية، مادة: تأريخ.

في التأريخ، ومن الحكمة وجوب التريث والانتظار؛ فلعل الأيام تتحفنا بتواريخ فارسية، ترينا أن للفرس رأيًا أصيلًا في التأريخ، وأن لهم طريقة المؤرخين في تدوين تأريخ العالم وتأريخ بلادهم وفي تدوين سير الملوك والأشخاص، وأنهم كانوا قد عينوا مراسلين يلازمون جيوشهم لتدوين أخبار الحروب، كما فعل الروم، ولكن بعقلية مستقلة لم تتأثر بطريقة اليونان واللاتين. ويكاد يكون أكثر ما دوّن عن "الغساسنة" في المؤلفات العربية الإسلامية مأخوذًا من الروايات الواردة عن ملوك الحيرة وعرب الحيرة، أنداد الغساسنة، ولذلك لم تكن في جانبهم، وتكاد تلك الأخبار ترجع في الغالب إلى شخص واحد، تحصص بأخبار الحيرة وملوك الفرس، هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وهو الذي روى هذه الأخبار اعتمادًا على بحوثه الخاصة، وعلى البحوث والدارسات التي قام بها والده من قبله، ويجب أن نجعل لهذه الملاحظات الاعتبار الأول في تدوين تاريخ الغساسنة. وقد وردت أخبارهم في الطبري مع أخبار ملوك الحيرة والفرس لهذا السبب. وأما في سائر الأصول التاريخية الأخرى؛ فهي مقتضبة، وقد اكتفى بعض المؤرخين بإيراد جريدة بأسماء الملوك، وهو عمل ينبئك بقلة بضاعة القوم في تاريخ عرب الشام. وعلى كل حال؛ فإننا نجد في كتب الأدب وفي دوايين الشعر عونًا لنا في تدوين، تاريخ غسان، قد يسد بعض الفراغ في تاريخ هذه الإمارة، وإن كان ذلك كله لا يكفي، بل لا بد من الاستعانة بأصول أعجمية من يونانية وسريانية، ففيها مواد عن نواحٍ مجهولة من هذا التاريخ، كما أنها تصحح شيئًا؛ مما ورد في الموارد العربية من أغلاط1. ولقد تأثرت روايات "ابن الكلبي" بطابع التعصب لأهل الحيرة على الغساسنة؛ لاعتماده على روايات أهل الحيرة وعلى أهل الكوفة في سرد تاريخ الغساسنة، وقد كان ملوك الحيرة أندادًا لملوك الغساسنة، ولهذا تتعارض رواياته وروايات من استقى من هذا المورد مع روايات علماء اللغة والأدب والشعر التي وردت استطردًا عن أهل الحيرة أو الغساسنة، وذلك في أثناء شرحهم لفظة أو بيت شعر أو قصيدة أو ديونًا أو حياة شاعر كانت له علاقة بالحيرة أو الغساسنة، أو عن

_ 1 أمراء غسان لنولدكه، ترجمة الدكتور قسطنطين زريق والدكتور بندلي جوزي، "بيروت سنة 1933" "ص1-2"

قصة من القصص، وما شاكل ذلك. ومرجع أولئك الروايات العربية الخالصة، وقد استمدت من رجال كانوا شاهدي عيان، أو رووا ما سمعوه من أفواه الناس، ويمكن إدراك اتجاهها وميولها بوضوح، ولهذا تجب الموازنة بين الروايتين. أما روايات أهل "يثرب" أي "المدينة"؛ فهي في مصلحة الغساسنة في الأكثر، وقد كانوا على اتصال دائم بهم، ولهم تجارات معهم، وكان شعراؤهم يفتخرون بانتسابهم هم وآل غسان إلى أصل واحد ودوحة واحدة هي الأزد. ولهذا يستحسن التفكير في هذا الأمر بالنسبة إلى روايات أهل المدينة، ولا سيما أخبار حسان بن ثابت الأنصاري عن آل غسان. ومما يؤسف عليه أن المؤرخين المسلمين لم يغرفوا من المناهل اليونانية واللاتينية والسريانية لتدوين أخبارهم عن تأريخ العرب قبل الإسلام، لا قبل الميلاد ولا بعده، مع أنها أضبط وأدق من الأصول الفارسية، ومن الروايات التي تعتمد على المشافهة بالطبع وقد كان من عادة اليونان إلحاق عدد من المخبرين والمسجلين الرسميين بالحملات لتسجيل أخبارها، كما حوت الموارد السريانية بصورة خاصة والموارد اليونانية المؤلفة بعد الميلاد أمورًا كثيرة فيما يخص انتشار النصرانية بين العرب، وفيما يخص المجامع الكنائسية التي حضرها أساقفة من العرب، وكذلك الآراء والمذاهب النصرانية التي ظهرت بين نصارى العرب. نعم لقد وقف المؤرخون على تواريخ عامة وخاصة مدونة بالرومية والسريانية كانت عند جماعة من المشتغلين بالتأريخ من أهل الكتاب. وقد فسّروها، أو فسّروا بعضها لهم، ولا سيما ما يتعلق منها بموضوعات لها صلة بالقرآن الكريم، مثل كيفية الخلق والزمان والمكان وقصص الرسل والأنبياء والملوك، نجد طابعها ومادتها وأسلوبها في هذا المدوّن عن قبل الإسلام، والذي صار مقدمة لتاريخ الإسلام، درج المشتغلون في التأريخ العام على وضعها قبل تاريخ الرسالة. وقد استفاد من بعضها بعض المؤرخين، مثل المسعودي1 وحمزة الأصفهاني وآخرين،

_ 1 مروج الذهب "1/ 187/ 302"، التنبيه "ص132"، "وهذه التواريخ أخذتها عن رجل رومي"، وقال وكيع: نقلت هذه التواريخ من كتاب ملك من ملوك الروم، تولى نقله إلى العربية بعض الترجمة"، حمزة: كتاب تأريخ سني ملوك الأرض والأنبياء "ص48، 52".

في تدوين تاريخ ملوك الروم، وقد صارت طريقتهم، كما قلت سابقًا أنموذجًا للمؤرخين ساروا عليه في عرض التأريخ وفي تدوينه؛ غير أن هذا النقل لم يكن ويا للأسف قد تجاوز هذا الحد؛ فكان ضيق المجال محدود المساحة، وقد كان من الواجب عليهم الاستعانة بتلك الموارد في علاقات العرب بالروم وفي موضوع النصرانية في بلاد العرب على الأقل، وهي موارد فيها مادة مفيدة في هذا الباب. وأودّ أن أشير إلى الخدمة التي أدّاها علماء الأخبار برجوعهم إلى الشّيب وإلى حفظة أخبار القبائل من مختلف القبائل لجمع أخبار القبائل وإيامها وحوادثها قبل الإسلام. وقد وضعت في ذلك جملة مؤلفات ضاع أكثرها ويا للأسف، ولم يبقَ منها إلا الاسم؛ ولكننا نجد مع ذلك مادة غنية واسعة منها في كتب الأدب، أستطيع أن أقول أنها أوسع وأنفع بكثير من هذه المواد المدونة المجموعة في كتب التأريخ. وهذا شيء غريب؛ إذ المأمول أن تكون كتب التأريخ أوسع مادة منها في هذا الباب، وأن تأخذ لب ما ورد فيها؛ مما يخص التأريخ لتضيفه إلى ما تجمع عندها من مادة. والظاهر أن المؤرخين، ولا سيما المتزمتين منهم المتقيدين بالتأريخ على أنه حوادث مضبوطة مقرونة بوقت وبمكان وبعيدة عن أسلوب الأيام والقصص، رأوا أن ذلك المروي عن أخبار القبائل والأنساب وحوادث الشعراء هو ذو طابع أدبي أو طابع خاص لا علاقة له بالحكومات والملوك؛ فلم يأخذوا به، وتركوه؛ لأنه خارج حدود موضوع التأريخ كما فهموه. وهو فهم خاطئ لمفهوم التأريخ ولمفهوم الموارد التي يجب أن يستعان بها لتدوينه. فأضاعوا بذلك مادة غزيرة لم يدركوا أهميتها وفائدتها إذ ذاك. وإهمالهم لتلك الموارد هو من جملة مواطن الضعف التي نجدها عند أولئك المؤرخين. أما نحن؛ فقد وجدنا فيه ثروة تزيد كثيرًا على الثروة الواردة في مؤلفات المؤرخين. وإهمال المؤرخين لتلك الموارد هو من أسباب الضعف التي نجدها في فهمهم للمنابع التي يجب أن يستعان بها في تدوين التأريخ. وإذا كان القدامى قد أخطئوا في فهم معنى التأريخ، ووقعوا من ثم في خطأ بالنسبة إلى الموارد التي يجب أن يرجع إليها في تدوين تأريخ الجاهلية؛ فعلينا يقع في الزمن الحاضر وعلى القادمين من بعدنا بصورة خاصة واجب مراجعة الموارد الأخرى من كتب في التفسير وفي الحديث وفي الفقه وفي الأدب وغير ذلك، لاستخراج ما فيها من مادة عن الجاهلية، لأنها كما قلت أغزر مادة وأقرب إلى

المنطق في بعض الأحيان في فهم الحوادث من كتب المؤرخين. والغريب أن المستشرقين الذين عُرفوا بجدّهم وبحرصهم على الإحاطة بكل ما يرد عن حادث، أهملوا مع ذلك شأن الموارد المذكورة، ولم يأخذوا منها إلا في القليل. ولو راجعوها، لكان ما جاءوا به عن الجاهلية أضعاف أضعاف ما جاءوا ما به وكتبوه، ولكانت بحوثهم أدق وأعمق مما هي عليه الآن. وفي طليعة مَنْ اشتغل برواية أخبار ما قبل الإسلام: عبيد بن شَرْيَة، ووهب ابن منبه، ومحمد بن السائب الكلبي، وابنه أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وآخرون. وبعض هؤلاء مثل عبيد بن شَرْيَة وكعب الأحبار ووهب ابن منبه، قصاص أساطير، ورواة خرافات، وسمر مستمد من أساطير يهود، وأولئك وأمثالهم هم منبع الإسرائيليات في الإسلام. فأما عبيد بن شَرْيَة، فقد كان من أهل صنعاء "في رواية" أو من سكان الرقة "في رواية أخرى"1. وكان معروفًا عند الناس بالقصص والأخبار؛ فطلبه معاوية، فصار يحدثه بأخبار الماضين2، ومن الكتب المنسوبة إليه: كتاب الأمثال3، وكتاب الملوك وأخبار الماضين، وقد طبع في ذيل "كتاب التيجان في ملوك حمير" المطبوع بحيدرآباد دكن بالهند بعنوان "أخبار عبيد بن شَرْيَة الجُرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها"4، وقد وضع الكتاب على الطريقة

_ 1 الفهرست "ص138"، السجستاني: كتاب المعمرين "ص40"، ياقوت: إرشاد "5/ 10"و Brockelmann, Bd., I, S., 64, Suppl., Bd., I, S., 100 Von Kremer Sudarabische Sage, 16-32, Muh. Stud., Bd., I, S., 183. 2 "فأمر به معاوية، فأنزله في قربة، وأخدمه، وأمر من يجري وظيفته، ووسع عليه، وألطفه فإذا كان في وقت السمر فهو سميره في خاصّته من أهل بيته. وكان يقص عليه ليله، ويُذهب عنه همومه، وأنساه كل سمير كان قبله، ولم يخطر على قبله شيء قط إلا وجد عنده شيئًا وفرحًا ومرحًا، فإذا كان يحدثه وقائع العرب وأشعارها وأخبارها أمر أهل ديوانه أن يوقعوه ويدونوه في الكتب ... "، أخبار عبيد بن شَرْيَة الجرهمي في أخبار اليمن وأشعار وأنسابها "ص312 فما بعدها". 3 "كتاب الأمثال نحو خمسين ورقة رأيته"، الفهرست "128"، إرشاد "12/ 190". 4 طبع سنة 1347هـ، ويرى المستشرق "كرنكو"، أن الجامع له ابن هشام، راجع ملحوظة 1 ص312.

التي تروى بها الأسمار وأيام العرب، وفيه أشعار كثيرة وضعت على لسان عاد وثمود ولقمان وطَسْم وجَديس والتبابعة1، وفيه قصص إسرائيلي وشعبي يمثل في جملته السذاجة وضعف ملكة النقد، وبساطة القص والقصة، ومبلغ علم الناس في ذلك الوقت بأخبار الأوائل2. وقد حصل "كتاب الملوك وأخبار الماضين" على شهرة بعيدة، وطُلب في كل مكان، وكثرت نسخه، ومع هذه الكثرة اختلفت نسخه، حتى صعب العثور على نسختين متشابهتين منه3. وقد نقل الهمداني "المتوفى سنة 334 للهجرة" بعض الأخبار المنسوبة إلى عبيد4. ولِمَا نقله، أهمية كبيرة في تثبيت مؤلفات عبيد؛ إذ يمكن مقابلته بما نشر، ومطابقته بما طبع، فيمكن عندئذ معرفة ما إذا كان هناك اتفاق أو اختلاف. ويمكن عندئذ تعيين هوية المطبوع. والطابع الظاهر على أخبار عبيد، هو طابع السمر والقصص والأساطير المتأثرة بالإسرائيليات. وأما الشعر الكثير الذي روي على أنه من نظم التبابعة وغيرهم، وفيه قصائد طويلة؛ فلا ندري أَمِن نظمه أم من نظم أشخاص آخرين قالوها على لسان من زعموا أنهم نظموها، أو أنها أضيفت فيما بعد إلى الكتاب ونسبت روايتها إلى عبيد؟ وعلى كلٍّ فإنها تستحق توجيه عناية الباحثين إلى البحث عن زمن ظهورها وأثرها في عقلية أهل ذلك الزمن. وأما "وهب بن منبه"؛ فقد كان من أهل "ذمار"، وكان قاصًّا أخباريًّا، من الأبناء، ويقال إنه كان من أصل يهودي، وإليه ترجع أكثر الإسرائيليات المنتشرة في المؤلفات العربية. وقد زعم أنه كان ينقل من التوراة ومن كتب بني إسرائيل، وأنه كان يقول: "قرأت من كتب الله تعالى اثنين وسبعين كتابًا"، وأنه كان يتقن اليونانية والسريانية والحميرية، ويحسن قراءة الكتابات القديمة الصعبة التي لا يقدر أحد على قراءتها5. قال المسعودي: "وجد في

_ 1 Mull. Stud., Bd., 2, S., 204. دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية "ص483". 3 مروج الذهب "2/ 153" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد" 3 Muti. Stud., Bd., I, S., 182.f., Brockeimann, Bd., I, S., 64. Wustenfeld Geschichte. S., 5, Lidsbarski, De Propheticis qu. d. Legendis Arabicis, Leipzig, 1893, 1-2. 4 الإكليل"طبعة الكرملي"، "8/ 71، 184، 215، 232، 234، 240 ومواضع أخرى". 5 إرشاد الأريب "7/ 232".

حائط المسجد1 لوح من حجارة، فيه كتابة باليونانية؛ فعرض على جماعة من أهل الكتاب فلم يقدروا على قراءته، فوجّه به إلى وهب بن منبه، فقال: هذا مكتوب في أيام سليمان بن داوود، عليهما السلام، فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. يا ابن آدم، لو عاينت ما بقي من يسير أجلك، لزهدت فيما بقي من طول أملك، وقصرت عن رغبتك وحيلك؛ وإنما تلقي قدمك ندمك إذا زلّت بك قدمك، وأسلمك أهلك، وانصرف عنك الحبيب، وودعك القريب، ثم صرت تُدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا في عملك زائد؛ فاغتنم الحياة قبل الموت، والقوة قبل الفوت، وقبل أن يؤخذ منك بالكظم، ويحال بينك وبين العمل. وكتب في زمن سليمان بن داوود2". وفي كتاب "التيجان في ملوك حمير" رواية ابن هشام نماذج لقراءته، وهي على هذا النسق الذي يدل على سخريته بعقول سامعيه إن كان ما نسب إليه حقًّا، وأنه قرأه عليهم صدقًًا، ومن يدري؟ فلعلّه كان لا يعرف حروف اليونانية، ولا يميّز بينها وبين الأبجديات الأخرى. ثم هل يعجز أهل دمشق عن قراءة نصّ يوناني أو سرياني أو عبراني وقد كان فيها في أيام وهب بن منبه علماء فطاحل حَذَقة بهذه اللغات هم نفر من أهل الكتاب؟ والذي يهمنا من أمر "وهب بن مبنه" أخباره عن الجاهلية. ولوهب أخبار عن اليمن والأقوام العربية البائدة، ونجد روايته عن نصارى نجران وتعذيب "ذي نواس" إياهم، وقصة الراهب "فيميون" مطابقة للروايات النصرانية ولما جاء في كتاب "شمعون الأرشامي" عن هذا الحادث3. والظاهر أنه كان قد أخذها من المؤلفات النصرانية أو من أشخاص كانوا قد سمعوا بما ورد عن حادث "نجران" من أخبار. وقد ذكر أن وهبًا كان يستعين بالكتب، وأن أخاه "همام بن منبه بن كامل بن شيخ اليماني" أبا عقبة الصنعاني الأبناوي، كان يشتري الكتب لأخيه4. ولعلّه استقى أخباره عن بعض الأمور المتعلقة

_ 1 يعني مسجد دمشق، وذلك في أيام الخليفة الوليد. 2 مروج الذهب "2/ 151 وما بعدها". "طبعة عبد الرحمن محمد". 3 راجع الطبري "2/ 103"، أيضًا ما كتبته فيه في الجزء الأول من مجلة المجمع العلمي العراقي في "موارد تأريخ الطبري" سنة 1950م. 4 تهذيب التهذيب "11/ 67"، ابن سعد "5/ 395".

بالنصرانية مثل مولد وحياة المسيح من تلك الموارد، أو من اتصاله بالنصارى1. أما ما ذكره عن التبابعة والعرب البائدة، فإنه قصص. وأما علمه بأخبار العرب الآخرين؛ فيكاد يكون صفرًا، فلا نجد في رواياته شيئًا يعد تأريخًا لعرب الحيرة أو الغساسنة أو عرب نجد. فهو في هذا الباب مثل "عبيد بن شَرْيَة" من طبقة القصاص. لم يصل إلى مستوى أهل الأخبار، ولعله وجد نفسه ضعيفًا في التأريخ وفي أخبار العرب؛ فمال إلى شيء آخر لا يدانيه فيه أحد، وهو مرغوب فيه مطلوب، وهو القصص الإسرائيلي، وما يتعلق بأقوام ماضين، ذكروا في القرآن الكريم، وكانت بالمسلمين الأولين حاجة إلى من يتحدث لهم عن ذلك القصص وأولئك الأقوام. ومن الكتب المنسوبة إلى وهب "كتاب الملوك المتوجه من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم"2، وقد تناول أخبار التبابعة. والظاهر أن "كتاب التيجان في ملوك حمير" الذي طبع في الهند3، رواية ابن هشام أبي محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري "المتوفى سنة 213 أو 218 هـ" قد استند إليه، بعد أن أضاف إليه أخبارًا أخذها من مؤلفات محمد بن السائب الكلبي4 وأبي مخنف لوط بن يحيى5 وزياد بن عبد الله بن الطفيل العامري أبي محمد الكوفي المعروف بالبكائي رواية ابن إسحاق6 وهو خليط من الإسرائيليات والقصص

_ 1 تفسير الطبري "3/ 147، 177"، "مولد المسيح وحياته"، "16/ 43" "الحمل"، المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن تأليف "كولدتزهير"، ترجمة علي حسن عبد القادر، ص88، تأريخ الطبري "1/ 102"، تفسير الطبري "16/ 43"، مجلة المجمع العلمي العراقي "1/ 190"، Ency. Vol. 4 P. 1084 2 إرشاد "7/ 232"، "كتاب الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وغير ذلك"، وعثر على مجموعة من أوراق مخطوطة في خزانة كتب "هايدلبرك" بألمانية، رأي "بيكر" أنها جزء من كتاب في المغازي، ينسب إلى وهب بن منبه، C.H. Becker, Papyri Schott-Reinhardt, I. 8, Fuck, Muhammad idn Ishaq, s. 4 Ency. Vol. 4, P. 1084. f. 3 في حيدرآباد دكن سنة 1347هـ، وبذيله "كتاب أخبار عبيد بن شَرْيَة الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها"، وقد مر ذلك. 4 التيجان ص 132، 212، 213 ومواضع أخرى. 5 التيجان ص 125، 180 ومواضع أخرى. 6 التيجان ص66، 75، ومواضع أخرى. راجع عن البكائي: لسان الميزان "6/ 836"، سيرة ابن هشام "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد"، "1/ 16"، وكتاب الكنى والألقاب "2/ 82" لعباس بن محمد رضا القمي، طبع مطبعة العرفان بصيدا سنة 1358هـ.

اليماني ومن مواد أخرى قد تكون من وضعه، أو من صنعة آخرين، صنعوها قبله، فأخذها من ألسنة الناس، مثل تلك القصائد والأشعار الكثيرة المنسوبة إلى التبابعة وغيرهم. وقد أورد في الكتاب أسماء أُخذت من التوراة ذكرها بنصها كما تلفظ بالعبرانية؛ مما يبعث على الظن أنها أخذت من مورد يهودي1. وأما سائر الأخبار الورادة في الكتاب، فالغالب عليها السذاجة؛ إذ لا نجد فيها عمقًا ولا مادة تأريخية غزيرة كالمادة التي نجدها في مؤلفات ابن الكلبي، وفي مؤلفات الهمداني الذي عاش بعده. وأودّ أن ألفت أنظار العلماء إلى أهمية روايات "وهب بن منبه" وأخباره بالنسبة إلى من يريد الوقوف على الدراسات التوراتية والتلمودية في ذلك العهد؛ ففيها فقرات كثيرة زعم "وهب" أو آخرون قالوا ذلك على لسانه، أنها قراءات أي ترجمات أُخذت من التوراة ومن كتب الله الأخرى. وإذا ثبت بعد مقابلتها بنصوص التوراة والتلمود والمشنا وغيرها من كتب اليهود، أنها من تلك الكتب حقًا، وأنها ترجمان صحيحة، فنكون قد حصلنا بذلك على نماذج قديمة لمواضع من تلك الكتب قد تفيد في إرشادنا إلى ترجمات أقدم منها، كما تعيننا في الوقوف على النواحي الثقافية للعرب في ذلك العهد. ولأبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 204 أو 206هـ، فضل كبير على دراسات تأريخ العرب قبل الإسلام؛ فأغلب معارفنا عن هذا العهد تعود إليه2. وقد سلك مسلكًا جعله في طليعة الباحثين في الدراسات الآثارية

_ 1 راجع ما كتبه "كرنكو" عن الكتابين: كتاب التيجان وكتاب أخبار عبيد، في مجلة: "the Islamic culture" المجلد الثاني بعنوان:"the two oldest books on Arabic folkiore"، دائرة المعارف الإسلامية الترجمة العربية ص484 مادة: "تأريخ". 2 والده أبو النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبي المتوفى سنة 146هـ، من علماء الكوفة بالتفسير والأخبار والأنساب، الفهرست 139، الأغاني "9/ 16"، "11، 48" "18/ 161"، ابن سعد: الطبقات "6: 250، ابن خلكان: وفيات "3/ 134 وما بعدها"، إرشاد "7/ 250"، تذكرة الحفاظ: 1/ 313"، تأريخ بغداد "14/ 45" وما بعدها أنباري: نزهة الألباء في طبقات الأدباء "116"، تهذيب التهذيب "9/ 178"، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي باشا، Ency., vol., 2,' P., 689, Muh. Stud., I, S., 186, Noldeke Gesch. d'er Araber'und Perser, S., XXVii, ZDMG., XUii, Brockelmann, Ed., I, S-, 211.

عند المسلمين، برجوعه إلى الأصول، واعتماده على المراجع التأريخية، متبعًا سبيلًا تختلف عن سبيل أهل اللغة في البحث، وهو -بطريقته هذه- قريب من طريقة المؤرخين في تدوين التأريخ1. ولكنه لم يخلّ مع ذلك من مواطن الضعف التي تكون عادة في الإخباريين، مثل سرعة التصديق، ورواية الخبر على علاته دون نقد أو تمحيص. وقد اتُّهم بالوضع والكذب2. ولذلك تجنب جماعة من العلماء الرواية عنه، وقالوا عن بعض أسانيده أنها سلسة الكذب3. وذهب "بروكلمن" إلى أن ما اتُّهم عليه ابن الكلبي لم يكن كله صحيحًا، وأن البحوث العلمية التي قام بها المستشرقون دلتهم على أن الحق كان في جانبه في كثير من المواضع التي اتُّهم عليها4. وأنا لا أريد أن أبرِّئه من الوضع أو من تهمة أخذه كل ما يقال له، ولا سيما إذا كان القائل من أهل الكتاب، دون مناقشة ولا إبداء رأى؛ ففي المنسوب إليه شيء كثير من الإسرائيليات والقصص الممسوخ الذي يدل على جهل قائله أو استخفافه بعقل السامع وعلمه، مثل اختراع سلاسل من النسب زعم أنها واردة في التوراة، أو عند أهل النسب، مع أن الوضع فيها بيّن واضح، وهي غير واردة في التوراة ولا في التلمود. ولعل حرصه على الظهور بمظهر العالم المحيط بكل شيء من أخبار الماضين، هو الذي حمله على الوضع، وقد وضع غيره من أقرائه شعرًا ونثرًا، وصنع قصصًا؛ ليتفوق بذلك على أقرانه وخصومه وليظهر بمظهر العالم الذي لا يفوته شيء من العلم.

_ 1 Brockelmann, Bd., I, S., 138. 2 لسان الميزان "6/ 196 فما بعدها"، تذكرة الحفاظ "1/ 313"، الأغاني "9/ 19"، "وهذا الخبر مصنوع من مصنوعات ابن الكلبي، والتوليد فيه بين، وشعره شعر ركيك غث لا يشبه أشعار القوم؛ وإنما ذكرته لئلا يخلو الكتاب من شيء قد روي"، الأغاني "18/ 161". 3 مثل سنده عن أبي صالح عن ابن عباس، ووجد من دافع عنه، إرشاد "2/ 158". 4 Brockelmann, I, S., 139, Noldeke, Ubers. d. Tabari, XXVII, Ency., 2, P., 689.

وقد عالج بعض الباحثين زعم "ابن الكلبي" أنه كان يستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر ومبالغ أعمار من عمل منهم، وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة؛ فرأى أن كتابات أهل الحيرة كانت بالكتابة النبطية وبالأرقام النبطية، كما أثبت ذلك نصّ "النمار" أيضًا، وأن "ابن الكلبي" لم يكن يحسن قراءة النبطية ولم يفهمها، وعندما حاول قراءتها لم يتمكن من ذلك فوقع في أوهام، وجاء بأمثلة على ذلك تتعلق بما ذكره "ابن الكلبي" من مدد حكم أولئك الملوك؛ فوجد أنه لم يميّز مثلًا بين الرقم "20" والرقم "100" وذلك لتشابه شكل الرقم الأول مع شكل الرقم الثاني في النبطية، فقرأ العشرين مائة، فزاد سني حكم الملو. ومن هنا أخطأ في ضبط مدد حكم ملوك الحيرة، ولا سيما بالنسبة للقدامى منهم؛ لأن الكتابات النبطية المتقدمة لم تكن مثل الكتابات النبطية المتأخرة في قربها من الأبجدية العربية القديمة1. هذا ولم يُبحث موضوع أخذ "ابن الكلبي" من بيع الحيرة حتى الآن بحثًا علميًا مركزًا. وهو موضوع أرى أنه جدير بالدراسة والعناية. وحري بأن يقارن ما ذكره "ابن الكلبي" بما جاء في الموارد النصرانية عن "آل نصر"، لنرى مقدار الصحة من الخطأ في فهم "ابن الكلبي" لتلك الموارد التي ذكر أنه قرأها وأنه استعان بها في جمع تأريخ عرب العراق قبل الإسلام. ولم يبقَ من القائمة الطويلة التي ضمنها "ابن النديم" مؤلفات ابن الكلبي غير قليل2. وهي في المآثر والبيوتات والمنافرات والمئودات وأخبار الأوائل، وفيما قارب الإسلام من أمر الجاهلية، وفي أخبار الشعر وأيام العرب، والأخبار والأسماء والأنساب3. وهناك بعض الشبه بين بحوث أبي عبيدة "المتوفى سنة عشر

_ 1 Di Araber, IV, S. 3. f. 2 الفهرست 140، إرشاد "7/ 251"، Brockelmann, I, S. 138, Supp1. I, S. 211. f. 3 الفهرست 140، وفيات الأعيان "2/ 258"، "قال ياقوت في معجم البلدان 2: 158: لله درّه ما تنازع العلماء في شيء من أمور العرب، إلا وكان قوله أقوى حجة، وهو مع ذلك مظلوم وبالقوارض مكلوم"، تأريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان "3/ 31"، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار.

ومائتين"1 الذي كان له علم بالجاهلية، ومصنفات وبحوث في القبائل والأنساب2، وبين ابن الكلبي في اتجاهه ومناحيه؛ ولكنه دونه في أخباره عن الجاهلية، ومؤلفاته في أمور الجاهلية لا تعد شيئًا بالنسبة إلى ما ينسب إلى ابن الكلبي من مؤلفات، كما أن أخباره ورواياته عنها قليلة بالنسبة إلى أخبار ابن الكلبي ورواياته. وهناك عدد آخر من العلماء، كالأصمعي، و "الشرقي بن القطامي"3، وسائر من اشتغل بالأنساب واللغة والأدب، كان لهم فضل كبير في جمع أخبار الجاهلية المتصلة بالإسلام، وقد تولدت من شروحهم وأماليهم وكتبهم ثروة تاريخية قيمة لم ترد في كتب التاريخ؛ ولكن عرض أسمائهم هنا وذكر بحوثهم ومؤلفاتهم يضطرنا إلى كتابة فصول طويلة عن جهودهم وأتعابهم وعن ضعف رواياتهم أو قوتها، وذلك يخرجنا عن حدود كتابنا، ولهذا اكتفي هنا بما كتبت وذكرت، على أن أتعرض لآراء الباقين في المواضع التي ترد فيها، فأُشير إلى صاحبها وإلى روايته عن الحادث. ولكن لا بد لي من التحدث عن عالمين من علماء اليمن، ألّفا في تأريخ اليمن القديم، وجاءا بمعلومات ساعدتنا كثيرًا في توسيع معارفنا بالأماكن الأثرية هناك؛ إذ أشار إلى أسماء أبنية ومواضع، وشخصا أمكنه، ووصفا عاديات رأياها، فأفادنا بذلك فائدة كبير. أما أحدهما، فهو الهمداني، أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف المتوفى سنة 334هـ4. أو بعد ذلك كما ذهب إلى ذلك الحوالي5. وأما

_ 1 "وقيل إحدى عشرة، وقال أبو سعيد: سنة ثمان، وقيل سنة تسع."، "أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي"، "وقيل: كان شعوبيًا يطعن في الأنساب، الفهرست "ص79"، إرشاد "7/ 165". 2 Ency., Vol., I, S., 195, Flugel, Die Grammatischen Schulen, S., 68, Brockelmann, 1, S., 103. 3 وقد اتهم بالوضع والتلفيق، الفهرست "ص132". راجع عن الهمداني: تأريخ آداب اللغة العربية "2/ 204"، ابن القفطي: تأريخ الحكماء "أخبار الحكماء"، "طبعة lippert، 113، إرشاد "3/ 9"، السيوطي: بغية الوعاة "217"، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: الجزء الأول من المجلد الخامس والعشرين سنة 1950 ص62، مقالة للسيد حمد الجاسر بعنوان: "الجزء العاشر من الإكليل". 4 Brockelmann, I, S-, 229, Suppl., I, S., 409, Ency., 2 P., 246, Muller, Sudarab. Stud., 170. واشتهر ب"ابن الحاثك" وب"ابن أبي الدمينة"، الإكليل"8/ 297" طبعة الكرملي. 5 محمد بن علي الأكوع الحوالي، محقق الجزء الأول من كتاب الإكليل للهمداني الإكليل"1/ 60".

الآخر؛ فهو "نشوان بن سعيد الحميري"، المتوفى سنة 573هـ. لقد بذل الهمداني مجهودًا يقدر في تأليف كتبه وفي اختيار موضوعاته، وسلك في بحوثه سبيلًا حسنًا بذهابه بنفسه إلى الأماكن الآثارية وبوصفه لها في كتبه؛ فأعطانا بذلك صورًا لكثير من العاديات التي ذهب أثرها واختفى رسمها، بل طمست حتى أسماء بعضها. وبمحاولته قراءة المسند وترجمته إلى عربيتنا، للوقوف على معناها ومضمونها، يكون قد استحق التقدير والثناء؛ لأن عمله هذا يدل على إدراكه لأهمية الكتابات في استنباط التوريخ. على أننا يجب أن نذكر أيضًا أن الهمداني لم يكن أول من عمد إلى هذه الطريقة، طريقة قراءة الكتابات لاستنباط التواريخ منها؛ فقد سبقه غيره في هذه القراءات، وكانوا مثله يبغون الوقوف على ما جاء فيها، ومعرفة تواريخها. وقد أشار "الهمداني" نفسه إليهم وذكرهم بأسمائهم، مثل "أحمد بن الأغر الشهابي من كندة" و "محمد ابن أحمد الأوساني" و "مسلمة بن يوسف بن مسلمة الحيواني" وغيرهم1. فهم مثله يستحقون الثناء والتقدير أيضًا، وهم بطريقتهم هذه في جمع مادة التأريخ يكونون على شاكلة الآثاريين المحدثين في إدراك أهمية دراسات الآثار والكتابات بالنسبة إلى اكتشاف تواريخ العاديات، وهم بطريقتهم هذه يكونون قد فاقوا غيرهم من المؤرخين العرب في الأمكنة الأخرى بهذه الطريقة؛ فقلما نجد مؤرخين في الأماكن الأخرى، لجأوا إلى دراسة الآثار ودراسة الكتابات ووصف الأمكنة الآثارية لاستنباط التواريخ منها كما يفعل الآثاريون في الزمن الحاضر. وقد أثنى الهمداني بصورة خاصة على أساتذ له أخذ منه، فوسمه بأنه "شيخ حمير، وناسبها، وعلامتها، وحامل سفرها، ووارث ما ادّخرته ملوك حمير خزائنها من مكنون علمها، وقارئ مساندها، والمحيط بلغاتها"2 وسمّها "أبا نصر محمد بن عبد الله اليهري". وقال: إنه كان مرجعه فيما كان يشكل عليه من أخبار أهل اليمن، والمنبع الذي غرف منه علمه بأحوال الماضين، إلى أن قال: "وكان بحاثة، قد لقي رجلًا وقرأ زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية؛ فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل، فخففتها العرب،

_ 1 الإكليل"10/ 15، 16، 19، 20، 111". 2 الإكليل"1/ 9".

وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة؛ فإذا سمعوا منها الاسم الموفّر، خال الجاهل أنه غير ذلك الاسم، وهو هو. فمما أخذته عنه، ما أثبته هنا في كتابي هذا من أنساب بني الهميسع بن حمير وعدة الأذواء وبعض ما يتبع ذلك من أمثال حمير وحكمها، إلا ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل خولان القديم بصعدة، ومن علماء صنعاء وصعدة ونجران والجوف وخيوان وما أخبرني به الآباء والأسلاف"1. ولملاحظة "الهَمْداني" على الأسماء اليمانية القديمة، وثقلها على ألسنة الناس في أيامه وقبل أيامه، شأن كبير؛ إذ ترينا أن لسان أهل اليمن كان قد تغير وتبدل، وأن ذلك التغير قد تناول حتى الأسماء، فصارت الأسماء القديمة ثقيلة على أسماعهم، غليظة الوقع عليهم، فخففوها أو بدّلوها، والواقع أننا نشعر من المساند المتأخرة التي وصلت إلينا وقد دُوّنت في عهود لا تبعد كثيرًا عن الإسلام، ومن الموارد الإسلامية أن الأسماء اليمانية المدوّنة في كتابات المسند التي يرجع عهدها إلى ما قبل الميلاد، هي أسماء أخذت تقل في كتابات المسند المدونة بعد الميلاد إلى قبيل الإسلام، وأن أسماء أخرى جديدة أخف على السمع حلت محل الأسماء المركبة القديمة. وفي هذا التطور دلالة على حدوث تغير في عقلية أهل اليمن بعد الميلاد، وعلى حصول تقارب بين لغتهم ولغة أهل الحجاز وبقية العرب الذين يسميهم المستشرقون "العرب الشماليين". وقد حملني قول الهمداني أنه أخذ أخبار رجال حمير وكهلان من "سجل خولان القديم بصعدة"2، على مراجعة متن الجزء الأول من الإكليل للوقوف على الأماكن التي اعتمد فيها على هذا السجل، لأتمكن بها من تكوين رأي عنه، ومن الحصول على فكرة عما جاء فيه. وقد وجدته يقول في موضع منه: "وقرأت في السجل الأول: أولد قحطان بن هود أربعة وعشرين رجلًا، وهم: يعرب، والشلف الكبرى، ويشجب، وأزال وهو الذي بنى صنعاء، وبكلي الكبرى، بكسر الياء، وخولان: خولان رداع التي في القفاعة، والحارث وغوثا، والمرتاد، وجُرهما، وجديسا، والمتمنع، والملتمس، والمتغشمر، وعبادا، وذا هوزن، ويمنا، وبه سميت اليمن، والقطاميّ،

_ 1 الإكليل"1/ 13 فما بعدها". 2 المصدر نفسه.

ونباته، وحضرموت، فدخلت فيها حضرموت الصغرى، وسماكًا، وظالمًا، وخيارًا، والمشفتر1". ووجدته يقول في موضع آخر: "وأصحاب السجل يقولون مثل قول بعض الناس فيما بين عدنان وإسماعيل"2، ووجدته يقول: "وفي سجل خولان وحمير بصعدة: أولد مهرة الآمري، والدين، ونادغم، وبيدع.."3 ويقول في "باب نسب خولان بن عمرو"، "فهذه الآن بطونها على ما روى رجال خولان وحمير بصعدة. وقد سكنت بها عشرين سنة، فأطللت على أخبار خولان وأنسابها، ورجالها كما أطللت على بطن راحتي، وقرأت بها سجل محمد ابن أبان الخنفري المتوارث من الجاهلية، فمن أخبارهم ما دخل في هذا الكتاب، ومنها ما دخل في كتاب الأيام"4. وقال في موضع: "وقال بعض وضعة السجل ونساب الهميسع"5. ويتبين من هذه الملاحظات أن السجل المشار إليه هو مجموعة أجزاء، وضعها جملة أشخاص، كل جزء سجل قائم بذاته في الأنساب، وهو متفاوت الأزمنة، ويشمل القبائل والناس. وقد جمعت جمعًا، على طريقة رواة النسب في رواية الأنساب. ولا أستبعد أن يكون السجل قد وضع في صدر الإسلام، حينما شرع في أيام "عمر" بتسجيل النسب في ديوان. فدونت عندئذ أنساب القبائل، ورجع في ذلك إلى ما كان متعارفًا عليه من النسب في الجاهلية الملاصقة للإسلام وفي صدر الإسلام، ثم أكمل على مرور الأيام، ولذلك تعددت الأيدي في كتابته، وصار على شكل فصول في أنساب القبائل، كل سجل في نسب قبيلة وما يتفرع منها. والطابع البارز عليه هو الطابع اليماني المحليّ المتأثر بالروايات التوراتية عن "اليقطانيين"، الذين صُيروا قحطانيين بتأثير روايات أهل اليمن من أهل الكتاب وعلى رأسهم كعب الأحبار ووهب بن منبه، وربما من أناس آخرين سبقوهم، ومن الروايات اليمانية المحلية التي تعارف عليها أهل اليمن في أنساب قبائلهم آنئذ. ولهذا نجد الطابع اليماني المحلي بارزًا في مؤلفات أهل اليمن التي نقل منها الهمداني وأمثاله، ولا نجدها على هذا النحو في مؤلفات

_ 1 الإكليل"1/ 131 وما بعدها" 2 الإكليل"1/ 136". 3 الإكليل"1/ 193. 4 الإكليل"1/ 199". 5 الإكليل"1/ 355"، "قال أهل السجل"، الإكليل"2/ 1، 16".

النسّابين الشماليين الذين ينسبون أنفسهم إلى اليمن مثل "ابن الكلي" وأضرابه؛ لأنهم كانوا بعيدين عن اليمن؛ فعلمهم بالروايات اليمانية، ولا سيما رويات أهل حمير وصعدة وخولان وصنعاء وغيرهم من النسابين المحليين، لذلك، قليل. وقد أورد الهمداني في الجزء الثاني من كتابه "الإكليل" جملة تدل على أن "السجل القديم" الذي يشير إليه في كتابه، كان سجل نسّابة عرف بـ "ابن أبان"؛ إذ يقول: "قال الهمداني: قال علماء الصعديين وأصحاب السجل القديم: سجل ابن أبان"1. ولعل "ابن أبان" كان قد وضعه وجمعه في أبواب، ثم جاء جمع من النسابين؛ فأضافوا عليه فصولًا جديدة في الأنساب، وعرف الكتاب كله وبجميع فصوله ب"السجل". وقد كان أصحاب السجل من أهل صعدة، لما ذكره الهمداني من قوله: "عن الصعديين من أصحاب السجل"2. وكان "الهمداني"، قد نصّ في الجزء الأول من "الإكليل" على أن ذلك السجل، هو سجل "محمد بن أبان الخنفري"؛ وذلك في أثناء حديثه على بطون "صعدة"، إذ قال: "فهذه الآن بطونها على ما روى رجال خولان وحمير بصعدة. وقد سكنت بها عشرين سنة، فأطللت على أخبار خولان وأنسابها ورجالها، كما أطللت على بطن راحتي، وقرأت بها سجل محمد بن أبان الخنفري المتوارث من الجاهلية، فمن أخبارهم ما دخل في هذا الكتاب، ومنها ما دخل في كتاب الأيام"3. ويُفهم من هذا النص، أن السجل المذكور هو سجل "محمد بن أبان" وكان يحفظه، وقد ورثه من الجاهلية. ويظهر من إشارات "الهمداني" إليه، أنه قصد بهذا السجل "السجل القديم"، وأما السجلات الأخرى؛ فقد كانت من وضع علماء آخرين من علماء النسب كانوا بمدينة صعدة، وقد جمعوا أنساب خولان وحمير وقبائل أخرى، وأضافوها على شكل مشجرات نسب إلى ذلك الديوان؛ فصار مجموعة سجلات. ولهذا كان ينبه "الهمداني" إلى الموارد التي كان يستقي منها من غير ذلك السجل، كالذي ذكره من "أنساب بني الهميسع بن حمير"، إذ قال: "إلا

_ 1 الإكليل "2/ 14". 2 الإكليل "2/ 16". 3 الإكليل "1/ 199"، "وفي سجل خولان وحمير بصعدة" "1/ 193".

ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل خولان القديم بصعدة وعن علماء صنعاء وصعدة ونجران والجوف وخيوان وما أخبرني به الآباء والأسلاف"1. وأما ما يذكره "الهمداني" من أن أصل السجل القديم وأساسه جاهلي؛ فأمر لا أريد أن أبتّ فيه الآن. لا أريد أن أنفيه، ولا أريد أن أُثبته أيضًا. بل أقف منه موقف المحايد الحذر، لأني لا أجد في المنقول منه في كتاب "الإكليل" ما يشير إلى جاهلية وأصل جاهلي، فالمشجرات المذكورة هي من هذا النوع المألوف الذي نراه في كتب الأنساب المؤلفة في الإسلام، وبعضه متأثر بروايات التوراة، ولهذا فأنا لا أستطيع أن أرجعه إلى ما قبل الإسلام، ولا أستطيع أن أتبحر فيه وفي أصله ما دمت لا أملك "السجل" نفسه، لا القديم منه ولا الجديد، أو نصوصًا طويلة أُخذت منه، حتى يسهل عليّ الحكم من قراءتي لما ورد ومن دراسته على أصل ذلك الكتاب وصحة نسبته إلى الجاهلية. وأما "الخنفري"، صاحب السجل، فهو: "محمد بن أبان بن ميمون بن حريز الحنفري"2. ولد في ولاية معاوية بن أبي سفيان في سنة خمسين، وتُوفي في سنة خمس وتسعين ومائة، ودفن في رأس "حدبة صعدة"3. هذا ما رواه "الهمداني" عنه. وذكر "الهمداني" أنه عاش "125" سنة، ولو أخذنا بهذا الرقم الذي ذكره "الهمداني"، فيجب أن تكون سنة وفاته "175"، لا "195" للهجرة. ولذلك، فيجب أن يكون في تأريخ المولد أو الوفاة وربما في مدة عمر "الخنفري" خطأ. وإني أشك في طول ما ذكره عن عمره. وكان لغير أهل صعدة كتب في الأنساب أيضًا، دوّنوا فيها أنسابهم، كما كان هناك نسابون حفظوا أنساب قبائلهم أشار "الهمداني" إليهم في مواضع من كتابه4. وهم من غير أصحاب السجل. وكان بعض منهم قد قابل بين ما دوّنه عن القبائل وبين ما دوّن في السجل عنها، كما كان أهل السجل يعرضون

_ 1 الإكليل "1/ 13 فما بعدها". 2 إكليل "1/ 199، 227"، الإكليل" 2/ 118. 3 الإكليل "2: 119". 4 الإكليل "2/ 102، 194"، "قال الهمداني: فخبرني محمد بن أحمد القهبي السمسار وكان خبيرًا بالخطيين"، الإكليل "2/ 65".

ما دوّنوه عن القبائل على نسّابيها لبيان رأيهم فيها. قال الهمداني "بطون الصدف، عن الصعديين من أصحاب السجل، مقروء على بعض نسّابة الصدف"1. ونجد في الجزء الثامن من الإكليل مواضع ذكر فيها الهمداني "أبا نصر" أيضًا. وقد راجعتها وراجعت الأماكن التي أشير فيها إليه في الجزء الأول؛ فتبيّن لي أن علم "أبي نصر" بتأريخ اليمن القديم هو على هذا الوجه: إحاطة بأنساب القبائل اليمانية على النحو الذي كان شائعًا ومتعارفًا في أيامه ومسجّلًا في سجلات الأنساب في تلك الأيام، ورواية للأساطير التي راجعت عن التبابعة، وأخذ من موارد توراتيه ظهرت في اليمن من وجود اليهود فيها قبل الإسلام. أما علمه بالمساند ومدى وقوفه عليها؛ فأنا أعتقد أن علمه بها لا يختلف عن علم غيره من أهل اليمن: وقوف على الحروف، وتمكن من قراءة الكلمات، وإحاطة عامة بالمسند. أما فهم النصوص واستنباط معانيها بوجه صحيح دقيق؛ فأرى أنه لم يكن ذا قدرة في ذلك، وهو عندي في هذا الباب مثل غيره من قرّاء الخط الحميري. ودليلي على ذلك أن القراءات المنسوبة إليه هي قراءات لا يمكن أن تكون قراءات لنصوص جاهلية، وإن تضمنت بعض أسماء يمانية قديمة، لسبب بسيط، هو أن أساليبها ومعانيها ونسقها لا تتفق أبدًا مع الأساليب والمعاني المألوفة في الكتابات الجاهلية، فقراءات أبي نصر وأمثاله قراءات بعيدة جدًّا عن النصوص المعهودة، هي قراءات إسلامية فيها زهد وتصوف وتوحيد وحضٌ على الابتعاد عن الدنيا. أما نصوص المسند التي عثر عليها حتى الآن فإنها نصوص وثنية لا تعرف هذه المعاني، وأسلوبها في الكتابة لا يتفق مع ذلك الأسلوب. وهي في أمور أخرى شخصية أو حكومية لا صلة لها بمثل هذه الآراء والمعتقدات. وقد أورد "الهمداني" نصًّا قال: إنه قراءة من قراءة "أبي نصر" فيه نسب "عابر"، هذا نصه: "قال أبو نصر: الناس يغلطون في عابر، وهو هود بن أيمن بن حلجم بن بضم بن عوضين بن شدّاد بن عاد بن عوص بن إرم بن عوص بن عابر بن شالخ. وذكر أنه وجد هذا النسب في بعض مساند

_ 1 الإكليل "2/ 16".

حمير في صفاح الحجارة"1. وقارئ هذا النص الذي هو مزيج من رواية توراتية ومن إضافة غريبة، يخرج من قراءته برأي واحد هو أن "أبا نصر"، كان لا يتوقف عن نسبة أمور من عنده إلى المساند، فيحلمها ما لا يعقل أن تحمله أبدًا؛ فلو كان النص حميريًا صحيحًا مأخوذًا من التوراة، لكان النسب على نحو ما ورد في التوراة، ولو كان صاحبه وثنيًّا لا يدين بدين سماوي، فإنه لا يعقل أن يخلط فيه هذا الخلط. ولكنني لا أريد هنا أن أكتفي بتقديم التقدير إلى الهمداني وإلى الباقين من علماء اليمن الذين سبقوه أو جاءوا من بعده والثناء على طريقتهم المذكورة، بل لا بد لي من التحدث عن درجة علم هؤلاء العلماء بالمسند، وبقراءة الكتابات وبعلمهم بمعانيها، أي علمهم بقواعد وأصول اللهجات التي كتبت بها مثل اللهجة المعينية أو السبئية أو القتبانية أو الحضرمية وغيرها من بقية اللهجات، وذلك ليكون كلامنا كلامًا علميًّا صادرًا عن درس ونقد وفهم بعلم أولئك العلماء بتأريخ اليمن القديم. ولن يكون مثل هذا الحكم ممكنًا إلا بالرُّجوع إلى مؤلفات "الهمداني" وغيره من علماء اليمن لدراستها دراسة نقد عميقة. ومقابلة ما ورد فيها من قراءات للنصوص مع قراءات العلماء المحدثين المتخصصين بالعربيات الجنوبية لتلك النصوص إن كانت أصولها أو صورها موجودة محفوظة، وعنذئذ يمكن الحكم حكمًا علميًا سليمًا على مقدار علم أولئك العلماء بلغات اليمن القديمة وبتأريخها المندرس؛ ولكننا ويا للأسف لا نملك كل أجزاء كتاب "الإكليل" ولا كل مؤلفات الهمداني أو غيره من علماء اليمن؛ فالجزء التاسع من الإكليل مثلا وهو جزء خصص بأمثال حمير وبحكمها باللسان الحميري وبحروف المسند2، هو جزء ما زال مختفيًا؛ فلم نر وجهه، وهو كما يظهر من وصف محتوياته مهم بالنسبة إلينا، وقد يكون دليلًا ومرشدًا لنا في إصدار حكم على علم الهمداني بلغة حمير. ولكن ماذا نصنع

_ 1 الإكليل "1/ 93". 2 للوقوف على الأجزاء الأخرى من كتاب "الإكليل" تراجع مقدمة "نبيه فراس" Brockelmann, vol. I, s. 229, Ency. Vol. 246 "قال الهمداني: أكثر ما وجد في المساند القبورية بكلام الحميرية، وأنا لما جعلنا الجزء السابع؟ مقصورًا على الكلام بالحميرية" الإكليل "8/ 143" "طبعة الكرملي" وقد أخطأ الكرملي في كلمة "السابع"، والواجب أن يكون الرقم: "التاسع".

ونفعل، وقد حرمنا رؤية هذا الجزء، وليس في مقدورنا نشره وبعثه؛ فهل نسكت ونجلس انتظارًا للمستقبل، عسى أن يُبعث إلى عالم الوجود؟ هذا، وقد طُبع الجزء الثامن من الإكليل وكذلك الجزء العاشر منه، فاستفاد منهما المولعون بتأريخ اليمن القديم وبتأريخ بقية أجزاء العربية الجنوبية، وطُبع الجزء الأول من هذا الكتاب حديثًا برواية "محمد بن نشوان بن سعيد الحميري"، وقد ذكر أنه اختصر شيئًا في مواضع الاختلاف وفي النسب مما ليس له شأن في نظره دون أن يؤثر على الكتاب1. وطُبع الجزء الثاني من الإكليل أيضًا، أخرجه ناشر الجزء الأول: "محمد ابن علي الأكوع الحوالي" من عهد غير بعيد2، وليس لنا الآن إلّا أن نرجو نشر الأجزاء الباقية من هذا الكتاب؛ ليكون في وسعنا الحكم على ما جاء فيه من أخبار عن أهل اليمن الجاهليين. إن أقصى ما نستطيع في الزمن الحاضر فعله وعمله لتكوين رأي تقريبي تخميني من علم الهمداني وعلم بقية علماء اليمن بلهجات أهل اليمن القديمة وبتأريخهم القديم، هو أن نرجع إلى المتيسر المطبوع من مؤلفاتهم، لدراسته دراسة نقد علمية عميقة؛ لاستخراج هذا الرأي منها. وهو وإن كان أقل من الضائع بكثير؛ ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه، الموجود خير من المعدوم، وفي استطاعته تقديم هذا الرأي التخميني التقريبي. فلنبحث إذن في هذا المطبوع لنرى ما جاء فيه. أما بخصوص الخط المسند، فقد ذكر "الهمداني" أن جماعة من العلماء في أيامه كانت تقرأ المسند؛ غير أن أولئك العلماء كانوا يختلفون فيما بينهم في القراءة، وكان سبب ذلك -على رأيه- اختلاف صور الحروف؛ "لأنه ربما كا للحرف أربع صور وخمس، ويكون للذي يقرأ لا يعرف إلا صورة واحدة"3. وقد عرف "الهمداني" أن كتّاب المسند كانوا يفصلون بين كل كلمة وكلمة في السطر بخط قائم، وذكر أنهم كانوا يقرءون كل سطر بخط. غير أنه لم يذكر عدد الحروف. وصرح أنهم "كانوا يطرحون الألف إذا كانت بوسط

_ 1 طبع في مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1963، ونشر برقم 2 من المكتبة اليمنية "15. 2 القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، سنة 1966م. 3 الإكليل "8/ 122".

الحرف، مثل ألف همدان وألف رئام، فيكتبون رئم وهمدن، ويثبتون ضمة آخر الحرف وواو "عليهمو"1. وهي ملاحظات تدل على إحاطة عامة بالمسند، سوى ما ذكره من أنه ربما كان للحرف أربع صور وخمس، ويظهر أنه وغيره قد توصلوا إلى هذا الرأي من اختلاف أيدي الكتّاب في رسم الحروف ونقرها على الحجر؛ كالذي يحدث عندنا من تباين الخطوط باختلاف خطوط كتبته، فأدى تباين الخط هذا إلى اختلافهم في القراءة، وإلى ذهابهم إلى هذا الرأي، أو أنهم اختلفوا فيها من جراء تشابه بعض الحروف مثل حرف الهاء والحاء؛ فإن هذين الحرفين متشابهان في الشكل، فكلاهما على هيئة كأس يرتكز على رجل، والفرق بينهما، هو في وجود خط عمودي في وسط الكأس هو امتداد لرجل الكأس، وذلك في حرف "الحاء"، أما الهاء، فلا يوجد فيه هذا الخط الذي يقسم باطن الكأس إلى نصفين. ويشبه حرف "الخاء" حرف "الهاء" في رسم رأس الكأس؛ ولكنه يختلف عنه في القاعدة؛ إذ ترتكز هذا الرأس على قاعدة ليست خطًّا مستقيمًا، بل على قاعدة تشبه كرسي الجلوس ذي الظهر. ومثل التشابه بين حرفي الصاد والسين، فكلاهما على هيئة كأس وضعت وضعًا مقلوبا؛ بحيث صارت القاعدة التي ترتكز الكأس عليها إلى أعلى. أما الرأس، وهو باطن الكأس؛ فقد وضع في اتجاه الأرض. ولكن قاعدة "الصاد" هي على هيئة رقم خمسة في عربيتنا، أي على هيئة دائرة أو كرة بينما قاعدة حرف السين هي خط مستقيم، أما باطن كأس حرف "الصاد"؛ ففيه خط يقسمه إلى قسمين وذلك في الغالب، وقد يهمل هذا الخط المقسم، أما حرف السين، فلا يوجد فيه هذا الخط2. وجاء "نشوان بن سعيد الحميري" بملاحظات عن "المسند" هي الملاحظات

_ 1 الإكليل "8/ 122"، "طبعة نبية"، "8/ 141"، -طبعة الكرملي-، له ملاحظات أخرى في كيفية الكتابة بـ المسند، ذكرها في الجزء العاشر ص16، 17، "والمسند: خط حمير، مخالف لخطنا هذا، كانوا يكتبونه أيام مسكهم فيما بينهم، قال أبو حاتم: هو في أيديهم إلى اليوم باليمن، لسان العرب "4/ 206"، الفهرست ص8، الجزء الأول من مجلة المجمع العلمي العراقي في "جمهرة النسب"، ص345، سنة 1950. 2 للوقوف على أشكال حروف المسند، يستحسن مراجعة جدول الحروف الموضوع في هذا الجزء.

التي أوردها "الهمداني" عنه؛ فقال: المسند: خط حمير، وهو موجود كثيرًا في الحجارة والقصور، وهذه صورته على حروف المعجم.. وله صور كثيرة؛ إلا أن هذه الصورة أصحها. وأعلم أنهم يفصلون بين كل كلمتين بصفر؛ لئلا يخلط الكلام. وصورة الصفر عندهم كصورة الألف في العربي1.. وما قلته عن تعدد صور الحرف قبل قليل، ينطبق على ملاحظة "نشوان" أيضًا. ويظهر أن قومًا من أهل اليمن بقوا أمدًا في الإسلام وهم يتوارثون هذا الخط ويكتبون به؛ فقد جاء في بعض الموارد: "والمسند خط حمير، مخالف لخطّنا هذا، كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. قال أبو حاتم: هو في أيديهم إلى اليوم باليمن"2؛ إلا أنه لم يتمكن من الوقوف أمام الخط العربي الشمالي الذي دوّن به القرآن الكريم، فغلب على أمره، وتضاءل عدد الكتاب به حتى صار صفرًا. ومما يؤسف عليه كثيرًا أننا لا نملك النسخ الأصلية التي كتبها أولئك العلماء بخط أيديهم حى نرى رسمهم لحروف المسند. فإن الصور المرسومة في المخطوطات الموجودة وفي النسخ المطبوعة، ليست من خط المؤلفين، بل من خط النساخ، فلا أستبعد وقوع المسخ في صور حروف المسند في أثناء النقل، ولا سيما إذا تعددت أيدي النساخ بنسخ أحدهم عن ناسخ آخر. وهكذا. فليس للنساخ علم بالمسند، ولذا لا أستبعد وقوعهم في الخطأ. ومن هنا فإن من غير الممكن إصدار رأي في مقدار إتقان الهمداني وبقية العلماء لرسم حروف الخط المسند. وقد أشار "الدكتور كرنور" إلى هذه الحقيقة؛ إذ ذكر أن صور الحروف الحميرية في "الإكليل" تختلف باختلاف النسخ اختلافًا كبيرًا؛ فقد صوّر كل ناسخ تلك الحروف على رغبته وعلى قدرته على محاكاة النقوش، ومن هنا تباينت وتعددت؛ فأضاعت علينا الصور الأصلية التي رسمها الهمداني لتلك الحروف3. أما رأينا في علم علماء اليمن بفهم المسند، فيمكن تكوينه بدراسة النصوص الواردة في مؤلفاتهم وبدراسة معرباتها ومقابلتها بالنصوص الأصلية المنقورة على الحجارة إن كانت تلك النصوص الأصلية لا تزال موجودة باقية، أو بمراجعة

_ 1 منتخبات "ص52". 2 لسان العرب "4/ 206". 3 الإكليل "8/ 328" "طبعة الكرملي".

النصوص المدونة ومقابلتها بمعرباتها لنرى درجة قرب التعريب أو بعده من الأصل. وعندئذ نستطيع إبداء حكم على مقدار فهم القوم لكتابات المسند. أما في حالة اكتفاء المؤلف بإيراد التعريب فقط أي معنى النص لا متنه، فليس أمامنا من سبيل غير وجوب مراجعة المعربات ودراستها من جميع الوجوه؛ لنرى مقدار انطباق أساليبها على الأساليب المألوفة في كتابات المسند، وعندئذ نتمكن من تكوين رأي في هذا الذي ورد في المؤلفات على أنه ترجمات، ونتمكن بذلك من الحكم بمقدار قرب تلك الترجمات والقراءات من المسند أو بعدها منه. وخلاصة ما توصلت إليه من دراستي الإجمالية للأجزاء المطبوعة من مؤلفات "الهمداني" أن الهمداني، وإن كان يحسن قراءة حروف المسند، ويعرف القواعد المتعلقة بالخط الحميري؛ إلا أنه لم يكن ملمًّا بألسنة المسند. ولم يتمكن من ترجمة النصوص التي نقلها ترجمة صحيحة، ولم يعرف على ما يتبين منها كذلك ما كان قد ورد فيها وما قصد منها، فجعل "تالبًا"، وهو اسم إله من آلهة اليمن المشهورة، ومعبود قبيلة "همدان" الرئيس، اسم رجل من رجال الأسرة المالكة لهمدان. وجعل "رياما"، وهو اسم مكان من الأمكنة المشهورة، وكان به معبد معروف للإله "تالب"، ابنًا من أبناء "نهافان"، ومن أبناء "تالب". ولم يبخل الهمداني عليه؛ فوهب له أمًّا قال لها: "ترعة بنت بازل بن شرحبيل بن سار بن أبي شرح يحضب بن الصوار"1. وأورد "الهمداني" نصًّا ذكر أن "أحمد بن أبي الأغر الشهابي"، وحده بـ "ناعط"، فقرأه، فإذا هو: "علهان ونهفان ابنا بتع بن همدان، لهم الملك قديمًا كان"2. وقد عدّ "علهان نهفان" رجلين هما "علهان" و"نهفان"، مع أن "علهان نهفان"، هو رجل واحد، وهو ملك من ملوك سبأ وسيأتي ذكره. وقد كان والده "يريم أيمن بن أوسلت رفشان" من قبيلة "همدان". وكلمة "نهفان" لقب له. أما اسمه فهو "علهان". وكان له شقيق اسمه "برج يهركب"، كما ورد ذلك في كتابة عثر عليها في "ريام"3؛ فلم يكن

_ 1الإكليل "10/ 17، 18". 2 الإكليل "10/ 16". 3 المختصر في علم اللغة الجنوبية، تأليف "أغناطيوس غويدي" من نشريات الجامعة المصرية، القاهرة سنة 1930، ص21، راجع النص الموسوم ب: C.I.H. 315

والده إذن رجلًا اسمه "بتع بن همدان" كما جاء في القراءة. وأما "بتع"، فقبيلة من قبائل همدان، وأما جملة: "لهم الملك قديمًا كان"؛ فهي لا ريب من قول الشهابي، وليست بعبارة حميرية، وليس التعبير -وإن فرضنا أنها ترجمة للأصل- من التعابير المستعملة في الحميرية، التي ترد في الكتابات. ولما كنا لا نعرف المتن الأصلي للنص، يصعب علينا الحكم عليه أكان قريبًا من هذا المعنى أو كان شيئًا آخر، عرف منه الشهابي بضع كلمات ثم فسره بهذا التفسير. ويظهر على كل حال أن قراء المسند "وقد قلت إنهم كانوا يحسنون في أيام الهمداني قراءة حروف المسند" لم يكونوا على اطلاع بقواعد الحميرية، ولا باللسان الحميري، أو الألسنة العربية الجنوبية الأخرى. خذ مثلًا على ذلك: "بن" وهي حرف جر عند العرب الجنوبيين، وتعني "من" و "عن" بلغتنا قد أوقعتهم هذه الكلمة في مشكلات خطيرة. فقد تصوّر القوم عند قراءتهم لها، أنها تعني أبدًا "ابنًا" على نحو ما يُفهم من هذه الكلمة في لغتنا. وفسروها بهذا التفسير. ففسروا "بن بتع" أو "بن همدان" وما شابه ذلك" ابن بتع" أو "ابن همدان"، والمقصورد من الجملتين هو "من بتع" و "من همدان"؛ وبذلك تغيّر المعنى تمامًا، ومن هنا وقع القوم -على ما أعتقد- في أغلاط حين حسبوا أسماء القبائل وأسماء الأماكن الورادة قبل "بن" وبعده، أسماء أشخاص وأعيان، وأدخلوها في مشجرات الأنساب. فاقتصار علمهم على الأبجدية وجهلهم باللغة، أوقعهم في مشكلات كثيرة، وسبب ظهور هذا الخلط1. وجاء الهمداني بنصوص أُخر ذكر أنها كانت مكتوبة بالحميرية، مثل النص الذي زعم أن مسلمة بن يوسف بن مسلمة الخيواني قرأه على حجر في مسجد خيوان، وهذا نصه: "شرح ما، وأخوه ما، وبنوه ما، قيول شهران بنو هجر، هم معتة بدار القلعة"2. وأمثال ذلك من النصوص. ولا أعتقد أنك ستقول: إن هذا نصّ حميري، ولا يسع امرأً له إلمام بالحميرية أن يوافق على وجود مثل هذه العائلة عائلة ما، أو يسلم بأن هذه قراءة صحيحة لنص

_ 1 Ditlef Nielsen, Der Sabaische Gott Ilmukah, Leipzig, 2. 2 الإكليل "10/ 19".

حميري؛ بل لا بد من وجود أخطاء في القراءة وفي التفسير. ولا أريد أن أتجاوز على رجل مشى إلى ربه، فلعلّه كان يحسن قراءة بعض الحروف والكلمات، ويتصور أنه أحسن قراءة النص كله وفهمه؛ فجاء بهذه العبارة. وعلى كلٍ، إن كل الذي جاء في النصوص التي وقفت عليها في كتب الهمداني لا يمكن أن يعطي غير هذا الانطباع، ولعلّنا سنغير رأينا في المستقبل إذا تهيأت لنا نصوص من شأنها أن تغيره. ويأتي "الهمداني" أحيانًا بأبيات شعر زاعمًا أنها من المسند؛ ففي أثناء كلامه مثلًا على قصر "شحرار" قال: "وفي بعض مساند هذا البنيان بحرف المسند" شحرار قصر العلا المنيف ... أسسه تبع ينوف يسكنه القيل ذي معاهر ... تخر قدّامه الأُنوف"1 أما نحن، فلم نعثر حتى اليوم على أية كتابة بالمسند ورد فيها شعر، لا بيت واحد ولا أكثر من بيت. وأما متن البيتين المذكورين، فليس حميريًّا ولا سبئيًّا ولا معينيًّا وليس هو بأية لهجة يمانية أخرى قديمة؛ وإنما هو بعربيتنا هذه، أي بالعربية التي نزل بها القرآن الكريم، نظمه من نظمه من المحدثين بهذه اللغة البعيدة عن لغات أهل اليمن. أما الباب الذي عقده في الجزء الثامن بعنوان: "باب القبوريات"، فقد استمد مادته من روايات وأخبار "هشام بن محمد السائب الكلبي"2، و "ابن لهيعة"3 و "موهبة بن الدعام" من همدان4 و "أبي نصر"5 و "وهب بن منبه"6 و "كعب الأحبار" و "عبد الله بن سلام"7. وقد

_ 1 الإكليل "8/ 66" "طبعة الكرملي". 2 الإكليل "8/ 144، 147، 154 فما بعدها، 177، 196 ومواضع أخرى" "طبع الكرملي". 3 الإكليل "8/ 145، 195". 4 الإكليل "8/ 146". 5 الإكليل "8/ 173". 6 الإكليل "8/ 180" "وقد ذكر القصة كاملة وهب بن منبه في تيجان الملوك"، الإكليل" 8/ 186". 7 الإكليل "8/ 309" "طبعة الكرملي".

أورد فيه نصوصًا زعم أنها ترجمات لنصوص المسند، عثر عليها في القبور عند الأجداث. وأورد بعضها شعرًا، زعم أنه مما وجد في تلك القبور، كالذي ذكره عند حديثه عن قبر "مرشد بن شدّاد1، وعن قبرين جاهليين عُثر عليهما ب"الجند" وقد نصّ على أن الشعر المذكور كان مكتوبًا بالمسند وقد دوّنه2. وهو وكل الأشعار الأخرى ومنها المرائي منظوم بعربية القرآن، وأما النثر، فإنه بهذه العربية أيضًا، وهو في الزهد والموعظة والندم والحث على ترك الدنيا؛ فكأن أصحاب القبور، من الوعاظ المتصوفين الزهاد، ماتوا ليعظوا الأحياء من خلال القبور، ولم يكونوا من الجاهليين من عبدة الأصنام والأوثان. وهو قسم بارد سخيف، يدل على ضعف أحلام رواته، وعلى ضعف ملكة النقد عند "الهمداني" وعلى نزوله إلى مستوى القصاص والسمّار والأخباريين الذين يروون الأخبار ويثبتونها وإن كانت مخالفة للعقل؛ إذ أنه لا يختلف عنهم هنا بأي شيء كان. ومجمل رأيي في "الهمداني" أنه قد أفادنا ولا شك بوصفة للعاديات التي رآها بنصه على ذكر أسمائها، وأفادنا أيضًا في إيراده ألفاظًا يمانية كانت مستعملة في أيامه استعمال الجاهليين لها: وقد وردت في نصوص المسند، فترجمها علماء العربيات الجنوبية ترجمة غير صحيحة؛ فمن الممكن تصحيحها الآن على ضوء استعمالها في مؤلفات الهمداني وفي مؤلفات غيره من علماء اليمن. أما من حيث علمه بتأريخ اليمن القديم؛ فإنه وإن عرف بعض الأسماء إلّا أنه خلط فيها في الغالب، فجعل اسم الرجل الواحد اسمين، وصير الأماكن آباءً وأجدادًا، وجعل أسماء القبائل أسماء رجال، ثم هو لا يختلف عن غيره في جهله بتأريخ اليمن القديم؛ فملأ الفراغ بإيراده الأساطير والخرافات والمبالغات، وأما علمه بالمسند فقد ذكرت أنه ربما قرأ الكلمات، ولكنه لم يكن يفقه المعاني، ولم يكن ملمًّا بقواعد اللهجات اليمانية القديمة، وقد حاولت العثور على ترجمة واحدة تشير إلى أنها ترجمة صحيحة لنصٍّ من نصوص المسند؛ فلم أتمكن من ذلك ويا للأسف.

_ 1 الإكليل "8/ 175" "طبعة الكرملي". 2 الإكليل "8/ 178".

وعلم "الهمداني" بجغرافية اليمن والعربية الجنوبية، يفوق كثيرًا علمه بتأريخ هذه الأرضين القديم؛ فقد خبّر أكثرها بنفسه وسافر فيها، فاكتسب علمه بالتجربة. أما علمه بجغرافية الأقسام الشمالية من جزيرة العرب، فإنه دوّن هذا العلم1. وأفادت "القصيدة الحميرية"، لصاحبها "نشوان بن سعيد الحميري" فائدة لا بأس بها في تدوين تأريخ اليمن2. ولهذا المؤلف معجم سمّاه "شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم"3، ضمنه ألفاظًا خاصة بعرب الجنوب4. وينطبق ما قلته في الهمداني على نشوان أيضًا. فإذا قرأت كتبه، تشعر أنه لم يكن يفهم النصوص الحميرية ولا غيرها، وإن كان يحسن قراءة المسند. وما ذكره في كتابه "شمس العلوم" -وإن دل على حرص على جمع المعلومات، وعلى تتبع يحمد عليه للبحث عن تأريخ اليمن ولغاتها القديمة- يدل على أنه لم يكن يفهم نصوص المسند، وليس له علم بتأريخها وبتواريخ أصحابها، وأنه لا يمتاز بشيء عن الهمداني أو سائر علماء اليمن الذين كانوا يدعون العلم بأخبار الماضيين، وأكثر الذي ذكره في كتابه على أنه من اللهجات الحميرية والعربية الجنوبية هو من مفردات معجمات اللغة، ومن لهجات العربية الفصحى؛ خلا ذلك الذي كان يستعمله أهل اليمن، وهو قليل إذا قيس إلى سواه، وقد فسر معانيه على نحو ما كان يقصده الناس في أيامه. ومع هذا، فهذا النوع من الكلمات هو الذي نطمع فيه؛ لأنه من بقايا اللهجات البائدة، ويفيدنا فائدة عظيمة في فهم معاني النصوص وفي قراءتها وشرحها وتفسيرها، ولعلّه لم يكثر منها؛ لأنها كانت من كلام العوام فأشفق على نفسه من البحث في لغة العوام.

_ 1 Moritz, S., 20 2 تجد ترجمته في: إرشاد الأريب "7/ 206"، بغيه الوعاة "ص430"، W. F. Prideuaux, The Lay of the Himyarites, Sehore, 1879, Von Kremer, Die Himjarische Qaside, Leipzig, 1865 Brockelmann, I, S., 301, Suppl., I, 527, f., R, Basset, La Qaaidah Himyarite De N.B.S., Alger, 1914 3 الإكليل"8/ ث وقيل: "شمس العلوم وشفاء كلام العرب من الكلوم" نشر منتخبات منه عظيم الدين أحمد في سلسلة تذكار "كب" ليدن، 1916، "ومنتخبات في أخبار اليمن من كتاب شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم"، وسأشير إليه بـ: منتخبات. 4 راجع منة مادة هجر منتخبات ص108.

ولم يزد "نشوان" في شروحه لأسماء الأعيان والأجذام والقبائل والعمائر والأمكنة على ما أورده الهمداني أو سائر علماء التأريخ وأهل الأنساب، فعدّ أسماء القبائل مثل همدان، أسماء أشخاص لهم أنساب وأولاد وأقرباء، وأخطأ في الأغلاط نفسها التي وقع فيها الهمداني؛ فذكر جملًا مسجوعة على أنها من وصايا التبابعة، وعبارات متكلفة على أنها قراءات لنصوص حميرية مكتوبة بالمسند1. ومحمد بن نشوان بن سعيد الحميري نفسه هو ممن اعتمد على علم الهمداني، كما نصّ على ذلك في فاتحة الجزء الأول من الإكليل. فهذا الجزء الذي طبع حديثًا هو برواية محمد بن نشوان، رواه لمن سأله أن يوضح شيئًا من أنساب حمير وأخبارها وما حفظ من سيرها وآثارها، فما كان منه إلا أن أخذ الإكليل فكتب له، لم يغير فيه سوى ما قاله: "غير أني اختصرت شيئًا ذكره في النسب، ليس هو من جملته بمحتسب. بل هو مما ذكره من الاختلاف في التأريخ ونحوه، من غير أن أنسب الكدر إلى صفوه"2. وفي مقدمته لهذا الجزء ثناء عاطر على الهمداني، وتقدير كبير لعلمه في أخبار اليمن. هذا هو كل ما أريد أن أقوله هنا عن مصادر التأريخ الجاهلي، وهو قليل من كثير، ولكن التوسع في هذا الموضوع يخرجنا حتمًا عن حدود بحثنا المرسوم، ويخرجنا إلى التحدث في شيء آخر لا علاقة له بالجاهلية، وإنما يعود إلى البحث في التأريخ، وفي نقده ودروبه عند المؤرخين. على أني أراني قد توسعت مع ذلك في هذا الباب، وذلك للحاجة التي رأيتها في ضرورة توضيح بعض الأمور الخاصة بتلك الموارد.

_ 1 منتخبات ص 60، 75 ومواضع أخرى. 2 الإكليل "1/ 5".

الفصل الثالث: إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه

الفصل الثالث: إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه مدخل ... الفصل الثالث: إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه من الأمور التي تثير الأسف، تهاون المؤرخين في تدوين التأريخ الجاهلي، ولا سيما القسم القديم منه، الذي يبعد عن الإسلام قرنًا فأكثر، فإن هذا القسم منه ضعيف هزيل، لا يصح أن نسميه تأريخًا، بعيد في طبعه وفي مادته عن طبع التواريخ ومادتها. لقد وفق المؤرخون العرب في كتابة تأريخ الإسلام توفيقًا كبيرًا، من حيث العناية بجمع الروايات والأخبار واستقصائها، وفي رغبتهم في التمحيص. أما التأريخ الجاهلي، فلم يظهروا مقدرة في تدوينه، بل قصروا فيه تقصيرًا ظاهرًا. فاقتصر علمهم فيه على الأمور القريبة من الإسلام، على أنهم حتى في هذه الحقبة لم يجيدوا فيها إجادة كافية، ولم يُظهروا فيها براعة ومهارة، ولم يطرقوا كل الأبواب أو الموضوعات التي تخص الجاهلية. فتركوا لنا فجوات وثُغرًا لم نتمكن من سدّها وردمها حتى الآن ولا سيما في تأريخ جزيرة العرب؛ حيث نجد فراغًا واسعًا، وهو أمر يدعو إلى التساؤل عن الأسباب التي دعت إلى حدوثه: هل كان الإسلام قد تعمّد طمس أخبار الجاهلية؟ أو أن العرب عند ظهور الإسلام لم تكن لديهم كتب مدوّنة في تأريخهم ولا علم بأحوال أسلافهم، وكانت الأسباب قد تقطعت بينهم وبين من تقدمهم؛ فلم يكن لديهم ما يقولونه عن ماضيهم غير هذا الذي وعوه فتحدثوا به إلى الإسلاميين، فوجد سبيله إلى الكتب؟ أو أن العرب لم يكونوا يميلون إلى تدوين تواريخهم؛ فلم يكونوا مثل

الروم أو الفرس يجمعون أخبارهم وأخبار من تقدم منهم وسلف؛ فلما كان الإسلام، وجاء زمن التدوين، لم يجد أهل الأخبار أمامهم شيئًا غير هذا الذي رووه وذكروه، وكان من بقايا ما ترسب في ذاكرة المعمرين من أخبار. لقد عزا بعض الباحثين هذا التقصير إلى الإسلام، فزعم أن رغبة الإسلام كانت قد اتجهت إلى استئصال كل ما يمت إلى أيام الوثنية في الجزيرة العربية بصلة، مستدلًا بحديث: "الإسلام يهدم ما قبله"1؛ فدعا ذلك إلى تثبيط همم العلماء عن متابعة الدراسات المتصلة بالجاهلية، وإلى محو آثار كل شيء يتفرع عن النظام القديم، لم يميزوا بين ما يتعلق منه الوثنية والأنصاب والأصنام، وبين ما يتعلق بالحالة العامة كالثقافة والأدب والتأريخ، فعلوا ذلك كما فعل النصارى في أوروبة في أوائل القرن السادس للميلاد؛ فكان من نتائجه ذهاب أخبار الجاهلية، ونسيانها، وابتدأ التأريخ لدى المسلمين بعام الفيل2. ولهذا "كان المؤرخون أو الأخباريون، الذين يترتب عليهم تدوين أخبار الماضي وحفظ مفاخره، من الذين ينظر إليهم شزرًا في المجتمع الإسلامي، وخاصة في العهد الإسلامي الأول. أما مؤرخو العرب العظام، فلم ينبغوا إلا بعد تلك الفترة، وحتى هؤلاء فإنهم صرفوا عنايتهم إلى التأريخ الإسلامي، ولم يدققوا فيما يخص الجاهلية، وبالإضافة إلى ما سبق، أصبح لكلمة مؤرخ "أخباري" معنى سيِّئ بل أصبحت صفة تفيد نوعًا من الازدراء. وقد ألصقت هذه الصفة بابن الكلبي، كما ألصقت بكل عالم تجرأ على البحث في تأريخ العرب قبل عام الفيل؛ لكن لم يهاجم أحد من المؤرخين بعنف كما هوجم ابن الكلبي. والراجح أن السبب في ذلك هو انصرافه لدراسة الأشياء التي قرر الإسلام طمسها، أعني بذلك الديانات والطقوس الوثنية في بلاد العرب"3.

_ 1 مجلة الأبحاث "ص189"، السنة ال3، الجزء ال2، حزيران 1950، الإكليل: مقدمة نبيه أمين فارس ص "ب"، دراسات عن المؤرخين العرب، تعريب الدكتور حسين نصار، تأليف "مارغليوث" "ص53 وما بعدها". 2 مقدمة نبيه أمين فارس للجزء الثامن من الإكليل"ص ب"، قال: "وقد يكون للحديث المنسوب إلى النبي أثر في ذلك؛ فقد جاء في الحديث أن "الإسلام يهدم ما قبله"، ولا بد أن عنى النبي في قوله هذا الديانات الوثنية الشائعة في الجزيرة قبيل ظهوره من عبادة الأصنام والأنصاب وغيرها. أما اتباعه، قد فدفعتهم غيرتهم على تثبيت دعائم الدين الحنيف إلى عدم التمييز بين الغث والسمين، فكادوا يقضون على جميع معالم الثقافة والأدب ... إلخ". 3 الأبحاث، الجزء المذكور "ص189".

ثم سبب آخر، هو أن الإسلام ثورة على مجتمع قائم ثابت، وعلى مثل تمسك بها أهل الجاهلية، وعلى قوم كانوا قد تسطلوا وتحكموا وتجبروا بحكم العرف والعادات، وككل ثورة تقع وكما يقع حتى الآن، وسم الإسلام الجاهلية، بكل منقصة ومثلبة، وحاول طمس كل أثر لها وكل ما كان فيها، حتى ظهرت تلك الأيام على الصورة التي انتهت إلينا عن "الجاهلية" وكأن الناس فيها جهلة لم يكن عندهم شيء من علم في هذه الحياة يومئذ، وكأن عهدهم في هذا العالم لم يبدأ إلا ببدء الإسلام. وجاءوا بدليل آخر في إثبات أن الإسلام كان له دخل في طمس معالم تأريخ الجاهلية؛ إذ ذكروا أن الخليفة "عمر" سأل بعض الناس "أن يرووا بعض التجارب الجاهلية، أو ينشدوا بعض الأشعار الجاهلية؛ فكان جوابهم: لقد جب الله ذلك بالإسلام، فلِمَ الرجوع"1. فوجدوا في امتناعهم عن رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الجاهلية، دلالة على كره الإسلام لرواية تأريخ الجاهلية وانتهاء ذلك إلى طمس معالم ذلك التأريخ. أما حديث "الإسلام يهدم ما قبله"؛ فهو حديث لا علاقة له البتة بتأريخ الجاهلية ولا بهدم الجاهلية، وقد استل من حديث طويل ورد في صحيح مسلم في "باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج"، وبعد "باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية"، وقد ورد جوابًا عن أسئلة الصحابة عن أعمال منافية للإسلام ارتكبوها في الجاهلية، هل يغفرها الله لهم، أو تكتب عليهم سيئات يحاسبون عليها؟ فقالوا: "يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ "2. وقد ورد في صحيح مسلم بعد هذا الباب باب آخر بهذا المعنى، هو "باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده". ولإعطاء رأي صحيح عن هذا الحديث، أنقل إلى القارئ نصه كما جاء في صحيح مسلم قال: "حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت يبكي طويلًا، وحول

_ 1 دراسات عن المؤرخين العرب "ص53". وقد اقتطعت نصّ هذا الدليل من الترجمة العربية لكتاب المستشرق "مرغليوث"، المسمّى: دراسات عن المؤرخين العرب، لعدم وجود النص الإنكليزي لدي، فأنا أرويه على مسئولية المعرب وإن كنت أرى أن في الترجمة وهما. 2 صحيح مسلم "1/ 77".

وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشّرك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، مني، ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار؛ فلما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو؟ قال: قلت أردت أن أشترط. قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي. قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له. ولو مت على تلك الحال؛ لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري من حالي فيها، فإذا أنا متّ، فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني، فشنوا عليّ التراب شنًّا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي1. وبعد فأيّة علاقة إذن بين هذا الحديث وبين الحث على تهديم الجاهلية وإهمال التأريخ الجاهلي يا ترى؟ وأما اتخاذهم نهي بعض الصحابة عن رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الأيام دليلًا على كره الإسلام لإحياء ذكرى الجاهلية ومحاولته طمس معالمها وتأريخها، وحكمهم من ثم عليه بمساهمته في طمس تأريخ الجاهلية وإطفائه له؛ فإنه دليل بارد ليس في محله، فإن الذين نهوا عن رواية الشعرالجاهلي أو رواية الأيام، أو امتنعوا هم أنفسهم عن روايتهما، لم ينهوا ولم يمتنعوا عن روايتهما مطلقًا، أي عن رواية جميع أنواع الشعر الجاهلي أو أخبار كل الأيام التي وقعت في الجاهلية، بل نهوا أو امتنعوا عن رواية بعض أبواب الشعر، وبعض أخبار تلك الأيام، لما كان يحدثه هذا النوع من الشعر أو يوقعه هذا الباب من رواية

_ 1 صحيح مسلم "1/ 78".

الأخبار من شرّ في النفوس ومن فتن قد تجدد تلك العصبيات الخبيثة التي حاربها الإسلام، لتمزيقها الشمل، وتفريقها الصفوف. "ومن ثم نهى الفاروق، رضي الله عنه، الناس بديأ أن ينشدوا شيئًا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش وقال: في ذلك شتم الحي بالميت، وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام، ومرّ عمر بحسان يومًا، وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله، فأخذ بأُذنه، وقال: أرغاء كرغاء البعير؟ فقال حسان: دعنا عنك يا عمر؛ فوالله لتعلم أني كنت أنشد في هذا المسجد مَنْ خير منك، فقال عمر: صدقت، وانطلق"1. ولم يأخذ عمر على حسّان رواية ذلك الشعر في مسجد رسول الله إلا لأنه كان من ذلك الشعر المثير للنفوس المهيج للعواطف، وإنشاده في نظره يعيد الناس إلى ما كانوا عليه من قتال قبل الإسلام. فللمصلحة العامة نهى بعض الصحابة عنه. ومع ذلك، تساهل عمر مع حسان، وتركه ينشد شعره، بعد أن حاجَّه حسان بما رأيت. وهناك رواية أخرى تشرح لنا الأسباب التي حملت عمر على النهي عن رواية بعض الشعر الجاهلي، وهي أنه "قدم المدينة، في خلافة الفاروق، عبد الله بن الزبعرى وضرار بن الخطاب -وكانا شاعري قريش في الشرك- فنزلا على أبي أحمد بن جحش، وقالا له: نحبّ أن ترسل إلى حسان بن ثابت حتى يأتيك فتنشده وينشدنا مما قلنا له وقال لنا؛ فأرسل إليه، فجاءه. فقال له: يا أبا الوليد: هذان أخواك ابن الزبعرى وضرار قد جاءا أن يسمعاك وتسمعهما ما قالوا لك وقلت لهما. فقال ابن الزبعرى وضرار: نعم يا أبا الوليد، إن شعرك كان يحتمل في الإسلام ولا يحتمل شعرنا، وقد أحببنا أن نسمعك وتسمعنا. فقال حسان: أفتبدآن، أم أبدأ؟ قالا: نبدأ نحن، قال: ابتدئا. فأنشداه حتى فار فصار كالمرجل غضبًا، ثم استويا على راحلتيهما يريدان مكة، فخرج حسان حتى دخل على عمر، فقص عليه قصتهما وقصته. فقال له عمر: لن يذهبا عنك بشيء إن شاء الله، وأرسل من يردّهما، وقال له عمر: لو لم تدركهما إلا بمكة، فارددهما عليّ ... فلما كان بالروحاء، قال ضرار لصاحبه:

_ 1 شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، لعبد الرحمن البرقوقي، القاهرة 1929 "ص. س. م"

يا ابن الزبعرى، أنا أعرف عمر وذبّه عن الإسلام وأهله، وأعرف حسان وقلة صبره على ما فعلنا به، وكأني به قد جاء وشكا إليه ما فعلنا؛ فأرسل في آثارنا، وقال لرسوله: إن لم تلحقهما إلا بمكة، فارددهما عليّ.. فأربح بنا ترك العناء، وأقم بنا مكاننا، فإن كان الذي ظننت فالرجوع من الروحاء أسهل منه من أبعد منها. وإن أخطأ ظني؛ فذلك الذي نحب. فقال ابن الزبعري: نعم ما رأيت. فأقاما بالروحاء، فما كان إلا كمرّ الطائر حتى وافاهما رسول عمر، فردّهما إليه. فدعا لهما بحسان وعمر في جماعة من أصحاب رسول الله. فقال لحسان: أنشدهما مما قلت لهما فأنشدهما، حتى فرغ مما قال لهما، فوقف. فقال له عمر: أفرغت؟ قال: نعم. فقال له: أنشداك في الخلا، وأنشدتهما في الملأ.. وقال لهما عمر: إن شئتما فأقيما، وإن شئتما فانصرفا. وقال لمن حضره: إني كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئا، دفاعًا للتضاغن عنكم وبث القبيح فيما بينكم؛ فأما إذ أبوا، فأكتبوه، واحتفظوا به. قال الراوي: فدونوا ذلك عندهم. قال: ولقد أدركته والله وإن الأنصار لتجدده عندها إذا خافت بلاده.."1. بل كان الرسول كما رأينا في خبر "حسان"، وكما ذكر في أخبار أخرى يجلس وأصحابه يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أشياء من أمور الجاهلية، وهو يسمع ويساهم معهم في الحديث، وينشدهم شيئًا مما حفظه2. ولم ينهَ عن رواية شعرٍ ما إلا ما كان فيه فحش، أو إساءة أو إثارة فتنة. أما ما شابه ذلك، لما كان يحدثه ذلك الشعر من أثر سيِّئ في النفوس. لقد تمثل بشعر "أميّة بن أبي الصّلت" مع أنه كان من خصومه اللدّ"، وسمع الناس ينشدون شعره، ولم يكره منه إلا ما كان منه في تحريض قريش بعد وقعة "بدر" على المسلمين ورثائه من قتل منهم3. وقد كان "أبو بكر"، وهو الخليفة الأول، من خفظة الشعر الجاهلي

_ 1 شرح ديوان حسان "ص. س. م". 2 ابن سعد، الطبقات "1/ 2 ص95 وما بعدها"، الأغاني "3/ 7، 117" "4/ 129"، "8/ 243" الأمالي "1/ 241"، المرزباني "203"، الفائق للزمخشري "3/ 52"، ابن سعد، "5/ 376". 3 الأغاني "4/ 122 ما بعدها"، الفائق "1/ 664".

الرّاوين له، المتشهدين به1. وكان "عمر" من العالمين بذلك الشعر الحافظين له البصيرين به2. وكذلك كان شأن كثير من الصحابة. لم يذكر أحد أنهم تحرجوا من روايته وإنشاده، وأنهم تهيبوا منه؛ إلا ما ذكرته من إحجامهم عن رواية بعض منه، وهو قليل جدًّا، لأسباب ذكرتها، وقد رووه مع ذلك ودوّنوه. لقد حرم الإسلام أشياء من الجاهلية وأقرّ أشياء أخرى نصّ عليها في الكتاب والسنة3، ولم يرد أنه حرم أقلام الجاهلية أو الشعر الجاهلي أو النثر الجاهلي أو أي أدب أو علم جاهلي، ولم يصل إلى علمنا أنه أمر بهدم المباني الجاهلية وطمس معالمها، حتى محجات الأصنام بقيت على حالها، خلا الأصنام والأوثان وما يتعلق بها من أمور مما كان من صميم الوثنية أو كانت له علاقة بإعادتها إلى الذهن مثل التصوير. ولم نسمع أنه أمر بإتلاف كتابات الجاهلية، أو أنه نهى عن قراءتها والاستفادة منها، أو أنه منع استعمال اللهجات الأخرى، التي كان يستعملها الجاهليون، أو أن علماء الإسلام منعوا رواية أخبار الجاهلية، بل الذي نسمعه ونراه أن "ابن عباس" كان يستشهد بالشعر الجاهلي في تفسير القرآن، وبقية الصحابة يروونه ويحفظونه، وأن خلفاء بني أمية كانوا يدفعون الهدايا والجوائز لمن يروي لهم الشعر الجاهلي، ونرى أنهم كانوا يقضون لياليهم برواية أخبار الجاهلية وحالتهم فيها، وما وقع لهم في تلك الأيام من نادر وطريف، وقد سجل ما بقي منه في الذهن في كتب الأخبار والأدب، يوم شرع الناس في التدوين. وأما أنهم كانوا ينظرون إلى "الأخباري" نطرة سيئة، فيها شيء من ازدراء وعدم التقدير، فما كان ذلك لروايته أخبار الجاهلية واشتغاله بجمع تأريخها والتحدث عنها، وما كانوا يريدون بلفظة "أخباري" راوي أخبار الجاهلية وحدها في أي يوم من أيام التأريخ الإسلامي؛ وإنما كان ذلك لإغراب الأخباريين في رواية الأخبار ومبالغتهم فيها مبالغة تجافي العقل، وسردهم الإسرائيليات والنصرانيات والشعبيات وغير ذلك من القصص المدونة في الكتب، وكذب بعضهم كذبًا يخالف

_ 1 ابن سعد "6/ 57"، أبو بكر الصولي، أدب الكتاب "ص190". 2 الأغاني "8/ 199"، خزانة الأدب: للبغدادي "2/ 292"، العقد الفريد "6/ 93" وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 239 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 93". 3 المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي "1/ 393".

أبسط قواعد المنطق، وما رُمي "ابن الكلبي" بالكذب أو نظر إليه نظرة ازدراء لكونه من رواة أخبار الجاهلية؛ بل وثق في هذه الناحية وأخذ عنه دون ردّ أو اعتراض، كما يتبين ذلك من اعتماد العلماء عليه في هذا الباب وإشارتهم إليه؛ وإنما ضعف في أمور أخرى هي أمور إسلامية لا علاقة لها بالجاهلية ولا صلة لها بها البتة، مدوّنة في كتب التفسير والحديث. ولو كان الإسلام قد حثّ على طمس أخبار الجاهلية أو إطفاء ذكر الأصنام والأوثان، لما كان في وسع "ابن الكلبي" ولا غيره التحدث عنها والإشارة إليها، ولما أخذ العلماء عنه ورووا كتبه وتوارثوا كتاب "الأصنام"، بل القرآن نفسه حجّة في ردّ هذا الزعم؛ ففيه ذكر لرءوس أصنام العرب، وفيه مفصل حياة أهل الجاهلية ومثلهم ما كانوا يقومون به، ولو شرًّا وباطلًا، وروت كتب التفسير وكتب الحديث والسير والأخبار أوصاف بعض أصنام العرب وهيأتها وشكل محجاتها وأوقات الحج، كما ذكرت ما أقر الإسلام من أمور كانت قائمة في الجاهلية وما حرم منها، ولو كان الإسلام قد تعمد طمس الجاهلية والقضاء على معالمها؛ لتحرج القرآن وتحرج المسلمون من الإشارة إليها ومن إحياء أسمائها وبعثها في ذاكرة الناشئين في الإسلام. وقد تحدث "ابن النديم" في كتابه "الفهرست"، في المقالة الثالثة التي خصصها "في أخبار الأخباريين والنسّابين وأصحاب الأحداث"، عن "ابن الكلبي" وعن أبيه، كما تحدث عن غيره من مشاهير العلماء من أمثال "عوانة ابن الحكم" و "ابن إسحاق" صاحب السيرة، و "أبي مخنف" و "الواقدي" و "الهيثم بن عدي" و "أبي البختري" و "المدائني" و "محمد بن حبيب" وغيرهم ممن ألف في أمور وقعت قبل الإسلام في أمور وأحداث إسلامية محضة، وقد ضعف بعضهم، مع أنهم لم يؤلفوا في أمور تخص الجاهلية ولا في أحداث وقعت قبل عام الفيل أو قبل الإسلام، وأطلقت عليهم لفظة "أخباري" أو "وكان أخباريًّا"؛ مع أنهم لم يكتبوا إلا في أخبار قريبة من الإسلام أو في أحداث إسلامية بحتة، فلفظة "أخباري" إذن لم تكن قد عُلمت بالشخص الذي تخصص برواية أخبار الجاهلية الواقعة قبل عام الفيل فقط، بل قصد بها هؤلاء وكل من اشتغل برواية الأخبار مهما كانت صفتها وعادتها وطبيعتها، روى تاريخ ما قبل الفيل أو ما بعد الفيل إلى الإسلام، أو أخبار الإسلام.

والأخباري في عرف ذلك اليوم وقبل أن ينتشر التأليف وتتصنف المعارف، هو من يروي الأخبار، تمييزًا له عن الآخرين الذين اشتغلوا بالنسب؛ فعُرف أحدهم بـ "النسابة"، وقيل عن أحدهم "أحد النسابين" أو "وكان ناسبًا"1. أو بالتفسير أو برواية الشعر وما شاكل ذلك من معارف؛ فهو مؤرخ ذلك الزمن إذن، ولهذا نرى لفظة "أخبار" بمعنى تأريخ، ورد في "الفهرست" في أثناء الحديث عن عبيد بن شَرْيَة الجرهمي ومعاوية: فسأله "أي معاوية عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم"2، وورد عن "ابن دأب" وكان "عالمًا بأخبار العرب وأشعارها"3 وذكر عن "عوانة بن الحكم" أنه كان "راوية للأخبار عالمًا بالشعر والنسب"4. وورد عن "أبي اليقظان النسابة" أنه كان "عالمًا بالأخبار والأنساب والمآثر والمثالب"5. وورد مثل ذلك عن أشخاص آخرين هم في أوائل من اشتغل بالتأريخ عند المسلمين، يخرجنا ذكرهم هنا عن حدود هذا الموضوع6. ويظهر من دراسة "الفهرست" لابن النديم والمؤلفات الأخرى أن العرب في صدر الإسلام لم يكونوا يطلقون لفظة "المؤرخ" على من يشتغل بالتأريخ؛ ذلك لأن التأريخ نفسه في ذلك العهد لم يكن قد تطور وبلغ الشكل الذي بلغه في أواخر أيام الأمويين وفي الدولة العباسية؛ بل كانوا يطلقون على المؤرخ "الأخباري" كما ذكرت، لاشتغاله بالأخبار كائنة ما كانت أخبار ما قبل الإسلام أو أخبار الإسلام، وكانوا يطلقون على الموضوع نفسه "الأخبار"؛ ولهذا نرى أن أكثرية المشتغلين بها، أطلقوا على كتبهم: "الأخبار المتقدمة" و"أخبار الماضين" و "أخبار النبي"و "أخبار العرب" و "كتّاب السير في الأخبار والأحداث" وأمثال ذلك، ولم يقولوا: "تأريخ المتقدمة" أو "تأريخ الماضين" أو "تأريخ العرب" أو "تأريخ الرسول"، ويستعملون لفظة "سيرة" و "السير" في سير الأشخاص، ولا سيما "سيرة الرسول". وأما لفظة "تأريخ"؛ فقد

_ 1 الفهرست "ص128". 2 الفهرست "ص138". 3 الفهرست "ص139". 4 الفهرست "ص140". 5 الفهرست "ص144". 6 يراجع الباب المسمى "المقالة الثالثة": في أخبار الأخباريين والنسّابين وأصحاب الأحداث.. من كتاب الفهرست، لابن النديم "ص137".

استعملت في عنونة بعض الكتب المؤلفة في التأريخ؛ فقد كان ل "عوانة بن الحكم" المتوفى سنة "147هـ" كتاب اسمه "كتاب التأريخ" كما كان له كتاب اسمه "كتاب سيرة معاوية وبني أمية"1. وكان للهيثم بن عدي المتوفى سنة "207هـ" كتاب يدعى "كتاب تأريخ العجم وبني أمية" و "كتاب تأريخ الأشراف"، و "كتاب التأريخ على السنين"2، وكان للمدائني المتوفى سنة "225" للهجرة كتاب عنوانه: "تأريخ أعمار الخلفاء" وآخر اسمه "كتاب تأريخ الخلفاء" وثالث اسمه "أخبار الخلفاء الكبير"3، لا أستبعد أن يكون هو هذا الكتاب. إلا أن هذا الإطلاق لم يكن واسعًا كثير الاستعمال، وفي استطاعتنا ذكر هذه الكتب وعدّها، وما دامت الحال على هذا المنوال؛ فليس من المعقول إطلاق لفظة "مؤرخ" و "المؤرخ" و "تأريخ" بصورة واسعة في هذا العهد، وفي جملة العهد الذي عاش فيه "ابن الكلبي"، ما دام العرف فيه إطلاق لفظة "أخبار" بمعنى "تأريخ"؛ وإنما طغت لفظة "تأريخ" و "مؤرخ" في الأيام التي تلت هذا العهد، ولا سيما أواخر القرن الثالث للهجرة فما بعده. هذا من حيث استعمال لفظة "أخباري". وأما من حيث إهمال التأريخ الجاهلي وصلة الإسلام به؛ فقد ذكرت أنه لا علاقة للحديث المذكور بهدم الجاهلية أو بإهمال تأريخها؛ وإنما الإهمال هو إهمال قديم، يعود إلى زمان طويل قبل الإسلام، فعادة قلع المباني القديمة لاستخدام أنقاضها في مبانٍ جديدة، والاعتداء على الأطلال والآثار والقبور بحثا عن الذهب والأحجار الكريمة والأشياء النفيسة الأخرى، هي عادة قديمة جدًا، ربما رافقت الإنسان منذ يوم وجوده. وهي عادة لا تزال معروفة في كثير من بلدان الشرق الأوسط حتى اليوم، بالرغم من وجود قوانين تحرم هذا الاعتداء وتمنع هذا التطاول. وقد كان من نتائجها تلف كثير من الآثار، وذهاب معالمها، فصارت نسيًا منسيًّا. فتكبدت الآثار الجاهلية من أهل الجاهلية، أي في الأيام السابقة للإسلام مثل ما تكبدته وتتكبده الآثار الجاهلية والإسلامية معًا في أيام الإسلاميين حتى اليوم4.

_ 1 الفهرست "ص140". 2 الفهرست "ص151 وما بعدها". 3 الفهرست "ص155". 4 راجع عن فتح القبور الجاهلية للحصول على ما فيها من كنوز، الإكليل "8/ 143 فما بعدها".

وأما موضوع إهمال الآثار وعدم توجيه عناية الحكومات نحوها؛ لرعايتها وللمحافظة عليها من التعرض للسقوط والتلف والأضرار ونحو ذلك؛ فإنه موضوع لم يدرك الناس أهميته إلّا أخيرًا، ولم تشعر الحكومات بأنه واجب مهم من واجباتها إلّا حديثًا، ولذلك لا نستطيع أن نوجّه اللّوم إلى القدامى لإهمالهم الآثار ولعدم اعتنائهم بالمحافظة عليها. وكان من آثار هذا الجهل بأهمية الآثار أن أُزيلت معالم أبنية وقصور، وحطمت تماثيل وكتابات، لغرض استعمالها في البناء، وقد كان على مقربة من "سدوس"، أبنية قديمة يظن أنها من آثار حمير وأبنية التبابعة، وأن من جملتها شاخص كالمنارة، وعليها كتابات كثيرة منحوتة في الحجر ومنقوشة في جدرانها، فهدمها أهل سدوس؛ لاختلاف بعض السياح من الإفرنج إليها ملاحظة التدخل معهم1. ومثل ذلك حدث في اليمن وفي مواضع أخرى من أمكنة الآثار. وقد هدمت قرى ومدن في الجاهلية وفي الإسلام من أجل استعمال أنقاضها في بناء أبنية جديدة. ذكر "الهمداني" حصن "ذي مرمر"، وهو من المواضع الجاهلية المهمة، وكذلك "شبام سخيم" "يسخم"، وبقيا معروفين زمنًا طويلًا بعده، ثم جاء أحد الأتراك واسمه "حسن باشا" فهدم حصن "ذي مرمر" لينشئ في أسفله مدينة جديدة، أخذ معظم مواد بنائها من "شبام سخيم"2. وذكر أن حكومة اليمن قامت بعد سنة "1945م" ببناء ثكنة لجنودها في المنطقة الشرقية من اليمن في "مأرب" على نمط الثكنة التي بناها الأتراك في صنعاء، فهدموا أبنية جاهلية كانت لا تزال ظاهرة قائمة، واستعملوا الحجارة الضخمة التي كانت مترامية على سطح الأرض، وأزالوا بعض الجدر والأسوار وحيطان البيوت عند بناء تلك الثكنة، فطمسوا بذلك بعض معالم تأريخ اليمن القديم3، وأساءوا بجهلهم هذا إلى قيم الآثار إساءة لا تقدر في نظر عشاق التأريخ والباحثين في تأريخ العرب قبل الإسلام. ويضاف إلى ما تقدم عامل آخر، هَدَمَ الآثار وقضى عليها بالجملة،

_ 1 الألوسي، تأريخ نجد، تحقيق الأستاذ محمد بهجت الأثري، المطبعة السلفية، القاهرة 1347 "ص28". 2 Beirtage, S. 18. 3 Beitrage, S. 28.

وأعني به الحروب. وسوف نرى حروبًا متوالية اكتسحت جميع مناطق العربية الجنوبية، وأتت على مدنها؛ إذ استعمل القادة سياسة حرق المدن والمواقع والمزارع، وقتل السكان بالجملة فأدى ذلك إلى اندثار الآثار وتشريد الناس وهربهم إلى البوادي وتحول الأرضين الخصبة إلى أرضين جُرد، حتى ضاعت بذلك معالم الحضارة القديمة، فخسرنا من جرّاء ذلك علمًا كثيرًا، وا أسفاه. وهناك تقصير آخر لا يمكن أن ينسب إلى الإسلاميين، بل يجب عزوه إلى الجاهليين فالظاهر من رجوع الصحابة إلى ذاكرتهم وإلى ذاكرة الشَّيَبة الذي أدركوا الجاهلية في تذكر أيامها وما كانوا عليه قبل الإسلام، ومن جلب "معاوية بن أبي سفيان" المولع بسماع الأخبار لـ "عبيد بن شَرْيَة" ليقص عليه "الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبليل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد"1، ومن رجوع أهل الأخبار إلى الأعراب لأخذ أخبار قبائلهم وأيامهم وأنسابهم وشعرهم وغير ذلك، أن غالبية أهل الجاهلية لم تكن لهم كتب مدونة في تأريخهم، ولم تكن عندهم عادة تدوين الحوادث وتسجيل ما يقع لهم في كتب وسجلات؛ بل كانوا يتذاكرون أيامهم وأحداثهم وما يقع لهم، ويحفظون المهم من أمورهم مثل الشعر حفظًا. ولما كانت الذاكرة محدودة الطاقة، لا تستطيع أن تحمل كل ما تحمل، ضاع الكثير من الأخبار، بتباعد الزمن، وبوفاة شهود الحوادث، ولم يبقَ بتوالي الأيام غير القليل منها. ومن هنا كان تعليل علماء العربية ضياع أكثر الشعر الجاهلي؛ فقالوا: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه؛ فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته؛ فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح واطمأن العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم كثير"2. وإذا كان هذا ما وقع للشعر مع مكانته عندهم وسهولة بقائه في الذاكرة بالقياس إلى النثر، وتعصب القبائل لشعر شعرائها؛ فهل في استطاعتنا استثناء الأخبار من هذا الذي يحدث للشعر؟

_ 1 الفهرست "ص138". 2 المزهر "2/ 474".

بل ما لنا وللجاهلية، ولنراجع تأريخ الإسلام نفسه، خذ تأريخ آباء الرسول وطفولة الرسول إلى يوم مبعثه؛ بل حتى بعد مبعثه، ثم خذ سير الصحابة وما وقع في صدر الإسلام من أحداث، ترَى أن ما ورد من سيرة آباء الرسول وسيرة الرسول إلى الهجرة، مقتضبًا بعض الاقتضاب، وأن ما ذكر هو من الأمور التي تحفظها الذاكرة عادة، وما فيما عدا ذلك مما وقع للرسول؛ فغير موجود، وترى اقتضابًا مخلًا في سيرة الصحابة، واضطرابًا في تواريخ الحوادث، واختلافًا بين الصحابة في ذلك. أما سبب ذلك فهو عدم تعود الناس إذ ذاك تسجيل أخبار الحوادث وما يقع لهم، وعدم وجود مسجلين مع السريا والغزوات والفتوح يكون واجبهم تسجيل أخبارهم وتدوين وقائعها، حتى ما سجل من أمر ديوان الجند والأنساب وأمثال ذلك، لم يكن في نسخ عديدة؛ فضاع أكثره، ولم يصل إلى الأخباريين لذلك يوم شرعوا في التدوين. وإذا كان هذا حال أخبار الإسلام، وهي أمور على جانب خطير من الأهمية بالقياس إلى المسلمين، فهل يعقل بقاء أخبار الجاهلية كاملة إلى زمن شروع الناس في التدوين في الإسلام، وقد ضاعت قبل الإسلام بزمان؟ لقد قلت فيما سلف إن الهَمْداني وغيره ممن عنوا بأخبار اليمن، لم يعرفوا من تأريخ اليمن القديم إلّا القليل، ولم يعرفوا من أخبار دول اليمن القديمة شيئًا، ولم يحفظوا من أسماء ملوكها إلا بعض الأسماء، وقد حرف حتى هذا البعض، أما معارفهم من معبودات أهل اليمن القديمة، فصفر؛ فلسنا نجد في كتبهم إشارة ما إلى عبادة "عشتر" ولا إلى عبادة "أنبى" و "ذات صنتم" و "نكرح" و "سين" و "حوكم" "حكم" و "هوبس" ولا إلى بقية المعبودات. نعم، أشار "الهمداني" إلى اسم إله من آلهة "همدان" هوم "تالب"، وكانت محجته في "ريم" "ريام"، يقصدها الناس في ذلك الزمن للزيارة والتبرك؛ ولكنه لم يعرف أنه كان إلهًا، بل ظن أنه ملك من ملوك همدان، فدعاه باسم "تالب"، وزعم أنه ابن "شهوان"1. وجعل "المقه"، وهو إله سبأ العظيم، المقدم عندهم على جميع الأصنام، اسم بناء من أبنية جنّ سليمان. وقد بُني على ما

_ 1 الإكليل "10/ 17".

زعمه بأمر سليمان1. وتحدث عن "رئام" فقال: "أما رئام، فإنه بيت كان متنسك، تنسك عنده ويحج إليه. وهو في رأس جبل أقوى من بلد همدان"، ونسبة إلى "رئام بن نهفان بن تبع بن زيد بن عمرو بن همدان"2. وقد ذكره "ابن إسحاق" و "ابن الكلبي" و "السهيلي" و "ياقوت الحموي" وغيرهم أيضًا3 وفي كل الذي ذكروه دلالة على أن ما رووه لم يكن عن مصدر مدوّن؛ وإنما هو رويّ عن أفواه الرجال. وأن تلك الأفواه قد نسيت كثيرًا من الأصل، فحاولت سدّ الثُغر بالقصص المذكور. بل خذ ما ذكره رجال هم أقدم من "ابن الكلبي" ومن "الهمداني" في الزمان، وألصق منهما عهدًا بالجاهلية مثل "ابن عباس" و "عبيد بن شَرْيَة" وغيرهما، ترَى أن ما ذكراه عنها لا يدل على أنهما أخذا أخبارهما من مورد مكتوب ومن كتب كانت موجودة، ولا أعتقد أن "معاوية بن أبي سفيان"، وهو نفسه، من أدرك الجاهلية، كانت به حاجة إلى "عبيد" وأمثال "عبيد" من قوّال الأساطير، وإلى الاستماع إلى أخبارهم، لو كان عنده شيء مدوّن عن أمر الجاهلية، ثم إنه لو كانت عند "ابن عباس" و "عبيد" وطلاب الشعر الجاهلي والأخبار مدوّنات، لما لجأوا إلى الذاكرة وإلى الرواة والأعراب يلتمسون منهم الأخبار والأشعار وأمور القبائل! إن جهل أهل الأخبار بأصنام أهل اليمن القديمة التي ترد أسماؤهم في كتابات المسند، وذكرهم أسماء أصنام جديدة زعموا أنها كانت معبودة عند أهل اليمن لم يرد لها ذكر في كتابات المسند، أشار "ابن الكلبي" وغيره إلى بعضها، وإشاراتهم إلى دخول اليهودية والنصرانية إلى اليمن، وإلى تهود "تبّع" وهو في "يثرب" في طريقه إلى اليمن، وأخذه حبرين من أحبار يهود معه، وأمره بتهديم معبد "رئام"، بناء على إشارة الحبرين4، ثم ظهو جمل وألفاظ في كتابات المسند تدل على التوحيد وعلى وقوع تغيّر وتطور في ديانات أهل اليمن، مثل عبادة "الرحمن" وعبادة "ذو سموي"، أي "ذو السماء" أو "صاحب

_ 1 Detlef Nielsen, Der Sab. Gott Ilmukad, S. 2, D.H. Mueller, Burgen und schloesser, Bd. 2 S. 972. 2 الإكليل "8/ 66"، "8/ 82"، "طبعة الكرملي". 3 الأصنام "12"، الإكليل"8/ 82 فما بعدها" "طبعة الكرملي". 4 الأصنام "12 فما بعدها"، البلدان "4/ 345".

السماء"1: إن كل هذه الأمور وأمثالها، هي دلائل على حدوث تغير وتطور في عقليات أهل اليمن، أثرت في معتقداتهم فجعلتهم ينسون آلهتهم القديمة، بل يتنكرون لها، ويبتعدون بذلك عن ثقافتهم الوثنية القديمة، ومثل هذا التطور والتغير لا بد أن يؤدي طبعًا إلى نسيان الماضي وإلى الالتهاء عنه بالتطور الجديد، وقد وقع هذا قبل الإسلام بزمان. كان لدخول اليهودية والنصرانية في اليمن وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب، دخلٌ من غير شك في إعراض القوم عن ديانتهم الوثنية وعن ثقافتهم وآدابهم. أما اليهود فقد سعوا بعد دخولهم في اليمن لتهويد ملوك اليمن وأقيالها ونشر اليهودية فيها للهيمنة على هذه الأرضين، وأخذوا ينشرون قواعد دينهم وأمور شريعتهم بينهم، ويذيعون قصص التوراة، وأعاجيب سليمان وجنّ سليمان، وتمكنوا من إقناع بعض حكّام اليمن بالتهود، على نحو ما سنراه فيما بعد. ووجدت النصرانية سبيلها إلى اليمن كذلك من البحر والبر، وسعت كاليهودية لتثبيت أقدامها هناك وفي سائر أنحاء جزيرة العرب، ووجدت من سمع دعوتها هنا وهناك؛ فتنصرت قبائل وشايعتها بعض المقاطعات والمدن، وتعرضت الوثنية للنقد من رجال الديانتين، واقتبس من دخل في اليهودية الثقافة اليهودية، ومن دخل في النصرانية الثقافة النصرانية، وأعرض عن ثقافته القديمة، وفي جملتها الخط المسند، خط الوثنية والوثنيين، وصار عدد قرّائه يتضاءل بمرور الأيام. ومن يدري؟ فلعلّ رجال الدين الجدد، صاروا يعلّمون الناس الكتابة بقلمهم الذي كانوا يكتبون به، وهو قلم أسهل في الكتابة من المسند، وخاصة على الورق والجلود والقراطيس. وقد يكون هذا سببًا من جملة أسباب تضاؤل عدد الكتابات المدونة في المسند، في حقبة سأتحدث عنها فيما بعد. وآية ذلك عثور المنقبين والسياح في مواضع من نجد وفي العروض، وهي مواضع بعيدة عن اليمن، على كتابات سبئية يعود تأريخ بعضها إلى ما قبل الميلاد وتأريخ بعضها إلى ما بعده2، ثم اختفاء آثار كتابات المسند من هذه

_ راجع النصوص: 1 "Zur Geachichte des Judentums iin Jemen", in Alt-Orientalische Forschungtn, I, 336. "A Monotheistic Himjarite Inscription", by F.V. Winnet, Glasser 399, Whackier, Asrnare, I, Ryk 203, he Museon, LII, P., 51ff. BOASOB 83 (1941) , P., 22, CIH537, 538, 539, 543, 645, Res 4109, Bose 13, RES 4069, Stambul, 7608 Rea 3904 2 The Qariya Ruin Field, Geographical Journal, June, 19492 Sanger, The Arabian Peninsula, P., 139, Philby, Two notes from Central Arabia,

المواضع في العهود المتأخرة من الجاهلية القريبة من الإسلام؛ مما يبعث على الظن أن أهل الجزيرة كانوا قد استبدلوا بذلك القلم قبيل الإسلام قلمًا جديدًا مشتقًا من الأقلام الإرمية الشمالية، وذلك بانتشاره بينهم على أيدي المبشرين وبالاتجار مع عرب العراق، ولا سيما سكان الحيرة والأنبار، وهو القلم الذي كان يكتب به أهل مكة وأهل يثرب عند ظهور الإسلام. وبذلك شارك هذا القلم الجديد في موت القلم المسند واختفائه من هذه المواضع، وبموته انقطعت صلات القوم بالثقافة العربية الجنوبية، ثقافة القلم المسند. ولا أستبعد أن يكون من بين رجال الدين من الديانتين أناس كانوا على قدر العلم والفهم بأمور التوراة والإنجيل وبالقصص الإسرائيلي والنصراني وعلى شيء من الإلمام بالتأريخ؛ فقد كان من بينهم أناس هم من أصل رومي أو سرياني أو عبراني؛ فليس من المستبعد أن يكون لهم حظ من العلم بالأمور المذكورة أخذوه من كتبهم المكتوبة بلغاتهم ومن دراساتهم لأمور الدين. ومثل هؤلاء لا بد أن يستشهدوا في مواعظهم في "مدراثهم" أو "كنائسهم" في الأماكن التي نزلوا بها من جزيرة العرب، بشيء من قصص التوراة والكتب اليهودية والأناجيل، ودليل ذلك أن معظم القصص الواردة عن الرسل والأنبياء وعن انتشار اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب، مصدره أناس من أهل الكتاب، هم من أهل يثرب، أي من يهود المدينة، ومن أهل اليمن، وهو قصص على دلالته على جهل فاضح بأمور اليهودية أو النصرانية، يدل عمومًا على أنه أخذ من أصل يرجع إلى أهل الكتاب، وقد غُطّي بقصص وأساطير ساذجة. وهو على بساطته وسذاجته يصلح إن صحت نسبته إلى من نسب إليهم، أن يكون موضوعًا لدراسة مهمة، هي دراسة مقدار علم يهود جزيرة العرب ونصاراها في الجاهلية بأمور دينهم ومقدار جهلهم بأحكام اليهودية أو النصرانية في تلك الأرضين. ونحن لا نجد في بقية جزيرة العرب تدوينًا للتأريخ، لعدم وجود حكومات منظمة كبيرة فيها، ولسيادة النظام القبلي في أكثر أنحائها؛ وإنما نجد فيها رواة يروون أخبار قبيلتهم وأمورها وعلاقتها بالقبائل الأخرى، وحوادثها وأيامها، ورواة تخصّصوا برواية الأنساب، لما للنسب من أهمية في المجتمع القبلي، ونجد جماعات تحفظ الشعر وما شاكل ذلك من أمور تخص القبيلة والنظام القبلي، وكل ذلك رواية، أي مشافهة، لا كتابة. ومثل هذا النوع من التوريخ الشفوي

معرض كما قلت سابقًا لآفات عديدة، أهمها تحكم العواطف القبلية على الرواة وتعرض الخبر للنسيان كلما تقدم العهد به في الذاكرة، وكلما ابتعد به الزمن؛ إذ تقل حماسة الناس له، ويضعف تأثيره في العواطف، وتفتر عندئذ همم الرواة عن حفظه وبذلك يتعرض للموت والاندثار، ومن هنا اندثرت وضاعت أخبار الجاهلية البعيدة عن الإسلام. أما الجاهلية القريبة من الإسلام؛ فقد بقي منها ما يشبه ذكريات الطفولة، خلا الأمور التي عاصرت ظهوره، فقد أدركها الصحابة؛ فكان في إمكانهم تذكرها وروايتها، وانتقلت منهم إلى من جاء بعدهم حتى وصلت إلى المدونين. ما ذكرته هو أهم أسباب إهمال التأريخ الجاهلي، فجاء ذلك التأريخ لذلك ناقصًا فجًّا على نحو ما نقرؤه في المؤلفات العربية القديمة. أما تدوينه مجدّدًا، وإعادة كتابته وتنظيمه وتنسيقه وسدّ الفجوات الواسعة فيه؛ فقد تم على هذا النحو:

تدوين التأريخ الجاهلي

تدوين التأريخ الجاهلي: للمستشرقين مجهود يقدر في تدوين التأريخ الجاهلي وفي كتابته بأسلوب حديث، يعتمد على المقابلات والمطابقات ونقد الروايات والاستفادة من الموارد العربية والأعجمية. وقد أفادوا مما جاء عن العرب في التوراة وفي التلمود وفي الكتب اليهودية، كما أفادوا مما جاء عن جزيرة العرب وسكانها في الكتابات الأشورية والبابلية ومن الموارد "الكلاسيكية" والمؤلفات النصرانية سريانية ويونانية ولاتينية؛ فأضافوا كل ما تمكّنوا الحصول عليه في هذا الباب إلى ما ورد في الموارد الإسلامية عن الجاهليين، فصحّحوا وقوّموا، وسدّوا بهذه المواد بعض الثلم في التأريخ الجاهلي. وعملهم في بعث الكتابات الجاهلية ونشرها، مشكور مقدر؛ فقد أعادوا إلى الخط الذي كتبت به الحياة، وجعلوه مقروءًا معروفًا، وترجموا كثيرًا من هذه النصوص إلى لغاتهم، وهي وثائق من الدرجة الأولى، وعملوا على نشر النصوص بالمسند وبالحروف اللاتينية أو العبرانية أو العربية في بعض الأحيان، وعلى استخلاص ما جاء فيها من أمور متنوعة عن التأريخ العربي قبل الإسلام.

وقد أمكننا بفضل هذا المجهود المضني الحصول على أخبار دول وأقوام عربية لم يرد لها ذكر في الموارد الإسلامية؛ لأن أخبار تلك الدول وأولئك الأقوام كانت قد انقطعت وطمست قبل الإسلام؛ فلم تبلغ أهل الأخبار. وقد ساعدهم في شرح الكتابات الجاهلية وتفسيرها علمهم بلغات عديدة، مثل اللغة العبرانية والسريانية والبابلية، فإن في هذه اللغات ألفاظًا ترد في تلك الكتابات بحكم تقاربها واشتراكها في هذه الثقافة المتقاربة التي نسميها "الرابطة السامية"، كما أن فيها أفكارًا وآراء ترد عند المتكلمين بهذه اللغات، ولهذا صار في الإمكان فهم ما ورد في الكتابات الجاهلية بالاستعانة بتلك الأفكار والآراء. وقد كان للسياح الذين جابوا مواضع متعددة من جزيرة العرب، ولا سيما المنطقة الغربية والجنوبية منها، فضل كبير في بعث الحياة في الكتابات الجاهلية. فقد أخذ أولئك السياح بعض كتابات، كما أخذوا صور بعض آخر، ويفضل تعاونهم مع العلماء المبحرين باللغات الشرقية أمكن حلّ رموزها وبعث الحياة فيها بعد موت طويل. وقد كان أسفار أولئك السياح مغامرات ومجازفات؛ إذ تعرضت حياة أكثرهم للخطر، بسبب عدم استقرار الأمن إذ ذاك، وبسبب سوء الأوضاع الصحية، ولعدم وجود أماكن مريحة تناسب حياتهم التي تعوّدوها؛ إلا أنهم لم يبالوا ذلك ولم يحفلوا به، وتحايلوا بمختلف الحيل للتغلب على تلك الصعوبات ولكسب ودّ رؤساء القبائل والحكّام لتسهيل مهمتهم. وقد قضى نفر منهم نحبه في أسفاره هذه. وقد كانت أكثر أسفار هؤلاء الروّاد أسفارا فردية قام بها أفراد من العلماء ومن الضباط والمغامرين. والأسفار الفردية، مهما كانت، لا تأتي بالنتائج التي تنجم عن دراسات البعثات المتخصصة بمختلف الشئون؛ لذلك نتطلع إلى اليوم الذي تتمكن فيه البعثات العلمية الكبيرة من اختراق آفاق بلاد العرب، وتقديم نتائج بحوثها إلى العلماء لتدوين تأريخ مرتب لجزيرة العرب قبل الإسلام، ولا سيما إلى البعثات العلمية العصرية التي تتألف من متخصصين من الناطقين بلغة هذه البلاد؛ لأن هؤلاء أقدر من غيرهم على فهم اللهجات القديمة ومحتوياتها وروح ذلك التأريخ. ونستطيع أن نعدّ السائح الدانماركي"كارستن نيبور" carsten niebuhr الذي

قام في سنة 1761 للميلاد برحلة إلى جزيرة العرب، أوّل رائد من روّاد الغرب ظهر في القرون الحديثة، وصف بلاد العرب، ولفت أنظار العلماء إلى المسند والرقم العربية1. وقد أثارت رحلته هذه همم العلماء والسياح؛ فرحل من بعده عدد منهم لا يتسع المقام لذكرهم جميعًا رحلات إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب عادت على التأريخ العربي بفوائد جزيلة. فزار الدكتور "سيتزن" dr. seetzen جنوبي بلاد العرب، وتمكن من نقش صور نصوص عربية جنوبية أرسلها إلى أوروبة عام 1810م وهذه النصوص على قصرها وغلطها، أفادت في تدوين تأريخ العرب قبل الإسلام إفادة غير مباشرة؛ لأنها لفتت أنظار المستشرقين إليها وإلى دراسة التأريخ العربي القديم، حتى آل الأمر إلى حل رموز تلك الكتابة ومعرفة حروفها2. وتمكن الرّحّالة السويسري "ليدويك بركهارد" johann Ludwig burckhard من القيام برحلة إلى الحجاز، فتزيا بزي مسلم اسمه "إبراهيم بن عبد الله" يريد الحج وزيارة مسجد الرسول وقبره. وقد صحب الحجاج في حجهم، ووصف موسم الحج وصفًا دقيقًا، وكتب عن مكة والمدينة كتابة علميّة. وقد زار آثار الأنباط وعاصمتهم "البتراء"3.

_ 1 Carsten Niebur, Reisebesehreibung nach Arabien und anderen umliegenden Laendern, Kopenhagen, 1772-1837, in 2 Bande. وهناك طبعة فرنسية وترجمة إنكليزية، Carsten Niebuhr, Description de L'Arabie, Copenhagen, 1773, Voyage en Arabie, Amsterdam, 1774-80, R.H. Sanger, The Arabian Peninsula, Cornell University Press, 1954, P., 241. 2 Pfannmueller, S-,' 85, Seetzen, Travels in Yemen, 1810, Hommel, Explorations in Arabia, in Hilprecht, Explorations in Bible Land, P., 702, Seetzen, Fundgrubendes Orients, Vienna, 1811, نشر مذكرات "Seetzen" التي أرسلها إلى أوروبة المستشرفون "Fleischer" و"Kruse" و "Heinrich Mueller" في أربع مجلدات: Reisen durch Syrien, Palaestina, Phoenizien, die Tranajordan-Lander, Arabia Petraea und Unter-Aegypten. 3 Johann Ludwig Burckhardt, Travels in Arabia, London, 1829, Deutsch, Weimar, 1830, Burckhardt, Travels in Syria and Holy Land, London, 1822, Notes on the Bedouins and Wahabys, 2Vola., London, 1830, in German, Weimar,1831,S. M. Zwemer, Arabia the Cradle of Islam, London, Explorations, P., 703

وتمكن ضابط إنكليزي يُدعى james r. wellsted من زيارة الأنحاء الجنوبية من جزيرة العرب، ومن الظفر بصورة نصوص عربية قديمة قصيرة، ومن استنساخ كتابة حصن "غراب" التي يرجع تأريخها إلى سنة "640" من تأريخ أهل اليمن، وتوافق سنة 525 للميلاد. وبفضل هذا الضابط عرف المستشرقون هذا النص1. وأضاف الرّحّالة "هوتن" t. g. hutton عددًا آخر من الكتابات الجاهلية سنة 1835 إلى ما كان قد عرف سابقًا. وجاء "كروتندن" cruthenden سنة 1838م بنقوش أخرى جديدة. وكذلك "الدكتور مكل" dr. mackell الذي عاد بخمسة نصوص سبئية؛ فتوسعت بذلك دوائر البحث قليلًا، وتمكن العلماء بفضل هذه النقوش من حلّ رموز المسند2. وقد قام الصيدلي الفرنسي "توماس يوسف أرنو" "Thomas joseph arnaud" برحلة إلى اليمن، كانت موفقة جدًّا؛ إذ تمكن بفضل علمه بالعقاقير، من اكتساب صداقة المشايخ والزعماء. وبهذه الصداقة استطاع أن يتجول في بعض أنحاء اليمن ومدنها، ولم يكن ذلك أمرًا ميسورًا للغرباء، فزار الجوف ووقف على خرائب "مأرب"، ومكث في مدينة "صنعاء" أمدًا، وزار "صرواح" المدينة الأثرية القديمة، واستنسخ ستة وخمسين نصًّا كتابيًّا قديمًا3. وكتب التوفيق لسائح أوروبي آخر، هو الضابط الإنكليزي "coghlan" فحصل في سنة 1860م على عشرين لوحًا برنزيًا سليما عثر عليها في أنقاض مدينة "عمران"4. وقد أرشدت هذه الألواح المعدنية المستشرقين إلى ناحية مهمة

_ 1 Otto Weber, Arabien vor dem Islam, S., 10, Wellsted, Travels In Arabia, London, 1838, in 2 Vols., Narrative of a Journey to the Ruins of Nakeb el Hajar, in Journal Royal Geogr. Soc., VH, 20, in German, Halle, 1842, by Rodiger, Saenge, The Arabian Peninsula, p., 221, 241 2 Cruttenden C. J. Journy, of an Excursion to San'a the Capital of Yemen, Bombay, 1838, Journal of the Royal Geographical Society of London, Vot, III, 276-289, and in the Proceedings of the Bombay Geographical Society, 1838, PP., 39-55 3 Otto Weber, S. (10. Pfanomiieller, S., 85, Hommel, Explorations, P., 704 Arnaud Relation d'un Voyage a Mareb, in Journal Asiatique, 1845, 211, 309, 1874, 3. 4 "عمران"، الإكليل "8/ 13، 106، 110"

من نواحي الفن العربي القديم1. وتواصل العلماء، بعد جهود، إلى حلّ رموز هذه الكتابة العربية، فعرفوا منها -وكان أغلبها قصيرًا- إنها تبحث في موضوعات متشابهة، وإنها مؤلفة من حروف أطلقوا عليها اسم "الكتابة الحميرية" أو "الحروف الحميرية". وكان الرأي السائد بادئ بدء أنها كذلك، حتى تبيّن لهم أن هذه النصوص والنصوص التي جيئ بها أخيرًا لم تكن جميعها نصوصًا حميرية؛ بل كان بعضها من النصوص المعينية، وبعضها كتابات سبئية ترجع إلى عهد دولة سبأ، وبعضها بلهجات أخرى، تختلف عن الحميرية بعض الاختلاف. وهذه الكتابة، هي الكتابة المسماة بـ "خط المسند" وبـ "القلم المسند: وبـ "المسند" في الموارد العربية. عالج بعض العلماء ممن أولعوا بدراسة النقوش، تلك النصوص، وأعملوا رأيهم فيها حتى تمكّن بعضهم من التوصل إلى حل رموز بعضها، مثل العالم "وليم كسنيوس" "wilhelm gisenuis" والعالم "رودكر" "e. rodiger" والعالم "هاينرش إيوالد" "heinrich ewald" والعالم "فريسنل" "f. fresnel" الذي نشر النصوص التي جاء بها، وعددها ستة وخمسون نصًّا بحروف عربية وحميرية، في الجريدة الآسيوية "journal asiatique" سنة 1845م إلا أن نشره لم يكن متقنًا إتقانًا تامًا. وجاء القسيس "أرنست أوسيندر" "ernest osiander"؛ فأتم ما كان قد بدئ به2. ولم يتمكن العلماء الذين عالجوا مشكلة الكتابة العربية الجنوبية من معرفة الحروف كلها؛ ولذلك لم يستطيعوا قراءة أكثر النصوص التي جئ بها إلى أوروبة وفهم معناها، كما أن النصوص المقروءة لم تكن مضبوطة ضبطًا تامًا؛ فاستطاع هذا العالم بجهوده العظيمة قراءة كل النصوص التي جاء بها السياح والعلماء، وتعيين أشكال الحروف، ووضع أسس متينة لدراسة عرفت بعد ذلك باسم "الدراسة العربية الجنوبية" وقد استعان العلماء على فهم هذه الكتابات بالدراسات اللغوية السّامية مثل العبرانية، وباللغة العربية التي نزل با القرآن الكريم، وباللهجات اليمانية، وبالمعلومات الجغرافية المدوّنة في الكتب

_ 1 Pfannmueller, S., 85, Weber, S.. 10. 2 Pfannmuller, S., 85, Fulgence Fresnel, in Journal Asiatique, 111, Series, V, 521, 1838. Lettrea Sur Hist, des Arabes Avant l'lslamisme, 1853, Fresnel, Recherches sur les Inscriptions Himyariques tie San'a, Kha'riba

العربية، وبأسماء الملوك والأشخاص الذين وردت أسماؤهم في المؤلفات العربية1. وترسم المستشرق "ليفي" "m. a. levy" أثر "أوسيندر"، وتتبع أسلوبه في البحث، وحاول استخراج مادة تأريخية من هذه النصوص التي ترجمت وعرفت. وقد تمكن من نشر ما تركه "أسيندر" من نصوص عاجلته المنيّة قبل أن يوفق لإخراجها إلى الناس، فتمكّن "ليفي" من تنسيقها وتهذيبها، وطبعها وعرضها على العلماء2. وفاق "يوسف هاليفي" "joseph halevy"، وهو يهودي فرنسي، كل من تقدمه بكثرة ما جاء به إلى أوروبة من نقوش، وبسعة علمه في تأريخ اليمن، وبدراسة الكتابات العربية الجنوبية. دخل هذا الفرنسي اليمن في هيئة يهودي متسوّل من أهل القدس؛ ليتجنب بذلك ما يتعرض له الغرباء وأهل البلاد المسلمون على السواء من أخطار رجال القبائل وقطّاع الطرق الذين لا يمسّون أهل الذمة بسوء. وقد استطاع، بهذه الطريقة، التطواف في أرجاء اليمن، حتى بلغ أعاليها مثل "نجران"، وأعالي الجوف وهي المنطقة التي كان فيها "المعينيون". ووصل في تطوافه إلى حدود "مأرب" عاصمة سبأ وإلى "صرواح"، وهو بهذا أول أوروبي زار "نجران"3. ولمّا عاد إلى أوروبة، أحضر معه "686" نقشًا جمعها من مواضع مختلفة من اليمن. وفي سنة 1872- 1874م نشر هذا العالم في الجريدة الآسيوية "journal asiatique" ما كتبه في وصف رحلته إلى بلاد اليمن، وقد ضمن كتاباته وصفًًا للأماكن التي حلّ بها والطرق التي اجتازها، وترجمة ل"686 نصًّا، وهي النصوص التي كان قد جاء بها أو استنسخها من أصولها، ونشر بحثًا علميًّا وانتقادًا قيِّمًا للأبحاث اللغوية والتراجم والنصوص التي سبق أن نشرها العلماء من قبله4.

_ 1 Pfannmueller, S., 85, Weber, S., 10. 2 Pfannmueller, S., 85. 3 Halevy, in, Bulletin, de la Societe" de 2G£ographie, 1873, et 1877, Rapport sur cne Mission Arehfiologique dans le Yemen, in Journal Asiattque, Series O, VoL, XIX, Joseph Hal6vy, in Journal Asiatique, 1874, Pfannmueller, S., 86, Explorations, P., 709. 4 pfannmueller, S., 85

وكان ممن ذهب إلى اليمن شاب نمساوي اسمه "سيكفريد لنكر" "siegfrid langer"، وقد استطاع تصوير بعض النقوش واستنساخ قسم من الكتابات في عام 1882م؛ غير أن القدر عاجله إذ قتل هناك، فَفَقَد البحث في تأريخ اليمن بوفاته عضوًا نشيطًا. غير أن نمساويًّا آخر عوّض عن خسارة ذلك الشاب، وهو العالم "إدورد كلاسر" "eduard glaser". وقد قام بأربع رحلات إلى اليمن، ورجع بعدد كبير من النصوص والنقوش وبمادة غزيرة من المعلومات1. بدأ الرحلة الأولى "في أكتوبر من سنة 1882م"، وختمها في شهر آذار "مارس" من سنة 1884م، وكانت الحالة السياسية في ذلك الزمن مضطربة، والأوضاع غير مساعدة، والفوضى عامة في بلاد اليمن، ولم يكن للحكومة على القبائل من سلطان. ومع ذلك تمكّن من الحصول على "250" نقشًا رجع بها إلى أوروبة. أما الرحلة الثانية، فكانت في نيسان سنة 1885م ودامت حتى فبراير سنة 1886، وقد زار في أثنائها المناطق الجنوبية الشرقية والمنطقة الجنوبية الممتدة من جنوب "صنعاء" حتى" مدينة "عدن". وقد تمكن من جمع معلومات مهمة عن طبغرافية البلاد وأماكنها الأثرية، وعاد بنصوص معينة مهمة دخلت في ممتلكات المتحف البريطاني2. وقام بالرحلة الثالثة في سنة 1887م، ومكث في اليمن إلى سنة 1888م، وكانت رحلته هذه موفَّقة جدًّا؛ إذ حصل على آثار ونقوش كتابية كانت على جانب عظيم من الأهمية، منها أربعمائة نصّ أخذها من مدينة "مأرب" عاصمة "سبأ"، ومن هذه النصوص نصّان عن تصدع سدّ مأرب يرجع عهدهما إلى زمن قريب من ميلاد الرسول، ونصوص أخرى من مدينة "صرواح" يرجع عهدها إلى العصر السبئي، وهي ذات أهمية كبيرة في تدوين تأريخ بلاد العرب الجنوبية3. وكانت رحلته الرابعة، وهي الأخيرة، في سنة 1892م، وكانت موفقة

_ 1 O'leary, P., 221, Explorations, p., 722, PfannmueUer, P., 83, Weber S. 11 2 Weber, S., 11. 3 Explorations, P., 721, Mitheilungen der Vorder-Asiatischen Geaellschaft, Berlin, Beilage der Allgemeinen Zeitung, 1888, Nos 293, f., Eduard, Reise nach maarib.

جدًّا كذلك. اتبع فيها أسلوبًا جديدًا في الحصول على صور النصوص؛ إذ استعان بالأعراب الذين فرقهم في مختلف الجهات التي لم يسبقه أحد من الأوروبيين إلى زيارتها، بعد أن علمهم مختلف الطرق في الحصول على تلك النصوص بطريق الورق الذي يتأثر بالضوء وبطريقة القوالب الجبسية وبطرق أخرى. وقد تمكن بهذا الأسلوب الجديد من الظفر بصوة مضبوطة بعض الضبط للكتابات القديمة التي لم يكن بوسعه الذهاب إلى أماكنها واستنساخها بنفسه، وبها أيضًا تمكن من تصحيح أغلاط الصور التي أخذها "هاليفي" عن النقوش الأصلية، ومن الحصول على زهاء مائة نصّ قتباني أخذها من منطقة خرائب "مأرب". وفي متحف "فينا" قسم من الأحجار المكتوبة التي كان هذا العالم قد جلبها معه في المرة الأخيرة إلى أوروبة1. وقد زار المستشرق "جورج أغسطس والين george augustus wallin" سنة 1845م نجدًا ودوّن رحلته إليها2. وزار الحجاز المستشرق الهولندي الشهير "سنوك هرغونية snouk hurgtonje"؛ فكتب في أحوال مكة ووصف الحياة في الحجاز وموسم الحج. وكان قد ذهب إليه سنة 1885-1886م وهو من العلماء المدققين3. وقد زار الحجاز "السير ريشارد برتن" "sir Richard burton" متنكّرًا بزيّ مسلم سمّى نفسه "عبد الله" زار الحرمين وكتب وصف رحلته هذه4. وتوغلت "حنة بلنت" "anne blunt" سنة 1879م في شمال بلاد العرب حتى بلغت أرض نجد، وكانت مولعة بدراسة أحوال الخيول العربية5. واختراق الرّحّالة الإنكليزي "تشرالس دوتي" "charlis m. doughty" الصحاري العربية وشمال بلاد العرب، ووضع كتابًا مهمًّا وصف فيه أسفاره في بلاد العرب

_ 1 Weber, S., 12, Pfannmueller, S., 86, 2 Ency. Brita., Vol., 2, P., 171, Explorations, P., 705., 3 Ency. Brita., 3 Vol., 2, P., 170, Mekka, den Haag, 1888, Explorations, P. 720. 4 Richard Burton, Personal Narrative of a PilgTimage to El-Medina and Meecah, London, 1857, in two Vols. 5 Anne Blunt, A Pilgrimage to Najd, 2 Vols, London, 1883, The Bedouins of the Euphrates, London, 1879.

الصحراوية1. وقد اهتم خاصة بدراسة النواحي "الجيولوجية" والجغرافية للبلاد العربية، ودوّن ملاحظاته عن الظواهر الجوّية وتغيرات الجو ولم يغفل عن دراسة طبائع البدو وحياتهم الاجتماعية وطرق تفكيرهم وعقائدهم. وقد طبع كتابه، في سنة 1888، وترجم إلى بعض اللغات الأوروبية لأهميته2. ويعد هذا الرّحّالة من المتعصبين على الإسلام، وقد يكون لهذا التعصب سبب؛ فقد لاقى من الأعراب وأهل المدن شيئًا كثيرًا أثّر في نفسه، فصار يتحامل على المسلمين ويقسو في حكمه على الرسول؛ إلا أنه لم يتمكن مع ذلك من الغضّ من قيمة المبادئ الأخلاقية التي يتحلى بها. ومما لاحظه على البدو، عدم اهتامهم بعبادتهم كالصلوات الخمس والصوم، كما لاحظ من جهة أخرى أن الخوف من وجود إله يكاد يكون أعمق أثرًا في نفوس هؤلاء من الحضر. ولاحظ أيضًا أن جذور الوثنية القديمة لا تزال راسخة حتى الآن في نفوس الأعراب وأكثر سكان القرى والمدن، وقد أظهر هذا الرّحّالة ميلًا عظيمًا لدراسة حياة البدو وطرق معيشتهم، وهو يتشوق إلى الصحراء ويحنّ إليها حنين البدو، ويتجلى ذلك العطف في رحلته التي تعد من روائع الأدب الإنكليزي3. ورحل "ثيودور بنت" "Theodore bent" وزوجته إلى البحرين وجنوب الجزيرة العربية فزارا الأماكن الأثرية، وتحدثا عن بعض الخرائب الجاهلية والكتابات. وكانت زيارتهما للبحرين سنة 1889م. أما زيارتهما لمسقط وعمان وحضرموت، فكانت في هذه السنة ثم في سنين بعدها4. وتزيّا الرّحّالة الألماني "هاينرش فون مالتزن" "heinrich von maltzen" بزيّ حاجّ مغربي، وكان قد زار المغرب وتعلّم لهجة سكانه، وذهب إلى الحجاز وتظاهر هناك بأنه منهم، وبعد عودته من الحج وضع رحلته5.

_ 1 Travels in Arabia Deserta, Cambridge, 1888, in 2 Vols 2 Charlis M. Doughty, Die Offenbarung Arabiens, Paul List Verlag, Leipzig, 1937. Passage from Arabia Deserta, Selected by, Edward Garnett, London, 1949, Pfannmueller, S., 54 4 Th. Bent and Mrs Bent, Southern Arabia Sudan and Socotra, London, 1900 5 von Maltzen, Meiue Wallfart nach Mekka, Leipzig, 1865, Bd., 1, 2," bearbeitet von P. Gansberg, Braunschweig, 1919, Reise in Aratrien, Braunschweig, 1873, Bd,, 1, 2, Arabica, Parts 4 und 5, Leiden, 1896-1898

ومن الجوابين العلماء "يوليوس أويتنك Julius euting"، وقد اهتم خاصة بدراسة أحوال البدو، وكتب في الوهابيين والحركة الوهابية1. ومنهم الرّحّالة الجيكوسلوفاكي الأصل "ألويس موسل" "alois musil"، زار "العربية الحجرية" وكتب عدة كتب في وصف شمال الحجاز وبادية الشام ومنطقة الفرات الأوسط وتدمر ونجد، ووضع في نهاية كل كتاب من كتبه فصولًا علمية قيّمة فيها تحقيق تأريخي جليل2. وثمة جوّابون آخرون لا بد من ذكرهم مثل "جوسن" "antonine jausen"3 و "برونوف" "r. e. brtunnow" و "تشارلس هوبر" "charles huber" و "وبرترام توماس" الشاب الإنكليزي المستشرق الذي استطاع في شباط سنة 1929م أن يخترق لأول مرة "الربع الخالي" فكشف بذلك بقعة من أكبر البقاع المجهولة في بلاد العرب6. ويضارعه في مخاطراته هذه "فلبي" الذي أسلم فأطلق على نفسه "الحاج عبد الله فلبي". وقد ألف هذا الإنكليزي المستعرب عدة كتب بالإنكليزية وصف فيها أسفاره في بلاد العرب، وقد تهيأ له من الفرص ما لم يتهيّأ لأوروبي آخر؛ إذ كان من الملازمين للملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود والمقربين إليه. وقد مكث الرّحّالة الألماني "راتجن" "c. rathjens" بضع سنين في اليمن وكتب عنها، وجلب معه عدة كتابات يمانية قديمة إلى ألمانيا وضعت في "متحف الشعوب" في مدينة "هامبرغ"7.

_ 1 Julius Euting, Tagbuch einer Relse in Inner-Arabien, Leiden, 1896-1914, Bd., I. 2 The Northern Hegas, New York, 1926, Arabia Deserta, New York, 1927, t Palmyrena, New York, 1928, Northern Negd, New York, 1928, The Middle Euphrates, New York, 1927, In the Arabian Desert, New York, 1930. 3 Antonine Jausen, Countems des Arabes au Pays de Moab, Paris, 1908, Pfannmueller, x 8., 29, Hittl, P. 7. R.E. Bruennow und A.V. D omaszewski, Die Provincia Arabia, Strassburg, 1904-1909, 3 Baende. 4 Charles Huber, Voyage dans l'Arabie Centrale, Paris, 1885, Journal d'un Voyage t en Arabie, (1883-1884, Paris, 1891. 5 Arabia Felix, Across The Empty Quarter of Arabia, New York, 1932. 6 The Empty Quarter, 1988, The Background of Islam, 1947, وكتب كتبا أخرى 7 C. Rathjens und H. von Wissmann, Suedarabien-Reise, 3 Bd., Hamburg, 1934, Rathjens und von Wissmann, "Sanaa, Eine Stuedarabische Stadtlandschaft" In, Zeitschrift der GeselLsch. f. Erdk. zu

وقامت بعثة أمريكية عرفت بـ "المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان" "the American foundation for the study of man" برئاسة "وندل فيلبس" "wendell Phillips"، وضمت بعض العلماء الواقفين على تأريخ اليمن القديم مثل "إلبرايت" "dr. w. f. Albright" أستاذ الآثار في جامعة "جون هوبكنس" بالولايات المتحدة، وآخرين في مختلف الموضوعات؛ وذلك ما بين سنتي 1950-1952م بأعمال الحفر في منطقة "عدن" واليمن. وبالرغم من النهاية المحزنة التي انتهت أعمال البعثة إليها؛ فقد تمكنت من الحصول على نتائج حسنة جديدة لم تكن معروفة عن تأريخ مملكة قتبان وسبأ، وعادت ببعض الآثار1. وكانت في جملة ما درسته هذه البعثة نظم الري في مملكة "قتبان". ودراسة موضع "هجر بن حميد"؛ حيث عثرت على فخار ومواد أخرى يعود عهدها، كما يرى خبراء البعثة إلى ألفي سنة. ودراسة أخرى لمدينة "تمنه" عاصمة "قتبان" ولمعبدها الشهير ولبقايا مقبرتها، وعثرت على كتابات جديدة، وقدّرت سقوط تلك العاصمة وخرابها بسنة "25" قبل الميلاد2. وقامت هذه البعثة في سنة "1952" و "1953" للميلاد بأعمال الحفر في "ظفار" بعمان. ثم عادت فنقبت في هذه المنطقة في ابتداء سنة "1960"م؛ حيث كشفت عن بعض الخفايا من تأريخ هذه المنطقة التابعة لسلطنة عمان3. وقامت في سنة "1962"م بعثة أمريكية من المستشرقين الأميركان، لا علاقة لها بالبعثة المتقدمة بزيارة مواضع من المملكة العربية السعودية؛ فزارت "سكاكة" "سككه" والجوف وتيماء ومدائن صالح والعلا وتبوك، وظفرت بنماذج من فخار قديم، ونقلت صورًا لكتابات ثمودية ونبطية، أهمها الكتابات التي وجدتها في قمة "جبل غنيم" الذي يقع على مسافة ثمانية أميال من جنوب "تيماء".

_ 1 وقد ترجم كتاب "وندل فليبس" ونشر بعنوان: "كنوز مدينة بلقيس" ترجمة "عمر الديراوي" سنة 1961، وفي كتاب، ويا للأسف أغلاط كثيرة في تدوين الإعلام، زيد بن علي عنان: تأريخ اليمن القديم "وقد أولاني ثقته -حفظه الله- حين أرسلني مشرفًا على أعمال الحفر بمأرب الذي قامت به البعثة الأميركية المشئومة برئاسة وندل فيليبس، ذلك اللص النصاب الذي جنى على دعائم محرم بلقيس.. إلخ"، المقدمة، 2 Saenger, the Arabian Peninsula, P. 241. 3 BASOR., Num. 159 "1960", PP., 14

وهي، كما تقول البعثة، من أقدم الكتابات التي عثر عليها حتى الآن في العربية الشمالية. وكان "فلبي" قد استنسخها بيده، وتبيّن بعد مقارنة ما استنسخه فلبي بالصور "الفوتوغرافية" التي أخذتها البعثة أن في نقل "فلبي" أوهامًا عديدة. وفي جملة ما عثرت عليه البعثة صور نحتت على أحجار تمثل آلهة عربية قديمة1. وهناك طائفة أخرى من المستشرقين خدمت التأريخ العربي قبل الإسلام خدمة جليلة مهمة، هي طائفة أساتذة الجامعات وأصحاب التتبع والبحوث، استفادت من بحوث السياح ومن الموارد المذكورة التي تحدثت عنها عن مصادر التأريخ الجاهلي، ثم غربلتها ونقدتها وألفت منها مادة جديدة لتأريخ الجاهلية. ومن هؤلاء المستشرق: "بركر" "berger" مؤلف كتاب "جزيرة العرب قبل محمد في الآثار"، (L'Arabie Avant Mahomet d'apres les Inscriptions) , Paris 1885. والمستشرق "كوسان دي برسفال" العلامة الفرنسي صاحب كتاب "تأريخ العربي قبل الإسلام"2 (Essai sur I'Histoire des Arabes Avant l'ISIamisme) وهو من الكتب المفيدة. وقد جاء صاحبه بنتائج مهمة وبآراء صائبة في بعض الموضوعات؛ غير أن الكتاب أصبح قديمًا، وفيه نواقص كثيرة، وهو لا يتفق اليوم مع أساليب البحث الحديثة. وقد اعتمد مؤلفه على المصادر العربية ولا سيما كتاب "الأغاني" وعلى مصادر أخرى كانت معروفة في ذلك الوقت؛ غير أنه لم يتمكن من الوصول إلى مصادر كثيرة أخرى مهمة؛ لأنها لم تكن في متناول يده في ذلك العهد. وللمستشرق الإيطالي "كيتاني" "l. caetani" بحث جيّد في تأريخ العرب قبل الإسلام، جعله مقدمة لتأريخ الإسلام3. وهو على جهده في محاولة التعمق في فهم تأريخ الجاهلية والإسلام، لا يخلو من هفوات ومن تغلب العاطفة عليه، ولا سيما في القسم الخاص بتأريخ الإسلام. وممن كتب في حياة العرب قبل الإسلام المستشرق "أوليري delacy o'leary"،

_ 1 BASOR., Num 168, 1962, P., 9. 2 Paris, 1847-1848, Reprinted, 1902, in 3 Vols. 3 Annali Deil'lslam, by Leone Caetani, Principe di Teano, Vol., I, Milano, 1905, Studi dl Storia Orientate, Milano, 1911.

صاحب كتاب "البلاد العربية قبل محمد"1. وقد تحدث فيه عن صلات العرب بالمصريين فالأشوريين إلى زمن ظهور الإسلام، وهو لا يخلو أيضًا من هفوات. وقد صار قديمًا. والمستشرق "تشارلس فورستر" "charles forster"، وله كتاب مفيد "وإن أصبح قديمًا جدًّا" في تأريخ بلاد العرب القديمة وجغرافيتها ويستند في أكثر أبحاثه كأغلب معاصريه إلى نظريات التوراة2. وقد كتب المستشرق الألماني "أوتو ويبر" "otto weber" رسالة صغيرة في حالة العرب قبل الإسلام3. وقد كتب المستشرقون الذين عنوا بالسيرة النبوية وبالتأريخ الإسلامي عامة فصولًا تمهيدية في حالة العرب قبل الإسلام، تعرضوا فيها لمختلف النواحي التأريخية، وهي مفيدة للاطّلاع على أحوال الجاهلية. وهناك من كتب في موضوع خاص من التأريخ الجاهلي كالمستشرق "رينه دوسو"؛ فقد وضع كتابًا في "العرب في الشام قبل الإسلام"4. والمستشرق الألماني "ثيودور نولدكه"، وله كتاب في "تأريخ الفرس والعرب في عهد الساسانيين"5، وكتاب آخر في "أمراء غسان"6. وللمستشرق "روتشتاين" "Rothstein" كتاب "تأريخ أسرة اللخميين في الحميرة"7، وهو من الكتب المهمة التي جمعت شيئًا كثيرًا من أخبار هذه الأسرة. وقد استعان مؤلفه بالمصادر العربية والسريانية واليونانية، ولا يخلو على كل حال من الضعف في بعض مواضعه. ويضاف إلى كل ذلك ما كتبه بعض المستشرقين في الحالة الدينية عند العرب قبل الإسلام، وأهمها كتاب "بركمن" "bergmann" في أديان العرب في الجاهلية8، والفصل الذي كتبه المستشرق "أرنست أسيندر" "Ernst osiander"

_ 1 O'Leary, Arabia, before Muhamraed, London, 1927. 1 Charles Forster, The Historical Geography of Arabia, London, MDCCCXLIV, 2 Vols. 3 Arabien vor dem Islam, 1904. 4 Les Arabes avant 1'Islam en Syrie.y 5 Geschichte der Perser und Araber zur Zeit der Sassaniden, 1879. 6 Die Ghassanidischen Fuersten aus dem Hause Gafna's, Berlin, 1887, 7 Die Dynastie der Lachmiden in al-Hira, Berlin, 1899. 8 De Religione Arabum anteislamica.

في ديانة العرب قبل الإسلام، في مجلة الجمعية الآسيوية الألمانية1. وقد بحث هذا المستشرق في ديانة العرب قبل الإسلام بحثًا عميقًا، وهو أول مستشرق درس هذا الموضوع بعد "بوكوك" "pococke" الذي كان أقدم مَن درس الوثنية عند العرب دراسة تفصيلية مستقلة في كتاب المطبوع سنة 1649 للميلاد2. وقد تطرق "أسيندر" لعبادة النجوم عند العرب وعبادة الأصنام والأماكن المقدسة في جنوبي بلاد العرب وعبادة الأصنام في الحجاز ونجد، وتوصل إلى أن العرب عبدوا النجوم في بادئ الأمر، ثم تطورت الفكرة الدينية عندهم، وبالرغم من ذلك ظلّت عقدة عبادة النجوم راسخة في أدمغتهم. وجاء المستشرق "لودولف كريل" "ludolf krehl"؛ فأحيا هذه الدراسة مرة ثانية بكتابه "بحث عن ديانة العرب قبل الإسلام"3، وطرق موضوعات لم يتمكن من سبقه من البحث فيها. وقد ذهب إلى أن العرب القدماء كانوا من الموحدين في الأصل؛ غير أنهم تركوا التوحيد بعدئذ، وعمدوا إلى عبادة النجوم والأصنام فالأحجار والأشجار، وبذلك انحطت الحالة الدينية عندهم، وفي القرن السادس تأثروا بالديانة اليهودية والنصرانية في الأماكن التي حدث فيها اتصال بهاتين الديانتين. وأهم ما ألف في الوثنية عند العرب قبل الإسلام، كتاب المستشرق الألماني "ولهوزن" الذي سماه: "بقايا الوثنية العربية"4. وقد بحث في نواحٍ مختلفة من نواحي الحياة الدينية عند عرب الجاهلية وفي الأصنام؛ فجمع ما لم يتمكن من جمعه في هذا الباب أحد من المستشرقين قبله، واتبع أسلوب المقابلة والنقد في البحث. هذا ولا بد من الإشارة إلى مجهود عدد من العلماء تخصصوا بالعربيات وعالجوا نواحي عديدة من دراسات الجاهلية، ومنهم "فرتز هومل" "fritz hommel" صاحب المؤلفات والبحوث الكثيرة، والدراسات القيّمة في تأريخ اليمن والعرب

_ 1 Sludien ber die vorislaraische Religion der Araber, in: Zeitachrift der Deutchen Morgenlaendischen Gesellschaft, 7, 1853. 2 Specimen Historiae Arabum, Oxford, 1649. 3 Ueber die Religion der vorislamischen Araber, Leipzig, 1863- 4 Reste arabischen Heidentums, Berlin, 187., 2 Ausgabe 1929

الجنوبيين، وفي ترجمة الكتابات المعينية والسبئية والحضرموتية والقتبانية والحميرية، وفي الدراسات اللغوية. وهو في مقدمة من وضع أسس الدراسات العربية الجنوبية ومهد الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين. و"رودوكناكس"1 "mikolaus rhodokanakis"، وهو صاحب جملة مؤلفات في شرح وحلّ النصوص العربية الجنوبية، و"دتلف نيلسن" "detlief Nielsen" الدانماركي من الباحثين في الكتابات العربية الجنوبية وفي الحضارة العربية، والتأريخ العربي قبل الإسلام2. كذلك خصص "موردتمن" "j. h. mordtmann" و "داؤو هاندش ميلر" "d.h. Mueller"، و "ميتوخ" "eugen mittwoch"، و "فون فزمن" "von wissmann"، و "بيستن" "c.f.l. beeston"، و "كونتي روسيني" "c.conti Rossini"، و "فنت" "f.v. winnett"، و "ركمنس" "c.ryckmanns"، و"كروهمن" "A. grohmann"، و "ملاكر" "k. mlaker"، و "أغناطيوس كويدي" و"هربرت كريمه" "herbert grimme" و "أنوليتمن" و "إلبرايت"، وغيرهم قسطًًا من بحوثهم في العربيات الجنوبية، فساعدوا بذلك على تقديم مادة غنية للمؤرخين والباحثين، وعلى تحسين معارفنا في اللهجات العربية وقواعدها وفي تأريخ الجاهلية3. هذا، ولا بد لي أيضًا من الإشارة إلى جهود مستشرقين محدثين قصروا عملهم على البحوث العربية الجنوبية، وصرفوا وقتهم في دراستها، وألّفوا وكتبوا فيها، ونشروا بحوثهم في المجلات، ونشروا نشرًا جديدًا نصوصًا سبق أن نشرت، وبعثوا الحياة في نصوص لم تكن معروفة فعرفت. ومن هؤلاء: "فون وزمن" "h.von wissmann". و "ريكمنس" "j.ryckmans"، وهو صاحب

_ 1 Nikolaus Rhodokanakis: Katabanische Texte zur Bodenwirtschaft, 2 Hefte, Studien \ zur Lexikographie und Grammatik des Altsuedarabischen, Der Grundsatz der Offentlichkeit in den Sudarabischen, Urkunden, 1914. 2 Handbuch der Altarabischen Altertumskunde, Bd, 1, Hamburg, 1927. 3 للاطلاع على المؤلفات التي تعرضت لأسفار السياح في جزيرة العرب، يستحسن الرجوع إلى الكتب التي ألفت في هذا الموضوع باللغات الأوروبية، ومنها: Hilprecht: Explorations in Bible Land during' the 19th Century, Edinburgh, 1903, Ency. Brita.,' Vol., 2, P., 169. ff

بحوث وتحقيقات في نشر الكتابات والتعليق عليها وعلى أيام الملوك. و "إلبريت" "w.f.albright" العالم الآثاري الأمريكي الذي ذكرته قبل قليل. و "الأب جامة" "a. jamme" الذي رافق البعثة الأمريكية لدراسة الإنسان، والخبير بقراءة النصوص وبعيين زمان كتابتها، وناشر جملة كتابات عثرت عليها البعثة المذكورة. و"مارية هوفنر" "m,hofner"و "بيرين" "j. pirenne" و "بيستن" "a. f. l. beeston" وغيرهم، ممن جاءوا ببحوث قيمة جديدة وما زالوا يبحثون في التأريخ الجاهلي1. هذا، وسوف يكون لدراسة علماء الآثار للآثار التي عثر وسيعثر عليها من ناحية علم الآثار، وكذلك تطور الخطوط ومقارنة الكتابات بعضها ببعض لمعرفة زمانها وتحليل الآثار ودراستها بالمختبرات وبطرق "الفحص" الكاربوني" وبما شاكل ذلك من طرق تعد اليوم حديثة، شأن كبير في الكشف عن التأريخ الجاهلي، وتقريبه من الواقع، وتضييق شقق الخلاف التي نراها بين العلماء في عمر الدول وفي حكم الملوك وأمثال ذلك من أمور هي اليوم في موضع اهتمام الباحثين في تأريخ الجاهلية. هذا وأودّ أن أشير هنا إلى أمر يتعلق بالكتابات الجاهلية، هو أن غالبية من عالجها وترجمها اعتمد في الغالب على العبرانية وعلى السريانية في الترجمة، ولهذا لم يوفّقوا في ترجمتهم توفيقًا كبيرًا، وأعتقد أن دراسة اللهجات العربية لقبائل اليمن وبقية العربية الجنوبية وجمع معاني مفرداتها، تفيد كثيرًا في تفسير كتابات المسند وشرحها مثلًا؛ لأن كثيرًا من هذه المفردات ما زال مستعملًا استعمال القدماء له؛ ولكن مثل هذه الدراسات لم تتم بشكل علمي منظم منسق حتى الآن ويا للأسف. ورجائي أن يأتي يوم يقوم فيه المتخصصون من العرب بدراسة تلك اللهجات وتثبيتها بصورة علمية ووضع معجمات بألفاظها، فإن في هذا العمل خدمة كبيرة للتراث العربي القديم. وقد قام المستشرقون بنصيبهم في كتابة تأريخ الجاهلية، فهم يستحقون على عملهم هذا كل شكر وثناء، مهما وقع في دراستهم من قوة وضعف، وغرض ونيّة، فهم قد قاموا بعمل، وقد أفادونا في عملهم هذا ولو بعض الفائدة،

_ 1 E. Wright, The Bible and the Ancient Near East, Essays in Honor of William Foxwell Albright, New

فعلينا ألّا ننكر فضل الناس، وإذا كان هناك شيء من خطأ أو نيّة سيئة؛ فعلينا يقع واجب تصحيحه وبيان مواطن سوء النيّة، فهم غرباء، ونحن حملة هذا التأريخ وأصحابه. وعلينا وحدنا يقع واجب تدوينه وانتزاعه من باطن الأرض، والبحث في كل زاوية ومكان لإيجاد مورد جديد نضيفه إلى الموارد الموجودة. وعلى الحكومات العربية واجب إتمام العمل، وتيسير الوسائل التي توصل الباحثين إلى الأماكن التي يقصدها العلماء وحمايتهم ورعايتهم، وواجب إعداد طائفة من المنقبين العرب للقيام بهذه المهمة والإنفاق عليهم بسخاء، وإنشاء متاحف تحفظ فيها العاديات، ومنع الناس من التجاوز والتطاول على الأماكن الآثارية، ومن أحق بالمحافظة على تراث البلاد من أبنائها؟.

الفصل الرابع: جزيرة العرب

الفصل الرابع: جزيرة العرب مدخل ... الفصل الرابع: جزيرة العرب ليس بين أشباه الجزر شبه جزيرة تنيف على شبه جزيرة العرب في المساحة؛ فهي أكبر شبه جزيرة في العالم. ويطلق العلماء العرب عليها تجوّزًا اسم "جزيرة العرب"1. تحيط بها المياه من أطرافها الثلاثة، ومع ذلك لم يستطع الجو البحري أن يخفف من حدة الحرارة فيها، ويتغلب على جفافها، والأبخرة المتصاعدة من البحر لا تتمكن أن تصل إلى أواسط بلاد العرب؛ لإنزال رحمتها عليها. فإن الرياح السمائهم، وهي ذات الحر الشديد النافذ في المسام، تتلقى الرطوبة التي تنبعث من البحار بوجه كالح عبوس، ومقاومة تسلبها قوتها، وتنتزع الرطوبة منها، وتمنعها في الغالب من الوصول إلى أواسط الجزيرة. يحدّ جزيرة العرب من الشرق الخليج العربي المعروف عند اليونان باسم "الخليج الفارسي" "sinus persicus"، وما زال يعرف بهذه التسمية المأخوذة عن اليونانية في المؤلفات المعاصرة. أما قدماء أهل العراق؛ فقد عرف عندهم ب"البحر الجنوبي" و "البحر الأسفل" و "البحر التحتاني" "lower sea"2، وبـ "البحر الذي تشرق منه الشمس" و" بحر الشروق" "sea of the rising sun"

_ 1 الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص47، وسيكون رمزه: صفة، الألوسي: بلوغ الأرب "1/ 184 وما بعدها"، معجم البلدان "3/ 100" وسيكون رمزه بـ "البلدان"، L.D. Stamp, Asia, an Economic and Regional Geography, P., 133. "البلدان" 2 Ancient Iraq, by Georges Roux, London 1964, P., 29

وب "البحر المر" و "البحر المالح" و "نار مرتو" "nar marrtu" في الأشورية1. ويحدها من الجنوب المحيط الهندي، وقد أطلق بعض الكتبة اليونان واللاتين على القسم المتصل منه بسواحل جزيرة العرب الجنوبية والملاصق لسواحل إفريقية الشرقية المقابلة لهذه السواحل اسم "البحر الأريتري" "mare erythraeum". أما "بطلميوس" فقد أطلق على الماء المحصور بين عمان وحضرموت اسم "خليج سخاليته" "sinus sachalites"، وأطلق على القسم الغربي الباقي اسم "بحر ربرم"2 "mare rubrum" "rubri maris"أي البحر الأحمر. وقد قصد الإغريق واللاتين بـ "mare rubrum" في الغالب البحر الأحمر الحالي والبحر العربي والخليج العربي؛ بل حتى المحيط الهندي، فهم يتوسعون في هذا الإطلاق كثيرًا3. أما حدّها الغربي، فهو البحر الأحمر كما يسمى في الخارطات الحديثة المعروف باسم "الخليج العربي" "sinus arabicus" في الخارطات اليونانية واللاتينية، وبـ "بحر القلزم" في الكتب العربية4. أما العبرانيون، فقد أطلقوا عليه "هـ - يام" "هايم" "أليم"، ومعناه اللغوي "البحر" من "يم" "يام" بمعنى "بحر" و "ها" أداة التعريف التي هي في مقام "ال" في العبرانية، وذلك بصورة عامة، و "يام سوف yam suph" بصورة خاصة، وبـ "سوف" و "سوفة" أحيانًا5. وقد فسّر "البيضاوي" لفظة "الميم"، الواردة في القرآن الكريم بهذا البحر، أي البحر الأحمر6. وقد أريد بـ "mare erythraeum" وبـ "mare rubrum" أيضاً7. وشكل البحر الأحمر، شكل يلفت النظر، يظهر وكأنه خسط منظم ممتد من الشمال نحو الجنوب على هيئة ثعبان منتصب ذي قرنين. أما باقي جسمه؛ فإنه

_ 1 Ancient Iraq, P. 247. 2 راجع الخارطات اليونانية واللاتينية الموضوعة في هذا الباب. 3 Quintus Curtius, I, P. 75 4 راجع الخارطات اليونانية واللاتينية، بلوغ الأرب "1/ 184 فما بعدها". 5 "سوف" في اللغة العبرانية، بمعنى أعشاب ضارة، حشائش ودغل. 6 تفسير البيضاوي "7/ 132، 341" Smith, A Dictionary of the Bidle Comprising Its Antiquities, Biography, 6 تفسير البيضاوي "7/ 132، 341". 7 Smith, vol. 1. P. 1009.

البحر العربي. أما هذا الثعبان؛ فقد كان أرضًا في الأصل، خسفت على هذه الصورة في الزمن الثالث من الأزمنة الجيلوجية1، فابتعدت بذلك بلاد العرب عن إفريقية، إلا من ناحية الشمال، حتى لا تكون هناك قطيعة تامة، وارتفعت بذلك السواحل الغربية؛ نتيجة انخساف الأرض، فسالت إلى الأرض المنخسفة مياه البحر العربي، ولو تم الخسف، وامتدّ إلى "طور سيناء" فشطرها، لما كانت هناك حاجة إلى قيام الإنسان فيما بعد بإتمام العمل الذي لم تكمله الطبيعة، وهو إيصال البحر الأحمر إلى البحر الأبيض بقناة السويس. وهناك من يرى أن البحر الأحمر كان بحيرة في الأصل، وكانت إفريقية والعربية الجنوبية قطعة واحدة عند جنوب هذه البحيرة، أي عند ما يسمى بـ "مضيق باب المندب" في الزمن الحاضر؛ ولكن خسفًا وقع، أدى إلى انفصال إفريقية عن العربية الجنوبية الغربية؛ فاتصل المحيط الهندي بالبحيرة، وتكوّن البحر الأحمر. وقد كان الناس قبل وقوع هذا الانفصال يتنقلون برًّا وكأن إفريقية وجزيرة العرب قطعة أرض واحدة، ومن هنا كانت الهجرات. أما خليج العقبة؛ فقد عُرف بـ "خليج أيلة" وبـ "خليج الأيلانيين"، "sinus aelanites" "sinus aelaniticus" في الكتب الكلاسيكية، نسبة إلى مدينة "أيلة" المسماة "إيلات" "elath" و "أيلوت" eloth عند العبرانيين. وهي مدينة مهمة من مدن "أدوم" "الأدوميين"1. وأما "خليج السويس" فقد عرف بـ "sinus heroopolites" "sinus heroopoliticus" عند اليونان واللاتين2. ويحصن مناطق واسعة من ساحل جزيرة العرب على البحر الأحمر صخور مرجانية تفتك بالسفن التي تتجاسر فتقترب منها، نبتت في تلك المواضع لتحمي الساحل من وصول الأجانب إليه. ولكنها أضرت سكانه من ناحية أخرى؛ إذ جعلت الملاحة صعبة في هذه الأماكن، فقللت بذلك الاستفادة من الاتجار بالبحر، وقللت أيضا من عدد الموانئ الصالحة لرسو السفن على هذا الساحل. وهناك جزر متفرقة تقابل الساحل، أكثرها مهجور، وبعضها قليل السكان، ومعظمهم خليط

_ 1 بروكلمن: تأريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة الدكتور نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي "طبعة دار العلم للملايين"، الجزء الأول "ص10". 2 Hastings, P. 211, Smith, vol. 1 1009

من دم إفريقي أسود ومن عرب، عاشوا في الجاهلية وفي الإسلام على التعرض للسفن بالغزو وعلى الصيد. ويرى بعض الباحثين أن البحر الأحمر لم يكن وحده نتيجة خسف أصاب بلاد العرب ففصلها عن إفريقية إلا من جهة "طور سيناء"؛ بل إن سواحل بلاد العرب الأخرى، أي السواحل الجنوبية والسواحل الشرقية، تعرضت هي أيضًا لهزّات عديدة، فخسفت في مواضع عديدة مثل "عدن"؛ حيث تكوّن خليج عدن، ومثل الخليج العربي، وكانت هذه الهزات والتصدعات استجابة لتصدع واهتزازات حدثت في الشمال على مقربة من حدود بلاد الشام؛ فامتدت إلى وادي الأردن والبحر الميت فوادي عربة إلى خليج العقبة. وهكذا تعرضت جزيرة العرب في عصور سحيقة في القدم قبل الميلاد لهزات وتحركات أرضية، حتى جعلتها على الشكل الذي نراه عليه الآن1. وحدّها الشمالي خط وهمي يمتد في اصطلاح العلماء العرب من خليج العقبة حتى مصبّ شط العرب في الخليج العربي؛ فيكون النفود الشمالي من الحدود التي تفصل الهلال الخصيب عن جزيرة العرب. أما من الناحية "الجيلوجية"، فإن باطن الهلال وحدة لا يستطاع فصلها عن تربة الجزيرة، وجزء لا يختلف من حيث طبيعته الصحراوية وخواصه عن سائر أنحاء بلاد العرب. وأما من الناحية التأريخية، فإن هذا الخط الوهمي المتصور، هو وهم وخطأ، فقد سكن العرب في شمال هذا الخط قبل الميلاد بمئات السنين. سكنوا في العراق من ضفة نهر الفرات الغربية، وامتدوا في البادية حتى بلغوا أطراف الشام. وسكنوا في فلسطين وطور سيناء، حتى بلغوا ضفاف النيل الشرقية. وهي أرضون أدخلها الكتبة القدامى من يونان ولاتين وعبرانيين وسريان في جملة مساكن العرب ودعوها بـ "العربية" وبـ "بلاد العرب"؛ لأن أغلب سكانها كانوا من العرب2، حتى ذهب بعض علماء "التوراة"، إلى أن "بلاد العرب" في التوراة، هي مواطن "الإسماعيليين ishmaelite" و "القطوريين keturaean"، أي البوادي التي نزلت بها القبائل المنتسبة إلى "إسماعيل" و "قطورة". وهي

_ 1 B.R. 527 (Restricted) , Geographical Handbook, Series for Official use only, Western Arabia and the Red Sea, June 1946, Naval Intelligence Division, PP., 11 2 O'Leary, Arabia before Muhammad, P., 5.

قبائل بدوية، كانت على اتصال بالعبرانيين، وهي بوادٍ تقع شمال جزيرة العرب وفي الأقسام الشمالية منها1. أما "أريي"، أي "العربية" في النصوص الأشورية، و"ماتو أريي" "matu a-ra-bi"، أي "أرض العرب" و "بلاد العرب" في النصوص البابلية، و "أربايا" "arabaya" "arpaya" في النصوص الفارسية، "بيث عرباية" "beth' arabaya" في الإرمية؛ فإنها كلها تعني البادية الواسعة التي تفصل العراق عن بلاد الشام. أما حدودها الجنوبية، فلم تحددها النصوص المذكورة2. ولكننا نستطيع أن نقول أن امتدادها كان يتوقف على مبلغ علم تلك الشعوب بالعرب، وعلى المدى الذي وصل إليه تعاملهم في بلاد العرب. فبلاد العرب أو "أرض العرب" "مت أربي" "mat arabi" "mat aribi" هي بادية الشأم أيضًا، وهي كل الأرضين التي تحدها جبال "الأمانوس" "amanus" في الشمال، أي الأرضين التي تقع في جنوبها وكل شبه جزيرة سيناء عند "بلينيوس"3 "plinius". فهن إذن أوسع جدًا مما تصوره علماء الجغرافيا المسلمون لجزيرة العرب. وإذا نظرنا نظرة عامة إلى خارطة جزيرة العرب، تيسطر على السواحل الضيقة، وتكوّن سلاسل من المرتفعات متصلًا بعضها ببعض، تمتد من بلاد الشأم إلى اليمن، ويقال لهذه المرتفعات جبال "السّراة"4. وهي توازي ساحل البحر الأحمر، وتقترب منه في مواضع عديدة ويبلغ متوسط ارتفاعها زهاء خمسة آلاف قدم. أما أقصى ارتفاع لها، فيبلغ زهاء 12.326 قدمًا، وهو في اليمن5. وأما الأرضون المحصورة بين هذه السلسة وساحل البحر؛ فإنها ضيقة، تسيطر عليها هذه المرتفعات، وتنحدر إليها انحدرًا شديدًا قصيرًا. وسواحلها

_ 1 Hastings, A Dictionary of the Bible, Vol., 1, P., 585. 2 Encyclopaedia Biblica, Vol., I, Col., 273. 3 Pliny, Nat. Hist, VI, 142. f., A. Grohmann, Arabien, S., 3. 4السراة: أعلى كل شيء، وهنالك مواضع عديدة يقال لها سراة مضافة إلى القبائل، تاج العروس "10/ 174"، البلدان "5/ 59". 5 C. Rathjens und H. von Wissman: Suedarabische Reise, Hamburg, 1934, Bd., Ill, S-, 2, Ency. Brit., Vol.,2,P., 169

المهيمنة على البحر، صخرية في أغلب الأحيان، يصعب رسو السفن فيها1. وطالما تحطمت عليها السفن المنكوبة، فتكون طعامًا للبحر، وللأعراب الساكنين على السواحل؛ فيكون من ينجو بنفسه من أصحاب تلك السفن وما يتبقّى من حطامها ملكًا لأولئك الساكنين بحسب عرف أهل ذلك الزمان وعاداتهم. أما الانحدار إلى البحر العربي والخليج العربي، فإنه يكون تدريجيًا وطويلًا ولذلك تكون الأقسام الغربية من جزيرة العرب أعلى من الأقسام الشرقية. وتتألف الأرضون الوسطى من هضبة تُدعى "نجدًا"، يبلغ متوسط ارتفاعها زهاء 2500 قدم. وتمتد في الأقسام الجنوبية من الجزيرة سلاسل من الجبال، يتفاوت ارتفاعها، تسيطر على المنخفضات الساحلية، وعلى ما يليها من أرضين من جهة البرّ، وتتصل هذه بسلسلة جبال اليمن، وتكثر فيها الأودية التي تفصل بين السلاسل، وتأخذ مختلف الاتجاهات من الشمال الشرقي أو من الشمال الغربي إلى سواحل البحر؛ حيث تمثل اتجاهات المياه والسيول2. ويكون أعلى ارتفاع لسلسلة الجبال الجنوبية في أقصى الجنوب الشرقي من الجزيرة، أي في عمان؛ حيث يبلغ ارتفاع الجبل الأخضر زهاء عشرة آلاف قدم3. وتتكون أغلب الأرضين في جزيرة العرب من بوادٍ وسهول، تغلبت عليها الطبيعة الصحراوية؛ لكن قسمًا كبيرًا منها يمكن إصلاحه إذا ما تعهدته يد الإنسان، واستخدمت في إصلاحه الوسائل العلمية الحديثة. وأما الأرضون الصالحة للزراعة، فإنها تزرع فعلًا لوجود المياه فيها. أما الأرضون التي تعدّ اليوم من المجموعة الصحراوية، فهي:

_ 1 Hitti, P., 14. 2 Ency. Brit., Vol., 2, P., 169. 3 Ency. Brit., Vol., 2, P., 169, Hitti, P., 14.

الحرار، أو الأرضون البركانية

1- الحِرار، أو الأرضون البركانية: وقد تكوّنت بفعل البراكين، ويشاهد منها نوعان: نوع يتألف من فجوات البراكينن نفسها، ونوع تكوّن من حممها "اللابة" lava التي كانت تقذفها، فتسيل إلى الأطراف ثم تبرد وتتفتت بفعل التقلبات الجوية، فتكون ركامًا من الحجارة البركانية يغطي الأرض بطبقات، قد تكون سميكة، وقد تكون رقيقة، تتبعثر فيظهر من خلال فجواتها وجه الأرض الأصلية.

وفي مثل هذه الأرضين يصعب السير؛ لانتشار الحجارة ذات الرءوس الحادة فيها، وتقل الاستفادة منها، فتتحول شيئًا فشيئًا إلى مناطق صحراوية، والسائر اليوم في منطقة "اللجاة" في جنوب شرقي دمشق، يلاحظ الطريق الذي سلكته الحمم المقذوفة1. وقد وصف العلماء العرب الحِرار، فقالوا2: الحَرَّة أرض ذات حجارة سُود نخرة، كأنها أحرقت بالنار، ويكون ما تحتها أرضًا غليظة، من قاع ليس بأسود، وإنما سوّدها كثرة حجارتها، وتدانيها. وتكون الحرة مستديرة، فإذا فيها شيء مستطيل ليس بواسع، فذلك الكراع، واللّابة واللوبة ما اشتد سواده وغلظ وانقاد على وجه الأرض3. فيظهر من هذا أن "الحرار" هي أفواه البراكين؛ ولذلك تكون مستديرة. وأما اللّابة أو اللوبة، فإنها المناطق التي غطتها حمم البراكين، وسالت فوقها، ثم جفت. وأما الكراع، فإنها أعناق الحرار4.

_ 1 Moritz, Arabien, Studien zur physikalischen und Historischen Geographie des Landes, Hannover, 1923, S, 12 l. وسيكون رمزه: moritz "اللجاة اسم للحرة السوداء التي بأرض صلخد من نواحي الشأم، فيها قرى ومزارع وعمارة واسعة"، والبلدان "7/ 323". 2 البلدان "3/ 356"، تاج العروس "3/ 135"، ويقال للحرة المنعزلة في الرمال "بسقه"، الطبري "3/ 221"، وللنهير الذي يسيل من الحرار "شرج" و "شراج"، وأحيانًا "سواقي"، البلاذري: الفتوح "12"، المراصد "2/ 175"، المفضليات "ص245، 415". 3 لسان العرب "2/ 242"، "لوآبة" "لابة ولوبة"، المفضليات "ص245، 415"، البلدان "3/ 357"، ويقال "حرة سوداء"، الطبري "2/ 959"، وجاء أيضًا "حرة رجلاء"، صفة ص205، وقد علل الهمداني ذلك بقوله "سميت الحرة الرجلاء لأنها ترجل سالكها، ولا يقدر فيها على الركوب"، صفة ص205، راجع كذلك معلقة الحارث، بيت 38، وجاء "حرة سوداء"، mortiz s, 11 وجاء كذلك"حامية"، والظاهر أنها من ألفاظ العوام. وقد كتب العلماء في "الحرار"، كتبًا، مثل "كتاب الحرة" المنسوب إلى أبي عبد الله محمد الغلابي، "الفهرست ص108"، و"كتاب الحرات" لأبي عبيدة "الفهرست ص59"، "طبعة أوربة" "80" طبعة المطبعة الرحمانية، لسان العرب "2/ 242"، وورد أيضًا "لابة سوداء"، "لوابة" و"لوبة"، ابن سعد، الطبقات "1/ 2، 25"، Mortz, S. 12, Anm. 1, Loth in ZDMG, 22, 365-382 4 لسان العرب "2/ 242"، "10/ 182"، القاموس "3/ 78".

وتكثر الحرار في الأقسام الغربية من جزيرة العرب، وتمتد حتى تتصل بالحرار التي في بلاد الشام، في منطقة حوران، ولا سيما في الصفاة1، وتوجد في المناطق الوسطى، وفي المناطق الشرقية الجنوبية من نجد حيث تتجه نحو الشرق، وفي المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية؛ حيث تلاحظ الحجارة البركانية على مقربة من باب المندب وعند عدن2. وقد ذكر علماء العرب أسماء عدد منها3، كما أضاف إليها السياح أسماء عدد آخر عثروا عليها في مناطق نائية4. وقد وردت في الشعر الجاهلي إشارات إليها. وكانت إحدى الحرار، وهي "حرة النار" في عهد الخليفة عمر لا تزال ثائرة تخرج النار منها5. وقد ذكر أن سحب الدخان كانت تخرج في عهد الخليفة عثمان من بعض الجبال القريبة من المدينة6. وهذا يدل على أن فعل البراكين في جزيرة العرب، لم يكن قد انقطع انقطاعًا تامًا، وأن باطن الأرض، كان ما زال قلقًا، لم يهدأ. وكان آخر حدث بركاني في الحجاز في سنة 654 للهجرة "1256م"؛ إذ ثارت إحدى الحرّات في شرقي المدينة، واستمر هيجانها بضعة أسابيع، وقد وصل ما سال من حممها إلى مسافة بضعة كيلومترات فقط من المدينة التي كان نجاتها من الأعاجيب7. وكان أواخر القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر الميلاديين عهد زلازل وثوران براكين في مناطق آسية الغربية8. ومنذ القرن الثالث عشر الميلادي، لم يبقَ أثر لفعل البراكين في مختلف أنحاء بلاد العرب9. وقد تركت الأصوات المزعجة، و "الصيحات" المرعبة، والنيران التي كانت ترى من مسافات بعيدة، وسحب الدخان التي كانت ترتفع من أجواف

_ 1 MoriU, S-, 12, Chr. Phllps Grant, The Syrian Desert, London, 1937, P., 122, Alioa \ MusU, In the Arabian Desert, New York, 1930, PP., 3, 21. 2 Ency. Brit., Vol., 2, P., 174 3 البلدان "2/ 259" "مطبعة السعادة 1906"، "حرة أشجع" الإصابة "1/ 467". 3 Doughty, Arabia Deserta, 2, 618. f. 5 البلدان "3/ 261"، mortiz, s, 13 6 الطبري "1/ 298" "الطبعة الأوروبية"، 7 Moritz, S., 13. v 8 Moritz, S., 14. s 9 Moritz, S., 19.

الأرض، و "البريق" الذي كان يظهر من الحرار، مثل حرّة "القوس" التي قيل أنها كانت ترى كأنها حريق مشعل1، و "حرة لبن" التي كان يخرج منها ما يشبه البرق، ويسمع منها أصوات كأنها صياح2، هذه كلها تركت صورًا مرعبة في نفوس الجاهليين، تتجلى في القصص المروية عنها، وفي عقائدهم بتلك النيران. ولعل قوة نيران "حرة ضَرْوان" وشدة قذفها للحمم وارتفاع لهيبها، هي التي دفعت أهل اليمن إلى التعبد لها والتحاكم إليها؛ فقد كانوا يذهبون إليها ليتحاكموا عندها فيما يحدث عندهم من خلاف، والرأي عندهم أن النار تخرج فتأكل الظالم وتنصف المظلوم. وقد كانت حرة نشطة عاشت أمدًا طويلًا كما يظهر من وصف "الهمداني" وغيرها لها، وصلت حممها إلى مسافات بعيدة عن الحرة3. وقد تسببت أكثر هذه الحرار في هلاك كثير ممن كان يسكن في جوارها وفي هجرة الناس من الأرضين التي ظهرت بها، فتحولت إلى مناطق خاوية خالية. وقد وجد السياح أرضين شاسعة واسعة أصيبت بالحرار، وتأثرت بفعل "اللابة": التي سالت عليها. وللناس الحق كل الحق في إرجاع أسباب هلاك أصحابها إلى العذاب الذي نزل بهم بانفجار الأرض وبخروج النيران منها تلتهم الساكنين عندها. وقد جهلوا أن هذه النيران المتقدة الصاعدة والروائح الكريهة المنبعثة عنها، هي من فعل العوامل الأرضية الداخلية التي تعمل سرا في بطن الأرض. وكثرة الحرار في جزيرة العرب، وانتشارها في مواضع متعددة منها؛ دليل على أن باطنها كان قد تعرض لامتحانات عسيرة قاسية، ولتقلبات كثيرة ولضغط شديد في المناطق الشمالية والغربية والجنوبية، وقد ظهر أثر ذلك الضغط في وجهها فبان اليوم وكأنه حب الجُدَرِيّ، ويتحدث عن ذلك المرض القديم.

_ 1 قال عرعرة النميري: بحرة القوس وجنبي محفل ... بين ذراه كالحريق المشعل البلدان "3/ 259". 2 "لبن"، بضم اللام وتسكين الباء الموحدة، قال الشاعر: بحرة لبن يبرق جانباها ... ركود ما تهد من الصياح البلدان "3/ 260". 3 الإكليل"1/ 33".

وقد اشتهرت بعض مناطق الحرار بالخصب والنماء وبكثرة المياه فيها، ولا سيما حرار الحجاز التي استُغلت استغلالًا جيّدًا، ومنها "خيبر"، التي مُيّزت على سائر القرى، فقيل عنها إنها "خير قرى عربية"1؛ غير أن ظهور العيون فيها بكثرة، جعلها موطناً من مواطن الحمّى، اشتهر أمرها في الحجاز حتى قيل: "حمى خيبر"2. واستفاد الجاهليون من الحرار باستخراج الأحجار منها، كأحجار الرحى والمعادن، فكانت موطنًا من مواطن التعدين القديمة فيها3. ويدرس علماء طبقات الأرض بعناية بلاغة توزيع الحرار في جزيرة العرب، وتقصي أنواع الحجارة التي يكثر وجودها مثل الحجارة الكلسية والغرانيتية والرملية وتوزّعها، والينابيع الحارة في الأحساء4، لما في هذه الدراسات من أهمية بالنسبة إلى اكتشاف الموارد الطبيعية، والثروات الكامنة في الأرض. ويظن أن فعل البراكين كان له أثر خطير في العصور ال "أيوسينية" "eocene"؛ إذ ثارت براكين عديدة في جزيرة العرب وفي الحبشة وفي السواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب. وقد أثرت هذه البراكين بالطبع في شكل الأرضين التي ثارت فيها وفي شكل الأرضين القريبة منها، وقد ظهرت براكين فعّالة نشيطة في العصور "البليوسينية" "pliocene" أيضًا، أثرت كذلك في شكل سطح الأرض، بأن أحدثت فيها تضاريس، لا تزال آثارها تشاهد حتى الآن5. وفي جزيرة العرب عيون وينابيع، تخرج منها مياه حارة؛ ففي عسير وفي الحجاز وفي اليمن وفي حضرموت وعمان والأحساء والهفوف وفي مواضع أخرى

_ 1 "خير قرى عربية خيبر"، ابن سعد، الطبقات "1/ 50" "قسم 2" zwemer, arabia, p, 23, mortiz, s, 12 2 كأن به -إذ جئته- خيبرة ... يعود عليه وردها وملالها قلت لحمى خيبر: استعدي ... هاك عيالي فاجهدي وجدي وباكري يصالب وورد ... أعانك الله على ذا الجند البلدان "3/ 497"، الحماسة "طبعة فرايتاك" "ص64"، صفة 118، نقائض جرير 620. 3 مثل حرة سليم، وحرة الرفاع على ساحل البحر الأحمر شمالي غربي ينبع، البلدان "3/ 258"، "8/ 526"، تاج العروس "3/ 635" 4 ENcy. Brit. Vol. 2, P. 174. 5 Naval, PP., 19.

غيرها، مواضع تخرج منها مياه حارة كبريتية في الأكثر، ويستشفي بمياهها الناس بالاستحمام. وانتشارها على هذه الصورة وبهذه الكثرة يلفت النظر، وهي من آثار التقلبات الجوفية التي حدثت في جزيرة العرب منذ القدم1.

_ 1 Naval, P. 21

الدهناء

2- الدهناء: وهي مساحات من الأرضين تعلوها رمال حمر في الغالب، تمتد من النفود في الشمال إلى حضرموت ومهرة في الجنوب، واليمن في الغرب، وعمان في الشرق1. وفيها سلاسل من التلال الرملية ذات ارتفاعات مختلفة، تنتقل في الغالب مع الرياح، وتغطي مساحات واسعة من الأرض2. ويمكن العثور على المياه في قيعانها إذا حفرت فيها الآبار3. وقد أشير إلى الدهناء في بيت شعر للأعشى هذا نصه: يمرون بالدهناء خفافًا عيابهم ... ويرجعن من دارين بُجر الحقائب4 وقد تصل الأمطار الموسمية إلى بعض أجزاء "الدهناء" فتنبت فيها الأعشاب؛ ولكن عمرها فيها قصير؛ إذ سرعان ما تجف وتموت. وقد هجر الناس السكنى في أكثر أقسام الدهناء، لجفاف أكثر أقسام هذه المنطقة الصحراوية الواسعة، وخلوها من الماء والمراعي، ولكثرة هبوب العواصف الرملية فيها، ولشدة حرارتها التي يصعب احتمالها في أثناء النهار، وأقاموا في الأمكنة المرتفعة منها، التي تتوافر فيها المياه، وتتساقط عليها الأمطار، فتنبت الأعشاب، وينتجعها الأعراب. أما الأقسام الجنوبية من الدهناء فيسميها الجغرافيون المحدثون

_ 1 "الدهناء" بفتح أوله وسكون ثانية ونون وألف تمد وتقصر، البلدان "4/ 115 وما بعدها". 2 Ency. Vol. 1, P. 893, Ency. Vrit. Vol. 2, p. 173 Hitti p. 15. 3 Handbook of Arabia, vol. 1, P. 11 4 الألوسي، تأريخ نجد، تحقيق الأستاذ محمد بهجت الأثري، المطبعة السلفية القاهرة 1347 "ص30".

"الربع الخالي"1 "the empty quarter"، لخلوها من الناس، وكانت تعرف بـ "مفازة صيهد"2. وقد تمكن السائح الإنكليزي "برترام توماس bertram thomas" من اجتيازها في "58" يومًا، وهو عمل مجهد شاق؛ فكان أول أوروبي جَرُؤ على اجتياز هذه الأرض3. ويطلق على القسم الغربي من الدهناء اسم "الأحقاف" وهو منطقة واسعة من الرمال بها كثبان اقترن اسمها باسم "عاد". {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} 4. وكشف "برترام توماس" في الربع الخالي بحيرة من المياه الملحة، وبقايا حيوانات مبعثرة، وتبين لدى العلماء أن هذه البحيرة كانت من متفرعات الخليج العربي، وأن من المحتمل أن هذه الأرضين التي تكثر فيها رواسب قيعان البحر، قد كانت في عهدها من المناطق البحرية التي تغمرها مياه المحيط، كما عثر فيه على آثار جاهلية لم يعرف من أمرها شيء حتى الآن5، يظهر أنها لأقوام كانت تستوطن هذه المناطق أيام كانت ذات مياه صالحة للإنبات والخصب. وما زالت حتى اليوم تعد أرضًا مجهولة، وإن تحسنت معارفنا عنها كثيرًا، بفضل بعض موظفي شركات البترول والباحثين عن المعادن في مختلف أنحاء الجزيرة. وستأتي الاكتشافات الجديدة لها بمعارف قيمة عن تأريخ العرب قبل الإسلام من غير شك. وتكو "وبار" قسمًا من الدهناء، وكانت من الأرضين المشهورة بالخصب والنماء، وهي اليوم من المناطق الصحراوية، وبها آثار القرى القديمة التي كانت كثيرة قبل الإسلام. والظاهر أنها كانت مواطن الرباريين، وهم الذين دعاهم

_ 1Terra Incognita, Hitti, P., 15, Ency., Vol., 1, P., 895, Philby, The Empty Quarter, London, 1933, Bertram Thomas, Arabia Fllix, P., XXiii, 180, Philby, In the Geographical Journal, "The Empty Quarter", 81, "1933", 1-26. 2 Ency., Vol., 1, P., 370, Moritz, S., 15.،"صفة 214، البلدان "5/ 419" 3 Ency., Vol., 1, P., 183, Handbook of Arabia, Vol., 1, P., 11 Bertram Thomas Arabia Felix, Across the Empty Quarteer of Arabia, London, 1932, The Geographical Journal, Across the Empty Quarter, III, "1948", 1-21, Also "A Further Journey Across the Empty Quarter", CXIII, "1949", 12-45. 4 سورة الأحقاف، السورة 46 أية21 5 Arabia Felix, PP., 180, Ency. Brit., Vol., 2, P., 173.

"بطلميوس" "jobaritai" الذين سأتحدث عنهم1. وفي الجهة الشمالية الشرقية من وبار، رمال "يبرين"، وكانت من المناطق المأهولة كذلك، ثم دخلها الخراب2.

_ 1 البلدان "8/ 392"، Phiby, the Empty Quarter, PP. 157, Ency, vol. 1, p. 370 vol. 4, P. 1073. 2 البلدان "6/ 99"، صفة "ص 51، 84، 137، 149، 155، 165". Ency., vol., 1, p, 370

النفود

3- النفود: أما النفود، وهو اسم لم يكن يعرفه العرب1؛ فهي صحراء واسعة ذات رمال بيض أو حمر تذروها الرياح فتكون كثبانًا مرتفعة، وسلاسل رملية متموجة، تبتدئ من واحة "تيماء"، وتمتد إلى مسافة 450 كيلومترًا تقريبًا نحو الشرق، ويبلغ امتدادها من الجوف إلى جبل شمر زهاء 250 كيلومترًا تقريبًا. وقد عرفت أيضًا بـ "الدهناء" وبـ "رملة عالج"، ثم تغلب عليها اسم "النفود" وصارت تعرف به2. وتعد النفود من الأماكن المائلة أو المنحدرة، ويظهر من القباسات "وإن كانت قليلة جدًا"، إن المنطقة الشرقية من النفود أوطأ من مستوى المنطقة الغربية عند خط طول "27" درجة و "30" دقيقة، بما يزيد على 150 مترًا، أي أن هذه البادية مرتفعة في الغرب، آخذة في الانخفاض والميل في الشرق3. وقد نتج عن هذا الميل والانحدار المتوالي أن الرمال التي كانت الرياح الشمالية أو الشمالية الغربية تحملها، تراكمت في المنخفض؛ فأصبحت الحدود الغربية والشرقية لهذه المنطقة مرتفعة بالنسبة إليها؛ بحيث صار "الحماد" يشرف عليها إشرافًا تامًا4. ويغطي وجه "النفود"، كثبان من الرمال متموجة يبلغ ارتفاع بعضها

_ 1 فجر الإسلام "1/ 1". 2 "رمل عالج" باللام المكسورة والجيم، "رملة عالج"، البلدان "6/ 96"، Moritz, S. 15, Handbook of Arabia, vol. P. 11. 3 Ency Brit, vol, 2, P. 173, Moritz, S. 15, Musil, in the Arabian Desert PP. 124. 4 Moritz, S.,15.

زهاء "150" مترًا، ولذلك لا يعد سطح بادية النفود سطحًا مستويًا منبسطًا. وتأخذ هذه المرتفعات مختلف الأشكال، فتكون في أغلب الأحيان على شكل نعل الفرس، ويكون اتجاهها من الغرب نحو الشرق، وتكون أبعادها وأعماقها مختلفة، وتسمى "القعور". وقد تركت أثرًا عميقًا في مخيلة المسافرين ورجال القوافل1. وبعد الأشتية الممطرة تتحول هذه المنطقة الرملية الموحشة إلى جنة حقيقية فتظهر الرمال وكأنها قد فرشت ببسط خضر، ويزينها الزهر والشقائق ومختلف الأعشاب الصحراوية، وينتجعها الأعراب للرعي. وقد تنمو فيها النباتات المرتفعة ذات السيقان القوية كبعض أنواع "الغَضَي"؛ فتكون أدغالًا يحتطب منها البدو، وقد يحرقونها لاستخراج الفحم منها2. وهذه الأعشاب والنباتات، لا تظهر إلا في المنطقة ذات الرمال الحمر "نفود سمرًا". أما النفود البيضاء المؤلفة من رمال نشأت من تفتت أحجار" الكوارتز" فإنها في أكثر الأماكن غير منبتة3. ولكن هذه الجنة الأرضية جنة قصيرة العمر، لا يدوم عمرها إلا أسابيع قليلة، ثم يحلّ بها الجفاف، وتهب السمائم، فتقضي على كل ما نبت في هذه البادية، فتبدو كالحة عابسة مزعجة منفّرة، وكأن إنسانًا كنس وجهها كنسًا أزال عنه كل أثر لذلك الجمال. وتهب في شهر نيسان رياح حارة من الشرق والجنوب، ورياح في شهور الصيف تحرق البادية حرقًا، حتى تغدو وكأنها جحيم4. وفي العربية ألفاظ عديدة لها صلة بالبوادي، كثرت وتعددت لاتصال حياة العرب بها، منها ما لها علاقة بشكل البادية وظاهر وجهها، ومنها ما لها علاقة بطبيعتها وبتركيبها، إلى غير ذلك من مصطلحات، نشأ بعضها من تعدد لهجات العرب ولغاتها؛ إذ تسمى قبيلة البادية باسم ربما لا تعرفه قبيلة أخرى، وهكذا تنوعت التسميات.

_ 1 Eufing, in "Zeitschr. der Ges. fue Erdkunde zu Berlin" No. 5, Tagebuch, 1, 144. 2 Moritz, S., 16. 3 Moritz, S., 16. f., A Blunt, Pilgrimage to Nejd, 2, 55. 4 Handbook of Arabia Vol., r, P., 12, Moritz, S., 17.

خاصة، وصيرت معظم أهلها بدوًا بالرغم منهم، فأقول لك: إن الرأي المنتشر أن هذه الصحاري تكوّنت من تفتت الأحجار الرملية بتأثير الرياح والجفاف فيها1. ويؤيد وجود مثل هذه الأحجار في الشمال الغربي من بلاد العرب هذا الرأي كثيرًا، ويظهر أنه رأي علمي ينطبق على بعض الصحاري انطباقًا كبيرًا، غير أنه لا يحل مشكلة مصدر الرمل الأحمر المتكوّن من أحجار غير رملية الذي يغطي مساحات واسعة من صحراء النفود، بينما الرمل الناشيء من الأحجار الرملية لا يغطي إلّا مساحات ضيقة بالنسبة إلى المناطق الأخرى. وهذا يدل دلالة صريحة على أن رمال "النفود" لم تتكون من تفتت الأحجار الرملية حسب، بل من عوامل أخرى كالتقلبات الجوية وتأثيرها في قشرة الأرض2. يكون ظاهر التربة الأجرد معرضًا لحرارة الشمس والتغيرات الجوية مباشرة؛ إذ لا أشجار تحميه، ولا أعشاب تحافظ على تماسك ذراته وحفظها من تلك التغيرات. فإذا انقطعت الأمطار، جفت التربة، فتفتتت تدريجيًّا، وتستطيع الرياح أن تعبث فيها بكل سهولة، وتتمكن الرياح التي سرعتها 18 كيلومتر في الساعة من إثارة الطبقات الرملية الخفيفة والأتربة الباقية المبعثرة على سطح الأرض. وإذا هبت الرياح بسرعة 33 كيلومترًا في الساعة، امتلأ الجو بالغبار، فإذا ازدادت السرعة، استحالت إلى عواصف تؤثر تأثيرًا كبيرًا في سطح الأرض فتحمل ما عليه من أتربة، وتعرض الطبقات السفلى التي كانت تحت هذه الأتربة لفعل الجو المباشر؛ ليحدث لها ما حدث في الطبقة التي كانت فوقها، وهكذا تتحول هذه المناطق إلى صحاري، وتتكون الرمال حينئذ من التربة المتفتتة لا من تهشم الأحجار الرملية أو الكلسية وحدها3. وتهب مثل هذه الرياح في الشمال الغربي من جزيرة العرب من نهاية شهر "آذار" مارس حتى نهاية شهر "أيار" مايس، وتهب في أغلب الأحيان هبوبًا فجائيًّا، وتستمر يومين أو ثلاثة أيام، وتنتهي في بعض الأحيان برعد

_ 1 Moritz, S. 17. 2 المصدر نفسه 3 Moritz, S., 17, Arabia Deserta, Vol., 2, P., 656.

وبرق. وعند حدوث هذه الزوابع يغبر الأفق ويكفهر وجه السماء، ثم تهب بعد لحظات عواصف شديدة وأعاصير، تضفي على الجو لونًا قاتمًا، وأحيانًا مائلًا إلى الصفرة أو الحمرة بحسب لون الرمال التي تحملها الرياح، وتختفي الشمس، وتؤثر هذه "العجاجة" في النبات والأشجار تأثيرًا كبيرًا. وإذا استمرت مدة طويلة، سببت تلف قسم كبير من المزروعات في الأماكن المزروعة1. وقد أشار الكتّاب اليونان والرومان إلى البادية كما عرفها العبرانيون. ولكلمة "حويلة havilah"، ومن معانيها الأرض الرملية2، أي تخم بني إسماعيل -وأولادهم وهم البدو- ولهذا المدلول علاقة كبيرة بمعنى صحراء3. وقد ذهب بعض علماء التوراة إلى أنها تعني النفود4. وتفصل العراق عن بلاد الشام بادية واسعة، تُعرف بـ "بادية الشام" أو "البادية"، أو "خساف"، ويقال للقسم الجنوبي منها -وهو القسم الذي بين الكوفة والسماوة من جهة، وبينها وبين الشام من جهة أخرى- "بادية السماوة"5، ويسميها العامة "الحماد" أو "حماد"6.

_ 1 Moritz, S. 17. Moritz. S. 17, Diodorus, 2, 54, Strabo. XVI, 3. 3 التكوين، الإصحاح الثاني، الآية 11، الإصحاح العاشر الآية 7، الإصحاح 25، الآية 18. 4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 398"، Hastinga, P. 333, Ency. Bibl. P. 1974, Glaser, skizze, 2, S. 323 E. Meyer, Geshuchte des Alterthums, Bd., 1, S., 224 Delitzsch, Wo lag des Paradies? 5 البلدان "3/ 436"، "5/ 120". 6 Handbook of Arabia, 1, P. 12, Ency. Brit, vol 2, P. 173. 7 البلدان "4/ 14"، القاموس المحيط "2/ 21"، "كتاب الدارات" للاصمعي بعناية "أوغست هفنر"، في مجلة المشرق، السنة الأولى، الجزء الأول سنة 1898 ص 24 وما بعدها.

مصدر الصحاري

مصدر الصحاري: وإذا سألتني عن مصدر هذه الصحاري المزعجة التي وسمت جزيرة العرب بسمة

الدارات

الدارات: وفي بلاد العرب "الدارات"، والدارة: كل جوبة بين جبال في حزن كان ذلك أو سهل أو رمل مستدير، في وسطه فجوة, وهي الدورة، وتجمع الدارة على دارات1. فهي أرض سهلة ليّنة بيض في أكثر الأحيان، وتنبت فيها

_ 1 البلدان "4/ 14"، القاموس المحيط "2/ 21"، "كتاب الدارات" للأصمعي بعناية "أوغست هفنر"، في مجلة المشرق، السنة الأولى، الجزء الأول سنة 1898 ص24 ما بعدها.

الأعشاب والصليان والنباتات الصحراوية1، ويبلغ عددها زهاء عشر دارات ومائة2. ولبعض هذه الدارات شهرة؛ إذ وردت أسماؤهم في الشعر الجاهلي والإسلامي، مثل "دارة جلجل"، التي ورد ذكرها في شعر امرئ القيس الكندي3. و"دارة الآرام" وكانت مملوءة من شقائق النعمان، كما جاء ذلك في شعر برج بن خنزير المازني الذي كلفه الحجاج بن يوسف حرب الخوارج4.

_ 1 البلدان "4/ 14". 2 القاموس المحيط "2/ 21"، البلدان "4/ 14". 3 البلدان "4/ 16"، مجلة المشرق العدد المذكور ص 26. 4 فأبرق وأرعد لي إذا العيس خلفت ... بنا دارة أرام ذات الشقائق البلدان "4/ 15" المشرق، العدد المذكور "ص26"

الجبال

الجبال: تكون سلسلة جبال السَّرات العمود الفقري لجزيرة العرب، وتتصل فقراته بسلسلة جبال بلاد الشام المشرفة على البادية، المتحكمة فيها تحكم الجنود في القلاع. وبعض قمم هذه السلسلة مرتفعة، وقد تتساقط الثلوج عليها كجبل دباغ الذي يرتفع "2.200" متر عن سطح البحر1، وجبل وثر وجبل شيبان. وتنخفض هذه السلسلة عند دنوها من مكة، فتكون القمم في أوطأ ارتفاع، ثم تعود بعد ذلك إلى العلو حيث تصل إلى مستوى عالٍ في اليمن حيث تتساقط الثلوج على قمم بعض الجبال2. وتمتد في محاذاة السواحل الجنوبية سلاسل جبلية تتفرع من جبال اليمن، ثم تتجه نحو الشرق إلى أرض عمان؛ حيث ترتفع قمم الجبل الأخضر ارتفاعًا يتراوح من تسعة آلاف قدم إلى عشرة آلاف قدم3. وتتخلل هذه السلاسل الجنوبية أودية تمثل اتجاه مسايل الأمطار إلى البحر. وتفصل بين البحر والسلاسل الجبلية سهول ساحلية ضيقة في الغالب، ربما لا تتجاوز خمسة عشر ميلًا عن سواحل البحر الأحمر4. وتكون هذه السواحل

_ 1 Mortiz S, 5 f 2 الواسعي، تأريخ اليمن، ص80، حتى 21 "الترجمة العربية". 3 Ency. Brit, vol. 2, P. 169 4 Ency. Brit. Vol. 2, P. 169

حارة رطبة في الغالب، يتضايق منها الإنسان، وتكون غير صحية في بعض الأماكن. ويطلق على بعض أقسام التهائم "الغو" و "السافلة"؛ لانخفاض بقاعها. وقد ذهب بعض العلماء إلى إطلاق تهامة على طول الأغوار الساحلية الممتدة من شبه جزيرة سيناء وبحرالقلزم إلى الجنوب1. وسأتحدث عنها فيما بعد. وتكون هذه السلاسل مانعًا -للأبخرة المتصاعدة من البحر الأحمر والبحر العربي- من وقوع الأمطار في أواسط بلاد العرب وفيما وراء السفوح الشرقية للسّراة والسفوح الشمالية للسلاسل الجبلية الجنوبية، لذلك كثرت الأودية القصيرة التي تسيل فيها المياه في هذه المناطق، وزادت فيها إمكانيات الخصب والزراعة عن البقاع التي وراء السَّراة حتى الخليج. وفي نجد، وهي هضبة يبلغ ارتفاعها زهاء 2500قدم، ومنطقة جبلية تتكون من "الغرانيت"، يقال لها جبل "شمر"، وهي من مواضع "طيء" التي اشتهر أمرها قبل الإسلام اشتهارًا كبيرًا، وقد عرفت قديمًا بجبلَيْ طيء. وتتألف من سلسلتين، يقال لإحداهما أجأ، وللأخرى سلمى2. وهناك منابع عديدة للمياه في شعاب هذه السلسلة وفي السهل الكبير المنبسط بينهما. ويمكن الحصول على المياه فيها بوفرة تحت طبقات الرمال والصخور3. وأما جبل "طويق" فهو مرتفعات تقع في الوسط الشرقي من نجد وفي جنوب شرقي الرياض، وتتألف من الحجارة الرملية وتحيط بها الصخور والحجارة الكلسية، وتدل البحوث على أن من الصخور والموارد البركانية ما قذفته البراكين إلى هذه الجهات4.

_ 1 البلدان "2/ 426"،"6/ 311" صفة "ص54، 119 وما بعدها، بلوغ الأرب "1/ 188". 2 تاريخ نجد، للألوسي "ص21". Moritz, s, 6, handbook, vol., 1, p., 13 3 وهبة ص 63. 4 moritz, s, 6.

الأنهار والأودية

الأنهار والأودية: ليس في جزيرة العرب أنهار كبيرة بالمعنى المعروف من لفظة نهر مثل نهر دجلة أو الفرات أو النيل؛ بل فيها أنهار صغيرة أو جعافر. وهي لذلك تعد في جملة الأرضين التي تقل فيها الأنهار والبحيرات، وفي جملة البلاد التي يتغلب

عليها الجفاف. ويقل فيها سقوط الأمطار، ولذلك أصبحت أكثر بقاعها صحراوية قليلة السكان؛ غير أنها كثيرة الأودية، تطغى عليها السيول عند سقوط الأمطار، فتصير وكأنها طاغية مزبدة. وهي في الغالب طويلة، تسير في اتجاه ميل الأرض. أما الأودية التي تصب في البحر الأحمر أو في البحر العربي، فإنها قصيرة بعض الشيء، وذات مجرى أعمق، وانحدار أشد، والمياه تسيل فيها بسرعة فتجرف ما يعترضها من عوائق، وتنحدر هذه السيول إلى البحر فتضيع فيه، ومن الممكن الاستفادة منها في الأغراض الزراعية والصناعية. وقد تكون السيول خطرًا يهدد القوافل والمدن والأملاك، ويأتي على الناس بأفدح الخسائر1. وفي كتب المؤلفين الإسلاميين إشارات إلى سيول عارمة جارفة، أضرت بالمدن والقرى والمزارع وبالقوافل والناس؛ إذ كانت قوية مكنتها من جرف الأبنية والناس، ومن إغراقهم حتى ذكر أن خراب عاصمة اليمامة القديمة كان بفعل السيل، وأن كثيرًا من المزارع والأموال هلكت وتلفت بفعل لعب السيول بها لعبًا لم تتحمله؛ فهلكت من هذا المزاح الثقيل2. وليس في استطاعة أحد التحدث عن ملاحة بالمعنى المفهوم من الملاحة في نهيرات حزيرة العرب، وذلك لأن هذه النهيرات إما قصيرة سريعة الجريان منحدرة انحدارًا شديدًا، وإما ضحلة تجف مياها في بعض المواسم فلا تصلح في كلتا الحالتين للملاحة. وهي أيضًا شحيحة بالثروة الحيوانية، وليس فيها إلا مقادير قليلة من الأسماك. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن كثيرًا من أودية جزيرة العرب كانت أنهارًا في يوم من الأيام. واستدلوا على ذلك بوجود ترسبات في هذه الأودية، هي من نوع الترسبات التي تكون في العادة في قيعان الأنهار، ومن عثور السياح على عاديات وآثار سكن على حافات الأودية. ومن نصّ بعض الكتبة "الكلاسيكيين" على وجود أنهار في جزيرة العرب؛ فقد ذكر "هيرودوتس" نهرًا سماه "كورس" زعم أنه نهر كبير عظيم، يصب في "البحر الأريتوي"، ويقصد به البحر الأحمر، وزعم أن العرب يذكرون أن ملكهم كان قد علم ثلاثة أنابيب صنعها

_ 1 فتوح البلدان للبلاذري، الفصل الذي عقده لأخبار السيول، الطبري والأزرقي في أخبار السيول. 2 NAVAL. PP,. 24.

من جلود الثيران وغيرها من الحيوانات، امتدت من هذا النهر إلى البادية مسيرة اثني عشر يومًا، حملت الماء من النهر إلى مواضع منقورة، نقرت لخزن المياه الآتية من ذلك النهر فيها1. وهناك موضع على مقربة من ساحل البحر الأحمر اسمه "قرح"2 على مسافة 43 كيلومترًا من "الحجر" في مكان يمر به خط الحديد الحجازي في منطقة صحراوية، وكان في الأزمنة السابقة من المحلات المزروعة، وبه بساتين عدة تعرف بـ "بساتين قرح"، وعلى مقربة منها "سقيا يزيد" أو "قصر عنتر" "إسطبل عنتر"، كما تعرف به في الزمن الحاضر على بعد 98 كيلومترًا من المدينة. وإلى شماله "وادي الحمض" الذي يرى بعض العلماء أنه المكان الذي أراده "هيرودوتس"3. وذكر "بطلميوس" نهرًا عظيمًا سماه "لار" lar، زعم أنه ينبع من منطقة "نجران"، أي من الجانب الشرقي من السلسلة الجبلية، ثم يسير نحو الجهة الشمالية الشرقية مخترقًا بلاد العرب حيث يصب في الخليج العربي4. ولا يعرف من أمر هذا النهر شيء في الزمن الحاضر. ولعله كان واديًا من الأودية التي كانت تسيل فيها المياه في بعض المواسم، أو كان بقايا نهر، أثرت في مياهه عوامل الجفاف. ويرى "موريتس" أن هذا النهر الذي أشار إليه "بطلميوس"، هو وادي الدواسر، الذي يمس حافة الربع الخالي عند نقطة تبعد زهاء خمسين ميلًا من جنوب السليل، وتمده بعض الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول5، وتغيض مياهه في الرمال في مواضع عديدة، فتكون بعض الواحات التي يستقى منها، ويزرع عليها. ويلاحظ وجود مياه غزيرة في واديه، في مواضع لا تبعد كثيرًا عن القشرة. وهذا مما

_ 1 Herodotus, vol. 1, P. 214, Bertram Thomas, The Arabs, P. 350 2 البكري 787، المقدسي 83، 98، 112، "قرح" بالضم ثم السكون، البلدان "7/ 48" وكانت من أسواق العرب في الجاهلية، وزعم بعضهم أن بها كان هلاك عاد قوم هود، مما يدل على أنها من المواضع القديمة في بلاد العرب. 3 "إصطبل عنتر"، وهبه ص20، والظاهر أنها كانت تعرف بـ "سقيا"، وهي من المواضع الجاهلية القديمة، البلدان "5/ 94". 4 mortiz, s, 21. 5 وهبه 54، الألوسي، تأريخ نجد "ص29".

يحمل على الاعتقاد بوجود مجاري أرضية تحت سطح الوادي، وأنه كان في يوم ما نهرًا من الأنهار؛ غير أننا لا نستطيع أن نتكهّن في أمر هذا الوادي أكان نهرًا جاريًا في زمن بطلميوس كما أشار إلى ذلك، أو كان واديًا رطب القيعان لم تكن عوامل الجفاف قد أثرت فيه أثرها في الزمن الحاضر. لذلك كانت تمكث فيه السيول والأمطار المتساقطة على السفوح الشرقية لجبال اليمن مدة أطول مما هي عليه الآن1. والرأي عندي أن هذه الأنهار وأمثالها التي يشير إليها المؤلفون اليونان والرومان، لم تكن في الواقع وبالنسبة إلى ذلك الزمن إلّا سيولًا عارمة جارفة سمعوا بأخبارها من تجارهم ومن بعض رجالهم الذين كُتب لهم الذهاب إلى بلاد العرب أو اتصلوا بالعرب، فظنوا أنها أنهار عظيمة على نحو ما ذكروه. فلا يعقل وجود الأنهار الكبيرة في ذلك الزمن؛ إذ كان الجفاف قد أثر تأثيره في إقليم جزيرة العرب قبل ذلك بأمد طويل، فلا مجال لبقاء أنهار على النحو الذي يذكره أولئك الكتّاب. وينطبق هذا الاحتمال على الأودية الأخرى، وهي كما قلت كثيرة، ومنها وادي الرمة ووادي الحمض، ويعد هذان الواديان من الأودية الجافة، إلا في مواسم الأمطار الشديدة حيث تصب السيول فيهما، غير أن لها مجاري أرضية، تشير إلى تلك الحقيقة، ويمكن الحصول على المياه فيهما بحفر الآبار على أعماق ليست بعيدة عن السطح. وقد تظهر على سطح الأرض في بعض المحال، وربما كانا قبل آلاف السنين أنهارًا تجري فيها المياه، فتروي ما عليها من أرضين2. يتكون "وادي الرمة" عند "حرة خيبر" أو "حرة فدك"3 من التقاء بضعة أودية ممتدة من الشمال على ارتفاع ستة آلاف قدم، ثم تتجه بعد ذلك نحو الشرق ثم تأخذ اتجاهًا جنوبيًّا شرقيًّا حيث تتصل بـ "الجرير" أو "الجريب" كما كان يعرف سابقًا4، وهو من أوسع فروع وادي الرمة. ويتجه هذا الوادي

_ 1Moritz. S. 21 2 Motitz, S. 21, Phllby, in the Geogr. Journ, cxiii, "1949" 86. 3 ويقال له "بطن الرمة" بضم الراء وتشديد الميم، وقد يقال بالتخفيف، البلدان "2/ 219"، "ومنها وادي القصيم، المسمى وادي الرمة" تأريخ نجد، للألوسي "ص29". 4 "الجريب" بالفتح ثم الكسر، البلدان "3/ 91"، mortiz, s, 23.

نحو الشرق حيث يصل إلى "بريدة"، ثم ينعطف نحو الشمال الشرقي فالشرق إلى "القصيم" حيث يسمى بعد ذلك "الباطن" "البطن" ثم يتفرع إلى فرعين يخترقان منطقة صحراوية، ويسير أحدهما في "النفود" حيث يتصل بالدهناء إلى أن يبلغ موضعًا قرب البصرة1. ويبلغ طول هذا الوادي زهاء 950 كيلومترًا أو أكثر2. وأما مبدأ وادي الحمض أو وادي إضم كما كان يسمى قديمًا، فمن جنوب حرّة خيبر، ثم يتجه نحو الجنوب الغربي إلى أن يصل إلى يثرب حيث تتصل به أودية فرعية أخرى، منها "وادي العقيق"، ويتصل به كذلك "وداي القرى"، ويستمد مياهه من السيول التي تنحدر إليه من الجبال من العيون التي عند خيبر حيث يصب في البحر الأحمر في جنوب قرية الوجه. وعند هذا المصب بقايا قرية يونانية قديمة، وبقايا معبد يعرف عند الأهلين "كصر كريم"3، وهو من مخلفات المستعمرات اليونانية القديمة التي كان الملاحون والتجار اليونانيون قد أقاموها عند ساحل البحر الأحمر لحماية سفنهم من القرصان. وللاتجار مع الأعراب، ولتموين رجال القوافل البحرية بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. ويعتقد "موريتس" أن هذا الموضع هو محل مدينة "لويكه كومة" "leuke kome" المشهورة التي وصل إليها "أوليوس كالوس" لما همَّ بفتح اليمن4، على حين يرى آخرون أن هذه المدينة هي في المحل المعروفة باسم "الحوراء". ويبلغ طول وادي الحمض زهاء 900 كيلومتر5.

_ 1 "البطن" "بطن الرمة"، البلدان "2/ 219"، صفة 144 2 وهبه ص2، "القصيم"، بالفتح ثم الكسر على "فعيل" قال الأصمعي: "وأسافل الرمة تنتهي إلى القصيم"، البلدان "7/ 116"، "بطن" الحماسة "فرايتاك" 608، صفة 144، الدينوري: الأخبار، 160، 258، ويرى "موريتس" احتمال كون نهر "بيشون pischon" الذي هو أحد أنهار الجنة الأربعة في التوراة هو وادي الرمة، Mortiz, s, 23. handbook of arabia, vol, 1, p, 10 3 "أضم" بالكسر ثم الفتح وميم، قال ابن السكيت: أضم وأد يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر، البلدان "1/ 281"، وادي "الحمض"، البلدان "3/ 342". 4 mortiz, s, 24, pauly-wissowa, leuke koms. 5 "الحوراء" بالفتح والمد، كانت بها أثار خرائب قديمة حتى أيام ياقوت الحموي وكانت قد هجرت في أيامه، وكانت ميناء المصريين إلى المدينة، البلدان "3/ 359" Mortiz, s, 21

وهناك "وادي حنيفة"، وهو الأودية المهمة كذلك، يبتدئ من غرب "جبل طويق" ثم يتجه نحو الشرق نحو الخليج العربي. وهو مهم، ويمكن الحصول على المياه فيه بطريقة حفر الآبار؛ لأن الماء غير بعيد عن قاعه. وأما عند هُطول الأمطار، فإن المياه تجري إليه من السفوح فتسيل فيه1. ولقلة المياه في بلاد العرب، انحصرت الزراعة فيها في الأماكن التي حبتها الطبيعة بمواسم تتساقط فيها الأمطار مثل العربية الجنوبية، وفي الأماكن التي ظهرت فيها عيون وينابيع، مثل وادي القرى في الحجاز، والأحساء على الخليج العربي. وفي الأودية والأماكان التي تكثر فيها المياه الجوفية؛ حيث استنبطت المياه منها بحفر الآبار. والزراعة في هذه الأماكن -باستثناء العربية الجنوبية- هي زراعة محدودة، حدودها ضيقة، وآفاقها غير بعيدة، وناتجها قليل لا يكفي لإعاشة كل السكان. وقد لزمت سكان الأرضين التي تغيث السماء أرضهم، بإنزال الغيث عليها، الاستفادة من الأمطار المنهمرة، بحصرها وتوجيهها إلى مخازن تخزنها لوقت الحاجة، وذلك بإنشاء السدود وإقامة خزانات ذوات أبواب تفتح وتغلق لتوجيه المياه الوجهة التي يريدها الإنسان. وقد أقيمت هذه السدود في مواضع متناثرة من جزيرة العرب، خاصة في الأماكن التي يركبها المطر مثل العربية الجنوبية والعربية الغربية. وتشاهد اليوم آثار سدود جاهلية استعملها الجاهليون للاستفادة من مياه الأمطار. ولما كانت الأمطار رحمة ونعمة كبرى، إذا انحبست نفقت إبل العرب ومواشيهم، صار انحباسها نقمة وهلاكًا، وعدّوا انحباسها عنهم غضبًا من الآلهة ينزل بهم، ولهذا كان الجاهليون يتضرعون على آلهتهم ويتقربون إليها، أن تنزل عليهم الغيث، ولهم في ذلك صلوات وأدعية للاستسقاء سيأتي الحديث عنها في باب الدين عند الجاهلين. وعلى خلاف العيون الحارة التي هي من آثار التفاعلات البركانية والتفاعلات الباطنية الكيمياوية، فإن في بلاد العرب عيون وينابيع وواحات، صارت موطنًا للزراع والزرع. وبعض هذه العيون، تتدفق من الجبال والهضاب وبعد مجرى قصير تعود فندخل باطن الأرض كما هو الحال في أرض "مَدْيَن". وهنالك

_ 1 حافظ وهبه، جزيرة العرب "ص46". Handbook of arabia, vol, 1, p, 10

عيون تتوقف حياتها على المطر. وقد استفاد الجاهليون من بعض العيون والينابيع فربطوها بكهاريز وبقنوات تجري فيها المياه تحت سطح الأرض إلى بيوتهم ومزارعهم دون أن تتعرض للتبخر الزائد؛ فتفقد كميات كبيرة من المياه تذهب هباء. وقد عثر على شبكات منها في عُمان وفي وادي فاطمة بالحجاز وفي اليمن1

_ 1 Naval, PP., 33.

أقسام بلاد العرب

أقسام بلاد العرب مدخل ... أقسام بلاد العرب: قسّم اليونان واللاتين جزيرة العرب إلى أقسام ثلاثة: 1- العربية السعيدة arabia felix. 2- العربية الصخرية، وترجمت بالعربية الحجرية كذلك "arabia petreae". 3- العربية الصحراوية arabia deserta". وهو تقسيم يتفق مع الناحية السياسية التي كانت عليها البلاد العربية في القرن الأول للميلاد. فالقسم الأول مستقل، والقسم الثاني قريب من الرومان ثم أصبح تحت نفوذهم، وأما القسم الثالث فهو البادية إلى نهر الفرات1. وقد أشير إلى العربية السعيدة والعربية الصحراوية في الموارد "الكلاسيكية" القديمة مثل جغفرافية "سترابون"2. ويرى بعض العلماء أن القسم الآخر وهو "العربية الصخرية" arabia petreae" هو من إضافة "بطلميوس" العالم الجغرافي الشهير، وقد قصد به برية شبه جزيرة سيناء وما يتصل بها من فلسطين إلى الأردن3. فهو في رأي هؤلاء أحدث عهدًا في التسمية من التسميتين الأخريين. ولم يأخذ الجغرافيون العرب بالتقسيم "الكلاسيكي"، مع أنهم وقفوا على بعض مؤلفاتهم، كجغرافية بطلميوس4. إلا أن جزيرة العرب عندهم، هي "العربية السعيدة" في اصطلاح أكثر الكتبة اليونان واللاتين.

_ 1 Christina Phelps Grant, The Syrian Desert, London, 1937, P., 10, Ch. Porster, The Historical Geography of Arabia, in 2 Vols., Vol., 2 P., 109. 2 Strabo, vol., 3, P., 309. 3 William Smith, A Dictionary of the Bible, Vol., 1, P., 91. 4 Forster, 2, 109, Edward Gibbon, The Decline and fall of the Roman Empire, Vol., 5, P., 209, (Everyman.htm's Library ed. 1931) .

العربية السعيدة

العربية السعيدة: arabia felix أما العربية السعيدة، ويقال لها "arabia beata" و "arabia eudaimon" في اليونانية؛ فهي أكبر الأقسام الثلاثة رقعة، وتشمل كل المناطق التي يقال لها جزيرة العرب في الكتب العربية كما يفهم من بعض المؤلفات، وليست لها حدود شمالية ثابته؛ لأنها كانت تتبدل وتتغير على حسب الأوضاع السياسية. ولكن يمكن القول إنها تبدأ في رأي أكثر الكتّاب اليونان والرومان من مدينة "هيروبوليس" "heropolis" على مقربة من مدينة السويس الحالية، ثم تساير حدود العربية الحجرية الجنوبية، ثم تخترق الصحراء حتى تتصل بمناطق الأهوار "أهوار كلدبا" عند موضع "thapsacus". وقد أدخل بعض الكتاب هذه الأهوار في جملة العربية السعيدة، وجعلها بعضهم خارجة عنها بحيث يمر خط الحدود في جنوبها إلى أن تتصل بمصب شط العرب في الخليج1. وعرفت البادية الواسعة التي هي جزء من النفود والتي تمر بها حدود العربية السعيدة الشمالية، باسم "eremos" عند اليونان، وهي امتداد لبادية الشام2.

_ 1 Ptolemy, VI, 7, 2, 27, Strabo, XVI, 4:2, Musil, Arabia Deserta P. 498 The Bible Dictionary, Vol., 1, P., 98, A. Grohmann, Arabian, S., 4. 2 Musil, Arabia Deserta, P., 499

العربية الصحراوية

العربية الصحراوية: ويقال لها في اليونانية1 "arabia eremos". أما حدودها؛ فلم يعينها الكتّاب اليونان واللاتين تعيينًا دقيقًا. ويفهم من مؤلفاتهم أنهم يقصدون بها البادية الواسعة الفاصلة بين العراق والشام، أي البادية المعروفة عندنا ب"بادية الشام". ويكون نهر الفرات الحدود الشرقية لها إلى ملتقى الحدود بالعربية السعيدة. وأما الحدود الشمالية، فغير ثابتة، بل كانت تتبدل بحسب الأوضاع السياسية. وأما الحدود الغربية، فكانت تتبدل وتتغير كذلك، ويمكن أن يقال بصورة عامة إن حدودها هي المناطق الصحراوية التي تصاقب الأرضين الزراعية لبلاد الشام. فما كان بعيدًا عن إمكانيات الرومان واليونان ومتناول جيوشهم، عد من العربية الصحراوية2.

_ 1 Musil, Deserta, P., 497, 511, Hitti, 44. 2 Forster Vol., 2, p., 110 ff.

ويفهم من العربية الصحراوية أحيانًا "بادية السماوة"1، وقد يجعلون حدودها على مقربة من بحيرة النجف، أي في حدود الحيرة القديمة؛ حيث تبدأ "بطائح كلدية" التي كانت تشغل إذ ذاك مساحة واسعة من جنوب العراق. وعرفت عند بطلميوس باسم "amardocaea" وهي تمتد حتى تتصل ببطائح "maisanios kolpos" أو "خليج مسنيوس" "خيلج ميسان"، الذي يكون امتداد الخليج العربي "persikos kopos". وكل ما وقع جنوب ذلك الخط الوهمي، عدّ في العربية السعيدة2. وقد فهم "ديودورس" من "العربية الصحراوية" المناطق الصحراوية التي تسكنها القبائل المتبدية، وتقع في شمالها وفي شمالها الشرقي في نظره أرض مملكة "تدمر". وأما حدّها الشمالي الغربي والغربي حتى ملتقاها بالعربية الحجرية، فتدخل في جملة بلاد الشام. وأما حدودها الشرقية، فتضرب في البادية إلى الفرات. فأراد بها البادية إذن. وقد جعل من سكانها الإرميين والنبط3. وتقابل العربية الصحراوية، ما يقال له "أربي" عند الأشوريين، و "ماتو أربي" عند البابليين، و "أرباية" عند السريان والفرس. كانت البادية، بادية الشام، أو "العربية الصحراوية"، مأهولة بالقبائل العربية، سكنتها قبل الميلاد بمئات السنين. وليست لدينا مع الأسف، نصوص كتابية قديمة أقدم من النصوص الأشورية التي كانت أول نصوص أشارت إلى العرب في هذه المنطقة، وذكرت أنه كانت لديهم حكومات يحكمها ملوك. وأقدم هذه النصوص هو النص الذي يعود تأريخه إلى سنة 854 ق. م4. وقد ورد فيه اسم العرب في جملة من كان يعارض السياسة الآشورية، ولما كان هذا النص يشير إلى وجود مشيخة أو مملكة عربية، يحكمها ملك فلا يعقل أن يكون العرب قد نزلوا في هذا العهد في هذه البادية، بل تشير كل الدلائل إلى أن وجودهم فيها كان قبل هذا العهد بأمد، وربما كان قبل الألف الثاني قبل الميلاد. وقد كانت هذه القبائل تهاجم أرض ما بين النهرين وبلاد الشام، وتكون مصدر

_ 1 Musil, Deserta, P., 235. 2 Musil, Deserta, P., 500, 503, Stephan of Byzantium, Ethnica, P., 237, (Ed. Melneke) . 3 Musil, Deserta, P., 499, Diodorus, Bibl. Hist., 11, 54. 4 DD Luckenbill, Ancient Records of Assyria and Bobyonia, Vol., 1, 611.

رعب للحكومات المسيطرة على الهلال الخصيب، وكانت تنتقل في هذه البادية الواسعة، لا تعترف بفواصل ولا بحدود، فتقيم حيث الكلأ والماء والمحل الذي يلائم طبعها1. أما الروايات العربية، وهي لا تستند إلى وثائق أو نصوص جاهلية، فقد رجحت وجود العرب في هذه الأرضين إلى ما بعد الميلاد في الغالب، ولم يتجاوز بعض من تجاوز الميلاد أيام "بخت نصر" وهو بالطبع حديث مغلوط فيه.

_ 1 forster, Vol., lf p., 347

العربية الحجرية، العربية الصخرية

العربية الحجرية، العربية الصخرية: وأما العربية الحجرية، فتشمل الأرضين التي كان يسكن فيها الأنباط، وخضعت لنفوذ الرومان والبيزنطيين. ويطلق ذلك الاسم، أي العربية الحجرية، على شبه جزيرة سيناء، وعلى المملكة النبطية، وعاصمتها "بطرا" "بترا" "البتراء"1. وكانت حدود هذه المنطقة تتوسع وتتقلص بحسب الظروف السياسية وبحسب مقدرة العرب؛ ففي عهد الحارث الرابع ملك الأنباط "من سنة 9 ق. م إلى سنة 40 ب. م" اتسعت حدودها حتى بلغت نهايتها الشمالية مدينة دمشق2. ولما ضعف أمر النبط، استولى الإمبراطور "تراجان" عام "106م" على هذه المقاطعة وضمها إلى المقاطعة التي كونها الرومان وأطلقوا عليها اسم "المقاطعة العربية" "provincia arabia". ويظهر من وصف "ديودورس" لهذه المنطقة أنها في شرق مصر وفي جنوب البحر الميت، وجنوبه الغربي وفي شمال العربية السعيدة وغربها3. وأن الأنباط يقيمون في الأرضين الجبلية وفي المرتفعات المتصلة بها التي في شرق البحر الميت، وفي شرق وادي العربة، وفي جنوب اليهودية حتى الخليج العربي، "خيلج العقبة"4. وأما الأقسام الباقية، فكانت تسكنها قبائل عربية قيل لها "سبئية"، وهي تسمية كانت تطلق عند الكتبة اليونان والرومان على أكثر القبائل المجهولة أسماؤها، التي تقطن وراء مناطق نفوذ الأنباط والرومان، ويعنون بذلك قبائل جنوبية في الغالب.

_ 1 R.E. Brunnow und A. v. Domszewski, Die Provincia Arabia, in 3 Bd. 2 Hitti, P., 44, 68. 3 Diodorus, 11, 48, Musil, Heg-az, P. 309. 4 Musil, Hegaz, P., 309, Desert, p., 499.

التقسيم العربي

التقسيم العربي مدخل ... التقسيم العربي: ويؤسفنا أننا لا نستطيع أن نتحدث عن وجهة نظر أحد من الجاهليين في أقسام بلاد العرب، لعدم ورود شيء من ذلك في النصوص أو في الروايات التي يرويها عنهم أهل الأخبار، وكلهم مسلمون. أما الإسلاميون، فقد اكتفوا بجزيرة العرب، فأخرجوا بذلك البادية الواسعة منها، وأخرجوا القسم الأكبر مما دعاه الكلاسيكيون بالعربية الحجرية منها كذلك. وجزيرة العرب وحدها، هي "العربية السعيدة" عند اليونان والرومان، وما يقال له أيضًا بـ "arabia proper" في الإنكليزية1. وقد قسّموا جزيرة العرب إلى خمسة أقسام: الحجاز، وتهامة، واليمن، والعروض، ونجد2. ويُرجع الرواة أقدم روايتهم في هذا التقسيم إلى عبد الله بن عباس3. أما الحجاز، فتمتد رقعته في رأي أكثر علماء الجغرافية المسلمين، من تخوم الشام عند العقبة إلى "الليث"4، وهو وادٍ بأسفل السراة يدفع في البحر، فتبدأ عندئذ أرض تهامة5. وقد عدّ قسم من العلماء "تبوك" وفلسطين من أرض الحجاز6. ويقال للقسم الشمالي من الحجاز أرض مدين وحسمى، نسبة إلى السلسلة الجبلية المسماة بهذا الاسم، التي تتجه من الشمال نحو الجنوب7، وتتخللها

_ 1 forster, vol, 2, pp, 112. 2 صفة "ص47 وما بعدها"، البلدان "3/ 218"، المفضليات ص416. 3 صفة ص46. 4 "الليث" بكسر اللام ثم الياء الساكنة والثاء المثلثة، البلدان "3/ 218"، "7/ 346"، "إذا خلفت عجلزًا صعدًا فقد انجدت، فلا تزال منجدًا حتى تنحدر من ثنايا ذات عرق؛ فإذا فعلت فقد اتهمت إلى البحر، وإذا عرضت لك الحرار وأنت منجد فتلك الحجاز"، "حد الحجاز الأول بطن نخلة وظهر حرة ليلى، والحد الثاني مما يلي الشأم شعب وبدا، والحد الثالث مما يلي تهامة بدر والسقيا ورهاط وعكاظ، والحد الرابع شابة وودان، ثم ينحدر إلى الحد الأول"، بلوغ الأرب "1/ 187 وما بعدها". 5 البلدان "3/ 218" 6 البلدان "3/ 218". 7 البلدان "7/ 417، ency, 1, 386, handbook of arabia, bol, 1, p, 96

أودية محصورة بين التيه وأيلة من جهة، وأرض بني عذرة من ظهرة حرة نهيل من جهة أخرى1. وكانت تسكنها في الجاهلية قبائل جذام2. ويسكنها في الزمن الحاضر عرب الحويطات، ويعتقد المستشرقون أنهم من بقايا النبط3. وأرض "حسمى"، أرض خصبة كثيرة المياه. وكانت من المناطق المعمورة، وبها آثار كثيرة ومن جبالها جبل يعرف بـ "إرم"4. ويرى بعض المستشرقين أن لهذا الجبل علاقة بموضوع "إرم" الوارد ذكره في القرآن الكريم وفي كتب قصص الأنبياء والتواريخ5. ويرى "موريتس" أنه موضع "aramaua" الذي ذكره "بطلميوس" على أنه أول موضع من مواضع العربية السعيدة، وأنه لا يبعد كثيرًا عن البحر6. ويقال له "رم" في الزمن الحاضر7. وتتخلل الحجاز أودية عديدة، منها وادي إضم الذي ورد ذكره في أشعار الجاهلية وفي أخبار سرايا الرسول8. ووادي نخال، ويصب في الصفراء بين مكة والمدينة9. والصفراء واد من ناحية المدينة، كثير النخل والزرع، في طريق الحاج، سلكه الرسول غير مرة، وعليه قرية الصفراء، وماؤها عيون تجري إلى ينبع، وهي لجهينة والأنصار ولبني فهر ونهد ورضوى10. ووادي "بدا" قرب أيلة، يتصل بوادي القرى11. ووادي القرى وادٍ مهم يقع بين العلا والمدينة، ويمر به طريق القوافل القديم الذي كان شريانًا من شرايين الحركة

_ 1 البلدان "3/ 276"، لسان العرب"15/ 24". 2 Ency., Vol., I, P. 368, Doughty, Vol. 2, P. 624. 3 Ency., Vol., 2, P., 349. 4 البلدان "3/ 277" Mr. Horsfield, in Revue Biblique, XLI, (1932) , PP., 581, XLII, (1933) , PP., 405, XT.tTT, (6934) , PP., 572, XLJV, (1935) PP., 45. 6 Ptolemy, VI, 7: 27, B. Moritz, in MFOB, III, P., 395, "Ausfluege in der Arabia Petraea". 7 Musil, Hegaz, P., 273. 8 البلدان "1/ 281"، صفة 171. 9 البلدان "8/ 272". 10 البلدان "8/ 272". 11 البلدان "5/ 367".

التجارية في العالم القديم، ويقال له "وادي الديابان"1، ويصب فيه واديان هما: وادي جزل من الشمال، ووادي الحمض من الجنوب، ويلتقي به وادٍ آخر هو وادي التبج، أي وادي السلسلة2. وكان عامرًا جدًا، تكثر فيه المياه، وتشاهد فيه اليوم آثار المدن والقرى3. وقد عثر فيه على كتابات كثيرة لحيانية وسبئية ومعينية وغيرها، سأتحدث عنها. ومن أهم مواضع وادي القرى "العلا"، وقد نزله الرسول في طريقه إلى تبوك4. ويقع في موضع "ديدان" "ددان" "ددن" القديم. وبه واحة ونهير صغير5. ومدين "قرح"، وكانت من أسواق العرب في الجاهلية، وقد زعم أنها القرية التي كان بها هلاك عاد6. وتبعد عن خرائب "ديدان" بمسافة ثلاثة كيلومترات، وقد سكنتها قبائل "بليّ" من القبائل العربية القديمة 7. وهي ملتقى طريق مصر القديم بطريقة الشام. ويرى "موسل" أنها هي "العلا"، دعيت بهذا الاسم فيما بعد8. ولما سأل "دوتي" الأعراب القاطنين في هذه الأماكن عن "قرح"، لم يعرفوا من أمرها شيئًا9. ووجد "دوتي" في قرى وادي القرى وخرائبه عددًا كبيرًا من الحجارة المكتوبة بحرف المسند، وقد اتخذها السكان أحجارًا من أحجار البناء10. وعثر في "الخريبة" على كتابات بهذا القلم، وعلى آثار أبنية ومواطن حضارة وعلى ألواح من الحجر كان يستعملها الصيارفة لصف نقودهم عليها، أو لذبح القرابين11. كما شاهد موضعًا يقال له "إسطبل عنتر" على قمة جبل شاهق يرنو إلى الوادي ولعلّه معبد أحد الأصنام التي كانت تعبد هناك.

_ 1 البلدان "2/ 87" 2 Ency. Vol. 4, P. 1077. Doughty, Trabes in Arabia Deserta, London, 1936 vol. 1, P. 187. 4 "وكان بين سبأ والشأم قرى متصلة، فكانوا لا يحتاجون من وادي سبأ إلى الشأم إلى زاد"، لسان العرب "19/ 38",. 5 البلدان "6/ 207". 6 وهبه 20. 7 البلدان "7/ 49". 8 Musil, Hegaz, P. 295, Doughty, 1, P. 203. 9 Musil, P. 295. 10 Doughty, I, P. 87 11 Doughty, 1, p., 203 f.

تهامة

تهامة: وتبدأ حدود تهامة، في رأي بعض الجغرافيين، من بحر القلزم1، فتكون المنطقة الساحلية الضيقة الموازية لامتداد البحر الأحمر2. ويقال لتهامة الواقعة في اليمن "تهامة اليمن"، ويختلف عرضها باختلاف قرب السلاسل الجبلية من البحر وبعدها عنه، وقد يبلغ عرضها خمسين ميلًا في بعض الأمكنة. وترتفع أرض تهامة الجنوبية الواقعة على البحر العربي ما اتجهت نحو الشرق، وتتكون فيها سلاسل من التلال المؤلفة من حجارة كلسية ترجع إلى العهود الجيولوجية الحديثة أو من حجارة بركانية3. ولانخفاض أرض تهامة قيل لها "الغور" و "السافلة"4. وقد وردت لفظة تهامة على هذا الشكل "تهمت" "تهمتم" في النصوص العربية الجنوبية5. ويظهر أن لهذه اللفظة علاقة بكلمة "tiamtu"، التي تعني البحر في البابلية. وبكلمة "تيهوم tehom" العبرانية6. وعندي أن هذه الكلمة ترجع إلى أصل سامي قديم، له علاقة بالمنخفضات الواقعة على البحر، والتي تكون لذلك شديدة الرطوبة والحرارة في الصيف7. ولهذا فإنها في العربية بلهجة القرآن الكريم وباللهجات الجنوبية السواحل المنخفضة الواقعة بين الجبال والبحر، وهي حارة وخمة شديدة الرطوبة كأنها من بقاع جهنم في الصيف.

_ 1 "القلزم" بالضم ثم السكون ثم زاي مضمومة وميم، البلدان "7/ 145". 2 راجع حدود تهامة في: البلدان "6/ 311"، صفة 54، 119، 121، بلوغ الأرب "1/ 88". 3 Ency. Vol. 4, P. 769. 4 البلدان "2/ 437"، "6/ 311". 5 Glaser 554, 618, Ency., Vol., 4, P., 764 6 Schrader, die Keilinschriften und das Alte Testament, neu bearbetet von zimmern und Winckler, Berlin, 1903, S. 492. 7 وسأشير إليه برمز: kat.

اليمن

اليمن: حدّ اليمن في عرف بعض العلماء من وراء "تثليث" وما سامتها إلى صنعاء

وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعمان، إلى عدن أبين وما يلي ذلك من التهائم والنجود. وقيل: يفصل بين اليمن وباقي جزيرة العرب خط، يأخذ من حدود عمان ويبرين إلى ما بين اليمن واليمامة؛ فإلى حدود الهجرية وتثليث وكثبة وجرش ومنحدرًا في السّراة إلى شعف عنز وشعف الجبل أعلاه إلى تهامة إلى أم جحدم إلى البحر إلى جبل يقال له كرمل بالقرب من حمضة، وذلك حد ما بين كنانة واليمن من بطن تهامة1. أما النصوص العربية الجنوبية؛ فلم تثبت حدود اليمن. ولكن اليمن فيها وتسمى "يمنت" "يمنات"، منطقة صغيرة ذكرت في نصّ يعود عهده إلى أيام الملك "شمر يهرعش"، المعروف في الكتب الإسلامية بـ "شمر يرعش"2، بعد "حضرموت" في الترتيب. وعلى هذا الترتيب وردت أيضًا في نصّ "أبرهة" نائب النجاشي على اليمن. ويعود عهده إلى سنة 543م3. وتخترف السراة اليمن من الشمال إلى الجنوب حتى البحر، وتتخللها الأودية التي تنساب فيها مياه الأمطار، وتمتد بين الهضاب والشعاب فلاة تتفرع من الدهناء من ناحية اليمامة والفلج يقال لها "الغائط"، وتظهر في أواساطها "الصيهد"، وتقع بين مأرب وحضرموت4. وفي شمال منطقة عدن صحراء تتصل بالربع الخالي، تخترق الهضاب المهيمنة على عدن عدد من الأودية الجافة يظهر أنها كانت مسايل مياه، وأنها من بقايا

_ 1 KAT, S. 492, anm. 2, P. Jensen, Keilinschr. Bibl. VI, 1, S. 559 Ency. Vol. 4 P. 764 2 "قال الأصمعي: اليمن وما اشتمل عليه حدودها بين عمان إلى نجران، ثم يلتوي على بحر العرب إلى عدن إلى الشحر حتى يجتاز عمان، فينقطع من بينونة، وبينونة بين عمان والبحرين، فليست بينونة من اليمن ... "، البلدان "5/ 81، "8/ 522 ما بعدها"، صفة 120، 125، 175، 188، البكري: معجم ما استعجم "1/ 16"، ابن خرداذبه 135، 137، 189 بلوغ الأرب "1/ 202 وما بعدها"و ency., vol., 4, p.1155 3 الإكليل "8/ 108 وما بعدها"، التيجان ص 222 فما بعدها، أخبار عبيد ص428، تأريخ الطبري "1/ 547، 793 فما بعدها"، "الطبعة الأوروبية" Glaser, zwei Inschrifen ueber den Dammbruch von Marib, in mitheil. Der Vorder Asiat. Ges. 1887. 4 صفة 84، البلدان "5/ 419".

أنهار جفت، وتسيل في بعضها المياه عند سقوط الأمطار، ومنها "وادي تبن"1. وهو من بقايا نهر طويل2، له فروع عديدة، وتمر به الطريق الرئيسية المؤدية إلى اليمن3. ويخترق حضرموت وادٍ، يوازي الساحل، يبلغ طوله بضع مئات من الأميال ويتألف سطحه من أرضين متموجة تتخللها أودية عميقة تكثر فيها المياه، في باطن الأرض، وبعض تلاله مخصبة3. وفي حضرموت حجارة بركانية ومناطق واسعة، يظهر أنها كانت تحت تأثير البراكين. والظاهر أن دورها لم ينته إلا منذ عهد ليس ببعيد4. ويزرع الناس في هذه الأودية حيث يحفرون آبارًا في قيعانها فتظهر المياه على أبعاد متفاوتة، وهنالك نهر يقال له نهر حجر5. ومن شرق سيحوت تبتدئ سواحل "مهرة"،وتعرف عند الجغرافيين باسم "الشحر". ومعنى كلمة "مهرة" في العربية الجنوبية القديمة "ساحل"6. ويطلق اليوم اسم "الشجر" على الميناء الغربي وحده. وفي "قارة"7 مدينة "ظفار" وهي غير ظفار اليمن8. وعند خليج ظفار كان موضع "syagro" المشهور عند اليونان والرومان9. ويمتد إقليم ظفار من سيحوت إلى حدود عمان، وهو هضبة يبلغ ارتفاعها ثلاثة آلاف قدم، تهب عليها الموسمية، وفوق جبالها تنمو أشجار الكندر التي اشتهرت بها بلاد العرب قبل الإسلام. وتشقها طولًا وعرضًا أودية تكسوها

_ 1 hugh scott, in the high yemen, P. 25, F. 2 Handbook of Arabia, vol. 1, P. 179 f. 3 وادي عدم: الهلال، الجزء السادس عشر، السنة السادسة، نيسان 1898 ص603، adolf von wrede, S. 290, Ency. 1, P. 369. Ency. 1, P. 369, Reise, S. 287. ff. 5 تأريخ حضرموت السياسي، تأليف صلاح البكري "1/ 3"، "القاهرة 1354، "نهر ميفع"، الهلال، العدد المذكور ص604، وقد تحدث صاحب المقال عن الآثار التي رآها في وادي عدم. 6 البكري "2/ 141 فما بعدها"، ency. 1, 369. 7 وتنمو في قارة نباتات الطيب والأفاوية، hugh scott, pp, 147. 8 Reise, S. 39. 9 Reise, S. 33, Forster, vol. 2, P. 161, 166, 224 234.

الأعشاب وتتخللها الأشجار. وبها جبال "قرا"1، ومنحدراتها أرجوانية، وقد تفتتت الصخور الحمر فيها، فأكسبت الأودية والسهول الحمرة، وتوجد نهيرات وعيون، ويمكن الحصول على المياه بحفر الآبار. ولا زال السكان يحتفظون بعاداتهم القديمة الموروثة مما قبل الإسلام2 ويظهر أن هذه المنطقة كانت أماكن "القريين" من الشعوب العربية الجنوبية القديمة، وهناك قبيلة لا تزال حتى اليوم يقال لها "بنو قرا"3 لعل لها صلة بالقريين. ويتكلم أهل "مهرة" بلهجة خاصة، يقال لها "المهرية" أو "الأمهرية"، وهي متأثرة بالجعزية4. كما يتكلم أهل قارة "قرا" بلهجة يقال لها "أحكيليلة"، ويظن أنها من اللهجات العربية القديمة. وتتألف أرض عمان من أماكن جبلية، وهضاب متموجة، وسهول ساحلية وأكثر حجارتها كلسية وغرانيتية، وفيها أيضًا حجارة بركانية. والظاهر أنها كانت من مناطق البراكين5. وفي مناطق التلال وفي "جعلان" عيون ومجاري مياه معدنية أكثرها ذات درجات حرارة مرتفعة. وتوجد آبار في "الباطنة" وفي المناطق المجاورة للصحراء وفي الأقسام الشرقية من عمان6. وتتخلل هضاب عمان وجبالها أودية معظمها جاف، وتكون طرق المواصلات بين الساحل والأرضين الباطنة، وجوّها حار استوائي، وتتجه الجبال من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، وأعلى قمة فيها هي قمة الجبل الأخضر، ويبلغ ارتفاعها تسعة آلاف قدم. والأرضون المحيطة بهذا الجبل خصبة، وقابلة للاستثمار7.

_ 1 Hugh Scott, P., 147. 2 اليافعي "2/ 201" فما بعدها. 3اليافعي "2/ 206" فما بعدها. 4 Reise, S., 33, Leo Hlrsch, Reisen In Sued-Arabien, Mahra Und Hadramut, Leiden, 1897, S., 19, 34, 51, 52, 53. 5 Handbook of Arabia, Vol., 1, P., 238, Ency. Brit., Vol., 16, P., 785. 6 Handbook, Vol., 1, P., 238, Leo Hirsch, S., 183. 7 S.H. Steinberg, The Statesman's Yearbook, London, 1948, P., 689.

وفي عمان مدن قديمة، منها "صحار" و "نزوة"1 و "دبا" أو "دما"، وكانت من المدن المهمة في أيام الرسول، وهي عاصمة عمان الشمالية، كما كانت سوقًا من أسواق الجاهلية، وسكانها من الأزد. والعمانيون من الشعوب البحرية المحبة لركوب البحار، ولهم صلات ورابط بسواحل إفريقية والهند. ونجد بينهم عددًا كبيرًا من الزنوج والهنود والفرس والبلوج2.

_ 1 البلدان "4/ 30"، "5/ 339، 8/ 281". 2 Steinberg, P., 690, O.htm'shen, The Sand Kings of Oman, London, 1947.

العروض

العروض: وأما العروض، فيشمل اليمامة والبحرين وما والاها1. وأغلب الأرضين فيه صحاري وسهول ساحلية، ترتفع في الجهات الغربية عن ساحل البحر. ويمتد مرتفع الصمان الصخري موازيًا لساحل الخليج، متوسطًا بين الأحساء والدهناء. ومن أودية الأحساء، وادي فروق في الجنوب، وهو قسم من وادي المياه2. ومن أقسام العروض، شبه جزيرة "قطر" التي تمتد من عمان إلى حدود الأحساء3. يشتغل سكانها بصيد الأسماك واستخراج اللؤلؤ، وقد عرفت بـ "cataraei" عند "بلينيوس"4. ومعظم أراضيها صحاري، وفيها واحات قليلة، ويزرع السكان في بعض الأماكن على مياه الآبار5. وقد عرفت قديمًا بأنواع من الثياب والمنسوجات القطرية، كانت تصدّر إلى الخارج، كما عرفت بتصدير النجائب والنعام6. ويلي شبه جزيرة قطر، "الأحساء"، وكان يقال لهذه المنطقة قديمًا "هجر"

_ 1 البلدان "3/ 101"، "6/ 160". 2 وهبة 68، "الصمان"، بالفتح ثم التشديد وآخره نون، البلدان "5/ 383". 3 البلدان "7/ 123"، steinberg, p, 692.. 4 Pliny, Natura. Hist., VI, 28, 147, Ency., Vol., 2, P., 817 Sprenger, Geogr. Arab. S., 116, Skizze, BD., 2, S., 75. 5 Ency., Vol., 2, P., 817, Pr. Stuhlmann, Der Kampf ura Arabien, S., 177, Palgrave, Travels in Arabia, London, 1865, Vol., 2, PP., 232. 6 البلدان "7/ 123".

والبحرين1. والقسم الأكبر من الأحساء، سهل صحراوي، يرتفع في الجهة الغربية عن ساحل البحر، ويتخلله كثير من التلال، ويتجه بعضها باتجاه وادي المياه وجبل الطف2. والمنطقة الساحلية، سبخة في الغالب، وتكثر فيها الآبار التي لا تبعد مياهها كثيرًا عن سطح الأرض. وأغنى مناطق الأحساء، منطقة الأحساء والقطيف في الجنوب حيث تكثر المياه من آبار وعيون3. وتظهر المياه الجوفية المنحدرة من الأمطار التي تتساقط بمقدار أربع عقد أو خمس عقد "أنج" في السنة على حافات جبل "طويق" في "الهفوف"، تظهر فيها على شكل عيون، تبلغ زهاء أربعين عينًا، جعلت المنطقة من أهم الواحات في المملكة العربية السعودية4. وبحذاء هجر في الجنوب الغربي من مدينة القطيف تقع "العقير"، وهي الآن ميناء صغير5. وعلى مقربة منها خرائب عادية، يعتقد العلماء أنها موضع "gerrhaei" المدينة التجارية العظيمة التي اشتهر أمرها، وبلغت شهرتها اليونان والرومان6. وكانت محطة من المحطات التجارية العالمية، وملتقى طرق القوافل التي كانت ترد من جنوب بلاد العرب قاصدة العراق. وقد أغرت الطامعين، فطمعوا في الاستيلاء عليها، وأوحت إلى الكتبة "الكلاسيكين" فكتبوا فيها قصصا من نسج الخيال، وتقع على خليج سماه "الكلاسيكيون" "SINUS GERRAICUS"، أي خليج جرهاء7. وتقع القطيف على خليج يشمل جزيرة "تاروت" وتعد المدينة البحرية الرئيسية في الأحساء، يرتفع سطحها بضع أقدام عن سطح البحر، وتكثر بها مياه العيون8. وتشاهد عندها خرائب عادية، يستدل منها على أن هذه المدينة كانت

_ 1 وهبة 68. handbook, vol, 1, p, 298. 2 الطف، بالفتح والفاء مشددة، البلدان "6/ 51"، وهبة 68، 3 وهبة 68، Handbook, vol. P. 298 Sanger, the Arabian Peninsula, P. 58. 5 وهبة 72 فما بعدها، البلدان "6/ 198"، مروج الذهب "1/ 91"، Handbook, vol. 1, P. 308, Chesman, PP. 27, وكانت هجر قصبة بلاد البحرين، البلدان "8/ 446". 6 الجرعاء، "Gerraei" Forster, vol. P. 217, "Gerraei" Glaser, Skizze, Bd, 2, S. 75. 7 Strabo, vol. 3, P. 186. 187, forster, vol. 2 P. 217. 8 Forster, vol. I, P. 196, 197, 291 vol. 2, P. 220 cornwall in The national Geographical

ذات تأريخ قديم، ربما يعود إلى آخر عهد من عهود العصر النحاسي. وفي هذه المنطقة، يجب أن يكون موقع مدينة "بلبانا" "bilbana" "bileana" و "bilana"، إحدى مدن "الجرهائيين"1. ومواطن قبيلتي "gaulopes" و "chateni" على سواحل خليج سماه "بلينوس" "sinus gaulopes" أي "خليج كيبيوس". ويرى "شبرنكر" أنه "خليج القطيف"2. ويذكرنا اسم "chateni" "خطيني" باسم "الخط"، ويطلق في العربية على سيف البحرين كله3. وربما كان "كيبيوس"، الذي سُمّيَ الخليج به، هو تحريف "cateus" الذي يشير بكل وضوح إلى اسم "القطيف". وأما جزيرة "تاروت" الصغيرة التي في هذا الخليج، فالظاهر أنها جزيرة "tahr" أو "taro" أو "ithar" في جغرافية "بطليموس"4، وفيها مدينة "دارين". ويظهر أنها أقيمت على أنقاض أبنية قديمة، ولعلها كانت معبدًا للإله "عشتروت". اشتهرت به، ثم حذف المقطع الأول من اسم الإله اختصارًا، وصارت تعرف بالمقطعين الأخيرين، وهما "تاروت". والقسم الأكبر من أرض الكويت منبسط، وأكثر السواحل رملي، إلا بعض الهضاب أو التلال البارزة. وفي المحالّ التي تتيسر فيها المياه تتوافر الزراعة، وأكثر ما يزرع هناك النخيل. وليس في الكويت من الأنهار الجارية غير مجرى واحد أو نهر يقال له "المقطع"، يصب في البحر. ومشكلة ماء الشرب من أهم المشكلات في هذه الإمارة؛ لأن ماء أغلب الآبار مِلْح أجاج، ولذلك يضطر الأغنياء إلى جلب المياه من شط العرب5. ومن أشهر مدن الكويت مدينة "الكويت"، وهي العاصمة، وهي على ساحل الخليج، و "جهرة"، وهي في منطقة زراعية خصبة، ذات آبار على مَقْرُبة من خليج الكويت6. ويظن أن الخندق الذي أمر بحفره "سابور ذو الأكتاف"

_ 1 Forster, vol. 2, P. 216, Glaser, Skizze, 2, S. 74. Enc. 2, P. 821. 2 البلدان "3/ 449"، المفضليات ص 245. 3 Forster, vol. 2, P. 216. 4 Forster, vol. 1, P. 298, 301, vol. 2, P. 216 217 220 Glasser Skizze 2 S. 76. 5 وهبة ص76، Handbook, vol 1, P. 285, Ency. 2, P. 1173. 6 "الجهرة"، وهبة 77، 79، 81، 83، ومواضع أخرى Handbook, vol. 1, P. 296.

ليحمي السواد من غزو الأعراب، كان ينتهي في البحر عند "خليج كاظمة" في شمال الإمارة1. وأرض الكويت، مثل سائر أرض العروض، كانت موطن شعوب قديمة، فيظهر أن "Bukae" أو "abucaei" أو "abukae"، وعاصمتهم مدينة "coromanis"، هم أسلاف بني عبد القيس، وأن "coromanis"، المصدر اللغوي الذي اشتق منه "القرين"، الاسم القديم للكويت2. ولعل "idicare" هي "قارة" من مواضع الكويت3، وأن "jucara" هي "الجهرة" من أخصب مناطق الكويت في الزمن الحاضر، وكانت من المواضع المأهولة قبل الإسلام4. وقد عرف "ياقوت" البحرين بأنها الأرضون التي على ساحل بحر النهد بين البصرة وعمان، وذكر أن من الناس من يزعم أن البحرين قصبة هجر، وأن منهم من يرى العكس، أي أن هجرًا هي قصبة البحرين5. أما "أبو الفداء" فذكر أن البحرين هي ناحية على "شط بحر فارس"، وهي ديار القرامطة ولها قرى كثيرة، وبلاد البحرين هي هجر. وذكر أيضًا أن من الناس من يرى أن هجرًا اسم يشتمل جميع البحرين كالشام والعراق، وليس له مدينة بعينها6. ويظهر من دراسة ما ذكره العلماء عن البحرين أن رأيهم في حدودها كان متباينًا، وأنهم لم يكونوا على اتفاق في تحديدها، فتارة يوسعونها، وتارة يقلصونها. ومن مواضع البحرين "محلّم"، وبه نهر اشتهر بنخله، وإليه أشار "بشر بن أبي خازم الأسدي" بقوله: كأن حد وجهم لمّا استقلوا ... نخيل "محلّم" فيها ينوع7

_ 1 ency, 2, p, 1173. 2 تاريخ الكويت، لعبد العزيز الرشيد "بغداد 1926"، "1/ 23"، forster, vol, 2, p, 213. 3 وهبة ص79، forster, vol, 2, p, 214 4 forster, vol, 2, p, 214 5 البلدان "1/ 346" "دار بيروت للطباعة والنشر 1955". 6 تقويم البلدان "ص99". 7 ديوان بشر "ص130".

اليمامة

اليمامة: وأما اليمامة، فكانت تعرف ب"جو" أيضًا1، وقد عدّها "ياقوت الحموي" من نجد2، وقاعدتها "حجر". وكانت عامرة ذات قرى ومدن عند ظهور الإسلام، منها "منفوحة"، وبها قبر كان ينسب إلى الشاعر "الأعشى"3. و"سدود" من المدن القديمة، وبها الآن آثار كثيرة، وقد عُثر فيها على تمثال يبلغ قطره ثلاث أقدام، وارتفاعه 22 قدمًا4. و"القرية"، وعلى مقربة منها بئر، قال الهمداني -وهو يتحدث عنها-: "فإن تيامنت شربت ماء عاديًا، يسمّى قرية، إلى جنبه آبار عادية وكنيسة منحوتة في الصخر، ثم ترد ثجر"5. والظاهر أن هذا الموضع كان من المواضع الكبيرة المعروفة. وذكر ياقوت وغيره أن اليمامة "كانت تسمى جوا والقرية"6. ولا يعقل تسمية اليمامة بالقرية لو لم يكن لهذا الموضع شهرة. وقد نشر "فلبي" وبعض رجال شركة النفط العربية السعودية صورًا فوتوغرافية لكتابات ونقوش عثروا عليها في موضع يقال له "قرية الفأو" على الطريق الموصلة إلى نجران ويقع على مسافة سبعين كيلومترًا من جنوب ملتقى وادي الدواسر بجبل الطويق، وعلى مسافة "120" كيلومترًا من شرقي "نجران"7،

_ 1 صفة 161، البلدان "8/ 516"، "واليمامة القرية التي قصبتها حجر، كان اسمها فيما خلا جوا. وفي الصحاح كان اسمها الجو"، لسان العرب "15/ 135" 2 البلدان "8/ 516" 3 البلدان "8/ 182"، صفة 162. 4 وهبة ص51، راجع وصف "قلبي" لسدوس في كتابه arabia of the wahabis, p,, 77. 5 صفة ص152. 6 البلدان "8/ 516"، وقد نزل بنو سدوس بن شيبان بن ذهل؛ ولذلك قيل لها "قرية بني سدوس"، قال ياقوت: "قرية بني سدوس بن شيبان بن ذهل، وفيها منبر وقصر يقال إن سليمان بن داود عليه السلام بناه من حجر واحد من أوله إلى آخره، وهي أخصب قرى اليمامة، لها رمان موصوف، وربما قيل لها القرية، البلدان "5/ 46" "7/ 76". 7 The Geographical Journal, vol, CXII, June, 1949, PP. 86 Le Museon, LXII, "1949", 1-2, PP. 87. راجع أيضًا ما كتبه "فلبي" في بعض مؤلفاته عن هذا الموضع.

وعلى ثلاثين ميلًا من جنوب غربي "السليل" في وادي الدواسر1. كما وجدوا آثار أبنية ضخمة، يظهر أنها بقايا قصور كبيرة، ووجدوا كهفًا منحوتًا في الصخرة مزدانًا بالكتابات والتصاوير واسعًا، يقول له الناس هناك "سردبًا" أو "سردابًا". وعند هذا الموضع عين ماء وآبار قديمة، وقد كتب اسم الصنم "ود" بحروف بارزة. وتدل كل الدلائل على أن الموضع الذي تتغلب عليه الطبيعة الصحراوية في الزمن الحاضر، كان مدينة ذات شأن2. وقد أشار الألوسي في كتابه "تأريخ نجد" إلى سدوس وآثارها فقال: "وفي قربها أبنية قديمة يظن أنها من آثار حمير وأبنية التبابعة "نقل لي بعض الأصحاب الثقات من أهل نجد: أن من جملة هذه الأبنية شاخصًا كالمنارة، وعليها كتابات كثيرة منحوتة في الحجر ومنقوشة في جدرانها؛ فلما رأى أهل قرية سود اختلاف بعض السياحيين من الإفرنج إليها، هدمومها ملاحظة التدخل معهم"3. وفي هذا الوصف دلالة على أن الخرائب التي ذكرها "ياقوت الحموي" بقيت، وأن المنبر الذي أشار إليه، قد يكون هذا الشاخص الذي شبه بالمنارة والذي أزيل على نحو ما ذكره الأولسي. والكتابات التي عُثر عليها في "قرية الفأو" ذات أهمية كبيرة، لأنها أول كتابة باللهجات العربية الجنوبية عثر عليها في هذه المواضع، وتعود إلى ما قبل

_ 1 كتاب من الدكتور "جورج مائيوس" تأريخه 30 أغسطس 1950م في تعيين وضع المكان. "قرية: موضع في جنوب نجد، في الطريق بينه وبين نجران، ويبعد عن نجران 343 كيلو مترًا وعن الأفلاج الواقعة في جنوب نجد "383" كيلومتر "الأفلاج تبعد عن الرياض 273 كيلو متر"، ويقع بينها وبين الأفلاج العقيق الموقع الذي ذكره الهمداني في صفة الجزيرة، وأشار إلى وجود جالية أجنبية فيه في العهد القديم تشتغل بالتعدين، وأشار إلى معبد منحوت في الصخر في تلك الجهة، وبلغني أن في الجبال القريبة من "قرية" هذه- كتابات ونقوشًا وصورًا كثيرة. وقد مر بها المستر فلبي، وتبعد عن العقيق 94 كيلو مترا في جنوبه. ويبعد العقيق عن الأفلاج 280 كيلو مترا تقريبا". كتاب من السيد حمد الجاسر تأريخه 13 نوفمبر 1950 "العقيق مدينة فيها مئتا يهودي، ونخل كثير، وسيوح وآبار"، صفة 152، البلدان "6/ 198" 2 ,The Geographical Journal, CXII, June, 1949, P. 90, Philby, Sheba's Daughter's, P. 430 3 تأريخ نجد "ص28".

الميلاد. وعُثر فيها على مقابر، وعلى أدوات وقطع فخارية ظهر من فحصها أنها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد1. ويرى من فحص هذه الآثار أنها تعود إلى السبئيين. والظاهر أن هذا الموضع هو بقايا مدينة قديمة كانت تتحكم في الطريق التجارية التي تخترقها القوافل التي تقصد الخليج الفارسي والعراق من اليمن عن طريق نجران. وفي هذه المنطقة بصورة عامة بقايا مدن تخربت قبل الإسلام. ورأى "برترام توماس" "bertram thomas" أن آبار "العويفرة" القريبة من القرية هي موضع "أوفير" "ophir" الوارد ذكره في التوراة والذي اشتهر بالذهب، والطواويس، وأن الاسم العربي القديم هو "عفر" "ofar"، وقد تحرف بالنقل إلى العبرانية واليونانية؛ فصار "ophir". وهذا الموضع قريب من مناجم الذهب2. وبالجملة إن هذه الأرضين ويبرين ووبار وغيرها، هي من المناطق التي تستحق الالتفات إليها وتجريد البعثات العلمية للتنقيب فيها ودراسة أحوالها والتطورات التي طرأت عليها. ويظهر أن هنالك جملة عوامل أثرت في اليمامة وفي أواسط جزيرة العرب؛ فحولت أراضيها إلى مناطق صحراوية، على حين أننا نجد في الكتب أنها كانت غزيرة المياه، ذات عيون وآبار ومزارع ومراع. ومن أودية اليمامة "العرض": "العارض" الذي يخترق اليمامة من أعلاها إلى أسفلها. ولما كان من الأودية الخصبة، كثرت فيها القرى والزروع3. وهو وادٍ طويل، لعله من بقايا مجرى ماء قديم، و "الفقي"، في طرف عارض اليمامة، تحيط به قرى عامرة، تُسمّى "الوشم"4. و"وادي حنيفة" و "عرض شمام"5. وفي اليمامة مرتفعات مثل "جبل شهوان"، تخرج منه عيون ومياه6، و "عارض اليمامة"، ويبلغ طوله مسيرة أيام، وتكون عند سفوحه الآبار7.

_ 1 The Geogr. Jour., Vol., CXJH, June, 1949, P., 92, Sanger, The Arabiaa Peninsula, P., 139. 2 The Empty Quarter, P., 177, Bertram Thomas, Arabia Felix, P., 163. 3 البلدان "6/ 146 فما بعدها"، "8/ 128"، صفة 137، 140، 141، 147، 161، 162، ويقال له أحيانا عرض حجر. 4 "الوشم" بالفتح ثم السكون، البلدان "8/ 424"، صفة 163. 5 البلدان "6/ 147". 6 البلدان "7/ 386". 7 البلدان "6/ 389"، "عارض" "عارض اليمامة"، البلدان -6/ 93- "العارض"، وهبة 6، 45، 46، 48، 51 ومواضع أخرى، صفة ص163.

وتعد "الأفلاج" من المناطق التي تكثر فيها المياه، وتصب فيها أودية العارض، وفيها السيوح الجارية والجداول التي تمدها العيون. وقد ذكر "الهمداني" من سيوحه "الرقادي" و "الأطلس" و "نهر محلّم". قال: ويقال إنه في أرض العرب بمنزلة نهر بلخ في أرض العجم1. وطبيعي أن يكثر فيها وجود الخرائب العادية التي تعود إلى ما قبل الإسلام. وقد وصف الهمداني بعض التحصينات القوية، فقال عنها: أنها من عاديات طسم وجديس، مثل" حصن مرغم" و "القصر العادي" بالأثل2. ويُرجع "فلبي" الخراب الذي حلّ باليمامة إلى العوامل الطبيعية، ومنها فيضان وادي حنيفة3.

_ 1 صفة ص160. 2 صفة ص160. 3 Ency. Vol. 4, P. 1155, Phllby, The Geart of Arabia, vol. 2. PP. 31.

نجد

نجد: نجد في الكتب العربية "اسم للأرض العريقة التي أعلاها تهامة واليمن، وأسفلها العراق والشام"1. وحدها ذات عرق من ناحية الحجاز، وما ارتفع عن بطن الرمة، فهو نجد إلى أطراف العراق وبادية السماوة2. وليس لنجد في هذه الكتب حدود واضحة دقيقة، وهي بصورة عامة الهضبة التي تكون قلب الجزيرة، وقد قيل لها في الإنكليزية:3 "the heart of arabia". وتتخلل الهضبة أودية وتلال ترتفع عن سطح هذه الهضبة بضع مئات من الأقدام، وتتألف حجارتها في الغالب من صخور كلسية ومن صخور رملية غرانيتية في بعض المواضع. وأعلى أراضيها هي أرَضو نجد الغربية المحاذية للحجاز، ثم تأخذ في الانحدار كلما اتجهت نحو الشرق حتى تتصل بالعروض. وتتألف نجد من الوجهة الطبيعية من مناطق ثلاث:

_ 1البلدان "8/ 258 فما بعدها"، الألوسي: محمود شكري، تأريخ نجد "الطبعة الثانية"، القاهرة "1347هـ" "ص7 فما بعدها". 2 صفة ص48. 3 K.S. Twitchell, Sauudi Arabia, p., 6, STAMP,P., 137.

1- منطقة وادي الرمة، وتتألف أرضوها من طبقات طباشيرية في الشمال وحجارة رملية في الجنوب، وتغطي وجه الأرض في بعض أقسامها طبقات مختلفة السمك من الرمال، وتتخلّلها أرَضون خصبة تتوافر فيها المياه على أعماق مختلفة؛ ولكنها ليست بعيدة في الجملة عن سطح الأرض، وتتسرب إليها المياه من المرتفعات التي تشرق عليها وخاصة من جبل شمر1، ومن الحرار الغربية التي تجود على الوادي بالمياه. ويختلف عرض وادي الرمة، فيبلغ زهاء ميلين في بعض المحلات، وقد يضيق فيبلغ عرضه زهاء "500" ياردة، وتصل مياه السيول إلى ارتفاع تسع أقدام في بعض الأوقات2. 2- المنطقة الوسطى، وهي هضبة تتألف من تربة طباشيرية، متموّجة، تتخلّلها أودية تتجه من الشمال إلى الجنوب. وبها "جبل طويق"، والأرض عنده مؤلفة من حجارة كلسية، وحجارة رملية، ويرتفع زها "600" قدم عن مستوى الهضبة. وتتفرع من جبل طويق عدة أودية تسيل فيها المياه في مواسم الأمطار، فتصل إلى الربع الخالي فتغور في رماله. ويمكن إصلاح قسم كبير من هذه المنطقة، ولا سيما الأقسام الواقعة عند حافات وادي حنيفة3. 3- المنطقة الجنوبية، وتتكون من المنحدرات الممتدة بالتدريج من جبل طويق ومرتفعات المنطقة الوسطى إلى الصحاري في اتجاه الجنوب. وفيها مناطق مُعْشِبَة ذات عيون وآبار، مثل "الحريق"و "الخرج". ويرى الخبراء أن مصدر مياه هذه المنطقة من جبل طويق ومن وادي حنيفة. ومن مناطقها المشهورة "الأفلاج" و"السليل" و "الدواسر"، وفي جنوب هذه المنطقة تقل المياه، وتظهر الرمال حيث تتصل عندئذ بالأحقاف. ويقسم علماء العرب نجدًا إلى قسمين: نجد العالية، ونجد السافلة. أما العالية فما ولي الحجاز وتهامة4. وأما السافلة، فما ولي العراق. وكانت نجد حتى القرن السادس للميلاد ذات أشجار وغابات، ولا سيما في "الشربة" جنوب "وادي الرمة" وفي "وجرة"5.

_ 1 وهبة ص60. 2 Handbook,vol. 1. P. 349. 3 Ency, vol. 3, P. 894, Handbook, vol. 1, p. 349. 4 البلدان "8/ 401"، تأريخ نجد ص8. 5 Ency., VOL., 3,P., 895 philby, The Heart of Arabia, 1, P., 115.

وفي جزيرة العرب وبادية الشام أرضون يمكن أن تكون موردًا عظيمًا للماشية بل وللحبوب أيضًا، لو مسّها وابل وهطلت عليها أمطار، وتوفرت فيها مياه؛ فإن أرضها الكلسية تساعد كثيرًا على تربية الماشية بجميع أنواعها. كما تساعد على الاستيطان فيها، ولهذا يتحوّل بعضها إلى جنان تَخْلُب الألباب وتسحر النفوس عند هبوط الأمطار عليها، فتجلب إليها الإنسان يسوق معه إبله لتشبع منها. ولكن هذه الجنان لا تعمر، ويا للأسف، طويلا، فيضطر أصحاب الإبل إلى الذهاب إلى أرضين أخرى، وإلى التنقّل من مكان إلى مكان، فصارت حياته حياة تنقّل وهي حياة الأعراب. أما وقد انتهيت من الحديث إجملًا عن صفة جزيرة العرب وعن حدودها ورسومها العامة، فلا بد لي من الإشارة إلى جزيرة "سقطري" "سوقطره" من الجزر التي تقابل الساحل العربي الجنوبي، وهي جزيرة كانت تعادل وزنها ذهبًا يوم كان البخور والصبر يعادلان بالذهب1. أما اليوم فما زال سكانها يجمعون الصبر والبخور والندّ؛ ولكنهم لا يجدون لحاصلهم السوق القديمة لزوال دولة المعابد والملوك الآلهة، وحلول عهد الذرة والبترول. وسكانها منذ القديم، خليط من عرب وإفريقيين وهنود ويونان. يتكلمون بلغة خاصة هي من بقايا اختلاط اللغات في هذه الجزيرة، فيها اللهجات العربية الجنوبية القديمة والمصرية والإفريقية. وهم يعيشون في كهوف ومغاور في الغالب ينالون رزقهم من الطبيعة بغير جهد. وترى في الجزيرة آثار الماضي وقد اختلط بعضه ببعض، لتداخل الحكم في هذه الجزيرة الثمينة التي هي اليوم في قبضة الإنكليز. والآن وقد وقفت على صفة جزيرة العرب، وعرفت على سبيل الإجمال معالم وجهها، وكيف تغلبت الصحراوية، وظهر الجفاف عليها، فإن في وسعك أن تكوّن رأيًا في سبب قلة نفوس جزيرة العرب في الماضي وفي الحاضر، وفي سبب عدم نشوء مجتمعات حضرية وحكومات مركزية كبيرة فيها، وفي سبب تفشي البداوة وغلبة الطبيعة الأعرابية على أهلها وبروز الروح الفردية عند أهلها، وتقاتل القبائل بعضها مع بعض. ونفرة أهلها من الزراعة والحرف واعتدادهم إياها من حرف الوضعاء والرقيق. إن بيئة تحكمت فيها الطبيعة على هذا النحو.

_ 1 جان جاك بيربي: جزيرة العرب "ص192 فما بعدها".

لا يمكن أن يشاكل سكانها سكان المناطق الباردة ذات الأمطار الغزيرة والخضرة الطبيعية الدائمة، أو سكان الأرضين التي حباها الله الخصب والأنهار والماء الغزيرة. من هنا اختلفت حياة العرب عن حياة غيرهم من الشعوب. وللسبب المتقدم، أي سبب تحكم الطبيعة في مصيرالإنسان، انحصرت الحضارة في جزيرة العرب في الأماكن الممطورة والأماكن التي خرجت فيها المياه الجوفية عيونًا وينابيع، أو قاربت المياه فيها سطح الأرض، فأمكن حفر الآبار فيها. في هذه المواضع نبعت الحضارة وأظهر العربي فيها أنه مثل غيره من البشر قادر على الإبداع حين تتهيأ له الأحوال المواتية، وتساعده الطبيعة، ومن هذه الأماكن نستقي علمنا في العادة عن الجاهليين. وعلى الرغم من سعة مساحة جزيرة العرب واتساعها؛ فإنها لم تتسع لعدد كبير من السكان لأن معظم أرضها صحراوية، لا تجذب الناس إليها ولا تساعد على ازدياد عدد السكان فيها ازديادًا كبيرًا، غير أن ذلك لا يعني أنها لايمكن أن تتسع لعدد أكبر من سكانها الحاليين، أن طاقتها لا يمكنها أن تتحمل هذا العدد أو ضعفه، بل الواقع هو أن في استطاعة الجزيرة تحمل أضعاف أضعاف هذا العدد، لو تهيأت لها حكومات حديثة رشيدة، تأخذ بأساليب العلم الحديث في استنباط مواردها الطبيعية لمصلحة أهلها وفي تحسين الصحة العامة وإيجاد موارد رزق الناس، وضمان الأمن والسلامة لهم، وإسكان الأعراب، وعمل ما شاكل ذلك من أمور. فإن سكان الجزيرة سيزدادون حتمًا، ويبلون أضعاف أضعاف ما هم عليه اليوم. ونجد بين سكان جزيرة العرب في الوقت الحاضر اختلافًا في الملامح الجسمية. فأهل أعالي نجد هم أقرب في الملامح إلى قبائل عرب الأردن وعرب بادية الشام، وأهل الحجاز والسواحل، يختلفون بصورة عامة عن أهل البواطن، أي باطن الجزيرة، في الملامح بسبب اختلاط أهل السواحل بسكان السواحل المقابلة لهم، وامتزاج دمائهم. وقد أجرى بعض الباحثين المحدثين فحوصًا علمية على السكان في مواضع متعددة من جزيرة العرب لمعرفة الملامح البارزة عليهم والأصول التي يرجعون إليها؛ فوجدوا أن هناك امتزاجًا واضحًا بين السكان يظهر بصورة خاصة في السواحل، وهو امتزاج يرجع بعضه إلى ما قبل الإسلام ويرجع بعض آخر إلى الزمن الحاضر1.

_ 1 Naval, p,, 365.

ولم يكن لسان عرب الجاهلية لسانًا واحدًا؛ ولكن كان كما سنرى ألسنة ولهجات. وقد استطعنا بفضل الكتابات الجاهلية أن نقف على بعضها. أما في الزمن الحاضر، فإن لغة القرآن الكريم هي اللغة المتحكّمة الموحّدة للألسنة، وهي لغة العلم والأدب والحكومات، غير أن بعض القبائل لا تزال تحتفظ بلهجاتها القديمة، وكذلك بعض أهل القرى والأرياف البعيدة عن الحضارة، فإنها تتكلم بلهجات وألسنة متفرعة من اللهجات العربية الجاهلية، كما الحال في مواضع من اليمن وفي العربية الجنوبية. ونجد في العربية الجنوبية قبائل تتكلم لهجات غربية عن عربيتنا مثل اللغة المهرية واللغة الشحرية، واللهجات المسماة بألسنة "أهل الهدرة". وهي لهجات لها صلة باللغات العربية الجنوبية الجاهلية وباللغات الإفريقية1.

_ 1 Naval, pp,, 374.

الفصل الخامس: طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها

الفصل الخامس: طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها مدخل ... الفصل الخامس: طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها لم تدرس طبيعة أرض جزيرة العرب دراسة علمية مستفيضة شاملة، بالرغم من قيام الشركات الأجنبية بالبحث، في أنحاء منها، عن طبيعة تربتها للتوصل بذلك إلى اكتشاف ما في باطنها من ثروات؛ فأرض جزيرة العرب، أرض واسعة، تغطي الرمال أكثر مساحتها، فليس من السهل البحث فيها بحثًا علميًا عميقًا عن تركيبها وعن تطورها في كل أنحائها، لهذا كان علمنا بهذه النواحي من البحث ضحلًا مختصرًا في الغالب. يتألف ثلثا الأقسام الشرقية من أرض المملكة العربية السعودية، من طبقات رسوبية يقال لها في علم طبقات الأرض "sedimentry formation"، تكون نوعًا من الصخور يتأثر ببعض المؤثرات الأرضية، فتكون من أحسن الأماكن الملائمة للبترول والفحم. وتتألف هذه الطبقات الرسوبية في الدرجة الأولى من الحجارة الكلسية. وتتكون أرض منطقة آبار البترول عند "الظهران" والمناطق الأخرى التي أصابت شركة البترول العربية السعودية الأمريكية فيها البترول، من هذا النوع من الصخور1. وتوجد آثار طبقات رسوبية في المناطق الغربية من جزيرة العرب المطلّة على

_ 1 Twitchell, Saudi Arabia, P., 8.

البحر الأحمر عند جزر "فرسان"1 و "جيزان"2 و"صبيا"3 و "أملج"4 و"المويلح"5 الواقع على مقربة من رأس خليج العقبة، و "ضبا"6، وحجارة رملية في العلا في القسم الشمالي الغربي من الجزيرة بكميات واسعة، وحجارة بركانية ولا سيما في مناطق الحِرَار، وصخور تكونت بفعل الترسبات المتأثرة بالضغط والحرارة، وهي التي يقال لها: "metamorphic formation"، وتساعد على تكوين المعادن. وقد وجدت في هذه المنطقة7، خامات المعادن؛ ولكنها لم تستغل حتى الآن استغلالًا تجاريًا، كما أن هذه الخامات والأرضين لم تفحص فحصًا فنيًّا لمعرفة النسب المعدنية فيها. وتوجد الصخور الرملية في عسير وفي وادي الدواسر، وتشاهد في منطقة هذا الوادي تلال تتجه من الشمال إلى الجنوب، تقع إلى جنوب "الخماسين" وعلى ارتفاع "2200" قدم، يظهر أنها تكوّنت من الصخور "الأيولينية" "aelian sandstone" ومن حجارة "الكوارتس" الضخمة، وقد حوت مقدارًا من "أكاسيد الحديد" أعطت هذه السلسلة لونًا أحمر غامقًا. ويتكون فتات هذه الحجارة على هيأة ألواح صلبة، وعند قطعها يلاحظ أنها تتكوّن من طبقات، ويمكن فصلها على أشكال ألواح، وقد تكوّنت على حافات هذه السلسلة وجوانبها أشكال طبيعية مدهشة أخاذة بتأثير فعل الرياح والرمال فيها. وتتكون أرض "قرية" من صخور كلسية، وهناك آبار قديمة تبلغ أعماقها

_ 1 وهبة ص40، البلدان "6/ 359"، صفة 47، 52، 53، 74، 75، 98، twitchell, p,, 8, 63 2 "ميناء صغير على بعد مائتي ميل من جنوب الجنوب الشرقي للقنفذة، وهي واقعة أمام مجموعة جزائر فرسان، ويحيط بها من جهة الداخل جبل جيزان"، وهبة ص40. 3 البلدان "5/ 337"، صفة 54، 73. 12 "صبيا على بعد عشرين ميلًا في الداخل وهي إلى الجنوب الشرقي من جيزان، وكانت عاصمة الأدراسة"، وهبة 40. 4 "أملج: قرية بها نحو مائة منزل، بها قلعة صغيرة، وأمامها تقع جزيرة حسان التي من رملها يصنع الزجاج، بها مزارع ونخيل، ومنها تمتد طريق في الداخل إلى اصطبل عنتر، إحدى محطات سكة حديد الحجاز"، وهبة 15، 20. 5 قرية وقلعة على بعد 150 ميلًا إلى الجنوب من العقبة، وهبة 19. 6 إلى جنوب المويلح، المحل الرئيس لقبيلة الحويطات، اتخذها الأتراك مركز دفاع عن الشاطئ، وهبة ص19. 7 twitchell, p. s..

تسعين قدمًا، حفرت في طبقات أرضية مؤلفة من حجارة الكلس، تتخللها طبقات من الحجارة الرملية غير أنها ليست ثخينة1. أما أرض "بئر حما" التي يبلغ ارتفاعها زهاء أربعة آلاف قدم فوق سطح البحر، وتقع على الحافات الغربية للربع الخالي؛ فإنها مؤلفة من الحجارة الرملية الأيولينية الحمراء، وعلى مسافة "35" ميلًا إلى الجنوب الغربي من "حما" موضع يقال له "بئر الحسينية" فيه بئر يبلغ عمقها "129" قدمًا، وقد حفرت في أرض فيها طبقات ثخينة من "الغرانيت".وتتألف أكثر الأرضين التي تمتد من هذا الموضع إلى نجران من حجارة "غرانيتية". وتظهر الحجارة الرملية في القسم الجنوبي والغربي من هذه المنطقة التي ترتفع زهاء "1500" قدم عن مستوى سطح الوادي الموصل إلى نجران، والذي يرتفع هو نفسه زهاء أربعة آلاف قدم عن سطح البحر. وتتألف مناطق واسعة من اليمن من حجارة رملية ومن الطبقات المترسبة2 "sediments". قلت: إن هنالك مناطق في الحجاز مكونة من طبقات مترسبة تعد من أحسن الصخور والطبقات الأرضية، ملائمة للنفط والفحم، وإن هنالك مناطق فيها صخور بركانية ونارية، وقد تكوّنت أكثرها من تغييرات كبيرة وعمليات طويلة من ضغط هذه السلسلة الجبلية الطويلة التي تكون العمود الفقري لجزيرة العرب. وترتفع زهاء "9000- 11000" قدم عن مستوى البحر في اليمن على ما تحتها من طبقات. ونجد مناطق واسعة من "اللابات" مبعثرة على طول هذه السلسلة، منها ما هو حديث التكوين. ويشاهد في الزمن الحاضر لسان بارز من "اللابة" في شرقي "أبي عريش"3 يمتد حتى يتاخم حدود اليمن، كما نشاهد مناطق أخرى مؤلفة من هذه الحجارة في مواضع عديدة بين "شقيق"4 و "خور البرك"5 مثلا حيث تصل "اللابة" إلى البحر الأحمر فتدخل فيه. وكذلك في شمالي "شقيق" عند "جهمة" حيث توجد بقايا بركان يكوّن جزيرة في البحر مقابل هذا

_ 1 Twitchell, P. 9. 2 Twitchell, P. 9. 3 أبو عريش في تهامة على بعد سبعين ميلا شمالي اللحية، وهبة 40. 4 في تهامة، وهبة 38. 5 البرك، وهبة 38.

الموضع1. وعلى مسافة اثني عشر ميلا من مكة جبل، يقال له جبل النورة، حيث تحرق حجارة الكلس المكونة له، لاستخراج النورة واستعمالها في البناء2. وهذه الحجارة الكلسية هي من الطبقات المترسبة المتحولة. وهناك أماكن أخرى تكوّنت من هذه الحجارة، يشاهدها المارّ من جدّة إلى موضع "مهد الذهب"، الذي تستغل الآن مناجمه، لاستخراج الذهب، وتتكون تلال مهد الذهب من الحجارة المترسبة التي تعرضت لتغيرات طبيعية عديدة، عليها طبقات من حجراة "البازلت" "basalt". وفي حجارة المناجم خامات معادن متعددة، وفيها حجارة "الكوارتس"3 "quartz". وتوجد في منطقة الطائف صخور "الغرانيت"، وفي نهاية هذه السلسلة الجبلية الطويلة التي تنتهي في اليمن تشاهد "لابات" الحِرار4 وبقايا الحِرار التي كانت تزعج اليمانيين؛ إذ هي قد تقذفهم حممها في يوم من الأيام فتسومهم سوء العذاب. وفي أرض اليمن عدد كبير من الحرار، ذكر السياح بعضها، مثل حرة "أرحب"، وتقع شمالي "صنعاء" ولها لابة استخرد منها الناس حجارة سودًا لبناء البيوت5. وعلى مقربة من "ذمار" تكون الأرض بركانية6. وتوجد الحرار في القسم الشمالي من "وادي أبرد"7، وفي الوادي بين "صرواح" و "مأرب"8. وقد حمل بعض المستشرقين وجود الحِرار في اليمن بهذه الكثرة وعلى مقربة من المدن القديمة، على تفسير هلاك بعض المدن كخراب "مأرب"9و "حقة"10 و "شبوة"11 بتأثير هياج البراكين.

_ 1 Twitchell, P., 10. 2 Twitchell, P., 10. 3 Twitchell, P., 10. 4 Twitchell, P., 10. 5 H. Scott, In the High Yemen, London, 1947, P., 8, 114. Scott, P., 113. 6 Scott, P. 113. 7 Philby, Sheba's Daughter's, P., 380. 8 المصدر نفسه ص392. 9 كذلك ص389. 10 Scott, P., 195. 11 Philby, in Geogr. Journal, 92, PP., 127, August, 1938, Sheba's, 103.

كذلك توجد مناطق حرار في العربية الجنوبية، في عدن1 وحضرموت وعمان2 وفي الربع الخالي، وقد استعمل القدماء حجارة البراكين في البناء، ولا يزال الناس يستعملونها في البناء حتى اليوم، وقد وجد بين الحجارة المكتوبة عدد من صخور البراكين. وقد استغل الجاهليون بعض الحِرار لاستخراج الكبريت منها، وذكر "نيبور" أن أهل اليمن كانوا يستخرجون الكبريت من جبل يقع في شرقي ذمار، ويظهر أن هذا الجبل بركان قديم3. وتتكون بعض هضاب اليمن من الصخور المتبلورة التي مرت في أدوار طويلة، ويرى العلماء أنها كانت في الأصل تحت سطح البحر، ثم ترسبت عليها طبقات ثخينة من المواد الرسوبية حتى تبلورت وتصخرت4. وقد استعلمها الجاهليون ولا تزال تستعمل في النوافذ، لتقوم مقام الزجاج. وهناك طبقة طباشيرية وطبقات من صخور رملية غذت المناطق المنخفضة، وهي تهائم اليمن، بالرمال. وكذلك المنطقة التي يقال لها الرمل5. وتتكون التربة في تهامة وفي سهل صنعاء من المواد الصلصالية التي تعود إلى الأرمنة "الجيولوجية"، المتأخرة، ومن المتكونات "الأيولينية" التي حصلت بتأثير فعل الرياح في الصخور الرملية6. ويكثر وجود الصخور المتبلورة في الحجاز وفي العربية الجنوبية كذلك7. وتوجد الصخور والطبقات الرسوبية في اليمن وفي حضرموت وعمان، وقد وجدت في هذه المناطق علائم وجود البترول. والسواحل الشرقية لجزيرة العرب، أي السواحل الواقعة على الخليج، هي سهول، ولكنها سهول من الرمال في الغالب، ولهذا قلّت فيها الزراعة، إلا في المواضع التي تتوافر فيها المياه الجوفية، وتتفجر عيونًا، مثل الأحساء والقطيف. وهناك سباخ ومستنقعات ناتجة من انخفاض الأرض، جوّها غير صحي، والبترول في القرن العشرين، هو الذي أغاث أهل هذه الأرض، وجلب لهم الثراء والمال

_ 1 Stamp, P., 140. 2 D.G. Hogarth, The Nearer East, P., 97. Scott, P., 114, 237, Niebuhr, Relsebeschreibung, S., 324. 3 Scott, PP. 6. 4 Scott, pp. 6. 5 Handbook, Vol., 1, PP., 145. 6 Scott, P., 8. 7 In Unknown Arabia, PP., 421, Stamp, P., 109.

الوافر والسيارات الفارهة وآلات التبريد ووسائل الترف والرفاهية، وبعث فيها الحياة بعد أن كانت خامدة خاملة. وقد كانت حال هذه السواحل قبل الإسلام أحسن بكثير من حالها في القرن التاسع عشر إلى يوم استنباط البترول في القرن العشرين، بدليل ما نقرؤه في الموارد التأريخية من أسماء مواضع كانت مأهولة، زالت واندثرت، وأسماء قبائل كانت تنزل بها، اضطرتها أحوال قاهرة متعددة متنوعة إلى هجرها، فقلَّ عدد سكانها بالتدريج. وتعد البحرين من أكثف المناطق في جزيرة العرب. فإن نسبة عدد سكانها بالقياس إلى مساحة أرضها عالية نسبيًّا قبل الإسلام وفي الإسلام. وسبب ذلك هو توافر الماء فيها، واعتمادها على استخراج اللؤلؤ من البحر وعلى صيد السمك الذي يقدم للأهلين المادة الأولى للمعيشة. والماء فيها غير عميق عن سطح الأرض وقد كوّن عيونًا في بعض الأماكن ولهذه المميزات صارت موطنًا للحضر قبل الإسلام بزمن طويل. وفي جزيرة العرب خامات معادن، ومن الممكن استغلال بعضها استغلالًا اقتصاديًّا، ومن هذه المعادن الذهب. وقد ذكر الجغرافيون العرب أسماء ومواضع عرفت بوجود خام الذهب بها، مثل موضع "بيشة" أو "بيش"، وقد كان الناس يجمعون التبر منه، ويستخلصون منه الذهب1. و "ضنكان"، وكان به معدن غزير من التبر2، والمنطقة التي بين القنفذة و "مرسي حلج"3. ويظهر من المؤلفات اليونانية ومن الكتب العربية أن المنطقة التي بين القنفذة و"عتود"، كانت معروفة بوجود التبر فيها؛ فكان الناس يشتغلون هناك باستخلاص الذهب منه، ولهذا رأى "موريتس" أن هذه المنطقة هي منطقة "أوفير" "OPHIR" التي ورد ذكرها في التوراة على أنها كانت تصدر الذهب4. ويشاهد في وادي تثليث على مقربة من "حمضة" وعلى مسافة 183 ميلًا من

_ 1 البلدان "2/ 333 فما بعدها"، صفة "127، 257"، المسالك والممالك "188" فؤاد حمزة، في بلاد عسير "61 فما بعدها"، MORITZ, S,105. 2 صفة 120. 3 Moritz, S. 110, Glaser, Skizze, S. 29. 4 Hommel, Grundriss, Vol., 1, S., 13, Moritz S., 110.

نجران آثار التبر، ويظهر أنه كان من المواضع التي استغلت قديمًا لاستخراج الذهب منها1. وقد اشتهرت ديار بني سليم بوجود المعادن فيها2، وفي جملتها معدن الذهب، ويستغل اليوم الموضع الذي يقال له "مهد الذهب"، ويقع إلى الشمال من المدينة باستخراج الذهب منه، وتقوم بذلك شركة تستعمل الوسائل الحديثة، تحرّت في مواضع عديدة من الحجاز الذهب والفضة ومعادن أخرى؛ فوجدت أماكن عديدة، استغلت قديمًا لاستخراج "التبر" منها، ولكنها تركتها لعدم تمكنها من الحصول على الذهب منها بصورة تجارية، تأتيها بأرباح حسنة، واكتفت بتوسيع عملها في "مهد الذهب"؛ لأنه من أغزر تلك الأماكن بخام الذهب، وظلت تنقب به إلى أن تركت العمل فيه، وحلت نفسها، وتركت كل شغل لها بالتعدين3. وقد ذكر الكتبة اليونان أن الذهب يستخرج في مواضع من جزيرة العرب خالصًا نقيًّا، لا يعالج بالنار لاستخلاصه من الشوائب الغريبة ولا يصهر لتنقيته. قالوا ولهذا قيل له "إبيرون" "APYRON". وقد ذهب "شرنكر" إلى أن العبرانيين أخذوا لفظة "أوفير" من هذه الكلمة4. وقد عثرت الشركة في أثناء بحثها عن الذهب في "مهد الذهب" على أدوات استعملها الأولون قبل الإسلام في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه، مثل رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح، وشاهدت آثار القوم في حفر العروق التي تكوّن الذهب، وأمثال ذلك مما يدل على أن هذا المكان كان منجمًا للذهب قبل الإسلام بزمن طويل، ولعله من المناجم التي أرسلت الذهب إلى "سليمان"؛ فأضيف إلى كنوزه، على نحو ما هو مذكور في التوراة5.

_ 1 The middle East, "Royal Inst. Of Inter. Affairs" P. 91, "1950", Twitchell, P. 77. 2 صفة 113، 153، ومواضع أخرى 3 "شركة التعدين السعودية العربية"، ويشمل امتيازها كل أرض الحجاز، وتقوم بالبحث عن جمع المعادن، وقد بحثت في منطقة الطائف؛ غير أنها لم توسع أعمالها كثيرًا، تأسست سنة 1934م، ثم صفت أعمالها وتوقفت عن العمل، "Saudi Arabian Mining Syndicate, Ltd", Twitchell, P. 146, 157, Sheba's, P. 15 The, Middle East, 1948, P. 248. 4 Montgomery, Arabia, P. 39. 5 Sanger, the Arabian Peninsula, P. 20, 23.

ويظن بعض الباحثين أن منجم "مهد الذهب" هو المنجم الذي كان لبني سُليم؛ فعرف باسمهم وقيل له: "معدن بني سُليم"، وقد وهبه الرسول إلى بلال بن الحارث1. وعرفت "أرض مدين" وما والاها من الأرضين في شمال "وادي الحمض" بوجود التبر فيها واستخراج الناس له هناك قبل الميلاد بمئات من السنين. وتوجد آثار المناجم التي كانت تستغل مبعثرة في مواضع عديدة حتى اليوم2. وتوجد خامات معادن أخرى في الحجاز منها الكبريت والنحاس والقصدير والحديد3، وتستخرج الأملاح من الصخور الملحية التي في الحجاز وفي عسير عند جيزان، ويستخرج الأهلون منها مسحوقًا لاستعماله في عمل المفرقعات4 كما أن هنالك مثل هذه الصخور الملحية في السلف من اليمن. ويمكن الاستفادة من هذه الأملاح فائدة كبيرة من الوجهة الاقتصادية حيث تدخل في كثير من الصناعات. وفي منطقة "رابغ" توجد رواسب "البارايت" "barite" وتدل البحوث الأولية على أنه من الممكن استخراج عشرة آلاف طن من "البارايت" في كل عام5. وتدل الدلائل على أن هنالك منجمًا قديمًا في منطقة "رابغ" كان يستغل لاستخراج "الكالينة" "galena"؛ غير أن النماذج التي فحصت فحصًا أوليًّا دلّت على أن هذه المادة قليلة فيها. ويظهر أن هناك كميات كبيرة من تراب الحديد في "العقيق" على مقربة من "مهد الذهب" كما شوهدت خامات المعادن في موضع "برم" جنوب الطائف6 وفي موضع "نفى"7، ولا يستبعد العثور على البترول في الحجاز في المواضع المتكونة من الطبقات المترسبة "sedimentary formations"، وتوجد في الحجاز الرمال التي تصلح لصنع الزجاج8. وتستغل أرض الأحساء في استخراج "البترول"9،ويكثر وجود البترول في

_ 1 Naval, P., 517. 2 Richard Burton, The Arabian Peninsula, P., 17. 3 TwitcheU, P., 162. 4 Twitchell, P., 163. TwitcheU, P., 164. 5 Twitchell, P., 164 6 المصدر نفسه ص 164، "معدن البرم"، البلدان "8/ 94". 7 "نفي" البلدان 8/ 308"، twitchell, p,, 164. 8 وهبة 20. 9 The Middle East, (1950) , P., 90.

العروض حيث حفرت الآبار في الكويت والبحرين، وتدل الدلائل على وجوده في قطر وعمان، كذلك دلّت التحريات على وجوده في حضرموت في منطقة "شبوة"1، وفي المناطق وراء شبوة إلى داخل جزيرة العرب؛ حيث يحتمل العثور على مناجم للذهب كذلك2. ويجري البحث عن البترول في محمية "عدن" وفي اليمن. ودلت التقارير الأولية على وجود الفحم في حضرموت في منطقة "شبوة"، وتوجد الصخور الملحية مترسبة في بطن طبقات الأرض يقتطعها الأهلون، وتستغل في الأعمال التجارية، كذلك توجد هذه الصخور الملحية في اليمن، وقد تكونت بفعل العوامل "الجيولوجية" والضغط المتواصل، فتحجرت بمرور آلاف السنين عليها، وتكمن تحت سطح الأرض في بعض الأماكن حيث تحفر جوانب التلال للوصول إلى قلب مناجم الملح المتحجرة، وقد يفتت باستعمال المواد المتفجرة "الديناميت"3، وتستخرج صخوره من بعض المناجم صافية بيضاء كأنها البلور4. مثل المِلْح المستخرج من "جبل الملح" بمأرب، فإن ملحه كما يقال صافٍ كالبلور5. وتشتهر "السلف" بوجود مناجم ملح فيها، تقع على مسافة أربعين ميلًا إلى الشمال من الحديدة. وتوجد في جزيرة "قمران" المقابلة لهذا الموضع مناجم ملح، وكذلك في "اللحية"6. وإلى وجود مثل هذه الصخور الملحية في كثير من أنحاء جزيرة العرب، يجب أن يعزى ظهور قصص بناء القصور من الملح المنتشرة في كتب التأريخ والأدب. ولما كانت أرض اليمن وأكثر الأنحاء الأخرى من الجزيرة، لم تفحص حتى الآن فحصًا فنيًّا، ولم تطأها أقدام الخبراء، فمن الصعب التحدث عن مواطن المعادن فيها، وعن أنواع التربة، وأثرها في الحضارة الجاهلية. وقد وجدت مصنوعات حديد في اليمن، عثر عليها في الخرائب والآثار

_ 1 sheba's, p,, 103. 2 المصدر نفسه ص 198. 3 كذلك ص 99، 114. 4 أيضًا، ص114، 127. 5 صفة ص 201. 6 scott, p,, 114, 237.

والأماكن العادية، كما اشتهرت اليمن بسيوفها، في الجاهلية وفي الإسلام؛ غير أننا لا نعرف الآن المواطن التي كانت تستغل لاستخراج الحديد منها، وقد ذكر الرّحّالة "نيبور" أنه كان في "صعدة" منجم، يستخرج منه الحديد، وأن أماكن أخرى كانت تستغل لإنتاج هذه المادة1. وذكر "الهَمْداني" من معادن اليمن الذهب والفضة، وقال: إنه كان يستخرج من "الرضواض" ولا نظير لفضته، والحديد، وكان يستخرج من "نقم" و "غمدان" و "فصوص البقران"، وتستخرج من جبل أنس. و "فصوص السعوانية" وتستخرج من "وادي سعوان" جنب صنعاء، وهو فص أسود فيه عرق أبيض ومعدنه بشهارة وعيشان من بلد حاشد إلى جنب هنوم وظليمة والجمش من شرف همدان، وحجر "العشاري"، وهو الحجر العشاري من عشار بالقرب من صنعاء، والبلور، والمسنى الذي تعمل منه أنصاب السكاكين والعقيق الأحمر، والعقيق الأصفر من الهان والجزع الموشى والمسير، والشزب تُعمل منه ألواح وصفائح وقوائم سيوف وأنصاب سكاكين ومداهن وقحفة وغير ذلك2. وعرفت اليمن بعقيقها الذي يقال له "عقيق يماني" و "حجر يماني" وهو "الجزع"3 "onyx". وقد بقيت بعض المواضع المذكورة تستغل معادنها في الإسلام؛ إلّا أن تغيّر الوضع في جزيرة العرب في الإسلام وهجرة كثير من القبائل إلى البلاد المفتوحة، ووجود صناعات فيها ومعادن أثمانها أرخص من أثمان معادن الجزيرة، ثم تقدم العالم بعد ذلك وظهور الثورة الصناعية، كل هذا وأمثاله أثر في وضع التعدين وفي صناعة المعادن في جزيرة العرب، فدثرها، أو تركها مشلولة لا تعمل إلا في حدود مرسومة ضيقة وفي مجال محلي. وليست دولة الحيوان في جزيرة العرب دولة ضخمة عظيمة، وكيف تكون ضخمة وأكثر أرض الجزيرة عدو للحيوان ولكل ذي روح؟ والجمل هو الحيوان الأليف الوحيد الذي استطاع بعناده وبصلابته على السير بجبروت وبتبختر فوق

_ 1 scott, p,, 114, 237. 2 صفة ص 202 فما بعدها. 3 scott, p, 237.

رمال الصحاري، غير عابئ بالرياح العاتية التي تَذْرُو الرمال في الأعين، وتنقل أكوامًا منها معها، تكفي لدفن الجمل ومن عليه أو من معه ومع ذلك فإن هذا الحيوان الصبور العنيد. لم يتوفق أيضًا في تحطيم جبروت البوادي في كل مكان؛ فظلّ بعضها أرضًا حراما عليه وعلى السابلة، تحطم من يريد التجاوز عليها والاعتداء على استقلالها، بأن تميته عطشا، فتفتح ذرات رملها الناعم، وعندئذ تغوص قوائم الجمل فيها فيبقى في مكانه حتى ينفق. والجمل، هو أيضًا من أقدم الحيوانات التي سمعنا بها عند العرب، وأعزّها وقد صوّر في النصوص الأشورية، عند ذكر معركة "قرقر" ومعارك أخرى، وقعت بين العرب والأشوريين. وطبيعي أن يقرن الجمل بالبادية، وأن يُجعل رمزًا لها، فليس لحيوان آخر القدرة على اجتياز البوادي واختراقها وتحمل مشقّاتها وعطشها مثل الجمل. ثم إنه مركب العرب، يحملهم، ويحمل تجارتهم وماءهم، وهو ممونهم بالوبر لصنع البيوت حتى قيل للأعراب "أهل الوبر" ومنه يصنعون أكسيه عديدة. ولبن الإبل، هو لبن أهل البادية، وإذا احتاجوا إلى لحم، ذبحوا الجمل، فأكلوه، وأفادوا من جلده. والجمل ثروة، والثري العربي هو من يملك عددًا كبيرًا من الإبل، وتقدّر ثروته بقدر ما يملكه منها. وقد كان الجمل مقام "النقد"، أي مقام الدينار والدرهم في الغالب؛ فبعدد من الإبل يقدر مهر الفتاة، وبعدد من الإبل تُفَضُّ الديات والخصومات. وهكذا يتعامل به كما نتعامل اليوم بالنقود. ويرى العلماء أن الإنسان ذلّل الجمل حتى صيّره أليفًا مطيعًا له في الألف الثانية قبل الميلاد1. وقد ذهب بعضهم إلى أن العربية الشرقية كانت الموطن الذي ذلّل فيه هذا الحيوان في الشرق الأدنى، استدلوا على ذلك بإطلاق العراقيين القدماء على الجمل اسم "حمار البحر"، وقالوا إن قصدهم من "البحر" الخليج، وأن لفظة "الجمل" "جملو" "كَمَلو" في الأكادية"؛ إنما وردت من بادية الشأم، ومعظم سكان البادية هم من العرب، وقد كانوا يستعملون الجمل استعمال الناس للسيارات ولوسائل الركوب في هذا الزمن. وقد استعملوه في الألف

_ 1 W. F. Albright, Prom the Stone Age to Christianity, Baltimore, 1946, PP., 107, \ 120, Reinhard Waltz, Zeitschrift der Deutschen Morgenlandischen Gesellschaft, 101, 1951, S., 29, ff., 1954, S., 47. ff., Discoveries, P. 35.

الثانية قبل الميلاد، فدخوله من البوادي إلى العراق هو دليل على أن العرب كانوا قد استخدموه أولًا ومنهم انتقل إلى العراق والبلاد الأخرى1. ويرى "إلبريت" أن البداوة الحقيقية على نحو ما نعرفها اليوم من السكنى في البوادي والتنقل فيها من مكان إلى مكان، لم تظهر في جزيرة العرب إلا في أواخر النصف الثاني من الألف الثانية قبل الميلاد، وذلك بتذليل الإنسان للجمل وبترويضه له لخدمة أغراضه، ففتح له بذلك أبواب البوادي، وتمكن من التوغّل فيها واجتيازها بفضل جمله خادمه المطيع. أما ما قبل الجمل؛ فقد كان العربي لا يستطيع اجتياز البوادي واختراقها لأن حماره الذي كان واسطة الركوب عنده، لا يتحمل ولوج البادية، ولا يستطيع أن يعيش فيها، وأن يصبر عن شرب الماء أو الأكل صبر الجمل؛ لذلك كان عرب الجزيرة في الألف الثانية، وقبل وقت تذليل الجمل رعاة في الغالب، وسائط ركوبهم الحمير، ولم يكونوا قد طرقوا البوادي أو توغّلوا فيها توغّل العرب أصحاب الوبر فيما بعد2. فالجمل إذن هو الذي فتح لأهل جزيرة العرب آفاق البوادي، ووسع البداوة عندهم، حتى جعلها علمًا خاصًا يقابل عالم الحضارة في الجزيرة. وهو الذي صار أهم واسطة لنقل الأموال بالطرق البرية الطويلة التي تربط أجزاء الجزيرة بعضها ببعض، وتربط طرق الجزيرة مع الطرق الخارجية. وبفضل الجمل القادر على تحمل العطش والصبر على الجوع، وعلى تحمل الصعاب صار في إمكان العرب التنقل إلى مسافات بعيدة من الجزيرة وحمل أثقاله معه. فاستخدام العرب له هو في الواقع ثورة كبيرة في ذلك العهد بالنسبة على وسائط النقل والحمل وفي عالم التجارة والاقتصاد. ومن حق العربي إذا ما عبّر عن الغنى أن يعبر بكثرة ما عند الإنسان من إبل. وقد عرف الجمل بوجود غريزة الانتقام فيه، وبعدم نسيانه أذى من يؤذيه؛ لذلك زعم أنه يبقى حاقدًا على المسيء إليه حتى ينتقم منه ولو بعد زمن طويل. ويظن أن لتفسير اشتقاق اسمه دخلًا في ظهور هذه الفكرة، فقد فسرت لفظة الجمل بأنها من فعل "كَمَلَ" "جَمَلَ" كامل" "جامل"، أي انتقم، مع أنها تعني "حَمَلَ" أيضًا. وقالوا إن معنى "الجمل" "المنتقم"،

_ 1 BASOR, uum. 160, 1960, P. 42 2 Recoveries, P. 87.

وقالوا إنه سُمي بذلك لأنه حيوان منتقم، ومن ثم وصف "أرسطو" و "أريان"، الجمل بأنه حيوان لا ينسى الأذى، سريع الانتقام. وقد يكون لأقوالهما ولأقوال غيرهم في الجمل دخل في تكوّن هذه الفكرة عنه عند الناس حتى اليوم1. الجمل المعروف في جزيرة العرب، هو الجمل ذو السنام الواحد. وهناك نوع من الجمال يقال للواحد منها "الهجين"، وهو الجمل المُضرب، ويكون أصغر حجمًا من الجمل العربي الأصيل؛ إلا أنه أسرع عدوًا منه2. وقد عدّ الجمل عند العبرانيين من موارد الثروة والغنى كذلك، ولذلك عُدّ "أيوب" من أغنياء زمانه لأنه كان يملك ألفي جمل، وعد "المديانيون" "أهل مدين" وهم من العرب، أغنياء، لأنهم كانوا يملكون عددًا كبيرًا من الجمال3. وللجمل في العربية أسماء كثيرة. أما في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى، فلا نجد فيها مثل هذه الكثرة. ويقال للجمل "كمل" و "بكرة". ويراد بـ "كمل" الجمل. أما "بكرة" فالجمل الصغير. والجمل من أقدم الحيوانات المذكورة في التوراة، وذكر أنه كان لإبراهيم عدد كبير من الجمال4. وبالرغم من اشتهار جزيرة العرب بجمال خيلها، وبتربيتها لأحسن الخيل، وبتصديرها لها. فإن الخيل في جزيرة العرب إنما هي من الحيوانات الهجينة الدخيلة الواردة عليها من الخارج، ولا ترتقي أيام وصولها إلى الجزيرة إلى ما قبل الميلاد بكثير. قيل إنها وردت إليها من العراق. ومن بلاد الشام، أو من مصر5، وإن وطنها الأصلي الأول هو منطقة "بحر قزوين". ولهذا لا نجد في الكتابات الأشورية، أو في "العهد القديم" أو في المؤلفات "الكلاسيكية"، إشارات إلى تربية الخيل في جزيرة العرب، أو استعمال العرب لها في حلهم وترحالهم وفي حروبهم. وقد بقي العرب إلى ما بعد الميلاد، بل إلى ظهور الإسلام، لا يملكون عددًا كبيرًا من الخيل. وفي غزوات النبي ومعاركه مع المشركين، كان عدد الخيل التي اشتركت في المعارك محدودًا معدودًا، مع أنها كانت مهمة جدًّا وعدة

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 338". 2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 339". 3 القضاة، الإصحاح السابع، الآية 12. 4 Hastings, 1. p. 344. 5 Sanger, The Arabian Peninsula, P., 77.

حاسمةً في إحراز النصر. وذلك بسبب قلتها إذ ذاك، وعدم تمكن كل الناس من اقتنائها؛ إلا من كان موسرًا منهم، أو في حال حسنة. فقد كانت تكاليف الخيل كثيرة لا يتحملها إلا ذَوُو الدخل الحسن، فالخيل في حاجة إلى عناية ورعاية، وطعامها للمحافظة على صحتها يكلف باهظًا. فلا بد من تقديم الحشائش والحبوب لها ثم إن مجال استعمالها في البادية محدود لأنها لا تستطيع تحمل جوع الصحراء وعطشها تحمل الجمل، كما أنها لا تستطيع السير في رمال البوادي المهلكة المتعبة مسافات بعيدة لهذا لم يقبل الأعرابي العادي على شرائها أو تربيتها في تلك الأيام، فصارت من نصيب أهل اليسر والحال الحسنة، يمتلكها ويعتني بها من يملك السيارات في هذه الأيام. كثرتها عند الرجل علامة على ثرائه ووجاهته بين الناس. ونظرًا لسرعة الخيل وخفّتها في الكرّ والفرّ، صارت أهم سلاح لنجاح الغزو وإلحاق الأذى بالعدو، يغِير عليها المغير فيبَاغِت خصمه بهجوم سريع خاطف، فيربكه، ولهذا أخذت القبائل، ولا سيّما القبائل الساكنة في مضارب قريبة من الأرياف ومن الحضر، تشتري الخيل وتعتني بها للمحافظة على حياتها في الدفاع والهجوم. وعدّت القبائل القوية، هي التي تملك عددًا كبيرًا من الخيل، وصار للفارس مقام خطير في ذلك الزمن، لشجاعته وصبره في الدفاع عن مواطنيه؛ فهو بمثابة "الكومندو" في هذه الأيام1. واستعملت الخيل للتسلية واللهو واللعب، فتسابق على ظهورها الفرسان في حلبات السباق، وتراهن الناس على السابق، ولعب الفرسان بعض الألعاب: ألعاب الفروسية وخرجوا على ظهورها للصيد، فالصياد الراكب، أقدر من الصياد الراجل على مطاردة الصيد. وفي القرآن ذكر للخيل كمصدر من مصادر القوة، يرهب بها المسلمون أعداءهم ومصدر من مصادر الثروة، ومصدر من مصادر الزينة وبهجة الحياة الدنيا2. وفي الحديث ذكر لها كذلك وثناء عليها. وعُدّت الخيول من الحيوانات

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 155 وما بعدها". 2 آل عمران، الآية 14، الأنفال، الآية 60، النحل، الآية 8، الحشر، آية 6 الإسراء، آية 64.

الشريفة الرفيعة في التوراة1، وصوّرت على شكل خيول من نار فيها، تهبط على أعداء الرب لتنزل بهم الهلاك والدمار2. أما البغال، فإنها من الحيوانات المعروفة بتحملها للمشقّات، وقدرتها على السير في المناطق الوَعِرة، مثل الهضاب والأرضين المتموجة والجبال. وقد استعملت في الحمل وفي الركوب، وهي تؤدي خدمات في هذه المناطق يَعْسُر على الجمل القيام بها، وقد يعجز عنها. أما هي: فإن من الصعب عليها العمل في البوادي ذات الرمال، كما أنها لا تستطيع الصبر صبر الجمل على تحمل الجوع والعطش أيامًا متوالية عديدة؛ لذلك لم يقبل عليها أهل البادية، ولم يعتنوا بها. وقد حرم قدماء العبرانيين على أنفسهم تربية البغال، وأول من أباح ذلك وجوز لهم استعمالها هو "داود"، ومنذ ذلك الحين، أقبلوا على تربيتها والاستفادة منها في أرض فلسطين3. ويظهر أن قدماء العبرانيين لم يكونوا يعرفون البغال، فلما وجدوها عند أمم وثنية غريبة عنهم، كرهوا استعملها فحرموها على أنفسهم، حتى انتبه "داود" لفائدتها ومنافعها، فاستعملها، ثم قلده في ذلك بقية العبرانيين بالتدريج. ويظهر أن البغال لم تكن كثيرة الاستعمال في جزيرة العرب حتى ظهور الإسلام. فقد ورد في كتب السير أن "دلدلًا"، بغلة النبي، "أول بغلة رُئِيتْ في الإسلام أهداها له المقوقس، وأهدى معها حمارًا يقال له عُفير"4. وورد أيضًا: "أُهْدِيَ لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، بغلة شهباء فهي أول شهباء كانت في الإسلام"5. وورد: "أهدى فروة بن عمرو إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، بغلة يقال لها فضة"6.

_ 1 أيوب، 39 آية 19 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "2/ 155". 2 الملوك الثاني، الإصحاح الثاني، الآية 11، قاموس الكتاب المقدس "2/ 156". 3 اللاويون 19، 19، صموئيل، 13، 29، 18، 9، الملوك الأول، 321، 10، 25، 18، 5، hastings, p,, 637. 4 ابن سعد الطبقات "1/ 491" "طبعة دار صادر". 5 المصدر نفسه. 6 كذلك.

وورد في القرآن الكريم: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً......} 1؛ مما يدل على أن من الناس من استعمل البغال للركوب وللزينة. وقد كان من الأشراف والوجهاء من يتخذ البغال للركوب في الطرق الوَعِرة. أما مَنْ هم دونهم في المنزلة، فكانوا يتخذون الحمير. وقد ورد في شعر ل "بشر بن أبي خازم الأسدي" ما يفيد أن البغال كانت معروفة في بعض المواضع، وأن أبوالها كانت تترك وَقِيعًا أي أثرًا على الأرض2. والظاهر أنه قصد بعض الأرضين الوعرة التي كان من الصعب على غير البغال السير بها، وذلك مثل بلاد اليمن التي كانت تستعمل البغال للركوب ولرفع الأثقال. والحمير هي أول واسطة للركوب وللحمل عند الحضر وأهمها، هي للحضري مثل الجمال للبدوي، وهي مركب مريح لا يسبب إزعاجًا، ولا سيّما إذا كان أتانًا؛ لأنها أهدأ وآمَنْ من العثار. هذا، إلى أنها صبور تتحمل المشقّات، ولعل صبرها وتحملها وسكوتها عند ضربها، قد حمل كل الناس على وسمها بالبلادة. فشُبِّه البليد بالحمار، فإذا أريد تعبير شخص بالبلادة وعدم الفهم قيل إنه "حمار". ليس ذلك عند العرب وحدهم، بل عند غيرهم من الشعوب القريبة منهم مثل العبرانيين، والبعيد عنهم. فشهرة الحمار بالبلادة شهرة عالمية3. ويقال للحمار "حامور" "hamor" في العبرانية. أما الأنثى. فإنها "أتون" "athon" أي "أتان" في العربية. وأما الحمار الصغير، وهو ما يقال له "الكر" أو "الجحش"؛ فإنه "عير" "ayir" في العبرانية4. ويظهر من ملاحظات بعض الباحثين أن الحمار في جزيرة العرب هو أقدم عهدًا من الجمل ومن الخيل والبغل؛ إذ كان واسطة الركوب والنقل في أوائل الألْف الثانية قبل الميلاد. فلما حلّ الجمل محله خفف من واجباته وأعماله، وصار عند العرب في منزلة هي دون منزلة الجمل بكثير.

_ 1 النحل، الآية: 8. 2 وقد جاوزن من غمدان أرضا ... لأبوال البغال بها وقيع. وفي بعض الكتب "عيدان" في مكان "غمدان" ديوان بشر "ص132". 3 Hastings, p. 59 4 Hastings, p., 59

والبقر من الحيوانات القديمة في بلاد العرب، وهي من الحيوانات الملازمة لأهل الحضر في الغالب، ولا سيّما لأهل الريف، أما الأعراب فإن استفادتهم منها غير ممكنة وتكاليفها كثيرة بالنسبة إليهم، ثم إنها لا تستطيع تحمل طبيعة البادية، لذلك لم يقبلوا عليها، ولم يعتنوا بتربيتها، بل ربما نظروا إلى أصحابها نظرة ازْدِرَاء وعدم احترام. ويستفاد من ألبانها ومن لحومها وجلودها، كما يستفاد منها في حرث الأرض، وفي سحب الماء من الآبار، وفي جر العربات. وقد عُثر على ألواح مكتوبة بالمسند وعليها صور ثيران تقوم بحراثة التربة لتهيئتها للزرع. والأغنام، هي المادة الرئيسية لتمويل الناس باللحوم والصوف. تربى في كل أنحاء جزيرة العرب، ويستفاد من ألبانها كذلك. أما "المعز" فيربى في المناطق المتموجة، أي ذات التلال، وفي الأرضين الجبلية بصورة خاصة. ويستفاد منها مادة للحوم وللحليب وللجلود، ويستعمل شعرها للخيام السود المصنوعة من شَعْرها في تلك الأزمنة1. ولكن هذه الأنواع من الماشية، لا تستطيع العيش في البادية؛ لذلك كانت من نصيب أهل المدن وحدهم. أما أهل الوبر الضاربون في البادية فإن ماشيتهم الوحيدة الإبل. وعرفت جزيرة العرب الأسد، الذي قلّ وجوده فيها في الإسلام، ويظهر من كثرة أسمائه في اللغة ومن ورود اسمه في الشعر الجاهلي، أنه كان كثيرًا فيها، وقد اشتهرت أماكن خاصة منها بكثرة أُسُودها حتى قيل لها "مآسد" والواحدة "مأسدة". ومن هذه الأماكن "عثّر"، وإليها نسبت "أسود عثر"، و "عتود" وهي قرية نسبت إليها الأسود كذلك2. وقد عرف الأسد بشدة بطشه وبقوته وبسيادته على سائر مملكة الحيوان في القوة، ولهذا لقبوا الشجاع الذي لا يقهر أسدًا. أما بقية الحيوانات المعروفة باسم الحيوانات الوحشية، أي التي لم تألف الإنسان، فمنها النمر3 والفهد والثعلب والذئب والقط الوحشي والضبع والبقر

_ 1 hastings, p,, 906. 2 المخصص "8/ 59 فما بعدها"، صفة "54"، moritz, s, 40,, f,, noldeke, in zdmg, 49, 713,f. 3 صفة "202".

الوحشي1، أو الرئم والحمار الوحشي، وقد كان الجاهليون يصطادونه ويأكلونه عند الحاجة، حتى حرمه الإسلام، والنعامة2 والغزال والضَبّ، وله ذنب معقد، ويأكله الأعراب. والورل والوزغ، واليربوع، والقنفد. ولا تزال مواضع من اليمن والحجاز وحضرموت تحتضن قردة تتيه وحدها على الجبال والمرتفعات، فخورة بأنها من نسل تلك القرود التي عاشت قبل الإسلام بأمد طويل. وعرف العقاب والبازي والنسر والصقر واليوم من بين الكواسر التي تنقض على الطيور الضعيفة والهوام فتعيش عليها، والغراب بأنواعه معروف في جزيرة العرب وله قصص في الأساطير العربية، ولهذا الطائر قصص في الآداب الأعجمية كذلك، لها علاقة كما هي عند العرب بالتفاؤل والتشاؤم بصورة خاصة وكان من الحيوانات التي تركت أثرًا في أساطير الشعوب القديمة وما برح الناس يتطيّرون من نعيبه. والهدهد المذكور في القرآن الكريم، من الطيور الجميلة المحبوبة، وهناك أنواع عديدة من الحمام والعصافير والقطط والعنادل، وغيرها من الطيور الجميلة ولبعضها أصوات جميلة أخاذة ساحرة، كما أن لبعضها ألوانًا زاهية. والجراد، وإن كان طعامًا شهيًّا لكثير من البدو، بلاء على أهل الحضر؛ يأكل زرعهم ويأتي على ما غرسوه فتحل بهم المجاعة، ويزيد في قساوة الطبيعة علىالإنسان. ولذلك عُدّ نقمة توجهها الآلهة على البشر، وتعبيرًا عن الغضب الإلهي على الخارجين على طاعة الآلهة، ولما كان يحدثه من أضرار بالزرع والأثمار والأشجار3. والعقارب ذات أحجام وألوان، وهي تلدغ من تصيبه فتؤذيه وتؤلمه إيلامًا شديدًا، وهي مثال الحقد واللؤم عند العرب، فيضرب المثل بطبيعتها، على عكس الأفاعي والحيّات، مع أنها مؤذية كذلك، وقد تميت من تلدغه. والسبب في ذلك أنها أكبر حجمًا من العقرب، وفي استطاعة الإنسان رؤيتها وتجنبها، ثم إنها لا تقدم على الإنسان ولا تلدغه إلا إذا شعرت أنها في وضع

_ 1 moritz, s. 42 Wellhausen, lleder der Hudhailiten, no. 175, 176. 2 Euting, 1. 230, moritz. S. 42. 3 الخروج، الإصحاح العاشر، الآية 4 وما بعدها، مزامير، المزمور 78، الآية 46، 105، الآية 34، قاموس الكتاب المقدس "1/ 322".

حرج مخيف بالنسبة إليها. ولهذا ورد في الأمثال: "نحو العقرب لا تقرب، نحو الحية افرش ونم"، وزعم أن العقرب عمياء مع أنها ترى مثل سائر الحيوانات؛ ولكن صغر حجمها ولونها الذي يقرب من لون التراب، وكثرة وجودها في البيوت، هي عوامل تجعل الإنسان لا يميزها بسهولة، ولا يشعر بها إلا وقدمه عندها أو فوقها، فتلدغه عندئذ دفاعًا عن نفسها، كما يفعل أي حيوان آخر باستعمال ما عنده من وسائل الدفاع عن النفس. وقد تركت الأفاعي والحيّات أثرًا كبيرًا في القصص العربي ولما كان بعضها كبير الحجم، ويقفز على من يهاجمه بسرعة خاطفة، أفزع الناس في البوادي والأودية، وترك في مخيلاتهم آثارا باقية لا تنسى. جعلهم يربطون بين الحيّات والأفاعي والعفاريت، وبين الجن "الجان"، بأن جعلت فصائل منها. وتعيش في الرمال وفي الغابات وبين الصخور، فصائل من الحيّات مختلفة الأحجام، بعضها صغير، يقفز قفز بعض السمك فوق سطح البحر، أو الهوام وبعض الحشرات فوق سطح الأرض. فلا يشعر المارّ إلا وأمامه حية قافزة تفزعه وترعبه. وقد طار صيتها وانتشر خبرها خارج حدود جزيرة العرب؛ فوصفت بلاد العرب بكثرة الحيات الطائرة، حتى زعم أن لبعضها أجنحة، وأنها ذات ألوان متعددة، وكوّن وجودها قصصًا في مخيلة الأشوريين واليونان والرومان، نرى أثره فيما ذكره "هيرودتس" و "سترابو" عن تلك الحيات1. وقد فزع جيش "أسرحدون" في أثناء اختراقه البادية من كثرة الثعابين والحيات التي كانت تثور عليه وتقفز أمامهم كما يقول نص "أسرحدون". وذكر أن من بينها ثعابين ذات رأسين، وأن من بينها ما له جناح فيطير. ولما مرّ الجيش بأرض "بوزو" "بازو" "bozu" "bazu"، وجد الأرض مغطاة بالثعابين والعقارب، وهي في كثرتها مثل الذباب والبعوض2. والظاهر أن البوادي كانت منازل طيبة للثعابين. وقد تذمر الإسرائيليون من "الثعابين الطائرة" وفزعوا منها عندما كانوا يقطعون البوادي والفيافي في طريقهم إلى

_ 1 Herodotus, IH, 107, 113, Strabo, XVI, 4, 19, 25. 2 Rogers, Cuneiform parallels to the Old Testament, P., 359, Luckenbill, II, 209, 229, Montgomery, Arabia and the Bible, PP. 8.

فلسطين1. وقد أفزعت السياح المحدثين والمستشرقين، ومنهم "لورنس" الذي هاله ما رأى من كثرة الثعابين في الأماكن التي نزل بها وفي جملتها "وادي السرحان2". والسمك هو من أهم مواد العيش لسكان سواحل الجزيرة، يعيشون عليه ويبيعونه لحمًا جافًّا ويصدرونه إلى الأماكن البعيدة ويحملون الطري منه إلى الأماكن التي لا تبعد كثيرًا عن الساحل. ويجفف ويدق ليكون طعامًا عند الحاجة إليه، كما يكون طعامًا لحيواناتهم كذلك. ولا يزال سكان السواحل يصيدون السمك بالطرق التي تعوّد أهل الجاهلية استعمالها في السمك. ويأتي سمك "السردين" أي السمك الصغير في مواسم الشتاء إلى السواحل بكثرة، فيصاد بسهولة وتغذى به الحيوانات. وطالما تنبعث الروائح الكريهة ويتراكم الذباب بدرجة منفرة من تكدس الأسماك المعرضة للشمس لتجفيفها، فتكون من شر الأماكن لمن لم يتعود دخولها. ومن أنواع السمك الكبير الذي يوجد في البحر الأحمر وفي البحر العربي والخليج، نوع يقال له "القرش"، يحتاج صيده إلى مهارة وبراعة، ويحمل لبيع لحمه مقطعًا في الأسواق. وقد اشتهر اليمن والطائف في الحجاز ومواضع أهل الحضر الأخرى بدباغة الجلود ومعالجتها لتحويلها إلى مادة نافعة لصنع الأحذية أو الدلاء أو القُرَب وما شابه ذلك. وقد تصدَّر الجلود مدبوغة أو غير مدبوغة، إلى العراق أو إلى بلاد الشام لبيعها هناك. وليست لدينا في الزمن الحاضر دراسات علمية دقيقة عن أنواع الحيوانات التي عاشت في جزيرة العرب في العصور السحيقة لما قبل الإسلام. فما عثر عليه من بقايا عظام قديم، أو أصداف ومحار، هو قليل لا يكفي لإعطاء أحكام علمية عن حيوانات جزيرة العرب في العصور البرنزية والحديدية والحجرية، أو ما قبل هذه العصور التأريخية. فليس لنا إلا الانتظار، حتى تأتي الفرص الملائمة التي يقوم فيها العلماء المتخصصون بالتجوال في مختلف بحثًا عن آثار عظام

_ 1 العدد 21 الآية 24 ما بعدها، أشعياء، 30، الآية 6. 2 Colonel Lawrence, Revolt in the Desert, P., 93, G. Jacob, Studien in Arab. Dichtern, Heft, 1, S.f 93, Heft, 4, S., 10, Montgomery P. 9.

وهياكل، تكشف القناع عن ذلك العالم الحي، الذي عاش في هذه البقاع قبل آلاف السنين. وإذا كان الجمل، هو رمز جزيرة العرب، لالتصاقه بها؛ فإن النخيل هي رمز آخر لها، وكناية عن أهم حاصل ومنتوج زراعي تصدره تلك البلاد، ولهذا صارت رمزًا لها. وصار "التمر"، عند كثير من المسلمين من أهم ما يتناولونه في شهر رمضان للإفطار به؛ لأنه رمز الإسلام ورمز المدينة التي عاش وتوفي فيها الرسول. وكما أفاد الجمل أهله الفوائد المذكورة المعلومة، من ناحية حمله ولحمه وجلده ووبره، كذلك أفادت النخلة سكان جزيرة العرب فوائد عديدة، حية وميتة، أفادتهم في تقديم ثمرة صارت إدامًا للعرب، وطبًّا يستطبُّون بها لمعالجة عدد من الأمراض. ومادة استخرجوا منا دبسًا وخمرًا وشرابًا، وأفادهم كل جزء من أجزائها، حتى أنهم لم يتركوا شيئًا من النخلة يذهب عبثًا. فهي إذن رمز الخير والبركة بكل جدارة وحق لأهل جزيرة العرب، لا يدانيها في ذلك أي نوع من أنواع النباتات النامية في هذه البلاد. وكائن له هذه الفوائد والمنفعة، ينمو ويثمر بسهولة ويسر، لا بد أن يثمن ويقدر، ويميز على غيره. ولهذا صارت النخلة سيدة الشجر، لا عند العرب وحدهم بل عند قدماء الساميين أيضًا، وأحيطت عندهم بهالة من التقديس والتعظيم1. وزخرفت معابدهم بصورها واستعمل سعفها الأخضر في استقبال الأعياد والأبطال والملوك وكبار الضيوف؛ لأنه علامة على اليُمن والبركة والسعادة والفرح. ولا يزال السعف زينة تزين بها الشوارع في المناسبات العامة المهمة حتى اليوم. وقد عثر على صورها وصور سعفها على النقود القديمة وفي جملتها نقود العبرانيين الذين يحترمون النخلة احترامًا لا يقل عن احترام العرب لها، ولهذا ورد ذكرها في مواضع عديدة من التوراة والتلمود2. والنخيل، هي مثل الجمال ثروة ورأس مال يَدِرّ على صاحبه ربحًا وافرًا. ومن كان له نخل وافر كان غنيًّا ثريًّا. وقد ربح يهود الحجاز أرباحًا طائلة من

_ 1 hastings, p, 675. 2 اللاويون، 23، 40، نحميا، 8، 15، المكابيون الأول، 13، 51، hastings, p,, 675.

اشتغالهم بزراعة النخيل هناك؛ فالتمر هو مادة ضرورية للأعراب يعيش عليها ويأتدم بها، وإذ هو لم يكن يفْلَح ولا يزرع، كان يشتريه مقايضة في الغالب من تجار التمور، فيكسب أصحاب النخيل أرباحًا طائلة من بيعهم التمور. ولا يوجد مكان في جزيرة العرب فيه ماء، إلا والنخلة هي سيدة المزروعات فيه، بل تكاد تكون النبات المتفرد بالزرع في أكثر تلك الأمكنة. لا يزاحمها نبات آخر من النبات. والنخلة هي من أقدم الأشجار التي احتضنها الساميون، ولعل الفوائد التي حصل الساميون عليها من هذه الشجرة، هي التي حملتهم على تقديسها وعدّها من الأشجار المقدسة، فنجد النخلة مقدسة عند قدماء الساميين وعدّوا ثمرها وهو التمر من الثمار المقدسة التي تنفع الناس1. أما الكروم، فقد غرست في مناطق من الجزيرة اشتهرت، وعرفت بها مثل الطائف واليمن. وأما الأشجار المثمرة الأخرى مثل الرمان والتفاح والمشمش وأمثالها، فقد غرست في مناطق عرفت بالخصب، وبتوافر الماء فيها، ويميل أهلها إلى الزراعة والاستقرار، مثل مدينة "الطائف" مصيف أهل مكة منذ الجاهلية، واليمن. وقد ذكر أن الكروم دخلت إلى بعض المناطق حديثًا، فورد أنها دخلت إلى "مسقط" مثلًا في القرن السادس عشر للميلاد، على أيدي البرتغاليين2، ودخلت إلى الحجاز في القرن الرابع بعد الميلاد غريبة من بلاد الشام. ويرى بعض الباحثين أن النبط واليهود كانوا الوسطاء في نقل الأشجار المثمرة إلى الحجاز3. أما أشجار ضخمة تمد الناس بالخشب على نحو ما نجده في الهند أو في إفريقية، فلجفاف الجزيرة لا نجد فيها مثل تلك الأشجار. لذلك استورد العرب خشب سفنهم ومعابدهم وبيوتهم من الخارج في الغالب، من إفريقية ومن الهند، خلا الأمكنة القريبة من الجبال والمرتفعات التي يصيبها المطر، وتصطدم بها الرطوبة، فقد نبتت فيها أشجار كونت غابات وأيكات، أفادت مَنْ في جوارها؛ إذ

_ 1 hastings, p,, 675 2 جان جاك بيربي، جزيرة العرب "205"، وفي هذه الترجمة العربية المطبوعة سنة 1960 ببيروت، أغلاط كثيرة في ضبط الأعلام. 3 حتى "22".

أمدتهم بما احتاجوا إليه من خشب لاستعماله في مختلف الأغراض. وقد كانت منطقة "حسمى" وأعالي الحجاز ذات غابات، وقد تعبّد أهلها لإله اسمه "ذو غابة"، إله الغابات، كما كست الأحراج الطبيعية والغابات جبال اليمن وجبال حضرموت وعمان. وما زال أهل العروض ولا سيما سكان الخط، يستوردون أخشاب سفنهم من الهند، لعدم وجود الخشب الصالح لبناء السفن عندهم أو في أماكن قريبة منهم. وهم في ذلك على سنة أجدادهم الذين عاشوا قبل الإسلام بل قبل الميلاد، يذهبون بسفنهم الشِّرَاعية إلى سواحل الهند وسيلان تحمل إليها التمور وحاصلات جزيرة العرب والعراق وتعود بهم محملة بحاصلات الهند ومنها الخشب الثمين للاستفادة منه في بناء السفن ولاستعماله في المعابد الضخمة المهمة وفي قصور الملوك. والسدر من الأشجار المعروفة في جزيرة العرب، وترتفع شجرته أمتارًا عن سطح الأرض، وتكوّن ظلًّا يقي من يجلس تحته لهيب الشمس ووهجها المحرق. وتكون له ساق قوية متينة. وهو لا يحتاج إلى سقي دائم، لأن جذوره تمتد عميقة في باطن الأرض، فتمتص الرطوبة، ويعطي ثمرًا هو "النبق"، ويستعمل ورقه استعمال الصابون في تنظيف الجسم. وأشجار مثل السّدر ذات ارتفاع وظلّ، وهي أشجار ذات نفع كبير لأهل البلاد التي تغلب عليها طبيعة الجفاف، لا يمكن أن يقدر أهميتها وفائدتها إلا من ركب الصحراء في يوم حار، ثم جاء فجأة فجلس تحت ظل شجرة تقيه وتقي حيوانه من لهب الشمس، سيرى نفسه في جنة وسط جهنم. فلا عجب إذا ما عبد بعض العرب وبعض الساميين مثل هذه الأشجار، وتقرّبوا إليها بالنذور والقرابين، وتوسّلوا إليها، أو عدّوها من الأشجار المباركة، من أشجار طوبى، الأشجار التي وُعِد بها المتقون في الجنة. وقد عبد قدماء العبرانيين بعض الأشجار المثمرة، وعدّوها إلاهة أنثى، لا إلهًا ذكرًا، وذلك لخاصية الحمل التي فيها، وقد تصوّروا أن للقمر أثرًا في حمل الأشجار، أي في إعطاء الثمرة1.

_ 1 A Religious Encyclopaedia, or Dictionary of Biblical, Historical, Dactrinal, and Practical, Tneology, by Philip Schaff, Vol., 2, P., 916.

وقد ذكرت أسماء بعض الفواكه والأثمار والأشجار في القرآن الكريم، ويدل ذلك على وجودها في الحجاز، واستعمال الناس لها، ووقوفهم عليها، مثل التين والزيتون والأعناب والطلح والسّدر الرومان وعلى وجودها وزرعها في الحجاز، قبل الإسلام بأمد. ولم يكن الحجاز مثل اليمن وحضرموت في كثرة الأشجار والفواكه، وذلك لجفافه بالقياس إلى جو العربية الجنوبية الذين ساعد على نموّ الأشجار. والأَثْلِ والأراك والغَضَى الذي يستخرج منه الفحم، والمعروف بجمره، و "السنط"، والسمح، و "الصعتر"، وأمثالها، هي من الأشجار التي لا تزال تنمو وتعيش في مواضع متعددة من الجزيرة، وبعضها في الأقسام الغربية والجنوبية؛ حيث تنمو وتنبت على المرتفعات، يستخرج منها الناس وقودًا، أو ثمرًا بريًّا يأكلونه، وقد يستفيدون من ورقه فيجفِّفُونه ويسحقونه فيبيعونه. وأما الحبوب والخضر والبقول، فتحتاج كلها إلى سقي، لهذا انحصرت زراعتها في الأماكن التي تتوافر فيها المياه أو تتساقط عليها الأمطار في المواسم المناسبة. لذلك نجدها في الحجاز وفي اليمن وفي العربية الجنوبية وفي مواضع المياه من نجد والعروض. والحبوب هي الحنطة والشعير والذرة والأرز، وسأتحدث عنها وعن بقيتها في باب الزراعة عند الجاهليين. وبعض الخضر، مستورد من الخارج، أُدخل من العراق أو من بلاد الشام أو من إفريقية والهند، فالبطيخ مثلا المعروف بـ "الخربز" عند أهل المدينة مستورد كما يدل عليه اسمه الفارسي من العراق: استورد قبل الإسلام بأمد. ويمكن الاستدلال من أسماء الأثمار والخضر، ومن دراسة توزيعها وأماكن وجودها، على الأماكن التي جاءت منها، فدخلت جزيرة العرب قبل الإسلام. أما "البخور" واللبان -بترول العالم في ذلك الزمان- والصموغ والمرّ والمنتوجات الزراعية الأخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وكانت مصدر رخائها، ومصدر تنافس الدول الكبرى عليها في ذلك الزمان، فقد زالت أهميتها بالتدريج، وذهب أثر سحرها بتبدل الأيام. و "ظفار" والمناطق الأخرى، وإن كانت لا تزال ترى أشجار البخور تنبت على الفطرة حتى اليوم، قد زالت دولتها الآن فلا تأتي للسكان بالذهب والفضة؛ فقد تغير ذوق العالم، وتبدلت تجارته، وصار يفتش عن الذهب الأسود، منتوج الطبيعة في باطن الأرض.

وفي هذه المواضع من العربية الجنوبية وفي الأودية وحافات الهضاب والجبال التي كانت تنبت بها تلك الموارد الثمينة، والتي لا تزال تنبت على الطبيعة، تشاهد كهوف ومغَاوِر غريبة وآبار وكتابات جاهلية بالمسند، وآثار مقابر تتحدث كلها عن قوم كانوا قد استوطنوا هذه الأماكن قبل الإسلام بزمان طويل1. أما الآن فهي خرائب، ترجو من الأحياء توجيه نظرهم إليها لإحيائها ولاستنطاق آثارها وكنوزها لتحدثهم عن ماضيها القديم. وقد حبت الطبيعة اليمن بمزية جعلتها تحتضن كل النباتات المذكورة، وتنبت أكثرها أنواع المزروعات، وذلك بأنعامها عليها بجبال وبمرتفعات وبمنخفضات حارة رطبة، هيأت لها ثلاثة جواء، تنتج محصولات ثلاثة أنواع من المناخ: منتوج المناخ المرتفع البارد، ومنتوج المناطق المعتدلة، ومنتوج المناطق الحارة. وقد عرف أهل اليمن الأذكياء كيف يستغلون تربتهم، فعلموا مدارج على سفوح جبالهم وعلى المرتفعات، أصلحوا تربتها، وذلك لحصر مياه المطر عند نزوله، ضمانًا لدخوله التربة وإروائها، وزرعوا تلك المدارج أو السلالم العريضة بمختلف المزروعات وذلك قبل الإسلام بأمد طويل، فأمنوا بذلك خيرًا وافرًا لهم، جعل اليمن من أسعد بلاد جزيرة العرب، فهي العربية السعيدة والعربية الخضراء بكل جدارة، وهي موطن الحضارة وأرقى مكان نعرفه في الجزيرة في أيام ما قبل الإسلام. ومن النبات ما هو دخيل استورد من الخارج، من العراق أو من بلاد الشام، وقد احتفظ قسم منه باسمه الأعجمي القديم. ويظهر أن بعضه قد دخل بعد الميلاد. وقد يكون من المفيد دراسة نبات جزيرة العرب قبل الإسلام، لمعرفة الدخيل منه وكيفية وصوله إلى الجزيرة، كما يستحسن دراسة الكتابات الجاهلية لاستخراج ما ورد فيها من أسماء النبات. وأما البوادي فإن ظروف الخصب والنماء فيها محدودة، تركزت في مواضع المياه وفي الأماكن الرطبة التي تكون المياه الجوفية فيها على حافة القشرة، وفي أعقاب الأمطار، حيث تخضر الأرض وتلبس حلة خضراء سندسية جميلة، لكن لبسها لا يدوم طويلًا، فسرعان ما تمزقها الرياح الجافة والأهوية الحارة، فتقضي

_ 1 Sanger, The Arabian Peninsula, p., 126.

عليها وتظهر حقيقة ما تحتها من تربة جافة عبوس، لا مكان للنبات فيها ولا مجال لزرع فيها في مثل هذه الظروف. والواحات ومواضع الآبار والمياه في البوادي، هي رحمة للإنسان حقًّا، ومنظر تقرّ به العين. فالواحة في البادية، لؤلؤة وكنز وجنة وسط جحيم، لا يدرك جمالها ولا يعرف قدرها إلا من اضطر ركوب البوادي وتعرض لرياح السموم ووهج الشمس وعواصف الرمال تستقبل الأوجه بذات الأرض الناعمة، تهاجم العيون والأنوف والأفواه، وتضطر حتى الجمل إلى البطء في سيره وإلى التوقف، ثم تأتي على ما لدى الإنسان من ماء حرص على حمل أكبر كمية يستطيع حملها للوصول إلى مكانه المقصود لضمان حياته في هذه البادية وحياة حيوانه الذي هو فيها جزء من حياته أيضًا. ولولا الآبار والواحات في هذه البوادي، لما كان من الممكن طرقها وسلوكها، وإلا كان الدمار والهلاك. وفي هذه المواضع التي حبتها الطبيعة بـ "إكسير الحياة" يستعيد المسافر نشاطه ويتجدد أمله، ويسترد قواه، يعطيه ماؤها قوة تعيد إليه كبرياءه وعظمته وجبروته، ثم تنسيه كل ما تعرض له من مصاعب ومشقات، وما أبداه من عجز وضعف تجاه القوى الخفية القادرة المهيمنة على الصحراء. وعندئذ يتذكر حكمة: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1. ويشعر ببحر الماء والخضراء، يسحر هذه الأشجار والشجيرات والأعشاب النامية في هذه التربة بفضل "إكسير الحياة". ومهما كان الإنسان في هذا المكان من السذاجة والبلادة والجهل، فلا بد أن يستولي عليه شعور من حيث لا يشعر بعظمة سحر هذا المكان. أما الغرباء الذين يعجبون من تقاتل العرب فيما بينهم على موضع صغير فيه بئر أو بركة ماء أو عشب، فإنهم سيدركون سر هذا التقاتل في حياة أهل البادية لو كلفوا أنفسهم يومًا اجتياز تلك البوادي الواسعة العابسة. عندئذ فقط، يدركون أن ذلك القتال الذي وسم أهل البادية بسمة حب الغزو والغارات لم يكن سببه فردية وأنانية، وإنما غريزة إنسانية تنبت في كل إنسان متى عاش في هذه الظروف القاسية العابسة الفقيرة. إنها غريزة المحافظة على الحياة. ولا غرابة بعدُ إذا ما تغنى العربي بمواضع المياه والبادية بعد نزول الغيث

_ 1 الأنبياء، الآية 30.

عليها، وإذا ما أظهر الحنين إليها، وتوجع في شعره وفي غنائه على الليالي المقمرة يقضيها في باديته يناجي سماءه الصافية ونور قمره الساطع يغازله ويوحي إليه، ويرسل إليه النسمات العليلة، وإلى جانبه حبيبته. يذكر حسّه هذا في شعره وفي غنائه وفي موسيقاه، حتى ليبدو للغريب، وكأن ما يقوله العربي ويحسّ به نغمة واحد ساذجة مكررة تعاد تعاد من غير معنى ولا سبب. ولكن حسّه هذا حس الصحراء، وليس في الصحراء غير نغم واحد، تترنم به الطبيعة، فإما هدوء شامل، وإما نسمة واحدة عليلة مستمرة، وإما عواصف رملية، إذا هدأت عاد إلى الصحراء هدوءُها المعهود. ومناخ جزيرة العرب -على العموم- حار شديد الحرارة، جاف، إلا على السواحل، ولا سيما في التهائم، فإن الرطوبة تكون عالية فيها، ولهذا يتضايق الناس من أثر الحر فيهم، مع أن الحرارة ذاتها فيها لا تكون عالية كثيرًا، وإنما مبعث هذا التضايق هو من الرطوبة المصحوبة بالحرارة، ولهذا صار بعض مواضع التهائم من شر الأمكنة على وجه هذه الأرض. ولهذا الجو الرطب الحار أثر في حالة الناس، في صحتهم وفي نشاطهم. فانتشرت الأمراض في الأماكن التي تكثر فيها السباخ والمستنقعات، وفتكت بالناس، وتكدس فيها الذباب وتجمعت الحشرات لملاءمة مثل هذه الأجواء لمعيشة هذه المخلوقات. ولهذا السبب المذكور، عاشت في هذه الأرضين ونمت النباتات التي تألف المناطق الحارّة الرطبة، والأعشاب التي تعيش على المستنقعات وفي الأرض الرطبة، من حشائش وقصب وأعشاب. أما في الداخل، فإن الحرارة فيها تكون جافة، ولهذا فإنها لا تكون حديدة الطبع، على نحو حر السواحل. ويتلطف الجو في الليالي في النجاد، فيكون الليل رحمة للناس ينسيهم قسوة النهار وشدة حرارته، وفقر الحياة، لا سيما إذا كمل القمر، وصار قرصًا يسحر الناظرين. فإن سحره يكون عامًّا، يشمل الغني والفقير، ويبعث في النفوس الرقة والحنان، ويثير فيها عواطف الشجن المنبعثة من قسوة الحياة وشحّها وفقر الأرض، فتأخذ النفوس الرقيقة في مناجاته بقيثارة بسيطة ذات ثقوب، ينفخ فيها لتخرج منها أصواتًا تسمع القمر فعل سحره في نفس الإنسان المعذب في النهار المحروم من طيب الحياة التي ينعم بها

أهل الأرضين الآخرون، أو بآلات بسيطة أخرى صنعوها بأيديهم لتعبر أناملهم وأوتار آلاتهم الساذجة عن إحساسهم الحزين، ثم لا يكتفي أصحاب هذه النفوس الرقيقة في الغالب بإرسال نغمات الحس العميقة من آلة، بل يقرنون تلك النغمات الحزينة بنغمات بشرية تنطق بما في قلب الإنسان من حس وألم دفين يوحيه إليه ألم الحرمان، ودغدغة النسيم العليل، وسحر القمر وتلألؤ مصابيح السماء. فتخرج نغمات شجية حزينة، تعاد وتكرر، لتسبح السماء على هذا الجمال الساحر، ولتفسر للسامع نوع الحياة في هذه البقاع التي وهبتها الطبيعة عاطفة عميقة، وسحرًا فاتنًا في الليل، وحرمتها خيرات الدنيا في أثناء النهار، ولتخبره بهذه النغمات المعادة أن الحياة هنا بسيطة لا تعقيد فيها ولا التواء وأنها معدودة محدودة، وعودة وتكرار. وقد يعجب الغريب من تغزل العرب ب" ريح الصبا"، ومن مدحهم لها إلى حد بلغ الإفراط، فليس في أشعار العالم، ولا في نثرهم، شعر أو نثر فيه هذا القدر من التغزل بريح من الرياح. وقد لا يفهم الغريب أي تعليل يقدم إليه ولا يقبله، وخير جواب يقدم إليه هو حضوره بنفسه إلى جزيرة العرب للاستمتاع بلذة "الصبا" في ليلة مقمرة من ليالي الجزيرة، وسيعرف عندئذ سحر دلال "الصبا" وسحر تغزل العرب بها، على عكس "السموم"، التي تشوي الوجوه، وتعمي العيون، فتجعل الشعراء يلعنونها، والناس يتذاكرون ثقلها وشدتها عليهم وما ألحقته بهم من مهالك وأضرار. والمطر هو غوث ورحمة لسكان جزيرة العرب، يبعث الحياة للأرض، فتنبت العشب والكلأ والكمأة والأزهار، ويحوّل وجهها العابس الكئيب إلى وجه مشرق ضحوك، فيفرح الناس وتفرح معهم ماشيتهم، ويخرج أهل الحضر إلى البادية للتمتع برؤية البساط الأخضر المطرز بالأزهار، وللاستمتاع بالمنظر الساحر الذي كسا الربيع به وجوه البوادي، ولصيد الغزلان والحيوانات الأخرى التي جاءت هي أيضًا من مآويها لتشارك الطبيعة في فرحتها، ولتشبع نفسها بعد جوع وعطش. وتفرج الإبل، ويَدِرّ لبنها، ويكثر نسلها، وتتضاعف بذلك ثروة أصحابها، ويسير الجمل متبخترا فخورًا بنفسه معتزًّا، بطرًا لا يَقْضَم منها إلا ما يعتقد أنه طعام لذيذ له، يَقْضَم من موضع ثم يتركه بطرًا إلى موضع آخر، وقد كان قبل ذلك من جوعه يأكل كل ما يقع بصره ويراه. أفليس من حقّ العرب

إذن تسمّي المطر "غيثًا"؟ وأن تفزع وتتوجع من انحباسه، وأن تفزع إلى آلهتها تتوسل إليها لإرسال سحب المطر إليها، وتتقرب إليها بالدعاء وبصلوات "الاستسقاء"و "الاستمطار"، لترسل إليها غيثًا يغيثها ويفرج كربتها يدرأ عنها مصيبة تنزل بها إن انحبس المطر؟ لذلك كان انحباس "الغيث" عند العرب كارثة يتألم منها الناس، ويكابد من فداحتها الحيوان. والجفاف هو الصفة الغالبة على جوّ جزيرة العرب؛ فالأمطار قليلة والرطوبة منخفضة في الداخل إلا التهائم والسواحل، فإنها ترتفع فيها كما ذكرنا. ولكنّ الطبيعة رأفت بحال بعض المناطق، فجعلت لها مواسم تنزل فيها الغيث، لإغاثة كل حي، وأهمها اليمن. أما عمان، فينزل فيها مقدار منه، ينفع الناس ويعينهم على تصريف أمورهم. وأما باقي الأقسام، فإن أكثرها حظوةً ونصيبًا من المطر، هي النفود الشمالي، وجبل شمر، فتنزل بها الأمطار في الشتاء، فتنبت أعشاب الربيع. وأما الصحاري الجنوبية فلا يصيبها من المطر إلا رذاذ، وقد تبخل الطبيعة عليها حتى بهذا الرّذاذ1. وينهمر المطر أحيانًا من السماء وكأنه أفواه قرب قد تفتحت، فيكوّن سيولًا عارمة جارفة تكتسح كل ما تراه أمامها، وتسيل إلى الأودية فتحوّلها إلى أنهار سريعة الجريان. وقد لاقت "مكة" من السّيول مصاعب كثيرة، وكذلك المدينة والمواضع الأخرى2 وقد يهلك فيها خلق من الناس، وتسيل مياه السيول إلى مسافات حتى تصب في البحر، وقد تبتلعها الرمال فتغوص فيها وتجري في باطن الأرض مكوّنة مجاري جوفية، تقترب وتبتعد عن قشرة الأرض على حسب قربها أو بعدها منها، وعلى حسب قرارة المكان الذي تسيل عليه. وقد تبلغ البحر فتدفق عيونًا في قاعة، كالذي نشاهده في الخليج بين الساحل والبحرين. وقد استفاد أهل اليمن بصورة خاصة وأهل حضرموت والحجاز من السّيول بأن بنوا سدودًا للسيطرة عليها، ولحبسها إلى حين الحاجة. وسدّ "مأرب" الشهير هو خير تلك السدود شهرةً وصيتًا، وقد غذى بإكسير الحياة مساحات واسعة من أرض سبأ. وقد وجد السياح آثار سدود قديمة في نواحي من الحجاز ونجد والعربية الجنوبية تعود إلى ما قبل الإسلام، بنيت في مواضع ممتازة تصلح

_ 1 حافظ وهبة: جزيرة العرب "6". 2 البلاذري، فتوح البلدان "53 فما بعدها"، الأزرقي، تأريخ مكة.

جيّدًا لمنع مياه السّيول من الذهاب عبثًا، حتى إن المهندسين المحدثين رأَوْا إنشاء سدود جديدة في هذه الأَمْكنة للاستفادة من مياه السيول لإحياء أرضين موات في الزمان الحاضر، يمكن قلبها إلى مزارع وجنان خضر. إن أرض اليمن التي صادقتها الطبيعة فأحسنت إليها ووهبتها هبات تحسدها المناطق الأخرى عليها، وهبتها أمطارًا موسميّة ووهبتها جوًّا حارًّا رطبًا في تهامة منظر يمثل المدرجات المقامة على الجبال والتلال لزراعتها من كتاب "Jemen, das Verbotene Land" لمؤلفه Guenther Pawelke (الصفحة 56) اليمن وجوًّا معتدلا في المرتفعات، وجوًّا لطيفًا في الجبال، ووهبتها نباتات كثيرة تناسب تنوع هوائها وحيوانات عديدة كثيرة، ومعادن متنوعة، هي

أرض ذات حظ كذلك بعدد سكانها؛ فإنها حتى اليوم من أكثف مناطق جزيرة العرب وأكثرها سكانًا. وسكانها ثروة مهمة ومصنع غذى بلاد العرب والبلاد الإسلامية بموجات من القبائل، نشرت الإسلام والثقافة العربية في البلاد المفتوحة، كما أنه موّن العراق وبلاد الشام في الجاهلية بقبائل، استوطنت هناك؛ فكوّنت حكومات مثل حكومة الحيرة وحكومة الغساسنة، ونسب المناذرة ونسبة الغساسنة يرجع إلى اليمن. ولا تزال اليمن تقذف بالألوف من أنبائها كل عام، تقذف بهم في شتى الأنحاء إلى سواحل إفريقية المقابلة، حتى بلغ بعضهم الولايات المتحدة وإنكلترة، فكوّنوا فيها جاليات يمانية. ويعيش اليوم زَهَاء مليون يماني خارج اليمن، هاجروا من بلادهم لظروف مختلفة لا مجال للبحث فيها في هذا المكان. وقد سبقهم أجدادهم قبل الإسلام، فطفروا حدود جزيرة العرب وذهبوا إلى مصر وإلى بعض جزر اليونان. ويعَدّ سكان "الجبل الأخضر" سعداء حقًّا بالقياس إلى سكان جزيرة العرب الساكنين في العربية الشرقية أو في البوادي الواقعة في جنوب المملكة العربية السعودية، فإن الغيوم المثقلة بالأبخرة تصطدم بمرتفعات هذا الجبل فتضطر إلى تفريغ شحنتها عليه. ولهذا توافرت المياه فيها، فاستغلها السكان وزرعوا عليها. وصارت الأودية من مواطن الحضارة القديمة التي تعود إلى ما قبل الإسلام بزمان طويل، كما صارت سفوح الجبال والمرتفعات موارد رزق للزرّاع، يستهلكون من الحاصل ما يحتاجون إليه، ويصدرون الباقي لمن يحتاج إليه من أهل بقية جزيرة العرب. وما زال أهل البلاد يزرعون على سنة آبائهم وأجدادهم الأقدمين. وقد شاهد السياح آثار سدود في هذه المناطق شيّدها الأقدمون للتحكم في الأمطار التي تسقط بغزارة وتجري سيولًا. وفي مثل هذه الأمكنة نجد كتابات دوّنها أصحابها شكرًا لآلهتهم على إنعامها عليهم بالغلّة الوافرة وبالحصاد الغزير، أو لإنعامها عليهم بأرض مخصبة ولمساعدتها إيّاهم على حفر بئر زودتهم بماء للسقي وللزرع، ووجود هذه الكتابات دليل ناطق على وجود الحضارة فيها في تلك الأيام. أما مواطن الحضارة، فقد وزّعتها الطبيعة بيدها، وما برح هذا التوزيع معترفًا به. وزّعتها عليها توزيعها للنبات والمعادن والماء. ففي المحلات ذوات الحظ التي أحبها الماء، فظهر فيها واحاتٍ وعيونًا وأحساء أو رطوبات أو

نهيراتٍ أو مطرًا موسميًا، ظهر الاستقرار، وتولّدت الحضارة على قدر إسعاف الماء ومقدار استعداده لوضع نفسه في خدمة الأهلين وفي خدمة حيواناتهم وزراعتهم لا فرق بين أن يكون الماء في باطن الجزيرة أو في الأودية أو في السواحل، ولو أن لموقعة دخلًا في ازدياد ثروة أصحابه وفي تمكينهم من الاتصال بالخارج، فتنفتح عندئذ لهم أبواب العالم، كأن يكون الموضع على طريق، أو على مفترق طُرُق، أو على ساحل أو مرفأ بحري، أو على مقربة من بلد متحضر مثل العراق أو بلاد الشام. أما إذا كان واحة منعزلة ومحلّا نائيًا، فإن الحضارة لا يمكن أن تظهر بالطبع فيه ظهورها في الأماكن المذكورة. ومن هنا نرى الحضارة والاستقرار والميل إلى الاستقرار في بلاد اليمن وحضرموت أظهر وأبرز من أي مكان آخر، نرى فيها حكومات بالمعنى المفهوم من الحكومة قبل الميلاد بأمد طويل، ونرى فيها مُدنًا فيها عامرة مسوّرة لها حصون وقِلاع وتنظيمات وتشكيلات حكومية، ونرى فيها مؤسسات دينية ترعى المسائل الروحية والروابط التي تربط بين البشر وخالقهم، ونرى أنظمة وقوانين مكتوبة وسُدُودًا وأبنية عالية مرتفعة وفنًّا ما زالت جذوره ومظاهره خالدة باقية في دم الناس. ثم نرى مثل ذلك أو قريبًا منه في أعالي الحجاز وفي الأرضين الداخلة في هذا اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية. أما الواحات والعيون والآبار؛ فقد صارت مستوطنات لتمويل المستقر والقادم بالماء والتمر وبشيء من الحبوب والخضر، وإذا كانت على طريق صارت مأوى للقوافل، ولهذا لم يكن من الممكن قيام حكومات كبيرة بها، لعدم توفر الشروط اللازمة لإنشاء الحكومات الكبيرة بها، واضطرت إلى توثيق علاقاتها بأهل البادية، وإلى الارتباط بهم بروابط العهود والمواثيق ودفع الإتاوة لمنعهم من التعرض لهم بسوء. فالحياة في جزيرة العرب، هي هبة الماء، ولهذا انحصرت في هذه الأماكن المذكورة، وصار فرضًا على رجال القوافل وأصحاب التجارات المرور بها، وهو أي الماء، الذي رسم لأصحاب الجمال خطوط سيرهم إلى المواضع التي يريدون السير إليها، وحدد لهم معالم الطرق. وأقام لهم أماكن الراحة، وما زال الأعراب والتّجّار يسلكون تلك الطرق، للوصول إلى الأماكن النَّائية بالوسائل القديمة التي استعملها سكان الجزيرة قبل الإسلام، وبالمركب القديم، بطوله وبعرضه وهو الجمل. ولكن وسائط النقل الحديثة التي نافسته وأحالته مكرهًا على التقاعد.

واضطرته إلى الانسحاب من بعض الطرق، لا تزال تطارده وتنافسه في الطرق الأخرى، وعندئذ لا بد من حدوث مشكلات بالنسبة إلى تربية هذا الحيوان الصحراوي القديم الذي أخلص للبادية، وبقي على إخلاصه لها، ولكن الأمر ليس بيد البادية؛ وإنما هو بأيدي قاهر البوادي والأرضين والجواء، السيد الإنسان. أما السواحل، فخلقت من سكانها رجال بحر، يحبّون ركوب البحر واستخراج ما فيه للتعيّش به ولبيعه وتصريفه في الأسواق، كما جعلتهم أصحاب ضيافة، يقدمون الماء وما عندهم من طعام إلى السفن القادمة إليهم، ويعرضون ما عندهم من سلع فائضة لبيعها لهم، ويشترون من أصحاب تلك السفن ما عندهم من بضاعة نافعة، فتحولت إلى أسواق للبيع والشراء، المتعاملون بها مزيج من القادمين إليها من أنحاء الجزيرة ومن الوافدين الأجانب القادمين إليها من الخارج، وقد اجتذبت هذه الأمكنة إليها الغرباء، فسكنوا بها، واختلطوا بسكانها، وتولّدت بها أجيال مختلطة ممتزجة الدماء، كلما كانت قريبة من ساحل مقابل، كان مظهر الاختلاط والامتزاج أظهر وأكثر، ولهذا احتضنت تهامة والسواحل العربية الجنوبية عددًا كبيرًا من الإفريقيين، هاجروا إليها من السواحل الإفريقية المقابلة واستقروا فيها بكثرة، واختلطوا بأصحاب البلاد الأصليين. أما سواحل عمان والخليج، فقد اجتذبت إليها الهنود والفرس، وقد عُثر في مواضع من سواحل عمان على بقايا عظام بشرية اتَّضَح أنها من بقايا الهنود "الدراوديين"، سكّان الهند القدماء. ولم ينسَ البحّارة وأصحاب السفن اليونان سواحل جزيرة العرب، فأقاموا مستعمرات يونانية في مواضع متعددة منها سيأتي الكلام عليها فيما بعد. وقذفت الطبيعة بالأعراب في كل مكان من أمكنة الجزيرة، حتى زاد عددهم على الحضر، والصفة الغالبة عليهم، أنهم لا يرتبطون بالأرض ارتباط المُزَارع بأرضه، ولا يستقرون في مكان إلا إذا وجدوا فيه الكلأ والماء؛ فإذا جفّ الكلأ وقلّ الماء، ارتحلوا إلى مواضع جديدة. وهكذا حياتهم حياة تنقل وعدم استقرار، لا يحترفون الحرف على شاكلة أهل الحضر، ولذلك صارت حياتهم حياة قاسية، يتمثل مجتمعهم في القبيلة. فالقبيلة هي الحكومة والقومية في نظر البدوي. وإن حياة على هذا الشكل والطراز، حياة لا تعرف الراحة والاستقرار، ولا تعترف إلا بمنطق القوة. حياة جلبت المشقة لأصحابها، والمشقة لمن يقيم على

مَقْرَبة منهم من الحضر. فهم نزاع دائم فيما بينهم، ثم هم في نزاع مع الحضر، ولهذا كان خطر البداوة على العرب، يوازي خطر الغرباء البعداء عليهم، وصارت البداوة مشكلة عويصة لكل حكومة، ولا تزال مشكلة حتى اليوم، ولن تُحَلّ إلا بإقناع الأعراب بأن حياة الاستقرار خير لهم وأفضل من حياتهم التي يحبونها، وذلك بوسائل لا يدخل الكلام عليها في حيّز هذا الكتاب.

الطرق البرية

الطرق البرية: من نتائج غَلَبَة الطبيعة الصحراوية على أرض جزيرة العرب، أن انحصر امتداد شرايين المواصلات فيها في أماكن خططتها الطبيعة نفسها للإنسان، فجعلتها تسير بمحاذاة الأودية ومواضع المياه والآبار، وهي السبل الوحيدة التي يستطيع المسافر ورجال القوافل أن يستريحوا في مواضع منها ويحملون منها الماء. وتنتهي رءوس هذه الطرق بالعراق وببلاد الشام في الشمال وبالعربية الجنوبية وبموانئها في الجنوب، وهناك طرق أخرى امتدت من العربية الشرقية إلى العربية الغربية، ولها مراكز اتصال بالطرق الطولية الممتدة من الشمال إلى الجنوب في الغالب. وقد أقيمت في مواضع من هذه الطرق مواضع سكنى ذات مياه من عيون أو آبار، عاشت ونمت بفضل منة مائها عليها؛ فصارت منازل مريحة لرجال القوافل يحمدون آلهتهم عليها، ويحمد أصحاب ذلك الماء آلهتهم على منتها عليهم بإعطائهم ذلك الكنز العظيم الذي أعانهم على العيش وجلب لهم كرم التجار. وفي العقد الحساسة من هذه الطرق نشأت المستوطنات، ومواطن السكنى القديمة انتشرت في أماكن متباعدة بعضها عن بعض في الغالب؛ فكان لهذا التوزيع أثر كبير في الحياة الاجتماعية والحياة السياسية والعسكرية، ولا شك. وما الطرق الحالية التي يسلكها الناس اليوم إلا بقية من بقايا تلك الطرق القديمة التي ربطت أجزاء الجزيرة بعضها ببعض، كما ربطت الجزيرة بالعالم الخارجي. ونجد في مخلفات تلك المستوطنات مواد مستوردة من مواضع بعيدة، هي دليل بالطبع على أن الإنسان كان يقطع الطرق قبل الميلاد بمئات من السنين ليتاجر ويبيع ويشتري دون أن يبالي المسافة وطول الشُّقَّة وصعوبة الحصول على وسائل النقل وما يتعرض له، وهو في طريقه إلى هدفه، من مخاطر وأهوال.

وتُعَدّ "نجران" من أهم المواضع المهمة الحساسة في شبكة المواصلات البرية قبل الإسلام، ففيها تلتقي طرق المواصلات الممتدة في الجنوب، وفيها يتصل الطريق البري التجاري المهم الممتد إلى بلاد الشام، فيلتقي بطريق العربية الجنوبية ومنها يسير الطريق المارّ إلى "الدواسر" فالأفلاج فاليمامة أو ساحل الخليج ومنه إلى العراق. ولم تموّن الطرق المارة بالعربية الشرقية أي "ساحل الخليج" العراق بتجارة جزيرة العرب وبالمواد المستوردة إليها من الهند، بل موّنتها بموجات من البشر منذ آلاف السنين قبل الميلاد. فقد كانت القبائل العربية النازحة من الجنوب لأسباب متعددة تحطّ على هذا الساحل، انتهازًا لفرصة ملائمة ترحل خلالها إلى العراق لتستقر فيه. وقد سلكت أكثر القبائل العربية التي استوطنت العراق هذا السبيل حينما هاجرت إليه قبل الميلاد وبعده أيضا.

الفصل السادس: صلات العرب بالساميين

الفصل السادس: صلات العرب بالساميين مدخل ... الفصل السادس: صلات العرب بالساميين لاحظ المعنيون بلغات "الشرق الأدنى" وجود أوجه شبه ظاهرة بين البابلية والكنعانية والعبرانية والفينيقية والأرمية والعربية واللهجات العربية الجنوبية والحبشية والنبطية وأمثالها؛ فهي تشترك أو تتقارب في أمور أصلية وأساسية من جوهر اللغة، وذلك في مثل جذور الأفعال، وأصول التصريف، تصريف الأفعال، وفي زمنيّ الفعل الرئيسيين، وهما: التام والناقص، أو الماضي والمستقبل، وفي أصول المفردات والضمائر والأسماء الدالة على القرابة الدموية والأعداد، وبعض أسماء أعضاء الجسم الرئيسيَّة1، وفي تغير الحركات في وسط الكلمات الذي يحدث تغيّرًا في المعنى، وفي التعابير التي تدل على منظمات الدولة والمجتمع والدين2، وفي أمور مشابهة أخرى، فقالوا بوجوب وجود وحدة مشتركة كانت تجمع شمل هذه الشعوب، وأطلقوا على ذلك الأصل، أو الوحدة "الرس السامي" أو "الجنس السامي"، أو "الأصل السامي"، أو "السامية،3 "semites" "semitic race" "semites" وعلى اللغات التي تكلمت وتتكلم بها هذه الشعوب

_ 1 Hastings, Encylopaedia of Religion and Ethics, Vol., H, PP, 378 (1934) , Zimmern, Vergleichende Grammatlk der Semltlschen Sprachen, Berlin 1898, P., 82.ff 2 Ency. Brlta., 20, PP., 315. 3 Leland. W. Parr,. An Introduction to the Anthropology of the Near East,X f Amesterdam, 1934, P., 43.

"اللغات السامية"1، "semitic languages". وقد أخذ من أطلق هذه التسمية، تسمية هذه من التوراة2. أخذها من اسم "سام بن نوح"، جدّ هذه الشعوب الأكبر، كما هو وارد فيها. وأول من أطلقها وأذاعها بين العلماء عَلَمًا على هذه الشعوب، عالم نمساوي اسمه "أوغست لودويك شلوتسر" august ludwing schloetzer أطلقها عام "1781م" فشاعت منذ ذلك الحين، وأصبحت عند العلماء والباحثين في موضوع لغات الشرق الأدنى عَلَمًا للمجموعة المذكورة من الشعوب3 وقد أخذ "آيشورن" "joh. Cotte. Eichhorn" هذه التسمية، وسعى لتعميمها بين العلماء علمًا على الشعوب المذكورة4. وفي عام "1869م" قسم العلماء اللغات السامية إلى مجموعتين: المجموعة السامية الشمالية، والمجموعة السامية الجنوبية5 وتتألف المجموعة الشمالية من العبرانية والفينيقية والأرمية والآشورية والبابلية والكنعانية. وأما المجموعة الجنوبية، فتتألف من العربية بلهجات والحبشية. وعمّ استعمال هذا الاصطلاح بينهم وأصبح موضع "الساميات" من الدراسات الخاصة عند المستشرقين، تقوم على مقارنات وفحوص "أنتولوجية" و "بيولوجية" وفحوص علمية أخرى؛ فضلًا عن الدراسات التأريخية واللغوية والدينية6. وهذه القرابة الواردة في التوراة، وذلك التقسيم المذكور فيها للبشر، لا يستندان إلى أسس علمية أو عنصرية صحيحة، بل بُنِيت تلك القرابة، ووضع ذلك التقسيم على اعتبارات سياسية وعاطفية وعلى الآراء التي كانت شائعة عند شعوب

_ 1 Hommel, Grundrlss, Bd., I, S., 17, Ency. Brita., Vol., 20, PP. 314. Eichhorns, Geschlchte der Neuern Sprachenkunde, I, abt., Gottingen, 1807. 2 التكوين، الإصحاح العاشر، الاية، 1، 21، قاموس الكتاب المقدس 3 Hommel, Grundrlss, I, S, 76, Ency. Brita., 20, PP., 314, The Universal Jewish Encyclopedia, Vol., 4, P., 473, Hastings, P., 845, S. Moscati, The Semites in ancient History, Cardiff, 1959. 4 Elshhom, Geshichte der Neueren Sprachenkunde, I abt., Gottingen, 1807, Sprachen, der Semiten in Westasien, S-, 403-672, 5 Hommel, Grundriss, 1, S., 76, Eichhorn, S., 405, Eberhard Schrader, S., 76. 6 SJH. Hooke, The Origins of early Semitic ritual, London, 1938, Hommel, Grundriss, I, PP., 84.

العالم في ذلك الزمان عن النسب والأنساب وتوزع البشر1. فحشرت التوراة في السامية شعوبًا لا يمكن عدّها من الشعوب السامية، مثل "العيلاميين" "elam" و "اللوديين" "ludim" "lud"، وأقصت منها جماعة من الواجب عدّها من الساميين، مثل الفينيقيين" و "الكنعانيين"2. ويرى "بروكلمن" أن العبرانيين كانوا قد تعمدوا إقصاء الكنعانيين من جدول أنساب سام، لأسباب سياسية ودينية، مع أنهم كانوا يعلمون حق العلم ما بينهم وبين الكنعانيين من صلات عنصرية ولغوية3. وقد رَجَع الإصحاح العاشر من التكوين نسب الفينيقيين والسبئيين إلى حام، جد الكوشيين، ذوي البشرة السوداء، مع أنهم لم يكونوا من الحاميين، وقد يكون ذلك بسبب وجود جاليات فينيقية وسبئية في إفريقية، فعدّ كتبة التوراة هؤلاء من الحاميين4. وقد عرف المسلمون اسم "سام بن نوح"، وقد كان لا بد لهم من البحث عن أولاد "نوح" لما لذلك من علاقة بما جاء عن "نوح" وعن الطوفان في القرآن الكريم. وقد روي أن رسول الله قال: "سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أو الحبش"5، وقد روى "الطبري" جملة أحاديث عنه في هذا المعنى. وقد لاحظت أنها كلها وردت من طريق "سعيد بن أبي عروبة" عن "قتادة" عن "الحسن" عن "سمرة بن جندب"، وهي في الواقع حديث واحد، ولايختلف إلا اختلافًا يسيرًا في ترتيب الأسماء أو في لفظ أو لفظين6. ومن هنا يجب أن يدرس هذا الحديث وكل الأحاديث المنسوبة إلى الرسول في هذا الباب دراسة وَافِية، لنرى مدى صحة نسبتها إلى الرسول، كما يجب دراسة ما نسب إلى عبد الله بن عبّاس أو غيره في هذا الشأن، فإن مثل هذه الدراسات تحيطنا علمًا برأي المسلمين أيام الرسول وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى في نسبتهم إلى سام بن نوح7.

_ 1 George Aaron Barton, Semitic, and Hamitlc Origins, London, 1934, P., 1, 2 "التكوين، الإصحاح العاشر" الآية1، فما بعدها، Hastings, P., 945, Ency. of Relig.and Ethic., Vol., H, PP., 37 378, Barton, P. I. 3 Brockelman, Sprachwissenschaft, S., 15. 4 Reynold, A. Nicholson A Literary History of the As*abs, P., XV. 5 "الطبري "1/ 209" "دار المعارف". 6 الطبري "1/ 209" "دار المعارف". 7 الإكليل"1/ 64".

وقد قسم بعض علماء الساميّات المحدثين اللغات السامية إلى أربع مجموعات هي: المجموعة السامية الشرقية ومنها البابلية والآشورية، والمجموعة الشمالية ومنها الأمورية والأرمية، والمجموعة الغربية ومنها الكنعانية والعبرانية والموابية والفينيفية، والمجموعة الجنوبية ومنها المعينية والسبئية والأثيوبية والعربية والأمهرية1. ويلاحظ أن واضعي هذا التقسيم لم يراعوا في وضعه التطورات التأريخية التي مرت بها هذه اللغات بل وضعوا تقسيمهم هذا على أسس المواقع الجغرافية لتلك الشعوب. والسامية بعد، ليست رسًا "race" بالمعنى المفهوم من الرس عند علماء الأحياء، أي جنس له خصائص جسميّة وملامح خاصة تميّزه عن الأجناس البشرية الأخرى. فبين الساميين تمايز وتباين في الملامح وفي العلامات الفارقة يجعل إطلاق "الرس" عليهم بالمعنى العملي الحديث المفهوم من "علم الأجناس"، أو الفروع العلمية الأخرى نوعا من الإسراف واللغو، كما أننا نرى تباينًا في داخل الشعب الواحد من هذه الشعوب السامية في الملامح والمظاهر الجسمية، وفي هذا التمايز والتباين دلالة على وجود اختلاط وامتزاج في الدماء، سأتحدث عنه في الفصل الخاص بالأنساب وبانقسام العرب إلى قحطانيين وعدنانيين. ولقد وجد بعض علماء "الأنثروبولوجي" مثلًا أن بين اليهود تباينًا في الصفات وفي الخصائص التي وضعها هذا العلم للجنس، مع ما عرف عن اليهود من التقيد بالزواج وبالابتعاد عن الزّواج من غير اليهود2. وكذلك وجد العلماء الذين درسوا العرب دراسة "أنثروبولوجية" أن بين العرب تباينًا في الملامح الجسمية. وقد اتَّضح وجود هذا التباين عند الجاهليين أيضًا، كما دلت على ذلك الفحوص التي أجريت على بقايا العظام التي عُثر عليها في مقابر جاهلية3. كذلك وجد علماء "الأنثروبولوجي" من فحص العظام التي عُثِر عليها في الآثار الآشورية والبابلية أن أصحابها يختلفون أيضًا فيما بينهم في الملامح التي تعد أساسًا في تكوين جنس من الأجناس.

_ 1 Ency. Brita., 20, P., 316, Gesenius, Geschichte, der Hebraeischen Sprache und Schrlft, Graf Arthur, Gobineau, Die Ungleichheit der Menachenrassen, Berlin, S., 180, (German translation) , 2 Euxton, The People of Asia, P., 96.ff 3 Buxton, P., 99. ff.

ولهذا، فإني حين أتحدث عن السامية لا أتحدث عنها على أنها جنس، أي رس صاف بالمعنى "الأنثروبولوجي"، بل أتحدث عنها على أنها مجموعة ثقافية وعلى أنها مصطلح أطلقه العلماء على هذه المجموعة لتمييزها عن بقية الأجناس البشرية؛ فأنا أجاريهم لذلك في هذه التسمية، ليس غير. إن بحوث العلماء في موضوع السلالات البشرية وفي الأجناس البشرية وفي توزع الشعوب وخصائص ومميزات الأجناس لا تزال بحوثًا قلقة غير مستقرة. ولهذا نجد نتائج بحوثهم في تعريف الجنس وفي صفات الأجناس وفي المسائل الأخرى المتعلقة بهذا الموضوع مختلفة، ولا سيما أن هنالك عدة أمور تؤثر في حياة الإنسان وفي خصائصه الروحية والجسمية. والنواحي اللغوية وبعض الخصائص الروحية الأخرى، وإن كانت مهمة وضرورية لدراسة الناحية العقلية للإنسان؛ إلا أنها ليس الأسس الوحيدة لتكوين رأي في الأجناس البشرية1. فالسامية إذن، بهذا المعنى هي مجرد اصطلاح، قصد به التعبير عن هذه الروابط أو الظواهر التي نراها بين الشعوب المذكورة، أما البحث على أن الساميين جنس من الأجناس بالتعبير الذي يعنيه أهل العلوم من لفظة جنس، فإن ذلك في نظري موضوع لا يسع علماء الساميّات أو علماء التاريخ أن يبتّوا فيه ويصدروا حكمًا في شأنه، لأنه بحث يجب أن يستند إلى تجارب وبحوث مختبرية، وإلى دارسات للشعوب الباقية من السامية، بأن ندرس جماجم قدماء الساميين وعظامهم في جزيرة العرب وفي المواطن الأخرى التي انتشر فيها الساميون، وعند اكتمال مثل هذه الدراسات ووصولها إلى درجات كافية ناضجة يمكن العلماء حينئذ أن يتحدثوا عن السامية من حيث أنها جنس بالمعنى العلمي، أو جنس بالمعنى الاصطلاحي. هذا وقد عني بعض الباحثين المحدثين بدراسة ما عثر عليه في بعض القبور العادية من عظام، لتعيين أوصافها وخصائصها والجنس الذي تعود إليه، كما قام بعضهم بدراسة أجسام الأحياء وإجراء فحوص عليها وتسجيل قياسات الرءوس

_ 1 Ralph LInton, The Study of Man, L. H. Dudley Buxton, The Peoples of Asia, London, 1925, Sonia Cole, Races of Man, British Museum, (Natural History) , London, 1965.

وملامح الأجسام وما إلى ذلك مما يتعلق بموضوع "الأجناس البشرية"، وإذا ما استمر العلماء على هذه الدارسة وتوسعوا فيها، فسيكون لها شأن خطير في وضع نظريات علمية عن تأريخ أجناس الشرق الأدنى وفي جملتهم الساميين. وممن بحث في "أنثروبولوجية" الشرق الأدنى "كبرس ariens kappers"، وقد وضع مؤلفًا قيّمًا في دراسة شعوب الشرق الأدنى1. و "الدكتور سلكمن"2 "dr. seligman"، و "شنكلن w. shanklin" الذي عني بدراسة "أنثروبولوجية" سكّان شرقي الأردن وتقسيماتهم وحالات أعصابهم3، و4 "a. mochi"، و "برترام توماس" الذي قام بدراسات علمية عديدة من هذه الناحية لنماذج من أفراد القبائل العربية الجنوبية5، والبعثة الأمريكية التي أرسلها متحف "فيلد:" بشيكاغو لدراسة "أنثروبولوجية" القبائل العراقية النازلة على مقربة من "كيش"، عدا دراسات أخرى عديدة قام بها علماء آخرون6. وقد أجريت أكثر هذه البحوث في مناطق عرفت باتصالها منذ القديم بالعالم الخارجي، وفي أرضين استضافت الغرباء، فهي لذلك لا يمكن أن تعطينا فكرة علمية عن "أنثروبولوجية" داخل جزيرة العرب، فلا بد من القيام بدراسات دقيقة في قلب الجزيرة لتكوين رأي علمي عن عرب هذه الأماكن. وقد لاحظ الفاحصون للعظام التي عُثِر عليها في الأقسام الجنوبية الشرقية من جزيرة العرب وجود تشابه كبير بين جماجم أهل عمان وجماجم سكان السواحل الهندية المقابلة لهذه البقاع، كما لاحظوا تشابهًا كبيرًا في الملامح الجسمية بين العرب الجنوبيين أهل عدن وبقية العربية الجنوبية الغربية وتهامة وسكان إفريقية الشرقية.

_ 1 C.U. Ariena Kappers, An Introduction to the Anthropology of the Near East in ancient and recent Times, Amesterdam, 1934, P., 73, 2 Dr. Seligman, The Physical Characters of the Arabs, in Journal of the Royal Anthrop. Inst, Vol., 47, 1917, P., 217, The Races of Africa, 1930. 3 W. Shanklln, The Anthropology of the Transjordan Arabs, Psychiatrische en Neurologische bladen, 1934, Anniversary Book for the central Institute of Brain reserch Amesterdam. 4 A. Mochl, Sulla Anthropologla Giuffrida Ruggeri, in Crani Egiziani antichi, ed., Arabo — Egiziani, Attt della Soc. Romana d'Anthrop., T., 15, 1915. راجع الفصل الذي كتبه "Dr. wilton Marion Krogman" في كتاب"Arabia Felix" صفحة 301 6 Henry Field, The Anthropology of Iraq, Field Museum of Natural History, Chicago. 1940.

وقد اتخذ القائلون إن أصل العرب الجنوبيين من إفريقية هذه التشابه حجة، تذرّعوا بها في إثبات نظرياتهم هذه1. غير أن هذه الفحوص أشارت من جهة أخرى إلى حقيقة تخالف النظرية الإفريقية؛ إذ بيّنت أن أشكال جماجم العرب الجنوبيين ورءوسهم هي من النوع الذي يقال له"2 "brachycephaly". أما أشكال جماجم سكان إفريقية الشرقية ورءوسهم، فمن النوع الذي يعرف باسم "dolichocephaly" في الغالب3. وهذا التباين لا يشير إلى وحدة الأصل. وقد تبين من هذه الفحوص أن أشكال جماجم العرب الشماليين ورءوسهم، هي من نوع "dolichocephaly" كذلك، أي أنها نوع مشابه لأشكال جماجم الإفريقيين الشرقيين ورءوسهم4. وقد حملت هذه النتائج بعض الباحثين على التفكير في أن العرب الجنوبيين كانوا في الأصل في المواطن التي تكثر فيها الرءوس المستديرة، وأن هذه المواطن هي من آسية الصغرى إلى الأفغان؛ فزعموا أنهم كانوا هناك ثم هاجروا منها إلى مواطنهم الجديدة في العربية الجنوبية5، كما زعموا أن سكان "عمان" قد تأثروا تأثرًا كبيرًا بالدماء "الدراوبدينية" "dravidian" الهندية، لهذا نجد أنهم يختلفون بعض الاختلاف عن بقية العرب الجنوبيين6. وإذا قامت بعثات علمية بالبحوث "الأنثروبولوجية" في مواضع أخرى من جزيرة العرب ولا سيما في باطن الجزيرة، وإذا ما استمر العلماء والسياح في البحث عن العظام والأحداث، وفي دراستها دراسة مختبرية، واستمروا في إجراء فحوصهم على الأحياء، وقورنت نتائج فحوصها بنتائج فحوص العلماء في بقية أنحاء الشرق الأدنى، فإن البحث في الساميات وفي علاقات الشعوب القديمة بعضها ببعض، سيتقدم كثيرًا، وسيأتي ولا شك بنتائج علمية مقبولة في موضوع السامية والجنس السامي.

_ 1 Arabia Felix, P. 302. 2 اصطلاح يطلق في علم "النتروبولوجي" على الجماجم التي يبلغ عرضها حوالي "80%" أو أكثر من مقدار طول الجمجمة من الأمام إلى الخلف. ويقال لهذه الرءوس قصيرة. راجع: Enc. Britanica. Vol. 3, P. 1003, 18, P. 865. 3 ويعني أصحاب الرءوس الطويلة، وهي الجماجم التي تكون أبعادها من جانب إلى جانب تساوي "75%" أو أقل من طول المسافة بين جبهة الجمجمة والمؤخرة. راجع: Enc. Britanica, Vol., 7, P., 506. 4 Seligman, The Races of Africa, 1930, Arabia Felix, P., 304, P., 308. 5 Arabia Felix, P., 304, 322. 6 Dr. Wilton Marion Krogman, in Arabia Felix, P.316.

وطن الساميين

وطن الساميين: وتساءل العلماء الباحثون في الأجناس البشرية: من أين جاء الساميون الأول، آباء الشعوب السامية؟ وأين كان موطنهم الأول وبيتهم القديم، الذي ضاق بهم في الدهر الأول، فغادروه إلى بيوت أخرى؟ أما أجوبتهم، فجاءت متباينة غير متفقة لعدم اهتدائهم حتى الآن إلى دليل مادي يشير إلى ذلك الوطن، أو يؤيد نظرية وجود مثل هذا الوطن، فقامت آراؤهم على نظريات وفرضيات، وبحوث لغوية وعلى آراء مستمدة من الروايات الواردة في التوراة عن أصل البشر، وعن أبناء نوح، والأماكن التي حلّ بها هؤلاء الأبناء وأحفادهم ثم أحفاد أحفادهم، وهكذا على نحو ما تصورته مخيلة العبرانيين. فرأى نفر منهم أن أرض بابل، كانت المهد الأول للساميين، ورأى آخرون أن جزيرة العرب هي المهد الأول لأبناء سام، وخصص فريق آخر موطنًا معينًا من جزيرة العرب، ليكون وطن سام وأبنائه الأُوَل، وذهب قسم إلى إفريقية فاختارها لتكون ذلك الوطن، لما لاحظه من وجود صلة بين اللغات السامية والحامية، ورأى قوم في أرض "الأموريين" الوطن الصالح لأن يكون أرض أبي الساميين، على حين ذهب قوم آخرون إلى تفضيل أرض "أرمينية" على تلك الأوطان المذكورة. وهكذا انقسموا وتشعّبوا في موضوع اختيار الوطن السامي، ولكل حجج وبراهين. وحتى القائلون بنظرية من هذه النظريات وبرأي من هذه الآراء، هم قَلِقُون غير مستقرين في نظرياتهم هذه، فتراهم يُغَيّرون فيها ويبدلون. يفترضون وطنًا أصليًّا لجدّ الساميين، ثم يفترضون وطنًا ثانيًا يزعمون أن قدماء الساميين كانوا قد تحوّلوا من الوطن الأول إليه، فصار الموطن الأقدم لهم. فقد ذهب "فون كريمر" مثلًا، وهو عالم ألماني إلى أن إقليم "بابل" هو موطن الساميين الأُوَل، وذلك لوجود ألفاظ عديدة لمسمّيات زراعية وحيوية "حياتية" أخرى تشترك فيها أكثر اللغات السامية المعروفة، وهي مسميات لأمور هي من صميم

حياة هذا الإقليم، إلا أنه عاد فذكر أنه وجد أن لفظة "الجمل" لهذا الحيوان المعروف هي لفظة واردة في جميع اللغات السامية وفي ورود هذه التسمية في جميع هذه اللغات دلالة على أنها من بقايا اللغة "السامية" الأولى. ولكن الجمل حيوان أصله وموطنه الأول الهضبة المركزية التي في آسيا على مَقْرَبة من نهر سيحون ونهر جيحون، ولما كان قد لازم الساميين من فجر تأريخيهم واقترن اسمه باسمهم، وجب أن يكون موطن الساميين الأقدم إذن هو تلك الهضبة، إلا أن أجداد الساميين غادروها في الدهر الأول، وارتحلوا عنها فانحازوا إلى الغرب مُجْتَازِين إيران والأرضين المأهولة بالشعوب "الهند أوروبية" حتى وصلوا إلى إقليم "بابل"، فنزلوا فيه، فصار هذا الإقليم الوطن الأقدم أو الأول للساميين. وطريقة "فون كريمر" في هذه النظرية، دراسة أسماء النبات والحيوان في اللغات السامية وتصنيفها وتبويبها للتمكن بذلك من معرفة المسميات المشتركة والمسميات التي ترد بكثرة في أغلب تلك اللغات. والتوصّل بهذه الطريقة إلى الوقوف على أقدم الحيوان والنبات عند تلك الشعوب، فإذا اهتدينا إليها صار من السّهل على رأيه التوصل إلى معرفة الوطن الأصل الذي جمع في يومٍ ما شمل أجداد الساميين1. أما "كويدي"، وهو من القائلين أيضا أن إقليم بابل هو الموطن الأول للساميين؛ فقد سار على نفس أسلوب "فون كريمر" نفسه وطريقته، ولكن بصورة مستقلة عنه. درس الكلمات المألوفة في جميع اللغات السامية عن العمران والحيوان والنبات ونواحي الحياة الأخرى، وقارن بينها وتتبّع أصولها ثم قال قوله المذكور، إلا أنه اختلف عن "فون كريمر" في الوطن الأول؛ حيث رأى أن مواطن الساميين الأُوَل كانت الأرضين في جنوب بحر قزوين وفي جنوب شرقيه إلا أنهم غادروها بعد ذلك وارتحلوا عنها إلى إقليم بابل2. وأما "هومل"، وهو من العلماء الألمان الحاذقين في الدراسات اللغوية، فقد

_ 1 Von Kremer, Semitische Cultureu Entlehnungen aua Pflantzen-und Thierreiche, in das Ausland, Bd., IV, note, 1, und 2. 2 Guidi, Delia sede primitiva dei Popoli Semitici, Roma, 1879, Wright, Comparative Grammer of the Semitic Languages, P., 5 Barton, P., 3, Hommel, Grundriss, 1. S., 80, A. Grohmann, Kulturgeschichte, S., 14.

ذهب أولًا إلى أن موطن الساميين هو شمال العراق، ثم عاد فقرر أن إقليم بابل هو الوطن الأصل، وذهب أيضا إلى أن قدماء المصريين هم فرع من فروع الشجرة التي أثمرت الثمرة السامية، وهم الذين نقلوا على رأيه الحضارة إلى مصر نقلوها من البابليين1. وقد ناقش "نولدكه" آراء هؤلاء العلماء المذكورين القائمة على المقابلات والموازنات اللغوية، وعارضها معارضة شديدة، مبيِّنًا أن من الخطأ الاعتماد في وضع نظريات مهمة كهذه على مجرد دراسة كلمات وإجراء موازنات بين ألفاظ لم يثبت ثبوتًا قطعيًا أن جميع الساميين أخذوها من العراق، وأورد جملة أمثلة اختلف فيها الساميون، مع أنها أجدر المعاني بأن يكون لها لفظ مشترك في جميع اللغات السامية2. ومن أوجه النقد التي وجهت إلى نظرية القائلين إن العراق، أو إقليم بابل منه بصورة خاصة، هو موطن الساميين، هو أن القول بذلك يستدعي تصوّر انتقال الساميين من أرض زراعية خِصْبَة ذات مياه إلى بوادٍ قفرة جردٍ، وإبدال حياة زراعية بحياة خشنة بدوية، ومثل هذا التصور يخالف المنطق والمعقول والنظم الاجتماعية. وأما القائلون إن الموطن الأصلي لجميع الساميين هو جزيرة العرب، فكان من أولهم "شبرنكر". فقد رأى أن أواسط جزيرة العرب، ولا سيّما نجد، هو المكان الذي يجب أن يكون الوطن الأول للساميين، وذلك لأسباب وعوامل شرحها وذكرها. ومن هذا الوطن خرج الساميون في رأيه إلى الهلال الخصيب فطبعوه بالطَّابع السامي، ومن هذا الهلال انتشروا إلى أماكن أخرى3. وقد أيَّدَ هذه النظرية جماعة من المستشرقين الباحثين في هذا الموضوع من

_ 1 Hommel, Die Namen der Saeugethiere bei den Suedsemitischen Volkem, Leipzig, 1879. S-, 406, Die Semitischen Voelker und Sprachen, 1881, Bd., I, S., 20, 63, Barton, P., 3 Hommel, Grundriss, I, S-, 10. f. 2 Noeldeke, Semitischen Sprachen, Leipzig, 1887, S., 3, 2ed., 1899, Enc. Brit., 9th. ed.. Article, Semitic Language. 3 A. Sprenger, Das Leben und die Lehre des Mohammad, Berlin, 1861, Bd., I, S., 241, Alte Geographie Arabiens, 1875, S., 293, Barton, P., 4.

أمثال "سايس"1و "أبرهرد شرادر"3، و "دي كويه"3 و"هوبرت كرمه"4 و "كارل بروكلمن"5 و "كينغ"6و "جول ماير"7و "كوك"، وآخرين8. وقد مال إلى تأييدها وترجيحها "دتف نلسن"، وهو من الباحثين في التأريخ العربي قبل الإسلام9. وكذلك "هوكو ونكلر". و "هومل" الذي يرى أن موطن جميع الساميين الغربيين هو جزيرة العرب10. وقد ذهب نفر من القائلين بهذه النظرية إلى أن العروض ولا سيما البحرين والسواحل المقابلة لها، هي الوطن السامي القديم. ويستشهد هذا النفر على صحة نظريته ببعض الروايات والدراسات التي قام بها العلماء فكشفت عن هجرة بعض الأقوام كالفينيقيين وغيرهم من هذه الأماكن. أما "فلبي"؛ فذهب في دراساته المسهبة لأحوال جزيرة العرب إلى أن الأقسام الجنوبية من جزيرة العرب هي الموطن الأصلي للساميين، وفي هذه الأرضين نبتت السامية، ومنها هاجرت بعد اضطرارها إلى ترك مواطنها القديمة لحلول الجفاف بها الذي ظهرت بَوَادره منذ عصر "البالثوليتيك" "palaeolithic" هاجرت في رأيه، في موجات متعاقبة سلكت الطرق البرية والبحرية حتى وصلت إلى المناطق التي استقر فيها. هاجر وقد حملت معها كل ما تملكه من أشياء ثمينة، حملت معها آلهتها، وأولها الإله "القمر"، وحملت معها ثقافتها وخطها

_ 1 Sayce, Assyrian Grammer, 1872, P., 13, Barton, P., 4. 2 Eberhard Schrader, in ZDMG., XXVn, (1873) , S., 397.ff "Die Abstammung der Chaldaer und-die Ursitze der Semiten" 3 De Goeje, Het Vaterland der Semitische Volken, Barton, P., 5, Wright, Compara- tlve Grammer of the Semitic Languages, P> 8- 4 Hubert Grimme, Mohammed, Weltgeschichte in Karakterbildern, 1904, S., 6. f., Barton, P., 5. 5 Carl Brockelmann, Grundriss der Vergleichenden Grammatik der Semitischen Sprachen, Berlin, Berlin, 1908, 1, 2. 6 L.W, King, History of Sumer and Akkad, London, 1915, P., 119. 7 John L. Meyers, in Cambridge ancient History, Cambridge 1923, 1, 38, Barton, P. 6-v 8 S.A. Cook, in Cambridge ancient History, I, P., 192. f. 9 Ditef Nielsen, Handbuch der altarabischen Altertumskunde, I, Kopenhagen, Paris, Leipzig, 1927, 47, 55. 10 A. Grohmann. S., 14, Hommel, Ethnolgle und Geograghie des alten Orient, Muenchen, 1926, S., 10.

الذي اشتقّت منه سائر الأقلام، ومنه القلم الفينيقي، وطبعت تلك الأرضين الواسعة التي حلت فيها بهذا الطابع السامي الذي ما زال باقيًا حتى اليوم. وقد أخذ "فلبي" رأيه هذا من دراسات العلماء لأحوال جزيرة العرب ومن الحوادث التأريخية التي تشير إلى هجرة القبائل من اليمن نحو الشمال1. فاليمن في رأي "فلبي" وجماعة آخرين من المستشرقين، هي "مهد العرب" ومهد الساميين، منها انطلقت الموجات البشرية إلى سائر الأنحاء. وهي في نظر بعض المستشرقين أيضًا "مصنع العرب"، وذلك لأن بقعتها أمدّت الجزيرة بعدد كبير من القبائل، قبل الإسلام بأَمَدٍ طويل وفي الإسلام2. ومن اليمن كان "نمرود" وكذلك جميع الساميين3. والذين يقولون إن نجدًا هي موطن الساميين الأُوَل، يفترضون أن موجات هجرة الساميين اتجهت نحو الشمال كما اتجهت نحو الجنوب والشرق والغرب4، فكأن نجدًا معين ماء يفيض فيسيل ماءُه إلى أطرافه. غير أن هنالك جماعة من الباحثين ترى أن نجدًا لا يمكن أن تكون الموطن الأول للساميين، وذلك لأن شروط الحياة اللازمة لم تكن تتوفر بها، اللهم إلّا في المواضع التي توجد بها آبار أو واحات، وهي قليلة متناثرة، وذلك حتى في العصور "الباليوثية" "palaeolithic ages". أما المراعي التي كانت بها في تلك الأوقات فلم تكن دائمة الخضرة، بل كانت مع المواسم ولهذا فإن السكن فيها لا يمكن أن يكون سكنًا دائميًّا مستمرًا، ثم إن السكن في نجد يقتضي وجود الجمل فيها ولم يكن الجمل موجودًا عند الساميين في العهود القديمة بل كان الحمار هو واسطة الركوب والنقل عندهم. ولما كان الحمار لا يتحمل العيش في البوادي الواسعة الفسيحة؛ لذلك لم يتمكن الساميون إذا ذاك من التوغّل في

_ 1 Philby, The Background of Islam, Alexandria, 1949, P., 9, ff. 2 Montgomery, Arabia and the Bible, Philadelphia, 1934, P., 126, Background. P. 9. 3 Eberhard Schrader, Die Abstammung der Chaldaer und die Ursitze der Semiten, in ZDMG, S-, 14. 4 James Hastings, A Dictionary of the Bible dealing with its Language Literature and Contents including the Biblical Theology, Extra Volume, 1904, P., 74. f. W. WarreH, A Study of Races in ancient Near East, Cambridge, 1927, 7, 45, 94. B. Thomas, Anthropological observation in South Arabia, 93-94, A. Grohmann, Araien S., 14.

الصحراء والسكن بعيدًا عن مواضع الماء، فانحصر سكنهم في أسياف البوادي أي في مناطق قريبة من الحضر، ولهذا السبب رفض العلماء رأي من يقول إن نجدًا هي الموطن الأول للساميين1. ويمكن تلخيص الحجج والبيانات التي استند إليها هؤلاء العلماء لإثبات نظريتهم في الأمور الآتية: 1- لا يعقل أن ينتقل سكان الجبال والمزارعون من حياة الحضارة والاستقرار إلى البداوة، بل يحدث العكس. ولما كانت الشعوب السامية قد قضت في أطوارها الأولى حياة بدوية، فلا بد أن يكون وطنها الأول وطنًا صحراويًّا، وجزيرة العرب تصلح أن تكون ذلك الوطن أكثر من أي مكان آخر. 2- ثبت أن معظم المدن والقرى التي تكوّنت في العراق أو الشام إنما كوّنتا عناصر بدوية استقرار في مواضعها، واشتغلت بإصلاح أراضيها وعمرانها، واشتغلت بالتجارة، فنشأت من ذلك تلك المدن والقرى. ولما كانت أكثر هذه العناصر البدوية قد جاءت من جزيرة العرب، فتكون الجزيرة قياسا على ذلك الموطن الذي غذّى العراق وبادية الشام وبلاد الشام بالساميين، وأرسل عليها موجات متوالية منها. 3- هناك أدلة دينية ولغوية، وتأريخية وجغرافية، تشير بوضوح إلى أن جزيرة العرب هي مهد السامية ووطن الساميين2. 4- إننا نرى أن جزيرة العرب قد أمدّت العراق وبلاد الشام بالسكان، وأن القبائل الضاربة في الهلال الخصيب قد جاءت من جزيرة العرب، فليس بمستبعد إذن أن يكون الساميون قد هاجروا منها إلى الهلال الخصيب. وقد عارض هذه النظرية طائفة من علماء الساميات، وحجتهم: أن كل ما قيل وذكر من حجج وبيّنات، لا يدل يقينا على أن جزيرة العرب كانت هي المهد الأصلي للأمم السامية، ونظرت إلى إفريقية على أنها المكان المناسب لأن يكون الوطن الأول للساميين. ومن هذه الطائفة من علماء الساميات "بلكريف"،

_ 1 Ancient Iraq. P. 125. 2 ومن القائلين إن جزيرة العرب هي مهد الساميين "روبرتسن سمثrobertson smith" الهلال، نيسان 1906، ج 7 سنة 14، ص 399، Kinship and MARRIAGE IN EARLY Arabia, P., 178, Barton, P.,5.

وقد يكوّن رأيه من وجود تشابه في الملامح، وفي الخصائص الجنسية، وصلات لغوية بين الأحباش والبربر والعرب دَفَعَتْه إلى القول بأن الوطن الأول للساميين هو إفريقيا1. وذهب إلى هذا الرأي "جيرلند gerland"، مستندًا إلى الدراسات "الفيزيولوجية" مثل تكوين الجماجم، والبحوث اللغوية. وقد زعم أن شمال إفريقية هو الموطن الأصلي للساميين، وادَّعى أن الساميين والحاميين من سلالة واحدة ودوحة تفرعت منها جملة فروع، منها هذا الفرع السامي الذي اختار الشرق الأدنى موطنًا له2. وهناك نفر من العلماء أيّدوا هذه النظرية ودافعوا عنها أو استحسنوها، مثل "برتن3 bertin" و "نولدكه"4 و "موريس جسترو"5 و "كين" و "ربلي" وغيرهم6. ولكنهم اختلفوا أيضًا في تعيين المكان الذي نبت فيه الساميون أول مرة في القارة الإفريقية، واختلفوا كذلك في الطريق الذي أوصل الساميين إلى جزيرة العرب7، فاختار "برنتن" brinton شمال غربي إفريقيا، ولا سيما منطقة جبال "الأطلس" فجعلها الموطن الأصلي للساميين8. واختار نفر آخر إفريقية الشرقية موطنًا أول للساميين، للعلاقات "الأنثولوجية" الظاهرة التي تلاحظ على سكان هذه المنطقة والساميي9. وزعم أن الساميين سلكوا في عبورهم إلى آسية أحد طريقين: إما طريق سيناء حيث هبطوا في العربية

_ 1 Enc. Brit., 9Th. Ed., "Arabia", Barton, P., 6, Enc. of Relig. and Ethics, Vol., II, P., 380 2 Enc. of Relig. and Ethics, Vol., II, P., 380, Barton, P., 6, Iconographic Enc, Art., "Ethnography" 3 Bertin, Journal of the Anthropological Institute, XI, 431, (1882) , Barton, P., 6. 4 Noeldeke, Die Semit. Sprachen, S., 9, Ency. Brita., (1911) , "Semtic Languages", Enc. of Relig. and Ethics, Vol., n, P., 380 5 Barton, P., 7, Brinton, The Cradle of the Semites, Philadelphia, 1890, Races and Peoples, New York, 1890, P., 132 6 Barton, P., 7, A Sketch of Semitic Origin Social and Religious, Ch. I, New 1901 7 Barton, P., 6, C.U". Ariens Kapper and Leland W. Paar, An Introduction to the Anthropology of the Near East, Amsterdam, 1934, P., 47 8 Barton, P., 7, Brinton, Cradle of the Semites, Philadelphia, 1890, Races and Peoples, New York, 1890, P., 132, Enc. of Relig. and Ethics, Vol., II, P., 380 9 حتى ص 10.

الحجرية وأناخوا فيها مدة ثم انتشروا منها1، وإما طريق المندب حيث دخلوا العربية السعيدة من مواضع مختلفة من الحبشة ومن أرض "فنط2 punt". وهي الصومال الحديثة3. وقد أكسبتهم إقامتهم في بلاد العرب خصائص جديدة، ووسمتهم بسمات اقْتَضَتْهَا طبيعة الوطن الثاني، ولكنها لم تتمكن من القضاء على الخصائص الأولى التي تشير إلى الوطن الأول قضاءً تامًا، ولا على الصلة بين اللغات الحامية والسامية التي تشير إلى الأصل المشترك كذلك4. وهذه النظرية، بالرغم من دفاع بعض كبار علماء اللغات والأجناس عنها لا تخلو من ضعف، ومن مواطن ضعفها أنها غَضّتْ الطرف عن الاعتبارات التأريخية، واستسلمت لدراسات لم تنضج بعد، فمن الممكن مثلا إرجاع ما لاحظه علماء اللغات السامية واللغة المصرية القديمة إلى عوامل الهجرات السامية من جزيرة العرب وعن طريق سيناء إلى إفريقيا، مثل هجرة "الهكسوس" وهم من أصل سامي جاءوا مصر من بلاد العرب. وقد ثبت أيضا من تحقيقات العلماء أن كثيرًا من الأسماء المصرية القديمة التي كانت تطلق على الأقسام الشرقية من الديار المصرية هي أسماء سامية. وإذا سوّغ علماء النظرية الإفريقيا لأنفسهم الاستدلال على إفريقيا الساميين من وجود القرابة اللغوية بين اللغة المصرية واللغات السامية مثلا، فإن من الممكن إرجاع هذه القرابة إلى أثر الهجرات السامية في اللغة المصرية

_ 1 Barton, P. 6, Jornal of the Anthrop. Inst, XI, 431. 2 يجب تعريب punt ب"فنط"، قياسا على طريقة تعريب الأسماء الأعجمية إلى العربية. وقد عربها بعضهم بـ "فوط: وتقابل كلمة "فوط" كلمة put أو phut الواردة في التوراة أنها مسكن ابن حام الثالث؛ غير أن علماء التوراة لم يتفقوا حتى الآن على موضع "فوط"، فذهب بعضهم إلى أنها في نواحي طرابلس الغرب "ليبيا"، ورأى آخرون إنها بين مصر و"كوش"، أي السودان أو الحبشة، وربما كانت نوبيا الجنوبية، وهناك آراء أخرى. فلا أرى من الصحيح تسمية punt" بفوط لمكان هذا الاختلاف، راجع عن "فوط"، أرميا، إصحاح 46، آية 6، وحزقيال، إصحاح 37، آية 10، 30، آية 5، و 38، آية 5، ناحوم، إصحاح 3 آية 9، قاموس الكتاب المقدس "2/ 18"، عربت في ترجمة "تأريخ العرب المطول" للدكتور حتى بـ "فوط" ص42 Hastings, P. 777, Enc. Bibl, P. 3984. 3 حتى "ص13"، 4 Barton, P.,8.

وأما تقارب الحبشية من اللهجات العربية الجنوبية وكتابة الأحباش حتى اليوم بقلم شبيه بالمسند، فلا يكون دليلًا قاطعًا على هجرة الساميين من إفريقية عن طريق الحبشة إلى جزيرة العرب؛ إذ يجوز العكس، وقديمًا هاجر الساميون من العربية الجنوبية إلى الحبشة. والساميون هم الذين كوّنوا دولة "أكسوم" التي كانت تتكلم باللغة "الجعزية"، وهي لغة سامية، كما أن قلمها الذي يشبه قلم المسند هو وليد القلم العربي الجنوبي. وكتابات "يها" "يحا" المكتوبة بالمسند، في حد ذاتها دليل على أثر العرب الجنوبيين في الإفريقيين "الكوشيين"، وهذه الكتابات حديثة عهد بالنسبة إلى كتابات السبئيين1، كما يمكن اعتبار تشابه أسماء بعض الأماكن القديمة في الحبشة مع نظائر لها في اليمن ووجود معبد في الحبشة خُصّ بالإله "المقّة" إله سبأ العظيم2، وأمور أخرى دينية ولغوية وأثرية، واعتراف الأحباش بأنهم من نسل مكلة سبأ "بلقيس" "ماقدة"3، من "سليمان الحكيم"، وأن "حبشت" التي أخذ الأحباش منها اسمهم في اللغة العربية هي مقاطعة تقع في العربية الجنوبية في رأي أكثر العلماء4، وأن "الأجاعز" أصحاب اللغة الجعزية هم أقدم مَنْ هاجر من اليمن إلى الحبشة، ووجود صلات قديمة بين الساحلين الإفريقي والعربي، إذا نظرنا إلى كل هذه الأمور نظرة علمية دقيقة، نجد أنها تجعل أمام القائلين إن أصل الساميين من إفريقية صعوبات ليس من السهل التغلب عليه، ولا سيما إذا أضفنا إليها الأثر الذي تركته اليهودية والنصرانية في الأحباش وفي الشعوب الكوشية الأخرى، فقرب ثقافتها من الثقافة السامية وأثر في لغتها، وهو أثر يجب أن يقام له وزن عند بحث هذا الموضوع. ثم إن كثيرًا من علماء "الأنثروبولوجي" يرون أن إفريقية تأثرت بالدماء الآسيوية. أما تأثيرها في دماء أهل الشرق الأدنى وفي دماء سكان جزيرة العرب،

_ 1 Mueller, Epigraphlsche Denkmaeler aua Abessinien, Glaser, Die Abessiner in Arabien und Africa, Muenchen, 1895. 2 Ditlef Nielsen, Der Sabaische Gott Ilmukah, S., I, D. H. Mueller, Epigraphische Denkmaeler, S., 57. 3 Ehc, Vol., I, P. 720, B. Littman, The Leg-end of Queen of Sheba in Tradition of Axum, in Bibliotheea Abessinca. 4 Enc, Vol., I, P., 119, Conti Rossini, Note sugli Habshat, Roma, 1905.

فقد كان قليلًا لقد دخلت إليها دماء شعوب الشرق الأدنى من البحر المتوسط ومن طور سيناء ومن مضيق باب المندب. ويظهر أثر هذا الاختلاط واضحًا في إفريقية الشرقية وإفريقية الشمالية، وما زال هذا التأثر واضحًا حتى اليوم1. ولهذا فإن من الصّعب تصوّر هجرة الساميين من إفريقية إلى جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق على وَفْق نظرية هؤلاء العلماء. ومن القائلين إن المهد الأصلي للساميين هو أرض إرمينية "جون بيترس"، وحجته في ذلك أن هذا المحل هو أنسب مكان يتفق مع رواية التوراة في الطوفان، وهو المحل الأصلي للأمم السامية والآرية2. ثم إن الأنف الحَثِيّ يشبه كل الشبه الأنف العبراني، وفي هذه التسمية دلالة على المكان، وقد نسي أن العرب وهم من الساميين لم يُرزقوا هذا الأنف3. وقد ذهب "أنكناد" "ungnad" إلى أن أصل الساميين من أوروبة، وقد تركوها وهاجروا منها إلى آسية الصغرى، ثم هاجروا منها إلى أرض "أمورو" "amurru"، وذهب قسم منهم في الألف الرابعة قبل الميلاد إلى بابل وبقية أنحاء العراق4. وذهب "كلي" إلى أن الوطن الأصلي للساميين هو أرض "أمورو" "amurru" "الأموريين" وتشمل هذه الأرض، في رأيه، بلاد الشام ومنطقة الفرات5. من هذه المنطقة هاجر الساميون، وهو قد توصل إلى نظريته هذه من الدراسات اللغوية6، ولكنها لا تستند في الواقع إلى أدلة قوية. والأموريون من الشعوب السامية القديمة التي سكنت في فلسطين والشام وإقليم بابل7.

_ 1 L. H. D. Buxton, The People of Asia, London, 1925, P., 34. 2 السامية ص4. Journal of the American Oriental Society, XXXIX, 243, ff, Barton, P., 8. 3 Barton, P., 8. 4 A. Ungnad, Die Aeltesten Voelkerwanderungen Vorderasiens, Kulturfragen, I, (Breslau) , 1923, 5, A. Grohmann, Arabien, S., 14. 5 Barton, P., 8, A. T. Clay, Amurru, The Home of the Northern Semites, Fhila- delphia, 1909, The Empire of the Amorites, New Haven, 1919, Enc. of Rel. and Ethics, II, 380. 6 Barton, P., 9. 7 Hastings, P., 27, Enc Bibl., P., 146, Meissner, Aitar, Privatrecht, No. 42. Schrader, K. A. T., S., 178. ff.

وذهب آخرون إلى أن الوطن الأول الأصل للساميين هو أرض "قفقاسية"؛ إذ كان البشر من ثلاثة أجناس أساسية، هي: الجنس القفقاسي "caucassides" والجنس المنغولي "mongoloids" "الآسيويين"، والجنس الزنجي negroids. وقد قصدوا بالجنس القفقاسي أصحاب البشرتين البيضاء والسمراء، أي الآربيين والساميين. فوطن هذين الجنسين الأول هو "قفقاسية" على هذا الرأى. منه انتقل الساميون إلى أوطانهم الجديدة، بهجرتهم إلى الجنوب واستقرارهم فيما يقال له "الهلال الخصيب"، ثم فيما وراءه إلى السواحل الجنوبية لجزيرة العرب، ومنه انتقل الآريون إلى الجنوب الشرقي لقفقاسية وإلى الغرب والشمال، أي إلى آسية وأوروبة ثم إلى أماكن أخرى فيما بعد1. وهجرات على هذا النحو، لا بد أن تكون لها أسباب ومسبّبات؛ إذ لا يعقل ترك إنسان لوطنه من غير سبب. وقد بحث القائلون بهذا الرأي عن الأسباب التي أدت إلى وقوع تلك الهجرات، فوضعوا لهم جملة فرضيات. ظهر الساميون على مسرح الوجود في الألف الثالثة قبل الميلاد، واستقروا في هذه الأرضين التي اصطبغت بالصبغة السامية، وهي الهلال الخصيب وشبه جزيرة سيناء وجزيرة العرب، حيث تعدّ اليوم المواطن الرئيسية للساميين2. وقد توسط بعض الباحثين بين الآراء المتباينة، عن الوطن الأول للجنس السامي، فذهب إلى أن الهلال الخصيب وأطراف جزيرة العرب هي الموطن الأول للساميين والميدان الذي وجدوا فيه منذ أقدم أيامهم، وقد كان هذا الميدان موضع صراع بين البداوة والحضارة، فقد كان البدو يهاجمون الحضر سكان القرى والمدن، والبدو هم من الساميين، وكثير من الحضر كانوا من الساميين أيضًا، ومن هذا التنازع على الحياة تكوّن تاريخ الساميين في هذه المنطقة الواسعة من الهلال الخصيب التي تُحِدُّها من الشرق والشمال والغرب الجبال والتي تمتد فتشمل كل جزيرة العرب3.

_ 1 Sonia Cole, Races of man, British Museum {Natural History) . PP. 9. 2 Simon Dubnow, Weltgeschichte des Juedlschen Volkes, Bd., I, S., 3. 3 Ancient Iraq. PP., 125.

الهجرات السامية

الهجرات السامية: تقول كل النظريات التي رأيناها عن أصل الوطن السامي، بهجرات الساميين من ذلك الوطن الأم إلى أوطان أخرى في أزمان مختلفة متباينة، وذلك لأسباب عديدة منها: ضيق أرض الوطن من تحمل عدد كبير من الناس، وتزاحم الناس على الرزق، مما دعاهم إلى التحاسد والتباغض والتفتيش عن وطن جديد، وظهور تغيّرات في طبيعة ذلك الإقليم، إلى عوامل أخرى. وقد تصوّر القائلون أن جزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، بلاد العرب كخزَّان هائل يفيض في حِقَب متعاقبة، تبلغ الحُقبة منها زهاء ألف عام، بما يزيد على طاقته من البشر إلى الخارج، يقذف بهم موجات أطلقوا عليها "الموجات السامية"1. وفي علّل القائلون بنظرية أن جزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، سبب هذه الهجرات بعدم استطاعة جزيرة العرب قبول عدد كبير من السكان يزيد على طاقتها، فلا يبقى أمامهم غير سلوك طريق الهجرات إلى الأماكن الخِصْبَة في الشمال. وقد كانت الطرق الساحلية من أهم المسالك التي أوصلت المهاجرين إلى أهدافهم. وفي جملة أسباب ضيق جزيرة العرب عن استيعاب العدد الكبير من السكان تغيّر مستمر طرأ عليها، أدى إلى انحباس الأمطار عنها وشيوع الجفاف فيها مما أثّر على قشرتها وعلى أحيائها، فهلك من هلك وهاجر من هاجر من جزيرة العرب، وقد استمر هذا التغير آلافا من السنين حتى حوّل بلاد العرب أرضين غلبت عليها الطبيعة الصحراوية، وقلّت فيها الرطوبة، وغلب على أكثر بقاعها الجفاف2. وقد رأى بعض العلماء أن جزيرة العرب كانت في عصر "البلايستوسين" "pleistocene" خصبة جدًّا كثيرة المياه، تتساقط عليها الأمطار بغزارة في جميع فصول السنة، وذات غابات كبيرة وأشجار ضخمة، كالأشجار التي نجدها في الزمان

_ 1 Montgomery, Arabia and the Bible, P., 21. حتى ص13 2 Montgomery, Arabia and the Bible, PP., 90, < The Problem of the Physical change in Arabia

الحاضر في الهند وإفريقية، وأن جوّها كان خيرًا من جوّ أوروبة في العصور الجليدية التي كانت تغطي الثلوج معظم تلك القارة، ثم أخذ الجوّ يتغير في العالم، فذابت الثلوج بالتدريج، وتغير جوّ بلاد العرب بالطبع، حدث هذا التغير في عصر ال"نيوليتك neolithic" أو في عصر ال "كالكوليتك" "chalcolithic"، ولم يكن هذا التغير في مصلحة جزيرة العرب، لأنه صار يقلّل من الرطوبة ويزيد من الجفاف، ويحوّل رطوبة التربة إلى يبوسة فيُمِيت الزرع بالتدريج، ويهيج سطح القشرة فيحوّلها ورمالا وترابا ثم صحاري لا تصلح للإنبات ولا لحياة الأحياء1. فاضطر سكان الجزيرة الذين كانوا من الصيادين إلى أن يكيفوا أنفسهم بحسب الوضع الجديد، فأخذ ناس منهم يهاجرون إلى مناطق أخرى ملائمة توائم حياتهم ومزاجهم، وأخذ ناس آخرون يعتمدون على الزرع وتدجين الحيوانات، وعلى الاكتفاء بصيد ما يرونه من حيوانات تحملت الجو الجديد متنقّلين من مكان إلى مكان حيث الكلأ والماء. وهكذا تعرض حياة الأجسام الحية من نبات وحيوان لتغيرات تدريجية مستمرة، فرضها عليها تغير الجو. وقد أدى انحباس المطر وازدياد الجفاف ويبوسة الجو إلى انخفاض الرطوبة من سطح الأرض، وهبوط مستوى الماء بالتدريج عن قشرة الأرض، وظهور الأملاح في الآبار، وجفاف بعض الآبار، فأدى ذلك إلى ترك الناس هذه الأماكن، إذ صعب عليهم استغلالها بالزراعة، وإصلاحها بحفر آبار لا تساعد مياهها الملحة على نمو النبات، ومعيشة الحيوان. حدث ذلك حتى في العصور الإسلامية حيث نسمع شكاوى مريرة من هذه العوارض الطبيعية2.

_ 1 BOASOR, Suppl., No. 7-9, P, 41, "1950", Discoveries, P. 82, A. Grohmann., Arabien, S. 5, B. Thomas, Anthropological Observations in South Arabia, Proceedings of the Royal Anthropological Institute. 2 تجد أمثلة كثيرة وبحثا قيما في هذا الموضوع كتبه "موريتس B. Moritz" في كتابه: Arabien, Studien Zur PhysikaMschen und Historischen Geographie des Landes

وقد تحدث "فلبي" عن هبوط مستوى مياه بعض الآبار التي زارها عام 1917م في الخرج1، كما تحدث غيره من السياح عن حوادث مشابهة حدثت في تهامة والحجاز وأماكن أخرى2. ويعزو علماء طبقات الأرض انخفاض مستوى سطح الماء في جزيرة العرب إلى عوامل أخرى، إضافة إلى الجفاف مثل هبوط درجات الضغط على قشرة الأرض. وقد رأى الخبير الأمريكي "تويجل" "twitchell"، أن الماء قد انخفض زهاء سبع وعشرين قدمًا عن مستواه الذي كان عليه قبل ألفي عام3. ومن العلماء من يرى أن مستوى سطح الماء في البحر الأحمر وفي الخليج العربي قد انخفض كذلك، فذهب بعض علماء دراسة التوراة إلى أن مستوى سطح الماء في خليج السويس قد انخفض "25" قدمًا عما كان عليه في "أيام الخروج4- exodus". وذهبت جماعة منهم إلى أن هذا الهبوط لم يكن كبيرًا، وإنما بلغ زهاء ست أقدام أو أقل من ذلك في خلال ثلاثة آلاف سنة5. أما مستوى سطح الخليج العربي، فقد هبط على رأي بعضهم زهاء عشر أقدام أو خمس أقدام خلال ألفي عام، وإن ماء البحر قد تراجع في هذه المدة، ويستدلون على ذلك بوجود السباخ في الأحساء والقطيف، وهي، في رأيهم، من بقايا تأثر البحر في الأرض وربما ذهب إليه بعضهم من أن الربع الخالي، وقد عثر فيه على بقايا بحر واسع في السهل المنخفض الذي يقال له أبو بحر، كان متصلًا بالبحر العربي6. ومهما يكن من شيء، فإن هبوط مستوى سطح الماء مهما كان مقداره قد أثر في سطح الأرض. وقد وجد السياح محارًا من النوع الذي يكون في المياه العذبة، وأدوات من الصوان ترجع إلى ما قبل التأريخ والعصور الحجرية، وبقايا عظام ترجع إلى هذه العصور في مناطق صحراوية، ويدل وجودها فيها على أنها كانت مأهولة، وأنها لم تهمل إلا لعوارض طبيعية قاهرة لم يكن من الممكن التغلب عليها، حولت

_ 1 Philby, The Heart of Arabia, P., 37, 38, BOASOR, SuppL, Nos, 7-9, P., 41. راجع كتاب "موريتس" المذكورDiscoveries, P., 83. 3 Twltchell, Saudi Arabia, P., 44, 51. 4 BOASOR, Suppl., Stud., Nos, 7-9, P. 42. 5 المصدر نفسه 6 Philby, The Heart of Arabia, P., 31, Dougherty, The Sealand, P., 160.

تلك المناطق الخصبة في ألوف من السنين على مناطق لا تتوفر فيها شروط الحياة، فهُجِرت1. كما أننا نجد في الكتب العربية ذكر أشجار ضخمة كانت تنمو في مناطق لا تُنْبِت شيئًا ما في الزمان الحاضر، وذكر مناطق كان تحمي، يقال لها "الحمى" وقد جفّ معظمها، وعاد أرضين قفرة جرداء، فهلاك هذه النباتات وجفاف هذه الأرضين، لا يمكن أن يعزى إلى سوء الأوضاع السياسية وهجرة القبائل والمزارعين إلى أماكن أخرى لفساد الإدارة في الأماكن البعيدة حسب، بل لا بد أن يكون للطبيعة يد في هذا التحوّل ونصيب. إن هذا التغيّر الذي حدث في جوّ جزيرة العرب، فساعد على ازدياد الجفاف وانحباس الأمطار، قد أباد النباتات، وقاوم نموّ المزروعات، وعفى على الأشجار الضخمة التي كانت تعيش من امتصاص جذورها العميقة للرطوبة من أعماق الأرض، كما أثّر في حياة الحيوان كالأسد الذي قلّ وجوده، وقد كان كثير الوجود، ويدل على كثرة وجوده هذه الأسماء الكثيرة التي وضعت له وحفظت في كتب اللغة2. وحمار الوحش وقد كان من الحيوانات التي يخرج الناس لصيدها في الحجاز وفي نجد، والنعامة3. والرّئْم أو بقر الوحش، والفهد، والنَّسر4. ومن العلماء الذين نسبوا هجرة السامين من جزيرة العرب إلى خارجها، إلى عامل الجفاف والتغيّر الذي وقع في جوّ جزيرة العرب، العالم الإيطالي "كيتاني" "l.caetani". لقد تصوّر "كيتاني" بلاد العرب في الدورة الجليدية جنة، بقيت محافظة على بهجتها ونضارتها مدة طويلة وكانت سببًا في رسم تلك الصورة البديعة في مَخِيلَة كتّاب التوراة عن "جنة عدن". وجنة عدن المذكورة في العهد القديم هي هذه الجنة التي كانت في نظر "كيتاني" في جزيرة العرب،

_ 1 المراجع نفسها، مجلة سومر 1949، المجلد الخامس، 2/ 127 فما بعدها. 2 المخصص "8/ 59 فما بعدها" وقد اشتهرت بعض الأماكن بأسودها، مثل "عثر" قال الهمداني: "وإلى حارة عثر تنسب الأسود التي يقال لها أسود عثر، وأسود عتود وهي قرية من بواديها وقد ذكرها ابن مقبل" جلوسا بها الشم اللجان كأنهم أسود بثرج أو أسود بعتودا Moritz, S. 35. ff. 40, Noeldeke, In ZDMG, 49, 713. F. 3 Moritz, S. 42, Wellhausen, Lieder der Hudhailiten, No. 175 176, Euting. I, 230 4 صفة ص202.

غير أن الطبيعة قست عليها، فأبدلتها صحاري ورمالًا، حتى اضطر أصحابها إلى الارتحال عنها إلى أماكن تتوافر فيها ضروريّات الحياة على الأقل فكانت الهجرات إلى العراق وبلاد الشام ومصر والمواطن السامية الأخرى. وكانت هذه الهجرات كما يقول قويّة وعنيفة بين سنة 2500 وسنة 1500 قبل الميلاد، فدخل الهكسوس أرض مصر، وهاجر العبرانيون إلى فلسطين، ثم ولي ذلك عدد من الهجرات1. ويرى "كيتاني" أن هذا التغير الذي طرأ على جوّ جزيرة العرب؛ إنما ظهر قبل ميلاد المسيح بنحو عشرة آلاف سنة، غير أن أثره لم يبرز ولم يؤثر تأثيرا محسوسا ملموسا إلا قبل ميلاد المسيح بنحو خمسة آلاف سنة. وعندئذ صار سكّان بلاد العرب، وهم الساميون، ينزحون عنها أمواجًا، للبحث عن مواطن أخرى يتوفر فيها الخصب والخير، وحياة أفضل من هذه الحياة التي أخذت تضيق منذ هذا الزمن2. وقد تصوّر "كيتاني" أودية جزيرة العرب، مثل وادي الحمض ووادي السرحان ووادي الرمة ووادي الدواسر، أنهارًا كانت ذات مياه غزيرة تنساب إليها من المرتفعات والجبال في الدهور الغابرة، أثّرت فيها التغيرات الطبيعية المذكورة، فقلّلت من مياهها حتى جفت، فصارت أودية، لا تجري فيها المياه إلا أحيانًا، إذ تسيل فيها السيول بعد هطول الأمطار3. وقد ذهب إلى هذا الرأي المستشرق الألماني "فرتز هومل" أيضا، فرأى أن الأنهر المذكورة في التوراة على أنها أنهر جنة "عدن"، هي أنهر تقع في بلاد العرب، وأن الأنهر المشار إليها، هي وادي الدواسر، ووادي الرمة، ووادي السِّرحان، ووادي حَوْران4. وأما "كلاسر"، فذهب إلى أن نهري

_ 1 المقتطف، جزء يوليو 1944، ص123 فما بعدها، الجزء الثاني من المجلد الخامس بعد المائة، مجلة سومر، الجزء الثاني، المجلد الخامس 1949، ص123 فما بعدها. Caetani, Studi della Historia Orientale, Vol., I, P., 64, 185, 186, 188, i92. 277. Musil, Negd, P., 311, 305, Caetani, Studi, Vol. 2, PP. 53, 65. 2 Montgomery, Arabia and the Bible, P., 95. 3 Caetani, Studi, Vol., I, P., 64, 80, 243, Vol. 2, PP. 53- 65. Musil. Negd. P., 305, Caetani, Annali DelTIalam, H, Part II, (1907) , 831. ff. 4 Montgomery, Arabia, PP., 9, F. Hommel, Opua Magnum Ethnologie und Geographie des Alten Orients, II.5.8. 547, 1926,

"جيحون"و "فيشون"، وهما من أنهر "جنة عدن" الأربعة في رواية التوراة1، هما في جزيرة العرب2. ويعتقد "كيتاني" أن الفيلة والحيوانات الضخمة التي يندر وجودها اليوم في بلاد العرب، كان موجودة فيها بكثرة، ولا سيما في أرض "مدين". وكان الصيّادون يخرجون لاصطيادها لأكل لحومها3. وقد جاء بأمثلة لتأييد رأيه من كتب "الكلاسيكيين"4. وقد قسم "كيتاني" جزيرة العرب إلى قسمين: غربي وشرقي. أما القسم الغربي، فهو الذي على ساحل البحر الأحمر الشرقي، وفيه سلاسل جبلية ومرتفعات. وأما القسم الشرقي، فالأرضون التي تأخذ في الانحدار والميل. وهي عند السفوح الشرقية للجبال، وتمتد نحو الخليج. وقد كان سكان المناطق الغربية –في رأيه- في مستوى راقٍ من المدنية، وكان لهم سلطان كبير على المناطق الشرقية، وعلى سكانها الذين كان يغلب عليهم الفقر. وقد كان فعل الجفاف أشد وأسرع في الأرضين الشرقية منه في الأقسام الغربية، لذلك بدأت الهجرات من هذه المناطق قبل المناطق الغربية، وظهرت فيها البداوة بصورة أوضح من ظهورها في الأرضين التي على ساحل البحر الأحمر والمتصلة باليمن وبلاد الشام. ولما توسعت منطقة الجفاف وأخذت الرطوبة تقل في جو بلاد العرب الغربي، ظهرت أعراض الصحراوية في تلك الأرضين كذلك، واضطر السكان إلى الهجرة منها إلى مناطق أخرى5. وقد لاقت نظرية "كيتاني" هذه رواجًا بين عدد كبير من المستشرقين، واعتدها "السير توماس أرنولد" من أهم النظريات التي اكتشفها المؤرخون الحديثون بالنسبة إلى التأريخ العربي6. غير أن المستشرق "الويس موسل"، يرى أنها لا تستند إلى أسس تأريخية، ولا إلى أدلة علمية، وأن القائلين بها قد بالغوا

_ 1 التكوين، الإصحاح الثاني، الآية 10 فما بعدها. 2 Glaaer, Sklzze, S., 314, Montgomery, P., 94. 3 Musil, Nega, P., 308. 4 Strabo, Geography, XVI, 4, 18, Periplus, PP., 177, (Mueller Ed.) , Diodorus. Bibliotheca Historica, Hi, 43. f. 5 Musil, Neg-d, P., 311, Caetani, Studi., P., 210. 6 Musil, Negd, P., 304, Arnold, The Caliphate, (1924) , PP. 23.

فيها مبالغة كبيرة، ويرى أنه ما دامت البحوث "الجيولوجية" التي قام بها العلماء في مراحلها الأولى، وقد جرت في مناطق محدودة فلم تفخص أكثر مناطق جزيرة العرب فحصًا علميًّا فنيًا، حتى الآن، فلا يصح الاعتماد على فرضيات، تبنى عليها آراء ثابتة. ولهذا فهو يرى أن الأدلة "الجيولوجية" التي استشهد بها "كيتاني" ضعيفة وغير كافية، فهي لا تستحق مناقشة، واكتفى بمناقشة الأدلة التأريخية1. يرجع "موسل" سبب الهجرات، وتحوّل الأرضين الخصبة صحاري، وإلى عاملين هما: ضعف الحكومات، وتحوّل الطرق التجارية2. فضعف الحكومات ينشأ عنه تزعم سادات القبائل والرؤساء، وانشقاقهم على الحكومات المركزية، ونشوب الفتن والاضطرابات واشتعال نيران الحروب، وانصراف الحكومة والشعب عن الأعمال العمرانية، وتلف المزارع والمدن، وتوقف الأعمال التجارية وحصول الكساد، وانتشار الأمراض والمجاعة، والهجرة إلى مواطن أخرى يأمن فيها الإنسان على نفسه وأهله وماله. فخراب سدّ "مأرب" مثلًا لا يعود إلى فعل الجفاف الذي أثّر على السدّ كما تصوّر ذلك "كيتاني"3، بل يعود إلى عامل آخر لا صلة له بالجفاف، هو ضعف الحكومة في اليمن، وتزعم "الأقيال" و "الأذواء" فيها، وتدخل الحكومات الأخرى في شئون العربية الجنوبية كالحبشة والفرس؛ مما أدى إلى اضطراب الأمن في اليمن، وظهور ثورات داخلية وحروب، كالذي يظهر من الكتابات التي تعود إلى النصف الثاني من القرن السادس للميلاد4، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بإصلاح السد، فتصدعت جوانبه، فحدث الانفجار، فخسرت منطقة واسعة من أرض اليمن مورد عيشها الأول، وهو الماء، ويبست المزارع التي كانت ترتوي منه، واضطرت القبائل وأهل القرى والمدن الواقعة فيها إلى الهجرة إلى مواطن جديدة. وتصدّع السدّ بسبب ضغط الماء على جوانبه، هو في حد ذاته دليل على فساد نظرية الجفاف5.

_ 1 MusU Negd, P., 304. 2 MusU, Negd, PP., 317. 3 MusU, Negd, P., 309, Caetani, Studi., 267, 296. 4 Corpus Inscriptionum Semiticarum, (1911) , Part, 4, Vol., 2, Nos. 384, 540, 641. 5 Musil, Negd, P., 310, Corpus Inscript. Semit, NO. 540, II, 54-64.

ويرى "موسل" أن التقدم الذي حدث في البلاد العربية بعد القرن التاسع عشر دليل آخر على فساد نظرية "كيتاني"، فقد ظهرت مدن حديثة، وعُمّرت قُرَى، وشُقَّت ترعٌ، وحُفِرَت آبار، وعاش الإنسان والحيوان والنبات في مناطق من العراق وسورية ولبنان وفلسطين والأردن كانت تعدّ من الأرضين الصحراوية1، فليس الجفاف هو المانع من عمارة هذه المناطق، والسبب في تكوّن هذه الصحاري، بل السبب شيء آخر، هو ضعف الحكومات وانصرافها عن العمارة وعن المحافظة على الثروة الطبيعية وضبط الأمن، ووقوفها موقف المُتفرّج تجاه قطع الناس للأشجار واستئصالها لاستخراج الفحم منها، أو لاستعمالها خشبها في أغراض أخرى، وقتال القبائل بعضها ببعض، هذا وإن من الممكن إعادة قسم من الأرضين الجرد إلى ما كانت عليه، إذا ما تهيأت لها حكومة قوية رشيدة تنصرف إلى حفر الآبار، وإقامة السدود، وغرس الجبال، وإنشاء الغابات، والاستفادة من مياه العيون2. ويرى "موسل" أيضًا أن ما ذكره "كيتاني" عن الأنهار في جزيرة العرب مسألة لا يمكن البت فيه الآن لقلّة الدراسات العلمية3. كما أن ما ذكره عن انعدام أجناس من الحيوانات، ليس مردّه إلى الجفاف وعدم احتمال تلك الحيوانات الجوّ الجديد، فهلكت، أو هاجرت إلى مواطن جديدة، بل مَرَدُّه في نظره إلى اعتداء الإنسان عليها، وقتله إياها. ودليله على ذلك أن الحيوانات التي ورد ذكرها في كتب "الكلاسيكيين" لا تزال تعيش في المناطق التي عيّنها أولئك الكتّاب، ولكنها بقلّة. كذلك نجد الهمداني وغيره ينكر وجود الأسد وحيوانات أخرى في مواضع قلَّ فيها وجودها الآن، وهذا مما يشير إلى أن هذه الحيوانات لم تنقرض أو تقل بفعل تبدّل الجو، بل بفعل اعتداء البشر عليها، وأن اعتداء البشر على الحيوان شرٌّ من اعتداء الطبيعة عليه4. ولا يوافق "موسل" على نظرية "كيتاني" في هجرة القبائل العربية من الجنوب إلى الشمال، أو من الشرق إلى الشمال. وقد رأى "كيتاني" كما سبق

_ 1 Musil, Negd, P., 310. 2 MuaU, Negd, P., 318. 3 Musil, Negd, P., 305, Caetani, Stud!., P., 60, 87.ff. 4 Musil, Negd, P., 309.

أن ذكرنا تقسيم جزيرة العرب إلى قسمين: قسم غربي وهو الممتد من فلسطين إلى اليمن، وينتهي بالبحر العربي، وتكون حدوده الشرقية"السّراة" والغربية البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وقسم شرقي، وهو ما وقع شرقي "السّراة" إلى الخليج والبحر العربي1. وقد ظهر الجفاف في رأي "كيتاني" في القسم الشرقي قبل الغربي، ولهذا صار سكانه يهاجرون منه بالتدريج إلى مواطن جديدة صالحة للاستيطان مثل العراق والشام، كما صار سببًا لظهور الصحاري الشاسعة في هذا القسم بصورة لا نعهدها في القسم الغربي2. ويرى "موسل" أن هذا تقسيم لا يستند إلى أسس طبيعية وجغرافية، ولا إلى آراء "الكلاسيكيين"، أو علماء الجغرافية العرب، أو غيرهم، وأنه مجرد رأي لا يمكن أن يكون حجة لإثبات مثل هذا الرأي3. ولموسل رأي في الهجرات، يرى أن ما قاله "كيتاني" وغيره عن الهجرات من جزيرة العرب، من اليمن أو من نجد إلى الشمال، قول لا يستند إلى دليل تأريخي قوي. فليست لدينا حتى الآن براهين كافية تثبت -على حد قول موسل- أن أصل "الهكسوس" أو "العبرانيين" مثلا من جزيرة العرب4. كما أن ما ادّعاه "كيتاني" عن استمرار الهجرات من الألف الثالث أو قيل ذلك قبل الميلاد إلى القرن السابع بعد الميلاد قول لا ينطبق مع المنطق. فَلِمَ ظلّت هذه الهجرات مستمرة إلى أن توقفت بعد القرن السابع للميلاد؟ أزادت الرطوبة وتحسن الجو؟ أم أن القبائل الكبيرة كانت قد تجزَّأت إلى قبائل صغيرة، وعشائر وأفخاذ، فأصبح في إمكانها العيش بعض الشيء في محالّ صغيرة، لا تحتاج إلى مراعي شاسعة، ولا إلى مياه غزيرة؟ فلم تدفعها الحاجة منذ هذا العهد إلى الهجرة في شكل موجات كبيرة. وهل كان الجفاف هو المانع من مهاجمة حدود الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية اللتين كانتا قد سدّتا أبواب جزيرة العرب على أهلها، فلم تسمحا للقبائل بتخطِّي هذه الحدود؟ ويرى أن

_ 1 Musil, Negd, P., 311. 2 caetani, P., 210, Musil, Negd, P., 311. 3 Musil, Negd, P., 311. 4 Musil, Negd, P., 311

ما ادّعاه "كيتاني" من أن الجفاف والجوع حملَا قبائل اليمن على الهجرة إلى الهلال الخصيب؛ حيث نزلت في أرضين كانت خالية مهجورة على أطراف الفرات والشام، فألفت حكومتي "المناذرة" و "الغساسنة"، قول لا يؤيّده ما جاء في الكتب "الكلاسيكية" وفي المصادر "السريانية" من أن تلك الأرضين كانت عامرة، آهِلَة بالسكان، تمرّ بها الطرق التجارية العالمية. ويرى "موسل" أن الحكومتين "اللخمية" و "الغسانية" إنما ظهرتها بعد سقوط "تدمر" وقد أسس الدولتين "مشايح" من أهل الهلال الخصيب، ولم يكونوا مهاجرين وَرَدُوا من الجنوب، أو من العروض على نحو ما تَزَعّمه بعض الرويات1. ويأخذ "موسل" على "كيتاني" تصديقه الرواية العربية عن هجرة القبائل ونظريتها في الأنساب، واعتدادها من جملة الأدلة التي تثبت نظرية الجفاف. ويرى أنها -مع التسليم بحصتها- تنطبق على الوضع الذي كان في القرن السابع للميلاد وفي الجاهلية القريبة من الإسلام، وأنها رواية تستند إلى خير مسوغ لا يصحّ إن يكون سندًا في إثبات الهجرات لما قبل الميلاد2. ويمكن تفسير انتساب القبائل -على حد قول موسل- بصورة أخرى، هو أن العرب الجنوبيين كانوا قد هيمنوا في الجاهلية وقبل الإسلام بقرون على الطريق التجارية التي تصل الشام باليمن وعلى الطرق التجارية الأخرى، وكانت لهم حاميات فيها لحماية القوافل من غارات الأعراب، فلما ضعف أمر حكومات اليمن، استقلت هذه الحاميات، وكان كثيرًا من أفرادها قد تزاوجوا مع من كان يجاورهم من القبائل، واتّصلوا بهم. ولما كان لليمن مقام عظيم وشرفٌ بين القبائل، انتسب هؤلاء إلى اليمن، وصاروا يعدّون أنفسهم مهاجرين، يتصل نسبهم بنسب اليمن. ومن هنا نشأت، في رأي "موسل" أسطورة الأنساب! ثم جاء علماء الأنساب في "المدينة" و "الكوفة" فسجّلوها على أنها حقيقة واقعة، ومنهم انتقلت إلى كتب التأريخ، فتوسّعت وتضخمت في الإسلام3. ويدّعي "موسل" أنه لو كانت هنالك هجرات حقًّا، لرأينا أثرها في لغة

_ 1 Musil, Negd, p. 312, Kuseir 'Amra, PP. 131. 2 Caetani, PP. 268, Musil, Negd, P. 311. 3 Musil, Negd. P., 312

القبائل النازحة إلى الشمال وفي عقيدتها الدينية وفي ثقافتها وفي أساطيرها وفي قصصها الشعبي، ولوجدنا في أقل الأحوال إشارةً في الكتابات العربية الجنوبية التي تعود إلى ما قبل الإسلام. ولكننا لا نجد شيئًا من ذلك، وهذا ما يفنّد رأي القائلين بالهجرات، وبأن أصل كثير من القبائل التي كانت تقيم في شمال جزيرة العرب، ومن هؤلاء الغساسنة والمناذرة، هم من اليمن1. ويعترض "موسل" أيضًا على دعوى "كيتاني"، وغيرها من المستشرقين؛ ممن زعموا أن الفتح الإسلامي هو آخر هجرة سامية قذفت بها جزيرة العرب إلى الخارج، وأنها كانت بسبب الجفاف والجوع، ويرى أن ما جاء في هذه الدعوى لا يتفق مع الحقيقة، وأن ما ذكره "كيتاني" عن عدد نفوس الحجاز مبالغ فيه، وأن الجيوش التي اشتركت في فتح العراق والشام وفلسطين لم تكن حجازية أو نجدية حسب، بل كانت فيها قبائل عراقية وشامية نصرانية، ساعدت أبناء جنسها العرب مع اختلافها مع المسلمين في الدين، وحاربت الروم والفرس، ولذلك فليست الفتوحات الإسلامية هجرة من جزيرة العرب إلى الخارج على نحو ما تصوّره "كيتاني" بدافع الفقر والجوع2. والرأي عندي أن ما يسمّى بموضوع تغيّر الجوّ في جزيرة العرب وبالهجرات السامية والاستشهاد بآثار السكنى عند حافات الأودية وفي أماكن مهجورة نائية؛ لاتخاذ ذلك دليلًا على الوطن السامي وعلى هجرة الساميين، هو موضوع لم ينضج بعدُ، وهو لا يزال بعدُ يحتاج إلى دراسات علمية وإلى نتائج أبحاث علماء "الجيولوجيا" والعلوم الأخرى، ليقولوا كملتهم في هذا الموضوع. فعلى بحث هؤلاء يتوقّف الحكم في موضوع تطوّر الجوّ وتغيّر الإقليم. أما الحدس والتخمين، وأما الاعتماد على حوادث وعلى بحوث لغوية ومقابلات ومطابقات في أمور دينية وثقافية أخرى، فإنها لا تكفي في نظري للبتّ في قضايا يجب أن يكون فيها الحكم والكلمة للعلوم لا للحدس والتصور والتخمين. هذا هو رأيي الآن في هذا الموضوع، وفي كل الآراء الواردة عن مواطن الساميين. فقد رأينا أن بعض تلك الآراء إنما قيلت لاعتقاد أصحابها بما ورد في التوراة،

_ 1 Musil, Negd, P. 313. 2 Musil, Negd, P., 313, Caetani, Studi., P., 307.

فجاءت بكل ما عندها من حجج وأدلة لإثبات رأيها هذا، ورأينا أن في بعض الأدلة متناقضات واستشهادات ضعيفة، ورأينا أن الاستشهاد باشتراك اللغات في الألفاظ لا يمكن أن يكون دليلًا قاطعًا على الأصل المشترك، ثم إننا لا نملك سجلًّا تاريخيًّا للنَّبات والحيوان ولظهور الألفاظ حتى نستشهد به في إثبات نظرية من النظريات، وكل ما لدينا من هذا النوع إنما هو مجرد رأي وحدس، والرأي لا يكون رأيًا علميًّا إلى بحجة قاطعة وبدليل علميٍّ دامغ وبحوث مختبرية وآثار تثبت ذلك للعِيَان، فمن حقي إذن أن ألتزم التريّث والانتظار وأستعجل العلماء المتخصصين في دراسة طبقات الأرض، لنرى نتائج بحوثهم لنستنير بها في إعطاء أحكام في هذه الآراء. أما بعض الأمثلة التي استُشهد بها لإثبات تغير جو جزيرة العرب، فهي أمثلة لا يمكن أن تكون دليلًا للتغيّر، وإنما ترجع إلى عوامل أخرى مثل تغير طريق القوافل، وتغير اتجاهات السفن البحرية، وإلى الفتن والحروب وغارات القبائل المتوالية التي هي من شر الأوبئة التي فتكت بالمجتمع العربي، فسبّبت هرب الحضر من أماكن إقامتهم إلا أماكن أخرى، لعدم وجود قوّات نظامية وحكومة ترد اعتداءات الأعراب عليهم، ثم الحروب الأهلية التي وقعت في اليمن بين الحبش وأهل اليمن وأمثال ذلك مما وقع بين الفرس والعرب. أما في الإسلام، فقد كان للفتوحات دخل كبير في هجرة القبائل لنشر الإسلام وللاستمتاع بخيرات بقاع جديدة في العراق وفي بلاد الشام وفي أمكنة أخرى لا يوجد لها مثيل في جزيرة العرب، فتخربت لذلك بعض القرى والسدود القديمة التي كانت في الإسلام، وهي اليوم خراب. أضف إلى ذلك الحروب والفتن التي وقعت في اليمن وفي باقي العربية الجنوبية والعروض في أيام الأمويين والعباسيين وفي الأيام التي تلتهم فنشرت في تلك الديار الخراب، ثم إهمال الأمويين ومن جاء بعدهم من خلفاء وملوك وحكّام شأن جزيرة العرب، لفقرها وعدم وجود موارد غنيّة فيها، وانتقال أصحابها أصحاب الجاه والنفوذ إلى البلاد الغنية، فلم يبقَ من يدافع عنها ويتحدث بلسانها باعتبارها مهد العرب الأول ومهد الإسلام، فتقوى الخراب بذلك على العمار، وأخذ يبتلع ما يجده أمامه من مستوطنات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم. والدليل على ذلك، ورود أسماء مواضع عديدة في اليمامة وفي الحجاز وفي

نجد واليمن وفي كل أنحاء جزيرة العرب الأخرى في الموارد العربية الإسلامية، كانت مأهولة مزروعة في صدر الإسلام، خَرِبَت وهُجِرَت وصارت أثرًا، وقد ذهب عن أكثرها حتى الاسم. فلما كتب عنها الجغرافيون لم يجدوا من عمرانها شيئًا. بل نجد في كتب الجغرافيين أسماء مواضع نزلوا بها وأقاموا فيها، وكانت معمورة مسكونة. أما اليوم فلم يبقَ من أكثرها شيئًا، فهل نُرجع فعل هلاكها إلى الجفاف وتغير الجو وإلى اندثار الواحات والبحيرات والأنهار؟ إن الجغرافيين المذكورين لم يشيروا إلى وجود واحات وبحيرات وأنهار حتى نقول بفعل الجو فيها، بل هنالك عوامل أخرى عديدة اضطرت الناس إلى ترك مواطنهم تلك التي ذكرتها، وفي مقدمتها الفتن والغزو وتغير الطريق وعدم قيام حكومة قوية تحمي الأمن. وأما موضوع الاستشهاد بالهجرات، فإنه موضوع غامض يحتاج إلى دراسة علمية عميقة، فالذين يرون أن جزيرة العرب كانت مهد الجنس السامي، وضعوا نظريتهم هذه قياسًا على روايات أهل الأخبار من أمر هجرة العرب إلى تلك الأرضين، ومن الفتح الإسلامي الذي جرف قبائل عدنانية وقحطانية فساقها إلى بلاد العراق وبلاد الشام وإلى ما وراء هذه الأرضين، ومن هجرة قبائل من جزيرة العرب إلى تلك البلاد حتى الزمن القريب، ومن أخبار عن هجرة الفينيقيين من البحرين إلى بلاد الشام. ولكننا نجد من ناحية أخرى أن التوراة تذكر أن الإسماعيليين هم سكان أرضين تقع في الأقسام الشمالية الغربية من جزيرة العرب وفي شرق فلسطين في البادية وفي طور سيناء، والأخباريون يذكرون أن العدنانيين هم من سلالة إسماعيل أي أنهم إسماعيليون، ويذكرون أنهم جاءوا من الشمال فسكنوا الحجاز، وأن جدّهم رفع قواعد البيت الحرام. ونرى أن اليهود زحفوا من فلسطين نحو الحجاز، وأن أقوامًا من سكان العراق زحفوا نحو الجنوب فسكنوها في العروض. وأن قبائل عراقية كالقبائل العبرانية هاجرت من العراق إلى بلاد الشام ثم إلى مصر ثم عادت إلى بلاد الشام، فمثل هذه الهجرات تلفت النظر وتجعل الباحث يبحث عن أمثلة أخرى من هذا القبيل، لعلّه يجد غيرها أيضا. وهي تجعله يشعر أن الهجرات لم تكن دائما في اتجاه واحد، بل كانت حركة دائمة تتجه مختلف الاتجاهات، لعوامل سياسية واقتصادية وحربية ساحتها من شمال بلدية الشام إلى سواحل البحر العربي في الجنوب، ومن سواحل البحر

الأحمر إلى سواحل الخليج العربي، فهي ليست هجرات بالمعنى الذي نفهمه من الهجرات في لغة علماء الساميات، ذات أزمان معينة لها أمد محدود كألف عام أو أكثر من ذلك أو أقل، وبمقياس ضخم كبير، بل هي حركة دائمة لقبائل أو لجماعات تنتقل من مكان إلى مكان طلبا للمعاش أو لأحوال سياسية وحربية، فهي هجرة بهذا المعنى إذن ليس غير. فهذه الأرضون التي تشمل كل جزيرة العرب والعراق إلى حدود الجبال وكل البادية الواسعة حتى سواحل البحر الأبيض فطور سيناء إلى نهر النيل، هي مواطن الساميين، ومسارحهم التي كانوا وما زالوا يَدْرُجُون عليها. وقد درجت عليها أقوام أخرى أيضا ليست بأقوام سامية، قبل الميلاد وبعده، بل حتى في زمن الإسلام، ولكنها غلبت على أمرها، وصهرت في بوتقة الساميين، أمثال الفرس واليونان والرومان والصليبيين. فقد بقي من هؤلاء خلقٌ اندمجوا بهم وتخلقوا بأخلاقهم وتكلموا بألسنتهم بمرّ السنين، حتى صاروا مثلهم ومنهم، وبذلك امتزجت دماء الساميين بدماء غريبة عنهم. فدمهم من هنا ليس بدم صافٍ نقي، وليس في الأجناس البشرية جنس يستطيع أن يفخر فخرًا مطلقًا بكونه الجنس النقي الخالص الذي لم يختلط قط بأي دم غريب. أضف إلى ما تقدم أن العلماء القائلين بتبدل الجو وبتغيّره، هم على خلاف بينهم في الأزمنة وفي الأسباب. فمنهم من بالغ، ومنهم من أفرط حتى قال إن الجو في جزيرة العرب كان يختلف في أيام اليونان والرومان عنه في الأيام الحديثة1. ومنهم من قال إن الجو لم يتبدّل تبدّلًا محسوسًا مؤثّرًا فيها منذ حوالي ألفي عام، ومنهم من عَزَا أسباب انخفاض مستوى الماء الأرضي في جزيرة العرب إلى عوامل ليست لها صلة بتبدل الجو، وعَزَا خراب القرى والمدن واندثار السّدود إلى عوامل أخرى لا علاقة لها بتبدل الجو2، ومع كل ذلك، فإن هذه الدراسات لم تنضج بعدُ، ودراسة أرض جزيرة العرب وجوّها لم تتم بصورة علمية مختبرية بعدُ، وأكثر ما ذكرته هو ملاحظات مؤرخين أو باحثين علميين، على نحو من الحدث والتخمين، ولا يمكن بناء نظريات معقولة مقبولة على مثل هذا الآراء.

_ 1 Discoveries, P. 82, E. Huntington, Palestine and its Transformation, Cambridge, 1911. 2 Discveries, P. 84.

إن هذه الملاحظات تدفعني إلى التريّث في البتّ في وطن الجنس السامي، حتى تتهيّأ دراسات أخرى علمية دقيقة عنه، لأن الأخذ بالقياس، وبمجرد الملاحظات والمشاهدات، لا يمكن أن يكون دليلًا علميًا مقنعًا في تثبيت الوطن الأول الذي ظهر فيه هذا النسل الذي نسميه بالنسل السامي. وإن كنت أجد أن جزيرة العرب قد أمدّت الأقسام العليا منها، وهي بلاد العراق والبادية وبلاد الشام يفيض من الناس، بصورة دائمة مستمرة، وذلك لأسباب عديدة عسكرية واقتصادية، وأنها لم تأخذ من تلك الأرضين مثل هذا الفيض. إن نظرية موطن الجنس السامي، هي في نظري جزء من مسألة كبرى معقدة، هي مسألة موطن الجنس البشري بكامله، هل هو موطن واحد في الأصل، أو جملة مواطن، وإذا كان ذلك الموطن موطنًا واحدًا، فأين كان؟ وكيف ظهرت هذه الأجناس البشرية بألونها المتعددة وبسِحَنها المختلفة؟ إن هذه بحوث، على البشرية أن تضني نفسها في البحث عنها! وكل بحوثنا الآن حدس وتخمين، حتى يترقّى العلم البشري إلى درجات فدرجات.

اللغة السامية الأم

اللغة السامية الأم: تدفعنا هذه النظريات التي قالها العلماء عن السامية وعن القرابة اللغوية التي نراها في مجموعة اللغات السامية، وعن اشتراكها في كثير من أسس النحو والصرف، إلى التفكير في أن جميع هذه اللغات تفرّعت من لغة واحدة هي أم اللغات السامية، "URSEMITICSCH"، كما يعبر عنها بالألمانية. ويدفعنا ذلك إلى البحث عن أقدم النصوص المدونة في اللغات السامية، وعن الخصائص الأساسية المشتركة بين كل هذه اللغات، للوقوف على اللغة السامية الأولى التي انقرضت، وبقيت آثارها في هذه الجذور التي غذت اللغات السامية القديمة منها والحديثة بالخصائص السامية، وعن أقرب الفروع التي انفصلت من الأم. لقد بحث المستشرقون في هذا الموضوع ولا يزالون يبحثون فيه؛ فمنهم من وجد أن العبرانية أقدم اللغات السامية، وأقربها عهدًا بالأم، ومنهم من رأى أن العربية على حداثة عهدها جديرة بالدراسة والعناية، لأنها تحمل جرثومة السامية، ومنهم من رأى القِدَم للآشورية أو البابلية، وهناك من رأى غير

ذلك1. وبالجملة، لم يدّعِ أحد من العلماء أنه توصل إلى تشخيص لغة "سام"، وتمكن من معرفة اللغة التي تحدث بها مع أبيه "نوح" أو مع أبنائه الذين نسلوا هذه السلالات السامية. وكان من جملة العوامل التي ألهبت نار الحماسة في نفوس علماء التوراة والساميات للبحث عن اللغة السامية الأولى أو أقرب لغة سامية إليها، القصص الوارد في التوراة عن سام وعن لغات البشر، وبابل ولغاتها والطوفان وما شاكل ذلك، ثم وجد المستشرقون المعاصرون أن البحث في هذا الموضوع ضربٌ من العبث، لأن هذه اللغات السامية الباقية حتى الآن هي محصول سلسلة من التطورات والتقلّبات لا تُحْصَى، مرّت بها حتى وصلت إلي مرحلتها الحاضرة، كما أنها حاصل لغات ولهجات منقرضة. واللغة السامية القديمة لم تكن إلا لغة محكية زالت من الوجود، دون أن تترك أثرًا. ومن الجائر أن يهتدي العلماء في المستقبل إلى لغات أخرى، كانت عقدًا بين اللغات السامية القديمة التي لا نعرف من أمرها شيئًا وبين اللغات السامية المعروفة. والأفضل أن ننصرف الآن إلى دراسة اللغات السامية والموازنة بينها؛ لنستخلص المشتركات والأصول. ومتى تتكون هذه الثروة اللغوية، يسهل البحث في اللغة السامية الأم، كما تستحسن الموازنة بين هذه اللغات واللغات التي ظهرت في القارة الإفريقية، مثل المصرية القديمة والبربرية والهررية وبقية اللهجات الحبشية، لتكوين فكرة علمية عن الصلات التي تربط بين الحاميين والساميين وكانت من جملة العوامل التي دفعت بعض العلماء إلى القول بأن أصل الجنسين واحد، كان يقيم في قارة إفريقية. وبالجملة إن هناك جماعة من المستشرقين ترى أن اللغة العربية على حداثة عهدها بالنسبة إلى اللغات السامية الأخرى، هي أنسب اللغات السامية الباقية للدراسة وأكثرها ملاءمة للبحث، لأنها لغة لم تختلط كثيرا باللغات الأخرى، ولم تتصل باللغات الأعجمية قبل الإسلام، فبقيت في مواطنها المعزولة صافية، أو أصفى من غيرها في أقل الأحوال، ثم إنها حافظت على خواص السامية القديمة مثل المحافظة على الإعراب على حين فقدت هذه الخاصة المهمة أكثر تلك اللغات،

_ 1 Carl Brocklemann, Vergleichende Grammatik Der semitischen spachen Berlin, 1908 Zimmern, Vergleichende Grammatik der Semitischen sprachen, 1898.

ولهذه الأسباب وغيرها رَأَوا أن دراستها تفيد كثيرًا في الوقوف على خصائص السامية القديمة ومزاياها1. وقد شغل علماء العرب أنفسهم بموضوع اللغة السامية أو لغة سام بن نوح بتعبير أصحّ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، ذهبوا إلى البحث في لغة آدام أبي البشر وفي لغة أهل الجنة. وقد سبق لليهود والنصارى أن بحثوا في هذا الموضوع أيضًا، في موضوع لغة آدام أي لغة البشر الأولى، التي تفرّعت منها كل لغات البشر حتى اليوم. وقد ذهب بعض علماء العربية إلى أن العربية هي اللسان الأول، هي لسان آدم؛ إلا أنها حُرّفت ومُسِخَت بتطاول الزمن عليها، فظهرت منها السريانية، ثم سائر اللغات. قالوا: "كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربيًّا، إلى أن بَعُد العهد وطال، فحُرِّف وصار سريانيًّا. وهو يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف"2. وقد أدركوا ما أدركه غيرهم من وجود قرابة وصلة بين العربية وبين السريانية، فقال المسعودي: "وإنما تختلف لغات هذه الشعوب "أي شعوب جزيرة العرب" من السريانيين اختلافًًا يسيرًا"3. وقد أخذ علماء العربية نظريتهم هذه من أهل الكتاب. ولما كانت السريانية هي لغة الثقافة والمثقفين، ولغة يهود العراق وأكثر أهل الكتاب في جزيرة العرب في ذلك العهد؛ فلا يستغرب إذن قول من قال إن السريانية هي أصل اللغات وأنها لسان آدام ولسان سام بن نوح.

_ 1 Nicholson, A Literary History of th Arabs, P. XV. 2 المزهر "1/ 20" 3 التنبيه "ص68".

العقلية السامية

العقلية السامية: وتحدث المشتغلون بالتأريخ الثقافي و "علم الأجناس" عن عقلية خاصة بالشعوب السامية، دعوها "العقلية السامية"، كما تحدثوا عن عقلية "آرية" وعن عقليات أخرى، وحاولوا وضع حدود لأوصاف العقلية السامية، ورسم صورة خاصة بها تميّزها عن صور العقليات البشرية الأخرى.

وقد شاعت هذه النظرية نظرية خصائص العقلية السامية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ووجدوا لها رواجًا كبيرًا، لظهور بعض الآراء والمذاهب التي مجّدت العقلية الأوروبية، وسبّحت بحمدها، وقالت بتفوق العقل الغربي الخلّاق المبدع على العقل الشرقي الساذج البسيط! ورمز العقل الشرقي هو العقل السامي، فهو لذلك عقل ساذج بسيط. ومن أشهر مروّجي هذه النظرية الفيلسوف الفرنسي "رينان" "ernest renan" "1823- 1892"، و "كراف كوبينو" "graf arthur gobineau" "1816- 1882م"، وهو من القائلين بتمايز العنصريات البشرية وبتفوق بعضها على بعض وبسيادة العقلية الآرية على سائر العقليات1، و "هوستن ستيورات شامبرلنhousten stewart chamberlain" "1855- 1927م" صاحب كتاب "أسس القرن التاسع عشر"2. ومن هذه الموارد أَخَذت "النازية" نظريتها في تفوق العرق الآري على سائر أعراق البشر، وتفوق الجنس "الجرماني" خاصة من العراق الآري على سائر الأجناس والأعراق البشرية. ومن هنا وضع "هتلر" "قوانين نورنبرك" لحماية الدم الآري من الاختلاط بالدماء الأخرى، ولصيانته ولبقائه دمًا نقيًّا صافيًا. ولترسيخ هذه النظرية في نفوس الناس ولترويجها بين الألمان والأوروبيين، شجع البحث في موضوع "الأجناس البشرية"، وحشد عددًا كبيرًا من الأساتذة لإجراء بحوث ودراسات فيه، وأوحى إلى أساتذة التأريخ كتابة التأريخ بطريقة تظهر دائما أن الحضارة البشرية هي حاصل عمل الشعوب الآرية وحدها، وناتج من نتاجها، بتلك الشعوب بدأت وبها تستمر. وقرر أن ما يقال عن حضارات الشرق الأدنى القديمة هو لغو وهراء؛ ولهذا أوجب كتابة تأريخ هذه الشعوب على نحو جديد، وعلى أساس هذه الفلسفة. وبحوث مثل هذه تقوم في ظروف كهذه أو في ظروف مشابهة لها، لا يمكن أن تكون إلا دراسات فجّة مغرضة، مبعثها عاطفة وقصد مبيت، لذلك لا يمكن الاطمئنان إليها ولا الاعتماد عليها. والبحث في خصائص جنس من

_ 1 Essai sur L'InGgaUt6 des Races Humaines. 2 Housten Stewart Chamberlain, Die Grundlagen dea neunzehnten Jahrhunderts, in2 Vols.

الأجناس وفي مميزاته وسماته الظاهرة والباطنة، يقتضي تقصّي ملامح الجنس في الحاضر والماضي، وذلك بدراسة ملامح الباقين وبفحص أجسامهم وخصائصهم بطرق علمية حديثة، وبدراسة عظام الماضين وما تخلّف من أجسامهم في باطن الأرض بالأساليب العلمية الحديثة أيضًا، ليكون بحثنا شاملًا للماضي والحاضر، ومثل هذه البحوث لم تجرِ حتى الآن لا على العرب، ولا على غير العرب من هذه الشعوب التي نسميها "الشعوب السامية". ثم إن البحوث العلمية على قلتها وضآلتها تدل على وجود فروق بارزة بين الساميين في الملامح الجسمية، في مثل شكل الجمجمة والأنف. ووجود مثل هذه الفروق، لا يمكن أن يكون علاقة على وجود "جنس" بالمعنى العلمي المفهوم من "الجنس" يضم شمل الساميين. وعلى وجود عقلية خاصة بالساميين ذات حدود ورسوم تختلف عن عقليات الأجناس البشرية الأخرى. والصفة العامة التي يراها علماء الساميات في الساميين، أن الساميين يحبون الحركة والتنقل والهجرة من مكان إلى مكان على طريقة الأعراب، وأنهم ميّالون إلى الغزو والأخذ بالثأر، وعاطفيون تتحكم العواطف في حياتهم، ويغضبون لتافه الأمور ويرضون بسرعة، يحبون فيسرفون في حبّهم، ويظهرون الوَجْد فيه، ويبغضون فيبالغون في بغضهم حتى ليصلوا إلى حدّ القساوة والعنف لأسباب تافهة لا تستوجب كراهيةً ولا بغضًا، فرديون في طِبَاعهم، تتغلب عليهم الفردية، لذلك تراهم في الأصل قبائل، إذا اتحدت وكوّنت حكومة قوية كبيرة، لا تلبث أن تتعرض للانفصال والتفتت، الحياة عندهم على وتيرة واحد. موسيقاهم وشعورهم العام بما في ذلك الشعر والغناء وكل وسائل التعبير عنه، حزن ونغم معدود مكرر1. قضاؤهم قضاء قبلي، يقوم على القصاص بالمثل، على أساس السن بالسن والعين بالعين والقتل بالقتل، ونظام الحكم عندهم نظام، أُسُسُه الفكرة القبلية، وديانتهم متشابهة، تتجلى عندهم الغريزة الدينية واتّقاد المَخِيلَة وقوة الشعور الفردي والقسوة2. وتتغلب عليهم السطحية في التكفير، فلا يميلون إلى التعمق في درس الأشياء للوصل إلى كنهها وجوهرها، كما فعل اليونان.

_ 1 Hastings, Extra Volume, P., 85. 2 Hastings, A Dictionary of the Bible dealing with its Language Literature and Contents,' Including the Biblical Theology, Extra Volume, 1904, P., 90.

وليست لهم قابلية في فهم الأمور المعقدة، ولهذا صارت أحكامهم عامة شاملة ساذجة لا تعقيد فيها، لأن تفكيرهم تفكير ساذج غير معقّد. وتفكيرهم هذا هو الذي جعلهم يبشرون بالتوحيد على حين كانت الأديان الآبة –على حد قولهم- أديانًا معقدة تعتقد بوجود أكثر من إله1!! ويرى هؤلاء العلماء أن البدوي هو خير ممثل للعقلية السامية، فقد عاش الساميون بدوًا أمدًا طويلًا، ومرّوا في حياتهم بحياة البداوة ولهذا صارت عقليتهم عقلية بداوة، تجمع بينهم صفات مشتركة نتجت من اشتراكهم في تلك الحياة2. وقد وضع المتعصبون للنظرية العنصرية كتبًا في موضوعات متعددة، تعالج الجسم والروح عند السامين والآريين، وعنوا عناية خاصة بدارسة الحياة الروحية ومظاهرها عند الجنسين، فبحثوا في الناحية القانونية والتشريعات المختلفة عند الساميين والآريين، وقارنوا بين التشريع عند الجماعتين3. كذلك عالجوا مختلف النواحي الأخرى من الحياة، حتى إن بعضهم ألف كتابًا في موضع حُرْمَة أكل لحم الخنزير عند الساميين. مع أنه من اللحوم الشهيّة عند الآريين، وعدّ ذلك من مميزات الجنس4. وهناك جماعة من العلماء، رَدّت على هذه النظرية التي تحدد العقليات، وترسم لها حدودًا وتضع لا معالم، رأت أن ما يذهب إليه أصحابها من وجود عقليات صافية خالصة للأجناس البشرية المذكورة، يستوجب وجود أجناس بشرية صافية خالصة ذات دماء نقية، لم تمتزج بها دماء غريبة، ويقتضي ذلك افتراضنا اعتزال الأجناس بعضها عن بعض عزلة تامة، وهو افتراض محال، لأن البشرية لم تعرف العزلة منذ القِدم، ولم تَبْنِ حولها أسوارًا مرتفعة لتحول بينها وبين الاختلاط ببقية الأجناس، والشواهد التأريخية والبحوث العلمية المختبرية تشير إلى العكس، تشير إلى الاختلاط والامتزاج، كما ذكرنا آنفًا، فما يقال عن اختلاف العقليات، هو حديث أَوْحَته العواطف والنزوات. أما ما نشاهده من اختلاف في أساليب

_ 1 Ancient Iraq, by Georges Roux, London, 1964, P., 126, A. Guillaume, Prophecy and pivlnation among the Hebrews and other Semites, London, 1938. 2 Hastings, P., 85, ff. (Extra Volume) . 3 Gerd. Ruehle, Rasse und Sozialismua im Recht, Berlin, 1935. 4 R. Walter Darr6, Das Scliwein ala Kriterium fuer Nordische Voelker und Semlten, Muenchen, 1933.

الفكر وفي فهم الأمور، فليس مرجعه ومردّه إلى الدم، بل إلى البيئات الطبيعية والاجتماعية والثقافية، فهي التي أثرت وكوّنت هذه الفروق. وعلى الباحث دراسة كل ما يؤثر على الإنسان من محيط ومن مؤثرات طبيعية مثل الضغوط الجوية والحرارة والبرودة والرطوبة، ومن تركيب الأجسام وأشكالها. وألوان الشعر والبشرة والعين وبنية الجسم بصورة عامة، ومن أنواع الأغذية التي يتناولها والمحيطات الثقافية التي يعيش فيها إلى غير ذلك من مؤثرات يدرسها علماء الأجناس اليوم، وذلك لإصدار أحكام معقولة عن أجناس البشر.

الفصل السابع: طبيعة العقلية العربية

الفصل السابع: طبيعة العقلية العربية لكل أمة عقلية خاصة بها، تظهر في تعامل أفرادها بعضهم مع بعض وفي تعامل تلك الأمة مع الأمم الأخرى، كما أن لكل أمة نفسية تميزها عن نفسيات الأمم الأخرى، وشخصية تمثل تلك الأمة، وملامح تكون غالبة على أكثر أفرادها، تجعلها سمة لتلك الأمة تميزها عن سمات الأمم الأخرى1. والعرب مثل غيرهم من الناس لهم ملامح امتازوا بها عن غيرهم، وعقلية خاصة بهم. ولهم شمائل عُرفوا واشتهروا بين أمم العالم، ونحن هنا نحاول التعرف على عقلية العربي وعلى ملامحه قبل الإسلام، أي قبل اندماجه واختلاطه اختلاطًا شديدًا بالأمم الأخرى، وهو ما وقع وحدث في الإسلام. وقد بحث بعض العلماء والكتّاب المحدثين في العقلية العربية، فتكلموا عليها بصورة عامة، بدوية وحضرية، جاهلية وإسلامية. فجاء تعميمهم هذا مغلوطًا وجاءت أحكامهم في الغالب خاطئة. وقد كان عليهم التمييز بين العرب الجاهليين والعرب الإسلاميين، وبين الأعراب والعرب، والتفريق بين سكان البواطن أي بواطن البوادي وسكان الأرياف وسكان أسياف بلاد الحضارة. ثم كان عليهم البحث عن العوامل والأسباب التي جبلت العرب من النوعين: أهل الوبر وأهل الحضر، تلك الجبلة، من عوامل إقليمية وعوامل طبيعية أثرت فيهم، فطبعتهم بطابع خاص، ميّزهم عن غيرهم من الناس.

_ 1 فجر الإسلام، أحمد أمين 1928 "1/ 35"

بل إن الحديث عن العقلية العربية، حديث قديم؛ ففي التوراة شيء عن صفاتهم وأوصافهم، كوّن من علاقات الإسرائيلين بهم، ومن تعاملهم واختلاطهم بالعرب النازلين في فلسطين وطور سيناء أو في البوادي المتصلة بفلسطين. ومن أوصافهم فيها: أنهم متنابذون يغزون بعضهم بعضًا، مقاتلون يقاتلون غيرهم كما يقاتلون بعضهم بعضًا "يده على الكل، ويد الكل عليه"1. يُغِيرُون على القوافل فيسلبونها ويأخذون أصحابها أسرى، يبيعونهم في أسواق النِّخاسَة، أو يسترقّونهم فيتخذونهم خدمًا ورقيقًا يقومون بما يُؤْمَرون به من أعمال، إلى غير ذلك من نعوت وصفات. والعرب في التوراة، هم الأعراب، أي سكان البوادي، لذلك فإن النعوت الواردة فيها عنهم، هي نعوت لعرب البادية، أي للأعراب، ولم تكن صِلاتهم حسنة بالعبرانيين. وفي كتب اليونان والرومان والأناجيل، نعوت أيضا نُعِت بها العرب وأوصاف وُصِفوا بها، ولكننا إذا درسنا وقرأنا المواضع التي وردت فيها، نرى أنها مثل التوراة، قصدت بها الأعراب، وقد كانوا يغيرون على حدود إمبراطوريتيّ الرومان واليونان، ويسلبون القوافل، ويأخذون الإتاوات من التجار والمسافرين وأصحاب القوافل للسماح لهم بالمرور. وقد وصف "ديودورس الصقلي" العرب بأنهم يعشقون الحرية، فيلتحفون السماء. وقد اختاروا الإقامة في أرضين لا أنهار فيها ولا عيون ماء، فلا يستطيع العدو المغامر الذي يريد الإيقاع بهم أن يجد له فيها مأوى. إنهم لا يزرعون حبًّا، ولا يغرسون شجرًا، ولا يشربون خمرًا، ولا يبنون بيوتًا. ومن يخالف العرف يقتل. وهم يعتقدون بالإرادة الحرة، وبالحرية2. وهو يشارك في ذلك رأي "هيرودوتس" الذي أشاد بحب العرب للحرية، وحفاظهم عليها ومقاومتهم لأية قوة تحاول استرقاقهم واستذلالهم3؛ فالحرية عند العرب هي من أهم الصفات التي يتصف بها العرب في نظر الكَتَبَة اليونان واللاتين. وفي كتب الأدب وصف مناظرة، قيل إنها وقعت بين "النعمان بن المنذر"

_ 1 التكوين، الإصحاح السادس عشر، الآية 12. 2 Diodorus, 19, 94, 95, Die Araber in der Alten Welt, I, s. 31. 3 Herodotus, vol, I, p. 254.

ملك الحيرة وبين "كسرى" ملك الفرس في شأن العرب: صفاتهم وأخلاقهم وعقولهم، ثم وصف مناظرة أخرى جرت بين "كسرى" هذا وبين وفد أرسله "النعمان" لمناظرته ومحاجّته فيما جرى الحديث عليه سابقًا بين الملكين1. وفي هذه الكتب أيضا رأى "الشعوبيين" في العرب، وحججهم في تصغير شأن العرب وازدرائهم لهم، ورد الكتّاب عليهم2. وهي حجج لا تزال تقرن بالعرب في بعض الكتب. ومجمل ما نسب إلى "كسرى" من مآخذ زُعم أنه أخذها على العرب، هو أنه نظر فوجد أن لكل أمة من الأمم ميزة وصفة؛ فوجد للروم حظا في اجتماع الألفة وعظم السلطان وكثرة المدائن ووثيق البنيان، وأن لهم دينًا يبين حلالهم وحرامهم ويرد سفيههم ويقيم جاهلهم، ورأى للهند، نحوًا من ذلك في حكمتها وطبّها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعاتها ودقيق حسابها وكثرة عددها. ووجد للصين كثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد، وأن لها ملكًا يجمعها، وأن للترك والخزر، على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم. ولم يرَ للعرب دينًا ولا حزمًا ولا قوةً. همتهم ضعيفة بدليل سكنهم في بوادي قفراء، ورضائهم بالعيش البسيط، والقوت الشحيح، يقتلون أولادهم من الفاقة ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة. أفضل طعامهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها. "وإن قَرَى أحدهم ضيفًا عدّها مكرمة. وإن أطعم أكلة عدّها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم"3. ثم إنهم مع قلتهم وفاقتهم وبؤس حالهم، يفتخرون بأنفسهم، ويتطاولون على غيرهم وينزلون أنفسهم فوق مراتب الناس4. "حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين"، وأبوا الانقياد لرجل واحد منهم يسُوسُهم ويجمعهم.

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 147 ما بعدها". 2 البيان والتبيين "3/ 15 فما بعدها"، العقد الفريد "2/ 86"، فجر الإسلام "1/ 35" بلوغ الأرب "1/ 158 فما بعدها". 3 بلوغ الأرب "1/ 147" وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "1/ 148".

إذا عاهدوا فغير وافين1. سلاحهم كلامهم، به يتفنَّنون، وبكلامهم يتلاعبون. ليس لهم ميل إلى صنعة أو علم ولا فن، لا صبر لهم، إذا حاربوا ووجدوا قوة أمامهم، حاولوا جهدهم التغلب عليها، أما إذا وجدوها قوة منظمة هربوا مشتتين متبعثرين شراذم، يخضعون لحكم الغريب ويهابونه ويأخذون برأية فيهم، ما دام قويًّا، ويقبلون بمن ينصبه عليهم، ولا يقبلون بحكم واحد منهم، إذا أراد أن يفرض سلطانه عليهم2. وقد ذُكر أن أحد ملوك الهند كتب كتابًا إلى "عمر بن عبد العزيز"، جاء فيه "لم تزل الأمم كلها من الأعاجم في كلّ شق من الأرض لها ملوك تجمعها ومدائن تضمّها وأحكام تدين بها وفلسفة تنتجها وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة، ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة، ورمّانة القبّان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل، ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون والاصطرلاب الذي يعدل به النجوم ويدرك به الأبعاد ودوران الأفلاك وعلم الكسوف وغير ذلك من الآثار المتقنة، ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها، ويقمع ظلمها وينهي سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة إلا كان من الشعر. وقد شاركتها فيه العجم، وذلك أن للروم أشعارًا عجيبة قائمة الوزن والعروض فما الذي تفتخر به العرب على العجم فإنما هي كالذئاب العادية، والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضًا ويغير بعضها على بعض. فرجالها موثقون في حَلَق الأسر، ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل، فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي، وقد وطئن كما توطأ الطريق المهيع3". إلى آخر ذلك من كلام. وقد تعرض "السيد محمود شكري الألوسي" في كتابه "بلوغ الأرب"، لهذا الموضوع، فجاء بما اقتبسته منه، ثم جاء برأي "ابن قتيبة" على الشعوبية، في كتابه: "كتاب تفضيل العرب"، ثم أنهاه ببيان رأيه في هذه الآراء وفي رد "ابن قتيبة" عليها4.

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 156". 2 راجع أصل المناظرة وحجج الشعوبين في تفضيل الأعاجم على العرب، ورد العرب عليهم، بلوغ الأرب "1/ 147 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "1/ 165 وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "1/ 147 فما بعدها".

ولابن خلدون رأي معروف في العرب، خلاصته "أن العربي متوحش نهّاب سلّاب إذا أخضع مملكة أسرع إليه الخراب، يصعب انقياده لرئيس، لا يجيد صناعة ولا يحسن علمًا ولا عنده استعداد للإجادة فيهما، سليم الطباع، مستعد للخير شجاع"1. وتجد آراءه هذه مدوّنة في مقدمته الشهيرة لكتابه العام في التأريخ. وقد رمى بعض المستشرقين العرب بالمادية وبصفات أخرى، فقال "أوليري": "إن العربي الذي يعد مثلا أو نموذجًا ماديًا، ينظر إلى الأشياء نظرة مادية وضيعة، ولا يقوّمها إلا بحسب ما تنتج من نفع، يتملك الطمع مشاعره، وليس لديه مجال للخيال ولا للعواطف، لا يميل كثيرًا إلى دين، ولا يكترث بشيء إلا بقدر ما ينتجه من فائدة عملية، يملؤه الشعور بكرامته الشخصية حتى ليثور على كل شكل من أشكال السلطة، وحتى ليتوقع منه سيد قبيلته وقائده في الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه ولو كان صديقا حميما له من قبل، من أحسن إليه كان موضع نقمته، لأن الإحسان يثير فيه شعورا بالخضوع وضعف المنزلة وأن عليه واجبًا لمن أحسن. يقول لامانس "إن العربي نموذج الديمقراطية"، ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد، وإن ثورته على كل سلطة تحاول أن تحدد من حريته ولو كانت في مصلحته هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تأريخ العرب، وجهل هذا السر هو الذي قاد الأوروبيين في أيامنا هذه إلى كثير من الأخطاء، وحملهم كثيرا من الضحايا كان يمكنهم الاستغناء عنها، وصعوبة قيادة العرب وعدم خضوعهم للسلطة هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل الحضارة الغربية، ويبلغ حب العربي لحريته مبلغًا كبيرًا، حتى إذا حاولت أن تحدها أو تنقص من أطرافها هاج كأنه وحش في قفص، وثار ثورة جنونية لتحطيم أغلاله والعودة إلى حريته. ولكن العربي من ناحية أخرى مخلص، مطيع لتقاليد قبيلته، كريم يؤدي واجبات الضيافة والمحالفة في الحروب كما يؤدي واجبات الصداقة مخلصًا في أدائها بحسب ما رسمه العرف.. وعلى العموم، فالذي

_ 1 هذا تلخيص المرحوم أحمد أمين لرأي ابن خلدون، تجده في كتابه: فجر الإسلام "1/ 41".

يظهر لي أن هذه الصفات والخصائص أقرب أن تعد صفات وخصائص لهذا الطور من النشوء الاجتماعي عامة من أن تعد صفات خاصة لشعب معين، حتى إذا قر العرب وعاشوا عيشة زراعية مثلا، تعدلت هذه العقلية"1. ويوافق المستشرق "براون أوليري" في رمي العرب بالمادية المفرطة2. ورماهم "أوليري" أيضًا بضعف الخيال وجمود العواطف3. أما "دوزي" فقد رأى بين العرب اختلافًا في العقلية وفي النفسية، وأن القحطانيين يختلفون في النفسية عن نفسية العدنانيين4. وقد تعرض "أحمد أمين" في الجزء الأول من "فجر الإسلام" للعقلية العربية، وأورد رأي الشعوبيين في العرب، ثم رأي "ابن خلدون" فيهم، وتكلم على وصف المستشرق "أوليري" لتلك العقلية، ثم ناقش تلك الآراء، وأبان رأيه فيها وذلك في الفصل الثالث من هذا الجزء، وتحدث في الفصل الرابع عن "الحياة العقلية للعرب في الجاهلية". وخصص الفصل الخامس بـ "مظاهر الحياة العقلية"، وتتجلى عنده في: اللغة والشعر والمثل والقصص. أوجز "أحمد أمين" في بداية الفصل الثالث آراء المذكورين في العرب، وبعد أن انتهى من عرضها وتلخيصها ناقشها بقوله: "لسنا نعتقد تقديس العرب، ولا نعبأ بمثل هذا النوع من القول الذي يمجدهم ويصفهم بكل كمال، وينزههم عن كل نقص، لأن هذا النمط من القول ليس نمط البحث العلمي، إنما نعتقد أن العرب شعب ككل الشعوب، له ميزاته وفيه عيوبه، وهو خاضع لكل نقد علمي في عقليته ونفسيته وآدابه وتأريخه ككل أمة أخرى، فالقول الذي يمثله الرأي الخاص لا يستحق مناقشة ولا جدلًا، كذلك يخطّئ الشعوبية أصحاب القول الأول الذين كانوا يتطلبون من العرب فلسفة كفلسفة اليونان، وقانونًا كقانون الرومان، أو أن يمهروا في الصناعات كصناعة الديباج، أو في المخترعات كالاصطرلاب، فإنه إن كان يقارن هذه الأمم بالعرب في جاهليتها كانت مقارنة خطأ، لأن المقارنة إنما تصح بين أمم في طور واحد من الحضارة، لا بين أمة

_ 1 اقتباسًا من فجر الإسلام "1/ 39 فما بعدها". 2 فجر الإسلام "1/ 41". 3 فجر الإسلام "1/ 43". 4 Dozy, Gesch. d. Mauren in Spanien, Vol., I, S., 73. Muh. Stud., I, S. 89. Nallino. Raccolta, Vol., 3, P., 73.

متبدّية وأخرى متحضرة، ومثل هذه المقارنة كمقارنة بين عقل في طفولته وعقل في كهولته، وكل أمة من هذه الأمم كالفرس والروم مرت بدور بداوة لم يكن لها فيه فلسفة ولا مخترعات. أما إن كان يقارن العرب بعد حضارتها، فقد كان لها قانون وكان لها علم وإن كان قليلًا.."1 ثم استمر يناقش تلك الآراء إلى أن قال: فلنقتصر الآن على وصف العربي الجاهلي2، فوصفه بهذا الوصف: "العربي عصبي المزاج، سريع الغضب، يهيج للشيء التافه، ثم لا يقف في هياجه عند حد، وهو أشد هياجًا إذا جرحت كرامته، أو انتهكت حرمة قبيلته. وإذا اهتاج، أسرع إلى السف، واحتكم إليه، حتى أفنتهم الحروب، وحتى صارت الحرب نظامهم المألوف وحياتهم اليومية المعتادة. "والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء، وفي الحق أن العربي ذكي، يظهر ذكاؤه في لغته، فكثيرًا ما يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلا أن يُفجأ بالأمر فيفجؤك بحسن الجواب، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر، فهو يقلب المعنى الواحد على أشكال متعددة، فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره للمعنى، وإن شئت فقل إن لسانه أمهر من عقله. "خياله محدود وغير متنوع، فقلما يرسم له خياله عيشة خيرًا من عيشته، وحياة خيرًا من حياته يسعى وراءها، لذلك لم يعرف "المثل الأعلى"، لأنه وليد الخيال، ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه، ولم يشرْ إليه فيما نعرف من قوله، وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنى جديدًا، ولكنه في دائرته الضيقة استطاع أن يذهب كل مذهب. "أما ناحيتهم الخلقية، فميل إلى حرية قلّ أن يحدّها حدّ، ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية لا الاجتماعية، فهم لا يدينون بالطاعة لرئيس ولا حاكم، تأريخهم في الجاهلية -حتى وفي الإسلام- سلسلة حروب داخلية، وعهد عمر بن الخطاب كان عصرهم الذهبي، لأنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب خارجية، ولأنه، رضي الله عنه، مُنح فهمًا عميقًا ممتازًا لنفسية العرب.

_ 1 فجر الإسلام "1/ 40 فما بعدها". 2 فجر الإسلام "1/ 34".

"والعربي يحب المساواة، ولكنها مساواة في حدود القبيلة، وهو مع حبه للمساواة كبير الاعتداد بقبيلته ثم بجنسه، يشعر في أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز، لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب وخصب وفقر وغنى وبداوة وحضارة، حتى إذا فتح بلادهم نظر إليهم نظرة السيد إلى المسود"1. ثم خلص إلى أن العرب في جاهليتهم كان أكثرهم بدوًا، وإن طور البداوة طور اجتماعي طبيعي تمر به الأمم في أثناء سيرها إلى الحضارة، وأن لهذا الطور مظاهر عقلية طبيعية، تتجلى في ضعف التعليل، وعنى بذلك عدم القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول والسبب والمسبب فهما تاما، "يمرض أحدهم ويألم من مرضه، فيصفون له علاجًا، فيفهم نوعًا من الارتباط بين الدواء والداء، ولكن لا يفهمه فهم العقل الدقيق الذي يتفلسف، يفهم أن عادة القبيلة أن تتناول هذا الدواء عند هذا الداء، وهذا كل شيء في نظره، لهذا لا يرى عقله بأسا من أن يعتقد أن دم الرئيس يشفي من الكَلَب، أو أن سبب المرض روح شرير حلّ فيه فيداويه بما يطرد هذه الأرواح، أو أنه إذا خيف على الرجل الجنون نجسوه بتعليق الأقذار وعظام الموتى إلى كثير من أمثال ذلك، ولا يستنكر شيئا من ذلك ما دامت القبيلة تفعله، لأن منشأ الاستنكار دقة النظر والقدرة على بحث المرض وأسبابه وعوارضه، وما يزيل هذه العوارض، وهذه درجة لا يصل إليها العقل في طوره الأول"2. ثم أورد أمثلة للاستدلال بها على ضعف التعليل، مثل قولهم بخراب سدّ مأرب بسب جرذان حُمْر، ومثل قصة قتل النعمان لسِنمّار بسبب آجُرّة وضعها سِنِمار في أساس قصر الخورنق، لو زالت سقط القصر. ثم تحدث عن مظهر آخر من مظاهر العقلية العربية، لاحظه بعض المستشرقين ووافقهم هو عليه، هو: أن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك. فالعربي لم ينظر إلى العالم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني، بل كان يطوف فيما حوله، فإذا رأى منظرًا خاصًا أعجبه تحرك له، وجاس صدره بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو

_ 1 فجر الإسلام "1/ 44 فما بعدها. 2 فجر الإسلام "1/ 46".

المثل. "فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق لأسسه وعوارضه فذلك ما لا يتفق والعقل العربي. وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه؛ فهو إذا وقف أمام شجرة، لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، وإذا كان أمام بستان، لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة، يطير من زهرة إلى زهرة، فيرتشف من كل رشفة". إلى أن قال: "هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف ما ترى في أدب العرب -حتى في العصور الإسلامية- من نقص وما ترى فيه من جمال". وقد خلص من بحثه، إلى أن هذا النوع من النظر الذي نجده عند العربي، هو طور طبيعي تمر به الأمم جميعًا في أثناء سيرها إلى الكمال، نشأ من البيئات الطبيعية والاجتماعية التي عاش فيها العرب، وهو ليس إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، "ولو كانت هنالك أية أمة أخرى في مثل بيآتهم، لكان لها مثل عقليتهم، وأكبر دليل على ذلك ما يقرره الباحثون من الشبه القوي في الأخلاق والعقليات بين الأمم التي تعيش في بيئات متشابهة أو متقاربة، وإذ كان العرب سكان صحاري، كان لهم شبه كبير بسكان الصحاري في البقاع الأخرى من حيث العقل والخلق"1. أما العوامل التي عملت في تكوين العقلية العربية وفي تكييفها بالشكل الذي ذكره، فهي عاملان قويان. هما: البيئة الطبيعية، وعنى بها ما يحيط بالشعب طبيعيًّا من جبال وأنهار وصحراء وغير ذلك، والبيئة الاجتماعية، وأراد بها ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك. وليس أحد العاملين وحده هو المؤثر في العقلية. وحصر أحمد أمين مظاهر الحياة العقلية في الجاهلية في الأمور التالية: اللغة والشعر والأمثال والقصص. وتكلم على كل مظهر من هذه المظاهر وجاء بأمثلة استدل بها ما ذهب إليه. والحدود التي وضعها أحمد أمين للعقلية العربية الجاهلية، هي حدود عامة،

_ 1 فجر الإسلام "46 وما بعدها".

جعلها تنطبق على عقلية أهل الوبر وعقلية أهل المدر، لم يفرق فيها بين عقلية من عقلية الجماعتين. وقد كوّنها ورسمها من دراسات لما ورد في المؤلفات الإسلامية من أمور لها صلة بالحياة العقلية ومن مطالعاته لما أورده "أوليري" "وبراون" وأمثالهما عن العقلية العربية، ومن آرائه وملاحظاته لمشكلات العالم العربي ولوضع العرب في الزمن الحاضر. والحدود المذكورة هي صورة متقاربة مع الصورة التي يرسمها العلماء المشتغلون بالسامية عادة عن العقلية السامية، وهي مثلها أيضًا مستمدة من آراء وملاحظات وأوصاف عامة شاملة، ولم تستند إلى بحوث علمية ودراسات مختبرية، لذا فإنني لا أستطيع أن أقول أكثر مما قلته بالنسبة إلى تحديد العقلية السامية، من وجوب التريّث والاستمرار في البحث ومن ضرورة تجنب التعميم والاستعجال في إعطاء الأحكام. وتقوم نظرية أحمد أمين في العقلية العربية على أساس أنها حاصل شيئين وخلاصة عامين، أثرا مجتمعيًا في العرب وكوّنا فيهما هذه العقلية التي حددها ورسم معالمها في النعوت المذكورة. والعاملان في رأيه هما: البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية. وعنى بالبيئة الطبيعية ما يحيط بالشعب طبيعيا من جبال وأنهار وصحراء ونحو ذلك، وبالبيئة الاجتماعية ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك، وهما معًا مجتمعين غير منفصلين، أثّرَا في تلك العقلية. ولهذا رفض أن تكون تلك العقلية حاصل البيئة الطبيعية وحدها، أو حاصل البيئة الاجتماعية وحدها. وخطأ من أنكر أثر البيئة الطبيعية في تكوين العقلية ومن هنا انتقد "هيكل" "HEGEL"، لأنه أنكر ما للبيئة الطبيعية من أثر في تكوين العقلي اليوناني، وحجة "هيكل" أنه لو كان للبيئة الطبيعية أثر في تكوين العقليات، لبان ذلك في عقلية الأتراك الذين احتلوا أرض اليونان وعاشوا في بلادهم، ولكنهم لم يكتسبوا مع ذلك عقلهم ولم تكن لهم قابلياتهم ولا ثقافتهم. وردُّ "أحمد أمين" عليه هو أن "ذلك يكون صحيحا لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد، إذن لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه، وينعدم حيث ينعدم، أما والعقل اليوناني نتيجة عاملين، فوجود جزء العلة لا يستلزم وجود المعلول"1.

_ 1 فجر الإسلام "52 فما بعدها".

وأثر البيئة الطبيعية في العرب، أنها جعلت بلادهم بقعة صحراوية تصهرها الشمس، ويقلّ فيها الماء، ويجفّ الهواء، وهي أمور لم تسمح للنبات أن يكثر، ولا للمزروعات أن تنمو، إلا كلأً مبعثرًا هنا وهناك، وأنواعًا من الأشجار والنبات مفرقة استطاعت أن تتحمل الصيف القائظ، والجوّ الجاف، فهزلت حيواناتهم، ونحلت أجسامهم، وهي كذلك أضعفت فيها حركة المرور، فلم يستطع السير فيها إلا الجمل، فصعب على المدنيات المجاورة من فرس وروم أن تستعمر الجزيرة، وتفيض عليها من ثقافتها، اللهم إلا ما تسرب منها في مجارٍ ضيقة معوجّة عن طرق مختلفة". وأثر آخر كان لهذه البيئة الطبيعية في العرب، هو أنها أثرت في النفوس فجعلتها تشعر أنها وحدها تجاه طبيعة قاسية، تقابلها وجهًا لوجه، لا حول لها ولا قوة، لا مزروعات واسعة، ولا أشجار باسقة، تطلع الشمس فلا ظلّ، ويطلع القمر والنجوم فلا حائل، تبعث الشمس أشعتها المحرقة القاسية فتصيب أعماق نخاعه، ويسطع القمر فيرسل أشعته الفضية الوادعة فتبهر لبّه، وتتألق النجوم في السماء فتملك عليه نفسه، وتعصف الرياح العاتية فتدمر كل ما أتت عليه. أما هذه الطبيعة القوية، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القاسية، تهرع النفوس الحساسة إلى رحمن رحيم، وإلى بارئ مصور وإلى حفيظ مغيث -إلى الله-. ولعلّ هذا هو السر في أن الديانات الثلاث التي يدين بها أكثر العالم، وهي اليهودية والنصرانية والإسلام نبعت من صحراء سيناء وفلسطين وصحراء العرب1. والبيئة الطبيعية أيضا، هي التي أثرت -على رأيه- في طبع العربي، فجعلته كثيبًا صارمًا يغلب عليه الوجد، موسيقاه ذات نغمة واحدة متكررة عابسة حزينة، ولغته غنية بالألفاظ إذا كانت تلك الألفاظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية، وشعره ذو حدود معينة مرسومة، وقوانينه تقاليد القبيلة وعُرف الناس، وهي التي جعلته كريما على فقره، يبذل نفسه في سبيل الدفاع عن حمى قبيلته. كل هذه وأمثالها من صفات ذكرها وشرحها هي في رأيه من خلق هذه البيئة الطبيعية التي جعلت لجزيرة العرب وضعًا خاصًا ومن أهلها جماعة امتازت عن بقية الناس بالمميزات المذكورة.

_ 1 فجر الإسلام "54 فما بعدها".

وقد استمر "أحمد أمين"، في شرح أثر البيئة الطبيعية في عقلية العرب وفي مظاهر تلك العقلية التي حصرها كما ذكرت في اللغة والشعر والأمثال والقصص، حتى انتهى من الفصول التي خصصها في تلك العقلية. أما أثر البيئة الاجتماعية التي هي في نظره شريكة للبيئة الطبيعة في عملها وفعلها في العقلية الجاهلية وفي كل عقلية من العقليات؛ فلم يتحدث عنه ولم يشرْ إلى فعله، ولم يتكلم على أنواع تلك البيئة ومقوماتها التي ذكرها في أثناء تعريفه لها، وهي: "ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك"، ثم خلص من بحثه عن العقلية العربية وعن مظاهرها وكأنه نسي ما نسبه إلى العامل الثاني من فعل؛ بل الذي رأيته وفهمته من خلال ما كتبه أنه أرجع ما يجب إرجاعه إلى عامل البيئة الاجتماعية -على حد قوله- إلى فعل عامل البيئة الطبيعية وأثرها في عقلية العرب الجاهليين. وهكذا صارت البيئة الطبيعية هي العامل الأول الفعّال في تكوين تلك العقلية، وحرمنا بذلك من الوقوف على أمثلته لتأثير عامل البيئة الاجتماعية في تكوين عقلية الجاهليين. وأعتقد أن "أحمد أمين" لو كان قد وقف على ما كُتب في الألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية عن تأريخ اليمن القديم المستمد من المسند، ولو كان قد وقف على ترجمات كتابات المسند أو الكتابات الثمودية والصفوية واللحيانية؛ لما كان قد أهمل الإشارة إلى أصحاب تلك الكتابات، ولعدّل حتما في حدود تعريفه للعقلية العربية، ولأفرز صفحة أو أكثر إلى أثر طبيعة أرض اليمن وحضرموت في عقلية أهل اليمن وفي تكوين حضارتهم وثقافتهم، فإن فيما ذكره في فصوله عن العقلية العربية الجاهلية ما يجب رفعه وحذفه بالنسبة إلى أهل اليمن وأعالي الحجاز. ونجد في كتاب "جزيرة العرب في القرن العشرين" لحافظ وهبة فصلا بعنوان "السكان"، وردت فيه ملاحظات كيّسة عن عقلية الحضر وعقلية البدو في المملكة العربية السعودية وفي بعض المناطق المجاورة لها في الزمان الحاضر. وهذه الملاحظات وإن كانت تتعلق بعرب هذا اليوم، إلا أنها مع ذلك ذات فائدة ومنفعة لفهم العقلية الجاهلية، فالزمان وإن تباعد بين عرب الجاهلية وعرب القرن العشرين؛ إلا أن الخصائص العقلية لأكثر أهل البادية المنعزلين عن عالمهم الخارجي لا تزال هي هي، لم تتغير في كثير من الأمور، بل خذ من نسميهم "الحضر"

أو العرب المستقرين في جزيرة العرب، فإن البعيدين منهم عن الأماكن التي لها اتصال بالعالم الخارجي وبالأجانب لا يزالون يحتفظون بكثير من خصائص عقلية حضر اليمن أو الحجاز عند ظهور الإسلام. ومن هنا تفيدنا ملاحظات "حافظ وهبة" هذه وملاحظات غيره من أذكياء العرب والسياح والخبراء الأجانب، فائدة كبيرة في التعرف على أسس تفكير العرب قبل الإسلام. وفي حديث "حافظ وهبة" عن طباع الحضر أشار إلى اختلاف طباعهم باختلاف أماكنهم، فقال: "والحضر تختلف طباعهم باختلاف المناطق التي يعيشون فيها، وظروف الحياة التي تحيط بهم فأهل حايل أقرب مظهرًا إلى البداوة. وأهل مكة والمدينة واليمن العالية أبعد مظهرًا عن البداوة من البلاد الأخرى العربية، وأهل القصيم ألين عريكة من أهل العارض، لأنهم كثيرو الاختلاط والتعامل مع البلاد الأخرى كالشام وفلسطين ومصر، ولذا فترى موظفي ديوان الملك المكلفين بالمقابلات والتشريفات من أهل القصيم أو حايل. وأهل الرياض أرقى بكثير من أهل الدواسر الذين لم يفارقوا بلادهم، ولم يعرفوا شيئا عن أحوال العالم الخارجي1. وأشار إلى تنافس الحضر وإلى تفاخرهم وتفضيل أنفسهم بعضهم على بعض في الشمائل والعادات وحتى في اللهجات. ومن طبع الحضري، كما يقول "حافظ وهبة" "الخلق التجاري"، وهم يتباينون في ذلك أيضًا بتباين أماكنهم، "فأهل القصيم والزلفى وشقرا، أنشط من أهل نجد في التجارة. فقوافلهم تقصد سائر الجهات العربية، وتجّارهم كثيرًا ما يسافرون إلى الهند ومصر في سبل التجارة، والتجار النجديون المعروفون في الهند ومصر والعراق من أهل هذه البلاد". "أما أهل الكويت، فنشاطهم في التجارة البحرية.. ويغلب على حضر الجزيرة -وعلى الأخص أهل خليج فارس- التعاون التجاري سواء بين الأهالي بعضهم مع بعض أو بين الأمراء والأهالي"2. أما طباع البداوة، وهي طباع تختلف عن طباع أهل المدن فقد وصفها بقوله:

_ 1 حافظ وهبة "ص7". 2 المصدر نفسه "ص8 فما بعدها".

"أما البدو، فهم القبائل الرُّحّل المنتقلون من جهة إلى أخرى طلبًا للمرعى أو للماء، والطبيعة هي التي تجبر البدو على المحافظة على هذه الحياة، وحياة البدوي حياة شاقة مضنية، ولكنه وهو متمتع بأكبر قسط من الحرية يفضلها على أي حياة مدنية أخرى. هذه الحياة الخشنة هي التي جعلت القبائل يتقاتلون في سبيل المرعى والماء، وهي التي جعلت سوء الظن يغلب على طباعهم، فالبدوي ينظر إلى غيره نظرة العدو الذي يحاول أخذ ما بيده أو حرمانه من المرعى. إن البدو في الصحراء لا يهمه إلى المطر والمرعى؛ فأزمته الحقيقية انحباس المطر وقلّة المرعى ولا يبالي بما يصيب العالم في الخارج ما دامت أرضه مخضرة، وبعيره سمينا وغنمه قد اكتنزت لحمًا وقد طبقت شحمًا. أما إذا نما السكان وضاقت بهم الأرض أو لم تجد أراضيهم بالمرعى، فليس هناك سبيل إلا الزحف والقتال، أو الهجرة إن كان هناك سبيل إليها، وكذلك القبيلة التي غلبت على أمرها وحُرمت من مراعيها وأراضيها ليس أمامها سبيل آخر سوى الهجرة. لقد كان البدو قبل ثلاثين سنة في غارات وحروب مستمرة، كل قبيلة تنتهز الفرص للإغارة على جارتها لنهب مالها، وتعدد الإمارات وتشاحن الأمراء وتخاصمهم مما يشجع البدوي. ولهذا كان للقبيلة قيمتها في بلاد العرب، فالإنسان يقوى بأبنائه وأبناء عمومته الأقربين والأبعدين، وإذا كانت العصبية ضعيفة أمكن تقوية القبيلة بالتحالف مع سواها حتى يقوى الفريقان ويأمنا شر غيرهما من القبائل القوية. وقد جرى العرف أن القبائل تعتبر الأرض التي اعتادت رعيها، والمياه التي اعتادت أن تردها ملكًا لها، لا تسمح لغيرها من القبائل الأخرى بالدنوّ منها إلا بإذنها ورضاها، وكثيرًا ما تأنس إحدى القبائل من نفسها القوة فتهجم بلا سابق إنذار على قبيلة أخرى، وتنتزع منها مراعيها ومياهها. إن قبائل العرب ليسوا كلهم سواء في الشر والتعدي على السابلة والقوافل، فبعضها قد اشتهر أمره بالكرم والسماحة والترفع عن الدنايا، كما اشتهر بعضها بالتعدي وسفك الدماء بلا سبب سوى الطمع فيما في أيدي الناس. ليس للبدوي قيمة حربية تذكر، ولذا كان اعتماد الأمراء على الحضر، فهم الذين يصمدون للقتال ويصبرون على بلائه وبلوائه. وكثيرًا ما كان للبدو

شرًّا على الأمير المصاحبين له، فإن ذلك الأمير إذا ما بدت الهزيمة كانوا هم البادئين بالنهب والسلب ويحتجون بأنهم هم أولى من الأعداء المحاربين"1. "والبدوي إذا لم يجد سلطة تَرْدَعُه أو تضرب على يده يرى من حقه نهب الغادي والرائح، فالحق عنده هو القوة يَخْضَع لها، ويُخْضِع غيره بها. على أن لهؤلاء قواعد للبادية معتبرة عندهم كقوانين يجب احترامها، فالقوافل التي تمرّ بأرض قبيلة وليس معها مَنْ يحميها من أفراد هذه القبيلة معرّضة للنهب، ولذا فقد اعتادت القوافل قديما أن يصحبها عدد غير قليل من القبائل التي ستمر بأرضها ويسمون هذا رفيقًا. والبدوي يحتقر الحضري مهما أكرمه، كما أن الحضري يحقر البدوي، فإذا وصف البدوي الحضري، فإنه في الغالب يقول حُضيري تصغيرًا لشأنه. ومن عادة البدوي الاستفهام عن كل شيء، وانتقاد ما يراه مخالفًًا لذوقه أو لعادته بكل صراحة، فإذا مررت بالبدوي في الصحراء استوقفك وسألك من أين أنت قادم؟ وعمن وراءك من المشايخ والحكام؟ وعن المياه التي مررت بها؟ وعن أخبار الأمطار والمراعي؟ وعن أسعار الأغذية والقهوة؟ وعمن في البلد من القبائل؟ وعن العلاقات السياسية بين الحكام بعضهم وبعض. ومع أن البدو قد اعتادوا النهب والسلب، فإنهم كثيرًا ما يعفون عن أهل العلم خوفًا من غضب الله عليهم، وبعض البدو لا يحلف كاذبًا مهما كانت النتيجة. والبدوي ينكر إذا وجد مجالًا للإنكار، ويلفت بمهارة من الإجابة عما يسأل، ولكن إذا وجه له اليمين وكان لا مفر له اعترف بجرمه إذا كان مذنبًا، ولا يحلف كاذبًا". "وليس أعدل من البدوي في تقسيم الغنيمة حتى قد يتلفون الشيء تحرّيًا للعدل، ويقسمون السجادة بينهم كما يقسمون القميص أو السروال، كل هذا إرضاءً لضمائرهم ودفعًا للظلم، إنهم يعرفون الخيام حق المعرفة لأنها بيوتهم التي يعيشون فيها، ومع ذلك فهم يقسمونها مراعاة للعدل، أما الإبل والغنم فإنهم يقسمونها إذا أمكن القسمة أو يقوّمونها بثمن إذا لم يكن هنالك سبيل للقسمة". "والبدو لا يفهمون الحياة حق الفهم كما يفهمها الحضري، لا يفهمون

_ 1 وهبة "ص11 فما بعدها".

البيوت وهندستها، ولا يفهمون فائدة الأبواب والنوافذ الخشبية، حتى إن البدو الذين كانوا في جيش الملك حسين في الثورة العربية كان عملهم بعد الاستيلاء على الطائف نزع خشب النوافذ والأبواب، لا لبيعها والانتفاع بثمنها، بل لاستعمالها وقودًا إما للقهوة أو الطبخ أو التدفئة، وبدو نجد قد فعلوا مثل ذلك تماما، فعندها أسكنت الحكومة بعض القبائل في ثكنة جَرْوَلْ، اكتشفت الحكومة أن النوافذ الخشبية والأبواب تنقص بالتدريج، وأنها استعملت للطبخ وتحضير القهوة، فأخرجهم جلالة الملك توًّا من الثكنة، وأسكن الحضر فيها، والحضر بطبيعتهم يفهمون ما لا يفهمه جهلة البدو عن النوافذ والأبواب. "وللبدو مهارة فائقة في اقتفاء الأثر، وكثيرًا ما كانت هذه المعرفة سببًا في اكتشاف كثير من الجرائم ولا تكاد تخلو قبيلة من طائفة منهم. "والقبائل العريقة المشهورة من حضر وبادية تحافظ على أنسابها تمام المحافظة وتحرص عليها كل الحرص، فلا تصاهر إلا من يساويها في النسب، والقبائل المشكوك في نسبها لا يصاهرها أحد من القبائل المعروفة. "أما حكام العرب، فيترفعون عن سائر الناس حضرهم وبدوهم، لا يزوِّجون بناتهم إلا لقرباهم. أما هم فيتزوّجون من يشاءون، وطبقات الحكام يترفع بعضها على بعض: الأشراف يرون أنفسهم أرفع الخلق بنسبهم، وآل سعود يرون أنفسهم أرفع من الأشراف، وأرفع من سواهم من حكام العرب الآخرين"1. "وهنا ترى الروح الصحيحة البدوية التي لا تملك شروى نقير ترفض الزواج من غني، لأنه ابن صانع، أو أنه من سلالة العبيد، أو لأن نسبه القبلي يحيط به شيء من الشك، فسلطان المال لا قيمة له عند العرب. ومع وجود هذه الروح الأرستقراطية التي تتجلى فقط في الزواج ورياسة القبيلة والحكم، فإنه لا يكاد يوجد فارق في طرق المعيشة الأخرى". ومن عادة القسم الأكبر من سكان الجزيرة، ولا سيما البدو، مخاطبة رؤسائهم بأسمائهم أو بألقابهم، لأنهم لايعرفون الألقاب وألفاظ التعظيم والتفخيم، فيقولون يا فلان ويا أبا فلان ويا طويل العمر.

_ 1 وهبة "ص13 فما بعدها".

ولا يزال العربي الصريح ينظر إلى الحِرَف والمِهَن نظرة ازدراء، وإلى المشتغل بها نظرة احتقار وعدم تقدير. والبدوي، لا ينسى المعروف، ولكنه لا ينسى الإساءة كذلك، فإذا أُسيء إليه، ولم يتمكن من ردّ الإساءة في الحال، كظم حقده في نفسه، وتربّص بالمسيء حتى يجد فرصته فينتقم منه. فذاكرة البدوي ذاكرة قوية حافظة لا تنسى الأشياء. فنرى من هذه الملاحظات أن كثيرًا من الطباع التي تطبّع بها عرب الجاهلية ما زالت باقية، وبينها طباع نهى عنها الإسلام وحرّمها، لأنها من خِلَال الجاهلية، ومع ذلك احتفظ بها البدوي وحافظ عليها حتى اليوم، وسبب ذلك أن من الصعب عليه نبذ ما كان عليه آباؤه وأجداده من عادات وتقاليد. فالتقاليد والعُرف وما تعارفت عليه القبيلة هي عنده قانون البداوة. وقانون البداوة دستور لا يمكن تخطيه ولا مخالفته، ومن هنا يخطئ من يظن أن البداوة حرية لا حدّ لها، وفوضى لا يَرْدَعُها رادع، وأن الأعراب فرديون لا يخضعون لنظام ولا لقانون على نحو ما يتراءى ذلك للحضري أو للغريب. إنهم في الواقع خاضعون لعرفهم القبلي خضوعًا صارمًا شديدًا، وكل من يخرج على ذلك العرف يطرد من أهله ويتبرأ قومُه منه، ويضطر أن يعيش "طريدًا" أو "صعلوكًا" مع بقية "صعاليك". العرب والعربي رجل جاد صارم، لا يميل إلى هزل ولا دُعَابة، فليس من طبع الرجل أن يكون صاحب هزل ودُعَابة، لأنهما من مظاهر الخفة والحمق، ولا يليق بالرجل أن يكون خفيفا. ولهذا حذر في كلامه وتشدد في مجلسه، وقلّ في مجتمعه الإسفاف. وإذا كان مجلس عام، أو مجلس سيد قبيلة، رُوعِي فيه الاحتشام، والابتعاد عن قول السخف، والاستهزاء بالآخرين، وإلقاء النكات والمضحكات، حرمة لآداب المجالس ومكانة الرجال. وإذا وجدوا في رجل دُعابة أو ميلًا إلى ضحك أو إضحاك، عابوا ذلك الرجل وانتقصوا من شأنه كائنا من كان، وعبارة مثل "لا عيب فيه غير أن فيه دعابة" أو "لا عيب فيه إلا أن فيه دعابة"، هي من العبارات التي تعبّر عن الانتقاص والهمز واللمز. والبدوي محافظ متمسك بحياته وبما قُدّر له، معتزّ بما كُتب له وإن كانت

حياته خشونة وصعوبة ومشقة. ومن هذه الروح المسيطرة عليه، بقي هو هو، لا يريد تجديدًا وتطويرًا، إلا إذا أُكره على التجديد والتغيير والتبديل، فهنا فقط يخضع لقانون "القوة"، وهو لا يسلم له إلا بعد مقاومة، وإلا بعد شعوره بضعفه وبعدم قابليته على المقاومة، فيتقبل الأمر الواقع مستسلمًا، ومع ذلك يبقى متعلقًا بما فيه، يحاول جهد إمكانه التمسك به، ولو بإلباسه ثوبًا جديدًا، وفي القرآن الكريم آيات بينات فيها تقريع وتعنيف للأعراب، ووصف لحياتهم النفسية، فيها أن الأعرابي محافظ لا يقبل تجديدًا، ولا يرضى بأي تغيير كان لا يتفق وسنّة الآباء والأجداد، ومنطقة في ذلك: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} 1، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 2. ولهذا لا نجد البدو يؤمنون بسنة التقدم والنشوء والارتقاء. فالبدوي يعيش أبدا كما عاش آباؤه وأجداده، مساكنه بيوت الشعر، وهي لا تحميه ولا تقيه من أثر أشعة الشمس المحرقة ولا من العواصف والأمطار، ومع ذلك لا يستبدلها بيتًا آخر، ولا يفكر في تحسين وضعه وتغيير حاله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} . وليس من الممكن أن تقوم في هذه البادية ثقافة غير هذه الثقافة الصحراوية الساذجة، ما دام البدوي مستسلمًا مسلمًا نفسه للطبيعة ولحكم القدر، وهو استسلام اضطر إلى الخضوع له والإيمان بحكمه، بحكم عمل الطبيعة القاسية فيه منذ آلاف السنين. وكيف يغيّر حاله، وليس في البادية ما يساعده على تغيير الحال، ليس فيها ماء كافٍ ولا شجر نامٍ ولا أمطار وخضرة، فهو يعيش على كرم الطبيعة ورحمتها. أما إذا تكاثر عدده، وزاد عدد خيام القبيلة، اضطرت إلى التنقّل إلى مكان آخر، أحسن وأنسب من المكان القديم. وهكذا صار دائمًا في تنقّل من مكان إلى مكان. وتحمس الأعراب وأشباه الحضر في دفاعهم عن العُرف، ليس عن بلادة وغباء وشعور بضعف في الكفايات، كلا فللبدوي ذكاء وقّاد وفطنة وكفاية وموهبة، وهو إذ يقاوم التغير والتبدل والتجدد، لا يقاومه عن غباء وبلادة

_ 1 المائدة، الآية: 104. 2 الزخرف، الآية 23.

وعن شعور بضعف تجاه تقبل الحياة الجديدة، وإنما يقاومه لأنه يشعر عن غريزة فيه أن حياته أفضل وأن البداوة حرية وانطلاق وعدم تقيد، وأن التطور إن لم يأتِ منه، فهو شرّ وبلاء، وأن كيانه مرتبط بتقاليد، وأن وجوده من وجود آبائه وأجداده، فهو إن انحرف عن عُرفه عرّض نفسه وأهله وقبيلته وكل وجود قومه للهلاك، فهو لذلك يرفض كل تجديد وتغير وإن بدا لنا أو له أنه لمصلحته، لغريزة طبيعية فيه وفي كل إنسان، هي غريزة المحافظة على البقاء، فخوفه من تعرض تقاليده وكيانه للخطر، هو الذي جعله محافظًا شديد التمسك بالعرف والعادة. أما إذا شعر هو أو أشعر من طريق غير مباشر بفائدة التطور والتغيير وبما سيأتيه من نفع وربح، ولا سيما إذا لم يكن في التغيير ما يعارض عرفه ولا يناقض تقاليده، فإنه يتقبله ويأخذه، ويظهر مقدرة ومهارة فيه، حتى في الأمور الفنية الحديثة الغريبة عنه. ويروي خبراء شركات البترول كثيرًا من القصص عن مقدار براعة البدو وحذقهم في إدارة الآلات والأعمال التي وُكّلت إليهم. وهناك شهادات أخرى مماثلة وردت من جهات فنية أخرى. ولو تهيأ لهؤلاء البدو مرشدون وخبراء عقلاء كيّسون لهم علم بنفسياتهم، ولو عرفت الحكومات العربية عقلياتهم ومشكلاتهم، لكان في الإمكان تحويلهم إلى ثروة نافعة لا تقدّر بثمن، ولتجنّبت بذلك المشكلات التي تواجهها منهم1. حتى الطب، هو في البادية طب بدوي متوارث لا يتغير ولا يتبديل، يقوم على المداواة بتجارب "العارفة" في الطب. ولا يطمئن الأعرابي إلى طب أهل الحضر، مهما فتكت به الأمراض وأنزلت به من آلام، ذلك لأن طب أهل الحضر هو طب غريب عليه بعيد عنه؛ فهو لذلك لا يطمئن إليه. اللهم إلا إذا أقبل عليه رؤساؤه وساداته، أو أقنع بمنطقه وبطريقة إدراكه هو للأمور أن في الدواء الذي يداوي به شفاءً لمرضه، وعندئذ يقبل عليه ثم يزيد إقباله عليه، حتى يكون مألوفًا عنده، بل يقوم في مثل هذه الحالات باختزان ما يمكن اختزانه من الدواء للمستقبل من غير أن يفكر في كيفية خزنه، أو في المدة المقدرة لعمر ذلك الدواء، وتلفه بعد انقضائها. ووُصف الأعراب في القرآن الكريم بالغلظة والجفاوة وبعدم الإدراك وبالنفاق

_ 1 جان جاك بيرلي: جزيرة العرب "102".

وبالتظاهر في اللسان بما يخالف ما في الجنان: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} 2. فالأعراب "البدوي" إنسان لا يُعتمد عليه، مسلم ومع ذلك يتربّص بالمسلمين الدوائر، فإذا خُذل المسلمون في معركة، أو شعر بضعف موقفهم خذلهم وانقلب عليهم، أو اشترط شروطًا ثقيلة عليهم؛ بحيث يجد فيها مخرجًا له ليخلص نفسه من الوضع الحرج الذي أصاب المسلمين. فلا يكلّف نفسه، ولا يخشى من مصير سيء ينتظره إن غلب المسلمون. {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3، والأعرابي لم يُسْلِم في الغالب عن عقيدة وعن فهم، إنما أسلم لأن رئيسه قد أسلم فسيّد القبيلة إذا آمن وأسلم، أسلمت قبيلته معه. وقد دخلت قبائل برُمّتها في النصرانية لدخول سيّدها فيها. وقد وردت في سورة الحجرات هذه الآيات في وصف بعض الأعراب: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4. وقد استثنى القرآن الكريم بعض الأعراب مما وصمهم به من الكفر والنفاق والتربّص وانتهاز الفرص فنزل الوحي فيهم: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

_ 1 سورة الحجرات الآية: 14. 2 سورة التوبة، الآية 101. 3 سورة التوبة، الآية 97 وما بعدها. 4 سورة الحجرات الآية 14 وما بعدها.

وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. وقد وُصف الأعراب بالغلظة والخشونة، فقيل: أعرابي قُحّ، وأعرابي جِلْفٌ، وما شاكل ذلك. وفي الحديث "من بَدَا جَفَا"، أي من نزل البادية صار فيه جفاء الأعراب2. وذكر أن الرسول وصفه "سراقة" وهو من أعراب "بني مدلج" بقوله: "وإن كان أعرابيًّا بوّالًا على عقبيه"3. وأنه نعت "عُيَيْنَة بن حصن" قائد "غطفان" يوم الأحزاب ب"الأحمق المطاع"4. "وكان دخل على النبي، صلى الله عليه وسلم، بغير إذن، فلما قال له أين الإذن؟ قال ما استأذنت على مضربي قبلك. وقال: ما هذه الحُمَيراء معك يا محمد؟ فقال: هي عائشة بنت أبي بكر. فقال: طلقها وأنزل لك عن أم البنين. في أمور كثيرة تذكر من جفائه. أسلم ثم ارتدّ وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيرًا فأُتي به أبو بكر، رضي الله عنه، أسيرًا فمنّ عليه ولم يزل مظهرًا للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته حتى مات". وذُكر أن "الأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك وهشّ، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غَضِب"5. وذلك لازدراء العرب الأعراب، ولارتفاعهم عنهم في العقل وفي الثقافة والمنزلة الاجتماعية. وهذه الصفات التي لا تلائم الحضارة ولا توائم سنّ التقدم في هذه الحياة، هي التي حملت الإسلام على اعتبار "التبدّي" أي "التعرب" بعد الهجرة ردّة على بعض الأقوال وعلى النهي عن الرجوع إلى البادية والعيش بها عيشة أعرابية. فلما خرج "أبو ذر" إلى الربذة قال له عثمان بن عفان: "تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابيًّا". فكان "يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية"6. ولما وصل

_ 1 سورة التوبة الآية 99. 2 الفاخر "ص65"، بلوغ الأرب "3/ 425". 3 الروض الأنف "2/ 6". 4 الروض الأنف "2/ 188". 5 تاج العروس "3/ 334"، "الكويت". 6 الطبري "4/ 284".

"عبد الله بن مسعود" الربذة، ورأى ابنة أبي ذر وهي حائرة وكان والدها قد فارق الحياة لتوّه، سألها: "ما دعاه إلى الإعراب"1. وفي الحديث: "ثلاث من الكبائر منها التعرب بعد الهجرة". وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدّونه كالمرتد2. وذلك بسبب جفاء الأعراب والجهالة، ومن هنا كرهت شهادة البدوي على الحضري فورد في الحديث "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". لأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولما في البدوي من جفاء وجهالة بأحكام الشرع3. وقد عُرِف العربي الحضري بـ "القراري"، أي الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار، وقيل إن كل صانع عند العرب قراري4. وهذه النظرة هي نظرة أهل البداوة بالنسبة لأهل الحاضر، فالصانع عندهم إنسان مزدري لاشتغاله بصنعة من هذه الصنائع التي يأنف منها العربي الحرّ. والحق أن النعوت المذكورة لا تلازم جميع الأعراب ولا تنطبق عليهم كلهم. فهم يختلفون مثل أهل الحضر، باختلاف مواضعهم، من قرب عن حضارة ومن بعد عنها، ومن وجود ماء وخصب، أو جدب أو فقر، وما شاكل ذلك. كما أن بعض النعوت المذكورة تنطبق على بعض أهل المَدَر أيضا. ولهذا نجد القرآن الكريم يطلقها عليهم، ولكن لا على سبيل التعميم بل على سبيل التخصيص، فهي نتائج ظروف خاصة وأحوال معينة، لا بد وأن تؤثر في أصحابها فتكسبهم تلك الصفات والمؤثرات. كما أن العرب، أي الحضر، لم يكونوا كلهم في التحضير على درجة واحدة سواء، فبينهم اختلاف وتباين، وبهذا التباين تباينت خصائصهم النفسية بعضهم عن بعض. والبدوي الذي تمكن "ابن مسعود" أو غيره من الحكام من ضبطه بعض الضبط ومن الحد من غاراته على الحضر أو على البدو الآخرين، هو البدوي نفسه الذي عاش قبل الميلاد وفي عهد إسماعيل، والذي قالت في حقه التوراة:

_ 1 الطبري "4/ 308". 2 تاج العروس "3/ 354"، "الكويت". 3 اللسان "14/ 67". 4 اللسان "5/ 90".

"يده على الكل ويد الكل عليه"1. وهو سيبقى كذلك ما دام بدويًّا ترتبط حياته بالصحراء، ينتهز الفرص كلما وجد وَهَنًا في الحكومات وقوة في نفسه على أخذ ما يجده عند الآخرين. وهو إن هدأ وسكن، فلأنه يجد نفسه ضعيفًا تجاه سلطة الحكومة، ليس في استطاعته مقاومتها لضعف سلاحه، فإذا شعر بقوته لم يخشَ عندئذ أحدًا. وقد تأصلت الفردية في أنفس الأعراب وفي أنفس أشباه الحضر وفي أكثر الحضر، حتى صارت أنانية مفرطة، عاقت المجتمع العربي في الجاهلية وفي الإسلام عن التقدم وعن التوثق والاتحاد. وفي الأدبين الجاهلي والإسلامي أمثلة عديدة سارت بين الناس تمثل هذه النظرية الضيقة إلى الحياة. ورد في الحديث عن أبي هريرة أنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى الصلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا"2. فقدّم نفسه على الرسول، مع أنه مسلم يحمله دينه وأدبه أدب الإسلام على تقديم الرسول عليه، ثم إنه لم يخصص أحدًا بالرحمة غير الرسول وغير نفسه مدفوعا بهذه الأنانية القبيحة. وكثيرًا ما تسمع الناس يتمثلون بقول أبي فراس: إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر". يتمثل به الحضر تعبيرًا عن فلسفة ووجهة نظر قديمة إلى هذه الحياة، مبعثها الوضع السّيّئ العام القلق الذي عمَّ المجتمع ومازال يعمه، والذي جعل الفرد يشعر بعدم وجود مَنْ يحميه ويساعده، فتحول غضبه إلى عقيدة مؤذية مضرة ويا للأسف. والبداوة عالم خاص قائم بذاته، تكوّنت طباعها وخصائصها من الظروف التي نشأت فيها، لها مقاييسها وموازينها الخاصة، وهي مقاييس وموازين تختلف عن مقايس الحضر وموازينهم، الحضر البعيدين عن البادية وعن أحوال البداوة ولذلك اختلفت أفهام الجماعتين وتباعدت عقلياتهما، ومن هنا يظهر خطأ مَنْ يحكم على البداوة بمقاييس أهل الحضارة ويفسر ما يقع من الأعراب تفسيره لما يقع من أهل المدر من أعمال، ومن هنا أيضا نجد أن البداوة لا تستطيع فهم منطق الحضر

_ 1 التكوين، الإصحاح 16، الآية 12. 2 سنن أبي داود "1/ 89".

ولا تستسيغ أسلوب حياتهم، ولا تأمنهم، لأن عالمها يختلف عن عالم الحضر، ولأنها تجد من قيود الريف والمدن ما يصعب عليها تحمله، ولأنها ترى في الحضر جماعة حيل وشرّ ومكر فلا تأمنهم، ولا تستطيع أن تطمئن إليهم، مهما أظهر الحضر نحوها من عطف وإحسان. وقد كابدت البداوة كثيرًا كما كابدت الحضارة كثيرًا أيضًا من جراء سوء الفهم هذا الناجم من اختلاف العقليتين. ويظهر البدوي في عين الحضري الحديث، وكأنه إنسان مزدوج الشخصية جامع للنقيضين، له وجهان. فهو محارب يحارب معك وفي صفوفك، أما إذا شعر أن الهزيمة ستحل بك، فإنه أول من ينقلب عليك، فيمعن عندئذ في سلبك ما معك ونهبه، لا فرق عنده أن يكون الذي يحارب معه وفي صفوفه عربيًّا أو أعجميًّا، شريفًا من أسرة عريقة أم قائدًا محترفًا. وهو كريم جوّاد يقدم لضيفه آخر شيء عنده ليأكله ويحبيه بكل وسائل الإكرام، ولكنه لا يمتنع من سلب غريب يجده في طريقه، ومن أخذ ما عنده. هو رجل متدين لا يحلف كاذبًا مهما رأى النتيجة، ولكن تديّنه تدين بدويّ سطحي إلى غير ذلك من متناقضات. أما الأعرابي، فيسخر من اتهام الحضري له بهذه التهم، ويعجب من سذاجة منطقه وحكمه، فمنطقه في نظره منطق رجل ساذج مريض معلول، وحكمه حكم إنسان ضعيف ذليل. وإلا فكيف يسمح عقل إنسان سليم لإنسان مثلًا أن يترك أموال صاحبه أو أصحابه تقع في أيدي غيره أو أعدائه، يأخذونها لينعموا بها وليفتخروا بحصولهم عليها، ثم لا يمدّ هو يده إليها يأخذ منها ما يحتاج إليه ويريد؟ ألا يدل هذا العمل على السُّخْفِ والضعف وفساد الرأي؟ إن المحارب في نظر الأعرابي أولى من غِيرة بأموال زميله المحارب، وهو أحق بها من أي إنسان آخر للحصول عليها إن داهمه خطر، وشعر أن تلك الأموال ستقع في أيدي عدوّه، فهو زميله وصديقه، وهو فوق ذلك به حاجة إليها؛ فمن حقه الطبيعي إذن أن يأخذها ولو عَنْوَة ويولي بها ليحرم عدوّه الحصول عليها والحصول على أي مكسب كان من هذه الحرب. ثم إنه إن لم يباشر أخذ ما يجده أمامه في الوقت الملائم، فإن غيره سيأخذه حتمًا، وقد يكون غيره هو خصمه وعدوّه: ولما كانت النفس مقدمة على غيرها، كان من العقل والحكمة أن يأخذ حقه بنفسه، وإلا ضاع حقه عليه وأفلت منه. ومن هنا اختلف منطقه عن منطق الحضري وباين حكمه على الأمور حكم الحضري.

وحكم الأعراب على الأمور، حكم صادر عن عقلية خاصة بهم، كونتها عندهم الأحوال التي يعيشون فيها والمحيط الذي يتحكم فيهم من جفاف وحرارة وضوء ساطع واختلاف في درجات الضغط الجويّ وانحباس الأمطار وفقر محالف لأغلب الأرضين ومن فقر وتقتير وبساطة في المأكل وأمثال ذلك من مؤثرات كوّنت عندهم عقلية خاصة وثقافة خاصة، فهمت الأمور بمنطقها لا بمنطق الآخرين. ومن هنا اختلفت أيضا عقليات الأعراب وتباينت بعض التباين باختلاف الأحوال التي تحيط بالأمنكة التي ينزلون بها وبقرب تلك الأمكنة وبعدها من الحضر ومن الحضارة. وبمقدار تأثرها بالمؤثرات الخارجية وبالثقافات الواردة من الخارج، كالذي نلحظه من وجود شيء من التباين بين عقليات القبائل المتنصرة وأعمالها وعقليات القبائل الوثنية وأعمالها، بالرغم من أن نصراينة تلك القبائل لم تكن نصرانية عميقة صميمة، ولم تكن صافية خالصة، وذلك لأن هذه القبائل المتنصّرة على سطحية تنصّرها، كانت مواطنها ملاصقة للحضر وللحضارة وذات اتصال بالحضر وبالأعاجم وبالثقافات الأجنبية وبالبيئات الثقافية الغريبة، وعاش بينها رجال دين غرفوا من ثقافات غريبة وبشّروا بين العرب المنتصرة بآراء غريبة عنهم، كما تأثر رؤساء تلك القبائل بمؤثرات الحضر الذين احتكوا بهم وبرجال السياسة والدين الذين كانوا على اتصال بهم، وقد تزوّج بعضهم من نساء نصرانيات، أثرْنَ في بيئة ذلك الزوج. وقد نص الأقدمون على اختلاف طباع القبائل، فعرف بعضها باللين والسهولة، وعرف بعضها بالشدة والخشونة والغلظة، وعرف آخرون بالشجاعة والصبر على المكاره والميل إلى الغزو والحروب، وعرف غيرهم بالميل إلى الاستقرار وبقابليتها على الاستيطان واستغلال الأرض والالتئام مع الجيران. ولوجود هذه الصفات في القبائل كان الحكام في الجاهلية وفي الإسلام إذا أرادوا أمرًا وكّلوه إلى القبيلة التي تتناسب صفتها التي اشتهرت بها مع العلم الذي يراد القيام به، وصار اعتماد الحكام على هذه الفراسة في الغالب. وما زال هذا التباين في كنايات القبائل معروفًا حتى اليوم؛ فقد اشتهرت قبائل نجد، بأمور لم تشتهر بها القبائل الأخرى، أو أنها فاقت بها سائر قبائل نجد، فاشتهرت بعضها بالقتال، واشتهرت بعضها بالصرامة والصبر، وما إلى ذلك، ويراعي حكام جزيرة العرب اليوم هذه الصفات في ضبط الأمور في حكوماتهم وفي حفظ التوازن في حكم البوادي

والأعراب وفي السياسة العامة للحكومة. وفي تقارير السياسيين الوطنيين والأجانب وفي كتب السياح والبعثات الأجنبية على اختلاف أنواعها كلام على تباين طباع الأعراب في جزيرة العرب وطباع الحضر في هذا اليوم. فنرى إذن أن للأعراب رأيًا في الحضر يشبه رأي الحضر فيهم، أي رأي فيه ازدراء وحطّ من شأن الحضر ومن مجتمعهم الذي يعيشون فيه، ومن قيمهم في هذه الحياة، وهو رأي تكوّن عندهم من بيئاتهم التي يعيشون فيها ومن ثقافتهم الخاصة بهم، التي تفسر الأمور بمقاييسها وأوزانها، وهي مقاييس وأوزان بعيدة عن مقاييس الحضر والحضارة. ولا أقصد بالحضر هنا حضر الأعاجم وحدهم، بل أُدخل فيهم حتى الحضر العرب، كالذي يتبين من استهجان الأعراب لشأن أهل المدر في كل مكان من أمكنة جزيرة العرب ومن ازدرائهم لأحلامهم ومثلهم في الحياة. فالبداوة ثقافة خاصة بهذا العالم، عالم البداوة، والحضارة ثقافة أخرى خاصة بالحضر، وبين الثقافتين بَوْن وخلاف. وليست هذه الطباع وراثة تنتقل من الآباء إلى الأبناء أبدًا في الدم، فلا تتبدل ولا تتغير، بل هي حاصل أحوال وبيئة، إذا تغيرت الأحوال والبيئة وقع تغير يتوقف على مقدار فعل البيئة الجديدة في الإنسان وعلى الزمان الذي يقضيه فيه وعلى مقدار استعداد ذلك الإنسان لتقبل البيئة الجديدة والثقافة الجديدة التي دخل فيها، ولهذا يكون فعل التغير في الجيل القديم أقل من الجيل الجديد. وعلى ذلك يخطئ من يصف العرب بصفات يلصقها بهم يجعلها عامة فيهم أبدية. ودليلنا على ذلك أن من عاش من الأعاجم بين العرب وفي بيئة عربية، تطبع بطباع العرب وصار مثلهم، حتى إذا انقرض الجيل القديم ونبع الجيل الجديد تحوّل إلى جيل عربي في كل شيء، لا نستثني من ذلك حتى الانتساب إلى العرب إلى عدنان وقحطان وحتى التعصب والعصبيات. ولا الإسلام الذي صهر الأعاجم في بوتقته، وجعلهم جنودًا يحاربون في الصفوف الأمامية لنشره وإعلاء كلمته، لم يلبث أن أنساهم أصولهم ولغاتهم، فحوّلهم بذلك إلى عرب من حيث لم يشعر العرب ولا الأعاجم أنفسهم به. والأعرابي واقعي، تتأثر أحكامه بالواقع الذي يراه، وبمقياس المادية التي تتمثل عنده، يؤمن بالروح، ولكنه يحوّلها إلى ما يشبه المادة الملموسة. يؤمن بإلَه أو بآلهة، كما كان في الجاهلية ولكنه حوّل تلك الآلهة إلى أوثان وأصنام،

يلمسها ويحسّها بيديه، فيتقرب إليها ويتوسل بها، وخاف من الأوراح مثل الجن والأرواح الخبيثة التي صوّرها عقله، أكثر من خوفه من آلهته، فإن نزل مكانًا قفرًا، أو محلًا موحشًا، أو دخل مكانًا مظلمًا أو كهفًا، تعوذ من الأرواح، واحتال عليها بمختلف الحيل التي ابتكرها عقله، ليتغلب عليها وليتخلص منها. فهو يخافها أكثر من خوفه من الآلهة؛ لأنه جعلها تعيش معه في كل مكان، فهي تحيط به. أما الآلهة، فإنها بعيدة عنه، ثم إنها لا تؤذي، ومن طبع الإنسان التخوّف من المؤذين. وهو لا يحفل بما بعد الموت، لأن هذا العالم الثاني عالم غير محسوس بالقياس إليه. ولهذا لم يتصوّره كتصور غيره من الأمم الأخرى، بل هو لم يُتعب نفسه بالتفكير فيه، ولهذا كانت مراسيم دفن الميت بسيطة جدًا، لا تَكلّف فيها ولا تعقيد، على نحو ما نجده عند الحضري أو العجم، متى دفن في قبره وهيل التراب عليه، انتهى كل شيء. ولهذا كان عجبهم شديدا إذ سمعوا بالبعث وبالقيامة والحشر والنشر. {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} 1. وكان قائلهم يقول: حياة، ثم موت، ثم نشر: ... حديثُ خُرافة، يا أمّ عمرو! 2 وقال شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك، يرثي قتلى قريش يوم بدر: يحدثنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداءٍ وهامِ3 وقد ورد البيت المذكور في صورة أخرى في كتاب "الصبح المنير في شعر أبي بصير"، في باب شعر "أعشى نهشل"، ورد في هذا الشكل: وكائن بالقليب قليب بدرٍ ... من الفتيان والعرب الكرام أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياة أصداءٍ وهامِ؟ أيعجز أن يردّ الموت عني ... وينشرني إذا بليت عظامي ألا من مبلغ الرحمن عني ... بأني تارك شهر الصيام فقل لله يمنعني شرابي ... وقل لله يمنعني طعامي

_ 1 سورة الواقعة، الآية 47، {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [سورة قّ الآية:3] . 2 بلوغ الأرب "2/ 198". 3 الصبح المنير "ص308" "طبعة أوربة 1927".

والحضر الذين نظروا إلى الأعراب، نظرة استصغار وازدراء، لما بينهم وبين الأعراب من تفاوت في الثقافة وفي العقلية، هم أنفسهم وفي والواقع أشباه حضر، وأخص من هؤلاء الحضر حضر الحجاز، فخصائص التعرب غالبة عليهم، غلبة تزيد على خصائص الحياة الحضرية. فقد قامت قراهم مثلًا وأعظمها مكة ويثرب على الفكرة الأعرابية القائمة على أساس النسب، فكلّ من مكة ويثرب شعاب، كل شعب لفخذ أو عائلة أو ما أشبه ذلك من أسماء تدخل في أسماء أجزاء القبيلة، تتعصب وتتحزّب وتتقاتل فيما بينها وتتحالف، كما يتقاتل أو يتحالف الأعراب. ثم إنهم كانوا يأنفون من الاشتغال بالحرف، تماما كما يفعل البدو، ويعافون الزراعة في الغالب، لا أستثني منها زراعة النخيل، لأن الزراعة في نظرهم من أعمال النبط والرقيق، والروح الفردية سائدة بينهم، موجودة عندهم، إلا في أوقات الشدة والضيق، والفردية الجامحة من طبائع البادية ومن خصائصها، إلى أمور أخرى عديدة تعدّ من صميم الحياة الأعرابية. وسبب ذلك أن هذه المستوطنات التي سموها قرى كانت وسطًا بين البداوة والحضارة، وكانت كالجزر الصغيرة وسط المحيطات الواسعة، محيطات من الأعراب، تستمد غذاءها الروحي والمادي من البداوة أكثر مما تستمده من الحضارة. أضف إلى ذلك عامل الطبيعة الذي يعلب دورًا خطيرا في تكوين المجتمعات وفي تكييفها بالشكل الملائم. ولذلك لم تتكوّن في يثرب أو في مكة أو في غيرها حياة مشابهة لحياة الحضر العجم في الأماكن الأخرى مثل مدن وقرى العراق وبلاد الشام ومصر، بل وحتى حضر مدن اليمن وهم من العرب بالطبع. ومن هنا نجد حضر اليمن، بل وأعراب اليمن أيضا يختلفون عن حضر وأعراب الحجاز ونجد والعربية الشرقية، في كثير من الخصائص والصفات. مع أنهم كلهم عرب ومن أصل واحد. فحضر اليمن، حضر لا يأنفون من العمل ولا يستصغرون شأن الحرف. ولا يأنفون من الزراعة. بينهم الحائك والنساج والمشتغل بالأرض، والصانع والحداد والنجار وعامل البناء، وقالع الحجر ومربي الماعز والغنم والبقر، وزارع الخضر والبقول، ودابغ الجلود، مع أنها حرف يراها العربي في بقية مواضع جزيرة العرب من حرف العبيد والطبقات الدنيا من الناس. وأعراب اليمن، الذين ميزهم حضر اليمن عن أنفسهم في الجاهلية بإطلاق

لفظة "أعرب" عليهم؛ لأنهم لم يكونوا في مستواهم وفي درجتهم في الحضارة. هم مع ذلك وبوجه عام أرقى مستوى وأكثر إدراكًا من أعراب الحجاز ونجد. لقد وطنوا أنفسهم في أطراف الحواضر وعند مواضع الماء والخصب، وزرعوا ورَعَوا ماشية وأنعامًا، واستقروا في بيوت من مدر أو حجارة. وهي حياة لا يألفها البدوي القح. ولا يراها من مقوّمات البداوة. ثم إنهم لم يكونوا رحلًا على شاكلة أعراب الحجاز أو نجد أو بادية الشام. وإذا كنا نرى بعض قبائل اليمن، وهي ترحل من مواضعها، فرحيلها هذا هو عن سبب قاهر، مثل حروب أو كوارث طبيعية تجعل من الصعب علها البقاء في منازلها؛ فلا يكون أمامها للمحافظة على حياتها غير الرحيل إلى مكان آخر. إنهم بالقياس إلى عرب الحجاز أو نجد رعاة أو شبه أعراب1. ومرجع هذه الفروق هو في التباين في الطبيعة. فطبيعة أرض اليمن مثلا طبيعة لطيفة خفيفة، الحرارة فيها معتدلة بوجه عام، والفروق في درجات الحرارة بين الصيف والشتاء، أو بين الليل والنهار ليست كبيرة متناقضة متعاكسة. والضغوط الجوية فيها معتدلة غير قلقة متغيرة بكثرة في اليوم أو في الشهر أو في السنة، والأمطار متوفرة بوجه عام، تزور اليمن في مواسم معينة، وجبال اليمن العالية جبال تقف شامخة عنيدة وفي وضع مناسب أمام الأبخرة المتصاعدة من البحار، حتى تضطرها إلى الهبوط غيثًا على اليمن يغيث الناس. ثم إن اليمن هضاب وأودية وتهائم، ومسايل طبيعية تقود السيول إلى أحواض حفرتها الطبيعة، وعلّمت هذه الطبيعة الإنسان على رفع حافّاتها لتحبس الماء في الأحواض، وعلى عمل فتحات فيها لخروج الماء منها وقت الحاجة. وهي غنية بالمعادن وبالحجر الصالح للبناء وبالأشجار التي غرزتها الطبيعة بيدها، وأرض على هذا النحو وعلى هذه الشاكلة لا بد وأن تؤثر على أجسام وعلى عقول أصحابها، فجعلتهم من ثَمّ من أنشط شعوب جزيرة العرب في ميدان العمل والحيلة في كسب العيش وفي إقامة المجتمعات وإنشاء حضارة، وفوّقتهم بذلك بوجه عام على سائر عرب جزيرة العرب، وصيّرتهم قوما لا يرون الاشتغال بالحِرَف عيبًا، ولا امتهان المهن العملية نقصًا. ولو كانت أرضهم على شاكلة أرض الحجاز أو نجد، ولو

_ 1 Naval, p,, 402.

كانت طبيعتها ذات طبيعة صحراوية قاسية، لما صار أهل اليمن بالشكل الذي ذكرته. ولهذا السبب، اختلفت طبائع من يسميهم أهل الأخبار بالقحطانيين الساكنين خارج اليمن في نجد أو في بادية الشام عن طبائع أهل اليمن، فصاروا أعرابًا أقحاحًا يأنفون من الاشتغال بالحرف، ولا يعيشون إلا على تربية الإبل، إلى غير ذلك من سمات وُسِم بها البدو مع أنهم يمانيون كما يذكر أهل الأخبار. ولو كانت طبيعة أرض البادية على نحو آخر، على نحو يؤمن العيش والراحة لمن يقيم بها، لما وجدنا ما وصفناه من أوصاف عند الأعراب، فإن الطبيعة تصقلهم إذ ذاك صقلًا آخر، قد تجعلهم مستقرين مقيمين على الأقل، ودليل ذلك اثر الأمطار والربيع فيهم، عندما تغيثهم السماء، سنين متوالية؛ إذ يبقون في أماكنهم، ويقيمون فيها، ولا يخطر ببالهم عندئذ خاطر الارتحال والتنقّل من هذه الأرض. ولأثر الطبيعة المذكور في طباع الناس، اختلفت طبائع أهل "الطائف" عن طبائع أهل مكة مع أنها أقرب إلى مكة من اليمن، وسبب ذلك أن الطائف أرض مرتفعة ذا جو معتدل، بها مياه وفيرة، وبها أشجار وهبتها الطبيعة لأرضها منذ القدم، أرضها خصبة فرحة، لا تسودها كآبة البادية ولا يخيم عليها عبوس البيداء، فصارت أخلاق أهلها من ثم أقرب إلى أخلاق أهل اليمن، وصاروا أذكياء، عقولهم متفتحة نيرة، استغلوا أيديهم، فزاولوا الحرف مثل الدباغة، واستغلوا الأرض، إذ زرعوها حبًّا وأشجارًا مثمرة، وربّوا الماشية، وصارت مدينتهم حتى اليوم مصيف أهل مكة. مع أنهم عرب ما في أصلهم العربي أدنى شك، وهم وعرب مكة أو يثرب أو نجد من طينة واحدة، لا شك في ذلك ولا شبهة. فللطبيعة إذن من حرّ وبرد ومن اختلاف في الضغوط الجوية ومن أشعة شمس محرقة منهكة ومن إشعاع أرضي ومن أمطار وأهوية ورياح ومن طبيعة أرض وموقع، ومن هبة الطبيعة إلى السكان من طعام غني أو فقير، من حبوب وأثمار وخضر وحيوان، أثر بالغ في تكوّن الطباع وفي خلق التمايز بين الأجناس البشرية، تضاف إلى ذلك الظروف الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تحيط بالناس ثم التكوّن الجسماني ومظهره. ومن هنا نجد العربي الأصيل الذي لا شك ولا شبهة في أصله العربي، إذا أقام وحده مدة في مجتمع غربي مثل إنجلترا

أو إسكاندينافية أو أميركا الشمالية؛ حيث الطبيعة مختلفة عن طبيعة بلاده وحيث الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متباينة عن الظروف المذكورة في بلاده، تغير وتبدل واضطر مختارًا أو كرهًا عن غريزة تطور كامنة فيه إلى التأقلم والانسجام مع القوم الذين صار يعيش بينهم. ويتوقف هذا التحوّل بالطبع على عمر الشخص وعلى قابلياته وعلى مدة إقامته في المكان. ولو أقام ذلك العربي طيلة حياته كلها في ذلك الوطن الجديد، وصار له نسل من زوجته العربية التي قدمت معه أيضًا، فإن النسل الجديد سيكتسب صفات الموطن الذي نشأ فيه، ويتخلق بأخلاقه، أما نسل نسله، فإنه سيتحول إلى شخص آخر غريب عن جده، غريب عنه حتى في لغته. ومن هنا نجد الجيل الثالث من أجيال المهاجرين العرب الذين هاجروا إلى أميركا، وتجنسوا بها، جيلا أميركيًّا في كل شيء، حتى في لغته وثقافته وشعوره وهواه، يشعر أن حنجرته لا تطاوعه على تعلم العربية وأن أوتارها لا تساعد على النطق بها. مع أنه من أصل عربي أبًا وأمًّا وقد برز من هذا الجيل الجديد اليوم قوم في ميادين العلم والتجارة والمال والصناعة والسياسة والعمل، ودخل نفر منهم مجلس النواب في واشنطن، وسيزيد هذا العدد ولا شك، لم يعقهم عن ذلك عائق الرسّ والعنصر والجنس وخصائص الدم ولو كان الدم عائقًا إلى الأبد، لما حدث في المذكورين ما نراه عمليًّا في هذا اليوم. والعربي بعدُ، إن وصف في الجاهلية أم في الإسلام بالخمول والكسل، وبـ "الرومانطيقية"، أي بالخيال، وبعدم الصبر وبالأنانية والفردية وبما شاكل ذلك من صفات، فصفاته هذه ليست حاصل خصائص دم ونتيجة سمات عرق، وإنما هي ظروف وأحوال وأوضاع أجبرته على ذلك، ولو أطعم ذلك العربي طعامًا صحيًّا فيه المواد الغذائية الضرورية لنمو الجسم والعقل، ولو تغيّرت ظروفه، فهو كما ذكرت سيتغير حتمًا. وما كان الأوروبي ليتفوّق على الشرقي لو أن طبيعة إقليميه وأرضه كانت طبيعة جزيرة العرب، ولو سكن الألماني أو السويدي أو الإنكليزي بلاد العرب، وصار له نسل، فإن نسله لا ينشأ كما لو نشأ في وطن والده أو جدّه، لاختلاف الظروف والأجواء. وما كانت أوروبا خضراء هذه الخضرة ونشطة هذا النشاط بسبب دم أهلها وحده، بل لأن طبيعتها ساعدت الناس وعاونتهم، فأنبتت الرطوبة والأمطار الأشجار بنفسها وكوّنت لأهلها الغابات،

ودفع البرد الناس على العمل دفعًا، ولهذا نجد الناس عندنا في الشتاء يندفعون إلى العمل اندفاعًا بعامل البرد الذي يدفع الجسم إلى الحركة. أضفْ إلى كل ذلك عوامل أخرى تؤثر في جسم الإنسان وفي تصرفاته واتجاهاته من تركيب جسم ومن ملامح، مثل لون شعر وتركيبه ولون بشرة أو لون عين وشكل جمجمة وأمور أخرى يدرسها ويبحث فيها علماء الأجناس البشرية، تؤثر أيضًا في خصائص الإنسان وفي أجناسه وفصائله، مما لا مجال للبحث عنها في هذا المكان. والبحث في موضوع نفسيات الشعوب وأصول تفكيرها وميزات عقلها، بحث يجب أن يستند إلى أسس علمية حديثة، وإلى تجارب دقيقة عامة، لذلك لا يمكن التعميم ما دمنا لا نملك بحوثًا ودراسات علمية منسقة، قام بها علماء متخصصون في البوادي وفي الحواضر وفي كل مكان من جزيرة العرب، رُوعِي عند إجرائها الظروف الطبيعية المؤثرة في ذلك المكان، والظروف الثقافية السائدة عليه، ودرجة تأثر ذلك المكان بالمؤثرات الخارجية، أي بمؤثرات المناطق المجاورة له. فبين أهل جزيرة العرب بَوْن كبير في العقليات، وبين أهل البوادي في الجاهلية وفي هذا اليوم فروق في النفسيات وفي التعامل، حتى وُسمت القبائل بسمات، فوُسمت "معد" مثلا بالحيلة والكيد والذكاء وبالغلظة والخشونة، ووسمت "ثقيف" بسمات، ووسمت "كندة" بسمات. وقد رأينا ما ذكره "حافظ وهبة" عن أهل نجد من حضر وبدو. بل إننا نرى أن الأعاجم المتعرّبين أي الذين ينزلوا بين العرب وينسلون بينهم ويتخذون العربية لسانًا له، سرعان ما يتعرّبون كل التعرّب، ويتحوّل أبناؤهم إلى جيل عربي خالص، حتى ليصعب عليك التفريق بينهم وبين العرب في الرسوم والعادات والتفكير، وذلك بتأثير المحيط الذي حلّوا به، والظروف الطبيعية المؤثرة بالمكان. وقد تعرّب آراميون في العراق وفي بلاد الشام، وصاروا عربًا في كل شيء حتى في الصفات التي ذكرنها، وقد وجدت البعثة الأمريكية التي جاءت إلى العراق للبحث عن السلالات البشرية إن في دماء القبائل العربية التي ترى نفسها أنها قبائل عربية خالصة نسبًا مختلفة من الدماء الغريبة، وإذا أدركنا هذه الملاحظة وقيمة أمثال هذه الدراسات في موضوع تكوّن العقلية وفي حدودها ورسم معالمها، علمنا أنه ليس من السهل في الواقع البحث عن عقلية عربية خالصة

تعبّر عن عقلية جميع العرب وفي كل مكان. إن الذين بحثوا في العقلية العربية بصورة عامة، تصوّروا العرب وكأنهم جنس واحد انحدر من عرق واحد. وبهذا الاعتقاد وضعوا حدود تلك العقلية، أما إذا نظرنا إلى نتائج فحوص بعض علماء "الأنثروبولوجي" وعلماء الآثار وعلماء الحياة لبقايا الجماجم والعظام التي عثروا عليها من عهود ما قبل الإسلام، وإلى فحوصهم لملامح العرب الأحياء وأجسامهم، فإنهم على قلتها، تشير إلى وجود أعراق متعددة بين سكان جزيرة العرب، الأموات منهم والأحياء، الجاهليين والإسلاميين، وإلى وجود اختلاف في نفسياتهم وفي قابلياتهم العقلية، وقد تحدثتُ قبل قليل عن ملاحظات "حافظ وهبة" عن عقليات عرب المملكة العربية السعودية، وتحدثتُ عن رأي علماء الحياة والأجناس في تعدد الأعراق وتسرب دماء غريبة إلى جزيرة العرب يجعل من الصعب على الباحث الحذر أن يعتقد بإمكان وضع صورة دقيقة تمثل وجود عقلية واحدة لجميع أولئك الناس وفي كل العصور والعهود.

الفصل الثامن: طبقات العرب

الفصل الثامن: طبقات العرب مدخل ... الفصل الثامن: طبقات العرب اتفق الرواة وأهل الأخبار، أو كادو يتفقون على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات: عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة. أو عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة. أو عرب عاربة وعرباء وهم الخلص، والمتعربة. واتفقوا أو كادوا يتفقون على تقسيم العرب من حيث النسب إلى قسمين: قحطانية، منازلهم الأولى في اليمن. وعدنانية، منازلهم الأولى في الحجاز1. واتفقوا، أو كادوا يتفقون على أن القحطانيين هم عرب منذ خلقهم الله، وعلى هذا النحو من العربية التي نفهمها ويفقهها من يسمع هذه الكلمة. فهم الأصل، والعدنانية الفرع، منهم أخذوا العربية، وبلسانهم تكلم أبناء إسماعيل بعد هجرتهم إلى الحجاز، شرح الله صدر جدهم إسماعيل، فتكلم بالعربية، بعد أن كان يتكلم بلغة أبيه التي كانت الإرمية، أو الكلدانية، أو العبرانية على بعض الأقوال2. ونجد الأخباريين والمؤرخين يقسمون العرب أحيانًا إلى طبقتين: عرب عاربة، وعرب مستعربة. ويدخلون في العرب العاربة عادًا وعبيل ابني "عوص بن إرم"،

_ 1 ابن خلدون "2/ 16" "طبعة بولاق"، الهلال: الجزء العشرون، السنة الخامسة حزيران، 1897 "ص768 فما بعدها"، تاج العروس "3/ 333"، "الكويت" 2 مرج الذهب "1/ 262"، نهاية الأرب، للنوبري" 2/ 292".

وثمود وجديس ابني "جاثر بن إرم"، وعمليق وطسم وأميم بني "لوذان بن إرم"، و "بني يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام"، وهم: جرهم، وحضرموت، والسلف، وجاسم بن عمان بن سبأ بن يقشان بن إبراهيم1. أما "الهمداني"، فقد عدّ كل القبائل التي أولها "جاسم" وآخرها "عَبس الأولى" من العرب العاربة2. والقبائل المذكورة هي "جاسم" الذين نزلوا بعمان والبحرين، وبنو هيف، وسعد، وهزان الأولى، وبنو مطر، وبنو الأزرق، وبنو بديل، وراجل، وغفار، وتيماء، وبنو أثابر، وبنو عبد ضخم3. وظل الرواة يتوارثون هذا التقسيم كلما بحثوا في تأريخ العرب قبل الإسلام، وفي موضوع الأنساب. ولا حاجة بنا إلى أن نعود، فنقول: إن كل ما روي من هذا التقسيم وما رواه الرواة من أخبار تلك الطبقات، لم يردْ إلينا من النصوص الجاهلية، وإنما ورد إليها متوترًا من الكتب المدوّنة في الإسلام، لذلك لا نستطيع أن نجرؤ فنقول: إن هذا التقسيم وضعه الجاهليون، وتوارثوا كابرًا عن كابر، حتى وصل إلى صدر الإسلام، ثم منه إلينا. وتقسيم العرب إلى طبقات -وذلك من ناحية القدم والتقدم في العربية- هو تقسيم لا نجد له ذكرًا لا في التوراة أو الموارد اليهودية الأخرى ولا في الموارد اليونانية أو اللاتينية، أو السريانية. ويظهر أنه تقسيم عربي خالص، نشأ من الجمع بين العرب الذين ذكر أنهم بادوا قبل الإسلام، فلم تبقَ منهم غير ذكريات، وبين العرب الباقين، وهم إما من عدنان، وإما من قحطان. وجماع العرب البائدة في عرف أكثرها أهل الأخبار، هم: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وأميم، وجاسم، وعبيل، وعبد ضخم، وجرهم الأولى، والعمالقة، وحضورًا4. هؤلاء هم مادة العرب البائدة وخامها، وهم أقدم طبقات العرب على الإطلاق في نظر أهل الأخبار.

_ 1 المحبر "ص395". 2 الإكليل"1/ 75". 3 الإكليل"2/ 72 فما بعدها". 4 الطبري "1/ 103 فما بعدها"، "1/ 203 فما بعدها"، طبعة "دار المعارف"، وتجد اختلافا في الأنساب، التنبيه والإشراف "157"، "طبعة الصاوي، "العرب العاربة سبع قبائل" "وهم تسع قبائل" "وهم تسع قبائل" تاج العروس "3/ 333"، "الكويت"،

أما عاد، فإنهم من نسل "عاد بن عوص بن إرم". وأما ثمود فمن نسل "ثمود بن غاثر بن إرم". وأما "طسم"، فمن نسل "طسم بن لاوذ". وأما "جديس"، فمن نسل "جديس بن غاثر بن إرم"، في رواية أو من نسل "جديس بن لاوذ بن سام" على رواية أخرى1. وأما "أميم"، فإنهم من نسل "أميم بن لاوذ بن سام"2. وأما "جاسم"، فمن نسل "جاسم"، وهو من العماليق أبناء "عمليق"، فهم إذن من نسل "لاوذ بن سام". وأما "عبيل"، فإنهم من نسل "عبيل بن عوص بن إرم"3. وأما "عبد ضخم"، فمن نسل "عبد ضخم" من نسل "لاوذ"، وقد جعلوا من صُلْب "أبناء إرم" في رواية أخرى. وأما "جرهم الأولى"، فمن نسل "عابر"، وهم غير جرهم الثانية، الذين هم من القحطانيين4. وأما العمالقة، فإنهم أبناء "عمليق بن لاوذ"، وأما "حضورا"، فإنهم كانوا بالرّسّ، وهلكوا. نرى مما تقدم أن أهل الأخبار قد رجعوا نسب العرب البائدة إما إلى "إرم"، وإما إلى "لاوذ"، باستثناء "جرهم الأولى" الذين ألحق بعض النسابين نسبهم بـ "عابر". وهذه الأسماء هي أسماء توارتية، وردت في التوراة، وأخذها أهل الأخبار من منابع ترجع إلى أهل الكتاب، وربطوا بينها وبين القبائل المذكورة، وكوّنوا منها الطبقة الأولى من طبقات العرب. و"إرم"، هو شقيق "لاوذ" في التوراة، وأبوهما هو "سام بن نوح"، وقد ترك "سام" هذا من الأولاد "أشور" asshur و "أرفكشاد" و "لود"و "إرم" و "عيلام". كما ورد في التوراة5. وقد أجرى أصحاب الأخبار بعض التحوير والتغيير في هذه الأسماء، بأن صيّروا "أشور" "أشوذ" و "انشور" و "أرفكشاد" "أرفخشذ"، و "لود" "لاوذ"، و "عيلام" "عويلم". أما "إرم"، فقد أبقوه ولم يغيّروا في شكله6.

_ 1 "وولد للاوذ بن سام: طسم وجديس"، الطبري "1/ 204، 206"، "دار المعارف". 2 الطبري: 1/ 203، "دار المعارف". 3 الطبري ":1/ 203 وما بعدها"، "عوض"، الكامل "1/ 31"، مروج "1/ 24". 4 ابن خلدون "2/ 7، 30"، صبح الأعشى "1/ 314". 5 "آشور" "أشور" asshur أرفكشاد، أرفخشن، arpachshad لود، lud لوديم، ludim إرم aram "عيلام"، elam 6 الطبري "203"، "دار المعارف".

ولا نجد لـ "لود" أي "لاوذ" ولدًا في التوراة. فأولاده المذكورون هم هدية من أهل الأخبار قدمت إليه. أما "إرم"، وهو "آرام" في التوراة، فإن له من الأولاد "عوص" و "حول" و "ماش" و "كيثر"1. ولم تذكر التوراة ولدًا لهؤلاء الأبناء الأربعة، فالأولاد الذي ذكرهم أهل الأخبار، على أنهم ولد "عوص" و "كيثر" "غاثر" "كاثر"، هم هبة من الأخباريين قدموها إلى هذين الأخوين. وأما "لود" الذي صار "لاوذ"، عند أهل الأخبار، فإن آراء الباحثين في التوراة مختلفة في المراد منه. وقد ظن بعضهم أنه جدّ "اللوديين"، وذكر هؤلاء "اللوديين" مع "كوش" و "فوط"، وبين "فارس" و "فوط". وأما "لود" أبوهم، فإنه ابن "مصرايم" أي مصر2. ويحملنا هذا على التفكير في أنهم شعب من شعوب إفريقيا. ولكن هذا الرأي يخالف ما جاء عن "لود" من أنه ابن "سام"، وأنه شقيق لإخوته المذكورين الذين تقع أملاكهم في الهلال الخصيب، ومقياسًا على هذه المواضع يجب أن يكون ملكه في هذه الأرضين أيضا. ومهما يكن من شيء، فإن آراء العلماء متباينة في مواضع نسله، ولم ينوّه أحد منهم أنها في جزيرة العرب3. وأما عوص، فإن آراء العلماء متباينة كذلك في المكان المنسوب إليه، فذهب بعضهم إلى أن أرض "عوص" يجب أن تكون على تخوم "أيدوم"4 أو تخوم العربية الشمالية، وذهب بعض آخر إلى أنها المناطق التي على نهر الفرات، وذهب بعضهم إلى أنها في منطقة "حوران" وذهب بعض آخر إلى أنها أرض "دمشق" و"اللجاة" "اللجاء"5، وذهب آخرون إلى أنها في الحجاز أو في نجد6. ورأى بعض أهل الأخبار أن منزل "عوص" هو "الأحقاف"7.

_ 1 "عوص" uz "حول" hul ماش mazh كيثر –كاثر- جاثر-غاثر- gether التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 23. 2 "مصرايم"، mizraim 3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 299"، hastings, p,, 557 4 "أيدوم"، "idumaea" "edom". 5 trachonitis. 6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 126"، hastings, p,, 956. 7 الطبري "1/ 206"، "دار المعارف.

وأرض "عوص" هي موطن "أيوب" الشهير صاحب السفر المعروف باسمه، والذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وضُرب به المثل في الصبر. وأكاثر "جاثر" "gether"، فلا يعلم من أمره شيء1، ويجب أن تكون مواطن "الكاثريين" في الهلال الخصيب، أو في بادية الشام، أو في التخوم الشمالية لجزيرة العرب، وذلك نظرًا لوروده مع "عوص" و "ماش". وقد جعل أهل الأخبار "النبط" من نسل "نبيط بن ماش"، وجعلوا أهل الجزيرة والعال من ولد "ماش" كذلك2. أما النبط في التوراة، فإنهم "نبيوت"3 نسبة إلى الابن الأكبر لأبناء "إسماعيل" المسمى بـ "نابت" عند أهل الأخبار4 وليس ل "ماش" علاقة به وبالنبط. وأما "ماش"، فإنه كناية عن موضع سكنه جماعة عُرفوا بهذا الاسم، لعله "بادية ماش" "صحراء ماش" المذكورة في الكتابات الأشورية، وهي في البادية الكبيرة المسماة "بادية الشام"5.

_ 1 hastings, p,, 292. 2 الطبري "1/ 207". 3 "نبيوت"، nebaioth. 4 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرين، الآية 13، أخبار الأيام الأول، الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 29، hastings, P., 648 5 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 23، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 17، hastings, p,, 590.

العرب البائدة

العرب البائدة: ونحن جريًا مع عادة أهل الأخبار في تقسيم العرب إلى الطبقات الثلاث المذكورة، نبدأ بذكر الطبقة الأولى من طبقات العرب، وهي طبقة العرب البائدة. وقد شك كثير من المستشرقين في حقيقة وجود أكثر الأقوام المؤلفة لهذه الطبقة، فعدّها بعضهم من الأقوام الخُرافية التي ابتدعتها مَخِيلةُ الرواة، وخاصة حين عجزوا عن العثور على أسماء مشابهة لها أو قريبة منها في اللغات القديمة أو في الكتب الكلاسيكية، وقد اتضح الآن أن في هذه الأحكام شيئا من التسرّع؛ إذ تمكن العلماء من العثور على أسماء بعض هذه الأقوام، ومن الحصول على بعض

المعلومات عنها، ومن حلّ رموز بعض كتاباتهم مثل الكتابات الثمودية. وقد اتّضح أن بعض هذه الأقوام أو أكثرها قد عاشوا بعد المسح ولم يكونوا مُمْعِنِين في القدم على نحو ما تصوّر الرواة. ولعلّ هذا كان السبب في رسوخ أسمائهم في مَخِيلة الأخباريين. وأبدأ الآن بالتحدث عن "عاد": عاد: وإذا جارينا الأخباريين، وسرنا على طريقتهم في ترتيب الشعوب العربية، وجب علينا تقديم طسم وعمليق وأميم وأمثالهم على عاد وثمود، لأنهم من أبناء "لاوذ بن سام" شقيق "إرم"، وعاد وثمود من حَفَدة "إرم بن سام". ولكن الأخباريين يقدمون عادًا على غيرهم، ويبدءون بهم، وهم عندهم أقدم هذه الأقوام، ويضربون بهم المثل في القدم1. ومثلهم في ذلك مثل أخباريي العبرانيين الذين عدّوا العمالقة أول الشعوب2. ولعلّ هذه النظرية تكوّنت عند الجاهليين من قدم عاد، أو من ورود اسم عاد في القرآن الكريم في سورة الفجر3 ثم مجيء اسم "ثمود" بعد ذلك. ولهذا صاروا إذا ذكروا "عادا" ذكروا "ثمودا" بعدها في الترتيب. فلورودهما في القرآن الكريم قدما على بقية الأقوام. وقد أورد "الطبري" ملاحظة مهمة عن قوم "عاد" وعن رأي أهل الكتاب فيهم؛ إذ قال: "فأما أهل التوراة، فإنهم يزعمون أن لا ذكر لعاد ولا ثمود ولا لهود وصالح في التوراة، وأمرهم عند العرب في الشهرة في الجاهلية، والإسلام كشهرة إبراهيم وقومه4". ويظهر من ذلك أن المسلمين حينما راجعوا اليهود يسألونهم علمهم عن عاد وأمثالهم، أخبروهم بعدم وجود ذكرهم في التوراة. والواقع أن التوراة لا علم لها فيهم. فأحاديث عاد وثمود وهود وصالح إنما هي أحاديث عربية، تحدث بها الجاهليون، وليس لها ذكر في كتب يهود، ولكن أهل الأخبار ربطوا مع ذلك بينها وبين التوراة، وأوجدوا لها صلةً ونسبًا

_ 1 ومنهم من رأى أنهم أبناء "إرم" اللسان "14/ 280". 2 التكوين، الإصحاح الرابع والعشرون، آية 20، قاموس الكتاب المقدس "2/ 113" hastings, p,,24. 3 سورة الفجر، رقم 89، الآية 6 فما بعدها. 4 الطبري "1/ 232".

بأسماء أعيان وردت في التوراة. ولكن عملهم هذا لا يخفى بالطبع على مَن له وقوف على التوراة. وأكثر هذه الأقوام أقوام متأخرة عاشت بعد الانتهاء من تدوين التوراة، عاشت بعد الميلاد في الغالب، ولعلّ منها مَن عاش إلى عهد غير بعيد عن الإسلام. ثم إن التوراة والكتب اليهودية الأخرى لم تهتم إلا بالشئون التي لها علاقة بالعبرانيين، وهي ليست كتبًا في التواريخ العامة للعالم حتى تكتب عنهم وعن أمثالهم من قبائل. أما بقاء أخبار قوم عاد ومَن كان على شاكلتهم من العرب البائدة في ذاكرة أهل الأخبار، فلأنهم عاشوا بعد الميلاد، وفي عهد غير بعيد عن الإسلام، ومع ذلك، فقد أخذتْ أخبارهم طباع القصص والأساطير. وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن عادًا هي "هدورام" في التوراة1. ودليلهم على ذلك اقتران عاد بإرم في الكتب العربية، وبعض القراءات التي قرأت "بعاد إرم" في الآية: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} 2 على الإضافة، أو مفتوحتين، أو بسكون الراء على التخفيف، أو بإضافة إرم إلى ذات العماد. وبين "عاد إرم" و "هدورام" تشابه كبير في النطق3. ولكن التوراة تشير إلى أن "هدورام" من نسل "يقطان"، أي قحطان في الكتب العربية، وهذا لا يستقيم مع الروايات. ويردّ "جرجى زيدان" على هذا الاعتراض بقوله، "ولعل كاتب سفر الخليقة رأى مقر تلك القبيلة في بلاد اليمن؛ فقال إنها من نسل قحطان، لأن مقام عاد في الأحقاف بين حضرموت واليمن، وكثيرًا ما التبس علماء التوراة في هدورام أو هادرام ومقر نسله، ولم يهتدوا إلى شيء عنه، مع أنهم اهتدوا إلى أماكن أكثر أبناء قحطان، وكلها بجوار الأحقاف، فعاد هي "هدروام" في التوراة. وإما أن يكون كاتب سفر الخليقة أراد بيان القبائل التي سكنت اليمن، وكلها ينسب إلى قحطان، فرأى عاد إرم في جملتها، فجعله من أولاد قحطان وبعبارة أخرى: من القبائل

_ 1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 27، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 21 الإكليل"8/ 162". 2 سورة الفجر، الآية 6 فما بعدها. 3 الهلال: الجزء الثالث والعشرون، السنة السادسة، آب 189م "ص 890".

المتفرعة عن قبيلة قحطان، وإما أن يكون بالحقيقة من نسل قحطان، وهم العرب في نسبته إلى آرام"1. ورأى "فورستر" وجود صلة بين "عادة"، وهو اسم زوجة "لامك"، وبين "عاد"، وهي والدة "يابال" الذي كان أبًا لسكان الخيام ورعاة المواشي2، ونسلها من الأعراب. وقوم عاد من الأعراب كذلك. وذهب أيضا إلى أن هؤلاء هم oaditae وهو اسم "قوم ذكرهم "بطليموس"3" على أنهم كانوا يقيمون في الأرضين الشمالية الغربية من جزيرة العرب4، ولعلّهم كانوا يقيمون عند موضع "بئر إرم"، وهي من الآبار القديمة في منطقة "حسمى" على مقربة من جبل يعرف بهذا الاسم في ديلر جُذام بين أيلة وتيه بني إسرائيل5. ولا يبعد هذا الموضع عن أماكن ثمود الذين ارتبط اسمهم باسم عاد. وقد أيّد هذا الرأي "شبرنكر" وجماعة من المستشرقين، وهو أقرب الآراء إلى الصواب. وذهب الأخباريون إلى وجود طبقتين لقوم عاد هما: عاد الأول، وعاد الثانية، وكانت عاد الأولى، في زعم أهل الأخبار، من أعظم الأمم بطشًا وقوة، وكانت مؤلفة من عدة بطون تزيد على الألف، منهم: رفد، ورمل، وصد، والعبود6. والظاهر أن فكرة وجود طبقتين لعاد قد نشأت عند الأخباريين من الآية: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} 7، فتصوّروا وجود عاد ثانية، قالوا إنها ظهرت بعد هلاك عاد الأولى8. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن "عادًا الأولى"، هو "عاد بن عاديا بن سام بن نوح"، الذين أهلكهم الله، وأوردوا في ذلك بيت شعر ينسب

_ 1 المصدر نفسه. 2 التكوين، الإصحاح الرابع، الآية 20. 3 Forster, vol. 2. P. 32 ff. 4 Forster, bol. 2. P. 32, Enc. Vol. I, P. 121, Sprenger Geogra. S. 207. 5 البلدان "1/ 196"، صفة "ص129". Enc, vol. I, P. 121, Sprenger, S. 207, Wensink und J H Kramers, Handworterbuch des Islam, Leiden, 1941, S. 13. وسأرمز إليه بـ: Wensink 6 الهلال: الجزء نفسه، "ص891". 7 سورة النجم، سورة رقم 53، الآية 50 فما بعدها. 8 ابن خلدون "2/ 20".

إلى "زهير"1. وأما عاد الأخيرة، فهم "بنو تميم" وينزلون برمال عالج2. وذهب الطبري إلى أن عادًا الأولى، هم نسل بن عوص بن إرم بن سام بن نوح3، وأن عادًا الأخيرة هم رهط قيل بن عتر، ولقيم بن هزّال ابن هزيل بن عُتَيل بن صد بن عاد الأكبر، ومرشد بن سعد بن عفير، وعمرو بن لقيم بن هزّال، وعامر بن لقيم، وعمرو بن لقيم بن هزّال، وكانوا في أيام "بكر بن معاوية"4 صاحب "الجرادتين"، وهما قينتان له تغنّيان5. وقد هلكوا جميعا إلا "بني اللوذية"، وهم "بنو لقيم بن هزّال ابن هزيل بن هزيلة ابنة بكر"، وكانوا سكانًا بمكة مع أخوالهم "آل بكر بن معاوية"، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم فهم عاد الأخيرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد6. وجعل بعض أهل الأخبار عدد قبائل عاد ثلاث عشرة قبيلة7، ذكروا منها: "رفد" و "زمل" و"صد" و "العبود"8. وجعلها "الهمداني" أحد عشر قبيلة وهي: العبود، والخلود، وهم رهط هود النبيّ المرسل، وفيهم بيت عاج وشرفهم، وهم بنو خالد. وقيل: بنو مخلد، وبنو معبد، ورفد، وزمر وزمل، وضد وضمود9، وجاهد، ومناف، وسود، وهوجد10. وقد ذهب العلماء مذاهب في تفسير المراد من "إرم ذات العماد" في الآية: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} 11 فذهب بعضهم إلى أن

_ 1 "وأهلك لقمان بن عاد وعاديا"، ابن خلدون "2/ 20"، اللسان "4/ 317". 2 اللسان "4/ 317". 3 الطبري "1/ 216" "طبعة دار المعارف". 4 الطبري "1/ 219" "دار المعارف"، وورد "معاوية بن بكر" في رواية أخرى. 5 الطبري "1/ 221 وما بعدها". 6 المصدر نفسه. 7 المعارف "14". 8 أتأمرنا لنترك أل رفد وزمل وآل صد والعبود الطبري "1/ 221" "دار المعارف". 9 "ضد" و "ضمود"، هكذا ضبط محقق الإكليل"1/ 87"، اللفظتين، وقد ضبطتا بحرف "الصاد" "صد" و "صمود"، أكثر المؤلفات الأخرى. 10 الإكليل"1/ 87". 11 سورة الفجر، سورة رقم 89، الآية 6 فما بعدها، اللسان "14/ 280".

"إرم ذات العماد" مدينة في "تيه أبْيَنَ" بين عدن وحضرموت، وذهب آخرون إلى أنها دمش1 أو الإسكندرية2. والذي دعاهم إلى هذا الرأي -على ما أرى- هو كثرة وجود المباني ذوات العماد في هاتين المدينتين وما عرف عنهما من القدم، فوجد الأخباريون فيهما وصفًا ينطبق على وصف إرم ذات العماد3. وقد خلقت "باب جيرون" من أبواب دمشق قصة "جيرون بن سعد ابن عاد" الذي قالوا فيه إنه ملكًا من ملوكهم، وإنه الذي اختط مدينة دمشق، وجمع عُمُد الرخام والمرمر إليها، وسماها "إرم"4. وهناك مناسبة أخرى جعلت بعض العلماء يذهبون إلى أن دمشق هي "إرم" أو "إرم ذات العماد"، فقد كانت دمشق -كما هو معروف- من أهم مراكز الإرميين "الآراميين"، وكانت عاصمة من عواصمهم. ولهذا السبب أيضا قال نفر من الباحثين إن "إرم" تعين "أرام"، وأن عادًا من "الآراميين"، وأن "عاد إرم" إنما تعني "عاد أرام"، فالتبس الأمر على المؤرخين وظنوا أن ذات العماد صفة، فزعموا أنها مدينة بناها عاد5. غير أنه قول لا يؤيده دليل يثبت أن "إرم" في هذا الموضع تعني "أرام"6. ومن الجائز أن تكون "إرم ذات العماد"، هي التي أوحت إلى النسّابين فكرة جعل "عاد" من نسل "عوص بن إرم"، لتشابه اسم "أرام" و "إرم" عند العرب التي هي "آرآم" فأصبحت عاد من الإرميين.

_ 1 الإكليل"8/ 33"، "طبعة نبيه"، صفة "80"، البكري "1/ 140" "طبعة السقا"، منتخبات "2" سبائك الذهب، للسويدي "15". 2 البلدان "1/ 197"، منتخبات "2"، مروج "2/ 420 فما بعدها"، "طبعة مينارد"، Bosaor, Numger 73, February, 1939 P. 13, Koranic Iram, Legendary and Historical, by, Harold W. glidden. 3 "والعجم تذكر أن إرم ذات العماد بدمشق، وأن جيرون بن سعد بن عاد بني مدينتها، وسماها جيرون ذات العماد، لكبر أعمدة حجارتها"، الإكليل"8/ 33" "طبعة نبيه". 4 ابن خلدون "2/ 19"، المسعودي، مروج "2/ 420" الإكليل"33" "طبعة نبيه" BOASOR, Numger 73, P. 13. 1939 5 "وكان يقال لعاد في دهرهم عاد إرم"، الطبقات "1/ 1 ص19"، البكري، معجم "1/ 48". 6 Enc., Vol. I, P., 121.

ويرى بعض المستشرقين أن الذي حمل الأخباريين على القول إن "الإسكندرية" هي "ارم ذات العماد"، هو أثر قصص الإسكندر في الأساطير العربية الجنوبية ذلك الأثر الذي نجده في كتب القصاص اليمانيين، في مثل كتاب "التيجان" المنسوب إلى وهب بن منبه، وفي الرواية اليمانية. وقد حاول الإسكندر كما نعرف احتلال اليمن، فغدا "شداد بن عاد" بانيًا للإسكندرية، وأصبح "الإسكندر" مكتشفًا لها1. وقد فسر العلماء لفظة "إرمي" الواردة في بيت الحارث بن حلزة اليشكري: ارَميّ بمثله جالت الجن ... فآبت لخصمها الأجلاء بأنها نسبة إلى "إرم عاد" في قدم ملكه، وقيل في حلمه2. ونسب بعض أهل الأخبار ل "عاد" ولدًا، دعوه "شدادا" قالو: أنه كان قويًا جبارًا، سمع بوصف الجنة، فأراد بناء مدينة تفوقها حسنا وجمالا، فأرسل عمّاله، وهم: "غانم بن علوان"، و "الضحاك بن علوان"، و "الوليد بن الريان"، إلى الآفاق، ليجمعوا له جميع ما في أرضهم من ذهب وفضة ودرّ وياقوت، فابتنى بها مدينته، مدينة "إرم" باليمن، بين حضرموت وصنعاء، ولكنه لم ينعم بها إذ كفر بالله، ولم يصدق بنبوة "هود"، فهلك. وتولّى من بعده ابنه "شديد"3. وزعم بعض النسّابين أن نسب "شداد" هو على هذه الصورة: "شداد ابن عمليق بن عويج بن عامر بن إرم"، فأبعدوه بذلك عن "عاد". وقيل في نسبه غير ذلك4. ويفهم من القرآن الكريم أن مساكن "عاد" بالأحقاف، {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} 5. والأحقاف: الرمل بين اليمن وعُمان إلى

_ 1 BOASOR Number, 73, P. 13, 1939. 2 المعاني الكبير "2/ 826". 3 وقيل أخوه، البلدان "1/ 198"، "يقول اليمانية وأكثر العلماء في البلاد: إن إرم ذات العماد في تيه أبين، وهو غائط بين حضرموت وبين أبين"، الإكليل"8/ 33". 4 "عويج"، البلدان "1/ 199". 5 سورة الأحقاف، سورة رقم 46، الآية 21، اللسان "10/ 398".

حضرموت والشحر1. وديارهم بالدوّ والدهناء وعالج ويبرين ووبار إلى عمان إلى حضرموت إلى اليمن. وقد اندفع أكثر الأخباريين يلتمسون مواضعهم في الصحاري؛ لأنها أنسب المواضع التي تلائم مفهوم الأحقاف، فوضعوا من أجل ذلك قصصًا كثيرًا في البحث عن مواطن عاد وقبور عاد، ورووا في ذلك كثيرًا من قصص المغامرات التي تشبه قصص مغامرات لصوص البحر2. وفي بعض الأخبار: أن "عادا" لحقت بالشحر، فسكنت به، وعليه هلكوا بوادٍ يقال له "مغيث". فلحقتهم بعد "مهرة" بالشحر3. وقد سبق أن قلت: إن oaditae الذين ذكرهم "بطلميوس" هم قوم "عاد"، وإنهم كانوا يسكنون في الأرضين الشمالية الغربية من جزيرة العرب في منطقة "حسمي"، أي في أعالي الحجاز، وعلى مقربة من مناطق ثمود. وهو أقرب إلى الصواب، إذ اقترن ذكر عاد في القرآن بذكر {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 4. "حسمى" أقرب إلى هذا الوصف من الرمال. ولم يعيّن القرآن موضع الأحقاف، وإنما عيّنه المفسرون، ولا يحتم تفسيرهم تخصيص الأحقاف بهذا المكان، حيث جعلوا رمال "وبار" في جملة المناطق التي كانت لعاد5. وقد ذهب "موريتس" إلى أن موضع "aramaua" الذي ورد عند "بطلميوس"، وهو "إرم"، أو "إرم ذات العماد". ويقال له الآن "رم"6. وقد أيد "موسل" رأي "موريتس" غير أنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه من أنه "إرم"7. وقد أظهرت الحفريات التي قام بها "المعهد الفرنسي" في القدس، صحة هذا الرأي؛ إذ ورد في الكتابات "النبطية" التي عثر عليها في خرائب معبد اكتشف في "رم" أن اسم الموضع هو "إرم"8. فيتضح من

_ 1 ابن خلدون "2/ 19"، "والحقف وجمعه أحقاف، وهي الرمال. وكانت الأحقاف رمالًا قبل عمان إلى حضرموت. قال: وكانت منازل عاد"، المفضليات "15" "والأحقاف: رمال بأعبانها في أسفل حضرموت"، منتخبات "2" 2 المعارف "14". 3 الطبري "1/ 208" "دار المعارف". 4 الفجر، سورة رقم 89، آية 9. 5 ديوان الطرماح، "طبعة كرنكو"، "148". 6 B. Moritz, AusfJuege in der Arabia Petraea, in MFOB, HI, S., 395. 6 Musil, The Northern Hegaz, P. 273, BOASOR, Number, 73, P. 15 (1939) 7 BOASOR, Number, 73, P. 15, (1939) . 8 BOASOR, Number 73, P. 15, (1939) .

ذلك أن هذا الموضع حافظ على اسمه القديم، غير أنه صار يُعرف أخيرًا ب"رم" بدلا من "إرم". وفي سنة 1932 قام "هورسفيلد" horsfield من دائرة الآثار في المملكة الأردنية الهاشمية بحفريات في موضع جبل "رم"، ويقع على مسافة "25" ميلا إلى الشرق من العقبة، ويقع المكان الذي بحث فيه عند وادٍ، وعلى مقربة منه "عين ماء"، ووجد في جانب الجبل آثارًا جاهلية قديمة1. وقد حملت اكتشافاته هذه واكتشافات "سافينياك" savignac واكتشافات "كليدن" h. w. glidden على القول: إن هذا المكان هو موضع "إرم" الوارد ذكره في القرآن، والذي كان قد حلّ به الخراب قبل الإسلام، فلم يبقَ منه عند ظهور الإسلام غير عين ماء كان ينزل عليها التجار وأصحاب القوافل الذين يمرون بطريق الشام -مصر- الحجاز2. وذكر "ياقوت الحموي" اسم مكان سمّاه "جش إرم"، قال إنه اسم جبل عند "أجأ" أحد جَبَليْ طيء، أملس الأعلى، سهل ترعاه الإبل، وفي ذروته مساكن لعاد وإرم، فيه صور منحوتة من الصخر3. ففرّق "ياقوت" هنا بين عاد وإرم، وجعلها قومين: قوم عاد وقوم إرم، وقد تكوّن الواو بين الكلمتين زيادة من الناسخ، فيبطل حينئذ الاستدلال على تفريق ياقوت بينهما. وفي الكتب العربية أسماء محلات أخرى قديمة عثر فيها على نقوش وتماثيل، وُصفت أنها من مساكن قوم عاد. وبالإضافة إلى المواضع التي أشير فيها إلى "عاد" في القرآن الكريم4، فقد أشير إليهم في الشعر الجاهلي كذلك في شعر طرفة5 وفي شعر النابغة6 وفي شعر

_ 1 BOASOR, Number 73, P 14, (1939) , Revue Biblique, XLJ, (1932) , PP. 581, XLII, (1933) , PP., 405, XT.TTT, (1934) , PP., 572, XLIV, (1935) , PP. 245 2 BOASOR, Number 73, P. 15, (1939) 3 بالفتح والضم ثم التشديد، النجفة وفيه ارتفاع، البلدان "3/ 107". 4 سورة الحج، رقم 22، آية 42، سورة الحاقة، 69، آية 4، 6، سورة الفرقان، 25، آية 38، سورة فصلت، 41، آية 13، سورة الأعراف، 7، آية 65، سورة هود، أية 50. 5 طرفة 1، 8، Enc,, vol,, I, p, 121 6 أحلام عاد وأجساد مطهرة ... من المعفة والآفات والإثم ديوان النابغة مع شرحه للبطليوسي" 74"، للبطليوس "74"، Enc,, vol,,I, p, 121

زهير1 وفي شعر الهُذَليين2، وفي شعر طفيل بن عوف الغنوي3، وفي شعر "متمم بن نُوَيْرَة" شقيق "مالك بن نويرة"، وهو من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام4، وفي شعر "أمية بن أبي الصلت"، وهو ممن عاش في أيام الرسول كذلك5، وفي شعر غيرهم من الشعراء الجاهليين المخضرمين6. وورد في شعر لزهير بن أبي سُلمي "أحمر عاد"7، وضرب المثل بشؤم أحمر عاد، فقيل: أشأم من أحمر عاد8. وجعل الشاعر "أبو خداش الهذلي" "كليب وائل" كأحمر عاد في الشؤم، وذلك بسبب الحرب التي هاجت بين

_ 1 فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم معلقة زهير، البيت 32، enc,, i, p,, 121 2 ديوان الهذليين، ixxx, 6، 31، ديوان هذيل، 31، 5 3 شعر طفيل بن عوف الغنوي، رواية أبي حاتم السجستاني عن الأصمعي "طبعة لوزاك 1927"، سلسلة "كب" بعناية "ف. كرنكو"، "ص135، 148"، "لنا الجبلان من أرمان عاد". 4 أفنين عادًا ثم آل محرق ... فتركنهم بلدًا وما قد جمعوا شرح المفضليات "ص78"، "2/ 24"، ملحوظة 40، المفضليات "ص14" "طبعة السندوبي". 5 فقال: ألا لا تجزعي وتكذبي ... ملائكة من رب عاد وجرهم ديوان "أمية بن أبي الصلت"، "طبعة بشير يموت" "ص58"، بيروت 1938 Friedrich Schulthess, uman ibn Abi-salt, Leipzig, 1911, S. 48. 6 سويد بن أبي كاهل: غلبت عادًا ومن بعدهم ... فأبت بعد فليست تتضع المفضليات "404"، قول "صريم بن معشر بن ذهل" الملقب بأفنون من شعراء الجاهلية: لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... ربيت فيهم ولقمان ومن جدن المفضليات "ص525"، وقال الطرماح بن حكيم: لنا الجبلان من أرمان ومن عاد ... ومجتمع إلا لاءة والغضاة ديوان الطرماح "ص135"، "سلسلية كب"، لندن 1927، بعناية "كرنكو". 7 فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم معلقة زهير، بيت 32. 8 الأمثال "ص11"، "طبعة حيدر أباد الدكن"، ابن قتيبة الدينوري، المعاني الكبير" 2/ 879، 1023".

بكر وتغلب1. وقد نص "ابن قتيبة الدينوري" على أن المراد من "أحمر عاد" "أحمر ثمود" الذي عقر الناقة2. ويدل ورود خبر "عاد" في القرآن الكريم وفي الشعر الجاهلي على أن القصة كانت شائعة بين عرب الجاهلية معروفة عندهم، وأنهم كانوا يتصوّرون أن قوم "عاد" كانوا من أقدم الأقوام، ولذلك ضُرب بقدمهم المثل حتى إنهم كانوا ينسبون الشيء الذي يريدون أن يبالغوا بقدمه، إلى عاد، فيقولون إنه "عادي". وإذا رأوا أثرًا قديمًا أو أطلالًا قديمة عليها نقوش لا يعرفون صاحبها، قالوا إنها عاديّة، أي من أيام عاد3. وإذا رأوا بناءً قديما لا يعرفون صاحبه، قالوا إنه بناء عادي4. وقد تحدث "المسعودي" عن أشجار عادية، أي قديمة جدًا5. ولهذا السبب رأى "ولهوزن"6 أن كلمة "عاد" لم تكن اسم علم في الأصل، بل كان يراد بها القدم، وأن كلمة "عادي" تعني منذ عهد قديم جدًّا، وكذلك كلمة "من عاد" أو "من العاد"، أو من "عهد عاد". وأن المعنى هو الذي حمل الناس على وضع تلك الأساطير عن أيام "عاد"7. وقد جعل بعض الشعراء أيام "عاد" من أوليات الزمان، التي جاءت بعد نوح"8 وجعل بعض آخر لفظة "إرمي"؛ بمعنى "عادي"، أي قديم

_ 1 المعاني الكبير "2/ 1023". 2 المعاني الكبير "2/ 879، 1023". 3 لعادية من السلاح استعرتها ... وكان بكم فقر إلى الغدر أو عدم المفضليات "ص 613"، "والعادي الشيء القديم"، اللسان "4/ 317"، الحماسة "طبعة فرايتاغ" freytag "1/ 195، 341"، Causin de Perceval, Essai, vol. I, P. 259, Biochet, Le culte D'Aphrodite. 4 Sprenger, Das Leben, Bd. I, S. 512. 5 المصدر نفسه. 6 قال أبو داود الإيادي: ألا أبلغ خزاعة أهل مر ... وإخوتهم كنانة عن إياد تركنا دارهم لما ثرونا ... وكنا أهلها من عهد عاد التنبيه والإشراف "ص175"، "طبعة الصاوي". 7 7wensick, p,, 13 8 وقال بعض طيء: وبالجبلين معقل ... صعدنا إليه بسمر الصعاد ملكناه في أوليات الزمان ... من بعد نوح ومن قبل عاد الإكليل"1/ 90".

كأنه من عهد إرم وعاد، أو كأنه في الحكم من عاد1. وقد ضرب المثل في القرآن الكريم بقدم "قوم نوح" وقوم "عاد وثمود" حتى إن أخبارهم خفيت عن الناس فلا يعلمها إلا الله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} ، وفي ذلك دلالة على أن الناس في أيام الرسول كانوا يرون أن الأقوام المذكورة هي من أقدم الأقوام، ولهذا ذُكّروا بهم للاتعاظ2. وقد ورد ذكر عاد في الكتاب الذي وجهه "يزيد بن معاوية" إلى أهل المدينة يهددهم فيه بمصير يشبه مصير" عاد وثمود"؛ حيث ينزل بهم عقابًا شديدًا ويصيّرهم حديثًا للناس، "وأترككم أحاديث تنسخ بها أخباركم مع أخبار عاد وثمود"3. وقال: سبيع" لأهل اليمامة: "يا بني حنيفة بعدًا كما بعدت عاد ثمود"4. وضُرب المثل برجل من "عاد" اسمه "ابن بيض"، زعموا أنه كان من عاد، وكان تاجرًا مكثرًا عقر ناقة له على ثنية، فسدّ بها الطريق على السابلة، فضُرب به المثل5. وزعم أهل الأخبار أن رجلًا غنيًّا من بقية "عاد" اسمه "حمار" كان متمسكا بالتوحيد، فسافر بنوه، فأصابتهم صاعقة فأهلكتهم، فأشرك بالله وكفر بعد التوحيد، فأحرق الله أمواله وواديه الذي كان يسكن فيه فلم ينبت بعده شيء. ويزعمون أن "امرأ القيس" الشاعر ذكر ذلك الوادي في شعر له6. ويذكر أهل الأخبار أن المكان الذي كان فيه "حمار" المذكور هو "جوف"، وهو موضع في ديار عاد، وقد نسب إليه، فقيل "جوف حمار"، نسبة إلى

_ 1 الإكليل"1/ 89 وما بعدها". 2 التنبيه والإشراف "ص82". 3 عيون الأخبار، لابن قتيبة "1/ 202". 4 المصدر نفسه "1/ 233". 5 ورد في شعر بشامة بن عمرو: كثوب ابن بيض وقاهم به ... فسد على السالكين السبيلا المفضليات "ص16" "طبعة السندوبي". 6 ووداد كجوف العبر قفر قطعته ... به الذئب بعوي كالخليع المعيل شرح المعلقات السبع، للزوزني، "ص28" "طبعة دار صادر".

"حمار بن مويلع"، فلما أشرك بالله وكفر، أرسل الله نارًا عليه فأحرقته وأحرقت الجوف أيضًا، فصار ملعبًا للجنّ لا يستجرئ أحد أن يمرّ به، والعرب تضرب به المثل، فتقول: "أخلى من جوف حمار"1.

_ 1 البكري، معجم "1/ 405".

هود

هود: ويرد مع قوم "عاد" ذكر نبي منهم، هو "هود"، وقد نعت في القرآن الكريم بـ "أخي عاد": {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} 1. كما نعت القرآن عادًا بقوم هود: {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} 2. {قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} 3. وقد نسبه الناسبون إلى "الخلود بن معيد بن عاد"4، وإلى "عبد الله بن رباح ابن جاوب بن عاد بن عوص بن إرم"5، وإلى "عبد الله بن رباح بن الخلود ابن عاد بن عوص بن إرم"6، ومن أهل الأنساب من زعم أنه "عابر بن شالخ ابن أرفخشذ بن سام بن نوح"، إلى غير ذلك من روايات7. وقد وردت قصته مع قومه ونهيه لهم عن عبادة الأصنام في القرآن الكريم8. وقد ضُرب المثل بكفر رجل من عاد، اسمه "حمار"، فقيل: "أكفر من حمار"، قالوا: "هو رجل من عاد، مات له أولاد، فكفر كفرًا عظيمًا، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه، وإلا قتله"9. وذلك على نحو ما ذكرته عنه قبل قليل. وهي قصة واحدة، رويت بطرق متعددة،

_ 1 الأعراف 7، آية 65، سورة هود، 11، آية 50، الشعراء، 26، آية 124. 2 هود، 11، آية 65. 3 هود، 11، آية 89. 4 نهاية الأرب "13/ 52"، الإكليل"1/ 93". 5 المعارف "14". 6 الطبري "1/ 216" "دار المعارف". 7 الطبري "1/ 216"، ابن خلدون "2/ 20"، البداية والنهاية، لابن كثير "1/ 120" 8 سورة هود، 11 آية 65، 79، الشعراء، 26، آية 124، الأعراف 7، آية 65. 9 اللسان "5/ 295".

تختلف في التفاصيل، لكنها متفقة من حيث الفكرة والجوهر، وعليها طابع قصص الوعّاظ وأهل الأخبار. وقد ذكر أصحاب الأخبار أن غالبية "عاد" كفرت بنبوة "هود"، ولم تؤمن به، لهذا أصابها العذاب والهلاك. ولم ينجَ منهم إلا من آمن بـ "هود" واتّبعه وسار معه حين ترك قومه: قوم عاد. وقد نبّه المستشرقون إلى وجود شبه بين هود و "هود" الواردة في القرآن أيضًا بمعنى "يهود"1: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} 2. وأشاروا إلى أن "هودا" تعني التهوّد، أي الدخول في اليهودية، كما لاحظوا أن بعض النسّابين قالوا إن هودا هو "عابر بن شالح بن أرفكشاد" جدّ اليهود، فذهبوا إلى أن هودًا لم يكن اسم رجل، وإنما هو اسم جماعة من اليهود هاجرت إلى بلاد العرب، وأقامت في الأحقاف، وحاولت تهويد الوثنيين، وعُرفوا بيهوذا، ومنها جاءت كلمة "هود"3، وأنها استعملت من باب التجوّز عَلَمًا لشخص4. وزعم الرواة أن هودا ارتحل هو ومن معه من المؤمنين بعد النكبة التي حلّت بقومه الكافرين من أرض عاد إلى الشحر. فلما مات دفن بأرض حضرموت5. ويدّعي الرواة أنه قبر في وادٍ يقال له "وادي برهوت" غير بعيد عن "بئر برهوت"التي تقع في الوادي الرئيسي للسبعة الأودية6. وهي من الآبار القديمة

_ 1 اللسان "4/ 451"، القاموس "1/ 349"، Enc, vol 2, P. 327. f. Hirschfeld, Beitraege zu Erklaerung des Koran Leipzig, 1886, S. 17, Note, 4. 2 البقرة، 2، آية 111، 135، 140 3 الهلال، 23، سنة 6، جزء اب، 1898 "ص894". 4 "والهود: جمع هائد، وهو التائب، والهود،: اليهود، قال الله تعالى: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} . التهويد: المشي الرويد، وفي حديث عمران بن حصين: إذا متّ فخرجتم بي فأسْرِعوا المشي ولا تهوّدوا كما تهوّد اليهود والنصارى"، "وهوّد الإنسان ولده: أي جعله على دين اليهود"، منتخبات "ص111 ما بعدها"، enc,vol,,2, p,, 328. 5 "قال الواقدي: "ما يعلم موضع قبر نبي من الأنبياء، إلا ثلاثة: قبر إسماعيل فإنه تحت الميزاب بين الركن والبيت، وقبر هود، فإنه في حقف من الرمل تحت جبل من جبال اليمن عليه شجرة تندى وموضعه أشد الأرض حرا، وقبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن هذه قبورهم بحق"، الطبقات، القسم الأول من الجزء الأول" ص25"، "تحقيق سخو"، نهاية الأرب "13/ 60"، forster, vol,,2, pp,, 374. 6 البكري، تأريخ حضرموت السياسي "1/ 65 فما بعدها".

التي اشتهرت في الجاهلية بكونها شر بئر في الأرض، ماؤها أسود منتن، تتصاعد من جوفها صيحات مزعجة، وتخرج منها روائح كريهة، ولذلك تصور الناس أنها موضع تتعذب أرواح الكفار فيه1. ويذهب السياح الذين زاروا هذا المكان ودرسوه إلى أنه موضع بركان قديم، يظهر أنه انفجر، فأهلك من كان حوله. ويؤيده هذا الرأي ما ورد في الكتب العربية من أنه كان يسمع لهذا المكان أصوات كالرعد من مسافات، وأنه كان يقذف ألوانًا من الحمم يُسمع لها أزيز راعب2. ومن هنا نشأت قصة قبر هود، وعذاب عاد في هذا الموضع، على رأي المستشرق "فون كريمر"3. ولا يزال هذا الموضع الذي يقال له "قبر هود"، يزار حتى الآن يقصده الناس من أماكن بعيدة في اليوم الحادي عشر من شعبان للزيارة، وربما كان من الأماكن التي كان يقدسها الجاهليون4. وفي هذه المناطق آثار مدن بائدة، وقرى جاهلية، وتشاهد كهوف ومغاوِر على حافتي الوادي، وكتابات وصور منقوشة على الصخور تدل كلها على أنها كانت من المناطق المأهولة، وأنها تركت لسبب آفات وكوارث طبيعية نزلت بهذه الديار5. ورأى نفر من المستشرقين أن هذا المكان الذي فيه قبر "هود" هو الموضع الذي سماه الكتّاب اليونان styx أو stygis، والذي زعم الرومان أن قبيلتين من قبائل جزيرة "اقريطش" "كريت" وهما قبيلة minos و "رودومانتس"

_ 1 البلدان "2/ 157"، "خير بئر في الأرض زمزم، وشر بئر في الأرض برهوت"، منتخبات "ص7"، "برهوت واد معروف قيل هو بحضرموت، وفي حديث علي عليه السلام: شر بئر في الأرض برهوت. هي بفتح الباء والراء، بئر عميقة بحضرموت لا يستطاع النزول إلى قعرها. ويقال: برهوت بضم الباء وسكون الراء"، اللسان "1/ 143"، "2/ 314". 2 تأريخ حضرموت السياسي "1/ 67". 3 "ويفيض وادي ثوبة إلى بلد مهرة، وحيث قبر هود النبي، صلى الله عليه، وقبره في الكثيب الأحمر، ثم منه في كهف مشرف في أسفل وادي الأحقاف، وهو واد يأخذ من بلد حضرموت إلى بلدة مهرة مسيرة أيام، وأهل حضرموت يزورونه هم وأهل مهرة في كل وقت"، صفة "ص7"، von kremer, uber die suedarabische sage, s,, 21 4 تأريخ حضرموت السياسي "1/ 62"، enc,, vol,,i ,,p,, 634. 5 تأريخ حضرموت السياسي "1/ 62، الهلال: الجزء السادس عشر، السنة السادسة، نيسان 1898 "ص605".

rhodomantys تركتا موطنهما الأصلي، وارتحلتا إلى هذا المكان الذي ضم مئات من القبائل العربية، فكانتا من أقواها. وقد سكنتا في رأيهم، على مقربة من موضع سماه "بلينيوس" stygis aguniae fossa1. أما الأخباريون الذين زعموا أن "هودًا" اعتزل قومه بعد يأسه من قبول دعوته، وأنه ذهب مع من آمن به إلى مكة؛ فقد ذهبوا إلى أنه عاش فيها أمدًا، ثم مات هناك، فقبره بمكة مع قبور ثمانية وتسعين نبيًّا من الأنبياء2. وذكر جماعة أنه بدمشق في المسجد الأموي3. ولعلّ القصص الوارد عن "دمشق"، وأنها "إرم ذات العماد" هو الذي أوحى إلى هؤلاء فكرة جعل قبر "هود" بدمشق. ومهما يكن من شيء فإن هناك جماعة من أهل الأخبار قبرت بعض الأنبياء في هذه المدينة، واختارت المسجد الأموي نفسه مقبرة لهم. ولعلّ ذلك بسبب أن هذا المسجد كان كنيسة معظّمة قديمة عند أهل دمشق قبل دخولهم في الإسلام، وكان قد قبر فيها جماعة من قديّسيهم ورجال دينهم؛ فلما تحوّلت الكنيسة إلى جامع تحوّلت قبور هؤلاء بعواطف الناس القديمة إلى قبور أنبياء. وقد ظهر مثل هذه الروايات التي تمجد الجامع الأموي في الوقت الذي تحصن فيه "ابن الزبير" بمكة، وتحزّب أهل الحجاز على الأمويين. وقد اتخذ القحطانيون هودًا جدًّا من أجدادهم، وألحقوا نسبهم به، وتفاخروا به4. فعلوا ذلك بدافع العصبية والمفاخرة على العدنايين الذين كانوا يقولون إن فيهم الأنبياء، ولم يكن في قحطان نبيّ، فأوجد نسّابوهم نسبًا يوصلهم إلى الأنبياء، كما أوجدوا لهم نسبًا احتكر لهم العروبة، وجعلهم الأصل والعدنانيون من الطارئين عليهم، كما سيأتي الحديث عن ذلك.

_ 1 enc, vol, i, p, 654, wensinck, p, 175. 2 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 30 ما بعدها"، enc, vol 2, p, 327 3 رحلة ابن بطوطة "1/ 205"، "2/ 203" "طبعة باريس". 4 "هود النبي، عليه السلام، المرسل إلى عاد المذكور في القرآن، هو أبو قحطان قحطان بن هود. قال حسان: أبونا نبي الله هود بن عابر وهو هود بن عابر بن أرفخشذ بن سام بن نوح النبي"، ابن خلدون "2/ 20"، نهاية الأرب "13/ 51"، ديوان النابغة مع شرحه للبطليوسي "ص63 فما بعدها" التنبيه والإشراف ص71" "طبعة الصاوي".

وإذا صحّ أن الشعر المنسوب إلى حسّان بن ثابت الذي افتخر فيه بانتسابه إلى "هود بن عابر"، وبأن قومه وهم من "قحطان" منهم، هو لهذا الشاعر حقا، يكون لدينا أول دليل يثبت أن هذا الانتساب كان معروفًا عند ظهور الإسلام1. وأن أهل "يثرب"، وهم من الأوس والخزرج، وهم من قحطان في عُرف النَّسّابين، كانوا قد انتسبوا إليه قبل الإسلام. أخذوا ذلك من اليهود النازلين بينهم، الذين كانوا يحاولون التقرب إلى أهل يثرب، للعيش معهم عيشة طيبة. فأشاعوا بين الناس أن "عابرا"، وهو جدّ العبرانيين، ووالد ولدين هما "فالغ" و"يقطان" كان جدّهم وجدّ أهل يثرب، لأن أصلهم من يقطان، وأن علاقتهم لذلك بهم هي علاقة أبناء عمّ بأبناء عمّ. ولما نزل الوحي بخبر "هود"، وتفاخر المكّيّون على أهل يثرب الإسلام، استعار أهل يثرب "هودا"، وصيّروه "قحطانًا"، أو ابنًا له، وانتسبوا إليه، ليظهروا بذلك أنهم كانوا أيضا من نسل نبي، وأن نبوءة قديمة كانت فيهم، وقد كان "حسان بن ثابت" من المتعصبين للأزد قوم أهل يثرب، والأزد من قحطان، وكان من المتباهين بيمن وقحطان.

_ 1 "أبونا نبي الله هود بن عامر"، وسأتكلم عن ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب وعندي أنه متحول، وأنه حمل عليه.

لقمان

لقمان: ومن قبائل عاد قبيلة كان فيها "لقمان" الذي ورد ذكره في القرآن الكريم وفي الشعر الجاهلي وفي القصص1. وقد ضُرب به المثل بطول العمر، فعُدّ في طليعة المُعَمّّرين2، وعدّه "أبو حاتم السجستاني" ثاني المُعَمّّرين في العالم بعد

_ 1 سورة لقمان، تفسير الطبري "21/ 39" "القاهرة 1321هـ"، قال صريم بن معشر بن ذهل المعروف بت "أفنون": لو أنني كنت مع عاد ومن أرم ... ربيت فيهم ولقمان ومن جدن المفضليات "ص525"، ديوان النابغة مع شرحه للبطليوسي "ص75". نمين فلا له في سوق رأس ... إلى لقمان في سوق مقام البيان والتبيين "1/ 23". 2 Enc, Vol., 3, P. 35, Goldziher, Abhandlungen zur arabischen Philologle, S. 2, Leiden, 1899, Rene Basset, Loqman Paris, 1890, Wensinck, P. 365

الخضر1. وقد كان عرب الجاهلية يعرفون قصص "لقمان"، وكانوا يصفونه بالحكمة. وقد وُصف في القرآن الكريم بهذه الصفة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} 2. ولهذا السبب عُرف بين الناس وفي الكتب بـ "لقمان الحكيم". وذُكر عنه أنه كان "حكيمًا عالمًا بعلم الأبدان والأزمان"3 وأنه طلب من الله أن يُعَمَّر طويلا فأعطاه طلبه: وعُمّر عمر سبعة أنسر، وذكر الأخباريون أن آخر نسر أدركه، وهلك بهلاكه اسمه "لبد". قالوا وإليه يشير "النابغة" بقوله: أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد4 وقد أكثرت العرب في صفة طول عمر النسر، وضربت به الأمثال. وبلبد، وبصحة بدن الغراب. وذكروا في ذلك شعرًا، منه ما نسب إلى "الخارجي" في طول عمر "معاذ بن مسلم بن رجاء"، مولي القعقاع بن حكيم: يا نسر لقمان، كم نعيش، كم ... تلبس ثوب الحياة يا لُبَدُ؟ قد أصبحت دار حمْيَر خربت ... وأنت فيها كأنك الوتد تسأل غربانها إذا حَجَلت ... كيف يكون الصداع والرمد5؟ ويذكر أهل الأخبار أن "لقمان" قد عرف لذلك بـ "لقمان النسور"، لأنه عَمّر عمر سبعة نسور6. وذكر بعض أهل الأخبار أنه عَمّر مائة وخمسين سنة، وأنه لما مات قبر بحضرموت، أو بالحجر من مكة7. وهو عمر لا يتناسب مع ما يذكره أهل الأخبار من طوله، ومن أنه يعادل عمر سبعة نسور. أما

_ 1 أبو حاتم السجستاني: كتاب المعمرين "طبعة كولدتزيهر"، "ص2"، Goldziher, Abhandlungen, 2, S. 2, Enc, vol. 3, P. 35 2 سورة لقمان 31، آية 12. 3 منتخبات "ص 95 فما بعدها". 4 الفاخر "ص68"، الطبري "1/ 223"، "دار المعارف"، عيون الأخبار "4/ 95"، نهاية الأرب "13/ 60 وما بعدها"، أبو الفداء، المختصر "1/ 21 وما بعدها"، "دار الكتب اللبنانية"، الكامل، لابن الأثير، "1/ 49 وما بعدها". 5 مروج الذهب "2/ 92 وما بعدها"، طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 6 نهاية الأرب "13/ 60 وما بعدها". 7 الكامل، لابن الأثير: 1/ 49 وما بعدها".

"السجستاني"، فجعل عمره خمسمائة سنة وستين. وهو عدد أخذ من عمر النسور المذكورة؛ إذ عاش كل نسر ثمانين عامًا، والعدد المذكور هو مجموعة عمر تلك النسور السبعة. غير أن من الأخباريين من أعطاه عمرًا قدّره بثلاثة آلاف وخمسمائة سنة1. وهو عمر يؤهله ولا شك لأن يكون في عِدَاد المُعَمَّرين. وقد ورد اسم لقمان على أنه اسم خمّار في شعر منسوب للنابغة حيث يقول: كأن مشعشًعا من خمر بصرى ... نمته البخت مشدود الخيام حملن قلاله من بين رأس ... إلى لقمان في سوق مقام2 وجعلوا للقمان نسبًا هو "لقمان بن عاد"3، وصيّروه "لقمان بن ناحور بن تارخ"، وهو "آزر" أبو "إبراهيم"4. وقال بعضهم: بل هو ابن أخت "أيوب"، أو ابن خالته، وجعله آخرون من حمير، فقالوا له: "لقمان الحميري"5، وصيّره آخرون قاضيًا من قضاة "بني إسرائيل"6. وقد اشتهر عند المسلمين بالقضاء، ويظهر أن هذا السبب هو الذي جعل الواقدي يقول: إنه كان قاضيا في بني إسرائيل. ولم يفطن الأخباريون إلى هذه الأخبار المتناقضة التي تخالف روياتهم في عاد، وأنها من أمم العرب البائدة، إلا إذا جعلناه من الطائرين على قوم عاد الداخلين فيهم، فهو غريب بين قوم عاد. ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن الأخباريين كانوا يرون وجود لقمان آخر، هو غير لقمان عاد. فقد زعموا أنه كان في عهد "داود" لقمان، عُرف بـ "لقمان الحكيم". وقد نسبه بعضهم على هذا النحو: "لقمان بن عنقاد"، وقد زعم "المسعودي"، أنه كان نوبيًّا، وأنه كان مولى للقين بن جسر، ولد على عشر سنين من ملك داود، وكان عبدًا صالحًا، منّ الله عليه بالحكمة، ولم يزل باقيًا في الأرض مظهرًا للحكمة في هذا العالم إلى

_ 1 المعمرون "ص4" طبعة عبد المنعم عامر"؟ 2 البكري، معجم "3/ 1161". 3 منتخبات "ص95 فما بعدها"، نهاية الأرب "13/ 60"، البيان والتبيين "3/ 174". 4 قصص الأنبياء، للثعالبي، "ص205". 5 منتخبات "ص95 فما بعدها". 6 قصص الأنبياء "ص205".

أيام يونس بن متّى حين أرسل إلى أرض نينوى في بلاد الموصل1. وهنالك من فرَّق بين "لقمان بن عاد" وبين "لقمان" المذكور في القرآن، قال الجاحظ: "وكانت العرب تعظِّم شأن لقمان بن عاد الأكبر والأصغر، ولقيم بن لقمان في النباهة والقدر وفي العلم والحكم، في اللسان وفي الحلم، وهذان غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقوله المفسّرون"2. وقد أورد الجاحظ جملة أبيات للنمر بن تولب في لقمان ولقيم3. وقد ذكر الجاحظ أنه كانت للقمان أخت محمقة؛ تلد أولادًا حمقى، فذهبت إلى زوجة لقمان، وطلبت منها أن تنام في فراشها حتى يتصل بها لقمان، فتلد منه ولدًا كيِّسًا على شاكلته، فوقع عليها فأحبلها ب"لقيم" الذي أشرت إليه؛ فهو ابن لقمان إذن من أخته. وقد أورد الجاحظ في ذلك شعرًا جاء به على لسان الشاعر المذكور، أي: "النمر بن تولب"، زعم أنه نظمه في هذه القصة4، وزعم الجاحظ أيضا أن لقمان قتل ابنته "صُحرا" أخت "لقيم"، وذلك أنه كان قد تزوّج عدة نساء كلّهن خنّه في أنفسهنّ، فلما قتل أخراهنّ ونزل من الجبل، كان أول من تلقاه "صُحرا" ابنته فوثب عليها فقتلها، وقال: "وأنت أيضا امرأة". وكان قد ابتلي بأخته على نحو ما ذكرت، فاستاء من النساء. وضربت العرب في ذلك المثل يقتل لقمان ابنته صُحرا، وقد أشير إلى ذلك في شعر لـ "خفاف بن ندبة"5. وقد أشير إلى "حي لقمان" في شعر لأبي الطحان القيني6، كما أشير إليه

_ 1 أبو الفداء: المختصر "1/ 21 ما بعدها"، مروج الذهب "1/ 57 وما بعدها"، منتخبات "ص95 وما بعدها"، ابن كثير، البداية "2/ 26"، "مطبعة السعادة"، تفسير ابن كثير "3/ 443 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "7/ 134 وما بعدها"، البلدان "3/ 609"، تفسير الفخر الرازي "7/ 71"، تفسير الطبري "21/ 67"، الحيوان، للجاحظ "1/ 21". 2 البيان والتبيين "1/ 136". 3 البيان والتبيين "1/ 136"، "1/ 161" "القاهرة 1934م"، نهاية الأرب "13/ 61". 4 البيان والتبيين "1/ 161" 5 الحيوان "1/ 21" طبعة الحلبي". 6 أمست بنو القين أفراقًا موزعة ... كأنهم من بقايا حي لقمان البيان والتبيين "1/ 164".

في شعر ينسب إلى "لبيد بن ربيعة الجعفري"1. وفي شعر للفرزدق2، وفي شعر لبنت وثيمة بن عثمان ترثي به أباها3. وأضافوا إلى "لقمان" أمثالًا كثيرة نسبت إليه في الإسلام، ولم تكن معروفة في الجاهلية4. ونسب إليه بعض الأخباريين الميل إلى إنشاء المدن والبناء، وضربوا به أيضا المثل في كثرة الأكل، فقالوا: "آكل من لقمان"5. وزعم "وهبة بن منبّه" أنه قرأ من حكمة "لقمان" نحوًا من عشرة آلاف باب6، وزعم الرواة أن عرب الجاهلية كانت عندهم "مجلة لقمان"، وفيها الحكمة والعلم والأمثلة7، وأن جماعة منهم كانوا قد قرءوها وامتلكوها، ذكروا من جملتهم "سُوَيْد بن الصامت". وقد رووا أنه كان يقرأها، وأنه أخبر الرسول بها لما قدم عليه8. وقد جمع الناس، فيما بعد، حكمته وأمثاله والقصص المروي عنه، ويشبه ما نسب إليه المنسوب إلى "أيسوب" aesop صاحب الأساطير والحِكَم والأمثال الموضعة على لسان الحيوانات عند اليونان9. وبالغوا في حكمته وفي علمه حتى زعم أنه كان يدرك من الأشياء ما يعجز عن إدراكه الإنسان السويّ10. وضرب المثل في أيساره، وعظم أمره، حتى قيل "أيسار لقمان"، كالذي ورد في شعر "طرفة". وورد في الأخبار: "إذا شرف الأيسار، وعظم أمرهم قيل: هم أيسار لقمان. يعنون لقمان بن عاد". واستشهدوا على ذلك ببيت طرفة: وهم أيسارُ لقمانٍ، إذا ... أغلت الشتوةُ أبداء الجُزُر11

_ 1 وأخْلفَ قسّا ليتَنِي ولو أنَّنِي ... وأعْيَا على لُقمانَ حُكْم التدبُّرِ البيان والتبيين "1/ 161". 2 البيان والتبيين "1/ 161". 3 البيان والتبيين "1/ 161". 4 اللسان "16/ 20 وما بعدها"، enc,, vol, 3,p,, 35. 5 مجمع الأمثال، للميداني "1/ 98". 6 المعارف "ص25". 7 Sprenger, Das Leben und die Lehre des mohammed, Bd, I, S. 93. 8 أمثال لقمان الحكيم، "طبعة ديرنبورغ"، لندن "1850". 9 Sprenger, Das Leben. I, S. 93. 10 المعاني الكبير "3/ 1193". 11 المعاني الكبير "3/ 1152".

وقد زعم أن "زرقاء اليمامة"، التي اشتهرت بحدة بصرها وقوة رؤيتها حتى إنها كانت ترى من مسيرة ثلاثة أيام، كانت امرأة من بنات لقمان بن عاد، وكانت ملكة اليمامة واليمامة اسمها، فسميت الأرض باسمها. وقد زعم أن النابغة الذبياني أشار إليها في شعره1. وقد ورد في بعض الأشعار "لقمان بن عاد". إذ جاء: تراه يطوف الآفاق حرصًا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد وهناك أمثلة عديدة ينسبها الرواة إلى "إحدى حظيات لقمان"، ووردت على لسانها وعلى لسان لقمان وعلى لسان فتى اسمه عمرو2. وقد زعم بعض أهل الأخبار أن لقمان بن عاد، هو الذي بنى سد مأرب، وأن مأرب اسم قبيلة من عاد وقد سمّي باسمها هذا الموضع3 لم يبقَ بعد هلاك عاد الأولى، على رأي أهل الأخبار إلا هود ونفر ممن آمن به والوفد الذي سار إلى مكة للاستقاء، وفيهم لقمان وكان من أكابر العاديين. فأنشأ هؤلاء عادا الثانية، وخالف لقمان "الخلجان" ملك عاد الأولى، الذي خالف هودًا، فهلك. وخاف العاديون انحباس المطر والجفاف، فارتحلوا إلى أرض سبأ، وبنى لقمان سدّ "العرم" قرب مأرب، وبقيت عاد الثانية قائمة، إلى أن تغلبت عليها قبائل قحطان، ثم انقرضت وبادت4. ويذكر أهل الأخبار أن عادا لما رأوا انحباس المطر عنهم، أرسلوا وفدًا، بلغ سبعين رجلا في قول بعض الرواة، إلى مكة يستسقون، وكان أصحابها هم العمالقة يومئذ، ورئيسهم "معاوية بن بكر"، فأكرمهم وأضافهم، وأقاموا عنده شهرًا. يشربون الخمر وتغنيهم "الجرادتان" وهما قينتان لمعاوية بن بكر، وفي الوفد المذكور لقمان. ونسوا أنفسهم هناك، ولم يفطنوا لما جاءوا إليه،

_ 1 واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثّمد قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفها فقد شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، "1/ 290" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، القاهرة 1962م. 2 الأمثال، للميداني "1/ 37"، القاهرة 1352هـ. 3 البكري، معجم "3/ 1171" "لجنة التأليف والترجمة والنشر". 4 الطبري "1/ 221 وما بعدها".

إلا بعد أن ذكرتهم "الجرادتان" بما جاءوا به إليها، فاستسقوا، فأرسل الله عليهم ريحًا عاتية، أهلكت عادا في ديارها1، ودمرت كل شيء، فهلكت، ولم يبقَ من عاد إلا مَن كان خارج أرضهم بمكة، وهم من "آل لقيم بن هزّال بن هزيل بن هزيلة ابنة بكر"، فهم عاد الآخرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد2. وقد ذكر المؤرخون وأصحاب الأخبار أن "عادا" تعبدوا لأصنام ثلاثة، يقال لأحدها: صداء، وللآخر صمود، وللثالث الهباء3. ولم نعثر على أسماء هذه الأصنام حتى الآن في الكتابات. وكان هلاك "عاد" واندثارهم بسبب انحباس المطر عنهم سنين ثلاثا، أعقبه هبوب رياح عاتية شديدة استمرت {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} 4 فهلك الناس واقتلعتهم الرياح وصارت ترميهم من شدتها، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} 5 {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} 6 وخلت ديارهم منهم، وصارت أماكنهم أثرًا. ويجمع أهل الأخبار على أن هلاك عاد، إنما كان بفعل عوارض طبيعية نزلت بهم فأهلكتهم، وهي على اختلاف رواياتهم في وصفها وفي شرحها، انحباس الأمطار عنهم، وهبوب رياح شديدة عاتية عليهم. وقد تحدث المفسرون عنها لورود ذكرها في القرآن الكريم7. وروي أن النبي أشار إلى أن هلالكهم وهلاك ثمود كان بالصواعق، والصواعق من العوارض الطبيعية بالطبع8. ويرجع قسط من أخبار "عاد" إلى الجاهليين، فهو من القصص الشعبي القديم الموروث عنهم، ويعود قسط آخر منه إلى الإسلاميين، وهو القسط الذي

_ 1 سورة الأحقاف 24، آية 25. 2 الطبري "1/ 218 فما بعدها"، الفاخر"ص68". 3 الطبري "1/ 216" "دار المعارف"، قصص الأنبياء "ص 39"، نهاية الأرب "13/ 51"، الأصنام "110 وما بعدها، "تحقيق أحمد زكي باشا"، مروج الذهب "2/ 61" "طبعة دار الرجاء". 4 سورة الحاقة، آية 7، الطبرية" 1/ 225 فما بعدها". 5 سورة القمر، آية20. 6 الحاقة، آية 7. 7 ابن كثير، البداية "1/ 120 وما بعدها"، تفسير الرازي "39/ 43"، "القاهرة 1938م"، "8/ 9"، تأريخ ابن عساكر "1/ 14". 8 العقد الفريد "2/ 36".

جاء شرحًا لما جاء موجزًا في القرآن الكريم، ويرجع بعضه إلى "الحارث بن حسان البكري" و "الحارث بن يزيد البكري"، وتزعم راوية وردت في تأريخ الطبري أنه قصّ على الرسول قصصًا عن أمر "عاد"1، ويرجع بعض آخر إلى "كعب الأحبار" وإلى "وهب بن منبّه"، وهما من مسلمة يهود2، وإلى "السّدّي"3، وإلى أشخاص آخرين تجد ذكرهم في سند الروايات المذكورة عند "محمد بن إسحاق" صاحب السيرة، وعند الطبري وعند آخرين من أهل الأخبار والتواريخ ممن ساروا على طريقة ذكر المسند مع الروايات. ويظهر أن كثيرًا من أخبار "عاد" وضعت في أيام "معاوية" الذي كان له ولع خاص بأخبار الماضين، فجمع في قصره جماعة اشتهرت برواياتها هذا النوع من القصص، وفي مقدمة هؤلاء "عبيد بن شَرْيَة الجُرْهُمي" و "كعب الأحبار"4. ويذكر بعض أهل الأخبار أن رجلا قصّ في أيام معاوية، أن إبلًا له ظلت في تيه أيمن، وهو غائط بين حضرموت وأبين، فالتقطها من هناك، ووجد فيه موضع "إرم ذات العماد"، ووصف أبنيته العجيبة، وهذا الرجل هو في جملة من موّن العاشقين للأساطير بأخبار عاد. قد ذكر الطبري أن "وهب بن منبه" قص أنه سمع من رجل اسمه "عبد الله بن قلابة" أن إبلًا له كانت قد شردت، فأخذ يتعقبها؛ فبينما هو في صحاري "عدن"، وقف على موضع "إرم ذات العماد"، وقد وصف ذلك الموضع على النحو المألوف عن "وهب"، من إغراقه في الأساطير وفي القصص الخيالي البعيد عن العقل5.

_ 1 الطبري "1/ 217 فما بعدها"، شمس العلوم "ج1، القسم الأول، ص 262" 2 الطبري "1/ 226". 3 الطبري" 1/ 225". 4 نهاية الأرب "13/ 62 فما بعدها" راجع قصة "ابن بيض" مع لقمان، ويظهر أنها من قصص الجاهلية، المفضليات "ص91، ديوان المفضليات "ص91" "طبعة بيروت 1920م". 5 تفسير الطبرسي "9/ 486".

ثمود

ثمود: ويرد اسم ثمود في الكتب العربية مقرونًا باسم "عاد"، وبعد هذا الاسم

في الغالب، والروايات العربية الواردة عنهم لا تعرف من تأريخهم شيئًا، إنما روت عنهم قصصًا أوردتها لمناسبة ما ذكر عنهم في القرآن الكريم على سبيل العظة والاعتبار والتذكير، وقد وردت إشارات عنهم في الشعر الجاهلي1. وجاء اسم "ثمود" في مواضع عديدة من القرآن الكريم، جاء منفردا، وجاء مقرونًا باسم شعوب أخرى مثل قوم "نوح" وقوم "عاد"، فبدأ بقوم نوح ثم عاد ثم ثمود2. وجاء مع ثمود في موضعين "أصحاب الرسّ"، جاءوا بعد "ثمود:"3. كما جاء اسمهم قبل "ثمود"4. ووردت أيضا ذكر قوم "لوط" و"أصحاب الأيكة"، وقد تقدم في هذا الموضع اسم "ثمود"، ودعت الآية أولئك: "الأحزاب"5، كما ورد ذكر "ثمود" مع "عاد"6. وقد تقدم اسم "عاد" على ثمود إلا في آية واحدة تقدم فيها اسم ثمود على اسم "عاد": {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} 7، وورد اسم "ثمود" في آيات

_ 1 ورد في الشعر المنسوب لأمية ابن أبي الصلت: كثمود التي تفتكت الدين ... عتيا وأم سقب عقيرا وذكر قصة الناقة، راجع ديوانه "ص44"، "طبعة فر. شلتيز" fr. schulthess" "لا يبزك 1911م". وورد في شعر لسلمة بن الحرث، وهو من معاصري عمرو بن كثلوم: حتى تزور السباع ملحمة ... كأنها من ثمود أو أرما راجع المفضليات "ص428". وورد اسم ثمود أيضا في شعر لجرير بن خرقاء العجلي: ويوم الحنو قد علمت معد ... حصدناكم كما حصدت ثمود المفضليات "ص 439"، وورد في شعر لبيد اسم إرم وعاد وثمود، ديوان لبيد، "ص25"، سبائك الذهب، للسويدي "ص15". 2 سورة التوبة 9، الآية 70، سورة إبراهيم 14، الآية 9، سورة الحج 22 الآية 42، سورة غافر، 40، الآية 31. 3 "وعادا وثمودا وأصحاب الرس"، سورة الفرقان 25، الآية 38. 4 سورة ق، 50، الآية 12. 5 سورة ص، 38، الآية 13. 6 سورة العنكبوت 29، الآية 38، سورة فصلت 41، الآية 13، سورة النجم 53، الآية 51. 7 سورة الحاقة، 69، الآية 4.

أخرى من القرآن الكريم1. وقد ذكر الطبري أن شعراء الجاهلية ذكرت في شعرها عادًا وثمود، وأن أمرهما كان معروفًا عند العرب في الشهرة قبل الإسلام، وأن من يظن أن الجاهليين لم يكونوا يعرفون عادًا أو ثمودًا فإنه على وهم وخطأ2. ويظهر من ورود ذكر "ثمود" في مواضع متعددة من القرآن، لترهيب "الكفار" من العاقبة التي آلت إليها حالة "ثمود" بعد أن استحبّوا العمى على الهدى، واستمروا بطغواهم كما استمر طغيان "فرعون"3 وقوم "مدين"4 وغيرهم ممن ذكرناهم، أن الجاهليين كانوا يعلمون مصير ثمود ومصير عاد الذي كان من نوع مصير ثمود5، وأنهم كانوا يعرفون منازلهم كالذي يظهر بجلاء من الآية: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} 6 معرفة جيدة، ولم يعيّن القرآن الكريم موضع منازل "ثمود"، وإنما يظهر من آية: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} 7، أن مواضعهم كانت في مناطق جبلية، أو في هضبات ذات صخور. وقد ذكر المفسرون أن معنى "جابوا الصحر" قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا8، وأن "الواد" هو وادي القرى. فتكون مواضع ثمود في هذه الأماكن. وقد عين أكثر الرواة "الحجر" على أنه ديار ثمود، وهو قرية بوادي القرى. وقد زارها بعض الجغرافيين وعلماء البلدان

_ 1 سورة الأعراف 7، الآية 73، سورة هود11، الآية 61، 68، 95، سورة الإسراء، 17، الآية 59، سورة الشعراء، 26، الآية 141، سورة النمل، 27 الآية 45، سورة الذاريات 51، الآية 43، سورة القمر، 54، الآية 23، سورة البروج 85، الآية 18، سورة الفجر 89، الآية 9، سورة الشمس 91، الآية 11. 2 الطبري "1/ 232"، طبعة دار المعارف"، الكامل، لابن الأثير"1/ 50"، نهاية الأرب "2/ 292". 3 سورة البروج 85، الآية 18. 4 سورة هود11، الآية 95. 5 سورة فصلت 41، الآية 13. 6 سورة العنكبوت 29، الآية 38. 7 سورة الفجر 89، الآية 9. 8 الكشاف، للزمخشري "4/ 209"، تفسير الطبري "30/ 113"، روح المعاني، للألوسي "30/ 124".

والسيّاح، وذكروا أن بها بئرا تسمى بئر "ثمود"1، وقد نزل بها الرسول مع أصحابه في غزوة "تبوك"2. وقد ذكر المسعودي أن منازلهم كانت بين الشام والحجاز إلى ساحل البحر الحبشي، وديارهم بفج الناقة، وأن بيوتهم منحوتة في الجبال، وأن رمميهم كانت في أيامه باقية، وآثارهم بادية، وذلك في طريق الحاج لمن ورد الشام بالقرب من وادي القرى3. وينسب النسابون ثمود إلى "ثمو بن جاثر أو كاثر بن إرم سام بن نوح"4، ويكتفي بعضهم بإرجاع نسبهم إلى عاد، فيقولون عنهم إنهم من بقية عاد5. وينسبهم بعض آخر إلى "عابر بن إرم بن سام بن نوح"، وزعموا أن ثمود هو أخو جديس6. وقد استطاع المستشرقون التعرف على الثموديين من الكتابات والمؤلفات "الكلاسيكية"، فوجدوا اسم ثمود في النصوص الأشورية: وجدوه في نص من نصوص "سرجون الثاني"، مع أسماء شعوب أخرى سوف أتحدث عنها. وقد دعوا بـ "tamudi" "thamudi"7، وذلك بمناسبة معركة جرت بين الآشوريين وبين هذه الشعوب، انتصر فيها الآشوريون، كما وجدوه في النصوص والكتابات الثمودية، وقد عُثر عليها في مواضع متعددة من جزيرة العرب، وفي النصوص "الكلاسيكية" حيث عرفوا باسم "thamudeni" thamudenoi" "thamydenoi" "thamyditai"8

_ 1 البلدان "3/ 221"، الطبري "1/ 118"، اللسان "5/ 242"، سبائك الذهب "ص15"، صبح الأعشى "1/ 313"، تقويم البلدان "89". 2 البكري، معجم "2/ 426" "طبعة السقا" الأغاني "6/ 28"، ابن كثير، البداية "1/ 131وما بعدها" 3 مروج الذهب "1/ 259"، "قال كعب: لما أهلك الله عز وجل عادا، جاءت ثمود وعمرت الأرض، وكانوا بضع عشر قبيلة ... وكانت منازلهم ما بين الحجاز إلى الشأم، وهي ديار الحجر من وادي القرى"، نهاية الأب "13/ 71". 4 صبح الأعشى "1/ 313". 5 "وثمود، كصبور بن عابر بن إرم بن سام. قبيلة من العرب الأول، ويقال إنهم من بقية عاد"، تاج العروس "2/ 312"، اللسان "3/ 105"، "صادر". 6 ابن كثير، البداية "1/ 130 وما بعدها". 7 Rawllnson, Cunal Form Inscriptions, Vol., I, PI., 36, Lyon, Sargon, P., 4, Musil, Deserta, P., 291. 8 Musil, Deserta, P., 291, Ptolemy, Geography, VI, 7 ; 4, VI, 7;21, Diodorus, Bibliotheca Historica, in, 44, Forster, Vol., I, P., 323, Vol., 2, P., 30, 117, 274, 284.

ولقد وصف مؤلف كتاب: "الطواف حول البحر الأريتري" مواضع الثموديين "thamudeni" مستندًا إلى مورد آخر، أخذ منه، أقدم عهدًا منه فذكر أن "thamudeni"، كانوا يقيمون على ساحل صخري طويل، لا يصلح لسير السفن، وليست فيه خلجان تستطيع أن تأوي إليه القوارب فتحتمي بها من الرياح، ولا ميناء تتمكن من الرسو فيه، ولا موضع أو جزر عنده تقبل إليه القوارب الهاربة من الأخطار1. فيظهر من وصف هذا المؤلف أن مواطن ثمود كانت في الحجاز على ساحل البحر الأحمر. وقد ذكر هذا الوصف، ولكن بشيء من التحوير" ديودورس"2. وأما "بلينيوس"، فذكر "tamudaei" بين "domata"و "haegra" ومدينة دعاها "badanatha" "baclanaza". وأما "بطلميوس"3، فقد جعل قوم ثمود "thamuditae" "thamudeni" بين ال "sarakenoi" وبين "apatae"4 ويظهر من كل ذلك أن ديارهم في شمال غربي "العربية السعيدة"5، أي في المواضع التي عينتها المصادر العربية. يظهر من جغرافية "بطلميوس" إذن، أن ديار ثمود كانت غير بعيدة عن ديار"عاد"، ليس بينها وبين ديار عاد "oaditae" إلا ديار "سره كيني" "sarakeni" وكلها في أعالي الحجاز في هذه المنطقة الجبلية التي تخترقها الطرق التجارية التي توصل الشام ومصر بالحجاز واليمن. وفي هذا تأييد للروايات العربية القائلة إن ديار ثمود كانت على مقربة من ديار عاد. فإذا كانت "الحجر" وما والاها هم مواطن ثمود: وجب أن تكون ديار "عاد" على مقربة من هذه المواضع. وأما تأريخ قوم "ثمود"، فيعود إلى ما قبل الميلاد بزمان. وقد ذكرت قبل قليل أنهم كانوا في جملة الشعوب التي حاربت الآشوريين في عهد "سرجون

_ 1 Musll, Deserta, p., 302, The Periples of the Erythrean Sea, by William Vincent, London, 1800, Part the Second, P., 262. 2 Diodorus, Bibliotheca Historlca, III, 44, Musil, Deserta, P., 291. 3 Pliny, Natur. History, (translated by H. Rackham) , Vol., 2, P., 456 457, VI, 32. 4 Glaser, Sklzze, 2, S., 108, Ptolemy, VI, 7:4 VI, 7:21, V, 19 7 Hastings. A Dictionary of the Bible, Vol., I, P., 630. 5 Musil, Hegaz, P., 291, Glaser, Skizze, 2, S., 108, 256.

الثاني"، وقد ذُكر هذا الملك في النصوص التأريخية التي سجلها، أنه تغلب عليهم، وأنه أجلاهم من مواطنهم إلى "السامرة" "samaria"1. ولم يكن أولئك الثموديون الذين حاربوه من أبناء الساعة، بل لا بد أن يكون لهم أسلاف عاشوا قبلهم عدة قرون. وقد عرفت المنطقة التي حارب بها قوم ثمود والشعوب الأخرى الأشوريين باسم "بري" "bari"، ويظهر أنها تعني لفظة "بر" , و"برية" العربية، أي "البادية" فحرفت إلى "بري" إلى وفق الآشوري2. ويرى بعض الباحثين أن آخر ذكر ورد في الوثائق لقوم "ثمود" كان في القرن الخامس للميلاد، حيث ورد أن قوما منهم كانوا فرسانا في جيش الروم3. وقد كان الثموديون يقطنون بعد الميلاد في مواطنهم المذكورة في أعالي الحجاز في "دومة الجندل" و "الحجر" وفي غرب "تيماء". وقد ذكر أنهم كانوا يمتلكون في منتصف القرن الثاني للميلاد حَرّتّيْ "العوارض" و "الأرحاء"4. ويرى "دوتي" أن "الحجر" التي سكن بها قوم ثمود، هي موضع "الخريبة" في الزمن الحاضر، لا "مدائن صالح" التي هي في نظره "حجر" النبط. وتقع "مدائن صالح"، وهي عاصمة النبط، على مسافة عشرة أميال من موضع "الخريبة"5. ولم يرد في الموارد العربية الإسلامية، ما يفيد وجود قبائل ثمودية قبيل الإسلام، أو في الإسلام، غير ما ذكره بعضهم من نسب "ثقيف" الذي رجعوه إلى ثمود، ولكن ذلك لم يرضِ الثقفيين. فقد كان الحجاج بن يوسف يكذب ذلك6، والظاهر أن أعداء ثقيف ولا سيما معارضي الحجاج وضعوا ذلك على ثقيف بغضًا

_ 1 Lyon, Keilschrifttexte Sargons, S., 4, (1883) , Winckler, Keilschrifttexte Sargons, (1889) , Bd., 2, PL., 2, No., I, Linie 20, Schrader, Keilinschriftliche Bibliothek, (1889-1900) , Bd., 2, S., 42, Musil, Deaerta, P., 479, Musil, Hegaz, P., 289 2 Sprenger, Geography, S., 28 3 Doughty, Vol., I, P., 229, Sprenger, S., 28 4 Musil, Hegaz, P., 291 5 Doughty, Vol., I, P., 229 6 ابن خلدون "2/ 24"، الكامل "1/ 276".

كتابات ثمودية من أعالى الحجاز من كتاب: "آنو ليتمن": Zur Entzifferung: Taf.3.

للحجاج، الذي كان قاسيًا عاتيًا شديدًا. وقد روى "دوتي" أن بدو نجد يذكرون أن قبيلة "بني هلال" هي من نسل عاد وثمود1. ونجد في كتاب: "mission archeologique en arabie" لمؤلفيه "jaussen" و "savignac"، عددًا من الكتابات الثمودية، عثرَا عليها في "العلا" وفي مواضع أخرى من الأرضين التي هي اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية وفي أعالي الحجاز من المملكة العربية السعودية، كما عثر غيرهما قبلهما وبعدهما على عدد آخر، أغلبه من هذه الكتابات القصيرة، التي كتبت على مختلف الأحجار، بالمناسبات، مثل تذكّر شخص، أو تسجيل اسم لمناسبة وجود صاحبه في هذا المكان، كما يفعل كثير من الناس في أيامنا2. وتمكن "لانكستر هاردنك" محافظ مديرية الآثار العتيقة في المملكة الأردنية الهاشمية من تصوير ما يزيد على خمسمائة كتابة ثمودية أرسلها إلى المستشرق "أنوليتمان"، يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد، ويعود قسم منها إلى ما بعد الميلاد، ومن بينها نص أرخ بسنة "267" للميلاد، ونص آخر رسمت فيه دائرة في داخلها صورة تشبه الصليب، وكتابة قرأها المستشرق "أنوليتمان": "يشوعة" أو "ليشوعة"، أي "ليسوع"، وهو النص الذي رُقّم بـ "476". والظاهر أن صاحبه كتبه تيمنًا باسم المسيح، ولا يعرف تأريخه بالضبط. ويعتقد "ليتمان" أنه أقدم شاهد عرف حتى الآن عن انتشار النصرانية في شمال جزيرة العرب3. وقد قرأها المستشرق "فان دين برندن": "بوايوب" أي لأيوب"، أو "بأيوب"، أو "أيوب". وبالجملة فإن العلماء لم يتمكنوا من ترجمة تلك الكتابات ترجمة صحيحة حتى الآن4. وفي المتاحف الأوروبية وفي مكتبات بعض الجامعات وفي أوراق المستشرقين مجموعة من النصوص الثمودية، جميعها في أمور شخصية وفي موضوعات دينية وأدعية لآلهة ثمود. وأما المناطق التي وجدت فيها هذه النصوص، أو أخذت

_ 1 Die Offenbarung Arablens, (Arabia Deserta) , Leipzig, 1937, S., 63. 2 Van den Branden, Les Inscriptions Thamoud^ennes, Louvain-Heverbe, 1950. 3 The Muslim World, Vol., XI, No., I, January, 1950, Jesus in Pre-islamic Arabic Inscription, by Enno Littmann, 4 A. Van den Branden, in Le Museon, LXIII, (1950) 1-2, P., 47-51, "Une Inscription Thamoudeenne".

صورها، فهي مناطق "حائل" بنجد، وأرض "تبوك" وتيماء ومدائن صالح والسلاسل الجبلية الممتدة بين هذه المنطقة والحجاز، وعثر في الطائف على بعض النصوص الثمودية أيضا وفي السواحل الحجازية الشمالية للبحر الأحمر عند "الوجه" وفي "طور سيناء" وفي "الصفا" شرقي دمشق وفي مصر1. وفي "الحرة" و "الرحبة" وفي شمال غربي تدمر2. وقد عثر على نقوش ثمودية في اليمن، ويدل وجود هذه الكتابات هنالك على وجود صلات بين اليمن وثمود، ولعلهم كانوا يقيمون في اليمن كذلك. وقد عثرت البعثة المصرية التي زارت اليمن على مخربشات ثمودية في "حجر المعقاب" عند جبل "حليل" على مسافة ليست بعيدة من "بيت حميد" بوادي شرع بالخارد3. ويشك المستشرق "هوبرت كريمه" "hubert grimme" في صحة نسبة كثير من هذه النصوص إلى ثمود، ويرى أنها لأناس غيرهم؛ إذ لا دليل علميا هناك يثبت كون هذه النصوص تعود إلى هؤلاء. وهناك عدد غير قليل من النصوص الثمودية يعود عهدها إلى العهد النبطي، ويشغل حيزًا من الزمن يقع بين حوالي مائتي سنة قبل المسيح وثلاثمائة سنة بعده، وتمتزج في مثل هذه النصوص الثمودية بالنبطية. وقد عثر على بعض نصوص نبطية في الحجاز ظن أنها نصوص ثمودية، مثل نص: hu. 418 = eu. 772، ونص آخر يعود إلى سنة 267 للميلاد4 إلا أن هناك نصوصًا ثمودية يظهر عليها أثر عبادة "صلم" "salm". وقد كانت "تمياء" من أهم الأماكن التي كانت تقدس هذا الإله سنة "600" ق. م، ويرمز أهل تيماء إلى "صلم" برأس ثور، وقد وجد هذا الرمز

_ 1 Ency., Vol., 4, P., 736, Musil, Negd, P., 104, 140, Huber in Journal D'un Voyage en Arabie, 1883-1884, Grimme, Entzifferung Thamudenischer Inachriften, 1904, Jausen-Savignac, Mission Arch6ologique en Arabie, 1-2 19911, 1914. 2 E. Littmann, Thamud und Safa, S., 6. f, 95. f, Die Araber in der Alten Welt, y I, S., 164. 3 نشر نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب وشرحهما، للدكتور خليل يحيى نامي، القاهرة 1943 "ص 109"، وقد عثر الرحالة "فلبي" على بعض الكتابات التي يظهر أنها ثمودية لحيانيه، Philby, Sheba'st Daughters, P., 441. 4 Ch. Doughty, Documents Eplgraphiques Recueillis dans le Nord de L'arabie, 1884.

على النقوش الثمودية، كما وجدت أسماء بعض الآلهة التي كان يتعبد لها أهل تيماء منقوشة في النصوص الثمودية، مما يدل على أن قوم ثمود كانوا يتعبدون لها كذلك، وأن هنالك صلات ثقافية ودينية بين تيماء وثمود. ويرجع بعض الباحثين تأريخ عدد من الكتابات الثمودية إلى القرن السابع قبل الميلاد. وهناك كتابات يرون أنها أقدم عهدًا من القرن السابع. غير أن أكثر ما عثر عليه يعود تأريخه إلى ما بعد الميلاد. وهي بالجملة في أمور شخصية لا تفيد المؤرخ الذي يريد تدوين تأريخ ثمود: فائدة كبيرة. ولكنها نافعة على كل حال من نواحٍ أخرى، فهي تفيد اللغوي الذي يريد الوقوف على لغة الثموديين ومعرفة أسمائهم ولهجاتهم، وتفيد الباحثين في اللهجات العربية الجاهلية وفي الساميّات. والكتابات الثمودية في نظر الباحثين نوعان: كتابات قديمة وقد دوّنت بالقلم الثمودي القديم، وكتابات حديثة وقد كتبت بقلم ثمودي متطور تختلف أشكال حروفه ورسومها بعض الاختلاف عن القلم القديم. وللقلم الثمودي صلة بقلم "طور سيناء"، كما أن له علاقة بالقلم المسند. وتفيد دارسته من هذه الناحية في الوقوف على تأريخ تطور الكتابة في جزيرة العرب قبل الميلاد، وفي تطور الأقلام بوجه عام1. ويلاحظ وجود بعض الخواص في الكتابات الثمودية التي عثر عليها في الحجاز، لا نجدها، أو قلما نجدها في كتابات ثمودية أخرى، عثر عليها في نجد وفي اليمن. ويعود سبب ذلك إلى تأثير البيئات، ولا شك في هؤلاء الثموديين الذين تأثروا بلهجات جيرانهم وبثقافاتهم، فظهر ذلك الأثر في هذه الكتابات2. ويظهر من الكتابات الثمودية أن قوم ثمود كانوا زُرّاعا وأصحاب ماشية، وأنهم كانوا أقرب إلى الحضر، منهم إلى أهل الوبر، فقد كانت لهم مستوطنات ثابتة استقروا فيها، وكانت لهم معابد ثابتة أيضًا، أي مبنية، وبينهم قوم اشتغلوا بالتجارة. ولعلّ الأيام ستجود علينا بكتابات ثمودية تتحدث عن أمور عامة، وعندئذ نستطيع أن نستنبط منها شيئًا عن أحوالهم من مختلف الوجوه.

_ 1 Hubert Grimme, Die Loesung des Sinaischriftproblems, Die Altthamudische schrlft, S., 24. 2 Grimme, Die Loesung, S., 25.

ومن أصنام ثمود التي ورد ذكرها في كتاباتهم، الصنم "ود"، وهو من الآلهة القديمة عند العرب1. والصنم "جد- هد" أو "جد- هدد"، وله عندهم معابد وسدنة يخدمونه، ويعرف سادن الأصنام عندهم بـ "قسو" أي "قس". عرفنا أسماء بعضهم، ومنهم السادن "إيليا" "إيلية"2. ويظهر أنه كان من الآلهة العربية العتيقة؛ غير أن سعده أخذ في الأفول، فأخذت مكانه آلهة أخرى، ثم عفي أثره من الذاكرة، فلم يرد اسمه بين الأصنام التي كان يعبدها الجاهليون قبيل الإسلام. وقد بقيت مع ذلك أسماء مثل ""عبد جد" تشير إلى اسم الإله العربي القديم3. و"شمس"و "مناف" و "مناة" و"كاهل" و "بعلة" "بعلت" و "بعل" و "يهو" و "رضو" أو "رضى"، هي أيضا من أصنام ثمود، سأتحدث عنها كلها في أثناء بحثي في الديانة العربية قبل الإسلام. ومن بقية آلهة ثمود "عثيرت" "عثيرة"، و "وتن" "وت"، و "يثع" "سمع" و "سميع" و "هبل" و "سحر"، و "سين" و "عم" و "قين" و "يغوث" و "إله" و "ألى" و "إلهي" و "الت" و "اللآت" و "حول" "حويل" و "ذو شري" و "سمين" و "هلال" و "صلم" و "نهى" و "عثتر سمين" و "كاهل" "كهل"، و "ملك" و "مالك"، و "هادي" "هدى"، و "بحل"، و "رتل"، و "هيّج"، و "شوع"، و "ستار"، و "طنفت"، و "سعى"، و "غم"، و "عس"، و "عسحرد"، و "عثير"، و "عطير"، و "تجر"، و "دبر"4. وبعض هذه الأسماء ليست في الواقع أسماء آلهة، وإنما هي من قبيل ما يقال له "الأسماء الحسنى" عندنا أو صفات الله، فلفظة "سمع" مثلًا، وهي بمعنى "سميع" أو "السميع" في عربيتنا ليست اسم إله معين، إنما هي صفة للإلَه، بمعنى أن الإله هو سميع يسمع دعوات الداعين. ولذلك يخاطبه المؤمنون ويقولون له "سمع" "يا سميع"، ليسمع دعاءهم وليجيب طلباتهم، وهناك ألفاظ

_ 1 J. Wellhauaen, Reste, S., 14. 2 Grimme, S.f 39, Note 9. 3 Wellhausen, S., 146. 4 Van den Brandeen, Les Inscriptions, PP., 10.

أخرى هي من هذا القبيل. ووصلت إلينا أسماء ثمودية كثيرة، مثل: "أوس" و "سعد" و "عفير" و "وائل" و "بارح" و "كربال" "كرب إبل" و "عش" "عائش" و "مالك" "ملك" و "عذرال" "عذرايل"، و "عوذ"، و "أسعد"، و "عياش"، و "إياس"، و "قيس بن وائل" "قس بن وال" وغيرها؛ مما يخرجنا ذكرها عما نحن فيه. وهي أسماء لا يزال بعضها مستعملًا1. ويلاحظ أن بعض هذه الأسماء مثل "كرب ال" و "عذرال"، وما شاكله، قل استعمالها عند العرب قبيل الإسلام، بينما كانت من الأسماء الشائعة في الجاهلية البعيدة عن الإسلام، ولا سيما بين الجاهليين في العربية الجنوبية، حيث ترد بكثرة في كتابات المسند. ويرى "برو" brau أن ثمودا أُصيبوا بكارثة عظيمة، من ثوران براكين أو هزّات أرضية، بدليل ورود كلمة "رجفة"2 وكلمة "صيحة" في القرآن الكريم، وذلك محتمل جدًّا، لأن البقاع التي كانوا يقطنونها هي من مناطق الحِرَار3. ويشبه مصير "عاد" و "ثمود" مصير "سدوم" "sodom" وعمورة "جمورة" "كمورة" "gomorrah" وبقية مدن الدائرة في عمق السديم4 التي تقع -على رأي كثير من علماء التوراة- في جنوب البحر الميت، فقد لاقت هذه المدن، وهي خمس على سهل "دائرة الأردن" المصير الذي لقيه قوم عاد وثمود، حيث أرسل الله عليهم عذابا "فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارًا من عند الرب من السماء، وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض"5. وأصحاب هذه المدن هم: قوم "lot" "لوت".

_ 1 E. LIttmann, Thamud und Safa, (Abhand. f. d. Kunde d. Morgenlandes 25, I) , 1940, Die Araber in der Alten Welt, I, S., 163. ff., M. Hofner, Die Beduinen In L'Antica Societa Beduina (Studi Semitici) , 1959, 53. f. 2 Ency., Vol., 4, P., 736. 3 James A. Montgomery, Arabia and the Bible, P., 91, Hasting.?, P., 734. 4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 551"، "2/ 119، 300"، Hastings, P., 734, Ency. BibL, P., 3790. 5 التكوين، الإصحاح التاسع عشر، الآية 23 وما بعدها.

و "لوت "هو "لوط" المذكور في القرآن الكريم. وقد رأيت أن القرآن الكريم قد أشار إلى مصير "قوم لوط"، وأطلق على ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة "الأحزاب". و {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} 1. وقد تعرّض المفسرون لقوم "لوط" وما حلّ بهم من العذاب، وبحث عنهم أهل الأخبار والتأريخ، باعتبار أن أخبارهم هي صفحة من صفحات التأريخ القديم العام قبل الإسلام. وفي الرواية التي ذكرها "الطبري" في تأريخه عنهم، وسندها مرفوع إلى "محمد بن كعب القَرَظَمي" ذكر للقرى الخمس الواقعة حول "سهل دائرة الأردن"، وقد دعاها بـ "المؤتفكات" المأخوذة من القرآة الكريم من {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} 2، وهي: صبعة، وصعرة، وعمرة، ودوما، وسدوم، بحسب رواية الطبري هذه 3. وفي هذه الأسماء تحريف وتغيير في الترتيب الذي وردت به في التوراة، إذ هي فيها على هذا الشكل: سدوم "SODOM"" و "عمورة" "gomorrah"و "أدمة" "admah"" و "صبوبيم" "zeboim"و "بالع" "bela" وتُسمّى أيضًا بـ "صوغر" "zoar"4. وقد نبّه القرآن قريشًا إلى مصير يشبه مصير "ثمود"، إذ كفروا بنبوة نبيهم "صالح"، وعقروا "الناقة" التي أرسلت لهم آية تحذرهم من عاقبة كفرهم ومن استمرارهم في تكذيبهم نبوة نبيهم. فلما استمروا في غيّهم وضلالهم، أرسل الله عليهم "الصيحة"، فأهلكتهم، ورجفت الأرض بهم، فلم يبقَ من كفّارهم على الأرض إلا رجل واحد، هو "أبو رغال" كان في حرم الله، فمنعه حرم الله من عذاب الله5. ويذكر أهل الأخبار أن رسول الله لما غزا غزاة تبوك، نزل "الحجر"، ونهى الناس من دخول القرية، ومن شرب مائها، وأراهم مرتقى الفصيل.

_ 1 سورة ص رقم 38، الآية 13، وتجد قصة لوط وقومه مفصلة في تأريخ الطبري "1/ 150" وما بعدها، نهاية الأرب "13/ 123، 248". 2 سورة النجم، الآية 53. 3 الطبري "1/ 307". 4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 300"، HASTINGS, P, 734. 5 الطبري ":1/ 231 فما بعدها" "طبعة دار المعارف".

والقرية المذكورة هي "الحجر"، وهي "قرية ثمود"1. وقد ورد في شعر "حسّان بن ثابت": "أشقى ثمود"، وقد ذكر الشُّرّاح أنه "قدار بن سالف أحيمر ثمود"، وهي عاقر ناقة صالح2. وهكذا نجد لثمود "أحيمرًا" على نحو ما وجدنا عند عاد. ويرجع سند روايات "الطبري" عن ثمود إلى "الحسن بن يحيى"، ويتصل سنده بـ "أبي الطفيل"، وإلى "القاسم"، وينهي سنده إلى "عمرو بن خارجة"، و"ابن جريج" عن جابر بن عبد الله و "إسماعيل بن المتوكل الأشجعي" وينتهي سنده ب"عبد الله بن عثمان بن خثتم" عن "أبي الطفيل"3. وتفيدنا دراسة هذه الأسانيد وأمثالها فائدة كبيرة في الوصول إلى معرفة الموارد التي أمَدَّتْ الأخباريين بأمثال هذه الأخبار.

_ 1 الطبري "1/ 231 فما بعدها". 2 كأشقى ثمود، إذ تعاطي لحينه ... عضيلة أم السقب والسقب وارد ديوان حسنان "ص120" "للبرقوقي". 3 الطبري "1/ 231".

طسم وجديس

طسم وجديس: وساق الأخباريون نسب "طَسْم" على هذه الصورة: "طسم بن لاوذ بن إرم" أو "طسم بن لاوذ بن سام"، أو "طسم بن كاثر"، أو ما شابه ذلك من نسب1. ونحن لا نعرف الآن من أمرهم غير ما ورد من القصص المدوّن في الكتب، ولم يردْ لهم ذكر في القرآن الكريم. وقد جعلهم بعض أهل الأخبار من أهل الزمان الأول، أو من عاد2. وقد شكّ حتى الأخباريون في الأخبار المنسوبة إلى "طسم"، إذ اعتبروها أخبارًا موضوعة، فقال بعضهم: "وأحاديث طسم: يقال لما لا أصل له. تقول لمن يخبرك بما لا أصل له: أحاديث طسم وأحلامها، وطسم إحدى قبائل

_ 1 الطبري "1/ 771" "طبعة أوروبة"، ابن خلدون "2/ 24"، الأغاني "10/ 48"، ابن الأثير "1/ 139"، الطبري "1/ 203 وما بعدها" "دار المعارف" 2 اللسان "12/ 363".

العرب البائدة"1. أما مواطن طسم، فكانت اليمامة، وعند بعضهم الأحقاف والبحرين2. وقد زعم الأخباريون أن طسمًا وجديسًا سكنتا اليمامة معًا, وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها, ثم انتهى الملك إلى رجل ظالم غشوم من "طسم" يقال له "عمليق" أو "عملوق" استذلّ جديسًا, وأهانها, فثارت جديس وقتلت عمليقًا ومن كان معه من حاشيته، واستعانت طسم بـ "حسّان بن تبع" من تبابعة اليمن، فوقعت حرب أهلكت طسمًا وجديسًا, وبقيت اليمامة خالية، فحلّ بها "بنو حنيفة" الذين كانوا بها عند ظهور الإسلام3. وذهب نفر من المستشرقين إلى أن طسمًا من الشعوب الخرافية التي ابتدعها الأخباريون، غير أنه لا يستبعد أن يأتي يوم قد يعثر فيه على أخبار هؤلاء القوم وعلى اسمهم في الكتابات. وقد وردت في نصّ يوناني عثر عليه في "صلخد"، ويعود تأريخه إلى سنة "322م" جملة "أنعم طسم"، فلا يستبعد أن يأتي اليوم الذي نقرأ فيه نصوصًا تعود إلى طسم4. ويروي أهل الأخبار أن "الأسود بن رباح"، وهو قاتل عمليق، هرب بعد ذلك من اليمامة إلى جلبي طيء، فأقام بهما إلى أن جاءت طيء، وأمر سيدهم "سامة بن لؤي" ابنه الغوث أن يقتل الأسود، بعد أن رأوا ضخامة جسمه بالنسبة إلى أجسامهم، وخافوا منه، فجاء إليه الغوث، ثم أخذ يكلمه، ثم باغته بأن رماه بسهم قتله، واستقرت طيء بالجبلين5. وذهب "جرجي زيدان" إلى أن "طسمًا" هي لطوشيم"6، وهي قبيلة من العرب ورد اسمها في التوراة على أنها من نسل "ددان بن يقشان" وورد

_ 1 الأغاني "11/ 103"، اللسان "15/ 256"، الأغاني "10/ 45"، الطبري "1/ 206"، دار المعارف. 2 ابن خلدون "2/ 24"، الطبري "1/ 206", المعارف لابن قتيبة "13" enc,,vol,I, p,, 992. 3 وعند الطبري أنه "تبان أسعد كرب ملكي كرب" ابن خلدون "2/ 25" المعارف "308"، الأمثال للميداني "1/ 192"، "2/ 690" الأغاني "10/ 45" "10/ 89" "بيروت" D. H. Mueller, Suedarabische Studien, S. 67. 5 ابن خلدون "2/ 25"، الأغاني "10/ 47"، "10/ 92" "طبعة بيروت". 6 الهلال، الجزء العشرون، السنة الخامسة، حزيران "1897م"، "ص776"

معها اسم قبيلة أخرى من قبائل "ددان" دعيت بـ "leummim" "لاميم"، يرى زيدان أنها "أميم"1. ونسب الأخباريون إلى طسم صنمًا سموه "كثرى"؛ لعلّه الصنم "كثرى" الذي أدرك الإسلام، فحُطم مع الأصنام الأخرى التي أمر الرسول بتحطيمها تخلصًا من عبادة الأصنام، فحطمت أينما وجدت، وقد حطم الصنم "كثرى" "نهشل بن الربيس بن عرعرة"، ولحق بالنبي2. وقد ضرب أهل الأخبار المثل بـ "كلب طسم". وذكروا قصته على هذا النحو: كان لرجل من طسم كلب، وكان يسقيه اللبن ويطعمه اللحم ويسمنه، يرجو أن يصيب به خيرًا ويحرسه، فجاع يومًا فهجم على صاحبه وأكله، فضُرب به المثل فقيل: سمّن كلبك يأكلك3. وقد جاء ذكر طسم في شعرٍ للحارث بن حلّزة، هو: أم علينا جرى إياد كما ... قيل لطسم أخوكم الأبّاء وقد قال الأصمعي في شرحه: "كان طسم وجديس أخوين، فكسرت جديس على الملك خراجه، فأخذت طسم بذنب جديس"4. فضُرب لذلك بها المثل، لمن يؤخذ بجريرة غيره.

_ 1 التكوين، إصحاح 25، آية 23، قاموس الكتاب المقدس "2/ 293". 2 قال عمرو بن صخر بن أشنع: حلفت بكثرى حلفة غير برة ... لتستلبني أثواب قيس بن عازب الأصنام "ص110"، تاج العروس "2/ 125". 2 قال بعض الشعراء: ككلب طسم وقد يربيه ... يعله بالحليب في الغلس ظل عليه يومًا يفرفره ... أن لا يلغ في الدماء ينتهس الفاخر "ص57". 4 المعاني الكبير، "2/ 1011"، "طعبة حيدرآباد دكن".

جديس

جديس: وقالوا عن "جديس" إنهم حي من عاد، وهم إخوة طسم، أو إنهم

حيّ من العرب كانوا يناسبون عادًا الأولى1. وقالوا إنهم أبناء "جديس بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح"2، أو أبناء "جديس" شقيق "ثمود بن غاثر بن إرم بن سام بن نوح"، أو ما شابه ذلك من نسب3. وقد كانوا أتباعًا لطسم، ويسكنون معهم في اليمامة، ثاروا على "عمليق" "عملوق" ملك طسم، فكانت نهاية طسم كما كانت نهاية "جديس، ولذلك قيل "بوار طسم بيَدَيْ جديس"4. ويذكر أهل الأخبار أن جديسًا لما قتلتْ "عملوقًا" ومن كان معه من قومه طسم، هرب رجل من طسم اسمه "رباح بن مُرّة"، حتى أتى "حسّان بن تُبَّع" فاستغاث به، فخرج "حسّان" في حِمْيَر، فأباد جديسًا, وخرب بلادهم، وهدم قصورهم وحصونهم5. يرى "كوسين دي برسفال" أن إغارة حمير المذكورة كانت حوالي سنة "250" بعد الميلاد6. ويرتبط بخبر هذه الإبادة قصة امرأة زعم أنها كانت أقوى الناس بصرًا, ترى من مسافات بعيدة جدًّ, عرفت ب"زرقاء اليمامة". وقد ورد قصص عنها ذكره أهل الأخبار7. وورد في بعض الأخبار أن "جذيمة الأبرش" كان قد حارب "طسمًا"

_ 1 اللسان "6/ 35". 2 الطبري "1/ 771" "طبعة أوروبة"، "1/ 629" "دار المعارف"، ابن خلدون "2/ 24"، الأغاني" 10/ 48"، المعارف "ص14"، "جديس بن عامر بن أزهر بن سام بن نوح، ابن الأثير الكامل "1/ 139"، شرح ديوان الحماسة للتبريزي "1/ 167"، "وجديس: حي من عاد، وهم إخوة طسم. وفي التهذيب جديس: حي من العرب، كانوا يناسبون عادا الأولى"، اللسان "7/ 333". 3 المصادر نفسها. Ency,, vol, I, p, 992. 4 اللسان "7/ 334"، الأمثال للميداني "1/ 192"، "2/ 690"، الأغاني "11/ 164"، "دار الكتب المصرية". 5 الطبري "1/ 629 فما بعدها"، "حسان بن أسعد تبع"، شمس العلوم "الجزء الأول، القسم الثاني" "ص307". 6 Caussin de Perceval, Essai, 2, P. 26, Ency. Vol. I, P. 992. 7 وهناك قصة عن زرقاء أخرى، كانت ترى من مسافة بعيدة ذكروها في تفرق ولد معد، الأغاني "11/ 36، 155"، "دار الكتب المصرية"، مجمع الأمثال للميداني "1/ 120"، الكامل، لابن الأثير "1/ 207"

و "جديسًا"1. ويذكر أهل الأخبار أن "حسّان بن تُبّع" الذي أوقع بجديس، هو "ذو معاهر"، وهو "تبع بن تبع تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن تبع بن أقرن"، وهو أبو "تبّع بن حسان"، الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة ويثرب، وأنه وجّه ابنه "حسان" إلى "السند" وابنه "شمرد الجناح" "سمر"، إلى آخر ذلك من قصص سأتحدث عنه في أثناء الكلام على مملكة "حمير وذي ريدان"2. ويذكر أهل الأخبار أيضا أن التي أبصرت جند "حسان" اسمها "اليمامة"، وكانت أول من اكتحلت بالإثمد، ولهذا تكوّنت في عينيها عروق سود منه، كانت هي السبب في نشوء حدة البصر عندها, وأن "حسان" أمر ففقئت عيناها لإدراك سبب حدة بصرها, فاكتشف وجود الإثمد بهما, ويزعمون أنه أمر بإبدال اسم "جوّ" مساكن طسم وجديس إلى "اليمامة"، فعرفت بهذه التسمية مذ ذلك الحين3. وإذا كان ما جاء في شعر الأعشى عن "اليمامة" وعن حسان صحيحاً, فإن ذلك يدل على أن القصة المذكورة كانت شائعة معروفة في أيامه بل وربما قبل أيامه، والظاهر أن أهل الأخبار قد أخذوا اسم اليمامة من اسم المكان، فصيّروه امرأة ذات بصر حديد. ونجد قصة "اليمامة" ومجيء التبع في شعر للنمر بن تولب العُكلي4. ونجد اتفاقًا بين القول المنسوب إلى اليمامة في سياق القصة وبين قولها في الشعر المنسوب إلى الأعشى وإلى النمر. وقد ذكر "ابن دريد" أن "تبع" أرسل على مقدمته "عبد كلال بن مثوب بن ذي حرث بن الحارث بن مالك بن غيدان" إلى اليمامة، فقتل طسمًا وجديسًا. ولم يذكر اسم ذلك التبع5.

_ 1 enc,, vol, I, p,, 992. 2 "سُمّي ذا الجناح" في طبعة "دار المعارف"، "1/ 632"، "شمر" في الطبعات الأخرى، وفي الموارد الأخرى. وهو الصحيح. 3 الطبري "1/ 630" "دار المعارف". 4 ديوان الأعشى "72- 74"، الطبري "1/ 630 وما بعدها", الكامل لابن الأثير "1/ 451". 5 الاشتقاق "ص307 وما بعدها".

ويعتقد بعض المستشرقين أن اسم "jolisitae" أو "jodisitae" الوارد في "جغرافيا بطلميوس" إنما يقصد به قوم "جديس"، وأنهم كانوا معروفين في حوالي سنة "120" بعد الميلاد1. وقد نسب أهل الأخبار أماكن عديدة إلى طسم وجديس، وهي قرى ومدن ذكر أنها كانت عامرة آهلة بالسكان ذات مزارع، وقد بقي بعضها في الإسلام، ووصفه أهل الأخبار. وإذا صحّ أنها لطسم وجديس حقًّا, وأنها كانت من أعمالهم ونتاجهم، فإن ذلك يدل على أن القوم كانوا حضرًا وعلى مستوى من الرقي، ولم يكونوا بدوًا على شاكلة الأعراب. وربما يعثر على كتابات في هذه المواضع تكشف اللثام عن حقيقة أصحاب هذه المواضع وهُوية الأقوام التي عاشت فيها. ومن الأماكن المذكورة "المشقر"، وهو حصن بين نجران والبحرين على تلٍ عالٍ، يقابله حصن سدوس، وهو من أمكنة "طسم". وقد نسب بعض الراوة بناءه -كعادتهم عند جهلهم أسماء الأماكن- إلى سليمان، وقد سكنته عبد القيس أهل البحرين2. و "معنق" من قصور اليمامة على أكمة مرتفعة3. و "الشموس" قيل: أنه من بناء "جديس"4. ومن قرى اليمامة الشهيرة "حجر"، وكانت لطسم وجديس، والظاهر أنها كانت عامرة ذات قصور عالية كثيرة، وأنها كانت محاطة بالمزارع، وأنها بقيت مدة طويلة مهملة في وسط الرمال التي تكوّنت في تلك البقاع المنبتة الخصبة التي تحوّلت إلى صحراء5. و "القرية" "قرية بني سَدُوس"، وكان بها قصر عظيم من الصخر، وقد زعموا أنه كان من حجر واحد بناه جنّ سليمان6. و "جعدة" وهي حصن، وبها قصر قديم "عادي" ينسبونه إلى طسم وجديس، ويظهر أنه ظلّ باقيًا إلى أيام "الهمداني"، بدليل وصفه له في كتابه "صفة

_ 1 Ptolemy, Geogr. I, 29, Libr. VIII, "Ed. Wilberg", Ency. Vol. I, P. 992. 2 البلدان "8/ 65"، اللسان "6/ 91". 3 البلدان "8/ 65". 4 البلدان "8/ 100". 5 البلدان "3/ 221". 6 البلدان "7/ 76 فما بعدها"، الهمداني، صفة "ص141".

جزيرة العرب" والظاهر من وصفه أن الحصن كان عظيمًا, وأنه كان يحيط بالقرية، وأن أساسه من اللبِن وحوله منازل الحاشية للرئيس الذي يكون فيه، وكان فيه الأثل والنخيل، وحوله منازل الناس والسوق، ويحيط بالقرية خندق، وفي السوق آبار. قال الهمداني: إنها مائتان وستون بئرًا ماؤها عذب فرات1. و"خضراء حجر"، وهي حضور "طسم" و "جديس"، وفيها آثارهم وحصونهم وبتلهم، الواحد بتيل، وهو مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين. وقد بولغ في وصف ارتفاع هذه "البتل" وطولها, حتى زعم أن ارتفاع ما تبقّى منها إلى أيام الهمداني كان قد بلغ مائتي ذراع في السماء2. و"الخضرمة"، وكانت لجديس، وبها آثار قديمة كثيرة3، و "الهدار"4. و "ريمان"5.

_ 1 الهمداني: صفة "ص141". 2 صفة "141" 3 صفة "141" 4 صفة "141" 5 صفة "141"

أميم

أميم: وجعل الأخباريون "أميمًا" في طبقة طسم وجديس، وقالوا إنهم من نسل "لاوذ بن عمليق"1، أو "لوذ بن بن نوح"، أو ما شابه ذلك من شجرات نسب2. وكان من شعوبهم على زعم أهل الأخبار "وبار بن أميم"، نزلوا برمل "عالج" بين اليمامة والشحر، وانهارت عليهم الرمال فأهلكتهم3. ويزعم أهل الأخبار أن ديار "أميم" كانت بأرض فارس، ولذلك زعم بعض نسّابة الفرس أنهم من "أميم"، وأن "كيومرت" الذي ينسبون إليه هو ابن أميم بن لاوذ4.

_ 1 الطبري: "1/ 214، 215، 217، 219، 220"، "1/ 203 وما بعدها"، "دار المعارف". 2 طبقات ابن سعد "1/ 1 ص19". 3 الطبري: "1/ 203" "دار المعارف". 4 ابن خلدون "2/ 28".

ولا نعرف من أمر أميم شيئا غير هذه النتف، ولم يذكر الأخباريون كيف عدّوهم من طبقة العرب الأولى إذا كانت ديارهم بأرض فارس، ولم يشرحوا لنا كذلك كيف وصلوا نسب "وبار" بأميم، وما العلاقة بينهما. وقد ذكر الهمداني أن وبار هو شقيق "كيومرت" ويقال "جيومرت"، وقد أولدهما "أميم". وبوبار عرفت أرض "وبار"، وهي أرض أميم1. وجاء في جغرفيا "بطلميوس" اسم شعب عربي دُعِي "lobaritai" "jobaritae" "jobabitae"، على أنه من شعوب العربية الجنوبية، ويسكن على مقربة من أرض قبيلة أخرى دعاها sachalitae، وتقطن عند خليج يدعى باسمها "sinus sachalits"2. وهذا الاسم قريب جدًّا من اسم "وبار"، لذلك ذهب المستشرقون إلى أن "jobaritae"، وهو شعب وبار3 أو "بنو وبار"4. غير أن هنالك عددًا من العلماء يرون أن الاسم الأصلي الذي ورد في جغرافيا بطلميوس هو "يوباب"، غير أن النساخ قد أخطئوا في النسخ فحرفوا حرف الباء "b"، الثاني في هذا الاسم وصيّروه راء "R"، فصار الاسم بعد هذا الحريف "jobabitae"5. فالشعب الذي قصده بطلميوس -على حد قول هؤلاء- هو "يوباب" أو يباب"، إلا أنه لا يوجد هنالك دليل قوي يثبت حدوث هذا التحريف6. وفي موضع ليس ببعيد عن هذا المكان الذي ذكره بطلميوس تقع أرض وبار الشهيرة، وهي بين رمال يبرين واليمن "ما بين نجران وحضرموت وما بين مهرة والشحر"، أو ما بين الشحر إلى تخوم صنعاء، وقيل: "قرية وبار كانت لبني وبار، وبين رمال بني سعد وبين الشحر ومهرة"، والنسبة إليها

_ 1 الإكليل"1/ 77"، "ولحقت أميم بأرض أباد فهلكوا بها, وهي بين اليمامة والشحر، ولا يصل إليها اليوم أحد، غلبت عليها الجن. وإنما سميت أبار بأبار بن أميم"، الطبري "1/ 208" "دار المعارف". 2 Forster, vol, I, P. 173. f. vol. 2, P. 270. Ptolemy, VI 7, Glaser, Skizze, 2, S. 256. 3 Ritter, Erdkunde, Berlin, 1896, Bd. XIII, S. 315, Sprenger, Geographie, S. 296. 4 الطبري "1/ 750" "طبعة أوروبة". 5 Froster, vol. I, P. 177. 6 Forster, Vol., I, P., 173, Vol., 2, P., 270.

"أباري"1. ونرى أن هذه النسبة قريبة من الاسم الذي ذكره بطلميوس.... ويدّعي "ياقوت الحموي" أنها مسماه بـ "وبار بن إرم بن سام بن نوح"2. وقد روت الكتب العربية قصصًا كثيرة عن "وبار"، ومن جملة الأساطير التي تروى عنها أسطورة "النسناس". وتتلخص في أنهم "من ولد النسناس بن أميم بن عمليق بن يلمع بن لاوذ بن سام"، وأنهم كانوا في الأصل بشرًا, فجعلهم الله نسناسًا, للرجل منهم نصف رأس ونصف وجه وعين واحدة ويد واحدة ورِجْل واحدة، وأنهم صاروا يرعون كما تُرعى البهائم، وأنهم يقفزون قفزًا شديدًا ويعدون عدوًا منكرًا3. والظاهر أن لهذه القصص والأساطير أصولًا جاهلية، وقد وضع منها في الإسلام شيء كثير، ووضع معها شعر كثير على لسان ذلك "الإنسان الحيوان"، ولا يزال الناس يَرْوُونَها حتى الآن. وقد أنكر بعض المستشرقين، وجود وبار، وزعموا أنهم من الشعوب التي ابتكر وجودها القصاص قائلين إن تلك الرمال الواسعة المخيفة هي التي أوحت إلى القصاص والأخباريين اختراع شعب "وبار" وقصص النسناس4. والذي أراه أن هذا لا يمنع من وجود شعب بهذا الاسم، وإن كنا لا نعرف من أمره شيئًا إلا هذه القصص والأساطير. وقديمًا أنكروا وجود عاد وثمود، ثم اتّضح بعد ذلك من الكتابات وجود عاد وثمود. وهكذا قد يعثر في المستقبل على كتابات وبارية لعلها تلقي ضوءًا على حالة ذلك الشعب. ونجد في رواية أهل الأخبار عن عمار "وبار" وكثرة زروعها ومراعيها ومياهها في الجاهلية شيئًا من الأساس؛ فقد أيّد السياح ذلك، وأثبتوا وجود أثر من آثار عمران قديم5. وهو سند يتخذه القائلون بتطور جوّ بلاد العرب، وسطحها لإثبات رأيهم في هذا التغيير.

_ 1 البلدان "8/ 392 فما بعدها"، منتخبات "ص113"، "ولحقت أميم بأرض وبار فهلكوا بها, وهي بين اليمامة والشحر. ولا يصل اليوم إليها أحد، غلبت عليها الجنّ. وإنما سميت أبار بأبار بن أميم"، طبقات ابن سعد "ج1، قسم 1ص20. 2 البلدان "8/ 392". 3 البلدان "8/ 392 فما بعدها"، الفزويني، عجائب المخلوقات "2/ 41"، "طبعة وستنفلد"، المسعودي، التنبيه "ص184"، صفة "154، 223". 4 Sprenger Geogr. S. 296. 5 Enc. Vol. 4, P. 1077, Philby, The Heart of Arabia, vol. 2, P. 353.

ولم يذهب اسم "وبار" من ذاكرة سكان العرب حتى هذا اليوم. فهم يَرَوْن أن في الربع الخالي موضعًا منكوبًا هو الآن خراب، هو مكان "وبار". وقد قاد بعض الأعراب "فلبي" إلى موضع في الربع الخالي، قال له عنه إنه مكان "وبار" المدينة التي غضب الله عليها, فأنزل بها العقاب، وصارت خرابًا. وقد تبين ل "فلبي" أن ذلك الوضع هو فوهة بركان، قذف حميمًا, فبانت الأرض المحيطة به وكأنها خرائب تولدت من حريق1. وتحدث أعراب آخرون للسائح "برترام توماس" عن مكان آخر يقع في جنوب شرقي هذا الموضع بمسافة "200" ميل، قالوا له إنه مكان "وبار" المدينة المفقودة المنكوبة كما عثر رجال شركة "أرامكو" على موضع في البادية وذلك في سنة 1944، زعم لهم الأعراب أنه مكان وبار مما يدل على أن الأعراب يطلقون اسم وبار على مواضع عديدة تقع في البوادي. والبوادي أنسب مكان يليق في نظرهم بأن يكون موطن وبار2.

_ 1 Philby, The Empty Quarter, P. 165, R. H. Sanger, The Arabian Peninsula, P. 126, 132. 2 Sanger, The Arabian Peninsula, P., 132.

عبيل

عبيل: و"عبيل" مثل أميم لا نعرف من أمرهم غير نتف ذكرها الأخباريون الذين زعموا أنهم إخوان عاد بن عوص، أو إخوان عوص بن إرم، وأنهم لحقوا بموضع "يثرب" حيث اختطوا يثرب. وكان الذي اختطها منهم رجل يقال له "يثرب بن باثلة بن مهلهل بن عبيل"1. ثم إن قسمًا من العماليق انحدروا إلى يثرب، فأخرجوا منها عبيلًا, فنزلوا موضع "الجحفة"، فأقبل سيل فاجتحفهم فذهب بهم فسميت "الجحفة"2. وقد ورد في التوراة اسم ولد من أولاد "يقطان"، هو "obal" "عوبال"

_ 1 ابن خلدون "2/ 21"، "وعاد وعبيل أبناء عوص بن إرم بن سام بن نوح"، طبقات ابن سعد "ج1، قسم1 ص19". 2 ابن سعد، طبقات "ج1 قسم1 ص20"، البلدان "3/ 62".

أو "ebal"1. وهذا الاسم قريب من "عبيل"، لذلك رأى بعض علماء التوراة أن من الممكن أن يكون "عبيل" هو "عوبال"2. ونجد في جغرافيا بطلميوس اسم موضع يقال له avalitae على خليج يُدعى بهذا الاسم "avalites sinus" وعليه مدينة تسمى "avalites emporium"، وسكانها يُعرفون باسم "avalites". وقد ورد هذا الاسم عند "بلينيوس" على صورة "abalitae" و "abalites"، ويرى "فورستر" أن من المحتمل أن يكون هؤلاء هم "عوبال"3 وقد يكون أبناء عوبال هم عبيل. وذكر أن في اليمن مكانًا يقال له عبيل4، وقرية تقع على طريق صنعاء تعرف بـ "عبال"5. وهذان الاسمان قريبان من سام عبيل. غير أني لا أريد أن أقول الآن شيئًا فيما يخص "عبيلا"، فلا يجوز الحكم في مثل هذه الأمور لمجرد تشابه الأسماء، وإنما ذكرت ذلك للمناسبة العارضة وللتنبيه. وأما عبد ضخم، فكانت تسكن على قول الأخباريين الطائف، وهلكوا فيمن هلك من الشعوب البائدة، وكانوا أول من كتب بالخط العربي6. وذكر الطبري أنهم حيّ من عبس الأول7. ويذكر أهل الأخبار أن "أمية بن أبي الصلت" ذكر "بني عبد ضخم" في شعره، إذ قال فيهم: كما أُفنى بني عبد بن ضخم ... فما يذكو لصاليها شهاب بني بيض ورهط بني معاذ ... وفيهم عزة وهم غلاب8

_ 1 أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، آية 22، التكوين، الإصحاح العاشر، آية 28. 2 Hastings, P., 201, Ency., Bibli., P., 3462, M. Gottfried Buchner's Biblische Real und Verbal Hand., S., 276 3 Forster, Vol., I, P., 148, 149. 4 Glaser, Sklzze, 2, S., 426. 5 Scott The High Yemen, P., 185. 6 ابن خلدون "2/ 21"، "عبد ضخم بن إرم". 7 "وكان ساكني الطائف بنو عبد ضخم، حي من عبس الأول"، الطبري "1/ 203 "دار المعارف". 8 الإكليل"1/ 75".

وقد ذكر الهمداني أن "ابن الكلبي" يرى أن "عبد ضخم" و "بيض"، وهما حيّان، هما اللذان وضعا الكتاب العربي، وذكر الهمداني أن الشاعر "حاجز الأزدي" ضمن هذا الرأي بقوله: عبد بن ضخم إذا نسبتهم ... وبيض أهل العلوّ في النسب ابتدعوا منطقا لخطهم ... فبين الخط لهجة العرب1

جرهم الأولى

جرهم الأولى: وجرهم هؤلاء، هم غير "جرهم" القحطانية على رأي النسّابين والأخباريين، ولذلك يقولون لجرهم هذه "جرهم الأولى"، ولجرهم القحطانية "جرهم الثانية"، ويقولون عن الأولى: إنهم من طبقة العرب البائدة، وإنهم كانوا على عهد عاد وثمود والعمالقة1. ويظهر من روايات الأخباريين أنهم كانوا يقيمون بمكة، ويرجعون أنسابهم إلى "عابر"، وأنهم أُبِيدوا: أبادهم القحطانيون2. أما جرهم الثانية، أي جرهم القحطانيين فينسبهم بعض أهل الأخبار إلى "جرهم بن قحطان بن هود" وهم أصهار إسماعيل3. وقد ورد اسم "جرهم" عند "إصطيفان البيزنطي" من الكتبة اليونان4.

_ 1 الإكليل"1/ 78". 2 enc,, vol, I, p,, 1066. 3 ابن خلدون "2/ 30"، صبح الأعشى"1/ 314"، enc,, vol,I ,p, 1066. 4 شمس العلوم"ج1، ق1، ص322".

العمالقة

العمالقة: وحشر الأخباريون العمالقة "العماليق" في هذه الطبقة أيضًا, فنسبوهم إلى "عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح"1, ولم تذكر التوراة أصلهم ونسبهم،

_ 1 enc,, vol, I, p, 1066.

وهي لا تشير إلى أبناء "لود" أو "لاوذ" كما يقول له الأخباريون1. و"عمليق" جدّ العمالقة، هو شقيق طسم. ويذكرون أنهم كانوا أُمَمًا كثيرة، تفرقت في البلاد، فكان منهم أهل عمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل مصر. ويعرف أهل عمان والبحرين بـ "جاسم"، وجاسم هم من نسل عمليق على زعم أهل الأخبار. وكان من العمالقة أهل المدينة، ومنهم "بنو هف" و "سعد بن هزان" و "بنو مطر" و "بنو الأزرق". وكذلك سكان نجد، ومنهم بديل وراحل وغفار، وكذلك أهل تيماء2. وكان ملكهم "الأرقم"، وهو من العمالقة3. وهو من معاصري "موسى" على رواية الهمداني. وقد أرسل "موسى" عليه جندًا لمقاتلته ففتك بأتباعه أهل تمياء وببقية عمالقة الحجاز4 ويذكر بعض أهل الأخبار أن "العماليق" لحقت بصنعاء قبل أن تُسمّى صنعاء، ثم انحدر بعضهم إلى يثرب، فأخرجوا منها "عبيلًا"، وسكنوا في ديارهم، وذهبت "عبيل" إلى موضع "الجُحْفَة"، فأقبل السيل فاجتحفهم، فذهب بهم، فسميت الجحفة5. وذكروا أن "موسى" أرسل جيشًا لحرب عماليق يثرب6، ولم نجد في التوراة ذكرًا لمثل هذا الجيش، أو الحرب. والعمالقة الذين نتحدث عنهم، هم عرب صُرحاء، من أقدم العرب زمانًا, لسانهم اللسان المُضَري الذي هو لسان كل العرب البائدة على حدّ قول أهل الأخبار7. بل زعم بعضهم أن عمليقًا, وهو أبو العمالقة، أول من تكلم بالعربية حين ظعنوا من بابل، فكان يقال لهم ولجرهم "العرب العاربة"8. ويظهر من فحص هذا المروي في كتب الأخباريين عن العمالقة ونقده أنه مأخوذ من منابع يهودية، فقد ذُكر العمالقة في التوراة، وقد كانوا أول شعب

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 112 فما بعدها"، Hastings, P. 24, The Uni. Jew. Enc. Vol. I. p. 218. 2 الطبري "1/ 203" "دار المعارف". 3 الطبري "1/ 203". 4 الإكليل"1/ 74 وما بعدها". 5 الطبري "1/ 20". 6 Enc. Vol. I, P. 325. 7 الطبري "1/ 203 فما بعدها". 8 الطبري "1/ 207 فما بعدها".

صدم العبرانيين حينما خرجوا من مصر متجهين إلى فلسطين1. وظلوا يحاربونهم، ويكبدونهم خسائر فادحة، وأوقعوا الرعب في نفوسهم، ولهذا ثار الحقد بينهم على العماليق. ويتجلّى هذا الحقد في الآيات التي قالها النبي "صموئيل" لشاءول "saul" أول ملك ظهر عند العبرانيين، قالها لهم باسم إسرائيل: "إياي أرسل الرب لمسحك ملكا على شعبه إسرائيل. والآن فاسمع صوت كلام الرب. هكذا يقول رب الجنود. إني افتقدت ما عمل عمليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر. فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ماله، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا, بقرًا وغنمًا, جملًا وحمارًا"2. وهذا الحقد هو الذي جعلهم يخرجونهم من قائمة النسب التي تربطهم بالساميين. وقد كانت منازل العمالقة من حدود مصر فطور سيناء إلى فلسطين. وعدم ذكر العبرانيين لهم في جملة قبائل العرب لا يدل على أنهم لم يكونوا عربًا, فقد ذكرت أن العبرانيين لم يطلقوا لفظة "عرب" إلا على الأعراب، أعراب البادية، ولا سيما بادية الشام3. ثم إن العمالقة من أقدم الشعوب التي اصطدم بها العبرانيون، وحملوا حقدًا عليها, وهم عندهم وفي نظرهم أقدم من القحطانيين والإسماعيليين.

_ 1 Musil, Hegaz. P. 460 The Uni. Jew. Enc, vol. I, P. 218. 2 صموئيل الأول، الإصحاح الخامس عشر، الآية 1 فما بعدها. 3 Hastings, A. Dictionary of The Bibl vol. I, P. 77.

حضورا

حضورا: وأورد أهل الأخبار قصصًا عن "حضورا"، فذكروا أن "حضورا" كانوا يقيمون بالرسّ، وكانوا يعبدون الأوثان، وبعث إليهم منهم نبي منهم اسمه "شعيب بن ذي مهرع"، فكذبوه، وهلكوا1. وهنالك عدة مواضع يقال لها "الرسّ" منها موضع باليمامة، وموضع كان فيه ديار نفر من ثمود2.

_ 1 ابن خلدون "2/ 20"، نهاية الأرب "13/ 86 فما بعدها"، "قال كعب: إن أصحاب الرس كانوا بحضرموت"، نهاية الأرب"13/ 88". 2 البلدان "4/ 250".

وورد في القرآن الكريم "أصحاب الرس"1، مع عاد وثمود، وذهب المفسرون إلى أنهم كانوا جماعة "حنظلة"، وهو نبي، فكفروا به ورسّوه في البئر2، إلى غير ذلك من الأقوال. ويظهر من القرآن الكريم أن "أصحاب الرس" كانوا مثل جماعة عاد وثمود في الطبقة، أي في زمانهم، وأنهم هلكوا أيضا. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن نبي "أصحاب الرس" هو "خالد بن سنان"، وقد ذكروا أن الرسول ذكره، فقال فيه: "ذاك نبي ضيّعه قومه"3. وذكر "الهمداني" أن "حنظلة بن صفوان" كان نبيًّا في اليمن، وقد أرسل إلى سبأ، وكان من "الأقيون"، وهم بطن دخل في "حمير"، وذكر أنه وُجِدت عند قبره هذه الكتابة: "أنا حنظلة بن صفوان. أنا رسول الله. بعثني الله إلى حمير وهمدان والعربي من أهل اليمن، فكذّبوني وقتلوني". وأنه أنذر قومه "سبأ" برسالته فكذبوه، فلما كذبوه، أرسل الله عليهم سيل العَرِم4. وذكر "الهمداني" أيضا نقلًا عن "ابن هشام" أن "حنظلة بن صفوان ابن الأقيون"، هو، نبي الرسّ، والرسّ بناحية صيهد، وهي بلدة منحرفة ما بين بيحان ومأرب والجوف، فنجران فالعقيق فالدهناء، فراجعًا إلى حضرموت. وذكر أيضًا أن الرس، بمعنى البئر القليلة الماء، وأن أهل الرس قبائل من نسل أسلم ويامن أبو زرع ورعويل وقدمان، وهم من نسل قحطان. وقد كذبوا نبيهم "حنظلة" وقتلوه وطرحوه في بئر رسّ ماؤها5. وروى أهل الأخبار أن "بختنصر" "نبوخد نصر" غزا أهل "حضور" "حضوراء" وأعمل فيهم السيف وأجلى خلقًا منهم إلى أماكن أخرى، لأنهم كفروا وجحدوا نبوة نبي منهم أرسله الله إليهم، وهو "شعيب بن مهدم بن ذي مهدم بن المقدم بن حضور"، ولم يصدِّقوه، وكانوا أصحاب بطش وشدة

_ 1 {وَعَادًا وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} ، [الفرقان، 25،آية 38] ، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ} [ق، 50، آية 12] . 2 البلدان "4/ 250"، قصص الأنبياء "141"، حياة الحيوان، للدميري، مادة عنقاء نهاية الأرب "13/ 8"، enc,, vol, I,,p,,479. 3 الإصابة "1/ 468". 4 الإكليل"1/ 120 وما بعدها". 5 الإكليل"1/ 121 وما بعدها".

وغلظة. فلما قتلوه، أوحى الله إلى نبي في عصره هو "برخيا بن أخبيا بن رزنائيل بن شالتان"، وكان من سبط "يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل"، أن يأتي "بختنصر"، فيأمره بغزو "العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب"، ويطأ بلادهم بالجنود، فيقتل مقاتلهم، ويستبيح أموالهم. فأقبل "برخيا" من نجران، حتى قدم على "بختنصر"، وذلك في زمان "معد بن عدنان"، فوثب "بختنصر" على من كان في بلاده من العرب، وجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرًا على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه، ووكّل بهم حرسًا وحَفَظَة، ثم سار في بلاد العرب فالتقى بعدنان بذات عرق، فهزم، "بختنصر" عدنان, وسار إلى "حضور"، فانهزم الناس وفروا فرقتين: فرقة أخذت إلى "ريسوب" وعليهم "عك"، وفرقة قصدت وبار. أما الذين بقوا في "حضور"، وحاربوا "بختنصر" فقد احتصدتهم السيوف. ثم رجع ملك بابل بما جمع من السبايا، فألقاهم بالأنبار، وخالطهم بعد ذلك النبط، ومات عدنان. فلما مات "بختنصر"، خرج "معدّ بن عدنان" حتى أتى مكة، ثم ذهب إلى "ريسوب" فاستخرج أهلها, وسأل عمّن بقي من ولد "الحارث بن مضاض الجرهمي" وهو الذي قاتل دوس العتق، فأفنى أكثر جرهم على يديه، فقيل: بقي "جرشم بن جلهمة"، فتزوّج معد ابنته "معانة"، فولدت له "نزارًا"1, وأهل حضور الذين قتلوا نبيهم، وقتلهم "بختنصر" هم شعب من أهل اليمن على رأي الأخباريين، كانوا يقيمون الحضور أو "حضوراء". وفي اليمن موضع يسمى "حضور"، ينسبه أصحاب الأخبار إلى: حضور بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير بن سبأ"2، وذكروا أنه المكان الذي قصده "بختنصر"، فقتل أهله3. وعلى هذا المكان مسجد يُزار حتى اليوم، يقال له مسجد شعيب نبي أصحاب الرسّ4. وهو جبل من جبال اليمن المقدسة،

_ 1 الطبري "1/ 291 وما بعدها"، "1/ 559" "دار المعارف". 2 "حضور بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة"، البكري، معجم "2/ 456" "طبعة السقا"، اللسان "5/ 278". 3 البلدان "3/ 296". 4 الإكليل"8/ 121" "طبعة نبيه"، enc,, vol, 2, p,, 210.

قال الهمداني: "وأما الجبال المقدسة عند أهل اليمن، فجبل حضور وصنّين ورأس بيت فائش من رأس جبل تخلى ورأس هنوم ورأس تعكر ورأس صبر. وفي رءوس هذه الجبال مساجد مباركة مأثورة"1. وأرى أن قداسة هذه الجبال وردت إليها من الأيام التي سبقت الإسلام، من أيام الوثنية، وأن المساجد التي أنشئت في رءوسها, إنما أنشئت فوق معابد قديمة، لعبادة الأصنام، وذلك كما حدث في أماكن أخرى من جزيرة العرب حيث اكتسبت بعض المعابد الوثنية القديمة قدسية خاصة. فلما جاء الإسلام، ألبست ثوبًا إسلاميًّا, فبقيت حية، وتحولت بمرور الزمن إلى مزارات ومساجد تقام فيها الصلوات. وقد اعتمد رواة خبر غزو "بختنصر" لأهل "حضور" على ما جاء عن "ابن الكلبي" و "ابن إسحاق" ونفر آخر ممن عُرفوا بروايتهم هذا النوع من الروايات التي تُعرف من معين الإسرائيليات. وما بنا حاجة أبدًا إلى البحث في أسماء رواته لمعرفة صلته بالتوراة. فالمسألة جِدّ واضحة. خذ التوراة واقرأ ما جاء في أسفار "أرميا" ونبوءته، تجد القصة مكتوبة في السفر التاسع والأربعين: "عن قيدار وعن ممالك حاصور التي ضربها نبوخذ راصر2 ملك بابل. هكذا قال الرب: قوموا اصعدوا إلى قيدار، اخربوا بني المشرق. يأخذون خيامهم وغنمهم، ويأخذون لأنفسهم شققهم وكل آنيتهم وجمالهم، وينادون إليهم الخوف من كل جانب. "اهربوا، انهزموا جدًا، تعمقوا في السكن يا سكان حاصور، يقول الرب، لأن نبوخذ راصر ملك بابل قد أشار عليكم مشورة، وفكر عليكم فكرًا. قوموا إلى أمة مطمئنة ساكنة آمنة. يقول الرب لا مصاريع ولا عوارض لها. تسكن وحدها وتكون جمالهم نهبًا، وكثرة ماشيتهم غنيمة، وأدرى لكل ريح مقصوص الشعر مستديرًا، وآني بهلاكهم من كل جهاته يقول الرب. وتكوّن حاصور مسكن بنات آوي، إلى الأبد، لا يسكن هناك إنسان، ولا يتغرب فيها ابن آدم3".

_ 1 الإكليل"8/ 121" "طبعة نبيه". 2 "نبوخذ راصر" "بختنصر" "نبوخذ نصر". 3 أرميا، إصحاح 49، آية 28 وما بعدها.

أما النبي "برخيا" الذي زعم الأخباريون أنه هو الذي أشار على "بختنصر" بغزو "حضور"، فهو "باروخ بن نيريا "نريا" بن محسيا" شقيق "سرايا" "sEraiah"1. وقج كان كاتبًا، محبًّا مخلصًا للنبي "أرميا"2، وكان يكتب لأرميا، وهو الذي كلّفه النبي "أرميا" الذهاب إلى "بختنصر" حاملًا رسالة إلى الملك3. وهي الرسالة المدوّنة في أسفار "أرميا". وقد ذهب إلى بابل وقابل الملك، ثم عاد إلى القدس حيث هاجم "بختنصر" القدس واستولى عليها بتحريض من هذا النبي نبيّ العبرانيين! ترى أن الأخباريين أخذوا قصة عزو "بختنصر" لحاصور، القصة الواردة في أسفار "أرميا"، وجعلوها غزوًا لشعب "حضور" في اليمن، وهو موضع بعيد لا يعقل وصول "بختنصر" إليه، وأضافوا إليه شيئًا من الزخارف التي وضعها "ابن الكلبي" أو غيره كإقحام اسم عدنا ومعدّ بن عدنان واسم نبي عربي جنوبي في القصة، ولم يكفهم ذلك، فجعلوا "برخيا" من أهل "نجران"، وجعلوه يقطع المسافة ما بين نجران وبابل، ليكلّف "بختنصر" غزو العرب. وصيّروا "حاصور" "حصور" الورادة في "أرميا" "حضور" و "حضوراء"، وجعلوه في اليمن، ولم ينسوا البحث عن سبب، فجعلوه اعتداء أهل "حضور" علي نبيهم. أما "حاصور" التوراة، فإنها أرضون تقع في "العربية، كانت فيها ممالك صغيرة، أو مشيخات، كما يفهم ذلك من عبارة "أرميا" "وعن ممالك حاصور"4. وكانت تتاخم "قيدار" ولعلها كانت في البادية5. ويرى علماء التوراة أن سكانها كانوا من أهل المدر، ويقيمون في بيوت ثابتة، وقد أطلق كلمة "حاصور" "hazor" عليهم تمييزا لهم عن أهل الوبر، وكانت ديارهم في جنوب فلسطين أو شرقها6.

_ 1 أرميا، إصحاح 25، الآية 59. 2 أرميا، إصحاح 32، الآية 12، قاموس الكتاب المقدس "1/ 204"، وقد سجن مع أرميا في القدس وكانا يعراضان الملك "يهو ياقيم". "604 ق. م"، Hastings, P. 85, Enc. Bibli. P. 491. 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 204". 4 أرميا، إصحاح 49، الآية 28. 5 Hastings, P. 334. 6 Enc., Bibli., P., 1978.

وتعني كلمة "حاصور" "hazor" "hasor" وجمعها "hazerim" "haserim" ما تعنيه لفظة "حيرتا" "herta" في الإرمية و "الحيرة" في العربية، من معنى "محاط" أي "محصور" "محاصر"، بمعنى الحصن أو الأمكنة المحاطة المحصورة أو "المضرب" و "الحمى". وقد كان مشايخهم يقيمون في أسياف البادية في مخيمات ومضارب مع أتباعهم، فهي في معنى "حيرتا" عند بني إرم و "paremboles" عند اليونان1. وكانوا يرعون الماشية من ماعز وأغنام وجمال في مناطقهم التي اعتادوا الإقامة بها، ويظهر أنهم تعرضوا لجيوش "بختنصر"، أو أنهم لم يساعدوه في حملته على فلسطين، فاغتاظ منهم، وجرد عليهم حملة، وكان من عادتهم الالتجاء إلى الكهوف والمغاور حين مهاجمة عدو لهم، حيث يذهبون إلتي مناطق بعيدة يصعب على الجيوش مطاردتهم، فيتخذون منها مواطن آمنة ويعيشون فيها ما دام الخطر2. ولم يكن للأخباريين علم دقيق بما يرد في التوراة من أمور، فلم يفطنوا أن من غير الممكن أن يكون أهل "حاصور" من أهل اليمن، لأن ذكر التوراة لهم مع "قيدار" يجعل مواضعهم في شمال جزيرة العرب، ثم إن اليمن بعيدة جدًّا عن "بختنصر"، ولا يعقل أن يكون في إمكان جيوشه الوصول بسهولة إلى هناك. ثم إن الكتب اليهودية تصوّر "حاصور" في مكان في العربية الشمالية في جوار أرض "قيدار"، ولم يكن لها علم واسع عن اليمن، كما أن "باروخ" من القدس ولم يكن من أهل نجران. ويظهر أن حربًا قديمة ماحقة، أو كارثة طبيعية مثل زلزال أو هياج حرة، وقعت في "حضور" اليمن، سبب تلفها وإنزال خسائر كبيرة بها وبأهلها، فترك ذلك أثرًا عميقًا في ذاكرة الناس، رواه كابر عن كابر، فوجد الأخباريون الذين وقفوا على أخبار التوراة، أو كانوا يجالسون أهل الكتاب ويسائلونهم، شبهًا بين "حاصور" و "حضور"، وظنوا جهلًا بالطبع بما ورد في "أرميا" عن "حاصور"، أن "حاصور" التوراة "حضور" اليمن، ثم أضافوا إلى ذلك ما شاءوا على طريقتهم في أمثال هذه المناسبات.

_ 1 Musll, Deserta, P. 490. 2 Musil, Deserta, P., 490, Montgomerey, Arabia and the Bible, P., 64.

هلاك العرب البائدة

هلاك العرب البائدة: هذا ويلاحظ أن هلاك العرب البائدة كان بسبب كوارث طبيعية نزلت بهم مثل انحباس المطر جملة سنين مما يؤدي إلى هلاك الحيوان وجوع الإنسان، واضطراره إلى ترك المكان والارتحال عنه إلى موضع آخر، قد يجد فيه زرعًا وماءً وقومًا يسمحون له بالنزول معهم كرهًا لقوّته ولتغلبه عليهم، أو صلحًا بأن يسمح الأقدمون له بالنزول في جوارهم لاتساع الأرض وللفائدة المرجوة للطرفين. وقد يتفرق ويتشتت بين القبائل، فيندمج فيها بمرور الزمن ويلتحق بها في النسب والعصبية، فيكون نسبة النسب الجديد. وبذلك ينطمر ذكر القبيلة القديم والأصل الذي كان منه. وقد لا يبقى منه غير الذكريات، كالذي رأيناه من أمر القبائل البائدة. وقد تكون الكارثة هيجان حرّات وهبوب عواصف رملية شديدة عاتية تستمر أيامًا واهتزازات أرضية في الأرضين غير المستقرة، مما يُلحق الأذى بالناس. ومن هنا نجد ذكر هذه الكوارث في القرآن الكريم وفي الأخبار الواردة عن هلاك القبائل المذكورة فيه، أو التي لم ترد فيه، وإنما يذكر أسماءها أهل الأخبار. هذا وقد ألف بعض أهل الأخبار كتبًا في بعض العرب البائدة ومن هؤلاء "عُبيدة بن شَرْيَة الجُرْهُميّ"، و "ابن الكلبي"، فقد ذكر أن لهذا مؤلفًا دعاه "كتاب عاد الأولى والآخرة" و "كتاب تفرق عاد"1، ومنهم "أبو البختري" و "وهب بن وهب بن كثير" فله "كتاب طسم وجديس"2 وغير ذلك. والغالب على هذه المؤلفات كما يظهر من الاقتباسات منها والمبثوثة في الكتب الباقية، أنها ذات طابع أسطوري.

_ 1 الفهرست "ص147". 2 الفهرست "ص152".

فهرس

فهرس مقدمة 5 الفصل الأول تحديد لفظة العرب 13 الفصل الثاني الجاهليّة ومصادر التأريخ الجاهلي 37 موارد التأريخ الجاهلي 42 النقوش والكتابات 44 تاريخ الكتابات 46 التوراة والتلمود والتفاسير والشروح العبرانية 53 الكتب الكلاسيكية 56 الموارد النصرانيّة 61 الموارد العربية الإسلامية 65 المؤرّخون المسلون 73 الفصل الثالث إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه 107 تدوين التأريخ الجاهلي 123

الفصل الرابع جزيرة العرب 140 الحرار، أو الأرضون البركانيّة 145 الدهناء 150 النفود 152 مصدر الصحاري 153 الدرات 155 الجبال 156 الأنهار والأودية 157 أقسام بلاد العرب 163 العربية السعيدة 164 العربية الصحراوية 164 العربيّة الحجريّة، العربيّة الصخريّة 166 التقسيم العربي 167 تهامة 170 اليمن 170 العروض 174 اليمامة 178 نجد 181

الفصل الخامس طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكّانها 186 الطرق البريّة 220 الفصل السادس صلات العرب بالساميين 222 وطن الساميين 229 الهجرات السامية 240 اللغة السامية الأم 254 العقلية السامية 256 الفصل السابع طبيعة العقليّة العربية 261 الفصل الثامن طبقات العرب 294 العرب البائدة 298 هود 310 لقمان 314 ثمود 321 طسم وجديس 334

جديس 336 أميم 340 عبيل 343 جرهم الأولى 345 العمالقة 345 حضورا 347 هلاك العرب البائدة 353 الفهرست 354

المجلد الثاني

المجلد الثاني الفصل التاسع: العرب العاربة والعرب المستعربة مدخل ... الفصل التاسع: العرب العاربة والعرب المستعربة تحدثت في الفصل السابق عن العرب البائدة، وهم العرب الذين هلكوا واندثروا قبل الإسلام، ولم يبقَ منهم غير آثار وذكريات. أما العرب العاربة والعرب المستعربة "المتعربة" أو العرب القحطانيون والعرب العدنانيون، فإنهم العرب الباقون الذين كانوا يؤلفون جمهرة العرب بعد هلاك الطبقة الأولى، فهم العرب الذين كُتِبَ لهم البقاء، وكان ينتمي إليهم كل العرب الصرحاء عند ظهور الإسلام1.

_ 1 الطبري "1/ 204" "دار المعارف".

العرب العاربة

العرب العاربة: أما الطبقة الثانية من طبقات العرب بعد البائدة، فهي "العرب العاربة" على أقوال النسابين، وهم من أبناء قحطان وأسلاف القحطانيين المنافسين للعرب العدنانيين، الذين هم العرب المستعربة في عرف النسابين. وقحطان الذي يرد في الكتب العربية، هو "يقطان" الذي يرد اسمه في سفر التكوين، وهو "قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"

في رأي أكثر النسابين1. وهو "يقطان بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام بن نوح" في التوراة2. فترى من ذلك مطابقة تامة بين النسب الوارد في الكتب العربية والنسب الوارد في التوراة، مما يدل دلالة واضحة على أن الأخباريين أخذوا علمهم بنسبه من روايات أهل الكتاب، وهم يؤيدون ذلك ولا ينكرونه3. وقد سرد بعض الأخباريين نسب قحطان في شكل آخر مثل: "قحطان بن هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"4, على أن هودًا هو عابر، أو "قحطان بن هود بن عبد الله بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح" أو "قحطان بن يمن بن قدار" أو "قحطان بن الهميسع بن تيمن بن نبت بن إسماعيل بن إبراهيم"5. فنرى من ذلك أن بعض شجرات النسب أدخلت أسماءً عربية بين الأسماء المأخوذة من التوراة. وقد ألحَّ بعض نسابي اليمن على جعل "هود" عابرًا، وعلى جعله والد قحطان، وأصروا على ورود ذلك في الشعر، ولم يكن من العسير عليهم بالطبع إيجاد ذلك الشعر ووضعه، فكانوا إذا نُوقشوا في ذلك، احتجوا بقول الشاعر: وأبو قحطان هو ذو الحقف6 واحتجوا بأمثال ذلك من كلام منظوم أو منثور, وجاءوا بأكثر من ذلك لإفحام الخصوم.

_ 1 مروج "1/ 276 فما بعدها"، ابن هشام "1/ 4" "طبعة وستنفلد"، "1/ 5"، "طبعة الإبياري وجماعته"، القاهرة "1936م"، نهاية الأرب "2/ 275"، الأخبار الطوال "ص9"، الاشتقاق "ص217"، الإكليل "1/ 87 فما بعدها" الطبري "1/ 205"، "دار المعارف" ابن خلدون "1/ 9". 2 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 25 فما بعدها. 3 "ويقطن، هو قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"، الطبقات: لابن سعد، الجزء الأول، القسم الأول، "ص18 فما بعدها"، ابن خلدون "1/ 9"، النويري، نهاية الأرب "2/ 289". 4 التنبيه "ص70". Wuestenfeld, genealoglische tabellen der arabischen staemme und familien, gottingen, 1852-1853 5 التنبيه "ص71"، ابن خلدون "2/ 46". 6 التنبيه "ص71"، منتخبات "ص83"، أخبار عبيد "ص313".

والقائلون: إن "قحطان" هو "قحطان بن الهميسع بن تيمن بن نبت بن إسماعيل" هم نَسَّابو ولد "نزار بن معدّ" أي: النزارية، الذين كانوا يقابلون "اليمانية" في صدر الإسلام وفي الدولة الأموية والعباسية، يؤيدهم في ذلك بعض اليمانية، مثل "هشام بن الكلبي"، و"الشرقي بن القطامي"، و"نصر بن زروع الكلبي" و"الهيثم بن عدي"1. ويظهر أن غايتهم من ذلك وصل نسب قحطان بشجرة نسب أولاد إسماعيل. أما سائر اليمانية، فتأبى ذلك، وتذهب إلى أنه "قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"2. وتستهدف هذه الروايات غاية عاطفية بعيدة على ما يظهر، كانت ذات أهمية في نظر القحطانيين، هي وصل نسبهم بالأنبياء. فبعد أن ذكروا ما ذكروا من أخبار مُلْكهم ودولهم قبل الإسلام، وجدوا أن العدنانيين يفخرون عليهم مع ذلك بأن فيهم النبوة والأنبياء، منهم الرسول، وفيهم إسماعيل جدهم, فأرادوا أن يكون لهم أجداد أنبياء: أنبياء خلص قحطانيون، أو أن يكون لهم نسب يتصل بنسب إسماعيل على الأقل، أو أن يصل نسب إسماعيل بأسباب نسبهم، فقالوا: إنهم من نسل هود، وهود نبي من أنبياء الله، وقالوا: إن قحطان من نسل إسماعيل، وقالوا: إن هودًا هو عابر، وعابر من نسل الأنبياء، وقالوا أشياءَ أخرى من هذا القبيل ترمي إلى ترجيح كفتهم على كفة منافسيهم العدنانيين في الفخر بالأنساب على الأقل. ولم يعجب اليمانية المعنى الوارد في التوراة للفظة "يقطان" "يقطن"، ولعلهم عرفوا معناها من أهل الكتاب، فعكسوا المعنى بأن صيروه على الضد تمامًا, جعلوه "الجبار"، وقالوا: "واسمه في التوراة الجبار"3، مؤكدين جازمين. أما في التوراة وعند أهل الكتاب وفي العبرانية، فهو العكس، فـ"يقطان" في التوراة لفظة تعني "صائر صغير"4، فهي في معنى: "صغير", وبين صغير وجبار فرق كبير, وهكذا صار الصغير جبارًا. وبهذا التفسير أعاد النسابون أو أحد المتحدثين إليهم من أهل الكتاب الهيبة والمكانة إلى "قحطان". وشاء بعض أهل الأخبار أن يكون دقيقًا في حكمه، عارفًا بمدة حكم

_ 1 التنبيه "ص71"، الإكليل "1/ 103 وما بعدها". 2 التنبيه "ص71". 3 التنبيه "ص71". 4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 524".

"قحطان"؛ لئلا يترك الناس في جهل من أمرها، فجعلها مائتي سنة، لم يزد عليها ولم ينقص منها. وكان صاحب هذا الخبر "هشام بن الكلبي" رأس الأخباريين في مثل هذه الأمور1. وقد ورد في جغرافية "بطلميوس" اسم قريب من اسم "قحطان"، هو "كتنيتة" "كتانيتة" 2Katanitae, غير أن هذا لا يدل حتمًا على أن المراد منه "قحطان"؛ إذ يجوز أن يكون اسم موضع لا علاقة له بقحطان، أو اسم قبيلة من القبائل اسمها قريب منه. وقد ورد اسم قبيلة تدعى "قطن" أو "بنو قطن"، كما ورد اسم موضع عرف بـ"جوّ قطن"3، وذكر اسم مدينة بين "زبيد" و"صنعاء" يقال لها "قحطان"4. وأشار "المسعودي" إلى "جزائر قطن"5, لهذا أرى أن من الخير ألا يتخذ الآن أي موقف كان لا سلبًا ولا إيجابًا, قبل اكتمال العدة والظفر بمواد مساعدة تكفي لإصدار الأحكام. وقد عثر على اسم قبيلة عربية عرفت بقبيلة "قحطن"، أي: قحطان، في نصوص المسند، لا أستبعد أن يكون لاسمها علاقة بقحطان الذي صيره أهل الأخبار جدًّا لكل العرب الجنوبيين. فقد ذكر بعد اسم "كدت" الذي هو كندة في النص:6 Jamme 635 وكان على قبيلة قحطان وعلى كندة ملك واحد اسمه "ربيعت" "ربيعة"، وهو من "ثورم" "ال ثورم" "الثورم" آي "آل ثور". وثور هو جد قبيلة كندة في عرف النسابين من أيام الملك "شعر أوتر"، وسأتحدث عنه وعن الملك فيما بعد. ونحن لا نعرف من أمر "قحطان" شيئًا غير هذا النسب الذي يردده الأخباريون، وليس لدى العبرانيين من أمره غير ما ورد من أنه أحد أولاد

_ 1 المحبر "364". 2 ptolemy, geogr, VI, 9.20.23, glaser, skizze, Bd, 2. s. 283 knobel, Die voekerstafel der gensis, s, 185, forster, the histrical geography, vol., I, 80, o'leary, p., 18. 3 glaser, skizze, s, 288, 422, enc., vol., 2, p., 629. 4 أحسن التقاسيم، "3/ 87، 94" "الطبعة الثانية". 5 مروج "1: 91" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 6 Jamme 635, mamb270, mahram, p., 13

"عابر" وآخرهم، وأنه جد قبائل عديدة قديمة. وسكوت أهل الأخبار عنه واكتفاؤهم بسرد نسبه، دليل على أخذهم له من التوراة. أما أولاده، فلم يبخل عليه أهل الأخبار بالأولاد، فوهب بعضهم له امرأة سموها "حنى بنت روق بن فزارة بن سعد بن سويد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح"1، ووهبوا له من الولد ما تراوح عدده من عشرة ذكور إلى واحد وثلاثين على حسب كرم الراوي أو بخله على قحطان، من بينهم: يعرب وحضرموت وعمان وجرهم2. وقد ذكر "الهمداني" أولاد "قحطان" على هذا النحو: يعرب بن قحطان، ودعاه بـ" المزدغف"، ومعنى "المزدغف" المحتوي للأشياء، وجرهم بن قحطان، ولؤي، وخابر، والمتلمس، والعاض "العاصي" "القاضي"، وغاشم، والمعتصم، وغاصب، ومغرز، ومبتع، والقطامي، وظالم، و"الحارث" "الحرث"، ونباتة، وقاحط، وقحيط، ويعفر جد المعافر، والمود، والمودد، والسلف، والسالف، ويكلأ، وغوث، والمرتاد، وطسم، وجديس، وحضرموت، وسماك، وظالم، وخيار، والمتمنع، وذو هوزن، ويأمن، ويغوث، وهذرم. وقد أخد هذه الأسماء من روايات أشار إلى أسماء رواتها, وقد جمعتها؛ ليكون في إمكان القارئ الإحاطة بها3. وذكر "الهمداني" في موضع آخر أنه قرأ "في السجل الأول: أولد قحطان بن هود أربعة وعشرين رجلًا، وهم: يعرب، والسلف الكبرى، ويشجب، وأزال وهو الذي بنى صنعاء، ويكلى الصغرى، وخولان -خولان رداع في الفقاعة- والحارث، وغوث، والمرتاد، وجرهم، وجديس، والمتمنع، والمتلمس، والمتغشمر، وعباد, وذو هوزن، ويمن وبه سميت اليمن، والقطامي، ونباتة، وحضرموت، وسماك، وظالم، وخيار، والمشفتر"4, وقصد بـ" السجل الأول" سجل خولان الذي تحدثت عنه آنفًا. أما الذي تولى الملك بعد قحطان -على رأي الأخباريين- فكان يعرب،

_ 1 مروج "1/ 277". 2 مروج "1/ 277"، ابن خلدون "1/ 47"، الاشتقاق "ص217". 3 الإكليل "1/ 116 وما بعدها". 4 الإكليل "1/ 131 وما بعدها".

وكان ملكه باليمن، وقد غلب بقايا عاد، ووزع إخوته في الأقطار، فأقر أخاه حضرموت على الأرضين التي عرفت باسمه فقيل لها حضرموت، وعين عمان على أرض عمان، وولى جرهمًا على الحجاز1. ولا نعرف من أمر يعرب شيئًا غير ما ذكره بعض الأخباريين من أن أم يعرب هي من عاد أو من العماليق، ومن أن له إخوة من أمه، هم: جرهم والمعتمر والمتلمس وعاصم ومنيع والقطامي وعامي وحمير وغيرهم2. وقد حكم "يعرب" على رأي بعض أهل الأخبار مدة تساوي المدة التي حكم فيها أبوه، أي: مائتي سنة3. وإذا كانت هذه المدة هي مدة حكمه، فلا بد أن تكون أيام حياته أطول من أيام حكمه. فعمره إذن عمر لا بد أن يحسده عليه كل أحياء هذا القرن ومن سيأتي بعدهم من الناس. ولم ينسب أهل الأخبار والنسب إلى يعرب ولدًا كثيرًا, فقد نسب بعضهم إليه يشجب، قالوا: وبه كان يكنى، وشجبان، وبه سميت "شجبان" باليمن، وهي أعلى رَمْع4. ويلاحظ أن بين "يشجب" و"شجبان" تقاربا كبيرا، ولعل أحد الاسمين خلق الاسم الثاني. وجعل بعضهم ليعرب من الولد: يشجب، وحيدان، وحيادة5، وجنادة، ووائلًا، وكعبًا6. ولم يرد اسم "يعرب" في الشعر الجاهلي, وإنما ورد اسمه في شعر ينسب إلى "حسان بن ثابت"7، وفي شعر ينسب إلى "مضاض بن عمرو الجرهمي"، وهو من جرهم، وقيل: إنه قاله لما أخرجتهم الأزد من مكة8. والشعران من النوع المصنوع المحمول على حسان وعلى "مضاض" الذي لا أدري أكان يتكلم

_ 1 صبح الأعشى "5/ 19"، ابن خلدون "2/ 47"، القاموس "1/ 103". 2 الأخبار الطوال "ص11". 3 المحبر "ص365". 4 الإكليل "1/ 124". 5 الإكليل "1/ 125". 6 الإكليل "1/ 132". 7 تعلمتم من منطق الشيخ يعرب ... أبينا فصرتم معربين ذوي نفر الإكليل "1/ 116". 8 الإكليل "1/ 117".

بهذا اللسان العربي الذي نزل به القرآن، أم بلسان أهل اليمن الذي يختلف عن هذا اللسان. ولا نعرف لـ"يعرب" اسمًا في التوراة، لا في أبناء يقطان ولا في غير أبنائه, إنما نعرف أن في التوراة اسم ملك سمته "يرب Jareb" يظن بعض علماء العهد القديم أنه اسم ملك عربي كان يحكم مقاطعة عربية، ومن الجائز في نظرهم أن يكون قد حكم "يثرب"، أو مكانًا آخر في جزيرة العرب1. ولا يستبعد أن يكون أهل الأخبار قد سمعوا باسمه من يهود "يثرب"، فصيروه "يعرب بن قحطان". ويقصد الأخباريون بجرهم جرهم الثانية، التي جاءت بعد هلاك جرهم الأولى, وقد أقامت بمكة، وكان منها أرباب البيت2. ويظهر أن أهل الجاهلية كانوا يتصورون أن قبيلة جرهم كانت ترعى البيت الحرام3. وقد ذكر الأخباريون أن إسماعيل نشأ بينها وتزوج منها، وأن أباه إبراهيم بعد أن قام ببناء الكعبة ورفع قواعدها، ترك ابنه بينهم، فصارت له صلة بهم4. ثم تغلبت على جرهم خزاعة، فانتزعت منهم السدانة، واحتفظت بها إلى أن انتقلت إلى قريش. وكان سبب تغلب خزاعة على جرهم وخروجها من مكة أن جرهم بغت على "قطوراء" وتنافست معها، وكان "قطوراء" أبناء عم لجرهم، وكانوا يقيمون أسفل مكة بأجياد، وجرهم في أعلاها بـ"قُعَيْقعان"، فاقتتلوا قتالًا شديدًا،

_ 1 hastings, p., 427, enc, biblica., p., 331, kat, 2, 414, 439, 3 ed. P. 150. 2 جرهم كقنفذ: حي من اليمن، وهو ابن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، نزلوا مكة، وتزوج فيهم إسماعيل -عليه السلام- وهم أصهاره, ثم ألحدوا وأبادهم الله تعالى ... "، تاج العروس "8/ 227"، "جرهم: حي من العرب من ولد جرهم بن قحطان بن هود" شمس العلوم "جـ1 ق2 ص322"، Enc., Vol., I, P., 1066. 3 في بيت ينسب لزهير بن أبي سلمى: فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال, بنوه من قريش وجرهم شرح ديوان زهير بن أبي سلمى: صنعة الإمام أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، مطبعة دار الكتب المصرية، 1944م "ص14". 4 ابن خلدون "2/ 39"، اللسان "14/ 394".

وقتل "السميدع" صاحب "قطوراء"، وتصالح الطرفان، واستقر الأمر لجُرْهم. ثم إن جرهم بغت بمكة، وظلمت من دخلها من غير أهلها، وأكلت مال الكعبة الذي يهدى لها, فلما رأت "بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة" و"غبشان" من خزاعة ذلك، أجمعوا على حربها وإخراجها من مكة، فاقتتلوا، فغلبتهم "بنو بكر" و"غبشان" فنفوهم من مكة1. وذكر النسابون أن "قطوراء" "قطورا" كانوا أبناء عم جرهم، وكانوا ظعنًا من اليمن، فأقبلوا سيارة، وعلى جرهم مُضاض بن عمرو، وعلى "قطوراء" السميدع، فاستقروا بمكة2, وعاشوا مع جرهم والعدنانيين أبناء إسماعيل بمكة بعد هجرتهم هذه من اليمن، ولم يتعمق النسابون في البحث عن أصل قبيلة "قطوراء". وقد نص "الطبري" على أن اسم جرهم هو "هذرم"، ونص على أن والده هو "عابر بن سبأ بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"3, وهو نسب أخذ من التوراة إلا أن من أخذه ونقل الطبري روايته منه لم يروه صافيًا نقيًّا، بل غيَّر فيه وبدَّل، جهلًا أو لسبب آخر, فإن "هذرم" هو "هدورام" "Hadoram" في التوراة، وهو الابن الخامس من أبناء "يقطان" أي: قحطان4؛ وبذلك تكون "جرهم" من القبائل القحطانية بحسب رواية التوراة. ولم يختفِ ذكر جرهم حتى في صدر الإسلام، فكان القاصُّ "عبيد بن شرية الجرهمي" ينسب إلى جرهم، ويظهر من شعر "حسان بن ثابت" أن

_ 1 ابن هشام "1/ 123 فما بعدها"، وجعل ابن إسحاق "قطوراء" أخًا لجرهم، تاج العروس "8/ 227". 2 ابن هشام "1/ 123"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "قال ابن إسحاق: وكان أخوه قطوراء، أول من تكلم بالعربية عند تبلبل الألسنة" تاج العروس "8/ 227". 3 الطبري "1/ 207"، "دار المعارف". 4 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 27، وإخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 21، قاموس الكتاب المقدس، "2/ 450"، Hastings, P., 324.

بقية منها بقيت باقية1، وظلت جماعة منها تعيش على ساحل البحر الأحمر المقابل لمكة إلى أواخر القرن الثاني للهجرة2, ومن بقايا جرهم "العبيديون" في اليمن، على زعم بعض الأخباريين3. هذا، وما ذكره "الطبري" من وجود عَلاقة بين "جرهم" و"لحيان" يستند إلى حقيقة4. وقد ذكر "بلينيوس" اسم شعب دعاه: "Charmaei"، وذكره "أسطيفان البيزنطي" كذلك، ويرى "فروستر" أنه "جرهم"5. ويشك بعض الباحثين في صحة هذا الرأي؛ وذلك لأن الشعب المذكور كان يعيش على مقربة من المعينيين، أي: في أرض بعيدة عن مكة. ويدل ذكر "بلينيوس" و"أسطيفان البيزنطي" لهم، على أنهم كانوا من الشعوب العربية المعروفة في حوالي الميلاد وبعده، ولهذا ورد ذكره عند هذين الكاتبين6. وقد ذكر "الهمداني" أن موضعًا كان بمكة يقال له: "دوحة الزيتون"، كان مقبرة من مقابر جرهم، وأن نفرًا دخلوا المقابر، فوجدوا أشياء ثمينة من مصوغات وكتابات7. وإلى يعرب ينسب أهل الأخبار نشوء العربية, فيزعمون أنه كان أول من أعرب في لسانه، ولهذا قيل للسانه "العربية"8. وهذه رواية قحطانية تعارض الروايات العدنانية بالطبع، ويظهر من بعض روايات أهل الأخبار أن "يعرب" هو الذي جاء بولده إلى اليمن، فأسكنهم بها، إلا أنها لم تذكر الموطن الذي

_ 1 فلو سُئِلَتْ عنه معد بأسرها ... وقحطان أو باقي بقية جرهما ديوان حسان بن ثابت، رواية أبي سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي "طبعة سلسلة جب"، بعناية "هرشفلد"، ليدن 1910م، "ص44". Enc., Vol., I, P., 1066. 2 Enc., Vol., I, P., 1066. 3 الهمداني: صفة "ص188". 4 الطبري "1: 749" "طبعة أوربا"، Enc., Vol., I, P., 1066. 5 forster, Vol., I, P., 123. 6 Enc., Vol., I, 1066. 7 الإكليل "8/ 161 فما بعدها"، "طبعة نبيه"، "183 فما بعدها" "طبعة الكرملي". 8 مروج "1/ 277".

جاء منه1. وتذكر هذه الروايات أن ولده كانوا أول من حيَّى بتحية الملك، فقالوا له: "أبيت اللعن" و"أنعم صباحًا"2, وهي تحايا ينسبها بقية الأخباريين إلى غيره من الملوك المتأخرين, وسأتحدث عنها فيما بعد. وانتقل الملك -على رأي الأخباريين- من يعرب إلى ابنه يشجب، ويقال له: "يمن"، ومن ولده عبد شمس، ويقال له: عامر ويلقب بـ"سبأ" على زعم بعض الأخباريين, زعموا أنه هو الذي بنى قصر سبأ ومدينة "مأرب"، وأنه فتح مصر وبنى بها مدينة عين شمس، وأنه أول من سن السبي؛ ولذلك عرف بـ"سبأ"، وغير ذلك مما يقصه علينا أهل الأخبار3. ويلاحظ أن النسابين قد بخلوا على "يشجب" كثيرًا, فلم يهبوا له أولادًا كثيرين، وكل ما أعطوه هو: "سبأ الأكبر"، واسمه كما رأينا "عبد شمس"، وأعطاه بعضهم بالإضافة إليه: "جرهم بن يشجب"، و"شجبان بن يشجب"، فأولد "شجبان" صيفيًّا، وأولد صيفي مالكًا، وأولد مالك الحارث، وقد ملك4. ويذكر "الهمداني" نقلًا عن بعض الرواة أن لقب "سبأ" هو "الأعقف"، قال: "وكان أول من استعمل لتدمير الحكم في ملكه، وأول من نصَّب ولي العهد في حياته ... وأول من سبى السبي ممن ختر به وحاربه وناصبه" وروى في ذلك شعرًا نسبه إلى "علقمة بن ذي جَدن"5. وذكر "حمزة الأصفاني" نقلًا عن "عيسى بن داب" أن ملك "عبد شمس"، أي "سبأ"، كان في زمن "كيقباد"، فسار "سبأ" في مدن اليمن ومخابئها، وكانت إذ ذاك في بقايا عاد، فلم يدع بأرض اليمن أحدًا منهم إلا سباه واستعبده فسمي "سبأ"، ووطد بذلك حكم القحطانيين في اليمن6.

_ 1 "صار يعرب بن قحطان إلى أرض اليمن في ولده فاستوطنها، وهو أول من نطق بالعربية"، حمزة "ص81". 2 حمزة "ص81"، الإكليل "1/ 116 وما بعدها". 3 ابن خلدون "2/ 47"، التيجان "ص49"، المحبر "ص364"، الاشتقاق "ص217"، حمزة "ص81"، Enc., Vol., 4, P., 1160, Wuestenfeld, Register, S., 388. 4 الإكليل "1/ 125 وما بعدها". 5 الإكليل "1/ 125". 6 حمزة "ص82".

وقد عثر العلماء على نص وسموه بـ"Rep. Epigr. 4304"، هذا نصه: "عبد شمس، سبأ بن يشجب، يعرب بن قحطان". وهو نص أشك في صحته، وأرى أنه وضع بعد الجاهلية بزمن قد يكون غير بعيد, صنعه بعض من تعلم حروف المسند، أو ممن يتقنون صناعة تزييف العاديات اليمانية؛ لأن أسلوب المسند معروف، ولا نجد في نصوصه نصًّا واحدًا دُوِّن على هذا النسق في تدوين النسب. ثم إن هذا النسب هو نسب متأخر وضع على أثر احتدام النزاع بين القحطانيين والعدنانيين في العصر الأموي كما سنرى فيما بعد. والظاهر أن ناقش النص، وهو من اليمن، أراد إثبات ورود هذا النسب عند السبئيين وإقناع الناس بأنه كان معروفًا فدونه، على كل حال إن في استطاعة الباحثين تقدير زمن تدوين هذا النص، ودراسة طبيعة اللوح الذي دون عليه بالطرق الفنية، وعندئذ يمكن إثبات صحة تلك الكتابة أو عدم صحتها بطريقة علمية لا تقبل جدلًا. وجعل "المسعودي" لسبأ عشرة أولاد، تشاءم منهم أربعة، وتيامن منهم ستة؛ فالذين تشاءموا: لخم وجُذام وعاملة وغسان، والذين تيامنوا حمير والأزد ومذحج وكنانة والأشعريون وأنمار الذين هم بَجِيلة وخَثْعَم1, وذلك على رواية من جعل أنمارًا من سبأ، وجعلهم في كتابه "التنبيه والإشراف": حميرًا وكهلان وعمرًا والأشعر وأنمارًا وعاملة ومُرًّا2. وجاء في كتاب "شمس العلوم": "سئل النبي عن سبأ، فقال: رجل من العرب أولد عشرة, تيامن منهم ستة: حمير وهمدان وكندة ومذحج والأشاعر وأنمار، وتشاءم منهم أربعة: جذام ولخم وعاملة والأزد3". وأما "الهمداني"، فأولد لسبأ العرنجج وهو حمير، وكهلان، وأضاف إليهما استنادًا إلى رواية "ابن الكلبي": نصرًا، وأفلح، وزيدان، وعبد الله، ونعمان، والمود، وهوذة أو أهود، ويشجب، ودرهمًا، وشداد، وربيعة4، وأضاف إلى هؤلاء استنادًا إلى رواية أخرى: أبا ملك عميكرب بن سبأ، وأهون

_ 1 مروج "1/ 278". 2 التنبيه "ص46"، الاشتقاق "ص217". 3 شمس العلوم "جـ1، ق2، ص312". 4 الإكليل "1/ 126 وما بعدها".

ابن سبأ "الهون"، وجعلهم: حميرًا، وكهلان، وبشرًا، وريدان، وعبد الله، وأفلح، والنعمان، والمود، ويشجب، ودرهمًا، وشدادًا، وربيعة، في مكان آخر1. ويذكر المسعودي أن حميرًا هو الذي تولى الملك بعد أبيه, وكان كما يقول أول من وضع على رأسه تاج الذهب من ملوك اليمن؛ ولذلك عرف بـ"المتوج" وحكم خمسين سنة2, وقد عرف حمير بـ"العرنج" "العرنجج". وذكر "ابن الكلبي" أنه كان يلبس حللًا حمرًا، وصرح بعض أهل الأخبار أنه كان هناك ثلاثة رجال عرفوا بـ"حمير" هم: الأكبر, والأصغر، والأدنى؛ فالأدنى هو حمير بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة، وهو حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن سهل بن زيد بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حذار بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج، وهو حمير الأكبر بن سبأ الأكبر بن يشجب3. وأولاد حمير هم: مالك، وعامر، وعمرو، وسعد، ووائلة في رواية, والهميسع بن حمير، ومالك بن حمير، ولهيعة بن حمير، ومُرة بن حمير على رواية "أبي نصر" في قول "الهمداني"، والهميسع، ومالك، وزيد، وعريب، ووائل، ومشروح "مسروح"، ومعديكرب، وأوس، ومرة على رواية أخرى، وجعلهم بعض الرواة أكثر من ذلك عددًا4. وقد ورد في الجزء الأول من الإكليل "عميكرب" في موضع "معديكرب" و"واسا" في موضع "أوس"5.

_ 1 الإكليل "1/ 133". 2 مروج "1/ 278"، وجعل بعض النسابين لحمير تسعة أولاد، هم: الهميسع، ومالك، وزيد، وعريب، ووائل، ومشروح "مسروح" ومعديكرب، وأوس، ومرة، وجعلهم بعض آخر أكثر عددًا، ابن حزم، جمهرة "ص406", ابن خلدون "2/ 242". 3 تاج العروس "3/ 158"، "وزرعة، هو حمير الأصغر"، الاشتقاق "ص217، 306"، اللسان "3/ 147"، وتاج العروس "2/ 73". 4 الإكليل "1/ 129"، مروج "1/ 278"، ابن حزم، جمهرة "ص406"، ابن خلدون "2/ 242". 5 الإكليل "133".

وولد مالك بن حمير، قضاعة بن مالك بن حمير، جد قبائل قضاعة في زعم من يجعل قبائل قضاعة من اليمن. أما نسابو العدنانيين، فيدخلونها في عدنان، ولا يوافقون على إلحاق نسبها باليمن، ويرون أن ذلك وقع متأخرًا لدوافع سياسية وعصبية. وجعل "الهمداني" لقضاعة أولادًا هم: إلحاف، والحاذي، ووديعة، وعبادة1. أما صاحب "الاشتقاق"، فقد اكتفى بذكر ولدين هما: إلحاف والحاذي، ثم قال: ومنهما تفرعت قضاعة2. وولد إلحاف بن قضاعة على رأي "الهمداني" هم: عمران بن إلحاف، وعمرو بن إلحاف، وأسلم بن إلحاف، وعُرَايد بن إلحاف، وزيد بن إلحاف، وعبيد بن إلحاف، وعشم بن إلحاف، وسقام بن إلحاف، وليلى بنت إلحاف، وسلمان بن إلحاف, على ما ورد في سجل خولان3. فولد عمران بن إلحاف، حلوان بن عمران بن إلحاف، وتزيد بن عمران بن إلحاف, وسليح بن عمران بن إلحاف4, فولد حلوان بن عمران تغلب الغلباء، وربَّان وهو علاف5, وقد عدهم "ابن حبيب" من "قبائل الحُمْسى من العرب"6. وقد جعل بعض النسابين "سليحًا" ابنًا لعمرو بن إلحاف بن قضاعة7. وذكر بعضهم أن اسم سليح هو "عمرو", ونسبوا إلى حلوان أبناء آخرين، هم: مزاح، وعابد، وعائد، وتزيد, وقد دخل بعض هذه القبائل في قبائل أخرى، فدخلت "عابد" و"عائد" في غسان، ودخلت تزيد في تنوخ. وولد تغلب وبرة، فولد وبرة كلبًا والنمر والأسد والذئب والثعلب والفهد والضبع والدب والسيد والسرحان والبرك وتغلبًا والخشند وعبسًا وضنة. فولد الأسد بن وبرة تيم الله فهمًا8 وقهمًا9 في همدان، وهو تنوخ، وقد دخل في

_ 1 الإكليل "1/ 166، 180". 2 الاشتقاق "ص133". 3 الإكليل "1/ 180 وما بعدها". 4 الإكليل "1/ 181 وما بعدها". 5 الإكليل "1/ 180". 6 المحبر "179". 7 المحبر "ص250". 8 بالفاء. 9 بالقاف.

تنوخ المتتخين، وهم: جرم، ونهد، والأزد، وإياد، وشيع الله بن أسد. فأولد شيع الله جسرًا، فولد الجسر القين بن جسر, وولد تغلب بن وبرة عامرًا وهو طابخة، وولد النمر بن وبرة التيم وخشينًا وفتية بن النمر1. وولد "ربان" جرمًا، وعوفًا، وأولد أسلم بن إلحاف سودًا وحوتكة, ابني أسلم, فولد سود ليثًا, فولد ليث زيدًا، فولد زيد نهدًا وسعدًا وجهينة. فولد سعد -ويعرف بسعد هذيم- عذرة والحارث وصعبًا ومعاوية ووائلًا, بطونًا كلها. وولد عمرو بن إلحاف2 بهراء وبليًّا وحيدان وخَوْلان ولوذة, وخولان تقول: لوذ, فأولد لوذ "هوذة", وولد حيدان بن عمرو، مهرة، ومجيدًا، وتزيد, الذين تنسب إليهم "الثياب التزيدية"3. وأولد مهرة بن حيدان: إضطمرى بن مهرة، فولد إضطمرى ثلاثة نفر: الآمري، ويقال: آمري، ونادغم، والدين، فولد الآمري: القمر، والقرا, والمصلا، والمسكا. ومن قبائل القمر: بنو ريام -وبلدهم قرية يقال لها رضاع على ساحل بحر عُمان, ولهم جبل حصين بناحية عمان يمتنعون فيه يعرف بجبل بني ريام- وبنو خنزريت، وبنو تبرح. ومن قبائل الديل حسريت، فأولد حسريت: الشوجم، ويحنن، وأولد يحنن: كرشان، والثعين، فمن الثعين بنو تبلة بن شاسة4. ويختلف ما في "سجل خولان وحمير بصعدة" عن نسب مهرة بعض الاختلاف في رواية "أبي راشد" المتقدمة التي ذكرها الهمداني؛ ففي السجل المذكور: أولد مهرة: الآمري، والدين، ونادغم, وبيدع بطنًا, فولد الآمري: إضطمرى ومهرى. فولد إضطمرى: القمر، ويبرح, فولد يبرح: القرا، وبني رئام, وولد مهرى: المذاذ, والمسكا، والمصلا, فولد المصلا المزافر, وولد الدين: الوجد، والغيث، فمن الغيث: بنو باغت، وبنو داهر, وولد نادغم: العيد

_ 1 الإكليل "1/ 182 وما بعدها". 2 في الإكليل "1/ 188"، "وولد عمر بن إلحاف بهرا"، والصحيح "عمرو", والخطأ هو خطأ مطبعي، أردت التنبيه عليه لإصلاحه. 3 الثياب التزيدية، هي التي بها خطوط حمر، الإكليل "1/ 189"، "التزيديات" "برود بني تزيد"، معاهد التنصيص "ص85، 257"، الإكليل "1/ 189 وما بعدها"، شمس العلوم "جـ1، ق1، ص196". 4 الإكليل "1/ 192 وما بعدها".

وحسريتًا، والعقار, فولد حسريت الشوجم، ويحنن، فولد يحنن: الثعين، والثغراء، والكرشان. وقال بعض الحضارمة: من نادغم بنو حديد، وبنو بخ1. وأولد مجيد بن عمرو بن حيدان بن عمرو يحنن، وحيًّا، وحبيبًا, وعندلًا, ووداعة، والأقارع2. فأولد خولان بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة سبعة نفر: حيّ بن خولان وهو الأكبر من ولده، وسعد بن خولان وهو الذي ملك بصرواح، ورشوان بن خولان، وهانئ بن خولان، ورازح بن خولان، والأزمع بن خولان، وصُحار بن خولان3. ويضيف بعض النساب إليهم أولادًا آخرين، وجعلهم بعضهم ثلاثة عشر ابنًا4. وأولد حي بن خولان: عدي بن حي، وزيد بن حي، وشعب بن حي، ومرثد بن حي، وغنم بن حي، والمقدام بن حي، ونوف بن حي5. وتجد بعض الاختلاف في هذه الأسماء، بحسب اختلاف روايات النسابين6. ومن ولد حي بن خولان "جيهم"، وهو الذي قال فيه امرؤ القيس: فمن يأمن الأيام من بعد جيهم ... فعلن به كما فعلن بحزفرا وقد زعم أهل الأخبار أن "جيهمًا" المذكور كان ملكًا من ملوك حمير7. وأولد سعد بن خولان: ربيعة بن سعد, وسعد بن سعد، وعمرو بن سعد8, فأولد ربيعة: حجر بن ربيعة، وسعد بن ربيعة، وكامل بن ربيعة، وفروذ بن ربيعة، ويغنم بن ربيعة، ورشوان الأصغر بن ربيعة، وداهكة بن ربيعة في بعض الروايات9.

_ 1 الإكليل "1/ 193 وما بعدها". 2 الإكليل "1/ 198". 3 الإكليل "1/ 201 وما بعدها، 348". 4 الإكليل "1/ 203". 5 الإكليل "1/ 205 وما بعدها". 6 الإكليل "1/ 348". 7 شمس العلوم "جـ1، ق2، ص368". 8 الإكليل "1/ 217، 348". 9 الإكليل "1/ 218".

وأولد سعد بن سعد بن خولان: الحارث بن سعد، وحرب بن سعد، وغالب بن سعد، وسهمك بن سعد، وقثم بن سعد1, وأولد غالب بن سعد بن سعد بن خولان: يعلى بن غالب، فأولد يعلى بن غالب: جبرًا، ومعيشًا، وشبلًا، ثلاثة أبطن2. وولد هانئ بن خولان: هلالًا، وعليًّا, فولد هلال شرحبيل وجابرًا، فولد شرحبيل هلالًا، فولد هلال شرحبيل الأصغر، وجابرًا. وأولد شرحبيل الأصغر "جماعة"، وهي قبيلة عزيزة, وهم أهل بوصان من أرض خولان. وجعل بعض النسابين ولد هانئ خمسة نفر: هلالًا، ويعلى، وعليًّا، وسعدًا، وجامعًا3. وأولد رازح بن خولان مرثدًا، وعويضًا، ورائمًا، ويعلى، ويغنمَ، وبزيًّا، بطونًا كلها. وذكر بعضهم قائمة تختلف عن هذه في أسماء هؤلاء الأولاد4. وأولد رشوان بن خولان: لاحقًا، ومخلفًا، وخليفة، وسعدًا، ومنبرًا، وحربًا، وخوليًّا. وهناك رواية أخرى تختلف عن هذه في ذكر الأسماء5. وولد الأزمع بن خولان ثابتًا، والأجبول، وأخيل، ومخيلًا، والأسووق، والجعل، ومرَّان6. وجعل بعض الأخباريين عدة ولده عشرة، هم: مران، والكرب، والأسووق، وحفنى، وعبد الله، ويعلى، وثابت، وعمرو، وعمير، والناسك7. وأولد صحار بن خولان ستة نفر: عامرًا، وبشرًا، وطارقًا، وعلقمة، وشبلًا، وحاذرًا، وكل هذه بطون كبار8. هذا, وإننا لنجد اختلافًا بين النسابين في تثبيت هذه الأنساب، مما يدل على أن أهل النسب مع دعواهم بحفظ النسب ووجود مشجرات للأنساب عندهم،

_ 1الإكليل "1/ 298". 2 الإكليل "1/ 314". 3 الإكليل "1/ 321 وما بعدها، 348". 4 الإكليل "1/ 323 وما بعدها، 348". 5 الإكليل "1/ 324، 348". 6 الإكليل "1/ 325". 7 الإكليل "1/ 348". 8 الإكليل "1/ 326".

كانوا يختلفون فيما بينهم في النسب، حتى إننا نستطيع أن نقول: إن سجل خولان وحمير الذي بصعدة، لم يكن يتفق مع الروايات الأخرى الواردة في النسب، ويتجلى ذلك في الروايات المتناقضة التي نراها في الإكليل وفي غيره من كتب الأنساب، ويظهر أن نسابي أهل اليمن كانوا يعتمدون على علمائهم في النسب، وعلى ما كان مدونًا عندهم منه؛ ولهذا تجدهم يختلفون في كثير من أنساب أهل اليمن عن النسابين الشماليين الساكنين في العراق أو في بلاد الشام. وجعل "الهمداني" ولد "مالك بن حمير" على هذا النحو: "زيد بن مالك"، و"زهران بن مالك", وهم حي عظيم, ولهم كانت اليمامة، و"هوازن الأولى بن مالك" و"الغمور بن مالك"، و"الأخطور بن مالك"، وقيل: "هزان الأولى بن مالك". وقد ولد زيد بن مالك "مرة بن زيد"، فولد مرة بن زيد عمرو بن مُرَّة، فولد عمرو بن مرة مالك بن عمرو، فولد مالك بن عمرو قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير1. وولد عامر بن حمير دهمان، وولد دهمان "يحصب" كلها، وولد سعد بن حمير السلف وأسلم، وولد عمرو بن حمير الحارث، وولد "الحارث" "آل ذي رعين"2. ويذكر "ابن قتيبة" أن الذي حكم بعد "حمير" هو أخوه "كهلان"، وكان ملكه ثلاثمائة سنة، أي: إنه أضعاف أضعاف مدة حكم أخيه حمير, وإذا كانت هذه هي مدة حكمه، فلا بد أن يكون عمره يوم مات أكثر من ذلك بالطبع3. وقد ولد "كهلان" زيدًا، وولد "زيد" مالكًا، وأدَدًا، فولد أدد طيئًا وهو جلهمة، و"الأشعر" وهو "نبت"، و"مالكًا" وهو "مذحج"، و"مرة"4. ومن طيء "بنو فطرة"، و"الغوث"، و"الحارث". ومن "فطرة": "سعد"، ومنهم: "الأسعد"، و"خارجة"، و"تيم الله". ومن

_ 1 الإكليل "1/ 136". 2 المعارف "ص47". 3 المعارف "ص47". 4 المبرد، نسب عدنان "ص18"، وفي المعارف: "طيء بن أدد ومالك بن زيد" "35"، وفي الاشتقاق: هما ابنا "زيد بن كهلان"، "228".

"خارجة"، "جديلة"، ومن "جديلة": "بنو رومان"، ومنهم "ذهل"، و"ثعلبة" ومن "ذُهْل": ثعلبة، و"جدعاء"، ومن "جدعاء": ثعلبة، ومن ثعلبة: تيم1. ومن الغوث بن طيء: عمرو، ومن عمرو: أشنع، وثعل، وبولان، وهنيء، ونبهان، وجرم2, ومن "ثعل": معاوية، وسلامان، وجرول, ومن معاوية: سنبس, ومن سلامان: بحتر، ومعن, ومن جرول: ربيعة، ولوذان, ومن ربيعة: أخزم3. ومن ولد "مالك بن أدد" المعروف بمذحج: سعد العشيرة، وعنس، وجلد، ومراد، وهو يحابر4, ومن سعد العشيرة: جزء، وزيد الله، والحكم5، وأوس الله، وصعب، وجعفى, ومن جزء: الحمد والعدل, ومن الحكم: جشم، وسلهم, ومن صعب: زبيد، وأود, ومن جعفى: مران وحريم6. ومن جلد: عُلّة, ومن علة: حرب، وعمرو, ومن حرب: يزيد بن حرب، ومنبه بن حرب. ومن منبه: رهاء، ومن يزيد المعروف بصداء: الحارث، والغلي، وسيحان، وشمران، وهفَّان، ومنبه، هؤلاء الستة يقال لهم: جَنْب7. ومن "عمرو بن علة": عامر، وكعب، والنخع، وهو جسر8, ومن عامر: مُسلية, ومن كعب: الحارث, ومن الحارث: معقل، والحماس،

_ 1 نسب عدنان "ص19"، الاشتقاق "233"، الأغاني "16/ 93"، سبائك الذهب "56". 2 نسب عدنان "ص19". 3 نسب عدنان "19"، سبائك الذهب "56" الأغاني "16/ 93"، الاشتقاق "233"، شمس العلوم "جـ1، ق1، ص250". 4 نسب عدنان "ص19". 5 نسب عدنان "ص19". 6 وفيها يقول لبيد: ولقد بلت يوم النخيل وقبله ... مران من أيامنا وحريم نسب عدنان "ص19". 7 ويختلف النسابون في هذه الأنساب، نسب عدنان "ص20". 8 نسب عدنان "ص19"، "فمن بني علة: النخع، قبيلة، وأخوه جسر"، الاشتقاق "2/ 237".

وعبد المدان, ومن النخع: عوف، ومالك1, ومن النخع: صلاءة, ورزام، ومنهم الحماس، والحارث، وكعب، وهو الأرتّ2. ومن مراد وهو يحابر: زاهر، وناجية، ومن ناجية: غطيف، وقرن، وبنو ردمان, ومنهم من جعل قرنًا ابنًا لردمان, ومن زاهر: الربض، وبنو زوف، والصنابح3. ومن الأشعر: الجماهر، والأتغم، والأدغم، والأرغم، وجدة، وعبد شمس، وعبد الثريا4. ومن ولد "أدد": "مُرة", وولد "مرة": "الحارث", وولد "الحارث": "عديًّا"، و"مالكًا", وولد "عدي": "جذامًا"، واسمه عمرو، ومنهم بنو حرام، وبنو جشم5، و"لخمًا" وهو "لخم بن عدي"، ومنهم: "بنو جزيلة"، و"بنو نمارة"6، و"عفيرًا" ومنهم "ثور بن عفير بن عدي"، وهو "كندة", و"الحارث"، وهو "الحارث بن عدي", وهو "عاملة"7. وقد هجا "الكميت" جذام؛ لأنها تحولت إلى اليمن، وهي معروفة بأنها من "بني أسد بن خزيمة"8. وهذا مما يدل على أن جذام كانت قد اختلط نسبها بسبب اختلاطها بالقبائل المتجمعة، وأن نسبها اختلط لذلك بالقحطانيين وبالعدنانيين. ومن كندة: "بنو معاوية" و"أشرس", ومن "بني معاوية": "الحارث"9، ومنهم "الرائش"10, ومن "أشرس": "السكون"11،

_ 1 الاشتقاق "2/ 237". 2 الاشتقاق "2/ 237". 3 الاشتقاق "2/ 247 وما بعدها". 4 الاشتقاق "2/ 248". 5 الاشتقاق "2/ 225". 6 الاشتقاق "2/ 225 وما بعدها". 7 نسب عدنان "ص20". 8 المعاني الكبير "1/ 524 وما بعدها". 9 نسب عدنان "ص20"، نهاية الأرب "13/ 341"، وفيهم يقول الأعشى: وإن معاوية الأكرمين ... حسان الوجوه طوال الأمم نسب عدنان "ص21". 10 نسب عدنان "21"، المعارف "150"، الاشتقاق "218". 11 نسب عدنان "21"، الاشتقاق "221".

و"السكاسك"، و"بنو حجر"1، و"بنو الجون"، و"بنو الحارث"، وأولاده، وقبائل أخرى2. ومن "بني حرام": "غطفان"، و"أفصى", ومن "جزيلة": راشدة، وحدس، ومن نمارة: الدار، وبنو نصر. أما "مالك بن الحارث بن مرة بن أدد" فولد: "عمرًا"، و"يعفر", ومن "عمرو" خولان وهو فكل3، ومن يعفر ولده: المعافر4. وولد "خيار بن مالك" ربيعة، وولد "ربيعة" أوسلة، وهو: همدان5، وألهان, وولد همدان نوفًا وخيران، فمنهم بنو حاشد وبنو بكيل, منهم تفرقت همدان، وعريب6, ومن بطون همدان: السبيع، ووداعة7. وأما "خارجة" فمنهم جديلة، وهي من طيء8, وأما عمرو بن سعد، فهو أبو خولان بن عمرو9, وولد "مراد بن مذجح": أنعم بن مراد، ويحابر، وكان لهم يغوث بجرش, وولد خالد بن مذجح: علة بن خالد, فولد علة عمرًا, فولد عمرو: جسرًا وكعبًا, ومن كعب "بنو النار"، و"بنو الحماص"، و"بنو قنان"10. وأما "سيدعان"، فمنهم سلامان11, وأما "زهران"، فمنهم "دوس بن عدنان"، ومنهم جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس، وجهضم بن مالك رهط الجهاضم12, وسليمة بن مالك، وبنو هناءة، ومعن بن مالك.

_ 1 نسب عدنان "21". 2 نسب عدنان "21. 3 الاشتقاق "2/ 227". 4 الاشتقاق "2/ 227". 5 المعارف "48"، نسب عدنان "20"، "ولد مالك بن زيد بن كهلان: الخيار، فولد الخيار أوسلة، وهو همدان، وألهان"، الاشتقاق "2/ 250". 6 الاشتقاق "2/ 250". 7 الاشتقاق "2/ 253"، العقد الفريد "2/ 246"، نسب عدنان "21". 8 طيء بن أدد، واسمه جلهمة، الاشتقاق "2/ 227". 9 خولان واسمه: فكل بن عمرو ... ولد يعفر المعافر باليمن، تنسب إليهم الثياب المعافرية، الاشتقاق "2/ 227 وما بعدها". 10 المعارف "48". 11 المعارف "49"، الاشتقاق "287". 12 بنو جهضم بن جذيمة الأبرش بن مالك، الاشتقاق "2/ 292".

ومنهم بطن يقال له يحمد، والفراهيد, ومن زهران بنو يشكر والجدرة1. وأما نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، فقد أولد "الغوث", ومن "الغوث" عمرو والأزد, ومن "عمرو": أراش، ومن أراش: أنمار، ومن أنمار: خثعم، وبجيلة، وعبقر2, ومن بجيلة: بنو قسر, ومن بطونهم: بنو نذير، وبنو أفرك، وعرينة3, ومن "خثعم": شهران ناهس، وشهران، ويقال لهما: بنو عفرس4. وأما الأزد، فمن ولده: مازن، وعمرو، ودوس، ونصر، ومالك، وقدار، والهنو، وميدعان، وزهران، وعامر، وعبد الله، وغيرهم. وأما مازن فمنهم: ثعلبة، ومنهم عامر، وامرؤ القيس، وكُرز, ومن امرئ القيس: حارثة الغطريف, ومنهم عدي، وعامر ماء السماء، والتوءم، ومن عامر ماء السماء: ثعلبة العنقاء، ومالك، والحارث، وجفنة، وكعب، وهم غسان, نزلوا على ماء يسمى "غسان" فنسبوا إليه. ومن ثعلبة العنقاء حارثة، ومنهم الأوس والخزرج5. وقد عرف "الأوس" و"الخزرج" بابني قَيْلة6، وذكر أنهم لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته؛ فغزاهم "تبع أبو كرب" فكانوا يقاتلونه نهارًا، ويخرجون إليه العشاء ليلًا، فلما طال مكوثه، ورأى كرمهم، رحل عنهم7. ومن "نصر بن الأزد": "حمار بن نصر بن الأزد", قالوا: وكان له بنون فماتوا، فحلف: لأميتنَّ من أحيا من أهل الجوف، فقتل ثمود، فقيل: أخلى من جوف حمار8.

_ 1 المعارف "49". 2 الاشتقاق "2/ 302". 3 الاشتقاق "2/ 302". 4 الاشتقاق "2/ 304". 5 شمس العلوم "جـ1، ق2، ص342"، نسب عدنان "21"، الاشتقاق "258، 287"، المعارف "49". 6 العقد الفريد "1/ 192 وما بعدها". 7 العقد الفريد "1/ 192 وما بعدها". 8 شمس العلوم "جـ1، ق1، ص262 وما بعدها".

العرب المستعربة

العرب المستعربة: والطبقة الثالثة من طبقات العرب -على رأي أهل الأخبار- هم "العرب المستعربة" "المتعربة"، ويقال لهم: العدنانيون أو النزاريون أو المعديون. وهم من صلب "إسماعيل بن إبراهيم" وامرأته "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"1. قيل لهم "العرب المستعربة"؛ لأنهم انضموا إلى العرب العاربة، وأخذوا العربية منهم, ومنهم تعلم "إسماعيل" الجد الأكبر للعرب المستعربة العربية، فصار نسلهم من ثَمَّ من العرب واندمجوا فيهم, وموطنهم الأول مكة على ما يستنبط من كلام الأخباريين، فيها تعلم "إسماعيل" العربية، وفيها ولد أولاده، فهي إذن المهد الأول للإسماعيليين2. ويذكر أهل الأخبار أن "إسماعيل" ولد من زوجه "رعلة"، اثني عشر رجلًا هم: "نابت" وكان أكبرهم، و"قيذر" و"أذبل"، وميشا، ومسمعا، وماشى، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما3. وأكثر هذه الأسماء ورودًا في الكتب العربية نابت وقيذر. وقد أخذ النسابون هذه الأسماء من التوراة، فقد جاء فيها: "هذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم على حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار، وأدبئيل، ومبسام، ومشماع، ودومة، ومسا، وحدار، وتيما، ويطور، ونافيش، وقدمة4". ولم تذكر التوراة اسم المرأة التي تزوجها إسماعيل، فأولدها هؤلاء الأولاد الذين انتشروا، فسكنوا في منطقة تمتد من "حويلة" إلى "شور"5. وعدنان في نظر العدنانيين هو جدهم الأعلى، كما أن قحطان هو الجد الأعلى للقحطانيين6. ولما كانت الطبقة الأولى من العرب قد بادت وذهبت، تكون

_ 1 ابن هشام "1/ 3"، السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، ابن خلدون "2/ 37"، الطبري "1/ 161"، ابن الأثير "1/ 49"، الطبقات "1، 1، ص25", تاج العروس "1/ 375"، ونابت بن إسماعيل -عليه السلام- ولي بعد أبيه، أمه السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، تاج العروس "1/ 590". 2 المصادر المذكورة، نهاية الأرب "2/ 392" طبقات، لابن سلام "ص4". 3 ابن هشام "1/ 3", ابن خلدون "2/ 39", الطبري "1/ 161", ابن الأثير, الكامل "1/ 49"، مع اختلاف في ضبط الأسماء. 4 التكوين، الإصحاح 25، الآية 12 فما بعدها. 5 التكوين، الإصحاح 25، الآية 18. 6 تاج العروس "9/ 275".

العرب الباقية وكلها من ولد قحطان وعدنان، استوعبت شعوب العرب كلها. وقد رأينا أن "قحطان" هو "يقطن" أو "يقطان" في التوراة, أما "عدنان"، فلا نجد له اسمًا فيها. وقد رأينا أن بين "يقطان" و"سام" ثلاثة آباء أو أربعة, أما بين عدنان وسام، فعدد كبير من الآباء. وقد اختلف النسابون في عدد من كان بين إسماعيل وعدنان من الآباء، فرأى بعضهم أنهم أربعون، وروى غيرهم أنهم عشرون، وقال آخرون: إنهم خمسة عشر شخصًا1، وقالت جماعة: إن المدة طويلة بين عدنان وإسماعيل بحيث يستحيل في العادة أن يكون بينهما هذا العدد من الآباء2. وقد اختلف الأخباريون وأصحاب الأنساب في نسب عدنان اختلافًا كبيرًا، واختلفوا بينهم حتى في كيفية النطق بتلك الأسماء، على حين أننا لا نرى اختلافا بينهم في نسب قحطان، ولا في كيفية النطق بتلك الأسماء3. وقد علل محمد بن سعد الواقدي ذلك بقوله: "وكان رجل من أهل تدمر يكنى أبا يعقوب من مسلمة بني إسرائيل قد قرأ من كتبهم، وعلم علمهم، فذكر أن بورخ بن ناريا كاتب إرميا, أثبت نسب معد بن عدنان عنده، ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب وعلمائهم، مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء. ولعل خلاف ما بينهم من قِبَل اللغة؛ لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية"4. ويقول الواقدي في موضع آخر: "وهذا الاختلاف في نسبته يدل على أنه

_ 1 النويري، نهاية "2/ 324"، ابن عبد البر، القصد "22". 2 الطبري "2/ 191"، ابن هشام "1/ 3 فما بعدها", مروج "1/ 394" طبقات ابن سعد "1، 1، ص28 فما بعدها", ابن خلدون "2/ 298" نسب عدنان "2"، صبح الأعشى "1/ 307", نسب قريش لأبي عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري "تحقيق ليفي بروفنسال"، "ص3 فما بعدها". Enc., vol., p., 142, wuestenfeld, register, zu den general Tablelln der arab. Stamme, s., 47, caussin de perceval, essal, I, 8, 175, j.d. bate, an examination of the cailms of ischmael, 1884, p., 109, sprenger, life of mohammad, 57, note 3, and 4, mills, history of mohammadanishm, 7, pocock, specimen, 40 3 نهاية الأرب "2/ 306". 4 الطبقات "جـ1، ق1، ص29".

لم يحفظ، وإنما أخذ من أهل الكتاب، وترجموه لهم، فاختلفوا فيه, ولو صح ذلك؛ لكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلم الناس به. فالأمر عندنا على الانتهاء إلى معد بن عدنان، ثم الإمساك عما وراء ذلك إلى إسماعيل بن إبراهيم"1، وقال أيضًا: "ما وجدنا في علم عالم ولا شعر شاعر أحدًا يعرف ما وراء معد بن عدنان بثبت"2. ونقل ابن خلدون رأي من تقدمه في هذا الاختلاف، فقال: "ونقل القرطبي عن هشام بن محمد فيما بين عدنان وقيدار نحوًا من أربعين أبًا، وقال: سمعت رجلًا من أهل تدمر من مسلمة يهود وممن قرأ كتبهم يذكر نسب معد بن عدنان إلى إسماعيل من كتاب إرمياء النبي -عليه السلام- وهو يقرب من هذا النسب في العدد والأسماء إلا قليلًا، ولعل الخلاف إنما جاء من قبل اللغة؛ لأن الأسماء ترجمت من العبرانية"3. ويرجع بعض أهل الأخبار اختلاف الناس في عدد الآباء والأجداد فيما بين عدنان وإسماعيل إلى أيام النبي، فهم يذكرون أن الناس كانوا في خلاف فيما بينهم في عددهم، وأن الرسول لما رأى خلافهم هذا، نهاهم عن تجاوز نسب "معد بن عدنان"، وأمرهم بالتوقف عنده, وانتسب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عدنان، وقال: "كذب النسابون، فما بعد عدنان، فهي أسماء سريانية لا يوضحها الاشتقاق"4. وقد جعل بعض الأخباريين اسم والد "عدنان" "أُدَدًا"، وساقوا نسبه على هذا الشكل: "عدنان بن أدد بن يرى بن أعراق الثرى"5، وساقه آخرون على هذا الوجه: "عدنان بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوص بن يوز بن قموال بن أبي بن العوام بن ناشد بن بلداس بن تدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحس بن ماخي بن عيقي بن عبيد بن الدعا ... " إلى آخر ذلك

_ 1 الطبقات "جـ1، ق1، ص29". 2 الطبقات "جـ1، ق1، ص30". 3 ابن خلدون "2/ 298"، ابن سلام، طبقات "11"، ابن حزم، جمهرة "6". 4 الاشتقاق "20"، ابن خلدون "1/ 3"، البلاذري، أنساب "1/ 12". 5 الطبقات "جـ1، ق1، ص28".

من سلسلة مفتعلة ولا شك، رواها "ابن الكلبي"1. وقد سبق النسب على هذه الصورة أيضًا: "عدنان بن أدد بن الهميسع"2, وروي بصور أخرى في كتاب نسب قريش لـ"الزبيري"3. ولم يذكر أهل الأخبار شيئًا عن "أد" أو "أدد"، ولا عن كيفية توصلهم إلى أحدهما أو كليهما. وقد زعم بعض علماء اللغة أن "أدّ" من "أَدَّ"، والكلمة فعل من المودة، "قلبت الواو ألفًا لانضمامها"4. وذكر الأخباريون أن "وُدًّا"، وهو الصنم الشهير الذي تغلب على دومة الجندل وتعبدت له "كلب" و"قريش" وقبائل أخرى عديدة، كان يهمز أيضًا، فيقال "أُدّ"، وبه سمي "عبد وُدّ"، كما سمي "أد بن طابخة"، و"أدد جد معد بن عدنان"5. ونجد بين آلهة الشعوب السامية اسم صنم يقال له: "أدد" "Adad" و"أدو" "Addu"6، أرى أن لاسم هذا الصنم علاقة باسم "أدد". وقد ساق "محمد بن إسحاق" نسب عدنان على هذه الصورة أيضًا: "عدنان بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل"7، فجمع بين نسب "عدنان" ونسب "يعرب"، وأرجعهما كما ترى إلى "إسماعيل"، وساقه في مكان آخر بصورة أخرى. والغريب أن الرواة الذين رووا هذه الأنساب وشجرات النسب التي يتصل سند روايتها بهم، كابن الكلبي ومحمد بن إسحاق وأمثالهما، هم أنفسهم يروون هذا النسب بأشكال مختلفة ومتضاربة؛ وطالما حرفوا الأسماء العبرانية، ورووها بصور متعددة، وقد يحشون بينها أسماء عربية. وقد روى رواياتهم هذه أناس متعددون، ولكنهم متفقون على أنهم سمعوها منهم، أو نقلوها من مؤلفاتهم،

_ 1 الموارد المتقدمة, وتاج العروس "9/ 275". 2 تاج العروس "9/ 275". 3 نسب قريش "ص3 فما بعدها". 4 اللسان "4/ 496". 5 اللسان "4/ 496". 6 Schrader, KAT, S., 443.FF 7 الطبقات "جـ1، ق1، ص28".

كما يتبين ذلك من السند. ولما كان أكثر هذه الأسماء الواردة في عمود نسب "عدنان" محرفة، وكانت غير موجودة في التوراة، وإنما هي أسماء عبرانية ممسوخة أحيانًا؛ فإن هذا يدل على أن الرواة اليهود الذين كانوا يتحدثون بمثل هذه الأمور إلى ابن الكلبي ومحمد بن إسحاق وغيرهما ممن مال إلى الأخذ منهم، كانوا إما جهلة بما يتحدثون به، وإما كذابين أو ممن كانوا يحاولون التقرب إلى المسلمين بهذه التلفيقات لمآرب خاصة، أو ادعاءً للعلم, غير أننا لا نستطيع أن نبرئ هؤلاء الرواة أنفسهم من وصمة الجهل أو الكذب، ولا سيما أن الكلبي الذي تفرد برواية معظم هذه الأخبار. الجائز أنه كان يلجأ إلى أهل الكتاب ليأخذ منهم ما عندهم، ومن الجائز أنه كان يضيف إليها، أو يخترع من عنده؛ ليتحدث به إلى الناس, وإلا فإن من الصعب صدور هذا الخلط من رجل ثقة يعي ما يقول. وقد استغل نفر من أهل الكتاب مثل اليهودي التدمري المذكور، الذي أسلم كما يقول الرواة، هذا الجشع الذي ظهر بين أهل الأخبار في البحث عن الأنساب القديمة، أنساب أجداد العرب القدامى، فصنعوا ما صنعوا من أسماء عليها مسحة توازنية، قدموها إليهم على أنها مذكورة في التوراة, وقد أخذها الرواة على عادتهم من غير بحث ولا مراجعة للتوراة, وما الذي يدفعهم إلى البحث والمرجعة، فإن كل ما يطمعون به ويريدونه هو الحصول على مادة يظهرون بها على أقرانهم من أهل الرواية والأخبار. ولم يرد اسم "عدنان" في النصوص الجاهلية، ولا في المؤلفات "الكلاسيكية", أما في الشعر الجاهلي، فقد ورد في شعر ينسب إلى "لبيد"، وفي شعر آخر ينسب إلى "عباس بن مرداس". "ولم يجاوز أبناء نزار في أنسابها وأشعارها عدنان, اقتصروا على معد، ولم يذكر عدنان جاهلي قط غير لبيد ... وقد يروى لعباس بن مرداس بيت في عدنان"1. وهذا يدل على أن "عدنان" لم يكن

_ 1 ممن ذكر عدنان من شعراء الجاهلية، لبيد. قال: فإن لم تجد من دون عدنان والدًا ... ودون معد, فلتزعك العواذل وفي ديوان "لبيد"، تحقيق إحسان عباس الكويت 1962م، باقيا في موضع والدا "ص255". وعباس بن مرداس، قال: وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بمذحج حتى طردوا كل مطرد وفي رواية "بغسان"، مكان "بمذحج"، ابن سلام، طبقات الشعراء "ص5". ابن هشام "1/ 6".

جدًّا كبيرًا في الجاهلية، كما صوره أهل الأخبار والأنساب، فلو كان جدا كبيرا، لوجب عقلًا تردد اسمه، وورود شيء عنه. والغريب أننا نجد اسم "معد" مذكورًا عند "بروكوبيوس" وفي القديم من الشعر الجاهلي، مع أنه ابن "عدنان". وقد وردت في الكتابات النبطية والثمودية أسماء قريبة من اسم "عدنان"، مثل "عبد عدنون" و"عدنون"1. أما الكتابات الجاهلية التي عثر عليها في اليمن، فلم يرد فيها هذا الاسم، أو اسم آخر قريب منه. لقد كان من السهل علينا الوقوف على المنبع الذي أمدَّ أهل الأخبار بأصل كلمة "قحطان". أما بالنسبة إلى "عدنان"، فإن من العسير علينا أن نتحدث عن المنبع الذي أمد أهل الأخبار باسمه. فليس في التوراة اسم يشابهه بين أسماء أبناء إسماعيل، أو غير أبناء إسماعيل، وليس فيها اسم ملك عربي أو سيد قبيلة عربية اسمه يشابه اسم "عدنان". ثم إننا لا ندري كيف عثر عليه أهل الأخبار, وكيف صيروه على الوزن الذي صِيغَ به اسم "قحطان"؟ , هل ابتدعوه ابتداعًا، أم أخذوه من أفواه أناس أدركوا الجاهلية وكانوا قد وقفوا على اسمه بين أهل مكة أو بين القبائل التي تنسب إلى إسماعيل؟ وهل كان اسم قبيلة أو اسم حلف من الأحلاف، ثم صير اسم رجل فيما بعد؟. هذه أسئلة يجب أن نعترف بأن من غير الممكن الإجابة عنها في الزمن الحاضر؛ لعدم وجود مادة لدينا تساعدنا في استنباط أجوبة منها، لذلك نترك أمرها إلى المستقبل، فلعل الأيام المقبلة تأتي بمادة جديدة، تزيح النقاب عن هذا الجهل المطبق باسم عدنان، وبفكرة عدنان. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن "تهامة" هي موطن العدنانيين، ومكة من تهامة, ولكن أحوالًا قاهرة أحاطت بالقبائل العدنانية فاضطرتها إلى التفرق والهجرة, وكانت "قضاعة" أول من تشتت وتفرق بسبب قتال وقع بينها وبين نزار2. ثم أعقب هجرة قضاعة هجرات أخرى من العدنانيين، فانتشروا في

_ 1 savignac, mission, nos, 38, 328, hardings, some thamudie inscriotion, leiden, 1952, g. strenzisk, die genealogle der nordaraber nach ibn al-kalbi, koln, 1953, enc, vol., I, p., 210 2 الأغاني "11/ 154 فما بعدها"، ابن خلدون "2/ 240".

مناطق واسعة من جزيرة العرب حتى وصلوا إلى العراق والشام، واختلطوا بالقبائل الأخرى، وتفرقوا في كل مكان. ويظهر من تلك الروايات أيضًا أن القبائل العدنانية، كانت قبائل متشاحنة يحارب بعضها بعضا، دفعها إلى تشاحنها هذا طبيعة البداوة وفقر البادية، والتقاتل على الكلأ والماء، حتى ضرب بها المثل في التفرق، والتشتت1. ونجد اسم "نزار" على أنه اسم قبيلة, مذكورًا في نص "امرئ القيس" مع أنه ابن "معد"، أي: حفيد عدنان، ولا نجد اسم جده في هذا النص. وهذا مما قد يبعث الظن في نفوسنا أن فكرة "عدنان" لم تظهر إلا في الجاهلية القريبة من الإسلام وفي الإسلام. وأولد الأخباريون عدنان عددًا من الأولاد، أشهرهم وأعرفهم في نظرهم: معد، وعد2. وقد زعم الأخباريون أن معدًّا عاش في أيام "بختنصر"، وأن معدا خلص إلى "حران" حينما هاجم ملك بابل أهل "حضورا" في اليمن. أما "عدنان" والده، فلقي "بختنصر" فيمن اجتمع إليه من "حضورا" وغيرهم في "ذات عرق"، فهزمهم "بختنصر", ومات "عدنان في أيامه. فلما هلك "بختنصر" خرج "معد" من "حران" إلى مكة، فوجد إخوته وعمومته قد لحقوا بطوائف اليمن, وتزوجوا فيهم, فرجع بهم إلى بلادهم3. ورجع "الزبيدي" أيام "معد" إلى أيام "موسى" إذ قال: "وكان معد بن عدنان في زمن سيدنا موسى -عليه السلام- كما يعرفه من مارس علم التواريخ والأنساب". وقد جعل بعض أهل الأخبار أم معد بنتًا من بنات يشجب، قالوا: إن اسمها "تيمة" وإنها "تيمة بنت يشجب بن يعرب بن قحطان"4. فربطوا بذلك

_ 1 قال البجلي في تفرق بجيلة: لقد فرقتم في كل أوب ... كتفريق الإله بني معد البكري، معجم "1/ 57". 2 ابن خلدون "2/ 299"، المعارف "ص29"، نسب قريش "ص5" ابن حزم، جمهرة "8"، نهاية الأرب "2/ 352"، الطبري "2/ 29". 3 ابن خلدون "2/ 299". 4 الاشتقاق "ص27".

نسب معد بنسب قحطان من جهة الأم, بل ذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك بأن جعلوا أم "عدنان" بنتًا من بنات "يعرب"، وقد قالوا لها "بلهاء"1؛ فصار "يعرب بن قحطان" بهذا الزواج خالًا لعدنان ولذريته العدنانيين. وجعلها بعض آخر من جديس أو من طسم، وقالوا: إن اسمها "مهدد بنت اللَّهم", ويقال "اللهم بن جلحب بن جديس"، وقيل ابن طسم، وقيل ابن الطوسم، ومن ولد يقشان بن إبراهيم2. ومن بقية ولد عدنان على رأي أهل الأخبار: عدن بن عدنان، وزعم أنه صاحب عدن، وأبين بن عدنان، وهو صاحب "أبين" على بعض الآراء، وأد بن عدنان وقد درج، والضحاك، والعي، وأم جميعهم أم معد على بعض الروايات3. ونجد لمعد ذكرًا في الشعر الجاهلي، فقد ورد في شعر "امرئ القيس"4، وفي شعر "النابغة الذبياني"5، وفي شعر "زهير بن أبي سلمى"6، وفي شعر "قيس بن الخطيم"7، وفي شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي"8,

_ 1 الاشتقاق "ص27". 2 الطبري "2/ 27" القاهرة 1939م، "2/ 270" "دار المعارف". 3 الطبري "2/ 270" "دار المعارف". 4 فأبلغ معدا والعباد وطيئًا ... وكندة: أني شاكر لبني ثعل شرح ديوان امرئ القيس للسندوبي "ص160"، Enc., Vol 3, P. 58. 5 علوت معدا نائلا ونكاية ... فأنت لغيث الحمد أول رائد ديوان النابغة، شرح البطليوسي "ص34، 78". وإن الغدر قد علمت معد ... بناه في بني ذبيان باني 6 عظيمين في عليا معد هديتما ... ومن يستبح كنزًا من المجد يعظم أبى الشهداء عندك من معد ... فليس لما تدب به خفاء بلاد بها عزوا معدا وغيرها ... مشاربها عذب, وأعلامها ثمل هم خير حي في معد علمتهم ... لهم نائل في قومهم وفعنائل شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، للإمام أبي العباس ثعلب، طبع دار الكتب المصرية، سنة 1944م، "ص17، 81، 106، 109"، الزوزني، شرح "ص79"، "صادر". 7 ورثنا المجد قد علمت معد ... فلم نغلب ولم نسبق بوتر شعر قيس "ص33". 8 هم فضلوا بخِلَّات كرامٍ ... معدا, حيثما حلوا وساروا ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي، تحقيق الدكتورة عزة حسن، دمشق 1960م "ص72".

وفي شعر "عمرو بن كلثوم التغلبي"1، وفي شعر "عبد المسيح بن عمرو الغساني"2، وفي شعر "المثقب العبدي"3, وفي شعر "سلامة بن جندال السعدي"4، وفي شعر ينسب إلى "الحاجب بن زرارة"5, يقولون: إنه قاله يرد فيه على "الحارث"، وفي شعر ينسب إلى الشاعر "ابن دارة"، زعموا أنه قاله في مدح" حاتم الطائي"6، وفي شعر ينسب إلى "زهير بن جناب الكلبي"7، وغيرهم، كما ورد اسم معد في شعر المخضرمين8. وقد استعملت كلمة "الحي المعدي" في شعر لـ"حاجب بن زرارة"9، كما ورد "حي في معد"10، مما ينبئ أن معدًّا كانت مؤلفة من أحياء، لا من حي واحد، وجاء في شعر عمرو بن كلثوم: "وقد علم القبائل من معد"11، ويدل ذلك على أن معدا كانت مؤلفة من قبائل، وأنها لم تكن قبيلة واحدة. ونلاحظ أن شعراء الجاهلية القدامى كانوا يستعملون: "قد

_ 1 ورثنا المجد قد علمت معد ... نطاعن دونه حتى يبينا معلقة عمرو بن كلثوم، شرح المعلقات السبع, للزوزني "ص125"، "دار صادر". 2 تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور الأغاني "11/ 58"، السجستاني، المعمرون "37". 3 المفضليات "293"، ديوان زهير "106". 4 همت معد بنا همًّا فنهنَهَهَا ... عنا طعان فضرب غير تعذيب المفضليات "ص47"، "سندوبي". 5 وقد علم الحي المعدي أننا ... على ذاك كنا في الخطوب الأوائل الأغاني "11/ 150". 6 تحن قلوصي في معد وإنما ... تلاقي الربيع في ديار بني ثعل العقد الفريد "1/ 309". 7 البلاذري، أنساب "1/ 19". 8 قال أبو ذؤيب: فإن تك أنثى في معد كريمة ... علينا فقد أُعطيت نافلةَ الفضلِ ديوان الهذليين، "طبعة دار الكتب المصرية"، "1/ 37"، شرح أشعار الهذليين للسكري "1/ 88". 9 وقد علم الحي المعدي أننا ... على ذاك كنا في الخطوب الأوائل الأغاني "11/ 100"، "دار الكتب المصرية". 10 قال زهير بن أبي سلمى: هم خير حي في معد علمتهم ... لهم نائل في قومهم وفضائل ديوان زهير بن أبي سلمى، لثعلب "ص106". 11 بيت 94 من معلقة عمرو بن كلثوم، Goldziher, Muh. Stud., I, S, 91.

علمت معد"1. ويقول علماء اللغة: إن معدًّا "غلب عليه التذكير، وهو مما لا يقال فيه من بني فلان، وما كان على هذه الصورة، فالتذكير فيه أغلب, وقد يكون اسمًا للقبيلة"2. ويستنتج من هذا أن معدا لم تكن في الأصل اسم علم لرجل تنتمي إليه قبيلة معينة، وإنما كانت كلمة عامة تشمل قبائل تشترك في طراز الحياة وإن كانت تعتقد أنها ترتبط بعضها ببعض برباط النسب. وقد استعمل حسان بن ثابت كلمة "معد" في مقابل "الأنصار"، وذكر أن الأنصار "لها في كل يوم من معد قتال أو سباب أو هجاء3"، وأن الأنصار نصروا رسول الله على رغم أنف معد4، وأورد اسم معد في أحد الأبيات مع قحطان5، كما قال عن "بني أسد": إنها "تذبذب في معد"6، فاستعمل كلمة معد في شعره للدلالة على خصوم الأنصار، كما استعملها في مقابل قبائل معينة, وخصوم الأنصار هم قريش والمهاجرون. ولما كان الشاعر يعد نفسه من اليمن، وأهل مدينته من أصل يماني، فإن من الجائز أن نقول: إنه عبر عن فكرة معد وقحطان في هذا الزمان, وعن رأي أهل مدينته خاصة في النسب عند ظهور الإسلام. وبينما يصرف حسان بن ثابت كل فنه إلى هجاء خصوم الأنصار، أي: أهل مكة والدفاع عن أهل يثرب، والافتخار بقومه على قوم معد ونزار7، نرى أنه لا يسمي من يهجوهم عدنانيين، ولم يستعمل في شعره الواصل إلينا المطبوع اسم عدنان، فَلِمَ أغفل حسان اسم عدنان؟ أليس عدنان والد معد؟ ألم يكن

_ 1 Goldziher, Muh. Stud., I, S., 91. 2 تاج العروس "2/ 503"، اللسان "16/ 407"، "دار صادر". 3 وقال الله قد يسرت جندًا ... هُمُ الأنصار عُرضَتُها اللقاءُ لنا في كل يوم من معدٍّ ... سباب أو قتال أو هجاءُ شرح ديوان حسان، للبرقوقي "ص6"، ديوان حسان، "ص1", "طبعة هرشفلد". 4 ديوان حسان "ص5، 6، 25". 5 فلو سئلت عنه معد بأسرها ... وقحطان أو باقي بقية جرهما ديوان حسان "ص44"، البرقوقي، شرح "ص398". 6 ديوان حسان "ص47". 7 وكل محارب وبني نزار ... تبين في مشافره الرضاع ديوان حسان "ص36".

من الأجدر به ذكر عدنان وتقديمه على معد؟ ألم يقسم علماء النسب العرب إلى أصلين: أصل قحطاني وأصل عدناني؟ ألسنا نجد في كتب الأنساب والتاريخ اسم عدنان مقدمًا على معد، وأن قبائل معد تعد نفسها عدنانية، كما أن قبائل قحطان تعد نفسها قحطانية؟ لا يعقل بالطبع أن يكون حسان قد ترك عدنان والعدنانية ولجأ إلى استعمال "معد" لو لم تكن لفظة "معد" أشهر وأعرف وأكثر استعمالًا في أيامه من عدنان. وهذا هو ما نلاحظه أيضًا في سائر الآثار التي تعود إلى الجاهلية وصدر الإسلام. ويلاحظ أن حظ مصطلح "عدنان" و"عدنانية" و"قبائل عدنانية" قد برز في الإسلام بروزًا لا نلحظه في الجاهلية, بل حتى في الجاهلية الملاصقة للإسلام؛ ولهذا غلب على مصطلح "معد" و"معدية" و"قبائل معدية"، فصار "عدنان" في مقابل "قحطان" ومن هنا صار العرب قحطانيين أو عدنانيين؛ واختفت بالتدريج المصطلحات الانتسابية الأخرى التي شاعت في الجاهلية أو في صدر الإسلام. ويستنتج من أقوال علماء اللغة أن لفظة "معد" تعني: الشظف في العيش، والغلظ في المعاش والتقشف1، وأنها تعني: حياة بدوية شاقة بعيدة عن كل وسائل الحضر وترف أهل المدر، وهذا بالنظر لأهل المدن وأهل المدر نوع من الخشونة لا يحمد الإنسان عليه, وقد وصفت ملابسهم بالخشونة كذلك فميزت عن غيرها, جاء: "عليكم باللبسة المعدية" أي: خشونة اللباس، وروي: "اخشوشنوا وتمعددوا"2, وبهذا المعنى ورد: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"3. فالظاهر أن كلمة معد كانت تعني ما تعنيه "أريبي" "عريبي" عند الآشوريين، أي: البدو والأعراب, غير أنها خصصت بعد ذلك بقبائل خاصة هي القبائل التي نسبت نفسها إلى عدنان وإسماعيل، وأكثرها من مكة وما حولها، ثم تغلبت عليها "العدنانية" في العصر الأموي فما بعده. والمثل: "تسمع بالمُعَيْدِي خير من أن تراه"، من الأمثال المشهورة

_ 1 اللسان "4/ 414"، الاشتقاق "1/ 20"، تاج العروس "2/ 503". 2 اللسان "4/ 414 فما بعدها"، ديوان النابغة مع شرحه للبطليوسي، "ص10"، اللسان "16/ 407"، "دار صادر". 3 تاج العروس، "2/ 503"، الميداني، مجمع الأمثال "1/ 129"، المثل رقم 655.

المعروفة حتى الآن, ويرتفع أهل الأخبار بزمنه إلى أيام الجاهلية، ويقولون: إن النعمان بن المنذر تمثل به يومًا1. ولفظة "معيدي" تصغير "معدي"، ويراد بها رجل من معد, وفي إطلاق هذا المثل بهذا المعنى دلالة على المعاني المتقدمة. وفي رواية: أن قائل هذا المثل هو "المنذر بن ماء السماء"2. وقد استخف النابغة الذبياني بمعد أيضا إذ قال: ضلت حلومهم عنهم وغرَّهُمُ ... سن المعيدي في رعي وتغريب3 ولا أستبعد أن يكون بين لفظة "معيدي" و"مِعْدان" التي تطلق في العراق اليوم على الغِلاظ السود من بعض الأعراب، وبين "معد" صلة، فقد كانت مواطن "معد" في العراق أيضًا، والصفات المذكورة تنطبق على المعدان كذلك. وقد اتهمت "معد" بالمكر والحيلة والكيد، فورد في الأخبار: "وإن هذه المعدية لا تخلو من مكر وحيلة" وورد: "كنت أخبرك أن معدا لا ينام كيدها ومكرها"، وورد: "إن عدي بن زيد فيه مكر وخديعة، والمعدي لا يصلح إلا هكذا"4 مما يدل على أن ملوك الحيرة كانوا لا يأمنون من القبائل المعدية ولا يعتمدون عليها؛ ولذلك كانوا يحذرونها. كما اتهم ولد نزار بالحيل، قال "المسعودي": "ورأيت ببلاد مأرب من أرض اليمن أناسًا من عقيل محالفة لمذحج، لا فرق بينهم وبين أحلافهم؛ لاستقامة كلمتهم، فيهم حيل كثيرة ومنعة، وليس في اليمن كلها أحيل من نزار بن معد غير هذا الفخذ من عقيل، إلا ما ذكر من ولد أنمار بن نزار بن معد، ودخولهم في اليمن حسب ما ورد به الخبر"5. وورد في كتاب "تأريخ الحروب" لـ"بروكوبيوس procopius" المتوفى

_ 1 فقال النعمان: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، البيان "1/ 173، 237"؛ "لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، الميداني، مجمع الأمثال "1/ 228"، الاشتقاق "244". 2 تاج العروس "2/ 507"، مجمع الأمثال للميداني "113". 3 ديوان النابغة الذبياني "17". 4 الأغاني "2/ 22". 5 مروج "1/ 173"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".

سنة "565م"، أي: في زمن لا يبعد كثيرًا عن ميلاد الرسول، ذكر قبيلة من قبائل "السركينوى" Sarakenoi سماها "Maddenoi" "Maddeni" وقال: إنها كانت خاضعة لحكم Homeritae، وأن "يوسطنيانوس" "جستنيانس" "527-565م"1 قيصر الروم، أرسل رسولًا إلى ملك الـ Homeritae لينضم إلى الروم ويوافق على تعيين شيخ اسمه "Caisus" "Kaisus" على Maddeni، وتأليف جيش مشترك من "هوميريته" و"مديني" "معديني" لمهاجمة الفرس وشن الغارات على حدودهم, وقد نصب ملكًا على "مديني" ورجع الرسول ليخبر القيصر، غير أن الملكيين لم يغزوا أرض الفرس2. وقصد "بروكوبيوس" بـ"مديني" Maddeni "معدا" وبـ"هوميريته" Homeritae "حمير"، وعنى بذلك اليمن. وكانت معد خاضعة يومئذ لحمير، وكان هذا الزمن زمن استيلاء الحبشة على اليمن, وCaisus الذي نصب ملكًا على "معد" هو "قيس"، وكان صاحب كفاءات، شجاعًا محاربًا، وكان قد قتل أحد أقرباء ملك Homeritae، وكان هذا الملك هو Esimiphaeus، أي "السميذغ أشوع"، الذي نصبه النجاشي نائبًا عنه على اليمن، فتلقب بلقب "ملك", والظاهر أن وساطة القيصر لدى "السميذع" إنما كانت لإصلاح ذات البين، ولتسوية ذلك الحادث. وقد تم على ما يظهر ونجحت الوساطة، وتلقب "قيس" وهو رئيس "معد" بلقب ملك, ولا أستبعد أن يكون "قيس" هذا أحد رؤساء القيسيين. وقد ذكر "بروكوبيوس" أن معدا هم جماعة من "السركينوى"، أي: جماعة من القبائل التي عرفت عند اليونان باسم "السرسين" أيضا، كما ذكرت ذلك في السابق. وهذا يعني أن معدا لم تكن في أيام ذلك المؤرخ الذي لم يبعد عهده عن الإسلام كثيرًا، على النحو الذي يصوره الأخباريون, وكل ما في الأمر أنها قبيلة أو مجموعة قبائل تسمى بـ"معد"، وأنها كلها أو قبيلة منها كانت خاضعة لحمير، أي للسلطة الحاكمة على اليمن يومئذ، وهي الحبشة، ثم استقلت عنها. أما بقية معد، فلم يتحدث المؤرخ عنهم؛ لذلك لا ندري

_ 1 "يوسطنيانوس"، الطبري "1/ 743"، "طبعة أوروبا"، Procopius, history of the ears, p, 181, "H.B. Dewing" 2 procopius, history of the wars, p., 181

أكان "معد" "بروكوبيوس" هم كل معد أم جماعة منها. وإذا كان الشعر المنسوب إلى "ابن بقيلة" وهو من نقباء الحيرة وساداتها صحيحًا، تكون كلمة "معد" معروفة في ذلك العهد، على نحو يفهم منه أنها كانت تعني قبائل عديدة أعرابية تنضوي كلها تحت هذه التسمية. فقد جاء في شعره ألم وتوجع لما حل بأهل الحيرة بعد الفتح، فقد رأى "سوام" تروح بالخورنق والسدير بعدما كانا مكانين مختارين للمنذرين، وبعد فرسان النعمان، يرى الناس قلوصًا بين "مرة والحفير"، وصاروا بعد هلاك "أبي قبيس" كجُرب المعز في اليوم المطير، وقد تقاسمتهم القبائل من معد، علانية كأيسار الجزور، بعد أن كانوا أناسًا لا يرام لهم حريم، وصاروا كضرة الضرع الفخور، يؤدون الخراج بعد خراج كسرى، وخراج من قريظة والنضير، ثم خلص إلى نتيجة يخلص إليها من ييأس ويقنع، فقال: كذاك الدهر دولتُه سجالٌ ... فيوم من مساءة أو سرور1 وقد ذكر "الطبري" أن خالدًا لما أمره "أبو بكر" بفتح العراق، وقصد الأُبلّة، حشر ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه2، وربما قصد "ابن بقيلة" من "معد" هذه القبائل التي انضافت إلى خالد, ولكن القبائل التي انضافت إلى خالد في العراق أو التي حاربته هي من مضر وربيعة في الغالب، وبين سكان الحيرة قوم يرجعون أنسابهم إلى تميم وإلى قبائل معدية، فكيف يتأفف "ابن بقيلة" من إدبار الدنيا ومن إعراضها عنه وعن أمثاله حتى صاروا في حكم "معد"، وقد اقتسمتهم قبائل معد؟ , فالظاهر أنه كان يتأفف؛ لأن الأمر أدبر منه ومن سادة أهل الحيرة والقرى، وهم حضر مستقرون، لهم نعيم وملك وقصور وبيوت وعيش رغيد, ولكن الدنيا أدبرت عنهم، وسلمت الأمر إلى قبائل من معد، وهم أعراب، وصار أمرهم إليهم، فتأفف من ذلك الزمان. وقد عرف "حذيفة بن بدر" سيد غَطَفان بـ"رب معد"3، وكان من

_ 1 الطبري "3/ 362". 2 الطبري "3/ 347". 3 المعارف "ص38".

أشرف بيوتات هذه القبيلة، التي كانت محالفة لـ"أسد", وقد عرفتا بـ"الحليفتين"1 مما يدل على أنهما كانتا متحالفتين. ويدل هذا النعت الذي نعت به "حذيفة" وهو "رب معد"، على أن معدا كانت قبائل، وكل منها تنتسب إليها، وأنها لم تكن قبيلة معينة، أي: إنها كانت قبائل ترى نفسها أنها من نسب واحد، وإن قبيلة واحدة منها إذا برزت وظهرت جاز لها أن تمثل قبائل معد، وأن ينعت رئيسها نفسه ببعض النعوت التي تدل على ترؤسه لها، ومنها "رب معد". فيتبين من كل ما تقدم أن "معدا" كلمة أريد بها أعراب كانوا يتنقلون في البوادي، يهاجمون الحضر والأرياف بصورة خاصة؛ لأنها كانت أسهل صيد للأعراب بسبب بُعد أهلها عن سيطرة الحكومة المركزية، وعدم وجود قوات دفاعية رادعة لتدافع عنهم. وكانوا يباغتون الناس ويفاجئونهم، وكانت حياتهم حياة قاسية صعبة, ولم يكونوا قبيلة واحدة، ولكن قبائل عديدة، تتشابه في المعيشة، وتشترك في فقرها وفي تعيشها على الغزو والتنقل، وقد كانت تقيم في البوادي وعلى أطراف الحضارة، كانت مواطنها بادية الشام ونجد والحجاز والعربية الشرقية. ثم صارت اللفظة علمًا لرجل صير جدًّا للقبائل التي عاشت هذه المعيشة، وعرفت بهذه التسمية على الطريقة المعروفة عند العرب وعند غيرهم من الساميين من تحويل أسماء الأماكن أو الأصنام أو المحالفات إلى أسماء أجداد وآباء. وقد كانت "تهامة" موطن أبناء معد على حسب رأي أهل الأخبار, سكنت قضاعة من ساحل البحر حيث أنشأت "جدة" فيما بعد إلى حيز الحرم، وسكن أبناء جنادة بن معد منطقة الغمر: غمر ذي كندة، وكانت كندة قد أقامت بها أيضا فعرفت بها, وسكن أبناء قنص بن معد وسنام بن معد وبقية ولد معد أرض مكة، حيث أقاموا مع بقايا جرهم. ظلوا على ذلك متساندين متآلفين تضمهم المجامع، وتجمعهم المواسم، حتى وقع الشر بينهم، فتفرقوا وتخاذلوا وقاتل بعضهم بعضًا، يقتل العزيز منهم الذليل2.

_ 1 وسمع عيينة النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: " غفار وأسلم ومزينة وجهينة خير من الحليفتين أسد وغطفان "، الاشتقاق "2/ 173". 2 قال مهلهل: غنيت دارنا تهامة في الدهر ... وفهيا بنو معد حلولا فتساقوا كأسًا أمرت عليهم ... بينهم يقتل العزيز الذليلا البكري، معجم "1/ 18"، "طبعة السقا".

عك

عَكّ: وقبائل عك، هي القسم الآخر الشهير من أقسام قبائل عدنان، وتقع أرضها في جنوب أرض معد، شقيق عك. وقد زعم أهل الأخبار أن "بختنصر" لما هاجم "حضورا" انطلق "عك" إلى أرض اليمن، فاستقر بها، فاختلط من ثَمَّ نسب عك باليمانيين1. وقد سكن العكيون تهامة اليمن إلى جُدَّة. ومن معاني لفظة "عك" في اللغة: الحر الشديد2. وقد تصور جماعة من النسابين وجود صلة بين "عك" و"الأزد"3؛ والظاهر أن ذلك إنما وقع لهم من اختلاظ منازل القبيلتين. وزعم بعض الأخباريين أن نسب عك كان في اليمن في الأصل، ثم انتقل إلى معد، بعد قتال وقع بين عك وغسان في تهامة، تغلبت فيه غسان على عك، فأجلتها عن أوطانها، فمن ثم انتفت عك من اليمن، وانتسبت في معد4.

_ 1 تركنا ألايث إخوتنا وعكا ... إلى سمران فانعلقوا سراعا وكانوا من بني عدنان حتى ... أضاعوا الأمر بينهم فضاعا الطبري "2/ 191"، البكري: معجم، "1/ 53 فما بعدها"، البلاذري، أنساب "1/ 13". 2 يوم عكاك، أي شديد الحرارة، مجالس ثعلب "ص248"، اللسان "2/ 253"، تاج العروس "7/ 163". 3 ابن خلدون "2/ 299"، ابن حزم "309"، تاج العروس "7/ 163"، اللسان "12/ 357". 4 وهذه الرواية اليمانية تتمثل في شعر "نشوان بن سعيد الحميري" الذي قال: ألم تَرَ عكا هامة الأزد أصبحت ... مذبذبة الأنساب بين القبائل وعقت أباها الأزد واستبدلت به ... أبا لم يلدها في القرون الأوائل منتخبات في أخبار اليمن من كتاب شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، لنشوان بن سعيد الحميري، ليدن 1916 "ص74" قارن ذلك برواية الطبري "2/ 191".

وقد سيق نسب "عك" على هذه الصورة: "عك بن الديث بن عدنان" في بعض الروايات، وسيق على صور أخرى مثل: "عك بن عدنان بن عبد الله" من بطون الأزد1. وهناك بيت شعر للشاعر "العباس بن مرداس" يتكثر بعك على اليمن، حيث يقول: وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بغسان حتى طردوا كل مطرد2 ومضمون هذا البيت يخالف ما جاء في الرواية الأخرى التي تدعي تغلب غسان على عك. وقد ذكر "ابن دريد" أن "عدنان" والد "عك" هو "عدنان بن عبد الله بن الأزد"، وأن من نسب "عكًّا" إلى الأزد، نسبه إلى هذه الصورة3 فجعل "عدنان" حفيدًا من حفدة الأزد. وقد ورد في جغرافية "بطلميوس" اسم شعب من الشعوب العربية، دعي بـ Anchitae Achitae Akkitae Akkitai 4، مواطنه هي المواطن التي نسبها النسابون إلى "عك"؛ لهذا ذهب الباحثون المحدثون إلى أن هذا الشعب هو "عك"5. وعلى ذلك تكون إشارة "بطلميوس" إليهم أقدم إشارة إلى هذه القبيلة في التأريخ, وتكون "عك" بذلك من القبائل المعروفة قبل الإسلام بزمان. وهي لا بد أن تكون قد عرفت قبل "بطلميوس" وإلا لم يذكرها هذا الجغرافي في جغرافيته. غير أن "بطلميوس" لم يشر إلى أصلها ونسبها، ولا إلى صلتها بغيرها من القبائل. وكل ما ذكره عنها أنها قبيلة من قبائل العرب، تسكن في المواضع التي عينها في كتابه المذكور.

_ 1 ابن خلدون "2/ 299"، ابن حزم "309"، تاج العروس "7/ 163"، اللسان "12/ 357". 2 نسب قريش "ص5". 3 اشتقاق "287". 4 glaser, skizze, 2, s., 256, forster, vol., I, P., 89 5 Enc., Vol., I, P., 241

أولاد معد

أولاد معد: وولد معد بن عدنان عددًا من الأولاد، جعلهم بعض الأخباريين أربعة، هم: نزار بن معد، وقضاعة بن معد، وقنص بن معد، وإياد بن معد1. وجعلهم بعض آخر أكثر من ذلك، إذ أضافوا إلى المذكورين عبيد الرماح بن معد، وقد دخل أبناؤه في "بني مالك بن كنانة"، والضحاك بن معد، قالوا: أغار على بني إسرائيل2، وقناصة بن معد، وسنامًا، وحيدان، وحيدة، وحيادة، وجنيدًا، وجنادة، والقحم، والعرف، وعوفًا، وشكًّا، وأمثال ذلك3. وزعموا أن الإمارة كانت لقنص بعد أبيه على العرب، وأراد إخراج أخيه نزار من الحرم، فأخرجه أهل مكة، وقدموا عليه نزارًا4. ويُخرج بعض أهل الأخبار "قضاعة" من صُلب معد، فيضيفها إلى القحطانيين، على حين نرى فريقًا آخر من النسابين ومن ورائهم القضاعيون يعدون أنفسهم من أقدم أبناء معد, فيقولون: قضاعة بن معد، وبه كان يكنى معد5، أي: إنهم أقدم أبناء معد, ويروون في ذلك شعرا من أشعار قضاعة في الجاهلية وبعد الجاهلية6, وفي كل ذلك أثر التعصب القبلي الذي كان يتحكم في النفوس، ويظهر في النسب. ويذكر النسابون الذين يرجعون نسب قضاعة إلى حمير أنها من نسل قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ كما رأيت7. ونرى "الكُميت" يعير قضاعة ويهجوها بانتمائها إلى اليمن, وادعائها أنها من "قضاعة بن مالك بن حمير"، وإنما هو "قضاعة بن معد بن عدنان"8.

_ 1 ابن هشام "1/ 7"، وأكثر النسابين على أن إيادًا من نسل نزار بن معد، التنبيه "ص29"، سبائك الذهب "ص20"، البلاذري، أنساب، "1/ 13". 2 ابن حزم، جمهرة "ص8"، اللسان "8/ 352"، ابن خلدون "2/ 300". 3 الطبري "1/ 671" "2/ 190"، "طبعة أوروبا" الطبقات "جـ1، ق1، ص30" "1/ 58" "طبعة بيروت"، ابن حزم, جمهرة "9" البلاذري، أنساب "1/ 13", ابن خلدون "2/ 300". 5 الطبقات "جـ1، ق1، ص30"، "1/ 58" "طبعة بيروت". 6 نسب قريش "ص5". 7 المعارف "ص29"، نسب قريش "ص5". 8 رأيتكم من مالك وادعائه ... كرائمة الأوتاد من عدم النسل وحظك من قحطان إن كنت منهم ... ومن مالك حظ البغي من الحمل المعاني الكبير "1/ 524".

وقد شبهها بالرئال لمفارقتها نزارًا، وانتقالها إلى اليمن1. ويشير اختلاف النسابين هذا في نسب قضاعة إلى اختلاط قبائل قضاعة بقبائل معد وبقبائل اليمن، فانتمى قسم منهم إلى معد، وقسم منهم إلى اليمن، ومن هنا وقع هذا الاختلاف. وأرى أن لاختلاط قبائل قضاعة في بلاد الشام وفي أماكن أخرى بقبائل ترجع نسبها إلى قحطان دخلًا في إدخال نسبها في اليمن. وقد يكون ذلك في العصر الأموي بصورة خاصة، حيث صار نزاع قيس وكلب، أي: نزاع عدنان واليمن نزاعا سياسيا عنيفا, قسم عرب بلاد الشام إلى جماعتين متباغضتين، تسعى كل جماعة لضم أكثر ما يمكن من القبائل إليها، ولا سيما القبائل القوية المهمة مثل قضاعة, فأدخلها اليمانيون لذلك فيهم وألحقوا نسبها باليمن. أما قضاعة الباقون الذين كانوا في أرضين أخرى، فلم يقع عليهم مثل هذا التأثير، وقد كانوا أكثر استقلالًا، وعلى اتصال متين بالعدنانيين؛ ولهذا أبوا إلحاق نسبهم بقحطان. وإذا غربلنا أخبار الأيام وبعض الروايات التي يرويها أهل الأخبار، فإننا نتوصل منها إلى أن قضاعة كانت قد اشتركت مع ربيعة ومعدّ في محاربة "يمن"؛ فقد ذكر مثلًا: أن "عامر بن الظرب العدواني" قاد ربيعة ومضر وقضاعة كلها "يوم البيداء" لليمن, حين تمذحجت على بني معد2, وذكر أن "ربيعة بن الحارث بن زهير التغلبي" قاد مضر وربيعة وقضاعة يوم السلان إلى أهل اليمن، وأن ابنه "كليب بن ربيعة"، وهو "كليب وائل" قاد ربيعة ومضر وقضاعة يوم "خرازى" إلى اليمن3. ولعل في هذه الأمثلة وفي غيرها تأييدًا لرأي غالب قضاعة وبقية النسابين الذين يرجعون نسب قضاعة إلى بني معد، أي: إنها كانت في حلف مع ربيعة ومضر، وهما من بني معد. ولما كانت ربيعة ومضر في نزاع مع اليمن، كانت قضاعة معهما في هذا النزاع. وتذكر "قضاعة" في الأخبار مع "مضر" و"ربيعة" و"اليمن"4, وهذا

_ 1 فلما استرألت حسبت سواء ... مفارقة الرعيل إلى الرعيل المعاني الكبير "1/ 353". 2 المحبر "ص246". 3 المحبر "ص249". 4 المحبر "ص144".

يدل على أنها كانت في منزلة المذكورين في الكثرة والمكانة, وقد عدت في قبائل "الحلة" من العرب ما خلا علافًا وجنابًا1. وأهميتها هذه وكثرة عددها، دفعت العدنانيين والقحطانيين إلى ضم نسب قضاعة إليهم؛ لما كان في هذا الضم من أثر كبير في تقوية مركز أحد الطرفين. ويذكر "ابن سعد" أن ولد "معد" تفرقوا في غير بني معد سوى "نزار"2 وقد أدرك "ابن سعد" وأمثاله ذلك من اختلاطهم باليمانيين، الأمر الذي أدى إلى تداخل النسب، فصارت أنسابهم لذلك مترجحة بين قحطان وعدنان.

_ 1 المحبر "ص179". 2 الطبقات: "1/ 59".

نزار

نزار: وهو جد القبائل "النزارية" المنحدرة على رأي النسابين من نزار بن معد من زوجه "معانة بنت جوشم بن جلهمة"، أو "معانة بنت جهلة" من جرهم1. وهو على زعم الأخباريين والد أربعة أولاد، هم: ربيعة، ومضر، وأنمار, وإياد2, وهم أجداد قبائل كثيرة في الوقت نفسه. وقد انتشرت هذه القبائل في أواسط بلاد العرب وشماليها، وهناك أسطورة رواها المؤرخون والنسابون عن اختصاص كل ولد من أولاد نزار وعن المناطق التي نزلت بها قبائلهم واحتكامهم إلى "الأفعى الجرهمي3" أو "أفعى نجران4". وقد زعم بعض أصحاب الأخبار أن أم ربيعة وأنمار: "حدالة" "جدالة" بنت وعلان بن جوشم بن جلهمة بن عمرو, من جرهم، وأن أم "مضر"

_ 1 تاج العروس "3/ 563"، السهيلي، روض الأنف "1/ 8"، الطبري "2/ 190", الطبقات "جـ1، ق1، ص30"، المحبر "ص132". 2 Enc, vol., p., 939, wuestenfeld, geneal. Tab., a. 3 3 الفاخر "ص155 فما بعدها"، حكم الأفعى، الطبري "1/ 1108", مروج "2/ 35"، طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد، لقد تأثر بهذه القصة الفيلسوف الفرنسي "فولتير" في Enc., Vol., 3, P., 940., "Zadig" 4 ابن خلدون "2/ 300"، البلاذري، أنساب "1/ 29".

"سودة بنت عك"1، كما زعم بعض المورخين أن إيادًا وأنمارًا هما من أبناء معد. وأما نزار، فقد كان من عقبه البطنان: ربيعة، ومضر2. وقد نعتت مضر بـ "الحمراء"، فقيل: "مضر الحمراء"3، ونعتت إياد بـ"الشمطاء"، و"البلقاء"، وقيل لربيعة "الفرس"، ولأنمار "الحمار"4. ويقال للنزاريين: "نزارية" و"بنو نزار" و"أبناء نزار". أما التنزر، فالانتساب إلى نزار، ويقال: تنزر الرجل، إذا تشبه بالنزارية، أو أدخل نفسه فيهم5. واستعملت "النزارية" في مقابل "اليمانية" في أيام الأمويين6. ويرى "ليفي ديلافيدا" أن "النزارية" فكرة سياسية نجمت في العصر الأموي، في وسط ذلك الصراع الحزبي المعروف، وعلى الأخص بعد معركة "مرج راهط"، وأنها لا تمثل حقيقة تأريخية، فهي لا تعني رابطة قبائل بالمعنى المفهوم. ومن رأيه أن هذا الموضوع لم يدرس دراسة كافية بعد، وأن المواد اللازمة لدراسته غير متوافرة7. وقد ذهب أيضا إلى أن أقدم من ذكر اسم "نزار" من الشعراء الجاهليين هو "بشر بن أبي خازم"8، و"كعب بن زهير" من الشعراء المخضرمين9, ويرى أن "بني نزار" الواردة في شعر "حسان بن ثابت" لا تعني النزارية، أي: أبناء نزار بن معد بن عدنان على نحو ما يذهب إليه أهل الأنساب، بل

_ 1 الطبري "2/ 198"، خبية بنت عك بن عدنان، نسب قريش "ص6". 2 ابن خلدون "2/ 300". 3 قال بشر بن أبي خازم الأسدي: دعوا منبت السيفين إنهما لنا ... إذا مضر الحمراء شبت حروبها 4 اللسان "7/ 59". 5 ديوان حسان "ص36"، الجمحي، طبقات الشعراء "ص5"، اللسان "7/ 59", Enc., Vol., 3, P., 940. 6 التنبيه "ص70". 7 Enc., Vol., 3, P., 940.f. 8 المفضليات "ص667"، قال بشر بن أبي خازم: مضى سلافنا حتى حللنا ... بأرض قد تحامتها نزار ديوان بشر "ص67"، المفضليات "ص162"، "السندوبي"، Enc., Vol., 3, P., 940. 9 صدموا عليًّا يوم بدر صدمة ... ذلت لوقعتها جميع نزار الجمحي، طبقات "ص21"، الطبري "1/ 1106"، "طبعة أوروبا".

جماعة أخرى هي من نسل "نزار بن معيص بن عامر بن لؤي" من قريش1. ويرى "ليفي ديلافيدا" أيضا أن ما ورد في شعر "أمية بن أبي الصلت" من شعر، نسب فيه ثقيفًا إلى نزار2، وما ورد في قصة "الأقرع بن حابس التميمي" من ذكر "نزار"، لا يمكن أن يبعث الثقة إلى النفوس ولا الاطمئنان إلى القلوب، بل يظهر أن ما ورد إنما وضع لأغراض واضحة هي على زعمه إلحاق نسب ثقيف بنزار، وقد كان ذلك موضع جدل في ذلك العهد، وإثبات نسب "بجيلة" وهو نسب كان موضع جدل أيضا3. أما أنا، فأرى أن "نزارًا" من القبائل التي كانت معروفة في القرن الرابع بعد الميلاد، بدليل ورود اسمها في النص المعروف بـ"نص النمارة" الذي وضع على قبر "امرئ القيس"، ويعود عهده إلى سنة "238" للميلاد. فقد ذكرت في جملة القبائل التي خضعت لحكمه, ولكن النص لم يتحدث عن نسب نزار ومواضعها في ذلك الزمن. وفي الجملة: إنها ذكرت مع قبيلة "أسد". وتتألف القبائل النزارية من ربيعة ومضر وإياد وأنمار4، على رأي من جعل أنمارًا ابنًا من أبناء نزار. فأما إياد، فقبيلة كانت مواطنها تهامة إلى حدود نجران، ثم انتشرت بسبب حروب وقعت بينها وبين ربيعة ومضر، فارتحل قسم منها إلى العراق، وانضم قسم آخر إلى قضاعة وأقام بالبحرين، وسكن قسم منها في "وادي بيشة"، وهاجر آخرون إلى بلاد الشام5. وقد كانت رئاسة مضر إلى ربيعة في أيام "كليب بن ربيعة"، المعروف أيضا بـ"كليب وائل"6. وقد كانت مضر وربيعة متجاورتين ومتحالفتين، ودليل ذلك اقتران اسم إحداهما بالأخرى، وجعل أهل الأنساب مضر شقيقًا لربيعة غير أن تحاسدًا شديدًا كان يقع بين سادات مضر وسادات ربيعة، وطالما كانت

_ 1 وكل محارب وبني نزار ... تبين في مشافره الرضاع ديوان حسان "ص36"، البرقوقي، شرح ديوان حسان "ص266". ENC., VOL., 3, P., 940, wuestenfeld, genea., s., 15 2 ديوان أمية "ص69"، وهو من الشعر المنسوب إليه، Enc., Vol., 3, P., 940 3 النقائض "طبعة بيفان"، "ص141 فما بعدها"، ابن هشام "1/ 50"، "طبعة وستنفلد" Enc., Vol., 3, P., 940 4 ابن خلدون "2/ 300"، ابن حزم، جمهرة "ص9". 5 Enc., Vol., 2, P., 565, Wuestenfeld, Register 6 الفاخر "ص75 وما بعدها".

إحداهما تفتخر على الأخرى، وترى أنها أعز مكانةً ونفرًا من شقيقتها، كالذي يحدث بين القبائل. ويظهر أن الأمر قد اختلط على بعض أهل النسب في قضية "إياد"، فجعلوا إيادًا ابنًا من أبناء معد، أي: شقيقًا لنزار، وجعلوه ابنا لنزار، فصيروه شقيقا لربيعة ومضر وأنمار. وقد ذكر المسعودي أن إيادا ينسبون إلى القبيل الأكبر، وليست لهم قبائل مشهورة. ويذكر قوم أن ثقيفا من إياد، ويرى فريق أنهم من قيس عيلان1. وأما "قنص بن معد" فيزعم قوم أن "آل المنذر" ملوك الحيرة منهم2, ويظهر من عدم ذكر أسماء قبائل تنسب إلى قنص أن قنص لم تكن من القبائل الكبرى، وأنها دخلت في القبائل الأخرى قبل الإسلام، فنسيت, فلما دون أهل الأخبار الأنساب، لم يكن لها شأن يذكر عندئذ غير الاسم. ويلاحظ أن النسابين الذين جعلوا "آل نصر" من "قنص بن معد"، أي من العدنانيين، يذكرون أنفسهم ويروون في كتبهم أن نسبهم هو من اليمن، وأنهم من أصل قحطاني. ويذكر أهر الأخبار أن ربيعة ومضر حاربوا أبناء قنص بن معد وتغلبوا عليهم، حتى أخرجوهم من ديارهم فتفرقوا في البلاد، وذهب جمع منهم إلى سواد العراق، ولكنهم اصطدموا بالنبط الأرمانيين من ملوك النبط، فتراجعوا واستقر قسم منهم في الأنبار والحيرة3. وأما "مضر بن إلياس" فولد "إلياس بن مضر"، وإلياس، وهو قيس عيلان. وعرف أبناء "إلياس" بـ"خندف" نسبة إلى أمهم "خندف"، وهم: مدركة, وطابخة، وقمعة4. وذكر المسعودي أن مضر ترجع إلى حيين،

_ 1 المعارف "ص29". 2 المعارف "ص29"، الطبري "1/ 611"، "دار المعارف"، ابن حزم، جمهرة "ص8"، البكري معجم "1/ 52" ابن هشام "1/ 5". 3 البكري معجم "1/ 52 وما بعدها" "طبعة السقا". 4 المعارف "ص30"، "وكانت أمهم ليلى بنت حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة وهي خندف، فغلب على من ذكرنا الألقاب، ونسب ولد إلياس إلى أمهم خندف"، مروج "1/ 396"، نسب عدنان "ص1"، ابن حزم، جمهرة "9" البلاذري، أنساب "1/ 31".

هما: خندف، وقيس1. ومن النسابين من يزعم أن "قمعة"، واسمه "عمير"، هو والد خزاعة، أما خزاعة، فتأبى ذلك، وترجع نسبها إلى غسان2. وورد في شعر الشعراء المعاصرين لبني أمية: "ابنا نزار"، وقد قصدوا بذلك "ربيعة" و"مضر"3، كما ورد "بحرا نزار" في المعنى نفسه4. وجعل "ابن جني"، اللغة العربية التي نزل بها القرآن "لغة ابني نزار"5. وقد سمى "الفرزدق" "قيس علان"، و"خندفًا" بـ"الحيين" المكونين لمعد6. وورد في شعر للعجاج "حيَّيْ مُضَر"7, وجاء في شعر لجرير: إذا أخذت قيس عليك وخندف ... بأقطارها, لم تدر من حيث تسرح8 مما يدل على أن قيسًا وخندفًا، كانا من القبائل القوية في هذه الأيام. ويظهر من تقسيم النسابين قبائل مضر إلى حيين: خندف وقيس عيلان، أن تلك القبائل كانت حلفًا في الأصل، ثم انفصمت عراه، أو أن خندف تحالفت مع قبائل قيس عيلان, وربطت نسبها بنسب مضر. وتتألف خندف من

_ 1 مروج "1/ 396". 2 نسب قريش "8". 3 قال جرير: وابنا نزار أحلَّاني بمنزلة ... في رأس أرعن عادي القداميس الجمحي، طبقات "ص89". وقال الراعي: تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبًا ... وابنا نزار فأنتم بَيْضَةُ البلد الجمحي، طبقات "ص118". 4 قال الكميت: أضحت عداوتهم إياي إذ ركبوا ... بحري نزار بهم منفَشَّة القرب المعاني الكبير "2/ 855"، "3/ 1134". 5 "وبعد فلسنا نشك في بعد لغة حمير ونحوها عن لغة ابني نزار"، الخصائص "1/ 392". 6 إذا اجتمع الحيان قيس وخندف ... فثم معد هامها وعديدها ديوان الفرزدق "189". 7 نسب عدنان "ص2". 8 نسب عدنان "ص2".

قبائل مهمة، منها: ضبة، وتميم، وخزيمة، وهذيل، وكنانة، وقريش، وأسد, وغيرها. وأما قيس عيلان، فمن قبائلها: فهم، وعدوان، وغطفان، وعبس، وذبيان, وسُليم، وهوازن، وباهلة، وغنى، وغيرها من قبائل سيأتي ذكرها بعد قليل. وأما مدركة بن إلياس، فولد: خزيمة، وهذيلا، وأسدا، وكنانة. فأما هذيل، فأولد ثلاثة: سعدا، ولحيانا، وعميرا، والعدد في سعد بن هذيل: تميم, وحريث، ومنعة، وخزاعة، وجهامة، وغنم، وولد تميم: معاوية والحارث1. وجعل "مصعب بن عبد الله بن مصعب الزبيري" أولاد مدركة ولدين، هما خزيمة وهذيل. أما أسد وكنانة، فهما عنده ولدان من أولاد خزيمة2. وأما خزيمة، فله من الولد كنانة، وأسد، وأسدة، والهون3, وولد أسد دودان، وكاهلا، وعمرا وحملة. فهؤلاء "بنو أسد"، ومنهم تفرقت أسد كلها. ومن بطونهم المشهورة: "بنو فقعس"، وبنو الصيداء، وبنو نصر بن قعين، وبنو الزينة، وبنو غاضرة، وبنو نعامة. أما ولد الهون، فهم: القارة، ومن القارة: عضل، والديش، وهما قبيلا الهون, وقد اشتهرت القارة بالرماية4. وجعل "الزبيري" ولد الهون ثلاثة, هم: عضل، والديش، والقارة5. ويذكر "الزبيري"، الذي أدخل أسدة في أولاد خزيمة، أن أسدة يزعمون أنه جذام، ولخم، وعاملة، وقد انتسبوا في اليمن، ويظهر أن قبائل "أسد بن خزيمة" ادعت، حين مجيء لخم وجذام مع خالد بن عبد الله القسري إلى العراق، أنها والقبائل القادمة من دم واحد، هو دم خزيمة بن مدركة، وأنها أرادت إلحاق نسبها بهذا النسب6.

_ 1 المعارف "ص30"، وقد جعل "ابن قتيبة" قريشًا ضمن أبناء مدركة، ونسي خزيمة. 2 نسب قريش "ص8". 3 المعارف "ص30"، ولم يذكر صاحب كتاب "المعارف" أسدة في أولاد خزيمة, والذي أدخلهم هو "الزبيري", نسب قريش "ص8". 4 المعارف "ص30". 5 نسب قريش "ص9". 6 نسب قريش "ص8 فما بعدها".

وأما كنانة1، فولد النضر، ومالكا، وملكان، وعبد مناة، وهو علي، وربما قالوا مسعودًا2، وآخرين ذكرهم "الزبيري3. فأما بنو ملكان، فلهم بقية، وليس لهم شرف بارع، مما يدل على أنهم لم يكونوا كثيري العدد. وأما بنو مالك، فمن قبائلهم بنو فقيم وبنو فراس, ومن بني فقيم "القلامس" نَسَأة الشهور. وأما عبد مناة، فمنهم "بنو مُدلج" القافة، ومنهم بنو جذيمة، ومنهم بنو ليث، ومنهم الدئل، ومنهم بنو ضمرة, ومن بني ضمرة: غفار, ومنهم بنو عريج4. وأما "النضر"، فولده مالك والصلت5. فأما "الصلت"، فصاروا في اليمن، ويقول قوم: إنه أبو خزاعة6, ورجعت قريش إلى مالك كلها، فهو أبوها كلها. وولد مالك بن النضر فهرًا والحارث7. فأما "الحرث" الحارث بن مالك، فهو من المطيبين، ويقال: إن الخلج منهم, ويقال: كانوا من عدوان، فألحقهم عمر بن الخطاب بالحارث، وسموا خلجًا؛ لأنهم اختلجوا من عدوان، وهم بالمدينة كثير8. وأما فهر بن مالك، فمنهم تفرقت قبائل قريش، فقيل لهم "بنو فهر", وولده: غالب بن فهر، ومحارب بن فهر9. فأما "محارب"، فمنهم ضرار بن الخطاب شاعر قريش في الجاهلية. وأما غالب بن فهر، فولده لؤي وتيم، فأما تيم، فهم بنو الأدرم من أعراب قريش10. ويذكر بعض أهل الأخبار أن قريشًا كانوا متفرقين في "بني كنانة"، فجمع "قصي" إلى مكة "بني فهر بن مالك" فجذم قريش كلها "فهر بن مالك"

_ 1 ممن ذكر "كنانة" من الجاهليين "بشر بن أبي خازم الأسدي"، قال: فَأَبلِغ إِن عَرَضتَ بِنا رَسولًا ... كِنانَةَ قَومَنا في حَيثُ صاروا ديوان بشر "ص73". 2 المعارف "ص30 فما بعدها". 3 نسب قريش "ص10". 4 المعارف "ص30". 5 نسب قريش "ص11"، المعارف "ص31". 6 نسب قريش "ص11"، الإنباه "ص94". 7 المعارف "ص31"، نسب قريش "ص12". 8 المعارف "ص31". 9 وأضاف "الزبيري" إليهما "الحارث"، نسب قريش "ص12". 10 المعارف "ص31 فما بعدها".

فما دونه "قريش" وما فوقه عرب، مثل كنانة وأسد وغيرهما من قبائل مضر، فإنما قريش إلى "فهر بن مالك" لا تجاوزه1. ثم يفسرون معنى "قريش" بالتقرش أي: التجمع، أو جمع المال والتجارة، أو غير ذلك مما سأتحدث عنه فيما بعد2. مما يدل على أن تلك التسمية لم تكن قديمة، وإنما هي لقب في الأصل أطلق على جماعة من بني فهر كانوا يسكنون مكة، فعرفوا به حتى غلب على اسمهم، وصار اللقب اسمًا، ومن هنا اشتهر بين النسابين أنه اسم إنسان وجدّ قبيلة. وأما لؤي، فإليه ينتهي عدد قريش وشرفها, وولده: كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، وسامة بن لؤي، وسعد بن لؤي، وخزيمة بن لؤي، والحارث بن لؤي, وعوف بن لؤي3. فأما عامر، فولده: حسل ومعيص، ومن حسل سهل وسهيل والسكران بنو عمرو. وأما سامة، فوقع بعمان، وهلك بها فولده هناك. وأما سعد بن لؤي، فهو أبو ولد بنانة، وأما خزيمة بن لؤي، فمنهم عائذة، وهم في بني شيبان. وأما كعب بن لؤي، فولده: مرة، وهصيص، وعدي4. فأما هصيص، فمنهم بنو سهم، وبنو جمع. وأما عدي، فمنهم عمر بن الخطاب. وأما مرة، فمنهم تيم بن مرة رهط أبي بكر، وآل المكندر، ومنهم مخزوم بن يقظة بن مرة، ومنهم كلاب بن مرة وولد زهرة بن كلاب وقصي بن كلاب5. وأما قصي بن كلاب، فإنه أول من جمع قبائل قريش، وأنزلها بمكة، وبنى دار الندوة، وأخذ مفتاح الكعبة من خزاعة. وكان له من الولد: عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبد6. فأما عبد، فبادوا. وأما عبد العزى، فمنهم خويلد بن أسد أبو خديجة. وأما عبد الدار، فمنهم آل أبي طلحة، ومنهم شيبة بن عثمان، وقد أعطاه النبي مفتاح الكعبة، وصار في

_ 1 العقد الفريد "3/ 313"، ابن حزم، جمهرة "11" الإنباه "66"، البلاذري, أنساب "1/ 39". 2 الميداني، مجمع الأمثال "2/ 72". 3 المعارف "ص32"، و"الحارث، وهم جشم وهم في همدان"، نسب قريش "ص13". 4 نسب قريش "ص13"، المعارف "ص32". 5 المعارف "ص32" نسب قريش "ص13". 6 نسب قريش "ص14"، المعارف "ص32 فما بعدها".

ولده. وأما عبد مناف، فولده هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل وأبو عمرو1. وأما طابخة بن إلياس، فولد أدًّا، وولد "أد" مرًّا وعبد مناة وضبة ومزينة وحميسًا والرباب. فأما عبد مناة، فمنهم تيم بن عبد مناة وبطونها، وعدي بن عبد مناة، وعُطْل بن عبد مناة، وهؤلاء الثلاثة من الرباب، وثور بن عبد مناة2. وجعل "الزبيري" ولد أد بن طابخة: مزينة، ومرا, وتميما3. وأما ضبة بن أد، فولده سعد وسعيد وباسل. فأما باسل، فهو أبو الديلم، وقُتِل سعيد ولا عقب له، وضبة كلها ترجع إلى "سعد بن ضبة"، وهي جمرة من جمرات العرب، وهي من الرباب. وولد سعد الذين تنسب إليهم ضبة بكرًا، وثعلبة, وصريمًا. ومن بطونهم نصر، ومازن، والسيل، وذهل، وعائذة، وتيم اللات، وزبان، وعوف، وشيم. ومن ذهل بجالة، وتيم، وصبيح، وضبة، وكعب. ومن كعب ضرار بن عمرو، وهو بيت ضبة، وبنو صباح، وهم معروفون بالصيد، وشقرة, وهلال4. وأما مزينة بن أد، فهم مزينة مضر، ومنهم الشاعر زهير. وأما حميس بن أد، فهم قليلون، يكونون في البصرة في بني عبد الله بن دارم وبالكوفة في بني مجاشع. وأما مر بن أد، فولده ثعلبة بن مر, وهم بنو ضاعنة، ونسبوا إلى أمهم, وبكر بن مر وهم الشعيراء, وأراشة بن مر ولحقوا باليمن، فصاروا في جذام، ويقال لهم جديس، والغوث بن مر وصاروا باليمن، ويقال لهم: بنو صوفة، وكانوا يفيضون بالناس قبل بني صفوان وتميم بن مر5. وأما تميم بن مر، وقبره بـ"مران"، فولده زيد مناة، وعمرو، والحارث. فأما الحارث، فمنهم شقرة, وأما عمرو، فولده العنبر والهجيم وأسيد والقليب والحارث بن عمرو المعروف بـ"الحبط"، ويقال لولده "الحبطات"، ومالك بن عمرو. وأما زيد مناة، فولد سعدًا وفيهم العدد، وعامرًا، وانتسب ولده إلى عامر بن مجاشع والحارث، وهم قليل، وامرؤ القيس، منهم عدي

_ 1 نسب قريش "ص14"، المعارف "ص32 وما بعدها". 2 المعارف "ص34". 3 نسب قريش "ص8". 4 المعارف "ص34". 5 المعارف "ص34".

ابن زيد الشاعر، وقبائلهم بنو عصية, ومالك بن زيد مناة ومنهم ربيعة الجوع، ومنهم البراجم، وهم عمرو وقيس وكلفة وظليم وغالب بنو حنظلة بن مالك, ومنهم بنو يربوع بن حنظلة، وهم بنو كليب بن يربوع، ورياح بن يربوع، وثعلبة بن يربوع، وعُدانة بن يربوع، وحزام بن يربوع1. ومن تميم بن مر بنو دارم بن مالك بن حنظلة، ومجاشع بن دارم، ونهشل بن دارم، ومنهم بنو العدوية، نسبوا إلى أمهم، وهم: زيد بن مالك بن حنظلة، وصدي بن مالك بن حنظلة، ويربوع بن مالك بن حنظلة، وعوف بن مالك بن حنظلة, وجشش بن مالك بن حنظلة2. وأما سعد بن زيد مناة بن تميم فهو الفزر, وولده كعب بن سعد، وعمرو بن سعد، والحارث بن سعد، وهم: عوافة، وعبشمي بن سعد، واسمه مقروع، وجشم بن سعد، ومالك بن سعد، وهبيرة بن سعد. فأما كعب بن سعد، ففيهم العدد؛ منهم مقاعس، ومنهم حمان، ومنهم بنو منقر، ومنهم بنو مرة، ومنهم ربيعة. ومن "عوف بن كعب" بهدلة رهط الزبرقان بن بدر، وقريع رهط بني أنف الناقة، ومنهم آل عطارد وآل صفوان بن شجنة الذين كانت فيهم الإفاضة بالناس من عرفة، ومن عطارد بنو عوف3. وأما قيس بن عيلان، وهو قمعة بن إلياس بن مضر، فولد سعدًا، وعكرمة، وأعصر، وعمرًا، وخصفة. وبعض النساب يزعم أن عكرمة هو ابن حفصة، وأعصر هو ابن سعد4. وأما عمرو بن قيس، فولده فهم وعدوان. فمن فهم تأبط شرًّا, وأما عدوان، فمن بطونهم بنو خارجة وبنو وابش وبنو يشكر وبنو عوف والفرعا وبنو رهم وبنو رباح. ومن عدوان عامر بن الظرب حاكم العرب، وأبو سيارة الذي كان يفيض بالناس، وعدوان أنزلوا ثقيفًا بالطائف، وكانت كثيرة السادة، فتفرقوا يبغي بعضهم على بعض5.

_ 1 المعارف "ص35". 2 المعارف "ص35". 3 المعارف "ص36". 4 المعارف "ص36". 5 المعارف "ص36".

وأما بنو سعد بن قيس عيلان، فهم غطفان1 وأعصر بن سعد. فولد أعصر غنيًّا ومَعْنًا وهو أبو باهلة، وباهلة امرأة من همدان نسب بنو معن إليها، ومنبه بن أعصر وهم الطفاوة. فأما غني، فمنهم بنو ضبينة وبنو بهثة وبنو عبيد, وهم حلفاء في بني كلاب. وأما الطفاوة، فمنهم بنو جسر وبنو سنان، وكانوا في بني شيبان حلفاء. ومن الطفاوة الحبال، وكانوا في الهجيم، وأما معن بن أعصر، فولده قتيبة ووائل، وأمهما من فزارة, وأود، وجاءت أمهما باهلة امرأة من همدان، وفراص, وأبو عليم2. وأما قتيبة بن معن، فمن ولده غُنْم، وولد غنم سهم بن غنم، ومن بني قتيبة بنو صحب، وهم ينزلون اليمامة. ومنهم عمرو بن عبد واعبد وقعنب وسعد بن عبد وعامر بن عبد، ومن بني سعد بنو أصمع. وأما وائل بن معن، فمنهم بنو سلمة وبنو هلال بن عمرو وبنو زيد وبنو عامر بن عوف وبنو عصية3. وأما غطفان بن سعد، فولده ريث وعبد الله، فولد ريث بغيضًا وأشجع، فولد بغيض ذبيان وعبسا وأنمارا. وأما عبد الله بن غطفان، فهم في بني عبس, وأما أشجع، فمنهم بنو دهمان. وأما أنمار بن بغيض، فهم قليل. وأما عبس بن بغيض، فولده قطيعة، وورقة، ومعتم، والشرف والعدد في قطيعة. وأما ورقة ومعتم ابنا عبس، فلا يعرف منهما أحد4. وأما ذبيان بن بغيض، فولده فزارة، وسعد، وهاربة البقعاء، وقد بادت هاربة إلا بقية يسيرة في بني ثعلبة بن سعد. وأما فزارة بن ذبيان، فولده عدي، وظالم، ومازن، وشمخ. فأما ظالم، فقد بادوا إلا قليلًا، وأما شمخ بن فزارة، فولده لؤي وهلال, وأما مازن بن فزارة، فمنهم بنو العشراء، وأما عدي بن فزارة، فولده ثعلبة وسعد5. وأما سعد بن ذبيان، فولده ثعلبة وعوف. فمن ثعلبة بنو جحاش، وبنو سبيع، وبنو حشور, وفي بني سبيع البيت والشرف. وولد عوف بن سعد

_ 1 التنبيه "ص209، وما بعدها، 216". 2 المعارف "ص36". 3 المعارف "ص37". 4 المعارف "ص37". 5 المعارف "ص37".

مرة وعيدًا. فأما عيد، فقليل، وفي مرة بن عوف الشرف والسؤدد. فولد مرة بن عوف غيظًا، ومالكًا، وحرمة، وسهمًا، وبني صارد, وغيرهم. فولد غيظ نشبة ويربوعًا1. وأما خصفة بن قيس عيلان، فولده عكرمة ومحارب, وبعضهم ذكر أن عكرمة هو ابن قيس. وأما محارب، فمنهم جسر والخضر, وبنو جسر حلفاء بني عامر بن صعصعة. وأما عكرمة، فولده عامر, ومنصور، وأبو مالك. فأما بنو أبي مالك، فهم في بني تيم الله, وأما عامر، فهم حشوة في بني سليم ولهم بقية بالبادية, وأما منصور بن عكرمة، فولده سليم، وسلامان، وهوازن، ومازن. وأما سليم فولده بهثة, وولد بهثة امرأ القيس وعوفًا. ومن قبائل سليم: بنو حرام, وبنو خفاف، وسماك، ورعل، وذكوان، ومطرود، وبهز، وقنفذ، ورفاعة، وعصبة، وظفر، وبجلة, وحبيب بن مالك، وبنو الشريد، وبنو قتيبة2. وأما هوازن بن منصور، فولده بكر، وسبيع، وحرب، ومنبه، ولا عقب لسبيع وحرب. وأما منبه، فهو أبو ثقيف في قول بعض النسابين. وولد بكر بن هوازن سعدا ومعاوية وزيدا, ومن ولد معاوية بن بكر: جشم، ونصر، وصعصعة، والسباق، وجسر، وجحش، وجحاش، وعوف، ودحوة، ودحية. فأما دعوة، ودحية، وجحش، وجحاش، فلا عقب لهم, وأما عرف فيقال لهم: الوقعة3. وأما صعصعة بن معاوية، فولده عامر ومرة وغاضرة ومازن ووائلة. فأما بنو مرة فيعرفون بـ"بني سلول". وأما عامر بن صعصعة، فولده هلال بن عامر، وسواءة بن عامر, ونمير بن عامر، وهي جمرة من جمرات العرب, وربيعة بن عامر، وولده بنو مجد وينسبون إلى أمهم, وهم عامر بن ربيعة، وكلاب بن ربيعة، وكعب بن ربيعة. فأما عامر بن ربيعة، فمن ولده عمرو بن عامر فارس الضحياء، وبنو البكا بن عامر. وأما كلاب بن ربيعة، فمن ولده جعفر، ومعاوية، وربيعة، وأبو بكر، وعمرو، والوحيد، ورواس،

_ 1 المعارف "ص38". 2 المعارف "ص38". 3 المعارف "ص39".

والأضبط، وعبد الله. وأما معاوية بن كلاب، فمنهم الضباب، وهم حسل وحسيل وضب1. وأما عمرو بن كلاب، فمنهم بنو دودان. وأما أبو بكر بن كلاب، فمن ولده القرطات: قرط وقريط ومقرط. وأما كعب بن ربيعة، فمن ولده عقيل وقشير والحريش وجعدة وعبد الله وحبيب. وأما عبد الله، فمن ولده بنو العجلان. وأما قشير بن كعب، فمنهم غطيف وغطفان، ومنهم مالك ذو الرقيبة، ومنهم بنو ضمرة. وأما عقيل بن كعب، فمنهم خفاجة، ومنهم الخلفاء، ومنهم الأخيل2. وأما منبه بن هوازن بن منصور، فولده قسي، وهو ثقيف, فولد ثقيف جشم وعوفا والمسك، فتزوج قاسطٌ المسك، فولدت وائلًا أبا بكر بن وائل. وأما جشم، فولد حطيطا، فولد حطيط مالكا وغاضرة. وأما عوف، فهم الأحلاف؛ وذلك أنهم تحالفوا على بني مالك وصارت غاضرة مع الأحلاف، فثقيف فرقتان: بنو مالك والأحلاف3. هذا وإننا لنجد بعض النسابين ينسبون ثقيفا إلى "ثمود"، فيقولون: إنهم من بقاياهم، وهو نسب لا يرضى عنه الثقفيون بالطبع، ويزعجهم أن يكونوا من قوم هلكوا بسبب غضب الله عليهم4. ومنهم من جعل نسبهم في إياد, ومنهم من جعل نسبهم من "أبي رغال" إلى غير ذلك من أقوال، يظهر أنها ظهرت في الإسلام كرهًا للحجاج ين يوسف، أحد بني ثقيف، المشهور بتعسفه وبظلمه. وقد قيل: إن قيسًا، وهو اسم "ثقيف" هو من القسوة، وكان غليظا قاسيا5, ولا أظن أن هذا التفسير هو مما يرضي الثقفيين. وأما ربيعة بن نزار بن معد، فولد أسد بن ربيعة وضبيعة بن ربيعة وأكلب بن ربيعة. فأما أكلب بن ربيعة، فهم في خثعم, وهم بطون كثيرة تنسب إلى خثعم. وأما ضبيعة بن ربيعة، فولد أحمس، والحارث، والقلادة، وأما

_ 1 المعارف "ص39". 2 المعارف "ص40". 3 المعارف "ص41". 4 ابن خلدون "2/ 24". 5 الاشتقاق "2/ 183"، الأغاني "14/ 220"، المبرد، الكامل "1/ 276"، الإنباه "89"، البلاذري، أنساب "1/ 25".

أسد بن ربيعة، فولد جديلة وعنزة وعميرة. فأما عميرة، فهم في عبد القيس, وأما عنزة، فاسمه عامر, وأما جديلة، فولد دعميًّا وولد دعمي أفصى، فولد أفصى هنبًا وعبد القيس, فولد عبد القيس اللبو وأفصى, وولد أفصى شنا ولكيزا. فمن شن الديل بن شن, وولده سعد وجذيمة وعامر وحبيب, ومنهم بنو بهثة بن جذيمة بن الديل بن شن. وأما لكيز، فولد نكرة وصباحًا ووديعة. فأما نكرة، فهم حلفاء جذيمة، ومنهم هنبة بن نكرة، وهم أهل البحرين1. وفيهم العدد والشرف، ومنهم المثقب العبدي الشاعر والممزق الشاعر والمفضل بن عامر الشاعر وصاحب القصيدة المنصفة. وبعمان قوم من نكرة، وباليمن قوم منهم. وأما وديعة، فولده عمرو وغنم ودهن. فأما دهن، فهم وائلة، نسبوا إلى أمهم, وأما غنم، فولد عمرو بن غنم وعوف بن غنم. وأما عمرو بن وديعة فولده أنمار وعجل ومحارب والديل والعوق وامرؤ القيس. فمن ولد الديل أهل عمان, وأما العوق، فمنهم العوقة، وهم عمانيون قليل. وأما أنمار، فمنهم عصر، ومنهم ظفر، وأما محارب، فولد حطمة وظفرًا أبا محارب2. وأما هنب بن أفصى، فولد قاسط بن هنب وعمرو بن هنب وخندف بن هنب. وأما عمرو فمنهم عتيب، وهم بنو شيبان. وأما قاسط، فولد عمرو بن قاسط والنمر بن قاسط ووائل بن قاسط. أمهم المسك بنت ثقيف. وأما النمر بن قاسط، فولد تيم الله وأوس الله وعائد الله وأمهم هند بنت تيم بن مر وإخوتهم لأمهم بكر وتغلب، وأخوهم لأمهم أيضا اللبو بن عبد القيس. فأما تيم الله، فولد الخزرج والحريث, وولد الخزرج سعدًا. وأما وائل بن قاسط، فولد بكر بن وائل وتغلب بن وائل وعنز بن وائل, أمهم هند بنت تميم بن مر. فأما عنز بن وائل، فأولد أراشة ورفيدة, فمن أراشة أشجع وغضاضة3. وأما تغلب بن وائل، فولد غنم بن تغلب والأوس بن تغلب وعمران بن تغلب. فأما غنم بن تغلب، فمنهم معاوية بن عمرو بن غنم, ومنهم الأراقم،

_ 1 المعارف "ص41 فما بعدها". 2 المعارف "ص 42". 3 المعارف "ص42".

وهم: جشم، ومالك، وعمرو، وثعلبة، والحث، ومعاوية بنو بكر بن حبيب بن عمرو. ومن بني تغلب عكب, ومنهم بنو عدي بن أسامة، ومنهم بنو كنانة يقال لهم: قريش تغلب, وهم بنو عكب, ومنهم جشم بن بكر، ومن بني جشم بنو الحارث بن زهير، رهط كليب بن ربيعة، ومن بني زهير بنو عتاب. وولد بكر بن وائل علي بن بكر، ويشكر بن بكر، وبدن بن بكر، أمهم هند بنت تميم بن مر. ويقال لها أم القبائل. فأما يشكر، فولد كعبا وكنانة وحربا, وفي كعب العدد والشرف. فمن ولد كعب حبيب والعتيك، ومنهم بنو غنم بن حبيب وثعلبة وجشم وعدي بن جشم1. وأما علي بن بكر، فولده صعب, وولد صعب لُجيمًا وعُكابة ومالكًا. فأما مالك، فمنهم بنو زمان وعددهم في بني حنيفة, وأما لجيم، فولد عجلا وحنيفة, فأما عجل، فولده ربيعة وضبيعة وسعد وكعب, فأما كعب وضبيعة فقليل. وأما حنيفة بن لجيم، فولده: الدول وعدي وعامر وعبد مناة. فأما عبد مناة فهم قليل, وأما الدول فمنهم بنو هفان. وولد عكابة بن صعب قيسًا وثعلبة. فأما قيس، فقليل، وعددهم في بني ذهل. وأما ثعلبة بن عكابة، فيقال له الحصن, وولد ثعلبة ذهلًا وشيبان وقيسًا وتيم الله وأتيدًا وضنة. فأما ضنة، فلحقت باليمن فصارت في بني عذرة, وأما أتيد، فهي في بني شيبان, وأما تيم الله بن ثعلبة، فهم اللهازم، وهم حلفاء بني عجل. فولد تيم الله مالكا والحارث وعامرا وهلالا وذهلا وزمانا وحاطمة، فهؤلاء يقال لهم الأحلاف، إلا الحارث وعامرًا ومالكًا، وسمي أولئك أحلافا لأنهم تحالفوا على هؤلاء2. وأما قيس بن ثعلبة، فولد ضبيعة وتيمًا وسعدًا, وفي ضبيعة العدد. وأما تيم بن قيس وسعد بن قيس فهما الحرقتان. وأما ذهل بن ثعلبة بن عكابة، فولد شيبان وعامرًا. فأما عامر، فيقال لها الوخم. وأما شيبان، فولده سدوس وفيه العدد، وعمرو ومازن وعلباء وعامر وزيد مناة.

_ 1 المعارف "ص43". 2 المعارف "ص44".

فأما علباء، فهم قليل, وأما شيبان بن ثعلبة بن عكابة، فولده: ذهل، وتيم، وثعلبة، وعوف. فأما عوف، فلا عقب له. وأما ذهل بن شيبان، فولد مرة بن ذهل، وربيعة، ومحلمًا، والحارث، وعبد غنم، وعوفا، وصبحا, وشيبان، وعمرو وأمه جذرة، وهم يدعون بني الجذرة، وهم قليل1. والأنساب التي دونتها ورتبتها، لا تعني أنها أنساب كاملة، كل شجرة منها بأغصانها وأوراقها، لم أترك نسبًا، ولم أهمل اسمًا, بل هي خلاصة الأنساب، أخذتها كما رويت في كتاب "الإكليل" للهمداني وفي كتاب "المعارف" لابن قتيبة. وقد ترك ابن قتيبة أسماء قبائل وبطون وأفخاذ؛ لأنها لم تكن مثل المذكورين في الشهرة، وبين "ابن قتيبة" وغيره من النسابين اختلاف كبير في عرض الأنساب وترتيبها. ولما كان عملي هو وضع مخطط عام في النسب لا غير، فقد رأيت الاكتفاء بهذا الرسم الأولي، وترك التفصيلات ومواطن الخلاف إلى الراغبين في دراسة النسب المتعشقين له؛ ليراجعوا الكتب الخاصة بها. وغايتي من هذا المخطط، هو تقديم جريدة صغيرة إلى القارئ بأسماء قبائل عدنان وقحطان؛ ليقف عليها، فعلى هذه المعرفة يتوقف فهم كثير من الأحداث.

_ 1 المعارف "ص45".

الفصل العاشر: أثر التوراة

الفصل العاشر: أثر التوراة مدخل ... الفصل العاشر: أثر التوراة لهذا المدون في التوراة عن الإسماعيليين والقحطانيين، وعن نوح وأولاده، وعن الأنساب الأخرى، أثر ظاهر على عمل أهل الأخبار والأنساب الذين اشتغلوا بموضوع النسب في الإسلام، بل يظهر أن أثره كان فعالًا ومؤثرًا حتى في الجاهليين؛ وذلك لاتصالهم واختلاطهم بأهل الكتاب. وكان لِما جاء في القرآن الكريم مجملًا من أمر آدم ونوح والطوفان وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل وغيرهم، وما جاء فيه من أمر عاد وثمود وقوم صالح وأصحاب الأيكة وقوم تُبَّع، أثر كبير أيضا في أهل الأخبار والتفسير حملهم على البحث عنهم, والتفتيش عن أخبارهم من الأحياء المسنين الذين كانوا يقصون على جيلهم قصص الماضين وأخبار العرب المتقدمين، ومن أهل الكتاب الذين كان لهم إلمام بما جاء في التوراة من الرسل والأنبياء والأمم القديمة والأنساب. ويمكن حصر الروايات الواردة في الأنساب، والمأخوذة من أهل الكتاب وإرجاعها إلى الطرق الأصلية التي وردت منها وإلى الأماكن التي ظهرت فيها، وسنجد بعد البحث أن أكثر رواة هذا النوع من الأخبار كانوا قد استقوا من معين واحد, هم مسلمة أهل الكتاب، مثل: كعب الأحبار, ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، ومحمد بن كعب القرظي، ورجل من أهل تدمر عرف

بـ" أبي يعقوب" كان يهوديا فأسلم, وقد زود "ابن الكلبي" وغير ابن الكلبي بقسط من هذه الأسماء التي يستعملها النسابون في الأنساب. وكان "محمد بن إسحاق" صاحب السيرة يعتمد على أهل الكتاب، ويكثر الرواية عنهم ويسميهم أهل العلم الأول1. وقد استغل نفر من أهل الكتاب حاجة المسلمين هذه إلى الوقوف على "البدء"2 أي: مبدأ الخلق والتكوين، وقصص الرسل والأنبياء، وكيفية توزع البشر، فأخذوا يفتعلون ويضعون ويصنعون على التوراة والكتب اليهودية المقدسة، يبيعونه لهم أو يتقربون به إليهم، ادعاءً للعلم والفهم. قال الطبري: "كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله ليأخذوا به ثمنا قليلا"3. أما ما ذكروه من أن "أبا يعقوب" التدمري وجد في كتاب "بورخ بن ناريا" "كاتب إرميا"، نسب "معد بن عدنان" فإنه كذب وتلفيق، فليس في كتاب "بورخ" شيء من هذا النسب. وكتابه من جملة أسفار "الأبوكريفا" في نظر "البروتستانت"4، وهو مترجم إلى العربية ومطبوع مع أسفار التوراة الأخرى، في الترجمة "الكاثوليكية"، وقد قرأناه فلم نجد فيه شيئا من هذا الذي يذكره اليهودي الذي دخل في الإسلام وليس لـ"بورخ" كتاب آخر فنقول:

_ 1 الفهرست "ص136"، "عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض أهل العلم من أهل الكتاب"، الإكليل "1/ 31". 2 "وفي كتاب البدء، ونقله ابن سعيد"، قيل للكتب التي تبحث في الخلق وبدء التكوين والأنبياء "كتب البدء"، قال المسعودي: "وما ذكره أهل التاريخ والمصنفون لكتب البدء، كوهب بن منبه وابن إسحاق وغيرهما ... " مروج "1/ 320" ابن خلدون "2/ 18، 34". 3 "وكان رجل من أهل تدمر يكنى أبا يعقوب من مسلمة بني إسرائيل, قد قرأ من كتبهم وعلم علمهم، فذكر أن بورخ بن ناديا كاتب إرميا أثبت نسب معد بن عدنان عنده ووضعه في كتبه، وأنه معروف عند أحبار أهل الكتاب وعلمائهم مثبت في أسفارهم، وهو مقارب لهذه الأسماء، ولعل خلاف ما بينهم من قبل اللغة؛ لأن هذه الأسماء ترجمت من العبرانية"، الطبقات "جـ1، ق1، ص29"، تفسير الطبري "1/ 300"، "3/ 231". Nallino, raccolta, vol. 3, p. 120, sprenger, mohammad, vol. 3, p. cxxxiii, goldziher, muh. Stud. Bd. I, s. 178, muir, life of mihamet, cvii, bate, p. 117 4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 205".

إنه وجده فيه، ولا يعقل أن يكون كتاب "بورخ" الذي قرأه نسخة خاصة لم توجد عند غيره من الناس، حتى نحسن الظن به. وكل ما نجده في سفر "بورخ" مما قد يكون له علاقة بالعرب هو هذه الكلمات: "لم يسمع به في كنعان ولا تروى في تيمان، وبنو هاجر أيضا المبتغون للتعقل على الأرض وتجار مران وتيمان وقائلو الأمثال ومبتغو التعقل، لم يعرفوا طريق الحكمة ولم يذكروا سبلها"1. وليس في هذه الكلمات -كما نرى- شيء ما له صلة بنسب "معد بن عدنان". فكنعان كناية عن الكنعانيين، وليست لهم صلة بمعد أو بعدنان. وأما "تيمان" فكناية عن أرض كانت في الجنوب الشرقي من "أدوم"، وهي أرض "أبناء الشرق"، وقد نسبت التوراة التيمانيين إلى "اليفاز بن عيسو"2، ونسبت إليهم الحكمة3, وليست لهم علاقة أيضا بأبناء معد ولا بعدنان. وأما "بنو هاجر" "الهاجريون" "Hagrites" فإنهم شعب سكن شرق أرض "جلعاد"، وقد اختلف علماء التوراة في أصله، فمنهم من عده قبيلة عربية، ومنهم من عده من الآراميين، ومنهم من رأى أنهم "الإسماعيليون". وقد ذكر الهاجريون مع أقوام من الآراميين في كتابة أخبار انتصارات "تغلا تبليسر الثالث" "Tiglath-Pileser III". وهكذا وجدنا أنفسنا عاجزين حتى في هذا الموضع من سفر "باروخ" من العثور عن أية صلة للكلمات المذكورة بنسب "معد بن عدنان". ويروي رواة الشعر وأهل الأخبار شعرًا لعدي بن زيد العبادي ولأمية بن أبي الصلت ولنفر آخر من الشعراء في أحداث وأمور توراتية. وهذه الأشعار إن صح أنها لهم حقا، دلت على وقوف أولئك الشعراء على التوراة, أو على بعض أسفارها، أو على قصص منها. أما عدي بن زيد، فلا أستبعد وقوفه على التوراة، فقد كان نصرانيًّا قارئًا كاتبًا بالفارسية والعربية، وربما كان كاتبًا بلغة بني إرم كذلك، لغة المثقفين في العراق يومئذ. وقد كان هو نفسه من

_ 1 نبوءة باروك، الإصحاح الثالث، الآية 22 وما بعدها. 2 التكوين، الإصحاح 36، الآية 11، قاموس الكتاب المقدس "1/ 296 وما بعدها". 3 إرميا, الإصحاح 49، الآية 7 وما بعدها.

المثقفين ثقافة عالية بالقياس إلى زمانه، وفي شعره زهد وتصوف وتدين وتأمل وتفكر، فلا يستبعد إذًا أخذه من التوراة ومن الأناجيل. وقد أورد "الهمداني" له أبياتًا في قصة آدم وحواء والجنة والحيّة1, وهي أبيات فيها ركة وضعف، ولكنها منتزعة من "سفر التكوين" من التوراة أخذت منه2. وهي إن كانت من شعره ومن نظمه حقا، كانت أقدم شعر يصل إلينا في نظم بعض قصص التوراة بلغة عربية. وأما "أمية بن أبي الصلت" فقد كان واقفا على كتب اليهود والنصارى كما يذكر أهل الأخبار، قارئا لكتب الديانتين، مطلعا على العبرانية أو السريانية أو على اللغتين معًا، إن كان واقفا أي حائرا بين الديانتين، فلم يدخل في أمية ديانة منهما، وإنما كان من الأحناف على حد تعبير أهل الأخبار؛ لذلك لا يستبعد وقوفه على قصص توراتي وإنجيلي، وعلى الاستفادة منه في الشعر. ونجد في شعره ألفاظا غريبة، يذكر أهل الأخبار أنه أخدها من لغات أهل الكتاب، فوضعها في شعره، وشعره كما قلت في مواضع من هذا الكتاب يستحق من هذه الناحية الدرس والنقد، لنرى إلى أية درجة من الحق والصدق تصل دعاوى أهل الأخبار في شعر أمية، وفي نسبته إليه. وهو إن ثبت أنه له، كان أيضا دليلًا على وقوف المثقفين من الجاهليين على كتب أهل الكتاب، وشيوعه في الحجاز، وكان أيضا دليلا على نظم بعض الشعراء لحوادث التوراة والإنجيل في شعرهم في ذلك العهد. ونجد في شعر "أمية بن أبي الصلت" وأمثاله من المتصلين بأهل الكتاب القارئين لكتبهم كما يذكر أهل الأخبار، فائدة كبيرة لنا في تكوين رأي عام عن وقوف العرب على الآراء التوراتية في الجاهلية، وفي جملة ذلك أنساب التوراة. وفي الشعر المنسوب إلى "أمية" آراء مستمدة من التوراة، مثل شعره في "نوح" وفي قصة "الطوفان" والغراب والحمامة وبقية حكاية الطوفان إلى زواله، فإنه إن صح دل على وقوف "أمية" على خبر قصة "الطوفان" الواردة في السفر السادس فما بعده من التكوين. فإن ما جاء في هذا الشعر هو اقتباس

_ 1 الإكليل "1/ 29 وما بعدها". 2 الإصحاح الثاني وما بعده.

لما ورد في تلك الأسفار1. ونجد له أشعارًا أخرى إن صحت نسبتها إليه، دلت على أنه كان على اتصال بأهل الكتاب، وعلى أخذٍ منهم. ولعله كان يغرف من قصصهم الذي كان يشرح للناس ما جاء في التوراة، أو أنه كان يراجع ترجمات للتوراة كانت بعربية أهل الكتاب في ذلك العهد، أو يسمع منهم ترجمة التوراة سماعًا فوقف على بعض ما جاء فيها، وفي جملة ذلك هذا القصص، وربما الأنساب المتعلقة بالعرب كذلك. وحكاية "أمية" عن الطوفان أقرب إلى التوراة من حكاية "الأعشى" أبي بصير ميمون بن قيس، عن الطوفان, وذلك إن صح أن ذلك الشعر من نظمه حقا؛ فإن العناصر التوراتية فيه ليست بارزة واضحة وضوحها في شعر أمية. ويظهر من بعض الجمل الواردة في شعر الأعشى عن الطوفان, مثل: ونادى ابنه نوح وكان بمعزل ... ألا اركب معي واترك مصاحبة الكبر فقال: سآوي نحو أعيط مشرف ... بطول شنان السماء ذي مسلك وعر2 ومثل: ونجا لنوح في السفينة أهله ... ملاحكة الألواح معطوفة الدسر فلما استوت من أربعين تجرمت ... تناهت على الجودي أرست فما تجري3 ومن مضمون القصة نفسها، أن المنبع الذي استقى منه الشاعر "الطوفان" هو القرآن الكريم، ومن يراجع الآيات المنزلة عن "نوح" وعن الطوفان وعن ابنه، وكيف امتنع عن الركوب معه بالرغم من إلحاح نوح عليه، يجزم أن الشاعر المذكور قد أخذ الطوفان من القرآن الكريم ومن موارد إسلامية، واستعمل ألفاظا وتراكيب وردت في كتاب الله، ولم ترد في التوراة.

_ 1 راجع التكوين، الإصحاح السادس فما بعده، الإكليل "1/ 18 وما بعدها". 2 "الكبر" هكذا ضبطت في الإكليل "1/ 52"، وارى أن لفظة الكفر أنسب إلى المعنى من هذه اللفظة. 3 الإكليل "1/ 52".

وإني أشك في كون هذا الشعر من شعر "الأعشى"؛ فالأعشى رجل لم يسلم وإن أدرك أيام الرسول، كان قد قصد الرسول، ونظم قصيدة في مدحه، ولكن قريشًا أثَّرت عليه، وحالت بينه وبين الوصول إلى الرسول، وعاد إلى "منفوحة" بلدته، فمات بها دون أن يسلم. والرأي عندي أن تلك الأبيات هي من صنع مسلم، وضعها على لسانه. ولا يعني شكِّي في صحة نسبة هذه الأبيات إلى الأعشى، أن الأعشى كان بعيدًا عن آراء ومعتقدات أهل الكتاب، غير واقف على أخبارهم وعقائدهم, فقد كان الأعشى جوّالا جوّابا زار العراق وبلاد الشام، اتصل بقبائل نصرانية، وجالس اليهود والفرس والروم، ووردت في أشعاره ألفاظ من ألفاظ الحضارة الأعجمية، كما وردت فيها أفكار تدل على وقوف على آراء وأفكار دينية وخواطر فلسفية, فرجل مثل هذا لا يستبعد وقوفه على قصص يهودي ونصراني وعلى آراء دينية لأهل الكتاب. وللحكم على مقدار فهمه لها يمكن بالطبع دراسة ما ورد في الشعر على لسانه، ومطابقته بما نعرفه من آراء القوم؛ لنقف على درجة صلة ما جاء في شعر الأعشى من آراء ومعتقدات بآراء أهل الكتاب ومعتقداتهم. أما الأماكن التي ظهرت فيها هذه الروايات الإسرائيلية، فهي: اليمن، والمدينة، والعراق, ومن العراق الكوفة بصورة خاصة. وقد كان في كل هذه المواضع رجال من أهل الكتاب موَّنوا أهل الأخبار بما كانوا يرغبون في معرفته، ولم يكن هؤلاء على قدر واحد في المعرفة والفهم، والظاهر أن منهم من لم يكن له إلمام بالتوراة ولا بالتلمود وغيرهما من الكتب، وإنما أخذ ذلك من أهل النظر منهم، أو كما وصل إليه من أهله وحاشيته؛ ولذلك اضطرب الأخباريون في بعض الأحيان في رواية خبر واحد، كما اختلفوا في ضبط الأسماء. وقد علل ابن خلدون اختلافهم في ضبط الأسماء بقوله: "واعلم أن الخلاف الذي في ضبط الأسماء إنما عرض في مخارج الحروف، فإن هذه الأسماء إنما أخذها العرب من أهل التوراة, ومخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب. فإذا وقع الحرف متوسطًا بين حرفين من لغة العرب، فترده العرب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا, وكذلك إشباع الحركات قد تحذفه العرب إذا نقلت كلام العجم، فمن هاهنا اختلف الضبط في هذه الأسماء"1.

_ 1 ابن خلدون "2/ 5".

والحق هو أن هذا الخطأ لم يقع في ضبط الأسماء فقط، بل وقع في أمور جوهرية أخرى ترينا جهل بعض الرواة بجدول الأنساب، وترينا الخلط أحيانا بين الروايات الإسرائيلية والروايات الإيرانية حتى تكوَّن من هذا المجموع المدون في الكتب الإسلامية عن الأنساب خليط من روايات إسرائيلية وروايات فارسية وقصص شعبي عربي، يجوز أن نضيف إليه عنصرًا آخر هو الوضع، فقد وضع الرواة شيئا من عندهم حين عجزوا عن الحصول عليه من الموارد الثلاثة المذكورة، وكان لا بد لهم من سد تلك الثُّغَر، فسدوها بما جادت به قرائحهم من شعر ونثر. ومن هذا القبيل، ما أدخلوه على التوراة أيضا من أنسابٍ زعموا أنها وردت في التوراة، وليس لها في الواقع وجود فيها. خذ آدم، فقد صيره الأخباريون "كيومرث"1 وهو من الفرس، وخذ نوحًا تَرَ أنه صار "أفريدون" عند أهل الأخبار وهو من الفرس أيضا2، وجعلوا "لاوذ" ابنًا من أبناء إرم من سام أخي عوص وكاثر3، مع أنه "لود" في التوراة، وهو شقيق إرم بن سام ووالد عوص وجاثر4، وقالوا أشياء أخرى لا وجود لها في التوراة. أما متى دخلت أنساب التوراة إلى العرب، ومتى ظهرت وشاعت بينهم، فنحن لا نستطيع أن نحدد ذلك على وجه مضبوط بالقياس إلى أيام الجاهلية. ولكننا نستطيع أن نقول: إنها كانت قد تسربت إلى الجاهليين من اليهود، وذلك بوجودهم في الجزيرة العربية واتصالهم بالعرب، وقد يكون من النصارى أيضا، وقد تفشت في أماكن من جزيرة العرب وبين بعض القبائل، وإن هؤلاء أي: أهل الكتاب, هم الذين أشاعوا بين الجاهليين هذه الأنساب. وقد تكون لليهود يد في إشاعة خبر رابطة النسب وأواصر القربى التي تربط بينهم وبين العرب؛ وذلك للتأثير عليهم وللتقرب منهم، وللسكن بينهم بهدوء وسلام. ونستطيع أن نقول جازمين: إن هذا القصص الإسرائيلي، وهذه الأنساب التي يرويها أهل الأخبار، لم تكن كثيرة الشيوع بين الجاهليين، وإنما هي شاعت

_ 1 ابن خلدون "2/ 5". 2 ابن خلدون "2/ 6". 3 ابن خلدون "2/ 7". 4 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 22، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 17، Hastings, P. 557.

وراجت في الإسلام؛ وذلك للأسباب المذكورة، ومروجوها وناشروها هم زمرة تحدثت عنهم في مواضع متعددة من هذا الكتاب. ونحن لا يهمنا هنا من الأنساب الواردة في التوراة إلا الأنساب المتعلقة بالعرب وبالشعوب العربية، ومعنى هذه الأنساب الخاصة بذرية "سام" و"كوش", ويهمنا من ذرية "سام" ذرية "إرم" و"لود" و"أرفخشذ"، حيث ألحق النسابون بهؤلاء قبائل العرب. أما أشور و"عيلام"، وهما بقية أبناء "سام"، فليس لذريتهم علاقة بالعرب، فليس لنا كلام عنهم في هذا المكان. وأولاد سام في التوراة، هم خمسة: "عيلام"، و"أشور"، و"أرفكشاد"، و"لود"، و"أرام"1. وقد ضبط الأخباريون الأسماء على هذه الصورة: "أشوذ"، و"أرفخشذ"، و"عليم" "عويلم" "عيلم"، و"لاوذ" و"إرم"2, وأضافوا إليهم "عابرًا"، فصيروه أخًا للمذكورين وابنًا من أبناء "سام". أما في التوراة فإن عابرًا هو حفيدُ حفيدِ "سام"، وليس بابن له، وقد سِيقَ نسبه فيها على هذه الصورة: "عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام", وكان إبراهيم هو السابع من أعقابه3. ونجد الطبري يروي في مكان من تأريخه, أن أولاد سام هم: "أرفخشذ بن سام، وأشوذ بن سام، ولاوذ بن سام، وعويلم بن سام"4، فهم أربعة. وقال بعد اسم "عويلم بن سام" مباشرة: "وكان لسام إرم بن سام"5 مما يدل على أن المورد الذي نقل منه الطبري روايته لم يكن على علم تام بخبر أم "إرم"، ويؤيد هذا الاستنتاج قوله: "قال: ولا أدري إرم لأم أرفخشذ وإخوته أم لا؟ 6". وقد قال هذا المورد: إن أم أبناء سام المذكورين هي:

_ 1 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 22، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 17. 2 ويرد إرم في بعض الكتب: أرام وأرم، الطبري "1/ 103"، ابن خلدون "2/ 7"، الكامل، لابن الأثير "1/ 31"، التيجان "25". 3 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 21، 25، والإصحاح الحادي عشر، الآية 14 فما بعدها، وأخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول الآية 19. 4 الطبري "1/ 203" "دار المعارف". 5 المصدر نفسه. 6 كذلك.

"صليب ابنة بتاويل بن محويل بن خنوخ بن قيس بن آدم1" فيكون عدد أولاد "سام" خمسة أيضا, وهو العدد المذكور في التوراة إلا أننا نرى تباينًا بين روايتي الطبري والتوراة في الترتيب وفي الضبط: ضبط الأسماء. ونجد الطبري يروي في مكان آخر أن أولاد سام، هم: عابر، وعليم، وأشوذ، وأرفخشذ، ولاوذ، وإرم, وذكر أن من ولد "أرفخشذ" الأنبياء والرسل وخيار الناس والعرب كلها والفراعنة بمصر2. ويظهر من هذه الرواية أن ولد سام هم ستة، وقد نتج ذلك عن ضم "عابر" إلى ولد سام, وهو ضم مخالف لما جاء في التوراة. ولو رفعنا اسم "عابر" من الأسماء المذكورة، لصارت بقية الأسماء خمسة، وقد رتبت على وفق ما ورد في "سفر التكوين"؛ فـ"عليم" هو "عيلام"، و"أشوذ" هو "أشور"، و"أرفخشذ" هو "أرفكشاد"، و"لاوذ" هو "لود"، و"إرم" هو "أرام". وليس في التوراة ذكر لأبناء "لود"، أي: "لاوذ" أهل الأخبار والأنساب, وكل ما فيها أن له نسلًا، وقد عرفوا بـ"اللوديين", وقد ذكروا مع "كوش" و"فوط" مما يبعث على الظن أنهم إفريقيون3. ولورود اسم جدهم "لود" مع "أشور" و"أرام" و"عيلام"، يرى علماء التوراة أن اللوديين الذين هم من نسل "لود بن سام" هم شعب من شعوب الشرق الأدنى, لا تبعد مواطنهم عن البابليين والآشوريين، وأنهم غير "اللوديين" الإفريقيين، اللوديين المنحدرين من صلب "مصرايم" أي: "مصر", المذكورين أيضا في التوراة4. ولهذا فإن الأولاد الذين نسبهم أهل الأخبار إلى "لود"، "لاوذ"، وهم: طسم, وعمليق، وجرجان، وفارس على رواية، وجديس، وأميم، وعبد ضخم على رواية أخرى5، وأمثالهم ممن لم نذكر من الأولاد، هم هبة منحها

_ 1 الطبري "1/ 202 وما بعدها". 2 الطبري "1/ 205"، التيجان "25"، الكامل "1/ 31". 3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 299 فما بعدها"، إرميا، الإصحاح السادس والأربعون، الآية 9. 4 التكوين, الإصحاح العاشر، الآية 13، حزقيال، الإصحاح 27, الآية 10، الإصحاح 30، الآية 5، قاموس الكتاب المقدس، "2/ 299" Hasrtings, P. 557. 5 الطبري "1/ 103"، ابن خلدون "2/ 7". Sprenger, in ZDMG., 17 "1863", S. 373.

أهل الأخبار والأنساب لـ"لاوذ" لا نجد لها ذكرًا في التوراة. إن "عمليقًا"، الذي هو جد العمالقة على رأي أهل الأخبار، وليس من نسل "لود" في التوراة، بل هو جد "أول الشعوب"1؛ لذلك يبدو تجاسر أهل الأخبار بمنح "لود" أولادًا عملًا غريبًا، والظاهر أن "ابن الكلبي" وإليه ترجع أكثر هذه الروايات، أو أحد من سألهم عنهم، اختاروا "لودًا" من بين أبناء "سام" فمنحوه أولئك الأولاد, وكان لا بد لهم من نسبتهم إلى أحد الأجداد المتقدمين القحطانيين؛ لأنهم أقدم منهم في نظرهم، فاختاروا لهم ذلك الأب. أما "أرام"، وهو "إرم" عند أهل الأخبار، فقد أولد أولادًا على ما جاء في التوراة، وهم: "عوص" "UZ"، و"جاثر" "كاثر" "غاثر" "Gether"، و"حويل" "حول" "Hul"، و"ماش" 2Mash. وقد ذكروا في موضع من التوراة أنهم أبناء "سام"3؛ وذلك جريًا على طريقة العبرانيين في حذف اسم الأب أحيانا، وإلحاق الحفدة بالجد مباشرة4. وقد عرف أهل الأخبار هذه الأسماء5, إلا أنهم قدموا وأخروا فيها كما حرفوا فيها بعض التحريف، وقد اختار أهل الأخبار "عوصًا"، فجعلوا له أولادًا هم: عاد، وعبيل6، وغاثر بن عوص، واختاروا "جاثرًا" فجعلوا له "ثمودًا"7 و"جديسًا"8. وقالوا عنهم: "وكانوا قومًا عربًا يتكلمون بهذا

_ 1 العدد، الإصحاح 24، الآية 20، قاموس الكتاب المقدس، "2/ 112". 2 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 23. 3 أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 17. 4 "ولا يستغرب ذلك؛ لأن من عوائد العبرانيين في جدول أنسابهم أنه كثيرًا ما ينزلون الحفدة وأولادهم منزلة الأولاد من الجيل الأول"، قاموس الكتاب المقدس "2/ 126". 5 سفر التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 23. 6 الطبري "1/ 204، 207"، الكامل "1/ 31"، مروج "1/ 24" "1/ 31" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 7 الطبري "1/ 103"، "1/ 207" "دار المعارف"، مروج "1/ 31" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 8 الطبري "1/ 204، 207" "دار المعارف".

اللسان المضري"1, ولا نجد في التوراة ولا في اليهوديات ذكرًا لهؤلاء الأولاد الذين منحهم أهل الأخبار "عوصًا" أو "غاثرًا" "جاثرًا". إذن فالنسب المذكور هو من صنع الأخباريين. و"أرام" هو جد "بني إرم" أي: "الآراميين", وهم قوم معروفون فلا حاجة إلى التحدث عنهم. وأما "عوص" فهو جد "العوصيين"، سكان أرض "عوص" موطن "أيوب" "Job"، إلا أن العلماء لم يتفقوا في تعيين مكانه2؛ فذهب بعضهم إلى أنه "دمشق" و"اللجاء" "اللجاة" مستندين في ذلك إلى رواية "يوسيفوس"، وذهب آخرون إلى أنه "أورفا" على الفرات3, ورأى بعض أنه في "نجد"4، وذهب بعض آخر إلى أنه "أدوم" أو العربية الشمالية5، ورأى "كلاسر" أنه في شمال غرب "المدينة"6، ورأى غيره أنه في مكان ما من جزيرة العرب أو من بادية الشام7. وقد استدل بعض الباحثين من سفر "أيوب" ومما ورد عنه ومن اسمه, على أنه كان عربيًّا، عاش بين العبرانيين، أو أن بعضهم اختلط به، فدون أخباره وقصصه8. وقد أمدت كتب "الهكادة" "Haggadah" و"التلمود" و"المدارش" اليهود وأهل الأخبار بقصص عنه وعن أصدقائه الخلص الذين لازموه9. نرى مما تقدم أن الأخباريين قد ربطوا نسب العرب البائدة أي: العرب الأولى بالإرميين "الآراميين" وباللوديين "اللاوذيين" وبالعوصيين وبالجاثريين "الغاثريين", ولا نجد في كتبهم الأسباب التي حملتهم على إرجاع أنساب هؤلاء العرب إلى هؤلاء الآباء. ويظهر أن فكرة وجود عرب أولى عاشت قبل القحطانيين والعدنانيين،

_ 1 الطبري "1/ 204". 2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 126". Enc. Bibli. P. 5238, hastings, p. 956, musil, hegaz, p. 248. 3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 126" josephus, ant. I, VI, 4. 4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 126". 5 hastings, p. 956. 6 hastings, p. 956. 7 hastings, p. 956, enc. Bibli. P. 5238. 8margoliouth, the relations, p. 31. f. 9 "الطبعة الجديدة" Enc., I, P. 795.

جعلت أهل الأخبار يبحثون عن آباء لهم، يكونون أقدم عهدًا من "قحطان" ومن "عدنان"، فنسبوا أولئك العرب إلى "لود" و"أرام" ابني سام، وإلى "عوص" و"جاثر" ابني "أرام"، وهم أقدم عهدًا من جدي القحطانيين والعدنانيين. أما أثر التوراة على النسابين وأهل الأخبار بالنسبة إلى الطبقة الثانية من العرب، الطبقة التي دعاها العرب العاربة، والعرب القحطانيين، فقد ذكرت في الفصل الخاص بهؤلاء العرب أن "قحطان" جد القحطانيين، هو "يقطان" في التوراة, وقد نسبه أكثر أهل الأخبار إلى "عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"1. وصيره بعضهم ابنًا من أبناء سام. وقد ذكرت أن النسب الثاني نسب مغلوط، وأن نسبه المذكور في التوراة يجعله الابن الثاني الأصغر لـ"عابر". أما الولد البكر فهو "فالج"، فيكون العبرانيون واليقطانيون أبناء عم وفق هذا النسب. وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى أن "يقطان" لا وجود له، وإنما ابتدع ابتداعًا لإيجاد صلة بين العرب والعبرانيين2. وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى أن عابرًا جد قبيلة كبيرة, انقسمت على نفسها إلى قسمين: قسم بقي فيما بين النهرين، وهو القسم الذي عرف بذرية "فالج"، ومن هذه الذرية انحدر "العبرانيون"، وقسم ترك "ما بين النهرين" وارتحل إلى جزيرة العرب، وهو القسم الذي عرف بـ"يقطان"، ودليلهم على ذلك: أن معنى "فالج" هو "الانشقاق" و"الانقسام"، وأن في أيامه "قسمت الأرض" على رواية التوراة3, ومعنى ذلك انقسام ذرية "عابر"، وانشطارهم إلى شطرين. وقد ذكر "الطبري" أن "بني يقطن" لحقت باليمن، فسُميت اليمن حيث تيامنوا4، ومصدر خبره هذا "ابن هشام"، وقد أخذ "ابن هشام" خبره هذا من أهل الكتاب ولا شك.

_ 1 "ويقطن: هو قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح" ابن سعد, الطبقات "جـ1، ق1، ص18 وما بعدها"، الطبري "1/ 207" دار المعارف 2 Hastings, P. 491. 3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 149"، التكوين، الإصحاح العاشر, الآية 25, Hastings, P. 490, 697. 4 الطبري "1/ 209" "طبعة دار المعارف".

ويشك بعض دراسي التوراة في كون "يقطان" المذكور هو "قحطان" الذي يذكره علماء الأنساب، ويرون أن نظرية من يجعل قحطان هو "يقطان"، نظرية لا تستند إلى أساس، وإنما وضعت على التشابه الموجود بين اللفظين، وهذا التشابه هو الذي دفع علماء الأنساب إلى اعتبار "قحطان" "يقطان"، فمن ثَمَّ صار "يقطان" جدًّا للعرب القحطانيين1. ولكنهم لا ينكرون مع ذلك أن "يقطان" التوراة، هو جد قبائل ذكرت التوراة أسماءها، وبعضها قبائل عربية معروفة، فلا يستبعد أن يكون "يقطان" على رأيهم كناية عن قبائل عربية لم يكن العبرانيون على علم بها تمام العلم2. ولم ترد في القرآن الكريم لفظة "قحطان" أو "يقطان", ولم ترد كذلك في الكتابات الجاهلية, أما الشعر الجاهلي، فقد وردت فيه في مواضع الفخر والحماسة. وإذا وافقنا على أنها وردت في الجاهلية القريبة من الإسلام، فإن موافقتنا هذه لا تعني أن قدماء أهل الجاهلية البعيدين عن الإسلام كانوا على علم بـ"قحطان"، أو أن قومًا منهم كانوا ينتمون إليه وينتسبون بنسبه, فحكم مثل هذا لا بد أن يستند إلى كتابات وأدلة مقبولة؛ ولهذا رأى نفر من المستشرقين أن الأخباريين جاءوا بقحطانهم هذا من التوراة، من تأثرهم بأهل الكتاب، ومن مطالعتهم للتوراة، فحولوا النزاع الذي كان بين أهل اليمن وفيهم "سبأ"، والنزاع الذي كان بين أهل مكة وبين أهل مكة ويثرب التي ينتمي أهلها إلى اليمن, إلى نزاع بين جدين، وصار "قحطان" وليد "يقطان" "يقطن" جدًّا حقيقيًّا ليمن ولمن نسب نفسه إليهم من الأفراد والقبائل3. وقد ورد في جغرافية "بطلميوس" اسم قريب من "قحطان" هو "كتنيتة" "كتانيتة" 4Katanitae، قد يكون دليلا على وجود أسماء عند الجاهليين قريبة من "قحطان". أما هذه التسمية، فإننا لا نستطيع أن نقول: إن لها علاقة بقحطان، فالتشابه في التسميات، لا يكون دليلا قاطعا على وحدة تلك

_ 1 Hastings, P. 491. 2 Hastings, P. 490. 3 Enc. Vol. 2, P., 629. 4 ptolemy, geogr, VI, 7, 20, glaser, skizze, bd., 2, s., 283, knobel die voelkerstafel der genesis, s. 185, the historical geography, vol. I, P. 80, o'leary, P. 18.

التسميات. وقد ورد في الموارد العربية اسم قبيلة عرفت بـ"قطن" وبـ"بني قطن"، كما ورد اسم مكان عرف بـ"جوّ قطن"، واسم مدينة تدعى "قحطان"، تقع بين "زبيد" و"صنعاء"1. لهذا أرى أن من الخير لنا ألا نتخذ موقفا خاصا لا سلبا ولا إيجابا تجاه هذا الموضوع انتظارًا لاستكمال العدة, والحصول على مواد جديدة تكفي لإصدار حكم فيه. أما بلاد "اليقطانيين"، على رأي التوراة، فتمتد من "ميشا" "Mesha" إلى "سفار" "2Sephar, ولم تذكر التوراة حدودًا جغرافية لها غير هذين الحدين. ولا يعرف العلماء عن موضع "ميشا" شيئًا, فذهبوا في تعيينه مذاهب؛ ذهب بعضهم إلى أنه "مسينة" أو "ميسان" "Mesene" على رأس الخليج العربي3، وذهب آخرون إلى أنه "موزح" أو "موسج" في نجد4، ورأى آخرون أنه "ماشو" "Meshu" أو "ماش" "Mash"، أي: بادية الشام في الكتابات الآشورية5. وذهب "ديلمن" "Dillmann" إلى أن "ميشا"، تحريف "مسا" "Massa"، وهو اسم أحد أبناء إسماعيل، فتكون حدود "اليقطانيين" على رأيه بعد حدود أرض "مسا"، من قبائل الإسماعيليين مباشرة، غير أننا لا نستطيع مع ذلك من تعين الموضع6؛ لأننا لا نعلم أيضا أين كانت مواطن "مسا" من قبائل الإسماعيليين، فكيف نثبت هذه الحدود؟. وأما الحد الآخر، وهو "سفار"، فهو الحد الجنوبي للبلاد "اليقطانيين"، وذلك بإجماع آراء علماء التوراة, ولكنهم يختلفون في تعيين الموضع فقط، فمنهم من رأى أنه "ظفار" عاصمة الحميريين، ومنهم من يرى أنه "ظفار" حضرموت التي اشتهرت شهرة واسعة في العالم القديم، وورد ذكرها في الكتب "الكلاسيكية"7,

_ 1 أحسن التقاسيم "3/ 83، 94"، "الطبعة الثانية". Enc. Vol. 2, p. 629, glaser, skizze, 2. s. 288. 2 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 30. 3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 399"، Hastings, P. 606. 4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 399". 5 hastings, p., 607, delitzeh, wo lag?, s. 242. 6 التكوين، الإصحاح 25، الآية 14، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول, الآية 30, Enc. Bibli, p. 3040. 7 Enc. Bibli. P. 4370, ritter, erdkunde, 14, 372, sprenger, alte geogr. S. 185, Skizze, 2, s. 437, hastings p. 836.

ومن المرجح أن تكون هي الموضع المقصود؛ وذلك لشهرتها هذه ولقدمها. وقد جعلت التوراة لـ"يقطان" أولادًا، عدتهم فيها ثلاثة عشر ولدًا، هم: الموداد، وشالف، وحضرموت، ورياح، وهدورام، وأوزال، ودقلة، وعوبال، وأبيمايل، وشبا، وأوفير، وحويلة، ويوباب1. وهذه الأسماء، هي أسماء قبائل وأمكنة، اعتدَّها كتبة التوراة على عادة ذلك العهد أسماء أعيان، وصيروها أسماء أولاد "يقطان". ولا يعني هذا العدد، في نظري، أنه جميع القبائل العربية التي كانت تقيم في مواطن "اليقطانيين"، وإنما هو حاصل ما بلغ إليه علم كتبة تلك الأسفار في ذلك اليوم من أمر هذه القبائل، ولم تكن معارف أولئك الكتبة يومئذٍ أكثر من هذا الذي ذكروه ودونوه, على نحو ما وصل إلى علمهم ومسامعهم، فهو لهذا لا يمثل أيضا ترتيبا جغرافية للأماكن المذكورة ولا سردًا على نسق معين مضبوط2. ونحن إذا أنعمنا النظر في هذه الأسماء نجد أنها قد كدست في منطقة ضيقة، هي اليمن وحضرموت, أما ما فوقها إلى "ميشا" نهاية الأرض اليقطانية في الشمال، فلم يذكر الكتبة من أسماء قبائلها شيئًا ما. وهو يدل على أنهم لم يكونوا يعرفون عن باطن جزيرة العرب شيئا، أو أن موضع "ميشا" في مكان آخر في غير هذا الموضع الذي تصوره علماء التوراة، كأن يكون في شمال اليمن مثلا، وبذلك يستقيم التحديد كل الاستقامة مع ما هو شائع معروف من أن أرض اليمن وبقية العربية الجنوبية, هي أصل موطن القحطانيين. ويظهر أن كتبة النسب في التوراة لم يراعوا في عدهم أسماء أبناء يقطان الترتيب الجغرافي، أو قرب اليقطانيين وبعدهم عن العبرانيين, فهذا الترتيب، لا يشير -في الحقيقة- إلى أن الأسماء وضعت على أساس جغرافي. والظاهر أنها جمعت كما وصلت إلى مسامع العبرانيين من غير فحص أو تدقيق، كما أننا لا نستطيع أن نؤكد أنها وصلت صحيحة سالمة من غير تصحيف أو تحريف. و"الموداد" "مودد" "المودد" "Al-Modad"، هو الابن البكر

_ 1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 26 فما بعدها. 2 enc. Bibli. P. 2564, hasings, p., 490

ليقطان على ما يفهم من التوراة, وهو رمز عن شعب من الشعوب اليقطانية، يرى نفر من علماء التوراة أن مواطنه في العربية الجنوبية, قد يكون في جنوب غربي جزيرة العرب1. وقد وردت في النصوص العربية الجنوبية وفي نصوص غير عربية كلمات قريبة من هذه الكلمة، مثل: "موددى" في البابلية، و"مودادو" "موددو" في البابلية أيضا وفي "الأمودية"2, ووردت لفظة "مودد" في كتابات "جبانية" "كبانية" "Gebanitae"، في نصوص تدل على تقرب ملوك "حبان" "جبن" "كبن" "جبان" من ملوك معين، وإلى سيادة "معين" على "الجبأنيين" في ذلك الحين, فورد "مودد ملك معين" بمعنى "المتودد لملك معين" و"المحب لملك معين". ويرى "كلاسر" أن هذه الجملة لا تعني "أحباء ملوك معين" وأصفياءهم، وإنما تحكي وظيفة لها علاقة بالإله "ود"، مثل كهانة الإله "ود" وسدانته, ومسكن هؤلاء "الجبأنيين" في الزاوية الجنوبية الغربية لجزيرة العرب3. كما ورد اسم "مودد" في الكتابات السبئية4، وفي كتاب الإكليل للهمداني. وقد ذكره قبل "السلف"، مما يدل على أنه اسم مكان مجاور للسلف5. وأورد "بطلميوس" في الجغرافية اسم شعب عربي دعاه "Allumaeotae" يرى "فورستر" أنه شعب "الموداد" الذي نتحدث عنه. ويقع مكان هذا الشعب في جغرافية "بطلميوس" جنوب "الجرعاء" "Gerraea" "Vicus Jerachaeorum"، ويتصور أنه على ساحل الخليج العربي عند "قطن"6. وأما "شالف" "Sheleph" الذي ورد في التوراة بعد "الموداد"، فلم يتمكن العلماء من تشخيصه أيضًا7. ويرى بعضهم أنه شعب "Salepeni" المذكور في جغرافية "بطلميوس"8, ويرى آخرون أنه "السلف"، وهم بطن من

_ 1 hastings, p. 22, dictionary of the bible, I, P., 50, by w. smith 2 enc. Bibli, p. 116, hommel, a. h. t., s, 113, early Babylonian personal names p. 30, Montgomery, Arabia and the bible, p. 40 3 glaser, skizze, 2. s. 425 4 ency, bibli. P. 116, zdmg. 37, 13, 18 5 الإكليل "1/ 116 وما بعدها". 6 forster, vol. I, p. 107, f 7 hastings, p., 845, enc, bibli. P. 4448, Montgomery, Arabia, p. 40 8 forster, vol. I, p. 109. f

ذي الكلاع من حمير، وهو "السلف بن يقطن"1، أو "السلاف"، أو "بنو سلفان"2. و"السلف" أقرب هذه الأسماء إلى "شالف"، وخاصة إذا أخدنا بما قاله النسابون من انتساب هذه القبيلة إلى جد أعلى هو "السلف بن يقطن"، وذكر "نيبور" في رحلته اسم موضع في اليمن يقال له "سلفية"، قد تكون لاسمه علاقة بـ"شالف"3, وفي منطقة "يريم" ممر يقال له "نجد الأسلاف"4، وقد رأى "كلاسر" احتمال وجود صلة بينه وبين "شالف"5. وأما "حزرماوث"، "Hazarmaveth"، فهو "حضرموت". ومعلوماتنا عن هذا الشعب حسنة بفضل الكتابات الجاهلية التي عثر عليها في العربية الجنوبية، والتي ترجم عددًا منها المستشرقون. وسأتحدث عنهم في الأجزاء الآتية من هذا الكتاب. وأما "يارح" "Yerah"، فإن معناه "قمر" و"شهر"؛ ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى أنه اسم قبيلة عربية, وبين العرب قبيلة تعرف بـ"بني هلال"، فلا يبعد أن يكون "يارح" اسم قبيلة6. وقد عثر في كتابات تدمر على اسم "يارح"، وقد ورد اسم علم7، كما أن اسم "شهر" من الأسماء المعروفة عند الجاهليين، وقد سُمِّي به عددٌ من الملوك الذين عاشوا قبل الميلاد وبعده. ويرى "كلاسر" أن الشعب كان يقيم في "مهرة"، أو في جنوب عمان في موضع قد يكون المكان الذي سماه "بطلميوس" "8Jerakon kome. و"يارح" هو "يرخ" و"ورخ" في اللهجات العربية الجنوبية، وتعني "شهرًا" "قمرًا", وهناك مواضع متعددة في العربية الجنوبية تسمى بأسماء قريبة من هذه الكلمة، مثل "وراخ" و"يراخ". وقد ذكر الهمداني

_ 1 تاج العروس "6/ 143"، "السلف"، البلدان "5/ 109"، نهاية الأرب "2/ 278"، القاموس "3/ 153", الإكليل "1/ 116". 2 الهلال، جـ13، سنة 10، نيسان، 1902م "ص401". 3 enc, bibli. P. 4448, niebihr, arabien, s. 247, osiander, in zdmg., II, 153. ff. glaser, skizze, s. 425 4 صفة "ص71، 101". 5 glaser, skizze, 2 s. 425 6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 487". 7 enc. Bibli. P. 2362, Montgomery, Arabia, p. 40 8 glaser, skizze, 2, s., 425

اسم موضع دعاه "وراخ" في مخلاف "العود"1؛ لذلك رأى بعض العلماء وجود صلة بين هذه المواضع و"يارح". كما ورد في جغرافية "بطلميوس" اسم مكان دعاه "Insula Jerachaeorum"، وهو جزيرة تقع في البحر الأحمر جنوب جُدَّة, وورد اسم محل آخر سمي "Vicus Jerachaeorum"، ويقع في مقابل النهر الذي دعاه نهر "الآر" "Lar" الذي يصب على زعم "بطلميوس" في الخليج العربي "الخليج الفارسي" "2Sinus Persicus. وأما "هدورام" "Hadoram"، فيرى "ملر" "Muller"، و"كلاسر" احتمال أنه "دورم"، وهو موضع على مقربة من "صنعاء". ويؤيدان رأيهما هذا بما ورد في المؤلفات العربية من أن اسم "صنعاء" القديم هو "أزال", و"أزال" هو شقيق "هدورام"، وقد ذكر بعده في ترتيب أسماء أولاد "يقطان"3. وقد ذكرت الكتب العربية اسم موضعين يقال لهما "الهدار", قال الهمداني عن أحدهما: إنه "حصون ونخول وقصور عادية"4، وقال عن الثاني: إنه "هدار بني الحريض"، وذكر أن فيه "القطنية"5، وهذا الموضع الأخير قريب من "هدورام"، وللفظة "القطنية" أهمية كبيرة لقربها من لفظة "يقطان". وقد ذكر "الطبري" في تأريخه أن جرهمًا "اسمه هذرم بن عابر بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح"6. وهذا النسب الذي ذكره "الطبري" هو النسب الوارد في التوراة بزيادة "عابر" بين "هذرم" وهو "هدورام" وبين "يقطن", وهو خطأ يرد كثيرًا في الأنساب المنقولة من

_ 1 صفة "ص101"، "وراخ: ناحية باليمن" البلدان "8/ 411". 2 forster, vol. I, p. 116. ff 3 enc. Bibli. P. 1932, muller, burgen und schlosser, I, s. 360 4 صفة, glaser, skizze, 2, 426, hastings, p. 324, forster, 2, p. 137 5 صفة. 6 الطبري "1/ 207" "دار المعارف".

التوراة إلى الكتب العربية. ومورد "الطبري" هو "ابن الكلبي"1، ومورد "ابن الكلبي" هو من أهل الكتاب، شأنه في ذلك شأن كل الأنساب حيث أخذها من أهل الكتاب. أما "أزال"، فهو مثل سائر الأسماء المتقدمة، غير معروف, ولم يتفق علماء التوراة على تعيينه حتى الآن. وقد ذكر أهل الأخبار أن "صنعاء" عاصمة اليمن، كانت تعرف في الجاهلية بـ"أزال"2. وترجع هذه الرواية إلى "وهب بن منبه" الذي زعم "أنه وجد في الكتب القديمة المنزلة التي قرأها: أزال كل عليك، وأنا أتحنن عليك"3, وزعم أن "أزال" هي "صنعاء" ولم يرد في النصوص الجاهلية ما يفيد أن صنعاء كانت تعرف بـ"أزال"، بل لدينا نص من أيام الملك "يشرح يحضب" "ملك سبأ وذي ريدان" ويعود إلى نهاية القرن الثاني وبداية القرن الأول لما قبل الميلاد، أي: القرن المتصل بالقرن الأول للميلاد, ورد فيه "صنعو" وهو "صنعاء"4. ويرى "كلاسر" أن اسم "أزال" إنما وضع لـ"صنعاء" بعد دخول اليهودية إلى اليمن وانتشارها هناك، وضعه اليهود5. وذكر "البكري" أن صنعاء كلمة حبشية، ومعناها: وثيق وحصين6. وهناك مواضع أخرى عرفت بـ"أزال"، منها موضع يعرف بـ"يأزل"، عند جبل "حضور"، وموضع آخر في الحجاز، غير أن من غير الممكن في الزمان الحاضر البتّ في أي مكان من هذه الأمكنة, بأنه هو "أزال" التوراة7. ولم يتمكن علماء التوراة من البت في موضع "دقلة" "Diklah" أيضًا. ويرى بعض المستشرقين أن هذا الاسم يشير إلى مكان يجب أن يكون كثير

_ 1 المصدر نفسه. 2 البلدان "1/ 214"، "5/ 387"، صفة "ص255". Montgery, Arabia, p. 40, caussin de Perceval, histoire des arabes, vol. I, p. 40 3 تاج العروس "5/ 421". 4 enc. Bibli. P. 5239, hastings, p., 956, enc. Vol. 4, p. 143, glaser, skizze 2, s. 427 sprenger, gogr. S. 181, glaser, 424 5 glaser, skizze, 2, s. 427 6 تاج العروس "5/ 421". 7 glaser, skizze, 2, s., 427

التمر1, وقد رأى "هومل" أنه موضع "حدّ دقل"2. وذكر "ياقوت الحموي" موضعًا في اليمامة سماه "دقلة"3، ولكن الباحثين في هذا الموضوع لم يقطعوا برأي فيه. ورأى بعض الباحثين أن "عوبال" " Obal" "Ebal"، شعب "عبيل", ورأى آخرون أنهم "عيبال" في تهامة الحجاز، أو "عبال" أو "عبيل"، وهما موضعان في اليمن4. ورأى "فورستر" احتمال وجود صلة بين "عوبال" و"Avalitae"، وهو اسم شعب عربي ذكره "بلينيوس"، أو "Abalitae"، وقد ذكره بعض الكتبة "الكلاسيكيين"5. وذهب "كلاسر" إلى احتمال كون وادي "أتمة"، هو موضع شعب "أبيمائيل" "Abimael"، غير أن ذلك مجرد ظن، ليس غير6. والولد العاشر من ولد "يقطان"، هو "شبا", وقد وردت بعض أخبار "شبا" في أسفار التوراة, وذكرت قصة "ملك شبا" وزيارتها لسليمان7, فسبأ هنا شعب من شعوب اليقطانيين. ولكننا نرى التوراة تجعل "شبا" في موضع آخر ابنًا لـ"يقشان"، و"يقشان" هو ابن "إبراهيم" من زوجته "قطورة" "Keterah"، وهو شقيق "إسماعيل" من أبيه8, فسبأ هنا من نسل شعب آخر يختلف عن "سبأ" اليقطانيين, ونراها تذكر "سبأ" بالسين المهملة في جملة أبناء "كوش"9. والمعروف أن المراد من "كوش" عند العبرانيين، الحاميون، أي الشعوب الإفريقية، فيكون "سبأ" هنا اسم شعب

_ 1 enc. Bibli. P. 1101. forster, i., p., 147, Montgomery, Arabia, p. 40 2 enc. Bibli, p. 1101 3 البلدان "4/ 65". 4 enc. Bibli. P. 1151, glaser, skizze, 2, s. 426, hastings, p. 201. 201, halevy, mélanges d'epigraphie et d'archéologie semitigues, 86 5 forster, I, 147. f 6 glaser, skizze, 2, s. 426, enc. Bibli. P. 17, hastings, p. 4 7 الملوك الأول، الإصحاح الأول، الآية 1 فما بعدها. 8 قاموس الكتاب المقدس "2/ 524"، التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 2، أخبار الأيام الأول, الإصحاح الأول، الآية 32 Hastings, P. 490 9 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 7.

من الشعوب الإفريقية1. ومعنى هذا التعدد في النسب انتشار السبئيين وسُكناهم في مواضع متعددة، وهذا ما حمل كتبة التوراة على إدخال نسب السبئيين الساكنين في إفريقيا في نسب "الكوشيين"، وإدخال السبئيين الساكنين عند "ددان" في نسل "رعمة". ويرد اسم "أوفير" "Ophir" بين "شبا" و"حويلة"، وهو كناية عن أرض اشتهرت عند العبرانيين بكثرة ذهبها وبوجود الفضة وخشب الصندل وبعض الأحجار الكريمة فيها2. وقد اختلف في تعيين مكانها، فذهب كثير من علماء التوراة إلى أنها في جزيرة العرب، ولكنهم اختلفوا في تعيين المكان، فذهب بعضهم إلى أنها في اليمن، وذهب آخرون إلى أنها في عسير، وآخرون إلى أنها في اليمامة3 أو موضع "العويفرة" الذي لا يبعد كثيرًا عن حافات جبل طويق4، ومنهم من رأى أنه "مهد الذهب" في الحجاز، وهو موضع عرف باستخراج الذهب منه قبل الإسلام بزمن طويل، وقد نقبت فيه شركة تعدين حديثة، أغلقت أبوابها من عهد ليس ببعيد، كما ذكرت ذلك في كلامي على معادن جزيرة العرب. غير أن هنالك جماعة من الباحثين في التوراة ترى أن الوصف الوارد في التوراة لأرض "أوفير" يجعلها أرضًا في الهند؛ وذلك لأن الحاصلات المذكورة فيها هي حاصلات هندية، ومن الصعب تصور وجودها في بلاد العرب في ذلك الزمان5. وذهب فريق آخر إلى أنها في إفريقيا6. والابن الثاني عشر في أبناء "يقطان" هو "حويلة". وقد ذكرته التوراة في موضع آخر من جملة أبناء "كوش" مع "سبأ"، مما يدل على توطن قبيلة

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 278"، Hastings, P. 171 2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 179". 3 sprenger, geogr. S. 49. ff. glaser, skizze, 2, s. 357, hommel, aht. 236, Montgomery, Arabia, p. 38. ff 4 philby, sheba's daughters, p. 430 5 lassen, indiasche alterthumskunde, I, 538, soetbeer, das goldland ophir, 1880 a.k. keane. The gold of ophir, 1901, morits, arabien, s. 7, forster, vol. I p. 161, 2, p. 237 6 peters, das goldene ophir salamons, 1895, enc. Bibli. P. 3514, enc. Brite. Vol. 16, p. 807

أخرى تسمى بهذا الاسم في "إفريقيا" لعلها فرع من فروع "حويلة" بلاد العرب1. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن "حويلة" بلاد العرب، هي في بادية الشام، أو على مقربة من خليج العقبة، وذهب آخرون إلى أنها في أواسط جزيرة العرب، أو في منطقة "جبل شمر"، ورأى كلاسر أنها في اليمامة3. وقد ذكر "الهمداني" جماعة دعاهم "الحوليين"3، يظهر أنهم سكان موضع "حوالة", وهناك بطن من بطون اليمن يقال له: "بنو حوالة"، كما ورد في اسم "حويل"4. وفي التوراة: "وكان نهر يخرج من عدن فيسقي الجنة، ومن ثم يتشعب فيصير أربع رءوس. اسم أحدها فيشون، وهو المحيط بجميع أرض حويلة حيث الذهب. وذهب تلك الأرض جيد. هنالك المقل وحجر الجزع"5. فيفهم منه أن نهر "فيشون" "Pishon" يحيط بأرض "حويلة" وهو من أنهر الجنة الأربعة. وأحد الأنهار الأربعة على رأي علماء التوراة هو نهر النيل، وأما الثاني فهو الفرات، وأما الثالث فهو نهر دجلة، وأما النهر الأخير الذي نتحدث عنه، فذهبوا إلى أنه نهر "كارون" أو شط العرب، أو أحد الأنهر الأخرى, فتكون أرض حويلة عندئذ في منطقة تقع على رأس الخليج6. وآخر أبناء "يقطان" هو "يوباب" "Jobab"، ويرى "كلاسر" أنه اسم قبيلة "يهيبب"، الذي ورد في النصوص السبئية7. وذهب بعض آخر إلى أنه اسم شعب "وبار"، وأنه تصحيف لاسم "Jobarital" الوارد في جغرافية "بطلميوس"8.

_ 1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 29، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول, الآية 19، 23، قاموس الكتاب المقدس "1/ 398". 2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 398". Enc. Bilbi. P. 1974, musil, hegaz, p, p. 261, hastings, p. 333, glaser, 2 s. 302 3 الإكليل "8/ 85" "طبعة نبيه". 4 تاج العروس "7/ 297"، القاموس "3/ 364"، اللسان "13/ 207". 5 التكوين، الإصحاح الثاني، الآية 10 وما بعدها. 6 Hastings, P. 203 7 hastings, p., 472, glaser, skizze, 2, s. 303, enc. Bibli. P. 2491 8 الهلال: الجزء الثالث عشر من السنة العاشرة، نيسان 1902، ص304.

وقد أضاف "ابن الكلبي" إلى سلسلة أبناء "يقطن" "يقطان" ولدًا آخر لم يرد له ذكر في التوراة، دعاه "توقيرًا"، زعم أنه والد الهند والسند1، فربط بذلك بين نسب "اليقطانيين" والهنود. ولا ندري: أعبر عن ذلك جهلا واعتباطا، أم كنى بذلك عن الروابط القديمة التي ربطت بين العربية الجنوبية والهند، حيث سكن عدد كبير من قدماء الهنود "الدراويديين" "Dravidians" في سواحل عمان وحضرموت؟ وقد عثرت البعثات العلمية التي نقبت في هذه الأماكن على بقايا هياكل عظمية ترجع إلى هؤلاء، كما يتحدث السياح والباحثون في أثر دماء الهند على سكان هذه المناطق. ولم ينل هؤلاء الأولاد الثلاثة عشر عناية الإخباري "ابن الكلبي"، ولا عناية "محمد بن إسحاق"، أو غيرهما من أهل الأخبار المعروفين بأخذهم عن أهل الكتاب؛ إذ لم يشيروا إليهم في أثناء كلامهم على أولاد "يقطن" "يقطان"، ولم يتحدثوا عنهم, بل نسبوا إليه أولادًا آخرين تراوح عددهم من عشرة ذكور إلى واحد وثلاثين2، أسماؤهم أسماء عربية، لا وجود لها في التوراة، ما عدا اسمًا أو اسمينِ. وهذا الإهمال يثير في نفوسنا الدهشة والاستغراب: لِمَ أهمل -يا تُرَى- هؤلاء الأخباريون أبناء "قحطان" المذكورين في التوراة، مع أنهم أخذوا "يقطان" من التوراة، وجعلوا نسبه نسبًا لقحطان؟! ولِمَ تكرموا عليه فأعطوه عددا من الأولاد لم يأت لهم ذكر في التوراة؟! ولِمَ لَمْ يضم أهل الأخبار أولاد "يقطان" المذكورين إلى أولاد قحطان؟! ألا يدل ذلك على جهل أهل الأخبار بهم وعدم وقوفهم عليهم؟! إن كان جهلهم بهم هو السبب، فإن ذلك يدل على أن أهل الأخبار لم يكونوا يرجعون إلى التوراة رأسًا، يقرءون أسفارها ويأخذون منها, بل كانوا -وهذا هو ما أذهب إليه- يراجعون أهل الكتاب ويأخذون منهم ما يريدون؛ ولهذا لم يقفوا على أولاد "يقطان"؛ لأنهم لم يسألوا أهل الكتاب عنهم، أو لأن أهل الكتاب لم يتحدثوا إليهم عنهم. على أننا لا نستطيع أن نقبل هذا العذر؛ ذلك لأن أهل الأخبار كانوا قد ذكروا أسماء أبناء "إسماعيل"، نقلوها من التوراة وعلى حسب الترتيب الوارد في

_ 1 الطبري "1/ 207" Hastings, P. 472 2 مروج "1/ 77"، ابن خلدون "1/ 47".

"التكوين", وهذا ما يجعلنا نتساءل: لِمَ ذكر أهل الأخبار أبناء "إسماعيل"، وأهملوا أبناء "يقطان"؟ هل هناك تعمد غرض؟ أن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ليست سهلة في الواقع؛ لأن أهل الأخبار لم يكونوا يسيرون على قواعد ثابتة وأنظمة معينة في أخذ الأنساب، ولهذا نراهم يقعون في الغلط، وذلك يدل على أن علمهم بالأمور الواردة في التوراة لم يكن علمًا راسخًا، وأن علم محدثيهم من أهل الكتاب لم يكن راسخًا أيضًا ولم يكن مستمدًّا من التوراة رأسًا، بل من السماع والرواية في بعض الأحايين، وإلا لما وقعوا في أغلاط شنيعة، وما احتاجوا إلى الوضع والكذب، كالذي نراه من كعب الأخبار ووهب بن منبه وأمثالهما من مسلمة يهود.

الإسماعيليون

الإسماعيليون: و"إسماعيل" هو الجد الأكبر للعرب المستعربة، أي: العرب العدنانيين, وهو "يشمئيل" "Ishmael" في التوراة, ومعنى الاسم "إلهي يسمع"، أو "يسمع إلهي", وهو ابن "إبراهيم" من زوجه "هاجر". وتقول التوراة: إنه "ختن" وهو في الثالثة عشرة من عمره، ورحل إلى بَرِّية "فاران" فتزوج فيها من امرأة مصرية، وعاش فيها راميًا بالسهام حيث اشتهر بالرماية. ولم تذكر التوراة بعد ذلك شيئا عنه, إلا ما ورد من أنه حضر دفن أبيه "إبراهيم"، وأنه عاش "137" سنة1. هذا مجمل ما ورد في التوراة عنه, أما ما أورده أهل الأخبار عنه، فإنه يستند إلى هذا الوارد في التوراة عنه، إلا ما ذكروه عن امرأته، فقد جعلوها امرأة من "جرهم"، وما أوردوه عنه من أنه هاجر إلى مكة، وأنه عاش هناك، وتعلم العربية فيها، وقبر في "الحجر" عند قبر أمه "هاجر"2، وأمور أخرى صغيرة تختلف باختلاف الروايات.

_ 1 التكوين، الإصحاح السادس عشر، الآية 4 فما بعدها، الإصحاح السابع عشر، الآية 18 فما بعدها، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 7 فما بعدها. Hastings, P. 392 2 الطبري "1/ 314 فما بعدها".

وقد جعلت التوراة لـ"إسماعيل" ولدًا، عدتهم اثنا عشر ولدًا، هم: نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار، وأدبئيل، ومبسام، ومشماع، ودومة، ومسا، وحدار، وتيما، ويطور، ونافيش، وقدمة. ذكرتهم على حسب مواليدهم، كما نص على ذلك فيها1, وهو عدد يظهر أنه من وضع كتاب الأسفار وترتيبهم2. أمهم امرأة مصرية3، وهي كناية عن اتصال الإسماعيليين بالمصريين، وقد أخذ أهل الأخبار هذه الأسماء، وغيروا في نطقها بعض التغيير، فصيَّروها: نابت وقيذر، وأذبل، ومبشا، ومسمعا، وماشي، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما، وما شاكل ذلك. وقد نص الطبري على اختلاف أهل الأخبار في ضبط هذه الأسماء4, ويعود هذا الاختلاف على ما يظهر إلى اختلاف المورد الذي أخذ منه أهل الأخبار. وقد زعم أهل الأخبار أن إسماعيل تزوج من جرهم، وأن اسم زوجه "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"5، أو ما شاكل ذلك من أسماء، وأنها ولدت له اثني عشر رجلًا، هم: نابت وكان أكبرهم، وقيذر، وأذبل، ومبشا، ومسمعا، وماشي، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما6، وأكثر هذه الأسماء ورودًا وتكرارًا في الكتب العربية، نابت وقيذر. ونرى من عدد هؤلاء الأولاد ومن أسمائهم، أن رواتها أخذوا أولئك الأولاد من التوراة؛ أخذوا العدد وأخذوا الأسماء، ولكنهم حرفوا وصحفوا فيها، ولا ندري أكان هذا التحريف قد وقع من الأخباريين أنفسهم، أجروه تعمدًا ليسهل النطق بها في العربية، أم وقع من الرواة الإسرائيليين أو النصارى الذين

_ 1 التكوين، الإصحاح 25، الآية 12 فما بعدها. 2 زHastings, P. 392 3 التكوين، الإصحاح 21، الآية 21. 4 الطبري "1/ 314" "طبعة دار المعارف". 5 ابن هشام "1/ 3" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"، ابن خلدون "2/ 37"، الطبري "1/ 16"، ابن الأثير، الكامل "1/ 49"، الطبقات "جـ1، ق1، ص25"، تاج العروس "1/ 375"، "1/ 590". 6 ابن هشام "1/ 3"، ابن خلدون "2/ 39"، مع اختلاف في ضبط الأسماء، الطبري "1/ 161"، ابن الأثير، الكامل "1/ 49".

رجع أهل الأخبار إليهم، فأخذوا منهم تلك الأسماء، أم أنه مجرد تحريف وتصحيف، وقع من الجانبين، فظهر على هذا الشكل؟. أما امرأة "إسماعيل" أم أولاده، فإنها ليست جرهمية عربية في التوراة، وإنما هي امرأة مصرية كما ذكرت, لم تذكر التوراة اسمها. ويذكر أهل الأخبار أن إسماعيل كان قد تزوج بامرأة أخرى من جرهم قبل "رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"، أو "السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي"، كما تعرف في روايات أخرى، إلا أنه طلقها بأمر أبيه، لما جاء إلى مكة زائرًا، فلما جاء للمرة الثانية ورأى زوجته الثانية رضي عنها، وأمر ابنه إسماعيل بإبقائها، فبقيت، ومنها كان نسله المذكورون1. وقد نص "الطبري" على أن العرب هم من نابت وقيدر2، ولم يذكر شيئا عن بقية الأولاد. والظاهر أن إهمالهم هذا الإهمال يعود إلى عدم وقوف الموارد التي أمدت الأخباريين على شيء عنها، وعدم تمكنهم من تعيينها وتثبيت مواضعها، فإن ذلك يحتاح إلى علم وإلى وقوف على ما جاء في كتب التفاسير والشروح والموارد اليهودية الأخرى عن هذه القبائل. والموارد المذكورة نفسها لا تعرف عن تلك القبائل وعن تلك البلاد شيئا كثيرا يزيد على ما جاء في التوراة؛ فإن كتبة الأسفار لم يهتموا إلا بما يتعلق بإسرائيل. أما ما وراء إسرائيل من شعوب وأرضين، ولا سيما الشعوب التي لا تتاخم الأرضين التي وجد فيها العبرانيون، فإنها لم تكن تُعنَى بها إلا بمقدار ما لها من صلة بإسرائيل. وقد حددت التوراة المنازل التي أقام بها "الإسماعيليون"، فجعلتها من "حويلة" إلى "شور"3, فكل ما وقع بين المكانين، هو في أرض القبائل الإسماعيلية. وقد ذكرتُ قبل قليل أن آراء العلماء مختلفة في تعيين موقع أرض "حويلة"، وعندي أن هذا الموضع يجب ألا يكون بعيدا عن فلسطين؛ لأن "شاءول" ضرب العماليق من "حويلة" إلى شور4. ولا يعقل أن تكون هذه

_ 1 الطبري "1/ 256، 314". 2 الطبري "1/ 314". 3 التكوين، إصحاح 25، الآية 18. 4 صموئيل الأول، إصحاح 15، الآية 8.

الأرضون بعيدة عن فلسطين؛ لأن "شاءول" لم يكن قويًّا ذا جيوش جرارة حتى تضرب العماليق في منطقة نائية، بعيدة عن فلسطين. أما "شور"، فموضع يقع على الحدود الشمالية الشرقية لأرض مصر، في البَرِّية المسماة بـ"برية تيه بني إسرائيل" وبـ"برية إيتام"1. ويرى بعض علماء التوراة أن "الطور" الحالية هي أرض "شور"2. ويلاحظ أن الأرض التي زعم أن "شاءول" قد ضرب بها العماليق، "وضرب شاءول عماليق من حويلة حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر"3، هي الأرض ذاتها التي جعلتها التوراة أرضا لذرية "يشمعئيل" "إسماعيل", فيظهر من ذلك أن العماليق كانوا قد سكونها أيضا. ولما كان العمالقة قد سكنوا أرضًا، تقع بين كنعان ومصر في برية سيناء وتيه بني إسرائيل4، وجب أن تكون تلك الأرض هي موطن الإسماعيليين. ويعترف العبرانيون بوجود صلات قربى لهم بالإسماعيليين. ويظهر أن القبائل الإسماعيلية عاشت زمنا طويلا في "طور سيناء" وفي جنوب فلسطين, عاشت عيشة أعرابية5؛ ولهذا كان الإسماعيليون أهل وبر بالقياس إلى اليقطانيين المستقرين. وقد نظر العبرانيون نظرة عداء إلى الإسماعيليين؛ لأنهم كانوا يتحرشون بهم ويغيرون عليهم ويتعرضون لتجاراتهم, وقد ذكروا في أيام "داوود"6. وقد ورد في التوراة أن الله أوحى إلى "هاجر" يبشرها بأن نسل ابنها سيكثر وينمو حتى يكون أمة عظيمة7، وهو كناية عن كثرة عدد أولئك الأعراب في أيام العبرانيين. هذا, ونحن لا نعرف شيئًا يذكر عن "الإشماعيليين" "الإسماعيليين"، ولا

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 641". Musil, hegaz, p. 261, 265 2 hastings, p. 852, enc. Bibli. P. 4498 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 641" Hastings, p. 8852, enc. Bibli. P. 4498, musil, hegaz, p. 261, 265. ff 4 صموئيل الأول، الإصحاح الخامس عشر، الآية 7، قاموس الكتاب المقدس "2/ 113". 5 التكوين، الإصحاح 21، الآية 13 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "1/ 98". 6 enc. Bibli. P. 2211, hastings, p. 392 7 التكوين، الإصحاح 21، الآية 13 وما بعدها.

عن لهجاتهم, ويرى بعض العلماء أن لهجاتهم يجب أن تكون من اللهجات العربية الشمالية المتأثرة بلغة بني إرم1. ولعدم وصول نص مدون بلهجة من لهجات هذه القبائل، لا نستطيع أن نبدي في الزمان الحاضر رأيًا علميًّا في شكل هذه اللهجات. و"نبايوت" هو بكر إسماعيل وأهم القبائل الإسماعيلية في التوراة، وقد أعطاه هذه المنزلة أهل الأخبار أيضا لأخذهم منها. ونحن لا نعرف الأسباب التي جعلت التوراة تعده أحسن أولاد "إسماعيل" أراعت في ذلك بعد القبيلة، أم راعت قربها من العبرانيين، أم ضخامتها وكثرة عددها بالقياس إلى القبائل الإسماعيلية الأخرى، أم أمورًا أخرى جعلت العبرانيين ينظرون إليهم على أنهم أقدم تلك القبائل؟ فليس في التوراة قواعد ثابتة تمشي عليها كتبة العهد القديم في تدوين الأنساب. ويعرف "نبايوت" بـ"نابت" و"نبت" عند الأخباريين, ومنه ومن قيدر، نشر الله العرب، على رأي أهل الأخبار2. وقد جعل بعض الأخباريين نابتًا والدًا لـ"يشجب"3، مع أن "يشجب" هو ابن "يعرب" عند الأكثرين. وقد ورد اسم "نبايوت" مع اسم "قيدار" في النصوص الآشورية, ويظهر أنهم كانوا أقوياء كثيري العدد. ويدل ورود اسمهم مع "قيدار" في التوراة في النصوص الآشورية على أنهم كانوا متجاورين, ولم تعين التوراة مواضع سكناهم. ولكن ورود اسمهم في رأس قائمة الإسماعيليين واقترانه بالأدوميين عن طريق المصاهرة ووقوف العبرانيين على أخبارهم، يدل كله على أنهم كانوا يقيمون في المناطق الواقعة في جنوب شرقي فلسطين وفي الأقسام الجنوبية الشرقية من بادية الشام4. وقد ذهب "كلاسر" إلى أن "نبايوت" "مشيخة" أو مملكة حكمت في "القصيم"، وقد كانت معاصرة لمملكة "عريبي"، وكانت لا تزال مستقلة في أيام الفرس5.

_ 1 enc. Brit. Vol. 12, p. 706 2 الطبري "1/ 314". 3 ابن هشام "1/ 5". 4 التكوين، الإصحاح 28، الآية 9. 5 glaser, skizze, 2, s. 266. ff. Schrader, kat, s. 151, hommel, aht, 275

وقد ظن بعض العلماء أنهم "النبط"1، ذهبوا إلى ذلك من تشابه "نبايوت" "Nabaiot" ونبط "Nabat"، غير أن هذا رأي يعارضه كثير من علماء التوراة2. وقد كان بين الأوس قوم يقال لهم "النبيت"، افتخر بهم الشاعر "قيس بن الخطيم" من شعراء الجاهلية -وقد قتل قبل الهجرة- ومدحهم، ووصفهم بالشدة والبأس3، كما كان في "إياد" قوم يقال لهم "النبيت"4. وكان نبيت الأوس يتألفون من "ظفر" رهط الشاعر قيس بن الخطيم، ومن عبد الأشهل، وحارثة5. وقد وقعت بينها حروب ومعارك، فانضمت حارثة إلى الخزرج، وتحالفت معها، ودخلت فيها. وأما ظفر وبنو عبد الأشهل، فقد اضطروا أخيرًا إلى ترك ديارهم إلى مكة للتحالف معهم، أو مع اليمن، أو الغساسنة أو المناذرة؛ لمساعدتهم على الخزرج، ولاسترداد ملكهم6. والظاهر أنهم كانوا قديما من القبائل القوية، وكانت في الحرار الشرقية، ثم أفل نجمها، وتشتت شملها بسبب الحروب التي وقعت بين بطونها. ولعلها من القبائل التي كانت تقيم في الشمال، في العربية الحجرية أو العربية الصحراوية، ثم اضطرت إلى الهجرة إلى الجنوب والاستيطان في مناطق الحرار. والظاهر أنها كانت على اتصال باليهود، وقد تحالف معها يهود خيبر. وقد ورد اسم "قيدار" في النصوص الآشورية، ورد على هذه الصورة: "قِدرو" "Kidru" و"قَدرو" "7Kadru، كما ورد في المؤلفات

_ 1 النبط، النبيط، الأنباط، نبطي، نبط, قال ابن عباس: نحن معاشر قريش من النبط , تاج العروس "5/ 239". 2 enc. Bibli. P. 2213, hastings, p. 648. h. 3 ويثرب تعلم أن النبيتَ ... رأسُ بيثرب ميزانُها وقد علموا أن ما فَلَّهم ... حديدُ النَّبيت وأعيانُها فلا أعرفنكم بعد عِزٍّ وثروةٍ ... يقال: ألا تلك النبيتُ عساكرُ شعر قيس "ص9، 10، 38". 4 شعر قيس "ص9"، "والنيبت أبو حي، وفي الصحاح: حي من اليمن". اللسان "2/ 402"، تاج العروس "1/ 589". 5 شعر قيس "صXX"، القسم الألماني. 6 شعر قيس "صXX II"، القسم الألماني. 7 schrader, kgf. 101, kat. 147, delitzch, wo lag das paradies? S. 299

"الكلاسيكية"، فقال لهم "بلينيوس" "Pliny" "قدراي" "Cedrei"، وذكر أنهم قبيلة عربية تقيم على مقربة من النبط1, وقد حاربهم "آشور بنبال"، وكان ملك "قيدار" في ذلك العهد، ملك عرف باسم "أو أيطع" "U Aite" بن "خزاعيل" "2Hazael، وقد ذكرهم "آشور بنبال" مع "عريبي" "أريبي"، كما ذكرهم "حزقيال" مع العرب "العرب وكل رؤساء قيدار"3، مما يدل على أن مواطن "قيدار" كانت تجاور العرب، ويراد بالعرب هنا: الأعراب, وهو ما يتفق مع ما جاء في نص "آشور بنبال" كل الاتفاق. وذكروا بعد "نبايوت" في التوراة، مما يدل على أنهم كانوا يقطنون في جوارهم، كما ذكروا مع "ممالك حاصور" التي ضربها "نبوخذ نصر" "بختنصر"4. وقد نكل "بختنصر" بالقيداريين كذلك، وخرب بلادهم وأخذ غنائم كثيرة منهم، واستولى على ما وقع في أيدي جيشه من أموالهم وخيامهم وغنمهم وجمالهم, وقد ورد وصف ذلك في سفر "إرمياء"5. ويظهر من التوراة أن القيداريين كانوا أعرابًا يعيشون في الخيام عيشة أهل البداوة6، وقد وصفت خيامهم بأنها خيام سود "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان"7, والخيام السود هي بيوت أهل الوبر. وكانوا يعتنون بتربية المواشي، وقد اشتهروا بأن فيهم رعاة يملكون ماشية كثيرة8, إلا أن منهم من كان متحضرا سكن القرى والمدن9. ونجد "أشعياء" يتنبأ بإفناء "مجد قيدار, وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار"10, مما يدل على أن القيداريين كانوا قوة وعددًا ضخمًا، فيهم جماعة مهرت برمي السهام. ويتبين من "المزامير" أنهم غزاة، وحياتهم حياة غزو، لا يعرفون السلام

_ 1 pliny, 5, 21, 65, enc. Bibli. P. 2213, forster vol. I, 238 ff 2 musil deserta p. 485 3 حزقيال، إصحاح 27، الآية 21. 4 إرمياء، الإصحاح 49، الآية 28. 5 إرمياء، الإصحاح 49، الآية 28 وما بعدها. 6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 230". 7 نشيد الأناشيد، الإصحاح الأول، الآية 5. 8 قاموس الكتاب المقدس "2/ 230". 9 أشعياء, الإصحاح 42، الآية 11، قاموس الكتاب المقدس "2/ 230". 10 أشعياء، الإصحاح 21، الآية 16 وما بعدها، Hastings, P. 512

ولا الاستقرار1. وقد ذكروا مع العرب في جملة من تاجر مع العبرانيين, تاجروا معهم "بالخرفان والكباش والأعتدة2". وكانوا مثل قبائل العرب الأخرى على احتكاك بالعبرانيين، يتاجرون معهم تارة، ويخاصمونهم تارة أخرى، ويظهر أنهم كانوا على عداء شديد معهم، وخصومة منكرة في أيام "أشعياء" و"إرمياء"، كما يتبين ذلك من الهجوم العنيف الموجه إليهم في سفريهما ومن فرح العبرانيين من النكبات التي حلت بهم، ولا سيما انتقام "بختنصر" منهم. ويظهر أنه غزاهم؛ لأنهم كانوا يتحرشون بالبابليين أثناء مرورهم بالبادية إلى فلسطين، مما حمل "بختنصر" على الانتقام منهم ومن قبائل أخرى كانت ضاربة في البادية وفي الطرق المؤدية إلى بلاد الشام. وقد ذكر أهل الأخبار اسم رجل دعوه "قدار بن سالف", زعموا أنه كان يدعى "أحيمر ثمود"3، وأنه هو الذي عقر الناقة، ناقة النبي صالح4، وذكروا أن "قيدار بن إسماعيل" هو أبو العرب، وزعم بعضهم أنه كان نبيا، وزعم أن له قبرًا ومشهدًا يزار قريبًا من السلطانية بالعجم، وأعقب من ولده "حمل بن قيذار"، وله ابن يقال له "سواري". وقد ذكر أهل الأخبار أن "كعب الأحبار" قال: "قال الله لرومية: إني أُقسم بعزتي لأهبن سبيك لبني قاذر، أي: بني إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام- يريد العرب"5. وإذا صح أن هذا الكلام هو من كلام "كعب" حقًّا، فإنه يدل على تحريض "كعب" للمسلمين على اكتساح إمبراطورية الروم، وقد كان اليهود يكرهون الروم، لما أوقعوه بهم من ظلم، وأنه كان يعبر عن الحالة التي كانت بين الروم والعرب في ذلك الزمان. وليس الكلام المذكور، كلام الله في التوراة

_ 1 المزامير، المزمور 120، الآية 5 وما بعدها. 2 حزقيال، الإصحاح 27، الآية 21. 3 الطبري "1/ 314" "دار المعارف"، "قيذر" منتخبات "ص84" مروج "1/ 394", ابن خلدون "2/ 298"، تاج العروس "3/ 483 فما بعدها". 4 تاج العروس" 3/ 483". 5 تاج العروس "3/ 485"، عن "قيذار": الطبري "2/ 193"، "قيذر": منتخبات "ص 84"، مروج "1/ 394"، ابن خلدون "2/ 298".

وإنما هو كلام "كعب". ولكعب أمور عديدة من هذا القبيل، إذ يضع كلامًا يزعم أنه من كلام الله المذكور في الكتب المنزلة. وأما "أدبئيل" "Adbeel"، فكناية عن قبيلة عربية أخرى من القبائل الإسماعيلية، يرى بعض علماء التوراة أنها عاشت في جنوب غربي البحر الميت1. ويظن أنها قبيلة "إدب إيلة" "Idibaila" "Dibiila" "إدبئيلة" "إدبعيلة" "دبئيلة" و"بعيلة" المذكورة في كتابة من كتابات الملك "تغلا تبلسر الثالث"2. وقد ذكر هذا الملك أنه عين نائبا عنه، أو "مندوبا ساميا" "قيبو" "Kepu" على خمسة عشر موضعًا، وكان اسم هذا المندوب "أدب أل" "أدب أبل" "أدبئيل" "Idibiil"، وهو سيد قبيلة عرفت بهذا الاسم. والظاهر أنه فوض إليه أمر حماية الحدود والمحافظة عليها من الغزو, وتقع أرض هذه القبيلة على مقربة من الحدود المصرية وفي الجنوب من غزة3. وكانت هذه القبيلة لا تزال موجودة في أيام المؤرخ اليهودي "يوسف فلافيوس"4. ويلي "أدبئيل" "أدب أل" "أدب أيل" في تسلسل أولاد إسماعيل، مبسام "Mibsam"، وقد سُمي في بعض الكتب العربية "ميشا"، ولا نعرف من أمر هذه القبيلة شيئًا5. وأما "مشماع"، وقد سُمي "منسى" و"منشى" و"مسمع" و"مشماعة" في بعض الكتب العربية، فلا نعرف من أمره شيئًا. ويتصور بعض العلماء أن لهذا الاسم علاقة بقبيلة "بني مسماع" أو "جبل مسماع" "جبل مسمع" قرب تيماء6. ورأى "فورستر" أن "مشماع" هي قبيلة "Masmaos" التي ذكرها "يوسفوس"، على أنها من القبائل العربية التي كانت تعيش في أيامه7. ويرى

_ 1 enc. Babli. P. 2213 2 "تفلاتبليزر الرابع" عند "ألويس موسل"، Musll, hegaz, p. 291, deserta, p. 278. f. hasttings, p. 12, delitzch, paradies, s. 301, enc. Bibli. P. 65 3 schrader, kat. S. 58 4 forster, I, p., 266 5 forster, vol. I, p. 273, enc. Bibli. P. 3067, musil, deserta, p. 470 6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 344"، enc. Bibli. P. 3154 7 forster, vol. I, p. 274

"فورستر" أيضا أن قبيلة "Masaemanes" التي ذكرها "بطلميوس" هي هذه القبيلة كذلك1. وهذا الاسم قريب من اسم "ماء السماء". و"دومة" هو "دوما" في بعض الكتب العربية، وهو كناية عن موضع "دومة الجندل"2، وقد عرف بـ"دوماتا" "Domatha" عند "بلينيوس"3 وبـ"Doumaetha" "Dumaetha" عند "بطلميوس"4، وبـ"Adumu" "أدومو" في الكتابات الآشورية5، وهو كناية عن موضع وعن اسم قبيلة عربية؛ فقد ورد أن شعبًا اسمه "Dumathii" كان يقدم قربانًا "ولدًا" في كل سنة إلى آلهته، ويدفن ذلك القربان في معبد الإله, ويراد به شعب "دومة الجندل"6. وقد ورد اسم "مسا" "Massa" في النصوص الآشورية مقرونًا بـ"تيما" "تيماء", ويرى بعض العلماء أنه كناية عن قبيلة كانت منازلها في الشرق والجنوب الشرقي من "موآب"7. ويرى بعض آخر أن مواطنها في الأرضين الجنوبية من وادي السرحان، وفي غرب منازل "عريبي" "أريبي"8. وجاء في رسالة أرسلها أحد "المقيمين" الآشوريين إلى ملك آشوري لم يرد اسمه في الكتابة أن "ملك قمرو" "مالك قمرو"9 بن "عميطع" سيد قبيلة "مسئا" "Masa" غزا قبيلة "Nabaati"، وقتل عددًا من أتباعها10. والظاهر أن هذه القبيلة، هي القبيلة المذكورة في التوراة.

_ 1 forster, vol. I, p. 274 2 "ودما، وهو دوما، وبه سميت دومة الجندل"، ابن سعد، طبقات "جـ1 ق1، ص25". 3 pliny, 6, 28, &, 157, forster, vol., I, p. 281 4 forster, vol. I, p. 281 5 enc. Bibli. P. 1142, 2213, musil, deserta, p., 480 6 hastings, a dictionary of the bibli, vol. I, p. 630 burckhardt, travels in Syria, 662, ritter, erdkunde von arabien, ii, s. 360 ff 7 hastings, p. 591, enc. Bibli. P. 2213, 2972, musil, hegaz, p. 288 8 musil, deserta, p. 478 9 مالك قمر، ملك قمر، ملك القمر، مالك القمر، ملك أمره, وما شابه ذلك من أسماء. 10 musil, deserta, p. 478, delitzch, paradise, p., 302, rawlinson, cuneliform inscriptions, vol. 4 P. 1. 54,No.1

وأما "حدد" أو "حدار"، كما دُوِّن في سفر التكوين1، فإنه "أدد" عند بعض أهل الأخبار2. وقد تكون لاسمه علاقة باسم الإله "حدد" أو "أدد" المعبود الشهير الذي تعبد له الآراميون وقبائل عربية كثيرة، وكذلك الآشوريون والبابليون3. ولا نعرف من أمر قبيلة "حدد" هذه شيئًا يذكر في الزمن الحاضر. وأما "تيما"، فإنه "طما" في الكتب العربية، وهو كناية عن "تيماء"4، وسوف أتحدث عنها. وأما "يطور"، وهو "وطور" وما أشبه ذلك في الكتب العربية، فقبيلة عرفت بـ"Ituraea" في المؤلفات اليونانية واللاتينية5, وقد حاربت العبرانيين, وكانت تقيم شرقي نهر الأردن في أيام الملك "شاءول". ويظهر أنها هاجرت نحو الشمال، فسكنت في الأقسام الجنوبية من لبنان وفي الحافات الشرقية من جبال لبنان, وقد أجبر الملك اليهودي "أرسطوبولس الأول" "Aristobulus I" "107 قبل الميلاد" قسمًا من اليطوريين على التهود, وكان قد استولى على أرضهم, وكان لهم ملوك. وفي أيام ملكهم "سوهومس" "سوحومس" "سوخومس" "Sohumus" أدخلت أرضهم في مقاطعة "سورية" وذلك في سنة "50" ب. م. وقد كابدت دمشق مصائب شديدة من غزوات اليطوريين6. وكانت مواطن اليطوريين فيما بين "اللجاة" "Trachonitis" و"الجليل"، وعرفت بـ"جدورا"، وبـ"إيطورية"7. وقد عرفوا بمهارتهم في الرماية, وقد ذكرهم "سترابو"8. والظاهر أن مواطنهم الأصلية كانت في البادية، ومنها جاءوا إلى "إيطورية" ثم ذهبوا إلى الأقسام الجنوبية من لبنان وإلى سهل البقاع. وقد ضيق عليهم الرومان في حوالي الميلاد وأجبروا بعضهم على الرجوع إلى البادية

_ 1 الإصحاح 25، الآية 15، قاموس الكتاب المقدس "1/ 360". 2 الطبري "1/ 314". 3 Hastings, P. 323 4 enc. Bibli. P. 2213, foster, vol. I, p. 310 5 enc. Bibli. 2213. josephus, anti. Xiii, ii, 3 6 Enc. Bibli, P. 2213 7 قاموس الكتاب المقدس "2/ 513". 8 strabo, xvl, ii, 10

ويظهر أن سبب ذلك هو عدم خضوعهم للسلطات وغاراتهم على الحضر. وقد قتل "مارقوس أنطونيوس" "Marcus Antonius"، ملك اليطوريين في سنة "34" ق. م. وكان يدعى "ليسانياس" "1Lysanias، وتوفي "زنودوروس" "Zenodorus" الذي خلفه في سنة "20" ق. م، واستولى "هيرود الكبير" "Herodes the Great" على قسم من أرض اليطوريين. ولما قسمت مملكة "هيرود"، صارت هذه الأرضون من نصيب "فيليب"2. وفي أيام "لوقا"، كانت "Ituraea" منطقة تقع على ما يظهر في شمال شرقي "بحر الجليل"3, ويخترق الطريق الروماني الذي عمله الرومان من "دمشق" إلى "طبرية" "طبريا"4 هذه المنطقة. وقد كوَّن اليطوريون لهم إمارة أو مملكة في "البقاع"، كان حكامها رجال دين أي: كهانًا وملوكًا في آن واحد. وقد عرفنا منهم رجلًا اسمه "Mennaios" وهو اسم قريب من الأسماء العربية، فلعله "معن", أما ابنه فقد سمَّى نفسه باسم يوناني، هو "بطلميوس" "Ptolemaios". وكان لهذا الملك، أي "بطلميوس" ولدان، هما: "Lysanias"، وقد تولى الملك من بعد والده و"فيليب" "Philippion", وأما "زينودور" "Zenodor"، فقد خلف "Lysanias" وأما "Sohaimos" "Sohumus"، فإنه اسم قريب من "سحيم" ومن "سهيم" و"سخيم" و"سهم"، وأمثال ذلك، وهي أسماء عربية معروفة5. ويظهر أن ارتحال "اليطوريين" من الأقسام الشرقية من الأردن نحو الشمال، نحو دمشق، ثم سهل البقاع حتى ساحل البحر الأبيض، كان قبل القرن الثاني قبل الميلاد. ولعلهم هم العرب الذين ذكر أن الإسكندر الكبير كان قد حاربهم بعد حصاره لمدينة "صور" "6Tyros.

_ 1 dio casius, xiix, 32, hastings, p. 418 2 hastings, p. 418, josephus, anti. Xv, x, 3 3 hastings, p. 418 4 the bible dictionary, I, p. 573 5 die araber in der alten welt, I, s. 279, 315, m. lidzbarski ephemeris, I, "1990-1902", 335. 6 die araber in der alten welt, I, s. 170, 179

وقد كون الرومان فرقًا محاربة من "اليطوريين"، اشتركت معهم في الحروب, وقد امتازت بعض هذه الفرق في حذقها بالرمي. وكون "مارك أنتوني" "Marcus Antonius" حرسًا خاصًّا منهم، أشير إليهم في الموارد اليونانية واللاتينية1. و"نافش" "Naphish" هو "نفيس" عند الأخباريين2, ويرى بعض علماء التوراة احتمال كون "بنو نفسيم" "Naphisim" المذكورون في سفر "عزرا" هم "نافش" هؤلاء3. وأما "قدمة" فهو "قيدمان" و"قيذما" وما شاكل ذلك في المؤلفات العربية3، ولا نعرف من أمرهم شيئًا يذكر في الزمان الحاضر, ولعلهم "القدموينين" الذي أدخلت أرضهم في جملة "الأرض الموعودة" المذكورة في التوراة4, وكانت مواطنهم عند "البحر الميت". ومن العلماء من يظن أن لهم صلة بـ"بني قديم" "Bene Kedem"، أي: "أبناء الشرق"5. وذهب "فورستر" إلى احتمال كون "قدمة" موضع "رأس كاظمة" على الخليج6. ولما كانت "قدمة"7 من القبائل الإسماعيلية، وقد ذكرت مع القبائل الإسماعيلية في التوراة، ومواطنها كلها لا تبعد كثيرًا عن فلسطين، فإني أرى أن مواطن هذه القبيلة يجب أن تكون أيضًا في هذه المواضع، أي في مكان لا يبعد كثيرًا عن فلسطين. والغالب على أبناء إسماعيل البداوة, أي: حياة التنقل والغزو والرماية؛ لذلك كانت ملاحظة التوراة عن إسماعيل من أنه سينشأ راميًا، ملاحظة حسنة تدل على تبصر بأمور "الإشماعيليين" الذين كانوا يقومون بالغزو ويرمون بالسهام. أما المجموعة الثالثة من مجموعات أنساب العرب المذكورة في التوراة، فإنها مجموعة قبائل نسبت إلى "قطورة" زوج "إبراهيم". وقد ذكرت التوراة

_ 1 hastings, a dictionery, ii, p. 521 2 الطبري "1/ 314". 3 عزرا، الإصحاح الثاني، الآية 50، hastings, p. 645, enc. Bibli. P. 3331 4 الطبري، "1/ 161"، "1/ 314"، "دار المعارف" ابن سعد، الطبقات "جـ1، ق1، ص25". 5 التكوين، الإصحاح الخامس عشر، الآية 19. 6 hastings, p. 512, enc. Bibli. P. 3331 7 forster, vol. I, p. 313

أنها ولدت له "زمران، ويقشان، ومدان، ومديان، ويشباق، وشوحًا"1, وولد يقشان: شبا، وددان, وكان بنو ددان: أشوريم، ولطوشيم، ولأميم, وبنو مديان: عيقة، وعفر، وحنوك، وأبيداع، والدعة2. ويبلغ عدد القبائل المنحدرة من "قطورة" ست عشرة قبيلةً3. فـ "قطورة" إذًا هي مجموعة قبائل مثل الإسماعيليين واليقطانيين، وهي تتفق مع القبائل الإسماعيلية في أنها تنحدر من صلب إبراهيم، وهي من هذه الناحية أقدم عهدًا من القبائل الإسماعيلية؛ لأن والد هذه القبائل هو إبراهيم, أما والد القبائل الإسماعيلية، فهو إسماعيل وهو ابن إبراهيم. والأسماء المذكورة كناية عن قبائل عربية ألّفت مجموعة خاصة، كان حلفًا على ما يظهر تألف من قبائل رجعت نسبها إلى أصل واحد هو "قطورة", انتشرت قبائله في الأرضين الواقعة بين القبائل العربية الإشماعيلية وبين القبائل اليقطانية. وتشير قصة زواج "إبراهيم" بقطورة إلى صلة القطوريين بالإشماعيليين، والإشماعيليون من صلب إسماعيل بن إبراهيم، ويؤخذ على أنه كناية عن اختلاط قبائل المجموعتين، أي: الحلفين بتعبير أصح. ووجود أسماء بعض قبائل يقطانية وبعض قبائل كوشية في قائمة أسماء أبناء قطورة، هو أيضا دليل على وجود صلات بين هذه الأحلاف الثلاثة, وعلى تداخل القبائل واختلاطها بعضها ببعض. أما أولاد "قطورا" عند أهل الأخبار، فهم: يقسان، وزمران، ومديان، ويسبق، وسوح، وبسر على رواية4، ومدن ومدين ويقسان وزمران ويسبق وسوح على رواية أخرى5, ومدن ومدين ويقشان، وزمران, وأشبق، وشوخ6. وقد أخذت هذه الأسماء كما نرى من التوراة، إلا أن من أخذها حرَّف فيها بعض التحريف، وخالف الترتيب الموجود للأسماء في التوراة فقدم وأخر، وأضاف اسما جديدا هو "بسر" على الرواية الأولى، وضعه في مكان "مدان"،

_ 1 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية1، فما بعدها. 2 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية1، فما بعدها. 3 Hastings, P. 514 4 الطبري "1/ 159"، "1/ 309"، "دار المعارف". 5 الطبري "1/ 160". 6 ابن سعد، الطبقات "حـ 1، ق 1، ص22".

إلا أن الطابع التوراتي ظل بارزًا واضحًا عليها. فلا حاجة بنا إلى إرجاع كل اسم منها إلى الاسم المقابل له في التوراة. وزوَّج أهل الأخبار "يقشان" "يقسان"، من امرأة سموها "رعوة بنت زمر بن يقطن بن لوذان بن جرهم بن يقطن بن عابر"، وأولدوا لها ولدًا دعوه "البربر"، قالوا عنه: إنه جد "البربر"1. وهو زواج لا تعرف عنه التوراة شيئا، وأما الزوج "رعوة بنت زمر بن يقطن" فليس لها ذكر فيها أيضا، وأما نسبها، فهو نسب اخترعه من اخترعها، وليس له لذلك ذكر في التوراة. وأما "بربر" بن "رعوة" فهو من صنع صانع أخبار أمه, وليس له ذكرٌ ما في التوراة. ولفظة "بربر" في الكتاب المقدس لفظة تعني "الغريب"، وهي من أصل يوناني، وقد أطلقها اليونان على الغرباء الناطقين بلغة أخرى غير اللغة اليونانية2. ولم تستعمل علما على جنس معين له جد وأب ونسل؛ ولذلك، فإن ربط نسب "البربر"، وهم سكان المناطق المعروفة من شمال إفريقيا, بـ"رعوة" وبقحطان، هو من صنع "أهل الأخبار"، وقد وقع في الإسلام بالطبع وبعد الفتح الإسلامي لتلك المناطق؛ لغايات سياسية، على نحو ما حدث من ربط نسب الفرس واليونان والأكراد بالعرب. ولم يشر الأخباريون وأهل الأنساب إلى "القطوريين" كطبقة خاصة من العرب, وقد أشار بعضهم إلى قبيلة عربية عرفت بـ"قطورة"، ذكروا أنها عاشت مع "جرهم" بمكة3. ولعل لتشتت شمل القبائل القطورية ودخولها في القبائل الأخرى: قحطانية وعدنانية، وفي جهل أهل الكتاب في ذلك العهد، أي: أيام لجوء أهل الأخبار إليهم يسألونهم عن الأنساب، دخلًا في هذا الإهمال. ويلاحظ أن بين أسماء قبائل "قطورة" أسماء وردت في جدول أنساب قبائل "يقطان"، وفي جدول أسماء أبناء "كوش". ويفسر بعض العلماء ذلك باتصال القبائل القطورية بالقبائل اليقطانية وبالقبائل الكوشية وباختلاطها بها وتلاحمها

_ 1 الطبري "1/ 309"، "دار المعارف". 2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 217". Hastings, P. 84 3 hastings, p. 514, enc. Bibli. P. 2660, ritter, erdkunde, 12, 19

معها، ونزولها بينها، فعد كتبة "أسفار التكوين" ذلك نسبًا، فأدخلوا القسم الذي دخل في اليقطانيين من اليقطانيين، والقسم الذي نزل بين الكوشيين من الكوشيين؛ ومن ثم صار ذلك نسبا ورابطة دم1. وزوج إبراهيم "قطورة" معروفة عند أهل الأخبار, وقد دعوها بـ"قطوراء" وبـ"قطورا" وبـ"قنطوراء"2, ومعنى اللفظة في اللغة العبرانية: "البخور", وقد تزوجها إبراهيم بعد وفاة "سارة"3. ولكنهم كعادتهم في معظم الأخبار التي أخذوها من أهل الكتاب، خلطوا في أخبارها وحرفوا فيها، فجعلوا لها نسبًا -ولم يرد له ذكر في التوراة- اختلفوا فيه أيضا، فصار "يقطن" والد "قطورة" في خبر4, وصار "يكفور" أو "مفطور" هو والدها في خبر آخر، وصار "إفراهم بن أرغو بن فالغ" هو والدها في خبر آخر أيضا5, وجُعلت عربية من العرب: تتكلم بهذا اللسان العربي المعروف. وقيل: إن اسمها "أنموتا" أو "أنمتلى"6، وصيرت "قطورا بنت يقطن"، ولكنهم أخرجوها أحيانا من العرب، وأضافوها إلى الكنعانيين7، كما جعلوها "قطورا بنت مقطور" من العرب العاربة8. ولم يفطن أهل الأخبار إلى خلطهم في هذا النسب وإلى سكوت التوراة عن نسبها، ولا أدري من أين جاءوا بـ"يكفور"، أو "مفطور"؟! وكيف يجوز أن تكون "قطوراء" من نسل "إفراهم بن أرغو بن فالخ"؟! فـ"إفراهم" هو "إبراهيم"، وهو زوج "قطورة" لا والدها أو جدها أو جد جدها أو ما شاكل ذلك! ثم إن نسب "إبراهيم" على هذه الصورة هو نسب مغلوط يدل على جهل، فإنه "إبراهيم" وهو "إبرام" في التوراة، هو ابن "تارح"

_ 1 Musil, Hegaz, P. 287 2 القاموس "2/ 123"، اللسان "6/ 422". 3 التكوين، الإصحاح 25، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول, الآية 32. 4 الطبري "1/ 159"، الكامل "1/ 48". 5 الطبري "1/ 59"، الكامل "1/ 48"، ابن سعد، الطبقات "جـ1، ق1، ص22". 6 الطبري "1/ 159". 7 الطبري "1/ 309" "دار المعارف". 8 الطبري "1/ 311"، "دار المعارف".

و"تارح" هو ابن "ناحور" و"ناحور" ابن "سروج" وهذا هو ابن "رعو" الذي صار "أرغو" عند الإسلاميين، و"رعو" هو ابن "فالج" الذي صير "فالغ" عند أهل الأخبار؛ فترى من ذلك كيف خلط أهل الأخبار، وكيف كان علمهم بالقصص المأخوذ من التوراة. وكل هذا الجهل ناشئ من اعتمادهم على الأخذ شفاهًا من أهل الكتاب، ومن عدم رجوعهم إلى نص التوراة1. ويلاحظ أن أكثر الذين قالوا في "قطورة" "قطوراء" و"قطورا"، ذكروا أولادها على نحو ما ورد في التوراة. أما الذين قالوا "قنطوراء"، فقد نسب أكثرهم إليها الترك والصين، وأضاف بعضهم إليها السودان في بعض الأحيان2. وهو نسب تكرم به عليها أهل الأنساب والأخبار؛ فليس في التوراة ذكر لهؤلاء الأولاد النجباء, ولعل إلحاق هؤلاء بـ"قنطوراء" إنما كان لغرض سياسي، هو إدماج نسب الترك والصين بالعرب؛ ترضية لهم، كما فعلوا بالنسبة إلى شعوب أعجمية أخرى. ويرد اسم "بنو قنطوراء" في الملاحم والتنبؤات، فرووا أحاديث تدل على شعور الخلافة الإسلامية بالخطر القادم من الترك والصين، وبأن النسب لم ينفع شيئًا معهم، إذ ورد: "يوشك بنو قنطوراء أن يخرجوكم من أرض البصرة"، وورد: "إذا كان آخر الزمان جاء بنو قنطوراء"3. وزعم أهل الأخبار أن إبراهيم تزوج من زوج أخرى كانت من العرب أيضًا، أسموها "حجور بنت أرهير"، ولدت له خمسة بنين: "كيسان، وشورخ، وأميم، ولوطان، ونافس4". وليس في التوراة ذكر لهذه الزوج العربية، فليس لها نسل فيها بالطبع, فالأولاد هم من نسل مخيلة أصحاب الأخبار، جمعوها من أسماء توراتية مرت وتمر علينا في مواضع من هذا الكتاب، وضبطوها بعدد؛ لتظهر بمظهر خبر صحيح مضبوط. ومن الأخباريين من أحجم عن تعيين هوية زوج إبراهيم، فلم يذكروا شيئًا

_ 1 راجع نسب إبراهيم في التكوين، الإصحاح الحادي عشر، الآية 15 فما بعدها. 2 القاموس "2/ 123"، اللسان "6/ 422". 3 اللسان "6/ 422". 4 الطبري "1/ 160"، "1/ 311"، "طبعة دار المعارف"، الكامل لابن الأثير "1/ 48"، ابن سعد، الطبقات "جـ1، ق1، ص22".

عن عروبتها أو عن أبيها وجدها، بل اكتفوا بذكر اسمها وحده، فدعوه "حجوني"، وقالوا: إنها ولدت له سبعة نفر هم: نافس، ومدين، وكيشان، وشروخ، وأميم، ولوط، ويقشان1. ومعارفنا بالقبائل القطورية لا تختلف عن معارفنا بالقبائل الإسماعيلية واليقطانية من حيث الضآلة والضحالة. فهي قد لا تزيد في بعض الأحيان على الاسم؛ ذلك لأن التوراة لم تذكر شيئا عنها، ولأن المفسرين والأحبار الذين شرحوا التوراة، لم يذكروا شيئًا عن تلك القبائل، إما جهلًا بها، وإما لعدم وجود ميل بين العبرانيين إلى الوقوف على أحوال تلك القبائل التي ذكرت في التوراة لمناسبة من المناسبات؛ ولهذا ضحل علمنا بها أيضا. وليس أمامنا غير انتظار الحظ، فقد يكتشف العلماء موارد جديدة قد تساعدنا في الوقوف على أولئك الأقوام. فزمران مثلًا، لا نعرف من أمره شيئًا يذكر, وقد ورد لدى "بلينيوس" اسم قبيلة عربية دعاها "Zamareni"، وهذا الاسم قريب من "زمران"؛ لهذا رأى بعض العلماء احتمال وجود صلة باسم هذه القبيلة القطورية2، كما ورد اسم موضع يقال له "زبرم" "Zabram" يقع غرب مكة، يرى بعض الباحثين احتمال وجود صلة له بتلك القبيلة3, غير أن من الصعب الحكم أن أحد هذين الموضعين هو "زمران"4. وأولد أهل الأخبار لـ"زمران" ولدًا سموه: "المزامير"، وهو في نظرهم جد "المزامير الذين لا يعلمون"5, وليس في التوراة ولد لـ"زمران" اسمه "المزامير" صفتهم أنهم لا يعلمون, وليس للفظة أية صلة بـ"المزامير" التي هي أغانٍ أو موشحات ترتل على صوت المزمار لتمجيد الله, وتقسم إلى خمسة كتب، يختم كل منها بتسبيحة، وتكرر لفظة "آمين" مرتين، أضافها

_ 1 الطبري "1/ 160"، "1/ 311"، "دار المعارف"، الكامل لابن الأثير "1/ 48"، ابن سعد، الطبقات "جـ1، ق1، ص22". 2 enc. Bibli. P. 5419, pliny, 26, 32, "grotius" 3 enc. Bibli. P. 5419 4 glaser, skizze, 2, s. 451 5 الطبري "1/ 159"، "1/ 309"، "دار المعارف".

جامعو المزامير لا مؤلفوها1. وهي من لفظة "مزمور" "Mizmor" في العبرانية و"Mazmor" في السريانية و"Mazmur" في الأثيوبية، وتقابل "الزبور" و"الزبر" في القرآن الكريم2. وقد ذكر "ابن النديم" على لسان "أحمد بن عبد الله بن سلام" من مترجمي التوراة والإنجيل، أن المزامير هي "الزبور"، وهي خمسون ومائة مزمور3. وهو عدد صحيح مضبوط، يدل على علمه بعدد المزامير؛ لأن ما ذكره هو عددها الصحيح. والعلماء مختلفون فيما بينهم في المعنى "الأثنولوجي" لكلمة "زمران", ويرى بعضهم أنها من "زمر" ومعناها "تيس جبلي"، ويقولون: إن بني "زمران" اتخذوا ذلك الحيوان "طوطمًا" لهم؛ ولذلك عرفوا به4. أما "يقشان" فيرى "كلاسر" أنه موضع "وقشة"، وهو مكان من السراة في عسير5, ورأى "أوسيندر" أنه "يقش" في اليمن6. وذكر "الهمداني" اسم قبيلة سماها "بني وقشة" من قبائل "الجنب"7, وذهب فريق من العلماء إلى أن اللفظة هي تحريف للفظة "يقطان"8. وقد ذكر أهل الأخبار أن "بني يقسان" أي: بني "يقشان" لحقوا بمكة فسكنوا بها9, ولكنهم لم يشيروا إلى بنية على نحو ما جاء في التوراة. وأما "مديان" "مدان" "Midian" فإنه "مدين" في الموارد العربية,

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 513 وما بعدها"، Hastings, P. 769. 2 الإسراء، السورة رقم 17، الآية 55، آل عمران، 3، الآية 184، النحل، 16, الآية 44، الشعراء، 26، الآية 196، فاطر، 35، الآية 25، القمر، 54، الآية 43، 52. 3 الفهرست "ص34". 4 Hastings, P. 990 5 glaser, skizze, 2, s. 453 6 osiander, in zdmg. 10, 31 enc. Bibli. P. 2564 7 صفة "ص116". 8 enc. Bibli. P. 2564, hastings, p. 490, montgomery, arabia and the bible, p. 44 9 الطبري "1/ 311"، "دار المعارف".

وقد ورد ذكر "مدين" و"أصحاب مدين" في مواضع من القرآن1, ورد على سبيل العظة والتذكير بمصير يشبه مصير "مدين"، وأشار إلى نبيهم "شعيب": {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} 2. وورد اسمهم في سورة "التوبة" مع قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم3، وورد مثل ذلك في سورة "الحج"4. ومما جاء في القرآن على لسان شعيب، قوله يخاطب أهل مدين: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5. وورد في سورة هود ما يشير أيضا إلى أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، فاستحقوا العقاب والعذاب؛ وذلك لترهيب أهل مكة، وكانوا تجارًا، من نقص المكيال والميزان، لئلا يصيبهم ما أصاب قوم شعيب حيث أصابهم الهلاك. ويظهر من ذكر "الرجفة" أن حدثًا أرضيًّا، هزة أو هياج حَرَّة، أصابهم، فأثر فيهم6. وهذا ممكن جدا؛ لأن أرض مدين من مناطق الزلازل والحرار. ولورود اسم "مدين" وقصة "شعيب" في القرآن الكريم، عني المفسرون وأصحاب قصص الأنبياء بجمع ما ورد عن أهل مدين وأخيهم شعيب من أخبار، غير أنهم لم يجدوا في ذاكرة من تقدمهم شيئًا, فاستعانوا بما ورد عند يهود. وقد أضاف الأخباريون إلى ذلك شيئا من القصص الشعبي, وشيئا ابتكروه, فأصبح "شعيب" "شعيب بن نويت بن رعويل بن مر بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم"7. وقد ذكر الطبري وغيره من المفسرين والمؤرخين أن اسم "شعيب" "يثرون" "يثرو"8، وقد أخذوا ذلك من أهل

_ 1 الأعراف، 7، الآية، 85، التوبة 9، الآية 70، هود، 11، الآية 84، 95، طه، 20، الآية 40، الحج، 22، الآية 44، القصص، 28، الآية 22، 25، 45، العنكبوت، 29، الآية 36. 2 الأعراف 7، الآية 85. 3 التوبة 9، الآية 70. 4 الحج 22، الآية 44. 5 الأعراف 7، الآية 85. 6 العنكبوت 29, الآية 36. 7 مروج الذهب "1/ 28". 8 الطبري "1/ 167"، الكامل لابن الأثير "1/ 61".

الكتاب ولا شك، ففي التوراة أن "موسى" نزل على أهل "مدين" بعد هربه من "فرعون"، وتزوج ابنة كاهن "مدين" "مديان" "يثرون"، واسمها "صفورة"، فولدت له ولدا دعاه "جرشوم" "كرشوم", فرأى المفسرون والأخباريون أن شعيبًا المذكور في القرآن الكريم, هو "يثرون" التوراة. ويرى "بول" "Buhl" أن ذلك لم يكن معروفًا في صدر الإسلام وإنما حدث هذا بعد هذا العهد1. وقد وضع بعض أهل الأخبار نسبًا عجيبًا مضحكًا لـ"شعيب"، فجعلوه "يثرون بن ضيعون بن عنقا بن نابت بن إبراهيم"2. وتعقل آخرون فقالوا: إنه "شعيب بن ميكيل" من ولد مدين3, وقيل غير ذلك. وكل هذا من وضع أهل الأخبار، وأهل الكتاب الذين أمدوهم بمثل هذه الأنساب والقصص، ولم يتورعوا من ادعاء أنهم وجدوا ذلك في كتب الله. وقد عرف "يثرو" "Jethro" "Jether" بـ"رعوئيل" "Reuel" أيضا في التوراة4, كما عرف بـ"حوباب بن رعوئيل" في موضع آخر5. ويظهر أن خطأً قد وقع في كتابة الاسم الثاني أو الأول؛ ولهذا صار "رعوئيل" في سفر الخروج و"حوباب بن رعوئيل" في سفر العدد. ونرى أن الاسم الذي ذكره "المسعودي" وغيره من أهل الأخبار لـ"شعيب" الذي هو "يثرو" يختلف مع اسمه المذكور في التوراة, ويرى بعض الباحثين أن كلمة "يثرو" ليست اسم علم له، وإنما هي كناية عن وظيفته وهي الكهانة، فقد كان كاهنًا في قومه، والكاهن هو "يثرو" في بعض اللغات العربية الجنوبية، وأما اسمه، فهو "رعوئيل" أو "حوباب بن رعوئيل"6. وقد جعل الناس لشعيب قبرًا زعموا أنه على مقربة من "حطين" في موضع سماه "ياقوت" "خيارة"7. وقال له "بول Buhl" "خربة مدين"8.

_ 1 enc. Vol. 4, p. 389, j. horovitz, koranische untersuchungen, berlin, 1916. s. 119. ff 2 الطبري "1/ 167" الكامل، لابن الأثير "1/ 61". 3 الطبري "1/ 167" الكامل، لابن الأثير "1/ 61". 4 الخروج، الإصحاح الثاني، الآية 18. 5 العدد، الإصحاح العاشر، الآية 29. 6 Hastings, P. 465 7 البلدان "3/ 299". 8 Enc, Vol. 4, p. 389.

وقد ورد خبر "مدين" في غزوة "زيد بن حارثة" لجذام في "حسمى"1, ويظهر من بعض الموارد الإسلامية أن "مدين" كانت في صدر الإسلام من أرض "جذام"، وأنها كانت إذ ذاك أكبر من "تبوك", وبها بئر زعم أنها البئر التي استقى منها موسى2. ويظهر من شعر "كُثَير عزة" أنه كان في أيامه بمدين جماعة من الرهبان, يتعبدون، ويبكون من حذر العقاب3، وورد اسم بطن يقال له "بنو المدان"، كما ورد ذكر "مدان" في غزوة "زيد بن حارثة" بني جذام، ويقال له: "فيفاء مدان"4. و"المدان" اسم صنم أيضا، وبه عرف "بنو عبد المدان"5. وفي التوراة أن "المديانيين" كانوا برفقة "الإشماعيليين" لما بِيع "يوسف"6, وأن موسى نزل عندهم وتزوج فيهم: أخذ ابنة "يثرون" كاهن "مديان" "مدين"7. وفي موضع آخر أن "يثرون" من "بني القيني" "8Kenite ويظن أن "بني القيني" هم فرع من فروع "مديان"9.

_ 1 ابن هشام "1/ 994" "طبعة وستنفلد". 2 صفة "129"، اللسان "17/ 289"، البلدان "8/ 418"، ابن خرداذبه، المسالك "ص129"، "طبعة دي غويه"، ابن رستة، الأعلاق "طبعة دي غويه" ص177"، أحسن التقاسيم، "ص155"، "طبعة دي غويه"، البلدان لليعقوبي "ص341"، "طبعة دي غويه"، البكري، معجم، "2/ 516 فما بعدها"، "طبعة وستنفلد". 3 البلدان "8/ 418". 4 اللسان "17/ 289". 5 "والمدان: صنم، وبنو المدان: بطن"، اللسان" 17/ 289"، Enc, bibli. p. 3002. 6 "فمر قوم مدينيون تجار، فجذبوا يوسف وأصعدوه من البئر وباعوه للإسماعيليين بعشرين من الفضة، فأتوا بيوسف إلى مصر" التكوين، الإصحاح السابع والثلاثون، الآية 28. 7 الخروج، الإصحاح الثالث، الآية 1 وما بعدها، "وكان موسى يرعى غنم يثرو حميه كاهن مدين، فساق الغنم إلى ما وراء البرية، حتى أفضى إلى جبل الله حوريب". 8 القضاة، الإصحاح الأول، الآية 16. 9 hastings, p. 616, enc. Bibli. P. 3080

وقد اتحد "المديانيون" مع "مؤاب" ضد إسرائيل1, وفي أيام "جدعون" "Gideon" كان المديانيون قد ضايقوا العبرانيين مضايقة شديدة، وكانوا قد اتفقوا مع العمالقة و"بني المشرق"، فتمكن "جدعون" من إخراجهم. وقد ورد في سفر "القضاة" اسم أميرين من أمراء المديانيين، هما "غراب" "Oreb"، و"ذئب" 2Zeeb, وورد في الإصحاح الثامن من القضاة اسم ملكين أو "شيخين" من "مديان" "مدين" هما: "زبح" "Zebah" و"صلمناع" 3Zalmuna. والظاهر أنه لم يعد للمديانيين شأن منذ هذا العهد، فلم يرد عنهم شيء يذكر، ولعلهم ذابوا في القبائل العربية الأخرى4. ويفهم مما جاء في "القضاة" أنهم كانوا فرعًا من "الإشماعيليين"5, والذي يفهم من مواضع متعددة من أسفار التوراة أن مواطن "المديانيين" كانت تقع شرق العبرانيين6. والظاهر أنهم توغلوا في المناطق الجنوبية لفلسطين، واتخذوا لهم هناك مواطن جديدة، عاشوا فيها أمدًا طويلًا بعد هذا التأريخ حيث يرد ذكرهم في الأخبار المتأخرة7. وقد ذكر "بطلميوس" موضعًا يقال له "مودينا" "Modiana" على ساحل البحر الأحمر، يرى العلماء أنه موضع "مدين"، وهو ينطبق على موضع أرض مدين المعروفة في الكتب العربية8. وذكر "يوسفوس فلافيوس" المؤرخ اليهودي المعروف مدينة سماها "Madiana" وقال: إن موسى زارها9, وذكر "بطلميوس" مدينة أخرى سماها "Madiama"10. وقد أشار المؤرخ "أويسبيوس" "Eusebius" إلى مدينة دعاها "مديم" "Madiam"، قال: إنها سميت بهذا الاسم نسبةً إلى ولد من أولاد "قطورة" زوج إبراهيم، وهي تقع في بادية الـ"سَرسَين" "Saracens" إلى شرق

_ 1 القضاة، الإصحاح السادس، الآية 23. 2 القضاة، الإصحاح السابع، الآية 25، الإصحاح الثامن، الآية 3. 3 القضاة، الإصحاح الثامن، الآية 6 وما بعدها. 4 hastings, p. 616 5 القضاة، الإصحاح الثامن، الآية 24, enc. Bibli. P. 3081 6 enc. Bibli. P. 3081, hastings, p. 616 7 enc. Bibli. P. 3081 8 enc. Bibli. P. 3081, hastings, p. 616, ptolemy, vi, 7, 27, enc. Vol. 3, p. 104 9 josephus, archaeologia, ii, 257, "naber", musil, hegaz, p. 278 10 ptolemy, geography, vi, 7, 27, enc. Bibli. 3081

البحر الأحمر, ويرى "موسل" أن "Madiama" أو "Madiam" هي "مدين"1. ويظهر من التوراة أن "المدينيين" قد غيروا مواضعهم مرارًا، بدليل ما يرد فيها من اختلاطهم بـ"بني قديم" والعمالقة والكوشيين والإسماعيليين2. ويظهر أنهم استقروا بعد ضعفهم في المنطقة التي ذكر "يوسفوس" وجود مدينة "Madiana" فيها، أي: في القرون الأخيرة قبل الميلاد. ويرى "موسل" أنها تقع في جنوب "وادي العربة" وإلى جنوب وجنوب شرقي العقبة3. ومن الصعب تعيين "بشاق"4, فقد رأى بعضهم أنه موضع "يسبق" وهو مكان في شمال سورية، ذكر في كتابات "شلمنصر" الثاني5. وقد ورد في خبر فتوحات "تغلا تبليزر" الأول اسم مكان يقال له "سوخ" "Sukh" أو "شوح" أو "شوخ" "Schukh"، ويقع شرق "حلب"، وهو لا يبعد كثيرًا عن أرض "يسبق" "Jasbuk". واسم "سوخ" قريب جدًّا من "شوح" الذي يلي اسم "يشباق" في التوراة؛ لذا رأى بعض العلماء أنه هو الموضع المقصود, وأن "يشباق" كناية عن هذا المكان، عن موضع "يسبق" الذي لا يبعد كثيرًا عن "شوح"6. ورأى بعض الباحثين أنه "الشبك"، وهو موضع يقع على طريق "السكة الرومانية" الموصلة إلى العقبة7. وأما "شوحا"، فذهب بعض الباحثين إلى أنه موضع "سوخ" "سوخو" "Sukh" "Suchu" المذكور في نص "أشور بنبال" "860ق. م."8, ويقع على الجانب الأيمن من نهر الفرات9. وقد ذكرت أن نفرًا من الباحثين رأوا

_ 1 musil, hegaz, 279 2 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 6، الإصحاح السابع والثلاثون, الآية 52، 28 العدد، الإصحاح الثاني عشر، الآية 1، حبقوق، الإصحاح الثالث، الآية 7. 3 musil, hegaz, p. 287 4 hastings, p. 392 5 enc. Bibli. 2210, fr. Delitzch, in "zeitschrift fuer die keilschiftforschung und verwandte gebiete," 2, 91. f., 1885 w. smith, a dictionary of the bibli, comprising skizze, 2, s. 445. glaser, skizze, 2, s. 445. ff 6 glaser, skizze, 2, s. 445. ff 7 forster, I, p. 352. f 8 enc. Bibli. P. 4495 9 hastings, p. 852, enc. Bibli. P. 4495

أنه مكان "سوخ" المذكور في نص "تغلا تبليزر" الأول, وقد نسب أحد أصحاب "أيوب" الثلاثة، وهو "بلدد" إلى "شوح" فعرف بـ"الشوحي"1. ويظن كثير من العلماء أنه من قبيلة أو من أرض عرفت بـ"شوح"، وأن هذه القبيلة أو الأرض هي "شوحا"2. وقد نسبت التوراة ولدين إلى يقشان هما: "شبا"، و"ددان", ويجب أن تكون أرض "شبا" هنا في جوار أرض "ددان "؛ وذلك لورود "ددان" مباشرة بعد "شبا"، أي: على مقربة من موضع "ديدان" الذي هو "العلا" في الحجاز3. وأهل "شبا" المذكورون هنا، هم جالية سبئية من جاليات سبئية عديدة انتشرت بين اليمن وفلسطين، وفي السواحل الإفريقية المقابلة لليمن4, كما سأتحدث عن ذلك. ولم تهب التوراة لشبا أولادًا، بل تركته عقيمًا, إنما وهبت شقيقه ددان عددًا من الأولاد ونسلًا، هم "أشوريم" و"لطوشيم" و"لأميم". أما "أشوريم "Ashurim" "Asshurim"، فإنهم قبيلة عربية من قبائل "قطورة" بإجماع علماء التوراة، ولا صلة لهم بـ"آشور"، أي: الآشوريين. وقد ورد في "التركوم" "Targum" أن "أشوريم" بمعنى سكان مستوطنة أو معسكر5. مما يدل على أن هؤلاء العرب كانوا مستقرين مقيمين في مستوطنات، ولم يكونوا أعرابًا. وقد ورد اسم "آشور" في نصوص معينة مقرونا باسم موضع "عبر نهران"، وتقع هذه المنطقة من "طور سيناء" إلى "بئر السبع" "Beersheba" و"حبرون"6 وتحاذي "مصرى" في جزيرة العرب على رأي "ونكلر"7. ولا نعرف شيئًا عن "لطوشيم" و"لاميم"، ويظن "كلاسر" أنهم من سكان "طور سيناء"8.

_ 1 أيوب، الإصحاح الثاني، الآية 11. 2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 245"، enc. Bibli. P. 4495 hastings, p. 852 3 glaser, skizze, 2, s. 454 4 hastings, 2, p. 842 5 hastings, 2, p. 59 6 dnc. Bibli. P. 346, glaser, 1155, winckler, aof, 28. f. zdmg. 1895, s. 527, winckler, musri, 2, s. 51. ff 7 winckler, musri, 2, 51 8 glaser, skizze, 2, s. 460, enc. Bibli. P. 2768, hastings, p. 541

وأما "مديان" "مدين"، فكان له من الأولاد: عيفة، وعفر، وحنوك، وأبيداع، والدعة1. فهم إذن قبائل من صلب "مديان" أي: مدين. أما "عيفة"، فقد ورد ذكره في التوراة على أنه اسم قبيلة كانت تحمل الذهب واللبان على الجمال من "شبا" وتبيع تجارتها في فلسطين. ذكرت مع "مدين"2, ويظهر أن "بني عيفة" وأهل مدين كانوا وسطاء أو تجارًا يذهبون إلى "شبا"، فيحملون الذهب واللبان؛ لبيع هذه السلع الغالية النفيسة في فلسطين. ولا نعرف من أمر هذه القبيلة في الزمن الحاضر شيئًا يذكر3. وأما "عفر"، فاسم قبيلة يظن بعض العلماء أنها "بنو غفار" من "كنانة"4، أو موضع "يعفر" على مقربة من "الحنكية" بين تهامة وأبان5. ورأى "كلاسر" أنه موضع "Apparu" الذي ورد في كتابة تعود إلى "آشور بنبال"6. وهناك مواضع أخرى اسمها قريب من اسم "عفر"، فعلى مقربة من "مكة" موضع يعرف بـ"عفر" وبـ"عفار"، وفي نواحي "العقيق" مكان يسمى "عفاريات"7. وذكر "الهمداني" "عفارًا" و"الخنقة"، واسماهما قريبان من "عفر" و"حنوك"8, غير أن في أعالي الحجاز في منطقة "مدين" وفي الأردن مواضع تسمى بأسماء قريبة من "عفر". وأما "حنوك"، فلا نعرف من أمره شيئًا يذكر., وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه "الحنكية"، وهو موضع في شمال المدينة9. وأما "أبيداع" "Abida,"، فيرى "كلاسر" أنه موضع من هذه المواضع في الحجاز10, وقد ورد في النصوص السبئية اسم قريب من هذا الاسم11. ولا نعرف من أمر "الدعة" شيئًا حتى الآن12.

_ 1 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 4. 2 أشعياء، الإصحاح الـ60، الآية 6. 3 enc. Bibli. P. 1301, hastings, p. 231 4 enc. Bibli. P. 1301 5 enc. Bibli. P.1301 6 glaser, skizze, 2, s. 449 7 صفة "ص253". 8 البلدان "6/ 187 فما بعدها". 9 glaser, skizze, 2, s. 449, enc. Bibli. P. 1960 10 glaser, skizze, 2, s. 449 11 enc. Bibli. P. 1255 12 Enc. Bibli. P. 1255

أبناء كوش

أبناء كوش: ونجد في التوراة أن أبناء "كوش": "سبا، وحويلة، وسبتة، ورعمة، وسبتكا"، وأن "شبا وددان" هما ابنا "رعمة", و"كوش" هو ابن "حام"، والمراد بأبناء "كوش" الحبش وسكان "نوبيا" وهم سود1. أما الأسماء المذكورة، فهي أسماء قبائل وأرضين عربية معروفة؛ لذلك حار علماء التوراة في تفسير الأسباب التي حملت كتبة التوراة على جعل تلك الأسماء أسماء أولاد لكوش؛ فرأى بعضهم أنها كناية عن قبائل عربية هاجرت من جزيرة العرب إلى السواحل الإفريقية المقابلة واستقرت في إفريقيا منذ أزمنة قديمة وكوَّنت لها مستوطنات وربما حكومات هناك, واندمج نسبها في أرض إفريقيا, فعُدَّت من شعوبها، فلما دون أهل الأنساب العبرانيون أنساب البشر في أيامهم عدوها من شعوب إفريقيا بحسب إقامتها، وأدخلوها في أبناء "كوش"، أي في أبناء تلك المنطقة التي أقاموا فيها. وذهب بعض آخر إلى أن "الكوشيين" المذكورين لم يكونوا من إفريقيا، بل من جزيرة العرب، ورأوا وجود "كوش" أخرى في جزيرة العرب أصحابها هم القبائل العربية المذكورة2. واستدلوا على ذلك بما جاء في "أخبار الأيام الثاني": "وأهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب "الكوشيين"3" حيث يفهم من هذه الآية أن العرب المذكورين الذين عادوا "يهورام" كانوا يجاورون "الكوشيين"، ويقتضي ذلك على زعمهم وجود "كوش" أخرى هي "كوش عربية"، , وإياها قصد "سفر التكوين" في هذا المكان4.

_ 1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 7 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "2/ 278". 2 hastings, p. 171 3 الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 16. 4 hastings, p. 171

أما "سبأ"، وقد ذكر الاسم بالسين في هذا الموضع من التوراة، فإنه اسم شهير معروف، هو شعب سبأ. وتصور التوراة وجود "سبأ" في "كوش" يشير إلى انتشار السبئيين في إفريقيا، ووقوف العبرانيين على ذلك. وعندي أن ذكر السبئيين مرة بـ"شبا" أي: بالشين المعجمة, ومرة بالسين المهملة, إنما وقع من كتبة الأسفار, كتبوه بالشين على وفق النطق العبراني، وكتبوه بالسين على نحو ما ينطق به في العربية، فظهر الاسم وكأنه اسم شعبين متباينين، ولا سيما في الموضع المذكور، حيث ظهر اسم "سبا" بالسين، ابن من أبناء "كوش"، بينما ظهر بالشين أي: "شبا" ابن من أبناء رعمة وشقيق لـ"ددان" على حين ورد بالشين أيضا في أولاد يقطان. والظاهر أن المورد الذي استقى منه كتبة الأسفار هذه الأسماء سموها بالشين من إخوانهم العبرانيين الذين كانوا على اتصال بالسبئيين، وذلك على وفق نطقهم، وقد كان هؤلاء السبئيون من سكان اليمن وأعالي الحجاز، فأطلقها عليهم بحسب نطق العبرانيين بها، وسمع عن السبئيين الآخرين وهم من دعاهم بـ"الكوشيين" من العرب، فضبطها بالسين، وفرَّق بين الأنساب على طريقة العبرانيين من نسبة الأقوام إلى المواضع التي يقيم من ينسبونهم بها. وأما "حويلة"، فقد تحدثت عنها في كلامي على أبناء "يقطان". وأما "سبتة" "Sabta"، فقد رأى بعض العلماء أنها قبيلة من قبائل جزيرة العرب، يجب أن تكون مواطنها بين "سبأ" و"رعمة"، ورأى آخرون أنها على ساحل الخليج1، على حين رأى آخرون أنها "Sabota" أي "شبوة" عاصمة حضرموت، ورأى "كلاسر" أنها في اليمامة2. وأما "رعمة" "Raamah"، فإنه والد "شبا" و"ددان" "ديدان"، ولكونه أحد أبناء "كوش" وجب البحث عن أرضه في إفريقيا، إلا أن العلماء لا يتفقون على ذلك، بل يذهب أكثرهم إلى أن "رعمة" كناية عن أرض هي في مكان ما من جزيرة العرب، في غرب الخليج العربي حيث موضع "Regma" الذي ذكره "بطلميوس"، أو في أرض

_ 1 hastings, p. 809, enc. Bibli. P. 4181 2 glaser, skizze, 2, s. 252, enc. Bibli. P. 4181

"Rammanitae" الذي ذكره "سترابو"1، أو موضع "ركمت" "ركمات" "رجمت" "رجمات" المذكور في كتابات المسند. ويخيل إليَّ أنه كناية عن حلف ضم جماعة من السبئيين الشماليين والديدانيين ورعمة في تلك الأيام؛ ولذلك صير والدًا لشبا وددان، ثم انفصمت عراه، فذكرت "رعمة" مع "شبا" تتاجر مع "صور" "TYR" وذلك في سفر حزقيال2، أو أنه اسم أرض في شمال غربي العربية الغربية يجاور مواضع السبئيين الشماليين والديدانيين, أو في موضع ما من سواحل الخليج3. وأما "سبتكا"، فلا نعرف من أمرها شيئا يذكر. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها تحريف لفظة "سبتة"4, ويرى "كلاسر" أنها في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب5.

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 485"، tings, p. 780, enc. Bibli. P. 3997, hommel, aht. S. 240, montgomery, arabia, p. 30, 39, 42, 58, glaser, skizze, 2, s. 352, forster I p. 59. ff 2 حزقيال، الإصحاح 27، الآية 22. 3 forster, I p. 59. ff, skizze, 2, s. 252 4 forster, I p. 59. ff. glaser, skizze, 2, s. 252, hastings, p. 80 5 glaser, skizze, 2, s. 252, forster, 2, p. 59

الهاجريون

الهاجريون: وذكر في التوراة اسم شعب سكن في شرقي الأردن وفي شرقي أرض "جلعاد"، عرف باسم "الهاجريين". وهم من العرب أو من "بني إرم" في رأي بعض العلماء1, غير أن إطلاق هذه اللفظة على الإسماعيليين، يدل على أن المراد بهم العرب؛ لأن "الإسماعيليين" هم عرب، وأن "هاجر" كناية عن أم "إسماعيل" جد القبائل التي تحدثت عنها على رأي التوراة. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن مراد التوراة من "الهاجريين" الأعراب، أي: البدو وهم عرب أيضا2. وقد امتدت منازل الهاجريين من الفرات إلى "طور سيناء"، فهي منطقة

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 446 وما بعدها", أخبار الأيام الأول، الإصحاح الخامس، الآية 10، 19، 20، الإصحاح 27، الآية 31. 2 hastings, p. 325

واسعة تشمل البادية: بادية الشام، وتضم عددًا كبيرًا من الأعراب. وهي منازل "الإسماعيليين" أيضا، وقد يكون هذا هو السبب في عدم تمييز التوراة أحيانا فيما بين الهاجريين والإسماعيليين1. وقد ذكروا مع "يطور" Jetur" و"Naphish"، وهما من الإسماعيليين. وأشير إلى رجل من الهاجريين عرف بـ"يازيز" "Jaziz"، ذكرت التوراة أنه كان يرعى بغنم داود2 في جملة أشخاص كان "داود" قد أودع إليهم أمر إدارة أمواله3. وبعد، فهذا كلام موجز في أثر التوراة على روايات أهل الأنساب والأخبار في أنساب العرب. وقد رأيت أن مروجيه ومدخليه بين العرب هم أهل الكتاب، ومعظمهم من يهود أو من مسلمة يهود؛ لهذا ترى أسانيد أكثر هذه الروايات تنتهي بـ"كعب الأحبار" و"وهب بن منبه" وأضرابهما. وقد ينتهي السند بـ"ابن عباس", من طريق "ابن الكلبي" عن أبيه، عن أبي صالح4. وللعلماء كلام في هذا السند و "ابن الكلبي" مورد مشهور معروف في هذه الموضوعات، لا يقابله في ذلك إلا "ابن إسحاق" الذي غرف، كما ذكرت في أول هذا الفصل، من مناهل أهل الكتاب، وكان يسميهم أهل العلم الأول، فملأ كتابه لذلك بغث كثير؛ لاعتماده على هؤلاء وتوثيقه لهم، ولم يكن لأكثرهم كما يظهر من نقد ما نسب إليهم علم بما جاء في التوراة, وبكتب اليهود الأخرى. وقد ظهر لي من دراساتي لهذا الموضوع وللقصص الإسرائيلي عامة أن كثيرًا من هذا الذي يرويه أهل الأخبار في النسب وفي القصص، بعيد عما يرد في التوراة، وقد اخترع اختراعًا وصنع بغباوة وبجهل، وحُشي بألفاظ عبرانية أو قريبة منها، بطريقة مضحكة أحيانا، تدل على خبث واضع الخبر أو جهله، وعلى سذاجة الناقل عنه وعلى عدم اهتمامه إلا بإظهار نفسه بمظهر الواقف على الأخبار؛ ولذلك كان لا يهمه إلا جمع الأخبار وقصها للناس، وقد يكون هو واضع تلك الأخبار وصانع ذلك القصص.

_ 1 the bible dictionry, vol. I, p. 499, 570 2 أخبار الأيام الأول، الإصحاح 27، الآية 31. 3 hastings, a dictionry, ii, p. 281 4 الطبري "1/ 203، 206، 208"، "دار المعارف".

وقد ذكر "الطبري" في تأريخه حديثًا يرجع سنده إلى رسول الله، في أبناء نوح، زعم أن الرسول قال: "سام أبو العرب، ويافث أبو الروم، وحام أبو الحبش" ذكره بصور مختلفة، فيها تقديم وتأخير، أو زيادة في بعض الألفاظ. ويتصل أسانيد هذا الحديث بمختلف صور رواياته إلى سند واحد، هو: "سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن الرسول"1. وهناك أحاديث وردت في موضوع نسب عدنان، فيها نهي عن تجاوز ما وراء ذلك، وهي وأمثالها يجب أن تكون موضع دراسة مستقلة حقا؛ لنرى سلاسل سندها، ومقدار قربها أو بعدها من حديث الرسول. فعلى مثل هذه الدراسة نستطيع أن نبني أحكامًا في موضوع رأي النسابين في نسب العرب في أيام الرسول. ولا بد لي هنا من التنبيه على أن "محمد بن إسحاق بن يسار" صاحب المغازي والسير، هو -كما قلت مرارا- من الآخذين عن أهل الكتاب، الراوين عنهم2, وكان يسميهم أهل العلم الأول. وهم بالطبع من هذه الناحية أعلم من غيرهم بأمور التوراة والإنجيل، بحكم كونهم يهودًا أو نصارى؛ ولهذا نجد المؤرخين والأخباريين يروون ما ورد من قصص توراتي ومن أنساب توراتية عن "ابن إسحاق"، فهو إذن أحد الناشرين للإسرائيليات بين المسلمين. والقصص الإسرائيلي الذي نشره، ليس في الواقع قصصا إسرائيليا صافيا خاليا من الكدرة، بل هو متفاوت في درجات النقاء والصفاء؛ فيه العكر، وفيه ما هو قريب مما جاء في التوراة، وفيه ما هو مطابق لما جاء في "العهد القديم"، فهو نقي صافٍ. ويعود سبب هذا الاختلاف إلى الموارد التي استقى منها "ابن إسحاق" علمه, ففيها منابع كانت ذات علم ووقوف على كتب أهل الكتاب، وفيها موارد مدعية أو ليس لها حظ من العلم، وإنما تحدثت إليه على نحو ما كان شائعا بين أهل الكتاب، وبينها موارد استباحت الكذب، ادعاء للعلم ولأسباب أخرى، ومن هنا اختلفت موارد "ابن إسحاق" في درجات النقاء والصفاء.

_ 1 الطبري "1/ 209"، "دار المعارف". 2 الإكليل "1/ 31".

و"هشام بن محمد بن السائب الكلبي" هو من الآخذين عن أهل الكتاب كذلك، المدخلين للإسرائيليات ولأنساب التوراة إلى المسلمين. وهناك نفر آخرون أخذوا عن أهل الكتاب أيضا، يخرجنا ذكر أسمائهم هنا عن صلب الموضوع؛ ولهذا اكتفيت بذكر هذين الرجلين، لما لهما من أثر بارز فيمن جاء بعدهما في موضوع الإسرائيليات وأنساب التوراة. وأما ما نسب إلى "ابن عباس" من أقوال لها صلة بالتوراة فيجب دراسته بحذر ونقده نقدا عميقا، ومطابقته بما ورد في تلك الأسفار وفي كتب اليهود الأخرى, ونقد سلسلة السند التي تروي تلك الأقوال وتنسبها إليه, ولم يقم حتى الآن باحث لفت نظره هذا الموضوع؛ لذلك أرجو أن ينتبه إليه العلماء ليبدوا رأيهم فيه، ورأيهم في الأقوال المماثلة المنسوبة إلى صحابيين آخرين وتابعين؛ ليكون حكمنا في مثل هذه الأمور حكمًا مستندًا إلى درس وعلم. ومما نسب إلى "ابن عباس" شعر مشهور معروف اليوم بين الناس قالوا: إنه نسبه إلى آدم، وأنه قال: إن آدم نظمه بعد قتل ابنه، وهو شعر موضوع بالطبع، وضع على آدم، على لسان ابن عباس, فقد نسبه بعض العلماء إلى أناس آخرين1. ولم يعرف عن "كعب الأحبار" أنه ألف أو دون شيئا، إنما عرف عنه أنه كان يجلس مجالسه في المسجد يتحدث إلى الناس ويستعين بالتوراة أحياتا يقرأ منها عليهم، ويفسرها لهم2. ولكن "الهمداني" يذكر أنه كان قد كتب كتبًا، وأن أهل "صعدة" كانوا قد توارثوا كتبه ورووا منها. قال: روى الصعديون مرفوعا إلى إبراهيم بن عبد الملك الخنفري، قال: قرأت كتب كعب الأحبار، وكان كعب رجلًا من حمير من ذي رعين، وكان قد قرأ التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وأوسع في العلم3. وقال أيضا: والوجه ما ذكرنا في أول السيرة من هذا الكتاب، ما رواه أهل صعدة عن كعب الأحبار في خلق آدم، ومن خلفه إلى نوح، وخبر الطوفان4. وقد

_ 1 الإكليل "1/ 36". 2 ابن سعد، الطبقات "7/ 79". 3 الإكليل "1/ 55". 4 الإكليل "1/ 55".

نقل "الهمداني" نتفًا عن "الخلق" والأنبياء ونوح والطوفان في الجزء الأول من كتابه: الإكليل ذكر أنها لكعب الأحبار. والظاهر أنه أخذها من رواية أهل صعدة لكتب "إبراهيم بن عبد الملك الخنفري"، نقلًا من كتب كعب الأحبار1.

_ 1 الإكليل "1/ 55".

الفصل الحادي عشر: أنساب العرب

الفصل الحادي عشر: أنساب العرب مدخل ... الفصل الحادي عشر: أنساب العرب للنسب عند العرب شأن كبير، ولا يزال العربي يقيم له وزنًا، ولا سيما عربي البادية, فعلى نسب المرء في البادية تقوم حقوق الإنسان، بل حياته في الغالب. فنسب الإنسان، هو الذي يحميه، وهو الذي يحافظ على حقوقه ويردع الظالم عنه ويأخذ حق المظلوم منه. وقد يبدو ذلك للمدني الأعجمي أمرًا غريبًا شاذًّا غير مألوف, ولكن هذا المدني نفسه يعمل بالنسب ويأخذ به، وإن كان في حدود ضيقة. فجنسيته هي نسبه، تحميه وتحفظ حقوقه, وليس نسب الأعرابي غير هذه الجنسية، يحتمي به؛ لأنه يصونه ويحفظ حقوقه ويدافع عنه. وهو مضطر إلى حفظه، وإلى عد آبائه وأجداده وذكر عشيرته وقبيلته؛ لأنه بذلك يسلم، ويحافظ على حياته، فإن أراد شخص الاعتداء عليه، عرف أن وراءه قومًا، يدافعون عنه ويأخذون بحقه من المعتدي عليه, وهو لذلك مضطر إلى حفظ نسبه والمحافظة عليه. وأما كون الحضر أقل عناية بأنسابهم من أهل الوبر؛ فلأن الحاجة إلى النسب عندهم أقل من حاجة أهل الوبر إليها, فالأمن مستقر، ولدى الحضر في الغالب حكومات تأخذ بحق المعتدي عليهم من المعتدين. ثم إن مجال الاختلاط والامتزاج عندهم أكثر وأوسع من أهل البوادي وسكان الأرياف، وكلما كانت الحواضر قريبة من السواحل ومن بلاد الأعاجم، كان الاختلاط أوسع وأكثر، ولهذا

ضعفت فيها وشائج الدم والنسب، وكثر فيها التزاوج والتصاهر بين العرب والعجم، فصعب على الناس فيها المحافظة على أنسابهم، وقلت الفائدة من النسب عندهم؛ ولهذا لم يعتنوا به عناية الأعراب بالأنساب. فالانتماء إلى عشيرة أو قبيلة أو حلف، هو حماية للمرء، وجنسية في عرف هذا اليوم؛ ولهذا صار إخلاص الأعرابي لقبيلته أمرا لازما له محتما عليه، وعليه أن يدافع عن قبيلته دفاع الحضري عن وطنه. فالقبيلة هي قومية الأعرابي، وحياته منوطة بحياة تلك القبيلة؛ ولهذا كانت قومية أهل الوبر قومية ضيقة، لا تتعدى حدودها حدود القبيلة وحدود مصالحها وما يتفق أهل الحل والعقد فيها عليه. ومن هنا صارت القبائل كتلًا سياسية، كل كتلة وحدة مستقلة لا تربط بينها إلا روابط المصلحة والفائدة والقوة والضعف والنسب. والعادة انتساب كل قبيلة إلى جد تنتمي إليه، وتدعي أنها من صلبه، وأن دماءه تجري في عروق القبيلة، وتتباهى به وتتفاخر، فهو بطلها ورمزها، وعلامتها الفارقة التي تميزها عن القبائل الأخرى. وليس ذلك بدعًا في العرب، بل إنا لنجد الأمم والشعوب الأخرى تنتمي إلى أجداد وآباء. فـ"هيلين" "Hellen" هو جد أهل "دورس" "Dorus"، ومنه أخذ "الهيليون" اسمهم هذا. وكان للرومان وللفرس وللهنود وللأوروبيين أجداد انتموا إليهم واحتموا بهم وتعصبوا لهم ونسبوا أنفسهم إليهم على نحو ما نجده عند العرب والإسرائيليين وبقية الساميين1. وفي التوراة ولا سيما "أسفار التكوين" منه، أبرز أمثلة على النسب، نجد فيها أنساب الأنبياء والشعوب، وأنساب بني إسرائيل, يسبق النسب في العادة جملة: "وهذه مواليد" "وإله تولدت" ثم يرد بعدها النسب2, أي: أسماء من يراد ذكر نسبهم. قد يذكر نسب الأب والزوجة والولد، وقد لا تذكر الزوجة، بل يكتفى بالأب وبأولاده, وقد لا يذكر الولد. والذي يقرأ هذه الأسماء يقرؤها وكأنها أسماء أشخاص حقا, ولكننا إذا قرأناها قراءة نقد، نرى أن بعضها أسماء مواضع ومواقع، أو أسماء قبائل وعشائر, أو أسماء طواطم،

_ 1 Hastings, P. 285 2 راجع السفر العاشر من التكوين، الآية الأولى, Hastings, P. 285

أي: أسماء حيوانات تسمت بها القبائل، مثل "ذئب" و"كلب" و"أسد" و"ضبة" وأمثال ذلك، وكلها كناية عن قبائل وشعوب عاشت قبل الشروع في تدوين هذه الأنساب أو في أيام التدوين. ويظهر من كيفية عرض هذه الأنساب وجمعها وتبويبها أن في العبرانيين جماعة من النسابين اختصت بجمع الأنساب وحفظها، ومنهم من كان يعتني بجمع أنساب الغرباء عن بني إسرائيل، وربما كان كتبة الأسفار من هؤلاء. فلما شرع كتبة أسفار التكوين بقصة الخلق وبكيفية توزع شعوب العالم وظهور الإنسان على سطح الأرض، كان لا بد من ذكر الشعوب وأنسابها على أسلوب كتابة التأريخ في ذلك العهد، فاستعين بما تجمع عند نسابي العبرانيين من علم بالنسب، وأدرج في هذه الأسفار. وقد وردت في التوراة في أسفار التكوين وفي "أخبار الأيام الأول" أسماء قبائل عربية رجعتها إلى مجموعات، مثل مجموعة "يقطن" "يقطان"، ومجموعة الإشماعيليين، أي: الإسماعيليين، نسل إسماعيل، غير أنها لم تشر كعادتها بالنسبة إلى كل أنساب البشر, إلى المورد الذي أخذت منه تلك الأنساب؛ لذلك لا ندري إذا كانت التوراة قد اقتبست ما ذكرته عن أنساب الأمم من الأمم التي تحدثت عن نسبها، بأن أوردت تلك الأنساب على نحو ما كان شائعًا متعارفًا عند الأمم المذكورة بالنسبة لنسبها، أو أنها روتها على حسب ما كان متعارفا عنه قدماء العبرانيين في أجداد البشر وفي أنسابهم، فدونتها على هذا النحو الشائع بين العبرانيين إذ ذاك. أما النصوص الجاهلية، فإنها لم تتحدث ويا للأسف، عن مجموعات قبائل على النحو المتعارف عليه عند علماء النسب. ولكنها جاءت بأسماء قبائل عديدة كثيرة، لم يعرف من أمرها أهل الأخبار والنسب شيئًا. فنحن نقف على أسمائها لأول مرة، بفضل تلك الكتابات. وقد أفادتنا الكتابات الجاهلية فائدة كبيرة من ناحية دراسة أسماء القبائل الواردة في كتب النسب والموارد الإسلامية الأخرى، إذ مكنتنا من الوقوف على الصلات بينها، وعلى معرفة ما سمي منها بالأب أو الابن أو الأم، كما عرفتنا على مواطن عديدة من مواطن الخطأ التي وقع فيها النسابون وأصحاب الأخبار، وعلى كثير من الوضع الذي وضع في النسب أو في القصص المروي عن القبائل جهلًا

أو عمدًا أو ظهورًا بمظهر العلم والإحاطة بأنساب العرب وأخبارهم، الجاهليين منهم والإسلاميين. ولم أجد في الشعر الجاهلي هذه القحطانية والعدنانية التي يراها أهل النسب والأخبار، وأقصى ما وجدته فيه قصيدة للأخنس بن شهاب بن شريق التغلبي حوت أسماء قبائل وأسماء مواطنها ومواضعها، هي: "معد" و"لكيز" و"بكر" و"تميم" و"كلب" و"غسان" و"بهراء" و"إياد" و"لخم"1. وهي قبائل بعضها عدنانية وبعضها قحطانية في اصطلاح أهل النسب، إلا أنني لم أجد فيها أسماء آباء هذه القبائل ولا أجدادها، ولم أستطع أن أفهم منها أن هذه القبيلة، هي قبيلة عدنانية، وأن تلك قبيلة قحطانية، فقد جاءت الأسماء متداخلة وكل ما وجدته فيها مما يخص النسب، هذا البيت: فوارسها من تغلب ابنة وائل ... حماة كماة ليس فيها أشائب ولم يرتفع الأخنس بنسب تغلب إلى ما وراء وائل من آباء وأجداد. والحق: إن من يقرأ هذه القصيدة دون أن يقرأ اسم صاحبها، يرى أنها من قصائد الشعراء المتكلفين الذين ظهروا في أيام الدولة العباسية، ولن يخطر بباله أبدًا أنها من نظم شاعر جاهلي. وأنا أريد أن أتجاسر فأقول: إني أشك في صحة نظم ذلك الشاعر لهذه القصيدة، وأسلوب نظمها يأبى أن يرجعها إلى ذلك العهد. وقد خصص "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" فصلًا بـ"أخبار الأخباريين والنسابين وأصحاب الأحداث"، ذكر فيه أسماء بعض من عرف واشتهر بحفظه للأنساب، ولا سيما من ألف فيهم تأليفًا في النسب. وقد طبعت بعض مؤلفات المذكورين، وهي متداولة بين الناس. والذين ذكرهم "ابن النديم" هم من اشتهر وعرف وذاع خبره في العراق وفي البيئة التي اتصل بها "ابن النديم"، وهم من أهل الحواضر في الغالب، إلا أن بين أهل البوادي والأماكن القصية النائية المنعزلة جماعة كانت قد تخصصت بالنسب، انحصرت شهرتها في البيئة التي

_ 1 المفضليات "ص95 وما بعدها"، طبعة السندوبي، القاهرة 1926م.

عاشت فيها. ولهذا لم يصل خبرهم إليه وإلينا، وكثير منهم لم يؤلف في النسب تأليفا، وإنما حفظه حفظًا، شأنهم في ذلك شأن النسابين الجاهليين، أو الذين أدركوا الإسلام. ونجد في كتب الأدب والتواريخ قصصًا عن بعض النسابين في الجاهلية وفي الإسلام, يثير الدهشة من قدرة وشدة الحافظة عند أولئك النسابين في حفظ الأنساب, وقد عرف أحدهم بـ"النَّسَّابة"، فقيل: "فلان النسابة" أو "النسابة". وقد كان لهم شأن خطير بين قومهم؛ لأنهم المرجع في الأحساب والأنساب، وإليهم المفزع عند حصول اختلاف في الأمور المتعلقة بها. ويذكر أن الخليفة "عمر" أمر بتسجيل الأنساب وتبويبها وتثبيتها في ديوان، وذلك عند فرضه العطاء، "فبدأ بالترتيب في أصل النسب، ثم ما تفرع عنه، فالعرب: عدنان وقحطان, فقدم عدنان على قحطان؛ لأن النبوة فيهم وعدنان تجمع ربيعة ومضر، فقدم مضر على ربيعة لأن النبوة فيهم، ومضر تجمع قريشا وغير قريش، فقدم قريشا لأن النبوة فيها, وقريش تجمع بني هاشم وغيرهم، فقدم بني هاشم لأن النبوة فيهم، فيكون بنو هاشم قطب الترتيب، ثم بمن يليهم من أقرب الأنساب إليهم حتى استوعب قريشًا، ثم بمن يليهم في النسب حتى استوعب جميع عدنان1. وقد كان هذا التسجيل سنة خمس عشرة للهجرة في رواية، أو سنة عشرين في رواية أخرى2. وذكر أن الخليفة قال: "أيما حي من العرب كانوا في حي من العرب أسلموا معهم فهم معهم، إلا أن يعترضوا، فعليهم البينة، كالذي فعله مع "بجيلة" رهط جرير بن عبد الله بن جابر، وكانوا قد تفرقوا، واغتربوا بسبب حروب وقعت بينهم والتحقوا بقبائل أخرى. وروي أن عوف بن لؤي بن غالب ألحق نسبه بـ"غَطَفان"، والتحق نسب بنيه "بني مُرَّة" بغطفان، ويقال: إن الخليفة قال: لو كنت مستلحقًا حيًّا من العرب، لاستلحقت بني مرة؛ لما كنا نعرف فيهم من الشرف البين، مع ما كنا نعرف من موقع عوف بن لؤي بتلك البلاد. ثم قال لبعض أشرافهم: إن شئتم أن ترجعوا لنسبكم من

_ 1 البلاذري، فتوح "3/ 549"، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "3/ 113"، بلوغ الأرب "3/ 190". 2 الكامل، لابن الأثير "2/ 212"، اليعقوبي "2/ 130"، الطبري "4/ 162".

قريش، فافعلوا. ولكنهم كرهوا أن يتركوا نسبهم في قومهم، ولهم فيهم من الشرف والفضل ما ليس لغيرهم"1. وقد ضاعت أصول الجرائد التي دونت عليها الأنساب في ذلك الديوان، ولم يبقَ منها شيء. ويظهر أن أهل الأخبار لم ينقلوا صورها، وإنما أخذوا الأسس التي قام عليها التسجيل على نحو ما ذكرت، وبالجملة: فإن في إشارتهم إلى تلك الأسس والقواعد التي سار عليها الخليفة في اتخاذ القربى بالرسول والوضع القائم للقبائل، فائدة كبيرة لدراسة أسس تثبيت الأنساب عند العرب في صدر الإسلام. ويذكر أن الذي قام بوضع مخطط الأنساب وبتسجيل القبائل والعشائر وفق الخطة التي أشرت إليها، هو "عقيل بن أبي طالب"، وهو من الثقات في معرفة الأنساب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وأن الذي أشار عليه بتدوين النسب في الدواوين هو "الوليد بن هشام بن المغيرة" لما رآه من عمل الروم في تسجيل العطاء في بلاد الشام2. ولم يقتصر التسجيل المذكور على تسجيل نسب القبائل وحدها، بل شمل ذلك نسب أهل القرى أيضًا، كنسب أهل مكة والمدينة والطائف وغيرها؛ وذلك لأن سكانها وإن كانوا من أصحاب المدر، وقد أقاموا واستقروا في بيوت ثابتة، إلا أنهم كانوا كالأعراب من حيث الانتساب إلى الآباء والأجداد. وقد رأينا أن عمر كان قد بدأ بقوم الرسول، وقومه حضر من أهل مكة، إلا أنهم كانوا لا يختلفون عن أهل الوبر في التعلق بالأنساب وفي حفظها؛ لأن حياتهم الاجتماعية وإن كانت في قرية، إلا أن غريزة المحافظة على النفس والدفاع عن الحقوق حملتهم مثل الأعراب على التمسك بالعصبية، بعصبية النسب؛ ليتمكنوا من المحافظة على الأمن والسلامة والمال، لعدم وجود حكومة قوية تقوم إذ ذاك بتأمين هذه الواجبات. ثم إن هذه الأماكن محاطة بالأعراب، وبين أهل مكة من كان شبه حضري، وبيئة مثل هذه لا بد لها من الاحتماء بعصبية النسب، وبالتزاوج مع الأعراب؛ لتكوين رابطة دموية، تؤدي إلى عصبية تضطر الطرفين إلى الدفاع عن مصالحهما المشتركة وتكوين كتلة واحدة تستجيب للنخوة ولنداء

_ 1 شرح المفضليات "ص101، 116". 2 البلاذري "3/ 549"، الطبري "3/ 200"، ابن أبي الحديد، شرح "3/ 113".

الاستغاثة في ساعة الحاجة والضرورة؛ ولهذا كان للتزاوج عند العرب أهمية كبيرة في السياسة. ومن هنا نظر سادات القوم والملوك إلى التزوج من بنات سادات القبائل الكبيرة نظرة سياسية في الدرجة الأولى؛ وذلك لشد عضدهم ولتثبيت ملكهم ولضبط القبائل، وبضبطها يستتبُّ الأمن وينتصر على الأعداء. وقد كان لزواج معاوية في الإسلام من "كلب" أثر كبير في السياسة الأموية, وفي تثبيت ملكه وملك ابنه يزيد وملك مروان الذي انتصر بهم في معركة "مرج راهط" على القيسيين. وعلى الرغم من التسجيل المذكور الذي كان للعطاء، أي: لأغراض حكومية رسمية، فإن أنساب القبائل لم تثبت ولم تستقرَّ إلا بعد ذلك بأمدٍ. وآية ذلك ما نجده من خروج قبائل في العصر الأموي من نسب قديم، ودخولها في نسب آخر جديد. وقد كان شروع النسابين في تسجيل علمهم وتدوينه، مما ساعد كثيرًا ولا شك في تثبيت هذه الأنساب وإقرارها، ولا سيما أنساب القبائل المشهورة المعروفة, وقد وصلت بعض كتب الأنساب، وطبع قسم منها. وقد وضع بعض المؤلفين، مثل الواقدي أبي عبد الله محمد بن عمر المتوفى سنة "207هـ" مؤلفًا في "وضع عمر الدواوين, وتصنيف القبائل ومراتبها وأنسابها"1، إلا أنها ضاعت، فحرمنا الاستفادة منها، ولو بقيت مثل هذه المؤلفات إذن لكان لنا علم قيم, ورأي في كيفية تصنيف القبائل في تلك الأيام. وقد كان بعض النسابين قد تخصص بنسب جماعة من العرب، جماعة قومه ومن يرتبط بهم في الغالب, مثل "الزبير بن بكَّار" صاحب كتاب "نسب قريش وأخبارها"2، ومثل "عقيل بن أبي طالب"، وكان قد تخصص بنسب قريش، ومثل "أبي الكناس الكندي"، وكان أعلم الناس بنسب كندة، ومثل "النجار بن أوس العَدْواني"، وكان من أحفظ الناس لنسب "معد بن عدنان"، ومثل "عدي بن رثاث الإيادي"، وكان عالما بإياد، ومثل "خراش بن إسماعيل العِجْلي"، وكان عالما بنسب ربيعة3. وعن هؤلاء وأمثالهم

_ 1 الفهرست "ص150". 2 الفهرست "ص166". 3 الفهرست "ص146".

أخذ أهل الأنساب علمهم بالأنساب، ووضعوا كتبًا في نسب القبائل، أو في أنساب العرب، أو في أنساب جماعة منهم. ولتسجيل "عمر" للأنساب شأن كبير بالنسبة إلى الباحثين في تطور النسب عند العرب؛ لأنه ثبت بذلك الأسس ووضع القواعد للنسابين في الإسلام وقلل من الاضطراب الذي كان يقع في النسب؛ بسبب الاختلاط، وعليه سار المسلمون في تقسيم العرب إلى أصلين. ولا بد أن يكون لهذا التقسيم أصل قديم, يرجع إلى ما قبل عمر, أقره الخليفة, وجعله أساسا له في التقسيم الذي بقي مرعيا متعارفا عليه بين النسابين إلى اليوم. ويمكن أن نقارن هذا العمل، أي تسجيل النسب وتثبيته في سجلات، بالعمل الذي قام به "عزرا" في تثبيت أنساب اليهود وتدوينها، وفي تدوين أنساب الغرباء، لتستقر بذلك الأنساب فسار من جاء بعده من النسابين في تعيين النسب على أساس ذلك التدوين1. وفي القرآن الكريم آيات تشير إلى عناية القوم بأحسابهم وأنسابهم، ولكنه لم يتعرض لبيان وجهة نظرهم بالنسبة إليها، ولا يشعر في موضع ما منه بوجود تلك الفكرة التي ألح على وجودها أهل الأخبار، وهي انقسام العرب إلى ثلاث طبقات أو طبقتين، ووجود نسبين أو جملة أنساب للعرب، ولم يرد فيه اسم "عدنان" ولا "قحطان"، ولا أي من هذه الأشياء التي يتمسك بها أهل الرواية والأخبار، ويقصونها لنا على أنها من الحقائق الثابتة في أنساب العرب، وعلى أن العرب كانوا حقا من جدين هما: عدنان وقحطان. بل كان ما ورد في القرآن يشعر أن العرب كانوا ينظرون إلى أنفسهم أنهم من جد أعلى واحد، هو: "إبراهيم", وأن "إبراهيم" أبو العرب: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ... } 2, فلم يفرق بين عرب قحطانيين وعرب عدنانيين. ورُوي: أن الرسول قال: "كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم -عليه السلام-"3.

_ 1 Hastings, P. 286 2 سورة الحج، رقم 22، الآية 78. 3 ابن سعد، الطبقات "جـ1، ق1، ص25".

بل حتى الشعر الجاهلي، لا نجد فيه إشارة واحدة تفيد اعتقاد الجاهليين بوجود أصلين أو ثلاثة أصول أو أكثر لهم. وكل ما ورد فيه هو فخر بقحطان وفخر بعدنان أو معد أو غير ذلك من الأسماء التي تعد من أسماء الأجداد التي ينتهي إليها "الشعب" أو "الجذم". وأما التفصيلات الأخرى والأسماء الواردة في كتب النسب أو الأخبار والتواريخ، فهي من روايات الإسلاميين. ثم إن من الشعر الجاهلي ما لا يصح أن يكون جاهليًّا، ومنه ما قيل قبيل الإسلام، ولا يصح كل الشعر الجاهلي أن يكون شاهدًا على آراء أهل الجاهلية البعيدين عن الإسلام. كذلك لا نجد في شعر الجاهلية سلسلة نسب قحطان أو عدنان, ولا نجد في الأخبار ما يفيد وقوف أهل الجاهلية عليها. وهي سلسلة أخذت أسماؤها من التوراة، وبعضها أسماء محرفة موضوعة على شاكلة الأسماء التوراتية. أما في الحديث النبوي، فقد ورد أن الرسول انتسب إلى "أدد"، وهو والد "عدنان"، ثم قال: "كذب النسابون"1. وفي كل ذلك دلالة على أن أسماء آباء قحطان وعدنان، إنما دونت وتثبتت في الإسلام. أما قبل الإسلام، فلعل بعضهم وفي أيام الرسول، كان قد تلقن من اليهود نسب قحطان، وأن بعض اليهود لقن العرب نسبًا لعدنان، فلما لاكت الألسنة تلك الأنساب، وسمعها الرسول قال: "كذب النسابون". أما أسماء أبناء قحطان وعدنان فما دون ذلك، فإنها أسماء عربية في الغالب، وينقطع منها أثر التوراة وأثر الأسماء التوراتية، مما يدل على أن النسابين العرب كانوا على علم وبصيرة بتلك الأسماء، وأنها كانت معروفة عندهم. وهي أسماء لا ترد في التوراة ولا خير لها عند أهل الكتاب. وقد ذهب "دوزي" إلى وجود فروق أساسية بين القحطانيين والعدنانيين، حتى ذهب إلى وجود اختلاف بين نفسية كل جماعة من الجماعتين2. وأنا لا أريد أن أنكر عليه وجود العداء الذي كان قد استحكم بين القبائل التي تنتسب إلى معد أو إلى قحطان، ولا أريد أن أنكر عليه تهجم شعراء اليمن على قبائل معد،

_ 1 نسب عدنان "ص1". 2 dozy, gesch. D. mauren in spanien, bd. I, s. 73, goldziher, muh. Stud Bd. I, s. 89, nallino, reccolte, vol. 3, p. 73

أو عدنان، ولا تهجم شعراء عدنان على قبائل اليمن المنتمية إلى قحطان، ولا أريد أن أنكر افتخار اليمانيين بانتسابهم إلى اليمن، ولا افتخار العدنانيين بانتسابهم إلى عدنان أو مضر أو معد أو غير ذلك من أسماء الشعوب والأجذام، لا أريد أن أنكر شعر "امرئ القيس" في افتخاره بنسبه في اليمن1، ولا أن أنكر شعر غيره من الشعراء اليمانيين أو الشعراء العدنانيين في الافتخار باليمن أو بمضر أو بمعد, ولكنني لا أريد أن أنكر في الوقت نفسه افتخار القبائل القحطانية بعضها على بعض، وافتخار القبائل العدنانية بعضها على بعض، وهجاء القبائل القحطانية بعضها لبعض، وهجاء القبائل العدنانية بعضها لبعضها هجاء لا يقل عن هجاء اليمن لمعد أو هجاء معد لليمن. فهل يصح أن يتخذ هذا الهجاء سببًا لوضع نظرية في اختلاف أجناس هذه القبائل؟ وهل يصح أن نجعل هذا الهجاء حجة على تباين أصل القحطانيين، وعلى تباين أصل العدنانيين؟ إن جاز ذلك، وجب علينا إذًا إعادة النظر في كل ما هو مكتوب عن أصول القبائل, وفي كل ما هو مدون في كتب النسب والأخبار. هذا "سلامة بن جندل السعدي"، وهو من مضر، يحمل في شعره على معد، ويهجوها هجاءً مرًّا2، وهذا "قيس بن الخطيم" لسان الأوس يحمل على الخزرج، ويردد ذكريات الأيام التي كانت بين الأوس والخزرج بمثل الشدة التي تجدها في شعر الهجاء الذي قاله العدنانيون في القحطانيين، والقحطانيون في العدنانيين. إنه ذكر تلك الأيام لا لمجرد الفخر والتباهي، بل ليثير في نفوس الأوس الأحقاد القديمة، وليزيد في تلك النيران نيرانًا. لقد ذكرهم بـ"يوم الربيع"3، وذكرهم بـ "يوم السرارة"4، وذكرهم بـ "يوم مضرس

_ 1"إنا معشر يمن"، Muh. Stud. Bd. I, S. 89.2 همت معد بنا همًّا فنهنهها ... عنا طعان وضرب غير تذبيب بالمشرفي ومصقول أسنتها ... صم العوامل صدقات الأنابيب المفضليات "ص237". وقال الجميع الأسدي: سائل معدًّا من الفوارس لا ... أوفوا بجيرانهم ولا غنموا المفضليات "ص45". 3 شعر قيس "ص7". 4 شعر قيس "ص20".

ومعبس"1، وهو يوم دارت فيه الأيام دورتها على الأوس، فقُتل منهم عدد كبير، وانهزم أكثرهم إلى بيوتهم وآطابهم، حتى خرج الناس من طوائفهم إلى مكة يستعينون على الخزرج، وذكرهم بأيامهم الأخرى2. كل ذلك بلهجة عنيفة شديدة، ليس فيها لين ولا رفق, إنه ينظر إلى الخزرج نظرة عداء وحقد، نظرة تشعر منها أن الأوس جنس وأن الخزرج من جنس بعيد آخر. لقد ذكر قريشًا بخير، وذكر أنها ستحمل عنهم حرب الخزرج، وذكر أنهم لو التحقوا بأبرهة اليماني أو بنعمان أو عمرو3، لنالوا من هؤلاء كل تقدير، ولجعلوا لهم جاهًا أي جاه. ذكر أبرهة حاكم اليمن، وذكر غسان ولخمًا، وذكر أهم من ذلك كله قريشًا على أنها ستحمل الحرب وستقابل الخزرج عما قريب. وقريش من عدنان، والأوس والخزرج من قحطان، ولم نجد في شعره ما يذكر برابطة النسب بين الخزرج والأوس, ولم يرد في شعره اسم قحطان أو عدنان. والقصيدة التي ذكر فيها هذا اليوم هي من أقدم قصائد هذا الشاعر الذي اضطرت قبيلته "الظفر"، ومعها "عبد الأشهل" إلى مغادرة يثرب والتفتيش عن حليف يساعدها في العودة إلى ديارها، فذكر قيس قريشًا، وكأنه يذكر قبيلة قريبة من قبيلته4، مع أنها من نسب آخر في رأي النسابين. وفي كتب الأدب والدواوين شعر كثير ينسب إلى شعراء جاهليين وشعراء مخضرمين وشعراء إسلاميين، فيه هجاء عنيف من شاعر قحطاني لقبائل قحطانية، ومن شاعر عدناني لقبيلة عدنانية، وفيه مدح وفيه إغراق من شاعر قحطاني لقبائل عدنانية، وهجوم عنيف على القحطانيين، وهكذا. ولو أردنا شرح ذلك وسرد الأمثلة، لأخذ ذلك منا وقتا طويلا يخرجنا عن صلب الموضوع، وينقلنا على أمور أخرى لا صلة لها بهذا البحث. ثم إن علينا أن نسحب حسابا لأمر هذا الشعر المروي في المدح والفخر وفي

_ 1 شعر قيس "ص32"، ديوان حسان بن ثابت "تحقيق هرشفلد" "ص83 فما بعدها". 2 شعر قيس "ص32". 3 شعر قيس "ص67" "القسم الألماني". 4 شعر قيس "ص67" "القسم الألماني".

الذم والهجاء، وهو عندي أوسع باب من أبواب الشعر يحتمل النقد، وإثارة الشكوك حوله. وقد خبرنا من الكتب أن القبائل كانت تستأجر الشعراء لقول المدح أو الذم، وأنها كانت تعد الشاعر منحة من منح الله على القبيلة؛ لأنه لسانها الناطق والذائد عنها بشعره، يدافع عن قبيلته، ويهاجم أعداءها، ويتهمهم بكل ما يصل إليه فنه من الهجاء ورمي التهم، كائنين ما كانوا قحطانيين أو عدنانيين. وقد اقتضت طبيعة الخصومة التي زادت حدتها في الإسلام بين يمن ومضر وضع شيء كثير من هذا الشعر, شعر المنافرة والمفاخرة بين عدنان وقحطان، وهذا أمر وقع، مفروغ منه، لا شك في صحته وثبوته، اقتضته ظروف السياسة، فيجب الانتباه له حين التحدث عن نزاع قحطان وعدنان1. وترينا الأخبار أن ما نسميه بنزاع قحطاني وعدناني لم يكن شديدًا في الجاهلية بين القبائل التي كانت تقيم في الأنحاء الشمالية من جزيرة العرب، أي: بين تلك القبائل التي أرجع النسابون نسبها بحق أو بغير حق إلى عدنان أو قحطان، بمثل تلك الشدة التي تظهر في النزاع الذي تحدثوا عنه بين القبائل التي كانت تعيش في اليمن أو في الحجاز. وهذا أمر ذو بال، يجب أن يحسب له كل حساب عند الحديث عن نزاع عدنان وقحطان2. وترينا الأخبار كذلك أن الخصومات التي وقعت بين القبائل العدنانية نفسها، أو بين القبائل القحطانية نفسها، لم تكن أقل عنفًا وضراوةً من ذلك النزاع الذي وقع بين من نسميهم بالقحطانيين ومن نسميهم بالعدنانيين. لقد اتخذ شكلا عنيفا، شكلا يجعلك تشعر أن تلك القبائل كانت تشعر أنها قبائل متباعدة لا يجمعها شمل، ولا يربط بينها نسب، ولا تجمعها جامعة دماء على النحو الذي يرويه ويذكره أهل الأنساب والأخبار. والغريب أنك في كل ذلك النزاع المر العنيف، لا تسمع فيه انتساب كل العرب إلى عدنان أو قحطان، وإنما تسمع فيه فخرًا بأسماء القبائل أو بأسماء الأحلاف الداخلة في عدنان أو في قحطان، تسمع فيه اسم "معد" أو اسم "يمن" أو "نزار" أو "مضر" أو غير ذلك، ولا تسمع فيه اسم الجدين

_ 1 muh. Stud. I, s. 91 2 muh. Stud. I, s. 91

الأكبرين المذكورين, فماذا يعني هذا؟ وعلام يدل؟. ويمن عند أهل الأنساب والأخبار وفي العرف، كناية عن "قحطان"، و"قحطان" عندهم أيضا وفي العرف كناية عن "يمن" وعن الشعوب التي يرجع نسبها إلى "يمن". أما "معد" و"مضر" و"نزار"، فكناية عن "عدنان" أو عن أحلاف من أحلاف عدنان. وأنت إذا ما أردت أن ترسم حدودًا فاصلة بين "قحطان" و"عدنان"، أي بين "يمن" و"معد"، فإنك تستطيع أن ترسمها بسهولة إذا ما اعتبرت "قحطان" كناية عن اليمن، وأن "عدنان" كناية عن "قريش" والقبائل التي ترجع نسبها إلى نسب قريش, وحدود أرض قريش وحدود أرض اليمن معروفة واضحة. أما إذا أردت أن ترسم حدودا فاصلة، وأن تضع معالمَ واضحة بينة بين القبائل القحطانية والقبائل العدنانية، استنادًا إلى روايات أهل الأنساب والأخبار وإلى الشجرات التي رسموها لأنساب العرب طرًّا، فإنك ستخفق حتمًا، وسيخيب عملك من غير شك؛ ذلك لأن أهل الأنساب لم يسيروا في تقسيمهم العرب على وفق قواعد ثابتة وأسس واضحة مرسومة، مثل اختلاف في ملامح جسمانية، أو تمايز في أمور عقلية أو نفسية أو لغوية، أو اختلاف في مواقع جغرافية، بل ساروا وفقًا للعرف والشائع، فسجلوا الأنساب على وفق الشائع بين الناس عن النسب في ذلك العهد. وأنت إذا أردت تطبيق ما عندك من علم في "الأثنولوجيا" وفي "الأنتروبولوجي" وفي العلوم المشابهة الأخرى، على التقسيم الثنائي للعرب، فتستجد نفسك حائرًا تائهًا لا مجال لقواعد علمك في هذا المكان. فبين القبائل التي تنتمي إلى "قحطان" مثلًا تباين كبير في الملامح وفي العقلية وفي اللغة، ويجعل من غير الممكن تصور وجود وحدة دموية تجمع شمل هذه القبائل، وجدّ واحد انحدر من صلبه هؤلاء، وبين القبائل العدنانية اختلاف كذلك في الملامح وفي اللغة، يضطرك إلى القول بفساد نظرية النسابين في أصل هذه القبائل؛ ولا بد عندئذٍ من اعتبار هذا النسب رمزًا أخذ من صراع قديم، أو من أحلاف قديمة، فصير جدين لجماعتين. وكيف تتمكن من إقناع الباحث الحديث في العلوم المذكورة بوجود وحدة في الملامح الجسمية وفي الصفات العقلية، ووحدة في اللسان بين القبائل القحطانية الجنوبية الضاربة في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية, وبين القبائل القحطانية

الشمالية، مثل غسان ولخم وكلب وكندة وغيرها, على حين يرى بين الجماعتين فروقًا واضحة بينة في كل شيء, حتى إنه يستطيع أن يشير إلى القحطاني الجنوبي حالًا عند رؤيته له، على حين لا يستطيع أن يميز القحطاني الشمالي من العدناني، ولا أن يعرفه إلا بالاستفسار منه؟. الصحيح أننا إذا أخذنا بالملامح وبالأمور الأخرى المذكورة، خلصنا إلى نتيجة تقول لنا: إن الفروق بين القحطانيين والعدنانيين هي أقل جدًّا من الفروق التي نراها بين القحطانيين الشماليين والقحطانيين الجنوبيين. وهي نتيجة ليست في مصلحة أهل الأنساب بالطبع، تبين لنا أن قضية قحطان وعدنان قضية اعتبارية لا غير. بل خذ القحطانيين الجنوبيين، وهم لبُّ القحطانية ومادُّتها، تَرَ أن القحطاني الساكن على السواحل الجنوبية يختلف في سحنته عن القحطاني الساكن في المرتفعات والهضاب والجبال, وأن الساكن على السواحل المقابلة للسواحل الإفريقية يختلف في ملامحه الجسمية عن الساكن على السواحل المقابلة للهند، وأن ساكن حضرموت أو عمان أو مسقط يختلفون في الملامح والسحن عن إخوانهم القحطانيين الساكنين في اليمن وفي نجران وفي الأقسام الجنوبية من المملكة العربية السعودية. فهل يكون هذا الاختلاف دليلًا على قحطانية بالمعنى الذي يزعمه أهل الأنساب؟. ولقد ذهب بعض الباحثين في علم الأجناس البشرية "الأنتروبولوجي" "AnThropology" إلى أن العرب الجنوبيين هم من أصل حامي، وأن وطنهم الأصلي هو إفريقيا1. وقد ذهب بعض آخر إلى وجود شبه كبير في الملامح وفي الخصائص البشرية بين العرب الجنوبيين والقبائل الإفريقية الساكنة على الساحل الإفريقي من البحر الأحمر والصومال، إلا أنه نسب ذلك إلى أن تلك القبائل كانت عربية في الأصل، هاجرت من جزيرة العرب عن طريق باب المندب إلى إفريقيا، فسكنت هناك؛ ومن ثم وقع هذا التشابه بين تلك القبائل والعرب الجنوبيين2.

_ 1 r. poech, berichte des forschungsinstitutes fuer osten und orient, ii, wien, 1918, 19, ff. v. gluffrida-ruggerl, affinita antropologiche fra etloplcl e arabl meridionali, annuarlo del r. instituto orlentale di napoil, 1919-20, a. grohmann, arabien, s.9 2 les antiquités du yamen, muséon, 61, 1948, 225. ff

ورأى آخرون أن العربية الجنوبية هي مزيج من الأجناس البشرية واضح المعالم، وذلك منذ أقدم أيامها. فنرى فيها قبائل تشبه جماعة "الفيديد" "Weddid" الهندية، وهي من السلالات الهندية القديمة، يسكن بعضها في أرض "سيبان" و"معارة" من حضرموت، ونرى فيها عناصر مما يطلق عليها اسم "الجنس الشرقي" "Orientalide Rasse"، وهو الجنس الذي يكثر وجوده بين العرب الشماليين، وعناصر أخرى تمثل إنسان حوض البحر المتوسط "Mediterranen Rasse" أو الأجناس الأوروبية، حيث وجد بعض السياح بين بعض قبائل اليمن جماعة من الناس لها عيون زُرْق وشعر أشقر وبشرة بيضاء أو تميل إلى البياض وملامح أوروبية بينة، وتتراوح نسبة هؤلاء بين 8 إلى 12 بالمائة1. ووجد الباحثون بين قبائل العربية الجنوبية، جماعات لها ملامح آشورية وجماعات ذات ملامح تشبه ملامح سكان آسية الصغرى، وجماعات ذات ملامح إفريقية. وقد وجد الدكتور "سليمان أحمد حزين" أن بين أهل شمال اليمن وبين أهل جنوب اليمن إلى المحيط اختلافات بارزة في الملامح وفي المظاهر الجسمية يخرجنا البحث عنها هنا من حدود التأريخ العام2, ووجد غيره مثل ذلك, كما وجد هذا الاختلاط بارزًا في بقايا الهياكل البشرية القديمة التي عثر عليها في العاديات. وما هذه المظاهر والملامح التي رأيناها من الجماجم وبقية الهياكل البشرية ومن أشكال التماثيل والصور، ومن دراسات الباحثين "الأنتروبولوجيين" للقبائل الحاضرة، إلا حكاية واضحة صريحة عن عملية امتزاج أجناس بشرية متعددة في العربية الجنوبية، بسبب الهجرات والحروب والاتصال البحري والتجارة وعوامل أخرى، ونجد مثل ذلك بالطبع بين من نسميهم بالعرب الشماليين. وسوف نرى أن الدول القديمة كانت تنقل البشر نقلًا من مناطق إلى مناطق فتزرعم فيها، وأن أكثر أفراد الجيوش التي كانت ترسل لمحاربة القبائل أو للتوسع في الجزيرة كانت تبقى وتستقر في المواضع التي ترسل إليها، فتتطبع بطباع من نزلت بينهم، وتكون في النهاية منهم، أضف إلى ذلك الرقيق.

_ 1 A. Grohmann, arabien, s. II 2 بعثة جامعة فؤاد الأول سنة "1936م".

وقد ذكر أن جماعة من "بني الحارث بن كعب" وفدت على الرسول، فنظر إليهم، فقال: "من هؤلاء الذين كأنهم من الهند؟ ", وقد كان "قيس بن عمرو" الشاعر المعروف بـ"النجاشي" من هؤلاء1. وسواء أكان ما نسب إلى الرسول من قوله المذكور صحيحا أم موضوعًا، فإن الأخبار تذكر أن بشرة "بني الحارث بن كعب" كانت تميل إلى السمرة الشديدة، بل إلى السواد الذي يشبه سواد بشرة الإفريقيين، أفلا يجوز أن يكون أصلهم من إفريقيا, وقد عرفت جماعة كبيرة من أهل مكة بالأحابيش؛ لأن أصلهم من رقيق الحبشة والسواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب؟. فدعوى وجود جنس "أنتروبولوجي" واحد أو جنسين منفصلين، لكل منهما خصائص جسمية وملامح "فسيولوجية" معينة للعرب، وبالمعنى العلمي المفهوم اليوم عند علماء الأجناس، هي دعوى غير مقبولة؛ لأن البحوث العلمية والمختبرية لا تؤيدها ولا تثبتها، ولأن البحوث التأريخية الحديثة تعارضها أيضا، وكل ما نقوله هو أن ما نسميه اليوم بالجنس هو جنسية ثقافية فكرية، لا جنسية دموية تقوم على وحدة الملامح والمظهر والدم. فما يذكره أهل الأنساب عن النسبين، وما يتصوره بعض الناس من صفاء الجنس العربي صفاء تاما ونقائه من كل دم غريب، دعوى لا يمكن الاطمئنان إليها في هذا اليوم. لن يضير العرب قول مثل هذا، فصفاء الأجناس البشرية صفاء تاما، من القضايا التي عجز حتى القائلون بنظرية العنصريات مثل النازيين عن إثباتها في هذا اليوم, وسيظهر ضعفها في المستقبل ظهورًا أوضح مما هو عليه الآن. لقد كان "نولدكه" أول من شك في المستشرقين في هذا النسب العام الذي وضعه أصحاب الأنساب للعرب، وكان أول من نبه على أثر اليمانيين في وضعه وفي محاولتهم إرجاعه إلى عهود قديمة قبل الإسلام2. وذهب "هاليفي" إلى أبعد من ذلك، فرأى أن كل ما قيل في هجرة القبائل اليمانية إلى الشمال هو أسطورة،

_ 1 البيان "1/ 239"، الإصابة "858"، الخزانة "1/ 113". 2 muh. Stud. Bd. I, s. 92, noeldeke, in zdmg. Xl

وأن ما يزعم من انتساب تلك القبائل إلى اليمن هو حديث خرافة لا يركن إليه1. ونحا مستشرقون آخرون هذا المنحى، فرأوا أن للنسابين يدًا في ترتيب هذه الشجرة العظيمة للأنساب، أو الشجرتين, بتعبير أصح: شجرة نسب أبناء قحطان، وشجرة نسب أبناء عدنان؛ ولذلك فهم لا يطمئنون إليها، ولا يصدقون بكثير من هذه الأنساب المروية وبالأخبار والروايات الواردة في هجرة القبائل القحطانية نحو الشمال2. إذن، فقحطان ليس بجد لكل القبائل القحطانية المعروفة، وعدنان لم يكن جدًّا لجميع القبائل العدنانية، وإنما هما كنايتان عن مجموعة قبائل، تدعى عند العرب بـ"الحلف"، وقد أخذ أهل النسب قحطانهم من التوراة، وهو هناك كناية عن مجموعة قبائل مواطنها في العربية الجنوبية. أما "عدنان" فلم يرد اسمه في التوراة، ولا نعرف من أمره شيئًا في الزمن الحاضر، والظاهر أنه كناية عن حلف، ويظهر أنه ظهر للوجود قبيل للإسلام. وعدم وقوفنا على أخباره، لا يسوِّغ لنا نكران وجوده، فلعل الأيام تكشف لنا عن كتابات نرى فيها اسمه، كما حدث بالنسبة إلى أسماء أخرى شك في أصلها بعض المستشرقين، ثم تبين أنها كانت معروفة، بدليل ورودها في بعض كتابات الجاهليين. ولا أعتقد أن التوراة ابتدعت فكرة "يقطان" ونسل يقطان؛ إذ لا يعقل تصور ذلك, والذي أراه أنها حكت نسبًا كان يجمع شمل القبائل العربية المذكورة عند العرب، وصل خبره إلى العبرانيين فسجله كتبة التوراة في الأسفار، مع أنساب الشعوب. كما أنها أخذت من العرب أيضا نسب "الإشماعيليين" على نحو ما كان معروفًا يومئذ، وكذلك نسب أبناء "قطورة". فتكون التوراة قد ذكرت أنساب ثلاث مجموعات أو أحلاف عربية كبيرة، كانت قائمة في ذلك الزمن. وقد يكون من الخير الإتيان بأمثلة من أيام الإسلام, تساعدنا في شرح موضوع النسب عند الجاهليين وتفسيره. فإن الزمن وإن تغير وتبدل في الإسلام

_ 1 muh. Stud. Bd. I, s. 92, halévy, in journal asiatique, 1882, ii, 490, and compte rendu de vi, international orlentalisten congress, leiden, 1884, p. 102 2 nicholson, a literary history of the arabs p. xx, l. della vida, pre-islamic arabia, in arab heritage, 50, robertson smith, kinschip, p. 6

وتباعد عن الجاهلية، إلا أن الأفكار القبلية بقيت هي هي عند تلك القبائل بالنسبة إلى النسب وتكوين الأحلاف. فقبيل ظهور الإسلام كان بين "يثرب" و"مكة" نزاع شديد, ولما هاجر الرسول إلى "يثرب" عرف أتباعه الذين تبعوه بالمهاجرين, وقد دامت الهجرة إلى عام الفتح: "فتح مكة"1. وأما أهل المدينة الذين آووا الرسول ونصروه، فقد عرفوا بالأنصار لانتصارهم للرسول ولتقديم مساعداتهم له وللمسلمين. وللقضاء على الخصومة، آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين, غير أن العداء عاد فتجدد بين الأنصار والمهاجرين بعد وفاة الرسول، ويظهر أثره في شعر حسان بن ثابت والنعمان بن بشير2 والطرماح بن حكيم، وهم شعراء يثرب وألسنتها، وفي الأشعار الأخرى التي جمعت في دواوين الأنصار3. وقد صير النزاع المذكور لفظة "الأنصار" علما خاصا على أهل المدينة، حتى كادت تكون نسبًا، واصطبغت الدعوة بصبغة يمانية؛ فنجد في شعر الأنصار فخرا باليمن، واعتزازا بأصلهم اليماني، ومجاهرة بأنهم يمانيون صرحاء وبأنهم من أقرباء الغساسنة ومن ذوي رحمهم. كما أنهم استعملوا لفظة الأنصار مقابل قريش4 ومعد5 ومضر6 ونزار7، وأطلقوا على لسانهم حسان بن ثابت شاعر الأنصار، وشاعر اليمن، وشاعر أهل القرى8.

_ 1 "فلما فتحت مكة، صارت دار سلام كالمدينة، وانقطعت الهجرة. وفي الحديث: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" "، اللسان "7/ 111"، المؤتلف "ص126". 2 الأغاني "13/ 142"، "14/ 114 فما بعدها". 3 "كاد نهيك بن إساف يهاجي أبا الخضراء الأشهلي في الجاهلية، وأشعارهم موجودة في أشعار الأنصار"، الأغاني "20/ 117". 4 ذهبت قريش بالمكارم والعلا ... واللؤم تحت عمائم الأنصار الأغاني "13/ 142". 5 وقال الله قد يسرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء لنا في كل يوم من معد ... قتال أو سباب أو هجاء فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء ديوان حسان "ص1" "تحقيق هرشفلد"، شرح ديوان حسان، للبرقوقي "ص6", "سباب أو قتال". 6 ونحن جندك يوم النعف من أحد ... إذ حزبت بطرًا أشياعها مضر ديوان حسان "ص57"، شرح ديوان حسان "ص200" "للبرقوقي". 7 muh. Stud. Bd. I, s. 94, zdmg. Xviii, s. 239 8 مجالس ثعلب، القسم الثاني، تحقيق عبد السلام محمد هارون، سنة 1949 "ص429".

ونجد في أيام معاوية وفي أيام ابنه يزيد قصصًا عن هذا النزاع اليثربي المكي، النزاع الذي سمي بنزاع الأنصار مع المهاجرين، أو نزاع الأنصار مع قريش، ويلاحظ أن هذا القصص لم يستعمل لفظة "مهاجرين" في مقابل "الأنصار" إلا نادرًا، إنما استعمل الألفاظ المذكورة. وقد عرفت وفودهم فيه بـ"وفود الأنصار" أو "الأنصار"1, فصارت تلك اللفظة وكأنها نسب أو علم من أعلام القبائل، حتى تضايق من ذلك رجال قريش. قيل: بينما كان "عمرو بن العاص" عند "معاوية" يومًا، إذ دخل عليه حاجبه يقول: "الأنصار بالباب"، فتضايق من ذلك عمرو، وقال: "ما هذا اللقب الذي قد جعلوه نسبًا؟ ارددهم إلى نسبهم". فقال له معاوية: إن علينا في ذلك شناعة. قال: وما في ذلك؟ إنما هي كلمة مكان كلمة، ولا مرد لها. فقال معاوية لحاجبه: اخرج، فنادِ: مَنْ كان بالباب من ولد عمرو بن عامر، فليدخل. فخرج، فنادى بذلك، فدخل من كان هناك منهم سوى الأنصار، فقال له: اخرج، فنادِ: من هنا من الأوس والخزرج، فليدخل. فخرج فنادى ذلك، فوثب النعمان بن بشير، فأنشأ يقول: يا سعد, لا تعد الدعاء, فما لنا ... نسب نجيب به سوى الأنصار نسب تخيره الإله لقومنا ... أثقل به نسبًا إلى الكفار إن الذين ثووا ببدر منكم ... يوم القَلِيب هُمُ وقود النار وقام مغضبًا. فبعث معاوية، فرده، وترضاه وقضى حوائجه وحوائج من كان معه من الأنصار2. وكان النعمان بن بشير حامل لواء الأنصار قد غضب في مجلس من مجالسه مع معاوية، ولاحظ معاوية عليه الغضب فضاحكه طويلًا، ثم قال له: "إن قومًا أولهم غسان، وآخرهم الأنصار، لكرام"3. وكان أهل يثرب يلحقون نسبهم بنسب غسان، ويرجعون نسبهم ونسب غسان إلى الأزد, ونسب الأزد إلى اليمن.

_ 1 "وفد الأنصار" الأغاني "13/ 142". 2 الأغاني "14/ 120، 122". 3 الأغاني "14/ 119".

لقد كان من المعقول استعمال لفظة "المهاجرين" في مقابل "الأنصار"، إلا أن الجانبين لم يستعملاهما إلا قليلًا، وإنما استعملا لفظتي قريش ومعد، كما استعملا "قريشًا" في مقابل "يمن". وقد افتخرت قريش بمعد وبالنبوة؛ فأجابهم الأنصار بأن أم الرسول من بني النجار أخوال النبي، وهم من المدينة، وبأنهم كانوا أول من آمن به ونصره، وبأن المتنبيين كانوا من قبائل معد1. ولو كتب لمصطلح "الأنصار" بالبقاء، ولو كان عهد التدوين بعيدًا عنه، لصار ولا شك نسبًا من الأنساب، ولصارت اللفظة اسم أب لقبيلة، كما صارت الألفاظ المذكورة التي خلدت لأنها الألفاظ الجاهلية، فلما صار التدوين كان الناس يتداولونها على أنها أنساب وأسماء. واستعملت لفظة "اليمانية" في مقابل "النزارية" في العصر الأموي، ويظهر أنها تغلبت على لفظة "الأنصار" وقضت عليها, وهي تعني: القبائل التي ترجع أنسابها إلى اليمن. أما "النزارية" فقد عنت كل القبائل العدنانية2. وقد كان بين الحزبين نزاع شديد, ولكل شيعة نسابون ومدافعون ومهاجمون. وقد أثر هذا النزاع تأثيرًا خطيرًا في وضع الأنساب3. ويرجع بعض الباحثين انقسام العرب إلى قحطانيين وعدنانيين إلى هذا النزاع: نزاع "يثرب" ومكة قبل الإسلام، ويرجعه آخرون إلى التنازع الطبيعي الذي هو بين البداوة والحضار. فقد كان أهل يثرب أي: اليمن -كما يقولون- أصحاب حضارة وملك, أما أهل مكة ومن والاهم، فقد كانوا أعرابا أو شبه أعراب؛ ومن هنا اختلفت طبيعة أهل يثرب عن طبيعة أهل مكة، ووقع النزاع والتنافس بين الجماعتين، وتحول إلى نسبين. وزعموا أن هذا النزاع هو نزاع الحضارة مع البداوة، نزاع أهل المدر مع أهل الوبر، نزاع "بني مدراء"4، أو "أهل القارية" كما يقال لهم أيضا؛ لأنهم "قارون" أي سكان القرية والقرى مع أهل البادية أي: البادون نَزَلة البادية. قالوا: ومن هنا قيل: الحضر خلاف

_ 1 Muh. Stud. Bd. I, S. 96 2 التنبيه "ص69". 3 التنبيه "ص72". 4 اللسان "7/ 133"، الأغاني "12/ 145".

البدو، والحاضر خلاف البادي، و"أهل الحاضرة" و"أهل البادية" و"الحاضرة"، خلاف البادية وهي المدن والقرى والريف1، وهو تقسيم يرونه, قديمًا، يرجع إلى الجاهلية. روي أن الرسول قال، حين وفد عليه قيس بن عاصم: "هذا سيد أهل الوبر" 2. ونجد مثل ذلك في النصوص اليمانية الجاهلية، إذ أشارت إلى الأعراب كطبقة خاصة قائمة بنفسها، تمتاز عن الحضر المستقرين. ومن ثَمَّ كانت غالبية القبائل العدنانية التي يذكر أهل الأخبار أسماءها قبائل أعرابية، أي: قبائل بدوية, أو قبائل غلبت البداوة عليها، وغالبية القحطانية قبائل مستقرة أو قبائل شبه حاضرة تنخت في أماكن ثابتة ومالت إلى حياة الحضارة. ولما كان الحضر أرقى فكريًّا من أهل الوبر، صارت إليهم السيادة في الغالب، فتحكموا في القبائل العدنانية، وملكوا القبائل المعدية. فحكم المناذرة والغساسنة وآل كندة وغيرهم ممن يرجع نسبه النسابون إلى قحطان قبائل عدنانية، ولم يحكم العدنانيون القحطانيين قبل الإسلام. هذا هو رأي من يرى أن القحطانية والعدنانية كناية عن الحضارة والبداوة، وتعبير عن أهل المدر وأهل الحضر. يستدلون على رأيهم هذا بما قلته من غلبة الحياة الحضرية والاستقرار على القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى قحطان، وغلبة البداوة أو شبه البداوة على القبائل العدنانية. وللحكم على هذه النظرية، يجب تكوين جدول بأسماء القبائل الجاهلية العدنانية منها والقحطانية، ودراسة أحوالها الاجتماعية والمواضع التي عاشت فيها في مختلف الأزمنة، وعند ذلك نستطيع الحكم على ما فيها من قوة أو ضعف، فإن في القحطانيين قبائل متبدية، وفي العدنانيين قبائل مستوطنة وأصحاب قرى؛ ولهذا لن تصدق تلك النظرية إلا بمثل هذه الدراسة. ولفهم النزاع القحطاني العدناني، أو نزاع يثرب ومكة، لا بد من البحث عن موارد جاهلية وإسلامية نستعين بها على فهم طبيعة هذه النزاع. أما الموارد

_ 1 اللسان "20/ 38"، فجر الإسلام "1/ 7". Sprenger, das laben, bd., 3, s. cxxviii 2 معجم الشعراء "ص324".

الجاهلية، أي: الكتابات، فليس فيها حتى الساعة شيء ما يحدثنا عن هذا النزاع، وأما الموارد الإسلامية، فإن شعر حسان بن ثابت، أو الشعر المنسوب إلى هذا الشاعر بتعبير أصدق وأصح، هو المرجع الأول الذي يحدثنا عن طبيعة هذا النزاع أو التحاسد الذي كان بين مكة ويثرب قبل ظهور الإسلام وعند ظهوره، إذ كان حسان نفسه من المناضلين فيه الحاملين للواء يثرب في نزاعها مع مكة. ونرى القحطانيين يروون شعره ويذكرونه في افتخارهم على العدنانيين, وقد حمل شعره جل مواضع فخر قحطان على عدنان، ومفاخر أهل يثرب على أهل مكة، حتى لنستطيع أن نقول: إنه أحد بناة النزاع القحطاني العدناني، باعتبار أنه أقدم مشارك فيه يصل خبره إلينا، وأن أكثر ما تذكره القحطانية من دعاوى مركزة في شعر هذا الشاعر مذكورة فيه. وقد وصل جل شعر حسان إلينا، وطبع في ديوان. راجعناه وراجعنا ما يحمل من شعر، فلم نجد فيه ذكرًا لعدنان، وإنما نجد فيه اسمي "قحطان" و"معد"1. ولم يرد فيه اسم الأول إلا مرة واحدة في قوله: فلو سُئِلَتْ عنه معد بأسرها ... وقحطان أو باقي بقية جرهما2 وأما اسم الثاني، أي "معد"، فقد ورد في مواضع بلغت سبعة في الديوان3. غير أننا نرى في الجزء الأول من "الإكليل" أبيات شعر نسبها "الهمداني" لحسان، ورد فيها ذكر لقحطان، وفخر به، وانتسب إليه: لقد كان قحطان العلا القرم جدنا ... له منصب في يافع الملك يشهر ينال نجوم السعد إن مَدَّ كفه ... تُفَلُّ أكف عند ذاك وتَقصر ورثنا سناء منه برزًا ومحتدًا ... مُنيف الذرا فخر الأرومة يذكر4

_ 1 طبعة "هرشفلد" سنة 1910 بمدينة "لايدن"، رواية السيرافي، شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، للبرقوقي، القاهرة, 1929. 2 ديوان حسان "ص44"، البرقوقي "ص398". 3 ديوان حسان "ص1، 5، 6، 25، 44، 47، 89". 4 الإكليل "1/ 118".

ونرى أبياتًا أخرى من هذا النوع من الفخر، في مكان آخر من هذا الكتاب، نسبها أيضًا لهذا الشاعر، هي هذه: فنحن بنو قحطان والملك والعلا ... ومِنَّا نبي الله هود الأخاير وإدريس ما إن كان في الناس مثله ... ولا مثل ذي القرنين أبناء عابر وصالح والمرحوم يونس بعد ما ... ألات به حوت بأخلب زاخر شعيب وإلياس وذو الكفل كلهم ... يمانون قد فازوا بطِيب السَّرائر1 ونرى أبياتًا أخرى نسبها "الهمداني" إلى "حسان" أيضًا، فيها فخر بقحطان وبقوم الشاعر، رواها على هذا النحو: فمن يَكُ عنا معشر الأزد سائلًا ... فإنا بنو الغوث بن نبت بن مالك ابن زيد2 بن كهلان نما سبأ له ... إلى يشجب فوق النجوم الشوابك ويعرب ينميه لقحطان ينتمي ... لهود نبي الله فوق الحبائك يمانون عاديون لم يلتبس بنا ... مناسب شابت من أُلَى وأولئك3 والأبيات المذكورة لا يمكن أن تكون من نظم حسان، فأسلوبها غير أسلوبه في شعره، وفي بعضها ركة وضعف، ولفظة "المرحوم" من الاصطلاحات الحادثة المتأخرة4، كما أن التفاخر بالأنبياء المذكورين لم يكن معروفًا على عهده. وأما الشعر المبتدئ بهذا البيت: فمن يك عنا معشر الأزد سائلًا ... فإنا بنو الغوث بن نبت بن مالك ففيه إضافات لا نجدها في الديوان. وفي المضاف إليه تباين ظاهر مع أسلوب حسان في شعره، وركة بينة، وطابع الصنعة ظاهر عليه. وقد ورد في ديوانه على هذا النحو:

_ 1 الإكليل "1/ 96". 2 الإكليل "1/ 106" هكذا: "ابن زيد". 3 الإكليل "1/ 106". 4 الفضل لأستاذي الأثري في تنبيهي إلى هذه الملاحظة.

فإن تك1 عنا معشر الأسد2 سائلًا ... فنحن بنو الغوث بن زيد بن مالك لزيد بن كهلان الذي نال عزُّه ... قديمًا ذراريَّ النجوم الشَّوابك إذا القوم عدُّوا مجدهم وفعالهم ... وأيامهم عند التقاء المناسك وجدت لنا فضلًا يقر لنا به ... إذا ما فخرنا كل باقٍ وهالك3 فأنت ترى أن الأبيات في الديوان خالية من نسب "سبأ" و"يشجب" و"يعرب" و"قحطان" و"هود" وغير ذلك، وأن أسلوب صياغة هذا النظم لا يمكن أن يكون من أسلوب شاعر جاهلي أو شاعر مخضرم، بل لا بد أن يكون من نظم المتأخرين، أضافه بعض المتعصبين لليمن إلى شعر حسان، ونظمه على وزن البيت الأول وطريقته؛ ليكون أوقع في النفس، ودليلًا على قدم ذلك النزاع. ولا أعتقد أن هنالك حاجة تدعوني إلى إلفات نظر القارئ إلى أن الأبيات المتقدمة الواردة في ديوانه، هي الأبيات المتقدمة عليها نفسها، أي: الأبيات التي أخذتها من كتاب الإكليل للهمداني رُويت بشكل آخر، بشكل يرينا أن الرواة مهما حاولوا إظهار أنهم على حرص تام في المحافظة على أصالة الشعر والمحافظة على الأصل، فإنه لا يتمكنون من ذلك. ونسب بعض الرواة إليه هذه الأبيات: تعلمتم من منظق الشيخ يعرب ... أبينا, فصرتم معربين ذَوِي نفر وكنتم قديمًا ما بكم غير عجمة ... كلام, وكنتم كالبهائم في القفر4 وهي أبيات لم ترد في ديوانه، تشعر أن "يعرب"، وهو جد القحطانيين، هو أول من أعرب في لسانه، وأول من نطق بالعربية، فهو أول متكلم بها، وأول من أوجدها وكوَّنها، وأن العدنانيين تعلموها من أبنائه بعد أن كان لسانهم لسانا أعجميا. وأما من ناحية صحة نسبتها إلى شاعر الإسلام وشاعر

_ 1 وفي الديوان: "من تك"، "ص40"، البرقوقي "ص295". 2 "الأسد"، الأصح في نظري: "الأزد", كما في الأبيات المتقدمة. 3 ديوان حسان "ص40"، البرقوقي "ص295". 4 الإكليل "1/ 116".

الأنصار، فإن في أسلوب نظمها وفي صياغة البيت الأول وجملة "منطق الشيخ يعرب"، ما فيه الكفاية لإظهار أنها مصنوعة، حُملت عليه حملًا، ولا يمكن أن يكون هذا النظم من نظم أول الإسلام، حتى وإن كان من شاعر من شعراء أهل المدر في ذلك العهد. وزعم أن حسان ذكر القيل "ذا ثات"، وهو من أقيال حمير, فقال هذا البيت: وفي هكر قد كان عز ومنعة ... وذو ثات قَيْلٌ ما يكلم قائله1 ولم يرد هذا البيت في ديوانه. أما أسلوب نظمه، فينبئك أن قائله يجب أن يكون شخصًا آخر من المتأخرين عن حسان، ممن كانوا يضعون الشعر على ألسنة غيرهم على نحو ما وضعوا على ألسنة التبابعة وآدم والجن. هذا ولحسان شعر لم يرد في ديوانه، بل ورد في موارد أخرى, منه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود؛ لأنه منحول وقد حُمِل على حسان وأُلْصِق به، ولم يغفل العلماء عنه، بل أشاروا إليه ونبهوا أن بعض الناس قد تعمدوا وضعه وحمله عليه لمآرب. قال الأصمعي في ذلك: "تنسب إليه أشياء لا تصح عنه. وهذا فيما يظهر صحيح، وكثيرًا ما رأيت في سيرة ابن هشام أبياتًا لحسان من هذا القبيل يعقبها صاحب السيرة بقوله: وأهل العلم ينفيها عن حسان"3, وقد نسب الجمحي الوضع على حسان إلى بعض قريش للغض منه، فقال: "وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد. لما تعاضهت قريش، واستبَّت، وضعوا عليه أشعارًا كثيرة، لا تليق به". وقد كان ذلك لتعرضه بهم، ولتعصبه المفرط ليثرب، وافتخاره بهم على قريش4. هذا ومع إفراط "حسان" في التعصب ليثرب، لا نراه يذكر قحطان إلا

_ 1 شمس العلوم "جـ1, ق1, ص271". 2 ديوان حسان: المقدمة الإنجليزية "ص2 وما بعدها"، "وقد قال الأصمعي في ذلك: تنسب إليه أشياء لا تصح عنه. وهذا فيما يظهر صحيح، وكثيرًا ما رأيت في سيرة ابن هشام أبياتًا لحسان من هذا القبيل, يعقبها صاحب السيرة بقوله: وأهل العلم ينفيها عن حسان...."، البرقوقي "ص غ". 3 المصدر المتقدم. 4 طبقات الشعراء "ص52".

مرة واحدة، أما عدنان فلم يذكره في شعره قط. ولهذه الملاحظة أهمية كبيرة لتكوين رأي في فكرة "قحطان" وعدنان في ذلك العهد؛ إذ إنها تدل على أن القحطانية والعدنانية لم تكن عنده على النحو الذي صارت عليه فيما بعد، بعد اشتداد النزاع بين الأنصار وأهل مكة ومن حولها في خلافة بني أمية خصوصًا، وهم عصب العدنانيين، وأنه في كل فخره بالنسب لم يتجاوز الأزد، أبناء "الغوث بن زيد بن مالك بن زيد بن كهلان"1، وغسان, وآل نصر. وأما بعد إسلامه، فقد حول فخره وتباهيه إلى فخر بالأنصار على قريش ومضر ومعد، أي: أهل مكة، بنصرة قومه للإسلام، وبنصر النبي حين خذلوه وقاوموه, فكانوا ملوك الناس قبل محمد، فلما أتى الإسلام، كان لهم النصر في نصرته2. ونجد هذا الفخر واضحًا قويًّا في شعره، فهو فخر أهل يثرب على أهل مكة, فخر الأنصار على مضر ومعد وقريش، فلم يصل الفخر بقومه عنده إذًا إلى حد الفخر بقحطان، أو باليمن كلها على عدنان. وأما ما ورد منه أكثر من ذلك، كما نرى في الأبيات المنسوبة إليه في الجزء الأول من الإكليل، فإنه عندي من ذلك النوع المنحول الذي أُضيف إليه؛ فالتكلف ظاهر عليه، والأسلوب مختلف عن أسلوبه، وهو من النظم المتأخر عن أيام حسان، من نظم وضَّاح يتكلف قول الشعر ولا يحسن صناعته. خذ قصيدته التي تمثل منتهى فخره بقومه، نَرَهُ يقول: ألم تَرَنَا أولاد عمرو بن عامر ... لنا شرف يعلو على كل مرتقي؟! رسا في قرار الأرض, ثم سَمَتْ له ... فروعٌ تُسَامي كل نجم مُحلَّق ملوك وأبناء الملوك، كأننا ... سواري نجومٍ طالعات بمشرق إلى أن يقول: كجفنة والقمقام عمرو بن عامر ... وأولاد ماء المزن وابني مُحَرّق

_ 1 من تك عنا معشر الأزد سائلًا ... فنحن بنو الغوث بن زيد بن مالك لزيد بن كهلان الذي نال عزه ... قديمًا ذراري النجوم الشوابك ديوان حسان "ص40". 2 وكنا ملوك الناس قبل محمد ... فلما أتى الإسلام كان لنا الفضل ديوان حسان "ص70، 73".

وحارثة الغطريف أو كابن منذر ... ومثل أبي قابوس ربّ الخورنق1 فلا تجد فخره بها يتعدى حدود الفخر بالأزد والغساسنة وآل نصر، أي: ملوك الحيرة, وهو ما وجدناه في أشعاره الأخرى. وقد عاب في هذه القصيدة "قيسًا" و"خندفًا" لأنهما قاومتا الرسول وآذتاه، مما يدل على أن هذين الاسمين كانا معروفين قبل الإسلام. هذا، وقد أضاف أهل الأخبار إلى قصيدة حسان التي مدح فيها الملك "جبلة بن الأيهم"، ومطلعها: لمن الدار أقفرت بمغان ... بين أعلى اليرموك والصمان2 هذا البيت: أشهرنها فإن ملكك بالشا ... م إلى الروم فخر كل يماني3 ولم يرد ذكر هذا البيت في الديوان. وهو بيت يتحدث كما ترى عن فخر باليمن: أصل الغساسنة، وأهل يثرب، وكل قحطان. وأغلب ظني أنه من الأبيات المدسوسة، وضعه أحد المعتصبين لليمن ودسَّه في القصيدة. هذا وقد نسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري شعر قيل: إنه قاله في هذا الباب, ونسب إلى الطرماح بن حكيم مثل ذلك، وهو أيضا شاعر من شعراء الأنصار4. وعلينا أن ندرس شعرهما، وشعر أمثالهما، وشعر شعراء قريش أيضًا دراسة نقد وتمحيص نميز بها بين صحيحه وفاسده؛ لنتمكن بذلك من تكوين رأي علمي صحيح في القحطانية والعدنانية وتأريخ ظهورهما. ولو تيسر لنا ديوان الأنصار أو دواوين الأنصار لزادت معارفنا، ولا شك، في هذا الباب وتمكنا من تكوين رأي في تلك العصبية القبلية بصورة أصح وأدق, ولا شك.

_ 1 البرقوقي "ص288". 2 مروج الذهب "2/ 31" "تحقيق محمد محيي الدين". ونجد هنا اختلافًا في الألفاظ وفي بعض الجمل عن نص القصيدة الوارد في الديوان، راجع "ص55" من الطبعة الأوروبية، و"ص414" من "شرح ديوان حسان بن ثابت" لعبد الرحمن البرقوقي, وقد أخذت مطلع القصيدة من رواية المسعودي. 3 مروج الذهب "2/ 31". 4 فمنا سراة الناس هود وصالح ... وذو الكفل منا والملوك الأعاظم الإكليل "1/ 94".

لقد حارب الإسلام العصبية الجاهلية، وآخى الرسول بين المهاجرين والأنصار، وحالف بين قريش وأهل يثرب، ونهى عن أحلاف الجاهلية، ورُوِيَ عنه أنه قال: "لا حلف في الإسلام" 1؛ لما ينتج عنه من فتن ومن قتال بين القبائل وغارات؛ ولأن الإسلام قد عوَّض عن الحلف وزاده شدة بنزوله9, "وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة"2, وعدَّ "التعرب" بعد الهجرة، أي أن يعود المرء إلى البادية ويقيم مع الأعراب, كبيرة من الكبائر, حتى عد من يعود إلى موضعه من البادية بعد الهجرة كالمرتد3. ومع ذلك، لم يكن من الممكن تناسي العصبيات، وغسل آثار الجاهلية، وطمس معالمها تمامًا، فتحزبت القبائل وتكتلت، وكانت تحارب على أنها همدان4، أو ربيعة5، أو طيئ6، أو مضر7، أو قريش8، أو قيس9، أو الأزد، أو ربيعة10، أو تميم11، أو غير ذلك من أسماء قبائل.

_ 1 تفسير الطبري "5/ 36". 2 تفسير الطبري "5/ 36". 3 "وفي الحديث: ثلاث من الكبائر، منها التعرب بعد الهجرة، هو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرًا. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر، يعدونه كالمرتد"، لسان العرب "2/ 76". 4 مروج "2/ 22". 5 مروج "2/ 22". 6 مروج "2/ 22". 7 اليعقوبي "2/ 165"، الكامل "4/ 85". 8 اليعقوبي "3/ 3"، الكامل "4/ 61". 9 الكامل "4/ 14، 63". 10 الكامل "4/ 58". 11 الكامل "4/ 58".

القحطانية والعدنانية في الاسلام

القحطانية والعدنانية في الإسلام: الحق: إن ما نسميه قحطانية أو عدنانية إنما هو صفحة من صفحات النزاع الحزبي عند العرب في الإسلام، شاء أصحابه ومثيروه إرجاعه إلى الماضي البعيد، ووضع تأريخ قديم له، فجعلوا له أصولًا زعموا أنها ترجع إلى ما قبل الإسلام

بكثير، وروَوْا في ذلك شعرًا لا يخرج في نظرنا عن هذا الشعر الذي يحفظه الرواة على لسان آدم وهابيل وقابيل والجن. وفي هذا الصراع القحطاني العدناني العنيف شرع في تدوين الأنساب وتثبيتها في القراطيس والكتب. فكان لهذا الصراع ولوضع القبائل وتكتلاتها في هذا الوقت أثر خطير في تثبيت أنساب القبائل وتسجيلها، ليس في هذا العهد فقط، بل في تثبيت أنساب قبائل الجاهلية وتسجيلها أيضًا. إذ سجلت هذه الأنساب: جاهلية وإسلامية على الرأي السائد في النسب يوم شرع في التسجيل والتدوين، أي: في أَوْجِ هذه العصبية العنيفة التي عمت الناس في صدر الإسلام. ومن هنا كان لا بد لفهم الفكرة القحطانية العدنانية من الإلمام بنزاع قحطان وعدنان في الإسلام. والذين قاموا بتسجيل الأنساب وتدوينها وتثبيتها في الكتب، كانوا هم أنفسهم من أصحاب العصبية لنزار أو لليمن ومن المتأثرين بالأحوال السياسية لذلك العهد؛ ولهذا نجد في أقوال بعضهم تحزبًا وتطرفًا وميلًا إلى تأييد فريق على فريق. ومن هنا كان لا بد لنا من التنبه لهذه العصبية، واتخاذ الحيطة والحذر عند دراسة هذا النزاع القحطاني العدناني. وقد استعملت في هذا العهد "مضر" في مقابل "الأزد"1، كما استعملت الأزد في مقابل تميم، وورد "أهل اليمن" أو اليمانية2. ولكننا قلما نسمع في نداء القبائل وأخبار هذه الفتن أو الحروب التي وقعت في هذا العهد استعمال كلمة "عدنان" في مقابل "قحطان"، ويقال مثل ذلك في الأشعار أيضًا، في مثل شعر "الفرزدق" الذي استعمل كلمة "قحطان" في مقابل كلمة "نزار" وكلمة "يمن" في مقابل "نزار" أو "الأزد" في مقابل "نزار"3. كما استعمل الحكم بن عبدل "قحطان" في مقابل "معد"4. وقد ذكر الأعشى

_ 1 الكامل "4/ 58". 2 الكامل "4/ 61". 3 ديوان الفرزدق "طبعة بوشيه"Boucher "ص8، 59، 68، 86". Muh. Stud. Bd. I, S. 98 4 فما صادفت في قحطان مثلي ... كما صادفت مثلك في معد الأغاني "2/ 148".

في شعر له: "ومن معدّ قد أتى ابن عدنان"، وذلك في مقابل "قحطان"1. وفي أيام معاوية وابنه "يزيد" و"مروان بن الحكم"، نالت "كلب" مركزًا ساميًا؛ لتزوج معاوية امرأةً من كلب هي "ميسون بنت بحدَل"، فأصبحت هي والقبائل التي تؤيدها مقربة عند الخلفاء، مع أن الخلفاء من قريش، وقريش من قيس؛ وهذا مما أغضب قيسًا المعروفة بعدائها لكلب. وقد كانت لفظة "قيس" في هذا العهد ترادف كلمة "معد" و"مضر" و"نزار"2, وأما "كلب" فترادفه اليمن. وقد عرفت المعركة التي وقعت في "مرج راهط" بين مروان وابن الزبير بأنها معركة "قيس" و"كلب"؛ لأن قيسا حاربت فيها عن "ابن الزبير", أما كلب فقاتلت عن مروان، وقد أوجد هذا الانتصار حقدا كبيرا بين "قيس" وحلفائها من القبائل، وبين كلب وأنصارها من القبائل التي ادعت أنها من اليمن؛ فوقعت حروب بين قيس وكلب هلك فيها خلق كثير من الفريقين3, ولعب دورا مهما في تكتل القبائل وفي تجمع القحطانيين والعدنانيين. وقد أسهم الخلفاء الذين جاءوا بعد "عبد الملك"، ويا للأسف، في هذا النزاع، متأثرين بعاطفتهم وبدمهم من الأمهات، فكان بعضهم يؤيد القيسيين إذا كانت أمهم من قيس، وكان آخرون يؤيدون "كلبًا" إذا كانت أمهم من اليمن. وسار على هذه السياسة الولاة والعمال، فكانت النتيجة تكتل القبائل وانقسامها إلى معسكرين "قيس" و"يمن"، وتزعمت "أزد عمان" في البصرة وخراسان حزب "يمن" في مقابل "قيس" و"تميم"4. ووقعت وقائع دموية بين يمن وقيس، أنهكت العرب جميعًا، وصارت من جملة العوامل التي عجلت بسقوط الأمويين. وحمل الشعراء مشاعل هذا النزاع، وأمدوا ناره بوقود غزير؛ نظموا القصائد في مدح قيس ومدح يمن, وفي ذم يمن وذم قيس بحسب قبيلة الشاعر ونسبه, أسهم فيه

_ 1 سار بجمع كالقطا من قحطان ... ومن معد قد أتى ابن عدنان الأغاني "5/ 151". 2 enc. Vol. 2, p. 655 3 enc. Vol. 2, p. 655, Werner caskel, die bedeutung der beduinen in der geschichite der araber, s. 13 4 wellhausen, das arabische reich und sein stuetz, s. 40, enc. Vol. 2, p. 655

الأخطل والكُميت ودِعْبِل الخزاعي وجرير بن عطية بن الخَطَفَى التميمي وإسحاق بن سويد العَدَوي وغيرهم، فكان مدح وكان ذم، وكان تباهٍ وافتخار، وكان قذع وهجاء. وبدلًا من أن يتدخل الحكام ومسيرو الأمة في إخماد نار هذه الفتنة وإسكات الشعراء جمعًا للصف، أسهموا هم أنفسهم كما قلت في هذه المعركة وشجعوا المحاربين فيها؛ ففرقوا بين العرب بسياستهم هذه وأطمعوا الأعاجم فيهم، وجعلوا العرب يقاتل بعضهم بعضًا، وبذلك توقفت الفتوحات العربية الإسلامية؛ نتيجةً لهذه السياسة المفرقة الخرقاء. ولم يقف هذا النزع على التباهي بقحطان وعدنان وبالأيام وبالشجعان، بل تجاوز ذلك إلى التباهي بارتباط كل فريق بجماعة من الأعاجم بروابط الدم والنسب والثقافة، فافتخرت النزارية بالفرس على اليمانية، وعدوهم من ولد "إسحاق بن إبراهيم" وافتخروا بإبراهيم جد العرب والفرس. ونظم "جرير بن عطية بن الخطفى التميمي" في ذلك شعرًا، جاء فيه": أبونا خليل الله لا تنكرونه ... فأكرم بإبراهيم جدًّا ومفخرا وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا ... حمائل موت لابسينَ السّنَّورا إذا افتخروا عدوا الصبهبذ منهم ... وكسرى وعدوا الهرمزان وقيصرا أبونا أبو إسحاق يجمع بيننا ... أب لا نبالي بعده من تأخرا أبونا خليل الله, والله ربنا ... رضينا بما أعطى الإله وقدرا1 ومن هذا القبيل، قول إسحاق بن سويد العدوي: إذا افتخرت قحطان يومًا بسؤدد ... أتى فخرنا أعلى عليها وأسودا ملكناهم بدءًا بإسحاق عمنا ... وكانوا لنا عونًا على الدهر أعبدا ويجمعنا والغر أبناء فارس ... أب لا نبالي بعده من تفردا2 وقول بعض النزارية: وإسحاق وإسماعيل مدَّا ... معالي الفخر والحسب اللبابا فوارس فارس وبنو نزار ... كلا الفرعين قد كبرا وطابا3

_ 1 التنبيه "ص95". 2 التنبيه "ص95". 3 التنبيه "ص95".

ولم يقف النزاريون عند هذا الحد، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن هذا النسب قديم، وأن قرابة الفرس بالعدنانيين قديمة، وأن الفرس كانت في سالف الدهر تقصد إلى البيت الحرام بالنذور العظام تعظيمًا لإبراهيم الخليل بانيه، وأنه عندهم أجل الهياكل السبعة العظيمة والبيوت المشرفة في العالم, وأن رجلا تولاه وأعطاه العدة والبقاء، واستشهدوا على صحة دعواهم بشعر زعموا أن قائله هو أحد شعراء الجاهلية: زمزمت الفرس على زمزم ... وذاك في سالفها الأقدم1 وترتب على هذا وضع نسب للفرس يتصل بنسب العرب العدنانيين، فزعموا أن "منوشهر" الذي ينتسب إليه الفرس هو "منشخر بن منشخرباغ", وهو "يعيش بن ويزك"، و"ويزك" هو إسحاق بن إبراهيم الخليل، واستشهدوا على زعمهم هذا بشعر، قالوا: إن بعض شعراء الفرس في الإسلام قاله مفتخرًا: أبونا ويزك وبه أسامي ... إذا افتخر المفاخر بالولاده أبونا ويزك عبد رسول ... له شرف الرسالة والزهادة2 أما "يعيش بن ويزك" جد الفرس الجديد، فهو "عيسو" "Esau"، وفي العبرانية "Usu"، ومعناها "مشعر" أو "خشن"، وهو شقيق يعقوب وجد الأدوميين في التوراة وابن إسحاق3. وأما "ويزك" فهو "يزك" أو "إيزك" "Isaac" "Icaak" وهو "إسحاق"، وهو في العبرانية "يصحق" "يصحك" "يصحاك" "Yishak" أي: "الضحاك". ويرى علماء التوراة أن الأصل اسم قبيلة كان يقال لها "يصحقيل" "يصحق ال" "يضحك ال" "Yishhakel" "Yishakil"، وهو والد "عيسو" و"يعقوب"4. وقد أسهم بعض الفرس أنفسهم في إذاعة هذا النسب ونشره، وقد استشهد على صحة دعواه بالأشعار المذكورة التي تفتخر بالفرس على اليمانية، وأنهم من

_ 1 التنبيه "ص95". 2 التنبيه "ص96". 3 Enc. Bibli. P. 1333, budde, urgeschi. S. 217, hastings, p. 235 4 Enc. Bibli. P. 2175, hastings, p. 386

ولد أبيهم إبراهيم1. ولعلهم قالوا ذلك تقربًا إلى الحكومة، وهي عدنانية، ولعوامل سياسية أخرى، منها تقريب الفرس من العرب، وضمان تعاونهم مع الخلافة في وجه النعرات القومية التي ظهرت في إيران. ولم يكتف العدنانيون بقرابتهم للفرس وللإسرائيليين، بل زعموا أن الأكراد من أقربائهم كذلك، وأنهم من نسل ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل، أو أنهم من نسل ربيعة بن نزار بن معد، أو أنهم من نسل مضر بن نزار، أو من ولد كرد بن مرد بن صعصعة بن هوازن، وأنهم انفردوا في قديم الزمان لوقائع ودماء كانت بينهم وبين غسان، وأنهم اعتصموا بالجبال فحادوا عن اللغة العربية لما جاورهم من الأمم، وصارت لغتهم أعجمية, فذلك على رأي أهل الأخبار بدء نسب الأكراد2. وقد لقي هذا النسب الجديد للأكراد تشجيعًا من بعض الأكراد في أيام العباسيين، وربما في أيام أواخر الدولة الأموية كذلك، فأيدوه وانقسموا أيضا فرقًا في شجرات النسب، فمنهم من أخذ بشجرة كرد بن مرد، ومنهم من أخذ بانتسابهم إلى سبيع بن هوازن، ومنهم من انتسب إلى ربيعة ثم إلى بكر بن وائل3. وكان من الطبيعي أن يجعل القحطانيون أعداء الفرس من ذوي أرحامهم، وهم اليونان, فقالوا: إن يونان أخ لقحطان، وإنه من ولد عابر بن شالخ، وإنه خرج من أرض اليمن في جماعة من ولده وأهله ومن انضاف إلى جملته حتى وافى أقاصي بلاد المغرب فأقام هناك، وأنسل في تلك الديار، واستعجم لسانه ووازى من كان هناك في اللغة الأعجمية من الإفرنجة، فزالت نسبته، وانقطع نسبه وصار منسيا في ديار اليمن, وقالوا أيضا: إن الإسكندر من تبع4. وكان من الطبيعي انزعاج العدنانيين من ربط نسب قحطان بيونان، فانبروا للرد عليه، وكيف يرضون أن يكون للقحطانيين أبناء عم على شاكلة اليونانيين، وقد

_ 1 التنبيه "ص94". 2 مروج الذهب "1/ 307 فما بعدها" التنبيه "ص78". 3 التنبيه والإشراف "ص78". 4 مروج الذهب "1/ 178" "وقد ذكر أن يونان أخو قحطان ... وقد كان يعقوب بن إسحاق الكندي يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا".

كانوا أمهر من الفرس، ولهم دولة كبرى. فقال أحدهم، وهو أبو العباس الناشئ: وتخلط يونانًا بقحطان ضلَّةً ... لَعَمْرِي لقد باعدت بينهما جِدَّا1 وأضاف القحطانيون الأتراك إليهم أيضا، فزعموا أن معظم أجناس الترك وهم "التبت" من حمير، وأن التبع "شمر يرعش" أو تبعًا آخر رتبهم هناك، وأن "شمر يرعش" هو الذي أمر ببناء "سمرقند"، إلى غير ذلك من أقوال لا ترضي العدنانيين بالطبع، وفي ذلك يقول "دعبل بن علي الخزاعي" في قصيدته التي يرد بها على "الكميت"، وفخر فيها بمن سلف من ملوكهم وسير في الأرض، وأن لهم من الفضل ما ليس لمعد بن عدنان، فقال في شعره: همو كتبوا الكتاب بباب مَرْوٍ ... وباب الصين كانوا الكاتبينا وهم جمعوا الجموع بسمرقند ... وهم غرسوا هناك التبتينا2 وأضافوا "الضحاك" إليهم، وصيروه من "الأزد"، والأزد من اليمن، فهو يماني إذن أصيل3. و"الضحاك" هو "بيوراسب" عند أهل الأخبار, وقد ملكوه ألف سنة, وهو بطل أسطوري عند الفرس4. وقد أخذ أهل الأخبار "ضحاكهم" هذا من "إسحاق"، كما أخذ العدنانيون "ويزكهم" من "إسحاق" فصيروه "منشخر" على نحو ما ذكرت, وقد قلت: إن معنى "إسحاق" في العبرانية الضحاك. فالقحطانيون فعلوا هذا فعل العدنانيين، لجئوا إلى إسحاق فصيروه "الضحاك"، وبدلا من أن يقولوا: إنه "ويزك" من اسم "إسحاق" في العبرانية أخذوا معنى الاسم فصيروه اسما عربيا هو الضحاك, وجعلوه قحطانيا من الأزد. وكان كل فريق يرد على مزاعم الفريق الآخر، حين يضيف إليه أمة من الأمم. فلما ادعى العدنانيون أنهم هم والإسرائيليين والأعاجم من نسب واحد،

_ 1 مروج الذهب "1/ 178"، ابن خلدون "2/ 184". 2 مروج الذهب "1/ 300". 3 مروج الذهب "ص76". 4 التنبيه "ص75".

انبرى "دعبل الخزاعي" يرد عليهم في قصيدة ساخرة يقول فيها: فإن يك آل إسرائيل منكم ... وكنتم بالأعاجم فاخرينا فلا تنسَ الخنازير اللواتي ... مُسِخْنَ مع القرود الخاسئينا بأيلة والخليج لهم رسوم ... وآثار قدمن وما محينا لقد علمت نزار أن قومي ... إلى نصر النبوة فاخرينا قال هذه القصيدة في الرد على "الكميت"، وهو لسان من ألسنة النزارية، وقد تعرض فيها باليمانية وتهكم عليهم1. حتى الموالي، وهم كما نعلم من أصل غير عربي، أسهموا في هذه المعركة، وحاربوا في الصفوف الأولى منها، تعصب كل منهم للجانب الذي دخل في ولائه. هذا "أبو نواس"، وهو مولى "بني حكم بن سعد العشيرة"، يتعصب للقحطانية ويدافع بكل قواه عنها؛ لأن "بني الحكم" من اليمن. وقد حمله تعصبه لهم على نظم قصيدة هجا فيها قبائل نزار بأسرها وافتخر بقحطان وقبائلها، وقد أوجعت النزاريين وآلمتهم، فشكوه إلى الخليفة الرشيد وهو منهم، فأمر بحبسه بسببها، وقيل: إنه حده لأجلها، وأولها: لست لدار عفت وغيَّرها ... ضربان من قطرها وحاصبها ثم قال مفتخرًا باليمن وذاكرًا للضحاك: فنحن أرباب ناعظ ولنا ... صنعاء والمسك في محاربها وكان منا الضحاك يعبده الـ ... ـخابل والطير في مساربها ثم يستمر فيقول في هجاء نزار: واهجُ نزارًا وافرِ جلدتها ... وكشِّفِ السترَ عن مثالبها2 وأثارت هذه القصيدة جماعة من النزارية، فردت عليه. وكان منهم رجل

_ 1 مروج "1/ 300". 2 التنبيه "ص76 فما بعدها".

من "بني ربيعة بن نزار"، فقال يذكر نزارًا ومناقبها، واليمن ومثالبها في قصيدة أولها: دع مدح دار خبا وانتهى ... عهد معدّ بزعم عاتبها ثم استمر، فقال: فامدح معدًّا وافخر بمنصبها الـ ... ـعالي على الناس في مناصبها وهتك الستر عن ذوي يمن ... أولاد قحطان غير هائبها1 وقد أنتج هذا النزاع القحطاني العدناني قصصًا وحكايات وشعرًا دُوِّن في الكتب، وأُنتج "حديثا" زعمٌ أن قائله هو الرسول، قاله في مدح قحطان أو في مدح عدنان، وأحيانا في مدح القبائل، مثل: حمير ومذحج وهمدان وغسان، وقبائل أخرى أو في مدح بيوتات معينة من مثل هذه القبائل. لقد تلون هذا النزاع بلون أدبي زاهٍ لا يخلو من طرافة وإن كان قد أساء من الناحية السياسية إلى هذه الأمة أيما إساءة. فقد لون اليمانيون تأريخهم القديم بألوان زاهية جميلة من القصص والحكايات والأخبار، فهم الذين زعموا أن قحطان هو ابن هود النبي، فأوصلوا نسبهم بالأنبياء، وهم الذين أوصلوا نسب قحطان إلى إسماعيل، فنفوا بذلك أي فضل كان للعدنانيين على القحطانيين في الآباء والأجداد، وهم المسئولون عن هذا التقسيم المشهور المعروف للعرب وجعل القحطانيين في الطبقة الأولى من العربية بالنسبة إلى العدنانيين، وهم الذين نظموا في الإسلام تلك الأشعار والقصائد التي ذكرها الرواة على أنها من نظم التبابعة وملوك القحطانيين، وهم الذين ساقوا تلك الحكايات عن الفتوحات العظيمة لملوك اليمن وعن حكم القحطانيين للعدنانيين واستذلالهم إياهم. وقد استغل العدنانيون ظهور الرسول بينهم، فاتخذوا من هذا الشرف ذريعة للتفاخر والتباهي على القحطانيين. وقد أجابهم اليمانيون على ذلك بأنهم هم الذين كان لهم شرف نصرة الرسول وإعلاء كلمة الله، وهم الذين كونوا مادة الجيش الإسلامي، وهم الذين آووا الرسول وفتحوا مكة. وتمسك العدنانيون بأذيال

_ 1 التنبيه "ص77".

إبراهيم وعدوه جدهم الخاص بهم، مع أنه جد العرب عامة كما في القرآن الكريم، ونفوا كل مشاركة للقحطانيين في هذا النسب الشريف. وقد كان لهم ما يساعدهم في تقوية حجتهم، فقد كان الرسول من صلب إسماعيل والرسول منهم، فإبراهيم هو أبو المختص بهم. ولرد دعوى الإسماعيليين هذه من اختصاص إسماعيل وإبراهيم بهم, وصل بعض رواتهم نسب قحطان بإسماعيل وإبراهيم، ولم يكتفوا بذلك فلا بد لهم من شرف زائد، ورجحان على العدنانيين الذين لم يبدأ ملكهم إلا في الإسلام، فاختصوا هودًا بهم، وجعلوه نبيا يمانيا. ثم لم يقبلوا بنبي واحد زيادة على الأنبياء الذين اختص بهم العدنانيون, فأضافوا إليهم صالحًا النبي وقالوا: إنه من صميم حمير وإنه صالح بن الهميع بن ذي ماذن نبي حمير من آل ذي رعين، وزعموا أن ثقيفا كان غلاما له1، وحصلوا بذلك على نبي وطعنوا في ثقيف، وهم من العدنانيين في الوقت نفسه، وأضافوا إليهم نبيا آخر من صميم حمير سموه أسعد تبع الكامل بن ملكي كرب بن تبع الأكبر بن تبع الأقرن، وقالوا: إنه ذو القرنين الذي قال الله تعالى فيه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 2. وذكروا أنه كان من أعظم التبابعة وأفصح شعراء العرب؛ ولذلك قال بعض العلماء فيه: ذهب ملك تبع بشعره، ولولا ذلك لما قدم عليه شاعر من العرب وقالوا: نهى النبي عن سبه؛ لأنه آمن به قبل ظهوره بسبعمائة عام، وليس ذلك إلا بوحي من الله عز وجل, وهو أول من كسا البيت، وجعل له مفتاحا من ذهب. وأوردوا له أشعارا لإثبات إيمانه بالرسول تمنى فيها لو أدرك أيامه إذًا لآمن به، ولكان له وزيرا وابن عم، ولألزم طاعته كل من على الأرض من عرب وعجم، ورووا له أبياتا في البيت الحرام، وكيف كان يقصده فيمكث فيه تسعة أشهر، وكيف كان ينحر في العام سبعين ألفًا من البدن3. وزعموا فوق هذا كله أنه تنبأ بعودة ملك حمير حيث يظهر المهدي منهم، وهو رجل حميري سبئي الأبوين، يعيد الملك إلى حمير بالعدل، في هذه الأبيات التي رواها عُبيد بن شَرْيَةَ الجُرهمي:

_ 1 منتخبات "ص62". 2 منتخبات "ص13". 3 منتخبات "ص13".

ومن العجائب أن حمـ ... ـير سوف تعلى بالقهور ويسودها أهل الموا ... شي من نضير أو نضير يعني النضر بن كنانة، وهو قريش. ويثيرها المنصور من ... جنبي أزال كالصقور وهو الإمام المرتجى المـ ... ـذكور من قدم الدهور وأنه قال: بمنصور حمير المرتجى ... يعود من الملك ما قد ذهب ويرجع بالعدل سلطانها ... على الناس في عجمها والعرب وقالوا: إن المنصور هو لقب القائم المنتظر الذي سيظهر ليعيد ملك حمير المسلوب1. وذكروا أنه كان في جملة ما قاله من شعر قوله: واعلم بنيَّ بأن كل قبيلة ... ستذل إن نهضت لها قحطان2 إلى غير ذلك من أشعار نسبت إليه وإلى غيره من التبابعة تتحدث عن حقد القحطانيين على العدنانيين، وعن ألمهم الشديد لفراق ملكهم وانتقال الحكم منهم إلى المكيين، وقد كانوا من أتباعهم بالأمس. فعللوا أنفسهم بالتحدث عن الماضي، ثم صبروا أنفسهم بالحديث عن ملك سيعود، وعن دولة ستأتي، وعن مهدي يأخذ بالثأر، كالذي يفعله المغلوبون, وجعلوا ذا القرنين الذي ورد اسمه في سورة الكهف منهم3، فقالوا: هو الهميسع بن عمرو بن زيد بن كهلان، أو الصعب بن عبد الله بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر، أو تبع الأكبر بن تبع الأقرن، أو تبع الأقرن، وكان مؤمنا عالما عادلا، ملك جميع الأرض وطافها، ومات في شمال بلاد الروم حيث يكون النهار ليلا إذا انتهت الشمس إلى برج الجدي. وقد كان يقول الشعر، وهو الذي بشر

_ 1 منتخبات "ص103". 2 منتخبات "ص83". 3 سورة الكهف: 18، الآية 83، 86، 94.

بالنبي في شعره، وطبيعي أن يكون واضعو هذه الأشعار أناسًا من الأنصار ومن بقية فروع قحطان1. وتعلق متعصبو اليمانية بالأبنية الفخمة وبالمدن الكبرى، فجعلوها من أبنية ملوكهم أو من أبنية أسلافهم العرب العاربة. وقد ذكر المسعودي أن من اليمانية من يرى أن الهرمين اللذين في الجانب الغربي من فُسطاط مصر، هما قبرا "شداد بن عاد وغيره من ملوكهم السالفة الذين غلبوا على بلاد مصر في قديم الدهر، وهم العرب العاربة من العماليق وغيرهم"2. ونسبوا لملوكهم الفتوحات الفخمة في الشرق والغرب. وأضافوا إليهم لقمان الحكيم، زعموا أنه لقمان الحميري، وقالوا: إنه كان حكيمًا عالمًا بعلم الأبدان والأزمان، وهو الذي وَقَّت المواقيت، وسمى الشهور بأسماء مواقيتها. وزعموا أن ياسر ينعم ملك بعد سليمان بن داود، وسمي ينعم؛ لأنه رد الملك إلى حمير بعد ذهابه، وأن الضحاك ملك من الأزد كان في وقت إبراهيم فنصره, وبذلك كانت للقحطانيين منة قديمة على إبراهيم وعلى العدنانيين بصورة خاصة. وقالوا أشياء أخرى كثيرة، قد يخرجنا ذكرها من صلب هذا الموضوع, من أعمال وفتوحات لشمر يرعش وغيره من التبابعة3. وقد لوَّن العدنانيون تأريخهم، واستعانوا بالشعر، فوضعوا منه ما شاءوا في الرد على القحطانيين. قال ابن سلام: "نظرت قريش فإذا حظها من الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثرت منه في الإسلام"4، وعقبوا على الروايات القحطانية، فلما ادعى اليمانيون مثلا أن تبعهم "أبا كرب" فتح العراق والشام والحجاز، وأنه امتلك البيت الحرام، ونكل بالعدنانيين شر تنكيل، وأنه قال شعرا، منه:

_ 1 قال النعمان بن بشير: فمن ذا يفاخرنا من الناس معشر ... كرام, فذو القرنين منا وحاتم ونحن بنينا سد يأجوج فاستوى ... بأيماننا, هل يهدم السد هادم؟ وقال لبيد: والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا ... بالحنو في جدث هناك مقيم منتخبات "ص61، 84 فما بعدها". 2 التنبيه "ص18". 3 منتخبات "ص56، 65". 4 في الأدب الجاهلي "ص123".

لست بالتبع اليماني إن لم ... تركض الخيل في سواد العراق أو تؤدي ربيعة الخرج قسرًا ... أو تعقني عوائق العواق قال العدنانيون: نعم، وقد كانت بين تبع هذا وقبائل نزار بن معد وقائع وحروب، واجتمعت عليه معد من ربيعة ومضر وإياد وأنمار، فانتصرت عليه، وأخذت الثأر منه، وفي ذلك قال أبو دُوَاد الإيادي: ضربنا على تبع حربه ... حبال البرود وخرج الذهب وولى أبو كرب هاربًا ... وكان جبانًا كثير الرهب وأتبعته فهوى للجبين ... وكان العزيز بها من غلب1 إلى غير ذلك من القصص والحكايات التي وضعها الرواة في صدر الإسلام حين احتدم الخلاف بين الأنصار وقريش, سجلت في الكتب، ورُويت للناس، وانتشرت بينهم على أنها أمور واقعية، وأن العرب كانوا من أصلين: قحطان وعدنان. وقد كان لكل فريق رواة وأهل أخبار يقصون على الناس قصصًا وأخبارًا في أخبار النزاع القحطاني العدناني. فوضع "عبيد بن شرية الجرهمي" كثيرًا من القصص والأشعار عن العرب الأولى وعن القحطانيين، وضع ذلك لمعاوية بن أبي سفيان، وكان معاوية مغرمًا بسماع أساطير الأولين وأخبار الماضين، كما سبق أن أشرت إلى ذلك. ووضع "يزيد بن ربيعة بن مفرغ" المتوفى سنة "69" للهجرة، وهو شاعر متعصب لليمن، قصص "تبع"2. جاء في كتاب الأغاني: "سُئِل الأصمعي عن شعر تبع وقصته ومن وضعهما، فقال: ابن مفرغ. وذلك أن يزيد بن معاوية لما سيره إلى الشام وتخلصه من عبيد الله بن زياد، أنزله الجزيرة وكان مقيمًا برأس عين، وزعم أنه من حمير، ووضع سيرة تبع وأشعاره, وكان النمر بن قاسط يدعى أنه منهم"3.

_ 1 مروج الذهب "1/ 300". 2 Muh. Stud. Bd. I,S. 97 3 الأغاني "17/ 52".

وظهرت كتب ضمت أخبار التبابعة وقصصهم، أشار إليها المسعودي، دعاها بـ"كتب التبابعة"1. وقد وقف عليها ونقل منها، وهي كما يظهر من نقله ومن نقل غيره منها من هذه الأساطير المنسوبة إلى عبيد ووهب ويزيد بن المفرغ وأمثالهم من أصحاب القصص والأساطير. وكان بين العدنانيين والقحطانيين جدل وكلام في لغة "إسماعيل"، فاليمانيون ومنهم "الهيثم بن عدي الطائي" كانوا يرون أن لسان "إسماعيل" الأول هو اللسان السرياني، ولم يكن يعرف العربية. فلما جاء إلى مكة وتصاهر مع جرهم، أخذ لسانهم وتكلم به، فصار عربيًّا. أما النزارية، فكانت تنفي ذلك نفيا قاطعا، وترده ردا شديدا، وتقول: لو كان الحال كما تزعمون "لوجب أن تكون لغته موافقة للغة جرهم أو لغيرها ممن نزل مكة, وقد وجدنا قحطان سرياني اللسان، وولده يعرب بخلاف لسانه. وليست منزلة يعرب عند الله أعلى من منزلة إسماعيل، ولا منزلة قحطان أعلى من منزلة إبراهيم، فأعطاه فضيلة اللسان العربي التي أعطيها يعرب بن قحطان"2. فنفى النزارية العربية عن قحطان أيضا وصيروه كإسماعيل سرياني اللسان. وقد عقب "المسعودي" على هذا النزاع النزاري القحطاني بقوله: "ولولد نزار وولد قحطان خطب طويل ومناظرات كثيرة لا يأتي عليها كتابنا هذا في التنازع والتفاخر بالأنبياء والملوك وغير ذلك مما قد أتينا على ذكر جمل من حجاجهم وما أدلى به كل فريق منهم ممن سلف وخلف"3. ونجد جملًا كثيرة من هذا النوع مبثوثة في كتابيه: مروج الذهب، والتنبيه والإشراف، تتحدث عن ذلك النزاع المرّ المؤسف الذي وقع بين العرب في تلك الأيام. ولعل هذه العصبية الجاهلية، هي التي حملت جماعة من المتكلمين منهم "ضرار بن عمرو بن ثمامة بن الأشرس" و"عمرو بن بحر الجاحظ" على الرغم, أن "النبط" خير من العرب؛ لأن الرسول منهم، ففضلوهم بذلك على العدنانيين والقحطانيين, وهو قول رد العدنانيون والقحطانيون عليه4. قال به المتكلمون متأثرين بآراء أهل الكتاب في أنساب أبناء إسماعيل وبآرائهم الاعتزالية التي تكره التعصب في مثل هذه الأمور. وقد ذكر "المسعودي" شيئًا من الرد الذي وضعه القحطانيون والعدنانيون ضد هؤلاء.

_ 1 مروج الذهب "279". 2 مروج الذهب "1/ 277". 3 مروج الذهب "1/ 277". 4 مروج الذهب "1/ 266 فما بعدها".

العرب العاربة والعرب المستعربة

العرب العاربة والعرب المستعربة: أما مصطلح "العرب العاربة" و"العرب المستعربة"، فهما على ما يتبين من روايات علماء اللغة والأخبار من المصطلحات القديمة التي تعود إلى الجاهلية، ولكننا لو درسنا تلك الروايات خرجنا منها، ونحن على يقين بأن الجاهليين لم يطلقوهما بالمعنى الذي ذهب إليه الإسلاميون، بل قصدوا بهما القبائل البعيدة عن أرض الحضارة، والقبائل القريبة منها، فقد عرفت القبائل النازلة ببلاد الشام والساكنة في أطراف الإمبراطورية البيزنطية بـ"المستعربة". "والمستعربة" مصطلح أطلق على هذه القبائل وعلى القبائل النازلة في سيف العراق من حدود نهر الفرات إلى بادية الشام، فهو يشمل إذًا القبائل النازلة على طرفي الهلال الخصيب وفي طرفي القوس الذي يحيط بحدود الإمبراطوريتين, ومن المستعربة غسان وإياد وتنوخ1. وقد فضلت غالبية هذه المستعربة السكنى في أطراف المدن في مواضع قريبة من البوادي والصحاري، عرفت عندهم بـ"الحاضر"، فكان في أكثر مدن بلاد الشام حاضر يقيم به العرب من تنوخ ومن غير تنوخ2. وقد وجدت في تأريخ الطبري خبرًا زعم أنه جرى بين "خالد بن الوليد"، وبين "عدي بن عدي بن زيد العبادي"، يفهم منه أن العرب: عرب عاربة وأخرى متعربة. وقد جرى بينهما على هذا النحو: "قال خالد: ويحكم, ما أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أم عجم، فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة. فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية"3. فيفهم من هذا الحديث أن العرب: عرب عاربة وعرب متعربة, وهم أناس تعربوا فصاروا عربًا. وهو كلام معقول

_ 1 البلاذري "171". 2 البلاذري "180"، و"الحاضر: الحي العظيم أو القوم ... حاضر طيء"، تاج العروس "3/ 148". 3 الطبري "3/ 361".

مقبول، ولا سيما بالنسبة إلى الحيرة والعراق وبلاد الشام، حيث تعرب فيها كثير ممن لم يكن عربيًّا في الأصل فصاروا عربًا، لسانهم لسان العرب، ولا يفهم من هذا الكلام بالطبع تقسيم العرب بالمعنى المفهوم عند أهل الأخبار والتأريخ، أي: عرب قحطانيون وعرب عدنانيون, وكل ما قصد به إن صح أن هذا الكلام هو كلام "خالد" وكلام "عدي" حقًّا, تعنيف وتأنيب لعدي بن عدي بن زيد على وقوفه هو وقومه وأهل الحيرة موقفا معاديا للمسلمين، وتأييدهم للفرس ولدفاعهم عنهم، مع أنهم عجم بعيدون عنهم, فكأنه قال لهم: لو كنتم عربًا فكيف تؤيدون عجمًا علينا ونحن عرب؟ و"عدي" من العرب، وأبوه من تميم كما يقول النسابون. فهو ليس من العرب الأخرى المتعربة، ولكن من العرب العاربة، أي: عرب بالأصالة، كما أن خالدا نفسه من العرب العاربة؛ لأنه عربي أصلا وإن كان عدنانيًّا, فلم يقصد بالعرب العاربة هنا العرب القحطانيين، ولا بالعرب المتعربة العرب العدنانيين. فالعرب المتعربة إذن هم المتعربون من أهل الحيرة وغيرهم، ممن كانوا من النبط وبني إرم أو غيرهم ثم دخلوا بين العرب ولحقوا بهم، فصار لسانهم لسانا عربيا مثل العرب الآخرين وتعربوا بذلك. ويلاحظ أن "غسان" قد أدخلت في "المستعربة" مع أنها من العرب العاربة، أي: من العرب القحطانيين في عرف النسابين. وفي ذلك دلالة على أن مدلول العرب العاربة والعرب المستعربة لم يكن في الجاهلية وفي صدر الإسلام بالمعنى الذي صار عليه عند علماء النسب وأهل الأخبار، وأن تخصيص العرب العاربة بالقبائل التي ترجع نفسها إلى اليمن، والعرب المستعربة بالقبائل التي يرجعون نسبها إلى عدنان، قد وقع من النسابين في أيام الأمويين فما بعد.

الفصل الثاني عشر: طبقات القبائل

الفصل الثاني عشر: طبقات القبائل مدخل ... الفصل الثاني عشر: طبقات القبائل ورتب علماء الأنساب قبائل العرب على مراتب، هي: شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم فصيلة. فالشعب: النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، والقبيلة مثل ربيعة ومضر، والعمارة مثل قريش وكنانة، والبطن مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، ومثل بني هاشم وبني أمية، والفصيلة مثل بني أبي طالب وبني العباس1, وجعل "ابن الكلبي" مرتبة بين الفخذ والفصيلة, هي مرتبة العشيرة، وهي رهط الرجل2. وبنى "النويري" طبقات القبائل على عشر طبقات, هي: الجِذْم، والجماهير، والشعوب، والقبائل، والعمائر، والبطون، والأفخاذ، والعشائر، والفصائل, والأرهاط3, ورتب "نشوان بن سعيد الحميري" القبائل على هذا النحو: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الجيل، ثم الفصيلة, وجعل مضر مثال الشعب، وكنانة مثال القبيلة، وقريشًا مثال العمارة، وفهرًا مثال البطن، وقُصَيًّا مثال الفخذ، وهاشمًا للجيل، وآل العباس للفصيلة4.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 187 فما بعدها"، اللسان "14/ 57"، "البطن: دون القبيلة، وقيل: هو دون الفخذ وفوق العمارة"، اللسان "16/ 199"، الإكليل "1/ 22". 2 العقد الفريد "3/ 283 فما بعدها". 3 نهاية الأرب "2/ 262 فما بعدها". 4 منتخبات "ص55".

وأكثر علماء النسب يقدمون الشعب على القبيلة، والظاهر أن هذه الفكرة كانت قد اختمرت في رءوس الجاهليين الذين عاشوا في الجاهلية القريبة من الإسلام, حيث ظهرت عندهم الفكرة القومية بمعنًى واسع، وحيث نجد عندهم ظهور الكلمات التي تشير إلى هذا المعنى، مثل إطلاقهم العرب على العرب جميعًا اصطلاحًا، وحيث أخذ الحس القومي يظهر بين القبائل بوجوب التكتل لمكافحة الغرباء، كالذي حدث في معارك اليمن مع الحبش، وفي معارك عرب العراق مع الفرس. وقد قدم القرآن الكريم الشعوب على القبائل {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 1. فالشعوب هنا فوق القبائل, وتعبر عن هذا المعنى الواسع الذي أتحدث عنه. وزاد بعض العلماء الجذم، بأن وضعوها قبل الشعب، ووضعوا الفصيلة بعد العشيرة، ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتبها آخرون على هذه الصورة: الجذم، ثم الجمهور، ثم الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم العشيرة، ثم الفصيلة، ثم الرهط، ثم الأسرة، ثم العترة، ثم الذرية. وزاد غيرهم في أثنائها ثلاثة، هي: البيت، والحي، والجماع. والاختلاف الذي نراه من علماء النسب هو في الترتيب، أي: من حيث التقديم والتأخير، وفي إضافة بعض المصطلحات أو في نقصها. أما من حيث العموم، فإننا نجدهم يتفقون في الغالب ولا يختلفون أبدًا, في أن القبائل والأنساب كانت على منازل ودرجات, ولا بد أن تكون أكثر هذه المصطلحات مصطلحات أهل الجاهلية القريبين من الإسلام. أما بالنسبة إلى الجاهليين البعيدين عنه، فلن يكون حكمنا عليهم علميا إلا إذا أخذنا مصطلحاتهم من كتاباتهم. ولم نتمكن, ويا للأسف, من الحصول على مادة منها تفيدنا في هذا الباب, فليس لنا إلا الصبر والانتظار. والقبيلة: الجماعة تنتمي إلى نسب واحد2، ويرجع ذلك النسب إلى جد أعلى، أو إلى جدة وهو في الأقل. ولا تزال اللفظة حية مستعملة يستعملها

_ 1 الحجرات، الرقم 49، الآية 13. 2 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص400".

العرب في كل مكان بالمعنى الاصطلاحي المستعمل عند النسابين1. والقبيلة هي المجتمع الأكبر بالنسبة إلى أهل البادية، فليس فوقها مجتمع عندهم, وهي في معنى "شعب" عندنا وفي مصطلحنا الحديث. وتتفرع من القبيلة فروع وأغصان، هي دون القبيلة؛ لأنها في منزلة الفروع من الشجرة. ثم اختلفوا في عدد الفروع المتفرعة من القبيلة، فجعل بعضهم بعد القبيلة العِمارة ثم البطن، ثم الفخذ ثم الفصيلة2، وجعل بعض آخر ما دون القبيلة: العمارة, ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، وزاد بعض آخر قبل الشعب الجذم، وبعد الفصيلة العشيرة, ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتب بعض النسابين طبقات النسب على هذا النحو: جذم، ثم جمهور، ثم شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم عشيرة، ثم فصيلة، ثم رهط، ثم أسرة، ثم عترة، ثم ذرية. وزاد بعضهم في أثنائها ثلاثة، وهي: البيت والحي، والجماع3. ويدل اختلاف النسابين في ضبط أسماء ما فوق القبيلة أو ما تحتها، واضطرابهم في الترتيب على أن هذا الترتيب لم يكن ترتيبًا جاهليًّا أجمع الجاهليون عليه، وإلا لما تباينوا هذا التباين فيه، ولما اختلفوا هذا الاختلاف في سرده، إنما هو ترتيب اجتهادي أخذه العلماء من أفواه الرواة ومن الأوضاع القبلية التي كانت سائدة في أيامهم ومن اجتهادهم أنفسهم، فرتبوها على وفق ذلك الاجتهاد. وأكثر هذه المصطلحات لم ترد لا في الكتابات الجاهلية ولا في الشعر المنسوب إلى الجاهليين؛ لذلك يصعب على الإنسان أن يبدي رأيا علميا مقبولا فيها، وأعتقد أن خير ما يمكن فعله في هذا الباب هو استنطاق الكتابات الجاهلية وتفليتها وتفلية الشعر الجاهلي للبحث عما فيه من مصطلحات تتعلق بالنظم القبلية، وعندئذٍ نتمكن من تكوين رأي قريب من الصواب والصحة في هذا الموضوع. ومن أجل ذلك قال "روبرتسن سمث": إن البطن والحي هما أساس أقدم أشكال المجتمعات السياسية عند الساميين.

_ 1 Naval, P. 403. 2 بلوغ الأرب "3/ 188". 3 بلوغ الأرب "3/ 188".

كما استدل من أسماء بعض القبائل التي تحمل أسماء بعض الحيوانات، مثل: بني أسد، وبني كلب، وبني بدن، وبني ثعلب، وبني ثور، وبني بكر، وبني ضب، وبني غراب، وبني فهد، وما شاكل ذلك من أسماء جماعة من القبائل، وبعضها عمائر، وبعضها بطون أو فصائل على وجود "الطوطمية" عند العرب، وعلى أن هذه الأسماء هي من ذكريات "الطوطمية" القديمة. وقد تأثر بنظريته هذه جماعة من العلماء, وعد بعض العلماء نظرية "الطوطمية" مفتاحًا يوصل إلى حل كثير من المسائل الغامضة من تأريخ البشرية القديم. هذا وقد أرجع "ابن حزم" جميع قبائل العرب إلى أب واحد، سوى ثلاث قبائل هي: تنوخ، والعتق، وغسان، فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون. وقد نص غيره من أهل النسب على أن تنوخًا اسم لعشر قبائل، اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخًا, وذكر بعض آخر أن غسان عدة بطون من الأزد، نزلت على ماء يسمى غسان، فسميت به. فترى من هنا أن تنوخًا والأزد حلف في الأصل، وقد صار مع ذلك نسبا عند كثير من أهل الأخبار في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادة القبائل، أصبحت من أهم العوائق في تكوين الحكومات المدنية الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية قبل الإسلام. وينطبق ما قلته عن تنظيم القبيلة وبناء الأنساب عليه على أهل الحضر أيضًا؛ فالحضر، ولا سيما حضر الحجاز، وإن استقروا وأقاموا غير أنهم لم يتمكنوا من ترك النظم البدوية الاجتماعية القائمة على مراعاة قواعد النسب وفقًا للتقسيمات المذكورة. وهي تقسيمات أوجدتها طبيعة الحياة في البادية، تلك الحياة الشحيحة التي لا تتحمل طاقاتها تقديم ما يحتاج إليه مجتمع كبير مستقر من مأكل وماء؛ ولذلك اضطرت المجتمعات الكبرى وهي القبائل، على التشتت والانقسام والانتشار كتلًا تختلف درجات حجمها حسب طبيعة الأرض التي نزلت بها، من حيث الكرم والبخل. ولما استقر بعض هؤلاء البدو وتحضروا في أماكن ثابتة مثل مكة ويثرب والطائف، حافظوا على نظمهم الاجتماعية المذكورة الموروثة من حياة البادية، وعاشوا في مدرهم أحياءً وشعابًا عيشة قائمة على أساس الروابط الدموية والنسب، كما سأتحدث عن ذلك في الحياة الاجتماعية. والنسب عند العرب، هو نسب يقوم إذن على الطبقات المذكورة، كما أن

الطبقات المذكورة قائمة على دعوى النسب، فبين النسب وبناء المجتمع صلة وارتباط، ولا يمكن فك أحدهما عن الآخر؛ ولهذا نجد شجرات الأنساب تتفرع وتورق وتزهر على هذا الأساس. وأنا لا أستثني المجتمع العربي في الجنوب، الذي تغلب عليه حياة الاستقرار والسكن والاستيطان من هذا التنظيم. فنحن وإن لم نتمكن حتى الآن من الحصول على كتابات كافية تقدم لنا صورة واضحة عن الأنساب وعن تنظيمات المجتمع عند المعينيين والسبئيين وغيرهم من العرب الجنوبيين، غير أن في بعض الكتابات التي وصلت إلينا إشارات تفيد وجود هذا التنظيم عند العرب الجنوبيين. والعرب الجنوبيون وإن غلبت عليهم حياة السكن والاستقرار، غير أن زمانهم لم يتمكن من تحرير نفسه من قيود الحياة القبلية، ولم يكن من الممكن بالنسبة لهم الابتعاد عن الاحتماء بالعصبية القبلية وبعرف القبيلة، فالطبيعة إذ ذاك طبيعة حتمت على الناس التمسك بتلك النظم لحماية أنفسهم وللدفاع عن أموالهم, حيث لا حق يحمي المرء غير حق العصبية القائم على أساس النسب والدم. ويعبر عن القبيلة بلفظة "شعبم" و"شعبن" في العربيات الجنوبية, أي: "قبيلة" و"القبيلة"1. أما لفظة "القبيلة" فلم أعثر على وجود لها في كتابات المسند, فلعلها من الألفاظ الخاصة بأهل الحجاز ونجد. وأما ما دون "الشعب" أي القبيلة في اصطلاحنا، فلم أقف على مسمياتها بالنحو الذي يذكره أهل الأنساب, وإنما نجد العرب الجنوبيين يقسمون القبيلة إلى أقسام، مثل "ربعن" أي: "ربع" و"ثلثن" أي: ثلث, ويريدون بذلك ربع قبيلة وثلث قبيلة. وربما كانوا يقسمونها إلى أقسام أخرى، لم تصل أسماؤها إلينا، ولعل الأيام ستزودنا بما كان العرب الجنوبيون يستعملونه من مصطلحات في النسب عندهم، وذلك قبل الإسلام بزمان طويل، وبالمصطلحات التي كانوا يطلقونها على فروع القبيلة في تلك الأوقات. وبينما نجد أهل الأنساب ينسبون أهل الوبر وأهل المدر إلى أجداد، عاشوا

_ 1 راجع النصوص: 35، 69، 70، 75 من كتاب "نشر نقوش سامية قديمة" لخليل يحيى تامي.

وماتوا، نجد المعينيين مثلا يستعملون جملة: "أولدهو ود"1، أي "أولاد ود"، و"ود" هو إله شعب معين الأكبر، كما نجد السبئيين يطلقون على أنفسهم "ولد المقه"2، أي أولاد الإله "المقه", والمقه كما سنرى فيما بعد، هو إله سبأ الأول. ونجد القتبانيين يدعون أنفسهم "ولد عم" أي: أولاد عم3. ومعنى هذا، أن كل قبيلة من القبائل المذكورة، نسبت نفسها إلى إلهها الخاص بها واحتمت به، تمامًا كما فعل العبرانيون وغيرهم، إذ نسبوا أنفسهم إلى إله قومي اعتبروه إلههم الخاص بهم، المدافع عنهم، والذي يرزقهم وينفعهم, وقد يعد هذا نسبًا. أما نسب على النحو الذي يقصده ويريده أهل الأخبار، أي: جد عاش ومات وله أولاد وحفدة، فهذا لم يصل خبره إلينا في كتابات المسند، بل في كل ما وصل إلينا من كتابات جاهلية حتى الآن.

_ 1 euting 57, jaussen et savignac 2 mission, I, p. 255, die altarabische kultur, I, s. 217. glaser 1000 a 3 glaser 1600, die altarabische kultur, I, s. 217

الأنساب

الأنساب: وأقرب تفسير إلى أنساب العرب في نظري هو أن النسب، ليس بالشكل المفهوم المعروف من الكلمة، وإنما هو كناية عن "حلف" يجمع قبائل توحدت مصالحها، واشتركت منافعها، فاتفقت على عقد حلف فيما بينها، فانضم بعضها إلى بعض، واحتمى الضعيف منها بالقوي، وتولدت من المجموع قوة ووحدة، وبذلك حافظت تلك القبائل المتحالفة على مصالحها وحقوقها. قال البكري: "فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضًا على البلاد والمعاش، واستضاف القوي الضعيف، انضم الذليل منهم إلى العزيز، وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم". لقد حملت الضرورات قبائل جزيرة العرب على تكوين الأحلاف؛ للمحافظة على الأمن وللدفاع عن مصالحها المشتركة كما تفعل الدول. وإذا دام الحلف

أمدًا، وبقيت هذه الرابطة التي جمعت شمل تلك القبائل متينة، فإن هذه الرابطة تنتهي إلى نسب، حيث يشعر أفراد الحلف أنهم من أسرة واحدة تسلسلت من جد واحد، وقد يحدث ما يفسد هذه الرابطة، أو ما يدعو إلى انفصال بعض قبائل الحلف، فتنضم القبائل المنفصلة إلى أحلاف أخرى، وهكذا نجد في جزيرة العرب أحلافًا تتكون، وأحلافًا قديمة تنحل أو تضعف. لم يكن في مقدور العشائر أو القبائل الصغيرة المحافظة على نفسها من غير حليف قوي، يشد أزرها إذا هاجمتها قبيلة أخرى، أو أردات الأخذ بالثأر منها. لقد كانت معظم القبائل داخلة في هذه الأحلاف، إلا عددا قليلا من القبائل القوية الكثيرة العدد، يذكر أهل الأخبار أنها كانت تتفاخر لذلك بأنفسها؛ لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها، بل كانت تأخذ بثأرها وتنال حقها بالسيف. ويشترك المتحالفون في الغالب في الموطن، وقد تنزل القبائل على حلفائها، وتكون الهيمنة بالطبع في هذه للقبائل الكبيرة. وقد عرفت مثل هذه الأحلاف عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلا، وطالما انتهت كما انتهت عند العرب إلى نسب، حيث يشعر المتحالفون أنهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد. ويقال للحلف أيضا "تحالف"، وعند اليمانين "تكلع". ويرى "جولدتزيهر" أنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف؛ فإنها أساس تكون أنساب القبائل، فإن هذه الأحلاف التي تجمع شمل عدد من البطون والعشائر والقبائل هي التي تكوَّن القبائل والأنساب، كما أن تفكك الأحلاف وانحلالها يسبب تفكك الأنساب وتكوين أنساب جديدة, ويرى أيضا أن الدوافع التي تكون هذه الأحلاف لم تكن ناشئة عن حس داخلي بوجود قرابة وصلة رحم بين المتحالفين وشعور بوعي قومي، بل كانت ناشئة عن المصالح الخاصة التي تهم العشيرة كالحماية والأخذ بالثأر وتأمين المعيشة؛ ولذا نجد الضعيف منها يفتش عن حليف قوي، فانضمت "كعب" مثلًا إلى "بني مازن" وهم أقوى من "كعب"، وانضمت "خزاعة" إلى "بني مدلج"، كما تحالفت "بنو عامر" مع "إياد" وأمثلة أخرى عديدة. ولما كانت المصالح الخاصة هي العامل الفعال في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح. وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، فمتى نفذت

أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ انحل الحلف. وتعد هذه الناحية من النواحي الضعيفة في التأريخ العربي، فإن تفكير القبائل لم يكن يتجاوز عند عقدهم هذه الأحلاف مصالح العشائر أو القبائل الخاصة؛ لذلك نجدها تتألف للمسائل المحلية التي تخص القبائل، ولم تكن موجهة للدفاع عن جزيرة العرب ولمقاومة أعداء العرب. ولا يمكن أن نطلب من نظام يقوم على العصبية القبلية أن يفعل غير ذلك, فإن وطن القبيلة ضيق بضيق الأرض التي تنزل فيها، فإذا ارتحلت عنها ونزلت في أرض جديدة، كانت الأرض الجديدة الموطن الجديد الذي تبالغ القبيلة في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادة القبائل، أصبحت من أهم العوائق في تكوين الحكومات المدنية الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية قبل الإسلام. خذ اختلاف النسابين في نسب بعض القبائل وتشككهم فيه، فإنه في الواقع دليل قوي يؤيد هذا الرأي، فقد اختلف في نسب "أنمار" مثلا؛ فمنهم من عدها من ولد "نزار"، ومنهم من أضافها إلى اليمن, والذين يضيفونها إلى "نزار" يقولون: إن أنمارًا من نزار، وأنمار هو شقيق ربيعة ومضر وإياد، فهو أحد أبناء نزار, دخل نسله في اليمن، فأضيفوا إليه، ومن هنا حدث هذا الاختلاف. أما اليمانية، فإنهم يرون أن أنمارًا هو منهم، وقد كان أحد ولد "سبأ" العشرة. فهو عندهم شقيق لخم وجذام وعاملة وغسان وحمير والأزد ومذحج وكنانة والأشعرين, ويرون أن بجيلة وخثعمًا من أنمار, ويستدلون على ذلك بحديث ينسبونه إلى الرسول. وأما الذين يرجعون نسبه إلى "نزار" فيستدلون على نسبه هذا بحديث ينسبونه إلى الرسول أيضا. وفي الجملة لا يهمنا هنا موضوع نسب "أنمار" أكان في اليمن أم كان في نزار، وإنما الذي يهمنا أن الأحلاف تؤثر تأثيرًا كبيرًا في نشوء النسب، فلولا دخول أنمار في اليمن ونزولها بين قبائل يمانية، لما دخل نسبها في اليمن. ولولا دخول أنمار في قبائل عدنانية وتحالفها معها لما عدها النسابون من نزار، ولما عدوا أنمارًا ابنًا من أبناء نزار الأربعة. فاختلاط "أنمار" في اليمن وفي نزار وترددها بين الجماعتين هو الذي أوقع النسابين في مشكلة نسبها. وطالما دفعت الحروب القبائل المغلوبة على الخضوع لسيادة القبائل الغالبة وقد تتحالف معها وتدخل في جورها، وإذا دام ذلك طويلًا، فقد يتحول الحلف والجوار إلى

نسب. ثم إن تقاتل القبائل بعضها مع بعض يؤدي أحيانًا إلى ارتحال بعض هذه القبائل المتقاتلة إلى مواطن جديدة فتنزل بين قبائل أخرى، وتعقد معها حلفًا وتجاورها ومتى طال ذلك صار نسبًا، كالذي ذكره أهل الأنساب من نزوح قبائل عدنانية إلى اليمن بسبب تقاتلها بعضها مع بعض، مما أدى إلى دخول نسبها في اليمن، وكالذي ذكروه أيضا من نزوح قبائل يمانية نحو الشمال واختلاطها بقبائل عدنانية مما أدى إلى دخول نسبها في نسب تلك القبائل. وتجد في كتب الأنساب والأخبار أمثلة كثيرة على اختلاط أنساب قبائل معروفة في عدنان وفي قحطان، كما رأيت فعل السياسة في تكييف النسب في صدر الإسلام وفي عهد الدولة الأموية وتنظيمه، كما رأيت كيف أن بعض النسابين ينسبون قبيلة إلى أب قحطاني على حين ينسبها بعض آخر إلى أب عدناني، وكيف أن نسابي القبيلة كانوا يرون رأيا آخر. وقد رأيت كيف أن بعضهم أرجع نسب ثقيف إلى "ثمود" بغضًا للحجاج الذي كان من ثقيف، ورأيت أيضا اختلاف النسابين فيما بينهم في رسم شجرات الأنساب. لقد وقع هذا الاختلاف لعوامل عديدة: سياسية وجغرافية وعاطفية، لا يدخل البحث فيها في هذا المكان. هذا وقد أرجع "ابن حزم" جميع قبائل العرب إلى أب واحد، سوى ثلاث قبائل، هي: تنوخ، والعتق، وغسان، فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون. وقد نص غيره من أهل النسب على أن تنوخًا اسم لعشر قبائل، اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخًا. وذكر بعض آخر أن غسان عدة بطون من الأزد، نزلت على ماء يسمى غسان، فسميت به. فترى من هنا أن تنوخًا والأزد حلف في الأصل، وقد صار مع ذلك نسبًا عند كثير من أهل الأخبار. وبين أجداد القبائل والأسر الذين يذكرهم أهل الأنساب، أجداد كانوا أجدادًا حقًّا، عاشوا وماتوا., وقد برزوا بغزواتهم وبقوة شخصياتهم، وكونوا لقبائلهم وللقبائل المتحالفة معها أو التابعة لها مكانة بارزة، جعلتها تفتخر بانتسابها إليهم، حتى خلد ذلك الفخر على هيئة نسب, ونجد في كتب الأنساب أمثلة عديدة لهؤلاء.

الطوطمية ودور الأمومة عند العرب

"الطوطمية" ودور الأمومة عند العرب: وقد لاحظ العلماء المحدثون أن بين أسماء القبائل، أسماء هي أسماء حيوان أو نبات أو جماد أو أجرام فلكية, كما لاحظوا أن بين المصطلحات الواردة في النسب مصطلحات لها علاقة بالجسم وبالدم. وقد وجدوا أن بين هذه التسميات والمصطلحات وبين البحوث التي قاموا بها في موصوع دراسة المجتمعات البدائية صلة وعلاقة, وأن للتسميات المذكورة صلة وثيقة بـ"الطوطمية"، كما أن للمصطلحات صلة بما يسمى بـ"دور الأمومة" أو "زواج الأمومة" عند علماء الاجتماع. والطوطمية: نظرية وضعها "ماك لينان" "مكلينان" المتوفى سنة 1881م, خلاصتها: 1- أن الطوطمية دور مَرَّ على القبائل البدائية، وهي لا تزال بين أكثر الشعوب إغراقًا في البدائية والعزلة. 2- أن قوامها اتخاذ القبيلة حيوانا أو نباتا، كوكبا أو نجما أو شيئا آخر من الكائنات المحسوسة أبًا لها, تعتقد أنها متسلسلة منه وتسمى باسمه. 3- تعتقد تلك القبائل أن طوطمها يحميها ويدافع عنها، أو هو على الأقل لا يؤذيها وإن كان الأذى طبعه. 4- لذلك تقدس القبيلة طوطمها وتتقرب إليه وقد تتعبد له. 5- الزواج ممنوع بين أهل الطوطم الواحد، ويذهبون إلى الزواج من قبائل غريبة عن قبيلة الطوطم المذكور, وهو ما يعبر عنه بـ"Exogamy" في اللغة الإنجليزية. إذ يعتقدون أن التزاوج من بين أفراد القبيلة الواحدة ذو ضرر بالغ، ومهلك للقبيلة؛ لذلك يتزوج رجال القبيلة نساءً من قبيلة أخرى غريبة، لا ترتبط بطوطم هذه القبيلة، والمخالف لهذه القاعدة، أي الذي يتزوج امرأة من قبيلته, يعرض نفسه للعقوبات قد تصل إلى الحكم عليه بالموت. 6- الأبوة غير معروفة عند أهل الطوطم، ومرجع النسب عندهم إلى الأم. 7- لا عبرة عندهم إلى العائلة، والقرابة هي قرابة الطوطم, فأهل الطوطم الواحد إخوة وأخوات يجمعهم دم واحد1.

_ 1 من كتاب جورجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي "3/ 244 وما بعدها".

والطوطمية "Totemism" لفظة أخذت من كلمة "Ototemom" وهي من كلمات قبيلة "Ojidwa" من قبائل هنود أمريكا1, اشتق منها "لانك" "J. Lang" كلمة "توتم" "Totem"، ومنها أخذ اصطلاح "طوطمية" "توتميسم" 2Totemism الذي يعني اعتقاد جماعة بوجود صلة لهم بحيوان أو حيوانات تكون في نظرها مقدسة؛ ولذلك لا يجوز صيدها أو ذبحها أو قتلها أو أكلها أو إلحاق أذًى بها3. وتشمل الطوطمية النباتات كذلك، فلا يجوز لأفراد الجماعة التي تقدسها قطعها أو إلحاق الأذى بها. وقد يتوسع بها فتشمل بعض مظاهر الطبيعة مثل: المطر والنجوم والكواكب4. وهم يؤمنون بأن "الطوطم" لا يؤذي أتباعه, فلا يخافون منه، حتى وإن كان من الحيوانات المؤذية التي تلحق الأذى بالإنسان، كالحية أو العقرب أو الذئب. وهم يعتقدون أيضا أنه يدفع عنهم، وأنه ينذر أتباعه إن أحس بقرب وقوع خطر على أتباعه، وذلك بعلامات وإشارات على نحو ما يقال له الزجر والطيرة والفأل. وهم يتقربون إلى طوطمهم؛ محاولة منهم في كسب رضاه، فيقلدونه في شكله ومظهره، وقد يلبسون جلده أو جزءًا من جلده، أو يعلقون جزءًا منه في أعناقهم أو أذرعهم على نحو من التعاويذ؛ لأنه يحميهم بذلك ويمنع عنهم كل سوء. كما يحتفلون به وبالمناسبات مثل مناسبات الولادة أو الزواج أو الوفاة بنقش رمز الطوطم على ظهر المولود، أو دهن الجسم بدهن مقدس من دهان ذلك الطوطم, إلى آخر ما هنالك من أعراف وتقاليد5. ويؤلف المعتقدون بالطوطم جماعة تشعر بوجود روابط دموية بين أفرادها، أي: بوجود صلة رحم بينها. والرابط بينها هو ذلك الطوطم الذي تنتمي الجماعة إليه وتلتف حوله؛ ليكون حاميها والمدافع عنها في الملمات. ومن أصحاب هذا المذهب من لا يذكر اسم الطوطم، بل يُكني عنه, ويحوز أن يكون ذلك خوفًا

_ 1 enc. Reli. Vol. 9, p. 454, peter jones, history of the Ojibwa Indians, London, 1961, enc. Rel i. Vol. 12, p. 393 2 voyages and travels of an Indian interrepreter and trader, London, 1791 3 lang voyages, p. 87, wesleyen, journals of two expeditions of discovery in n.w and w. Australia. London, 1841, 11, 225, f. 391 4 enc. Reli. Vol. 12, p. 394 5 التمدن الإسلامي "3/ 242 وما بعدها".

منه، أو احترامًا له. وقد يرسم له شعار تحمله الجماعة وأفرادها, ولها قوانين وآراء في موضوع الزواج الذي تترتب عليه قضية القرابة وصلات الرحم1. وللعلماء نظريات وآراء في الطوطمية. وهي منصبة على دراسة الناحية الاجتماعية منها، من حيث كون "الطوطمية" نظاما اجتماعيا يقوم على أساس مجتمع صغير مبني على العشيرة أو القبيلة. أما الدراسات الدينية للطوطمية، فهي بعد هذه الدراسة من حيث التوسع والتبسط في الموضوع. وأكثر هذه الدراسات أيضا عن قبائل هنود أمريكا الشمالية وعن قبائل أستراليا ثم إفريقيا. أما أثر الطوطمية عند الشعوب القديمة مثل اليونان والشعوب السامية فإن بحوث العلماء في المراحل الأولى من البحوث، وهي مستمدة بالطبع من الإشارات الواردة في الكتابات أو المؤلفات أو من دراسات الأسماء. ومن أشهر أصحاب النظريات في موضوع الطوطمية "تيلر" 2Sir E. B. Tylor و"سير جيمس فريزر" "Sir J. G. Frazer"، وهذا الأخير يرفض نظرية الذاهبين إلى أن الطوطمية في شكلها الأول هي ديانة؛ لأن الطوطم لا يعبد كما يقول على صورة صنم3. ومن أسماء الحيوانات التي تسمت بها البطون والعشائر: كلب، وذئب، ودب، وسلحفاة، ونسر، وثعلب، وهر، وبطة، وثور، وغير ذلك من أسماء حيوانات تختلف بحسب اختلاف المحيط الذي تكون فيه عبدة الطوطم, يضاف إلى ذلك أسماء أشجار ونباتات أخرى وطائفة من أسماء الأسماك. وقد ذكر "بيتر جونس" "Peter Jones" أربعين بطنًا من بطون قبيلة الـ"Ajibwa" لها أسماء حيوانات4. وقد لاحظ "روبرتسن سمث" "Robertson Smith" أن في أسماء القبائل عند العرب أسماء كثيرة هي أسماء حيوان أو نبات أو جماد, فاتخذ من هذه الأسماء دليلًا على وجود "الطوطمية" عند العرب، وعلى أثرها في الجاهليين.

_ 1 enc. Reli. Vol. 12, p. 394, j. lubbach, origin of civilization, 1905, a. lang, the secret of the tate. 1905, frazer, totemlsm and exogamy, 4. vols. 1910, frend, tatem and tabu, 5. ed. 1934 2 taylor, primitive culture, vol. I, p. 402 3 bowman, p. 98. f 4 enc. Religl. Vol. 12, p. 394

فأسماء مثل: بني كلب، وبني كليب، والنمر، والذئب، والفهد، والضبع, والدب، والوبرة، والسيد، والسرحان، وبكر، وبني بدن، وبني أسد، وبني يهثة، وبني ثور، وبني جحش، وبني ضبة، وبني جعل، وبني جعدة، وبني الأرقم، وبني دُئل، وبني يربوع، وقريش، وعنزة، وبني حنش، وبني غراب، وبني فهد، وبني عقاب، وبني أوس، وبني حنظلة، وبني عقرب، وبني غنم، وبني عفرس، وبني كوكب، وبني قنفذ، وبني الثعلب، وبني قنفذ، وبني عجل، وبني أنعاقة، وبني هوزن، وبني ضب، وبني قراد، وبني جراد1، وما شاكل ذلك من أسماء، لا يمكن في نظره إلا أن تكون أثرًا من آثار الطوطمية، ودليلًا ثابتًا واضحًا على وجودها عندهم في القديم2. وقد لاقى تطبيق "روبرتسن سمث" نظرية "الطوطمية" على العرب الجاهليين، ترحيبًا عند بعض المستشرقين، كما لاقى معارضة من بعضهم. وقد رد عليه "جورجي زيدان" في كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي"، وبين أسباب اعتراضه على ذلك التطبيق3.

_ 1 الإكليل "1/ 182 وما بعدها"، الاشتقاق "90/ 187"، التمدن الإسلامي "3/ 262". Kinship, p. 188 2 robertson smith. Kinahip and marrisage in early Arabia. Rellgion of the semites, 2nd. Ed. London, 1894, p. 35 3 "جـ3/ 340 وما بعدها".

نَجَل مولودها، ولا يعرف المولود والده نُسب إلى أمه وعرف بها. وبهذا التفسير، فسر "روبرتسن سمث" ومن ذهب مذهبه من علماء علم الاجتماع، وجود الأسماء المؤنثة عند العرب وعند العبرانيين وعند بقية الساميين1. واتخذ "روبرتسن سمث" من وجود بعض الكلمات في تسلسل أنساب القبائل مثل: البطن والفخذ والصلب والظهر والدم و"رحم" دليلًا آخر على وجود "دور الأمومة" عند العرب؛ لأن لهذه الألفاظ صلة بالجسم، ولهذا كان لإطلاقها عند قدماء العرب -على حد قوله- علاقة بجسم الأم, ولا سيما أنهم استعملوا لفظة "الحي" كذلك, ولهذه اللفظة علاقة بالحياة وبالدم. وإطلاق الألفاظ في نظره ورأيه على معانٍ اجتماعية، دليل على الصلة التي كانت للأم في المجتمع لذلك العهد2. وقد بحث "روبرتسن سمث" بحثًا مفصلًا في الحي، إذ هو في نظره وحدة سياسية واجتماعية قائمة بذاتها3, ويطلق على "الحي" لفظة "قوم" و"أهل", وينظر أبناء الحي الواحد بعضهم إلى بعض نظرة قرابة, فكأنه من من نسل واحد يربط بينهم دم واحد. وقد استدل "روبرتسن سمث" من معنى "الحي" على وجود معنى الحياة في الكلمة في الأصل، كما هو الحال في اللغات السامية، ورأى لذلك أنها تمثل رابطة قرابة وصلة رحم عند سائر العرب السامية. ويكون أعضاء الحي الأحرار "صرحاء"، وفي العبرانية "أزراح". أما الذين ينتمون إليه بالولاء، فهم "الموالي" يستجيرون به أو بالقبائل أو الأفراد، فيلقون حماية من يستجيرون بهم، ويكون "الجار" في رعاية مجيره. و"البطن" في نظر "روبرتسن سمث" هو أقدم أوضاع المجتمع السامي القديم، ويقوم على أساس الاعتقاد بوجود القرابة والروابط الدموية. ويرى أن مفهومه عند قدماء الساميين كان يختلف اختلافا بينا عنه عند العرب المتأخرين،

_ 1 smith, kinship and marriage in early Arabia, Cambridge, 1885 2 kinship p. 37. ff. smith, religion of the semites, London, 1894, p. 35 3 "الحي: الواحد من أحياء العرب، والحي: البطن من بطون العرب, ويقع على بني أب كثروا أو قلوا"، اللسان "18/ 235"، و"العمارة: الحي العظيم يقوم بنفسه"، المفضليات "ص414"، بلوغ الأرب "3/ 189", "الحي" ديوان الطرماح "95، 114".

أو عند العبرانيين، أو غيرهم. وقد فهم من اللفظة معنى المجموع الأكبر عند العرب، أي: معنى "شعب" أو "جذم" أو قبيلة، ورأى أن هذا المعنى هو المعنى القديم للكلمة عند العرب1. أما المعاني التي يذكرها علماء اللغة والأدب والأخبار، فهي في نظره معانٍ متأخرة وضعت في الجاهلية القريبة من الإسلام، ومن جملة هذه المعاني اختصاصها بالأماكن التي تقيم فيها القبيلة أو العشيرة، وتتألف من جملة عدد من الدور. وقد استدل "روبرتسن سمث" من لفظة "البطن" و"الفخذ" وأمثالهما على مرور العرب في دور الأمومة، وعلى أن القبائل كانت قد أخذت أنسابها القديمة وأسماءها من الأمومة ومن "الطوطمية". ورأى أن كلمة "البطن" في الأصل كانت تعني معنًى آخر غير الذي يذهب إليه علماء الأنساب، ودليله على ذلك استعمال "رحم". ولـ"روبرتسن سمث" بحوث في طرق الزواج عند قدماء العرب، سأتحدث عنها في موضوع الزواج والطلاق عند الجاهليين, في القسم الخاص بالحياة الاجتماعية عند العرب وبالتشريع. وقد أشار "نولدكه" Noeldeke إلى أهمية تأنيث أسماء القبائل2، فاتخذ القائلون بنظرية "الأمومة" من هذه الأسماء دليلًا على أهمية هذا العهد في التأريخ الجاهلي القديم. وقد وافق "ويلكن" G.A. Wilken على بعض آراء "روبرتسن سمث"، وخالفه في بعض الآراء3. ومن واضعي نظرية الأمومة العالم الألماني السويسري "باخ أوفن" "Johann Jakob Bachofen" "1815-1887م"، وهو من علماء القانون ومن مؤسسي "علم القانون المقارن"، وكان معروفًا بأبحاثه عن الأشياء الخفية

_ 1 الهلال: الجزء الثامن من السنة الرابعة عشرة، أيار 1906، "ص 478". 2 naeldeke, in zdmg. Bg. Xvii, s. 707 3 راجع كتاب: "الأمومة عند العرب"، تأليف "ويلكن"، تعريب بندلي صليبا الجوزي، قازان 1902م, g.a wilken, het matriarchaatli I de ande arabieren, oestr Monatschrife fur d. orient, 1889

التي تؤثر في حياة الإنسان. وقد ذهب إلى أن تأريخ العالم صراع بين الروح والمادة، بين الذكر والأنثى، وأن الحياة الأرضية مزيج من هذين الكفاحين. وقد لفت نظره إلى الزواج باعتبار أنه ناحية من النواحي القانونية، وتعرض لمباحث الزواج عند الإنسان القديم ولفوضوية الزواج، حيث كان الرجل يتناول المرأة بغير عقد كما تفعل الحيوانات، ولاشتراك عدد من الرجال في امرأة واحدة، "Hetarische Gynaikokratie"، فلا يعرف فيه النسل من أي أب هو؛ ولهذا بقي في رعاية أمه، فنسب إليها، وهو زواج مر على جميع الشعوب. كما بحث عن الأديان البدائية وعلاقتها بأمثال هذا الزواج1. ويجب أن نضيف إلى تلك الفوضوية فوضوية أخرى، هي فوضوية الغزو وتقاتل الإنسان مع الإنسان وإباحة المدن والقرى للجيوش الغازية المنتصرة، يعيثون فيها وفي أهلها فسادًا، يؤدي إلى انتهاك الحرمات واستباحة الأعراض وتوالد أطفال ليس في مقدور أمهاتهم معرفة آبائهم، فلا يبقى لهم من مجال إلا الانتساب إلى الأمهات. ودور الأمومة عند أصحاب هذه النظرية، هو أقدم أنواع الزواج. وأما "الأبوة" أي: دور الزواج الذي عرف النسل فيه آباءهم فهو عندهم أحدث عهدًا من الأمومة، وقد زعموا أن هذين الدورين مَرَّا على البشرية جمعاء، وفيهم العرب. وفي دور الأمومة تكون القرابة فيه لصلة الرحم، أي: إلى الأم، فهو الرباط المقدس المتين الذي يربط بين الأفراد ويجمع شملهم، وهو نسبهم الذي إليه ينتمون. ففي هذا الدور لا يمكن أن يعرف فيه الانتساب إلى الأب، لسبب عادي هو عدم إمكان معرفة الأب فيه؛ ولهذا كان نسب النسل فيه حتمًا للأم, وكان نسب الجماعات فيه أيضا للأم, ومن هذه الجماعات القبائل. وهم يرون أن تسمي القبائل بأسماء رجال، بأن تجعلهم أجدادًا وآباءً، هي تسميات محدثة ظهرت بعد ظهور دور الأبوة، وتطور الزواج من زواج الفوضى أو زواج تعدد الرجال إلى زواج حدد فيه على المرأة التزوج برجل واحد ليس غير، يكون فيه بعلها الذي تختص به؛ ومن هنا اندثرت الأسماء القديمة، أي: أسماء الإناث في الغالب، وحلت محلها أسماء الذكور. وسيأتي الكلام على موضوع

_ 1 mutterrecht und urreligion, von r. mark, in kta. Bd. 52, der mythus von orient und okzident, m. schroeter, 1926, h. Schmidt, philosophisches woerterbuch, s. 61

أشكال الزواج عند العرب في موضعه من هذا الكتاب. هذا، وقد بحث "جورجي زيدان" في نظرية "الأمومة" عند العرب ورَدَّ عليها بتفصيل1.

_ 1 تاريخ التمدن الإسلامي "3/ 240 وما بعدها".

أصول التسميات

أصول التسميات: وقد ألف "ابن دريد الأزدي" كتابًا في اشتقاق الأسماء عند العرب، سماه "كتاب الاشتقاق"، تحدث فيه عن أصول الأسماء واشتقاقها؛ وذلك ردًّا على من زعم أن العرب تسمي بما لا أصل له في لغتهم، فذكر اشتقاق تلك الأسماء1. وقد قال في مقدمته له: "كان الأميون من العرب ... لهم مذاهب في أسماء أبنائهم وعبيدهم وأتلادهم؛ فاستشنع قوم إما جهلا وإما تجاهلا تسميتهم كلبًا، وكليبًا، وأكلب، وخنزيرًا، وقردًا، وما أشبه ذلك مما لم يستقصَ ذكره. فطعنوا من حيث لا يجب الطعن، وعابوا من حيث لا يستنبط عيب ... وكان الذي حدانا على إنشاء هذا الكتاب، أن قومًا ممن يطعن على اللسان العربي وينسب أهله إلى التسمية بما لا أصل له في لغتهم، وإلى ادعاء ما لم يقع عليه اصطلاح من أوليتهم وعدوا أسماء جهلوا اشتقاقها، ولم ينفذ علمهم في الفحص عنها"2..إلى أن قال: "واعلم أن للعرب مذاهب في تسمية أبنائها؛ فمنها ما سموه تفاؤلًا على أعدائهم نحو: غالب، وغلاب، وظالم، وعارم، ومنازل, ومقاتل، ومعارك، وثابت, ونحو ذلك. وسموا في مثل هذا الباب مسهرًا، ومؤرقًا، ومصبحًا، ومنبهًا، وطارقًا. ومنها ما تفاءلوا به للأبناء نحو: نايل، ووائل، وناجي، ومدرك، ودراك، وسالم، وسليم، مالك، وعامر، وسعد، وسعيد، ومسعدة، وأسعد، وما أشبه ذلك. ومنها ما سمي بالسباع ترهيبًا لأعدائهم نحو: أسد، وليث، وفراس، وذئب، وسيد، وعملس، وضرغام، وما أشبه ذلك. ومنها ما سمي بما غلظ وخشن من الشجر تفاؤلًا أيضا، نحو: طلحة، وسمرة، وسلمة، وقتادة، وهراسة، كل

_ 1طبعة "وستنفلد" في "كوتنكن" "غوتنكن" سنة 1854م. 2 الاشتقاق "ص3 وما بعدها".

ذلك شجر له شوك وعضاة. ومنها ما سمي بما غلظ من الأرض وخشن لمسه وموطئه، مثل: حجر، وحجير، وصخر، وفهر، وجندل، وجرول، وحزن، وحزم. ومنها أن الرجل كان يخرج من منزله وامرأته تمخض فيسمي ابنه بأول ما يلقاه من ذلك، نحو: ثعلب، وثعلبة، وضب، وضبة، وخزز، وضبيعة، وكلب، وكليب، وحمار، وقرد، وخنزير، وجحش، وكذلك أيضا يسمي بأول ما يسنح أو يبرح له من الطير، نحو: غراب، وصرد، وما أشبه ذلك ... خرج وائل بن قاسط وامرأته تمخض، وهو يريد أن يرى شيئًا يسمي به، فإذا هو ببكر قد عرض له، فرجع وقد ولدت له غلامًا، فسماه بكرًا، ثم خرج خرجة أخرى وهي تمخض، فرأى عنزًا من الظباء، فرجع وقد ولدت غلامًا فسماه عنزًا.. ثم خرج خرجة أخرى، فإذا هو بشخيص قد ارتفع له ولم يتبينه نظرًا، فسماه الشخيص.. ثم خرج خرجة أخرى وهي تمخض، فغلبه أن يرى شيئا، فسماه تغلب ... خرج تميم بن مر وامرأته سلمى بنت كعب تمخض، فإذا هو بوادٍ قد انبثق عليه لم يشعر به، فقال: الليل والسيل، فرجع وقد ولدت غلاما، فقال: لأجعلنه لإلهي، فسماه زيد مناة، ثم خرج خرجة أخرى وهي تمخض، فإذا هو بمكاء يغرد على عوسجة قد يبس نصفها وبقي نصفها، فقال: لئن كنت قد أثريتِ وأسريتِ لقد أجحدت وأكديت، فولدت غلاما فسماه الحارث ... "1. قيل لأبي الدقيش الأعرابي: "لِمَ تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسنها نحو مرزوق ورباح؟ " فقال: "إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا, وعبيدنا لأنفسنا"2. وتعرض الجاحظ لهذا الموضوع أيضا، فقال: "والعرب إنما كانت تسمي بكلب وحمار وحجر وجعل وحنظلة وقرد على التفاؤل بذلك. وكان الرجل إذا ولد له ذكر، خرج يتعرض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنسانًا يقول: حجر أو رأى حجرًا، سمى ابنه به وتفاءل فيه الشدة والصلابة والبقاء والصبر وأنه يحطم ما لقي، وكذلك إذا سمع إنسانًا يقول: ذئب أو رأى ذئبًا تأول فيه الفطنة والمكر والكسب، وإن كان حمارا تأول فيه طول العمر والوقاحة والقوة والجلد، وإن كان كلبا تأول فيه الحراسة واليقظة وبعد

_ 1 الاشتقاق "ص3 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 193 وما بعدها". 2 الديري "2/ 242".

الصوت والكسب"1. ويظهر مما تقدم أن موضوع التسميات عند العرب كان من الموضوعات التي لفتت إليها الأنظار؛ لما في كثير منها من غرابة وخروج على المألوف، فانبرى بعض العلماء في شرح الأسباب التي أدت بالعرب إلى اتخاذ تلك التسميات، وإلى ذكر العلل التي دفعتهم إليها كالذي نراه في بحث "ابن دريد" في كتابه "الاشتقاق"، حيث ذكر في مقدمته كل الأسباب التي رآها وتوصل إليها في بحثه عن هذا الموضوع، الذي أثار جانبًا منه "روبرتسن سمث" وغيره من المستشرقين. كما سموا بعبد العزى وعبد ود وعبد مناة وعبد اللات وعبد قسي ونحو ذلك، مما فيه إضافة العبودية لأحد الأصنام. والمتعارف عليه في الإسلام، هو إرجاع النسب إلى الأب, أما الانتساب إلى الأم، فإنه قليل الوقوع؛ ولهذا يعد الرجل عربيًّا إذا كان والده عربيًّا، لا يؤثر فيه نسب أمه إن كانت أعجمية. أما قبل الإسلام، فإن النسب وإن كان تابعًا لنسب الأب، إلا أنه قد يلحق الولد بالأم, وبالرغم من هذا العرف، فإن العرب في الماضي وفي الحاضر يقيمون وزنا كبيرا لدم الأمهات، بل قد تزيد أهميته عندهم على أهمية دم الأب. والمثل العراقي العامي: "ثلثين الولد على الخال"2 خير تعبير عن وجهة نظرهم تلك، فإنه يمثل نزعة عرق الخال3, وهي من النزعات التي أقام لها الجاهليون وزنًا كبيرًا عندهم. أما وجهة نظر العلم الحديث، فإن لدم الأبوين أثرًا متساويًا في المولود؛ ولهذا فإن موضوع النسب إلى الأب أو الأم، موضوع لا يعالج عنده بالعرف والعادة، بل يعالج وفق قواعد العلم المقررة لديه. وبناء على ذلك يجب أن نقيم وزنًا لموضوع التزاوج المختلط بين العرب والغرباء، وقد كان معروفا وشائعا في الجاهلية أيضا، إذ تزوجوا من الرقيق، ولا سيما الرقيق الأبيض ونسلوا منه، كما سكن في جزيرة العرب آلاف من الغرباء قبل الإسلام واندمجوا في أهلها, وتركوا أثرا في دماء أهلها، يختلف باختلاف مقدار الاختلاط. ويتبين ذلك بوضوح في سحن سكان السواحل؛ لأنهم أكثر عرضةً للاختلاط من أبناء البواطن والنجاد.

_ 1 التمدن الإسلامي "3/ 269". 2 أي: ثلثا الولد. 3 ابن سعد، الطبقات "جـ3، ق1، ص335".

ولا تختلف أسماء القبائل العربية في طبيعتها عن طبيعة أسماء القبائل عند الشعوب الأخرى، ولا سيما قبائل الشعوب المسماة: الشعوب السامية, فهي أسماء آباء وأجداد ترد غالبًا في شكل أسماء ذكور، وترد في الأقل في صورة أسماء نساء، وتعد عندئذ أسماء أمهات، أي: أمهات قبائل. وهي -كما قلت قبل قليل- ليست أسماء أعيان بالضرورة؛ فبينها أسماء مواضع نسب سكانها إليها، فصارت بمرور الزمن جدا، أو أبا، أو أما, وبينها أسماء آلهة وأصنام، تعلق المؤمنون بها حتى نسبوا إليها، وبينها أسماء طواطم. ونجد بين أسماء القبائل العربية أسماء ترد عند العبرانيين وعند غيرهم من الشعوب السامية أعلامًا لقبائل كذلك، وقد يكون من المفيد جدا دراسة هذه الأسماء ومقابلتها بعضها ببعض، ودراسة أسماء القبائل العربية دراسة مستفيضة لمعرفة أصولها وتطورها, ومراجعة الموارد الأعجمية والكتابات الجاهلية للعثور على تلك الأسماء فيها وتعيين زمن ظهور الاسم فيها لأول مرة.

الفصل الثالث عشر: تأريخ الجزيرة القديم

الفصل الثالث عشر: تأريخ الجزيرة القديم مدخل ... الفصل الثالث عشر: تأريخ الجزيرة القديم ليس من السهل بقاء العاديات، التي تتألف من مواد منزلية وأدوات ضرورية لحياة الإنسان، مدة طويلة في أرضين مكشوفة سهلية، وفي مناطق صحراوية لا حماية فيها لتلك الأشياء. وليس من السهل أيضًا احتفاظ مثل هذه التربة بجدث الإنسان وبعظام الحيوان أمدًا طويلًا, وهي معرضة لحرارة شديدة قاسية ولرياح عاصفة قاسية؛ ولهذا لا يطمع الباحثون في الحصول على كنوز غنية من المناطق السهلة المكشوفة التي تغلب عليها الطبيعة الصحراوية والتي تؤلف أكبر قسم من جزيرة العرب. ومن هنا سيتَّجه أمل الباحثين عن الآثار إلى الأودية التي تتوافر فيها الوسائل الكفيلة بنشوء المجتمعات على اختلاف أشكالها، وإلى السهول التي تبعث النهيرات والينابيع والآبار الحياة فيها، وإلى الهضاب والجبال حيث توجد المياه وتتساقط الأمطار وتتوافر الكهوف والصخور، وهي من العوامل المساعدة على نشوء الحضارة وحفظ الآثار؛ للاستفادة منها في الحصول على آثار تحدثنا عن تأريخ جزيرة العرب في آلاف السنين الماضية قبل الميلاد. وليس في استطاعتنا في الزمن الحاضر التحدث عن جزيرة العرب في العصور الجليدية؛ لعدم وجود بحوث علمية عن هذه العصور في هذه البلاد. كذلك لا نستطيع أن نتحدث عن بلاد العرب في العهود الحجرية؛ لعدم وجود موارد

كافية تساعدنا في الكشف عنها كشفًا علميًّا. نعم، عثر على أدوات حجرية في موضع يقال له "الدوادمي" "Dawadmi" وهو يبعد "375" ميلًا عن الخليج، عثر عليها مدفونة في الأرض، وكان بينها فأس طولها سبع عقد ونصف عقدة، ولها لون يميل إلى الخضرة1، وعثر على أدوات حجرية أخرى في أنحاء من جزيرة العرب، وفي جملتها الأحساء وحضرموت، ولكن ما عثر عليه ما زال قليلًا، لا يمكن أن يعطينا رأيا واضحا علميا في تلك العهود في هذه البلاد. وقد تبين من فحص الأدوات الحجرية التي عثر عليها في الأحساء, أنها تتكون من أحجار لا توجد في العروض، وبينها أحجار بركانية, أو من حجارة "الكوارتز" ومن أنواع أخرى من الصخور؛ لهذا رأى فاحصوها أنها أدوات استوردت من العربية الغربية. كما تبين من فحص الأدوات الحجرية التي عثر عليها في اليمن وفي حضرموت, أنها من النوع المستورد من فلسطين أو من بلاد الشام؛ لأنها تشبه الأدوات الحجرية التي عثر عليها هناك2. أما الأدوات الحجرية التي عثر عليها في مواضع من حضرموت، فليست محكمة دقيقة الصنعة، بالقياس إلى ما عثر عليه في فلسطين أو في بلاد الشام أو في إفريقيا، وقد عزا بعضهم ذلك إلى طبيعة أحجار هذه المنطقة، وعزاه آخرون إلى تأخر حضارة أهل حضرموت في ذلك العهد بالقياس إلى الحضارات الأخرى3. ورأى بعض الباحثين أن أرض حضرموت كانت في عزلة عن البلاد المتقدمة في الشمال، وأن صلاتها بإفريقيا كانت أقوى من صلاتها بشمال جزيرة العرب وبالهلال الخصيب وبحضارة البحر المتوسط؛ ولذلك صارت الأدوات التي عثر عليها بدائية بعض الشيء بالقياس إلى ما عثر عليه في أعالي جزيرة العرب، حيث كان الاتصال وثيقًا بالحضارات المتقدمة. ومن الأدلة التي تثبت أن اتصال حضرموت بالسواحل الإفريقية المقابلة كان

_ 1 p. b. cornwall, ancient Arabia, exp;orations in hasa, 1940-1941, p. 39, in geogra. Journ. Cvii, febr. 1946 2 georg, journal. Vol. xciii, no, I, January, 1939, pp. 30 3 georg. Journal. Vol. xciii, no. I, January. 1939m "an exploration in the hadhramaut and journey to the coast" by, freya strk

قويًّا ووثيقًا في العصور الـ"الباليوليثية", هو عثور المنقبين على فئوس يدوية في حضرموت تعد من صميم الصناعات التي ظهرت في تلك الأنحاء من إفريقيا. ووجودها في حضرموت وعثور المنقبين على أدوات أخرى هي من صناعات إفريقيا، دليل على شدة العلاقات ومبلغ توثقها بين إفريقيا والسواحل العربية الجنوبية1. ويظن أن الزجاج البركاني المتكون من فعل البراكين "Obsidian" المتخذ أشكالًا هندسية؛ مثلثًا أو هلالًا أو مربعًا، الذي يعود إلى الدور المعروف عند علماء الآثار بدور صناعات النصل "Blade Industries"، والذي عثر على نماذج منه في حضرموت، هو من المستوردات التي يرجع أصلها إلى سواحل إفريقيا الشرقية. وقد كانت هذه الصناعة مزدهرة في حوض البحر المتوسط وفي أوروبا قبل الألف الثالثة قبل الميلاد, أما في العربية الجنوبية، فيعود عهدها إلى الألف قبل الميلاد2. واكتشفت أدوات من العصور الحجرية في "الحملة" ورأس "عوينات علي" "عوينت علي" وجنوب "دخان" من "قطر"، منها فئوس ومقاشر ونبال وكميات من حجر الصوان. وهذه الصخور هي من العصور "الباليوليثية" و"النيوليثية"3. وعثر في مواضع متفرقة أخرى من جزيرة العرب على أدوات من عهود مختلفة قبل التأريخ، عثر على أكثرها في مواضع شتى تقع عند الأودية والطرق والمواضع التي تتوافر فيها وسائل الحياة. وسيكون لبحث من يأتي بعدي فيقوم بوضع خارطة أو مخطط للمواضع التي عثر فيها على آلات وأدوات مما قبل التاريخ شأن كبير, ولا شك في الكشف عن مواضع السكنى والحضارة في بلاد العرب قبل التأريخ، وفي الكشف عن نظرية تغير الجو في جزيرة العرب ونظرية الهجرات وارتحال السكان من مكان إلى مكان.

_ 1 b.r. 527, "restricted", geogeaphical handbook series for official use only, western Arabia and the red sea, june, 1946, naval intelligence division وسيكون رمزه: Naval 2 Naval 3 تقرير شامل عن الحفريات الأثرية في جزيرة "فيلكا"، 1958-1963م, الكويت "ص24".

وعثر على آثار متنوعة من العصور الـ"الباليوليثية" "Palaolithikum" "Palaeolithic" والـ"النيوليثية" "Neolithikum" "Neolithic" في الكويت والبحرين وحضرموت ومواضع أخرى من العربية الجنوبية واليمن. وقد ذهب "فيلد" "H. Field" إلى أن اليمن وعدن كانتا مأهولتين بالسكان في العصور "النيوليثية"، ثم هاجر قسم من الناس إلى عمان والخليج، وهاجر قسم آخر بطريق باب المندب إلى الصومال، و"كينيا" "Kenya" و"تنجانيقا"، وهاجر فريق آخر بطريق مأرب ونجران إلى شبه جزيرة سيناء وفلسطين والأردن1. وعُثِرَ على آثار من العصور المذكورة في مواضع من المملكة العربية السعودية تمتد من الأحساء "الهفوف" إلى الحجاز، ومن مدائن صالح إلى نجران, وقد عثر على أدوات حجرية في "تل الهبر". وقد كان الصيادون في عصور ما قبل التأريخ يتنقلون باتجاه الأودية من مكان إلى مكان حيث كانت الأحوال فيها خير مما عليه الآن, وقد ترك هؤلاء الصيادون ثم الرعاة بعض الآثار في الأمكنة التي حلوا بها ما برح السياح وخبراء شركة "أرمكو" وغيرهم يعثرون على قسم منها بين الحين والحين2. ووجدت في "كلوة" "Kelwa" التي تقع على سفح "جبل الطبيق" آثار من العهود "الباليوثيكية" القديمة: "Chelleen" والـ"Acheuleen" والـ"Levalloisien", وقد قدر بعض الباحثين تأريخ السكنى في هذا الموضع إلى الألف الثامنة قبل الميلاد. وقد اكتشف هذا الموضع "هورسفيلد" "G. Horsfield" و"كلويك" "N. Glueck"، فوجدا آثارًا وصورًا على الصخور، قدر أنها ترجع إلى آلاف من السنين قبل الميلاد من مختلف العصور3. وعُثِرَ على كهوف وقد صورت على جدرانها صور حيوانات, وصور الشمس

_ 1 a. grohmann, s. 15, h. fleld, papers of the Peabody museum, 48/2 "1956" pp. 117. 2 h. fileld, papers, 48/2 "1956", 63, a. grohmann, arabien, s. 15 3 n. glueck, the other side of the Jordan, new haven, con. 1940, pp. 43, h. rothert, transjordabien, vorgeschichtliche forschungen, Stuttgart, 1938, s. 161, a. grohmann, arabien, s. 16

والهلال، وذلك على طريق التجارة القديمة في العربية الجنوبية، بين وادي يبعث ووادي عرمة. وهي تشبه في أهميتها من دراسة الناحية الأثرية، الصور المتقدمة التي عثر عليها في "كلوة" في الأردن1. فأس من الحجر تعود إلى عصر الـ"Palaeolithic" المتأخر، عثر عليها في "دوادمي". صنعت هذه الصورة عن صورة نشرت في مجلة: "The Geographical journal" جزء شباط سنة 1946, أرسلها لي صديقي الدكتور جورج ماثيوس من الظهران. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن جزيرة البحرين كانت مأهولة بالناس أيام العصور الجليدية المتأخرة في أوروبا، أي: قبل خمسين ألف سنة، وأن ساحل الخليج، ولا سيما المنطقة الواقعة بين "الدوادمي" وشمال القطيف، كان مزدحمًا

_ 1 Naval, p. 214

بالسكان في العصور البرونزية، أي حوالي "3000-2500 ق. م"، كما عثر على أدوات من العصور "الباليوثيكية" في موضع "رأس عوينت علي" "عوينات علي" في شبه جزيرة "قطر"1. وقد ذهبوا أيضا إلى أن جو البحرين آنذاك -أي أيام العصور الجليدية- كان يشبه جو بلاد اليونان في الوقت الحاضر, وأن أرض البحرين كانت مخصبة خضراء، مغطاة بكساء من الغابات؛ ولعلها كانت متصلة إذ ذاك بالأرض الأم -أرض جزيرة العرب-. أما سكانها فقوم من الصيادين, عاشوا على ما يقتنصونه من حيوانات، وفي مقدمتها الأسماك. وقد عثر على أدوات من حجر الصوان، استخدمها أولئك الصيادون في صيدهم وفي تقطيع لحوم الفرائس التي يوقعها سوء حظها في أيديهم, عثر عليها في مواضع متعددة من البحرين، وبعدد كبير أحيانا، مما يدل على أن تلك الأماكن كانت مستوطنة آهلة بالناس. وليس في هذه الأدوات الصوانية ما يشير إلى أصل أصحابها، أو إلى أسمائهم وأسماء المواضع التي كانوا فيها. وكل ما يستفاد منها أنها من أواسط العصور "الباليوثيكية" "Paleothitic"، وذلك بدليل مشابهتها لأدوات من الصوان ترجع إلى هذا العهد, عثر عليها في شمال العراق وفي فلسطين وفي شمال غربي الهند2. وقد عثر في البحرين أيضا على عدد من رءوس حراب وسكاكين صُنعت من الصخور الصوانية, قدر بعض الباحثين عمرها يتراوح بين عشرة آلاف واثني عشر ألف سنة, وهي ترجع إلى أواخر أيام الرعي وابتداء عهد الاستيطان والاستقرار والاشتغال بالزراعة. وبين ما عثر عليه من هذه الأدوات، أحجار سنّت وشذبت لكي تكون بمثابة آلات لحصد المزروعات ولقطع الحشائش واجتثاثها من الأرض3. وفي العربية الغربية والعربية الجنوبية جبال ترصعها كهوف، اتخذها الإنسان

_ 1 p.b cornwall, ancient Arabia: explorations in hasa, 1940-1941, a. grohmann, Arabian, s. 255. وسيكون رمزه: Arabien. 2 james h.d. belegrave, welcome to Bahrain, London, 1965, pp. 50. 3 المصدر نفسه، "ص51".

مساكن له، فأقام فيها قبل الميلاد بأمد طويل, لا نستطيع تقدير زمانه، واتخذ بعضها معابد ومواضع مقدسة وأماكن للخلوة والتأمل الروحي والعبادة، وبعضها مقابر يودع فيها أجداث آبائه وأجداده وأهله، ولكن أكثر هذه الكهوف قد عبث بها الزمن وعبثت بها أيدي الإنسان, أكثر من عبث الطبيعة بها؛ فانتزعت منها ما نبحث الآن عنه من بقايا عظام, وتركات سكنى، وآثار فن، فحرمنا بذلك الوقوف على حياة الإنسان في جزيرة العرب في تلك الأيام. وقد أشار الكتبة "الكلاسيكيون" إلى سكان الكهوف في بلاد العرب, وعثر السياح على بقايا تلك الكهوف التي كانت منازل ومساكن آهلة بالناس. ولا يزال الناس يسكنون الكهوف في حضرموت وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب1, وقد يكون من بينها كهوف كانت منازل الأجداد النازلين اليوم بها منذ آلاف من السنين. ولما كانت زيارات السياح لهذه الكهوف زيارات سريعة خاطفة، لم يتعمق السائحون فيها في داخل الكهف، ولم تتناول ما على جدر الكهوف من رسول أو زخارف، وقد يأتي يوم يعثر فيه الباحثون على كنوز من فن سكان الكهوف، ومن مخلفات لهم وعظام تكدست تحت أطباق الثرى، نستخرج منها وصفًا لحياة الإنسان في تلك المناطق من جزيرة العرب، وقد تفيدنا في دراسة الصلات والعلاقات التي كانت بين أهل الجزيرة وبين بقية أنحاء العالم في تلك العهود السحيقة. فيتبين من هذه الآثار القليلة أن بلاد العرب كانت مأهولة بالناس منذ العصور "الباليوثية" "Palaeolithic"، أي العهود الحجرية المتقدمة، وأن من أقدم الآثار التي عثر عليها آثارًا من أيام العصور المعروفة بـ"Chellian" بين علماء الآثار، أي: الأدوار الأولى من أدوار حضارة العصر الحجري، وأنه قد عثر على أدوات من الصوان في الربع الخالي وفي حضرموت من عهد الـ"Neolithic" والعصور "البرونزية", وعثر على أدوات من الصوان من عصور الـ"Chalcolithic" هي من النوع الذي عثر عليه في جنوب فلسطين2.

_ 1 van der meulen, aden to the hadhramaut, p. 120, 200, 208 2 naval. P. 213

ولم يوفق الباحثون للعثور على هياكل كاملة لإنسان ما قبل التاريخ، لا في جزيرة العرب ولا في "سيناء"1. وللعثور عليها أهمية كبيرة بالنسبة إلى البحث في تأريخ ظهور الإنسان وتطوره؛ للوقوف على الزمن الذي عاش فيه في بلاد العرب. والجماجم والعظام مادة مفيدة جدًّا في دراسة التأريخ، ولكن الباحثين لمَّا يتمكنوا من الحصول على مقدار كافٍ منها يكوِّن عندهم فكرة علمية عن العصور التي ترجع إليها وعن أشكال أصحابها. وقد عثر رجال شركة "أرمكو" للبحث عن البترول في العربية السعودية على بقايا عظام وأسنان لبعض الحيوانات "الحلمية" "Mastodon" وعلى قسم من جمجمة حيوان قديم في موضع يبعد تسعين ميلًا إلى الغرب من "الدمام" ووجد مثل هذه البقايا الحيوانية في أنحاء أخرى من جزيرة العرب، ولكن ما عثر عليه لا يزال قليلًا, لا يكفي لإعطاء آراء علمية عن الحياة في جزيرة العرب في التأريخ القديم2. وقد تعرضت تلك المقابر لعبث الطبيعة ولعبث الطامعين بما فيها من أشياء ثمينة؛ لذلك أصاب أجسام الموتى التلف، ولم يبقَ منها غير بقايا من جسم، إلا ما كان من مقابر البحرين، فقد أعطت الباحثين هيكلين كاملين لم يصبهما أي سوء أو تلف. فقد تبين من فحصهما أن أهل الميت وضعوا جسمي الميتين على الجانب الأيمن ووجهوا الوجهين نحو المشرق، وأمدوا رجلي الميتين. ويبعث وضع الميتين على هذه الصورة الاحتمال بأن أهل البحرين كانوا يتبعون هذه العادة في دفن موتاهم، وهي عادة كانت عند أهل العراق أيضا, في الألف الثالثة قبل الميلاد3. وقد عثر في مواضع من جزيرة العرب على مقابر, تبين أنها من نوع المقابر التي يقال لها "تمولي" "Tumuli" التي عثر عليها في البحرين, في نهاية القرن التاسع عشر. أما مقابر البحرين، فهي تلال تكونت من قطع من الصخور، وضع بعضها فوق بعض، لتكون غرقة أو غرفتين، تكون إحداهما فوق الأخرى في الغالب؛ لتتخذ قبرًا يوضع فيه الموتى، وتكون سقوف الغرف من ألواح

_ 1 naval. P. 213 2 cornwall, ancient. P. 39 3 james h.d belgrave, p. 52

الصخور. وبعد إغلاق باب القبر يهال التراب على الصخور، حتى تتخذ شكل تلال. وقد عثر على بقايا خشب فيها، مما يدل على استعمال الخشب في بناء هذه القبور, التي يصل قاعدة بعضها إلى حوالي خمسين ياردة في العرض وحوالي ثمانين قدمًا في الارتفاع. ويقدر الباحثون الذين بحثوا عن هذه المقابر عددها بزهاء خمسين ألف تل، وبزهاء "100" ألف تل في تقدير بعض آخر، أي: خمسين ألف قبر أو "100" ألف قبر1, قبر فيها الإنسان والحيوان جنبًا إلى جنب، كما يتبين ذلك من بقايا العظام التي عثر عليها فيها. والغالب أنهم دفنوا الحيوان مع الإنسان؛ ليستفيد منه الميت في العالم الثاني في عقيدة أهلها يومئذٍ، وكما نجد ذلك في اعتقاد المصريين واعتقاد غيرهم من الشعوب؛ ولهذا دفنوا مع الموتى أواني وأدوات بيتية وحليًّا وجواهرَ وفخارًا وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان2. وقد عثر في هذه المقابر على عدد من الجِرَار، تشبه الجِرَار المستعملة في الوقت الحاضر، مما يدل على أن الناس في الوقت الحاضر لا يزالون يسيرون على سيرة أجدادهم الذين عاشوا قبل الميلاد في عمل الجرار وسائر الخزف. وقد صنعت تلك الجرار من الطين، وضعه الخزاف على قرص دولاب يديره برجليه, واستعمل يديه في إكساب الطين شكل الجرة التي يريدها, ويميل لون هذه الجرار إلى الحمرة. كما عثر على قشور بيض النعام، وقد قطعت بصورة تجعلها كأسًا يشرب بها, وعثر على أدوات أخرى, وكل ما عثر عليه غير مكتوب ولا مؤرخ؛ لذلك لا نعرف من أمره اليوم ولا من أمر أصحابه شيئًا3. وعثر رجال شركة "أرمكو" على عدد كبير من هذه المقابر على حافات جبل "المذرى" الشمالي، قدرها "كورنول" بالألوف، وعثروا كذلك على عدد آخر من هذه المقابر في جبل "المذرى" الجنوبي4. وقد حافظت بعض

_ 1 j.h.d belgrave, welcome to Bahrain, p. 51 2 bent, the Bahrain islands, proc. Roy. Gerogr. Soc. 12, London, 1890, jouanin, a, "les tumuli des bahrain", memoirs de la delegation in perse, t., viii, 1905, survey of India, annual rep. 1908-1909, Calcutta, sanger, the Arabian peninsula, p. 141 3 belgrave, p. 52 4 cornwall. P. 36

حجر يظهر أنه من الأحجار التي توضع شاهدًا على القبور يمثل صورة امرأة يقال لها: "غللت بنت مفدت" ويقال للبنت في العربية الجنوبية "بت" أيضا, وقد توسلت إلى الإله "عشتر" بإنزال الويل والثبور على من يتجاسر فيغير هذا الحجر عن موضعه.

هذه القبور على أشكالها محافظة جيدة، ويشبه بعضها القبور التي عثر عليها "فلبي" في الأقسام الجنوبية الغربية من جزيرة العرب1. ووجد "كورنول" مقابر أخرى في موضع "الرديف" الواقع على بعد "110" أميال من شمال غربي "الدمام"، وفي موضع يقع شمال "عين السبح"، بمسافة أربعة أميال، حيث بلغ قطر إحدى تلك المقابر "33" ياردة وارتفاعها "13" قدمًا. وقد تمكن من الحصول على هيكل عظمي وعلى فخار وقطع من العاج وقشور بيض للنعام وأسلحة مصنوعة من البرونز2. وعثر على مقابر في موضع "المويه" الواقع على "143" ميلًا من شمال شرقي مكة3. وقد وصف "فلبي" المقابر التي عثر عليها في "الرويق" وفي مرتفعات "العلم الأبيض" و"العلم الأسود"، فقال: إن أكثرها قد عبث به العابثون، فأخذوا ما كان داخل الغرف التي كان يوضع فيها الموتى من ذخائر ومواد، وهي مختلفة الأحجام والارتفاع. ويظهر من وجود هذه المقابر في محال صحراوية بعيدة عن موضع العمران وفي أماكن لا يقيم فيها الناس، أن هذه المناطق كانت مأهولة قبل الإسلام, وأنها كانت ذات تأريخ قديم جدًّا، ربما يرجع في رأي "فلبي" إلى أيام قدماء "الفينيقيين" وربما كان "الفينيقيون" في رأي "فلبي" أيضا من الأفلاج والخرج، حيث هاجروا بعدئذٍ إلى البحرين4. وقد سمع "فلبي" بوجود مقابر أخرى من هذا النوع، تعرف بين الناس باسم "الخشبة", وسمع "Thesiger" بمقابر أخرى في موضع "رهلة جهمين"5. وعثرت شركة "أرمكو" على مقابر عادية كثيرة العدد في "وادي الفاو" و"القرية"، لم تحدد هوية أصحابها حتى الآن, وقد زارها "فلبي" ووصفها، وتبين له أن الموضع وهو "القرية" كان محاطًا بسور، وجد في داخله آثار بيوت ومقابر، وبين أنقاض المقابر أحجار مكتوبة تدل على أنها كانت شواهد قبور. وعلى مسافة من "القرية" كتابات وصور حيوانات مثل النعامة والأيل, وصور أناس نقشت على الصخر6.

_ 1 Cornwall, P. 36, Phllby Sheba s, P. 373. 2 Cornwall, P. 37. 3 Phllby, Sheba s, P. 373. 4 Phllby Sheba s, P. 373. 5 Beitrage, S. 16. 6 Beitragae, S. 12.

ويظهر من وصف "جيرالد دي كوري" "Gerald de Gaury" و"فلبي" لمقابر الخرج أنها كثيرة العدد، وأنها في مواضع متعددة من هذه الإيالة عند "فرزان" و"السلمية" و"الدلم"، وهي متفاوتة الأحجام والارتفاع1. ولم يتمكن "دي كوري" من تعيين تأريخها، ولا يمكن التثبت من ذلك بالطبع إلا بعد القيام بحفريات دقيقة وفحوص للعظام ولمحتويات القبور لمعرفة مكانها في التأريخ. وقد وجد أن أبواب مقابر البحرين قد وضعت في الجهة الغربية، مما يبعث على الظن على أن لهذا الوضع صلة بدين القوم الذين تعود إليهم تلك المقابر. وقد وجد أن المواد والأدوات التي عثر عليها في هذه المقابر تشبه المواد والأدوات التي عثر عليها في المقابر الأخرى التي عثر عليها في المواضع المذكورة من جزيرة العرب. ويظن بعض الباحثين أن أصحاب هذه المقابر كانوا يقيمون في الجهة المقابلة لجزيرة البحرين من الجزيرة، أي: على ساحل الخليج، وكانوا قد اتخذوا الجزيرة مقبرة لهم، فينقلون إليها موتاهم لدفنهم هناك. ومنهم من يرى أن تلك المقابر هي مقابر رؤساء الفينيقيين وأشرافهم الذين كانوا يقطنون البحرين، وأن عهد تلك المقابر يرجع إلى ما بين 3000-1500 سنة قبل الميلاد2. وقد عثرت البعثة الدانماركية في سنة "1959م" في البحرين جنوب طريق "البديع" على أربع مقابر, تبين من فحصها أنها ترجع إلى العصور الحجرية3. وعثر السياح على تلال في مواضع متعددة من عمان وقطر، تبين أنها مقابر لعهود سبقت الميلاد. وليست لدينا الآن دراسة علمية شاملة عن هذه المقابر: مقابر البحرين، ومقابر المواضع المذكورة من جزيرة العرب، إلا أن آراء من زاروها ورأوها تكاد تتفق في القول بوجود ترابط في الزمن فيما بينها، ويرجعون أيامها إلى عصر الـ"Chalcolithic" أو إلى العصر البرونزي. ومنهم من يرى أنها من العصر البرونزي المتأخر4، ويرى أن المقابر المقامة على المرتفعات هي مقابر جماعة

_ 1 geogr. Journal. Vol, cvi, numb. S, 4, sept-octo. 1945 p. 152, philby, heart of Arabia, vol. 2, p. 26. 2 sanger the Arabian peninsula, p. 141, enc. Vol. I, p. 585. 3 p.v glob, archaeological intestlgations in four arab states, kuml, 1959, p. 238. 4 sanger, p. 141.

من الصيادين أو الرعاة. أما المقابر المقامة على السهول المنبسطة فيرون أنها مقابر قوم مزارعين مستقرين1. تابوت من الفخار على شكل حوض وأدواته ترجع إلى عام 600 قبل الميلاد من نشرة دائرة الإعلام: حكومة البحرين ويظن أن المقابر التي عثر عليها في جزيرة "أم النار" في "أبي ظبي" هي مقابر أقوام عاشوا في الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد عثر فيها على هياكل عظمية وعلى خرز وفخار عليه رسوم. وقد كُسيت هذه المقابر وغُطيت بحجارة منحوتة, حفرت عليها صور ثيران وجمال وأفاعٍ وحيوانات أخرى, وقد نحتت

_ 1 Cornwall, P. 37.

واجهة الحجر المحيطة بالصور لتظهر الصور بارزة عالية1. ويظهر من دراستها أنها من عمل أيدٍ أتقنت مهنتها، وأجادت في فنها بالقياس إلى تلك الأزمنة. وهي تحتاج إلى دراسة لمعرفة مدى تأثرها بفنون الشعب الأخرى التي كان لها اتصال بهذه البلاد. إن هذه المقابر تستحق الدراسة حقًّا؛ لأنها تتحدث عن وجود روابط فكرية مشتركة بين أصحابها، وعن احتمال ارتباطهم بعقيدة دينية واحدة. ولا يستبعد أن تكشف بعض القبور السالمة التي لم تعبث بها أيدي البشر العاتية، عن كتابات مطمورة في غرفها، أو عن صور ونقوش ورموز تتحدث إلينا عن هوية أصحابها وعن مكانتهم في التأريخ وفي الحضارة البشرية بالنسبة إلى الأيام التي عاشوا ليها. وعندئذ نكون قد انتقلنا إلى مرحلة جديدة من مراحل تأريخ العرب القديم، لا نعرف اليوم من أمرها إلا هذا النزر اليسير الذي نتحدث عنه. ولست أستبعد أيضًا احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار أصحاب هذه المقابر في مواضع لا يمكن أن تكون بعيدة عنها، إذ لا يعقل أن يكون ذوو أرحام الموتى قد سكنوا في مواضع قصية نائية عنها. وإن قومًا لهم هذه المهمة في عمل هذه القبور، لا بد أن يكونوا على درجة من الحضارة, والمخلفات التي عثر عليها في بعض هذه القبور هي خير شاهد على ذلك؛ فقد عثر فيها على حلي وعلى أوانٍ من الفخار وعلى آثار أخرى مصنوعة تظهر براعة في الصنعة والإتقان, ولا يستبعد العثور على أمثالها في مستوطناتهم متى عثر عليها. هذا، وقد عثر بعض السياح على قبور جاهلية في حضرموت وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب، إلا أن هذه المقابر هي أحدث عهدًا من تلك، ثم إنها قبور نحتت في الصخور نحتًا، ولم تعمل على هيئة تلال على النحو الذي وصفناه. ولـ"كارل راتجن" "Carl Rathjens" وصف مفصل لمقابر منحوتة زارها, تقع على مقربة من مدينة "كوكبان" في اليمن, وهي كثيرة منحوتة في جانب الجبل؛ منها المنفردة المنعزلة ومنها ما نحتت بعضها فوق بعض, وقد وجد أن أكثرها قد لعبت بها الأيدي، فأخذت ما كان فيها، فخلت من كل شيء. وقد عثر على كتابة سبئية عند أحد أبواب هذه المقابر، مما يدل على

_ 1 تقرير شامل عن الحفريات الأثرية في جزيرة "فيلكا"، 1958-1963م، الكويت "ص24".

أنها كانت لقوم من سبأ1. ولا يستبعد بالطبع أن يكون أولئك الناس قد توارثوا هذا النوع من القبور من أسلاف لهم كانوا قد نحتوها. وعلمنا بأحوال جزيرة العرب في العصور "البرونزية"، لا يزيد على علمنا بالعصور الحجرية فيها, فهي ضحلة يسيرة؛ لأن ما عثر عليه من مخلفات تلك العصور ليس بشيء يذكر ولا يكفي لاستنباط آراء منه. ولا يستبعد بالطبع احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار قد ترجع إلى هذه العصور ستهتك الحجب التي تحول الآن بيننا وبين التعرف على تلك الحقب القديمة من تأريخ الجزيرة. وقد وجدت "البعثة الدانماركية" التي نقبت في جزيرة "فليكا" من جزر الكويت على آثار من هذه العصور2، إلا أن ما عثر عليه لا يكفي لإعطاء رأي علمي كافٍ عن العصور البرونزية في هذه الأرضين. وقد عثر في جزيرة "فيلكا" على آثار سكنى وبقايا أبنية وهياكل يرجع عهدها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد تبين أن هذه الجزيرة والجزر الأخرى الواقعة في الخليج كانت ملاجئ يلجأ إليها أصحاب السفن والتجار في تلك الأزمنة للاستراحة, ولشراء ما يجدونه عند أهل السواحل المقابلة، وللتمون بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. ولأهميتها هذه اهتمت بها وبالسواحل المقابلة لها حكومات العراق، فاستولى عليها الأكاديون والآشوريون واليونان. وقد عثر على مواد مصنوعة من حديد من العصر الحديدي، غير أنها قليلة لا يمكن أن تكون لنا رأيا واضحا عن العصور الحديدية في جزيرة العرب. وعثر على بقايا جماجم بشرية في "الظهران" تبين من دراستها وفحصها على أنها من العصور "البرونزية"3. وتدل الأدوات المكتشفة -على قلتها- على أن شعوب جزيرة العرب حتى في الأزمان البعيدة عن الميلاد كانت على اتصال بالعالم الخارجي ولا سيما العراق وبلاد الشام وحوض البحر المتوسط والقارة الإفريقية، وأنها كانت تستورد منها ما تحتاج

_ 1 carl rathjens, sabaeica, I, s. 105 2 تقرير شامل عن الحفريات الأثرية في جزيرة فيلكا، 1958-1963م, الكويت, مطبعة الحكومة، من منشورات وزارة التربية والتعليم، "ص9". 3 h. field, papers of the Peabody museum, 48/2 "1956". 58, A. grohmann, arabien, s. 15

إليه من مواد وتبيع لها ما عندها من سلع خام أو من سلع تستوردها من السواحل الإفريقية أو الهند، وأنها لم تكن في يوم من الأيام بمعزل عن بقية العالم. والعراق وبلاد الشام، أي: الأرضون التي يقال لها "الهلال الخصيب" في الزمان الحاضر، هي من الناحية الطبيعية وحدة لا يُستطاع فصلها عن جزيرة العرب، وامتداد طبيعي لها1. وليست البادية الواسعة التي تملأ باطن الهلال إلا جزءًا من جزيرة العرب، وامتدادًا لها، لا يفصلها عنها فاصل، ولا يحد بينها حد، وإذا ما تنقلت من بادية الشام إلى بوادي المملكة العربية السعودية، فلا تجد أمامك شيئًا يشعرك بوجود فروق بين طبيعة هذه الأرضين الواسعة، أو وجود حواجز تمنع سكانها من الهجرة نحو الشمال أو إلى الجنوب2؛ ولهذا كان من الطبيعي تنقل الناس في هذين الأرضين منذ وجدوا فيها وظهروا عليها بكل حرية، وبحسب الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية. وتأريخ ظهور العرب في بادية الشام وفي أطراف الهلال الخصيب تأريخ قديم جدًّا، ولكننا لا نستطيع تحديد مبدئه، ولا تثبيته؛ لأننا لا نملك أدلة علمية تعينه وتحدده. ثم إن كلمة "العرب" لم تكن تعني عند الشعوب التي عاشت قبل الميلاد غير معنى "أعراب"، وكانت إذا ما ذكرت لفظة "عرب" تقصد البدو على نحو ما ذكرت في الفصل الأول في تحديد معنى هذه اللفظة. أما العرب المستقرون، أو شبه الحضر، فقد عرفوا عندهم بأسمائهم؛ ولهذا اشتبه أمرهم علينا، وعسر على العلماء تعيين هوياتهم؛ لعدم نص الكتابات أو الكتب القديمة على أنهم عرب بمعنى جنس للسبب المذكور, فصرنا في حيرة من أمرهم، وفي التوراة أسماء قبائل كثيرة، نسبت إلى آباء وأجداد، يجب أن تعد من العرب، ولكن التوراة لم تطلق عليها لفظة "عرب"؛ لأنها لم تكن قبائل بدوية وليست اللفظة فيها إلا بهذا المعنى، فحار العلماء في تعيين أصل كثير منها، وما زالت حيرتهم هذه حتى اليوم. وليس من المستبعد أن يكون بين الشعوب القديمة شعوب عربية، إلا أنها لم تعد من العرب؛ لأن اللفظة لم تكن علمًا على جنس قبل الميلاد.

_ 1 الهلال الخصيب "Fertie Crescent" اصطلاح أطلقه "برستيد" "H.Brested" لأول مرة بهذا المعنى، على القوس المتكون من العراق وبلاد الشام. 2 franz stuhlmann. Der kampf um arabien, s. i

وإذا ما أخذنا بنظرية القائلين: إن جزيرة العرب هي مهد الساميين، جاز لنا أن نقول عندئذ: إن معظم أهل الخصيب والبادية هم من معمل تفريخ الجنس السامي الكائن في تلك الجزيرة، وإن ذلك المعمل هو الذي أمد هذه الأرضين الممتدة من إيران إلى البحر المتوسط بسلالات الساميين. فصلة جزيرة العرب بالهلال الخصيب صلة قديمة ترجع إلى الأيام الأولى من أيام الساميين، على هذه النظرية، وربما ترجع إلى أقدم من تلك الأيام. وسنرى فيما بعد أن حكام العراق كانوا قد استولوا على العروض في الألف الثالثة أو قبلها قبل الميلاد، وأنهم نزلوا في البحرين وفي جزر أخرى من جزر الخليج، وأن أصل الفينيقيين هو من البحرين في رأي كثير من العلماء، منها هاجروا إلى أرض "فينيقية" وسواحلها، وما كان ذلك ليتم لو كانت جزيرة العرب بمعزل عن الهلال الخصيب أو عن بادية الشام, أو أن الهلال والبادية كانا بمعزل عن جزيرة العرب. وقد ذكر أن جماعة من تجار "أور" كانوا يتاجرون في حوالي السنة 2000ق. م مع البحرين, وكانوا قد أنشئو أسطولا لنقل التجارة1. ويقال: إن "سرجون" الأكادي استولى في حوالي السنة "2300 ق. م." على البحرين وقطر، وإن البحرين كانت في حوالي السنة "1750 ق. م." في يد قبيلة اسمها "أكاروم" "أجارم" "Agarum"، وهو اسم قريب من "أجرم"، وإنها كانت تدفع الجزية إلى الملك "أسرحدون"2. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "Agarum" هم أهل مدينة "هجر" التي هي الأحساء3. وقد كانت العلاقات التجارية مستمرة دومًا بين البحرين وبين العراق, إذ كانت "دلمون" محطة مهمة جدا للتجارة بين الهند وإفريقيا وسواحل الخليج والعراق, تستورد الأخشاب من الهند ومن إفريقيا كما تستورد الحاصلات الأخرى وتنقل النحاس من عمان، فتبيع ذلك إلى جنوب العراق، وربما حملت تلك التجارات بسفن يملكها أهل "أور" أو غيرهم خلال نهر الفرات، لنقلها من

_ 1 p.v. golb, Bahrain, kuml, 1954, 103, bahrains oldtidshovedstad, kuml, 1954, 169. 2 arabien, s. 257, h. field, ancient and modern man in southwestern asia, 108, archive fuer orientforschung. 16, "1952-1953", 6-9 3 arabien, s. 257

هناك إلى بلاد الشام ومنها إلى البحر المتوسط لبيعها إلى أهل اليونان وبقية أرجاء "أوروبا". وقد تبين من الأخبار التي تعود إلى أيام الأسرة الثانية من أسر "أور" أن سفن ذلك الوقت "2200-2100 ق. م" كانت تقوم برحلات منتظمة فيما بين البحرين و"أور"؛ وذلك لنقل ما يرد إلى هذه الجزيرة من نحاس ومن أحجار ثمينة من عمان، ومن ذهب وأخشاب وأفاويه ومواد أخرى ثمينة من الهند1. وقد نزلت جاليات عراقية في البحرين، كما هاجرت جاليات من البحرين إلى العراق فسكنت به. وما الإله "إنزاك" "Inzak" الذي عُبِدَ في جنوب العراق وشُيدت المعابد باسمه، إلا علامة على هجرة أهل البحرين إلى العراق، وتأثر أهل العراق به؛ فهذا الإله هو إله أصله من آلهة أهل البحرين. وانتقال عبادته إلى العراق دليل على تأثر العراقيين بثقافة أهل البحرين، ونقل أهل البحرين له معهم إلى وطنهم الجديد. وقد كانت البحرين ترتاح كثيرًا عند انشغال أهل العراق بالتحارب فيما بينهم، أو بانشغال الحكومات المهيمنة عليه بمحاربة جيران العراق من الدول القوية الكبيرة، إذ تلهيهم تلك الحروب عن التفكير في السيطرة على البحرين وابتزاز الأموال من أهل الجزيرة، وتكون مثل هذه الظروف فرصة ثمينة للدلمونيين؛ إذ يجدون أسواقًا رائجة تشتري منهم ما يأتون به إلى جنوب العراق، كما يجدون الحكومات مشغولة في معالجة مشكلاتها, فلا تشتطّ كثيرًا في أخذ الضرائب من أولئك التجار. والكتابات الآشورية هي أقدم سجل، لا شك في ذلك، يشير إلى وجود "العرب" في الأرضين الواسعة الممتدة من الفرات إلى مشارف بلاد الشام، ولكن العرب فيه هم أعراب لا أقل من ذلك ولا أكثر: أعراب متنقلون في الغالب، هائمون في البادية حيث الماء والكلأ والارتزاق من الغارات على الآشوريين وعلى غيرهم. وإلى هذه الغارات يعود، ولا شك، فضل اضطرار الآشوريين إلى الإشارة إليهم في تلك الكتابات، ولولاها لما ذكروا فيها ولا أشير إليهم. وقد وجد هؤلاء الأعراب قبل زمان هذا التسجيل بأمد طويل من دون ريب، ومن يدري؟ فقد يعثر على كتابات جديدة من زمن سحيق، يسبق زمن الكتابات

_ 1 Belgrave, P. 55.

الآشورية، يرد فيها شيء من الأعراب؛ فترتفع بذلك معارفنا عنهم إلى زمن أبعد من هذا الزمن المنصوص عليه في كتابات الآشوريين. أما الموارد الإسلامية، فقد اضطربت في تعيين الزمن الذي ظهر فيه العرب في بادية الشام ومشارقها وفي العراق، ولكنها كلها لا تعرف تأريخًا يسبق التاريخ المذكور في النصوص الآشورية, وما ذكروه عن ظهور العرب في هذه البلاد، فهو مأخوذ من قصص إسرائيلي. ويظهر من رواية لـ"هشام بن محمد الكلبي" أن العرب كانوا في أرض العراق في أيام "بختنصر"، وأنهم كانوا تجارًا يقدمون العراق للتجارات، وذلك في أيام "معد بن عدنان"، وأن "بختنصر" جمع من كان في بلاده من العرب حين هَمَّ بغزو العرب في جزيرتهم، إذ نزل وحي من الله على "برخيا"، فبنى لهم "حيرًا" على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه، ووكل بهم حرسا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو. وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فأنزلهم "بختنصر" السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا عسكرهم بعد، فسموه "الأنبار", وخلَّى عن أهل الحيرة، فاتخذوها لهم منزلًا, فهذا كان مبدأ نزول العرب في العراق1. ويظهر من رواية أخرى لـ"ابن الكلبي" كذلك أن الذي أنزل العرب في العراق هو "تبع"، فالعرب الذين نزلوا الحيرة والأنبار هم قوم يمانيون. و"تبع" هذا حكم -على زعمه- بعد "ياسر أنعم" الذي حكم بعد بلقيس، وهو "تبان أسعد", وهو" أبو كرب بن ملكي كرب بن تبع بن زيد بن عمرو بن تبع"، وهو "ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ"، وكان يقال له: "الرائد". وقد خرج من اليمن حتى نزل على جبلي "طيء", "جبل شمر"، ثم سار يريد "الأنبار". فلما انتهى إلى "الحيرة" ليلًا، تحير فأقام مكانه، فسمي ذلك الموضع "الحيرة". ثم سار، وخلف به قوما من "الأزد" و"لخم" و"جذام" و"عاملة" و"قضاعة"، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيء وكلب والسكون و"بلحارث بن كعب" و"إياد"، ثم توجه

_ 1 الطبري "1/ 291" "المطبعة الحسينية".

إلى "الأنبار" ثم إلى "الموصل"، ثم إلى "أذربيجان" فلقي الترك, ثم انكفأ راجعًا إلى اليمن, وأقام العرب في العراق, "ففيهم من قبائل العرب كلها من بني لحيان وهذيل وتميم وجُعْفى وطيء وكلب"1. فهذا كان مبدأ نزول العرب السواد من أرض العراق. وحكى "الطبري" رواية أخرى عن "ابن الكلبي" متممة للرواية الأولى عن نزول العرب أرض العراق، خلاصتها: أن العرب الذين أسكنهم "بختنصر" الحيرة، انضموا بعد وفاة هذا الملك إلى أهل "الأنبار"، وبقيت الحيرة خرابًا. فلما كثر أولاد "معد بن عدنان" ومن كان معهم من قبائل العرب، وملئوا بلادهم من تهامة وما يليهم، فرقتهم حروب وقعت بينهم، وأحداث حدثت فيهم، فخرجوا يطلبون المتسع والريف فيما يليهم من بلاد اليمن ومشارف الشام، وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من "الأزد" كانوا نزلوها في دهر "عمران بن عمرو" من بقايا "بني عامر"، فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على "التنوخ"، وهو المقام، وتعاقدوا على التآزر والتناصر، فصاروا يدًا على الناس، وضمهم اسم "تنوخ". وتطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق، وطمعوا في غلبة الأعاجم على ما يلي بلاد العرب منه، أو مشاركتهم فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمع رؤساؤهم على مسير إلى العراق ووطن جماعة ممن كان معهم على ذلك، فكان أول من طلع منهم "الحيقار بن الحيق" في جماعة قومه وأخلاط من الناس ثم أعقبتهم موجات أخرى استقرت في الحيرة والأنبار وغيرهما من الأماكن بعد أن تغلبوا على "الأرمانيين"2. ورُوي عن "ابن الكلبي" أن "أردشير" لما استولى على الملك بالعراق، كره كثير من "تنوخ" أن يقيموا في مملكته وأن يدينوا له؛ فخرج من كان منهم من قبائل "قضاعة" الذين كانوا أقبلوا مع "مالك وعمرو ابني فهم" و"مالك بن زهير" وغيرهم، فلحقوا بالشام إلى هناك من قضاعة. ثم وصلت إليهم جموع أخرى من قبائل العرب، فكونوا ممالك وإمارات، سوف أتحدث عنها3.

_ 1 الطبري "2/ 3" "المطبعة الحسينية". 2 الطبري "2/ 59" "المطبعة الحسينية". 3 ابن خلدون" 2/ 278".

هذا ما وصل إليه علم الأخباريين عن العرب في الهلال الخصيب، وهو علم لا يستند بالطبع إلى نصوص عربية جاهلية، وإنما أخذ من روايات شفوية، وأخبار وردت على ألسنة الأخباريين ومن روايات أهل الكتاب. ومن الخطأ بالطبع أن نتصور أن وجود العرب في بادية الشام وشاطئ الفرات وأطراف دمشق يرتقي إلى أيام الآشوريين أو قبل ذلك بقليل؛ فوجود العرب في هذه الأرضين هو أقدم من هذا العهد بكثير. وإذا كنا قد أشرنا إلى وجودهم في المواضع المذكورة في هذا العهد؛ فلأن الكتابات الآشورية هي أقدم كتابة وصلت إلينا ووردت فيها إشارة إلى العرب, وإلا فإن العرب هم في هذه الأرضين قبل هذا العهد بكثير. في عهد لا نستطيع بالطبع تعيين ابتدائه؛ لأن هذه الأرضين هي امتداد لأرض جزيرة العرب، والتنقل بينها وبين جزيرة العرب هو تنقل حر ليس له حاجز ولا حدود، فلا نستطيع إذن أن نقول: متى سكن العرب بادية الشام؟. وقد لاقت القبائل العربية مقاومة شديدة وعنتًا شديدًا من الحكومات التي حكمت العراق والحكومات التي حكمت بلاد الشام، فقد وقفت تلك الحكومات منذ الدهر الأول لها بالمرصاد، وأبت أن تسمح لها بالتوغل في داخل أرضها التي تحكمها حكما فعليا؛ ذلك لأنها كانت تهاب الأعراب وتخشى من البداوة، إذ لم يكن من السهل على البدو تغيير سننهم واقتباس سنن الحضر، ثم إنهم كانوا يغيرون على الحضر وعلى الحدود لأخذ ما يجدونه أمامهم. وقد ترك غزو الأعراب للحدود أثرًا سيئًا راعبًا في نفوس الحكام جعلهم لا يتسامحون في دخول البدو إلى أرض الحضارة، ما دامت للحكام قوة، ولم يتساهلوا معهم إلا بالوصول إلى حدود الحضارة ومشارفها؛ وذلك لأنهم نصبوهم حرسا لهم، بمنع القادمين الجدد من البادية من الدنو من أرض الحضارة، ويدافع عن الحدود ساعة الخطر، ويهاجم مع القوات النظامية للحكومة الحاكمة أرض العدو في الحروب، وفي أيام السلم لإلقاء الرعب والفزع في نفس العدو وإكراهه على تنفيذ مطلب يراد منه. وقد اضطرت الحكومات إلى دفع أكل وطعم وهبات وعطايا سخية لسادات القبائل الحُرَّاس في مقابل قيامهم بحراسة الحدود. إذ لم يكن في استطاعة تلك الحكومات القيام بها بنفسها, ولا سيما في تعقب الأعراب وملاحقتهم في البوادي وغزو أعراب العدو، فصارت لسادات القبائل جعالات سنوية وهدايا وألطاف

وبعض امتيازات لاسترضائهم وإسكاتهم ما داموا أقوياء أعزاء، وجعلت معهم في بعض الأحيان حاميات من قوى تلك الحكومات عليها سياسيون وقادة لمراقبة أعمال سادات القبائل والحد من غلوائهم، ولمساعدتهم عند ظهور سيد آخر قوي منافس في الميدان يريد مهاجمة الحدود أو انتزاع الرئاسة من سيد القبيلة صاحب الامتيازات. والحكومات هم عادة إلى جانب سادات القبائل ما دام السادات أقوياء أعزاء. فإذا بدا الوهن عليهم، وتبين أن الأمر قد أفلت من أيديهم، وأن ساداتٍ جددًا أصحاب كفاءات وقُدَر ورؤساء أقوى من رؤساء القبائل القديمة قد برزوا في الميدان، وقد أخذوا على أيدي السادات القدامى، وأن المصلحة تقتضي الآن التحول من القديم إلى الجديد؛ تحولت تلك الحكومات إلى السادات الجدد، واتفقت معهم على شروط مرضية، للقيام بأداء المصالح والواجبات المذكورة حتى يظهر منافس جديد، يتطاول على القديم فيأخذ مكانه. وهذا هو سر تعدد حكم سادات القبائل, وانتزاع قبيلة الحكم من قبيلة أخرى، وتغير حكم "آل فلان" و"آل فلان"، وحلول حكم قبلي محل حكم قبلي سابق. وسادات القبائل هم على هذه السنة أيضًا، فكانوا إذا وجدوا ضعفًا في الحكومة المهيمنة على العراق أو على بلاد الشام وأدركوا أنها في وضع محرج، تقدموا إليها بمطالب جديدة وبشروط جديدة، تكون متناسبة مع حرج الموقف. فإذا لم تجب قام سيد القبيلة بتهديد مصالح الحكومة وبغزو أرضها أحيانا، وقد يفاوض العدو للاتفاق معه عليها، وقد يثور ويخرج عن طاعتها، ويظل هذا شأنه حتى تجاب مطالبه، أو يتفق معها على شروط يرضى عنها. وينطبق هذا الوضع على الأعراب الذين يجاورون الحضر، فعلى الحضر دفع جعالة إلى سيد الأعراب في مقابل حمايتهم لهم ومنع القبائل الأخرى المجاورة من الإغارة على أولئك الحضر, ويتقيد هؤلاء السادة بعهودهم مع الحضر ما دامت في مصالحهم. أما إذا رأوا أن الحضر في وضع حرج وأن الحكومة التي ترعاهم، أو حكومة المدينة ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، فإن الأعراب يفرضون على الحضر مطالب جديدة، ويأخذون منهم امتيازات إضافية مثل حق الارتواء من الآبار ومن مجاري الماء، وحق رعي ماشيتهم في زرع الحضر، إلى غير ذلك من شروط يضطر الحضر إلى الموافقة عليها للمحافظة على حياتهم وأموالهم، وإلا تعرضوا للغزو ولكوارث أخرى قد تنزل بهم أضرارًا تزيد على ما يطلبه

الأعراب منهم بكثير. وللسيطرة على حركات الأعراب ولضبطهم، أقامت حكومات العراق وبلاد الشام لها "مسالح"، أي: مواضع حصينة تعسكر فيها قوات نظامية في البادية يترأسها ضباط، وضعت فيها كل ما يحتاج إليه من سلاح ومؤن وذخائر وقوات كافية للقيام بمثل هذه المهمات الخطيرة في البوادي. وقد حفرت لها آبارًا للارتواء منها، ونصب ضباط هذه الحصون أنفسهم حكامًا يتحكمون في البوادي التي يشرفون عليها؛ يفضون مشكلات القبائل، ويحافظون على الأمن، ويراقبون تحركات الأعراب وتنقلاتهم؛ ليكونوا على حذر منهم ومن غزواتهم المفاجئة للحدود, وقد بقيت هذه "المسالح" إلى أيام فتوح المسلمين للعراق ولبلاد الشام. وكان من واجبات هذه الحصون توزيع الأرزاق على الأعراب أيام الشدة والضيق، والتقرب إلى سادات القبائل، وعقد صداقات معهم؛ ليستفاد منهم في كبح جماح أتباعهم، ويحولوا دون تحرشهم بهم، ولئلا يقوموا بمهاجمة الحدود. وكان أقصى مكان سمح للعرب بالوصول إليه هو الشاطئ الغربي لنهر الفرات، وحدود الحضارة لبلاد الشام وأعالي البادية، أي: قصر البادية الأعلى. أما ما وراء ذلك، فكان من الصعب على العرب الوصول إليه؛ لتشدد الحكومة في منعهم من الدنو منه، وتصلب الحضر تجاههم, ولم يدخله من العرب إلا أفراد أو جماعات تنكرت للبادية ولسننها، وكفرت بسنة الغزو، ورأت في الزراعة وفي احتراف الحرف شرفًا لا يقل عن شرف رعي الإبل والتنقل بها من مكان إلى مكان. أما الذين وقفوا عند هذه الحدود، وهم السواد الغالب، فقد بقوا على سنن البادية، مخلصين لها مؤمنين بحق الغزو والقوة، إلا من اشتم رائحة الحضارة وتنفس قليلا من ريح الحضارة، وجاور الفرات ومشارف الشام، حيث تلوح معالم الحضر، فقد طور نفسه بعض التطور، واستقر في الأرض بعض الشيء وصار وسطًا بين الحضارة والبداوة، لا هو حضري كل الحضرية، ولا هو أعرابي تام الأعرابية، وإنما وسط بين بين، ومنزلة بين المنزلتين. ولم يكن من الممكن للأعرابي أن يدرك قيمة الزرع والغرس وحياة الاستقرار؛ لأن الماء وهو جوهر الزرع غير متوافر لديه، ولأن الأمن غير موجود عنده، فهو متى زرع واستقر وكون مجتمعا حضريا صغيرا، هاجمه من هم على شاكلته من أهل البادية وسلبوه كل ما لديه. ومجتمعه مجتمع صغير لا يستطيع الاعتماد

على نفسه والركون إلى قوته في صد عادية الغزاة؛ لذلك حالت هذه الظروف دون السكنى والزرع والاستقرار, إلا في الأماكن التي وجدت فيها مياه، وتوافرت لديها القوة، كما لم يكن من السهل على سادات القبائل إكراه أتباعهم على الاستيطان والسكنى في بيوت من مدر؛ ذلك لأنهم هم أنفسهم أبناء بادية، وآراءهم آراء أعرابية ولا يفكر في هذه الشئون إلا من كان حضريًّا مستقرًا ومن ولد ونشأ وتثقف في أرض الحضارة, ثم إن تنفيذها يستدعي وجود مال وأمن وقوة رادعة تمنع الأعراب من إفساد ما يقوم به الحضري من عمل مجهد. ولم تكن هذه متوافرة عند سادات القبائل، ولم يكن في وسع سيد القبيلة الذي يجب أن يكون محترسا يقظا حتى لا يفاجئه منافس طامع من أهل البادية فيأخذ مكانه، أن يأمر قومه بالاستيطان، ووضعه على هذه الحالة من القلق وعدم الاستقرار؛ لذلك قضت طبيعة هذه البيئة على غالبية الأعراب التي جاءت إلى هذه الأماكن بأن تعيش عيشة أعرابية أو عيشة رعي، تعيش على ماشيتها بدلًا من الاستقرار استقرارًا دائمًا والاشتغال بالزراعة والاتجار بالزرع. لقد كانت القبائل العربية قد توغلت في "طور سيناء" منذ القدم, ولا بد أن تكون هذه القبائل قد نزلت مصر أيضًا، فمن يصل إلى "طور سيناء" يكون قد طرق أبواب مصر. ذهبت تلك القبائل إلى مصر تحمل إليها ما عندها من سلع، وفي جملتها البخور والمر والحاصلات الأخرى التي عرف العرب بالاتجار بها، غير أننا لا نملك ويا للأسف نصوصًا تأريخية نستطيع أن نعتمد عليها في إثبات ذلك الاتصال. نعم، عُثِرَ على صور ومدونات مصرية للسلالات الملكية الأولى، تشير إلى البدو، والبدوي هو "عمو" في اللغة المصرية1, غير أننا لا نستطيع أن نؤكد أن أولئك البدو، هم أعراب من أعراب طور سيناء، أو من بدو مصر, أو من أعراب جزيرة العرب. والذين يتحدثون اليوم عن صلات السلالات الملكية المصرية القديمة بالعرب وببلاد العرب، إنما يتحدثون عن حدس وتخمين، لا عن وثائق ونصوص أُشِيرَ فيها صراحة إلى العرب وإلى بلاد العرب، وإن كنا لا نشك كما قلنا بوجوب وجود صلات قديمة جدا ربطت بين مصر وبلاد العرب، لا سيما أن مصر متصلة

_ 1 breasted, ancient records of Egypt, vol. I, 450, 483, o'leary, Arabia, p. 28, naval, p. 214

فعلًا بجزيرة العرب من ناحية البر عن طريق "طور سيناء"، ثم إنها على الساحل المقابل للجزيرة، فلا بد أن يكون هناك اتصال بري وبحري قديم بين العرب والمصريين. ولا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على آثار قد تتحدث عن هذا الاتصال. ويظهر من أقوال "هيرودوتس" و"بلينيوس" وغيرهما من "الكلاسيكيين"، أن الأقسام الشرقية من "مصر" ولا سيما المناطق المتصلة بـ"طور سيناء" كانت مأهولة بقبائل عربية, وقد ذكرت أسماء عدد منها في كتب هؤلاء1. ولم تستقر هذه القبائل في أيام هؤلاء "الكلاسيكيين"، بل سكنت قبلهم بأمد طويل كما يظهر ذلك من كتبهم. وقد أطلق "الكلاسيكيون" على البحر الأحمر اسم "الخليج العربي" "Arabici Sinus" "Sinus Arabicus"، وفي هذه التسمية معنى يشير إلى نفوذ العرب وهيمنتهم على هذا البحر2. ومعارفنا بصلات العرب بالحكومات العراقية القديمة، مثل حكومة السومريين والأكديين "الأكديين"، لا تزيد على معارفنا المذكورة بصلات المصريين بالعرب، فهي حتى الآن قليلة ضئيلة، ولكن ضآلة ما لدينا من معلومات لا يمكن أن تكون سببًا في الحكم بعدم وجود صلات وثيقة بين سكان الخليج وسكان العراق ولا سيما القسم الجنوبي منه في أيام السومريين, بل وقبل أيامهم أيضًا، فالعراق هو امتداد طبيعي لتربة ساحل الخليج، وهو جزء طبيعي من جزيرة العرب. وهو من ثَمَّ لا يمكن أن يكون بمعزل عن أرض الساحل وعن بقية أرض جزيرة العرب. وقد يكون لاسم أرض "دلمون"، وهي أرض السلامة والنظافة، والأرض التي لا تعرف الموت ولا الأمراض والأحزان، والتي لا ينعب فيها غراب، ولا ترفع الطيور أصواتها بعضها فوق بعض، والتي لا تفترس أسودها، ولا يأكل ذئب فيها حملًا، الجنة في الأسطورة السومرية، علاقة بـ"دلمون" التي هي جزيرة البحرين في لغة قدماء أهل العراق. وقد حول الخيال السومري، أو خيال من عاش قبلهم على تلك الأرض إلى أرض مسالمة مثالية لا قتال فيها ولا موت

_ 1 herodotus, vol. I, p. 118, 129, 190, pliny, natr. Hist. vol. ii. Bk. Vi, 165 p. 463ff. 2 forster, ii, 154

ولا حزن، استمده من تلك الجزيرة المسالمة الواقعة في الخليج1. ويحدثنا نص كُتب عن فتوحات "لوكال، زكه، سي" "Lugal – Zagge – Si" "2400-2371 ق. م."، وهو من رجال السلالة الثالثة من ملوك "الوركاء" "Uruk"، أن فتوحاته كانت قد امتدت من "البحر الأسفل" "الخليج العربي" إلى "البحر الأعلى" "Upper Sea"، أي: البحر المتوسط, ومعنى هذا: أن حكمه كان قد شمل الخليج العربي2. وفي أخبار "سرجون" الأكدي، المعروف بـ"شروكين" "Sharru – Kin" "3371-2361 ق. م"، أي: العادل، أن فتوحاته بلغت "البحر الجنوبي" "البحر التحتاني" "البحر الأسفل"، أي الخليج العربي، وأنه استولى على مواضع منه3. و"سرجون" هو أقدم ملك أكدي، يقص علينا خبر وصول الأكديين إلى تلك الجهات. ويلاحظ أن قدماء العراقيين كانوا يطلقون على البحر المتوسط "البحر الأعلى"، وعلى الخليج العربي "البحر الجنوبي" "4The Lower Sea. وذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "البحر الأعلى" بحيرة "وان"5. وقد أرسل الملك الأكدي "منشتوسو" "Manishtusu" "2306-2292 ق. م" حملة عسكرية بحرية، يظهر أنها ركبت السفن من الجزء الجنوبي الغربي من إيران من "شريكم" "Shirikum"، فعبرت الخليج "البحر الأسفل" إلى الساحل المقابل، أي: الساحل الشرقي لجزيرة العرب. ولما وصلت سفنه الساحل، تجمع ملوك "المدن"، وبلغ عددهم "32" ملكًا، وقرروا محاربة جنوده، غير أن جنوده انتصروا -كما يقول ملك أكد- على جنود ملوك المدن، واندحر أهل الساحل، واضطروا إلى الاستسلام والخضوع، وسلمت تلك المدن له, وبذلك فرض سلطان "أكد" عليها إلى موضع "مناجم الفضة". وقد استولى على الجبال جنوب "البحر الأسفل"، وأخذ ما وجد

_ 1 ancient iraq, P.94 2 ancient iraq, P. 122 3 acienr iraq, P. 129 4 W. F. Leemans, trade in the old babylonian period, P. 4, leiden, 1960 5 reallexikon der assyriologie, I, funfte liefrung, s. 374

فيها من أحجار، فصنع منها تماثيل قدمها نذرًا للإله "إنليل" "1Enlil. وأغلب الظن أن مراد الملك من الجبال أسفل "البحر الأسفل" هي أرض عمان، وهي أرض متصلة من البحر بالبحرين وبالعراق من البر والبحر، كما أن تحرك السفن من جنوب غربي إيران، أي: من الأرض العربية المسماة بـ"عربستان" في الزمن الحاضر إلى الساحل المقابل، أي: ساحل جزيرة العرب الشرقي، يحمل الذهن إلى أن الجبال التي ذكرها الملك هي جبال عمان، وإذا صح هذا الرأي يكون هذا الملك الأكدي قد وصل في فتوحاته إلى أرض عمان. وجاء في كتابة مدونة على تمثال الملك "نرام سن" "نارام سن" "نارام سين"2 "2291-2255 ق. م"3 أنه أخضع موضع "مكان" "مجان" "مفان" "Magan"، وتغلب على ملكه "مانو" "مانيوم" "Manium" "مانودانو" "Mannu – Dannu"، وأسره4. ويظهر أن أهل "مجان" "مكان", وهم قوم لم يشر إلى اسمهم "منشتوسو" والد "نارام سن" "Naram – Sin"، وهم أهل عمان في رأي أكثر العلماء -كما سأتحدث عن ذلك بعد قليل- كانوا قد ثاروا على العراقيين الأكديين الذين أخضعهم لحكمه والد "نارام سن"، وذلك في أيامه أو في أواخر أيام والده، فأرسل لذلك "نارام سن" حملة تأديبية قضت على ثورتهم وأعادتهم إلى حكم الأكاديين، وعاد بذلك ساحل الخليج العربي من عمان إلى أعلاه، فصار جزءًا من مملكة أكد. وقد ورد اسم "مكان" "مجان" في نصوص سومرية وأكادية، نشر

_ 1 G.A. barton, the Royal inscriptions of sumer and akkad, new haven, 1924, P. ff. ancient iraq, P. 131 2 نحو "2300 ق. م" حتى "ص43" الترجمة العربية، و"2400 ق." في الطبعة الثالثة باللغة الإنجليزية "ص36"، "2730 ق. م" في: Rostovtzelf, a history of the ancient world, vol. I, oxford 1930, P. 397, ancient iraq, P. 132 3 L. W. King, studies in eastern history, ii, "charonicles concerning early babylonian kings," vol. I, P. 8, 51, 52, vol. ii, P. 10, 38, 39 4 king, I, P. 51, the cambridge ancient history, vol. I, P. 415, cambirdge, 1923, bruno meissner, koenige babyloniens und assyriens, s. 31, king, vol. ii, P. 10, 38, 39.

بعضها العلماء، منها نص للملك "شلجي" أو "دلجي" أو "ونجي" الملقب بـ" ملك سومر وأكاد" أفاد وجود صناعة بناء السفن في هذا المكان1. والواقع أن أهل الساحل الشرقي لجزيرة العرب عرفوا ببناء السفن منذ القديم، وقد ركبوا البحار وتاجروا، وتوسطوا في نقل التجارة من مختلف السواحل، ولا تزال صناعة بناء السفن الشراعية معروفة حتى اليوم مع قلة ربحها, وعدم تمكنها من منافسة البواخر، إلا أنها على كل حال مورد رزق لأصحابها لاقتناعهم بالقوت القليل. ويدل عثور المنقبين على أختام ومواد أخرى من عمل الهند، في "أور" وفي "كيش" و"البحرين" ومواضع أخرى من الساحل العربي الشرقي, على أن الاتصال التجاري بالبحر كان معروفًا في الألف الثالثة قبل الميلاد، وأن حركة الاتصال هذه كانت مستمرة عامرة، وأن بعض مواضع الخليج مثل "البحرين" كانت من مراسي السفن الشهيرة في تلك الأيام، تقصدها السفن القادمة من العراق في طريقها إلى الهند، والسفن القادمة من الهند في طريقها إلى العراق2. وقد دُعيت "مكان" "مجان" في نصوص أخرى "Matu – Ma – Gan – Na" أي: "أرض مجان"3. ويظهر أن الملك "مانيوم" "مانئوم" "مانوم" هو الملك "منودنو" "Mannu – Dannu" نفسه الذي ورد في نص آخر4. وقد كتبت على التمثال لفظة "بلو" "Belu" بمعنى "سيد"، أي سيد "مجان"، وهو "مانيوم", وقد جيء بحجر التمثال من "مجان". وتعني كلمة "دنو" "المقتدر"؛ ولذلك يرى بعض الباحثين أنها صفة ألحقت بالاسم، فهي لقبه، وليست جزءًا من الاسم5.

_ 1 S. H Langon, the cambirdge ancient history, vol. I, P. 415, f. thureau- dangin, die sumerischen und akkadischen koenigsinschriftten, bd. I, s. 66, 72, 76, 78, 104, 106, 134, 164, 166, H. R Hall, the ancient history of the near east london, 1947, P. 190, ancient iraq, P. 142 2 C. J. gadd, seals of aniecnt andian style found at Ur, pba, xviii, P. 191-210, sir m. wheeler, the 3 king, ii, P. 38, 39 4 king, I, P. 8, 51, 52, de morgan, délégation en pers, mémoires VI, P. 2 1905 5 King, I, P. 52, cambridge ancient history, I, P. 415

وفي أنباء "جوديا" غوديا" "Godea"، وهو "باتيسي" مدينة "لكش"1، أنه جلب الحجر من "مجان"؛ وذلك لصنع التماثيل، كما جلب الخشب منه ومن "دلمون"2, وذكر مع موضع "مجان" اسم موضع آخر هو "ملوخا", وقد ذكر "جوديا" "غوديا" أنه جلب كميات كبيرة من "حجر أحمر" من "ملوخا"3. وقد أخذ العلماء في تقصِّي هذين المكانين اللذين أخذ منهما هذا الـ"باتيسي" أحجاره وأخشابه، وكذلك أسماء مواضع أخرى ذكرت مع المكانين4. وقد بحث "ونكلر" عن موضع "مجان"، ويقع على رأيه في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب5, وقد نبه على اقتران اسم" ملوخا" باسم "مجان" في الغالب، ويرى أنهما اصطلاحان يقصد بهما في البابلية القديمة بلاد العرب، فيراد من "مجان" القسم الشرقي من الجزيرة من أرض "بابل" إلى الجنوب, وأما "ملوخا، فيراد بها القسم الشرقي من جزيرة العرب. ويرى أيضا أن ما وفع في جنوب المنطقتين عرف باسم "كوش" أي: الحبشة، وأن البابليين لم يكونوا يتصورون بلاد العرب شبه جزيرة تحيط بها البحار من الشرق والجنوب والغرب، بل تصوروها منطقة واسعة تمتد من الحبشة إلى الهند، وأن "كوش" تقابل مصر التي هي القسم الشمالي من جزيرة العرب. فما ذكر عن "كوش" ومصر في التوراة لا يقصد به الحبشة ومصر، بل يقصد به جزيرة العرب وشمالها. وقد جاء على ذلك بأمثلة من العهد العتيق، ذكر أن من الصعب أن يكون المراد بها مصر والحبشة. وقد ألف "ونكلر" رسالة سماها "مصري وملوخا ومعين" بيّن فيها رأيه في أن "مصري" هي أرض عربية شمالية، وأن مصر المذكورة في التوراة

_ 1 "باتيسي" في السومرية في مقابل كلمة "إشاكو" "Ischakku", و"الكرب" أي: الحاكم الكاهن، الذي يجمع بين السلطتين الزمنية والدينية. 2 schrader, die keilschriften und das alte testament, s. 15. ff وسيكون رمزه: KLT 3 ancient iraq, P. 141 4 "مجان وملوخا، جمعتا الخشب من جبالهما.... وجوديا جلب الخشب منهما إلى مدينة جرسو"، ancient iraq, P. 141 5 KLT, s. 15

هي في بلاد العرب، لا في إفريقيا. وقد أثارت نظرية "ونكلر" هذه جدلًا بين العلماء وقُوبلت بنقد شديد؛ لأنها تعارض ظاهرة نصوص التوراة1. وذهب آخرون إلى أن "مجان" هي في المنطقة المسماة "Gerrha" عند "الكلاسيكيين"، وهي الأحساء، وأما "ملوخا" فتمتد من المنطقة الواقعة إلى الجنوب من البحرين إلى عمان2. وقد اشتهرت "ملوخا" بوجود الذهب فيها3, ومنها حصل "جوديا" "Gudea" "غوديا" على الذهب4، كما اشتهرت بالخشب الثمين المسمى5 "Uschu". وأما "هومل"، فيرى أن "مجان" في الأقسام الشرقية من جزيرة العرب، وأن "ملوخا" تقع في وسط جزيرة العرب، أو في القسم الشمالي الغربي منها. وذهب "جيسمن" إلى احتمال وقوع "مجان" على مقربة من ساحل الخليج، في موضع في الرمال جنوب "يبرين"، فيه بئر جاهلية، قال: إن اسمها قريب من "مجان" "Magan"، ويعرف هذا المكان باسم "مجيمنة"6. وقد عارض "فلبي" رأي "جيسمن" هذا؛ لأن الموضع المذكور يقع في منطقة صحراوية بعيدة عن ساحل البحر، ولا توجد فيه آثار عاديات تشعر أنه كان من المواضع الجاهلية العتيقة، ولا صخور من نوع "الديوريت" الذي صنع منه تمثال "نرام، سين"، ولا أي نوع آخر من الصخور، يبعث على الظن أنه المكان الذي نقلت منه الحجارة إلى العراق. وقد رأى "فلبي" أن موضع "مجن" الواقع على مقربة من الساحل عند مصب وادي "شهبة"، هو أقرب إلى "مجان" من الموضع الذي اختاره "جيسمن"؛ ولهذا ظن أنه هو المكان المقصود7. ويرى "موسل" أن من الصعب جدًّا الاتفاق على تعيين موضعي "مجان"

_ 1 Huge winckler musri, meluhha, main, mitteilungen der vorderasiatischen gesellschaft, 1898, I, berlin, "hefte 2 o'qleary, P. 47 3 o'leary, P. 49 4 thureau-dangin, die sumerischen und akkadien koniginschriften, leipzig, 1907, s, 70 5 Fr. Hommel, grundriss, I, s. 13, arnorld t. wilson, the persian gulf, oxford, 1928, P. 28 6 philby, the empty quarter, P. 119. ff 7 major cheesman, in unknown arabia, P. 266

و"ملوخا"؛ لأن مدلولي الاسمين قد تغيرا تغيرًا مرارًا. فالذي يفهم من نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد، أنهما يقعان في جزيرة العرب على سواحل الخليج وعلى سواحل المحيط الهندي. فـ"مجان" في نص "نرام، سين" أرض تحدُّ إقليم "بابل"، أو هي لا تبعد عنه كثيرًا1. وهي كذلك في كتابة "جودية" "جوديا" "غوديا", وفي بعض النصوص التي عثر عليها في "أور" حيث أشير إلى طريق قوافل يوصل من "السوس "إلى "مجان"2. وهذا مما يبعث على الظن أن أرض "مجان" و"ملوخا" المذكورتين في نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد تقع على الخليج، في الأرضين التي سكن فيها الـ"جرهائيون" "3Gerrhaens". وقد كان سكان هذه السواحل يتاجرون منذ القديم مع الهند وإيران والسواحل العربية الجنوبية، ومع إفريقيا أيضا. ويرى احتمال شمول اسم "ملوخا" منطقة واسعة تشمل ما يسمى "كوش" في التوراة، والسواحل العربية الجنوبية التي كانت تعرف بـ"كوش" كذلك4. ويرى "موسل" أن مدلول "مجان" قد توسع في الألف الأول قبل الميلاد فشمل منطقة كبيرة شملت مصر أيضا، فعنى في النصوص الآشورية التي ترجع إلى الألف الأول قبل الميلاد بـ"مجان" طور سيناء والأقسام المتاخمة لها من مصر، وإلى هذا الرأي ذهب "مايسنر" كذلك5, أما "ملوخا"، فقد قصد بها الحبشة والسودان. وقد توسع مدلول "حويلة" المذكور في التوراة أيضا، فشمل المنطقة التي تقع غرب "بابل" إلى طور سيناء والسواحل الشرقية الواقعة على خليج العقبة؛ ولهذا ظن بعض العلماء أنها صارت تعني "ملوخا"6. وقد ذهب "كيتاني" إلى أن "مجان" هي "مدين"؛ لأن أرض "مدين" كانت في حوالي خمسة آلاف سنة قبل الميلاد كثيفة الأشجار، وكانت تصدر الأخشاب التي تصلح لبناء السفن, ومن مدين أخد البابليون الذهب والنحاس

_ 1 Musil, negd, P. 306. ff. British Museum Tablet, 26, 472, K. 2130 2 Musil, Negd, P. 307 3 Musil, Negd, P. 307 4 Musil, Negd, P. 307 5 Konige, S. 31, Musil, Negd, P. 307 6 Musil, Negd, P. 307

والأخشاب. أما "موسل"، فيعارض هذا الرأي، ويرى أن من الصعب تصور نقل الأكديين والسومريين والبابليين الأخشاب والصخور الثقيلة من مدين على ظهور الجمال إلى بلادهم مع اتساع الشقة وبعد الطريق، ويرى أن من الصعب تصور نقلها في البحر الأحمر فالبحر العربي فالخليج؛ فإن ذلك يستدعي زمنًا طويلًا ومتاعب كثيرة، ثم إن النصوص لم تشر إلى ذلك. فمن المعقول أن تكون "مجان" في العربية الشرقية على ساحل الخليج1. ويرى "كلاسر" أن "Magon Kolpos" الذي ذكره "بطلميوس" لا يعني "خليج المجوس" "Magorum Sinus" حتمًا، إذ يجوز أن يكون المراد منه "مجان" "Magan"، أي موضع "مجان" الذي نتحدث عنه2. ويقع -في رأيه- على ساحل الخليج، وربما كان عند "القطن" "قطن", ويحتمل -في رأيه أيضا- أن يكون "Maka" المذكور في نص "دارا"3. ويرى "أوليري" أن "مجان" هي "Gerrha"، وتمثلها الأحساء في الزمن الحاضر, أما "ملوخا" "Meluhha" فتقع -في رأيه- جنوب الأحساء، في عمان. وقد استدل على ذلك بنص دُوِّن في عهد "سرجون" "722-705 ق. م."، جاء فيه أن مملكته بلغت مسيرة 120 "بيرو" من سقي نهر الفرات إلى "ملوخا" على ساحل البحر4, وأن موضع "دلمون" "Dilmun" يقع على مسافة 30 "بيرو" من رأس الخليج؛ فيجب أن يكون موضع "ملوخا" إذًا بعد موضع "دلمون". ولما كان موضع "دلمون" هو "تيلوس" "Tylus" في رأي أكثر العلماء، أي: البحرين؛ فإذن تكون أرض "مجان" وأرض "ملوخا" في العرض، وفي المواضع المذكورة6. وذهب

_ 1 المصدر نفسه. 2 Glaser, Skizze, II, S. 223. F. Forster, I, P. 298, 306, II, 215 3 Skizze, II, S. 225 4 Schroder, Keilinschr. Verschiedenen Inhalts, Nol. 92, O'Leary P. 46 5 "بيرو", وفي القراءات القديمة "قصبو" "قصبة" "Kaspu" عوضًا عن "بيرو", وهي مقياس للمسيرات، سومر، الجزء الثاني "1949، من المجلد الخامس "ص134". 6 O'leary, P. 46. ff

بعضٌ آخرون إلى احتمال أن يكون "مجان" "مكان" في العربية الشرقية في موضع عمان1. وقد ذكر الملك "شروكين" "Sharrukin" ملك آشور أن في جملة الأرضين التي خضعت لحكمه أرض "تلمون" "Tilmun" و"مجانا" "مجان" "مجنا" "Maganna"، وتقع في البحر الجنوبي، ويريد به الخليج. ويشير الى أنه فتح هذه الأرضين بيده، وذلك قبل الميلاد بمئات السنين "1980-1948 ق. م."2. وقد رأى "ينسن" "P. Jensen" أن المراد بـ"تلمون" جزيرة "قشم"، على الرغم من ذهاب كُثُرِ الباحثين إلى أنها البحرين. وأما "مجان" فإنها في نظره أرض "عمان"3. وجاء اسم "ملوخا" "ملوخه" "Melluhha" واسم "تلمون" "Tilmun" في جملة أسماء الأرضين التي كان يحكمها ملك آشور "توكولتي نينورتا" "Tukulti-Ninurta"، وقد نعت نفسه بـ"ملك كردونيش" "Karduniash" وملك سومر وأكاد، وملك سيبار "Sippar" وبابل، وملك تلمون وملوخا، وملك "البحار العالية" و" البحار التحتية"، وقصد بجملة "البحار العالية" "بحيرة وان" على ما يظهر، وتقع أعلى آشور، وبجملة "البحار التحتية" البحر الذي يقع أسفل مملكة آشور، أي: في جنوبها، ويظهر أنه أراد به الخيلج العربي. ومعنى ذلك أنه حكم منطقة واسعة امتدت رقعتها من "بحيرة وان" حتى الخليج، وفي ضمنها "البحرين" والسواحل الواقعة إلى غربها، وهي سواحل "ملوخا" "ملوحا"4.

_ 1 Leemans, P. 12 2 Reall. I, Dritte Lieferung, S. 237, 240 3 المصدر نفسه. 4 Reall, I, Funfte Lieferung, S. 374, Berlin, 1931

دلمون

دلمون: ويجرنا الحديث عن "مجان" و"ملوخا" إلى الحديث عن موضع آخر ورد في النصوص "الأكدية" و"السومرية" و"الآشورية"، هو موضع

"ني، تك" "Ni–Tuk" "Ni–Tuk–Ki" وهو "دلمون" "Dilmun" أو "تلمون" "1Tilmum". وقد اشتهر بتمره وخشبه ومعادنه مثل النحاس والبرونز، وكانت فيه مملكة يرأسها ملوك2. وقد رأينا أن "جوديا" "Gudea" كان قد أشار إليه وإلى موضع "مجان"، وقد ذكر أنه استورد الخشب منه، كما رأينا اسم هذا المكان في ضمن الأماكن المذكورة في نص "سرجون"، وقد ورد أيضا في نص للملك "آشور بانبال"3, وفي نص للملك "سنحاريب" "سنحريب"، وقد ذكر هذا الملك أنه بعد أن تمكن من "بابل" ودكَّها دكًّا، عزم على ضم "دلمون" إلى مملكته، فأرسل وفدًا إلى ملكها يخبره أمرًا من أمرين: إما الخضوع لـ"آشور" وإما الخراب والدمار؛ فوافق ملك الجزيرة على الاعتراف بسيادة "سنحاريب" عليه، وأرسل إليه بجزية ثمينة4. وكذلك كانت هذه الجزيرة في عداد الأرضين التي خضعت لـ"آشور بانبال"5. ويظهر من النصوص أن "دلمون" كانت جزيرة تتمتع بقدسية خاصة، فكانت تعد من الأماكن المقدسة، وقد رُويت عنها أساطير دينية، وعبدت فيها آلهة تعبد لها أهل العراق، مما يدل على الاتصال الثقافي المتين الذي كان بين العراق والبحرين. ووجد اسم الإله "إنزاك" في كتابة عثر عليها في البحرين6، وتشير أسطورة "أنكي" وزوجه "ننخرساك" وملحمة "كلكمش" "جلجامش" "جلجمش"، وأسطورة "أرض الحياة"7 وغير ذلك من القصص الشعبي، إلى هذا الاتصال الطبيعي الذي كان بين جنوب العراق والعروض. وذكر "هومل" أن من كبار آلهة "دلمون": "لخامو" "لخامون"، وهو إلهة أنثى8. وأشار أيضا إلى نص أرخ في السنة السابعة من سني "فيلبس"

_ 1 O'leary, P. 46 2 Burrows, Tilmun, Bagrain, Paradis, in Orientalia, Heft, 2, Scriptura Sacra et Monumenta orientis Antiqui, Roma, 1928, P. 5, 30 3 Luckenbill, Ancient Records of Assyria and Babylonia, II, 41, 76, 92, 185 4 LUckenbill, Ancient, II Sect. 438 5 مجلة سومر، الجزء الثاني من المجلد الخامس، 1949، "ص137". 6 Burrows, P. 30 7 S.N. Kramer, in BOASOOR, Num. 96, "1944", P. 18 8 Hommel, Grundriss, I S. 130

"Philippus" "فيلفوس"1 وتقابل سنة "317 ق. م."، وهو نص "بابلي" ورد فيه اسم أرض دُعيت "برديسو" "Pardesu"، وتقابل هذه الكلمة كلمة "pildash"2 "Pardes" بالعبرانية3 و"فردوس" بالعربية، وتقع في معبد من حضارة ديلمون "3000 ق. م" من نشرة دائرة الإعلام: حكومة البحرين القسم الشرقي من جزيرة العرب، بين "مجان" و"بيت نبسانو" "Bit Napsanu" التي هي جزيرة "دلمون"4. وقد حملت هذه التسمية بعض العلماء على التفكير في أن ما ورد عن "جنة عدن" في التوراة، إنما أريد به هذه المنطقة التي تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب وعلى سواحل الخليج5.

_ 1 "فيلفوس"، الطبري "1/ 694، 738"، "طبعة ليدن". 2 Hommel, Grundriss, I, S. 166 3 Enc. Bibli. P. 3569 4 Hommel, Grundriss, I, S. 250 5 لمعرفة النظريات التي ذكرها علماء التوراة عن "جنة عدن" يستحسن مراجعة: Enc. Bibli. P. 3574

وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن أرض "دلمون" هي جزيرة البحرين، أو جزيرة البحرين والساحل المقابل لها؛ وذلك لأن المسافة التي ذكرت في نص "سرجون" تكاد تساوي بعد البحرين عن فم نهر الفرات، وهذا مما حملهم على القول: إن موضع "دلمون" هو جزيرة البحرين. ثم إن الصلات بين العراق والعروض كانت قوية، والأرض هي على امتداد واحد، فلا موانع ولا حواجز؛ ولهذا رجحوا كون "دلمون" هي البحرين1. وعرفت "دلمون" أو البحرين في الكتب "الكلاسيكية" باسم "تيلوس" "Tylus"، ويرى بعض الباحثين أنه حرف عن "تلوون" "Tilwun"، وهو "Dilmun" في الأصل، وورد معه اسم "أرادوس" "2Aradus, وقد ذكر "بلينيوس" "Pliny" أن جزيرة "Tylos" "Tylus" معروفة باللؤلؤ، وبها مدينة عرفت بهذا الاسم كذلك. وعلى مقربة منها جزيرة صغيرة, وهي تقابل الساحل الذي يسكنه الـ"الجرهائيون" "Gerrhaens"، نسبة إلى مدينتهم "جرها" "3Gerrha". وينطبق وصف "بلينيوس" لجزيرة "Tylos" "Tylus" على جزيرة البحرين كل الانطباق. وقد ورد في بعض نصوص "أور" "Ur" أنها صدرت الصوف في السفن إلى "تلمون" "4Tilmun"، كما أشير إلى قوافل كانت تذهب من "أور" إلى هذا الموضع، وقد عادت بأرباح كبيرة5. ويظهر من هذه النصوص ومن نصوص أخرى أن الإتجار بين "تلمون" و"أور" كان متصلًا مستمرًّا، وأن جماعة ممن تجار "أور" كانوا يرسلون قوافل من السفن "إلى "تلمون" للاتجار، تحمل إلى هذا الموضع ما بها حاجة إليه من حاصلات العراق ومن الأموال الواردة إلى العراق من الأسواق الخارجية مثل إيران وبلاد الشام وآسيا الصغرى وربما من اليونان وأسواق أوروبا, فتبيعها هناك، وربما يشتريها تجار "تلمون" أو غيرهم

_ 1 P.B. Cornwall, in BOASOOR, 1946, P. 3. ff. The Geographical Journal, CVII, NOB, I, and 2, Febr. 1946, 28-50, The National Geographical Magazine, April, 1948. 2 Enc. I, P. 584 3 Glaser, Skizze, II, S. 74 4 UET III, 1507, Leemans, P. 22 5 UBTV 526, UETV 678, Leemans, 25, 26, 27, 28, 29

لتصديرها إلى أماكن أخرى بعيدة مثل الهند، أو إفريقيا، أو قلب جزيرة العرب. فإذا انتهى هؤلاء التجار من بيع تجارتهم، يعودون ببضائع من البحرين، هي في الغالب من تجارة الهند أو إفريقيا، في جملتها المعادن والأخشاب والعطور والأشياء النفيسة الأخرى التي كانت تباع بأثمان باهظة، فيربح هؤلاء التجار من هذه التجارة ربحًا كبيرًا. وقد كان تجار "تلمون" يأتون بسفنهم إلى "أور" يحملون ما استوردوه من تجارات من الهند أو إفريقيا أو جزيرة العرب؛ لبيعه في أسواق "أور" ثم يعودون بسلع أسواق أور، من حاصل العراق وما جلب إلى أور من الخارج. وقد كان هؤلاء التجار يدفعون العشر، ضريبة عن هذا الإتجار1. وقد عثر على نصوص تبين من دراستها أنها عقود واتفاقيات عقدت بين تجار للإتجار بين "أور" و"تلمون"، وبينها وثائق تتعلق بتجارة تجار قاموا بأنفسهم بالإتجار مع "تلمون". ويظهر من دراستها أن أولئك التجار كانوا يستوردون النحاس بمقياس واسع من "تلمون"؛ لأنه مطلوب في العراق؛ ولأن أسعاره هناك أرخص بكثير من سعره في أور، وكان في جملة السلع التي استوردوها من "تلمون" الفضة و"عين السمك"، أي: اللؤلؤ على ما يظن2. ولا بد أن يكون هذا النحاس من جملة المواد المستوردة من مواضع أخرى إلى "تلمون", وقد تكون أرض عمان في جملة الأماكن التي أمدت هذا الموضع به. فقد عثر في عمان على آثار منجم عند مكان يسمى "جبل معدن" يقع على مسافة "75" ميلًا إلى الشمال الغربي من الجبل الأخضر3. فلعل هذا المنجم القديم كان مستغلًّا في تلك الأيام يستخرج النحاس منه. ولقد عثر في البحرين على مقابر قديمة كثيرة كما ذكرت قبل, وقد وجد بعد فتحها أنها خططت على نمط واحد، وتتجه مداخلها نحو الغرب, وذلك مما يبعث على الظن أن لهذا الاتجاه علاقة بشعائر دينية عند القوم أصحاب المقابر. وقد وجدت فيها كما سبق أن قلت عظام بشرية، منها جمجمتان بشريتان،

_ 1 Leemans, P. 31 2 Leemans, P. 48, 50 3 Leemans, P. 122

وعظام حيوانات يظهر أنها دفنت وهي حية مع أصحابها وفق العقائد الدينية التي كانوا يدينون بها, وعثر على مصوغات من الذهب وعلى خرز وأحجار زينة, غير أن هذه الأشياء لم تعطِ الباحثين حتى الآن فكرة يقينية عن تأريخها وعن أيام أصحابها. والرأي الشائع بين الذين عنوا بدراستها وفحصها أنها مقابر "فينيقية"؛ لأن البحرين كانت الموطن القديم للفينيقيين1، وإن لم يصدر حتى الآن رأي جازم في هذا الشأن. وقد عثر كما ذكر "ولسن" "wilson" في مقبرة من هذه المقابر على حجر أسود مكتوب بكتابة تشابه الكتابات المسمارية2. ويستشهد العلماء الذين يذهبون إلى أن تلك المقابر هي مقابر "فينيقية"، وأن سكان البحرين هم فينيقيون، بما ذكره "سترابون" من أن في جزيرتي "Tylus" "Tyrus" و"Aradus"، مقابر تشابه مقابر الفينيقيين، وأن سكان الجزيرة يرون أن أسماء جزائرهم ومدنهم هي أسماء فينيقية3. وقد قامت بعثة آثارية دانماركية بالبحث عن الآثار في البحرين، وقد نبشت الأرض في ثلاثة مواضع لاستنطاقها والاستفسار منها عن ماضيها القديم. وقد تأكدت البعثة من أن الأماكن التي نقبت فيها تعود إلى مستوطنات العصر البرونزي, وكان في جملة ما عثرت عليه تمثالان صغران لثورين، وفخار، وأشياء أخرى. وقد عثر المنقبون على آثار معابد في مواضع من جزر البحرين، تبين من فحصها أنها خربت مرارًا، وأن الأيدي لعبت بها، وقد انتزعت أحجارها للاستفادة منها في تحويلها إلى أبنية جديدة. وفي جملة ما عثر عليه في أنقاضها بعض التماثيل وبعض الأحجار المثقوبة، وكانت مذابح تذبح عليها القرابين، فتسيل دماؤها من هذه الثقوب إلى حفرة تتجمع فيها الدماء. وقد تبين أن هذه المعابد، هي من معابد العصر النحاسي والعصر البرونزي، وأن تأريخ بعضها يعود إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد4.

_ 1 Enc. Vol. I, P. 585,Cornwal, In Geogr. Journal., CVII, P. 36, 142, 1946, Wilson, The Pers. Gulf. P. 29, Bent, The Bahrain Islands, In Roy, Geogr. Soci. 12, London, 1890 2 Wilson, P. 31 3 Enc. I, P. 585, Wilson. P. 29, 30, Strabo, XVI, III, 3, 4, Stuhlmann Der Kampf S. 195 4 Belgrave, P. 53

ويرى كثير من الباحثين في التأريخ القديم أن أصل الفينيقيين الساكنين في "فينيقية" بلبنان هو من هذه المنطقة، أي: من البحرين والساحل المقابل له. وقد ذكر "هيرودوتس" أن المشهور في أيامه أن أصلهم من البحر الأحمر1, ولكن العلماء يرون أنه قصد الخليج العربي "Sinus Persicus" لا البحر الأحمر. سلالم تؤدي إلى معبد من معابد "باربار" في البحرين من تصوير شركة نفط البحرين ويذكرون أن الفينيقيين تركوا ديارهم هذه، وهاجروا منها سالكين الساحل، ثم وادي الفرات، ومن وادي الفرات يَمَّمُوا لبنان، حيث استقروا على الساحل في المنطقة التي عرفت باسمهم، أي "فينيقية" "2Phoenicia. إننا لا نستطيع أن نتحدث الآن عن حكومة العروض أو حكومات العروض

_ 1 Herodotus, I, VII, 89, Hastings, P. 725 2 Hastings, P. 725

في عصور ما قبل الميلاد؛ فما لدينا من أخبار هو نزر يسير. نعم، من الجائز أن يكون أهل هذا الساحل قد كونوا لهم حكومة واحدة، ومن الجائز أن يكونوا قد أقاموا حكومات عديدة؛ حكومات مدن، أو حكومات قبائل، على نحو ما نعرفه عن هذه المنطقة إلى عهد ليس ببعيد, وكما نرى في مشيخات وإمارات الخليج في هذا الزمان, ومن الجائز أن يكون أهل العراق قد أخضعوا ذلك الساحل وأقاموا حكومات فيه. ونحن لا نستطيع التحدث الآن عن "أرض البحر" "Mat–Tamtim"، هل كانت حكومة قوية عاشت في الألف الثالث قبل الميلاد، حكمت كل الساحل إلى أن غزتها حكومات من العراق أم كانت إمارة أو" مشيخة" في اصطلاح هذا اليوم؟ ولكن ما نراه من سرعة تغلب الأكاديين والسومريين والآشوريين على أهل الساحل، يشير إلى أنهم لم يكونوا أصحاب حكومة قوية, وأنهم إنما كانوا في أغلب الظن رجال بحر وتجارة، لهم حكومات صغيرة أي: إمارات و"مشيخات"، وهذا يفسر لنا سر استسلامها لحكومات العراق بسهولة ويسر وأدائها الجزية لها. وهناك من يزعم أن "السومريين" إنما جاءوا إلى العراق من البحرين، جاءوا إليه في حوالي السنة "3100 ق. م". وقد عرفت البحرين باسم "دلمون" "تلمون" "Dilmun" في نصوص السومريين, وقد كانت البحرين محطة مهمة ينزل فيها الناس في هجراتهم نحو الشمال، كما كانت محطة للاتجار مع الهند والبلاد البحرية الأخرى1. والرأي الغالب اليوم بين علماء التأريخ القديم أن الكلدانيين الذين سكنوا الأقسام الجنوبية من العراق، إنما جاءوا إلى هذه الأرضين من العربية الشرقية من ساحل الخليج، وذلك في أواخر الألف الثانية قبل الميلاد، ثم زحفوا نحو الشمال حتى وصلوا إلى بابل، وقد وجد بعض الباحثين كتابات كلدانية تشبه حروفها الحروف العربية الجنوبية القديمة، أي: حروف المسند، واستدلوا من ذلك على أن أولئك المهاجرين الذين ربما كان أصلهم من عمان هاجروا إلى ساحل الخليج، ثم انتقلوا منه إلى العراق، ونقلوا معهم خطها القديم، الذي تركوه بعد ذلك حينما استقروا في العراق؛ لتأثرهم بالمؤثرات الثقافية العراقية. والنماذج القديمة من كتاباتهم التي عثر عليها الباحثون،

_ 1 Grohmann, Arabien, S. 255

وإن لم تتحدث عن أصل أصحابها، إلا أن خطها المذكور يشير إلى أنه من العربية الشرقية1. وقد ذهب "سترابو" إلى أن "Gerrha" التي تقع عند "العقير" كانت في الأصل موضعًا للكلدانيين "Chaldaer"، وكانت ذات تجارة مع أهل بابل مزدهرة2. على كلٍّ, فالذي يتبين لنا من الأخبار السومرية والأكدية والآشورية وغيرها أن أهل العربية الشرقية كانوا قد كونوا لهم حكومات مدن وذلك قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، صرفت جل عنايتها نحو التجارة وركوب البحار للاتجار، والاستفادة من البحر لاستخراج ما فيه من سمك و"لؤلؤ"، واستغلال ما في أرضها من ماء للزراعة عليه. والطبيعة هي التي فرضت على أهل هذا الساحل هذا الشكل من الحكم؛ لأنها لم تمنحهم أمطارًا وافرة تمكنهم من استغلال أرضهم، ولم تعطهم أنهارًا كبيرة طويلة تساعد في نشوء العمران عليها وتكوين حكومات مطلقة، كما في العراق أو في وادي النيل؛ لذلك انحصرت السكنى في مواضع متناثرة من الساحل، فصعب على السكان تكوين حكومة مطلقة واحدة يكون الحكم فيها حكما مركزيا في أيدي الملوك, لتباعد المدن بعضها عن بعض؛ لذلك صار الحكم فيها حكم مدن, على المدينة "ملك" أو رئيس يدير شئون الجماعة، إلا أن هذا الوضع جعلهم عرضة للغزو, إذ طمعت فيهم الحكومات الكبيرة، كالذي رأيناه من غزو السومريين والأكديين لهم، وكالذي سنراه فيما بعد من غزو الآشوريين واليونانيين وغيرهم لهذه الأرضين. لقد استورد السومريون والأكديون الذهب والحجارة الصالحة لصنع التماثيل، والأخشاب لبناء المعابد، والأشياء النفيسة الأخرى من "دلمون" ومن "ملوخا" ومن "مكان" "مجان"، وهي أماكن يرى كثير من العلماء أنها في العربية الشرقية، وقد تكون تلك المواد من الأموال المستوردة من الهند. على كل حال، فقد توسطت تلك الأماكن في استيرادها وإيصالها إلى العراق، بفضل مهارة سكانها في تسخير البحر وتيسيره، وقد ترك الفتح العراقي فيها أثرًا كبيرًا

_ 1 W. F. Albright, in BASOOR, Num. 128, 1952, P. 39, "the Chaldaean Inscriptions in Proto-Arabic Script" 2 Strabo, XVI, 7, 66, Grohmann, Arabien, S. 257

يظهر في الآثار العراقية التي استخرجت من باطن الأرض, وفي فن العربية الشرقية المتأثر بالفن العراقي. وقد أثر انتقال ثقل الحكم من "أور" ومن القسم الجنوبي من العراق إلى وسطه تأثيرًا كبيرًا في ثراء "أور" واقتصادها، فقد كان في هذه المدينة تجار كونوا لهم شركات بحرية لنقل التجارة بين هذه المدينة ومدن الخليج، وربما إلى رأس ثور عثرت عليه البعثة الدانماركية في "باربار" بالبحرين مدن الهند أيضا, وقد أثر ذلك فيهم بصورة خاصة حين وضع "حمورابي" أنظمة تحدد الاتجار البحري في ذلك العهد1. وقد افتخر ملك "آشور"، الملك "تكولتي، ننورتا" "Tukulti–Ninurta" "1244-1208 ق. م." بأنه وسع حدود مملكته في الجنوب، بأن استولى على "سومر" و"أكد"، وثبت حدودها الجنوبية عند "البحر الأسفل حيث مشرق الشمس"2. ويعني بذلك الخليج، غير أنه لم يشر إلى الأرضين التي استولى عليها في هذا الخليج. هذا كل ما نعرفه اليوم عن تأريخ العرب في العهود القديمة, وهو كما رأينا

_ 1 Ancient Iraq, P. 184, Leemans, The Old Babylonian Merchant, Leiden, 1950; P. 78-95, Foreign Trade in the Old Babylonian Period, Leiden, 1960, A. L. Oppenheim, JAOS, S. 74, 1954, P. IS, 17 2 Ancient Iraq, P. 217, D.D. Luckenblll, Ancient Records, I, P, 145

نزر يسير، أخذ من بحوث أفراد ومن بحوث عرضية حُصِلَ عليها عند البحث عن البترول، وأملنا في زيادة علمنا بتلك العهود هو في قيام بعثات علمية بالبحث عن الآثار والعاديات لاستنطاقها عن أحوال تلك العهود. وليس أمامنا بعد هذه المقدمة إلا الدخول في العصور المعروفة التي وصل إلينا بعض أخبارها في الكتابات وفي الموارد الأخرى. وقد كان لأعمال الحفر التي قامت بها بعثة "دانماركية" أرسلها متحف ما قبل التأريخ في "Aarhus" بالدانمارك, فضل كبير في الكشف عن صفحات مطوية من تأريخ سواحل الخليج. فقد تمكنت هذه البعثة من العثور على آثار من عهود ما قبل العصور التأريخية في البحرين وقطر و"أبي ظبي"، كما تعقبت آثار السكنى القديمة في البحرين وعمان وبقية الساحل، وعثرت على معابد قديمة مثل معبد "بربر" "باربار" في البحرين و"تل قلعة البحرين" في البحرين، وتوصلت بذلك إلى نتائج قيمة جدًّا رجعت بتأريخ هذه البلاد إلى عصور بعيدة جدًّا عن الميلاد، وكان من أعمالها الكشف عن آثار "فيلكا" في الكويت. وقد تبين من دراسة البعثة الدانماركية لآثار معبد "بربر" "باربار" في البحرين أنه معبد عتيق, يرجع عهده إلى حوالي السنة "3000 ق. م." أو أقدم من ذلك1, وأنه كان معبدًا كبيرًا به "بئر" مقدسة يستقي منها المؤمنون للتبرك بمائها ولتطهير أجسامهم ولإجراء الشعائر الدينية. ويلاحظ أن الباحثين تمكنوا من العثور على آبار مقدسة في بيوت العبادة الكبرى عند الجاهليين، وهذا يدل على أن معابدهم الكبيرة كانت ذات آبار مقدسة يشربون منها للتبرك والشفاء ولتطهير أجسامهم، شأنهم في ذلك شأن أهل مكة و"زمزم". لقد وجدت هذه البعثة تحت أنقاض "تل القلعة" في البحرين بقايا مدينة قديمة يمكن أن تعد من مدن الجزيرة الكبيرة أو عاصمتها، يرجع تأريخها إلى حوالي السنة "2500 ق. م.", وكانت مسورة بسور ارتفاعه "16" قدمًا عن سطح الأرض، بُنِيَ بالحجارة، وقد بنيت به قلعة لحمايته من هجوم الأعداء، وعثر على باب المدينة، وقد زينت ببناء مربع الشكل. ويقال: إن الملك "سرجون" الأكادي كان قد أمر بإحراقها سنة "2300 ق. م." حتى صارت ركامًا،

_ 1 Grohmann, Arabien, S., 266

وبقيت على ذلك طوال أيام "الكاسيين" "الألف الثانية قبل الميلاد"، حتى أعيد بناؤها في القرن السابع قبل الميلاد، فازدهرت وتوافد عليها السكان، وأخذت تتاجر مع العراق. وكانت مزدهرة في أيام "الأخمينيين" و"السلجوقيين"، إلا أن النحس حل بها بعد سقوط الحكومة السلجوقية، ولازمها ولم يتركها حتى هجرها الناس1. وفي جملة ما عثرت عليه تلك البعثة آثار مدينة يرجع عهدها إلى منتصف الألف الأولى قبل الميلاد، في مكان يعرف بـ"مرب" في القسم الغربي من "قطر"2.

_ 1 P.V. Glob, Kuml, 1957, 1958, 142, 144, T.G. Bibly, Kuml, 1957, 162. Glob, Kuml, 1959, 238 2 Grohmann, Arabien, S. 260

الفصل الرابع عشر: العرب في الهلال والخصيب

الفصل الرابع عشر: العرب في الهلال والخصيب مدخل ... الفصل الرابع عشر: العرب في الهلال الخصيب ليس من السهل علينا التعرض في الوقت الحاضر للصلات التي كانت بين العرب الشماليين وبين حكومات الهلال الخصيب في أقدم العهود التأريخية المعروفة التي وقفنا على بعض ملامحها ومعالمها من الآثار؛ فبينها وبيننا حجب كثيفة ثخينة لم تتمكن الأبصار من النفاذ منها لاستخراج ما وراءها من أخبار عن صلات العرب في تلك العهود بالهلال الخصيب. ولعل خبر "نرام، سن" "نرام، سين" "Naram–Sin" الأكادي "2270-2223 ق. م." عن استيلائه على الأرضين المتصلة بأرض بابل, والتي كان سكانها من العرب "Aribu" "Arabu" هو أقدم خبر يصل إلينا في موضوع صلات العرب بالعراق1. وهو خبر ينبئك بأن عرب أيام "نرام، سن"، كانوا في تلك المنازل قبل أيامه بالطبع؛ وهي منازل كونوا فيها "مشيخات" و"إمارات" مثل إمارة "الحيرة" الشهيرة التي ظهرت بعد الميلاد. ويحدثنا سفر "القضاة" بأن "المدينيين" والعمالقة وبني المشرق، كانوا ينتزعون ما بأيدي الإسرائيليين من غلة زراعة، وما عندهم من ماشية، ويغيرون

_ 1 Arabien, S. 21

وأما "Muaba"، فيرى "موسل" أنها "مؤاب" المذكورة في التوراة1، وهي أرض المؤابيين، أبناء "مؤاب"2. وأسماء الأشخاص الواردة في النصوص الآشورية هي أقدم أسماء نعرفها وردت في نصوص تأريخية عند العرب الشماليين، مثل "زبيبة" و"شمس" و"الباسق" الذي كتب "بسقانو" "Basqanu" في النص الآشوري، و"أيم" الذي هو "إيمو" في النصوص الآشورية، و"جندب" الذي صار "جنديبو" "Gindibu" في اللغة الآشورية "Kiau" "Kisu" "Ki–i–su" الذي يحتمل أنه "قيس"، و"Agbaru" "Akbaru" القريب من أكبر أو "أخبر" أو "أجبر"، "وخبيصو" "جيصو" "Habisu" "kha–bi–su" الذي يحتمل أنه "خبيص" أو "خابص" أو "حبيس" أو "حابس" أو "قبيصة" أو ما شابه ذلك من أسماء، و"نخرو" "نحرو" "Niharu" "Ni–kha–ru" الذي يحتمل أنه "نخر"، أو "ناخر" أو "نهار"، و"ليلى" "Laili" "Laiale"، الذي هو "ليلي" إلى آخر ذلك من أسماء. وورد في جملة الأرضين التي استولى عليها "آشور بانبال" في بلاد العرب، اسم موضع دعي "إنزلكرمة" "Enzilkarme" "Al–en–zi–kar–me"، وهو كناية عن واحة، يرى "ديلج" "Delitzsch" أنها تقع جنوب حوران3. وقد افتخر "آشور بانبال, الملك العظيم, الملك الحق الشرعي, ملك العالم, ملك آشور, ملك الجهات الأربع، ملك الملوك، الأمير الذي لا ينازعه منازع، الذي يحكم من البحر الأعلى إلى البحر الأسفل، والذي جعل كل الحكام الآخرين يخرون له سجدا ويقبلون أقدامه"4، بأنه ملك من البحر الأعلى حتى جزيرة "دلمون" من البحر الأسفل5. ومعنى هذا أن ملكه امتدَّ من أعالي العراق إلى البحرين6. يظهر من النصوص الآشورية أن الآشوريين قاموا بعدد من الحملات يزيد,

_ 1 Deserta, P. 485 2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 385". 3 Delitzch, S. 300, Hommel, Geographie, S. 588, Reall, II, S. 404 4 راجع النص في: pritchard, P. 297 5 pritchard, P. 297 6 R. C. Thompson. In AAA, XX "1933", 71

بل كان ذلك عامًّا حتى بين العرب أنفسهم؛ وقد أدى ذلك إلى جهلنا بهويات شعوب ذكرت في النصوص الآشورية وفي النصوص الأخرى وفي التوراة، دون أن يشار إلى جنسيتها، فلم نستطع أن نضيفها إلى العرب للسبب المذكور. وكان ملك "دمشق" "بيرادري" "Bir–Idri" "Biridri"، المعروف باسم "بنهدد" "Benhaddad" في التوراة1، قد هاله توسع الآشوريين وتدخلهم في شئون الممالك الصغيرة والإمارات، ولا سيما بعد تدخلهم في شئون مملكة "حلب"، وخضوع هذه المملكة لهم بدفعها الجزية واعترافهم بسيادة آشور عليها. فعزم على الوقوف أمام الآشوريين، وذلك بتأليف حلف من الملوك السوريين وسادات القبائل العربية؛ لدرء هذا الخطر الداهم. وقد انضم إليه "آخاب" ملك إسرائيل، وأمراء الفينيقيين، فكان مجموع من استجاب لدعوته اثني عشر ملكًا من ملوك سورية، "وجنديبو" ملك "العرب"، وقد أمد الحلف بألف جمل وبمحاربين، وكل هؤلاء كانوا قد أصيبوا بضربات عنيفة من الآشوريين وتعلموا بتجاربهم معهم مبلغ قوتهم وغلظتهم على الشعوب التي غلبوها على أمرها، فأرادوا بهذا الحلف التخلص من شرهم والانتقام منهم والقضاء عليهم. وعند مدينة "قرقر"، الواقعة شمال "حماة" وعلى مقربة منها، وقعت الواقعة، وتلاقى الجيشان: جيش "آشور" تسيّره نشوة النصر، وجيوش الإرميين والعرب والفينيقيين ومن انضم إليهم، تجمع بينهم رابطة الدفاع عن أنفسهم، وبغضهم الشديد للآشوريين. لقد تجمع ألوف من جنود الحلفاء في "قرقر" على رواية ملك آشور؛ لمقاومة الآشوريين وصدهم من التوسع نحو الجنوب، واشتركت في المعركة مئات من المركبات. أما النصر فكان حليف "شلمنصر"، انتصر عليهم بيسر وسهولة، وأوقع بهم خسائر كبيرة، وغنم منهم غنائم كثيرة، وتفرق الشمل، وهرب الجميع، وانحلَّ العقد، ورجع ملك آشور إلى بلده منتصرًا، مخلدًا انتصاره هذا في كتابة ليقف عليها الناس2.

_ 1راجع عن "بنهدد"، قاموس الكتاب المقدس، "1/ 250"، "بنهداد، أوبرهداد" "أداريدري، وهو الذي يسميه الكتاب المقدس بنهداد، باسم أبيه بنهداد الأول" أدي شير "ص69"، Meisner, Konige, S. 139, Hastings, P. 90, Enc. Bibli. P. 5 2 أدي شير "ص69 فما بعدها".

وإليك بعضَ ما جاء في نص "شلمنصر" عن معركة "قرقر"؛ لتقف على ما قاله عنها: "قرقر: عاصمته الملكية، أنا أتلفتها، أنا دمرتها، أنا أحرقتها بالنار، 1200 عجلة، 1200 فارس، 20.000 جندي لهدد عازر صاحب إرم ... ألف جمل لجندب العربي ... هؤلاء الملوك الاثنا عشر الذين استقدمهم لمساعدته، برزوا إلى المعركة والقتال، تألبوا عليَّ ... "1. ويلاحظ كثرة عدد العجلات المستخدمة في المعركة بالنسبة إلى تلك الأيام، وهذه الأرقام ليست بالطبع أرقامًا مضبوطة، فقد عودنا الملوك الأقدمون المبالغة في ذكر العدد، والتهويل في تدوين أخبار المعارك والحوادث؛ للتضخيم من شأنهم وللتعظيم، وتلك عادة قديمة نجدها عند غير الآشوريين أيضا2. و"جنديبو" اسم من الأسماء العربية المعروفة هو "جندب", ويكون هذا الاسم أول اسم عربي يسجل في الكتابات الآشورية. ولم يشر "شلمنصر" إلى أرضه والمكان الذي كان يحكم فيه. غير أن القرائن تدل على أنها كانت في أطراف البادية، ويرى "موسل" أنها كانت تقع في مكان ما جنوب مملكة "دمشق"3, وأرى أنه كان ملكًا على غرار الملوك سادات القبائل مثل ملوك الحيرة والغساسنة، حكم على قبائل خضعت لحكمه وسلطانه، وكان يتناول الإتاوات من الحكومات الكبيرة مقابل حماية حدودها من الغارات والاشتراك معها في الحروب. وقد أبلغنا "شلمنصر" الثالث "858-824 ق. م." أيضا، أنه زحف نحو الجنوب، نحو أرض "كلدو"، أي: أرض الكلدانيين، فاستولى عليها وتوغل بعد ذلك نحو الجنوب حتى بلغ "البحر المر" "البحر المالح" "Nar Marratu" أي الخليج العربي، فقهر كل السكان الذين وصلت جيوشه إليهم4. ويظهر أنه بلغ حدود الكويت فاتصل بذلك بجزيرة العرب وبقبائل عربية ساكنة في هذه الأرضين.

_ 1 Meisner, Koenige, S. 140, J.W. Weiss, Geschlchte d^a Orients, S. 597, Grohmann, S- 21, Luckenbill, I, 611, Meisner, Koenlge, S. 140 2 Meissner, Konige, S. 140 3 Muall, Deserta, P. 477 4 Ancient Iraq, P. 277, Luckenbill, I, 624

وفي السنة الثالثة من حكم "تغلث فلاسر" "تغلاتبلاسر الثالث" "Tiglath Pileser"1 "745-727 ق. م." تقريبًا، دفعت ملكة عربية اسمها "زبيبي" الجزية إلى هذا الملك, وكانت تحكم "أريبي"، أي العرب. ولم يتحدث النص الذي سجل هذا الخبر عن مكان الأعراب أتباع "زبيبي". معركة بين العرب والآشوريين وقد ذهب "موسل" إلى أنه "أدومو" "Adumu"، أي "دومة" "دومة الجندل"، وذهب أيضا أن الملكة كانت كاهنة على قبيلة "قيدار" "2kedar. و"زبيبي" هو تحريف لاسم "زبيبة"، وهو من الأسماء العربية المعروفة. ويحدثنا هذا الملك أيضا أنه في السنة التاسعة من ملكه، قهر ملكة عربية أخرى اسمها "سمسي" "Samsi" "شمسي" "Shamsi"، واضطرها إلى دفع الجزية له بعد أن تغلبت عليها جيوش آشور. ويدعي الملك أنها حنثت بيمينها

_ 1 "تغلث فلاسر"، و"ثغلث فلناسر" في الترجمات العربية للتوراة، أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الثامن والعشرون، الآية العشرون، الملوك الثاني، الإصحاح الخامس عشر، الآية 29، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الخامس، الآية 26؛ ولذلك اخترت هذه التسمية، قاموس الكتاب المقدس "1/ 288"، أدي شير "ص80"، وقد جعله "موسل" "ثغلث فلاسر الرابع"، Musll, Hegaz, P. 287, Deserta, P. 477 وعرف بـ: "Rukulti – Apil – Esharra" في النصوص: Hastings, P. 934. 2 Rost, Keilschrifttexte, II, P 1. 16. "1893" Olmstead, Gistory of Assyria, P. 189, G. Rawlinson, The Five Great Monrchies, vol. II, P. 396

وكفرت بالعهد الذي قطعته للإله العظيم "شماش" "Schamash" بألا تتعرض للآشوريين بسوء، وبأن تخلص لهم، فانتصر عليها، واستولى على مدينتين من مدنها، وتغلب على معسكرها، فلم يبقَ أمامها غير الخضوع والاستسلام وتأدية الجزية إبلًا: جمالًا ونوقًا1. والظاهر أنها انضمت إلى ملك دمشق في معارضته للآشوريين، وتعرضت لقوافل آشور، فجهز الملك عليها حملة عسكرية تغلبت عليها. ولضمان تنفيذ مصالح الآشوريين، قرر الملك تعيين "قيبو" أي: مقيم أو مندوب ساميّ آشوري لدى بلاطها؛ لإرسال تقاريره إلى الحاكم الآشوري العام في سورية عن نيات الملكة واتجاهات الأعراب، وميول قبيلتها، ولتوجيه سياسة الملكة على النحو الذي تريده "آشور"2. وقد ذكر النص الآشوري أن الملكة أصيبت بخسائر فادحة جدًّا، وهي ألف ومائة رجل، وثلاثون ألف جمل، وعشرون ألف من الماشية، وهي أرقام بُولغ فيها جدا، ولا شك3. ويذكرنا اسم الملكة "شمسي" "سمسي" باسم عربي هو "شمس" أو "شمسة", و"شمسة" من الأسماء العربية القديمة التي ما تزال حية. وقد كان في المدينة امرأة نصرانية اسمها "شمسة"، أسلمت على يدي الحسن بن علي بن أبي طالب4, فحرف الآشوريون الاسم وفق نطقهم وكتبوه على هذا الشكل. وقد صور على اللوح الذي ورد فيه خبر الانتصار المذكور، منظر فارسين آشوريين يحملان رمحين، يتعقبان أعرابيًّا راكبًا جملًا، وتحت أعقاب الفرسين وأمامهما جثث الأعراب الذين خروا صرعى على الأرض, وصور شعرهم طويلًا وقد قعد إلى الوراء، وأما اللحى فكثَّة، وأما أجسامهم فعارية إلا من مئزر شد بحزام. وقد حرص الفنان على تصويره الأعرابي الراكب قريبا جدا من الفارسين، مادًّا يده اليمنى إليهما متوسلا ومسترحما ومستسلما، وصورت الملكة

_ 1 أدي شير "ص85"، Musll, Deserta, P. 477, Olmstead, History of Assyria, P. 199, J. B. Pritchard, Ancient Near Easterenn Texts, Princeton, 1950. P. 283 2 Musil, Deserta, P. 477 3 Meisner, Konige, S. 140 4 ابن سعد، الطبقات "5/ 284" "طبعة بيروت 1957".

"سمس" "شمسي" "سمسي" حافية، ناشرة شعرها، تحمل جرة من الجرار الإحدى عشرة المقدسة، بعد أن أضناها الجوع والتعب في فرارها إلى "بازو"، وقد خارت قواها المعنوية1. وورد في الكتابة الآشورية أن الملكة أرسلت وفدًا إلى ملك آشور لمصالحته واسترضائه، ضم عددًا من سادات قبيلتها وأتباعها، منهم "يربع" "يربأ" "Jarapa" وكان رئيس الوفد، و"خترنو" "حترنو" "Hataranu" و"جنبو" "Ganabu"، و"تمرنو" "2Tamranu. وهي أسماء عربية لا غبار عليها، كتبت بحسب النطق الآشوري؛ فـ"Jarapa" مثلا، يمكن أن يكون أصله "يرفع" أو "يربع" أو يربوع، و"Hataranu" جائز أنه "خاطر" أو "خطر"، و"Ganabu" جائز أنه جناب أو "جنب"، و"Tamranu" جائز أنه "تمر" أو "تمار" أو ما شابه ذلك. ولا أرى بنا حاجة إلى ذكر أمثلة عديدة وردت فيها أسماء من مثل "يربوع" و"جناب" و"جنب" وأمثال ذلك لدى الإسلاميين3. وبعد أداء "شمس" الجزية إلى ملك آشور، دفعت عدة قبائل وشعوب عربية الجزية إليه. وقد جعل بعض الباحثين ذلك في حوالي سنة "738 ق. م"4, وجاء في الترجمة العربية لكتاب "حتي" أن ذلك كان في عام "728 ق. م"5. وإذا كان أداء العرب المذكورين الجزية في السنة التاسعة من حكمه، فيجب أن تكون السنة سنة "736 ق. م." تقريبًا؛ لأن حكم الملك كان في "745 ق. م"6. وقد ذكر الملك أنه تسلم الجزية ذهبًا وفضة وإبلًا وطيوبًا من "مساي" "مسأى" "Masa" و"تيما" و"سبأ" "سبا" و"خيابة" "خيابه" "Hajapa" "Hayapa" "Hajappa" و"بطنه" "Batana" "Badana"

_ 1 Olmstead, History of Assyria. P. 199 2 H. Winckler, Keilschrist. Bd. II, S. 62, AOF. BD. I, S. 465 3 الاشتقاق "3/ 235، 362". 4 Stuhlmann, Der Kampf, S. 10 5 حتي "ص45". 6 تولى الحكم في "13 أيار"، Hastings, P 934

و"خطي" "Hatti"، "Hatte" و"إدبئيل" "1Ibida'il. وقد ورد أنها كانت تقطن في أرضين تقع في الغرب في أماكن بعيدة2, ويقصد أنها كانت غرب آشور، والغالب أنه كان يريد من قوله: في مواضع بعيدة، البادية حيث يصعب الوصول إليها. ويرى بعض الباحثين أن "مسأى" "مسا" "Mas'a" هي قبيلة "مسا" "Massa" المذكورة في التوراة3, وهي قبيلة إسماعيلية كانت منازلها في شرق "مرآب"، أو في جنوب شرقيها4, ويظهر أنها لم تكن بعيدة جدا عن فلسطين5. ورأى "ذورمه" "Dhorme" أنها قبيلة من قبائل العربية الجنوبية6، وهو رأي بعيد الاحتمال7، فلا يعقل وصول نفوذ الآشوريين في ذلك ألزمن إلى تلك المواضع, ثم إن "مسا" وهو أحد أبناء "إسماعيل" كما ورد في التوراة 8, والقبائل الإسماعيلية لم تكن تسكن العربية الجنوبية، بل المواضع التي ذكرتها في أثناء حديثي عنهم. ثم إن أحد المقيمين الآشوريين كان قد كتب تقريرًا إلى ملكه، يذكر فيه أن "ملك قهرور" "مالك قهرو"، وهو ابن "عم يثع" "عم يطع" "عمي يطع" "Amme'uta'" من قبيلة "مسا"، غزا بعد خروج الملك وارتحاله عن قبيلة "نبأ أتى" "نبي أتي" "Nabi'ati" هذه القبيلة وذبح أفرادها، وسرقها وقد تمكن أحدهم من النجاة بنفسه، فبلغ الملك وأخبره بالحادث9. ويشير المقيم السياسي الآشوري في تقريره هذا إلى الحادث؛ ليكون ملكه على علم به. وقبيلة "نبي أتي" "نبأ أتى" "Nabi'ati" هي

_ 1 Musil Hegaz, P. 288, Rost, Keilschrifttexte, II, Taf. 23, S. 218-226, 240. Meissner, Koenige, S. 165, Pritchard, Ancient, Near East Texts, 1950, P. 283, 284. وسيكون رمزه: Pritchard 2 Winckier, KLT. S. 58 3 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 14، أخبار الأيام الأول, الإصحاح الأول، الآية 30، قاموس الكتاب المقدس "2/ 342". 4 Musil Hegas. P 288. W. F. Albright, The Biblical Tribe of Massa, in Studi Orientallstick, Roma, 1956, 12 5 Hastings, P. 591, Enc. Bibli. P. 2972 6 Dhorme, Les Pays Bibliques, P. 196, 1910, Deserta, P. 478 7 Musil, Deserta, P. 478 8 التكوين، الإصحاح 25، الآية 14، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول, الآية 30 9 Rawlinson, Coneiform Inscriptions, "1861-1884" vol. 4, P. 1. 54. Note, I

قبيلة "نبايوت" "Nabajot" "Nebaioth" المذكورة في التوراة1, وهي مثل "مسا" إحدى القبائل الإسماعيلية؛ ولهذا تكون منازل قبيلة "مسا" في الشمال أو في الشمال الغربي من منازل "نبايوت"2. وأما "تيما" "Tema"، فإنها "تيماء" المذكورة في التوراة3، والمعروفة حتى في الإسلام. وتقع على الطريق التجاري الخطير الذي يربط العربية الجنوبية والحجاز والشام والعراق ومصر، ثم بموانئ البحر المتوسط، كما عرف التيمائيون باشتغالهم بالتجارة, فلعلهم دفعوا الجزية إلى آشور حفظًا لمصالحهم التجارية ولكي يسمح لهم الآشوريون بمرور تجارتهم في الطرق التي تخترق العراق وبلاد الشام وموانئ البحر المتوسط بعد أن أصبحت تحت سيطرتهم4. وقد ذكرت "تيماء" مع "ددان" في مواضع من التوراة5, وذكرت مع "ددان" و"بوز" كذلك6. ومعنى هذا أن هذه المواضع كانت متقاربة لا يبعد بعضها عن بعض كثيرًا، وأشير إلى "قوافل تيماء" و"سيارة سبأ"7، ويدل ذلك على اتصال تجاري كان بين التيمائيين والسبئيين في ذلك العهد. ويدل ورود اسم "سبأ" بعد "تيما" في نص "تغلث فلاسر"، على أن السبئيين المقصودين كانوا يعيشون على مقربة من التيمائيين ومن بقية من دفع الجزية للآشوريين. ويرى "موسل" أنهم كانوا يقيمون إذ ذاك في "ددان" "ديدان"، وأنهم من السبئيين الذين أخذوا مكان المعينيين، وكانت لهم قوافل تنقل التجارة على الطرق البرية, كما كانوا يقومون بتربية الإبل والماشية8. وأما "خيابه" "Hajapa"، فإننا لا نعرف عنهم اليوم شيئًا غير الاسم. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنهم "عيفة" المذكورون في التوراة, ومن

_ 1 التكوين، الإصحاح 25، آية 13, Deserta, P. 478 2 Deserta, P. 478 3 التكوين، الإصحاح 25، الآية 15، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 30، قاموس الكتاب المقدس "1/ 296". 4 Musil, Hegaz, P. 288 5 أشعياء, الإصحاح 21، الآية 13 وما بعدها، إرميا, الإصحاح 25، الآية 23. 6 إرميا، الإصحاح 25، الآية 23. 7 أيوب، الإصحاح السادس، الآية 19. 8 Musil, Hegaz, P. 288. وسيكون رمزه: Hegaz

هؤلاء "فرديش دلج"1 و"شرادر"2 و"موسل" وآخرون3. وهو على رواية نسابي العهد العتيق من نسل "مديان" "مدين"، ومن حَفَدة "إبراهيم" من زوجه "قطورة". ويفهم من "أشعياء" أنهم كانوا يتاجرون مع "شبا" مثل "مديان" يحملون الذهب واللبان4، ويظهر أنهم كانوا يقطنون منطقة "حسمي"5. ومن الصعب تشخيص قبيلة "بطنه" "بطنا" "بدنه" "Batana" "Badana", ولم يرد في التوراة ما يقابل الاسم أو ما يقاربه. وقد قرأ "موسل" الاسم "بدنه" "Badana" وذهب إلى أنه اسم قبيلة "بدون" أو "مدون"، بإبدال "الباء" ميمًا، وهذا أمر مألوف. وتقع منازلها في "العلا"، أي في "ددان" "ديدان" القديمة, ويعتقد أفرادها أنهم من سلالة قديمة جدًّا، وليست لهم صلات قربى بالقبائل الأخرى, وتسكن بطون منهم عند "البتراء" "Petra" أي: الرقيم6. وأشار "موسل" أيضًا إلى اسم موضع ذكر أنه ورد في كتاب "بلينيوس"، وهو "Badanatha", غير أنه لاحظ أن هذا الاسم مشكوك في صحة ضبطه، فإن بعضهم قد قرأه "7Baclanaza. فإذا كانت القراءة "Badanatha" صحيحة، فمن الممكن إذن أن يكون لهذا الاسم علاقة بـ"بدون"، أو "مدون" وبـ"بطنه" "Batana" الوارد في نص ملك آشور8. والموضع الذي ذكره "بلينيوس" قريب من "Domata"، أي: "دومة الجندل"،

_ 1 Fr. Delltzch, Wo Lag Das Paradles? Leipzig, 1881, S. 304 وسيكون رمزه Delitzch 2 KLT. S. 58 3 Hegaz, P. 289 4 "تغطيك كثرة الجمال، بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا, تحمل ذهبًا ولبانًا" أشعياء، الإصحاح الستون، الآية السادسة، Hastings, P. 231, Ency. Bibll. P. 1300 5 Hegaz, P. 289 6 Rost, Die Keilchrifttexte Tiglatpilesers, III, Leipzig, 1892, S. 36. Hommel, Geographie, S. 297, 595, Reall, I, S. 431, Hegaz, P. 290 7 Pliny, Natu. Histo, Vi 157, vol, II< P. 457, "H. Rackham" 8 Skizze, II, S. 107, Hegaz, P. 290

ومن "ثمود"، فهو في هذه المنطقة التي دفع أصحابها الجزية إلى الآشوريين. وتقع ديار "خطي" "Hatti" على مقربة من "أدوم"، على رأي "موسل"1. وأما "كلاسر"، فيذهب إلى أنها كانت تسكن "الخط"، سيف البحرين، أي: على ساحل الخليج2, وهي منطقة قريبة من العراق، يرى أن من السهل الاستيلاء عليها. وقد ذكر "بلينيوس" موضعًا دعاه "خطيني" "Chateni" يقع على ساحل الخليج؛ ولهذا رجح "كلاسر" أن "Hatti" هم "خطيني" هؤلاء3, وقد ذكر "ياقوت الحموي" جبلًا بمكة دعاه "الخط"4. أعرابية تتبعها إبلها, من الألواح المنحوتة التي عثر عليها في قصر "تغلث فلاسر" الثالث وقد نقل اللوح إلى المتحف البريطاني, Helmuth Tb. Bossert, 1394 وقد يكون سكان المنطقة المجاورة له عرفوا باسم "الخطيون"، وقد مارسوا التجارة، وبعثوا كالقبائل الأخرى بتجاراتهم إلى اليمن وبلاد الشام والعراق؛ ولذا دفعوا الجزية إلى الآشوريين ليسمحوا لقوافلهم باجتياز الطرق البرية التي خضعت

_ 1 Hegaz, P. 290 2 البلدان "3/ 449"، المفضليات "245". 3 Skizze, II, S. 75, Forster, II, P. 216 4 البلدان "3/ 449".

لسلطانهم وللاتجار في أسواق مملكة آشور. ويظهر أن "إدبئيل" "إدبعيل" "Idiba'il" القبيلة المذكورة في نص "تغلث فلاسر"، هي قبيلة "أدبئيل" "Adabeel" في التوراة, وهي إحدى القبائل الإسماعيلية على حسب رواية نسابي العبرانيين1. وكانت منازلها في جنوب غربي البحر الميت على مقربة من غزة وإلى جنوب غربها عند حدود مصر، وفي طور سيناء2. وكان يسكن إلى الشرق منهم ومن قبيلة "خطي" وكذلك إلى الجنوب الشرقي وشرقي "بئر السبع" "Beersheba" "مبسام" "Mibsam" و"مشماع"، وهما ولدان من ولد "إسماعيل"3، ويمثلان قبيلتين من القبائل الإسماعيلية. ويظهر من "أخبار الأيام الأول" أن بني "مبسام" و"مشماع" كانوا من بني "شمعون"، وكانوا من بطون "الشمعونيين" القوية ولهم أرضون واسعة4. ويشير هذا إلى أن "المبساميين" و"المشماعيين" كانوا قد توسعوا وتصاهروا مع "الشمعونيين" واختلطوا بهم؛ فاختلط الأمر, وعد الذين تصاهروا مع الشمعونيين واختلطوا بهم منهم، مع أن أصلهم من الإسماعيليين، أي: من العرب الشماليين5. وقد عين "تغلث فلاسر" في سنة "734 ق. م." عربيًّا "Arubu" اسمه "إدبئيل" "Idiba'il" في وظيفة "قيبو" "Kepu"، أي: والٍ على "مصري"؛ ليدير شئونها بالنيابة عنه، وجعل تحت تصرفه خمسة وعشرين موضعًا من "عسقلان"6. ويحتمل أن يكون هذا الرجل -على رأي "موسل"- شيخًا من قبيلة "إدبئيل"، كان مقيمًا مع قبيلته في "طور سيناء"، وكان له سلطان واسع بلغ حدود مدينة "غزة" 7. ولم يكن هذا الشيخ الذي اعتمد

_ 1 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 13، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 29. 2 Hastings, P. 12, Enc. Bibli. P. 65, Hegaz, P. 291. Deserta, P. 478 3 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 13 فما بعدها, أخبار الأيام الأول, الإصحاح الأول، الآية 29 فما بعدها, قاموس الكتاب المقدس "2/ 308، 344". 4 أخبار الأيام الأول، الإصحاح الرابع، الآية 25 فما بعدها. 5 Deserta P. 479 6 Reall. I, S. 125. Deserta, P. 478, Winckler, AOF. I, S. 25 7 Deserta, P. 478. Arabien, S. 21

طليه ملك آشور فعينه واليًا عنه، إلا سيد قبيلة كلف حماية الحدود وحفظ مصالح الآشوريين بحفظ الأمن والسلامة ومنع الغزو والتحرش بالحدود. ولما كان من الصعب على الجيوش النظامية ولوج البوادي وتعقب أثر الأعراب، فكرت الحكومات القديمة والحكومات الحديثة في القرن العشرين في حماية مصالحها بدفع جعالات شهرية وسنوية وهدايا إلى سادات المشايخ، وتعيين بعضهم في مناصب كبيرة؛ ليتولوا حماية الحدود, وكبح جماح البدو ومنعهم من الغزو, والاستفادة منهم في إزعاج خصومهم بغزوهم ومحاربتهم أو محاربة القبائل المتحالفة معهم، كالذي فعله الفرس واليونان والرومان والدول المستعمرة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. ويظهر أن بلوغ جيوش "تغلا تبلاسر الثالث" غزة كان في حوالي السنة "738 ق. م". فسيطر الآشوريون بذلك على هذا الميناء المهم الذي كان نهاية طرق القوافل التجارية الآتية بصورة خاصة من الحجاز1، وهو ميناء كان مقصد تجار يثرب ومكة حتى عند ظهور الإسلام. ويحدثنا "سرجون الثاني" "724-705ق. م"2 أنه في السنة السابعة من حكمه، سنة "715ق. م"3 أدَّب "تمودي" "Tamudi" و"أباديدي" "عباديدي" و"مرسماني" "Marsimani" و"خيابه" "Hajapa" وهزمهم، ونقل من وقع في يديه منهم إلى "السامرة" "4Samaria". ثم يذكر بعد هذا الخبر أنه تلقى الجزية من "سمسي" "Samsi" ملكة "أريبي" ومن "برعو" "pir'u" ملك "مصري" "Musuri" ومن "يتع أمر" "It'amra" السبئي5. وذكر أن الجزية كانت من الذهب وحاصلات الجبل والحجارة الكريمة والعاج وأنواع البذور والنبات والخيل والإبل6. ويتبين من أسماء المواضع والقبائل التي ذكرها "سرجون"، أن تلك المعارك كانت قد وقعت في أرضين تقع في الشمال الغربي من جزيرة العرب، وفي المنطقة

_ 1 Arabien, S. 21 2 "شركينا الثاني"، أدي شير "ص88". 3 سنة "715 ق. م" بحسب رأي Reali. I, S. 125 4 Schrader, KLB. Bd. II, S. 42, Rawlinson, The Five great Monarchies, II, P. 415 Reall, I, S. 125 5 Reall. I, S. 125, Winckler, Sargon I, S. 20 6 Luckenblll, II, 17

الواقعة فيما بين خليج العقبة و"تيماء" والبادية, ولا بد وأن تكون الجيوش الآشورية قد هاجمتها من الشمال أي: من فلسطين. وقد ورد في بعض ترجمات نص "سرجون" أنه نقل الأعراب الذين ينزلون في مواضع نائية من البادية، ولم يعرفوا حاكمًا رسميًّا ولا موظفًا ولم يدفعوا جزية إلى أي ملك سابق، نقلهم إلى "السامرة" وأسكنهم فيها1. ويظهر أن هذه الجملة لا تخص الجملة السابقة التي ذكر فيها "ثمود" وبقية الأسماء، وليست معطوفة عليها؛ لأنه وصف هؤلاء الأعراب بأنهم سكان بوادٍ نائية، ولم يدفعوا الجزية لأحد من قبل، على حين يقيم المذكورون في أرض معروفة ولمنازلهم أسماء، وهي ليست من البوادي. وورد في هذه الترجمات بعد جملة "ويثع أمر السبئي": "ومن هؤلاء الملوك ملوك على الساحل، ومنهم ملوك في البادية, تسلمت منهم جزية: تبرًا، وأحجارًا كريمة ... إلخ"2, مما يدل على أن أولئك الملوك كانوا يحكمون أرضين واسعة تمتد من البادية إلى البحر الأحمر. ووردت في نص "سرجون" المشار إليه أسماء مواضع هي "Uaidaue" و"Bustis" و"Agazi" و"Ambanda" و"Dananu" ووردت معها جملة: "أريبي الساكنين في مشرق الشمس" "أريبي مطلع الشمس"؛ ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى أن الأسماء المذكورة هي أسماء مواضع في أرض "أريبي"، أي البادية. وهو رأي يعارضه باحثون آخرون؛ لغموض العبارة، ولتعذر القول: إن أسماء هذه المواضع تعود إلى "أريبي الساكنين في مشرق الشمس"3. أما "تمودي" "Tamudi" فإنهم "ثمود" الذين سبق أن تحدثت عنهم. وأما "أباديدي" "Ibadidi" فشعب لا نعرف من أمره شيئًا, وقد ذهب "موسل" إلى احتمال كونهم "أبيداع" "Abida" المذكورين في التوراة4,

_ 1 Pritchard, P. 286 2 Pritchard, P. 286 3 "أريبي شانبخ شمشي" "Aribi Sha Nipikh Schamschi" Reall. I, S. 144, Delitzsch, S. 306, Winckler, Sargon I, S. XXVII, UAOG. 112 Rost, MVAG. 1897, 2, S. 84. 4 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 4، أخبار الأيام الأول, الإصحاح الأول، الآية 33، قاموس الكتاب المقدس "1/ 28"، Hastings, P. 3, Enc. Bibli. P. 14

وهو فيها ابن "مديان"، أي "مدين". ويرى أن مساكنهم كانت في جنوبي شرقي "أيلة" "Elath" أي: العقبة، على الطريق التجارية المهمة التي تربط ديار الشام بالحجاز1. ورأى "كلاسر" أن "الأباديدي" هم "Apataei" المذكورون في جغرافية "بطلميوس"2, وكانوا يقيمون في مكان يقال له: "وادي العبابيد" أو"العباديد" على مقربة من العقيق؛ أو أن فرعًا منهم كان يقيم في هذا المكان3. وذهب "فورستر" إلى أن شعب "APATAEI" هم شعب آخر، وأن الكلمة هي في الأصل "Nabataei"، وهو شعب كانوا يقيمون في موضع "نبت" على ساحل الحجاز4. ولا نعرف من أمر "مرسماني" "Marsimani" شيئا يذكر، ولم يرد لهذه القبيلة اسم في التوراة. غير أن بعض الكتبة "الكلاسيكيين" ذكروا قبيلة عربية يظهر أنها كانت تقيم في جنوب شرقي "العقبة" سموها "Batmizomaneis" "Banizomaneis"، وقد كانت في جوار قبيلة "Thamudenoi" أي ثمود5, ويرى "موسل" احتمال كون هذه القبيلة هي "مرسماني"، تحرف اسمها في النص الآشوري أو حرفه الكتبة "الكلاسيكيون" حتى صار على نحو ما نرى6. وعلى كل حال فإن على لفظة "Marsimani" طابع العروبة، فلا يستبعد أن تكون من "مرسم"، أو أسماء أخرى عربية قريبة منها. ويظهر أن كراهية الأعراب للآشوريين كانت شديدة جدًّا، لم تخفف من حدتها لا سياسة القوة والعنف ولا سياسة التودد واللين. لقد حملت هذه الكراهية القبائل على مد يد المساعدة إلى كل مبغض للآشوريين، أو متمرد عليهم، فقدمت المعونة إلى "مردخلبلدان" "مردخ بلذان" "مردخ بلادان"7

_ 1 Hegaz, P. 292 2 Skizze, II, S, 289 3 "العبابيد"، البلدان "6/ 104"، Skizze, II, S. 259 4 Forster, I, P. 233. FF 5 Diodorus, Bibliotheca, III, 43. F 6 Hegaz, P. 292 7 "مردخ بلادان"، "مردخ بلدان"، "مرود خلبلدان", أدي شير "ص97", Reall. I, S. 125, Deserta, P. 480

"Merodachbaladan" ملك بابل خصم وعدو "سنحاريب" "سنحريب" وأرسلت "ياتيعة" "يثعة" "يطيعة" "Ja'iti'e"، ملكة "أريبي" جيشًا لمساعدته ومناصرته في كفاحه هذا مع الآشوريين وضعته تحت قيادة أخيها "بسقانو" "بصقانو" "Basqanu"1، إلا أنه لم يتمكن من الوقوف أمام الآشوريين، فنزلت به خسارة فادحة، وأُسِرَ "بسقانو" وأُسِرَ معه معظم جيشه. وكانت هذه الهزيمة في موضع "كيش" "Kish", وقد كانت في حوالي سنة "703" أو "702" قبل الميلاد, على رأي بعض الباحثين2. ويظهر أن لفظة "Iati'e" هي تحريف لاسم عربي من أسماء النساء لعله "بطيعة" أو ما يشابه ذلك, وقد كانت ملكة إذ ذاك، أي: إنها كانت مثل "زبيبة" و"شمس" المذكورتين. وأما اسم "بسقانو" "Basqanu" فالظاهر أنه "الباسق", فإنه قريب منه. ويحدثنا "سرجون" في كتاباته عن أيامه وعن أعماله المجيدة, أن الملك "أبيري" "Uperi" ملك "دلمون" سمع بقدرة آشور وبعظمتها فأرسل هداياه إليه3. ومعنى هذا أن البحرين كانت إذ ذاك تحت حكم ملك اسمه "أبيري"، لعله "أبير"، وأن الصلات السياسية كانت وثيقة بين آشور والبحرين في ذلك العهد. وقد ذكر "سرجون" أن "أبيري" "ملك دلمون"، "كان يعيش كالسمكة في وسط بحر الشروق، البحر الذي تشرق عليه الشمس، وعلى مسافة ثلاثين ساعة مضاعفة، وكان قد سمع بجلال عظمتي فأرسل بالهدايا إليَّ"4. وفي هذا الخبر إشارة واضحة إلى استقلال البحرين، أي جزيرة "دلمون" وخضوعها لحكم ملك لعله كان من أهلها. ولما كان القسم الجنوبي من العراق تحت حكم الآشوريين في هذا العهد, وللبحرين علاقات تجارية متينة مع هذا القسم؛ لذلك أرسل هدايا ثمينة إلى ملك آشور. ويظهر من خبر آشوري يعود عهده إلى أيام الملك "سنحاريب" "سنحريب"،

_ 1 Reail., I, 3.. 125 2 Real!., I, 3., 125, British Museum Cylinder, 113, 203, Smith, First Campaign of Sennacherib, P., 62, (1921) , Deserta, P.. 480 3 Ancient Iraq, P., 261. 4 Belgrave, P. 87

وهو ابن "سرجون"، أن ملك البحرين لما سمع بخبر اجتياز هذا الملك نهر الفرات ودخوله الخليج ووصوله أرض جزيرة "دلمون"، أسرع فاعترف بسيادة ملك آشور عليه. وكان هذا الملك قد دَكَّ أرض بابل في حوالي سنة "689 ق. م."، وسار منها متوجهًا نحو أرض الخليج. وفي هذا الخبر إشارة إلى أن علاقة الآشوريين بالبحرين كانت وثيقة في هذا العهد أيضا، وأن ملك البحرين كان يخشى ملك آشور؛ لذلك اعترف بسيادته الاسمية عليه1. وأخبرنا "سنحاريب" "سنحريب" "705-681 ق. م." أنه تسلم هدايا من "كرب إيل" "كريبي، إيلو" "Karibi–ilu" ملك سبأ "Saba'i"، إذ بنى بيتًا أو معبدًا "بيت أكيتو" "Bit–Akitu"؛ للاحتفال فيه بعيد رأس السنة والأعياد الأخرى2. وكان من جملة هذه الهدايا أحجار كريمة وأنواع من أفخر الطيب ذي الرائحة الزكية الطيبة "Rikke Tabutu"3، وفضة وذهب وأحجار ثمينة أخرى4، وهي أمور اشتهرت بها العربية الجنوبية، كما عرفت بتصديرها هذه المواد إلى الخارج، وقد تحدثت عنها التوراة في مواضع من الأسفار5. وقد ذهب "هومل" إلى أن "كربي، إيلو" هذا هو "كرب ال" "كرب إيل" أحد "مكربي" "مقربي" سبأ، أي: الكهان الحكام، ولم يكن ملكًا على عرش سبأ وإن دعاه "سنحاريب" ملكًا؛ ذلك لأن الآشوريين لم يعرفوا لقبه الرسمي، أو لأنهم لم يهتموا بذلك فجعلوه ملكًا. وهذه الهدايا لم تكن جزية فرضت عليه، بل كانت هدية من حاكم إلى حكام، وقد بعث بها إليه مع القوافل الذاهبة إلى الشام بطريق غزة، أو طريق مكة، فالبادية إلى العراق6. وعندي أن من الجائز أن يكون "كريبي، إيلو" هذا سيد قبيلة أو أميرًا من الأمراء الذين كانوا في العربية الشمالية، من المجاورين لتلك القبائل

_ 1 Belgrabe, P. 56, 87 2 Handbuch. I, S. 76 3 Reall. I, S. 76 4 "طبوتو"، "طيبوتو"، "طيب". 5 Handbuch, I, S. 76, O. Schroeder, Keilschrift Texte aus Assur. Hist. Inhalts, II, No. 122, Leipzig 1922 6 Handbuch. I, S. 76, 86

التي تحدثت عنها وسبق لها أن قدمت هدايا لآشور، وكان من السبئيين النازحين إلى الشمال الذين حلوا محل المعينيين. ولما قضى "سنحاريب" على مقاومة البابليين وعين عليهم ملكًا منهم، كان قد تربى في قصور الآشوريين فأخلص لهم، سار إلى بلاد الشام لإخضاع العمونيين والمؤابيين والأدوميين والعرب والعبرانيين, فقد كان هؤلاء قد انتهزوا فرصة قيام البابليين وقبائل إرم والعرب والعيلاميين على الآشوريين للتخلص منهم، فألفوا حلفًا بينهم في جنوب بلاد الشام، أي: في فلسطين والأردن، واتحدوا لمحاربة "سنحاريب". فلما وصل إلى ساحل البحر المتوسط، أخذ جيشه يستولي على المدن الفينيقية والفلسطينية، ويتقدم نحو الجنوب حتى بلغ "عسقلان" "Ashkelon". ولما وصل إلى موضع "التقه" "علتقه" "Eltekeh" "Altekeh"، اصطدم بالعرب وبالمصريين, غير أنه تغلب عليهم واستولى على "التقه" وعلى "تمنة" "تمنث" "ثمنة" "1Timnath" و"عقرون" "عاقر" "2Ekron. وفي أنباء الانتصارات التي سجلها "سنحاريب" لنفسه أنه قام في حوالي سنة "689 ق. م." بحملة على الأعراب التابعين للملكة "تلخونو" "Telhunu" ملكة العرب "Arabi"، أي: أعراب البادية، وعلى الملك "خزا إيلي" "حزا إيلي" "Haza-ili"، ملك "قيدري" "Qidri"، أي: القيداريين، فسارت جيوشه في اتجاه "أدوماتو" "دومة" "Adummatu"، فتغلبت على العرب وعلى القيداريين3. ويقصد بـ"أدوماتو" "دومة الجندل"4, وقد كانت "أدوماتو" "Adummatu" من مواضع "أريبي" "عريبي" الحصينة5.

_ 1 يحتمل أنها "تبنة" في الزمن الحاضر، قاموس الكتاب المقدس "1/ 291". 2 "عقرون" من مدن الفلسطينيين الخمس، وتسمى الآن عاقر، على تل يبعد اثني عشر ميلًا عن يافا إلى الجنوب الشرقي، تنبأ "صفيا" بخرابها، إذ قال: "عقرون تُستأصَل"، صفيا 2، الآية 4، قاموس الكتاب المقدس "2/ 108 وما بعدها". 3 أدي شير "ص108 فما بعدها"، Hastings, P. 67, Reall. I, S. 125 Reall. I, S. 125, Ungnad, Borderasiatische Schriftdenkmaler I, No. 77. II, 22. FF. Olmstead, History of Assyria, P. 310. 4 Deserta, P. 480 5 Reall. I, I lieferung, S. 39

وهي في موضع بعيد عن عواصم الدول الكبرى، إلا أنها لم تنجُ مع ذلك من غزوات تلك الدول, وقد ذكرها "بطلميوس" باسم "1Doumatha" "Adomatho. وقد جاء في نص آشوري أن الملك "سنحريب" أرسل حملة إلى الخليج، فانتصرت وحققت رغباته، وقد فر ملك "أرض البحر" إلى أرض "عيلام". ويظهر أنه بنى أسطولًا قويًّا حمل جنوده إلى تلك الأنحاء، فلم يتمكن أهل الخليج من مقاومته واضطروا إلى الخضوع لآشور2. ويظهر أن "سنحريب" كان قد تمكن فعلًا من إخضاع الأعراب له ومن السيطرة عليهم، ويرى بعض الباحثين في نعت "هيرودوتس" له بأنه "ملك العرب والآشوريين"3 تعبيرًا عن إخضاع "سنحريب" الأعراب لحكمه وإن كان ذلك قد وقع لأمد محدود4. وفي نص دونه "أسرحدون" "680-669 ق. م." عن أعماله وعن أعمال والده, أن أباه "سنحاريب" أخضع "أدومو" "Adumu" "معقل أريبي"، واستولى على أصنامها، وحملها معه إلى عاصمته، وأسر ملكتها "Iskallatu" التي كانت كاهنة للإله "دلبات" "Dilbat"، وأسر الأميرة "تبؤة" "Tabua" كذلك. فهو يؤيد بذلك ما ذكره أبوه من انتصاراته على العرب5. ولم يتحدث النص الآشوري عن الجهة التي هاجم منها "سنحاريب" "دومة الجندل" أي "Adummatu" "Adumu". ويرى "موسل" أنه هاجمها من إقليم "بابل"، ويرى أيضا أن سلطان الملكة "تلخونو" كان يشمل منطقة واسعة تمتد من "أدومو" إلى حدود بابل. وقد كان أعرابها يمتارون ويبتاعون الطحين والملابس والمواد الضرورية الأخرى من بابل، فيسلكون البادية، ومن هذه البادية وصلت أمداد الملكة وقواتها إلى بابل لمساعدتها في مقاومة

_ 1 Albright, Fn JRAS. 1925, P. 293, Hommel, Geographie, S. 581, f. 594 2 العرب والملاحة في المحيط الهندي، جورج فاضلو حوراني "ص38 وما بعدها". 3 Herodotus, II, 141 4 Grohmann, S. 22 5 Reall. I, s. 126, "Jal'u", "Jauta". Pritchard, P. 289, "91"

آشور، فاشتركت مع البابليين في الحرب، على حين هاجم فريق آخر من أتباع الملكة المقاطعات الآشورية في بلاد الشام. فلما تغلب "سنحاريب" على بابل وانتصر عليها في سنة 689 ق. م، تفرغ لمحاربة الملكة والانتقام منها، فأمر قواته بالضغط على أتباع الملكة، وتعقبهم في البادية لحفظ الحدود. ثم حاصر "أدومو"، حتى تغلب عليها، وانتصر على هذا المعقل الذي التجأ إليه أتباع هذه الملكة وغيرهم للخلاص من الآشوريين1. ويظهر من النصوص الآشورية أن خلافًا وقع بين الملكة "تلخونو" والملك "خزا إيلي"، قد تكون أسبابه الهزيمة التي حاقت بهما ومحاصرة "سنحاريب" لهما في "دومة الجندل". وقد كان "خزا إيلي" على ما يظهر هو الذي تولى قيادة الجيش، وتنظيم خطط الدفاع والهجوم. فسببت الهزائم التي حلت بهما غضب الملكة عليه وعلى سوء قيادته "فغضبت تلخونو على خزا إيلي ملك أريبي"2, ولعلهما اختلفا أيضا بسبب محاصرة "دومة الجندل" والدفاع عنها أو عدمه. ومهما يكن من شيء، فقد استسلمت الملكة "تلخونو" للآشوريين، وتغلبت جيوش "سنحاريب" على هذا المعقل، وأخذت الأصنام أسرى إلى "نينوى", كما أخذت الأميرة" تبؤة" "Tabua" أسيرة إلى عاصمة آشور؛ لتربى هناك تربية يرضى عنها الآشوريون، ولتهذب تهذيبًا سياسيًّا خاصًّا يؤهلها أن تكون ملكة على "أريبي". أما "خزا إيلي" فقد تمكن من خرق حصار الآشوريين على "دومة الجندل" ومن الاعتصام مع أتباعه بالبادية، حيث لم يكن في قدرة "سنحاريب" مطاردتهم وإيقاع خسائر بهم، وبقي في هذه البادية طول حياة "سنحاريب". فلما توفي هذا الملك، وانتقل الملك إلى ابنه "أسرحدون"، وزالت أسباب الجفاء، قصد نينوى لمقابلة الملك الجديد، ومعه هدايا كثيرة، سُرَّ بها الملك واستقبله بلطف ورعاية، وسلمه الأصنام الأسيرة السيئة الحظ التي كان عليها أن تشارك أتباعها الحياة الأرضية المزعجة، وتمكنت كل من "عتر سماين" "عثتر السماء" و"دبلات" و"دايا" "ديه" "Daja" و"نوهيا" "نهيا" "نهى" "Nuhaia" و"إبيريلو" "Ebirillu" و"عثتر قرمية" "عثر قرمي"

_ 1 Deserta, P. 480 2 British Museum Tablets, K3087, K3405

"Atar Kurumaia"، وهي الآلهة التي كتب عليها أن تسجن من استنشاق ريح الحرية ثانية، ومن استعادة مقامها بين عبادها، فوضعت في أماكنها، وسر أتباعها ولا شك بهذه العودة1. وفي أثناء وجود تلك الأصنام في الأسر، أصيبت ببعض التلف، فمَنَّ "أسرحدون" عليها بالأمر بإصلاح ما أصابها وإعادتها إلى ما كانت عليه، ثم تلطف فأمر بإرجاعها إلى "خزا إيلي" "خزائيل"، بعد أن نقشت عليها كتابة تفيد تفوق إله آشور على تلك الأصنام، وبعد أن نقش عليها اسم الملك2. وأراد "أسرحدون" تنصيب "تبؤة" "Tabua" التي تربت تربية آشورية، ملكة على "أريبي"؛ ليضمن بذلك فرض سلطان آشور على الأعراب. وهو حلم تحقق، ولكنه لم يدم طويلًا؛ لأن العداء بين الآشوريين والعرب كان عميقًا، لا يقضي عليه منح تاج، ونصب ملك أو ملكة3. واعترف "أسرحدون" بـ"خزا إيلي" ملكًا على قبيلة "قيدار"، في مقابل إتاوة يدفعها، قدرها خمسة وستون جملًا4. فلما توفي "خزا إيلي" سنة "675 ق. م"5, اعترف "أسرحدون" بابنه "يايتع" "يايطع" "يطع" "يثع" "Uaite'" ملكًا مكان أبيه، على أن يدفع إتاوة سنوية كبيرة مقدارها ألف من "Minae" من الذهب، وألف حجر كريم, وخمسون جملًا، وطيب، أي أكثر مما كان يدفعه أبوه6, وقد رضي الابن بذلك على أمل أن ينعم عليه بتاج كيفما كانت الشروط. غير أن حسابه هذا لم يكن دقيقا، فقد ثار عليه شعبه الذي أبى أن يخضع لرجل فرض عليه فرضًا، وأبى قبوله ملكًا عليه. وقام -وعلى رأسه "الزعيم" "أوبو" "وهبو"- "وهب"، "أوب" "Uabo" "Uaboa" بثورة عامة للتخلص منه، ومن سلطان الآشوريين. وأسرع الآشوريون فأرسلوا جيشًا لإخماد هذه الثورة، فأطفأها وأسر

_ 1 Pritchard. P. 291, D.J. Wixman, The Vassal-Treaties of Esarhaddon, London.1958. P. 4 2 Pritchard. P. 291 3 Pritchard, P. 291 4 Descrta, P. 482 5 Hastings. P. 832 6 Grohmann, S. 22

"أوبو" "Uabo" وأخذ إلى "نينوى"، إلا أن الانتصار عليه لم يقضِ على مقاومة العرب للآشوريين وثورتهم عليهم، فقاد "يابتئ" "يثع" "Uaite'" الثورة هذه المرة، ورفع راية الحرب على الآشوريين، وغزا هو وأتباعه حدود الإمبراطورية الآشورية المحاذية للبادية، واضطر الآشوريون إلى تجهيز حملة جديدة انتصرت عليه، وهاجمت مضاربه، وقبضت على أصنامه، وأخذتها معها أسرى للمرة الثانية1. أما "يابتئ"، فقد فر "وحيدًا إلى أصقاع بعيدة" على ما جاء في النص2. والأصقاع البعيدة هي البادية، ولا شك، حيث يصعب على الآشوريين التوغل فيها للتوصل إليه؛ لذلك صارت مأوى لكل ثائر تحل به خسارة, فإذا نجا بنفسه، وتمكن من الفرار من ساحة الهزيمة إلى البادية، صار في حصن أمين، لا تمتد إليه الأيدي بسوء إلا إذا كان المهاجمون من أبناء جنسه الأعراب. وقام "أسرحدون" بعد هذه الحملة بحملة أخرى على قبائل عربية تنزل أرض "بازو" "Bazu" و"خازو" "3Hazu". وقد ابتدأ بها في اليوم الثاني من شهر "تشرى" من السنة الخامسة من سني حكمه, وهي تقابل سنة "676 ق. م."4. وقد قتل فيها ثمانية ملوك, هم: "كيو" "5kiau قيسو "kisu" و"ki-i-su" ملك "خلديلي" "6Haldilli", و"أكبرو" "Agbaru" "AK-baru"، وهو ملك "ال بياتي" "البياتي" "إيل بياتي"7 "8Na-pi-a-te"، "Ilpiati"منسكو" "منساكو" "منسك" "Mansaku" "Ma-an-sa-ku"، ملك "مجل أني" "مجلاني"

_ 1 II, S., 217, 377, British Museum, A Guide to the Baby, and Assy. Antiquities,II, S., 217, 377, British Museum, A Guide to the Baby, and Assy. Antiquities, P. 227, Deserta, P. 482 2 Luckenbill, II, 916 3 Rawllnson, Cunei, Inscr., Col. 3, II, 25-52, III, PI., 15. 10 Col. 4 II 10-26 Schrader, Keil. Bibl. II, S. 131 Deserta, P. 482 4 Rawlinson, Cunei. Inscr, Col. 3, II, 25-52, III, Pl. 15, 16 col. 4 II 10-25, III, PI, 15, 16 col. 4 II 10-26 Schrader, Keil. Bibl. II, S. 131 Deserta, P. 482. 5 Reall. I, S. 440 6 "Dil-di-li", "Kud-di-li" Deserta, P. 488. Skizze, II, L. 265 7 Reall. I, S. 42. 440 Schrader, Keil. Bibli. II, S. 146 8 Skizze, II, S. 265, Deserta, P. 483 سومر: الجزء الثاني، 1949م، المجلد الخامس "ص140".

"1Magal'ani" "Ma-gal-a-ni"، والملكة "يافأ" "إيفع" "يفع" "Iapa'" "Ja-pa'"، ملكة "دخراني" "دحراني" "دخر" "2Dihrani" "Didhrani" و"خيبصو" "خابصو" "جيبسو" "Habisu" "Kha-bi-su" ملك "قدايأ" "3Qadab"، و"نخارو" "نيخرو" "نحارو" "نحر" "Niharu" "Ni-kha-ru" ملك "جأباني" "جعباني" "جعفاني" "4Ga'pani"، والملكة "با إيلو" "بائلة" "Ba'ilu" "Ba-i-lu" ملكة "إخيلو" "5Ihilu" آشوريون يحرقون خيمة أعراب نيام Helmuth Bossert, Altsyrien, 1397 و"خبن إمرو" "خبن عمرو" "حبن إمرو" "حبان إمرو" "Habanamru" "Kha-ba-zi-ru" ملك "بداء" "بدع"6 "Buda'", وأسر خلقًا من أتباعهم أخذهم إلى أرض آشور كما حمل آلهتهم معه. وتمكن أحد الملوك، وهو الملك "ليلى" "Laili" "ليلة" "Laiale" ملك "يادئ" "ياديا" "يدع" "Iadi" "Jadi'" من النجاة، غير أنه ذهب إلى نينوى بعدئذٍ، حيث طلب العفو والصفح عما بدر منه، فقبل "أسرحدون" منه ذلك، وتآخى معه،

_ 1 "Ma-gal-Za-nl", Sklzze, II, 3., 265, Reall., I, S., 440, Deserta, P. 483 2 "Di-tkh-ra-a-nI", "D1—-ikh—ra—ta—a—nl", Skizze, II, S., 266 "Ka-da-ba'-a", "Ka-ta-ba'- a", Skizze, II, S. 266 3 "Ga'-u-u-a-nl", Skizze, S. 266 4 "I-khl-lu", Reall. I, S. 392, Schrader, Keil. Bibll. II, S. 148, Skizze, II, S. 266 5 Reall. I, Sechste Lieferung, s. 440. II, S. 74, "Pu-ta'-a", "Bu-da-a", Asarh 6 Prism Br. Col. IV, L. 22, Schrader, Keil. Bibli. II, s. 148, Skizze, II, S. 266

وأعاد إليه أصنامه، وعينه ملكًا على أرض "خازو" "وبازو" "بازي" على أن يدفع الجزية إليه1. وقد ورد في التوراة اسم "بوز" و"حزو"2؛ أما "بوز" فهو ابن ناحور أخي إبراهيم، ويظن أن لاسمه صلة باسم أرض "بوز"3, وأما "حزو" فإنه أحد أولاد "ناحور"4. وقد ذكرت كلمة "بوز" بعد "تيماء" في سفر "إرميا"، حيث ورد: "وكل اللفيف وكل ملوك أرض عوص، وكل ملوك أرض فلسطين وأشقلون وغزة وعقرون وبقية أشدود، وأدوم ومؤاب وبني عمون، وكل ملوك صور، وكل ملوك صيدون، وكل ملوك الجزائر التي في عبر البحر، وددان وتيماء وبوز، وكل مقصوصي الشعر مستديرًا، وكل ملوك العرب وكل ملوك اللفيف الساكنين في البرية"5. فـ"بوز" في التوراة اسم موضع، واسم شعب، وقد ورد في التوراة اسم رجل من "بوز" سمي "اليهو" "Elihu" البوزي، وهو ابن "برخيئل"، وكان صديق "أيوب" وحكمًا في المحاورة التي جرت بين أيوب وأصحابه الثلاثة الذين أتوا ليعزوه في المصائب والبلايا التي نزلت به6. وأيوب كان من سكان أرض "عوص"7، وهو عربي على رأي عدد من علماء التوراة. ولم يحدد موقع "بوز" في التوراة", ولكن ورود "بوز" بعد ددان وتيماء في الموضع الذي ذكرته من إرميا، وقبل جملة "وكل مقصوصي الشعر مستديرًا" يحملنا على التفكير في أن أرض "بوز" كانت في جوار تيماء، وليست بعيدة جدا عن "ددان" "ديدان"، وقريبة من الأعراب الذين كانوا يحلقون شعور رءوسهم إلا دائرة تبقى في أعلى الرأس، أي: غير بعيدة عن البادية وعن الأعراب

_ 1 أدي شير "ص118". Rawlinson, The Five II, P. 470. ff. Reall. I, 6. te. Liegerung, "Basi" S. 440 Deserta, P. 483, Real. I, 3. Lieferung, S. 201 2 التكوين، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية 21 وما بعدها. 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 255". 4 التكوين، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية الثانية والعشرون، قاموس الكتاب المقدس "1/ 273". 5 إرميا، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 20 وما بعدها. 6 أيوب، الإصحاح الثاني والثلاثون، الآية 8، قاموس الكتاب المقدس "1/ 141". 7 قاموس الكتاب المقدس "1/ 188".

الإسماعيليين. ولهذا ذهب "كلاسر" و"دلج" "F. Delitzsch" وغيرهما إلى أن بوز، هي "بازو" الواردة في نص "سنحاريب"، وتقع في العربية الشمالية1, ورأى "ذورمة" "Dhorme" أنها في منطقة تقع في جنوب شرقي الجوف2. وأما "موسل"، فيستند أيضا إلى الوصف الذي جاء في النص الآشوري عن "بازو" التي تقع في موضع قاصٍ، ويبدأ من السباخ وبادية مجدبة، "140 بيرو من الرمال"3، وليس فيها غير الشوك ونوع من حجر يعرف بـ"حجر فم الغزال"4، ثم سهل فيه الأفاعي والعقارب مثل "الزربابو" الجراد5, تليه "خازو"، وهي أرض جبلية اتساعها "20 بيرو" من حجر الـ"6Saggilmut. ويرى من هذا الوصف أن موضع "بازو" في غرب وفي جنوب "تدمر" وفي "وادي السرحان"، وأن الملوك الثمانية الذين قتلهم "أسرحدون" كانوا يقيمون في وادي السرحان عند الحدود الشرقية لحوران وفي "الرحبة" و"قطبة" إلى وادي "القطامي". ويرى أيضا أن "يدئ" "يادئ" "يدي"، وهو موضع الملك "ليلى"، هو "الجاف"، أو "الودي" وذلك بإبدال الحرف الأول من كلمة "يدي" بحرف الواو. وهو أمر يرى أنه كثير الحدوث، فمن المحتمل أن يكون موضع "الوادي" -على رأيه- هو "يدي" أو "يدئ" مقر الملك "ليلى" "7Laili. فرأي "موسل" أن "بازو" تعني النصف الشمالي من "وادي السرحان", وأما الأرض الواقعة في شرق "السرحان" وفي شمال السرحان في المنطقة الجبلية، فإنها "خازو" "حازو"، وقد سلك الجيش الآشوري -كما يقول- الطريق التجارية

_ 1 Reall, I, 440, Enc. Bibli. P. 615, Delitzsch S. 307, Skizze, II, S. 265, 2 Deserta, P. 483 3 "كسبو" "قصبو" "Kasbu" عند "كلاسر" و"دلج" بدلًا من بيرو، و، قصبو، قصبة، و، بيرو، هما وحدة قياس الأبعاد والمسافات Rawlinson, The five. II, P. 470, S. Smith, Babylonian Historical Texts, P. 18, Campbell Thompson, Assyrian Herbal, 102 4 "صبيتي"، Deserta, P. 484 5"زربابو"، "zirbabu" جراد، Skizze, II, S. 265. Reall. I, S. 440 6 Reall, I, S. 440 Deserta, P. 482. f. Skizze, II, S. 265, Delitzsch, S. 306 7 Deserta, P. 484

المارة من الحافات الشرقية لحوران إلى دمشق1. وقد صيرت أرض "بوز" و"بوزي" بـ"أرض أوسيتس" "Ausitis" في الترجمة السبعينية للتوراة "العهد العتيق"2؛ ولذلك رأى بعض العلماء أن المراد بها اسم "Aiseitai" "إيسايتاي" "إيسايته"، وهو اسم موضع ذكره الجغرافي "بطلميوس" في داخل بادية بلاد العرب3, ورأوا أن بوز هي هذا المكان4. ورأى آخرون أن "بازو" هي نجد، وأن البادية التي تحدث عنها "أسرحدون" هي "النفود", وأما "خازو" فإنها الإحساء5. وذهب "رولنسن" إلى احتمال كون هذه المنطقة هي أرض مملكة الحيرة، وما يتصل بها إلى جبل شمر؛ لأن الوصف المذكور ينطبق -في رأيه- على هذا المكان6. وذهب "كلاسر" في مكان آخر من بحوثه المستفيضة عن "بازو" و"خازو" إلى أن "خازو" هي "حزو", وإلى أن "بازو" و"حازو" في الأقسام الشرقية والجنوبية من "اليمامة" إلى أرض "مأكن" "Maken" إلى مرتفعات "رأس الخيمة"7. وأشار أيضًا إلى "حزوى"، وهي "السدوسية" لبني سعد في اليمامة، وقد ذكرها "الهمداني"8, ويرى أن اللفظة قريبة جدًّا من "حزو" التوراة ومن "خازو" النص الآشوري. وعلى هذا تكون أرض "خازو" في اليمامة، وهي أرض ذات آثار قديمة وعاديات وخرائب تقع بين وادي "ملهم" و"وادي حنيفة"9.

_ 1 Deserta, P. 484 2 -العهد القديم، العهد العتيق، الصورة القديمة، الترجمة السبعينية، هي الترجمة التي تمت في عهد الملك بطلميوس الثاني، 285-247 ق. م؛ وذلك ليتمكن يهود مصر، الذين كانوا قد نسوا العبرانية، وتكلموا باليونانية من الوقوف على التوراة وفهمها. 3 Ptolemy, Geography, B, 19, 2 4 Reall. I, 6te. Lieferung, S. 440 5 Reall. I, 440, Palgrave, Central Arabia, I, P. 96, "1866" 6 Rawlinson, The Five. II, P. 470 7 Skizze, II, S. 266 8 الصفة "ص162". 9 Skizze, II, S. 269

ورأى بعض الباحثين المحدثين أن أرض "بازو" هي الساحل المقابل لجزر البحرين، أي: جزيرة "تلمون" كما كانت تعرف عند القدامى. وأما "خازو" أي "حازو" في قراءة، فهي "الأحساء"1, ونرى بين اللفظتين "حازو" و"أحساء" تقاربًا كبيرًا. ولم يذكر "أسرحدون" كيف رجع إلى بلاده بعد حملته الطويلة هذه، ومن أي سبيل رجع إلى ملكه؟ غير أن بعض الباحثين يرون أنه سلك طريقًا غير الطريق الأول الذي سلكه في حملته على الشعوب والأرضين المذكورة. يرون أنه سلك طريقًا موازيًا لساحل الخليج، فاخترق أرض "بازو" و"خازو"، "حاسو", ثم سار شمالا إلى إقليم بابل. و"حاسو" عندهم هي الأحساء، وهي بين "نجد" والخليج، وكان "أسرحدون" قد سلك في حملته الأولى كما يروون طريقًا اخترق "نجدًا", فلما قرر العودة سلك الطريق الثاني2. ويرى "موسل" أن اسم "دخراني" "Di-ih-ra-ani" هو "Dacharenoi" المذكور عند "إصطيفان البيزنطي" "3Stephen of Byzantium". أما "كلاسر" فيرى أن قبيلة "Dachareni"، التي ذكرها "بطلميوس" بعد اسم قبيلة "Malangite" هي القبيلة المذكورة في نص "أسرحدون"4, وأن قبيلة "Malangite" هي قبيلة "Ma-gal-a-ni" المذكورة في نص "أسرحدون", ورأى احتمال كون "Gauuani" هي "جوجان"5 و"Ikhilu" هي "أجلة" أو "أخلة"، وهما عند الخرج6. ويرى "كلاسر" احتمال وجود علاقة بين "Bi-i-lu" وهو اسم الملكة, و"باهلة" وهو اسم القبيلة المعروفة التي تقع منازلها منذ القديم في هذه المنطقة. وعنده أن حملة "أسرحدون" قد كانت في اليمامة، حيث ينطبق وصف

_ 1 J. Simons, P. 15 2 Reall. I, te. Lieferung, S. 441 3 Deserta, P. 484, Stephen of Byzantium, Ethnica, "meineke" I, P. 223, Forster, II, P. 141, Skizze, II, S. 5 4 "Dacharaemoizae" Forster, I, P. IXXIX, 138, II, 268, Skizze, II, S. 256 5 "جوجان"، صفة "ص 139، 141، 150". 6 "أجلة" صفة "ص139، 150، 155، 161". Skizze, II, S. 5

هذه المنطقة على وصف الأماكن المذكورة في حملة "أسرحدون" أحسن انطباق1. وبعد وفاة "أسرحدون" رأى "يثع" "يطع" "يايطع" "Uaite'" أن من الأصلح مصالحة الآشوريين، فذهب إلى "آشور بانبال"، "آشور بنبال" وقابله وأرضاه، فأعاد إليه أصنامه، ومنها الصنم "عثتر السماء"، "أتر سمائين" "Atarsamain" "A-tar-sa-ma-a-a-in"، أي "عثتر السماوات"، وهو الإله "عثتر" إله السماء، الذي سأتحدث عنه عند كلامي على ديانة العرب قبل الإسلام، ورضي عنه وأعاده إلى منصبه2. ويذكر "آشور بانبال" أن "Uaite'" حنث بيمينه، وخالف عهده وميثاقه معه، لما أعلن "شمش، شوم، أوكن" "Schamaschschumukin" شقيق آشور بانبال العصيان عليه وخاصمه، فانضم إليه، وأيده بمدد يساعده، جعله تحت قيادة "إب يثع" "أب يثع" "Abjate'" و"إيمو" ابني "تارى" "ثأر" "تور"، "Te'ri". وقام على رأس أتباعه بغزو الحدود الغربية لأرض بلاد الشام التي سبق أن استولى عليها الآشوريون، وأصبحت من المقاطعات الخاصة لهم، من "أدو" "Adom" في الجنوب إلى جنوب "حماة" في الشمال. غير أن السعد لم يحالف "Uaite'" في هذه المرة أيضا، فتصدت الجيوش الآشورية للمدد الذي أرسل لمساعدة "شمش، شوم، أوكن"، وشتَّتَتْ شمله قبل وصوله إلى "بابل". أما الذين تمكنوا من الهرب والوصول إلى "بابل"، فقد أُبيد أكثرهم كذلك. وقد اضطر "أب يتئ" "أب يتع" "Abjate" أن ينجو بنفسه بالهرب إلى البادية خشية أن يقع في الأسر، وذهب من ثم إلى "نينوى" حيث مثل أمام الملك طالبًا منه العفو والصفح، وقبل الملك عذره وصفح عنه، ثم أصدر أمره بتعيينه ملكا في مكان "Uaite'" الذي كان مشغولًا بغزو حدود الشام وفلسطين الشرقية المتاخمة للصحراء أي حدود أرض "أمورو" "Amurru" على رأي بعض العلماء 3, وذلك بعد

_ 1 Skizze, II, S. 269, 273 2 "أسور بانيبال" أدي شير، "ص132", Real. I, S. 310, 312, Schrader, KAT. S. 434, Streck< Borderasiatische Bibliotheck, VII, S. 72, Deserta, P. 485 3 لمعرفة آراء علماء الآشوريات في أرض "أمورو" التي تعني أرض المغرب، أو الرياح الغربية، استحسن الرجوع إلى ما كتب عن هذا الموضوع في: Real. I, S. 99. ff. Hastings, P. 27

هزيمة "Uaite'" وتغلب الآشوريين عليه في حوالي سنة "648ق. م."1. وقد وافق "أب يتئ" "Abjate'" أن يدفع جزية إلى الآشوريين، تتألف من ذهب وأحجار كريمة وجمال وحمير2. ولم يتمكن "Uaite'" من الثبات طويلًا والاستمرار على مهاجمة الآشوريين، إذ كلف الملك "آشور بانبال" حرس الحدود والقوات الآشورية التي كانت هناك مهاجمة أتباعه، ومعاقبة "Uaite'" الذي نسي الجميل، وخاس بعهده على حد قول "آشور بانبال"3. وبعد مصادمات ومعارك وقعت بالقرب من "أزريلو" "4Azarilu", و"خير أتكاسي" "khiratakasi" و"أدومة" "Udume" في ممر "يبردو" "Jabrudu", في "بيت أماني" "بيت عماني" "Bit Ammani" في منطقة "خوينه" "Khaurina" و"موابه" "Mu'aba" و"ساري" "Sa'ari" و"خرجه" "Kharge" و"صويبتي" "Subiti"، اضطر أتباع "أويتي" "Uaite'" إلى الرجوع إلى البادية للاحتماء بها, ويظهر أنهم أصيبوا في أثناء ذلك بخسائر فادحة. وقد أكره "أويتئ" بعد هذه الخسائر على الالتجاء إلى الملك "نتنو" "Natnu" ملك "نبيتي" "نبيطي" "Nabaitai" "Nabaiti" تاركًا زوجته بين أتباعه من قبيلة "قيدار"5 "Qidri" "kedar. ولما هاجم "أمولاني" "عمولاطي" "أمولاطي" "Ammulati" ملك قبيلة "قيدار" "قيدري" أرض مملكة "مؤاب" "Moab" أصيبت جيوشه بخسارة كبيرة، وسقط أسيرًا, ومعه "أديا" "عادية" "عدية" "Adija" زوجة "Uaite'" ملك "أريبي" في أيدي الملك "Kamashkalta" "Kamaskhalta" ملك مؤاب "648 ق. م", فأرسلا أسيرين إلى نينوى

_ 1 Melasner, Konige, S. 246, Deserta, P. 486, RealL I, S. 9 2 Descrta, P, 486, Rawlinson, Cuneiform, 5, Part, I, Plate, 9, Col. 8 II 30. III, P 1. 34, Streck, Die Inschriften Assurpanipals, II, 8. 68, 134, 202 Reall. I, S. 126. 3 4 Reall. I, S. 325 5 Deserta, P. 485, Rawlinson, IV, Part. I, P 1. 9. Streck. II, S. 64, 132

حيث سلما إلى "آشور بانبال"1. وكان "Ammulati" قد ساعد "شمش، شوم، أوكن" في ثورته على أخيه، وهاجم أرض المغرب "أمورو" "Ammurru"؛ لذلك سر "آشور بانبال" بهذا الانتصار الذي أحرزه "مؤاب". وقد رسم منظر غلب "آشور بانبال" وأسر "Ammulati" و"Adija" على جدار إحدى غرف قصر الملك "آشور بانبال"2. لقد أثرت الانتصارات التي أحرزتها جيوش "آشور" في نفس "نتنو" "ناتنو" "Natnu" ملك "Nabaiti"؛ فأخذ يتقرب إلى "آشور بانبال"، ومن جملة ما فعله في التقرب إليه أنه أرسل "Uaite'" -الذي كان قد التجأ إليه- إلى نينوى حيث سلم إلى الملك الذي أمر بوضعه في قفص؛ ليعرض على الناس عند أحد أبواب المدينة3. وذكر "آشور بانبال" في كتابته أن منازل "Nabaiti" قبيلة "Natnu" بعيدة، ولم يسبق لها أن أرسلت رسلًا إلى بلاط أحد من أجداده وآبائه في نينوى من قبل، وأن هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها من هذه القبيلة رسول4. وقد وصف "آشور بنبال" موقف الأعراب وصفًا مؤثرًا بهذه الكلمات: "اشتدت عليهم وطأة الجوع. ولكي يسدوا رمقهم، أكلوا لحوم صغارهم ... وقد سأل أهل العربية بعضهم بعضًا: ما بال بلاد العرب قد أحدق بها هذا الشر؟ فكان الجواب: تلك عاقبة من ينكث العهد، ويخرق المواثيق التي قطعناها لآشور"5. وذكر "آشور بانبال" أنه عامل "Uaite'" على هذه الصورة، وذلك في عباراته التي أمر بتدوينها في النص: "حبسته في مربط الكلاب، وضعته مع بنات آوى والكلاب، وأقمته على حراسة الباب في نينوى"6.

_ 1 British Museum Tablet, K2802, Rawllnson, 3, PI., 34. Col. 8. II, 31-44, PI. 35. ff.Col. 5, II, 15-30, Reall. I, S. 36 2 Real. I, S. 36, 98, British Museum, A Guide to the Babylonian and Assyrian Antiquities, London, 1922, P. 184, 44, K. 2802, + K3047, -f- 3049 3 ReaLl. I, S. 126 4 Deserta, P. 486. Ungnad. In Vorderasiatische Schrlftdcnkmaler, I, No. 83, Col. 3,II, 4-16 5 LuckenbUl, II, 888 6 Luckenbill, II, 819

ووصف حملته على الأعراب ومطاردته لهم بهذه الكلمات: "في رمضاء البادية وقيظها، حيث لا ترى طيور السماء وحيث لا يرى حمار الوحش ولا الغزال"1؛ وذلك من شدة جدب البادية، وعدم احتمالها الأحياء. لم تنفع الشدة التي استعملها الآشوريون في القضاء على مقاومة الأعراب شيئًا. فما كاد "آشور بانبال" يشغل نفسه بقتال ملك "عيلام" وحربه في عام "640-641 ق. م." حتى ثارت القبائل العربية على آشور بزعامة "أبيتأ" "أبي يثع" "Abijate'" بن "تاري" "Te'ri" الذي تحدثت عنه سابقًا، و"أويتئ" "Uaite'" الثاني، وهو ابن "بير دادا" "Bir Dadda", وأخذت تتحرش ثانية بحدود المقاطعات الآشورية المتصلة بالبادية. ولما أرسل الآشوريون جيوشًا قوية لصد هذه الهجمات، طلبت قبيلة "قيدري" "قيدار" مساعدة "نتنو" ملك "نبتي" "Nabaiti"؛ فلبى الطلب وتحالف معهم، وأخذوا يهاجمون الحدود ومعهم قبيلتا "يسمع" يسمأ" "Isamme'" و"عثتر سمين" "Atarsamain". غير أن الجيوش الآشورية تمكنت -مع ذلك كما تدعي كتاباتهم- من الانتصار على "قيدار" وعلى حلفائهم؛ فانتصرت على "Isamme'" وعلى "Atarsamain" و"Nabaiti" في موضع في البادية بين "ياركي" "يركي" "Jarki" "أرك" شرق تدمر2، و"أزلة"3 "Azalla"، وشتتت شملهم. ثم انتصرت في معركة أخرى على "Atarsamain" على "قيدار" وقعت عند "Qurasiti"، وغنمت فيها غنائم كبيرة من الحمير والجمال والأغنام، كما أسرت أصنام "Uaite'" وأمه وزوجته وعددًا كبيرًا من أتباعه4, وأخذوا إلى دمشق، وأسر "أبي يثأ" "Abjate'" وشقيقه "أيمو" "Aimnu" في المعركة التي وقعت عند "خوكريتا"5 "Khukkurina" "Khukruna".

_ 1 Luckenbill, II, 823 2 Meissner, Konige, S. 246, Streck, Bab. Vil, S. S. CCLXXXII, ff 3 وتقع في بادية "تدمر" بين "يركي" "Jarki" ودمشق، Reall. I, S. 325, Reall. I, Ite, Lieferung, S. 9 4 Deserta, P. 487 5 Deserta, P. 488, Reall. I, S. 126

أما الملك "Uaite'"، فقد اعتصم مع عدد من أتباعه بالصحراء، غير أن الأمراض والأوبئة التي انتشرت بين أتباعه أكرهته على الذهاب إلى الآشوريين الذين نقلوه إلى نينوي، وعرضوه أمام الملك. وقد عُوقب عقًابا قاسيًا، وعُذِّب عذابًا شديدًا، ثم عفا عنه الملك بعد ذلك غير أنه لم يسمح له بالعودة إلى البادية، حيث أهله وأتباعه ومنازله، ولعله مات في نينوى1. لقد وردت في أخبار حملات الآشوريين على العرب، أسماء مواضع منها ما يمكن التعرف عليه، ومنها ما ليس في الإمكان تشخيصه الآن، وقد تحدثت عن بعضها. ويرى بعض العلماء أن موضع "أزريلو" "Azarilu" المذكور في أخبار انتصارات "آشور بانبال" على العرب، هو موضع يقع في بادية الشام2. وأما لفظة "أدومة" "Udume" فيرى "موسل" أنها تعني "إدوم" "Edom" أرض "الأدوميين" من ذرية "عيسو بن إسحاق" على رواية التوراة, وهم شعب استوطن في الأصل جبل "سعير"3، ثم توسع فسكن في منطقة شملت كل تخوم كنعان الجنوبية من البحر الميت إلى الخليج الشرقي للبحر الأحمر، ومن ضمنها جبل "سعير"4. وقد كان الأدوميون من أعداء العبرانيين. ولما زاحم النبط الأدوميين على أرضهم، زحفوا نحو الشمال فسكنوا في "اليهودية" "judah"، وتوسعوا حتى تجاوزوا شمال "حبرون"؛ ولذلك دعيت هذه المنطقة باسم "الأدومية"5 "Idumaea". وذكر المؤرخ اليهودي "يوسفوس" أن من أصنامهم صنمًا يدعى6 "Koze"، ويذكرنا اسم هذا الصنم باسم الصنم "قزاح"، وهو صنم كان يعبد على مقربة من مكة7.

_ 1 Deserta, P. 389, Rawlinson, The Five. II, P. 492 2 Reall. I, S. 325 3 التكوين، الإصحاح الثاني والثلاثون، الآية 3، القضاة، الإصحاح الخامس, الآية 4، قاموس الكتاب المقدس "1/ 53"، Hastings, P. 203 4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 53". 5 Hastings, P. 203 6 Josephus, Antiq. XV, 7, 9 7 Enc. Bibli. P. 1188

عليهم. كانوا يأتون إليهم بخيامهم "كالجراد في الكثرة، وليس لهم ولجمالهم عدد" حتى ذل الإسرائيليون1. وأصل المدينيين من جزيرة العرب، استقروا بأرض "مدين" جاءوا إليها من الحجاز، وأخذوا يغزون العبرانيين، ومنها هذه الغزوات التي يرجع بعض الباحثين تأريخها إلى النصف الأول من القرن الحادي عشر قبل الميلاد2. أما العمالقة وبنو المشرق، فإنهم مثل المدينيين من قبائل العرب.

_ 1 القضاة، الإصحاح السادس، الآية 3 وما بعدها. 2 Arabien, S. 21

العرب والآشوريون

العرب والآشوريون: إن أول إشارة إلى العرب في الكتابات الآشورية، هي الإشارة التي وردت في كتابات الملك "شلمنصر الثالث" "شلمناصر" ملك آشور1. فقد كان هذا الملك أول من أشار إلى العرب في نص من النصوص التأريخية التي وصلت إلينا، إذ سجل نصرًا حربيًّا تم له في السنة السادسة من حكمه على حلف تألف ضده، عقده ملك "دمشق" وعدد من الملوك الإرميين الذين كانوا يحكمون المدن السورية وملك إسرائيل ورئيس قبيلة عربي اسمه "جندب", وقد كان هذا النصر في سنة "853" أو "854 ق. م"2. وقد قصد "شلمنصر" بلفظة "عرب "الأعراب، أي: البدو، كما شرحت ذلك في الفصل الأول. أما العرب الحضر, أهل المدر, أي: المستقرون، فقد كانوا يدعون كما ذكرت ذلك أيضا بأسماء الأماكن التي يقيمون فيها أو التسميات التي اشتهروا بها؛ ذلك لأن لفظة "العرب" لم تكن قد صارت علمًا على جنس، من بدو ومن حضر، بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا. ولم يكن هذا الاستعمال مقتصرًا على الآشوريين

_ 1 "شلمناسر" قاموس الكتاب المقدس "1/ 629"، بمعنى "شلمان ذو نعمة" سنة 12 و19 "ص65"، راجع عن مادة العرب في الموارد البابلية والآشورية أدي شير: تأريخ كلدو واثور "المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين" في بيروت, أطروحة T. Weiss Rosmarin المعنونة بـ "Arabi und Arabien in den Babylonish-Assyrrischen Quellen" Wuerzburg, 1931, New york, 1932, Jsor, 16. 1932 2 D.D. Luckenbill, Ancient Records, Bol. II, 17, 118, vol. II, 17, 118, Vol, I, 661

عددها على تسع للانتقام من الأعراب الذين كانوا قد تعودوا التحرش بهم، ومضايقتهم عند اجتياز البوادي، ومهاجمة قوافلهم وحدود إمبراطوريتهم، تحرضهم بابل في بعض الأحيان، أو حكومة مصر، أو يدفعهم إلى ذلك أملهم في الحصول على غنائم يتعيشون منها. وقد أزعجت هذه التحرشات الآشوريين كثيرًا وأغضبتهم، يتجلى غضبهم هذا فيما دونوه عنهم, وفي الصور التي رسموها للعرب في قصورهم، فصوروهم يقبلون أرجل ملوك "نينوى" ليرضوا عنهم، مقدمين إليهم الهدايا فيها الذهب والحجارة الكريمة وأنواع الطيب والكحل واللبان والجمال, وصوروا الآشوريين وهم يحرقون خيام الأعراب وهم نيام، وصوروا عساكرهم يقاتلون الأعراب ويطاردونهم وهم على ظهور خيولهم المطهمة, أما العرب، فإنهم على ظهور الجمال لا يستطيعون الإفلات من الآشوريين1. وترجع هذه الصور إلى أيام "آشور بانبال"، حيث عثر عليها في قصره بـ"نينوى". وقد صور العرب ولهم لحى وقد تدلى شعر رءوسهم على أكتافهم ضفائر، وشد أحيانا بخيط, وأما الشوارب، فإنها محفوفة في الغالب. وقد صور العرب وهم يركبون الجمال عراةً في بعض الأحيان، أو تمنطقوا بمنطقة ثخينة, أو ائتزروا إزارًا يمتد من البطن إلى الركبتين2. ولا تصور هذه الصور كل الأعراب بالضرورة, بل هي تمثل أولئك الذين تحاربوا مع الآشوريين. لقد أقام الآشوريون لهم مسالح في أقاصي الأماكن التي بلغ نفوذهم الحربي والسياسي إليها، كما أقاموا حصونًا في مفارق الطرق المؤدية إلى البادية؛ وذلك لحماية حدودهم من غزو أبناء البادية. كما وضعوا مراقبين آشوريين، أو مندوبين سياسيين في مواطن سكن سادات القبائل؛ وذلك لمراقبة حركات القبائل وإخبار حكوماتهم بنوايا وبأعمال ساداتها, وللتأثير على أولئك السادات لحملهم على تنفيذ ما يريده ملوك آشور, وهي خطة قلدها من جاء بعد الآشوريين من أجانب. ولم يكن الآشوريون هم أول من ابتدع هذه السياسة، فلا بد وأن يكون من سبقهم قد سار على هذا الدرب، ومهد أرضه للآشوريين ولمن جاء بعد الآشوريين من حكام.

_ 1 British Museum, Assyr. Sal. Nr. 85-87, Reall. I, 127, E. unger, Assyr. Und Babyl. Kunst, 1927, Abb. 77, Marucchi, Catal. Del Mus. Egiz. Batica. Nr. 24 2 Streck, VAB. VII, S. 217, Anm. II, 411, 772, Reall. I, S. 127

الفصل الخامس عشر: صلة العرب بالكلدانيين والفرس

الفصل الخامس عشر: صلة العرب بالكلدانيين والفرس لا نعلم شيئًا كثيرًا عن صلات العرب بالكلدانيين، فلم تصل إلينا كتابات منهم تفصح عن علاقتهم بالعرب. غير أن سكوت هذه الكتابات وعدم وصولها إلينا، لا يمكن أن يكون سببًا يحملنا على التفكير في عدم قيام صلات بين العرب والكلدانيين؛ فقد رأينا فيما مضى أنهم ساعدوا أهل بابل في نزاعهم مع آشور، ثم إن العرب كانوا يجاورون البابليين منذ القديم، وهذه المجاورة القديمة في حد ذاتها واسطة طبيعية لتكوين الاتصال المباشر بين العرب والكلدانيين. وقد تحدث الأخباريون عن غزو "بخت نصر" "بختنصر" "604-561 ق. م." للعرب في أيام "معد بن عدنان"، ووصوله إلى موضع "ذات عرق"، كما تحدثت عن ذلك في فصل "طبقات العرب"، وقد قلت: إن رواته أخذوا مادته من أهل الكتاب، وأضافوا إليه مادة جديدة أنتجها ابتداعهم له، فصار نسيجًا جديدًا هو المدون في الكتب1, وهو حديث لا قيمة تأريخية له؛ ولذلك لا يمكن الاطمئنان إليه والأخذ به. وقد قص علينا الأخباريون ألوانًا كثيرة من هذا القصص الذي بان لونه وعرف أصله في القرن العشرين. وأنا لا أريد أن أستبعد احتمال قتال "بخت نصر" مع القبائل العربية، فذلك

_ 1 الطبري "1/ 291"، ابن الأثير، الكامل "1/ 117"، "نبوكذ ناصر"، "أدي شير" "ص140".

ممكن جدا، ولا سيما أن بابل مجاورة للعرب، وأن توسع هذا الملك ودخوله فلسطين جعل البابليين يتصلون اتصالًا مباشرًا بالأعراب، فلا بد أن يكون "بخت نصر" قد احتك بالعرب واتصل بهم, وقد يكون حاربهم وأوقع خسائر بهم؛ لتحرشهم بجيوشه وبحدود إمبراطوريته التي شملت البادية الواسعة الفاصلة بين العراق وبلاد الشام1. ولكن الذي نتوقف عنده وننظر إليه بحذر، هو هذا الطابع المعروف عن الأخباريين، الذي يروون به كيفية غزو ذلك الملك لـ"معد بن عدنان". وقد يكون "بخت نصر" قد بلغ موضع "ذات عرق" وقد يكون بلغ موضعًا آخر أبعد منه، إلا أن الذي أراه أن استيلاء البابليين على الأماكن التي احتلوها من جزيرة العرب إن وقع فعلًا، فإنه لم يدم طويلًا؛ فقد كانت فتوحات الفاتحين لجزيرة العرب كالسيول، تأتي جارفة عارمة، تكتسح كل شيء تجده أمامها، ثم لا تلبث أن تزول وتختفي آثارها بعد مدة قصيرة؛ لأسباب منها بُعد طرق المواصلات عن عواصم الغازين الفاتحين وعدم وجود مواد غذائية كافية في البلاد المفتوحة لإعاشة جيش كبير، ليستطيع ضبط القبائل والمحافظة على الأمن، ومهاجمة القبائل للقوافل التي ترد لتموين الحاميات وللحاميات نفسها، وعدم تمكن الفاتح من وضع جيش كبير جاهز في كل لحظة للقتال ليصد غارات القبائل التي تؤلف غالبية سكان جزيرة العرب في ذلك العهد. ثم إن القسم الأكبر من الذين قاتلوا وفتحوا, أناس مرتزقة سِيقوا إلى القتال سَوْقًا، خوفًا أو طمعًا، وقبائل اشترى الفاتحون ساداتها بإطماعهم في مغانم يجنونها أو لدوافع حقد قبليّ، ومن عادة سادات القبائل أنهم مع الفاتح ما دام قويا سخيا يبذل لهم بكل سخاء، فإذا ضعف أو أمسك أو دارت الدنيا عليه، كانوا هم أول من ينقلب عليه؛ ولذلك صارت أمثال هذه الفتوحات غارات انتقامية سريعة، لا يلجأ إليها إلا بعد تفكير وإعداد خطط ووجود ضرورات ملحة تستوجب إرسال مثل هذه الحملات. ويرى بعض علماء التوراة والبابليات ما جاء في كتاب "دانيال" الذي كتب بعد أيام "بخت نصر" من نبوءة ومن رسالة أرسلها النبي إلى ذلك الملك، ومن

_ 1 D.J. Wiseman, Chronicle of Chaldaean Kings, PP. 32, 48, 70, Nebuchadrezzar's Campain in Arabia, 599 B. C

فتوحات في بلاد العرب، هو من وضع كاتب تلك الرسالة، وضعه ليثبت نبوءته، وأن ذلك الكاتب أخذ فتوحات "نبونيد" فنسبها إلى "بخت نصر"1. أما أنا، فلا أريد أن أثبت فتوحات "بخت نصر" ولا أريد أن أنفيها في هذا العهد، فوصول "بخت نصر" إلى الحجاز أمر ممكن، وسوف نرى أن "نبونيد" قد وصل إلى مدينة "يثرب"، فليس بمستبعد وصول "بخت نصر" إلى الحجاز، بعد أن استولى جيشه على فلسطين، وصار في إمكانه الزحف نحو الجنوب، ولكن الذي أراه الآن هو التريث، فلعل الزمن يجود علينا بنصوص قد تتحدث عن حروب وفتوح أمر بها هذا الملك في بلاد العرب. وكتاب "دانيال"، وإن كُتب على شكل نبوءة، لا يستبعد أن يكون قد استمد خبر النبوءة من وثيقة أو خبر شائع، فصاغه في شكل نبوءة؛ ليثبت نبوءته لبني إسرائيل. وقد أخبرتنا الكتابات البابلية أن "بختنصر" "Nebuchadrezzar" أرسل في شهر "كسلو" "Kislev" "Kislew" من السنة السادسة من ملكه المقابلة لسنة "599 ق. م." حملة على العرب الساكنين في البادية، نهبت أملاكهم وما عندهم من مواشٍ، وسرقت آلهتهم ثم عادت2. ولم يذكر النص البابلي اسم البادية التي هاجمها الجيش البابلي ولا اسم القبائل التي هاجمها، ولم يذكر أيضا اسم المواضع التي تحرك منها الجيش لمهاجمة العرب. ويرى الباحثون احتمال مهاجمة البابليين للعرب من "حماة" "Hamath" أو "ربلة" "Riblah"، أو "قادش" "Kadesh"، فتوغل جيش "بختنصر" في البادية، ثم عاد حاملًا معه ما ذكر في النص من أسلاب ومن مواشٍ وآلهة العرب أي: الأصنام. وكانت غاية البابليين من أسر الأصنام وأخذها، هو إكراه القبائل على الاستسلام والخضوع لهم؛ لما للأغنام من أثر كبير في نفوسها، وقد رأينا أن ملوك الآشوريين مثل: "سرجون" و"سنحريب" و"أسرحدون" كانوا قد أسروا أصنام العرب وأخذوها معهم إلى آشور وكتبوا عليها شهادة الأسر والوقوع في أيدي الآشوريين؛ ليؤثروا بذلك نفسيًّا في نفوس أتباعها وعبَّادها

_ 1 S. Smith, Babylonian Historicl Texts, P. 35 2 Br. Mus. 21946, D.J. Wiseman, Chronicles of Chaldaean Kings, London, 1956, P. 31, 48, 71

ويكرهوهم على الخضوع لهم وعلى مساومة الآشوريين لاستردادها في مقابل الاستسلام لهم وتأييد سياستهم وعدم التحرش بهم, ولم يذكر النص البابلي أسماء تلك الآلهة. وكانت غاية "بختنصر" من إرسال حملته هذه على العرب، هو حماية حدود "حماة" وبقية مشارف فلسطين وبلاد الشام من الأعراب وإخضاعهم لحكمه، ثم تأديب بعض القبائل التي تحرشت به على ما يظهر حين دخوله بلاد الشام وفي جملة ذلك فلسطين. واستنادًا إلى ما جاء في "سفر إرميا" نستطيع أن نقول: إن "قيدار" كانوا على رأس القبائل العربية البارزة التي غزاها جيش "بختنصر" وكذلك "بنو المشرق" "أبناء المشرق" و"ممالك حاصور". ونظرًا لوجود تشابه كبير بين الرواية البابلية عن حملة "بختنصر" على العرب وبين ما جاء في "سفر إرميا"1، أرى أن مدون السفر قد أخذ خبره هذا الذي صيَّره نبوءة من موارد بابلية ثم كيَّفه على النحو المذكور. ولدينا خبر رواه لنا "إكسينوفون" "Xenophon"، يفيد أن "بختنصر" لما حمل على مصر أخضع "ملك العربية". وقد قصد بذلك حملته على مصر سنة "567" قبل الميلاد2. والخبر التأريخي الثاني الذي وصل إلينا عن صلات البابليين المتأخرين بالعرب، هو ما ورد عن الملك "نبونيد" "Nabonid" "Nabonidus" "555-538 ق. م." "556-539 ق. م." من اتخاذه "تيماء" مقرًّا له. ففي السنة الثالثة من حكمه جرد حملة على "أدومو" "Adumu" "Adummu" أي "دومة" "دومة الجندل"، وسار منها إلى "تيماء" سالكًا طريقًا لم تعرف في الزمن الغابر على رأس جيشه، جيش أرض "أكد" "أكاد". فلما وصل إليها، أعمل فيها السيف، وقتل أميرها وأهلها, والظاهر أن ذلك بسبب مقاومتهم له وعنادهم في الدفاع عن مدينتهم، ثم طاب له أن يستقر بها، فابتنى بها قصرًا ضخمًا له جعلوه كالقصر الذي في بابل، وحلت "تيماء" محل

_ 1 الإصحاح 49، الآية 27 وما بعدها. 2 enophon, Cyropaedeia, I, 5, 2, Naval, P. 216

بابل، أي صارت عاصمة لملك البابليين1. ويرى العلماء أن حملة "نبونيد" على "دومة الجندل" "أدومو" "Adummu" و"تيماء" "Tema" كانت في سنة "552 ق. م."2. وقد جاء إليهما سالكًا الطريق البرية المؤدية من بلاد الشام إلى شرقي الأردن، الطريق التي يسلكها حجاج بلاد الشام في الإسلام إلى مكة, وبعد أن قضى على حكام المدينتين استقر في "تيماء" ومعه حرسه البابليون. ويظهر من إشارته في نصه المدون عن أخبار فتوحاته أنه سلك في وصوله إلى "تيماء" سبيلًا لم يسلكها الأقدمون من قبل، ومن إشارته إلى قتله "ملك تيماء" وسكان المدينة أن المدينة في أيامه كانت مستقلة، يحكمها ملك من أهلها، وأن البابليين لم يكونوا قد حكموها قبله3. وقد أقام "نبونيد" سنين في عاصمته الجديدة, أما ابنه "بلشاصر" "بلشصر" "بلشسر" "Belsharrusur" "Belsazar"، فكان بـ"بابل" مع الجنود البابليين. ويظهر أنه أقام بهذه المدينة حتى السنة الحادية عشرة من حكمه، وربما أقام بها أكثر من ذلك قليلًا، حتى اضطر إلى تركها والعودة إلى بابل, بظهور الفرس الذين هددوا البابليين، ووسعوا ملكهم، وصاروا على مقربة من بابل. فقد تغلب "كيرش" "كورش"4 "cyrus" على العربية وأدخلها في جملة أملاكه، وعين عليها مقيمًا سياسيًّا فارسيًّا "ستراب" "satrap"، ويظهر أن حملته هذه على العربية كانت حوالي سنة "540-539 ق. م."، وأن "نبونيد" كان قد ترك "تيماء" وجاء إلى بابل قبل تغلب "كيرش" على العربية5. وقد يتساءل المرء عن الأسباب التي حملت "نبونيد" على ترك بابل والالتجاء هذه السنين إلى "تيماء": أهي شئون سياسية خطيرة حملته على السكنى في هذه

_ 1 Musil, Negd, P. 225 Meissner, Koenige, S. 208, Sidney Smith, Babylonian, P. 88, Dougherty, Nabonides, and Belshazzar, New Haben, 1929, PP, Reall. I, 5te, Lieferung, S. 383 2 S. Smith, P. 53 3 راجع السطر 24 من النص S. Smith, P. 88 4 "كيرش"، الطبري "2/ 5"، "1/ 653، 691، 781"، "طبعة ليدن"، "كورش" تأريخ مختصر الدول لابن العبري، "ص81" "بيروت 1890". 5 S. Smith, Baby. Hist, P. 82, 102, The Cambridge Ancient History. IV, P. 194

المدينة البعيدة عن عاصمته القديمة، أم هي عوامل عسكرية, أو اقتصادية, أو بواعث شخصية لا تتعلق بهذه ولا بتلك؟ أما إجابات المؤرخين، فهي مختلفة ومتنوعة. منهم من رأى أن لتيماء أهمية كبيرة من الناحية الاقتصادية لوقوعها في ملتقى طرق تجارية عالمية بالنسبة إلى ذلك العهد، والاستيلاء عليها والبقاء فيها معناه كسب عظيم, وربح كبير بالنسبة إلى عالم السياسة في ذلك اليوم. ومنهم من رأى أن ذلك كان لأثر مزاج الملك وطبيعته ورغبته في التخلص من أمراض بابل؛ بسكناه في محل جاف مرتفع زهاء "3400" قدم عن سطح البحر. وتيماء مركز مهم، ذكر كما رأينا في نصوص الآشوريين، وهو من الأماكن القديمة المذكورة في التوراة، وهو فيها كناية عن أحد أبناء إسماعيل، مما يدل على أنه كان من المواطن الإسماعيلية، ويقع على مسافة "200" ميل إلى الجنوب الشرقي من رأس خليج العقبة، وبمثل هذه المسافة إلى الشمال من المدينة، وعلى بعد "65" ميلًا من شمالي العلا. وبها عين غزيرة المياه، هي التي بعثت الحياة في هذا المكان, وتعد أشهر عين ماء في جزيرة العرب1، تستعمل للسقي، ولإرواء المزارع التي تنبت مختلف الفواكه والتمور والحبوب. وهواؤها صحي جيد، ولا تزال مأهولة، فهي في الزمن الحاضر كناية عن قرية يزيد عدد سكانها على الألفين، يسكنون في بيوت من طين وفي أكواخ2. وعلى مقربة من "تيماء" خربة فيها أحجار ضخمة مربعة، وبقايا عمران قديم, يظن بعض العلماء أنها موضع معبد عتيق. ويرى بعض من زارها أنها كانت مدينة لا تقل ضخامةً عن "الحجر" وعن المدن الأخرى التي ترى آثارها في العربية النبطية حتى الآن. ولم تفحص هذه الخربة التي يسميها الناس "توما" "Tuma" فحصا علميا3. وقد يعثر فيها على كتابات آشورية وبابلية ويونانية وإرمية وعربية ترينا أثر الاتصال الثقافي الذي كان في هذه المواضع التي تعد ملتقى القوافل والتجار والثقافات.

_ 1 Hastings, P. 897, Doughty, Arabia Deserta, I, Chapt. 10, 19, Jaussen, and Sabignac, Archeologique en Arabie, II, Part, I, chapt, 4, Musil, Oriental Explorations, V, P. 224, Montgomery, P. 66 2 وهبة، جزيرة العرب "ص75 فما بعدها". 3 S. Smith, Baby. Hist. Text. P. 80

وقد عثر في هذه الخربة على حجر مكتوب بلغة بني إرم، يرجع تأريخه إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ورد فيه أن أحد الكهان استورد صنمًا جديدًا إلى تيماء، وبنى له معبدًا، وعين له كهانًا توارثوا خدمة "صلم هجم", و"صلم" بمعنى صنم. وقد مثل صنم "هجم" في زي آشوري، وظهر في أسفل الرسم رسم الكاهن الذي شيد ذلك النصب, وقد نشرت ترجمة الكتابة الإرمية. ويرى "سدني سمث" أن تأريخها يرجع إلى أيام "نبونيد"، فلعله صنع في ذلك الزمن بتأثير البابليين1. ولطول إقامة "نيونيد" في "تيماء" لا يستبعد أن يجيء يوم قد يعثر فيه على كتابات أو آثار أخرى ترجع إلى هذا الملك. فلا يعقل أن تذهب ذكريات أيامه كلها من هذه المدينة، وينطمس أثر قصره عنها، ذلك القصر الذي بالغ الملك في وصفه وأراد أن يجعله في مستوى قصور بابل. وقد يعثر فيها على مراسلاته مع مدينته بابل ومع الحكومات الأجنبية التي كانت في أيامه ومع الأعراب. وإذا حدث ذلك، فقد نجد شيئًا جديدًا لا نعرفه عن أيام تيماء في عهد نبونيد. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "تيماء" التي استقر بها "نبونيد" هي تيماء أخرى تقع في العروض على ساحل الخليج، وحجتهم في ذلك أن المسافة بين تيماء الحجاز وبابل كبيرة واسعة، تجعل من الصعب تصور إقامة "نبونيد" في هذا المكان. أما العروض فإنه على اتصال ببابل، ولا يفصل بينهما حاجز أو فاصل أو عائق؛ ولهذا ذهبوا إلى احتمال وقوع "تيماء" في العروض2، كما ذهب بعض آخر إلى احتمال كون "تيماء" "تيمان" المذكورة في التوراة3. وهي أرض "أبناء الشرق"4، وملتقى طرق القوافل القادمة من بلاد الشام ومصر والعراق والجنوب5, غير أن الباحثين في هذا اليوم متأكدون من أن "تيماء"

_ 1 Smith, Baby. Hist. Texts. P. 79, Corpus Insctiptionum Semitlcarum, Pars, Secouda, Plate, LX, Tome I, P. 107, Montgomery P. 67, Hogarth, Penetration of Arabia P. 280, Cooke, North Semitic Insrciptions, P. 195 2 Negd, P. 226 3 إرميا، الإصحاح التاسع والأربعون, الآية 7، عوبديا، الآية 9، وعاموس, الإصحاح الأول، الآية 2، حبقوق، الإصحاح الثالث، الآية 3. 4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 296 فما بعدها". 5 Negd, P. 225

"نبونيد" هي "تيماء" الحجاز، في المملكة العربية السعودية. فقد عثر في "حرَّان" على كتابة مهمة جدًّا في بحثنا هذا، دَوَّنها الملك "نبونيد"، عثر عليها في سنة "1956م"، وكانت مدفونة في خرائب جامع حران الكبير، وترجمت إلى الإنجليزية، وإذا بها تتحدث عن تأريخ أعمال ذلك الملك. ومما جاء فيها: أنه لما ترك "بابل" وجاء إلى "تيماء"، أخضع أهلها، ثم ذهب إلى "ددانو" "ديدان" و"بداكو" و"خبرا" و"إيديخو" حتى بلغ "أتريبو"1. ثم تحدث بعد ذلك عن عقده صلحًا مع "مصر" و"ميديا" "ما، دا، ا، ا" "مادا ا" "Ma-da-a-a" "Medes" ومع "العرب" "مات ا، را، بي، أو"2 "Mat A-ra-bi-u". وقد ختم العمود الذي جاء فيه هذا الخبر بأسطر تهشمت جمل منها؛ يفهم من مآلها أن العرب المذكورين أرسلوا إليه رسلا، عرضوا عليه عقد صلح معه، واستسلامهم له، فوافق على ذلك بعد أن كبَّدهم جيشه خسائر فادحة، وأسر منهم ونهب, ولم تذكر تلك الأسطر المواضع التي حارب فيها جيش "نبونيد" أولئك الأعراب3. وقد يفهم من هذه السطور الأخيرة أيضا أن بعض هؤلاء العرب هاجموا البابليين، ونهبوا المناطق الخاضعة لهم بالرغم من عقدهم الصلح معه، وموافقتهم على أن يسالموه، وهذا ما دعاه إلى إرسال حملات تأديبية عليهم، أنزلت بهم خسائر فادحة4. ولم يكن نص "نبونيد" معروفًا بين العلماء يوم اختلفوا في تعيين موضع "تيماء", أما اليوم وقد نشر النص وترجم ترجمة دقيقة صحيحة، وعرفنا منه "فدك" و"خيبر" "ويثرب"، وهي مواضع معروفة مشهورة حتى اليوم وتذكر مع "خيبر"، فقد أجمع العلماء على أن "تيماء "نبونيد" هي "تيماء" الحجاز من دون أي شك، وأن موضع إقامة ملك بابل وقصره

_ 1 راجع السطرين 24، 25 من النص الموسوم: Nabonidus H2, A and B, In Anatolian Studies, By C. J. add, The Harran Inscriptions of Nabonidus, VIII, 1958, PP. 35 2 السطر 42 وما بعده من النص المذكور. 3 راجع الأسطر من 43 حتى 48 من النص. 4 Anatolian Studies, VIII, 1958, P. 76, A. R. Burn, Persia and The Greeks, P. 38

كان في هذا المكان من الحجاز. ولما كان استيلاء "بنونيد" على "تيماء" في حدود سنة "551-552 ق. م." وجب أن يكون زحفه على الأماكن المذكورة بعد ذلك. والظاهر أن الذي حمله على التوغل في الجنوب, رغبته في السيطرة على أخطر طريق برية للتجارة، تربط بلاد الشام بالعربية الجنوبية، وهي طريق قديمة مسلوكة، تسلكها القوافل التجارية المحملة بأنفس التجارات المطلوبة في ذلك العهد، ثم السيطرة على البحر الأحمر, وذلك بالاستيلاء على الحجاز وعسير واليمن وربما على العربية الجنوبية كلها؛ ولو تم له ذلك، لكان ملكه قد بلغ المحيط الهندي. ومن يدري, فلعل اختياره "تيماء" مقرا له، وتجوله في الأرضين الواقعة بينها وبين "يثرب" كان لهذا السبب، أي: لتنفيذ تلك الفكرة الخطيرة، فكرة السيطرة على جزيرة العرب وبلوغ المياه الدافئة للوصول إلى إفريقية والهند والعربية الجنوبية, إلا أن فكرته هذه لم تتحقق كما يتبين من النص، فكان أقصى ما وصل إليه "يثرب"، ثم توقف عند ذلك المكان. ويرى بعض الباحثين الذين درسوا كتابة "حران" هذه أن الصلح الذي أشار إليه الملك يجب أن يكون قد عقد في حوالي سنة "548 ق. م." في مدينة "تيماء" عاصمة الملك الجديدة، وأن الصلح الذي عقد مع الأعراب قد وقع في "تيماء" أيضا, وأن الهجمات التي هاجم بها بعض الأعراب البابليين وقعت إبان وجوده في هذه العاصمة وقبل رحيله عنها إلى "بابل"، ولكن من هم العرب الذين عقدوا الصلح مع "نبونيد"؟ ومن هم العرب الذين هاجموا جيشه والأرضون التي خضعت له؟ إن النص لم يشر إليهم، ولم يتحدث عنهم، وهم بالطبع قبائل عديدة, قد يكون منها قبائل سالمت البابليين وحالفتهم، ومنها قبائل عارضتهم وكرهتهم. ثم إن بين القبائل منافسةً وأحقادًا وحسدًا، فإذا حالفت قبائل حكومة ما، حسدتها القبائل المنافسة، فهاجمتها وهاجمت الحكومة التي عقدت معها الحلف؛ لإثبات نفسها، ولإظهار وجودها, ولأخذ الزعامة منها، وهذا داء القبائل منذ كان النظام القبلي. والذي أراه أن الحجاز لم يكن آنذاك تحت حكومة واحدة يرأسها ملك واحد، وإنما كان على نحو ما كان عليه عند ظهور الإسلام، حكومات قرى ومدن وقبائل. ويؤيد ذلك ما جاء في النص البابلي عن "تيماء" أن "نبونيد"، "قتل

بالسلاح ملك تيماء" "ملكو"1. ومعنى هذا أنها كانت في حكم حاكم يلقب نفسه بألقاب الملوك. ولا أستبعد أن يكون حال "ديدان" و"خيبر" و"فدك" و"يديع" و"يثرب" مثل حال هذه المدينة، أي: عليها حكام يلقبون أنفسهم بألقاب الملوك, ولا أستبعد أيضًا أن يكون حالها أو حال بعضها على نحو حال هذه المدن يوم ظهور الإسلام, أي: تحت حكم سادات المدينة والأشراف يشتركون معًا في الحكم, ويتشاورون فيما بينهم عندما يحدث حادث ما في مدينتهم أو قريتهم في أمور السلم, وفي أمور الحرب. ووضع سياسي على هذا النحو لا يمكن أن يقاوم جيشًا لجبًا قويًّا عارمًا كجيش بابل المدرب على القتال، والذي يعيش على الحروب؛ ولذلك انهار بسرعة وسلم أمره إلى البابليين. ومن هنا نشتم من نص "نبونيد" رائحة الاستخفاف بأسلحة "العرب"، أي: الأعراب سَكَنَة هذه المواضع، وبأسلحة تلك المدن التي استسلمت له. وكل ما فعله الأعراب أنهم تراجعوا إلى البوادي، وصاروا يشنون منها غارات على البابليين؛ ليأخذوا منهم ما يجدونه أمامهم، فإذا تعقبهم البابليون عادوا إلى معاقلهم وحصونهم: الصحراء. وقد عثر على كتابة ثمودية وردت فيها جملة: "رمح ملك بابل"، وعلى كتابة ثمودية أخرى جاء فيها: "حرب دون" "حرب ديدان"2. وقد فسر العلماء الجملتين المذكورتين بأنهما إشارة إلى الحرب التي نشبت بين البابليين وأهل ديدان في أيام "نبونيد"، وأن أهل تلك المناطق صاروا يؤرخون بها لأهميتها عندهم كحادث تأريخي3. فالكتابتان إذًا تحددان وقت تلك الحرب، وتعينان مبدأ تقويم يؤرخ بموجبه عند أهل ثمود, غير أننا لم نتمكن من الوقوف على ذلك المبدأ من الكتابتين المذكورتين؛ لقصرهما ولعدم وجود مفتاح معهما يفتح لنا الباب لنصل منه إلى الموضع الذي حفظ فيه سر ذلك التأريخ. أما موضع "Da-da-nu" "دادانو"، فإنه "ديدان"، وهو موضع معروف مشهور، ورد ذكره في "العهد القديم"، وفي عدد من الكتابات4,

_ 1 atolian Studies, Vol. VIII, 1958, P. 84 2 Van den Branden, Textes ThamoudSens de Philby, Vol. II, PP. 54 3 atolian Studies, 1958, VII, PP. 78 4 W. Caskel, Lihyan und Uhyanisch, 1954, W. F. Albright, Dedan, in GescMchte wnd Atles Testament, 1953, A. Van den Branden, La Chronologie de Dedan et de Lihyan In Blbliotheca Orientalis, XIV, 1957, 13

وتحدثت عنه في مواضع من هذا الكتاب, فكان إذن في جملة الأرضين التي خضعت لحكم "نبونيد". وأما "Pa-dak-ku" "بداكو"، فهو موضع "فدك"، ولم يكن مشهورًا في الأخبار القديمة، وإنما اشتهر في أيام الرسول، إلا أن عدم اشتهاره لا يمكن أن يكون دليلًا على عدم وجوده في أيام "نبونيد"1. وربما لا يستبعد أن يعثر في خرائبه على آثار من عهد "نبونيد" وقبل عهده؛ إذ كان معروفًا قبل أيامه، بدليل ذكره في جملة المواضع التي استولى عليها هذا الملك. وأما "Hi-ib-ra-a" "خي، اب، را، ا" "خيبرا" فهو موضع "خيبر", وهو موضع معروف وقد كان من مواطن يهود في أيام النبي. وهو موضع "خيبر" الذي أرخ بحرب وقعت فيه في حوالي سنة "568م" "بعد مفسد خيبر بعام"2. وموضع "Ia-di-hu-u" "Iadihu"، وهو موضع "يديع"، ويقع بين "فدك" و"خيبر"، وقد ذكره "ياقوت الحموي" والهمداني3. وأما "Iatribu" "إيتريبو"، فهو موضع "يثرب" أي المدينة. وقد ذكر في جغرافية "بطلميوس"، فيكون نص "حران" إذًا أقدم نص ذكر اسم هذا المكان. و"يثرب" إذن آخر موضع استولى عليه البابليون في الحجاز وألحقوه بمملكتهم مملكة بابل؛ لسكوت النص عن ذكر مواضع أخرى تقع في جنوبها, ولو كانوا قد تجاوزوها لذكروا اسم الأماكن التي استولوا عليها من دون شك. وقد استطعنا بفضل هذا النص التأريخي الخطير من العثور على خبر "يثرب" في وثيقة تعود إلى ما قبل الميلاد بكثير، فعلمنا منه أنها كانت مدينة عامرة قديمة، وأنها كانت أقدم بكثير مما تصوره أهل الأخبار عن نشوئها، ثم استطعنا

_ 1 Anatolian Studies, 1958, P., 81 2 E. Combe, J. Savaget et G. Wiet, Repertoire Chronologique D'epigraphie Arabe, I, P. 3, No. 3 3 البلدان "4/ 1013" Anatolian Studies, 1958, Vol., VHI, P. 83, F. Wuestenfeld, Das Gebiet von Medina, S. 161, Arablen, S. 22

أن نفهم أن العراقيين كانوا قد استولوا على منطقة مهمة من الحجاز في ذلك العهد، وأن بعد المسافات بين الحجاز والعربية الجنوبية لم يحل بين الآشوريين والبابليين من التوغل مسافات شاسعة في جزيرة العرب من طرفيها ومن اجتياز نجد أيضا، كما رأينا من وصولهم إلى جنوب البحرين على الخليج, وإلى سبأ وإلى يثرب في هذا العهد. وقد تنقل "نبونيد" مدة عشر سنوات في هذه المنطقة التي فتحها من الحجاز، في أرض يبلغ طولها حوالي "250" ميلًا من "تيماء" إلى "يثرب" وحوالي "100" ميلٍ عرضًا، يراجع أهلها وينزل بين قبائلها، ويختلط بها، ثم يعود إلى عاصمته تيماء، حيث يسير منها أمور الدولة. ويظهر أنه تطبع من خلال إقامته هذه المدة بين العرب ببعض طباعهم، واقتبس بعض مصطلحاتهم حيث وردت في النص1. ويرى بعض من عالج هذا النص ودرسه أن الملك البابلي نقل معه خلقًا من العراق، وأسكنهم في هذه الأماكن الحجازية في المواضع المذكورة, وكان يأتي إليهم من تيماء؛ ليتفقد أحوالهم، وليرى بنفسه سبل الدفاع عنهم وحمايتهم من غارات الأعداء. ويرون أيضا أن في جملة ما جاء بهم إلى هذه الأماكن اليهود: يهود من بابل، ويهود من فلسطين، كما رأوا أن اليهود كانوا قد سكنوا هذه المواضع من قبل، وربما كان ذلك منذ جاء اليهود إلى فلسطين، فأقاموا بها إلى أيام النبي2. ويظهر أن الملك "نبونيد" كان قد وضع خطة للهيمنة على الأرضين ولإلحاقها نهائيا ببابل، وذلك بإسكان أتباعه بها وإجبارهم على الإقامة فيها. وقد نفذ خطته هذه فعلًا، ووزع من كان قد جاء بهم معه على هذه المواضع, بأن انتزع الأملاك من أصحابها العرب وأعطاها للمستوطنين الجدد، وحماهم بجيش وضعه في كل مكان؛ لصد غارات الأعراب عليهم. ولتقوية معنوياتهم ولتثبيت قلوبهم في البقاء في هذه الأرضين الجديدة, صار يتفقد شئونهم بين الحين والحين ويزورهم, ولكن الخطة لم تنجح؛ لأن الظروف السياسية والعسكرية أكرهته

_ 1 Anatollan Studies, vol. VIII, 1958, P. 84 2 Anatolian Studies, 1958, vol. VIII, PP. 86, Le Museon, 1961, 1-2, P. 146

على العودة إلى بابل، فمات مشروعه مع عودته، فلم تُلحَق تلك الأرضون ببابل، غير أن أكثر المستوطنين الجدد بقوا في هذه الأماكن، وفي جملتهم اليهود الذين ازداد عددهم بمرور الأيام وكونوا مستعمرات يهودية وصلت "يثرب" في الجنوب. لقد ترك فتح "نبونيد" لهذه الأرضين من الحجاز وبقاء بعض من نقلهم إلى هذه المواضع فيها للاستيطان بها أثرًا كبيرًا من الناحية الثقافية والاقتصادية والحضارية، وهي نواحٍ لم تدرس حتى الآن، ولم يهتم بها أحد. ولكن وجود ألفاظ عراقية قديمة في لغة أهل "يثرب" والمناطق الأخرى التي تقع إلى الشمال منها، وخاصة في الزراعة، يدل دلالة واضحة على أثر العراق في أهل هذه المواضع، فقد يكون قسم منه من بقايا أثر أولئك العراقيين الذين نقلوا إلى هذه الأماكن، وقد يكون قسم منه من مؤثرات أخرى وقعت قبل هذا الحادث, قد يكون في أيام "بخت نصر" أو قبله، وقد يكون بعضه من مؤثرات حوادث وقعت بعد ذلك. وفي نسخة "قمران" الحاوية لبعض الإصحاحات من العهد القديم، وقد عثر عليها في نفس الوقت الذي عثر فيه على نص "حران" -أخبار قد تساعدنا في توضيح أسباب سوق "نبونيد" لليهود وأخذهم معه، وإرسائهم بهذه الأرضين الجديدة من أعالي الحجاز، إرساءً أقرهم فيها وأبقاهم حتى جاء الإسلام فأبعدهم عن الحجاز1. إننا لا نملك نصوصًا بابلية عن مدى بلوغ سلطان البابليين السياسي في جزيرة العرب وعن صلاتهم بالقبائل العربية؛ لذلك انحصر علمنا بعلاقة بابل بالعرب في الأمور التي ذكرتها. وقد عثر على نص في مدينة "عانة" يثبت وجود صلات تجارية بين بابل والبلاد العربية, كما يشير إلى أثر بابل في الحياة العربية2. أما علاقات البابليين بأهل الخليج، فلا نعرف من أمرها شيئًا، فلم يرد في النصوص البابلية التي تتحدث عن هذه الحقبة شيءٌ ما عن الفتوحات البابلية في هذه الأرضين. وقد يعثر على شيء من الكتابات في المستقبل، تتحدث عن نوع

_ 1 Anatolian Studies, vol. VIII, 1958, P. 87 2 A. J. Jaussen-R. Sabignac, Mission, No 138, A. T. Olmstead History of the Persian Empire, P. 294

الصلات التي كانت بين حكومة "بابل" وأهل الخليج في هذا العهد. وكل ما نعرفه عن علاقة البابليين بالخليج، أن البابليين كانوا قد ضموا جزيرة "دلمون" أي: البحرين إلى أملاكهم، وعينوا عليها حاكمًا بابليًّا، وذلك بعد سنة "600 ق. م." بقليل1. ومعارفنا بصلات العرب بالأخمينيين "Achaemenian" وبالبارثيين "الفرث" "Parthians" قليلة جدًّا. ويرى بعض المؤرخين أن العرب كانوا في أيام "الأخمينيين" قد تقدموا في زحفهم نحو الشمال، فدخلت قبائل منهم إلى العراق، ووسعت مساحة الأرضين التي كان العرب قد استوطنوها سابقًا، كما تقدموا في هذا العهد نحو الغرب، فتوسعوا في بلاد الشام وفي طور سيناء إلى شواطئ نهر النيل، حيث كانوا قد استوطنوها، وقد قاموا بخدمات كبيرة نحو ملوك الفرس في زحفهم على مصر2. ولم يلاقِ العرب أية مقاومة كانت في أثناء حركاتهم وتنقلاتهم ودخولهم الأرضين التي كان الأخمينيون قد استولوا عليها، ولكن وجدوا أنفسهم في حرية تامة، لهم الحق في الذهاب إلى أي مكان شاءوا، وهذا مما مكنهم من الدخول إلى أرضين جديدة وإلى توسيع هجرتهم في الأرضين التي كان الأخمينيون قد بسطوا سلطانهم عليها3. لقد ذكر "أكسنوفون" "Xenophon" العرب في جملة أتباع الملك "كيرش" "Cyrus" "Kyros" الثاني "557-529 ق. م." "559-529 ق. م."، وذكر أن هذا الملك عين واليًا عنه على "العربية" "Arabiai" "Arabioi" ويظهر من ورود لفظة "Arabiai" بعد "Kappadokia" أن المراد بها "الجزيرة", أي "Mesopotamia"، أو جزء منها. ويظهر من موضع آخر أن "العربية" هي المنطقة الواقعة في شرق "Araxes" أي: "الخابور"4. وقد ورد في أخبار حملة "كيرش" على "بابل" أن جماعة من العرب

_ 1 Beigrave, P. 56 2 Die Araber, I, S. 164 3 Die Araber, I, S. 171 4 ZDMG. 94, NF. 19, "1940", 202. f. Die Araber, I, s. 165, Xenophon, Anab. I, 5.I

كانت تحارب معه1, وكانت تلك الجماعة من الأعراب الراكبين للجمال, وذلك في سنة "539" قبل الميلاد2. ويتبين من مراجعة الموارد اليونانية التي تعرضت لتأريخ وجغرافية العراق، أن اليونان أخذوا يطلقون لفظة "Arabioi" من هذا الوقت فما بعده بمعنى "العرب" و"عرب"، أي: علم لقوم وشعب على نحو ما كانوا يطلقون من أسماء على الشعوب الأخرى. وقد ذكروهم في جملة شعوب الجزيرة، أي "Mesopotamia". وقد أخذوا ذلك من "الأيونيين" "Ionien". وعلى هذا فسيكون مراد "أكسينوفون" وغيره من العربية الأرض التي غلب عليها العرب. ومعنى هذا توسع العرب في زحفهم وتقدمهم نحو الشمال وتغلبهم على أرضين جديدة كان سكانها من بني إرم وغيرهم، وتعرب كثير من بني إرم وتكوين طبقة عربية مستعربة3. ولما قام "قمببز" الثاني "قمباسوس" "Cambyses" بغزو مصر سنة "525 ق. م." وطلب معونة العرب, أمدوه بالجمال وبالماء، وساعدوه مساعدة كبيرة لولاها لما تمكن من الوصول إلى مصر. ويزعم "هيرودوتس" أن "فانس" "Phanes"، الذي خان سيده فرعون مصر، فهرب منه وذهب خلسة إلى "قمبيز" وحثه على فتح مصر، أشار على الملك بأن يستعين بالعرب ليساعدوه في اجتياز الصحراء, وكان الملك يفكر في الصعوبات التي ستعترض جيوشه في قطع تلك الفيافي والقفار, ومن أهمها قلة الماء. فلما اقتنع الملك بصواب رأي "فانس" وصدقه، أرسل رسولًا إلى ملك العرب ليتفاوض معه في هذا الأمر، فوافق العرب على تقديم المساعدات فهيئوا قِرَبًا كثيرة ملئوها بالماء، وحملوها على ظهور جمالهم حيث قدموها إلى الفرس4. ولم يشر "هيرودوتس" إلى اسم الملك العربي الذي وافق على تموين الجيش الفارسي بما يحتاج إليه في حملته على مصر بالماء، ولم يشر أيضا إلى الأرض التي

_ 1 Die Araber, I, S. 171, Xenophon, Cyrup. 7, 5, 14 2 Xenophon, Kyrupadie, Vii, 4, 16, 5, 13, Grohraann, Arabien S. 171 3 Die Araber, I, S. 165 4 G. Rawlinson, The History of Herodotus, I, P. 211, 213, The Cambridge Ancient History, IV, P. 20, Herodotus 3, 4, 7, Die Araber, I, S. 167

كان يحكمها. وقد يكون هذا الملك أحد ملوك النبط الذين كانوا يحكمون في أعالي الحجاز وفي الأقسام الجنوبية من الأردن وطور سيناء، وقد يكون أحد كبار سادات القبائل العربية الكبيرة في طور سيناء، حيث كان له سلطان واسع كبير على الأعراب الساكنين في هذه الأرضين. وأشار "هيرودوتس" في معرض كلامه على تزويد العرب قمبيز بالماء، إلى وجود نهر عظيم في بلاد العرب، دعاه: "كوريس" "قوريس" "Corys"، زعم أنه يصب في "البحر الأريتري" "البحر الأرتيري" "Erythraean Sea" أي البحر الأحمر، قائلًا: إن هناك من يزعم أن ملك العرب عمل أنبوبًا من جلود الثيران والحيوانات الأخرى لنقل المياه من النهر إلى صهاريج، أمر بحفرها وعملها في الصحراء لخزن الماء فيها، وإن هناك ثلاثة خطوط من هذه الأنابيب تنقل الماء إلى مسافة اثني عشر يومًا من النهر إلى موضع هذه الصهاريج1. ولا يعقل أن يكون في بلاد العرب نهر على الوصف الذي ذكره "هيرودوتس" في ذلك العهد, كما أن الأنابيب المذكورة الممتدة إلى تلك المسافات المذكورة، هي من مخيلات القصاص الذين أخذ منهم ذلك المؤرخ خبره. والظاهر أن الذين حدثوه عن ذلك النهر، كانوا قد سمعوا أو شاهدوا السيول التي تصب في البحر الأحمر في مواسم الأمطار الشديدة، فتصوروها أنهارًا عظيمة تجري طول السنة. أما الصهاريج، فإنها معروفة في بلاد العرب، ولا سيما شمال العربية الغربية، تأتي إليها مياه الأمطار فتملؤها، وتغطي فتحاتها، فلا يعرف مواضعها إلا أصحابها، فإذا داهمهم عدو، سدُّوا منافذها، فلا يصل إلى مائها أحد. والظاهر أن الذين أمدوا الفرس بالماء كانوا يأخذونه من الصهاريج المنتشرة في مختلف الأماكن، ومن هنا ظهرت أسطورة نقل المياه إليها من ذلك النهر, في ثلاثة خطوط من الأنابيب المصنوعة من الجلود. وذكر "هيرودوتس" في أثناء الكلام على "دارا" "داريوش" "داريوس"2 "Darius"، أن جميع سكان آسيا الذين أذلهم "كيرش" "كورش" ثم

_ 1 Herodotus, Bk. III, 9, vol. I, P. 213 2 فهرست تاريخ الطبري, عمل "دي غويه"، "ص175"، حمزة "ص20"، داريوس، ابن الطبري "ص83"، "داريوش"، الأخبار الطوال "ص31"، "طبعة فلاديمير جرجاس"، "ليدن 1888م".

"قمبيز" بعده قد اعترفوا بسلطانه، إلا العرب؛ فهؤلاء لم يخضعوا كالرقيق ألبتة لسلطان الفرس، وإنما كانوا قد تحالفوا معهم، وأصبحوا حلفاء وأصدقاء لهم منذ مهدوا الطريق لقمبيز للوصول إلى مصر. ولو كانت علاقاتهم غير ودية معهم؛ لما تمكن الفرس من القيام بذلك الغزو. وأثنى هذا المؤرخ على إباء العرب، وعلى شهامتهم، وعلى محافظتهم على الوعد والعهود1. وذكر "هيرودوتس" أن الأرضين بين "Phoenicia"، أي "فينيقية" ومدينة "Cadytis"، كانت تابعة للسريان الفلسطينيين "Palaestine Syrian", أما الأرضون بين مدينة "Cadytis" وموضع "Jenysus" "Ienysos"، فقد كانت تابعة للملوك العرب2، ويريد بهم عددًا من سادات القبائل ولا شك. ويرى "جيمس رنل" "James Rennell" أن مدينة "Cadytis" هي القدس3, ويرى آخرون أنها "غزة"4. وأما "Jenysus" فهي "خان يونس" في جنوب غربي "غزة" على رأي "جيمس رنل"5. يتبين من قول "هيرودوتس" هذا أن العرب كانوا في أيام "قمبيز" أي: قبل الميلاد بعدة قرون، في هذه المنطقة من فلسطين, وأنهم كانوا قد انتشروا في "طور سيناء"، ونزلوا المناطق الشرقية من مصر حتى ضفة نهر النيل؛ ولهذا السبب أطلق عليها اسم "العربية" دلالةً على توغل العرب فيها6. لقد كانت "غزة" مدينة عربية يحكمها ملوك عرب, وقد كانت في حكم ملك عربي في أيام "هيرودوتس"، وكانت كل الأرضين الواقعة بين "غزة "وبين "Rhinokolura" تحت حكم العرب أيضا وذلك منذ أيام الفلسطينيين7. وقد كان يحكم "غزة" في أيام "هيرود الكبير" ملك من أهل غزة8, وقد كانت "غزة" قبيل الإسلام وعند ظهوره فُرْضَة العرب، يقصدها أهل

_ 1 Herodotus, I, P. 254, 3, 5 2 Herodotus, I, P. 212, Bk. HI, IV 3 The Geographical System of Herodotus, London, 1800, P. 245, 683. 4 Herodotus, I, P. 212 5 Rennel, P. 259 6 Die Araber, I, S. 167 7 Grohmann, Arabien, S. 23 8 Flaviua Josephus, Antiquitates, XV, 7, 9

العربية الغربية للبيع والشراء, ولا أستبعد أن تكون "غزة" فرضة عرب العربية الغربية في هذا الوقت أيضا. وقد كان تجار العربية الشرقية يقصدونها أيضا على الرغم من بعد المسافة واتساع الشقة، فقد كان أهل "الجرعاء" "جرها" "Gerrha" يقصدونها، حاملين معهم تجارة الهند وما وراء الهند، فتأخذهم إبلهم عن طريق الواحات والآبار إلى "دومة الجندل" ومنها إلى جنوب فلسطين فغزة, حيث يبيعون ما عندهم ويشترون ما يحتاجون إليه من حاصلات البحر المتوسط, ثم يعودون بأموالهم الجديدة إلى بلادهم لبيعها هناك، أو لشحنها إلى ما وراء الخليج من أرضين. وفطن "دارا" لخطورة المشروع القديم، مشروع ربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر عن طريق نهر "النيل" فاحتفره1. وقد وضع أساس هذا المشروع "رامسيس الثاني"، غير أنه امتلأ بعد ذلك بالرمال مرارًا، فاحتفره من جاء من بعده من الملوك2. وذكر "هيرودوتس" أن الفرعون "نخو" "Necos" كان قد أرسل بعثة دخلت الخليج العربي، أي: البحر الأحمر في اصطلاح اليونان عن طريق القناة التي حفرت بين النيل وهذا البحر، وكانت هذه البعثة من الفينيقيين للبحث عن أعمدة "هرقل"3 "Hercules". ويرى بعض الباحثين احتمال كون الملك الذي حكم "غزة" في هذا العهد, ملكًا من ملوك اللحيانيين4. واهتم "دارا" بأمر التجارة البحرية، فأمر "Skylax" من اليونانيين بالذهاب إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي لكشف تلك المناطق وتكوين صلات تجارية معها، فوصل هذا المكتشف اليوناني -على رواية هيرودوتس- إلى الهند. وهو بذلك أول يوناني يبلغنا خبره حتى الآن، يدخل البحر الأحمر، ويطوف حول جزيرة العرب للوصول إلى الهند5. ويفتخر "دارا" في كتابته التي أشار فيها إلى مشروع القناة، بأنه استطاع أن يسير السفن عبرها من مصر إلى أرض فارس6, وقد كانت هذه الخطوة من أعظم الخطوات في تأريخ العالم، ولا شك.

_ 1 Herodotus, I, P. 302, Bk. IV, 39 2 Herodotus, I, P. 302, Note. I 3 Herodotus, I, P. 302 4 Arabien S. 23 5 Montgomery, Arabia, P. 69 6 Montg-omery, Arabia, P. 69, Breasted, History of Egypt, PP. 276, 534, R.W. Rogers, A History of Ancient Persia, PP. 119

وقد أثرت تأثيرًا خطيرًا في التجارة العربية في البحار، إذ فتحت البحر الأحمر والبحر العربي والمحيط الهندي لمنافسين أقوياء، صار بإمكانهم شراء تجارة أفريقية والهند وسواحل جزيرة العرب بأسعار رخيصة؛ لبيعها في الأماكن التي تريدها والتي كانت تشتريها بأثمان عالية، وبذلك أخذت من التجار العرب جزءًا كبيرًا من أرباحهم، وألحقت بتجارتهم مع البحر المتوسط ضررًا لا يستهان به. ولما تحدث "دارا" عن الأرضين التي خضعت لحكمه، أدخل "عرباية" "أرباية"1 "Arabaya" في جملة تلك البلاد, وقد دعاها بـ"ماتو أريبي" "Matu A-ra-bi" في النص البابلي2. ولم يقصد "دارا بـ"عرباية" كل البلاد العربية، أي جزيرة العرب وبادية الشام، وإنما أراد بها بادية الشام، كما تحدثت عن ذلك في شرح المراد من "ماتو أريبي" في الكتابات المسمارية. وقد كانت هذه البادية مثل جزيرة العرب موطنًا للأعراب منذ وجد العرب. وقد ذكر "هيرودوتس" أن بلاد العرب كانت تقدم جزية سنوية من الطيب إلى "دارا"3، إلا أنه لم يحدد مكان البلاد العربية، ولم يشر إلى العرب الذين دفعوا هذه الجزية. ولما كانت هذه الجزية طيبًا، فإنها تحملنا على التفكير في أن العرب الذين دفعوها كانوا من رجال القوافل المتاجرة التي تأتي بتجارة العربية الجنوبية لبيعها في بلاد الشام ومصر، وكان الطيب والبخور من أهم المواد الرائجة في أسواق تلك البلاد. وهذه الجزية لم تكن بالمعنى السياسي المفهوم الذي يدل على خضوع العرب للفرس, وإنما كانت جعالة سنوية تدفع للسلطات الحاكمة على تلك الأسواق مقابل السماح لها بالاتجار، أو أن "هيرودوتس" عنى ببلاد العرب الأرضين التي كان يسكنها العرب ودخلت تحت حكم الفرس، وعنى بالعرب الذين دفعوها بعض القبائل العربية التي كانت تقيم في مصر أو طور سيناء

_ 1 The Sculpuures and Inscription of Darius the Great, London, 1907, Col. 1, 15, P. XIIII, 4 2 "ماتواربي" في النص البابلي، Col. I, 5, Sculptures, P. XIVIII, The Babylonion Bersion, 5, 161 3 Inscripton of darius on the Rock at behiston, Translated, by Sir H. Rawlinson, London, 1873, P. III, Herodotus, 3, 91, 97

أو بادية الشام. ويلاحظ أن "هيرودوتس" كان قد ذكر، كما بينت قبل قليل، أن العرب لم يخضعوا للفرس في أيام كورش ولا في أيام قمبيز، وإنما كانوا حلفاء الفرس. فيظهر من كلام "هيرودوتس" الأخير أن العرب الذين خضعوا للفرس ولدارا، هم من أعراب بادية الشام، ومن كانت منازلهم وديارهم في فلسطين وفي طور سيناء1. ويرى بعض المؤرخين أن "العربية" التي خضعت لحكم "دارا" لم تكن جزيرة العرب، وإنما منطقة الجزيرة الواقعة بين "بابل" وآشور2، مثل منطقة "سنجار" "Singara" و"الحضر"، وكان العرب قد توغلوا فيها3. وقد ورد في خبر للمؤرخ "أكسينوفون" "Xenophon" وفي كتابة لـ" كيرش الثاني" "Kyros II" "Kyrush II"، ما يفيد أن العرب كانوا قد خضعوا لحكم الأخمينيين. فورد في كتابة "كيرش" مثلًا: "ملوك الأرضين الغربية الذين يقطنون في الخيام"، وذلك في جملة من اعتراف بسلطان الملك عليهم. غير أن هذه الإشارات لا تفيد أن العرب كانوا قد خضعوا لهم مدة طويلة، كما أنها لا تدل على خضوع حقيقي لهم، ولا سيما وقد ذكرنا أن "هيرودوتس" قد صرح أن العرب لم يخضعوا لحكم الفرس4. وأشار "هيرودوتس" إلى وجود فرقة عسكرية من العرب في الجيوش الفارسية التي كانت بمصر، كان على رأسها قائد فارسي دعاه "أرسامس" "Arsames"، وقال: إنه أحد أولاد "دارا"5. ويظهر أن هؤلاء الجنود هم من عرب مصر، أي: من العرب القاطنين هناك، ولعلهم من سكان الأرضين المحصورة بين النيل والبحر الأحمر6. وقد كان العرب ينزلون هذه المنطقة والمنطقة شرقي النيل وجنوب البحر المتوسط والمتصلة بطور سيناء منذ القديم. فالعرب كانوا من قدماء سكان مصر، لا كما يتصور بعضهم من أنهم دخلوا مصر في

_ 1 Die Araber I, S. 167. ff 2 Mesopotamien, In: RE. 15, (1931) , 1131, F. H. Weiasbaeh, Die Keilschriften der Achaimeniden "1911", S. 82. f. R.G. Kent, Old Persian, "1953", 136 3 Die Araber, I, S. 165 4 Die Araber, I, S. 171 5 The Cambridge Ancient History, Vol. IV, P, 190 6 Herodotus, II, P. 148, Note. I

الفتح، وأنهم لذلك غرباء لا صلة هناك بينهم وبين المصريين قبل الإسلام. والمعروف أن "الهكسوس" الذين حكموا مصر كانوا من العرب في رأي كثير من العلماء، بل في نظر قدماء المصريين، كما حكى ذلك الراهب المصري المؤرخ "مانيتو" "Manetho" في كتابه المؤلف باليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد1. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "هيرودوتس" قصد بـ"العرب" النبط2، غير أن بعضًا آخر يخالف هذا الرأي ويعترض عليه، فيرى أن النبط لم يظهروا ظهورًا بينًا إلا في أواخر أيام الأخمينيين، وكان ظهورهم في "بطرا" "Petra" وما حولها. أما مملكتهم فلم تقم إلا في القرن الثاني قبل الميلاد؛ ولهذا فإن العرب الذين قصدهم المؤرخ اليوناني هم عرب آخرون، وإن الأرض التي أرادها ذلك المؤرخ هي: طور سيناء حتى شواطئ نهر النيل3. وظهر من الإشارات الواردة في التوراة، أن عرب الضواحي كانوا يقيمون في مستوطنات، عرفت بـ"حاصير" "حازير" "حاصور" "حصور" "Haser" في العبرانية, ومعناها: "محاط". وقد كانوا أشباه بدو في الواقع, أناخوا في هذه المواضع واستقروا بها وامتهنوا الرعي4. وكان الجنود العرب يلبسون كما يقول "هيرودوتس" نوعًا من الثياب يسمى "زيرا" "Zeira"، وهي ثياب طويلة تشد عليها الحُزُم, ويحمل مرتدوها على أكتافهم اليمنى قِسِيًّا طوالًا. أما في حاله عدم استعمالها، فيعلقونها على طهورهم5. والظاهر أن هذه الكلمة هي تحريف "السِّيرا", و"السِّيرا": "ضرب من البرود، وقيل: ثوب مسير، فيه خطوط تعمل من القز كالسيور. وقيل: برود يخالطها حرير. وقيل: هي ثياب اليمن"6. ويلاحظ أن الثياب المخططة كانت ولا تزال شائعة بين شعوب الشرق الأدنى، فلا تستبعد أن تكون كلمة "Zeira" تصحيفًا أو تحريفًا للسيراء، وهي أقرب إليها من لفظة "إزار" أو مئزر على ما أرى.

_ 1 W. G. Waddell, Manetho, P. 85, "the loeb Classical Library", London, 1948 2 Olmstead, History of the Persian Empire, 1948, P. 88 3 Die Araber, I, 170, 284, 290 4 Die Araber, I, S. 170 5 Herodotus, II, P. 147 6 اللسان "6/ 57"، ديوان قيس بن الخطيم "ص6".

وقد ألف الفرس -بالإضافة إلى الجنود العرب المشاة- كتائب عربية من الهجانة، تقاتل على الإبل، يلبسون ملابس المشاة، ويحملون أسلحتهم. يقول "هيرودوتس": إنهم كانوا يوضعون في مؤخرة الفرسان؛ تجنبًا لانزعاج الخيل إذا ما سارت مع الإبل1. وقد استعملت دول أخرى كتائب عربية من الهجانة في جملة القوات المحاربة؛ للعمل في البوادي خاصة، حيث يصعب على المشاة والفرسان اجتيازها وتعقب الأعراب. ولا تزال كتائب الهجانة محافظة على حياتها بين القوات المحاربة، ولحماية الحدود الصحراوية حتى الآن. وقد ألف العرب فرقة محاربة من الرماة بالسهام ومن المقاتلين، اشتركت في جيش "أحشويرش" "Xerxes" "485-465 ق. م."2. وقد أدخل الملك "أحشويرش" "العربية" "Arabia" في جملة البلاد التي كانت قد خضعت لحكمه، وذلك في نص من أيامه عثر عليه. وقد ذكر "العربية" بعد موضع "Maka" وقبل موضع "Gandara"3.

_ 1 Herodotus, II, P. 152 2 Die Araber, I, S. 171 3 Pritchard, P. 316

الفصل السادس عشر: العرب والعبرانيون

الفصل السادس عشر: العرب والعبرانيون لم تذكر التوراة "العرب" في مواليد بني نوح: سام، وحام، ويافث1, ولكنها ذكرت أسماء قبائل لا شك في أصلها العربي، وفي سكناها في جزيرة العرب. وهذا يؤيد ما ذهبت إليه من أن كلمة "العرب" لم تكن تعني قومية خاصة، ولم تكن تؤدي معنى العلمية، وإنما ترادف "الأعراب" والبدو، أي: سكان البادية؛ ولهذا لم تذكر في جدول الأنساب، وذكرت في مواضع أخرى من التوراة، لها علاقة بالبادية والتبدي والأعرابية, وإلا لم تسكت عن ذكر العرب بين الشعوب المصنفة في الجدول المذكور، وقد كان العرب يجاورون العبرانيين وكانوا على اتصال بهم دائم، فكان ينبغي ذكرهم في ذلك الجدول، لو كانت هذه التسمية تعني العلمية في الأصل، وتعني جميع سكان جزيرة العرب من حضر وبدو. أما وهي لم تكن تعني إلا قسمًا من العرب، وهم الأعراب أي: حالة خاصة من الحالات الاجتماعية؛ فلذلك لم تذكر، ومن ذكر في الجدول كلهم حضر مقيمون يعرفون بأسمائهم، وهم معروفون، أو قبائل أعرابية عرف العبرانيون أسماءها فذكروها، فمن طبع العبرانيين إطلاق لفظة "العرب" على الأعراب الذين لا يعرفون أسماءهم وعلى البدو عامة دون تخصيص. والبدو هم طبقة عاشت عيشة خاصة، ولم تكن قبيلة واحدة أو قبائل معينة

_ 1 التكوين: الإصحاح العاشر، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول.

محدودة يمكن حصرها وإرجاعها إلى نسب واحد، على نحو ما نفهم من كنعانيين وفينيقيين، ثم إن الأعراب لم يكونوا ينتسبون إلى جد واحد ولا إلى أب معين؛ لذلك لم تدخلهم التوراة في عداد الشعوب. وقد ذهبت جماعة من المستشرقين إلى أن العبرانيين هم قوم أصلهم من جزيرة العرب، هاجروا منها وارتحلوا عنها على طريقة الأعراب والقبائل المعروفة نحو الشمال, وجزيرة العرب لذلك هي الوطن الأم الذي ولد فيه العبرانيون. ودليلهم على ذلك هو الشبه الكبير بين حياة العبرانيين وحياة الأعراب، وأن ما ورد في التوراة وفي القصص الإسرائيلي عن حياة العبرانيين ينطبق على طريقة الحياة عند العرب أيضا، ثم إن أصول الديانة العبرانية القديمة وأسسها ترجع إلى أصول عربية قديمة. أضف إلى ذلك أن العرب والإسرائيليين ساميون، وجزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، فالعبرانيون على رأيهم هم من جزيرة العرب، وهم جماعة من العرب إذًا إن صحت هذه التسمية، بطرت على أمها وعاقتها وهربت منها إلى الشمال1. وإذا جارينا التوراة في قولها بالأنساب، نرى أن العرب والعبرانيين هم على رأيها من أصل واحد، هو سام بن نوح، ونرى أيضا أنها تعترف ضمنًا بقدم "اليقطانيين"، أي "القحطانيين على الإسرائيليين. فاليقطانيون هم أبناء يقطان بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام2. وعلى ذلك فهم أقدم عهدًا من بني إسرائيل، وأعرق حضارة ومدنية منهم، ولا سيما إذا ما عرفنا أن كلمة "عبري" على رأي كثير من العلماء تعني التحول والتنقل، أي: البداوة3، أي: إنهم كانوا بدوا أعرابا يتنقلون في البادية قبل مجيئهم إلى فلسطين واستقرارهم بها وتحضرهم، على حين كان القحطانيون متحضرين مستقرين أصحاب مدن وحضارة. كذلك جعلت التوراة الفرع العربي الآخر الذي وضعته في قائمة أبناء "كورش" أقدم عهدًا من الإسرائيليين4.

_ 1 Montgomery, Arabia Nielaen, Hadbuch der Altarabischen Altertumskunde, I. S. 241. وسيكون رمزه: Handbuch 2 التكوين, الإصحاح العاشر، الآية 20 وما بعدها. 3 إسرائيل ولفنسون، تأريخ اللغات السامية "ص77 فما بعدها". 4 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 6 وما بعدها.

لقد كان العرب، بدوًا وحضرًا على اتصال بالعبرانيين، فأينما عاش العبرانيون عاشوا مع العرب. ولعل هذا الاتصال هو الذي حمل نسابيهم على عد العرب ذوي قربى لليهود، ومن ذوي رحمهم. وكان العرب حتى في أيام تكوين العبرانيين حكومة في فلسطين يؤثرون تأثيرًا خطيرًا في الوضع السياسي هناك, وقد كانوا يقطنون بكثرة في الأقسام الشرقية والجنوبية من فلسطين وفي طور سيناء وغزة1, بل وكانوا يقطنون في القدس كذلك. ومن علماء التوراة من يرى أن "أيوب" صاحب السفر المسمى باسمه، أي "سفر أيوب" وهو من أسفار التوراة، هو رجل عربي، إذ كانت كل الدلائل الواردة في سفره تدل على أنه من العرب، فقد كان من أرض "عوص" "Uz". و"عوص" وإن اختلف العلماء في مكانها، فالراجح عندهم أنها في بلاد العرب في "نجد"، أو في بلاد الشام في "حوران"، أو في "اللجاة"، أو على حدود "إدوم" "Idumaea"، أو في العربية الغربية في شمال غربي "المدينة". ويرى بعضهم أنه كان يسكن في شرق فلسطين أو في جنوب شرقيها، أي في جزيرة العرب، أو في بادية الشام2. وسبب هذا الخلاف، هو أن التوراة لم تحدد مكان أرض "عوص"، فبينما نرى أن سفر "أيوب" يتحدث عن هجوم "أهل سبأ" على ملك "أيوب" واستياق بقر كانت له تحرث الأرض وأُتُن ترعى3، مما يشعر أن أرض "أيوب" التي هي "عوص" كانت على مقربة من السبئيين. نرى هذا السفر يذكر بعد آية واحدة هجوم ثلاث فرق من الكلدانيين على إبل "أيوب"، مما يجعلنا نتصور أن أرض "عوص" كانت على مقربة من الكلدانيين، أي: في البادية القريبة من الفرات4. والرأي عندي أن "أيوب" كان رجلًا غنيًّا يملك إبلًا وبقرًا وأتنًا أملاكًا، وربما كان سيد قبيلة، وله رعاة يتنقلون بماشيته في بادية الشام ما بين العراق وفلسطين وأعالي الحجاز، فأغار "أهل سبأ" على بقر له كانت تحرث أرضه, وعلى أتن كانت ترعى في أرضه، وأخذوها من رعاته وحراسه.

_ 1 Enc. Bibi. I, P. 272. ff 2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 188"، "2/ 126". Hastings, P. 469, 956 3 أيوب، السفر الأول، الآية 14 فما بعدها. 4 أيوب، السفر الأول، الآية 17, Hastings, P. 469, 956

وهؤلاء السبئيون هم من السبئيين النازحين إلى الشمال والساكنين في أعالي الحجاز وفي الأردن, فالغارة كانت في هذه المنطقة. أما غارة الكلدانيين فكانت في العراق على مقربة من أرض الكلدان؛ وذلك لأن رعاة إبله كانوا قد تنقلوا إلى هناك على عادة الأعراب حتى اليوم في التنقل بإبلهم من مكان إلى مكان طلبًا للماء والكلأ، فاستولى الكلدانيون عليها وأخذوها، ولا علاقة لهاتين الغارتين بموطن أيوب. وقد ذكر في سفر "أيوب" أنه "كانت قِنْيَته سبعة آلاف من الغنم وثلاثة آلاف من الإبل وخمسمائة فدان بقر وخمسمائة أتان, وله عبيد كثيرون جدًّا. وكان ذلك الرجل أعظم أبناء المشرق جميعًا"1. وتدل هذه الأرقام والأوصاف المذكورة لثروته أنه كان من أعاظم الأغنياء في أيامه، وأنه كان من "أبناء الشرق"، هي ترجمة لجملة "بني قيديم" "Bene Kedem" العبرانية، وليس في التوراة تحديد لمكان "بني قيديم" "بني قديم"، ولا تعريف لهم، ولكن التسمية العبرانية هذه تشير إلى أن المراد منها من كان يقيم في شرق العبرانيين ولا سيما في البادية الواقعة شرق فلسطين2, فهم إذًا في نظر العبرانيين، الساكنون في شرقهم. ولما كان أيوب من "بني قيديم" ومن أرض "عوص"، فيجب أن تكون أرض "عوص" في البادية في شرق فلسطين، أي: في منازل "بني قديم" الممتدة إلى العراق3، وهي مواطن الأعراب. وقد عرف واشتهر بعض "بني قيديم" بالحكمة عند العبرانيين4. ويستدل من يقول بعروبة "أيوب" بالأثر العربي البارز على "سفر أيوب". ومن قدماء من قال بوجود أثر للعروبة في سفره، العالم اليهودي "ابن عزرا" "ابن عزرة" "Ibn Ezra" "Ben ezra" من رجال القرن الثاني عشر. وقد تبعه في ذلك جماعة من الباحثين الذين وجدوا في الكلمات والتعابير والأسماء الواردة في ذلك السفر ما يشير إلى وجود أثر عربي عليه، حتى ذهب بعضهم إلى أن

_ 1 أيوب، السفر الأول، الإصحاح الأول، الآية 3. 2 Montgomery, P. 41, 46, 49, 71, 169 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 617 فما بعدها"، 4 Hastings, P. 200

دار من دور صنعاء، ويرى عليها الأثر المعماري اليماني القديم

ذلك السفر هو ترجمة لأصل عربي مفقود1. وفي أثناء حديث التوراة عن أيام "داود" وملكه، أشارت إلى رجل كان من شجعانه وأبطاله الذين تباهى بهم وافتخر، دعته "أبيل"2 العربي "Abiel". وكان من أهل "بيت عرابة" "بيت عربة" "Beth-Arabah" في تيه "يهودا"3. ويدل لقبه هذا والموضع المذكور أنه كان من العرب، وأشارت إلى رجل آخر، ذكرت أنه كان على جمال "داود"، دعته بـ"أوبيل الإسماعيلي"4 "Obil"، فهو من العرب الإسماعيليين. ولا يستبعد أن يكون هذا الرجل من وجوه الأعراب؛ ولذلك أوكل إليه أمر إبله، وهي حرفة من صميم عمل أبناء البادية. وقد أشير في سفر "يوئيل" إلى السبئيين، فورد فيه: "هأنذا أنهضتهم من الموضع الذي بعتموهم إليه، وأرد عملكم على رءوسكم، وأبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا ليبيعوهم للسبئيين لأمة بعيدة؛ لأن الرب قد تكلم"5. وقد ورد هذا التهديد؛ لأن الصوريين والصيدونيين وجميع دائرة فلسطين كانوا قد استولوا على فضة الهيكل في "أورشليم" وذهبه ونفائسه، وباعوا "بني يهوذا" و"بني أورشليم" لبني "ياوان"6 أي: اليونان7. فورد هذا التهديد على لسان "يهوه" إله إسرائيل متوعدًا أولئك الذين نهبوا الهيكل وأسروا "بني يهوذا" و"بني أورشليم"، أي سكان القدس، وباعوهم لليونان، بمصير سيئ، وبانتقام الرب منهم، وبقرب ورود يوم، يبيع فيه "أبناء يهوذا"، أي: العبرانيين أبناء المذكورين إلى السبئيين. وتدل جملة "للسبئيين، لأمة بعيدة" على أن السبئيين المذكورين كانوا يسكنون في منازل بعيدة عن العبرانيين, ويظهر أنها قصدت السبئيين أهل اليمن، فهم بعيدون عن فلسطين. وكان تجار سبأ يأتون أسواق اليهود لشراء ما فيها من بضاعة بشرية لاستخدامهم في سبأ8.

_ 1 Montgomery P. 172, Foster, in Ameri. Journ. Of sem. Languages, October, 1932. PP. 31, Margoliouth, the relations, P. 30 2 أخبار الأيام الأول، الإصحاح 11، الآية 32. 3 Hastings, P. 3. 4 أخبار الأيام الأول، الإصحاح 27، الآية 30. 5 يوئيل، الإصحاح الثالث، الآية 7 فما بعدها. 6 يوئيل، الإصحاح الثالث، الآية 5 وما بعدها. 7 Margoliouth, the relations, P. 181 8 Hartmann, Arabische Frage, S. 421

سوق الحطب بصنعاء, وترى بيوت السكن وقد حافظت على طراز البناء القديم

وفي التوراة خبر زيارة ملكة "سبأ" لسليمان, وقصة هذه الزيارة, وأن دونت فيما بعد، كتبها كتبة التوراة بعد عدة قرون، إلا أنها تستند إلى قصص قديم كان متداولًا ولا شك بين العبرانيين، فدونه هؤلاء الكتاب. وقد رأى بعض نَقَدَة التوراة أن هذه القصة قد كتبها أولئك الكتبة لإثبات عظمة سليمان، وسعة دولته، وشهرة حكمته، غير أن هذا لم يبت به حتى الآن. ورأى آخرون أن هذه الملكة لم تكن ملكة "سبأ" في اليمن؛ لعدم ورود أسماء ملكات في النصوص العربية الجنوبية، بل كانت ملكة تحكم في العربية الشمالية، تحكم جماعة من السبئيين الذين كانوا قد نزحوا إلى هذه المناطق منذ عهد بعيد، وكوَّنوا مستوطنات سبئية في الأردن وفي أعالي الحجاز1. وتعلل التوراة سبب زيارة ملكة سبأ لسليمان بقولها: "وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان لمجد الرب، فأتت لتمتحنه بمسائل، فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدًّا, بجمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدًّا وحجارة كريمة، وأتت إلى سليمان وكلمته بكل ما كان بقلبها"2. فلما سألته ورأت "البيت الذي بناه وطعام مائدته ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم وسقاءه ومحرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب, لم يبق فيها روح بعد، فقالت للملك: صحيحًا كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك, ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي؟ "3. وأعطت "سليمان" "مائة وعشرين وزنة ذهب وأطيابا كثيرة جدا وحجارة كريمة لم يأت بعد مثل ذلك الطيب في الكثرة الذي أعطته ملكة سبأ للملك سليمان"4. وجاء في سفر "الملوك الأول" حكاية عن الذهب الذي وصل إلى سليمان: "وكان وزن الذهب الذي أتى سليمان في سنة واحدة ستمائة وستًّا وستين وزنة ذهب، ما عدا الذي ورد من عند التجار وتجارة التجار وجميع ملوك العرب وولاة الأرض"5. ولا تعني جملة "وجميع ملوك العرب" و"كل ملكي

_ 1 Hastings, P. 843 2 الملوك الأول، الإصحاح العاشر، الآية 1 فما بعدها، وتقابل: سفر أخبار الأيام الثاني، الفصل التاسع، الآية 1 فما بعدها من الترجمة الكاثوليكية. 3 الملوك الأول، الإصحاح العاشر، الآية 4 فما بعدها. 4 الملوك الأول، الإصحاح العاشر، الآية 10. 5 الملوك الأول، الإصحاح العاشر، الآية 10، 14 فما بعدها، أخبار الأيام الثاني, الإصحاح التاسع، الآية 13 فما بعدها.

ها عرب" في رأيي ونظري ملوك جزيرة العرب، كما يفهم ذلك من ظاهر النص, وإنما تعني رؤساء أعرابًا كانوا يقيمون على مقربة من فلسطين، وفي فلسطين نفسها، دفعوا إليه هدايا وضرائب؛ لأنهم كانوا يتاجرون مع العبرانيين، فقدموا إليه هدايا على قاعدة ذلك اليوم. وقد رأينا أن الآشوريين كتبوا مثل ذلك عن العرب وعن غيرهم في نصوصهم، إذ لا يعقل خضوع كل ملوك جزيرة العرب لسليمان, فلم يكن ملكه قد جاوز حدود العقبة كما نجد في التوراة، وقد ذكرنا أن لفظة "ها عرب"، أي "العرب" إنما كانت تعني الأعراب والبدو في العبرانية؛ ولذلك فجملة "وكل ملوك العرب" تعني "وكل رؤساء الأعراب"، وهم كثيرون. فقد كانوا قبائل وعشائر، ولكل قبيلة وعشيرة سيد ورئيس. وقد كان منهم عدد كبير في فلسطين وفي طور سيناء. ووجه "سليمان" أنظاره نحو البحر؛ ليتجر مع البلاد الواقعة على البحار، وليستورد منها ما يحتاج العبرانيون إليه، فأنشأ أسطولا تجاريا في "عصيون جابر" "Ezion Geber" على خليج العقبة بجانب "أيلة" "أيلوت" "Eloth" "أيلات" "Elath"، من أرض "أدوم"1, وقد عرف خليج العقبة بـ"بحر سوف"، "يم، سوف" "Yam-Soph" في العبرانية. ولما كان العبرانيون لا يعرفون البحر، استعان سليمان بـ"حيرام" ملك "صور" في تسيير الأسطول وتدريب العبرانيين على ركوب البحر. فأمده بخبراء من صور، تولوا قيادة السفن، يخدمهم رجال سليمان, فمخروا البحر حتى وصلوا إلى "أوفير"، وأخذوا من هناك ذهبًا، زنته أربعمائة وعشرون وزنة، أتوا بها إلى سليمان2. ويظن أن "عصيون كيبر" "عصيون جيبر" "عصيون جابر" "Ezion Geber" كانت عند "عين الغديان" في قعر وادي العربة، على رأي بعض الباحثين3، أو "تل الخليفة" على رأي بعض آخر4. وقد عرفت بـ"Berenice" فيما بعد5، وتقع إلى الغرب من العقبة. وقد قامت بعثة أمريكية بحفريات علمية

_ 1 الملوك الأول، الإصحاح التاسع، الآية 26. 2 الملوك الأول، الإصحاح التاسع، الآية 26 فما بعدها. 3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 106". 4 N. Glueck, in BOASOOR. Nos. 71, 72, October, and December, 1938, No 76, October, 1938, No. 80, Ocbober, 1940, J. Hornell, in Antiquity, vol XXXI, June 1947, PP. 66, W. F. Albright, the Archaeology of Palestine, 1963, P. 44, 127, 128. 5 Hastings, P. 253

بين 1938 و1940 في هذا الموضع، وظفرت -فيما عثرت عليه من الآثار- بأدوات مصنوعة من النحاس ومن الحديد. والظاهر أن سكان هذا الموضع كانوا يحصلون على النحاس من مناجمه الغنية في "طور سيناء". وفي جملة ما عثر عليه من آثار في "تل الخليفة" جرتان، عليهما كتابات بأحرف المسند، وقد قدر أن تأريخ صنعهما لا يقل عن القرن الثامن قبل الميلاد. وتدل أحرف المسند هذه على أن صانعيها كانوا يكتبون بهذا القلم، وقد رأى بعض الباحثين أنها من صنع أهل مدين, وإذا صح هذا الرأي فإنه يكون دليلًا على أن المدينيين كانوا يكتبون به. ويرى "ريكمنس" "G. Ryckmans" أن لهذه الكشوف صلة بالمعينيين الذين كانوا في العلا وتبوك1. وترى طائفة من علماء التوراة أن "أوفير" التي اشتهرت بوفرة ذهبها، والتي أرسل "سليمان" إليها سفنًا مع سفن "حيرام" في طلب الذهب وخشب الصندل والحجارة الكريمة2، هي أرض في بلاد العرب. ونظرًا إلى ورود اسمها بين "شبا" و"حويلة" في الإصحاح العاشر من التكوين3، ذهب بعض العلماء إلى وقوعها في الأقسام الشرقية أو في الأقسام الجنوبية من جزيرة العرب4. ورأى "كلاسر" أنها المنطقة الواقعة على ساحل خليج عمان والخليج العربي5. وذهب نفر آخر من علماء التوراة إلى وقوع "أوفير" في إفريقيا أو في الهند6, ولكن الرأي الغالب أنها في العربية على ما ذكرت؛ وذلك لما ورد في التوراة من أن "أوفير" ابن من أبناء "يقطان"، وقد ذكر بين "شبا"

_ 1 G. ryckmans, on Some Problems of south Arabian Epigraphy, in Bullehtin of the school of oriental and African Studies, University of London, London, 1952, Rep. Epig. 4918 bis, The Illustrated London News, vol. 195, No. 5233, 1939, P. 247, G. Ryckmans, Revue Biblique 1939, P. 247-249, N. Glueck, the Excabations of solomo's Seaport: Ezion-Geber, in Smithsonian Institution Annual Report for 1941, P. 479 2 الملوك الأول، الإصحاح التاسع، الآية 27 وما بعدها، الإصحاح العاشر، الآية 11، أخبار الأيام الثاني، الإصحاح التاسع, الآية 10 3 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 29 4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 178" N. Glueck, in B Enc. Bibil. P. 3514, Simon Dubnow, Die Aiteste Geschicthe des Judischen Volkes, Judischer Veriag, Berlin 1925, Bd. I, S. 123 5 Skizze, II, S. 353 6 Hastings, p. 669

و"حويلة"، ونظرًا إلى أن مواطن اليقطانيين هي ما بين "ميشا وأنت آتٍ نحو سفار جبل المشرق"1. و"ميشا" وإن تباينت آراء العلماء في تعيين مكانه فمنهم من ذهب أنه "ميسيني" "ميسان" "Mesene" على رأس الخليج، "خليج البصرة"، أو "ماش" "ماشو" "Mashu" الأرض المذكورة في الكتابات الآشورية، والتي تعني بادية الشام, أو أنه موضع "موزح" أو "موسح" في نجد، أو اسم قبيلة من قبائل نجد2. إلا أنك ترى من كل آرائهم أنه اسم مكان في بلاد العرب، أو اسم قبيلة عربية، وأن "سفار" وهي الحد الآخر من حدود منازل اليقطانيين هي "ظفار" "Zefar"، عاصمة مملكة حضرموت القديمة على رأي علماء التوراة3. ولما كانت أسماء أبناء يقطان المذكورين، والذين قد تحققنا من هويتهم كناية عن أسماء مواضع في جزيرة العرب، وجب أن تكون "أوفير" في جزيرة العرب كذلك. ومن الباحثين من يرى أن "أوفير" هي "عسير"، ورأى آخرون أنها أرض "مدين" وقد رجح أكثرهم كونها على سواحل جزيرة العرب الغربية أو الجنوبية؛ لأن الأماكن هي أقرب إلى الوصف الوارد في التوراة من الأماكن الأخرى4. وقد ذكر الهمداني في "معادن اليمامة" موضعًا سماه "الحفير"، قال: "ومعدن الحفير بناحية عماية، وهو معدن ذهب غزير"5. وصلة وجود الذهب فيه بغزارة، تنطبق على هذا الموضع أحسن انطباق، إلا أن هذا الموضع بعيد عن البحر, ولكن من يدري؟ فلعل كتاب التوراة لم يكونوا يعرفون مكان "أوفير"، وإنما سمعوا بذهبه، الذي يتاجر به العرب الجنوبيون من الموانئ الساحلية، فأرسل سليمان سفنه إلى مواضع بيعه في سواحل جزيرة العرب لشرائه، ومن هنا ظن كتاب "العهد القديم" أن "أوفير" على ساحل البحر, و"الحفير"

_ 1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 26 فما بعدها 2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 399" Hastings, p. 606 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 558" Hastings, P. 836 4 Sprenger, Die Alte Geography Arabiens, S. 53. ff. Moritz, Arabien, S. 7, Burton, The Gold Mines of Midian, Skizze II S. 347, Montgomery, Arabia, P. 38 5 صفة "ص 153، سطر 24"

-كما ترى- اسم قريب جدًّا من "أوفير". وقد ضرب المثل بكثرة تبر "أوفير"، وبحسن سبائك ذهبها، فورد في سفر "أيوب" على لسان "اليفاز التيماني" مخاطبًا "أيوب"، داعيًا إياه إلى توجيه وجهه لله: "فإنك إن تبت إلى القدير، يعاد عمرانك وتنفي الإثم عن أخبيتك، فتجعل التبر مكان التراب وسبائك أوفير مكان حصى الأودية"1. وأنشأ سليمان خطًّا بحريًّا آخر ينتهي بأرض اشتهرت بالذهب كذلك، سميت في التوراة "ترشيش". وقد استعان سليمان بمدربين وملاحين من "صور"، أمده بهم "حيرام" ملك "صور". وكان الأسطول مختلطا إسرائيليا وحيراميا، يذهب مرة في كل ثلاث سنوات. وأما البضاعة التي يعود بها من "ترشيش" فهي ذهب وفضة وعاج وقردة وطواويس2. ولم يتفق العلماء حتى الآن على تعيين موضع "ترشيش"، فرأى بعضهم أنه مكان في إفريقيا، ورأى بعض آخر أنه في مكان ما من سواحل آسيا الجنوبية، ورأى آخرون أنه في إسبانيا3. وكانت سفن صور تتاجر مع ترشيش وتربح من هذه التجارة ربحًا فاحشًا، كما جاء ذلك في التوراة. وعلى أثر وفاة "سليمان" في حوالي سنة "937 ق. م." انشطرت حكومته شطرين: إسرائيل "Israel" و"يهوذا" "Judah". وقد أثر هذا الانقسام على أعمال العبرانيين التجارية البحرية؛ لذلك لا نسمع لها ذكرًا في التوراة إلى أيام "يهوشافاط" "Jehoshaphat" ابن الملك "آسا" "Asa"، الذي حكم فيما بين "876" و"851" ق. م. تقريبًا4, فتحدثنا التوراة أنه اتفق مع "أخزبا" ملك "إسرائيل" على بناء أسطول جديد في "عصيون جابر" ليسير إلى "ترشيش"، غير أن مأربهما لم يتحقق؛ إذ تكسرت السفن ولم تستطع السير إلى "ترشيش"5. ويظهر أنه أراد إحياء فكرة "سليمان" القديمة في الاتصال بالبحر الأحمر والمحيط الهندي وبإفريقيا وبسواحل جزيرة العرب الجنوبية وبسواحل آسيا، إلا أنه لم ينجح6. والظاهر أن العبرانيين لم يكونوا قد أتقنوا

_ 1 أيوب، السفر الثاني والعشرون، الآية 23 فما بعدها. 2 الملوك الأول، الإصحاح العاشر، الآية 22 فما بعدها. 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 284 وما بعدها" Hastings, P. 895 4 Hastings, P. 400 5 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح العشرون، الآية 35 فما بعدها. 6 Dubnow, I, S. 165

بناء السفن والسير بها في البحار، فأخفقوا، وأن نجاح "سليمان" في الوصول إلى "أوفير" و"ترشيش" مَردّه إلى خبرة ومهارة البحارة الصوريين الفينيقيين. ويظهر من سفر "الملوك الأول" أن "يهوشافاط" قام بنفسه منفردًا ببناء السفن لإرسالها إلى "ترشيش"، غير أنها تكسرت في "عصيون جابر" فعرض "أخزبا بن آخاب" ملك إسرائيل عليه أن يبنيا أسطولًا مشتركًا، يشترك فيه ملاحون من إسرائيل وملاحون من يهوذا، إلا أنه رفض ذلك1. ولم نعد نسمع بمحاولات أخرى للعبرانيين ترمي إلى إعادة فكرة "سليمان" في بناء سفن بحرية للاتجار بها مع البلاد الواقعة على البحر بمسافات بعيدة عن إسرائيل. نعم، لقد كون "المكابيون" أسطولًا تجاريًّا لهم جعلوا مقره في "يافا"2 "Jappa", ولكنهم لم يتمكنوا من بناء أسطول لهم يخترق مياه البحر الأحمر؛ ليزاحم العرب أو غيرهم فيه, فلم يكن الإسرائيليون من عشاق البحر على شاكلة الفينيقيين أو العرب الجنوبيين أو سكان العروض. ولولا المساعدة الثمينة التي قدمها ملك صور لسليمان، لما استطاع العبرانيون أن يصلوا إلى "ترشيش" أو "أوفير". وقد انصرف "يهوشافاط" على ما يظهر إلى إقرار الأمن في حدود مملكته، وتحسين علاقاته مع "أخاب" ملك إسرائيل ومع جيران "يهوذا"، حتى تمكن من عقد محالفات معهم، أدت إلى الاستقرار والهدوء، فلم يحاربوا "يهوشافاط"3؛ وهذا مما حمل علماء يهود على التجول في مدن "يهوذا" لتعليم الناس أحكام دينهم. وحمل إليه "الفلسطينيون" هدايا وجِزًى دفعوها فضة، كما جاء في التوراة4، ودفع إليه "العرب" كما تقول التوراة أيضًا "7700" كبش و"7700" تيس5. ويظهر أن "العرب" المذكورين، هم من الأعراب النازلين في "يهوذا" ومن الأعراب الذين يفدون عليها للاتجار, وإلا

_ 1 الملوك الأول، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية 38 فما بعدها. Montgomery, Arabia, P. 179 2 Hastings, P. 849 3 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الثامن عشر، الآية الأولى فما بعدها. 4 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح السابع عشر، الآية 11. 5 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح السابع عشر، الآية 11.

فلِمَ يدفع الأعراب الساكنون في خارج "يهوذا" جزى أو هدايا لملكها، وليس له سلطان عليهم؟ وقد ترجمت لفظة "عربايم" العبرانية بلفظة "عربان" في ترجمة "جمعية التوراة الأمريكية" للتوراة إلى العربية, أما "الترجمة الكاثوليكية" فقد ترجمتها بلفظة "العرب". أما المراد من النص العبراني، فهو "الأعراب"؛ لأن لفظة "عرب" لم تكن تعني يومئذ إلا هذا المعنى. وتولى "يهورام" "Jehoram" "851-843 ق. م." الحكم على مملكة "يهوذا" بعد "يهوشافاط"1. وتذكر التوراة أنه قتل جميع إخوته وبعض رؤساء إسرائيل بالسيف2, وأنه أغضب إله "إسرائيل" بأفعاله المنكرة؛ لذلك "أهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيين، فصعدوا إلى يهوذا وافتتحوها وسبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضًا. ولم يبق له ابن إلا يهوحاز أصغر منه"3. وتذكر بعد ذلك أن الله ابتلاه بمرض في أمعائه وبأمراض رديئة "فذهب غير مأسوف عليه، ودفنوه في مدينة داود, ولكن ليس في قبور الملوك"4. ويظهر أن هجوم العرب على "أورشليم" كان هجومًا شديدًا عنيفًا كاسحًا، بدليل ما جاء في الآية التي أشرت إليها في التوراة، وفي الآية الأولى من "الإصحاح التالي" للإصحاح المذكور: "وملك سكان أورشليم أخزبا ابنه الأصغر عوضًا عنه؛ لأن جميع الأولين قتلهم الغزاة الذين جاءوا مع العرب إلى المحلة"5. وفي هذا الهجوم الماحق دلالة على ضعف مملكة "يهوذا" وتضعضع الأمن فيها, وعلى التناحر الشديد الذي كان بين السكان حتى إننا لنجد الشعب فرقًا غير متفقة، وأكثرها تخاصم الحكام. ويرى "مرغيلوث" "Margoliouth" أن المراد بالعرب الذين بجوار الكوشيين, العرب الجنوبيون، أي: سكان اليمن؛ وذلك لأنهم في جوار "الكوشيين" أي:

_ 1 "ملك 8 سنين من سنة 892-885 ق. م"، قاموس الكتاب المقدس "2/ 534". Hastings, P. 400 2 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 4 فما بعدها. 3 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 16 فما بعدها. 4 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 19 فما بعدها. 5 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية 1.

الحاميين، السودان، وهم سكان إفريقيا، لا يفصلهم عنهم إلا مضيق "باب المندب". ويرى أيضا أن ذلك الهجوم كان بحرًا، مستدلًّا على رأيه هذا بأن العرب المذكورين سرعان ما تراجعوا إلى منازلهم بغنائمهم وبما حصلوا عليه من أموال، دون أن يكلفوا أنفسهم البقاء في "أورشليم" والاستيلاء على "يهوذا"، وبمساعدة الفلسطينيين للعرب في هجومهم على يهوذا، وقد كان الفلسطينيون يسكنون سواحل فلسطين1. أما "موسل" فيرى أن "العرب الذين بجانب الكوشيين" هم العرب النازلون في الأقسام الغربية من "طور سيناء" وعلى حدود مصر، وفي الأقسام الجنوبية من "طور سيناء" وعلى مقربة من "أيلة". وقد كانت "طور سيناء" موطنا قديما للعرب، وقد أشير في الكتابات المسمارية إلى ملوك عرب حكموا هذه الأرضين2. ويحدثنا الإصحاح السادس والعشرون من "أخبار الأيام الثاني" أن "عزيا" "Uzziah" ملك "يهوذا" "779-740 ق. م."3, كان مستقيمًا في أول أمره مطيعًا لأوامر الكهان؛ لذلك وفقه الله، فخرج وحارب الفلسطينيين وهدم سورجت وسور أشدود، وبنى مدنًا في أرض أشدود والفلسطينيين وساعده الله على الفلسطينيين وعلى العرب الساكنين في جوربعل والمعونيين4. ويفهم من هذه الآيات أن الفلسطينيين والعرب كانوا جبهة واحدة متحدة ضد مملكة "يهوذا", وقد كبدوها خسائر فادحة كما رأينا. فلما تولى هذا الملك، أراد رمي صفوف أهل مملكة "يهوذا" ووقاية مملكته، وقد نال تأييد شعبه له، فحارب الفلسطينيين وتغلب عليهم، وحارب العرب الساكنين في "جوربعل" والمعونيين، وهدم أسوار المدن التي عرفت بعدائها لـ"يهوذا"، وبنى مدنًا جديدة في "أشدود" وفي الأرضين الساحلية المعروفة بفلسطين.

_ 1 Margoliouth, The Relations, P. 52 2 Hegaz, P. 274 3 Hastings, P. 407, 957, Enc. Bibli. P. 5240, Hegaz, P. 244 ويدعى أيضا "عزريا" وهو ابن "أمصيا"، "808-756 ق. م.", "782-737 ق. م."، قاموس الكتاب المقدس "2/ 100". 4 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح السادس والعشرون، الآية 6 وما بعدها.

ومدينة "جث" هي مدينة قديمة في تخوم "دان"، وبها وُلِدَ "جليات" "كلياث" "Goliath" جبار الفلسطينيين كما أنها إحدى مدنهم الخمس1. وكانت في أيام داود في يد الفلسطينيين، وكان عليها ملك اسمه "أخيش"2 "Achish"، ولم يعرف مكانها بالضبط. وأما "يبنة"، وتعرف أيضا بـ"يبنئيل"، فإنها من مدن الفلسطينيين كذلك, وهي "بينة" في الزمان الحاضر، وتقع على بعد "12" ميلًا جنوب "يافا" و"3" أميال شرقي البحر3، أو "يمنة" على مسافة "7" أميال جنوبي "طبرية"4. ولم يتمكن علماء التوراة من تثبيت موضع "جوربعل", وتعني لفظة "جور" "مسكن"، فيكون تفسير "جوربعل" "مسكن بعل"5. ويظهر من ذكر الفلسطينيين والعرب الساكنين بهذا المكان والمعونيين بعضهم مع بعض أن أرضيهم كانت قريبة بعضها من بعض، وأنهم كانوا يدًا واحدة على "يهوذا". ويرى "موسل" أن الزاوية الشمالية الغربية من أرض "حسمى" هي "جوربعل", وتقع في رأيه على مقربة من جبل "إرم" الذي يعرف اليوم باسم "رم"، وهو "Aramaua" في "جغرافية بطلميوس"، ويكون حدًّا من الحدود الشمالية للحجاز6. وذهب بعض الباحثين إلى أن "جوربعل" تعني "صخرة بعل"، في بعض النصوص الإغريقية, ولهذا فسروها بـ"بطرا"؛ ولذلك قالوا: إن العرب المذكورين كانوا العرب الساكنين عند "بطرا"7 "patra". وأما "المعونيون" فإن آراء علماء التوراة متباينة كذلك في تعيين هويتهم8, وقد ذهب بعضهم إلى أنهم جماعة من "المعينيين"، الذين كانوا قد استقروا

_ 1 يشوع: الإصحاح الحادي عشر، الآية 22، الإصحاح الثالث عشر، الآية 3، صموئيل الأول، الإصحاح السادس، الآية17، الإصحاح السابع عشر، الآية 4، قاموس الكتاب المقدس "1/ 314 وما بعدها". 2 صموئيل الأول، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 10 وما بعدها، الإصحاح السابع والعشرون، الآية 1 وما بعدها. 3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 494". 4 Enc. Bibli. P. 2303, Hastings, P. 419 5 قاموس الكتاب المقدس "1/ 344". Enc. Bibi. P. 1920, Hastings, P. 322 6 Hegaz, P. 274 7 Montgomery, Arabia, P. 30 8 قاموس الكتاب المقدس "2/ 362".

في "ديدان"، وكونوا مملكة معينية شمالية1. وذهب بعض آخر إلى أنهم سكان "معين مصران"2. وقد استعاد "عزيا" "أيلة" "إيلات" "Eloth" "Elath"، وبنى ميناءها، وتقع في أرض "آدوم"، وهي فرضتها الشهيرة، ويقع على مقربة منها ميناء "عصيون جابر" الذي تحدثت عنه, وقد بقيت في ملك "يهوذا" إلى أن استولى عليها ملك "أرام"3. وقد حاول "عزيا" ومن جاء بعده جعل "إيلات" "أيلة" ميناء "يهوذا" الجنوبي؛ وذلك للاستفادة منه في الاتجار مع إفريقيا والبلاد العربية وسواحل آسيا الجنوبية، تطبيقًا لخطة "سليمان", إلا أن هذا الأمر لم يتحقق؛ إذ لم تكن مملكة "يهوذا" قوية متمكنة في هذه المناطق الجنوبية, التي كانت هدفا للغارات والحروب. ويظهر أن ميناء "عصيون جابر" كان قد خرب أو امتلأ بالرمال، فلم يصلح للاستعمال، فرأى "عزيا" استبدال ميناء "أيلة" به، وقد يكون ماء هذا الميناء أعمق وأصلح للملاحة وللمواصلات من ذلك الميناء؛ لذلك وقع اختيار ملك "يهوذا" عليه4. وفي أخبار حملة "سنحاريب" التاسعة ما يفيد أن "حزقيا" ملك "يهوذا" استخدم الـ"الأريبي"، أي: الأعراب، فيمن استخدمهم للدفاع عن القدس "أورشليم"، حينما حاصرها ملك آشور5. ولم يكن هؤلاء العرب، إلا أعرابًا من سكان "يهوذا"، ومن سكان الأرضين الأخرى في فلسطين. وعلى عاتق هؤلاء الأعراب وقعت مسئولية الدفاع عن القدس، حيث قاموا بدور كبير في الدفاع عنها وفي مقاومة الآشوريين6. ولما سمح الفرس ليهود بابل الذين كانوا في الأسر بالعودة إلى بلادهم، توسل

_ 1 Margoliouth, P. 51 2 Winckler, AOF. 29, 337, Enc. Bibli. P. 3065 3 أخبار الأيام الثاني، الإصحاح السادس والعشرون، الآية 2، الملوك الثاني، الإصحاح الرابع عشر، الآية 22. قاموس الكتاب المقدس "1/ 184". Hastings, P. 211 4 Montgomery, Arabia, P. 179 5 Luckenbill, II, 240, Reall. I, S. 125 6 A.R. Burn, Persia and the Greeds, P. 21

"نحميا" إلى "أرتحشتا" ملك الفرس، بالسماح له بالعودة إلى القدس، وكان "نحميا" نديمًا للملك، يسقيه الخمر ويؤانسه، فسمح له. ولما وصل إليها، وجد المدينة خربة، وقد تهدمت أسوارها واقتلعت أبوابها، فجمع سكانها وأمرهم بإعادة بناء الأسوار, وإصلاح الثغر والثلم التي فيها، وعمل أبواب جديدة، ولكنه لقي معارضة شديدة من "سنبلط الحوروني" و"طوبيا العبد العموني" و"جشم العربي"، إذ عارضوا في إعادة بناء الأسوار والأبواب, وهددوه بالزحف على المدينة. ونجد في "سفر نحميا" وصفًا لموقفهم من "نحميا"، فيه استهزاء وسخرية به وازدراء بأمر سكان "أورشليم" وبالسور الذي أخذ في بنائه، وبين المستهزئين أناس من العبرانيين: "ولما سمع سنبلط أننا آخذون في بناء السور، غضب واغتاظ كثيرًا، وهزأ باليهود، وتكلم أمام إخوته وجيش السامرة, وقال: ماذا يعمل اليهود الضعفاء؟ هل يتركونهم؟ هل يذبحون؟ هل يكملون في يوم؟ هل يحيون الحجارة من كوم التراب وهي محرقة؟ وكان طوبيا العموني بجانبه، فقال: إن ما يبنونه إذا صعد ثعلب, فإنه يهدم حجارة حائطهم"1. وقد تأثر "نحميا" من هذا الازدراء الشائن كثيرًا, فتراه يوجه وجهه لربه ويخاطبه قائلًا: "اسمع يا إلهنا؛ لأننا قد صرنا احتقارًا, ورد تعييرهم على رءوسهم, واجعلهم نهبًا في أرضي السبي"2. وصمم "نحميا" كما يقول على الاستمرار في البناء حتى إكماله: "فلما سمع سنبلط وطوبيا والعرب والعمونيون والأشدوديون أن أسوار أورشليم قد رممت، والثغر ابتدأت تسد، غضبوا جدا، وتآمروا معًا أن يأتوا ويحاربوا أورشليم ويعملوا بها ضررًا"3. ولكنهم كما يفهم من "نحميا" لم ينفذوا تهديدهم بالهجوم على القدس، بل بقوا يتكلمون ويهددون، يرسلون الرسل إلى "نحميا" للاجتماع به، ويذكر "نحميا" أنهم لم يكونوا يريدون من هذا الاجتماع إلا الفتك به، فرفض؛ وعندئذٍ تراسل "سنبلط" و"طوبيا" مع أحد رؤساء "أورشليم" وهو "شمعيا بن دلايا"؛ ليدخل "نحميا" الهيكل، ثم يعلن للناس أنه دخل

_ 1 نحميا، الإصحاح الرابع، الآية 1 فما بعدها. 2 نحميا، الإصحاح الرابع، الآية 4. 3 نحميا، الإصحاح الرابع، الآية 7 فما بعدها.

الهيكل خائفًا هاربًا، فتسقط منزلته من أعين الناس. وقد أحس "تحميا" بالمؤامرة، فرفض الدخول كما يقول1. وكان "جشم" العربي من أشد المعارضين لبناء السور، ولتحصين القدس؛ وذلك لأنه كان يرى في هذا العمل إعادة لدولة "يهوذا" ولتنصيب "نحميا" ملكًا على "أورشليم". وقد صرح برأيه هذا إلى "نحميا" في رسالة وجهها إليه نقل "نحميا" منها هذه الكلمات: "وجشم يقول: إنك أنت واليهود تفكرون أن تتمردوا؛ لذلك أنت تبني السور لتكون لهم ملكًا بحسب هذه الأمور. وقد أقمت أيضا أنبياء لينادوا بك في أورشليم قائلين: في يهوذا ملك"2. وما كان "جشم" ليعارض بناء أسوار القدس ووضع الأبواب لها، وإعادة حكومة "يهوذا" التي قضى عليها البابليون إلى الوجود, لو لم يكن صاحب سلطان وحكم في أرضين تجاور القدس؛ ولهذا رأى في إعادة الملكية إلى القدس عاصمة مملكة "يهوذا" المنقرضة, تهديدًا له ولمن تحالف معهم على مقاومة هذا المشروع3. و"جشم" "Geschem" اسم من الأسماء العربية المعروفة, وفي القبائل العربية قبيلة يقال لها "جشم"، وهي من قبائل "بني سعد"، وهو أيضا "جشم" من أسماء الرجال4, ويرد بصورة: "جشمو" في الكتابات النبطية5, ولم يشر "نحميا" إلى موطنه ومكانه؛ ولذلك لا ندري أين كان. وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى أنه كان من أهل "السامرة" "Samaria"، وذهب بعض آخر إلى أنه كان من أهل المناطق الجنوبية من "يهوذا" وأنه كان رئيس قبيلة فيها6. وذهب بعض الباحثين إلى أن "جشم بن شهرو" "جشم بن شهر"، هو "جشم" المذكور في التوراة, وهو أحد ملوك قبيلة "قيدار" "قدار" "قدور". وهو الذي عارض "نحميا" في سنة "444" قبل الميلاد في إعادة

_ 1 نحميا، الإصحاح السادس، الآية 2 فما بعدها. 2 نحميا، الإصحاح السادس، الآية 6 فما بعدها. 3 "جشم" Enc. Bibli. I, P. 273. ff. "Gushamu" "Geshem" 4 الاشتقاق "1/ 154"، "2/ 177، 203، 242". 5 Margoliouth, P. 48, Montgomery, Arabia, P. 29 6 Hastitns, P. 291, Enc Bibli. P. 1710, Hastings, A Dictionary of the Bible, I, P. 162.

بناء سور "أورشليم". وقد كانت "قيدار" مملكة تسيطر على أرض تمتد من "دلتا" النيل إلى حدود مملكة "يهوذا" فجنوب "ديدان" بحوالي "21" كيلومترًا نحو الجنوب في الحجاز، أما في الغرب فتصل حدودها بالبادية1. فملك "قيدار" وهو "جشم بن شهر"، كان إذن هو المعارض لبناء السور، وفي معارضته هذه دلالة -ولا شك- على مقاومته لمحاولة إعادة دولة إسرائيل من بعد السبي. ويظن أن الإناء الذي عثر عليه بمصر في موضع يقع على مسافة اثني عشر ميلًا إلى غرب الإسماعيلية، وقد دُوِّن عليه اسم شخص يدعى "قينو بن جشم ملك قيدار"، هو ابن "جشم" المعاصر "لنحميا". وعلى ذلك يكون أحد ملوك "قيدار"2. وقد كانت "طور سيناء" منذ القديم أرضًا يسكنها العرب، حتى في أيام داود وسليمان. ونجد أن رسالة "القديس بولس" إلى أهل غلاطية تجعل جبل سيناء في ديار العرب، وتذكر أن "طور سيناء" موطن أبناء هاجر، أي: العرب3, كما نجد أن النقب ووادي عربة كانا من مواطن الأعراب4. وقد كان أعراب "جشم" وغيره ينتقلون وينزلون في هذه المواطن وعلى مقربة من القدس. وفي هذا العهد وصل الاتجار بين فلسطين وبين العربية الجنوبية ذروته, فعثر على مواد كثيرة في مواضع متعددة من فلسطين استوردت من العربية الجنوبية. كما عثر في حضرموت على آثار تدل على أنها استوردت من فلسطين وبلاد الشام, وقد كانت حاصلات العربية الجنوبية هي من أهم السلع المطلوبة في فلسطين, ترسل إليها عن طريق البر على ظهور الجمال. ومنذ عهد "نحميا" أي: أواسط القرن الخامس قبل الميلاد، أخذ العبرانيون

_ 1 Grohmann, Arabien, S. 23, F. V. Winnett, Notes on th Lihyanite and Thamudic Inscriptios, in Museon, 51, "1938" 307, 309, W.F Albright New Light on Early Recensions of the Hebrew Bible, In BASOR. Num. 140, 1955, 31, W. F. Albright, The Archaeology of Palestine, P. 145 2 William Culican, the Medes And Persians, London, 1965, P. 151 3 الإصحاح الرابع، الآية 24 فما بعدها. 4 W.F. Albright, the Archaeology. P. 145

ينظرون نظرة عداء إلى العرب، ويعدونهم في الجماعات المعادية لهم1. وذلك مما يدل على اتخاذهم موقفًا موحدًا ضد العبرانيين وعلى توغلهم في فلسطين في المناطق التي حكمتها حكومتا "إسرائيل" و"يهوذا"؛ ولهذا اشتدت مقاومة العرب للعبرانيين واتحدوا مع الشعوب الأخرى في مقاومتهم، وفي منعهم من إعادة تكوين حكومة يهودية في هذه البلاد. ولما تولى "يهوذا المكابي" مؤسس أسرة "المكَّّابيين" "Maccabees" "166-161 ق. م." الحكم، حارب أعداء العبرانيين2، وكان من بينهم "تيموتاس" "Timotheus" رئيس "العمونيين"3، الذي استأجر جيشًا من العرب ومن الغرباء ليحارب به "يهوذا"، غير أنه أُصيب كما يقول "سفر المكابيين" بخسائر في كل المعارك التي خاضها مع "يهوذا"، ولم يتمكن من الانتصار عليه4. وقد تحدث سفر المكابيين الثاني عن "تيموتاس" هذا، فقال: "ثم ساروا "أي اليهود" من هناك تسع غلوات زاحفينَ على تيموتاس، فتصدى لهم قوم من العرب يبلغون خمسة آلاف، ومعهم خمسمائة فارس، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكان الفوز لأصحاب يهوذا بنصرة الله، فانكسر عرب البادية، وسألوا يهوذا أن يعاقدهم على أن يؤدوا إليهم مواشي, ويمدوهم بمنافع أخرى"5. ولعل هؤلاء العرب، هم العرب المذكورون, الذين ذكر السفر الأول من المكابيين أن "تيموتاس" كان قد استأجرهم لمقاتلة اليهود. وقد كانوا من أعراب البادية, كما نرى ذلك في هذا النص. وورد في "سفر المكابيين الأول" اسم سيد قبيلة عربية هو "زبديئيل" "زبدايل" "زبديل"، وكان يقطن في "ديار العرب"، كما جاء ذلك في السفر المذكور؛ ذكر السفر اسم هذا الرئيس وهو يتكلم على فرار "إسكندر بالس"

_ 1 Margoliouth, P. 48, Hastings, P. 406, Enc. Bibli. I, P. 273 2 Hastings, A Dictionary. I, P. 936 3 A Dictionary, I, P. 937 4 المكابيون الأول، الإصحاح الخامس، الآية 6 فما بعدها، 34 فما بعدها، المكابيون الثاني, الإصحاح الثامن، الآية 30, الإصحاح التاسع، الآية 3، الإصحاح العاشر، الآية 24 فما بعدها. 5 المكابيون الثاني عشر، الآية 10 فما بعدها.

"Alexander Balas" إلى "ديار العرب"، وكان قد مُنِيَ بهزيمة أوقعه بها "بطلميوس" "بطلماوس" "Ptolemy"، عمه أي: والد زوجته, وكان قد تخاصم معه. فلما وصل "إسكندر بالس" إلى "ديار العرب"، قبض عليه "زبديئيل"، وقطع رأسه، وأرسله إلى "بطلماوس"1. ولم يتحدث السفر المذكور عن منزل "زبديئيل"، ولم يحدد مكان "ديار العرب"، وعندي أن المراد بـ"ديار العرب" بادية الشام، والأرضون التي دعاها الأشوريون بـ"أريبي" "Aribi"، وهي موطن آمن لمن يصل إليه، إذ يصعب للجيوش النظامية أن تقاتل فيها. وقد كان "زبديئيل" من رؤساء البادية في هذا الزمن, وهو حوالي منتصف القرن الثاني قبل الميلاد2. وكان الحاكم على اليهود هو "يوناتان" من المكابيين. ويذكر "سفر المكابيين" أيضا أن "تريفون" "Tryphon"، وهو أحد قواد "إسكندر بالس" ومن جماعته، ذهب إلى رجل عربي اسمه "إيملكوئيل"، وكان يربي "أنطيوخس بن الإسكندر"، فألح عليه أن يسلمه إليه ليملكه مكان أبيه، ومكث عنده أيامًا. وقد تمكن عربي مع حقد العبرانيين المتزايد على العرب من حكم اليهود ومن تأسيس أسرة حاكمة حكمتهم. ذلك الرجل هو "أنتيباتر" "Antipater" الأدومي، نسبةً إلى "أدوم" "Edom" "Idumea" "Idumaea"، وهم سكان جبل سعير، الذين دعاهم "أويسبيوس" "Eusebius" باسم "Gabelene" أو "Gabalene" أي: الجبليين3. فقد تمكن هذا الرجل الذي لم يكن من أسرة ملكية ولا من أسرة معروفة بفضل شخصيته وبقوته من فرض نفسه حاكمًا على "أدوم" "Idumaea"، ثم تمكن من جعل نفسه حاكمًا "Procurator" على اليهودية "Iudaea" "Judaea"، وذلك في حوالي السنة "33" قبل الميلاد. وفي خبر أن "يوليوس قيصر" "Julius Caesar"، اعترف به "Procurator" على اليهودية في حوالي السنة "47" قبل الميلاد4.

_ 1 المكابيون الأول، الإصحاح الحادي عشر, الآية 15 وما بعدها. 2 Hastings, P. 20 3 Hastings, P. 345 4 Smfth, A Diotionary of the bibl, I, P. 790. F. Josephus, Anti. Xiv, 7, 3

ولما وقعت الحرب بين "يوناتان" المكابي "161-143 ق. م." و"ديمترتوس الثاني"، ضرب "يوناتان" العرب المسمين بالزبديين "Zabadaeans" وأخذ منهم غنائم كثيرة1, حدث ذلك في سنة "144 ق. م.". ويرى بعض علماء التوراة أن هذه القبيلة العربية قبيلة "زبد" "زبيد" كانت تنزل في موضع في شمال غربي "دمشق"، ويرى بعض آخر احتمال أن ذلك المكان هو "الزبداني"، الذي يبعد عشرين ميلًا من الشأم على طريق دمشق بعلبك2. وأرى أن من المحتمل أن يكون هؤلاء "الزبديون" هم سكان "زبد"، وهو خرب في الزمن الحاضر، يقع بين قنسرين ونهر الفرات, وقد اشتهر عند المستشرقين بالكتابة التي عثر عليها في هذا الموضع، وقد كتبت باليونانية والسريانية والعربية، ويرجع تأريخها إلى سنة "511م". وقد أدخلهم "يوسفوس" في عداد النبط3. و"أرتاس زعيم العرب" الذي طرد "ياسون" من بلاده, حينما التجأ إليه فارًّا من الملك "أنطيوخس"، هو "الحارث" أو "حارثة" وهو من ملوك النبط، ولا شك. وقد ذكر اسمه في سفر المكابيين الثاني4. وفي أيام "سترابون" كان العرب في جملة سكان مدن فلسطين، مثل القدس و"يافا" و"الجليل"5. وذكر "سترابون" أن "الأدوميين" "Idumaens" كانوا يقطنون الأقسام الغربية من "اليهودية" "Iudaea"، وهم على حد قوله من "النبط". ولما كان "سترابون" قد نقل كلامه من موارد أخرى قديمة، فما ذكره يفيد أن العرب كانوا يقيمون في فلسطين قرونًا عديدة قبل الميلاد. وقد ذكر العرب في جملة الشعوب الساكنة في "أورشليم" يوم مرور الخمسين يومًا على المسيح. ويظهر من أعمال الرسل أن أهل القدس كانوا خليطًا في تلك الأيام من معظم شعوب العالم المعروفة يومئذٍ6.

_ 1 سفر الكابيين الأول, الإصحاح الثاني عشر, الآية 31 فما بعدها. 2 Hastings, P. 982, Beeton, Dictionary of Religion Philosophy and law, P. 1809 3 Anti. XIII, 5, 10, Beeton, Dictionary, P. 1809 4 المكابيون الثاني، الإصحاح الخامس، الآية 5 فما بعدها. Dubnow, II, S. 48 5 قاموس الكتاب المقدس "1/ 331". 6 أعمال الرسل، الإصحاح الثاني، الآية 9 وما بعدها.

وقد أطلق العبرانيون اسم "طيعة" و"طيابة" على العرب، محاكاةً لبني إرم, فتجد اللفظة في "التلمود" وفي كتابات العبرانيين المدونة في القرون الأولى للميلاد. وقد أخذ الاسم "طيعة" و"طيابة" من "طيء" اسم القبيلة المعروفة، على نحو ما ذكرت في الفصل الأول. وقد ذكرت في "المدراش" قبيلة عربية عرفت بـ"سوجي"، لعله "سواجر"، أو ما شابه ذلك من أسماء1. وفي التوراة مصطلحات يرى العلماء أنها كناية عن العرب؛ ففيها مصطلح "بني قديم" "Bene Kedem"، ومعناه "أبناء الشرق"، ويقصد به الساكنون شرق العبرانيين، أي: سكان بادية الشأم، وهو في معنى "شركوني" "شرقوني"، أي: الساكنين في المشرق. وهم كما نعلم قبائل عديدة من العرب سكنت هذه البادية قبل الميلاد بمدة لا يعلمها إلا الله, وقد يكون من بين هؤلاء أقوام من الآراميين2. وقد وصفت التوراة بعض عادات العرب ورسومهم، كما تعرفت لتجارتهم. ولما كانت "فلسطين" امتدادًا طبيعيًّا لجزيرة العرب، وجزءًا منها، وكانت على طريق مصر وبلاد الشأم وعلى ساحل البحر المتوسط، صارت سوقًا مهمة للتجار العرب وللأعراب، يأتونها لبيع ما عندهم من سلع، وأهمها: أنواع الطيب والذهب والحجارة الكريمة والأغنام والأعتدة وحاصلات بلاد العرب الأخرى3، كما كانوا يشترون من أسواقها ما فيها مما يحتاجون إليه من حاصلات حوض البحر المتوسط وبلاد الشأم وفي جملة ذلك الرقيق. وورد في "التلمود" اسم صنم عربي "نشرا"4، ويقصد به "نسر" ولا شك, وهو من أصنام العرب المعروفة. وقد ذكر "ابن الكلبي" أن حمير تعبدت لنسر5, كما أنه ذكر في "التلمود" أيضا "حج الأعراب"، وذكر أن مواسم حجهم كانت تتغير بتغير فصول السنة6. وقد تعرض للأحكام الشرعية

_ 1 إيخارباثي "3/ 7". 2 Hastings, P. 20. the Bible Dictionary, I, P. 177. 3 حزقيال، الإصحاح السابع والعشرون، الآية 21 وما بعدها. 4 عبودة زارة 11 ب. 5 الأصنام "ص11، 57". 6 عبودة زارة 11 ب.

الخاصة بدخول البيوت، فذكر أنها لا تنطبق على خيام العرب؛ لأنها متنقلة، فلا تستقر في مكان واحد1, كما ذكر أن من عادة نساء العرب التحجب عند خروجهن إلى المحال العامة2, ولعله يقصد بذلك نساء المدن. وذكر أن من عادة الرجال وضع اللثام على وجوههم في أثناء السفر لوقايتهم من الرمال3، وأشار إلى أن للعرب مقدرة فائقة في معرفة مواضع المياه في الصحراء بمجرد شم الرمال4. وورد في "المشنة" "المشنا" أن أغلب طعام العرب من اللحوم5. وقد ورد في "السنهدرين" أن أحد اليهود قصَّ على الحبر "حية" "R. Hiyya"، أنه رأى مسافرًا عربيًّا أخذ سيفًا بيده فقطع به جملًا قطعًا، ثم أخذ "جرسًا" فدق به، فنهض الجمل حالًا، وكأنه لم يقطع إربًا، فقال له الحبر: إن ما حدث هو نوع من الخداع6. ونجد في "السنهدرين" كلاما لـ"ربه بن برحنه" "Rabbah B. Bar Hana" يروي فيه أنه كان مسافرا، وفي أثناء سفره التقى به عربي، فقال له: تعال معي وسأريك الموضع الذي انشقت به الأرض وابتلعت جماعة "القورحيين" "قورح" "Korah". فذهب معه إليه، ورأى به دخانا, ثم أخذ العربي قطعة من صوف وبَلَّها بالماء، ثم وضعها على رمح له، ثم أدخلها الموضع فاستشاطت بالنار. ثم قال للعربي: أصغِ إلى المكان، لعلك تسمع شيئًا فيه. فسمع أصواتا تقول: "موسى وتوراته على الحق، أما القورحيون فهم كذابون" ثم قال له: في كل ثلاثين يومًا يتحول هؤلاء في جهنم "Gehenna"، تحول اللحم في القدر، وهم يقولون: "موسى وتوراته على حق، أما هم، فهم كذابون"7. ونجد قصة هذا الحبر في "باب بثرا" "Baba Bathra"، حيث يقول:

_ 1 هلوت 28: 10. 2 شبت 6: 6. 3 موعيد قطان 24، ومشنة كليم 29: 1. 4 بابا بترا 73 ب. 5 مناحوت 36 ب. 6 Sanhedrin, 67b, the Babylonian Talmud, Seder Nezikin, III, P. 460, Translated by, Rabbi I, Epstein. 7 Sanhedrin 110a, 110b, the Babylonian Talmud, Seder Nozikin, III, P. 757. قاموس الكتاب المقدس "2/ 226" "قورح".

لقد كنا في سفر في صحراء، فالتقى بنا تاجر عربي، وكان ممن يستطيع التنبؤ بمواضع المياه وبالأبعاد وبالطرق من شم التربة، فأردنا الاستفسار منه عن أقرب مكان إلينا فيه ماء. فقال لنا: أعطوني رملًا فأُعْطِيَ، فشمه ثم قال: أقرب مكان إليكم فيه ماء هو على بعد ثمانية فراسخ "Parasangs" ثم سرنا وأردنا الاستفسار ثانية منه، فقدمنا له رملًا، شمه ثم قال لنا: الماء على بعد ثلاثة فراسخ من هذا المكان. ثم حاول هذا الحبر اختباره لمعرفة مدى صدقه من كذبه، فأبدل الرمل، فلما قدم إليه رملا آخر؛ لم يستطع أن يقول شيئًا1. ويقص علينا قصة أخرى يزعم أنها وقعت له مع هذا التاجر العربي، حيث يقول: إنه قال له: تعال معي أُرِك "أموات التيه"، أي: الإسرائيليين الذين ماتوا في التيه في طريقهم إلى أرض الميعاد. فذهب الحبر معه، ورأى الأموات وكأنهم في حالة فرح وسرور، وقد رقدوا على أظهرهم، ثم يقول: وقد رفع أحد هؤلاء الأموات ركبته، ومر التاجر العربي من تحت تلك الركبة، وقد كان حاملًا رمحه راكبًا بعيره، ومع ذلك فإن رمحه لم يمس رجل الميت. ثم يقول: وقد ذهبت إلى أحد الأموات الراقدين فقطعت جزءًا من ذيل ردائه الأزرق العميق، وعندما حاولت الرجوع، لم أتمكن من الحركة وبقيت ثابتًا في مكاني، فقال له العربي: إذا أخذت شيئًا من هؤلاء فأرجعه إلى محله، وإلا فإنك ستبقى ملتصقًا في مكانك؛ لأن من يتطاول على حرمة الراقدين فيأخذ شيئا منهم، يجمد في مكانه، ولا يستطيع التحرك. فذهبت وأرجعت القطعة وتمكنت عندئذٍ من السير2. ثم يذكر أن هذا التاجر العربي أخذه إلى جبل الطور "جبل سيناء" "Mount of Sinai" فأراه إياه، ثم أخذه إلى الموضع الذي انشق بالقورحيين؛ جماعة "قورح"، فأراه شقين في الأرض، ووجد الدخان لا يزال يخرج منهما، ثم يذكر أنه أخذ قطعة الصوف وأدخلها هو بنفسه ثم أخرجها, وإذا بها وقد علقت بها النار، ثم يقص باقي القصة على نحو ما جاء في "السنهدرين"3. ونجد في "مينحوت" "Menahoth" فتوى تتعلق في نجاسة أو طهارة قرب

_ 1 Baba Bathra, 73b, The Babylonian Talmud, Seder Nezikin, II Baba Bathra, P. 292. 2 Baba Bathra, 74, The Babylonian Talmud, Seder Nezikin, II, P. 292 3 Baba Bathra, 74a, Seder Nezikin, II, P. 293-294

الماء. وقد ورد في هذه الفتوى، أن القرب التي تشد وتعقد بعقدة تكون طاهرة، إلا إذا عقدت بعقدة عربية؛ فإنها تكون نجسة ولا يحل الشرب منها1. ونجد هذا البحث مرة أخرى في مكان آخر من "المشنة" في كتاب الـ"قليم" "kelim"، أي: "كتاب الأواني والأوعية" من "كتاب الطهارة"، حيث عرضت آراء الأخبار في قرب الماء وفي كيفية عقد عقدتها لمدة طويلة أو لمدة قصيرة، ومن حيث شدة العقدة أو رخاوتها، وتأثير ذلك في طهارة الماء. فأشير إلى قرب ماء العرب وموقفهم من الشرب منها أو من الاستفادة من مائها, وهل يعد ماؤها طاهرًا أم نجسًا في الشريعة اليهودية؟ وقد جاءت آراء الأخبار متباينة في ذلك2. ويظهر أن اتصال العرب باليهود اتصالا وثيقا بالعراق، وسكن اليهود بين العرب في بلاد العرب، أثار أمام اليهود هذه المشكلة الفقهية، فهم مضطرون دائمًا إلى الاتصال بالعرب وإلى شرب الماء منهم، فظهرت من ثَمَّ عندهم هذه المشكلة، وكان على الأحبار بيان رأيهم في طهارة ماء القرب، وقرب العرب منها بوجه خاص؛ لما في ذلك من علاقة بقضية الطهارة والنجاسة ومكانتها في فقه يهود. وفي موضع آخر من كتاب "الأواني والأوعية" "kelim"، بحث عن جواز أو عدم جواز ارتداء بعض الأردية وموقف الشريعة من أكسية الرأس وأغطية الوجه والجسم، فبحث في جملة ما بحث عنه، عن القناع الذي يصنعه العرب على أوجههم وعن تلثمهم به، فهل يجوز لليهودي شرعًا أن يفعل فعل العرب أم لا؟ 3. وقد استثنت "المشنه" في كتاب "أو حولت" أي "الخيام"، عشرة مواضع من تطبيق أحكام الشرع عليها، بخصوص طهارتها أو نجاستها لكون ساكنيها من الوثنيين. وقد ذكرت مضارب خيام العرب على رأس هذه المواضع العشرة التي لا تخضع لحكم الشريعة في موضوع حكم طهارتها أو نجاستها؛ وذلك لأن مضارب البدو غير مستقرة، إذ إن الأعراب يتنقلون من مكان إلى آخر؛ لذلك لا يمكن تطبيق الأحكام الشرعية التي تطبق على العقار الدائم عليها في

_ 1 Menahoth, 37b, P. 231, Translated by Eli Cashdan 2 The Mishmahs, Kelim, P. 124 3 The Mishna Kelim? P. 138

موضوع نجاسة الأثاث والأواني وكل شيء يكون تحت الخيمة التي يموت فيها إنسان؛ ولأن أصحابها غير يهود1. وقد أشير في "مينحوت" "Menahoth" إلى موضوع تقديم طعام مطبوخ في موقد عربي، هل يقبل أو يرفض؟ فأشار بعض فقهاء الشريعة اليهودية إلى عدم جواز الأكل من ذلك الطبيخ2. ونجد في "بابا بثرا" "Baba Bathra"، أن الحبر "ماير" "R. Meir" يستثني النبط والعرب والسلمونيين "Salmoeans" من الوعد الذي أعطاه الله لموسى حين أراه الأرض الموعودة3. ويظهر أن "السلمونيين" هم قبيلة من القبائل العربية الشمالية4, لعل لاسمهم علاقة بـ"سلمان". وقد ورد ذكر العرب في كتاب الحيض "نده" "Niddah" من كتاب "الطهارة" في الفقه اليهودي, وذلك في موضوع العبدة وهل يجوز الاتصال بها، أم لا يجوز على اعتبار أنها خصصت لأداء أعمال لا للاتصال الجنسي؟ وقد أجاز الحبر "شيشت" "R. Shesheth" إيداع العبدة أي: المملوكة إلى العرب، على أن يقال لهم: احترسوا من الاتصال بالإسرائيليات5. وفي التلمود والمشنه والكمارة مسائل فقهية أخرى عديدة يخرجنا ذكرها هنا من حدود هذا الموضوع, تتعلق بموضوع صلات العرب واليهود, في مثل موقف الشريعة اليهودية من ذبائح العرب، وهي التي يذبحها اليهود للعرب في مقابل إعطائهم اللحم ليقدم العرب دمها وشحمها للأصنام6. وموقف الشريعة من المرأة التي يأسرها الأعراب ثم تعاد بعد ذلك إلى أهلها بعد فك أسرها، هل يجوز للحبر أو لغيره التزوج منها أم لا؟ أو موقف الشريعة من المملوكة اليهودية التي تكون في أيدي العرب، من حيث احتمال دخول العرب بها7, أو موقف الشريعة من الحبوب أو المواد الأخرى التي تقع بين روث

_ 1 The Mishnahs, Oholoth, P. 228 2 Menagoth, 63, Menahoth, P. 372 3 Baba Bathra, 56a 4 The Babylonian Talmud, Seder Nezlkin, P. 227 5 Niddah 47a The Babylonian Talmud, Seder Tohoroth, P. 328 6 The Babylonian Talmud, Seder Kodashim, II, Hullin, P. 214, Hullin, 39b 7 The Babyionian Talmud, Seder Nashim, II, P. 199, Kethuboth, 36b

ماشية العرب1، أو دخول إبل العرب في "كثوبة" "Kethubah" يهودي2, أو موقف اليهودي من المرأة3, أو موضوع نظر اليهودي إلى عضو من جسم امرأة عربية، مثل صدرها حينما يمر في مكان ويراها وقد كشفت عن صدرها لترضع رضيعها4، أو موقف الشريعة اليهودية من المختتنين العرب5. ونجد في باب "الشهادات" "الوثائق" "كظين" "خطين" "Gittin" قولًا لأحد الأحبار يقول: إن امرأة عربية جاءت إلى أحد اليهود تحمل كيسًا فيه تعاويذ لبيعها، فقال لها اليهودي: أعطيك تمرتين عن كل تعويذتين. فاغتاظت المرأة ورمت ما حملته في النهر، فندم اليهودي وقال: وددت لو لم أكن قد أعطيتها هذا العوض الرخيص6. وقد نشأت هذه المعضلات الفقهية من اختلاط اليهود بالعرب في فلسطين وفي الأماكن التي هاجروا إليها من بلاد العرب من جراء ضغط الرومان عليهم، وعدم تمكنهم من ممارسة عبادتهم في البلاد الخاضعة للحكم الروماني بسهولة وبحرية تامة، فهاجر كثير منهم إلى أعالي الحجاز وإلى العراق حيث اختلطوا بالعرب وعاشوا بينهم في مثل "الأنبار" و"فومبديثة" و"زقونية" "زكونية" "zekonia"، وهو موضع على مقربة من "فومبديثة"7, وموضع "بمكسة"8 "Be-Mikse"، "نهردعة" "Nehardea" وسورا "Sura" وأماكن أخرى من العراق. وقد كان ليهود الفرات اتصال وثيق بالعرب وكانوا يعيشون معهم في كثير من الأماكن ويتاجرون معهم. وكون اليهود لهم "كالوتا" أي "جالية" عاشوا فيها متمتعين بشبه استقلال ذاتي، يدير رؤساؤهم "كالوتاتهم"، ويكونون هم الممثلين لأتباعهم أمام السلطات صاحبة النفوذ الفعلي، كما كانوا يعقدون أحلافا مع الأعراب على طريقة أهل المدن والحضر في عقد مواثيق مع سادات القبائل لمنع الأعراب من غزوهم ومن التحرش بأملاكهم وتجاراتهم.

_ 1 Kethuboth 66b, II, P. 405 2 Babylonian, Seder Naahim, II, P. 408 3 Babylonian, Seder Naahim, II, P. 452 4 Babylonian, Seder Nashlm, II, 472, Kethuboth 75a 5 Tebamoth 71a, Babylonian, I, P. 479 6 Gittin, 45b, Babylonian, Seder Naahim, IV, P. 200 7 J. Obermeyer, Die Landschaft Babylonian, S. 234, Hullln, 39b 8 Yebaraoth, 45a, babylonlan, Seedr Nashlm, I, P. 295f Obermeyer, S. 334

وأود أن أشير هنا إلى أهمية "التلمود" و"المشنه" و"الكمارة" بالنسبة لتأريخ العراق، ففي أبوابها بحوث قيمة عن مدن العراق وجغرافية العراق في عهد تدوين هذه الكتب، وهي تمتد لمئات من السنين. ففي "القيدوشين" مثلًا، أسئلة وأجوبة عن "إقليم بابل" وعن "ميسان" "Mesene" وعن "ميديا"، وقد وردت فيها أسماء مدن وأنهار وقرى وغير ذلك مما يساعد كثيرًا في فهم جغرافية العراق في عهود ما قبل الميلاد وما بعده1. وقد تساهل الفرس في الغالب مع اليهود، فمنحوهم استقلالًا ذاتيًّا واسعًا في إدارة شئون مستوطناتهم وفي ممارسة طقوسهم الدينية وفي الاتجار، حتى صارت كل مستوطنة تدير شئونها بنفسها وتختار حاكمها بنفسها، حتى إن بعضها وضعت على رأسها حاكما يهوديا لقبته بلقب "ملك"، أدار شئون الجالية طبقًا لأحكام يهود, وكان هؤلاء الحكام هم الصلة بين اليهود وبين الفرس. وقد صارت بعض هذه المستوطنات من أهم المراكز العلمية عند اليهود في العالم، ومن ضمن ذلك فلسطين. وفي هذه المواضع دون "التلمود البابلي"، دونه أحبارهم الذين استقروا في العراق, وهو يعد من أثمن التراث العبراني الذي ظهر عند اليهود. وقد تأثر بالروح العراقية حتى امتاز بها على التلمود الأورشليمي، أي: التلمود الذي كتب في فلسطين. وقد لاقى اليهود مساعدة حسنة من العرب، وعُوملوا معاملة طيبة, ويظهر من مواضع في التلمود والمشنه، أن العبرانيين فروا إلى جزيرة العرب منذ أيام "بخت نصر"2, وقد تأثر اليهود النازحون إلى جزيرة العرب بعادات العرب ورسومهم. ويحدثنا "أبا أريخا" من الأحبار وكبار علماء التلمود في القرن الثالث الميلادي، أن اليهود كانوا يؤثرون حكم الإسماعيليين، ويقصد بهم العرب، على الرومان، ويؤثرون حكم الرومان على حكم المجوس3. ومع ذلك، فقد حدث خصام بين العرب واليهود، فنجد في "التلمود" مواضع يظهر فيها حقد اليهود على العرب وكراهيتهم لهم؛ كالذي يظهر من كلام "الحبر يشوعه بن ليفي"4 "يشوعه بر ليفي"، حين رأى أكوامًا من العنب مكدسة، فقال: "يا للبلاد,

_ 1 Keddushin 71b 2 The Universal Jawish Encyclopedia, I, P. 439 3 Shabth IIs 4 R. Joshua B. Levi

يا للبلاد", لمن هذه، لأولئك العرب "الوثنيين"1 الذين ثاروا علينا لخطيئتنا2. وكالذي يظهر من كتاب "قدوشين" "kiddushin"، حيث ورد: "أُعطِيَ العالم عشر "قابات" من الوقاحة، خُصَّ العرب بتسع منها"3. وفي هذا الكلام دليل على تطاول العرب على اليهود في المواضع التي كانوا يعيشون بها معًا, وحقد اليهود عليهم من أجل ذلك. ونجد في الأخبار السريانية والعبرانية أخبار غارات وغزوات قام بها عرب العراق على الجاليات اليهودية التي انتشرت من "بابل" وما جاورها, حتى جاوزت شمال "عانة" على نهر الفرات. وقد أزعجت هذه الغارات اليهود الذين حولوا هذه الأرضين إلى أرض سادتها وغلبتها حتى صيرتها على شاكلة "وادي القرى" عند ظهور الإسلام, فاضطروا إلى تحصين مستوطناتهم وأحاطتها بأسوار, وإلى تشكيل قوات تقوم بحمايتها ليل نهار حتى في أيام السبت والأعياد اليهودية، مع تحريم الشريعة اليهودية العمل يوم السبت, وأباح الأحبار لهذه القوات حمل السلاح في أيام السبت وفي أيام العطل حتى تكون على استعداد للدفاع عن تلك المستوطنات في أية لحظة يشن فيها الأعراب غاراتهم عليها، إذ يحتمل أنها تقوم بقتل اليهود4. وقد تعرض الرعاة اليهود الذين كانوا يخرجون بماشيتهم من مستوطناتهم إلى البرية أو إلى ضواحي مستوطناتهم إلى غارات الأعراب عليهم، وسلبهم ماشيتهم5، كما تعرض اليهود إلى الأسر، فأُسر عدد منهم، نساءً ورجالًا, حتى سلبوا وأسروا بعض الأحبار؛ لذلك كانت الجاليات اليهودية تخشى من الأعراب كثيرًا6, وقد تعرضت مدينة "نهردعة" "Nehardea" إلى الغزو وذلك سنة "570" من التقويم السلوقي, الموافقة لسنة "259" للميلاد. فقد غزاها كما تقول الأخبار اليهودية سيد قبيلة عربية، اسمه "بابابر نصر" "بابا بن نصر" "papa Bar Nasr"، وألحق بها أضرارا فادحة، وخرب بعض أماكنها، وقد هرب منها بعض أحبارها إلى مستوطنات يهودية أخرى7. وقد ذهب المؤرخ اليهودي "كريتس" "Graetz"

_ 1 الوثنيون في طبعة "Bomb" 2 Kethuboth 112a, Babyloian, Seder Nashim, II, P, 225 3 ألقاب "Kab" وحدة من وحدات الوزن Kiddushin 49b 4 'Erubin 45a 5 Baba Bathra 36a 6 Koheleth 7, Cittin 23a 7 Obermeyer, S. 254. ff

إلى أن هذا الأمير العربي المهاجم هو "أذينة" ملك تدمر وزوج الملكة الزباء1. غير أن اشتهار ملوك الحيرة عند العرب بـ"آل نصر" وقرب الحيرة من مدينة "نهردعة" واتصال عربها بالجاليات اليهودية يحملنا على التفكير في أن المهاجم هو أمير من أمراء "آل نصر", ملوك الحيرة، وهم حلفاء الفرس. وورد في الأخبار أيضا أن مدينة "فومبديثة" "Pumbaditha" تعرضت للغزو أيضًا، وهي من أمهات مدن الجاليات اليهودية. هاجمها جيش جاءها من "عاقولاء" ويظهر أنه من قوات "آل نصر" ملوك الحيرة2. وقد كانت مدينة "فومبديثة" محاطة بالأعراب؛ ولذلك كانوا يتعاملون معهم، ويأتون إليهم, ويذبحون عندهم. وقد جاء في الأخبار أن أحبارها قد أباحوا لأهلها التعامل مع الأعراب في أيام أعيادهم، أي أعياد الأعراب؛ وذلك لأن أعياد الأعراب لم تكن ثابتة، تحل في وقت معين وفي مواسم مثبتة, لذلك جوزوا لهم البيع فيها؛ لأن أحكام التلمود تمنع اليهود من التعامل مع الغرباء في أيام أعيادهم, إذا كانت تلك الأعياد أعيادًا دينية. ولما كانت الشريعة اليهودية لا تعتبر العيد عيدًا مقدسًا دينيًّا إلا إذا كان يقع في أوقات ثابتة معينة لا تتغير ولا تتبدل في التقويم؛ لذلك أفتى الأحبار بعدم اعتبار أعياد الأعراب أعيادًا دينية، وأباحوا لأهل المدينة التعامل مع المعيِّدين في أيام أعيادهم. وإلا فما كان يحل لهم بيع الأعراب شيئًا في أيام تعييدهم, وقد باعوا لهم خمرا وحبوبا. أما بالنسبة إلى أعياد الفرس والروم، فقد منع التلمود اليهود من التعامل مع الفرس أو الروم فيها؛ لأنها أعياد ثابتة وقد نص على مواعيدها، وأشير إليها في التلمود, لذلك طلب من اليهود الامتناع عن بيع الفرس والروم شيئًا في أعيادهم3. ويذكر التلمود أن الأعراب "طيعة" "طيية" "طياية"، المجاورين لموضع "صقونية" "Sikunya" طلبوا من أهله وهم يهود, أن يذبحوا لهم ذبائح في مقابل إعطائهم لحومها وجلودها، أما دمها فيجمع ويعطى للأعراب, وذلك

_ 1 Gratz, Geschichte der Juden, IV, 295 2 Obermeyer, S. 223 3 Obermeyer, S. 234

لتقديمه لأربابهم, وكانت عادتهم تلطيخ أصنامهم بدم القرابين1. وقد عرف الأعراب بـ"طييعة" في التلمود, أما السريان والموارد اليهودية الأخرى المدونة بالسريانية، فقد أطلقوا وأطلقت على الأعراب لفظة "طيية" "طيايا"، وذلك بإسقاط حرف العين من الكلمة: "طييعة" والكلمتان من أصل واحد، هو "طيء" اسم القبيلة العربية المعروفة. وقد كانت في أيام تدوين التلمود من أقوى وأشهر القبائل العربية، حتى غلب اسمها سائر أسماء القبائل، فأطلق على كل عربي, كائنًا ما كان2. وأطلقت لفظة "عرباية" في كتاب من كتب التلمود، على العرب المزارعين الذين استقروا على مقربة من "فومبديثة". وذكر التلمود أن أولئك العرب المزارعين كانوا قد انتزعوا مزارع اليهود بما فيها من أبنية وأملاك، وأقاموا بها؛ ولهذا السبب، فقد ذهب اليهود إلى حبرهم وقاضيهم "أبيه" "Abaya"، وطلبوا منه إعطاءهم وثائق تملك أخرى، حتى يكون في إمكانهم مراجعة السلطات لإثبات ملكيتهم لأملاكهم التي انتُزِعت بالقوة منهم3. وقد نزح يهود من فلسطين إلى الحجاز، فسكنوا وادي القرى حتى نزلوا "يثرب"، وذهب قسم منهم إلى اليمن، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد.

_ 1 Obermeyer, S. 234 2 Obermeyer, S. 233. ff 3 Baba Bathra, 168b, Obermeyer, S. 235

فهرس الجزء الثاني

فهرس: الجزء الثاني الفصل التاسع العرب العاربة والعرب المستعربة 5 العرب المستعربة 26 عَك 41 أولاد معد 43 نزار 45 الفصل العاشر أثر التوراة 61 الإسماعيليون 84 أبناء كوش 110 الهاجريون 112

الفصل الحادي عشر أنساب العرب 117 القحطانية والعدنانية في الإسلام 144 العرب العاربة والعرب المستعربة 158 الفصل الثاني عشر طبقات القبائل 160 الأنساب 165 "الطوطميّة" دور الأمومة عند العرب 169 دور الأمومة 172 أصول التسميات 176 الفصل الثالث عشر تاريخ الجزيرة القديم 180 دلمون 212

العرب في الهلال الخصيب 224 العرب والآشوريون 225 الفصل الخامس عشر صلة العرب بالكلدانيين والفرس 258 الفصل السادس عشر العرب والعبرانيون 280 الفهرست 313

المجلد الثالث

المجلد الثالث الفصل السابع عشر: العرب واليونان ... الفصل السابع عشر: العرب واليونان أقدم من سجل اسمه في اليونان في سجل العلاقات العربية اليونانية هو "الإسكندر الكبير" "356- 323ق. م"، فبعد أن سيطر هذا الرجل الجبار الغريب الأطوار الذي توفي شابًّا، على أرضين واسعة، وأسس امبراطورية شاسعة الأرجاء ذات منافذ على البحر الأحمر والخليج العربي، وبعد أن استولى على مصر والهلال الخصيب، فكر في السيطرة على جزيرة العرب، وفي جعلها جزءًا من امبراطوريته، ليتم له بذلك الوصول إلى سواحل المحيط الهندي، والسيطرة على تجارة إفريقيا وآسيا، وتحويل ذلك المحيط إلى بحر يوناني. وقد شرح الكتاب "أريان" Flavius Arrianus المولود في سنة "95 ب. م" والمتوفى سنة "175 ب. م."1، والأسباب التي حملت الإسكندر على التفكير في الاستيلاء على جزيرة العرب وعلى بحارها، في الكتاب السابع من مؤلفه2 Anabasis Alexandri فذكر أن هناك من يزعم أن الإسكندر إنما جهز تلك الحملة البحرية؛ لأن معظم القبائل العربية لم ترسل إليه رسلًا, للترحيب به ولتكريمه، فغاظه ذلك. أما "أريان" فإنه يرى أن السبب الحقيقي الذي

_ 1 Harvey, The Oxford Companion to Classical Literature, P., 51 2 Arrien, History of Alexander and Indica, in 2 vol., Loeb Classical Library, 1946, Anabasis, Book, VII, 19, 5. XX, II. f.

حمل الإسكندر على إرسال هذه الحملة، يكمن في رغبته في اكتساب أرضين جديدة1. وأورد "أريان" في كتابه قصة أخرى، خلاصتها: أن العرب كانوا يتعبدون لإلهين هما: "أورانوس" uranus، و"ديونيسوس" Dionysus وجميع الكواكب وخاصة الشمس، فلما سمع الإسكندر بذلك، أراد أن يجعل نفسه الإله الثالث للعرب2، وذكر أيضًا أنه سمع ببخور بلاد العرب وطيبها، وحاصلاتها الثمينة، وبسعة سواحلها التي لا تقل مساحتها كثيرًا عن سواحل الهند، وبالجزر الكثيرة المحدقة بها، وبالمرافئ الكثيرة فيها التي يستطيع أسطوله أن يرسو فيها، وببناء مدن يمكن أن تكون من المدن الغنية، وسمع بأشياء أخرى، فهاجت فيه هذه الأخبار الشوق إلى الاستيلاء عليها، فسير إليها حملة بحرية للطواف بسواحلها، إلى ملتقاها بخليج العقبة3. وعندي أن التعليل الأخير هو التعليل المعقول الذي يستطيع أن يوضح لنا سر اهتمام "الإسكندر" بجزيرة العرب، وتفكيره في إرسال بعثات استكشافية للبحث عن أفضل السبل المؤدية إلى الاستيلاء عليها، ولم يكن "الإسكندر الأكبر" أول من فكر في ذلك، فقد سبقه إلى هذه الفكرة حكام كان منطقهم في الاستيلاء على بلاد العرب وعلى غير بلاد العرب من أرضين، هو سماعهم بغنى من يريدون الاستيلاء عليه، فهو إما أن يتصادق معهم، فيقدم ما عنده من ذهب وفضة وأحجار كريمة وأشياء ثمينة إليهم ويرضى بأن يكون تابعًا لهم، وإما أن يمتنع فيكون عدوًّا، ويتعرض للغزو وللسلب والنهب والقتل والإبادة. بهذا المنطق كتب ملوك آشور إلى ملك "دلمون" وغير دلمون، وبهذا المنطق كتب "أوغسطس قيصر" إلى ملوك اليمن فيما بعد. أرسل الإسكندر بعثات استطلاعية تتسقط له المعلومات اللازمة لإرسال أسطول كبير يستولي على سواحل الجزيرة، يتجه من الخليج فيعقب سواحلها، ثم يدخل البحر الأحمر إلى خليج العقبة، حيث ينفذ أسطوله إلى سواحل مصر. وقد هيأ الأسطول، وجاء بأجزاء السفن وبالأخشاب اللازمة لبنائها من "فينيقية".

_ 1 Anabasis, Vil, 19, 6. 2 Anabasis, VII, XX, I, II. 3 Anabasis, VII, II. ff.

Phoenicia "وقبرس" Cyprus، واتخذ "بابل" قاعدة للإشراف على تنفيذ هذه الخطة. وممن أرسلهم الإسكندر لاكتشاف الطريق، القائد البحري "أرشياس" "أرخياس" Archias، وقد كلف السير في اتجاه السواحل، فبلغ جزيرة سماها "أريان" "تيلوس" Tylus، وهي "البحرين"، ولم يتجاوزها والقائد "أندروستينيس". Androsthenes، وقد بلغ مكانًا قصيًّا لم يصل إليه القائد "أرشياس"، "وهيرون" Hieron، وقد وصل مكانًا بعيدًا لم يصل إليه القائدان المذكوران، وكان قد كلف أن يطوف حول جزيرة العرب حتى "هيروبوليس" Herooplis أي السويس، وقد عاد فأخبر الإسكندر بما حصل عليه من معلومات وبما يتطلبه المشروع من جهود1، ولم يذكر "أريان" المكان الذي بلغه "هيرون"، ويظن "أرنولد ولسن" A, wilson أنه لم يتجاوز موضع "ماكيته" Maketa وهو موضع "رأس الخيمة" أي "رأس مسندم" Ras Musandam كما يسميه الأوروبيون، وهو "مونس اسبو" Mons Asabo عند "بلينيوس"، أي "رءوس الجبال2". ويصف "أريان" جزيرة "تيلوس" Tylus، بأنها جزيرة تبعد عن مصب نهر الفرات، بمسيرة سفينة تجري مع الريح يومًا وليلة، وهي جزيرة واسعة وعرة، لا يوجد بها شجر وافر، غير أنها خصبة ويكن غرسها بالأشجار المثمرة كما يمكن زرعها بنباتات أخرى، وذكر "أريان" أن مخبري "الإسكندر" كانوا قد أخبروه بوجود جزيرة أخرى غير بعيدة عن مصب نهر الفرات، إذ لا تبعد عنه أكثر من "120" "استاديونًا"، وهي صغيرة نوعًا ما، غير أنها ذات شجر من كل نوع وبها معبد للإله "أرطميس" Artimus= Artemis يعيش الناس حول معبده وتمرح الحيوانات وتسرح دون أن يمسها أحد بسوء؛ لأنها في حمى المعبد، فهي حرام على الناس وقد سمي هذه الجزيرة باسم "ايكاروس" Ikaros3، نسبة إلى جزيرة "ايكاروس" من جزر البحر الايجي4 Aegaein Sea، ويظهر أن الإسكندر عرف الصعاب التي ستواجهه في إقدامه على اقتحام الجزيرة

_ 1 Anabasis, VII, XX, 8. 2 The Persian Gulf, P., 40. 43. 3 The Persian Gulf, P., 40, 43, 3 Anabasis, VII, XX; 8; Die Araber; IV; S.; 6 (3. ff. 4 Die Araber, IV, S., 66. ff.

من البر: من مقاومة القبائل، وصعوبة قطع الفيافي، وقلة المياه، فعزم على تحقيق المشروع من البحر، وكلف "هيرون" Hieron متابعة السواحل، ودراسة أحوال سكانها ومواضع المرافئ، وأماكن المياه والمنابت ومواضع الشجر فيها، وعادات العرب وأحوالهم، لتكون جيوشه على بينة من أمرها، إذا أقدم أسطوله على تحقيق هذا المشروع الخطير1. وأعد "الإسكندر" كل ما يلزم إعداده، غير أن موته المفاجئ، وهو في مقتبل عمره، ثم تنازع قواده وانقسامهم، وما إلى ذلك من شئون، صرف قواده عن التفكير فيه، فأهمل ومات بموته مشروعه الخطير. ويرى بعض الباحثين أن الإسكندر لم يكن يقصد فتح جزيرة العرب، ولكن كان يرغب في الاستيلاء على بعض الموانئ والمواضع المهمة على ساحل الجزيرة وبذلك يكون قد أدرك الغايات التي قصدها من هذا الفتح2. ولما أراد الإسكندر احتلال "غزة" في طريقه إلى مصر، قاومت المدينة، ودافع عنها رجل سماه "أريان" "باتس"3 Betis = Baetis= BATIS مستعينًا بجيوش عربية قاومت مقاومة شديدة اضطرت الإسكندر إلى نصب آلات القتال، إلا أن العرب هاجموها لإحراقها، كما هاجموا المقدونيين الذين كانوا متحصنين في مراكز القيادة وراء تلك العدد4. وقد اضطر المقدونيون إلى مغادرة مواضعهم هذه اإلى أماكن جديدة، وكادوا ينهزمون هزيمة منكرة لو لم يأتهم الإسكندر بمساعدات قوية في الوقت المناسب، وقد أصيب بجراح5، وظلت تقاومه مدة خمسة شهور "332ق. م" ويذكر "هيرودوتس" أن المنقطة الواقعة من "غزة" إلى موضع jENYSUS، كانت مأهولة بالقبائل العربية المتصلة بطور سيناء منذ القديم. وقد حكمها ملك عربي لم يذكر اسمه6.

_ 1 Anabasis, VII, XX, 10. 2 Tarn, II, P, 394, U. WUcken, Die Le,tzen Flaene Alexanders des Grossen; Berlin, 1937, S., 195. 3 W. W. Tarn, Alexander the Great, Cambridge, 1948, Vol., 2, P.; 265; "Betis"; ss; Curtius Rufus, 4, 6, 7, 20,: 30, Die Araber; I; S.; 171. 4 Arrian, Vol., I, P. 217, II. 23, 4. 5 Arrian, I, P., 219. 6 Herodotus, I, P., 212.

ويرى بعض الباحثين أن "باتيس" Batis هذا الذي وقف بوجه جيوش الإسكندر وقاومها هذه المقاومة العنيفة، في حوالي سنة "332ق. م."1 كان رجلًا عربيًّا اسمه "باطش"، أي الفاتك. ويستدلون على ذلك بورود اسم رجل في الكتابات النبطية، هو "بطشو"، أي "باطش"2. وقد حرف ذلك الاسم فصار3 Batis وهم يرون أن غالبية سكان "غزة" كانت من العرب منذ زمن طويل قبل الميلاد وأنها كانت نهاية طرق القوافل البرية التجارية التي كان يسلكها التجار العرب القادمون من اليمن والحجاز ومن مواضع أخرى، ولا يعقل لذلك أن يكون حاكمها إيرانيًّا، كما ذهب إلى ذلك بعض المؤرخين فرجحوا لذلك رأي من يقول: إن "الباطش" Batis، كان من العرب4. لقد كانت "غزة" المركز الرئيسي للتجار العرب على البحر المتوسط، فإليه تنتهي التجارة العربية، ومنه يتسوق التجار العرب البضائع التي ترد إليه من موانئ هذا البحر. ولما فتحت المدينة أبوابها، لجيش الإسكندر بعد ذلك الحصار الشاق، وجد اليونان فيها مقادير كبيرة، من المر واللبان وحاصلات العربية الجنوبية، فاستولوا عليها، فخسر التجار العرب بذلك خسارة فادحة5. ونجد في كتاب "تأريخ الإسكندر" لـ "كوينتس كورتيوس" Quintus Curtius، خبرًا يفيد أن "الإسكندر" أخذ من أرض العرب المنتجة للبخور كمية من البخور لإحراقها للآلهة تقربًا إليها، غير أننا لا نستطيع تصديق هذه الرواية؛ لأن جيوش الإسكندر لم تتمكن من دخول جزيرة العرب، ولم تصل إلى أرض البخور6. إلا أن يكون حكامها قد أرسلوا البخور المذكور هدية إليه، أو ضريبة من التجار العرب في مقابل السماح لهم ببيعه في الأسواق التي استولى عليها اليونان.

_ 1 H. Berve, Das Alexanderreich auf Prospographischer Grundlage, 2 , (1928) , a, 105, Die Araber, I, S., 34, 173. 2 Die Araber, I, S., 35. 3 Curtius Rufus, 4, 6, 7, Die Araber, I, S.; 35. 4 J. Cantineau, Le Nabateen, 2, (1932) , 70, R. Maecus, in: Josophos; Vol.; 6; 1937, P. 463 (Loeb) , Tran. Alexander. 2; P. 266; Die Araber; I; S. 172. 5 Diodorus, XVII, 48, 7, Strabo, XVI, 2; 30; Plutarch; Alexander; 25; 4; 26-27; Olmstead, History of the Persian Empire, P., 507, f- 6 Quintus Curtius, I, P., 7,

وقد توسع مؤلف الكتاب المذكور في إطلاق لفظة العرب Arabum والعربية أي أرض العرب Arabia في أثناء حديثه عن العرب وعن أرضهم فأدخل في العرب جماعة ليسوا منهم مثل "بني إرم"، ولما تحدث عن فتح الإسكندر للبنان، ذكر أنه ذهب بعد ذلك إلى العربية، أي أرض العرب وعني بها البادية الواسعة التي تفصل بلاد الشام عن "ما بين النهرين"، وكل الأرضين على ضفة الفرات الغربية1. هذا ولا أظن أن إنسانًا يقول: إن "الإسكندر" المذكور كان قد حصل على علمه بثراء العرب وبنفاسة ما يبيعونه في أسواق البحر المتوسط من تجارات عن طريق الوحي والإلهام، وبنباهة فكره، إن علمًا من هذا النوع لا يمكن أن يحصل عليه إنسان إلا من علم الماضين ومن علم السياح والتجار بصورة خاصة؛ لأنهم كانوا وما زالوا منذ خلق الإنسان يفتشون عن الأسواق وعن المنتجات ويتعارفون فيما بينهم على اختلاف ألوانهم وأديانهم للحصول على معارف تجارية تخولهم الحصول على ما يبتغون بأرخص الأسعار. من هذه الموارد ولا شك حصل "الإسكندر" على عمله بأحوال الهند وبأحوال جزيرة العرب وبالأسواق التي كانوا يرتادونها، وعلمه هذا هو الذي حمله على أن يوجه حملته على بلاد العرب -على ما أرى- من البحر لا من البر؛ لأنه أدرك أن حملة بحرية تمكنه من السيطرة على مفاتيح الجزيرة وعلى النقط الحساسة فيها بسهولة ويسر وبدون تكاليف باهظة، وبذلك يقبض على خناقها ويقطع عنها إن تيسر له النجاح اتصالها بأسواق إفريقيا والهند وما وراء الهند، وهي الأسواق الرئيسية التي مونت العرب بالثراء وبذلك يقطع عنهم موارد الثراء، أما من البر فقد كان على علم أكيد من خلال تجارب الماضين ومن علمه وعلم قواد جيشه بصعوبة الاستيلاء عليها من البر ومن الاحتفاظ بها أمدًا طويلًا والمحافظة على طرق المواصلات الطويلة وإيصال المؤن إلى قواته، لذلك لم يفكر في الاستيلاء عليها من البر, ثم إن ثراء سكان الجزيرة المشهور لم يكن من ثراء حاصلاتها وإنتاجها وإنما كان من أسواق إفريقيا والهند في الغالب، ولهذا رجح خطة السيطرة على موانئ جزيرة العرب بوضع قوات بها على خطة السيطرة

_ 1 Quintus Curtlus I p 185.

على الجزيرة من البر، وأغلب الجزيرة بحار من رمال. وبذلك وضع خطة سار عليها من جاء بعده من الغربيين حتى العصر الحديث باستثناء "أغسطس قيصر" الذي لاقت حملته البرية الفشل والهزيمة؛ لأنها بنيت على جهل فاضح بحال جزيرة العرب، وبحقيقة صعوبة السيطرة عليها من البر. وقد ورد في بعض الموارد أن العرب قدموا الأسلحة والملابس إلى الجيش المقدوني1، وأن الإسكندر تمكن من قهر العرب2. كما ذكر أن عربيًّا انقض على الإسكندر وفي يده اليمنى سيف مسدد نحو رقبته، قاصدًا قتله في أثناء معركة حامية، غير أن الإسكندر تجنب الضربة بسرعة فائقة فنجا. وكان هذا العربي في جيش "دارا" "داريوس"3 Darius. وذكر "كونيتوس كورتيوس"" أن "الإسكندر" بعد أن سار مع مجرى نهر Pallacopas وصل إلى مكان أعجبه، فأمر بإنشاء مدينة فيه، أسكنها العجزة والمسنين من رجاله، وذلك في أرض العرب4، وسوف يأتي الكلام على ذلك في أثناء الحديث عن "بلينيوس" وما عرفه من بلاد العرب. وكان مما تحدث به المورخ المذكور عن حملة الإسكندر أن أحد قواده كان قد تنكر في زي الأعراب، وأخذ معه اثنين من العرب ليكونا دليلين في سيره، ووضعا زوجيهما وأطفالهما لدى الملك الإسكندر ليكونوا رهائن عنده، لئلا يصيب القائد أي سوء ومكروه. فلما وصل إلى الموضع الذي قصده، وأبلغ رسالة الملك من أرسله إليه عاد ومعه الأعرابيان، فأثابهما5. ليست فتوحات الإسكندر التي قذفت بالإغريق والرومان إلى مساحات واسعة من آسيا، حدثًا سياسيًّا حسب، إنما هي فصل من فصول كتاب التاريخ البشري، نقرأ فيه أخبار التقاء العالمين الشرقي والغربي وجهًا لوجه على مساحات واسعة من وجه هذه المسكونة، ونزعة الغرب في السيطرة على الشرق وتأثر الحضارات والثقافات بعضها ببعض، وحصول علماء اليونان والرومان على معارف مباشرة عن

_ 1 Julius Valerius, II, 25, Arabien, S. 23. 2 LIvius, XLV, 9, Plinius, XII, 62, Arabien; S.; 23. 3 Quintus Curtius, It P., 219. 4 Quintus Curtiu?, II, P., 513. 5 Quintus Curtis, II, P. 137.

أحوال أمم كانوا يسمعون أخبارها من أفواه التجار والسياح والملاحين فإذا وصلت إليهم كان عنصر الخيال فيها الذي يميل إلى التفخيم والتجسيم قد انتهى من عمله وأدى واجبه، فصححت فتوحات الإسكندر هذه للهلال الخصيب ولمصر، بعض تلك الأوهام، وجاءت بعلماء من اليونان إلى هذه البلاد، ولا سيما مصر فأفادوا واستفادوا، وصارت "الإسكندرية" بصورة خاصة، وبعض مدن بلاد الشأم ملتقى الثقافات، الثقافات الشرقية والثقافات الغربية، ومركز الاتصال العقلي بين الغرب والشرق وبقيت الإسكندرية محافظة على مكانتها هذه حتى ظهور الإسلام. وقد حملت فتوحات الإسكندر والحروب، التي وقعت بين الروم والفرس إلى الشرق الأدنى، دمًا جديدًا هو دم الإغريق ومن دخل في خدمة الإسكندر واليونان والرومان من الجنود والمتطوعة والمرتزقة من سواحل البحر المتوسط الشمالية وما صاقبها من أصقاع أوروبية، لقد بنى الإسكندر الأكبر مدينة Charax على ملتقى نهر "كارون" بدجلة1. وأسكنها أتباعه وجنوده ومواطني المدينة الملكية. كما بنى مدنًا أخرى، وقد كان من المحبين المولعين ببناء المدن، وبنى خلفاؤه مدنًا جديدة في الشرق، وكذلك من أخذ تراثهم من اليونان والرومان2. وحمل الفرس عددًا من أسرى الروم، وأسكنوهم في ساحل الخليج وفي مواضع أخرى. وطبيعي أن تترك سكنى هؤلاء في الشرق أثرًا ثقافيًّا في الأماكن التي أقاموا فيها وفي نفوس من جاورهم أدرك قيمته المؤرخون المعاصرون. والمؤرخ "بلينيوس"، وهو أول من أشار إلى مدينة Charax، هذه المدينة التي أنشأها الإسكندر. في جملة المدن التي أنشأها في الشرق، ويظن أنها "المحمرة"3 بنيت هذه المدينة -كما يقول: "بلينيوس"- في النهاية القصوى من الخليج العربي أي الخليج الذي يسمى اليوم باسم "خليج البصرة" أو "خليج فارس" كما يسميه "الكلاسيكيون" Sinus Persicus، عند خط ابتداء العربية السعيدة arapea eudaemon أي جزيرة العرب، ويقع نهر دجلة على يمينها. وقد دعيت "الإسكندرية" نسبة إلى الإسكندر. وقد خربت هذه المدينة مرارًا من فيضان الأنهر وإغراقها لها، ثم بناها "انطيوخس الرابع".

_ 1 Charax Spaslni. 2 Pliny, Book, VI, 138, Vol., II. P.; 443; "H. Rackham"; 3 The Persian Gulf, P., 30, 49.

Antiochus Epiphanes IV "ق. م 163 -175" ودعيت باسمه، ثم تخربت أيضًا، فرممها وأعاد بناءها الملك "سباسينس" Hyspaosines /Spasines ملك العرب المجاورين، وأنشأ لها سدًّا لحمايتها، وسماها، باسمه، وقصدها التجار اليونان والعرب1. وقد ذكر أن والد الملك "سباسينس" Hispaosines /Spassiones كان ملكًا يحكم العرب المجاورين لهذه المدينة، وقد عرف بـ Sagdodonacus، وهو اسم لم يتفق الباحثون على أصله2. ولما وجد "سباسينس" أن الخراب قد حل بالمدينة المذكورة، بنى لها سدًّا، أنقذها من الغرق، وأعاد بناءها فعرفت باسمه. ويظهر أن حكم هذا الملك كان في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد. ويرى بعضهم أنه حكم بابل و"سلوقية" Seleukeia في حوالي سنة "ق. م 127"3، وأنه كان يحكم مقاطعة Charax في حوالي سنة "130 ق. م"4 أو "129"، وقد عثر على نقود ضربت باسمه5، ويظهر أن حكم هذه المملكة الصغيرة بقي إلى أيام الملك "أردشير" الساساني، حيث قضى عليها في حوالي سنة 224 أو 227م6. وقد عرفت Charax بـ Charakene، وهي "ميسان7 "Mesene و CharaxK"، وهي "كرخا"، وعرفت أيضًا بـ "كرخ ميسان"8. وقد تحدث "سترابون" بشيء من الإيجاز عن الساحل العربي المشرف على الخليج، مستمدًّا له من "إيراتوستينس" على الأكثر، إذا استند إلى وصفه وأخباره، وأما "ايراتوستينس"، فقد جمع مادته من أقوال رجال عرفوا الخليج وعركوه، وكانت لهم أيام فيه. منهم "نيرخس" Nearchus قائد الإسكندر

_ 1 Gulf, p., 49. 2 Die Araber, I, S., 279, 317. 3 Araber, I, S., 321, A.R. Bellinger, Hyspaosines of Charax, In Yale Class.Stud., 8, (1942) , 55. 4 Araber, I, S., 327. 5 Ency., ni, P., 146. 6 Noldecke, Gesch. der Araber und Perser, Leiden, 1879, S. 13. 7 Ency., Ill, P., 146. 8 Ency., ni, P., 146.

الشهير وأمير أسطوله، و"أندروستينس" Androsthenes من أهل "ثاسوس" Thasos، كان في صحبة القائد "نيرخس" ثم كلف قيادة الأسطول الذي أمر بالسير بمحاذاة ساحل الجزيرة للكشف عنه، وللحصول على معارف جديدة عن بلاد العرب ومنهم "أرسطوبولس" Aristobulus وكان أيضًا من رجال البحر، و"أورثاغوراس" Orthagoras الذي كان من هذا الصنف كذلك1. وأخذ "سترابون" من مورد آخر يرفع سنده إلى "نيرخس" إلا أن "سترابون" لم يذكر رجال السند، وإنما ذكر جملة "قال نيرخس"2. فيجوز أن يكون هذا المورد من وضع القائد نفسه، أو من وضع مرافقيه، حكموا عنه، أو من وضع أناس جاءوا بعدهم، استندوا إلى روايات وأقوال مرجعها "نيرخس" أخذ منه "سترابون". وقد اقتصر "سترابون" على ذكر "جرها" Gerrha و"تير" Tyre و "أرادوس" Aradus و "ماكه" Macae، وهي مواضع تقع على ساحل العروض، أي الساحل الشرقي لجزيرة العرب المطل على الخليج، ولم يذكر أماكن أخرى غيرها تقع في هذه المنطقة3. وفي ذلك دلالة على قلة علمه بأحوال ذلك الخليج. أما "جرها"، فمدينة تقع، على حد قوله، على خليج عميق أسسها مهاجرون "كلدانيون" من أهل بابل4، في أرض سبخة، بنوا بيوتهم بحجارة من حجارة الملح، ترش جدرانها بالماء عند ارتفاع درجات الحرارة لمنع قشورها من السقوط. وتقع على مسافة "200" "اسطاديون" Stadia من البحر5، وهم يتاجرون بالطيب والمر والبخور، تحملها قوافلهم التي تسلك الطرق البرية، ويذكر "أرسطوبولوس" Aristobulus أنهم ينقلون تجارتهم بالبحر إلى بابل،

_ 1 Strabo, in, P., 186, Book, XVI, III; 3-6. 2 Strabo, III, P., 188, Book, XVI, 5; 7. 3 Strabo, III, P., 186. 4 "الكلدانيون"، المسعودي، التنبيه "ص 1، 2، 7، 31، 50، 56" ومواضع أخرى. 5 "أسطاديون"، stadion، استخدم علماء تقويم البلدان كلمة "أسطاديون" في مقابل: stadion و"الأسطاديون: مساحة أربعمائة ذراع". البلدان "1/ 18".

ثم إلى مدينة Thapascus، ومنها يعاد نقلها بالطرق البرية إلى مختلف الأنحاء1 و "تباسكوس" Thapascus، هي: الدير، أو "الميادين" في رأي كثير من الباحثين2. وقد أشار إلى "جرها" كتاب آخرون، عاشوا بعد "إيراتوستينس" صاحب خبر هذه المدينة المدون في جغرافية "سترابون" أشار إليها مثلًا "بوليبيوس" Polybius "204- 122 ق. م"3، و "أغاثرسيدس" المتوفى سنة "145" أو "120 ق. م"4 و "أرتميدورس" Artemidorus من أهل مدينة "أفسوس" Ephesus "حوالي 100 ق. م"5، و "بلينيوس". وخلاصة ما أوردوه عنها أن المدينة كانت مركزًا من المراكز التجارية الخطيرة، وسوقًا من الأسواق المهمة في بلاد العرب، وملتقى طرق تلتقي في القوافل الواردة من العربية الجنوبية والواردة من الحجاز والشأم والعراق، كما أنها كانت سوقًا من أسواق التجارة البحرية تستقبل تجارة إفريقيا والهند والعربية الجنوبية، وتعيد تصديرها إلى مختلف الأسواق بطريق القوافل البرية حيث ترسل من طريق "حائل" - "تيماء" إلى موانئ البحر المتوسط ومصر، أو من الطريق البري إلى العراق، ومنه إلى الشأم6، وقد ترسل في السفن إلى "سلوقية" Seleucia، أو بابل فـ Thapascus ومنها بالبر إلى موانئ البحر المتوسط وما بي حاجة إلى أن أقول إنها كانت تستقبل تجارات البحر المتوسط والعراق والأسواق التي تعاملت معها، لتتوسط في إصدارها إلى العربية الجنوبية وإفريقيا والهند، وربما إلى ما وراء الهند من عالم ينتج ويستهلك فهي، سوق وساطة، والوسيط يصدر ويستورد وبعمله هذا يكتنز الثروة والمال. وذكر القدماء أن الجرهائيين تاجروا مع حضرموت، فوصلت قوافلهم إليها في أربعين يومًا7. وكانت تعود وهي محملة بحاصلات العربية الجنوبية، وحاصلات

_ 1 Strabo, III, P. 186, Book, XVI, III; 3-4; Dillman; Haute Mesop.; 131. 2 Gulf, P., 30, Deserta, P., 515, Strabo; III; P.; 187. 3 Gulf, P., 46. 4 Sklzze, II, S., 10. 5 Gulf, P., 46. 6 Cornwall, Ancient Arabia, in Geographical Journal, CVII, 142, Febr., 1946; P., 30, Dussaud, La Penetration des Arabes en Byrle, 13, 25. 7 Gulf, P., 45, Strabo, III, P., 191; Book; XVI; IV; 4.

إفريقيا المرسلة بواسطتها، وهي بضاعة نافقة ذات أثمان عالية في الأسواق التجارية لذلك العهد، وتاجروا مع النبط بإرسال قوافلهم التي قطعت الفيافي مارة بمواضع الماء والآبار إلى "دومة الجندل" Dumatha، ومنها إلى "بطرا" عاصمة النبط. والنبط هم مثل بقية العرب تجار ماهرون نشيطون. فإذا وصل تجار "جرها" إلى أرض النبط باعوا ما عندهم للنبط واشتروا منهم. ما يحتاجون إليه من حاصل بلاد الشأم والبحر المتوسط, أما التجار الذين يريدون أسواقًا أخرى، غير أسواق النبط، فكانوا يتجهون نحو الشمال، فيدخلون فلسطين قاصدين "غزة" أو يتجهون وجهة أخرى هي وجهة بصرى وبقية بلاد الشأم. وقد اكتسبت "جرها" شهرة بعيدة في عالم التجارة في ذلك الزمان، بسبب مركزها التجاري الممتاز، وذاع خبر ثراء أهلها وغناهم، حتى زعم أنهم كانوا يكنزون الذهب والفضة والأحجار الكريمة، وأنهم اتخذوا من الذهب آنية وكئوسًا وأثاثًا، وجعلوا سقوف بيوتهم وأبواب غرفهم به وبالأحجار النفيسة الغالية، وغير ذلك مما يسيل له لعاب الجائعين إلى المال1. وهذا الصيد البعيد، هو الذي أثار الطمع في نفس الملك "انطيوخس الثالث"2 Antiochus lll، فجلعه يقود أسطوله في عام "205 ق. م"، للاستيلاء على المدينة الغنية الكانزة للذهب والفضة واللؤلؤ وكل حجر كريم، وإذلال القبائل المجاورة لها، وإلحاقها بحكومته. فإما أن تذعن وتستسلم بغير قتال، وتقدم ما عندها هدية طيبة إليه، وإما القتل والنهب ودك المدينة دكًّا. وتقول الرواية التي تتحدث عن طمع هذا الملك وجشعه للمال إن المدينة المسالمة التاجرة، أرسلت رسولًا إلى الملك يحمل رجاءها إليه ألا يحرمها نعمتين عظيمتين أنعمتهما الآلهة عليهم: نعمة السلام، ونعمة الحرية. وهما من أعظم نعم الآلهة على الإنسان، فرضي من حملته هذه بالرجوع بجزية كبيرة من فضة وأحجار كريمة، فأبحر إلى جزيرة "تيلوس" ومنها إلى "سلوقية" "205 - 204 ق. م"3. وهكذا اشترت المدينة سلمها وحريتها من هذا الطامع بالمال، وصدق أهل المدينة إن كانت الرواية صادقة، فالسلم والحرية من أعظم نعم الله على الإنسان4.

_ 1 Polybios, II, 39, Il.f. , 2 Gulf' P" 46" "انطيخس"، الطبري "1/ 790" "طبعة ليدن". 3 Gulf, P., 46, Polyblus," Book, 13, 9; Die Araber; II; S.; 74. 4 Polybios, 13, 9, 4-5.

وفي رواية أن الملك المذكور لما عاد من حملته على الهند اتجه نحو الغرب، أي السواحل الشرقية لجزيرة العرب، ساحل العروض، فنزل في أرض دعتها "خطينة" Chattenia وهي أرض من "جرها"، وعندئذ أرسل الجرهائيون رسلًا إليه يفاوضونه على الصلح على نحو ما ذكرت، فوافق على أن يدفعوا إليه في كل سنة جزية من فضة ولبان وزيت مصنوع من البخور1. ويظهر من هذه الرواية أن مجيء الملك إلى أرض الجرهائيين، كان من الهند، وكان قد رجع بعد أن قاد جيشه إليها، وأنه نزل في ساحل عرف باسم Chattenia وهو الخط. يتبين من وصف "سترابون" للحجارة التي بنيت بها المدينة على زعمه ومن ادعاء "بلينيوس"، أن أبراج المدينة وسورها قد بنيت بقطع مربعة من صخور الملح2. يتبين من ذلك أنها بنيت في أرض سبخة، وأن هذا السبخ هو الذي أوحى إلى مخيلة "الكلاسيكيين" ابتداع قصة حجر الملح الذي بنيت به دور المدينة وسورها، وفي التأريخ قصص من هذا القبيل عن قصور ومدن شيدت بحجارة من معدن الملح. يظن أن Gerra أو garraei أو Gerrei على حسب اختلاف القراءات، "وهو موضع ذكره "بطليموس" "هو هذه المدينة "جرها"3. وذكر "بلينيوس" أنها تقع على خليج يسمى باسمها4 Sinus Gerraicus ويبلغ محيطها خمسة أميال5 "خمسة آلاف خطوة"6، وعلى مسافة خمسين ميلًا من الساحل، "أي خمسين ألف خطوة"، وتقع منطقة تدعى "أتنه" Attene وفي مقابل مدينة "جرها" من جهة البحر وعلى مسافة خمسين ميلًا تقع جزيرة "تيلوس" Tylos المشهورة باللؤلؤ، والمدينة التي ذكرها "بلينيوس" هي المدينة التي قصدها "سترابون".

_ 1 Pliny, 6, 148, J. Pirenne, Le Royaume Sud-Arabe de Qataban et sa Datation,U961) , 169; Araber, I, S., III. 2 Pliny, II, 448.f. 3 Forster, II, P., 209, 217. 4 PUny, II, P., 449, Book, VI, 147. 5 بالأميال في الترجمة الإنكليزية لكتاب "بلينيوس"، راجع: Pliny, II, P., 449, Book., VI, 147; Gulf; P.; 51. 6 sktzze, II, S., 74.6 بالخطوات في الترجمة الألمانية راجع

وبعد، فـ"جرها" إذن، مدينة تقع في العربية الشرقية على ساحل الخليج على مسافة منه، أو عليه مباشرة. وقد رأى "شبرنكر" أنها "العقير"1، وتدعى "العجير" في لهجة الناس هناك2. ويرى هذا الرأي "فلبي"3 وطائفة من الباحثين, ومنهم من رأى أنها "القطيف"4، أو الخرائب المعروفة باسم "أبو زهمول" مع "العقير"، وتكون هذه الخرائب الطرف النائي من "جرها" الذي يكون الميناء، ودعاها بعضهم "الجرعاء"6. وظن آخرون أنها "سلوى" الواقعة على ساحل البحر7. ومن رجح "الجرعاء" رأى أنها في لفظها قريبة جدًّا من "جرها" "جرهاء"، وموضعها قريب منها. ولسبب آخر، وهو ورود اسم Thaimon/ Thaemae مع Gerraei عند "بطلميوس" و Thaemae هو "تميم" في نظر الباحثين، وقد اقترن اسم "الجرعاء: بتميم. فقد ذكر "الهمداني" "الجرعاء"، فقال: "ثم ترجع إلى البحرين فالأحساء منازل ودور لبني تميم ثم لسعد من بني تميم، وكان سوقها على كثيب يسمى الجرعاء تتبايع عليه العرب"8، وقد كانت "جرها" سوقًا تتبايع فيه الناس. ويرى "كلاسر" أن Gerrha/ Gerra ليست "العقير" أو الجرعاء، وإنما هي موضع يقع في الطرف الجنوبي الغربي من خليج "القطن"9. ويظهر أن "جرهاء" كانت قد بلغت أوجهًا في هذا العهد، وقد بقيت على ذلك مدة، غير أننا لا ندري إلى متى بقيت على هذه الحال, والظاهر أن مدنًا أخرى أخذت تنافسها، مثل مدينة Charax، فأثرت هذه المنافسة فيها وذلك بتحول الطرق البحرية عنها، وتحسن وضع صناعة السفن مما أدى إلى

_ 1 "العقير: تصغير العقر ... قرية على شاطئ البحر بحذاء هجر"، البلدان "6/ 198" Sprenger, Geographie, S., 135. 2 Chessman, In Unknown Arabia, P. 23. 3 The Empty Quarter, P., 3, Araber, I, S., 112. 4 Forster, II, P., 216. 5 Cheesman, P., 28. 6 Skizze, II, S., 75. 7 Geographical Journal, CVII, 142, Febr., 1946, P., 32. 8 الصفة "ص173". Gloser, Skiyyle, II, S., 76. 9 Gloser, Skiyyle, II, S., 76.

تمكنها من قطع مسافات واسعة من غير حاجة إلى التوقف في موانئ كثيرة، فلم تعد تقف في موانئ الجرهائيين أو أن الجرهائيين لم يتمكنوا بذلك من مزاحمة السفن الأخرى فأخذ نجمها في الأفول بالتدريج، ولعل لتحول طرق القوافل البرية دخلًا في ذلك أيضًا. فقد كانت الطرق البرية تتحول دومًا. لعوامل سياسية واقتصادية وعسكرية، وبتحسن وسائل المواصلات، فيؤدي هذا التحول إلى اندثار مدن وظهور مدن، ولا نزال نرى أثر هذا التحول في حياة قرى جزيرة العرب. وأما جزيرة TYRE / Tyrus، التي أشار "سترابو" إليها، فإنها جزيرة "تيلوس" Tylus / Tylos، التي ذكرها "بلينيوس"1. ويلاحظ وجود شبه بين "تيلوس" Tylus و"تلمون" أو "دلمون"1. الواردة في النصوص الآشورية، يحملنا على التفكير بوجود صلة بين الاسمين2. وقد أشرت إلى ذهاب الباحثين إلى أن "تيروس" Tyrus هي جزيرة من جزر البحرين. أما "كلاسر" فيرى أنها ليست من جزر البحرين، ولكنها جزيرة أخرى تدعى "دلمة" أو "بليجرد"، وقد رجح هذه الجزيرة على الأولى؛ لأن موقعها أقرب في نظره إلى المسافات التي أشار إليها "سترابون" من "دلمة"، ومن جزر البحرين، وقد ذهب "فورستر" إلى أن "تيروس" Tyrus، هي "أوال" وأما Aradus، فإنها "أرد" "أراد"، أي جزيرة "المحرق" من جزر البحرين، وقد تكون لتسمية "خليج عراد" بهذا الاسم علاقة بلفظة "أرد" "عرد" القديمة3. ولم يعثر المنقبون حتي الآن على كتابات يونانية تشير إلى مدة حكم قواد الإسكندر للبحرين، ولكنهم عثروا على فخار يوناني يعود عهده إلى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، وعلى فخار محلي مصنوع في البحرين عليه أسماء يونانية، وفي ذلك دلالة على سكن اليونان في البحرين لأغراض سياسية، أو حربية أو تجارية. قد يكون ذلك منذ عهد الإسكندرفيما بعد إلى انتهاء ملك خلفائه "السلوقيين"،

_ 1 Pliny, II, P., 449. 2 Gulf, P., 5,26; 27; Ency., I, P., 584; P.B. Cornwall; on the Location of Dllmun;Boas, NO, 103; 1946. 3 Forster, II, P., 219, 221, Gulf, P.; 31.

وقد يكون من عهد السلوقيين فما بعد حتى أيام "البارثيين" parthians، وأما موضع Macae المقابل لـ "هرموزي" "هرمز" Harmozi فيعرف أيضًا باسم1 Maketa/ Maceta، وهو مضيق Make لدى "بطلميوس"2، وهو "رأس الخيمة" الرأس البارز في مضيق "هرمز" Harmozi، وربما الرأس وكل شبه الجزيرة المتصل بها. ويعرف هذا الرأس عند الغربيين باسم "رأس مسندم" Ras Musandam، وهو موضع يظهر أنه أحد المواضع الواردة في كتابة "دارا" التي تشير إلى الأماكن التي كانت خاضعة لحكمه3. ونجد شبهًا في النطق بين Maka / Make / M acae و"مجان" "مكان" يحملنا على تصور أن الاسمين هما لشيء واحد، وأن الاختلاف الذي نجده بين التسميتين هو من التحريف الذي يقع في النقل من لغة إلى لغة أخرى وإذا صح هذا التصور كانت أرض "مكان" "مجان"، في هذه البقعة من جزيرة العرب. لقد قام تجار الخليج بالتوسط في نقل البضائع من الهند وإفريقيا إلى العراق، يوصلونها إلى موانئ العراق أو إلى موانئ الخليج، ثم تنقل إما بالطرق المائية إلى إيران والعراق وإما بالطرق البرية، فقد تنقل التجارة إلى مدينة "كاركس" "خاراكس" Charax، وهي "المحمرة" في الزمان الحاضر، ثم توزع منها إلى مختلف الأنحاء، وإما إلى ميناء "أبولوكس" Apologus، ومنه بالنهر إلى الأمكنة المقصودة مثل "سلوقية" على دجلة مقابل "طيسفون"، أي "المدائن"، الموضع المعروف اليوم بـ "سلمان بك" وكانت عاصمة "السلوقيين" آنذاك، أو إلى مواضع على نهر الفرات، حيث تنقل منها برًّا إلى بلاد الشأم. و"أبولوكس" Apologus هي "أوبولم" Ubulum في الكتابات الأكادية، وقد ورد في نص أيام الملك "تغلبت فلاسر" الثالث اسم قبيلة U-bu- lu كما ورد هذا الاسم على هذه الصورة: U-bu- lum في جملة أسماء القبائل التي انتصر عليها "سرجون الثاني" ويرى "كلاسر" صلة بين Apologus و"أبلة"،

_ 1 Stratoo, in, P., 186, Gulf, P., 40. 2 Skizze, n, S., 249. 3 Sldzze, II, S., 249.

واسم هذه القبيلة التي تقع مواطنها على رأيه في جنوب العراق1. وقد ذكر صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"2 أن مدينة "أبولوكس" هي في "بارئيا" أي في بلاد "الفرث"، وأنها تصدر اللؤلؤ والتمر الذهب ومواد أخرى إلى العربية السعيدة، وكانت تستورد بضاعة ثمينة منها كذلك، منها بضاعة من العربية الجنوبية ومنها بضاعة إفريقية الأصل، كما كانت تتجر مع الهند، فهي "ميناء البصرة" بالنسبة إلى العراق في هذا اليوم. وفي الحرب الرابعة التي قام به "أنطيوخس الثالث" Antiochus lll" "219- 217 ق. م" اشترك في جيوشه زهاء "218" قبيلة عربية3. وفي الأردن هاجم العرب مدينة "ربة عمان" "فيلادلفيا"، ونهبوها4. وفي ابتداء سنة "217 ق. م" كان في جيش هذ الملك زهاء عشرة آلاف عربي بإمرة "زبديديلوس" "زابدايل" Zabdidelos، وهو اسم يظهر أن صاحبه كان عربيًّا، إذ هو "زابدايل" على ما يظهر، حرف فصار على هذا النحو، وقد اشترك العرب مع هذا الملك في حصاره لمدينة "غزة" كما اشتركوا معه في حربه الخامسة التي أججها في بلاد الشأم، حيث أشير إليهم أيضًا في معركة6 Magnesia. وقد ذهب pirenne إلى أن الكتابة المعينية الي أمر بكتابتها كبير "مصران" "كبر مصرن" و "معين مصران" وسمها العلماء بـ Res 3022 وهي كتابة تشير إلى هذه الحروب التي نشبت بين "أنطيوخس الثالث" وخصومه البطالمة، وأدت إلى احتلال "غزة" سنة "217 ق. م" وترى من دراسة الكتابة المذكورة أنها تعود إلى ما بين سنة "22 ق. م" و "205 ق. م" وأن لفظة "مذي" التي تعني "الماذيين" "الميديين"، هي كناية عن السلوقيين الذين احتلوا بلاد "الميديين" وورثوا ملكهم منذ عهد الإسكندر7.

_ 1 Skizze, II, S., 188, Gulf, P., 53. 2 Periplus Marls Erythraei, The Periplus of the Erythrean Sea. 3 Polyb., 5,70, Araber, I, S.; 74, 289 4 Polyb., 5, 71. 5 Araber, I, S., 74. 6 Araber, I, S., 77, 171. 7 Pirrenne, Paleographie des Inscriptions Sud-Arabes, (1956) , 211, Araber, I,vs.74.

وورد في الأخبار أن فرقة من العرب من ركبان الإبل، كانت في جيش "أنطيوخس" وذلك في حوالي السنة "190 ق. م"1. ويظهر أنها كانت تقوم بحماية حدود الدولة السلوقية وحفظها من غزو الأعراب لها، وبالحرب في الصحراء، ومساعدة الجيش السلوقي في البادية عند اضطراره إلى اجتيازها. هذا ويلاحظ أن معظم القبائل كانت قد أيدت "أنطيوخس" ضد "بطليموس" والبطالمة الذين ورثوا القسم الغربي من تركة "الإسكندر"2. ولعل سبب ذلك هو أن ملك "أنطيوخس" لم يكن قد مس أرض العرب والأعراب، ولذلك لم يكن له إشراف مباشر عليهم يستوجب أثارتهم, أما البطالمة فقد كانوا يمتلكون أرضين، أصحابها عرب، وتعيش في أرضهم قبائل عربية، من قديم الزمان، ولذلك لم تستطع هضم "البطالمة" فأرادت التخلص منهم بالانضمام إلى منافسيهم وفي الجزء الشرقي من امبراطورية "الإسكندر". ويحدثنا الكتاب "الكلاسيكيون" أن "بطلميوس ساطر"3 "322- 382 ق. م" أرسل جيشًا إلى "سلوقوس نيقاطور" "312- 280 ق. م" فخرج من مصر واجتاز "سيناء" إلى غزة، ومنها إلى "بطرا" فركب الجمال، وتمون بالماء، واجتاز البادية، فكان يقطعها بسرعة كبيرة ليلًا، لشدة الحرارة في النهار، إلى أن بلغ العراق4. أما البادية التي اجتازها هذا الجيش فهي بادية السماوة، وأما الطريق التي سلكها فهي الطريق المألوفة التي تسكلها القوافل، وهي من أهم الطرق الموصلة إلى العراق وأقصرها، وقد أرسل "سلوقس نيقاطور" Seleucus Nicator "ميكستينس" Magastenes إلى الهند5. وكان "بطالمة" مصر أنشط من السلوقيين في مجال الاشتغال بالتجارة البحرية الجنوبية، والاستفادة من البحر، إذ وجهوا أنظارهم نحو البحار الجنوبية فأرسلوا بعثات استكشافية عدة لدراسة أحوال البحار والسواحل والشعوب، لتطبيق ما تتوصل إليه من معارف في مقاصدها العملية التي أرادت تنفيذها في تلك البحار, ولعل

_ 1 Livius, XXXVII, 40, 12, Grohmann.. Arabian, S.; 23. 2 Polybius, V, 71, Arabien, S., 23. 3 "بطليموس ساطر"، الطبري "1/ 703" "ليدن". 4 Hegaz, P., 216. 5 Montgomery P., 72.

لوضع مصر الجغرافي الممتاز الذي يكون قنطرة بين البحرين وسوقًا تلتقي به التجارات الآتية من الشمال ومن الجنوب، من أوروبة وحوض البحر المتوسط ومن السودان والحبشة وبقية أنحاء إفريقيا، ثم من جزيرة العرب والهند دخلًا في هذه الاهمتام بالبحر الأحمر وبالمحيط الهندي الذي أظهرته حكومة البطالمة، فقد سبقهم إليه قدماء المصريين ثم الفرس ثم الإسكندر، فإهتمامهم هذا هو في الواقع استمرار لتنفيذ تلك المقاصد القديمة المذكورة. وأمر "بطلميوس الثاني فيلادلفوس" "285- 246 ق. م" "284- 247 ق. م"، بإعادة حفر القناة القديمة بين النيل والبحر الأحمر "المشروع" الذي بدأ به المصريون لربط البحرين وبتوسيع التجارة مع سواحل إفريقيا وسواحل جزيرة العرب والهند، وبتكثير الأصناف التي كانت تستورد من المناطق الحارة، وبذلك اتخذت تجارة مصر والبلاد العربية، وإفريقيا شكلًا لم تعهده من قبل1. وذكر "ديودورس" أن آخر محاولة جرت لوصل البحر الأحمر بالنيل كانت في أيام "بطلميوس الثاني فيلادلفوس" حيث عزم على شق قناة منه إلى خليج السويس عند مدينة "أرسينو" Arsino، وقد أطلق على القناة التي أمر بشقها اسم "قناة بطلميوس"2. وقد شقت في حوالي سنة "269ق. م" كما حصنت المدينة بسور حصين لحمايتها من الغارات، وقد قصد بذلك غارات الأعراب الذين كانوا في الأرضين منذ أمد طويل3. ولعل هذا الملك هو الذي أرسل "أرستون" "أرسطون" Ariston للكشف عن سواحل البحر الأحمر من السويس إلى المحيط الهندي4، ولعله أيضًا الملك الذي ساعد أهل "مليتيوس"، وهم يونان أسسوا مستعمرة Ampelone / Ampelonaea في مكان ما من الساحل العربي، للبحر الأحمر وأمدهم برعايته, وهي مستعمرة أشار إليها الكتبة "الكلاسيكيون" والظاهر أنها واحدة من مستعمرات متشابهة، أسسها الروم على سواحل البحر الأحمر، لحماية سفنهم وتجارهم وامدادها بما تحتاج إليه من معاونة ومساعدة ولشراء ما يرد إليهم من بر جزيرة العرب.

_ 1 O'Leary, P. 71. S.A. Huzayyin, Arabia and the Far East, P. 86. 2 Booth, P., 16. 3 Araber, I, S., 72. 4 Araber, I, S. 67, Tran, in: Journal of Egypt. Archeol., 15; (1929) ; 14.

وقد عاد "أرسطون" من أسفاره البحرية، فقدم تقريرًا إلى ملكه ذكر فيه قوم "ثمود" في جملة من ذكرهم من الشعوب ولعله أول إغريقي ذكرهم. وفي أيام "بطلميوس فيلادلفوس" كذلك، أسست موانئ جديدة على سواحل البحر الأحمر، لرسو السفن فيها، وللمحافظة على الطرق البحرية من لصوص البحر، بلغت مداها جزيرة "سقطرى"1 Dioscorida. حيث أنشئت فيها جملة مستعمرات يونانية, وقد بقي اليونانيون فيها عصورًا غير أن نزولهم فيها لا يدل على احتلالهم لها2، وفي أيام صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"3 كانت الجزيرة على حد قول المؤلف في حكم "اليعزوز" Eleazus ملك "سباتا" Sabbatha، أي "شبوة"، ويدل هذا على أنها كانت تابعة للعربية الجنوبية، ويظهر أن "بطلميوس فيلادلفوس" قصد أيضًا الالتفاف حول السواحل العربية وضرب الفرس وإلحاق الأذى بهم، بأسطول كونه لهذه الغاية4. وقد كانت جزيرة "سقطرى" "سقطرة"5 ذات أهمية في ذلك العهد، وإن فقدت أهميتها في الزمن الحاضر فلا يعرفها ولا يذهب إليها اليوم إلا القليل؛ وذلك لأنها كانت تنتج حاصلات لها أهمية كبيرة في أسواق العالم إذ ذاك مثل البخور والصير والصمغ وغير ذلك، وهي سلع لها قيمة، تشبه قيمة البترول في القرن العشرين؛ ثم لأنها محطة مهمة لاستراحة رجال السفن ومفتاح يؤدي إلى مغالق المحيط الهندي من جميع النواحي، ولما كانت السفن في ذلك العهد صغيرة، تسيرها الرياح، وليس في مقدورها أن تحمل مقادير كبيرة من الماء العذب والأكل، كان لا بد لها من الوقوف في منازل عديدة، ومنها هذه الجزيرة، التي يعني اسمها "جزيرة السعادة"، إذ يذكر الباحثون، أن تسميتها جاءتها من السنسكريتية "دفيبا سوخترا" Dvipa SUKHATARA وهي تسمية إن صح أنها من هذا الأصل، فإنها تدل على صلة أهل الهند بها منذ عهد قديم6.

_ 1 Dloscordla, Dloscorides, Dioscurias, Dioscora, William Vincent, The Periplus of the Erythvean Sea. Part the Second, London, 1805, P., 307. 2 O'Leary, P. 72, Vincent, II, P. 309. 3 Periplus of the Erythream Sea. 4 Vincent, II, P. 309, O'Leary, P. 72. Stuhlmann, Der Kampf, S., 10. 5 مروج الذهب "1/ 335" 6 H. F. Tozer, A History of Ancient Geography, Camebridge, 1935, P. 138.

وأهلها خليط من عرب وروم وإفريقيين وهنود، يتكلمون بلهجات متداخلة، وهذا الاختلاط نفسه أمارة على الأهمية التي كانت للجزيرة في ذلك الزمن، وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن أكثر أهلها نصارى عرب، وأن اليونانيين الذين فيها يحافظون على أنسابهم محافظة شديدة وقد وصلوا إليها في أيام الإسكندر، ويزعم بعض الأخباريين أن "كسرى" هو الذي نقل اليونانيين إليها، ثم نزل معهم جمع من "مهرة" فساكنوهم وتنصر معهم بعضهم1. وفي الروايات العربية عن الروم الذين بجزيرة "سقطرى" شيء من الصحة. والذين يزورون هذه الجزيرة في هذه الأيام، يرون آثار ذلك الاختلاط وتشابك الشعوب والثقافات فما زالت الآثار النصرانية باقية فيها، تتحدث عن انتشار النصرانية فيها، وعن وجود جالية رومية، أنساها الزمن أصلها فدخلت في أهل "سقطرى"، وأخذت لسانًا جديدًا مزيجًا من ألسنة آرية وسامية وحامية، ولا يزال كثير من أهلها يسكنون الكهوف والمغاور ويعيشون عيشة بدائية، لانعزال الجزيرة عن بقية العالم. لقد صرف البطالسة مجهودًا كبيرًا في سبيل السيطرة على البحر الأحمر، والتوسع في المحيط الهندي، وقد تابع البطالسة الذين خلفوا "بطلميوس الثاني فيلادلفوس" خطته في التوسع في السواحل الإفريقية وفي المحيط الهندي، وأخذوا يرسلون الرجال المغامرين إلى تلك الأماكن للكشف عنها بغية الوقوف على أحوالها والاستفادة مما يحصلون عليه في سياسة التوسع التجاري والسياسي، التي وضعوها للبلاد التي تقع في المناطق الحارة، وقد جمعت التقارير وكانت مهمة ولا شك، ووضعت في خزائن الإسكندرية، وقد وقف على بعضها الكتبة "الكلاسيكيون". وقد أخرجت أيام البطالمة جماعة من المغامرين الإغريق جابوا البحر الأحمر وسواحله، ودخلوا بسفنهم المحيط الهندي حتى بلغوا الهند2. وغير أن تجارة الهند، والبحار، بقيت في الجملة في أيدي العرب، ولم يحاول البطالمة تغيير الوضع وتبديل الحال، وقد انحصرت كل محاولتهم في توجيه التجارة في الموانئ

_ 1 البلدان "5/ 93" ويذكر المسعودي أن "أرسطوطاليس" هو الذي كتب إلى الإسكندر حين سار إلى الشرق يوصيه بهذه الجزيرة، وكان يحكمها ملوك الهند، فنزل اليونانيون بها، وأقاموا بها، وتنصروا بعد ذلك، وذكر أن بوارج الهند، تأتي إليها في أيامه، مروج الذهب "1/ 335" وما بعدها". 2 Strabo 15 1 4 Oleary p 73.

العربية إلى سواحل مصر. لقد كان بحارة العربية الجنوبية أصحاب كفاية ودراية، وما زالوا ملاحين أكفاء حتى الآن1. فلم يكن من السهل على البطالمة إخراجهم من البحر وإبعادهم عنه، ولقد حاول البرتغاليون من بعدهم بعدة قرون إقصاء العرب عن تجارة الهند وإفريقيا، ومنع سفنهم من الظهور في المحيط الهندي، فباءت محاولاتهم بالإخفاق، وبقوا في البحر بالرغم من أنف البرتغاليين. وقد وجه "بطلميوس أورغاطس الثاني2" Prolemy Euergetes "146- 117 ق. م"، انتباهه نحو البحر الأحمر والمحيط الهندي والهند، فكون أسطولًا قويًّا من البحر الأحمر، قام برحلات منتظمة إلى قبلة أنظار التجار: الهند ويظهر من بعض الكتابات أنه خصص موظفين بإدارة أعمال السفن والسهر على سيرها وإدامتها وتنميتها أناط، بهم حماية السفن التجارية وحراستها حتى لا يتحرش بها لصوص البحار، الذين كانوا يهاجمون السفن المحطمة ويأخذون ما فيها ويتعرضون للسفن المحملة بالأثقال فيأخذون ما فيها وينقلونه إلى الساحل، وقد ألف لتحقيق هذه المهمة حرسًا بحريًّا أخذ دور شرطة بحرية، واجبها تقديم المساعدات لمن يطلبها وتعقب اللصوص3. وقد برز اسم قائد محنك من أهل Cyzicus / Kyzikus استطاع أن يبلغ الهند وأن يتاجر معها، وأن ينشئ خطًّا ملاحيًّا منتظمًا بين مصر والهند، وقد استطاع هذا القائد المسمى بـ "يودوكسوس" Eudoxus أن يتعلم أشياء كثيرة من أسرار الملاحة البحرية وأخطارها ومجازفاتها ومن معارفها والأماكن التي يجب النزول بها، ولعل إدراك "هيبالس" "هيبالوس" Hippalus لأهمية الرياح الموسمية واستعماله لها، وهو ثمرة من ثمرات الرحلات التي قام بها "يودوكسوس" للهند، وإذا لم يكن "هيبالوس" من رجال ذلك القائد، فإنه لم يكن بعيد عهد عنه على كل حال4. وكان الساحل الشمالي الغربي لجزيرة العرب، أي القسم الجنوبي من المملكة الأردنية الهاشمية في الزمان الحاضر وأعالي الحجاز للنبط، لهم حكومة تحكمهم،

_ 1 O'Leary, P. 73. 2 "بطليموس أورغاطس" الطبري " / 703" "ليدن". 3 Araber, 1, S., 69. 4 Araber, 1, S., 131.

إلا أنها كانت تخضع لنفوذ البطالمة، وقد تأثرت مصالحهم كثيرًا، ولا شك بتدخل البطالمة في أمور البحر وبوضعهم اليونان في أماكن متعددة من الساحل لحماية سفنهم، ولاتجارهم مباشرة مع موانئ جزيرة العرب، حيث أثر ذلك على القوافل التجارية البرية التي كانت تحمل تجارات إفريقيا والهند، والعربية الجنوبية فتأتي بها على ظهور الجمال إلى بلاد الشأم مخترقة أرض النبط وبذلك تدفع لهم حق المرور. ولم يتأثر النبط وحدهم بسيطرة البطالمة على البحر الأحمر، بل تأثر بهذه السيطرة عرب الحجاز والعربية الجنوبية كذلك، إذ أخذت سفن البطالمة تصل بنفسها وبحراسة السفن الحربية إلى الموانئ المشهورة، فتشتري ما تحتاج إليه وتبيع ما تحمله من سلع، وحرمت بذلك التجار العرب من موارد رزقهم التي كانوا يحصلون عليها من الاتجار بالبحر، وقد اضطر التجار العرب على ترك البحر للمنافسين الأقوياء وعلى الاقتصار على إرسال تجارتهم بطرق البر نحو بلاد الشأم. ويظهر أن عرب البحر الأحمر، لم يكونوا يميلون إلى ركوب البحار وبناء السفن قبل أيام البطالمة وبعد، أيامهم كذلك، ولهذا فلم تكن لديهم سفن مهمة مذكورة في هذا البحر، ولم تكن لهم سيطرة عليه، بل يظهر أنهم كانوا يتخوفون من ركوب البحر، وفي المثل المنسوب إلى "أحيقار": "لا تر العربي البحر، ولا ساكن صيدا البادية"1، تعبير عن وجهة نظر عرب العربية الغربية وأعراب البادية بالنسبة إلى البحر، والتجارة البحرية. وقد كان ميناء "أيلة" Ailana / Eloth في أيدي البطالمة في هذا العهد2. وهو ميناء مهم ترسل منه تجارة فلسطين إلى موانئ البحر الأحمر وإفريقيا، كما كان يستقبل السفن القادمة من إفريقيا ومن المحيط الهندي، فهو إذن من الأسواق التجارية المعروفة في ذلك العهد. لقد كان ميناء "لويكة كومة"3 Lueke Kome أي "المدينة البيضاء" من أهم الموانئ التجارية على سواحل الحجاز على عهد البطالسة، منه تتجه

_ 1 Araber, 1, 70. 2 Araber, 1, s. 69. 3 Leuce Kome, Forster, 1, P. 220.

السفن إلى الساحل المصري لتفرغ شحنتها هناك، فتنقل إما بواسطة القوافل، وإما بالسفن من القناة المحفورة بين البحر الأحمر ونهر النيل لتتابع طريقها إلى موانئ البحر المتوسط1، وقد كان من موانئ النبط، ذكره "سترابون" في معرض كلامه على حملة "أوليوس غالوس" على جزيرة العرب، ففيه نزلت جيوش الرومان القادمة من مصر للاتصال بحلفائهم النبط2، ولا يعرف موضعه الآن معرفة تحقيق وإنما يرى بعضهم أنه "الحوراء"3. مرفأ سفن مصر إلى المدينة4. ويظهر أن "الحوراء" كان من المواضع الجاهلية القديمة وقد وجدت فيها آثار قصور. ورأى "ونست" Vincent أن "لويكة كومة" هو "المويلح" في الزمان الحاضر5، وهي قرية بها بساتين ومزارع ونخيل، ومياهها من الآبار، لها طريق قوافل إلى المدينة وإلى تبوك 6. ورأى آخرون أنها "عينونة" أو "الحربية" وهي تابعة لإمارة "ضبا" على ساحل البحر الأحمر، وهي من إمارات الحجاز7. ويظهر أن تجارة هذا الميناء كانت عامرة جدًّا، فكانت القوافل التي تنقل البضائع بين "بطرا" Petra وبين Leuce/ Kome /Leuke Kome ضخمة جدًّا حتى كأنها قطع كبيرة من الجيوش8. تقوم بنقل الأموال من الميناء إلى "بطرا" ومنها إلى الأسواق، أو بنقل التجارة الواصلة إلى "بطرا" من العراق أو الخليج أو اليمن، ومنها إلى ذلك الميناء لتصديره إلى مصر وحوض البحر المتوسط ويتبين من إهمال الكتب اليونانية أو اللاتينية ذكر هذا الميناء بعد الميلاد أن شأنه أخذ في الأفول منذ ذلك العهد، ولعل ذلك بسبب تحول خطوط سير السفن في البحر الأحمر بعد استيلاء الرومان على مصر، وإنشائهم أسطولًا تجاريًّا كبيرًا في

_ 1 Vincent, II, PP.,230. 2 Skizze, 11, S., 46. 3 Forster, 1, P.,220. 4 البلدان "3/ 359" 5 Forster, II, P.285. 6 حافظ وهبة، جزيرة العرب "ص19". 7 فؤاد حمزة، قلب جزيرة العرب "ص72"، Hegaz, PP.,125. 8 Huzayyin, P.,112, Strabo, 16, 4,33.

هذا البحر قام بالاتجار مباشرة مع إفريقيا والهند ومصر، فلم تبق له حاجة إلى النزول في هذا الميناء. وLeuce Kome / Leuke Kome اسم أعجمي بالطبع، ورد في الكتب "الكلاسيكية"، لا ندري أهو ترجمة لمسمى عربي، أم هو اسم حقيقي لذلك الميناء أطلقه عليه مؤسسوه في زمن البطالمة، أو قبل ذلك، وكانوا من اليونان، ولوجود خرائب عديدة على ساحل الحجاز "ترجع إلى ما قبل الإسلام، بها آثار يونانية ورومانية، لم تدرس دراسة علمية دقيقة، ولم تمسها أيدي المنقبين" لا يمكن القطع في موضع هذا الميناء وفي اسمه الحقيقي الذي كان يعرف به. والميناء الآخر المهم الذي تاجر البطالمة معه، ونزل فيه رجالهم هو ميناء Muza / Mauza. وهو "مخا"، وهو ميناء قديم، وقد عثر على مقربة منه على كتابة وسمت بـ Ry 598 وقد قدر زمان كتابتها بحوالي سنة "300" أو "250 ق. م"1. وكان في أيام صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" تابعًا لملك سماه Charibael ملك Sabbhar و charibael هو "كرب إيل" وكان ملكًا على "سبأ" ويستنتج من الكتاب المذكور أن حكم هذ الملك كان قد امتد على أرض Azania وعلى أرضين أخرى مجاورة لها في إفريقيا2. أي أن تلك الأرضين كانت خاضعة لحكام اليمن في ذلك العهد. وتعامل البطالمة مع ميناء آخر يقع على السواحل العربية، هو ميناء Arabeae Eubaemon، فكان تجارهم يأتون بسفنهم إليه، فيشترون من تجاره ما يحتاجون إليه، كما أنهم اتخذوه محطة للاستراحة وللتزود بالماء والزاد، وللقيام منه برحلات بعيدة إلى سواحل إفريقيا، أو الذهاب إلى الهند وهذا الميناء هو "عدن" الشهير، الذي لا يزل محافظًا على كيانه وعلى أهميته في العالم السياسي والحربي والاقتصادي، وذلك بفضل مكانه الحصين وإشرافه على المحيط في مكان مشرف على باب المندب مفتاح البحر الأحمر وعلى الساحل الإفريقي. وقد كان هذا الميناء موجودًا ومعروفًا قبل البطالمة، بدليل اشتهاره عندهم

_ 1 Araber, I, s. 133, J. Pirrenne In: Le Museon, 73, "1960", 6. 2 Araber, I, s. 133.

واتخاذه محطة لهم، ولكننا لا نعرف من تأريخه القديم شيئًا كثيرًا، وقد عثر فيه على كتابات بالمسند إلا أن العلماء لم يستطيعوا حتى الآن التحدث بشيء من التفصيل عن تأريخ عدن قبل هذا العهد1. وقد ازدادت عناية الغربيين به منذ حملة "أوليوس كالوس"، كما سأتحدث عنه فيما بعد. ويرى بعض الباحثين أن ما ذكره بعض "الكلاسيكيين" من وجود مدن أو جاليات يونانية مثل Arethusa "أرتوسه" و "لاريسا" Larissa "وخلقس" Chalkis في بلاد العرب، وإنما يراد بها مواضع يونانية أقيمت في أيام "البطالمة" على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب في مواضع لا تبعد كثيرًا عن "عدن" وقد بقيت حية عامرة إلى سقوط حكم "البطالمة" فضعف أمر تلك المستوطنات ولم يسعفها أحد من اليونان أو الرومان بالمساعدة فدمرت، دمرتها القبائل العربية الساكنة في جوارها2. أما موضع "اتينه" Athene / Athenae attene الذي ذكره "بلينيوس" مع المواضع المذكورة فقد ذهب أكثر الباحثين إلى أنه "عدن" وهو موضع كان معروفًا، عند اليونان والرومان معرفة جيدة، وكانت سفن البطالمة تأتي إليه للاتجار. وقد ذهب "تارن" W W Tarn إلى أن مستعمرة "أمبلونه" Ampelone وهي إحدى المستعمرات اليونانية التي أقيمت على ساحل البحر الأحمر، إنما هي مستعمرة أنشئت في أيام "بطلميوس الثاني"، وقد استوطنها قوم من أهل Miletos لغرض إبحار السفن منها إلى البحار الجنوبية واستقبال السفن القادمة منها3. لقد أحدث دخول اليونان البحار الجنوبية من الخليج العربي، ومن البحر الأحمر احتكاكًا مباشرًا بين الثقافة اليونانية والثقافات الشرقية، وقد عثر على كتابات يونانية في مواضع متعددة من الخليج ومن السواحل الإفريقية تتحدث عن وجود اليونان في هذه الأماكن، فقد عثر على كتابات من أيام السلوقيين في جزيرة "فيلكا" وكتابات لـ"بطلميوس الثالث" "أورغاطس" Euergetes

_ 1 Stuhlmann s 121. 2 Araber l s 121. 3 Araber s 70.

"247- 221 ق. م" في "أدولس" Adulis عند "مصوع"1، وعثر على نقود في مواضع متعددة من السواحل الجنوبية لجزيرة العرب والسواحل الإفريقية ومنذ هذا العهد دخلت المؤثرات الثقافية اليونانية إلى الحبشة وإلى مواضع أخرى من إفريقيا2. وقد عثر في خرائب مدينة "تمنع" على كثير من الأشياء "الهيلينية" الأصل أو المتأثرة بالهيلينية: من تماثيل، وتحف فنية وفخار، وما شابه ذلك3. هي من نتائج التبادل التجاري، والاتصال الذي كان بين حوض البحر المتوسط والعربية الجنوبية, وقد ترينا الحفريات في المستقبل آثارًا أخرى تتحدث عن أثر الثقافة اليونانية في جزيرة العرب في نواح أخرى عديدة لم نتعرفها بعد. وكان من نتائج دخول اليونان إلى الخليج العربي والبحر الأحمر، دخول النقود اليونانية إلى جزيرة العرب، وظهور دور ضرب السكة فيها. وقد عثر في مواضع من الجزيرة على نقود ضرب بعضها على طراز نقود "الإسكندر الأكبر" وضرب بعض آخر في أيام خلفائه، كما عثر على نقود محلية ضربت في العربية الجنوبية، وقد تبين من دراستها وفحصها أنها ضربت على الطريقة اليونانية، ويظهر الأثر اليوناني واضحًا فيها. وسأتحدث عن ذلك في الموضع الحاضر بالنقود. هذا وقد كشفت جزيرة صغيرة من جزر الخليج العربي، هي جزيرة "فيلكا" من جزر الكويت عن بعض أسرارها التأريخية القديمة، فقدمت بعض الهدايا والعطايا لبعثة أثرية "دانماركية" نبشت الأرض في مواضع منها، وإذا بها تتحدث إليها بتحفظ وبحرص عن أيامها الأولى، في "العصور البرنزية" ثم في "العصور الحديدية: "ثم عن صلاتها بالعراق حيث نزل بها الأكاديون والآشوريون، وعن صلاتها بالجزر الأخرى مثل البحرين، وعن صلاتها بالفرس ثم باليونان في أيام "الإسكندر الكبير" وخلفائه، حيث نزل بها جنوده وقوم من أتباعه وأتباع من جاءوا بعده من حكام.

_ 1 Stuhlmann S., 10. 2 Stuhlmann S., 10. 3 Boasoor 119 "1950" p., 6.

ويعود عهد النقود التي عثر عليها في هذه الجزيرة إلى هذا الزمن أيضًا فقد، وجد نقد ضرب في أيام "سلوقس الأول" باسم الإسكندر الأكبر حوالي "310- 300 ق. م" فهو لا يبعد كثيرًا عن أيام الإسكندر المتوفى سنة "323 ق. م" ووجد نقد ضرب في أيام "أنطيوخس الثالث" الذي حكم المملكة "السلوقية" ما بين "223" و "187 ق. م"1. ولاكتشاف هذه النقود شأن تاريخي كبير؛ لأنها تشير إلى تدخل اليونان في أمور الخليج في هذا العهد، وحكمهم لسواحله العربية من "جرها" إلى جنوب العراق، كما أنها ستعين في التوصل إلى تثبيت تواريخ حكم السلوقيين لهذه المنطقة وسيكون لما سيكتشف من نقود في الكويت، أو في مواضع أخرى من الخليج، فائدة كبيرة في توسيع معارفنا بالسلطان الاقتصادي والسياسي للسلوقيين في هذه الجهات وفي تعيين صلاتهم بالشعوب العربية الساكنة على بقية ساحل الخليج وفي الأرضين البعيدة عن منطقة سلطان السلوقيين. وبعد اكتشاف آثار الـ "اكروبولس" Akropolis وكذلك المعبد في جزيرة "فيلكا" التي هي جزيرة "ايكاروس" lkaros عند اليونان ذا أهمية كبيرة من ناحية دراسة الأثر الذي تركه اليونان في الخليج2. أما في الساحل المقابل للجزيرة وفي الأماكن الأخرى من الخليج، فلم يعثر حتى الآن على مثل هذا المعبد اليوناني، أو البيوت اليونانية فيها، ولهذا لا نستطيع أن نتحدث عن أثر اليونان فيها، وقد يكون وجود المعبد والبيوت اليونانية في هذه الجزيرة بسبب إبقاء حامية الإسكندر فيها وسكناهم في الجزيرة وبقائهم بها بعد زوال حكم اليونان عن العراق، وقد اختار الإسكندر أو قواده هذه الجزيرة، لأهميتها من الوجهة العسكرية من حيث رسو سفن الجيش اليوناني بها وإمكان تأديب سكان السواحل منها وإخماد معارضتهم لليونان وتعقب "القراصنة" والهيمنة على مصب دجلة والفرات في الخليج والدفاع عن جنوب العراق. لم يتمكن السلوقيون من الهيمنة على الخليج والاتجار به؛ لأن حكومتهم في

_ 1 تقرير "ص 16، 17 "، نقود يونانية من جزيرة "فيلكا" مطبعة حكومة الكويت. 2 Kuml 1959 236 238 Grohmann Arabien S 259.

العراق لم تكن حكومة قوية، ثم سرعان ما قضى عليها الفرس، فزال حكم اليونان عن العراق، أما في مصر، فقد قضى الرومان على حكم البطالمة، وانتزعوا الحكم منهم وورث الرومان اليونان في البحر الأحمر، وولوا أنظارهم نحو سواحله ونحو المحيط الهندي، على حين انتزع الخليج من الروم ومن الرومان، وصار بحرًا شرقيًّا، السلطان الأول فيه للعرب والفرس. لقد كافح البطالمة أعمال اللصوصية "القرصنة" في البحر الأحمر، وأمنوا بذلك لسفنهم السير في هذا البحر، إلا أنهم لم يتمكنوا من السيطرة على العربية الغربية، ولم يتمكنوا من المساهمة مع العرب في الإتجار برًّا مع اليمن وبقية العربية الجنوبية، لقد كانت التجارة في أيدي العرب، وكان المهيمن على النهاية القصوى لهذه الطرق البرية "النبط" الذين تكتلوا في أعالي الحجاز، وكونوا لهم مملكة النبط، وأخذ نجمهم في الصعود منذ أيام "الإسكندر الأكبر" وقد ساعد في صعوده الحروب التي نشبت بين البطالمة والسلوقيين، فوجد النبط لهم فرصة مؤاتية فأخذوا يوسعون أرضهم، ويتقدمون نحو الشمال متوغلين حتى بلغوا أرضين تقع شمال "دمشق"1. وأدت الحروب التي نشبت بين السلوقيين والبطالمة إلى تقدم القبائل العربية، وزحفها من الجنوب نحو الشمال، وزاد من توسعها تفتت مملكة السلوقيين وتقلص سلطانها، مما أفسح في المجال للقبائل بالنزوح بكل حرية إلى أرضين جديدة في العراق، وتكوين إمارات من قبائل متحالفة، كذلك أدى ضعف حكومة البطالمة إلى توسع القبائل العربية وتوغلها في طور سيناء وفي المناطق الشرقية من مصر الواقعة على الضفاف الشرقية لنهر النيل، مما حمل بعض الكتبة "الكلاسيكيين" على إطلاق لفظة "العربية" عليها دلالة على توغل القبائل العربية فيها بالطبع2. وإلى عهد البطالمة ترجع الكتابات العربية المدونة بالمسند التي عثر عليها في الجزيرة بمصر. وقد كتبت في السنة الثانية والعشرين من حكم بطلميوس بن بطلميوس، ويصعب تعيين زمان هذه الكتابة وزمان بطلميوس بن بطلميوس

_ 1 Araber l S 5 F. 2 Araber l s 6 f.

الذي في أيامه كتبت؛ لأن هنالك عددًا من البطالمة حكموا أكثر من اثنين وعشرين عامًا، فأيهم المقصود؟ ويرى "وينت" F V Winnet أنها لم تكتب على أي حال بعد سنة "261 ق. م"1، وعثر على كتابات أخرى في موضع "قصر البنات" على طريق "قنا" وفي منطقة "أدفو"2. ووجود كتابات المسند في مصر يدل على الصلات الوثيقة التى كانت بين العربية ومصر. وقد دون إحدى هذه الكتابات رجل اسمه "زد ال بن زد" "زيد ال بن زيد" "زيد ايل بن زيد" من "آل ظرن" "آل ظيران" "آل ظيرن" وقد كان كاهنًا في معبد مصري، وقد اعترف بوجود دين عليه وواجب هو تزويد "بيوت آلهة مصر" معابد آلهة مصر" ابيتت الالت مصر" بـ "المر والقليمة" "امرن وقلمتن"، ويقصد بـ"قلمتن" ما يقال له: Calamus في الإنكيلزية وKalmus في الألمانية، ويراد به ما يقال له قصب الذريرة أو قصب الطيب وقد عبر عن لفظة "ورد" واستورد بلفظة "ذ سعرب". وذكر أن ذلك كان في عهد "بطلميوس بن بطلميوس"، "بيومهر ثلميث بن تلميث" أي "بيوم أو بأيام بطلميوس بن بطلميوس"، وقد عبرت عن لفظة "بطلميوس" بـ "تلميث". وقد استحق عليه تسديد الدين، وصار نافذًا في شهر "حتحر" وعبر عن ذلك بهذه الجملة: "ويفقر زبدال بورخ حتحر" و"فقر" بمعنى أصبح مستحقًّا نافذًا، ومعنى الجملة: "واستحق تسديده على زيد ايل بشهر حتحر" وقد وفى بذلك دينه، لكل معابد آلهة مصر. وقدمت إليه في مقابل ذلك، وربما على سبيل المقايضة، أنسجة وأقمشة أو أكسية بز "كسوبوص"

_ 1 BOASOOR, Number, 73, 1939, P., 7. 2 BOASOOR, Number 7S, 1939, P. 7, Le MusSon, LVH; 1-2; (1949) ; P. 56; A. E. P. Welgall, Travels in the Upper Egyptian Deserts, London, 1909, P. 1 IV, Fig., 13; 14; H. Winkier, Rocfcdrawings of Southern - Upper Egypt, I, London, 1938, P. 1, 4, Rhodokanakls, in Zeitschrift fur Semitlstik, Bd. 11; 1924, S. 113, Schwartz, Die Inschriften des Wilstentempels von Redesiye, in: Jahrbuch fur Klasslsche Philologie, Bd., CLITT, 1896, S. 157.

أخذها إلى سفينة تجارية، ربما كانت سفينته، وقد أخذ عليه عهد واعترف مقابل ذلك بالدين الذي عليه وبوجوب تسديده عند استحقاقه لمعبد الإله "أثر هب" "أثر هف" ويقصد بذلك الإله Osarapis، وذلك في شهر "كيحك" من السنة "خرف" الثانية والعشرين من حكم الملك "بطلميوس بن بطلميوس". وقد ذهب "رودو كناكس" ناشر النص إلى احتمال كون "زيد ايل" كاهنًا في معابد مصر، ولو كان من أصل غير مصري، فقد كان المصريون تساهلوا في هذا العهد -كما يرى- فسمحوا للغرباء بالانخراط في سلك الكهان وخدمة المعابد، وتساهلوا مع "زيد ايل" هذا فأدخلوه في طبقة "أويب" Ueeb وانتخبوه كاهنًا، ليضمن لهم الحصول على المرور والقليمة بأسعار رخيصة، لاستيراده إياها باسمه ومن موطنه مباشرة من غير وساطة وسيط1. وقد ذهب "رود كناكس" أيضًا، إلى أن "زيد ايل" كان يستورد المر والقليمة لا لحسابه الخاص ومن ماله، بل لحساب المعابد المصرية، ومن أموالها، فلم يكن هو إلا وسيطًا وشخصًا ثالثًا يتوسط بين البائع والمشتري، يشتري تلك المادة ويستوردها باسمه، ولكنه يستوردها للمعابد ولفائدتها، وهو لا يستبعد مع ذلك احتمال اشتغاله لنفسه وعلى حسابه في التجارة، يستوردها ويبيعها في الأسواق ويتصرف بالأرباح التي تدرها كما يريد، وهو لا يستبعد أيضًا احتمال مساعدة المعابد له بتجهيزه بالمال لتقوية رأس ماله، أو انتشاله من خسارة قد تصيبه. وقد أصيب هذا التاجر، كما يظهر من هذا النص، بخسارة كبيرة في شهر "حتحر" ربما أتت على كل ما كان يملكه، فهبت المعابد المصرية لإنقاذه، وإعادة الثقة به، بإسناده بتقديم أكسية البز "بوص" إليه، وقد أخذها وصدرها في سفينته التي يستورد بها المر والقليمة إلى الأسواق، فربح منها، واستورد المر والقليمة وأعاد إلى المعابد ما أخذه منها من تلك السلعة، وأدى

_ 1 Zeitschrift fur Semitistik und verwandte Gebiete, Band, 2, 1924, s. 116

ديونه في شهر "كيحك"، وقد أعادت إليه الثقة به، وأنقذ من تلك الضائقة المالية التي حلت به، بمدة قصيرة لا تتجاوز شهرًا كما يرى ذلك "رودو كناكس"1.

_ 1 N Rhodokanakis, "Dte Sarkophaginschrift von Glzeh", Zeischrltt tax Seml-tlstik, 11, (1923) , S. 113, Zeitschrift ftir Semltlstik und Verwandte Geblete, 11, 1924, S. 113, Tarn, In: Journal of Egypt. Archeol., 15, (1929) ; 20 Beeston; in: Journal Roy. Asiat. Soc, Gesch. der Hellenist. Welt, 1955, 1, 300, 3, 1172; Araber, 1, S., 70

الفصل الثامن عشر: العرب والرومان

الفصل الثامن عشر: العرب والرومان انتهز حكام "رومة" فرصة ضعف خلفاء الإسكندر، وانحلال المملكة العظيمة التى كونها ذلك الفاتح، فاستولوا على مقاطعة "مقدونية" Macedonia وعلى جزر اليونان وآسيا الصغرى وبلاد الشأم وإفريقيا وفي ضمنها مصر، فأصبحوا بذلك كما كان شأن البطالمة على اتصال بالعرب مباشر1. وبهذا الاتصال بدأت علاقات العرب بالرومان. وقد كان العرب يقيمون في لبنان وفي سورية قبل الميلاد بزمن طويل، وقد اشتغل قسم منهم بالزراعة وتحولوا إلى مزارعين مستوطنين، وتولى قسم منهم حماية الطرق وحراسة القوافل ولا سيما القوافل التي تجتاز طريق الشأم -تدمر- العراق، وقد أشير إلى العرب "السكونيين" أي سكان الخيام Arabes Skynitai الذين كانوا ينزلون البوادي وهم من الأعراب الشماليين2. استطاع "بومبيوس" Pompeius القائد والقيصر أن يضم بلاد الشأم إلى الأملاك التي استولت عليها رومة، ويجعلها مقاطعة من المقاطعات الرومانية، فكان من نتيجة ذلك اتصال الرومان بالعرب، وبالأعراب الذين كانوا قوة لا يستهان بها على أطراف الشأم، وقد وجد الرومانيون بعد استيلائهم على الشأم ما شجعهم

_ 1 The Historians History of The World, Vol., VI, London 1908, P., 3 2 pliny, Nat. His,, VI, 142, Straoo, XVI, 749, 755:Plutarchos: Lucullus; 21; Arabia ; S. 23

على الزحف إلى فلسطين، انتهازًا لفرصة النزاع الداخلي الذي كان بين "هركانوس الثاني Hyrkanus ll وأخيه "أرسطو بولس الثاني" AristobulusII وكان "هيركانوس" قد ذهب إلى "الحارث" Aretas ملك العرب، أي النبط، فارًا من أخيه، ليحميه وليساعده مقابل تنازله عن بعض الأرضين وعن المدن الاثنتي عشرة التي كان "الإسكندر ينايس" Alexander Jennaeus "104- 78 ق. م" قد استولى عليها1 كما ذكرت من قبل، فرأى الرومان في هذه الفوضى فرصة مواتية للتوسع نحو الجنوب. وقبل أن يجتاز "سكورس" Scaurus بجيوشه حدود أرض "يهوذا" وصلت إليه رسل "أرسطوبولس" Aristobulus تطلب منه مساعدة صاحبهم وتمكينه من أخيه، كما وصلت إليه رسل "هيركانوس" Hyrkanus لترجو منه معاونته لصاحبهم، ومساعدته على شقيقه فتعهد كل طرف من الطرفين بتقديم ما قدمه الآخر، ووافق "سكورس" على تأييد "أرسطوبولس" فكتب إلى "الحارث" ملك العرب، يخيره بين البقاء في القدس والدفاع عنها وعداوة الرومان وبين تركها وترك الدفاع عنها وصداقة القائد، فرأى "الحارث" Aretas الارتحال عنها، وفي أثناء ارتداده حصلت مناوشات بين أتباع الأخوين قرب الأردن، كان النجاح فيها حليف "أرسطوبولس"2. وفي سنة "64 ق, م" شخص "بومبيوس" نفسه إلى سورية للإشراف على إخضاع جميع أجزائها، وقد طلب منه الأخوان أن يتدخل في حل هذا النزاع، وأن يكون حكمًا بينهما، وقدما له هدايا ثمينة حملته على التفكير في احتلال فلسطين وقد حضرا إلى مقره، وأظهرا له من الضعف والضعة ما دعاه إلى الإسراع في إرسال حملة إلى أرض Aretas ملك العرب، الذي قاوم مقاومة عنيفة، وبعد هذه الحملة احتل القدس وأرض يهوذا وسائر فلسطين، وأمر بإلحاقها بالمقاطعة الرومانية السورية، ونصب عليها "سكورس" حاكمًا، وانتزع من يهوذا مدنًا وقرى ألحقها بهذه المقاطعة، أما مملكة "يهوذا" الصغيرة، فقد أصبحت، من عملها هذا، في حماية الإمبراطورية الرومانية، وأخذ "أرسطوبولس"

_ 1 "103 - 76 ق. م" Dubnow 11 s 154 2 Bubnow ll S 176 F

وأكثر جنوده أسرى، نقلوا إلى "رومة"، وسير بهم في موكب الأسرى الذين جيء بهم من الشرق، للاحتفال بالانتصار العظيم الذي انتصره "بومبيوس"، وذلك في عام "61 ق، م "1. وعقد "سكورس" الحاكم الروماني اتفاقية مع "الحارث"، حسمًا للنزاع وحدًا لتحرشات العرب بحدود الإمبراطورية، وافق بموجبها "ملك العرب"، أي العرب النبط، على المحافظة على الأمن، وعلى التعاون مع الرومان في هذا الشأن، وقد عثر على نقد ضرب في أيامه، وجدت عليه صورة رمزية تشير إلى هذا الاتفاق2. وقد ساعد العرب "كاسيوس" Cassius في حوالي السنة "53 ق. م" وساعدوا "كراسوس" Crassus، وذلك في حروبهما مع "الفرث" "البارثيين"3 Parther. وقد عين "يوليوس قيصر" Julius Caesar في حوالي سنة "47 ق، م" "انتيباتر" Antipater بمنصب Procurator على اليهودية، وهو من أصل "أدومي"، والأدوميون عرب في رأي كثير من العلماء، وهو والد الملك "هيرود الكبير" Herod ملك اليهود، ومؤسس أسرة معروفة في تأريخ اليهود4، كما عين رجلًا اسمه Cypros وهو عربي من أسرة كبيرة5. وقد استندت سياسة الرومان ثم سياسة الروم، من بعدهم إلى قاعدة الاستفادة من العرب في حماية المواضع التي يصعب على الرومان أو الروم حمايتها والدفاع عنها، وبذلك مثل تخوم الصحاري، وفي صد هجمات الأعراب المعادين أو الذين يدينون بالولاء للفرس، وفي مهاجمتهم أيضًا ومهاجمة حلفاء أولئك الأعراب المعادين لهم وهم الفرس. وفي أيام "بومبيوس" "بومبي" كان أحد سادات القبائل العربية متحكمًا في البادية المتاخمة لبلاد الشأم، وقد ذكر "سترابون" أن اسمه هو Alchaidamos

_ 1 Dubnow, 11, S., 18 2 Murry, P., 101 3 Arabian, S., 23 4 Die Araber, 1, S. 301, W. Smith, A Dictionnary of The Bible., Vol. 1; 488; 791. 5 A Dictionnary, I, P. 791

وجعله ملكًا على قبيلة دعاها باسم1 Rhanmbaei وقد كان حلفاء الرومان ثم انقض عليهم وعبر إلى العراق، وذلك لإهانة لحقته من الحاكم الروماني أو من القواد الرومان, ويظهر أنه اجتاز الفرات في سنة "46 ق. م" والتجأ إلى "البارثيين"، وقد ذكر بعض المؤرخين أنه كان في السنة "53" قبل الميلاد فيما بين النهرين، وأنه كان يقوم بغارات على حدود الشأم. ويظهر أنه ترك البارثيين بعد ذلك وعاد إلى خلفائه الرومان وقد نعته "ديوكاسيوس" Dio Cassius بالتذبذب وبالانتهازية، وقال عنه إنه كان يتنقل دائمًا إلى الجانب القوي2. وكان "الخديموس" وقد استولى على مدينة "أريتوسه" Arethusa وهي مدينة "الرستن"، وجعلها مقرًّا لحكمه، وتقع على نهر "الميماس" وهو نهر "العاصي"، ويسمى بـ ORONTES عند الكتبة اليونان والرومان3. ولا ندري اليوم متى دخلت في حكمه، ويظهر أن حكمه دام طويلًا إذ كان لا يزال في الحكم في الفترة الواقعة فيما بين السنة "46" والسنة "43" قبل الميلاد4. وذكر أنه كان لهذا الملك ولد اسمه "أيامبليخوس" lamblichos = Jamlichus وكان عاملًا على شعب Emesener وقصد "سترابو" بشعب "ايميسنر" الناس الساكنين في أطراف المدينة، أي أطراف مدينة Emesa: Emessa، وهي حمص5. وقد ساعد "ايامبيليخوس" "المتوفى سنة 31 ق، م"، حكام "رومة" ضد "البارثيين" "البرث" "الفرث" Parther فقدم لهم مساعدات مهمة ولا سيما بالنسبة إلى "أوكتافيوس أغسطس"6 Octavianus Augustus. وقد ساعد الملك "اكبروس" "أكبر" Acbarus الذي حكم "حمص" بعد

_ 1 Strabo, 16, 753, Die Araber, 1, S., 179 2 Dio Cassius, 40, 20, 1, f., Die Araber, 1, S.; 180 3 Ency., 11, P., 309 4 Die Araber, 1, S., 356 5 Die Araber, 1, S., 144 6 Arabian, S., 23

هذا الملك بأمد، الرومان أيضًا في كفاحهم للبارثيين، وذلك سنة "49" بعد الميلاد1. ولم يكن لهؤلاء الملوك من خيار في سياستهم سوى الانحياز إلى الرومان؛ لأنهم كانوا أقوياء، وقد هيمنوا على بلاد الشأم. ولا نعرف في الوقت الحاضر شيئًا عن الملك "الخديموس"، ولا عن قبيلته Rhambaei، أما عن اسم الملك فيظهر أنه محرف عن أصل عربي هو "الخدم" أو "جديمة" أو "خضم" أو "الخضم"2 وهي من الأسماء المعروفة التي ترد في كتب أهل الأخبار3. أو "الخطيم" وهو اسم معروف أيضًا، ورد في أسماء العرب4، أو اسمًا عربيًّا آخر ابتدأ بـ "ألـ" أداة التعريف. وأما عن اسم Rhambaei، فيظهر أنه محرف عن تسمية عربية هي: "رحبة" أو "رحاب" أو ما شاكل ذلك5، وترد لفظة "رحبة" كثيرًا في العربية اسم موضع من المواضع، فلعل هذه القبيلة كانت تقيم في موضع اسمه "رحبة" فعرفت به. ويظهر من هذا الخبر أن القبيلة المذكورة كانت في جملة القبائل العربية التي كانت قد زحفت قبل الميلاد إلى بلاد الشأم، واستوطنت في أطراف "حمص"، وتقدمت بعضها فنزلت في أماكن أبعد من هذا المكان إلى الشمال، حيث المراعي والكلأ والماء، وكانت كلما وجدت ضعفًا في الحكومات الحاكمة لبلاد الشأم، انتهزت فرصته فتقدمت إلى مواضع أخرى في الشمال، حيث يكون الخصب والماء. وأنقذ العرب "يوليوس قيصر" Julius Caesar من المأزق الحرج الذي وقع فيه، وهو يهم بالقبض على ناصية الحال في الإسكندرية عام "47 ق، م" وإذ أرسل الملك "مالك" Malchu، وهو "مالك الأول بن عبادة"، نجدة مهمة، ساعدته على إنقاذه من الوضع الحرج الذي كان فيه6. كما أنجدوا

_ 1 Arabian, S., 23 2 Sarre und Herzfeld, Arch. Reise, 1, S. 119, 11, 105, Die Araber; 1; S. 150; M. Udzbarskl, Epyememris, 3, 164 3 الاشتقاق "227" 4 الاشتقاق "167" 5 Sarre und Herzfeld, Arch. Reise, 1, S. 119, 11, 105 6 Muryy, P., 102

"هيركانوس" الذي فر من القدس إلى "بطرا" حينما ظهرت أمام العاصمة طلائع الفرثيين1. ولما استولى "أغسطس" على مصر، وجعلها تابعة لحكم قياصرة "رومة"، أمر بإصلاح ما كان قد فسد بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية السيئة التي حدثت في أيام البطالسة، فأصلحت الطرق، وطهرت القناة وعني بالتجارة البحرية وبمياه البحر الأحمر التي غصت بلصوص البحر. وأوعز إلى حاكم مصر "أوليوس غالوس" Aelius Gallus بغزو جزيرة العرب، للاستيلاء عليها وعلى ثروتها العظيمة التي اشتهرت بها من الاتجار بالمر واللبان والبخور والأفاويه، وللقضاء أيضًا على لصوص البحر الذين كانوا يحتمون بسواحل الحجاز واليمن، وللهيمة على البحر. وقد أمر بوضع حراس على ظهر السفن التي تجتاز البحر الأحمر، لحمايتها، من أولئك اللصوص2. لم تكن الأوضاع في القرن الأول حسنة في "مصر"، فقد كان حكم البطالمة حكمًا ضعيفًا هزيلًا، ألهاهم عن التجارة البحرية وعن الاهتمام بالبحار, فقل عدد السفن الذاهبة إلى المحيط الهندي، وتزايد عدد لصوص البحر، كما أن الصراع الذي كان في "رومة" على الحكم أثر في مستوى مشترياتها من مصر، وقد أثر ذلك بالطبع في الوضع الاقتصادي في مصر، وفي مستوى الأسعار ولا سيما في "الإسكندرية" "بورصة" العالم في ذلك العهد، لذلك أحدث فتح "يوليوس قيصر" لمصر تغييرًا في الأوضاع هناك نراه بارزًا في هذا "المشروع" الضخم الذي أراد "أوغسطس" "31 ق. م - 14 ب، م" القيام به، وهو الاستيلاء على جزيرة العرب وضمان مصالح "رومة" في ذلك الجزء من العالم، وجعل البحر الأحمر بحرًا رومانيًّا. ولو تم ذلك "المشروع" على نحو ما حلم به "أغسطس" كان حكم "رومة" الفعلي قد بلغ العربية الجنوبية، وربما سواحل إفريقيا أيضًا إلا أن سوء تقدير الرومان له، واستهانتهم بطبيعة جزيرة العرب، وعدم إدخالهم في حسابهم قساوة الطبيعة هناك، وعدم تمكن الجيوش النظامية من المحاربة فيها وتحمل العطش والحرارة الشديدة، كل هذه الأمور أدت إلى خيبته منذ اللحظة

_ 1 Dubnow, 11, s. 250 2 O'Leary, P. 74, Pliny, 11, p. 415, 6, 101

التي شرع فيها في تنفيذه، فكانت انتكاسة شديدة في هيبة "رومة" وفي مشاريعها التي رسمتها وأرادت تنفيذها في جزيرة العرب. وقد وصل إلينا وصف تلك الحملة لكاتب جغرافي شهير أسهم فيها في رأي بعض الباحثين، فحصل على معارفه عن العرب وعن بلادهم من مشاهداته أيضًا فضلًا عن سمعه، وأعني به "سترابون" الذي قال في مطلع وصفه للحملة التي قام بها الرومان على بلاد العرب، بقيادة "أوليوس غالوس"، أشياء كثيرة عن خصائص تلك البلاد، لقد أرسله "أغسطس قيصر" للبحث عن الشعوب والأماكن التي فيها، وعن حدود بلاد الحبش، وأرض Troglodytes المقابلة لبلاد العرب، والأقسام المجاروة من الخليج العربي التي يفصلها عن العرب مضيق ضيق، لعقد معاهدات معها أو احتلالها، لقد سمع أنها غنية جدًّا؛ لأنها تقايض التوابل بالذهب والفضة والأحجار الكريمة؟ وأنها لا تحتاج إلى استيراد الأشياء من الخارج. فأراد إما أن يكون منهم أصدقاء أغنياء، وأما أن يحتل بلد أعداء أغنياء1. فهذه هي الأغراض التي توخاها قيصر "رومة" من توجيه حملته إلى جزيرة العرب في القرن الأول للميلاد، و"رومة" جائعة نهمة تريد المزيد من تجارة البحار الجنوبية بالمجان أو بأرخص الأسعار. وقد وضع القيصر آماله في تحقيق هذا المشروع على النبط الذين كانت تربطهم بالرومان معاهدة تحالف منذ احتل الرومان بلاد الشأم، ومن جملتها فلسطين، فأصبحوا بذلك على اتصال بالنبط، وكان ملكهم إذ ذاك "عبادة الثاني ObadasII" 28- 9 ق. م" وقد وعد الرومانيين خيرًا، وعدهم بتقديم كل المساعدات لهم، وبإرسال المرشدين إليهم لإرشادهم إلى أهدافهم، وبتقديم الرجال لشد أزر الرومانيين، وبوضع وزيره المدعو Syllaeaus تحت تصرفهم ليكون لهم دليلًا ومستشارًا2. وبعد إعداد الحملة وتهيئة السفن التي كان ينبغي أن تنقل رجالها وعدتهم عشرة آلاف جندي، جمعوا من مصر من المصريين والرومانيين ومن لفيف غيرهم، أركبوها من ميناء على الساحل المصري للبحر الأحمر، لتتجه بهم إلى ميناء "لويكة

_ 1 Strabo, XVI, 22, vol. III, P. 209, Pliny; 6; Dio Casslusi 53; 3-8; Die Araber; 11; S. 49 2 لعله تحريف "صالح".

كومة" حيث ينضم إليهم نبط وغيرهم، ثم يتجهون برًّا إلى اليمن، إلا أن الحملة لم تكن منظمة منسقة مدروسة دراسة دقيقة إذ تحطم عدد كبير من سفنها في أثناء محاولة قطعها البحر من الجانب المصري إلى الساحل العربي المقابل له، لعدم ملاءمتها لمثل هذه المهمة التي أوكلت إليها، وبعد مشقات وأهوال وصلت السفن السالمة بعد خمسة عشر يومًا إلى "لويكة كرمة"، تحمل على ظهرها جنودًا منهوكين من قطع البحر على سفن لم تكن ملائمة لمثل هذا النقل، وقد عزا "سترابون" هذه الخسارة التي لحقت برجال الحملة إلى "صالح" Syllaeus الذي غش -على زعمه- القائد، فأعمله بتعذر الوصول من البر، لعدم وجود عدد كاف من الجمال، ولعدم وجود طرق برية صالحة لمرور هذا الجيش1. والذي أراد بذلك إضعاف الرومان وإذلالهم، وإضعاف القبائل ليكون سيد الموقف فيدبر الأمور بنفسه، ويكون السيد المتصرف وحده في الأمور2. ولما وصل "أوليوس غالوس" بجيشه إلى ميناء "لويكة كومة"، كان المرض قد فتك به، لأسباب عديدة منها فساد الماء والطعام، وسوء الغذاء فاضطر إلى قضاء الصيف والشتاء فيه، حتى استراح الجيش وتعافى من المرض الذي ابتلي به. ويظهر أن الرومان كانوا قد هيمنوا على هذا الميناء أمدًا، أو احتلوه إذ ورد في الأخبار أنهم وضعوا فيه حامية رومانية Centurio، لحماية السفن من لصوص البحر. ولحماية الطرق البرية من قطاع الطرق واللصوص في البر. كما أنهم أنشئوا لهم فيه دائرة لجباية المكس من السفن والتجار، وقد تقاضوا ما مقداره "25%" من أثمان البضائع التي تدخل الميناء3. وميناء "لويكة كومة"، ميناء النبط الأعظم، منه تنقل البضائع الواردة بطريق البحر إلى "بطرا" "بترا" PETRA ومنها إلى موضع "رينوكولورا" RHINOCOLURA في "فينيقية" على مقربة من مصر، ثم إلى الشعوب الأخرى.

_ 1 Strabo, XVI, IV, 23, J. Plrenne, Le Royaume, Sud-Arabe de Qataban et sa Datation, (1961) , 93-124 2 Strabo, XVI, IV, 24 3 Sprenger, Alte Georgr., S., 28

ومنه أيضًا إلى سواحل مصر على البحر الأحمر حيث تنقلها القوافل إلى نهر النيل، ثم إلى الإسكندرية1. فهو ميناء مهم لتصدير التجارات، واستيرادها في أرض النبط. وميناء Leulke Kome "لويكة كومة" هو "الحوراء" أو "ينبع" على ساحل الحجاز، وقد كان من الموانئ المهمة في تلك الأيام2. وسوف أتحدث عنه في موضع آخر من هذا الكتاب. وقد ظن "أوليوس غالوس"، أنه سيلاقي من العرب مقاومة شديدة في البحر، لذلك قرر بناء أسطول قوي يتألف من ثمانين سفينة كبيرة محاربة ومن عدد من السفن الخفيفة، وشرع بإعداده في ميناء "قفط" "قفطس" بـ Kleopatris على قناة النيل القديمة، ولما تبين له من الاستخبارات، أن العرب لم يكونوا يملكون أسطولًا، وأنهم لا يستطيعون مقاومة الرومان، أسرع فنقل جيشه على ظهر "130" سفينة نقل إلى ميناء "لويكة كومة" وكان في هذا الجيش الذي بلغ عدده عشرة آلاف محارب، ألف من النبط و "500" من اليهود3. وفي ميناء "لويكة كومة" تجمع جيش الحملة، ومنه تقدم "أوليوس غالوس" نحو اليمن، فدخل أولًا أرضًا لم يذكر "سترابون" اسمها، وإنما ذكر أنها كانت أرض ملك يدعى Aretas أي "الحارث" وكان من ذوي قرابة "عبادة" Obadas ملك النبط، وقد استقبل الرومان استقبالًا حسنًا، ورحب بهم، ومنها سار في أرض وعرة قليلة الزرع والأشجار مدة ثلاثين يومًا إلى أرض مأهولة بالأعراب تدعى "أرارين" "عرارين" Ararene، عليها ملك اسمه Sabos قطعها "غالوس" في خمسين يومًا حتى بلغ مدينة تدعى "نجراني" NEGRANI، ومنطقة خصبة مزروعة آمنة، هرب ملكها، وأخذ الرومان مدينته، وبعد مسيرة ستة أيام عنها بلغ نهرًا جرت عنده معركة خسر فيها المهاجرون عشرة آلاف رجل. أما الرومان فلم يخسروا غير رجلين، ومرد ذلك في زعم "سترابون" إلى تفوق الرومان في أساليب القتال وفي عدد الحرب التي لديهم،

_ 1 Strabo, XVI, 24 2 Arabien, S., 4, 29, 44 3 Araber, II, S, 49. F

في حين تعوز أصحاب الأرض المالكين الخبرة في القتال، والتمرين في استعمال ما عندهم من أسلحة تتألف من السهام والرماح والسيوف وآلات القذف والفئوس ذوات الرأسين. وأعقب هذه المعركة سقوط مدينة "أسقه" Asca، التي سلمها الملك، ومدينة "اترله" ATHRULA التي سلمت من غير مقاومة، فوضع فيها حامية، واشتغل بجمع الحبوب والثمر. ثم توجه إلى مدينة Marsybae= Marsiaba، مدينة الـ Rhammanitae الخاضعين للملك llassarus وقد حاصرها ستة أيام ثم دخلها، غير أنه تركها لقلة المياه فيها1. وعلم من الأسرى أنها تبعد مسيرة يومين فقط عن أرض التوابل، وكان هذا الموضع آخر ما بلغة الرومان في الجنوب2. وقد قطع الجيش الطريق بين "لويكة كومة" ومدينة Marsiaba في أشهر أما في عودته، فقد قطعها في مدة أقل من هذه المدة بكثير، فبلغ مدينة Negrana في تسعة أيام، وهناك نشبت معركة بين الرومان والعرب، وغادرها "أوليوس غالوس"، فبلغ بعد مسيرة أحد عشر يومًا موضعًا يعرف بـ"الآبار السبع" لوجود آبار فيه. ثم قطع بادية فوصل إلى موضع Chaalla وموضع آخر يدعى Malothas يقع على نهر، وقطع بادية أخرى، قليلة المياه وانتهى إلى قرية3 Egra من قرى أرض "عبادة" Obadas وتقع على ساحل البحر. وقد قطع هذه المسافة كلها في ستين يومًا، ومن مدينة Egra = negra عاد "أوليوس غالوس" برجاله إلى مصر، فبلغ "ميوس هورمس" Myus Hormus في أحد عشر يومًا، وسار بمن بقي من رجال هذه الحملة على قيد الحياة، من هذه المدينة على ساحل مصر الشرقي إلى مدينة "قفط" Captus = Koptus ومنها إلى الإسكندرية4. نرى من خير "سترابون" عن حملة "أوليوس غالوس" أن أول موضع نزل فيه الجيش الروماني في بلاد العرب، وهو فرضة "لويكة كومة" ففي هذه

_ 1 Strabo, XVI, IV, 24, "Marsiaba", Sfclzze, n, S.; 48 2 Strabo, XVI, IV, 24 3 وقرأها بعضهم "نيرا" nera و Egra وغير ذلك لاختلاف النسخ. راجع: وStrabo, vol, III, P. 212, "Bohn's classical Library", note "I, Glaser: Skizze: 11, S. 48, Pliny, VI, 159-162 4 Srtabo, XVI, IV, 24, Die Araber, 1, 97

الفرضة أنزل الجيش، وفيها استراح، ومنها اتجه في سيره لتحقيق الغاية التي من أجلها جاء، وأما الميناء الذي أبحرت منه هذه الحملة المخفقة، فكان ميناء "أكرا" Egra أو "نيكرا" NEGRA "نيرا" Nera NERACOME NeGra KOME بحسب اختلاف القراءات. ويرى "فورستر أن Nera أو Negra هي "ينبع" الفرضة الشهيرة وفيها عيون عذاب غزيرة1، وهو الميناء الثاني في الحجاز في الزمن الحاضر، وميناء "المدينة"2، ويرى أن كلمة "نيرا" اليونانية تعني "ينبع" في العربية، ولذلك يعني Nera Kome في العربية "مدينة ينبع" وأن Nera Kome التي أبحر منها اليونان هي ينبع، لا مكان آخر في رأي هذا الباحث3، وأما "كلاسر" فلم يتأكد من موضع Egra، أما "شبرنكر" فيرى أنه "عويند" الواقع على خط عرض "27" درجة وخمس ثوان4، وأما "فلبي" فيرى احتمال كونه "مدائن صالح"5 وهو رأي يتعارض مع قول "سترابون" أن Egra هي في أرض "عبادة" وعلى ساحل البحر. ومنها أبحر رجال الحملة إلى مصر6. ويذهب البعض أن قرية Egra هي "الحجر" وهي بعيدة بعض البعد عن ساحل البحر. ويرى أنها كانت متصلة بميناء عرف باسمها أيضًا، كما أن ميناء "مدين" عرف باسمها أيضًا، ويرى أنه "الوجه" في الوقت الحاضر7. وبزعم "سترابون" أن الإصابات التي أصابت الرومانيين، إنما هي من الأمراض والأوبئة ومشقات الطرق، أما من المعارك فلم يتكبدوا فيها إلا سبع إصابات8. وفي زعم "سترابون" المذكور مبالغات ولا شك، إذ كيف يعقل عدم تكبد الرومان خسارة ما، مهما قيل في تنظيم الجيش وحسن تدريبه؟ وقد أشار في كلامه على إحدى المعارك، والتي هاجم فيها العرب والرومان، إلى

_ 1 البلدان "8/ 526"، فؤاد حمزه "ص 46، 72، 73، 95" ومواضع أخرى. 2 حافظ وهبة "ص 16 ومواضع أخرى". 3 Forster, II, P., 293 4 Glaser, Sklzze, II, B., 63 5 Philby, Backround, P., 101 6 Strabo, HI, P., 213 7 Die Araber, 1, 97, W. W. Tarn, in: Journal Egypt. Archeol. 15, 1929, 17 8 Strabo, XVI, IV, 24, Vol., m, P., 213

أنهم تكبدوا عشرة آلاف قتيل على حين خسر الرومان قتيلين اثنين فقط1، وفي هذا القول وحده ما فيه من مبالغة ظاهرة. لم يذكر "سترابون" -وهذا أمر يؤسف عليه جدًّا- من أسماء المواضع التي مر بها الرومان، أو من أسماء القبائل التي اتصلوا بها، أو اصطدموا بها، غير ما ذكرت، وهو شيء قليل جدًّا، لا يتناسب أبدًا مع أهمية تلك الحملة التي قضت أشهرًا في بلاد العرب، خاصة إذا ما تذكرنا أن الرجل كان سائحًا وكاتبًا وجغرافيًّا ومؤرخًا، وكان صديقًا لقائد الحملة، ومدافعًا عنه، وقد كان نفسه من المشاركين في الحملة، في رأي بعض الباحثين2. وما ذكره في الجملة عن بلاد العرب، ويدل على أن معارفه عن جزيرة العرب محدودة، وقد استقاها من كتب من تقدمه من المؤلفين أو من السياح والملاحين والتجار من غير تدقيق أو نقد، وأعتقد أن أقدامه لم تطأ أرضًا في جزيرة العرب، وليس هنالك من شاهد يثبت اشتراكه في هذه الحملة، ولست أعتقد أن لدى القائلين باشتراكه فيها دليلًا قويًّا يثبت ذلك الرأي. ولعله نقل ما قصه عن الحملة من تقرير قدمه إليه صديقه "أوليوس غالوس" أو أحد الذين اشتركوا فيها. وترتب على قلة أسماء المواضع التي ذكرها "سترابون" في خبر هذه الحملة صعوبة إدراك الطرق التي سار عليها "أوليوس غالوس" إلى موضع وصوله Marsiaba، وهو آخر ما وصل إليه، ثم الطرق التي سلكها في رجوعه حتى موضع إبحاره إلى مصر، وأبرز اسم بين هذه الأسماء التي ذكرها "سترابون": Negrani = Negrana أي "نجران" في رأي أكثر الباحثين3. وبين "لويكة كومة" و "نجران" مواضع كثيرة، وأرضون واسعة، لم يذكرها "سترابون"، وكل ما ذكره هو أن الجيش دخل بعد تركه ميناء "لويكة كومة" أرض ملك يعرف بـ"الحارث" Aretas ثم أرضًا يقطنها الأعراب، وهي صحراوية في الأكثر، تعرف باسم "أراربن"4 Ararene،

_ 1 Strabo, XVI, IV, 24, Glaser, SMzze, 11, s.; 50 2 O'Leary, p. 75 3 Glaser, Skizze, n, 48, O'Leary, P. 78; Beltrage; a 31 4 Strabo, XVI, IV, 24, VOL., m, P., 212

وقد ذهب "الحارث" إلى ربه، وذهب معه "سترابون" فأي أرض قصدها صاحب خبر هذه الحملة التي تعود إلى "الحارث"؟ وأي أرض هي Ararene؟ لقد ورد في الكتب الإسلامية اسم قبيلة تعرف بـ "بني الحارث بن كعب"، وذكرها الهمداني وذكر مواضعها1، وتقع شمال "نجران" إلى وادي تثليث، ويرى "كلاسر" أنها الأرض التي قصدها "سترابون" وإن "الحارث" Aretas هو "الحارث بن كعب"، وهو كناية عن جد هؤلاء الذين أصبحوا في الإسلام يسمون "بني الحارث بن كعب"2. وأرى أن Aretas هو اسم ملك كان يحكم منطقة نزل فيها الرومان، وأنه رجل كان حقًّا من ذوي قرابة "عبادة" ملك النبط، وأن الرومان عرفوا اسمه ولم يعرفوا اسم أرضه الواسعة فنسبوها إليه، فقالوا: أرض Aretas كما يقول العوام في العراق عن نجد والمملكة السعودية، "أرض ابن مسعود" أو "قيعان ابن مسعود"3 أو كما يقولون حتى اليوم لأرض قبيلة من القبائل "أرض فلان" ويذكرون اسمه، لاشتهاره ولقوة شخصيته. وقد ذهب "كسكل" إلى أن المراد بأرض Aretas "الحارث" مملكة لحيان، وقد كانت هذه المملكة لا تزال -على رأيه- قائمة في هذا العهد، فجاء إليها الرومان وذهبوا منها نحو الجنوب في اتجاه اليمن، غير أن بعض الباحثين يعارضون رأيه هذا؛ لأنهم يرون أن مملكة لحيان لم تكن قائمة موجودة في هذا الوقت، أي في حوالي السنة "25 ق. م"4. ويرى "كلاسر" أن Ararene، هي "عراعران" "عراعرين"، وهو موضع ذكره "الهمداني" في كلامه على "سروم" من ديار جنب قبل "القرحاء"5 وأن Sabus هو تحريف "شعب" أي قبيلة، وإما النهر. الذي نشبت عنده معركة قتل فيها على زعم "سترابون" عشرة آلاف قتيل، فهو "غيل الخارد" في الجوف6. وعلى هذا يكون الروماني قد دخل الجوف وسار إلى مدن Nescus

_ الصفة "ص 116". 2 Glaser, Skizze, II, S,, 52 3 ينطقون القاف، "كاف" أعجمية ك. 4 Die Araber, I, S. 96, Caskel, Liyan, S. II. f 5 الصفة "ص 115". 6 GLaser, skizze, II, II s, 55, 61

Aska= Asca= Nesca، وهي "نشق" المعينية القديمة. و Atroula و1 Marsiaba Athrulla، والجوف هو موطن المعينيين فلما غلبهم السبئيون على أمرهم، أصبحت السيادة عليه لسبأ قبل مدة طويلة من وصول الرومان إليه، ويظهر أن السبئيين كانوا يتصورون أن الرومان يسلكون الطريق التي هي إلى الغرب. فلما سمعوا أنهم سلكوا طريقًا تقع إلى الشرق، أسرعوا إلى الجوف، لمنعهم من الزحف إلى العاصمة، ويرى "كلاسر" أن الرومان سلكوا في مسيرهم إلى اليمن طريقًا تقع على حافات "السراة" الشرقية، وذلك ليتجنبوا الاحتكاك بالقبائل الساكنة على الطريق التجارية التي تسلكها القوافل التجارية2. ويعارض رأي "شبرنكر" الذي يذهب إلى أنهم سلكوا طريق وادي إضم إلى المدينة "ومنها إلى نجد فالفلج" ومنه إلى نجران3، أما "فورستر"، فيرى أن الرومان بعد أن نزلوا "لويكة كومة"، وهي في نظره "الحوراء" سلكوا طريق "يثرب" ثم اتجهوا إلى "القصيم" حيث دخلوا قلب نجد، ثم عقبوا بعد ذلك الطريق المؤدية إلى اليمن، فساروا في اتجاه نجران، ومنها دخلوا اليمن، فاصطدموا باليمانيين على نحو ما قصه علينا "سترابون" و"بلينيوس"4. ولما عادوا سلكوا طريقًا أخرى أقصر. وفرت عليهم بعض الزمن، مروا بنجران، ومنها إلى "الآبار السبع" "العيون السبع" وهي "الحصبة"، وهو موضع يقع على مسافة "150" ميلًا إلى الغرب من نجران، ومنه إلى موضع Chaala، وهو "خولان" في بلد "خولان" ومنه إلى Malotha، وهو مدينة تقع على نهر وادي "ضنكان"5 ويرى أن Malotha هي "تبالة" ومن "تبالة" إلى "ينبع" حيث أبحر من بقي حيًّا من الرومان إلى مصر6. وذكر "سترابون" أن موضع "الآبار السبع" إنما دعي بهذا الاسم لوجود

_ 1 Die Aratoer, II, S, 50 2 Glaser, SHzze, H, B., 62 3 Glaser, Skisae, H, S. 54 4 IbId,II, S, 50,Forster,n,P..303 5 وهو واد في أسافل السراة يصب في البحر. وهو من مخاليف اليمن، البلدان "5/ 442". 6 Forster. n, PP.. 328

آبار فيه1. ومن الصعب جدًّا في الزمن الحاضر البت في موضع هذا المكان، أما "فلبي"، فيرى أنه أرض "خيبر" التي اشتهرت بكثرة مياهها، أو موضع "بيشة" وأما Makothas و Chaalla فيرى "فلبي" أنها موضعان غير معروفين، ويصعب تعيينهما في الزمن الحاضر2 وتفصل بين "الآبار السبع" و Chaala صحراء و Chaala قرية تليها قرية أخرى هي Malothas وتقع على نهر3. ويرى "كلاسر" احتمال كون Chaalla، موضع "كهالة" أو موضع ما يدعى، بـ"حوالة" وهو -في نظره- موضع Achoali في تأريخ "بلينيوس"4 وأما Malothas، القرية التي تقع على نهر، فيرى أن من الصعب تعيين موضعها، ولكنها تقع على وادي "بيشة" على كل حال5. و"كهالة" موضع من المواضع المعروفة في اليمن، وبه مياه6 ولا يمكن أن يكون المكان الذي قصده "سترابون"؛ لأن ذلك المكان بعيد عن "الآبار السبع" وتقع "الآبار السبع" على مسيرة أحد عشر يومًا عن Negrana أي "نجران" فيقع مكان Chaalla إذن شمال "الآبار السبع" أي أبعد منه عن "نجران" فهو إذن من الأماكن التي يجب البحث عنها في الحجاز. وسجل خير حملة "أوليوس غالوس" على اليمن باختصار رجل آخر مات بعد "سترابون" "المتوفى عام 24 ب. م" بمد قصيرة، وهو "بلينيوس" المتوفى سنة "79 ب. م"7، وقد أشار في مطلع حديثه عن الحملة إلى أن "أوليوس غالوس" كان الروماني الوحيد الذي أدخل محاربي "رومة" جزيرة العرب، وقد خرب مدنًا، ولم يرد ذكرها في كتب من تقدمه من المؤلفين

_ 1 Strabo, m, P., 212 2 PhUby, Backrouaa, P., 101 3 Strabo, HI, P., 212 4 Glaser, Sklzze, II, S., 63 5 Ibid, 6 الصفة "ص188، 201" البكري، معجم "482:، "طبعة وستنفلد". 7 H. Rackham, Pliny, Natural History, Vol.,I,P.,VII," " "Leob Classical Library"

ولذلك ذكرها، وهي: Negrana و1NestusوNesca و2MAGUSUS و3Caminacus و4Labaetia و5Mariba التي يبلغ طول محيطها ستة، أميال و Caripta، وهي أبعد موضع بلغه "غالوس"6. أما "ديوكاسيوس" Dio Cassi، فيرى أن مدينة Adula هي آخر موضع بلغه الرومان7. وNegrana، هي نجران كما ذكرت سابقًا، أما Asca و NESCA و Neska فمدينة "نشق" وتعرف اليوم بـ"البيضاء"8 وأما Magusum = Magusa فيرى "كلاسر" أنها قريبة من "مجزر"، وهو موضع يقع جنوب "البيضاء" أو "مجزع"، أو "مجزأة" 9، وأما "كروهمن" Grohmann فيرى أنها قرية "مجزرة" المعروفة حتى هذا اليوم، وهي في موضع ذي مياه، وقد كان مأهولًا وما زال. لذلك رأى أنه ذلك المكان الذي قصده "بلينيوس"10. وأما Caminacum، فهو قريب من "كمنة" "كمنهو" الواردة في المسند، و"كمنا" في الزمن الحاضر11، ويقع شرق "البيضاء" وشمال شرقي "مجزر"12، وأما Caripeta فيرى "كلاسر" أن هذه التسمية قريبة من "خربة" العربية، وأن "بلينيوس" الذي أوردها إنما أراد إحدى المدن، التى كانت خربة في ذلك العهد13، ويذهب "فلبي" إلى الرأي أيضًا، ويرى احتمال كون Caripeta موضع "خربة سعود" وذهب بعض آخر إلى

_ 1 "tAmnestrums", "sNestrum", "Nestum", Skizze, n, S., 56, 61; "Nestum"; Pliny; n, P., 458 2 "Masugum", Magusum", Glaser, Sklzze, II, S., 56, 61 3 Pliny, n., P., 458, "Caminacum", Glaser, Sklzze, II; B.; 56; 61. 4 "Labecias", "Labetia", "Labaetiam", Glaser, Sklzze, II, S., 56; 61; Pliny; II; t P.; 458 5 "Maribara", "Mariva", Skizze, S. 56, 61, Pliny, II; P. 458 6 Pliny, H, P., 458. f., Bk. VI, 160 7 Glaser, Skizze, n, 8., 56 8 Glaser, Skizze, II, S., 61, Beltrage, S., 31 9 Glaser, Skizze, II, 61, Beitrage S. 31 10 Beitrage, S., 15 11 الصفة "167" 12 Glaser, Skizze, II, 61, Beitrage, 8. 31 13 Glaser, Skizze, S., 58

إنها موضع "حريب" ويسمى بـ"أساحل" في "رغوان"1. ويرى "شبرنكر" أن Labetia أو Labecia إنما هي "لقبق". أما "كلاسر"، فيرى أنها "لوق"، وهو موضع خربة في "شحاط" عند جبل "قدم" على مسيرة ساعتين من شمال شرقي معين، أو قاع "لبة" غرب البيضاء2، وأن Nestum هي "نسم"3، أو "وادي وسط"، الواقع بين الحب والجوف، أو "وادي وسطر"4 أو "نشان" "نشن"، المدينة المعينية القديمة5، أن Marsiaba، أو Mariva، إنما هي Mariba لدى "سترابو" أي "مأرب" في رأي بعض الباحثين، أما "كلاسر" فيرى أن الرومان لم يتمكنوا من الوصول إلى مأرب، وأن MARSIABA, أو MARIVA أو MARIABA، لا يقصد بها مأرب عاصمة سبأ، وإنما هي موضع آخر في الجوف6، فلو كانت هي عاصمة سبأ، لما ذكر "سترابون" أنها عاصمة شعب يعرف باسم Rhamanitae كما يحكمه ملك، يسمى llasaros وفي ذلك دليل عى أنها مأرب أخرى، لا مأرب السبئيين7. وllasaros من الأسماء العربية، ولا شك، وقد صحف على ما يظهر، فصار بهذا الشكل. والظاهر أنه "الشرح" "اليشرح" في الأصل, وقد رأينا أن عددًا من ملوك العرب، الجنوبيين عرفوا باسم "الشرح"، وقد يكون سيد قبيلة من القبائل الكبيرة، اسمها Rhamanitae على حد قول "سترابون". ولسنا نعلم على وجه التحقيق من هم Rhamanitae الذين كان يحكمهم "الشرح" وقد رأى "فلبي" احتمال كونهم "ردمان" أو "ريمان"8. وإذا أخذنا بهذا الرأي، وجب القول إن Marsiaba هي مدينة أخرى، لا "مأرب" عاصمة سبأ كما ذهب "فلبي" إلى ذلك و "ردمان" من الأسماء المشهورة

_ 1 Philby, Sheba's P. 10, BeltrSge, S.31 2 Glaser, Skizze, II, S. 61, Beltrfige, S.31 3 الصفة "167" 4 Glaser, Skizze, n, S., 62 5 Beltrfige, s. 31 6 Glaser, Skizze, s., 58 7 Glaser, Skizze, s., 62 8 Phily, Background, P,98

المعروفة. وقد ورد في الحديث: "أملوك ردمان"، أي مقاولها1، وقد ورد اسم "ردمان" في مواضع عديدة في كتاب "صفة جزيرة العرب"2. كما أن "ريمان" من الأماكن الشهيرة كذلك وهو مخلاف باليمن وقصر3. وأما "كلاسر" فقد سبق أن ذكر جملة أسماء تحتمل في رأيه أن تكون لها علاقة باسم هذه القبيلة, وهو يرى أيضًا احتمال كون الاسم Rambanitae بدلًا من Rhamanitae، وأما الأسماء التي ذكرها، فهي: "رغوان"، و"رابن" "رأبان" "ربان" و "رحبة" "رحابة"، و"ريمان" و "غيمان" و"ردمان"4، أما "رابان" "ربان" و "ردمان"، في أسماء القبائل أيضًا، ويرى أن موضع "ردمان" هو إلى الجنوب من الأماكن التي بلغها الرومان، ولذلك استبعد اسم "ردمان" من هذه الأسماء، ثم استبعد كذلك "غيمان" و "ريمان" و"رحبة" أيضًا"، فلم يبق لديه من هذه الأسماء إلا "رغوان" و "رابن" "رابان". أما موضع "رغوان" فيرى أن مكانه ملائم تمام الملاءمة، إلا أنه لم يثبت عنده أنه اسم قبيلة، فرجح اسم "رأبان" عليه، وهو اسم قبيلة ورد في نصوص المسند، ورد مثلًا في نص5: "Glaser 302" ويعود إلى أيام "ملوك سبأ" وكانوا من المعاصرين لمملكة "سمعي"، ويرى أن الرأبانيين كانوا قد حافظوا على استقلالهم، فكانت لهم مملكة في أيام "أوليوس غالوس" والظاهر، أنها حلت محل "سمعي" غير أن هذا لا يعني أنها كانت مملكة بالمعنى المفهوم، بل كانت مشيخة أو إمارة يتمتع ساداتها بلقب "ملك"، وكانت تابعة لمملكة "سبأ وذي ريدان"6. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن llasaros هو "الشرح يخضب" وكان إذ ذاك في نزاع وصراع مع "ذي ريدان" أي الحميريين الذين كانوا قد ظهروا للوجود، وأخذوا ينازعون الأسرة السبئية الحكم منذ حوالي سنة "100 ق. م" وذلك في عاصمتهم "ظفار"، ومن مقرهم في حصن "ريدان" فكان غزو

_ 1 منتجات "ص 76" البلدان "4/ 244". 2 الصفة "55، 80، 93، 94، 95، 102، 103، 107، 109، 135". 3 البلدان "4/ 351"، الصفة "71، 75، 100، 125، 224". 4 Glaser, Skizze, H, S., 59 5 Glaser, Skizze, II, S., 59 6 Glaser, Skizze, II, S., 60

"أوليوس غالوس" لليمن في وقت ملائم جدًّا للرومان، ولكن ظروفًا أخرى عاكستهم فاضطرتهم إلى التراجع والعودة فتمكن بذلك "الشرح" من التغلب على خصومه1. وقد ذهب "فون وزمن" إلى أن مدينة Marsaiba / Marsiaba هي "مأرب"، وقد حرفت وتحولت من Marsaiba، حتى صارت على الشكل المذكور، وقد ذكر "سترابون" أن "أوليوس غالوس" حاصرها مدة ستة أيام، ثم رفع الحصار عنها لقلة مياه الشرب، واضطر بذلك إلى التراجع2. وأما شعب Rhamanitai / Ramanitai فإنه "ريمان" وريمان قبيلة عربية ورد اسمها في عدد من كتابات المسند، ويرى "فون وزمن" أن الرومان أخطئوا في اسم الشعب؛ وذلك لأن قيلًا من أقيال هذه القبيلة كان هو المدافع عن "مأرب" في ذلك الزمن وقد سمعوا باسمه، فظنوا أن ريمان اسم أهل مأرب، ولذلك جعلوا "مرسيابة" عاصمته وصيروا llassaros ملكًا من ملوكهم من جراء وقوعهم في هذا الوهم3. وذهبت "بيرين" Pirenne إلى أن Marsiaba والصور الأخرى للكلمة، إنما حدث من تحريف وقع في اليونانية، وأن الأصل "مأرب سبأ"، فحرفها اليونان إلى Marsiabe وقد استدلت على صحة رأيها بما ورد في المؤلفات العربية "من مأرب سبأ"4. وقد ذكر "بطلميوس" شعبًا سماه Rabanitai أو Arabanitai تمتد مواضعه إلى جبل Klimax أي الجبل المدرج، والظاهر أنه يقصد سلسلة "السراة" التي يعمل الناس فيها مدرجات لغرس الكروم، وغيرها، وذكر بعدهم شعبًا آخر هو Masnitai يرى "كلاسر" إنه"مأذن"، ويسكنون في أعالي "الحارد" أي في جوار "رأبان"، وهو يطابق قول "بطلميوس" وواقع الحال5.

_ 1 BeitrSge, S. 33 2 Beitrage, B., 32 3 Beltr&ge, S., 34 4 Die Araber, n, S., 50, Le Royaume Sud Arabe de Qataban et sa Datatlon, 1961, 112. 5 Glaser, Skizze, II, S., 60

وقد وردت جملة كتابات ذكرت اسم "ريمان" منها كتابة من أيام "الشرح يحضب"، وقد تبين من تلك الكتابات أن "آل ريمان" كانوا من الأسر المعروفة في هذا العهد، ومنهم من تولى مناصب دينية وحكومية، ولذلك رأى بعض الباحثين أنهم هم Rhamanitae الذين ذكرهم "سترابون" ويرون أن سترابو إنما سمى مدينة Marsiaba أي "مأرب" بمدينة الـ Rhamanitae؛ لأن الذي حارب الرومان وقاتلهم ودافع عن المدينة قائد "ريماني"، أي من "ريمان" فظن "سترابو" أنها مدينة من مدنه فنسبها إليه1. ومن طريق "صراوح" تراجع "أوليوس غالوس"، على طريق "أترلة" Athrulla إلى "نجران" سالكًا وادي مذاب، ثم "وادي دماج"2. أما "الآبار السبع" التي ذكرها "سترابون" فتقع، في رأي "كلاسر"، في "عسير" وأما موضع "Chaalla"، فهو "كهالة" أو "حوالة" ومنه إلى Malothas الواقع على نهر، لعله "وادي بيشة"، إلى موضع قفر، أوصلهم إلى تهامة عسير فالحجاز فمدينة Egra حيث أبحر منها إلى مصر3. وما ذكرته آنفًا عن تشخيص هذه المواضع التي ذكرها "سترابون" أو "بلينيوس" أو "ديو كاسيوس"، إنما هو مجرد آراء وحوس، لعدم وجود كتابات أو أدلة لدينا ترشدنا إلى تعيين تلك المسميات على وجه مقنع صحيح. وقد ذهب "ديو كاسيوس" Dio Cassius إلى أن مدينة Athrula / Athulula / Athoula كانت آخر موضع بلغته جيوش "أوليوس غالوس" في العربية الجنوبية، وهو يخالف بذلك "بلينيوس" الذي ذكر أن مدينة CARIPETA/ هي آخر المواضع التي بلغها جيش الرومان، ومدينة ATHRULA/ ATHLOULA/ ATHLULA. هي مدينة "يثل" على رأي بعض الباحثين الذين يرون أن الروم حرفوا الاسم العربي حتى صيروه على الشكل المذكور ليستقيم لذلك مع لسانهم4. ولم ترد في النصوص العربية الجنوبية إشارة ما إلى غزو قام به الروم أو غيرهم لبلاد العرب، وقد تساءل "كلاسر" عن سبب سكوت المساند وعدم إشارتها

_ 1 Philby, CH 322, 432, 512, Rep. Epig. 2742, 2743, Bettrage; S.; 34 2 الصفة "82، 83، 114" 3 Glaser, Skizze II, S., 63 4 Beitrage, S., 32, Die Araber, II, S., 50

إلى حملة "أوليوس غالوس"، هذه الحملة المهمة التي لا بد أنها قد تركت أثرًا بعيدًا في نفوس السبئيين وغيرهم من القبائل الساكنة في اليمن والحجاز، ورأي احتمال كون المراد من حملة "ذشامت" "ذشمت" الواردة في النص Halevy 535 الرومان المسيطرين على الشأم، وجملة "ذيمنت" السبئيين1. وعلى ذلك يكون هذا النص كما يقول قد تعرض لخبر الحرب التي نشبت بين الرومان والسبئيين أما أنا فأستبعد جدًّا هذا الرأي، بل هذا الاحتمال وأري أن الجواب عن هذا السؤال هو أننا لم نعثر حتى الآن على جميع المساند، فنذهب إلى أمثال هذه الفرضيات، وما عثرنا عليه هو شيء يسير بالقياس إلى ما قد يعثر عليه في المستقبل، ولا سيما إذا ما علمنا أن هذه المساند إنما عثر عليها على ظاهر الأرض، وأن العلماء لم يقوموا بحفريات علمية في أعماق الأرض، ولنا وطيد الأمل بالعثور على كتابات كثيرة مطمورة تحت الأنقاض، قد تأتي لنا بوثائق خطيرة عن تأريخ العرب الجنوبيين، وقد تضع بين أيدينا أصول مكاتبات ومعاهدات ووثائق على جانب كبير من الأهمية، كما يحدث في سائر الحفريات والتنقيبات، وإذ لم يقم العلماء حتى الآن بحفريات علمية على نطاق واسع، فلا داعي إذن لإثارة سؤال في الزمن الحاضر كهذا السؤال. لقد ظن "هاليفي" أن الحظ سيسعده في أثناء سفره إلى اليمن، فيظفره بآثار تشير إلى تلك الحملة الرومانية المخففة، غير أن الحظ لم يحالفه، ولم يكتب له التوفيق. كذلك لم يكن الحظ حليفًا لـ "فلبي" ولا لغيره من السائحين2. فلم يستطع أحد منهم حتى الآن الاهتداء إلى كتابة عربية أو أعجمية أو أثر يشير إلى تلك الحملة المشئومة حملة الرومان، للاستيلاء على العربية السعيدة على أرض الطيب واللبان والمر والبخور. وأشار "سترابون" إلى أن أرض الطيب والبخور، تتألف من أربعة أقسام، هي: Minaei أي معين، ومدينتهم الكبرى هي: Carna أو Carnan و Sabaea وهم سبأ وعاصمتهم هي: Mariaba و Chattabanae وهو "قتبان" وعاصمتهم Tamna وتقع بلادهم على ساحل البحر العربي،

_ 1 Glaser, Skizze, II, S. 65 2 Phillby, Background, P. 32

و Chatramotita، وهم حضرموت وعاصمتهم Sabata، وهم أبعد هذه الشعوب إلى الشرق1. وقد نقل "سترابون" كلامه من "ايراتوستينس" الذي عاش قبله كما هو معلوم2, فهو يتحدث إذن عن الحكومات الكبرى التى حكمت العربية الجنوبية، وعن الشعوب التي وصل علمها إلى مسامع اليونان والرومان. وتطرق "سترابون" بشيء من الإيجاز إلى الناحية الاجتماعية التي كانت عليها اليمن في ذلك العهد، فذكر أن الحياة كانت طبقات لكل طبقة واجب ووظيفة، وراثية تنتقل من الآباء إلى الأبناء. فهناك طبقة المحاربين ووظيفتهم الدفاع عن الطبقات الأخرى، وطبقة المزارعين وشغلهم تهيئة القوت والطعام لإعاشة سائر الشعب، وطبقة ثالثة وظيفتها التجارة، والتجارة لا تنتقل من أسرة إلى أخرى، وعلى كل فرد أن يمارس حرفة أبيه3. وذكر أشياء أخرى يظهر أن طبيعة أكثرها من نوع قصص التجار والسياح، لا يعتمد على التدقيق والتمحيص. ويظهر أن تلك الانتكاسة لم تؤثر في خطة "أغسطس" في السيطرة على البحار، إذ نرى "سترابون" المعاصر لهذا القيصر، يشير إلى أن الرومان كانوا يرسلون سفنًا إلى الهند، لم يتعودا إرسال أمثال عددها فيما مضى، كما عثر على نقود رومانية في الهند، وأقيم في ساحل "مالابار" معبد كرس باسم ذلك القيصر، مما يدل على وجود جالية رومانية فيه4. ويظهر أن أسطول الرومان كان قويًّا وقد استعمل سفنًا كبيرة، وضع فيها محاربين من رماة السهام ومن المقاتلين المدربين، بذلك تمكن من الوصول إلى الهند ومن الرجوع منها بانتظام وبحرية. لم تصل إلينا أخبار مفصلة عن مشروعات الرومان في جزيرة العرب بعد هذه الحملة، والظاهر أنهم غيروا خططهم السياسية، وكيفوها تكييفًا جديدًا، يوائم التطور الذي حدث في الموضع العالمي في القرن الأول للميلاد، ويناسب الدروس التي تعلموها من حملتهم المخفقة المذكورة. فلم يفكروا في فتح عسكري مباشر

_ 1 Strabo, III, P. 190, 213 2 Strabo, III, P. 189 3 Strabo, III, P. 213 4 العرب والملاحة "ص75".

لجزيرة العرب يكون متجهًا من الشمال للجنوب، مخترقًا الطرق البرية، بل رأوا تقوية أسطولهم في البحر الأحمر، وتحسين علاقاتهم السياسية بالإمارات العربية وبسادات القبائل، للمحافظة على مصالحهم الاقتصادية، وتوجيه أنظارهم نحو ساحل إفريقيا وحكومة الحبشة، فعقدوا اتفاقيات صداقة ومودة مع حكام "أكسوم"، وكونوا حلفًا معهم، وبذلك أخذوا يضغطون منذ ذلك العهد على السبئيين. ويحدثنا صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" أن الرومان عقدوا معاهدة تحالف مع ملك "ظفار"، وهو ملك1Homeritae، وتدل هذه الإشارة الغامضة على وجود صلات بين الرومان وبين رئيس حمير في هذا العهد. وفي هذا التحالف ما فيه من شرح للعلاقات السياسية الجديدة التي حدثت بين الرومان والعربية الجنوبية، ومن محاولات الرومان، ثم البيزنظيين من بعدهم، التدخل في شئون البلاد العربية الجنوبية بأسلوب جديد. ولا ندري متى احتل ميناء "عدن" الذي يسمونه Eudamon = Emporion والذي دعاه "بلينيوس" Athene = Athenae= Athaene إذ يحدثنا مؤلف "كتاب الطواف حول البحر الأريتري" أن "القيصر" Kaisar استولى عليه في زمن غير بعيد عن زمانه ودمره، وقد تصور بعضهم أن ذلك وقع في أيام "كلوديوس" "41 - 54م" أو قبلها بقليل3. ولعل لمساعدات "الأكسوميين" لحكام "رومة" فضلًا في هذا الاحتلال4. ولا بد أن يكون هذا الاستيلاء قد حدث من البحر. إذ لا يعقل وقوعه من البر، فقد كان البر في أيدي السبئيين والقبائل العربية الأخرى. وقد رأينا قبل قليل إخفاق الرومان في الاستيلاء على اليمن، ورجوعهم عنها خائبين. ولأهمية "عدن" من جميع الوجوه نستطيع أن نتصور أنهم قد حصلوا على فوائد عظيمة من هذا الاحتلال الذي لا نعرف منتهاه وخاتمته، وكيف حدثت تلك النهاية. ويرى بعض الباحثين أن استيلاء الرومان على "عدن" كان بعد حملة

_ 1 Houranl, P., 32 2 Stuhimann, a, 12, Parola del Passato, 9 (1954) , 401, Araber; I; S.; 43 3 Araber, I, S., 43 4 Stuhlmann, S., 12

"أوليوس غالوس" على اليمن، وربما بعد الميلاد بقليل، وذلك بعد إخفاق تلك المحاولة الرامية إلى بلوغ المحيط الهندي من البر والاستيلاء على العربية الجنوبية، تعويضًا عن تلك الخطة الخائبة، فنجح الرومان في الاستيلاء على الميناء من البحر، وذلك في حوالي السنة "24" بعد الميلاد، وهو زمن غير بعيد عن حملة "أوليوس غالوس"1. وقد ذهب "مومسن" Mommsen، إلى أن الاستيلاء على عدن كان قد وقع في أيام "كايوس قيصر" Caius Caesar، إذ ورد في الأخبار أن أسطوله في البحر الأحمر، كان قد استولى على جزء صغير من بلاد العرب، فيحتمل على رأي "مومسن" أن يكون المكان الذي استولى عليه هو عدن، ويحتمل على رأيه أيضًا أن يكون هذا الاحتلال قد وقع قليل من هذا الوقت. بينما ذهب آخرون إلى أنه وقع في أيام "كلوديوس" Claudius، أو "نيرون" "نيرو"2Nero. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن القيصر المقصود هو "كركلا" "كركلا" Caraculla؛ وذلك لأنه كان قد هاجم العرب الـ"سكينيته" Scenites في أثناء الحروب الثانية التي أعلنها القيصر "سبتيميوس سويروس" Septimius Severus على "البارثيين" Parthians، "197- 199م" وذهب بعض آخر إلى أن في خبر مؤلف كتاب: "الطواف حول البحر الأريتري" بعض الوهم في تثبيت لفظة "قيصر" Kaiser؛ وذلك لأن العادة لم تكن قد جرت في ذلك الوقت بتلقيب ملوك "رومة" بلقب "قيصر" لذلك رأى أن في الكلمة تحريفًا، وإنها قد تعني شيئًا آخر. وقد يكون تحريف Elisar أو liaisar أي "الأشعر"، وهم ELISAROI عند "بطلميوس"3. ويرى من يذهب إلى أن المراد بـ Kaiser "اليزر" Elisar أي "الأشعر" "اشعرن"، أن الاستيلاء على ميناء "عدن" وتخريبه كان بعد إخراج الحبشة عن العربية الجنوبية، وأن أرض "الأشعريين" غير بعيدة عن عدن، لذلك فلا تستبعد مهاجمتهم لعدن

_ 1 Sanger, The Arabian Peninsula, P., 170 2 J. Oliver, Thomson, History ol Ancient Geography, Cambridge, 1948, P., 296 3 F. Altbeim, Geschichte der Hunnen, V, 1962, 8. 13, Die Araber; S. 42; Le Mus6on; 1964; 3-4. 480

في وقت غير بعيد عن أيام مؤلف الكتاب، وأن المؤلف ذكرهم، ولكن تحريفًا وقع في الاسم فحوله إلى1Kaiser. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن لفظة Kaiser هي كلمة llisaro أو llasar المذكورة في خبر "سترابون" عن حملة "أوليوس غالوس"، وقصد بها "الشرح يحضب" وهو يرى أن ميناء "عدن" قد خرب في أبان حروب "الشرح يحضب" مع قتبان وحضرموت، وأن مؤلف ذلك الكتاب أراد "الشرح" llasar ثم حرف النساخ اللفظة حتى صارت2Kaiser. وقد صار في إمكان السفن الرومانية بعد الاستيلاء على عدن الاستراحة فيها والإقلاع منها إلى الهند وإلى السواحل الإفريقية والعودة إليها، وقد وضع الرومان فيها حامية رومانية لضمان سلامة الرومان في هذه المنطقة، كما وضعوا سفنًا تحمل رماة من الرومان لمقاومة لصوص البحر من التحرش بالسفن، وقد كان أولئك اللصوص يملئون البحار3. وفي عدن عند الـCrater "الكريتر" صهريج كبير لخزن الماء، من عهد ما قبل الميلاد على رأي بعض الباحثين، يتسع لزهاء عشرين مليون "غالون" من الماء، تأتي إليه من الأمطار، يظهر أنه استعمل في ذلك العهد لتموين هذا الميناء المهم بماء الشرب، لعدم وجود موارد كافية من الماء، تسد حاجة أهله به4. وقد حصل ميناء "عدن" على شهرة بعيدة منذ هذا الزمن، وظل محافظًا عليها وعلى أهميته حتى اليوم، ولا ندري متى اضطر الرومان إلى ترك هذا الميناء، على وجه صحيح مضبوط, ولكن الذي نعرفه أن الرومان، ثم الروم من بعدهم، بقوا يقيمون وزنًا له، ويهتمون بشأنه؛ لأنه كان أسهل طريق لهم توصلهم إلى سواحل إفريقيا والهند والعربية الجنوبية، ولذلك كانت فيه دائمًا جالية كبيرة من أصحاب السفن والتجار، ولعل هذا الاهتمام هو الذي حمل القيصر "قسطنطين

_ 1 Le Mus6on, 1964, 3-4, P., 481 2 Beltrage, S., 88 3 Sanger, P. 170 4 Banger, the Arabian Peninsula, P. 208

الثاني" على إرسال بعثة نصرانية تبشيرية إلى عدن، بلغتها سنة 356 للميلاد1. ويفهم من كلام مؤلف "كتاب الطواف حول البحر الأريتري" أن ميناء عدن Eudaimon Arabia كان الموضع الذي تقصده السفن القادمة من مصر ومن الهند، ففيه تفرغ حمولات تلك السفن لتنقل منها إلى مصر أو إلى الهند2. فميناء عدن كان ذا شأن خطير في التجارة العالمية إذ ذاك، وكان الموضع الذي تتبادل فيه السفن الحمولات. وعرف ميناء عدن بـ Arabia Emporion عند "بطلميوس"3. وكان "أورانيوس" Uranius أول من سماه بـ "ادنه" Adana أي "عدن" وذلك كما جاء في كتاب "اصطيفانوس البيزنطي" الذي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد4. وذكر اسم Adane في أخبار تنصر الحميريين في أيام القيصر "قسطنطين الثاني" "337- 361م"5 وقد سمي ميناء عدن بـ Athana عند "بلينيوس"6 وبـ Adana، وعند "فيلوستورجيوس"7 Philostorgius وكان قد خرب وتعطل أيام حملة "أوليوس غالوس"، فحل ميناء Muza على البحر الأحمر محله، ولكنه مع ذلك لم يفقد منزلته، وعادت إليه مكانته بعد مدة قصيرة من هذه الكارثة8. وقد ذكر "بليني" بعد اسم "عدن" Athana= Athenae اسم قبائل جعل أرضها على مقربة من "عدن" فذكر اسم Chorranitae = Caunaravi و 9Chani = Cesani وفي هذه الأرضين، وجدت كما يفهم من أخبار "بليني" وغيره، مدن يونانية، سكنها يونان، منها: Arethusa و Larisa و Chalcis وهي مدن خربتها ودمرتها الحروب10.

_ 1 Sanger, P. 203 2 Beltrage, B. 88 3 Beltrage, 8. 89 4 Beitr&ge, S. 89 5 Phllostorg., Hist. Eccles., m, 5, Beitrftge, S. 89 6 Pliny, 6, 28, 32 7 PhUosotorglus. H. EccL, 3, 4, CLearly, P. 108 8 O'Leary, P. 96 9 Pliny, 6, 28, 32 10 Araber, I, s. 120

ويظن بعض الباحثين أن المدن اليونانية التي أشير إليها، والتي ذكر "بليني" أنها خربت ودمرت بالحروب، هي من المستوطنات التي أنشأها وأقامها "البطالمة" على السواحل العربية، لإيواء السفن اليونانية والتجار والجنود الذين زرعوا في هذه الأماكن لحماية تجارة البطالمة والسيطرة منها على السواحل العربية وعلى البحار1. فلما ضغف أمر البطالمة، هاجمت القبائل العربية هذه المواضع واستولت عليها، فخربت تلك المدن، أو غلب عليها العرب، وتبدلت أسماؤها إذ تحولت إلى أسماء عربية. وميناء Qena "قنا" الذي يقع على المحيط الهندي، كان أيضًا من الموانئ المعروفة التي يقصدها التجار في هذا الزمن فتصل إليه السفن للامتياز وللخروج منه إلى الهند، وشهرته هذه قديمة، ويغلب على الظن أنه ميناء "كنة" الذي ذكر مع "عدن" في سفر "حزقيال"؛ لأن القرائن تدل على أنه هو المقصود من الآية في هذا السفر: "حران وكنة وعدن تجار شبا وآشور وكلمد تجارك"2. وقد ذكره "بلينيوس" في جملة الموانئ المقصودة التي كانت السفن الرومانية تصل إليها وهي قادمة من ميناء Berenice بمصر. وهذه الموانئ هي: Muza أي "موزع" عند "مخا" و Ocelis عند باب المندب، و Cane "قنا" الميناء الذي نتكلم عنه3. وذكر مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" هذا الميناء أيضًا، كما ذكر ميناء Mousa= Muza وعدن و Ocelis = Okylis وقد ذكر أن هذا الميناء الأخير كان قرية. أما ميناء "قنا" "كنا" "كانه" Kany = KANA "كان" فكان في أرض الملك Eleazoz أي "العزيلط" ملك حضرموت، وذكر أن في مقابل هذا الميناء جزيرتين تسمى إحداهما جزيرة الطيور Ogneun، وتسمى الأخرى جزيرة "القباب"، والجزيرة الأولى هي جزيرة "سيخا" في الزمن الحاضر، وأما الثانية فهي جزيرة "براقة"4، وذكر

_ 1 15, "1929", II Araber, I, S., 121, W.W. Tarn, Journ. Egypt. Arch 2 BeltrSge, S. 88 3 Beltrage, S. 89 4 Beitrfige, S. 90

مؤلف الكتاب المذكور أن اللبان والمر وبقية الأفاويه تحمل من منابتها إلى ميناء Kany وقد تحمل على وسائل النقل المائية المصنوعة من قرب منفوخة بالهواء، مشدودة إلى جذوع أو أخشاب بحبال تربط بينها، لتوصل تلك المواد الثمينة إلى الميناء المذكور، ثم توزع من هذا الميناء على التجار أو ترسل في السفن إلى الأسواق العالمية، كما ذكر أن السفن تذهب من هذا الميناء إلى الهند وإلى الخليج وتذهب منه إلى موانئ الساحل الإفريقي كذلك1. وبعد أن كون "تراجان" ما يسمى بـ "المقاطعة العربية" "الكورة العربية" Provencia Arabaea في سنة "105م" أو "106م" أحدث تغييرات مهمة في الإدارة وفي طرق المواصلات وأصول الجباية، فأنشأ طريقًا مهمة من "أيلة" على رأس خليج العقبة مارة بالبتراء فبصرى إلى "دمشق"، وصارت "بصرى" محطة مهمة جدًّا للقوافل القادمة من اليمن والحجاز، وأصلح القناة القديمة التي تصل النيل بالبحر الأحمر، وقوي الأسطول الروماني، وأمده بسفن أحدث وأقوى من السفن القديمة، وذلك لمقاومة لصوص البحر وللسير بحرية في البحر الأحمر، ولاحتكار التجارة البحرية التي هي مصدر كل غنى وثراء2. ولا تزال آثار الطريق الرومانية باقية تشاهد حتى اليوم، تشهد بأهمية الطريق وبحسن هندستها بالنسبة إلى ذلك الزمن، وهي تمر بمدن وقرى عديدة وتربط بينها: منها "أم الجمال"، وهو موضع مهم كان ذا أهمية خاصة في العهد الروماني، وفي أيام النبط، حيث عثر فيه على كتابات نبطية عديدة، وموضع "خربة سمرا" وهو موضع اشتهر في العهد الروماني وفي العهد البيزنطي الذي تلاه، وقد عثر فيه على آثار رومانية وبيزنطية ونبطية، ويظهر من مخازن المياه ومن آثار الآبار التي عثر عليها في هذا الموضع أنه كان مركزًا من مراكز تجمع القوافل التجارية، وموضعًا من مواضع تربية الماشية3. وقد اكتسحت فتوحات "تراجان" مناطق واسعة من الشرق الأدنى، ويقال إنه وصل إلى جنوب العراق، وإنه دخل مدينة "كاراكس" "كركس" Charax وإنه نظر سفينة قاصدة الهند، فتحسر وتنهد؛ لأنه بلغ من العمر

_ 1 Beltrflge, S. 90 2 Basoor, N'um, 85,1943, PP., 3, 6 3 Basoor, Num. 85,1942, PP., 6

مبلغًا لا يسعفه على ركوب تلك السفينة واستنشاق هواء ذلك البحر، وقد غبط الإسكندر الذي سبقه إلى هذا المكان بمئات من السنين، وكان أصغر منه سنًّا، فبلغ مبلغًا لم يصل إليه ملك هذا الإمبراطور1. وقد كان على مقربة من "الرها" Edessa سيد قبيلة عربية اسمه "معنو" Ma'nu أي "معن" وكان يحكم العرب المجاورين. ولما طلب القيصر "تراجان" حضوره إليه لمكالمته لم يلب طلبه بالرغم من علامات الود التي أظهرها له. ذلك؛ لأن القيصر كان يشك في نياته، فخاف أن يقبض عليه، وتراجع إلى مواضع بعيدة، فاستولى الرومان على "سنجار" Singara وكانت تابعة له. وقد نزل العرب فيها واختلطوا بسكانها الأصليين2. لقد كان البخور رأس بضائع العالم الثمينة المطلوبة في ذلك العهد، كان سعره يساوي سعر الذهب والبترول في هذه الأيام. ولم يكن يشتريه لغلائه هذا إلا رجال الدين، لاستعماله في الشعائر الدينية التي تستنزف القسم الأكبر منه، والملوك والأثرياء، وذلك لحرقه في المناسبات الدينية وفي اجتماعاتهم. ونجد المؤرخ الكاتب "بلينيوس" يشتكي من تبذير "نيرون" عاهل "رومة" "54- 68م" من إسرافه في حرق البخور واللبان لإجراء شعائر جنازة زوجه المتوفاة، فقد كلف حرق تلك المادة الضرورية في مثل هذه المناسبات خزينة ثمنًا باهظًا لارتفاع أسعارها في ذلك الزمن3. وآخر ما يقال عن تدخل الرومان في شئون جزيرة العرب، هو أن القيصر "سبتيموس سفيروس" Septimus Severus، أرسل حملة عسكرية في سنة "201م" توغلت في "العربية السعيدة"، غير أن معارفنا عنها قليلة، فلا نعلم إلى أين وصلت وكيف انتهت4. ولعلها كانت قد تقدمت من "المقاطعة العربية" وهي المقاطعة الجديدة التي أوجدها الإمبراطور "تراجان" على حطام مملكة النبط. وكان الذي قاد الحملة العسكرية على "العربية السعيدة" Eudaimon Arabia ابن القيصر "سبتيموس سفيروس"5، وقد اشتهر فيها،

_ 1 العرب والملاحة "ص49". 2 Die Araber, I, S. 313 3 العرب والملاحة "ص75" 4 Stuhlmann, S. 12 5 Die Araber I, S. 44

غير أن معارفنا عنها لا تزال قليلة، وقد وردت أخبار هذه الحملة في موارد لم تشر إلى اسم القيصر الذي أمر بتجريد تلك الحملة على "العربية السعيدة"، إذ اكتفت بذكر لفظة "قيصر" ويظهر منها أن جيوش القيصر أنزلت خسائر فادحة أولًا بالعرب الساكنين في البادية وقد دعتهم تلك الموارد بـ Skenitae أي "سكان الخيام" ويراد بهم الأعراب، ثم سارت تلك الجيوش حتى بلغت "العربية السعيدة"، وذلك في السنة "196- 198ب. م"، ولا نعلم إلى أي مدى وصل إليه القيصر أو ابنه في هذه الغزوات1. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "كره كالا" Caracalla الذي خلف والده "سبتيميوس سفيروس" Septimus Severus في الحكم، هو الذي قاد الجيش الروماني الذي زحف على العرب الساكنين في أعالي "العربية السعيدة" Arabia Eudaimon كما يسميها "بطلميوس"، وأنه في ذلك العهد كانت حروب "سبتيميوس" مع "البارثين" Parthians "197- 199م"2 ويرون أن الرومان لم يتوغلوا بعيدًا في جزيرة العرب، وربما كان أقصى ما بلغوه ديار ثمود3. وفي كتاب "بحث في القضاء والقدر" Dialog Uber das Atom وهو المسمى أيضًا بـ"كتاب قوانين البلاد" Buch der Gesetze der Lander لـ"برد يصان" Bardesanes الذي عاش فيما بين السنة 154 والسنة222 للميلاد إشارة إلي أن الروم لما استولوا على العربية Arabia من عهد غير بعيد عن أيامه، أبطلوا قوانين أهلها البرابرة4. ويقصد بالبرابرة الأعراب على ما يظهر. ويظهر أنه قصد بذلك الحملة الرومانية المذكورة5, وفي تأريخ الإمبراطورية الرومانية أسماء رجال يرى بعض المؤرخين أنهم كانوا من أصل عربي، من هؤلاء "يوليا دومنا" lulia Domina و"يوليا ميا" Julia Maesa و "ايلاكيل"

_ 1 Die Araber, I, S., 44, II, 8., 62, Miller, In Cambridge Ancient History, 12, (1939) , 9, 16 2 F. Altheim, Geschlchte der Hunnen, V, 1962, 8., 13 Die Araber, I, &, 42 3 Le Museon, 1904, 3-4, PP. 480 4 W. Cureton, Splclleglum Syrlacum, 1956, 30 5 Die Araber, I, 43

Elagabal "218- 222م"، و "يوليا مامية" Julia Mammaea و "سيفيروس الكسندر" Severus Alexander "222- 235م" وكانوا في رأيهم من أسرة دينية عربية. أما "فليب" Philippus "244- 249م" الذي تولى عرش "رومة"، فقد عرف بـ"فليب العربي" وقد برز نفر من أسرة "الزباء" ملكة تدمر، ونالوا مراكز ممتازة في الإمبراطورية الرومانية1. وقد سعى القيصر "سفيروس الكسندر" "سويروس الكسندر" للوصول إلى الخليج، وذلك في حروبه مع الفرس سنة "232م" وقد تمكنت بعض قواته الزاحفة عن طريق نهر الفرات من بلوغ "البطائح"، ولكنها جوبهت بمقاومة عنيفة من الفرس، حتى اضطرت إلى العودة من حيث أتت، ولم تتمكن من تحقيق هدفها المنشود2. وحاول "فيليب العربي philipus Arabus جاهدًا الوصول إلى الهند والسيطرة على الخليج، غير أن الحظ لم يكن في جانبه في حروبه مع الفرس، واضطر إلى ترك ذلك المشروع الخطير3. وقد انتهز الأعراب فرصة الكارثة التي نزلت بالقيصر "فاليريان" Valerianus "253- 260م"، بتغلب الفرس عليه، فأخذوا يهاجمون الخطوط الرومانية الدفاعية، ويباغتون مدنها، بغزوهم لها، مما حمل من جاء بعده من حكام "رومة" على تقوية الحصون وإعادة ترميم استحكاماتها، ومن هذه مدينة Adraha، وهي "درعه" "درعا" "الدرعة". لتصمد أمام غارات الأعراب التي تكاثرت عليها4. وقد كون الرومان كتائب من الجنود العرب ألفوها لحماية الطرق وللدفاع عن حدودهم الطويلة المتصلة بالبوادي، وهي حدود يصعب على الجيوش النظامية حمايتها، ولذلك عمدوا إلى تكوين هذه الكتائب. ونجد في الكتابات "الصفوية" كتابات دونها أصحابها يذكرون فيها فرحهم وحمدهم لآلهتهم؛ لأنها ساعدتهم في فرارهم من الخدمة في الجيش الروماني، ورجوعهم إلى أهلهم سالمين، بعد

_ 1 Die Araber, I, 8., 4 2 Die Araber, n, S., 63, Herodlan, 6, 5, 2; 9-10 3 "Philip" The Arabians Porphyr., V, Plot., 3: Die Araber, n, S., 83 4 Die Araber, n, 8., 251

أن قتل غيرهم في أثناء فرارهم على أيدي من كان يتعقبهم من عساكر الروم أو البيزنطيين لإجبارهم على الرجوع إلى ثكناتهم، والظاهر أن كثيرًا من هؤلاء كانوا من الجنود المرتزقة أو المسخرة التي أكرهت على الخدمة في الجيش. فنجد في إحدى الكتابات أن رجلًا اسمه "حنين بن حنين بن أياس" اتخذ سنة فراره من "نمارة السلطان"، مبدأ أرخ به، دلالة على أهمية تلك المناسبة بالنسبة إلى حياته، وذكر أنه شاد قبرًا على مرقد أخته "وبنى هرجم" "وبنى الرجم"، والرجم القبر، والظاهر أن "السلطان"، أي "سلطان" الروم تعبير عن حكومة كانت قد أقامت مركزًا أو حامية أو معسكرًا "نمارة"، وكان حنين أحد من كان في ذلك المعسكر ففر منه، وفرح لنجاته بنفسه، وتعبير "السلطان" من التعابير العربية القديمة التي لا تزال حية حتى اليوم1. ونجد رجلًا اسمه "مغير بن محلم"، يؤرخ بسنة هرب رجل اسمه "جر" "جور" من "قصر نقات" "قصر نفأت" والظاهر أن "قصر نقأت" كان ثكنة من ثكنات الروم، وقد حشد فيها جمع من العرب لأداء الخدمة العسكرية للسلطات الرومانية، ففر منها "جور". وفي هذه السنة جاء "مغير" إلى قبور جماعة ذكر أسماءهم قتلوا فوضع رجمًا أي حجارة فوق قبورهم تعبيرًا عن تكريمه لذكراهم. وقد وردت في النص جملة "طر هسموي"، أي "طير السماء". وقد ذهب "ليتمان" E. LITTMANN إلى احتمال كون "طير" اسم رجل، وهو "هسموي" بمعنى "السماوي"، أي أنه نسبة إلى بادية السماوة، أو اسم موضع "سمه" "سامه" يقع جنوب شرقي "بصرى"2. ونجد شخصًا اسمه "تيم ايل" يذكر في كتابة له هذه الجملة "ونفر من رم"، أي "ونفر من الروم"، و"نفر" بمعنى "فر" في الصفوية3. ولم يذكر "تيم ايل" سبب فراره من الروم ولعله، كان من الكتائب العربية، ففر منها طلبًا للحرية والراحة والمعيشة مع الأهل، أو أنه كان قد غزا حدود الروم، فقبض عليه وسجن ففر من سجنه، ونجد رجلًا آخر يذكر أنه "نفر

_ 1 Enno Litimann. Safitic Inscrtpttons, Leyden, 1943, P. 140 وسيكون رمزه: safitic 2 safitic, P. 167 راجع الجملة الأخيرة من النص "87" المنشور في كتاب p. 19 Safitlc

من الروم" وذلك في سنة ثلاث، ويقصد بسنة ثلاث. مرور ثلاث سنوات على تأريخ احتلال الرومان لبلاده، وقد وقع ذلك في السنة "105" أو "106" للميلاد، أي في عهد تكوين المقاطعة العربية وسقوط "بصرى" في أيدي الرومان على نحو ما ذكرت. فتكون إذن سنة هربه مساوية لسنة "108" أو "109" بعد الميلاد1. وقد عبر شخص آخر عن هربه من الروم ورجوعه إلى أهله ناجيًا سالمًا بعبارة "ونجى من رم"، أي "ونجا من الروم"2. فيظهر أنه كان أيضًا في أيدي الرومان لسبب نجهله فاهتبل الفرص، وهرب منهم، ونجا بنفسه، حيث وصل إلى منزل جده، وأقام عنده يرعى ماعزًا له3. وأما "سواد بن يسلم"، فقد كان يشعر أن الرومان كانوا يراقبونه ويتعقبون آثاره لسبب لم يذكره، وقد عبر عن ذلك بقوله "وخرص ال روم" أي "وخرَّص الروم" بمعنى أنه راوغهم وخلص منهم، ولم يذكر سبب مراقبة الرومان له فلعله كان قد أغار على أرض الروم، أي الأرضين المحتلة الخاضعة لهم ليغنم منها شيئًا فتعقبه حرسهم، ولكنه راوغهم "وخرص" منهم ونجا4. وقد ازعجت القبائل الرومان بغارتها على الأرضين التي استولوا عليها وأخضعوها لحكمهم، فأوجد الرومان جيشًا مرتزقًا، من أهل البلاد التي تحكموا في أمرها، وضعوه تحت إمرة جماعة من الضباط الرومان، وجعلوا واجبه حماية الحدود والدفاع عنها، وأقاموا له ثكنات على طول تلك الحدود، ورد أسماء بعضها في الكتابات الصفوية وغيرها، ومع ذلك كانت القبائل تهتبل الفرص، فتهاجم الحدود وتتوغل في الأرضين الخاضعة للرومان لتستولي على ما تجده أمامها من مال وحيوان، ثم تعود مسرعة إلى مضاربها في البادية حيث يصعب على الرومان محاربتها هناك. كانت الإسكندرية منذ تأسيسها إلى الفتح الإسلامي، المنبع الذي أمد رجال السياسة والحرب والعلم بما احتاجوا إليه من علم بلاد الشرق وإفريقيا. فيها تجمع التجار أصحاب المال يبحثون عن البضاعة وعن منشئها وأسعارها في المنشأ

_ 1 E.Lttmann. Safitlc p 21 2 النص رقم "128" من المرجع المذكور. 3 المصدر نفسه "ص 34". 4 راجع النص "709" من هذا المصدر.

وفي كيفية الحصول عليها بأسهل السبل وبأرخص الأسعار، منهم من ذهب بنفسه إلى مواطن البضاعة وإلى الأسواق الرئيسية المجهزة، فتمون منها ما احتاج إليه، ومنهم من تسقط أخبارها من تجار الإسكندرية أو التجار الوطنيين الوافدين على الإسكندرية، أو من رجال السفن. وفي الإسكندرية كانت في الغالب نهاية مطاف ربابنة السفن الذين خبروا البحر وعركوه، ووقفوا على أحوال البلاد الغريبة العجيبة: علم إفريقيا وآسيا، ومن أفواههم تلقف التجار والعلماء أخبار البحار وما وراءها من أرضين، وفي مكتبتها ودوائرها الرسمية حفظت تقارير قادة الأساطيل والجواسيس الذين كانوا يتجسسون الأخبار عن أحوال حكومات وشعوب تلك البلاد، وهي تقارير لا بد أن تكون على غاية من الخطورة والأهمية عند خلفاء الإسكندر ثم الرومان فالبيزنطيين، ويحدثنا "أغاثر شيدس" "أغاثر خيدس" الذي عاش في الإسكندرية في حوالي "110 ق. م" أنه أخذ علمه بأحوال البحر الأحمر من أفواه أناس قاموا هم أنفسهم بأسفار إلى البحر الأحمر وإلى ما وراءه، كما أخذه من وثائق ملكية وسجلات كانت محفوطة، سمح له، بالوقوف عليها، وفي جملتها تقرير "أرسطون" "أرستون"، وهو أحد رجال البحر اللذين كلفهم "بطلميوس الثاني" أو "بطلميوس" آخر كشف البحر الأحمر، فلما أنجز عمله وخبر أمر الساحل العربي للبحر، قدم تقريره المذكور. فحفظ في جملة الوثائق الخطيرة المهمة في خزانة وثائق الإسكندرية ومن هذا المنبع أخذ بقية الكتاب، ومنهم من قام نفسه بركوب البحر وبأسفار في الشرق، ثم عاد إليها ليضع ما حصل عليه في كتاب. والخلاصة أن هذه التطورات والأحداث السياسية والعسكرية التي وجهت أنظار الغرب منذ أيام "الإسكندر الأكبر" نحو الشرق، قد أدت إلى نزول اليونان والرومان بأنفسهم إلى البحار الدافئة لمنافسة العرب في تجارتهم، وفي بحارهم وفي البحار الأخرى، فبنوا سفنًا أقوى وأكبر وأوسع، وأخذوا يقومون أنفسهم بالتدريج ويحتلون الموانئ المهمة أو يقيمون لهم قواعد عسكرية على السواحل لحماية خطوط مواصلاتهم البحرية، وبذلك أصابوا التجارة العربية إصابة مباشرة وأنزلوا بها ضررًا بالغًا، إذ أخذو يشترون منتجات البلاد الحارة من مواضع انتاجها، وصاروا يزاحمون السفن العربية التي لم تتمكن من تطوير نفسها تطويرًا يناسب الزمن وروح العصر، فتغلبت سفن الروم والرومان عليها كما تغلب

البرتغاليون فيما بعد ثم من جاء بعدهم من الغربيين على السفن العربية في عصور الاستكشاف، واضطر التجار العرب إلى اعتزال البحر والانسحاب منه تدريجيًّا والاكتفاء بشحن ما يحصلون عليه بطرق البر، إلى أسواق تفرض ضرائب مرتفعة على التجار والتجارات. وقد أدى هذ االتطور إلى أضعاف مركز العرب الجنوبيين أضعافًا كبيرًا، وإلى إلحاق الأذى بثرائهم، وصار الروم والرومان يتدخلون في شئون العربية الجنوبية تدخلًا مباشرًا أو غير مباشر بتحريض الجيش والقبائل العربية على حكومات العربية الجنوبية على نحو ما سنراه مفصلًا فيما بعد.

الفصل التاسع عشر: الدولة المعينية

الفصل التاسع عشر: الدولة المعينية مدخل ... الفصل التاسع عشر: الدولة المعينية تعد الدولة المعينية من أقدم الدول العربية التي بلغنا خبرها، وقد عاشت وازدهرت بين "1300- 630ق. م" تقريبًا على رأي بعض العلماء. وقد بلغتنا أخبارها من الكتابات المدونة بالمسند والكتب الكلاسيكية1. أما المؤلفات العربية الإسلامية فلا علم لها بهذه الدولة. ولكنها عرفت اسم "معين" على أنه محفد من محافد اليمن وحصن ومدينة، وذكرت أنه هو و"براقش" من أبنية التبابعة2. وأقدم من ذكر المعينيين من الكتاب "الكلاسيكيين" "ديودورس الصقلي"3 و"سترابون" "سترابو"، وقد سماهم Minae= Meinaioi وقال: إن مدينتهم العظمى هي Carna= Karna، وذكر نقلًا عن كاتب أقدم منه هو "إيراتوستينس" Eratosthenes، أن بلادهم شمال بلاد سبأ وشمال أرض "قتبان" وأما حضرموت، فتقع شرق بلاد معين4. أما "ثيوفراستوس" Theophrastos

_ 1 Phllby, The Background of Islam, Alexandria, 1947, P. 141 وسيكون رمزه: Background 2 الهمداني، صفة "167، 168، 203"، وسيكون رمزه: الصفة، اللسان "17/ 298"، البلدان "2/ 98 وما بعدها"، "8/ 102". 3 Diodorus Siculus, 3, 42 4 Strabo, XVI, 768 (16, 4, 2) , Glaser, Sklzze, 2, S., 14 O'Leary, P. 93, Sprenger, Alte Geogr. Arabian, S. 211

فقد ذكر السبئيين والقتبانيين والحضارمة، وذكر أرضًا أخرى دعاها Mamali ويرى "أوليري" أنه قصد "معين" Menaioi= Minaea، وأن تحريفًا وقع في نسخ الكلمة، فصارت على الشكل المذكور، أي1 "Mamali". وقد ذكرهم "بلينيوس" Pliny أيضًا، فأشار إلى أن بلادهم تقع على حدود أرض "حضرموت" 2Atramitae. وآخر من ذكرهم الجغرافي الشهير "بطلميوس"3. ولم يتحدث أحد من الغربيين بعد الجغرافي المذكور عن "معين"، حتى دخل السياح الأوروبيون بلاد العرب بعد نوم طويل، فبعث عندئذ اسم "معين"، وكان في مقدمة من نشر خبر هذا الشعب "يوسف هاليفي"4 Joseph Halevy. و "أدورد كلاسر" Eduard Glaser و "أويتنك" Euting5 و "جوسن" Jaussen و "ساوينه" Sasignac6، وغيرهم ممن سترد أسماؤهم، حصلوا على نقوش معينية نشرت ترجمات بعضها، ونشر بعض آخر بغير ترجمة، ولا يزال بعض آخر ينتظر النشر7. وقد ظهرت هذه الدولة في الجوف، والجوف منطقة سهلة بين نجران وحضرموت، أرضها خصبة منبسطة، وقد زارها السائح "نيبور" Niebuhr ووصفها8. وذكر الهمداني جملة مواضع فيها، ولم يعرف شيئًا عن أصحابها.

_ 1 Theophrastus, Hist. Plant., 9, 4, O'Learly, P. 93 2 Pliny, Nat. Hist., 6, 28-32, 12, 30, 14, O'Learly P., 93, Boasoor, Num. 73, February, 1939, P. 4 Ptolemy, Geography, VI, 7, 23, BOASOOR, Num. 73, "1939", P. 4 3 O'Leary, P. 94 4 Halevy, In: Journal Asiatlque, 1872, 129-266, 489-547, 1873. Tome, I,434-521, Tome, II, 305-365, 1874, 497-585, inscriptions Sabeennes 5 نشرت مجموعة، "Euting" في مؤلف "D.H. Muller". المعنون: Epigraphische Denkmaler aus Arabien, 1889 وكذلك في بحث: "Mordtmann"! في Beitrage zur Minaischen Epigraphik, 1897 6 Mission Archeologique en Arabie, 1917. 7 Corpus Inscriptionum Semiticarum, Tome, IV, Part, I, II, III, IV, and De L'epigraphie Semitique, Tome, V, and VI, BOASOOR, 73 1939, P. 5 8 Carsten Niebuhr, Reisebeschreibung Nach Arabien und Andren umliegenden landen, Kopenhagen, 1772-1837, II, Bande

ومن هذه: معين، ونشق: وبراقش، وكمنا وغيرها1. وقد كانت عاصمة تلك الدولة "القرن" "قرن" "قرنو" وهي: "قرنة" "قرنا" Carna= Karna عند بعض الكتبة الكلاسيكيين. وقد حصل "هاليفي" على عدد كبير من الكتابات المعينية اكتشفها في أثناء سياحته في الجوف، دعيت ورقمت باسمه، حصل على الكتابات المرقمة، برقم Halevy 187 حتى رقم Halevy 266 ومجموعها ثمانون كتابة من خرائب "معين" وحصل على الكتابات المرقمة من رقم "424" حتى رقم "578" من "يثل"، ويبلغ مجموعها "155" كتابة، كما حصل على صور عدد آخر من الكتابات من "كمنا" ومن "السوداء" ويبلغ مجموع الكتابات المعينية التي استنسخها زهاء "700" كتابة2، أغلبها قصيرة، وبعضها يتضمن بضع كلمات، ما خلا "50- 60" كتابة تتألف من بضعة أسطر3. وزار الجوف بعد ذلك السيد محمد توفيق وقد ندبته "جامعة فؤاد الأول" الجامعة المصرية لدراسة هجرة الجراد الرحال والكشف عن مناطق تولده، ودخله مرتين، المرة الأولى سنة "1944م" والمرة الأخيرة سنة "1945م" وقد انتهز الفرصة فدرس سطح تلك المنطقة وخرائبها وآثارها، وأخذ صورًا "فوتوغرافية" لزخارف وكتابات، نشرها في البحث الذي نشره له "المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة" وذلك سنة "195م" بعنوان: "آثار معين في جوف اليمن"4. ورحل "الدكتور أحمد فخري" الأمين بالمتحف المصري، إلى اليمن، وزار سبأ والجوف في مايس سنة "1947م"5. وليس في كل بلاد العرب على حد قول "هاليفي"، مكان ينافس الجوف

_ 1 الصفة "ص 67 فيما بعدها". 2 "وجمع في رحلته هذه زهاء ست مائة نقش وخمسة وثمانين نقشًا من النقوش العربية الجنوبية" محمد توفيق: آثار معين في جوف اليمن من منشورات المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، مطبعة المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية، القاهرة 1951، ص 1. 3 Hommel' Grundriss Ed s 135 4 وسيكون رمزه: معين. 5 معين "ص 2".

في كثرة ما فيه من آثار وخرائب عادية1. ولذلك، فإن الباحثين عن القديم يرون فيه أملًا عظيمًا وكنزًا ثمينًا، وقد يكشف لهم عن صفحات مطوية من تأريخ تلك البلاد وربما يكشف عن تأريخ بلاد أخرى كانت لها صلات وعلاقات باليمن. وفيه مدن مهمة، كان لها شأن وصيت في تأريخ العالم القديم، كالمدن التي مر ذكرها، وكمدينة "مأرب" عاصمة سبأ، التي بلغ صيتها اليونان والرومان. والجوف أرض خصبة ذات مياه، تسقيه مياه "الحارد"، الذي يبلغ عرضه، مترين وعمقه، مترًا، كما تتساقط عليه الأمطار فتروي أرضه، وتكون سيولًا، تسيل في أوديته، ويبلغ ارتفاعه "1100" فوق سطح البحر، وتحيط به الجبال من ثلاث جهات2. ونظرًا لوجود مزايا كثيرة فيه تساعد على تكون الحضارة فيه، لذلك صار مخزنًا للحضارة القديمة في اليمن، وموقعًا يغري علماء الآثار يقصدونه للبحث في تربته عما كان فيها من أسرار وآثار. وسيكون من الأماكن المهمة في اليمن في الزراعة وفي التعدين بعد تطور اليمن، ودخول الأساليب العلمية الحديثة إلى تلك الأرجاء. وقد أمدتنا الكتابات التي عثر عليها في الجوف وفي "ديدان"3، التي كانت مستوطنة معينية في طريق البلقاء من ناحية الحجاز، والكتابات المعينية التي عثر عليها في مصر في "الجيزة"4، والكتابات المعينية الأخرى التي عثر عليها في جزيرة "ديلوس" Delos من جزر اليونان، والتي يعود عهدها إلى القرن الثاني قبل الميلاد5، بأكثر معارفنا التي سنبسطها هنا، ومنها استخرجنا في الأغلب أسماء ملوك معين ولولاها لكانت معارفنا عن المعينيين قليلة جدًّا، ويرى جماعة من العلماء أن "ماعون" "معون" Maon أو "معونم"

_ 1 O'Leary, P. 95 2 زيد بن علي عنان، تاريخ اليمن القديم "ص 95". 3 "الديدان": مدينة حسنة كانت في طريق البلقاء من ناحية الحجاز خربت، البلدان "4/ 119". D.H. MUUer, Eplgraphische Denkmaler aus Arablen, 1889 4 BOASOOE, Num. 73, (1939) , P. 7 5 BOASOOE, Num. 73, (1938) , P. 7

"معينيم" Me'inim = Me'unim الواردة في التوراة إنما يقصد بها "المعينيون"1، وهم سكان "النقب" إلى طور سيناء2، أو هم سكان "معان" الواقعة إلى الجنوب الشرقي من "البتراء"3 petra، أو هم أهل "العلا" "الديدان"4. وقد ذكروا في موضع من التوارة في جملة سكان "النقب" Negev وذكروا في موضع آخر مع قبائل من العرب5. وليس بين الباحثين في تأريخ المعينيين اتفاق على تأريخ مبدأ هذه الدولة ولا منتهاه، فـ "كلاسر" مثلًا يرى أن الأبجدية التي استعملها المعينيون في كتاباتهم ترجع إلى الألف الثانية أو الألف الثالثة قبل الميلاد، وهذا يعني أن تأريخ هذا الشعب يرجع إلى ما قبل هذا العهد، فالمعينيون على هذا هم أقدم عهدًا من العبرانيين6. ويعارض هذا الرأي "هاليفي" "وميلر"7 D.H. MULLER و "موردتمن"8 Mordtmann و "ماير"9 E.Meyer. و "شبرنكر"10 Sprenger. و "ليدزباسكي"11 Lidzbarski. وغيرهم, ويرون أن نظرية "كلاسر" هذه مبالغة، وأن مبدأ هذه الدولة لا يتجاوز الألف الأولى قبل المسيح بكثير. ويرى "هومل" Hommel أن من الممكن أن يكون مبدأ تاريخ دولة "معين" ما بين "1500- 1200ق. م" ونهاية حكومتها في عام "700 ق. م"12، وجعل "فلبي" مبدأ حكم أول ملك من ملوكها في عام 1120ق. م وحكم آخر نعرفه من ملوكها في عام 630 ق. م13.

_ 1 Ency. Blbll., P. 3065, James Montgomery, Arabia and the Bible, P. 183 2 Hastings, P. 619 3 Montgomery, Arabia, P. 183 4 Ibid, 5 أخبار الأيام الأول، الإصحاح الرابع، الآية 41، أخبار الأيام الثاني، الإصحاح 26، الآية 7.Hastings, P. 619 6 Glaser, Sfclzze, 2, S., 110, 330 7 D. H. Muller, Beilage zur Manch. Allgem. Zeltung, 1890 NOY. 24, and 31, Ency., VoL, 4, P. 13 8 Nordotmann, In: ZDMG., XIVII, 400, Beltrftge, S. 105,115 9 E. Meyer, Gesch. d. Altertums, 2, 8., 382 10 Sprenger, Bemerkungen, S., 502, Ency., VoL, 4, P. 13 11 Ephemeris, 2, S., 101 12 Handbuch, I, S., 67. Ency., Vol., 4, P. 13. BOASOOB, Num. 73,1959, P. 5, 13 Background, P. 141

ويعارض "ونت" Winnett رأى "كلاسر" و"نكلر" و "هومل" في تقدير مبدأ تأريخ دولة معين، ويرى أن في ذلك التاريخ مبالغة، وأن "شبا" أي "سبأ" وكذلك "ددان" "ديدان"، أقدم الدول العربية مستدلًّا على ذلك بما ورد في التوراة من قدم "شبا"، ويرى أن مبدأ دولة "معين" لا يمكن أن يتجاوز عام "500ق. م"، وإما نهايتها فقد كانت بين عام "24ق. م" وعام "50 ب. م"1. ويرى معارضو نظرية "كلاسر" عن قدم الدولة المعينية أن هذه النظرية لا تستقيم مع ما هو معروف بين العلماء عن تأريخ ظهور "الألفباء" عند البشر، فإن إرجاع تأريخ معين إلى الألف الثانية أو الألف الثالثة قبل الميلاد معناه إرجاع "المسند" إلى أقدم من ذلك، وهذا يتعارض مع النظريات الشائعة عن قدم الخط عند البشر، فإن الخط "الفينيقي" لا يتجاوز عهده ألف سنة قبل الميلاد وليس "المسند" كما يظهر في أشكاله وصوره الهندسية أقدم عهدًا منه2. واستند "هوارت" إلى هذه الحجة أيضًا في معارضته رأي من يرجع تأريخ معين إلى سنة1500 قبل الميلاد3, ويرى "أوليري" هذا الرأي أيضًا، ويرى أيضًا أن كتابات المسند كافة معينية أو سبئية، لا تتجاوز البتة السنة 700 قبل الميلاد، وذلك؛ لأن هذا القلم قد أخذ من القلم "الفينيقي"، ولهذا لا يمكن أن يطاوله، وأن يرجع في تأريخه إلى أكثر من القرن الثامن قبل الميلاد4. وقد ثبت "ملاكر" في كتابه في تأريخ التشريع، والتوريخ عند العرب الجنوبيين مبدأ قيام دولة "معين بسنة "725" قبل الميلاد، وسقوطها بالقرن الثالث قبل الميلاد5. وتناول "البرايت" موضوع ترتيب حكام معين بالبحث، وذلك في النشرة

_ 1 BOASOOB, Num., 73, 1939, P. 8 2 Lldzbarskl, Ephemeris, II, S., 101, Ency., Vol., 4, p. 13 Hllprecht, Explorations In Bible kands, P. 731 3 Huart, Geschlchte der Araber, Bd., I, S., 45 4 O'Leary, P. 95 5 K Mlaker, Die Hierodulen-LIsten von Main nebst Untersuchungen zur Altstidarabischen Rechtgeschichte und Chronologle, Leipzig, Harrassowltz, 1943

التي تصدرها المدارس الأمريكية للبحوث الشرقية، وهو يختلف أيضًا مع المتقدمين في موضوع تواريخ أولئك الحكام، ويحاول جهد الإمكان الاستفادة من الدراسات الآثارية للكتابات وللآثار التي يعثر عليها في تقدير حكم المكربين والملوك1. وقد ذهب في أحد أبحاثه عن "معين" إلى تقسيم ملوك دولة معين إلى ثلاث مجموعات جعل الملك "اليفع يثع" وهو ابن الملك "صدق ايل" ملك حضرموت على رأس هذه المجموعات، وجعل حكمه في حوالي السنة "400 ق. م" وجعل نهاية هذه الدولة فيما بين السنة "50" والسنة "25 ق. م"2. وهو يرى أن التأريخ الذي وضعه لمبدأ قيام حكومة معين، ولنهايتها وسقوطها، هو تأريخ في رأيه مضبوط، ولا يتطرق إليه الشك، غير أنه يرى أن ما ذكره عن رجال المجموعات الثلاث تحتمل إعادة النظر فيه، ولا سيما المجموعة الأولى حيث يمكن إجراء بعض التغيير فيها3. وذكر "البرايت" في موضع آخر أنه يرى أن قيام ممكلة معين كان قبل السنة "350 ق، م" وقد استمر حكمها إلى ما بعد السنة "50 ق. م"4. أو السنة "100 ق. م"5. وذهب آخرون إلى أن نهاية مملكة معين كانت في حوالي السنة المئة بعد الميلاد6. وهكذا نجد الباحثين في العربيات الجنوبية مختلفين في بداية الدولة وفي نهايتها. ويلاحظ أن القدماء منهم كانوا يرفعون مبدأ الدولة ونهايتها عن الميلاد، أي يبعدون المبدأ والنهاية عنه، أما المتأخرون فهم على العكس، لا يذهبون مذهبهم، في البعد عن الميلاد، ويحاولون جهدهم جعل نهاية المملكة في حوالي الميلاد. وما زال الجدل بين علماء العربيات الجنوبية في تقدير عمر الدولة المعينية مستمرًّا. فهناك صعوبات تعترض نظرية من يقول أن الدولة المعينية سقطت قبل

_ 1 W. F. Albright, The Chronology, In The BOASOOR, Num., 119, cThe Chronology of Mlnaean Kings of Arabia*, Num., 129, (1953) , PP. 20 2 BOASOOR, Num., 129, (1953) , PP. 22 3 BOASOOR, Num., 143, (1956) , P. 9 4 BOASOOR, Num., 176, 1964, P. 51 5 Le Mus6on, 1964, 3-4, P. 434 6 Le Museon, 1964, 3-4, PP. 434, J. Pirenne, Royaume de Qataban, P. 7

الميلاد بمئات من السنين في أيدي حكام سبأ، والقائلون بها "كلاسر" وأتباعه. وقد رأى "كلاسر" أيضًا أن المعينيين قد تضاءل أمرهم وضعفوا كل الضعف وغلبت عليهم البداوة في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، على حين أن الموارد الكلاسيكية ومنها مؤلفات "سترابو" و "بلينيوس" و "ديودورس الصقلي" تعارض هذا الرأي بإشارتها إلى المعينيين وإلى تجارتهم، بل نجد أن "بطلميوس" الذي هو من رجال القرن الثاني للميلاد يقول فيهم "إنهم شعب عظيم"1 ثم إن الكتابات المعينية التي عثر عليها في الجيزة بمصر، تؤيد هذا الرأي أيضًا، إذ تشير إلى اشتغالهم في التجارة، تجارة استيراد البخور للمعابد المصرية، في القرن الثالث أو الثاني بعد الميلاد2. ومن هنا قال "أوليري" وغيره أن المعينيين بقوا نشطين عاملين إلى ما بعد الميلاد، وربما ذهاب حكمهم في أيام "البطالمة" أو في أيام الرومان، ومهما يكن من أمر فليس في الأماكن البت في تعيين ذلك العهد3. والذين يقولون بتقدم دولة معين على سبأ، ويرون أن حكام "سبأ" من دور "المكربين"، أي دور الملوك الكهنة هم الذين قضوا على حكم دولة معين فانتزعوا الحكم من ملوك معين، وأخضعوا المعينيين إلى حكم سبأ. غير أننا لا نعرف كيف تم ذلك، ومن هو الملك المعيني الذي تغلب عليه السبئيون. ولا يمكن تقريب وجهة الخلاف هذه إلا بالاستعانة بالحفريات العميقة المنظمة، وبما سيستخرج من جوف الأرض من آثار وكتابات، ودراستها دراسات علمية متنوعة، دراستها من ناحية تطور الخط Paleography وأسلوبه، ومقارنته بالخطوط الأخرى التي عثر عليها في جزيرة العرب وفي خارجها، لمعرفة عمرها، ودراستها من ناحية تحليلها تحليلًا مختبريًّا لمعرفة زمانها ووقت نشوئها حيث يمكن التوصل بهذا التحليل إلى نتائج يكون مجال الشك والجدل غير كبير Radiocarbon، ودراستها من ناحية علم الآثار، إلى غير ذلك من طرق توصل إلى نتائج إيجابية أو قربية من حدود الإيجاب.

_ 1 OLeay p 94 OLeay p 95 2 3 OLeay p 94

ملوك معين

ملوك معين: وقد حصل قراء الكتابات المعينية على أسماء ملوك حكموا دولة معين، أحصوها وجمعوها، وحاولوا الاستفادة منها بتنسيقها وتبويبها لتكوين قائمة منظمة مرتبة بمن حكم عرش تلك الدولة حكمًا زمنيًّا متسلسلًا بقدر الإمكان، غير أنهم لقوا صعوبات كبيرة حالت بينهم وبين الاتفاق على وضع قائمة موحدة متفقة. فذهبوا في ذلك جملة مذاهب، ووضعوا تواريخ متباينة مختلفة، وكيف يمكن الاتفاق وقد ذكرت أنهم مختلفون اختلافًا كبيرًا من حيث تعيين مبدأ ظهور تلك الدولة، وأنهم مختلفون أيضًا في تأريخ سقوطها وفي الدولة التي أسقطتها, يضاف إلى ذلك أن الكتابات المعينية عفا الله عنها، لم ترد مؤرخة على وفق تقويم من التقاويم، ولم تتحدث عن حكم أي ملك من أولئك الملوك ولم تذكر ترتيبهم في الحكم، وهي أكثرها في أمور شخصية لا علاقة لها بسياسة ولا بدولة وملوك، فليس من الممكن إذن اتفاق الباحثين على وضع قوائم صحيحة لملوك معين، ولا لمدد حكمهم ما دام الوضع على هذا الحال والمنوال، والرأي عندي هو أن ذلك لم يتم، ما لم تجر حفريات علمية عميقة في مواضع المعينيين في اليمن وخارج اليمن، تمكننا من الحصول على كتابات جديدة لها صلة بسياسة الحكومة وبأخبار الملوك وبعلاقاتهم مع الدول الأجنبية, فإذا تم ذلك أمكن وضع مثل هذه القوائم مستعينين بهذه الكتابات وبالكتابات الأجنبية التي قد تشير إلى ملوك معين، وبأمثال هذه الدراسات نطمئن إلى هذه القوائم، ونستطيع اعتبارها ذات قيمة في تثبيت الحوادث وتواريخ حكومة معين. والملوك الذين وردت أسماؤهم في الكتابات المعينية، ليسوا هم كل ملوك معين، بل هم جمهرة منهم، ولا استبعد احتمال حصول المنقبين في المستقبل على عدد آخر من أسماء ملوك جدد لا نعرف من أمرهم اليوم شيئًا، قد يزيد عددهم على هذا العدد المعروف، وقد يبلغ أضعافه، فتصبح القوائم الموضوعة التي رتبها علماء اليوم غير ذات خطر بالنسبة للقوائم الجديدة، وسيتغير فيها كل شيء من أسماء ملوك، ومن أرقام مدد حكم وتواريخ. ومع ذلك فأنا لا أريد أن أكون جدليًّا سوفسطائيًّا، سلبيًّا غير بناء، وسأجاري الحال فأعرض على القارئ نتائج جهود أولئلك العلماء في وضع قوائمهم بأسماء ملوك معين، فأقول: جعل "هومل" من أسماء ملوك معين التي عرفها ثلاث

طبقات، كل طبقة تتألف من أربعة ملوك، وطبقة أخرى تتألف من ملكين1. ورتب "كليمان هوار" هؤلاء الملوك سبع طبقات، الطبقة الأولى، تتألف من أربعة ملوك، والطبقة الثانية من خمسة، والطبقة الثالثة من أربعة، والرابعة من اثنين، والخامسة من ثلاثة، وأما الطبقتان السادسة والسابعة فتتألف كل واحدة منها من ملكين، ويبلغ مجموع ملوك هذه الطبقات السبع اثنين وعشرين ملكًا2. وينقص هذا العدد أربعة ملوك عن قائمة "مولر" الذي حقق هوية ستة وعشرين ملكًا, وقد رتب "أوتوويبر" و "موردتمن" أولئك الملوك في طبقات أيضًا3. أما "فلبي"، فقد ذكر اثنين وعشرين ملكًا، نظمهم خمس سلالات، وجعل على رأس السلالة الأولى "اليفع وقه", وفي آخر السلالة الخامسة الملك "تبع كرب" الذي حكم على رأيه من سنة 650 إلى سنة 630 ق. م4. وعند "هومل" أن السلالة التي في أولها الملك "اليفع وقه"، هي أقدم أسر ملوك معين5. وأما "مورد تمن"، فيقدم الأسرة التي جعل على رأسها الملك "يثع ايل صديق"6. وقد فعل ذلك "كليمان هوار" أيضًا7. أما "ونست" فيرى أن الأسرة التي فيها "أب يدع يثع" هي أقدم عهدًا من الأسرتين8. والخلاصة أن هذه الأسر أو السلالات لا تعني أنها كل الأسر التي حكمت "معينًا" أو أن الأسرة الأولى منها هي أول أسرة حكمت ذلك الشعب فقد يكون هنالك عدد آخر من الأسر والملوك حكموا قبلها سنين كثيرة ربما بلغت قرونًا. ويرى "البرايت" أن ملوك حضرموت كانوا هم الذين أسسوا مملكة معين، أسسوها في حوالي السنة "400ق. م" أو بعد ذلك بقليل. ويرى أن أول

_ 1 Hommel, Grundriss, I, S., 136, Chrest., S., 90 2 Cl. Huart, Geschichte der Araber, BcL, I, S., 56 3 Grundriss, I, S., 136, Mordtmann In ZDMG., 47, 1893 S., 397-417, Muller, Die Burgen, 2, 60 4 Background, P. 141 5 Handbuch, a, 67, 71, Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 234 BOASOOR, Num., 73, (1939) , P. 7 6 Mordtmann, In ZDMG., XLVII, 409, BOASOOR, Num., 73, P. 7, (1939) 7 Geschichte der Araber, I, S., 56 8 BOASOOR, Num., 73, (1939) , P. 7, Le Museon, T.Xn, 3-4, 1949

ملك من ملوكها كان الملك "اليفع يثع"، وكان ابنًا للملك "صدق ايل" ملك حضرموت. ويرى من عدم وصول كتابات سبئية ما بين السنة "350" والسنة "100" قبل الميلاد، أي أن السبئيين كانوا في خلال هذه المدة أتباعًا لحكومة معين1. فأول ملك من ملوك "معين" إذن على رأي "البرايت"، هو الملك "اليفع يثع". أما "هومل"، فجعل "اليفع وقه" أقدم ملك معيني وصل خبره إلينا، وقد جاراه في رأيه هذا "فلبي" وآخرون. وهناك كما قلت قبل قليل من قدم ملكًا آخر على هذين الملكين. وقد ورد اسم الملك "اليفع وقه" في كتابة عثر عليها في موضع "السوداء"2، وهو مكان مدينة "نشن" "نشان" القديمة في الكتابات المعينية، ورد فيها: أن الملك "اليفع وقه" ملك معين، وشعب معين، قدما بأيديهم إلى معبد الإله "عم" بـ"راب" "رأب" من "ذي نيط" نذورًا وهدايا وقرابين، تقربًا إليه. وقد تسلم الـ "رشو" أي "كاهن" المعبد والقيم عليه تلك الهدايا، وتقبلها باسم المعبد3. ولم تذكر الداعية التي دعت الملك وشعبه إلى تقديم تلك النذور والقرابين إلى الإله "عم" رب "رأب"، ولعلها كانت مذكورة في المواضع التي أصيبت بتلف في الكتابة. وورد اسم هذا الملك في كتابة أخرى عثر عليها في "براقش"، وهي مدينة "يثل" من مدن معين، دونت عند بناء بناية في عهده، فذكر هو وابنه "وقه آل صدق" "وقه ايل صديق" فيها، تيمنًا باسمها وتثبيتًا لتأريخ البناء4. وعثر على اسم الملك "وقه آل صدق" "وقه ايل صديق" ابن الملك "اليفع وقه" في كتابة وجدت في "قرنو" "قرن" "القرن"5.

_ 1 BOASOOR, Num, 129, "153", P. 22, Note: 7 2 "الخربة السوداء" "خربة السوداء" "والخربة السوداء بالشاكرية، ثم معين وبراقش ثم كمنا وروثان لنشق" الصفة "ص 167" "السوداء" "مدينة السوداء" تأريخ اليمن القديم، لزيد علي عنان، "ص 97". 3 Rep. Eplg., 3307, Hommel, Chrest., S., 91, "257", Olaser, 284, Background, P. 49 4 Background, P. 49, BOASOOR, Num., 73, "1939", P. 7 5 Background, P. 49, BOASOOR, Num., 73, 1939, P. 7

أما الذي حكم بعد "وقه ايل صدقه" "وقه ايل صديق"، فهو ابنه الملك "اب كرب يشع" "أبكرب يشع" وهو في نظر "البرايت" مثل والده و"اليفع وقه" من رجال المجموعة الثانية من مجموعات ملوك معين. وقد حكم -على حسب رأيه- في حوالي السنة "150" قبل الميلاد1. وجاء اسم الملك "ايكرب يثع" "اب كرب يثع" في كتابة عثر عليها في "العلا"، أي في "الديدان" وتعود لذلك إلى المعينيين الشماليين، وصاحبها رجل من "آل غريت" "غرية"، كتبها عند شرائه ملكًا من شخص اسمه "اوس بن حيو" "اوس بن حي". وتيمنًا بذلك قدم نذورًا إلى الإله "نكرح" وآلهة معين، وجعل الملك في رعايتها وحمايتها لتقيه أعين الحساد وكل من يحاول الاعتداء عليه, ودعا آلهة معين أن تنزل نقمتها على كل من يحاول رفع تلك الكتابة، أو يتلفها، أو يلحق بها أذى. وقد تيمن باسم تلك الآلهة، وذكر بهذه المناسبة، اسم الملك "ابكرب يثع"، وذكره بعده اسم "وقه آل صدق" "وقه ايل صديق"2. وقد وجد فراغ بين الاسمين بسبب تلف أصاب الكتابة رأى ناشر الكتابة أنه واو العطف، فصير الجملة على هذا النحو "ابكرب يثع ملك معن ووقه آل صدق"، و"أبكرب يثع ملك معين ووقه ايل صديق"، وعندي أن هذا الفراغ يمثل حرفين هما "بن"، أي "ابن" فتكون الجملة "ابكرب يثع معن بن وقه آل صدق"، "أبكرب يثع ملك معين ابن وقه ايل" وبذلك ينسجم المعنى، إذ إن "وقه آل صدق"، هو والد "أبكرب يثع" فإذا ذكر اسم الأب بعد لفظة "ابن"، انسجم المعنى، أما إذا وضعنا حرف، العطف، "الواو" بين الاسمين، نكون قد قدمنا اسم الابن على اسم الأب، وفي ذلك نوع من سوء الأدب، أو دلالة على أن الابن هو الملك الحقيقي، وأن والده لم يكن شيئًا، يومئذ أو كان ملكًا بالاسم فقط. على أنه حتى في هذه الأحوال والاحتمالات، لا يوضع اسم الأب بعد اسم الابن. وقد أرخت الكتابة بأيام تولي "أوس" من "آل شعب" منصب "كبير" تلك المنطقة التي كان يقيم فيها صاحب تلك الكتابة3.

_ 1 ASOR, Num., 129, (1953) , P. 23 2 Rep. Epig., 3697, Jausen-Savignac, Mission, n, (732) , P. 261 292 3 راجع الفقرة "12" من النص.

وعثر على كتابة في مدينة "يثل" "براقش"، وجاء فيها اسم ملك يدعى "عم يثع نبط" "عميثع نبط" "عمي يثع نبط". وهو ابن الملك "ابكرب يثع" المذكور1. وقد ورد اسم الملك: "عم يثع نبط بن ابكرب" "عميثع نبط بن أبكرب" في كتابة دونت لمناسبة حبس أرض الآلهة معين، لتكون وقفًا على معبد الإلهه "عثر شرقن" أي "عثر الشارق" بمدينة "يثل"2. أما "البرايت"، فقد وضع اسم "عم يثع نبط" في المجموعة الأولى من مجموعاته الثلاث التي كونها لملوك معين، وقد جعل حكمه في حوالي السنة "300 ق. م" وذكر أنه رجل اسمه "اب كرب" "أبكرب". وقد أشار إلى أن "اب كرب" هذا هو غير "اب كرب يثع" الذي هو ابن الملك "وقه ايل صدق"، الذي كان حكمه -على رأيه- في أواخر القرن الثاني لما قبل الميلاد3. ويرى "فلبي" وجود فترة قدرها بنحو عشرين سنة, لا يدري من حكم فيها بعد "عم يثع نبط" وقد كانت في حوالي السنة "1040 ق. م"، وقد انتهت في حوالي السنة "1020 ق. م" بتولي الملك "صدق ايل" عرش معين. وهو ملك من ملوك حضرموت، فيكون بذلك قد جمع في شخصه بين عرش حضرموت وعرش معين، ثم انتقل العرش إلى "اليفع يثع" وهو ابنه، وقد حكم -على رأي "فلبي"- في حوالي السنة "1000 ق. م". وكان له شقيق اسمه "شهر علن" "شهر علان" انفرد بحكم حضرموت، وبذلك انفصل عرش حضرموت عن عرش معين4. وبين تقدير "فلبي" هذا لحكم "صدق ايل" ولحكم ابنه "اليفع يثع" وتقدير "البرايت" الذي جعل حكم "صدق ايل" في حوالي السنة "400 ق. م" فرق كبير. كذلك نجد بين ترتيب "فلبي" وترتيب "البرايت" للملوك فرقًا كبيرًا فـ "اليفع يثع" وهو ابن "صدق ايل" هو أول ملك ملك عرش

_ 1 Background, P. 51, BOASOOR, Num., 73, (1939) , P. 7 2 Fakhry, 17, Le Mus6on, 1-2, 1953, P. 113 3 BOASOOB, Num., 129, (1953) , P. 23 4 Background, P. 141

معين على رأي "البرايت"، على حين أخره "فلبي" على نحو ما رأيت، إلا أنهما يتفقان في أن "صدق ايل" والد "اليفع يثع" كان ملكًا على حضرموت, ثم يعودان فيختلفان أيضًا، ذلك أن "فلبي" جعله ملكًا على حضرموت ومعين، أما "البرايت" فلم يدخل اسمه في قائمته لملوك حضرموت1. وحكم بعد "اليفع يثع" ابنه "حفن ذرح" وكان حكمه في حوالي السنة "980ق. م" على تقدير "فلبي" وكان له شقيق اسمه "معد كرب" "معد يكرب" ولي عرش حضرموت2. ولم يذكر "البرايت" اسم هذا الملك في قائمته لملوك معين3. وقد ذكر "فلبي" أنه كان لـ "حفن ذرح" شقيق، اسمه "معد كرب" "معد يكرب"، ولي عرش حضرموت. أما الذي ولي عرش "معين" بعد "حفن ذرح"، فهو "اليفع ريم" "اليفع ريام". وقد حكم في حوالي السنة "965 ق. م" على تقدير "فيلبي" وهو ابن "اليفع يثع". وقد حكم حضرموت أيضًا؛ وذلك لأن ولد "معد يكرب" لم يحكموا عرش حضرموت4. ثم انتقل حكم معين إلى "هوف عث" "هوفعثت" "هو عثت" من بعد "اليفع ريام"، وهو ابنه، وقد ولي الحكم سنة "950 ق. م" -على رأي "فيلبي"5- ودون ذلك بمئات من السنين على رأي "البرايث"6. وانتقل العرش إلى "أب يدع يشع" "أبيدع يشع" بعد "عوف عثت" وقد كان حكمه في حوالي السنة "935" قبل الميلاد7. وأما "البرايت" فيرى أن زمان حكمه كان في حوالي السنة "343" قبل الميلاد8. وهو ابن "اليفع ريمام".

_ 1 Background, P. 141, Boasoor, Num., 139, (1953) , P. 22 2 Background, P. 141 3 BOASOOR, Num., 129, (1053) , P. 22. f 4 Background, P. 141 5 Background, P. 141 6 BOASOORJCum. 129, (1953) , P. 22 7 Background, P. 141 8 BOASOOR, Num. 129, (1953) , P. 22, Num. 119, (1950) , P. H Discoveries, P. 295

وجاء في الكتابة المرقمة برقم: Halevy 192 و1150Glaser وهي كتابة تتألف من جملة أسطر ومصدرها مدينة معين1. اسم الملك "اب يدع يثع"2 ورد لمناسبة قيام جماعة من أشرف مدينة "قرنو" "قرن" "القرن" بإصلاح خنادق هذه المدينة، وترميم أسوارها وإنشاء محلة جديدة فيها. وصاحب هذه الكتابة والآمر بتدوينها، هو "علمن بن عم كرب" من أسرة "ذي حذار" "ذي حذأر" أي "آل حذأر" ورئيس "كبأن" "جبأن" وصديق ومكتسب عطف ومودة "موددت" ملك معين "اب يدع يثع"، ووالد عدد من الأولاد ساعدوه في هذا العمل، هم "ياوس آل" "ياوس ايل" "يأوس ايل"، و "يذكر آل" "يذكر ايل"، و "سعد آل" "سعد ايل" و "هب آل"، "وهب ايل"، و"يسمع ايل" "يسمع آل" وقد قاموا بهذا العمل تقربًا إلى آلهة معين: "عثتر ذ قبضم" "عثتر ذو قبض"3. و "ود" و"نكرح" وإلى ملك معين. وقد جرى العمل في ربع "ربعن" المدينة4. المسمى "رمشو" "رمش"، وقد امتد إلى موضع "شلوت". وبعد الانتهاء من هذا العمل ذبحت القرابين على عادتهم للآلهة "عثتر" "رب" "قبض" "عثتر ذ قبضم" و "ود" وذكرت الكتابة تفاصيل الأعمال التي تمت ومواضعها ومقدارها وغير ذلك مما يذكر عادة في وثائق البناء. وهناك كتابة أخرى عثر عليها في "قرنو"، وهي الكتابة التي أشير إليها بعلامة 193Halevy، ورد فيها اسم الملك "اب يدع يثع"، وهي من الكتابات المهمة التي تشير إلى الصلات السياسية التي كانت في هذا العهد بين ممكلة معين ومملكة حضرموت. وقد جاء فيها أن "معد يكرب" ملك حضرموت وقف حصن "خرف" للإله "عثتر ذ قبضم"، وقد بنى ذلك الحصن "شهر علن بن صدق آل" ملك "حضرموت" ونذره للإله "عثتر ذ قبضم" و"عثتر شرقن" و "ود" و "نكرح"، وقدمه إلى أبن أخيه "اب يدع يثع" ملك

_ 1 محمد توفيق، آثار معين في جوف اليمن، القاهرة "1951"، النقش1 "الواح 17- 19". Halevy, Mission, P. 32, 75, 77 2 Glaser, 1150, Halevy 192 + 199 3 N. Rhodokanakls, Studlenzur Lexikographle und Grammatlfe des Altsttdarablschen, Heft, 2, 8., 54. 4 "هكرن فرنو بقلح ربعن رمشو" Stud. Lexl., 2, 8., 55

"معين"، وشعبه شعب معين1. وورد اسم الملك "معد يكرب بن اليفع يثع" في الكتابة الموسومة بـ: Halevy 520، وهي من الكتابات التي عثر عليها في خرائب مدينة "يثل"، وتتحدث عن إنشاء بناء في مدينة "كل"، كما ورد اسم الملك "اب يدع يثع" واسم "معد يكرب بن اليفع" في كتابة أخرى عثر عليها في "يثل" أيضًا2. وورد اسم "اب يدع يثع" في ثلاث كتابات أخرى. وورد في اثنين منها اسم ابنه "وقه آل ريم" "وقه ايل ريام" معه3. وتشير هذه الكتابات إلى أن "معد يكرب بن اليفع يثع"، أي ابن أخي "أب يثع بن اليفع ريام" كان معاصرًا لـ "أب يدع" وأن الصلات بين ابني الشقيقين كانت وثيقة وحسنة، وهي كتابات تفيد المؤرخ بالطبع كثيرًا في محاولاته لوضع قائمة بأسماء ملوك حضرموت وملوك معين، إذ إنها جعلتنا نتفق في أن حكمي الملكين كانا في زمن واحد تقريبًا، ومكنتنا بذلك من تثبيت أسماء بقية أسرتيهما على هذا الأساس بحث لا يبقى هنا موضع للجدل في موضع ترتيب أسماء رجال هذه الأسرة الحاكمة في حضرموت وفي معين. ومن الكتابات المعينية المهمة، كتابة رقمت برقم Glaser 1115= Halevy 535 Halevy 578، ترجع أيامها إلى أيام الملك "اب يدع يثع". وهي تتحدث عن حرب وقعت بين "ذيمنت" و "ذ شامت"4. أي بين الجنوب والشمال، ولا يعرف مقصود الكتابة من الجنوب ومن الشمال على وجه أكيد. وقد ذهب "ونكلر" إلى أن المراد بـ"الجنوب" حكومة معين، وأن المقصود من الشمال حكومة عربية. هي حكومة "أريبي" التي كان يمتد سلطانها على زعمه، إذ ذاك إلى أرض دمشق5. وقد دونت هذه الكتابة لمناسبة نجاة قافلة كبيرة ضخمة من غزو تعرضت له بين موضع "معن" أي "معين" على قراءة,

_ 1 Background, P. 51, Albright, in BOASSOR, 129, (1953) , P. 22 119, (1950) , P. EL 2 Halevy 535. T 3 Background, P. 51. T 4 "وبن ضركون بين ذيمنت وذسامت" أي "ومن الحرب التي وقعت بين سادة الجنوب وسادة الشمال". 5 Wlnckler, Musri, Melucha, Ma'in, S., 20, 22.

أو موضع "ماون" "ماوان" على قراءة أخرى، وبين موضع "ركمت" "ركمات"1. وإذا صح أن الموضع الأول المذكور هنا هو "معن"، فيكون الهجوم على القافلة المذكورة قد وضع فيما بين "معين" العاصمة وموضع "ركمت". وإذا كان الموضع "مون" أو "ماوان"، يكون الهجوم قد وقع عليها في المنطقة التي بين "مون" "ماوان" و "وركمت". ولا نعلم من أمر "مون" "ماوان" شيئًا على وجه التأكيد، وقد ذكر "ياقوت الحموي" اسم موضع دعاه "ماوان"، قال عنه: "واد فيه ماء بين النقرة والزبدة، فغلب عليه الماء، فسمي بذلك الماء ماوان2. وقد أمر بتدوين هذه الكتابة "عم صدق" "عميصدق" "عم يصدق"، "عم صديق" ابن "حم عثت"، "ذو يفعن" و"سعد بن ولك3" "ذو ضفكن"4. وكانا "كبر" كبيرين على "مصر" وعلى "معن مصون" "معين مصران"5. وقد أمر بتدوينها، شكرًا لآلهة معين: "عثر ذو قبض" و "ود" و "نكرح"؛ لأنها نجت القافلة وأنقذتها من الوقوع في أيدي الغزاة، كما قاما بتزيين معبد "تنعم"، وذلك في عهد ملك "معين" "أب يدع يثع". وقد ورد في الكتابة ذكر حرب وقعت بين "مذي" و "مصر" في وسط "مصر"6. وقد شكر الآلهة على أن سلمت أموال المعينيين في هذه المنطقة أيضًا، وحفظت أوراح رجال القافلة وشملتها برحمتها وحمايتها إلى أن أبلغتها حدود مدينتهم "قرنو"، شكرًا وتسبيحًا بحمد "عثتر شرقن" "عثتر الشارق" و "عثتر ذو قبض" و "ود" و "نكرح" و "عثتر ذي يهرق" "وذات نشق"7. وكل آلهة معين8. و "يثل"، وملك معين، "أب يدع يثع" وبايني

_ 1 "رجمت" "رجمات" Winckler s 20 Background p 53. MUSRL. 2 البلدان "7/ 370". 3 "ولك" "ولج" "ولي"، "علي" Background p 53 Winckler S 56 4 winckler, Musri, S. 20, Backgrond, P. 53 5 "دعم صدق بن جمعثت" ذيفعن وسعد بن.... ولج "ولك" "على" "ولي"...... ذضفكن كبرى مصرن ومعن مصرن.....مصر ورتكل.... مهسمن مصر وااشور". 6 "بن وسط مصق بمرد كون بين مذي ومصر"، والسطرين الخامس والسادس من النص". 7 "ذت نشقم" "ذات نشق". 8 "وبكل الالت معن ويثل" "وبكل آلهة معينة ويثل".

"معد يكرب بن اليفع"، وشعبي معين ويثل1. ولم يرد في الكتابة ذكر الجهة التي كانت تقصدها هذه القافلة، أكانت متجهة من معين نحو الشمال، أي من اليمن نحو بلاد الشأم، أم كان اتجاهها على العكس من "معين مصران" نحو الجنوب قاصدة اليمن، ولكن القرائن تدل أنها كانت راجعة عائدة أي متجهة نحو اليمن، نحو العاصمة "قرنو"، وقد تعرضت لأخطار كثيرة بسبب الحرب المذكورة وبسبب الغزو الذي تعرضت له، وهي في طريقها إلى وطنها. وقد كانت مثل هذه القوافل هدفًا ممتازًا للقبائل والعشائر وقطاع الطرق، لما تحمله من أموال. وهي وان أمنت على نفسها باتفاقات تعقدها الحكومات ويعقدها أصحاب الأموال مع سادات القبائل الذين تمر الطرق من مناطق نفوذهم، إلا أن مثل هذه الاتفاقات لم تكن كافية لحماية الأموال المغرية التي تحملها الجمال من طمع الطامعين فيها، وقد يقع الاعتداء من قبائل أخرى معادية لسادات القبائل الذين يحمون تلك الطرق، ولهذا كانت أموال التجار معرضة دائمًا للأخطار، وعلى التجار أيضًا زيادة أسعار أموالهم، بسبب الضرائب المستمرة التي يدفعونها لسادات الطرق، وبسبب الزيادات التي يفرضونها في أتاواتهم هذه، وإلا تعرضت القوافل للسلب والنهب، ولهذا لا غرابة إن نذر التجار لآلهتهم وحمدوها وسبحوا بأسمائها عند عودتهم سالمين من تجارتهم، أو عادت قوافلهم سالمة، فيوم العودة هو في الواقع يوم فرح وعيد. واختلف الباحثون في تعيين الحرب التي نشبت في وسط مصر بين "مذي" و "مصر" اختلفوا في تعيين زمن وقوعها كما اختلفوا في تثبيت هوية المتحاربين. فذهب بعضهم إلى أن المراد من "مذي" "الماذيين"، ويراد بهم "الماديون" "الميديون"، وهم طبقة من طبقات الإيرانيين، ورأوا أن المعينيين كانوا قد أطلقوا "مذي" عليهم محاكاة لبني إرم، وكانوا على اتصال وثيق بهم، ولهذا دعوا بـ"مذي" في هذه الكتابة. ومن بني إرم تعلم المسلمون نسبة "الماذيين"

_ 1 Glaser 1155. Haleyvy 535

"الميذيين"، فقالوا إنهم من نسل "ماذي بن يافت بن نوح"1. وقد ذكر الطبري اسم "كيرش الماذوي"2. فـ "مذي" و"ما ذي" إذن بمعنى "مادي" و"ميديا" Media و "ماذي" هو "مادي" الابن الثالث ليافت في التوراة ومن نسله تسلسل الماديون3. وذهب "فلبي" إلى أن "مذي" هم "المدينيون"، أهل مدين "المديانيين" الذين عرفوا بتحرشهم بالعبرانيين، وهنم سكان أرض "مديان" "مدين"، وهي أرض واسعة تمتد من خليج العقبة إلى موآب وطور سيناء. ويرى أن الحرب المذكورة قد وقعت بينهم وبين أهل "معن مصرن" أي "معين المصرية"4. ورأى "هومل" أن "مذي" هم جماعة من بدو طور سيناء5. ونجد "فلبي" نفسه، يخالف نفسه في مناسبات أخرى، فقد ذهب مرة إلى أن "مذي" هم جماعة عرفوا بـ "مذوي" Madhoy أو Maroe أو Maziou وبين هؤلاء وبين "مصر" وقعت تلك الحرب6. واختلفوا في زمن وقوع تلك الحرب، فذهب "ونت" إلى أن الحرب المذكورة في هذا النص، حرب "مذي" و "مصر" هي الحرب التي وقعت بين "الميديين" والمصريين في سنة "343 ق. م"7. وقد استولى فيها

_ 1 "ماذي بن يافث، وهو الذي تنسب السيوف الماذية إليه"، الطبري "1/ 216، 650، 652" "طبعة ليدن" "1/ 205" "دار المعارف"، ولما عدد الطبري أسماء أبناء يافث بن نوح" لم يذكر اسم "ماذي" في جملتهم" "1/ 206" "دار المعارف". 2 الطبري "1/ 206" "دار المعارف". 3 التكوين، الإصحاح العاشر الآية2، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول الآية5، قاموس الكتاب المقدس "2/ 306". 4 "مدين" "مديان" "مديانيون"، قاموس الكتاب المقدس، "2/ 324" "مدين" في الكتب العربية. Background,54 P. 5 handbuch, I, S. 70, Hommel, Aufsatze, S. 231, Le Museon LXII, 3-4, P. 239, "1949" 6 Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 238 7 BOASOOR, Num 73, 1939, P

"أرتحشتا أوخوس" "أرطخشت أوخوس" OCHUS Artaxerxes على مصر1. وإلى هذا الرأي ذهب "البرايت" Albright كذلك2. أما "ملاكر" K. Mlaker فيرى أن هذه الحرب، هي الحرب التي وقعت في حوالي سنة "525 ق. م" وأدت إلى فتح "قمبيز" "كمبيس" Cambyses لمصر3. ومن اختلافهم في تقدير زمن وقوع هذه الحرب، اختلفوا في زمن حكم "اب يدع يثع" ملك معين، وفي حكم سائر ملوك معين، من مبدأ أول ملك إلى حكم آخر ملك من ملوك هذه الدولة. وقد ذهبت "بيرين" J. pirenne إلى أن الحرب المذكورة وقعت في الفترة الواقعة فيما بين "210" إلى "205. ق. م"، وأن المراد من "مذي" "السلوقيون" ومن "مصر" البطالمة، وأنها قد تشير إلى الاستيلاء على "غزة" في سنة "217ق. م" تقريبًا، وإلى المعركة التي تلتها ووقعت عند موضع4 Rapeia. ويرى البعض أن لفظة "مذي" إنما كانت تعني الحكومة التي تحكم العراق، ولو لم تكن من "الماذويين" "الميديين"، وأن "مصر" تعني الحكومة التي تحكم مصر من غير تقيد بجنسية الحاكمين لها، ويستشهد على هذا بورود لفظة "مذي" "همذي" في نص "صفوي" من سنة "614" للميلاد، وقد قصد بهم "الفرس". ويرى أن إطلاق لفظة "همذي" أي "الميذيين" على الفرس لا يثير اعتراضًا كبيرًا مثل الاعتراض الذي يثار حول تفسير "مذي" بـ"سلوقيين"، إذ إن الساسانيين هم فرس، والماذيين فرس كذلك، وأن

_ 1 هكذا كان يكتب عند اليونان. أما الفرس، فكانوا ينطقون به على هذا الشكل: "أرتخشترا" Artakhshatra وفي العبرانية "Artachschasta" ومعناه: ملك عظيم، قاموس الكتاب المقدس "1/ 59"، "ارطحششت الثالث المعروف بالأسود، واليونانيون يسمونه أوخوس، ملك سبعًا وعشرين سنة، واستعاد ملك مصر، وهزم نقطابيوس ملكها ... " تأريخ مختصر الدول، لابن العبري "ص 89"، بيروت "1890م". 2 BHASOOR, 119, "1950", cThe Chronology of Ancient South Arabia in The Light of the first Campaign of Excavation in Qataban, P. II 3 Le museon, LXII, 3-4, "1949", P. 231, K. Mlaker, Die Hierodulen - Listen von Ma'in nebst Untersuchungen zur Altsudarabischen Rechtsgeschichte und chronologle 4 P. pirenne, Paleographie des Inscriptions sud Arabes, I, "1958", 211

كانوا من جيلين مختلفين. أما "السلوقيون"، فقد كانوا يونانًا، وليست لهم علاقة بالفرس، ثم من يدرينا أن أهل ذلك العهد من العرب كانوا يطلقون على كل من يحكم العراق "ميذيين" "ماذويين"، وفي جملتهم هؤلاء السلوقيون1. هذا وقد ورد في النص اسم أرض دعيت "ااشور" "ااشر"، ووردت معها لفظة "مصر". وقد ذهب بعض الباحثين فيه إلى أن الكبيرين المذكورين كانا يمثلان ملك معين في "مصر"، أو في "صور" على بعض القراءات وعند ملك "ااشر" "ااشور" و "عبر نهران"2. وذهبوا إلى أن "ااشر" "ااشور" هي "آشور"، أو البادية. أما "هومل" و "كلاسر" فذهبا إلى أن المراد من "ااشور" أرض تقع على حدود مصر3. سكنها شعب دعي في التوراة بـ"اشوريم" Asshurim، وهم "ولطوشيم"4 Lutushim. و "لويميم" leummim قبائل عربية جعلتها التوراة من نسل "ددان" dedan "ديدان" من إبراهيم من زوجه "قطورة"5، وقد ورد في "التركوم" Targum أن معنى "اشوريم" سكان الخيام. وقد وردت اللفظة "ااشور" "اشور" Ashur في كتابتين معينيتين6. وعلى رأي "هومل" و "كلاسر" يكون الكبيران المذكوران في الكتابة، وهما أصحابها، قد حكما ومثلا ملك معين في "معين المصرية" وفي أرض "ااشور" أي في منقطة تمتد من مصر إلى "بئر السبع" Beersheda "و"حبرون" Hebron. وهي طور سيناء عند "هومل"، والأرض الواقعة بين السويس إلى "غزة" وجنوب فلسطين عند "كلاسر"7. وأما المغيرون على القافلة والذين أرادوا الاستيلاء عليها، فهم قوم من "سبأ"

_ 1 Die Arab er, I, S, 75. 2 Glaser. Skizze, 2, S, 452, Winckler, Musri, S. 20, Background, P. 53 3 Glaser, Skizze, 2, 452 Hommel, AHT, 239, Winckler, AOF, S. 28, ZDMG, 527, "1895" 4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 293"، التكوين الإصحاح 25، الآية 3. Hastings, P. 541 5 التكوين، الإصحاح 25، الآية 3. Ency. Bibil. P. 346, Hastings. P. 59 6 Hastihgs. P. 59 Ency Bibil. P. 346, Glaser, Sktzze, 2. S. 452

و"خولان" على رأي الباحثين. وقد ورد اسم الخولانيين في نصوص عربية جنوبية مما يدل على أنهم كانوا من القبائل المعاصرة للسبئيين1. ويتبين من هذا النص أن حربين قد نشبتا قبل تدوينه، حرب نشبت بين "ذيمنت" و"ذشامت"، أي بين سادة الجنوب وسادة الشمال، وحرب أخرى هي الحرب التي نشبت بين "مذي" و"مصر". وقد أصاب المعينيين من هاتين الحربين خسائر كبيرة. أما متى نشبت الحربان وكم كانت المدة بينهما، وبين الهجوم على القافلة المعينية المذكورة، فليس من الممكن تقديم أجوبة عنها مقنعة ومقبولة، لقلة ما لدينا من كتابات ووثائق، وقد رأينا إختلاف أهل العلم في تقدير تأريخ هذا النص، بسبب أخذهم بالحدس والتخمين، لذلك أرى أن من الصواب ترك هذه الإجابة إلى المستقبل. وقد رأينا أن هذا النص دون في أيام الملك "اب يدع يثع"، وقد أشير فيه إلى ابني "معد يكرب بن اليفع" الا أنه لم يذكر اسميهما ولا نعتيهما فجعلنا بذلك بجهل من أمرهما، ولهذا لم يتمكن الباحثون من وضعهما في قائمة ملوك حضرموت، إلا أن "فلبي" ذكر أنهما لم يتربعا على عرش تلك المملكة؛ لأنها ضمت إلى معين وبقيت مدة قدرها بحوالي ثلاثة قرون مندمجة فيها إلى حوالي السنة "650" قبل الميلاد حين انفصلت عن معين، وتولى الحكم عليها -على رأيه- الملك "السمع ذبيان بن ملككرب"2. وذكر اسم الملك "ابيدع يثع"، اسم ابنه "وقه آل ريم" "وقه ايل ريام" في النص الذي وسم بـ Rep. Epig' 3535، وهو نص دونه "سعد ابن هوفعثت" من "آل ضفجن" "آل ضفجان" "آل ضفكان" عند بنائه "مذبا" "مذابًا"، وصاحب هذه الكتابة هو من العشرة التي ينتمي إليها صاحب الكتابة Glaser 1155 المذكورة، وقد كان "كبيرًا" كذلك، تولى إدارة مقاطعة "معن مصرن" "معين مصران"، أي "معين المصرية"، وقد دعيت بذلك؛ لأن سكانها من المعينيين الساكنين في الشمال في العلا وما جاورها على الحدود المتاخمة لشرق "مصر". وقد تيمن بهذه المناسبة على عادة العرب

_ 1 نشر نقوش، نقش رقم 9، سطر3، 1076Glaser Halevy585 Glaser 119 2 Baskground , p 114

الجنوبيين بذكر آلهة معين ثم ملك معين وابنه، مما يدل على أن ابنه كان يشاركه يومئذ في تدبير الأمور، كما شكر "مجلس معين"، "مشود معن" "مزود معين"1. وجاء بعد "اب يدع يثع" "أبيدع يثع" على عرش معين الملك "وقه آل ريم" "وقه ايل ريام" ابن الملك "أبيع يثع" "أب يدع يثع"2. وابن "هوف عث" "هو فعث" على رأي "فلبي"3. أما "البرايت"، فقد جعله في موضع4 ابن "هو فعث"، غير أنه عاد في مواضع أخرى5. فجعله ابنًا من أبناء "أب يدع يثع". وانتقل الحكم إلى "حفن صدق" "حفن صديق" بعد "أب يدع يثع"، وهو ابن "هو فعث" على رأي "فلبي"6، وابن "وقه آل ريم" "وقه ايل ريام" على رأي "البرايت"7، وكان "البرايت" قد جعله في بحث آخر نشره من قبل شقيقًا لـ "وقه ايل ريام"، أي أنه جعله أحد أبناء "أب يدع يثع"8. ثم صار الحكم إلى "اليفع يفش" بعد "حفن صدق"، وهو ابنه على رأي "فلبي"9. أما "البرايت" فقد ذكر في بحث من بحوثه أن ابنه، غير أنه وضع أمام قوله هذا علامة استفهام إشارة إلى أنه غير واثق برأيه كل الوثوق10، ووضع في بحث له آخر في ملوك المعينيين جملة اشترك مع "حفن صدق في الحكم"، من غير أن يشير إلى علاقته به11.

_ 1 Rep. Eplg., 3535, Weber, Stud., II, S. 34, Ltdzbarsfei, Eph. Semi, n, 3., 98, Hartmann, SOd-Arab-Frage, I, Conti Rossini, Chrest. Arab. Mrid., 1931.p. 80 2 Rep. Epigr., 3535 3 Background, P. 141 4 BOASOOR, Num., 119, (1950) , P. It 5 BOASOOR, Num., 129, (1953) , P. 22 6 Background; P. 141 7 BOASOOR, Num., 129, (1953) , P. 22 8 BOASOOR, Num., 119, (1950) , P. 11 9 Background, P. 141 10 BOASOOR, Num., 119, (1950) , P. 11 11 BOASOOR, Num., 129, (1953) , P. 22

ووضع "فلبي" فراغًا بعد اسم "اليفع يفش"، لا يدري من حكم فيه، قدره على عادته بعشرين عامًا، ويقابل ذلك حوالي السنة "870 ق. م"، وجعل نهايته في سنة "850 ق. م"، ثم وضع بعده أسرة جديدة، زعم أنها حكمت معينًا على رأسها "يثع ايل صديق" "يثع آل صدق" ولا نعرف الآن من أمره شيئًا إلا ما ورد في كتابة من الكتابات من أنه بنى حصن "يشبم" "يشبوم"، وأنه والد "وقه آل يثع" "وقه ايل يثع" ملك معين1. و"وقه آل يثع" هو والد "اليفع يشر" الذي ضعفت في أيامه حكومة معين كما يظهر ذلك في كتابة كتبها أهل "ذمرن" "ذمران" لمناسبة وقفهم وقفًا على معبد، إذ ورد "في أيام سيدهم، وقه آل يثع وابنه اليفع يشر، ملك معين، وباسم سيدة شهريكل يهركب ملك قتبان". ويظهر منها أنها كتبت في أيام "وقه آل يثع"، وكان ابنه "اليفع" يحمل لقب "ملك"، كذلك، وأن حكومة قتبان كانت أقوى من حكومة "معين"، ولهذا اعترف ملك معين بسيادة ملك قتبان عليه2. وقد ورد اسم "اليفع يشر" في كتابات أخرى، منها الكتابة الموسومة Glaser 1144= Halevy 353، وقد دونت بأمر جماعة من أهل "نيط" لمناسبة قيامهم بترميمات وإصلاحات في الأبراج وحفر قنوات ومسايل للمياه تقربًا إلى آلهة معين3. ومنها كتابة دونت في "نشن" "نشان"، وكتابة دونت في "قرنو"، ويظهر من هذه الكتابة الأخيرة ما يؤيد رأي القائلين إن حكومة قتبان كانت أقوى من حكومة معين إذ ذاك، وإنها فرضت نفسها لذلك عليها4. إلا أن هذا لا يعني أنها فقدت استقلالها وصارت خاضعة لحكومة قتبان فإننا نرى أنها بقيت مدة طويلة بعد هذا العهد محافظة على كيانها، وعلى رأسها ملوك منهم الملك "حفن ريم" "حفن ريام" وهو ابن "اليفع يشر" وشقيقه "وقه آل نبط" و "كه ايل نبط"5.

_ 1 Background, P. 56, BOASOOR, Num., 73, (1939) . P. 7. 2 Background, P. 56. 3 Stud. Lexl., 2, S., 30-31, Mordtmann, MJn. Epigr., S., 68, 71, SB-, H, Eating, 5, JS., 13, Eutlng 22 4 Background, P. 56 5 Background, P. 141

وورد اسم "اليفع بشر" في كتابتين عثر عليهما في "الديدان" "ددن" "ددان"1 "العلا"، أمر بتدوين إحداهما "وهب آل بن حيو ذعم رتنع"2 "عمي رتع"3 من أعيان المعينيين في الشمال ومن "الكبراء"، وأما الكتابة الآخرى فتعود لـ"يفعن" "يفعان" من رؤساء "ددان" كذلك. وقد كان هذان الرجلان من أسرتين كبيرتين عرفتا في أيام معين المتأخرة وفي عهد اللحيانيين، وورد اسم الأسرتين في عدد آخر من الكتابات4. وورد في النص المرسوم بـ Rep. Epigr' 3707 اسم الملك "وقه آل نبط" وورد فيه اسم المدينة "قرنو" العاصمة, وهذا النص دون في أيام "هنا فامن" "هانئ فأمان" الذي كان كبيرًا على هذه المنطقة التي دون فيه النص. وهي منطقة "الخريبة" في أرض مدين أي في الأرضين التي سكنها المعينيون الشماليون5. والملك المذكور هو ابن الملك "اليفع بشر" وشقيق الملك "حفن ريام"6. أما "البرايت"، فقد وضع هذه الأسرة التي يرأسها "يثع ايل صدق"، في نهاية الأسر الحاكمة لحكومة معين. وتتألف عنده من "يثع ايل صدق"، ومن "وقه ايل يثع" ابنه، ومن "اليفع بشر"، ومن "حفن ريام"، ومن "وقه ايل نبط"7. وقد كان حكم "وقه ايل صدق" -على رأيه- في حوالي السنة "150 ق. م"، وقد كان تابعًا للملك "شهر يجل يهرجب" "شهر يكل يهركب" ملك قتبان8. وترك "فلبي" بعد اسم "حفن ريام" و"وقه ايل نبط" فراغًا لا يدري من حكم فيه، قدره بعشرين عامًا، ويبدأ -على رأيه- من سنة "770" وينتهي بسنة "750 ق. م"، ثم وضع بانتهائه ابتداء أسرة أخرى جديدة، جعلها الأسرة الرابعة من الأسر التي حكمت حكومة معين. وقد ابتدأها بـ "ابيدع

_ 1 Rep. Eplg., 3341, Rep. Eplg. 3355b, Le MusSon, LXIL 3-4, (1949) , P. 234, Eutlng 10, Jausen - Savignag, Mission, n, (732) , P. 256 Le Mus£on, T.XTT, 3-4, (1949) , P. 234. "عم رتع"، "عمر تع" 3 BOASOOR, Num., 73, (1939) , P. 6 4 JS 43, 245, 276, 281, 288, JS, 50, 196, 197, 216, 5 Rep. Eplg., 3707, Jaussen-Savignang, Mission, H, P. 301, Handbuch, I, S., 72 6 Handbuch, I, 72, Albright, The Chronology, P. 12 7 BOASOOR, Num., 119, (1950) , P. 12 8 Ibid

ريام"، ثم بابنه "خل كرب صدق" "خال كرب صديق". وقد ورد اسمه في كتابه وجدت في "قرنو" لمناسبة "تدشين" معبد "لعشتر ذ قبض" "عثتر ذو قبض"، وكان له ولدان، هما: "حفن يثع" و "أوس" وقد تولى "حفن يثع" عرش "معين" بعد وفاة أبيه، ومن الجائز -على رأي "فلبي"- أن يكون شقيقه "أوس" قد اشترك معه في الحكم1. وورد عهد الملك "خلكرب صدق" "خالكرب صديق" "خالكرب صادق" في الكتابة المرقمة بـ Glaser 1153 =Halevy 243، وذلك لمناسبة تقديم جماعة ذكرت أسماؤهم في الكتابة نذرًا إلى الآلهة "عثتر ذ قبض" في معبده بـ "رصف" "رصاف" "رصفهم" لقبيلة "هورن" "هوران". فذكروا أن ذلك كان تيمنًا بآلهة "معين" و"يثل" في عهد هذا الملك. وأما الرجال الذين قدموا ذلك النذر، فهم: "مشك بن حوه" من "خد من" "خدمان" "آل خدمان" من قبيلة "زلتن" "زلتان"، و "أوس بن بسل" "باسل" من "آل وكيل" "ذو كل" و "متعن بن حمم" "متعان بن حمام" من "آل وكيل"، و"ذو كل" و "باسل بن لحيان"2. من "آل وكيل" و"ثني بن أبأنس"3. من قبيلة "معهرم" "معهر"4، و "مذكر بن عمانس" من "حرض"5 وآخران. وقد ذكر بعد اسم الملك اسم "الكبير". "كبر"6 الذي كان يحكمهم، وهو "مشك" من "آل خد من" "آل خدمان"7. ويرى "فون وزمن" أن الملك "خل كرب صدق"، "خال كرب صديق"، هو الذي بنى معبد "رصف"، "رصفهم"، المعبد الشهير عند المعينيين. ويقع هذا المعبد خارج سور "قرنو" العاصمة، على مسافة

_ 1 Background. p. 57 2 "بسل بن لحين"، السطران السادس والسابع من النص. 3 "وثنى بن أبانس". 4 "ذ معهر". 5 "ذ حرض". 6 "كبر هسم"، السطر19. 7 "خليل يحيى نامي، نقوش خربة معين "مجموعة محمد توفيق"، من منشورات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة, القاهرة 1952م "ص 20"، النقش رقم15. 8 Beltrage. S 73

حوالي "750" مترًا من المدينة1. وقد عثر في أنقاضه على عدد من الكتابات. وتيمن بذكر الملك "خالكرب صديق" ملك معين في نص آخر، دونه "مشك بن حوه" من "آل خدمان" من قبيلة "زلتان" أي الشخص الذي مر ذكره في الكتابة السابقة بالاشتراك مع أناس آخرين، هم: "حيوم بن هوف" و "وينان"2 و"مأوس" ابن عمه من "آل كزيان"3، "جزيان" و"هبان" "وهب"4 وأخوه "اكر"5 ابنا "صبح" من "آل جزيان"، و"أوسان"، وجماعة آخرون سقطت أسماؤهم من الكتابة. وقد ذكر بعد اسم الملك اسم "الكبير"6 الذي في عهده كتبت الكتابة وهو "مشك ذ خدمان" أي "مشك" من "آل خدمان" أو "كبير خدمان" "ذو خدمان" وهو الكبير المذكور في الكتابة السابقة7. وقد ورد اسم هذا الملك في الكتابة الموسومة بـ 8Halevy 241+ 242. وقد أمر صاحبها بتدوينها لمناسبة تبحيره بئره المسماة "ثمر" "ثمار"9 على مقربة من معين وتوسيعها وطيها "أي بنائها"، وتسويره مزارعه وقد قوى وحصن البرج المشرف عليها. وتيمنًا بهذه المناسبة، ذكر اسم "عثتر ذ قبض" و"ود" و"نكرح" و "عثر ذ يهرق" آلهة معين، والملك "خالكرب صديق" وشعب معين10. أما "البرايت"، فكان قد ذكر في نهاية بحث له نشره في سنة "1950م" عن ملوك معين أن هناك ما لا يقل عن خمسة ملوك نعرفهم أنهم من ملوك معين غير أننا لا نستطيع أن نعرف مواضعهم التي يجب أن يوضعوا فيها بين ملوك

_ 1 المصدر نفسه "ص 14". 2 "وينن". 3 "كزين" بحرف الجيم على حسب النطق المصري. 4 "وهبن". 5 "اكر" "اجر". 6 "كبر". 7 خربة معين، ص 26، النقش رقم 18، Glaser 1154 Halevy 195 PEP Eptgr 2777 Glaser 1161. REP Eptgr. 2817 2818 9 "ثمر". 10 خربة معين ص25، النقش رقم 17.

معين. وهؤلاء الملوك هم: "أبيدع ريام"، ثم ابنه "خلكرب صدق" "خليكرب صديق" "خال كرب صديق"، ثم ابنه "حفنم يثع" "حفن يثع"، ثم "يثع ايل ريام" وابنه "تبع كرب"1. ثم عاد "البرايت" فغير رأيه في بحث نشره في سنة 1953م في هذا الموضوع أيضًا: موضع ترتيب ملوك معين. فقد وضع اسم "يثع ايل ريام" بعد اسم "عم يثع نبط" وهو ابن "اب كرب" "أبكرب" وقد حكم -على رأيه- بعد "اليفع يفش" وذلك في حوالي السنة "300 ق. م"، ثم وضع بعده اسم "تبعكرب" تبع كرب"، وهو ابن "يثع ايل ريام" ثم ذكر اسم "خليكرب صدق" "خاليكرب صديق" "خال كرب صديق" من بعده، وهو ابن "أبيدع ريام"، وقد كان حكمه في حوالي السنة "250 ق. م."، ثم جعل اسم "حفن يثع" من بعده وهو ابنه2. وبذلك قدم هذه الأسماء في هذا البحث بأن جعلها في المجموعة الأولى من المجموعات الثلاث التي حكمت مملكة معين. وقد خم "فلبي" قائمته لأسماء ملوك معين بأن وضع فراغًا مقداره عشرون عامًا، لا يدري من حكم فيه، أنهاه بسنة "670 ق. م."، ثم تحدث عن أسرة خامسة زعم أن أعضاءها هم: "يثع ايل ريام"، وقد حكم في حوالي السنة "670ق. م." ثم "تبع كرب" وهو ابنه وقد كان حكمه من سنة "650 ق. م." حتى سنة "630" ق. م." وكان له شقيق اسمه "حيو" "حي" ربما كان قد شاركه في الحكم3. وبذلك أنهى "فلبي" قائمته لملوك "معين". وقد وضع "البرايت" قائمة رتب فيها ملوك معين، فجعل أولهم "اليفع يثع"، وقد حكم على رأيه حوالي سنة "400 ق. م."، وابن "صدق ايل" ملك حضرموت. وعندي أن البدء بهذا الملك على أنه أقدم ملوك معين، يدل على أن مملكة معين كانت في أقدم عهودها خاضعة لممكلة حضرموت، وهو يحتاج إلى دليل، ولم يرد في نص أن حكومة معين كانت خاضعة في بادئ

_ 1 BOASOOR, nUM, 119, "1950", p. 12 2 boasoor, nUM. 129, "1953", p. 23 3 Background, P. 141

الأمر لحكومة حضرموت، ثم استقلت عنهما، بل يذهب أكثر علماء العربيات الجنوبية إلى تقدم معين على حضرموت في القدم، ويلاحظ أيضًا أنه جعل الملك "يدع ايل" على رأس قائمة ملوك حضرموت وقد كان هذا الملك على رأيه أيضًا معاصرًا للملك "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر"، وقد حكم على رأيه حوالي سنة "450 ق. م."1. والواقع أننا لا نستطيع التحدث عن صلة "صدق ايل" ملك حضرموت بمعين بصورة جازمة، وإن كان الغالب على الظن أنه كان ملكًا على شعب معين وشعب حضرموت. ولكننا لا نستطيع أن نؤكد أنه كان حضرميًّا، كما أننا لا نستطيع أن نقول جازمين أنه من معين، وقد سبق أن تحدثت عنه، والظاهر أنه كان ملكًا أيضًا على معين، وقد سبقه بالطبع جملة ملوك حكموا دولة معين كانوا من المعينيين. أما ابنه "اليفع يثع"، الذي جعله "البرايت" أول ملوك معين، فقد ورث عرش معين من أبيه على نحو ما رأى "فلبي"، على حين ورث شقيقه "شهر علن" "شهر علان" عرش حضرموت، وهذا يدل على أن رابطة دموية كانت تربط بين حكام الشعبين، يؤيد ذلك أن "معد يكرب بن اليفع يثع" هو الذي تولى عرش حضرموت بعد "شهر علن" أي بعد وفاة "عمه"، وأبوه كما رأيت ملك معينًا. وجعل "البرايت" "حفن ذرح" بعد "اليفع يثع"، وهو ابنه ولعله الابن الأكبر، وهو شقيق "معد يكرب" ملك حضرموت، أي أن ولدي "اليفع يثع" كانا قد اقتسما تاج معين وتاج حضرموت. وتولى عرش معين بعد "حفن ذرح" "اليفع ريام"، وقد تولى أيضًا عرش حضرموت على رأي "البرايت"، ثم تولى بعده "هوف عث"، ثم "اب يدع"، وهو شقيقه وابن "اليفع ريام"، وإلى أيامه يعود النص المعروف بـ Halevy 535+ 578، 2 الذي يتحدث عن حرب نشبت بين "مدي" "ماذي" و"مصر". ويرى "البرايت" استنادًا إلى هذا النص أن حكمه

_ 1 BoAsoor Num 119 ,1950, P, 14- 15 2 GLASER 1155

يجب أن يكون في حوالي عام "343 ق. م."1. أما "فلبي" فقد جعل حكمه في حوالي عام "935 ق. م."، وجعله العاشر بحسب تسلسل الملوك2. وتتشابه قائمة "البرايت" وقائمة "فلبي" في تسلسل المجموعة التي تولت حكم معين هي والتي تبدأ بـ "اب يدع يثع" وتنتهي بـ "اليفع يفش"، ثم تختلف قائمته عن قائمة "فلبي"، إذ يذكر "فلبي" أسرة جديدة، يرى أنها حكمت بعد تلك الأسرة بمدة قدرها بزهاء عشرين عامًا، على عادته في تقدير متوسط مدة حكم كل ملك من الملوك وتبدأ على رأيه بـ "يثع ايل صديق" ثم بابنه "وقه ايل يثع" ثم بـ "اليفع يشر" ثم بـ "حفن ريام" ابن "اليفع يشر"، ثم "وكه ايل بنت" و"وجه ايل نبط". أما "البرايت" فيذكر، قبل هذه السلالة التي تبدأ بـ "اليفع وقه"، ثم بـ "وقه ايل صديق" ثم بـ "اب كرب يثع"، ثم تنتهي بـ "عم يثع ثبط" "نبط". وقد حكم "اليفع وقه" على رأي "البرايت" في حوالي سنة "250 ق. م"3، على حين قدم "فلبي" هذه السلالة وجعلها في رأس قائمة ملوك معين. وقد حكم "اليفع وقه" على رأيه حوالي سنة "1120 ق. م.". وذكر "البرايت" بعد الأسرة المتقدمة أسرة أخرى جعل على رأسها "يثع آل صدق"، ثم "وقه آل يثع"، وهو ابن "يثع آل صديق"، وقد ذكر أنهما كانا تابعين للملك "شهر يجل يهرجب"، ملك قتبان الذي حكم على تقديره في حوالي سنة "150ق. م." وجعل بعد "وقه آل يثع" ابنه الملك "اليفع يشر" وقد ورد اسمه في كتابة عثر عليها في "ددان" "ديدان"، ثم جعل من بعده ابنه "حفن عم ريام"، ثم شقيقه "وقه آل نبط"، وقد ورد اسمه في كتابة "ديدان". وذكر "البرايت" أنه لا يستطيع تعيين زمن حكم الملوك "اب يدع ريام" وابنه "خلكرب صدق"، وابنه "جفن عم يثع"، و"يثع آل ريام"،

_ 1 BOASOOR, N'um. 119, (1950) , P. 15, W.F. Albright, The Chronology of Ancient South Arabia m the Light of the First Campaign of Excavation in Qataban, Baltimore, 1950, P. 11 2 Background, P. 141 3 BOASOOR, Num. 119, "1950", P. 15

وابنه "تبع كرب"1. ويرى "فون وزمن" احتمال كون "اليفع يشر الثاني" هو آخر ملك من ملوك معين، وقد لقب "البرايت" هذا الملك "بالثاني"، أيضًا ليميزه عن ملك آخر عرف بهذا الاسم وضعه في الجمهرة الثانية من الجمهرات الثلاث التي صنعها لملوك معين، لهذا دعاه بـ "الأول"2. وقد جاء في الكتابة الموسومة بـ REP. EPIg. 3021 اسمه واسم "شهل يجل يهرجب" ملك قتبان، كما سبق أن ذكرت، وهذا مما يدل على أنه كان معاصرًا لملك قتبان المذكور. وقد حكم فيما بين السنة "75 ق. م." والسنة "50 ق. م.". أما "فون وزمن"، فيرى أن حكمه كان في حوالي السنة "45 ق. م."3. وقد عاد "البرايت" كما قلت سابقًا فأعاد النظر في قائمته المذكورة التي وضعها لملوك معين، فقدم وأخر ووضع تواريخ جديدة، أشرت إلى بعضها فيما سبق وسأنقل قائمته نقلًا كاملًا في نهاية هذا الفصل4. وقد جعل "البرايت" زمان حكم المجموعة الأولى من حكام معين بين السنة "400 ق. م" والسنة "200 ق. م." أما زمان حكم المجموعة الثانية فقد جعله بين السنة "200 ق. م." والسنة "100 ق. م." إلى الـ "57 ق. م". وأما زمان حكم المجموعة الثالثة فمن أوائل القرن الأول قبل الميلاد إلى النصف الأخير منه، فيما بين السنة "50 ق. م." والسنة "25ق. م."5. غير أنه بين أنه لا يريد أن يؤكد أن قائمته هذه قائمة ثابتة لا تقبل تعديلًا ولا إصلاحًا. فقد يجوز أن تعدل في المستقبل في ضوء الاكتشافات الجديدة، كما عدلت قائمته السابقة تعديلًا كبيرًا، وقد رتب قائمته الثانية في ضوء دراسة تطور الخط وشكل الكتابة عند العرب الجنوبيين بحسب العصور. ولكن هذا لا يكفي وحده بالطبع في إبداء أحكام قاطعة صحيحة بالنسبة إلى السنين. أما قائمة "كليمان هوار"، فتتألف من سبع مجموعات، رجال المجموعة الأولى الملك "يثع ال صديق" والملوك "وقه ايل يثع" و "اليفع يشر"

_ 1 The Chronology., P. 12, BOASOOR, Num. 19, (1950) , P. 15 2 BOASOOR, Num. 129, (1953) , P. 24 3 Le Museon, 1964, 3-4, PP. 442 4 BOASOOR, Num. 129, (1953) , PP. 20 5 BOASOOR, Num. 129, O953) , P. 12

و "حفن عم ريم" "حفن ريام"، ورجال المجموعة الثانية الملوك: "اليفع يثع" و"اب يدع يثع" و"وقه ايل ريام"، و"حفنم صديق" "حفن صديق" "حفن صدق"، و"اليفع يفش". ورجال الجمهرة الثالثة هم الملوك: "اليفع وقه" و "وقه ايل صديق" و"اب كرب يثع"، و"عم يدع نبط" "عمي يدعي نبط". ورجال الجمهرة الرابعة الملوك: "اليفع ريام" و"هوف عثت". وأما الجمهرة الخامسة، فتتألف من "أب يدع" ولم يذكر لقبه، ومن "خال كرب صديق" ومن "حفن يثع". وأما المجموعة السادسة، فتتكون من "يثع ايل ريام"، و"تبع كرب". وأما المجموعة السابعة، فعمادها "اب يدع"، ولم يذكر لقبه و"حفنم"1. ويلاحظ أن ملوك معين، وكذلك ملوك سائر الحكومات العربية الجنوبية كانوا يحملون ألقابًا مثل "يثع" بمعنى المنقذ أو المخلص، و"صدق" "صدوق" أي "الصادق" و"العادل" و"الصدوق"، و"ريم" "ريام" بمعنى "العالي" و"نبط" بمعنى الآمر" و"يفش"، بمعنى" الفخور" و"المتكبر" أو "المتعالي"، و"يشر" بمعنى" المستقيم" و"ذرح"، بمعنى "الوضاح"، أو "المنير" أو "المشرق"، و"وتر"، بمعنى "المتعالي"، و"بين" بمعنى "الظاهر" والبين2. ‘إلى غير ذلك من ألقاب ترد في الكتابات المعينية والسبئية والقتبانية والحضرمية والكتابات الأخرى. ومما يلاحظ أيضًا أن ملوك الروم والرومان والفرس، كانوا أيضًا يتلقبون بمثل هذه الألقاب. وقد تلقب الخلفاء والملوك بمثل هذه الألقاب في العصور العباسية، أما الخلفاء الراشدون والأمويون، فلم يميلوا إلى استعمالها، ولعل استعمال العباسيين لها كان تشبهًا بفعل الملوك المذكورين، وبتأثير الموالي الذين نقلوا إلى المسلمين كثيرًا من رسوم الملك عند الفرس واليونان. وقد ورد في الكتابة الموسومة3 بـHalevy 208، وهي من "معين" اسم

_ 1 Geschlchte der Araber, I, 8., 56 2 Handbuch, I, 8., 68 3 Glaser 1089-1660, Rhodokanakis, Stud. Lexl., n, 8., 26

ملك من ملوك معين، هو "اليفع يثع"، وذكر بعده اسم "ابيدع" "أبي دع"1. ولم يلقب أي واحد منهما بلقب "ملك"، وإنما ذكرا بعد ذكر أسماء آلهة معين. وجاء بعد ذلك في جملة تالية "ملوك معين"2. ويظهر بوضوح من هذا النص أن "اليفع يثع" و"أبيدع" كانا ملكين من ملوك معين. وأن في عهدهما دونت هذه الكتابة، تيمنًا باسمهما، وتخليدًا لتأريخها. وقد لاحظت أن الباحثين في حكومة معين لم يشيروا إلى اسميهما في ضمن القوائم التي وضعوها لحكام تلك الحكومة.

_ 1 الفقرة الرابعة من النص. 2 الفقرة الخامسة من النص.

حكومات عدن

حكومات عدن: انقرضت حكومة "معين" وحلت محلها حكومة "سبأ" غير أن هذا لا يعني انقراض شعب معين بانقراض حكومته، وذهابه من عالم الوجود، إذ ورد اسم المعينيين في عدد من الكتابات المعينية التي يرجع عهدها إلى ما بعد سقوط حكومتهم، كما ورد اسمهم في المؤلفات الكلاسيكية التى تعود إلى القرن الأول للميلاد1. وقد سبق أن ذكرت رأي المتخصصين في العربيات الجنوبية في هذا الموضوع. أما متى خفي اسمهم من عالم الوجود خفاء تامًا، فذلك سؤال لا تمكن الإجابة عنه الآن، إذ يتطلب ذلك التأكد من أننا قد وقفنا على جميع الكتابات العربية الجنوبية والمؤلفات الكلاسيكية، ولا إخال أن في استطاعة أحد إثبات هذا الإدعاء. أعود فأقول: تباينت آراء العلماء في تعيين الزمن الذي ظهرت فيه ممكلة "معين" إلى الوجود، كما تباينت في نهايتها كذلك ذهب "البرايت" إلى أن النهاية كانت في حوالي سنة "100 ق. م."2، ثم عدل عن ذلك فجعلها في النصف الأول من القرن الأخير قبل الميلاد، بين سنة "50" وسنة "25" قبل الميلاد4. وجعلت "بيرين" نهايتها في حوالي سنة "100 ب. م"5.

_ 1 Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 231, . By Phllby. 2 The chronology, In BOASOOR, Num. 119, 1950, P. 5-15 3 BOASOOR, Num. 129, 1953, P. 24, Le Museon, 1964, 3-4, P. 434 4 J. Plrenne, Royaume, P. 7, Le Museon, 1964, P. 435

والذي أرجحه أن نهايتها كانت بعد الميلاد، لورود اسمها مملكة إلى ما بعد الميلاد. وقد جعل "البرايت" في أحد رأييه في سقوط حكومة معين سنة "115" قبل الميلاد، وهي مبدأ التقويم السبئي، هي سنة زوال حكم معين، فلأهمية هذه الحادثة اتخذت مبدأ لتقويم يؤرخ به. وذهب آخرون إلى أن نجم معين أخذ في الأفول ما بين سنة "125" وسنة "75 ق. م."1. وفي خلال الفترة التي انصرمت بين أواخر أيام حكومة معين واندماجها نهائيًّا في ممكلة "سبأ"، وظهرت حكومات صغيرة يمكن أن نشبهها بحكومات المدن، انتهزت فرصة ضعف ملوك معين، فاستقلت في شؤونها، ثم اندمجت بعد ذلك في سبأ، ومن هذه الحكومات "هرم" "الهرم" و"نش" "نشان" و"كمنت" "كمنه" "كمنهو"2، "كمنا" وغيرها3. ويمكن اعتبار ممكلة "لحيان" التي كان مركزها في "الديدان" "ددن"، أي "العلا" من الحكومات التي استقلت في أيام ضعف المعينيين4, وقد كانت في الأصل جزءًا من أرضي هذه المملكة يحكمها كبير. وقد عرفنا من الكتابة الموسومة بـ Halevy 154ملكًا من ملوك "هرم" سمي "يذمر ملك". وقد غزا مدينة "نشن" "نشان". ودمرها تنفيذًا لطلب الملك "كرب ايل وتر" ملك سبأ، الذي كان معاصرًا له، وقد وهب له "كرب ايل وتر" في مقابل هذه الخدمة جزءًا من أرض "نشن" عرف بخصبه وبوجود الماء فيه5. وقد ورد اسمه في عدد آخر من الكتابات6. وكان له ولد اسمه "بعثتر" جلس على عرش "هرم"، وشقيق اسمه "وروال ذرحن" "وروايل ذرحان"7. وقد ورد في النص الموسوم بـ Glaser 1058 اسم ملك آخر من ملوك "هرم"

_ 1 Beltrage, a, 33 2 Philby, in Le Mus6on, T.XTT, 3-4, 1949, P. 231 3 الصفة "ص167" 4 Le Mus6on, LXH, 1949, 3-4, P. 231 5 BeltrSge, S., 15. 6 Halevy 144, 145, 146, 148, 150, 151, 153, 154, 6 155, 156, 158, 159. 7 Halevy 160, Handbuch I, S., 82

هو "معد كرب ريدن" "معد يكرب ريدان"، وأبوه هو "هوترعثت"1. وقد تبين من فحص الكتابات المدونة في مملكة "هرم" أن لها خصائص صرفية ونحوية تستحق العناية والدرس، ويظهر أن هذه الخصائص إنما نشأت من موقع هذه المدينة ومركزها السياسي والأحداث السياسية التي طرأت عليها، ومن الاختلاط الذي كان بين سكانها، فأثر كل ذلك في لهجة السكان2. ويرى "هارتمن" أن لهجة كتابات "هرم" من اللهجات التي يمكن ضمها إلى الجمهرة التي تستعمل حرف "هـ" في المزيد مقابل حرف "س" في الجمهرة التي تستعمل هذا الحرف في الفعل المزيد3.

_ 1 Handbuch, I, S., 82, Rhodokanakis, KTB, n, S., 62, Hofmus., 13, Glaser 1058, Halevy 398. 2 Rhodokanakis, KTB, II, S., 62, Hommel, Grundriss, 8., 686 3 Hartmann, Arab. Irage., S., 179

مملكة كمنه

مملكة كمنه: ومن ملوك مملكة "كمنه" "كمنهو"، الملك "نبط علي"، وقد ورد اسمه في بعض الكتابات1. وورد في كتابة يظن أنها من كتابات "كمنهو" مكسورة سقطت منها كلمات في الأول وفي الآخر، جاء فيها: وبمساعدة عثتر حجر"هجر" و"نبط علي". المقصود بـ "عثتر حجر" "هجر" الإله عثتر سيد موضع يقال له "حجر" "هجر"، وربما كان في هذا المكان معبد لعبادة هذا الإله، وجاء قبل ذلك: "نبعل دللن" "نبعل الدلل"، وهذه الجملة ترد لأول مرة في الكتابات، ويظهر أن معناها "بعل الدلل" أو "الدليل"، ويظهر أن "الدلل" أو"الدليل" من الصفات التي أطلقها شعب "كمنه" "كمنهو" على عثتر2. وكان لـ "نبط علي" ولد أصبح ملك "كمنه" "كمنهو" بعد والده، هو: "السمع نبط". وقد وصلت إلينا كتابة، جاء فيها: "السمع نبط بن نبط على ملك كمنهو وشعبهو كمنهو لا لمقه ومريبو ولسبا"3، أي "السمع

_ 1 Orlentlla, Vol., V, (1936) , P. 8, Halevy 269-278, 327, 389, Handbuch, I, S., 82 2 Orientlia, Vol., V, (1936) , P. 6 3 CIH, IV, n, I, P., 32-33, 377

نبط بن نبط على ملك كمنه وشعبه شعب كمنه، لألمقه ومأرب ولسبأ"، وهذه العبارة تظهر بجلاء أن ممكلة "كمنو" "كمنهو" كانت مستقلة في هذا الزمن استقلالًا صوريًّا، وأنها كانت في الحقيقة تابعة لحكومة "سبأ" ولمأرب العاصمة يدل على ذلك تقربها إلى "المقه"، وهو إله السبئيين ولمأرب العاصمة، أي لملوكها ولشعب سبأ، وكان من عادة الشعوب القديمة أنها إذا ذكرت آلهة غيرها فمجدتها وتقربت إليها، عنت بذلك اعترافها بسيادة الشعب الذي يتعبد لتلك الآلهة عليها.

حكومة معين

حكومة معين: حكومة معين حكومة ملكية يرأسها حاكم يلقب بلقب "ملك"، غير أن هذه الحكومة، وكذلك الحكومات الملكية الأخرى في العربية الجنوبية، جوزت أن يشترك شخص، أو شخصان أو ثلاثة مع الملك في حمل لقب"ملك"، إذا كان حامل ذلك اللقب من أقرباء الملك الأدنين، كأن يكون ابنه أو شقيقه، فقد وصلت إلينا جملة كتابات، لقب فيها أبناء الملك أو أشقاؤه بلقب ملك، وذكروا مع الملك في النصوص. ولكننا لم نعثر على كتابات لقب فيها أحد بهذا اللقب، وهو بعيد عن الملك، أي ليس من أقربائه المرتبطين به برابطة الدم. كما أننا لا نجد هذه المشاركة في اللقب في كل الكتابات، وهذا مما يحملنا على الظن بأن هذه المشاركة في اللقب، كانت في ظروف خاصة وفي حالات استثنائية، ولهذا خصصت بأبناء الملك أو بأشقائه، ولهذا أيضًا لم ترد في كل الكتابات، بل وردت في عدد منها هو قلة بالنسبة إلى ما لدينا الآن من نصوص. ولم تبح لنا أية كتابة من الكتابات العربية الجنوبية بسر هذه المشاركة أكانت مجرد مجاملة وحمل لقب، أم كانت مشاركة حقيقية، أي أن الذين اشتركوا معه أيضًا في تولي أعمال الحكم كلية، أو بتولي عمل معين من الأعمال، بأن يوكل الملك من يخوله حمل اللقب القيام بوظيفة معينة؟ ولم تبح لنا تلك الكتابات بأسرار الدوافع التي حملت أولئك الملوك على السماح لأولئك الأشخاص بمشاركتهم في حمل اللقب، أكانت قهرية كأن يكون الملك ضعيفًا مغلوبًا على أمره، ولهذا يضطر مكرهًا إلى إشراك غيره معه من أقربائه الأدنين لإسناده ولتقوية مركزه، أم كانت

برضى من الملك ورغبة منه، فلا إكراه في الموضوع ولا إجبار؟ ويظهر من الكتابات المعينية أيضًا أن الحكم في معين، لم يكن حكمًا ملكيًّا تعسفيًّا، السلطة الفعلية مركزة في أيدي الملوك، بل كان الحكم فيها معتدلًا استشاريًّا يستشير الملوك أقرباءهم ورجال الدين وسادات القبائل ورؤساء المدن، ثم يبرمون أمرهم، ويصدرون أحكامهم على شكل أوامر ومراسيم تفتتح بأسماء آلهة معين، ثم يذكر اسم الملك، وتعلن كتابة ليطلع عليها الناس. وقد كانت المدن حكومات، لكل مدينة حكومتها الخاصة بها، ولهذا كان في استطاعتنا أن نقول إن حكومة معين هي حكومات مدن، كل مدينة فيها حكومة صغيرة لها آلهة خاصة تتسمى باسمها، وهيئات دينية، ومجتمع يقال له: "عم"، بمعنى أمة وقوم وجماعة، ولكل مدينة مجلس استشاري يدير شئونها في السلم وفي الحرب، وهو الذي يفصل فيما يقع بين الناس من خصومات وينظر في شئون الجماعة "عم". وكان رؤساء القبائل يبنون دورًا، يتخذونها مجالس، يجتمعون فيها لتمضية الوقت وللبت في الأمور وللفصل بين أتباعهم في خلافاتهم، ويسجلون أيام تأسيسها وبنائها، كما يسجلون الترميمات والتحسينات التي يدخلونها على البناية. وتعرف هذه الدور عندهم بلفظة "مزود"1. ولكل مدينة "مزود"، وقد يكون لها جملة "مزاود"، وذلك بأن يكون لشعابها وأقسامها مزاود خاصة بها، للنظر فيما يحدث في ذلك الشعب من خلاف، ويمكن تشبيه المزود بدار الندوة عند أهل مكة، وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تفضي أمرًا إلا فيها، يتشاورون فيها في أمور السلم والحرب2. وتتألف مملكة معين من مقاطعات، على رأس كل مقاطعة ممثل عن الملك، يعرف عندهم بـ "كبر"، أي "الكبير". يظهر أنه كان لا يتدخل إلا في السياسة التي تخص المسائل العليا المتعلقة بحقوق الملك وبشعب معين، ويرد

_ 1 "مزود" بحرف الزاي، ولكنه ليس كحرف الزاي في عربيتنا، بل هو أقرب إلى السين، وقد كتب بعض الباحثين، "مشود" نشر نصوص" "ص 48"، نقش 28، سطر4. Stud. Lexi., 2, S.r 55, Mordtmann und Eugen Mlttwoch, Sabalsche Inschriften, I, S., 22. t, MM. 4. 2 StudL Lead., n, S., 58

اسم الكبير بعد اسم الملك في النصوص على عادة أهل معين، وغيرهم من ذكر آلهتهم أولًا ثم الملوك ثم الكبراء في كتاباتهم التي يدونونها ليطلع عليها الناس. ودخل الحكومة من الضرائب ومن واردات الأرضين التي تستغلها أو تؤجرها للناس بِجُعْل يتفق عليه. أما الضرائب فتؤخذ من التجار والزراع وسائر طبقات الشعب الأخرى، يجمعها المشايخ، مشايخ القبائل والحكام والكبراء بوصفهم الهيئات الحكومية العليا، وبعد إخراج حصصهم يقدمون ما عليهم للملك، وأما الواردات من المصادر الأخرى، مثل تأجير أملاك الدولة، فتكون باتفاق خاص مع المستغل، وبعقد يتفق عليه. ومن الضرائب التي وردت أسماؤها في الكتابات: كتابات العقود ووفاء الضرائب والديون، ضريبة دعيت، بـ "فرعم"، أي"فرع" وضريبة عرفت بـ "عشرم" أي "عشر"، وتؤخذ من عشر الحاصل، فهي"العشر" في الإسلام1. وكان للمعابد جبايات خاصة بها، وأرضون واسعة تستغلها، كما كان لها موارد ضخمة من النذور التي تقدم إليها باسم آلهة معين، عند شفاء شخص من مرض ألم به، وعند رجوعه سالمًا من سفر، وعند عودته صحيحًا من غزو أو حرب، وعند حصول شخص على غلة وافرة من مزارعه أو مكسب كبير من تجاراته، وأمثال ذلك. ولهذا كانت للمعابد ثروات ضخمة وأملاك واسعة ومخازن كبيرة تخزن فيها أموالها، ويعبر عن النذور والهبات التي تقدم إلى المعابد بلفظتي "كبودت" و "اكرب"، "أقرب" أي ما يتقرب به إلى الآلهة. وتدون عادة في كتابات تعلن للناس، يذكر فيها اسم المتبرع الواهب واسم الإله أو الآلهة التي نذر لها، واسم المعبد، كما تعلن المناسبة، وتستعمل بعض الجمل والعبارات الخاصة التي تتحدث عن تلك المناسبات مثل: "يوم وهب" و"بذماد بن يدهس"، أي "بذات يده" وأمثال ذلك من جمل ومصطلحات2. وقد وصلت إلينا نصوص كثيرة من نصوص النذور، وهي تفيدنا بالطبع كثيرًا في تكوين رأينا في النذور والمعابد واللغة التي تستعمل في مثل هذه المناسبات عند المعينيين وعند غيرهم من العرب الجنوبيين.

_ 1 Studi. Lexl, II, S. 58, Glaser 1083, 144, 1150, 1155 2 Studi. Lexi, II, S. 58

ويقوم "الناذر" أو الشخص الذي استحق عليه الضرائب أو القبيلة بتقديم ما استحق عليه إلى المعبد، وكانت تعد "ديونًا" للآلهة على الأشخاص. فإذا نذر الشخص للآلهة بمناسبة مرض أو مطالبة بإحلال بركة في المزرعة أو في التجارة أو إنقاذ من حرب وصادف أن مرت الأمور على وفق رغبات أولئك الرجال، استحق النذر على الناذر، فردًا كان أو جماعة، ولذلك يعبر عنه بـ "دين"، فيقال "دين عثتر" أو"دين ... "1. وقد يفوض الملك أوالمعبد إلى رئيس سيد قبيلة أو غني استغلال مقاطعة أو منجم أو أي مشروع آخر في مقابل شروط تدون في الكتابات، فتحدد الحدود، وتعين المعالم، وينشط المستغل للاستفادة منها وأداء ما اتفق عليه من أداء للجهة التي تعاقد معها، ويقوم بجباية حقوق الأرض أن كان قد أجرها لصغار المزارعين وبدفع أجور الأجراء وبتمشية الأعمال، ويكون هو وحده المسئول أمام الحكومة أو المعبد عن كل ما يتعلق بالعمل، وعليه وحده أن يحسب حساب خسائره وأرباحه. ويتعهد الكبراء وسادات القبائل والحكام عادة بجمع الضرائب من أتباعهم ودفع حصة الحكومة، كما يتعهدون بإنشاء الأبنية كإنشاء المباني الحكومية وإحكام أسوار المدن وبناء الحصون والأبراج والمعابد وما شاكل ذلك، مقابل ما هو مفروض عليهم من ضرائب وواجبات أو تفويض التصرف في الأرضين العامة، فإذا تمت الموافقة، عقد عقد بين الطرفين، يذكر فيه أن آلهة معين قد رضيت عن ذلك الاتفاق، وأن المتعهد سيقوم بما اتفق عليه. وإذا تم العمل وقد يضيف إليه المتعهد من جيبه الخاص، ورضي عنه الملك الذي عهد إليه بالعمل أو الكهنة أرباب المعبد أو مجلس المدينة، كتب بذلك محضر، ثم يدون خبره على الحجر، ويوضع في موضع ظاهر ليراه الناس، يسجل فيه اسم الرجل الذي قام بالعمل، واسم الآلهة التي باسمها عقد العقد وتم، واسم الملك الذي تم في أيامه المشروع، واسم "الكبير" الحاكم أن كان العقد قد تم في حكمه وفي منطقة عمله. وتعهد المعابد أيضًا للرؤساء والمشايخ القيام بالأعمال التي تريد القيام بها، مثل

_ 1 Glaser 1150.Halevy 353

إنشاء المعابد وصيانتها وترميمها والعناية بأملاكها وباستغلالها بزرعها واستثمارها نيابة عنها، وقد كان على المعابد كما يظهر من الكتابات أداء بعض الخدمات العامة للشعب، مثل إنشاء مبان عامة أو تحصين المدن ومساعدة الحكومة في التخفيف عن كاهلها؛ لأنها كانت مثلها تجبي الضرائب، من الناس وتتلقى أموالًا طائلة من الشعب وتتاجر في الأسواق الداخلية والخارجية، فكانت تقوم بتلك الأعمال في مقابل إعفائها من الضرائب، وقد كانت وارداتها السنوية ضخمة قد تساوي واردات الحكومة. وتخزن المعابد حصتها من البخور واللبان والمر والحاصلات الأخرى في خزائن المعبد، وتأخذ منها ما تحتاج إليه، مثل البخور للأعياد وللشعائر الدينية وتبيع الفائض، وقد ترسله مع القوافل لبيعه في البلاد الأخرى، وقد تعود قوافلها محملة ببضائع اشترتها بأثمان البضائع المبيعة، ولذلك كان أرباحها عظيمة، وكان أكثر الكهان من البيوتات الكبيرة ومن كبار الأغنياء.

نقود معينية

نقود معينية: تعامل قدماء المعينيين مثل غيرهم من شعوب العالم بالمقايضة العينية، وبالمواد العينية دفعوا للحكومة وللمعابد ما عليهم من حقوق، وبها أيضًا دفعت أجور الموظفين والمستخدمين والعمال والزراع، وقد استمرت هذه العادة حتى في الأيام التي ظهرت فيها النقود، وأخذت الحكومات تضرب النقود، وذلك بسبب قلة المسكوكات، وعدم تمكن الحكومات من سك الكثير منها كما تفعل الحكومات في هذه الأيام. وقد عرف المعينيون النقود، وضربوها في بلادهم، فقد عثر على قطعة نقد هي "دراخما" أي درهم، عليها صورة ملك جالس على عرشه، قد وضع رجليه على عتبة، وهو حليق الذقن متدل شعره ضفائر، وقد أمسك بيده اليمنى وردة أو طيرًا وأمسك بيده اليسرى عصا طويلة، وخلفه اسمه وقد طبع بحروف واضحة بارزة بالمسند، وهو "اب يثع" و"أمامه الحروف الأول من اسمه، وهو الحرف "أ" بحرف المسند، دلالة على أنه الآمر بضرب تلك القطعة، ولهذا القعطة من النقود أهمية كبيرة في تأريخ "النميّات" في بلاد

العرب وفي دراسة الصلات التجارية بين جزيرة العرب والعالم الخارجي. ويظهر من دراسة هذه القطعة ومن دراسة النقود المتشابهة التي عثر عليها في بلاد أخرى، أنها تقليد للنقود التي ضربها خلفاء الإسكندر الكبير، سوى شيء واحد، هو أن عملة "أب يثع" قد استبدلت فيها الكتابة اليونانية بكتابة اسم الملك "اب يثع" الذي في أيامه، ثم ضرب تلك القطعة بحروف المسند، أما بقية الملامح والوصف، فإنها لم تتغير ولم تتبدل، ولعلها قالب لذلك النقد، حفرت عليه الكتابة بالمسند بدلًا من اليونانية. ويعود تأريخ هذه القعطة إلى القرن الثالث أو القرن الثاني قبل الميلاد1. وقد كانت نقود "الإسكندر الكبير" والنقود التي ضربها خلفاؤه من بعده مطلوبة مرغوبة في كل مكان، حتى في الأمكنة التي لم تكن خاضعة لهم، شأنها في ذلك اليوم شأن الجنيه أو الدولار في هذا اليوم، وتلك النقود لا بد أن تكون قد دخلت بلاد العرب مع التجار ورجال الحملة الذين أرسلهم لاحتلال بلاد العرب، فتلقفها التجار هناك وتعاملوا بها، وأقبلت عليها الحكومات، ثم أقدمت الحكومات على ضربها في بلادها بعد مدة من وصول النقود إليها، وأسست بذلك أولى دور ضرب النقود في بلاد العرب, ولا بد أن يكون نقد "اب يثع" قد سبق بنقد آخر. سبق هو أيضًا بالنقد اليوناني الذي وصل بلاد العرب؛ لأن درهم "اب يثع" مضروب ضربًا متقنًا، وحروفه واضحة جلية دقيقة دقة تبعث على الظن بوجود خبرة سابقة ودراية لعمال الضرب، وأدت بهم إلى إتقان ضرب أسماء الملوك على تلك النقود.

_ 1 George Fracnis Hill, Catalogue of the Greek coins of Arabia Mesopotamia, And persia, London, 1922 P. IXXXII

الحياة الدينية

الحياة الدينية: كان في كل مدينة معبد، وأحيانًا عدة معابد خصصت بآلهة شعب معين، وقد يخصص معبد بعبادة إله واحد، يكرس المعبد له، ويسمى باسمه، وتنذر له النذور، ويشرف على إدارته قومة ورجال يقومون بالشعائر الدينية ويشرفون على إدارة أوقاف المعبد، ويعرف الكاهن والقيم على أمر الإله عندهم

بـ "شوع"، وقد وردت اللفظة في جملة نصوص معينة1. وقد تجمعت لدينا من قراءة الكتابات المعينية أسماء آلهة معين، وفي مقدمتها اسم"عثتر" "عثتار" ويرمز إلى "الزهرة"، ويقلب في الغالب بـ "ذ قبضم"، فيقال "عثتر ذ قبضم"، أي "عثتر القابض"، "عثتر ذو قبض"، كما ورد أيضًا "عثتر ذ يهرق" "عثتر ذو يهرق"2. ويهرق اسم مدينة من مدن معين، فيظهر أنه كان في هذه المدينة معبد كبير خصص بعبادة "عثتر". ومن آلهة معين"ود" و"نكرح"، وترد أسماء هذه الآلهة الثلاثة في الكتابات المعينية على هذا الترتيب: "عثتر"، و"ود" و"نكرح" في الغالب، وترد بعدها في بعض الأحيان جملة: "الالت معن"، أي "آلهة معين"3. أما نكرح"، فيظهرأنه يرمز إلى الشمس، وهو يقابل "ذات حمم" "ذات حميم" في الكتابات السبئية4. وقد ورد في عدة كتابات عثر عليها في "براقش" وفي "أبين" وفي "معين" وفي "شراع" في "أرحب" ذكر معبد كرس للإله "عثتر" دعي" بـ "يهر". كما ورد اسم حصن "يهر" وقد خصص لـ "عثتر وقبض"، وورد في كتابة أخرى اسم "يهر" على أنه بيت، وربما قصد به بيت عبادة، وورد في كتابة همدانية ذكر "يهر" أنه بيت الإله "تالب" "تألب" إله همدان، وورد اسم "يهر" على أنه اسم موضع واسم شعب. وذكر "الهمداني" أن "يهر" هو حصن في "معين"5. ويتبين لي من اقتران "يهر" بـ "عثتر"، ومن تخصيص بيت للتعبد به سمي باسمه أن "يهر" جماعة كانت تتعبد لهذا الإله وتقدسه ولهذا دعي معبده باسمها، كما أنه اسم مدينة نسبت تلك الجماعة إليها.

_ 1 راجع النقش رقم 4، ص3، والنقش رقم 5، ص5، خربة معين. 2 Handbuch, I, S. 228, Hommel, Grundriss, I, S, 85 3 خربة معين ص21، 27، 29، D. Nielsen, Der Sabaische Gott Ilmukah, S. 55 وسيكون رمزه: Ilmukah 4 Handbuch, I. S. 188, Ilmukah, S. 56 5 Beltrage, S. 270

وأما "ود"، فقد ظلت عبادته معروفة في الجاهلية إلى وقت ظهور الإسلام، وقد ورد اسمه في القرآن الكريم1. وقد تحدث عنه ابن الكلبي في كتابه "الأصنام"2، وذكر أن قبيلة "كلب" كانت تتعبد له بدومة الجندل3. ووصفه فقال: "كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، على سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة فيها نبل.."4. وقد نعت "ود" في بعض الكتابات بنعوت، مثل: "الاهن" "الهن" أي "الإله"، و"كهلن" "كاهلن" "كهلان"، أي "القدير" "المقتدر"5. وكتب اسم "ود" بحرف بارزة على جدار في "القرية" "قرية الفأو"6، وذلك يدل على عبادته في هذه البقعة. ويرمز "ود" إلى القمر، بدليل ورود جملة: "ودم شهرن"، "ودم شهران"، أي "ود الشهر" في بعض الكتابات. ومعنى كلمة "شهرم" "شهر" "الشهر"، القمر7. وتمثل هذه الآلهة المعينية ثالوثًا يرمز إلى الكواكب الثلاثة: الزهرة، والشمس، والقمر. ويلاحظ أن الكتابات المعينية الشمالية، أي الكتابات المدونة بلهجة أهل معين التي عثر عليها في أعالي الحجاز، لا تتبع الترتيب الذي تتبعه الكتابات المعينية الجنوبية نفسه في إيراد أسماء الآلهة، كما يلاحظ أيضًا أن للمعينيين الشماليين آلهة محلية لا نجد لها ذكرًا عند المعينيين الجنوبيين، ولعل ذلك بتأثير الاختلاط بالشعوب الأخرى8.

_ 1 سورة نوح 17، الآية 23. 2 الأصنام ص 10، 55، 56. 3 الأصنام ص 5. 4 الأصنام ص 56. Wellhausen, Reste Arabische Heidentums, S., 14 5 Hommel, Grundriss, I, S., 136, Glaser 284, Halevy 237, Chresto., S., 91, 97 6 Philby-Qariya 23c, Le Museon, LXII, "1949", 1-2, P. 97, and PI 7 lIlmukah, S.? 64, Nielsen , Aitarabische Mondreligion, S., 51 8 Ilmukah, S., 59

مدن معين

مدن معين: ومن أشهر مدن معين، مدينة "قرنو"، وهي العاصمة، وقد عرفت أيضًا بـ "م ع ن" "معن"، أي "معين"، وبـ karna وKarana وKarna عند بعض الكتبة "الكلاسيكيين"1. وتقع على مسافة سبعة كيلومترات ونصف كيلومتر من شرق قرية "الحزم"، مركز الحكومة الحالي في الجوف، وقد وصف خرائبها "محمد توفيق" في كتابه "آثار معين في جوف اليمن"، فقال: إنها تقع على أكمة من الطين منحدرة الجوانب، تعلو على سطح أرض الجوف بخمسة عشر مترًا، وهي مستطيلة الشكل، واستطالتها، من الغرب إلى الشرق وطولها400 متر، وعرضها250 مترًا، ولها بابان أو مدخلان، أو مدخل ومخرج، أحدهما في جانبها الغربي والآخر في الجهة المقابلة من الجانب الشرقي، وليس لها أبواب أخرى، وسورها الذي كان يحيط بها، وقد قدر ارتفاعه بخمسة عشر مترًا، وقد وجد في بعض أقسامه فتحات المزاغل التي استعملت للمراقبة ولرمي السهام، كما تعرض لبحث البناء والزخرفة في هذه المدينة، وقد حصل على تسع عشرة كتابة، نقل تسعًا منها بكتابة اليد، ونقل عشرًا منها الباقية بالتصوير الفوتوغرافي2. ويقع معبد "رصفم" "رصف" "رصاف" الشهير، الذي طالما تقدم إليه المؤمنون بالهدايا والنذور إليه؛ لأن يمن عليهم بالعافية والبركة، خارج سور "قرنو". وتشاهد آثار سكن في مواضع متناثرة من المدينة، وقد كانت "قرنو" "القرن" مأهولة حتى القرن الثاني عشر ثم هجرت وتحولت إلى خراب3. وقد أشار الأخباريون إلى معين، وروى بعض منهم أنها من أبنية التبابعة، وأنها حصن، بني بعد بناء "سلحين"، بني مع يراقش في وقت واحد4. ومن مدن حكومة معين "يثل" وهي من المراكز الدينية، وعرفت

_ 1 O'Leary, P. 95, Richard H. Sanger, The Arabian Peninsula, P. 237< Halevy 192-199, 443, 541. 2 الصفحة3 فما بعدها من كتابة المذكور. 3 Beitrage S14 4 "سلحين" "سلحن". البلدان "1/ 364" البكري، معجم "1/ 237".

بـ "براقش" فيما بعد، وكانت قائمة في أيام "الهمداني"، ووصف الهمداني الآثار والخرائب التي كانت بها. وقد ورد في إحدى الكتابات أن جماعة من كهنة "ود"، قاموا ببناء ثلاثين "أمه" أي ذراعًا من سور "يثل" من الأساس حتى القمة2، والظاهر أن هذا العمل قاموا به، هو الجزء الذي كان خصص بهم عمله على حين قام أناس آخرون، وفي ضمنهم مجلس يثل، ببقية السور. وللأخباريين قصص عن "براقش". وقد زعم بعض منها أنها و "هيلان" مدينتان عاديتان، وكانتا للأمم الماضية. وزعم بعض آخر أنها من أبنية التبابعة3، فهي من الأبنية القديمة إذن في نظر الأخباريين. وقد كان يسكنها "بنو الأدبر بن بلحارث بن كعب" ومراد في الإسلام4. ولهم عن سبب تسمية "براقش" ببراقش قصص، فزعم بعض منهم أنها إنما سميت بذلك نسبة إلى كلبة عرفت ببراقش. وزعم بعض آخر امرأة، وهي ابنة ملك قديم، ذهب والدها للغزو، وأودع مقاليد بلاده إليها، فبنت مدينة براقش ومعين، ليخلد اسمها، فلما عاد والدها غضب، وأمر بهدمها. وزعم فريق منهم، أنها باسم براقش امرأة لقمان بن عاد. ومصدر القصص مثل مشهور هو: "على أهلها تجني براقش"5. و "على أهلها براقش تجني"، وقد أشير في الشعر إليه6. و"يثل"، وهي مدينة Athlula، Athrula المذكورة في أخبار حملة "أوليوس غالوس" على اليمن، والتي زعم أنها آخر موضع بلغه الرومان في حملتهم هذه. ويزعم القائلون من المستشرقين بهذا الرأي أن لفظة "يثل" لفظة

_ 1 الأكليل "8/ 124"، "طبعة الكرملي"، "8/ 38، 104، 105"، "طبعة نبيه". 2 نقوش خربة معين "ص5 فما بعدها"، النقش رقم5. 3 البكري، معجم "1/ 237" البلدان "1/ 364" الأغاني "5/ 27 وما بعدها" "6/ 287". 4 البكري، معجم "1/ 237". 5 "على أهلها جنت براقش"، مجمع الأمثال، للميداني "2/ 262". 6 بل جناها أخ علي كريم ... وعلى أهلها براقش تجني مجموع الأمثال "2/ 14"، البيان والتبيين "1/ 222" اللسان "1/ 266".

صعبة على لسان الرومان واليونان، ولذلك حرفت فصارت إلى الشكل المذكور1. ومن بقية مدن معين: "نشق"2. و "رشن" "ريشان"3 و "هرم" "هريم"4 "خربة هرم"5، و"كمنه" "كمنهو" "خربة كمنه"6. "كمنا"، "نشن" "نشان" وهي "الخربة السوداء" "خربة السودا" في الوقت الحاضر7. وقد ورد في بعض الكتابات أن "يدع آل بين" مكر سبأ، كان قد استولى على مدينة "نشق"، غير أننا لا نعرف اسم الملك المعيني الذي سقطت هذه المدينة في أيامه في أيدي السبئيين. ويوجد موضع عادي خرب، يعرف بـ "كعاب اللوذ" وبـ "خربة نشان" "خربة نيشان"، يحتمل في رأي بعضهم أن يكون مكان "نشان" "نشن" ويعارض بعض الباحثين ذلك، ويرون أنه بعيد بعض البعد عن مكان "نشن" المعيني، ويذهبون إلى أن هذا المكان هو بقايا معبد أو قبور قديمة، وأنه يشير إلى وجود مسكن فيه قديم لا نعرف اسمه8. وقد تبين للباحثين في موضع "الخربة السوداء" التي هي موضع "نشن" "نشان" أن تلك المدينة كانت مدينة صناعية، لعثورهم بين أنقاضها على خامات المعادن، وعلى أدوات تستعمل في التعدين وفي تحويل المعادن إلى أدوات للاستعمال9.

_ 1 Beitrage S ,32 2 الأكليل "8/ 12" "الكرملي" "8/ 109" "نبيه". H.von Wissmann und M. Hofner, Beitrage zur Historischen Geographie des borilamischen Sudarabien, 1953, S, 14, 15 3 الأكليل "8/ 124، 128" "الكرملي" "8/ 109" "نبيه". 4 الأكليل "8/ 104"، "نبيه"، "هرم"، "8/ 124" "الكرملي". 5 آثار معين "محمد توفيق"، "ص 11×". 6 الأكليل "8/ 124" "الكرملي" "8/ 104" "نبيه" آثار معين "ص11×". 7 "والخربة السوداء بالشاكرية، ثم معين وبراقش ثم كمنا وروثان لنشق"، الصفة "ص 167"، آثار معين "ص11×". 8 Beitrage, S. 15 9 Beitrage, S. 16

و "نشن" "نشان"، وهي "نستم" Nestum في كتاب "بلينيوس"1. ويظن أن خرائب "مجزر"، هي من بقايا مدينة قديمة، لعلها المدينة التي سماها "بلينيوس" "مكوسم" Magusum، ويظهر من موقعها ومن بقايا آثارها أنها كانت ذات أهمية لعهدها ذاك، وأنها كانت عامرة بالناس لخصب أرضها ووفرة مياهها2. وفي الجوف أماكن أخرى، مثل "بيحان" و"سراقة" و"ابنه": و"ابنه" و"مقعم" و"بكبك" و"لوق"، وهي خرائب كانت مواضع معمورة في أيام المعينيين ومن جاء بعدهم فأخذ مكانهم. وقد ذهب "كلاسر" إلى أن موضع "لوق"، هو Labecia الذي ذكره "بلينيوس" في جملة الأماكن التي استولى عليها "أوليوس غالوس"، وذهب "فون وزمن" إلى أنه "لبة"3 Labbah. ويرى علماء العربيات الجنوبية أن "نشق" هي Nescus، Nesca في كتب المؤلفين اليونان واللاتين القدماء. وهي Aska، Asca في "جغرافيا سترابون". وقد ذكرها "سترابون" في جملة المدن التي استولى عليها "أوليوس غالوس" إبان حملته على اليمن4. المعينيون خارج أرض معين: وعثر على كتابات معينية خارج اليمن، ولا سيما في موضع "العلا"، وبينهما عدد من كتابات "لحيانية" متأثرة باللهجة المعينية5. وقد وردت فيها أسماء معينية معروفة، شائعة بين المعينيين، مثل: "يهر" و"علهان"، و"ثوبت" و"يفعان"، كما وردت فيها أسماء آلهة معين، وذلك يدل على نزول المعينيين في هذا الموضع وفي الأرضين المجاورة أمدًا، وتركهم أثرًا

_ 1 Le Mus6on, 1954, 3-4, 435, Von Wissmann, Zur Geschichte, S., 140 2 Von Wissmann und M. Hofner, Beitrage zur Historischen G6ographie des Vorislamischen Sudarabien, 8., 14, Le Mus^on, 1964, 3-4, P. 435 3 Beitrage, S., 15, Le Museon, 1964, 3-4, P. 435 4 Beitrage, S., 32 5 BOASOOR, Num. 73, (1939) , PP. 3

ثقافيًّا فيمن اختلطوا بهم أو جاوروهم وفيمن خلفهم من خلق. وقد جاء هؤلاء المعينيون من معين بالطبع، أي من اليمن، فنزلوا في هذه الأرضين التي تقع اليوم في أعالي الحجاز وفي المملكة الأردنية الهاشمية وفي جنوب فلسطين. ومنهم من تاجر مع بلاد الشأم والبحر المتوسط ومصر. بدليل عثور المنقبين على كتابات معينية في جزيرة "ديلوس" من جزر اليونان1، وفي مصر: في "الجيزة"2 وفي موضع "قصر البنات"3. وظهر من كتابة "الجيزة" المؤرخة بالسنة الثانية والعشرين من حكم "بطلميوس بن بطلميوس"، أن جالية معينية كانت في مصر في هذا الزمن، ولعلها من أيام حكم "بطلميوس الثاني"4. وكان المعينيون يتاجرون في القرن الثالث أو الثاني قبل الميلاد بتجهيز معابد مصر بالبخور5، ويرجع بعض الباحثين تأريخ هذه الكتابة، إلى السنة "264- 263 ق. م"6. وموضع "العلا" المذكور، هو موضع "ديدان" "الديدان" "علت" Ulat في التوراة, وقد قصد به فيها شعب عربي من الشعوب العربية الشمالية، يرجع نسبه إلى "كوش" كما جاء في موضع من "التكوين"7. وإلى "يقشان" من إبراهيم من "قطورة" Keturah في موضع آخر منه8. وقد جعلت "الديدان" متاخمة لأرض أدوم Edom، وتقع في الجنوب الشرقي منها9. وذكر في التوراة أن الديدانيين كانوا من الشعوب التي ترسل حاصلاتاها إلى سوق "صور"10 Tyre.

_ 1 Background, P. 42, BOASOOR, Num. 73, "1939", P. 7, REP. EPIG. 3570 2 BOASOOR, Num. 73, "1939", P. 7, Hommel, in FSBA, XVI, "1894", 145-149, D. H. Muller, in Wiener Zeitschrift fur d. Kunde Des Morgelanders, 1894, I, REP. EPIG. 3427 3 Le Museon, LXII, "1949", 1-2, 56, A. E. P. Weigall, Travels in1 the Upper Deserts, 1909, Pla. IV, Le Museon, XLVIH, 1935, P. 228 4 BOASOOR, Num. 73, 1939, P. 7 5 REP. Epig. 3427, BOASOOR, Num. 73, 1939, P. 7, Conti Rossini, Chrest. Arab., 1931, PI. No 86 6 Arabien, S,, 26 7 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية 7. 8 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 3. 9 حزقيال، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 13، ارميا الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 3، الإصحاح التاسعوالأربعون، الآية 8، Hastings, P. 184 10 حزقيال، الإصحاح السابع والعشرون، الآية 20، وتعرف "صور" بـ tsor في العبرانية، ومعناها صخرة.

ويرى أكثر الباحثين في دولة معين أن هذه المنطقة منطقة "الديدان" وما صاقبها من أرض، كانت جزءًا من تلك الدولة وأرضًا خاضعة لها، وأن ملوك معين كانوا يعينون حكامًا عليها باسمهم، وأن درجتهم هي درجة "كبر" أي "كبير" على طريقتهم في تقسيم مملكتهم إلى "محافد" أي أقسام، يكون على كل محفد أي قسم من المملكة "كبير"، يتولى الحكم باسم الملك في المسائل العليا وفي جمع الضرائب التي يبعث لها إلى العاصمة وفي المحافظة على الأمن. وقد عثر على كتابات ذكرت فيها أسماء "كبراء" حكموا باسم ملوك معين1. ومعنى هذا أن دولة معين، كانت تحكم من معين كل ما يقال له الحجاز في عرف هذا اليوم إلى فلسطين، وأن هذه الأرضين كانت خاضعة لها إذ ذاك، ولكننا لا نجد في النصوص الآشورية أو العبرانية مثل التوراة ولا في الكتب الكلاسيكية ما يشير إلى ذلك. ولكن القائلين بالرأي المذكور يرون أن حكم معين كان في أوائل عهد معين، أي قبل أكثر من ألف سنة قبل الميلاد فلما ضعف ملوكها تقلص سلطان المعينيين عن الحجاز وبقي نافذًا في المنطقة التي عرفت بـ "معن مصرن"، "معن مصران"، أي "معين المصرية"، ثم ضعف سلطان المعينيين الشماليين عن هذه الأرض أيضًا بتغلب السبئيين على معين، ثم بتغلب اللحيانيين في القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد، حيث استقلوا وكونوا "مملكة لحيان"2. وقد أثارت "معن مصرن" "معين مصران"، جدلًا شديدًا بين العلماء، ولا سيما علماء التوراة، فذهب بعضهم إلى أن "مصر" "مصرايم" Mizraim الواردة في التوراة ليست مصر المعروفة التي يرونها نهر النيل، بل أريد بها "معين مصران"، وهو موضع تمثله "معان" في الأردن في الزمن الحاضر3. وأن لفظة "برعو" pero التي ترد في التوراة أيضًا لقبًا لملوك مصر، والتي تقابلها لفظة "فرعون" في عربيتنا، لا يراد بها فراعنة مصر، بل حكام "معين مصران" وأن عبارة "هاكرهم مصريت" Hagar Ham- Misrith، بمعنى "هاجر المصرية"، لا يعني "هاجر" من مصر المعروفة، بل من مصر

_ 1 Musil. Hegaz. P. 295, D. H. Muller, Epigraphtsche Denkmaler, S., 1-96 2 Hegaz, P. 295 3 Hastings, P. 719, Winckler, KLT, S., 145

العربية، أي من هذه المقاطعة التي نتحدث عنها "معن مصرن" وأن القصص الوارد في التوراة عن "مصر" وعن "فرعون، هو قصص يخص هذه المقاطعة العربية، وملكها العربي1. وقالت هذه الجمهرة: إن ما ورد في النصوص الآشورية من ذكر لـ Musri لا يعني أيضًا مصر المعروفة، بل مصر العربية، وأن ما جاء في نص "تغلاتبلسر الثالث" الذي يعود عهده إلى حوالي سنة "734" قبل الميلاد، من أنه عين عربيًّا Arubu واسمه "ادبئيل" "ادب ال" "ادب ايل" "ldiba'il" حاكمًا على "مصري" "Musri" لا يعني أنه عينه حاكمًا على "مصر" الإفريقية المعروفة، بل على هذه المقاطعة العربية التي تقع شمال: "نخل مصري" أي "وادي مصري"2. ويرى "وينكر"، أن "سبعة" "Sib'e: الذي عينه "تغلاتبلسر" سنة "725 ق. م" على مصري، والذي عينه "سرجون" قائدًا على هذه المقاطعة، إنما عين على أرض "مصر" العربية ولم يعين على "مصر" الإفريقية. وقد ورد في أخبار "سرجون" أن من جملة من دفع الجزية، إليه "برعو" Pir'u وقد نعت في نص "سرجون" بـ "برعو شاروت مصري"، أي "برعو ملك أرض مصري"3. وورد ذكر "برعو" هذا في ثورة "أسدود" التي قامت سنة "711 ق. م"4 وورد ذكر "مصري" في أخبار "سنحريب" ملك آشور، وكان ملك "مصري" وملك "ملوخة" قد قامة بمساعدة اليهود ضد "سنحريب"، وذلك في عام "700 ق. م"، وقد انتصر "سنحريب"5. ويرى "ونكلر" أن كل ما ورد في النصوص الآشورية عن "مصري" مثل: "شراني مت مصري" "Sharrani Mat Musri"، أي "ملوك أرض مصر"

_ 1 Ency. Bibli., P. 3163, Winckler, Musri, Meluhha. Main, Schrader, KAT., S., 144 2 Winckler, Musri, S., 5, AOF., I. S., 465, Reallexikon. I, Zweite Lief erung, S., 125 3 Rellexikon der Assyriologie, Erster Band, Zweite Lieferung, S., 125, Ency. Bibll., P. 3163, Winckler, Sargon, I, S., 20 4 Reallexikon, I, 2, S., 125 5 Reallexikon, I, II, S., 125

إنما قصد به هذه المقاطعة العربية1. ويشير هذا الرأي مشكلات خطيرة لقائليه ولعلماء التوراة، فرأي "شرادر" و"ينكلر" وأضرابهما المذكور يتعارض صراحة مع الرأي الشائع عند اليهود وعند التوراة والتلمود والمنشا والكتب اليهودية الأخرى في هذا الموضوع، ويتعارض كذلك مع رأي أهل الأديان الأخرى في الموضع نفسه، ولم يلق هذا الرأي رواجًا بين الباحثين، وهم يرون أن وجود أرض عربية عند "معان" في الزمن الحاضر، تسمى "مصري" وهي تسمية "مصر" في اللغات السامية2، ووجود حاكم عليها اسمه "برعو"، و"برعو" لقب ملوك مصر"، ويقابل "فرعون" في لغتنا3، لا يحتم علينا التفكير في هذه الأرض العربية، ومن الجائز على رأيهم أن يكون الآشوريون قد استولوا على هذه المقاطعة وحكموها ونصبوا حكامًا عليها على حين كانت الحوادث الأخرى قد وقعت في مصر الإفريقية، وبناء على ذلك فليس هناك أي داع للإدعاء أن الإسرائيليين لم يكونوا في مصر، وأن فرعون لم يكن فرعون مصر، بل فرعون مصري، التي هي "معين المصرية"، وليستبعد أيضًا أن تكون تسمية "مصري" العربية قد أخذت من مصر، فقيل "معين مصرن" لقربها من مصر، ولتمييزها عن "معن" أي "معين" اليمن. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "معين مصران" "معين المصرية"، لم تكن جزءًا من حكومة معين، بل كانت مستوطنة مستقلة من مستوطنات المعينيين، وذلك منذ القرن الخامس حتى القرن الأول قبل الميلاد. وأن لقب "كبر" الوارد في نصوص هذه المستوطنة لا يعني أن حامله كان موظفًا في حكومة معين بل هو مجرد لقب حمله صاحب هذه المقاطعة باعتبار أنه كبير قومه وسيدهم والحاكم عليهم، وقد بقيت هذه المستوطنة مستقلة إلى القرن الأول قبل الميلاد، وحينئذ زال استقلالها بزوال حكومة المعينيين الجنوبيين4. وتعد الكتابات المعنية التي عثر عليها في جزيرة "ديلوس" Delos =Delus

_ 1 Winckler, Musri, Meluffa, Main 2 Reallexikon, I, I, S., 45 3 Hastings, P- 719 4 Arabien, S. 27Y

ذات أهمية كبيرة كذلك، في بحثنا هذا، فإنها ترينا وصول المعينيين الجزر اليونانية وإقامتهم فيها، واتجارهم مع اليونان. ومن جملة هذه النصوص، نص مكتوب بالمعينية وبالخط المسند وباليونانية وبالحروف اليونانية، ورد فيه: "هنا" أي "هانىء" و"زبد ايل من ذي خذب نصب مذبح ود وآلهة معين بدلث" أي: بـ"ديلوس". وورد في اليونانية: "يا ود إله معين يا ود"1. وفي هذا النص دلالة على وجود جالية معينية في هذه الجزيرة وسكناها فيها، وعلى تعلقها بدينها وبآلهتا وعدم تركها لها حتى في هذه الأرض البعيدة عن وطنها. ومن يدري؟ فلعلها كانت تتصل ببلادها، وتتاجر وتتراسل معها، تصدر إليها حاصلات اليونان، وتستورد منها حاصلات اليمن والعربية الجنوبية وإفريقية والهند وتعمل مع اليونان شركةً أو تعاونًا في أسواق التجارة العالمية ذلك العهد.

_ 1 RET: EPIG 357 P 225 Conti Rossini, Chrest 1931 p 78

قوائم بأسماء حكام معين

قوائم بأسماء حكام معين: قائمة "البرايت": وقد رتب "ألبرايت" قائمة لملوك معين على النحو الآتي: 1- اليفع يثع، وهو ابن الملك "صدق ايل" ملك حضرموت. وقد حكم في حوالي السنة "400" قبل الميلاد. 2- حفن ذرح، وهو ابن اليفع يثع. 3- اليفع ريام، وهو ابن اليفع يثع. وقد كان أيضًا ملكًا على حضرموت. 4- هوف عثتر "هوفعث". "هوفعثتر"، وهو ابن اليفع ريام. 5 أب يدع يثع "أبيدع يثع"، وهو شقيق هوف عثتر. وقد كان يحكم في حوالي السنة343 قبل الميلاد. 6- وقه آل ريم "وقه ايل ريام"، وهو ابن هوفعثتر. 7- حفن صدق "حفن صديق"، وشقيق وقه إيل ريام. 8 اليفع يفش وهو ابن حفن صديق.

1- اليفع وقه، وقد كان حكمه في حوالي السنة 250 قبل الميلاد. 2- وقه ايل صديق "وقه آل صدق"، وهو ابن اليفع وقه. 3- اب كرب يثع "أبكرب يثع" أبيكرب يثع"، وهو ابن "وقه آل صدق". وقد ورد اسمه في كتابات "ددان" "ديدان" وذلك في الأيام اللحيانية المتأخرة. 4- عم يثع نبط "عمي يثع نبط" عميثع نبط"، وهو ابن "ابكرب يثع" "أبيكرب يثع". 1- يثع ايل صدق "يثع آل صدق" "يثع ايل صديق". 2- وقه آل يثع "وقه ايل صديق". وكان تابعًا للملك "شهر يجل يهرجب" ملك قتبان. 3- اليفع يشر، وهو ابن "وقه ايل يثع". 4- حفن ريام "خفنم ريمم"، وهو ابن اليفع يشر. 5- وقه آل نبط "وقه ايل نبط". وذكر "البرايت" أسماء ما لا يقل عن خمسة ملوك، قال إنه غير متأكد من زمان حكمهم ومن مكان ترتيبهم في هذه القائمة، وهم: أب يدع "ريام؟ " وابنه "خلكرب صدق" "خاليكرب صديق". وهو "حفنم يثع"، وهو ابن "خلكرب صدق" و"يثع ايل ريام" و"تبع كرب" "تبعكرب"، وهو ابنه1. وقد أعاد "البرايت" النظر في قائمته السابقة. وأجرى عليها تعديلات على ضوء دراسة صور الكتابات وتغير أسلوبها بمرور العصور، ثم انتهى إلى وضع قائمة جديدة تتألف من ثلاث مجموعات هي: المجموعة الأولى: 1- اليفع يثع، وهو ابن صدق ايل ملك حضرموت حوالي400 ق. م.

_ 1 BOASOOR. NUm119:1950: PP ll

2- اليفع ريام. 3- حفن عثت، هو ابن اليفع ريام. 4- أبيدع يثع343 ق. م. 5- وقه آل ريام. 6- حفن صدق، وهو ابن وقه ايل ريام. 7- اليفع يفش. 8- عميثع نبط، "عم يثع نبط"، وهو ابن "ابكرب". 9- يثع ايل ريام. 10- تبع كرب "تبعكرب"، وهو ابن يثع ايل ريام. 11- خلكرب صدق، وهو ابن أب يدع "ريام؟ ". 12- حفن يثع250 ق، م. المجموعة الثانية: 1- وقه ايل نبط200 ق. م. 2- اليفع صدق. 3- وقه ايل صدق150 ق. م. 4- أبيكرب يثع "أبكرب يثع". 5- اليفع يشر الأول100 ق. م. 6- حفن ريام. المجموعة الثالثة: 1- يثع آل صدق "يثع ايل صديق". 2- وقه آل يثع "وقه ايل يثع" 75 ق. م. 3- اليفع يشر الثاني. نهاية مملكة معين بين السنة50 والسنة 25 قبل الميلاد1.

_ 1 BOASOOR, NUM 129 "1953" PP 22

قائمة ريكمنس

قائمة "ريكمنس": وقد دون "ريكمنس" "JRyckmans" أسماء ملوك معين على النحو الآتي: أب يدع "ملك؟ = أب يدع ريام؟ ". خلكرب صدق. اليفع وقه. وقه ايل صدق. أب كرب يثع. عم يثع نبط. يثع ايل ريام. تبع كرب. يثع ايل ريام تبع كرب. اليفع ريام. هوف عثت. اليفع يثع= معد يكرب ملك حضرموت. أب يدع يثع "343 قبل الميلاد= يثع ايل "بين؟ ". وقه ايل ريام. حفن صدق.

اليفع يفش. يثع ايل صدق. وقه ايل يثع} شهريكل يهركب ملك قتبان اليفع يشر: حفن ريام. وقه ايل نبط. خلكرب. حفن يثع. يثع ايل حيو1. حفن ذرح.

الفصل العشرون: مملكة حضر موت

الفصل العشرون: مملكة حضر موت مدخل ... الفصل العشرون: مملكة حضرموت وعاصرت مملكة "معين" مملكة أخرى من ممالك العربية الجنوبية، هي مملكة "حضرموت"، وقد ظهرت قبل الميلاد أيضًا، وما زال اسمها حيًّا يطلق على مساحة واسعة من الأرض، فلها أن تفخر بهذا على الحكومات العربية الأخرى التى عاشت قبل الميلاد، ثم ماتت أسماؤها، أو قل ذكرها قلة واضحة. وقد قطع اسمها مئات من الأميال قبل الميلاد، فبلغ مسامع اليونان والرومان وسجله كتابهم في كتبهم لأول مرة في القارة الأوروبية، وكتب لذلك التسجيل الخلود حتى اليوم. ولكن سجلوه بشيء من التغيير والتحريف، اقتضته طبيعة اختلاف اللسان، أو سوء السماع، أو طول السفر، فرواه "ايراتوستينس"1Chatramotitae، ورواه "نبوفراستوس" 2Hadramyta وأما "بلينيوس" فقد روراه "Atramitae" و 3Chatramotitae. وقد ورد عند "بطلميوس" بشكل4Chathramitae = Adramitae.

_ 1 Strabo, 16, 4, 2, Vol. 3, P. 190, Hamilton 2 Theophrastus, Enquiry into Plants, Vol., 2, P. 235, Book, 9, 2 3 Ency., Vol., 2, P. 207, Forster, Vol., I, P. 113, CLeary, P. 99, Pliny, 6, 28, 32 4 "Adramitae", "Cathramonltae", "Chatraraotitae", Forster, Vol., I, P. 113, 194, Vol., 2, P. 270, Ptolemy, VI, 7, 10, Le Museon, 1964, 3-4,P. 441

وقد تحدث مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" عن سواحل حضرموت الجنوبية، فذكر أن فيها مناطق موبوءة، يتجنبها الناس، ولا يدخلونها إلا لضرورة، ولذلك لا يجمع التوابل والأفاويه إلا خول ملك حضرموت وأولئك الذين يراد إنزال عقوبات صارمة عليهم1. وهذا يدل على أن الروم والرومان كانوا قد سمعوا من ملاحيهم ومن غيرهم من ركاب البحر أخبار السواحل، وهي أخبار مهمة بالطبع بالنسبة إلى أصحاب السفن في ذلك العهد. وكلمة "هزرماوت" "حزرماوت" "Hazarmaveth" الواردة في التوراة على أنها الابن الثالث لأبناء "يقطان"، يعني "حضرموت" ومعناها اللغوي "دار الموت"2 ولعل لهذا المعنى علاقة بالأسطورة التي شاعت عند اليونان أيضًا عن "حضرموت"، وأنها "وادي الموت"، وعرفت في الموارد الإسلامية كذلك3. وقد وصلت في الإسلام من طريق أهل الكتاب، قال ابن الكلبي: "اسم حضرموت في التوراة حاضر ميت، وقيل: سميت بحضرموت بن يقطن بن عابر بن شالخ"4. وقد ذهب أكثر من بحث في أسباب التسمية من العلماء العرب إلى أن حضرموت هو اسم "ابن يقطن" أو "قحطان" وأنه كان إنسانًا وبه سميت الأرض، وما بنا حاجة إلى أن نقول مرة أخرى أن هذه النظرية ليست عربية، وإنما تسربت إلى الأخباريين من التوراة، إذ جعلت حضرموت اسم رجل هو "ابن يقطان". وقد ورد اسم "حضرموت" في الكتابات العربية الجنوبية، كما عثر على كتابات حضرمية ورد فيها أسماء عدد من ملوك حضرموت، وأسماء أسر حضرمية ومدن كانت عامرة زاهية في تلك الأيام5، وبفضل هذه الكتابات حصلنا على

_ 1 Periplus Maris Erythraei, 12, Beitrge, S, 87 2 التكوين: الإصحاح العاشر الآية26، أخبار الأيام الأول: الإصحاح الأول الآية20، قاموس الكتاب المقدس "1/ 378". 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 378". Hastings, P. 333, Ency. Bibli, P. 1976, Montgomery, Arabia and The Bible, P. 39. 4 البلدان "3/ 292" Enct, vol, 2, P. 207 5 Halevy 193, Halevy 423, Mordtmann, Beitrage zur Min. Epigr, S, 16

معلومات لا بأس بها عن مملكة حضرموت، وعن علاقاتها بالدول العربية الجنوبية الأخرى، ولما كانت أكثر هذه الكتابات قد عثر عليها على وجه الأرض، أو هي من نتائج حفريات لم تتعمق كثيرًا في باطن العاديات، فإننا نأمل أن يقوم المستقبل بإقناع المحبين للتأريخ العربي، بالقيام بحفريات علمية منتظمة وعميقة في مواطن الآثار، لاستنطاق ما فيها عن تأريخ العرب الجاهليين، وأنا على يقين من أن في باطن الأرض وبين الأتربة المتراكمة على هيأة أطلال وتلول أسرارًا كثيرة ستغير من هذا الذي نعرفه اليوم عن تأريخ حضرموت وعن تأريخ غيرها, من حكومات، وستزيد العلم به اتساعًا. لقد قامت بعثة بريطانية صغيرة بأعمال الحفر في موضع يقال له "الحريضة"، فاكتشفت فيه آثار معبد الإله "سين"، وهو يرمز إلى القمر. وعثرت على عدد من الكتابات تبين أن بعضها سبئية، كما عثرت على قبور عثر فيها على عظام في حالة جيدة تمكن من دراستها، وعلى أواني ومواد من الفخار والخزف وخرز ومسابح يظن أنها من القرن السابع أو الخامس قبل الميلاد1. وعثر في خرائب "شبوة" وفي "عقلة" وفي مواضع أخرى على عدد من الكتابات الحضرمية، كما استنسخ نفر من السياح صور بعض الكتابات التي نقلها الناس من مواضع العاديات إلى المواضع الحديثة حيث استعملوا حجارتها في البناء. وتشاهد في مباني "الحريضة" الحديثة، وهي لا تبعد كثيرًا عن الموضع القديم، أحجار مكتوبة أخذت من تلك الخرائب، شوهت بعضها أيدي البنائين وقضت على أكثرها معاولهم، ومحت آلاتهم كثيرًا من تلك الكتابات، ولا يستبعد وجود عدد آخر من الأحجار أوجهها المكتوبة في داخل البناء، فلا يمكن الوقوف عليها، أو أنها كسيت بطبقة من "الجبس" أو مادة أخرى تجعل الجدران صقيلة ملسًا. ولم تتوصل جهود من بحث في الآثار التي استخرجت من معبد "سن" "سين" في الحريضة" إلى نتيجة قطعية لتأريخ هذا المعبد، ويظن أن المقابر التي عثر

_ 1 Reports of the research committee of the society of antiquaties of London, XIII, The Yombs and Moon Temple of Horeidha "Hadhramout", By G. Caton Thompson, Oxford University Press, 1944, P. 15 وسيكون رمزه: Caton

عليها وبعض واجهات المعبد تعود إلى أواسط القرن الخامس فما بعد إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وأن قسمًا من بناء المعبد يعاصر العهد "السلوقي"1. ويعرف موضع الخريضة في الكتابات الحضرمية باسم "مذب" "مذبم" "مذاب"، وفي هذه المدينة الحضرمية القديمة، معبد خصص بعبادة "سين"، وعرف عندهم باسم معبد "سن ذ مذبم" "سين ذو مذاب"، وكان الناس ينذرون له النذور، ويتقربون إليه، ليمنحهم العمر الطويل والخير والبركة. وليس علمنا بأحوال حكام "حضرموت" بأحسن من علمنا بأحوال حكام الحكومات العربية الجنوبية الأخرى، مثل معين أو قتبان أو سبأ، فلا نزال لا نعرف شيئًا يذكر عن حكامها الأول وعن عددهم وعن مدد حكمهم وعن أمور أخرى من هذا القبيل، ولا نزال نجد الباحثين في أحوالها غير متفقين لا على مبدأ قيام حكومة حضرموت ولا على منتهاها وسقوطها فريسة في أيدي السبئيين، ثم لا نزال نراهم يختلفون أيضًا في عدد الحكام وفي مدد حكمهم. والحكام الذين يذكر العلماء أسماءهم ليسوا بالطبع هم جميع حكام حضرموت، بل هم جمهرة الحكام الذين وصلت أسماؤهم إلينا مدونة في الكتابات، ولذلك لا نستبعد أن تزيد أسماؤهم في المستقبل، زيادة قد تكون كبيرة، وهي ستتوقف بالطبع على مقدار ما يعثر عليه من كتابات. لقد تبين من بعض الكتابات الحضرمية أن عددًا من المكربين حكموا شعب حضرموت، وذلك قبل أن يتحول هذا الشعب إلى مملكة. وقد ذكر "فلبي" بعضهم في آخر القائمة التي رتبها بحسب رأيه لحكام حضرموت2. ومن هؤلاء المكربين المكرب "يرعش بن أبيشع"، "يرعش بن أب يشع"، "يهرعش بن أب يشع" "يسكر ايل يهرعش بن اب يسع" "يشكر ايل يهرعش بن أبيع"3 الذي ورد اسمه في كتابة سجلها "شكمم سلحن بن رضون" "شكم سلحان بن رضوان"، والظاهر أنه كان من الموظفين أو الأعيان البارزين في حكومة

_ 1Caton, P. 153 2 Background, P. 144 3 "شكيم"، "يشكرال يهرعش بن ايزع" "يسكرايل يهرعش بن أبيع" REP. EPIG, V, I, P. 39, No. 2687, Le Musen, 1964 3-4, P. 444, Beitrage, S. 95

حضرموت. وقد كلفه المكرب بناء سور وباب وتحصينات لحصن "قلت" الذي يهيمن على واد تقطعه الطريق القادمة من مدينة "حجر" والمؤدية إلى ميناء "قانه" "كانه" "قنا"، كما كلف إنشاء جدر وحواجز في ممرات الوادي المهمة لحماية منطقة "حجر" والمناطق الأخرى، من المغيرين ومن كل عدو يريد غزو حضرموت، ولا سيما الحميريين الذين صاروا يهددون المملكة، ويتدخلون في شئونها. وقد وضع تحت تصرفه موظفين ومعماريين للإشراف على العمل، وعمالًا يتولون أعمال البناء الذي تم في خلال ثلاثة أشهر تقريبًا1، وكان ذلك في السنة الثانية من سني "يشرح آل" "يشرح ايل" من آل "عذذ" "ذ عذذم"، ولسنا نعرف اليوم هذا التقويم: "تقويم يشح آل" الذي أرخت به الكتابة. وقد أنجز "شكم سلحان" "شكم سلحن" العمل الذي كلف إنجازه، فبنى الجدار والباب لحصن "قلت"، وبنى الحواجز والموانع الأخرى للمواضع الخطيرة الرئيسية الواقعة في ممرات الوادي ومعابره، لتصد الأعداء والغزاة عن عبوره، وأنشأ استحكامات ساحلية لحماية البر من الهجوم الذي قد يقوم به العدو من جهة البحر. ويظهر أنه أقام حصونًا على لسانين كانا بارزين في البحر، فحمى بذلك الخليج الذي بينهما، كما حصن المنفذ المؤدي إلى وادي "أبنة" وإلى مدينة "ميفعة"، حيث بنى سورًا قويا لها، وبرجين هما برج "يذان "، وبرج "يذقان"، وباب "يكن" وأماكن حماية يلتجئ إليها الجنود إذا لزم الدفاع عن المدينة فضلًا عن بناء الموانع المذكورة وقد قام بهذا العمل الجنود بدليل ورود كلمة "أسدم" في النص، ومعناها الجنود2. وتوجد اليوم في "وادي لبنة" "لبنا" بقايا جدار كان يسد هذا الوادي في أيام مكربي حضرموت. ويظهر أن بانيه هو "شكم سلحن" "شكيم

_ 1 "120" شخصًا في النص الذي دونه "رودو كناكس" و"210" في غيره: Rhodokanakis, Stud. Lexi, 2. S. 48, REP. Epig, V, I, 39, 2687 السطر الخامس من النص، راجع: von Maltzan, In A. bon Wrede. Reisein Hadhramount, S. 327, 362, Rhodokanakis. Stud. Lexi, 2, S. 48, REP. EPIG, V, I, P. 39, Hommel, chresto, S. 119. "257" Aufsa. und Abh, S, 166

سلحان" المذكور، يبلغ ارتفاعها زهاء سبعة أمتار، وقد أقيم من أحجار مكعبة، قطعت من الصخر، ونحتت نحتًا جيدًا، ونضد بعضها فوق بعض ووضعت بين سوفها مادة من نوع السمنت، وفي وسط الجدار آثار باب عرضه خمسة أمتار لمرور الناس والقوافل منها، وقد بني هذا الجدار ليمنع المغيرين القادمين من الجنوب، من الاتجاه نحو حضرموت، وذلك في ضمن الخطة العسكرية التي رسمت يومئذ لتحصين المدن المهمة وإحاطتها بأسوار وجدر قوية في الممرات المهمة، والطرق المؤثرة من الوجهة الحربية لمنع الأعداء من الزحف على حضرموت، ويرى بعض الباحثين أن إنشاء هذا الجدار كان في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد1. ويرى بعض الباحثين أن الكتابة التى دونها "شكم سلحن" "شكيم سلحان" ووضعت على جدار "لبنا" وعثر عليها في مكانها، هي أقدم كتابة حضرمية وصلت إلينا حتى الآن، وتليها في القدم الكتابة التي عثر عليها في "عقبة عقيبة" وتخص ممر "همريان"، وشرق "شبوة". ويرجع هؤلاء زمن كتابة الكتابة الأولى إلى القرن الخامس أو أوائل القرن الرابع قبل الميلاد2. لقد كان الغاية من سد الأودية بإقامة جدر قوية حصينة بين طرفي الوادي بحيث تمنع الناس من المرور في الوادي إلا من باب يشرف منه الجنود عليها، هو حماية حضرموت من غزو حمير, وكانت مساكن قبائل حمير إذ ذاك تجاور حضرموت. ولهذا صار الحميريون خطرًا على حضرموت. ويفهم من إحدى الكتابات أن جدار "قلت" وحصنه إنما أقيما لصد غارات الحميريين وغزوهم المتوالي لأرض حضرموت. وقد جددت تلك الجدر والحصون ورممت مرارًا وقويت بالحجارة الصلدة التي قدت من الصخر، إذ لم تتمكن من الوقوف أمام سيل غزاة حمير، والظاهر أن غزوهم كان مستمرًّا في أيام المكرب المذكور، فاضطر إلى بناء تلك العقبات والحواجز لمنعهم من تهديد شعبه. لقد كانت مواطن الحميريين في هذا العهد في الجنوب وفي الجنوب الشرقي من "لبنا" "لبنه" ومدينة "ميفعة". ولم ينتقل الحميريون نحو الغرب إلى

_ 1 Beitrage S 94 2 Beitrag S 109

المواضع التي عرفت باسمهم إلا في القرن الثاني قبل الميلاد، أو قبل ذلك بقليل، أما دولة حمير في أرض يافع وفي رعين وفي المعافر، فقد قامت في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد، واستمرت هجرة حمير إليها إلى ما بعد الميلاد. وقد أطلق "الهمداني" على أرض "يافع" اسم "سرو حمير"1. ويرى "فون وزمن" أن حمير كانت قد استولت على ميناء "قنا" "قانه" في أيام هذا المكرب. وهذا الميناء هو الميناء الوحيد لحضرموت الصالح للاتجار بحرًا مع الهند وإفريقيا، أخذته من حمير، وكانت تتحكم -على رأيه- بطول الساحل بين "عدن" و "قنا"، ولها أسطول من السفن للاتجار مع الساحل الإفريقي الذي ربما كان خاضعًا لها في ذلك الزمن2. وورد في إحدى الكتابات التى عثر عليها "فلبى" اسم مكرب آخر من مكربي حضرموت يسمى "علهان بن يرعش" "علهن بن يرعش". ويظهر أن "يرعش" والد "علهان" هذا، هو "يرعش" المكرب المتقدم، وقد دون نص "philby 103" لمناسبة إنشاء طريق في ممر "همربان" "Hamraban" الذي يقع شرق "شبوة"3. وقد أنشئت هذه الطريق لتسهيل وصول القوافل إلى العاصمة ولأسباب عسكرية قد يكون منها تسهيل مسيرة الجيش إلى مقر الملك للدفاع عنه. وقد زهد آخر "مكرب" من مكربي حضرموت في لقبه هذا، فتركه إلى لقب آخر يتسمى به، يدل على الحكم الدنيوي وحده وعلى السلطان والملك، وهو لقب "ملك" فتسمى به. وانتقلت حضرموت بذلك من طور إلى طور، وصار النظام فيها نظامًا ملكيًّا، وإذا سألتني عن اسم هذا المكرب الذي أبدل لقبه، فصار ملكًا، وصار بذلك آخر مكرب وأول ملك، وأول جامع للقبين في حكومة حضرموت، فإني أقول لك أن علمي به لا يزيد على علمك به، وإن العلماء الباحثين الذين آخذ علمي منهم، لايزالوان في ذلك على خلاف، بل إن علمهم به لا يزيد -ويا للأسف- على علمك وعلمي به.

_ 1 Beitriige, S., 97 2 Le Museon, 1964, 3-4 P. 444 3 Philby, Three New Inscriptions from Hadhramaut, in Jurna. Asiat Soc, 1945, Beitrfige, S., 106

لقد وضع "فلبي" الملك "صدق آل" "صدق ايل" "صديق ايل" طليعة ملوك مملكة حضرموت، وجعل زمان توليه العرش في حدود عام "1020 ق. م."1. أما "البرايت"، فوضع اسم الملك "يدع آل" "يدع ايل" في رأس القائمة التي رتبها لملوك حضرموت، وجعله معاصرًا لـ "كرب آل" "كرب ايل" أول ملوك مملكة سبأ، وقد حكم على رأيه في حوالي سنة "450 ق, م"، ثم ترك فراغًا بعد هذا الملك يشير إلى أنه لم يهتد إلى معرفة من حكم بعده، وذكر بعد هذا الفراغ اسم الملك "صدق آل" "صدق ايل" الذي كان ملكًا على حضرموت ومعين، وقد ذكر أنه حكم في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد2، والفرق كما ترى، كبير جدًّا بين تقدير "فلبي" وتقدير "البرايت". وقد وضع "هومل" الملك "صدق آل" "صدق ايل" على رأس قائمة ملوك حضرموت، وعلى هديه سار "فلبي" في ترتيبة لملوك هذه المملكة، وكان على رأيه يعاصر الجماعة الثانية من جماعات ملوك معين3, وذكر بعده اسم ابنه "شهر علن" "شهر علان"، ثم "معد يكرب بن اليفع يثع" "معد كرب بن اليفع يثع" ملك "معين" وكان لـ "معد يكرب" ابنان هما: "هوف عثت" "هو فعثت"، و"أب يدع يثع" "أبيدع يثع"، لم يتوليا عرش حضرموت بعد أبيهما، والظاهر أن حضرموت اندمجت بعد وفاة "معد يكرب" في مملكة "معين" مدة لا نعرف مقدارها بالضبط4. ويرى "فلبي" أنها زهاء ثلاثة قرون إلى نحو سنة "650 ق. م"5. ولدينا كتابة حضرمية من أيام "معد يكرب"، ورد فيها اسمه واسم "شهر علن بن صدق آل"، ملك حضرموت، واسم "أب يدع يثع" ملك معين. وقد تقرب فيها صاحبها إلى الإله "عثتر ذ قبضم" "عثتر ذي قبض" ببناء برج موضع "حرف"، وتيمن فيها أيضًا بذكر الآلهة: "عثتر شرقن"

_ 1 Beckground, P. 144 2 BOASOOR, Num. 119, PP. 5-15, "1950" 3 مجموعة "B" في كتاب: Handbuch, S. 68 ومجموعة "C" في كتاب Chresto. 4 Handbuch, S. 68, 102 5 Background, P. 144

"عثتر الشارق" و"ود" و"نكرح"1، وتشير هذه الكتابة إلى الروابط المتينة التي كانت بين العرشين: عرش حضرموت وعرش معين. فقد كان "معد يكرب" ملكًا على حضرموت، على حين كان شقيقه ملكًا على معين. ولا ندري إلى متى دام حكم هذه الأسرة التي جمعت بين عرشي المملكتين2. وقد عثر على هذه الكتابة في "معين"3 وقد طمست منها كلمات واردة قبل اسم "أب يدع يثع"، ولم يبق منها غير " ... خي.... شو"4, فلم يعرف المقصود بهذين المقطعين الباقيين. أيقصد بهما ابن أخيه "أب يدع يثع"، أم يقصد بهما أخاه "أب يدع يثع"؟ أم مؤاخيه وحليفه "أب يدع يثع"؟ ويعود الضمير في هذه الجملة إلى "معد يكرب" صاحب هذه الكتابة. وقد ذهب "هومل" إلى أن المقصود بذلك "ابن أخيه"5. وعلى هذا يكون "أب يدع يثع" الوارد في هذا النص الملك "أب يدع يثع بن اليفع ريام" شقيق "معد يكرب" ملك معين، وهو ابن أخي "معد يكرب" ملك حضرموت. ولورود جملة: "ملك معين" بعد اسم "أب يدع يثع"، وهي جملة ترد في النصوص بعد اسم كلم ملك للدلالة على أنه كان ملكًا -نستنتج أن "أب يدع يثع" كان ملكًا على معين زمن تدوين هذه الكتابة- نعني أنه كان هو ملكًا على معين في الزمن الذي كان فيه "معد يكرب" ملكًا على حضرموت، ولهذا يبدو غريبًا ما ذهب إليه "فلبي" من أن "أب يدع يثع" حكم في حدود سنة "935 ق. م."6 وأن "معد يكرب: حكم في حوالي "980 ق. م."7 وأن مملكة "حضرموت" لم يكن عليها ملك في حدود عام "935 ق. م" بل كانت تتبع مملكة معين، فإن هذا الرأي يخالف ما جاء في النص المذكور من تعاصر الملكين. وقد ورد في كتابة معينية وسمت بـ8Halevy 520، اسم "معد يكرب

_ 1 REP. EPIG. 2775, Tome, V. 2, P. 129-130, Halevy, 193, Hommel, Chresto., S., 106, Hartmann, Arab. Frage, S., 171 2 جواد علي: تأريخ العرب قبل الإسلام "2/ 67 وما بعدها 3 REP. EPIC, V.'II, P. 129 4 Handbuch, I, S., 69 5 REP. EPIG.. V. II, P. 129, Handbuch, S-, 69 6 Background, P. 141 7 Background, P. 144 8 Halevy 520, REP. EPIG. 3012, Glaser 1159 + 1160

ابن اليفع"، وذكرت بعده جملة: "ملك معين"، فذهب العلماء إلى أن "معد يكرب" هذا هو "معد يكرب" ملك حضرموت1 الذي نتحدث عنه، وجعلوه ملكًا على معين وعلى حضرموت. ولكن هذا الرأي يخالف ما ذهبوا إليه في ترتيبهم لأسماء ملوك معين، وقولهم إن ملك معين كان في هذا العهد الملك "أب يدع يثع"، وهو ابن الملك "اليفع ريام بن اليفع يثع". وأعود فأكرر ما قلته مرارًا من أن ترتيب الملوك يمثل آراء العلماء ويختلف باختلاف هذه الآراء. فلا مندوحة من الوقوف منها موقف المتفرج الباحث في هذا العهد. وقد سجلت هذه الكتابة لمناسبة بناء برج "ذو ملح" في مدينة "قرنو" عاصمة مملكة معين، وبرج آخر في مدينة "يثل" المعينية. وقد ورد في النص اسما مدينتي "يفعن" "يفعان" و"هرن" "هران" من مدن المعينيين كذلك، كما ورد فيها اسم معبد الإله "عثتر ذو قبض"2. ويظهر أن هذه الكتابة قد كتبت في زمن مقارب لزمن الكتابة المعينية المعروفة بـ 3Glaser 1155، التي تحدثت عن حرب نشبت بين "مذي" و"مصر"، فصاحبها "عم صدق بن حم عثت" "عمصديق بن حم عثت"4، من "ذ يفعن" "آل يفعان"، ورجل آخر اسمه "سعد بن ولج"5 من "ذ ضفجن" "آل ضفجان"6، وكانا "كبيرين" في حكومة معين، وقد ورد فيها اسم "اب يدع يثع" "أبيدع يثع" ملك "معين" و "ومعد يكرب بن اليفع"7. وأصحاب كتابتنا المتقدمة المعروفة بـ Halevy 520" ثلاثة، هم: "عم صدق" و"عم يدع" و "عم كرب" أبناء "حم عثت" من "آل يفعان" "ذ يفعن". فأحدهم، وهو "عم صدق بن حم عثت" أسهم مع صاحبه "سعد بن ولج" في تدوين الكتابة الأولى وأسهم مع إخوته في تدوين هذه

_ 1 Handbuch, S., 69, Le Museon, LXII, 3-4, 1949, 235 2 REP. EPIC, V, II, P. 293, Halevy, Inscr. Sba., 91, No. 520 3 Halevy 535 + 578, Grohmann, Gotter., S., 52, Hartmann, Arab. Frage, S., 130., REP. EPIG., V, II, P. 303, 3022 4 "عم صديق بن جمعثت". 5 "سعد بن ولك"، بحرف الجيم على النطق المصري. 6 "ضفكن" بحرف الجيم على النطق المصري. 7 Winckler, Mursi., S., 20

الكتابة الثانية التى ورد فيها اسم "معد يكرب" ابن "اليفع" ملك معين، وقد كان معاصرًا كما رأيت للملك "أب يدع يثع" ملك معين، ويكون زمن حكم "معد يكرب" في هذا الزمن الذي وقعت فيه تلك الحرب أو قبل ذلك. وقد ورد في أحد النصوص اسم "سعد" من "آل ضفجن"، ولم يذكر معه اسم أبيه، وكان "كبيرًا" على "معين مصران"1، وذلك في أيام الملك "أب يدع يثع"، و"وقه آل ريمم" "وقه ايل ريام" ملك معين، ويلاحظ أن هذا النص قدم اسم "أب يدع يثع" على اسم "وقه آل ريام"، مع أن المعروف أن "أب يدع يثع" هو ابن "وقه ايل ريام" شقيق "معد يكرب" فهل يدل على ذلك على أن "أب يدع يثع" كان شقيقًا للملك "معد يكرب"ولـ "وقه ايل ريام" كما ذهب إليه بعض الباحثين2. وقد ورد في النص اسم مدينة "قرنو" أي عاصمة معين، وقبيلة "ضفجن" ومزود معين"، وأن "سعدًا" أنشأ "مذاب"وعملها؟. وقد تيمن في النص بذكر أسماء آلهة معين. واسم "وهب آل بن رثدال" "وهب ايل بن رثد ايل" من "آل يفعان". ويظهر من الأسماء الواردة في هذا النص، ومن مضمونه، ومن اسم ملك معين الوارد فيه، أن صاحب هذه الكتابة، "سعد" من "ضفجن" "ضفنكن" هو "سعد بن ولج" الذي اشترك مع "عم صدق بن حم عثت" وكان كبيرًا مثله في الكتابة التي مر الحديث عنها. وقد رأيت أن "عم صدق" كان من "يفعان"، وقد ورد اسم "يفعان" في هذا النص فهو لذلك من نصوص هذا العهد. وأشار "هومل" إلى الملك "يدع أب غيلان" بعد إشارته إلى "يدع ايل بين" "يدع آل بين" و "السمع ذبيان" ملكي حضرموت، وذكر أن الحميريين كانوا هم أصحاب الحل والعقد في ذلك الزمان. وذكر أن الذي تولى بعده هو "العز يلط" "العذ يلط"3. ولكنه لم يجزم أنه كان ابن "يدع

_ 1 REP. EPIEG. 3535, VI, I, P. 193, Weber, Studi., II, s., I, Rossini, Chrest. Arab. Merid., P. 80 2 Philby, in Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 235 3 الحرف الأخير من "العز" "العذ" قد يقرأ زايا وقد يقرأ "ذلا"؛ وذلك لأن اللهجة الحضرمية لم تفرق بين الحرفين بل إن لهما نطقًا خاصًّا في هذه اللهجة ولذلك صعب التعبير عنه في كتابتنا فعبرت عنه بالحرفين.

أب غيلان"1. فأما "فلبي"، فقد جعله ابنه، غير أنه لم يضعه في هذا المكان2. وتطرق "هومل" إلى ذكر الملك "يدع آل" بعد الملك "معد يكرب" وقد جاء اسمه في النص الموسوم بـ Glaser 1000" الذي دون في مدينة "صرواح" وكان معاصرًا للمكرب "كرب ايل وتر" مكرب سبأ، ويحتمل في نظره أن يكون "يدع ايل" هذا هو الملك "يدع ايل بين" الذي ذكر اسمه في الكتابة الحضرمية المعروفة "SE 43". وهو ابن "سمه يفع"، وقد ذكر معه اسم الملك "السمع ذبين" "السمع ذبيان"، وهو ابن "ملك كرب" "ملكي كرب" "ملكيكرب"3. و"غيلان" هو أول من تولى حكم حضرموت بعد هذه الفترة التي لم نعرف من حكم فيها بعد "معد يكرب" على رأي "البرايت". وقد حكم من بعده ابنه "يدع أب غيلان". وذكر "البرايت" أن اسم هذا الملك قد ذكر في كتابة عثر عليها في "وادي بيحان" وهو يرى أن المحتمل أن يكون هو "يدع أب غيلان" الذي كان حليفًا لـ "علهن نهفن" "علهان نهفان" ملك سبأ، وقد حكم على تقديره في حوالي سنة "50 ق. م."4. وذهب "فون وزمن: إلى أن "يدع أب غيلان" المذكور كان معاصرًا لـ "علهان نهفان"، وأن والده هو الملك "يدع ايل بين" وقد حكم على رأيه في حوالي السنة "140 ب. م" وأما الملك "يدع أب غيلان" فقد حكم فيما بين السنة "160 ب. م" إلى "190 ب. م"5. وقد عقد صلحًا مع "علهان نهفان" الهمداني6. أما "فلبي"، فقد رأى أن الذي حكم بعد هذه الفترة التي انتهت على حسب اجتهاده بحوالي سنة "650 ق. م." هو "السمع ذبيان بن ملك كرب"

_ 1 Handbuch, S., 102 2 Background, P. 144 3 Handbuch, S., 102 4 The Chronology. P. 10, BOASOOR, Num. 119, P. 14 5 he Museon, 1964, 3-4, P. 498 6 Le Museon. 1964, 3-4, P. 466, 468, 498

و"يدع ايل بين بن سمه يفع"، واندمجت حضرموت بعده في مملكة سبأ أو قتبان، ثم أصبحت جزءًا من مملكة سبأ إلى حوالي سنة "180 ق. م." حيث عادت فاستقلت، فتولى الملك فيها الملك "يدع آل بين بن رب شمس"1 الذي كون أسرة ملكية جديدة اتخذت مدينة "شبوة" عاصمة لها2. وقد ذكر "البرايت" أن الذي حكم بعد "يدع أب غيلان" وهو ابن الملك "غيلان"، وهو الملك "العذيلط" "العزيلط"، وقد نعته بـ "الأول" وجعله معاصرًا لـ "شعرم أوتر" "شعر أوتر" ملك سبأ. وقد كان حكمه على تقديره في حوالي سنة "25 ق. م."3. وذهب "البرايت إلى احتمال كون "العزيلط" هذا هو الملك، "العزيلط بن عم ذخر" المذكور في كتابة عثر عليها في "وادي بيحان" في كتابات عثر عليها "فلبي" في "عقلة" بحضرموت4. غير أن "العزيلط بن عم ذخر" هم من المعاصرين للملك "شارن يعب يهنعم"، ولذلك لا يمكن أن يكون هو الملك "العزيلط" الذي لقبه "البرايت" بالأول، وجعله معاصرًا للملك "شعرم أوتر" "شعر أوتر". وقد وجد اسم الملك "العز" في كتابة حفرت على صخرة عند قاعدة جبل "قرنيم" "قرن"5، كما عثر على اسمه في كتابات وجدت في "عقلة"، و"عقلة" موضع مهم عثر فيه على كتابات وردت فيها أسماء عدد من ملوك حضرموت، زاروا هذا المكان، وذكرت أسماؤهم فيه6. وقد جاء في إحدى هذه الكتابات أن الملك "العزيلط" زار هذا الموضع، ورافقه في زيارته عدد من الزعماء والرؤساء، منهم: "شهرم بن والم" "شهر بن وائل" و"قريت بن ذمرم" "قرية بن ذمر" و"ابفال بن القتم" "أبفأل بن القتم" و "وهب آل بن هكحد"7.

_ 1 "يدع ايل بين بن رب شمس" "يدع ال بين رب ربشمس". 2 Background, P. 144, Philby, 46, 401, (4872) , REP. EPIG., VII, III, P. 400,4841 3 Chronology, P. 10, Philby, Sheba's, P. 442 Background, P. 144 4 The Chronology, P. 10 5 BOASOOR, Num. 120, (1950) , P. 27 6 BOASOOR, Num. 119, (1950) , P. 14 7 Sheba's Daughters, P. 448, Philby 81, REP. EPIG, VII, III, P. 413, 4908

وسجل هؤلاء الرجال ذكرى هذه الزيارة في هذا النص الذي وسم بـ "Philby 81". وقد ذكر فيه اسم والد "العذ" "العز"، وهو "عم ذخر" "عمذخر"، ولم يدون كاتبه حرف العطف "الواو" بين الأسماء. ورفقة الملك هؤلاء الذين صحبوه في رحلته إلى حصن "أنود"، وإن كانوا لم يفصحوا عن مراكزهم ومنازلهم الاجتماعية نستطيع أن نجزم أنهم كانوا من الوجهاء والأعيان، فرفقة تصاحب الملك للاحتفال بزيارة كهذه الزيارة لا بد أن يكون لها شأن بين الناس. وتعد الكتابة التي وسمت بـ "Philby82" من الكتابات المهمة، وقد دونها رجلان من أشراف "حمير يهن"، أي من حمير، رافقا الملك في سفرته إلى حصن "أنود"، لإعلان نفسه ملكًا على حضرموت ولمناسبة تلقبه بلقبه، وهي عادة كان يتبعها ملوك حضرموت عند توليهم الملك وتلقبهم بلقب جديد لم يكن يتلقبون به قبل انتقال العرش إليهم، ولسنا نعرف متى نشأ هذا التقليد عند ملوك حضرموت، ولا السبب الذي دفعهم إلى اختيار هذا المكان دون غيره، ولعله كان من الأماكن المقدسة القديمة عندهم، فكانوا يتبركون بتتويج أنفسهم فيه، أو أنه كان قلعة أو موضعًا قديمًا فجرت العادة أن يتوج الملوك فيه. وقد كان هذان الرجلان بعثهما "ثارين يعب يهنعم" ملك "سبأ وذي ريدان" لمرافقة ملك حضرموت في هذه المناسبة. والظاهر أن ملك سبأ إنما بعثها لتهنئة ملك حضرموت في هذه المناسبة. والظاهر أن ملك سبأ إنما بعثها لتهنئة ملك حضرموت ولتمثيله في هذا الاحتفال المهيب الذي يجري في "أنود"، فهما مبعوثان سياسيان من ملك إلى حليفه1. وقد سجل "العذيلط" "العزيلط" هذه المناسبة في كتابة قصيرة ورد فيها "العزيلط ملك حضرموت بن عم ذخر سيراد جندلن أنودم هسلقب"، أي "العزيلط ملك حضرموت ابن عم ذخر سار إلى حصن أنود ليتلقب بلقبه.."2 وقد كتبت هذه الكتابة في الزمن الذي دونت فيه الكتابتان الأخريان عن زيارة الملك لحصن "أنود" عند إعلان لقبه الجديد. وتوليه العرش رسميًّا، غير أننا لا نعرف -ويا للأسف- تأريخ هذه المناسبة. وذكر اسم الملك "العزيلط بن عم ذخر" في كتابة دونها جماعة من الأعيان عند تتويجه وتوليه العرش وإعلان ذلك للناس في حصن "أنود" وأصحاب

_ 1 Sheba's Daughters. P. 449, Philby 82, REP. EPIC, VII, III, P. 414 2 Sheba's P. 450, Philby 83, REP. EPIG.. VII, III, P. 415, 4910

هذه الكتابة هم: "نصرم بن نهد" "نصر بن نهد" و"رقشم بن أذمر" "رقاش بن أذمر"، "والم بن يعللد" "وائل بن يعللد"، و" والم بن بقلن" و"ابكرب ذو دم" "أبكرب ذو ود"1. وقد ورد أنهم ساعدوا الملك سيدهم "العزيلط بن عم ذخر" "العذيلط بن عم ذخر" حين ذهب إلى حصن "أنود" لإعلان نفسه ملكًا2. ويظهر من ذلك أنهم كانوا من جملة رجال الحاشية الملكية التي صحبت الملك إلى ذلك المكان، ووردت نصوص أخرى سجلها رجال الحاشية الملكية تخليدًا لاسمهم في هذه المناسبة3. وقد سجل كتابة من هذه الكتابات رجل اسمه "حصين بن ذا ييم مقتوي العزيلط ملك حضرموت"، "حصين بن ذ أييم مقتوي العزيلط ملك حضرموت"، ويظهر أن هذا الرجل كان من قواد جيش الملك وضباطه ولعله كان من مرافقيه4. وقد منح بعض علماء العربيات الجنوبية هذا الملك، أي الملك "العز بن عم ذخر" "العذ" لقب "العز الثالث"، لذهابهم إلى وجود ملكين حكما قبله عرفا بهذا الاسم. ورأى "ركمنس" أن حكمه كان في حوالي السنة "200 ب. م."5. وقد ورد في كتابة حضرمية اسم ملك دعي بـ "العذ" "العز" ابن "العزيلط" "العذيلط" ملك حضرموت، فيظهر من ذلك أن والد هذا الملك كان ملكًا كذلك، ولم يشر أحد من الباحثين مثل "فلبي" أو "البرايت" إليه. ولعله ابن للملك المتقدم، وصاحب هذه الكتابة رجل اسمه "هبسل قرشيم"6 وتذكرنا كلمة "قرشم" "قريشم"، أي "قريش" باسم قبيلة "قريش" صاحبة مكة. ولم يتأكد "البرايت" من اسم الشخص الذي تولى العرش بعد "العزيلط" فترك فراغًا ذكر بعده ملكًا سماه "العزيلط" "العذيلط" ميزه عن الأول بإعطائه لقبًا، هو "الثاني". وقد رأى أنه كان معاصرًا للملك "ثأرن يعب يهنعم"

_ 1 "نصر بن نهد" "ورقاش بن أذمر" "وائل بن يعللد" "وائل بن باقل" "أيكرب ذوودة". 2 REP. EPIG., VII, III, P. 392, 4852, Philby 27+29 3 REP. EPIG., VII, III, P. 395, 4855, 396, 4857, Philby 30, 32, 34 4 REP. EPIG., VII, III, P. 398, 4861, Philby 36, P, 401, 4874, Philby 49 5 Beltrage, S., 114, 144 6 REP. EPIG., VII, III, P. 322, 4693, Le Museon, LXII1, 3-4' 1950, P. 261

ملك سبأ. أما والد "العز الثاني" على رأيه فهو "علهان" أو "سلفان"1. ويرى "فلبي" أن "علهان" أو "سلفان" هو ابن "العزيلط" الأول2. وقد سبق أن ذكرت أن "ثأرن يعب يهنعم" كان حليفًا للملك "العزيلط بن عم ذخر"، وأنه أرسل وفدًا لتهنئته بتتويجه وإعلانه لقبه الجديد3. ولذلك يبدو غريبًا ما ذهب إليه "البرايت" من أن "العزيلط الثاني بن علهان" أو "سلفان" هو الملك المعاصر للملك "ثأرن يعب" السبئي. ويحتمل على رأي "البرايت" أن يكون "العزيلط" "العذيلط" الذي ورد ذكره في النص "Glaser 1619 = 1430" الذي عثر عليه في "وادي بيحان" ويعود تأريخه إلى سنة "144" من التقويم السبئي التي تقابل سنة "29م" تقريبًا، هو "العزيلط الثاني". ويحتمل على رأيه أيضًا أن يكون هو الملك "Eleazos" الذي ذكر في كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"4. وكان هذا الملك معاصرًا لملك آخر سماه مؤلف هذا الكتاب "Charibael" = "Karibael وهو ملك الحميريين والسبئيين5، وقد أراد به الملك "كرب ايل وتر يهنعم" وهو "ملك سبأ وذي ريدان" المذكور في النص 6Glaser 483. أما "فون وزمن"، فيرى أن كاتب النص قد أهمل الرقم ثلاث مائة فكتب مائة وأربعة وأربعين، على حين أن الصحيح هو "344" من التقويم الحميري، وإذن يكون زمان تدوين الكتابة هو "229" أو "235" بعد الميلاد وهو وقت حكم "العزيلط بن عم ذخر" على تقديره7. وجاء اسم ملك يدعى "العزيلط" "العذيلط" في كتابة سجلها رجلان، يدعى أحدهما "عذ ذم بن أب أنس" عذ ذ بن أب أنس" ويدعى الآخر "رب آل بن عذم لت" "رب ايل بن عذم لات"، وهما من عشيرة "مريهن" "مريهان"، ذكر فيها أنهما قدما إلى معبد الإله "سن ذ علم"

_ 1 OOR, Num. 119, (1950) , P. 14 2 Background, P. 144 3 Sheba's, P. 449 4 يرى بعض العلماء أنه ألف بين 40-70 بعد الميلاد. 5 OASOOR, Num. 119 (1950) , P. 14 6 Beitrage, S., 114 7 Le Museon, 1964, 3-4, P. 482 4

"سين ذي علم" في معبده "علم" المشيد في مدينة "شبوة"، سبعة تماثيل من الذهب "سبعة أصلم ذهبن"، كما أمرهما سيدهما الملك1. ويظهر أنهما كانا من حاشيته وأتباعه, وقد أهملت هذه الكتابة اسم والد هذا الملك، فلا نعرف أي ملك هو، أهو "العزيلط الأول"، أم "العزيلط الثاني"؟ وقد ورد في بعض الكتابات ما يفيد استقبال "العزيلط" لضيوف وفدوا عليه من مختلف الأماكن: من الهند "هند"، ومن "تدمر" "تذمر"، وضيوف آراميون جاءوا إليه من "كشد"2، بل ورد في الكتابة "Ja 919" مرافقة عشر نساء قرشيات له إلى حصن "أنود"3. وإذا كانت الكتابة قد قصدت من "قريش" قريش المعروفة صاحبة مكة، نكون قد وقفنا لأول مرة على اسمها في وثيقة مدونة. ولإشارة النصين المذكورين إلى الهند وتدمر وإلى بني إرم وقريش، أهمية كبيرة ولا شك، إذ تدل على الاتصال الذي كان لمملكة حضرموت بالعالم الخارجي في ذلك الزمن، وعلى الروابط التجارية التي كانت تربط ذلك العالم بحضرموت. وقد كان اتصال حضرموت بالخارج عن طريق ميناء "قنا"، فقد كانت السفن تأتي إليه وتخرج منه لتذهب إلى إفريقيا والهند وعمان، وأرض فارس4. وترك "البرايت" فراغًا بعد "العزيلط الثاني"، مغزاه أنه لا يدري من حكم بعد "العز" هذا، ثم ذكر بعده اسم "يدع أب غيلان بن أمينم" "يدع أب غيلان بن أمين"، ثم جعل اسم ابنه من بعده. وهو "يدع ايل بين"،أي أنه هو الذي تولى الحكم من بعده. وقد بين أنه غير متأكد من زمان حكمهما، إلا أن دراسة الكتابات التي ذكر فيها اسماهما تدل على أنها من

_ 1 لم يذكر في النص الذي نشره "بيستن" في مجلة: Le Museon اسم هذه العشيرة، راجع: Le Mus6on, LXIII, 3-4, 1950, P. 262, 265, REP. EPIG., VII, IH, p. 320, 4691, Phllby 2, Ryckmans 1266 2 JA 931, Le Museon, 1964, 3-4, P. 484 3 JA 919, Le Museon, 1964, 3-4, P. 484 4 Le Museon, 1964, 3-4, 484

نوع كتابات القرن الأول للميلاد، ولذلك وضع زمانهما في هذا العهد1. ومن الكتابات التي ذكر فيها اسم "يدع ايل بين"، أي ولد "يدع أب غيلان بن أمينم" الكتابة التي وسمها العلماء بسمة "Glaser 1623"، وهي كتابة قصيرة تتألف من أربعة أسطر. ورد في جملة ما ورد فيها اسم الإله "سين ذو علم"، أي الإله "سين" رب معبد "علم", وكان معبد "علم" قد خصص بعبادة هذا الإله2. وقد وصلت إلينا كتابة أخرى ورد فيها اسم "يدع ايل بين"، إلا أنها لم تذكر لقب والده، وهو "غيلان"، وإنما اكتفى فيها بتسجيل الاسم وحده وهو "يدع أب". وقد ذكر فيها أن هذا الملك بنى وحصن سور مدينة "شبوة" ابتغاء الإلهتين: "ذات حشولم" "ذت حشولم" "ذات حشول" و"ذت حمم" "ذات حميم"، وذكر فيها اسم "صدق ذخر" "كبر" "كبير" حضرموت3. ويظهر أن الغرض من ذكر اسم هذا الكبير "كبير" في النص، أن تؤرخ الكتابة به على نحو ما رأينا في الكتابات المعينية من التأريخ بأسماء الرجال4. ولم يذكر "البرايت" من حكم بعد "يدع ايل بين"، فترك فجوة تدل على أنه لا يدري من حكم فيها، ثم ذكر بعدها ملكًا آخر، سماه "يدع ايل بين"، قال: إنه ابن "سمعه يفع"، ثم ذكر "السمع ذبيان بن ملكي كرب" "ملكيكرب" من بعده، وقال إنهما كانا متعاصرين5، وقد حكما حكمًا مزدوجًا، أي أن كل واحد منهما كان يحكم بلقب "ملك حضرموت". وكان حكمهما في حوالي السنة"100" بعد الميلاد على بعض الآراء6. ثم عاد "البرايت" فترك فراغًا بعد "السمع ذبيان"، دلالة على وجود فجوة في ترتيب أسماء ملوك حضرموت، لا يدري من حكم فيها، ثم ذكر

_ 1 The Chronology, P. IE 2 BOASOOR, Num. 119, (1950) , P. 14, Ryckmans, 169, REP. EPIG., 4698, VII, m, P. 323, Philby 9, BE. 49 3 Le Museon, LX, 1-2, 1947, P. 53, Hamilton, 2, Plate, I 4 Le Museon, LX, 1-2, 1947, P. 55 5 BOASOOR, Num. 119, 1950, P. 14 6 Beitrage, S., 85

بعدها الملوك: "رب شمس" "ربشمس" ثم "يدع ايل بين" ثم "الريم يدم" ثم "يدع أب غيلان"1. وقد ذكرت اسم "رب شمس" قبل قليل، وقدمت زمانه بعض التقديم، وذلك حكاية عن رأي بعض العلماء وفي ضمنهم "فلبي" الذي جعل حكمه قي حوالي سنة "180 ق. م." ثم عدت لأذكره هنا مجاراة لرأي "البرايت" الذي وضعه في أواخر قائمته لملوك حضرموت. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن حكم هذا الملك كان بعد سنة "200 ب. م."2. وفرق كبير كما نرى بين التقديرين. وقد جعل "فون وزمن" زمان "رب شمس" بين السنة "100" و"120 ب. م." وصيره من معاصري "اوسلت رفش" "أوسلة رفشان" ملك همدان ومن معاصري الفترة الواقعة بين حكم "ذمر على يهبر" و"ثأران يعب" الحميريين3. ثم البقية التى جاءت بعده، وتتألف من "يدع آل بين" "يدع ايل بين"، ثم "الريم يدم" "الريام يدم"، ثم "يدع اب غيلن" "يدع أب غيلان"، ثم "رب شمس" "ربشمس" وقد جعل نهاية حكمه سنة "180 ب. م"4. وبعد النص الموسوم بـ Philby 84 من النصوص المهمة بالنسبة إلى تأريخ مدينة "شبوة"، وقد كتب في عهد "يدع ايل بين بن رب شمس"، وجاء فيه أن "يدع ايل بن رب شمس" من "أحرار يهبأر" "أحرار يهبار" "أحرار يهبر" عمر مدينة "شبوة" وأقام بها، وبنى المعبد بالحجارة، وذلك بعد الخراب الذي حل بها، وعمر ما تهدم وتساقط منها، وأنه احتفالًا بهذه المناسبة أمر بتقديم القرابين، فذبح "35" ثورًا، و"82" خروفًا ,"25" غزالًا و "8" فهود "أفهد"، وذلك في حصن "أنود"5.

_ 1 The chronology, P. II, Le Museon, 1964, 3-4, P. 468, Jamme, Sabaean Inscriptlns, P. 305, The Al-'uqlah Texts, Catholic Univ. of America Press, Washington, 1963, PP., 7. 2 Beitrfige, S., 105. 3 Le Museon, 1964, 3-4, 498. 4 Le Museon, 1964, P. 498. 5 Philby 84, Sheba's, P. 451, Le Museon, LXI, 3-4, 1948, P. 190, REP. EPIG. 4912, Vn, in, P. 416.

وقد حدثنا هذا النص حديثًا صريحًا بأن أصل "يدع ايل بين" من أحرار "يهبأر" "أحرر يهبر" أي من صرحاء القبيلة، وحدثنا أيضًا بأنه بنى مدينة شبوة، وعمر معبدها وكسا جدره بطبقة من القار أو غيره لتكون ملسًا، من أساسها إلى شرفاتها، وذلك بعد الخراب الذي حل بشبوة، إلا أن الملك لم يتحدث عن سبب ذلك الخراب الذي أصاب المدينة ومعبدها معها، وهو خراب كبير على ما يظهر، فتركنا في حيرة من أمره، وتباينت آراء الباحثين فيه. ويرى "البرايت" أن النص المذكور هو من نصوص القرن الثاني بعد الميلاد، أما "ركمنس" فيرى أنه من نصوص ما بعد السنة "200" بعد الميلاد، فهو إذن نص يكاد يجمع أكثر علماء العربيات الجنوبية على أنه من نصوص بعد الميلاد، وإذا صدق رأي هؤلاء، كان خراب شبوة إذن وإعادة تعميرها قد وقعا بعد الميلاد1. وقد فسر بعض الباحثين خراب "شبوة" باستيلاء أحد ملوك "سبأ وذي ريدان" عليها، فلما نهض "يدع ايل بين"، لاستردادها من السبئيين، وقع قتال شديد فيها بينه وبينهم في المدينة نفسها، لم ينته إلا بعد خراب المدينة وتدمير معبدها معبد الإله "سين"، وعندئذ ارتحل عنها السبئيون، فاضطر "يدع ايل" الذي طردهم منها إلى إعادة بناء المدينة والمعبد، فلما تم له ذلك، احتفل بهذه المناسبة، أو بمناسبة تتويجه ملكًا على حضرموت في حصن "أنود" وقرب القرابين إلى إله حضرموت "سين" وإلى بقية الآلهة، شكرًا لها على ذلك، النصر، وعلى النعم التي أغدقتها عليه. هذا في رأي فريق من علماء العربيات الجنوبية2. ورأى فريق آخر أن في خراب "شبوة" سببًا من سببين، فإما أن يكون "يدع ايل" وهو من أحرار قبيلة "يهبأر"، وقد أعلن الثورة على السبئيين الحميريين الذين كانوا قد استولوا على شبوة، وقاومهم مقاومة عنيفة أدت إلى إلحاق الأذى بالمدينة، فلما تركها السبئيون الحميريون كانت ركامًا، فأعلن "يدع ايل" نفسه ملكًا على حضرموت، بعد أن ظلت المملكة بدون ملك، وإما أن

_ 1 Beitrage, S, 115 2 Beitrage, S, 115

يكون ذلك الخراب بسبب عصيان "يدع ايل" على الأسرة المالكة الشرعية ومقاومته لها، مما أدى إلى إنزال التلف في المدينة، فلما تغلب على الأسرة المالكة أعاد بناء المدينة وجددها وجدد معبدها على نحو ما جاء في النص1. وليس في النص شيء ما عن الطريقة التي كسب بها تاج حضرموت، إلا أن إشارة وردت في كتابة تفيد أن بعض الأعراب ورجال القبائل كانوا قد تعاونوا معه وساعدوه، فقد عاونه رجل من قبيلة "يم" "يام"، ومائة من بني أسد، ومائتان من "كلب" أو "كليب"2، وعاونه ولا شك آخرون وبفضل هؤلاء وأمثالهم من رجال القبائل تغلب على من ثار عليهم، فانتزع التاج منهم، والإشارة المذكورة على أنها غامضة، كافية في إعطائنا فكرة عمن ساعد "يدع ايل" على الظفر بالعرش. ويظهر من كل ما تقدم أن "يدع ايل بين"، وهو من أبناء العشائر، كان قد جمع حوله جماعة من القبائل، ساعدته في عصيانه وتمرده على السلطة الحاكمة في "شبوة" فاستولى على الملك وقد جاء بعده عدد من الملوك، إلا أن الأمر أفلت زمامه منهم، إذ نجد أن الملك "شمر يرعش" "شمر يهرعش" يضيف "حضرموت" إلى الأرضين الخاضعة لحكومته، حتى صار اسم حضرموت منذ ذلك الحين جزءًا من اللقب الذي يلقب به الملوك. ومعنى ذلك انقراض مملكة حضرموت ودخولها في حكومة "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" اللقب الرسمي الذي اختاره "شمر" المذكور نفسه. ويرى "فون وزمن" أن الكتابة الموسومة بـ jamme 629، هي من الكتابات التي تعود إلى أيام هذا الملك وقد جاء فيها أن "مرثدم" "مرثد" و "ذرحن" "ذرحان"، وهو قائد من قواد جيش "سعد شمع أسرع" و"مرثدم يهحمد" من "آل جرت" "آل جرة"، قد حاربا الملك "يدع آل" "يدع ايل" ملك حضرموت والملك "نبطم" "نبط" ملك قتبان، وهو "وهب آل بن معهر" "وهب ايل بن معاهر" و"ذاخولن" "ذو خولان" "ذ خولن" و"ذ خصبح" "ذو خصبح" و"مفحيم" "مفحى" حارباهم في أرض "ردمان" قرب العاصمة "وعلن" "وعلان"3.

_ 1 Beitrage, S, 115 2 Beitrage, S, 115 3 Le Museon, 1964, 3-4, P. 463

ويرى "فون وزمن" أن هذه الحرب قد وقعت في أواخر أيام حكم الملك "نبطم" نبط" ملك قتبان، المعروف بـ "نبطم يهنعم"، وقد لقب في هذه الكتابة بلقب: "ملك قتبان" إلا أنه كان في الواقع تابعًا لحكم ملك حضرموت، وقد كانت "تمنع" -كما يرى هو أيضًا- قد خربت قبل هذا العهد، وتحولت إلى قرية صغيرة. وقد التقت عساكر "سعد شمس" و"مرثد" بخصومها قرب هذا المكان. ولم تكن "أوسان" مملكة في هذا العهد، بل كانت قبيلة. وقد أذلت "شيعان" بعد هذه الحرب. وأما "مرثد" "مرثدم" صاحب الكتابة، فهو من "ذ بن جرفم" "بني ذي جرفم" "بني ذي جرف"1 بـ "صنعو"، أي "صنعاء"، وقد عمل مع الملكين: "سعد شمس أسرع" و"مرثدم يهحمد"، وهما من ملوك مملكة "جرت" "جرة "، لتنظيم اجتماع لسادات القبائل في موضع "رحبت" "رحابة" الواقع شمال صنعاء، بأرض "سمعي". وقد حضر الاجتماع: "شرحثت"، وهو من سادات "بتع"2، و"الرم" "الرام" "الريام"، وهو من "بني سخيم"، و"يرم أيمن" الهمداني. ويظهر أن ملكي "جرة" كان قد استحوذا على مرتفعات سبأ في هذا الحين3. وكان "وهب آل بن معهر" "وهب ايل بن معاهر" صاحب "ردمان" "ردمن" والأرضين المتاخمة لـ "خولان" في هذا الوقت. وقصد بـ "معهر" دار الحكم بمدينة "وعلن" "وعلان" من أرض "ردمان"4. وأما "خصبح" فبطن من بطون قتبان. وتولى الملك بعد "يدع ايل بين" ابنه "الريم يدم" "الريام يدم" ونحن لا نعرف من أمره شيئًا يذكر، إلا ما ورد في كتابة تذكر أنه ذهب إلى حصن "أنود"، واحتفل هناك بتوليه العرش، وإعلانه لقبه الذي اتخذه لنفسه5. وإلا ما ورد في كتابة أخرى، دونها "رب شمس بن يدع ايل بين"، أي

_ 1 "حرف"، "كراف". 2 راجع النص: CIH222 3 Le Mus6on, 1964, 3-4, P. 465 4 Le MusSon, 1964, 3-4, P. 464 5 Sheba's, P. 452, Philby 85, REP. EPIG., VII, III, P. 418, 4913

شقيق "الريم يدم"، تذكر أنه رافق شقيقه إلى حصن "أنود" عند المناسبة المتقدمة، فكان من جملة المشاهدين لحفلة التتويج1. ولا نعرف من أمر "يدع أب غيلان" شقيق، "الريم يدم" شيئًا يذكر كذلك. وقد جعله "البرايت" خليفة شقيقه المذكور، وكل ما لدينا عنه، لا يتجاوز ما ذكرناه عن شقيقه. فقد جاء في كتابة أنه ذهب إلى حصن "أنود"، فاحتفل فيه بتتويجه وأعلن في الاحتفال اللقب الذي لقب نفسه به، وجاء في كتابة أخرى سجلها "رب شمس"، أي شقيقه، أنه ذهب مع أخيه "يدع أب" إلى حصن "أنود" لمشاهدة الاحتفال بتتويجه وبإعلانه اللقب2. وقد ورد في أحد النصوص أن "يدع أب غيلن" "يدع أب غيلان"، سور مدينة "ذ غيلن". ويرى بعض الباحثين، أن هذا الملك كان قد بنى هذه المدينة في أرض قتبانية فتحت في أيام والده، في مكان يقع عند فم وادي "مبلقه" "مبلقت" المؤدي إلى وادي "بيحان"، ويشك بعض الباحثين في صحة قراءة اسم المدينة3. وفي الكتابة المرقمة برقم philby 88 جملة هي: "رب شمس خير اسدن بن يدع آل بين"، ترجمها "بيستن" بـ "رب شمس أمير أسد بن يدع ايل بين" على أن "أسدًا" قبيلة، واستدل على ذلك بما جاء في إحدى الكتابات من أن الملك "ختن أسد"4، ومعنى ذلك أنه كان ختنًا لـ "بني أسد". وأرى أن لفظة "اسدن" "أسد" هنا لا تعني قبيلة أسد وإنما تعني جنودًا أو جيشًا، وهي بهذا المعنى في العربيات الجنوبية، فإن لفظة "أسدم" تعني الجندي، وأن المراد من جملة "رب شمس خبر اسدن" "رب شمس أمير الجند" أو "الجيش"، أي أن لفظة "خير" بمعنى أمير أو قائد، وخير القوم سيدهم، فيكون بذلك قائدًا أو أميرًا لجيوش حضرموت.

_ 1 Philby 86, Sheba's, P. 452, REP. EPIG. 4914, VII, III, P, 418 2 Philby 88, Sheba's, P. 487, REP. EPIG. 4918, VII, III, P. 419 3 A. Jamme, A New Chronology of the Qatabanlan Kingdom, BOASOOR, Num. 120, 1950, 26, Sabaean Inscriptions, P. 297, Le Museon, 1964,3-4, P. 464 4 Philby 88. Sheba's P. 444, REP. EPIG. 4919, VII, III, P. 419

وبناء على ما تقدم نكون قد عرفنا اسم ثلاثة أولاد من أبناء "يدع ايل بين" تولى الملك اثنان منهم على وجه أكيد، أما الثالث، وهو "رب شمس" فلم تصل إلينا كتابة تذكر ذهابه إلى حصن "أنود" للاحتفال بتتويجه وإعلان لقبه. لذلك لا نستطيع أن نبت في موضوع توليه عرش حضرموت. ولم يذكر "البرايت" اسمه بين أسماء أبناء "يدع ايل بين". وقد استخرجته أنا من الكتابات التي ذكرتها، وهي الكتابات التي استنسخها "فلبي" من موضع "عقله". وفي اللوح النحاس المحفوظ في المتحف البريطاني اسم ملك من ملوك حضرموت هو "صدق ذخر برن" "صدق ذخر بران"، ووالده "الشرح"، وقد ذكر فيه أن هذا الملك قدم نذورًا إلى الآلهة: "سين" و"علم" و"عثتر" لخيره ولخير "شبوة" ولخير أولاده وأفراد أسرته، وقد وردت فيه أسماء قبائل يظهر أنها كانت خاضعة في هذا الزمن لحكمه هي: "مرثد" و"أذهن" "أذهان"، و"ينعم"1. ولورود اسم "شبوة" في هذا النص، يجب أن يكون هذا الملك قد حكم بعد تأسيس هذه المدينة. وذكر "هومل" أنه وجد محفورًا على الجبهة الثانية من اللوح النحاس "مونكراما" Monogramm طغراء تشير إلى اسم الملك الذي كان يحكم حضرموت في ذلك الزمن، وقد دعاه "هومل" "سعد شمسم" "سعد شمس"2. وورد اسم ملك آخر من ملوك حضرموت، وهو: "حي آل" "حي ايل"، وقد ورد اسمه في نقد حضرمي3. وما نعرف من أموره في الزمن الحاضر شيئًا. ولم يشر "البرايت" و"فلبي" و "هومل" وغيرهم إلى اسم ملك حضرمي ورد ذكره في النص المرقم برقم "948" المنشور في كتاب ClH4. وهو نص متكسر في مواضع متعددة منه، أضاعت علينا المعنى، واسم هذا الملك "شرح آل" "شرح ايل" "شرحبيل". وقد سقطت كلمات قبل هذا الاسم، لعلها تكملته. وقد وردت بعده جملة:

_ 1 Halevy, Etudes, P. 173, OS. 29 2 Hommel, Grundriss, I, S., 138 3 Handbuch, S., 96, Anm. 2, 103 4 CIH, IV, III, II, P. 275-276

"ملك حضر.."، وسقطت الأحرف الباقية من كلمة حضرموت وكلمات أخرى. وقد ورد في النص المذكور اسم "شمر يهرعش" ملك "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"1. ويدل ورود اسم "شمر يهرعش" في هذا النص مع اسم "شرح ايل" على أن الملكين، كانا متعاصرين، ويدل هذا النص على أن مملكة حضرموت بقيت إلى ما بعد الميلاد، وحتى أيام "شمر يهرعش"، يحكمها حكام منهم، يحملون لقب "ملك". وكان آخرهم هو "شرح ايل" هذا المدون اسمه في النص المذكور. ولكنه لم يكن مستقلًّا كل الاستقلال، بل كانت تحت حماية "شمر يهرعش" ووصايته. ودليلنا على ذلك ذكر "شمر" في النص مع "شرح ايل" وإدخال اسم "حضرموت" ضمن أسماء المواضع الخاضعة" لحكم "شمر"، أي في اللقب" الرسمي الذي اتخذه "شمر" لنفسه بعد استيلائه على حضرموت. وعثر على نص وسم بـ jA656، جاء فيه اسمًا ملكين من ملوك حضرموت أحدهما "رب شمس"، والآخر "شرح ايل" "شرح آل"2. وليس في النص ما يكشف عن هوية الملكين، وأرى أن "رب شمس" هذ اهو "رب شمس" المتقدم عن شقيق الملكين، وابن "يدع ايل بين" وإذا صدق رأيي هذا، يكون قد تولى الملك لمدة قليلة، تولاه بعد وفاة شقيقه "يدع أب غيلان" ثم انتقل العرش إلى "شرح ايل"، وهو في نظري "شرح ايل" الذي اعترف بسيادة "شمر يهرعش" وسلطانه عليه كما تحدثت عنه. وقد يكون أحد أبناء "رب شمس" وقد يكون حمل لقب "ملك حضرموت" مع "رب شمس" في آن واحد، وهذا النص هو بالطبع أقدم من النص المتقدم الذي ورد فيه اسم "شمر يهر عش". لقد جعل بعض علماء العربيات الجنوبية سقوط مملكة "حضرموت" واندماجها نهائيًّا في مملكة "سبأ وذي ريدان" في أيام "شمر يهرعش"، وبعد السنة "300 ب. م"3. وأود أن أبين هنا أننا لما نظفر بكتابة عربية جنوبية،

_ 1 وهو "شمر يرعش" عند الإسلاميين. 2 Le Museon, 1946, 3-4, P. 453 3 Bitrage, S. 116

فيها شيء عن كيفية سقوط مملكة حضرموت، وعن كيفية استيلاء "شمر يهرعش" أو غيره من الملوك عليها، فنحن لهذا في وضع لا يسمح لنا بوصف نهاية تلك المملكة وذكر الأحداث التي أدت إلى سقوطها واندماجها في ممكلة سبأ وذي ريدان. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن سقوط حضرموت كان في القرن الرابع بعد الميلاد، وقبل احتلال الجيش للعربية الجنوبية بقليل. وقد وقع هذا الاحتلال على رأيهم فيما بين السنة "335 ب. م" والسنة "370ب. م"1. وقد أدت فتوحات "شمر يهرعش" لحضرموت، ولأرضين أخرى تعد من المناطق الخصبة الكثيفة بسكانها في جزيرة العرب، إلى هجرة الناس عنها إلى مناطق بعيدة نائية، وإلى نزول الخراب في كثير من القرى والمدن، إذ تهدمت بيوتها ومعابدها، وقتل كثير من أهلها، وأتت النار على بعضها حرقًا، فتحولت منازل الناس إلى خرائب، وجفت مزارعهم فآضت بوادي، فهجرها أهلوها ولم يعودوا إليها بعد هذا الخراب، فزادت مساحة الصحاري ولم تعمر منذ ذلك الحين. وقد زاد في نكبة العربية الجنوبية هذه أن حروب "شمر يهرعش" المذكورة استمرت زمنًا طويلًا، وشملت أكثر اليمن حتى بلغت البحر. مما أطمع الجيش في العربية الجنوبية، فزادت قواتها في الأرضين التي احتلتها، وتوغلت في مناطق واسعة، ولا سيما بعد موت "شمر يهرعش". هذا وقد انتهت إلينا كتابات عدة تعرضت لأنباء الحروب التي نشبت بين حضرموت وسبأ، وبين حضرموت وحكومات أخرى، منها كتابات لم تذكر فيها أسماء الملوك الذين وقعت في أيامهم تلك الحروب، كالكتابة المرقومة بـ "4336" المنشورة في كتاب 2REP EPIG. وقد قدم صاحبها إلى إلهه الشكر والحمد، وتمثالين من الذهب إلى معبده في "نعلم"؛ لأنه نجى سيده "بشمم" "بشم" ومن عليه بالشفاء من الجرح الذي أصابه في المعركة التي نشبت في مدينة "ثبير" في أرض "يحر"، وهي معركة من معارك نشبت بين "شمر ذي ريدان" و "أب أنس" من قبيلة "معهرم" "معهر" "معاهر" وأمراء "خولان"

_ 1 Beitrage, S. 144 2 REP. EPIG, VII, II, P. 199

وملك سبأ وملك حضرموت، ولما كانت هذه الكتابة لإعلان شكر صاحبها لإلهه وإعلانه بوفائه لنذره، وهي في موضوع شخصي، لم تكن متبسطة في أخبار تلك الحرب المزعجة، لذلك اكتفيت بذكرها إجمالًا دون تفصيل، أما نحن العطاش إلى معرفة خبر تلك الحرب، وما كان من أمرها، فقد خرجنا بعد قراءتنا لهذا النص ونحن آسفون على بخل صاحبها علينا وتغيره في تفصيل خبر هذا الحادث المهم، وشاكرون الله مع ذلك على سلامة رجل وقاه الله شر تلك الحرب. هذا ما وصل إلى علمنا من أسماء ملوك حضرموت و"مكربيها" ولست أرى بأسًا في التنبيه مرة أخرى على أن هذه الأسماء لم ترتب إلى الآن ترتيبًا زمنيًّا مضبوطًا، وإنما رتبت على حسب اجتهاد الباحثين. ولذلك نجدهم، يختلفون في هذا الترتيب وغيره، في أسماء الملوك، وسبيلنا الآن أن نحاول جهد، الإمكان حصر هذه الأسماء حتى يأتي اليوم الذي نستطيع فيه الترتيب والتصنيف. والظاهر أن حكم الحميريين لحضرموت، لم يتحقق بصورة فعلية، بل كان في أواخر أيامهم، ولا سيما في أواخر القرن الخامس وابتداء القرن السادس للميلاد، حكمًا شكليًّا؛ لأننا نجد أرض حضرموت وقد استقل فيها حكام المدن وسادات القبائل وأشراف الأودية، وقد لقب أكثرهم أنفسهم بلقب "ملك"، وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن بني "معد يكرب بن وليعة" وهم: مخوص، ومشرح، وجمد، وأبضعة، كانوا يسمون ملوكًا؛ لأنه كان لكل واحد واد يملكه1. والواقع أن كثيرًا من سادات القبائل قبل الميلاد وبعده، كانوا يلقبون أنفسهم بلقب ملك، ولكنهم لم يكونوا غير سادات قبائل وأصحاب أرض.

_ 1 البلدان "3/ 294"، الطبري "1/ 2004 وما بعدها" "طبعة ليدن".

قبائل حضرمية

قبائل حضرمية: وفي حضرموت كما في كل الأماكن الأخرى من جزيرة العرب قبائل وعشائر وأسر ذوات حكم وسلطان وجاه في مواطنها، وقد ورد أسماء عدد منها في الكتابات، ومن قبائل حضرموت وعشائرها وأسرها: "شكمم"، أي "شكم"

"شكيم"، وعشيرة "يشبم" "يشبوم"1. ويرجع نسب عشيرة "رشم" إلى قبيلة "مقنعم" "مقنع" أو "يقنعم" كما جاء في بعض الكتابات2، وهو اسم قبيلة لا نعرف من أمرها شيئًا في الزمن الحاضر، وكان يحكمها "أقيال" منهم: "هو فعثت" و "لحى عثت" وهما من موضع "عليم"، أي "علب"3. وقد جاء في نص أنهما قدما وثنًا "صلمن" إلى الآلهة "عثر" و"هبس" "هوبس" و"المقه" و"ذت حمم" "ذات حميم"4. وقد يفهم من ذلك أن هذه القبيلة كانت قبيلة سبئية، نزحت إلى حضرموت واستقرت فيها، أو أنها كانت من القبائل السبئية التي خضعت لحضرموت. و"يهبأر" "يهبر" "يهبار" من القبائل المعروفة في العربية الجنوبية، ولا يستبعد أن تكون قبيلة lobaritai التي ذكر اسمها "بطلميوس"؟ وكانت منازلها على ما يظهر من جغرافيته على مقربة من الموضع الذي سماه Sachalitai أي "الساحل" أو "السواحل"5، فهي من القبائل العربية الجنوبية التي لا تبعد منازلها عن الساحل كثيرًا، وقد كان "يدع ايل بين بن رب شمس" من أبنائها الأحرار, وقبيلة "أسد" من القبائل العربية الشمالية المعروفة بعد الميلاد. أما في نصوص المسند، فليست فيها معروفة، ويظهر أن قسمًا منها كان قد نزح من نجد إلى الجنوب حتى بلغ أرض حضرموت، فساعد "يدع ايل بين" ولعل نزوحها إلى الجنوب كان بسبب خلاف وقع بين عشائرها أو مع قبائل أخرى، فاضطر قسم منها إلى الهجرة إلى العربية الجنوبية6. و"يام" من القبائل المعروفة حتى اليوم، وتسكن عشائر منها حول نجران7. وأما "كلب" أو "كليب"، فإنها من القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى عدنان، أي إلى العرب الشماليين.

_ 1 REP. EPIG., 3512, VI, I, P. 182 2 REP. EPIG., VI, II, P. 258 3 Orientalia, Vol., VI, 1937, P. 92, Museo Nazionali Romano, Ansaldi II Jemen nella Storia e nella Legenda, Abb, 91 4 REP. EPIG., VII, HI, P. 312, Hamburg 31, 300, 1625 5 Beitrage, S., 116 6 Bitrage, S., 115 7 Beitrage, S., 115

مدن ومواقع حضرمية

مدن ومواقع حضرمية: و"شبوة"، هي عاصمة حضرموت وهي Sabbatha = Sabotha= Sabota عند الكتبة الكلاسكيين1 وهي Sabtah المذكورة في التوراة في نظر بعض الباحثين2. وزعم "هوكارت" Hogarth أنها 3Sawa. وذكر "الهمداني" موضع "شبوة" في جملة ما ذكره من حصون "حضرموت" ومحافدها4. وقد ظن "فون مالتزن" وآخرون غيره أنها مدينة "شبام"5. وزار "فلبي" "شبوة"، وعثر على آثار معابدها وقصورها القديمة، كما شاهد بقايا السدود التي كانت في وادي شبوة لحصر مياه الأمطار والاستفادة منها في إرواء تلك المناطق الواسعة الخصبة6. وتشاهد في "وادي أنصاص" وفي خرائب "شبوة" بقايا سد وأقنية للاستفادة من المياه وخزنها عند الحاجة إليها7. وهناك سدود أخرى بنيت في مواضع متعددة من العربية الجنوبية للاستفادة من مياه الأمطار وللسيطرة على السيول، وتحويلها إلى مادة نافعة تخدم الإنسان. وأما حصن "أنود" "أنودم"، الموضع الذي يحتفل فيه الملوك عند تتويجهم وإعلانهم اللقب الذي يتلقبون به بعد توليهم العرش، فإنه موضع "عقلة" في الزمن الحاضر. وهو خربة على شكل مربع. وقد زار هذا المكان جملة

_ 1 Pliny, 6, 28, 32, Ptolemy, 6, 7, 38, C. A. Nallino, Raccolta di Scltti editi e inedltl, Vol., in, P. 50 2 Montgomery, Arabia and the Bible, P. 42 3 D. G. Hogarth, The Penetratio of Arabia, P. 149, 151, 221 4 الصفة "87، 98"، الإكليل "8/ 90" "نبيه" البلدان "5/ 234". 5 Reise, S., 289, William Vincent, The Periplus of the Ery- threan Sea, Part the Second, P. 301 6 Sheba's, P. 79 7 Beitrage, S., 108

أشخاص من الغربيين ووصفوه، منهم "فلبي"، وقد وجد فيه خرائب عادية ووجد عددًا من الكتابات الحضرمية، هي الكتابات التي وسمت باسمه. ويشرف هذا الموضع على واد يمتد، فيتصل بتلال "شبوة"1. وقد كان حصنًا ومعسكرًا يقيم في الجيش، لحماية مزارع هذا الوادي، ولا بد أن يكون هنالك سبب جعل الملوك يختارون هذا المكان لإعلان اللقب الرسمي الذي يختاره الملوك لأنفسهم عند التتويج. وقد تبين من بعض الكتابات المتعلقة بتنصيب ملوك حضرموت في هذا المكان أنهم كانوا يتقربون في يوم إعلان تتويجهم في حصن "أنود" بنحر الذبائح للآلهة. وقد تبين من بعضها أن في جملة تلك الذبائح التي قدمت إلى الآلهة حيوانات وحشية مثل الفهود. وقد استمرت هذه الاحتفالات قائمة إلى القرن الثاني بعد الميلاد على رأي "البرايت"، وإلى حوالي السنة "200" بعد الميلاد على رأي "ركمنس"2. ومن مدن الحضرميين مدينة "ميفعت" "ميفعة"، وكانت على ما يظن عاصمتهم القديمة، وقد ورد في بعض الكتابات ما يفيد أن "يدع ايل بن سمه علي" رمم أسوار هذه المدينة3. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها Mapharitis التي أشار إليها مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"4، ولدينا نص حضرمي يفيد أن "هبسل بن شجب" بنى سور المدينة وأبوابها، واستعمل الحجارة والأخشاب، وأنشأ فيها بيوتاً ومعابد، وأتم عمله بعده ابنه "صدق يد" فأعلى سور المدينة وأحكمه5. ولم تذكر الكتابة الجهة التي أنفقت على هذا العمل الذي يحتاج إلى نفقات عظيمة ولا شك، ولعل الدولة هي التي عهدت إليهما هذا العمل على أنهما مهندسان أو من المقاولين المتخصصين بأعمال البناء. وكانت "ميفعة" من المدن المهمة، وقد ذكرت في عدد من الكتابات،

_ 1 راجع وصف الموضع في "ص 314 وما بعدها" من كتاب: Shaba's Daughters 2 Beitrage' s, 108 3 Background, p. 77 4 Background, p. 80 5 REP, EPIG, 2640, V. , P 14

وهي Maipha Metopplis عند "بطلميوس"1، ويقع عند "حصن السلامة" موضع عادي خرب، يقال له "ريدة الرشيد"، ويظهر أنه كان محاطًا بسور حصين، كما يتبين ذلك من أحجاره الضخمة المبعثرة الباقية، وقد كان مدينة، يرى أنها Raida عند "بطلميوس" وقد وضعها في جنوب شرقي "MaiPha Metropolis أي ميفعة2. وعثر على كتابات عديدة أخرى، تتحدث عن تحصين "ميفعت" "ميفعة" وعن تسوريها بالحجارة وبالصخرة المقدود وبالخشب، وعن الأبراج التي أقيمت فوق السور لصد المهاجمين عن الدنو إليه، وذكر اسمها في كتابة "لبنه" "لبنا" التي هي من أيام المكربين في حضرموت3. ويظهر أن الخراب حل بـ "ميفعة" في القرن الرابع بعد الميلاد، وحل محلها موضع آخر عرف بـ Sessania Adrumetorum أي "عيزان" فـ "عيزان" أذن، هو الوليد الجديد الذي أخذ مكان "ميفعة" منذ هذا الزمن4. ومن مدن حضرموت مدينة سماها بعض الكلاسيكيين Cane Emporium وذكر أنها ميناؤها5. وأما "أريانوس"، فقال إنها الميناء الرئيسي لملك أرض اللبان، وقد سماه Eleazus وقال إنه يحكم في عاصمته 6Sabatha. وقد ذكر هذا الميناء "بلينيوس" كذلك، فقال: إن السفن التي تأتي من مصر في طريقها إلى الهند، أو السفن الآيبة من الهند إلى مصر، كانت ترسو إما في ميناء Cana = Qana وإما في ميناء Occelis على ساحل البحر عند المضيق، وذكره مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" كذلك فقال: Cana = Qana ميناء حضرموت، وله تجارة واسعة مع "عمان" Omana على الخليج، ومع سواحل الهند، ومع سواحل الصومال في إفريقيا7. وقال

_ 1 Beitrage, S. 86 2 Beitrage, S. 86 3 Beitrage, S. 86 4 Beitrage, S. 86 5 The Periplus of the Erythraean Sea, 27, 57, Part the Second, P. 301 6 Forster, Vol., 2, P. 165 7 The Periplus, 27, 57, Le Museon, 1961, 1-2, P. 192

إن السواحل كانت مأهولة بالأعراب، وبقوم يسمون Ichthyophogi أي "أكلة السمك"1. وفي ميناء Cana "قنا" يجمع اللبان والبخور وغير ذلك، ويصدر إلى الخارج، إما بحرًا حيث تنقلها وسائل النقل البحرية، وفي ضمنها بعض الوسائط التي تطفو على سطح البحر بالقرب المنفوخة بالهواء، وإما برًّا حيث تنقلها القوافل2. ويقع هذا الميناء إلى شرق "عدن" وعلى مسافة منه جزيرتان، جزيرة Orneon أو جزيرة الطيور. وجزيرة Trulla ويقع إلى الشرق من Cana ميناء آخر, يقال له 3Methath Villa. ويرى "فورستر" وأكثر الباحثين الآخرين إلى أن ميناء Cana هو المحل المعروف باسم "حصن غراب" في الزمن الحاضر4. و"حصن غراب"، وقد بني على، مرتفع من صخر أسود على لابة بركان قديم، يشرف على المدخل الجنوبي الغربي لخليج أقيم عليه الميناء، فيحميه من لصوص البحر ومن الطامعين فيه. وقد زاره بضع السياح، مثل "ولستيد" فوصفه5. وزاره B. Doe سنة "1957" وتحدث عنه6. وقد ورد اسم هذا الحصن في الكتابة الموسومة بـ CIH 728، وقد سمي فيها "عرمريت" "عرماوية". وهو الاسم القديم لهذا الحصن الذي يعرف اليوم بـ "حصن غراب" "حصن الغراب" وورد في الكتابة الطويلة المعروفة بـCIH 621 التي يعود تأريخها إلى سنة "531م" وتتحدث عن ترميم هذا الحصن وتجديد ما تهدم منه، وذلك بأمر "سميفع أشوع" "السميفع أشوع"7.

_ 1 The Periplus, rt, P. 300 2 The Periplus, n, P. 301 3 Forster, Vol.. n, P. 186 4 Porster, Vol., H, P. 186, Glaser, Skizze, 2, S., 175 5 Wellsted, Travels In Arabia, London, 1838 6 Le Museon, 1961, 1-2, P. 194 7 J. Ryckmans, La Persecution des Chretiens Hlmyarltes au Sixieme siecle, Istanbul, 1956, A. P. L. Beeston, Problems of Sabaean Chrono logy, BOASOOR, 16, 1954, Le Museon, 1961, 1-2, P. Le Museon, 68,1955, P. 2

ورد ذكره في النص Ryckmans 538 الذي يتحدث عن الحروب التي خاضتها جيوش الملك "شعرم أوتر" "ملك سبأ وذي ريدان" في أرضين لقبائل قتبائية ورومانية وقبائل مضحيم "مضحى" وأوسان فبلغت "عرمويت" "عر ماوية" وموضع "جلع" في جملة ما بلغتها من أرضين. و"جلع" قرية على الساحل شمال غربي "بلحاف" في الزمن الحاضر1. وقد وجد "ولستيد" Wellsted في "حصن غراب" الكتابة التي وسمت بـCIH 728 وقد جاء فيها أن "رصيد أبرد بن مشن" "مشان"، كان مسئولًا عن "بدش" "باداش"، وعن "قنا"، وقد كتب ذلك على "عر مويت" "عر ماوية"، أي حصن "ماوية"، "قنا" هو اسم الميناء الشهير، وأما الحصن الباقي أثره حتى اليوم، فيسمى "حصن ماوية" وأما "باداش"، فإنه ما زال معروفًا حتى اليوم، ولكن بشيء من التحريف. وفي هذا المكان يعيش قوم رعاة يعرفون بـ "مشايخ باداس" وقد جاء هذا الاسم من "باداش القديم"2. وهكذا حصلنا من النص المذكور على اسم ميناء حضرموت الذي كانت الموارد "الكلاسيكية" هي أول من وافتنا به. فحصن غراب إذن هو "عرمويت" وهو حصن مدينة "قنا" لا المدينة نفسها، ولا تزال آثار مخازن مائه القديمة باقية، وهي صهاريج تملاء بالأمطار عند نزولها لتستعمل وقت انحباسها وقد أمكن التعرف على موضع البرج الذي يجلس فيه الحرس والمراقبون لمراقبة من يريد الوصول إلى المكان، ويرى بعض الباحثين أن موقع المدينة الأصلية كان في السهل الواقع عند قدم الحصن من الناحية الشمالية، حيث ترى فيه آثار أبنية ومواضع سكنى، أما ما يسمى بـ "بير علي" "بئر على" في هذا اليوم، فإنه مستوطنة حديثة بنيت بأنقاض تلك المدينة القديمة3. ومن مدن حضرموت مدينة "مذب" "مذاب" وقد اشتهرت بمعبدها الذي خصص بعبادة الإله "سن" "سين"، وتقع بقاياه اليوم في الموضع

_ 1 المصدر نفسه. Beitrage, S., 91 2 3 Le Museon 1961 12, p. 191

المعروف باسم "الحريضة"، وقد سبق أن قلت أن بعثة بريطانية نقبت هناك ووجدت آثار معبد ضخم هو معبد الإله "سين"، الإله الذي يرمز إلى القمر1. وقد تبين للذين بحثوا في أنقاض معبد "مذب" "مذاب" أنه بني عدة مرات. ويظهر أنه تداعى، فجدد بناؤه مرارًا, وقد تبين من الكتابة الحلزونية التي عثر عليها في أنقاض هذا المعبد أنها من أيام "المكربين" وأنها ترجع بحسب رأي الخبراء الذين درسوها إلى حوالي السنة "400 ق. م." وأن تأريخ المدينة ومعبدها يرجع إلى الفترة الواقعة بين القرن السادس والقرن الخامس قبل الميلاد2. وقد تبين من بعض الكتابات أن "كبير" "كبر" "مذب" كان من آل "رمي" "رامي"، وكان يقيم في الموضع المسمى بـ "جعدة" في الزمن الحاضر. وكان يملك جزءًا كبيرًا من "وادي عمد"، وله بئر في المدينة تتصل بصهريج مدرج يخرن فيه الماء، وتعرف بـ "شعبت" "شعبة" "شعبات"، ومن قبائل هذا الموضع: "عقنم" "عقن" "عقان"، و"كرب" "جرب"، و"يرن" "يارن"3. وقد تبين من فحص مواضع من جدران معبد "سين" أن الحجارة التي استعملت في إقامته كانت قد قدت من الصخر، ونحتت لتنسجم بعضها مع بعض، وقد ربط بعضها إلى بعض حتى لا تنفصل بسهولة. وتبين أن قاعة المعبد كانت فيها أعمدة تحمل سقفها، وربما كانت قاعة كبيرة فسيحة تتسع لعدد كبير من المؤمنين المتقين الذين يؤمونها للتعبد والتقرب إلى الإله في معبده هذا. وعثر في الأماكن التي حفرت على أدوات من الخزف، وعلى مباخر وقلائد ومسابح صنعت حباتها من الحجر والخرز، وعلى أختام خفيفة من النوع المعروف عند الفرس بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، ويرى بعض الباحثين أن

_ 1 G. Caton Thompson, The Tombs and Moon Temple of Hureidah, Reports of the Research Committee of the Socie. of Antiquities in London, Num. XIII, London, 1944, Le Museon, LX, 1-2, 1947, P. 71 2 Caton Thompson, P. 44, Beitrage, S. 128. Beitrage, S., 128, 3 Beitrage S., 128, Caton Thompson, P. 9, 10

تأريخ "مذاب" ومعبدها يعود إلى الفترة الواقعة بين القرن الخامس والقرن الثالث قبل الميلاد1. وقد ذهب بعض من درس معبد "مذاب" إلى أن حضارة حضرموت وحضارة بقية العربية الجنوبية القديمة كانت قد تأثرت بالمؤثرات الحضارية العراقية في بادئ الأمر، وذلك في أيام المكربين، ولكن تلك الحضارة كانت متماسكة وذات طابع خاص، وأخذ من ظروف العربية الجنوبية، غير أنها أخذت تبتعد من بعد عن المؤثرات الحضارية العراقية منذ القرن الأول قبل الميلاد فما بعده. وتتقرب من مؤثرات حوض البحر المتوسط والمؤثرات الإيرانية، وذلك نتيجة اتصال الروم والرومان والفرس بالعربية الجنوبية، فظهرت حضارة عربية جنوبية جميلة، وأبنية حديثة، إلا أنها لم تكن في متانة الحضارة العربية الجنوبية القديمة وقوتها، وليست لها تلك الشخصية التي أسبغها الفنان العربي القديم في القرون السابقة للميلاد على أبنيته، فذهبت بذلك العناصر العربية الجنوبية الأصلية، وتراجعت، وطغى عنصر التجديد أو التقليد البعيد على تلك الشخصية العربية القديمة في هذه البقاع2. ومن مواضع حضرموت، موضع عرف في الكتابات باسم "مشور"، وقد اشتهر بمعبده المسمى "سن ذ مشور"، أي "سين رب مشور"، وفي مكانه في الزمن الحاضر خرائب عادية تعرف باسم "صونة" وبـ "حدبة الغصن". وقد عثر فيه على كتابات ورد فيها اسم هذا المعبد، كما عثر فيه على حجارة مزخرفة نقشت عليها صور حيوانات نقشت بصورة تدل على فن وبراعة واتقان. ويرى بعض الباحثين أن هذه الزخارف تشبه الزخارف التي عثر عليها في معبد "حقه" "حقة"، ويقدر عمرها بحوالي القرن الثالث قبل الميلاد3. وفي أرض حضرموت مواضع قديمة حضرمية وسبئية ينسبها الناس اليوم إلى "عاد" "وثمود". ففي ملتقى "وادي منوة" بوادي ثقبة صخور مهيمنة على الوادي، وقد نفرت لتكون ملاجئ ومواضع للسكنى وربما جعلت ملاجئ للجنود يختبئون فيها ليهاجموا منها الأعداء الذين يخترقون الوادي وليرموهم بالسهام

_ 1 ايفا هويك، سنوات في اليمن وحضرموت، تعريب خيري حماد، "بيروت 1962" "ص 270". 2 Beitage.S 128 3 Beitage.S 135

والحجارة. وعلى المرتفعات بقايا بيوت ومساكن، يظهر أنها كانت قرى آهلة قبل الإسلام، وعلى واجهة الوادي الصخرية كتابات دونت بلون أحمر، ظهر للسياح الذين رأوها أنها كتابات سبئية وأنها أسماء أشخاص، لعلها أسماء الجنود أو المسافرين الذين اجتازوا هذا المضيق1. وفي موضع "غيبون" على مقربة من "المشهد" خرائب يرى أهلها أنها من آثار "عاد". ويظن الآثاريون الذين رأوها أنها من بقايا مدينة "حميرية". وقد وجدوا فيها فخارًا وزجاجًا قديمًا وحجارة مكتوبة، وعلى مقربة منها موضع يقال له "مقابر الملوك"2. ونظرا إلى أنها في موقع حضرمي يقع بين "القعيطي" و"الكثيري" "آل كثير" في الزمن الحاضر. فلا أستبعد أن يكون من القرى أو المدن الحضرمية. وعلى مقربة من "تريم" خرائب جاهلية أيضًا، ينسبها الناس إلى عاد. وهي من آثار معبد، وطريق كان معبدًا يوصل إليه، وقد بني هذا المعبد عل قمة تل وعنده آثار بيت وأحجار متناثرة من الحجر. عليها مادة بناء توضع بين الأحجار لتشد بعضها إلى بعض3. وعند موضع "سون" "سونة" "سونه" خرائب تسمى "حدبة الغصن" تشبه خرائب "غيبون"، هي عبارة عن بقايا أبنية لعلها كانت قرى أو مدنًا حجارتها متناثرة على سطح الأرض. ولا تزال بعض الأسس على وضعها، ترشد إلى معالمها, وقبل هذه الخرائب بقايا جدار كان متصلًا بجانبي واد، يظهر أنه من بقايا سد بني في هذا المكان لحبس السيول والأمطار، للاستفادة منها عند انحباس المطر4. وفي حضرموت موضع آثاري، يسمى "حصن عر"، وهو بقية حصن جاهلي، لعله من حصون ملوك حضرموت، يظهر أنه أسس في هذا المكان لحماية المنطقة من الغزاة ولحفظ الأمن فيها. وقد كان الحصن عاليًا مرتفعًا فوق

_ 1 Van Der Muelen and Von Wissmann, Hadramaut, Some of its Mysteries Unveiled, Leiden, 1964, P. 57 2 Hadramaut, PP. 83, Beitrage, S. 130 3 Hadramaut, P. 139 4 Hadramaut, P. 145

تل، ولا تزال بقايا بعض جدرانه وأواره ترتفع في الفضاء زهاء خمسين قدمًا. وهناك بقايا أبنية ومعالم طريق ضيقة توصل إلى ذلك الحصن الذي لا نعرف اسمه القديم1. وقد تمكن "فان دير مويلن" Van Der Meulen و "فون وزمن" H. Von Wissmann من زيارة مواضع أثرية أخرى في حضرموت، مثل "المكنون" El- Mekenum , و"ثربة" و "العر" وتقع آثار "مكنون" "المكنون" على مقربة من "السوم", وهناك أرض مكشوفة يزعم المجاورون لها أنها أرض "عاد"2. أما "ثوبة" أو "حصن ثوبة"، فإنه بقايا أبنية على قمة تل، يظهر أنه كان في الأصل حصنًا لحماية المنطقة من الغزاة ولمنع الأعداء من الوصول إلى قرى مدن المنطقة ومدنها أو اجتياز الأودية للاتجاه نحو الجنوب. ولا تزال بقايا جدر الحصن مرتفعة عن سطح الأرض. وأما "العر"، فهو موضع حصن قديم أيضًا بني لسكنى الجنود الذين يدافعون عن الأرضين التي بنيت فيها3. يظهر من آثار الحصون والقلاع الباقية في حضرموت أن مملكة حضرموت أن مملكة حضرموت كانت قد حصنت حدودها، وحمتها بحاميات عسكرية أقامت على طول الحدود لحمايتها من الطامعين فيها ولحماية الأمن أيضًا. وقد أقيمت هذه الحصون في مواقع ذات أهمية من الوجهة العسكرية، على تلال وقمم جبال ومرتفعات تشرف على السهول ومضايق الأودية حيث يكون في متناول الجنود إصابة العدو وإنزال الخسائر به، وبهذه التحصينات دافعوا عن حدود بلادهم. وبعد ميناء "سمهرم" المعروف بـ "خور روري"، وهو في "ظفار" عمان من الموانئ المعروفة التي كانت في القرن الأول للميلاد، ويرى بعض الباحثين أن مؤسسيه هم من الحضارمة، ولذلك كان من موانئ مملكة حضرموت، وقد عثرت البعثة الأمريكية لدراسة الإنسان4، على بقايا خزف، تبين لها من فحصه أنه مستورد من موانئ البحر المتوسط في القرن الأول للميلاد، ووجوده في هذا المكان يشير بالطبع إلى الاتصال التجاري الذي كان بين العربية الجنوبية وسكان البحر المتوسط في ذلك العهد5.

_ 1 Hadramaut, P. 153 2 Hadramaut, P. 173 3 Hadramaut, P. 174 4 The American Foundation foe the Study of Man 5 BoASOOR. Num "1960:" p 15BoASOOR. Num "1960:" p 15

قوائم حكام حضر موت

قوائم حكام حضرموت: قائمة هومل: - صدق آل "صدق ايل"، "صديق ايل"، وكان معاصرًا للملك "أب يدع يثع" "أبيدع يثع"، ملك معين. شهرم علن "شهر علن"، "شهر علان"، وهو ابن "صدق آل". معد يكرب "معدي كرب". - سمه يفع "سهو يفع" "سمهيفع"، ولا نعرف اسم والده. يدع آل بين "يدع ايل بين"، وقد ورد اسمه مع اسم "السمع ذ بين بن ملك كرب "السمع ذبيان بن ملكيكرب" على أنهما ملكا حضرموت. أمينم "أمينم"، "أمين". يدع أب غيلن "يدع أب غيلان". يدع آل بين "يدع ايل بين"، Glase 1623 - يدع أب غيلن "يدع أب غيلان". العز يلط. - يدع أب غيلن "يدع أب غيلان".

- سلفن "سلفان"، أو "علهان" "الهان". العز يلط: حكم حوالي سنة "29" بعد الميلاد. - رب شمس "ربشمس". يدع آل بين. - نهاية حكومة حضرموت، وقد كانت في حوالي سنة "300" بعد الميلاد. في أيام "شمر يهرعش". المكربون: أب يزع "أب يزع". حي آل "حي ايل"، "حيو ايل".

قائمة فلبي

قائمة "فلبي": 1- صدق آل "صديق ايل"، ملك حضرموت ومعين، وقد حكم على تقديره في حوالي سنة "1020" قبل الميلاد. 2- شمر علن بن صدق آل "شهر علان بن صدق ايل"، وقد تولى الحكم في حوالي سنة "1000" قبل الميلاد. 3- معد يكرب بن اليفع يثع ملك معين، وقد تولى الحكم في حوالي سنة 980 قبل الميلاد. ويرى "فلبى" أن "حضرموت" ألحقت بعد "معد يكرب" بمملكة معين، وقد ظلت تابعة لها إلى حوالي سنة "650" قبل الميلاد. 4- السمع ذ بين بن ملك كرب "السمع ذبيان بن ملكي كرب" "السمع ذبيان بن ملكيكرب". 5- يدع آل بين بن سمه يفع "يدع ايل بين سمهيفع"، وقد حكما من سنة "650" إلى سنة "590" قبل الميلاد.

ومنذ سنة "590" قبل الميلاد، أصبحت حضرموت على رأي "فلبي" جزءًا من قتبان أو سبأ حتى سنة "180" قبل الميلاد. 6- يدع آل بين بن رب شمس "يدع ايل بين بن ربشمس". وهو مؤسس أسرة ملكية جديدة في العاصمة "شبوة". وقد حكم في حدود سنة "180" قبل الميلاد. 7- اليفع ريم بن يدع آل بين "اليفع ريام بن يدع ايل بين". وقد حكم في حوالي سنة "160" قبل الميلاد. 8- يدع أب غيلن بن يدع آل بين "يدع أب غيلان بن يدع ايل بين"، وقد حكم في حوالي سنة "140" قبل الميلاد. 9- العز بن يدع أب غيلن "العز بن يدع أب غيلان" وشقيق "أمينم" "أمين" وقد حكم في حوالي سنة "120" قبل الميلاد. 10- يدع أب غيلن بن أمينم "يدع أب غيلان بن أمين"، وقد حكم في حوالي سنة "100" قبل الميلاد. 11- يدع آل بين بن أب غيلن "يدع ايل بين بن يدع أب غيلان"، وحكم في حوالي سنة "80" قبل الميلاد، وترك "فلبي" فجوة لم يعرف من حكم فيها جعلها بين سنة "60" وسنة "35" قبل الميلاد. 12- عم ذخر "عمذخر" ولم يرد في الكتابات اسم أبيه. وقد حكم في حوالي سنة "35" قبل الميلاد. وربما لم يتول الحكم. 13- العز يلط بن عم ذخر. وقد حكم في قرابة سنة "150" قبل الميلاد. 14- الهان "علهان" أو "سلفان" بن العزيلط. وقد حكم في حدود سنة "5" قبل الميلاد. 15- العزيلط بن الهان "علهان" أو سلفان". وقد حكم من سنة "25" إلى سنة "65" بعد الميلاد, هو الملك Eleazos الذي ذكره مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري". 16- أب يزع "أبيزع" "أبيع" "أب يسع". وكان مكربًا. ومن المحتمل أنه حكم في حوالي سنة "65" بعد الميلاد. 17- يرعش بن أب يزع. ربما حكم في حوالي سنة "85" بعد الميلاد.

18- علهان "الهان" "105- 125" بعد الميلاد؟. ويرى "فلبي" أنه منذ سنة "125" حتى سنة "290" بعد الميلاد، كان الوضع غامضًا في حضرموت، فلا نعرف من حكم فيها، أكان يحكمها "مكربون" أم كانت تحت حكم مملكة "سبأ وذو ريدان". غير أنها خضعت نهائيًّا في سنة "290" بعد الميلاد لحكم ملوك "سبأ وذو ريدان" فصاروا يعرفون لذلك منذ هذا العهد بـ "ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت".

قائمة البرايت

قائمة "البرايت": - يدع آل "يدع ايل"، وكان معاصرًا للملك "كرب آل وتر"، ملك سبأ وقد حكم على رأيه في حوالي سنة "450" قبل الميلاد. - صدق آل "صديق ايل" ملك حضرموت ومعين, وقد حكم في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد. شهر علن بن صدق آل. معد يكرب بن اليفع يثع ملك معين. - غيلن "غيلان". يدع أب غيلن "يدع أب غيلان". ويحتمل على رأي "البرايت" أن يكون هو الذي حالف علهان نهفان ملك سبأ. وقد حكم في حوالي سنة "50" قبل الميلاد. العزيلط الأول، وكان معاصرًا للملك "شعرم أوتر" ملك سبأ وذو ريدان، وقد حكم في حوالي سنة "25" قبل الميلاد، وربما كان هو "العز بن عم ذخر". العزيلط الثاني، وكان معاصرًا للملك، "ثارن يعب يهنعم" ملك سبأ وذو ريدان. وكان والده "سلفن" "سلفان" أو "علهان"، ويجوز أن يكون هو الملك Eleazos الذي ذكره مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري". - يدع أب غيلن بن أمينم "يدع أب غيلان بن أمينم".

يدع آل بين بن يدع اب غيلن "يدع ايل بين بن يدع أب غيلان", Glaser1623 و Ryckmans 169 - يدع آل بين بن سمه يفع. السمع ذ بين بن ملك كرب "السمع ذبيان بن ملكي كرب". - رب شمس. يدع آل بين "يدع ايل بين". الريم يدم "الريام يدم". يدع أب غيلن "يدع أب غيلان".

الفصل الحادي والعشرون: حكومة قتبان

الفصل الحادي والعشرون: حكومة قتبان مدخل ... الفصل الحادي والعشرون: حكومة قتبان وعاصرت مملكة معين مملكة عربية جنوبية أخرى، هي حكومة "قتبان" وقد وجد اسمها في كتابات عديدة قتبانية وغير قتبانية، وهي التي أمدتنا بأكثر علمنا بحكومة قتبان، كما أشار بعض الكتبة "الكلاسيكيين" مثل "ثيوفراستس" "Theophrastus" "حوالي 312 ق. م."1 و"سترابو"2 و "بلينيوس"3. وغيرهم إلى القتبانيين، فذكرهم "ثيوفراستس" بعد "سبأ" و"حضرموت" "Hadramyta"، وأطلق على أرضهم kattabaina"= kittibaina" kitibaina وذكر بعدهم أرضًا سماها "ممالي" 4Mamali وهو اسم لا نعرف من أمره شيئًا، إلا أن "كلاسر" يرى أنه "ممالي كومة" "Mamali kome" وهو موضع ورد في جغرافيا "بطلميوس"، ويقع في نطره على ساحل "تهامة"، وقد يكون عند موضع "مأملة" شمال وادي "تنداحة"5. ويظهر من جغرافيا "سترابون" نقلًا عن رواية "ايراتوستينس" "194 ق. م"

_ 1 Theophrastus, Enquiry into Plants, Translated by A. F. Hort (Loeb) Lebrary) , Vol., II, P. 235, (IX, VI, 2-4) . 2 Strabo, XVI, 768 3 Pliny, V, 65 4 Theophrastus, Vol., H, P. 235 5 Glaser, Sklzze, II, S., 3

أن القتبانيين كانوا يقطنون في الأقسام الغربية من العربية الجنوبية، وفي جنوب السبئيين وفي جنوبهم الغربي، وقد امتدت منازلهم حتى بلغت "باب المندب"1. وذكر "ياقوت الحموي" أن "قتبان" موضع في نواحي "عدن"2. وبعد تمثال مصنوع من البرنز، عثر عليه على مقربة من "تمنع" من كتاب Qataban and Sheba صفحة "181".

_ Ency., vol., 2, p. 810 1 2 البلدان "7/ 33".

"وادي بيحان" من صميم أرض قتبان، ويقع شمال الجهة الغربية من "عدن"1. وكان يجاوز القتبانيين شعب آخر سماه "بلينيوس" "كبانيته" 2Gebanitae. وذكر أن الشعبين المذكورين هما من شعوب "لارنديني" "Larendani" وكانا يقطنان في مدن عديدة كبيرة3. وقد أطلق "سترابو" اسم "Kastabaneis" على مملكة قتبان4. أما "بلينيوس"، فسماها 5Catabani = Catabanes. ولا نجد في الكتب العربية شيئًا يستحق الذكر عن قتبان، والظاهر أن أخبارهم قد انقطعت قبل ظهور الإسلام بزمن، فلم نجد لهم من أجل هذا شيئًا من أخبار الجاهلية القريبة من الإسلام، وكل ما ورد عنهم أنهم من قبائل حمير، وأن هناك موضعًا في عدن يقال له: "قتبان"6. سمي بقتبان بطن من رعين من حمير، أو بقتبان بن ردمان بن وائل بن الغوث7، مع أنه لا صلة في النسب بين حمير وقتبان في النصوص القتبانية أو الحميرية. وعندي أن هذا النسب إنما وقع بسبب ضعف "قتبان" التي اندمجت بعد فقد استقلالها في حكومة سبأ "سبأ وذي ريدان" وهي الحكومة التي يطلق عليها المؤرخون اسم "حمير"، وبسبب كون "حمير" القبيلة الرئيسية في اليمن عند ظهور الإسلام، وكان لها حكومة قاومت الأحباش وتركت أثرًا في القصص العربي، وفي قصة الشهداء النصارى الذين سنتحدث عنهم، لذلك عدت معظم القبائل التي كانت خاضعة لها من حمير، ونسبت إليها، وفي جملتها قتبان. وقد دون اسم "قتبان" في الترجمة العربية لكتاب: حتي "تأريخ العرب"

_ 1 BOASOOR, Num. 119, "1950", P. 7 2 Pliny, VI, 153 3 Pliny, 6, 32, "28", O'Leary, P. 108 4 O'leary, P. 96, Strabo, 16, 4, 2 5 O'leary, P. 96 6 "وقتبان بالكسر بعدن" القاموس "1/ 114" تاج العروس "1/ 431"، "وفي المراصد أنه بعدن، تبعًا للبكري، ويقال إن الموضع سمي بقتبان". 7 "وقتبان بالكسر. بطن من رعين من حمير. كذا في كتب الأنساب، وهو قول الدارقطني، ويرده قول ابن الحباب، فإنه ذكر في قبائل حمير، قتبان بن ردمان بن وائل بن الغوث، إلا أن يكون في رعين قتبان آخر" تاج العروس "1/ 431".

"History of the Arabs" على هذا الشكل: "قطبان"1، كما دون بهذه الصورة أيضًا في عدد من الترجمات لكتب غربية ظهرت حديثًا، وهو خطأ بالبداهة فإن النصوص العربية الجنوبية قد كتبت الاسم بالتاء "ق ت ب ن"، كما أن الكتب العربية قد ضبطت الاسم "قتبان" ويظهر أن مترجمي الكتاب والكتب الأخرى قد حسبوا أن هذا الاسم أعجمي، ولا سيما بعد تردده في الكتب "الكلاسيكية"، فحاولوا جعله عربيًّا، فصيروا "التاء" "طاء" فصارت "قتبان" الواردة في كتابات المسند وفي الكتب العربية "قطبان"، وهي هفوة لم أكن أرغب في الإشارة إليها في متن هذا الكتاب، لولا حرصي على صحة الأشياء لئلا يخطئ من لا علم له بهذه الأمور من القراء، أو الباحثين فيأخذها على الصورة التي دونت في هذه الترجمات. والكتابات القتبانية تشارك الكتابات العربية الجنوبية الأخرى في أن غالبها قد كتب في أغراض شخصية، فهي لا تفيد المؤرخ في استخراج تأريخ منها، فهي في إصلاح أرض، أو شراء ملك، أو تعمير دار أو نذر، وما شابه، غير أننا نرى في الذي وصل إلينا منها أنه يمتاز عن غيره من الكتابات العربية الجنوبية بكثرة ما ورد فيه من نصوص رسمية تتعلق بالضرائب أو القوانين أو التجارة، بالقياس إلى ما ورد من مثله في الكتابات المعينية أو الحضرمية أو السبئية، وهي تشارك الكتابات الأخرى أيضًا في خلوها من صيغة المتكلم أو المخاطب واقتصارها على صيغة الغائب، وتشاركها أيضًا في خلوها من نصوص أدبية من شعر أو نثر، ومن نصوص دينية من أدعية وصلوات، وهو أمر يبدو غريبًا، ولكننا لا نستطيع أن نحكم حكمًا قطعيًّا في مثل هذا، فما وصل إلينا قليل، وما لم يصل إلينا كثير، والحكم بيد المستقبل, ويعود الفضل إلى السياح، وعلى رأسهم "كلاسر" في حصول علماء العربيات الجنوبية على أخبارهم من مملكة قتبان، فقد كانت الكتابات التي حصل عليها في رحلته إلى اليمن في سفره الرابع "1892- 1894م" أول كتابات

_ 1 تأريخ العرب "المطول"، بقلم: الدكتور فيليب حتي والدكتور إدور جرجي والدكتور جبرائيل جبور، الجزء الأول 1949م، "ص "70، 71، 72، 73، ومواضع أخرى".

قتبانية تصل إلى أوروبة1. وقد ذهب "هومل" في دراسته لها إلى أنها تعود إلى زهاء ألف سنة قبل الميلاد، القرن الثاني قبل الميلاد، وهو الزمن الذي انقرضت فيه مملكة قتبان على رأيه. وقد جمع منها اسم ثمانية عشر ملكًا. تمثال من البرنز عثر عليه في معبد أوام مأرب. من كتاب Qataban and sheba "الصفحة 276". حكموا المملكة2. وأفادتنا دراسات "نيوكولاوس رودوكناكس"3Nikiolaus Rhdokanakis. و"دتلف نيلسن" "Ditlef Nielsen" للكتابات القتبانية فائدة كبيرة في كتابة تأريخ قتبان4. وقد ذهبت بعثة أمريكية علمية في عام 1949- 1950 مؤلفة من طائفة

_ 1 Ency., Vol., 2, P. 813 2 Ency., Vol., 2, P. 813, Hommel, Grundrlss, I, S., 139 3 Katabanlsche Texte zur Bodenwlrtschaft, In Zwel Fefte, Wlen, 1922 4 Ditlef Niesen, In MVAG-, 1906, XI-IV, Neue Katabanlsche Inschrlften

من المتخصصين إلى "وادي بيحان" للتنقيب عن الآثار هناك، فزارت "تمنع" المدينة القتبانية القديمة، وعاصمة المملكة وبعض المواضع القريبة منها1. وسوف يكون للنتائج التي تتوصل إليها بعد دراستها دراسة علمية كافية. أهمية كبيرة في توجيه تأريخ العرب قبل الإسلام2. وقد تبين من دراسة الكتابات القتبانية أن لهجتها أقرب إلى اللهجة المعينية منها إلى اللهجة السبئية3. فهي تشترك مع المعينية مثلًا في إضافة السين إلى أول الفعل الأصلي بدلًا من الهاء الذي يلحق أول الفعل الأصلي في السبئية. ويقابل هذا في عربيتنا "أفعل" مثل "سحدث" في المعينية والقتبانية، و "هحدث" في السبئية4. وفي أمور أخرى ترد في نحو اللهجات العربية الجنوبية. وقد حاول الباحثون في العربيات الجنوبية وضع تقويم لحكومة قتبان، غير أنهم لم يتفقوا حتى الآن في تعيين مبدأ أو نهاية لهذه المملكة، ولما كانت هذه الحكومة قد عاصرت –كما جاء في الكتابات المعينية والسبئية- حكومة معين وحكومة سبأ، فقد توقف تعيين تأريخ قتبان أيضًا على تثبيت تأريخ هاتين الحكومتين وعلى البحوث "الأركيولوجية" والكتابات، وقد رجع "هومل" تاريخها إلى ما قبل سنة "1000" قبل الميلاد، ووضع "البرايت" تأريخ "هوف عم يهنعم" وهو من قدماء "المكربين" في القرن السادس قبل

_ 1 وضع منهج هذه البعثة ونظمها "وندل فيلبس"، "Wlndell Philips" رئيس المؤسسة الأمريكية للبحث عن الإنسان: "American Foundation for the Study of Man" راجع وصف الرحلة ورجالها في: BOASOOR, Num. 119, (1950) , P. 5, Windell Philips, Qataban and Sheba, London, 1955 2 راجع بحث "البرايت" عن سني حكم ملوك قتبان ومعين وسبأ وحضرموت في: W. F. Albright, The Chronology of Ancient South Arabian in the Light of the first Campain of Excavation in Qataban, Baltimore, 1950 3 O'leary, P. 96 4 غويدي، المختصر "ص7" Maria Hofner, Altsudarabische Grammatik, S., 34

الميلاد1. وهو يلي "سمه علي" في الترتيب. و"سمه علي" هو أقدم "مكرب" يصل خبره إلينا، وقد رجع "فلبي" أيامه إلى حوالي سنة 865 قبل الميلاد2. وذهب "ملاكر" إلى أن ابتداء حكم "قتبان" كان في حوالي سنة "645 ق. م" وأن نهاية استقلالها كان في القرن الثالث قبل الميلاد3. ومن علماء العربيات الجنوبية الذين عنوا بتبويب أسماء حكام "قتبان" وتصنيفها تصنيفًا زمنيًّا، "كروهمن"4. و"دتلف نلسن"5، و"ويبر"6، و"هارتمن"7 و "البرايت"8. و"فلبي"9، وغيرهم، ويختلف هؤلاء في كثير من الأمور: يختلفون في مبدأ قيام قتبان، وفي ترتيب الملوك وفي مدد حكمهم، كما يختلفون في نهاية هذه الحكومة، فبينما يرى "كلاسر" أن نهاية هذه الدولة كانت بين "200" و "24 ق. م." وربما كان قبل ذلك10. يرى غيره أن هذه النهاية كانت بعد الميلاد، وربما كان في حوالي سنة "200" بعد ميلاد المسيح11. ويرى "البرايت" أن نهايتها كانت على أثر خراب مدينة "تمنع" وإحراقها كما يتبين ذلك من طبقات الرماد الكثيفة التي عثر عليها في أنقاضها، وكان ذلك في حوالي سنة "50 ق. م."12. وقد ذهب "ريكمنس" أن نهاية مملكة "قتبان" كانت في حوالي سنة "210" أو "207" للميلاد.

_ 1 BOASOOR, Num. 119, (1950) , P. II 2 Background, P. 143 3 Mlaker, Die Hierodulenlisten von Main nebst untersuchengen zur altsudarabischen Bechtgeschiclite und Chronologie, Leipzig, 1943, Albright, The Chronology, P. 3 4 Grohmann, Uber Katabanlsche Herrscherreihen, in: Anzeiger der Wiener Akad., X., 1916, S., 42 5 Ditlef Nielsen, Katabanische Texte, I, S., 26, H, S., 98, Handbuch, I, S., 98 6 Weber, Studlen, S., 9 7 M. Hartmann, Die Arabische Frage in Der Islamische Orient, Bd., H, S., 165, 601, Leipzig, 1909 8 BOASOOR, Nfcm. 119, (1950) , P. II, The Chronology, 9 Background, P. 143 10 Glaser, Die Abassinier in Arabien und AfrUca, S., 114 11 Ency., n, P. 809 12 BOASOOR, Num 119, "1950", p.5.

أما "فون وزمن"، فذهب إلى أن نهايتها كانت في حوالي السنة "140" أو "146" بعد الميلاد1. والرأي عندي أن الوقت لم يحن بعد للحكم بأن المكرب الفلاني أو الملك الفلاني قد حكم في سنة كذا أو قبل هذا أو ذاك؛ لأننا لا نزال نطمع في العثور على أخبار حكام لم تصل أسماؤهم إلينا، لعلها لا تزال في بطن الأرض، كما أن ما عثر عليه من كتابات لا يبعث أيضًا على الاطمئنان، فإنها لا تزال قليلة. وقد وردت فيها بعض أسماء للحكام بدون نعوت، تهشمت نعوتها أو سقط قسم منها، ووردت في بعض الكتابات كاملة مع نعوتها، ووردت في بعض آخر مع نعوتها، غير أنها لم تذكر اللقب الذي كان يلقب به أبو الملك أو ابنه، فأحدث ذلك ارتباكًا عند الباحثين سبب زيادة في العدد أو نقصانًا، وأحدث خطأ في رد نسب بعضهم إلى بعض، لهذه الأسباب أرى التريث وعدم التسرع في إصدار مثل هذه الأحكام. وأرى أن خير ما يستطاع عمله في الزمن الحاضر هو جمع كل ما يمكن جمعه من أسماء حكام قتبان على أساس الصلة والقرابة وذلك بأن يضم الأبناء والأخوة إلى الآباء، على هيأة جمهرات، ثم تدرس علاقة هذه الجمهرات بعضها ببعض، وترتب على أساس دراسات نماذج الخطوط التي وردت فيها أسماء الحكام، وطبيعة الأحجار التي حفرت الحروف عليها، والأمكنة التي وجدت فيها، أكانت من سطح الأرض أم بعيدة عنه، وأمثال ذلك لتكون أحكامنا منطقية علمية تستند إلى دليل. ولانتفاء ذلك، أصبحت القوائم التي وضعها علماء العربيات الجنوبية لحكام قتبان أو حضرموت أو معين، قوائم غير مستقرة في نظري، ومن أجل ذلك لا أميل إلى ترجيح بعضها على بعض ما دامت غير مبوبة على الأسس التي ذكرتها، ولا يمكن أن تبنى على هذه الأسس ما دامت البعثات العلمية غير متمكنة من القيام بحفريات علمية منظمة عميقة، تدرس طبقات التربة وما يعثر عليه، دراسات آثارية دقيقة من كل الوجوه. وإني إذ أذكر حكام قتبان، لا أتبع في ذلك قائمة معينة؛ لأني لا أرى أنها قد رتبت ترتيبًا تأريخيًّا يطمئن إليه، ولا أستطيع أن أخطئ أحدًا في الأسلوب

_ 1 Le Museon1964 1.3 – 4, – p. 468

الذي اتبعه في ترتيبه، وسبيلي أن أذكر المكربين ثم الملوك، وأن أشير بعد ذلك إلى الكتابات المدونة في أيامهم وما ورد فيها من أمور، فإذا قدمت أو أخرت فإنما أسير برأيي الخاص، لا أتبع رأي أحد من الباحثين الذين عنوا بترتيب أسماء حكام قتبان، وقد رجحت ذكر قوائمهم ليطلع عليها القراء، وليروا ما فيها من مطابقات ومفارقات.

حكام قتبان

حكام قتبان: وجد في دراسة الكتابات القتبانية أن حكام قتبان الأول كانوا يلقبون أنفسهم باللقب الذي تلقب به حكام "سبأ" الأول نفسه وهو لقب "مكرب" وتترجم هذه الكلمة بكلمة "مقرب" في لهجتنا وتعبر "كرب" "قرب" عن التقرب إلى الآلهة فالمكرب المقرب إلى الآلهة والشفيع إليها والواسطة، بينهما وبين الإنسان، وهو كناية عن الكاهن الحاكم الذي يحكم باسم الآلهة التي يتحدث باسمها وتقابل "باتيسي" Patesi" في الأكادية و "اشاكو" lschschakku" في الآشورية1. وقد كان هؤلاء المكربون يحكمون في جماعتهم وطوائفهم حكمًا يشبه حكم "قضاة بني إسرائيل" فلما توسع سلطان "المكرب"، وتجاوز حدود المعبد، ولم يعد حكمًا دينيًّا فقط، بل انصرف الحكم إلى خارج المعبد، وصار حكمًا زمنيًّا، لقب نفسه بلقب "ملك"، ومن هنا صارت طبقة الملوك متأخرة بالنسبة إلى طبقة المكربين2. أي أن المكربين هم أقدم من الملوك. ومن قدماء مكربي قتبان -على رأي أكثر علماء العربيات الجنوبية- المكرب "سمه علي وتر". وابنه "هوف عم يهنعم". وقد عثر على كتابات من أيام "سمه علي وتر" كتبت بشكل حلزوني يبدأ السطر منها من جهة اليمن إلى جهة اليسار ثم يبدأ السطر الثاني من جهة اليسار وينتهي في جهة اليمين، وهكذا فقارئ الكتابة يقرأ السطر الأول من اليمين على نحو ما نقرأ في العربية، غير أنه يقرأ

_ 1 Handbuch, I, S, 86, Montgomery, Arabia, P. 137, 143 2 Background, P. 60

السطر الثاني من جهة اليسار متجهًا نحو اليمين، أي على طريقة الكتابة اللاتينية، ويقال لهذا النوع من الكتابات في الانكليزية 1Boustrophedonlnscriptins وتعد في نظر علماء الخط والآثار أقدم عهدًا من الكتابات الأخرى التي تسير على نسق واحد من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار إلى اليمين، ويرى "ألبرايت" أن هذا المكرب قد حكم في القرن السادس قبل الميلاد2. وجعله "فلبي" في حوالي سنة "845 ق. م. "3. ولم يذكر "فلبي" في قائمته التي صنعها ووضعها في ذيل كتابه "سناد الإسلام" اسم والد المكرب "سمه علي"، ولا كنيته4، ولم يذكر "ألبرايت" في القائمة التي ألفها لحكام "قتبان" اسم والده أيضًا5. غير أن هنالك نصًّا قتبانيًّا ورد فيه "هوف عم يهنعم بن سمه على وتر، مكرب قتبان، بن عم"6. و"سمه علي" في هذا النص، هو هذا المكرب الذي نتحدث عنه، ووالده إذن هو "عم" وقد سقط لقبه من النص بسبب كسر أو تلف حدث في الكتابة؛ لأن من عادة ملوك العرب الجنوبيين اتخاذ الألقاب. وقد وصلت إلينا كتابات قتبانية، ورد فيها ذكر "هوف عم يهنعم" "هو فعم يهنعم"، منها الكتابات التي وسمت بـ "Glaser 1117. 1121. 1333. 1344. 1345”" والكتابات "Glaser 1339" و Glaser 1343" وهما من الكتابات المزبورة على الطريقة الحلزونية "Boustrphedon lnscription". وجاء بعد "هوف عم يهنعم" في قائمة "فلبي" اسم، "شهر بجل يهرجب" "شهر يكل يهركب"7. وهو ابن "هوف عم يهنعم" وقد جعله ملكًا، حكم على رأيه في حوالي سنة "825 ق. م."، وذكر أنه فتح

_ 1 Ency. Brita., Vol., 3, P. 972 2 BOABOOR, NUM. 119, "1950", P. 11 3 Background, P. 143 4 Background, P. 143 5 BOASOOR, NUM. 119, "1950", P. H, The Chronology, P. 7 6 REP. EPIG., VI, n, P. 260 7 "يجل" "يهرجب" حرف "الجيم" في المسند هو "كيمل"، ويلفظ على الطريقة المصرية في الزمن الحاضر في النطق بحرف الجيم.

معينًا1. وكان له من الأولاد "وروال غيلن يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم"، وقد لقب بلقب "ملك"، و"فرع كرب يهوضع"، "يهودع"2. ثم ذكر "فلبي" اسم "شهر هلل" "شهر هلال" بعد "فرع كرب يهودع"، جاعلًا حكمه في حوالي سنة "770 ق. م."، وقد كان ملكًا على قتبان. وهو ابن "ذرأ كرب". ثم نصب "يدع اب ذ بين يهرجب" "يدع أب ذبيان يهركب"، من بعده، وقد كان حكمه -على رأيه- في حوالي سنة "750 ق. م." وقد جعله مكربًا وملكًا، ثم ترك فراغًا بعده، مكتفيًا بالإشارة إلى أن الذي تولى بعده هو أحد أبنائه، ولم يشر إلى اسمه، وقد قدر أنه حكم من سنة "735 ق. م." حتى سنة "720 ق. م." ثم جعل من بعده ملكًا سماه "شهر هلل يهنعم" "شهر هلال يهنعم" وهو أحد أبناء "يدع اب ذبين يهرجب" "يدع أب ذبيان يهركب"، وقد حكم -على رأيه- حوالي سنة "720 ق. م." ثم خلفه "يدع أب ينف" أو "يجل يهنعم بن ذمر علي" وقد يكون -على حد قوله أيضًا- شقيقًا لـ "شهر هلال بن يدع أب ذبيان يهركب" وقد كان حكمه في حوالي سنة "680 ق. م."3. وترك "فلبي" فراغًا بعد الملك المتقدم، كناية عن حكم ملك لم يصل اسمه إلينا، حكم في حوالي سنة "660 ق. م." حتى سنة "640 ق. م." حيث دون بعده اسم ملك سماه "سمه وتر" لم يذكر لقبه الثاني ولا اسم أبيه، ثم ذكر بعده اسم ملك آخر، سماه "وروال" "وروايل"، لم يذكر لقبه، يتصور أنه ابن "سمه وتر" وقد جعل حكمه في حوالي سنة "620 ق. م.". ثم ترك "فلبي" فجوة قدرها بنحو من عشر سنين بين الملك المتقدم والملك الذي تلاه، ثم ذكر بعدها اسم ملك سماه "آب شبم" "أب شبم"، لم يعرف اسم أبيه، وقد حكم -على تقديره- في حوالي سنة "590 ق. م."، وذكر بعده اسم "اب عم" "أبعم" "أب عم"، وهو ابن "اب شبم"، وقد كان حكمه في حوالي سنة "570 ق. م." تلاه في الملك على -رأي "فلبي"- الملك "شهر غيلن" "شهر غيلان"، وهو ابن "أبشم"

_ 1 Background, P. 60, 143 2 Background, P. 60, 143 3 المصدر نفسه.

"اب شبم"، وقد حكم من سنة "555 ق. م" إلى سنة "540 ق. م" وفي هذه السنة، أي سنة "540 ق. م" كانت نهاية مملكة قتبان، فاندمجت -على رأيه- في مملكة سبأ، وصارت جزءًا منها1. هذه هي قائمة حكام قتبان، من مكربين، وملوك على وفق رأي "فلبي" ويلاحظ أنه وضع مددًا لحكم كل مكرب أو ملك تراوحت من خمس وعشرين سنة إلى عشر سنين، فامتد أجل هذه الحكومة بحسب قائمته من سنة "865" قبل الميلاد إلى سنة "540" قبل الميلاد، وتقديراته هذه هي شخصية، لا تستند إلى كتابات قتبانية ولا غير قتبانية، وإنما هي رأي شخصي واحد، ومن هنا اختلف في مذهبه هذا عن مذاهب الباحثين الآخرين في مدد حكم ملوك قتبان، وكلهم مثله يستندون في أحكامهم إلى آرائهم وتقديراتهم الشخصية، ولا يوجد بينهم من وجد نصًّا فيه تأريخ مرقوم ثابت لأحد من هؤلاء الحكام، يستند إليه في تثبيت حكم مكربي وملوك قتبان، ونرى مما تقدم أن "فلبي" جعل عدد من عرفهم من حكام قتبان سبعة عشر رجلًا2. أما البرايت، فقد ترك فراغًا، ولم يحدد مدته بعد "هوف عم يهنعم"، ثم ذكر بعده اسم مكرب دعاه "شهر"، ولم يشر إلى لقبه ولا إلى اسم أبيه، وذكر بعده اسم "يدع أب ذبين يهنعم" "يدع أب ذبيان يهنعم"، قال إنه ابن "شهر"، وقد كان مكربًا، وذكر بعده اسم ابن له يقال له: "شهر هلل يهو ... "، "شهر هلال يهو.."، وقد صار مكربًا بعد وفاة أبيه "يدع اب ذبيان يهنعم"، وقد سقط حرفان أو ثلاثة أحرف من لقب "شهر هلال" الأخير فصار "يهو"، ولعله "يهودع" و "يهنعم" في الأصل. وترك "ألبرايت" فراغًا بعد "شهر هلال يهو.."، ذكر بعده اسمه "سمه وتر"، قال: إن من المحتمل أن يكون هو المكرب الذي هزمه "يثع أمر وتر" مكرب "سبأ". ثم ترك فراغًا آخر ولم يحدد مدته، ثم ذكر أن من المحتمل أن يكون قد تولى الحكم بعد هذه الفترة مكرب آخر هو "وروايل" ولم يشر إلي لقبه، وقد كان تابعًا لـ "كرب ايل وتر" أول ملك من ملوك

_ 1 المصدر نفسه. 2 كذلك.

سبأ، وقد حكم -على تقديره- حوالي سنة "450 ق. م."1. وترك "ألبرايت" فراغًا بعد اسم "وروايل" يشير إلى وجود فجوة لم يعرف من حكم فيها، ثم ذكر مكربًا آخر سماه "شهر"، ولم يذكر لقبه، ثم ذكر اسم ابنه بعده وهو "يدع أب ذبيان"، قال إنه آخر مكرب وأول ملك في قتبان، وقد ترك عددًا من الكتابات، ومنها كتابة عثر عليها خارج الباب الجنوبي لمدينة "تمنع"، وقد حكم -على رأيه- في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، وتولى ابنه من بعده "شهر هلال" "شهر هلل" ثم "نبط عم" ابن "شهر هلال"2. ويحتمل أن يكون "يدع أب ذبيان" هذا -بحسب رأيه- هو باني ذلك الباب3. نرى أن قائمة "ألبرايت" قد كتبت اسم "شهر" وابنه وحفيده مرتين، وأشار هو نفسه إلى أن من الممكن أن يكون ذلك من باب التكرار، غير أنه ذكر من جهة أخرى أنه ما دامت الأدلة التي تثبت هذا التكرار غير متوافرة، فإنه يسجل هذه الأسماء على هذا الموضع، فلعل أسماء هذه المجموعة المتشابهة هي لأشخاص آخرين، إلى أن يثبت بالدليل خلاف ذلك. وترك "ألبرايت" فراغًا بعد "نبط عم" "نبطعم"، ذكر بعده "ذمر علي"، ثم ابنه "يدع أب يجل" "يدع أب يكل" ويرى "ألبرايت" أنه كان معاصرًا لثلاثة ملوك من ملوك سبأ، عاشوا في القرن الرابع قبل الميلاد، ولم يستبعد احتمال كونهم من رجال القرن الثالث قبل الميلاد. حينما كانت سبأ مجزأة منقسمة على أمرها4. وقد كانت معظم أرض حمير خاضعة في هذا العهد للقتبانيين. وقد يكون هذا هو السبب الذي جعل الحميريين ينعتون أنفسهم بـ "ولد عم"؛ لأن "عما" هو إله القتبانيين، و"ولد عم" تعني "أولاد عم" و"شعب عم"5.

_ 1 BOASOOR, NUM. 119, C1950) , P. II 2 BOASOOR, NUM. 119, (1950) , P. II, The Chronology, P. 17 3 W. Phillips, Qataban and Sheba, P. 219 4 The Chronology, P. 8, BOASOOR, NUM. 119, (1950) , P. 12 5 Le Museon, 1964, 3-4, P. 429, 431

وترك "ألبرايت" فراغًا بعد الملك "يدع أب يكل"، ذكر بعده ملكًا سماه "اب شبم"، "أبشبام" "أب شبام"، ولم يذكر اسم أبيه ولا نعوته، ثم ذكر بعده الملك "شهر غيلن" "شهر غيلان"، قال: إنه ابن "أبشبام"، وإن المنقبين قد عثروا على كتابات عديدة من أيامه، منها كتابة عثر عليها عند الباب الجنوبي لمدينة "تمنع"1. ثم ذكر بعده ملكًا آخر سماه "بعم" وهو ابن الملك السابق، أي "شهر غيلان"، ثم الملك "يدع أب يجل" "يدع أب يكل"، وهو شقيق "بعم"، ثم نصب "ألبرايت" بعده الملك "شهر يجل" "شهر يكل"، قال إنه ابن الملك "يدع أب"، وإنه صاحب جملة كتابات وفاتح معين في حوالي سنة "300 ق. م." ثم ذكر الملك "شهر هلل يهنعم" "شهر هلال يهنعم" من بعده، وهو شقيق "شهر يجل" "شهر يكل" وقد تركت أيامه جملة كتابات، منها كتابة عثر عليها عند باب مدينة "تمنع" الجنوبي. وقد ذهب "ألبرايت" إلى أن حكم الأسرة أو المجموعة المتقدمة قد كان فيما بين "350" و"250 ق. م." وهو لا يدري من حكم بعد "شهر هلال" آخر ملوك هذه المجموعة2، ولذلك ترك فراغًا، انتقل بعده إلى مجموعة جديدة من الملوك، وضع على رأسها "يدع أب ذبين يهرجب" يدع أب ذبيان يهركب"، وقال: إنه لا يرى أن وضع هذا الملك في هذا المكان هو من قبيل التأكد، وإنما يرى أن ذلك شيء محتمل، ثم ترك فراغًا آخر بعد هذا الملك يشعر أنه لا يدري من حكم فيه، ثم ذكر بعد هذا الفراغ الملك "فرع كرب" ثم ابنه "يدع أب غيلن". "يدع أب غيلان" وقد ذكر أن في أيامه بني "بيت يفش" المذكور في كتابة قتبانية، وأن ذلك كان في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد3. وترك "ألبرايت" فراغًا بعد "يدع أب غيلان"، ذكر بعده الملك "هوف عم يهنعم" "هو نعم يهنعم"، وقد جعل حكمه في حوالي سنة "150 ق. م." ثم ذكر ابنًا له حكم -على رأي "ألبرايت"- من بعده

_ 1 The Chronology, P. 8 2 W. Phillips, P. 220 3 W. Phillips, P. 220

سماه "شهر يجل يهرجب" "شهر يكل يهركب"، وإلى أيامه تعود الأسود المصنوعة من البرنز التي عثر عليها في أنقاض "تمنع"، والكتابة المتعلقة ببناء حصن الباب الجنوبي للعاصمة، وكتابة بناء "بيت يفش"1، ثم ذكر "وروال غيلن يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم" من بعده، وهو ابن "شهر يكل يهركب"، وقد عثر على قطعة نقد ضربت في مدينة "حريب"، تحمل اسم "وروايل غيلن"، يرى "البرايت" احتمال كونها تعود إليه. وذكر بعده الملك "فرع كرب يهودع" "يهوضع"، وهو ابن الملك "شهر يكل" وشقيق "وروايل غيلان". وقد ترك "البرايت" بعد "فرع كرب يهودع" "يهوضع" فراغًا يشير إلى أنه لا يعرف من حكم بعد ذلك الملك، ثم ذكر بعد هذا الفراغ ملكًا آخر سماه "يدع اب ينف" "يدع اب ينوف". وقد عثر على نقود له ضربت من ذهب في "حريب"، ولا يعرف "ألبرايت" اسم من حكم بعده، لذلك ترك فراغًا، ذكر بعده ملكًا سماه "ذراكرب" "ذرأكرب"، ولم يذكر نعته ولا اسم أبيه، وقد جعل بعده ابنه "شهر هلل يهقبض" "شهر هلال يهقبض"، ويرى احتمال كونه "شهر هلل" "شهر هلال"، الذي أمر بضرب نقد من ذهب في "حريب"، وبه ختمت قائمة "ألبرايت" لحكام قتبان من مكربين وملوك إذ ذكر بعد اسمه خراب "تمنع" العاصمة ونهاية استقلال قتبان، وذلك في حوالي سنة "50" قبل الميلاد2. ويرى "ألبرايت" أن "شهر هلال يهقبض" هذا هو الذي بنى البيت المسمى "بيت يفعم" "بيت يفع"، الذي عثر على أطلاله وأسسه عند باب المدينة الجنوبي3. وتعد هذه الفترة القريبة من الميلاد من أهم المراحل الحاسمة في تأريخ قتبان، في رأي "ألبرايت"، إذ فيها كان سقوط الحكم الملكي، وزواله عنها، ودخولها في حكم مملكة "معين"، أو دخول قسم منها في حكم معين، وقسم آخر في

_ 1 W. Phillips, P. 100. 2 BOASOOR, 119, "1950", P. 12, The Chronology, P. 8. ff 3 W. Phillips, P. 220

حكم مملكة السبئيين1. ويرى "ألبرايت" أن عاصمة قتبان كانت قد تعرضت قبيل الميلاد لغزو أليم، وقد استدل عليه من وجود طبقة من الرماد تغطي أرض العاصمة، وقد فسر هذا بسقوط المدينة فريسة لنار أججها في المدينة ملك، لم نقف على اسمه حتى الآن، ولا على الأسباب التي حملته على إحراق المدينة أو إحراق أكثرها2. ويرى "ألبرايت" أيضًا أن مملكة حضرموت كانت قد اغتصبت جزءًا من مملكة قتبان، وذلك بعد سقوط "تمنع" في القرن الأول للميلاد، وقد كانت مملكة حضرموت، ومعها مملكة سبأ، من أهم الممالك في العربية الجنوبية، في هذا العهد، ومنذ القرن الأول للميلاد فما بعده، فقد القتبانيون استقلالهم واندمجوا في حكومة "سبأ وذي ريدان" في النهاية3. وقد عثر على كتابة في "وادي بيحان"، ورد فيها "يدع اب غيلان بن غيلان ملك حضرموت بنى مدينته مدينة: ذي غيلان"4. وذهب قراء هذه الكتابة إلى أن مدينة "ذي غيلان"، هي مدينة بناها هذا الملك في "وادي بيحان" على مسافة عشرة أميال من موضع "بيحان القصب" في الزمن الحاضر أي في أرض قتبانية، وذلك بعد سقوط مدينة "تمنع". وقد عثر على كتابتين حضرموتيتين أخريين في هذا الوادي، وردت فيها أسماء ملوك حضرميين5.

_ 1 W Phillips 221 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه. 4 كذلك. 5 كذلك.

كتابات وحوادث قتبانية

كتابات وحوادث قتبانية: أحاول هنا تدوين الحوادث التي وقعت في قتبان في أيام المكربين وأيام الملوك مستخلصًا إياها من كتابات العهدين، فأبدأ بالبحث في الكتابات التي يرجع عهدها إلى المكربين، وفي جملة الكتابات أيام "المكربين" كتابة وسمها العلماء بـ"Glaser 1410 – 1681 "، وقد دونت عند قيام قبيلة "هورن" "هوران"

ببناء بيت في أرضها للإله "عم ذو دونم"، بنته بالخشب وبالحجارة والرخام ومواد أخرى، تقربًا إلى ذلك الإله وإلى آلهة قتبان الأخرى: "عم" و"أنبي" و "ذات صنتم" و "ذات ظهران"، وقد وردت في النص أسماء مواضع هي: موضع "لتلك" الواقع في منطقة "ذبحتم" "ذبحة" و "دونم" "دون" و "أذ فرم" "أذفر". وقد سقط من السطر الأول اسم "المكرب" وبقي اسمه الثاني وهو "ذبين" "ذبيان"، ولقبه وهو "يهنعم"، واسم أبيه وهو "شهر". ويظهر من عبارة: "ذبين يهنعم بن شهر، مكرب قتبان وكل ولدعم واوسن وكحد ودهسم وتبنو بكر انبي وحوكم"، أي " ... ذبيان يهنعم بن شهر مكرب قتبان وكل ولدعم واوسان وكحد ودهس وتبنو بكر أنبي وحوكم"1 أن قتبان وكل المتعبدين للإله "عم" الذي يمثله مكرب قتبان نفسه والأوسانيون وكحد ودهس وتبني كانوا متحدين في ذلك العهد متحالفين، يحكمهم المكرب المذكور. وقد رأينا أن "ألبرايت" جعل هذا المكرب في الجمهرة الثانية من جمهرة المكربين الذين حكموا قتبان، ولم يذكر شيئًا عن أبيه "شهر" لعدم ورود شيء عنه في الكتابات، أما اسم المكرب الأول الساقط من النص، فهو "يدع اب". وفي أسماء المواضع المذكورة دلالة على أنها كانت خاضعة لحكم قتبان في أيام المكرب المذكور، وأن حدود قتبان كانت واسعة إذ ذاك أي في القرن السابع قبل الميلاد على رأي بعض الباحثين أو في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد على رأي بعض آخر2. وقد عثر على اسم المكرب "شهر هلل بن يدع اب" "مكرب قتبان" في كتابتين، رقمتا برقم3 "RES 312" و "Res 312 + SE 60" وقد ورد فيها اسم "أنبي" و "حوكم" و "عم" من أسماء آلهة قتبان، وورد فيها أسماء

_ 1 RSP. EPIG. 3880, Tome, VI, P. 336, Hommel, Ethno., S,, 660 2 Beitrage, S., 71 3 Lidzbarski, Eph., II, S., 107, 455, Weber, Stud., Ill, r S., 39, Hartmann, Arab-, S., 165, ContI Rossini, Chrest, P. 87, Mordtmann-Mlttwoch, In Orientalia, I, (1932) , P. 27

مواضع مثل: "لتك"، و "ذبحتم" و "اضفرم"، وقبيلة أو جماعة تعرف بـ "هورن" "هوران". وكان سبب تدوينها التوسل والتضرع إلى الإله "أنبي" ليمن على أصحاب الكتابتين فيبعث إليهم بالخير والبركة، ويقيهم شر المجاعة1. والظاهر أن قحطًا كان قد حدث في أيام هذا المكرب فتوسل أصحاب الكتابة إلى إلههم "أنبي" أن يمن عليهم بإنقاذهم منه. ويلاحظ أن هذه الكتابة تحدثت عن موضع "لتك" في "ذبحة" التابعة لقبيلة "هورن" من قبائل قتبان، إلا أنها لم تذكر "قتبان وولد عم وأوسان وكحد ودهس" كما جاء في ذلك النص السابق. وقد سقط في هذه الكتابة "شهر هلل" "شهر هلال"، كما أنها لم تذكر لقب "يدع اب" مكرب قتبان وهو والد "شهر". ولا نستطيع بالطبع الادعاء بأنه كان أقدم من المكرب السابق أو أنه جاء من بعده في الحكم لعدم وجود دليل ملموس لدينا يثبت أحد الرأيين. وقد عثر على عدد من الكتابات القتبانية، ورد فيها اسم المكرب: "يدع اب ذبين بن شهر" "يدع أب ذبيان بن شاهر" "شهر"2. منها الكتابة الموسمومة برقم: "."Glaser 1600 وقد جاء فيها: أن "يدع أب ذبين بن شهر مكرب قتبان، وكل أولاد عم وأوسان وكحد ودهس وتبني" فتحوا طريقًا، وأنشئوا "مبلقة" بين موضعي "برم" و "حرب" "حريب"، وجددوا "بيت ود" و "عثيرة"، وبنوا "مختن" في موضع "قلي". ووردت في هذه الكتابة أسماء آلهة أخرى، هي عثتر، وعم، وأنبي، وحوكم، وذات صنتم، وسحرن، ورحبن3. وقد وردت في الكتابة لفظة "منقلن"، ويراد بها الطريق في الجبل، وهي بهذا المعنى أيضًا في معجمات اللغة التي نزل بها القرآن الكريم. ووردت فيه لفظة "مبلقة"، ومعناها فتحة وثغرة، وهي بهذا المعنى في عربيتنا كذلك، يقال

_ 1 REP. EPIG, 3540 2 "يدع أب ذبيان بن شهر". 3 REP. EPIG., 3550, VI, I, P. 203, Nielsen, Neue Katab. Inschriften, S., 3, Stud., 127, Weber, Stud., Ill, S., 8, Conti Rossini, Chres., P. 86, BOASOOR. NUM. 120, P. 27, (1950) , Ryckmans 215, Baihan 48

انبلق الباب إذا انفتح، وأبلق الباب: فتحه كله أو أغلقه بسرعة، ومعنى الكلمة في النص عمل ثغرة في الجبل ليمر منها الطريق المار في الجبل من مكان إلى مكان1. وفي هذا العمل المشترك الذي اشترك فيه هذا المكرب وشعب قتبان وقبائل أخرى غير قتبانية، هي أوسان وكحد ودهس وتبني، دلالة على وجود فن هندسي راق عند العرب الجنوبيين في هذا العهد الذي لا نعرف مقدار بعده عن الميلاد، ولكننا نجزم أنه كان قبل الميلاد. ولدينا كتابة أخرى تشبه الكتابة المتقدمة، دونت في أيام هذا المكرب كذلك، ورد فيها بعد اسم المكرب جملة: "وكل ولد عم"، ثم أسماء من ساعد "ولد عم" في البناء، وهم "أوسان" و "كحد" ودهس" "وتبني" و "يرفأ"، ثم وليت هذه الأسماء جملة "ايمنن واشامن"، أي "الجنوبيون والشماليون"، وبعبارة أخرى "أهل الجنوب وأهل الشمال"، ويقصد بذلك على ما يظهر من سياق الكلام سكان المناطق الشمالية وسكان الجنوب، أما جملة "ولد عم" فإنها كناية عن أهل "قتبان" و "عم" هو إله "قتبان" الرئيس، ولذلك أطلق القتبانيون على أنفسهم "ولد عم"، ويفهم من ذكر أسماء القتبانيين وغيرهم في هذه الكتابة أن العمل المذكور في الكتابة كان ضخمًا واسعًا، لذلك اشترك في إتمامه وإنجازه أهل أوسان والقبائل الأخرى. ولم يتحدث النص عن كيفية اشتراك أوسان والقبائل الأخرى المذكورة في هذا العمل: أكان ذلك لأنها كانت خاضعة في وقت تدوين هذه الكتابة لحكم المكرب، "يدع أب" فاضطرت إلى الاشتراك فيه، أم هي قامت به بالاشتراك مع قتبان؛ لأنه في مصلحتها؛ لأنها ستستفيد منه كما يستفيد منه القتبانيون، فتعاونت مع قتبان في إنجازه واتمامه. والكتابة وثيقة مهمة تتحدث عن عمل هندسي مهم خطير، هو فتح طريق جبلي في مناطق وعرة وفي أرضين جبلية، فاستوجب العمل تمهيد الأرض وتسويتها وإحداث ثغر في الصخور وفتح أنفاق ليمر بها الطريق، وقد كرس العمل باسم الآلهة "عم ذو شقرم" و "عم ذو ريمت" و "أنبي" و "حوكم" و"ذات صنتم" و "ذات ظهران" و "ذات رحبان"، وتقرب به إليها, وقام به.

_ 1 Rhodokanakis 1.StudI, ll, S., 98

وأشرف عليه رجل اسمه "أوس عم بن يصرعم" "أوسعم بن يصرعم" "أوس بن يصرع"، أدار هذا الرجل العمل، ورسم الخطط وقام برصف الطريق وتبليطه ورصف ممر "ظرم" بصورة خاصة بمنطقة سميكة من الحجارة، وقد قام بكل ذلك بأمر سيده المكرب "يدع اب"1. ونحن هنا أمام رجل كان له علم خاص بهندسة الطرق وله تجارب ودراية في إحداث الثغر في الصخور وإنشاء الممرات والمناقل للقوافل والمارة في المناطق الوعرة ولهذا كلفه حاكم قتبان القيام بذلك العمل، فأنجزه وأتمه عل النحو الموصوف. وكان "اوس عم بن يصرعم" من قبيلة تسمى "مدهم"2. وقام المهندس المعماري المذكور بأعمال هندسية أخرى لسيده المكرب، فقد جاء في نص آخر أنه شق طرقًا وثنايا في مواضع جبلية وعرة، وحفر أنفاقًا تمر السابلة منها، وبنى أيضًا "بيت ودم" أي معبد الإله "ود"، و"مختن ملكن بقلي"، أي "مختن الملك" بموضع "قلي"3. وقد سبق أن أشير إلى هذا "المختن" في النص "Glaser 1600" الذي تحدثت عنه قبل قليل، وهو من النصوص التي تعود إلى هذا المكرب نفسه، والتي تتحدث عن فتح طريق وبناء "بيت ود" و "مختن الملك بقلي"، إلا أنه لم يذكر اسم "المهندس" الذي أشرف على العمل في النص المرسوم بـ " Glaser 1600". وليست لدينا معرفة تامة بمعنى "مختن"، الواردة في النصين المذكورين، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها من الألفاظ المستعملة في الشعائر الدينية، وأنها تؤدي معنى محرقة، أو الموضع الذي توضع عليه القرابين التي تقدم إلى الآلهة4 أو المذبح الذي تذبح عليه الضحايا، فهي بمعنى "يبحت" و "ومنطف" "منطفت" "منطفة". وذلك لورود هذه الألفاظ في كتابات تتعلق بالقرابين، كما سأتحدث عنها في فصل "الحياة الدينية عند الجاهليين".

_ 1 REP. EPIG. 3642, 4328, VII, II, P. 192, SE 90, Grohmann, Katabanische Herrscherr, S., 43, Rhodokanakls, Altsab. Texte, I, 8., 44, Beitrage, S., 43 2 Beitrage, S., 46 3 Le Mus6on, LXH, 1-2, (1949) , P. 78 4 Le Mus6on, LXH, 3-4, (1949) , P. 277

ويظهر أن لاسم قرية "شقير" و"حصن شقير" الموجودتين في اليمن في الوقت الحاضر، علاقة بمعبد "عم ذو شقرم" الذي تقرب صاحب النص المذكور إليه ببناء الطريق ورصفه، وقد كان "شقرم" موضع في ذلك الوقت أقيم به معبد خصص بعبادة الإله "عم"1. ولعل الطريق الذي شيده "يدع أب ذبيان" كان يمر به، وأنه أوصل إليه ليسهل على المؤمنين الوصول إليه, فكرس الطريق لذلك باسمه فذكر قبل بقية الآلهة، تعبيرًا عن هذا التخصيص. ويرى بعض الباحثين أن ملك قتبان كان قد توسع في عهد "يدع أب ذبيان" هذا فصار يشمل كل "أوسان" وقتبان ومراد حتى بلغ حدود سبأ، ولحماية أرضه أقام حواجز وفتح طرقًا في الهضاب والجبال ليكون في إمكان جيشه اجتيازها بسهولة في تحركه لمقاتلة أعدائه، أقامها في شمال أرضه وفي جنوبها لمنع أعدائه من الزحف على مملكته، وتعبيرًا عن فتوحاته هذه في شمال وفي جنوب قتبان استعمل جملة "ايمنن واشامن" أي "الجنوبيون والشماليون"، وهو لقب يعبر عن هذا التوسع الذي تم على يديه2. ويظهر أن الذي حمل "يدع ذبيان" على الأقدام على شق الطرق في المرتفعات وفي الجبال وعمل الأنفاق وتبليط الطرق بالأسفلت، هو عدم اطمئنانه من الطرق الممتدة في السهول، إذ كانت هدفًا سهلًا للأعداء. فإذا اجتازتها قواته هاجمهما الغزاة ويكون من الصعب عليها الدفاع حينئذ عن نفسها، أما الطرق التي أنشأها فإنها وإن كانت صعبة وفي السير بها مشقة إلا أنها آمنة؛ لأنها تمر في أرض خاضعة لحكمه وهي أقصر من الطرق المسلوكة في الأرض السهلة. ثم إن الدفاع عنها أسهل من الدفاع عن الطرق المفتوحة. فبهذا التفكير الحربي أقدم على فتح تلك الطرق3. وقد تبين من ورود لفظة "ملك" في بعض هذه الكتابات مع وجود لقب "مكرب" فيها، أن "يدع أب ذبيان" هذا كان كاهنًا في الأصل. أي حاكمًا يحكم بلقب "مكرب"، ثم تحلى بلقب "ملك" أيضًا، ولعله استعمل اللقبين معًا. ولهذا ذكرا معًا في الكتابات المشار إليها، إلا أن الكتابات المتأخرة

_ 1 Beltrage s. 43 2 Beltrage s. 44 3 Beltrage s. 45

نعتته بلقب ملك فقط، وفي اكتفائها بذكر هذا اللقب وحده دلالة على أنه صرف النظر عن اللقب القديم، وجعل لقبه الرسمي هو اللقب "ملك" فقط1. ومن الكتابات التي تعود إلى أوائل حكم "يدع أب ذبيان" أي أيام حكمه "مكربًا" الكتابات: Ryckmans 390 و REP. EPIG 3550 4328 أما الكتابة: REP. EPIG. 3878، فتعود إلى أيام تلقبه بلقب "ملك" وتتناول الكتابات الأولى موضوع فتح وتعبيد طريق "مبلقة"، وقد عثر عليها مدونة على الطريق وفي "شقرم" "شقر" التي تقع إلى الغرب منها2. ومن كتابات أيام الملكية الكتابة المرسومة بـ Glaser 1581"، وقد دونت عند الانتهاء من بناء حصن "برم" "محفدن برم" تقربًا وتوددًا لآلهة قتبان. وكان العمل في أيام الملك "يدع أب ذبين بن شهر ملك قتبين" "يدع أب ذبيان بن شهر ملك قتبان"، وكان صاحب البناء الذي قام به "لحيعم بن ابانس" من "آل المم" و "عبد ايل بن هاني" ويظهر أنهما كانا من المقربين إلى الملك المذكور، وربما كانا من كبار الموظفين، أو من أصحاب الأرضين والأملاك أو من رؤساء العشائر3. وللملك "يدع اب ذبيان بن شهر"، وثيقة على جانب كبير من الأهمية؛ لأنها قانون من القوانين الجزائية المستعملة في مملكة قتبان، بل في الواقع من الوثائق القانونية العالمية، ترينا أصول التشريع وكيفية إصدار القوانين عند العرب الجنوبيين قبل الميلاد، فيها روح التشريع الحديث وفلسفة التقنين، ترينا أن الملك وهو المرجع الأعلى للدولة هو وحده الذي يملك حق إصدار القوانين ونشرها والأمر بتنفيذها، وترينا أيضًا أن مجالس الشعب، وهي المجالس المسماة بـ "المزود" وتتكون من ممثلي المدن، ومن رؤساء القبائل والشعاب، هي التي تقترح القوانين وتضع مسودات اللوائح، فإذا وافقت المجالس عليها عرضتها على الملك لإمضائها ولنشرها بصورة إرادة أو أمر ملكي، ليطلع الناس على أحكام الأمر الملكي.

_ 1 Le Museon, 1984, 3-4 P.423. 2 Le Museon, 1964, 3-4, P. 432. 3 REP. EPIG. 3553, Nielsen, Stud., S. 168, Conti Rossini, Chrest., P. 87, Nielsen, Neue Kat., S., 35.

ويعملوا به. وسأتحدث عن ذلك في فصل "التشريع الجاهلي" بكل تفصيل وتوضيح. والوثيقة المذكورة هي قانون أصدره الملك في شهر "ذي مسلعت" "ذو مسلعة" من سنة "غوث آل" "غوث ايل"1 وقد شهد على صحتها للتعبير عن شرعيتها جماعة من الأعيان والرؤساء وهم من أعضاء "المزود" ومن أشراف المملكة ورؤساء القبائل، ذكرت أسماؤهم وأسماء الأسر والعشائر التي ينتمون إليها، وقد كانت العادة في قتبان أن يذكر عند إصدار القوانين والأوامر أسماء أعضاء المزود والرؤساء وكبار الموظفين كما تفعل الدول الحديثة في هذا اليوم من ذكر اسم رئيس الدولة الذي يصدر القانون بأمره وباسمه واسم رئيس الوزراء والوزراء أصحاب الاختصاص، وذلك لإظهار موافقة المذكورين على القوانين دلالة على اكتسابها الصفة القانونية بنشر أسمائهم مع اسم الملك. وفي جملة القبائل التي ذكرت في هذه الكتابة "ردمن" "ردمان" و "الملك" "المالك" و "مضحيم" "مضحى"، و "يحر"، و "يكلم" "بكيل" و "ضرب"، و "ذو ذرآن"، "ذ درن"، و "شهران" و "هران"، "هرن"، و "غربم"، و "رشم"، و "زخران"، و "غربان"، و "جرعان"، و "نظران"، وقبائل أخرى، وقد ذكرت أسماء الرؤساء الذين أمضوا القانون وصدقوا صحته ودونت قبل أسمائهم هذه الجملة: "وتعلماي ايدن ... "، ومعناها: "علموا عليها بأيديهم"، وكتب قبل اسم الملك: "وتعلماي يد"، ومعناها: "وعلم عليها بيده ... "، ويعود الضمير إلى الملك2. والوثيقة التي نتحدث عنها هي قانون في عقوبات القتل العمد أو القتل الخطأ غير المتعمد وفي العقوبات التي يجب أن يعاقب بها من يصيب إنسانًا بجرح أو جروح قد تحدث آفات وعطلًا في الشخص. وسأتحدث عن هذا القانون وعن المصطلحات الفقهية الواردة فيه في فصل "التشريع عند الجاهليين"، ويرى "فون وزمن" أن هذه الوثيقة المهمة هي من الأوامر التي أصدرها الملك في النصف الأول من القرن الرابع قبل الميلاد3. ويتبين من الوثيقة المتقدمة أن القتبانيين

_ 1 REP. EPIG. 3878, VI, II, P. 330. 2 Glaser 1397, SE 80, Beitrage, S, 37 3 Beitrrage, S., 37

كانوا يحكمون الرومانيين في هذا العهد، ومخلاف "ردمان" من مخاليف اليمن المهمة، فيه قبائل كبيرة، ولهذا فإن خضوعه لقتبان هو ذو أهمية كبيرة بالقياس إلى الحكومة. وبعد موضع "جهر وعلان" حاضرة مخلاف "ردمان"، ومن أماكن "ردمان" "رداع" و "كدار"، وهو مكان قريب من "وعلان"، وقد ورد اسم "وعلان" في الكتابات إذ جاء: "وعلن ذردمن"، "وعلان ذو ردمان"1. ويظن أن الملك "يدع أب ذبيان يهرجب بن شهر، ملك قتبان" الذي أمر بتدوين النص الذي وسم بـ "jamme 405 + 406 "، هو هذا الملك الذي نتحدث عنه، أي الملك المعروف في الكتابات باسم "يدع أب ذبيان بن شهر"، والفرق بين الاسمين هو في وجود اللقب "يهرجب" "يهركب" في النصين المذكورين وسقوطه من الكتابات الأخرى، ويستدل من قال بأن الاسمين هما لشخص واحد بورود أسماء قبائل في النصين وردت في كتابات دونت في عهد الملك المتقدم ثم؛ لأنهما استعملا مصطلحات ترد في كتابات تعود إلى هذا العهد، ثم؛ لأن أسلوب الكتابة، ونموذج كتابتها يدلان على أنها كتبت في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد. أو في القرن الرابع قبل الميلاد. وفي هذا الوقت كان حكم هذا الملك على رأي بعض الباحثين. لذلك رأوا أن الكتابتين قصدتا هذا الملك2. وخلاصة ما جاء في النصين أن الملك "يدع أب ذبيان يهرجب بن شهر ملك قتبان" وكل أولاد عم وأوسان و "كحد" و "دهسم" "دهس" و "تبنو"، بنوا "يسرن" "يسران" والأقسام التابعة لها "ريمت" "ريمة" و "رحبت" "رحبة"، وذلك من الأساس إلى القمة، ولحماية ما أمر الملك ببنائه من كل أذى وسوء وقدموا ما قاموا به إلى الآلهة "عثتر" و "عم" و "ود". أما القبائل المذكورة في هذين النصين، فقد تعرفنا عليها في الكتابات السابقة، ولدينا كتابة وسمها علماء العربيات الجنوبية بـ "REP EPIG 4094" دونها "زيدم بن آل وهب" "زيد بن ايل وهب"، و "أب عم بن شهرم"

_ 1 CIH 347, Beitage, S, 38 2 Discoveries, P. 143

من "ذي طدام"، عند إتمامها بناء عدة بيوت أو معابد ذكرا أسماءها، وهي: "يفش مبش"، و "اهلن"، و "شمس مبش" لملكي قتبان: "يدع أب ذبيان" وابنه "شهر"، وقد ورد فيها اسم الآلهة: عثتر، وعم، وانبي، وذات صنتم، وذات ظهرن "ذات ظهران". وهي الآلهة التي ترد أسماؤها عادة في معظم كتابات القتبانيين، وجاءت بعد أسماء الآلهة، هذه الجملة "وبمبش واهلن"1، ولا نعرف اليوم شيئًا عن "مبش" ولا عن "اهلن"، أم هما اسمان لإلهين من آلهة قتبان بدليل ورودهما بعد أسماء الآلهة التي ورد ذكرها تيمنًا في هذه الكتابة، أم هما اسمان لقبيلتين أو لمقاطعتين أو لمعبدين من المعابد المشهورة التي كانت في قتبان؟. أما "طدام"، فهو اسم قبيلة أو أسرة قتبانية، وقد ورد في كتابات أخرى عديدة غير قتبانية2. وأما "أبعم" "أب عم" و "زيدم" "زيد" فمن الأسماء التي ترد في مختلف الكتابات، ولكن اسم "اب عم" "أبعم" هو من الأسماء المنتشرة بصورة خاصة في قتبان3. وقد اختلف الباحثون في تعيين زمان حكمه، فذهب بعضهم إلى أنه كان في القرن الخامس قبل الميلاد، وذهب بعض آخر إلى أنه كان في القرن الرابع قبل الميلاد4. أو القرن الثاني قبل الميلاد5 أو في أوائل القرن الآخر قبل الميلاد6. وقد ذكر اسم الملك "شهر هلل"7 وابنه "نبطعم"8 في كتابة دونها رجل اسمه "نبط عم بن يقه ملك" "نبطعم بن يقهملك"9 إذ حفر بئرًا في حصن له لإرواء أرضه وأملاكه، وجعلها في رعاية آلهة قتبان وحمايتها، لتبارك له

_ 1 REP. EPIG. 4094, VII, I, P. 80, Mordtmann und E. Mittwoch AltsUdarabische Inschriften, in Orientla, I, 1932, P. 24 2 Jausen 90, 93, 173, 175, 176, 180 3 Orientala, Vol., I, "1932", P. 26 4 Le Mus6on, 1964, 3-4, P. 433 5 Le Museon, 1964, 3-4, P. 434 6 Le Museon, 1964, 3-4, P. 434, Pirenne, Paleographie des Inscriptions Sud-Arabes, I 7 "شهر هلال". 8 "نبط عم". 9 "نبط عم بن يقه ملك".

ولذريته، وذكر أن حفر هذه البئر كان في أيام الملك المذكور وفي أيام ابنه1. وقد ذهب "ألبرايت" إلى أن "شهر هلال" المذكور وهو والد "نبطعم" هو ابن "يدع أب ذبيان بن شهر". وقد جعله كما قلت قليل آخر المكربين وأول من تلقب بلقب "ملك" في قتبان. وجاء اسم الملك "شهر هلل بن يدع اب"2، في قانون أصدره للقتبانيين المقيمين بمدينة "تمنع" أي العاصمة وللمقيمين في الخارج، وذلك لتنظيم التجارة ولتعيين حقوق الحكومة في ضرائب البيع والشراء، والأماكن التي يكون فيها الاتجار. وفي هذا القانون مصطلحات تجارية مهمة ترينا مبلغ تقدم القتبانيين في أصول التشريع التجاري بالقياس إلى تلك الأيام3. ووصلت إلينا كتابة قتبانية وسمت بـ "REP. EPIG. 4325"، وهي قانون لتنظيم التجارة وفي كيفية دفع الضرائب. وقد صدر في أيام "شهر"، وقد سقط من النص لقب الملك واسم والده ولقبه، كما سقطت أسطر من القانون بسبب تلف أصاب الحجر المكتوب، فأضاع علينا فهم أكثر القانون4. ولوجود جملة ملوك حكموا قتبان باسم "شهر"، لا نستطيع تعيين هذا الملك، صاحب هذا القانون، وقد يكون "شهر هلال بن يدع اب"، أي الملك المتقدم. وذكر اسم الملك "ذمر علي" واسم ابنه الملك "يدع ابن يجل" "يدع اب يكل"5 في النص القتباني المعروف بـ "Glaser 1693"، ولم يرد فيه اللقب الذي كان يلقب به6. وقد ورد اسم ملك قتباني هو "يدع أب"، في عدد من الكتابات، دون أن يذكر لقبه أو اسم أبيه، وقد ذهب "فلبي"، إلى احتمال أنه "يدع اب بن ذمر علي" أي الملك المذكور في النص "Glaser 1693"

_ 1 REP. EPIG. 4330, VII, II, 194, SE 99, Glaser 1336, 1407 2 شهر هلال بن يدع أب". 3 REP. EPIG. 4337, Hbfner, Eine Sudarabische Handelsinschrlft, in Forschungen und Fortschritte, X, (1943) , 274, SE 87,Glaser, 1407, 1615. 4 REP. EPIG. 4325, VII, II, P. 190, SE 61 5 "يدع أب يجل". 6 BOASOOR, NUM. 119, (1950) , P. 12, KTB." II, S., 41 7 Le Museon, LXII, 3-4, (1949) , P. 241, CIH, 494, 496, Philby 17, 18, 19, REP. EPIG., VI, II, P. 321

وفي أيام "يدع اب يجل" نشبت حرب بين "سبأ" و "قتبان"، ذكرت في النص الموسوم بـ "REP EPIG 3858" وهو نص سجله "ذمر ملك بن شهر" من "آل ذران" "آل ذرأن"، وكان واليًا ولاه الملك على قبيلة "ذبحن"1 النازلة في أرض "حمر"، بعد أن ثارت وتمردت على ملك قتبان، فتغلب عليها، وضرب عليها الجزية وأخذ غنائم منها ومن القبائل التي عضدتها، ويظهر أن هذه القبيلة انتهزت فرصة حرب نشبت بين "سبأ" و "قتبان"، فأعلنت عصيانها على ملوك قتبان وثارت ومعها قبائل أخرى انضمت إليها، ولكنها لم تنجح، ففرضت قتبان عليها جزية كبيرة وانتزعت منها بعض أملاكها، وقد أشار النص إلى: "حرب يدع آل بين وسمه على ينف ويثع أمر وتر ملوك سبأ، وسبأ وقبائلها وإلى ملوك رعنن وقبيلة رعنن"2. ويظهر من هذه الجملة أن الحرب كانت قد نشبت في أيام الملوك المذكورين، وهم ملوك سبأ، ومع "ملوك سبأ، وسبأ وأشعبها"، ويظهر أنه يقصد بجملة "ملوك سبأ" المذكورة بعد اسم "يثع امر وتر" مباشرة، ملوك سبأ آخرون، أو سادات قبائل، تلقبوا بلقب "ملك". وأما لفظة "أشعب"، فهي "الشعوب" في لهجتنا، وتعبر عن معنى القبائل، ويكون الملك "يدع اب يجل" من معاصري الملوك المذكورين إذن بحسب هذا النص3. وقد أشير إلى "ذبحن ذحمرر" "ذبحان ذو حمرو" في الكتابة: REP EPIG 3550" وذكر فيها اسم "نعمن" "نعمان" و "صنع"4. وقد ورد اسما هذا الملك في كتابات أخرى عثر عليها في مواضع من "وادي بيحان"5.

_ 1 "ذبحان". 2 Glaser 1963 REP EPIG 3858 3 KTB II S. 41 4 Le Museon, 1964.4 – 3 p 432 5 "بيحان واد مشهور، وقد ذكره "الهمداني" الإكليل "8/ 110" "طبعة الكرملي" وقد حرف في بعض الترجمات العربية لكتب غربية إلى "بيهان" في كل الكتاب، وذلك لتصورهم أن حرف الـ "h" في الانكليزية لكلمة: "Balhan هو "هاء" فصيروا الكلمة "بيهان" وهو واد معروف حتى اليوم ومذكور في كل الكتب المؤلفة عن العربية الجنوبية، راجع كتاب: كنوز مدينة بلقيس، بيروت "1961م" فإنه مسخ هذا الاسم كما مسخ أسماء كثيرة أخرى مع شهرتها في الكتب الحديثة، Le Museon Lxlv 1 – 2 1951 p 121

وقد ورد اسم الملك "شهر غيلن بن ابشم"1، وكذلك اسم ابنه "بعم"، في نص قتبان وسم بـ "ERP. EPIG. 3552" وقد دون هذا النص عند قيام "شرح عث بن عبد يل بن تنزب"2، وهو معمار كلفه الملك المذكور إنشاء "محفد عريم"، أب برج في موضع يسمى "عرب" "عربم"، وقد قام بالعمل وأتمه، ووضعت لتخليده هذه الكتابة شاهدًا على إتمام البناء. وقد تضمنت شكرًا وحمدًا لآلهة قتبان، التي سهلت العمل، ومنت على القائمين به بإنجازه وإتمامه، تيمنًا باسمها على عادة العرب الجنوبيين، كلهم في ذكر أسماء الآلهة التي يتعبدون لها3. وورد في كتابة أخرى اسم الملك "شهر غيلن بن أبشم"، أمر الملك نفسه بتدوينها، عند تجديده إحدى العمارات وإنشائه "صحفتن"، أي برجاء فخلد ذلك العمل بهذه الكتابة وشكر الآلهة "عم" و "انبي" و "عم ذيسرم"، لمنتها عليه وتسهيلها هذا العمل له4. وتعد الكتابة المرقمة برقم: "Glaser 1601" من الكتابات المهمة المدونة في أيام هذا الملك؛ لأنها أمر ملكي في كيفية جباية الضرائب من قبيلة "كحد ذ دتنت" وقد عقدت بين ملك قتبان ورؤساء قبيلة "كحد" النازلة في "دتنت" "دتنه"، واشهدت آلهة قتبان عليها، وقد جاء هي هذا الأمر أن "كبر" أي "كبير" قبيلة "كحد" هو الذي سيتولى أمر هذه الجباية والإشراف على تنفيذ الأمر وتطبيق أحكامه على كل من يخصه ويشمله، وذلك من تأريخ تعيينه "كبيرًا" إلى يوم انتهاء وظيفته، على أن يقدم الوارد إلى الحكومة سنة فسنة، فإذا انتهت مدة تعيينه، تولى من يخلفه في هذا المنصب أمر الجباية، وقد جعل تأريخ تنفيذ هذا العقد من: "بن شهر ورخن ذ تمنع خرف موهبم ذ ذرحن اخرن لاخرن"5، ومعناها: "من هلال شهر ذو تمنع

_ 1 "شهر غيلان بن ابشم". 2 "شرحعث بن عبد ايل بن تنزب". 3 REP. EPIG., 3552, VI, I, P. 205, Weber, 'stud., in, S., 5, Nielsen, Stud., S., 160, Conti Rossini, Chrest., P. 87, Nielsen, Neue Katab., S., 28 4 EP. EPIG. 4162, VII, I, P. 114, BOASOOR, NUM. 119, (1950) , P. 12 5 راجع نهاية الفقرة "6" وأول الفقرة "7" من النص: Glaser 1601, REP. EPIG. 3688, KTB., I, S., 7, Landberg, Arabica, V. 85

سنة موهب ذو ذرحن" "ذرحان" آخرًا فآخرًا"، وتعني "اخرن لأخرن" والأشهر التي تليه إلى أمر آخر. وأما الضرائب المفروضة، أي الجباية التي يجب أن تجبى من قبيلة "كحد"، فقد حددت بهذه العبارة: "عشر كل هنام وموبلم وتقنم وترثم وكل ثفطم بيثفط"1 أي "عشر كل ربح صاف، وكل ربح يأتي من التزام أو من بيع أو من إرث يورث"، فحصر هذا القانون ضريبة "العشر" في الأرباح المتأتية من هذه المكاسب2، وتجبى هذه الضرائب لخزانة الحكومة. وقد ذكرت في هذه الوثيقة ضريبة أخرى, هي "عصم" "عصمم"، وهي ضريبة خاصة تجبى للمعابد، أي أنها تذهب إلى الكهان لينفقوا منها على إدارة المعبد، فهي ضريبة مقررة تجبى كما تجبى ضرائب الدولة، وهي مصطلح يطلق على كل أنواع الجبايات التي تسمى بأسماء الآلهة والمعابد3. ويرى "رود كناكس" أن "العصم" لفظة تطلق على كل ما يسمى للآلهة أو المعابد من "زكاة" أو نذر أو صدقات تقدم في مختلف الأحوال، عند برء من سقم، أو عند حدوث زيادة في الغلات4. وقد وردت في النصوص مصطلحات مثل: "ودم" و "شفتم" و "بنتم" وأمثالها، وهي تعبر عن النذور والهبات التي يقدمها المؤمنون تقربًا وزلفى إلى آلهتهم، وهي غير محدودة ولا معينة ولا ثابتة، وإنما تقدم في المناسبات كما في أكثر الأديان5. وجاءت في هذه الكتابة جملة "وسطر ذتن اسطون ببيت ورفو"، أي "وسطرن هذه الأسطر ببيت ورفو"، وتؤدي لفظة "بيت" في أمثال هذا السياق معنى "معبد"، كما نقول: "بيت الله"، وقد وقعها الملك في شهر "ذبرم" وأعلنها للناس وأوضح ذلك بهذه العبارة: "يد شهر ورخس ذبرم قد من خرف موهبم ذ ذرحن" أي "وقد وقع عليها شهر بيده في شهر ذي برم الأول من سنة موهب آل ذرحن"، وجعل شاهدًا على صحة الوثيقة رجلًا اسمه "نبط عم بن السمع" من "آل هيبر".

_ 1 الفقرة الخامسة من النص المذكور. 2 KTB., I, S., 12. 3 KTB., I, S., II. 4 KTB., I, S 25 5 راجع النصوص: Glsaser 1395, 1412, 1413, 1602.

وحظي معبد "بيحان" بعناية الملك "شهر غيلان"، فقد أمر بترميم أقسامه القديمة وتجديدها وبناء أقسام جديدة فيه، وقد تيمن بهذا العمل بذكر الآلهة "عثتر نوفان"، أي "عثتر النائف"، وسجل هذا العمل في كتابة وسماها علماء العربيات الجنوبية بـ 1REP. EPIG 4932 وفد ذكر فيها أسماء آلهة أخرى تيمنًا بذكر أسمائها وتقربًا إليها. وكان هذا المعبد قد خصص لعبادة "عم ذلبخ"، فهو إذن أحد المعابد التي سميت باسم الإله "عم"، وقد عرفت معابده بـ "عم ذلبخ"، ومعبد "بيحان" هو معبد من هذه المعابد التي حملت اسمه، وكانت لها جماعة تتعبد بها ولعلها مذهب أو طائفة خصصت نفسها بعبادة هذا الإله. وكانت هذه المعابد تجبي أموالًا من أتباعها لتقيم بها المعابد، وصرف الملوك عليها كذلك2. وفي الكتابة الموسومة بـ "Ry ckmans 216" خبر نص أحرزه الملك "شهر غيلان" على حضرموت و "أمر" "آمر" "أأمر" وتخليدًا له أمر ببناء معبد "عثتر ذ بحن"، أي معبد الإله "عثتر" في موضع "ذبحن" "ذبحان"، ويرى "فون وزمن" أن موضع "ذبحان" الذي بنى فيه هذا المعبد، هو المكان المسمى "بيحان القصب" في الوقت الحاضر، ويقع عند قدم "جبل ريدان" وفي هذا المكان خرائب واسعة تدل على أنه كان مدينة أو قرية كبيرة، ويرجع "فون وزمن" زمان هذا الملك إلى أواخر القرن الرابع لما قبل الميلاد3. ويتبين من النص المتقدم أن "قتبان" كانت في عهد هذا الملك قوية، فقد انتصرت كما رأينا على حضرموت و "امر"، وكانت تحكم "دتنت" "دتنه" و"كحد"، كما كانت تحكم أرضين أخرى غير قتبانية، ولولا القوة لانفصلت تلك الأرضين عنها4. وقد عثر على عدد من الكتابات القتبانية ورد فيها اسم الملك "شهر بجل بن يدع أب". منها الكتابة التي وسمت بـ "Glaser 1602"، وهي أمر ملكي في كيفية جمع الجباية من "اربي عم ذلبخ"، أي من "طائفة معبد

_ 1 REP. EPIG., VII, P. 433, Freya Stark, in JRAS., 1939, P. 497. 2 KTB., S., 8, 47, Beitrage, S., 65. 3 Beitrage, S., 48, 65. 4 Beitrage, S., 65.

الإله عم في أرض لبخ"، ويظهر من هذا المصطلح ومن مصطلحات مشابهة أخرى أن العرب الجنوبيين كانوا يؤلفون طوائف تنتمي إلى إله من الآلهة تتسمى به وتقيم حول معبده. ويعبر عن الطائفة بلفظة "اربي" وتقيم في الأرض تستغلها، وتسمي نفسها باسم الرب الذي تنتمي الطائفة إليه، ويجوز أنها كانت تتعاون فيما بينها في استغلال الأرض وفي تصريف الإنتاج لخير الطائفة بأسرها. وتقدم الطائفة حقوق الحكومة إلى الجباة الذين يجبون تلك الحقوق، فيقدمونها إلى "الكبير"، أي نائب الملك المعين واليًا على المقاطعات ليقدمها إلى الملك. وقد أصدر الملك "شهر يجل" أمره هذا، وأمر بتنفيذه، وذلك في معبد "عم ذلبخ" المشيد في موضع "بن غيلم" أي "في غيل"، وذلك في شهر "ذبشم" سنة "عم علي" كما يفهم من العبارة القتبانية: "ورخس ذبشم خرف عم علي"1. وتتألف "الاربي"، أي طائفة "عم" إله معبد "ذلبخ" من أسر تجمع بينها صلة القربى، وكان لهم رؤساء يديرون شئون سماهم الملك، وهم: "معدي كرب" "معدي يكرب بن هيبر" و "دال" و "دايل بن رباح" "ربح" و "اخهيسمي" أي وأخوتهما2. وقد قصد الملك من ذكرهما في هذه الكتابة أنهما هما اللذان كانا يقومان بجمع الغلات ودفع ما على أتباعهما إلى خزانة الحكومة وإلى خزائن المعابد التي في أرض "لبخ" وفوض أمر استثمارها إلى هذه الطائفة. وهناك كتابات أخرى تبحث في الموضوع نفسه، موضوع أرض "لبخ" وطائفة "عم" "اربي عم" القاطنة بها، وعباراتها هي عبارات النص المذكور إلا في أمور، إذ تختلف فيها، في مثل أسماء الأشخاص وتواريخ عقد تلك الاتفاقيات ومواضعه؛ لأنها عقدت في أوقات مختلفة مع أشخاص آخرين3.

_ 1 Giaser 1602, REP. EPIG. 3689, KTB., I, S., 57, Le Museon, LXIXI, 3-4, 1951, P. 268, Beltrage, S., 47. 2 الفقرة الثالثة من النص: Giaser 1602, REP. EPIG. 3689. 3 Giaser 1412, 1612, REP. EPIG. 3693, VI, II, P., 275, Giaser, 1395, 1604, SE 81, 84, REP. EPIG. 3691, VI, II, P, 271, Conti Rossini, Chrest.,P. 89. KTB, I, S, 121.

وتقدم النصوص المذكورة نماذج عن طرق كتابة العقود الرسمية بين الحكومة القتبانية والموظفين والجماعات في موضوع الالتزامات والعقود فلها أهمية خاصة لمن يريد دراسة أصول التشريع عند الجاهليين. والعادة كتابة هذه الوثائق وإعلانها للناس بوضعها في محال بارزة، يتجمع عندها الملأ في العادة أو يمرون عليها، مثل المعابد أو أبواب المدن، فإنها من أكثر الأماكن التصاقًا بالأفراد والجماعات. وتؤرخ بالتواريخ المستعملة في أوقات عقد العهود، ليعمل بتلك الأوامر وفي الأوقات المثبتة في الكتابات. ولدينا نص أمر ملكي أصدره الملك إلى القتبانيين أحرارهم وعبيدهم، رجالهم ونسائهم وإلى كل المولودين في مدينة "تمنع" في كيفية دفعهم "العصم" أي الضرائب. وقد صدر هذا الأمر وأعلن للناس في "ورخم ذبرم اخرن ذ ذران"، أي في "شهر برم الثاني من السنة الأولى من سني من آل ذرأن" وقد سقط من الكتابة اسم الرجل الذي أرخت الكتابة به1. ويرى "البرايت" أن "شهر يجل"، هذا كان قد حكم في حوالي سنة "300 ق. م" وأنه تغلب على المعينيين فحكمهم2. وعثر على أمر ملكي أصدره الملك "شهر هلل يهنعم بن يدع اب"3 في كيفية جباية "اربي عم لبخ"، وهو أمر يشبه الأمر الملكي الذي صدر من الملك "شهر يجل بن يدع اب" السابق، وقد ذكر الملك أنه أصدر أمره هذا تنفيذًا لمشيئة معبد "حطبم" "حطب" المخصص بعبادة "عم ذ دونم" "عم ذو دونم"، ومعبد "رصفم" "رصف" "رصاف" معبد الإله "انبي" ولوحي الآلهة "شمس" و "الهلال" "ربع شمس" وذكر أسماء وكلاء الطائفة وممثليها: طائفة "عم ذي لبخ" "اربي عم ذلبخ" في "ذي غيل". وقد نشر الأمر وأعلن على باب "شدو" من أبواب مدينة "تمنع"، وذلك في شهر "ذي تمنع" وفي السنة الثانية من سني "شهر" من عشيرة "يجر"4.

_ 1 REP. EPIG. VI, P., 334, Glaser, 1393, 1609, SE 80 A. 2 The Chronology, P. 8, Beitrage, S., 47. 3 Glaser 1395, 1604, SE 84, REP. EPIG 3691, Ktb. I, S. 121, II, S. 103, Conti Rossini, Chrest., P. 89. 4 الفقرة الثامنة من النص: Glaser 1395, 1604, SE 84, REP. EPIG. 3691

ويرى ألبرايت أن هذا الملك كان شقيقًا للملك "شهر يجل"، وأنه كان تابعًا لحكومة معين1. وقد حمله على هذا الرأي اشتراك اسم الأب، وأنا مع عدم معارضتي لهذا الرأي لا أرى أن اشتراك اسم الأب يمكن أن يكون دليلًا على أن شخصين أو أكثر هم إخوة، فإن أسماء الملوك في العربية الجنوبية متشابهة وتتكرر، والذي يفرق بينها هو اللقب أو الألقاب، بل إننا حتى في هذه الحالة نجد الألقاب تتكرر أيضًا، وهي وإن بدت وكأنها اسم شخص واحد، إلا أنها في الحقيقة لجملة أشخاص، وقد عبر المحدثون عن ذلك بالترقيم، فقالوا فلان الأول، وفلان الثاني، وفلان الثالث، وهكذا، وذلك، كناية عن الاشتراك في الاسم وفي اسم الأب وفي الألقاب، ويقع ذلك عند أمم أخرى أيضًا: وقع ذلك في القديم، ووقع في الأيام الحديثة حتى اليوم، ونحن لجهلنا تواريخ ارتقاء الملوك العروش، ولعدم تيقننا من تقدم بعضهم على بعض، لا نستطيع لذلك ترقيم الملوك بحسب التقدم في الحكم بصورة يقينية فليس، لنا إذن إلا التربص للمستقبل فلعل الأيام تقدم إلينا مفاتيح نفتح بها الملفات في تواريخ العرب قبل الإسلام. وعندنا وثيقة أخرى من الوثائق الخاصة بـ "اربي عم" في "لبخ"، من أيام الملك "شهر هلل" "شهر هلال". وهي أيضًا أمر ملكي أصدره الملك في كيفية جباية الضرائب من هذه المنطقة، وقد أمر بوضع هذا الأمر وتعليقه عند باب "ذي شدو" من أبواب مدينة "تمنع"، وذلك في شهر "ذو أبهى" في السنة الثانية من سني "عم شبم" من "آل يجر"2. وقد مر ذكر "آل يجر" في نص سابق، حيث أرخ أيضًا برجل منها، مما يدل على أنها كانت من الأسر المعروفة المشهورة في قتبان. والوثيقة كما نرى هي في الموضوع السابق نفسه، موضوع جباية الضرائب من طائفة "عم" النازلين بوادي "لبخ" ولذلك لا تختلف في أسلوبها وفي الألفاظ والمصطلحات القانونية الواردة فيها عن ألفاظ ومصطلحات الوثائق السابقة. ولكنها تختلف عنها في أنها لم تذكر اسم والد "شهر هلال" ولذلك تعذر

_ 1 The Chronology, P. 8 2 Glaser 1613, 1613 + 1418, SE 82, REP. EPIG. 3693, KTB.,I, S, 132, II, a, 103

علينا تعيين هذا الملك وغدا صعبًا علينا تثبيت نسبه بالنسبة إلى الملوك المذكورين. وقد ترك "ألبرايت" فراغًا بعد اسم "شهر هلال يهنعم" وضع بعده اسم "يدع اب ذبيان يهركب"، غير أنه بين أنه غير متأكد من أن موضعه في هذا المكان، وأنه وضعه علي سبيل الظن، وذلك اعتمادًا على خط الكتابة التي ورد فيها اسمه والتي يناسب أسلوبها أسلوب كتابات هذا الوقت1. ثم عاد "ألبرايت" فترك فراغًا بعد هذا الاسم، لا يدري من حكم فيه، ثم ذكر بعده اسم "فرع كرب"، ولم يذكر أي لقب له، ثم ذكر من بعده اسم "يدع اب غيلان" وهو ابنه وفي عهده بني "بيت يفش" الشهير الذي ورد اسمه في عدد من الكتابات القتبانية، ويرى "ألبرايت" أن ذلك كان في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد2. وقد حصلت "البعثة الأمريكية" التي نقبت في خرائب مدينة "تمنع"، على كتابة تتعلق ببيت "يفش"، وباسم الملك "يدع اب غيلان بن فرع كرب"3 وصاحب هذه الكتابة رجل اسمه "هوفعم بن ثونب"، ذكر فيها أنه اشترى وتملك ورمم البيت المسمى "يفش" وأجرى فيه تعميرات كثيرة وفي القسم الخاص منه باستقبال الضيوف "مزود هو"، أي المحل الذي يجلس فيه الزائرون، فهو نادي ذلك البيت4، وكذلك في القسم المسقوف منه، أي القسم الخاص بالمسكن إلى أعلى البناء. وبهذه المناسبة تيمن صاحب البيت بذكر أسماء آلهته: "ابني" و "التعلي" و"عم" و "عثتر" و "ذات صنتم" و "ذات ضهران"، ثم تيمن بذكر الملك الذي تم العمل في أيامه، وهو الملك "يدع اب غيلان بن فرع كرب" ملك قتبان. وعثر على كتابة ورد فيها اسم "يدع أب غيلان" "يدع أب غيلن". عثر عليها عند الجدار الشمالي "لحصن الخضيري" الواقع على مسافة "كيلومتر" إلى الشرق من "جبل أوراد". وقد جاء فيها أن الملك أجرى ترميمات في

_ 1 The Chronology, P. 9 2 The Chronology, P. 9 3 "يدع اب غيلن بن فرع كرب" "يدع اب غيلان بن فر عكرب". 4 Jamme 118, Archaeological Discoveries in South Arabia, John Hopkins Press, Baltimore, 1958, P. 186

مدينته "ذ غلين" "ذو غيلان"1. وكانت مدينة "ذغيلم" "غيلن" "غيلان" من المدن التي أنشئت في عهد الملك "يدع اب غيلان" بناها على رأي بعض الباحثين في حوالي القرن الثاني قبل الميلاد وذلك عند معبد "عم ذي لبخ" الشهير الكائن في موضع "ذغيلم"، أو أنها كانت موجودة ولكنه جدد بناءها فعرفت بـ "ذغيلان"، ولذلك فإن اسمها في الكتابات هو "ذغيلم" و "ذ غيلن" و "ذغيلان"، وقد اشتهرت بمعبدها المذكور2. وترك "ألبرايت" فراغًا بعد اسم "يدع غيلان"، يعنى أنه لا يدري من حكم في خلاله، ثم ذكر اسم "هوف عم يهنعم" "هو فعم يهنعم" بعده، وقد حكم -على تقديره- في حوالي السنة "150 ق. م." ثم ذكر من بعده اسم ابنه "شهر يجل يهركب"3. ولدينا كتابة رقمت برقم "REP. EPIG 4335" وقد ذكر اسم "شهر يجل يهرجب بن هوفعم"4. وقد دونت هذه الكتابة عند اشتراك "شوشن" و "حمرم"، ابني "عم كرب"5 في بناء "محفد" لهما اسمه "غيلن"6 في أرضهم "طوب" "طوبم"، وتيمنًا وتبركًا بذلك ذكرا أسماء آلهة قتبان واسم الملك المذكور7. وعثر على كتابة أخرى. فهم منها أنه في عهد الملك "شهر يجل يهرجب"، جدد بناء الباب الجنوبي لمدينة "تمنع"، وجدد بناء بيت "يفش" ويرجع "ألبرايت" أيام هذا الملك إلى ما بعد سنة "150 ق. م." بقليل. ويستند في تقديره هذا إلى تمثالي أسدين عثر عليهما في خرائب مدينة "تمنع"، وقد وجدت

_ 1 BOASOOR, mJM. 120, 1950, P. 27 2 Beitrage, S., 47, Le Museon, 1964, 3-4, P. 464, A. Jamme, A New Chronology of the Qatabanian ingdom, in BOASOOR, NUM. 120, 1950, P. 26, Sabaen Inscriptions, P. 297 3 The Chronology, P. 9 4 "شهر يكل يهركب بن هوفعم" يلفظ حرف "الجيم" بالكيمل على الطريقة المصريةِ. 5 "عمكرب". 6 "غيلان"، "غلين". 7 REP. EPIG 4335"

عند قاعدتهما كتابات قتبانية، ورد فيها اسم المعمار "ثويم"1 "ثويب"، وقد سبق أن عثر على كتابة ورد فيها اسم هذا المعمار وقد كتبت في عهد الملك "شهر يجل يهرجب"، ومن اشتراك الاسمين استنتج "ألبرايت" أن التمثالين هما من عهد هذا الملك، ويرى "ألبرايت" أيضًا أن هذين التمثالين صنعا على نمط صناعة التماثيل عند اليونان، ولا يرتقي عهد صناعتهما إلى أكثر من القرن الثاني قبل الميلاد، لذلك لا يمكن في نظره أن يرتقي عهد هذا الملك إلى أكثر من "150" سنة قبل الميلاد2. ويظهر من الكتابة "jamme 119" أن "ثويم بن يشرح عم"3 و"صبحم"4 و "هوفعم"، وهم من آل "مهصنعم"5 اشتروا ونقلوا اسم البيت باسمهم، أي سجلوه باسمهم، وسجلوا كل ما يتعلق به من أبنية ومسقفات في الطابق الأرضي وفي الأعلى وذلك وفقًا لشريعة الإله "انبي". وتيمنًا بهذه المناسبة سجلوا شكرهم للآلهة "عثتر" و "عم" و "انبي" و "ورفو ذلفن" و"ذات صنتم" و "ذات ضهران"، وكانت تلك المناسبة في أيام الملك "شهر يجل يهرجب بن هوفعم يهنعم"، وفي عهد "فرع كرب" من أسرة "ذرحن" ونائب الملك "شهر"6. وقد استنتج بعض الباحثين من هذا النص أن "هو فعم" والد "شهر يجل يهرجب" كان شقيقًا لـ"فرع كرب" الذي كان نائبًا عن الملك أو حاكمًا يوم دون هذا النص. وقد كان من أسرة أو قبيلة "ذرحان". وقد كان له ابن هو الملك: "يدع اب غيلان"7. ويلاحظ أن هذه الأسماء تنطبق على الأكثر على مجموعة ملوك ذكرها "ألبرايت" في بحث له بعد اسم "شهر هلال يهنعم" وقبل "يدع أب ينف"8. وسيأتي

_ 1 "ثوبم" "ثوب" "ثوأب" "ثويبم"، "ثويب". 2 BOASOOR, NUM. 119, 1950, P. 9, The chronology, P. 9. 3 "ثوبيم بن يشرح عم" "ثويبم بن يشرحعم" "ثويب بن يشرحعم". 4 "صبح"، "صباح". 5 "مهصنع". 6 Jamme 119, Discoveries, P. 188 7 Discoveries, P. 188 8 The Chronology, P. 8

الكلام عنها فيما بعد. غير أن الزمان الذي قدره لحكم هذه المجموعة متأخر عن الزمان المذكور. وقد وردت في نص من النصوص المعينية عبارة مهمة جدًّا لها علاقة بقتبان، وبشخص ملكها "شهر يجل يهرجب"، وبالحالة السياسية التي كانت في حكومة معين. ورد فيها ما ترجمته: "في يوم سيده وقه آل يثع وابنه اليفع يشر ملك معين. وبسيده شهر يجل يهرجب ملك قتبان"1. وقد ذكر "هومل" أن كلمة "مراسم" في السطر الرابع من النص قد يمكن قراءتها "مرأس"، ولو قرئت على هذه الصورة لكانت تعني أن "شهر يجل يهرجب" كان رئيسًا على ملك "معين" وابنه، وهذا يعني أن حكومة معين كانت خاضعة لحكومة قتبان في هذا العهد2. ويرى "فلبي" أن ذلك كان حوالي سنة "820 ق. م." وأن حكم "شهر يجل يهرجب" كان على رأيه أيضًا من سنة "825- 800 ق. م." وفي هذا العهد لم تكن "سبأ" قد كونت حكومتها بعد، ومن المحتمل أن قبائلها كانت يومئذ كما يرى "فلبي" متحالفة مع قتبان3. ويرى "رودوكناكس" أن نص "504 Halevy" يشير إلى أحد أمرين: تحالف بين معين وقتبان كان في عهد الملك "شهر يجل يهرجب" أو أن حكومة معين كانت حقًّا خاضعة لسيادة قتبان4. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن حكم "شهر يجل يهرجب"5، كان في القرن الأول قبل الميلاد. وفي حوالي السنة "75 ق. م." وبناء على ذلك يكون خضوع معين المذكور في النص في هذا الزمن ويكون "اليفع يشر" الذي نعتوه بالثاني من هذا العهد أيضًا. ويرون أيضًا أن استيلاء "قتبان" على معين لم يدم طويلًا؛ لأن السبئيين سرعان ما

_ 1 Glaser 1087, Galeby 504 هذا النص هو من "براقش" وهناك بعض مواضع فيه لا تزال غامضة "ملكي معن" ملكي معين Weber, Studien, I, S. 60. "بيومه مراسم ... وب مراس شهر يجل يهرجب، ملك قتبن" REP. EPIG. 2999 2 Hommel, Chrest. S. 95, Handbuch, I, S, 18, 71 3 Background, P. 56, REP. EPIG 2999, Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 233 4 KTB, I, S, 36, II, S, 7 5 شهر يكل يهركب" حرف "الجيم" عند أهل اليمن على نحو نطق المصريين في الزمن الحاضر بحرف الجيم". Le Museon, 1964, 3-4, P. 446

أخذو زمام الأمور بأيديهم، فاستولوا على معين. ثم إن الحميريين استولوا على الأرضين الجنوبية لقتبان الممتدة إلى البحر فأضعفوا قتبان، حتى عجزت عن الهيمنة على المعينيين. ولم يؤثر اعتراف "معين" بسيادة ملوك "قتبان" عليها في استقلالها الذاتي، إذ بقي ملوكها يحكمونها كما يظهر ذلك من الكتابة المذكورة: "Halevy 504 ومن كتابات أخرى. وقد جاء في كتابة "معينية" أمر بتدوينها الملك "اليفع يشر" ملك "معين" في عاصمته "قرنو"، ذكر كاهنين من "كهلان" "كهلن" من قتبان، حضرا حفلة تتويجه، وربما يستشف من ذكر هذين الكاهنين الإشارة إلى الروابط السياسية التي كانت بين معين وقتبان، وأن حكومة "قرنو" كانت خاضعة لسيادة "قتبان" دون أن يؤثر ذلك في استقلالها الذاتي الذي كانت تتمتع به1، أو أنها كانت قد تحالفت مع قتبان، أو كونت اتحادًا دون أن يؤثر ذلك في الملكية في معين أو قتبان. ولدينا نص مهم طويل، هو قانون أصدره "شهر يجل يهرجب" باسمه وباسم شعب "قتبان"، لقبائل قتبان، في كيفية الاستفادة من الأرضين واستثمارها وقد صدر هذا القانون بعد موافقة الملك عليه في اليوم التاسع، وهو يوم ذو "اجيبو" "ذاجيبو" من شهر "ذي تمنع" من السنة الأولى من سني "عم علي" من "آل رشم" من عشيرة "قفعن"2. ويظهر أن رؤساء القبائل وأعيان المملكة قد عقدوا اجتماعات عديدة، وتداولوا الرأي في استثمار الأرض وقسمتها على القبائل والعشائر والفلاحين، وبعد أن اتفقوا على الأسس رفعوها إلى الملك فأصدره أمره بإقرارها، كما أقرها الكهان، وكانت لمعابدهم أوقاف جسيمة يستغلها الفلاحون، فلا بد أن يكون لهم رأي مهم من صدور أمثال هذه القوانين. وذكرت في نهاية القانون طائفة من الأسماء كتبت بعد جملة "ايد هو" تعني أن هؤلاء الذين سترد أسماؤهم قد قرءوا القانون. وقد شهدوا على صحة

_ 1 Background, P. 56 2 REP. EPIG., VI, I, P. 218, Glaser 2566, Grundriss, S., 33 Glaser, Alt. Jam. Nachr., S., 162

صدوره من الملك فوقعوا بأيديهم عليه. وأنهم موافقون على كل ما جاء فيه. وهم يمثلون بالطبع رؤساء القبائل وأعيان العاصمة والمملكة، وقد ذكرت مع أسمائهم أسماء الأسر والعشائر التي ينتمون إليها. فكانت لهذه الأسماء فائدة عظيمة في دراسة القبائل والأسر التي عاشت قبل الإسلام. وقد وردت في النص كلمة "فقد" وكلمة "بتل"، ويظهر منه أن لهاتين الكلمتين دلالة على معنى مجالس استشارية، أو ما شابه ذلك، كانت تمثل رأي طبقات من الناس، مثل سادات القبائل أو أمثالهم من أصحاب الجاه والسلطان. فقد وردتا في النص بمعنى تقديم رأي إلى الملك للموافقة عليه. وذلك في شهر "ذوبرم" وفي السنة الثانية من سني "اشبن" من عشيرة "حضرن" "حضران" من قبيلة شهر1. وإلى عهد الملك "شهر يجل يهرجب" تعود الكتابة التي دونها "عقريم بن ثويبم" "عقرب ثويب" من "آل مهصنعم" من عشيرة "صويعم" وذلك لمناسبة بنائه محلًّا "خطبس"، وذلك بحق الإله "انبي" وقد تيمن بهذه المناسبة بذكر الآلهة "عثتر" و "عم" و "ورفو" و "ذات صنتم" و "ذات ضهران" وكان في عهد الملك المذكور2. وإلى عهده أيضًا تعود الكتابة التي وسمت بـ "jamme874" وهي كتابة قصيرة ورد فيها أن "شهر يجل يهرجب ملك قتبان" وضع أو قدم3. ولم تذكر الكتابة شيئًا بعد ذلك. وقد عثر على كتابة في "وسطى" ورد فيها اسم "شهل يجل يهرجب بن هوفعم يهنعم"، وقد لقب فيها "مكرب"، مع أنه من الملوك وقد لقب في جميع الكتابات بلقب "ملك". وقد حكم بعد "يدع اب ذبيان بن شهر" الذي ترك لقب "مكرب" واستعمل لقب "ملك" بزمن4. واستعمال كلمة

_ 1 REP. EPIG-, VI, I, P. 212, Glaser, Altj. Nach., S., 162 Conti Rossini, Chrest., P. 90 2 Discoveries, P. 191 3 BOASOOR, NUM. 138, (1955) , P. 46 4 A. F- L. Beeston, Epigraphlc and Archaeoligical Cleanings from South Arabia, Oriens Antlquus, I, 1962, P. 51, Le Museon, 1964, 3-4, P. 434

"مكرب" في هذه الكتابة يلفت النظر، إذ كانت الكتابات قد تركتها منذ زمن "يدع اب" فهل نحن إذن أمام ملك آخر اسمه نفس اسم "شهر يكل" "شهر يجل" واسم والده كاسم والد هذا الملك. وقد كان مكربًا، فيجب علينا إدخاله إذن في جملة المكربين، ونقله من هذا الموضع؟ أو هل نحن أمام خطأ وقع فيه كاتب الكتابة، إذ استعجل فكتب كلمة "مكرب" موضع لفظة "ملك"؟ أو هل نحن أمام مصطلح فقط، يبين لنا أن الحكام وإن كانوا قد تركوا لقب "مكرب"، إلا أن الناس كانوا يطلقونها عليهم فيما بينهم على اعتبار أن لهم مقامًا دينيًّا عندهم، وأنها لا تنافي الملكية، تمامًا على نحو ما يفعل اليمانيون من إطلاقهم لفظة "إمام اليمن" و "ملك اليمن" على حكامهم وذلك لجمعهم بين الصفة الدينية والصفة الملكية في آن واحد؟. لقد تمكنا بفضل الكتابات المتقدمة من الوقوف على أسماء مجموعة من الملوك تنتمي إلى عائلة واحدة أول ملك منها هو "هوفعم يهنعم" غير أننا لا نعرف حتى الآن اسم والده، وكان له شقيق اسمه "فرع كرب" "فرعكرب" نسب نفسه إلى "ذرحان" "ذرحن"، فنحن نستطيع أن نقول أن هذه العائلة كانت من "ذرحان"، وذلك في حالة ما إذا كان "هوفعم" و "فرعكرب" شقيقين تمامًا أي من أب واحد وأم واحدة، وكان لـ "هوفعم" ولد تولى الملك من بعد والده هو "شهر يجل يهرجب"، وقد أنجب "شهر يجل يهرجب" من الولد "وروايل غيلان"، وقد تولى الملك، و "فرع كرب يهوضع" وقد ولي الملك كذلك. وأما "فرع كرب" شقيق "هوفعم يهنعم" فقد كان له من الولد "يدع اب غيلان"، رأى جامه "jamme": أنه "يدع اب غيلان" المذكور في نص "هوفعم بن ثويبم" jamme118 صاحب بيت "يفش"1. ولكننا لو أخذنا برأيه هذا لزم حينئذ وضع اسم "فرع كرب" بعد اسم ابن أخيه "شهر يجل يهرجب" ووضع اسم ابن "فرع كرب" بعده، بينما تدل الدلائل على أن حكم "فرع كرب" كان قبل "هوفعم يهنعم" وأن ابنه "يدع اب غيلان" كان من بعده، ومعنى هذا أنهما حكما قبل "شهر يجل يهرجب".

_ 1 Discoveries p 186 192

وقد جعل نص "118 jamme "فرع كرب" وصيًّا على "شهر يجل" أو حاكمًا ولم يجعله ملكًا. ولذلك أرى أن في رأي "جامه" "jamme" تسرع يجعل من الصعب قبوله على هذا النحو. وكان للملك "شهر يجل يهرجب" ولد تولى الملك من بعده، اسمه: "وروال غيلن يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم"، ويرى "ألبرايت" "أن من المحتمل أن يكون هو "وروايل غيلن" "ورو ايل غيلان" الذي وجد اسمه منقوشًا على نقود ذهب عثر عليها مضروبة في مدينة "حريب"1. وقد وصل إلينا نص يفيد أن الملك "وروال غيلن يهنعم"، أمر وساعد قبيلة "ذو هربت"2 الساكنة في مدينة "شوم" ببناء حصن "يخضر" "يخضور" الواقع أمام سور مدينة "هربت"، وكان قد تداعى فتساقط. وقد نفذت هذه القبيلة ما أمرت به في أيام هذا الملك، وجعلت العمل قربى إلى الآلهة "عم ذو ذ ريمتم" "عم ذو ريمة" و "ذت رحبن" "ذات رحبان" و "الهن بيتن روين" أي و "آلهة بيت روين"3. وبين أيدي العلماء كتابة دونت في عهد الملك "وروايل غيلان يهنعم" "وروايل غيلان يهنعم" صاحبتها امرأة اسمها "برت" "برات" "برة" "برأت" من "بيت رثد ايل" "رثدال" من عشيرة "شحز"، وقد ذكرت فيها أنها قدمت إلى "ذات حميم عثتر يغل"، تقربة هي، تمثال من الذهب يمثل امرأة تقربًا إلى الآلهة، وذلك لحفظها ولحفظ أملاكها، ووفيًا لما في ذمتها تجاه الإله "عم ذربحو"، ويظهر أنها كانت كاهنة "رشوت" "رشوة" لمعبد الإله "عم" الكائن في "ريمت"، وكان ذلك في عهد الملك "وروايل غيلان يهنعم"4. فنحن في هذا النص أمام امرأة كاهنة مما يدل على أن النساء في العربية الجنوبية كن يصلن درجة "كاهنة" في ذلك العهد.

_ 1 BOASOOR, NUM. 119, 1950, P. 12, The Chronology, P. 9 2 REP. EPIG. 4329, VII, II, P. 194, VI, II, P. 259, Le Museon, 1-2, 1951, P. 113 3 REP. EPG. 4329, VII, II, P. 194, VI, II, P. 259, Le Museon, 1-2, 1951, P. 113, SE 96 4 Discoveries, P. 191

وكان للملك "وروال غيلن يهنعم" شقيق اسمه "فرع كرب يهوضع" "فرع عكرب يهوضع"، لا نعرف من أمره شيئًا يستحق الذكر، وقد ورد اسمه في النص المعروف بـ "Glasser 1415" وهو نص سجله رجل عند بنائه بيتًا له، وجعله في حماية آلهة قتبان، وذكر لذلك اسم الملكين: "ورال غيلن يهنعم" واسم شقيقه "فرع كرب يهوضع"، "ابنا شهر"1 ولم يذكر في هذا النص لقب "شهر". وورد اسم ملك آخر من ملوك قتبان في كتابة رقمت برقم ERP. EPIG 3926" وقد دونت هذه الكتابة عند بناء رجل من قتبان اسمه "برم"2 حصنًا له، وإصلاحه أٍرضين زراعية ذات أشجار كثيرة مثمرة فسجل على عادة أهل زمانه أسماء آلهته فيها تيمنًا بذكر اسمها وتقربًا إليها، لتغدق عليه الخير والبركة. كما ذكر اسم الملك الذي تم هذا العمل في أيامه، وهو الملك: "يدع أب ينف يهنعم" "يدع اب ينوف يهنعم"3. ولا نعرف من أمر هذا الملك شيئًا يذكر، لعدم ورود اسمه في نصوص أخرى، وقد وجدت نقود من ذهب ضربت في "حريب" حملت اسم ملك قد ضربها سمي "يدع اب ينف" "يدع اب ينوف"4، فلعله هذه الملك المذكور في هذه الكتابة، ولا نعرف بالطبع وقت حكمه، ولا موضع مكانه بين ملوك قتبان. وورد في كتابة قتبانية عثر عليها في "كحلان" اسم ملك سمي "شهر هلل ابن ذراكرب" "شهر هلال بن ذرأ كرب"، ولم يذكر فيها لقبه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "شهرا" هذا، هو الملك السابق "شهر هلل يهقبض" "شهر هلال يهقبض"، وأن أباه هو "ذرأكرب" لذلك. وقد وضعه "ألبرايت" في خاتمة قائمته لملوك قتبان. وقد افتتحت الكتابة المذكورة بما يأتي: "قانون أصدره وأمر به شهر هلال بن ذرأ كرب ملك قتبان لشعب

_ 1 Glaser 1415, SE 95, REP. EPIG. 3965, VH, I, P. 20 2 "برم"، "بارم"، "بريم". 3 REP. EPIG. 3962, VH, I, P. 17, SE 93 4 BOASOOR, NUM 119, 1950, P. 9, The Chronology, P. 9

قتبان وذي علشن ومعين وذي عثتم أصحاب أٍرض شدو"1. وقد نظم هذا القانون واجبات هذه الشعوب الأربعة في كيفية استغلال الأرض. وعين الأعمال المترتبة عليها، وأنذر المخالفين بفرض العقوبات عليهم. وأشار إلى الموظف الذي خول حق تنفيذ ما جاء فيه. وقد أمر الملك بإعلان أمره ونشره على باب "شدو" "زدو" كما يظهر ذلك من هذه العبارة: "ول يفتح هج ذن ذمحرن بخو خلفن ذ شدو ورخس ذعم خرف اب علي بن شحز قد من"2. أي "وليفتح هذا الأمر، أي يعلن على طريق باب ذ شدو في شهر ذوعم من السنة الأولى من سني أب علي بن شحز أو من قبيلة شحز"، أو من آل شحز. وجاءت بعد هذه الفقرة جملة: "وتعلماي يد شهر" أي وقد علمته، أي وقعته يد شهر، بمعنى وقد وقعه شهر بنفسه، وقد خول الملك "كبر تمنع" أي "كبير مدينة تمنع" العاصمة بتنفيذ ما جاء في هذا الأمر الملكي3. وقد حدد هذا الأمر الوقت الذي يجب فيه على المزارعين تنفيذ التزاماتهم فيه، فذكر أنه من أول شهر "ذو فرعم" "ذو فرع" إلى السادس من "ذي فقهو"، يحب دفع الضرائب يومًا فيومًا وشهرًا فشهرًا، ويرى "رودوكناكس" أن شهر "ذو فرعم" هو الشهر الأول من السنة عند زراع قتبان، وأن شهر "ذو فقهو" هو الشهر الأخير من السنة. وعلى هذا التقويم الذي يستند إلى الزراعة والبذر والحصاد كانت تدفع الضرائب4. ويظهر من ذكر أسماء هذه الشعوب "اشعبن" الأربعة في هذا القانون، أنها كانت تحت حكم هذا الملك، وأن قسمًا من شعب معين بل ربما كل شعب معين كان يخضع له، ويرى "رودوكناكس" أن في هذه الكتابة دلالة على

_ 1 "حلكم سحر وحرج شهر هلل بن ذراكرب ملك قتبن شعب قتبن وذ علشن ومعنم وذ عثتم ابعل صروب عدو شدو...." وذلك في كتاب KTB , II S 5 و "هنكم سهر وهرن شهر هلل بن ذراكرب ملك قتبن شعبن قتبن وذ علشن ومعنم وذ عثتم ابعل ضروب عدو شدو" وذلك في كتاب: Rep. EPIG., VI, II, P. 316 1854 2 الفقرة الأخيرة من النص 3 الفقرة السادسة من النص 4 KTB., I, S., 82, II, S., 19

أن شعب معين كان تابعًا لحكومة قتبان في عهد هذا الملك، كما كان تابعًا لقتبان في أيام الملك "شهر يجل يهرجب"، ولكن ذلك لا يعنى في نظره أن شعب "معين" كان قد فقد استقلاله، ولم يكن عنده ملوك، وعنده أن هذا النص قد أقدم عهدًا من النص المرقم برقم504 Halevy، وهو النص الذي ورد فيه اسم "شهر يجل يهرجب" على أنه كان صاحب سلطان على حكومة معين. فـ "شهر هلل بن ذرأ كرب" في نظر "رودوكناكس" أقدم عهدًا من "شهر يجل يهرجب"، وقد حكم إذن قبله1. وعندي أن هذه الكتابة تدل على أن من المعقول وجوب تقديم هذا الملك ونقله من المكان الذي وضعه فيه "ألبرايت" إلى مكان آخر يقدمه في الزمان. فقد وضعه "ألبرايت" في آخر قائمة ملوك قتبان، وبه ختم حكومة قتبان وأشار إلى نزول الدمار بالعاصمة بعده وبسقوط حكومة قتبان وإن ملكًا يحكم قتبان ومعين أو قسمًا من معين كما يفترض بعض الباحثين، لا يمكن أن يكون آخر ملك لملوك قتبان للسبب المذكور، بل لا بد من تقديمه بعض الشيء، فإن سقوط المملكة دليل على ضعفها وانهيار بنيانها وليس في هذه الكتابة أثر ما يشير إلى هذا الضعف أو الانهيار. وعثر على كتابة تحمل اسم ملك يسمى "شهر هلل يقبض" عثر عليها في بيت عرف بـ "يفعم"، يقع غرب الباب الجنوبي لمدينة "تمنع". ويرى "ألبرايت" أن خط هذه الكتابة خط متأخر كسائر الخطوط المكتوبة على الأبنية وأن المحتمل أن يكون هذا البيت قد بني قبل خراب "تمنع"، بنحو عشر سنين أو عشرين سنة، ولا يزيد عمر هذا البيت في رأيه على هذا الذي قدره بكثير2. ويرى "ألبرايت" احتمال أن "شهر هلل" "شهر هلال" الذي وجد اسمه على سكة من ذهب ضربت في مدينة "حريب"، هو هذا الملك، أي "شهر هلل يهقبض" شهر هلال يهقبض"3. ويرى "فون وزمن" أن حكم الملك "شهر هلل يهقبض" "شهر هلال يهقبض" كان فيما بين السنة "90" والسنة

_ 1 KTB, I, S, 34, II, S, 7 2 BOASOOR, NUM. 119, 1950, P. 13 3 The Chronology, P. 9

"100" بعد الميلاد1. وفي عهده أو فيما بين السنة "100" والسنة "106" وقع خراب "تمنع" عاصمة قتبان2. وقد عثر على حجر مكتوب في موضع "هجر بن حميد"، جاء فيه اسم ملك يدعى "نبط بن شهر هلال"، ومعه اسم ابن له هو "مرثد"، وقد ذهب "ألبرايت" إلى أنه من الملوك الذين حكموا في "حريب" والأرضين المتصلة في المناطق الغربية من "قتبان"، وذلك بعد سقوط مدينة "تمنع" فيما بين سنة "25 ق. م." والسنة الأولى من الميلاد3، فهو على رأيه من الملوك المتأخرين الذين تعود أيام حكمهم إلى أواخر أيام هذه المملكة. والملك المذكور هو "نبط عم يهنعم بن شهر هلل يهقبض"، فهو إذن ابن الملك "شهر هلال يهقبض" الذي يعد آخر الملوك المتأخرين. ويظهر أن: "نبط عم" وابنه "مرثدم" "مرثد" كانا في جملة الملوك الذين انتقلوا إلى "حرب" "حريب" بعد خراب "تمنع" فاتخذوها عاصمة لهم، فهي العاصمة الثانية لقتبان. وقد سكنوا في قصرهم بـ "حريب". ولعل هذا الاسم هو اسم القصر. أما اسم المدينة، فقد كان غير ذلك، تمامًا كما كان قصر ملوك سبأ الذي هو بمدينة "مأرب" يسمى "سلحين" وقصر ملوك حمير الذي هو بمدينة "ظفار" يسمى "ريدان"، ولعل هذا هو السبب الذي جعل ضاربو النقود القتبانية يذكرون أن موضع الضرب هو "حريب"4. غير أن هذا لا يمنع من أن يكون اسم "حريب" اسم للمدينة ولقصر الملوك في آن واحد. ويرى "فون وزمن" أن الكتابة بـ "jamme 629" والتي تتحدث عن حرب اشتركت فيها جملة جهات، هي حرب وقعت في عهد هذا الملك: "نبط عم"، وقد ورد فيها أن حربًا وقعت على مقربة من "وعلان"، وأن أصحاب الكتابة وهم: "مرثدم" "مرثد" و "ذرحان" من "بني ذو جرفم" بني "ذي كرفم" "كراف"، وكان أحدهم قائدًا في جيش "الملك سعد

_ 1 Le Mus6on, 1964, 3-4, P. 465 2 Le Museon, 1964, 3-4, P. 498 3 W. Phillips, P. 221, Le Museon, 1964, 3-4, P. 464, Beeston, Epigraphic, in Oriens Antiqus, I, 1962, P. 47, Albright, In Jour. Amerl. Soc, 73, 1953, 37 4 Le Museon, 1964, 3-4, P. 464

شمس أسرع" و "مرثدم يهحمد" ملكا "جرات" "جرت" "جرأت" "كرأت" قد اشتركتا في هذه الحرب ضد الملك "يدع ايل" ملك حضرموت وجيش حضرموت، وضد الملك "نبطم" "ن ب ط م" ملك قتبان، وضد "وهب ايل بن معاهر" و "ذي خولان" و "ذي خصبح" وضد "مذحيم" "مذحي"، وقد كان النصر لهم، أي لأهل الكتابة1. وقد استدل "فون وزمن" من عدم ورود كلمة: "هجرن" "هكرن"، التي تعني مدينة في العربيات الجنوبية قبل اسم "تمنع"، "عدي خلف تمنع" على أن "تمنع" لم تكن عاصمة في هذا الوقت، بل كانت موضعًا صغيرًا أو اسم أرض حسب2. ولا يستبعد أن تكون هذه الحرب قد وقعت في أواخر أيام "نبط عم". ويرى "فون وزمن" أن "نبط عم" وإن كان قد لقب في الكتابة بلقب "ملك" إلا أنه كان في الواقع خاضعًا لحكم حكومة حضرموت3. وقد جعل "فون وزمن" زمان حكمه في حوالي السنة "120 م" وجعل نهاية حكم ابنه في حوالي السنة "140" بعد الميلاد. ومعنى ذلك أن الحرب المذكورة قد وقعت في خلال هذه السنين4. وبعد انتهاء هذه الحرب اجتمع صاحبا الكتابة وهما من "بني ذي كرفم" "بن ذ جرفم" وكانا يقيمان في "صنعو" أي صنعاء, وكذلك ملكا "جرات" "كرأت" و"سعد شمس" و "مرثدم" وجماعة من سادات القبائل في موضع "رحبت" "الرحابة"، شمال "صنعاء" في وسط أرض "سمعي"، وكان في جملة من حضر، سادة "ثلث سمعي" و "شرحثت" من قبيلة "بتع" و "الرم" "ايل رام" "الريام" "ريام" من "سخيمم" "سخيم" "ويرم" "يارم ايمن" من همدان. ويظهر من ذلك أن سادة "كرأت"، كانوا أصحاب نفوذ في تلك الأيام5.

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P. 463 2 Le Museon, 1.964, 3-4, P. 464 3 Le Mus&on, 1964, 3-4, P. 464 4 Le MusSon, 1964, 3-4, P. 498 5 Le MusSon, 1964, P. 465

يتفق جميع الباحثين في دراسة تأريخ الحكومات العربية الجنوبية على أن السبئيين هم الذين قضوا على استقلال حكومة قتبان، ولا نجد أحدًا منهم يخالف هذا الرأي، ولكنهم يختلفون في تعيين الزمن وتثبيته. فبينما نرى "فلبي"، يجعل ذلك في حوالي سنة "540 ق. م."1 يرى "ألبرايت" يجعل سقوط مدينة "تمنع" في حوالي سنة "50 ق. م."2، بينما يرى غيره أن خراب "تمنع" كان فيما بين السنة "100" والسنة "106" بعد الميلاد3. ولا يعني سقوط "تمنع" وخرابها وفقدان القتبانيين لاستقلالهم، أن الشعب القتباني قد زال من الوجود، وأن اسمه قد اندثر تمامًا واختفى، فإننا نرى أن الجغرافي الشهير "بطلميوس" يذكر اسمهم في جملة من ذكرهم من شعوب تقطن في جزيرة العرب. وقد سماهم "Kottabani" و 4Kattabanoi. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن خراب "تمنع" كان بعد السنة العاشرة للميلاد، وربما كان ذلك في أيام "جوليو- كلوديان" "julio- Caudian"، أو في أيام "فلافيان" 5Flavian. وقد استدل "ألبرايت" من طبقة الرماد التخينة التي عثر عليها وهي تغطي أرض العاصمة "تمنع"، على أنها كانت قد أصيبت بحريق هائل ربما أتى على كل المدينة، وقد أتى هذا الحريق على استقلال المملكة6. ولا نعلم علمًا أكيدًا في الوقت الحاضر بالأسباب التي أدت إلى حدوث ذلك الحريق، ولكن لا أستبعد احتمال حرق السبئيين لها عند محاربتهم للقتبانيين، فقد كان من عادتهم ومن عادة غيرهم أيضًا حرق المدن والقرى إذا مانعت من التسليم وبقيت تقاوم المهاجمين. وفي كتابات المسند أخبار كثيرة عن حرق مدن وقرى حرقًا كاملًا إلى حد الإفناء.

_ 1 Background, P., 144 2 The Chronology, P. 0 3 Le Museon, 1964, 3-4, P. 463 4 Paulys — Wlssowa, 20 ter Halbband, S,, 2359 5 BOASOOR, MJM. 160, (I960) , P. 15 6 BOASOOR, NUM. 119, (1950) , P. 9

قبائل وأسر قتبانية

قبائل وأسر قتبانية: وردت في ثنايا الكتابات القتبانية أسماء أسر وقبائل قتبانية عديدة، طمست أسماء أكثرها ولم يبق منها حيًّا إلى زمن ظهور الإسلام غير عدد قليل، هذه الأسماء تفيدنا ولا شك، في دراسة أسماء القبائل العربية فائدة كبيرة. والقبيلة هي "الشعب" في لهجة أهل قتبان، والجمع "اشعب" "أشعب"، أي قبائل. ومن هذه الأسماء "جدنم"، أي "جدن" "بنو جدن"1 و"جدن" من الأسماء المعروفة قبل الإسلام أيضًا. وهو اسم جد واسم موضع. فزعم أن "ذا جدن" الأكبر ملك من ملوك حمير، وهو أحد المثامنة من ولده ذو جدان الأصغر2. وقد يكون لما ذكره أهل الأخبار عن "ذي جدن" علاقة بـ "جدن" المذكورين في الكتابات القتبانية وفي الكتابات العربية الجنوبية الأخرى. وكان موضع "حبب" "حباب" من أمكنة "جدنم" "جدن"، وقد ذكر في عدد من الكتابات. ويقال له اليوم "وادي حباب" وفيه مواطن عديدة، منها: "حزم الدماج" و "خربة المسادر" وقد ورد اسم "ذحب" "ذو حباب" في كتابة كتبت عند إنشاء سد لخزن المياه. ويقع "وادي حباب" في غرب "صرواح"3. وفي جملة القبائل أو الأسر التي ورد اسمها في الكتابات القتبانية اسم "يهر" ويظهر أن "آل يهر" كانوا من أصحاب السلطان والصيت في ذلك العهد. وقد ذكروا مع أسر أخرى، ووردت في الموارد الإسلامية إشارات إلى "ذي يهر" فذكر "الهمداني" أنه كان في محفد "بيت حنبص" آثار عظيمة من القصور، وكان قد بقي منها قصر عظيم كان أبو نصر وآباؤه يتوارثونه من زمان جدهم ذي يهر. وكان بنجارته وأبوابه من عهد ذي يهر. ولم يزل عامرًا حتى سنة خمس وتسعين ومائتين حيث أحرقه "براء بن الملاحق القرمطي"4. وذكر

_ 1 REP. EPIG 850 1.VI I P 224 2 منتجات "ص 18" الإكليل "8/ 76"، "نبيه" شعراء النصرانية "ص 217" تاج العروس" 9/160". 3 Beitrage S. 322.Glaser 928 4 الإكليل "8/ 51" فما بعدها "نبيه" "8/ 64" "الكرملي" "ونزله ابن أبي الملاحف القرمطي، قائد علي بن الفضل، وسلط عليه النار"، الإكليل "1/ 12".

"نشوان بن سعيد الحميري" أن "ذا يهر" كان ملكًا من ملوك حمير، وأن "أسعد تبع" قال فيه شعرًا1، وغير ذلك مما يدل علي أن ذاكرة أهل الأخبار لم تكن تعي شيئًا من أمر تلك القبيلة التي تمتد تأريخها إلى ما قبل الميلاد. ويتبين من بعض الكتابات أن ناسًا من "يهر" كانوا أتباعًا لقبيلة همدان2. وأما "كحد" فهي من القبائل التي ورد اسمها مرارًا في الكتابات القتبانية، وقد نسبت إلى جملة أمكنة، مما يدل على أنها كانت تنزل في مواضع متعددة، فورد "كحد ذ دتنت"، أي "كحد" النازلة في أرض "ذي دتنت"، وورد "كحد ذ حضنم"، أي "كحد" صاحبة "حضنم" "حضن"، وورد "كحد ذ سوطم" أي "كحد" النازلة في موضع "ذي سوط"، وهكذا وفي انتشار هذه القبيلة في أرضين متعددة دلالة على أنها كانت من قبائل قتبان الكبيرة، وفي نص في النصين المعروفين بـ: "Glaser 1600" و "Glaser 1620" على أنها كانت "شعبن"، أي قبيلة. ويظهر أنها كانت تتمتع بشبه استقلال. فقد ذكرت باسمها مع "أوسان" و "تبني" و "دهس" و"قتبان" في بعض النصوص، متعاونة مع "قتبان" في القيام ببعض الأعمال العامة ذات المنافع المشتركة, مما يدل على أنها هي والقبائل الأخرى المذكورة، كانت تعامل معاملة خاصة، وأنها كانت تتمتع بشيء من الاستقلال، وربما كانت مستقلة ولكنها كانت في حلف مع مملكة قتبان3. وقد تحدثت عن كتابة رقمت برقم "Glaser 1601"، وقلت: إنها أمر أصدره الملك "شهر غيلن بن اب شبم" "شهر غيلان بن أبشبم"، في كيفية جباية الضرائب من "كحد" النازلة في أرض "دتنت"، وأن الملك المذكور كان قد وكل أمر جبايتها إلى "كبر" "كبير القبيلة"، ويظهر منها أن "كحدًا" هذه كانت تدفع الضرائب لقتبان، وكانت معترفة في هذ الوقت بسيادة ملك قتبان عليها.

_ 1 منتخبات "ص 118 فما بعدها"، "وذو يهر محركة وقد يسكن، واقتصر الصاغاني على التحريك ملك من ملوك حمير من الإذواء" تاج العروس "3/ 632" القاموس "3/ 164". 2 نشر "ص 70". Cih, IV, I, IV,P. 370 3 Glaser 1600, REP. EPIG, 4328

ومن القبائل التي ورد اسمها في الكتابات القتبانية قبيلة "اهربن" وقد نعتت بـ "شعبن اهربن"، أي قبيلة "اهربن" "أهرب"، وكانت مواضعها في "ظفر"1. وقد ورد في إحدى الكتابات أنها جددت وأصلحت بناء "محندن حضرن"، أي "محفد حضر" مما يدل على أنه كان من المحافد التي تقع في منازل هذه القبيلة2. و"ذران" "ذرأن" من القبائل التي ورد اسمها مرارًا في الكتابات القتبانية، وقد رأينا أن بعض الكتابات أرخت بتأريخ هذه القبيلة3. وورد اسمها في كتابات عثر عليها بمدينة "تمنع" العاصمة4. ومن هذه القبيلة أسرة عرفت بـ "هران" "هرن" ذكرت مع أسر أخرى، كانت قد شهدت على صحة محضر قانون في تنظيم الضرائب وكيفية جبايتها، أصدره الملك "شهر يجل يهرجب"5. وورد اسم قبيلة أو عشيرة "طدام" "طدأم" في جملة كتابات قتبانية، ويرى بعض الباحثين أن اسم هذه القبيلة هو من الأسماء الخاصة بقتبان6. ومن بقية قبائل قتبان: قبيلة "هورن" "هوران"7، وقبيلة "قلب" "قليب" وقد ذكر "ابن دريد" في كتابه "الاشتقاق" قبيلة تدعى "بني القليب"8، ويذكرنا هذا الاسم باسم هذه القبيلة القديم9, و "ردمن" "ردمان" و"الملك" و"مذحيم" و"هيبر" 10 و"يجر" وهم أسرة أو قبيلة أرخت بعض الأوامر والقوانين بتأريخهم11. و"رشم" "آل رشم"

_ 1 ربما تنطق على هذا الشكل "ظفار" و "ظفر" هذه من مواطن هذه القبيلة، وليست مدينة "ظفار". 2 Le Mus6on, LXIV, 1-2, 1951, P. 126 3 SE 80 a 4 Le Musgon, 1-2, 1953, P. m, REP. EPIG. 2646, 3017 bis 2 5 REP. EPIG. VI, I, P. 218, Glaser 2566, Altj. Nachr., S., 162, Grundriss, S., 33 6 Orlentalia, Vol., I, 1932, P. 26, REP. EPIG., VII, I, P. 80 7 REP. EPIG. 3550, VI, I, P. 197. SE 90 8 الاشتقاق "ص126". 9 REP. EPIG., I, 5, P. 261 10 KTR, I, S. 8 11 Glaser 1413 = 1613, SE 82, REP. EPIG VI, H, P. 275

"رشام"، وهم من "آل قفعن" "آل قفعان"، ومنهم "عم علي" الذي أرخت به بعض الكتابات، ومن "شحز" "سمكر". ومن أسماء القبائل القتبانية الواردة في الكتابات: "دهسم" "دهس"1، و "يجر"، و"حضرم"، و"تبني"، و"ذرحن" "ذرحان" و"بوسن" "بوسان"، و"معدن" "معدان"، و"اجلن" "أكلن" "اجلان" "اكلان"، و "شبعن" "شبعان", و"فقدن" "فقدان" و "ذمرن" "ذمران"، و "اجرم" "أجرم"، و "ليسن" "ليسان"2، و"يسقه ملك" و "عرقن" "بنو عرقان" "بن عرقن" و"برصم" "بنو برصوم" "بنو برصم"3، و"قشم" "بن قشم" "بنو قشم"4 و "بينم" "بنو البين" و "يرفأ" "يرفا"، و"غريم" "غرب" "غارب"، وهم من نشئان"، و"محضرم" "محضر" و "عبم رشوان" "عبم رشون" و "مرجزم" و"خلبان" "خلبن" و"هران" من "ذرأن"، وقبائل عديدة أخرى. ويرى بعض الباحثين أن "الملك" "المالك"، الذين كانوا في عهد الملك "يدع أب ذبيان" والذين ذكروا مع "ردمان" و "مذحي" "مذحيم" و "يحر"، هم قبيلة من القبائل الكبيرة التي كانت في قبتان في ذلك العهد، ويرون أن لهم صلة بـ "العماليق" المذكورين في التوراة. وقد كانوا يسكنون في "وسر"، وهي أرض "العوالق" العالية في هذا اليوم. ونظرًا إلى ما لكلمة "عوالق" و "المالك" من صلة، ذهبوا إلى أن العوالق هم "المالك" "الملك" المذكورون5. ويرى "فون وزمن" احتمال أن "الملك" "المالك" من القبائل التي كانت تنزل فيما بين "ردمن" "ردمان" و"مفحيم "مفحي"، وقد عدل

_ 1 REP. EPIG. 2549, VI, I, P. 202 2 REP. EPIG. 3560, VI, I, P. 212 3 Le Museon, LXH, 1-2, 1949, P. 60, Ryckmans, 366 4 REP. EPIG. 3856, VI, II, P. 319 5 Beltrage, S., 59

بذلك رأيه السابق الذي كان قد جعل منازل تلك القبيلة في أرض "أوسان"1. كما ذهب إلى أن منازل "يحر" لم تكن في أرض "مراد"؛ لأن "مرادًا" هي "حرمتم". وذهب إلى أن "يحر" هذه، تختلف عن "يحر" القبيلة المذكورة في النص: "2ERP. EPIG. 4336". وأما "شيار" "سيار"، الذين ذكروا في نص الملك "يدع اب ذبيان" بعد "وعلان" فإنهم "سيار" في الوقت الحاضر على بعض الآراء. وهم عشيرة صغيرة منعزلة تعيش في أرض "العوذلة" "العوذلي"، ويرى بعض الباحثين أن موضع "حصى"، هو مكان "شيار"3. وفي "حصى"، خرائب وآثار. وقد ذكر "الهمداني" أنه كان لـ"شمر تاران" وفيه قبره، وذكر في كتابه "الإكليل"، أن في "حصى" قصر لـ"شمر تاران لهيعة" من "رعين" وفيه قبره4 وذكر من زار الموضع من السياح المستشرقين، أنه رأى هناك آثار خرائب واسعة ذات حجارة ضخمة وكتابات كثيرة وتماثيل بحجم الإنسان5. ولا يستبعد أن يكون هذا الموضع مدينة مهمة كبيرة من مدن تلك الأيام.

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P. 434 2 Le Museon, 1964, 3-4, P. 434 3 Beltrage, S., 60 4 Beltrage, S., 62 5 Beltrage, S., 62

مدن قتبان

مدن قتبان: أهم مدن قتبان، هي العاصمة "تمنع"1. وتعرف حديثًا بـ "كحلان" وبـ "هجر كحلان" في "وادي بيحان"2 في منقطة عرفت قديمًا بخصبها وبكثرة مياهها وبساتينها، ولا تزال آثار نظم الري القديمة تشاهد في هذه المنطقة

_ 1 "تمنع" وقد حرف بعض المترجمين للكتب الأعجمية اسم هذه المدينة المدون في المسند, وهو "تمنع" فصيره "تمنه" "تمنة". 2 حرف بعض المترجمين للكتب الغربية هذا الاسم فصيروه "وادي بيهان" وهو خطأ.

الجاب الجنوبية لمدينة "تمنع" وقد كانت هذه الآثار. مطمورة تحت الرمال ويعود تأريخها إلى القرن السادس قبل الميلاد. من كتاب Qataban and Sheba الصفحة "118". حتى اليوم1. و"تمنع" هي "2Tamna" أو "3Thomna" و "Thumna" عند "الكلاسيكيين"4. وقد اختلف علماء العربيات الجنوبية المتقدمون في تعيين مكان هذه العاصمة التي بلغت شهرتها اليونان والرومان5، ثم تبين أخيرًا أنها الخرائب التي تسمى اليوم بـ "كحلان" وبـ "هجر كحلان"، وقد أثبتت هذا الرأي

_ 1 Background, P. 63, Ency., Vol., 2, P. 811, Rhodokanakis, Die Inschriften an der Mauer von Kohlan, Tlmm', in BAK, Wien, 1924, CC/n, 8 2 Ency., 2, P. 811, Glaser, Abess., S., 112 3 Pliny, 2, P. 453, (H. Rackham) , Loeb, Classical library,BIC, 6, 153-154 4 Ency., 2, P. 811, (Thomala) , Sprenger, Georg., S., 160, Ptolemy, VI, 7, 37. 5 Glaser, ZDMG, XHV, 184, Sklzze, 2, 18, Abessi., S., 112, 115, Hommel, Gxundriss., S., 137, Ency., 2, B 811

وأيدته الحفريات التي قامت بها البعثة الأمريكية التي كونها "ويندل فيلبس"، إذ عثرت على كتابات عديدة وعلى آثار أثبتت أن "كحلان" اليوم، هي "تمنع" أمس، سوى أن "تمنع" اليوم هي خراب وأتربة تؤلف حجابًا كثيفًا يغطي الماضي الجميل البعيد، أما "تمنع" أمس، فكانت مدينة عامرة ذات ذهب وتراث ومعابد عديدة، ووجوه ضاحكة مستبشرة. هذا هو وجه "تمنع" في هذا اليوم ووجهها في الماضي وفرق كبير بين هذين الوجهين. ويرى "أوليري" أن مدينة "ثومة" "Thouma" المذكورة في جغرافية "بطلميوس" هي مدينة "تمنع"1 وقد ذكر "بلينيوس" أن "Thomna" تبعد "4.436" ميلًا من "غزة"، وتقطع هذه المسافة بخمس وستين يومًا تقريبًا على الإبل، وأنها هي ومدينة "Nagia" هما من أكبر المدن في العربية الجنوبية، وبها خمسة وستون معبدًا2. وقد اختارت البعثة الأمريكية البقعة الجنوبية من مدينة "تمنع" الكائنة على مقربة من بابها الجنوبي لتكون الموضع الذي تسرق منه أخبار الماضين، وتنبش فيه الأرض لتسألها عن أخبار الملوك ومن كان يسكن هذه المدينة من أناس. وسبب اختيارها هذه البقعة وتفضيلها على غيرها من خربة هذه المدينة التي تقدر مساحتها بستين فدانًا، أنها تكشف عن نفسها بين الحين والحين بتقديم إشارات تظهرها من خلال الرمار المتراكمة عليها، لتنبئ أن في بطون تلال الرمال كنوزًا تبحث عن عشاق لتقدم نفسها إليهم، وعن هواة البحث عن الماضي لثبت لهم هوى أهل "قتبان"، وأخبار عاصمتهم الحبيبة ذات المعابد الجميلة العديدة التي ذهبت مع أهلها الذاهبين، كما اختارات بقعة أخرى لا تبعد عن ركام "تمنع" غير ميل ونصف ميل لتكون مكانًا آخر تحفر فيه لتستخرج منه حديثًا عن الماضي البعيد، وسبب اختيارها لهذا المكان أنه كان مقبرة أهل "تمنع" والمقابر من المحجات التي يركض خلفها المنقبون؛ لأنهم يجدون فيها أشياء

_ 1 O'leary, p. 97, Ptolemy 6. 7, 37 2.O'leary p. 97 2.pilny 6. 32

كثيرة تتحدث عن أصحابها الثاوين فيها منذ مئات السنين1. وكان موضع "هجر بن حميد"2، وهو على تسعة أميال، من جنوب آثار مدينة "تمنع"، مكانًا آخر من الأمكنة التي اختارتها البعثة للحفر فيها. وهو عبارة عن تل بيضوي الشكل يرتفع زهاء سبعين قدمًا، يظهر أنه كان قرية مهة في ذلك العهد، طمرها التراب فصارت هذا التل العابس الكثيب. وقد سبق أن عثر في هذا الموقع على آثار، منها لوح من البرنز صغير. عليه رسوم وكتابات، عثر عليه أحد الأعراب هناك، ولهذا تشجع رجال هذه البعثة الأمريكية على الحفر في هذا الموضع3. وكان من نتائج أعمال الحفر عند الباب الجنوبي لمدينة "تمنع" أن عثر على آثار ذلك الباب الذي كان يدخل منه الناس إلى المدينة ويخرجون منه من هذه الجهة، كما عثر على أشياء ثمينة ذات قيمة في نظر علماء الآثار، إذ عثر على قدور كبيرة وعلى خرز وكتابات وأقراص صنعت من البرنز والحديد، وعثر على شيء أخر قد لا يلفت نظر أحد من الناس إليه، وقد يجلب السخرية على من يذكره ويتحدث عنه لتفاهته وحقارته في نظر من لا يهتم بالآثار وبالنبش في الخرائب، ذلك الشيء التافه الحقير هو طبقات من رماد وبقايا خشب محروق ومعادن منصهرة وقطع من حجارة منقوشة وغير منقوشة، وقد لبست ثوبًا من السخام كأنها لبسته حدادًا على تلك المدينة التي كانت جميلة فاتنة في يوم من الأيام. أما ذلك الرماد. فإنه صار في نظر رجال البعثة علامة على أن المدينة

_ 1 اعتمدت على النسخة المعربة لكتاب: "وندل فيلبس" المسماة "كنوز مدينة بلقيس: قصة اكتشاف مدينة سبأ الأثرية في اليمن" ترجمة عمر الديراوي، ونشر دار العلم للملايين بيروت 1961م، وهي نسخة قد حرفت فيها الأعلام العربية تحريفًا معيبًا مثل "تمنع" وبيحان وقتبان وشبوة وصبلقة ويفش وحريضة وحريب وغيرها فحرفت إلى تمنه وبيهان وقطبان وشابوا وما بلاقا ويافاش وحريدة وحارب وهكذا وقد كان في إمكان المترجم مراجعة الكتب العربية أو الأشخاص لضبطها، وما كنت لأشير إلى هذه الأغلاط، لولا خشيتي من وقوع من لا علم له بهذه الأمور فيها باعتماده على النقل. 2 "هجر"، ومعناها "مدينة": في اللهجات العربية الجنوبية وفي اللغة الأثيوبية وتلفظ "هكر" على الطريقة المصرية الآن في النطق بحرف الجيم، ولكن الشائع بين الناس "حجر بن حميد"، وهو خطأ شائع. The chronology, P. 5 Wendell Phillips, Qataban and Sheba, London, 1955, PP. 58, 64, 119, 166 3 كنوز مدينة بلقيس "ص57"، The Chronology, P. 5

المذكورة المسكينة كانت قد تعرضت لحريق هائل أحرق المدينة وأتى عليها، ولعل ذلك كان بفعل عدو مغير أراد بها سوءًا، فقاومته وعضته ولكنه تمكن وتغلب عليها، فعاقبها بهذا العقاب الجائر المؤلم. وفي جملة ما عثر عليه من كتابات، كتابة ورد فيها اسم الملك "شهر يجل يهرجب" "شهر يكل يهركب"1 وكتابات أخرى ورد فيها أسماء حكام آخرين2. كما عثر على عمودين كتب على كل واحد منهما كتابة تبلغ زهاء خمسة وعشرين سطرًا، وعلى كتابات على جدار بيت "يفش"3 وهو بيت معروف وقد حصل السياح على كتابات ورد فيها اسم هذا البيت، وعلى كتابة عثر عليها على بيت "ينعم"4. وقد ورد فيها اسم الملك "شهر هلل يهقبض" وهو من البيوت المعروفة في هذه العاصمة، ويرى أن عمره لا يتجاوز عشرين سنة عن خرابها5. وقد ساعد عثور البعثة الأمريكية على غرف بيوت سليمة أو شبه سليمة رجال البعثة على تكوين رأي في البيوت القتبانية، فقد وجدت في البيت الذي سمي ببيت "يفش"، ثلاث غرف ممتدة على الجهة الشرقية للبيت، وقد وجدت في إحدى الغرف مرايا صنعت من البرنز وصناديق محفورة منقوشة للبيت، وقد وجدت في إحدى الغرف مرايا صنعت من البرنز وصناديق محفورة منقوشة وعليها صور ورسوم، لها قيمة تأريخية ثمينة من ناحية دراسة الفن العربي القديم6، وسوف تقدم الحفريات في المستقبل صورًا واضحة ولا شك للبيوت العربية الجنوبية وتنظيم القرى والمدن فيها، وعندئذ يكون في استطاعتنا تكوين رأي واضح في الحضارة العربية في العربية الجنوبية قبل الإسلام. وقد وجد أن الباب الجنوبي لمدينة "تمنع" كان ذا برجين كبيرين، بنيا

_ 1 يكتب بحرف الجيم ويلفظ على الطريقة المصرية في النطق بهذا الحرف، وقد صير "شاهر يا ثميل يوحرغب" و "شاهر يا فيل يوحار قيب" في كتاب: "كنوز مدينة بلقيس"، "ص 105، 113 وما بعدها". The Chronology p. 9. 2 كنوز "ص 105 وما بعدها". 3 صير "يفش" "يافاش" في كنوز "ص 108 ومواضع أخرى". 4 صير "يا فعام" و "يا فعام" في كنوز "ص 108- 117". 5 The Chronology p. 9 Nota 23. 6 كنوز "ص 191".

بحجارة غير مشذبة، حجم بعضها ثماني أقدام في قدمين، وقد كانا ملجأين للمحاربين، يلجئون إليهما والى الأبراج الأخرى للدفاع عن المدينة عند مهاجمة العدو. وقد وجدت نقوش كثيرة على الحجارة الكبيرة التي شيد منها البرجان، ويظهر أن زخارف من الخشب كانت تبرز فوق الباب لإعطائه جمالًا ورونقًا وبهاًء، كما يتبين ذلك من آثار الخشب التي ظهرت للعيان بعد رفع التراب والرمال عن الباب. وقد تبين أن مدخل الباب الجنوبي يؤدي إلى ساحة واسعة مبلطة ببلاط ناعم وضعت على أطرافها مقاعد مبنية من الحجر، لجلوس الناس عليها، ومثل هذه الساحات هي محال تلاقي الناس ومواضع اجتماعهم وتعاملهم، كما هو الحال في أكثر مدن ذلك اليوم. وفي جملة الأشياء الثمينة التي عثر عليها في "تمنع" تمثالًا أسدين صنعا من البرنز، أثرت فيهما طبيعة الأرض فحولت لونهما إلى لون أخضر داكن، وقد ركب أحدهما راكب يظهر وكأنه طفل سمين على هيأة "كيوبيد"1 ابن "فينوس" إله الحب، يحمل بإحدى يديه سهمًا وباليد الأخرى سلسلة قد انفصمت، تنتهي بطوق يطوق عنق الأسد، يشعر أنه كان متصلًا بالسلسلة التي قطعها الزمان باعتدائه عليها، وأما الأسد الآخر فقد فقد راكبه وبقي من غير فارس، إلا أن موضع ركوبه بقي على ما كان عليه ليقدم دليلًا على أن شخصًا كان فوق ذلك الأسد، وقد وجد أن التمثالين كانا على قاعدتين، مكتوبتين، ورد فيها اسم "ثوبم"، "ثوبيم"2 وقد ورد هذا الاسم نفسه في كتابة وجدت على جدار بيت "يفش" كتبت في أيام الملك "شهر يجل يهرجب" وقد استدل "ألبرايت" من طريقة صنع التمثالين ومن طرازهما أنهما تقليد ومحاكاة لتماثيل "هيلينية" ولا يمكن لذلك أن يرتقي تأريخ صنعهما إلى أكثر من "150" سنة قبل الميلاد، وذلك؛ لأن اليونان لم يكونوا قد صنعوا

_ 1 "كيوبيدو" "كيوبيد"، وهو ابن "فينوس" في الأساطير اليونانية الرومانية، ويرمز إلى الحب. 2 لقد صير المعمار "ثوبم" على هذه الصورة: "فاوايابام" في كنوز مدينة "بلقيس" "ص 117" فسبحان المغير.

هذا النوع من التماثيل قبل هذا التأريخ1. وقد أعلن "ثويبم بن يشرحعم" و "صبحم" و "هوفعم"، وكلهم من "آل مهصنعم"، أنهم ابتاعوا البيت المسمى بـ "بيت يفش" ورمموه وأصلحوه، وعمروا سقفه وممراته ومماشيه، بمشيئة "انبي" وباركوه بالآلهة "عثتر" "و "عم" و"انبي" و "ورفو ذلفان" "ورفو ذلفن" و"ذات صنتم" و"ذات ضهران"، وقد تم ذلك في عهد الملك "شهر يجل يهرجب" وقد دون "ثويبم" اسمه على قاعدة تمثال الأسد المصنوع من البرنز، وسجل معه اسم "عقربم" "عقرب"، ويظهر أنهما أمرا بصنع التمثالين، أو أنهما صنعاهما ليكونا زينتين في هذا البيت2. ويرى الخبراء في موضع تطور الخط، والمتخصصين في دراسات المصنوعات المعدنية، أن هذين الثمثالين لا يمكن أن يكونا قد صنعا قبل الميلاد، وأن عهد صنعهما يجب أن يكون في القرن الأول للميلاد، في حوالي السنة "75" أو المائة بعد الميلاد، وذلك لعثور العلماء على عدد من التماثيل المشابهة، وهي من القرن الأول للميلاد. ويرون لذلك أن الملك "شهر يجل" الذي في أيامه صنع هذان التمثالان يجب أن يكون من رجال النصف الثاني من القرن الأول للميلاد3. وقد توصل رجال البعثة الأمريكية إلى أن مدينة "تمنع" كانت قد جددت مرارًا، ذلك أنهم كانوا كلما تعمقوا في الحفر وجدوا طبقات تشير إلى قيام بيت على بيت آخر. وأن البيوت المبنية في الطبقات السفلى هي بيوت مبنية من "اللبن"، أي الطين المجفف بالشمس، وذلك يدل على أن الناس أقاموها بيوتًا ساذجة بسيطة، فلما تقدم الزمن ونزح الناس إليها، ازداد عمرانها، واتخذ من نزحوا إليها الحجر والصخور المقطوعة مادة للبناء، فظهرت البيوت العامرة, ظهرت فوق البيوت القديمة على عادة الناس في ذلك العهد في بناء البيوت الجديدة فوق البيوت القديمة وعلى أنقاضها، ومن هنا صار في إمكان عالم الآثار تقدير

_ 1 كنور "ص 113". W. Phillips, Qataban and Sheba, P. 100, Bowen — Albright, Discoveries in South Arabia, P. 155, B. Segall, 179, J. Terbach, 183, Die Araber, I, P. 27. 2 W. Phillips,'P. 99, 102 3 J. Pirenne, Le Royaume Sud — Arabe, PP. 45, 48, 198

عمر الطبقات والاستدلال بواسطته على العهود التأريخية التي مرت على المدينة. وقد تبين من فحص المقبرة: مقبرة أهل "تمنع" أن حرمتها كانت قد انتهكت في الماضي وفي الحاضر. وأن سراق القبور الطامعين في الذهب وفي الأحجار الكريمة وفي الكنوز كانوا قد نبشوا القبور وهتكوا أسرارها لاستخراج ما فيها، وقد تعرضت بذلك للتلف وتعرض ما فيها مما لم يؤخذ لعدم وجود فائدة مادية فيه بالقياس إليهم للكسر والتلف والأذى، كما تبين أن سراق القبور المعاصرين ما زالوا على سنة أسلافهم يراجعون هذه القبور وغيرها غير عابئين بحرمتها؛ لأنهم يطمعون في كنوز، سمعوا عنها أنها تغني، وأنها تجعل من المعدم ثريًّا، وقد زاد في جشعهم إقبال الغربيين على شراء ما يسرقونه، وإن كان حجرًا، بثمن مهما كان زهيدًا تافهًا في نظري ونظرك إلا أنه شيء كثير في نظر الأعراب الذين لا يملكون شيئًا، فالفلس على تفاهته ذو قيمة وأهيمة عند من لا يملكه. وقبور هذه المقبرة مع تعرضها للنبش والاعتداء لا يزال كثير منها محتفظًا بكنوز ثمينة ذات أهمية كبيرة عند رجال الآثار وعشاق البحث، عن الماضي، ونتيجة لبحث فريق من البعثة الأمريكية في بعض القبور على التل وفي سفوحه وفي الأرض المحيطة به، وجدت أشياء ذات قيمة، وتمكنت من تكوين رأي عن هيئة القبور وهندستها عند القتبانيين، لقد تبين لهم أن قبورهم كانت مزخرفة متينة البناء، وأن المقبرة عندهم كناية عن دهليز طويل صفت على جانبيه القبور. والقبور عبارة عن غرفتين إلى أربع غرف لها أبواب تؤدي إلى الدهاليز1 أرى أنها بهذا الوصف قبور أسر، فمتى مات شخص من الأسرة فتح باب المقبرة وأدخل الميت إلى الدهليز الذي هو الممر، ليوضع في الغرفة التي تختار له ليثوي فيها. وقد وجدت في غرف الأموات عظام بشرية مهشمة، ووجدت في الممرات جرار وخزف وأشياء أخرى، ولكنها وجدت مكسورة ومحطمة في الغالب، ولم يعثر على هيكل بشري واحد موضوع بصورة تشعر أن عظامه كانت كلها سليمة وهذا مما يجعل البعثة ترى أن للقتبانيين عادات دينية في دفن موتاهم،

_ 1 كنوز "ص 127 وما بعدها".

من ذلك أنهم كانوا يكسرون ما يأتون به من أشياء يضعونها مع الميت، عند وضعها في القبر، وأنهم كانوا يضعون ما يرون ضرورة وضعه مع الميت في الممرات التي تقع على جانبها غرف الأموات. أما الغرف، فقد كانت مستودعات تحفظ فيها العظام، ولذلك تكدست تكدسًا. وهي عادة عرفت عند أمم أخرى في مختلف أنحاء العالم1. وفي جملة ما عثر عليه من أشياء ذات قيمة كبيرة من الوجهة الفنية، رأس لفتاة منحوت من رخام أبيض معرق، وقد تدلى شعرها على شكل خصلات مجعدة على الطريقة المصرية وراء رأسها، وكانت أذناها مثقوبتين ليوضع حلق الزينة فيهما، ووجد أن جيدها محلى بعقد. وكانت عيناها من حجر اللازورد الأزرق على الطريقة المصرية، وقد نحت التمثال باتقان وبذوق يلدلان على مهارة وفن، كما عثر على بقايا ملابس وأخشاب متآكلة وعلى حلي بعضه من ذهب، ومن جملته عقد من ذهب، يتألف من هلال فتحته إلى الأعلى، أما حاشيته فإنها مخرمة، وقد زين الهلال باسم صاحبته2. ومن مدن قتبان مدينة "شور" "شوم"، وقد كان أهلها من قبيلة "ذهربت" "ذو هربة" وقد ذكرت في نص سبق أن تحدثت عنه، وذلك لمناسبة بنائها حصنًا أمام سور المدينة، إذ كان الحصن القديم قد تهدم في عهد الملك "وروال غيلان يهنعم"3. وقد عرفت هذا الحصن بحصن "يخضر" "يخضور". ومن مدن "قتبان"، مدينة "حرب"، وهي "حريب" وقد ذكرت في الكتابات، واشتهرت عند الباحثين بالنقود التي تحمل اسمها؛ لأنها فيها ضربت وقد أشار "الهمداني" إلى "حريب" وتقع كما يظهر من وصفه في أرض

_ 1 كنوز "ص 131 وما بعدها". 2 كنوز "ص 129 فما بعدها". 3 لاحظت أن الأستاذ "ركمنس" قد كتب اسم المدينة على هذا الشكل في الترجمة الفرنسية "شور" على حين كتبه في موضع آخر "شوم" وكذلك فعل في النص العبراني للكتابتين وربما كان مرد ذلك إلى اختلاف ناسخي النسختين في الاستنساخ، فحاول المحافظة على أشكال النسختين. REP. EPIG. 4329 V II II. P. 193 Glaser 1392 REP EPIF\G 3507 VI I, P 177 SE. 96.

قتبان1. وهناك موقع آخر يقع على خمسة وخمسين كيلومترًا إلى شرقي شمالي صنعاء على طريق مأرب، يسمى "حريب" وقد عثر على نقود ضربت في "حريب". منها نقد ضرب في عهد "يدع اب ينف" "يدع اب ينوف". وورد في الكتابات اسم مدينة تدعى "برم"، فورد في كتابة من أيام الملك "يدع اب ذبيان بن شهر" مكرب قتبان، كتبت عند تمهيده الطريق بين هذه المدينة ومدينة "حرب" "حريب" وإنشاء مبلقة أي شق طريق جبلي، ليساعد على الوصول بيسر وسهولة بين المكانين2، وورد في كتابة أخرى عند انتهاء الملك "يدع أب ذبيان" من بناء "برج برم"3. وهناك واد عرف بوادي من تماثيل عثر عليها من مقبرة "تمنع"، ويعود عهدها إلى ما قبل الميلاد من كتابQataban and Sheba الصفحة 125".

_ 1 الصفة "ص80، 95، 103، 134". Hill, Catalogue of the Greek Coins of Arabia, Mesopotamia and Persia* P. IXXIV, 75, PL. XI, 20, D..H. Muller, und J. W; Kubistschek, Sudarabische Altertumer, Wien, 1899, S. 73, 78 2 Glaser, 1600 3 Glaser, 1581

"برم" في أرض "احرم" "أحرم"، وفي التقويم القتباني شهر من شهورهم عرف بـ "برم" وترد كلمة "برم" اسم علم لأشخاص. ومن الأرضين والأماكن التى ورد اسمها في النصوص القتبانية والتي يفيد ذكرها هنا؛ لأنها ترشدنا إلى معرفة أسماء البقاع التي كانت خاضعة لحكم قتبان، أرض "لتلك" و "ذبحتم" "ذبحة"1 و"دتنت" "دتنة"، و "لبخ" و "دونم" و "ورفو" و "خضنم" و "يسرم" و "غيلم" "غيل". و"عم"، هو إله شعب "قتبان" الرئيس، وبه تسمى ذلك الشعب، حيث كانوا يعبرون عن أنفسهم بـ "ولد عم" ويتقربون إليه بالنذور والذبائح وكانت له معابد في أرض قتبان أشهرها معبد: "عم ذلبخ" أي معبد "عم" في "لبخ" من "ذي غيل". ويرى بعض الباحثين أن هذا المعبد بني في موضع عرف بـ "ذي غيل"، ثم أنشأ "يدع أب غيلان" مدينة حول هذا المعبد عرفت باسمه، فدعيت بـ "ذي غيلان"، وهي موضع "هجر بن حميد" في الوقت الحاضر2.

_ 1 REP. EPIG. 3540, VI, I, I, P. 197, Weber, Studi, III, S. 39, Rhodokanakis, Kohlan, S. 37 2 Beitrage, S. 47

قوائم بأسماء حكام قتبان

قوائم بأسماء حكام قتبان مدخل ... قوائم بأسماء حكام قتبان: هذه قوائم بأسماء حكام "قتبان" كما وضعها الباحثون في العربيات الجنوبية. وأذكر أولًا القائمة التي وضعها "فريتس هومل"، وهي تتكون من جمهرات رتبت على النسب وصلة القربى، وقد استخرجها من الكتابات: الجمهرة الأولى وتتكون من المكربين: 1- شهر. 2- يدع اب ذبين يهنعم. "يدع أب ذبيان يهنعم" Glaser 1410 = 1618. الجمهرة الثانية: 3 – يدع اب "يدع اب". 4- شهر هلل يهرحب أو يهنعم، "شهر هلال يهركب أو يهنعم"، Glaser 1404 = es 85

الجمهرة الثالثة: 5- سمه علي وتر. 6- هوف عم يهنعم "هوفعم يهنعم" Glaser 1117. 1121 1333 1344 والكتابات الحلزونية:Glaser1339 1343 Glaser. الجمهرة الرابعة: 7 – شهر. 8- يدع أب ذبين "يدع أب ذبيان". وقد ذكر "هومل" أن من الممكن اختصار هذه الجمهرات، إذ من الجائز أن يكون من الأسماء المتشابهة المتكررة ما هو لإنسان واحد. ورتب أسماء ملوك قتبان على النحو الآتي": الجمهرة الأولى: 1- اب شبم "أبشبم". 2- شهر غيلن "شهر غيلان". 3- ب عم "بعم"؟ Gaser 119. Glaser 1348 1601 1115. الجمهرة الثانية: 4- يدع اب "يدع أب". 5- شهر يجل "شهر يكل" Glaser 1602. 6- شهر هلل يهنعم "شهر هلال يهنعم" Glaser 1395. 1413. الجمهرة الثالثة: 7- شهر. 8- يدع اب ذبين "يدع أب ذبيان". 9- شهر هلل "شهر هلال". 10- نبط عم "نبطعم". وقد قال "هومل" إن من الجائز تقديم هذه الجمهرة على الجمهرة الأولى من جمهرات الملوك، إو إلحاقها بالجمهرة الأولى بحيث تكون على هذا النحو: اب شبم "أب شبم" "أبشبم". شهر غيلن "شهر غيلان".

ب عم "بعم" "بيعم" "بي عم". يدع اب ذبين "يدع أب ذبيان". شهر يجل "شهر يكل". شهر هلل يهنعم "شهر هلال يهنعم". نبط عم "نبطعم". الجمهرة الرابعة: 11- هوف عم يهنعم "هو فعم بهنعم". 12- شهر يجل يهرجب "شهر يكل يهرجب"، Glaser 1400. 1406 1606 13- وروال غيلن يهنعم "وروايل غيلان يهنعم"، Glaser 1392 1402 14- فرع كرب يهوضع "فرعكرب يهوضع"، Glaser 1415. الجمهرة الخامسة: 15- سمه وتر. 16- وروال "وروايل". الجمهرة السادسة: 17- ذمر علي. 18- يدع اب يجل "يدع أب يكول". الجمهرة السابعة: 19- يدع اب ينف يهنعم "يدع اب ينوف يهنعم". 20- شهر هلل بن ذراكرب "شهر هلال بن ذرأكرب". 21- وروال غيلن "يهنعم" "وروايل غيلان "يهنعم"".

قائمة رودو كناكس

قائمة "رودوكناكس": وقد استفاد "هومل" في ترتيب قائمته المتقدمة بالقوائم التي وضعها "كروهمن" "1Grohmann" و "رودوكناكس"2 و "مارتن هارتمن" Martin Hartmann

_ 1 Adolf Grohmann, Uber Katabanische Gerrscherreihen, In Anzeiger der Wiener Akademi, Vom 29 Marz, 1916 2 KTB, I, S, 34, 98, II, S. 48

وقد ذكر "كروهمن" تسعة مكربين، ولم يذكر بين الملوك "سمه وتر". أما قائمة الملوك التي صنعها "رودوكناكس"، فتتألف من جمهرات كذلك. تبدأ الجمهرة الأولى بعد "يدع أب ذبين بن شهر" "يدع أب ذبيان بن شهر" آخر المكربين، وهو الذي لقب في عدد من الكتابات بلقب ملك، ولقب في عدد آخر بلقب "مكرب"، فهو مكرب وملك على قتبان، وتتألف قائمة "رودوكناكس" لملوك قتبان من الجمهرات التالية: الجمهرة الأولى: 1- اب شبم "أب شبم". وترتيبه السابع في قائمة "كروهمن". 2- شهر غيلن "شهر غيلان" وترتيبه الثامن في قائمة "كروهمن". 3- بعم "ب عم"، "بي عم" أبي عم"، وترتيبه التاسع في قائمة "كروهمن" 1601 Glaser. الجمهرة الثانية: 4- يدع اب "يدع أب" ورقمه الخامس في قائمة "كروهمن". 5- شهر يجل "يهنعم" "شهر يكل "يهنعم" "شهر يكول "يهنعم""، وهو السادس عند "كروهمن"، Glaser 1395. 1412 , 1602. 1612 6- شهر هلل يهنعم "شهر هلال يهنعم"، ويرى أنه "شهر هلل بن ذراكرب" "شهر هلال بن ذرأكرب"، الذي يرد اسمه في المجموعة الآتية:Glaser 1395. 1412. 1413. KTB i 43.11 S 48 الجمهرة الثالثة: 7- ذراكرب "ذرأكرب"، ورقمه الثاني عشر في القائمة "كروهمن". 8- شهر هلل "شهر هلال". وترتيبه الثالث عشر في قائمة "كروهمن". Glaser 1396. الجمهرة الرابعة: 9- هوف عم "هوفعم"، وهو الرابع عشر في قائمة "كروهمن". 10- شهر يجل يهرجب "شهر يكل يهركب" "شهر يكول يهركب" وهو الخامس عشر عند "كروهمن". Glaser 1087 , Halevy 507 Glaser 1606

11- وروال غيلن يهنعم "وروايل غيلان يهنعم" وترتيبه السادس في قائمة "كروهمن"،Glaser 1000 A. الجمهرة الخامسة: 12- يدع أب يجل "يدع أب يكل" "يدع أب يكول". وذكر "رودكناكس" اسم الملكين: "سمه وتر" و "روال" "وروايل" ورأى أن أمكنتهما بعد الجمهرة الرابعة، غير أنه لم يفرد لهما جمهرة خاصة.

قائمة كليمانت هوار

قائمة "كليمانت هوار": ذكر "هوار" أسماء حكام قتبان دون أن يشير إلى وقت حكمهم أو صفة الحاكم من حيث كونه مكربًا أو ملكًا. وعدتهم كلهم عشرة، هم: 1- يدع أب ذبيان. 2- شهر يجول "شهر يكول". 3- هوف عم "هوفعم". 4- شهر يجول يهرجب "شهر يكول يهركب". 5- وروايل غيلان يهنعم. 6- أبشبم "أب شبم". 7- شهر غيلان. 8- بعم: "بي عم". 9- ذمر على "ذمر علا". 10- يدع اب يجول "يدع اب يكول"1.

_ 1 C1. Huart, Geschichte der Araber, I, Leipzig, 1914, S. 57

قائمة فلبي

قائمة "فلبي": وقد نشرت في آخر كتاب "سناد الإسلام" Background of lslam". وتتألف من: 1- سمه على. وهو مكرب، ولم يعرف اسم أبيه، وقد حكم على تقديره في حدود سنة "865 ق. م.".

2- هوف عم يهنعم بن سمه علي "هوفعم يهنعم بن سمه علي" "سمهعلي"، وهو مكرب كذلك، حكم في حدود سنة "845 ق. م.". 3- شهر يجل يهرجب بن هوف عم "شهر يهركب بن هوفعم" وقد جعله ملكًا، حكم في حوالي سنة "825 ق. م.". 4- وروال غيلن يهنعم بن شهر يجل يهرجب "وروايل غيلان يهنعم بن شهر يكل يهركب"، وقد كان ملكًا، حكم في حوالي سنة "800 ق. م.". 5- فرع كرب يهوضع بن شهر يجل يهرجب "فر عكرب يهوضع بن شهر يكل يهركب"، وشقيق "وروايل" وقد كان ملكًا حكم في حوالي سنة "785 ق. م.". 6- شهر هلل بن ذراكرب بن شهر يجل يهرجب "شهر هلال بن ذرأكرب بن شهر يكل يهركب"، وقد كان ملكًا، حكم في حوالي سنة "770 ق. م.". 7- يدع اب ذبين يهرجب بن شهر هلل "يدع أب ذبيان يهرجب بن شهر هلال"، وقد كان على رأيه مكربًا وملكًا، حكم في حدود سنة "750 ق. م.". 8-؟ ؟ ؟ بن شهر هلل "شهر هلال" وقد كان حكمه حوالي سنة "735 ق. م.". 9- شهر هلل يهنعم بن يدع أب ذبين يهرجب "شهر هلال يهنعم بن يدع أب ذبيان يهركب". وقد كان ملكًا حكم حوالي سنة "720 ق. م.". 10- نبط عم بن شهر هلل "نبطعم بن شهر هلال"، حكم في حوالي سنة "700 ق. م.". 11- يدع اب ينف أو يجل؟ يهنعم بن ذمر علي، أو شقيق شهر هلل بن يدع اب ذبين يهرجب. وقد حكم حوالي سنة "680 ق. م.". 12-؟ ؟ ؟ وقد حكم في حوالي سنة "660 ق. م." 13- سمه وتر بين؟ ؟ ؟ وحكم حوالي سنة "640 ق. م"

14- وروال؟ ؟ بن سمه وتر. وقد حكم في حدود سنة "620 ق. م." وترك "فلبي" فجوة قدرها بنحو من عشر سنين بين الملك المتقدم والملك الذي تلاه، ثم ذكر: 15- اب شبم "أبشبم"، ولم يعرف اسم أبيه، وقد حكم على تقديره في حوالي سنة "590 ق. م.". 16- اب عم بن أب شبم "أب عم بن أب شبم" "أبعم بن أبشم"، وقد كان حكمه في سنة "570 ق. م.". 17- شهر غيلن بن أب شبم "شهر غيلان بن أبشبم" وقد كان حكمه من سنة "555 ق. م."، إلى سنة "540 ق. م." وسنة "540 ق. م" كانت على رأي "فلبي" نهاية مملكة "قتبان" فاندمجت في مملكة سبأ وأصبحت جزءًا منها.

قائمة ألبرايت

قائمة "ألبرايت": - سمه على وتر "سمهعلي وتر" "مكرب". هوف عم يهنعم بن سمه على وتر "هوفعم يهنعم بن سمهعلي وتر"، وكان مكربًا حكم في القرن السادس قبل الميلاد. وهو ابن المكرب الأول. - شهر. يدع اب ذبين يهنعم بن شهر "يدع أب ذيبان يهنعم بن شهر" مكرب. شهر هلل يهنعم بن "يدع أب" مكرب. سمه وتر، يحتمل أنه كان مكربًا، وهو الذي غلبه "يثع أمر وتر" مكرب سبأ. وروال "وروايل" يحتمل أنه كان مكربًا، وكان تابعًا لـ "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر" أول ملك على سبأ، وقد كان حكمه في حدود سنة "450 ق. م.".

- شهر مكرب. يدع أب ذبين بن شهر "يدع أب ذبيان بن شهر" آخر مكربي قتبان، وأول ملوكها، وقد كان حكمه في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد. شهر هلل بن يدع أب "شهر هلال بن يدع أب". نبط عم "بن شهر هلل" "نبطعم بن شهر هلال". - ذمر علي. يدع أب يجل بن ذمر على "يدع أب يكل بن ذمر علي" وقد عاصر ثلاثة ملوك من ملوك سبأ الذين حكموا في القرن الرابع قبل الميلاد. Glaser 1693. - اب شبم "أب شبم" أبشبم". شهر غيلن بن أب شبم "شهر غيلان بن أبشبم". بعم بن شهر غيلن "بعم بن شهر غيلان" "بي عم" "أبي عم". يدع اب "يجل؟ " بن شهر غيلن "أي شقيق "بعم" "يدع أب يكل؟ " بن شهر غيلان". شهر يجل "بن يدع اب" "شهر يكل بن يدع أب"، حكم حوالي سنة "300 ق. م.". شهر هلل يهنعم "شقيق شهر يجل" "شهر هلال يهنعم". يدع اب ذبين يهرجب "يدع أب ذبيان يهركب" "غير متيقن بمكانه هنا". فرع كرب "فرعكرب". يدع اب غيلين بن فرع كرب "يدع أب غيلان بن فرعكرب" في النصف الأول من القرن الثاني قبل الميلاد. هوف عم يهنعم "هوفعم يهنعم" حكم حوالي سنة "150" قبل الميلاد. شهر يجل يهرجب بن هوف عم يهنعم "شهر يكل يهركب بن هوفعم يهنعم". وروال غيلن يهنعم بن شهر بن شهر يجل "ورويل غيلان بن يهنعم بن شهر يكل".

فرع كرب يهوضع بن شهر يجل وشقيق "وروال"، فرعكرب يهوضع بن شهر يكل". يدع اب بنف "يدع أب ينوف". ذراكرب "ذرأكرب". شهر هلل يهقبض ذراكرب "شهر هلال يهقبض بن ذرأكرب". خراب "تمنع" ونهاية استقلال مملكة قتبان في حوالي سنة خمسين قبل الميلاد، ودخول قتبان في حكم ملوك حضرموت1.

_ 1 BOASORR 119, 1950 P. II

الفصل الثاني والعشرون: مملكتا ديدان ولحيان

الفصل الثاني والعشرون: مملكتا ديدان ولحيان قلت في نهاية كلامي على حكومة معين أن جالية من المعينيين كانت تقيم في "العلا" أي "ددن" "ديدان"، وأن "ديدان" كانت مستوطنة معينية في الأصل، وقد استقلت بشئونها بعد ضعف حكومة معين، إذ انقطعت صلتها بأمها في اليمن، وحكمها ملوك منهم نسميهم ملوكًا ديدانيين. وأول من لفت الأنظار إلى "ديدان" هو السائح "جارلس مونتاكو دوتي"1 فقد رحل سنة 1876 إلى أرض مدين، ولم يبال في أثناء رحلته براحته ولا بما قد تتعرض له حياته من أخطار، ثم زار مواضع عديدة آثارية مثل "مدائن صالح" و "الحجر" و"العلا" وكتب رحلته هذه كتابة لا تزال تعد من خيرة ما كتب في هذا الموضوع في الأدب الإنكليزي، وبذلك لفت الأنظار إلى هذه البقعة الآثارية التي حكمتها مختلف الشعوب، وتكدست في أرضها آثارها متداخلة بعضها ببعض. ثم جاء بعد "دوتي" رحالون آخرون، فزاروا هذه المواضع منهم: "يوليوس أويتنك"2 و "جارلس هوبر"3 و"جوسن"4. و "سافينة"5.

_ 1 charles Montague Doughty 2 julius Euting 3 charles huber 4 Patre jausen 5 Savignac

و"فلبي"1، وغيرهم، وصوروا بعض الكتابات، وقرءوا ما استطاعوا قراءته من كتابات الأحجار ودونوه، أو أخذوا بعضه، وبذلك تجمعت للباحثين مادة، عن تأريخ "العلا"، والمواضع التي تقع في أعالي العربية الغربية، في المملكة الأردنية الهاشمية وفي المملكة العربية السعودية. وتقع خرائب "ديدان" هذا اليوم في "وادي العلا"، وتوجد على حافتيه كتابات، كما توجد فيه وفي "وادي المعتدل" والأودية الأخرى آثار حضارات ماضية متعددة، كما توجد فيه وفي "وادي المعتدل" والأودية الأخرى آثار حضارات ماضية متعددة، مثل حضارة المعينيين واللحيانيين والديدانيين وغيرهم. وتعد "الخريبة" مركز الديدانيين، وقد انتزع الأهلون أحجار الآثار، فاستعملوها في مبانيهم فقضوا على كثير من الكتابات، وتشاهد جدر بعض البيوت وقد بنيت الأحجار، وبعضها لا يزال مكتوبًا يحدث الإنسان باعتداء أهل المنطقة عليها وتطاولهم على التاريخ بعمد وبجهل. وللكتابات التي عثر عليها في هذه الأرضين والتي سيعثر عليها شأن خاص عند من يريد دراسة تأريخ الخط وكيفية تطوره وظهوره، فإن هذه المنطقة هي عقدة من عقد المواصلات المهمة التي تربط جزيرة العرب ببلاد العراق وببلاد الشأم ومصر. وفيها التقت ثقافات وحضارات هذه الأماكن، ولهذا نجد في كتاباتها مزايا الخط الشمالي والخط الجنوبي كما نجد للغتها مركزًا خاصًّا للهجات ولذلك كان لدراستها شأن خاص عند من يريد الوقوف على اللهجات العربية وكيفية تطورها إلى ظهور الإسلام. أضف إلى ذلك أنها تقع على الطريق البرية المهمة الموازية للبحر الأحمر، حيث كان أهل العربية الجنوبية ينقلون تجارتهم وتجارة إفريقيا والهند وبقية آسية إلى بلاد الشأم، ثم إنها لا تبعد أكثر من مسيرة خمسة أيام عن البحر الأحمر، حيث كان التجار يذهبون إلى موانئه لبيع ما عندهم لتجار مصر. لذلك كانت ديدان وبقية مدن هذه الأرضين ملتقى العرب: عرب الجنوب وعرب الشمال، وملتقى تجار أجانب. فلا عجب إذا ما رأينا هذا الاتصال يظهر في الكتابة وفي اللغة وفي الثقافة والحضارة والفزن. ولا نعرف اليوم من أمر مملكة "ديدان" شيئًا يذكر. ويعود سب جهلنا

_ 1 Hst h Bphiiby

بتأريخ هذه المملكة إلى قلة ما وصل إلينا من كتابات عنها، ولعل الزمان يكشف لنا عن كتابات ديدانية تجلي من عيوننا هذه الغشاوة التي حالت بيننا وبين وقوفنا على شيء من أمر ملوك ديدان. وقد ذهب "كاسكل" إلى أن ظهور مملكة "ديدان" وابتداء حكمها كان في حوالي السنة "160" قبل الميلاد، غير أنه يرى أن هذه المملكة لم تتمكن من العيش طويلًا، إذ سرعان ما سقطت في أيدي اللحيانيين، وكان ذلك -على رأيه- في حوالي السنة "115 ق. م."1. وقد وقفنا على اسم ملك من ملوك "ديدان" في الكتابة الموسومة بـ "jS 138"، وهي كتابة ابتدأت بجملة: "كهف كبرال بن متعال ملك دون"2. ومعناها "قبر كبرايل بن متع ايل ملك ديدان"، ويعبر عن القبر والمثوى بلفظة "كهف" في اللهجة الديدانية. فهذه الكتابة إذن، هي شاهد قبر ذلك الملك الذي لا نعرف من أمره شيئًا. ولا يستبعد "كاسل" أن يكون "كبرايل"، أول ملك أسس مملكة "ديدان"، وآخر ملك حكمها أيضًا، أي أن سقوطها، على أيدي اللحيانيين كان في عهده، أو بعد وفاته، وبذلك انتهت على رأيه حياة تلك المملكة3. وفي ذهب "ألبرايت" إلى أن الملك "كرب ايل بن متع ايل" الذي عثر على اسمه في كتابة "ديدانية"، كان قد حكم في حوالي السنة "500 ق. م."4. وما زلنا في جهل تام لكيفية حصول الديدانيين على استقلالهم، وعلاقاتهم بالمعينيين الذين كانوا قبلهم في هذه الأرضين، ولا بد لنا من الانتظار طويلًا للظفر بمزيد من المعارف عن هذه الأمور، فلعل الزمان سيجود على الباحثين بكتابات يخرجها إليهم من باطن الأرض، يكون فيها شرح واف لما نسأل عنه الآن. وأما "لحيان" فمعارفنا عنهم مع ضآلتها وقلتها خير من معارفنا عن ديدان.

_ 1 Lihyaisch S. 37 2 Lihyaisch S. 78 3 Lihyaisch S. 37 4 Lihyaisch S. 48

ويعود الفضل في ذلك إلى ما ورد عنهم في مؤلفات بعض الكتبة اليونان واللاتين وإلى الكتابات اللحيانية التي عثر عليها الرحالون، فإنها أكثر عددًا من الكتابات الديدانية، وأكثر منها كلامًا، فإننا حين نجد الكتابات الديدانية قد لاذت بالصمت فلم تذكر من ملوكها إلا ملكًا واحدًا، نجد الكتابات اللحيانية قد نطقت باسم أكثر من ملك واحد. وإن لم تأت بشيء من هذه المادة كثير. وقد وصلت إلينا أسماء حكموا ممكلة "لحيان"، وهي مملكة صغيرة تقع أرضها جنوب أرض حكومة النبط، ومن أشهر مدنها: "ددان"، وهي خرائب "العلا" "الخريبة" في الزمن الحاضر، و "الحجر"، وقد عرفت بـ"Hegra" وEgra" عند اليونان واللاتين، ومن الكتابات اللحيانية والآثار التي عثر عليها في مواطنهم، استطعنا استخراج معارفنا عن مملكة لحيان1. وقد كان شعب لحيان من شعوب العربية الجنوبية في الأصل في رأي بعض الباحثين. وقد ذكرهم "بلينيوس" في جملة شعوب العربية الجنوبية، وسماهم Lexianes أو2Lechieni= Lacanitae وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الحميريين استولوا على مواطن اللحيانيين في حوالي سنة "115 ق. م."، فخضعوا بذلك لحكم الحميريين3. ومما يؤيد وجهة نظر من يرى أن اللحيانيين هم من أصل عربي جنوبي، ورود اسم "لحيان" في نص عربي جنوبي قصير، هذا نصه: "أب يدع ذلحين" أي "أبيدع ذو لحيان"4. وفي هذا النص دلالة على أن اللحيانيين كانوا في العربية الجنوبية ويظهر أن "أبيدع" المذكور كان أحد أقيال "لحيان" في ذلك الزمن. ويرى "كاسل" أن اللحيانيين كانوا يقيمون على الساحل على مقربة من "ددن" "الديدان"، وكانت لهم صلات وثيقة بمصر، وتأثروا بالثقافة اليونانية التي كانت شائعة في مصر إذ ذاك، حتى إنهم سموا ملوكهم بأسماء يونانية، مثل

_ 1 Die Araber, I, S., 94 2 Die Araber, I, S., 94, Pliny, 6, 155, Arabian, S., 23 3 W. Caskel, Das Altarabische Konigrelch Lihjan, "1951", S., 10, J. Ryckmans, In BlbUotheca OrientaiisT 18, 10, "1961", 219, W. F. Albright, Von Ugarit nach Qumran, "1961", S., 6. 4 REP. EPIG. 3902, 10, Die Araber, I, S., 93

"تخمي" Tachmi و "بتحمي" Ptahmy و"تلمي" Tulmi وقد أخذت من "بطلميوس"1 Ptolemaios. أما الكتابات الليحانية أو الكتابات الأخرى مثل النبطية أو الثمودية أو المعينية وغيرها، فإنها لم تتحدث بأي حديث عن أصل اللحيانيين. ويعود الفضل في حصولنا على ما سندونه عن تأريخ لحيان إلى الكتابات اللحيانية وهي، وإن كانت قليلة وأكثرها في أمور شخصية، فقد أفادتنا فائدة قيمة في الكشف عن بعض تأريخ اللحيانيين وستزيد معارفنا بالطبع في المستقبل كلما ذاد عثور العلماء على كتابات لحيانية جديدة، ولا يستبعد أن يكون عدد منها لا يزال مطمورًا في بطن الأٍرض. وقد عالج بعض المستشرقين موضوع "لحيان"، ومنهم "كاسكل" فكتب فيهم، كتابين باللغة الألمانية2. ذهب فيهما إلى أن اللحيانيين كانوا كأكثر الشعوب تجارًا، وكانت تجارتهم مع "مصر" بالدرجة الأولى. وقد انتزعوا الحكم من الجاليات المعينية التي كانت تقيم في هذه الأرضين التي كانت في الأصل جزءًا من ممكلة معين فلما ضعف أمر حكومة معين في اليمن ولم يبق في استطاعتها السيطرة على أملاكها البعيدة عنها، طمع الطامعون ومنهم اللحيانيون في المعينيين الشماليين الساكنين في هذه الأرضين، فانتزعوا الحكم منهم وسيطروا عليهم، واندمج المعينيون فيهم حتى صاروا جزءًا منهم، وكان ذلك -على رأيه- في القرن الثاني قبل الميلاد، وفي حوالي السنة "160" قبل الميلاد تقريبًا3. ويرى "كاسكل" أن المعينيين كانوا قد بقوا يحكمون "ديدان" مكونين حكومة "مدينة" إلى حوالي السنة "150 ق. م."، وعندئذ أغار عليهم اللحيانيون وانتزعوا الحكم منهم، ويرى أن من المحتمل أن الملك الأول الذي حكم اللحانيين كان من أهل الشمال، وربما كان من النبط غير أن الذين جاءوا بعده كانوا من اللحيانيين4. وقد كان المعينيون يسيطرون على أعالي الحجاز في القرن الخامس قبل الميلاد،

_ 1 Lihyanisch, S., 39, Die Araber, I, S., 102 2 Das Altarabische Konigreich Lihjan, 1951, Llhyan und Lihyanisch, 1954 3 Die Araber, I, a, 94 4 Das Altarabische Konigreich, S., 9

مكونين مستوطنات معينية غايتها حماية الطرق التجارية التي تمر من بلاد الشأم إلى العربية الجنوبية. وقد عرفت تلك المستعمرة التي تحدثت عنها سالفًا باسم "معين مصران"، وعاصمتها مدينة "علت"، هي "العلا" في الزمن الحاضر، ومن مدنها الأخرى "ديدان"، و"الحجر" وغيرهما1. وقد اختلف الباحثون فيمن سكن هذه الأرضين أولًا ومن حكم قبلًا: الديدانيون، أم المعينيون أم اللحيانيون؟ فذهب بعضهم إلى أن اللحيانيين إنما جاءوا بعد المعينيين، وهم الذين قضوا عليهم وانتزعوا منهم الحكم وألفوا مملكة لحيانية، وذهب آخر إلى أن اللحيانيين كانوا قد سبقوا المعينيين في الحكم، وأن حكمهم هذا دام حتى جاء المعينيون فانتزعوه منهم في زمن اختلفوا في تعيينه، وذهب آخرون إلى تقديم الديدانيين على المعينيين واللحيانيين وقد اختلفوا كذلك في زمان نهاية حكم كل حكومة من هذه الحكومات2. ويرى بعض الباحثين أن مملكة لحيان ظهرت في أيام "بطلميوس الثاني"، بتشجيع من البطالمة وبتأييدهم ليتمكنوا من الضغط على النبط حتى يكونوا طوع أيديهم. وقد جعل بعضهم ذلك الاستقلال فيما بين سنة "280 ق. م." وسنة "200 ق. م."3 ويرى غيرهم أن ذلك كان قبل هذا العهد. وقد كان اللحيانيون يكرهون النبط؛ لأنهم كانوا يطمعون في بلادهم ويعرقلون تجارتهم التي كان لا بد لها من المرور بأرض النبط، ولهذا لجئوا إلى "البطالمة" يحتمون بهم، ويتوددون إليهم ليحموهم من تحكم النبط في شئونهم، بقوا على ذلك طول أيام "البطالمة" فلما حل الرومان محلهم، توددوا إليهم كذلك للسبب نفسه4. ويرى بعض الباحثين أن النبط هم الذين قضوا على مملكة لحيان، باستيلائهم على "الحجر" سنة "65 ق. م" وعلى ديدان سنة "9 ق. م."، على

_ 1 Arabien, 8., 26 2 j. H. Mordtmann, BeitrSge zur Maintschen Epignaphik, Weimar, 1897, S., XI, BOASOOR, NTJM., 73, 1939, NUM., 129, 1953, P. 23, Le Musfeon, 51, (1938) , P. 307, Arabien, S., 46 3 Ency., Vol., Ill, P. 26, Die Araber, I, S-, 104 4 Die Araber, I, S., 104

حين يرى آخرون أن نهايتها كانت في القرن الثاني بعد الميلاد1. وذهب "كاسكل" إلى أن النبط قضوا على مملكة "لحيان"، وذلك بعد السنة "24 ب. م."، إلا أن حكم النبط لم يدم طويلًا؛ لأن الرومان كانوا قد استولوا على مملكة النبط سنة "106 م"، وكونوا منها ومن أرضين عربية أخرى مجاورة اسم "المقاطعة العربية" "الكورة العربية" وبذلك انتهى حكم النبط على لحيان2. ولا نعرف ماذا كان عليه موقف اللحيانيين من احتلال الرومان لأرض النبط ومن تكوين الرومان لما يسمى بـ "الكورة العربية"، التي جاورت أرض اللحيانيين، ويرى "كاسكل" أن موقف اللحيانيين من الرومان كان موقفًا وديًا؛ لأنهم أنقذوهم، من سيطرة النبط، عليهم، ويرى احتمال تكوين اتصال سياسي بينهم وبين الرومان3. وقد استدل "كاسكل" من شاهد قبر يعود زمنه إلى حوالي السنة التاسعة قبل الميلاد. عثر عليه في "العلا" أرخ بحكم الملك "الحارث الرابع"4 Aretas. على أن اللحيانيين كانوا يومئذ تحت حكم ملوك النبط، واستدل على رأيه هذا بعدم إشارة "سترابون" إلى مملكة لحيانية في أثناء حديثه عن حملة "أوليوس كالوس" "أوليوس غالوس" على اليمن التي وقعت في حوالي سنة "25 م" وكلامه على ملوك النبط، وكأن ملكهم قد شمل أرض لحيان، حتى بلغ مكانًا لا يبعد كثيرًا عن "المدينة" "يثرب" ورأى في ذلك علامة على أن ملوك النبط كانوا قد استذلوا اللحيانيين وقضوا على استقلالهم زمانًا لم يحدد بالضبط5. ويظن أن النص اللحياني الموسوم بـjS 349 من نهاية القرن الثاني قبل الميلاد على رأي بعضهم، هو من أقدم النصوص اللحيانية، دونه رجل اسمه "نرن بن حضرو" "ناران بن حاضرو" "نوران بن حاضر"، وذلك بأيام "جشم بن شهر" و "عبد" الذي كان واليًا على "ددان" يومئذ6. وقد

_ 1 Lihyanisch, S., 35, Die Araber, I, S., 95, CIH, 2, I, 332 2 Arabien, S., 48, Lihyanisch, S., 42, Die Araber, I, &, 97 3 Lihyanlsch, S., 42 4 CIH, II, I, 332, Die Araber, I, S., 95 5 Die Araber, I, S., 95, Konigreich Lihjan, S., II 6 Lihyantsch, S., 39, 101

ذكر في النص اسم الملك الذي كتب النص في عهده، إلا أن الزمان عبث به، إذ أصيب بكسر فسقط تمامًا الاسم منه. وقد تجسست بعض النصوص اللحيانية على ملوك لحيان، فقدمت للباحثين بعض أسمائهم، وأعلمتنا بذلك أن اللحيانيين كانوا قد كونوا لهم مملكة حكمت أمدًا، ثم زالت من الوجود كما زال غيرها من ممالك، وإذ لم يقم العلماء في "العلا" وفي الأرضين اللحيانية الأخرى بحفريات منتظمة، فليس بمستبعد أن يعثر فيه يومًا ما على نصوص لحيانية أخرى تكشف النقاب عن أسماء عدد آخر من ملوك لحيان1. ومن الملوك الذين عرفنا أسماءهم من النصوص المذكورة، ملك اسمه: "هنوس بن شهر" "هانوس بن شهر" "هانواس بن شهر". وقد ذكر معه في النص اسم ملك آخر شاركه في الحكم، إلا أنه سقط منه بعبث حدث له، فأضاع علينا اسمه، وقد أصيب النص بتلف في مواضع منه، فأضاع علينا المعنى، والظاهر أنه دون لمناسبة إنشاء الملكين طريقًا يمر بجبل، فشقا الأرض، ورصفا وجهها وكسوها بمادة تملسها ليسهل السير عليها2. وعرفنا من تلك النصوص ملكًا آخر عرف بـ "ذ اسفعن تخمي بن لذن" "ذو اسفعين تحمي بن لوذان" وقد قدر "كاسكل" زمان حكمه في النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد3. وإلى أيامه تعود الكتابة الموسومة بـ: jS 85 وقد دونت لمناسبة إنشاء "بيت" للإله "ذو غابت" ذو غابة" إله لحيان، وذلك في السنة الأولى من حكم هذا الملك4. وورد اسم الملك "شمت جشم بن لذن" "شامت جشم بن لوذان" في الكتابة الموسومة بـ "Js 85" وقد دونت لمناسبة تقديم شخص نذرًا إلى الإله "ذو غابة"، وذلك في السنة التاسعة من حكم هذا الملك وقد قدر "كاسكل" زمان حكمه فيما بين السنة "9ق. م." والسنة "56 ق. م"5.

_ 1 Arabien, 1963, S. 76, Die Araber, I, S., 100, 103, Lihyanisch, S., 41, W. Tarn in Journal of Egypt. Archeol., 15, (1929) , 19, Eney., in, P. 26. 2 Lihyanisch, S., 40, 41 3 Lihyanisch, S., 41, 88-89 4 Lihyanisch, S., 88-89 5 Lihyanisch, S.f 41, 90

وذكر في الكتابة الموسومة بـjS 83 ملك يسمى "جلتقس" "جلت قوس" "ملتقس"، وقد أرخت بأيامه، إذ دونت في السنة التاسعة والعشرين من حكمه، ودونت لمناسبة تقديم شخص نذرًا "ذنذر" "نذر" إلى الإله "عجلبن" "عجل بون" "عجل بن"، وهو "صلم" "أي صنم، قدمه إلى معبد، ذلك الإله1. وورد اسم الملك "معنى لذن بن هناس" "منعى لوذان بن هانؤاس" في الكتابة الموسومة بـ 82 jS وقد دونت في السنة الخامسة والثلاثين من حكم هذا الملك، لمناسبة تقديم نذر، هو "صلم"، أي "صنم" إلى الإله "عجلبن" صنعه "هصنع" رجل اسمه "سلمى"، وخط الكتابة "هسفر" كاتب اسمه "خرج"2. وقد كان حكمه -على حد قولي "كاسكل" –فيما بين السنة "35 ق. م." والسنة "30 ق. م."3. وفي عهد هذا الملك أصيبت "ديدان" بهزة أتت على المعبد ومن كان فيه، إذ سقط سقفه على أعضاء مجلس المدينة "هجبل" "ها - جبل" فقتل أكثرهم، ثم أعيد بناؤه بين السنة "127 ب. م" و "134 ب. م."4. ويظهر من بعض النصوص اللحيانية المتأخرة أن إعادة بناء المعبد قد استغرقت زمنًا طويلًا5، وهذا مما يدل على أن الحالة الاقتصادية لم تكن حسنة في ذلك العهد، وأن الأمور لم تكن جارية على وفق المرام، وأن الحكومة كانت ضعيفة فلم تتمكن من إعادة بنائه بالسرعة المطلوبة. ويرى "كاسكل" أن النبط هيمنوا على اللحيانيين في القرن الأول قبل الميلاد. وأخذوا يضايقونهم، ثم حكموهم، وقد امتد حكمهم للحيانيين، إلى ما بعد الميلاد، فقبل سنة "65 ق. م." استولى النبط على "الحجر"، ثم ساروا منها إلى "تيماء" ثم قطعوا كل اتصال للحيان بالبحر، واستولوا على ميناء "لويكة كومة" وكان تابعًا للحيان، وتقدموا منه إلى مواضع أخرى، حتى

_ 1 Lihyanisch, S., 41, 91, Die Araber, I, S., 103, Arabien, S., 289 2 Lihyanisch, S., 41, 93 3 Llhyanisch, S., 41 4 Arablen, S., 66 5 Lihyanisch, S., 42

أحاطوا بلحيان من جميع الجهات وحكموهم1. ويظن "كاسكل" أن حكم النبط للحيان قد وقع بين السنة "25- 24 ق. م." والسنة "50 ق. م". ويظن "كاسكل" أن حكم النبط للحيان دام منذ ذلك الزمن حتى حوالي السنة "80 ق. م." ففي هذا العهد كان حكم النبط نفسه يتدهور بتزايد سلطان الرومان في بلاد الشأم وبدخول حكومة "المكابيين" اليهودية في حماية الامبراطورية الرومانية، والنبط هم في جوار المكابيين في الجنوب، ولما قهر جيش "تراجان" النبط، وقضى على استقلالهم، تخلص اللحيانيون من حكم النبط وعادوا فاستقلوا في إدارة شئونهم فحكمتهم أسرة منهم، يظهر أنها من الأسرة الملكية القديمة التي كانت تحكمهم قبل استيلاء النبط عليهم2. وكان جلاء حكم النبط عن لحيان في عهد الملك "رب آل" "رب ايل" آخر ملوك النبط الذي انتزع الرومان الأقسام الشمالية من مملكته في سنة 105 للميلاد، ثم أخذوا الأقسام الجنوبية من مملكته بعد سنة تقريبًا، أي سنة106 للميلاد، وبذلك زال حكم النبط عن اللحيانيين، فاستعادوا استقلالهم برئاسة الملك "هناس بن تلمي"3. وقد عثر الباحثون على كتابتين، ورد في إحداهما: "مسعودو: ملك لحيان" وورد في الأخرى: "ملك لحيان" وقد سقط منها اسم الملك لتلف أصاب الكتابة، وقد ذهب "كاسكل" إلى أن الكتابتين من عهد استيلاء النبط على لحيان وذهب أيضًا أن الملك "مسعودو" أي "مسعود" لم يكن ملكًا بالمعنى الحقيقي، وإنما كان ملكًا اسمًا، وإن الملك الآخر الذي أزال العطب اسمه من الكتابة الثانية، هو الملك "مسعود" نفسه، ولم يذكر كيف جوز صاحب الكتابة لنفسه نعت مسعود، بنعت "ملك لحيان" على حين كانت مملكة لحيان تابعة لمملكة النبط4.

_ 1 Llhyanisch, S., 40, 42 2 Llhyanisch, 8., 42 3 Lihyanlsch, S., 42 4 Lihyanisch, S., 42, Die Araber, I, S., 100, Jausen — Savlgnac, 334, 335, 337

ويرى "كاسكل" أن في جملة من حكم اللحيانيين في هذا العهد، عهد تدهور حكم النبط وزوال سلطانهم عن لحيان، ملكًا اسمه "هناس بن تلمي" "هانؤاس بن تلمي". وقد ورد اسمه في كتابة دونت في السنة الخامسة من حكمه، دونها "عقرب بن مر"، صانع تماثيل "هصنع" لمناسبة نحته طرفي صخرة قبره، وصيرهما يمثلان الإله "أبي ايلاف" "أبا لف"، وذلك في السنة المذكورة من حكم هذا الملك1. وقد جعل "كاسكل" حكم الملك المتقدم "هناس بن تلمي" مبدأ لحكم أسرة جديدة، أو حكومة جديدة، تولت الحكم بعد زوال هيمنة النبط عن اللحيانيين، وكان الملك "لوذن بن هنواس" "لوذان بن هـ -نواس" آخر من حكم من الحكومة القديمة في لحيان، أي آخر من حكم قبل استيلاء النبط على لحيان كما يرى "كاسكل"2. وكان حكمه في حوالي السنة "30 ق. م. على تقدير "كروهمن"3. وورد اسم الملك "تلمي بن هناس" "تلمي بن ها- نؤاس" في كتابة أرخت بالسنة الثانية من سني حكمه، لمناسبة شراء رجل اسمه "عبد خرج" أرضًا، بني عليها ضريحًا "هكفر" ليكون مقبرة "همثبرن" "ها- مثبرن" يدفن فيها هو وأهله4. وأورد "كاسكل" اسم الملك "سموي بن تلمي بن هناس" بعد اسم الملك المتقدم5. وهو ملك ورد اسمه في كتابة سجلها "وهب لاه" "وهبله" "وهب الله" وكان قيمًا "قيمه" على "نعم" أنعام الإله "ذغبت" "ذو غابة" لمناسبة قيامه باتمام بناء معبد "ديدان" الذي كان الزلزال قد عبث به6. وورد اسم ملك آخر من ملوك لحيان، في كتابة دونت في السنة الخامسة من سني حكمه7. دونها "أبو إيلاف بن حيو" وكان "كبير هشعت" "ها- شعت"

_ 1 Llhyanisch, S., 41, 110, JS 75, M. 25 2 Lihyanisch, S., 4 3 Arabien, S., 65, 289 4 Lihyanisch, &, 41, IIL JS 45, M 9 5 Lihyanisch, S., 41 6 Lihyanisch, S., 41, 42, 112, JS 54, M 4 7 Lihyanisch, S., 41

أي كبير الجماعة، وهو نعت يدل على أنه كان وجيه القوم ووجههم، وقد أشار فيها إلى مجلس القوم "هيجل"، وكان ذلك في السنة الخامسة من سني حكم "رأي" "رأي" الملك "عبدن هناس" "عبدان بن ها- نؤاس"1. ويرى "كاسكل" أن حكمه كان في حوالي السنة "110 ب. م."2. ووضع "كاسكل" ملكًا اسمه "سلح" "سليح" "سالح" بعد اسم الملك "عبدان هانؤاس". وقد حكم –على رأيه- في حوالي السنة "125" بعد الميلاد3. وقد ورد اسمه في كتابة دونت قبل ثلاثة أيام "تلت ايم: قبل رأي سلح" من تولي "سليح" الحكم، وأرخ ذلك بسنة عشيربن من ظهور عتمة، أي حدوث ظلام "سنت عشرين عتم"4. والظاهر أن كسوفًا وقع فأظلمت الدنيا وعتمت، وذلك قبل عشرين سنة من تولي هذا الملك الحكم، فأرخ الناس عندئذ بحدوثها، وفي جملتهم صاحب هذه الكتابة5. وحكم في حوالي السنة "127 ب. م." ملك اسمه "تلمي هناس" "تلمي ها- نؤاس" على رأي "كاسكل"6، وقد جاء اسمه في كتابة دونت لمناسبة دفع دية "وديو" عن قتيل قتل في السنة الثانية والعشرين من حكم هذا الملك7. ووضع "كاسكل" الملك "فضج"، بعد الملك "تلمي بن هانؤاس" وجعل حكمه في حوالي السنة "134 ب. م."8 ويظهر من كتابة ورد فيها اسمه أنه حكم أكثر من تسع وعشرين سنة9. ويرى "كاسكل" أن الملوك اللحيانيين المتأخرين لم يكونوا على شاكلة الملوك اللحيانيين الأول من حيث المكانة والشخصية، ويرى أن الحل والعقد صارا في يد "الجبل" "هجبل"، أي مجلس الشعب، أو مجلس الأمة بتعبير قريب

_ 1 Llhyanisch, S., 41 2 Lihyanisch, S., 113, JS, 72, M 23 3 Llhyanisch, S., 41 4 Lihyanlsch, S.f 41 5 Lihyanisch, S., 115, JS, 68, M 55 6 Lihyanlsch, S., 41 7 Lihyanisch, S., 116, JS, 77, M 27 8 Lihyanlsch, &, 41 9 JS 70, M 52, Lihyanlsch, 8., 119

من تعبير هذا الزمان في الغالب، وأن الناس لم يعودوا يحفلون بكتابة لقب "ملك لحيان" بعد اسم الملك، وفي هذا الإهمال تعبير عن نظرة التساهل وعن عدم الاهتمام بأمر الملوك1. ويتبين من النصوص اللحيانية المتأخرة أن هذا الدور الثاني، أي الدور المتأخر من حكم حكومة لحيان، لم يكن حكمًا مستقرًّا وطيد الأركان، لذلك تفشت السرقات، وكثرت حوادث القتل فيه، ويرى "كاسكل" من ورود أسماء في بعض هذه الكتابات اللحيانية المتأخرة يشعر منها أن أصحابها من إفريقيا ومن جنس حامي، احتمال مهاجمة الحبش لساحل البحر الأحمر الواقع فيما بين "لويكة كومة" وحدود مملكة سبأ ونزول الحبشة في هذه الأرضين2. ويرى "كاسكل" أن الكتابات المشار إليها، هي من زمن يجب أن يكون محصورًا بين السنة "150" والسنة "300" بعد الميلاد، وفي هذه المدة يجب أن يكون وقوع غزو الحبش للسواحل العربية المذكورة3. ويرى باحثون آخرون أن ملك الحبشة الذي يمكن أن يكون قد غزا هذه السواحل، هو الملك Sembruthes وهو من ملوك "أكسوم" وقد عثر الباحثون على طائفة من الكتابات مدونة باليونانية تعود إلى أيامه، ويجب أن يكون غزوه لتلك السواحل قد وقع بين نهاية القرن الرابع للميلاد وبين النصف الأول من القرن الخامس للميلاد4. ويرى "كاسكل" أن الرومان الذين استولوا على ممكلة النبط لم يبلغوا أرض لحيان، بل وقفوا عند حدود النبط، أو عند أرض تبعد مسافة عشرة كيلومترات عن "ديدان"، بدليل انقطاع الكتابات التي كان يكتبها الجنود الرومان ويتركونها في الأماكن التي ينزلون بها عند الحد المذكور، فلم يعثر السياح على كتابة يونانية بعد البعد المذكور5. ويظهر من كتابة لحيانية وسمت بـM 28 أن رجلًا من لحيان كان قد زار

_ 1 Lihyanisch, S., 43 2 Llhyanlsch, 8., 43 3 Die Araber, I, S., 100 4 Die Araber, I, S., 100 5 Das Altarablsche, S.,18

المواضع: "صار" "صوأر"، و"نشور"، و"ربغ" "رابغ"1. والكتابة غامضة وزاد في غموضها وعسر فهمها سقوط كلمات منها، لذلك لا يدرى ما المراد من ذكر هذه المواضع. هل أريد به استيلاؤه عليها وضمها إلى النبط؟ أو أريد به توليه الجباية فيها؟ أو هو زارها وتاجر معها؟ وقد يستنتج منها أن هذه المواضع كانت من مدن اللحيانيين في ذلك العهد2. و"صار" "صأور"، موضع على الطريق بين الحجر ويثرب، وهو الموضع الذي ذكر في جغرافية "بطلميوس" باسم3Assara = Asvara. وهو موضع لا يبعد كثيرًا عن "الحجر" ويقع عند موضع "البدائع" الذي يبعد زهاء واحد وعشرين كيلومترًا جنوبي شرقي "العلا. وأما "نشأر" "نشير" فهو موضع ذكره "ياقوت الحموي" في معجم البلدان. ولم يعين مكانه، وأما "رابغ"، فموضع لا نستطيع أن نؤكد أنه "رابغ" الحالية، وإن كانت التسمية واحدة4. ولسنا نعلم بعد، كيف كانت نهاية حكومة لحيان، ومن قضى عليها، وإلى أين ذهب اللحيانيون بعد سقوط مملكتهم الذي كان بعد الميلاد كما رأينا. ويظهر أن قومًا منهم هاجروا إلى الجنوب، وأن قومًا منهم هاجروا إلى العراق فاستقروا بالحيرة، إذ نزلوا في موضع عرف باسمهم, وقد كانوا يتاجرون معها في أيام استقلالهم، ويظن أن موضع "السلمان" المعروف في البادية منسوب إلى الإله "سلمان" إله لحيان ورب القوافل عندهم، وقد كان اللحيانيون ينزلون به في طريقهم إلى العراق5. ولا يستبعد أن يكون القسم الأعظم منهم قد عاد إلى البادية، واندمج في القبائل، مفضلًا حياة البداوة على حياة العبودية والفوضى، فاندمج في القبائل

_ 1 Lthiyanlsch, S., 40, 94 2 Lthiyanlsch, S., 40, 94 3 Ptolemaus, V, BK., 7, &. 30 4 Uhyanisch, S., 40, 94 5 Lihyanlseh, S., 44, Das Altarablsche, S., 19, Rothstein, Lachmiden, S., 52, 64

الأخرى على نحو ما حدث لغيرهم من الناس1. وقد عثر على مزهرية في "تل أبو الصلابيخ" في جنوب العراق، وجدت عليها كلمة "براك آل" "برك ايل" "بارك ايل" مدونة بقلم ذهب بعض الباحثين إلى أنه قلم لحياني، وذهب بعض آخر إلى أنه من قلم "المسند"، وأن أصحابها من العرب الجنوبيين2. وقد نسب أهل الأخبار "أوس بن قلام بن بطينا بن جميهر" إلى "لحيان" وهو من مشاهير أهل الحيرة، حكم الحيرة أمدًا3. وقد يكون للحيان الذين ينسب "أوس" إليهم علاقة باللحيانيين الذين أتحدث عنهم. وقد يكون "بنو لحيان" الذين يذكرهم أهل الأخبار. من بقية ذلك الشعب الساكن في "الديدان" أما اللحيانيون، فهم من "بني لحيان بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر" فهم عدنانيون، وقد كانوا ينزلون في شمال شرقي مكة4. والظاهر أنهم لم يكونوا من القبائل القوية عند ظهور الإسلام، ولذلك لا نجد لهم ذكرًا في أخبار ظهور الإسلام وفي أيام صدر الإسلام5. وكانت منازل "لحيان" عند ظهور الإسلام في أرض جبلية. وقد غزاهم الرسول بغزوة عرفت بـ "غزوة بني لحيان" فاعتصموا برءوس الجبال، وهجم الرسول على طائفة منهم على ماء لهم، يقال له الكدر، فهزموا وغنم المسلمون أموالهم6. وأرسل الرسول عليهم سرية بقيادة "مرثد بن كنان الغنوي" إلى "الرجيع"، فلقي بني لحيان، وقد قتل مرشد في المعركة، وذلك في السنة الرابعة من الهجرة7. وقد هجاهم "حسان بن ثابت" فرماهم بالغدر، وذكر موضعهم وهو

_ 1 Lthyanish. s, 44 2 Arabien, S. 273 3 المحبر "ص 358"، Lihja. S. 44 4 ابن قتيبة، المعارف "ص 31" تاج العروس "10 / 324 "الاشتقاق "1/ 109". 5 Envy lll p 26 6 المحبر "114". 7 المحبر "118" Ency lll pp 26 27

"الرجيع"، وذكر أنهم تواصوا بأكل الجار. فهم من أغدر الناس، و"دار لحيان" هي دار الغدر1. ويذكر الأخباريون أن "تأبط شرًّا" أتي جبلًا في "بلاد بني لحيان" ليشتار منه عسلًا، ومعه جماعة، فخرج عليهم اللحيانيون، فهرب من كان مع "تأبط شرًّا"، فحاصره اللحيانيون، إلا أن "تأبط شرًّا" أزلق نفسه على جدران الجبل، فلم يلحقوا به، وهرب2. وقد عثر السياح في حوالي سنة 300 بعد الميلاد فما بعدها على كتابات عبرانية ونبطية في وادي "ديدان" تدل على أن قومًا من يهود وقومًا من النبط أو من جماعة كانت تتكلم النبطية كانت قد استوطنت في هذه الأرضين3. وكان اليهود قد زحفوا إلى هذه الأرضين وأخذوا يستقرون فيها حتى وصلوا إلى يثرب، فلما ظهر الإسلام، كان معظم سكان وادي القرى إلى يثرب من اليهود. وقد وجدت في الكتابات اللحيانية أسماء آلهة تعبدوا لها، في طليعتها الإله "ذو غابت" "ذو غابة". وقد عثر على أنقاض معبد له في وسط خرائب المدينة، ووجد فيه آثار حوض للماء، يظهر أن المؤمنين كانوا يتوضئون به أو يغسلون مواضع من أجسامهم للتطهر قبل أداء الشعائر الدينية، كما عثر على اسم إله آخر عرف عندهم بـ "سلمان"، ويظهر أنه كان يكنى "أبا إيلاف"، ويرى بعض الباحثين أنه إله القوافل، أي الإله الذي يحمل القوافل ويحرسها في ذهابها وإيابها، وذلك؛ لأن إيلاف القوافل كان من واجب الآلهة، كما يقول هؤلاء الباحثون، مستدلين على ذلك بوضع "قريش" قوافلهم في حماية الآلهة4. كما يفهم من آية: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} 5.

_ 1 إن سرك الغدر صرفًا لا خراج له ... فأت الرجيع، وسل عن دار لحيان ديوان حسان بن ثابت "ص 37" "طبعة هرشفلد". 2 المحبر "197 وما بعدها". 3 Lihyanisch, S, 44 4 Das Altraabische, S, 13 5 السورة رقم "106".

وعثر على اسم إله هو "هانئ كاتب" "هني كتب" ومعناه "عبد كاتب" واسم إله آخر هو "هـ- محر" "ها– محر" أي "المحر". وقد ذهب "كاسكل" إلى أن الإله "كاتب" هو في مقابل الإله "توت" THOT عند المصريين، إله الحكمة1.

_ 1 Aitarabisch S 13

الفصل الثالث والعشرون: السبئيون

الفصل الثالث والعشرون: السبئيون مدخل ... الفصل الثالث والعشرون: السبئيون لورود اسم سبأ في القرآن الكريم فضل ولا شك في جميع أهل الأخبار ما بقي في أذهان المسنين عن سبأ والسبئيين، فقد اضطر المفسرون إلى التقاط ما كان ورد عنهم من قصص وحكايات. وما كان القرآن ليشير إلى سبأ، لو لم تكن لهم قصة عند الجاهليين1. وسبأ عند الأخباريين اسم جد، أولد أولادًا نسلوا، وكانت من ذرياتهم شعوب، ووالده هو "يشجب بن يعرب بن قحطان"، ومن أولاده قبائل كثيرة انتشرت في كل مكان من جزيرة العرب، قبل الإسلام وبعده، وإليه نسب نسله السبئيون، وقد زعموا أن اسمه الحقيقي هو "عبد شمس"، وأما سبأ فلقب لقب به؛ لأنه أول من سبأ، أي سن السبي، من ملوك العرب وأدخل اليمن السبايا، وذكر بعضهم أنه بنى مدينة "سبأ" وسد مأرب وغزا الأقطار وبنى مدينة "عين شمس" بإقليم مصر، وولى عليها ابنه "بابلون" "بابليون"، وقالوا أشياء أخرى من هذا القبيل2.

_ 1 سورة النمل: الرقم 27 الآية22 سورة سبأ، الرقم 34 الآية 15. 2 المحبر "ص 364" الطبري "1/ 225" ورووا شعرًا على لسان علقمة بن ذي جدن في هذا المعنى: ومنها الذي لم يسب قبل سبائه ... سباء ومن دان الملوك مرارا منتخبات "ص 47" تاج العروس "10 / 169"، ابن خلدون "2/47".

وليس في النصوص العربية الجنوبية شيء عن نسب سبأ وعن هويته، وليس فيها شيء عن اسمه أو عن لقبه المزعوم، وكل ما ورد فيها أن سبأ اسم شعب، كون له مملكة، وترك عددًا كبيرًا من الكتابات، وكان يتعبد لآلهة خاصة به، وله حكام حاربوا غيرهم، إلى غير ذلك من أمور سوف يأتي الكلام عليها نعم، نشرت في كتاب "REP EPIG صورة كتابة، ذكر أنها حفرت على نحاس، وهي في مجموعة p LAMARA جاء فيها، "عبد شمس، سبأ بن يشجب، يعرب بن قحطان"1. ولم تنشر الصورة "الفوتوغرافية" لأصل الكتابة وإنما نشرت كتابتها بالأحرف اللاتينية والعبرانية، ولم يبد المتخصصون رأيًا في هذا اللوح وفي نوع كتابته وزمان الكتابة، لذلك لا أستطيع أن أبدي رأيًا فيها، ما لم أقف على ذلك اللوح. وأما حظ سبأ في الموارد التأريخية، فإنه لا بأس به بالقياس إلى حظ الشعوب العربية الجاهلية الأخرى, فقد ورد ذكر السبئيين في التوراة وفي الكتب اليونانية واللاتينية وفي الكتابات الآشورية، ويظن أن كلمة A – Ba A- A = S الواردة في نص سومري يعود إلى Aradnannar "باتيسي" "لجش" Lagash "تلو" معاصر آخر ملوك "أور"، أي من رجال النصف الثاني من الألف الثالثة قبل المسيح، تعني أرض سبأ2. ويرى "هومل" أن كلمة Sabum Sa- bu- um التي وردت عند ملوك "أور" في حوالي سنة "2500 ق. م." إنما تعني Seba الواردة في العهد العتيق3. وإذا صح أن Saba و Sabum سبأ والسبئيين، صارت هذه النصوص السومرية أقدم نصوص تأريخية تصل إلينا وفيها ذكر "سبأ"، ويكون السبئيون أول شعب عربي جنوبي يصل خبره إلينا، ونكون بذلك قد ارتقينا بسلالم تأريخها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد4. وقد ذهب "مونتكومري" Montgomery إلى أن السبئيين المذكورين في

_ 1 REP, EPIG. 4304, VHI, IX, P. 184 2 Ency., Vol., 4. P. 3, O'Leary, P. 87, Rawllnson, Cuneif Inscr. W - Asia., II, 53, 67, III, 10, No. 2, 38 3 Hommel, in: Hilprecht's Explorations in Bible Land, Philadelphia, 1903, P. 739, Ency., 4, P. 3, Arabien, S., 24 4 Arablen, S., 24

النصوص السومرية كانوا من سكان "العربية الصحراوية"، أي البادية، وهذه البادية هي مواطنهم الأصلية الأولى، ومنها ارتحلوا إلى اليمن، أما متى ارتحلوا عنها، فليس لدى هذا المستشرق علم بذلك، ويرى بعض الباحثين أن مجيء السبئيين إلى ديارهم التي عرفت باسمهم، إنما كان في ابتداء العصر الحديدي، أي في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وذلك بعد مئات من السنين، من هجرة المعينيين والقتبانيين إلى اليمن1. ورأى بعض آخر احتمال هجرة السبئيين إلى اليمن في حوالي السنة "1200" قبل الميلاد، أما هجرة المعينيين، والقتبانيين وأهل حضرموت، فقد كانت في حوالي السنة "1500 ق. م.". وقد مارس السبئيون الزراعة والتجارة، فكانت قوافلهم التجارية تصل إلى بلاد الشأم، وذلك في حوالي السنة "922 ق. م." على ما يستنبط من التوراة2. وذهب "هومل" إلى أن السبئيين هم من أهل العربية الشمالية في الأصل، غير أنهم تركوا مواطنهم هذه، وارتحلوا في القرن الثامن، قبل الميلاد إلى جنوب جزيرة العرب، حيث استقروا في منطقة "صرواح" و"مأرب" وفي الأماكن السبئية الأخرى، كانوا يقيمون على رأيه في المواضع التي عرفت بـ "أريبي" "عريبي" "أريبو" في الكتابات الآشورية وبـ "يارب"jareb = jarb في التوراة 3. ومن "يرب" "يارب" على رأيه "جاء اسم "مأرب" عاصمة "سبأ"4. ويؤيد رأيه بما جاء في النص: Glaser 1155 الذي سبق أن تحدثت عنه من تعرض السبئيين لقافلة معينية في موضع يقع بين "معان" و "رجمت" الواقع على مقربة من "نجران"5، وعنده أن هذا النص يشير إلى أن السبئيين كانوا يقيمون في أيام ازدهار حكومة معين في أرضين شمالية بالنسبة إلى اليمن، ثم

_ 1 Arabien, S., 24, Burton, Royal Inscriptions of Sumer and Akkad, 1929, P. 115, Montgomery, P. 50, Otto Etsfeiat — Festschrift, Wiesbaden, 1959, S., 153 2 الملوك الأول، الإصحاح التاسع، الآية 11،Arabien, S., 24 3 Hommel. Geographle und Geschichte des Alten Orients, I, S., 142, Aufsatz und Abhande, S., 230, 281, 302, 313 4 المصدر نفسه 5 Glaser 1155 = Halevy 535

انتقلوا إلى اليمن. ويرى في اختلاف لهجتهم عن لهجة بقية شعوب العربية الجنوبية دليلًا، آخر على أن السبئيين كانوا في الأصل سكان المواطن الشمالية من جزيرة العرب، ثم هاجروا إلى الجنوب1. وقد ذكر العهد العتيق "شبا" "سبا" تارة في الحاميين، وذكرهم تارة أخرى في الساميين، ففي الآية السابعة من الإصحاح العاشر من التكوين، وفي الآية التاسعة من الإصحاح الأول من أخبار الأيام الأول: أن "شبا" من "كوش بن حام" فهم من الكوشيين، أي من الحاميين، على حين أننا نرى في الآية الثامنة والعشرين من الإصحاح العاشر من التكوين أنهم من الساميين، وبين الحاميين والساميين، فرق كبير كما هو معلوم، ثم إننا نرى أن التوراة قد جعلت "شبا" من ولد "يقطان" في موضع2. وجعلته من ولد "يقشان" في موضع آخر3. ويقطان هو ولد من ولد "عابر" Eber أما "يقشان" فهو ولد من أولاد "إبراهيم" من زوجه "قطورة"4. وفرق بين الاثنين. ويرى علماء التوراة أن ذكر "شبا" و "سبا" تارة في الكوشيين، أي الحاميين، وتارة أخرى في اليقطانيين، أو في "اليقشانيين"، هو تعبير وكناية عن انتشار السبئيين، ونزوح قسم منهم إلى السواحل الإفريقية المقابلة، حيث سكنوا فيها، وكونوا مستوطنات بها في "الأريتريا" وفي الحبشة وفي أماكن أخرى. ولهذا ميزتهم التوراة عن بقية السبئيين المقيمين في العربية الجنوبية بجعلهم من أبناء "كوش"، وميزت السبئيين المختلطين بقبائل "يقشان" برجع نسبهم إلى "يقشان"، وبذلك صار السبئيون ثلاث فرق بحسب رواية التوراة، لانتشارهم وإقامة جماعات منهم في مواضع غريبة عن مواضعهم، وذلك قبل الميلاد بالطبع بمئات من السنين5. وقد وصفت أرض "شبا" في التوراة بأنها كانت تصدر "اللبان"6، وكانت

_ 1 Hommel Geogr I s 143 2 التكوين: الإصحاح العاشر الآية 28 3 التكوين: الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 3 4 التكوين: الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 2 5 Hastings p 490 862 Encyci Bncl P 2564 6 ارميا: الإصحاح السادس الآية 20.

ذات تجارة، وأن تجارها كانوا يتاجرون مع العبرانيين: "تجار شبا ورعمة هم تجارك، بأفخر أنواع الطيب، وبكل حجر كريم والذهب أقاموا أسواقك، حران وكنة وعدن تجار شبا وأشور وكلمد تجارك"1. واشتهرت قوافلها التجارية التي كانت ترد محملة بالأشياء النفيسة2، وعرفت بثروتها وبوجود الذهب فيها3. وقد قيل لذهبها "ذهب شبا"4. ويتبين من المواضع التي ورد فيها ذكر السبئيين في التوراة أن معارف العبرانيين عنهم قد حصلوا عليها من اتصالهم التجاري بهم، وهي محصورة في هذه الناحية فقط، فلا نجد في التوراة عن السبئيين غير هذه الأمور. وقصة زيارة "ملكة سبأ" لسلمان، المدونة في التوراة، هي تعبير عن علم العبرانيين بالسبئيين، وعن الصلات التجارية التي كانت بينهم وبين شعب سبأ. ولم تذكر التوراة اسم هذه الملكة، ولا اسم العاصمة أو الأرض التي كانت تقيم بها5. وقد ذهب بعض نقدة التوراة إلى أن هذه القصة هي أسطورة دونها كتبة التوراة، الغرض منها بيان عظمة ثروة سليمان وحكمته وملكه6. ورأى آخرون أن هذه الملكة لم تكن ملكة على مملكة سبأ الشهيرة التي هي في اليمن، وإنما كانت ملكة على مملكة عربية صغيرة في أعالي جزيرة العرب، كان سكانها من السبئيين القاطنين في الشمال. ويستدلون على ذلك بعثور المنقبين على أسماء ملكات عربيات، وعلى اسم ملك عربي، هو "يثع أمر" السبئي في النصوص الآشورية، في حين أن العلماء لم يعثروا حتى الآن على اسم ملكة في الكتابات العربية الجنوبية، ثم صعوبة تصور زيادة ملكة عربية من الجنوب إلى سليمان وتعجبها من بلاطه وحاشيتة وعظمة ملكه، مع أن بلاط "أورشليم" يجب ألا يكون شيئًا بالقياس إلى بلاط ملوك سبأ، ولهذا لا يمكن أن تكون هذه المملكة في نظر هذه الجماعة

_ 1 حزقيال: الإصحاح السابع والعشرون، الآية 22 وما بعدها، الإصحاح الثامن والثلاثون الآية 13. 2 أيوب: الإصحاح السادس، الآية 19. 3 Hastings p 842 4 المزامير: المزمور الثاني والسبعون الآية "15". 5 "فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدًّا بجمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدا وحجارة كريمة" الملوك الإصحاح العاشر، الآية 2. 6 Hastings p 843

من علماء التوراة، إلا ملكة مملكة عربية صغيرة لم تكن بعيدة عن عاصمة ملك سليمان، قد تكون في جبل شمر أو في نجد أو في نجد أو الحجاز1. وذهب بعض العلماء أيضًا إلى أن الغرض من هذه الزيارة لم يكن مجرد البحث عن الحكمة وامتحان سليمان، وإنما كان لسبب آخر على جانب كبير من الأهمية بالقياس إلى الطرفين، هو توثيق العلاقات التجارية وتسهيل التعامل التجاري بينهما2. وقد ذهب المؤرخ اليهودي "يوسفوس" إلى أن هذه الملكة كانت ملكة "أثيوبية" الحبشة ومصر. زاعمًا أن Saba اسم عاصمة الأحباش3, وأن اسم هذه الملكة: 4Naukalis. ونجد زعم "يوسفوس" هذا شائعًا فاشيًا بين أهل الحبشة، فهم يذهبون حتى اليوم إلى أن أسرتهم المالكة هي من سلالة سليمان وزوجه ملكة "شبا" ويدعونها "ماقدة" 5Makeba. ولا أظن أن "يوسفوس" قد اخترع نفسه تلك القصة، بل لا بد أن يكون قد أخذها من أفواه قومه العبرانيين. وقد وصف هذا المؤرخ زيارتها لقصر سليمان في "أورشليم"، وذكر أنها عادت إلى مملكتها بعد أن استمعت إلى حكم هذا الملك النبي6. وهو يردد بذلك صدى ما جاء في التوراة من أن زيارة تلك الملكة إنما كانت لالتماس الحكمة منه. ومهما قيل في أصل هذه القصة، وفي خبر المؤرخ "يوسفوس" عن الملكة، فإننا نستطيع أن نقول أنها ترجمة وتعبير عن الصلات التأريخية القديمة الاقتصادية والسياسية التي كانت بين سبأ والحبشة، وعن أثر السبئيين في الأحباش من جهة وبين هذا الفرق والعبرانيين من جهة أخرى، رمز إليها بهذه القصة التي قد تكون

_ 1 Montgomery, P. 181, Dhorme, Revue Biblique, P. 105, Glaser, Sktzze, II, S., 387, Dussaud, Les Arabes en Syrie, P. 10, Hastings, P. 843 2 Hastings, P. 843. Kittel, Die Biicher der Kbnige, S., 89 3 Encycl., Vol., I, P. 720 4 Ency., Vol., I, P. 720 5 ويدعى الأحباش أن "منليك" وهو جد الأسرة المالكة، هو ابن سليمان من زوجه "ماقدة" ملكة "شبا"، Encycl., Vol. I, P. 720, J. B. Coneibeaux, Histoire de L'Abyssinie, I, P. 108 6 Josephus, Jewish Antiquities, Vol., V., P. 661

زيارة فعلية حقًّا، أدهشت العبرانيين، أدهشتهم من ناحية ما شاهدوه من ثراء الملكة، وثروتها، حتى أدخلوها في التوراة للإشادة بعظمة سليمان وما بلغه من مكانة وثراء وسلطان. لقد أدهشت هذه الملكة السبئية "سليمان" حين جاءت مع قافلة كبيرة من الجمال تحمل هدايا وألطافًا من أثمن المواد الثمينة بالقياس إلى ذلك العهد، وإذا كانت هذه الزيارة قد تمت من العربية الجنوبية حقًّا، فلا بد أنها تكون قد قطعت مسافة طويلة حتى بلغت مقر "سليمان" في حوالي السنة "950 ق. م."1. وإذا أخذنا بحديث التوراة عن تجار "شبا" "سبأ" وعن قوافل السبئيين التي كانت تأتي بالذهب وباللبان وبأفخر أنواع الطيب إلى فلسطين، وذلك في أيام "سليمان" وقبل أيامه أيضًا، وجب رجع زمان هذه القوافل إذن إلى الألف الثانية قبل الميلاد، وذلك؛ لأن زيارة الملكة: ملكة سبأ لسليمان، كانت في حوالي السنة "950 ق. م." 2. ومعنى هذا أن السبئيين كانوا إذ ذاك من الشعوب العربية الجنوبية النشيطة في ذلك العهد، وقد كانوا أصحاب تجارة وقوافل وأموال لا يبالون ببعد الشقة وطول المسافة، فوصلوا بتجارتهم في ذلك الزمان إلى بلاد الشأم. وقد قص القرآن الكريم قصة زيارة ملكة "سبأ" لسليمان دون أن يذكر اسم الملكة3. غير أن المفسرين والمؤرخين وأهل الأخبار ذكروا أنها "بلقيس" وأنها من بنات التبابعة4، وقد صيرها بعضهم "بلقيس بنت ايليشرح"5، أو "بلقمة ابنة اليشرح"، أو "بلقيس بنت ذي شرح بن ذي جدن بن ايلي شرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"6، وهي "بلقيس ابنة الهدهاد بن شرحبيل"7 إلى غير ذلك من أقوال 8 وأرى أن

_ 1 Discoveries, P. 35, Hastings, P. 868 2 Discoveries, P. 35 3 سورة النمل: رقم 27 الآية 21 وما بعدها. 4 Encycl., vol., ll, p. 720 5 الطبري: "1/ 576" وما بعدها، 638، 908". 6 الطبري "1/ 254" "طبعة المطبعة الحسينية". 7 اليعقوبي "1/ 158" "طبعة النجف". 8 كتاب النيجان "ص 151" ومروج الذهب "2/ 4".

الذين جعلوا اسم والدها الهدهاد، إنما أخذوا ذلك من "الهدهد" الطير الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، والذي نقل نبأ ملكة سبأ إلى سليمان1. وقد كان الهدهاد على زعمهم في عداد ملوك اليمن، وجعلوا سليمان ملكًا على اليمن كذلك، جعلوا ملكه على اليمن ثلاثمائة وعشرين سنة، وجعلوا ملك "بلقيس" وحدها مائة وعشرين سنة2. إلى ذلك من أقوال. وقد صير "ابن دريد" اسم بلقيس "يلقمه" وأوجد تعليلًا لهذه التسمية فقال: إنها من "اليلمق"، واليلمق القباء المحشو، ويقال إنه فارسي معرب3. وذكر بعض أهل الأخبار أن "بلقيس" لم تكن متزوجة حين قدمت على سليمان، فقال لها "سليمان": لا تصلح امرأة بلا زوج، فزوجها من "سدد بن زرعة"4. وهكذا صيروا أمر ملكة سبأ كله بيد سليمان، حتى أمر اختيار زوج لها. ويرى بعض الباحثين أن ما جاء في التوراة عن السبئيين، لا يعتمد على موراد أصلية ومنابع موثوقة، بل أخذ من موارد ثانوية، ولهذا فإن في الذي جاء فيها عنهم يحملنا على اعتباره مادة كدرة، ليس فيها صفاء5. وقد ذكر السبئيون في المؤلفات اليونانية واللاتينية، وأقدم من ذكرهم من اليونان "ثيوفراستس"6. والمعلومات التي أوردها وعن جزيرة العرب وإن كانت ساذجة ذات طابع خرافي في بعض الأحيان، إلا أن بعضًا منها صحيح، وقد أخذ من أقوال التجار، ولا سيما تجار الإسكندرية، الذين كانوا يستقبلون السلع من العربية الجنوبية وإفريقيا، ومن قصص النوتيين الذين كانوا يسلكون البحر الأحمر، ويصلون إلى العربية الجنوبية وسواحل إفريقيا والهند للاتجار، وهي قصص سطحية تميل إلى المبالغات، غير أن هذه المعلومات، على الرغم من هذة النقائص وأمثالها مما تتصف به، هي ذات فائدة كبيرة لمن يريد الوقوف على

_ 1 سورة النمل، رقم 27، الآية 20. 2 اليعقوبي "1/ 158". 3 الاشتقاق "2/ 311". 4 الاشتقاق "2/ 311". 5 The Bibie and Ancient Near East P.300 6 Encyl voi lv p 5

حالة جزيرة العرب في ذلك العهد، وقد تحسنت الأخبار اليونانية واللاتينية منذ الميلاد فما بعد تحسنًا عظيمًا، ومرد ذلك إلى الاتصال المباشر الذي تم منذ ذلك العهد وما بعده بين اليونان واللاتين والعرب، وإلى الأطماع السياسية التي أظهروها تجاه جزيرة العرب، تلك الأطماع التي جعلتهم يسلكون مختلف الطرق للحصول على معلومات عن بلاد العرب، وحالة سكانها، ومواطن الضعف التي لديهم للولوج منها في بلادهم، ولتحقيق مطامع استعمارية رمت ابتلاع جزيرة العرب. ولذلك اعتبروا ما يحصلون عليه من أخبار عن هذه البلاد من أسرار الدولة التي لا يجوز إفشاؤها ولا عرضه للناس، وهي قد جمعت أضابير وخزنت في الإسكندرية لم يسمح إلا لبعض الخاصة من العلماء الثقات الاستفادة منها. ويعود غالب علمنا بأحوال السبئيين إلى الكتابات السبئية التي عثر عليها في مواضع متعددة من العربية الجنوبية، ولا سيما في الجوف مقر السبئيين، وهي أكثر عددًا من الكتابات المعينية والقتبانية والحضرمية وغيرها، وهي تشاركها في قلة عدد المؤرخ منها. وقد أرخ قسم من النصوص المؤرخة بأيام حكم سبأ أو بأيام أصحاب الجاه والنفوذ ولذلك صعب على الباحثين تثبيت تواريخها حسب التقاويم الحالية المستعملة عندنا، لعدم علمهم بأيام حكمهم، وبشخصياتهم، وصار تقديرهم لها تقديرًا غير مؤكد ولا مضبوط، بتقويم حمير الذي يبدأ، عادة بحوالي السنة "115" قبل الميلاد، أو السنة "109" قبل الميلاد، على بعض الآراء، فإن من السهل علينا تثبيت زمنها بالنسبة لسني الميلاد، وذلك بطرح الرقم "115" أو "109" من التقويم الحميري، فيكون الناتج من السنين التأريخ حسب التقويم الميلادي بصورة تقريبية. ومبدأ تقويم حمير هو السنة التي تلقب بها ملوك سبأ بلقب جديد، هو لقب "ملك سبأ وذو ريدان" وهو لقب يشير إلى حدوث تطور خطير، في حكم ملوك سبأ، إذ يعني أن ملوك سبأ أضافوا إلى ملك سبأ ملكًا جديدًا، هو أرض "ذو ريدان" أرض الريدانيين، وهو الحميريين، فتوسع بذلك ملكهم، وزاد عدد نفوسهم، فأرخوا بسنة التوسع هذه، واعتبروها مبدأ لتقويم، والعلماء الباحثون في تأريخ سبأ، هم الذين استنبطوا أن هذا المبدأ هو من حوالي السنة "115" أو "109" قبل الميلاد. ويلاحظ أن السبئيين لم يهملوا بعد أخذهم بمبدأ التقويم الحميري التوريخ

بالطريقة القديمة المألوفة وأعني بها التأريخ بالأشخاص وبالحوادث الجسام بالنسبة لأيامهم، حتى الملوك أرخوا بعض كتاباتهم على وفق هذه الطريقة، وأرخوا البعض الآخر وفقًا للتقويم الحميري الجديد. مما يدل على أنهم لم يتمكنوا من إهمال الطريقة القديمة لشيوعها بين الناس، ولدينا أسماء عدد من الأسر والأشخاص أرخت بهما الكتابات السبئية المؤرخة، مثل: "آل حزفر" "حزفرم" و"آل يهسحم" "يهسحم" و "سالم بن يهنعم" و"آل خليل" وغيرهم1.آوهي تواريخ محلية، لذلك تنوعت وتعددت, ويؤيد ذلك أنا نجد الملك يؤرخ بجملة أشخاص. ولما كان من الصعب الاستمرار بالتأريخ على وفق هذه الطريقة، إذ الحوادث الجديدة تطمس ذكر الحوادث القديمة، كانت التواريخ تتبدل بهذا التبدل، فينسى الناس القديم ويؤرخون بالجديد، وهكذا، وقد حرمنا هذا التغير الفائدة المرجوة من تأريخ الحوادث. وقد تبين من الكتابات السبئية أن لقب حكام سبأ، لم يكن لقبًا ثابتًا مسقرًّا بل تبدل مرارًا، وأن كل تبدل هو لتبدل الحكم في سبأ ودخوله في عهد يختلف عنوانه عن العهد القديم، ولذلك صار الحكم أدوارًا، واضطر المؤرخون المحدثون إلى التأريخ بموجبها، فدور أول، وهو أقدم أدوار الحكم لقب حكامه فيه: "مكرب سبأ"، ثم دور تال له صار اللقب فيه: "ملك سبأ"، ثم دور آخر تغير فيه عنوان الملك فصار: "ملك سبأ وذو ريدان" وقد وقع في حوالي السنة "115" أو "109" قبل الميلاد. جاء بعده دور جديد صار اللقب الرسمي فيه على هذا النحو: "ملك سبأ وذو ريدان وحضوموت واليمن وأعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، وهو آخر دور من أدوار الحكم في سبأ وخاتمة الأدوار. وبفضل الكتابات السبئية حصلنا على شيء من العلم بأصول الحكم في سبأ وبما سأكتبه وبما كتبه غيري عنهم، وبفضل البقية الباقية من آثار خرائب مدنهم وقراهم ومستوطناتهم استطعنا تكوين إلمامة عن فنهم وعن العمران عنهم، وعن نظم الري والزراعة لديهم وغير ذلك مما سأتحدث عنه، ولولا تلك الكتابات ولولا هذه البقية من الآثار لما صار في إمكاننا الكلام عنهم إلا بإيجاز مخل وكلنا أمل

_ 1 Sab. Inschr., S., 3

بالطبع في أن تتبدل الأيام، فتنعم العربية الجنوبية بالاستقرار، وبرجال ذوي عقول مستقلة نيرة، تفهم روح الوقت وتبدل الزمن فتأمر بنبش الأرض لاستنباط ما هو مدفون في باطنها من كنوز روحية ومادية، وعندئذ يستطيع من يأتي بعدنا أن ينال الحظ السعيد بالكتابة عن تلك البلاد كتابة تجعل كتابتنا الحالية شيئًا تافهًا قديمًا باليًا تجاه ما سيعثر عليه من جديد، وأني أرجو له منذ الآن الموافقة والنجاح؛ لأني وإن كنت قد دخلت إذ ذاك في باطن الأرض، فصرت ترابًا ضائعًا بين الأتربة، غير أن لي رجاء وأملًا لا ينقطعان ولا ينتهيان بموت، هو رجاء الكشف عن الماضي الميت وبعثه ونشره وحشره من جديد. إننا لا زلنا مع ذلك في جهل بنواح عديدة من نواحي الحياة في الممالك العربية الجنوبية التي تكونت في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية. نواح تتعلق بالقوانين وبأصول التشريع، وبالحياة الاجتماعية، وبالحياة الدينية أو الفنية، بل وفي عدد من حكم تلك الممالك وفي ترتيبهم وأعمالهم وما قاموا به، وبصلات أولئك الحكام ببقية جزيرة العرب وبالعالم الخارجي. ودراسة العلماء عن تأريخ العرب الجنوبية الجاهلي وإن تقدمت في خلال السنين المتأخرة، ولكنها لا تزال مع ذلك في بدء مراحلها وهي تجري ببطء وتؤدة.

_ 1 Hastings, P, 504, Encycl, Bibl, P. 2632

المكربون

المكربون مدخل ... المكربون: لقب أقدم حكام سبأ، بلقب "مكرب" في الكتابات السبئية، وفي هذا اللقب معنى "مقرب" في لهجتنا، وتدل اللفظة على التقريب، من الآلهة، فكان "المكرب" هو مقرب أو وسيط بين الآلهة والناس، أو واسطة بينها وبين الخلق. وقد كان هؤلاء "المقربون" "المكربون" في الواقع كهانًا، مقامهم مقام "المزواد" عند المعينيين و "شوفيط" Shophet وجمعها "شوفيطيم" عند العبرانيين، أي "القضاة"1. وجاء في كتب اللغة: "كرب الأمر يكرب كروبًا: دنا، يقال: كربت حياة النار، أي قرب انطفاؤها، وكل شيء دنا، فقد كرب

قال أبو عبيد: كرب، أي دنا من ذلك وقرب، وكل دان قريب، فهو كارب. وورد: الكروبيون سادة الملائكة، منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل هم المقربون، والملائكة الكروبيون أقرب الملائكة إلى العرش1. فللفظة معنى التقريب حتى في عربيتنا هذه: عربية القرآن الكريم. وقد قدر "ملاكر" Mlaker حكم المكربين بحوالي قرنين ونصف قرن إذ افترض أن حكم المكرب الأول كان في حوالي السنة "800 ق. م."، وجعل نهاية حكم المكربين في حوالي السنة "650 ق. م." وفي حوالي هذا الزمن استبدل -على رأيه- بلقب مكرب لقب "ملك" وانتهى بهذا التغيير في اللقب دور المكربين2. وقدر غيره حكم المكربين بزهاء ثلاثة قرون، فجعل مبدأ حكمهم في حوالي السنة "750 ق. م."، ونهاية حكمهم في حوالي السنة "450 ق. م."3، وجعل بعض آخر مبدأ حكم المكربين في القرن العاشر أو القرن التاسع قبل الميلاد4. وقد تمكن العلماء من جمع زهاء سبعة عشر مكربًا، وردت أسماؤهم في الكتابات العربية الجنوبية، وكانوا يقيمون في عاصمة سبأ القديمة الأولى مدينة "صرواح". وقد رتب أولئك العلماء أسماء المكربين في مجموعات، وضعوا لها تواريخ تقريبية، لعدم وجود تواريخ ثابتة تثبت حكم كل ملك بصورة قاطعة، ولذلك تباينت عندهم التواريخ وتضاربت، فقدم بعضهم تأريخ الأسرة الأولى، بأن وضع لحكمها تأريخًا يبعد عن الميلاد أكثر من غيره، وقصر آخرون في التأريخ وأخروا، وكل آرائهم في نظري فرضيات لا يمكن ترجيح بعضها على بعض في هذا اليوم، وقد يأتي يوم يكون في الإمكان فيه تثبيت تواريخهم بصورة قريبة من الواقع، استنادًا إلى الكتابات التي سيعثر عليها وعلى دراسة الخطوط وتقدير أعمار ما يعثر عليه وتحليل محتوياته بالأساليب الآثارية الحديثة التي تقدمت اليوم كثيرًا، وستتقدم أكثر من ذلك في المستقبل من غير شك.

_ 1 اللسان "2/ 206"، تاج العروس "1/ 453". Freytae, Lexicon, IV, P. 21 2 Mlaker, Die Hierodulenlisten von Ma'in nebst Untersuchungen zur altsudarabischen echtgeschichte und Chronologie, Samml.Orientalist. Arab., 15, BeitrSge, S., 7. 3 Discoveries, P. 73 4 BOASOOR, NUM., 137, (1955) , P. 38 Arablen, S., 122

ويعد المكرب "سمه على" أقدم مكرب وصل إلينا اسمه. ولا نعرف اللقب الذي كان يلقب به، ومن عادة حكام العربية الجنوبية من مكربين وملوك اتخاذ ألقاب يعرفون بها، ومن هذه الألقاب نستطيع التفريق بينهم، ولا نعرف شيئًا كذلك من أمر والده، وقد جعل "فلبي" مبدأ حكمه بحدود عام "800" قبل الميلاد في كتابه "سناد الإسلام"1 وبحدود سنة "820" قبل الميلاد في المقال الذي نشره في مجلة "2Le Museon". وتعد الكتابة الموسومة بـ Glaser 1147، من كتابات أيام هذا المكرب، وهي كتابة قصيرة مكتوبة على الطريقة الحلزونية Boustrophedon كأكثر كتابات أيام المكربين، ولقصرها ونقصها لم نستفد منها فائدة تذكر في الوقوف على شيء من حياة هذا المكرب3. وقد عد "كلاسر" الكتابة الموسومة بـGlaser 926 من كتابات أيام هذا المكرب، وتابعه على ذلك "فلبي"4. وهي من الكتابات المدونة على الطريقة الحلزونية Boustrophedon وقد كتبت عند إنشاء بناء، وصاحبها "صبحم بن يثع كرب فقضن"5 وقد ورد فيها اسم "سبأ" و"مرب" أي مدينة "مأرب" و"فيش" "فيشان"، ووردت فيها لفظة "فراهو" أي "سيدة" قبل اسم "سمه علي" الذي كان يحكم شعب "سبأ" في ذلك العهد، ودونت في النص أسماء الآلهة: عثتر، و"المقه" و"ذت بعدن"6، على العادة المألوفة في التيمن بذكر أسماء الآلهة في الكتابات، ثم التيمن بذكر اسم الحاكم من مكرب، أو ملك يوم تدوين الكتابة. والنص المذكور ناقص يكمله النص المرسوم بـCIH 955 على رأي بعض الباحثين7.

_ 1 Background, P. 141 2 Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 248 3 Glaser 1147, CIH 367, Vlndob 14, CIH, IV, II, P. 14, D.H. Miiller, Sudarabische Alterthiimer im Kunsthistorischen Hofmuseum, 1890, S., 34, Hommel, Aufsatze., S., 144 4 Le Museon, LXII, 3-4, (1949) , P. 248, CIH 418, IV, II, II, P. 99 5 "صبح بن يتعكرب فقضان". 6 "ذات حميم" "ذات بعدان" "ذات حمم" "ذات البعد". 7 Glaser 927, CIH, IV, III, II, P. 282

وللمكرب المذكور ولد اسمه "يدع آل ذرح"1، حكم على رأي "فلبي". تمثال من البرنز قدمه رجل اسمه "معد يكرب" إلى الإله "المقه". بعل أوام، ويعود عهده إلى القرن السادس قبل الميلاد. من كتاب Qataban and Sheba "الصفحة 273". حوالي سنة "800 ق. م."2. وقد عثر على عدد من الكتابات من أيامه،

_ 1 "يدع ايل ذرح" يدع ايل ذراح". 2 Museon, LXII, 3-4, "1949", P. 248

منها الكتابة التي وجدت في "حرم بلقيس" "محرم بلقيس"، وميزت عن غيرها بعلامة:1Glaser 484 وقد ورد فيها أن هذا المكرب أقام جدار معبد "أوم" "أوام" المخصص بعبادة "المقه" "اوم بيت المقه" إله "سبأ"، "هوبس"2، وتشبه هذه الكتابة شبهًا كبيرًا كتابة أخرى وسمت بـ 3Glaser 901 لـ "يدع آل ذرح" أيضًا، وقد أخبر "يدع آل ذرح" فيها أنه سور "بيت المقه" وهو معبد الإله بمدينة "صرواح"، وأنه قرب ثلاثة لهذه المناسبة إلى الآلهة "حرمتم" "حرمة" "حرمت" "حريمت" ويرى "هومل" أن هذه الإهة هي زوج الإله "المقه" إله سبأ4. والنصان: Glaser 1108 و Glaser 1109 يرجعان إلى المكرب "يدع آل ذرح" كذلك، وقد أخبر فيها أنه عني بتعمير معبد "المقه" وأضاف أجزاء جديدة إليه، وذكر في أحدهما الإلهان المقه وعثتر. وذكر في الآخر الآلهة: عثتر، والمقه، وذات حميم5. وعثر على كتابة أخرى في موضع "المساجد"، بمأرب، تبين منها أن هذا المكرب تقرب إلى إله سبأ الإله "المقه" ببناء معبد له6. وتعود الكتابات AF.17 و AF. 24 و AF. 23 و AF 38 إلى هذا المكرب كذلك، وهي من الكتابات التي عثر عليها أحمد فخري المصري الذي أمَّ اليمن عام "1917م"7. وتعود الكتابة CIH 633 إلى أيامه أيضًا8.

_ 1 Rhodokanakis, Studien zur Lexikographie, II, S., 7, CIH, IV, III, n, P. 284, 957, Glaser, Reise, S., 137, REP. EPIG., 3624, I, P. 245, Handbuch. I, S., 77 2 Glaser 484, 901, 1530, 1531, HalSvy 50, 54, 55-60, Arnau 901, CIH 366, IV, III, II, P. 284, IV, II, P. 10, Mackell 3, Presnel 4, 5, 6-10, Hartmann, Arabische Frage, S., 124 3 المصادر المذكورة. 4 Handbuch, S., 77 5 REP. EPIG. 3949, 3950, VII, I, P. 2, A. G. Loundine, Yada'U darih, fUs de Sumh'alay, Mukarrib de Saba, Moscou, 1960, P. 1 6 Beitrage, S-, 22, 28, 30, Loundine, P. 5 7 Le Museon, LXI, 3-4, (1948) , PP. 215, 228, LXII, 3-4, 1949, P. 248 8 CIH 633, H&16vy 61, REP. EPIG. 2729, V, II, P. 75

وتدل هذه الكتابات على أن "المكرب" المذكور قد اهتم كثيرًا ببناء معبد "أوام" في مأرب، المعبد الذي يعرف بين أهل المنطقة باسم "محرم بلقيس" وبإضافة زيادات عليه، وبترميمه أيضًا، وأغلب الظن أنه لم يكن هو الباني له، وإنما كان موجودًا ومبينًا قبله، غير أن الباحثين لم يتمكنوا من العثور على اسم بانيه حتى الآن؛ لأن أعمال الحفر فيه لم تتم بصورة علمية واسعة فيه حتى الآن، والكتابة التي سجلها المكرب المذكور لم تشر إلى بناء المعبد كله، بل أشارت إلى أجزاء معينة منه وهي لا تزال تحمل اسمه1، وهناك كتابات أخرى تحمل اسم حكام سبأ من مكربين وملوك ووجهاء ممن أضافوا أبنيه جديدة إلى هذا المعبد، أو قاموا بإصلاح ما حدث فيه من خلل بمرور السنين2. وقد ذهب "فلبي" إلى أن هذا المكرب كان قد حكم في حوالي سنة "800 ق. م."3 وذهب "فون وزمن"4 إلى أن حكمه كان في أواسط النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد، أو في أوائله5، وثبت آخرون حكمه بحوالي السنة "750 ق. م."6. وكان لـ "يدع آل ذرح" ولد اسمه "سمه علي ينف"7، ورد اسمه في الكتابة 8CIH 636، وهي كتابة ناقصة سقط أكثر ما دون فيها، ولم يذكر "هومل" اسمه في القائمة التي صنعها لمكربي "سبأ"9 ولم يذكره "فلبي" كذلك في كتابه "سناد الإسلام"10 غير أنه ذكر اسمه في القائمة التي نشرها في مجلة Le Museon وجعله المكرب الثالث، أي أنه وضعه بعد "يدع

_ 1 BOASOOR, NUM. 137, 1955, P. 38 2 Arablen, S., 177 3 Le MusSon, T.XTT, 3-4, (1949) , P. 248 4 Bettrage, S- 22 5 Discoveries, P. 221, c A note on Early Sabaean Chronology, In BOASOOR, NUM. 143, 1956, P. 9 6 Arablen, S-, 177 7 "سمه على ينوف"، سمه على النائف"، سمهعلي ينوف". 8 Halfivy 338, Glaser 1468 9 Handbuch, I, S., 77 10 Background, P. 141

آل ذرح" والده مباشرة، وجعله مكربًا1. ولم ترد في النص المذكور كلمة "مكرب" بعد اسم "سمه علي ينف"، وإنما ذكرت بعد اسم "يدع آل ذرح"2، وهذا يعني أن هذه الكلمة، وهي "مكرب" ليست لـ "سمه علي"، وإنما تخص الأقرب إليها، وهو "يدع آل ذرح". وقد ورد اسم "سمه علي" بعد اسم "يدع آل" وقبل اسم "يثع أمر" في الكتابة المعروفة بـ 3Gleser 694 ولم ترد فيها نعوتهم، ولا كلمة "مكرب" التي هي الدلالة الرسمية المنبئة بتبوئهم الحكم. وقد وضع "فلبي" الكتابتين المرقمتين CIH 368 و CIH 371 في جملة الكتابات من أيام المكرب "سمه علي ينف"4. أما الكتابة الأولى، فصاحبها "عم أمر بن أب أمر ذيبرن"، أي من عشيرة "يبرن" "يبران"، ولعله كان سيدًا من ساداتها. وكان من المقربين لـ "سمه علي" ولشقيقه "يثع أمر" ولعله كان من ندمائهما، بدليل ورود جملة "مودد سمه علي ويثع أمر" في النص، أي أنه كان من المتوددين إليها، وتعبر لفظة "مودد" عن منزلة رفيعة عند السبئيين تضاهي منزلة "نديم" عند العرب الشماليين. وقد دون "عم أمر" تلك الكتابة عند بنائه بيته "مردعم" "مردع" في مدينة "منيتم" "منيت" "منية"5. وأما الكتابة الثانية فصاحبها "عم أمر بن أب أمر"، وهو من عشيرة أخرى اسمها "ذ لخدم"، "لخد" ويظهر أنه كان من أشرافها، فهو شخص آخر يختلف عن الشخص الأول، وإن اشتركا في الاسم ولم يرد في هذه الكتابة الثانية اسم أي مكرب من المكربين، لذلك لا أستطيع أن أضيف هذه الكتابة الثانية إلى أيام "سمه علي". والذي حمل "فلبي" على إضافتها إلى أيام هذا المكرب هو كون اسم صاحب الكتابتين واحدًا، فظن أنهما رجل واحد، وأن صاحب الكتابتين واحد أيضًا، ولورود اسم "سمه علي" و"يثع أمر" في النص الأول، أضاف النص الثاني إلى

_ 1 Le Museon, LXn, 3-4, (1949) , P. 448 2 CIH, IV, in, I, P. 71, REP. EPIG., V. II, PP. 191, 2857 3 REP. EPIG., 3623, VI, I, P. 245 4 Le Museon, LXH, 3-4, (1949) , P. 248 5 Le Museon, T.XTT, 3-4, (1949) , P. 248, CIH 368, Hal6vy, 596

النصوص من أيام المكربين، ولو انتبه إلى أن كل واحد منهما هو من قبيلة تختلف عن القبيلة الأخرى، لما أضاف الكتابة الثانية إلى أيام المكربين المذكورين. وأشار "فلبي" إلى اسم ولد من أولاد "سمه علي ينف" سماه "يدع آل وتر" ولم يشر إلى أنه كان مكربًا، وذكر أنه حصل على اسمه من النصوص 1AF 86, 91 92. ونسب "فلبي" زمن تدوين النصوص: CIH 490 و CIH 492 و CIH 493 و CIH 495 إلى عهد "يثع أمر وتر"2. أما النص CIH 490 فقد وضع ناشره ومحققه لفظة "ملك" بعد اسم "يثع أمر"، وذلك بإكمال الحرفين الباقيين من الكلمة المطموس آخرها، الواردة بعد "وتر"، وهما "الميم" و"اللام". فإذا كانت القراءة صحيحة، انصرف الذهن عن "يثع أمر وتر" هذا إلى "يثع أمر" آخر يجب أن يكون ملكًا على سبأ، وإن كانت القراءة مغلوطة، كأن يكون أصلها المطموس لفظة "مكرب"، جاز حينئذ أن يكون "يثع أمر" هو "يثع أمر وتر" المذكور الذي قصده "فلبي"3، وتتضمن هذه الكتابة خبرًا يفيد أن "يثع أمر وتر بن يدع ايل ذرح" جدد بناء معبد الإله "هبس" "هوبس", وقد عثر عليها في الموضع المسمى بـ "الدبر" "دبر" في الزمن الحاضر4. ويرى "هومل" أن "دبر" "دابر"، هو اسم قبيلة، وقد بنت معبدًا سمي باسمها، وقد جدد بناءه هذا المكرب "يثع أمر وتر"5. وقد ورد اسم "دبر" في كتابات أخرى، ولهذا ذهب "هومل" إلى أنه اسم المعبد المذكور: معبد الإله "هوبس"، وهذه الكتابة من القرن الثامن قبل الميلاد في رأي بعض الباحثين، ومعنى هذا أن حكم هذا المكرب السبئي "يثع أمر وتر" كان قد بلغ أرض معين في هذا العهد6. وأما النص CIH 492 فهو نص قديم أيضًا، كتب على الطريقة الحلزونية

_ 1 Le Museon, LXH, 3-4, (1949) , P. 248 2 Le MusSon, LXH, 3-4, (1949) , P, 248 3 CIH, IV, n, P. 190, Halevy 626 + 627, Handbuch, I, S., 77, Beitrage, S., 23 4 Handbuch, I, S., 77, Beltrage> S., 23 5 Beltrage, S-, 23, Hommel, Ethnologie, S., 674 6 Halevy 511, + 627, BeltrSge, S., 23

الشائعة بين السبئيين في أيام المكربين وصاحبه رجل اسمه "حيم بن بعثتر رحضن"1. أي من "آل رحضان" "رحاض"، وقد قدم إلى الآلهة "ذات حميم" نذرًا لعافيته ولعافية بنته وأولاده2. ولكننا لا نجد فيه أي تصريح أو تلميح إلى اسم المكرب "يثع أمر وتر" أو إلى أبيه. وأما النص "CIH 493، فصاحبه رجل اسمه "حميم بن عم يدع"3. من "آل قدران" "ذ قدرن"4 فهو امرؤ لا صلة له بصاحب النص المتقدم CIH492. وقد ورد في النص اسم "يدع ايل" و "يثع أمر"، ولم يذكر فيه نعت الرجلين، ومن الجائز أن يكون "يدع ايل" و "يثع أمر" المذكوران هما المكربان اللذان نبحث عنهما، أي المكرب الوالد وابنه، ومن الجائز أيضًا ألا يكونا هما، فهنالك فجوات لا نعرف عمقها في تأريخ سبأ، قد تكون فيها، خبايا من أسماء مكربين وملوك, وأعتقد أن اسم "حيم" هو الذي حمل "فلبي" على حشر النص السابق بين النصوص التي ظن أن لها علاقة بالمكرب "يثع أمر وتر"، على اعتبار أن الرجلين رجل واحد، ولكن الواقع أنهما شخصان مختلفان. وأما النص CIH495 فصاحبه "حيم بن عم يدع" من "آل قدرن"، أي صاحب النص CIH 493 المذكور، ولذلك أضافه "فلبي" إلى النصوص التي لها صلة بالمكرب "يثع أمر وتر"، ولم يرد في هذا النص اسم هذا المكرب ولا اسم أبيه، ولعلهما سقطا في جملة ما سقط من أسطر وكلمات. وقد وضع "هومل" اسم "يدع آل بين" "يدع ايل بين" بعد اسم "يثع أمر وتر" ليكون المكرب التالي له، وهو –على رأيه- ابنه وخليفته من بعده5. ومن أهم أعماله المذكورة في الكتابات، تحصينه وتقويته أبراج مدينة

_ 1 "حيوم بن بعثتر رحضان" "حي بن بعثتر رحضان". 2 CIH, IV, II P. 194, Massil, 12, REP. EPIG 3 "حيوم بن عم يدع" "حي بن عميدع". 4 CIH. 493, Muller, 4, Praet 8, British Museum 64 + 59 5 Backgrund, P. 37

"نشق" من المعينيين1. ويدل ذلك على أن هذه المدينة كانت قد دخلت في ممتلكات السبئيين، في زمن لا نعرفه، قد يكون في أيام هذا المكرب وقد يكون قبل ذلك، وأن السبئيين كانوا يتبعون خطة التوسع بالتدرج حتى ابتلعوا مملكة "معين"2. وقد رأيت أنهم كانوا قد استولوا على قرية "دبر" "دابر"، وحصنوها، واتخذوها قاعدة حصينة للإغارة منها على الجوف وعلى المعينيين. ويرى بعض الباحثين أن استيلاء المكرب المذكور، كان في أواسط القرن الثامن، قبل الميلاد، وقد أمر بإحاطة تلك المدينة بسور، وقد توسعت رقعتها، إلا أنها لم تلبث أن انفصلت من السبئيين، ثم عاد السبئيون فاستولوا عليها، في أيام المكرب والملك "كريب ايل وتر"3. وحكم بعد "يدع ايل بين" المكرب "يثع أمر"، على رأي "هومل"، ولم يشر إلى نعته. ويرى "هومل" احتمال كونها ابنًا لـ "يدع ايل بين" أو شقيقًا له4. أما "فلبي"، فيرى أن "يثع أمر" هو أحد أولاد "سمه علي ينف" "سمه علي ينوف"5. وهو شقيق "يدع ايل بين"، وقد ورد اسمه في النص 6CIH 563 فيكون بذلك –على رأيه- ابن شقيق "يدع ايل". لا ابنه، وذكر "فلبي" أنه عرف بـ "يثع أمر وتر" وجعله معاصرًا للملك سرجون7. والنص CIH 563 مكتوب على الطريقة "الحلزونية"، ويتألف من جملة أسطر، وقد ورد فيه نعت "يثع أمر"، وهو "وتر"8.

_ 1 REP. EPIG. 2850, V. II, P. 184, Handbuch, I, S., 77 CIH 634 IV, III, I, P. 70, IV, I III, P. 202, Glaser 117, CIH 138. 2 ,Background, P. 37, REP. EPIG. 2850, V. H, P. 184, Handbuch, I, S., 77, Beitrage, S., 15, CIH 634 3 Beltrage, S., 15 4 Handbuch, I, S., 77 5 Background, P. 141 6 Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 248 7 Background, p. 141 8 CIH 563, British Museum 66, Prldeaux 14a, B. C

وقد ورد في كتابة من كتابات الملك "سرجون" الثاني "722- 705 ق. م." أنه تسلم هدايا من عدد من الملوك، من جملتهم "يثع أمر" ItfAmra Matsa – Ba’- ai lt –Amra السبئي، والملكة "شمس" ملكة "اربي" "عربي" وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "يثع أمر" المذكور في نص "سرجون" هو "مكرب" سبأ هذا الذي نتحدث عنه1. غير أن النص لم يحدد مكان حكم ذلك الملك السبئي، ولهذا ذهب بعض آخر إلى احتمال كونه أحد الملوك السبئيين الحاكمين في شمال جزيرة العرب على مقربة من البادية في أعالي الحجار أو نجد مثلًا، أو في الأرض الواقعة في المناطق الجنوبية من الأردن2. وكان "هومل" ممن يرون أن "يثع أمر" المذكور في نص "سرجون" هو أحد الملوك السبئيين الحاكمين على قبيلة سبئية في شمال جزيرة العرب، غير أنه غير رأيه هذا، وجعل "يثع أمر" هو "يثع أمر" الذي نبحث فيه، أي مكرب سبأ، وذلك عندما عثرت بعثة ألمانية على كتابة للملك "سنحريب" "سنحاريب"، جاء فيها: أنه تناول هدية من ملك سبئي هو "كرب ايلو" "كرب ايل"، فتيقن عندئذ أن الرجلين المذكورين اللذين قدما الهدايا هما المكربان: "يثع أمر" و "كرب ايل"3. ولا أجد في تلك الهدايا علامة على خضوع سبأ لحكم الآشوريين، إذ أستبعد بلوغ نفوذ الآشوريين في ذلك الزمن إلى أرض اليمن، ولو كان الآشوريون قد استذلوا السبئيين اليمانيين وحكموهم لذكروا اسمهم في جملة الأمم التي استبعدوها. والرأي عندي أن تلك الهدايا هي مجرد تعبير عن الصداقة التي كانت تربط بين آشور وسبأ، خاصة وأن بين اليمن والعراق تجارة مستمرة قديمة ومواصلات

_ 1 Bota and Flandin, Monument, Vol., 4, PL. 145, I, 3, Winckler, Keilschrift Sargons, 1889, BD., PL. 2, No. I, Z., 20, Musil, Arabia Deserta, P. 479. 2 Handbuch, S., 76 3 بخصوص آراء الباحثين في "يثع أمر" راجع أيضا: BOASOOR, Num. 137, 1955, PP., Archiv fur Orientforschung, 16, 1955, S. 232, Handbuch, I, S., 76, Beeston, "Problems of Sabaean Chronology,In BOASOOR, 1954, XVI/I, PP. 42

متصلة، فلتوطيد الصداقة بين الحكومتين وتسهيل التبادل التجاري بين العراق واليمن أرسل حكام سبأ تلك الهدايا كما فعل أهل مكة وهم قوم تجار فيما بعد، فقد كانوا يتوددون للأكاسرة ولملوك الحيرة بإرسال الهدايا النفيسة لهم، لكسب ودهم من تسهيل أمور تجارتهم مع أسواق العراق. وإذا أخذنا برأي من يقول: إن "يثع أمر" المذكور في نص "سرجون"، هو "يثع أمر" الذي نبحث فيه، يكون إرسال الهدايا والألطاف إلى "سرجون" في حوالي السنة "715 ق. م."1، وقد قدر "فلبي" حكمه بحوالي عشرين سنة، وجعله من حوالي سنة "720" حتى سنة "700 ق. م."2. وتولى الحكم بعد "يثع أمر وتر" ابنه المكرب "كرب ايل بين"، وقد ذكر اسمه في الكتابة3CIH 627 وهي كتابة قصيرة ناقصة، ورد فيها اسم "كرب ايل بين" ومعه اسم والده "يثع أمر"، ولم يذكر فيها نعت "يثع أمر" وهو "وتر" وذكرت بعد اسم "يثع أمر" كلمة "مكرب سبأ"4 وورد اسمه واسم أبيه "يثع أمر" في كتابات أخرى، ذكرت في بعضها لفظة "وتر"، بعد "يثع أمر"5، وذكرت في بعض آخر كلمة "مكرب"، ولم تذكر في غيره. وقد ورد في الكتابة CIH 634: أن "كرب ايل بين" وسع حدود مدينة "نشق" بمقدار ستين "شوحطًا"6، وحسن المدينة. وورد في أخبار "سنحريب" أنه تسلم هدايا من "كرب ايلو" Ka- ri- bi- lu ملك سبأ، من جملتها أحجار كريمة وعطور، وقد ذهب الباحثون في هذا الموضوع إلى أن هذا السبئي، الذي قدم الهدايا إلى ملك آشور، هو "المكرب كرب آل بين" الذي نبحث عن سيرته. وإن كان النص الآشوري قد نعته بـ "ملك"؛ وذلك لأن الآشوريين لم يكونوا على علم بألقاب حكام سبأ،

_ 1 Beitrage, S., 7, BOASOOR, NUM. 143, (1956) , P. 10 2 Background, P. 141 3 Le Museon, LXII, 3-4, (1949) , P. 248 4 CIH 627, Fresnel 29, Glaser 541, CIH, III, I, P. 63 5 CIH 632, Hal6vy 52, 349, 672, Glaser 1529, CIH 610, Le Museon, 3-4, P. 248 6 CIH, IV, III, I, 72, Halevy, 352

فلقبوه بلقب "ملك"1. وقد جعل "هومل" اسم "كرب ايل بين" في آخر المجموعة الأولى من مجموعات مكربي سبأ. ووضع إلى جنبه اسم "سمه علي ينف"، وصارت مجموعته هذه بذلك على هذا النحو: 1- سمه علي "دون نعت". 2- يدع ايل ذرح. 3- يثع أمر وتر. 4- يدع ايل بين. 5- يثع أمر "لا يعرف نعته". 6- كرب ايل "بين" و "سمه علي ينف"، ولعله كان يشارك شقيقه "كرب ايل بين" في الحكم2. وولي الحكم بعد "كرب ايل بين" ابنه المكرب "ذمر علي وتر"، وإليه تعود الكتابة الموسومة بـ "Halevy 349 وقد جاء فيها: أن هذا المكرب أمر يتوسع مدينة "نشقم"، أي "نشق"، وبإصلاح الأرضين المحيطة بها، وبتحسين نظم الري فيها، وذلك فيما وراء الحد الذي وضعه أبوه لهذه المدينة، وأنه قد جعل ذلك وقفًا على شعب سبأ3. ويظهر من عناية المكربين بمدينة "نشق"، وهي مدينة معينية في الأصل أن السبئيين وجدوها أرضًا خصبة غنية ومهمة بالنسبة إليهم، وقد صارت خرابًا فقرروا إصلاح ما تخرب منها، واستصلاح أرضها لإسكان السبئيين فيها، ووسعوا في حدودها، وأصلحوا ما تداعى ووهن من نظم الري فيها، ووزعوا الأرضين الزراعية منها على أتباعهم السبئيين وحولوها، بذلك إلى مدينة سبئية4. وقد كانت الشعوب القديمة تتبع هذه السياسية، حيث كانت تستقطع الأرض من المدن التي

_ 1 Ency. Brita., Vol., 19, P. 785, Handbuch., I, S., 76, 85, Otto Schroder, Keilschrifttexte, II, Leipzig, 1922, 122 2 Handbuch, I, S., 77 3 Halevy 349, Rhodokanakis, Studi. LexL, 2, S., 126, CIH 623, IV, III, I, P. 38,REP. EPIG. 3388, 4401, CIH 610 4 Rhodokanakis, Studi. Lexi., II, S., 127, REP. EPIG. 3865, V,II,P. 200

تفتحها، وتعطيها أفرادها، للسكن فيها ولإعمارها وللهيمنة على أهل المدينة الأصليين. وقد جاء في إحدى الكتابات: أن هذا المكرب أمر بتجديد ما تلف وتداعى من معبد الإله "عثتر"، وإصلاحه، ولم يرد فيها ذكر اسم الموضوع الذي كان فيه ذلك المعبد1. كما جاء اسمه في كتابة أخرى دونها قيل "قول" كان يحكم قبيلة "يهزحم" و"يزحم"2. وتولى بعد المكرب "ذمر علي" ابنه المكرب "سمه علي ينف" "سمه علي ينوف" الحكم، وقد ذكر اسمه في كتابات عدة من أهمها كتابة تشير إلى تعمير هذا المكرب سد "رحبم" "رحاب" للسيطرة على مياه الأمطار والاستفادة من السيول3. وهو جزء من المشروع المعروف بـ "سد مأرب" الذي نما على مرور الأيام، وتوسع حتى كمل في زمن "شهر يهرعش" في نهاية القرن الثالث للميلاد، فصارت تستفيد منه مساحة واسعة من الأرض4. وقد بقي قائمًا إلى قبيل الإسلام، وعد سقوطه نكبة كبيرة من النكبات التي أصابت العربية الجنوبية، حتى ضرب بسقوطه المثل، فقيل: "تفرقوا أيدي سبأ"؛ ذلك لأن سقوطه أدى إلى تفرق السبئيين، وإلى هجرتهم من بلادهم التي ولدوا فيها وإلى تفرقهم شذر مذر في البلاد. وتخبر الكتابة الموسومة بـ Glaser 514 أن المكرب "سمه علي ينف" ثقب، حاجزًا من الحجر، وفتح ثغرة فيه لمرور المياه منها إلى سد "رحبم" "رحاب" لتسيل إلى منطقة "يسرن"5 "يسران"، وهي منطقة ورد اسمها في كتابات عديدة، وكانت تغذيها مسايل وقنوات عديدة تأتي بالماء من حوض هذا المسند6. وتبتلع ماءها من مسيل "ذنة" وهو من المسايل الكبيرة، فتغذي أرضًا خصبة

_ 1 Glaser 474, 1671, REP. EPIG. 4401 2 Orientalia, Vol., V, 1936, P. 5, E. Mittwoch und H. Schlobies, "Altsudarabische Inschriften im Hamburgischen Museum fur Volkerkunde", Hamburg,NE. 31 3 CIH 623, IV, III, I, P. 60, Fresnel 14, Halevy 673 + 674, Glaser 513 + 514, Arnau 14. 4 Handbuch, S., 79, Discoveries, P. 73 5 Rhodokanakis, Studi. Lexi., 2, S., 97, REP. EPIG. 2651, V, I, P. 23 6 Beitrage, S., 27

لا تزال على خصبها، ومن الممكن الاستفادة منها فائدة كبيرة باستعمال الوسائل الحديثة في إيجاد المياه1. وكتابة هذا المكرب، هي أقدم وثيقة وصلت إلينا عن سد "مأرب"، أنها شهادة مهمة تشير إلى مبدأ تأريخ هذا السد، ولكنني لا أستطيع أن أقول أن السد، كان من تفكير هذا المكرب وعمله، وأنه أول من شق أساسه ووضع بنيانة، فقد يكون السد من عمل أناس غيره حكموا قبله، وما المشروع الذي أقامه هذا المكرب إلا تتمة لذلك المشروع القديم. إن هذه الكتابة هي وثيقة ترجع تأريخ السد إلى جملة مئات من السنين سبقت الميلاد. ترجعه إلى حوالي السنة "750 ق. م." على رأي بعض الباحثين2. وقد ورد اسم هذا المكرب في عدد من الكتابات أكثرها متكسرة3. وسار المكرب "يثع أمر بين" على سنة أبيه المكرب "سمه علي ينف" في العناية بأمور الري، فأدخل تحسينات كبيرة على سد مأرب، وأنشأ له فروعًا جديدة، ففتح ثغرة في منطقة صخرية لتسيل منها المياه إلى أرض "يسرن" "يسران"4. وزاد بعمله هذا في التحكم والسيطرة على مياه السيول، وفي تسخير الطبيعة لخدمة الإنسان، وعمل على تعلية سد "رحبم" "رحاب" القديم وتقويته، فوسع بذلك الأرضين الزراعية، وزاد في ثروة أهل "مأرب" الذين زاد عددهم، حتى تغلب على عدد سكان "صرواح" عاصمة المكربين، وتمكنت "مأرب" بذلك من منازعة هذه العاصمة، إلى أن تغلبت عليها، فصارت العاصمة للبسئيين ومقر حكام سبأ، وصاحبة معبد "المقه" إله سبأ الكبير5. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المكرب "سمه علي ينف" والمكرب "يثع أمر بين "كانا المؤسسين الأصليين لسد مأرب، ويرجعون زمانهما إلى القرن السابع قبل الميلاد، فيكون إنشاء السد إذن في هذا الزمن على رأي هؤلاء الباحثين

_ 1 العظم نزيه مؤيد: رحلة: "2/ 88 وما بعدها". 2 Glaser 513 + 514, Discoveries ? P. 75 3 Le Museon, LXII, 3-4, (1949) , P. 249, CIH 622, 623, 629, 774, 875, Philby 77,REP. EPIG., 3650, 4177, 4370, AF. 62, IH 4 Rhodokanakis, Studi. Lexi., 2, S. 102, Glaser 523, 525, Discoveries, P. 75 5 Background, P. 39

وقد استمر من جاء بعدهما في إصلاحه وفي إضافة زيادات إليه وفي توسيعه وترميمه، إذ أصيب مرارًا بتلف اضطر الحكومات إلى إصلاحه. وقد أشير في الكتابات إلى تهدم جزء منه في سنة "450 ب. م." وسنة "542 ب. م."1. وقد كان آخر ترميم وإصلاح له في أيام "أبرهة"، والظاهر أن تلفًا أصابه بعد ذلك فيما بين السنة "542 ب. م." والسنة "570 ب. م."، فلم يصلح فترك الناس مزارعهم، واضطروا إلى الهجرة منها، وإلى ذلك وردت الإشارة في القرآن الكريم2. وإلى هذا المكرب تعد الكتابة الموسومة بـ "Philby 77 وقد جاء فيها: أنه سور وحصن قلعة "حرب" "حريب"3، ويشير تحصين المدن وبناء القلاع والتوسع في الأرضين، التي تعود إلى شعوب أخرى مثل، قتبان ومعين، وإلى توسع السبئيين في عهد المكربين، وإلى اتخاذ هذه الحصون مواقع هجومية تشب منها جيوشهم على جيرانهم الذين أصاب حكوماتهم الضعف والهزال. وقد هاجم هذا المكرب القتبانيين كما يظهر من كتابة عثر عليها في مأرب، فقتل منهم زهاء أربعة آلاف جندي في عهد ملك قتبان الملك "سمه وتر"، ثم هاجم مملكة "معين"، ولا نعرف الخسائر التي لحقت بالمعينيين، للكسر الذي في الكتابة، غير أن الظاهر يدل على أنه انتصر عليهم، ثم عقب ذلك إخضاع القبائل والمدن التي لم تكن خاضعة لسبأ حتى أرض "نجران"، وقد أوقع بـ "مهأمرم" "مهامرم" و "أمرم" "امرم" خسائر كبيرة، فقتل منها في المعارك التي نشبت قرب "نجران" زهاء خمسة وأربعين ألف رجل، وأسر "63" ألف أسير وغنم واحدًا وثلاثين ألف ماشية، وأحرق ودمر عددًا من قراها ومدنها4. وذكر صاحب الكتابة أن المدن التي أحرقت مدينة "رجمت" "رجمة" مدينة "لعذرايل" ملك "مهامر" "مهأمرم"5. والظاهر أن هذه المدينة

_ 1 Beitrage, S,. 26 2 السورة رقم 34. 3 Philby, Sheba's P. 445, Le Museon, LXII, 3-4 1949, p 249, Beitrage, S,. 24, 27, REP. EPIG. 1904 4 Background, P. 39, Handbuch, I, S. 81, Glaser 419 + 418, Beitrage, S,. 9 5 "لعذرال" "لعذرايل"، هكذا جاء في النص، وأظن أن الأصل هو "عذرال" "عذرايل" Handbuch, lS., 81

كانت عاصمة الملك، وأحرقت أيضًا أكثر قرى هذه المملكة ومدنها وجميع المدن بين "رجمت" "رجمة" "رجمات" و"نجران"1. وقد ذكر "الهمداني" موضعًا سماه "رجمه" في اليمن2. وهو اسم يذكرنا بمدينة "رجمت" "رجمة"، وقد يكون هو المكان المذكور. وقد قام المكرب "يثع أمر بين" بأعمال عمرانية عديدة، منها بناؤه بابين لمدينة "مأرب"، وتحصينه للمدينة ببروج بناها من "البلق" نوع من الحجر. وقد بنى "مرشوم" ومعبد "نسور"، ومعبد "علم"، ومعبدًا في "ريدن" "ريدان"، ومعبدًا آخر لعبادة "ذات بعدن" "ذات بعدان" في "حنن" "حنان" وبنى "عدمن" "عدمان" وعدة أبنية بإزاء باب معبد "ذهبم" "ذهب"، وحفر مسيل "حببض" "حبابض"، ووسع مجرى "رحبم" "رحاب"، وعمقه حتى غذى مناطق واسعة جديدة من "يسرن" "يسران"، وبنى سد "مقرن" "مقران"، وأوصل مياه "مقران" إلى "أبين"، وكذلك سد "يثعن" "يثعان" حيث أوصل مياهها إلى "أبين"، وسد "منهيتم" "منهيت" و "كهلم" "كهل" الواقع مقابل "طرقل"3. هذه الأعمال الهندسية التي قام بها هذا المكرب وأسلافه من قبله، للاستفادة من مياه الأمطار، هي من المشروعات الخطيرة التي ترينا تقدم أهل العربية الجنوبية في فن الري والاستفادة من الأمطار في تحويل الأرض اليابسة إلى جنان. ولسنا نجد في التأريخ القديم إلا ممالك قليلة فكرت في مثل هذه المشروعات وفي التحكم في الطبيعة للاستفادة منها في خدمة الإنسان4. لقد حول هذه السد أرض "أذنة" أو "ذنة" إلى جنان ترى آثارها حتى الآن، إنها مثل حي يرينا قدرة الإنسان على الإبداع متى شاء واستعمل عقله وسخر يده. وليست هذه القصص والحكايات التي رواها الأخباريون عن سد "مأرب" وعن جنان سبأ باطلًا، إنها صدى ذلك العمل العربي الكبير5.

_ 1 REP. EPIG. 394, Beltrage, S., 9 2 الصفحة "80، 104، 164". 3 REP. EPIG. 3943, VI, II, P. 394, Rhodokanakls, Altsab. Texte, I.S., 3, Glaser 418 + 419. 4 Background, P. 39 5 Handbuch, I, S., 80

وقد ظل حكام سبأ الذين حكموا من بعدها يجرون إصلاحات، ويحدثون إضافات على سد مأرب، ويرممون ما يتصدع منه، كما يظهر ذلك من الكتابات، وقد تعرض مع ذلك للتصدع مرارًا، وكان آخر حدث مهم وقع له هو التصدع الذي حدث فيه سنة "542 ق. م." وذلك في أيام أبرهة. ويظهر أن تصدعًا آخر وقع له بعد هذه السنة، فأتى عليه، واضطر من كان يزرع بمائه إلى ترك أرضهم، والهجرة منها إلى أٍرضين جديدة1. ويظهر من كتابة ناقصة أن هذا المكرب أنشأ أبنية في مدينة "مأرب"، وقد أخذت عناية حكام سبأ بهذه المدينة تزداد، إلى أن صارت مقرهم الرسمي، وبذلك أخذ نجم "صرواح" في الأفول إلى أن زال وجودها. وذكر اسم هذا المكرب في كتابة أخرى دونت عند تشييده "مذبحًا" عند باب "نومم" "نوم"، لاحتفاله بموسم الصيد المسمى باسم الإله "عثتر" "صيد عثتر"3. ولا نعرف اليوم شيئًا عن هذا الصيد الذي خصص باسم الإله "عثتر"؛ لأن الكتابة قصيرة وعباراتها غامضة، ولكن يظهر منها أن مكربي سبأ كانوا يحتفلون في مواسم معينة للصيد، وأنهم كانوا يجعلون صلة بينه وبين الآلهة، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك تسميًا بأسماء تلك الآلهة، لتبارك لهم فيه، ولتمنحهم صيدًا وفيرًا. وقد عثر على كتابات حضرمية وغيرها، لها صلة بالاحتفالات التي كانت تقام للصيد. وذكر في كتابة قصيرة اسم "يثع أمر بن سمه علي" فلم تعطنا شيئًا جديدًا يفيد في استخراج مادة تأريخية منها4. وقد وضع "فلبي" اسم "ذمر علي ينف" "ذمر علي ينوف" بعد اسم المكرب السابق في قائمته لأسماء المكربين التي نشرها في مجلة:Le Museon

_ 1 BeitrSge, S-, 26 2 Fresnel 46, 49, Glaser 696, CIH 629, IV, m, I, P. J. Mohl, Inscriptions donnges par M. Arnaud, In Journal Aslatique, 1945, n, P. 179, Halevy, Etudes Sabeenes, in Journal Asiatique, 1874, n, P. 566 3 REP. EPIG. 3625, Glaser 797, Le Museon, LXI, 3-4, 1948, P. 184, REP. EPIG. 4177 4 REP. EPIG. 2674, V, I, P- 32, 35, 36, Glaser 412, 413, 696, 2677, 2680, Hartmann, Arab. Frage, S., 133, REP. EPIG. 4431, VII, H, P. 228, Glaeer 557, CIH 864, REP. EPIG. 4432

وأبوه، هو "يكرب ملك وتر"1. أما "هومل"، فوضع اسم "ذمر علي" بعد اسم "يثع أمر بين" وأشار إلى أنه غير متيقن من اسم أبيه، وذكر أن من المحتمل أن يكون أبوه المكرب "يثع أمر بين"2. وقد ورد في النص: AF 70 اسم "يكرب ملك وتر"3. ولم يشر إلى أنه كان مكربًا، وقد دون "فلبي" أرقام عدة نصوص، لها –على رأيه- صلة بـ "ذمر علي" منها النص: CIH 491، وهو نص سقطت منه أسطر وكلمات، ووردت فيه أسماء الآلهة "هبس" "هوبس" و "المقه" و"عثتر" و "ذت حمم" "ذات حمم" وأسماء: "كرب آل" و"ذمر علي" و "الكرب" و"نشا كرب" "كبراقين" أي "كبير أقيان"4. ويعد "كرب ايل وتر" خاتمة المكربين وفاتحة الملوك في سبأ، افتتح حكمه وهو "مكرب" على سبأ، ثم بدا له فغير رأيه في اللقب، فطرحه، ولقب نفسه "ملك سبأ" وسار من حكم بعده على سنته هذه، فلقب نفسه "ملك سبأ" إلى أن استبدل فيما بعد أيضًا به لقب "ملك سبأ وذي ريدان" كما سنرى فيما بعد. أما إذا سألنا عن كيفية حصولنا على علمنا بأن "كرب ايل وتر" بدأ حكمه مكربًا ثم ختمه ملكًا، فجوابنا: أننا حصلنا عليه من الكتابات المدونة في أيامه، فقد وجدنا أن لقبه في الكتابات القديمة الأولى هو "مكرب"، فعلمنا أنه تولى الحكم مكربًا، ثم وجدنا له لقبًا آخر هو "ملك سبأ"، فعرفنا أنه لقب جديد حل محل اللقب القديم، ثم وجدنا من جاء بعده يحمل هذا اللقب الجديد، فصار "كرب ايل وتر" آخر مكرب وأول ملك في سبأ في آن واحد5. ويرجع "فلبي" زمان حكم "كرب آل وتر" إلى حوالي السنة "620" حتى "600 ق. م."6. وقد زعم أنه حكم من "620" حتى سنة "610 ق. م."

_ 1 Le Mus6on, LXH, 3-4, 1949, P. 249 2 Handbuch, I, S.f 30, Anm. 80 3 Le Museon, LXI, 3-4, 1948, F. 230 4 Le Museon, LXH, 3-4, 1949, P. 249 5 REP. EPIG. 3948, VH, I, P. I, Glaser 1550 6 Background, P. 40

مكربًا، ثم حكم السنين الباقية ملكًا1. ورأى بعض آخر أنه حكم في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد2. وذهب بعض آخر في التقدير مذهبًا يخالف هذين التقديرين. وقد كان "كرب ايل وتر" كما يتبين من بعض الكتابات التي دونت في أيامه مثل الكتابة الموسومة بكتابة "صرواح"3 وكتابات أخرى سأشير إليها في أثناء البحث محاربًا سار على خطة المكرب "يثع أمر بين" في التوسع وفي القضاء على الحكومات العربية الجنوبية الأخرى، أو إخضاعها لحكمه ولحكم السبئيين، بل زاد عليه في توسيع تلك الحروب، وفي إضافة أرضين جديدة إلى سبأ، زادت في رقعتها وفي مساحة حكومة السبئيين، ولكنها أنزلت خسائر فادحة بالأرواح، وأهلكت الزرع والضرع والناس في العربية الجنوبية، وإن كان قد قام من ناحية أخرى بأعمال عمرانية وبإصلاح ما تهدم وخرب، فإن الحرب ضرر، ينزل بالخاسر وبالرابح على حد سواء، وما الربح في هذه الحروب إلا للملوك وللمقربين إليهم من أقرباء وصنائع. وكتابة "صرواح" التى أشرت إليها، هي من أخطر الوثائق التأريخية القديمة التي تتعلق بأخبار سبأ وبأعمال هذا المكرب الملك، دون فيها "كرب ايل وتر" كل ما قام به من أعمال حربية وغير حربية، فهي إذن سجل سطرت فيه بإيجاز أعمال المكرب الملك وأفعاله، ولذلك فهي بحق من الوثائق المهمة الخطيرة القليلة التي وصلت إلينا في تأريخ الحكام الجاهليين افتتحها بجملة: "هذا ما أمر بتسطيره كرب ايل وتر بن ذمر علي مكرب سبأ عندما صار ملكًا، وذلك لإلهه المقه ولشعبه شعب سبأ"4. تعبيرًا عن شكره له ولبقية الآلهة على نعمها وآلائها وتوفيقها له بأن صيرته ملكًا، وأنعمت على شعبه بالمنن والبركات، بأن نحر ثلاث ذبائح إلى الإله "عثتر"، إظهارًا لشكره هذا وتقربًا إليه، وكسا صنمي الإلهين: "عثتر" و"هوبس" "هبس"، تقربًا إليهما وشكرًا لهما على نعمهما عليه، ثم انتقل إلى تمجيد آلهته التي وحدت صفوف شعبه بأن جعلت أتباعه

_ 1 Background, P. 141 2 Beltrage, S., 9, 22, 25, 142 3 Glaser 1000A + 1000B, 1155, REP. EPIO. 3945 + 3946, VI, U, P. 395, 405, Conti Rossini, Chrest. Arab. Merid., P. 55, NO. 49, Fresnel XI, 38, Beitrage,a, 9 4 الجمل الأولى من النص.

كتلة واحدة متراصة كالبنيان المرصوص، أدى واجبه على أحسن وجه، وقام بما عليه خير قيام، لا فرق في ذلك بين كبير وصغير، وبين طبقة وطبقة، ثم انتقل بعد هذا الحمد والثناء إلى حمد آخر وثناء جديد سطره لآلهته إذ باركت في أرضه وأرض شعبه، ووهبت أرض سبأ مطرًا سال في الأودية، فأخذت الأرض زخرفها بالنبات، وإذ مكنته من إنشاء السدود، وحصر السيول حتى صار في الإمكان إسقاء الأرضين المرتفعة، وإحياء الأماكن التي حرمت الماء، كذلك إحياء أرضين واسعة بإنشاء سد لحصر مياه الأمطار يتصل بقناة "عهل" لسقي "ماودن" "مأدون" والأٍرضين الأخرى التي لم تكن المياه تصل إليها، فوصلت إليها بامتلاء حوض السد بالماء، حتى سقت "موترم" "موتر" التي جاءها الماء من "هودم" "هوديم" "هودي"، وبإنشائه مسايل أوصلت المياه إلى "ميدعم" "ميدع" و"وتر" و"وقه"، ونظم الري في "ريمن" "ريمان" حتى صارت المياه تسقي كل أرض1. وانتقل "كرب ايل وتر"، بعد ما تقدم إلى التحدث عن حروبه وانتصاراته فأشار إلى أنه غلب "سادم" "سأد" و "نقبتم" "نقبت" "نقبة"، وأحرق جميع مدن "معفرن" "المعافر"، "وقهر "ضبر" "ضلم" "ضلم" و"أروى" وأحرق مدنهم، وأوقع فيهم فقتل ثلاثة آلاف، وأسر ثمانية آلاف، وضاعف الجزية التي كانوا يدفعونها سابقًا، وفي جملتها البقر والماعز3. ثم انتقل إلى الكلام على بقية أعماله، فذكر أنه أغار على "ذبحن ذ قشرم" "ذبحان ذو قشر" وعلى "شركب" "شرجب"، وتغلب عليهما، فأحرق مدنهما، واستولى على جبل "عسمت" "عسمة" وعلى وادي "صير"، وجعلهما وقفًا لألمقه ولشعب سبأ، وهزم "أوسان" في معارك كلفتها ستة عشر ألف قتيل وأربعين ألف أسير. وانتهبت جميع "وسر" من "لجاتم" "لجأتم" حتى "حمن" "حمان"، وأحرقت جميع مدن "انفم" "أنف" و"حمن" "حمان" و"ذيب"، ونهبت "نسم"3. ويرى بعض الباحثين أن "لجيت" "لجيأت" "لجيأة"، هو موضع

_ 1 راجع الفقرة الثانية من النص. 2 الفقرة الثالثة من النص. 3 الفقرة الرابعة من النص.

"لجية" في الزمن الحاضر، وأن "حمن" هو موضع يقع على مدخل "وادي حمان"، أو الموضع المسمى بـ "هجر السادة".. وأما "وسر"، فإنها أرض "مرخة" أو جزء منها1. وأصيبت الأرضون التي تسقى بالمطر وهي "رشأى" و "جردن"، بهزيمة منكرة، ونزل بأرض "دثينة" ما نزل بغيرها من هزائم منكرة، وأحرقت مدنها وهتكت مدينة "تفض" واستبيحت ثم دمرت وأحرقت، ونهبت قراها وبساتينها التي تقع في الأرضين الخصبة التي تسقى بماء المطر، وفعلت جيوشه هذا الفعل في الأرضين الأخرى إلى أن بلغت ساحل البحر فأحرقت أيضًا كل المدن الواقعة عليه2. ويظهر من نص "كرب ايل" أن موقع مدينة "تفض"، يجب أن يكون بين أرض "دتنت" والبحر، ولما كانت "دهس" تتاخم ""عود" من جهة و "تفض" من جهة أخرى ذهب بعض الباحثين إلى أن أرض "دهس" هي أرض "يافع" في الزمن الحاضر. أما "تفض" فإنها الخرائب الواسعة المتصلة بمدينة "خنفر"3. وقد عرفت "يافع" بـ "سروحمير" في أيام "الهمداني"، ولا زال أهل يافع يرجعون نسبهم إلى حمير4. وتكون الهضاب الواقعة وراء دلتا "أبين" أرض "يافع" في الوقت الحاضر. وقد رأى "فون وزمن" أن "دهس" "دهسم" التي يرد اسمها في النص: REP. EPIG 3945 هي أرض "يافع"5. وذكر "كرب ايل وتر" أنه ضرب "وسر" ضربة نكراء واستولى على كل مناطقها إلى أن بلغ أرض "أوسان" في أيام ملكها "مرتم" مرتوم" "مرتو"، "مرت"، "مرة" فأمر جنوده بأن يعملوا في شعبها أوسان السيف، واستذل رؤساءه وجعل رؤساء "المزود" "المسود" وهم رؤساء البلد، رقيقًا للآلهة "سمهت" وقرابين لها، وقرر أن يكون مصير ذلك الشعب

_ 1 Beitrage, S. 53 2 الفقرة الخامسة من النص. 3 Beitrage, S. 68 4 Le museon, 1964,, 3-4, P. 440 5 Le Museon, 1964, 3-4, P. 440

الموت والأسر، وأمر بتحطيم قصر الملك "مرتوم" "مرتم" "مرة" المسمى "مسور" "مسر"، ومعالم ما فيه من كتابات أوسانية، وإزالة الكتابات الأوسانية التي كانت تزين جدران معابد أوسان، ولما تم له كل ما أراده ورغب فيه، أمر بعودة الجيش السبئي، من أحرار وعبيد، من أرض أوسان ومن المقاطعات التابعة لها، إلى أرض سبأ، فعاد إليها كما صدر الأمر1. وتذكر الكتابة: أن الملك "كرب ايل" أمر عندئذ بضم "سرم" "سرو" "سروم" وتوابعها، وكذلك "حمدن" "حمدان" ولواحقها، إلى حكومة سبأ، وسلم إدارة "سرم" إلى السبئيين، وأحاط المدينة بسور، وأعاد الترع والقنوات ومسايل الماء إلى ما كانت عليه، وأما "دهسم" "دهس" و "تبنى" فقد حلت بسكانهما الهزيمة، وقتل منهم ألفا قتيل وأسر خمسة آلاف أسير، وأحرقت أكثر مدنها، وأدمجتا ومعهما مقاطعة "دثينة" دثنت"، في سبأ، أما مقاطعة "عودم" "عود"، فقد أبقيت لملك "دهسم" "دهس". وقد عد "العوديون" الذين انفصلوا عن أوسان حلفاء لسبأ، فأبقيت لهم أملاكهم والأرضون التي كانت لهم2. وكانت "عود" من أرض "أوسان" في الأصل، ثم خضعت لـ "مذحي" "مذحيم" ويرى بعض الباحثين أنها "عوذلة" في الزمن الحاضر3. وجاء في هذه الكتابة، وبعد الجملة المتقدمة، أن "انفم" "أنف" وكل مدنها وجميع ما يخصها من أرضين زراعية وما فيها من أودية ومراعي، وكذلك كل أرض "نسم" و "رشاي" "رشأي" وكل الأٍرضين من "جردن" "جردان" إلى "فخذ علو" "وعرمو"، وكذلك جميع المدن والنواحي التابعة لـ "كحد" وسيبن" "سيبان" والمدن "اتخ" "أتخ" "وميفع" و "رتحم" وجميع منطقة "عبدن" "عبدان" ومدنها وجنودها أحرارًا وعبيدًا، و"دثينة أخلفوا" و"ميسرم" "ميسر" و"دثينة تبرم" "دثينة تبر" "وحرتو" وكل المدن والأودية والمناطق والجبال والمراعي في منطقتي "دث" "داث" وكل أرض "تبرم" "تبرم" وما فيها من سكان

_ 1 الفقرة السادسة من النص. 2 الفقرتان السابعة والثامنة من النص. 3 Beitrage S, 64

وأملاك وأموال حتى البحر، وكذلك كل المدن من "تفض" إلى اتجاه "دهس" والسواحل وكل بحار هذه الأرضين، ومناطق "يل أي" و"سلعن" "سلعان" و"عبرت" "عبرة" و"لبنت" "لبنة" ومدنها ومزارعها، وجميع ما يملكه "مرتوم" ملك أوسان وجنوده في "دهس" و "تبنى" و"يتحم" وكذلك "كحد حضنم" "كحد حضن" وجميع سكان هذه المناطق من أحرار ورقيق وأطفال وكبار، كل هذه من بشر وأملاك جعلها "كرب ايل وتر" ملكًا لسبأ ولآلهة سبأ. ويظن أن موضع "ميسرم" "ميسر"، وهو من مواضع أرض "دثينة" هو أرض قبيلة "مياسر" في الزمن الحاضر، وقد ذكر بعض السياح أن في أرض "مياسر" سبع آبار ترتوي منها القبيلة المذكورة التي تقطن أرض "دثينة" القديمة1. ولفظة "سيبن" "سيبان" الواردة في النص، هي اسم قبيلة، ورد ذكرها في نص متأخر جدًّا عن هذ النص، هو نص "حصن غراب" ومعنى ذلك أنها من القبائل التي ظلت محافظة على كيانها إلى ما بعد الميلاد، فقد أشير إلى "كبر" "كبراء" وإلى "أقيال" "سيبان" وورد "سيبن ذ نصف" أي "سيبان" أصحاب "نصف" "نصاف" ويرى بعض الباحثين أن موضع "نصاف" "نصف"، هو الموضع الذي يقال له "نصاب" في الزمن الحاضر2. وأما "ميفع" "ميفعة" فتقع في الزمن الحاضر في غرب "وادي نصاب" وفي غرب وادي "خورة" وأما "رتح" "رتحم"، فهو اسم قبيلة واسم مدينة في أرض "سيبان"، وقد ذكر أيضًا في جملة القبائل التي وردت أسماؤها في نص "حصن غراب" وأما "عبدن" "عبدان"، فإنه اسم موضع يقع في جنوب "نصاب" في الزمن الحاضر. وقد قال فيه "كرب ايل" في نصه: "وكل أرض عبدان ومدنها وواديها وجبلها ومراعيها وجنود عبدان أحرارًا وعبيدًا"3.

_ 1 Beitrage, S. 65 2 Beitrage, S. 56, RY 63 3 Glaser 1000A

معبرًا بذلك عن تغلبه على كل أهل هذه الأرض من مدنيين وعسكر، حضر وأهل بادية ومراعٍ1. وقد صير "كرب ايل وتر" كل أرض "عبدن" "عبدان" أرضًا حكومية، وتقع في الزمن الحاضر في سلطنة "العوالق العليا"، ويلاحظ أن "وادي عبدان" ما زال حتى اليوم بقراه وبمياهه من أرض السلطان، أي أنه أرض حكومية تخص السلطنة2. واستمر "كرب ايل وتر" مخبرًا في كتابته هذه: أنه سجل جميع "كحد" وكل سكانها من أحرار ورقيق بالغين وأطفالًا، وكل ما يملكونه، القادرين على حمل السلاح منهم، وجنود "يل أي "و "شيعن" وعبرت" "عبرة" وأطفالهم، غنيمة لسبأ، ثم ذكر أنه نظرًا إلى تحالف ملك حضرموت الملك "يدع ايل" وشعب حضرموت مع شعب سبأ في هذا العهد ومساعدتهم له، أمر بإعادة ما كان لهم من ملك في "أوسان" إليهم، وأمر بإعادة ما كان للقتبانيين ولملك قتبان من ملك في "أوسان" إليهم كذلك، للسبب نفسه3. فأعيدت تلك الأملاك إلى الحضارمة وإلى القتبانيين. ثم عاد "كرب ايل" فتحدث عن عداء أهل "كحد سوطم" لسبأ وعن معارضتهم له، فقال: إنه أمر جيشه بالهجوم عليهم، فأنزل بهم هزيمة منكرة وخسائر جسيمة، فسقط منهم خمس مائة قتيل في معركة واحدة، وأخذ منهم ألف طفل أسير وألفي حائك ما عدا الغنائم العظيمة والأموال النفيسة الغالية وعددًا كبيرًا من الماشية وقع في أيدي السبئيين4. وتحدث "كرب ايل" بعد ذلك عن "نشن" "نشان"، وقد عارضته كذلك وناصبته العداء فذكر أنها أصيبت بهزيمة منكرة، فاستولت جيوشه عليها، وأحرقت كل مدنها ونواحيها وتوابعها، ونهبت "عشر" و"بيحان" وكل ما يخصها من أملاك وأرضين، وذكر أن "نشان" "نيشان" عادت فرفعت راية العصيان للمرة الثانية، لذلك هاجمها السبئيون وحاصروها وحاصروا

_ 1 Beitrage S 65 2 Beitrage S 57 3 الفقرة 12.و 13 من النص. 4 الفقرة 13 من النص.

مدينة "نشق" معها ثلاثة أعوام، كانت نتيجتها ضم "نشق" وتوابعها إلى دولة سبأ، وسقوط ألف قتيل من "نيشان" "نشان" "نشن" وهزيمة الملك "سمه يفع" هزيمة منكرة، وانتزاع كل ما كانت حكومة سبأ قد أجرته من أرضين لـ "نشن" وأعادتها ثانية إلى سبأ، وتمليك مملكة سبأ المدن: "قوم" و"جوعل"، و"دورم" و"فذم" و "أيكم" وكل ما كان لـ "سمه يفع" ولـ "نشن" من ملك في "يأكم" "ياكم"، وكذلك كل ما كان لمعبد الأصنام الواقع على الحدود من أملاك وأوقاف حتى "منتهيتم" فسجلها باسمه وباسم سبأ1. وصادرت سبأ أرض "نشن" الزراعية وجميع السدود التي تنظم الري فيها، مثل "ضلم"، و"حرمت"، وماء "مذاب" الذي كان يمون "نشن" وأماكن أخرى بالماء، وسجلت ملكًا لسبأ، وخرب سور "نشن" ودمره حتى أساسه، أما ما تبقى من المدينة، فقد أبقاه، ومنع من حرقه، وهدم قصر الملك المسمى "عفرو" "عفر"، وكذلك مدينته "نشن"، وفرض كفارة على كهنة آلهة المدينة الذين كانوا ينطقون باسم الآلهة، ويتكهنون باسمها للناس، وحتم على حكومة "نشن" إسكان السبئيين في مدينتهم وبناء معبد لعبادة إله سبأ الإله "المقه" في وسط المدينة، وانتزع ماء "ذو قفعن" وأعطاه بالإجارة لـ "يذمر ملك" ملك "هرم" "هريم"، وانتزع منها كذلك السد المعروف بـ "ذات ملك وقه" وأجره لـ "نبط علي" ملك "كمنه" "كمنا"، ووسع حدود مدينة "كمنه" "كمنا" من موضع سد "ذات ملك وقه" إلى موضع الحدود حيث النصب الذي يشير إليه، وسور "كرب ايل" مدينة "نشق" وأعطاها سبأ لاستغلالها، وصادر "يدهن" و "جزيت" و "عريم"، وفرض عليها الجزية تدفعها لسبأ2. وانتقل "كرب ايل" بعد هذا الكلام إلى الحديث عن أهل "سبل" و"هرم" "هربم" "و "فنن"، فذكر أن هذه المدن غاضبته وعارضته، فأرسل عليها، جيشًا هزمها، فسقط منها ثلاثة آلاف قتيل، وسقط ملوكها قتلى كذلك، وأسر منهم خمسة آلاف أسير. وغنم منهم خمسين ومائة ألف من الماشية، وفرض

_ 1 الفقرة 14 و 15 من النص. 2 الفقرة 16 و 17.

الجزية عليهم عقوبة لهم، ووضعهم تحت حماية السبئيين1. وكان آخر من تحدث عنهم "كرب ايل" في كتابته هذه أهل "مهامر" "مه أمر" "مهأ مرم" "مهأمر"، و "أمرم" "أمر"، فذكر أنه هزمهم وهزم كذلك كل قبائل "مه امرم" "مهأ مرم"، و"عوهبم" "عوهب" "العواهب"، حيث تكبدوا خمسة آلاف قتيل، وأسر منهم اثني عشر ألف طفل، وأخذ منهم عددًا كبيرًا من الجمال والبقر والحمير والغنم يقدر بنحو مائتي ألف رأس، وأحرقت كل مدن "مه أمرم" وسقطت "يفعت" "يفعة" فدمرت وصادر "كرب ايل" مياه "مه أمرم" في "نجران" وفرض على أهل "مه أمر" الجزية يدفعونها لسبأ2. وقد قص "كرب ايل وتر" في كتابة "صرواح" المسماة بـGlaser 1000B أسماء المدن المسورة والمقاطعات المحصنة التي استولى عليها، وسجل بعضها باسمه وبعضًا آخر باسم حكومة سبأ وبآلهة سبأ، ومن هذه: "كتلم" و "يثل"، و "نب"، و"ردع"، "رداع"، و"قب"، و"اووم" "أوم" و"يعرت" "يعرتم"، و"حنذفم" "حنذفم" "حنذف"، و"نعوت ذت فددم" "نعوت ذات فدد"، و"حزرام" "حزرأم"، و "تمسم" "تمس"3، ووهي مواضع كانت مسورة محصنة بدليل ورود جملة: "وسور وحصن ... " بعدها مباشرة. وأما المواضع التي أمر "كرب ايل وتر" بتسويرها وبتحصينها، فهي: "تلنن" "تلنان" و"صنوت" و "صدم" "صدوم" و"ردع" "رداع" و"ميفع بخبام" "ميفع بخبأم"، و"محرثم" ومسيلا الماء المؤديان إلى "تمنع" وحصن وسور "وعلن" "وعلان" و"مثبتم" "موثبتم" و"كمدر" "كدار"، وذكر بعد ذلك أنه أمر بإعادة القتبانيين إلى هذه المدن؛ لأنهم كانوا قد تحالفوا مع "المقه" إله سبأ و "كرب ايل" ومع شعب سبأ، أي أنهم كانوا في جانبهم، فأعادهم إلى المواضع المذكورة مكافأة لهم على ذلك4.

_ 1 الفقرة: 18 من النص. 2 الفقرة: 19 من النص. 3 الفقرة الأولى من النص. 4 الفقرة الثانية من النص.

ثم عاد "كرب ايل"، فذكر أسماء مواضع أخرى استولى عليها وأخذها باسمه، هي: مدينة "طيب" وقد أخذها من "عم وقه ذ امرم" "عموقه ذ أمرم"، وأخذ منه أيضًا أملاكه وأمواله في "مسقى نجي"، وفي "افقن" "افقان" وبـ "حرتن" "حرتان"، وجبله ومراعيه وأوديته الآتية من "مرس" وكل المراعي في هذا المكان، ثم ذكر أنه أخذ من "حضرموت همو ذ مفعلم" "حضر همو ذو مفعل"، وهو من الأمراء الإقطاعيين على ما يظهر، هذه المواضع: "شعبم" "شعب" والأودية والمراعي التابعة لـ"مشرر" إلى موضع "عتب"، ومن "أبيت" "أبيت" إلى "ورخن" و "دعف" وكل الأملاك في "بقتت" و "دنم" "دونم"، فأمر بتسجيلها كلها باسمه، وأمر كذلك بتسجيل "صيهو" باسمه، واشترى "حدنن" أتباع ورقيق "ادم" "حضر همو ذي مفعل" و "جبرم" "جبر" أتباع "يعتق ذ خولن" "يعتق ذو خولان" الذي بـ "يرت"1. وذكر "كرب ايل وتر" بعد ذلك: أنه وسع أملاك قبيلته وأهله "فيشان" "فيشن" وإنه أخذ من "رابم" بن خل أمر ذ وقبم" "رأبم بن خل أمر ذو وقبم"، كل ما يملكه في "وقبم" من أملاك ومن أرضين ومن أودية ومسايل مياه وجبال ومراع، وسجل ذلك كله باسمه، كما أنه استولى على "يعرت" "يعرتم" وعلى جميع ما يتبعها من مسايل مياه وأودية ومراع وجبال وحصون، فسجله باسمه، واستولى أيضًا على أرض "اووم" "أوم" "أوام" وعلى مسايلها، وسجلها ملكًا له2. ثم ذكر أنه صادر كل أموال "خلكرب ذ غرن" "خالكرب ذو غران" وأملاكه في "مضيقت" "مضيقة" وسجلها باسمه، كما سجل أرض "ثمدت" ومسايل مياهها وحصنها ومراعيها في جملة أملاكه ومقتنياته3. ثم عاد في الفقرة الخامسة من النص، فذكر أنه أخذ كل ما كان يملكه "خل كرب د غرن" "خالكرب ذو غران" في أرض "مضيقة" "مضيقت"، وأخذ كذلك التلين الواقعين في "خندفم" "خندف" والأرضين الأخرى إلى

_ 1 الفقرة الثالثة من النص. 2 الفقرة الرابعة من النص. 3 الفقرة الرابعة من النص.

مدينة "طيب", وسجل ذلك كله في جملة أملاكه، وأخذ كذلك كل ما كان يملكه "خالكرب" في "مسقى نجي"، كما أخذ موضع "زوت" وكل ما يتعلق به وما يخصه من مسايل مياه ومراع1. ثم أخذ أرض "اكربي" "اكري" ومسايل مياهها، وسجلها باسمه، كما استولى على "نعوت" من حد "شدم" و"خبام" خبأم" "خب أم" إلى الأوثان المنصوبة على الحدود علامة لها2. وقطع "كرب ايل وتر" الحديث عن الأملاك التي استولى عليها وسجلها باسمه، وانتقل فجاة إلى التحدث عن بعض ما قام به من أعمال عمرانية، فذكر أنه أتم بناء الطابق الأعلى من قصره "سلحن" "سلحين" ابتداء من الأعمدة والطابق الأسفل إلى أعلى القصر، وأنه أقامه في وادي "اذنة" "اذنت" خزان ماء "تفشن"، ومسايله التي توصل الماء إلى "يسرن" "يسران"، وأنه شيد وحصن وقوى جدار ماء "يلط" وما يتفرغ منه من مساق ومسايل تسوق الماء إلى "أبين"، ثم قال: أنه شيد وبنى وأقام "ظراب" و"ملكن" "ملكان" لوادي "يسرن" "يسران"، كما بنى أبنية أخرى في وسط "يسرن" و"أبين"، وغرس وعمر أرضين زراعية في أرض "يسرن"3. ثم عاد فقطع الكلام على ما قام من أعمال عمرانية، وحوله إلى الكلام على أملاكه التي وسعها وزاد فيها، وهي: "ذ يقه ملك" "ذو يقه ملك"، و"أثابن" "أثأب" "أثأبن"، و"مذبن" "المذاب"، و"مفرشم" "مفرش"، "ذ انفن" "ذو انف" "ذو الأنف"، و"قطنتن" "القطنة" و"سفوتم" "سفوت" و"سلقن" "سلقان" و"ذ فدهم" "ذ وفدهم"، و"ذ اوثنم" "ذو أوثان"، و"دبسو" "دبس"، و"مفرشم" "مفرش"، و"ذ حببم" "ذو حباب" "ذو حبب"، و "شمرو" "شمر" و"مهجوم" "مهكوم" "مهجم"4. ثم عاد "كرب ايل وتر" فتكلم عى الأملاك التي حصل عليها وامتلكها،

_ 1 الفقرة الخامسة من النص. 2 الفقرة السادسة من النص. 3 الفقرة الخامسة من النص. 4 الفقرة السادسة من النص.

فذكر أنه تملك في "طرق" موضع "عن. أن" و"حضرو" و"ششعن" "ششون"1 وذكر أنه تملك موضع "فرعتم" فرعت" "فرعة" و"تيوسم" "تيوس" و"اتابن" "أثابن" "اث ب ن" في أرض "يسرن" وأنه تملك "محمين" "محميات" من حد "عقبن" "عقبان" حتى "ذي أنف"، وتملك ما يخص "حضر همو بن خل أمر" "حضر همو بن خال أمر" من أملاك، وتملك "مفعل" "مفعلم" وكل ما في أرض "ونب" وكل أرض "ونب" وكل أرض "فترم" و"قنت" وكل ما يخص "حضر همو بن خال أمر" من مدن، هي: "مفعلم" و "فترم"، و"قنت" و "جو" "كو" وكل ما فيها من حصون وقلاع وأودية ومراع، ثم ذكر أنه باع المدن والأرضين المذكورة، وهي مدن: "مفعلم"، و "فترم" و "قنت" و"جو" التي أخذها من "حضر همو بن خال كرب" وسجلها باسم قبيلته "فيشان"2. وكان قد ذكر في آخر الفقرة السابعة من النص وقبل الفقرة الثامنة المتقدمة التي هي خاتمة النص، أنه خرج للصيد فصاد، وقدم ذلك في مذبح "لقظ" قربانًا للإله "عثتر ذي فصد"، كما قدم إليه تمثالًا من الذهب3. وقد أدت حروب "كرب ايل" المذكورة إلى تهدم أسوار كثير من المدن التي هاجمها، فصارت بذلك مدنًا مكشوفةً، من السهل على الأعراب والغزاة مداهمتها ونهبها، ولهذا اضطر إلى إعادة تسويرها أو ترميم ما تهدم من أسوارها كما اضطر أيضًا إلى تسوير مدن لم تكن مسورة وتحصينها. وفي جملة المدن التي حصنها وسورها أو رم أسوارها، مدينة "وعلان" حاضرة "ردمان"، و "رداع" و "كدر" "كدار"، ومدن أخرى4. هذا، وأود أن ألخص الخطط التي سار "كرب ايل" عليها والحروب التي قام بها في الأرضين التي ذكر أسماءها في نصه، على الوجه الآتي: كانت

_ 1في النص العبراني: "ششون"، وفي الترجمة الألمانية "ششعن"، راجع الفقرة السابعة من النص. 2 الفقرة الثامنة وهي الفقرة الأخيرة من النص. 3 الفقرة السابعة من النص. 4 Beitrage S 38 Glaser. 1000 B

أرض "سأد" أول أرض شرع في مهاجمتها، ثم انتقل منها إلى أرض "نقبتم" "نقبت" "نقبة"، ثم "المعافر" ثم سار نحو "ذبحان القشر" "ذبحن قشرم"، و"شرجب" "شركاب" "شركب" ثم اتجه في حملته الثانية نحو "أوسان"، حيث أمر جنوده بنهب "وسر لجيأت" وبقية المواضع إلى "حمن" "حمان"، وبحرق كل مدن "آنف" في أرض "معن" حول "يشبم" "يشبوم" أو "الحاضنة" في الزمن الحاضر، ومدن "حبان" في وادي "حبان" و"ذياب" في أرض قبيلة "ذياب" شرق حمير في الزمن الحاضر1. ثم أمر "كرب ايل" بنهب "نسم" "نسام" وأرض "رشأى"، ثم "جردن" "جردان". وعند ذلك وجه "كرب ايل" جيشه نحو "دتنت"، حيث أصيب فيها ملك أوسان بضربة شديدة فأمر بإحراق كل مدن "دتنت" ومدينة "تفض" و "أبين"، حتى بلغ ساحل البحر، حيث أحرق ودمر المدن والقرى الواقعة عليه. ثم عاد "كرب ايل" فضرب أرض "وسر" مرة أخرى، وأصاب قصر ملك أوسان في "مسور"، حيث هدمه، وأمر بانتزاع كل الكتابات الموجودة في معابد أوسان وتحطيمها. ثم سار بجيشه كله إلى أرض أوسان، وبعد أن قضى على كل مقاومة لهم عاد إلى بلاده. ثم قام بغزو أرضين تقع شمال غربي سبأ، ثم وحد "سروم" وأرض "همدان" وحصن مدنهما، وأصلح وسائل الري فيها. وحدثت بعد تلك الحروب حرب وقعت في الجنوب، في "دهس" وفي "تبنو"، حيث أحرق "كرب ايل" مدنها، ثم ألحقها كلها مع "دتنت" بسبأ وفصلت أرض "عود" من "أوسان" فضمت إلى "دهس". وأصيب "كحد ذ سوط" بمعارك شديدة، ويظهر أنها ثارت على "كرب ايل" وأعلنت العصيان عليه، وقد ساعدها وشجعها "يذمر ملك" ملك "هرم" وبقية المدن المعينية المجاورة، مثل "نشن" "نشان"، فسار جيش "كرب ايل"

_ 1 Beitrage S, 76

إليها، وأنزل بها خسائر فادحة، وأحرق أكثر مدنها، وحاصر "نشان" مدة ثلاث سنين، مما يدل على أنها كانت مدينة حصينة جدًّا، نحى ملكها عنها، ثم انصرف "كرب ايل" إلى إعادة تنظيم الأرضين التي استولى عليها، وإلى تعيين حكام جدد للمناطق التي استسلمت له، وإلى إصلاح أسوار المدن ووسائل الدفاع والري1. وأما الحملة الأخيرة من حملاته الصغيرة، فكانت على "مهأمر" "ممه أمر" و"أمر" حيث بلغت أرض نجران2. لقد أضرت حروب "كرب ايل وتر" المذكور ضررًا فادحًا بالعربية الجنوبية فقد أحرق أكثر الأماكن التي استولى عليها، وأمر بقتل من وقع في أيدي جيشه من المحاربين، ثم أمر بإعمال السيف في رقاب سكان المدن والقرى المستسلمة فأهلك خلقًا كثيرًا. ونجد سياسة القتل والإحراق هذه عند غير "كرب ايل" أيضًا، وهي سياسة أدت إلى تدهور الحال في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية، وإلى إندثار كثير من المواضع بسبب إحراقها وهلاك أصحابها. وقد عثرت بعثة "وندل فيلبس" في اليمن على كتابة وسمتها البعثة بـjamme 819 جاء فيها: "وبكر آل وبسمه"3. أي "وبكرب ايل وسمه"، وحرف الواو هنا في واو القسم، والكتابة من بقايا كتابة أطول تهشمت فلم يبق منها غير الجملة المذكورة، وقد ذهب "جامه" Jamme ناشرها إلى أنها من عهد سابق لحكم المكربين، وقدر زمن كتابتها القرن الثامن أو السابع قبل الميلاد4. كما عثرت تلك البعثة على كتابات أخرى وسمت بـ Jamme 550 وبـjamme 552 وبـjamme 555 وبـjamme 557 وردت فيها أسماء لم تذكر بعدها جملة "مكرب سبأ" على عادة الكتابات، غير أن ظاهرة النص، والألفاظ المستعملة فيه، مثل: "قين يدع ايل بين"، يدلان على أنها أسماء "مكربين" حكموا سبأ قبل عهد الملوك.

_ 1 Beitrage, S., 76 2 Beitrage, S., 77 3 Sabaen Inscriptions from Mahram Bllqis (Marib) , By A. Jamme, John 4 Hopkins Press, Baltimore, 1962, Mahram, P. 389

فقد دون في النصف الأول من النص jamme 550 أسماء المكربين: "يدع آل بين" "يدع ايل بين" و"يكرب ملك وتر" "يكر بملك وتر"، و"يثع أمر بين"، ودون في النصف الثاني من أسماء "يدع آل بين"، "يدع ايل بين" و"يكرب ملك وتر" "يكرب بملك وتر"، و"يثع أمر بين"، و"كرب آل وتر" "كرب ايل وتر"، أي الأسماء المذكورة في النصف الأول نفسها، ما خلا اسم "كرب ايل وتر"، فنحن في هذا النص بنصفيه أمام أربعة مكربين، كانوا من "مذمرم" أي من بني "مذمر"1. ومدون النص والآمر بكتابته شخص اسمه "تبع كرب" "تبعكرب"، وكان كاهنًا "رشو" للإلهة "ذت غضرن" "ذات غضران"، أي كناية عن الشمس، كما كان بدرجة "قين"، أي موظف كبير مسئول عن الأمور المالية للدولة أو للمعبد، كأن يتولى إدارة الأموال، وكان "قينًا" لمعبد "سحر"، أي المتولي لأموره المالية والمشرف على ما يصل إلى المعبد من حقوق ومعاملات وعقود من تأجير الحبوس الموقوفة عليه، كما كان قينًا للمكربين المذكورين. وقد ذكر في نصه أنه أمر ببناء جزء من جدار معبد "المقه" من الحد الذي يحد أسفل الكتابة أي قاعدتها إلى أعلى المعبد، كما أمر ببناء كل الأبراج وما على السقف من أبنية ومتعلقاتها، وذلك عن أولاده وأطفاله وأمواله وعن كل ما يقتنيه "هقنيهو" وعن كل نخيله "انخلهو" بـ "اذنت" "ادنة" وبـ "كتم" وبـ"ورق" وبـ"ترد" وبـ"وغمم" "وغم" وبـ "عسمت" "عسمة" وبـ"برام" وبـ"سحم" وبـ"مطرن بيسرن"، أي بمنطقة "مطرن" التي في أرض "يسرن" "يسران"، وهي تسقى الماء بواسطة قناطر تعبر فوقها المياه، وبمنطقة "ردمن" "ردمان" من أرض "يسرن" "يسران"، التي تروى بمياه السدود، وبأرض "مخضن" الواقعة بـ"يهدل". وقد قام بهذا العمل أيضًا؛ لأن المقه أوحى في قلبه أنه سيهبه غلامًا؛ ولأن "يكرب ملك وتر"، اختاره ليشرف على إدارة الأعمال المتعلقة بالحرب التي وقعت بين قتبان وسبأ وقبائلها، فقام بما عهد إليه، وذلك لمدة خمس سنين، وأدى ما كان عليه أن يؤديه على أحسن وجه؛ ولأن الإله "المقه" حرس

_ 1 الفقرة 12 و 13 من النص.jamme 550 Mahram pp 9

ووقى كل السبئيين وكل القبائل الأخرى التي اشتركت معهم وكل المشاة "ارجل" الذين أرسلوا على مدينة "تهرجب"1؛ ولأن إلهه حفظه ومكنه من إدارة الأعمال التي عهد الملك إليه، فتولى أمر سبأ والقبائل التي كانت معها، ووجه الأمور أحسن وجه ضد الأعمال العدوانية التي قام بها أهل "تهرجب" وغيرهم ضد سبأ، في خلال سنتين كاملتين، حتى وفقه الإله لعقد سلام "سلم" بين سبأ وقتبان فأثابه "يثع أمر بين" على ما صنع2. ويظهر من هذا النص أن "تبع كرب" "تبعكرب"، الكاهن "رشو" و"القين" كان من كبار الملاكين في سبأ في أيامه له أرضون وأملاك واسعة في أماكن متعددة من سبأ، وقد كانت تدر عليه أرباحًا كبيرة وغلة وافرة، يضاف إلى ذلك ما كان يأتيه من غلات المعبد الذي يديره والنذور التي تنذر للإله "سحر"، ثم الأرباح التي تأتيه من وظيفته في الدولة. ويظهر أنه كتب نصه المذكور بعد اعتزاله الخدمة لتقدمه في السن، في أوائل أيام حكم "كرب ايل وتر" ولذلك تكون جميع الحوادث والأعمال التي أشار إليها قد وقعت في أيام حكم المذكورين إلى ابتداء حكم "كرب ايل وتر" التي ذكر من أجل ذلك في آخر أسماء هؤلاء الحكام وفي القسم الأخير من النص. ويظهر من النص أيضًا أن الأعمال الحربية التي قام بها "تبعكرب"، كانت في أواخر أيام "يكرب ملك"، وامتدت إلى أوائل أيام حكم "يثع أمر بين" أرسله الأول إلى الحرب، ومنحه الثاني شهادة إتمام تلك الحرب وانتهائها، فهذا النص يبحث عن السنين الخمس التي شغلها "تبعكرب" بالأعمال الحربية3. وأما صاحب النص: jamme 552 فهو "ابكرب" "أبكرب" "أبو كرب" وكان من كبار الموظفين من حملة درجة "كبر"، أي "كبير" إذ كان كبيرًا على "كمدم بن عم كرب" "كمدم بن عكمركب" وهم من "شوذم" "شوذ" وكان "قينًا"، أي موظفًا كبيرًا عند "يدع ايل بين" وعند "سمه علي ينف" "سمه علي ينوف". وقد سجل نصه هذا عند بنائه "خخنهن" و"مذقنتن" قربة إلى الإله "المقه" ليبارك في أولاده

_ 1 "وكل ارجل هورد عد هجرن تهرجب" القسم الثاني من النص. 2 القسم الثاني من النص. 3 Mahram p 261

وأطفاله وبيته "بيت يهر"، وفي كل عبيده ومقتنياته، وذلك في أيام المكربين المذكورين1. وأما النص: jamme 555 فصاحبه "ذمر كرب بن أبكرب" "ذمر كرب بن أبكرب"، وهو من "شوذ بم"، أي "بني شوذب"، وكان قينًا" لـ"يثع أمر" ولـ"يكرب ملك" ولـ"سمه علي" ولـ"يدع ايل" و"يكرب ملك"2. وقد دونه عند اتمامه بناء جدار معبد "المقه"، من حد الحافة الجنوبية لقاعدة حجر الكتابة إلى أعلى البناء، وذلك ليكون عمله قربة إلى الإله، ليبارك في أولاده وأسرته وذوي قرابته، وفي أملاكه وعبيده وقد ذكر أسماء الأرضين التي كان يزرعها ويستغلها، وليبارك في بيته: "بيت يهر" وفي بيته الآخر المسمى "بيت حرر" بمدينة "جهرن" "جهران" وفي أملاكه وبيوته الأخرى في أرض العشيرتين: "مهأنف" و"يبران" "يبرن" كما دونه تعبيرًا عن حمده وشكره له؛ لأنه من عليه فأعطاه كل ما أراد منه، ومن جملة ذلك تعيينه قينًا على "مأرب" واشتراكه مع "سمه علي ينف" "سمهعلي ينوف" في الحرب التي وقعت بينه وبين قتبان في أرض قتبان، فأعد لتلك الحرب العدد التي ينبغي لها3. وقد نعت "أبكرب بن نبطكرب" "ابكرب بن نبط كرب" وهو من "زلتن" "زلتان" نفسه بـ"عبد" "يدع ايل بين" و"سمه علي ينف"، و "يثع أمر وتر"، و"يكرب ملك ذرح" و"سمه علي ينف"، وذلك في النص: Jamme 557 وقد دونه عند قيامه ببعض أعمال الترميم والبناء في معبد "المقه"، تقربًا إلى رب المعبد "بعل أوام" الإله "المقه"، ولتكون شفيعة لديه، لكي يبارك فيه وفي ذريته وأملاكه، وقد اختتم النص بجملة ناقصة أصيب آخرها بتلف، ولم يبق منها إلا قوله: "وملك مأرب"4. وللجملة الأخيرة من النص أهمية كبيرة؛ لأنها تتحدث عن ملك كان على مأرب في ذلك الزمن، سقطت حروف اسمه، ولم يبق منه غير الحرف الأول.

_ 1 Jamme 552, MAMB 6, Mahram, P. 16 2 Jamme 555, MAMB 10, Magram, PP. 18, 261 3 الفقرتان الثالثة والخامسة من النص. Jamme 557, MAMB 12, Magram, P. 22 4 راجع السطر الأخير من النص. Jamme 557, MAMB 12, Magram, P. 22

ويتبين من النصوص الأربعة المذكورة أننا أمام عدد من حكام سبأ، لم تشر تلك النصوص إلى أزمنتهم ولا إلى صلاتهم بالحكام الآخرين، حتى نستطيع بذلك تعيين المواضع التي يجب أن يأخذوها في القوائم التي وضعها الباحثون لحكام سبأ. وقد رأى "جامه" استنادًا إلى دراسته لهذه النصوص، وإلى معاينته لنوع الحجر ولأسلوب الكتابة، أن "يدع ايل بين" المذكور في النص: Jamme 552 هو أقدم من "يدع ايل بين" المذكور في النص Jamme 555، ولذلك دعاه بـ "الأول"، ودعا "يدع ايل بين" المذكور في النص Jamme 555 بـ "الثاني" و"يدع ايل بين" المذكور في النص jamme 550 بـ"يدع ايل" الثالث1. ومنح "جامه" "سمه علي ينف" "سمعلي ينوف" المذكور في النص: Jamme 552Lأمر لقب "الأول" ليميزه عن سميه المذكور في النص Jamme 555 وقد لقبه بـ"الثاني" كما منح "يثع أمر بين" المذكور في النص: Jamme555 لقب الأول، ليميزه عن سميه المذكور في النص Jamme 550 والذي أعطاه لقب "الثاني" وأما "يثع أمر وتر" و"يكرب ملك ذرح"، المذكوران في النص: Jamme 552، فلم يمنحهما أي لقب كان لعدم وجود سمي لهما في النصوص الأخرى2. وتفضل "جامه" على "يكرب ملك وتر"، المذكور في النص: Jamme 555 فمنحه لقب "الأول"، ليميزه عن سميه المذكور في النص: Jamme 550 الذي أعطاه لقب "الثاني"، وقد وسم "جامه" "يثع أمر بين" المذكور في النص: Jamme 555 بـ"الأول"، فميزه بذلك عن سميه المذكور في النص: Jamme 550 وأما "كرب ايل وتر" المذكور في آخر أسماء حكام النص: Jamme 550 فقد ظل بدون لقب، لعدم وجود سمي له.

_ 1 Mahram,P 264. Mahram P 264 2.

مدن سبأ

مدن سبأ: كانت مدينة "صرواح"، هي عاصمة السبئيين في أيام المكربين ومقر المكرب وفيها باعتبارها العاصمة معبد "المقه" إله سبأ الخاص، أما "مأرب" فلم

تكن عاصمة في هذا العهد، بل كانت مدينة من مدن السبئيين، و"صرواح" في هذا اليوم موضع خرب يعرف بـ "خربة" وبـ"صرواح الخريبة" على مسيرة يوم في الغرب من "مأرب"1. ويقع ما بين صنعاء ومأرب2. وقد ذكر "الهمداني" مدينة "صرواح" في مواضع عدة من كتابه "الإكليل"، وأشار إلى "ملوك صرواح ومأرب"3. وذكر شعرًا في "صرواح" للجاهليين ولجماعة من الإسلاميين، كما أشار إليها في كتابه "صفة جزيرة العرب"5. وتحدث "نشوان بن سعيد الحميري" عنها، فقال: "صرواح موضع باليمن قريب من مأرب فيه بناء عجيب من مآثر حمير، بناه عمرو ذو صرواح الملك بن الحارث بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الأصغر، وهو أحد الملوك المثامنة"6. وزعم أن "قس بن ساعدة الإيادي" ذكر "عمرو بن الحارث القيل ذو السبئية القديمة أيضًا، وفي إشارتهم إليها وتحدثهم عنها، دلالة على أهمية تلك المدينة القديمة، وعلى تأثيرها في نفوس الناس تأثيرًا لم يتمكن الزمان من محوه بالرغم من أفول نجمها قبل الإسلام بأمد. وذكر بعض أهل الأخبار أن "صرواح حصن باليمن أمر سليمان عليه السلام الجن فبنوه لبلقيس"8. وقولهم هذا هو بالطبع أسطورة من الأساطير المتأثرة بالإسرائيليات التي ترجع أصل أكثر المباني العادية في جزيرة العرب إلى سليمان وإلى جن سليمان. وقد عثر في أنقاض هذه المدينة القديمة المهمة على كتابات سبئية بعضها من

_ 1 Handbuch l S10 Beitrage S22 2 زيد علي عنان، تأريخ اليمن القديم "ص 91". 3 الإكليل "8/ 45". 4 الإكليل "8/ 75 وما بعدها" "10/ 22، 24، 26، 39، 110". 5 الصفة "102، 110، 203". 6 منتخبات "ص 60". 7 منتخبات "ص 60". 8 اللسان "3/ 343"، الإكليل "8/ 24، 45، 46، 49، 75، 76، 77، 78، 79، وما بعدها 109" "طبعة نبيه" 10/ 22، 24، 26، 39، 110"، الصفة "102، 110، 203".

عهد المكربين. ومن هذه النصوص، النص المهم الذي تحدثت عنه المعروف بكتابة "صرواح"، والموسوم عند العلماء بـGlaser 1000 A B وصاحبه الآمر بتدوينه هو المكرب الملك "كرب ايل وتر" وهو من أهم ما عثر عليه من نصوص هذا العهد. وقد دون فيه أخبار فتوحاته وانتصاراته وما قام به من أعمال، كما دونته قبل قليل، ولأسماء المواضع والقبائل فيه أهمية كبيرة للمؤرخ ولا شك، إذ تعينه على أن يتعرف مواضع عديدة ترد في نصوص أخرى، ولم نكن نعرف عنها شيئًا، كما أعانتنا في الرجوع بتأريخ بعض هذه الأسماء التي لا تزال معروفة إلى ما قبل الميلاد، إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وذلك إذا ذهبنا مذهب من يرجع عهد "كرب ايل وتر" إلى ذلك الزمن1. وفي مقابل خربة معبد صرواح، خربة أخرى تقع على تل، هي بقايا برج المدينة الذي كان يدافع عنها، وهناك أطلال أخرى، يظهر أنها من بقايا معابد تلك المدينة وقصورها2. وكان على المدينة "كبر" أي كبير، يدير شئونها، ويصرف أمورها وأمور الأرضين التابعة لها، وتحت يديه بالطبع موظفون يصرفون الأمور نيابة عنه، وهو المسئول أمام المكربين عن إدارة أمور المدينة وما يتبعها من قرى وأرضين وقبائل3. وفي "صرواح" كان معبد "المقه" إله سبأ، ومن هذه المدينة انتشرت عبادته بانتشار السبئيين، ومن معابد هذا الإله التي بنيت في هذه المدينة معبد "يفعن" "يفعان" الذي حظي بعناية المكربين4. وقد زارها "نزيه مؤيد العظم". وذكر أنها خربة في الوقت الحاضر، بنيت على أنقاضها قرية تتألف من عدد من البيوت، وتشاهد فيها بقايا القصور القديمة، والأعمدة الحجرية المنقوشة بالمسند، وأشار إلى أن القسم الأعظم من المباني القديمة، مدفون تحت الأنقاض خلا أربعة قصور أو خمسة لا تزال ظاهرة

_ 1 Beitrage, S-, 22 2 A. Fakhry, Les Antiquiiea du Yemen, Un Voyage & Sirwah, Marib et El-Gof, Le Museon, 61, 3-4, P. 215, Beitrage, S-, 22 3 Handbuch, I, S., 130 4 Handbuch, I, S., 78

على وجه الأرض، منها قصر يزعم الأهلون أنه كان لبلقيس، وكان به عرشها ولذلك يعرف عندهم بقصر بلقيس1. كا زار خرائب "صرواح" أحمد فخري من المتحف المصري في القاهرة، وصور أنقاض معبد "المقه" وعددًا من الكتابات التي ترجم بعضها الأستاذ "ركمنس" 2M Ryckmans. ولم تكن "مرب"، أي "مأرب" عاصمة سبأ في هذا الوقت، بل كانت مدينة من مدن سبأ الكبرى، ولعلها كانت العاصمة السياسية ومقر الطبقة المتنفذة في سبأ، أما "صرواح" فكانت العاصمة الروحية، فيها معبد الإله الأكبر، وبها مقر الحكام الكهنة "المكربون" وقد وجه "المكربون" عنايتهم كما رأينا نحو مأرب، فأقاموا بها معبد "المقه" الكبير والقصور الضخمة وسكنوا بها في فترات، وأقاموا عندها سد مأرب الشهير، فكأنهم كانوا على علم بأن عاصمة سبأ، ستكون مأرب، لا مدينتهم صرواح. وقد يكون لمكان مأرب دخل في هذا التوجه.

_ 1 رحلة في بلاد العربية السعيدة من مصر إلى صنعاء "2/ 34" فما بعدها. 2 Le Museon, LXI, 3-4, 1948, P. 215, A. Fakhry.An Archeological Journey to Yemen, I. Cairo, 1952, n, Cairo, 1952, The Publication of the Inscriptions, by G. Ryckmans, HI, Cairo, 1951

قوائم بأسماء المكربين

قوائم بأسماء المكربين مدخل ... قوائم بأسماء المكربين: اشتغل علماء العربية الجنوبية بترتيب حكام سبأ المكربين بحسب التسلسل التأريخي أو وضعهم في جمهرات على أساس القدم، مراعين في ذلك دراسة نماذج الخطوط والكتابات التي وردت فيها أسماء المكربين، وآراء علماء الآثار في تقدير عمر ما يعثر عليه مما يعود إلى أيام أولئك المكربين، ودراسة تقديراتهم لعمر الطبقات التي يعثر على تلك الآثار فيها، ومن أوائل من عني بهذا الموضوع من أولئك العلماء "كلاسر"، العالم الرحالة الشهير الذي كان له فضل نشر الدراسات العربية الجنوبية1 والعالم "فرتس هومل"2. و"رودوكناكس"3، و"فلبي"4، وغيرهم.

_ 1 راجع كتابه:Sfcizze der Geschichte und Geographie Arabien 2 Fritz Hommel, Ausatze und Abhandlungen arabistisch — semitologischen Inhalts., Miinchen, 1892 — 1901, S., 145, Grundriss der Geographie und Geschlchte des Alten Orient, S., 671 3 Rhodokanakis, KTB., n, S., 49 4 Philby, Background, P. 141

قائمة هومل

قائمة "هومل": وقد رتب "هومل" "مكربي" سبأ على هذا النحو1: 1- سمه علي، ولم يقف على نعته في الكتابات، وإليه تعود الكتابات الموسومة بـGlaser 1147. 2- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح" وإلى عهده تعود الكتابات: Arn. Glaser 901. 1147. 484 Halevy 50. 3- يثع أمر وتر "يثع أمر وتر" وإلى أيامه ترجع الكتابات: Halevy 626 627. 4- يدع آل بين "يدع ايل بين"، وإلى عهده يرجع النص: Halevy 280. 5- يثع أمر، ولم يذكر نعته، وقد ورد اسمه في النصوص الموسومة بـHalevy 352. 672. Arn 29. 6- كرب ايل بين "كرب آل بين". 7- سمه علي ينف "سمهعلي ينوف" "سمه علي ينوف". ويكون هؤلاء على رأيه جمهرة مستقلة، وهي الجمهرة الأولى لمكربي سبأ وتتكون الجمهرة الثانية على رأيه من المكربين: 1- ذمر علي. 2- سمه علي ينف "سمه علي ينف"، و"سمهعلي ينوف"، وهو باني سد "رحب"، رحاب"، وإلى أيامه تعود الكتابات: Glaser 413, 414, Halevy 673, Arn. 14

_ 1 Handbuch, I, S., 75.

3- يثع أمر بين "يثع أمر بين"، وهو باني سد "حببض"، "الحبابض" وموسع سد "رحب" "رحاب"، والمنتصر على "معن" معين وإلى عهده تعود الكتابات: Glaser 523, 525, Halevy 678, Arn. 12, 13, Glaser 418, 419. 4- ذمر علي، لعله ابن يثع أمر بين. 5- كرب آل وتر "كرب ايل وتر" صاحب نص صرواح. وقد عثر في بعض الكتابات على صورة النعامة محفورة مع كتابة ورد فيها اسم الإله "المقه"، كما عثر على كتابات ذكر فيها اسم هذا الإله وحفرت فيها صورة "نسر"، وقد ذهب بعض الباحثين إلى احتمال كون هذه الصور هي رمز إلى الإله المقه1.

_ 1 Mahram, P. 264, A. Grohmann, Gottersymbole und Symboltiere auf Sfldarablschen Denkmalern, Wlen, 1914, S-, 75

قائمة رودو كناكس

قائمة "رودو كناكس": ناقش "رودو كناكس" القوائم التي وضعها "كلاسر" و"هومل" و"هارتمن"1, وحاول وضع جمهرات جديدة مبنية على أساس الرابطة الدموية والتسلسل التأريخي، وما ورد في الكتابات من أسماء، فذكر في كتابه: "نصوص قتبانية في غلات الأٍرض" Katabanische Textee Zur Bodenwirtschaft هذه الجمهرات2: جمهرة ذكرت أسماؤها في الكتابة: Glaer 1693 وتتألف من: 1- يدع آل بين "يدع ايل بين". 2- سمه علي ينف "سمه علي ينوف". 3- يثع مر وتر "يثع أمر وتر". وجمهرة أخرى وردت أسماؤها في الكتابة Glaser 926 وتتكون من: 1- يثع أمر.

_ 1 Hartmann, Die Arabische Frage, S-, 603 2 KTB., H, S-, 49

2- يدع آل "يدع ايل". 3- سمه علي. وتكون مجموعة رمز إليها بـA. وذكر مجموعة ثالثة تتألف من: 1- يدع آل "يدع ايل". 2- يثع أمر "يثع أمر". 3-يدع اب "يدع أب". وجمهرة رابعة تتكون من: 1- كرب آل "كرب ايل". 2- يدع اب "يدع أب". 3- اخ كرب "أخ كرب". وقارن بين "هومل" و "هارتمن" فذكر الجمهرتين. 1-يدع آل "يدع ايل". 1- يدع أب "يدع أب". 2- يثع أمر "يثع أمر". 2- اخ كرب "أخ كرب". 3- كرب آل "كرب ايل". وجمهرة: 1- يدع آل "يدع ايل". 2- يثع أمر "يثع أمر". 3- كرب آل "كرب ايل". وهي جمهرة B. ولخص "رودوكناكس" هذه الجمهرات في جمهرات ثلاث هي: جمهرة A وجمهرة B وجمهرة C. جمهرة "A" Glaser 926 وتتألف من: 1- يثع امر "يثع أمر". 2- يدع آل "يدع ايل".

3- سمه علي. جمهرة. "Glaser 1752. 1762. Halevy 626 "B، وتتكون من: 1- يدع آل "يدع ايل". 2- يثع أمر "يثع أمر". 3- كرب آل "كرب ايل". 4- سمه علي. جمهرة "Glaser 1693 "C وقوامها: 1- يدع آل بين "يدع ايل بين". 2- سمه علي ينف "سمه علي ينوف". 3- يثع أمر وتر "يثع أمر وتر". وفي مناقشته للمجموعات الثلاث المتقدمة عاد فذكر الجمهرات التالية: جمهرة "1". سمه علي. يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح" CIH 366 FR 9. Halevy 50.. يثع أمر وتر "يثع أمر وتر". CIH 490 , Halevy 626. يدع آل بين "يدع ايل بين"، Halevy 280. جمهرة "2": يثع أمر "يثع أمر" لم يرد نعته. كرب آل بين "كرب ايل بين". Halevy 352, 672. سمه علي ينف "سمه علي ينوف" Halevy 45. وذكر الجمهرة التالية في آخر مناقشته لقوائم أسماء المكربين، وتتألف من: يثع أمر بين "يثع أمر بين" Glaser 926. يدع آل بين "يدع ايل بين" فاتح مدينة "نشق" Halevy 630 Glaser 926 1752.

يثع أمر "يثع أمر" Halevy 630 Glaer 1752 كرب آل "كرب ايل" Halevy 633 Glaser 1752 1762 سمه علي Glaser 926. 1762. وليس في تعداد هذه الجمهرات هنا علاقة بعدد المكربين أو بتسلسلهم التأريخي وإنما هي جمهرات وأسماء متكررة، ذكرها "رودوكناكس" للمناقشة ليس غير، وقد أحببت تدوينها هنا ليطلع عليها من يريد التعمق في هذا الموضوع.

قائمة فلبى

قائمة "فلبي": وقفت على قائمتين صنعهما "فلبي" لمكربي سبأ، نشر القائمة الأولى في كتابة: "سناد الإسلام"1 ونشر القائمة الثانية في مجلة 2Le Museom. وقد قدر "فلبي" تأريخًا لكل مكرب حكم فيه على رأيه شعب "سبأ" فقدر في قائمته التي نشرها في كتابه المذكور لكل ملك مدة عشرين سنة، وجعل مبدأ تأريخ حكم أول مكرب حوالي سنة "800" قبل الميلاد، وسار على هذا الأساس بإضافة مدة عشرين عامًا لكل ملك، فتألفت قائمته على هذا النحو: 1- سمه علي، أول المكربين، حكم حوالي سنة "800" قبل الميلاد. 2- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح"، وهو ابن "سمهعلي"، حكم حوالي سنة "780" قبل الميلاد. 3- يثع أمر وتر بن يدع آل ذرح، حكم حوالي سنة "760" قبل الميلاد. 4- يدع آل بين بن يثع أمر وتر، حكم حوالي سنة "740" قبل الميلاد. 5- يدع أمر وتر بن سمه علي ينف، وهو معاصر الملك الآشوري سرجون، وقد حكم حوالي سنة "720" قبل الميلاد. 6- كرب آل بين بن يثع أمر، حكم حوالي سنة "700" قبل الميلاد. 7- ذمر علي وتر ولا يعرف اسم والده على وجه التأكيد، وربما كان والده "كرب آل وتر"، أو "سمه علي ينف" وربما كان شقيقًا لـ"كرب آل بين"، وقد حكم في حوالي سنة "680" قبل الميلاد.

_ 1 Background of lslam pp 141 2 Le Museon Lxll 3- 4 PP 248

8- سمه علي ينف بن ذمر علي، وهو باني سد "رحب" "رحاب" وقد حكم في حوالي سنة "660" قبل الميلاد. 9- يثع أمر بين بن سمه علي ينف، وهو باني سد "حببضن" الحبابض، وقد حكم حوالي سنة "640" قبل الميلاد. 10- كرب آل وتر بن ذمر علي وتر، آخر المكربين وأول ملوك سبأ، وقد حكم على رأيه من سنة "620" حتى سنة "610" قبل الميلاد. أما قائمته التي نشرها في مجلة Le Museon، فهي على النحو الآتي: 1- سمه علي، وهو أقدم مكرب عرفناه. بدأ حكمه حوالي سنة "820" قبل الميلاد. وقد وضع "فلبي" الكتابات: CIH 367 , 418. 488, 955 إلى جانب اسم هذا المكرب دلالة على أن اسمه ذكر فيها، غير أني لم أجد لهذا المكرب أية علاقة بالكتابات: CIH 418, 488, 955 فالكتابة CIH 418 أي Glaser 926، لا تعود إلى هذا المكرب، وإنما تعود إلى مكرب آخر زمانه متأخر عنه، وقد وجدت خطأ مشابهًا في مواضع أخرى من هذه المواضع التي أشار فيها إلى الكتابات التي تخص كل مكرب من المكربين. 2- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح"، حكم حوالي سنة "800" قبل الميلاد. أما الكتابات التي ورد فيها اسمه، فهي: CIH 366. 418, 488, 490 , 636, 906, 955, 957 REP. EPIG. 3386, 3623, 3949, 3950, AF 17. 23, 24, 38. 3- سمه علي ينف، وقد حكم حوالي سنة "780" قبل الميلاد. أما الكتابات التي تعود إلى أيامه فهي: CIH 368, 371, 336, REP EPIG 3623, AF 68, 91, 92 4- يثع أمر وتر، لم يذكر المدة التي حكم فيها، وإنما جعل مدة حكمه مع مدة حكم سلفه ثلاثين عامًا، تنتهي بسنة "750" قبل الميلاد. أما الكتابات التي ورد اسمه فيها، فهي: CIH 138, 368, 371, 418, 490, 492, 493, 495, 634, 955, MREP EPI 3623M, 4405

وذكر "فلبي" بعد اسم "سمه علي ينف" اسم ابنه "يدع آل وتر"، ولكنه لم يشر إلى أنه كان مكربًا، وقد أشار إلى ورود اسمه في الكتابات: AF 86, 91, 92. 5- يدع آل بين، وهو ابن يثع أمر وتر، وقد حكم في حوالي سنة "750" قبل الميلاد. وورد اسمه في الكتابات: CIH 138, 414, 492, 493, 495, 634 961, 967, 979, 3389, 4405, AF 43, 89, 3387REP, EPIG. وذكر "فلبي" اسم "سمه علي ينف" مع اسم شقيقه "يدع آل بين"، ولم يكن هذا مكربًا، وقد ذكر في الكتاباتCIH 563, 631. 6- ذمر علي ذرح وهو ابن "يدع آل بين"، وقد حكم حوالي سنة "730" قبل الميلاد. جاء اسمه في الكتابات: CIH 633, 979, REP. EPIG 3387, 3389, AF 29. وكان له ولد اسمه "يدع آل" "يدع ايل" لا نعرف نعته، ولم يكن مكربًا، وقد ورد اسمه في الكتابات:CIH 633, AF 29. 7- يثع أمر وتر. ووالده هو "سمه علي ينف" شقيق "يدع آل بين"، وقد ذكرت أنه لم يكن مكربًا. لم يذكر "فلبي" مدة حكمه، وإنما جعل مدة حكمه مع مدة حكمه مع مدة حكم سلفه "ذمر علي ذرح" ثلاثين عامًا، انتهت بحوالي سنة "700" قبل الميلاد. 8- كرب آل بين، وهو ابن يثع أمر وتر، حكم حوالي سنة "700" قبل الميلاد، وورد اسمه في الكتابات: CIH 610, 627, 637, 732, 691, REP. EPIG 3388 4125, 4401, AF 89.. 9- ذمر على وتر بن كرب آل بين، حكم حوالي سنة "680" قبل الميلاد، وورد اسمه في الكتابات: CIH 610 623, REP EPIG 3388, 4401 10- سمه علي ينف، وهو ابن ذمر علي وتر حكم حوالي سنة "660" قبل الميلاد، وذكر اسمه في الكتابات: CIH 622, 623, 629, 733 , 774, philby 77 REP EPIG 3650, 4177, 4370

11- يثع أمر بين، وهو ابن سمه علي ينف، حكم حوالي سنة "640" قبل الميلاد، وذكر اسمه في الكتابات: CIH, 662, 629, 732, 864, Philby 77, AF 62, III, REP. EPPPPIG. 3650, 3653, 4177. وذكر "فلبي" مع اسم "يثع أمر بين" اسم "يكرب ملك وتر". وقد ورد اسمه في الكتابة: AF 70، ولم يكن مكربًا. 12- ذمر علي ينف، وقد حكم حوالي سنة "620" قبل الميلاد، وجاء اسمه في الكتابات: AF 70, CIH 491, REP. EPIG. 3498, 3636, 3945, 3946 13- كرب آل وتر، وهو آخر المكربين، وقد حكم حوالي سنة "615" قبل الميلاد، وورد اسمه في الكتابات: CIH 126, 363, 491, 562, 582,601, 881, 965, REP. RPIG. 3234, 34498, 3636, 3916, 3945, 3946, Philby 16, 24,25, 70? 101, 133?

قائمة ريمكنس

قائمة ريمكنس ... قائمة "ريكمنس" j. Ryckmans: وقد دون "ريكمنس" أسماء المكربين على هذا النحو: 1- سمه علي. 2- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح" وهو ابن "سمه علي". 3- سمه علي ينف، وهو ابن "يدع ايل ذرح". 4- يثع أمر وتر، وهو ابن "يدع ايل ذرح" كذلك. 5- يدع آل بين "يدع ايل بين" وهو ابن "يثع أمر وتر". 6- ذمر علي ذرح، وهو ابن "يدع ايل بين". 7- يثع أمر وتر، وهو ابن "سمه علي ينف"، ابن "يثع أمر وتر" وهو شقيق "يدع ايل بين". 8- كرب ايل بين1.

_ 1 Jacques Ryckmans, L.htm'institution Monarchique en Arable Mertaionale avant L'Islam (I) Louvain, 1951, P. 95.

الفصل الرابع والعشرون: ملوك سبأ

الفصل الرابع والعشرون: ملوك سبأ مدخل ... الفصل الرابع والعشرون: ملوك سبأ وبتلقب "كرب ايل وتر" بلقب ملك، وباستمرار ما جاء بعده من الحكام على التلقب به، ندخل في عهد جديد من الحكم في سبأ، سماه علماء العربيات الجنوبية عهد "ملوك سبأ"، تمييزًا له عن العقد السابق الذي هو في نظرهم العهد الأول من عهود الحكم في سبأ، وهو عهد المكربين، وتمييزًا له عن العهد التالي له الذي سمي عهد "ملوك سبأ وذي ريدان". ويبدأ عهد "ملوك سبأ" بسنة "650 ق. م." على تقدير "هومل" ومن شايعه عليه من الباحثين في العربيات الجنوبية1. ويمتد إلى سنة "115ق. م." على رأي غالبية علماء العربيات الجنوبية2، أو سنة "109 ق. م." على رأي "ركمنس" الذي توصل إليه من عهد غير بعيد، وعندئذ يبدأ عهد جديد في تأريخ سبأ، هو عهد "ملوك سبأ وذي ريدان". أما "ألبرايت"، فيرى أن حكم هذا المكرب الملك في حوالي السنة "450ق. م."، أي بعد قرنين من تقدير "هومل"3. وبناء على ذلك يكون عهد الملوك –على رأيه- قد بدأ منذ هذا العهد4.

_ 1 Handbucb, I, 8., 86 2 Handbuch, I, S-, 86 3 Discoveries, P. 222, BOASO0K, NUM. 137, 1955, P. 38, JAOS, 73, 1953, P. 40 4 W. F. Albright, in Journal of the American Oriental Society, 73, I, 1953, P.40

وقد قدر بعض الباحثين زمان حكم المكرب والملك "كرب ايل وتر" في القرن الخامس قبل الميلاد1, وقد كان يعاصره في رأي "ألبرايت" "وروايل" ملك أو مكرب قتبان، الذي حكم بحسب رأيه أيضًا في حوالي سنة "450ق. م."، وكان خاضعًا لـ"كرب ايل وتر"2، و "يدع ايل" ملك حضرموت3. ويمتاز هذا العهد عن العهد السابق له، وأعني به عهد حكومة المكربين، بانتقال الحكومة فيه من "صرواح" العاصمة الأولى القديمة، إلى "مأرب" العاصمة الجديدة، حيث استقر الملوك فيها متخذين القصر الشهير الذي صار رمز "سبأ"، وهو قصر "سلحن" "سلحين" مقامًا ومستقرًّا لهم، منه تصدر أوامرهم إلى أجزاء المملكة في إدارة الأمور. و"كرب آل وتر" "كرب ايل وتر"، وهو أول ملك من ملوك سبأ افتتح هذا العهد، لقد تحدثت عنه في الفصل السابق، حديثًا أعتقد أنه واف، ولم يبق لدي شيء جديد أقوله عنه. وليس لي هنا أن أنتقل إلى الحديث عن الملك الثاني الذي حكم بعده، ثم عن بقية من جاء بعده من ملوك. أما الملك الثاني الذي وضعه علماء العربيات على رأس قائمة "ملوك سبأ" بعد "كرب ايل وتر"، فهو الملك "سمه علي ذرح"4، وقد ذهب "فلبي" إلى احتمال أن يكون ابن الملك "كرب ايل وتر". وقد كان حكمه على حسب تقديره في حوالي السنة "600ق. م."5. وقد وقفنا من النص الموسوم بـCIH 374 على اسمي ولدين من أولاد "سمه علي ذرح"، هما "الشرح" "اليشرح"، و"كرب ايل". وقد ورد فيه: أن "الشرح" أقام جدار معبد "المقه" من موضع الكتابة إلى أعلاها، ورمم أبراج هذا المعبد، وحفر الخنادق، ووفى بجميع نذره الذي نذره لإلهه "المقه" على الوفاء به أن أجاب دعاءه، وقد استجاب إلهه لسؤاله، فيسر أمره وأعطاه كل ما أراد، فشكرًا له على آلائه ونعمائه، وشكرًا لبقية آلهة سبأ،

_ 1 Beltrage, S., 9 2 The Chronology, P. 8 3 The Chronology, P. 10 4 Handbuch, I, S., 86, Le Mus6on, LXII, 3-4, 1949, P. 249 5 Background, P. 142

وهي: "عثتر"، و"هبس" "هوبس" و"ذات حمم" "ذات حميم" و"ذت بعدن" "ذات بعدان"، وتمجيدًا لاسم والده "سمه علي ذرح" أن أمر بتدوين هذه الكتابة ليطلع عليها الناس1. وقد سجل فيها مع اسم شقيقه "كرب آل" "كرب ايل". أما "كرب ال" "كرب ايل" أحد أولاد "سمه علي ذرح" فلا نعرف شيئًا من أمره، وقد صيره "هومل" خليفة والده، وجاراه "فلبي" في ذلك، وقدر زمان حكمه بحوالي السنة "580 ق. م."2. ووضع "هومل" اسم "الشرح" "اليشرح"، وهو ولد من أولاد "سمه علي ذرح" بعد اسم شقيقه "كرب ايل وتر"3. وجاراه "فلبي" في هذا الترتيب4، ولا نعلم شيئًا عنه يستحق الذكر. وانتقل عرش سبأ إلى ملك آخر، هو "يدع آل بين" "يدع ايل بين" وهو ابن "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر". وقد ورد اسمه في النص الموسوم بـ "Glaser 105" ودونه رجل اسمه "تيم". وقد حمد فيه الإله "المقه" بعل "أوم" "أوام"؛ لأنه ساعده وأجاب طلبه، وتيمن بهذه المناسبة بتدوين اسم الملك، كما ذكر فيه اسم "فيشن" أي "فيشان"، وهي الأسرة السبئية الحاكمة التي منها المكربون وهؤلاء الملوك، كما ذكر اسم "بكيل شبام"5. وقد ورد في الكتابة المذكورة اسم حصن "الو"، وهو حصن ذكر في كتابات أخرى، ويرى بعض الباحثين أن هذه الكتابات هي من ابتداء القرن الرابع قبل الميلاد، أي أن حكم "يدع آل بين"، كان في هذا العهد6. والنص Glaser 529 من النصوص التي تعود إلى أيام "يدع آل بين"

_ 1 Glaser 485, Fresnel 55, CIH 374, IV, II, I, P. 23, Discoveries, P. 222, Jamme 551 2 Background, P. 142 3 Handbuch, I, S-, 87 4 Background, P. 142 5 CIH 126, IV, I, m, P. 194 6 BeitrSge, 8., 19

"يدع ايل بين" كذلك. وقد ورد فيه اسم عشيرته: "فيشن" "فيشان"1. وانتقل عرش سبأ إلى "يكرب ملك وتر" من بعد "يدع آل بين" على رأي "هومل"، وهو ابنه. وقد ذكر اسمه في الكتابة الموسومة بـ2Halevy 51، وهي عبارة عن تأييد هذا الملك لقانون كان في صدر في أيام حكم أبيه لشعب سبأ ولقبيلة "يهبلح" في كيفية استغلال الأرض واستثمارها في مقابل ضرائب معينة تدفع إلى الدولة، وفي الواجبات المترتبة على سبأ وعلى "يهبلح" في موضوع الخدمات العسكرية، وتقديم الجنود لخدمة الدولة في السلم وفي الحرب، وقد وردت في هذا النص أسماء قبائل أخرى لها علاقة بالقانون، منها قبيلة "أربعن" "أربعان"، وكانت تتمتع باستقلالها، يحكمها رؤساء منها، يلقب الواحد منهم بلقب "ملك". وقد شهد على صحة هذا القانون، وأيد صدق صدوره من الملك، ووافق عليه جماعة من الأشراف وسادات القبائل، قبائل سبأ وغيرها، ذكرت أسماؤهم في النص بعد جملة: "سمعم ذت علم"، أي "سمع هذا الأعلام" أي شهد على صحة هذا البيان، وأيده، ووافق على ما جاء فيه، وهم: "يكرب ملك"، و "عم أمر" ابنا "بهلم"، و"سمه كرب بن كريم" "سمه كرب بن كرب"، و "هلك أمر بن حزفرم"، و "عم أمر بن حزفرم"، و"أبكرب بن مقرم"، و"سمه أمر بن هلكم" و"معد كرب ذ خلفن" "معد كرب ذ خلفن"، و"سمه كرب ذ ثورنهن" و"نبط آل" ملك قبيلة "أربعين"3. وقد أعلن هذا القانون وأثبت "مثبتم" في السنة الثامنة "ثمنيم" من سني "ذ نيلم" "ذي نيل" من سني تقويم "نشأ كرب بن كبر خلل"، وهو من

_ 1 CIH 562, IV, n, IV, P. 338, Lupar 4540, Hommel, Sud-Arabische Chresto-raathie, S., B., 52, O. Weber, Studen zur sudarablschen AltertumsKnnde, II, S., 18 2 Glaser 904, Halevy 51, 638, 650, CIH IV, III, I, P. 2, Halevy, Rapport, in JoJurnal Aslat., 1872, P. 137, Glaser, Altjemenizische Nachrichten, S., 71, 160, CIH 601, REP. EPIG. 2726, V, n, P. 68 3 CIH, IV, 1H, I, P. 12

سادات قبيلة "خلل" أي "خليل"1. وذكر قبل هذا تأريخ آخر. هو "ذا بهي ذخرف بعثتر بن حذمت"2. أي "في شهر ذي أبهي من سنة عثتر بن حذمة" وقد صدر لقبائل سبأ، و "يهبلح" وكل ساكن في منطقة مدينة "صرواح" "وبكل بهجر صروح"3. والكتابة المرقمة بـCIH 390 هي من أيام "يكرب ملك"، وقد دونها رجل اسمه "عددال؟ " "وددال"، وذلك عند تقديمه "قيفا" إلى الإله "بعل اوم" "بعل أوام" لسلامته ولخيره، ولم يلقب "يكرب ملك" فيها بلقب ملك4. وولي حكم سبأ بعد "يكرب ملك وتر" ابنه الملك "يثع أمر بين"، وقد ورد اسمه في عدد من الكتابات: منها الكتابة المعروفة بـGlaser 5085، وهي ناقصة الآخر، جاء فيها: إن هذا الملك قدم نذرًا إلى الإله "عثتر" في معبده في "ذبيان" "ذبين"، ولسقوط كلمات من النص وتلفها لا ندري ما النذر الذي قدمه الملك إلى ذلك المعبد6. وورد اسم الملك "يثع أمر بين" في نص قصير، وسم بـREP. EPIG 3919 وذكر معه اسم أبيه "يكرب ملك"7. وورد اسمه في كتابة أخرى، سجلها رجل اسمه "تبع كرب" "تبعكرب" وكان كاهنًا "رشو" للإلهة "ذت غضرن" "ذات غضران"، كما كان يتولى وظيفة إدارية كبيرة هي درجة "قين"، وذلك في عهد الملك "يدع ايل بين"، وفي عهد الملكين: "يكرب ملك"، و"يثع أمر بين"، وقد سجل تلك الكتابة عد بنائه هو وأبناؤه وسائر أسرته جدار معبد "المقه"، وقيامه معهم

_ 1 السطر 18 وما بعده. 2 السطر العاشر وما بعده. 3 السطر الثالث عشر. Rhodokanafcis, Der Grundsatz der OeffentUchkeit in den Sdarabischen Urfcunden, S., 16 4 CIH, IV, n, I, P. 47, Halevy 44t Glaser 900 5 CH 966, IV, III II, P. 292 6 Rliodofeanakis, Stud. Lexi, II, S., 17, Glaser, Sammlung, I, S., 50 7 REP. EPIG., VI, H, P. 385

بحفر خنادق وإنشاء بروج تعبيرًا عن شكرهم لآلهة سبأ "المقه" و "عثتر" و "هوبس" و "ذات حميم"، و"ذات بعدان"، و"ذات غضران"؛ لأنها أنعمت عليه إذ كان قائدًا عسكريًّا بالتوفيق في عقد صلح بين حكومة سبأ وحكومة قتبان، وقد وضع شروطًا للصلح بين الطرفين على الملك "يثع أمر بين" في مدينة "مأرب"، فوافق عليها، وذلك بعد حرب ضارية استمرت خمس سنوات، كانت قتبان هي التي أشعلت نارها بهجومها، على أرض سبأ وتعرضها لمدن سبأ بالشر, وقد عهد إلى هذا الكاهن و "القين" والقائد أمر محاربة القتبانيين والدفاع عن المملكة، فاستطاع على ما يتبين من النص وقف هجوم القتبانيين وصده، وإجلاء القتبانيين عن الأرضين التي استولوا عليها إلى المدينة "تهرجب" "تهركب"1. والكتابة المذكورة، هي من جملة الكتابات التي عثر عليها في معبد المقه المعروف عند السبئيين بـ"معبد أوام بيت المقه" في مدينة مأرب2. ويظهر من ذكرها أسماء الملوك الثلاثة أن "تبع كرب" "تبعكرب" الكاهن "رشو" والقائد، كان قد خدم هؤلاء الملوك، وكان من المقربين إليهم، وقد نجح في مهمته في عهد الملك "يثع أمر بين" في عقد الصلح بين سبأ وقتبان، وقدم شكره وحمده إلى الإله "المقه" إله سبأ الكبير، ببناء ذلك الجزء من جدار المعبد الذي نصبت الكتابة عليه، وقد ساعده في ذلك أهله وعشيرته، وذكر أسماء الملوك الثلاثة على الطريقة المتبعة في التيمن بذكر أسماء الآلهة وأسماء الحكام الذين في عهدهم تم العمل، وربما على سبيل توريخ الحادث أيضًا، ولما كان "تبعكرب" "تبع كرب" كاهنًا "رشو"، فلا أستبعد احتمال كونه كاهن معبد "أوام"؛ لأن كاهنًا عاديًا لا يمكن أن يقوم بمثل هذا العمل، وأن يتولى قيادة الجيش وإجراء المفاوضات. وفي هذا النص إشارة إلى حرب وقعت بين القتبانيين والسبئيين، ظلت مستمرة

_ 1 fresnel 56, Glaser 481, CIH 375, IV, n, I, P. 25, Halevy, in Journal Asiatique, 1874, n, P. 584. 2 Glaser 481, CIH 375, Jamme 550, CIH IV, n, I, P. 23, Discoveries, P. 222, Studi. Lexi., 2, S., 12, Halevy, in Etudes Sabeenes, Journal Asiatique, 1874, II, P. 581.

خمس سنين، وهي حرب من جملة حروب نشبت قبل هذه الحرب، ونشبت بعدها بين السبئيين والقتبانيين. وقد انتهت هذه الحرب المتقدمة بتمكين السبئيين من استعادة ما خسروه وبطرد القتبانيين من الأرضين التي استولوا عليها، ونجد في النص الموسوم بـGlaser 1693 خبر حرب وقعت أيضًا بين قتبان وسبأ في أيام الملك "يدع أب يجل بن ذمر علي" ملك قتبان، وقد دون هذا النص "يذمر ملك" سيد قبيلة "ذرن" "ذران" "ذرأن"، وقد قص فيه أعماله وغزواته وحروبه، فذكر أنه تغلب على قبيلة "ذبحن" "ذبحان" صاحبة أرض "حمرر"1 وعلى قبائل وعشائر أخرى، منها: "ناس" "نأس"، و"ذودن" "ذودان" و"صبرم" "صبر" و"سلمن" "سلمان"، وعلى مدنها ومزارعها وأملاكها، وقد وهبها وحبسها على الإله "عم" إله قتبان الرئيس و"انبي"2. وقد أشار "يذمر ملك" في نصه إلى حرب وقعت بين قتبان وسبأ، واستمرت في أيام "ملوك سبأ": "يدع ايل بين" و"سمه علي ينف" و"يثع أمر وتر"3 وحرب تجري في عهد ثلاثة ملوك لا بد أن تكون حربًا طويلة الأجل استمرت سنين، وكان فيها لصاحب النص شأن خطير فيها، فانتصر على قبائل سبئية عديدة، وانتزع منها أملاكها وسجلها باسم حكومة قتبان. وحارب مع السبئيين "شعب رعنن" أي قبيلة "رعنن" "رعين"، وكان حكامها يلقبون أنفسهم في هذا العهد بلقب "ملك"، كما جاء في نص "يذمر ملك". وحكم بعد "يثع أمر بين" ابنه "كرب ايل وتر" "كر آل وتر" وإليه تعود الكتابة الموسومة بـ Glaser 1571 وهي أمر ملكي أصدره هذا الملك إلى كبار الموظفين وسادات القبائل ومن كان قد خول حق جمع الضرائب، مثل رؤساء "نزحت" و "فيشان" و "أربعن" و"كبر" كبير "صرواح"

_ 1 "شعبن ذبحن ذخمرر". 2 KTB II S 41 3 "بضرم تنشا يدع ال بين وسمه علي ينف ويثع أمر وتر، واملك سبا واشعبهمو واملك رعنن ورعنن بعلو يدع اب وقتبين وولدعم"، الفقرتان الثالثة والرابعة من النص

"يثع كرب بن ذرح علي" وأعيان صرواح، وقد صدر هذا الأمر الملكي في شهر "فرع ذنيلم" "فرع ذي نيل" من سنة "هلك أمر". وقد وقع عليه وشهد بصحته: "كرب ايل يهصدق" من قبيلة "ذي يفعان" و "أب أمر بن حزفرم" و "أب كرب" من قبيلة "نزحتن" و "عم يثع بن مونيان" و"لحي عث بن ملحان" من قبيلة "أربعنهان"، و "أسد ذخر بن قلزان" و "نشأكرب بن نزحتان"1. وقد حكم الملك "سمه علي ينف" "سمه علي ينوف" بعد "كرب ايل وتر" على رأي "هومل" و"فلبي"، وقد جعل "فلبي" "كر ايل" أبًا له، غير أنه وضع أمام الاسم "كرب ايل" علامة استفهام دلالة على أنه غير متأكد من دعواه هذه كل التأكد2. وقد ورد اسم "كرب ايل وتر" في الكتابة الموسومة بـ 3Berlin VA 5324 وصاحبها "بعثتر ذو وضأم"، وكان كبيرًا على كل قبيلة "أريم" "أريام"، وقد سجلها لقيامه بأعمال زراعية، وبأمور تتعلق بالتروية، مثل حفر أنهار وأغيلة "غيلان" "غيلن"، وبناء سدود لها بحجارة "البلق"، وقد ورد فيها أسماء الأماكن التي أجريت فيها هذه الأعمال، وهي: "أثبن" "أثأبن" "أثأبان" و"مطرن" "مطران"، و"مأتمم" و"ذفنوتم" "ذوفنوتم" و"سمطانهان"، وهي من مزارع الملك، وغوطة "ذو ضأم" في "سرر أمان"، وذكر آخر النص اسم "ذمر علي" وقد سقط لقبه فيه4. وقد ورد اسم "كرب ايل" و"سمه علي" في النص المعروف بـ REP. EPIG 4226 وصاحبه رجل اسمه "عم أمر بن معد يكرب" وقد تيمن في نصه بذكر الآلهة: "المقه", "عثتر" و "ذات حميم"، و "ذات بعدان"، و "ود"، وذكر بعد أسماء هذه الآلهة: "كرب ايل" و"سمه علي"، و "عم ريام" "عم ريمم" و "يذرح ملك"5.

_ 1 REP. EPIG. VII, I, P- 3, NUM. 3951, Glaser, 1571 2 Background, P. 142 3 REP. EPIG., VII, I, P. 75 4 راجع النص:Berlin VA 5324 5 REP. EPIG. 4226, Marseille 5536, REP. EPIG., VIIJI, P. 151

وكان "فلبي" وضع اسم "الشرح" "اليشرح" في كتابه "سناد الإسلام" بعد اسم أبيه "سمه علي ينف"، وذكر أنه أصبح ملكًا بعده، وذلك على تقديره حوالي سنة "460 ق. م."، ثم ذكر بعده اسم "ذمر علي بين" شقيق "الشرح" الذي حكم على رأي "فلبي" أيضًا حوالي سنة "445 ق. م." ووضع بعده "يدع ايل وتر"، وهو ابن "ذمر علي بين" وقد تولى العرش على تقديره أيضًا حوالي عام "430 ق. م." ثم وضع بعده "ذمر علي بين" وهو –على رأيه- ابن "يدع ايل وتر"، وجعل حكمه في سنة "410" قبل الميلاد، ووضع بعده "كرب ايل وتر"، وكان حكمه في سنة "390" قبل الميلاد1. أما قائمته التي نشرها في مجلة: Le Museon، فقد وضع فيها بعد "سمه علي ينف" اسم "يدع ايل بين"، وجعله ابن "سمه علي"، وجعل حكمه حوالي عام "470 ق. م."، ثم وضع بعده اسم شقيقه "ذمر علي"، ولم يجعل "الشرح" ملكًا في هذه القائمة2. وقد ورد في الكتابة الموسومة بـ REP. EPIG 4198 اسم الملك "ذمر علي" ملك سبأ "ابن يدع ايل وتر" واسم ابن له بعده، غير أنه أصابه تلف مما أثره، وقد ذكرت فيها أسماء آلهة سبأ، كما ذكر اسم الإله "ود ذو ميفعان" و"دم ذ ميفعن" وهو إله معيني، كما ورد اسم الإله "ود ذو ميفعان" و "دم ذ ميفعن"، وهو إله معيني كما ورد اسم إلهة معينية هي "هرن" "هران"3. وفي ذكر الآلهة السبئية والآلهة المعينية في هذه الكتابة، دلالة على اختلاط صاحبها بالمعينيين. وصاحب الكتابة رجل من "ريمان"، وكان له بيت اسمه "نمرن" نمران و "ريمان" عشيرة من سبأ، ويظهر أن جماعة منها تزحت إلى أرض معين، فسكنت بالقرب من "نشق" في مدينة "نمران" التي تعرف اليوم بـ "بيت نمران"، ولذلك ذكر آلهة معين مع آلهة سبأ، لاختلاطه بالمعينيين، ويرى بعض الباحثين أن ملك سبأ كان قد أسكن هذه الجماعة من الريمانيين عند "نشق"

_ 1 Background, P. 142 2 Le Museon, LXII, 3-4, 1949, P. 249 3 Le Museon, 1964, 3-4, P. 436

لحماية معين وللدفاع عنها بعد أن خضعت لحكم السبئيين1. ولا يستبعد "فون وزمن"، كون الابن الذي عفي أثر اسمه من الكتابة المرقمة بـREP EPIG 4198، هو "سمه علي ينف" "سمعهلي ينوف"، المقصود في الكتابة: REP EPIG 4085, وهي كتابة يرى "فون وزمن" أنها تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد. وإلى الأيام التي قام بها "أوليوس غالوس" بحملته على اليمن2. ولدينا جمهرة أخرى من ملوك سبأ، تتألف من ملكين، هما: "الكرب يهنعم"، و "كرب ايل وتر". وقد عدها "فلبي" السلالة الثالثة من سلالات الملوك3. أما "الكرب يهنعم" فقد ورد اسمه في الكتابة Glaser 291 وقد ذكر أنه كان ملكًا على سبأ، وأن اسم أبيه "هم تسع" وأما "كرب وتر"، فقد ورد اسمه في الكتابة المعروفة بـ Glaser 302 وهي من "حدقان" شمال "صنعاء"4، ويكون هذا الملك مع الملك "الكرب –على رأي "هومل"- جمهرة قائمة بذاتها من جمهرات الملوك5. ووضع "فلبي" بعد "كرب ايل وتر" ملكًا اسمه "وهب ايل"، ولم يتأكد من اسم أبيه فوضعه بين قوسين، ووضع أمام اسم الأب علامة الاستفهام دلالة على عدم تأكده، ووضع بعد علامة الاستفهام "ابن سرو"، تعبيرًا عن عدم تأكده من صحة اسم هذا الأب، وجعل حكم هذا الملك في حوالي السنة "310 ق. م." ولم يعرف "فلبي" لقب "وهب ايل"6. وتولى الحكم بعد "وهب ايل" ملك اسمه "انمر يهامن" "أنمار يهأمن" "انمر يهنعم" "أنمار يهنعم" أما أبوه، فهو "وهب آل" "وهب ايل" ولا نعرف لقبه الذي عرف به، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن أباه هو الملك المتقدم، ولذلك وضعوه بعده7. وقد اختلف الباحثون في كيفية كتابة لقب

_ 1 Le MusSon, 1964, 3-4, P. 436 2 Le Mus6on, 1964, 3-4, P. 436 3 Background, P. 142 4 Handbuch, I, S., 88 5 Handbuch, I, S., 88 6 Background, P. 142 7 Background, P. 142

"أنمار"، فكتبه بعضهم "يهأمن" وكتبه بعض آخر "يهنعم"، ودونه بعض آخر على الشكل الأول في موضع، وعلى الشكل الثاني في موضع آخر1. ولعدم وجود صور أصول الكتابات بـ "الفوتوغراف" في المطبوعات التي نشرت الكتابات التي تعود إلى أيامه؛ ولأنها أخذتها من استنساخ العلماء لها، أتوقف عن البت في تثبيت لقبه في هذا المكان حتى يتهيأ لي الظفر بصور "فوتوغرافية" لأصول تلك الكتابات، ولهذا السبب كتبت اللقب بالشكلين المذكورين. وقد نبه مؤلفا كتاب "Sab lnschr" على ظفرهما بنعت والد "أنمار" من الكتابات: CIH I, و CIH 517 CIH 642 فجعلاه "يحز"2. وقد راجعت النص CIH I فلم أجد علاقة بين الملكين، فالملك في هذا النص هو الملك "كرب ايل وتر يهنعم" ملك سبأ، وأبوه هو "وهب ايل يحز". وأما الملك الذي نتحدث عنه ونقصده هنا، فإنه "أنمار يهنعم" ووالده "وهب ايل" وراجعت النص CIH I 517 فوجدته كالنص السابق لا علاقة له بالملك "أنمار" ولا بأبيه، إذ كتب في زمان "كرب ايل وتر يهنعم بن وهب ايل يحز" أيضًا، ولا علاقة له مثل شقيقه بالملك "أنمار". وقد ورد اسم الملك "أنمار يهأمن" "يهنعم" في الكتابة الموسومة بـ3CIH I244 وقد سقط منها اسم صاحبها الذي تضرع إلى الآلهة بأن تمن عليه بالصحة، وأن تبارك له في نفسه وفي أمواله، وأن ترفعه من منزلته ومقامه ومقام ملكه في أيام الملك أنمار يهأمن "يهنعم" ملك سبأ، وقد وردت في آخر النص الحروف "ب ت ب"، "، وأكملها ناشره بإضافة حرف "اللام" إلى الحروف المكسورة فصارت "ب ت ل ب"، أي "بتالب" ومعناها "بالإله تالب" أو "بحق الإله تالب"، ولم يرد في النص بعد اسم الأب نعته، ولم يذكره ناشر النص في كتاب: CIH4 أما "ميتوخ" و "مورد تمن" فقد كتباه وجعلاه "يحز"5.

_ 1 Handbuch, I, S., 90, Sab. Inschr., S., 141, Glaser, 223, CIH 244, RW 149, MM 120, Beitrage, S., 18 2 CIH I, Glaser 2, 3, 24, CIH, IV, I, I, P. 4, D. H. Muller, Sab. Inschr., ZDMG, XXXVEC 1883, S., 379 3 CIH 244, IV, I, III, P. 271, RW 149, Glaser 223, MM 120 4 CIH, IV, I, III, P. 271 5 Sab. Inschr., S., 141

وأما الكتابة الموسومة بـ CIH I 642، فلم يرد فيها اسم الملك "أنمار"، ولا اسم "كرب ايل وتر يهنعم"، فلا أدري لم أشار إليها مؤلفا كتاب: Sab. Lnschr على أنها من النصوص التي ورد فيها نعت "وهب ايل"، وصاحب هذه الكتابة "مرثد آل بن فسول" "مرثد ايل بن فسول"، وكان "قول" أي قيلًا على عشيرة "سمعي"1. ولدينا كتابة ناقصة، سقط من أولها اسم الآمر بتدوينها، خلاصتها أن صاحب هذه الكتابة قدم تمثالًا إلى الإله: "تالب ريم" "تالب ريام" "بعل شصرن"، "ش ص ر ن"، أي رب معبد الإله المذكور المقام في الموضع "شصرن"؛ لأنه من عليه فرده سالمًا من الحرب، وتيمن فيها أيضًا بذكر ملكه الملك "أنمار يهأمن" ملك سبأ، وقد سقطت كلمات من هذه الكتابة سببت تشويهها وغموضها، فلا ندري ما المقصود بهذه الحملة أو الحرب. أهي حملة قام بها الملك "أنمار يهأمن" أم حملة قام بها ملك آخر، وأعلنها على الملك "أنمار"؟ ويرى مؤلفا كتاب Sab, lnschr أن الذي قام بها رجل من "بتع" وقد أمده الملك بمساعدة عسكرية2. وورد اسم الملك "أنمار يهأمن" واسم أبيه، في نص دونه أحد سادات "ذ مليحم" "ذي مليحم" "ذي مليح"، اسمه "وهب ذي سموي اليف" "وهب ذو سموي أليف"، تقربًا إلى الإله: "تألب ريام بعل كبد"؛ لأنه أجاب دعاءه، فحفظه وساعده، وساعد ابنه وأتباعه، وذلك في أيام الملك المذكو3. وقد جعل "فلبي" حكم "أنمار يهأمن" من حدود سنة "290"، حتى سنة "270ق. م."4، أما "فون وزمن"، فقد جعل حكمه في القرن الأخير قبل الميلاد، فذكر أنه كان يحكم في حوالي السنة "60ق. م."5. وتولى عرش سبأ بعد "أنمار يهأمن" ابنه "ذمر علي ذرح"، وقد وصلت

_ 1 CIH 642, IV, in, I, P- 76, Mordtmann, in ZDMG., XXXII, (1878) , S., 679 2 RW 129, Sab. Inschr., S., 116, (86) , CIH 195, IV, I, III, P. 242, Glaser 179 3 MM 26, 120, Sab. Inschr., S., 48, 141 4 Background, P. 88, 142 5 Beitrage, S., 18

إلينا كتابة قصيرة أصيبت بكسور في مواضع منها، سقط منها اسم "أنمار"، وبقيت كلمة "يهأمن" وجاء بعدها اسم "ذمر علي ذرح" مسبوقًا بالواو حرف العطف، مما يدل على أنها كتبت في أيام أبيه "أنمار يهأمن"، وقد ورد فيها مضافًا إلى اسمي الملكين اسما "ودم" "ود" "وتزاد" "تزأد"1 وقد قرأ بعض الباحثين اللقب الباقي من اسم "أنمار" على هذه الصورة "يهنعم"2. وقد ذكرت أن مرد هذا الاختلاف إلى اختلاف النساخ. وانتقل العرش إلى الملك "نشأكرب يهأمن" بعد وفاة "ذمر علي ذرح" والده، وقد جعل "هومل" نعته "يهنعم"3. وقد وصلت إلينا كتابة منه دونها عند تجديده وإصلاحه أصنام "أصلم" معبد "عثتر ذ ذب" "عثتر ذي ذب"4. ويظهر أن أصنام هذا المعبد أصيبت بتلف، فأمر الملك بتحديدها وإصلاح مواضع التلف منها تقربًا إلى الإله "عثتر" الذي خصص به هذا المعبد. ووصلت إلينا كتابة أخرى من أيام هذا الملك، جاء فيها: أن "نشأكرب يهأمن" قدم إلى "تنف بعلت ذ غضون"، أي إلى "تنف بعلة ذي غضرن" "تنف ربة ذي غضران" أربعة وعشرين وثنًا، لسلامته ولسلامة بيته "سلحن" "سلحين"، ولعافيته وعافية أهله، ولتبعد عند الشر وكل ضر يريده به الشانئون، وذلك بحق "عثتر" و "المقه" وبحق "شمسهو تنف بعلت ذ غضرن"5 فيظهر من ذلك أن هذ المعبد الذي قدم الملك الأصنام إليه، كان قد خصص بالآلهة "الشمس النائفة" وكلمة "تنف" نعت لها، وموضعه في مكان "ذي غضران". وقد جاء اسم الملك "نشأكرب يهأمن" في نص دونه "بنو جرت" "بنو كرت"، "أقول شعبن ذمري وشعبهمو سمهري"6 أي أقيال قبيلة

_ 1 REP. EPIC, VII, I, P. 92, VA 5343, Handbuch, I, P. 90, VA 649 2 REP. EPIG., VII, I, P. 92, VA 5343, Handbuch, I, 90, VA 649 3 Handbuch, I, S., 90 4 Sab. Inschr., S., 201, REP. EPIG., 644, II, I, P. 71, CIH, 433, Lupar A. O. 1535, CIH, IV, II, II, P. 123 5 CH 573, IV, II, IV, P. 365, OS 31,BR. MUS. 32,Osiander, in ZDMG., XIX, 1865, II, 261, Mahram P. 270 6 Mahram P. 28, Jamme 559, MaMb 221

"ذمري" وقبيلتهم "سمهر"، دو نوه، تقربًا إلى الإله "المقه" "بعل اوم" أي: رب "أوام"، ووضعوه في معبده هذا، وهو "معبد أوام" حمدًا له وشكرًا له على نعمه وأفضاله؛ لأنه أي الإله "المقه" أسعد ومن بالشفاء ووفى لسيدهم "نشأكرب يهأمن ملك سبأ ابن ذمر علي ذرح". ووفقه وأنعم عليه بحاصل وافر وغلة جزيلة قدمت إلى قصره "سلحن" "سلحين"، في أيام الضر، أي الحرب وفي أيام السلم، وقدموا من أجل ذلك تمثالين من البرونز، وضعوهما في معبده، "معبد أوام"، ودعوا "المقه" أن يبارك لسيدهم دومًا، وأن يمنحه العافية والصحة والقوة، وأن يسعد قصره قصر "سلحين" وكل أتباع "أدم" الملك، و"بني جرف" وأقيالهم، وذلك بحق الآلهة: عثتر شرقن، وعثتر ذ ذبن، وهوبس والمقه وذات حميم وذات بعدان ويشمس ملك تنف، وبعثتر عزيز، وذات ظهرن ربًّا "عركنن" وقدمًا نذرهما إلى عثتر شرقن والمقه رب أوام1. وقد ورد اسم هذا الملك في نص دونه "غوث" و"اسلم" وابنه "ابكرب" "أبو كرب" من "بين جميلن عرجن"، أي: "بني آل الجميل العرج"، وهم "كبراء" قبيلة "ميدعم" "ميدع"، وذلك حمدًا للإله و"المقه تهوان بعل أوام"، الذي أجاب نداءهم وأغاثهم ومن عليهم وعلى بيتهم "سلحين" "سلحن" في "جميلن" "الجميل"، وحماهم في الغارة التي أمر بها الملك "نشأكرب يهأمن" على "أرض عربن"، أي أرض الأعراب لإنقاذ أصدقائهم ومواطنيهم من أهل مأرب، وكذلك الجنود والحيوانات التي كانت معهم وأعادتهم إلى مأرب، وأعادوا في نهاية النص حمدهم الإله "المقه" وذلك بحق بقية الآلهة: عثتر، وهوبس، وذات حميم، وذات بعدان، و"بشمس ملكن تنف"2. ويظهر من هذا النص أن أعرابًا كانوا قد أغاروا على جماعة من السبئيين، أو أنهم هاجموا أرض سبأ، فأرسل الملك "نشأكرب يهأمن" قوة من الجيش ومن الأهلين للإغارة عليهم في أرضهم: "أرض العرب" ولاسترجاع ما أخذوه من غنائم وأسلاب وأسرى. وكان في جملة من اشترك في هذه الغارة "أبو كرب

_ 1 Hahram, P. 28, 36 2 Mahram, P. 31, MaMb 222, Jamme 560, Le Mus6on, 1967, 1-2, P. 279, Pakhry 9, 28, Jamme 559, 560, 561, 883, Von issmann, Himyar, S., 455, 458, Zur Geschlchte, S., 324, 302

بن أسلم" فلما عاد رجالها إلى مأرب سالمين، قدم "أبو كرب" وأبوه أسلم وشخص آخر اسمه "غوث" إلى الإله "المقه ثهوان" تمثالين وضعوهما في معبده معبد "أوام"، تخليدًا لهذا الحادث، وتعبيرًا عن شكرهم له. وهذا النص من أقدم نصوص المسند التي تشير إلى الأعراب وإلى غاراتهم على السبئيين أو على قوافلهم، ومن أقدم النصوص التي ورد فيها اسم "عربن" أي "الأعراب" و "أرض عربن" أي أرض الأعراب، ولم يعين النص موضع "أرض العرب"، فلا ندري أكان قصد أرضًا معينة، أم أراد البادية والبوادي هي في كل مكان، والأعراب هم في كل مكان من جزيرة العرب، وفي جملتها اليمن بالطبع، وسنرى بعد وفي أثناء كلامنا على أيام "يرم أيمن" وأخيه "برج يهرجب"، أخبار غارات وحملات عسكرية أرسلها الملك على الأعراب الساكنين في محاذاة أرض قبيلة "حاشد" وعلى أعراب آخرين "وثبوا على ساداتهم وأمرائهم ملوك سبأ". وقد وردت في هذا النص جملة "أرضت عربن"1 فيظهر من ذلك أن اللغة السبئية كانت تعد لفظة "أرض" اسمًا مذكرًا، وإذا أرادت تأنيثه، قالت: "أرضت"، على حين أن "الأرض" في عربيتنا اسم مؤنث فقط، وقد عثر علىنص آخر، أمر الملك "نشأكرب يهأمن" بتدوينه عند تقديمه ستة تماثيل إلى الإله "المقه"، لسلامته وسلامة قصره "سلحين، وسلامة أمواله وأملاكه، وليمن عليه بالسعادة2. وعثر على اسمه في نصوص أخرى، كلها في مضمون هذا النص، إذ تخبر عن تقديم هذا الملك تماثيل إلى معابد آلهته، حمدًا لها وشكرًا، إذ منت عليه، ولتديم أغداق نعمها وألطافها وبركتها عليه3. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الملك "نشأكرب يهأمن" هو من قبيلة "همدان"، ذلك؛ لأن اسمه من الأسماء الهمدانية المعروفة، وخالف غيرهم هذا الرأي، وقالوا إنه لم يكن من همدان، وإنما كان من "بني جرت"

_ 1 Mahram, P. 37. MamB 204 2 Magram, P. 269 3 Magram, P. 269-272

من قبيلة "سمهر" "سمهرام". وهم يبعدونه بذلك عن "همدان" ويعارضون في كونه آخر ملك من ملوك الأسرة السبئية الحاكمة، بل يشكون في كون أبيه كان ملكًا فعليًّا على سبأ1. ويظهر من النصوص المتقدمة أن "نشأكرب يهأمن" كان يقيم في قصر "سلحين" بمأرب، وهو مقر ملوك سبأ ومركز حكمهم، وقد كان حكمه فيما بين سنة "175" والسنة "160" قبل الميلاد على رأي "جامه"2. ويلاحظ أن الملك كان يتقرب إلى "شمس تنف بعلت غضرن"، أي إلى الآلهة الشمس تنف ربة موضع "غضرن"، تقرب إليها حتى في أثناء إقامته في عاصمته "مأرب" وفي بيت حكمه قصر "سلحين" ويدل هذا على أن الملك لم ينس آلهة قبيلته وعلى رأسها الآلهة "الشمس"، فقدمها على بقية الآلهة وذكرها مع الإله "المقه" إله سبأ الخاص والآلهة "شمس تنف"، هي إلهة "بني جرت" من قبيلة "سمهرم" "سمهرام"3. ولسنا على علم بمن حكم بعد "نشأكرب"، ولهذا ترك الباحثون بموضوع ترتيب ملوك سبأ فراغًا بعده، يشير إلى عدم معرفتهم باسم من حكم فيه، وقد تصور "فلبي" أنه دام ثلاثين عامًا، بدأ سنة "30" وانتهى في سنة "200" قبل الميلاد4. وقد وضع "هومل" اسم "نصرم يهأمن" على رأس جمهرة جديدة، رأى أنها حكمت "سبأ"، بعد هذه الفجوة التي لا نعلم من حكم فيها ولا مدتها، ووضع مقابله علامة استفهام للدلالة على أنه لا يقول ذلك على سبيل التأكيد، وإنما هو احتمال يراه ومجرد رأي هو نفسه غير واثق به5. وقد وضع "فلبي" "نصرم يهنعم" "ناصر يهنعم" على رأس الجمهرة الجديدة التي حكمت سبأ في هذا العهد، وجعله رأسًا على الجمهرة الرابعة من جمهرات حكام السبئيين، وجعل حكمه في حوالي السنة "200 ق. م."، وجعل له شقيقًا هو "صدق يهب" وقد كتب "فلبي" النعت على هذه

_ 1 Mahram, PP. 272 2 Mahram, PP. 390 3 Mahram, P. 279 4 Background, P. 142 5 Bandbuch I, S., 90

الصورة: "يهنعم"1. أما "هومل" وغيره، فقد كتبوه على هذه الصورة "يهأمن"2. واستند "هومل" في وضعه "نصرم يهأمن" هذا الموضع إلى النص الموسوم بـGlaser 265، وقد ورد فيه عدد من الأسماء كانوا مقربين عند "ناصر يهأمن" منهم "أوسلة بن أعين" "أوسلت بن أعين" الذي هو في نظر بعض الباحثين "أوسلة رفشان" الهمداني، ولما كان "أوسلة" هذا يعاصر "وهب ايل يحز" وكان من جملة المقربين إلى "ناصر يهأمن"، رأى "هومل" أن مكان "ناصر يهأمن" يجب أن يكون إذن بعد الفجون المذكورة مباشرة وقبل اسم "وهب ايل يحز"، فوضعه في هذا المحل3. والنص المذكور، مكتوب على صخرة ناتئة في وسط مرتفعات وعرة مسننة في "جبل ثنين"4 وذكر "خليل يحيى نامي" أنه رآه ونقشه في "هجر ثنين" وهي تبعد عن غربي "ناعط" زهاء ساعتين على البغال، وهي بين قبيلة "حاشد" و "أرحب"5. وقد كتب لمناسبة الانتهاء من إنشاء بناء، وقد تيمن فيه على العادة بذكر "ناصر يهأمن" وأخيه "صدق يهب"، وبذكر أسماء من ساعد في إتمام البناء، ومن قام بتسقيفه6، وهم من الأشراف وسادات القبائل، ويلاحظ أن النص قد أهمل لقب "ملك" الذي يكتب عادة بعد اسم كل ملك، فلم يذكر بعد اسم "ناصر يهأمن" ولا بعد اسم "صدق يهب". وقد ورد اسم "ناصر يهأمن" في النص المنشور برقم "7" من كتاب: نشر نقوش سامية من جنوب بلاد العرب وشرحها7 وقد أخبر "ناصر يهأمن" فيه أنه قدم إلى حاميه "تالب ريم بعل حدثن": أي "تالب ريام" رب معبد "حدثان" صنمًا، ابتهاجًا بسلامته وعافيته، وفي النص المرقم برقم "21" المنشور في الكتاب نفسه8، وقد دونه جماعة من "همدان"،

_ 1 Background, P. 142 2 J. Ryckmans, L'Institution, P. 337 3 Handbuch, I, S. 88 4 CIH, IV, I, III, P. 295 5 نشر ص72 6 Glaser 265, CIH 287 7 نشر "ص 11- 12" 8 نشر "ص 33 وما بعدها" REP. EPIG, 4994, 4995, VII, P. 471, 473

لمناسبة إنشائهم بيتًا اسمه "وترن" "وترن" "وتران"، وجعلوه في حماية حاميهم الإله "تألب ريام" وتيمنًا بهذه المناسبة دونوا اسم "ناصر يهأمن" و"صدق يهب"، وليزيد الإله "تالب ريام" من نفوذ قبيلة "همدان التي ينتسب إليها هؤلاء. ويلاحظ أن هذا النص وكذلك النص الآخر لم يذكر لقب "ملك" بعد اسم "ناصر يهأمن". وأصحاب هذا النص، هم: "برج يحمد" "بارج يحمد"، وبنوه "يرم نمرن" "يريم نمران"، و"نشأكرب"، و"كربعثت" بنو "أنضر يهرجب" من "بني ددن" "بني دادان"، وقد ورد اسم هذه الجماعة، وهم من أسرة واحدة، في نص آخر، ويظهر منه أنهم كانوا يقيمون في موضع "اكنط" "أكنط"، المعروف في عهدنا باسم "كانط" وقد ذكر "الهمداني" بيتًا من بيوت "أكانط" سماه "زادان"، قد يكون اسم عشيرة هذه الأسرة المسماة "دادان"، حرف فصار "زادان"1. ولم يلقب "ناصر يهأمن" ولا "صدق يهب" في نص آخر بلقب "ملك" وأصحاب هذا النص من "همدان" كذلك2. وقد دونوا فيه هذه الجملة: "وبمقم مرايهمو" قبل اسم "نصرم يهأمن"، أي "وبحق أميريهم"، أو "وبمقام أميريهم" أو "وبجلالة أو رئاسة أميريهم"3 ولم نجد في هذا النص أيضًا ما يشير إلى أنهما كانا ملكين، أو أن أحدهما كان ملكًا على سبأ أو همدان. وأرى أن إهمال هذه النصوص للقب "ملك"، وفي عدم تدوينها له بعد اسم "نصر يهأمن" "ناصر يهأمن"، دلالة قوية على أن "ناصر يهأمن" لم يكن ملكًا، وإنما كان أميرًا، يؤيدها ويؤكدها استعمال النصوص قبل الاسم لفظة "امراهمو" "مرايهمو" التي تعني "أميريهم"4. ولو كان "ناصر" أو شقيقه "صدق يهب" ملكين لما نعتا في بعض هذه النصوص بـ "أميرين"، ولما أهملت النصوص لفظة "ملك" هذا الإهمال، ولا حجة لرأي من قال إنه

_ 1 نشر "ص 34 وما بعدها". 2 نشر "ص 52". 3 غويدي: المختصر "ص 33". 4 نشر "ص 34، 52".

كان ملكًا؛ لأنه كان صاحب لقب، وهذا اللقب هو "يهأمن" وهو نعت خاص بالملوك1. ذلك؛ لأننا لا نملك دليلًا قاطعًا يثبت أن كل من كان ينعت نفسه بنعت كان ملكًا، وأن نوعًا خاصًّا من النعوت كان قد حرم على الناس؛ لأنه خصص بالملوك، وآية بطلان هذا الرأي أننا نجد كثيرًا من سادات القبائل وسائر الناس يحملون ألقابًا أيضًا من نوع ألقاب الملوك، فليس في الألقاب تخصيص وتنويع في نظري. وبناء على ما تقدم، لا نستيطع إدخال "ناصر يهأمن" ولا أخيه "صدق يهب" في عداد ملوك سبأ، ونرى وجوب اعتدادهما سيدين كبيرين من سادات قبيلة "همدان"، كان لهما سلطان واسع على قبيلتهما وفي سبأ، ولذلك ذكر أشراف القبيلة اسميهما في كتاباتهم، ولقبوهم بلقب "أمرائهم" فالواحد منهم هو بمنزلة "أمير"، ومعنى ذلك أن "ناصر يهأمن" كان أميرًا على همدان، وكذلك كان أخوه2. والظاهر أن تقديم اسم "ناصر يهأمن" على اسم أخيه يشير إلى أن "ناصر يهأمن" كان أكبر سنًّا من شقيقه، لذلك كان هو المقدم عليه. ويظهر من بعض النصوص التي ذكرت اسم "ناصر يهأمن" أنه كان قويًّا، وله قوة عسكرية ضاربة، وتحت إمرته عدد من القادة، بدليل ورود لفظة "مقتت"، جمع "مقتوي"، ومعناها "الضباط" و"القادة"، وقد اشتركت قواته في بعض المعارك، في عهد الملك "نشأكرب يهأمن"، وكان من المعاصرين له. والظاهر أنه بقي حيًّا إلي أيام "وهب ايل يحز" وبناء على هذا يكون قد عاش في حوالي السنة "175" والسنة "150" قبل الميلاد، وذلك على افتراض أن حكم "نشأكرب يهأمن" كان فيما بين السنة "175" والسنة "160" قبل الميلاد، وأن حكم "وهب ايل يحز" كان بين السنة "160" والسنة "145" قبل الميلاد، على حسب تقدير "جامه"3. وليس في استطاعتنا تحديد العمل الذي قام به "صدق يهب" في همدان،

_ 1 Handbuch, I, S., 88 2 Mahram, P. 277, A. F. L. Beeston, Problems of Sabaean Chronology, in BOASOOR, 16, 1954, PP. 37-56 3 Maiiram, P. 277, 390

فليس في النصوص التي بين أيدينا ما يكشف الستار عن ذلك، ولا نعرف كذلك زمان وفاة "صدق يهب"، والظاهر أن وفاته كانت في أيام "وهب ايل يحز" إذ انقطعت أخباره منذ ذلك الحين1. وليس بين الباحثين في العربيات الجنوبية أي خلاف في أصل "ناصر يهأمن" وأخيه، فقد اتفقوا جميعًا على أنه من قبيلة "همدان"، ذلك؛ لأنهما نصا صراحة في أحد النصوص المدونة باسمهما على أنهما من همدان2. ويظهر من ذلك أن قبيلة همدان كانت قد أخذت تؤثر في هذه الأيام تأثيرًا كبيرًا، حتى لقب ساداتها أنفسهم بلقب "ملك"، متحدين بذلك سلطة ملوك سبأ الشرعيين. ووضع "هومل" "وهب آل يحز" "وهب ايل يحز"، بعد "ناصر يهأمن"، وسار "فلبي" على خطاه، وقد كان زمان حكمه في حدود سنة "180ق. م." على تقدير "فلبي"3 وكان يعاصره "أوسلت رفش" "أوسلة رفشان"، أمير "همدان" وهو والد الأميرين "يرم أيمن" و "برج يهرحب" "بارج يهرجب"4. ويظهر من النص: Glaser 1228 أن "وهب ايل يحز" تحارب هو و"الريدانيون" ورئيسهم إذ ذاك "ذمر علي"5. وقد ساعد "وهب ايل يحز" في هذه الحرب "هوف عم" "هوفعم", "مخطرن" "مخطران" وسخيم" و"ذو خولان" و"بنو بتع"، وانضم إلى جانب الريدانيين "سعد شمس" و"مرثد"6 وتشير هذه الكتابة وكتابات أخرى إلى مساع بذلها رؤساء "ريدان" في منافسة ملوك سبأ وانتزاع العرش منهم. وقد ورد في النص المذكور: "سعد شمس ومرثدم" وقبيلته "ذو جرت" بمدينة "صنعو"، وهذه هي المرة الأولى التي يرد فيها اسم "صنعو" "صنعاء"، وقد ورد اسمها بعد ذلك بقليل في الكتابتين: jamme 629 و jamme 644 ويظهر من ذلك أن "صنعو" كانت في ضمن أرض قبيلة "جرت"، غير

_ 1 Mahram, P. 278 2 CIH 287, Mahram, 278 3 Background, P. 142 4 Glaser, Abessinier, S. 63 5 السطر الخامس عشر من النص:Glaser 1228 6 Glaser 1364, Abessinier, S. 67, Le Museon, 1967, 1-2, PP. 279

أنها كانت قريبة جدًّا من حدود أرض قبيلة "بتع". وأما "شعوب" التي لا تبعد سوى كيلومتر واحد أو كيلومترين عن الجهة الشمالية الغربية من "صنعاء"، فقد كانت في أرض قبيلة "بتع"1. وقد أشير إلى حرب "وهب ايل يحز" مع الريدانيين، في النصوص الموسوم بـ jamme 561 Bis، وهو نص دونه "يرم أيمن" "يريم أيمن"، وأخوه "برج يهرحب" وابنه "علهان" أبناء "أوسلت رفشان"، وهم من "همدان" أقيال "أقول" قبيلة "سمعي" ثلث "حاشد"، وذلك عند تقديمهم تمثالًا إلى الإله "المقه ثهون" بعل "أوام"؛ لأنه من عليهم وعلى عبيده "اد م هـ و" "ادمهو" أبناء همدان: وعلى قبيلتهم حاشد، وأغلق عليهم نعماءه وأعطاهم غنائم كثيرة في الحرب التي وقعت بين ملوك سبأ وبين "بني ذي ريدان" واشتركوا فيها، إذ ترأسوا بعض القوات، وكذلك في غاراتهم على أرض العرب المجاورين لقبيلة حاشد والنازلين على حدودها، أولئك العرب الذين أخطئوا خطأ تجاه أمرائهم وساداتهم ملوك سبأ "املك سبأ"، وتجاه بعض قبائل ملك سبأ؛ ولأن الإله "المقه"، أنعم عليهم بأن جعل الملك "وهب ايل يحز" "ملك سبأ" راضيًا عنهم، مقربًا لهم؛ ولأنه أعطاهم ذرية ذكورًا وحصادًا جيدًا، ولكي يديم نعمه عليهم ويبارك فيهم ويعطيهم الصحة والقوة وذلك بحق عثتر و"المقه" وبحق حاميهم "شيمهم" وشفيعهم "تالب ريام"2. ويتبين من هذا النص أن "يرم أيمن" وشقيقه كانا تابعين لملك سبأ، وأنهما كانا مع "علهان بن برج" من الأقيال على عشيرة "سمعي" التي تكون ثلث مجموع قبيلة "همدان" في هذا العهد، وأنهم كانوا في خدمة ملك سبأ، ويظهر أنهم إنما أشاروا إلى مهاجمتهم لأرض العرب، والعرب المخالفين لأمر ملك سبأ؛ لأن هؤلاء العرب كانوا على حدود أرض قبيلة همدان، وقد تعرضت أرض هذه القبيلة وأرض قبائل أخرى لغارات هؤلاء الأعراب، الذين كانوا ينتهزون الفرص لغزو الحضر كما هو شأنهم في كل زمان ومكان، وقد نجحوا في تأديب هؤلاء الأعراب، كما نجحوا في الاشتراك مع بقية قوات "وهب ايل يحز" في

_ 1 Le Museon 1964, 3- 4 p 460 2 M ahram p 37 jamme Bis 561

تكبيد "بني ذي ريدان" خسائر فادحة في الحرب التي نشبت بينهم وبين هذا الملك، وقد كان الريدانيون أسلاف الحميريين من سكان اليمن البارزين في هذا العهد. وقد ميز أهل اليمن وبقية العربية الجنوبية أنفسهم عن أهل الوبر، أي القبائل المتنقلة التي تعيش في الخيام، بأن دعوا قبائلهم بأسمائها، وهي قبائل مستقرة تسكن قرى ومدنًا ومستوطنات ثابتة وسموا القبائل البدوية المتنقلة، ولا سيما القبائل الساكنة في شمال العربية الجنوبية "عربن" أي أعراب، وسموا أرضهم "أرض عربن"، و"ارضت عربن"، أي أرض العرب. ويظهر من ورود جملة "أملك سبأ"، أي "ملوك سبأ" الواردة في هذا النص وفي نصوص أخرى، وجود ملوك عدة كانوا يحكمون سبأ في زمان تدوين هذه النصوص، ولكننا نرى أن هؤلاء الملوك لم يكونوا ملوكًا فعليين، حكموا سبأ بالاشتراك مع ملك سبأ الحاكم، وإنما كانوا رؤساء وسادة قبائل خاضعين لحكم الملك، وقد كانوا أصحاب امتيازات، يحكمون أرضهم حكمًا مباشرًا مع اعترافهم بحكم ملك سبأ عليهم، ويجوز أنهم كانوا يلقبون أنفسهم بلقب ملك، على سبيل التعظيم والتفخيم ليس غير، فهم ملوك مقاطعات وأرضين، لا ملوك حكومات كبيرة كحكومة سبأ1. وقد ورد اسم "وهب ايل يحز" في الكتابة الموسومة بـ:CIH 360 وصاحبها "سعد تألب يهثب" من موضع "سقهن"2 "سقرن" "سقران"، ذكر فيها أنه قدم إلى الإله "تألب ريام" نذرًا: تمثالًا وضعه في معبد الإله في "رحين"3. في أيام سيده "مراسموا" الملك "وهب ايل ويحز"4. وقد ورد اسم صاحب هذه الكتابة في النص الموسوم بـ MM 33 +34، وقد دونه جماعة من "بني بتع" و "سخيم" و "ذي نعمان" تقربًا إلى الإله "عثتر شرقن"5؛ لأنه نجى "سعد تألب يهثب"، ومد في عمره في الحروب التي

_ 1 Mahram, p , 280 2 "سقهان". "2" "رحبان" "الرحاب"، Mahram, p, 280 3 CIH 360 IV. P, 445 4 Miles 6, Sab 4 lnschr S,5 Anm l 5 "عثتر شرقان"، "عثتر الشارق".

أشعلها في "ردمان" وفي أماكن أخرى1، ولا يعقل بداهة قيام مدوني النص، وهم سادات القبائل، ببناء "نطعت"2، وذلك تقربًا إلى الإله "عثتر شرقن" إذ من على "سعد تألب يهثب" بالحياة والنجاة في الحروب التي خاضها، لو لم يكن لهذا الرجل علاقة بهذه العشائر ولو لم يكن من أهل الجاه والمكانة والسلطان، ويتبين من كتابات أخرى أنه كان محاربًا اشترك في حروب عدة، فلعله كان من كبار قواد الجيش في أيام "وهب ايل يحز"، وقاد جملة قبائل في القتال منها هذه التي دونت تلك الكتابة. وذكر اسم الملك "وهب ايل يحز" في كتابة ناقصة قصيرة، أشير فيها إلى "كبر خلل"، أي "كبير" قبيلة أو موضع "خليل" وإلى اسم الملك "وهب ايل يحز" "ملك سبأ"، والظاهر أن صاحب تلك الكتابة أو أصحابها كانوا من أتباع "كبير خليل"3. ولم نعثر حتى الآن على اسم والد "وهب ايل يحز"، ولم ترد في نصوص المسند إشارة ما إلى مكانته ومنزلته، لذلك رأى بعض الباحثين أن أباه هذا لم يكن من الملوك، بل ولا من الأقيال البارزين، وإلا أشير في النصوص إليه، إنما كان من سواد الناس، وأن ابنه "وهب ايل حز" هذا أخذ الحكم بالقوة، ثار على ملوك سبأ في زمن لا نعلمه، وانتزع الملك منهم، ولقب نفسه بلقب "ملك سبأ". أما ابنه الذي جاء من بعده، فقد لقب نفسه بلقب "ملك" كما لقب والده بلقب ملك، ولو كان والد "وهب ايل يحز" ملكًا، لذكر إذن في النصوص، ولأشير إلى لقبه4. وقد جعل "جامه" "وهب ايل يحز" بين السنة "160" والسنة "145" قبل الميلاد5. وانتقل الحكم بعد وفاة "وهب ايل يحز" إلى ابنه "انمرم يهأمن" "أنمار يهأمن"، على رأي "جامه" في حين أغفله أكثر من بحثوا في هذا الموضوع6.

_ 1 Sab. Inschr, S. 74 2 "نطعة". 3 REP. EPIG. 4130, Glaser 456, Va 5315 4 Mahram, P. 280 5 Mahram, P. 390 6 Mahram, P. 281, Le Museon, 1967, 12, P. 280

وقرروا أن الحكم انتقل إلى "كرب ايل وتر يهنعم"، وهو ابن "وهل ايل" مباشرة بعد وفاة أبيه، ويرى "جامه" أن حكم "إنمار يهأمن" ابتدأ بسنة "145" قبل الميلاد، وهي سنة وفاة أبيه وانتهى بسنة "130" قبل الميلاد، حيث انتقل الحكم إلى شقيقه من بعده1. وقد ورد اسم هذا الملك في النص الموسوم بـjamme 562 وقد دونه "سخمان يهصبح" من "بني بتع"، وكان "ابعل بيتن وكلم أقول شعبن سمعي"، أي "سيد بيت وكل"، وقيل عشيرته "سمعي" التي تكون ثلث قبيلة "حملان"، عند تقديمه "صلمن" تمثالًا إلى الإله "المقه رب أوام"، وضعه في معبده "معبد أوام"، لوفائه لكل ما طلبه منه، ولاستجابته لدعائه؛ ولأنه وفقه ووفق أهله وعشيرته في مرافقة الملك "أنمار يهأمن ملك سبأ" ابن "وهب ايل يحز ملك سبأ" في عودته من "بيت بني ذي غيمان" إلى قصره "سلحين" مقر ملكه بمدينة مأرب، ووفق مرافقيه وأقياله وجيشه في عودته هذه؛ ولأنه من على صاحب النص بأن منحه أثمارًا كثيرة وغلة وافرة وحصادًا جيدًا وليديم نعمه عليه، وذلك بحق الآلهة: عثتر، وهوبس، والمقه، وذات حميم، وذات بعدان، و "شمس ملكن تنف"، وبحاميه، وشفيعه تالب ريام بعل شصر. وقد وضع التمثال والكتابة المدونة تحت حماية "المقه" في معبده "أوام" ليحميها من كل من يحاول تغيير موضعهما أو أخذهما2. وقد كان "سخمان يهصبح" من الأقيال الكبار في هذا العهد، كان قيلًا على "سمعي" كما كان سيدًا من سادات "بيت وكل". أي من أصحاب الرأي المطاعين في عشيرة "سمعي". والظاهر أنه كان في موضع "وكل" ناد، أي دار للرأي والاستشارة، يحضره كبار العشيرة ويتشاورون فيما يحدث من حادث لهذه العشيرة، فهو بمنزلة "دار الندوة" عند قريش. ويظن أن الملك "أنمار" المذكور في النص:REP. EPIG 3992 والذي لم يذكر نعته، هو هذا الملك، وقد دون هذا النص رجل اسمه "وهب ذي سمي اكيف ذو مليح" "م ل ي ح": وذلك عند تقربة إلى الإله "تالب

_ Mahram p. 390 1 2 Maham p. 39 2 MaMb 279

ريام بعل كبدم"، بتقديمه تمثالًا إليه، تعبيرًا عن شكره وحمده له؛ لأنه من عليه وساعده وأجاب كل ما طلبه منه، ومكنه من خصم له خاصمه في عهد الملك "أنمار"1. وانتقل الحكم بعد وفاة "أنمار يهأمن" إلى شقيقه "كرب ايل وتر يهنعم"، وقد ذكر اسمه في كتابات عديدة لا علاقة لها به، وإنما دونته فيها تيمنًا باسمه وتخليدًا لتأريخ الكتابة ليقف على زمانها الناس2. وأهم ما في هذه الكتابات من جديد، ورود اسم إله فيها لم يكن معروفًا قبل هذا العهد ولا مذكورًا بين الناس، هو الإله "ذ سموي"، أي "صاحب السماء" "صاحب السماوات" أو "رب السماء". وسأتحدث عنه وعن هذا التطور الجديد الذي حدث في ديانة العرب الجنوبيين فيما بعد. وقد ذكر اسم الملك "كرب ايل وتر يهنعم" في النص الموسوم بـ jamme 563 وقد دونه أناس من "بني عثكلن" "عثكلان"، حمدًا وشكرًا للإله "المقه ثهوان" الذي أنعم عليهم وحباهم بنعمه، وأعطاهم حصادًا جيدًا وغلة وافرة، وليزيد في توفيقه لهم ونعمه عليهم، وليبعد عنهم أذى الحساد وشر الشانئين، وقد كتب في عهد الملك "كرب ايل وتر يهنعم بن وهب ايل يحز" ليبارك الإله "المقه" فيه3. كما جاء اسم هذا الملك في نص آخر دونه قيل من أقيال "غيمان" وسم jamme 564، دونه عند تقديمه "صلهن" تمثالًا إلى الإله "المقه" حمدًا به وشكرًا على إنعامه عليه وعلى جيش وأقيال الملك "كرب ايل وتر يهنعم"؛ ولأنه من عليه وأعطاه حاصلًا طيبًا وغلة وافرة، وأثمارًا كثيرة، وليمن عليه وعلى قومه في المستقبل أيضًا، وذلك بحق المقه وبحق الآلهة عثتر ذي ذبن، وبحر حطبم، وهوبس، وثور بعلم، وبالمقه بمسكت، ويثو برآن، وذات حميم، وذات بعدان، وبحاميهم وشفيعهم حجرم قمحمم بعل حصني "تنع"،

_ 1 REP. EPIG. 3992, Mabram, P. 281 2 OS 32, BR. Mus. 30, CIH 517, IV, H, HI, P. 229, E. Osiander, Zur Hlmjarlschen Alterthuskunde, In ZDMG.f XIX, 1865, P. 269, Halevy, Etades Sab6en-nes, In Journal Asiatlque, 1874, n, P. 500, Glaser, 456, VA 5315, REP. EPIG., 4130, VII, I, P. 91 3 Jamme 563, MAMB 269, Mahram, 42

ولمس بعل بيت نهد، وعثتر الشارق، والمقه بعل أوام1. ويظهر من هذا النص أن صاحبه كان يتولى وظيفة مهمة من "مأرب"، وأنه كان مقدمًا في بيت الحكم قصر "سلحين"، وكان يساويه في هذه المنزلة رجل اسمه "رثدم" "رثد" من "مأذن"، إذ كان يحكم مأربًا أيضًا، ويتمتع بمنزلة كبيرة في دار الحكم "قصر سلحين" وقد حكما مأربًا معًا بتفويض من الملك وبأمر منه، حكما من القصر نفسه، إذ كانت دائرة عملهما فيه، ويظهر منه أيضًا أن اضطرابًا وقع في مأرب في زمان حكمهما، دام خمسة أشهر كاملة أثر تأثيرًا كبيرًا في العاصمة، وقد سأل الحاكمان الملك أن يخولهما حق التدبير للقضاء على الفتنة، فأصدر الملك أمرًا أجابهما فيه إلى ما سألاه الحاكمين، غير أن نار الفتنة لم تخمد بل بقيت مشتعلة خمسة أشهر كاملة، كان الملك في خلالها يلح على الحاكمين بوجوب قمع الفتنة وإعادة الأمن، واستطاعا ذلك بعد مرور الأشهر المذكورة باشتراك الجيش في القضاء عليها2. ولم يذكر النص الأسباب التي دعت أهل مأرب إلى العصيان، ولكن يظهر أن من جملة عواملها تعيين صاحب النص، واسمه "أنمار" وهو من "غيمان" حاكمًا على مأرب، وكان أهل العاصمة يكرهون أهل غيمان، وكانوا قد حاربوهم في عهد الملك "أنمار يهأمن" شقيق "كرب ايل وتر يهنعم"، فساءهم هذا التعيين ولم يرضوا به. ولما أبى الملك عزله، ثاروا وهاجوا مدة خمسة أشهر حتى تمكن الجيش من إخماد ثورتهم3. وقد ذكر "كرب ايل وتر" في النص: jamme 565 بعد اسم "يرم أيمن"، وفيه نعته، وهو "يهنعم"، وعبر عنهما بلفظة "ملكي سبأ"، أي "ملكا سبأ"، واستعمل لفظة "واخيهو"، أي "وأخيه"، وقد ترجمها "جامه" بمعنى "حليفه"، فالتآخي في نظره بمعنى التحالف والحلف، وإذا أخذنا بهذا المعنى، فسنستنتج من ذلك أن العلاقات بين الملكين لم تكن سيئة، يوم كتب هذا النص وأن ادعى كل منهما أنه ملك سبأ، وإنما يظهر أنهما كانا يحكمان متعاونين، بدليل ما ورد في النص من أن "املك سبأ"

_ 1 Jamme 564, MaMb 314, Magram, P. 44, CIGH 326, Le Museon, 1967, 1-2, P. 280. 2 Mahram, P. 282 3 Mahram, P. 282

أي ملوك سبأ كلفوا صاحبي النص أن يخوضا معارك أمروهما بخوضها، فخاضاها، ورجعا منها بحمد الإله "المقه" سالمين1. ويرى "جامه" أن حكم الملك "كرب ايل وتر يهنعم" امتد من سنة "130" حتى السنة "115" قبل الميلاد، أو من سنة "115" حتى السنة "100" قبل الميلاد، وبذلك يكون حكم "وهب ايل يحز" وحكم ابنيه "أنمار يهأمن" و "كرب ايل وتر يهنعم" قد امتدا من سنة "160" حتى السنة "115" أو "100" قبل الميلاد2. وليس لنا علم عن ذرية الملك "كرب ايل وتر يهنعم"، فليس في أيدينا نص ما يتحدث عن ذلك. وكل ما نعرفه أن الحكم انتقل بعد أسرة "وهب ايل يحز" إلى ملك آخر هو الملك "يرم أيمن"، وهو من "همدان"، وهمدان كما قلت فيما سلف من القبائل التي اكتسبت قوة وسلطانًا في هذا العهد، وقد سبق أن تحدثت عن "ناصر يهأمن" وعن شقيقه "صدق يهب" وقلت إنهما من همدان، وقد حان الوقت للكلام على هذه القبيلة التي ما تزال من قبائل اليمن المعروفة، ولها شأن خطير في المقدرات السياسية حتى الآن. الآن وقد انتهيت من الكلام على آخر ملك من ملوك "سبأ" وختمت به عهدًا من عهود الحكم في سبأ، أرى لزامًا على أن أشير إلى ملك قرأت اسمه في نص قصير، نشر في كتاب CIH وكتاب REP EPIG يتألف من سطر واحد، هو: "وهب شمسم بن هلك أمر ملك سبأ"، ولم أجد اسمه فيما بين يدي من قوائم علماء العربيات الجنوبية لملوك "سبأ"، ولم أعثر على نصوص أخرى من عهده فتعسر علي تعيين مكانه بين الملوك3. وقد يعثر على نصوص جديدة تكشف عن شخصيته وهويته ومحله بين الملوك. وأورد أيضًا أن أشير إلى ورود اسم ملك ذكر في النص: jamme 551 واسمه "الشرح بن سمه علي ذرح" "الشرح بن سمهعلي ذرح"، وقد نعت

_ 1 jamme 565, MaMb 266, Maliram, P. 47, Le Mus6on, 1967, 1-2, P. 280, REP.EPIG. 4190 2 Mahram, P. 390 3 CIH 833, IV, III, I, P. 199, Bardey 9, Luper 4104, REP. EPIG. 459,1, VI, P. 349, Lidzbarski, Ephemeris, 1908, II, R, 387

فيه بـ"ملك سبأ" وهو صاحب هذا النص والآمر بتدوينه، ذكر فيه أنه شيد ما تبقى من جدار المعبد من الحافة السفلى للكتابة المبنية في الجدار حتى أعلى المعبد، تنفيذًا لإرادة المقه التي ألقاها في قلبه، فحققها على وفق مشيئة ذلك الإله وإرادته، ليمنحه "المقه" ما أراد وطلب، وذلك بحق الآلهة: "عثتر" و"هوبس" و"المقه" وبحق "ذات حميم" و"ذات بعدان"، وبحق أبيه "سمه علي ذرح" "ملك سبأ"، وبحق شقيقه "كرب ايل"1. وورد اسم الملك "يدع ايل بن كرب ايل بين" "ملك سبأ" في النص: jamme 558، الذي دونه قوم من عشيرة "عبلم" "عبل" "عبال" عند تقديمهم ثمانية "أمثلن" "أمثلن"، أي تماثيل إلى معبد الإله "المقه" "بعل" أوام ليحفظهم ويحفظ أولادهم وأطفالهم ويعطيهم ذرية، وليبارك في أموالهم، وليبعد عنهم كل بأس وسوء ونكاية، وحسد حاسد وأذى عدو. وقد ذكر في النص بعد اسم الملك "كرب ايل بين" اسم "الشرح بن سمه علي ذرح"2. هذا ولا بد لنا -وقد انتهينا من ذكر اسم آخر ملك من ملوك سبأ- من إبداء بعض الملاحظات على هذا العهد. ففيما كان الناس في عهد المكربين وفي عهد الملوك الأول إلى عهد "كرب ايل وتر بن يثع أمر بين" المعروف بـ"الثاني" في قائمة "هومل" لملوك سبأ3، وقد صرفوا تمجيدهم إلى إله سبأ، الخاص وهو "المقه" تليه بقية الآلهة، وجدنا الكتابات التي تلت هذا العهد، تمجيد معه أربابًا آخرين لم يكن لهم شأن في العهدين المذكورين، مثل الإله "تألب ريام"، وهو إله "همدان" خاصة، ومثل الإله "ذ سموي" "ذو سماوي"، أي الإله "رب السماء" "رب السماوات"4. وفي تمجيد بعض الناس لآلهة جديدة، دلالة صريحة على حدوث تطورات سياسية وفكرية في هذا العهد. وتفسير ذلك أن بروز اسم إله جديد، معناه وجود عابدين له، متعلقين

_ 1 Jamme 551, Magram, P. 15 2 Jamme 558, MaMb 201, Magram, PP. 24 3 Handbuch, I, s. 87 4 Handbcuh, I, S. 88

به، هو عندهم حاميهم والمدافع عنهم، ففي تدوين اسم "تالب ريام" بعد "المقه" أو قبله في الكتابات، دلالة على علو شأن عابديه، وهم "همدان"، ومنافستهم للسبئيين، وسنرى فيما بعد أنهم نافسوا السبئيين حقًّا على الملك، وانتزعوه حينًا منهم، وطبيعي إذن أن يقدم الهمدانيون إلى إلههم "تألب ريام" الحمد والثناء؛ لأنه هو إلههم الذي يحميهم ويقيهم من الأعداء، ويبارك فيهم في أموالهم، وكلما ازداد سلطان همدان، ازداد ذكره، وتعدد تدوين اسمه في الكتابات. أما الناحية الفكرية، فإن في ظهور اسم الإله "ذ سموي"، دلالة على حدوث تطور في وجهة نظر بعض الناس بالنسبة إلى الألوهية وتقربهم من التوحيد وعلى ابتعاد عن فكرة الألوهية القديمة التي كانت عند آبائهم وأجدادهم وعن "المقه" إله شعب سبأ الخاص. ويلاحظ أيضًا ظهور لقب "يهأمن" و "يهنعم" منذ هذا الزمن فما بعده عند ملوك سبأ. وقد رأينا أن ألقاب مكربي سبأ وملوك الصدر الأول من سبأ لم تكن على هذا الوزن": وزن "يهفعل"، وهو وزن عرفناه في ألقاب مكربي وملوك قتبان فقط، إذ رأينا الألقاب: "يهنعم" و"يهرجب" و"يهوضع" تقترن بأسماء الحكام. وفي تلقب ملوك سبأ دلالة على حدوث تطور في ذوق الملوك بالنسبة إلى التحلي بالألقاب. ويتبين من دراسة الأوضاع في مملكة سبأ أن أسرًا أو قبائل كانت صاحبة سلطان، وكانت تتنافس فيما بينهما، وتتزاحم بعضها بعضًا، منها الأسرة القديمة الحاكمة في مأرب، ثم الأسرة الحاكمة في حمير، ثم "سمعي"، وهي قبيلة كبيرة صاحبة سلطان وقد كونت ممكلة مستقلة، منها "بنو بتع" وفي أرضهم وهي في الثلث الغربي من "سمعي" تقع أرض "حملان" وعاصمتها "حاز" و "مأذن". ثم الهمدانيون، ومركزهم في "ناعط"، ثم "مرثدم" "مرثد" وهم من "بكلم" "بكيل"، ومواطنهم في "شبام أقيان". ثم "كرت" "جرت" "جرة" ومنها "ذمر علي ذرح". مأرب: وإذا كانت صرواح عاصمة المكربين ومدينة سبأ الأولى، فإن "مرب" "م رب"

"مريب"، أي مأرب هي عاصمة سبأ الأولى في أيام الملوك، ورمز الحكم في سبأ في هذا العهد، وهي وإن خربت وطمرت في الأتربة إلا أن اسمها لا يزال حيًّا معروفًا، ولا يزال موضعها مذكورًا، ويسكن الناس في "مأرب" و"مأرب" الحاضرة، هي غير مأرب القديمة، فقد أنشئت الحاضرة حديثًا على أنقاض المدينة الأولى، على مرتفع تحته جزء من أنقاض المدينة القديمة، وتقع في القسم الشرقي من مدينة "مأرب" الأولى. وقد كانت مأرب كأكثر المدن اليمانية الكبيرة مسورة بسور قوي حصين له أبراج، يتحصن به المدافعون إذا هاجم المدينة مهاجم، وقد بنى السور بحجر "البلق" كما نص عليه في الكتابات1. وهو حجر صلد قد من الصخر أقيم على أساس قوي من الحجر ومن مادة جيرية تشد أزره، وفوقه صخور من الغرانيت2. ويحيط السور بالمدينة، بحيث لا يدخل أحد إليها إلا من بابين، فقد كانت مأرب مثل "صرواح" ذات بابين فقط في الأصل3. وأعظم أبنية مأرب وأشهرها، قصر ملوكها ومعبدها، أما قصر ملوكها فهو القصر المعروف بقصر "سلحن" "سلحين" "سلحم" وقد ورد ذكره في الكتابات، وعمر ورمم مرارًا. وقد ورد في لقب النجاشي "ايزانا" Ezana ملك "أكسوم"، وذلك في حوالي السنة "350 م" ليدل بذلك على امتلاكه لأرض سبأ واليمن4. وقد عرف في الإسلام، وذكره "الهمداني" في جملة القصور الشهيرة الكبيرة في اليمن5. ويقع مكانه في الخرائب الواسعة الواقعة غرب المدينة، وإلى الجنوب من خرائبه خرائب أخرى على شكل دائره، تحيط بها أعمدة، ويظهر أنها لم تكن مبنية في الأصل. وتشاهد أعمدة وأتربة متراكمة هي بقايا معبد "المقه" إله سبأ، المعروف بـ "المقه بعل برآن" "المقه بعل بران" أي معبد "المقه" "رب يرأن". وفي الناحية الشمالية والغربية من المدينة وفي خارج سورها،

_ 1 Glaser 418, 419 2 Beitrage, S. 27 3 Beitrage, S. 27 4 Beitrage, S. 27 5 Beitrage, S. 27

تشاهد بقايا مقبرة جاهلية، يظهر أنها مقبرة مأرب قبل الإسلام. وتشاهد آثار قبورها، وقد تبين منها أن بعض الموتى وضعوا في قبرهم وضعًا، وبعضهم دفنوا وقوفًا، وقد حصل "كلاسر" وغيره من السياح والباحثين على أحجار مكتوبة، هي شواهد قبور1. أعمدة من بقايا معبد "المقه" بمدينة مأرب. ويبلغ طول العمود الواحد حوالي ثلاثين قدمًا، من كتاب "Qataban and Sheba" الصفحة "225".

_ Beitage S, 28 1

وعلى مسافة خمسة كيلومترات تقريبًا من مأرب، تقع خرائب معبد شهير، كانت له شهرة كبيرة عند السبئيين، يعرف اليوم بـ "حرم بلقيس" وبـ "محرم بلقيس"، وهو معبد "المقه بعل أوم"، أي معبد الإله "المقه" رب "أوام"، ويرى بعض الباحثين أن هذا المعبد هو مثل معبد "المقه" في "صرواح" والمعبد المسمى اليوم بـ"المساجد" من المعابد التي بنيت في القرن الثامن قبل الميلاد. وقد بناها المكرب "يدع ايل ذرح". وقد يكون المعبد الخرب في "روديسيا" والمعبد الآخر في "اوكاندا" "أوغاندا"، من المعابد المتأثرة تمثال من البرنز عثر عليه في معبد أوام بمأرب. من كتاب:Qataban and Sheba "الصفحة 276". بطراز بناء معبد "حرم بلقيس"، فإن بينهما وبين هذا المعبد شبهًا كبيرًا في طراز البناء وفي المساحة والأبعاد1. وعلى مسافة غير بعيدة من "حرم بلقيس"، خرائب تسمى "عمائد".

_ 1 Beilraga, S, 28

"عمايد" في الزمن الحاضر، منها أعمدة مرتفعة بارزة عن التربة، ويظهر أنها بقايا معبد "برأن" "برن" "بران" خصص بعبادة الإله "المقه" الذي ذكر في الكتابات الموسومة بـ Glaser 479، وفي الجهة الغربية من هذا المعبد، تشاهد أربعة أعمدة أخرى هي من بقايا معبد آخر1.

_ Beilrage, S, 28 1

قوائم بأسماء ملوك سبأ

قوائم بأسماء ملوك سبأ: قائمة "هومل": أول ملك وآخر مكرب هو "كرب آل وتر" "كرب ايل وتر" الذي جمع بين اللقبين: لقب "مكرب" المقدس ولقب "ملك" الدنيوي. وقد تلاه عدد من الملوك وأبناء الملوك هم: سمه علي ذرح. الشرح بن سمه علي ذرح. كرب آل وتر بن سمه علي ذرح. يدع آل بين بن كرب آل وتر. يكرب ملك وتر. يثع أمر بين. كرب آل وتر. ويرى هومل أن أسرة جديدة تربعت عرش "سبأ" بعد هذه الأسرة المتقدمة، خلفته إما رأسًا وإما بعد فترة لا نعرف مقدارها بالضبط، قدرها بنحو خمسين سنة امتدت من سنة "450" حتى سنة "400" قبل الميلاد وتتألف هذه الأسرة من: سمه علي ينف.

الشرح. ذمر علي بين. وهناك أسرة أخرى حكمت "سبأ" تنتمي إلى عشيرة "مرثد" من "بكيل" تتألف من: وهب آل "وهب ايل" راجع النصين: Glaser 179" "Glasrr 223" وهما من "حاز" انمرم يهنعم "أنمار يهنعم"، وهو ابن "وهب آل". ذمر علي ذرح. نشاكرب يهنعم "نشأكرب يهنعم". نصرم يهنعم؟ "ناصر يهنعم". وهب آل يحز "وهب ايل يحز". كرب آل وتر يهنعم. فرعم يهنب "فارع ينهب". ويرى "هومل" أن الملك، "المكرب يهنعم بن حم عثت" "الكرب يهنعم بن حمعثت" و "كرب آل وتر" هما من جمهرة جديدة من جمهرات ملوك سبأ1.

_ 1 Handbuch l, S, 88, 89, 90

قائمة كليمان هوار

قائمة "كليمان هوار": وتتألف هذه القائمة، وهي قديمة، من الجمهرات الآتية: الجمهرة الأولى وقوامها: سمه علي ذرح. الشرح. كرب آل. الجمهرة الثانية ورجالها: يثع أمر.

كرب آل وتر. يدع آل بين. الجمهرة الثالثة وتتكون من: وهب آل يحز. كرب آل وتر يهنعم. الجمهرة الرابعة ورجالها: وهب آل. أنمار يهنعم. الجمهرة الخامسة وأصحابها: ذمر علي ذرح. نشاكرب يهنعم. ولم يشر إلى مكان الملكين: "يكرب ملك وتر" و "يرم ايمن" بين هذه الجمهرات، وإن كان أشار إلى "يرم ايمن" في قائمة الملوك الهمدانيين1.

_ Cl. Huart, Ceschiche der Araber, BD l, S 56 1

قائمة فلبي

قائمة "فلبي": 1- كرب آل وتر. حكم على تقديره حوالي سنة "620" قبل الميلاد. 2- سمه علي ذرح لم يتأكد من اسم والده، ويرى أن من المحتمل أن يكون كرب آل وتر. حكم حوالي سنة "600" قبل الميلاد. 3- كرب آل وتر بن سمه علي ذرح. حكم حوالي سنة "580" قبل الميلاد. 4- الشرح بن سمه علي ذرح، تولى الحكم حوالي سنة "570" قبل الميلاد. 5- يدع آل بين بن كرب آل وتر. صار ملكًا حوالي سنة "560" قبل الميلاد. 6- يكرب ملك وتر بن يدع آل بين. تولى الحكم سنة "540" قبل الميلاد. 7- يثع أمر بين بن يكرب ملك وتر، حكم حوالي سنة "520" قبل الميلاد. 8- كرب آل وتر بن يثع أمر بين. تولى الحكم في حدود سنة "500" قبل الميلاد.

9- سمه علي ينف. لم يتأكد "فلبي" من اسم أبيه، وحكم على رأيه حوالي سنة "480" قبل الميلاد. 10- الشرح بن سمه علي ينف. حكم حوالي سنة "460" قبل الميلاد. 11- ذمر علي بين بن سمه علي ينف، تولى الحكم من حدود سنة "445" قبل الميلاد. 12- يدع آل وتر بن علي بين. تولى حوالي سنة "430" قبل الميلاد. 13- ذمر علي بين بن يدع آل وتر. تولى الحكم في حدود سنة "410" قبل الميلاد. 14- كرب آل وتر بن ذمر علي بين. حكم حوالي سنة "390" قبل الميلاد. 15- وترك "فلبي" فجوة بعد اسم هذا الملك قدرها بنحو عشرين عامًا، ثم ذكر اسم الكرب يهنعم. وهو على رأي "فلبي" من الأسرة الملكية، الثالثة التي حكمت مملكة سبأ وقد حكم في حوالي سنة "350 ق. م.". 16- كرب آل وتر. حكم في حدود سنة "330 ق. م.". 17- وهب آل ولم يتأكد من اسم أبيه، ويرى أن من المحتمل أن يكون اسمه "سرو". حكم في حدود سنة "310 ق. م.". 18- أنمار يهنعم بن وهب آل يحز. حكم في حدود سنة "290 ق. م.". 19- ذمر علي ذرح بن أنمار يهنعم. حكم في حدود سنة "270 ق. م.". 20- نشاكرب يهنعم بن ذمر علي ذرح. حكم حوالي سنة "250 ق. م.". وترك "فلبي" فجوة أخرى بعد اسم هذا الملك قدرها بنحو ثلاثين عامًا، أي من حوالي سنة "230" إلى سنة "200" قبل الميلاد, ذكر بعدها اسم: 21- نصرم يهنعم "ناصر يهنعم"، وهو من أسرة ملكية رابعة، وكان له شقيق اسمه "صدق يهبب"، حكم في حدود سنة "200" قبل الميلاد. 22- وهب آل يحز. حكم في حوالي سنة "180" قبل الميلاد. 23- كرب آل وتر يهنعم بن وهب آل يحز. حكم في حوالي سنة "160" قبل الميلاد. وقد اغتصب العرش "يرم ايمن" وابنه "علهن نهفن" "علهان نهفان" في حدود سنة "145" إلى سنة "115" قبل الميلاد، وهما مكونا الأسرة الهمدانية المالكة، وقد استعاد العرش الملك:

24- فرعم ينهب في حدود سنة "130" قبل الميلاد. 25- الشرح يحضب بن فرعم ينهب، حكم حوالي سنة "125" قبل الميلاد، وهو من ملوك "سبأ وذو ريدان".

قائمة ريكمنس

قائمة "ريكمنس": وقد رتب "ريكمنس" أسماء ملوك سبأ على النحو الآتي: كرب وتر "كرب ايل وتر". يدع آل بين "يدع ايل بين". يكرب ملك وتر. يثع أمر بين. 5، 6– سمه علي ذرح وكرب ايل وتر "الشرح". 7- سمه علي ينوف "سمه علي ينف". 8- يدع آل وتر "يدع ايل وتر". 9- ذمر علي بين. 10- يدع آل ذرح "يدع ايل ذرح". 11- يثع أمر وتر. 12- سمه علي ينف "سمه علي ينوف". 13- ذمر علي بين "الشرح". 14- يدع آل "يدع ايل". 15- ذمر علي ذرح. 16- نشأ كرب يهأمن، وهو على رأيه آخر الملوك من الأسرة الشرعية الحاكمة، وقد انتقلت سبأ بعده من حكم الملوك السبئيين إلى حكم أسرة جديدة يرجع نسبها إلى قبيلة "همدان" وذلك سنة "115" قبل الميلاد1 وكان أول من تولى الحكم منها الملك "نصرم يهأمن" "ناصر يهأمن".

_ 1 J. Ryckmans, L'instiution , p. 336

وترك "ريكمنس" فراغًا بعد "نصرم يهأمن"، وذكر بعده اسم "وهب آل يحز" "وهب ايل يحز"، وكان منافسه "أوسلت رفشان"، ثم ذكر بعد "وهب آل يحز" اسم أنمار يهنعم، وكرب ايل وتر يهنعم، نمم يرم أيمن. ثم اسم "فرعم ينهب"، وهو من "بكيل"، وكان معاصرًا لـ "علهان نهفان" وابنه "شعرم أوتر"، وهما من "حاشد".

فهرس الجزء الثالث

فهرس: الجزء الثالث: الفصل السابع عشر. العرب واليونان 5 الفصل الثامن عشر. العرب والرومان 38 الفصل التاسع عشر. الدولة المعينية 73 ملوك معين 81 حكومات عدن 105 مملكة كمنة 107 حكومة معين 108 نقود معينية 112

الحياة الدينية 113 مدن معين 116 المعينيون خارج أرض معين 119 قوائم بأسماء حكام معين 124 الفصل العشرون. ممكلة حضرموت 129 قبائل حضرمية 155 مدن ومواقع حضرمية 157 قوائم حكام حضرموت 166 الفصل الحادي والعشرون. حكومة قتبان 171 حكام قتبان 179 كتابات وحوادث قتبانية 186 قبائل وأسس قتبانية 208 مدن قتبان 222

قوائم بأسماء حكام قتبان 232 الفصل الثاني والعشرون. ممكلتا ديدان ولحيان 241 الفصل الثالث والعشرون. السبئيون 258 المكربون 268 قوائم بأسماء المكربين 306 الفصل الرابع والعشرون. ملوك سبأ 315 قوائم بأسماء ملوك سبأ 247 الفهرست 353

المجلد الرابع

المجلد الرابع الفصل الخامس والعشرون: همدان ... الفصل الخامس والعشرون: همدان ومن القبائل الكبيرة التي كان لها شأن يذكر في عهد "ملوك سبأ"، قبيلة "همدان", والنسابون بعضهم يرجع نسبها إلى: "أوسلة بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة الخيار بن زيد بن كهلان"، وبعض آخر يرجعونه إلى "همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان"، إلى غير ذلك من ترتيب أسماء تجدها مسطورة في كتب الأنساب والأخبار1. ويرجع أهل الأنساب بطون همدان، وهي كثيرة، إلى "حاشد" و"بكيل"؛ أما "حاشد"، فتقع مواطنها في الأرضين الغربية من "بلد همدان"، وأما "بكيل"، فقد سكنت الأرضين الشرقية منه2, وهما في عرفهم شقيقان من نسل "جشم بن خيران بن نوف بن همدان"3. وقد تفرع من الأصل بطون

_ 1 منتخبات "ص110"، الاشتقاق "2/ 250"، ابن خلدون "2/ 252"، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب "369"، المبرد، نسب عدنان وقحطان، "ص21"، تاج العروس "2/ 547"، Ency., II, P. 246 2 Handbuch, I, S., 113, ENCY., II, P. 246 3 تاج العروس "2/ 232، 336"، "حاشد بن جشم بن حبران بن نوف بن همدان"، منتخبات "ص27، 53"، "ولد همدان نوفًا وخيران، فمنهم بنو حاشد وبنو بكيل، منهم تفرقت همدان"، الاشتقاق "2/ 250" "طبعة وستنفلد" "حاشد بن جشم بن خيوان بن نوفل بن همدان"، ابن حزم، جمهرة "ص372" "تحقيق ليفي بروفنسال"، "وأولد نوف بن همدان حبران، فأولد حبران جشم، فأولد جشم حاشدا الكبرى وبكيلا"، الإكليل "10/ 28".

عديدة، ذكر أسماءها وأنسابها "الهمداني" في الجزء العاشر من "الإكليل"، وهو الجزء الذي خصصه بحاشد وبكيل1. وقد ورد في الكتابات العربية الجنوبية أسماء عدد من المدن والمواضع الهمدانية ورد عدد منها في "صفة جزيرة العرب" و"الإكليل" وفي كتب أخرى، ولا يزال عدد غير قليل من أسماء تلك المواضع أو القبائل والبطون التي ورد ذكرها في الكتابات باقيًا حتى الآن. وتقع هذه المواضع في المناطق التي ذكرت في تلك الكتابات، وهي تفيدنا من هذه الناحية في تعيين مواقع الأمكنة التي وردت أسماؤها في النصوص، ولكننا لا نعرف الآن من أمرها شيئًا. وكان للهمدانيين مثل القبائل الأخرى إلهٌ خاص بهم، اسمه "تالب" "تألب" اتخذوا لعبادته بيوتًا في أماكن عدة من "بلد همدان", وقد عرف أيضا في المسند بـ"تالب ريمم" "تألب ريمم"، أي: "تألب ريام"2. وقد انتشرت عبادته بين همدان، وخاصة بعد ارتفاع نجمهم واغتصابهم عرش سبأ من السبئيين، فصار إله همدان، بتعبد له الناس تعبدهم لإله سبأ الخاص "المقه"، فتقربت إليه القبائل الأخرى، ونذرت له النذور. ونجد في الكتابات أسماء معابد عديدة شيدت في مواضع متعددة لعبادة هذا الإله، وسميت باسمه. وقد تنكر الهمدانيون فيما بعد لإلههم هذا، حتى هجروه. ولما جاء الإسلام كانوا بتعبدون -كما يقول ابن الكلبي- لصنم هو "يعوق"، وكان له بيت بـ"خيوان"3, وقد نسوا كل شيء عن الإله "تألب ريام"، نسوا أنه كان إلهًا لهم، وأنه كان معبودهم الخاص، إلا أنهم لم ينسوا اسمه، إذ حولوه إلى إنسان، زعموا أنه جد "همدان" وأنه هو الذي نسل الهمدانيين، فهم كلهم من نسل "تألب ريام". ولم يكتفِ الهمدانيون بتحويل إلههم إلى إنسان، حتى جعلوا له أبًا سموه "شهران الملك"، ثم زوَّجوه من "ترعة بنت يازل بن شرحبيل بن سار

_ 1 نشر بتحقيق محب الدين الخطيب، القاهرة، المطبعة السلفية "1368هـ". 2 CIH, IV, I, IV, P. 529 3 الأصنام "ص57"، "ومن بطون همدان أيضًا, بطن يقال لهم: بنو قابض بن يزيد بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم، وكان عمرو بن لحي دفع إلى قابض المذكور صنمًا اسمه يعوق، فجعله في قرية باليمن يقال لها: خيوان، فكان يعبد من دون الله ... "، ابن حزم، جمهرة "ص371".

ابن أبي شرح يحضب بن الصوار"1، وجعلوا له ولدًا منهم "يطاع"، و"يارم". وأما أبوه "شهران" -على حد قول أهل الأخبار- فهو ابن "ريام بن نهفان"، صاحب محفد "ريام". وأما "نهفان" والد "ريام"، فهو ابن "بتع" الملك، وشقيق "علهان بن بتع"، وكان ملكًا كذلك, وأمهما "جميلة بنت الصوَّار بن عبد شمس"2. وأما "بتع"، فهو ابن "زيد بن عمرو بن همدان"3، وكان قريبا لـ"شرح يحضب بن الصوار بن عبد شمس"، وإليه ينسب سد "بتع". وإذا دققنا النظر في هذه الأسماء، أسماء الآباء والأجداد والأبناء والبنات والحَفَدة والأمهات، نجد فيها أسماء وردت حقًّا في الكتابات، إلا أن ورودها فيها ليس على الصورة التي رسمها لها أهل الأخبار. فـ"ترعة" مثلا، وهو اسم زوجة "تألب ريام" المزعومة، لم يكن امرأة في الكتابات، وإنما كان اسم موضع شهير ورد اسمه في الكتابات الهمدانية، عرف واشتهر بمعبده الشهير المخصص لعبادة الإله "تألب ريام"؛ معبد "تألب ريام بعل ترعت"4. والظاهر أن الأخباريين -وقد ذكرت أن منهم من كان يستطيع قراءة المساند لكن لم يكونوا يفهمون معاني هذه المساند كل الفهم- لما قرءوا الجملة المذكورة ظنوا أن كلمة "بعل" تعني الزواج كما في لغتنا، فصار النص بحسب تفسيرهم "تألب زوج ترعت". وهكذا صيَّروا "ترعت" "ترعة" زوجة لـ"تألب ريام"، وصيروا "تألب ريام" رجلًا زوجًا؛ لأنهم لم يعرفوا من أمره شيئًا. و"أوسلة" الذي جعلوا اسما لـ"همدان" والد القبيلة، هو في الواقع "أوسلت رفش" في كتابات المسند5, وهو والد "يرم أيمن" "يريم أيمن" "ملك سبأ". وقد عرف "الهمداني" اسم "أوسلت رفشن" "أوسلة رفشان"، فذكر في كتابه "الإكليل" أن اسمه كان مكتوبًا بالمسند على حجر بمدينة "ناعط"،

_ 1 الإكليل "10/ 17 وما بعدها". 2 الإكليل "10/ 13 وما بعدها". 3 الإكليل "10/ 11 وما بعدها". 4 CIH 337, 338, IV, I, IV, p.388, 390, 391 5 Glaser, abessi, S, 63, Glaser 1320, 1359, 1360

ودوّن صورة النص كما ذكر معناه1. ويظهر من عبارة النص ومن تفسيره أن "الهمداني" لم يكن يحسن قراءة النصوص ولا فهمها، وإن كان يحسن قراءة الحروف وكتابتها. ولم يتحدث "الهمداني" بشيء مهم عن "أوسلة رفشان" في الجزأين المطبوعين من "الإكليل"، وقد ذكره في الجزء الثامن في معرض كلامه على حروف المسند، فأورده مثلًا على كيفية كتابة الأسطر والكلمات2. وذكره في الجزء العاشر في "نسب همدان"، في حديثه عن "يطاع" و"يارم" ابني "تألب ريام بن شهران" على حد قول الرواة، ولم يذكر شيئًا يفيد أنه كان على علم به3. وأرى أن أهل الأنساب أخذوا نسبهم الذي وضعوه لـ"أوسلة" ولغيره من أنساب قبائل اليمن القديمة من قراءتهم للمساند. وقد كان بعضهم -كما قلت- يحسن قراءة الحروف، إلا أنه لم يفهم المعنى كل الفهم، فلما قرءوا في النصوص "أوسلت رفشن بن همدان"4، أي: "أوسلة رفشان من قبيلة همدان"، أو "أوسلة رفشان الهمداني" بتعبير أصح، ظنوا أن لفظة "بن" تعني "ابن"؛ ففسروا الجملة على هذا النحو: "أوسلة رفشان بن همدان" وصيروا "أوسلة" ابنًا لهمدان، مع أن "بن" في النص هي حرف جر بمعنى "من"، وليست لها صلة بـ"ابن". و"أوسلت" "أوسلة" مركبة من كلمتين في الأصل، هما: "أوس": بمعنى "عطية" أو "هبة"، و"لت" "لات"، وهو اسم الصنم "اللات"، فيكون المعنى "عطية اللات"، أو "هبة اللات". ومن هذا القبيل "أوسل آل"،

_ 1 الإكليل "10/ 18"، كتب أنستاس ماري الكرملي الاسم على هذا الشكل: "أوسلة رلشان"، "8/ 142"، أما "نبيه أمين فارس" فقد كتبه "أوسلة رلشن"، وأعتقد أن هذا الخطأ في النقل إنما أحدثه النساخ، وأن "الهمداني" كان يعرف الاسم معرفة صحيحة، بدلالة كتابته كتابة صحيحة في الجزء العاشر, الذي نشر بتحقيق محب الدين الخطيب. وقد نقضت الكلمة الأولى من الاسم المدون نقشًا قريبًا جدًّا من الصحة في طبعتي الكرملي ونبيه. أما الكلمة الثانية من الاسم وباقي النص، فقد حرفها النساخ على ما يظهر تحريفًا قبيحًا أبعدها عن الصواب. 2 الإكليل "8/ 123". 3 الإكليل "10/ 18". 4 Glaserabessi., S. 63, Glaser 1320, 1359, 1360

أي: "أوس إيل"، ومعناها "وهب إيل" و"عطية إيل"، و"سعدلت" أي: "سعد لات" و"عبد لات" و"زيد لات"، وما شاكل ذلك من أسماء1. وقد أغفلت النصوص التي ذكرت اسم "أوسلت رفشان" اسم أبيه. غير أن هناك كتابات أخرى ذكرت من سمته "أوسلت بن أعين"، "أوسلة بن أعين"، فذهب علماء العربيات الجنوبية إلى أن هذا الرجل الثاني هو "أوسلة رفشان" نفسه، وعلى ذلك يكون اسم أبيه "أعين"، وهو من همدان2. وقد عاش في حوالي السنة "125ق. م." على تقدير "ألبرايت"3. وقد جعل "فون وزمن" "أعين" من معاصري "ياسر يهصدق" الحميري و"ذمر على ذرح" ملك السبئيين، و"نشأكرب يهأمن" من أسرة "جرت" "كرت" "كرأت" "جرأت", وجعل زمانهم في حوالي السنة "80" بعد الميلاد4. وهو تقدير يخالف رأي "فلبي" و"ألبرايت" وغيرهما ممن وضعوا أزمنة لحكم الملوك. وقد ذكر اسم "أوسلت رفشان" في نص وسمه العلماء بـCIH 647، وهو نص قصير مثلوم في مواضع منه، يفهم منه أنه بنى بيتًا، ولم يرد في النص أين بني ذلك البيت، ولا نوع ذلك البيت: أكان يت سُكنى أم بيت عبادة؟ 5. وقد عاش "أوسلت رفشن" "أوسلة رفشان" في حوالي السنة "110م" على رأي "فون وزمن"6. وكان من المعاصرين للملك "رب شمس" "ربشمس" من ملوك حضرموت، وللملك "وهب آل يحز" "وهب إيل يحز"، وهو من ملوك "بني بتع" من "سمعي"7. أما "فلبي"، فيرفع أيام هؤلاء المذكورين إلى ما قبل الميلاد، أي: إلى العهود التي سبقت تأليف حكومة "سبأ وذي ريدان"8.

_ 1 Glaser, Abessi., S. 63 2 Glaser 1228, 1320, Abessi., S. 63, Handbuch, I, S. 90, Le Museon, 1964, 3-4, P.498, P. Mahram, P.284, Le Museon, 1967, 1-2, p.281. 3 BOASOOR, NUM. 119, 1950, p.9 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 5 CIH 647, Langer 17, Brit. Mus. 67. 6 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 7 Le Museon, 1964, 3-4, P.498. 8 Background, P.88, 91.

وأما "ألبرايت"، فجعل أيامه في حوالي السنة "100ق. م."1. وجعل "فون وزمن" "سعد شمس أسرع"، الذي هو من "مرثد" من فرع "بكيل" من المعاصرين لـ"أوسلت رفشن" "أوسلت فشان". وتقع أرض "مرثد" في "شبام أقيان"2. ويظهر من النص الموسوم بـCIH 287 أن "أوسلت" كان "مقتوى"، أي: قائدًا كبيرًا من قواد الجيش عند "ناصر يهأمن"، ثم صار قيلًا "قول" على عشيرة "سمعي" في أيام "وهب إيل يحز"3, فبرز اسمه واسم أولاده وصار لهم سلطان في عهد هذا الملك4. والظاهر أنه كان كبير السن في هذا العهد، وأن وفاته كانت في أيام "وهب إيل". وقد عرفنا من الكتابات اسم ولدين من ولد "أوسلت رفشان" أحدهما "يرم أيمن"، والآخر "برج يهرجب"، "برج يهرحب"5. وقد ورد اسماهما في عدد من الكتابات، منها الكتابة الموسومة بـJamme 561 Bis التي تحدثت عنها في أثناء كلامي على "وهب إيل يحز". وقد وجدنا فيها أن الشقيقين وكذلك "علهان نهفان" وهو ابن "برم أيمن"، كانوا أقيالًا إذ ذاك على عشيرة "سمعي"، التي تكوّن ثلث عشائر قبيلة "حاشد"، وأنهم كانوا قد أسهموا في الغارة التي شنها الملك "وهب إيل يحز" على الأعراب. وقد ورد اسماهما في الكتابة الموسومة6 بـGlaser 1359, 1360، وقد تبين منها أنهما كانا قيليْنِ "قول" على قبيلة "سمعي" ثلث "حاشد"، وأنهما قدما إلى حاميهما الإله "تالب ريمم" "تألب ريام"، بعل "ترعت"، أي: رب معبده المقام في "ترعت" "ترعت"، ستة تماثيل "ستتن أصلمن"؛ لأنه مَنَّ على "يرم أيمن" بالتوفيق والسداد في مهمته، فعقد الصلح بين ملوك

_ 1 BOASOOR, NUM 119, 1950, P.9 2 Le Museon, 1964, , 3-4, p.498 3 Abessi., S. 63 4 Mahram, p.285 5 في بعض الكتابات "يهرجب" وفي بعض آخر "يهرحب", ومرد هذا التباين إلى قراءة تلك الكتابات، واختلافهم في نسخ الحروف. 6 CIH 315, IV, I, IV,P.346, Halevy Revue Semitique, IV, 1897, p.76, Winckler, Die Sab. Inschr. Der Zeit Alhan Nahfan's, S.9

سبأ وذي ريدان وحضرموت وقتبان، وذلك بعد الحرب التي وقعت بينهم فانتشرت في كل البلاد والأرضين، بين هؤلاء الملوك المذكورين وشعوبهم وأتباعهم. وقد كان من منن الإله "تألب ريام" على "برم أيمن" أن رفع مكانته في عين ملك سبأ، فاتخذه وسيطًا في عقد صلح بينه وبين سائر الملوك، فنجح في مهمته هذه وعقد الصلح, وذلك في سنة "ثوبن بن سعدم بن يهسم"1. وقد اختتم النص بدعاء الإله "تألب ريام" أن يوفق "يرم أيمن" ويديم له سعادته، ويرفع منزلته ومكانته دائمًا في عين سيده "إمراهمو ملك سبا" ملك سبأ، ويبارك له، ويزيد في تقدمه، وينزل غضبه وثبوره "ثبر" وضرره وتشتيته على أعداء "برم أيمن" وحساده, وكل من يتربص الدوائر بـ"تألب ريام"2. ويتبين من هذا النص الموجز -الذي كتب لإظهار شكر "يرم أيمن" لإلهه "تألب ريام" على توفيقه له، وعلى ما مَنَّ عليه به من الإيحاء إلى ملك سبأ بأن يختاره وسيطًا- أن حربًا كاسحة شاملة كانت قد نشبت في العربية الجنوبية في أيام الملك "كرب إيل وتر يهنعم"، وأن الملك كلفه أن يتوسط بين المتنازعين، وهم حكومات سبأ وذي ريدان وحضرموت وقتبان، ويعقد صلحًا بينهم، وأنه قد أفلح في وساطته، وسُرَّ كثيرًا بنجاحه هذا وباختياره لهذا المركز الخطير، الذي أكسبه منزلة كبيرة، وهيبة عند الحكومات، فشكر إلهه الذي وفقه لذلك، وقد كان يومئذٍ قَيْلًا من الأقيال. وقد ساعدته هذه الوساطة كثيرًا، ولا شك، فمهدت له السبيل لأن ينازع "ملك سبأ" التاج. وقد اتخذ "كلاسر" من سكوت النص عن ذكر اسم "معين" دليلًا على انقراض "مملكة معين"، وفقدان شعب معين استقلاله، وهو رأي عارضه بعض الباحثين3. وقد وصل إلينا نص قصير لقب فيه "يرم أيمن" بلقب "ملك سبأ"، وقد سجله ابناه، ولقب ابناه بهذا اللقب كذلك. وهو نص ناقص أعرب فيه

_ 1 الفقرة الخامسة عشرة من النص، غويدي: المختصر "ص21 وما بعدها". 2 بتألب "يمم"، الفقرتان "22" و"23" من النص. 3 Abessi., S. 72, KTB., II, S. 68, Hartmann, Arab. Frage., S. 142, 144

ابنا "يرم أيمن" عن شكرهما للإله "تألب ريام"؛ لأنه مَنَّ وبارك عليهما1؛ فهذا النص إذن من النصوص المتأخرة بالنسبة إلى أيام "يرم أيمن". وانتهى إلينا نص مهم، هو النص المعروف بـWien 669، وقد دونه أحد أقيال "أقول" قبيلة "سمعي"، وقد سقط اسمه من الكتابات وبقي اسم ابنه، وهو "رفش" "رفشان" من آل "سخيم". أما قبيلة "سمعي" المذكورة في هذا النص، فهي "سمعي" ثلث "ذ حجرم" "ذي حجر". وقد قدم هذا القيل مع ابنه "رفشان" إلى الإله "تألب ريام" "بعل رحبان" "بعل رحبن" نذرًا؛ وذلك لعافيتهما ولسلامة حصنهما، حصن "ريمن" "ريمان"، ولخير وعافية قيلهما وقبيلته "يرسم" التي تكون ثلث "ذي حجر"، وليبارك في مزروعاتهما وفي غلات أرضهما، ولينزل بركته ورحمته على "يرم أيمن" و"كرب إيل وتر" ملكي سبأ. وقد ختم النص بتضرع "تالب ريام" أن يهلك أعداءهما وحسادهما وجميع الشانئين لهما ومن يريد بهما سوءًا2. وقد جعل "فون وزمن", "يرم أيمن" معاصرًا لـ"أنمار يهأمن" الذي ذكره بعد "وهب إيل يحز"، ثم لـ"كرب إيل يهنعم"، وهما في رأيه من المعاصرين لـ"شمر يهرعش الأول" من ملوك "حمير" أصحاب "ظفار". وجعل "كرب إيل وتر يهنعم" معاصرًا للملك "كرب إيل بين" ملك سبأ الشرعي من الأسرة الحاكمة في "مأرب". وجعل "يرم أيمن" من المعصرين لـ"مرثد يهقبض"، وهو من "جرت" "كرت" "كرأت" ولـ"مرثدم" "مرثد" الذي ذكر بعد "نبط يهنعم" آخر ملوك قتبان، كما جعله من المعاصرين للملك "يدع إيل بين" من ملوك حضرموت. وجعل حكم "يرم أيمن" فيما بين السنة "130" والسنة "140" بعد الميلاد3. وقد نشر "جامه" نصًّا وسمه بـJamme 565, جاء فيه: أن جماعة من "بني جدنم" "جدن" قدموا إلى الإله "المقه بعل أوَّام" نذرًا تمثالًا "صلمن"

_ 1 Abessi., S. 70, ZDMG.,XXXIII, 485 2 Wien 669,REP. EPIG., 4190, VII,I, P.131, SE 8, Le Museon, 1967, 1-2, P.282 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.498

لأنه منّ عليهم بالعافية ووفقهم في الغارة التي أسهموا فيها بأمر سيديهما ملكي سبأ: يرم أيمن, وأخيه كرب إيل وتر؛ ولأنه بارك لهما ومنحهما السعادة بإرضاء مليكهما1, وقصد بلفظة "واخيهو" حليفه؛ لأنهما متآخيان بتحالفهما. ويلاحظ أن هذا النص قد قدم اسم "يرم أيمن" على اسم الملك "كرب إيل وتر" مع أن هذا هو ملك سبأ الأصيل، ولقب "يرم أيمن" بلقب ملك، أي: إنه أشركه مع الملك "كرب إيل" في الحكم، وفي هذا دلالة على أن "يرم أيمن" كان قد أعلن نفسه ملكًا على سبأ ولقب نفسه بألقاب الملوك, وأن الملك الأصلي اعترف به, طوعًا واختيارًا أو كرهًا واضطرارًا، فصرنا نجد اسمي ملكين يحملان هذا اللقب: لقب "ملك سبأ" في وقت واحد. وقد ورد اسم "يرم أيمن" في النص الموسوم بـCIH 328, وقد لقب فيه بلقب "ملك سبأ"؛ إلا أن النص لم يذكر اسم ملك سبأ الأصيل الذي كان يحكم إذ ذاك2, وقد ذكر في هذا النص اسم الإله "تألب ريام"، وهو إله همدان، ولم يذكر معه اسم أي إله آخر. ولما كان صاحب النص همدانيًّا، وقد كان "يرم أيمن" ملك همدان وسيدها، لم يذكر اسم ملك سبأ ولم يشر إليه، واكتفى بذكر ملكه فقط. هذا, وليس في استطاعتنا تثبيت الزمن الذي لقب فيه "يرم أيمن" نفسه بلقب "ملك سبأ", فقد رأينا قيلًا في أيام الملك "وهب إيل يحز" ورأينا صلاته به لم تكن على ما يرام في بادئ الأمر، وأنه كان يتمنى لو أن الإله "المقه" أسعده بالتوفيق بين ملكه وبينه، ثم لا ندري ما الذي حدث بينهما بعد ذلك. ولكن الظاهر أن طموح "يرم أيمن" دفعه إلى العمل في توسيع رقعة سلطانه وفي تقوية مركزه، حتى نجح في مسعاه، ولا سيما في عهد "كرب إيل وتر يهنعم"، فلقب نفسه بلقب "ملك"، وأخذ ينقش لقبه هذا في الكتابات، وصار يحمل اللقب الرسمي الذي يحمله ملوك سبأ الشرعيون حتى وفاته. وقد عرفنا من الكتابات اسمي ابنين من أبناء الملك "يرم أيمن"، هما:

_ 1 Jamme 565, Mamb 266, Mahram P.47 2 Mahram, P.288

"علهان نهفان"، و"برج يهرجب" "برج يهرحب" "بارج يهرحب"1, "برج يهأمن"2. أما "علهان نفهان" فهو الذي تولى الملك بعد أبيه, وقد لقب بـ"ملك سبأ"، وعاصر "كرب إيل وتر يهنعم" وابنه "فرعم ينهب". وقد ذكر "نشوان بن سعيد الحميري" أن "علهان اسم ملك من ملوك حمير، وهو علهان بن ذي بتع بن يحضب بن الصوار، وهو الكاتب هو وأخوه نهفان لأهل اليمن إلى يوسف بن يعقوب -عليهما السلام- بمصر في الميرة, لما انقطع الطعام عن أهل اليمن"3, ففرق "نشوان" بين "علهان" و"نهفان"، وظن أنهما اسمان لشقيقين. وقد دون "الهمداني" صور نصوص ذكر أنه نقلها من المسند، وفرق فيها أيضا بين "علهان" و"نهفان"، فذكر مثلًا أنه وجد "في مسند بصنعاء على حجارة نقلت من قصور حمير وهمدان: علهان ونهفان، ابنا بتع بن همدان"4، و"علهن ونهفن ابنا بتع بن همدان صحح حصن وقصر حدقان.."5. فعد "علهان" اسمًا، و"نهفان" اسم شقيقه. وقد ذكر الاسم صحيحًا في موضع، ولكنه عاد فعلق عليه بقوله: "وإنما قالوا علهان نهفان، فجعلوه اسمًا واحدًا؛ لما سمعوه فيهما من قول تبع بن أسعد: وشمر يرعش خير الملوك ... وعلهان نهفان قد أذكر وإنما أراد أن يعرف واحدًا بالثاني، فلما لم يمكنه أن يقول: العلهانان, قال: علهان نهفان"6. ويلاحظ أن قراءة "الهمداني" للسند الأول، هي قراءة قُرِئت وفق عربيتنا، فجعل "علهن" "علهان" و"نهفن" "نهفان" و"همدن" "همدان"، أما قراءته للمسند الثاني، فهي على نحو ما دوّن في المسند، وذلك بالنسبة إلى

_ 1 "علهن نهفن" في الكتابات. 2 Le Museon, 1967, 1-2, P.281. 3 منتخبات "ص75". 4 الإكليل "10/ 15". 5 الإكليل "10/ 16". 6 الإكليل "10/ 33"، "حب الملوك" "2/ 389".

الأعلام، فإن المسند لا يكتب "علهان" بل يكتبه "علهن"، وهكذا بقية الأسماء. ونسب "نشوان بن سعيد الحميري" هذا البيت إلى "أسعد تبع"، وعلق على اسم "علهان نهفان" بقوله: "أراد علهان ونهفان فحذف الوأو "1. فـ"علهان نهفان" إذن اسما رجلين على رأي هذين العالمين، وعلى رأي عدد آخر من العلماء مثل "محمد بن أحمد الأوساني" أحد من أخذ "الهمداني" علمه منهم, وهو في الواقع اسم واحد لرجل واحد. ولا أدري كيف أضاف "الهمداني" و"الأوساني" وغيرهما ممن كان يذكر أنه كان يقرأ في المسند حرف "الوأو" بين "علهان نهفان"، فصيروه "علهان" و"نهفان"، وجعلوهما اسمين لشقيقين2. وقد أدى سوء فهم أهل الأخبار لقراءاتهم للمساند إلى اختراع والد للأخوين "علهان" و"نهفان"، أو لـ"علهان نهفان" بتعبير أصح، فصيروه "بتع بن زيد بن عمرو بن همدان"3، أو "ذا بتع بن يحضب بن الصوَّار"4. وعرف "نشوان" "ذا بتع" بأنه "ذو بتع الأكبر"، وهو ملك من ملوك حمير، واسمه نوف بن يحضب بن الصوار، من ولده ذو بتع الأصغر زوج بلقيس بنة الهدهاد ملكة سبأ5 وصيروه "تبعًا"، فقالوا: "علهان نهفان ابنا تبع بن همدان"6. ويظهر أن النساخ قد وقعوا في حيرة في كيفية كتابة اسم والد "علهان"، فكتبوه "بتعًا"، وكتبوه "تبعًا", وكلا الاسمين معروف شهير، فوقعوا من ثم في الوهم. وأما اسم الوالد الشرعي الصحيح فهو "يرم أيمن"، كما ذكرت، وأما الاسم المخترع، فقد جاءوا به من عندهم بسبب عدم فهمهم لقراءة نصوص المسند. فقد وردت في النصوص جملة "علهن نهفن بن بتع وهمدان"7،

_ 1 منتخبات "ص75". 2 الإكليل "8/ 83". 3 الإكليل "10/ 11، 13". 4 منتخبات "ص75، 105". 5 منتخبات "ص5". 6 الإكليل "8/ 42، 83" "طبعة نبيه"، "8/ 51، 103" "الكرملي". 7 المختصر "ص26"، Glaser 16, Louvre 10, CIH, IV, I, I, P. 8.

فظن قراء المساند من أشياخ "الهمداني" وأمثالهم "ممن كانوا يحسنون قراءة الحروف والكلمات، إلا أنهم لم يكونوا يفهمون معاني الألفاظ والجمل في الغالب" أن لفظة "بن" تعني هنا "ابن"، فقالوا: إن اسم والد "علهان نهفان" أو "علهان" و"نهفان" على زعمهم إذن هو "بتع". على حين أن الصحيح، أن "بن" هي حرف جر يقابل "من" في عربيتنا، ويكون تفسير النص: "علهان نهفان من بتع وهمدان" و"بتع" اسم قبيلة من القبائل المعروفة المشهورة. وأما "بتع" فقد ذكرت أن النساخ هم الذين أخطئوا في تدوين الاسم، وأن "الهمداني" وغيره كانوا قد كتبوه "بتعًا"، لا "تبعًا". ولكن النساخ أخطئوا في الكتابة، فكتبوا اسم "بتع" "تبعًا" على نحو ما شرحت. وورد في النص الموسوم بـGlaser 865 اسم "علهان نهفان", وقد رأيت نقله هنا؛ لأن في ذلك فائدة في شرح اسم أبيه1. فقد ورد فيه: "علهن نهفن بن همدن بن يرم أيمن ملك سبأ"، أي: "علهان نهفان من همدان ابن يرم أيمن ملك سبأ". فأنت ترى أن لفظة "بن" المكتوبة قبل "همدن"، أي "همدان" هي حرف جر, أما "بن" الثانية المذكوة قبل "يرم أيمن" فإنها بمعنى "ابن"، فصارت الأولى تعني أن "علهان نهفان" هو من قبيلة همدان، وأما أبوه، فهو "يرم أيمن ملك سبأ"، ولعدم وقوف أولئك العلماء على قواعد العربيات الجنوبية، لم يفهموا النص على حقيقته. وقد ورد اسم "علهان نهفان" في كتابة وسمها العلماء بـGlaser 16، وصاحبها رجل من "يدم" "آل يدوم" اسمه "هعَّان أشوع"، ذكر أنه قدم هو وأبناؤه إلى الإله "تألب ريمم بعل ترعت" تمثالًا؛ وذلك لخيره ولعافيته ولعافية أولاده، ولأنه أعطاهم كل أمانيهم وطلباتهم، ولأنه خلصهم ونجاهم في كل غزوة غزوها لمساعدة "مراهمو علهن نهفن بن بتع وهمدان"، أي لمساعدة سيدهم وأميرهم: علهان نهفان من "بتع" من قبيلة همدان، وليمنحهم غلة وافرة وأثمارًا كثيرة، وليمنحهم أيضًا رضا أربابهم آل همدان وشعبهم حاشد "حشدم"، وليهلك وليكسر وليصرع كل عدو لهم وشانئ

_ 1 Glaser 865, Berlin 2679, CIH 312, IV, I, IV, P.337

ومؤذٍ1. ولم يلقب صاحب هذا النص "علهان" بلقب "ملك"، وإنما استعمل لفظة "مراهمو" "مرأهمو"، أي: أميرهم أو سيدهم، ويظهر لي في هذا الاستعمال أن هذا النص قد كتب قبل انتقال العرش إلى "علهان" من أبيه؛ ولهذا أغفل اللقب. ووجد اسم "علهان نهفان" واسم ابنه "شعرم أوتر" في كتابة دوَّنها "حيوم يشعر" "حيو يشعر"، وأخوه "كعدان"؛ وذلك لمناسبة بنائهم أسوار بيتهم: "وترن" "وتران"، ولم يشر النص إلى هوية هذا البيت، أهو بيت للسكنى، أم بيت للعبادة اسمه "بيت وترن"، أي: معبد وترن، خصصوه بعبادة الإله "عثتر" الذي ذكر اسمه في آخر النص2. وتعد النصوص الموسومة بـ CIH2 وCIH 296 وCIH 305 وCIH 312 من النصوص المدونة في أيام "علهان" حين كان قيلًا؛ ولذلك ورد فيها اسمه دون أن تلحق به جملة "ملك سبأ". أما النصوص الأخرى، فقد كتبت في الأيام التي نصب فيها نفسه ملكًا على سبأ, ولقب نفسه باللقب المذكور منافسًا ملك سبأ الحاكم في مأرب في حكمه، مدعيًا على الأقل أنه ملك مثله. وليس في استطاعتنا التحدث عن الزمن الذي تلقب فيه "علهان نهفان" بلقب "ملك"؛ فلا ندري أكان قد لقب نفسه به حين وفاة والده مباشرة، أم بعد ذلك؟ فإذا كان الظن الأول, تكون الكتابات المذكورة قد دونت في أيام أبيه، وإذا كان الثاني تكون هذه الكتابات قد دونت في عهد لم يكن "علهان" تمكن فيه من حمل هذا اللقب لسبب لا نعرفه، قد يكون تخاصم الأسرة على الإرث، وقد يكون ضعف "علهان" في ذلك الوقت، وخوفه من ملك سبأ الذي كان أقوى منه. ولا ندري كذلك متى أشرك "علهان" ابنه "شعرم أوتر" "شعر أوتر" معه في الحكم، إذ حصل المنقبون والسياح على كتابات سبئية لقب فيها "علهان" وابنه "شعرم أوتر" بلقب "ملك سبأ" و"ملكي سبا"3.

_ 1 المختصر "ص26 وما بعدها". Glaser, 16, Louvre 10, CIH 2, IV, I, I, P.7. 2 نشر "ص43 وما بعدها". 3 CIH 155, CIH 289, 308, 308 BIS, 401, 693, REP. EPIG., 4216, MAHRAM, P.290.

وفي هذه الجمل دلالة على أن "شعر أوتر" كان يشارك أباه في لقبه في أيامه، وأنه أسهم معه في إدارة الملك. وأغلب الظن أنه أشركه معه في الحكم لحاجته إليه في تثبيت ملكه في وضع سياسي قلق، إذ كانت الثورات والحروب منتشرة، وكان حكام سبأ وحضرموت وحمير والحبش يخاصم بعضهم بعضًا، فرأى "علهان" إشراك ابنه معه في الحكم وتدريبه على الإدارة, وبقي على ذلك حتى وفاة "علهان" وعندئذٍ صار الملك له وحده، فلقب نفسه بلقب "ملك سبأ". لقد كان لا بد لـ"علهان نهفان" من السعي في عقد معاهدات ومحالفات مع الحكومات والقبائل؛ لتثبيت الملك الذي ورثه من أبيه، ولا سيما مع الحكومات المناوئة والمنافسة لحكومة "مأرب". ونجد في كتابة همدانية تضرعًا إلى الإله "تألب ريام" ليوفق "علهان نهفان" في مسعاه بالاتفاق مع ملك حضرموت لعقد معاهدة إخاء ومودة، حتى "يتآخيا تآخيًا تامًّا"، وذلك في المفاوضات التي كانت تجري بينهما في موضع "ذت غيل" "ذات غيل"1. وقد نجحت مفاوضات "علهان" مع ملك حضرموت "يدع أب غيلان" في التآخي معه، وفي عقد معاهدة صداقة بينهما، وأفاد من ذلك فائدة كبيرة، إذ أصبحت هذه المملكة التي تقع في جنوب سبأ وفي جنوب الريدانيين والمتصلة اتصالًا مباشرًا بالحميريين في جانبه، فإذا لم تقم حضرموت بأي عمل حربي ضد أعداء علهان، فإن مجرد وقوفها إلى جانبه يفيده فائدة كبيرة، إذ يفزع ذلك أعداءه، ويضطرهم إلى تخصيص جزء من قواتهم العسكرية للمحافظة على حدودهم مع حضرموت؛ خوفًا من هجومها عليهم عند سنوح الفرص2. وكان فرح "علهان" بنجاح مفاوضاته مع ملك حضرموت، واتفاقه معه كبيرًا، وقد نجح فعلًا في عقد ذلك الحلف، فنراه يحارب الحميريين ويهاجمهم، يؤيده في ذلك ملك حضرموت "يدع أب غيلان"؛ لقد هاجمهم من الشمال،

_ 1 اسم الملك "يدع ال" "يدع إيل" في النص الذي نشره يحيى نامي في كتابه: نشر "ص30"، أما في النصوص الأخرى، فكان اسم ملك حضرموت المتحالف مع "علهان" "يدع أب غيلان"، "بذت غليم"، "بذ غليم" "بذت غيل" "بذغيل", Le Museon, 1964, 3-4, P.466 2 CIH 155, 308, Nami 71-73, Beitrage, S. 113, Le Museon, 1964, 3-4, P.468

وهاجمهم الحضارمة من الشرق، فانتصر على الحميريين في "ذت عرمن" "ذات عرمن" "ذات العرم"، وهو موضع يظهر أنه قريب من "ذات العرم"، وربما كان هو نفسه1؛ وهكذا حصل "علهان" على ثمرة شهية من هذا الحلف. وقد كان الحميريون من المقاتلين المعروفين ومن المغيرين على غيرهم، فانتصار "علهان" عليهم هو ذو مغزى عظيم. ويظهر أن "يدع أب غيلان" ملك حضرموت لم يُعمَّر طويلًا؛ لأننا نقرأ في أحد النصوص أن أحد الهمدانيين كان يتوسل إلى الإله "تألب ريام" أن يمن عليه بعقد حلف بين "علهان" ملك سبأ و"يدع إيل" ملك حضرموت. ويظن أن الملك "يدع إيل" هذا، هو الملك "يدع إيل بين"، وهو ابن "يدع أب غيلان"، الذي هو ابن "أمينم" "أمين" كما جاء ذلك في النص الموسوم2 بـREP. EPIG. 4698. وإذا أخذنا بما جاء في النص المنشور في كتاب "نشر نقوش سامية قديمة"، وهو النص المرقم بـ"19"، فإننا نستنتج منه أن الملك "يدع أب غيلان"، كان قد توفي في أيام "علهان نهفان", وأن الملك "علهان نهفان" صار يرجو عقد حلف مع ابنه "يدع إيل" الذي ولي في أواخر أيام حكم "علهان" على ما يظهر؛ ولذلك توسل صاحب النص أو أصحابه إلى الإله "تألب ريام" رب همدان, أن يساعده على عقد ذلك الحلف. وحوَّل "علهان نهفان" أنظاره نحو الحبشة أيضًا لعقد معاهدة معها، وقد أشار إلى هذا في كتابة ملكية سجلها هو وابناه "شعرم أوتر" و"يرم أيمن" ونعت كل واحد منهما في هذه الكتابة بـ"ملك سبأ". وقد جاء في مقدمتها أنه هو وابنيه قدموا إلى "تألب ريام بعل ترعت" ثلاثين تمثالًا من الذهب، وفضةً لإصلاح حرم الإله في معبده "يهجل"، وأصلحوا إصلاحات كثيرة في فنائه وفي أملاكه؛ لأنه أجاب طلباتهم ومنَّ عليهم، ولأنه وفقه في عقد تحالف مع "جدرت" "جدروت" ملك "نجاشي"

_ 1 Abessi., S. 103, 105, CIH 155, IV, I, III, P.216, Mordtmann, Himjarsche Ins- chriften, S. 18, Winckler, Die Sabi Insche. Der Zeit Alhan's, S. II 2 نشر، النص رقم 19، SE 49, Mahram, p. 305

الحبشة، ولأنه وفق الوفد الذي قام بالمفاوضات، فتمكن من تنظيم اتفاقية بين الطرفين حتمت عليهما التعاون في أيام السلم والحرب؛ لرد كل اعتداء يقع على الطرفين، ومحاربة كل عدو يريد سوءًا بأحدهما. وأشير أيضا إلى اسمي "سلحين" و"زررن" "زراران" "زريران"، وقد كانا متحالفين مع "جدرت"، فشملهما بذلك هذا الحلف1. وقد ورد اسم "علهان نهفان" في كتابات أخرى، ناقصة ويا للأسف، وقد سقطت منها كلمات في مواضع متعددة فأضاعت علينا المعنى. وقد أشير فيها إلى جيوش "علهان" وأعرابها، كما أشير إلى "ردمان" و"مذحيم" و"قتبان" وإلى أقيال وسادات قبائل ملك الحبشة2، وإلى "ذي ريدان"، وإلى أعراب ملك حضرموت3. ويرى "فون وزمن" أن في ذكر أقيال وسادات قبائل ملك "حبشت" الحبشة في هذه الكتابات دلالة على أن الحبش لم يكونوا يمتلكون أرض Kinaidokolttitai، أي: ساحل الحجاز من ينبع ثم ساحل عسير فقط، بل كانوا يمتلكون أيضا الساحل المسيطر على مضيق باب المندب، وقد كان ملكهم إذا ذاك هو الملك "جدرت" "جدرة" المذكور4. ويرى "فون وزمن" أن الحلف الذي عقد بين "علهان" وملك الحبشة، عقد بعد الحرب التي شنها "علهان" ومن ساعده فيها، وهم ملك حضرموت وملك الحبشة ضد "حمير". وقد كان ابنه "شعرم أوتر" "شعر أوتر" يشارك أباه في الحكم إذ ذاك؛ ولهذا ذكر في الكتابة5. وقد فرض "شعر أوتر" سلطانه على حمير وأخضعها لها، وذلك في أوائل أيام حكمه. أما الحبش، فكانوا يمتلكون الأرضين التي ذكرتها وأرض قبيلة "أشعرن" أي: "الأشعر"6.

_ 1 المختصر "ص25"، CIH 308, 308 BIS, MULLER, EPIGRAPHISCHE DENKMALER AUS ABESSINIEN, S. 73, D. H. MULLER, SUDARABISC ALTERTHUMER IM KUNSTHISTORISCHEN HOFMUSEUM, S. 4, 1899 2 نشر "ص92 وما بعدها". 3 نشر "ص92 وما بعدها"، Le Museon, 1964, 3-4, Pp.470 4 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.471 5 CIH 308, A 6 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.471

وقد حمد "علهان نهفان" وابناه الإله "تألب ريام" أيضًا؛ لأنه نصرهم وساعدهم في الحرب التي وقعت بينهم وبين "عم أنس بن سنحن" "عمى أنس بن سنحان"، وبينهم وبين قبيلة "خولان". وقد توسط أمير اسمه "شابت بن عليان" "شبت بن علين"، أو من "آل عليان" بين "عمى أنس" و"خولان" والريدانيين لتكوين جبهة واحدة قوية في محاربة "علهان" وقد انضمت إليها قبائل معادية للهمدانيين، واشتبكوا مع جيش "علهان" غير أن الإله "تألب ربام" -كما يقول "علهان"- نصره على أعدائه، فانهزموا وهزم الذين من "حقلان" "الحقل"، ويظهر أنهم كانوا قد حاربوا "علهان" أيضا، وخربت حقولهم، وعندئذٍ جاءوا إلى "علهان" طائعين، وندموا على ما فعلوا، ووضعوا رهائن عنده، هم: "أشمس بن ريام", أو من "ريام" "آل ريام" و"حارث بن يدم" "حرث بن يدم1". لقد كان حكم "علهان نهفان" في حدود سنة "135ق. م." على تقدير "فلبي"2، أو في النصف الأول من القرن الأخير قبل الميلاد على رأي آخرين3, وفي حوالي السنة "60ق. م" على رأي "ألبرايت"4، وفي حوالي السنة "160" بعد الميلاد على رأي "فون وزمن"5, وفي حوالي السنة "85" قبل الميلاد على تقدير "جامه"، أما نهاية حكمه فكانت في حوالي السنة "65" على تقديره أيضًا6. وقد جعل "كروهمن" حكم "شعر أوتر" في حوالي السنة "50" أو "60" بعد الميلاد7. ومعنى هذا أن حكم أبيه "علهان" يجب أن يكون بعد الميلاد؛ ليتناسب مع الحكم الذي وضعه "كروهمن" لابنه. وقد عثر علماء العربيات الجنوبية على عدد من الكتابات ورد فيها اسم "شعرم أوتر"، لُقِّب في بعضها بـ"ملك سبأ"، ولقب في بعض آخر بـ"ملك

_ 1 المختصر "ص25"، Abessl, S. 46. 2 BACKGROUND, P.142. 3 BEITRAGE, S. 113. 4 BOASOOR, NUM. 119, 1950, P.9. 5 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498. 6 MAHRAM, PP.390. 7 ARABIEN, S. 28.

سبأ وذي ريدان"، ومعنى هذا أنها أحدث عهدًا من الكتابات الأولى، وأن "شعر أوتر" كان قد بدأ عهد حكمه حاملًا لقب "ملك سبأ"، وهو اللقب الذي تلقب به منذ أيام أبيه، ثم غيَّره بعد ذلك بأن أضاف إليه جملة هي: "وذي ريدان"، فصار لقبه في الدور الثاني من حكمه: "ملك سبأ وذي ريدان"1. غير أن لدى الباحثين في العربيات الجنوبية نصًّا وسموه بـGlaser 1371 لقب فيه كل من "علهان نهفان" و"شعر أوتر" ابنه بلقب "ملك سبأ وذي ريدان". ومعنى هذا أن لقب "ملك سبأ وذي ريدان" نفسه كان قد ظهر في أيام "علهان" لا في أيام ابنه، وأن "علهان" نفسه كان قد تلقب به مع ابنه في أواخر أيام حكمه. وهناك من الباحثين من يشك في صحة النص، ويرى أن كاتب النص كان هو الذي وضع هذا اللقب، سهوًا أو تعمدًا، وأن "علهان" لم يحمل هذا اللقب, وأن ابنه هو الذي حمله. ومهما يكن من شيء, فإن النص المذكور هو النص الوحيد الذي نملكه، لقب فيه "علهان" على هذا النحو2. ومن الكتابات التي يجب أن نضيفها إلى أوائل أيام "شعرم أوتر" "شاعر أوتر" كتابة عثرت عليها بعثة "وندل فيلبس"، وقد نشرها "الدكتور خليل يحيى نامي" في "مجلة كلية الآداب" بجامعة القاهرة3. وقد بدأت بجملة: "شعرم أوتر ملك سبا بن علهن نهفن ملك سبا"، أي "شعر أوتر ملك سبأ ابن علهان نهفان ملك سبأ"4. ولتلقيب "شعر أوتر" فيها بـ"ملك سبأ" فقط دون ذكر "ذي ريدان" يجب إرجاعها إلى الأيام الأولى من حكمه. وقد ذكر "شعر أوتر" فيها أنه قدم إلى الإله "المقه بعل أوام" صنمًا "صلم" تقربًا إليه، وتحدث عن حرب وقعت في موضع يسمى "تعمتن" وعن رجل اسمه "سعد تألب" وعن رجل آخر اسمه "حيوم بن غثريان" "حيم بن غثر بن"، وذكر أن الحرب كانت قد وقعت في شهر "ذالت الت ذخرف

_ 1 Abessi., S. 83, Sab. Inschr., S. 279, Mahram, P.295. 2 Mahram, P.295, M. Hofner, Die Sammlung, Eduard Glaser, Wien, 1944, S. 50, Le Museon, 1-2, 1967, Pp.271. 3 مجلة كلية الآداب، المجلد الثاني والعشرون، العدد الثاني سنة 1960، مطبعة جامعة القاهرة سنة 1965 "ص53". 4 راجع النقش رقم 12.

وددال بن حيوم بن كبر خلل خمسن"1، أي: في شهر "ذي إلالات من السنة الخامسة من حكم وددايل بن حيوم بن كبير خليل"، ثم ذكر بعض الشهور التي وقع فيها القتال. والظاهر أنها قد كانت قد انتهت في مصلحته، وأن القائد الذي أمره بمحاربة عدوه كان قد انتصر عليه؛ لذلك تقدم إلى الإله "المقه بعل أوام" بنذره، وهو الصنم المذكور. وقد لقب "شعرم أوتر" نفسه في موضع من النص بـ"شعرم أوتر ملك سبا وبيتن سلحن وغمدن وأدمهوسبا وفيشن"2، أي: شعر أوتر ملك سبأ وبيت سلحين وغمدان, وعبيده "سبأ وفيشان". وذكر البيتين أي: القصرين "سلحين" و"غمدان"، هو كناية عن الملك, و"سلحين" هو قصر الملوك ومستقرهم في مأرب، و"غمدان" هو قصرهم ومقرهم في صنعاء. وقد أخذت صنعاء تنافس مأرب منذ هذا الزمن حتى حلت محلها في الأخير. وقد جاءت في النص جملة: "كما أمر المقه أن يحارب حيوم حتى حريب"3. و"حريب" هي مدينة مشهورة ووادٍ بين بيحان ومأرب4, وهي من مواضع حمير, فالحرب يجب أن تكون قد تناولت أرض حمير. وقد كان الحميريون في هذا الزمن يحاربون السبئيين. ولدينا نص وسمه العلماء4 بـCIH 33، وهو نص مهم من الوجهة التأريخية يتحدث عن حرب أعلنها "شعرم أوتر ملك سبأ وذي ريدان" "شعر أوتر ملك سبأ وذي ريدان" على "العز يلط" ملك حضرموت, ولم يذكر لقب "العز" فيه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه "العز يلط" "العذ يلط" ابن الملك "عمذخر" "عم ذخر"5. وقد انضم إلى الحضارمة عدد من القبائل والجنود المرتزقة، ويذكر النص أن الهمدانيين أتباع "شعرم أوتر" تغلبوا على جيوش حضرموت، فانتصرت عليها في موضع "ذت غيلم" "ذات غيل" "ذت غربم" "ذات غراب"، "ذت غ. رم"6. وبعد هذا النصر عيّن

_ 1 السطران السادس والسابع من النص. 2 السطران: 21 و22 من النص. 3 المصدر المذكور "ص57"، والسطر "25" من النص. 4 المصدر المذكور "ص60". 5 Beitrage, S. 113 6 Glaser 825, Berlin 2672, Cih, 334, Iv, I, Iv, P.377, Mahram, P.300.

"شعرم أوتر" أحد رجاله، ويدعى "سعدم أحرس بن غضبم" "سعد أحرس بن غضب" قائدًا حارسًا للحدود. وقد أغار "سعد" هذا بقوة مؤلفة من مائتي محارب من قبيلة "حملان" من المخلصين للملك على أرض "ردمان" فأنزلت بها أضرارًا فادحة، ووقعت معارك دموية هلك فيها خلق من الردمانيين. ووصل "شعرم أوتر" نفسه بجيوشه إلى موضع سقطت حروفه الأولى من اسمه وبقي حرفان منه، وهما " ... وت"؛ لذلك يرى "كلاسر" أنهما بقية اسم عاصمة حضرموت مدينة "شبوت" "شبوة"1، أو "موت" على رأي غيره2، ووصل "شعرم" إلى موضع آخر اسمه "صوارن" "صواران" "صوأرن" "صوارن"3. وقد عاد "سعد أحرس" بغنائم كثيرة من حروبه هذه وغزواته، شاكرًا الإله "تألب ريام بعل ترعت"، أن نصره وعافاه وشفاه من جروحه في غزوته المذكورة4. ويظهر أن "صوأرن" هي "صوران" التي ذكرها "الهمداني"، وتعرف اليوم بـ"العادية" وهي في حضرموت في "وادي الكسر"5. ويظهر من ذلك أن جيش "شعرم أوتر" قد وصل إلى قلب حضرموت. ويرى "كلاسر" أن "شعرم أوتر" كان قد استطاع أن ينتصر على بعض قبائل حمير فانضمت إليه، على حين كانت القبائل الحميرية الأخرى منحازة إلى خصمه "الشرح يحضب"، وأن هذا النزاع الذي أدى إلى نشوب الحرب بينه وبين ملك حضرموت كان بسبب تنافسهما في اقتسام تركة "قتبان". وقد تحارب "شعرم" عند "يريم"، حيث كان خصمه "الشرح يحضب" أو الحضرميون قد هاجموا هذه الجبهة، على حين قام قائده "سعد" بالهجوم على ردمان الذين أرادوا اكتساب الفرص بالمباغتة للحصول على غنائم، فهاجمهم "سعد" وكبدهم خسائر فادحة6.

_ 1 Abessi., S. 109, Glaser 424 2 CIH, IV, I, IV, P.377 3 CIH IV, I, Iv, P.377 4 Mordtmann, Himjarische, S. I, M. Hartmann, In Zeitschrift Fur Assyriologle, X, 1895, S. 152, Winckler, Die Sab. Inschr. Der Zelt Alhan Nahfan's, S. 17 5 Beitrage, S. 124 6 Abessin., S. 110, Beitrage, S. 113

ويظهر من دراسة النص المتقدم أن الملك "شعر أوتر" كان قد وجه جيشًا مؤلفًا من سبئيين ومن حميريين ومن قبائل أخرى إلى أرض حضرموت للقضاء على جيشها والاستيلاء عليها ولا سيما القسم الشرقي, إقليم "ظفار". واستطاع جيشه أن ينزل خسائر كبيرة بقوات "العز" المرتزقة وبجيشه النظامي الذي كان يحارب خارج حضرموت؛ بدليل ورود اسم موضع "ذت غيلم" في النص. وموضع "ذت غيلم"، أي "ذات غيل" الذي نشبت فيه معركة بين الجيشين، هو مكان في أرض قتبان، وفي "وادي بيحان". ثم عاد فأنزل بجيش حضرموت خسارة أخرى، وذلك حين أراد جيش "العز" مباغتة جيش "شعر أوتر" وهو في معسكره، ولكن يقظة صاحب النص الذي كان يحرس الملك وجيشه وهو على رأس قوة مؤلفة من مائتي محارب من حملان، أفسدت خطة الهجوم، واضطر جيش "العز" إلى التراجع، فتعقبه صاحب النص ومحاربوه، ولكنه فُوجئ بهجوم "الردمانيين" محاولين مباغتة الجيش من المؤخرة، فاشتبك معهم فأصيب بجرح في أثناء القتال، ولكنه تمكن مع ذلك من صد المهاجمين, ومن الرجوع سالمًا إلى منزله معافًى؛ ولذلك قدم إلى إلهه الحمد والشكر؛ لأنه عافاه ونجاه ونصره1. وقبل عودة صاحب النص إلى وطنه سالمًا، كان قد رافق ملكه في حملته على بقية الأرضين التابعة لحكم الملك "العز"، فذكر أنه رافقه في حملته على مدينتي " ... وت" و"صوارن"، وقد تمكن جيش الملك "شعر أوتر" من الانتصار على الحضارمة في هذين المكانين. وقد قرأ بعض الباحثين اسم المدينة الأولى "شبوت"، وقرأها بعض آخر "رسوت"، وزعموا أنها "ريسوت"، وهي مدينة معروفة في الجنوب الشرقي من حضرموت. وأما "صوأرن" "صواران" فهي على مسافة "115" كيلومترًا إلى الشرق من شبوة2. وقد تمكن جيش الملك "شعر أوتر" من الانتصار على جيش "العز" ومن الاستيلاء على العاصمة "شبوت" "شبوة". ونجد خبر هذا النصر في النصين الموسومين بـJamme 636 وJamme 637، وفي نصوص أخرى3. والنص

_ 1 Mahram, P.300. 2 Mahram, P.301. 3 A. Fakhry 75, 102.

الأول يحدثنا بأن صاحبه, وقد سقط اسمه منه بسبب تلف أصاب مقدمته، قد حمد ربه "المقه" وشكره؛ إذ مَنَّ عليه وأغدق نعمه عليه وهو في حضرموت مع جيش سيده وملكه "شعر أوتر" "ملك سبأ وذي ريدان"، الذي حارب حضرموت واستولى على "شبوة" التي لم تمتثل أوامر الملك وقاومته، ولأنه أي: ربه "المقه" نصر ملكه ووفقه في هذه الحرب فعاد سالمًا ظافرًا إلى المدينة "مأرب" بالأسلاب والغنائم من ماشية وأموال وأسرى، مما سرَّ الملك ورعيته، ولأنه من عليه فرزقه أولادًا ذكورًا1. وأما النص الثاني، وهو النص Jamme 637، فقد حمد صاحبه ربه "المقه" إذ وفقه ومن عليه فحصل على غنائم من مدينة "شبوة" التي قاومت الملك "شعر أوتر" فاكتسحها، فقدم لمعبده: "معبد أوَّام" تمثالًا تعبيرًا عن شكره له واعترافًا بمننه عليه2. فيظهر منه أن هذا الرجل، واسمه "ظبنم أثقف بن حلحلم"، كان نفسه في جملة من دخل مدينة شبوة من جيش "شعر أوتر"، فحصل على أسلاب وغنائم جعلته يحمد إلهه عليها ويشكره, ويقدم إليه ذلك التمثال تعبيرًا عن تقربه إليه. وعثر المنقبون على نص مهم آخر رقم بـJamme 632، يفيد أن جيش "شعر أوتر" استولى على "شبوة" وعلى مدينة "قنا" ميناء حضرموت الرئيسي في ذلك العهد، وأن صاحبي النص "حمعثت أرسف بن رابم" و"مهقبم بن وزعان"، وهما بدرجة "مقتوى"، أي: درجة قادة الجيش الكبار، في جيش "أسدم أسعد"3، الذي هو من بني "سأرن" "سأران" و"محيلم", كانا قد تقربا إلى الإله "المقه ثهوان" بأربعة تماثيل وثور، وضعوها في معبده المخصص لعبادته المسمى "معبد أوام"؛ تعبيرًا عن حمدهما وشكرهما له، إذ من عليهما وأسبغ عليهما نعمه، وأفاض عليهما الغنائم والأموال وأعاد سيدهما ورئيسهما "أسد أسعد" من بني "سأران" سالما غانما من كل المعارك التي خاضها في سبيل سيده الملك "شعر أوتر" "ملك سبأ وذي ريدان" يصحب

_ 1 Jamme 636, Mamb 245, Mahram P.139. 2 Jamme 637, Mamb 60, Mahram P.139. 3 "أسد أسعد".

الغنائم والأموال والماشية، ولأنه أغدق عليهما أيضًا الغنائم الوافرة التي سرت خاطرهما, وقد حصلا عليها في جملة ما حصلوا عليه من "شبوة" ومن مدينة "قنا"، وقد سألا الإله "المقه" أن يديم بركته عليهما وعلى سيدهما "أسد أسعد"، وأن يبعد عنهم شر الأعداء1. وفي النص الموسوم بـJamme 741 وبـJamme 756، أن شخصًا اسمه "هيثع بن كلب ذكرم" السبئي، وهو من عبيد "آل نعم برل" و"آل حبت" "آل حبة"، كان قد نذر نذرًا للإله "المقه ثهوان"، بأن يقدم له تمثالين بعضهما في معبده "أوام"، إذا مَنَّ عليه ووفقه وأعاده سالمًا من "شبوة" ومن البحر. فلما أجاب دعاءه فأعاده سالمًا معافًى، قدم النذر ووضعه في ذلك المعبد، وقد سأل ربه أن يديم نعمه عليه ويبارك فيه ويسعده2. ويظهر أن لهذا النص علاقة بالنصوص المتقدمة التي تتحدث عن غزو جيش "شعر أوتر" لحضرموت، وأن صاحبه كان في جملة من أسهموا فيها. ويظهر من جملة: "بن شبوت وبن بحرن"3، ومعناها "من شبوة ومن البحر", أن جيش الملك "شعر أوتر" كان قد هاجم الحضارمة من البر ومن البحر، وأن الذين استولوا على مدينة "قنا" كانوا قد هاجموها من البحر. ولم يذكر النص المكان الذي أبحر منه جيش "شعر أوتر" للاستيلاء على السواحل الجنوبية من حضرموت، ولا بد من أن يكون ذلك المكان من الأمكنة التابعة لحكم الملك "شعر أوتر" أو لحكام كانوا محالفين له وعلى صلات حسنة به. وللنص الموسوم بـGeukens I صلة بهذه الحرب وبانتقام جيش "شعر أوتر" من "بني ردمان" الذين أرادوا مباغتة جيشه من المؤخرة وتدميره. ويظهر منه أن القائد "أسدم أسعد" "أسد أسعد"، الذي كان معسكرًا مع الجيش في مدينة "القاع" ومعه قائد آخر هو "ربيبم أخطر" "ربيب أخطر"، خرجا من هذه المدينة مع جيش الملك "شعر أوتر" لمحاربة "قتبان" و"ردمان" و"مضحيم" و"أوسان"، وانضمت إليهما قوة من "بني بكيل"، قبيلة

_ 1 Jamme 632, Mamb 301, Mahram, P.134. 2 Jamme 741, Mamb 251, Mahram, P.216, Jamme 756, Mamb 297, Mahram, P.226. 3 راجع السطر السابع والثامن من النص, Jamme 741.

القائدين وبقيا مع الملك يحاربون معه حتى بلغ مدينة "قنا". ولما رجعا إلى وطنهما، رجعا بغنائم كثيرة وبأموال طائلة حتى وصلا إلى مدينة "حرمتم" "حرمت" "حرمة". ولما وصل "أسد أسعد" إلى موطنه، وجد أن الأحباش كانوا اغتنموا فرصة انشغال جيش "شعر أوتر" بمحاربة "العز" فأغاروا عليه وأصابوه بأضرار كبيرة. ويظهر أنهم أغاروا عليه وعلى أرضين أخرى كانت تابعة للملك "شعر أوتر"، في أثناء هجوم الردمانيين على مؤخرة جيش "شعر", ولعل ذلك كان باتفاق قد تم بينهم وبين بني ردمان. ومهما كان الأمر فإن تحرش الأحباش هذا بـ"شعر أوتر" دفعه إلى الانتقام منهم ومحاربتهم1. ونجد نبأ هذه الحروب في النص الموسوم بـJamme 631؛ إذ يخبرنا القائد "قطبان أوكان" "قطبن أوكن"، وهو من "بني جرت" أقيال عشيرة "سمهرم يهولد"، بأنه قدم إلى الإله "المقه ثهوان" تمثالين, وضعهما في معبده "معبد أوام"، حمدًا له وشكرًا؛ لأنه من عليه بنعمته، فمكنه من التنكيل بمن تجاسر وتطاول فأعلن الحرب على "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان، ولأنه أعانه فقتل من أعداء الملك عددًا كبيرًا، ولأنه أنعم عليه بأن أعانه في رد عادية المعتدين الذين أعلنوا حربا على الملك من البحر ومن الأرض "بن ذبحرم ويبسم"2، ومكنه من تكبيدهم خسائر كبيرة ومن أسر عدد كبير منهم ومن الاستيلاء على غنائم كبيرة منهم، ولأنه ساعده وأيده في مهمته التي كلفه سيده "شعر أوتر" إياها، وهي مهاجمة أرض الحبشة "أرض حبشت"3، و"جدرت" ملك "حبشت"، أي ملك الحبشة وأكسوم4، ولأنه أعاده سالما مع كل من اشترك معه في المعارك أو قام بالواجبات العسكرية التي عهد إليه أن يقوم بها ضد النجاشي "نجشين"5، ولأنه ساعده وأعانه "هعن" في كل المعارك التي وقعت بين مدينة "نعض" ومدينة "ظفار"، التي تقدم نحوها "بيجت" "ب ي ج ت" ولد النجاشي "نيجش" ومن كان معه

_ 1 Geukens I, G. Ryckmans. Inscriptions Sud-Arabes, In Le Museon, Xii, 1942 P.297-308, Mahram, P.301. 2 السطر السابع من النص. 3 السطران 12، 13 من النص. 4 السطر 13 من النص. 5 السطر 15 من النص.

من قوات جيشه، فنزل بها وتمكن منها، وعندئذ أعانه "المقه" ربه على الحبش بأن أوحى إليه بأن يباغتهم ليلًا، فباغتهم وانتزع "قتروعد" منهم، وهو جزء من مدينة "ظفار"، فذعر الحبش والتجئوا إلى حصن في وسط "ظفار" فتحصنوا فيه وأخذوا يقاومون منه. غير أنهم لم يتمكنوا من الاحتماء به طويلًا في مقاومة قوات سبأ؛ لأن الإله "المقه" عزز جيش "قطبان أوكان" بقوات "لعززم يهنف يهصدق" "ملك سبأ وذي ريدان" التي كانت قد وصلت إلى هذه الجبهة واتصلت بقواته. وعندئذ حاصرت الأحباش وقتلت منهم ونهكتهم، ثم اتفق القوم في اليوم الثالث من الحصار على أن يباغتوا الحبش ليلًا، فيهاجمهم قوم من ذمار وجماعة من الفرسان وعشائر من "بني ذي ريدان"، ويأخذوهم على غرة، وقد نجحت هذه الخطة وبُوغِتَ الحبش وقتل منهم أربعمائة جندي، قطعت رءوسهم، وفي اليوم الثالث أيضا ترك "قطبان أوكان" جبهة "ظفار" وتوجه ليعقب فلول الحبش إلى أرض المعارف "معفرم". فلما أدركهم قتل قومًا منهم واتصل بهم، فاتجه الباقون هاربين إلى معسكراتهم، وفي اليوم الثاني من هذا الالتحام تداعى الأحباش فتركوا منطقة ظفار، وذهبوا إلى المعاهر "معهرتن". وقد أنهى "قطبان أوكان" صاحب النص نصه بالتوسل إلى الإله "المقه ثهوان" أن يمد عمر سيده "لحيعثت يرخم" "ملك سبأ وذي ريدان" ويمنحه الصحة والقوة والمعرفة، وأن يقهر أعداءه وخصومه، وأن يبارك له ولأهله، ويمنحه ثمارًا وافرة وغلة كثيرة في موسمي الصيف والخريف, ويبارك في زرع أرضه وأرض عشيرته في الصيف وفي الشتاء1. ويتبين من هذا النص أنه ما كاد جيش "شعر أوتر" ينتصر على حضرموت وعلى الردمانيين حتى فُوجِئَ بالحبش يشنون حربا عليه ويتصدون له. فكلف الملك القائد "قطبان أوكان" أن يسير إلى من عصى وتمرد وخالف أوامر الحكومة للقضاء عليه، ثم يسير على رأس قوة إلى أرض الحبشة: يحارب بها "جدرت" ملك الأحباش والأكسوميين "عدى أرض حبشت بـ عبر جدرت ملك حبشت وأكسمن" فنفذ القائد أمره وأتم الخطط العسكرية التي وضعت له، ثم عاد مع

_ 1 Jamme 631, Mamb 213, Mahram, P.132, Le Museon, 1964, 3-4, P.475. Le Museon, 1964, 3-4, P.475

جنده سالمًا، ولم يشرح النص كيف بلغ القائد أرض الحبشة, وهل قصد بأرض الحبشةِ الحبشةَ المعروفة والسواحل الإفريقية المقابلة لبلاد العرب، أم قصد موضعًا آخر في العربية الجنوبية؟ ولكن الذي يقرأ النص ويدقق في جمله ويوفق بين معانيها، يخرج بنتيجة تجعله يرى أن المراد من جملة "على أرض الحبشة إلى جدرت ملك الحبش والأكسوميين"، أرض الحبش في إفريقيا؛ لأن الملك "جدرت" ملك الحبشة وأكسوم لم يكن يقيم في بلاد العرب، ولكن في إفريقيا، فأمر "شعر أوتر" قائده بالسير إلى أرض الحبشة إلى "جدرت"، معناه التوجه إلى إفريقيا لمحاربة النجاشي "جدرت", أما "الحبش" الذين كانوا في بلاد العرب، فقد كانوا تحت حكم "بيجت ولد النجاشي"، فلا يمكن أن تكون الأرض المحتلة هي المقصودة. والظاهر أن القائد المذكور ركب البحر مع جنوده من "الحديدة"، وتوجه منها إلى السواحل الإفريقية فنزل بها، وباغت أهلها بغزو من وجده أمامه، ثم جمع كل ما ظفر به من أموال ومن أناس أسرهم وعاد بهم وبالأموال مسرعًا إلى بلاده، فاشترك في بقية المعارك التي ذكرها في نصه، وفي جملتها محاربة الحبش الذين تحت إمرة "بيجت". و"معاهر" على ما يظهر حصن "وعلان" في "ردمان", وقد استدل "فون وزمن" من عدم تدوين اسم الملك "شعر أوتر" في نهاية النص ومن ذكر اسم الملك "لحى عثت يرخم" "ملك سبأ وذي ريدان" فيه؛ تقربًا إليه وتيمنًا به, على وفاة "شعر أوتر"، وتحكم الملك "لحيعثت" عند تدوين هذه الكتابة1. وقد انتهت المعارك التي جرت مع الحبش النازلين في السواحل الجنوبية من جزيرة العرب بطردهم عن "ظفار" المدينة التي احتلوها، وصاروا يهاجمون منها جيش "شعر أوتر"، وطردوا من كل أرض "معافر"، ولكنهم ذهبوا إلى "معاهر" "معهرتن" حيث بقوا هناك. ويظهر أن الأحباش ومن انضم إليهم من قبائل باغتوا حكومة "شعر أوتر" بالهجوم عليها من البحر والبر "بن ذبحرم ويبسم", وامتدت رقعة الهجوم من مدينة "نعض" إلى مدينة "ظفار". ويظهر أن "بيجت ولد النجاشي" كان

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.475

قد تلقى أمدادًا من إفريقيا، فصار يهاجم بها السواحل، ويعبئ بها سفنه لمهاجمة الأماكن البعيدة عن منطقة احتلاله. ولم يتحدث النص عن مصيره بعد هزيمة جيشه من ظفار ومن أرض "معافر". والظاهر أنه بقي في أرض "المعاهر" "معهرت" "معهرة"، وأن السبئيين لم يزيحوا الحبش عنها، فبقوا معسكرين ومتحصنين في هذه الأرض وفي الحصن. ولدينا نص وُسِمَ بـJamme 633 يفيد أن صاحبه واسمه "أبكرب أحرس" "أبو كرب أحرس"، وهو من بني "عبلم" و"يحمذيل" "يحمد آل" "يحمد إيل" كان قد تولى أمر الحميريين المستقرين الذين صاروا بين جيشين وأنه قام بواجبه، غير أنه أصيب بمرض صار يعادوه، وأنه لما عاد من "لحج" قدم تمثالًا إلى الإله "المقه ثهوان" وضعه في معبده: "معبد أوام"؛ وذلك ليحفظه من كل سوء، لأنه ساعده على تحمل مرضه، وأعاده إلى دياره من "لحج"، وقد قدم نذره هذا في شهر "دنم" من سنة "أبكرب بن معد كرب" "أبي كرب بن معد يكرب بن فضحسم"1. وليس في هذا النص شيء عن هوية الجيشين، ويرى بعض الباحثين أن المراد بذلك أن الحميريين المذكورين كانوا في ذلك العهد قد صاروا بين فرقتين من فرق الجيش، جيش "شهر أوتر": فرقة مؤلفة من محاربين سبئيين، وفرقة مؤلفة من محاربين حميريين، وأن الحكومة عينت صاحب النص على الأهلين الحميريين الذين صاروا بين الجيشين، ليضمن تعاونهم وتآزرهم مع الجيشين، وييسر لهم الطعام والماء2. ولم يشر النص إلى قتال أو حرب يومئذ، ولكن يظهر أن وجود الفرقتين هناك كان بسبب وجود حالة غير طبيعية، ولعلها حالة الحرب التي أتحدث عنها. ويحدثنا القائد المتقدم، أي "أبكرب أحرس", في نص آخر له يتألف من "46" سطرًا، وسمه الباحثون بـJamme 635 وهو من النصوص التي دونها وسجلها "جامه" Jamme أحد أعضاء البعثة الأمريكية لدراسة الإنسان3، بأنباء معارك واضطرابات وانتفاضات قام بها القبائل ضد سيدها الملك "شعر أوتر" في الجنوب وفي الشمال، في البحر وفي البر "يبسم"، اشترك فيها هذا القائد،

_ 1 Jamme 633, Mamb 271, Mahram, P.135, Le Museon, 1967, 1-2, P.282 2 Mahram, P.303 3 The American Foundation For The Study Of Man

وقد حمد الإله "المقه" بعد عودته منها كلها سالمًا معافًى؛ لأنه هو الذي حرسه وحماه وحفظه, واعترافًا بنعمه هذه عليه، قدم إليه تمثالًا وضعه في معبده المخصص بعبادته المسمى "معبد أوَّام". وقد توسل إلى إلهه "المقه" بأن يديم نعمه عليه وعلى ملكه "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان، وأن يبعد عنه كل أذًى وشر، وأن يهلك أعداءه وحساده1. وذكر القائد بعد هذه المقدمة أن في جملة الحروب والمعارك التي خاضها في سبيل سيده الملك، حروبًا خاضها مع "أشعرن" "أشعران" و"بحرم" ومن انضم إليهما من ناس، وحروبًا خاضها في منطقة خلف مدينة "نجران" "نجرن"؛ لمحاربة مقاتلي الحبش "حبشن" ومن كان يؤازرهم ويساعدهم2. ويظهر من هذا النص أن نجران كانت في أيدي الحبش في هذا الزمن. وكانت منازل "الأشاعرة" "الأشاعر" "الأشعر" "الأشعريون" في القديم منتشرة على الساحل الغربي من "جيزان" إلى "باب المندب"3. أما في أيام "الهمداني"؛ فقد كانت في أرض "معافر" المعافريين4. وأما "بحرم" "بحر"، فقد كانت عشيرة من عشائر "ربيعة" "ربيعت" "ربعت"5. ويظهر من دراسة هذا النص أن الملك "شعر أوتر" كان قد هاجم أولًا أرض "أشعرن" "أشعران"، ثم هاجم "بحرم"، وكان القائد صاحب النص يحارب معه. وبعد أن انتهى من قتالهما انتقل بجيشه للقتال في منطقة "نجران" حيث كان الحبش قد تجمعوا فيها، فقاتلهم وقاتل من كان معهم. ثم نقل القتال إلى الغرب إلى "قريتم" "قرية" وهي "لبني كاهل" "كهل"، "قريتم ذت كهلم". فتحارب جيش "شعر أوتر" مع سيد المدينة "بعل هجرن"، أي: مع صاحب مدينة "قرية"، وتغلب عليه، وحصل على غنائم

_ 1 Jamme 635, Mamb 270, Mahram, Pp.136 2 السطران: "23" و"24" من النص. 3 Sprenger, Die Alte Geographie Arabiens, S. 63 4 D. H. Muller, Al-Hamdani's Geographie Der Arabischen 5 Halbinsel, I, S. 53, Mahram, P.303

كثيرة منها. ثم حارب "ربيعة" ثور ملك "كدت" "كدة" كندة وقحطان "بعلى ربعت ذ الثورم ملك كدت وقحطن"1. ويظهر من هذا النص أن "ربيعة" "ربعت" كانت من القبائل المعروفة يومئذ، وكانت تابعة لحكم "ثور"، "ملك كندة وقحطان". وقد انتصر على جميع من حاربهم من أهل "قربتم" ومن أتباع الملك "ربيعة" ملك كندة وقحطان، واستولى على غنائم كثيرة، في جملتها خيول وأموال طائلة، كما أخذ عددًا من الأسرى. وقد كلف الملك "شعر أوتر"، صاحب النص بعد المعارك المذكورة أن يتولى قيادة بعض "خولان حضلم" "خولان حضل"، وبعض أهل نجران وبعض الأعراب؛ لحرب المنشقين من بني "يونم" "يوان" ومن أهل "قريتم" وقد حاربهم "أبكرب أحرس" "أبو كرب أحرس" عند حدود "بكنف أرض الأسد مجزت مونهن ذ ثمل" أرض "الأسد مجزت مونهان" الذي هو صاحب "ثمل" "ثمال"2. ثم عاد مع جيشه كله سالمًا غير مصابين بأذًى. ويظن أن المراد من "بني يونم"، "بني يوان" الياوانيون، أي: من "يونم" "يوان" وهم قوم من اليونان، استوطنوا في جزيرة العرب, وقد ورد اسمهم في النص3: Glaser 967. ويظهر أنهم كانوا يحالفون "قريتم" في هذا العهد وقد جاءوهم ليساعدوهم على الملك "شعر أوتر". وأما "الأسد مجزت مونهن"، فاسم علم على شخص، يظهر أنه كان يحكم أرض "ثمل" "ثمال". ويظهر أنه لم يكن يلقب نفسه بـ"ملك"، بدليل عدم ورود هذا اللقب بعد اسمه في النص. وقد كان كذلك من المخالفين لـ"شعر أوتر" ومن المعارضين له4. ويظهر من تكليف الملك قائده أبا كرب أحرس "أبكرب أحرس" أن

_ 1 السطران: "26" و"27" من النص، Le Museon, 1964, 3-4, P.473 2 السطر 36 فما بعده من النص، Mahram, P.137, 304 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.473, Mahram, P.138, K. Mlaker, Die Hierodulen-Listen, S. 35, Jamme, South-Arabian Inscriptions, Princeton, 1955, P.508 4 Mahram, P.137

يتولى بنفسه قيادة هذه القوى، أن الملك قد وجد فيه حنكة عسكرية وجدارة جعلته يثق به؛ فكافأه بتسليمه قيادتها إليه1. ويظهر أن غنائم السبئيين من "قريتم" "قرية"، كانت كثيرة جدًّا، إذ نجد إشارة في نصين آخرين. ففي أحدهما شكر وحمد لـ"المقه"؛ لأنه من على عبده "شحرم" "شحر" من "بني حذوت" "حذوة" و"رجلم" "رجل"، وأعطاه غنائم كثيرة من غنائم تلك المدينة، جعلته سعيدًا2, وفي النص الثاني شكر لهذا الإله كذلك، دونه "قشن أشوع" وابنه "أبكرب" "أبو كرب" وهما من "صعقن" "صعقان"؛ لأنه من عليهما فأغناهما بما غنموا من "قريتم" قرية، إذ كانا يساعدان سيدهما "شعر أوتر"؛ ولذلك قدما إليه نذرًا: تمثالًا؛ تعبيرًا عن حمدهما له، وليمن عليهما وعلى سيديهما: "شعر أوتر" وأخيه "حيو عثتر يضع" "ملكي سبأ وذي ريدان"3. ولدينا نص وسم بـJamme 640 يتحدث عن مساعدة "شعر أوتر" "العزَّ" ملك حضرموت في القضاء على تمرد قبائل حضرموت وثورتهم عليه, ولم يذكر النص أسباب ذلك التمرد. والظاهر أنها تمردت على ملكها، لأنه تعاون مع "شعر أوتر" الذي فتح حضرموت وأخذ جيشه منها غنائم كثيرة، وأنزل بالحضارمة خسائر فادحة؛ فغضبوا عليه لتعاونه مع ملك سبأ4. وقد جاء في هذا النص اسم مدينة دُعِيَتْ "هجرن أسورن"، أي مدينة أسورن "أسوران"، ويظن أنها مدينة "أوسرة" Ausra، التي ذكرها بعض الكتبة اليونان، وهي موضع "غيظت" "غيظة" التي تقع على مسافة "220" كيلومترًا جنوب غربي "ريسوت"5. وقد ورد اسم "حيو عثتر يضع" في هذا النص، وهو شقيق الملك "شعر أوتر"، غير أنه لم يضع بعده لقب "ملك سبأ وذي ريدان"6.

_ 1 Mahram, P.304 2 Jamme 634, Mamb 273, Mahram, P.136 3 Jamme 631, Mamb 49, 205, Mahram, P.140, 141, Le Museon, 1967, 1-2, P.283 4 Jamme 640, Mamb 250, Mahram, P.140, 304 5 Mahram, P.304 6 Mahram, P.140, 304

ولدينا نص آخر دونه رجل اسمه "ربيعت" "ربيعة"، ذكر فيه أنه قدم تمثالًا إلى الإله "المقه"؛ لأنه أعاده سالمًا معافًى من كل المعارك التي اشترك فيها والحرب التي شنها، وقد سأل إلهه أن يحفظه وأن يمنَّ عليه وعلى سيديه "شعر أوتر" و"حيو عثتر يضع"1. ولم يذكر النص شيئًا عن تلك المعارك وعن المواضع التي دارت فيها رحاها. ويعد النص: CIH 398 من النصوص المهمة التي تتحدث عن تأريخ سبأ، إذ تحدث عن "شعر أوتر"، على أنه "ملك سبأ وذي ريدان"، ثم تحدث في الوقت نفسه عن "الشرح يحضب" وعن أخيه "يأزل بين"، وقد لقبهما بـ"ملكي سبأ وذي ريدان". ومعنى هذا أن حكم سبأ وذي ريدان كان لـ"شعر أوتر" وللأخوين: "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين"، وهما من أسرة همدانية أخرى سأتحدث عنها في موضع آخر, وقد توسل صاحب النص إلى آلهته بأن تمن عليهما بالصحة والعافية والنصر2. وقد أثار هذا النص جدلًا بين علماء العربيات الجنوبية في معاصرة "علهان نهفان" لـ"فرعم ينهب"، وفي حكم "شعر أوتر" و"الشرح يحضب" وشقيقه، وتلقب كل واحد منهم بلقب "ملك سبأ وذي ريدان" فذهبوا في ذلك مذاهب؛ إذ ليس من المعقول أن يكون مقر حكم "شعر أوتر" و"الشرح يحضب" وأخيه في "مأرب"، ويكون حكمهم حكمًا مشتركًا. فبين أسرة "شعر أوتر" وأسرة "الشرح" تنافس قديم، لا يمكن أن يسمح بحكم هؤلاء الثلاثة من مدينة مأرب، وبحملهم لقبًا واحدًا عن رضًا واتفاق. وذهب بعضهم إلى أن هذا النص لا يشير إلى حكم الأخوين، في أيام حكم "شعر أوتر"، وإنما يشير إلى أنهما حكما بعده، وإذن فلا غرابة في القضية؛ إذ لم يكن الحكم مشتركًا وفي زمن واحد. وذهب بعض آخر إلى أن حكم "الشرح" وشقيقه كان مستقلًّا عن حكم "شعر أوتر"، وأن الأخوين لم يكونا مرتبطين بـ"شعر أوتر" بأي رباط، وإنما كانا يعدان أنفسهما الملكين الشرعيين،

_ 1 Rep. Epig. 4842, Le Museon, Li, 1938, P.133, 135, Mahram, P.304, Le Museon, 1967, 1-2, P.283 2 Glaser 891, Abessi., S. 83, Cih 398, Iv, Ii, I, P.58, Die Arabische Frage, S. 148, Background, P.95

وأن الحكم إنما انتقل إليهما من أبيهما "فرعم ينهب". وذهب آخرون إلى أن "فرعم ينهب" كان قد وضع أساس الحكم والملك في منطقة تقع غرب "مأرب", وأن "الشرح يحضب" و"يأزل بين" خلفاه على ملكه، واهتبلا الفرص للاستيلاء على عرش سبأ، حتى إذا سنحت لهما، لقبا أنفسهما بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، وذلك بعد اختفاء ذكر "شعر أوتر" وأخيه "حيو عثتر يضع"، وصارا بذلك ملكي سبأ وذي ريدان، وإنما كان حكمهما على جزء من تلك المملكة1. وقد جاء اسم "شعر أوتر" مع لقبه "ملك سبأ وذي ريدان" في النص الموسوم بـJamme 638، وقد سقطت الأسطر الأولى منه فلم يعرف مدونه وصاحبه. وقد ذكر فيه اسم والد الملك، وهو "علهان"، وقد لقب فيه بلقب "ملك سبأ" فقط2. وقد ثبت الآن من نصوص عثر عليها من عهد غير بعيد أن "حيو عثتر يضع" كان شقيقًا لـ"شعر أوتر"، وأنه كان قد شارك شقيقه في التلقب بـ"ملك سبأ وذي ريدان"3. ويظهر أن ذلك كان بعد مدة حكم فيها "شعر أوتر" حكمًا منفردًا، أي من غير مشاركة أخيه له في اللقب، بدليل ورود اسمه في النص Jamme 640 بعد اسم أخيه، ولكن من غير تدوين أي لقب له. وذكر في هذا النص اسم "عبد عثتر بن موقس"، وهو من سادات "خولان"، وقد هاجمته جيوش "شعرم أوتر" وهزمته، وكبدته خسائر، وكان قد هدم وخرب معبدًا لعبادة "المقه" في موضع "أوعلن" "أوعلان" "محرم بعل أوعلن"، فعد صاحب النص هذه الهزيمة عقابًا وجزاءً من الإله "المقه" أنزله عليه لفعلته هذه بمعبده. فيظهر من هذا النص أن "شعرم أوتر" كان قد أغار على الخولانيين أو على القسم الذي يترأسه "عبد عثتر" منهم، وأصابهم بضرر فادح، ففرح بذلك صاحب النص؛ لتطاول "عبد عثتر" على

_ 1 Abessi, S. 83, Rhodokanakis, Altsudarabische Inschr. S. 468, J. Ryckmans, L'institution Monarchique, P.297, Mahram, Pp.305, A. F. L. Beeston, Problems Of Sabaean Chronology, P.53 2 Jamme 638, Mamb 128, Mahram, P.139 3 Cih 408, Jamme 641, Rep. Epig. 4842, Le Museon, 1967, 1-2, P.283

معبد "المقه" إله السبئيين واستخفافه به. ولم يذكر صاحب النص السبب الذي حمل "شعرم أوتر" على مهاجمة سيد خولان، إذ عزاه إلى انتقام الإله "المقه" منه، فكأن هذا الإله هو الذي سلط "شعرم أوتر" عليه؛ لينتقم منه جزاء فعلته المنكرة بمعبده، ولعل "عبد عثتر" كان قد تجاسر على "شعرم أوتر" فهاجم أرضه، أو أنه خاصمه وعارضه أو عصى أمرًا له، فهاجمه "شعرم أوتر" وانتقم منه. واختتم صاحب النص المذكور نصه بتقديم حمده وشكره لإلهه، إذ مَنَّ عليه فمكنه من الدفاع عن تربة بلاده، وأغدق عليه نعماءه فمنحه غلة وافرة وثمارًا كثيرة. وذلك في أيام سيديه الملكين، وفي عهد "القول" القيل "رثد أوم بزد بن حبب"1، وفي أيام "بني عنن" "بني عنان" وشع "صرواح"، ثم ذكر أسماء الآلهة2. ويظهر من النص أن صاحبه كان ممن اشتركوا في الحروب، ولعله كان من قادة الجيش فيها، أو من سادات القبائل الذين أسهموا مع قبيلتهم فيها. وكان في جانب "الشرح"، وأخيه "يأزل" وقد يكون ذكر "شعر أوتر" وذكر لقبه معه على سبيل الحكاية، لا الاعتراف بكونه ملكًا على سبأ وذي ريدان. وسجل رجل من أتباع الملك "شعرم أوتر" أنه قدم إلى الإله "عزى" حصانًا وصورة من الذهب؛ لأنه أنقذ حياته، ونجاه في الحروب التي خاضها فيها مع سيده الملك، ولكي يمن الإله عليه، ويبارك فيه وفي سيده الملك3. ويتبين من ذلك أن صاحب هذا النص كان من المحاربين الذين قاتلوا في صفوف "شعرم أوتر". وذُكِرَ "شعرم أوتر" في كتابة دونها قوم من "بني تزأد"، وقد حمدوا فيها الإله "المقه ثهون بعل رثون"4 ومجدوه، وقدموا نذرًا إليه. ثم ذكروا

_ 1 قد يقرأ الاسم على هذه الصورة: "رثد أوم يزيد بن حبيب"، "رثد أوام يزد بن حباب"، وما شاكل ذلك من قراءات. 2 Cih 398, Iv, Ii, I, P.58, Halevy. Revue Semitique, Iv, 1896, P.79, Winckler, Die Sab. Inschri., Der Zelt Alhan Nahfan's S. 347 3 Rep. Epig. 4194, Vii, I, P.105, Va 5313 4 "المقه ثهوان إله رثون" "المقه ثهوان إله رثوان".

"شعرم أوتر, وحيو عثتر يطع "يضع" ملكي سبأ وذي ريدان"1، وهي جملة يفهم منها أن "حيو عثتر يطع" "حيو عثتر يضع" "حيو عثتر يثع"2 كان ملكًا أيضًا، وكان يلقب أيضا بـ"ملك سبأ وذي ريدان". ويرى "هومل" أن "حيو عثتر" هذا كان أحد أولاد "يرم أيمن بن علهان نهفان"، فهو ابن أخي "شعرم أوتر" وكان له شقيق سقط الشق الأول من اسمه، وبقي الشق الثاني منه، وهو "أوتر". ويرى أن من المحتمل أن يكون الاسم الكامل "شعرم أوتر"، أي مثل اسم عمه3. وجعل "موردتمن" و"ميتوخ"، "حيو عثتر"، ابنًا من أبناء "شعرم أوتر"، فوضعاه بعده في الحكم4. وقد شارك أباه الحكم في حياته، فلقب على العادة الجارية بـ"ملك سبأ وذي ريدان". وأما اسم "شعرم أوتر"، الذي سقط القسم الأول منه، وهو "شعرم" من الكتابة، فإنه اسم الأب لا الشخص الذي ذهب "هومل" إليه5. وورد اسم "شعرم أوتر" وبعده اسم "حيو عثتر يضع" في كتابة أخرى6 يدعى صاحبها "ربيعت" "ربيعة"، وقد قدم إلى الإله "المقه" تمثالًا من الذهب؛ لأنه أعاده سالمًا من غزوة غزاها، ومن حرب حضرها في سبيل "شعرم أوتر"، وتضرع إلى "المقه" أن يديم نعمه عليه، ويمد في عمره، ويبارك فيه وفي سيديه "شعر أوتر, وحيو عثتر يضع"7. ولما كان صاحب هذه الكتابة من السبئيين، وكنا قد وجدنا كتابات أخرى حمدت وذكرت "شعرم أوتر" بخير، وكان أصحابها من السبئيين كذلك8،

_ 1 Burchardt 6, Cih 408, Iv, Ii, I, P.82, Hartmann, In Orletallstische Litteratur Zeltung, X, 1909, C. 605-607 2 Sab. Inschr., S. 218. Le Museon, Lxiv, 1-2, 1951, P.134 3 Handbuch, I, S. 90 4 Sab. Inschr., S. 218. Le Museon, Lxiv, 1-2, 1951, P.134 5 المصدر نفسه. 6 Rep. Epig. 4842, Vii, Iii, P.387, Le Museon Li, 1938, P.133, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.70, 80 7 السطران العاشر والحادي عشر من النص. 8 Rep. Epig. 4125, 4155, Vii, I, P.108, 109

فإننا نستنتج من ذلك كله أن قسمًا من السبئيين كانوا منحازين إلى هذا الملك، وأنهم كانوا يعترفون به ملكًا على سبأ وذي ريدان, وأن "الشرح يحضب" لم يكن يحكم كل سبأ والقبائل التابعة للسبئيين. وذكر اسم "شعرم أوتر" في نصين آخرين قصيرين، هما بقايا نصين. ورد في أحدهما اسم "ظفار"1، وقد أهمل فيه لقبه, أما النص الثاني فقد دون عند بناء بيت، وقد لقب فيه بـ"ملك سبأ وذي ريدان"2. ويظهر أن "شعر أوتر" قد تمكن من بسط سلطانه على أكثر حكومات العربية الجنوبية وعلى قبائلها، ما خلا المناطق التي كانت في أيدي الحبش، وهي الأرضون الغربية من اليمن والواقعة على ساحل البحر الأحمر3. لقد جعل "جامه" حكم "شعر أوتر" فيما بين السنة "65" والسنة "55" قبل الميلاد، وجعل نهاية حكم شقيقه "حيو عثتر يضع" في السنة "50" قبل الميلاد، وهي سنة انتقال الملك من أسرة "يرم أيمن" إلى أسرة "فرعم ينهب" التي بدأت حكمها في أرض تقع حوالي "صنعاء", ثم وسعت حكمها حتى شمل مملكة سبأ وذي ريدان كلها4. هذا، وأود أن أشير هنا إلى أن النص: Jamme 631 المكتوب في أيام الملك "شعر أوتر" والذي تحدثت قبل قليل عنه، قد ورد فيه اسم ملك هو "لعززم يهنف يهصدق"، وملك آخر اسمه "لحيعثت يرخم", وقد لقب كل واحد منهما بـ"ملك سبأ وذي ريدان". ومعنى هذا وجود ملكين آخرين كانا يحكمان في أيام "شعر أوتر", كل منهما يلقب بلقب "ملك سبأ وذي ريدان". وإذا أضفنا إليهما وإلى الملك "شعر أوتر" الشقيقين "الشرح يحضب" و"يأزل بين"، وقد كانا يلقبان بهذا اللقب أيضًا، نجد أمامنا خمسة ملوك يلقبون بلقب واحد. ويرى بعض الباحثين أن الملك "لعززم يهصدق" كان ملك أرض "ظفار" وما جاورها، وهو الذي هاجمه الحبش وانتصروا عليه,

_ 1 نشر "ص61، 62، 63". 2 نشر "ص64 وما بعدها". 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.475 4 MAHRAM, PP.390

وكان يحكم هذه الأرضين حكمًا مستقلًّا, فلما هاجمه الحبش أسرع الملك "شعر أوتر" لنجدته على نحو ما ورد في النص1. وأما الملك "لحيعثت يرخم"، فقد ورد اسمه في نص وسمه العلماء بـREP. EPIG. 2633، ولسنا نعرف من أمره اليوم شيئًا يذكر2. ويظن أنه من ملوك المقاطعات، أي: الملوك الصغار المحليين، وقد كان حكمه يتناول الأرضين الواقعة شمال أرض ظفار3. يتبين لنا مما تقدم أن ملوك سبأ لم يكونوا ينفردون وحدهم بالحكم دائمًا، وإنما يظهر بين الحين والحين ملوك ينازعونهم الملك واللقب، يبقون أمدًا مستقلين, وقد يتغلبون على الملوك الشرعيين الأصليين ويسلبونهم الملك، كالذي فعله "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين"، إذ كانا ملكين يحكمان أرض "صرواح" ثم بسطا سلطانهما على أرضين أخرى ثم انتزعا العرش نهائيا، وصارا الملكين على مملكة "سبأ وذي ريدان"4. لقد انتهيت من الكلام على أسرة "أوسلة رفشان"، وهي من عشيرة "بتع" من قبيلة "حاشد" أحد فرعي "هَمْدان"، وقد وجب الكلام الآن على أسرة همدانية أخرى ظهرت في هذا الزمن أو قبل ذلك بقليل، وانتزعت الملك من السبئيين وأخذته لها، وهذه الأسرة هي أسرة "نصرم يهأمن" التي سبق أن تحدثت عنها في أثناء كلامي على "ملوك سبأ". فقد كان "نصرم يهأمن" من قبيلة همدان أيضا، فنحن إذن في عصر سبئي، إلا أن الحكم فيه لم يكن في أيدي ملوك سبئيين، ولكن كان في أيدي ملوك من همدان. أسرة "يرم أيمن": 1- أوسلت رفشان "أوسلت رفشن".

_ 1 Mahram, P.306 2 Mahram, P.134 3 Mahram, P.306 4 Cih 398, Mahram, P.306

2- يريم أيمن "يرم أيمن". 3- علهان نهفان "علهن نهفن". 4- شعر أوتر "شعرم أوتر". 5- حيو عثتر يضع.

الفصل السادس والعشرون: أسر وقبائل

الفصل السادس والعشرون: أسر وقبائل مدخل ... الفصل السادس والعشرون: أسر وقبائل تحدثت عن ملوك سبأ، وعليَّ الآن أن أتحدث عن الأسر وعن القبائل التي كانت لها أعمال بارزة ملحوظة في هذا العهد؛ إذ كانت من القوى الموجهة، ولتوجيهها أثر مهم في سياسة زمانها. وأول من يجب أن أبدأ بهم، "فيشن" "فيشان"؛ فمنهم كان مكربو سبأ، ومنهم كان الملوك. ولا بد أن يكون الفيشانيون من القبائل القوية الكثيرة العدد، وإلا لم تخضع لها القبائل الأخرى ولم تسلم لها بالقيادة والسيادة. وكانت "صرواح" عاصمة المكربين، من أهم مواطن الفيشانيين. وقد ورد في الكتابة الموسومة بـGlaser 926 أنهم كانوا أصحاب "عهرو"1، أي: نادٍ يشبه "المزود"، أو "دار ندوة" قريش2، يجتمع فيه ساداتهم للتشاور في الأمور، وللتحدث عما يحدث لهم. وقد أضاف المكرب والملك "كرب إيل وتر" إلى أسرته وإلى قبيلته "فيشن" "فيشان" أملاكًا واسعة كما ذكر ذلك هو نفسه في كتابته: "كتابة صرواح". وقد أخذ تلك الأملاك من القبائل التي عارضته وحاربته، فتوسعت رقعة منازلها بفضل هذه الأملاك.

_ 1 Ktb., II, S. 49. 2 المصدر نفسه "ص50".

وجاءت في بعض النصوص، جملة هي: "سبأ وفيشان"1، فعطفت "فيشان" على سبأ، مما يدل على أن "فيشان" لم تكن في عداد سبأ في نظر القوم إذ ذاك. وقد جاء في النص: Jamme 558 أن: "يدع إيل" وهو ابن "كرب إيل بين" "ملك سبأ" وكذلك "الشرح", وهو ابن "سمه على ذرح"، كانا من عشيرة "شعبهمو" "شعب" "فيشن"، أي: "فيشان"2. ففيشان إذن من الأسر القديمة المعروفة في اليمن، ومنها كان أقدم حكام سبأ3. وقد ولدت قبيلة أخرى عددًا من الملوك، جلسوا على عرش سبأ وحكموا السبئيين وغيره, وهذه القبيلة هي قبيلة "مرثد" وهي من "بكل" "بكيل". وكانت تتعبد للإله "المقه" إله السبئيين الأول, وقد أقامت له معابد عديدة, منها معبده المسمى بـ"المقه ذهرن"، أي: معبد "المقه" في "ذي هرن" "ذي هران"4, و"هران" من المواضع التي ذكرها "الهمداني"5. ومن ملوك سبأ الذين تبوءوا العرش، وهم من "مرثد", الملك "أنمار يهأمن بن وهب إيل" الذي سبق أن تحدثت عنه، وأكثر الكتابات التي ترجع إلى عهده، عثر عليها في مدينة "حاز" في جنوب "عمران"6. ومن ملوك سبأ الذين أصلهم إلى "مرثد"، الملك "الشرح يحضب" وأبناؤه, وقد دون اسم "الشرح" في جملة كتابات عثر عليها في "شبام سخيم". وكانت لمرثد أرضون غنية واسعة في الجزء الغربي من "بلد همدان"، وهي جزء من أرض "بكل" "بَكِيل"7، تستغلها قبائل "بكيل" وبطونها لقاء جُعْل تدفعه لسادات القبائل والملوك، يتفق على مقداره، ويقال لعقد هذه الاتفاقيات: "وتف" "وتفن". وتشرف معابد "المقه" على أوقاف واسعة

_ 1 Handbuch., I, S. 129 2 الفقرة السابعة من النص: Jamme 558, Mamb 201, Mahram, PP.24 3 A. F. L. Beeston, Sculptures And Inscription From Shabwa, In Jras, 1954, Pp.52, Mahram, P.27, Smith, In Vetus Testamentum, Ii, 1952, P.287 4 Cih Iv, I, Ii, P.Iii, Handbuch, L, S. 88 5 الصفة "2/ 117"، الإكليل "8/ 117" "طبعة نبيه". 6 حاز، الإكليل "2/ 385، 456"، Handbuch, I, S. 886 7 KTB., II, S. 71

لها، تؤجرها أحيانا لسادات القبائل بمبالغ يتفق عليها الطرفان. وقد وصلت إلينا جملة عقود "وتف" عقدت بين كُهَّان معابد "المقه" وسادات "مرثد"، منها الاتفاقية المعروفة1 بـGlaser 131. وقد تعهدت "مرثد" فيها لمعبد "المقه بعل أوم" بالوفاء له بما اتفق عليه، تدفعه له في وقته في كل سنة، كما تعاقدت عليه في الشروط المدونة في "الوتف"، على أن يهبها الإله "المقه" غلة وافرة ومحصولًا جيدًا. ويظهر أنها لم تفِ للمعبد بما اتفق عليه، ولم تسلم له حصته كما ينبغي، وصادف جدب أنزل أضرارًا بمرثد، ففسر الكهان ذلك بغضب إلهي أرسله "المقه" على "مرثد" لعدم وفائهم بالعهد، فارتأى سادتهم أن يكفروا عما بدر منهم، والوفاء في الموسم المقبل، فجددوا العهد، وكتبوه مجددًا تأكيدًا على أنفسهم أمام الإله "المقه" الذي وافق على ذلك ورضي به2. ويعني ذلك بالطبع رضاء الكهان وموافقتهم على تجديد العقد. وتحكمت "مرثد"، بما لها من سلطان واتساع أرضين، في عشائر أخرى دانت لها بحق "الجوار"، وعدت سادة "مرثد" سادتها كذلك. وقد اختارت كل عشيرة منها من شاءت من سادة مرثد، فكان ممن ساد منهم عشيرة "عرن" "عران" سيد من "مرثد" اسمه "ريبم" أي "ريب". وقد ورد اسمه في نص كتبه في سنة "خرف" "خريف" "عم كرب بن سمه كرب بن حزفرم" وذلك حمدًا وثناء على الإله "المقه" رب معبد "ذ هرن" "ذي هران"3؛ لمننه ونعمائه، وتعبيرًا عن حمده وشكره، قدم له نذرًا أهداه إلى ذلك المعبد4. وكان "بنو أرفط" "بن أرفط" من القبائل التي دانت بسيادة "بني مرثد" عليهم، كما يتبين من كتاباتهم. فقد عبروا عنهم بـ"أمرائهم بني مرثد"5، وعبروا عن سيادة "بني مرثد" عليهم بجملة "آدم بن مرثدم"، أي: "خول

_ 1 Glaser 131, Cih 99, Studi. Lexi., Ii, S. 157 2 Bodenwirtschaft, S. 23 3 "المقه ذهرن" المقه ذو هران". 4 Cih 73, Iv, I, Ii, P.108, E. Osiander, Zur Himjarischen Alterthumskunde, In Zdmg., Xix, S. 161, Bm 4, Osi 5 Cih 75, Br. Mus. 7, Os 9, Cih, Iv, I, Ii, P.114

بني مرثد"1، وفي هذا التعبير دلالة واضحة على أنهم كانوا أتباعًا لبني مرثد، خاضعين لهم؛ فإن لفظة "أدم" لا تقال إلا تعبيرًا عن التبعية والخضوع. وعرفنا من الكتابات اسم قبيلة أخرى كانت تعد نفسها في جوار "بني مرثد" وولائهم, وهي قبيلة "نبشم" "نبش" "نابش"، وقد قدم أحد أبنائها نذرًا إلى "المقه ذي هران"، وذكر أن ذلك كان في أيام سيده وأميره "يثعم" أي: "يثع" من مرثد2. ويعد "بن أخرف" "بنو أخرف"، وهم على ما يظن "بنو الخارف" من أتباع "مرثد" أيضًا. وقد ورد في النص: CIH 79 اسم أحد رؤسائهم من "مرثد"، وهو "يفرعم" "يفرع". وقد ذكر "نشوان بن سعيد الحميري" أن "الخارف بطن من همدان من حاشد"، وذكر نسبهم وبطونهم في الجزء العاشر من "الإكليل"3. وكان "بنو وهرن" "بنو وهران"، من أتباع "مرثد" كذلك، وقد صرح بذلك أحدهم في كتابة قدمها إلى "المقه ذي هران"4. ومن القبائل التي اعترفت بسيادة "مرثد" عليها، "بنو كنبم" "بنو كنب"5, و"بنو عبدم ذي روثن" أي: "بنو عبد" أصحاب "روثان"6، و"بنو أرفث"7, و"بنو ضنبم"8، أي: "بنو ضب", و"بنو أسدم"، أي: "بنو أسد" الذين تعبدوا لألمقه بمعبده في موضع "صوفن" "صوفان"9، و"بنو يهفرع"10, و"بنو أشيب"11، و"بنو قرين" "قورين"12، و"بنو حيثم"

_ 1 Cih 77, Br. Mus. 9, Osiander, In Zdmg., Xix, S. 199 2 Cih 76, Br. Mus. 8, Os 12, Cih, Iv, I, Ii, P.116 3 Cih 79, Br. Mus. Ii, Os 8, Cih, Vi, I, Ii, P.121 4 Cih 87, Iv, I, Ii, P.140, Br. Mus. 19, Os. 18 5 CIH 88, IV, I, II, P.143, BR. MUS. 20, OS 16, OSIANDER IN ZDMG., XIX, S. 210. 6 HALEVY 6, ETUDES, P.114, OS 22 7 OS 9, HALEVY, ETUDES, P.117 8 HALEVY 16, ETUDES, P.131, OS 23 9 OS 27, HALEVY 17, ETUDES, P.132, CIH 84, IV, I, II, P.135 10 HALEVY 25, ETUDES, 145, CIH 72, IV, I, II, P.106, OS 5, BR. MUS. 3. 11 OS 18, HALEVY 27, ETUDES, P.148 12 HALEVY 18, ETUDES P.136, OS 13, D. NIELSEN, DER SAB. GOTT ILMUKAH, S. 49, PRATORIUS, BEITR., S. 141

"بنو حيث"1، و"بنو ذنحن" "بنو ذنحان"2، وغيرها. و"روثان" من الأسماء المعروفة في اليمن، وقد كان محفدًا من المحافد، وقد ذكره "الهمداني" في "الإكليل"3. وقد ورد في النص4 CIH 102، اسم جماعة تدعى "بني مضن"، "بني مضان" وهم من "أبكلن" "أبكل" من سكان مدينة "عمران"، وقد ورد اسم هذه المدينة في نصوص أخرى، يظهر منها أن أصحابها كانوا من "بني أبكلن" "أبكل"5. ولعلَّ لما ذكره "الهمداني" من وجود قبائل تنتسب إلى "الأسد بن عمران"6 علاقة بـ"بني أسدم" "أسد" الذي ذكرتهم قبل قليل، كانوا نزولًا في "عمران" فنسبوا إليها.

_ 1 HALEVY, ETUDES, P.138 2 OS 6, HALEVY 20, ETUDES, P.140 3 الإكليل "8/ 90، 91" "طبعة نبيه"، "10/ 122، 123، 124". 4 CIH 102, IV, I, II, P.164 5 CIH 95, BR. MUS. 27, OS 20, CIH, IV, I, II, P.155, OSIANDER, ZUR HIMJARISCHEN, IN ZDMG., XIX, S. 220 6 الإكليل "8/ 70" "طبعة نبيه".

سخيم

سخيم: ومن القبائل في هذا العهد قبيلة "سخيم"، التي ورد اسمها في مواضع من هذا الكتاب. وكانت تتمتع بمنزلة محترمة ومكانة مرموقة، ولها أرضون تؤجرها لمن دونها من القبائل بجعالة سنوية وخدمات تؤديها لسادات هذه القبيلة, وتعد منطقة "شبام سخيم" الموطن الرئيسي لـ"بني سخيم". وقد تحدث "الهمداني" عن "شبام سخيم"، فقال: "ومن قصور اليمن شبام سخيم، وكان فيها السخيميون من سخيم بن يداع بن ذي خولان ... وبها مآثر وقصور عظيمة. ومن شبام هذه تحمل الفضة إلى صنعاء، وبينهما أقل من نصف نهار"1. فجعل

_ 1 الإكليل "8/ 83 وما بعدها" "طبعة نبيه"، الإكليل "2/ 283 وما بعدها"، "خولان".

"الهمداني" "السخيميين" من "ذي خولان", وقد أخذ هذا النسب من موقع أرض "سخيم" التي تقع في أرض "خولان"، فصار هذا نسبًا للسخيميين على مرور الأيام1. وكان لـ"بني سخيم" سلطان واسع في "شبام سخيم"، ولهم في هذا الموضع "مزود" يجتمعون فيه، ويتداولون في تصريف أمورهم في السلم والحرب, وكان منهم "أقول" "أقيال" حكموا قبائل أخرى. وقد قام رجالهم بأعمال عمرانية مثل: فتح طرق، وحفر قنوات ومسايل للمياه، يساعدهم عليها أتباعهم من "بني سخيم"، ومن القبائل الأخرى التي كانت نزولًا عليهم. ولتغلب "سخيم" على موضع "شبام"، عرف باسمهم تمييزًا له عن مواضع أخرى عرفت أيضًا باسم "شبام"2. وقد وصلت إلينا أسماء طائفة من سادات "سخيم"، قاموا بأعمال عمرانية دونوها في كتاباتهم، أو ساعدوا أتباعهم على القيام ببعض الأعمال العمرانية، فذكروا أسماءهم لذلك اعترافًا بفضلهم عليهم. ومن هؤلاء شيخ اسمه "يشرح آل أسرع" "يشرع إيل أسرع" وكان رئيسًا على سخيم. وعثر على اسمه في عدد من الكتابات وجدت في "الغراز"3، وجد في إحداها أنه ساعد قبيلة سقط اسمها من النص "وكانت تابعة لبني سخيم" على بناء "مزود" لها4، فذكر اسمه لذلك في الكتابة اعترافًا بفضله على أصحاب النص. ومن سادات ورؤساء "سخيم" "الرم يجعر" "الريام يجعر" "الريم يجعر"، وكان "قولًا" قيلًا على "سمعي"، التي تكون ثلث "حجرم" في أيام الملك "وتر يهامن" "وتر يهأمن"، وهو ابن الملك "الشرح يحضب" ملك سبأ وذي ريدان. وقد أرسله الملك لمحاربة "خولان جددن"، أي خولان النازلة بـ"جددن" "جددان"، فانتصر عليها وعلى من انضم إليها، كما يدعي النص الذي سجله هذا القيل5.

_ 1 HANDBUCH, I, S. 132, BEITRAGE, S. 19. FF 2 SAB. INSCHRI., S. 15 3 SAB. INSCHRI., S. 18, MM I, RW 59, MM 4, 5. 4 SAB. INSCHRI., S. 24, MM 4 5 JAMME 601, MAHRAM, P.102, MAMB 205

وكان لـ"سخيم" سلطان على فرع من قبيلة "سمعي"، هو الفرع الذي استقر في "حجر"، وقد اختار له "أقوالا" أقيالًا من "بني سخيم"، ولعل هذا الفرع ترك موطنه الأصلي لخصام وقع له مع بقية فروع "سمعي"، فهاجر إلى هذا الموضع، ونزل في جوار "سخيم"، وعد منهم، وحكمه لذلك أقيال من سخيم. ويجوز أن يكون هؤلاء السمعيون هم سكان هذه المنطقة في الأصل، إلا أن "سخيمًا" تغلبوا عليهم، وصارت لهم الإمارة في "شبام"، فصار "سمعي حجر" أتباعا لهم. والظاهر أن "حجر" كانت تعد ملك "سخيم" أو تابعة لسلطانهم السياسي؛ ولذلك كان أقيال "اليرسميين" من "بني سخيم" كذلك. وقد كانت "سخيم" من القبائل المهمة في أيام "الشرح يحضب" "اليشرح يحضب". وقد ورد في كتابة عثر عليها في "شبام سخيم"، كتبها جماعة من "سمعي" التابعين لسخيم، حمد للآلهة وثناء عليها، إذ منت على أصحابها بالمنن والنعماء، ورجاء منها بأن تمن عليهم بالخير والبركة وعلى ملكهم "الشرح يحضب" "اليشرح يحضب" وأولاده وعلى "أقولهم" أقيالهم السخميين، أي من "بني سخيم"1. ويظهر أن رؤساءها اكتسبوا قبل تولي "الشرح" العرش قوة وسلطانًا جعلا قبيلتهم ذات مكانة حين صار العرش إليه. وكما كان لملوك معين ومأرب وحمير وغيرهم قصورهم وحصونهم التي صارت رمزًا لهم ولشعوبهم، كذلك كان لملوك "سمعي" وسخيم قصرهم الذي عرف بهم، وهو "حصن ذي مرمر"، وقد بُني على مرتفع من الأرض يبلغ ارتفاعه زهاء "210" أمتار عن السهل الذي يقع فيه، فيشرف على مدينة "شبام سخيم" القديمة2, وهو حصن قوي، حُصِّن بسور متين ليمنع المهاجمين من الوصول إليه. وقد ذكر اسمه في عدد من الكتابات، وبقي هذا الحصن قائمًا إلى حوالي السنة "1583م", فهدمه والي اليمن العثماني ليبني بحجارته مدينة جديدة3. وكان لسادات سخيم قصر يسمى "بيتن ريمن"، أي: "بيت ريمان"،

_ 1 SAB. INSCHR., S. 38, MM 24, BEITRAGE, S. 19. 2 BEITRAGE, S. 17, 18 3 BEITRAGE, S. 18, GLASER 1209

وقد نعت أصحابه أنفسهم بـ"أبعل بيتن رمن"، أي: سادات وأرباب بيت ريمان1, وقد ورد اسمه في عدد من النصوص2. ويلاحظ أن أصحاب "بيت ريمان" كانوا أقيالًا على "يرسم". ومن سادات وأرباب وأصحاب "أبعل" "بيت ريمان"، القيل "شر حعث أشوع" وابنه "مرثدم"، وهما من "سخيم". وكانا قيلين على بطن "يرسم" من بطون "سمعي" في أيام الملكين: "ثأران يهنعم" و"ملككرب يهأمن" "ملكي سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"3. وكان "وهب أوم ياذف" "وهب أوَّام يأذف" وشقيقه "يدم يدرم" من أصحاب "بيت ريمان"، ومن أقيال "يرسم" التي هي من "سمعي" المكونة لثلث "حجرم"4. ومن بطون "سمعي" التي تكون ثلث "حجرم", بطن "يرسم", وكان يحكمه في أيام "نشأكرب يأمن" وهو ابن "الشرح يحضب"، جماعة من "سخيم", وقد كلفوا محاربة "خولن جددن"، أي "خولان جددان". وكانت قد ثارت على "سبأ وذي ريدان"، فانتصروا عليها وأخذوا غنائم وأسرى منها، كما تعهد رؤساؤها بإطاعة أوامر الملوك5. ومن أتباع "سخيم" عشيرة عرفت بـ"ذ مليحم" "ذي مليح"، وكانت تقيم في "الغراز"6. ويظهر أنها كانت في الأصل من المعينيين، ثم هاجرت إلى "شبام"، فنزلت على "بني سخيم"7, وقد هاجر غيرهم من المعينيين إلى أرض السبئيين، مثل "سريعم" أي: "بني سريع"، وهاجر غيرهم إلى أماكن أخرى. والظاهر أن هجرتهم هذه حدثت بعد ضعف معين8.

_ 1 راجع السطر الثالث من النص: Jamme 616, Mamb 199, Mahram, P 114 2 REP. EPIG. 4919, CIH 537, REP. EPIG. 4979 3 JAMME 670, MAMB 292, MAHRAM, PP.175 4 JAMME 718, 788, MAMB 56, 62, MAHRAM, P.202 234. 5 JAMME 616, MAMB 199, MAHRAM, PP.113 6 SAB. INSCHR., S. 204 7 SAB. INSCHR., S. 48, CIH 29, IV, I, I, P.46, GLASER, 281 8 SAB. INSCHR., S. 49

وقد بلغنا نص دونه زعيم من زعماء "ذي مليحم" "ذي مليح" اسمه "وهب ذو سموى أكيف", تقربًا إلى الإله "تالب ريمم بعل كبدم" "تألب ريام بعل كبد"؛ لأنه أجاب دعاءه، فحفظه وساعده، وساعد ابنه وأتباعه، وذلك في أيام الملك "أنمار يهأمن" ملك سبأ ابن "وهب إيل يحز"1.

_ 1 MM 26, 120, SAB. INSCHR., S. 48, 141

خسأ

خسأ: وخسأ من القبائل التي ذكرت في عدد من الكتابات، وكانوا نزولًا على "بني سخيم"، الذين كانوا يعدونهم سادة عليهم؛ لأنهم أصحاب الأرض1. ويظهر أن جماعة من "خسأ" كانت قد نزلت أرض "الهان"؛ إذ ورد في نصٍّ: "خسا ذ الهن"، "خسأ ذو الهان". وتعني هذه الجملة أن "خسأ" كانوا يقيمون في موضع "ذي الهان"، أو "خسأ" أصحاب "الهان". وقد كان هؤلاء الخسئيون يجاورون قبيلة "عقريم" أي "عقرب"، "العقارب"2. وعرف من الكتابات أن "خسأ" كانت تتعبد لإله خاص بها، هو الإله "قينن"، أي "قينان". ومن جملة المعابد التي خصصت به، معبد أُقيم له في "أوتن" "أوتان"، وقد تعبدت له أيضا بعض القبائل التي كانت متحالفة مع "خسأ"3. وقد ذكر "الهمداني" موضعًا سماه "قينان"4، قد يكون له صلة باسم ذلك الإله, ولم يبلغني أن المؤلفات العربية أشارت إلى هذا الإله. وقد ورد اسم "الهان" علمًا في أرض في عدد من الكتابات5، كما ورد

_ 1 SAB. INSCHR., S. 195, "155", RW 2, CIH 8, IV, I, I, P.19, HALEVY 4, GLASER 9, ORIENTALLA, VOL., V, 1936, P.34 2 المصادر المذكورة. 3 CIH 8, 26, 560, HALEVY 4, GLASER 9, 26, PRAETORIUS, 9, PRIDEAUX 6, BR. MUS. 60, CIH, IV, I, I, P.19, 39, IV, II, IV, P.333 4 الإكليل "79"، الصفة "69، 100". 5 CIH 350, IV I, IV, P.420, WINCKLER, DIE SAB. INSCH. DER ZELT ALHAN NAHFAN, S. 29

اسم علم لقبيلة. وربما كانت أرض "الهان" هي "مخلاف الهان" المذكور في المؤلفات الإسلامية1. وقد ذكر "الهمداني" مخلاف "الهان"، فقال: إنه مخلاف واسع غربي حقل جهران، وإن "الهان" بلد مجمعها "الجنب" "جنب الهان"، ويسكنها "الهان بن مالك أخو همدان, وبطون من حمير"2، وذكره في مواضع من "الإكليل"3. وورد في الكتابة الموسومة بـCIH 40 اسما قبيلتين مع اسم "الهان" هما: "مها نفم" "مهأنف"، و"بكيلم" أي: "بكيل". وقد ذكر في إحدى الكتابات رجل يسمى "تهوان"، وكان من "ذي الهان"، تعاون واشترك مع "عقرب" "عقارب" في بناء محفد "صدقن" "صدقان"، وهو محرم الإله "قينان"، كما تعاون معهم في بناء بيت "يجر"4.

_ 1 SAB. INSCHR., S. 27, DENKMALER, S. 38, MLAKER, IN WZKM, XXIV, S. 71 2 الصفة "68، 71، 72، 79، 104، 105". 3 الإكليل "8/ 30، 58" "طبعة بنيه". 4 ORIENTALLA, VOL., V, "1936", P.22, 286

عقرب

عقرب: وعرف من الكتابات اسم عشيرة أخرى هي "عقربم"، أي: "عقرب" أو "عقارب"، ولا يزال هذا الاسم معروفًا في العربية الجنوبية حتى الآن1. وقد ورد "العقارب" اسمًا لقبيلة زُعم أنها من نسل "ربيعة بن سعد بن خولان بن إلحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير"2، كما ورد اسمًا لجبل يعرف بـ"جبل العقارب"3, وقد عرف "العقارب" باسم "عقربي"4. وذكر "ابن مجاور" قبيلة "عقارب" في جملة القبائل الساكنة في منطقة "عدن"5، فلعل لهذه الأسماء

_ 1 SAB. INSCHR., S. 27, ORIENTALLA, VOL., V, 1936, P.28 2 نشر "ص13"، لب اللباب في علم الأنساب "38" 3 SAB. INSCHR., S. 28 4 SAB. INSCHR. S. 28, RITTER, ARABIEN, I, S. 675, VON MALTZEN, REISEN, S. 314, SAB. INSCHR., S. 28 5 SAB. INSCHR., S. 28

صلة بقبيلة "عقرب" "عقارب" المذكورة. وقد كانت "عقرب" تابعة لـ"بني سخيم" وحليفة لهم، ونازلة في جوارهم. يفهم ذلك من الجمل والتعبيرات في كتاباتهم الدالة على خضوعهم لـ"بني سخيم" مثل "آدم بن سخيم"، أي: "خول وخدم بني سخيم"1، فهو تعبير يدل على العبودية والخضوع.

_ 1 ORIENTALLA, VOL., V, "1936", P.22, 286, MM 7, RW 53, SAN.htm'A 1909, JEMEN, II, 337, SAB. INSCHR., S. 26

خولان وردمان

خولان وردمان: وخولان من القبائل الكبيرة القوية التي ذُكرت في عدد كبير من الكتابات العربية الجنوبية, وقد رأينا اسمهم لامعًا في أيام المعينيين. وقد ذكرت أنهم هاجموا مع السبئيين قافلة معينية كان يقودها "كبيران"، وحمد المعينيون آلهتهم وشكروها على نجاة هذه القافلة، وهي من القبائل العربية الحية السعيدة الحظ؛ لأنها ما تزال معروفة، ولها مع ذلك تأريخ قديم قد نصعد به إلى الألف الأول قبل الميلاد1. ويرجع النسابون نسب "خولان" إلى "خولان بن عرو بن إلحاف بن قضاعة"2 أو إلى "خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن كهلان بن سبأ"3. ويميزون بين "خولان قضاعة" وهم إخوة "بَليّ" و"حيدان"، وبين "خولان أدد"4، وقد يذكرون "خولان" أخرى في "مذحج"5. وقد صير اسم "خولان" بمرور الزمان، اسم رجل نسل ذرية تكاثرت وتوالدت، فكانت منها هذه القبيلة العظيمة، وقد جعل له النسابون أبًا وجدًّا

_ 1 ENCY., VOL., II, P.933 2 منتخبات "35"، "خولان بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ" البلدان "3/ 491"، "وخولان: قبيلة باليمن, وهو خولان ابن عمرو بن إلحافي بن قضاعة"، تاج العروس "7/ 312". 3 Ency., Vol., II, P.933 4 الإكليل "10/ 3". 5 الإكليل "10/ 3"، صبح الأعشى "1/ 326".

وأجدادًا بعد هذا الجد، كما جعلوا له ولدًا ذكروا أسماءهم. ويمثل هذا النسب الاختلاط الذي كان بين الخولانيين وغيرهم من القبائل بمرور الزمان حتى أيام النسابين، فدون على نحو ما وصل إلى عملهم من أفواه الرواة. ومواطن الخولانيين قديمًا أرضون متصلة بأرض السبئيين، فكانوا يسكنون في جوار "مأرب" و"صرواح"، وهي لب أرض سبأ، ثم هاجرت جماعات منهم فسكنت الأرضين العالية من شرق "صنعاء"، وقد قبل للخولانيين الذين سكنوا هذه المنطقة "خولان العالية"؛ تمييزًا لهم عن "خولان قضاعة"1, وهذا التمييز لا يستند إلى حقيقة، يمكن رَجْعُها إلى اختلاف النسب2. وإنما نشأ من اختلاف طبيعة المكان، ومن الأحوال السياسية والاقتصادية التي فرقت بين الخولانيين، وباعدت بين فروعهم، فظن أنهم من نسبين مختلفين. وقد كان الخولانيون يتعبدون عند ظهور الإسلام لصنم لهم اسمه "عم أنس"3 "عميأنس". وقد ذكر "ياقوت الحموي" أنه "في خولان كانت النار التي تعبدها اليمن"4، ذكر ذلك في أثناء حديثه عن "مخلاف خولان" المنسوب إلى "خولان قضاعة". وقد تكون هذه العبادة -إن صح قول ياقوت- قد اقتُبِسَتْ من الفرس عَبَدَةِ النيران. وقد ذهب "الويس شبرنكر" و"نيبور" إلى أن قبيلة "خولان" هي "حويلة" المذكورة في التوراة5، ولكن هناك صعوبات كثيرة تحول دون قبول هذا الرأي. وقد اقترن اسم "خولان" باسم "ردمان" في كثير من النصوص, ويدل هذا بالطبع على وجود روابط وثيقة بين الجماعتين. وقد حكم الخولانيين والردمانيين أقيالٌ من "ذي معاهر"، فكان القيل سيدًا على القبيلتين في آن واحد في غالب الأحايين، وفي ذلك دلالة بالطبع على الصلات والروابط السياسية التي ربطت بين خولان وردمان وذي معاهر "ذ معهر".

_ 1 الإكليل "10/ 3". 2 Ency., II, P.933 3 الأصنام "ص43"، Ency., II, P.933 4 البلدان "3/ 491". 5 Ency., II, P.933

وقد عرف الإسلاميون "أقيال ذي معاهر"، فذكرهم الهمداني في مواضع من كتابه "الإكليل"، ذكر مثلًا أن "شحرار قصر بقصوى مشيد ببلاط أحمر للقيل ذي معاهر"1، وذكر أيضًا "قصر وعلان بردمان، وهو عجيب، وهو قصر ذي معاهر، ومن حوله أموال عظيمة"2. ويشير قول الهمداني الأخير إلى الصلات التي تربط هؤلاء الأقيال بردمان، وإلى أن أولئك الأقيال كانوا يقيمون بأرض ردمان. ويرى "كلاسر" أن قصر "وعلان" الذي هو في "ذي ردمان"، كان مقر أقيال "ذي معهر"، أي: أقيال ردمان3. فوعلان إذن هو قصرهم، وهو مثل القصور الأخرى التي كانت للملوك والأقيال, وهي قصور وحصون يُحتمَى بها إذا شُعِرَ بالخطر؛ ولذلك عُدَّت رمزًا للدولة وللحكم. وترد لفظة "ذ معهر" علمًا في الكتابات على "ردمان" و"خولان"4. وقد ذكر أيضا في نص "أبرهة" الذي دونه سنة "543م" لمناسبة إصلاح سد مأرب وترميمه, إذ جاء فيه: "ذ معهر بن ملكن"5. وقد ذهب "كلاسر" إلى أن المراد من "ذي معهر" في هذا المكان, ابن "أبرهة"، وكان قد تلقب -على رأيه- بهذا اللقب، الذي يشير إلى قصر "ذي معهر" بردمان6. ومن أقيال "ذي معاهر" الذين حكموا الخولانيين والردمانيين، القيل "قول" "كرب إسرع" "كرب أسرع"، وكان من أسرة غنية لها أرضون زراعية خصبة تُسقَى بمياه الآبار في وادي "ضفخ" "ضفخم"، ووادي "أخر" وفي أرض "ذات حراض" "ذات حرض", ووادي "مذيق"، وأماكن أخرى. وقد عُنيت أسرته بإصلاحها، وبإروائها من آبار حفرتها في هذه الأماكن، وكتبت ذلك على الحجارة7, تسجيلًا لعملها هذا؛ ليكون وثيقة شرعية بامتلاكها لهذه المواضع.

_ 1 الإكليل "8/ 53". 2 الإكليل "8/ 89"، "وذو معاهر -بالضم-: قيل من أقيال حمير, قاله ابن دريد. قلت: هو تبع حسان بن أسعد بن صيفي بن زرعة"، تاج العروس "3/ 432"، ابن دريد، الاشتقاق "312" Von Kremer, Sudarablsche, Sage, S. 90, 126 3 Beitrage, S. 39 4 Beitrage, S. 39 5 السطران: 82 و38 من نص أبرهة. 6 Beitrage, S. 39 7 Orientalia, Vol., I, "1932", P.32

وورد اسم قيل آخر من أقيال "ذي معاهر" الذين حكموا القبيلتين المذكورتين هو القيل "كرب أسأر"، كانت له أملاك في أرض "ذات حرض" "ذات حراض" بوادي "مضيق"1. وورد اسم قيل آخر حكم القبيلتين معًا، هو القيل "نصرم يهحمد" "نصر يهحمد" "ناصر يهحمد"2، وهو من "ذ معهر" "ذي معاهر". وقد دون هذه الكتابة لمناسبة قيامه بإصلاح أرض "وادي ملتنتم" "وادي ملتنت" حيث حفر آبارًا، وأنشأ سدودًا، زرع أشجارًا أثمرت، وبذر حبوبًا. وقد سجل ذلك ملكا خاصا بـ"آل معاهر" وباسمه, وأعلنه للناس في شهر "صيد" من سنة مائة وأربع وأربعين من التقويم السبئي، وتقابل سنة تسع وعشرين بعد الميلاد3. ويعد هذا النص من النصوص المهمة، ولعله أقدم نص مؤرخ وفق تقويم ثابت معروف وصل إلينا4. ويظهر من ذكر اسم الملك "العز يلط" وهو ملك حضرموت في هذا النص، ومن تعبير "القيل" صاحب النص عن الملك بلفظة "سيده"، أي سيد "نصر يهحمد": أنه كان تابعًا له، وفي أرض كانت إذ ذاك، أي: في النصف الأول من القرن الأول للميلاد، تحت حكم حكومة حضرموت. وقد دون هذا القيل أسماء الآلهة: "عثتر"، و"سين ذو علم"، و"عم ذو دونم"، و"وعلان"، و"عم ذو مبرم" إله "سليم"، و"عثتر ذو صنعتم"، و"ودّ إله منو ... "، و"ذات بعدان"، و"ذات ظهران"، و"عليت" إلهة "حررم" "حرر"، و"شمس" إلهة "وبنن" و"علفقن"5. ذكر كل هذه الآلهة، ولم يذكر إله سبأ الرئيس وهو "المقه"، وفي إغفاله اسم "المقه" دلالة على أنه لم يكن على صلة حسنة بالسبئيين، وأنه لم يكن يعترف بسيادتهم عليه؛ ذلك لأنه كان تحت حكم ملك حضرموت.

_ 1 LAPAR 4541, CIH 658, IV, III, I, P.92 2 GLASER 1430, 1619 3 REP. EPIG 3958, VII, I, P.12., STUDI. LEXI., III, S. 2 4 BACKGROUND, P.103 5 الفقرة الخامسة من النص إلى منتهى الفقرة الحادية عشرة.

وقد ورد اسم "خولان" في نص مهم جدًّا تعرض لخبر حرب نشبت في أيام ملوك "سبأ"، سقط منه اسم الملك، وسقطت منه كلمات عدة وأسطر أضاعت المعنى. وقد شارك أصحاب هذه الكتابة في هذه الحرب، وعادوا منها موفورين سالمين, ولذلك سجلوا شكرهم للإله "المقه" رب مدينة "حرونم" "حرون" "حروان"1؛ لأنه نجاهم، ومن عليهم بنعمة السلامة. ويفهم من الكلمات الباقية في النص أن قبيلة "خولان" كانت قد ثارت على سبأ، فجهز السبئيون حملة عسكرية عليهم، دحرت خولان، وتغلبت عليها، وحصل السبئيون على غنائم كثيرة. وكان يحكم "خولان" قيل لم يرد في النص اسمه، ولعله سقط من الكتابة، وقد أشير إليه بـ"ذي خولان"2. وورد في نص "معيني" ما يفيد اعتراض جماعة غازين من الخولانيين لقافلة معينية كانت تسلك طريق "معان" التجاري، وقد أفلتت من أيدي الغزاة ونجت، ولذلك شكرت الآلهة؛ لأنها ساعدتها في محنتها، وحمتها، ونجَّتها من التَّهْلُكة، وعبرت عن شكرها هذا بتدوين النص المذكور. وقد وقفت على معبد "ودّ كسم" إله معين, وقفًا في أرض "أيم"3، كما سبق أن تحدثت عن تعرض الخولانيين والسبئيين لقافلة تجارية معينية في الطريق بين "ماون" "ماوان" و"رجمت" "رجمة". وفي هذين الخبرين دلالة على نشاط الخولانيين في مناطق تقع شمال اليمن قبل الميلاد بزمان، وعلى أنهم كانوا من الذين يتحرشون بالطرق التجارية ويعترضون سبل المارة، كما يفعل الأعراب. ولعل هؤلاء الخولانيين كانوا من الأعراب المتنقلين. وقد حكم الردمانيين أقيال منهم أيضًا؛ فقد ورد في أحد النصوص: "قول ومحرج شعبن ردمن ذ سلفن"، أي: "قيل ومحرج قبيلة ردمان صاحبة سلفان"، ويقصد بـ"سلفان" "السلف" "السلاف"، فردمان هؤلاء أصحاب الكتابة هم "ردمان السلف" "السلاف"4. ولم يكن هذا القيل من "ذي معاهر".

_ 1 REP. EPIG 4137, VII, I, P.95, VA 3844 2 الفقرات: 9 و10 و11 و12 و13 من النص. 3 REP. EPIG 3695, VI, II, P.278, JAUSSEN – SAVIGNAE, MISSION, I, P.242, 732. 4 GLASER 275, 276, CIH 648, IV, III, I, P.82, OM 51, MORDTMANN, MUSE IMPERIAL OTTOMAN, "1895", PP.36

والردمانيون هم من الشعوب العربية القديمة أيضًا، وقد ساعدوا القتبانيين مرارًا، وحالفوا شعبًا آخر هو شعب "مضحيم" "مضحي"، وتعاون الشعبان في مساعدة "قتبان" ضد سبأ1. وقد لعبوا دورًا مهمًّا في أيام عدد من ملوك سبأ، وقد كانوا من المناهضين لحكم "شعر أوتر"، ولما أرسل جيشًا عليهم لإنزال ضربة بهم قاوموه وأنزلوا خسائر كبيرة به2. ويظهر أن أرض ردمان دخلت -بعد أن فقدت استقلالها- في جملة الأرضين التي خضعت لحكم قتبان، ثم استولت عليها بعد ذلك دولة حضرموت, ثم دخلت بعد ذلك في جملة أملاك دولة "سبأ وذي ريدان"3. وقد ذهب "كلاسر" إلى أن شعب Rhadmael المذكور في بعض الموارد الكلاسيكية هو "ردمان"، ويؤيد قوله بما ذكره "بلينيوس" من أن الشعب المذكور ينتسب إلى جد اسمه Rhadmanthus، واسم هذا الجد قريب جدًّا من اسم "ردمان"4. ويظهر من عدد من الكتابات المدونة في أيام "الشرح يحضب" أن أرض "ردمان" وقسمًا من أرض "خولان" كانت تابعة لملك حضرموت في ذلك الزمان، وأن قسمًا من خولان كان خاضعا لـ"أقيال جدن" "جدنم" أهل "حبب" "حباب" عند "صرواح". ومعنى هذا أن القسم الشرقي من أرض خولان الواقع شرق وادي "ذنه" عند أسفل أرض "مراد" كان هو القسم التابع لحضرموت في هذا الزمن. وأما القسم الأكبر، وهو القسم الشمالي الغربي من أرض خولان، فقد كان تابعًا في هذا الزمن لملك "سبأ وذي ريدان"5.

_ 1 MAHRAM, P.292, GEUKENS, 6, JAMME, ON A DRASTIC CUUENT REDUCTION OF SOUTH ARABIAN CHRONOLOGY, IN BOASOOR, NUM 145, 1957, P.29 2 MAHRAM, P.300 3 GLASER, SKIZZE, II, S. 35 4 GLASER, SKIZE, II, S. 137, PLINY, II, P.457, BOOK, VI, 158-159 5 BEITRAGE, S. 39

جدن

جدن: وورد اسم "جدن" في كتابات عهد "ملوك سبأ"، وهو اسم موضع

واسم قبيلة. ويظهر منها أنهم كانوا أصحاب حكم وسلطان، بدليل ورود جملة هي: "أدم جدنم" أي "خول جدن" في كتابات دونها أناس كانوا في خدمتهم وولائهم1. ويذكرنا اسم "ذي جدن" المذكور في الكتب الإسلامية، وموضع "جدن" بهذا الاسم القديم2. وورد اسم قبيلة أو أسرة عرفت بـ"ددن"، أي: "دادان" "ددان"، وقد ذكروا في جملة نصوص. فورد في أحدها أنهم تقدموا بوثن "صلمن" إلى معبد الإله "تألب ريام" المسمى بمعبد "خضعتن" "خضعة"، وهو في مدينة "أكانط"3, وتقع مدينة "أكنط" في بلد "همدان"4. وقد ذكرها "الهمداني" مرارًا في كتبه، وذكر أن فيها قصر "سنحار"5. وكان يسكن بها جماعة يعرفون بـ"زادان"، ينسبون إلى "مرثد بن جشم بن حاشد" على حد قول أصحاب الأنساب6. وقبيلة "يهبلبح" من القبائل التي عاشت في عهد "ملوك سبأ" وقد ذكرت, في أمر أصدره الملك "يدع إيل بن يكرب ملك وتر"، في أمر تنظيم الجباية التي تؤخذ من هذه القبيلة ومن "سبأ" في مقابل استغلال الأرضين الخاضعة للدولة واستثمارها7.

_ 1 REP. EPIG. 852, 4069, 4668, II, III, P.224, VII, I, P.66, 306 2 منتخبات "ص18"، الإكليل "8/ 76" "طبعة بنيه". 3 CH 348, OM 6, CIH, IV, I, IV, P.415 4 الإكليل "8/ 92" "طبعة بنيه"، "10/ 40، 120"، الصفة "82، 110، 112". 5 الإكليل "8/ 92" "طبعة بنيه"، "10/ 120". 6 الإكليل "10/ 40". 7 HALEVY 51 + 638 + 650, GLASER 904, CIH 601, IV, III, I, P.2 REP. EPIG., V. II, P.68

أربعن

أربعن: وجاء ذكر قبيلة اسمها في الكتابات "إربعن"، "أربعن" أو "أربعان" "أربعين"، كان يحكمها سادات، وقد لقبوا بلقب ملك، وقد عرفنا منهم "نبط آل" "نبط إيل"1، وقد ذكر في نص Halevy 51 الذي سجله الملك

_ 1 السطران 24 و25 من النص.

"يكرب ملك يدع إيل بين"، الصادر في كيفية جمع الضرائب من القبائل. وعرفنا اسم ملك آخر، هو: "لحى عث بن سلحان"1 "لحيعث بن سلحن" وملك ثالث يدعى "عم أمن بن نبط إيل"، وكان من معاصري الملك "يثع أمر بين" ملك سبأ2. ولم يكن ملوك "أربعن" ملوكًا كبارًا بالمعنى المفهوم من لفظة "ملك"، ولم تكن مملكة "أربعن" بالمعنى المفهوم من لفظة "مملكة"؛ وإنما كانوا أمراء قبيلة وسادات قبائل، تمتعوا بشيء من الاستقلال في حدود أرض قبيلتهم، وقد أعجبتهم لفظة "ملك" فحملوها. وقد كانوا في الواقع دون ملوك سبأ أو معين أو حضرموت أو قتبان بكثير، وكانت مملكة "أربعن" إمارة أو "مشيخة" كما نفهم من هذه اللفظة في المصطلح الحديث.

_ 1 KTB., I, S. 74, GLASER 1571 2 CIH 487, IV, II, II, P.188, FR 32, 39, LE MUSEON, LXII, 3-4, 1949, P.249, AيF 69.

بتع

بتع: رأينا أن سلالة من "بتع" حكمت "سبأ وذو ريدان". وقرأنا في الكتابات ولا سيما كتابات "حاز" وكتابات مواضع أخرى تقع في صميم "بلد همدان" أسماء رجال هم من "بني بتع"، فمن هم "بنو بتع"؟ والجواب: إن "بتع" قبيلة من قبائل "حاشد" و"حاشد" من همدان. فـ"بنو بتع" إذن هم من "همدان"؛ ولذلك نجد أن معظم الكتابات التي تعود إلى "بني بتع" عُثِرَ عليها في أرضين هي من مواطن همدان، مثل "حاز" و"بيت غفر" و"حجة"1 "حجت"، ومواضع أخرى هي من صميم أرض بتع2. ويرد اسم "حاز" في مواضع من "صفة جزيرة العرب" و"الإكليل"،

_ 1 SAB. NSCHR., S. 63 RHODOKANAKIS UND VON WISSMAN, VORISLAMISCHE ALTERTUMER, S. 13 2 SAB. INSCHR., S. 63

وقد قال عنها الهمداني: "وحاز: قرية عظيمة, وبها آثار جاهلية"1. وذكر أن سد "بتع" "الخشب" مما يصالي "حاز" ينسب إلى "بتع بن زيد بن همدان"2. وقد صيَّر "الهمداني" وغيره "بتعًا" اسم رجل، جعلوه جد "بني بتع"، وجعلوا له والدًا أسموه: "زيد بن همدان"، بينما هو اسم قبيلة في ذلك الوقت. وكانت "بتع" على ما يتبين من النصوص، تتمتع بنفوذ واسع ومكانة ظاهرة، ولها أرضون واسعة تؤجرها للأفخاذ والبطون من "بتع" ومن غير "بتع"، تأتي إلى أقيالها بأرباح طائلة. وكان رؤساء البطون والأفخاذ الذين يؤجرون الأرضين من "بتع" يعدون أنفسهم بحكم إقامتهم في كنف أقيال "بتع" وفي جوارهم أتباعًا لهم، ولهم حق السيادة عليهم. ويعبرون عن ذلك في كتاباتهم بجملة: "إدم بتع" "أدم بتع"، أي: خول أو خدم بتع، ويقصدون بها أنهم كانوا أتباعًا لهم3. ويذكرون أسماء الأقيال في كتاباتهم، ويشيدون بفضلهم ومساعداتهم، ويدعون لهم فيها بطول العمر والخير والبركة، ويرجون من آلهتهم أن تزيد في سعادتهم ومكانتهم وأرباحهم. وقد جمع "هارتمن" أسماء الأقيال البتعيين الذين وردت أسماؤهم في الكتابات، وهم: "برقم" "بارقم" "بارق", و"ذرح آل يحضل" "ذرح إيل يحضل"4, و"هوف عثت" "هوفعثت"5, و"لحى عثت أوكن" "لحيعثت أوكن"6, و"مرثد علن أسعد" "مرثد عيلان أسعد"7, و"نشاكرب أوتر" "نشأكرب أوتر"8، و "نشاكرب يزان" "نشأكرب يزأن"9, و"نشأكرب

_ 1 الصفحة "82، 107، 111، 117"، الإكليل "10/ 12، 117". 2 "يصالي يجاور لغة يمنية لا توجد في المعاجم صرف المؤلف منها بعض الصيغ في كتابة جزيرة العرب" الاكليل "10/ 12". 3 SAB. INSCHR., S. 63, CIH, 211, IV, I, III, P.252, GLASER 195 4 MM 46, 89 5 MM 953 6 CIH 130, IV, I, III, P.196 7 SAB. INSCHR., S. 63 8 CIH 342 9 CIH 154, 187, MM 105, 836, 1253

نهفن يجعر"1، و"رب شمس نمرن" "رب شمس نمران" "ربشمس نمران"2, و"ردمم يرحب" "ردم يرحب"3، و"عريب بن يمجد"4، و"سعد أوم نمرن" "سعد أوام نمران"5, و"سخمن يهصبح" "سخمان يهصبح"6, و"شرحم يهحمد"7, و "شرحم غيلن" "شرح غيلان"8، و"شرحم" "شرح" "شارح"9، و"شرح ال" "شرح إيل"10، و"شرح عثت" "شرحعثت"11, و"شرحب ال" "شرحب إيل" "شرحبيل"12، و"كرب ... "13، و"يهمن" "يهامن" "يهأمن"14 وآخرون. ومن هؤلاء من ساد على "سمعي"، ومنهم من ساد على قبائل أخرى.

_ 1 CIH, IV, I, III, P.220, CIH 158, MM 34 2 CIH 164, IV, I, III, P.222, MM 826 3 SAB. INSCHR., S. 64, CIH 242, IV, I, III, P.270 4 "عريب ألن يمجد" "ألن"، "علن"، CIH 130, IV, I, III, P.196 5 CIH 226, SAB. INSCHR., S. 64 6 MM 31, 32, SAB. INSCHR., S. 64 7 CIH 172, 241, SAB. INSCH., S. 64, GLASER 156, CIH, IV, I, III, P.229 8 MM 117 9 CIH 158, IV, I, III, P.220, GLASER 141, SAB. INSCHR. S. 64 10 CIH 571, SAB. INSCHR., S. 64 11 CIH 222, IV, I, III, P.257, SAB. INSCHR., S. 64 12 CIH 130, IV, I, III, P.196, SAB. INSCHR. S. 64 13 GLASER 109 14 CIH 187, IV, I, III, 238, GLASER 171, SAB. INSCHR., S. 64

سمعي

سمعي: ومن أتباع "بتع" عشيرة "سمعي"، ويظن بعض الباحثين أنها كانت في الأصل فرقة تجمع أفرادها عبادة الإله "تألب"، ثم أصبحت عشيرة من العشائر القاطنة في أرض همدان، توسعت وانتشرت وسكنت بين "حاشد" و"حملان" وفي "حجر"1. وكانت تستغل الأرضين التي يمتلكها الأقيال البتعيون، فكانوا يعدون أصحاب تلك الأرض أقيالًا عليهم، ونسبوا إلى الأرض التي أقاموا فيها أو العشائر التي نزلوا بينها، فورد "سمعي حملان" و"سمعي

_ 1 HANDBUCH, I, S. 132, GLASER 1210

حشدم" أي: "سمعي حاشد"، و"سمعي حجرم" أي: "سمعي حجر". و"سمعي حملان" هم السمعيون الذين استوطنوا أرض حملان، واختلطوا بالحملانيين؛ لذلك نسبوا إلى "حملان"، فقيل: "سمعي حملان". وأما "سمعي حشدم"؛ فهم السمعيون الذين سكنوا أرض حاشد، واختلطوا بقبيلة "حاشد" وقد كانوا يقطنون أرض "ريام". وأما "سمعي حجرم" أي: "سمعي حجر"، فهم سكان "حجر" على مقربة من "شبام"، وهم يكوِّنون جزءًا من "سمعي"، وقد ورد في الكتابات: "سمعي ثلث ذي حجرم"1. وظهر من عدد من الكتابات أن عشيرة "سمعي"، قد كانت مملكة يحكمها ملوك، ولم تكن هذه المملكة بالطبع سوى "مشيخة" صغيرة بالقياس إلى مملكة سبأ، كما ورد اسم هذه العشيرة منفردًا، أي: إنه لم يقرن بحملان أو حاشد أو حجر أو غير ذلك من الأسماء. وفي ذلك دلالة على أنها قد كانت وحدة واحدة كسائر العشائر والقبائل، أو أن قسمًا من "سمعي" كان مستقلًّا منفردًا بشئونه لا يخضع لحكم قبيلة أخرى عليه، أو أن "سمعي" كانت في وقت تدوين تلك الكتابات قبيلة قوية، يحكمها ساداتها الذين لقبوا أنفسهم بألقاب الملوك، ثم أصابها ما يصيب غيرها من القبائل من تفكك وتجزؤ وتشتت، فتجزأت وطمع فيها الطامعون، فخضعت عشائر منها لحكم قبائل أخرى مثل: "حاشد" و"حملان" و"حجر". ويصعب علينا بيان المدة التي تمتعت فيها هذه القبيلة بالاستقلال، وهو استقلال لم يكن بالبداهة مطلقًا، بل كان استقلالًا من نوع استقلال "المشايخ" والرؤساء: استقلالًا في التصرف في شئون القبيلة والمنطقة التي تتصرف فيها. أما في العلاقات الخارجية، فيظهر أنها كانت مقيدة بسياسة الحكومات الكبيرة التي كانت لها السلطة والقوة مثل مملكة سبأ وذي ريدان. ومن الملوك السمعيين الذين وصلت أسماؤهم إلينا، الملك "يهعن ذبين بن يسمع ال بن سمه كرب"، أي: "يهعان ذبيان بن يسمع إيل بن سمه كرب" "يهعان ذبيان بن إسماعيل بن سمه كرب"، والملك "سمه أفق بن سمه يفع"

_ 1 Sab. Nschr., S. 13

"سمه أفق بن سمهيفع"1؛ جاء اسمهما في النص المعروف2 بـGlaser 302. وقد افتتحه الملك "يهعان" بالدعاء إلى الإله "تالب" "تألب" في معبده في "صبين" "صبيان" بأن ينعم عليه ويبارك له ولأولاده: "زيدم" "زيد" و"يزد ال" "يزيد إيل"، وأولادهما, وأملاكهم جميعًا وبيتهم المسمى بيت "يعد" "يعود" وأرضهم: أرض "تالقم" "تألق"، وفي الأملاك التي وُرِثَتْ عن الملك "سمعي أفق بن سمه يفع" ملك سمعي من أرض زراعية وقرى ومدن, وأرض "نعمن" "نعمان" وغيرها. وجاء في النص ذكر "بنو رأبان" "رابن" حلفاء "سمعي" و"عم شفق"، وهو "قول" قيل "يرسم"، و"أقولن" أقيال "يهيبب" و"أملك مريب"، أي "ملوك مأرب"، و"شعبن سمع"، أي قبيلة "سمع" "سميع"، و"كرب ال وتر" "كرب إيل وتر" ملك سبأ.

_ 1 CIH 37, CIH, IV, I, I, 55, GLASER 302, D. MULLER, SABAISCHE ALTERTHUMERS, XXXIX, "1886", S. 839 2 SAB. INSCHR., S. 65, ARABISCHE FRAGE, S. 389

حملان

حملان: وقد ورد اسم "حملان" في عدد من الكتابات, منها الكتابة الموسومة بـGlaser 179 التي دونت في أيام الملك "أنمار يهنعم بن وهب إيل يحز" ملك سبأ، دونها جماعة من "بتع"، وهي ناقصة؛ سقطت منها أسطر وكلمات1. وقد قدموا إلى الإله "تألب ريام" تمثالًا؛ لأنهم رجعوا سالمينَ من الحرب معافَيْنَ. ويظهر أن أصحاب هذه الكتابة قاموا مع الملك بغزو في أرض "حملان"، فلما رجعوا سالمين قدموا هذا النذر إلى الإله "تألب ريام"2. وكان "بنو حملان" أتباعًا لـ"بتع", وقد ذكروا ذلك في كتاباتهم حيث دونوا جملة "أدم بتع"، كالذي ورد في الكتابة: CIH 224. وقد دونها رجال من "ذي حملان" "أدم بتع" لمناسبة بنائهم بيتهم و"مذقنة تريش"

_ 1 CIH 195, GLASER 179, MM 86 2 CIH, IV, I, III, P.243, SAB. INSCHR., S. 116, RW 120

وذلك بتوفيق من الإله "تألب ريام بعل شعرم" وبمساعدة رؤسائهم وسادتهم ورئيسهم صاحب أرضهم "سخمان يهصبح" من "بتع"، وبمساعدة قبيلتهم الساكنة بمدينة "حاز"1.

_ 1 GLASER 208, RW 133, CIH IV, I, III, P.258, SAB. INSGHR., S. 70

يهيبب

يهيبب: وكان أقيال "سمعي" أقيالًا على عشيرة "يهيبب" "ي هـ ي ب ب" وهي عشيرة لا نعرف اليوم عنها شيئًا يذكر. ويرى "كلاسر" أن أرض "يهيبب" تقع على مقربة من مكة أو في جنوبها، ويرى احتمال وجود موضعين يقال لهما "يهيبب"؛ موضع قرب مكة أو في جنوبها، وموضع آخر على ساحل الخليج الذي سماه "بطلميوس" Sinus Sachalites, في الأرض التي اشتهرت عند "الكلاسيكيين" بالبخور واللبان، ولعله المكان الذي دعاه "بطلميوس" 1Jobaritae. ويرى أن الأول هو "يوباب" في التوراة2.

_ 1 GLASER, SKIZZE, II, S. 306 2 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 29، وأخبار الأيام الأول, الإصحاح الأول، الآية 21.

يرسم

يرسم: وأما "يرسم" فقبيلة كانت تقيم في هذه المواضع من أرض همدان. وقد ورد في إحدى الكتابات اسم "قول" قيل يدعى "عم شفق بن سروم" "عمشفيق بن سروم" "عم شفيق بن سروم"، وكان من أقرباء ملك "سمعي"، وكانت أرضه عند "حدقان"1، وقد أشار "الهمداني" إلى "قصر حدقان"2, وكان هذا القيل من "سروم"3. وكان أقيال "يرسم" من "بني سخيم"، وقد أشار "اليرسميون" إلى

_ 1 HANDBUCH, S. 132, ARABISCHE FRAGE, S. 378 2 الإكليل "8/ 83" "طبعة بنيه"، "10/ 16"، الصفة "81، 82، 109". 3 CIH, IV, I, I, P.55, GLASER 302

ذلك في الكتابات، ومنها الكتابة الموسومة بـSE 8, وقد ذكرت فيها جملة: "يرسم ثلث ذ حجرم"، أي: "يرسم ثلث ذي حجر". ويفهم من هذه الجملة أن عشيرة "يرسم" كانت تستغل جزءًا من أرض حجر1. وورد في كتابات أخرى أن قيلًا من أقيالها كان من "سروم"2. وقد ورد في كتابة أن جماعة من "بني الهان" و"عقرب" بَنَوْا محفدًا لهم، هو "محفد صدقن" "محفد صدقان" ليكون "محرمًا" للإله "قينان" أي: حرمًا لهذا الإله، في معبد "يجر"، وذلك بعون الإله "تألب ريام" "رب كبدم" "كبد" وقينان, وبمساعدة أصحاب أرضهم "بني سخيم" وقبيلة "يرسم"3. ومعنى هذا أن هذه القبائل كانت متجاورة متعاونة، وقد كانت تتعاون فيما بينها عند القيام بالأعمال الكبيرة التي تحتاج إلى مال ورجال, مثل هذا المعبد الذي خصص بعبادة الإله "قينان"، والذي بناه جماعة من "الهان" و"عقرب" بمساعدة وعون "بني سخيم" و"يرسم".

_ 1 ORIENTALLA, VOL., V, 1936, P.25, CIH 24, IV, I, I, P.36, GLASER 25, KTB., II, S. 69 2 CIH, IV, I, I, P.55, GLASER 302 3 ORIENTALLA, VOL., V, 1936, P.22, 286

بنو سمع

بنو سمع: أما "بنو سمع" "بنو سميع"؛ فقد كانوا أتباعًا لـ"بني بتع" "أدم بن بتع" "أدم بني بتع"، كما يفهم من الكتابة CIH 343. وقد ورد فيها اسم الإله "تألب ريمم بعل قدمن ذ دمهن"، أي الإله "تألب ريام ربّ قدمان في ذي دمهان"1, وجاء اسم الإله "تألب ريمم بعل قدمن" في كتابة أخرى، أصحابها من "بن سمع" "بني سميع" كذلك. وقد ذكروا أنهم نذروا للإله صنمًا؛ ليقيهم ويقي أملاكهم ومقتنياتهم وما يملكونه بمدينة "مريب" أي: "مأرب"2.

_ 1 CIH 343, IV, I, IV, P.405 2 CIH 19, IV, I, I, P.29, GLASER 19, METHEILUNGEN, S. 68

فمدينة "قدمن" "قدمان" إذن مدينة من مدن "السميعيين"، وبها معبد الإله "تألب" المعروف بـ"تألب ريام بعل قدمان", وتقع في أرض "دمهان". ويجوز أن يكون "قدمان" اسم موضع صغير في "دمهان"، أو اسم المعبد, وقد ورد في كتابات أخرى1.

_ 1 CIH 341, IV, I, IV, P.405

رمس

رمس: وجاء اسم عشيرة "رمس" في الكتابة MM 137، وهي كتابة مدونة على أطراف إناء ثمين جدًّا, قدم نذرًا إلى الإلهة "ذات بعدان" أي الشمس1. والظاهر أن عشيرة "رمس" كانت تجاور عشيرة "سميع"، وأنها كانت تملك أرضين تجاور الأرض التي نزلت بها "سميع"، وتؤجرها لغيرها كما يتبين ذلك من استعمال جملة "أدم رمسم" أي: "خول رمس"، وكلمة "أمراهمو" التي تعني "أمراؤهم" في بعض الكتابات. حيث يفهم من أمثال هذه التعابير أن الرمسيين كانوا يحكمون عشائر أخرى كانت نازلة في أرضهم وتعيش في كنفهم وجوارهم. وقد ورد اسم "الرمسيين" في كتاب "صفة جزيرة العرب"، فلعل لهم علاقة وصلة بهؤلاء الرمسيين2. وأما عشيرة "رابن" "رأبان" التي ورد ذكرها في النص Glaser 302 أي3: نص الملك "يهعن" "يهعان" ملك "سمعي", فهم عشيرة قديمة كانت في أيام المكربين وفي أيام ملوك سبأ, وكانت مواطنها أرض "نهم" وأعالي "الخارد", ولكنهم تنقلوا إلى مناطق أخرى بعد ذلك. والظاهر أنهم Rabanitae أو Raabeni الذين كان يحكمهم ملك يعرف بـIlasaros على ما ورد في الكتب "الكلاسيكية"4. وإذا صح أنهم هم "رأبان" دل ذلك على أن "الرأبانيين" قد تمكنوا من الاستقلال ومن تكوين مملكة أو "مشيخة" تلقب رؤساؤها بألقاب الملوك.

_ 1 SAB. INSCHR., S. 144, RW 102, CIH 341, IV, I, IV, P.402. MORDTMANN UND MULLER, SAB. DENKMALER, S. 42 2 الصفة "ص94 سطر 23". 3 GLASER, MITTHEILUNGEN, S. I 4 GLASER, SKIZZE, II, S. 59, FORSTER, II, P.238

سقران

سقران: ومن أتباع "بتع" عشيرة معروفة تقع منازلها في منطقة "حاز" عُثر على عدد من الكتابات تعود إليها في "حاز" و"بيت غفر" و"حجة"، وهذه العشيرة هي "سقرن" أو "سقران"1. ويظهر من جملة: "أدم بن بتع" "أدم بني بتع" التي وردت في كتاباتهم أنهم كانوا أتباعًا لبتع ولسادات "بتع" الذين كانوا "أقولًا"، أي: "أقيالًا" على السقرانيين. والظاهر أنهم كانوا يعيشون في كنف "البتعيين" وفي أرضهم يستأجرونها منهم ويستغلونها مقابل إتاوة يدفعونها لبتع، وهم يؤجرونها لمن دونهم من العشائر والأفراد؛ لورود عدد من الكتابات دوَّنها أناس اعترفوا بسيادة "سقران" عليهم وبأنهم "إدم" "أدم" أي: أتباع لهم2.

_ 1 CIH 156, 221, 239, SAB. INSCHR., S. 87 2 MM 126, 127, CIH 156, SAB. INSCHR., S. 86

قرعمتن

قرعمتن: وورد في الكتابات اسم عشيرة عرفت بـ"قرعمتن" "قرعمتان"، ويظهر أنها كانت في جوار "بتع" و"سقرن" "سقران", وقد عرفت الأرض التي نزلت بها بهذا الاسم كذلك1.

_ 1 CIH 342, OM IIA, B, RW 82, SAB. INSCHR., S. 148, 149, MORDTMANN, SAB. DENKMALER, S. 43

الفصل السابع والعشرون: ملوك سبأ وذو ريدان

الفصل السابع والعشرون: ملوك سبأ وذو ريدان نحن الآن في عهد جديد من عهود تأريخ مملكة "سبأ"، هو عهد ملوك "سبأ وذو ريدان". لقد كان حكام "سبأ" يتلقبون كما رأينا بلقب "ملوك سبأ"، أما لقبهم في هذا العهد فهو "ملوك سبأ وذو ريدان". ففي حوالي السنة "115ق. م" أو في حوالي السنة "118ق. م."، أو بعد ذلك بتسع سنين، أي: في حوالي السنة "109"1، خلع "ملوك سبأ" لقبهم القديم واستبدلوا به لقبًا آخر حبيبًا جديدًا، هو لقب "ملك سبأ وذي ريدان"؛ إشارة إلى ضم "ريدان" إلى تاج سبأ. وبقي هذا اللقب مستعملًا حتى أيام الملك "شهر يهرعش" "ملك سبأ وذي ريدان", ثم بدا له رأي دفعه لتغييره، فاتخذ بدله لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" دلالةً على توسع رقعة سبأ مرة أخرى، فدخلت بذلك حكومة سبأ في عهد ملكي جديد. هذا ما كان عليه رأي أكثر الباحثين في تأريخ سبأ, في زمن نشوء لقب "ملك سبأ وذي ريدان" وفي سبب ظهوره عند السبئيين. وقد اتجه رأي الباحثين المتأخرين إلى أن ظهور هذا اللقب إنما كان قد وقع بعد ذلك، وأن "الشرح يحضب" الذي هو أول من حمل ذلك اللقب لم يحكم في هذا الزمن، وإنما

_ 1 Background, P.97

حكم بعد ذلك في أواخر القرن الأول قبل الميلاد إبان حملة "أوليوس غالوس" على العربية الجنوبية في حوالي السنة "24ق. م."، وعلى ذلك يكون اللقب المذكور قد ظهر في أواخر القرن الأول قبل الميلاد، لا في سنة "115" أو "109" قبل الميلاد1. وبناء على هذا الرأي الحديث المتأخر، لا تكون لسنة "115ق. م" أية علاقة بهذا اللقب الجديد، بل لا بد أن تكون لها صلة بحادث مهم آخر كان له وَقْعٌ في تأريخ العربية الجنوبية؛ ولهذا جعل مبدأ لتقويم يُؤَرَّخ به. وقد زعم بعض الباحثين أن ذلك الحادث هو سقوط مملكة معين في أيدي السبئيين وزوال حكم الملوك عنها، وخضوع المعينيين لحكم "ملوك سبأ". ولما كان ذلك من الأمور المهمة في سياسة الحكم في العربية الجنوبية، جُعِلَ مبدأً لتقويم يؤرخ به. ورأى بعض آخر أن السنة المذكورة، هي سنة انتصار سبأ على "قتبان"، واستيلائها عليها وضمها إلى حكومة سبأ. و"ريدان" قصر ملوك سبأ، ومقر سكنهم وحكمهم. ونظرًا لأهمية هذه السنة اتخذت مبدأ لتأريخ، وبداية لتقويم. وإذا أخذنا بهذا التفسير المتأخر، وجب علينا إذن ترك هذا الزمان واتخاذ زمان آخر لظهور لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، وهو زمان يجب ألا يبعد كثيرًا عن السنة "30ق. م.". ففي هذا الزمن كان حكم "الشرح يحضب" و"شعرم أوتر" على رأي القائلين بهذا الرأي من علماء العربيات الجنوبية. ويعد تأريخ "سبأ وذو ريدان" من أصعب عهود تأريخ "سبأ" كتابةً، على كثرة ما عثر عليه من كتابات طويلة أو قصيرة تعود إلى هذا العهد2. ولا نزال في توقع كتابات أخرى نأمل أن تسد من الثغرات والفجوات التي لم تتمكن الكتابات التي وصلت إلينا من سدها، ولا أن تزيل الغموض الذي يحيط بهذا التأريخ. لقد عثر -كما قلت- على كتابات عديدة دونت في هذا العهد، ومنها ما عثر عليه حديثًا, ولكنها لم تخفف من عنائنا مما نلاقيه من مشكلات عن تأريخ

_ 1 مثل "ملاكر" "Mlaker" و"ريكمنس" وآخرين، Beitrage, S. 142 2 Handbuch, I, S. 89

هذه الحقبة، بل زادت أحيانًا من مشكلاتنا هذه؛ فقد جاءت بأسماء متشابهة وبأخبار اضطرت الباحثين إلى تغيير وجهات نظرهم في كثير مما كتبوه تغييرًا مستمرًّا, وإلى إعادة النظر في القوائم التي وضعوها لحكام هذا العهد، كما باعدت بين وجهات نظر بعضهم عن بعض؛ فصارت لدينا جملة آراء تمثل وجهات نظر متباينة. وتأريخ هذا العهد هو تأريخ مضطرب قلق، نرى "الشرح يحضب" يلقب نفسه فيه بـ"ملك سبأ وذي ريدان"، ثم نرى خصمًا له يلقب نفسه باللقب نفسه، مما يدل على وجود خصومة ونزاع واختلاف على العرش، لا اتفاق وائتلاف. ثم نجد كتابات أخرى تدين بالولاء لـ"الشرح يحضب" ولخصمه معًا, وفي وقت واحد، وفي كتابة واحدة، وهو مما يشير ويدل على وجود اتفاق وائتلاف. وهذه الكتابات تزيد من متاعب المؤرخ وتجعل من الصعب عليه التوصل إلى نتائج تأريخية مرضية مقنعة. وترينا كتابات هذا العهد أن الوضع كان قلقًا مضطربًا, وأن حروبًا متوالية كانت تقع في تلك الأيام، لا تنتهي حرب إلا وتليها حرب أخرى, وأن المنتصر في الحرب كان كالخاسر, فهو ينتصر في حرب ثم يخسر في حرب أخرى؛ وذلك لأن كفاءات مؤججي تلك الحروب كانت في مستوى واحد. ولهذا كان الخاسر فيها لا يلبث أن يعود بسرعة فيقف على رجليه, يحمل سيفه ليحارب من جديد, حتى كادت الحروب تصير هواية، أو لعبة مألوفة، أما الخاسر الوحيد فهو: الشعب, أي: الناس المساكين التابعون لحكامهم، الذين يكونون السواد، لكنه سواد لا رأي له في حكم ما ولا كلمة, يساق من حرب إلى حرب، فيسمع ويطيع؛ لعدم وجود قوة له تمكنه من الامتناع. والمتشاجرون البارزون في تلك المعارك والحروب، هم سادات "همدان"، وسادات حمير، أصحاب "ريدان"، وسادات حضرموت وقتبان، وأقيال وأذواء وأصحاب أطماع وطموح، أرادوا اقتناص الفرص لتوسيع نفوذهم، واصطياد الحكم وانتزاعه من الجالسين على عرشه. ووضعٌ مثل هذا، أضعف العربية الجنوبية بالطبع، وأطمع الحبش فيها، حتى صيرهم طرفًا آخر في النزاع، وفريقًا عركًا قويًّا من فرق اللعب بالسيوف في ميدان العربية الجنوبية،

يلعب مع هذا الفريق ثم يلعب مع فريق آخر، ضد الفرق الأخرى, وغايته من لعبه التغلب على كل الفرق وتصفيتها؛ ليلعب وحده في ميادين تلك البلاد. لذلك نجد أخبار تدخل الحبشة في شئون هذا العهد وفي العهد الذي جاء بعده، بارزة واضحة مكتوبة في كتابات أهل العربية الجنوبية, ومكتوبة في بعض كتابات الحبش. وقد رأينا في الفصل السابق كيف تخاصم بيتان من بيوت همدان هما بيتا: "علهان نهفان" و"فرعم ينهب" بعضهما مع بعض على الاستئثار بالحكم، والسيادة على مملكة سبأ, وكيف أن كل بيت من البيتين كان يدعي أن له الحكم والملك، وأنه ملك سبأ، أو "ملك سبأ وذو ريدان"، وأنه هو الملك الحق. ثم رأينا أن "شعر أوتر" "شعرم أوتر"، صار يلقب نفسه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان"، وأن خصمه "الشرح يحضب" لقب نفسه بهذا اللقب أيضا، ومعنى ذلك حكم سبأ لأرض "ريدان" وهي أرض حمير على أغلب الآراء. وقد رأينا أن تلك الخصومة، لم تبقَ مجرد خصومة ونزاع وادعاء على ملك، بل كانت خصومة عنيفة اقترنت بمعارك وحروب. وليس في الكتابات التي بين أيدينا حتى الآن أي خبر يشرح لنا كيف انضمت حمير إلى سبأ، أو كيف لقب "الشرح يحضب" أو معاصره "شعر أوتر" أنفسهما بلقب "ملك سبأ وذي ريدان" وماذا كان موقف ملوك حمير من هذا الاندماج. ولما كان كلا الرجلين "الشرح يحضب" و"شعر أوتر" من همدان، فهل يعني هذا أن الهمدانيين كانوا قد تمكنوا من حمير وغلبوا ملوك حمير على أمرهم، واضطروهم إلى الخضوع لحكمهم، فاعترفوا بسيادتهم عليهم، وتعبيرًا عن ذلك الاعتراف وضعوا: "ذا ريدان" بعد اللقب الملكي القديم؟ إن الإجابة عن هذا السؤال, لا يمكن أن تكون إجابة مقبولة إلا بعد أمد، فلعل الأيام تجود على الباحثين بكتابات حميرية تشرح موقف حمير الرسمي من هذا اللقب، كأن تعطيهم اللقب الذي كان يلقب الحميريون به ملوكهم، أو تشرح علاقة أولئك الملوك بـ"ملوك سبأ وذي ريدان"، وماذا كان موقف ملوك "ريدان" من ملوك "سلحن" "سلحين" حصن "مأرب" ومقر الملوك. ولكننا سنجد فيما بعد أن الحميريين لم يكفوا عن قتال "الشرح يحضب"،

ولا عن قتال "شعرم أوتر" "شعر أوتر" حتى بعد تلقبهما بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، كما سنرى أن قسمًا من قبائل حمير كان في جانب "شعر أوتر" وأن قسمًا آخر كان في جانب "الشرح يحضب" وأن قسمًا ثالثًا كان خصمًا عنيدًا للجانبين، وكان في جانب خصوم ملوك "سبأ وذي ريدان". ومعنى هذا أن اللقب الجديد, لم يغنِ أصحابه من قتال حمير, وأن الحميريين ظلوا يقاومون العهد الجديد غير مبالين بدعاوى ملوك همدان، وقد دام القتال كما سنرى عهدًا طويلًا أضر بالجانبين من غير شك. وقد أصاب هذا النزاع العربية الجنوبية بأسوأ النتائج، فهدمت مدن، وخربت قرى، وتحولت مزارع كانت خضراء يانعة إلى صحارى مجدبة عبوسة. وتأثر اقتصاد البلاد باستمرار الحروب، وبهروب الناس من مواطنهم ومن مراكز عملهم إلى مواطن بعيدة؛ فتوقفت الأعمال، وسادت الفتن والفوضى. وقد كان المأمول تحسن الأوضاع بعد توسع ملك مملكة سبأ واندماج الإمارات وحكومات المدن فيها وانتقال السلطة إلى ملك واحد ذي ملك واسع، إلا أن هذا التنافس الشديد الذي أثاره المتنافسون على عرش المملكة، أفسد كل فائدة كانت ترجى من هذا التطور السياسي الخطير الذي طرأ على نظام الحكم في العربية السعيدة. وقد برهنت حملة الرومان على العربية السعيدة وقد وقعت في هذا العهد، وكذلك حملات الحبش وقد وقعت في هذا العهد أيضا، على أن حكومة "سبأ وذو ريدان" لم تكن حكومة قوية متماسكة، ولم تكن لديها قوات حربية قوية ولا جيوش منظمة مدربة، حتى لقد زعم من أرخ تلك الحملة من الكَتَبَة اليونان، أن الرومان لم يقاتلوا العرب، ولم يصطدموا بقواتهم اصطدامًا فعليًّا على نحو اصطدام الجيوش، وأن المحاربين العرب لم يكونوا يملكون أسلحة حربية من الأسلحة المعروفة التي تستعملها الجيوش، وأن كل ما كان عندهم هو الفئوس والحجارة والعصي والسيوف؛ ولذلك لم يتجاسروا على الالتحام بالرومان, وقد لاقى الرومان من الحر والعطش والجوع ما جعلهم يقررون التراجع والعودة إلى بلادهم؛ فهلك أكثرهم من العوامل المذكورة. ويؤيد هذا الرأي أيضا توغل الحبش في العربية الجنوبية وتدخلهم في أمورها الداخلية، مع أنها دون الرومان في القوة وفي التنظيم الحربي بكثير. وتوغلهم هذا يدل على أن العربية الجنوبية

لم تكن تملك إذ ذاك قوة بحرية قوية, بحيث تقف أمام الحبش وتمنعهم من الوصول إلى السواحل العربية, مع أن الحبش أنفسهم لم يكونوا يملكون قوة بحرية يعتد بها. ولعل الرومان ساعدوهم في نزولهم في البلاد العربية؛ لأنهم كانوا تحت تأثيرهم, كما صاروا تحت تأثير الروم، أي: البيزنطيين من بعدهم، ولا سيما بعد دخولهم في النصرانية. ويبدأ عهد "ملوك سبأ وذو ريدان" بالنزاع الذي كان بين "الشرح يحضب" وأخيه "يزل بين" "يأزل بين" ابني "فرعم ينهب" من جهة، وبين "شعرم أوتر" و"يرم أيمن"، وهما ابنا "علهان نهفان" "علهن نهفن" من جهة أخرى. وهو في أصله نزاع قديم له تأريخ سابق ومقدمات ترجع إلى أيام أجداد الطرفين، فالنزاع الذي فتح به عهد "سبأ وذو ريدان"، هو فصل أول من جزء من كتاب هو جزء متمم لكتاب سابق. ولا نريد هنا أن نعيد الحديث عن تلك الخصومة التي شغلت الأجيال الأخيرة من مملكة سبأ. وحظ "الشرح يحضب" لا بأس به, بالقياس إلى من تقدمه من المكربين أو الملوك، فقد بقي حيًّا في الإسلام، وخلد في كتب الإسلاميين، فذكره "الهمداني" في كتابه "الإكليل"، وسماه "ألى شرح يحضب"، ونسب إليه قصر "غمدان"، وروى له شعرًا زعم أنه قاله، وذكر أن "بلقيس" هي ابنته1. وحكى "ياقوت الحموي" قصة في جملة القصص التي رواها الأخباريون عن بناء قصر "غمدان"، نسبها إلى "ابن الكلبي"، زعم فيها أن باني هذا القصر هو "ليشرح بن يحصب"2. و"ليشرح بن يحصب" هو "الشرح يحضب", وقد ذكر في صور أخرى، مثل "أبي شرح" و"يحضب شرح"، وهي -ولا شك- من تحريفات النساخ. ونسب "الطبري" بلقيس إلى "إيليشرح"، فجعلها ابنته3. أما "حمزة الأصبهاني"، فقد جعلها "بلقيس بنت هداد بن شراحيل"4, وقد قصد بـ"شراحيل" "الشرح يحضب"، ولا شك، فصيرها حفيدة له.

_ 1 الإكليل "8/ 19 وما بعدها" "8/ 24". 2 البلدان "6/ 301". 3 الطبري "1/ 566" "طبعة دار المعارف". 4 حمزة "ص83".

وهكذا رفع أهل الأخبار أيام "الشرح يحضب"، فصيَّروها في عهد "سليمان" مع وجود فرق كبير جدًّا بين زماني الرجلين. وقد نص في الكتابات على أصل "فرعم ينهب"، فذكر أنه من "بكيل"1, وذكر أنه من "مرثد"، و"مرثد" عشيرة من عشائر "بكيل"2. فهو إذن من قبيلة "همدان"، من غير شك، إلا أننا لا نعرف عنه ولا عن والده شيئًا يذكر, فلا ندري أكان والده من البارزين المعروفين في أيامه أم لا. ونستطيع أن نقول بكل تأكيد: إنه لم يكن ملكًا، وإلا ذكر اسمه وأشير إليه وإلى لقبه في النصوص التي ورد فيها اسم ابنه "شعرم أوتر" "شعر أوتر". ومعنى ذلك أن ابنه "شعر أوتر" لم يكن من الأسر المالكة الحاكمة، بل انتزع الملك بنفسه, وكون نفسه بنفسه، ومهد الحكم بذلك لولديه: "الشرح يحضب" و"يأزل بين". وقد ورد اسم "فرعم ينهب" "فرع ينهب" "فارع ينهب" في النصوص: Jamme 566 وCIH 299 و"نشر: رقم 59". وأشير في النص Jamme 566 إلى "الشرح يحضب" و"يأزل بين" ابني "فرع ينهب"، ولكنه لم يذكر بعد الاسمين واسم الوالد جملة: "أملك سبا"، أي: "ملوك سبأ"، بل ذكر "ملك سبأ"، أي: إن هذا اللقب يعود إلى "فرع ينهب"، كما أنه ذكرت في السطرين الأول والثاني جملة: "رَجُلَيْ ملكن"، أي "رجلي الملك"، مما يدل على أنه قصد ملكًا واحدًا، هو "فرع ينهب". وأما لفظة "رجلي"، فتعني: "ربشمس أضاد" "ربشمس أضأد", و"سعد شمسم" "سعد شمس" شقيقه، وقد كانا مقربيْنِ عند الملك يقضيانِ أموره، فهما الرجلان المختاران عنده، وموضع سره3. وقد لقب "فرع ينهب" في النص: "نشر 59" بـ"ملك سبأ", وقد ذكر فيه أسماء إلهين، هما: "بعل أوَّام"، أي المقه، و"سمع" "سميع" وهو "بعل حرمتن"، اسم مكان فيه معبده4.

_ 1 A. F. L. BEESTON, PROBLEMS OF SABAEAN CHRONOLOGY, P.53, MAHRAM, P.308 2 MAHRAM, P.308 3 JAMME 566, MA PI 2, MAHRAM, P.48, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.285 4 نشر: الرقم 259، ص76 وما بعدها.

ويرى "فون وزمن" أن الملك "فرعم ينهب" "فرع ينهب" "فارع ينهب" "الفارع ينهب"، هو الملك الوحيد الذي نعرفه في هذا العهد. ويرى أن سبب عدم تحرش حمير به، هو بسبب كونه ملكًا لقبائل سبئية محتمية بأرضين مرتفعة محصنة. ويرى أن عهد مشاركة ابنيه معه في الحكم، كان في أيام وجود "ياسر يهنعم الأول" وابنه "شمر يهرعش الثاني" في "ظفار" و"مأرب", ويرى أيضا أن "فرع ينهب" وابنيه كانوا ثلاثتهم تابعين لسلطان ملوك حمير: "ملوك سبأ وذو ريدان"1. كان "الشرح يحضب" مقاتلًا محاربًا، ذكر أنه قاتل في أيام أبيه "فرعم ينهب" حمير وحضرموت؛ لتحرشهم بسبأ وغزوهم لها2. وقد سجل خبر حربه هذه معهم في كتابة وصلت إلينا، سقط منها اسم صاحبها، يفهم منها أن صاحبها قدم إلى معبد "المقه" المقام في "ذ هرن" "ذي هران" وثنًا مصنوعًا من الذهب، حمدًا له وشكرًا؛ لأنه مكَّن سيده "الشرح يحضب بن فرعم ينهب" من أعدائه، ومَنَّ عليه بالنصر وأوقع بعدوه هزيمة منكرة وخسائر جسيمة، ولأنه نصر سيديه "الشرح" وشقيقه "يأزل بين" في غزوهما حمير وحضرموت، ولأنه مكنهما وهما على رأس جيوش "سبأ" و"بحض" "باحض" من الانتصار على قوات "إظلم بن زبنر" "أظلم بن زبنر"3. ولم ترد في هذا النص إشارة إلى موقف الهمدانيين من حضرموت وحمير في حربهما هذه مع سبأ، فلم يرد فيه أنهم ساعدوهم أو اشتركوا معهم. أما "أظلم بن زبفر"، فالظاهر أنه هو الذي كان يقود القوات المشتركة التي حاربت السبئيين، قوات حمير وحضرموت. وفي النص Glaser 119 خبر غزو "الشرح يحضب" أرض حمير وحضرموت ولم يكن "الشرح" يومئذٍ ملكًا، ولكنه كان في درجة "كبر" أي "كبير" على "أقين" "أقيان" "كبر أقين" "كبير أقيان", وهي الدرجة التي كان عليها حتى صار ملكًا. وقد عاد "الشرح" بغنائم كثيرة، وبعدد كبير من الأسرى, ووصل لهيب هذه الحرب إلى أرض "خولان". وقد قدم

_ 1 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.476 2 HANDBUCH., I, S. 92 3 MARGOLIOUTH, TWO SOUTH ARABIAN INSCRIPTINS, P.I

صاحب هذه الكتابة إلى حاميه وإلهه "ومن بعل علمن" "رمان بعل علمان"، الحمد والشكر على هذا التوفيق الذي وفقه لـ"الشرح"، وقدم إلى معبده نذرًا هو وثن "صلمن" تعبيرًا عن هذا الشكر1. والكتابات التي نُعِتَ "الشرح يحضب" فيها بـ"كبر أقين" "كبير أقيان" إذن هي من الكتابات القديمة من أيامه يوم كان في درجة "كبر" "كبير"، أي: في منصب عالٍ رفيع من مناصب الدولة. فقد عثر على كتابات في "شبام أقيان" وفي "شبام سخيم"، ظهر منها أنها من هذا العهد. ومنطقة "أقيان" التي كان "الشرح يحضب" "كبيرًا" عليها، هي "شبام أقيان", وتقع عند سفح "جبل كوكبان"2. أصبح للحميريين في هذا الوقت شأن يذكر؛ أصبحوا قوة فعالة في السياسة العربية الجنوبية، وزَجُّوا أنفسهم في هذا النزاع الداخلي في حكومة سبأ دون أن يقيدوا أنفسهم بجبهة معينة, كانت سياستهم هي مصلحتهم. وأما حضرموت فقد كانت تفتش عن حليف لها لتحافظ على حياتها وكيانها؛ كانت قد تحالفت مع "علهان" على حكومة مرثد، وحافظت على عهدها هذا، فأيدت جانب "شعرم أوتر" في نزاعه مع الشرح يحضب. غير أن مملكة حضرموت لم تبقَ مدة طويلة إلى جانب "شعر أوتر"؛ إذ نراها -كما يظهر من النص Glaser 825- في حرب معه أيام تلقبه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان". وربما كان اختلافهما على أسلاب "قتبان" هو سبب افتراق حضرموت عن همدان, فقد تمكن "شعر أوتر" من الاستيلاء على جزء من أرض حمير ومن استمالة قسم من حمير إليه، بينما مال قسم آخر إلى "الشرح يحضب". وأرادت حضرموت ضم أرض "ردمان" إليها، وأرض ردمان من الأرضين التي كانت تابعة لمملكة قتبان، وهنا وقع الاختلاف؛ فقد كان "شعر أوتر" يريدها لنفسه، فحارب من أجلها في المعركة التي وقعت عند

_ 1 GLASER 119, ABESSIN., S. 105, CIH 140, CIH, IV, I, III, P.203, WINCKLER, DIE SAB. INSCHR. DER ZELT ALHAN NAHFAN'S S. 24, SAB. INSCHR., S. 15, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.459, MAHRAM, P.310 2 BEITRAGE, S. 18

"ديرم" "ديريم" "دير"1. ويظهر من الكتابة المذكورة أن الردمانيين انتهزوا فرصة الحرب التي نشبت بين "شعر أوتر" و"العز" ملك حضرموت، فأغاروا على أرض سبأ، وقصدوا سد مأرب ليلحقوا به أضرارًا، غير أن قبيلة "حملان" التي كانت تحرس السد قابلتها وأرجعتها إلى حيث أتت, وبذلك أخفق غزو ردمان ولم ينل السد أي سوء كان2. وقد يكون هذا الهجوم بأمر من ملك حضرموت، كانت الغاية منه إنزال ضربة قاصمة بالسبئيين؛ بتخريب سدهم الذي هو عرق الحياة بالقياس إليهم وإلى مأرب العاصمة، فترتاح بذلك حضرموت. وقد كان هذا الغزو في أيام "الشرح". وأغلب الظن أن وقوع هذا الغزو كان أثناء الحرب التي نشبت بين "شعر أوتر" وملك حضرموت. وقد كان "الشرح يحضب" يومئذٍ ضد حضرموت, وقد ورد اسمه في النص المذكور إلا أن لم يشر إلى موقفه منها، ولكن ذكر على العادة اسمه ولقبه ثم ذكر اسم "شعر أوتر" بعده، فلا ندري أكان قد أسهم هو أيضا في هذه الحرب مع "شعر أوتر"، أم وقف موقف المتفرج ينتظر النتيجة ليعين موقفه من بعد. مهما يكن من شيء فقد أحس ملك حضرموت بموقف "الشرح"، وعرف أنه يريد أن يتربص به، فأوعز إلى الردمانيين بغزو أرض مأرب وبتهديم السد على نحو ما ذكرت. وقد حارب الردمانيون الحضارمة كذلك، وكانوا في هذا الزمن حلفاء لحمير. ويرى بعض الباحثين أن حمير كانت إلى جانب "الشرح يحضب"، وقد ساعدته في قتاله الحضارمة3. وفي النص المذكور مواضع غامضة ونواقص تحتاج إلى دراسة جديدة وإعادة نظر في صحة نقل الكتابة عن الأصل. ولم تنقطع حروب "الشرح يحضب" مع حمير وحضرموت بعد توليه العرش، فإنا لنجد في نص أن "الشرح"، وكان يومئذٍ ملكًا على "سبأ وذي ريدان"

_ 1 GLASER 825, CIH 334, BERLIN 2672, GLASER, ABESSI., S. 109, WINCKLER, DIE SAB. INSCHRI. DER ZEIT ALHAN NAHFAN'S, S. 17, HANDBUCH, I, S. 93 2 BEITRAGE, S. 38 3 MAHRAM, P.311

قد حارب الحميريين والحضرميين، وكان أخوه إذ ذاك يشاركه في لقبه هذا1. وقد انتصر فيها على أعدائه، غير أن مثل هذه الانتصارات وفي مثل تلك الأيام وفي أرض وعرة متموجة قبلية، لا يمكن أن تكون انتصارات حاسمة تأتي بنتائج إيجابية لمدة طويلة؛ ذلك لأن المغلوبين سرعان ما يجمعون شملهم أو يتحالفون مع قبائل أخرى، فيعلنون حربًا أخرى، والحروب كما نعلم جزء من حياة القبائل. وقد ورد اسم "الشرح يحضب" وأخيه "يأزل بين" في النص الموسوم2 بـGlaser 220، وهو نص دونه جماعة من "بني بتع"، و"بنو بتع" هم من "همدان". دونوه عند إتمامهم بناء "معبد" و"مزود"؛ تيمنًا به وتخليدًا له، وليقف الناس على زمن البناء ذكروا اسمي الملكين. ولم يرد فيه اسم "شعرم أوتر" أو غيره من نسله مع أنهم من "بتع"، و"شعرم أوتر" من "بني بتع". وقد يكون من تعليل ذلك أن هؤلاء البتعيين كانوا من أتباع "الشرح يحضب"، وأن قسمًا من "بتع" كانوا مع "الشرح"، فلم يشيروا إلى اسم "شعرم أوتر"، وقد يكون تعليله أن "شعرم أوتر" كان قد توفي قبل "الشرح"، أو أن "الشرح" كان قد تغلب عليه، أو على من ولي الأمر بعده، ولم يعد أمامه أحدٌ ينافسه من البتعيين. وفي الكتابات التي وسمت بـJamme 574 وJamme 575 وJamme 590 / 5، وهي كتابات عثر عليها منذ عهد غير بعيد، أخبارٌ عن معارك وحروب وقعت بين الملك "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين" من جهة، وبين الأحباش ومن كان إلى جانبهم من قبائل من جهة أخرى. يحدثنا الملكان في النص: Jamme 574 أنهما انتقما "نقمن" من الحبش ومن حلفائهم قبائل "سهرتن" "سهرة"، وذلك في معارك وقعت في مقراتهم "بمقرهمو"، أي: منازلهم وديارهم الثابتة في وادي سهام، فأنزلا بهم خسائر فادحة، ثم توجه الملك "الشرح يحضب" ومعه بعض جيشه وبعض أقياله لمحاربة "أحزب حبشت" أي: أحزاب الحبشة، ويريد بهم فلول الحبش وجيوشهم، التقى بها في وادي

_ 1 Handbuch, I, S. 92, Background, P.94 2 Glaser 220, Cih 241, Iv, I, Iii, P.269

سردد، واشتبك بالحبش وبقبائل سهرة في موضعين, حيث جرت معارك معهم في موضع "ودفتن" "ودفتان" وموضع "وديفان" "ودفن"، ثم في "لقح". ثم اشتبك بعد هذه المعارك بخمس وعشرين جماعة من جماعات "أكسمن" و"جمدن" "جمدان" و"عكم" عك، وبجماعات من سهرة, وقد أنزل بكل هذه الجماعات خسائر فادحة، وغنم منها غنائم كبيرة، وأخذ منها أسرى وماشية كثيرة، ثم عاد إلى مدينة "هجرن صنعو" صنعاء. وحين وصل إليها جاءه رسل "تنبلتم" "جمدن" "جمدان" ومعهم أطفالهم يريدون أن يضعوهم ودائع عنده، تعبيرًا عن طاعتهم له، وإقرارًا بخضوعهم لحكمه. فحفظهم رهائن عنده, وقد أقسموا, وأقسم قوم من أهل "لقح" يمين الإخلاص والطاعة، وحمد "الشرح يحضب" مع شقيقه "المقه ثهوان" على هذا التوفيق1. ويظهر من هذا النص أن الأحباش، ومعهم أهل "سهرة" الذين كانوا قد استقروا واستوطنوا "وادي سهام"، كانوا قد تحرشوا بالسبئيين، وقاتلوا جيوش "الشرح يحضب", أي: جيوش مملكة "سبأ وذي ريدان", فقرر الملك الانتقام منهم والأخذ بثأره، فاتجه نحو الشمال حيث تقابل مع الحبش في "وادي سردد"، على مسافة "40" كيلومترًا شمال مدينة "الحديدة". فوقعت معارك بينه وبينهم في سهل "ودفين" "ودفتان" و"دفن" "ووفان"، وفي أرض "لقح" "لقاح". وقد تقابل السبئيون بعد "لقاح" بجماعات عددها خمس وعشرون جماعة من "أكسوم" و"جمدن" "جمدان"، وعك، وسهرة, غلبها جيش "الشرح" وشتت شملها. ثم عاد الملك بعد ذلك إلى "صنعاء"، حيث استقبل رسل "جمدن"، على نحو ما ذكرت. ويحدثنا النص Jamme 575 عن معارك وقعت أيضا بين "الشرح يحضب" وأخيه "يأزل بين" من جهة، وبين الأحباش وحلفائهم عشائر "سهرة" وعشائر أخرى من جهة ثانية، ويذكر أن الملك "الشرح يحضب" وضع خطة محاربة الأحباش وحلفائهم وهو في "صنعاء". وبعد أن أتم كل شيء، أرسل مقدمة من الأدلاء "بقد ميهمو دلولم"؛ لتتعرف على مواضع العصابات المنشقة,

_ 1 Jamme 574, Mamb 153, Mahram, P.60

ثم سار الجيش إلى أرض عشائر "سهرة" حيث أبلغ بوجود عصابات فيها، كانت منتشرة في كل مكان ابتداءً من موضع حصن "وحدة" "وحدت" "عرن وحدت". فلما رأت العصابات ذلك الجيش، ظعنت "ظعنو" إلى البحر "لبحرن"، فتعقب آثارها حتى أدركها فحاربها. ثم التف حول الحبش وحلفائهم من "عك" و"سهرة" الذين كانوا قد عسكروا بعيدًا عن مواضع أطفالهم وأموالهم، فأعمل الجيش فيهم السيف، فقتل منهم عددًا كبيرًا وذبح الحبش، حتى صاروا بين قتيل أو أسير، وحصل جيش "الشرح" على غنائم كثيرة من هؤلاء. ثم اتجه جيش "الشرح يحضب" بعد هذه المعارك نحو الشرق؛ لمنازلة فلول الأحباش وبقيتهم, وكذلك عك وبقية حلفائهم، فبلغ موضع "عينم" "عين" و"هعان" "هعن"، واصطدم بهم، فأعمل فيهم السيف حتى تغلب عليهم وأخذ منهم عددًا كبيرًا من الأسرى واستولى على غنائم كبيرة، عاد بها حيث وضعت أمام شقيق "الشرح يحضب"، أي: "يأزل بين" في "صنعاء" وفي قصر "سلحن" سلحين، أي: قصر الملك في مأرب1. ولا نعلم شيئًا أكيدًا عن موضع حصن "وحدت" "وحدة"، ويظن بعض الباحثين أنه لا يبعد كثيرًا عن وادي "صور"، وهو أقرب إلى البحر منه إلى الهضاب؛ ذلك لأن العصابات كانت قد هرعت منه إلى البحر، لتنجو بنفسها من تعقب جيش "الشرح" لها. وهناك وادٍ يسمى "وادي وحدة"، وهو في أرض حمير، غرب "قعطبة" التي تقع على مسافة "125" كيلومترًا شمال غرب "عدن" وحوالي "170" كيلومترًا شمال شرقي "مخا"2. ولا نعلم شيئا أكيدا عن موضع "عينم" "عين" "العين"، وإذا ذهبنا إلى أنه موضع "العين" الذي يقع على مسافة أربعين كيلومترًا من شمال شرق صنعاء وزهاء عشرة كيلومترات من جنوب غربي عمران، وإذا فرضنا أن "هعن" وهو الموضع الثاني الذي جرى فيه القتال هو موضع "هواع" الذي يقع على مسافة "35" كيلومترًا من شمال غرب عمران، فإن ذلك يقربنا من

_ 1 Jamme 575, Mamb 224, Mahram P.64 2 Mahram, P.316

منازل قبائل "بكيل" المذكورة في السطر الثالث من النص، حيث كانت قد اشتركت مع الحبش في قتال جيش "الشرح يحضب" كما يفهم منه. وهذا مما يحملنا على الذهاب إلى أن "عينم" هي "العين"، وأن "هعن" هي "هواع"1. وقد أشير في نص وسم بـJamme 590 إلى معارك وحروب وقعت مع عشائر "سهرة"، إذ يحدثنا في هذا النص "وهب أوم" و"سعد أوم"، وهما من بني "كربم" "كرب" و"معدنم" "معدن"، بأنهما قدما إلى الإله "المقه" "بعل أوام" تمثالًا؛ لأنه مَنَّ عليهما فأعادهما سالميْنِ من "سهرة"، حيث قاتلا هناك مع سيدهما "الشرح يحضب"، ولأنه أعادهما سالمين من المعارك التي جرت فيها، وكانا في جيش هذا الملك، حيث هوجمت قطعات "مصر" جيش ذي ريدان في حقل "ريمتم" "ريمت" "ريمة"، ولأنه أنعم عليهما بغنائم كثيرة وبأسرى، ولكي يديم نعمه عليهما وعلى سيديهما الملكين2. وتنبئنا النصوص: Jamme 578 وJamme 580 وJamme 581 وJamme 586 وJamme 589 بأن الملكين الأخوين حاربا "كرب إيل ذي ريدان" وكل من كان معه من كتائب محاربة "كل مصر" وقبائل "أشعب" ومن محاربي حمير الذين حاربوا إلى جانبه وحالفوه وكذلك "ولدعم"، أي القتبانيين. وقد اجتمعت كل هذه القوى تحت إمرة "كرب إيل" وتقدمت نحو "حقل حرمتم" "حرمة"، ففاجأتها قوات الملكين عند "أساي" "أسأى" و"قرنهن" "قرننهن" حتى "عروشتن" و"ظلمن" "ضلمان" و"هكربم" "هكرب"، فأذاقتها الموت، ومع ذلك بقيت تلك القوات منشقة خارجة على طاعة الملكين، تباغت قواتهما بين الحين والحين، تغدر وتخون، لا تراعي ذمة ولا تخشى عقابًا، على الرغم من الخسائر التي حلت بها؛ فقرر الملكان عندئذ محاربتها، وسارت قواتهما إلى "كرب إيل ذي ريدان" وإلى حلفائه الذين انضموا إليه وساعدوه: من حمير ومن قتبان، ومن أقيال وجيوش وفرسان،

_ 1 Mahram, P.316 2 Jamme 590, Mamb 181, Mahram, P.96

وكانوا قد تجمعوا في وادي "إظور" "أظور"، ولما وصلت قوات الملكين، اشتبكت بهم عند مدينتي "يكلا" "يكلأ" و"إبون" "أبون"، فتغلبت عليهم قوات الملكين، واضطرت بعض كتائب "كرب إيل" إلى التقهقر إلى مواطنها، وغادر "كرب إيل" المكان تاركًا فيه من تبقى من جيشه ولم يرسل رسلًا عنه، وسرعان ما أعلنوا انصياعهم لأوامر الملكين وخضوعهم لها، وحلفوا على الطاعة. أما "كرب إيل ذي ريدان" فقد لجأ إلى مدينة "هكرم" "هكر" فتحصن بها، وأغلق أبوابها، فاضطر الملكان إلى قصد أرض حمير، ومحاصرة المدينة التي اقتحمت ونهبت1. يظهر مما تقدم أن قوات "الشرح يحضب" هاجمت قوات "كرب إيل ذي ريدان" في أرض "حرمتم" "حرمة" في بادئ الأمر، وتقع على مقربة من جبل "أتوت"، جنوب شرقي "ريدة". وقد ألحقت قوات "الشرح" بقوات "كرب إيل" خسائر متعددة، وهزمتها في جملة معارك وقعت فيما بين "أساي" "أسأى" و"قرننهن" "قرننهان"، وامتدت حتى "عرشتن" و"ظلمن" "ظلمان" و"هكربم" "هكر", وهي مواضع لا نعرف من أمرها شيئا يذكر. ويظن أن موضع "عروشتن" هو "العروش" في أرض "رداع". وهناك مواضع أخرى يقال لها "عروش"، منها موضع ذكره "كلاسر" وسماه "بلاد العروش"، ويقع على مسافة "95" كيلومترًا جنوبي غربي مأرب، وزهاء "70" كيلومترًا جنوبي شرقي صنعاء، وموضع آخر يسمى بهذا الاسم يقع في منتصف طريق صرواح وذمار2. وهناك موضع يقال له: "ظلمة" "ظلمه"، يقع على مسيرة ثلاث ساعات من غرب "سحول" السحول, و"سحول" في أرض حمير. ويقع وادي سحول في شمال "إب"، فلعل له علاقة بموضوع "ظلمان"3. ويظهر من النص Jamme 578 أن "كرب إيل" بعد أن أصيب بهزائم في أرض "حرمة" في المعارك التي أشرت إليها، نبذته قبائل حمير، فاضطر إلى أن يتراجع إلى أماكن أخرى؛ ليجمع فلوله ويضم إليه من بقي مواليًا له،

_ 1 Jamme 578, Mamb 263, Jamme 589, Mamb 179, Mahram, Pp.83, 96 2 Mahram, P.317 3 Mahram, P.317

فاستطاع أن يجمع أعوانه وأنصاره ومن كان يميل إليه ويؤيده، جمعهم في وادي "أظور"، غير أن قوات الملكين هاجمته فأصابته بهزيمة اضطُرَّ على أثرها إلى الالتجاء إلى مدينتي "يكلا" "يكلأ" و"إبون" "أبون" "أبوان"، وأجبر على أن يعطي عهدًا بالولاء للملكين، وعلى الاعتراف بسيادتهما عليه, إلا أنه تحصن بمدينة "هكرم" "هكر"، وامتنع بها وأغلق عليه الأبواب عندما جاءته قوات الملكين تطلب منه الاستسلام. وهاجمت قوات الملكين المدينة، واستباحتها؛ فاضطر "كرب إيل" إلى الاستسلام وإعلان طاعته وخضوعه للملكين1. ويحدثنا النص: Jamme 586 بأن الملكين تمكنا من سحق عصيان حمير ومن إنزال خسائر فادحة بمحاربيهم ومن تأديب عشائرها، ثم أنزلا خسائر فادحة بقوات "كرب إيل" وبكتائب حمير المحاربة التي كانت معه، وغنما من هذه المعارك غنائم كثيرة. وقد قام صاحب النص بغارة مع أربعين جنديًّا على منطقة "سرعن" "سرعان"، فوجدوا هناك مائة جندي من جنود حمير فباغتوهم، وقتلوا منهم سبعة وعشرين نفرًا، ثم تقدم صاحب النص على رأس قوة مكوَّنة من خمسين جنديًّا من "سرعان"، فهاجم قبيلة "قشمم" "قشم"، وتمكن رجاله من قتل "الزاد" الزأد" من عشيرة "ربحم" "ربح" "رباح"، ومن قتل واحد وخمسين محاربًا من رجاله. ثم عاد مع رجاله بغنائم كثيرة وبعدد من الأسرى2. ويظهر أن القتيل "الزاد" "الزأد" كان رئيسًا من رؤساء العشائر، ومن مثيري الاضطرابات والفتن، ومن العصاة على حكم سبأ وذي ريدان. وأما "قشم" فقبيلة أو عشيرة، كانت منازلها جنوب "ردمان" وغرب "مضحيم" "مضحي"3. وقد سجل الملكان أخبار انتصارات لهما في نص موسوم بـJamme 576, وقد افتتح نصهما بمقدمة تخبر أن الملكين انتصرا بفضل توفيق الإله "المقه ثهون" "المقه ثهوان" ومساعدته لهما على جميع أعدائهما من المحاربين والقبائل ومن ثار عليهما، ابتداءً من القبائل النازلة في الشمال وفي الجنوب إلى المحاربين الذين

_ 1 Mahram Pp.317-318 2 Jamme 586, Mamb 262, Mahram, P.93 3 Jamme, P.318

حاربوا على اليابسة وفي البحر1، وأنهما لذلك شكرا إلههما بأن قدما إليه تماثيل تعبيرًا عن حمدهما له ولمننه الطائلة عليهما، ولأنه وفقهما أيضا في أسر "ملكم" مالك، ملك "كدت" "كدة" "كندة"، وأسر جماعة من سادات قبيلة "كدت" "كدة" "كندة"؛ لأن "مالكًا" كان قد ساعد أعداء "المقه" وأعداء الملكين: "مراقيس بن عوفم" "مراقيس" امرأ القيس بن عوف، ملك "خصصتن" "خصصتان". وقد وضعوا في مدينة "مرب"، وبقوا فيها إلى أن سلم لهما الشاب "مراقيس" "مرأقيس"، وكذلك ابن الملك "مالك" وأبناء سادات كندة؛ ليكونوا رهائن عندهما، فلا يحنثوا بيمين الطاعة للملكين, وقد سلموا للملكين أفراسًا وحيوانات ركوب وجمالًا2. ويظهر من الفقرة المتقدمة من النص أن "مالكًا" كان من "كندة" "كدة" وكان ملكا عليهما أيام حكم "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل بين", وقد ساعد "مراقيس" "مرأقيس" "امرأ القيس" ملك مملكة صغيرة اسمها "خصصتن" "خصصان"، الذي كان ضد سبأ، فأثارت هذه المساعدة غضب الملكين، فساقا جيوشهما على كندة وعلى "خصصتن". وقد انتصرا عليهما، فأسر ملك كندة، وأسر معه عدد من سادات كندة، فأخذوا إلى مدينة تسمى "مرب"، يظن الباحثون أنها ليست "مأرب"، بل مدينة أخرى من مدن شعب "مرب"، Marabites الذي يسكن أرض عدن، ووضعوا رهائن فيها، إلى أن جيء بـ"مراقيس" "مرأقيس"، وهو ملك شاب، وبابن ملك كندة وبأولاد سادات كندة حيث وضعوا رهائن عند الملكين؛ ليضمنا بذلك بقاء كندة ومملكة "خصصتن" على الطاعة والإخلاص لهما3. ويظن أن أرض مملكة "كدت" "كدة" "كندة" كانت في جنوب "قشم", وأما أرض "خصصتن" فتقع في أرض "عدن"4.

_ 1 الفقرة الأولى من النص: Jamme 567, Mamb 212, Geuken 3, Mahram, P.67 2 الفقرة الثانية من النص، Ryckmans 535, Von Wissmann, Zur Geschichte, S. 404, Die Araber, Ii, S. 322 3 D. H. Muller, Al-Hamdani, 53, 124, W. Caskel, Entdeckungen In Arabien, Koln, 1954, S. 9. Mahram, P.318 4 Mahram, P.318

وقد تحدث الملكان بعد انتهاء كلامهما على كندة وعلى"خصصتن" عن حملات تأديبية انتقامية أرسلاها على أحزاب "أحزب" حبشية محاربة، أي: عصابات منهم كانت تعيث فسادًا فتغير وتغزو، وعلى عشائر "سهرة"، وعلى "شمر ذي ريدان"، وعشائر حمير؛ وذلك لأن كل من ذكروا حنثوا بيمينهم وخاسوا بوعدهم الذي قطعوه على أنفسهم، فثاروا على ملكي "سبأ وذي ريدان", فخرج الملكان من "مأرب" إلى "صنعاء"؛ لمحاربة "شمر ذي ريدان" وعشائر حمير و"ردمان" و"مضحيم" "مضحي". وقاد الملك "الشرح يحضب" بعض أقياله وجيشه وفرسانه ودخل أرض حمير، حيث حطم مقاومة حمير وقمع ثورتها، واقتحم "بيت ذ شمتن" "بيت شمتان" ومدينة "دلل" دلال و"بيت يهر" ومدينة "أظور" على حدود أرض "قشم"، وأباح تلك المدن وحصل منها على غنائم طائلة وأسر كثيرين1، ثم عاد إلى معسكره بين مأرب وصنعاء2. ويظهر من هذا الخبر أن "شمر ذي ريدان" ومن كان معه من عشائر حمير ومن الحبش وعشائر "سهرة"، خاصم ملكي سبأ، فجرد الملك "الشرح يحضب" حملة عسكرية عليه وعلى حلفائه قادها بنفسه، فتمكن كما يذكر في نصه من الانتصار عليها ومن التغلب على المتحالفين ومن فتح المدن المذكورة. غير أن هذا النصر لم يحقق له إسكات "شمر ذي ريدان" وإخماد حركته وحركات من كان معه، إذ سرعان ما عاد "شمر" إلى العصيان وإلى الثورة على ملكي سبأ، وإلى تجدد القتال بينه وبينهما، وسرعان ما عاد مع حلفائه الحبش يقارعون جيش "سبأ وذي ريدان" بالسيوف في معارك عديدة ذكرت في النص: Jamme 576, وفي نصوص أخرى. فبينما كان الملك "الشرح يحضب" مع جنوده في معسكراته بين مأرب وصنعاء، أرسل "شمر ذي ريدان" كتائب "مصر" من حمير إلى الأرض المحيطة بمدينة "باسن" "بأسان" وإلى المدينة نفسها، التي هي "بوسان"؛ لتقوية استحكاماته هناك، وللاستعداد لمقاومة "سبأ وذي ريدان"، فأسرع

_ 1 الفقرة الرابعة من النص. 2 Mahram, P.319.

"الشرح يحضب" وتقدم على رأس أقياله وقواده وجيوشه نحو المدينة المذكورة، ففتحها واستباحها، وحصل جنوده على أسرى وغنائم، ثم اتجه الملك "الشرح يحضب" منها نحو سهل "درجعن" "درجعان"، فلم يجد أحدًا يحاربه؛ لأن قوات "شمر" كانت قد انسحبت منه، فاتجه منه إلى أرض "مهانفم" مهأنف، وأرسل قوات خاطفة سريعة غزت سكانها، وتمكنت منهم وحصلت على غنائم كثيرة وعلى أسرى، ثم اجتازت قوات الملك حمر "مقلن" "يلرن" يلران، قاصدة مدينة "تعرمن" "تعرمان"، فافتتحتها وأسرت أهلها, ثم عادت بأسراها وبغنائمها إلى معسكراتها بمدينة "نعض" "ناعض" فرحةً مسرورة1. وقبيلة "مهانف" "مهأنف" من القبائل المعروفة، التي ورد اسمها في عدد من الكتابات. وقد اقترن اسمها باسم قبيلة "بكيل" في النص: CIH 140، وذكرت مع قبيلة أخرى تسمى "ظهر" ظهار2. وعاد "الشرح يحضب" فقاد جيشه لغزو القسم الشرقي من أرض "قشمم" "قشم"، فتمكن منه، وافتتح مدينة "أيضمم" "أيضم" وكل الأماكن الواقعة في هذه المنطقة من "قشم"، ثم عاد الجيش إلى معسكراته في مدينة "نعض"3. وتحرك الملك "الشرح يحضب" مرة أخرى، فخرج من مدينة "نعض" على رأس قواته إلى أرض قبيلة "مهانفم" "مهأنف"، وكانت قواته تتألف من مشاة وفرسان، وفتح مدينتي "عثي" و"عثر"، وأخذ منهما غنائم كثيرة، وحصل على أسرى، ثم تركهما واتجه نحو مدينة "مذرحم" "مذرح" وهي مدينة عشيرة "مذرحم" "مذرح" "مذراح"، فحاربها وحارب عشيرة "مهأنف" التي فرت إلى مدينة "ضفو" "ضاف"، ففتحها وأخذ غنائم منها، ثم غادرها إلى مدينة "يكلا" "يكلأ" "يكلئ" حيث وجد بعض رؤساء ريدان وبعض كتائب حمير، فالتحم بهم وهزمهم من موضع

_ 1 الفقرة السادسة والسابعة من النص. 2 Jamme 651, Mahram, P.319 3 الفقرة السابعة من النص.

"مرحضن" "مرحضان"، وتعقب فلولهم حتى بلغ "يكلا" "يكلأ"، وعندئذ عادت قوات "الشرح يحضب" إلى مدينة "نعض"، حيث معسكرها الدائم1. وقد انتهز الحميريون فرصة انسحاب قوات "الشرح يحضب" إلى "نعض" ففاوضوا رؤساء "يكلا" "يكلأ" على الاتفاق معهم للانتقام من السبئيين ولمهاجمة وادي "سر نجررم" "وادي نجرر" فأسرع الملك "الشرح" نحو "يكلا"، فبلغه أن رؤساءها لم يكونوا على وفاق مع حمير، وأنهم دفعوهم عنهم، فعاد الملك إلى قواعد جيشه في مدينة "نعض"، ثم غادرها إلى "صنعاء"2. وعلم الملك "الشرح يحضب"، وهو في "صنعاء" بأن "شمر ذي ريدان" قد أرسل رسلًا إلى "عذبة" "عذبت" عذبة ملك "أكسوم" ليدعوه إلى شد أزر "شمر" ومساعدته على "الشرح يحضب"؛ فقرر الملك الإسراع لمباغتة "شمر" ومن كان يؤيده، وترك "صنعاء" في الحال؛ لمباغتة عشائر حمير و"ردمان" و"مضحيم" "مضحي"، وأرسل في الوقت نفسه رسلا إلى الحبشة "حبشت"3. وقد هاجمت قواته سهل "حرور" و"أرصم" "أرص" و"درجعن"، فتغلبت على سكان هذه المواضع، وأخذت منهم أسرى وغنائم. وقد سار جيش الملك حتى بلغ موضعي "قريب" و"قرس" "قريس"، فردم آبارهما، واستولى على مدينة "قريس"، واتجه "الشرح يحضب" من هذه المدينة نحو أرض "يهبشر" و"مقرام" "مقرأم" و"شددم" "شدادهم" "شدد" "شداد", وأخذ غنائم وأسرى من أهل هذه الأرضين. وعندئذ وجد نفسه نحو "بيت راس" "بيت رأس"، فاستولى عليه وعلى كل حصونه وأبراجه، وعلى مدينة "راسو" "رأسو"، ثم توجه نحو "بيت سنفرم" "بيت سنفر" حيث أخذ كل العصاة الذين كانوا قد اختلفوا فيه, ثم قصد مدينة "ظلم"، فوجه إليها قوات كبيرة من المشاة بقيادة ضباطه الكبار، فاستولت عليها، ودحرت خيرة قوات "شمر ذي ريدان" التي وضعها فيها،

_ 1 الفقرة التاسعة من النص. 2 الفقرة العاشرة من النص. 3 السطر السادس من النص. Jamme 577

فجمع "شمر" قواته وكل من ساعده من حمير وردمان ومضحي؛ ليصد جيش "الشرح يحضب" وعسكر بها بين مدينتي "هرن" "هران" و"ذمر" "ذمار"1، وأقام هناك استعدادًا لجولة جديدة. ورأى "الشرح يحضب" وجوب مباغتة هذه القوة المتجمعة، قبل أن يشتد ساعدها وتصبح قوة محاربة قوية، فسار على رأس ألف وخمسمائة جندي وأربعين فارسًا، ومعه عدد من الأقيال، حتى التقى بجمع "شمر ذي ريدان" ومعه عشائر من حمير وردمان ومضحي، وزهاء ستة عشر ألف بعير، فباغت "الشرح يحضب" جمع شمر، وهرب بعض الريدانيين وبعض عشائر حمير إلى مدينة "ذمار"، وذهب بعض الفرسان ومعهم قوات أخرى إلى معسكراتهم في "أنحرم" "أنحر" و"طريدم" "طريد", وأخذ قسم من القوات يطارد "شمر ذي ريدان"2. ولم يتحدث النص عما وقع بعد ذلك؛ إذ أصاب آخر الكتابة تلف، أو لأن بقيتها كتبت على حجر آخر لمَّا يُعثَرْ عليه، فأضاع خبر بقية الحملة. ولكن النصوص: Jamme 577 وJamme 585 وCIH 314 + 954 تفيدنا في الوقوف على أنباء معارك وقعت بين "شمر ذي ريدان" وحلفائه, وبين "الشرح يحضب" بعد المعارك المتقدمة. وقد أصاب النص Jamme 577 تلف أضاع فهم مقدمته، فاقتحم بجملة: وقتل فرسه، ثم اتجهوا نحو مدينة "زخنم" "زخان"، وأصابوا غنائم من كتائب حمير وردمان ومضحي أرضتهم، ثم غادرهم الملك "الشرح يحضب" وذهبوا إلى "ترزنن" "ترزنان"3. فيظهر من هذه الفقرة أن الملك "الشرح يحضب" اكتفى بعد انتصاره على خصومه في معركة مدينة "زخان"، فعاد إلى قاعدته، وذهب قسم من جيشه إلى مدينة "ترزنن"؛ ليستجم من القتال. ثم يذكر النص أن "شمر ذي ريدان" ومن انضم إليه من حمير ومن "ولد عم" أي: القتبانيين، صدوا عن الحق, وعصوا، وتجمعوا للزحف ثم

_ 1 الفقرة 14 من النص. 2 الفقرة 16 من النص. 3 الفقرة الأولى من النص. JAMME 577, MAMB 219, MAHRAM, P.76, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.286

ذهبوا إلى "ذمار" فتحصنوا فيها، ثم اتجهوا نحو مدينة "نعض"، ثم رجعوا وعسكروا بين المدينتين، فواجهتهم قوات "الشرح يحضب" وتعقبتهم في المواضع المذكورة، وأنزلت بهم خسائر كبيرة، ثم رجعت بغنائمها إلى مدينة "صنعاء", ومعها ماشية كثيرة وأسرى وغنائم وأموال طائلة1. ويظهر أن "شمر ذي ريدان" قد تمكن خلال هذه المدة من إقناع الحبش بالانضمام إليه ومساعدته في حروبه مع خصمه "الشرح يحضب"، فأمده "جرمت ولد نجشين"، "جرمة ولد النجاشي" "جرمة بن النجاشي" بكتائب حبشية محاربة قَوَّتْ مركزه كثيرًا، ترأسها هو بنفسه وجاءته أمداد من "سهرة"، فأخذ يتحرش بالسبئيين، مما حمل الملك "الشرح يحضب" على السير إليه لمقابلته مترئسًا قوة, قوامها ألف محارب وستة وعشرون فارسًا، فاصطدم ببعض قوات "شمر" وتغلب عليها وأخذ منها أسرى وغنائم، ثم حدث أن وصلت أمدادٌ من الحبش لمساعدة تلك الكتائب المندحرة في موضع "أحدقم" "أحدق"، فقابلها مشاة "رجلم" "رجاله" من جيش الملك "الشرح يحضب" أنزلوا بها خسائر وشتتوا شملها، وعاد الملك "الشرح يحضب" مع أقياله ورجاله إلى صنعاء، ومعه أسرى وغنائم وأموال طائلة2. وقد انتصر "الشرح يحضب" على الحبش كذلك، وعاد "جرمة" إلى قواعده مغلوبًا على أمره، جزاء نكثه العهد وازدرائه بمهمة الرسل الذين أرسلهم "الشرح يحضب" إليه؛ لإقناعه بعدم مساعدة "شمر ذي ريدان" ومن انضم إليه، وذلك كما يذكر النص3. وتطرق النص بعد ما تقدم إلى الحديث عن دحر ثائر آخر كان قد أعلن الثورة على الملكين، اسمه: "صحبم بن جيشم" أي: "صحب بن جيش"، "صحاب بن جياش". ويظهر أن ثورته لم تكن على درجة كبيرة من الخطورة؛ لذلك لم يرأس "الشرح يحضب" نفسه الحملة التي أرسلت للقضاء عليه، بل رأسها قائد من قواده اسمه "نوفم" "نوف"، وهو من "همدان" و"غيمان". وقد تألفت الحملة من محاربين من "حاشد" ومن "غيمن" "غيمان",

_ 1 الفقرة الثانية من النص. 2 الفقرة الرابعة والخامسة من النص. 3 الفقرة السادسة منه.

فانتصر "نوف" على خصمه انتصارًا كبيرًا، وكان في جملة ما جاء به من تلك الحملة رأس صحب ويداه1. وتقع مدينة "غيمان" على مسافة اثني عشر كيلومترًا من جنوب شرقي مدينة صنعاء2. وانتقل الحديث من مقتل "صحب بن جيش" إلى الكلام على ثورة قبيلة "نجرن" "نجران" على الملكين. وكانت هذه القبيلة قد أُكرهت من قبل على الخضوع والاستسلام لحكم "سبأ ذي ريدان"، ولكنها عادت فأعلنت عصيانها على الملكين، بتحريض من الحبش، فسار الملك "الشرح يحضب" بنفسه على رأس قوة من أقياله وفرسانه إليها، فحاصر مدينة "ظربن" "ظربان" مدة شهرين، فصبرت وقاومت ولم تسلم؛ لأنها كانت تؤمل أن تصل إليها أمداد ومساعدات وقوات من ملك حضرموت الذي وعدها بذلك ومن قبيلة نجران، فقوى ذلك الأمل عنادها، وشد من عزيمتها على الدفاع عن نفسها، ولطول مدة الحصار الذي دام شهرين، قرر الملك العودة إلى صنعاء3. وقد ترك الملك "الشرح يحضب" قسمًا من جيشه لمراقبة الأوضاع، وضعه تحت قيادة قائدين من قواده الكبار، أحدهما: "نوفم" "نوف" الذي قتل الثائر "صحب بن جيش". ووصلت في خلال هذه المدة أمداد إلى ممثل النجاشي "سبقلم" "سبقل"، الذي يمثله في مدينة "نجران" ولدا قبيلة نجران، فهاجم القائدان بقواتهما وبمساعدة رجال محاربين من حاشد وغيمان وبأربعة عشر فارسًا، واديي نجران، فانتصرا وحصلا على غنائم عادا بها سالمين إلى "صنعاء"4. ويظهر أن رجوع "الشرح يحضب" إلى "صنعاء" كان من أجل إعادة تنظيم صفوف جيشه, ولوضع خطة محكمة لملاقاة أعدائه حتى إذا تم له ذلك ووضع الخطط اللازمة لمهاجمة أعدائه، غادر صنعاء متوجهًا إلى وادي "ركبتن" "ركبتان"، وقد التقى فيه بأعدائه فأنزل بهم خسائر كبيرة، فقتل عددًا كبيرًا

_ 1 الفقرة السابعة من النص. 2 Mahram, P.322 3 الفقرة الثامنة والتاسعة من النص. 4 الفقرتان العاشرة والحادية عشرة من النص.

منهم، وأسر عددًا من سادات "مراس" وأحرار "أحرر" نجران، فسِيقوا إلى "مسلمن" "مسلمان". ولم يستطع خليفة "عقبهو" النجاشي أن يساعد المنكسرين. وقد أعلن المنهزمون خضوعهم لحكم الملكين، ولكي يحافظوا على وعدهم هذا ويعبروا عن طاعتهم هذه, وضعوا أبناءهم وبناتهم رهائن في مدينة "صربن" "صربان" وفي وادي نجران, ولوجود بعض التلف في نهاية الفقرة الرابعة عشرة، لا نعلم ماذا حدث من تفاصيل في حصار نجران. غير أن النص يعود فيذكر أن "924" قتلهم الأعداء في المعركة وأن "562" أسيرًا وقعوا في أيدي قوات "الشرح يحضب"، وأن "68" مدينة فُتحت ونُهبت وأُبيحت، وأن ستين ألف حقل من الحقول التي يرويها الماء دمرت، وأن سبعًا وتسعين بئرًا دفنت ودمرت، وغنم المحاربون غنائم كثيرة رجعوا بها شاكرين إله سبأ, على ما أشار النص إلى مقري حكم الملكين: "قصر سلحن" "قصر سلحان" في مأرب, وقصر "غندن" "غندان" الذي هو قصر غمدان عند أهل الأخبار1. ويعد النص الموسوم بـCIH 314 من النصوص المهمة المتعلقة بالحروب المذكورة, فهو يتحدث عن أمور خطيرة وقعت في تلك الأيام. وقد جاء في هذا النص: أن "رب شمس"، قيل "قول" عشيرة "بكلم"، أي "كيل" التي تكوِّن ربع "ذريدت" "ذي ريدة"، و"وهب أوم" من "جدنم" "جدن" و"خذوت" "خذوة"، وكانا "مقتويي" "الشرح يحضب" وشقيقه "يأزل"، نذرا للإله "المقه بعل مسكت ويث" و"برأن"، تمثالين من الذهب؛ لأنه من على سيديهما الملكين، وحفظهما، وكان ذلك في شهر "ذي نيل" من السنة السادسة من سني "تبع كرب بن ودال" "تبعكرب بن ود إيل"، ولأنه ساعدهما ونصرهما وأَذَلَّ أعداءهما، وأكره "شمر ذي ريدان" على إرسال رسول عنه يطلب الصلح منهما، وأجبر الريدانيين وأحزابهم وحلفاءهم الحبشة من مدينتي "زوم" و"سهرة" على الطاعة والخضوع2، وعلى طلب عقد الصلح، على حين كان "شمر ذو ريدان وحمير"، يطلب النجدة من

_ 1 الفقرة 12 فما بعدها إلى نهاية النص. 2 "أحزب حبشت هجرن زوم وسهرتن"، CIH 314, GLASER 424, LOUVRE 4088, CIH, IV I, IV, P.340 GLASER, ABESSI., S. 117, LE MUSEON, 3-4, 1948, P.232

حلفائه الحبشة لمحاربة ملكي سبأ, ولكن الإله "المقه" خيب ظنه، وخذله، ونصر الملكين: "ملكي سبأ وذي ريدان". وقد ساعد "شمر ذي ريدان" واشترك معه في هذه الحرب عددٌ من القبائل منها: "سهرتن" "سهرتان"، و"ردمن" "ردمان"، و"خولن" "خولان"، و"مضحيم" "مضحي", وأرسل قوة لحماية مدينة "باسن" "بأسن" "بأس"، وهي من المدن الواقعة في جنوب غرب "وعلان". وقد تقدم السبئيون في اتجاه مدينة "ظلم" لمحاربة "شمر" ومجابهته، حتى انتصروا عليه في مدينة "ذمر" ذمار1. وقد كان "شمر" من "ذي ريدان"، أي: من حمير، ويظهر أنه أراد مزاحمة "الشرح يحضب" وأخيه على العرش، أو أنه اختلف معهما؛ فوقعت الحرب بينهما، وتقدم "شمر" بقبائل "حمير" و"أولاد عم" "ولد عم" أي: قتبان والقبائل الأخرى، واصطدم بجيش السبئيين على نحو ما ورد في النص2. ويظهر أن "شمر ذي ريدان" اضطر بعد ذلك إلى الاتفاق مع "الشرح يحضب" وإلى الخضوع والاستسلام له، فانتهت بذلك معارضته له3، وتولى قيادة جيشه في حربه مع حضرموت4. ويمكن تلخيص الوضع السياسي في عهد "الشرح يحضب" على هذا النحو: كان خصم "الشرح" ومنافسه على الملك في هذا العهد هو "شمر"، وهو من حمير، أي: سيد "ريدان" "ذ ريدن"، وعاصمته "ظفار". وقد استعان بالحبش، وطلب مساعدتهم على "الشرح يحضب"، فاضطر إلى الاستسلام له، ثم اشترك مع السبئيين في محاربة ملك حضرموت "العز" ... وكان يومئذ تحت حكم السبئيين. أما "شعرم أوتر" الهمداني، فكان من المؤيدين لـ"الشرح يحضب" وكان يحمل أيضًا لقب "ملك سبأ وذي ريدان"5. وفي هذا النص إشارة إلى تدخل الحبش في شئون العربية الجنوبية في هذا العهد،

_ 1 BOASOOR., NUM. 145, "1957", P.29 2 JAMME 577, BOASOOR., NUM. 145, 1957, P.28 3 CIH 314, GLASER 424 4 BEITRAGE, S. 38 5 BEITRAGE, S. 34

وإلى وجودهم في مواضع من السواحل، وإلى تكوينهم مستعمرات فيها تتمون من الساحل الإفريقي المقابل. وأنا لا أستبعد احتمال اتفاق الرومان مع الحبش يوم أرسلوا حملتهم المعروفة على العربية الجنوبية بقيادة "أوليوس غالوس", وذلك باتفاق عقده حكامهم في مصر وقد كانت خاضعة لهم إذ ذاك مع ممثلي الحبش, يقضي بأن يسهلوا لهم أمر الوصول إلى العربية الجنوبية، ويقدموا لهم المساعدات اللازمة، وأن يتعاونوا جميعًا في الأمور السياسية والاقتصادية، وفي مقابل ذلك يضمن الرومان للحبش مصالحهم في العربية الجنوبية ويقتسمونها فيما بينهم، أو يحافظون على مستعمرات الحبشة فيها. ويظهر من الكتابات أن الحبش كانوا يغيِّرون سياستهم في العربية تبعًا للأحوال المتغيرة؛ فنراهم مرة مع الحميريين وتارة عليهم، ونجدهم في حلف مع "شعرم أوتر" ثم نراهم في حلف آخر ضده، ونجدهم مرة أخرى على علاقات حسنة بـ"الشرح يحضب" ثم نجدهم على أسوأ حال معه. وهكذا نرى سياستهم قلقة غير مستقرة، كل يوم هي في شأن، وهي بالطبع نتيجة للأحوال القلقة المضطربة التي كانت تتحكم في العربية الجنوبية إذ ذاك، ولمصالح الحبش الذين كانوا يريدون تثبيت أقدامهم في السواحل العربية المقابلة, وتوسيع رقعة ما يملكونه باستمرار. ويظهر من النص المتقدم أن "بكيل" التي تكون ربع "ذي ريدة" كانت مع الملكين "الشرح" و"يأزل"، و"بكيل" هي عشيرة الملكين، وقد كانت تنزل في أرض "ريدة" إذ ذاك. وقد رأى بعض الباحثين أن "شمر ذ ريدن" "شمر ذي ريدان" هو "شمر يهرعش"، وأن الذي حارب "الشرح يحضب" وأخاه "يأزل"، هو هذا الملك. ومعنى ذلك أنهم أرجعوا زمان "الشرح يحضب" زهاء "250" سنة, إذ جعلوه في أوائل القرن الرابع للميلاد1، وهو رأي يعارضه باحثون آخرون. وقد صيروا "الشرح يحضب" من المعاصرين للملك "امرئ القيس" المذكور

_ 1 BOASOOR., NUM., 145, 1957, P.75

في نص النمارة، والمتوفى سنة "328م"، وذكروا أن "مراقس" الوارد في السطر الثاني من النص: Ry 535 هو "امرؤ القيس" المذكور1. وقد وردت في النص المتقدم جملة "هجرن صنعو ورحبتن"، أي: "مدينة صنعاء ورحبة" "رحابة"2. وقصد بـ"صنعو" مدينة صنعاء عاصمة اليمن حتى اليوم, وأما "رحبة" أو "رحابة" "الرحبة"، فإنه مكان ذكره "الهمداني"، لا يبعد كثيرًا عن صنعاء3, ويكون هذا النص أول نص على ما نعلم وردت فيه إشارة إلى صنعاء. وهناك موضع آخر اسمه "صنعاء" وموضع اسمه "رحابة" أو "راحبة" يقعان في منطقة "مأرب" على الجهة اليمنى من وادي "ذنة"، ظن بعضهم أنهما الموضعان المذكوران في النص4. والرأي الغالب أن النص المذكور قصد بـ"صنعو" مدينة "صنعاء"؛ وذلك لورود اسم قصر "غندن" "غ ن د ن" "غندان" أي: "قصر غمدان" في كتابة أخرى من أيام "الشرح يحضب"، و"قصر غمدان" قصر معروف بقي قائمًا إلى الإسلام، وقد كان في صنعاء, ورقم هذه الكتابة هو: CIH 429. وقد ذكر مع القصر اسم القصر "سلحن" "سلحان" "سلحين" وهو دار الملوك الحاكمين في مدينة مأرب، فيكون "الشرح يحضب" قد أقام في القصرين، وحكم منهما. وقد ذكر "الهمداني" أن "الشرح يحضب" هو الذي بنى قصر غمدان، وأن "شاعرم أوتر" "شعرم أوتر" هو الذي أسس سور صنعاء5. ويعرف قصر "غمدان" بـ"غندن" "غندان" في الكتابات، فهو إذن من القصور الملكية القديمة من أيام السبئيين. وقد أشير إلى مدينة "صنعو" في النص: Rep. EPIG. 4139، وكان أصحابه مقتوين للأخوين الملكين "الشرح يحضب" و"يأزل بين". وقد وردت فيه أسماء أشخاص من "بني سارن" "بني سأران" و"محيلم" و"نعمت"

_ 1 RY 535, LE MUSEON, 69, "1956", P.139, BOASOOR., NUM., 145, 1957, P.25 2 أي النص. 3 "رحبة صنعاء"، "وبلد بكيل من نصف الرحبة، رحبة صنعاء إلى نجران"، الصفة "ص111، 227". 4 GLASER, ABESSI., S. 121 5 "قيل: هو من بناء سليمان"، اللسان "3/ 327"، Beitrage, S. 19

"نعمة" و"موضعم"1. وقد جاءت أسماء هؤلاء في النص CIH 411 الذي دونوه تقربًا إلى الإله "المقه ثهون بعل أوم" "المقه ثهوان بعل أوام"2. ويتحدث النص: Jamme 115 عن معارك وقعت بين أعداء "تجمعوا وقتلوا" في وادٍ سقط اسمه من النص, وقد انتصر "الشرح يحضب" على أعدائه وغلبهم3. ويتحدث النص بعد ذلك عن حرب أعلنها الملكان على حمير وحضرموت، غير أنه لم يذكر أية تفاصيل عنها. وكل ما ورد فيه أن حمير انضمت من بعد إلى سبأ وذي ريدان، واشتركت معها في بعض الحروب. ومعنى هذا أنها عقدت معاهدة صلح وأنها حالفت الملكين4. ويرى بعض الباحثين أن النص: REP. EPIG. 4336، الذي ذكرت فيه حرب وقعت بين "شمر ذي ريدان" من جهة و"أبانسم بن معهر"، أي "أبأنس بن معهر" "أب أنس بن معهر", أو من "آل معهر" "معاهر" و"بخولم" وملك سبأ، وملوك حضرموت من جهة أخرى5، هو من النصوص المتأخرة التي دونت بعد النص المتقدم، أي بعد النص:Jamme 115 دون بعد يأس حضرموت وحلفاء "شمر ذي ريدان" من إحراز أي انتصار كان على "الشرح"، فتفرقوا لهذا السبب عن "شمر" وانضموا إلى جانب الملك "الشرح"، وخاصموا "شمر". ولهذا نجد حضرموت مع "الشرح يحضب" في محاربة حليفها السابق "شمر ذي ريدان"6. ويحدثنا نص ناقص لم يدون تدوينًا صحيحًا حتى الآن أن ثورة صهرت في أيام "الشرح يحضب" قام بها "أيسن"، أي "إنسان" ثار على الآلهة، اسمه: "نمرن" "نمران" أو أنه كان من عشيرة تسمى بـ"نمران"،

_ 1 REP. EPIG., VII, I, P.99 2 CIH 411, CIH, IV, II, I, P.88. 3 MAHRAM, P.323 4 MAHRAM, P.323 5 REP. EPIG. 4336, SE. 101, MAHRAM, P.324 6 MAHRAM, P.324

وتجرأ على آلهته بثورته هذه على "ملك سبأ وذي ريدان"1. ثم يذكر النص، إلا أنه بفضل الآلهة ورحمتها تمكن "الشرح يحضب" من تأديب هذا الغر: هذا "الإنسان نمران" "أيسن نمرن" الذي حارب الآلهة والبشر "أنسن"، بل حارب حتى ذوي قرابته ورحمه، فاستحق العقاب, وأنه شكرًا للإله "عثتر ذ ذبن بعل بحر حطبم"، أي الإله "عثتر ذو ذبن رب معبد بحر حطبم" الذي ساعد عبده "الشرح يحضب" ومن عليه بالنصر والعافية والخير، وعلى قصريه: "سلحن" "سلحان" "سلحين" و"غندن" "غندان"، أي "قصر غمدان" بصنعاء، وعلى "صرواح"، وأدام عليه نعمه، ووقاه كل بأس2، تيمن بإعلان ذلك للناس؛ ليحمدوا الإله، وليشكروا نعم الآلهة عليهم، ولتديمها عليه بحق: "عثتر" و"هوبس" و"المقه" و"ذت حمم" "ذات حميم"، "ذات حمى" و"ذات بعدن" "ذات بعدان" "ذات بعدان" و"شمسم" "شمس". وقد يكون في تعبير "أيسن نمرن" "أنس نمرن"، ومعناه "الإنسان نمران"، بعض الاستهجان والازدراء بهذا الثأر، الذي هو "رب شمس نمرن"، أي "رب شمس نمران" أحد "أقول" أقيال قبيلة "بتع" على رأي بعض العلماء3. وقد ورد اسمه في كتابة دونها رجال يظهر أنهم كانوا من أتباعه، ومن قبيلة "بتع", وذلك لشكر الإله "تالب ريام بعل شصرم"؛ لأنه من عليهم بالعافية، وأسعد قيلهم "رب شمس نمرن" "رب شمس نمران"، وبارك على قبيلته4. ويظهر أن ثورة "نمران" "نمران أوكان" "نمرن أوكن"، كانت ثورة خطيرة كبيرة على "الشرح يحضب"؛ ولذلك كان القضاء عليها من الأمور المهمة بالقياس إليه5.

_ 1 CIH 429, IV, II, II, P.114, GLASER, ABESSI., S. 107, H. DERENBOURG, LES MONUMENTS SABEENS ET HIMYARITIS DE LA BIBLIOTHEQUE NATIONALE, 1891, P.11 2 "بن كل باس". 3 SAB. INSCHR., S. 40 4 MM82, RW 118, CIH 164, GLASER 148, REP. EPIG. 3621, IV, I, P.244, J. RYCKMANS. L'INSTITUTION, P.164, MAHRAM, P.326 5 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.481, A. JAMME, SABEAN INSCRIPTIONS, P.327

إن "الإنسان نمران" "أنسن نمرن" "إنسان نمران" الذي ثار على سيده وأغضب آلهته بثورته هذه، هو "رب شمسم نمرن" "رب شمس نمران" أحد أقيال "بتع", على رأي "موردتمن" و"ميتوخ", الذي ورد ذكره في إحدى الكتابات1. وقد دونها رجال يظهر أنهم كانوا من أتباعه، أي: من قبيلة "بتع" شكرًا للإله "تالب ريمم بعل شصرم" "تألب ريام بعل شصر"؛ لأنه من عليهم بالعافية، وأسعد قيلهم "رب شمس نمران"، وبارك في قبيلته2. وقد ورد في أحد النصوص: "رب شمسم نمرن بن بتع"، أي "رب شمس نمران من آل بتع", والظاهر أنه هو القيل المذكور في النص المتقدم الموسوم بـMM 82، وبـ3ـREP. EPIG. 3621. وقد ذكر "فلبي" أن "رب شمس" هذا, هو الملك "رب شمس نمران ملك سبأ وذي ريدان", وذكر أن هذا الملك عرف بواسطة هذا النص الذي عثر عليه في "مأرب". واستنتج من ذلك أن هذه الأسرة أسرة "بتع" التي تقطن في الهضبة هضبة همدان، امتد نفوذها حتى بلغ السهل الذي تقع به "مأرب"4. ولا أدري كيف توصل "فلبي" إلى أن "رب شمس نمران" الذي هو من "آل بتع" أي هذا القيل, هو الملك "رب شمس نمران" الذي هو "ملك سبأ وذي ريدان"! فليس في هذا النص الذي أشار إليه, إشارة يمكن أن يستدل منها على أن "رب شمس نمران" المذكور فيه، هو ملك من ملوك سبأ وذي ريدان. فهذا النص لا يخصه إذن، وإنما هنالك نص آخر رقمه: REP. EPIG. 4138 ورد فيه "رب شمس نمران ملك سبأ وذي ريدان"5، وهو نص لم يشر إليه "فلبي" سأتحدث عنه في حديثي عن هذا الملك. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن النص المذكور لم يكن يقصد ثائرًا من أهل اليمن ثار على الآلهة والإنسان، وإنما قصد به حملة "أوليوس غالوس"، التي جاءت من الخارج إلى اليمن. وهي معادية بالطبع لأهل اليمن ولآلهتها، فشكر

_ 1 SAB. INSCHR., S. 40 2 MM82, RW 118, CIH 164, GLASER, 148 3 MM82, REP. EPIG. 3621, IV, I, P.244 4 BACKGROUND, P.107 5 REP. EPIG. 4138, VA 3820, 3843, REP. EPIG., VII, I, P.96

"الشرح يحضب" الذي كان هو الملك يومئذٍ آلهته؛ لأنها نصرته على القادمين المغيرين، وأنقذت شعبه منهم1. ويعارض "جامه" Jamme رأي من يقول: إن المراد من النص: CIH 429 حملة "أوليوس غالوس"، ويرى أن المراد من "نمران" هو "نمران أوكان" "نمرن أوكن" الذي ورد اسمه في النصوص 2JAMME 684 JAMME 594 JAMME758 JAMME 739 JAMME 711. وقد ورد اسم "نمران أوكان" مع اسم أخيه "جحضم أحصن"، وهما ابنا "سعدم" "سعد" في النص Jamme 594، كما ورد في هذا النص اسما الملكين: "الشرح يحضب" و"يأزل بين", أما النصوص الأخرى، فلم يذكر فيها اسم "يأزل بين". وقد استنتج "جامه" من ذلك أن صاحب النص: Jamme 594 كان قد دونه في أيام حكم الملكين. أما النصوص الأربعة الأخرى، قد دونت بعد ذلك، دونت في أيام انتقال الحكم إلى "الشرح يحضب"، أي إلى أيام انفراد هذا الملك بالحكم وحده بعد الحادث المجهول الذي لا نعرف من أمره اليوم شيئًا والذي أدى إلى إغفال اسم "يأزل بين" في النصوص. ويظهر من النصين: Jamme 739 وJamme 758 أنه كان تحت إمرة الأخوين "نمران أوكان" و"جحضم أحصن" قائدان كبيران بدرجة "مقتوى". ومعنى هذا أن هذين الأخوين كانا من أصحاب القوة والسلطان في هذا العهد، ولا يستبعد أن يكونا قد ألفا جيشا خاصا بهما، يحاربان به. ويرى "جامه" أن الشعور بالعظمة قد ركب رأس "نمران أوكان"، حتى دفعه إلى الثورة على سيده "الشرح يحضب" على النحو المذكور في النص:3 CIH 429. وقد ذكر اسم "يأزل بين" بعد اسم شقيقه "الشرح يحضب" في الكتابة4 CIH 954, وقد نعتا فيها بـ"ملكي سبأ وذي ريدان", وقد ورد اسم "المقه بعل مسكت وبث وبران". وهي من بقايا نص سقطت أسطره الأولى,

_ 1 RYCKMANS, 122A, CIH 429, BEITRAGE, S. 34 2 MAHRAM, P.327 3 MAHRAM, P.327 4 CIH 954, BOMBAY 30

وذكرت فيه أسماء عدد من الرجال من "بني جدن"1. وذكر اسمهما على الترتيب نفسه في النص CIH 398، وهو نص سقطت منه كلمات، ولا سيما في الأسطر الأولى منه2, فسبب سقوطها عدم فهمنا المراد فهمًا صحيحًا. وقد دعيا في النص بـ"ملكي سبأ وذي ريدان". غير أننا نلاحظ أيضا أنه ذكر في السطر الثامن منه اسم "شعرم أوتر"، ونعته بـ"ملك سبأ وذي ريدان"، مع أن "شعرم أوتر" "شعر أوتر" كان خصمًا للملكين "الشرح يحضب" و"يأزل بين"، فلِمَ ذكر معهما في النص؟ وعلى أي محمل نحمل هذا القول؟ ويلاحظ أن كلمة "مراهم" "مرأهم" أي "سيدهم" "سيده" ذكرت مباشرة قبل اسم "شعر أوتر"، كما ذكرت كلمة "مرايهمي" أي "سيديه" أو "سيديهم" قبل جملة "الشرح يحضب وأخيهو يازل بين" أي: "الشرح يحضب وأخيه يأزل بين". فنرى من هذا النص أن صاحبه نعت الثلاثة: "شعر أوتر" و"الشرح يحضب" وأخاه "يأزل بين" ملوكًا على "سبأ وذي ريدان", فهل يدل هذا على أن هؤلاء الثلاثة حكموا حكمًا مشتركًا وفي وقت واحد, وقد كان "شعر أوتر" يحكم في مكان بينما كان "الشرح" وأخوه "يأزل" يحكمان في مكان آخر؟ وأن صاحب النص أو أصحابه كانوا يملكون أرضين في جزأي المملكة؛ لذلك اضطر أو اضطروا إلى ذكر الملوك الثلاثة في النص؟ هذه أسئلة تصعب الإجابة عنها بالاستناد إلى هذه الكتابة التي لم تتعرض لعلاقات "شعر" مع "الشرح" وأخيه، ولا يمكننا استخراج أي جواب منها مقنع في هذا الوقت. ويرى "هومل" أن السبب الذي من أجله ذكر اسم "شعر أوتر" في هذا النص هو لأجل أن ينتقم الإله "المقه" الذي دعا في هذا النص منه، ولكي ينزل رحمته ونعمته على "الشرح" وعلى شقيقه يأزل, اللذين استطاعا في النهاية أن ينتصرا على خصمهما "شعر أوتر"، وأن "شعر أوتر"

_ 1 CIH, IV, III, II, P.280 2 CIH 398, GLASER 891, CIH, IV, II, I, P.58, WINCKLER, DIE SAB. INSCHR. DER ZEIT ALHAN NAHFAN'S, S. 347, HARTMANN, DIE ARABISCHE FRAGE, S. 148.

هذا هو الذي قصده أحد النصوص، حيث أشير إلى الإنسان الذي ثار على سيده1. وقد وردت في هذا النص جملة "أرضن خولن"، أي "أرض خولان"، و"محرم بعل أوعلن" "محرم بعل أوعلان"، و"شعب صروح"، أي قبيلة صرواح. ونشر في مجلة Le Museon نص آخر, ذكر فيه اسم "الشرح يحضب" وقد وردت قبل اسم "الشرح يحضب" جملة "ملك سبأ وذو ريدان ابن"، وقبلها ثلاثة أحرف هي: "ح م د" "حمد"، وهي بقايا كلمة. ويظهر أن أصحاب النص قد تيمنوا بذكر اسم أحد أبناء "الشرح يحضب" ممن كانوا ملوكًا على سبأ وذي ريدان, غير أن هذا الاسم طمست معالمه بفعل العوامل الطبيعية وتقادم العهد، فلم يبقَ منه أثر. وذكرت بعد "الشرح يحضب" جملة "ملك سبأ وذو ريدان"2. وقد لفتت بعض الكتابات -قَدَّرَ بعض الباحثين عددها بأحد عشر نصًّا، أو أكثر من ذلك بقليل- أنظار العلماء إليها؛ لأنها لم تذكر اسم "يأزل بين" خلافًا للكتابات الأخرى التي يربو عددها على هذا العدد، والتي تذكر اسم الشقيقين معًا. فاستنتج من إغفال تلك النصوص لاسم "يأزل" أن حدثًا وقع له أخذه إلى العالم الثاني، وذلك في حياة أخيه "الشرح يحضب"، فصار الحكم إلى "الشرح يحضب" وحده، وبقي على ذلك إلى أن بدا له ما حمله على إشراك ابنه معه في الحكم، فصار اسم ابنه يرد بعد اسمه في الكتابات3. ويواجه هذا الاستنتاج مشكلة ليس من السهل حلها, مشكلة عثور الباحثين على كتابات ورد فيها اسم "يأزل بين" مدونًا فيها بعد اسم أحد أبناء "الشرح يحضب". ومعنى هذا أن "يأزل بين" لم يكن قد مات في أيام "الشرح"، بل بقي حيًّا وشهد نفسه وفاة شقيقه ثم عاش فعاصر حكم أحد أبناء شقيقه. فلا يمكن الأخذ إذن برأي من يقول: إنه كان قد أدركه أجله في حياة أخيه، اللهم

_ 1 HANDBUCH, I, S. 93, DERENBOURG, BIBLIO. NATION, 2 2 LE MUSEON, LXII, 1-2, 1949, P.86, NR. 404 3 MAHRAM, P.326

إلا إذا قلنا: إن "يأزل بين" المذكور بعد "نشأكرب يهأمن يهرجب"، وهو ابن "الشرح يحضب"، لم يكن "يأزل بين" شقيق "الشرح يحضب"، بل شخصًا آخر، كأن يكون ابنًا لـ"وتر يهأمن" شقيق "نشأكرب"، أو ابنًا لـ"نشأكرب نفسه"؛ وعندئذ يكون في إمكاننا الادعاء بوفاة "يأزل" شقيق "الشرح" في حياة أخيه. وهناك احتمال آخر قد يكون مقبولًا للعقل أكثر من الاحتمال الأول، هو احتمال بقاء "يأزل" حيًّا وإدراكه أيام حكم أولاد شقيقه. وعندئذ يمكن تفسير اختفاء اسمه في الكتابات في الأيام المتأخرة من حكم "الشرح" بوقوع خصومة بين الأخوين اشتدت حتى أدت إلى وقوع قطيعة بينهما وإلى حذف اسم "يأزل"، وهو أصغر سنًّا من أخيه من الكتابات, أي إلى خلعه وتجريده من اللقب الرسمي وهو لقب الحكم. وقد بقي مخاصمًا لشقيقه حتى أدركت شقيقه منيته، ثم مخاصمًا لابن أخيه "وتر يهأمن" إلى ولاية شقيقه "نشأكرب يهأمن يهرحب" الحكم. فلما ولي "نشأكرب" عرش "سبأ وذي ريدان"، أشرك عمه معه في الحكم؛ ولهذا أدرج اسمه من جديد في الكتابات، أدرج بعد اسم "نشأكرب" الملك الفعلي وارث العرش. أما كيف أشرك "يأزل" مع ابن أخيه في الحكم، وكيف عاد مرة ثانية إلى الحياة الرسمية العامة؟ فليس في استطاعتنا الجواب عن ذلك جوابًا أكيدًا. ولا يستبعد احتمال قيام أناس بالتوسط بين العم وبين ابن أخيه لإصلاح ذات بَيْنِهما، وقد يكون "نشأكرب" هو الذي صالح عمه وأرضاه؛ لدافع شخصي, أو لمصلحة رآها، أو لاضطراره إلى ترضيته؛ لضعف مكانته أو شخصيته، فأراد الاستعانة به لتقوية مركزه. على كلٍّ, فإذا كان "يأزل بين" هذا، هو "يأزل بين" شقيق "الشرح" فيجب أن يكون قد تقدم في السن حين عاد إلى الحكم. ولدينا نص من نصوص الـ"وتف" أمر به "الشرح" ولم يذكر اسم أخيه فيه، وقد وجه به إلى قبيلة "يرسم" في شهر "ذو نسور الأول" وفي السنة السادسة من سني "معد يكرب بن تبع كرب" "معد كرب بن تبع كرب" من آل "حزفرم" "حزفر"، وقد ذكرت فيه أسماء عدد من سادات هذه القبيلة. وفي النص حديث عن أحوال المزارعين والفلاحين والآبقين

الذين يهربون من المزرعة إلى مزارع أخرى، ولا سيما من الأرض التي يشمل أحكامها هذا النص, وهي: وادي "يفعن" "يفعان"، وأرض "يبلح"، وهي من "رأس مقـ.... ن" إلى "غضران"1. ويتبين من هذا النص أن الفلاحين، وأكثرهم من المسخرين، كانوا يفرون من مزارعهم؛ للتخلص من عملهم المرهق الشاق فيها، ولعدم تمكنهم من كسب قوتهم، فصدر هذا الأمر في معالجة هذه المشكلة. وهي مشكلة أدت إلى تلف المزارع، وإعراض الناس عن الزراعة بسبب إكراه الفلاحين على العمل فيها سخرة، ولقسوة أصحاب الأرض وموظفي الحكومة عليهم. وقد عثر في أرض "شبام سخيم" على كتابة، ذكر فيها "الشرح يحضب" وابنه، وأقيال "سمعي" وهم من سخيم، وذكر بيت "ريمان", و"ريمان" هم من القبائل التي ذكرت في عدد من الكتابات2. وقد جاء اسم "الشرح يحضب" وحده في النصوص: "أحمد فخري: 94، و95، و123"، وهي من نصوص هذا العهد: عهد انفراد "الشرح" بالحكم، متلقبا بـ"ملك سبأ وذي ريدان"3. ويعود النص Jamme 571 إلى هذا العهد كذلك، وهو نص يتوسل فيه صاحبه إلى إلهه بأن يمن عليه بالسعادة والعافية، وبأن يبارك في ثماره "أثمرن" وفي حاصل حصاده "أفقلم"، وبأن يبعد عنه كل شر، ويرد عنه كيد الكائدين، وحسد الشانئين4. وأما النص: Jamme 567، فقد كتب في هذا العهد أيضا, دونه رجل اسمه "أبامر أصدق" "أبأمر أصدق" "أب أمر أصدق"، وهو من بني "صريهو معد كرب" "صريهو معد يكرب"، وولداه "برلم" "برل"،

_ 1 REP. EPIG. 4646, VII, II, 289, RHODOKANAKIS, EINE ALTSUDARABISCHE WATF INSCHRIFT, 1937, S. 1-6, J. RYCKMANS, L'INSTITUTION, P.179, 2 SAB. INSCHRI., S. 38, MM 24, BEITRAGE, S. 19 3 MAHRAM, P.326 4 JAMME 571, MAMB 189, MAHRAM, P.57

و"كربعثت" "كرب عثت"، وذلك عند تقديمهم ثلاثة تماثيل من ذهب1 إلى الإله "المقه ثهوان"؛ وذلك لمناسبة نوم "برلم" الذي أصابه وألم به، في شهر "عثتر" من سنة "سمهكرب بن أبكرب" "سمهوكرب بن أبكرب" من بني "حذمت" "حذمة"، ولمناسبة الحكم الذي رآه في منامه وتحقق فيما بعد، ولمناسبة شفائه من مرضه, ولكي يديم نعمه عليهم جميعًا، ويعطيهم ذرية طيبة صحيحة، وثمارًا كثيرة وحصادًا جيدًا وغلة وافرة، ويمن على سيدهم "الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان، بن فرعم ينهب ملك سبأ"2. وإلى هذا العهد أيضا يعود النص: Jamme 572. وقد دونه ضابطان كبيران "مقتوى" من ضباط "الشرح يحضب؛ ملك سبأ وذي ريدان"، لمناسبة تقديمها تمثالًا من رصاص أو نحاس "صرفن" "صراف"، يزن ثلاثمائة "رضف"، تعبيرًا عن حمدهما وشكرهما له؛ لأنه مَنَّ على سيدهما "الشرح يحضب" بالشفاء والصحة، ونجاه من عاقبة مرضه "بن مرض مرض بهجرن مرب"، بمدينة "مأرب", ولكي ينعم عليه ويزيل عنه كل بأس "باستم" وكل أرق "مقيظم" أصابه، ولكي ينعم عليهما ويسعدهما ويبعد عنهما حسد الحاسدين وأذى الأعداء3. ويتبين من هذا النص أن مرضًا نزل بالملك "الشرح يحضب" وهو بمأرب, وقد أصيب بأرق "مقيظم" وقلق، ولم يذكر النص سبب المرض، ولكن يظهر أنه كان قد أصيب بإعياء وتعب بدني ونفسي، حتى استولى عليه الأرق والاضطراب؛ ولهذا توسل هذان الضابطان إلى الإله "المقه" بأن يُشفي سيدهما مما أَلَمَّ به. وتعد الكتابات: Jamme 568 وJamme 569 وJamme 570، من نصوص هذا العهد. وصاحب النص الأول رجل اسمه "سعد شمس أسرع" وهو من "جرت" "جرة"، وكان من أقيال عشيرة "ذمري". وقد

_ 1 لقد ترجم "جامه" Jamme لفظة "ذهبن"، أي: ذهب بـ"برونز" Bronze، في كل ترجماته للنصوص إلى اللغة الإنجليزية، مع أن لفظة "ذهب" معروفة لا تحتاج إلى تفسير، وأنا أخالفه في هذا الرأي. 2 JAMME 567, MAMB 291, MAHRAM, P.49 3 JAMME 572, MAMB 112, MAHRAM, P.59

قدم هو وابنه "مرثدم يهحمد" مرثد يهحمد، إلى الإله المقه تمثالًا؛ ليمن على سيدهما الملك، وليحفظه من كل سوء، ولكي يبارك فيهما ويزيد نعمه عليهما وعلى أهلهما من "جرت" وعلى قبيلتهما قبيلة "سمهرن" سمهران1. وقد قدم أصحاب النص: Jamme 569، وهم من عشيرة "مربان" "مربأن" تمثالًا مؤنثًا "صلمتن" -ويظهر أنه يقصد تمثالًا لامرأة- وذلك ليحظوا برضا ملكهم "الشرح يحضب"2. وأما النص: Jamme 570 فقد دونه رجل، سقط اسمه الأول من النص، وبقي نعته فقط، وهو "ركبن"، أي "ركبان"، وقد قال عن نفسه: "عبد ملكن"، أي: عبد الملك، يقصد خادم الملك؛ ذلك لأنه تمهل في عمله، فلم يجمع غلة اليوم الثامن من المزرعة، فكَفَّر عن تمهله هذا وتجاهله أمر الإله "المقه" الذي كان عليه أن يقوم بخدمته وبأن يحضر موضع أداء الشعائر له، وذلك بتقديمه ذلك التمثال وبأن يقوم بجني غلة المزرعة على نحو ما يرام3. ويلاحظ أنه استعمل جملة: "ولشرح يدهو ولسنهو"4، أي: "وليشرح يده ولسانه"، ويقصد بها التوسل إلى الإله "المقه" بأن يبسط يد الملك ولسانه، أي: يبارك في يده ولسانه، كما نقول: يشرح الله قلبه، فهي من التعابير المستعملة عند العرب الجنوبيين في ذلك العهد. ولم يذكر اسم "يأزل بين" في النصين: REP. EPIG. 3990، وREP. EPIG. 4150. وصاحب النص الأول هو "يجعر بن سخيم" وكان قيلًا "أقول" على عشيرة "سمعي" المؤلفة لثلث "ذي حجرم". وقد قدم إلى الإله "تألب ربام" "بعل كبدم" خمسة تماثيل؛ لينعم ويبارك على سيده "الشرح يحضب"، ملك سبأ وذي ريدان، وعلى ابنه "وترم" "وتر", وليبارك فيه وفي بيته "بيتو" "ريمان"5.

_ 1 JAMME 568, MAMB 295, MAHRAM, P.53 2 JAMME 569, MAMB 188, MAHRAM, P.54 3 JAMME 570, MAMB 227, MAHRAM, P.55 4 الفقرة 13 من النص. 5 REP. EPIG. 3990, MAHRAM, P.328, MM 24, BU. SAN'A 1909, JEMEN, II, 345, SAB. INSCHR., S. 38

والنص: REP. EPIG. 4150 صاحباه شقيقان، "شرح عثت أريم" وشقيقه "رثد ثون" تمثالًا إلى الإله "عثتر ذ ذنن" "عثتر ذو ذبان"، "بعل بحر حظيم" حامدين "حمدم" له وشاكرين، إذ من عليهما، وأوفى لهما ما طلبا وسألا، وكان ذلك في أيام "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان وابنه وتر"1. ويلاحظ أن النصين لم يذكرا بعد "وترم" لقبه، ولم يكتبا جملة "ملك سبأ وذي ريدان". ويظهر أنهما كُتبا في أيام انفراد "الشرح يحضب" بالحكم, وتولي ابنه "وتر" إدارة الأمور؛ لمساعدة أبيه فقط، ولم يكن قد منحه أبوه يومئذ حق التلقب بألقاب الملوك. لقد بلغنا الآن نهاية أيام حكم "الشرح يحضب", لقد رأيناه محاربًا مقاتلًا حارب الحبش، وحارب حمير، وحارب حضرموت، وحارب قبائل أخرى. لا يكاد يعود إلى إحدى عاصمتيه "مأرب" أو صنعاء، ليستقر في قصريه ومقري حكمه: قصر "سلحان" أو "غمدان" وليستريح بعض الوقت، حتى تشتعل ثورة هنا أو هناك تدفعه إلى ترك راحته والإسراع نحوها للقضاء عليها وإخمادها حتى لا يمتد لهيبها إلى مكان آخر. لقد أجهدته هذه الحروب وتلك الفتن، فأتعبت جسمه ونهكت أعصابه، حتى أُصيب مرارا بأمراض وطغى عليه الأرق، وهذا ما حمل المقربين إليه على التوسل إلى آلهتهم؛ لتمن عليه بالشفاء وبنوم هادئ مريح، ولتمنحه الراحة والاستقرار، وتبعد عنه الأتعاب وشر الأعداء الأشرار وحسد الحاسدين، دلالة على كثرتهم وتعبيرًا عن تلك الفتن المتتالية التي كانت في تلك الأيام. وقد كلفت هذه الحروب وتلك الثورات, العربية الجنوبية أثمانًا باهظة، وأنزلت بها خسائر فادحة في الأرواح والأموال، وأحلت بكثير من مواضعها الدمار والخراب، ونَغَّصَتْ عيش أهلها فجعلتهم في حالة نفسية قلقة مضطربة، بدليل ما نجده من توسلات ترتفع إلى الآلهة تدعوها بأن تمن على عبيدها بنعمة الطمأنينة والهدوء والاستقرار، كما نشرت فيها الأوبئة والأمراض التي كانت تفتك بالناس بالجملة

_ 1 REP. EPIG. 4150, VA 3846 + 5334, MAHRAM P.328, REP. EPIG., VII, I, P.106

فتكًا، وأحلت الهلاك بالمزارع والحقول وبالمدن, فردمت آبار، عاشت عليها الزراعة والقرى والمدن، واقتلعت الأشجار، وأتلفت الحقول والمزارع، وأُوذيت مجاري المياه التي تسقيها، وخُربت مدن، وأُعمِل في أهلها السيف، أو سِيقوا أسرى، ووضعٌ على هذا النحو لا بد أن يخلق تعاسةً وبؤسًا، ويؤثر في الوضع العام بجملته تأثيرًا سيئًا، يصير إرثًا ينتقل إلى الطبيعة الجديدة1. وقد لاحظ "ريكمنس" J. Ryckmans أن هذا الاقتتال وهذا النظام الإقطاعي يصادف زمن حلول الخيل محل الجمل في القتال في أواسط جزيرة العرب وجنوبيِّها، كما لاحظ W. Dostal أن جيوش العربية الجنوبية استعملت سروجا جيدة لدوابها التي تحارب عليها، وأن قبائل أواسط جزيرة العرب حسنت من أنظمتها وكفاءتها في القتال؛ مما أكسبها قدرة في الغزو بسرعة والانتقال من مكان إلى مكان في مدة قصيرة، فأكسبها شأنا عسكريا وسياسيا؛ فأثر كل ذلك في السياسة العامة للجزيرة، إذ لم تبقَ القوى العسكرية محصورة في مناطق الزراعة في هضاب جنوب جزيرة العرب، وإنما انتقلت إلى بقية أنحاء جزيرة العرب؛ إلى مواضع الآبار والرياض والعيون حيث تركزت الزراعة كما حدث في يثرب وفي الطائف وفي أماكن زراعية أخرى، أو إلى مواضع تقع على طرق قوافل مثل مكة، أهلتها لأن تختص بالتجارة، وأن تنال مكانة بها2. لقد وضع "جامه" حكم "الشرح يحضب" مع أخيه "يأزل بين"، إذ كانا يحكمان حكمًا مشتركًا في حوالي السنة الخمسين قبل الميلاد، وجعل نهاية هذا الحكم المزدوج حوالي السنة الثلاثين قبل الميلاد، حيث حكم "الشرح" حكمًا منفردًا لا يشاركه فيه أحد. وقد دام هذا العهد إلى حوالي السنة العشرين قبل الميلاد أو بعدها بقليل3. وإذا جارينا رأي "جامه" المتقدم، ورأي الباحثين الذين ذهبوا إلى أن حكم "الشرح يحضب" كان في النصف الأخير من القرن الأول قبل الميلاد، وفي

_ 1 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.451 2 W. DOSTAL, THE EVOLUTION OF BEDOUIN LIFE, L'ANTICA SOCIETA BEDUINA, UNIVERSITA DI ROMA, STUDI SEMITICI 2, 1959, P.11-34, LE MUSEON 1964, 3-4, P.452. 3 MAHRAM, P.390

الربع الأخير منه، جاز لنا القول بأن "إلساروس" Ilasaros، الذي ذكره "سترابون" على أنه ملك السبئيين في أيامه، وكانت في عهده حملة "أوليوس غالوس" هو هذا الملك "الشرح يحضب"1. ولكن جمهرة أخرى من الباحثين والمتخصصين في العربيات الجنوبية ترجع أيام "الشرح" إلى ما قبل ذلك, فقد جعل "فلبي" مثلًا حكمه فيما بين السنة "125" والسنة "105" قبل الميلاد2. هذا، ويلاحظ أن بعض الكتابات التي أغفلت "يأزل"، ذكرت ابن "الشرح" بعد أبيه، ودعت له ولأبيه بالعافية ودوام البركة والنعمة، إلا أنها لم تنعته بنعت، مما يدل على أنه لم يكن يحمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان" آنذاك3. وقد اختلف الباحثون في ضبط اسم الشخص الذي ولي الحكم بعد "الشرح يحضب"؛ فقد وضع "فلبي" اسم "يأزل بين" بعد "الشرح يحضب"، دلالة على أنه هو الذي حكم بعده، ثم وضع "نشأكرب يهأمن يهرحب" من بعده، وهو ابن "الشرح يحضب"، ومعناه أنه هو الذي حكم بعد وفاة عمه4. إذ إن "يأزل بين" هو شقيق "الشرح يحضب" كما رأينا. ووضع "فلبي" اسم "وتر يهأمن" بعد "نشأكرب يهأمن يهرحب"، وهو كذلك أحد أبناء "الشرح يحضب". ويرى بعض الباحثين أن "وترًا" اتخذ لقب "يهأمن" بعد اعتلائه العرش، وكان قبل ذلك يعرف بـ"وتر"5, وقد ورد اسمه في عدد من الكتابات6. أما "ريكمنس" فقد دون اسم "يأزل بين" بعد "الشرح يحضب" وقد جعله شريكًا له في الحكم، ومعاصرًا لـ"حيو عثتر يضع"، وهو ابن "شعر أوتر" والمالك من بعده، وآخر من حكم من أسرة "علهان نهفان",

_ 1 MAHRAM, P.390 BEITRAGE, S. 32, J. RYCKMANS, L'INSTITUTION, P.337 2 BACKGROUND, P.142 3 MM24, BU SAN'A 1909, JEMEN, II, 345, SAB. INSCHR., S. 38 4 BACKGROUND, P.142 5 SAB. INSCHR., S. 39 6 REP. EPIG. 4216, VII, II, P.147, MORDTMANN UND EUGEN MITTWOCH, ALTSUDARABISCHE INSCHRIFTEN, ROMA, 1933, S. 47

"علهن نهفن". ثم جعل الحكم في "نشأكرب يهأمن" ابن "الشرح يحضب". وذكر معه اسم "وتر" غير أنه لم يذكر أنه ولي الحكم، كما أنه لم يذكر أي شيء آخر عنه, ثم ترك فراغًا، ذكر بعده اسم "ذمر على بين"1. وأما "جامه"، فقد نصب "وتر يهأمن" ملكًا من بعد "الشرح يحضب" الذي هو أبوه, وجعل حكمه ملكًا في حوالي السنة "5" قبل الميلاد حتى السنة "10" بعد الميلاد2. و"وتر يهأمن" هو "وتر" الذي تحدثت عنه، وقلت: إن اسمه قد ورد في النصين: Rep. Epig. 3990 وrep. Epig. 4150 اللذين ورد اسمه فيهما غير مقرون بلقب، ولا جملة "ملك سبأ وذي ريدان". أما في النصوص الأخرى، فقد ذكر فيها لقبه وهو "يهأمن"، وذكر بعده شعار حكمه ملكًا، وهو "ملك سبأ وذي ريدان"3. ويرى "ميتوخ" و"موردتمن" أن من المحتمل أن يكون "وتر يهأمن" المذكور في النصين: CIH 10 وCIH 258, هو "وتر يهأمن" هذا الذي نبحث عنه. وقد ذكرت بعد "وتر يهأمن" في النص CIH 10 جملة "ملك سبأ". ويرى "ميتوخ" و"موردتمن" أيضا أن ابن "الشرح" كان يعرف بـ"وترم" "وتر" وذلك قبل اعتلائه العرش. فلما أصبح ملكًا، عرف بـ"وتر يهأمن"، أي باتخاذ لقب "يهأمن" لقبًا رسميًّا له4. ويتحدث النص: Jamme 601 عن معارك وقعت في أرض "خولن جددن" "خولان جددان"، تولى إدارتها وقيادتها "الرم يجعر" "الريام يجعر" "الرام يجعر" "الريم يجعر"، وهو من عشيرة "سخيمم" "سخيم"، وكان قيلًا "قول" على عشيرة "سمعي"، التي تكون ثلث قبيلة "حجرم", وهو صاحب النص، والآمر بتدوينه. وقد ذكر فيه: أن سيده الملك "وترم يهأمن" "ملك سبأ وذي ريدان ابن الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان"

_ 1 J. RYCKMANS, L'INSTITUTION, P.337 2 MAHRAM, P.390 3 CIH 10, CIH 258, GEUKENS 4, JAMME 601, 602, 603, 604, 605, 606, 607, RYCKMANS, IN ORIENS ANTIQUUS, ROMA, 1964, VOL., III, P.68 4 SAB. INSCHR., S. 39

أمره بأن يسير إلى عشائر "خولان" "خولن" ويؤدبها؛ لأنها عصت الملك، وشجعت قبائل أخرى على العصيان، فانضمت إليها. وقد استطاع هذا القائد كما يذكر في نصه أن يقهر الثائرين ويحطم مقاومتهم، ثم عاد بعد ذلك بغنائم كثيرة سرت الملك, فشكر الإله "المقه ثهوان" "بعل أوام" الذي وفقه ونصره، فقدم إليه تمثالين له؛ تعبيرًا عن شكره, وعن مننه عليه، إذ نصره في معركتين مع قبائل خولان ومن انضم إليها, اللتين قهر فيهما أولئك الثائرين, ولكي يزيد من نعمه عليه، ويبارك في ملكه وفيه وفي أهله, ويعطيه بركة في زرعه وقوة في جسمه, ويبعد عنه أذى الأعداء1. والنص: Jamme 602 هو في معنى النص الأول وفي مضمونه، وصاحبه هو "الرم يجعر" نفسه. وأما النص: Jamme 603، فقد أمر بتدوينه "فرعم بن مقرم" "فرع بن مقر" "الفارع بن مقر" وأولاده، وهو من عشيرة "عقبان" "عقبن"؛ وذلك لمناسبة إنشائهم "سقه"، أي: "سقاية" صهريجًا و"مزودًا" وصرحًا في "ذ عقبن" "ذي عقبان". وتيمنًا بهذه المناسبة قدموا إلى الإله المقه تمثالًا حمدًا له وشكرًا على أنعمه عليهم، وكان ذلك في أيام: "وتر يهأمن ملك سبأ وذي ريدان"2. وشكر "وهبم أصدق" "وهب أصدق" "وهاب أصدق"، الإله "المقه" على نعمه التي أنعمها عليه. وتعبيرا عن حمده وشكره له، قدم إلى معبده "أوام" ثلاثة أصنام" تماثيل"، وذلك في أيام "وتر يهأمن، ملك سبأ وذي ريدان"، ابن "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان". وقد سجل شكره هذا في نص, وسمه الباحثون بـ Jamme 604. ومما يلفت النظر فيه ورود جملة: "وبشمس ملكن تنف"، أي: وبشمس الملك تنف، ويقصد بها وبشمس إلهة الملك, ونعتها تنف3. والنصوص الثلاثة الأخرى هي في أمور شخصية، لا صلة لها بالسياسة وبالحرب وببقية النواحي من الحياة العامة، كل ما فيها توسلات وتضرعات إلى الآلهة بأن تمن على أصحابها بالخيرات وبالبركات وبالسعادة وبأولاد ذكور

_ 1 JAMME 601, MAMB 205, MAHRAM, P.102 2 JAMME 603, MAMB 87, MAHRAM, P.104 3 JAMME 604, MAMB 207, MAHRAM, P.107

"أولدم أذكرم"، وما شاكل ذلك1. ولذلك لا أجد فائدة في الكلام على مضمونها في هذا المكان. وقد وضع "جامه" اسم "نشأكرب يهأمن يهرحب" بعد اسم "وتر يهأمن" في الحكم. و"نشأكرب" هذا هو أحد أبناء "الشرح" أيضًا، فهو شقيق "وتر يهأمن"2. وقد حصل الباحثون على عدد من الكتابات من أيام حكم "نشأكرب"، من جملتها الكتابة: Jamme 619، وصاحبها رجل اسمه "رب إيل أشوع" "ربئيل أشوع"، وابنه "ددال" "دودايل" "دادايل" "داديل" من عشيرة "حلحلم" "حلحل" "حلاحل", وقد كان "رب إيل أشوع" عاقب "عقبت" الملك على مدينة "نشقم" أي: "نشق". ويراد بـ"عقبت" "عاقب"، درجة نائب الملك، أو ممثله الذي يمثله ويدير مكانًا ما, وقد دون كتابته عند شفائه من مرض ألم به وهو في مدينة "نشق"، ومن اضطراب وقع له في معدته، ومن سقوط بعيره بعثرة عثرها، فسقط "رب إيل أشوع" من ظهره على ما يبدو من النص، ولكي يحظى برضا سيده "نشأكرب يهأمن يهرحب، ملك سبأ وذي ريدان ابن الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان"3. وسجل "رب إيل" وأخواه "يزد" "يزيد" و"هوف ال" "هوف إيل" "هوفئيل"، وهم من "ال ذخرم" "آل ذخر" شكرهم وحمدهم للإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"؛ لأنه نجاهم مما ألم بهم من أمراض، وخفف عنهم كل شين نزل بهم "تشينت هشين"، ومن كل مصيبة ألمت بهم فنهكتهم، سجلوه على لوح وضعوه في معبد ذلك الإله، كما أهدوا إليه صنمًا، أي تمثالًا، تعبيرًا عن شكرهم وحمدهم له، وكان ذلك في عهد هذا الملك الذي نتحدث عنه4. وجاء اسم "نشأكرب" في النص: REP. EPIG. 3563، وقد نعت فيه

_ 1 السطر الحادي عشر من النص: Jamme 605 2 MAHRAM, P.390, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.272 3 JAMME 619, MAMB 178, MAHRAM, P.120 4 JAMME 620, MAMB 150, MAHRAM, P.121

بـ"أيمن يهرجب" بدلًا من "يهأمن بهرحب", وفي النص: REP. EPIG. 4191 وقد سقط اسم أصحابه فيه, وكانوا أقيالًا "أقول" على قبيلة سقط اسمها فيه أيضًا، وقد عبروا عن أنفسهم بـ"أدم نشأكرب"، أي "عبيد نشأكرم"، على سبيل الأدب والتعظيم للملك. وقد ذكروا فيه أنهم أهدوا للإله "المقه بعل أوعلن"، أي: المقه رب "أوعلان"، صنمًا "صلمن" مصنوعًا من صريف "صرفن" أي: فضة أو رصاص أو نحاس، بحسب تعريب الباحثين لكلمة "صرف" "صرفان"، وصنمًا آخر من ذهب؛ لأنه من عليهم وأجاب كل ما سألوه1. وقد سجل الملك "نشأكرب يهأمن يهرحب" نصين آخرين، أحدهما النص: Jamme 611، والآخر النص: Jamme 611، دون في النص الأول أنه أهدى لمعبد "المقه ثهوان"، وهو معبده المسمى "أوام" "بعل أوم"، صنمين, أي: تمثالين من ذهب؛ لأنه أجاب دعواته "واستوفين كل دعت" ووفى له كل ما طلبه منه، وأعطاه "برق الخريف"، "ببرق خرف" أي: الأمطار التي تتساقط في موسم الخريف، فتُحيِي الأرض وتُغِيث الزرع، وذلك في سنة "نشأكرب من معد يكرب" من "فضحم" "فضح الثاني"، ولأنه حفظه من البرد "بردم"، وربما قصد به مرض "البرداء"، أي: "الملاريا" التي تجعل المريض وكأنه يرتجف من البرد, أو ربما قصد به نزلة أصابته, ومن "أربيم" وقد ترجمها "جامه" بـ"جراد"، ومن سحب الهوام والحشرات التي ظهرت في هذا الموسم، بمناسبة حدوث هذا البرق، "بهيت برقن", ولكي يزيد في نعمه عليه ويباركها، ويحفظه ويحفظ ملكه "ملكهمو" ويحفظ جيشه "خمسهمو" "خميسه"، ولكي يثبر "لثبر" ويحط "وضع" من شأن كل شانئ وحاسد وعدو له2. وأما النص: Jamme 611، فيذكر فيه "نشأكرب يهأمن يهرحب" أنه قدم صنمًا، "صلمن" إلى معبد الإله "المقه"، وهو معبد "أوم"

_ 1 REP. EPIG. 4191, SE. 68, WIEN 72, MAHRAM, 336 2 ومجموع النصوص التي عثر عليها حتى الآن تحمل اسم الملك "نشأكرب" على أنه هو الآمر بتدوينها، هو تسعة نصوصJamme 610, Mamb 208, Mahram, P.107, 336

"أوام", حمدًا لذاته؛ لأنه أعطاه كل ما أراده وطلبه منه، ووفاه له، قدمه في شهر "هوبس وعثتر" من سنة "نشأكرب بن معد يكرب" من "حذمت" حذمة الثالث "ثلثن", ولكي يديم نعمه عليه، ويمنحه القوة والحول، ويبارك في ملكه "ملكهمو"، ويعز جيشه، ويقهر أعداءه1. ولدينا نص آخر من النصوص التي أمر "نشأكرب" بتدوينها، هو النص الذي وسم بـJamme 877، يخبر فيه أنه أهدى لمعبد الإله "المقه ثهوان"، وهو معبد "بعل أوام"، صنمًا "صلمن"؛ لأنه من عليه، وأوحى إليه في قلبه بأن يقدمه إليه, ولأنه أجاب كل ما سأله وطلبه منه. وقد أهداه له في شهر "هوبس" من سنة "سمه كرب" "سمهكرب بن أبكرب" من "حذمت" حذمة الثالث "ثلثن", ولكي يديم نعمه عليه، ويبارك فيه، ويبعد عنه أذى الأشرار والأعداء، وذلك بحق "المقه ثهوان" "بعل مسكت" و"يثو برن" "يثو برءآن"2. وورد اسم هذا الملك في نص آخر وسم بـJamme 621 وصاحبه من عشيرة "عبلم" "عبال" "عبل" "عبيل"، من بني "أأذنن" "أأذنان" "أأذن". وقد دونه تعبيرًا عن حمده لذات إلهه "المقه" الذي وفى له كل مطلب طلبه منه3، وذلك في عهد "نشأكرب"4، كما ورد اسمه في النص: Jamme 622, وصاحبه "أبكرب أصحح" "أبو كرب أصحح", وولداه "يحمد يزن" "يحمد يزان" "يحمد يزأن" "يحمد يزءان"، و"أحمد يزد" "أحمد يزيد"، وهم من "آل جرت" "جرة" ومن "آل أنبر" "أنبر" "ال أنبر" وقد دونا فيه حمدهما وشكرهما للإله "المقه"، الذي أغناهم وأنعم عليهم بغنائم حرب أرضتهم، ولكي يمن عليهم بتنفيذ أي أمر يكلفهم الملك "نشأكرب" إياه، ولكي يبارك في زرعهم وفي حاصلهم الشتوي وحاصل الخريف وحاصل الصيف، ولكي يمنحهم البركة في أرضهم ويوفر لهم الماء لإسقاء زرعهم, ويبعد عنهم كل بأس "بن باستم" ويبعد الأرق عنهم،

_ 1 JAMME 611, MAMB 21, MAHRAM, P.108 2 MAHRAM, P.336 3 "حمدم بذت هو فيهمو بكل املا ستملوا"، السطر الرابع من النص. 4 Jamme 621, Mamb 171, Mahram, P.122

وكل مكروه وكل أذى وحسد الشانئين البعيدين والقريبين1. ويلاحظ ورود اسم "أحمد" و"يحمد" في هذا النص. ويتحدث النص Jamme 612 عن حملة قام بها "إحمد يغنم" "أحمد يغنم"، وهو ابن "نشاي" "نشأى"، وكان من كبار ضباط "مقتوى" الملك "نشأكرب"، وبأنه أهدى لمعبد "بعل أوام"، المخصص بعبادة الإله "المقه" صنمًا من ذهب؛ لأنه من عليه وأفاض عليه بنعمه، وأيده في الحملة التي قادها مع أقيال "أقولن" وجيش الملك إلى أرض حضرموت، ولأنه أعاده سالمًا بريئًا "أتو ببريتم" معافًى بعد أن قتل رجلين، ولكي يزيد في نعمه عليه وتوفيقه له، وليبعد عنه أذى الشانئين2. والنص المذكور نص موجز، لم يذكر أسماء المواضع التي حارب فيها جيش "سبأ وذي ريدان" في حضرموت، ولا الأسباب التي أدت إلى إرساله إلى هناك. ويظهر من إيجازه هذا ومن عدم إشارته إلى عودته بغنائم وأسرى وأموال، أن الحملة المذكورة لم تكن حملة كبيرة, وإلا قادها الملك نفسه، فقد كان من عادة الملوك عندهم ترؤس الحملات الكبيرة، وإدارة الحروب بأنفسهم إذا كانت كبيرة، ولو رئاسة شكلية أو رمزية. وعدم إشارة هذا النص إلى وجود الملك مع رجال الحملة، يشير كما قلت إلى صغر حجمها، وإلى أن الغاية التي أرسلت من أجلها لم تكن ذات خطر، وقد تكون لمجرد تأديب قبائل من حضرموت تحرشت بسبأ أو عصت أمر ملك حضرموت, فأرسلها الملك "نشأكرب" لتأديب تلك القبائل الثائرة. ونقرأ في النص: Jamme 616 خبر معارك اشترك فيها أصحاب النص، وهم من بني "سخيم" سادات "بيت ريمان". وكانوا أقيالا "أقول" على عشيرة "يرسم" من عشيرة "سمعي" التي تؤلف ثلث قبيلة "هجرم" "هجر"، كما كانوا من كبار ضباط الملك "نشأكرب"، أي: من درجة "مقتوى". وقد نشبت تلك المعارك من امتناع عدد من القبائل عن دفع ما استُحِقَّ عليها من ضرائب؛ مما حمل الملك على إرسال حملة عسكرية إليها، تمكنت من

_ 1 JAMME 623, MAMB 238, MAHRAM, P.122 2 JAMME 612, MAMB 88, MAHRAM, P.109, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.481

تأديبها وإخضاعها، فاضطرت عشائر "خولان جددم" "خولان جدد" إلى إرسال ساداتها وأشرافها إلى مدينة صنعاء "صنعو" لمقابلة الملك وعرض طاعتهم عليه وخضوعهم له. وقد رضي الملك عنهم، وأدوا ما استحق عليهم من إتاوة، وبذلك نجحت هذه الحملة, وسر أصحاب -وهم قادتها- بهذا النصر1. وتحدث النص بعد ذلك عن عصيان قبيلة "دوات" "دوأت" وعشائرها، وهي: "أباس" "أبأس", و"أيدعن" "أيدعان"، و"حكمم" "حكم", و"حدلنت", و"غمدم" "غمد", و"كهلم" "كاهل", و"أهلني" "أهلاني"، و"جدلت" "جدلة", و"سبسم" "سبس"، و"حرمم" "حرم" "حرام", و"حجرلمد", و"أومم" "أوم", و"رضحتن" "رضحتان" من "حرت" "حرة". وقد ثارت كل هذه العشائر، وعصت الملك، وامتنعت من دفع الضرائب؛ فاضطر الملك إلى إرسال قوة عسكرية عليها، التقت بها في أسفل الأودية "بسفل اوديتن": "بارن" "بئران" "بأرن" "بأران" و"خلب" و"تدحن" "تدحان"، فانتصرت عليها، أي: على العشائر الثائرة، وأخذت منها غنائم كثيرة وأسرى2. وعثر على كتابات أخرى، ورد فيها اسمه ثم اسم "يأزل بين" من بعده، وذلك على هذا النحو: "نشأكرب يهأمن يهرحب، ملك سبأ وذي ريدان ابن الشرح يحضب، وبأزل بين، ملكي سبأ وذي ريدان". وقد أوجد ورود هذا الاسم -وذلك كما ذكرت سابقًا- للباحثين الذين قالوا بوفاة "يأزل بين" في أيام حياة "الشرح" مشكلة، خلاصتها: أنه إذا كان "يأزل بين" قد توفي في أيام شقيقه، فلِمَ ذكر اسمه في هذا النص وفي نصوص أخرى مثله؟ أفلا يدل ورود اسمه في النص على أنه لم يمت في ذلك العهد ولكن بقي حيًّا، وعاد فحكم مع ابن أخيه "نشأكرب"، بعد ترضيته أو لأسباب أخرى لا نعرفها، فعاد اسمه، فظهر مرة أخرى في الكتابات؟ أما الذين أبقو "يأزل بين" حيا ولم يُميتوه، فإنهم يعتمدون على هذه

_ 1 JAMME 616, MAMB 154, 199, RY. 538, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.481 2 الفقرة 23 فما بعدها، وراجع النص: Geukens 6, Mahram P.114

النصوص في دعواهم ببقائه على قيد الحياة، وبمشاركته ابن أخيه في الحكم، وأما غيرهم فقد تعمدوا إلى حجج وأعذار في تفسير ما ورد في النصوص، في جملتها أن ذكر اسمه لا يدل على بقائه حيًّا حتى ذلك الزمن، وأن ذكره في الكتابات معناه الإشارة إلى عم الملك، وقد كان ملكًا، وأن "نشأكرب" إنما ذكره ليبين للناس أنه سيسير على سنة أبيه وعمه في مقاومة أعدائه بتجريد الحملات عليهم ومحاربتهم، وأنه سيخالف بذلك سياسة شقيقه "وترم يهأمن" الذي سلك خطة التهدئة وحل المشكلات بطريقة المفاوضات والسلم. ودليلهم على ذلك ورود جملة نصوص من أيامه، فيها أخبار حروب وقتال، على حين لا نجد من أخبار القتال في أيام شقيقه غير خبر واحد ورد في نص واحد، هو النص: Jamme 601 الذي مر ذكره1. ولكن، هل نحن على علم يقين بأننا لن نعثر في المستقبل على نص ما من أيام "وترم يهأمن"، فيه نبأ عن حرب أو حروب؟ ثم من يدري بنا أنه كان مسالمًا؟ أفلا يجوز أن يكون قصر حكمه، هو الذي حال بينه وبين خوض المعارك؟ ثم ما الدليل على أن ذكر اسم "يأزل بين" في نصوص أيام "نشأكرب"، معناه اتباع سياسته وسياسة شقيقه في الحرب؟ وليس في النصوص أية إشارة ولا أي تلميح يدفعنا إلى التفكير في هذا التفسير أو التأويل. ومن الكتابات التي دون فيها اسم "يأزل بين" بعد اسم "نشأكرب"، الكتابة: Jamme 608. وصاحبها هو الملك "نشأكرب يأمن يهرحب" نفسه2. وقد دونها حمدًا للإله "المقه ثهوان" "بعل أوام" وشكرًا له على نعمه وأفضاله، وذكر أنه قدم في هذه المناسبة صنمًا أي: تمثالًا من صريف "صرفن" فضة أو رصاص أو نحاس, زنته ألف "رضى" "رضيم"؛ ليكون تعبيرا عن شكره، وتقربه إليه3. وتعد الكتابة: REP. EPIG. 4233 من كتابات هذا العهد، وصاحبها رجل اسمه "يصبح" وقد سقط اسم أبيه من النص. وقد ذكر فيها أنه قدم خمسة

_ 1 Mahram, P.330 2 دون لقبه "يأمن"، أما في بقية النصوص فـ"يهأمن". وقد يكون الخطأ في الاستنساخ. 3 Jamme 608, Mamb 109, Mahram, P.106

تماثيل إلى الإله "المقه ثهوان"؛ لأنه من على عبده "يصبح" فأفاض عليه بنعمه، وأجزل له العطاء, ومنحه رضا سيده الملك، ولكي يديم نعمه هذه عليه، ويبعد عنه كل أذى وشر، بحق الإله: المقه1. وإلى هذا العهد أيضا تجب إضافة النص: Jamme 611، الذي سبق أن تحدثت عنه في أثناء كلامي على الكتابات التي أمر الملك "نشأكرب" بتدوينها باسمه، إذ ذكر فيها اسم عمه "يأزل بين". لقد انتهيت الآن من كلامي على "آل فرعم ينهب"، ووجب عليَّ التحدث عن أسرة جديدة حكمت "سبأ وذا ريدان"، هي أسرة يبدأ حكمها بحكم "ذمر على بين". ولكنني أرى التحدث عن أسرتين كان لهما شأن في هذا الزمن: أسرة "وهب أوم يضف" "وهب أوم ياضف"، وأسرة "سعد شمسم أسرع" "سعد شمس أسرع". وقد ورد اسم "وهب أوم يضف" "وهب أوم ياضف" "وهب أوام يضف" في عدد من الكتابات، وذكر مع اسمه اسم شقيق له يعرف بـ"يدم يدرم", وقد عاصرا الملك "الشرح يحضب"، كما عاصرا "نشأكرب يهأمن يهرحب". وقد عرفنا من الكتابات أسماء عدد من أولاد "وهب أوم يأضف" "وهب أوم يضف" هم: "حمعثت أزأد" "حمعثت أزاد"، و"أبكرب أسعد" "أبو كرب أسعد" و"سخيمم يزان" "سخيم يزأن" و"وهب أوم يسبر" "وهب أوم يسبر"، و"نشأكرب يدرم" "نشأكرب يدرم"2. ويظهر من النص: Jamme 616 أن "وهب أوم" وأخاه، كانا من عشيرة "سخيم"، وكانا "أبعلا" على بيت ريمان "أبعل بيتن ريمن" أي: أصحاب "بيت ريمان"، وكانوا أقيالًا على عشيرة "يرسم" من قبيلة "سمعي" التي تكون ثلث "ذي هجرم". فيظهر منه ومن النص: Jamme 718 أنهما كانا من عشيرة "سخيمم"، أي: سخيم3.

_ 1 REP. EPIG. 4233, BACKGROUND, P.98, REP. EPIG., VII, II, P.166, LE MUSEON, LXI, 3-4, "1948", P.232 2 MAHRAM, P.332 3 JAMME 616, MAMB 199, MAHRAM, P.113, JAMME 718, MAMB 56, MAHRAM, P.202

وقد كانت أسرة "وهب أوم" وأولاده، وشقيقه "يدم" تستغل أرضين حكومية تابعة للملك، أجرها لها الملك "الشرح يحضب" وفق أمر ملكي أصدره باسمه، وأعلنه، عثر عليه الباحثون، فوسموه بـREP. EPIG. 4646. وقد ذكر في النص اسما ولدين من أولاد "وهب أوم"، هما: "حمعثت"، و"أكرب"، كما أشير إلى عشيرة "يرسم" و"سخيم". وهو من النصوص المهمة التي تتعلق بالزراعة وباستغلال الأرضين في ذلك الزمن. وأما أسرة "سعد شمسم أسرع" "سعد شمس أسرع"، فإن أهميتها تزيد على أهمية الأسرة المتقدمة، إذ كانت لاسمها صلة بالملك "الشرح يحضب"، كما جاء في النصوص: Jamme 626 وJamme 627 وJamme 628، Jamme 629 وJamme 630. فقد نسب "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد" في النصوص المذكورة إلى "الشرح يحضب"، فذكر أنهما "ابنا" الملك، ولقبا فيها بـ"ملكي سبا وذ ايدن"، أي ملكي سبأ وذي ريدان، مما يدل على أنهما كانا ملكين1. وصاحب النص: Jamme 626 رجل اسمه "ينعم إذرح" "ينعم أذرح"، وقد دون مع اسمه اسم ولديه: "إبكرب" "أبكرب" "أبي كرب" و"كبرم" "كبر"، وهم من "غيمان". واشترك معهم في تدوينه رجل آخر اسمه: "ناسم" "نأسم" "نأس", وكانوا أقيالًا على قبيلة "غيمان". وقد ذكروا أنهم أهدوا صنمًا إلى الإله "المقه ثهوان" "بعل أوام" كما أُوحِيَ إليهم، حمدًا له وشكرًا، إذ من عليهم، ومنحهم السعادة والعافية، وجعل "سيديهم: سعد شمس أسرع وابنه مرثد يهحمد، وهما ملكا سبأ وذي ريدان وابنا الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان"2 يرضيان عنهم، ولكي يديم الإله المقه نعمه عليهم، وذلك بحق عثتر وهوبس والمقه وذات حميم وذات بعدان

_ 1 Le Museon, 1967, 1-2, P.272 2 "رضو وحظى مرايهمو سعد شمسم أسرع وبنهو مرثدم يهحمد ملكي سبأ وذ ريدن بني الشرح يحضب ملك سبأ وذ ريدن"، الفقرة 9 وما بعدها من النص: Jamme 626, Mamb 146, Mahram, P.124, Orlens Antiquus, Vol, III, 1964, P.70

وبشمس الآهة الملك الملقبة بـ"تنف" "تنوف" وبحق سيدهم "وبشمهمو" "حجرم قحمم" "حجر قحم" "حجر قحام"، بعل القلعتين "عرنهن": "تنع" و"لمس". وأما أصحاب النص: Jamme 627، فهم: "هو فعثت يزان" "هو فعثت يزأن" و"آل كبسيم" "آل كبسي"، وهم أقيال "أقول" عشيرتي "تنعمم" "تنعم" و"تنعمت" "تنعمة". وقد ذكروا فيه أنهم أهدوا لمعبد "أوام"، وهو معبد "المقه"، صنمًا "صلما" لأنه أوحى إليهم أنه سيجيب مطالبهم، ويوفي لهم كل ما سألوه من دعوات، فينزل عليهم الغيث, ويمطرهم بوابل الخير والبركات، ويسقي جانبي وادي "يعد" "يعود" و"إتب" "أتب" وأرضًا من أرض "تنعمم" "تنعم"، ولأنه أنبأهم بأنه سيملأ "ماخذ همو"، أي سد "يفد" وأرض يفد بأمطار الربيع وبأمطار الخريف، وبماء جارٍ دائم، وبأنه سيرفع حظوتهم عند "سعد شمس أسرع وعند ابنه مرثد يهحمد ملكي سبأ وذي ريدان، ابني الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان" وبقربهم إليهما تقربًا يرضيهم، ولأنه وعدهم بأنه سيمنحهم السعادة والمال والطمأنينة، وأنه سيسر خواطرهم، ويمنحهم غلة وافرة وثمارًا غزيرة وحصادًا طيبًا, وذلك بحق الآلهة: "عثتر" و"هوبس" و"المقه" و"بذات حميم" و"بذات بعدان" وبحق "شمس ملكن تنف"، أي: بحق الشمس إلهة الملك الملقبة بـ"تنف"، وبحق "المقه" "بعل شوحط"، وبحق "شمسهمو بعلت قيف رشم"، أي: "الشمس" ربة "قيف رشم" "قيف رشام"، وقد جعلوا نذرهم تقدمة للإله "عثتر شرقن" "عثتر الشارق" و"المقه بعل أوام"1. وأما النص Jamme 628، فهو النص المتقدم نفسه، فلا حاجة بنا إلى الكلام عليه. وأما النص: Jamme 630، فإنه كالنصوص السابقة, حمد وشكر للإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"؛ لأنه من على "لحيعثت أصححل" وهو من "يهعن" "يهعان"، بكل ما سأله وطلبه منه، وأمطره بشآبيب

_ 1 Jamme 627, Mamb 210, Mahram, P.125

نعمه وأفضاله، وبوابل من فضله، ورفع منزلته وأعطاه الحظوة عند "سعد شمس أسرع"، وعند ابنه "مرثد يهحمد"، ملكي سبأ وذي ريدان، ابني الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان, ولكي يديم نعمه عليه، ويتمها عليه وعلى بيته، ويعطيه ثمارًا وحصادًا جيدًا كثيرًا من كل أرضه "بن كل أرضتهمو"، ويقيه من كل الأمراض والآفات ... بحق "عثتر" و"هوبس" و"المقه" و"بذات حميم" و"بذات بعدان" وبحق "شمس ملكن تنف" شمس إلهة الملك تنف1. والنص Jamme 629 هو من أهم النصوص المذكورة؛ لورود أخبار ومعارك وحوادث تأريخية فيه لم ترد في أي نص آخر من النصوص المعروفة عن هذا العهد وعن هذه الأسرة, وصاحب النص رجل اسمه "مرثدم" وقد سقط لقبه في النص، وقد دون اسم ابنه: "ذرح إشوع" "ذرح أشوع" معه، وهما من "جرفم" "جراف" "جرف" أقيال عشيرة "يهب عيل" "يهبعيل". وقد دوناه عند تقديمهما صنمًا إلى الإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"، حمدًا له وشكرًا؛ لأنه وفقهما وأسبغ نعمه عليهما، ولأنه وفق "ذرحن" "ذرحان" في كل المعارك والحروب التي خاضها لمساعدة سيديه "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد" "ملكي سبأ وذي ريدان"، ابني "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان"2. وقد حمد "ذرحن" "ذرحان" إلهه وشكره إذ نجاه من المعارك التي حدثت في أرض عشيرة "ردمان" "ردمن"، تلك المعارك التي هاجمها حلف تكون من "وهب إيل"، الذي هو من "معاهر" ومن "خولان" وحضرموت وقتبان وردمان ومضحيم "مضحي" ومن كل من انضم إليهم من ناس "وكل أنس"3 ومن أعراب؛ وذلك لمغاضبة سيديهما ملكي سبأ ومعارضته4.

_ 1 JAMME 630, MAMB 267, MAHRAM, P.131 2 JAMME 629, MAMB 203, MAHRAM, P.129, ORIENS ANTIQUUS, VOL., III, 1964, P.70 3 "وكل أنس"، السطر السابع من النص. 4 "وأعرب"، السطران السابع والثامن من النص.

ويظهر أن "ذرحان" كان قد حُوصر أو وقع في مشكل في أرض ردمان، وربما في "وعلان" عاصمة "ردمان"، وبقي محاصرًا أو في وضع حرج صعب حتى جاءته قوات أنقذته مما وقع فيه، وعاد فالتحق بجيش سيديه الملكين لمحاربة ذلك الحلف1. وقد أسرع الملكان، فعبَّأا جيشهما ومن كان معهما من تبع "أدمهمي" ومحاربين "ذبن أسبعن" وأقيال، واتجها نحو "وعلان"، حيث واجها الأحلاف"؛ واجها "يدع إيل" ملك حضرموت، ومن معه من أهل حضرموت و"نبطعم" "نبط عم"، ملك قتبان، ومن كان معه من أهل قتبان، و"وهب إيل" من "معاهر" وخولان و"هصبح" و"مضحيم"، ومن كانوا معهم, وقد جرت معارك انتهت بانتصار "ملكي سبأ وذي ريدان" على رجال الحلف2. ولم تذكر الأسطر التي دون فيها خبر هذه المعارك أسماء المواضع التي نشب فيها القتال, ولم تأت كذلك بأية تفاصيل عنها ولا عن فداحة الخسائر التي مُنيت بها قوات ذلك الحلف. ويظهر أن "ذرحان" كان قد ترأس قوة مؤلفة من مقاتلين من "فيشن" "فيشان" ومن "يهبعيل" "يهب عيل"، وأخذ يهاجم بها بعض الأعداء، إلا أنه وقع في وضع عسكري حرج، إذ حاصره أعداؤه، ولم يتمكن من النجاة بنفسه وبقواته إلا بعد إسراع الملكين أنفسهما على رأس قواتهما لفك الحصار عنه. وقد نجحا في ذلك، وسلم مع قوته من الوقوع في الأسر. ولما خلص ونجا، أخذ يهاجم فلول بعض الأعداء، فنجح في هجومه وحصل على غنائم وأموال3, وعاد فانضم إلى جيش الملكين، وعاد الملكان إلى مدينة "مأرب" سالمين غانمين4. ويتحدث "ذرحان" بعد ذلك عن معارك نشبت في منطقة مدينة "حلزوم" ومدينة "مشرقتن" "مشرقتان" "المشرقة". وكان "ذرحان" يحارب مع

_ 1 Mahram. P.342 2 السطر التاسع فما بعده من النص. 3 Mahram, P.342 4 الفقرة: 23 من النص.

جيش الملكين في خلال هذه المعارك. وقد حاصر جيش الملكين مدينة "حلزوم" ثم افتتحها وأباحها فأخذ ما وجد فيها من أموال، ثم هاجم المواضع الأخرى على جانبي الأودية والسهول، وتركها للنهب والسلب, ودمر المعابد "الحرم" "محرمت" والهياكل "وهيكلت"، وخرب كل المساقي "مسقى" التي تروي الأرضين في هذه المناطق1, وبذلك انتهت معارك هذه المنطقة بتفوق الملكين على أعدائه. ويظهر أن الجيش لم يتمكن من افتتاح مدينة "مشرقتن" "المشرقة"، فبقيت صامدة مقاومة، حتى اضطر إلى ترك حصارها والارتحال عنها. ثم ينتقل النص إلى الحديث عن معارك أخرى أدت إلى احتلال مدينة "منوبم" "منوب"، وكل مدن "كل هجرن" ومصانع عشيرة "أوسن" أوسان، وإلى الاستيلاء على مدينة "شيعن" "شيعان"2, ولم يذكر شيئًا مفصلًا عن هذه المعارك، ولا عن الأماكن الأخرى التي وقعت فيها، ولا عن الغنائم والأموال التي أخذها الجيش من هذه المواضع. ويرى بعض الباحثين أن مدينة "منوبم"، هي "منوب"، وهي من مدن "بني بدا"، وأن وادي "منوب" من الأودية التي تصب في وادي حضرموت في غرب "الحوطة"، التي تقع على مسافة عشرين كيلومترًا من جنوب شرق "شبام", وأما شيعان فتقع على مسافة ثمانين كيلومترًا جنوب "تمنع"3. ثم يتحدث النص بعد ذلك عن معارك أخرى اشترك فيها "ذرحان" وقائد آخر اسمه "رب شمسم يعر" "ربشمس يعر" "رب شمس يعر"، وهو من "علفقم" "علفق" "علافق"، وكانا يحاربان في أرض قتبان، وقد وقعا على ما يظهر منه في وضع حرج، وذلك في منطقة مستوطنات حضر "أحضر" وأعراب, حتى وصلت أمداد إلى"تمنع". وتمكنا بفضل "المقه" ورحمته بهما ومساعدته لهما من الخلاص والنجاة مما وقعا فيه، ثم عادا مع الملكين، وشقوا طريقهم إلى "مأرب" وعادوا جميعًا سالمين4.

_ 1 الفقرة "25" فما بعدها إلى الفقرة "30". 2 الفقرتان 29 و30 من النص. 3 Mahram, P.342 4 الفقرة 31 وما بعدها.

ويظهر أن "مرثدم" "مرثد" أبا "ذرحان أشوع" كان في مدينة "صنعاء" "صنعو" وذلك بأمر من الملك للقيام بأعمال نِيطت به، كما ناط الملكان بخمسة أقيال آخرين القيام بأعمال خاصة بمدينة "رحبتن" "الرحبة" في خلال الحملتين1, وتقع مدينة "رحبتن" "الرحبة" "الرحابة" "رحبتان" على مسافة عشرين كيلومترًا شمال شرقي مدينة صنعاء2. ويظن أن الملك "نبطعم" "نبط عم" ملك قتبان المذكور في هذا النص، هو الملك "نبطعم يهنعم بن شهر هلال"، الذي حكم فيما بين السنة "20" والسنة "30" بعد الميلاد على رأي "جامه". وقد حكم أبوه "شهر هلال يهقبض" فيما بين السنة "10" والسنة "20" بعد الميلاد، على رأيه أيضًا. و"نبطعم يهنعم" هو أبو الملك "مرثدم" ملك قتبان الذي حكم فيما بين السنة "30" والسنة "45" بعد الميلاد3. و"تمنع" المذكورة في هذا النص، هي "تمنع" عاصمة قتبان. ولورود اسمها في هذا النص أهمية كبيرة؛ لأنه يدل على أنها كانت موجودة في هذا الزمن، وأنها بقيت إلى ما بعد الميلاد, أي: إلى القرن الأول منه، إذا ذهبنا مذهب "جامه" في التقدير المذكور4. هذا، ونحن لا نعلم في الزمن الحاضر عن الملكين المذكورين شيئًا يذكر, وقد وضع "جامه" حكم "سعد شمسم" وابنه "مرثدم يهحمد" فيما بين السنة "20" والسنة "30" بعد الميلاد, أي: إنه جعل حكمهما بعد حكم الملك "نشأكرب يهأمن يهرحب" ابن "الشرح يحضب" الذي انتهى حكمه في حوالي السنة "20" بعد الميلاد على رأيه5. أما "فون وزمن"، فوضع زمان حكم "سعد شمس أسرع" في حوالي السنة "110" بعد الميلاد, ووضع زمان حكم "مرثد يهحمد" في حوالي السنة "130" بعد الميلاد. وذكر أن "الشرح يحضب"، هو "الشرح يحضب"

_ 1 الفقرة 36 فما بعدها. 2 MAHRAM, PP.322, 342 3 MAHRAM, P.391 4 MAHRAM, P.343 5 MAHRAM, P.390

الأول الذي جعل ابتداء زمان حكمه سنة "80" للميلاد, وهو من "مرثد" من "بكيل"، والذي كان يحكم "شبام أقين" "شبام أقيان". وقد أشار إلى وجود ملك آخر اسمه "الشرح يحضب" ميزه عن الأول بإعطائه لقب "الثاني", وقد جعل زمان حكمه سنة "200" أو "206" للميلاد1. وقد يذهب الظن إلى أن الملكين المذكورين هما في الواقع "سعد شمسم أسرع" وابنه "مرثدم يهحمد", اللذان كانا من "جرت" جرة، وكانا قيلين على قبيلة "ذمرى"، كما نُصَّ على ذلك في الكتابات Jamme 568 وJamme 606 و Jamme 607 وJamme 753. وكانا في خدمة "الشرح يحضب" وفي خدمة ابنه "وترم"؛ لأن اسمي الملكين واسمي القيلين أسماء واحدة، ولأن زمانهما وزمان الملكين زمان واحد، إلا أن هذا الظن يصطدم بكون القيلين من "جرت" "آل جرة"، وبكون الملكين من نسل "الشرح يحضب"، كما يفهم ذلك من كلمة "بني"، أي: ابني بالتثنية الواردة بعد اسمها ولقبهما وقبل اسم "الشرح"، ولم يكن الملك من أسرة "جرت" "جرة"2. وجملة "سعد شمسم أسرع وبنهو مرثدم يهحمد ملكي سبأ وذ ريدن بني الشرح يحضب ملك سبأ وذ ريدن", ومعناها: "سعد شمس أسرع وابنه مرثد يهحمد ملكا سبأ وذي ريدان، ابنا الشرح يحضب، ملك سبأ وذي ريدان"، الواردة في النص3 Jamme 629، جملة مثيرة في الواقع تثير التساؤل عن المراد من لفظة "بني" المذكورة فيها، فلو فسرناها بمعنى "ابني" أي: ولدي "الشرح" اصطدمنا بحقيقة أن "مرثدم يهحمد"، لم يكن ابنًا للملك "الشرح" وإنما كان حفيدًا له، والحفيد غير الابن في اللغة وفي التعبير؛ ولذلك صار هذا التفسير غير منسجم مع واقع الحال. أما لو فرضنا أن البنوة المقصودة، هي بنوة تبنٍّ، أي: إن "سعد شمس أسرع" لم يكن ابنًا من صلب "الشرح يحضب"، بل كان ابنًا بالتبني جُوبهنا بمعضلة أخرى، هي أن "سعد شمس أسرع" لم يكن في عمر يُتَبَنَّى فيه في العادة، ثم إن ابنه نفسه كان قيلًا أي: في عمر لا بد أن يكون قد جاوز

_ 1 LE MUSEON, 1946, 3-4, P.498 2 MAHRAM, P.340, ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.70 3 الفقرة الخامسة وما بعدها، Le Museon, 1967, 1-2, P.289

فيه سن المراهقة، وهو أولى على كل حال من والده بالتبني بالنسبة إلى سنه, ولو كان التبني له، لما جاز لأبيه أن يسمي نفسه ابنًا للملك بالمعنى المفهوم من التبني. لذا فنحن أمام معضلة لا يمكن حلها في الزمن الحاضر، ولا يمكن حلها إلا بعثور المنقبين على كتابات جديدة تتعلق بهذه الأسرة، وبشخصية "الشرح يحضب" نفسه، فلعل "الشرح" رجل آخر، حكم في غير هذا الزمن. ويفهم من النص: Glaser 1228 أن "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد", وقد لقبا أنفسهما بلقب "ملك سبأ وذي ريدان", كانا حليفي الملك "ذمر على يهبر"، وقد حاربا معه الملك "وهب ال يحز" "وهب إيل يحز"، الذي كان مسيطرًا على نجاد قبيلة "سمعي"1. وقد انتصر "ذمر على يهبر" وحليفاه فيها، غير أن هذا النص لم يكن حاسمًا على ما يظهر. أسرة فرعم ينهب: 1- فرعم ينهب. 2- الشرح يحضب بن فرعم ينهب. 3- يازل بين بن فرعم ينهب، أي: شقيق الشرح يحضب. 4- نشأكرب يأمن يهرحب، "نشأكرب يهأمن يهرحب", وهو ابن الشرح يحضب. 5- وترم يهأمن "وتر يهأمن", وهو ابن الشرح يحضب, ومنهم من يقدم "وتر يهأمن" على أخيه "نشأكرب يهرحب".

_ 1 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.461, CIH 306 + 598

الفصل الثامن والعشرون: سبأ وذو ريدان

الفصل الثامن والعشرون: سبأ وذو ريدان مدخل ... الفصل الثامن والعشرون: سبأ وذو ريدان أضفت في الفصل السابق اسمي الملكين "سعد شمس أسرع" و"مرثد يهحمد" إلى آخر أسماء الملوك الذين حكموا بعد "الشرح يحضب"؛ وذلك حكاية على لسان "جامه" وبحسب ترتيبه لأولئك الملوك، ولِمَا تراءى له من دراسته لطبيعة الأحجار المكتوبة التي عثر عليها، ومن دراسته أساليب وأشكال الحروف وطرق نقشها على تلك الأحجار. أما غيره من الباحثين القدامى في العربيات الجنوبية فلم يذكروهما؛ لأنهم لم يكونوا قد وقفوا على الكتابات التي أوردت اسميهما، لأنهم لم يكونوا قد عرفوها إذ ذاك، إذ هي من الكتابات التي اكتشفت من عهد غير بعيد. وقد اختلف الباحثون في تأريخ حكومة سبأ, في تثبيت اسم الملك الذي حكم بعد آخر ابن من أبناء الملك "الشرح يحضب"، وتباينت آراؤهم في ذلك. وترك "ريكمنس" فراغًا بعد اسم "نشأكرب يهأمن يهرحب" و"وتر", دلالة على أنه يرى وجود فجوة في الحكم لا يدري من حكم فيها، وضع بعدها اسم "ذمر على بين". وقد جعله من المعاصرين للملك "العز" ملك حضرموت1. أما "جامه"، فقد وضع كما قلت اسمي الملكين "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد"، بعد اسم الملك "نشأكرب يهأمن يهرحب"، ثم دوَّن اسم

_ 1 J. RYCKMANS, L'INSTITUTION, P.338

"ذمر على بين" بعد اسم "مرثد يهحمد"، دلالة على أنه هو الذي كان قد حكم بعده. وقد جعل ابتداء حكمه في حوالي السنة الثلاثين بعد الميلاد، وانتهاء حكمه في حوالي السنة الخامسة والأربعين للميلاد1. وأما "فلبي"، فقد وضع اسم "وتر يهأمن" بعد اسم "نشأكرب يهأمن يهرحب"، ثم وضع اسم "ياسر يهصدق" من بعده. وقال باحتمال كون "ياسر" ابنًا من أبناء "وتر"، ثم دون اسم "ذمر على يهبر" من بعد "ياسر" وهو ابن "ياسر", ثم دون اسم "ثارن يعب يهنعم" من بعده, ثم وضع اسم "ذمر على يهبر" بعد "ثارن" وعبر عنه بالثاني؛ ليميزه بذلك عن "ذمر على" المتقدم، ثم جعل اسم "ذمر على بين" من بعده2، وهو الملك الذي أتحدث عنه الآن، والذي جعله "ريكمنس" و"جامه" على رأس أسرة جديدة حكمت بعد زوال حكم أبناء "الشرح يحضب" على نحو ما ذكرت. وسأسير في هذا الفصل في ترتيب حكام "سبأ وذي ريدان"، وفقًا للقائمة التي وضعها ورتبها "ريكمنس" مع مراعاة القائمة التي وضعها "جامه" والإشارة إلى القوائم الأخرى حسب الإمكان. ولا نعرف من أمر "ذمر على بين" شيئًا يذكر. وقد ورد اسمه في نص وسم CIH 373، غير أنه لم يلقب فيه بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، على حين لقب ابنه به, فحمل هذا بعضهم على التريث في الحكم بأنه كان ملكًا3. وقد جعل "جامه" حكمه فيما بين السنة الثلاثين والسنة الخامسة والأربعين بعد الميلاد4. وقد ورد في هذا النص المتقدم، أي: النص: CIH 373 اسم ابن من أبناء "ذمر على بين"، هو "كرب إيل وتر يهنعم"، وقد لقب فيه وفي نصوص أخرى بـ"ملك سبأ وذي ريدان"، ومدوّن النص: CIH 373 وصاحبه هو الملك "كرب إيل وتر يهنعم" أمر بتدوينه عند تقديمه نذرًا إلى الإله

_ 1 MAHRAM, P.390 2 BACKGROUND, P.140 3 MAHRAM, P.344 4 MAHRAM, P.390

"المقه"؛ ليوفي له وليبارك عليه وعلى قصره "سلحن" "سلحين" "سلحان" وعلى مدينة "مريب" مأرب. وقد ذكر مع اسمه اسم ابن له هو "هلك إمر" "هلك أمر"1. ووصل إلينا نقد ضرب عليه اسم "كرب إيل"، وأول من أشار إلى هذا النقد "بريدو" Prideaux الذي بين أن الـ"مونكرام" Monogram، أي الحروف المتشابكة المضروبة على النقد، تشير إلى نعت هذا الملك2. وقد بحث "موردتمن" كذلك في هذا الموضوع3. وقد ذهب "ريكمنس" إلى أن "كرب إيل وتر يهنعم"، كان يعاصر الملك "العز" ملك حضرموت. وللملك "كرب إيل وتر يهنعم" كتابة أخرى أمر هو نفسه بتدوينها، هي الكتابة التي وسمت بـREP. EPIG. 3895, وهي قصيرة ناقصة، سقطت منها كلمات عدة. وقد ورد فيها اسم ابن الملك، وهو "هلك إمر" "هلك أمر"، ولم يلقب "هلك أمر" فيه بـ"ملك سبأ وذي ريدان". ويظهر من ورود اسم الملك "كرب إيل وتر يهنعم"، وحده في بعض النصوص ملقبًا بـ"ملك سبأ وذي ريدان" أن هذا الملك حكم وحده في بادئ الأمر، لم يشاركه أحد، ثم بدا له فأشرك ابنه "ذمر على ذرح" معه، وذلك في العهد الثاني، وهو العهد الأخير من حكمه؛ لورود اسم "ذمر على ذرح" من بعد اسم أبيه, منعوتًا بنعت الملوك. ويلاحظ ورود اسم "هلك أمر" بن "كرب إيل وتر يهنعم" في كتابات الدور الأول من دوري حكم أبيه، إلا أنه لم يلقب فيها بـ"ملك سبأ وذي ريدان". أما كتابات الدور الثاني من أدوار حكم "كرب إيل"، فلا نجد فيها اسمه وإنما نجد فيها اسم شقيقه "ذمر على ذرح", وقد تلقب بـ"ملك سبأ وذي ريدان" دلالة على أنه كان يحكم مع أبيه حكمًا ملكيًّا مزدوجًا. وقد

_ 1 CIH 373, FRESNEL 54, GLASER 482, 483, OSIANDER, IN ZDMG., X, "1856", S. 67, DISCOVERIES, P.222, MAHRAM, P.344 2 HILL, P. IXVIII. PL., XI, I, 2, MULLER, BURGEN, II, S. 904 3 HILL, P.IXVIII, MORDTMANN, IN NUMIS. ZEIT., 1880, S. 308, D.H. MULLER, HOFMUS., S. 71

يعني هذا وفاة "هلك أمر" في أيام حكم أبيه؛ ولهذا اختفى اسمه من الكتابات. وقد قدر "ألبرايت" F. P. Albright حكم "كرب إيل وتر يهنعم" وابنه "هلك أمر" في منتصف القرن الأول للميلاد1. وقد وضع "فلبي" اسم "ذمر على ذرح" بعد "هلك أمر"، وهو شقيقه. وقد ذكر اسمه في النص الموسوم بـCIH 791، وقد كان حكمه بحسب تقدير "فلبي" فيما بين السنة "75ب. م." والسنة "95ب. م."2. أما الكتابات التي ذكر فيها "ذمر على ذرح" مع أبيه فيها، فهي الكتابة: REP. EPIG. 4132 والكتابة:REP. EPIG. 4771 , والكتابة الأولى قصيرة أصيبت مواضع منها بتلف. ويلاحظ أن النص لم يذكر "ملك سبأ وذي ريدان" بعد اسم "كرب إيل وتر يهنعم" الذي سقط من الكتابة، ولم يبقَ منه إلا الحروف الأخيرة من نعته "يهنعم"3. وأما النصREP. EPIG. 4771، فقد أُهمل فيه لقب "كرب إيل" الذي هو "وتر يهنعم"، واكتُفِيَ بذكر اسمه الأول وحده وهو "كرب إيل"، ثم دونت بعده جملة "ملك سبأ وذي ريدان وذمر على ذرح ملك سبأ وذي ريدان"4. وهو من النصوص التي عثر عليها في مأرب5. ولدينا عدد من الكتابات دون فيها اسم الملك "ذمر على ذرح"، منها الكتابة: CIH 143، والكتابة CIH 729، والكتابة CIH 791، والكتابة Jamme 644، والكتابة Jamme 878 والكتابة Geukens 12 والكتابة REP. EPIG. 4391. وبعض هذه الكتابات ليست من أيامه ولكنها من أيام ابنه "يهقم"، وقد ذكر فيها لأنه أبوه، كما أن بعضها مثل الكتابة: REP. EPIG. 4391 مؤلف من سطر واحد: "ذمر على ذرح، ملك سبأ وذي ريدان"6.

_ 1 DISCOVERIES, P.222 2 CIH 791, IV, III, I, P.177, REP. EPIG. 631, II, I, P.62, LOUVRE 5 3 راجع السطر الرابع من النص. 4 الفقرة الثانية من النص. 5 REP. EPIG. 4771, REP. EPIG., VII, III, P.357, ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.70 6 GLASER 462, REP. EPIG. 4391, REP. EPIG., VII, II, P.221

ويحدثنا النص: Jamme 644، عن عصيان قام به رجل اسمه "لحيعثت بن سم همسمع" "لحيعثت بن سمهسمع"، ومعه قبيلته قبيلة "شددم" "شدادم" "شداد"، ورجل آخر اسمه "رب أوم بن شمس" "رب أوام بن شمس" ورجال آخرون انضموا إليهما وأيدوا حركتهما. وقد ثاروا على سيدهم "يهقم" وهو ابن "الشرح يحضب ملك سبأ وذي ريدان"، وهاجموا قصر "سلحن" "سلحين" "سلحان"، قصر الملوك ومقر الحكم في "سبأ وذي ريدان" ودخلوه، واعتصموا به؛ فهب رجل اسمه "أوس إل يضع" "أوس إيل يضع" "أوسئيل يضع"، وهو من قبيلة "غيمان" وكان قيلها أيضا, فهاجم الثوار, وتغلب عليهم وطردهم من القصر، ويظهر أنه أخذهم غرة، فصان بذلك القصر من الأذى، وهربوا من مأرب، وحمد "أوسئيل" ربه "المقه" إذ وفقه وساعده في انتصاره على الثوار، وقدم إليه تمثالًا من ذهب تعبيرًا عن شكره وحمده له1. ويحدثنا صاحب النص المذكور، وهو "أوس إيل يضع"، بأن العصاة هربوا من مأرب، وتحصنوا في مواضع أخرى، واستمروا في عصيانهم هذا، فأمر عندئذٍ "يهقم" بعض عشائر "غيمان" أن تهاجم أرض "شددم" "شداد" من مدينة "صنعاء" "صنعو" وتقضي على "لحيعثت بن سمهسمع"، فهاجم جنود "غيمان" العصاة في موضع "كومنن" "كومنان"، وتغلبوا عليهم واستنقذوا منهم خيلًا وإبلًا ودوابَّ أخرى، وأخذوا منهم غنائم وأسرى وحراس الأسرى الذين كانوا قد وضعوهم في "كومنن", وسر قيلهم كثيرًا أن أرضى بذلك قلب سيده "يهقم" وأخذ منهم بثأره2. وقامت جماعة أخرى من محاربي غيمان بتعقب ثلاثمائة مقاتل من العصاة كانوا قد فروا من مأرب، وكانوا قد ساعدوا رئيس العصابة في هجومه على قصر "سلحن". وقد لحقت بهم وأعملت السيف فيهم، ثم عادت بعد أن أفنتهم. وقد غنم الغيمانيون من المعركتين ستمائة رأس من الماشية وأربعة أفراس3. ولا نجد في هذا النص إشارة ما، لا إلى الملك "ذمر على"، ولا إلى

_ 1 JAMME 644, MAMB 274, MAHRAM, PP.145 2 الفقرة 15 فما بعدها. 3 الفقرة 21 فما بعدها.

موضع وجوده في ذلك العهد. ويظهر أنه كان خارج "مأرب"، وإلا لما أغفل النص الإشارة إليه, أما ابنه فقد كان في مأرب على ما يظهر منه. ويلاحظ أن النص قد ذكر لفظة "مراهموا" أي سيده قبل اسم "يهقم"، ويعود الضمير إلى صاحب الكتابة، أي "سيد صاحب الكتابة"، ولكنه لم يذكر بعد اسم "يهقم" جملة "ملك سبأ وذي ريدان"، دلالة على أنه لم يكن ملكًا إذ ذاك، وأن صاحب الكتابة كان يعترف بسيادته عليه. وفي النص: Jamme 878، نبأ معارك جرت في أيام "يهقم" كذلك، غير أن النص أصيبت مواضع منه بالتلف، أفسد علينا المعنى، كما أن فيه غموضًا وإيجازًا يصعب معه استخراج شيء مهم منه عن تلك المعارك التي خاضها أصحاب النص مع "يهقم" الذي كتب اسمه على هذه الصورة "يها.."؛ لوجود تلف في بقية الاسم وتلف آخر في أول السطر الجديد يليه اسم " ... مر على ذرح"، مما يدل على أن المراد "يهقم" المذكور، وأنه هو الذي تولى قتال المخالفين. ووضع "جامه" اسم "كرب إيل بين" "كربئيل بين" بعد اسم "ذمر على ذرح"، وهو ابن "ذمر على ذرح", وجعل حكمه فيما بين السنة الثمانين والسنة الخامسة والتسعين بعد الميلاد1. وتعود الكتابة: Jamme 642 إلى أيام هذا الملك، وقد دونها شخص اسمه "حربم ينهب" "حرب ينهب" من عشيرة "هللم" "هلال" "هلل"، عند شفائه من مرض "بن مرض"، ألم به ولزمه حتى قدم مأربًا، فعُوفِيَ من مرضه هذا في شهر "ذي ال الت" "ذي الالت" "الئيلت" "الئيلوت". وقد حمد "حرب" ربه وشكره على أن من عليه بالشفاء، وقدم إليه نذرًا: صنمًا "صلمن" تعبيرًا عن هذا الشكر، وليبارك فيه وفي سيده "مرأهم"، "كرب إيل بين ملك سبأ وذي ريدان، ابن ذمر على ذرج, وليديم الإله نعمه عليه ويرزقه أولادًا ذكورًا"2. ويلاحظ أن النص لم يدون جملة "ملك سبأ وذي ريدان" بعد اسم "ذمر على ذرح" على حسب القاعدة المتبعة في تدوين أسماء الملوك.

_ 1 MAHRAM, P.390 2 JAMME 642, MAMB 260, MAHRAM, P.141

والنصان: Jamme 643 وJamme 643 Bis، يكمل أحدهما الآخر؛ فالنص الثاني هو تتمة وتكملة للنص الأول, وهما على جانب كبير من الأهمية عند المؤرخ؛ لورود أخبار تأريخية فيهما، لم ترد أية إشارة إليها في نصوص أخرى. وصاحباهما رجلان من عشيرة "جرت" "جرة"، وهي عشيرة معروفة مر بنا اسمها مرارًا، وكان منها أقيال عشيرة "سمهرم" "سمهر"، وصاحبا النصين هما من أقيال "سمهرم"، اسم أحدهما "نشأكرب" واسم الآخر "ثوبن" "ثوبان". وقد دونا في النصين أخبار معارك خاضاها، وكانا قائدين فيها من قواد جيش "كرب إيل بين" "ملك سبأ وذي ريدان"، وقد أمرهما الملك بقيادة كتائب من جيشه وكذلك فرسانه لمحاربة ملك حضرموت ومن عصى أمره فثار عليه، أو من انضم إلى ملك حضرموت من عشائر وحضر. ويظهر من مقدمة هذا النص أن العلاقات لم تكن حسنة بين "ملك سبأ وذي ريدان" وملك حضرموت، وأن مناوشات ومعارك كانت قد وقعت بين حكومة سبأ وحكومة حضرموت؛ مناوشات أتعبت الطرفين على ما يظهر حتى اضطرا في الآخر إلى عقد صلح بينهما، وأخذا الأيمان على أنفسهما بوجوب المحافظة على ما اتفقا عليه. وقد وافق ملك حضرموت وهو "يدع إيل" فضلًا عن ذلك على أن يكون في جانب ملك "مأرب" وأن يحافظ على حسن الجوار، وأن يضع تحت تصرف الملك "يدع إيل بين" قوة من حرس "يعكرن" "يعكران", وهو ملك آخر من ملوك حضرموت, يوجهها حيث يشاء تكون عنده في مأرب. غير أن هذا الاتفاق لم يدم طويلًا، فسرعان ما نكث ملك حضرموت بعهده كما يقول النص، وخالف وعده، بحجة أن "كرب إيل بين" أرسل قوة من محاربي "سمهرم" "سمهر"، وضعها تحت قيادة "نشأكرب" إلى "حنن" "حنان"، وهي مدينة لا تبعد كثيرًا عن "مأرب"، فخالف بذلك ما اتفق عليه، وأحل نفسه بذلك من تنفيذ ما اتفق عليه, وزحف على بعض المواضع ليهدد باستيلائه عليها الملك. وكان الملك "كرب إيل بين" قد أمر قائده "نشأكرب" بأن يذهب بثلاثمائة محارب من أهل "سمهرم" إلى مدينة "حنن" "حنان"، فلما وصل بهم إليها، اعترضه ملك حضرموت ومنعه من الدخول إليها؛ لكي يقوم فيها

بتنفيذ أوامر ملكه التي كلفه تنفيذها، وهي تتعلق ببناء مواضع لتعزيز الأمن في هذه المدينة. وقد عرض "نشأكرب" على الملك "يدع إيل" ملك حضرموت الأمر الملكي الذي يأمره فيه بتنفيذ ما كلفوه إياه، فرفض قبوله، وطلب منه أن يعود برجاله إلى مأرب، فاستاء ملك سبأ، وهاج على ملك حضرموت. ويظهر أن "يدع إيل" ملك حضرموت كان يريد إبقاء منطقة "حنن" "حنان" بدون حراسة ولا قوات تحميها ليفرض سلطانه عليها. وقد استغل ضعف "سبأ وذي ريدان" في هذا الوقت فأراد التدخل في شئونها، وحل نفسه مع جنوده في مدينة "حنن" "حنان" مع أنها مدينة سبئية تابعة لملك "سبأ وذي ريدان", وكان قد صمم أيضا على إخضاع القسم الجنوبي الشرقي من سبأ لحكمه؛ فارتاع "ملك سبأ وذي ريدان"، وشعر بالخطر الذي سيتهدد مملكته لو تساهل في ذلك، وسمح لملك حضرموت بأن يتصرف في الأمور كيف يشاء فأمر قائده بالذهاب إلى تلك المدينة لتحصينها وإبعاد الحضارمة منها، فلما وصل إليها، صادف وجود ملك حضرموت فيها، وأدرك ملك حضرموت سبب قدوم هذا القائد على رأس هذه القوة، فمنعه من تنفيذ ما كلف إياه، لئلا يتعزز حكم سبأ في هذه المدينة السبئية، وتصرف "يدع إيل" وكأنه ملك سبأ، لا ملك حضرموت ولا ملك آخر غيره هناك. فصرف "نشأكرب" ومن كان معه، ولم يعبأ بأمر ملك "سبأ وذي ريدان" الذي عرض عليه. ثم توجه إلى أرض معين ليهدد سبأ ويفاجئها بحرب. اتجه نحو مدينة "يثل" أولًا، وهي من مدن معين المهمة القديمة, فلما وصل إلى أبوابها، فتحت له ولجنوده واستقر بها مدة. ثم اتجه منها نحو مدينتي "نشقم" "نشق" و"نشن" "نشان"، وهما من مدن "معين" القديمة المهمة كذلك، فحاصرهما وأخذ يهاجم مواضع التحصين والدفاع فيهما. فقرر ملك "سبأ وذي ريدان" الإسراع بإرسال نجدات إليهما تمكنهما من مقاومة الحضارمة ومن الصمود أمامهم, أمر بوضعها تحت قيادة "نشأكرب" و"سمه يفع" "سمهو يفع" "سمهيفع" وهو من "بتع", وقد تألفت من كتائب محاربة ومن فرسان. ولما جاء خبر وصول المدد إلى المدينتين، أبلغه به "منذر" أي أحد الذين كانوا يسترقون الأنباء ويبعثون بها إلى الحكومات التي أرسلتهم للتجسس على خصومهم، أسرع فترك حصار المدينتين، وعاد إلى "يثل" ليتحصن بها.

وقرر الملك "كرب إيل بين" مهاجمة خصمه بنفسه، فسار على رأس قوة من جيشه من عاصمته "مأرب" واتجه نحو "يثل"، وأمر قائديه بالزحف مع قواتهما نحو "يثل" أيضا. وهكذا هاجم "ملك سبأ وذي ريدان" مدينة "يثل" من ناحيتين؛ لتطويق "يدع إيل" فيها, وقد سار القائدان من مدينة "نشق"، فلما بلغا "يثل"، وكان ملكهما قد وصل إليها كذلك، هاجمت قوات "سبأ وذي ريدان" قوات حضرموت فهزموها، واضطر ملك "حضرموت" إلى ترك "يثل" والاتجاه منها نحو "حنن" "حنان". وكان هذا الملك قد حاول قبل ارتحاله نحو "يثل" نهب "المعبد" الحرام "محرمن" وأخذ ما فيه، غير أن قوات القائدين المذكورين الزاحفة من "نشق" أدركته، فخاف من الالتحام بها، وفر نحو "يثل"، وبذلك أنقذ المعبد الحرام من النهب1. ويرى "جامه" أن ذلك المعبد هو المعبد المعروف بـ "محرم بلقيس" بين الناس في هذا العهد2. ويكمل النص الثاني، وهو النص Jamme 643 Bis، آخر خبر ورد في النص الأول، فيقول: إن قوات إضافية وصلت من مأرب، إلى الملك وقائديه، وعندئذ اتخذت هذه القوات خطة المهاجمة، فهاجمت ملك حضرموت وجيش حضرموت، وأنزلت به خسائر فادحة، فتكت بألفي جندي من جنود حضرموت، واستولى السبئيون على كل ما كان عند الحضارمة من خيل وجمال وحمير ومن كل حيوان جارح "جرح" كان عند ملك حضرموت، وبذلك ختم هذا النص, بالنص على انتصار "سبأ وذي ريدان" على ملك حضرموت3. ونحن لا نعلم ماذا جرى بعد هذا النصر الذي أحرزه السبئيون على حضرموت؛ إذ ليست لدينا نصوص تتحدث عن ذلك. ولكننا نستطيع أن نقول: إننا تعودنا قراءة أخبار أمثال هذه الانتصارات ثم تعودنا أن نقرأ بعد ذلك أن المهزوم يعود فيحارب المنتصر الهازم، وأن المعارك لم تكن تنتهي حتى تبدأ بعد ذلك معارك انتقامية جديدة أخذًا للثأر. لقد صارت العربية الجنوبية ويا للأسف وكأنها ساحة

_ 1 الفقرة: 28 فما بعدها. 2 Mahram, P.348 3 الفقرة الواحدة حتى الفقرة "10" من النص. Jamme 643 Bis, Mamb 316, Mahram, PP.144

لعب، لا تخلو من اللعب إلا لفترات الراحة والاستجمام. هذا، ونحن لا نعرف شيئًا يذكر عن الملك "يعكرن" "يعكران" ملك حضرموت الثاني الذي ورد اسمه في النصين المتقدمين، إذ لم يرد اسمه في نصوص أخرى، ولا أمل لنا إلا في المستقبل، فقد يعثر على كتابات جديدة يرد فيها اسم هذا الملك. وقد قدر "جامه" حكم الملك "يهقم" والملك "كرب إيل بين" فيما بين السنة "80" والسنة "95" بعد الميلاد. وفي هذا الزمن كان أيضًا حكم ملكي حضرموت "يدع إيل" و"يعكرن" "يعكران". وقد ترك "ريكمنس" فراغًا بعد اسمي "هلك أمر" و"ذمر على ذرح" إشارة إلى فجوة لا يدري من حكم فيها، ثم دون بعده اسم "وتر يهأمن"، ثم ترك فراغًا دوَّن بعده اسم "شمدر يهنعم"، ثم عاد فترك فراغًا ثالثًا دون بعده اسم "الشر يحمل"، ثم ترك فراغًا ذكر بعده "عمدان بين يهقبض"، ثم فراغًا خامسًا دون بعده اسم "لعز نوفان يهصدق"، ختمه بفراغ سادس دون بعده اسم "ياسر يهصدق"1. ووضع "فلبي" اسم "ياسر يهصدق" "يسر يهصدق" بعد "وترم يهأمن", وجعل مبدأ حكمه حوالي سنة "60ق. م."، وذكر أن من المحتمل أن يكون "وترم" "وتر" هو والده2. وقد ورد اسمه في النص: CIH 41، وهو نص دونه جماعة من أقيال قبيلة "مهانفم"3، عند بنائهم بيتهم "مهورن" "مهور" و"يسر" و"مزودًا" اسمه "حرور"4، وقد وردت فيه أسماء الآلهة: "عثتر شرقن" أي "عثتر الشارق", و"عثتر ذ جفتم بعل علم"، و"شرفن"، و"ذات حميم" "بعلى محرمن ريدان" أي: ربّا "حرم ريدان"، و"الهموبشر"، أي إلههم "بشر". ودون بعد أسماء الآلهة اسم الملك "ياسر يهصدق ملك سبأ وذي ريدان"، ولم يذكر

_ 1 J. RYCKMANS, L'INSTITUTION, P.338 2 BACKGROUND, P.142, ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.80 3 "أقول شعبن مهانف". 4 "مزود همو حرور".

اسم والد "ياسر" في هذا النص1. والكتابة المذكورة من "ضاف" بـ"قاع جهران" شمال "ذمار", و"قاع جهران" هو "مهانفم" في كتابات المسند2. ويعد النص المذكور من أقدم النصوص الحميرية التي وصلت إلينا. ويرى "فون وزمن"، أنه أول نص يصل إلينا لقب فيه ملك من ملوك حمير بلقب "ملك سبأ وذو ريدان"3. ومعنى هذا أن ملوك حمير كانوا قد نافسوا الأسرة السبئية الشرعية ونازعوها على العرش، وتلقبوا بهذا اللقب الذي هو من ألقاب ملوك سبأ الشرعيين. وأرض "مهأنف" "مهانفم" هي "قاع جهران"، ومعنى ذلك أن هذه الأرض كانت تابعة لهذا الملك في ذلك العهد4. ويعد "ياسر يهصدق" "يسر يهصدق" من حمير، ومعنى هذا أن حمير التي نازعت الأسرة القديمة لسبأ عرشها لقب حكامها أنفسهم باللقب الرسمي الذي يتلقب به ملوك "سبأ" الأصليون، تعبيرًا عن إثبات حقهم في الملك. وقد حكم "ياسر" -على رأي "فون وزمن"- في حوالي السنة "75م" أو "80م". وكان يقيم في "ظفار"، في حصن "ريدان". ويرى "فون وزمن" أنه في خلال المدة التي انصرمت بين حملة "أوليوس غالوس" وبين حكم "ياسر يهصدق"، لم يصل إلينا أي نص من نصوص المسند5. وجعل "جامه" حكم "ياسر يهصدق" بين السنة "200" والسنة "205" بعد الميلاد6. وقد وضع "فون وزمن" اسم "الشرح" بعد اسم "ياسر يهصدق"، وجعل أيامه في حوالي السنة "90" بعد الميلاد. وقد ذكر أنه من حمير وإلى أيامه تعود الكتابة المرقمة بـ7CIH 140.

_ 1 CIH 41, IV, I, I, P.67, LANGER 2, RHODOKANAKIS, KTB, II, S. 64, SIEGFRIED LANGER'S REISEBERICHTE AUS SYRIEN UND ARABIEN, S. XXXIV, "1866", 34-43, ZDMG., "1883", S. 352 2 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.448 3 LE MUSEON, 1964, 3-4, PP.448 4 LE MUSEON, 1964, 3-4, PP.448 5 LE MUSEON, 1964, 3-4, PP.450, 495 6 MAHRAM, P.392 7 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498

وعرف ولد من أولاد "ياسر" اسمه "ذمر على يهبر"، وقد ذكر في النص1 CIH 365. وقد عثر على بعض النقود ضرب عليها اسم صاحبها، وهو "يهبر"، فلعله هذا الملك2. وذكر اسم الملك "ذمر على يهبر" واسم أبيه "ياسر يهصدق" في الكتابة المذكورة، وقد جاء فيها: أن هذا الملك قاتل رجلًا من "بني حزفرم" "بني حزفر" "آل حزفر", و"آل حزفر" هم عشيرة من "ذي خليل" وهي عشيرة قديمة شهيرة، أخرجت جملة "مكرب" "مكارب" و"ملوك". ويرى "فون وزمن" أن هذه الحرب كانت ضد الأسرة السبئية المالكة المتوارثة للعرش من عهد قديم، وأن هذا الملك الذي هو من "حمير" استولى على حصن "ذت مخطرن" "ذات مخطران" "ذات المخاطر"، واستولى على "مأرب" عاصمة سبأ في هذه الحرب3. ومعنى هذا أن حمير استولت على سبأ وحكمتها، فصارت مأرب خاضعة لها. وقد دام خضوع سبأ لحمير إلى أيام "ثأرن يعب" وهو ابن "ذمر على يهبر" "ذمر على يهبأر"، إذ نجد على مأرب ملكًا، هو الملك "ذمر على ذرح", وقد قدر "فون وزمن" زمان استيلاء حمير على مأرب بحوالي عشر سنين4. وورد اسم "ذمر على يهبر" واسم أبيه "ياسر يهصدق" في الكتابة:REP. EPIG. 310، والآمر بكتابتها هو "تبع كرب" "تبعكرب" من آل "حزفرم" "حزفر"، وقد قدم إلى الإله "المقه" نذرًا يتألف من أوثان لتوضع في معبد هذا الإله "المقه" ولحمايته ولخير أرضه وحصنه. ويظهر أن أملاكه كانت في منطقة "رحب" "رحاب"5.

_ 1 CIH 365, GLASER 612, LUPARENSIS 4105, CIH, IV, II, I, P.6. FF, O. WEBER STUDIEN ZUR SUDARABISCHEN ALTERTUMSKUNDE, "1907", S., 36, REP. EPIG., 310, I, V, P.255, LE MUSEON, LXI, 3-4, "1948", P.232, ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.80 2 HANDBUCH., S. 94 3 CIH 365 = GLASER 612, M. HOFNER, DIE INSCHRIFTEN AUS GLASER TAGEBUCH XI, WIENER ZLITSCHRIFT FUR DIE KUNDE DES MORGENLANDES 45, 1938, S. 19-21, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.459 4 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498 5 REP. EPIG., I, V, P.255

وقد قام "ذمر على يهبر" ومعه ابنه "ثارن يعب يهنعم" الذي أشركه أبوه معه في الحكم، بإعادة بناء سد "ذمر" "ذامر" "ذو أمر" "ذمار" في منطقة "أبين"؛ وذلك لتهدم السد القديم الذي كان يمد أهل مأرب بالماء, فأعادا بذلك الحياة لمساحة واسعة من أرضين موات. وقد قام بهذا العمل عمال من شعب "سبأ" ومن "ذو عذهبن" "ذي عذهب"1، وقدما في ذلك قرابين إلى آلهتهما: "عثتر" و"سحر" نحراها في معبد "نفقن" "نفقان"2. وذكر "ذمر على يهبر" مع ابنه "ثارن" في الكتابة المرقمة بـREP. EPIG. 4708، وقد كتبت على تمثال من البرونز محفوظ الآن في متحف "صنعاء"، وذكرت فيها أسماء أصحابها، وهم قوم من "آل ذرنح"، وورد فيها اسم معبد "صنع" "صنعو"، ولعله "صنعاء"3. وقد ورد اسم "ثارن يعب يهنعم" في الكتابة الموسومة بـREP. EPIG. 4909، وهي كتابة سجلها رجلان من أشراف حمير، أوفدهما ملكهما "ثارن يعب" إلى الملك "العذ يلط" "العز يلط" ملك حضرموت، لتهنئته باعتلاء العرش وتلقبه باللقب الملوكي في حصن "أنودم" "أنود"4, ويرى بعض الباحثين أن ذلك كان في حوالي السنة "200ب. م."5. أما "فلبي" فجعل زمانه في حوالي السنة "20ق. م."6. ومعنى هذا أن زمان حكمه كان بعد حملة "أوليوس غالوس" بقليل, وهو تقدير لا يقره عليه أكثر علماء العربيات الجنوبية. وأما "جامه"، فقد جعل زمان حكمه بين السنة "265" والسنة "275" بعد الميلاد، وجعله معاصرًا للملك "العذ يلط" بن "عم ذخر" "العذ يلط

_ 1 REP. EPIG. 4775, REP. EPIG., VII, III, P.360, GLASER, 551, M. HOFNER, DIE INSCHRIFTEN AUS GLASERS TAGEBUCH XI, "CIT. NOTE 71", S. 15 A. GROHMANN, REALEN. D. CLASS. ALTER., XIV, 2, S. 1739, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.459 2 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.459 3 REP. EPIG. 4708, VII, III, P.330, ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.80 4 SHEBA'S DAUGHTERS, P.449, REP. EPIG. 4909, VII, III, P.414 5 BEITRAGE, S. 133, 144 6 BACKGROUND, P.142

ابن عمذخر" ملك حضرموت1. وقد جعله "فون وزمن" معاصرًا للملك "نشأكرب يهأمن يهرجب" "نشأكرب يهأمن يهرحب"، الذي حكم على رأيه في حوالي سنة "230ب. م." إلى "240ب. م."2. وقد ذكر مع ابنه في الكتابة المعروفة بـREP. EPIG. 3441، وهي تخص أعمالًا عمرانية أمر بها "ذمر على" وابنه "ثارن" تتعلق بسد "ذو أمر" "ذمر" "ذمار"3. وورد اسم "ثارن يعب" في النص: CIH 457، وقد ذكر معه اسم أبيه "ذمر على يهبر"، وقد دونه جماعة من "بني ذي سحر" عند تقديمهم إلى الآلهة أوثانًا؛ لحماية سيديهم الملكين "ذمر على يهبر" وابنه "ثارن يعب"، ولحماية أملاكهم ورعايتهم. وقد ذكرت في الكتابة أسماء الآلهة التي توسل إليها أصحابها ورجوا منها الحماية والرعاية، وهي: "عثتر" و"سحر بعلى نفقن" و"هبس" و"المقه" و"ذات حميم" و"ذات بعدان" و"شمس"4. وورد اسم "ثارن يعب" في نهاية النص: CIH 569، وهو نص قصير مؤلف من ثلاثة أسطر5. وقد خلف "ثارن يعب" على عرش سبأ ابنه الملك "ذمر على يهبر"، الذي يمكن أن نطلق عليه "ذمر على يهبر الثاني"؛ تمييزًا له عن جده. وقد وجد اسمه في نص أرخ بشهر "ذو نسور" "ذ نسور"، وقد سقط اسم السنة التي أرخ بها من النص6. وقد وضع "فون وزمن" اسم "شمر يهرعش" من بعده، ودعاه بـ"الأول" تمييزا له عن "شمر يهرعش" الآخر الذي ولي الحكم بعده بأمد طويل. وقد جعل "فون وزمن" "شمر يهرعش الأول" معاصرًا لـ"أنمار يهأمن"

_ 1 MAHRAM, P.392, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498 2 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498 3 REP. EPIG. 3441, VI, I, 158, RHODOKANAKIS, KTB., II, S. 77 4 CIH 457, O. M. 304, CIH., VI, II, II, P.158 5 CIH 569, BENEYTON 4, GLASER 807, 1044, CIH, VI, II, IV, P.353, LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498 6 REP. EPIG., VII, I, P.15, REP. EPIG. 3960, S. E. 103, ORIENS ANTIQUUS, 1964, P.80

ولـ"كرب إيل وتر يهنعم" من "بني بتع"، من قبيلة "سمعي". وقد كان حكمه في حوالي السنة "140" بعد الميلاد1. أما "ريكمنس"، فقد دون اسم "ذمر على يهبأر" بعد "ياسر يهصدق" ونعته بـ"الأول" ثم دون اسم "ثارن يعب يهنعم" من بعده، ثم ترك فراغًا وضع اسم "ذمر على يهبأر" بعده، ونعته بـ"الثاني" ليميزه عن الأول، ثم ترك فراغًا ذكر بعده اسم "رب شمس نمران"، ثم وضع فراغًا آخر، ذكر بعده ملكًا سماه "الشرح يحضب" "الشرح يحب"، ثم ذكر بعده ملكين أحدهما اسمه: "سعد شمس أسرو"، والآخر اسمه مكسور لم يبقَ منه إلا ثلاثة أحرف، هي "حمد"، ثم دون فراغًا بعد هذين الاسمين، وختمه بذكر اسم "ياسر يهنعم"، ثم اسم "شمسر يهرعش" وهو ابنه من بعده، وقد كان معاصرًا للملك "شرح إيل" ملك حضرموت. وبـ"شمر يهرعش" أنهى "ريكمنس" قائمته لملوك "سبأ وذي ريدان"2. أما "فلبي"، فقد وضع اسم "ذمر على بين" بعد اسم "ذكر على يهبر" الثاني. وقد وضع علامة استفهام أمامه دلالة على أنه غير متأكد من اسم أبيه, وربما كان ابن أخي "ذمر على يهبر الثاني", وزعم أنه حكم حوالي سنة عشرين بعد الميلاد3. ووضع "فلبي" اسم "كرب ال يهنعم" "كرب إيل وتر يهنعم" بعد اسم "ذمر على بين"، ثم اسم "هلك إمر" "هلك أمر" من بعده، ثم "ذمر على ذرح"، وقد سبق أن تكلمت عنهم، إذ قدمتهم وفقًا لقائمة "ريكمنس". ووضع "فلبي" اسم "يدع ال وتر" بعد "ذمر على ذرح" أبيه. وقد جعل حكمه من حوالي السنة 95 حتى السنة "115ب. م"4. ويظن "فلبي" أن "يدع ال وتر"، هو الشخص المسمى بهذا الاسم في النص: CIH 7715, ويحتمل في نظره أن يكون ابنه6.

_ 1 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498 2 J. RYCKMANS, L'INSTIUTION, P.338 3 BACKGROUND, P.142 4 BACKGROUND, P.142 5 CIH 771, CIH, IV, III, I, P.167, HALEVY 640, 642, HANDBUCH, S. 94 6 BACKGROUND, P.105

وذكر "فلبي" أنه منذ السنة "115" إلى السنة "245ب. م"، حكم عرش "سبأ وذي ريدان" ملوك من أسرة "بني بتع" من "حاشد"، و"حاشد" قبيلة من "همدان". وقد بلغ عددهم اثني عشر ملكًا، جمعهم في ست مجموعات، ولم يضع أمام كل ملك زمان حكمه كما فعل في قائمته للملوك الذين حكموا قبلهم؛ ذلك لأنه -كما بين هو نفسه- غير واثق من معرفة زمان حكمهم ولا من ترتيب المجموعات, وإنما رتبهم على ما أداه إليه اجتهاده، لا غير1. ومن هؤلاء الملوك، الملك "شمدر يهنعم" "شمدار يهنعم"، وقد عرف اسمه من نقود عثر عليها, ضربت في مدينة "ريدان"2، وهي مما بعد الميلاد، ولا نعرف من أمره شيئا آخر. ووضع "فلبي" بعد الملك المذكور اسم "عمدن بين يهقبض" "عمدان بيّن يهقبض"، وقد ورد اسمه في النص الموسوم بـ3Glaser 567, كما وجد مضروبًا على نقد ضُرِبَ في مدينة "ريدان", وقد صور رأسه على النقد، فبدا وجهه حليقًا، وضفائر رأسه متدلية على رقبته. وأول من وجه أنظار الباحثين إلى هذا النقد، "موردتمن" Mordtmann، و"بريدو"4 Prideux. ووجد اسم "عمدان بين يهقبض" في نص عثر عليه في "حرم بلقيس"، وقد لقب بـ"ملك سبأ وذي ريدان". وهو نص ناقص، ذكر فيه اسم الإله "عثتر"5. ووضع "فلبي" بعد الملكين المذكورين اللذين كونا المجموعة الأولى، "نشأكرب يزن" "نشأكرب يأزن" ثم "وهب عثت يفد"6. وهما يكوِّنان

_ 1 BACKGROUND, P.142 2 BACKGROUND, P.142, HANDBUCH, S. 95 3 HANDBUCH, S. 94, SAB. INSCHR., S. 9, REP. EPIG. 3433, REP. EPIG., VI, I, P.155, GLASER, ABESSI., S. 32, ANM. I, RHODOKANAKIS, KTP., II, S. 66, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.298 4 HILL, P.IXIX, JASB, 1881, P.99 PLATE, X, 3, 4, 5. 5 العظم, AL-'AZAM 5, 0, LE MUSEON. LV, 1-4, "1942" P.128, REP. EPIG. 5099, LE MUSEON. 1967, 1-2, P.298. 6 "وهب عثت".

المجموعة الثانية من المجموعات الست التي تصور أنها حكمت في المدة المذكورة1. وقد ورد اسماهما في النص:2 CIH 336، ولم يلقبا بـ"ملك سبأ وذي ريدان", ولم أجد في هذا النص إشارة ما, يمكن أن يستدل بها على أنها ملكان. ولم يذكر "هومل" اسميهما مع من ذكر من الملوك الذين حكموا بعد "الشرح يحضب" والذين رتب أسماء من عثر عليهم بحسب حروف الهجاء، ويبلغ عددهم، في رأيه، زهاء عشرين ملكًا3. وذكر "فلبي" أن والد الملكين المذكورين هو "تصح بن يهزحم"4. ودون "فلبي" اسمي ملكين آخرين بعد الملكين المتقدمين، أحدهما "هوتر عثت يشف"، والآخر "كرب عثت يهقبل"5. وانتقل بعد ذلك إلى مجموعة أخرى تضمنت اسمي ملكين أيضا، هما "نشأكرب أوتر"، و"شهر أيمن"6. وقد ورد اسم "نشأكرب أوتر" في النص الموسوم: Om II, 2، غير أنه لم يلقب فيه بملك، وقد رجح "هومل" كونه ملكًا؛ للقبه الذي هو من نوع الألقاب التي يستعملها الملوك7. ودون "فلبي" اسم "رب شمس نمران" "ربشمس نمران"، بعد "شهر أيمن". وذكر أنه مذكور في النص الموسوم بـ8 REP. EPIG. 3621، وهو نص عثر عليه في "مأرب"، ووجد اسمه في نصوص أخرى عثر عليها في "حاز" معقل "همدان" ومقر "رب شمس". وقد استدل "فلبي" من وجود النص المذكور في "مأرب" على بلوغ سلطانه وسلطان قومه "آل بتع" هذا المكان9. وأما غير "فلبي" مثل "ريكمنس" و"جامه"، فقد قدموا -كما رأينا-

_ 1 BACKGROUND, P.142 2 CIH 336, IV, I, IV, P.385 3 HANDBUCH, S. 94-95 4 BACKGROUND, P.142 5 BACKGROUND, P.142 6 BACKGROUND, P.142 7 HANDBUCH, S. 94 8 REP. EPIG. 3621, REP. EPIG., VI, I, P.244 9 BACKGROUND, P.142

مكان الملك "رب شمس نمران" "ربشمس نمران" في القوائم التي رتبوها لملوك "سبأ وذي ريدان". وقد جعل "جامه" زمان حكمه بين السنة "120" والسنة "140" بعد الميلاد1. وجعل "فون وزمن" زمان حكم الملك "ربشمس نمران" فيما بين السنة "160" والسنة "170" أو "180" بعد الميلاد, وجعله من المعاصرين للملك "يدع أب غيلان" ملك حضرموت, وممن أدرك أيام حكم "علهان نهفان" ملك همدان2. وورد اسم "رب شمس نمران" في النص: REP. EPIG. 4138, وهو نص مهم وردت فيه أخبار حروب وغزوات قام بها "عبد عثتر" وأخوه "سعد ثون" ابنا "جدنم" "جدن" أو من آل "جدن"، بأمر من سيدهم "رب شمس نمران ملك سبأ وذي ريدان". فلما عادا إلى مواطنهما سالمين، دوَّنا شكرهما وحمدهما للإله "المقه" الذي من عليهما بالعافية وحفظهما وأعادهما بصحة جيدة، وأنقذهما "المقه بعل حروان" من الوباء الذي عَمَّ كل الأرض، وبارك عليهما في مدينة "نعض"، إذ أنعم عليهما سيدهما "رب شمس نمران". وقد دعيا في هذه الكتابة لـ"المقه ثهوان" و"ثور بعلم بعل حروان" بأن يبارك عليهما ويحفظها ويمن عليهما بالعافية وبأولاد ذكور، وبثمار كثيرة وجني جيد، وذلك بحق الآلهة: "عثتر وهوبس والمقه وذات حميم وذات بعدان وشمس"3. ويظهر من هذا النص أن وباء كان قد عم البلاد في عهد هذا الملك فأهلك خلقًا كثيرًا, وقد حمدا الآلهة التي جعلتهما من الناجين, ويظهر أنهما كانا من قواد جيش هذا الملك الذي كلفهما غزو أعدائه ومحاربتهم. وورد في النص اسم قبيلة "جرش"، ولعل لاسم "جرش" -وهو اسم موضع في اليمن- علاقة باسم هذه القبيلة4.

_ 1 MAHRAM, P.392, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.294, H. VON WISSMANN, HIMJAR., S. 458, 496, ZUR GESCHICHTE, S. 322, 326, 392 2 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498 3 REP. EPIG., 4138, REP. EPIG., VII, I, P.96, VA 3820, 3843, ORIENTS ANTIQUUS, III, P.70 4 الصفة "45، 51، 70، 115، 117، 118، 119، 121، 123، 125، 186، 243"، منتخبات "ص19، 20".

ويظهر أن الوباء الذي أشار إليه "عبد عثتر" هو الوباء الذي أشير إليه في النص الموسوم بـJamme 645, وصاحبه رجل اسمه "وهب إيل" من "يهعن" "يهعان" ومن "قرضنن" "قرضان". وقد دون هذا الرجل نصه حمدًا للإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"، وشكرًا له على نعمه عليه بأن حفظه وسلمه وصانه من الوباء "بن خوم" والطاعون "وعوس" ومن الموت "موتت" الذي عم البلاد، وذلك في سنة "حيم" "حي" "حيي" "حيوم" "حيو" بن "أبكرب" "أبي كرب" من "كبر خلل ثكمتن" كبراء "خليل ثكمتان". فصانه وحفظه من هذا الوباء العام الذي انتشر في الأرض "وموتت كون بارضن"، فأهلك خلقًا من الناس, وليمن عليه ويبارك فيه وفي أرضه وزرعه، ويعطيه ثمارًا كثيرة وغلة وافرة من جميع مزارعه في "مأرب" و"نشق" و"رحبتن" "رحبتان", ولينال حظوة ورفعة عند سيده "رب شمس نمران، ملك سبأ وذي ريدان"1. وليس هذا الوباء الفتاك الذي انتشر في الأرض في أيام هذا الملك، هو أول وباء نسمع به؛ ففي الكتابات إشارات إلى أوبئة عديدة أخرى كانت تعم البلاد بين الحين والحين, ولا سيما بعد الحروب التي لا تكاد تنقطع، وبعد الحروب الكبيرة الماحقة التي قام بها الملوك فخربوا المدن ودمروا مجاري المياه، وأباحوا مواضع السكنى, والبشر، وتركوا جيف القتلى في مواضعها لتنتشر الأوبئة والأمراض. وقد ذهب "ريكمنس" إلى أن الوباء المذكور هو جزء من وباء عام كان قد انتشر من الهند نحو الخارج، فجاء إلى جزيرة العرب ووصل حوض البحر الأبيض وطفح في "سلوقية" Seleucia وقد وقع ذلك سنة "165" للميلاد2. وورد اسم "رب شمس نمران" "ربشمس نمران" في نصوص أخرى وسمت بـ: CIH 164، وبـ Geukens 10، وبـ Jamme 496.

_ 1 خليل يحيى نامي: نقوش عربية جنوبية، مجلة كلية الآداب، القاهرة 9، "1947" ص1 = 13، قسم 2، 16، "1954" ص21-43، Jamme 645, Mamb 276 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.496

و"رب شمس نمران" معروف لدينا معرفة حسنة، وهو من "بتع"، ومن "ملوك سبأ وذي ريدان"؛ لورود ذلك صريحًا في بضعة نصوص؛ أحدها عثر عليه في مأرب1، وعثر على البقية في "حاز" أي: في بلد همدان. والنص الذي عثر عليه في مأرب هو النص المعروف بـREP. EPIG. 3621, وهو نص قصير يظهر أنه بقية نص أطول لم تبقَ منه غير كلمات2. ودون "فلبي" اسم "سخمن يهصبح" "سخمان يهصبح" بعد "رب شمس نمران", وقد ورد اسمه في كتابتين، هما Glaser 208 وGlaser 136، غير أنه لم يلقب فيهما بـ"ملك سبأ وذي ريدان". وقد استدل "فلبي" من كلمة "مراهمو" أي: سيدهم، الواردة قبل اسمه أنه كان ملكًا3. وورد اسم رجل يعرف بـ"أجرم يهنعم بن سخمان", ويرى "فلبي" احتمال كون "سخمان" هذا هو "سخمان يهصبح"، واحتمال كون "أجرم" أحد أبنائه4. ولم يذكر "هومل" اسم "سخمان" في جملة من ذكرهم من ملوك "سبأ وذي ريدان"5. وللسبب المذكور جعل "فلبي" "أجرم يهنعم" ملكًا بعد "سخمان يهصبح" ثم ذكر من بعده "سعد أوم نمران", وقد ذكر في النص: Glaser 210، وهو من النصوص التي عثر عليها في المدينة الهمدانية "حاز"6. ويرى "هومل" أن " ... نمران ملك سبأ وذي ريدان" الذي سقط اسمه من النص: Glaser 571 وبقي فيه نعته وهو "نمران"، قد ينطبق على "سعد أوم نمران" هذا الذي نتحدث عنه، كما ينطبق على "رب شمس نمران"7. وبـ"سعد أوم نمران" ختم "فلبي" هذا العهد الذي استمر -على رأيه-

_ 1 BACKGROUND, P.107, LE MUSEON, 1967, 1-2, 294 2 REP. EPG. 3621, REP. EPIG., VI, I, P.244 3 HANDBUCH, S. 95, CIH 153, 224, CIH, IV, I, III, P.214, 258, GLASER 136, 208, JAMME 562, 564, LE MUSEON, 1967, 1-2, P.280 4 Background, P.107 5 Handbuch., S. 94 6 Cih 226, Iv, I, Iii, P.260, Handbuch., S. 95 7 Handbuch., S. 95

من سنة "115ب. م." حتى السنة "245". وقد حكم فيه من بني "بتع"، وقد كونوا -على حسب رأيه أيضا- الأسرة السادسة من الأسر التي حكمت عرش "سبأ". ثم وضع بعد هذه الأسرة أسرة جديدة جعلها الأسرة السابعة، وهي من "يكبل", وقد جعل أول رجالها الملك "العذنوفان يهصدق" "العزنوفان يهصدق"، وقد حكم -على حسب رأيه- من سنة "245ب. م." حتى السنة "260 للميلاد"1. ووضع "فلبي" اسم "ياسر يهنعم" بعد "العذنوفان", وهو على حسب ترتيبه الملك الستون من ملوك سبأ الذين حكموا السبئيين من مكربين وملوك, وهو والد "شمر يهرعش" الملك الشهير المعروف بين الأخباريين. وبذلك ننتقل من أسرة قديمة إلى أسرة جديدة، ومن عهد قديم إلى عهد آخر جديد. وأما "فون وزمن"، فإنه لم يذكر اسم من حكم مباشرة بعد "ربشمس نمران"، بل ذكر اسم "شعرم أوتر" وهو من "همدان" بعد اسم "علهان نهفان" الذي أدرك أوائل حكم "ربشمس نمران"، كما ذكر اسم "فرع ينهب"، وهو من "جرت" "جرة" وقد جعل حكمه في حوالي السنة "180" بعد الميلاد. وذكر اسم "حيو عثتر يضع" مع اسم "شعرم أوتر", دلالة على أنه حكم معه في أواخر أيام حكمه. ثم ذكر اسم "لحيعثت يرخم" من بعده, وجعله معاصرًا لـ"لعزز يهنف يهصدق" ملك حمير. وجعل "ياسر يهنعم" الأول وهو والد "شمس يهرعش" الثاني معاصرًا لـ"لحيعثت يرخم" وقال: إن في أيامه استولى الحميريون على مأرب, وكان معاصرا لـ"الشرح يحضب الثاني" الذي حكم مع أخيه "يازل بين"2. وجعل "فون وزمن" زمان حكم "الشرح يحضب" الثاني في حوالي السنة "200" للميلاد. ثم جعل حكمه مع أخيه في حوالي السنة "210"، ثم عاد فجعله يحكم وحده في حوالي السنة "220" إلى السنة "230" حيث ذكر اسم "نشأكرب يأمن يهرحب" من بعده، وجعل على حمير في أثناء هذه المدة "كرب إيل" "ذو ريدان" و"ثأرن يعب يهنعم"، وعلى حضرموت

_ 1 Background, P.143 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498

"العز يلط" الذي تحالف مع "ثارن يعب"1. وذكر "فون وزمن" اسم "ذمر على وتر يهبر" بعد "ثارن يعب يهنعم" ثم جعل "عمدان بين يهقبض" على عرش سبأ, ثم "ياسر يهنعم الثاني" من بعده، وقد حكم مع ابنه "شمر يهرعش الثالث" الذي انفرد بالحكم في حوالي السنة "300" بعد الميلاد2. وقبل أن أنتهي من هذا الفصل وأختمه، أود أن أشير إلى منافسة كانت بين الأسرة السبئية الحاكمة المنحدرة من "فيشان" صاحبة قصر مأرب، وبين أسر أخرى لم تكن لها صلة بالعرش, ولكنها ادعت لنفسها حق حكم سبأ وذي ريدان, وتلقب أفرادها باللقب الرسمي المقرر للحكم, ونازعت الملوك الشرعيين في حق الحكم والسلطان. فنجد الهمدانيين مثلًا وهم يحكمون الثلث الشمالي من دولة "سمعي" القديمة من مقرهم "ناعط"، ونجد "بني بتع"، وهم يحكمون الثلث الغربي لمملكة "سمعي"، "حملان" وعاصمته "حاز" وكذلك "مأذن"، ثم نجد "مرثدم" أي "مرثد" ومعها "أقيان" "شبام أقيان"، و"جرت" بما في ذلك كنين "كنن"3. هذا، ولا بد لي وقد انتهيت من تدوين هذا الفصل من الإشارة إلى أن عهد "ملوك سبأ وذي ريدان" هو من أصعب الفصول كتابةً في تاريخ سبأ، على كثرة ما عثر عليه من كتاباته؛ ذلك لأن الكتابات لا تقدم إلينا مواطئ تمكن الإنسان أن يقف عليها ليتعرف ما حوله من أمور، ثم إن بعضها ناقص أصابه التلف فأثر في معناه، إلى غير ذلك من أمور. لذا نجد علماء العربيات الجنوبية متباينين في تثبت تأريخ هذا العهد وفي أسماء الملوك، وأعتقد أن هذا الخلل لن يُصلَح، وأن الفجوات لن تُحشَى وتُملَأ، إلا بعد أمد؛ بعد استقرار الأمور في اليمن بحيث يسمح لأصحاب العلم بالبحث عن الكنوز المدفونة لاستنباط ما فيها من سر دفين عن هذا العهد, والعهود الأخرى من تأريخ اليمن القديم.

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 3 Le Museon, 1964, 3-4, Pp.454, 498

صنعاء

صنعاء: وقد لمع اسم "صنعو" أي "صنعاء"، في أيام "الشرح يحضب"، وهي لا بد أن تكون قد بنيت قبله بزمن. وقد أشار "الشرح يحضب" إلى قصر له بها، هو قصر "غندن" "غندان" المعروف في المؤلفات الإسلامية بقصر "غمدان"، وقد ذكره بعد قصره القديم الشهير قصر "سلحن" "سلحين" رمز الملكية في سبأ1. وهكذا صارت لصنعاء مكانة ازدادت على مرور الأيام، حتى صارت عاصمة اليمن ومقر الحكام.

_ 1 Cih 429, Beitrage, S. 19

قائمة ريكمنس

قائمة "ريكمنس": وقد رتب "ريكمنس" أسماء ملوك "سبأ وذي ريدان" على النحو الآتي: 1- فرعم ينهب، وكان معاصرًا لـ"علهان نهفان". 2- الشرح يحضب، وقد حكم على رأيه في حوالي السنة 25 قبل الميلاد, وكان يعاصره "شعرم أوتر" "شعر أوتر". وأما ابنه "يازل بين" "يأزل بين"، فكان معاصرًا لـ"حيو عثتر يضع". 3- نشأكرب يهأمن. ............. 4- ذمر على بين. 5- كرب إيل وتر يهنعم، وكان معاصرًا للملك "العز" ملك حضرموت. 6- "هلك أمر" - ذمر على ذرح. ............ 7- وتر يهأمن. ............. 8- شمدر يهنعم.

9- الشرح يحمل. ............. 10- عمدان بين يهقبض. ............. 11- لعز نوفان تهصدق "لعز نوفن يهصدق". ............. 12- ياسر يهصدق. 13- ذمر على يهبر "ذمر على يهبأر" الأول. 14- ثارن يعب يهنعم. 15- ذمر على يهبر "ذمر على يهبار" الثاني. 16- رب شمس نمرن "ربشمس نمران". 17- الشرح يحسب. 18-19- سعد شمس أسرو..... "....." حمد. ............. 20- ياسر يهنعم. 21- شمر يهرعش1. أسرة ذمر على بين: 1- ذمر على بين. 2- كرب إيل وتر يهنعم، "كربئيل وتر يهنعم", وهو ابن ذمر على بين. 3- هلك إمر "هلك أمر", وهو ابن كرب إيل. 4- ذمر على ذرح، وهو ابن كرب إيل وتر يهنعم، وشقيق هلك أمر. 5- يهقم. 6- كرب إيل بين، "كربئيل بين", وهو ابن ذمر على ذرح2.

_ 1 J. Ryckmann, L'institution, P.338 2 Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.70

أسرة ياسر يهصدق: 1- ياسر يهصدق. 2- ذمر على يهبر, وهو ابن ياسر يهصدق. 3- ثرن يعب "ثارن يعب يهنعم" "ثارن يركب" "تارن يرحب", وهو ابن ذمر على يهبر. 4- ذمر على يهبر, وهو ابن ثارن يعب يهنعم, ويمكن تلقيبه بالثاني تمييزًا له عن الأول. 5- ثارن يهنعم "ثرن يهنعم"1.

_ 1 Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.80

الفصل التاسع والعشرون: ممالك وإمارات صغيرة

الفصل التاسع والعشرون: ممالك وإمارات صغيرة مدخل ... الفصل التاسع والعشرون: ممالك وإمارات صغيرة وعرف من الكتابات القتبانية شعب يقال له "أوسن" أو "أوسان"1, وكانت أرضوه تكوِّن جزءًا من مملكة قتبان, مثل دهس و"دتنت" "دتنة" و"تبنى" ومناطق أخرى كانت تابعة لقتبان. وقد عرف من الكتابات أن الأوسانيين كونوا حكومة، حكمها ملوك، وصلت أسماء بعضهم إلينا، ولكنها حكومة صغيرة لم تبلغ مبلغ حكومة قتبان، أو حضرموت, أو معين، أو سبأ. ولعل الأوسانيين الذين أدركوا الإسلام، هم من بقايا "أوسان". وقد كان من جملة من اعتمد عليهم الهمداني في أخبار اليمن القديمة، رجل ينسب إلى أوسان، هو "محمد بن أحمد الأوساني"، زعم أنه كان يحسن قراءة الكتابات العربية الجاهلية المدونة بالمسند2. وقد وهبت لنا هذه المملكة الصغيرة بضعة تماثيل منحوتة من الرخام، يجوز أن نعدها من أنفس ما عثر عليه من تماثيل في جزيرة العرب حتى الآن. وهي تماثيل بعض ملوك أوسان، وتعد أول تماثيل تصل إلينا من تماثيل ملوك العرب. وقد كتب على قاعدة كل تمثال اسم الملك الذي يمثله، فهذا تمثال كتب عليه:

_ 1 Rep. Epig. 454, Hartmann, Arabische Frage, S. 185, Lidzbarski, Ephemeris, II, S. 385, Beitrage, S. 57. Ff 2 الإكليل "8/ 65، 77، 78" "طبعة نبيه".

"يصدق آل فرعم ملك أوسان بن معد ال"، وهذا تمثال ثانٍ نقش على قاعدته اسم الملك الذي يمثله: "زيدم سيلن بن معدال"، وتمثال ثالث كتب تحت قدم صاحبه اسمه "معد ال سلحن بن يصدق ال ملك أوسان"، ورابع كتبت على وجه قاعدته من أمام: "يصدق ال فرعم شرح عت ملك أوسن بن معد ال سلحن ملك أوسن". ويرى "فون وزمن" أن الملك "يصدق إيل فرعم شرح عت ابن معد إيل سلحن"، هو الملك "يصدق إيل فرعم ملك أوسان ابن معد إيل" نفسه, فالاسمان إذن في نظره لمسمى واحد، ويكون والده الملك "معد إيل سلحن بن يصدق إيل ملك أوسان"، ووالد "معد إيل سلحن" إذن هو "يصدق إيل" الذي لا يعرف اسم أبيه1. وعثر على اسم ملك آخر من ملوك أوسان، هو "يصدق ال فرعم شرح عت "عثت" "بن ودم" "يصدق إيل فرع "الفارع" شرح عثت بن ود"، ورد لمناسبة تقديمه نذرًا، وهو "معمر" أي "مذبح" أو "مبخرة" إلى أحد الآلهة, ولم يذكر الملك اسم ذلك الإله2. وقد استدل بعض الباحثين من جملة "بن ودم"، أي "ابن ود" على وجود فكرة تأليه الملوك عند الأوسانيين، وأن الجملة تعني أن الملك المذكور كان يرى أنه من نسل الإله "ود"3. وعندي أن لفظة "ود" هنا هي مجرد اسم لشخص ما, وفي كتب الأنساب والأخبار أسماء عدد من الرجال، هي في الوقت نفسه أسماء آلهة. ولم يقل أحد أن أصحاب تلك الأسماء كانوا يرون أنفسهم آلهة، أو من أبناء الآلهة، وبينهم أناس كانوا من سواد الناس. ولا نعرف من أمر هؤلاء الملوك شيئًا يذكر، والظاهر أن تمثال "معد ال سلحن" "معد إيل سلحان" يمثل والد "يصدق إيل فرعم شرح" كما جاء

_ 1 Beltrage, S. 70 2 وقد اختلف الباحثون في المراد من "معمر"، كما اختلفوا في تفسير النص؛ لأنه من النصوص الغامضة. Margoliouth, Two South Arabian Inscription, P.6, Margoliouth, In Proceedings. Briti. Academy, Vol, Xi, P.6, Rhodokanakis, Altesabaische Texten, I, S. 96, Orientalia, Vol., I, P.269 3 Beitrage, S. 58, Conti Rossini., 94

ذلك مدونًا في قاعدة التمثال الرابع، ويظهر أن "يصدق إيل فرعم" هو غير "يصدق إيل فرعم شرح عثت" كما يتبين ذلك من اختلاف صورتي التمثالين. وتفيدنا هذه التماثيل فائدة كبيرة في تعرف نماذج ملابس الأوسانيين وعلى زينتهم وكيفية تنظيم شعور رءوسهم، وعلى غير ذلك مما له علاقة بمظهر الإنسان، وبالفن من حيث الجودة والخلق والتعبير عن النفس والإتقان. وجاء اسم الملك "يصدق ال فرعم شرح عت" في كتابة أوسانية أمرت بكتابتها امرأة اسمها "رثدت" "رثدة"، وقد جاء فيها أنها قدمت إلى سيدها المذكور ملك أوسان تمثالًا من الذهب, ليحفظ في معبد "نعمن" "نعمان"1، وهي من كتابات النذور. ويظهر أنها قدمت هذا النذر لحادث وقع للملك، فتوسلت لدى آلهة أوسان بأن تمن على الملك وتبارك فيه، وهي في مقابل ذلك تقدم لها نذرًا تمثالًا من ذهب، ولا بد أن تكون هذه المرأة من الأسر الرفيعة التي لها شأن ومكانة، ولعلها كانت من أسرته. وجاء في كتابة أوسانية أخرى تحطم اسم صاحبها وزالت معالمه: أنه قدم تمثالًا "صلمت" من ذهب إلى سيده "مراس" "مرأس" "يصدق إيل فرعم شرح عتت" ملك أوسان2, ولا بد أن يكون هذا التقديم لمناسبة حدثت للملك، فأراد هذا الوجيه التعبير عن تقديره لسيده الملك بتقديم هذا التمثال المصنوع من الذهب3. وتشبه هذه الكتابة, الكتابة المرقمة بـJaussen Nr. 159 Bis وهي لأخت هذا الملك، وقد سقط اسمها من الكتابة بتهشم حدث في الحجر، وبقيت منه بقية، هي: "ذت بغيثت أخت"4، وجاء فيها أنها قدمت إلى سيدها "سقنيت مراس" صنمًا من ذهب "صلم ذ ذهبم"5، ولم تذكر المناسبة التي دعتها لتقديمه, وكان له شقيق هو "زيد سيلن" "زيد سيلان"6.

_ 1 Rep. Epig., Tome I, 6, 350, 461 2 Orientalia, Vol., 1932, P.127 3 "صلمت ذهبن" "تمثال ذهب"، "صلم من ذهب". 4 Mordtmann Und Eugen Mittwoch, Altusdarabische Inschriften, Roma, 1933, S. 18. 5 Orientalia, Vol., I, P.124 6 Background, P.85

ويرى بعض الباحثين أن زمان حكم الملك "يصدق ال فرعم شر حعت" "يصدق إيل فارع شرح عت" كان في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد حتى حوالي السنة "450" قبل الميلاد1. وقد استدلوا على ذلك من طراز التمثال الذي نحت ليمثل ذلك الملك, فإن شكل اللباس الذي نحته النحات ليكون لباس الملك، هو على النسق اليوناني في التماثيل اليونانية المنحوتة قبل منتصف القرن الخامس قبل الميلاد. ويرى الباحثون احتمال شراء مثل هذه التماثيل من "غزة" في فلسطين, إذ كانت سوقًا مهمة يفد عليها العرب للاتجار, وفيها معروضات يونانية وغيرها، ينقلها التجار إلى جزيرة العرب، وفي جملتها الأصنام التي أثرت في الفنانين العرب, فصاروا ينحتون تماثيلهم على شاكلتها, وفي جملتها تمثال الملك المذكور الذي يجب أن يكون قد نحت فيما بين النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد إلى حوالي السنة "450ق. م."2. وعرفت أسماء ملوك آخرين من ملوك أوسان، لا نعلم من أمر أصحابها شيئًا يذكر، منها "معد إيل سلحان بن ذي يدم"3. وقد رأي "جوسن" Jaussen أن الاسم الأخير هو "زيدم" بدلًا من "ذيدم"4. ولقب "سلحن" "سلحان" من الألقاب التي تكرر ورودها مدونة على تماثيل ملوك أوسان، وعلى بعض الكتابات التي عثر عليها في "أبنة" وفي المعاهدة المعقودة بين "سلحن" و "زررن" "زراران"، أي: بين ملك "نجاشي" الحبشة وملك "سبأ". ويرى "ميتوخ" أن "سلحن" "سلحان" أحد المتعاقدين في المعاهدة المذكورة ما كان ملكًا حبشيًّا، ولكن ملكًا من ملوك أوسان. وأما "زررن"، فإنه ملك من ملوك قتبان5. ووجد اسم ملك آخر من ملوك أوسان، هو "عم يثع غيلن لحى"6،

_ 1 Wissmann – Hofner, Beitrage, S. 8, 58, 69, 142, Pirenne, Royaume De Qataban, P.138, 199, Conti Rossinr, Chrest., 93, 94, Le Museon, 1964, 3-4 P.442 2 Beitrage, S. 8, 58, 70 3 "معدال ال سلحن بن ذيدم"، "ذويدوم". 4 Mordtmann Und Eugen Mittwoch, Altsudarabische Inschriften, Roma, 1933, S. 13. 5 Orientalia, I, P.119, Jaussen I, 2, 17, 57 6 "عميثع غيلان لحي" "عم يثع غيلان لحي".

محفورًا على تمثال من المرمر مكتوبًا كتابة حسنة1. وقد نعثر في المستقبل على تماثيل أخرى لملوك العرب الجنوبيين من أوسانيين وغيرهم، إذ لا يعقل انفراد أوسان من بين سائر الشعوب العربية الجنوبية بصنع التماثيل. وذكر "فلبي" ملكًا من ملوك أوسان يقال له "يصدق إيل فرغم زغمهن الشرح"، ولا نعرف من أمره شيئًا. ووردت في الكتابتين الموسومتين بـJaussen 72, 73 وبـJaussen 75, 83، أسماء ملوك أوسانيين منها: "زيحمن بن الشرح ملك أوسان"، و"عم يثع ملك أوسان" و"يصدق إيل فرعم عم يثع"، و"الشرح بن يصدق إيل"، وهي أسماء لقب بعضها بلقب ملك، وحرم بعضها هذا اللقب، ولا نعرف عن أصحابها شيئًا يذكر2. وقد كانت "أوسان" قبل استيلاء قتبان عليها وإدماجها في حكومة قتبان، مملكة ذات تجارة مع الخارج، تتاجر مع أفريقية، وتحكم أرضين أخرى ليست في الأصل من "أوسان"، مثل: "دهس"، و"تبنو", و"كحد". استدل بعض الباحثين من إطلاق مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" على الساحل الإفريقي الواقع شمال "بمبا" Pemba و"زنزبار" "زنجبار" اسم "الساحل الأوساني" عليه، على أن الأوسانيين كانوا قد حكموه، ونزح بعضهم إليه فسكنه، وصار تابعًا لأوسان، ولا يمكن حدوث ذلك بالطبع لو لم يكن الأوسانيون أقوياء ولهم أرض واسعة في العربية الجنوبية ذات عدد كبير من السكان, بحيث يسمح لهم بالاستيلاء على الساحل الإفريقي. ويرجح العلماء زمان حكم الأوسانيين لذلك الساحل الإفريقي إلى ما قبل السنة "400ق. م"3. وتقع مملكة أوسان في جنوب "قتبان", وهي من الحكومات العربية الجنوبية الصغيرة، إلا أنها كانت ذات أهمية؛ إذ كانت تمتلك الساحل الإفريقي الذي أشرت إليه، وتتاجر مع سكانه. وقد كان ميناء "عدن" من جملة الأماكن التابعة لهذه المملكة4. ومن ملوك أوسان، ملك ذكر اسمه في النص الموسوم بـGlaser 1600

_ 1 Orientalia, Vol., I, P.30, 119, "1932" 2 Beitrage, S. 70 3 Beitrage, S. 74, Periplus Maris Erythraei, 22, A. Grohmann, Arabien, S. 25 4 Discoveries, P.39

الذي تحدث عن حملة قام بها الملك "كرب إيل وتر" على جملة قبائل وإمارات وحكومات ملكية صغيرة. فبعد أن استولى هذا الملك على مدينة "شرجب"1 بين الجوف ونجران، ساق جيوشه إلى "أوسان"، فقتل ستة عشر ألف رجل، وأسر أربعين، واحتل أماكن أخرى كانت تابعة لأوسان، هي: "حمن" "حمان", و"أنفم" "أنف", و"حبن" "حبان", و"ديب" "دياب", و"رشا" "رشاي"، و"جردن" "جردان"، و"دتنت" "دتنة", و"تفذ" إلى ساحل البحر. وذكر النص بعد ذلك معبد "مرتوم" "مرتم" "مرتو" الذي اسمه "مسور"2، أما ملك "أوسان" فكان اسمه "مرتوم" "مرتو"3. وقد كانت قتبان حليفة لسبأ في هذه الحرب, وقد يكون تعبيرنا أدق وأصح لو قلنا: إنها كانت تابعة لها في هذا العهد؛ ولذلك اشتركت مع السبئيين ضد الأوسانيين. أما "أوسان" فكان إلى جانبها "دتنت" و"دهس" و"تبنى" وبعض قبائل "كحد", وقد رأيت أن جميع هذه القبائل ومعها "أوسان" كانت تابعة لمملكة قتبان. ويظهر أنها ثارت على قتبان، وانفصلت عنها، فتكونت مملكة أوسان, ودخلت القبائل الأخرى في هذه المملكة, أي: مملكة أوسان، أو أنها تحالفت معها، واستقلت كلٌّ في منطقتها فكونت إمارة أو مملكة صغيرة. فلما انتهى "كرب إيل وتر" من مملكة أوسان, تعقب هذه القبائل وأخضعها لحكمه. ويظهر أن ملك "دهس" الذي كان في حلف مع أوسان، أو خاضعًا لها، انتهز فرصة انتصار "كرب إيل وتر" على أوسان فأعلن انفصاله عنهم وانضمامه إلى السبئيين، فكافأه "كرب إيل وتر" بإعطائه جزءًا من أرض أوسان هو أرض "أدوم" "أود"4. وقد احتل السبئيون أرض أوسان وأرض تبنى، ووهبوا أرض "كحد ذ حضنم" لإله سبأ "المقه", أي: إن الملك "كرب ال" "كربئيل" "كرب إيل" وهبها لحكومة ولشعب سبأ، وأنعم على قتبان وحضرموت ببعض الأرضين التي

_ 1 Glaser, Skizze, 2, S.89 2 Glaser, Skizze, 2, S. 89, Hartmann, Arabische Frage, S. 185 3 Beitrage, S. 8, Background, P.14 4 Glaser, 1000 A7, Rhodokanakis, Ktb., I, S. 28

غنمها من الأوسانيين. ويظهر أنها كانت قتبانية وحضرمية في الأصل، غير أن الأوسانيين اغتصبوها منهم، فأعادها "كرب إيل" إلى قتبان وحضرموت, لمساعدتهما له. وقد كان ملك قتبان الملك "وروإيل" إذ ذاك. ويظهر من عبارة "وقني كرب إيل كل قسط كحد ... جوم لا لمقه ولسبا"، ومن جملة "كل قسط كحد حرهو وعبد هو"، أن أرض "كحد ذ حضنم" التي وهبت لألمقه ولشعب سبأ، أصبحت ملكا خاصا بالملك "كرب إيل"، وأن جميع أهل "كحد" أحرارًا وعبيدًا صاروا أتباعًا له، يستغلون الأرض ويدفعون إليه الغلات1. وقد جعل "فلبي" الملك "مرتو" في رأس قائمته التي وضعها لملوك "أوسان"، وجعل زمان حكمه فيما بين السنة "620" والسنة "600ق. م."؛ وذلك ليجعله معاصرا لـ"كرب إيل وتر" الذي جعل حكمه في هذا الزمن2. وهو رأي يعارضه أكثر الباحثين في العربيات الجنوبية، إذ جعلوا حكمه في حوالي السنة "450" قبل الميلاد، أو بعد ذلك بقليل3. ووضع "فلبي" اسم الملك "ذيدم" "ذيد" "زيد" بعد اسم الملك "مرتو"، وجعل زمان حكمه في حوالي السنة "230ق. م."؛ فترك بذلك فجوة كبيرة لا يدري من حكم فيها, ولم يعرف اسم والد الملك "ذيدم"، وقد ذكر أنه كان من عشيرة "بغيثت"4. ثم ذكر "فلبي" "معد إيل سلحن" بعد "ذيد"، وجعله ابنًا له, وجعل حكمه في حوالي السنة "210ق. م."، وذلك جريًا على طريقته في وضع مدة "20" سنة لكل ملك يقضيها في الحكم. ثم جعل "يصدق إيل فرعم شرج عت" من بعد "معد إيل" وجعله ابنًا له, وصيَّر زمان حكمه في حوالي السنة "190ق. م." وجعل "زيد سلحن" شقيقًا له، كما جعل له أختا, ثم وضع الملك "معد إيل سلحن" بعد "يصدق إيل فرعم"، وجعله ابنًا له، وجعل زمان حكمه في حوالي السنة "170ق. م.". ثم صير "يصدق

_ 1 Rhodokanakis, Ktb., I, S. 30 2 Background, P.144 3 Beitrage, S. 8 4 Background, P.144

إيل فرعم عم يثع" ملكًا من بعده، وهو ابن "معد إيل سلحن"، وجعل حكمه في حوالي السنة "150ق. م.". ثم جعل "فرعم زهمهن الشرح" ملكًا من بعده، وهو ابن "يصدق إيل فرعم عم يثع"، وجعل حكمه في حوالي السنة "135ق. م". ثم ذكر "عم يثع غيلن لحى" من بعده، وهو ابن "يصدق إيل فرعم عم يثع"، وقد جعل حكمه حوالي السنة "120ق. م."1. ولم يذكر "فلبي" ملكًا آخر بعد هذا الملك، وإنما ذكر أنه في حوالي السنة "115ق. م." ضم "الشرح يحضب" "ملك سبأ وذي ريدان" مملكة أوسان إلى أرض السبئيين2. ويعارض ترتيب "فلبي" لأسماء ملوك "أوسان" رأي كثير من علماء العربيات الجنوبية؛ فقد ذهب أكثرهم إلى تقديم الملوك الذين ذكرهم "فلبي" بعد الملك "مرتو" عليه، وجعلوا زمانهم أقدم من زمانه، فقدروا زمان الملك "يصدق إيل فرعم شرح إيل" في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد مثلًا، أي: قبل سنة "450ق. م."، وهذا يعني أنه أقدم عهدًا من "مرتو"، أي: إن رأيهم هو عكس ما ذهب "فلبي" إليه3. وقد ذهبت "بيرين" J. Pirenne إلى أن أوسان كانت مملكة في أواخر القرن الأول قبل الميلاد أو بعد الميلاد بقليل، وأن حكم الملك "يصدق إيل فرعم شرحت بن ودم" كان في حوالي السنة "24ق. م."4. لقد كان معبد "نعمان" المعبد الرئيسي عند الأوسانيين, وقد خصص بعبادة الإله "ود"، وهو إلههم الكبير. ويقع هذا المعبد في "وادي نعمان"5, وقد ورد اسمه في عدد من الكتابات الأوسانية6.

_ 1 Background, P.144 2 Background, P.144 3 Beitrage, S.8 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.442, Beitrage, S. 58, J. Pireene, Royaume De Qataban, P.138, 199, Rathjens, Kulturelle Einfluse In Sw – Arabien Besondere Berucksichtigung Des Hellenismus, Jahrb. F. Kleinasiat. Forschung., I, 1950, S. 27. 5 Beitrage, S. 58 6 Conti Rossini, 93, 94, 96, Ryckmans 116, Jauusen 137, Beitrage, S. 58

الجيانيون

الجيانيون ... الجبانيون: لقد ورد في تأريخ "بلينيوس" اسم شعب من الشعوب العربية الجنوبية، سماه Gebbanitae، وقال: إن له عدة مدن أكبرها "ناجية" "نجية" Nagia وThamna "تمنة" "ثمنة", وكان في "تمنة" خمسة وستون معبدًا1. وقد يكون في هذا العدد شيء من المبالغة، إلا أنه مع ذلك يدل على ضخامة هذه المدينة وسعتها، بدليل وصول اسمها إلى اليونان، ومبالغة هذا المؤرخ في عدد معابدها. ولما تحدث عن اللبان، قال: إنه لم يكن يسمح بتصديره إلا بواسطة هذه المملكة، وإلا بعد دفع ضريبة إلى ملكها، وتبعد العاصمة مسافة "5/ 148" ميلًا عن "غزة" يقطعها الإنسان في خمس وستين مرحلة على ظهور الجمال2. وفي أثناء كلام "بلينيوس" عن "المر" ذكر أن ملك الـ"الجبانيين" Gebbanitae كان يأخذ لنفسه ربع الغلة، وذكر أن بلادهم تقع ما بين أرض شعب دعاه Astramitica وأرض شعب آخر يسمى Ausaritae = Ausaritie، وأشار إلى أن للمملكة ميناء يسمى Ocilia، وأن حق بيع القرفة كان محصورًا بالملك وحده3, وذكر أشياءَ أخرى عن هذا الشعب. ومعارفنا عن هذا الشعب قليلة، ويظن أنه كان من الشعوب التي كانت تؤلف مملكة قتبان، وأنه استقل في زمن ربما لا يبعد كثيرًا عن أيام "بلينيوس". وكانت مواطنه بعد استقلاله في جوار القتبانيين في الجنوب الشرقي منهم بين قتبان وسبأ على بعض الآراء، أو في غربهم على رأي "كلاسر"4, ويرى "كلاسر" أنه عشيرة أو طائفة من القتبانيين5, ويظن بعض الباحثين أنهم "جبأ"6. وقد ذكر "الهمداني" موضعًا سماه "جبأ" وقال فيه: "جبأ: مدينة المفاخر، وهي

_ 1 Pliny, Nat. Histo., Vi, 154, Vol., 2, P.453, "H. Rackham", "Leob. Clas. Libr.", Beitrage, S. 50 2 Pliny, Book., Xii, 69, Iv, P.51, S. 50, 73, 112 4 Ency., Vol., 2, P.810 5 Ency., Vol., 2, P.812, Glaser, Punt., S. 35, 60 6 Ency., Vol., 2, P.812

لآل الكرندي من بني ثمامة آل حمير الأصغير"1، وقال: "إن جبأ وأعمالها هي كورة المعافر، وهي في فجوة بين جبل "صبر" وجبل "ذخر" في وادي الضباب"2. وقد ورد في النصوص المعينية اسم "جبأ" "جبأن" مع اسم المعينيين3, ولكني لا أستطيع أن أوافق على رأي من يقول: إن "الجبئيين" هم Gebbanitae؛ ولذلك دعوتهم بـ"الجبانيين" انتظارًا للمستقبل الذي قد يرشدنا إلى اسم يرد في النصوص العربية الجنوبية يكون مرادفًا للفظة المذكورة.

_ 1 الصفة "ص54". 2 الصفة "ص99". 3 Ency. Vol., 2, P.812

نجران

نجران: وذكرنا "نجران" كما رأينا مع "رجمت" "رجمة"، فهي إذن من المواضع القديمة من عهود ما قبل الميلاد، سواء أكان اسم نجران اسم أرض أو اسم مدينة وهي في منطقة خصبة جدا ذات ماء؛ ولذلك صارت طريقًا مهمًّا للقوافل المتجهة من العربية الجنوبية نحو الشمال، أو الآتية من الشمال في طريقها إلى العربية الجنوبية. ولموقعها المهم هذا تعرض للغزو ولطمع الطامعين فيها، فأصيب لذلك بأضرار فادحة مرارًا, وقد سماها "بطلميوس" "نكرا ميتربوليس" Nagara Metropolis، أي مدينة "نكرا"1، وذكرت في نص "النمارة" الذي يعود عهده إلى سنة 328م2. ومع أهمية "نجران"، فإننا لا نعرف من تأريخها القديم غير شيء قليل. وقد ورد اسمها في كتابة أشارت إلى حملة على النبط "نباطو"، ويظهر أن أصحاب الحملة أو الغزاة كانوا قد توجهوا من العربية الجنوبية نحو الشمال؛ لأنها تذكر أنها اتجهت من "نجران" نحو "نباطو" فدمرتها، أي: دمرت مدينة النبط3.

_ 1 Beitrage, S. 10 2 المصدر نفسه. 3 Beitrage, S. Ii, Philpy, Motor Tracks And Sabaean Inscriptions In Najd, Geogr Journal, 1950, 211-215, A. Trition, Najran Inscriptions. Journal. Royal. Asiat. Soc., 1944, P.199-129

مملكة مهأمر

مملكة مهأمر: و"مهأمرم" "مهأمر" مملكة صغيرة نستطيع أن نقول: إنها إمارة من الإمارات التي لقب سادتها أنفسهم بلقب "ملك"، ومقرها على ما يظهر من الكتابات مدينة "رجمت" "ركمت" "رجمة", وكان لها مجرى ماء منبعه في "نجران". وتقع أرض "أمرم" "أمر" "أمير" في شرقها في امتداد البادية، وفي جنوب "مهأمر" في بعض الأماكن. ويرى بعض الباحثين أن "رجمت" هي في أرض "نجران" في الزمن الحاضر، أو في منطقة تتاخمها في شمالها1. وقد جاء اسم "رجمت" كما رأينا في الكتابة المعينية التي وسمها العلماء بـ2 Glaser 1150، وقد بحثت عنها في أثناء حديثي عن دولة "معين" وقلت: إن من رأي بعض العلماء أن تلك الحرب نشبت بين الفرس "الماذويين" في أيام ملكهم Atraxerxes Ochus وبين المصريين، في حوالي السنة "343ق. م"3. ويظهر من تلك الكتابة أن مدينة "ركمت" كانت معروفة إذ ذاك، وكانت ذات شأن وخطر، وتقع على طريق القوافل التي تصل "معين" والعربية الجنوبية بمصر4. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "رجمت" هي في الواقع مدينة من مدن "نجران"، وأن "نجران" لم تكن في الأصل مدينة معينة، وإنما هي أرض تضم جملة مدن، منها هذه المدينة، إلا أن الناس خصصوا لفظة "نجران" على مرور الزمان بإحدى المدن هي مدينة "رجمت"، حتى عرفت بها، فضاع بذلك اسمها القديم. ويستشهدون على صحة رأيهم هذا بأمثلة عديدة وقعت في العربية الجنوبية5. ويحتمل على رأي "موردتمن" أن تكون "رجمت" "ركمت" هي "رعمة"

_ 1 Beitrage, S. 9 2 Glaser 1155, Halevy 535, 578 3 Beitrage, S. 10, Rhodokanakis, Zur Altudarabischen Epigraphik Und Archaologie, Ii, Wzkm, 41, 1934, S. 69 4 Beitrage, S. 10 5 Beitrage, S. 10, Philby, Arabian Highlands, P.257

في التوراة و"رعمة" في التوراة الابن الرابع لـ"كوشن"1. وقد ذهب إلى أن مراد التوراة من "كوش" في هذا المكان العربية الجنوبية, ومن أولاد "كوش" "شبا"، أي "سبأ"، و"دادان". وقد ذكر تجار "رعمة" مع تجار سبأ في سفر "حزقيال"2.

_ 1 التكوين، الإصحاح العاشر، الآية السابعة، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية التاسعة. 2 حزقيال، الإصحاح 27، الآية 22.

الفصل الثلاثون: الحميريون

الفصل الثلاثون: الحميريون وجب علينا الآن البحث عن شعب لعب دورًا خطيرًا في سياسة العربية الجنوبية، في هذا الوقت وقبله بمئات من السنين، وهذا الشعب هو: "حمير" الذي لا زال قائمًا يلعب دورًا مهمًّا بين القبائل العربية الجنوبية حتى الآن. كانت حمير من القبائل العربية المعروفة في العربية الجنوبية عند الميلاد، حتى وصل خبرها إلى اليونان والرومان، فدعوها باسم1 Homerital وبـOmyritai وOmeritae وHamiroel ونحو ذلك. وقد اعتبر "بلينيوس" حمير من أكثر الشعوب العربية الجنوبية عددًا، وذكر أن عاصمتهم مدينة2 Sapphar، ويقصد بذلك مدينة "ظفار", وعرفوا باسم Hemer عند الحبش3. وأشار إلى اسم مدينة من مدنهم، سماها "مسلة"4 Mesalum = Mesala = Masala

_ 1 Pliny, Vi, 28 2 Pliny, Nat, Histo., Vi, 104, Ency., Iii, P.292, Mordtmann, Miscellen Zur Himjarischen, Pliny, Vi, Xxxii, 161, Vol., Ii, P.458-459, Alterthumskunde, In Zdmg., 31, 1877, S. 69, His. Ecciex., Ii, 58, Ency., Vol., Ii, P.310, Le Museon, 1964, 3-4, P.438 3 Ency., Ii, P.310, E. Littmann, Sabaische Griechische Und Altarabische Inschriftten, Deutsche Aksum-Expedit Vol., Iv, Berlin, 1913, Miscellanea Academica Berolinsia, 11/ 2, 1950, P.107, Le Museon, Lxxvii, 3-4, 1964, P.429. 4 Pliny, Vi, Xxxii, 158, Le Museon, 1964, 3-4, P.449

وفي كلام هذا الكاتب عنهم إشارة إلى أن مدينة "ظفار" كانت عاصمة حمير في أيامه، وأن الحميريين كانوا قد تمكنوا في أيامه من تكوين شخصيتهم, ومن إثبات وجودهم في العربية الجنوبية يومئذٍ. وقد ذهب "كلاسر" إلى أن المراد بـMasala موضع يدعى اليوم "المشالحة" ويقع شرق "مخا" على الساحل. "أما "شبرنكر"، فرأى أنه موضع "مأسل الجمع"، وأن المقصود بـHomeritae في هذا المكان جماعة أخرى، اسمها: Nomeritae، وأن النساخ حرفوه فكتبوه Homeritae بدلًَا من1 Nomeritae. وهذه التسمية التي يراها "شبرنكر" قريبة من "نمير". وذكر مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" أن الحميريين كانوا يحكمون في أيامه منطقة واسعة من ساحل البحر الأحمر وساحل المحيط حتى حضرموت، كما كانوا يمتلكون ساحل "عزانيا" Azania في أفريقية، أي: قسمًا من الساحل الشرقي. وكان عليهم ملك يسمى "كرب ال" Charibael، عاصمته مدينة "ظفار" Taphar, وكان على صلات حسنة بالروم2. وعدهم "مرقيانوس" Marcianus، وهو من رجال أوائل القرن الرابع للميلاد، من جملة قبائل الحبشة, ونجد عددًا من الكتاب البيزنطيين يرون هذا الرأي3. وقد ذكرت حمير في نص "عيزانا" Ezana، ملك "أكسوم" Askum، ودُعيت في النص اليوناني منه بـOmyritai = Omeritai أي4: حمير. ولم يعثر الباحثون على اسم حمير في الكتابات التي يرجع عهدها إلى ما قبل الميلاد بمئات من السنين مع ورود أسماء قبائل أخرى كانت تقيم في المواضع التي نزل بها الحميريون؛ مثل "حبان" "حبن" و"ذيب". فقد جاء اسم "حبن" "حبان" في الكتابة الموسومة بـREP. EPIG. 3945، وهي كتابة يرجع بعض الباحثين زمان تدوينها إلى حوالي السنة "400" قبل الميلاد5. و"حبان" مدينة وأرض تقع غرب "ميفعة"، على الطريق المؤدية إلى

_ 1 Pliny, Vi, Xxxii, 158, Glaser, Skizze, Ii, S. 137 2 Ency., Ii, P.310 3 Ency., Ii, P.310 4 E. Littmann, Deutsche Aksum, Iv, Berlin, 1913, Reprinted In: Miscellanea Academica Berolinsia, Ii/ 2, 1950, P.107 5 Glaser 1000a, Le Museon, 1964, 3-4, P.445

"شبوة". أما "ذيب" "ذيلب" فقبيلة كانت منازلها ما بين "عوالق الأحور" من الغرب ومنطقة "قنا", وتضم "دلتا" "ميفعة"، وهي من القبائل التي كانت تسكن القسم الشرقي من "حمير" أي: الأرض التي هاجمت منها حمير مملكة حضرموت1. ويذهب "فون وزمن" إلى أن اسم حمير لم يكن قد لمع في هذا العهد على أنه اسم قبيلة حاكمة، وأن اسمها لم يلمع إلا بعد أن تحالف الحميريون مع قبائل أخرى مثل "ذياب"، فصاروا بحلفهم هذا قوة، وصار لهم نفوذ2. وقد ورد اسم قبيلة "حبن" "حبان" و"ذيب" "ذياب" في النصوص المتأخرة كذلك, مثل كتابات "عقلة"3. وقد عرف الحميريون عند أهل الأخبار أكثر من بقية الشعوب العربية الجنوبية الأخرى التي نتحدث عنها, وقد جعلوا "حميرًا"، وهو جد الحميريين في زعمهم، ابنًا لـ"سبأ"، وصيروه "حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"4. وقد سموه "العرنج" وزعموا أنه كان ملكًا، وأنه ملك بعد هلاك أبيه "سبأ"، وأنه أول من تتوَّج بالذهب, وملك خمسين سنة، وعاش ثلاثمائة عام، وكان له من الولد ستة، منهم تفرعت قبائل حمير، وكانت بينهم حروب، إلى أمثال ذلك من أقوال5. وقد حاول بعض أهل الأخبار إيجاد تفسير للفظة "حمير" ولكلمة "عرنج"؛ فذكروا أوجهًا متعددة للتسمية. وقد اعترف "ابن دريد"، بأن من الصعب الوقوف على الأصل الذي اشتق منه اسم "حمير" أو "العرنج"؛ لأن هذه أسماء قد أُميتت الأفعال التي اشتقت منها, وقد ذكر أن بعض أهل اللغة زعموا أنه سمي حميرًا؛ لأنه كان يلبس حلة حميراء6. وذكر أيضا "أن هذه الأسماء الحميرية لا تقف لها على اشتقاق؛ لأنها لغة قد بعدت وقدم العهد بمن كان يعرفها7".

_ 1 Rep. Epig. 2887, Le Museon, 1964, 3-4, P.445 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.446 3 Jamme 959, Le Museon, 1964, 3-4, P.446 4 ابن حزم، جمهرة أنساب العرب "ص406"، "تحقيق ليفي بروفنسال". 5 ابن خلدون "2/ 47"، مروج الذهب "2/ 3" "محمد محيي الدين عبد الحميد". 6 الاشتقاق "2/ 306"، اللسان "4/ 215"، "دار صادر". 7 الاشتقاق "2/ 312"، "والعرنجج: اسم حمير بن سبأ"، اللسان "2/ 323"، "دار صادر".

ويطلق أهل الأخبار لقب "تبع" على الملوك الذين حكموا اليمن، وعلى مجموعهم "التبابعة", وهم في حيرة من تفسير المعنى. وقد ذكر أكثرهم أنهم إنما سُمُّوا تبعًا و"تبابعة" لأنهم يتبع بعضهم بعضًا, كلما هلك واحد قام مقامه الآخر تابعًا له على مثل سيرته, أو لأن التبع ملك يتبعه قومه، ويسيرون خلفه تبعًا له, أو لكثرة أتباعه، أو من التتابع، وذلك لتتابع بعضهم بعضًا1. وذكروا أن أحد التبابعة كان قد صنع "الماذيات" من الحديد، وأن الحديد سخر له كما سخر للنبي "داود"2, وأشير إلى "تبع" في القرآن الكريم: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} 3, و {أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} 4. وقد ذكر بعضهم أن هذا اللقب لا يلقب به إلا الملوك الذين يملكون اليمن والشحر وحضرموت، وقيل حتى يتبعهم "بنو جشم بن عبد شمس" أما إذا لم يكن كذلك فإنما يسمى ملكًا5. وأول من لقب منهم بذلك "الحارث بن ذي شمر" وهو الرائش، ولم يزل هذا اللقب واقعًا على ملوكهم إلى أن زالت مملكتهم بملك الحبشة اليمن6. وذكر أهل الأخبار أن تبعًا عند أهل اليمن لقبٌ هو بمنزلة الخليفة للمسلمين وكسرى للفرس وقيصر للروم, وكان يكتب إذا كتب: باسم الذي ملك برًّا وبحرًا7. واختلف علماء التفسير في اسم "التبع" الحميري المذكور في القرآن الكريم، فذهب بعضهم إلى أنه من حمير، وأنه حَيَّر الحيرة وأتى "سمرقند" فهدمها. وذهب بعض آخر إلى أن تبعًا كان رجلًا من العرب صالحًا، وأنه لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك, وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا،

_ 1 المفردات "ص71"، اللسان "8/ 31"، تاج العروس "5/ 387" حمزة "82". 2 قال أبو ذؤيب: وعليهما ماذيتان قضاهما ... داود أو صنع السوابخ تبع اللسان "8/ 31" "تبع" "صادر"، المفردات "71"، مجمع البيان "25/ 115"، تفسير الخازن "4/ 115"، تفسير الشربيني "3/ 553"، تفسير ابن كثير "4/ 142". 3 الدخان، الآية 37. 4 ق، الآية 14. 5 ابن خلدون "القسم الأول من المجلد الثاني ص94"، تاج العروس "5/ 287"، "تبع". 6 صبح الأعشى "5/ 480". 7 تفسير النيسابوري، حاشية على تفسير الطبري "25/ 86"، تفسير الطبري "25/ 77"، تفسير ابن كثير "4/ 124".

وكانوا يعبدون الأوثان فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم, قالوا: فحاكمنا إلى النار. قال: نعم فتحاكموا إليها، وكان معه حبران، فغلب الحبران النار، ونكصت على عقبها، فتهودت حمير، وهدم "تبع" بيت "رئام"، وهو بيت كانوا يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه، وانتصر عليهم1. وقد ذكروا أن تبعًا أول من كسا البيت، وأن الرسول نهى عن سبه2, ورُوِيَ أنه قال: "لا أدري, تبع نبيًّا كان أم غير نبي"3. ويظهر من هذا القصص المروي عن "تبع" والذي يعود سنده إلى "كعب الأحبار" و"وهب بن منبه" و"عبد الله بن سلام" في الغالب، أنهم قصدوا بـ"تبع" الملك "أسعد أبا كرب" الذي تهود. يؤيد هذا الرأي نص كثير من المفسرين والأخباريين على اسمه، ونسبتهم القصص المذكور إليه4. وذكر "ابن كثير" أن "أسعد أبو كريب بن ملكيكرب اليماني"، هذا هو "تبع الأوسط" وأنه ملك قومه ثلاثمائة سنة وستًّا وعشرين سنة, ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث الرسول بنحو من سبعمائة سنة إلى غير ذلك من قصص يرجع سنده إلى المذكورين5. هذا وللتبابعة قصص طويل في كتب أهل الأخبار، فيها قصص عن نسبهم، وفيها قصص آخر عن فتوحاتهم وحروبهم، وكلام عن دياناتهم، وحديث عن حكمهم وأحكامهم، تجده مبسوطا مفروشا في صفحات تلك الكتب، تجد فيها بعض التبابعة وقد آمنوا برسالة الرسول ووقفوا على اسمه, وذلك قبل ميلاده بمئات من السنين, وتمنوا لو عاشوا فأدركوا أيامه وذبُّوا عن حياضه. هذا أحدهم وهو التبع "أسعد أبو كرب بن ملكيكرب"، يقول: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم فلو مدَّ عمري إلى عمره ... لكنت وزيرًا له وابن عم وجاهدت بالسيف أعداءَهُ ... وفَرَّجْتُ عن صدره كل هم

_ 1 تفسير الطبري "25/ 77". 2 تفسير الطبري "26/ 97 وما بعدها". 3 تفسير النيسابوري، حاشية على تفسير الطبري "25/ 86". 4 تفسير الطبرسي "25/ 66" "طبعة طهران". 5 تفسير ابن كثير "4/ 144".

فهو يشهد برسالة الرسول، ويؤمن بها قبل مبعثه بنحو من سبعمائة سنة، ويرجو لو مد في عمره، فوصل إلى أيام الرسول، إذن لجاهد وحارب معه، وفرج عنه كل هم؛ لأنه كان يعلم بما سيلاقيه الرسول من قومه من أذى وعذاب, ولصار له وزيرًا وابن عم1. ويذكر بعض الأخباريين، أن تبعًا قال للأوس والخزرج: كونوا هنا حتى يخرج هذا النبي -صلى الله عليه وسلم-, أما أنا لو أدركته لخدمته وخرجت معه2. إلى غير ذلك من قصص يحاول أن يجعل للتبابعة علمًا سابقًا قديمًا برسالة الرسول باسمه وبمكان ظهوره, وبتهيؤ القحطانيين ومنهم أهل المدينة لتأييده وللذب عنه، ولنشر دينه على رغم قريش أهل مكة، وهم لب العدنانيين. ونجد في كتب أهل الأخبار بعض التبابعة وقد صيروا مسلمين حنفاء يدعون إلى الدين الحق وينهون قومهم عن عبادة الأصنام. وتجد فيها أحاديث قيل: إن رسول الله قالها في حق التبابعة مثل قوله: "لا تسبوا تبعًا؛ فإنه كان قد أسلم"، أو "لا تسبوا تبعًا؛ فإنه كان رجلًا صالحًا" و"لا تسبوا تبعًا؛ فإنه أول من كسا الكعبة", أو "ما أدري أكان تبع نبيًّا أم غير نبي"3. وتجد فيها أكثر من ذلك فقد بلغ الحال ببعض أهل الأخبار أن صيروا بعض التبابعة أنبياء وفاتحين، بلغت فتوحاتهم الصين في المشرق و"روما" في المغرب. وهذا القصص كله هو بالطبع من حاصل ذلك النزاع السياسي الذي كان بين القحطانيين والكتلة المعادية لها، كتلة العدنانيين. وما هذا الإلحاح الذي يؤكد إيمان التبابعة بإله واحد وتسليمهم برسالة الرسول وتدينهم بدينه، وفي عدم جواز سب التبابعة أو لعنهم أقول: ما هذا الإلحاح إلا دليل ظاهر محسوس على أن من الناس من كان يلعن التبابعة ويسبهم ويشتمهم، ولم يكن هذا الشتم أو اللعن موجهًا إلى التبابعة بالذات بالطبع، بل كان موجهًا لليمن وللقحطانيين عامة، وللرد عليهم وضعت تلك الأحاديث وأمثالها على لسان

_ 1 أخبار مكة "ص84"، تفسير ابن كثير "4/ 142"، البداية والنهاية "2/ 163" وما بعدها". 2 تفسير الطبري "25/ 115 وما بعدها". 3 اللسان "8/ 31" "صادر"، تفسير الخطيب الشربيني "3/ 553"، تفسير الطبري "26/ 154 وما بعدها"، لباب التأويل في معاني التنزيل والمعروف بتفسير الخازن "4/ 115، 175" "مطبعة الاستقامة، القاهرة، 1955م".

الرسول. وقد ظهر أجداد أهل اليمن فيها أحسن وأخير من أجداد قريش وأهل مكة، ظهروا فيها مؤمنين موحدين، كسوا البيت الحرام، وكانوا هم أول من كسوه، وعنوا بالبيت إذ عمروه مرارًا، وقدروا مكانته قبل الإسلام بزمان طويل خير تقدير. وذكر "المسعودي" أن "تبعًا" المعروف بـ"تبع الأول" كان أول من حكم بعد "الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش"، وقد ملك -على زعمه- أربعمائة سنة، ثم ملكت بعده بلقيس بنت الهدهاد1. ولم يشر إلى صلة "تبع الأول" بالهدهاد، والظاهر من قوله: "وذكر كثير من الناس أن بلقيس قتلته"2، أنه كان على رأي أهل الأخبار وأصحاب "كتب التبابعة"3، مغتصبًا للعرش ليست له بالهدهاد صلة ونسب. فأول من حكم باسم "تبع" على رواية المسعودي هو تبع المذكور. وكلمة "تبع" لم ترد في نصوص المسند؛ لا بمعنى ملك، ولا بمعنى آخر له علاقة بحكم أو بوظيفة أو بملك. وقد أطلقت تلك النصوص على اختلاف لهجاتها لقب "ملك" على الملوك، أي: على نحو إطلاقنا لها في عربيتنا؛ ولهذا يرى المستشرقون أن كلمة "تبع" هي "بتع" القبيلة التي تحدثت عنها من "همدان", وحرفت الكلمة فصارت "تبع"4. وقد كان الحميريون يسيطرون على القسم الجنوبي الغربي من العربية الجنوبية في أيام مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"، ولا سيما في مدينة "ظفار" وحصنها الشهير المعروف بـ"ريدان"5، الذي يرمز إلى ملك حمير والذي يحمي العاصمة من غارات الأعداء, وهو بيت الملوك وقصرهم أيضًا6. وقد كانت منازل حمير في الأصل إلى الشرق من هذه المنازل التي ذكرها مؤلف الكتاب. كانت تؤلف جزءًا من أرض حكومة قتبان وتتصل بحكومة حضرموت,

_ 1 مروج الذهب "2/ 4" "محمد محيي الدين". 2 المصدر نفسه. 3 كذلك. 4 Ency., II, P.311 5 Beitrage, S. 33 6 Le Museon, 1964, 3-4, P.448

وتقع في جنوب "ميفعة"1. وتؤلف أرض "يافع" المسكن القديم للحميريين، وذلك قبل نزوحهم عنها قبل سنة "100" قبل الميلاد إلى مواطنهم الجديدة2, حيث حلوا في أرض "دهس" "داهس" وفي أرض "رعين" حيث كانت "رعين"، فأسسوا على أشلائها حكومة "ذو ريدان"3. وحدود أرض حمير في مواطنها القديمة: أرض "رشأى" "رشاي" و"حبان" "حبن" في الشمال وأرض حضرموت في الشرق، وأرض "ذيب" "ذياب" في الغرب, وقد كانت في الأصل جزءًا من حكومة قتبان. ويظهر من الكتب العربية أن الحميريين كانوا يقطنون حول "لحج" في منطقة "ظفار" و"رداع" وفي "سرو حمير" و"نجد حمير"4. وقد عرفت الأرض التي أقام بها الحميريون بـ"ذي ريدان" "ذ ريدن"، نسبة إلى "ريدن" "ريدان"، قصر ملوك حمير بعاصمتهم "ظفار". وهو عند حمير بمثابة قصر "سلحن" "سلحان" "سلحين"، وقصر "غمدن" "غمدان" عند السبئيين. وقد أخذ حصن "ريدان" اسمه من حصن أقدم عهدًا منه كان في قتبان، بُنِيَ عند ملتقى أودية في جنوب العاصمة "تمنع", عرف بـ"ذي ريدان" "ذ ريدان"، وقد بني على جبل يسمى بـ"ذي ريدان" يؤدي إلى "حدنم" "حدن". ولما كان الحميريون يقيمون في هذه الأرض المعروفة بـ"ذي ريدان" وذلك حينما كانوا أتباعًا لمملكة قتبان, لذلك أطلقوا على الحصن الذي بنوه بـ"ظفار" اسم حصن "ذي ريدان"؛ تيمنًا باسم قصرهم القديم، وأطلقوا "ذي ريدان" على وطنهم الجديد الذي أقاموا فيه بعد ارتحالهم عن قتبان؛ ليذكرهم باسم وطنهم القديم5. وقد عثر على كتابة في خرائب حصن "ريدان" القديم، الذي كان قد بناه الريدانيون أيام إقامتهم بقتبان، قدَّر الخبراء زمان كتابتها بحوالي السنة "400"

_ 1 Beitrage, S. 48 2 Beitrage, S. 66 3 Beitrage, S. 73 4 Ency., Ii, P.310 5 Beitrage, S. 48, Discoveries, P.8, Le Museon, 1964, 3-4, P.450

قبل الميلاد1. ويقع حصن "حدي" عند حافة الجبل الذي تقع عليه خرائب "ريدان"، وهو اسم يذكرنا باسم "حدنم" المذكور2. وقد كان الحميريون أتباعًا لمملكة قتبان قبل انتقالهم إلى وطنهم الجديد، فأرضهم كانت خاضعة لحكومة قتبان, تؤدي الجزية لها وتعترف بسيادة ملوك قتبان عليها؛ ولذلك أطلق السبئيون عليهم "ولد عم" أي: ولد الإله "عم" و"أمة عم" "ملة عم" وهو إله قتبان. وتعني تلك الجملة "جماعة عم"، أي: قتبان ومن يخضع لها من قبائل، فـ"عم" هو رمز قتبان3, وهو تعبير يؤدي معنى التبعية والجنسية بالمعنى الحديث. ولما كان الحميريون أتباعا لقتبان في ذلك العهد، وإن لم يكونوا يتعبدون للإله "عم" إله قتبان، أُدخلوا في جملة "ولد عم" للتعبير عن المعنى المذكور. وقد عثر الباحثون على كتابات مؤرخة سنة 1094, أرخت بالتقويم العربي الجنوبي الذي يرجع عهده إلى السنة "115" أو "109" قبل الميلاد, عثر عليها في أرضين حميرية. وقد تبين من تحويل تلك السنين إلى سنين ميلادية، أنها تعود إلى السنة "400" للميلاد فما بعد4. ويرى بعض الباحثين أن السنة المقابلة لسنة "115" أو "109" قبل الميلاد، وهي السنة الأولى من سني التقويم العربي الجنوبي، هي سنة نشوء حكومة حمير وظهورها إلى الوجود بصورة فعلية5؛ ولهذا صار الحميريون يؤرخون بها لما لها من أهمية في الناحية السياسية عندهم. وقد كان الحميريون يغزون أرض حضرموت ويتحرشون بطرق تجارتها، ولا سيما طريق "شبوة" - "قنا" "قانة" المؤدي إلى المدن الجنوبية والساحل؛ لذلك اضطرت حضرموت إلى إقامة سور يسد الوادي "وادي لبنا" "لبنة"، أقيم من حجارة قوية بحيث سد الوادي، فليس للمارة سبيل سوى الباب الذي

_ 1 Rep. Epig. 3871, Le Museon, 1964, 3-4, P.450, J. Pirenne Paleographie, I, "Cit. Note 12", Pl. Xixd 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.450 3 Le Museon Lxxvii, 3-4, 1964, P.429, 450, Ryckmans 535, Jamme 577, 578, 589. 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.429 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.430

يحرسه حراس أشداء. ويظهر أن إقامة ذلك السور كان قبل السنة "400" قبل الميلاد1. وقد اكتسح الحميريون أملاك غيرهم من جيرانهم؛ فاستولوا على أرض "رعين", وقد كانت "رعين" مملكة صغيرة حكمها ملوك كما تبين ذلك من الكتابات. وقد كانت هذه المملكة تحكم أرض "عرش" وقد استولى عليها الحميريون أيضا, كما استولوا على كل الأرضين التي كانت خاضعة لحكم ملوك "رعن" "رعين", فأضافوها إلى حكومة "ريدن" "ريدان" "ذي ريدان". وقد حدث ذلك في القرن الثاني قبل الميلاد2. وقد كانت مملكة "رعين" كما يتبين من الكتابة الموسومة بـGlaser 1693 في حلف مع سبأ ضد مملكة "قتبان"، ويظهر أنها كانت مع سبأ لتدافع بذلك عن نفسها إذ كانت جارة لقتبان، ولقتبان مصالح خطيرة في أرض "رعين"3. ويتبين من النص الموسوم بـGlaser 1693 -الذي يعود عهده إلى أيام الملك "يدع أب يجل"، والذي يرجع بعض علماء العربيات الجنوبية عهده إلى حوالي السنة "200" قبل الميلاد- أن "رعين" كانت مملكة إذ ذاك، وفي أرض "رعين" أقام الحميريون دولتهم حيث اتخذو "ظفار" عاصمة لهم4, وكانوا قد زحفوا على هذه الأرض وعلى "دهس" "داهس" والمعافر واستقروا بها، حيث تغلبوا على سكانها الأصليين، وأقاموا حكومة حمير5 التي أخذت تنافس سبأ وتتوسع في أرض القتبانيين وغيرهم، متوخية انتزاع السلطة من السبئيين6. وقد كان "شمر ذي ريدان" الذي تحدثت عنه في أثناء كلامي على "الشرح يحضب" من أقيال حمير ومن ساداتهم البارزين في ذلك الوقت. وقد رأينا أنه كان نشطًا محاربًا يتصل بالحبش وبملك "نجران"، وبملك حضرموت، وبكل من يجد فيه عداوة ونصبًا لـ"الشرح يحضب" ليمكنوه من التغلب عليه، ومن انتزاع الحكم منه. ولكنه لم يتمكن مع كل ذلك من التغلب على "الشرح"، بل

_ 1 Beitrage, S. 44 2 Beitrage, S. 39, 48 3 Beitrage, S. 143 4 Beitrage, S. 69 5 Beitrage, S. 73 6 Beitrage, S. 113

اضطر في الأخير إلى التصالح معه، وإلى الاعتراف بسيادته، حتى إنه صار قائدًا من قواد جيشه في حربه التي أثارها "الشرح" على حضرموت. كما عُوقبت "نجران" عقابًا شديدًا نتيجة لاندفاعها مع "شمر" وتأييدها له، وإعلانها الحرب على "ملك سبأ وذي ريدان"1. ويظهر من وصف "بلينيوس" Pliny، أن القسم الجنوبي من ساحل البحر الأحمر كان تابعًا لملك حمير، صاحب "ظفار". ويظهر من الكتابة CIH 41 أن مملكة حمير كانت تضم "رعين" و"ذمار" "ذمر" والأرض التي تقع في الشمال المسماة بـ"قاع جهران" في الوقت الحاضر؛ فيظهر من ذلك أن الحميريين كانوا قد تمكنوا من الاستيلاء على الهضبة وعلى المناطق الجنوبية من اليمن الممتدة على البحر الأحمر. ونحن لا نملك في الوقت الحاضر أي نصوص تشير إلى الوقت الذي استولت حمير فيه على هذه الأرضين, ويظن البعض أن ذلك قد كان في أيام حملة الرومان على اليمن، فاستغل الحميريون هذه الفرصة، فرصة ضعف حكومة السبئيين، فاستولوا على تلك الأرضين2. وقد يرجع زمان استيلاء حمير على ميناء "قنا" الشهير، وهو أهم ميناء في حضرموت إلى هذا العهد، أو إلى عهد يقع بعد ذلك بقليل3. ولم تكن علاقات حمير بسبأ علاقات طيبة في الغالب, بل يظهر أنها كانت نزاع وخصومة في أكثر الأوقات. نجد في كتابات السبئيين إشارات إلى حمير وإلى نزاع سبأ معهم, وقد دعوهم بـ"حمير" "حمر" "حمرم" وبـ"ذي ريدان" "ذ ريدن" و"ببني ذي ريدان"، ودعوا ملوكهم: "ذمر على ذي ريدان" و"شمر ذي ريدان" وبـ"كرب إيل ذي ريدان"4. وقد استطاع الحميريون من الاستيلاء على "مأرب"؛ استولوا عليها جملة مرات. لقد تمكن أحد ملوكهم من احتلالها ودخولها، ويظهر أن ذلك كان بعد حملة الرومان على اليمن، فعدل في لقبه الملكي الرسمي وهو "ذو ريدان"،

_ 1 Beitrage, S. 38, Ryckmans 535, Jamme 577, Cih 350, Le Museon, 1964, 3-4, P.477 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.449 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.449 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.451

وجعله مثل لقب الملوك السبئيين الشرعيين, وهو "ملك سبأ وذي ريدان"، الذي يشير إلى استيلاء سبأ فيما مضى على حمير وضم أرضهم إلى أرض سبأ. والظاهر أن "أقول" أقيال سبأ ثاروا على الحميريين فأخرجوهم من "مأرب"، وأعادوا العرش إلى العائلة السبئية المالكة، فحكموها بصفتهم "ملوك سبأ وذو ريدان"، وإن لم تكن لهم سيطرة فعلية على أرض حمير، واحتفظ ملوك حمير باللقب الجديد الذي لقبوا أنفسهم به، وهو "ملك سبأ وذو ريدان"، مع أنهم كانوا قد أخرجوا من أرض سبأ، وإن لم يكن قد بقي لهم أي نفوذ عليها. وهكذا صرنا نجد حاكمين: أحدهما سبئي وآخر حميري، يلقب كل واحد منهما نفسه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان"1. وقد جعل "فون وزمن" استيلاء حمير على مأرب في حوالي السنة "110" بعد الميلاد, وعاد فذكر أن الحميريين استولوا على "مأرب" مرة أخرى، وذلك في حوالي السنة "200" أو "210" للميلاد, واستند في حكمه هذا على الكتابة الموسومة بـ2 Jamme 653. ومن ملوك حمير الملك "يسرم يهصدق" "ياسر يهصدق"، الملقب بـ"ملك سبأ وذو ريدان" في الكتابة الموسومة بـCIH 41. ويرى "فون وزمن" أنه حكم بعد الميلاد؛ حكم في النصف الثاني من القرن الأول بعد الميلاد، فيما بين السنة "70" و"80" بعد الميلاد3. وقد وضع "فون وزمن" اسم "الشرح" بعد اسم "ياسر يهصدق"، وجعل أيامه في حوالي السنة "90" بعد الميلاد. وقد ذكر أنه من حمير, وإلى أيامه تعود الكتابة المرقمة بـ4 CIH 140, ويرى أن هذه الكتابة هي أقدم كتابة ورد فيها خبر حرب وقعت بين حمير وسبأ5. ثم ذكر "فون وزمن" اسم "ذمر على يهبأر" بعد اسم "الشرح" وقد جعل حكمه في حوالي السنة "100" بعد الميلاد, وإلى زمانه تعود الكتابة

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.451 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.450, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.85 4 Le Museon, 1964, P.498 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.459

الموسومة بـCIH 365, وكان يعاصره الملك "شهر هلال يهقبض" ملك قتبان1. ويرى "فون وزمن" أن "ذمر على يهبار" "ذمر على يهبأر" حارب شخصًا من "بني حزفر" "بن حزفرم", و "بنو حزفر" هم من عشيرة "ذ خلل" "ذو خليل"، وهم عشيرة قديمة يرجع إليها نسب مكربي سبأ وأكثر ملوك السبئيين, ويرى احتمال كون هذه الحرب قد وقعت مع أحد أفراد العائلة السبئية المالكة. وقد تمكن "ذمر على" من الاستيلاء على حصن "ذت مخطرن" "ذات مخطران"، ومن دخول "مأرب", وقد قام هو وابنه "ثارن" "ثأران" بترميم سد مأرب وببناء المواضع التي تخربت منه؛ وذلك لأنه كان قد تخرب، وذكر أن تخرب السد هذا، هو تخرب لم يصل خبره إلينا2. وقد قدم الملكان قرابين وهما بمأرب إلى "عثتر" "عثتار" و"سحر" بمعبد "نفقان" "نفقن"3. وقد بلغ الحميريون على رأي "فون وزمن" أوج أيام عزهم في هذا العهد؛ فقد حكموا السبئيين ومعهم "ذ عذبهن" "ذو عذبهان"، الذين نعتوا أنفسهم بـ"أدم"، أي: الأتباع4. ثم وضع "فون وزمن" اسم "ثارن يعب" "ثأران يعب" بعد اسم "ذمر على", وإلى زمانه تعود الكتابتان CIH 457 و5CIH 569. ثم وضع "فون وزمن" اسم "شمر يهرعش الأول" من بعده، وقد كان معاصرًا لـ"أنمار يهأمن" ولـ"كرب إيل وتر يهنعم" من "بني بتع" من قبيلة "سمعي", وقد كان حكمه في حوالي السنة "140" بعد الميلاد6. وذكر "فون وزمن" أن السبئيين تمكنوا من الاستيلاء على حمير، فصارت تابعة لهم، وكان ذلك في أيام "ملك سبأ وذي ريدان" "شعرم أوتر" "شعر أوتر"، وبقيت حمير خاضعة لهم إلى أن ثارت عليهم بزعامة "لعزز يهنف يهصدق" "العز يهنف يهصدق" "لعز يهنف يهصدق" "لعز نوفن يهصدق"

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.459 3 Cih 365, 457, Le Museon, 1964, 3-4, P.459 4 Glaser 551, Rep. Epig. 4775, Le Museon, 1964, 3-4, P.459 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.498, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.81 6 Le Museon, 1964, 3-4, P.498

حيث ولي عليهم وحكم بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"1. وقد جعل "فون وزمن" زمان حكم "لعزز يهنف يهصدق"، فيما بين السنة "190" و"200" بعد الميلاد. وجعل أيام حكمه في أيام استيلاء "جدرت" "جدرة" الحبشي على "ظفار"2. وقد جاء اسم الملك "لعزز يهنف يهصدق" في الكتابة الموسومة بـJamme 631, وقد لُقِّب فيها بلقب "ملك سبأ وذو ريدان", ذكر بعد أسطر من ورود اسم الملك السبئي "شعر أوتر" "ملك سبأ وذو ريدان", كما جاء اسم الملك "لحيعثت يرخم" الذي لقب أيضا بلقب "ملك سبأ وذو ريدان", وقد سجل هذه الكتابة أحد القادة السبئيين. ويظهر أن السبئيين والحميريين كانوا قد كونوا جبهة واحدة لمحاربة الحبش الذين هاجموا اليمن في عهد "جدرت" "جدرة"3. وقد وقعت اضطرابات في هذا العهد, دامت حوالي قرن ونصف قرن, لم تنعم اليمن في خلال هذه المدة بالراحة والاستقرار. فنجد في الكتابات التي وصلت إلينا عن هذا العهد ذكر فتن وحروب وأوبئة وغزوات وغارات, ونجد ملوكًا وإقطاعيين يحاربون بعضهم بعضًا, ويعزو "ريكمنس" سبب ذلك إلى إدخال الخيل في الحروب وحلولها محل الجمل؛ مما ساعد على حركة القتال، وفي نقل الحروب بصورة أسرع إلى جبهات كان الجمل يقطنها ببطء. كما يرى "دوستل" W. Dostal أن لتحسين السروج التي كان يستعملها المحاربون الفرسان دخلًا في هذه الحروب والاضطرابات4. لقد أدى استعمال الخيل في الحروب وتحسين سروجها على رأي الباحثين المذكورين إلى إحداث تطور خطير في أسلوب القتال, كما أدى إلى ظهور قوة محاربة صار لها نفوذ في الأحداث وفي سياسة جزيرة العرب، هي قوة الأعراب. فقد أدى استخدام البدو للخيل إلى إمعانهم في الغزو, وإلى إغارتهم على الحضر طمعًا في أموالهم وفيما عندهم من أمتعة ومال. كما أدى إلى الإكثار من غزوهم بعضهم

_ 1 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498. ORIENS ANTIQUUS, III, 1964, P.85, JAMME, SABAEAN Inscriptions, P.381 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.451 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.452, W. Dostal, The Evolution Of Bedouin Life, L'antica Beduina, Universita Di Roma, Studi Semitici, 2, 1959, Pp.11-34

بعضًا، وإلى التدخل في شئون الحكومات, وصار لهم نفوذهم في الأمور السياسية والعسكرية في العربية الجنوبية، واضطرت حكومات هذه الأرضين على أن تحسب لهم حسابًا، كما استخدموا الأعراب في قتالهم مع الحكومات الأخرى المنافسة لها، وفي محاربة الأقيال والأذواء1. ثم جعل "فون وزمن" اسم "ياسر يهنعم الأول" من بعده، وقد حكم معه ابنه "شمر يهرعش" الذي لقبه بالثاني؛ تمييزًا له عن "شمر" المتقدم. وفي عهدهما احتل الحميريون "مأرب"، وصارت "سبأ" تابعة لهم, وكان ذلك في حوالي السنة "200" للميلاد2. وكان يعاصرهما "عذبة" نجاشي الحبشة في هذا الوقت3. ويرى "فون وزمن" أن الكتابات العربية الجنوبية انقطعت فجأة بعد هذه الكتابة المتقدمة عن ذكر ملوك "همدان"، فلم تعد تذكر شيئًا عنهم، ويعزو سبب ذلك إلى الأوبئة التي اجتاحت البلاد, وإلى تألق نجم الأسرة الحميرية الحاكمة التي تمكنت على ما يظهر من الاستيلاء على عاصمة سبأ "مأرب" وعلى نجاد سبأ, وإلى انفراد سادة "مضحي" "مضحيم" "مضحم"، وقد تكون استولت على ردمان كذلك. وفي هذه الظروف حكم "ياسر يهنعم" الذي لقبه "فون وزمن" بالأول مع ابنه "شمر يهرعش" الذي لقبه بـ"الثاني" الذي اشترك معه بالحكم ثم انفرد به وحده فحكم في "ظفار" وفي "مأرب"4. ثم نصب "فون وزمن" شخصًا دعاه "كرب إيل ذو ريدان" بعد "شمر يهرعش الثاني" وجعله معاصرًا للنجاشي "زوسكالس" Zoskales، وجعل حكمه في حوالي السنة "210" بعد الميلاد5, وهو شخص لا نعرف اسمه الملكي الكامل. ويرى "فون وزمن" أنه هو المقصود في الكتابات Jamme 578, 586, 589، وهي كتابات دونها خصومه, ويظهر من إحدى الكتابات أن جيوش خصميه "الشرح" و"يأزل" بلغت "سرعن" في "ردمان" و"قرننهن" "القرنين"

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.452 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 3 Le Museon, 1964, 3-4, Pp.457, 498 4 Rep. Epig. 4196, 4938, Jamme 647, 653, Le Museon, 1964, 3-4, P.475 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.498

و"عروشتن" "العرائش" في نجاد قبيلة "حرمتم" "حرمت" "حرمة" في أرض "مراد" بين "مأرب" و"قتبان"، وأنها استولت على الحصن الجبلي المنيع "عر أساي" "عر الآسى" "عر أسأي" شرق "ذمار"1. وقد نشبت حرب أخرى بينه وبين خصميه، اضطرته إلى الاعتراف بسيادة "الشرح" و"أخيه" عليه، غير أنه عاد فثار على خصميه، فخسر في هذه المرة أيضا؛ خسر مدينة "هكر" التي اشتهرت بقصرها الملكي على قمة التل، وخسر "رداع" و"ظفار"، فاضطر إلى الفرار2. ثم جعل "فون وزمن" "ثارن يعب يهنعم" من بعده، وقد كان حكمه في حوالي السنة "230" حتى السنة "240" للميلاد3. ثم ذكر "فون وزمن" اسم "ذمر على وتر يهبأر" من بعده، وقد كان حكمه في حوالي السنة "250" للميلاد. ثم انتقل منه إلى "عمدان بين يهقبض" الذي جعل حكمه في حوالي السنة "260" حتى السنة "270" للميلاد4. وجعل "فون وزمن" الملك "ياسر يهنعم" من بعد "عمدان بين يهقبض" وقد نعته بالثاني، وجعل حكمه مع ابنه "شمر يهرعش" الذي لقبه بالثالث، والذي انفرد وحده بالحكم بعد وفاة والده, فحكم حتى السنة "300" للميلاد. وقد كان يعاصره الملك "شرح ال" و"رب شمس"5. وجعل "فون وزمن" حكم الملك "ياسر يهنعم الثالث" و"ثارن أيفع" "ثأرن أيفع" بعد حكم "شمر يهرعش الثالث". وقد كان حكم "ياسر يهنعم" الثالث منفردًا في بادئ الأمر ثم أشرك ابنه "ذرأ أمر أيمن" معه في الحكم, وذلك في الشطر الثاني من أيام حكمه, وقد عاصرا "عزانا" ملك الحبش الذي غزا اليمن. ثم جعل "ذمر على يهبر" من بعد الاثنين المذكورين، وهو ابن "ثارن يكرب" "ثأرن يكرب"6.

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.478 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.478 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 6 Le Museon, 1964, 3-4, P.498, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.80

وذكر "فون وزمن" أن "ذمر على يهبر" حكم مع ابنه "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم" في الشطر الثاني من أيام حكمه، وذلك فيما بين السنة "340" والسنة "360" للميلاد. وجعل في حوالي هذا العهد خراب سد مأرب للمرة الثانية1. وفي هذا العهد دخل ملك حمير في النصرانية بتأثير "ثيوفيلوس" عليه, وبنيت كنائس في "ظفار" وفي "عدن". كما أشرك الملك "ثأران يهنعم" "ثارن يهنعم" ابنه "ملك كرب يهامن" "ملكيكرب يهأمن" معه في الحكم. وذكر أنه في حوالي السنة "378" للميلاد ترك معبد "أوم" "أوام"، وأهمل بسبب انصراف أكثر الناس عن التعبد فيه, وتركهم عبادة آلهة سبأ القديمة2. وذكر "فون وزمن" أن الملك "ملكيكرب يهنعم" "ملكيكرب يهأمن" حكم منذ السنة "380" للميلاد مع ولديه: "أب كرب أسعد" "أبي كرب أسعد" و"ذرأ أمر أيمن", ثم ذكر بعدهم اسم "أبي كرب أسعد" مع ابنه "حسن يهأمن" "حسَّان يهأمن". وقد ذكر أن "أبا كرب أسعد" هو الذي حكم بعد والده "ملكيكرب يهنعم" "ملكيكرب يهأمن"، ثم حكم مع ابنه "حسان يهأمن" حكمًا مشتركًا، مستعملين لقبًا جديدًا هو: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعربهمو طودم وتهمتم", وذلك في حوالي السنة "400" للميلاد3. ويعرف "أبو كرب أسعد" "أبكرب أسعد" بـ"أسعد تبع" عند أهل الأخبار, ويذكرون أنه اعتنق اليهودية أثناء نزوله بيثرب في طريقه إلى اليمن. وقد ذهب "فون وزمن" إلى أن الذين حكموا حمير كانوا من أسرة ملكية واحدة, ولكنهم يرجعون إلى فرعين. وذهب "ريكمنس" إلى أن ملوك حمير كانوا أسرتين: أسرة "ياسر يهنعم" وأسرة "ياسر يهصدق"، وقد حكم أعضاء الأسرتين متفرقين, ولكن في وقت واحد4.

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.80 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.480, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.80 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.493 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.494, J. Ryckmans, Chronologie, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.19-22

وظفار هي عاصمة حمير, وقد اشتهرت بجذعها، ولا تزال تشتهر به. وقد تفنن الحميريون في تجميله بحفر صور ونقوش لحيوانات ونباتات وأزهار عليه، وفي صقله، ويستعمل عِقْدًا يوضع حول العنق وخاتمًا لتزيين الأصابع. واشتهرت بأنها موطن لغة حمير, فقيل: من دخل ظفار حمر؛ لأن لغة أهلها الحميرية1. وقد زالت معالم قصر ريدان بظفار، وموضعه اليوم ربوة مربعة الشكل تعرف بـ"ريدان"، بقي منه "سرعبان"، أي: طوفيان بشكل هندسي، من الحجر المنحوت2. وقد زار "كلاسر" مدينة ظفار والخرائب الواقعة على الربوة المتاخمة لآثار ظفار من الجنوب, وقد سمى تلك الخرائب القائمة على الربوة بـ"حصن زيدان". وقد شك في كونه "حصن ريدان" القديم, ولكن بعض الباحثين لا يؤيدون رأيه هذا3, وأظن أن كلمة "زيدان" هي تحريف للاسم القديم "ريدان". وقد اشتهرت حمير عند أهل الحجاز بمصانعها، فقيل: مصانع حمير. وفي كلام النبي لوفد كندة: "إن الله أعطاني ملك كندة, ومصانع حمير، وخزائن كسرى وبني الأصفر، وحبس عني شر بني قحطان، وأذل الجبابرة من بني ساسانَ، وأهلك بني قنطور بن كنعان"4. ترتيب ملوك حمير: هذا وقد رتب "فون وزمن" بعض ملوك حمير ترتيبًا زمنيًّا على هذا النحو: 1- ياسر يهصدق. وقد حكم بحسب رأيه في حوالي سنة "75ب. م.". 2- ذمر على يهبر. وقد كان حكمه في حوالي سنة "100ب. م.". 3- ثأران يعب. وقد كان حكمه في حوالي سنة "125ب. م.", ثم وضع فراغًا بعده، يدل على حكم ملك من بعده لا يعرف زمانه، ووضع

_ 1 الإكليل "1/ 88". 2 الإكليل "1/ 87". 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.448 4 الإكليل "1/ 66".

بعده حكم الملك "شمر يهرعش" الأول، وقد كان حكم ذلك الملك الذي لم يعرف اسمه ولا خبره ولا أسرته, في حوالي سنة "150ب. م.". 4- ثم وضع بعد اسم "شمر يهرعش الأول" فراغًا, ذكر أن حمير صارت فيه تابعة للسبئيين، وذلك في عهد "ملك سبأ وذو ريدان شعرم أوتر" "شعر أوتر". ثم وضع بعده اسم الملك "لعزز يهنف يهصدق" "لعزز يهأنف يهصدق". 5- ثم ذكر بعد "لعزز يهنف يهصدق" اسم الملك "ياسر يهنعم"، وقد نعته بـ"الأول"؛ ليميزه عن ملكين آخرين عرفا بهذا الاسم. 6- ثم وضع بعده اسم ابن له دعاه بـ"شمر يهرعش الثاني". 7- ثم وضع بعده اسم ملك, بقي من اسمِهِ اسمُهُ الأول فقط، وهو "كرب ال" "كرب إيل"، وقد نعته بـ"كرب إيل ذو ريدان"1. 8- ثم وضع اسم الملك "ذمر على وتر يهبر" "ذمر على وتر يهبأر" من بعده. 9- ثم اسم "ثارن يعب يهنعم" ثم ترك فراغًا، ذكر بعده اسمًا. 10- الملك "عمدان بين يهقبض". 11- ثم الملك "ياسر يهنعم الثاني". 12- ثم "شمر يهرعش الثالث". 13- ثم اسم الملك "ياسر يهنعم الثالث". 14- ثم "ثارن أيفع" "ثأران أيفع". 15- ثم "ذرارمر أيمن" "ذرأ أمر أيمن", وهو ابن "ياسر يهنعم الثالث". 16- ثم ذكر اسم ملك لم يتأكد من لقبه هو "ثأران ي ... " "ثأران يـ ... ". 17- وذكر بعده اسم "ذمر على يهبر" "ذمر على يهبأر". 18- ثم ابنه "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم". 19- ثم ذكر اسم ابنه الملك "ملكيكرب يهأمن" "ملك كرب يهأمن".

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, Pp.495, 498

20- ثم ذكر اسم ابنه "أبكرب أسعد" "أبي كرب أسعد" و"ذرأ أمر أيمن" "ذرأ أمر أيمن". 21- ثم "أبو كرب أسعد" ومعه ابنه "حسن يهأمن" "حسان يهأمن". 22- ثم اسم "شرحب ال يعفر", "شرحبيل يعفر"، "شرحب إيل يعفر"1.

_ 1 أخذت هذه القائمة من الصفحتين "495" و"498" من مجلة: Le Museon, 1964, 3-4

الفصل الحادي والثلاثون: سبأ وذو ريدان وحضر موت ويمنت

الفصل الحادي والثلاثون: سبأ وذو ريدان وحضر موت ويمنت مدخل ... الفصل الحادي والثلاثون: سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وفي حوالي السنة "300ب. م." أو بعد ذلك بقليل، لحقت اللقبَ الرسميَّ لملوك "سبأ وذي ريدان" إضافةٌ جديدةٌ، هي "حضرموت ويمنت"، فصار "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، وصرنا نقرأ أسماء الملوك، ونقرأ بعدها هذا اللقب الجديد. وفي الإضافة الجديدة دلالة على أن مملكة "سبأ وذي ريدان" عدت حضرموت منذ هذا العهد أرضًا تابعة لها وخاضعة لحكمها، ليس لها منذ هذا الضم استقلال ولا ملوك، وأنها عدت أرض "يمنت" خاضعة لها وجزءًا من ممتلكاتها كذلك. ومعنى هذا أن رقعة أرض "سبأ وذي ريدان" قد توسعت كثيرًا بهذا الضم. وكلمة "يمنت" لم ترد قبل هذا العهد, لا في المسند ولا في كتب "الكلاسيكيين", ولهذا فهي بالنسبة إلينا لفظة جديدة، وقفنا عليها في الكتابات التي دونت بعد الميلاد. وقد يأتي زمان يعثر فيه العلماء على كتابات تحمل هذه الكلمة، وترجع بها إلى ما قبل الميلاد. ويمنت -في رأي "كلاسر"- كلمة عامة تشمل الأرضين في القسم الجنوبي الغربي من جزيرة العرب؛ من باب المندب حتى حضرموت. وكانت تتألف من مخاليف عديدة، يحكمها أقيال وأذواء مستقلون بشئونهم، ولكنهم يعترفون بسيادة "ظفار" أو "ميفعة" عليهم. ومن أشهر مدن "يمنت" الساحلية في رأي

"كلاسر" Ocelis عند باب المندب، و"عدن" Arabia Emporium و"قانة" "قنا" Cane في حضرموت1. وتعني "يمنت" في العربيات الجنوبية الجنوب، وقد رأى "فون وزمن" أنها تعني القسم الجنوبي من أرض حضرموت، وهي الأرض التي كانت عاصمتها "ميفعت" "ميفعة" في ذلك الزمان2. ومن "يمنت" ولدت كلمة اليمن التي توسع مدلولها في العصور الإسلامية حتى شملت أرضين واسعة، لم تكن تعد من اليمن قبل الإسلام، تجدها مذكورة في مؤلفات علماء الجغرافيا والبلدان والموارد الأخرى3. واليمن عند أهل الأخبار أرض واسعة يحدها من الغرب بحر القلزم، أي: البحر الأحمر، ومن الجنوب بحر الهند، أي: البحر العربي في اصطلاحنا, ومن الشرق البحر العربي، وتتصل حدود اليمن الشمالية إلى حدود مكة حيث الموضع المعروف بـ"طلحة الملك"4. وقد أورد أهل الأخبار على مألوف عادتهم تفاسير لسبب تسمية اليمن يمنًا، فذكروا أن اليمن إنما سميت يمنًا نسبة إلى يمن بن قحطان، وقيل: إن قحطان نفسه كان يسمى بيمن. وقيل: إنما سميت بيمن بن قيدار، وقيل: سميت؛ لأنها يمين الكعبة، وقيل: سميت بذلك؛ لتيامنهم إليها، وقيل: لما تكاثر الناس بمكة وتفرقوا عنها، التأمت بنو يمن إلى اليمن، وهو أيمن الأرض5. وأول ملك نعرفه حمل اللقب الجديد، لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، هو الملك "شمر يهرعش" المعروف بـ"شمر يرعش" عند الإسلاميين. أما أبوه فهو "يسر يهنعم" "ياسر يهنعم"، المعروف والمشهور أيضا مثل ابنه بين أهل الأخبار. وقبل أن أدخل في موضوع "شمر يهرعش" وفي أبيه، أودُّ أن أبين أن

_ 1 Glaser, Punt Und Die Sudarabischen Reiche, In Mitteillungen Der Der Vorderasiatischen Gesellschaft, 1899, S. 99 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.456 3 الصفة "ص48"، البلدان "8/ 522". 4 صبح الأعشى "5/ 6". 5 صبح الأعشى "5/ 6"، اللسان "13/ 462، 464".

الباحثين في هذا اليوم ليسوا على اتفاق في عدد من تسمى بـ"ياسر يهنعم" وفي أيام حكمهم، وكذلك في عدد من تسمى بـ"شمر يهرعش" وفي أيام حكمهم, فبينما كان قدماؤهم يذهبون إلى وجود "ياسر يهنعم" واحد ووجود "شمر يهرعش" واحد، ذهب بعض المحدثين إلى وجود شخصين اسم كل واحد منهما "ياسر يهنعم"، وشخصين اسم كل واحد منهما "شمر يهرعش" واسم والد كل واحد منهما "ياسر يهنعم"1. وقد ذهب "فون وزمن" إلى وجود ثلاثة ملوك كان اسم كل واحد منهم "ياسر يهنعم"، وثلاثة ملوك كان اسم كل واحد منهم "شمر يهرعش", واسم والد كل واحد منهم "ياسر يهنعم". أما "ياسر يهنعم الأول"، فجعل زمان حكمه في حوالي السنة "200" للميلاد, وقد حكم معه ابنه المسمى بـ"شمر يهرعش"، وقد لقبه بالثاني ليميزه عن ملك آخر حكم قبله وتسمى بهذا الاسم أيضا، وهو "شمر يهرعش"، الذي دعاه بالأول، وقد حكم في حوالي السنة "140" للميلاد. ولم يعرف اسم والده2. وجعل "فون وزمن" حكم "ياسر يهنعم الثاني" في حوالي السنة "270" للميلاد، وقد حكم ابنه "شمر يهرعش الثالث" معه، ثم حكم "شمر يهرعش الثالث" وحده. ثم نصب ملكًا آخر من بعده، جعل حكمه في حوالي السنة "330" للميلاد سماه "ياسر يهنعم الثالث" حكم مع ابنه "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم"3. ويعرف "ياسر يهنعم" عند أهل الأخبار بـ"ياسر أنعم" وبـ"ناشر النعم" وبـ"ياسر ينعم" وبـ"ناشر ينعم" وبـ"ناشر أنعم"، وزعموا أنه إنما عرف بذلك لإنعامه عليهم، ووالده في نظرهم "عمرو بن يعفر بن حمير بن المنتاب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ"4، أو "يعفر بن عمرو بن حمير بن السياب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ"5، أو "عمرو ذي الأذعار"، أو

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.422, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.80 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 4 الإكليل "ص207", الطبري "1/ 566" "دار المعارف" "2/ 11" "دار المعارف", مروج الذهب "2/ 5"، ابن خلدون "2/ 52". 5 التيجان "ص219".

"عمرو بن يعفر بن شرحبيل بن عمرو ذي الأذعار". وزعموا أنه سار إلى وادي الرمل بأقصى الغرب، فلم يجد وراءه مذهبًا، فنصب صنمًا من نحاس، وزبر عليه بالمسند: "هذا الصنم لناشر أنعم، ليس وراءه مذهب، فلا يتكلف أحد ذلك فيعطب"1. وقد حكم "ياسر أنعم" أو "ناشر النعم" أو "ناشر ينعم" بعد "بلقيس بنت إيليشرح" معاصرة "سليمان" "1021-981ق. م."، على رواية من روايات أهل الأخبار2، أو بعد ثلاثين سنة أو أربعين من حكم "سليمان" لحمير، حيث أخذه منه وأعاده إلى حمير, فملكهم هو، وكان ملكه خمسًا وثلاثين سنة3. وهكذا رجع أهل الأخبار زمان "ياسر أنعم" إلى ما قبل الميلاد، وصيروه معاصرًا لسليمان، وهو من رجال أواخر القرن الثالث للميلاد. أما سبب اشتهاره بين أهل الأخبار بـ"ناشر النعم"، أي: "محيي النعم"4 فلأنه كما يقولون: "أحيا ملك حمير"، أو "لإنعامه عليهم بما قوى من ملكهم, وجمع من أمرهم"5، أو "لإنعامه على الناس بالقيام بأمر الملك, ورده ذلك بعد زواله"6. ولفضله العميم هذا على حمير، نعتوه بالنعت المذكور. ونسب الأخباريون إلى "ناشر النعم" الغزوات والفتوح, زعموا أنه جمع حميرَ وقبائل قحطان, وخرج بالجيوش إلى المغرب حتى بلغ البحر المحيط, فأمر ابنه "شمر يرعش" أن يركب البحر، فركب في عشرة آلاف مركب، وسار يريد وادي الرمل، ونزل "ناشر النعم" على صنم "ذي القرنين" فأخرج عساكره إلى الإفرنج و"السكس" وأرض "الصقالبة"، فغنموا، وسبوا، ورجعوا إليه بسبي عظيم. ولما رجع "شمر" من المحيط إلى أبيه، أمر بمنارة فبنيت إلى جانب منارة ذي القرنين، ثم أمر فكتب في صدر التمثال الذي عليها من النحاس بالمسند: هذا الصنم لياسر أنعم الحميري، وليس وراءه مذهب،

_ 1 صبح الأعشى "5/ 22". 2 التيجان "ص219"، الطبري "1/ 566" "طبعة دار المعارف بمصر" مروج الذهب "2/ 4 وما بعدها" "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد". 3 التيجان "ص219"، مروج الذهب "2/ 4". 4 التيجان "ص219". 5 الطبري "1/ 566" "دار المعارف". 6 حمزة "ص83".

فلا يتكلفن ذلك فيعطب1. ونسبوا إليه فتح الحبشة، وإرسال العساكر إلى أرض "الروم بني الأصفر"، وملكهم يومئذ "باهان بن سحور بن مدين بن روم بن أسطوم بن روم بن ناطس بن سامك بن رومي بن عيص، وهو الأصفر بن يعقوب"، وذكروا أنه غلب على أرض الترك، وسار إلى التبت والصين وأرض الهند. فلما بلغ "نهاوند" و"دينور"، مات بها, فدفنه ابنه "شمر" في ديار الغربة، وولي الملك بعده2. وأبت قرائح أهل الأخبار إلا أن تضيف إلى "ناشر النعم" شعرًا، فيه فخر وفيه حماسة، زعمت أنه قاله3. وأضافت إلى ابنه شعرًا، زعمت أنه قاله في رثاء أبيه, ولم تنسَ هذه القرائح أن تأتي بنماذج من كلامه العربي العذب؛ لترينا أنه كسائر ملوك اليمن يتكلم بلسان عربي مبين4. أما نحن، فلا نعلم شيئًا من أمر هذه الفتوح والغزوات، ولا من أمر هذا المنظوم أو المنثور, وإنما الذي نعرفه أنه كان يسمى "ياسر يهنعم"، لا "ناشر النعم" كما جعله الأخباريون، وأنه عاش في القرن الثالث للميلاد، وبينه وبين سليمان مئات من السنين، وأنه لا يمكن أن يكون قد خلف "بلقيس" معاصرة "سليمان" على حد زعم أهل الأخبار، ولا أن يكون قد انتزع الملك من "سليمان", ولا أن يكون صاحب فضل ونعمة على حمير؛ لأنه أنقذهم من حكم "سليمان". وكل ما في الأمر أن الاسم كان بالنسبة إلى أهل الأخبار غريبًا، فصيروه "ناشر النعم"، وابتكروا له قصصًا في تفسير معنى ذلك الاسم. وإذا كان حكم "ياسر يهنعم" في النصف الثاني من القرن الثالث للميلاد، فإنه يكون من المعاصرين لمملكة "تدمر"، وربما كان قد عاصر الملكة الشهيرة "الزباء"5، وأدرك أيام سادات الحيرة أول مؤسسي أسرة لخم. وقد قدر بعض الباحثين في العربيات الجنوبية زمان حكم "ياسر يهنعم" بأوائل النصف الأول من

_ 1 التيجان "ص221"، الطبري "2/ 3" "المطبعة الحسينية". 2 التيجان "ص221 وما بعدها" "قبر الملك مالك ناشر النعم بأرض نهاوند ودينور بأرض العجم ... "، الإكليل "ص207". 3 التيجان "ص221". 4 التيجان "ص220" الأصمعي، تأريخ ملوك العرب الأولية "ص80، 103"، حمزة "ص83". 5 Carl Rathjens, Sabaeica, I, S. 89., Le Museon, 1961, 1-2, P.172

القرن الثالث للميلاد، أي: في حوالي سنة "201" أو "207" للميلاد فما بعدها1. ولا نعرف اسم والد "ياسر يهنعم" إذ لم يرد ذكره في النصوص, أما أهل الأخبار فقد عينوه وثبتوه على نحو ما ذكرت، وصيره "حمزة" "شراحيل"، -وهو على زعمه- عم "بلقيس" التي حكمت اليمن قبل عمها "ناشر النعم"2. وقد ذهب "فلبي" مستندًا إلى دراسة بعض النصوص إلى احتمال كون "العذ نوفان يهصدق" الذي وضع اسمه قبل اسم "ياسر يهنعم" والدًا له3. وقد ورد اسم "ياسر يهنعم" في جملة نصوص، منها نص رقمه العلماء بـCIH 46، عثر عليه في موضع "يكرن" "يكاران"4، "يكر" "يكار" أرخ بشهر "ذو المحجة" "ذو محجة" "بورخن ذ محجتن" "ذو الحجة" من سنة "385" من التأريخ الحميري5, الموافقة لسنة "270م" من سني "مبحض بن إبحض" "مبحض بن أبحض"6. وقد جاء فيه اسم الإله "عثتر ذو جوفت" بعل "علم" و"بشر"، أي: إله وسيد موضعي "علم" و"بشر"، واسم قبيلتي "مهأنف" و"شهر"7. وقد تبين من الكتابات أن "ياسر يهنعم" كان قد حكم وحده في بادئ الأمر، لم يشاركه أحد في اللقب ولا في الحكم، ثم بدا له ما حمله على إشراك ابنه "شمر يهرعش" معه، بدليل ذكر اسمه من بعده، وبعده: "ملك سبأ وذي ريدان"، فصرنا نقرأ الكتابات المتأخرة المدونة في هذا العهد وبها اسم الملكين. وورد اسم "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش" في نص آخر مؤرخ كذلك، أُرِّخَ في شهر "مذران" "مذرن" سنة "316" من سني تقويم "نبط ال" "نبط إيل" دوَّنه "فرعن يرل بن ذرنح" "فرعان يأزل بن ذرنح"، و"يعجف" رئيس قبيلتي "قشم" "قشمم" و"مضحيم" "مضحي"، وذلك عند

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.456 2 حمزة "ص83". 3 Background, P.109 4 "يكاران" الصفة "ص111 س14"، "يكر". Background, P.109 5 "ذو الحجة"، "ذبخرفن خمست وثمني وثلث ماتم". 6 Cih 46, Iv, I, P.76, Cih 26, Langer 7, D.H. Muller, In Zdmg., Xxxvii, "1883", S.365-370, Background, P.109 7 راجع نهاية النص.

بنائها "ماجلهمو" "مأجل" صهريجين يخزنان فيهما المياه لإسقاء أرضين لهما مغروسة بالكروم، وكان ذلك في أيام سيديهما "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش" ملكي "سبأ وذي ريدان"1, ولهذه المناسبة تيمنا بذكر اسمي الملكين. وقد قدر "فلبي" مبدأ تقويم "نبط إيل" بسنة "40ق. م."، فإذا أخذنا بهذا التقدير، يكون هذا النص قد دون حوالي سنة "276ب. م."2. وأود أن ألفت نظر القارئ إلى أن أحد النصين قد أرخ بـ"سني نبط" "نبط ال" "نبط إيل"، وأن النص الآخر قد أرخ بسني "مبحض بن أبحض"، كما عثر على نصين آخرين أرخا بسني "مبحض بن أبحض". وقد ذهب العلماء إلى أن الناس كانوا يؤرخون في ذلك الزمان وفق تقويمين، أي: تأريخين, مبدأ أحدهما تقويم "نبط" "نبط إيل"، ومبدأ ثانيهما تقويم "مبحض بن أبحض", والفرق بين التقويمين خمسون سنة، أو خمس وسبعون سنة. وقد بقي الناس يؤرخون بهذين التقويمين أمدًا، ثم مالوا إلى التوريخ بتقويم واحد، إلى أن أهمل أحدهما إهمالًا تامًّا. ويرى "بيستن" أن التقويم الذي أهمل وترك، هو تقويم "نبط" نبط إيل"، وأن الذي بقي مستعملًا هو تقويم "مبحض بن أبحض"3. ويرى "بيستن" أن الكتابات السبئية المتأخرة، قد أرخت وفق تقويم "مبحض بن أبحض"، وإن لم تشر إلى الاسم؛ إذ أسقطته من الكتابات. أما مبدأ هذا التقويم، فيقع فيما بين سنة "118" و"110ق. م.", غير أن الناس لم يؤرخوا به عمليًّا وفي الكتابات إلا في القرن الثالث بعد الميلاد. أما فيما قبل القرن الثالث للميلاد، فقد كانوا يؤرخون على عادتهم بتقاويم محلية مختلفة4. ويرى "ريكمنس" أن التواريخ التي أرخت بها النصوص المؤرخة في عهد "ياسر يهنعم" وفي عهد ابنه "شمر يهرعش" تختلف عن التقويم السبئي المألوف الذي يبدأ -على رأيه- بسنة "109ق. م." وهي لذلك لا يمكن أن تثبت

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.475, Rep. Epig., Vii, P.138, Rep. Epig. 4196 2 Background, P.110 3 A.F.L. Beeston, Epigraphic South Arabian Calendars And Dating, London, 1956. P.36 4 Beeston, Epigraphic, P.37

وفق هذا التقويم1. وقد حارب "ياسر يهنعم" الهمدانيين الذين تعاونوا مع قبائل "ذي ريدان" لمهاجمة "مأرب"، غير أنه باغت الهمدانيين في غرب "صنعاء" وتغلب عليهم2. وفي النص الموسوم بـCIH 353 خبر ثورة للحميريين على "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش" في "ضهر", وقد حاصر "ياسر" الحميريين, ويرى "فون وزمن" أن هذه الثورة حدثت في حوالي سنة "300ب. م.". وقد عثر على كتابات في منطقة "ضهر"، وهي لا تبعد كثيرًا عن "صنعاء", وفي هذه المنطقة خرائب "دورم"، كما عثر على كتابات في "ثقبان" بين "ضهر" و"صنعاء"3. أما الذي حارب "شمر يهرعش بن ياسر يهنعم"، من الحميريين، وذلك كما جاء في النص المتقدم، أي النص الموسوم بـCIH 353 فـ"يرام أيمن" وأخوه "برج" "بارج". فيكون حكمها إذن في أيام "شمر يهرعش"، أي في القرن الثالث للميلاد4. وهذا مما يشير إلى أن العلاقات بين الطرفين أي: بين "سبأ" و"حمير"، كانت قد تعرضت لهزة عنيفة خطيرة حتى تحولت إلى حرب، أشير إليها في هذا النص5. ومن النصوص التي تعود إلى الدور الثاني من أدوار حكم "ياسر يهنعم" النص: Jamme 646، وصاحبه شخص اسمه "شرح سمد بن يثار" "شر حسمد بن يثأر" وآخر اسمه "الفنم" "الفن" "الفان". وكانا من كبار الضباط في حكومة "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش"، ومن درجة "مقتوى". وقد دونا نصهما حمدًا وشكرًا للإله "المقه" "بعل أوام"؛ لأنه مكنهما من الشخص الذي أراد إحراج "ذ حرجهو" مكانتهما وزعزعتها عند سيدهما "شمر يهرعش"، ولكن "المقه" مَنَّ عليهما وشملهما بفضله ولطفه, فنصرهما عليه وأبطل خطته في إحراج مكانتهما "يحر جنهو" عند سيدهما. وتعبيرًا عن حمدهما وشكرهما له، تقدما إلى الإله "المقه" بصنم "صلمن" وضعاه في

_ 1 Beitrage, S. 116 2 A. Grohmann, Arabien, S. 29 3 Beitrage, S. 20, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.81 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.485 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.451

معبد "أوام", ولكي يمن عليهما ويبعد عنهما أذى الأعداء وحسد الحاسدين1. وورد اسم "ياسر يهنعم" واسم ابنه "شمر يهرعش" في النص:Jamme 647, وهو نص دونه ضابطان كبيران "مقتوى" من ضباط الملكين؛ لمناسبة ولادة مولود لهما "هو ولدم"، وقد شكرا فيه الإله "المقه" "بعل أوام" على هذه النعمة، وتوسلا إليه بأن يمن عليهما بأولاد آخرين؛ وبأن يرفع من مكانتهما عند سيديهما الملكين، وبأن ينصر جيشهما ويرفع من مكانة قصر "سلحن" "سلحين" "سلحان" مقر الملوك بمأرب ومن منزلة قصر "ريدان"، وتوسلا إليه بأن يبارك في كل ما قام به الملكان من أعمال، وبأن يبارك في كل مشروع وضعوه في خلال السنين السبع في أي مكان كان, في مأرب أو في صنعاء أو في نشق أو في نشان "نشن"، وفي كل مكان يجتمعون به في أرض البدع الخمس "بارضت خمس بدعتن"2، أو في مواضع السقي "وسقين"، ولكي يحفظهما من كل بأس وأذى، وبأن يبعد عنهما حسد الحاسدين. وورد اسمهما في النص: Jamme 648، وهو مثل النص المتقدم حمد وشكر للإله "المقه" "بعل أوام"؛ لأنه حفظ صاحب النص وعافاه وأعطاه الصحة وبارك في حياته وفي حياة ابنه، ولكي يرفع من مكانته ومكانة ابنه، ويجعل لهما الحظوة عند الملكين، ويرضيهما عنهما, ولكي يبعد عنهما أذى كل مؤذٍ، وحسد كل شانئ حقود3. ولـ"شمر يهرعش" قصص ومقام لدى الأخباريين, له عندهم ذكر فاق ذكر والده بكثير. هو عندهم "تبع الأكبر الذي ذكره الله سبحانه في القرآن؛ لأنه لم يقم للعرب قائم قط أحفظ لهم منه ... فكان جميع العرب بنو قحطان وبنو عدنان، شاكرين لأيامه. وكان أعقل من رأوه من الملوك وأعلاهم همةً وأبعدهم غورًا وأشدهم مكرًا لمن حارب، فضربت به العرب الأمثال"4 إلى غير ذلك مما رتبه "وهب بن منبه" عنه, وكان على زعمهم معاصرًا لـ"قباذ بن شهريار" الفارسي. ولما بلغه أن الصغد والكرد وأهل نهاوند ودينور هدموا

_ 1 Jamme 646, Mamb 243, Mahram, P.148 2 الفقرة 29 وما بعدها من النص: Jamme 647, Mamb 265, Mahram, P.149ذ 3 Jamme 648, Mamb 94, Mahram, P.150 4 التيجان "ص222"، تفسير الطبري "25/ 77".

قبر "ناشر النعم" وفرقوا رخامه وزجاجه وما كان فيه من جذع وغيره، غضب غضبًا شديدًا ونذر لله نذرًا: "ليرفعن ذلك القبر بجماجم الرجال حتى يعود جبلًا منيفًا شامخًا كما كان". ثم سار بجيوشه وبأهل جزيرة العرب، فسار إلى أرمينية، فبلغ ذلك قباذ، فأمر الترك بالمسير إلى أرمينية، فسارت الترك تريد أرمينية فقاتلهم قتالا شديدا، ثم هزمهم فقتلهم قتلًا ذريعًا، ثم سار نحو المشرق فتغلب على قباذ، واستولى على الفرس، وأعاد بناء قبر أبيه. ثم هدم المدائن بدِينَوَرَ و"سنجار" بين نهاوند ودينور "فجميع الأرض التي خربها شمر يهرعش، سماها بنو فارس شمر كند، أي: شمر خرّب باللسان الفارسي، فأعربته العرب بلسانها، فقالوا: "سمرقند"، وهو اسمها اليوم"1، ثم بسط سلطانه على الهند، وعين أحد أبناء ملوك الهند ملكًا على الصين، ثم عاد فسار إلى مصر، ومنها إلى الحبشة، فاستولى عليها، وهرب الأحباش إلى غربي الأرض إلى البحر المحيط، فتبعهم "شمر" حتى بلغ البحر، ثم رجع قافلًا إلى المشرق، فمر بمدينة "شداد بن عاد" على البحر، فأقام بها خمسة أحوال. ثم ذهب لزيارة قبر والده، ثم رجع إلى بلاده إلى "قصر غمدان"، فأقام فيه إلى أن توفي وعمره ألف سنة وستون عامًا، بعد أن ملك الأرض كلها2. وزعم بعض أهل الأخبار أنه هو الذي بنى الحيرة بالعراق3. وزعم "حمزة" أن والد "شمر" هو "إفريقيس"، وذكره على هذا النحو: "يرعش أبو كرب بن إفريقيس بن أبرهة بن الرايش، وإنما سمي يرعش لارتعاش كان به". وذكر أن رواة أخبار اليمن تفرط في وصف آثاره، ثم ذكر بعض ما ذكروه عنه، وذكر أن بعض الرواة يزعمون أنه كان في زمان "كشتاسب"، وأن بعضًا آخر يزعم أنه كان قبله، وأن "رستم بن دستان" قتله، وجعل ملكه سبعًا وثلاثين سنةً4. وقال الأخباريون: إن "شمر يرعش" هو أول ملك أمر بصنعة الدروع المفاضة

_ 1 التيجان "ص227"، ابن خلدون "2/ 52"، البلدان "5/ 122". 2 التيجان "ص222 وما بعدها". 3 صبح الأعشى "5/ 22"، "كان رجلًا من حمير, سار بالجيوش حتى حير الحيرة, ثم إلى سمرقند فهدمها"، تفسير الطبري "25/ 77". 4 حمزة "ص84".

التي منها سواعدها وأكفها وهي الأبدان، وقد فرض على فارس ألف درع يؤدونها كل عام، وكان عامله عليهم "بلاس بن قباذ"، وجعل على الروم ألف درع يؤدونها كل عام، وكان عامله على الروم "ماهان بن هرقل", وجعل على أهل بابل وعمان والبحرين ألف درع، وعلى أهل اليمن ألف درع. وجعلوا أهل "التبت" من بقايا قوم "شمر يرعش", وذكروا عنه قصصًا أخرى من هذا القبيل1, ولم ينسوا بالطبع حكمه وشعره، فذكروهما2. أما علمنا عنه، فيختلف عن علم أهل الأخبار عنه. وقد حصلنا على علمنا عنه من كتابات المسند من أيامه. وهي كلها خرس صامتة، ليس فيها شيء من أخبار تلك الفتوحات المزعومة والحروب الواسعة التي أشعلها "شمر" على زعمهم في جميع أنحاء الأرض، وليس فيها كذلك شيء عن نقل حمير إلى "التبت" وإسكانه لهم في تلك الأرضين البعيدة، وليس فيها شيء ما عن قبر والده بدينور، ولا عن تهديمه لمدينة "سمرقند". ونستطيع تقسيم كتابات المسند من أيام "شمر يهرعش" إلى قسمين: كتابات من أوائل أيام حكمه، أي: الأيام التي حكم فيها بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، ولم يكن قد استولى بعد على حضرموت ويمنت، وكتابات من العهد الثاني من أيام حكمه، أي: العهد الذي لقب فيه نفسه بلقب "ملك سبأ وذي ريدان ويمنت" حتى وفاته, وانتقال الحكم إلى خليفته في الحكم. ومن كتابات الدور الأول، الكتابة التي وسمها العلماء بـ Glaser 542، وقد سقطت أسطر منها. وهي على جانب كبير من الأهمية بالنسبة إلى من يريد الوقوف على تأريخ التشريع عند الجاهليين, ترينا قانونًا سنه الملك لشعب سبأ، أهل "مأرب" وما والاها، في تنظيم البيوع بالمواشي والرقيق. فحدد المدة التي يعد فيها البيع تمامًا، وهي أمد شهر، والمدة التي يجوز فيها رد المبيع إلى البائع، وهي بين عشرة أيام وعشرين يومًا. كما بين حكم الحيوان الهالك في أثناء المدة التي يحق للمشتري فيها رد ما اشتراه إلى البائع، فحددها بسبعة أيام؛ فإن مضت هذه الأيام، وهلك الحيوان في حوزة المشتري وجب عليه دفع الثمن كاملًا إلى

_ 1 التيجان "ص240"، الإكليل "211". 2 التيجان "222".

البائع، ولا يحق له الاعتراض عليه والاحتجاج بأن الحيوان قد هلك في أثناء مدة أجاز له القانون فيها فسخ عقد الشراء1. ويعد النص الموسوم CIH 407 من النصوص المهمة, من الأيام الأولى من أيام حكم "شمر يهرعش". وهو يتحدث عن حرب قام بها جيش "شمر" في شمال غربي اليمن، امتدت رقعتها حتى بلغت اليم, شملت أرض "عسير" و"صبية" "صبا"2, بين وادي "بيش" ووادي "سهام", وهي أرض تهامة, قام بها ضد قبائل "سهرت" "سهرة" و"عكم" "عك" وغيرها. وصاحبه رجل اسمه "أبو كرب"، وهو في درجة "مقتوى" أي: قائد في جيش شمر، وقد أبلى في هذه الحرب بلاءً حسنًا، فقتل ثلاثين من الأعداء، وقتل أسيرين، وغنم فيها كثيرًا3. فقدم من أجل ذلك إلى الإله "المقه ثهون بعل أوم"4 تمثالين من الذهب، وتمثالًا من الفضة؛ لأنه من عليه فأنقذه من مرض أصابه في مدينة "مأرب" مدة ثمانية أشهر، ولأنه من عليه في الحرب التي اشتعلت في "وادي ضمد"، وامتدت حتى موضع الـ"عكوتين" "عكوتنهن" وساحل البحر, وقد انتصرت فيها جيوش "شمر" على جمع من قبائل تهامة عسير. ومن القبائل التي ورد اسمها في هذا النص: "ذ سهرتم"، أي: "ذو سهرت" "ذ سهرتن" "ذو سهرت" "ذو سهرة" "سهرة" "ساهرة" و"دوأت" و"صحرم" "صحار" "صحر" و"حرت" "حرة"5, و"عكم"6. فيتبين من هذا النص أن الملك "شمر يهرعش" سير حملة عسكرية إلى جملة قبائل من قبائل عسير وتهامة حتى ساحل البحر، فانتصرت الحملة عليها، وتعقبت القبائل في البحر، وجرت معارك في وسطه، وأنزلت بالمنهزمين، وهم على أمواج

_ 1 Rep. Epig. 3910, Vi, P.378, Conti Rossini, Ar. Merid., 1931, P.52, Background, P.110, Glaser 542, B. M. 10396 2 Beitrage, S. 119, Le Museon, 1964, 3-4, P.485 3 أغناطيوس غويدي: المختصر في علم اللغة العربية الجنوبية "ص19 وما بعدها". 4 "المقه ثهوان بعل أوَّام". 5 سطر "18 وما بعده". 6 Cih 407, Jamme 649, 650, Jamme, Les Antiquites Sud-Arabes Du Musee Borely, Cahiers De Byrsa 8, 1958/ 9, Pp.151-167, Sabaean Inscriptions, P.369

البحر، خسائر فادحة1. وقد استدل بعض الباحثين من إشارة "أبي كرب" إلى الخسائر التي مُنِيَ بها المنهزمون وهم في البحر، إلى أن أولئك المنهزمين كانوا من الحبش الذين كانوا يحكمون ساحل تهامة، وأن المعركة قد وقعت في البحر الأحمر2. ويقع موضع "عكوتن" "العكوتان"3 شمال "وادي ضمد", وأما "صحار" "صحرم"، فيقيمون اليوم حوالي "صعدة", وأما "سهرتم" "سهرة"، فقبيلة تقع منازلها في تهامة، وربما كانت منازلها من "وادي بيش" في الشمال إلى "وادي سردد" "وادي سردود" في الجنوب, وقد كانت هذه القبيلة على صلات قوية بالحبش في أيام "الشرح يحضب". وقد أدت فتوحات "شمر يهرعش" في هذه الأرضين التي بلغت سواحل البحر الأحمر إلى دخوله في نزاع مع الحبش الذين كانوا يحتلون مواضع من الساحل، ويؤيدون بعض القبائل لوجود أحلاف عقدوها معها4. و"عكم" "عك" من الأسماء المعروفة التي ترد في كتب أهل الأخبار. أما هنا، فإنه اسم قبيلة5. وإلى هذا العهد أيضا تعود الكتابة: Jamme 649 وهي من الكتابات التي تتحدث عن حروب وقعت في أيام "شمر يهرعش". وقد دونها رجل اسمه "وفيم أحبر" "وفي أحبر" "وافي أحبار"، وهو من "حبب" "حبيب" و"هينن" "هينان" و"ثارن" "ثأران" "ثئرآن"، وهم من "عمد" و"سارين" "سأريان" و"حولم", أقيال "أقول" عشائر "صروح" "صرواح" و"خولان حضلم" "خولان حضل" و"هينان". وكان "وفيم أحبر" ضابطًا كبيرًا "مقتوى" عند "شمر يهرعش" "ملك سبأ وذو ريدان"، دونها لمناسبة تقديمه صنمًا "صلم" إلى الإله "المقه" "بعل أوام"

_ 1 Rep. Epig. 189, I, Iii, P.150, Hartwig Derenboug, Les Monuments Sabeens Et Himyartes D'musee D'archeologie De Marseille, In Revue Archeologique, 3, Vol., Xxxv, "1899", P.25 2 Beitrage, S. 119 3 والمفرد "عكوت" "عكوة". 4 Cih 407, Beitrage, S. 119 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.485

لأنه نجاه وحفظه وأعانه في كل المعارك والمناوشات والغزوات "سبات" "سبأت"، التي خاضها لمعاونة "شوعن" سيده الملك، وذلك في "سهرتن ليت" "سهرتان ليت"، و"خيون" "خيوان", و"ضدحن" "ضدحان"، و"تنعم" و"نبعت" "نبعة"، ولأنه ساعده وقواه ومكنه من قتل خمسة محاربين في خلال هذه المعارك، أطار رءوسهم بسيفه، ولأنه مكنه من أخذ أسير، ومن الحصول على غنائم كثيرة، ولأنه أنعم على قبيلته بغنائم كثيرة حصلت عليها من هذه المعارك، وبأسرى جاءت بهم إلى مواطنها, ولأنه عاد معها سالمًا غانمًا معافًى1. وأرض "سهرتن ليت"، هي جزء من أرض "سهرتن"، وتقع غرب "دوت" "دوات" "دوأة", ويسقيها "وادي ليت" "وادي لية". وأما "خيون" "خيوان"، فموضع يقع على وادي "خبش"، في المنطقة المهمة من "حاشد", وهو مدينة تقع في جنوب شرقي "جيزان"، وعلى مسافة "90" كيلومترًا تقريبا جنوب شرقي صعدة، وحوالي "105" كيلومترات شمال "صنعاء"2. وأما موضع "ضدحن" "ضدحان"، فإنه وادي "ضدح" "الضدح" الذي يوازي "وادي أملح"، ويقع إلى الجنوب منه, وعلى مسافة "35" كيلومترًا إلى جنوب شرقي "الأخدود"3. وأما موضع "نبعت" "نبعة"، فإنه "نبعة"، وهو تلال تقع بين وادي "حبونت" "حبونة" ووادي "ثار" "ثأر", وقد يكون موضع "نبعة" المكان الذي يسمى اليوم "مجونة" الذي يقع على مسافة "25" كيلومترًا شمال شرقي "بئر سلوى" وعلى مسافة "63" كيلومترًا من شمال غربي "الأخدود". وإذا كان هذا الرأي الأخير صحيحًا، صار موضع "تنعم" فيما بين "صندحان" و"نبعت" "نبعة"4. وتحدث النص عن معارك أخرى، وقعت بعد المعارك المتقدمة، وقد اشترك

_ 1 Jamme 649, Mamb 223, Mahram, P.151. 2 Mahram, P.369 3 Mahram, P.369, L. Farrer, Sudarabien Nach Al-Hamdani's Beschreibung Der Arabischen Halbinsel, Leipzig, 1942, S. 121, Note 2, H. Von Wissmann, Geographische Grundiagen Und Fruhzeit Der Geschichte Sudarabiens, In Saeculm, 4, "1953", S. 61 4 Mahram, P.369

فيها مدون النص. إذ يذكر "وفيم أحبر" أنه قاتل وأعان سيده "شمر يهرعش" وذلك في وادي "ضمدم" "ضمد"، وأنه ذهب مع سرية لاستطلاع الأخبار عن قبيلة "حرت" "حرة"، وقد قتل خمسة محاربين من محاربي العدو، قطع رءوسهم، وقد كان ذلك أمام سريته، مما ترك أثرًا مهمًّا فيهم. ثم يذكر أنه أصيب في هذه المعارك بخمسة جروح، أصابت وركيه وقدميه وفرسه "ندف". وقد خشي من أن يؤدي الجرح الذي أصاب قدميه إلى قطعهما، وخشي على فرسه كذلك من أن تنفق من الجرح الذي أصابها، غير أن الإله "المقه" لطف به، فشفاه وعافاه وشفى فرسه, وأعاده مع قبيلته التي حاربت معه، إلى موطنه، غانما محملا مع عشيرته بالغنائم وبالأموال التي استلبوها من أعدائهم، وبعدد من الأسرى1. وقد قاتل "وفيم أحبر"، مرة أخرى في وادي "حرب" "حريب"، على مقربة من "قريتهن" "قريتهان" "القريتان"، ثم جاء إليه أمر سيده الملك "شمر يهرعش" بأن يتجه على رأس قوة تتألف من "170" محاربًا من المشاة من عشيرتيه "صرواح" و"خولان", ومن ستة فرسان؛ وذلك لمهاجمة عشائر "عكم" "عك" و"سهرت" "سهرة" ولإنزال ضربة قاصمة بها، فاتجه نحوها، والتقى بها عند "عقبت ذر جزجن" "عقبة ذر جزجان"، وألحق بها خسائر, حاربها من وقت شروق الشمس، وطول النهار وحين اشتدت حرارة الشمس إلى وقت الغروب، وكل الليل حتى طلع "كوكبن ذ صبحن"، كوكب الصبح، فاضطرت إلى الهروب، وعندئذ أدار وجهه نحو فلولها فقتل منها، وقد ذبح محاربًا واحدًا أمام المحاربين، وأخذ أسيرين. وكان عدد من قتل من الأعداء عند المعركة "عقبت ذر جزجن" "عقبة ذر جزجان" مائة وعشرة محاربين، وعدد من وقع في الأسر من المحاربين "46" أسيرًا محاربًا، وعدد من سُبِيَ "2400" سبي، وغنم من الإبل "316" بعيرًا، عدا الماشية الأخرى التي نهبت وأخذت. وإلى هذا العهد أيضا يعود النص: Jamme 650 وصاحبه شخص اسمه "بهل أسعد" "باهل أسعد" من عشيرة "جرت" "جرة" ومن عشيرة

_ 1 من الفقرة "15" إلى الفقرة "24" من النص.

"بدش" أقيال "أقول" عشيرة "ذمرى هوتن" "ذمرى هوتان"، التي تكون ربع قبيلة "سمهرم" "سمهر", وكان ضابطًا كبيرًا بدرجة "مقتوى" عند الملك "شمر يهرعش" "ملك سبأ وذي ريدان". وقد سجله لمناسبة إهدائه معبد "أوام"، وهو معبد الإله "المقه" "بعل أوام" صنمًا، من العُشْر "ابن عشر يعشرن" الذي يعشر من كل زرع ليكون نصيب الإله "المقه ثهوان". أخذه من حاصل زرع الصيف "قيظن" ومن ثمار الجنينات أو الجني "جنين"، وجعله قربة له؛ لكي يمن عليه بالنعم، ويبارك فيه وفي أمواله وفي سيده الملك، ولأنه أسعده وحفظه في كل المناوشات والحروب والغزوات "بكل سبات وحريب سباو" التي خاضها، ولأنه عاون "شوعن" سيده الملك، في المعارك وفي القتال وفي المناوشات التي وقعت بين قوات الملك التي اشترك هو فيها وبين قبيلة "سهرتن" "سهرتان"، والتي انتهت بانتصار "سبأ وذو ريدان"، وعاد الجيش منها محملًا بالغنائم وبالأسلاب وبالماشية التي انتزعت من الأعداء وبالأسرى, وليمن عليه في المستقبل فيعطيه ذرية طيبة "هنام" "هنأم" هنيئة من أولاد ذكور، وليرعاه ويحفظه ويقيه في المعارك التي سيخوضها من أجل سيده الملك1. فيظهر من هذا النص أن "بهل أسعد"، كان يتحدث عن المعارك والمناوشات التي وقعت في أرض "سهرتن" "سهرتان" "سهرة"، بين الملك "شمر يهرعش" وبين رجال قبيلة "سهرتن" العاصية التي مر اسمها مرارًا فيما سبق في عداد القبائل الثائرة المحاربة لحكومة سبأ، والتي كانت قد مُنيت بخسائر كبيرة ومع ذلك فإنها لم تترك عداءها لملوك مأرب. وفي النص: Jamme 651 أخبار مهمة سجلها لنا رجل اسمه "عبدعم" من "مذرحم" "مذرح"، ومن "ثفين" "ثفيان"، وكان من كبار ضباط "مقتوى" جيش الملك "شمر يهرعش". وقد ذكر أنه أهدى معبد "أوام" صنما "صلمن"، وهو معبد الإله "المقه"؛ لأنه من عليه وشمله بلطفه وفضله، إذ أعانه وأعان من كان معه من رجال عشيرته "شعبهو" ومن أتباعه ومحاربيه الذين كانوا معه ومن انضم إليه من أهل البيوتات ومن سواد الناس "محقر" "حقراء"، من أبناء البيتين المتصاهرين: "همدان" و"بتع"،

_ 1 Jamme 650, Mamb 200, Mahram, P.153

إذ أمره سيده الملك بأن يذهب بهم إلى "مأرب" "مريب"؛ ليحميها ويقيها من الأمطار التي ستتساقط في اليوم التاسع من يوم موسم سقوط المطر المعهود "وذنم ذنم بيوم تسعم عهدتن"، وفي أوائل أيام الشهر، وفي أيام الموسم الثاني من سقوط المطر، وقد أمره الملك بأن يقوم بهذا الواجب، حتى شهر "أبهى"1. وقد حمد صاحب النص إلهه "المقه" لأنه وحد بين البيتين: بيت "همدان" وبيت "بتع"، ولأنه أعانه في القيام بعمله الذي كلف به، فكافح وهو على رأس جيش "خمس" "خميس" سبأ ومن كان معه لبناء سور وحصون "مأرب" وفي إقامة حواجز وموانع وسدود لتحول بين السيول وبين اكتساحها المدينة، وفي إنشاء مبانٍ وأحواض "مضرفن" في جهة "طمحنين" "طمحنيان"، حتى تمكن من إنجاز كل ما كلف به، دون أن يخسر جنديا واحدا من الجنود الشجعان الذين كانوا من جنود "كبر رحلم" كبير "رحلم" "رحال"، فأرضى بذلك سيده الملك وشرح صدره. وتوسل بعد ذلك إلى الإله "المقه" لكي يقيه من كل "باس" "بأس"، أي: من كل أذًى وشر، ولكي يرفع من منزلته وينال الرضا والحظوة عند سيده الملك, ويمنحه غلة وافرة وثمارًا كثيرة من ثمار الصيف والخريف في كل مزارعه, وتوسل إليه أيضا بأن يبعد عنه كل نكايات "نكيتن" الأعداء. ويشير هذا النص إلى سقوط أمطار غزيرة في ذلك الموسم، هددت مدينة "مأرب"، فأمر الملك الشخص المذكور بأن يقوم على رأس قوة من جيش سبأ ومن كبار "همدان" و"آل بتع"، بتقوية سور مأرب وتحصينه وحمايته من مداهمة السيول له، وبإنشاء سدود وموانع لمنع الأمواج العاتية من اكتساح مأرب والأماكن الأخرى, وذلك بمن جمعهم من الناس من سوادهم ومن ساداتهم؛ للقيام بهذه الأعمال, ولمنع المسخرين الذين سخروا من الفرار، وقد وضع الملك جيشًا تحت تصرف هذا القائد، في جملته مفرزة من جنود الكبير "كبر رحلم" "كبير رحلم" "رحال". وسجل شقيقان كانا من "حظرم عمرت" "حظرم عمرة"، ومن ضباط "مقتوى" الملك "شمر يهرعش" حمدهما وشكرهما في كتابتهما التي وسمها الباحثون

_ 1 Jamme 651, Mamb 108, Mahram, P.155

بـ Jamme 652، للإله "المقه"؛ لأنه من على سيدهما بالعافية وبالبركة وأوفى له ما أراد، ولأنه رفع حظوتهما عنده وزاد في رضاه عنهما, وليرعاهما ويحفظهما في أيام الحروب وفي أيام السلم، ويقيهما أذى الأشرار وحسد الحساد، ولكي يعاونهما ويشد الإله أزرهما في إرضاء سيدهما، ويبارك في قصره، أي: قصر الملك "سلحن" "سلحين" "سلحان"1. ويحدثنا النص: Jamme 653 بحمد "سباكهلن"، أي: "سبأكهلان" لربهم "المقه" وشكرهم له؛ لإفضاله وإنعامه عليهم، بأن استجاب لدعائهم، فأمطرهم بوابل من رحمته، وأنزل الغيث عليهم وذلك مع برق "برق خرف" الخريف، أي: موسم أمطار الخريف، الذي تساقط عليهم سنة "تبع كرب بن ودال" "تبعكرب بن ودايل" من "حزفرم" "آل حزفر" الثالث. وقد استبشروا به وسُروا, وسألوا ربهم "المقه" وذلك في اليوم الرابع من ذي "فقهى"، شهر ذي "مليت" الذي هو من أشهر الخريف "ذ منذ خرفن"، بأن ينزل عليهم غيثًا يسقي أوديتهم ويكفي زرعهم، غيثًا يرضيهم ويسرهم ويثلج صدورهم، وبأن ينال أهل "سبأكهلان" رضا سيدهم "شمر يهرعش" ويرفع من حظوتهم "حظى" عنده2. وقد كتب النص المذكور بمدينة "مأرب"، قبل ثلاث سنوات من الكتابة المرقمة بـCIH 314 + 954 التي يخلد فيها "الشرح يحضب الثاني" وأخوه "يأزل بين" "يازل بين" "يزل بين" انتصارهما على السبئيين, وطردهما "شمر يهرعش" من مأرب3. وذكر جماعة من "عقبم" "عقب" "عاقب" "عقاب"، بأنهم أهدوا معبد "أوام" صنمًا "صلمن"؛ وذلك حمدًا للرب "المقه" وشكرًا له لأنه رزقهم ولدًا ذكرًا، ولكي يرزقهم أولادًا ذكورًا، ولكي يبارك فيهم وفي أموالهم ويرضي سيدهم "شمر يهرعش" عنهم ويرفع من منزلتهم وحظوتهم عنده، ولكي يبارك في زرعهم ويعطيهم غلة وافرة وحصادًا جيدًا4.

_ 1 Jamme 652, Mamb 161, Mahram, P.157 2 Jamme 653, Mamb 220, Mahram, P.158 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.476 4 Jamme 654, Mamb 31, Mahram, P.159

ويذكر "شرح ودم" "شرحودم" "شرح ودّ"، و"رشدم" "رشيدم" "راشد" "رشيد"، وهو بدرجة "وزع" "وازع"، أي: سيد قبيلة "ماذن" "مأذن"، أنهما قدما صنمًا إلى الإله "المقه ثهوان"؛ لأنه أوحى إلى قلبهما بأنه سيمنحه ولدًا "رشدم" ولذا يسميه "ودًّا" وذلك من زوجته "أثتهر" "حلحلك", وأنه سيعطيه مولودًا غلامًا "غلمم"، عليه أن يسميه "مرس عم" "مرسعم"1، وأنه سيرزق عبده "شرح ودم" ولدًا ذكورًا، وأنه سيمنحهما غلة وافرة وحصادا جيدا، وأنه سيرفع من مكانتهما عند سيدهما الملك، وسيبارك في زرعهما وفي زرع قبيلتهما، وذلك في موسمي الصيف والخريف2. وفي النصف الثاني من سني حكمه، تلقب "شمر يهرعش الثالث"، أي "شمر يهرعش" الذي نبحث فيه الآن بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"3. وتدل هذه الإضافة الجديدة إلى اللقب، على استيلاء "شمر يهرعش" على حضرموت، أو على جزء كبير منها4. أما "يمنت" فيرى "فون وزمن" أن المراد بها الأرضون التي تكون القسم الجنوبي من مملكة "حضرموت", ويستدل على رأيه هذا بوجود عاصمتين لحضرموت، هما: "شبوة" و"ميفعة"، مما يدل على انقسام المملكة إلى قسمين: قسم شمالي يدعى حضرموت، وقسم جنوبي يعرف بـ"يمنت" "يمنات" اليمن5. ويقع النصف الثاني من حكم "شمر يهرعش" في رأي "فون وزمن"، ما بين "285ب. م." أو "291ب. م." أو "310ب. م." أو "316ب. م." ومعنى هذا في رأيه أن "شمر" كان يعاصر "امرأ القيس بن عمرو" المذكور في نص النمارة, المتوفى سنة "328م" والذي حارب وأخضع قبائل عديدة، منها: مذحج ومعد وأسد "أسدين" ونزار "نزرو"، ووصل إلى "نجران" عاصمة "شمر"6. وقد يعني ذلك أن حروبًا نشبت بين الملكين.

_ 1 يعود الضمير إلى "رشدم"، كما يظهر من النص. 2 Jamme 655, Mamb 253, Mahram, P.160 3 Cih 431, Cih, Iv, Ii, Ii, P.120, Cih 430, 438, Glaser 1050, Le Museon, 1964, 3-4, P.485 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.485 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.485 6 "الأسدين" "أسدين" في النص، Rep. Epg. 483, F. Altheim, Geschichte Der Hunnen, I, 1959, S. 127 Le Museon, 1964, 3-4, Pp.456, 486

ولم يشر نص "النمارة" إلى بقية اسم "شمر"؛ لنعرف من كان ذلك الملك الذي كان يحكم في ذلك الزمان، والذي كانت مدينة "نجران" مدينته إذ ذاك. ويظهر من هذا النص أن قتالًا نشب بين قوات "امرئ القيس" و"شمر" صاحب نجران، وأن النصر كان لامرئ القيس1. وإذا كان ما ذهب إليه "فون وزمن" صحيحًا من معاصرة "امرئ القيس" لـ"شمر يهرعش"، فإن هذا يعني أن جزيرة العرب كانت في ذلك الزمن أي: في أوائل القرن الرابع للميلاد، ميدانًا للتسابق بين رجلين قويين: "شمر يهرعش" وهو من العربية الجنوبية، و"امرئ القيس" وهو من الشمال، وأن العرب كانوا قد انقسموا إلى حزبين: عرب شماليين وعرب جنوبيين، وأن "امرأ القيس" كان قد توغل في جزيرة العرب حتى بلغ "نجران" وأعالي العربية الجنوبية، وأخضع القبائل المذكورة لحكمه, وهي قبائل يرجع النسابون نسب أكثرها إلى "عدنان"، وفي جملتها "الأسدين" أي: "أسد" و"نزار" "نزرو". هذا، وإن وصول "امرئ القيس" إلى نجران، وإخضاعه للأعراب ولقبائل عدنانية يقيم بعضها على حدود العربية الجنوبية الشمالية، جعله أمام "شمر يهرعش"، ووضع مثل هذا لا بد من أن يثير نزاعًا وخصومةً بين الرجلين. ولا يستبعد اصطدام "امرئ القيس" بـ"شمر يهرعش"، أو بأي ملك آخر ملك "نجران"، ما دام ذلك الملك قد حكم قبائل "معد" النازلة في الحجاز وفي نجد والتي تتصل منازلها بحدود نجران. وقد خضعت "معد" لحكم ملوك الحيرة، كالذي يظهر من نص كتاب "شمعون" الذي هو من "بيت أرشام" Simeon Of Beth Arsham، حيث ذكر "طيايا حنبا "حنفا" ومعدايا" في معسكر "المنذر" الثالث ملك الحيرة. و"طيايا" هم الأعراب الشماليون و"معدايا" هم "معد". وكما يفهم أيضا من نص "مريغان"2. ويرى بعض الباحثين أن "مرالقس بن عمرم ملك خصصتن" الذي ورد اسمه في النص: Ryckmans 535 الذي سبق أن تحدثت عنه في أثناء كلامي على "الشرح يحضب"، وأخيه "يأزل بين"، هو "امرؤ القيس" البدء، ملك

_ 1 Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.81 2 Ryckmans 506, Die Araber, Ii, S. 321

الحيرة, ويرى أيضا أن "شمر ذي ريدان" المذكور في النص أيضًا، هو "شمر يهرعش". وبناء على ذلك يكون "مالك" ملك "كدت" كندة من المعاصرين لامرئ القيس, ولشمر يهرعش أيضًا1. إننا لا نملك أي نص يشير إشارة صريحة إلى حدوث قتال بين "شمر يهرعش" و"امرئ القيس", غير أن لدينا نصًّا هو النص المعروف بـJamme 658، يرى بعض الباحثين أن فيه تلميحًا إلى أن الحرب المذكورة فيه، هي حرب نشبت بين قوات الرجلين، وأن القائد المذكور فيه، أعني القائد "نشدال" "نشد إيل"، هو قائد عربي شمالي، ويحتمل على رأيهم أن يكون قائدًا من قواد جيش "امرئ القيس". ويظهر من النص أن قوات "شمر يهرعش" كانت قد تجمعت في مدينة "صعدتم"، أي: مدينة "صعدة" في "خولان" العالية، أي: الشمالية "خولان أجددن"2، ثم تقدمت منها نحو الشمال الغربي إلى حدود "خولان" القديمة في "وادي دفاء"، حيث حاربت القبائل المجاورة قبائل "شنحن" "شنحان" الساكنة في الغرب, ثم نزلت من مساكنها إلى أرض "سهرتن" "سهرتان" ثم اجتازت هذه الأرض إلى وادي "بيش"، وهي الحدود القديمة للعربية الجنوبية، ثم تقدمت منها نحو الشمال إلى "وادي عتود" الذي يقع في الأرض المسماة بـKinaidokoltitai عند الكلاسيكيين. وفي هذه الأرض اصطدمت قوات "شمر" بقوات "نشد إيل" القائد المذكور3. ويظهر من نص عثر عليه منذ عهد غير بعيد, أن قائدًا من قواد "شمر" كان قد قاد أعرابًا غزا بهم ملك "أسد"، وأرض "تنخ" "تنوخ" التي تخص "الفرس" "فرس"، أي: "فارسًا". وذكر أن أرض "تنخ" "تنوخ"، كانت تحت حكم مملكتين، يقال لإحداهما "قطو"، وللأخرى "كوك" أو "كوكب"، وقد أنزل أعراب "شمر" بهما خسائر فادحة. ثم عاد ذلك القائد بعد نجاحه في غزوه هذا صحيحًا معافًى إلى نجران، حيث قدم إلى الآلهة

_ 1 Die Araber, Ii, S. 322, Le Museon, 69, "1956", Pp.139, 152, Pirenne, Le Royaume Sud Arabe, 30, 166, 168, Die Araber, Iv, S. 272 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.486 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.487

شكره، وسجل ذلك في النص المذكور1. وقصد القائد بأرض "تنخ" أرض الأحساء في الزمن الحاضر، وكانت منزل قبائل "تنوخ" في ذلك الزمن. وقصد بـ"قطو" "قطوف" "القطيف" Qtw'f وفي إشارة القائد إلى مهاجمة تلك الأرضين، أي أرض تنوخ، التي كانت تحت سيادة "فرس"، أي الفرس الساسانيين، تأييد لروايات الأخباريين التي تذكر أن "شمر يهرعش" "شمر يرعش" غزا أرض الفرس2. هذا ولا بد من أن يكون "شمر" قد كان على اتفاق تام مع أعراب نجد، ولا سيما سادة "كدتم" "كدت"، أي: كندة في ذلك الزمن؛ إذ كان من العسير عليه غزو الأحساء وساحل الخليج، لو لم يكن على صلات بهم حسنة, وقد كان هؤلاء الأعراب ينزلون فيما يسمى الأفلاج والخروج في الزمن الحاضر. وتعد الأفلاج من مواطن "كدت" كندة منذ زمن "شعرم أوتر" "شعر أوتر" في حوالي السنة "180م"، وقد عبر عنهم بـ"ذال ثور" أي "ذي آل ثور" في النص Jamme 635، وكذلك في زمن "الشرح يحضب الثاني" في أثناء حكمه مع "يأزل"3، أي في حوالي السنة "210ب. م."4. وربما قبل ذلك أيضا حيث نجد في تاريخ "بلينيوس" ما يشير إليهم، إذ ورد في تأريخه:Dae Aiathuri Fons Aeunuscabales، ويمكن تفسيرها بـ"ذي آل ثور في عين الجبل"5, و"آل ثور" هم كندة، وقد عرفوا بهذا النسب عند أهل الأخبار. والنص المذكور، هو نص وسمه العلماء بـ"شرف الدين 42". وقد ورد فيه أن الملك "شمر يهرعش" أمر قواته بغزو أرض "ملك" "مالك" ملك "أسد" "ملك أسد". فتقدمت نحوها، واتجهت منها نحو أرض "قطوف"، أي القطيف، حتى بلغت موضع "كوكبن" "كوكبان" "كوكب" ثم "ملك فارس وأرض تنخ" "ملك الفرس" أي: "الأرض التابعة للفرس"

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.487 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.487 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.487 4 وذلك بحسب تقدير "فون زمن"، راجع.Le Museon, 1964, 3-4, P.488 5 Pliny, Vi, 158, Le Museon, 1964 3-4, P.488

وأرض تنوخ. وقد دون النص قائدان من قواد "شمر يهرعش"، كانا من "ريمن ذ حزفرم"، أي: من "ريمان ذوي حزفر"، ومن "عنن" "عنان", وذلك بعد عودتهما سالمين غانمين من ذلك الغزو1. وقد كانت "مذحج" تنزل في الأفلاج أو حولها وفي المنطقة المسماة بـ"جبل طويق" في الزمن الحاضر. والظاهر أن غزو "امرئ القيس" لنجد قد اضطر أكثر قبائل "مذحج" إلى الهجرة نحو الجنوب, وكانت حسنة الصلات بـ"كدت" أي كندة، التي اضطرت أيضا إلى الهجرة إلى الجنوب؛ ولهذا انضمتا إلى جيوش "شمر يهرعش"، وإلى جيوش من جاء بعده من الملوك, وقد أشير إليهما في الكتابات بـ"كدت ومذحجم"2. وقد أدت هجرة كندة ومذحج وبقية أعراب نجد إلى الجنوب نتيجة لغزو العرب الشماليين لهم إلى استيطان قسم كبير منهم في العربية الجنوبية، ودخولهم في جيوش ملوك حمير؛ وذلك لتهديد أعدائهم بهم، إذ كانوا أعرابًا أشداء، يحبون الغزو والقتال، حتى صاروا قوة رادعة مخيفة، ولهذا السبب أدخل اسمهم في لقب الملوك كما سنرى فيما بعد. ومن جملة القواد الذين تولوا قيادة الأعراب، أو الكتائب الخاصة التي ألفها التبابعة منهم، قائد اسمه "وهب أوم" "وهب أوام"، وكان من قادة "شمر يهرعش"، وقائد اسمه "سعد تالب يتلف" "سعد تألب يتلف"، وكان في أيام "ياسر يهنعم الثالث" وابنه "ذرأ أمر" وذلك على رأي "فون وزمن"3. إننا لا نعرف حتى الآن كيف استولى "شمر يهرعش" على حضرموت, وكيف ضمها إلى سبأ؛ إذ لم نتمكن من الظفر بكتابة فيها حديث عن كيفية قضاء "شمر" على استقلال تلك المملكة. وعلمنا بضم حضرموت إلى سبأ، مقتبس من اللقب الجديد الذي لقب "شمر" به نفسه على نحو ما ذكرت4. وقد رأى بعض الباحثين أن سقوط "شبوة" وتدميرها في قبضة قوات "شمر" كان في القرن الرابع للميلاد وقبل استيلاء الحبش على العرببة الجنوبية بزمن قصير5.

_ 1 Sharaffadin 42, Le Museon, 3-4, 1967, Pp.505, 508 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.488, Jamme 660, 665, Ryckmans, 510 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.489 4 Glaser 1050, Beitrage, S. 116 5 Beitrage, S. 144

ذهب "ريكمنس" إلى أن الحبش احتلوا العربية الجنوبية حوالي السنة "335" بعد الميلاد، ودام احتلالهم هذا لها إلى حوالي السنة "370م"، ولم يذكر من حكم بعد "شمر يهرعش"، غير أنه وضع "ملكيكرب يهأمن" في نهاية احتلال الحبش لليمن، أي: بعد سنة "370م"، ووضع لفظة "حسن" في قوس قبل "ملكيكبرب يهأمن" ثم ذكر بعد "أب كرب أسعد" "ذرأ أمر أيمن"1. وفي النص Jamme 656 خبر حرب وقعت بين "شمر يهرعش" وحضرموت, وقد لقب "شمر يهرعش" فيه بلقبه الجديد: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت", وذكر أن حضرموت كانت إذ ذاك تحت حكم ملكين, اسم أحدهما: "شرح ال" "شرح إيل" "شرحئيل"، واسم الآخر "رب شمس" "ربشمس" "رب شمسم". وزعم أن الملكين المذكورين هما اللذان أعلنا "هشتا" الحرب على الملك "شمر يهرعش"، غير أن النص لم يتحدث، كعادة النصوص, إلى الأسباب التي حملت الملكين على إعلان تلك الحرب2. وقد ذكر أن عاقبتها كانت سيئة بالنسبة لحضرموت؛ إذ خسرت فيها، وأن الحرب كانت قد وقعت في "سررن" "سرران"، وأن أصحاب النص وكانوا من "سباكهلن" "سبأكهلان"، عادوا مع عشيرتهم من تلك الحرب سالمين غانمين. وقد قدموا عُشر حاصل غلتهم من زرع أرضهم بـ"رحبتن" "رحابتان" "رحبتان"، للإله "المقه" ليبارك فيهم ويديم نعمه عليهم ويزيد مكانتهم عند سيدهم "شمر يهرعش، ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" ولكي يعطيهم غلة وافرة وحصادًا طيبًا هنيئًا. وقد شهد أصحاب هذا النص المعركة أو المعارك التي جرت في وادي "سررن" السر، وهو وادٍ يقع على مسافة سبعة كيلومترات من مدينة شبام، ويعرف بـ"وادي سر" "وادي السر", ولم يتحدثوا عن معارك أخرى, مما يدل على أنهم لم يشتركوا في غير هذه المعركة، وأنهم عادوا بعدها مع قبيلتهم التي أسهمت في القتال إلى مواطنهم. وفي النص: Jamme 662 خبر مهم له علاقة وصلة بالنص السابق وبالعلاقات

_ 1 J. Ryckmans, L'institution, P.338 2 راجع السطر 11 من النص: Jamme 656, Mamb 135, Mahram, PP.161, 371

فيما بين سبأ وحضرموت في هذا العهد. خبر يفيد أن "شبوت" "شبوة" كانت في أيدي السبئيين في هذا العهد، وأن الملك "شمر يهرعش" "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، كان قد عين "يعمر إشوع" "يعمر أشوع"، وهو سيد "وزع" من سادات "سبأ"، على مدينة "شبوة"، عينه عليها لحمايتها وللمحافظة على الأمن فيها، وقد ذهب إليها ومعه قوم من "سبأ". وقد سر "يعمر أشوع" بالطبع بهذا التعيين وشكر ربه "المقه" على هذا التوفيق العظيم الذي حصل عليه بفضله1. فيظهر من هذا النص أن "شبوة" وهي عاصمة حضرموت، كانت في أيدي "شمر يهرعش"، قبل اختيار "يعمر أشوع" ليكون حاكمًا عليها، ومعنى هذا أن جزءًا من حضرموت كان قد أصبح في جملة أملاك سبأ، وهذا ما حمل "شمر يهرعش" على إلحاق جملة "وحضرموت ويمنت" إلى لقبه السابق، وهو "ملك سبأ وذو ريدان". غير أن السبئيين لم يكونوا قد استولوا على كل مملكة حضرموت، بدليل ما ورد في النص السابق من وجود ملكين كانا يحكمان حضرموت وهما: "شرح إيل" و"ربشمس" "رب شمس". ويظهر أن "شرح أيل" هذا هو الملك "شرح إيل" "شرحئيل" المذكور في النص CIH 948. أما الملك "ربشمس" هذا, فهو ملك آخر لا صلة له بـ"ربشمس" الذي هو ابن الملك "يدع إيل بين" ملك حضرموت ووالد ملك آخر اسمه "يدع إيل بين" كذلك2. ويتبين من النص: CIH 948 -وهو نص فيه أمور غامضة غير مفهومة، وعبارات غير واضحة، أمر الملك "شمر يهرعش" نفسه بتدوينه- أن الملك المذكور حارب الملك "شرح ال" "شرحئيل" "شراحيل" "شرح إيل" ملك حضرموت، وأنه انتصر عليه انتصارًا كاسحًا. ويظهر أن الملك "شمر يهرعش" اضطر إلى قيادة حملة جديدة على حضرموت؛ لأن الحضارمة انتهزوا فرصة عودة الملك "شمر يهرعش" إلى سبأ، وعودة معظم جيشه معه، سوى الحاميات التي تركها في بعض المدن والمواضع مثل "شبوة" التي مر ذكرها،

_ 1 Jamme 662, Mamb 98, Mahram, P.167, Mamb 91, 96 2 Mahram, P.372

فثاروا على السبئيين، ثاروا بقيادة الملك "شرح إيل" الذي مر ذكره؛ مما حمل الملك "شمر يهرعش" على الإسراع بالاتجاه نحو حضرموت للقضاء على الثورة1. ويظهر من هذا النص ومن النصوص الأخرى أن الحضارمة وإن اندحروا وأُصيبُوا بهزائم في هذه المعارك, إلا أنهم لم يتركوا النضال في سبيل الاستقلال وفي سبيل التخلص من حكم سبأ، وأن ما تذكره النصوص السبئية من أخبار الهزائم الفادحة والانتصارات الباهرة, هي من قبيل المبالغات في غالب الأحيان. ويلاحظ أن النص المذكور، قد أغفل اسم الملك الثاني "ربشمسم" "رب شمس" الذي كان يشارك "شرح إيل" في حكم حضرموت, ولا ندري بالطبع سر إغفال اسمه منه. كما يلاحظ أيضا أنه سمى الملك بـ"شمر يرعش" بدلًا من "شمر يهرعش" كما يرد في كل النصوص الباقية2, ويلاحظ أن الأخباريين لا يسمون هذا الملك إلا بـ"شمر يرعش". وبعد أن عاد الملك "شمر يهرعش" من حملته على وادي حضرموت، عاد فقاد حملة أخرى على أرض "أرض خولان الددن" "أرض خولن الددن", "خولان الدودان". وقد كلف الملك أحد قواده بأن يعسكر في مدينة "صعدة" "بهجرن صعدتم"، ويضع بها حامية, ثم يقوم بقطع الطريق على بعض فلول "خولان الدودان"، وقد نفذ القائد ما طلب منه، فتعقب تلك الفلول. ولما أنهى الملك الحرب التي قام بها في أرض "خولان الدودان" حارب جيشه فلول "سنحن" "سنحان" في وادي "دفا", وقد مَنَّ الإله "المقه" عليه، فأعطاه غنائم وأسرى وسبايا وأموالًا طائلة، أرضته وشرحت صدره3. وعاد الملك "شمر يهرعش" فأصدر أمره بوجوب الزحف على "سهرتن" "سهرتان" و"حرتن" "حرتان"، أي: أرض قبيلة "حرت" "حرة"4. وهي أرض ورد اسمها قبلًا، حيث سبق للملك أن زحف عليها، وذلك قبل استيلائه على حضرموت. ولما انتهت القوات من مقاتلة "سهرتن" و"حرتن"، اتجهت نحو الشمال لمحاربة فلول "نشدال" "نشد إيل" في وادي "عتود"،

_ 1 Mahram, P.373 2 Mahram, P.373 3 Jamme 658, 659, Mamb 182, 244, Mahram, P.163 4 السطر 19 فما بعده حتى السطر 21 من النص.

الذي يصب في البحر الأحمر، والذي يقع على مسافة "85" كيلومترًا إلى الشمال الغربي من "جيزان". وتقع مدينة "جيزان" حوالي ثمانية كيلومترات إلى الشمال الشرقي من مصبه في البحر1. ويتحدث نص وسم بـJamme 660، عن غارة قام بها رجل اسمه "حرثن بن كعبم" "الحارث بن كعب"، ورجل آخر اسمه "سددم بن عمرم" "سداد بن عمرو" "سدد بن عمر"، وكانا "جرينهن"، وقد تعني اللفظة منزلة من المنازل الاجتماعية، ومعهما محاربان من محاربيهم هما: "نخعن" "النخع" "نخعان" و"جرم"، على "ذخزفن" بمدينة مأرب "هجرن مرب"، فحققوا ما أرادوا ثم خرجوا من "مأرب" ومعهم "يعمر" سيد "وزع" سبأ. فأمر الملك "شمر يهرعش" أحد رجاله واسمه "وهب أوم" "وهب أوام"، بأن يقتفي آثار الجناة ويقبض عليهم, فخرج إليهم وتعقبهم وقبض عليهم، وجاء بهم إلى الملك حيث عرضهم عليه في قصره "سلحن" "سلحين" "سلحان" بمدينة مأرب2. وكان "وهب أوم"، الذي تعقب الجناة وقبض عليهم، من كبار الموظفين في حكومة "شمر يهرعش"، وكان بدرجة "كبر" أي: "كبير" وهي درجة رفيعة في الحكومة تعني أن صاحبها موظف من أكبر الموظفين في الدولة، وأن الملك عينه ممثلًا عنه لإدارة المقاطعات. وقد وضعت تحت تصرف هذا الكبير إدارة ثماني مقاطعات وقبائل هي: "حضرموت" و"كدت" "كندة" و"مذحجم" "مذحج" و"بهلم" "باهل" و"حدان" "حدأن" و"رضوم" "رضو" و"إظلم" "أظلم" و"إمرم" "أمرم"3. والأسماء الأولى هي أسماء قبائل معروفة؛ معروفة عند أهل الأخبار كذلك, ولا يزال بعضها معروفًا حتى اليوم. وشخص تناط به إدارة هذه القبائل والأرضين، لا بد وأن يكون من الموظفين الأكْفَاء في عهد "شمر يهرعش". ويظهر من تسلسل أسماء المواضع والقبائل،

_ 1 Mahram, P.373 2 Jamme 660, Mamb 156, Mahram, P.164 3 راجع الأسطر 2-4 من النص.

أنها كانت متجاورة يتاخم بعضها بعضًا؛ إذ لا يعقل إدارة شخص في ذلك الوقت مقاطعات متفرقة, وقبائل متباعدة من الوجهة الإدارية. ويشير هذا النص إلى نوع من التنظيم الإداري الذي كان في حكومة سبأ في أيام هذا الملك1. ويعد النص: Jamme 657 من النصوص التي تعود إلى هذا العهد أيضا. وهو نص دونه شخص من "مرحبم" أي: "مرحب", لمناسبة تقديمه ثلاثة أصنام إلى ربه "المقه ثهوان"؛ لأنه أجاب طلبه ومَنَّ عليه بتحقيقه كل ما سأله من رجاء وتوسلات, ولكي يحقق كل ما سيطلبه من مطالب؛ من إعطائه ثمارًا كثيرة من كل مزارعه، ومن حمايته وحفظه من كل سوء، ومن رجائه في أن يحظى بمكانة محمودة عند ملكه2. والنص: Jamme 661، هو كذلك من النصوص التي تعود إلى هذا العهد. وقد كتبه جماعة لمناسبة شفائهم من مرض خطير كاد أن يقضي عليهم، أُصيبُوا "مرضو" به في مدينة "ثت" "ثات"، فلما شُفُوا منه، حمدوا ربهم "المقه ثهوان" "بعل أوام"؛ لأنه من عليهم إذ شفاهم وحفظهم، وتوسلوا إليه أيضًا بأن يعطيهم القوة والمنعة، وبأن يمنحهم غلة وافرة ويبارك في زرعهم، ويبعد عنهم أعداءهم وشانئيهم بحق "المقه ثهوان"3. وقد استنتج "جامه" من النص: CIH 353، أنه قد كان للملك "شمر يهرعش" شقيق اسمه "ملكم" "ملك" "مالك"، وقد سقط لقبه من هذا النص, وقد استنتج منه أيضًا أنه كان قد حكم مع أخيه "شمر" وشاركه في الحكم. ولم يرد اسم "ملكم" هذا في نص آخر؛ لذلك لم يدخل أكثر الباحثين في العربيات الجنوبية اسمه في عداد ملوك سبأ وذي ريدان4. وقد وضع "فلبي" اسم "يرم يهرحب" بعد "شمر يهرعش" وقال: إن من المحتمل أن يكون أحد أبناء "شمر"، وقد جعل حكمه في حوالي

_ 1 Mahram, P.372 2 Jamme 657, Mamb 216, Mahram, P.162 3 Jamme 661, Mamb 242, Mahram, P.166 4 Mahram, P.362

السنة "310ب. م."1. أما "فون وزمن"، فجعل من بعده ولدًا له سماه "ياسر يهنعم"، ولقبه بالثالث؛ ليميزه عن "ياسر يهنعم" والد "شمر يهرعش"، وعن "ياسر يهنعم" الأول الذي عاش قبله2. وأما "ريكمنس", فذهب إلى أن "ياسر يهنعم" هذا لم يكن ابنًا لـ"شمر يهرعش"، بل كان أباه، وقد حكم مع ابنه في بادئ الأمر حكمًا مشتركًا، ثم انفرد ابنه بالحكم وأخذه لنفسه إلى أن مات، فعاد الحكم إلى أبيه "ياسر يهنعم" فأشرك "ياسر" هذا ابنه "ثارن أيفع" "ثأران أيفع" في الحكم، ثم أشرك ابنه الآخر "ذرأ أمر أيمن" معه في الحكم أيضا. ويعارض "فون وزمن" هذا الرأي، إذ يراه تفسيرًا غريبًا لا مثيل له في الحكم، ويقتضي أن يكون عمر "ياسر" إذن عمرًا طويلًا جدًّا3. وقد جعل "فون وزمن" حكم "ياسر يهنعم" الثالث وابنه "ثارن أيفع" فيما بين السنة "310" و"320" للميلاد. ثم ذكر اسم "ثارن يركب" "ثأران يركب" من بعدهما, وقد جعل زمانه فيما بين السنة "320" و"330" للميلاد4. ثم وضع "فون وزمن" أيام حكم "ياسر يهنعم الثالث" وابنه "ذرأ أمر أيمن" في النصف الأول من القرن الرابع للميلاد، في حوالي السنة "330" بعد الميلاد و"336" بعد الميلاد. وإذا كان هذا الافتراض صحيحا أو قريبا من الصحيح، فإنه يكون قد عاصر أو أدرك أيام "قسطنطين الكبير" "313-337ب. م."5. ويظهر من ذلك أن "فون وزمن" عاد, فأعاد الحكم إلى "ياسر يهنعم" الثالث إلا أنه قرن حكمه هذا مع حكم ابن آخر له هو "ذرأ أمر أيمن". وأما "جامه"، فقد ذهب مذهب "ريكمنس" في أن "ياسر يهنعم", الذي وضع هو أيضًا اسمه بعد اسم "شمر يهرعش", هو والد "شمر يهرعش"

_ 1 Background, P.143 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.489 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.489, Note 165, Von Wissmann, Zur Geschichte, S. 200, 407 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.498

وقد حكم بعد ابنه "شمر" بسبب حادث لا نعرف سببه، حكم مع ابن له حكمًا مشتركًا، ثم حكم مع ابن آخر له، حكم مع "ذرأ أمر أيمن" من حوالي السنة "305" وحتى السنة "320" للميلاد تقريبًا، ثم حكم مع ابنه الآخر "ثارن أيفع" "ثأران أيفع" من حوالي السنة "320" وحتى السنة "325" للميلاد تقريبا1. ويرى "جامه" أن تولي الأب الحكم بعد الابن ليس بحادث مستغرب، فهنالك أمثلة لعودة الآباء إلى الحكم بعد حدوث شيء لأبنائهم، وعودة "ياسر يهنعم" إلى الحكم بعد "شمر" هو مثل من تلك الأمثلة. ثم إن اسم "ياسر يهنعم" هو نفس اسم والد "شمر"؛ لذلك يرى "جامه" أنه هو والد "شمر" نفسه وأنه حكم مع أولاده مرارًا2. وعندي أن في رأي "جامه" هذا تكلفًا وتصنعًا، واتفاق اسمين لا يدل حتمًا على أن الاسمين لمسمًّى واحد، وإن كان الزمن متقاربًا. ثم من يثبت لنا أن "ياسر يهنعم" الذي يرد اسمه في النصين: Jamme 664 وJamme 665 هو "ياسر يهنعم" الأول والد "شمر يهرعش", لا سيما وأن لقب "ياسر يهنعم" في النصين يختلف عن لقب "ياسر" والد شمر؟ وفي افتراض أخذ "ياسر" لقبه الجديد من اللقب الذي أحدثه ابنه في أيامه، تكلف بَيِّن واضح لا يؤيده أيضا دليل، ثم إن تصور اشتراكه في الحكم مع أربعة أولاد، هو تصور غريب أيضا؛ ولذلك أرى أن "ياسر يهنعم" هذا هو شخص آخر، وليس بوالد "شمر". وأما أنه ابن "شمر يهرعش"، فلا أعتقد أنه رأي صحيح أيضا؛ فلو كان ابن "شمر" لذكر اسم والده في النصين، كما هي العادة في النصوص, وقد كان من فخر الملوك ذكر أسماء آبائهم في النصوص، إلا إذا لم يكونوا ملوكًا، فإنهم كانوا يغفلون أسماءهم، أو يذكرونها دون لقب, وقد كان "شمر يهرعش" ملك، وصاحب لقب جديد، فقد كان من فخر "ياسر يهنعم" ذكر اسم والده مع لقبه لو كان ابن شمر حقًّا. وقد ورد اسم "ذرأ أمر أيمن" مع اسم والده "ياسر يهنعم" في النص:

_ 1 Mahram, P.393 2 Mahram, P.374

Jamme 665. وهو نص مهم جدًّا، فيه أخبار حروب وأنباء عن الأعراب، أي: أهل الوبر في العربية الجنوبية، وعن الأدوار التي كانوا يقومون بها من النواحي السياسية والحربية والاجتماعية, كما أن فيه أخبارًا عن التنظيمات الإدارية إذ ذاك. وصاحب النص موظف كبير من موظفي الدولة اسمه: "سعد تالب يتلف بن جدنم"، أو من "آل جدنم"، أي "جدن", وكان بدرجة "كبر"، أي "كبير" على أعراب ملك سبأ "كبر أعرب ملك سبأ" وعلى "كدة" أي كندة وعلى "مذحجم"، أي "مذحج"، وعلى "حرمم" "حرم" "حرام"، وعلى "بهلم" أي "باهلم" "باهلة" وعلى "زيد ال" "زيد إيل"، وعلى كل أعراب سبأ "وكل أعرب سبأ"، وأعراب حمير وأعراب حضرموت وأعراب "يمنت"، أي اليمن1. وقد دونه لمناسبة تخليده ذكرى حروب قام بها في أرض حضرموت وفي مواضع أخرى، كلفه القيام بها سيده الملك "ياسر يهنعم" وابنه "ذرأ أمر أيمن". وقد أُمِرَ ذلك الكبيرُ بالذهاب إلى حضرموت، فذهب إليها ومعه محاربون من أعراب ملك سبأ ومن كندة "كدة"، وانضم إليه سادات "أبعل" "نشقم" "نشق" و"نشن" "نشان". ولما وصل مدينة "عبرن" "عبران" اصطدم بمحاربيها، وجرت معارك بين الطرفين. وتقع "عبرن" غرب "وادي العبر" ويقال لها "حصن العبر"، وهي مدينة ذات آبار2. وقد اشترك في المعركة محاربون: ركبان "ركبم" وفرسان "أفرسم" ومشاة. ويقصد بـ"ركبم" المحاربون الذين كانوا يركبون الجمال ويقاتلون عليها، وبـ"أفرسم" المحاربون الفرسان، أي: الذين يحاربون وهم على ظهور الجياد. وقد ذكر أن عدد المحاربين الراكبين كان "750" محاربا راكبا، وأن عدد الفرسان كان سبعين فارسا. وقد اصطدمت إحدى المفارز التي كانت مقدمة للجيش "مقدمتن"، بمفرزة أرسلها ملك حضرموت لمباغتة محاربي "نشق" و"نشان" و"مأرب"، وأخذهم على غرة لإيقاعهم في الأمر3.

_ 1 Jamme 665, Mamb 290, Mahram, P.169, Le Museon, 1964, 3-4, P.490 2 Mahram, P.375, Sprenger, Die Alte Geographie Arabiens, S. 189, 306 3 السطر الثامن عشر من النص.

فوقعت معركة عند موضع "أرك", وقد تمكن قائد الحملة "سعد تألب يتلف" من التغلب على الحضارمة, ومن تخليص مقدمته وإنقاذ من كان قد وقع أسيرًا في أيدي المستوطنين الحضر من أهل المدر, الساكنين في مستوطنات "أحضرن"، ثم اتجه بجيشه نحو "دهر" و"رخيت"، فجرت معركة تغلب فيها على أهل الموضعين وحصل منهم على غنائم وأسرى وأموال، واقتاد جمالًا وثيرانًا وبقرًا وغنمًا كثيرًا، أخذها معه، ثم اتجه نحو الأرضين المنخفضة "سفل" حتى بلغ "عيون خرصم" "أعين خرصم" "أعين خرص"، حيث تحارب مع من كان هناك من العصاة والمنشقين والأعداء. ودخل السبئيون بعد هذه المعركة معركة أخرى دخلوها مع قطعات "مصر" حضرموت المتقدمة "قدمهو". وكانت تتألف من "3500" جندي راكب "أسدم ركبم" ومن "125" فارسًا "أفرسم"، وكان يقودها قائدان "أسود يهمو", أحدهما: "ربعت بن ولم" "ربيعت بن والم" "ربيعة بن وائل"، وهو من آل "هلم" ومن آل "الين" "ألين"، وثانيهما: "أفصى بن جمن" "أفصى بن جمان"، ثم قائد الركبان "نحل ركبن" وأقيال "أقول" وكبراء "أكبرت" حضرموت وأسباطهم. وقد أصيبت قوات حضرموت بخسائر؛ قُتل منهم "850" محاربًا بحد السيف، وأُسر "أقصى"، وكان قائدا بدرجة "نحل" وأُسر "جشم"، وهو "نحل أفرسم"، أي قائد الفرسان، وأُسر معهما "470" محاربًا، وعدد من أقيال وكبراء حضرموت, وأُسر "45" فارسًا من فرسان حضرموت، وغُنم ثلاثون فرسًا, وأُخذ 1200 جمل ركوب مع رحالها "برحلهن". وهكذا انتهت هذه المعركة بانتصار السبئيين على حضرموت. وأمر الملك قائده بأن يقاتل "بساعم" "بسأعم"، وأن يذهب لمساعدة قبيلة "جدنم" "جدن". فذهب ومعه "35" فارسًا وقطعات من جيشه على "بسأعم", والتحم به، وتمكن من إنقاذ كل الروايا "كل روتهمو" المحملة على الدواب، وكل الأمتعة المحملة على حيوانات الركوب، كما استولوا على إبل من إبل "بسأعم". وعاد القائد مع جنده بعد ذلك سالمًا غانمًا بفضل الإله "المقه" ونعمه عليه1.

_ 1 الفقرة "40" وما بعدها من النص.

ويظهر أن عهد "ياسر يهنعم الثالث" وعهد ابنه "ذرأ أمر أيمن" كانا من العهود السيئة لحكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"؛ ففيهما انفصلت "حضرموت" عن تلك الحكومة، واستقلت أرض "سهرت" "سهرتن" "سهرة" "السهرة", واستعاد الحبش سلطانهم في السواحل الغربية للعربية الجنوبية, وانتهز "الأقيال" وسادات القبائل هذه الفرصة، فكونوا حكومات إقطاعية، يحارب بعضها بعضًا، وعمت الفوضى تلك البلاد1. وأما النص: Jamme 664 الذي دوّن فيه اسم "ياسر يهنعم" و"ثارن أيفع" "ثأران أيفع" "ملك سبأ وذ ريدن وحضرموت ويمنت"، أي: "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ويقصد بـ"ملوك" "ملكا"، أي: ملكان اثنان، فصاحبه رجل اسمه "ال أمر ينهب" "إيل أمر ينهب"، وهو من "سحر" "سحار"، وكان قد أهدى معبد "المقه ثهوان" "بعل أوام" صنمًا؛ لأنه أوحى إليه بأنه سيهبه ولدا ذكرا, وقد وهبه ولدا سماه "برلم" "برل" "بارل", ولأنه أوحى إليه بأنه سيهبه أولادًا ذكورًا في المستقبل وأنه سيرفع من منزلته ومكانته عند سيديه: "يسرم يهنعم وثارن أيفع أملك سبأ وذ ريدن وحضرموت ويمنت", أي: "ياسر يهنعم وثارن أيفع ملكي سبأ وذي ريدن وحضرموت ويمنت"، ولأنه أوحى إليه بأنه سيعطيه غلة وافرة وثمارا كثيرة من أرضه الزراعية "أرضهمو" بمأرب وبنشق وبنشان2. ويلاحظ أن هذا النص لم يشر إلى أن "ثأران أيفع" كان ابنًا لـ"ياسر يهنعم"، إذ لم يورد لفظة "وبنهو" التي تعني "وابنه" بل ذكر "الواو" وحده، أي: حرف العطف, ومعنى هذا أن "ثاران أيفع" لم يكن من أبناء "ياسر يهنعم"، بل كان غريبًا عنه. ثم يلاحظ أن النص ذكر لفظة "أملك" أي: "ملوك" بعد اسم "ثأران أيفع"، والواجب أن يكتب "ملكي"، أي "ملكا"، في حالة التثنية لا الجمع، فلعل ذلك من خطأ الكاتب أو الناسخ للنص. وقد وضع "جامه" اسم "كرب ال وتر يهنعم" "كرب إيل وتر يهنعم" "كربئيل وتر يهنعم" بعد اسم "ثأران أيفع"، وجعل حكمه من سنة "325"

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.490 2 Jamme 664, Mamb 293, Mahram, P.168

حتى السنة "330" للميلاد1. ثم نصب "ثأران يركب" ملكًا من بعده، وقد جعل حكمه من سنة "330" حتى السنة "335" للميلاد. ثم ذكر اسم "ذمر على يهبر" من بعده, وأعطاه لقب "الثاني" ليميزه بذلك عن "ذمر على يهبر" الذي حكم قبله بأمد, وذكر أنه حكم من سنة "335" حتى السنة "340" للميلاد. ثم وضع اسم "ثأران يهنعم" من بعده ثم اسم "ملكيكرب يهأمن" "ملكي كرب يهأمن"، ثم اسمي ملكين هما: "أبكرب أسعد" و"ذرأ أمر أيمن"2. وأما "فون وزمن"، فوضع اسم "ذمر على يهبر" "ذمر على يهبأر" بعد اسم "ثارن يركب"، ثم عاد فذكر اسم "ذمر على يهبر" مع ابنه "ثارن يهنعم"، بمعنى أنهما حكما معًا فيما بين السنة "340" والسنة "350" للميلاد. ثم ذكر أن "ثأرن يهنعم" حكم مع ابنه "ملكيكرب يهأمن" حكمًا مزدوجًا، ثم حكم "ملكيكرب يهأمن" مع ابنيه "أبي كرب أسعد" و"ذرأ أمر أيمن". ثم أشار إلى انفراد "أبي كرب أسعد" مع ابنه "حسن يهأمن" "حسان يهأمن" بالحكم في حوالي السنة "400" للميلاد3. وقد ورد اسم الملك "كرب ال وتر يهنعم" "كرب إيل وتر يهنعم" في النص: Jamme 666, وصاحبه رجل اسمه: "أبكرب أبهر" "أبو كرب أبهر"، ورجل آخر اسمه: "عبد عثتر إشوع" "عبد عثتر أشوع"، و"وهب أوم أسعد"، وكانوا أقيالًا "أقول" على عشيرة "عضدن" "عضدان"، وكانوا هم منها. وقد تقدموا إلى الإله "المقه" بصنم هو عبارة عن تمثال فرس وعليه راكبه، "ركبهو"؛ وذلك حمدًا له وشكرًا لأنه من عليهم وحماهم من مالك الأرض "بن محر"، ولأنه أسعدهم، ولكي يبعد عنهم كل أذى وسوء وكل عدو حاسد, ويعطيهم القوة والحظوة والمكانة عند سيدهم "كرب ال يهنعم" "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ويمنحهم حصادًا طيبًا وغلة وافرة4.

_ 1 Mahram, P.393 2 Mahram, P.393 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 4 Jamme 666, Mamb 140, Mahram, P.172

ويلاحظ أن هذا النص سمى الملك "كرب ال يهنعم" "كرب إيل يهنعم" ولم يذكر لفظة "وتر" بين "كرب إيل" و"يهنعم". وقد وضع "جامه" لفظة "وتر" بين الاسمين من عنده لاعتقاده بأن هذا الملك هو الملك "كرب إيل وتر يهنعم" الذي يرد اسمه في نص آخر وسم بـJamme 667. وأما النص: Jamme 667، فصاحبه رجل اسمه "رببم" "ربيب"، وهو من "خلفن أنمرم" "خلفان أنمر" "خلفان أنمار" ومن "حيم" "حيوم". وقد ذكر فيه أنه قدم صنما إلى الإله "المقه ثهوان" "بعل أوام"؛ لأنه من عليه بأن حفظه ونجاه من الثورة "بن حبل" والاضطرابات "وقسدت" "ق س د ت" التي وقعت بمدينة "ظفار" وذلك قبل هذا اليوم "بقدمي ذن يومن", ولكي يديم نعمه ومننه عليه وينيله رضا وحظوة "حظى ورضو" سيده الملك "كرب ال وتر يهنعم، ملك سبا وذ ريدن وحضرموت ويمنت"، أي: "كرب إيل وتر يهنعم، ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"1. وقد ورد اسم الملك "ذمر على يهبر" في النص Jamme 668، وورد معه اسم ابنه "ثأران يهنعم", وأصحابه جماعة من "سباكهلن"، أي "سبأكهلان". وقد حمدوا فيه الإله "المقه"؛ لأنه نجَّى وحمى وحفظ أصحاب النص، ولأنه من عليهم فمكنهم من الحصول على غنائم في المعارك التي خاضوها ومن أخذ سبي من أعدائهم، مما أثلج نفوسهم وشرح صدورهم وأفرحهم، ولكي يبارك فيهم ويرضى عنهم سيدهم الملك "ذمر على يهبر" وابنه "ثارن يهنعم" وهما "ملكا سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، ولكي ينعم عليهم "وليهعننهمو"، ويمتعهم في الحياة "متعنهمو" ويبعد عنهم كل أذى وسوء2. وورد اسم "ثارن يهنعم" "ثأران يهنعم"، وبعده اسم ابنه "ملك كرب" يهامن" "ملككرب يهأمن" "ملكيكرب يهأمن" "ملكي كرب يهأمن"، في النص: Jamme 669، وهو نص دونه جماعة من عشيرتي: "عبلم" "عبل" "عبال" و"قترن أتون" "قتران أتوان"، حمدوا فيه الإله "المقه" لأنه أنعم عليهم فوهبهم مولودًا ذكرًا، ولأنه أوحى إليهم بأنه سيهبهم أولادًا

_ 1 Jamme 667, Mamb 15, 86, Mahram, P.172 2 Jamme 668, Mamb 236, Mahram, P.173

ذكورًا، وأنه سينجيهم من الضر والسوء، ولأنه أمات "وميت" "يحمد" الذي دخل أرضهم وقاتل أولادهم وآذاهم، ولأنه حفظ أخاهم وشفاه، مما أصيب به من مرض جعله صامتا هادئا، وتعبيرًا عن شكرهم وحمدهم هذا، أهدوا معبده صنمًا "صلمن"، وكتابة "مسدم" "مسندم"، وكانت زنتهما "عصيم" "عصى"، وقدموا ثورين "ثنى ثورن" إلى "كلونم" "كلوان"1. ويلاحظ أن هذا النص لم يذكر مع اسم "ملككرب" "ملك كرب" "ملكيكرب" لقبه وهو "يهأمن" من بعده، بل أهمله. كما ورد اسمه وبعده اسم ابنه في النص: Jamme 670. وقد دونه "شرحعثت إشوع" "شرحعثت أشوع", وابنه "مرثدم" "مرثد", وهما من "سخيمم" سادات "بيت ريمان" "أبعل بيتن ريمن"، وأقيال عشيرة "يرسم" من قبيلة "سمعي" التي تكوِّن ثلث "حجرم" "حجر". وقد كتباه لحمد الإله "المقه" وشكره؛ لأنه من على عبده "شرحعثت أشوع" فعافاه مما ألَمَّ به من مرض شديد "ضللم" كاد أن يقضي عليه، حل به بمدينة "ظفار", ولأنه أعاد إليه ابنه "كسدم" فساعده, ولكي يبارك فيه وفي ابنه "مرثد"، ويبعد عنهما كل مرض, ويرفع من مكانتهما لدى الملكين: "ثأران يهنعم وابنه ملك كرب يهأمن، ملكي سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"2. وكتب جماعة من "سخيم" سادات "بيت ريمان" "أبعل بيتن ريمن" وأقيال "أقولن" "يرسم" من عشيرة "سمعي"، التي تكون ثلث عدد "حجرم ذخولن جددتن" "حجر خولان جددتان"، نصًّا وسم بـJamme 671؛ وذلك ليكون معبرًا عن حمدهم وشكرهم للإله "المقه"، الذي من عليهم بنعمه وساعدهم بالقيام بالعمل الذي كلفهم به سيداهم: "ثأران يهنعم" و"مككرب يامن" "ملك كرب يامن" "ملكيكرب يأمن"، "ملكأ سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"، وهو أن يتقدموا ويقودوا "لقتد من" جيش الأعراب "خمس بعرب"، ويتجهوا إلى السد "عرمن" الذي تهدم "بكن ثبرت عرمن بحببض"، عند موضع "حببض" "حبابض" وموضع "رحبتن" "رحبتان" "الرحبة" "الرحابة"، فتداعت جدرانة ومبانيه وأحواضه وسدوده

_ 1 Jamme 669, Mamb 183, Mahram, P.174 2 Jamme 670, Mamb, 292, Mahram, P.175

الفرعية ومضارفه "مضرفن"، الواقعة فيما بين "حبابض" و"رحبتن" "الرحبة", وخرب منه ما مقداره سبعون "شوحطم" "شوحطا". وقد حمدوا الإله "المقه" وسبحوه لأنه أجاب دعوتهم، فحبس الأمطار والأمواج والسيول عنهم حتى تم العمل وأقاموا الأسس والجدران والسد, ولأنه وفقهم في خدمة سيديهم "ثأران يهنعم"، و"ملككرب يامن" "ملك كرب يأمن" "ملكيكرب يأمن"1. ويظهر من هذا النص أن خرابًا كان قد حل بسد "حبابض"، فتهدم قسم منه فأضر ذلك بالمزارع التي كانت ترتوي منه, وأن الملك أمر بإصلاحه وبإعادة بنائه، وقد تم هذا العمل في عهده. وأما الذي حكم بعد "ذرأ أمر أيمن" الذي هو ابن "ياسر يهنعم الثالث"، فهو "ذمر على يهبأر", وكان قد حكم على رأي "فون وزمن" في حوالي السنة "340ب. م.". وقد استنتج "فون وزمن" رأيه هذا من كتابة ورد فيها اسم القائد "سعد تالب يتلف"، وهو في خدمة "ذمر على يهبأر". ولما كان هذا القائد قد خدم في عهد "ياسر" وابنه، رأى أن "ذمر على يهبأر" يجب أن يكون هو الملك الذي تولى الحكم بعد "ذرأ أمر أيمن", وقد نعته بـ"ذمر على يهبأر الثاني" تمييزًا له عن ملك سابق حكم بهذا الاسم2. وقد تمكن القائد المذكور من الوصول إلى موضع "صوران" "صورأران" الواقع غربي الطريق المؤدية إلى روضة "سررن" "سرران" بوادي حضرموت. واشترك في معركة نشبت في "سرران" على مقربة من موضع "مريمت" "مريمات", وهو موضع تقع آثاره وخرائبه اليوم بين "سيوون" و"تريم"، في المكان الذي سماه "بطلميوس" Marimatha3. ولا نعلم من أمر "ذمر على يهبأر" شيئًا يذكر. أما الذي جاء بعده في الحكم، فهو "ثارن يهنعم"، "ثأران يهنعم"، وهو ابنه, وقد حكم مع أبيه حكمًا مشتركًا بعد السنة "340م" على رأي "فون وزمن". وقد عثر على

_ 1 Jamme 671, Mamb 294, Mahram, P.176 2 Le Museon, 1964, 3-4, Pp.491, 498 3 J. Ryckmans, Chronologle, Oriens Antiquus, Iii, 1964, P.22, Le Museon, 1964, 3-4, P.491

عدد من الكتابات من أيامه, وفي عهده تصدع السد -سد مأرب- للمرة الثالثة على ما جاء في المسند1. ولعل النصوص الموسومة بـJamme 669 وJamme 670 وJamme 671 هي آخر النصوص التي نقرأ فيها اسم الإله "المقه"، إله سبأ الكبير ورمز السبئيين. وقد عثر عليها المنقبون في معبده بمدينة مأرب، المعبد المعروف بـ"أوم" "أوام"، وهي مكتوبة في عهد الملك "ثارن يهنعم" وابنه "ملككرب يهأمن" "ملكيكرب يهأمن"2. وإذا كان هذا الانقطاع صحيحًا، أي: إن المنقبين لن يعثروا على كتابات أخرى تحمل اسم ذلك الإله وتمجده، فإنه يمكن تفسيره عندئذٍ بإعراض ملوك سبأ منذ عهد هذين الملكين، أي: منذ أواخر القرن الرابع بعد الميلاد، عن عبادة "المقه" وبقية آلهة سبأ، ودخولهم في التوحيد. ولو افترضنا احتمال عثور الباحثين على كتابات مفقودة فيها اسم "المقه"، فإن عهدها لن يكون طويلًا؛ ذلك لأننا سوف نرى بعد قليل أن الملك "ملك كرب يهأمن" "ملكيكرب يهأمن" وهو ابن الملك "ثأرن يهنعم" "ثاران يهنعم"، يتجاهل بعد توليه الحكم اسم "المقه"، ولا يتقرب إليه على سنة الملوك الماضين، بل يتقرب إلى إله جديد هو الإله "ذ سموى"، أي الإله "رب السماء"، وهو تحول يدل على حدوث تغير عند هذا الملك بالنسبة إلى ديانة آبائه وقومه، ويدل على دخوله في ديانة جديدة، هي ديانة "رب السماء"، أو "رب السماوات"، وهي ديانة تعبر عن عقيدة التوحيد، وعن اعتقاد الملك بوجود إله واحد هو "رب السماء"3. وقد عثر على الكتابات المذكورة بـ"منكث" خارج خرائب "ظفار"4. ويرى بعض الباحثين احتمال حدوث هذا التحول في عهد الملك "ثارن يهنعم"، ويرون أن هذا التحول يتناسب كل التناسب مع الرواية المعزوة إلى "فيلوستورجيوس" Philostorgios عن كيفية تنصير الحميريين، إذ زعم أن "ثيوفيلوس" Theophilos كان قد تمكن من إقناع ملك حمير بالدخول في النصرانية، فدان

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.461 3 GLASER 389 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.492

بها، وأمر ببناء كنائس في "ظفار" وفي "عدن", وكان القيصر "قسطنطين الثاني" "350-361م" هو الذي أرسله إلى العربية الجنوبية ليدعو إلى النصرانية بين أهلها. ويؤيدون رأيهم هذا بالكتابة المذكورة التي يرجع عهدها إلى سنة "378م" أو "384م"، فهي غير بعيدة عن أيام "ثارن يهنعم"، ويحتمل لذلك أن يكون هو الملك الحميري الذي بدل دينه الوثني، ودخل في ديانة التوحيد1. ويتحدث النص: Jamme 671 من بين النصوص المذكورة, عن تصدع أصاب وسط سد مأرب الكبير وعن سقوطه، وعن قيام الملك "ثأرن يهنعم" "ثأران يهنعم" بإصلاحه وإعادته إلى ما كان عليه. ويكون هذا الخبر، هو ثاني خبر يصل إلينا مدونًا في كتابات المسند عن تصدع السد إلى هذا العهد2. أما الكتابة التي ورد فيها اسم الإله "ذ سموى" "رب السماء"، فتعود إلى الملك "ملككرب يهأمن" "ملك كرب يهأمن" "ملكيكرب يهأمن"، وهو ابن الملك "ثارن يهنعم", وقد عثر عليها في "منكث" خارج خرائب "ظفار". وقد ورد فيها مع اسمه اسم ولدين من أولاده، هما: "أبكرب أسعد" "أبو كرب أسعد"، و"ذرأ أمر أيمن" "ورأ أمر أيمن"3، وكانا يشاركانه في الحكم لورود لقب الملوكية الكامل بعد اسميهما. وقد تقربوا بها إلى الإله "ذ سموى"، أي "إله السماء"، وذلك في سنة "493" من التأريخ الحميري، المقابلة لسنة "378" أو "384" للميلاد4. وقد أغفل "فلبي" الإشارة إلى "ياسر يهنعم الثالث" ثم من جاء بعده إلى "ملك كرب يهأمن"، فلم يذكرهم في قائمته لملوك "سبأ وذي ريدان وحضرموت

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.492, J. Ryckmans, Chronologie, Orients Antiquus, Iii, 1964, P.22 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.491.3 3 "ورأ أمر أيمن" في بعض القراءات، و"ذرأ أمر أيمن" في قراءة أخرى, Le Museon, 1964, 3-4, P.492 4 Glaser, Skizze, I, S. 12, Dammbruch, S. 14, Le Museon, 1950, 3-4, P.270, 1964, 3-4, P.492, Glaser 389, Die Araber, Iv, S. 273 وقد أخطأ هذا المصدر: "Die Araber" في تدوين التأريخ الحميري، إذ جعله "473"، بينما هو "493"، Le Museon, 66, "1953", 303

ويمنت". وقد قلت: إنه جعل "يرم يهرحب" بعد "شمر يهرعش"، ومن المحتمل -في نظره- أن يكون أحد أولاد "شمر"، ثم ذكر أن الأحباش استولوا على العربية الجنوبية بعده، وذلك في حوالي السنة "340ب. م."، وقد دام حكمهم حتى سنة "375م"، حيث ثار عليهم "ملكيكرب يهأمن"، ويحتمل في نظره أن يكون أحد حفدة "يرم يهرحب"، فطرد الأحباش من العربية الجنوبية، وأقام نفسه ملكًا1. وقد ورد اسم "ملك كرب يهأمن" محرَّفًا في كتب أهل الأخبار؛ فدعاه "حمزة" بـ"كلي كرب بن تبع"، وقد جعل حكمه خمسًا وثلاثين سنة2. وسماه "الطبري" "ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع"3، وسماه "المسعودي" "كليكرب بن تبع"4، ودعاه "القلقشندي" "كليكرب بن تبع الأقرن"، الذي حكم على زعمه بعد "شمر يرعش" "شمر مرعش" ثلاثًا وخمسين سنة، وقيل: ثلاثًا وستين سنة، واسمه زيد, وهو على زعمه ابن "شمر", وذكر أن الأقرن إنما عرف بالأقرن لشامة كانت في قرنه5. وانتقل الملك بعد وفاة "ملك كرب يهأمن" إلى ابنه "أب كرب أسعد" "أبي كرب أسعد"، ويرى المستشرقون أنه "أسعد كامل تبع" الذي يزعم الأخباريون أنه أول من تهود من التبابعة ونشر اليهودية بين اليمانيين. وقد جعل "الطبري" حكم "أبي كرب أسعد" بعد حكم "شمر يهرعش"، إذ قال: "ثم كان بعد شمر يرعش بن ياسر ينعم تبع الأصغر، وهو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار، وهو الذي قد قدم المدينة، وساق الحبرين من يهود إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه"6, وتهود وطلب من قومه الدخول في اليهودية. "وقال الكلبي: تبع هو أبو كرب أسعد بن ملكيكرب، وإنما سمي تبعًا؛ لأنه تبع من قبله. وقال سعيد بن جبير: هو الذي كسا البيت الحبرات". وذكر أنه قال شعرًا أودعه

_ 1 Background, P.143 2 حمزة "ص85". 3 الطبري "1/ 566" "دار المعارف". 4 مروج "2/ 5, 13" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 5 صبح الأعشى "5/ 23". 6 الطبري "2/ 11"، الإكليل "1/ 34" "حاشية 4".

عند أهل يثرب، "فكانوا يتوارثونه كابرًا عن كابر إلى أن هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- فأدوه إليه، ويقال: كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد"1. وورد في مسند الإمام "أبي حنيفة": "أول من ضرب الدينار تبع، وهو أسعد بن كرب"2. وقد تحدث "الهمداني" عن "أبي كرب أسعد"، فقال: "فأولد ملكيكرب بن تبع الأكبر: أسعد تبع بن ملكيكرب, وهو أسعد الكامل، وتبع الأوسط" "وكانت أمه من فايش بن شهاب بن مالك بن معاوية بن دومان بن بكيل بن جشم بن جبران بن نوف بن همدان، ومولده بخمر من ديار فايش بن شهاب", و"خمر" موضع بظواهر همدان. "ونشأ بجبل هَنْوَم من أرض همدان ... فأولد أسعد تبع بن ملكيكرب: كربًا وهو الفدى، وبه كان يكنى ... ومعدي كرب وحسان وعمرًا ... وجبلًا ... فهؤلاء ... خمسة نفر بنو أسعد بن ملكيكرب, وقال البلخي وغيره: خطيب بن أسعد. والخطيبون بأكانط ومدر من ولده"3 فيكون ولد "أسعد" ستة نفر على هذه الرواية. وذكر "الهمداني" أن والد "أسعد" هو "ملكيكرب بن تبع الأكبر, وهو الرائد بن تبع الأقرن بن شمر يرعش بن إفريقس ذي المنار بن الحارث الرائش بن ألي شدد"4. وعرف "تبع الأقرن" بالأقرن؛ لشامة كانت في قرنه5. وقد أورد "الهمداني" في كتابه "الإكليل" أشعارًا كثيرة نسبها إلى "أسعد بن ملكيكرب"، بعضها قصائد، ذكر أنه نظمها في مناسبات مختلفة. وقد تطرق في بعض منها إلى أنساب الناس وإلى أمور ذكر أنه تنبأ بها قبل وقوعها بمئات من السنين، ومنها ظهور الرسول ومبعثه في قريش. وذكر "الهمداني" أن شعر "أسعد" وفصاحته من شعر وفصاحة "همدان", ونسب له شعرًا في مدحهم6.

_ 1 القرطبي: الجامع لأحكام القرآن "16/ 145". 2 مسند الإمام أبي حنيفة "ص163"، "حلب 1962م". 3 الإكليل "2/ 56 وما بعدها". 4 الإكليل "2/ 54 وما بعدها، 110 وما بعدها". 5 الإكليل "2/ 54". 6 الإكليل "2/ 57".

ويلاحظ أن أهل الأخبار قد صيروا اسم "أب كرب أسعد" "أبكرب أسعد" "أبي كرب أسعد" على هذا النحو: "أسعد تبع" و"أسعد تبع بن ملكيكرب" و"أسعد الكامل"، فأسقطوا "أب كرب" "أبكرب" منه، وأخذوا الجزء الأخير منه وهو "أسعد". ويظهر أن فتوحاته كانت قد تركت أثرًا في ذاكرة أهل اليمن، وقد بقي ذلك الأثر إلى الإسلام، ولكن الزمن والعصبية لعبا دورًا خطيرًا في تكييفه حتى طغى عليه الطابع الأسطوري، فوصل إلينا على نحو ما نجده في كتب أهل الأخبار والتواريخ. وقد تولى هذا الملك -على رأي المستشرقين- الحكم منفردًا من سنة "400" بعد الميلاد حتى حوالي سنة "415" أو "420ب. م." على رأي1، أو من سنة "385" حتى سنة "420ب. م." على رأي آخر2، أو من سنة "378" حتى سنة "415ب. م." على رأي "فلبي"3. والذي أراه أن حكمه امتد إلى ما بعد السنة "430" للميلاد، كما سأشرح ذلك في موضعه. وقد أضاف إلى لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" الذي ورثه من أبيه إضافة جديدة في آخره، هي: "واعربهمو طودم وتهمتم"، أي: "وأعرابها في الجبال وفي التهائم"، فصار بذلك أول ملك يحمل هذا اللقب4. ولا بد أن تكون للإضافة التي ألحقت بآخر اللقب معنى سياسي مهم، إذ لا يعقل أن يكون هذا الملك قد ألحقها باللقب اعتباطًا من غير قصد. والظاهر أن الذي حمله على إلحاقها به، هو ظهور أهمية الأعراب، ولا سيما أعراب الهضاب وأعراب جنوب نجد من قبائل "معد" وقبائل تهامة أو التهائم، أي: المنخفضات الساحلية، بالنسبة إلى زمانه إذ صاروا يؤثرون في سياسة العربية الجنوبية تأثيرًا واضحًا، وصار في استطاعتهم إحداث تغيير كبير في الوضع السياسي، فانتبه لقوتهم هذه وأعارها أهمية كبيرة، فأضاف اسمهم إلى اللقب؛ دلالة على سيطرته عليهم وخضوعهم له، كما فعل الملوك الماضون بإضافة أسماء جديدة إلى ألقابهم الملكية كلما أخضعوا أرضًا من الأرضين.

_ 1 Handbuch, S. 104, Anm. 3. Background, Pp.116, 143 2 Background, P.143, Beitrage, S. 20, 40 3 Le Museon, "Note On The Last Kings Of Saba", By Philby, Lxiii, 3-4, "1950", P.269 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.492

ومعنى ذلك أن حكم "أبي كرب أسعد" كان قد شمل التهائم بأعرابها وقراها, وكذلك قبائل معدّ التي تمتد منازلها من أرض نجران إلى مكة ونجد1. وعلى مقربة من مدينة "غيمان" قبر ينسب إلى هذا الملك، وقد فتح من عهد غير بعيد. وذكر أن "غيمان" كانت مقرًّا للتبابعة مدة ما، وأن "أب كرب أسعد" أقام بها زمنًا. ويظن أن الرأس المصنوع من البرونز الذي يمثل رأس امرأة والمحفوظ في المتحف البريطاني، والرأس الجميل الذي يمثل مهارة فائقة في الصنعة ويمثل رأس رجل، كلاهما قد أخذ من ذلك القبر2. ويقع قبر "أسعد أبو كرب" أسفل التل الذي أقيم عليه قصر "غيمان" "حصن غيمان". وقد دل البحث في موضعه على أنه يعود إلى عهود متعددة، وأن جملة ترميمات وإصلاحات أدخلت على هذا القصر3. وقد ذكر "الهمداني" أن "أبيكرب أسعد" كان قد أقام في مدينة "بينون"، وأقام أيضا في مدينة "ظفار"4. أقام في قصر "ريدان" بـ"ظفار" وفي قصر "هكر" بمدينة "بينون"، كما أقام في قصر "غيمان" وفي قصر "غمدان" بصنعاء, وهي كلها من قصور اليمن وحصونها الشهيرة المذكورة في تأريخ اليمن5. وقد أخذ جماعة من المستشرقين برواية أهل الأخبار في تهود "أب كرب أسعد" "أبكرب أسعد"، فجعلوه على رأس أسرة متهودة حكمت منذ هذا العهد. وجعله "فلبي" رأس الأسرة الثامنة من الأسرة التي حكمت السبئيين بحسب ترتيبه لقائمة الأسرة الحاكمة6. ويدل عثور "فلبي" على كتابة دون فيها اسم "أب كرب أسعد" واسم ابنه "حسان يهأمن" في وادي "مأسل الجمح" "ماسل جمح"، في موضع مهم على طريق بين "مكة" والرياض، ولا يزال يعرف اسم جمح على أن هذا الموضع كان من جملة الأرضين الخاضعة لحكم ذلك الملك، وأن نفوذه كان قد جاوز اليمن حتى

_ 1 Die Araber, Ii, S. 321, Iv, S. 274 2 Beitrage, S. 20 3 Arabien, S. 276 4 Beitrage, S. 40 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.439 6 Background, P.493, Le Museon, 1964, 3-4, P.493

بلغ نجدًا. وبلغ هذه الأرض المهمة التي تجتازها القوافل والتجارات حتى اليوم1، وكانت تعد من منازل قبائل "معد" في ذلك الحين، وهي قبائل متحالفة يجمع شملها هذا الاسم2. والكتابة التي أقصدها، هي الكتابة التي وسمت بـ3Philby 227، وقد دونت عند إقامة حصن في وادي "ماسل الجمح"، وورد فيها اسم موضع آخر هو "مودم ضمو", ويرى "فلبي" أنه المكان المسمى "دودمي" "دوادمي" في الزمن الحاضر4. وقد وردت فيها أعلام أخرى، منها: "كدت" "كدة"، و"سود"، و"وله" "وده"5. وقد ذكر "الهمداني" أن "مأسل الجمح" كان من مواضع "نُمَيْر", واسم "نمير" قريب من اسم قبيلة Nomeritae التي ذكرها "بلينيوس" إذ قال: Nomeritae Mesala Oppido؛ ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى أن "مأسل الجمح" كان من مواضع "نمير"، وذلك في أيام "بلينيوس"، أي في أواخر القرن الأول قبل الميلاد فما بعده6. ويظهر أن الملك "أب كرب أسعد" أقام هذا الحصن في "وادي مأسل" ليكون معقلًا تقيم فيه قوات سبئية لحماية الطريق من هجوم القبائل وتعرضها للقوافل التي تسلك هذا الوادي محملة بالبضائع والتجارات بين اليمن ونجد، وهو طريق مهم من الطرق التي تصل أرض اليمن بنجد وبشرق الجزيرة7. وقد افتتح نص: Philby 227 بجملة: "أبكرب أسعد وبنهو حسن يهأمن ملكي سبا وذ ريدان وحضرموت ويمنت وأعربهمو طودم وتهمتم بن حسن ملك كرب يهامن ملك سبا وذ ريدن وحضرموت ويمنت"، أي "أبو كرب أسعد

_ 1 Beitrage, S. 120, Ryckmans 464, Philby 228 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.492, J. Ryckmans, In: Bibl. Or., 14, 1957, P.93 3 Philby 227, Ryckmans 409, 445, 509, Philby, Motor Tracks And Sabaean Inscriptions In Najd., Geogr. Journ., 1950, Pp.211-215, Le Museon, Lxiv, 1-2, "1951", P.99 Le Museon, 3-4, 1953, P.303 4 المصادر نفسها, Beitrage, S. 120 5 Le Museon, Lxiv, 1-2, "1951", P.102, Le Museon, 3-4, 1953, P.304 6 Beitrage, S. 120 7 Philpy, In The Geographical Journal, Vol., Cxvi, No. 4-6, "1950", P.214

وابنه حسان يهأمن، ملكا سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الأطواد والتهائم، ابنا حسان ملكيكرب يهأمن ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت". فيفهم منها إذن أن اسم والد "أبي كرب أسعد" هو "حسان ملكيكرب يهأمن"، لا "ملكيكرب يهأمن". فهل نحن أمام ملك واحد، عرف بـ"ملكيكرب يهأمن" وبـ"حسان ملكيكرب يهأمن"، أم أمام ملك آخر غير الملك "ملكيكرب يهأمن"؟ ويتبين من هذا النص أن الملكين كانا قد غزَوَا "كسباو" أرض "مودم ضمو", غزواها بجمع من أهل حضرموت وسبأ وبني مأرب, أي أهل مأرب وبأصاغر الناس "صغرم". وكان في جيشهما "المقتوين" "مقتوتهمو"، أي: القادة؛ قادة الجيش. وأشير في النص إلى أعراب كندة "باعربهمو كدت" وإلى "سود" و"وله" "واله"1. ولدينا كتابة وسمت بـRyckmans 534، ورد فيها اسم الملك "أبي كرب أسعد" وأشير فيها إلى ستة أولاد من أولاده. وهي كتابة مؤرخة، ويقابل تأريخها الحميري "543" السنة "428م" أو "434م"2، كما عثر على كتابة أخرى وسمت بـRyckmans 534 يرى من درسها أنها يجب أن تكون قد كتبت بعد السنة "433" أو "439م"3. ومعنى هذا أن حكم "أبي كرب أسعد"، قد جاوز السنة "428ب. م." أو السنة "430ب. م."، أي: إن تقدير الذين جعلوا نهاية حكم "أبي كرب أسعد" في سنة "415ب. م." أو "420ب. م."، هو تقدير خاطئ. والظاهر أنهم قد وقعوا في هذا الخطأ؛ لأن الكتابتين المذكورتين لم تكونا قد نشرتا في ذلك العهد. وقد أشير في الكتابة Rossi 24 إلى ستة أو سبعة أبناء للملك "أبي كرب أسعد"4. وتشير الكتابة الموسومة بـRyckmans 409 إلى حملة قام بها الملك "أبو كرب

_ 1 Philby 227, Ryckmans 509, Le Museon, 1953, 3-4, P.303, Die Araber, Iv, S. 273. 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.492, 1955, P.308, Die Araber, Iv, S. 273 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.492, J. Ryckmans, In Riv. D. Studi. Orient., 37, Rome, 1962, Pp.243, 249, Die Araber, Iv, S. 273 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.492, J. Ryckmans, In Riv. D. Studi. Orient., 37, Rome, 1962, P.249, Die Araber, Iv, S. 273

أسعد" وابنه الأول "حسان يهأمن" على "وادي مأسل" في أرض "معد", وقد ساهم بها معه جمع من "كندة"1. ونجد لقبيلة "كندة" ذكر في الكتابات التي يعود عهدها إلى ما بعد الميلاد. وذهب "كروهمن" إلى أن ورود اسم "أبي كرب أسعد" في النص: Jamme 856 -وهو من النصوص السبئية المتأخرة- يجعل أيامه في السنين الثمانين فما بعد, من القرن الخامس للميلاد2. وقد قدّر أيام حكمه بحوالي السنة "400" بعد الميلاد3. ويظهر أن حكم الملك "أبي كرب أسعد" كان حكمًا طويلًا، وأن عمره كان عمرًا طويلًا أيضًا؛ وذلك لأنه كان ملكًا إلى ما بعد السنة "430" بعد الميلاد، وإذ قد ذكر ملكًا مع والده في النص المؤرخ بسنة "378ب. م." أو "384ب. م."، فيكون مجموع حكمه قد بلغ زهاء خمسين سنة أو أكثر من ذلك بقليل. ولو فرضنا أنه كان في حوالي العشرين من عمره يوم ذكر مع أبيه في النص، فيكون عمره إذن يوم وفاته حوالي السبعين، أو بعد ذلك بسنين4. لقد استطاع "أبو كرب أسعد" توسيع ملكه، حتى بلغ البحر الأحمر والمحيط الهندي والأقسام الجنوبية من نجد، وربما كان قد استولى على جزء كبير من الحجاز. وفي روايات أهل الأخبار عن فتوحاته وعن غزواته أساس من الصحة، وإن دخل فيها عنصر المبالغة والقصص. ولا بد أن يكون هذا الملك ذا شخصية قوية وكفاءة مكنته من القيام بتلك الفتوحات والتغلب على القبائل، حتى تركت أعماله أثرًا بقي يتنقل بين الأجيال، ويتطور بمروره على الأفواه حتى وصل إلينا على الشكل الذي نقرؤه في كتب أهل الأخبار. وقد ذكر "الطبري" أن "أسعد أبا كرب بن ملكيكرب"، ونعته بـ"تبع" كان قد قدم بجيوشه الأنبار، وأسكن من قومه الأنبار والحيرة، ثم رجع إلى

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.492 2 Arabien, S. 29, 273 3 Arabien, S. 276 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.492

اليمن1. وذكر غيره أنه "تبان أسعد أبو كرب بن قيس بن زيد الأقرن بن عمرو ذي الأذعار، وهو تبع آخر، ويقال له: الرائد، وكان على عهد يستأسف أحد ملوك الفرس الكيانية وحافده أردشير، وملك اليمن والحجاز والعراق والشام، وغزا بلاد الترك والتبت والصين، ويقال: إنه ترك ببلاد التبت قومًا من حمير ... وغزا القسطنطينية ومر في طريقه بالعراق فتحير قومه فبنى هناك مدينة سماها الحيرة ... ويقال: إنه أول من كسا الكعبة المُلأ وجعل لبابها مفتاحًا وأوصى ولاتها من جرهم بتطهيرها, ودام ملكه ثلاثمائة وعشرين عامًا2". وهذه الفتوحات التي نسبوها إلى "تبان أسعد"، هي مثل الفتوحات التي نسبوها لـ"شمر يرعش"، وهي في الواقع تكرار لها. والظاهر أنها خلط بين فتوحات الملكين التي وضعها لهما أهل الأخبار. ونصب بعض أهل الأخبار من بعده "ربيعة بن نصر بن الحارث بن نمارة بن لخم" ملكًا على اليمن، ثم ذكروا أنه رأى "رؤيا هالته فسار بأهله إلى العراق وأقام بالحيرة، وحكم عليها، ومن عقبه كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة"3. وهناك طريق بري يربط المناطق المرتفعة الزراعية بالمناطق الشمالية، وهي مناطق مأهولة ومن أكثر أرض اليمن كثافة سكان، يسمى بـ"درب أسعد كامل" أو "طريق أسعد كامل"، نسبة إلى هذا الملك, وهو يصل إلى شمال "الطائف" ويتصل بطريق الحجاز4. ويمتد من "خيوان" وأعالي "خولان" في اتجاه "بيشة" و"ريع المنهوت"، ثم في الممر الضيق المؤدي إلى "الطائف". ويستعمل تجار "عمران" هذا الدرب5. ويظهر هذا الدرب تحولًا خطيرًا في الطرق البرية القديمة التي كانت تسير في محاذاة حافة الصحراء الشرقية المتصلة بالجوف، إذ يشير إلى تحول هذه الطرق من

_ 1 "وفي ذلك يقول كعب بن جميل بن عجرة بن قمير بن ثعلبة بن عوف بن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل: وغزا تبع في حمير حتى ... نزل الحيرة من أهل عدن". الطبري "1/ 612"، "دار المعارف". 2 صبح الأعشى "5/ 23". 3 صبح الأعشى "5/ 23". 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.493 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.493

الأرض السهلة إلى الهضاب التي يعيش عليها المزارعون الذين يعيشون على الزراعة التي تعتمد على المطر, وقد شمل هذا التحول فيما شمله طريق البخور واللبان القديم1. وجعل "فلبي" الحكم لـ"ورو أمر أيمن" بعد وفاة "أبي كرب أسعد", وهو شقيقه. قد حكم على رأي "فلبي" من سنة "415م" حتى سنة "425م"، ولما توفي انتقل الحكم إلى "شرحبيل يعفر" "شرحب إيل يعفر"، وهو ابن "أبي كرب أسعد". وقد حكم على تقديم "فلبي" أيضًا من سنة "415ب. م." حتى سنة "455ب. م."2، وحكم على تقدير "هومل" من سنة "420م" حتى سنة "455م"3. ولكن "فلبي" في كتابه "النجاد العربية" عاد فجارى "هومل" فيما ذهب إليه في تقدير مدة حكم "شرحبيل يعفر"، فجعلها منذ سنة "420ب. م." حتى سنة "455ب. م."4. وأما "جامه"، فوضع "أبكرب أسعد" واسم شقيقه "ذرأ إمر أيمن" "ذرأ أمر أيمن" بعد اسم "ملككرب يهأمن". وقد حكم "أبكرب أسعد" مع والده في حوالي السنة "365" وحتى السنة "375" للميلاد. وأما "ذرأ أمر أيمن"، فجعله مشاركًا لوالده في الحكم وذلك في حوالي السنة "375" وحتى السنة "385" للميلاد5. ولكن "جامه" عاد فوضع بعد القائمة المتأخرة لحكام سبأ، والتي انتهت في القائمة "E"، باسمي "ذرأ أمر أيمن" و"أبكرب أسعد"، قائمة أخرى دعاها بـ"F"، وقد خصصها بمن حكم في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد، ابتدأها باسم "حسن ملككرب يهأمن" "حسان ملكيكرب يهأمن"، وجعل حكمه من حوالي السنة "415" حتى حوالي السنة "425" للميلاد، ثم وضع اسم "أبكرب أسعد" من بعده، وجعل حكمه في حوالي السنة "425" وحتى السنة "430" للميلاد. ثم ذكر اسم "حسان يهأمن" "حسن يهأمن" من بعده، وقد شارك "أبكرب أسعد" في الحكم من سنة "425" حتى "430" للميلاد، ثم دون اسم "شرحبيل يعفر" من بعد "أبكرب أسعد" وقد جعله شريكًا في

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.423 2 Background, P.143 3 Handbuch, S. 104, Anm. 3 4 Philby, Highlands, P.460, Le Museon, 1961, 1-2, P.174 5 Mahram, P.391

الحكم لـ"أبكرب أسعد" من حوالي السنة "450" حتى السنة "440" للميلاد1. وقد أغفل "فلبي" وغيره اسم "حسان يهأمن"، وهو ابن "أب كرب أسعد"، فلم يذكره بعد اسم أبيه، مع أنه ذكر معه في النص Philby 227، ونعت مثله بـ"ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعراب في الجبال والتهائم". وقد عرف أهل الأخبار اسم "حسان"، وذكروا أنه حكم من بعد أبيه "أسعد أبي كرب"، وذكروا اسمه على هذا النحو: "حسان بن تبع أسعد أبي كرب"، ولم يذكروا لقبه. وقد زعموا أنه أغار على طسم وجديس باليمامة وأنه حارب "جذيمة" ملك الحيرة، وكان "جذيمة" قد خرج يريد طسم وجديس في منازلهما من "جوّ" وما حولهما، فوجد "حسان" قد أغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ راجعًا بمن معه، فأتت خيول "تبع" على سرية لجذيمة فاجتاحتها2. فهو من معاصري "جذيمة" على رأي أهل الأخبار. و"حسان" هذا هو الذي أفنى "جديس" على رواية أهل الأخبار، وهو الذي فقأ عيني "اليمامة" في شعره3، وإن "النمر بن تولب العكلي"، أشار في شعره إلى قصتها أيضا4. وذكر "الطبري" أن "حسان بن تبع" الذي أوقع بجديس، هو ذو معاهر، وهو تبع بن تبع تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن تبع بن أقرن وهو أبو تبع الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة، وكسا الكعبة، وأن الشعب من المطابخ إنما سُمي هذا الاسم لنصبه المطابخ في ذلك الموضع وإطعامه الناس، وأن أجيادًا إنما سمي أجيادًا؛ لأن خيله كانت هنالك، وأنه قدم يثرب فنزل منزلًا يقال له منزل الملك اليوم، وقتل من اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية من شكاهم إليه من الأوس والخزرج بسوء الجوار، وأنه وجه ابنه حسان إلى المسند وشمرًا ذا الجناح إلى خراسان، وأمرهما أن يستبقا إلى الصين، فمر بسمرقند فأقام عليها حتى افتتحها، وقتل مقاتلتها، وسبى وحوى ما فيها ونفذ إلى الصين فوافى حسان بها، فمن أهل اليمن من يزعم أنهما ماتا هنالك، ومنهم من يزعم

_ 1 Mahram, P.394 2 الطبري "1/ 615، 629 وما بعدها"، "دار المعارف". 3 الطبري "1/ 630"، ديوان الأعشى "72-74". 4 الطبري "1/ 631".

أنهما انصرفا إلى تبع بالأموال"1. وقد ذكر "الطبري" أيضا أن "حسان بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار" سار بقومه من أهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض العجم، كما كانت التبابعة قبله تفعل، فلما كان بالعراق قتله أخوه "عمرو بن تبان أسعد أبي كرب" ورجع "عمرو" بمن معه من جنده إلى اليمن, وأصيب بمرض نفسي, وقتل خلقًا من قومه لندمه على قتله أخاه، ثم لم يلبث أن هلك2. وقد زعم أن "عمرًا" هذا عرف بـ"موثبان"، وأنه قتل أخاه بموضع "رحبة طوق بن مالك"، التي عرفت بـ"فرضة نعم"3. وقد زعم الأخباريون، أن الأمر قد مرج في حمير بعد وفاة "عمرو" وتفرقوا، فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة منهم، يقال له: "لخنيعة ينوفة ذو شناتر"، فملكهم، فقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، حتى قتله "ذو نواس" في قصة من القصص المألوف وروده من أهل الأخبار4. وذكر "القلقشندي"، أن الذي حكم بعد "ربيعة بن نصر" الذي حكم اليمن على زعمه بعد "تبان أسعد"، هو "حسان ذو معاهر"، وهو "ابن تبان أسعد أبي كرب"، ثم ملَّك أخاه "عمرو بن تبان أسعد أبي كرب" من بعده، ونعته بـ"الموثبان"، وذكر أنه حكم ثلاثًا وستين سنة، ومات عن أولاد صغار وأكبرهم قد استهوته الجن، فوثب على الملك "عبد كلال بن مثوب"، فملك أربعًا وتسعين سنة، وهو تبع الأصغر5. قد ترك لنا "شرحبيل يعفر" "شرحب إيل يعفر" نصًّا مهمًّا وسمه علماء العربيات الجنوبية بـ6Glaser 554، وهو وثيقة تتعلق بتصدع سد مأرب الشهير

_ 1 الطبري "1/ 632". 2 الطبري "2/ 115 وما بعدها". 3 الطبري "2/ 117". 4 الطبري "2/ 117" وما بعدها. 5 صبح الأعشى "5/ 23". 6 Cih 540, Glaser 554 + 410 + 408 + 408 Bis + 406 + 407 + 409, Cih, Iv, Ii, Iii, P.262, Glaser, Zwei Inschriften Uber Den Dammbruch Von Marib, In Mitteillungen Der Vorderasiatischen Gesellschaft, Ii, "1897", S. 372, Seper., S. 13, Le Museon, 1964, 3-4, P.493

في أيامه وإعادة بنائه، فقصَّ علينا فيه الحادث، وتحدث عن مقدار ما أنفقه على الفعلة والعمال لإعادة البناء. ويتألف هذا النص من مائة سطر, جاء فيه: أن "شرحبيل يعفر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في النجاد والتهائم ابن أبي كرب أسعد ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في النجاد والتهائم"، قام بتجديد بناء سد مأرب وترميمه على مقربة من موضع "رحب" "رحاب"1, وعند "عبرن" "عبران"، وقام بإصلاح أقسام منه حتى موضع "طمحن" "طمحان" "الطمح"، كما قام بحفر مسايل المياه وبناء القواعد والجدران بالحجارة، وقوَّى فروعه، وبنى أقسامًا جديدة، وأوصلها بعضها ببعض بين "غيلن" "غيلان" "الغيل" و"مفلل" "م ف ل ل" "مفلول"، وجدد سد "يسرن" "يسران"، وقام بإعاشة العمال ومن اشتغل ببنائه، وتمت هذه الأعمال في شهر "ذي داون" "ذي دأون" من سنة "564" "565" من التأريخ الحميري، أي: سنة "449" "450" "456" للميلاد2. ويشير هذا العمل بالطبع إلى حدوث تصدع في السد, اضطر الملك إلى تجديد بناء أقسام منه، وترميم ما أمكن ترميمه من أقسام أخرى، وإضافة أقسام جديدة إليه. ويظهر من هذا النص أيضًا أن السد قد تهدم بعد مدة قصيرة، وذلك في شهر "ذو ثبتن" "ذو الثبت" من سنة "565" من التقويم الحميري، أي: سنة "450" أو "451"، "455" "456" للميلاد، فأثر ذلك تأثيرا سيئا جدا فيمن كان ساكنًا في جواره، حتى اضطر من كان ساكنًا في "رحبتن" "الرحبة" إلى الفرار إلى الجبال خوف الموت3، فأسرع الملك إلى الاستعانة بحمير وبقبائل حضرموت لإعادة بناء السد، فتجمع لديه زهاء عشرين ألف رجل اشتغلوا بقطع الحجارة من الجبال وحفر الأسس وتنظيف الأودية وإنشاء خزانات لخزن المياه وعمل أبواب ومنافذ لمرور الماء والسيطرة عليه، حتى تم ذلك في شهر "ذو دأو" من سنة "565" من تأريخ حمير4. وذكر ما أنفقه على العمال وما قدمه لهم من

_ 1 "رجم"، السطر السادس وما بعده من النص. 2 Glaser. Mitt., S. 379, Sep., S. 20, Handbuch, S. 105, Background, P.118, Le Museon, 1964, 3-4, P.494 3 السطر 68 من النص. 4 أي: سنة "450" أو "451" للميلاد.

طعام وما ذبحه من بقر وأغنام، وما صرفه من دبس "دبسم" وخمر وغير ذلك مما ذكره وفصله1. وقد استخدم الملك عشرين ألف رجل لإصلاح السد2. لقد قَلََّ شأن مأرب في هذا العهد، وأخذ الناس يرحلون عنها إلى مواضع أخرى مثل "صنعاء" التي تألق نجمها حتى صارت مقرًّا للحكام الذين أقاموا في قصر "غندن" "غندان"، أي: "غمدان"، وقد يكون لتصدع السد مرارا، دخل في هذا التحول، حيث أجبر المزارعين على ترك أرضهم التي أصابها التلف والجفاف والارتحال إلى أرضين أخرى، فتركوها إلى الهضاب والجبال. وقد يكون للتحول السياسي الذي أصاب هذا العهد دخل أيضًا فيه3. وفي تصدع السد بعد مدة ليست طويلة من ترميمه وإصلاحه وتجديده، وبعد إنفاق أموال طائلة عليه واشتغال آلاف من العمال في بنائه، شيء يثير السؤال عن سبب سقوطه أو سقوط جزء منه بهذه السرعة، فهل تهدم من سقوط أمطار غزيرة جدًّا في هذا العام لم يكن في طاقة السد احتمالها فسقط؟ أم أن بناء السد لم يكن قد كمل تمامًا، فسقطت أمطار غزيرة سببت انهيار الأماكن الضعيفة من المواضع التي لم تكن قد تمت، فانهار لذلك؟ أم أنه انهار بفعل كوارث طبيعية مثل زلزال أو بركان؟ إلى هذا الرأي الأخير يميل "فلبي" في كتابه "سناد الإسلام"4. إن مما يؤسف عليه حقًّا أن هذا النص لم يذكر أسماء القبائل التي هربت من "رحبتن" "رحبت" "الرحبة" خوفًا من الهلاك. وعلى الجملة، فالمستفاد منه بكل صراحة أن القبائل التي كانت تقطن هذه المنطقة تفرقت وتشتتت لتهدم السد, وفيه دليل على وجود أصل تأريخي للروايات العديدة التي يرويها الأخباريون عن تهدم سد مأرب وتفرق سبأ5. ولكننا لا نستطيع بالطبع أن نقول: إن هذا الحادث الذي وقع في أيام "شرحبيل" هو الحادث المقصود في روايات الأخباريين، وهي روايات يتغلب عنصر الخيال والابتداع والمبالغات فيها على عنصر الحقيقة والتأريخ.

_ 1 راجع السطر 84 وما بعده حتى نهاية النص, Discoveries, P.74 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.494, Glaser 554, Cih, 540, 554 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.493 4 Background, P.118 5 Glaser, Mitt., S. 387, Sep., S. 28

وفي النص كما نرى ونقرأ جملة مهمة تشير إلى انتشار عقيدة التوحيد في ذلك الزمن بين اليمانيين، وإلى الابتعاد عن آلهة اليمن القديمة, وتشير إلى ظهور "إله السماء والأرض" أو "إله السماوات والأرض"، فهو إله واحد، يرعى ملكوت السماء والأرض. وفي هذه العقيدة اعتقاد بوجود إله واحد, فقد ورد في النص: "بنصر وردا الهن بعل سمين وأرضن"1، أي "بنصر وبعون الإله رب السماوات والأرض"، وهي عقيدة ظهرت عند أهل اليمن بعد الميلاد بتأثير اليهودية والنصرانية ولا شك. وفي جملة "الهن ذلهو سمين وأرض" الواردة في النص: Ryckmans 507 ومعناها: "الإله الذي له السماوات والأرض"2، تعبير عن التوحيد أيضًا, وهي من نص يرجع إلى هذا الملك أيضا. فنحن إذن في عصر أخذت عقيدة التوحيد تنتشر فيه. وقد انتقل الحكم بعد "شرحبيل يعفر" "شرحب إيل يعفر"3 إلى "عبد كلال" "عبد كللم" "عبد كلالم" على رأي "هومل", وجاراه "فلبي" في رأيه هذا، وجعل حكمه منذ سنة "455م" حتى سنة "460م"4. ولم يشرح "هومل" الأسباب التي دفعته إلى اعتبار "عبد كلال" ملكًا. أما "فلبي"، فرأى أنه كان كاهنًا وسيد قبيلة, ثار على ملكه؛ طمعًا في الملك أو إخمادًا للثورة التي أجج الملك نيرانها على آلهة قومه، فغلبه، وربما كان ذلك بفضل مساعدة مملكة "أكسوم" له. ولكنه لم ينعم بالملك طويلًا، فلم يزد مدة حكمه على خمس سنين5. وقد ورد اسم "عبد كلال" في النص الموسوم بـ6Glaser 7, وذكر معه اسم "هنام" "هنم" "هانئ" و"هعلل"، وهما ابناه. ووردت بعد

_ 1 السطر "81" وما بعده. 2 Le Museon, 1961, 1-2, P.174 3 Handbuch, S.104 Handbuch, P.104 4 Background, P.143, Le Museon, 1961, 1-2, P.174 5 Philby, Highlands, P.260 6 Cih 6, Iv, I, I, P.15, Glaser 7, Halevy 3, Guttenden 3, Fresnel 3, D.H. Muller, Siegfried Langer's Reiseberichte, Leipzig, 1884, S. 52

أسمائهم عبارة: "ألهت قولم"، أي: "سادة أقيال"، وهي جملة تدل على أنه هو وابنيه كانوا أقيالًا، فإن كانت كلمة "قولم" اسم علم، صار معناها "آلهة قولم"، أي "سادة قول"، على اعتبار أن "قول" اسم قبيلة، ولا يفهم من التفسيرين على كل حال أن "عبد كلال" كان ملكًا. وقد دون هذا النص عند بنائهم بيت "يرت": "براو وهشقرن بتهمو يرت", وذكرت بعد هذه الكلمات جملة: "بردا رحمنن"، أي: "بعون الرحمن" وذلك في سنة "573" من التأريخ الحميري، المقابلة لسنة "458" الميلادية1. وليست في هذا النص إشارة لا إلى ثورة, ولا إلى ملك، ولا إلى تعلق بآلهة قديمة ودفاع عنها بل الأمر على العكس، فجملة "بردا رحمنن" تدل على أنه كان مثل "شرحبيل يعفر" موحدًا أيضا، يدين بإله واحد، هو "الرحمن" الذي ظهرت عبادته متأخرة كذلك، وأنه لم يكن على دين أجداده في عبادة "المقه" وبقية الأصنام. وذكر الأخباريون أن من ملوك حمير ملكًا اسمه "عبد كلال"، وكان مؤمنًا يدين بدين المسيح، فآمن بالنبي قبل مبعثه. ومن ولده "الحارث بن عبد كلال" وهو أحد الملوك الذين وفدوا على رسول الله من ملوك حمير، فأفرشهم رداءه، وهم: "الأبيض بن حمال"، و"الحارث بن عبد كلال"، و"أبرهة بن شرحبيل بن أبرهة بن الصباح"، و"وائل بن حجر الحضرمي", يضاف إليهم "جرير بن عبد الله البَجَليّ"، و"عبد الجد الحكمي" في رواية أخرى2. ودون اسمه في نسخة "كتاب التيجان" المطبوعة على هذه الصورة "عبد كاليل بن ينوف"، وجعل ملكه أربعًا وستين سنة، وذكر أنه حكم بعد "عمرو بن تبان"، وأنه كان مؤمنًا على دين عيسى، ولكنه ستر إيمانه3. وجعله بعض المؤرخين "عبد كلال بن مثوب"، وذكروا أنه وثب على ملك التبابعة بعد وفاة "عمرو بن تبان أسعد" عن أولاد صغار، وأكبرهم استهوته الجن، فملك أربعًا وتسعين سنة، وهو تبع الأصغر، وله مغازٍ وآثار بعيدة, فلما توفي ملك أخوه "مرثد"، وقد ملك سبعة وثلاثين عامًا4.

_ 1 Background, P.117, Sab. Inschriften, S. 192 2 منتخبات "ص93". 3 التيجان "ص299"، حمزة "ص87". 4 التيجان "ص299"، صبح الأعشى "5/ 23 وما بعدها".

ومن روايات الأخباريين هذه ومن تشابه الاسمين، استنتج "فون كريمر" و"هومل" وغيرهما أن "عبد كلال" المذكور في النص هو "عبد كلال" المذكور عند الأخباريين، وأنه كان لذلك ملكًا1. و"عبد كلال"، هو رجل ثائر لم يكن من أبناء الملوك، وإنما اغتصب العرش اغتصابًا على رأي أهل الأخبار، وقد زعم بعضهم أن الذي حكم بعده أخوه لأمه واسمه "مرثد"، وقد حكم سبعًا وثلاثين سنة. ثم ملك من بعده ابنه "وليعة بن مرثد"، ثم ملك من بعده "أبرهة بن الصباح بن لهيعة بن شيبة بن مرثد بن ينف بن معد يكرب بن عبد الله بن عمرو بن ذي أصبح، الحارث بن مالك"، وقيل: إنما ملك تهامة فقط2. وذكر "الهمداني" أن "عبد كلال", ونعته بـ"الكبر ذي الحدث"، كان قائد "حسان بن تبع", وكان على مقدمته إلى اليمامة يوم قتل جديسًا، وقريش تقول: إن "حسان بن عبد كلال هذا حاربهم وأسروه". ثم ذكر أن "حسان بن عبد كلال بن ذي حدث الحميري"، أقبل من اليمن "في حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن؛ ليجعل حج الناس البيت عنده وإلى بلاده، فأقبل حتى نزل نخلة، فأغار على سرح الناس ومنع الطريق، وهاب أن يدخل مكة، فلما رأت كنانة وقريش وقبائل خندف ومن كان معهم من أفناء مضر ذلك، خرجوا إليه ورئيس القوم يومئذٍ "فهر بن مالك"، فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزمت حمير وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة فيمن قتل: قيس بن غالب بن فهر. وكان حسان عندهم بمكة أسيرًا ثلاث سنين، حتى افتُدِيَ منهم، فخرج به، فمات بين مكة واليمن"3. وقد عَلَّق "الهمداني" بعد ذلك على هذا الخبر، فقال: "ما سمعت العلماء ولا أحدًا من عُرَّاف حمير، يثبت هذه الحرب التي كانت بين حمير وقريش، وإنما كانت خزاعة الغالبة في عصر فهر على مكة، ولم يكن هَمَّ بحمل حجارة

_ 1 Hartmann, Arabische Frage, S. 486, 492, Wellhausen, Skizzen Und Vorarbeiten, Iv, S. 191, Mordtmann Und Mittwoch, Sab. Inschriften, S. 192 2 صبح الأعشى "5/ 24". 3 الإكليل "2/ 357 وما بعدها".

البيت سوى تبع بمشورة هذيل بن مدركة"1. فهو مثل سائر أهل اليمن المتعصبين لقحطان لا يؤيد خبر تلك الحرب، التي تجعل النصر لأهل مكة, ويضع تبعة ما يذكره أهل الأخبار من نقل حجارة الكعبة إلى اليمن على عاتق "هذيل بن مدركة"، من سادات مكة. وشهدت اليمن في سنة "460" للميلاد أو قبل ذلك بقليل ملكًا جديدًا اسمه "شرحبيل يكف" "شرحب ال يكف" "شرحب إيل يكوف"، كانت نهاية حكمه في سنة "470" للميلاد على تقدير "هومل" و"فلبي"2, وهو ملك لا نعرف اسم أبيه، ولا نعرف علاقته بالملك السابق. ويرى "فلبي" أنه على الرغم من هذا اللقب الطويل: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الأطواد وفي تهامة"، الذي يشير إلى تملك صاحبه العربية الجنوبية الغربية، فقد ظل الأحباش في بقعتهم الضيقة التي ارتكزوا عليها يحاربون حكومة "حمير" وهم البقية الباقية من عهد الاحتلال السابق3. وقد جاء اسم "شرحب إيل يكف" "شرحبيل يكف" في كتابة مؤرخة بسنة "575" من التقويم الحميري، المقابلة لسنة "460" للميلاد. وقد وردت في الكتابة جملة: "رحمنن وبنهو كرشتش غلبن"، أي: "الرحمن وابنه المسيح الغالب"، وقد استعمل لفظة "كرشتش" في مقابل لفظة Christus, مما يدل على أن صاحبها نصراني. وقد استعمل المصطلح اليوناني، ويظهر أن نصارى اليمن كانوا قد أخذوه من المبشرين، وعربوه على الصورة المذكورة. وقد ذكر بعد تلك الجملة اسم الملك ونعته الذي هو: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في النجاد وفي التهائم"4. وقد بقي من تأريخ النص اسم الشهر وهو "ذ حجت"، أي: "ذو الحجة" "ذو حجة" والعدد الأول من اسم السنة وهو خمسة. ويرى "فلبي" احتمال كون السنة "585" أو"575" من التأريخ الحميري، أي سنة "470" أو "460"

_ 1 الإكليل "2/ 359". 2 Background, P.143, Highlands, P.260, Handbuch, S. 105, Le Museon, 1961, 1-2, P.174 3 Philby, Highlands, P.260 4 A. Jamme, La Dynastie De Sharahbi'll Yakuf Et La Documentation Epigraphique Sud-Arabe, Istanbul, 1961, P.4

للميلاد1. وورد اسمه في كتابة أخرى ناقصة, وقد سقطت منها حروف وكلمات2. وقد ذهب "جامه" إلى أن "شرحبيل يكف" "شرحب إيل يكوف"، كان قد حكم حكمًا منفردًا، وذلك من سنة "570" حتى سنة "580" من التقويم الحميري، ثم أشرك معه أولاده الثلاثة في الحكم، وذلك من سنة "580" حتى سنة "585" من التقويم المذكور، ثم حكم مع ولدين من ولده، وذلك من سنة "585" حتى سنة "590" من التقويم الحميري, ثم حكم ابنان من أبنائه وذلك من سنة "590" حتى سنة "595" من التقويم المذكور، ثم حكم من بعدهما "معد يكرب ينعم" حكمًا منفردًا وذلك من سنة "595" حتى سنة "600" من ذلك التقويم، ثم خلفه "عبد كلال" الذي حكم من سنة "600" حتى سنة "602" من التقويم الحميري3. ووصل إلينا نص أرخ بسنة "582" من التأريخ الحميري، أي: سنة "467" للميلاد، وفيه كلمات مطموسة، منها كلمة أو كلمات سقطت بعد كلمة "شرحب إيل" "شرحبيل"، وبعدها "معد كرب ينعم" "معد يكرب ينعم". ويستدل بتأريخ هذا النص على أن المراد بـ"شرحبيل" "شرحب إيل" الملك "شرحبيل يكف" "شرحب إيل يكف" الذي نتحدث عنه. ولم يرد في هذا النص اسم ابن آخر من أبنائه غير هذا الابن، وهو "معد كرب ينعم" "معد يكرب ينعم"4. وقد وجد مدونًا في إحدى الكتابات أسماء ثلاثة أولاد من أولاد "شرحبيل يكف"، هم: "نوفم" "نوف" "نوَّاف" "نائف"، و"لحيعت ينف" "لحيعث ينوف"، و"معد يكرب ينعم" وقد نعتوا جميعًا بالنعت الملكي المعروف5,

_ 1 Cih, Iv, Iii, I, P.78, Le Museon, 3-4, 1964, P.270, Jamme, La Dynastie De Sharahbi'll Yakuf, P.4 2 Jamme, La Dynastie., P.7 3 Jamme, La Dynastie., P.20 4 Background, P.143, Philby, Highlands, P.260, Handbuch, S. 105, Le Museon, 1961, 1-2, P.174, Joseph Et H. Derenbourg, Etudes Sur L'epigraphie Du Yemen, P.70 5 Jamme, La Dynastie, Pp.8, 19 Rep. Epig. 4919, Cih 537

مما يدل على أنهم كانوا قد اشتركوا جميعًا في الحكم. وقد ورد اسم "شرحبيل يكف" في عدد من كتابات أخرى, وقد ذكر معه في بعضها اسم ولدين من أولاده هما: "لحيعت ينف" و"معد يكرب ينعم" "معد يكرب ينعم"، وقد لقبا بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي تهامة"، مما يدل على أنهما حكمَا حكمًا مشتركًا وكان ملكيْنِ1. وحكم بعد "شرحبيل يكف" -في رأي "هومل"- ولداه "معد يكرب يهنعم" و"لحيعثت ينف" "لحيعث ينف" "لحيعث ينوف"، وذلك من حوالي سنة "470م" حتى سنة "495م"2. أما "فلبي"، فقد وضع في قائمته التي رتبها في كتابه "سناد الإسلام" لملوك سبأ، اسم "نوف" بعد اسم "شرحبيل يكف"، وقدر مدة حكمه منذ سنة "470م" حتى سنة "480" "490م" ووضع اسم "لحيعثت ينف" بعده، وجعل مدة حكمه منذ سنة "480ب. م." حتى سنة "500ب. م."3. و"لحيعثت ينف" هو "لخيعة بن ينوف ذو شناتر" المذكور عند أهل الأخبار, وقد زعم بعضهم أنه حكم سبعًا وعشرين سنة4. وقد ورد اسم "معد يكرب يهنعم" "معد يكرب ينعم" واسم شقيقه "لحيعثت ينف" "لحيعت" في النص: Ryckmans 264 وفي النص:5 CIH 620, وورد اسم "لحيعثت" وورد معه اسم "نوف"، وهو شقيقه في النص:6 Ryckmans 203.

_ 1 Cih 537, Iv, Ii, Iii, P.257, Cih 644, 620, Background, P.118, Le Museon, Lxiii, 3-4, "1950", P.270, Ott. Mus. 29, Cih, Iv, Iii, I, P.78, Nordtmann Und Muller, Sabaische Denkmaler, "1883", S. 85, Seetzen 4, Cih, Iv, Iii, I, P.53, J.H. Mortdtmann, Miscellen Zur Himjarischen Alterthumskunde, In Zdmg., Xxxi, "1877", S. 89-90, Hartmann, Arabische Frage, "1909", S. 163, Jamme, La Dynastie, P.10 2 Handbuch, S. 105 3 Background, P.143, Le Museon, 1961, 1-2, P.174 4 صبح الأعشى "5/ 24", الطبري "2/ 117". 5 Cih 620, Iv, Iii, P.53, Mordtmann Und Muller, Sabaische Denkmaller, 1883, S. 85, Mordtmann, Miscellen, Zur Himjarischen Alterthmskunde, In Zdmg., Xxxi, "1877", S. 89, Jamme, La Dynastie, P.17 6 Le Museon, Lxiii, 3-4, "1950", P.271

وقد ذكر "فلبي" أنه في حوالي سنة "495م" شبَّت ثورة قام بها "مرثد ألن" "مرثد علن"، غير أنها أحبطت. ووضع بعد اسم "لحيعثت ينف" اسم "معد يكرب ينعم"، وقدر مدة حكمه بعشر سنين، منذ سنة "490م" حتى سنة "500م"، أي: إنه شارك، على رأيه، أخاه في الحكم1. أما الذي حكم بعد الأخوين "معد يكرب يهنعم" و"لحيعثت ينف" -في رأي "هومل"- فهو "مرثد ألن" وقال: إنه قد حكم من حوالي سنة "495م" حتى سنة "515م"2. أما "جامه"، فقد وضع اسم "عبد كللم" "عبد كلالم"، أي: "عبد كلال" بعد اسم "معد يكرب ينعم"، وقد جعل حكم "معد يكرب" فيما بين السنة "595" والسنة "600" من التقويم الحميري، أي: بين سنة "480" أو "486" للميلاد والسنة "485" أو "491" للميلاد, وجعل حكم "عبد كلال" فيما بين السنة "600" والسنة "602" من التقويم الحميري، أي: سنة "485" أو "491" للميلاد، والسنة "487" أو "493" للميلاد. ثم جعل فراغًا لا يدري من حكم فيه، جعله يمتد من السنة "602" حتى السنة "610" من التقويم الحميري، أي: ثماني سنين، ثم ذكر بعده اسم الملك "مرثد ألن ينف" "مرثد علن" "مرثد علان"، وجعل حكمه من سنة "610" حتى السنة "620" من التقويم الحميري، أي: من سنة "495" أو "501" حتى السنة "505" أو "511" للميلاد3. ووصل إلينا نص وُسِمَ بـCIH 596، وهو ناقص ويا للأسف، ورد فيه اسم الملك "مرثد ألن ينف" "مرثد ألن ينوف" وقد لقب فيه باللقب المألوف: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي التهائم"4، يظهر أنه الملك "مرثد ألن" الذي عناه "هومل". وقد أصيبت أسطر النص بأضرار، أتلفت كلمات منه وأفسدت علينا المعنى. وقد وردت في السطر السابع

_ 1 Background, P.143 2 Handbuch, S. 105, Philby, Highlands, P.260, Le Museon, 1961, 1-2, P.174 3 Jamme, La Dynastie, P.20 4 Cih 596, Iv, Iii, P.1, Rehatsek 2, E. Rehatsek, Twele Sabaean Inscriptions, In Journal Of The Bombay Branch Of The Royal Asiatic Society, X, 1874, P.140

منه كلمة "ومهرجتم"، مما يفهم أن حربًا وقعت في البلاد في تلك الأيام؛ فـ"الهرج" في العربيات الجنوبية بمعنى الحرب، وأن فتنة حدثت، لا ندري سببها. ومهما يكن من شيء، فهي لم تكن بعيدة عهد عن أيام حكم "ذي نواس", ذلك العهد الذي انتهى بدخول الحبشة أرض اليمن. ووضع "هومل" بعد اسم "مرثد ألن" اسم "ذي نواس"، وقد حكم -على تقديره- من سنة "515م" حتى سنة "525م"، وبه ختمت -في رأيه- سلسلة ملوك الحميريين1. وقد عثر على كتابة وسمت بـPhilby 228 ورد فيها اسم ملك من ملوك "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي تهامة"، هو "معد يكرب يعفر"2. وأُرِّخت هذه الكتابة بشهر "ذي القيض" ذ قيضم" من سنة "631" من التأريخ الحميري, الموافقة لسنة "516م"3, ومعنى هذا أن هذا الملك قد حكم قبل حكم "ذي نواس" بمدة قليلة. ونحن لا نعلم في الزمن الحاضر شيئًا من صلة هذا الملك بـ"ذي نواس". وقد عبث الدهر ببعض كلمات هذا النص وحروفه، فأضاع علينا معاني مفيدة. وردت فيه أسماء أعلام، هي: "سبأ، و"حميرم" "حمير"، و"رحبتن" أي: "رحبة" "الرحابة". وقد ورد اسم "رحبتن" في عدد من النصوص على أنه اسم موضع4, أما هنا، فهو اسم قبيلة؛ لورود كلمة "أشعبهمو" قبل "سبأ وحميرم ورحبتن"5, ووردت كلمة "واعربهمو"، وبعدها جملة "كدت ومذحجم وبني ثعلبت ومذر وسبع"6. وفي النص حروف طامسة حرمتنا معرفة بعض الأعلام. وأما "كدت"، فقد قلت: إن رأي علماء العربيات الجنوبية أنها "كندة". ويظهر من ورود اسمها في النصوص التي ترجع إلى ما بعد الميلاد، أنها أخذت

_ 1 Handbuch, S. 105. Le Museon, 1961, 1-2, P.174 2 Le Museon, Lxiv, 1-2, "1951", P.103, The Geographical Journal, Vol. Cxvi, Nos. 4-6, "1950", P.214, Le Museon, 3-4, 1953, P.307, 1961, 1-2 P.174 3 السطر التاسع من النص. 4 Cih 289, Iv, I, Iii, P.300, Glaser, Die Abessinier, S. 74, 117 5 السطر السادس من النص. 6 السطران السابع والثامن من النص.

تؤثر تأثيرًا واضحًا في سياسة العربية الجنوبية بعد الميلاد، ولا سيما بعد توسع سلطان القبائل, وتدخل الأعراب في الشئون السياسية لعدم الاستقرار, ولتدخل الحبش في شئون العربية الجنوبية، وتقاتل الملوك والأقيال بعضهم مع بعض. ويتبين من ورود كلمة "أعربهمو" قبل كلمة "كدت" في النص، أن قبيلة كندة كانت من القبائل الأعرابية أي: البدوية، ولم تكن من القبائل المستقرة، النازلة في منازل ثابتة؛ ولهذا استعان بها حكام اليمن في تأديب القبائل اليمانية أو قبائل معد وقبائل نجد التي كانت تغزو اليمن، كما كانت نفسها تهاجم حكام اليمن وتغزو أرضهم، فصار لها من ثَمَّ شأن يذكر في سياسة اليمن في هذا الوقت. و"مذحجم" قبيلة "مذحج"، وهي من القبائل المعروفة، وينسبها أهل الأنساب إلى مذحج بن مالك بن أدد, ويذكرون أن مذحج أكمة ولدت عليها أمهم فسموا مذحجًا1. وقد ورد اسم هذه القبيلة في النص: Ryckmans 5082 المدون في أيام الملك "يوسف أسأر" الذي سأتحدث عنه، كما ورد في نص قتباني، هو النص الذي وسم بـREP. EPIG, 46883. وقد ذكر بعده اسم قبيلة "رغض"، ويظن البعض أن في قراءة الحرف الأول شيئًا من التحريف، وأن الحرف الأول هو حرف "ب" لا "راء"، فيكون اسم القبيلة "بغض" لا "رغض"، وهو اسم القبيلة "بغيض", وبغيض من القبائل العربية المعروفة. وأما "ثعلبة"، فهي قبيلة "ثعلبان" التي ورد اسمها في السطر الثالث عشر من نص "سميفع أشوع" المحفوظ في متحف "إستانبول"4، وفي نص: Philby 123 حيث ورد: "ألهت ثعلبن"، "آلهة ثعلبان"، أي: سادة قبيلة "ثعلبان"5. وذكر اسم "دوس ثعلبان" في قصة تعذيب "ذي نواس" لنصارى "نجران",

_ 1 الاشتقاق "ص237". 2 الفقرة السابعة منه. 3 السطر الثاني منه، British Museum 125, 349, Le Museon, 1953, 3-4, P.301, Bibliotheca Orientalis, X, 1953, P.150 4 Istanbul 7608, Bis, 13, Le Museon, Lxiv, 1-2, "1951", P.105, Le Museon, Lix, 1-4, "1964", P.171, Rep. Epig. 2633, V, I, P.5 5 Le Museon, Lx, 1-2, "1947", P.150

ويرى علماء العربيات الجنوبية وجود صلة بين قبيلة "ثعلبان" و"دوس ثعلبان"1. وورد اسم "دوس ثعلبان" في أثناء كلام الطبري على "ذي نواس"2. ويعرف "ذو ثعلبان" المتقدم ذكره بـ"ذي ثعلبان الأصغر"، وقد قال عنه "نشوان بن سعد الحميري": إنه من نسل "ذي ثعلبان الأكبر"، وهو ملك من ملوك حمير، وأحد المثامنة منهم, واسمه "نوف بن شرحبيل بن الحارث"، وزعم أن "ذا ثعلبان الأصغر" هو الذي أدخل الحبشة إلى اليمن غضبًا لما فعل ذو نواس بأهل الأخدود من نصارى نجران3. وأما "مذر" و"سبع", فقبيلتان. وأظن أن في قراءة اسم القبيلة الأولى بعض التحريف, وأن الحرف الذي قُرِئَ بـ"ذ" يجب أن يقرأ "ضادًا" "ض"، وتكون القراءة عندئذ "مضر"، وهو الاسم الشهير المعروف عند النسابين. وقد رجعت إلى الصورة "الفوتوغرافية" المنشورة في مجلة Le Museon، فوجدت أن الحرف المذكور هو أقرب إلى حرف "الضاد" من حرف "الذال"4. والذين يقرءون المسند يعرفون أن من السهل الوقوع في الخطأ في قراءة الحرفين, إذا كان قد كُتبا على أحجار قديمة, وقد عبث الدهر بتلك الأحجار؛ لأن بين الحرفين شيئًا من التشابه. ويظهر لديَّ أن رسم الحرف أقرب إلى الضاد من الذال؛ لوجود أثر لخط في أعلى وفي أسفل الحرف. ويفهم من هذا النص أن حربًا أو فتنةً كبيرةً كانت قد حدثت في أيام هذا الملك، أسهمت فيها القبائل المذكورة، وهي: سبأ وحمير ورحبة وكدت "كندة" ومضر وثعلبة، وذلك قبل احتلال الحبش لليمن بقليل أو في أيام "معد يكرب يعفر"، وفي سنة "516م"5. وقد مهدت هذه الفتنة الطريق للأحباش أن يدخلوا إلى العربية ويحتلوها بسهولة؛ وذلك بسبب الخصومات التي كانت بين القبائل, وظهور الروح القبلية التي لا تعرف التعاون إلا في سبيل مصلحة القبيلة فحسب.

_ 1 Le Museon, Lxiv, 1-2, "1951", P.105, M. Hartmann, Die Arabische Frage, S. 335. 2 الطبري "1/ 925" "طبعة ليدن"، "2/ 106" "طبعة المطبعة الحسينية بمصر". 3 شمس العلوم "جـ1 ق1 ص251". 4 Le Museon, 3-4, 1953, P.307, Plate Vi, Ryckmans 510 5 The Geographical Journal, Vol., Cxvi, Nos: 4-6, 1950, P.214

وتولى المُلْكَ بعد "معد يكرب يعفر" المَلِكُ ذُو نواس، وهو زرعة ذو نواس بن تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو في رأي الأخباريين1، وهو يوسف ذو نواس بعد تهوده في رأيهم أيضا. ولقد زعم بعض أهل الأخبار أنه كان من أبناء الملوك، وزعم بعض آخر أنه لم يكن من ورثة الملك، ولا من أبناء من حازه قبله، وإنما أخذه أخذًا2. قيل: كانت له ذؤابتان تنوسان على عاتقه, بهما سمي ذا نواس3. ولا يعرف أهل الأخبار اسم الملك "معد يكرب يعفر"، بل ذكروا اسم ملك آخر قالوا: إنه حكم قبل "ذي نواس" زعموا أن اسمه "لخيعة ينوف ذو شناتر"، وقالوا: إنه لم يكن من بيوت المملكة، بل كان من حمير، وثب على الملك، فملك حمير، وقتل خيارهم، وعبث ببيوت أهل المملكة منهم. وكان امرأً فاسقًا، إذا سمع بالغلام من أبناء تلك الملوك زرعة ذو نواس بعث إليه؛ ليفعل به كما كان يفعل بأبناء الملوك قبله، فلما خلا به، وثب عليه ذو نواس بالسكين فطعنه به حتى قتله، ثم احتز رأسه، فخرجت حمير والأحراس في أثر ذي نواس حتى أدركوه، فقالوا له: ما ينبغي لنا أن يملكنا إلا أنت؛ إذ أرحتنا من هذا الخبيث فملَّكوه، واستجمعت عليه قبائل حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير4. أما "ابن قتيبة"، فقد زعم أن "ذا شناتر" رجل لم يكن من أهل بيت الملك ولكنه من أبناء المقاول، أي: من طبقة الأقيال "أقول". وقد اتفق مع غيره من أهل الأخبار في قصة غلظه وفحشه، وفعله القبيح بأبناء الملوك، وفي إرساله إلى ذي نواس يستدعيه إليه ليفعل به ما كان يفعله بغيره، وفي قتله إياه5. وتهود ذو نواس وتهودت معه حمير، وتسمى "يوسف". هذا ما عليه أكثر أهل الأخبار6,

_ 1 التيجان "300"، الطبري "2/ 103" "المطبعة الحسينية"، المعارف لابن قتيبة "311". 2 الأصمعي، تاريخ ملوك العرب الأولية "ص43 وما بعدها". 3 المعارف لابن قتيبة "311". 4 الطبري "2/ 118 وما بعدها" "دار المعارف". 5 المعارف "277". 6 الطبري "2/ 119" "دار المعارف"، المعارف "277".

وقد ذكر "ابن كثير" في تفسيره، أنه كان مشركًا1. وبهذه القصة والطريقة صيَّر أهل الأخبار ابتداء ملك "ذي نواس". وذكر "ابن هشام" أن ذا نواس كان آخر ملوك حمير، وذكر آخرون أن ذا جدن وهو ابن ذي نواس, قد خلف أباه على حمير2. وفي رواية أخرى أن ملك حمير لما انقرض وتفرق في الأذواء من ولد زيد الجمهور، قام ذو يزن بالملك، واسمه علي بن زيد بن الحارث بن زيد الجمهور، أو علي بن الحارث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور، فثار عليه الحبشة وعليهم أرياط، ولقيهم فيمن معه، فانهزم واعترض البحر فأقحم فرسه وغرق، فهلك بعدُ ذو نواس وولي ابنه مرثد بن ذي يزن مكانه، وهو الذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد. وكان من عقب ذي يزن أيضًا، علقمة ذو قيفال بن شراحبيل بن ذي يزن ملك مدينة "الهون"، فقتله أهلها من همدان3. ولم يصل إلينا شيء من هذا القصص الذي رواه الأخباريون عن ذي نواس, مكتوب بالمسند, ولم يرد اسمه في أي نص من نصوصه حتى الآن. وزعم المؤرخ "ابن العبري" Barhebraeus، أن "ذا نواس" واسمه "يوسف"، وكان من أهل الحيرة في الأصل، وكانت أمه يهودية من أهل "نصيبين" Nisibis وقعت في الأسر، فتزوجها والد "يوسف" فأولده منها4, ومعنى هذا أنه لم يكن يمانيًّا، بل يهوديًّا وفد على اليمن من الحيرة. وقد لاحظ بعض المستشرقين أن اسم "يوسف ذي نواس"، ليس على شكل وطراز أسماء وألقاب ملوك اليمن، وهذا ما دعاهم إلى التفكير في احتمال وجود شيء من الصحة في رواية "ابن العبري"، لا سيما وأن يهود اليمن ويثرب وخيبر كانوا من المؤيدين للساسانيين ومن المناصرين لهم5. وقد اختلف الأخباريون في مدة حكمه؛ فقال بعضهم: إنه ملك ثمانيًا وثلاثين

_ 1 تفسير ابن كثير "4/ 548". 2 ابن هشام "1/ 20"، حمزة "89"، Fell, In ZDMG., 35, 1881, S. 33 3 ابن خلدون "2/ 61"، Caussin, Essai., I, P.135 4 Chron. Eccles., I, 201, 14, Chronik Von Se'ert, I, P.331, Die Araber, I, S. 630 5 Die Araber, I, S. 630, Michael Syrus, 2, "1901", Pp.410, 414

سنة1. وذكر المسعودي وآخرون أنه حكم مائتي سنة وستين سنة2, وذكر حمزة أنه ملك عشرين سنة3. وهكذا هم فيه وفي غيره مختلفون. وإذا ما استثنينا الأخبار التي رُويت عن تعذيب "ذي نواس" لنصارى نجران، فإننا لا نعرف شيئًا آخر مهمًّا عن أعمال هذا الملك، الذي كان متحاملا جدا على النصارى والنصرانية, حتى إنه راسل ملك الحيرة لكي يؤثر عليه فيحمله على أن يفعل بنصارى مملكته ما يفعله هو بهم4. ولعله كان يريد بذلك أن يكوِّن حلفا سياسيا مع ملوك الحيرة ومن ورائهم الفرس لمقاومة الحبش الذين كانوا قد وطئوا سواحل اليمن وأقاموا لهم قواعد فيها وعقدوا معاهدات مع الأمراء المنافسين لملوك حمير، وصاروا يحرضونهم على أولئك الملوك؛ ليتمكنوا بذلك من السيطرة على كل من اليمن والتوسع من ثم نحو الحجاز، للاتصال بحلفائهم الروم, والسيطرة بذلك على أهم جزء من جزيرة العرب، والهيمنة على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وإنزال ضربة عنيفة بسياسة خصوم الروم، وهم الساسانيون. وفي حوالي السنة "525م" كانت نهاية حكم "ذي نواس"، إذ احتل الأحباش اليمن كما سنرى ذلك فيما بعد. وفي موضع "سلع"، ويسمى "نخلة الحمراء" وهو خربة عادية، موضع زعم أنه قبر "ذي نواس"، المتوفى في حوالي "سنة 525م". وقد فتح الموضع واستخرجت منه آثار فنية ذات قيمة، من بينها تمثالان لزنجيين من البرونز5. ويظن بأن ما جاء بنص "حصن غراب" الموسوم بين المستشرقين بـREP. EPIG. 2633 من أن الأحباش فتحوا أرض حمير سنة "640" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "525" للميلاد، وقتلوا ملكها وأقياله الحميريين والأرحبيين، يشير إلى الملك "ذي نواس"، وإن لم يرد بالنص على اسمه6.

_ 1 التيجان "301"، الإكليل "226". 2 مروج "1/ 280" "المطبعة البهية"، شرح قصيدة ابن عبدون المعروفة بالبسامة "91". 3 حمزة "89". 4 Die Araber, I, S. Ii 5 Beitrage, S. 22 6 Rep. Epig., V, I, P.5, Glaser, Die Abessinier, S. 131, Mordtmann, In Zdmg., Vliv, "1890", S. 176

وقد عثر على نصين مهمين هما: Ryckmans 507 والنص Ryckmans 508، وقد أشير فيهما إلى حروب وقعت بين الأحباش وبين ملك سمي فيهما بـ"يسف أسار" "يوسف أسأر"، ولم يلقب النصان "يوسف" باللقب الطويل المألوف بل نعتاه بـ"ملكن يسف أسأر"، أي: "الملك يوسف أسأر" فقط1, و"يسف أسار" هذا, هو الملك "ذو نواس". وقد كتب النصان في سنة واحدة هي سنة "633" من التقويم الحميري، الموافقة لسنة "518" للميلاد, إلا أنهما كتبا في شهرين مختلفين؛ فكتب أحدهما في شهر "ذ مذرن" "ذ مذران" "ذو مذران"2, وكتب الثاني في شهر "ذ قيضن" "ذو قيضن" "ذو القيض". ويستنتج من عدم تلقيب "يوسف" باللقب الملكي الطويل المألوف، أن ملكه لم يكن متسعًا وأن سلطانه لم يكن عاما شاملا كل اليمن، بل كان قاصرًا على مواضع منها, فقد كان الأحباش يحتلون جزءًا منها بما في ذلك عاصمة حمير مدينة "ظفار" وكان الأقيال ينازعونه السلطة وقد كونوا لهم إقطاعيات مستقلة، نازعت الملك على الحكم والسلطان. وكانت الفتن مستعرة وهذا مكن الحبش من انتهاز الفرص؛ فأخذوا يتوسعون بالتدرج حتى قضوا على استقلال البلاد واستولوا عليها, وتلقب حكام الحبش باللقب الملكي اليماني الطويل المألوف دلالةً على سيطرتهم على اليمن. وقد سقطت من النص Ryckmans 507 كلمات من صدره، فأثر سقوطها هذا بعض التأثير على فهم المعنى فهمًا واضحًا. وقد وردت في الفقرة الأولى منه كلمات مثل: "أشعبه" أي "قبائله"، و"أقولهمو ومراسهمو"، أي "أقيالهم ورؤساؤهم", وجاءت جملة: "وبنيهمو شرحب ال يكمل" أي "وبنيهم: شرحبيل يكمل"، أي "وابنهم: شرحبيل يكمل". ثم دونت بعد هذا الاسم أسماء: "هعن أسانن"، و"لحيعت يرخم" و"ومرثد ال يملد" "مرثد إيل يملد"، وقد سقطت كلمات بعد لفظة "بني" أي أبناء، وهم من مؤيدي "الملك يوسف أسأر" ومن مساعديه. وقد أشير بعد ذلك إلى

_ 1 راجع الفقرة الثالثة من النص: "Ryckmans 507"، والفقرة الثانية والعاشرة من النص: "Ryckmans 508"، المنشور في مجلة: Le Museon, 3-4, 1953, P.284 2 راجع الفقرة "10" من النص: Ryckmans 507

قتال وقع بينهم أي جماعة الملك وبين الحبش "أحبشن" بموضع "ظمو" وفي مواضع أخرى. وتناول النص الثاني خبر حروب وقعت بين الملك "يوسف أسأر" وبين الحبش ومن كان يؤيدهم من أقيال اليمن. وهو نص سجله القيل "قولن" "شرح إيل يقبل ابن شرح إيل يكمل" من بني "يزأن" "يزن" و"جدن" "جدنم" و"حبم" "حب" و"نسان" "نان" و"جبا" "جبأ". ويتبين من هذا النص أن الملك "يوسف أسأر" هاجم "ظفر" "ظفار" مقر الأحباش، واستولى على "قلسن"، أي: "القليس"، أي: كنيسة "ظفار". ثم سار بعد ذلك إلى "أشعرن"، أي "الأشعر" "الأشاعر" قبيلة من قبائل اليمن. ثم سار الجيش إلى "مخون" "مخا"، وحارب وقاتل، فقتل كل سكانها "حورهو"، واستولى على كنيستها، وحارب كل مصانع أي: معاقل "شمر" ودكها دكًّا، وحارب سهول "شمر" كذلك, ثم هاجم الملك هجومًا ماحقًا قبيلة "الأشعر" "أشعرن". ثم أحصى عدد من قتل في هذا الهجوم وعدد ما وقع في أيدي جيشه من غنائم، فكان عدد من قتل: ثلاثة عشر ألف قتيل، وعدد من أخذ أسيرًا تسعة آلاف وخمسمائة أسير، واستولى على "280" ألف رأس من الإبل والبقر والمعز "عنزم" "عنز", وأخذت غنائم عديدة أخرى. واتجه الملك مع جيوشه بعد ذلك إلى "نجرن" "نجران", وفي صعيد هذه المدينة كان قد تجمع "أقرام" "قرم" "بني أزأن" وقبائل همدان وأهل مدنهم وأعرابهم وأعراب "كدت" "كندة" و"مردم" "مراد" و"مذحج"، فأنزلت جيوش الملك خسائر بالأحباش الذين كانوا قد تحصنوا بالمصانع والحصون, وبمن ساعدهم من القبائل, وبمن كان قد تجمع في "نجران" لمساعدتهم. وكان مع الملك وفي جيشه "أقولن" الأقيال: "لحيعت يرخم" و"سميفع أشوع" و"شرحب ال أسعد" "شرحبيل أسعد", أقيال وسادات "يزان" "يزأن" "يزن" ومعهم قبائلهم: قبل "أزانن" "أزأن"1.

_ 1 راجع النص: Le Museon, 3-4, 1953, P.296, Bulletin Of The School Of Oriental And African Studies, University Of London, Vol., Xvi, Part: 3, 1954, P.434, Ryckmans 508

وقد جاءت في هذا النص جملة: "سسلت مدين", وقد قصد بها "حصن المندب"، أي: ما يسمى بموضع "باب المندب" في الوقت الحاضر1. نرى من خلال قراءتنا لهذين النصين أن الوضع في اليمن كان قلقًا جدًّا، وأن الأمور كانت مضطربة، وأن الفتن كانت تعم البلاد، وأن الأحباش كانوا يمتلكون قسما كبيرا من أرض اليمن, وكان مقرهم مدينة "ظفار", وكان لهم أعوان وأحلاف من الأقيال والقبائل. وقد استعان بهم الحبش في نزاعهم مع "يوسف أسأر" حتى تمكنوا في الأخير من الاستيلاء على كل اليمن ومن انتزاع السلطة من أيدي حكام اليمن الشرعيين، ومن القضاء على الملك سنة "525" بعد الميلاد. و"بنو يزان" "بنو يزأن"، هم "ذو يزن" عند أهل الأخبار، وكانوا من العشائر البارزة التي ورد اسمها في نصوص عديدة، وإليهم ينسب "سيف بن ذي يزن". وذكر "ابن دريد" أن "يزن" موضع، ويقال: "ذو أزن" و"ذو يزن"، وهو أول من اتخذ أسنة الحديد، فنُسبت إليه، يقال للأسنة: "يزني" و"أزني" و"يزأني"، وإنما كانت أسنة العرب قرون البقر2. والأقيال المذكورون في النصين وهم: "شرحبيل يكمل" و"لحيعت يرخم" و"شرحئيل يقبل" "شرح ال يقبل" و"السميفع أشوع" و"شرحبيل أسعد" كانوا من أقيال "يزان" "يزن", وقد لعبوا دورا مهما في الميدان السياسي والعسكري لهذا العهد. وقد ورد ذكر القيل "شرحب ال يكمل" "شرحبيل يكمل" في النص: Ryckmans 512, ومدونه رجل اسمه "حجي إيهر" "حجي أيهر". وذكر اسم قيل آخر اسمه: "شرح ال ذ يزان" "شرحئيل ذي يزأن" "شرحئيل ذي يزن"3. وورد اسم قيل آخر من أقيال "ذي يزن" عرف بـ"شرحئيل ذي يزن" "شرح ال ذ يزان"4، لعله القيل المتقدم. وقد جاء اسمه في نص عرف بـRyckmans 515، دونه شخص اسمه "معويت بن ولعت" "معاوية بن والعة" و"نعمت بن ملكم" "نعمت بن مالك" "نعمة بن مالك". وقد

_ 1 Le Museon, 3-4. 1953, P.335 2 الاشتقاق "2/ 310". 3 Le Museon, 3-4, 1953, P.311, Kaukab 2 4 Ryckmans 515

ختم النص بعبارة مهمة هي: "رب هود برحمنن"1، أي: "بالرحمن: رب يهود"2. ويدل هذا النص على أن صاحبيه كانا من اليهود، أو من العرب المتهودة. وأما "جدنم" فهم "جدن", وهم أيضا من العشائر اليمانية المعروفة, وقد ورد اسمها في عدد من الكتابات3. وقد ذكر "ابن دريد" أن من رجال "جدن" "ذا قيفان بن عَلَس بن جدن"، الذي ذكره "عمرو بن معدي كرب" في شعره: وسيف لابن ذي قيفان عندي ... تخيره الفتى من قوم عاد4 وقد أشير في النص: Ryckmans 51 إلى قيل من أقيال هذه القبيلة دعي بـ"لحيعت ذ جدنم" "لحيعت ذي جدن", وقد دونه رجل اسمه "تمم يزد" "تميم يزيد", وقد نعت نفسه بـ"مقتوت لحيعت ذ جدنم"، أي: ضابط وقائد "لحيعت ذي جدن"5. ومعنى هذا أنه قد كان لهذا القيل جيش، وكان "تميم" من قادة ذلك الجيش. وقد يكون "تميم" هذا هو "تميم" "تمم" مدون النص الموسوم بـRyckmans 513. وقد جاء فيه: "تمم مقتو لحيعت يرخم ذ جدنم وترحم على ابني ملكم ذ جدنم. رحمنن وامنن"6, ومعناه: "تميم ضابط لحيعت يرخم ذو جدن. وترحم على ابن مالك ذو جدن. الرحمن والأمن "الأمان آمين". وإذا كان تميم هو "تميم" المتقدم ذكره، فيكون "لحيعت ذو جدن" المذكور هو "لحيعت يرخم" المذكور في هذا النص إذن.

_ 1 السطر الخامس من النص. 2 Le Museon, 3-4, 1953, P.314 3 Le Museon, 3-4, 1953, P.299 4 الاشتقاق "2/ 311". 5 Le Museon, 3-4, 1953, P.313, Kaukab 4, Ryckmans 511 6 Le Museon, 3-4, 1953, P.312, Ryckmans 513, Kaukab 3.

ملوك سبأ وذو ريدان وحضر موت ويمنت

ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت: وقد رتب "فون وزمن" ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت على النحو الآتي:

1- شمر يهرعش الثالث. 2- ياسر يهنعم الثالث مع "تارن أيفع". 3- ثارن يكرب. 4- ياسر يهنعم الثالث مع ابنه "ذرأ أمر أيمن". 5- ذمر على يهبر "ذمر على يهبأر". 6- ذمر على يهبر مع ابنه ثارن يهنعم. 7- ثارن يهنعم مع ابنه ملكيكرب يهامن. 8- ملكيكرب يهامن مع ابنيه أبي كرب أسعد وذرأ أمر أيمن. 9- أبو كرب أسعد مع ابنه حسان يهأمن1. 10- شرحبيل يعفر2.

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.495

الفصل الثاني والثلاثون: إمارات عربية شمالية

الفصل الثاني والثلاثون: إمارات عربية شمالية لقد استغلت القبائل العربية الضعف الذي ظهر على الحكومة السلوقية، فأخذت تزحف نحو الشمال وتهدد المدن القريبة من البوادي وتحاول الاستيلاء عليها. وقد استولت فعلًا على بعضها وكونت حكومات يمكن أن نطلق عليها مصطلح "مشيخة" أو إمارة بحسب مصطلحاتنا السياسية في الزمن الحاضر. وهي حكومات توقفت حياتها على كفاية من كونها وأقام أسسها، وعلى كفاية من خلف المؤسسين لها من أشخاص. ولذلك كان عمرها قصيرًا في الغالب، وكان حجمها يتوسع أو يتقلص بسرعة؛ لأن قوة الحكومات بقوة الحكام، فإذا كان الحاكم ذا شخصية قوية وإرادة وحزم وذكاء، أغار على جيرانه وهاجم حدود الدول الكبرى، وأصابها بأضرار تضطرها إلى الاعتراف به رئيسًا على قبيلته وعلى الأعراب الخاضعين لسلطانه، ويبقى على مكانته هذه ما دام قويا، فإذا خارت قواه، أو ظهر منافس له أقوى منه، ولا سيما إذا كان منافسه قد جاء حديثًا من البادية بدم نشيط، ومعه قوم أقوياء أصحاب عدد، زعزع عن محله المرموق، وصار الأمر لغيره، وهكذا. ويجب ألا ينصرف الذهن إلى أن هذه القبائل كانت قد جاءت إلى بادية الشأم في هذا الزمن أو قبله بقليل، فقد سبق أن تحدثت عن وجود الأعراب في هذه البادية قبل هذا العهد بزمان. وقد رأينا كيف حارب الآشوريون الأعراب، ولم يكن أولئك الأعراب الذين كانوا قد كونوا "إمارات" لهم في البادية من أبناء

الساعة بالطبع، بل لا بد أن يكونوا قد هبطوا بها قبل حروبهم مع الآشوريين بزمان لا يعرف مقداره إلا الله، ولا بد أن يكون اتصال عرب جزيرة العرب بهذه البادية اتصالًا قديمًا، فالبادية والهلال الخصيب امتداد لأرض جزيرة العرب والهجرة بين هذه المواضع قديمة قدم ظهور هذه المواضع إلى الوجود. لم يكن أمام أعراب جزيرة العرب من مخرج حينما تجف أرضهم ويقضي الجفاف على البساط الأخضر الذي يفرشه الغيث في بعض السنين على سطح الأرض مدة غير طويلة، إلا الهجرة إلى أماكن يجدون فيها الخضرة والماء؛ ليحافظوا بهما على حياتهم وحياة ماشيتهم، وإلا تعرضوا للهلاك. والخضرة والخصب لا يكونان إلا حيث يكون الجو الطيب والماء الغزير، وهما متوافران في الهلال الخصيب وفي أطراف جزيرة العرب في الجنوب؛ حيث تسعف أبخرة البحر العربي والمحيط تلك الأرضين فتغذيها بالرطوبة وبالأمطار؛ لذلك كانت الهجرات إلى مثل هذه الأرضين دائمة مستمرة. ويجد أعراب نجد في البادية وفي الهلال الخصيب ملاذهم الوحيد في الخلاص من خطر الفناء جوعًا، فيتجهون بحكم غريزة المحافظة على الحياة نحوهما، غير مبالين بما سيلاقون من صعوبات، وأية صعوبات تواجه الإنسان أعظم من تحمل الموت جوعًا ويبطء. كانت كل قبيلة من هذه القبائل تضرب خيامها في المواضع التي ترى فيها العشب والماء والمغنم, في البادية أو عند الحضر. فإذا وجدت للحضر حكومة قوية احترمتهم، وإن وجدت فيهم ضعفًا، هزئت بهم، واستولت على ما عندهم، وأخذت ترعى في أرضهم، ثم هي لا تقبل بكل ذلك، بل كانت تفرض عليهم "إتاوة" يؤدونها لهم, مقابل حمايتهم من اعتداء الأعراب الآخرين عليهم. وبذلك تمكن سادات القبائل من فرض سلطانهم على بعض المدن كحمص والرُّها والحضر، وغيرها من المدن التي حكمتها أُسَر عربية، في رأي بعض الباحثين1. وقد وقف الأعراب وقفة تربُّص وتأهُّب من الحكومات القوية المهيمنة على الهلال الخصيب، كانوا يراقبون ويدرسون بذكائهم وبخبرتهم السياسية أوضاعها،

_ 1 العرب في سورية قبل الإسلام، تأليف رينه ديسو، تعريب: عبد الحميد الدواخلي، من منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، الجمهورية العربية المتحدة "ص4".

فإذا أحسوا فيها ضعفًا بادروا إلى استغلاله قبل فوات الأوان. وللأعراب في هذا الباب حاسة غريبة ذات قدرة كبيرة في إدراك مواطن الضعف عند الحضر وعند الحكومات؛ فإذا تيقنوا بقوة شم حاستهم من وجود ضعف عند الحضر أو عند حكومة ما، ووجدوا أن في إمكانهم استغلاله في صالحهم جاءوا إلى من وجدوا فيه ضعفًا بشروط تتناسب مع ضعف مركزه، وبطلبات يملونها عليه، قد تكون طلب زيادة "الإتاوات" أي: الجُعَالات السنوية التي تدفع لهم، وقد تكون السماح لهم بالزحف نحو أرض الحضر والتوسع في الأرضين الخصبة ذات الكلأ والماء، وقد تكون طلبًا بالاعتراف بسيادتهم على ما استولوا عليه وعلى أعراب البادية، وما إلى ذلك من شروط، قد تزيد فيها إن وجدت ممن تتفاوض معهم تساهلًا وقد تتساهل إن وجدت منهم شدة وعجرفة وقوة، مع اللجوء إلى الحيل السياسية وذلك بالاتصال سرًّا مع الجانب الثاني المعادي للانضمام إليه، وتأييده بحصولهم على شروط أحسن، وعلى ربح أعلى وأكثر مما يعطيهم أصحابهم الذين هم على اتفاق معهم. وسنجد فيما بعد أمثلة على أمثال هذه المفاوضات السياسية السرية تجري مع الفرس، وأحيانًا مع الرومان أو الروم. وقد علَّمت الطبيعة حكومات العراق وبلاد الشأم دروسًا في كيفية التعامل والتفاهم مع الأعراب. علمتهم أن القوة ضرورية معهم، وأن الصرامة لازمة تجاههم؛ لكبح جماحهم والحد من غلواء غزوهم للحدود وللحواضر، وأن التساهل معهم معناه في نظر الأعراب وجود ضعف في تلك الحكومات، وأن معنى ذلك طلب المزيد. ولذلك أقاموا مراكز محصنة على حواشي الصحارى، أقاموا فيها حاميات قوية ذات بأس ولها علم بالبادية وبمعاركها ودروبها، ومعها ما تحتاج إليه من "الميرة" والماء. وبنوا فيها "أهراء" أي: مخازن تخزن فيها الأطعمة لتوزيعها على الأعراب عند الحاجة للسيطرة عليهم بهذا الأسلوب, كما خزنوا فيها كميات من المياه في "صهاريج" تحت الأرض، وحفروا بها الآبار للشرب، ولتموين الأعراب بها أيضا عند انحباس المطر وحلول مواسم الجفاف. وضعوا كل ذلك في حصون محصنة، ليس في استطاعة الأعراب الدنو منها أو اقتحامها؛ لأن عليها أبراجًا وفي أسوارها الحصينة العالية منافذ يرمي منها الرماة سهامًا تخرج منها بسرعة كأنها شياطين، تُخيف ابن البادية، فتجعله يتحرج من الدنو من تلك الحصون.

ونجد اليوم في العراق وفي بلاد الشأم آثار بعض تلك الحصون التي أقامها حكام العراق وحكام بلاد الشأم لصد غارات الأعراب عن أرض الحضر، ولتوجيههم الوجهة التي يريدونها، حصون منعزلة نائية كأنها جزر صغيرة برزت في محيط من الرمال والأتربة، بعيدة عن مواطن الحضارة، عند أصحابها على إقامتها في هذه المواضع؛ لتكون خطوط دفاع أمامية تحول بين أبناء البادية وبين الدنو من مواطن الحضر، وتشغل الأعراب بالقتال حتى تأتي النجدات العسكرية فتصطدم بهم إن تمكنوا من اختراق تلك الخطوط. وقد علمت الطبيعة حكام العراق وحكام بلاد الشأم أن القوة وحدها لا تكفي في ضبط الأعراب وتوجيههم الوجهة التي يريدونها، علمتم أن جيوشهم النظامية لا تستطيع أبدًا أن تتعقب فلول الأعراب التي تتراجع بسرعة لا تبلغها عادة الجيوش النظامية في الوصول إلى البادية حصن الأعراب الحصين. وعلمتهم أيضا أن جيوشهم متى توغلت في البادية فإن احتمالات اندحارها واندثارها تزيد عندئذٍ على احتمالات الانتصار؛ فالأعرابي هو ابن البادية، وهو أخبر بها من الحضر، وهو يعرف مواضع "الإكسير" فيها "إكسير الحياة" وهو الماء. لقد خبر آبارها، وخزن الماء في مواضع احتفرها وجعلها سرية فلا يقف عليها إلا خُزَّانها؛ لهذا فإن من الحماقة محاربة الأعراب في ديارهم، وإن من الخير مداهنتهم واسترضاءهم, وذلك بالاتفاق مع سادات القبائل الأقوياء أصحاب الشخصيات والمواهب، على دفع هبات مالية سنوية لهم ترضيهم, في مقابل ضبط الحدود وحمايتها من خطر مهاجمة الأعراب لها وغاراتهم عليها، مهما كان أصل أولئك الأعراب، وفي مقابل الاشتراك مع أولئك الحكام المتحالفين معهم في حروبهم لأعدائهم، إما بتقديم الخدمات الضرورية اللازمة لهم في الحروب، مثل تقديم الجمال لهم لحمل الجنود والأثقال والماء وكل ما يحتاج إليه الجيش في عبوره إلى البوادي. وتقرن الجعالات السنوية بهدايا وألطاف يقدمها الحكام إلى سادات الأعراب، وبألقاب مشرفة تبهج النفوس الضعيفة لاستوائهم إلى جانبهم، وبدعوات توجه إليهم في المناسبات لزيارة أولئك الحكام والنزول في ضيافتهم، فتخلع عليهم الخلع التي تستهويهم وتجعلهم إلى جانب أولئك الحكام. ولأجل الوقوف على حركات الأعراب وسكناتهم، ولمراقبة أعمال سادات القبائل، وضعت الحكومات مندوبين عنها في مضارب أولئك السادات، يتنسمون

الأخبار ويبعثون بها إلى الحكام, وقد كانوا في الوقت نفسه بمنزلة المستشارين لهم. وقد يقرنون ذلك بوضع حاميات قوية معهم للدفاع عن أولئك السادات إن جابههم خطر، أو للضغط عليهم ولردعهم في حالة تفكيرهم بنقض حلفهم مع تلك الحكومات. وقد عُرف هؤلاء المستشارون أو "المندوبون الساميون" في عرفنا السياسي في الزمن الحاضر بـ"قيبو" في اللغة الآشورية، وكانوا يرسلونهم إلى مضارب سادات القبال لتوجيههم الوجهة التي يريدها ملوك آشور، وللتجسس عليهم وإرسال أخبارهم إلى أولئك الملوك حتى يكونوا على بيِّنة من أمرهم، ويتخذوا ما يرون من قرارات تجاههم1. ولم يكن من العسير على حكام العراق وحكام بلاد الشأم، استبدال سيد قبيلة بسيد قبيلة آخر، إذا ما وجدوا في سيد القبيلة المحالف لهم صدا عنهم أو ميلا إلى عدوهم، أو نزعة إلى الاستئثار بالحكم لنفسه والاستقلال. فالبادية أرض مكشوفة، وأبوابها مفتوحة لا تمنع أحدًا من دخولها، فإذا جاء سيد قبيلة طامعًا في مركز وأرض وكلأ وماء، ووجد في عدده وعدته قوة، نافس من نزل قبله، وطمع في ملكه وتقرب إلى الحكام ليحلوه محله، وليأخذ مكانه. وإذا وجد أولئك الحكام في القادم شخصية قوية وأنه أقوى من السابق؛ لأنه ظهر عليه بعدد من معه وبقوة شخصيته، وأن السيد القديم لم يظل ذا نفع كبير لهم، فلا يهمهم عندئذ إزاحته عن مكانه، وإحلال الجديد محله. وكل ما يطلبه الحكام هو ضمان مصالحهم، ومن يتعهد بحماية مصالحهم صار حليفهم وصديقهم كائنًا من كان. وهكذا البشر في كل مكان وزمان من أية أمة كانوا. لقد سيطرت القبائل العربية على شواطئ الفرات وهيمنت عليها في أيام السلوقيين. ونجد ساداتها وقد نصبوا أنفسهم عمالًا "فيلاركا" على تلك الشواطئ منذ منتصف القرن الثاني قبل الميلاد وبعده, وتدل أسماء أولئك العمال على أن أصحابها كانوا من أصل عربي، وأن الأسر التي كونوها هي أسر عربية. وكلما كانت أسماء الملوك الأولين لهذه الأسر أسماء عربية، كانت أكثر دلالةً على أصل أصحابها العربي. فقد جرت العادة أن الملوك المتأخرين يتأثرون بتيارات زمانهم الاجتماعية وبرسومه وعاداته، فيتخذون ألقابًا وأسماء يونانية أو سريانية أو فارسية، تظهرهم وكأنهم من أصل يوناني أو سرياني أو فارسي، على حين هم من أصل عربي،

_ 1 Musil, Deserta, P.477

ولهذا كانت لأسماء مؤسسي الأسر أهمية كبيرة في إثبات أصل الأسرة1. وقد استغل الأعراب أهمية الطرق البرية التي تمر بالبوادي، وهي شرايين التجارة العالمية بالنسبة لذلك الوقت، فتحكموا في مسالكها، واستغلوا أهمية الماء بالنسبة للقوافل والجيوش، فلم يكن في وسع جيش قطع البادية من غير ماء، وأخذوا يعاملون المعسكرين: المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي وهو المعسكر الروماني وفقًا لحاجتهما إلى هذه الطرق والماء, ويفرضون على المعسكرين شروطًا تتناسب مع مواقفهما العسكرية ومع الأحوال السائدة بالنسبة لتلك الأيام، وصاروا يجبرون كل معسكر من المعسكرين على تقديم أحسن الترضيات لهم؛ لتقديم خدماتهم له، والانضمام إليه ضد المعسكر الشحيح البخيل. ومن هذه الإمارات: إمارة الحضر، وإمارة "الرُّها" Edessa، وإمارة "الرستن - حمص" Arethusa – Emesa وإمارة "سنجار" Singara، وحكومة تدمر، ثم حكومة الغساسنة في بلاد الشأم، وحكومة المناذرة في العراق. ويلاحظ أن بعض هذه الحكومات تكونت في مدن كانت قديمة عامرة، سكانها من غير العرب، ومع ذلك صارت مقرًّا لأسر حاكمة عربية، باستيلاء تلك الأسر عليها وبإخضاعها لحكمها واتخاذها مقامًا لهم، فصار الحكم عليها في أيدي تلك الأسر. أما المحكومون فهم السكان الأصليون، وغالبهم من غير العرب, ولسانهم هو لسان بني إرم في الغالب. وهناك إمارات تكونت على أطراف الحضارة، وفي مواضع الماء والكلأ في البادية، أو في مواضع غير بعيدة عن حدود الحاضرة من العراق وبلاد الشأم، وخاصة في العُقَد التي تتصل بها طرق القوافل, ويعود الفضل في تكونها وظهورها إلى هذه الأمور المذكورة، ولا سيما موضعها من خطوط سير القوافل، حيث يتقاضى سادات تلك المواضع "إتاوات" عن التجارة التي تمر بها، وعن التجارة التي تحمل إليها لبيعها في أسواقها، فيتجمع لهم دخل لا بأس به من هذه الجباية التي قد ترتفع أحيانًا حتى تصل إلى درجات التعسف بالتجار. ويكون سادات هذه المواضع أصحاب حظ عظيم؛ إذ كانت مواضعهم عصبًا ضروريًّا رئيسيًّا في تجارة البادية، بحيث لا تجد القوافل الكبيرة المحملة بالتجارة النفيسة بدًّا

_ 1 Die Araber, I, S. 313

من المرور منها، فإن دخلهم يكون حينئذٍ كبيرًا، يحملهم على التوسع والطموح, وعلى السيطرة على الآخرين بقدر الإمكان. وكما كانت القوافل التجارية والطرق البرية رحمة للمستوطنات الصحراوية التي نشأت وتكونت عند عقد العصب الحساس لهذه الطرق، كذلك صارت تلك الطرق نقمة على تلك المستوطنات؛ إذ طالما قضت عليها وحكمت عليها بالموت، فقد يجد التجار وأصحاب القوافل طرقًا أسهل وأقصر في قطعهم للبادية، أو معاملة أطيب من سيد قبيلة منافس أو حماية عسكرية أقوى، فيتحولون عن تلك الطرق المسلوكة إلى طرق أخرى، فتموت بذلك المستوطنات المقامة عليها، ويضطر أهلها إلى تركها إلى مواطن جديدة. وقد كان لاستخدام الطرق المائية من طرق نهرية وبحرية، أثر كبير في إماتة الطرق البرية أو في منافستها، كذلك كان للطرق البرية ولا سيما الطرق العسكرية الممهدة التي أقامها الرومان والروم في بلاد الشأم، أو الفرس في العراق أثر كبير في القضاء على المستوطنات التي نشأت في البوادي؛ إذ فضل التجار السير في هذه الطرق المأمونة التي لا يتحكم فيها سادات القبائل في مقدراتهم، ولا يدفعون ضرائب مرور عن الأرضين على تلك الطرق الموحشة المقفرة المملوءة بالمخاطر والتي يتحكم فيها أبناء البادية في مقدرات التجار، فيفرضون عليهم ضرائب مرور من أرضهم كما يشاءون من غير تقدير لما سيجر ذلك عليهم وعلى التجار من أضرار. وبذلك أعان أبناء البادية بأنفسهم على إماتة مستوطناتهم في بعض الأحيان. ويظهر من "جغرافية" "سترابو" أن أرض الجزيرة ومنطقة الفرات والبادية المتصلة ببلاد الشأم، كانت في حكم سادات قبائل، يحكمون وكأنهم "عمال" فيلارك" Phylarchus. وكان بعض هؤلاء يحكمون أرضين صغيرة، وحكمهم حكم "مشايخ القبائل" في عرف هذا اليوم: يشتغل أتباعهم بالرعي، وبعضهم يشتغلون بالزراعة، وآخرون بالتجارة. وكان قسم منهم أعرابًا يتنقلون في البادية، ومنهم أشباه أعراب، ولا سيما أولئك القاطنين على ساحل العقبة، أي خليج "أيلة" وقد استغل هؤلاء الأعراب طبيعة أرضهم، فكانوا يجبون "العشر" من التجار، أو يشتغلون هم أنفسهم بالاتجار أو يقومون بنقل التجارة لحساب غيرهم من التجار1.

_ 1 Die Araber, I, S. 270

وقد كان الأعراب هم الوحيدين الذين في استطاعتهم حماية الطرق البرية الممتدة بين العالم المتحضر القديم: العراق وبلاد الشأم، فهم وحدهم سادة البوادي، وفي أيديهم "إكسير الحياة" الماء؛ لهم آبار أو عيون، و"صهاريج" سرية يخزنون فيها الماء. ولهم مخازن احتياطية مملوءة بهذه المادة الثمينة الضرورية للحياة، يملئونها من أماكن قد تكون بعيدة عنهم، ثم يحملونها معهم حيث ذهبوا، وإلى منازلهم. وهي قِرَبٌ كبيرة يصنعونها من الجلد، تمونهم بالماء، وتمون القوافل المارة بهم بما يحتاجون إليه وبما يكفيهم للتنقل من منزل إلى منزل آخر. وقد أطلق اليونان على أكثر هؤلاء اسمScentitae = Skenitai، بمعنى الساكنين في الخيام؛ لأن "السكينة"Skenai = Skynai معناها الخيمة والبيت، وهي تقابل لفظة "سكوت" "سكوث" Sukkot في العبرانية، التي تعني الخيمة والبيت أيضًا1. والـ"سكينيتة" Skenitai، هم كما قلت أهل الخيام، الخيام المصنوعة خاصة من شعر المعز2، وهم أعراب يقطنون البادية وطرفي العراق والشأم، تمتد منازلهم في بلاد الشأم حتى تبلغ الخط الممتد بين Europus وThapascus في الشمال على رأي "بلينيوس"3, وتمتد في الغرب حتى تبلغ حدود Apamea على رأي "سترابون". أما حدود مجالات هؤلاء الأعراب من الشرق، فتمتد من أعالي الفرات حتى تبلغ ملتقاه بدجلة في الجنوب على رأي "سترابون" كذلك4. ويفصلهم النهر عن منازل قبيلة "أتالي" Athali في كورة5 Characene. وذكر "سترابو" أن سادات "سكان الخيام" كانوا يجبون الضرائب من التجار في أثناء مرورهم بمناطق نفوذهم، وكان بعضهم يشتط عليهم فيتقاضى منهم ضرائب عالية، ولا سيما أولئك الذين ينزلون على ضفتي النهر، فتجنب التجار المرور بمناطقهم، ومنهم من كان يتساهل فيعاملهم بلطف ورعاية6. وذكر أيضا أن الرومان وسادات الأعراب كانوا يسيطرون على الجانب الغربي للفرات

_ 1 Die Araber, I, S. 272, W. Gesenius, Hebr. Und Aram. Handworterbuch, "1921", S. 542 2 Paulys – Wissowa, Zweite Reihe, Funfter Halbband, "1927", P.513 3 Pliny, Vi, 21 4 Strabo, Xvi, 2 5 Paulys – Wissowa, Zweite Reihe, Funfter Halbband, "1927" 513 6 Strabo, Xvi, I, 27

حتى إقليم بابل، وأن فريقًا من سادات القبائل كانوا يشايعون الرومان، وفريقًا آخر كان يشايع الفرس, وأن الذين كانوا يسكنون على مقربة من النهر كانوا أقل ميلا وتوددا إلى الرومان من الذين كانوا يقيمون على مقربة من العربية السعيدة1. وبلغت منازل الـ"السكينيتة" سكان الخيام حدود مملكة "حدياب"2 Adiabene والجبال في العراق على رأي "سترابو"3. ويذكر "سترابو" أن من هؤلاء رعاة، وأن منهم متلصصين، يغزون وينهبون، ويتنقلون من مكان إلى مكان حيث يكون المرعى، أو تتوافر الغنائم والأموال4، وأن طريق بابل و"سلوقية" إلى الشأم الذي يسلكه التجار يمر في أرض جماعة من هؤلاء الأعراب يعرفون بـMalli في أيامه, لهم البادية يتحكمون فيها كيفما يشاءون5. ولا نجد في كتاب "سترابو" شيئًا يتعلق بأصل "السكينيتة"، سكان الخيام، وبالزمن الذي ظهرت فيه هذه التسمية. وقد ذكر أن من مواطنهم مدينة اسمها Skenai، وهي معروفة عندهم، تقوم على "قناة" على حدود أرض "بابل"، وعلى بعد ثمانية عشر "شوينوى" Schoinoi من مدينة "سلوقية"، كما ذكر أنهم يسمون الآن باسم آخر، هو: "ملوي" Malioi "مالي"6 Malli. وقد ذهب الباحثون مذاهب عدة في تعيين موضع مدينة Skenai، إن جاز التعبير عنها بلفظة "مدينة"؛ فذهب بعضهم إلى أنها "عُكْبَرا"، وذهب بعض آخر إلى أنها "الحيرة"، فالحيرة بمعنى المخيم والمعسكر، وهو معنى قريب من معنى لفظة Skenai. وذهب آخرون إلى أنها "مسكين" أو "مسجين"، وهو موضع يقع شمال بغداد، أو "بيت مشكنة". ولكلٍّ رأيٌ ودليلٌ في اختياره لذلك المكان7. ويظهر من وصف "سترابو" لأحوال "سكان الخيام"، أي: الأعراب، أنهم كانوا كثرة، وقبائل تنتقل مع الماء والكلأ. أما الـMalioi، فإنهم كان منهم

_ 1 Strabo, Xvi, I, 28 2 Paulys, Zweite Reih, Funter Halbband, "1927", 514, Strabo, Xvi, I, 27 3 Strabo, Xvi, I, 26 4 Strabo, Xvi, I, 26 5 Paulys, Zweite Reihe, Funfter Halbband, 1927, 514, Strabo, Xvi, I, 27 6 Die Araber, I, S. 271, Strabo, 16, 748, Xvi, 26, Paulys, Zweite Reihe, Funfter Halbband, 1927, S. 513 7 Die Araber, I, S. 272, Ed. Sachau, Die Chronik Von Arabela, 1915, 62

أشباه مستقرين، وآخرون مستقرون تكاد منازلهم تكون ثابتة، ولهم نظام يمكن أن نسميه نظام حكومة، ويدير شئونهم سادات منهم، يشرفون على أعرابهم ويرعون طرق القوافل التي تمر بأرضهم؛ لأنها تأتي لهم بفوائد كبيرة1. ومن الإمارات التي يرجع كثير من الباحثين أصول حكامها إلى أصول عربية: الحضر Hetra، و"إمارة حمص" Emesa و"إمارة الرها" Edessa، والرصافة، وتدمر، وإمارات أخرى. وهي إمارات لا يمكن أن نقول: إن ثقافتها كانت ثقافة عربية، وإن غالب سكانها كانوا من العرب، ولكننا نستطيع أن نقول: إن العرب كانوا يتحكمون فيها، وإن هنالك أدلة تزداد يومًا بعد يوم، تزيد في الاعتقاد بأن العنصر العربي كان قويًّا فيها، وأن سكانها كانوا عربًا، ولكنهم تأثروا بالمحيط الذي عاشوا فيه، فتثقفوا على عادة تلك الأيام بثقافة بني إرم، واتخذوا من لسان بني إرم لسانًا لهم في الكتابة، ومن قلم بني إرم قلمًا لهم يكتبون به, ويعبرون عن إحساسهم وشعورهم وعلمهم به. أما "الحضر"، فهي اليوم آثار شاخصة في البرية بوادي الثرثار جنوب غربي الموصل، على بعد "140" كيلومترًا منها. ولعلماء الآثار آراء في أصل التسمية، فمنهم من ذهب إلى أنها من أصل إرمي، ومنهم من ذهب إلى أنها من أصل عبراني إرمي، ومنهم من رجح أنها من أصل عربي، بمعنى "الحيرة" أي: "العسكر"، وقد عرف بـ"أترا" Atra وAtrai في اليونانية، وبـ"هترا" Hatra في اللاتينية2. وهي "حطرا" في الكتابات التي عُثر عليها في الحضر3. ويرى "هرتسفلد" E. Herzfeld أن القبائل العربية هي التي أسست هذه المدينة، أسستها في القرن الأول قبل الميلاد حصنًا منيعًا أقام ساداتها فيه مستفيدين من الخلاف الذي كان بين الفرث واليونان، حيث استغلوه بذكاء وحنكة، فحصلوا على أموال من الجانبين، لما لموضعهم من الشأن العسكري والسياسي والاقتصادي. وكانوا كلما ازداد مالهم وبرزت أهميتهم، ازدادت المدينة توسعًا وبهاء وعمرانًا، حتى صارت

_ 1 Die Araber, I, S. 274 2 Brockelmann, Lexi, Syriacum, 1928, 228, Levy – Goldschmid Worterbuch Uber Die Talmudim Und Midraschim, Bd., 2, 1922, 40a, Die Araber, I, S. 275 3 Die Araber, I, S. 275, Ii, S. 225

مدينة كبيرة ذات شأن، سكنتها جاليات أجنبية أيضا، أنجزت, وتولت الوساطة في البيع والشراء، ونقل تجارة آسية إلى تجار أوروبا، وتجارة أوروبا وحاصلاتها إلى تجار آسية1. وقد قوَّت الكتابات الإرمية التي عثر عليها في "الحضر" سنة "1951م" رأي "هرتسفلد"، القائل بأن الذين أسسوا هذه المدينة هم قبائل عربية؛ وذلك لورود أسماء عربية فيها مع أسماء إيرانية وإرمية. وقد وجد أن نسبة الأسماء العربية تزيد على نسبة الأسماء العربية في كتابات مدينة "تدمر"، وهي مكتوبة بلغة "بني إرم" كذلك، وهذا مما يدل على وجود جالية عربية قوية في الحضر2. ولكن ذلك لا يعني في الزمن الحاضر أن غالب السكان كانوا عربًا. وقد نُعت رئيس معبد الحضر الكبير بـ"سادن العرب"، على غرار تلقيب ملوك الحضر أنفسهم بـ"ملوك العرب"3. واسم هذا السادن، هو "أفرهط"، وقد قال عن نفسه: "رب ي تا دي عرب"، أي: "أفرهط سادن العرب"، وذكر مترجم النص أن المألوف في كتابات الحضر أنها لا تنسب الكاهن إلى عبدة الإله أي: المتعبدين، ولكن تنسبهم إلى الآلهة، بأن يكتب "سادن الإله ... "، لا "سادن عبدة الإله ... "، كما هو في هذا النص، ويرى مترجمه أن "أفرهط" قد خالف المألوف، وخالف عادة القوم، تقليدًا لما فعله الملك "سنطروق" ملك الحضر من تلقيب نفسه بـ"ملك العرب"4 "ملك الأعراب". وقد عثرت مديرية الآثار العامة في العراق على نص وسمته بـ"79" من النصوص التي عثر عليها في الحضر، جاء فيه اسم المدينة "الحضر" لأول مرة، فلم يسبق ورود هذا الاسم في نصوص سابقة. وقد ورد على هذا الشكل: "حطرا"، على نحو ما ينطق به في لغة "بني إرم"5، كما وردت فيه جملة:

_ 1 E. Herzfeld, Hatra, In Zdmg., 68, 1914, 663, U. Kahrstedt, Artabanss, Iii, 67, Die Araber, I, S., 275, Th. Noldeke, Geschichte Der Perser Und Araber, 1879, 33, F. Altheim, Die Krise Der Alten Welt, I, 1943, 132, 206 2 Die Araber, I, S. 276. 3 مجلة سومر، المجلد الحادي والعشرون، 1965، "كتابات الحضر"، لفؤاد سفر، "ص22". 4 سومر، العدد المذكور "النص رقم 223" "ص38". 5 راجع السطر 14، وهو السطر الأخير من النص المذكور، مجلة سومر، السنة "1961"، المجلد السابع عشر، الجزء الأول والثاني، "ص12، 15، 17".

"وبالحظوظ العائدة إلى العرب"1، وهي جملة ذات دلالة مهمة بالطبع؛ لأنها تشير إلى العرب ووجودهم في هذه المنطقة، كما ذكر فيه "عربايا" "عربواو"2، ولاسم إقليم "عربايا" شأن كبير؛ لأنه نسبة إلى العرب، وفيه تقع مدينة الحضر. أما أسماء ملوك الحضر، فهي أسماء غير عربية النجار، يظهر على بعضها أنها إيرانية، وعلى بعض آخر أنها إرمية, غير أن علينا أن نفكر في أن التسميات لا يمكن أن تكون أدلة يستدل بها على أصل الناس. فقد كانت العادة تقليد الأجانب ومحاكاتهم في اختيار أسمائهم، ولا سيما عند الحكام والملوك, فقد كانوا يختارون لهم في كثير من الأحيان أسماءً أو ألقابًا من الدول القوية التي تتحكم في شئونهم والتي لها سلطان عليهم. فقد لقب جماعة من ملوك "اليطوريين" أنفسهم بـ"بطلميوس" ولقب نفر منهم أنفسهم بـ"ليسنياس" Lysanias وبـ"فيلبيون" Philippion، وهي من التسميات اليونانية، مع أن اليطوريين ليسوا يونانيين3. كذلك نجد اللحيانيين يقلدون اليونان، فيلقبون أنفسهم بـ"بطلميوس"، مع أنهم عرب، وهكذا قُلْ عن أهل "الرها" و"تدمر" وأمثالهم فإنهم هم وملوكهم قد قلدوا اليونان في أسمائهم وفي اتخاذ ألقاب يونانية لهم، وهم مع ذلك ليسوا من اليونان؛ ولهذا لا نستطيع أن نحكم على أصل الإنسان استنادًا إلى الألقاب والأسماء. وينطبق هذا الرأي على ملوك الحضر أيضًا, فإن "سنطروق" وهي تسمية إيرانية فرثية، لا يمكن أن تقوم دليلًا على أن أصله من الفرث4. ويلاحظ أن كثيرًا من كتابات الحضر، لا يكتفى فيها بذكر اسم الشخص واسم أبيه، وإنما يذكر فيها اسم جده أيضا، واسم والد جده أحيانا, وقد عثر على كتابة ورد فيها اسم ستة أجداد. ونجد هذه الطريقة في الكتابات الصفوية كذلك، وقد استدل "إينو ليتمان" E. Littmann من طريقة تدوين الصفويين لأنسابهم على هذه الصورة على أنهم عرب؛ لأن العرب يعتنون بالنسب أكثر من عناية غيرهم به، فيذكرون أسماء الآباء والأجداد. ولذهاب بعض أهل الحضر هذا المذهب في تدوين أنسابهم، رأى بعض الباحثين أن أصحاب هذه الكتابات

_ 1 العدد المذكور "سطر 10" من النص. 2 العدد المذكور "سطر 14". 3 Die Araber, I, S. 278 4 Die Araber, I, S. 280

هم من أصل عربي1. وما زال تأريخ الحضر غامضًا ناقصًا، فيه فجوات واسعة، لم تملأ حتى الآن. ويرى الذين عنوا بدراسة تأريخها أنها تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، وربما امتد تأريخها إلى ما قبل ذلك. وأما ازدهارها، فقد كان في أيام "الفرث" Parthians، وهم "الإشكاليون" و"ملوك الطوائف" في الكتب العربية. وقد عاركت "الرومان" و"الساسانيين"، وتعرضت للخراب والدمار في أيام "سابور" المعروف بـ"سابور الجنود" في الكتب العربية، وذلك سنة "241" للميلاد. ولم تتمكن بعد هذا الحادث من استعادة نشاطها وقوتها، فذكر أن جيشًا رومانيًّا مر بها سنة "363" للميلاد، فوجدها خرابًا2. ومن ملوك الحضر، الملك "سنطروق"، وقد ورد اسمه في طائفة من الكتابات, ويظهر أنه كان مؤسس سلالة ملكية من السلالات التي حكمت هذه المدينة. وقد عرف أبوه باسم "نصرو مرى" "نصر"3, ولعله كان أول من ملك الحضر. ويظهر أن أباه لم يكن ملكًا، ولكن كان كاهنًا, وقد ورد اسمه في نص رقم برقم "77" للميلاد. ومعنى هذا أن الملك "سنطروق" كان يحكم في النصف الثاني من القرن الأول للميلاد, ولا يستبعد أن يكون قد حكم قبل هذا العهد. ويعد هذا النص من أقدم النصوص المؤرخة التي عُثر عليها في هذه المدينة4. وقد عثر على كتابات أخرى، ورد فيها: "سنطروق ملك بن نصرو مريا"5. ولورود جملة "ملك العرب" بعد اسم الملك شأن كبير بالطبع؛ لأنها توضح علاقة هذا الملك بالعرب بكل جلاء. وقد أمكن الحصول في هذا اليوم على أسماء عدد من حكام الحضر, منهم: "أورودس" "ورود"، وكان يلقب بلقب "مريا"، أي: "السيد"

_ 1 Die Araber, I, S. 280 2 مجلة سومر، المجلد الثامن، الجزء الأول "1952" "ص39 وما بعدها". 3 لعله "نصرو مديا". 4 مجلة سومر، "1961م" المجلد السابع عشر، الجزء الأول والثاني "ص22 وما بعدها". 5 سومر، العدد المذكور "ص22"، حاشية "3".

و"الرئيس", و"نصرو" "نصر"، وقد لقب بلقب "مريا" كذلك. وهو ابن "نشرى هبة" "نشرى هاب"1, ووالد الملك "سنطرق" "سنطروق" الموسوم بـ"الأول". ثم "ولجس" "ولجش" "ولوجس"، وقد لقب بـ"مريا" أي: "الرئيس" في أحد النصوص, وبلقب "ملكا ذي عرب"، أي: "ملك العرب" "ملك الأعراب"2 في نص آخر. مما يدل على أنه عاف لقب "مريا"، أي: السيد أو الرئيس، الذي لقب به في أول عهده بالحكم وهو لقب أسلافه، واستبدله بلقب "ملك", وهو أضخم من لقب "مريا" بالطبع. وقد عثر على تمثال كتبت على قاعدته جملة: "تمثال ولجش ملك العرب", وقد أقام ذلك التمثال وأمر بتسطير الكتابة "جرم اللات بن حيي"3. ثم الملك "سنطرق" "سنطروق" الأول، وهو ابن "نصرو" "نصر" "نصر ومريا"، وقد لقب بـ"ملكا دي عرب"، أي "ملك الأعراب"4 وقد كان حكمه في النصف الثاني من القرن الأول بعد الميلاد "77 = 78م"5. ثم الملك "عبد سميا" الملقب بلقب "ملكا ذي عرب" "ملكا دي عرب"، وهو والد الملك "سنطرق" "سنطروق" الثاني6. والملك "سنطرق" "سنطروق" الثاني، وهو ابن الملك "عبد سميا", وهو والد ملك آخر اسمه "عبد سميا" كذلك7, وملك آخر اسمه "معنا" "معنى" أي: "معن" في عربيتنا8. ولعل "تراجان" "98-117م" الإمبراطور الروماني ذا المطامع الواسعة في الشرق الأدنى، كان قد فكر في الاستيلاء على الحضر في عهد "سنطرق" "سنطروق" أو أيام "عبد سميا". إذ عثر على منار في طريق سنجار دوّن عليه اسمه، يشير إلى وصوله إلى هذه المواضع من العراق. ولكن الرومان لم

_ 1 النص رقم 194، Die Araber, IV, S. 266 2 النصوص: 140، 193، Die Araber, IV, S. 266 3 Nr. 193, Die Araber, IV, S. 260 4 النص 194، و196، و197، و199. 5 Die Araber, IV, S. 266 6 النص 195. 7 النص 28، و36، و195، Die Araber, IV, S. 267 8 راجع النص في: Die Araber, II, S. 249, 267

يتمكنوا من الاستيلاء على الحضر، وبعد أن حاصروها مدة، تراجعوا عنها؛ لأنهم وجدوا صعوبة في فتحها، وعادوا إلى "أنطاكية"1. وقد ورد في النص "139" اسم "نشرى هب"، وهو ابن "نوهرا"، وهو ابن "سنطرق" "سنطروق"، الملقب بلقب "ملكا" أي: "الملك"2. ويظن أن حكم "أثل ملكا"، أي: الملك "أثل" "أثال" أو "أثال الملك" بتعبير أصح، والذي ورد اسمه في النصوص، دون أن يذكر اسم والده، كان يحكم الحضر في منتصف القرن الثاني للميلاد، أو في النصف الثاني منه، وهو ملك لا نعرف صلته بالملوك المتقدمين3. وأما "برسميا"، فقد كان من معاصري "سبتيميوس سفيروس" Septimius Severus الذي كان حكمه في حوالي السنة "193" إلى السنة "211" بعد الميلاد4, وكان من خصومه المزعجين. فقد صبر بجنوده ودافع معهم عن أسوار مدينته حتى أكرهه على فك الحصار عن الحضر وعن التراجع عنها، بسبب العطش الذي أثر في جيشه، على حين كان الماء كثيرًا في المدينة مخزونًا عندهم. وبسبب المقاومة العنيفة التي أظهرها الفرسان العرب، وإلقاء أهل الحضر قنابل النفط على جيوش الرومان ومقاومتهم مقاومة عنيدة حملت الرومان على التراجع عن المدينة وفك الحصار عنها5. ولما ظهرت الدولة الساسانية كانت الحضر على صلات طيبة بالرومان, وكانت تلعب دورًا خطيرًا في عالم التجارة لموقعها المهم بالنسبة لطرق القوافل لذلك الوقت، فتحرش بها الساسانيون وغزوها، ثم دمروها في الأخير، وكان سبب ذلك هو أن "أردشير" الأول، مؤسس الدولة الساسانية ومهدم كيان الدولة الأشكانية دولة الفرث، لما انتصر على دولة الفرث، حارت الدويلات الصغيرة، وفي جملتها حكومة الحضر, في أمرها، وظنت أن النصر سيكون للفرث، فوقفت موقف الحذر من الساسانيين، ورأى ملك الحضر "الضيزن" أن من الأصلح له

_ 1 Dilleman, Haute Mesop., 129 2 سومر 1961، Die Araber, Iv, S. 259, A. Caquot 258 3 Die Araber, Iv, S. 267 4 Die Araber, Iv, S. 267 5 Dio Cassius, Lxxvi, 2.3, Lxxvi, 9.4, Ii, 12, Herodian, Iii, 9, 12, Fr. Stark, Rome On The Eupfrates, Pp.255.

أن ينضم إلى الرومان الذين كانوا قد توجهوا نحو الشرق، واستولوا على "ميديا"، وأن يهاجم الفرس, فهاجمهم وتغلب عليهم في معركة "شهر زور" كما تذكر الموارد العربية، وأسر بنتًا من بنات ملك الفرس1, وكان ذلك في حوالي السنة "232" للميلاد تقريبا. فسار "سابور" الأول، وهو "سابور الجنود"، وهو ابن الملك "أردشير الأول"، إلى الحضر يريد الانتقام من "الضيزن"، فتحصن "الضيزن"، وأناخ "سابور" على حصنه أربع سنين، من غير أن يتمكن من فتحها، ثم إن ابنة للضيزن اسمها "النضيرة" رأت "سابور" فوقعت في حبه، فراسلته وأرشدته إلى طريقة يتمكن بها من إحداث ثغرة في سور المدينة ففتحها، واستولى عليها وقتل أباها، وأباد أهل المدينة، وأخذ "سابور" النضيرة فأعرس بها بعين التمر، ثم تذكر خيانتها "فأمر رجلًا فركب فرسًا جموحًا، ثم عصب غدائرها بذنبه، ثم استركضها فقطعها قطعًا"2. وقد تعرض "الطبري" لمدينة الحضر، فقال: "وكان بحيال تكريت بين دجلة والفرات مدينة يقال لها: الحضر، وكان بها رجل من الجرامقة، يقال له: الساطرون، وهو الذي يقول فيه أبو داود الإيادي: وأرى الموت قد تدلى من الحضـ ... ـر على رب أهله الساطرون والعرب تسميه الضيزن، وقيل: إن الضيزن من أهل باجرمي. وزعم هشام بن الكلبي أنه من العرب من قُضاعة، وأنه الضيزن بن معاوية بن العبيد بن الأجرام بن عمرو بن النخع بن سليح بن حُلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وأن أمه من تزيد بن حلوان اسمها جيهلة، وأنه إنما كان يعرف بأمه. وزعم أنه ملك أرض الجزيرة، وكان معه من بني عبيد بن الأجرام وقبائل قضاعة ما لا يحصى، وأن ملكه كان قد بلغ الشأم، وأنه تطرف من بعض السواد في غيبة كان غابها إلى ناحية خراسان سابور بن أردشير. فلما قدم من غيبته، أخبر بما كان منه، فقال: ذلك من فعل الضيزن، عمرو بن إلة بن الجُدَي بن الدهاء بن جشم بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة ... فلما

_ 1 مجلة سومر، المجلد الثامن "1952م"، الجزء الأول، "ص43". 2 الطبري "2/ 49 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 381 وما بعدها"، Die Araber, III, S. 108

أخبر سابور بما كان منه، شخص إليه حتى أناخ على حصنه، وتحصن الضيزن في الحصن، فزعم ابن الكلبي أنه أقام سابور على حصنه أربع سنين، لا يقدر على هدمه ولا على الوصول إلى الضيزن1. ثم ذكر قصة ابنة الضيزن مع سابور وخيانتها لأبيها وكيف كان مصيرها. ويذكر "الطبري" في روايته التي يرفعها إلى "ابن الكلبي"، أن سابور أباد أفناء قضاعة الذين كانوا مع الضيزن، فلم يبقَ منهم باقٍ، وأصيبت قبائل من بني حلوان، فانقرضوا ودرجوا. ثم ذكر في ذلك شعرًا نسبه إلى "عمرو بن إلة"، وكان مع الضيزن2. وروى "ابن خلدون" أن الملك بالحضر كان لبني العبيد بن الأبرص بن عمرو بن أشجع بن سليح، وكان آخرهم "الضيزن بن معاوية بن العبيد" المعروف بالساطرون3. وذكر "البكري" أن "سابور ذا الأكتاف" لما أغار على الحيرة وهزم أهلها، سار معظمهم إلى الحضر، يقودهم "الضيزن بن معاوية التنوخي" فنزلوا به، وهو بناء بناه الساطرون الجرمقاني، فأقاموا به مع الزباء, فكانوا رجالها وولاة أمرها. فلما قتلها "عمرو بن عدي" استولوا على الملك حتى غلبتهم غسان, وقد فرق البكري بين الضيزن والساطرون4. وقد ورد في أثناء القصص المروي عن الضيزن والحضر شعرٌ نسبوا بعضه إلى "أبي دواد الإيادي"، وبعضه إلى "الأعشى ميمون بن قيس"، وبعضًا آخر إلى "عمرو بن إلة" وبعضًا إلى "عدي بن زيد العبادي"5. ونجد في شعر الأعشى، خبر حصار "شاهبور الجنود" حولين للحضر، وذكر "عدي بن زيد العبادي" في شعره أن صاحب الحضر شاد حصنه بالمرمر، وجلله كلسًا، وللطير في ذراه وكور. ثم باد ملكه، فصار بابه مهجورًا، بعد أن كانت دجلة تُجبَى له والخابور6. وهو من هذا الشعر الحزين الذي يغلب عليه طابع الموعظة

_ 1 الطبري "2/ 47 وما بعدها" "دار المعارف"، أيضًا "الضيزن بن جلهمة أحد الأحلاف"، البلدان "3/ 290"، في الأغاني "جبهلة"، الأغاني "2/ 140". 2 الطبري "2/ 49". 3 ابن خلدون "2/ 249". 4 معجم ما استعجم "ص17" "طبعة وستنفلد"، المشرق: السنة الخامسة عشرة، الجزء 7، تموز 1912، ص516، Ency., II, P.207 5 الطبري "2/ 47 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 381 وما بعدها". 6 الطبري "2/ 50".

واحتقار الدنيا وازدرائها، وهو طابع أغلب الشعر المنسوب إلى الشاعر البائس. والساطرون، هو "سنطروق" في كتابات الحضر، حرّف فصار الساطرون عند أهل الأخبار1. وهو لفظ إيراني الأصل, انتقل من اللسان الإيراني إلى لغة بني إرم فصار "سنطروق"، وصير "سنتروسس" في اللغة الإغريقية. وقد عرف بهذا الاسم أحد الملوك الفرث "الأشكانيين" "سنة 76 أو 75 حتى 70 أو 69ق. م."2. وإذا أخذنا برواية "الطبري" من أن "الساطرون" كان من الجرامقة، فمعنى ذلك أنه كان من "بني إرم"، أي: من الآراميين, وهم سكان "جرمقايا" "جرمقاية" الواقعة شرق دجلة جنوب "الزاب" الصغير، وقد عُرفوا بالجرامقة نسبة إلى هذه الأرض3. وإذا أخذنا بروايته أيضا من أن الساطرون كان يعرف بالضيزن، وأن "الضيزن" هو من أهل "باجرمي"4، فإن في الرواية الثانية تأييدًا للرواية الأولى من أن الساطرون كان من بني إرم، ولم يكن من العرب5. غير أن "ابن الكلبي" يقول: إنه من العرب وإنه من قضاعة من جهة الأب، وإنه من "تزيد" من جهة الأم، وإنه ملك أرض الجزيرة، وإن ملكه بلغ الشأم، وكان معه من "بني عبيد بن الأجرام" وقبائل قضاعة, وإنه انتهز فرصة غياب "سابور بن أردشير" إلى ناحية خراسان، وتطرف في بعض ناحية السواد، فلما قدم "سابور" من غيبته أخبر بما كان منه، فشخص إليه حتى أناخ على حصنه أربع سنين في رواية "ابن الكلبي"، وحولين كما جاء في شعر "الأعشى"6. وقد أنكر "نولدكة" رواية "ابن الكلبي" بشأن حصار "سابور" للحضر, وقد كانت الحضر قد فتحت في عهد "أردشير" الأول، وذلك قبل وفاته في

_ 1 Ency., Ii, P.207, Herzfeld, In Zdmg., Ixviii, Noldeke, Gesch. Der Perser Und Araber, S. 33 2 مجلة سومر، "1952م"، المجلد الثامن, الجزء الأول، "ص40"، Die Araber, IV, S. 267 3 Die Araber, III, S. 13, IV, S. 108 4 الطبري "2/ 47" "دار المعارف". 5 Die Araber, III, S. 108 6 الطبري "2/ 47".

سنة "241" للميلاد. وكان ابتداء حكم "سابور" الأول سنة "241"؛ لذلك رأى "نولدكة" وغيره أن قصة "الضيزن" لا علاقة لها بهذا "السابور"، بل بملك آخر من ملوك الساسانيين, وأن "الضيزن" المذكور كان رئيسًا من رؤساء قبائل عربية متنفذة, كانت تغير من "الجزيرة" ومن الغرب على أرض السواد1. ورجحوا كون "سابور" -أهل الأخبار- هو "سابور" الثاني الذي حكم من سنة "309" حتى سنة "379" للميلاد. وقد عرف هذا الملك بغزوه للعرب، وهو صاحب "الأنبار" و"خندق سابور" الذي حفره لحماية الأرض الخصبة المأهولة من هجمات الأعراب. وقد كان هذا الملك قد غزا "خراسان" وغزا أرض بكر وتغلب التي تقع بين الروم والفرس "المناظر"، حيث كانت تنزل قضاعة أيضا2. وقد رأى بعض الباحثين أن تعبير "سابور الجنود" "شاهبور الجنود" الوارد في شعر "الأعشى" و"عمرو بن إلة" تعبير يشير إلى أن "سابور" المذكور لم يكن ملكًا، بل كان قائدًا من قادة الجيش، وأن هذا التعبير هو ترجمة لمصطلح "أصبهبذ" Spahbad الذي يعني "صاحب الجيش", وأن المقصود به رجل اسمه "شابور" "سابور" وكان بدرجة "أصبهبذ" "أسبهبذ" على "الري", وذلك في أيام "قباذ" الأول "448-531م". وأما "الضيزن"، فهو عامل من العمال العرب من سادات القبائل، قد يكون "طيزانيس" الذي كان في أيام "قباذ"، الذي يجوز أن يكون صاحب المدينة المسماة "طيزن آباد" و"مرج الضيازن" على الفرات3. ومن القبائل التي ورد اسمها في كتابات الحضر، قبيلة عرفت بـ"بني تيمو"4 "بني تيم". وهي قبيلة قد تكون لها صلة بقبيلة ورد اسمها في كتابات عُثر عليها في وادي حوران بالعراق، وفي كتابات عُثر عليها في تدمر. ويظهر أنها

_ 1 Die Araber, III, S. 109 2 الطبري "2/ 55 فما بعدها" "ذكر ملك سابور ذي الأكتاف". 3 Die Araber, III, S. III 4 سومر، "1965"، المجلد الحادي والعشرون، الجزء الأول والثاني، "ص33"، النص رقم 214.

كانت من القبائل المعروفة في الجزيرة وفي بادية الشأم في القرن الأول قبل الميلاد فما بعده، ويدل اسمها على أنها من القبائل العربية المتنقلة التي انتشرت بطونها في منطقة واسعة في ذلك العهد1. هذا ما عرفه أهل الأخبار عن الحضر وعن أهل الحضر, فهم على رأيهم من عرب قضاعة نزلوا هذه المواضع في زمن لم يحددوه، وأقاموا هناك. ولا أظن أن ما أورده "ابن الكلبي" عن الحضر قد جاء به من عنده، فلا بد أن يكون قد أخذه من موارد فارسية أو إرمية، وأغلب ظني أنه أخذ ذلك عن أهل الحيرة، وقد كان لرجال الدين فيها من النصارى علم بالتواريخ، أخذوا علمهم هذا من موارد متعددة، وعنهم نقل ما أورده عن الحضر. وأما مملكة "الرها" Edessa، وتعرف بـ"أورفة" "أُرفة" أيضا، فإن معارفنا عنها من ناحية صلتها بالعرب لا تزال ضئيلة، وهي من مدن الجزيرة العليا. وقد أزهرت قبل الميلاد، وظهرت مثل جملة مدن في هذه المنطقة، منها: "بتنى"، ونصيبين، و"سنكارا" Singara أي: "سنجار"2. وقد أدخل "بلينيوس" "الرها" Edessa وCallirhoe = Carrhoe في جملة مدن "العربية"3, ويقال للرها "أورهة" Orhai = Orrhoe في السريانية, وهي من "ديار مضر" المعروفة باسم Osrhoene = Orrhoene قديمًا4, وهي Orroei في تأريخ "بلينيوس"5, ومن جملة الأرضين الداخلة في العربية6، ومن المدن التي جدد بناءها "سلوقيوس الأول"7 Seleuces. وعرفت أيضا باسم "أنطوخية"، نسبة إلى "أنطيوخس" Antiochus الرابع8.

_ 1 المصدر نفسه، القسم الإنجليزي "ص10". 2 مجلة سومر، "1952م"، المجلد الثامن، الجزء الأول، "ص38". 3 Pliny., V, XXI, 86, Vol., II, P.287 4 المشرق: السنة الخامسة عشرة: الجزء 3, آذار 1952 "ص201 وما بعدها"، Ency., Iii, P.993, Hill, P.Xgiv, Lane, P.263 5 Pliny., V, Xx, 85, Vi, 25, 129, Vi, Ix. 25, Vol. Ii. P.285, 355, 437 6 Pliny., V, Xx, 85, Vol. Ii, P.284, 285 7 Eusebius – Hieronumus, Chron., P.127 8 Pliny., V, Xx, 86, Ency., Iii, P.993, Hill, P. Xgiv

وقد تكونت في القرن الثاني قبل الميلاد مملكة في هذه المقاطعة، مقاطعة Osrhoene = Orroei, مملكة عَدَّ الكَتَبَة اليونان والرومان ملوكها من العرب، وعدوا سكانها عربًا كذلك، ويعزو "روستوفتزيف" Rostovtzeff سبب تكونها إلى حالة الفوضى التي ظهرت في "ما بين النهرين" على أثر انحلال دولة السلوقيين واحتلال الفرث "الأشكانيين لها"1. وذكر "بروكوبيوس" أن هذه المقاطعة إنما دُعيت Osroes نسبة إلى ملك اسمه Osroes كان يحكم هذه الأرض في الأيام الغابرة، وكان حليفًا للفرس2. وقد وجدت أسماء ملوك "الرها" مرتبة ترتيبا زمنيا بحسب حكم الملوك في "حولية الرها" Edessene Chronicle المدونة حوالي سنة "540" بعد الميلاد، وفي حوليه أخرى هي "حولية زقنين" على مقربة من "آمد" المدونة حوالي سنة "775" بعد الميلاد، كما وجدت أسماء بعضهم على نقود ضربت في أيامهم3. ويظهر من دراسة هذه الأسماء أن بينها أسماء عربية نبطية، مثل: "معنو" وهو "معن"، و"بكرو" وهو "بكر"، و"عبدو" وهو "عبد"، و"سهرو" أو "سحرو" أي: "سهر" أو "سحر"، و"أبجر"، و"مزعور" أو "مذعور"، و"وائل"4. وقد استدل بعض الباحثين من تسمي ملوك "الرها" بأسماء عربية، ولا سيما الملوك الأولين منهم، ومن نص "بلينيوس" على أن كورة Osrhoene هي كورة عربية، ومن الوضع السياسي العام في الجزيرة Mesopotamia في القرن الثاني وما بعده قبل الميلاد، إذ كانت القبائل العربية قد توغلت في هذه المنطقة، استدل من كل ذلك على أن أهل الرها وحكامها كانوا من أصل عربي5. وقد نسب بعض أهل الأخبار بناء "الرها" إلى رجل سموه "الرهاء بن البلندي بن مالك بن دعر" "ذعر"، أو إلى "الرهاء بن سبند بن مالك بن

_ 1 Rostovtzeff, The Social, Ii, P.842, Poidebared, Texte, P. X, 72, 94, 129, 138, 148, 198. 2 Procopius, I, Xvii, 24 3 Ency., Iii, P.994, Hill, P.Xgv, Xgvi 4 Ency., Iii, P.994 5 Die Araber, I, S. 312

دعر بن حجر بن جزيلة بن لخم"1. وذكر "ياقوت" نقلًا عن "يحيى بن جرير النصراني" أن اسم "الرها" هو "أذاسا" في الرومية، وقد بُنيت في السنة السادسة من موت الإسكندر، بناها الملك "سلوقس"2. وقد أخذ "يحيى بن جرير" قوله هذا من كتب سريانية أو يونانية ولا شك, وقد انتزعها المسلمون في سنة "639م" من أيدي الروم3. ومن آلهة "الرها"، الإلهان: Azizos = Azizus وMonimos، ويرى "موردتمن" Mordtmann أن اسمي هذين الإلهين ليسا إرميين، ولكنهما عربيان أصليان، وأن أحدهما -وهو Azizus- هو عزيز، والآخر -وهو Monimos- هو عربي كذلك، وهم منعم. ودليله على ذلك ورود اسميهما في الكتابات اليونانية التي عثر عليها في "الكورة العربية" Provincia Arabia, وهما في رأيه من آلهة عرب هذه المنطقة، وإن أضافهما بعض الكتاب إلى السريان الوثنيين, والإله "بعل" و"نبو"4. وللرها شأن خطير في الأدب السرياني والأدب النصراني وتأريخ النسطورية، وقد أزهرت هذه المدينة خاصة في أواسط القرن الرابع وفي القرن الخامس للميلاد5. وتنسب إلى ملكها "أبجر" Abgar رسالة قيل: إنه بعثها إلى "المسيح", ومراسلات مع الحواريين الأولين6. ويراد بـ"كاليرهو" Kallirrhoe = Callirhoe الموضع الذي يعرف اليوم باسم "بركة إبراهيم"7 "نبع خليل الرحمن"8. وذكر "بلينيوس" أن سكان "الجزيرة" Mesopotamia

_ 1 البلدان "4/ 340"، البكري، معجم "1/ 425" "طبعة وستنفلد"، الإصطخري "76"، ابن حوقل "154" "ذعر". 2 البلدان "4/ 340". 3 Ency., III, P.996 4 Mordtmann, Mythologische Miscellen, In Zdmg., 32, 1878, S. 564, Hill P.Xgv 5 المشرق، السنة الخامسة عشرة، 1912م، الجزء 3 "ص204". 6 Eusebius, The Ecclesiastical History, I, Xiii, "Kirsopp Lake", "Loeb Classical Library", Vol., I, Pp.85 7 Hill, P.Xgv, Buckingham, Travels In Mesopotamia, 1827, I, Iii, E. Sachau, Reise In Syrien Und Mesopotamien, 1883 S. 196 8 المشرق، السنة الخامسة عشرة، 1912م، الجزء 3 "ص201".

Arabes, Qui Praetavi Vocantur عرب, مقرهم Singara، أي سنجار، وهو موضع قديم كان معروفًا في أيام الآشوريين. ويظن أن "تراجان" نزل به في أثناء سيره على الحضر قطيسفون1 Ktesiphon. أما Emesa = Homesa = Hemesa أي: حمص، فيشبه تأريخها من أوجه عديدة تأريخ مدينة تدمر؛ فقد حكمتها أسرة عربية، وأزهر تأريخها في الزمن الذي أزهرت فيه حكومات المدن الأخرى التي ظهرت على أثر الضعف الذي حل بالسلوقيين. وتقع في السهل الذي يرويه نهر العاصي Orontes وعلى مسافة ميل منه, وعرفت بـEmesa أيضا عند اليونان والرومان2. وفي أيام "بومبيوس" كانت مدينة Arethusa المجاورة لحمص، وهي "الرستن"، مقر أسرة عربية حاكمة3, وفيها ولد القيصر4 Elagabalus. وبلغت أوج ازدهارها في أيام "سبتيموس سفيروس"Septimius Severus وفي أيام Elagabalus وإسكندر سفيروس Alexander Severus، وكانت أسقفية في عهد البيزنطيين. وقد استدل بعض الباحثين من صُوَرِ أسماء ملوك حمص على أصلهم العربي؛ فالأسماء Sampsigeramus وIamblichus = Jamblichus وAzizus وSoemus هي أسماء تحمل طابعًا عربيًّا خالصًا. وهي أسماء ترد في نصوص صفوية، وفي نصوص عربية أخرى أيضا، مما يحملنا على الذهاب إلى أن ملوك حمص هم عرب كذلك5. فالاسم الأول وهو Sampsigeramus يمكن أن يقرأ "شمس جرم"، والاسم Jamblichus يمكن أن يكون "يملك" أو "جميل" أو ما شابه ذلك، والاسم Azizo هو "عزيزو"، أي "عزيز"، وأما الاسم Soemus، فيمكن أن يكون "سخيم" أو "سهيم" أو ما شاكل ذلك.

_ 1 Pliny., V, Xxi, 86, Vol., Ii, P.286, Sarre Und Ernest Herzfeld, Archeo. Reise, I, S. 203, Ency., Iv, P.435, Lane P.263 2 Ency., Ii, P.309, Berytus, Viii, Fasc., I, 1943, P.54-55, Pauly Emesa 3 "الرستن بفتح أوله وسكون ثانيه وتاء مثناة من فوق وآخره نون، بليدة قديمة كانت على نهر الميماس، وهذا النهر هو اليوم المعروف بالعاصي الذي يمر قدَّام حماة"، البلدان 4/ 249". 4 Ency., II, P.309 5 العرب في سوريا قبل الإسلام، تأليف رينه ديسو، تعريب عبد الحميد الدواخلي، "ص11"، R. Dussaud, 10, Die Araber, III, S. 126

وقد كان حكام "حمص" المذكورون كهنة يخدمون هيكل "الشمس"، شأنهم في ذلك شأن سادات القبائل العربية الذين كانوا كهنة يخدمون آلهة القبيلة, ويتحدثون باسمها بين أتباعهم1. وقد ذكر "أصطيفانوس البيزنطي" أن شيخًا عربيًّا اسمه "مانيكو" Maniko كون مشيخة في Chalcis أي: "قنسرين" من بلاد الشأم2. وكانت القبائل العربية قد استقرت في هذه المنطقة قبل أيام "أصطيفانوس" بمدة طويلة. وفي "الحيار"، وهي من أعمال قنسرين، اصطدم الغساسنة بالمناذرة في سنة "554" بعد الميلاد؛ فانتصر الغساسنة على خصومهم انتصارًا كبيرًا. ولما استولى الفرس على "قنسرين" وانتزعوها من البيزنطيين، كان للقبائل العربية سلطان واسع في مناطق قنسرين وحلب ومنبج وبالس3. ويعد "اليطوريون" Ituraean من القبائل العربية البدوية، وهي في التوراة من نسل "إسماعيل"4, وهم من نسل "يطور" بن إسماعيل. وتقع أرضهم بين "اللجاة" Trachonitae والجليل، وتسمى "جدورا"، وتقع في جنوب غربي دمشق, وهي من المناطق التي امتزج فيها العرب ببني إرم5. وقد توسع اليطوريون فدخلوا لبنان، وسكنوا البقاع Massyas، واستولوا على "بعلبك" Heliopolis، وتوسعوا نحو الغرب حتى هددوا "جبيل" Byblos وبيروت Berytos. وذلك في أيام ملكهم المعروف بـ"بطلميوس" Ptolmaios بن6 Mennaios. وقد استدل بعض العلماء من حشر التوراة اليطوريين في "الإشماعيليين" ومن اسم Mennaios وهو اسم والد الملك "بطلميوس" الذي عاش في القرن الأول

_ 1 Die Araber, Iii, S.126 2 Rostovtzeff, Vol., Ii, P.482, Poidebard, Texte, P.42, 207 3 Ency., Ii, P.1021 4 التكوين، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 15، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 31، الإصحاح الخامس، الآية 19، قاموس الكتاب المقدس "2/ 513". 5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 513"، Paulys, 18 Ter Halbband, 2377-2378. 6 Die Araber., I, S. 314

قبل الميلاد1، ومن عثورهم على أسماء يطورية في كتابات لاتينية ويونانية تشير إلى أنها أسماء عربية الأصل، استدلوا من هذا كله على أنهم من العرب وإن كانوا قد تأثروا بثقافة بني إرم؛ فقد تأثر بهذه الثقافة أكثر العرب الشماليين2. ويعلق بعض العلماء أهمية كبيرة على أسماء الأشخاص في إثبات أصولهم. ووجهة نظرهم هذه في الأسماء، هي التي جعلتهم يذهبون إلى أن من ذكرناهم هم عرب في الأصل؛ فإن الطابع الظاهر على أسمائهم هو طابع عربي. وترد تلك الأسماء في الكتابات الصفوية، وأصحابها هم عرب من غير شك، وإن دونوا بقلم نبطي وبلغة نبطية, فالنبط أنفسهم هم عرب، كما أشرت إلى ذلك في مواضع من هذا الكتاب، وكما سأشير إلى ذلك في مواضع تأتي. إن تدوين أهل الشرق الأدنى لأفكارهم ولما يجول في خاطرهم بلغة بني إرم وقلمهم، جعل من العسير على الباحثين الحكم في أصول الشعوب التي دونت بتلك اللغة, والتي عاشت في الهلال الخصيب. ويدفعنا هذا التدوين إلى وجوب اتخاذ موقف حذر ومتأنٍّ في إبداء آراء قطعية في أصول من ذكرنا، فنظرية الحكم على أصول الناس استنادًا إلى أسمائهم وإن بدت أنها نظرية معقولة مقبولة، لكنها مع ذلك غير علمية؛ فأكثر أسماء المسلمين في هذا اليوم هي أسماء عربية خالصة، ما في ذلك شك، فهل يجوز لنا أن نستنبط من هذه الأسماء بأن حملتها هم من أصل عربي؟ ثم إن علينا أن نتذكر أن أسماء القبائل والأشخاص عند الشعوب السامية هي متقاربة ومتشابهة، وهي واحدة في كثير من الأحايين، بل إن علينا أن نتذكر أن ثقافة تلك الشعوب وآراءها متقاربة، ويعني هذا أن من الواجب علينا ألا نتسرع فنحكم بأن ذلك مأخوذ من هذا الشعب أو من تلك الشعوب، وأن ذلك الشعب أو هذا هو الأصل. فمسألة تشابه الأسماء وتقارنها في النطق، لا يمكن أن تكون في نظري ميزانًا توزن به أصول الناس, وهل يعقل أن يكون الأعاجم المسلمون عربًا؛ لأن أسماءهم عربية، أو أن زنوج الولايات المتحدة هم من أصل أوروبي؛ لأن أسماءهم أوروبية؟.

_ 1 كان يهدد مدينة "دمشق" سنة 83-84 قبل الميلاد، Die Araber, I, S. 314. 2 العرب في سورية قبل الإسلام، رينه ديسو "ص11 وما بعدها"، Die Araber, I, S. 315

ويتصل الحديث عن هذه الإمارات بالحديث عن "تدمر" المدينة المعروفة بـ"بالميرا" Palmyra عند الغربيين الذين ورثوا هذه التسمية من الإغريق واللاتين, وهي "تدمر أمورو" في كتابات "تغلات فلاصر الأول" "تغلث فلاسر" "تغلت فلاسر"1 في رأي بعض الباحثين2. وسأتكلم عنها بعد حين.

_ 1 "تغلث فلاسر"، قاموس الكتاب المقدس "1/ 288". 2 Ency., Iii, P.1020, Syria, Revue D.htm'art Oriental Et A'archeologie, Tome Vii, Paris, 1926, P.77, Dhorme, Palmyre Dans Les Textes Assyriens, In Revue Biblique, 1924, Pp.106, Ency., Brita., Vol., 17, P.161, Hommel, In Zdmg., Xliv, 547

الفصل الثالث والثلاثون: ساسانيون وبيزنطيون

الفصل الثالث والثلاثون: ساسانيون وبيزنطيون حدث تطور خطير في الشرق الأدنى بعد الميلاد؛ فقد زالت حكومة "البارثيين" "الفرث" "البرث" The Parthians، في حوالي سنة "226ب. م."، وحلت محلها حكومة عرفت بحكومة "الساسانيين". وهي حكومة نبعت من ثورة على الحكومة السابقة، تولى كبرها ملوك أقوياء أظهروا حزمًا وشدة جعلت الروم يهابونهم، ويرون أنهم مكافئون لهم في القوة، ولم يكن الروم ينظرون إلى "الفرث" بهذه النظرة من قبل1. وحدث تطور مشابه في إمبراطورية "روما"، فقد انقسمت الإمبراطورية إلى قسمين، وصارت "القسطنطينية" عاصمة للجزء الشرقي، الذي كون الإمبراطورية "البيزنطية"، وذلك في سنة "330م"، وتولت هذه الإمبراطورية إرث النزاع مع الفرس، النزاع الموروث من الإسكندر، وأصبحت بحكم وجودها في بلاد الشأم وفي مصر على اتصال بالعرب في البر وفي البحر. وكان لا بد للساسانيين والبيزنطيين من التعامل مع العرب، ومن استرضائهم، ووضع حساب لهم. فقد كانت لكل من الإمبراطوريتين حدود واسعة طويلة معهم كما كان في كل من الإمبراطوريتين قبائل ذات شأن نازلة في أرضها في مناطق

_ 1 J. B. Bury, History Of The Later Roman Empire, Vol., I, P.90 وسيكون رمزه: Bury

حساسة هي حافات الحدود. وأما البادية: بادية الشأم التي تملأ الهلال الخصيب، فقد كانت مملوءة بقبائل عربية تعرف عند الروم باسم Saracens وScenites، وتعني الكلمة الأخيرة سكان الخيام، أو أهل الخيام، وهي كما قال أحد المؤرخين "الكلاسيكيين" في تنقل مستمر وحركة دائمة من مكان إلى مكان1؛ إذا وجدت أرضًا خصبة عاشت عليها، وإلا كسبت معيشتها بالغزو, تغير على أرض الفرس أو الروم، فإذا جابهتها قوة، تقهقرت إلى البادية حيث يعسر على غير الأعراب ولوجها لتأديبهم. ولهذا لم يكن أمام الحكومات الكبيرة إلا استرضاء تلك القبائل؛ لصيانة حدودها وللاستفادة منها في إلقاء الرعب في قلوب الأعداء والخصوم2. وسلك البيزنطيون السياسة التي سلكها حكام "روما" من قبلهم، وهي سياسة التقرب إلى سادة "أكسوم"، وعقد اتفاقيات ود وصداقة معهم؛ لضمان مصالحهم وللضغط على حكام السواحل العربية المقابلة لهم, لجلبهم إلى جانبهم ولمنعهم من التحرش بسفنهم وبتجارهم الذين كانوا يرتادون البحار إلى الهند والسواحل الإفريقية ويقيمون في مواضع من السواحل والجزر على شكل جاليات، كما هي الحال في جزيرة "سقطرى". وقد نجحت سياستهم هذه نجاحًا أدى إلى غزو الجيش لليمن بتحريض من الروم فيما بعد. وسلكوا سياسة حكام "روما" أيضا في تقوية حدود بلاد الشأم وضمان سلامتها من غارات الأعراب أو الفرس عليها، ببناء سلسلة من الاستحكامات في البوادي وفي مفارق الطرق المؤدية إلى تلك البلاد، وبتقوية "خطة ديوقليطيان" Diocletian الدفاعية الشهيرة التي وضعها، بالدفاع عن الحدود من مصر إلى نهاية الفرات, وفي جملتها تحصين مدينة "تدمر" قلب الدفاع، والمواقع العسكرية الأخرى المقامة في البادية؛ لتكون الموانع الأولى للأعراب من مهاجمة بلاد الشأم، والرادع الذي يردعهم عن التفكير في الغزو3. وفي جملة ما اتخذه البيزنطيون من وسائل التأثير في الشرقيين، وفي جملتهم

_ 1 Ammianus Marcellinus, Rerum Gestarum, Bk., Xiv, 4, I 2 Bury, I, P.95 3 John Malalas, Xii, P.308, Bury, I, P.96, Arabien, S. 23

العرب، نشر النصرانية، الديانة التي قبلوها ودانوا بها، واتخذوها ديانة رسمية للدولة. وفي نشر النصرانية تقوية لنفوذهم، وسند لسياستهم في نزاعهم مع الساسانيين؛ ولهذا نراهم يشجعون إرسال البعثات التبشيرية والإرساليات الدينية إلى إفريقيا وإلى بلاد العرب وإلى الهند، وينفقون بسخاء لبناء الكنائس في تلك الأرضين, يرسلون الخشب النفيس اللازم للبناء، و"الفسيفساء" التي امتازوا بصنعها، والعمال الروم المهرة في البناء؛ ليبنوا كنائس فخمة جميلة تبهر العيون, وتقر الأفئدة، وتؤثر في العقول, فتجلب إليها الناس وتستهويهم، وهناك يتلقاهم المبشرون الذين أوفدوا للتبشير، بتلقينهم النصرانية والإخلاص لإخوانهم في الدين, وفي طليعتهم الروم بالطبع، وفي ذلك كسب سياسي عظيم. وبذلك صارت "الكنائس" دورًا لعبادة الله، ودورًا للتبشير السياسي والثقافي، ومركزًا من مراكز الاستعلامات والتبادل الثقافي في مصطلح هذا الزمن. وتمكنت النصرانية من كسب بعض العرب، فجرَّتهم إليها. جذبت إليها القبائل الساكنة على حدود الأرياف والأطراف، أي: سكان المناطق الحساسة الدقيقة بالنسبة إلى الخطط السياسية والعسكرية للساسانيين وللبيزنطيين على حد سواء. وقد كان من سوء المصادفات أن النصرانية كانت قد تجزأت إلى شِيَعٍ، وأن غالبية النصارى العرب تمذهبت بمذهب يخالف مذهب الروم، ولكنها كانت تشعر على كل حال أنها مع الروم على دين واحد؛ ولهذا لم يحفل ساسة "القسطنطينية" كثيرًا بموضوع اختلاف المذهب، وإن تألموا من وجوده وظهوره، فساعدوا نصارى اليمن ونصارى الأماكن الأخرى من جزيرة العرب على اختلافهم عنهم، وعملوا في الوقت نفسه على نشر مذهبهم بين العرب؛ ليتمكنوا بذلك من إيجاد محيط ثقافي سياسي يؤيد البيزنطيين. وعني الساسانيون بتقوية حدودهم مع البادية كما فعل البيزنطيون، وكما فعل "الفرث" وغيرهم ممن حكم قبلهم, وسعوا في استرضاء سادات القبائل وأصحاب السلطان من حكام البوادي، وبنوا "المسالح" في المشارف المؤدية إلى أرياف العراق لحمايتها من الغزو، ولتقوم بتأديب الأعراب ومراقبة حركاتهم وتجمعاتهم؛ لتكون الحكومة على علم بما يريدون فعله، ووضعوا في الخليج سفنًا لحماية سفنهم من التحرش بها، ولحماية حدودهم الجنوبية الواقعة على الخليج من التعرض للغزو, وأقام "أردشير الأول" "225-241م" عدة موانئ بحرية ونهرية لهذا الغرض.

وتقابل هذه "المسالح" ما يقال له "المناظر" في عربيتنا, بالنسبة إلى حماية بلاد الشأم. فقد كان اليونان والرومان ثم البيزنطيون قد أقاموا خطوطًا Limes من التحصينات أسكنوا بها حاميات ألقوا عليها مهمة الدفاع عن الحدود, وهي تتكون من قلاع Castella ومن حصون "أبراج" Burgi ومن Centenaria وTurres. وخطوط التحصينات هذه، هي "المناظر" عند العرب و"المسالح" بالنسبة لخطوط دفاع الفرس, وواجبها حماية ما يليها من تحصينات أخرى وحاميات أقيمت على "الخنادق" في الإمبراطورية الساسانية، أو ما يقال له Fossatum عند الروم, فهي الخطوط الأولى من خطوط الدفاع. أما الذين يقومون بحراستها وبالدفاع عنها، فإنهم لا يتقاضون أجرًا، أي: رواتب على عملهم؛ لأنهم Limitanei كما يقال لهم في اليونانية, ومعاشهم مما يزرعونه بأنفسهم، أو يدفع لهم من غلات الفلاحين الذين يعفون من دفع ما عليهم من استحقاق للدولة, أي ما نسميه بضرائب Capitatio. وينتخب هؤلاء من السكان المحليين؛ ليكون من السهل عليهم السكن في هذه المواضع البعيدة, وعليهم مشرفون من الفرس أو الروم لتوجيههم ولقيادتهم في أثناء وقوع غزو أو تحرش قبائل بهذه الخطوط1. وشجع الساسانيون مذهب "نسطور" مع أنهم كانوا مجوسًا، ولم يكونوا نصارى. شجعوه؛ لأنه مذهب يعارض مذهب الروم، فانتشر في العراق وفي إيران وفي سائر الأرضين الخاضعة للحكم الساساني, ودخل في هذا المذهب أكثر النصارى العرب في العراق. ومن يدري, فلعلهم أسهموا من طرف خفي في توسيع الشقة بين هذا المذهب ومذهب الروم, ولإلقاء العداوة بين هؤلاء النصارى والروم. كانت بادية الشأم ميدانًا للقبائل، تتصارع فيه كيف تشاء, تبرز فيه قبيلة ثم ينطفئ اسمها، لتظهر قبيلة أخرى. ولم يكن ذلك ليهم الدول الكبرى، ما دام ذلك الصراع في مواضع بعيدة عن حدودها، فإذا بلغ الحد، اضطرت تلك الدول إلى الوقوف بحزم وصرامة أمامه، إذا كانت تملك الحزم والقوة.

_ 1 DIE ARABER, II, S. 350, ALTHEIM – STIEHL, FINANYGESCHICHTE DER SPATANTIKE, 31. FF., 117,. F., 162, F

ولصعوبة قيام جيوشها النظامية بتعقب القبائل المغيرة وملاحقتها في البادية، عمدت إلى استرضاء سادات القبائل الكبيرة ذات العدد الكبير، بالهدايا والمنح المالية المغرية وبالامتيازات وبالألقاب للقيام بحراسة الحدود ومراقبتها، وبتعقب القبائل التي قد تتجاسر فتغزو الحدود، منتهزة مواطن الضعف والثغرات. فالتجأ الساسانيون إلى عرب "الحيرة"، والتجأ البيزنطيون إلى الضجاعمة وإلى أهل تدمر والغساسنة فيما بعد؛ للقيام بهذه المهمة. ولم تكن مهمة حفظ الحدود مهمة سهلة هينة، حتى على أهل البادية أنفسهم، فمنطق القبائل: إن القبيلة إذا كانت قوية ذات بأس، وشعرت بقوتها، جاز لها أن تطلب لنفسها ما تشاء وأن تغزو من تشاء كائنًا من كان. وطالما صار من توكل إليه حراسة الحدود نفسه هدفًا للغزو؛ لأنه لم يطعم الغازين، ولم يقدم لهم ما يرضيهم من ترضيات وأعطيات، أو لأن الغازين رأوا في قرارة أنفسهم أنهم أحق بحماية الحدود من الذين يقومون بحمايتها في هذا الزمن؛ ولهذا يرون وجوب انتزاعها منهم بالقوة، كما انتزعها هؤلاء القائمون بالحماية ممن سلفهم؛ فلا يكون أمام الدول الكبرى غير الموافقة والتسليم، ودفع الجعالات التي كانوا يدفعونها إلى الحرس القديم، وإلى الحرس الجدد الذين أظهروا قوة فاقت قوة القدماء في ميدان التنافس والقتال, وما الذي يهم الدول الكبرى في مثل هذه المواقف غير حماية الحدود. ومع رغبة الدول الكبرى في التعامل جهد الإمكان مع أصحابهم القدماء الذين اطمأنوا إليهم، فأوكلوا لهم حراسة حدودهم، وكانوا يهددون ذلك الحرس بجعل حراستهم إلى خصومهم ومنافسيهم إذا ما شعروا بسوء نيتهم أو طمعهم أو إلحافهم في زيادة الجعالات، أو بضعف أو تهاون في الدفاع عن الحدود وفي إنزال القصاص بالمغيرين. وقد يوكلون الحراسة في الحالات الشاذة إلى قوادهم الأشداء؛ لتعقب المغيرين، وإنزال ضربات شديدة بهم، إلى أن يتفقوا مع حارس جديد أو أن يتفق أهل الحارس القديم على اختيار شخص جديد كما في حالات وفاة أحد رؤساء آل نصر أو آل غسان. وليس من الصعب بالطبع على حماة الحدود إدراك الأدوار الخطيرة التي يقومون بها، والخدمات الكبيرة التي كانوا يؤدونها للدولة التي يتولون حماية حدودها وضبطها من غارات الأعراب عليها؛ ولهذا صاروا يتحينون الفرص السانحة والظروف

المواتية لإرغام الدولة على رفع جعالاتهم ولزيادة امتيازاتهم، وإلا أضربوا عن الحراسة، وأثاروا الأعراب عليهم، وهاجموا هم أنفسهم تلك الحدود حتى تجاب مطالبهم أو يسترضوا، وعندئذٍ يقبلون بالعودة إلى عملهم. وفي تواريخ المناذرة والغساسنة، أمثلة عديدة من أمثلة خروج أمراء هاتين الحكومتين على الساسانيين والبيزنطيين؛ لعدم تلبية مطالبهم في زيادة الجعالات وفي الحصول على امتيازات جديدة تزيد على امتيازاتهم السابقة الممنوحة لهم. وكان من نتائج العداء الموروث بين الساسانيين والبيزنطيين أن انتقلت عدواه إلى العرب أيضا، فصار أناس منهم مع الفرس، وآخرون مع الروم، وبين العربين عداوة وبغضاء، مع أنهما من جنس واحد وكلاهما غريب عن الساسانيين والبيزنطيين. وقد تجسمت هذه العداوة في غزو عرب الحيرة للغساسنة، وفي غزو الغساسنة لأهل الحيرة، حتى في الأيام التي لم يكن فيها قتال بين الفرس والروم؛ مما أدى أحيانًا إلى تكدير صفو السلم الذي كان بين البيزنطيين والساسانيين، وتجسمت في شعر المدح والهجاء الذي نجده في حق آل نصر أو آل لخم، من الشعراء الذين وجدوا في هذه البغضاء متسعًا لهم ومفرجًا في الرزق؛ فصار بعضهم يساوم في أجور المدح وفي أجور الذم. وقد انتهت حدود الأرضين التي خضعت لحكم البيزنطيين أو سلطانهم عند حدود "المقاطعة العربية" الجنوبية، فلم تتجاوزها إلى ظهور الإسلام. ولعل محاولة "أبرهة" الاستيلاء على "مكة" كانت خطة سياسية عسكرية من خطط البيزنطيين, كانت ترمي إلى الاستيلاء على الشقة التي بقيت تفصل بين الروم والحكم الحبشي في اليمن، فيبسط بذلك البيزنطيون سلطانهم السياسي على العربية الغربية كلها, وعلى قسم كبير من العربية الجنوبية، ومن يدري, فلعلهم كانوا يبغون من بعد ذلك احتلال العربية الجنوبية كلها، لغرض سيطرتهم على أهم جزء من خطوط الملاحة البحرية العالمية المؤدية إلى الهند والسواحل الإفريقية. أما فيما عدا ذلك من جزيرة العرب، فلم يكن للبيزنطيين سلطان سياسي أو تدخل فعلي؛ ولهذا انفردت فعالياتهم السياسية والعسكرية مع العرب النازلين في الأرضين التي خضعت لحكمهم ولسلطانهم، ومع عرب بادية الشأم وعرب العراق.

ولا نعلم أن ملوك الروم كانوا يرسلون قوافل تجارية خاصة بهم؛ لتتاجر مع جزيرة العرب، أو أن حكام مقاطعاتهم في بلاد الشأم كانوا يتاجرون باسم حكومتهم أو بأسمائهم مع بلاد العرب. وكل ما نعرفه هو أن التجار العرب كانوا هم الذين يرسلون القوافل إلى بلاد الشأم, فكانت إذا دخلت مناطق الحدود، تؤدي ضرائب المرور و"المكس" إلى رجال "مصلحة الضرائب" التابعين للروم؛ وعندئذٍ يسمح لهم أن يذهبوا إلى الأسواق لبيع ما يحملونه وشراء ما يحتاجون إليه. وكانت "بصرى" حاضرة "المقاطعة العربية"، هي السوق الرئيسية للتجار العرب، ومنتهى قوافلهم في الغالب, فكانت علاقة أهل الحجاز، ولا سيما أهل مكة، بالروم علاقة اقتصادية. وعلى هذه العلاقة كانت تتوقف العلاقات السياسية في غالب الأحيان؛ فقد كان الروم يزيدون الضرائب أحيانًا، ويتعسفون في الجباية، فيتضرر بذلك التجار العرب، فكانوا يشتكون ويراجعون حكام المقاطعات، وقد يرفعون إلى كبار القادة والحكام التماسًا، أو يرسلون إلى عاهل القسطنطينية رسلًا، كما تقول بعض روايات أهل الأخبار؛ للتوسل برفع هذه المظالم عنهم ولتخفيض الضرائب، وتنتهي مثل هذه الشكايات بترضيات يراد بها أن تكون ترضيات سياسية، لتوجيه عرب الحجاز ضد الفرس، أو لفتح المجال لتجار الروم بالمرور من الحجاز إلى الجنوب، أو للضغط على التجار لمنع القبائل من التجاوز على حدود الروم, إلى ما شاكل ذلك من أمور. أما ملوك الساسانيين، فقد كانوا يتاجرون مع العرب، يشترون منهم ويبيعونهم ويرسلون القوافل بأسمائهم إلى العربية الجنوبية؛ لبيع ما تحمله في أسواقها، ولشراء سلع العربية الجنوبية يحملونها إلى أسواق العراق. وقد كانوا يوكلون حراستها إلى جماعة يختارونها من سادات القبائل المهيبين المعروفين، بُجْعلٍ يدفعونه لها، وسأتحدث عن ذلك فيما بعد. ولا أستبعد أن يكون بين تلك القوافل، قوافل حملت ما كان يرسله الأكاسرة إلى عمالهم في اليمن بعد استيلائهم عليها من مؤن وبضائع؛ لتعود بما يفضل من الجباية التي يجبيها مرازبتهم على اليمن، لتكون حصتهم وحصة الخزينة من مال اليمن. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن جماعة من أهل مكة قد تخصصت بالاتجار مع العراق, وقد كان لها تعامل مع كسرى وربما مع كبار رجال دولته أيضًا من أولئك الذين اقتدوا بملوكهم في الاشتغال بالتجارة وبالنزول إلى الأسواق. فإنا

نجد أناسًا من كبار تجار مكة كانوا يفدون على المدائن، ويتصلون بديوان كسرى، ويتعاملون هناك بيعًا وشراءً, وكانت لهم دالة على ملك المدائن، وربما كان يساعدهم هو نفسه في مال القوافل، أو يُجعَل له نصيب من الأرباح. أما حدود الدولة الساسانية مع البلاد العربية، فلم تكن ثابتة، بل كانت تتبدل وتتغير بحسب الظروف والأحوال. فقد كانت تتوسع أحيانا، وتتراجع وتتقلص أحيانا أخرى, وكان الساسانيون يتقدمون نحو الجنوب في اتجاه "العروض" وبقية الأقسام الشرقية من جزيرة العرب حين تكون لهم قوة بحرية كافية، وكانوا ينسحبون منها حين تضعف هذه القوة، وحين تلهيهم الأحداث الداخلية وحروبهم مع الروم عن التفكير في الجنوب. وقد كان العرب في عهد الساسانيين وقبله قد استوطنوا السواحل الجنوبية من إيران، وهيمنوا عليها، وكان لقبائلهم أثر خطير هناك, ولا سيما قبل أن تكون الدولة الساسانية, إذ وجدوا في انشغال الدولة إذ ذاك في المنازعات الداخلية فرصة ملائمة لهم، فبسطوا سلطانهم على مناطقهم مثل "كرمان" Karmania وغيرها1؛ ولهذا كان أول ما فعله مؤسس الدولة الساسانية "أردشير الأول" "224-240م"، "225-241م" "226-241م" أن حارب عرب هذه الأرضين ليخضعهم إلى حكمه، في جملة سياسته التي قررها، وهي القضاء على الإقطاع وعلى الإمارات التي تعددت في هذا العهد نتيجة ضعف الحكومة. فورد أن "أردشير" سار بعد أن تغلب على خصومه في إيران، لقتال ملك "الأهواز"، فغلبه في معركة حاسمة، واستولى على ولايته، ثم سار نحو "ميسان"، وكان حاكمها عربيًّا، فاستولى عليها2، وبذلك خضع له العرب الساكنون في المناطق الجنوبية من بلاد إيران. وذكر "حمزة الأصفهاني" أن "أردشير" ابتنى مدينة بالبحرين سماها "بتن أردشير"، "وإنما سماها بتن أردشير؛ لأنه بنى سورها على جثث أهلها، لأنهم فارقوا طاعته، وعصوا أمره، فجعل سافًا من السور لبنًا، وسافًا جثثًا؛ فلذلك

_ 1 Die Araber, I, S. 38 2 أرثر كريستينسن، تعريب يحيى الخشاب والدكتور عبد الوهاب عزام، إيران، القاهرة 1957م "ص75".

سماها أردشير"1. ويفهم من هذه الرواية الفارسية التي لا تخلو من الخيال أن أردشير كان قد استولى على البحرين. وقد ورد أن "أردشير" كان قد أنشأ عدة موانئ على الأنهار وعلى البحار2، بعد أن قضى على مقاومة القبائل العربية النازلة في المناطق الجنوبية من إيران، وعندئذٍ صار من الميسور له ركوب البحر والاستيلاء على البحرين وعلى الأرضين العربية الأخرى من جزيرة العرب. ولهذا نص بعض الكتبة "الكلاسيك" على أن ساحل عمان Oman كان تابعًا للفرس يومئذ، أي: لحكم "أردشير"3. وذكر الطبري أن "أردشير" بنى بالبحرين مدينة سماها "فنياذ أردشير" وقال: إنها مدينة "الخط"4. ويفهم من تأريخ "الطبري" أن "عمرو بن عدي"، وهو أول ملك من ملوك الحيرة، كان "مستبدًّا بأمره، يغزو المغازي، ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس"5، ولم يشرح "الطبري" صلته بـ"أردشير". ولكن الذي يتعمق في دراسة معنى هذه العبارة يخرج منها بأن أردشير فرض سلطانه عليه، وأنه أطاعه، فلم يعد يغزو المغازي، ويصيب الغنائم كما كان يفعل أيام ملوك الطوائف. أما "سابور الأول" "241-272م"6، وهو ابن الملك "أردشير" مؤسس الدولة الساسانية، فقد ذكر أنه تلقن درسا مهما في السلوك من "أذينة" ملك تدمر، إذ يقولون: إنه لما تمكن من القيصر "فالريان" "فالريانوس"7 Valerian وأسره وانتصر على جيشه انتصارًا كبيرًا، تملكه الغرور والعجب،

_ 1 تأريخ سني ملوك الأرض والأنبياء "ص34". 2 العرب والملاحة "ص91". 3 Die Araber, I. S. 37, 41, 56, 61, 109, 343 4 الطبري "2/ 41"، "طبعة دار المعارف بمصر". 5 الطبري "1/ 627" "دار المعارف". 6 "240-272م"، في بعض المراجع، Ency., Vol., 4, P.178, Die Araber, II, S. 67. 7 "أولارينوس"، مختصر تأريخ الدول، لابن العبري "ص128" "بيروت 1890".

وصار يشعر أنه ملك الدنيا، فلما أرسل إليه "أذينة" رسالة مع هدايا تحملها قافلة كبيرة من الجمال، وصلت إليه في أثناء عودته منتصرًا، تملكه العجب من تجاسر "أذينة" على مخاطبته بلهجة ليس فيها كثير من التعظيم والتفخيم والاحترام، وهو "ملك الملوك" و"أذينة" رئيس موضع في البادية، فأخذته العزة وأمر برمي هداياه في "الفرات" قائلًا: "ومن هو أذينة Odenathus هذا؟ ومن أي أرض هو حتى يوجه هذه الرسالة إلى سيده؟ فليأتِ حالًا إذا أراد أن يخفف من العقاب الذي سينزل به، وليسجد أمامي بعد أن توثق يداه إلى ظهره! ". فلما سمع "أذينة" بهذه الإهانة، جمع ما عنده من قوة، وأسرع فباغت الساسانيين مباغتة أفزعتهم، فوقع الرعب فيهم، حتى تركوا له أكثر ما حصلوا عليه من غنائم من حربهم مع الرومان، وفقدوا بعض زوجات الملك، إذ وقعن أسرى في أيدي قوات "أذينة". ولم يكتفِ ملك "تدمر" بهذا الانتقام، بل أسرع في سنة "263م" فهاجم الجزيرة، فانتصر على "سابور"، ثم حاصر عاصمته "طيفسون"1. وقد استمر الساسانيون في محاربة "أذينة" رجاء التغلب عليه والانتقام منه إلى سنة "265م" من غير جدوى، إذ قتل "أذينة" دون أن يتمكن "سابور" من أخذ الثأر منه2. ولما تغير الزمن، واتبعت "الزباء" سياسة معادية للرومان، وحاصرها "أورليان" Aurelian, اتصلت بالساسانيين رجاء الحصول منهم على مساعدة عسكرية؛ لتتخلص بها منهم، إلا أن الملك "بهرام" لم ينجدها؛ فسقطت أسيرة في أيدي الرومان سنة "272م"، وأخذ نجم المدينة المهمة التي اتخذها "هادريان" Hadrian قاعدة عسكرية لحماية حدود بلاد الشأم من المغيرين، في الأفول منذ ذلك الحين. وكان تقاعس "بهرام" عن مساعدة "الزباء" من ضعف سياسة ذلك الملك، الذي لم يكن ذا همة في إدارة الملك3.

_ 1 Sir Percy Sykes, A History Of Persia, Vol., I. P.402. 2 أرثر كريستينسن، إيران في عهد الساسانيين "ص213 فما بعدها"، Ency., Vol., 4, P.312, Pauly-Wissowa, 2, II, Reihe, I, 2328, 2331 3 إيران في عهد الساسانيين "ص215"، Sykes, History Of Persia, Vol., I, P.207

ولا نعلم شيئًا يذكر بعدئذ عن صلات الفرس الساسانيين بالعرب منذ عهد "بهرام الأول" إلى عهد "سابور الثاني" "310-379م"، فالموارد صامتة لا تتحدث عنها بأي حديث، إلى عهد هذا الملك، وإنما هي تتحدث عن غارات قاسية أغارها هذا الملك على العرب في المنطقة العربية من إيران وفي الخليج العربي وفي العراق. ويحدثنا "المسعودي"، أن "سابور بن هرمز" المعروف بـ"سابور ذي الأكتاف" "310-379م"، كان قد أوقع في العرب موقعة عظيمة؛ وذلك لأن القبائل العربية وفي طليعتها قبيلة "إياد"، كانت قد غلبت على سواد العراق، وأطبقت على البلاد؛ ولذلك قيل لها "طبق" في أيام ملكها "الحارث بن الأغر الإيادي"، وكانت تصيف بالجزيرة وتشتو بالعراق، فلما كبر "سابور" وأخذ أمور الملك بيده من مستشاريه ووزرائه، إذ جاء الملك إليه بوفاة أبيه وكان في بطن أمه، أراد الانتقام من إياد، وإخضاعها للساسانيين كما كانت من قبل، فأرسل سراياه نحوها، وكان في حبسه رجل من إياد اسمه "لقيط"، سمع بعزم سابور فأرسل إليها شعرًا ينذرها به، ولكنها لم تحفل بإنذاره، ففاجأتها جيوشه، وأوقعت بهم، فما أفلت منهم إلا نفر لحقوا بأرض الروم، وخلع بعد ذلك أكتاف العرب، فسمي سابور ذا الأكتاف1. ويفهم من البيت الأول من شعر لقيط، وهو قوله: سلام في الصحيفة من لقيط ... على من في الجزيرة من إياد2 أن إياد كانت قد استبدت في أرض الجزيرة وعصت الفرس هناك, وكانت قد استوطنت منذ أمد فيها؛ ولذلك حذرها "كسرى". وإذا كان هذا البيت الذي نسب إلى "علي بن أبي طالب": لقريب من الهلاك كما أهـ ... ـلك سابور بالسواد إيادا

_ 1 مروج الذهب "1/ 215 وما بعدها". 2 الأغاني "20/ 24"، الآمدي، المؤتلف "ص175".

حقًّا وصحيحًا، فإن قوله هذا يكون أقدم مورد جاء فيه خبر إيقاع "سابور" بإياد1. وفي خبر "المسعودي" وَهْمٌ وتسرعٌ؛ فإن الذي حارب إياد وأنزل بهم خسائر فادحة، لم يكن "سابور ذا الأكتاف"، بل كان "كسرى أنو شروان"، أو "كسرى بن هرمز"، وإن "كسرى" هذا أرسل جيشًا ضدهم، وضعه بقيادة "مالك بن حارثة" ومعه قوم من "بكر بن وائل" فأرسل عندئذ "لقيط" إليهم إنذاره فلم يحفلوا به، فوقعت بهم خسائر كبيرة في "الحرجية"، وفر قسم كبير منهم إلى بلاد الشأم2. وينسب بعض الرواة الشعر المذكور إلى "عمرو بن جدي"، ويرجع جماعة من الرواة أيام "لقيط بن معمر" إلى أيام "كسرى أنو شروان" "الأول". وفي القولين دلالة على أن الأبيات الشعرية التحذيرية لا يمكن أن تكون قد أرسلت في أيام "سابور" المذكور، بل في أيام ملك آخر حكم بعده بسنين3. وفي رواية أخرى أن "سابور" سار في البلاد حتى أتى بلاد البحرين، وفيها يومئذ بنو تميم، فأمعن في قتلهم, ففر من قدر منهم على الفرار، فأراد اللحاق بهم، ولكن "عمرو بن تميم بن مر" وهو سيد تميم يومئذ، وكان قد بلغ ما بلغ، تحدث إليه حديثًا لطيفًا أقنعه بالكف عمن بقي، فتركهم وشأنهم4. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن السبب الذي دعا بـ"سابور" إلى الفتك بالعرب، هو أن القبائل العربية كانت قد توغلت في جنوب إيران، وصار لها سلطان كبير هناك، وتزايد عددها، ثم صارت تتدخل في الأمور الداخلية للدولة الساسانية. فلما أخذ الأمور بيديه، بدأ يضرب هذه القبائل؛ للقضاء على سلطانها ثم قطع البحر، فورد "الخط"، فقتل من بلاد البحرين خلقًا كبيرًا، وأفشى القتل في "هَجَر"، وكان بها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، ثم عطف على بلاد عبد القيس فأباد أهلها، إلا من هرب منهم فلحق

_ 1 ENCY., VOL., 4, P.315 2 ENCY., II, P.565 3 DIE ARABER, III, S. III 4 مروج الذهب "1/ 217".

بالرمال، ثم أتى اليمامة فقتل بها كثيرًا أيضًا، وسار على خطة طمّ المياه وردم الآبار؛ ليحرم الناس الانتفاع بها, ثم سار حتى بلغ قرب "المدينة"، فقتل من وجد هناك من العرب، وأسر. ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيما بين مملكة فارس و"مناظر الروم" بأرض الشأم، ففعل بها ما فعله في الأرضين الأخرى، وأسكن من كان من بني تغلب من البحرين "دارين" واسمها "هيج" و"الخط"، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم "هجر"، ومن كان من بكر بن وائل "كرمان" وهم الذين يدعون "بكر بن أبان"، ومن كان من بني حنظلة بـ"الرميلة" من بلاد الأهواز1. فحملة "سابور" على البحرين وساحل الخليج، إنما هي جزء من الحملة العسكرية التي وضعها ذلك الملك للقضاء على نفوذ القبائل العربية التي كانت قد سكنت السواحل الجنوبية من إيران, وأقامت بها قبل أيامه بزمن. والظاهر أنها انتهزت فرصة ضعف الدولة الساسانية، وتناحر الرؤساء ورجال الجيش على السلطة فأخذت تزحف نحو الشمال وتقوي سلطانها في الأرضين الجنوبية من المملكة, فلما انتقل الحكم إلى "سابور" وكان من سياسته إعادة السلطة المركزية للدولة والقضاء على الإقطاعيين وعلى منازعي الحكومة، حمل على عرب إيران حملة شديدة عنيفة حتى أخضعهم، ثم نزل نحو الجنوب فعبرت جيوشه إلى جزر البحرين والسواحل العربية المقابلة؛ فأوقع بالعرب وآذاهم على نحو ما نجد وصفه في كتب أهل الأخبار. وقد كان نزوح العرب إلى إيران عن طريق البحر، حيث زحف أهل ساحل الخليج من الخط والبحرين وكاظمة وعمان، إلى السواحل المقابلة: السواحل الجنوبية من أرض الفرس. كما نزحوا إليها من مملكة "ميسان" Mesene، فتوغلوا شرقا إلى "عيلام" Elam، أي: "خوزستان" ثم الأقسام الجنوبية من فارس. ويفهم مما كتبه "كورتيوس روفوس" Curtius Rufus، الذي عاش في العشرات الأولى من القرن الثالث للميلاد، أن العرب كانوا إذ ذاك في "كرمان" وفي "فارس"2. ولا بد وأن يكون وجودهم في هذه الأماكن قبل هذا العهد

_ 1 الطبري "2/ 67"، "2/ 57"، "دار المعارف". 2 Curtius Rufus, I, 36-39, Die Araber, II, S. 345, 349

بأمد طويل. وذلك مما يؤيد ما جاء في تأريخ "الطبري" وغيره من وجود العرب في إيران قبل قيام حكومة الساسانيين. وقد أنشأ "سابور" أسطولًا قويًّا في الخليج العربي؛ ليحافظ على حدود إمبراطوريته، وعلى التجارة في هذا الماء، مع مساهمة أهل الخليج العرب أنفسهم في ركوب البحر وفي نقل التجارة ما بين الهند وسيلان وجزيرة العرب والعراق. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن "سابور" نفسه كان في الأسطول الذي وصل إلى البحرين للانتقام من العرب الذين كانوا يهاجمون سواحل حكومته الجنوبية المطلة على الخليج1. وفي رواية أخرى نقلها "الطبري" من مورد آخر غير مورد ابن الكلبي: أن سابور، بعد أن أثخن في العرب وأجلاهم عن النواحي التي صاروا إليها، مما قرب من نواحي فارس والبحرين واليمامة، استصلح العرب، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوّج والأهواز2, وقد كان ذلك بعد حربه مع الروم. والظاهر أن الأوضاع السياسية اضطرته إلى استصلاح العرب، بعد أن تبينت له صعوبة الاستمرار في سياسة العنف والقوة إلى أمد غير معلوم، وبعد ما وجد من خطر في الاستهانة بشأن القبائل، ولا يستبعد أن يكون للدرس الذي تعلمه من "أذينة" نصيب في هذا التبدل الذي أدخله على سياسته. ويتبين من وصف "الطبري" لحملات "سابور" على العرب، أنها كانت حملات واسعة، شملت أرضين بعيدة. بدأت بمن نزل أرض فارس من العرب ممن أناخ على "أبر شهر وسواحل أردشير خرة وأسياف فارس"، ثم السواحل المقابلة لإيران من بلاد العرب، ثم امتدت نحو الغرب حتى بلغت "المدينة"، ثم منها نحو بلاد بكر وتغلب، فيما بين مسالح الساسانيين و"مناظز" الروم, أي: إنه حارب قبائل بادية السماوة. وهي حملات إن صح أنها وقعت فعلًا، فلا بد وأن تكون قد نجحت وتمت بقبائل عربية مؤيدة لـ"سابور"، إذ يصعب

_ 1 العرب والملاحة "ص91", SYKES, HISTORY OF PERSIA, P.412 2 الطبري "2/ 69 وما بعدها", "2/ 61", "دار المعارف".

تصور قيام الفرس وحدهم وبدون مساعدة باجتياز البوادي الشاسعة المنهكة لملاحقة العرب، وهم سادة البادية. ولم يكن في وسع الفرس، مهما بلغ جيشهم من التدريب والتنظيم, تحمل العطش وحرارة البادية وجوها القاسي الصارم. وفي رواية المؤرخ "أميانوس" Ammianus عن حروب "سابور" "شابور" الثاني تأييد لرواية "الطبري" عن تلك الحروب وتوثيق لأكثرها. وقد وقعت تلك الحروب في أرض أغلب سكانها من عشائر قضاعة1. ولضمان الحدود من غارات الأعراب عليها، قوّى "سابور" "المسالح"، بأن وضع بها حاميات عسكرية قوية؛ لمنع الأعراب من التعرض بالحدود, كما أقام خندقا عرف بـ"خندق سابور" ليحول بين الأعراب والدنو من الحضر. وقد أباح لرجال الحاميات التي وضعت على الخندق، إقامة الأبنية وزرع الأرض واستثناهم من دفع الخراج2. وقام "سابور" بعمليات واسعة لإجلاء القبائل من منازلها إلى منازل أخرى جديدة؛ تأديبًا لها، وضمانًا لعدم قيامها بغارات على الحدود. وهي سياسة قديمة معروفة، استعملتها الحكومات في تأديب القبائل؛ فكان الآشوريون يجلون القبائل من مواطنها إلى مواطن جديدة، قد تكون بعيدة عن منازل القبيلة القديمة. وقد أجلى "سابور" بعض عشائر "تغلب" إلى البحرين, حيث أنزلو "دارين" وهي "هيج"، وأسكن عشائر أخرى "الخط", ونقل بعض عشائر "بكر وائل" إلى "كرمان" و"أبان"، حيث عرفوا بـ"بكر أبان", ونقل "بني حنظلة" إلى "الرملية" من "الأهواز" "خوزستان". ويرى "نولدكة" احتمال كون "الرملية" موضع "قرية الرمل"، الواقع على مسيرة يوم واحد عن "شوشتر", ونقل قومًا من "عبد القيس" وتميم إلى "هجر"3. وفي جملة ما وضعه "سابور" من خطط لحفظ "السواد" وحفظ الحدود، إقامة "أنابير" أي: مخازن في المواضع المهمة؛ لخزن الأسلحة والأطعمة لتوزيعها

_ 1 AMMIANUS, 16, 9, 3-4, DIE ARABER, III, S. 110, AULTHEIM-STIEHL, FINANZGESCHICHTE DER SPATANTIKE, "1957", S. 35, 38 2 DIE ARABER, II, S. 349 3 DIE ARABER, II, S. 351

على حاميات "المسالح" وعلى الأعراب عند الحاجة. ومن هذه المواضع: "الأنبار" و"عكبرا", وقد وضعت كلها تحت حماية عسكرية قوية. كذلك عهد إلى "آل نصر" مهمة حماية الحدود, بضبط العشائر والسيطرة عليها, بأن جعلهم يقومون بدور الشرطة المسئولة عن حماية الحدود1. ولا أستبعد احتمال تقليد "سابور" للرومان في خططهم العسكرية التي كانوا وضعوها لحماية حدودهم في بلاد الشأم وفي إفريقية من غزو القبائل. فقد كانوا قد حموا حدودهم بسلسلة من التحصينات ضمت Castella وBurgi وCentenaria، وخطوطًا دفاعية حصينة أقيمت في مؤخرة التحصينات الأمامية عرفت بـFossatum. و"المسالح" التي أقامها الفرس أمام "الخندق" أو أمام الخطوط الدفاعية المحصنة هي محاكاة لخطط الرومان, وتقابل ما يقال له Limitanei في اللاتينية2. ولما تحرش "سابور" سنة "337م" بحدود الروم, كلف العرب الهجوم على حدودهم أيضا وغزوها3. والظاهر أن هؤلاء العرب كانوا من العرب المحالفين له، ولعلهم عرب الحيرة. وقد وقع هذا الغزو في أيام "قسطنطين" Constantine ملك الروم. ونجد في الروايات الأعجمية تأييدًا للرواية العربية القائلة باسترضاء "سابور" للعرب؛ للاستفادة منهم في محاربة الروم وفي الوقوف أمامهم. إذ ورد في الأخبار اليهودية أنه أثناء الحروب الفارسية الرومية الطويلة التي امتدت من سنة "338" حتى سنة "363" للميلاد، استدعى "سابور" قبائل عربية عديدة, وأسكنها في مواضع متعددة من العراق؛ وذلك لتساعده في حربه مع الروم4. وفي رواية في تأريخ الطبري: أن "لليانوس" ملك الروم حارب "سابور"، فضم إلى جيشه من كان في مملكته من العرب، أي: عرب الروم، "وانتهزت

_ 1 DIE ARABER, II, S. 352 2 DIE ARABER, II, S. 350 3 SYKES, HISTORY OF PERSIA, I, P.413 4 THE BABYLONIAN TALMUD, SEDER NEZIKIN, II, P.735, V. FUNK, DIE JUDEN IN BABYLONIAN, II, 41

العرب بذلك السبب الفرصة من الانتقام من "سابور" وما كان من قتله العرب، واجتمع في عسكر "لليانوس" من العرب مائة ألف وسبعون ألف مقاتل، فوجههم مع رجل من بطارقة الروم بعثه على مقدمته، يسمى "يوسانوس". أما من بقي في عسكر "لليانوس" من العرب، فقد سألوه أن يأذن لهم في محاربة "سابور"، فأجابهم إلى ما سألوه، فزحفوا إلى "سابور" فقاتلوه، ففضُّوا جمعه، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وهرب "سابور" فيمن بقي من جنده، واحتوى "لليانوس" على مدينة "طيسفون" محلة سابور. وظفر ببيوت أموال سابور وخزائنه فيها"1. عندئذ استنجد سابور بقواده فلما وصل إليه العون، استخلص طيسفون، ثم تصالح بعد مقتل "لليانوس" مع "يوسانوس" الذي انتخبه الجيش ملكًا على أثر قتل "لليانوس".2 وقصد "الطبري" بـ"لليانوس" الإمبراطور "جوليان" "بوليان" Julian، فقد تقدم هذا بجيوشه سنة "363م"، نحو الدولة الساسانية فاكتسح حدودها، وهرب الفرس من أمامه، حتى بلغت جيوشه "طيسفون" عاصمة الساسانيين، إلا أنه لم يلحق ضربة شديدة قاصمة بـ"سابور"، بل ترك عاصمته، وتراجع حيث لاقى مصيره في المعركة في أثناء رجوعه إلى بلاده, فانتخب "يوسانوس", وهو"جوفيان" Jovian في لغة الروم، خلفًا له3. وقد ورد في بعض الروايات أن "لليانوس" "يوليان" Julian قيصر الروم، كان متعجرفًا متغطرسًا فلما كلف جماعة من العرب Saracen أن ينضموا إلى جيشه، لمحاربة الفرس، وافقوا على ذلك وحاربوا معه، إلا أنهم لما طالبوه بعطاياهم وبهدايا، أجابهم جوابًا غليظًا: "الإمبراطور الشجاع المقدام عنده الحديد، لا الذهب"، فتركوه وانقلبوا عليه، وألحقوا به خسائر كبيرة4. ويذكر المؤرخ "أميانوس مرسيللينوس" Ammianus Marcellinus: أن "يوليان" Julian لما بلغ "الفرات" ليلحق بالأسطول الذي بناه في هذا النهر

_ 1 الطبري "2/ 68"، اليعقوبي "1/ 131". 2 الطبري "2/ 68 وما بعدها". 3 SYKES, HISTORY OF PERSIA, I, P.422 4 SYKES, HISTORY OF PERSIA, I, P.418

ويسير به لمحاربة الساسانيين ولينقل جيشه إلى حيث يلتقي بالجيش الآخر الزاحف من "دجلة" والطرق البرية، قدمت له قبائل عربية Saracens الطاعة، إلا أن هؤلا أناس لم يكونوا يعرفون هل هم أعداء أم أصدقاء؟ 1 ولذلك صار الروم على حذر شديد منهم؛ خشية الانقلاب عليهم عند الشدائد. وذكر هذا المؤرخ: أن سادات القبائل قدموا إلى القيصر تاجًا من ذهب؛ ليعبر عن خضوعهم له, ولقبوه بلقب "ملك كل العرب" فقبل الملك منهم التاج واللقب؛ لما في ذلك من أثر معنوي يحدثه في نفوس العرب, وحاربت القبائل التي انضمت إلى الفرس في معارك صغيرة2. فكافأها القيصر على عملها هذا, إلا أنه لم يقدم لها معونات الذهب التي كانت تقدم عادة إلى سادات القبائل؛ فاستاء الرؤساء من ذلك، وانحاز قسم منهم إلى الفرس, وأخذوا يتحرشون بعسكر "يوليانوس"، وألحقوا به خسائر في الأرواح، وباعوا من وقع في أيديهم أسيرًا من الروم، في أسواق النخاسة3. وكان سبب انضمام تلك القبائل إلى الروم، ما لاقته من شدة "سابور" "شابور الثاني" ومن تنكيله بها، فأرادت بانضمامها إلى "يوليانوس" الانتقام من الفرس، وأخذ ثأرها منهم عند سنوح أول فرصة. وقد آذوه فعلًا، مما حمله على تغيير سياسته تجاههم، فأخذ يسترضيهم فعاد إليه من عاد منهم4. وذكر "أميانوس" أن ممن انضم إلى الفرس من الأعراب Saraceos، سيد قبيلة اسمه "مالك" Malechus, وقد عرف والده بـ5Podosacis. وقد تمكن بمعاونة رجل عربي آخر اسمه: "سورينا" Surena من الفتك بكتيبة من كتائب الروم, وذلك بنصب شرك لها، فوقعت تحت سيوف العرب. وذكر أن "مالكًا"، كان عاملًا "فيلارخا" على قبيلة اسمها Assanitarum، يرى البعض أنهم الغساسنة6.

_ 1 SKYES, I, P.419 2 AMMIANUS, 23, 5, I, 24, I, 10, DIE ARABER, II, S. 324 3 AMMIANUS, 25, 8, I, DIE ARABER, II, S. 325. 4 DIE ARABER, II, S. 325 5 AMMIANUS, 24, 2, 4, DIE ARABER, II, S. 325 6 DIE ARABER, II, S. 325

ويذكر أهل الأخبار أن "سابور" إنما لقب بـ"ذي الأكتاف"؛ لأنه خلع أكتاف العرب1. ويرى "نولدكة" أن هذا التفسير مصنوع، وأن اللقب إنما جاء عند الساسانيين في معنًى آخر لا علاقة له بخلع الأكتاف، بل قُصد به "ذو الأكتاف"، أي: صاحب الأكتاف دلالةً على الشدة والقوة، فهو لقب تمجيد وتقدير. وقد حوله أهل الأخبار إلى معنى آخر، هو المعنى المتقدم لبطش "سابور" بالعرب وإيقاعه القاسي بهم. أما "أرثر كريتنسن"، فيرى أن تفسير أهل الأخبار تفسير صحيح، وهو لا يستبعد خلع "سابور" لأكتاف العرب، فقد كان مثل هذا التعذيب القاسي المؤلم معروفًا في تلك الأيام2. وذكر "حمزة الأصفهاني" أن التسمية المذكورة إنما جاءته من الجملة الفارسية، وهي "شابور هويه سنبا" "وهويه اسم للكتف, وسنبا أي نقاب. قيل له ذلك؛ لأنه لما غزا العرب كان ينقب أكتافهم، فيجمع بين كتفي الرجل منهم بحلقة ويسبيه، فسمته الفرس بهذا الاسم وسمته العرب ذا الأكتاف"3, فالتسمية إذن هي تسمية فارسية. ولا أستبعد أن تكون القصة شرحًا تكلفه القصاصون، لتفسير هذا اللقب، وهناك ألقاب عديدة، فسرت تفسيرا أسطوريا على هذا النحو من المبالغة والتهويل. وقد نسب إلى "سابور" "شابور" هذا بناء الأنبار، ذكر أنه بناها فسميت بـ"فيروز شابور", وقد صيرها العرب "الأنبار"4. وكانت من المدن التي تغلب عليها العنصر العربي عند ظهور الإسلام، كما نسبوا إليه بناء "عكبرا"5. ويذكر "المسعودي" أن "سابور بن سابور"، ويريد به "سابور الثالث" "383-388م"6، كانت له حروب كثيرة مع إياد بن نزار وغيرها من العرب. ويتبين من بيت شعر نسبه إلى شاعر نعته بأنه: "شاعر إياد" ولم

_ 1 الطبري "2/ 67"، مروج الذهب "1/ 216". 2 إيران في عهد الساسانيين "ص225". 3 حمزة "ص36". 4 "والأنبار: أهراء الطعام، واحدها: نبر، ويجمع: أنابير"، اللسان، مادة "نبر" "5/ 190" "صادر"، حمزة "34". 5 حمزة "37". 6 أو سنة "387م" في بعض الروايات.

يسمه، أن إيادا استعادت مكانتها، وأصبحت قبابها و"حولها الخيل والنعم" وذلك "على رغم سابور بن سابور"1. ويظهر أن إياد التي كانت قد لحقت بأرض الروم في أيام "سابور ذي الأكتاف" عادت فرجعت إلى العراق وحلت في محلها. ويذكر "المسعودي" رواية أخرى، خلاصتها أن إياد بعد أن رجعت من أرض الروم، دخلت في جملة "ربيعة" من ولد "بكر بن وائل"، وأن ربيعة كانت قد غلبت على السواد، وشنت الغارات في ملك هذا الملك، فصارت إياد في جملة "ربيعة"2. فإياد وإن عادت إلى العراق، لم تتمكن من أن تستعيد مكانتها، فدخلت في قبائل "ربيعة" التي هي من "بكر وائل"، وهي قبائل كانت قد كسبت سلطانًا ومكانة مستغلة فرصة ضعف هذا الملك، فسادت من ثَمَّ على "إياد". وقد وقع هذا التطور بعد وفاة "سابور ذي الأكتاف"، وإذا أخذنا برواية "المسعودي" هذه، وجب أن يكون زمانه ما بين سنة "383-388م". ففي خلال هذه المدة كان حكم "سابور الثالث"3. ولا تتحدث الموارد العربية بشيء يذكر بعد ذلك عن علاقة الساسانيين بالعرب إلى أيام "بهرام جور" "بهرام كور" "420-438م"، وهو المعروف بـ"بهرام الخامس" عند المؤرخين4. ثم نجدها تعود فتتكلم عن علاقتهم بعرب الحيرة، حيث يحتل الكلام عليهم الجزء الأكبر من صفحات تأريخ العلاقات العربية الساسانية؛ ولهذا السبب وجب البحث في الحيرة وفي علاقاتها بالساسانيين في فصل خاص. وكان لملك الحيرة فضل في تولي "بهرام" عرش الدولة الساسانية بعد أن قرر الأشراف وأصحاب الجاه والسلطان من رجال الدين والجيش انتزاعه من أولاد

_ 1 على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب إياد حولها الخيل والنعم روج الذهب "1/ 211". 2 مروج "1/ 221". 3 Ency., Vol., 4, P.178 4 Ency., Vol., 4, P.178, R. Ghrishman, Iran, P.299

"يزدجرد" والده. فقد أمده بجيش أفزع أولئك الأقوياء فوافقوا على أن يمنحه التاج، كما سأتحدث عن ذلك في أثناء كلامي على ملوك الحيرة. ويذكر "الطبري" أن "بهرام" المذكور كان قد رُبِّيَ تربيةً عربيةً؛ ذلك لأن أباه "يزدجرد" "يزدكرد" كان قد أرسله إلى الحيرة لتربيته تربية صحيحة، فأقام في البادية وبين الأعراب حتى شبَّ مثلهم قويا شجاعا مغامرا، ينظم الشعر بالعربية، ويتكلم بها بطلاقة وفصاحة. ويرى بعض المؤرخين المحدثين أن إقامة "بهرام" إنما كانت في قصر الخورنق, ويرون أن بناء هذا القصر كان قد تم قبل ذلك بزمن, ويرون أن إرساله إلى الحيرة، لم يكن على نحو ما زعمته الروايات العربية، وإنما كان نفيًا له في الواقع لخلاف بينه وبين أبيه, ولأن أباه لم يكن يعطف عليه عطفه على ولديه الآخرين1. وهذا القسم من تأريخ صلات الساسانيين بعرب الحيرة، واضح ومفصل بالقياس إلى القسم المتقدم، وإنه يدل على أنه أخذ من موارد تأريخية منظمة غير ساسانية, وهي موارد دونها أهل الحيرة أنفسهم، وفي مقدمتهم رجال الكنيسة الذين ألفوا تدوين التواريخ، وقد صار رجال الدين النصارى هم رواة التأريخ وحفظته منذ تفشي النصرانية، فمن هذه الموارد نقل "ابن الكلبي" وأضرابه ممن دونوا تأريخ الحيرة. وذكر بعض أهل الأخبار أن "كسرى برويز" "كسرى أبرويز"، لما انهزم من "بهرام شوبين"، كان فراره على فرس من خيل رجل من طيء، فنجا بفضله، وذكروا أن ذلك الفرس هو "الضبيب"، وهو من خيل العرب المعروفة2. وذكر "حمزة الأصفهاني" أن من جملة قواد "كسرى أبرويز" القائد "فنابرزين"، وهو "نكهان". وكان "فنابرزين" متوليًا على ما يلي الريف من البادية إلى حد الحيرة إلى حدود البحرين، والعرب تسميه "خنابززين ساسان بن روزبة"3.

_ 1 إيران في عهد الساسانيين "ص260". 2 الاشتقاق "ص117". 3 حمزة "ص91".

وفي أيام "كسرى أنو شروان"، طرد الأحباش من اليمن، إذ أرسل إليها نجدة بقيادة "وهرز"، وبذلك دخل الفرس اليمن، وصاروا على مقربة من الحبش حلفاء الروم. وقد لاقت السياسة البيزنطية بذلك ضربة شديدة عنيفة؛ لأن الفرس بدخولهم اليمن صار في إمكانهم الضغط على التجارة البحرية للروم، وصار في إمكانهم الهيمنة على منفذ البحر الأحمر، البحر الذي تلج منه سفن الروم إلى المحيط الهندي وبالعكس، كما صار في إمكان الفرس الاتصال بعرب الحجاز وعقد اتفاقيات تجارية مع أهل مكة، وهم إذ ذاك من أهم تجار بلاد العرب. وقد بقي الفرس في اليمن حتى ظهور الإسلام، فأسلم آخر عامل فارسي، وزال ملك الفرس عنها بذلك، كما زالت الدولة التي كان العامل الفارسي يحكم باسمها. وكانت للفرس قوة في عمان عند ظهور الإسلام، وقد ذكر أن أول من أغار عليهم "نعام بن الحارث" من "عتيك"، وكان من فرسانهم في آخر الجاهلية وأول الإسلام1. وذكر "الطبري": أن "كسرى أنو شروان" "انصرف نحو عدن، فعسكر ناحية من البحر هناك بين جبلين مما يلي أرض الحبشة, بالسفن العظام والصخور وعمد الحديد والسلاسل. وقتل عظماء البلاد ... ثم انصرف إلى المدائن، وقد استقام له ما دون هرقلة من بلاد الروم وأرمينية، وما بينه وبين البحرين من ناحية عدن"2. وفرق "كسرى" الولاية والمرتبة بين أربعة أصبهذين, منهم: أصبهذ نيمروز وهي بلاد اليمن3. وذكر "حمزة" أنه في زمن "كسرى أنو شروان" ولي "أنوش بن حشنشبندة" ناحية من أرض العرب، وبقي عليها بعض أيام هرمز بن كسرى4. وكان الساسانيون كالبيزنطيين قد اتخذوا "مسالح" لهم على مشارف البوادي والحدود لحماية أملاكهم من الغزو، ولإخبار الحكومة عند دنو العدو وحالة حدوث خطر. وهي أبنية حصينة، وضعوا فيها قوات تحت إمرة أمراء منهم، يقيمون

_ 1 الاشتقاق "2/ 284". 2 الطبري "2/ 103"، "دار المعارف". 3 الطبري "2/ 99"، "دار المعارف". 4 حمزة "ص91".

فيها، واتخذوا فيها مخازن لخزن الأسلحة والأطعمة, وحفروا فيها آبارًا، وصنعوا "كهاريز" تخزن الماء. ولما ظهرت جيوش الإسلام لفتح العراق، كان على هذه المسالح إخبار "طيسفون" بما حدث، والوقوف أمام تلك الجيوش، حتى تجيء جيوشهم فتلتحم بالمسلمين. وفي جزر البحرين قنوات يظن أنها من عمل الساسانيين، أقاموها للاستفادة من المياه المتدفقة من العيون، وهي أخاديد حفرت في الأرض ثم بطنت بمادة تمنع الماء من التسرب إلى التربة ثم سقفت بصفائح من الحجر، أُهِيلَ عليها التراب لتمنع أشعة الشمس من الوصول إلى الماء فتبخره، وبذلك تقل كمياته. وبين مسافة وأخرى تقدر ما بين عشر وعشرين ياردة توجد منافذ لمرور الهواء منها إلى باطن القناة, وقد بطنت هذه المنافذ بالحجارة، وقد أقيمت جدر عند مخارجها إلى الأرض لتحميها من سقوط الأتربة فيها, ولا تزال بعضها عامرة تجري فيها مياه العيون حتى الآن. وهناك آثار قنوات مشابهة لها تقع في السواحل المقابلة للبحرين من المملكة العربية السعودية تعود إلى هذا العهد أيضا1. وقد كانت البحرين تخضع لحكم الساسانيين عند ظهور الإسلام، أما حاكمها الفعلي فهو رجل من العرب على دين النصرانية، وعلى مذهب النساطرة. وكان للنساطرة عدة أساقفة في مواضع من الخليج، كما كانت لليهودية وللمجوسية مواضع في بلدان الخليج أيضا, أما غالبية العرب، فعلى الوثنية2. وقد كانت "الأبُلَّة" من أهم المواضع المهمة في نظر الساسانيين من الوجهة الحربية، وكانت تعد عندهم "فرج أهل السند والهند"3. وكان "فرج الهند" أعظم فروج فارس شأنًا، وصاحبه يحارب العرب في البر، والهند في البحر4, وقد وضعوا هذا الفرج تحت إمرة قواد عسكريين. ولما سمعوا بمجيء خالد بن الوليد من اليمامة، أسرع كسرى فأمر قواده بالاتجاه إلى "الكواظم" وإلى "الحفير" لمقابلته. وقد التقى به "هرمز" بكاظمة، وكان جبارًا، كل العرب عليه مغيظ، وقد كانوا ضربوه مثلًا في الخبث، حتى قالوا: "أخبث من

_ 1 James H. D Delgrave, P.68 2 Belgrave, P.61 3 الطبري "3/ 347". 4 الطبري "3/ 348".

هرمز" و"أكفر من هرمز". فلما التحم العرب والعجم ومن معهم من العرب, قُتل هرمز وفر العجم وأفلت "قباذ" و"أنو شجان"، وكان على مجنبة الفرس. وقد عرفت هذه الوقعة بـ"ذات السلاسل"؛ لاقتران العجم في السلاسل حتى لا يكون لهم أمل في الفرار1. وفي الحروب الأخرى التي وقعت بين الفرس والمسلمين، توالت الهزائم على العجم على الرغم من كثرة عددهم, ولم يكن الفرس يحاربون وحدهم، بل حارب معهم "عرب الضاحية"، وآخرون2. ففي "وقعة الولجة"، مما يلي "كسكر" من البر، كان يحارب إلى جانب الفرس قوم من العرب من عرب الضاحية، وقد أسر فيها ابن لجابر بن بجير وابن لعبد الأسود، وهلك عدد كبير من "بكر بن وائل" وكانوا نصارى، فغضبت لذلك بقية نصارى بكر بن وائل وغضب نصارى عرب آخرون، فكاتبوا الأعاجم وكاتبتهم الأعاجم، فاجتمعوا إلى موضع "أليس"، وعليهم "عبد الأسود العِجْلي" في نصارى العرب من بني عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة، وكان جابر بن بجير نصرانيًّا، فساند عبد الأسود، فقابلهم "خالد" وجالد العرب أولًا، فسقط "مالك بن قيس"، وهو رأس من رءوسهم، ثم تهاوت صفوف الفرس أمام سيوف خالد، ولم تثبت أمامه3. ولما قصد خالد للحيرة، وجد قائد الفرس، وهو "الأزاذبة" قد ولى هاربًا، وكان عسكره بين الغَرِيَّيْن والقصر الأبيض، فدخل خالد "الخورنق" وأمر بكل قصر رجلًا من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم، فحاصروا "القصر الأبيض" وفيه "إياس بن قبيصة الطائي"، وحاصروا "قصر العدسيين" وفيه "عدي بن عدي" المقتول, وحاصروا "قصر مازن" وفيه "ابن أكال"، وحاصروا "قصر ابن بقيلة"، وفيه عمرو بن عبد المسيح، وكل هؤلاء عرب نصارى. ولكنهم لم يثبتوا أمام المسلمين، وتهاوت قصورهم، وطلبوا الصلح. وكان أول من طلب الصلح "عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث" وهو بقيلة، وتتابعوا على ذلك، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم

_ 1 الطبري "3/ 348" وما بعدها". 2 الطبري "3/ 353 وما بعدها". 3 الطبري "3/ 355 وما بعدها".

دون الآخرين، وبدأ بأصحاب عدي وقال: ويحكم ما أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أم عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا, فقال له عدي: ليدلك على ما نقول, أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت. ثم صالحوه على الجزية1. وصالح "صلوبا بن نسطونا" "صاحب قس الناطف" خالد بن الوليد على "بانقيا" و"بسما" بدفع الجزية له, وقد نقبه خالد على قومه. ولما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد واستقاموا أتته دهاقين "الملطاطين"2، وأتاه "زاذ بن يهيش" دهقان فرات سرايا، و"صلوبا بن بصبهري"، فصالحوه على ما بين الفلالج إلى "هرمز جرد"، ودخل أهل "البهقباذ" الأسفل وأهل "البقباذ" الأوسط والأماكن التابعة للمذكورين في الصلح3 ونزل خالد الحيرة، واستقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد، وأقر المسالح على ثغورهم، ورتب القواد وموظفي الخراج وسائر الأعمال استعدادًا لطرد الفرس4. وكان أهل الأنبار عربًا، يكتبون بالعربية ويتعلمونها، وكان عليهم حينما بلغها "خالد" "شيرزاذ" صاحب "ساباط". ولما وجد الفرس أن من غير الممكن لهم الوقوف أمام المسلمين، تركوا المدينة لخالد، وخرج "شيرزاذ" في جريدة خيل ليلحق بأصحابه، ثم صالح أهل "كُلواذى"5، ثم قصد خالد "عين التمر" وبها يومئذ "مهران بن بهرام جوبين" في جمع عظيم من العجم، و"عقة بن أبي عقة" في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لافَّهم، فهجم خالد على عقة ومن معه من العرب، فأسره وانهزم عسكره،

_ 1 الطبري "3/ 359 وما بعدها". 2 "ومنه حديث علي -كرم الله وجهه-: فأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم أمري، يريد به شاطئ الفرات"، اللسان "7/ 408" "صادر"، مادة "ملط"، الطبري "3/ 367"، البلدان "1/ 331"، "بيروت 1955م"، البكري، معجم "1/ 222"، "طبعة السقا"، اليعقوبي "1/ 131"، مراصد الاطلاع "1/ 123". 3 الطبري "3/ 368". 4 الطبري "3/ 372 وما بعدها". 5 الطبري "3/ 374 وما بعدها".

ثم سقط الحصن، وانهزم الفرس, وأمر خالد بعقة وكان خفير القوم، فضربت عنقه ثم دعا بعمرو بن الصعق، فضرب عنقه، وانتهى أمر عين التمر1. وحاول الفرس جمع صفوفهم ثانية، للوقوف أمام خالد واسترداد ما أُخذ منهم. وكان خالد أقام بدومة الجندل، فظن الأعاجم به، وكاتبهم عرب الجزيرة غضبًا لعقة، فخرج "زرمهر" من بغداد ومعه "روزبة"، يريدان الأنبار، واتعدا حصيدًا والخنافس، وانتظرا من كاتبهما من ربيعة، غير أن المسلمين هاجموا الساسانيين بحصيد، فقتل "زرمهر" وقتل "روزبة" وفر من كان معهما إلى "الخنافس" فلما أحس "المهبوذان" بقدوم المسلمين إلى المكان، هرب ومن معه إلى "المُصيخ" وبه الهذيل بن عمران، وخرج "خالد" من "العين" قاصدًا للمصيخ، فأغار على الهذيل ومن معه ومن أوى إليه، فقتلوهم، وأفلت الهذيل في أناس قليل2. وأخذ "ربيعة بن بجير التغلبي" يجمع الجموع لمحاربة المسلمين غضبًا لعقة، وواعد الفرس والهذيل، فباغت خالد جموع "ربيعة" بالثني، فانتصر عليها وأسر ابنةً له، ثم باغت موضع "الزميل" وكان "الهذيل" قد أوى إليه، ثم باغت موضع "البشر"، وكانت تغلب به، فقتل منهم عددًا كبيرًا، ثم تحرك من البشر إلى "الرُّضاب"، وبها "هلال بن عقة"، فارفضَّ عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد منه, وانقشع عنها هلال3. ثم قصد خالد "الفراض"، والفراض: تخوم الشأم والعراق والجزيرة، فاغتاظت الروم وحميت، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر، فأمدوهم، ثم عبروا الفرات إلى الجانب الآخر حيث كان جيش خالد فهُزموا، وانتصر المسلمون4. وكانت صفوف الساسانيين متضعضعة، والخصومات بينهم شديدة فتهاوى ملكهم، وسقطت "طيسفون" عاصمتهم، ثم تهاوت مدنهم في إيران، وزالت الحكومة من الوجود على نحو ما سنراه فيما بعد.

_ 1 الطبري "3/ 376 وما بعدها". 2 الطبري "3/ 379 وما بعدها". 3 الطبري "3/ 382 وما بعدها". 4 الطبري "3/ 383".

وأما صلات "البيزنطيين" بالعرب، فلا نعلم عن بدايتها إلا شيئًا قليلًا؛ لأن الموارد التأريخية لم تهتم بغير الأحداث الكبرى، التي كان لها شأن في تأريخ الروم, فلم تشر إلى العرب إلا في أثناء اشتراكهم اشتراكا جماعيا في جيش البيزنطيين في قتال الساسانيين أو في جيش الفرس إبان قتال البيزنطيين. وأما القبائل العربية وغاراتها على حدود بلاد الشأم، فلم تتعرض لها؛ لأنها لم يكن لها شأن، فهي حوادث اعتيادية محلية، ثم أنها إذا تطرقت إلى المهم منها تطرقت إليه بإيجاز؛ ولهذا حرمنا الوقوف على صلات العرب بالبيزنطيين بصورة مفصلة, وعلى أخبار الإمارات العربية التي حكمت في البادية الملاصقة لبلاد الشأم وفي بلاد الشأم, ما بين ظهور دولة البيزنطيين وبزوغ نجم آل غسان. لقد كابد الساسانيون والبيزنطيون من القبائل العربية عنتًا شديدًا مثل ما كابده المتقدمون عليهم منهم. فقد كانت تراقب الفرص لتهاجم الحدود أو الجيوش النظامية في أثناء انتقالها إلى ساحات القتال أو اشتغالها في القتال، أو في أثناء تراجعها أو هزيمتها، فتوقع بها وتكبدها خسائر، وتربك وضعها، ثم إنها كانت تنتقل من موضع إلى موضع، من الأرضين الخاضعة لسلطان البيزنطيين إلى الأرضين التابعة للساسانيين وبالعكس، وقد تثور وتهاجم القرى في دولة، فإذا عقبتها، هاجرت إلى الدولة الأخرى المعادية لها؛ ولهذا السبب وجد الساسانيون والبيزنطيون أن من مصلحتهما عقد اتفاقية تحرم انتقال الأعراب من أرض إحدى الحكومتين إلى أرض الحكومة الأخرى من غير ترخيص وتخويل، وذلك في أيام السلم بالطبع1. لقد أخذت الدولة البيزنطية الأرضين التي كانت خاضعة لروما، وصارت تديرها من "القسطنطينية"، وتعين حكامها وترسل الجيوش إليها، وتطبق عليها القوانين التي تصدرها "القسطنطينية". بقي الحال على هذا المنوال إلى أن طرد البيزنطيون عن بلاد الشأم بظهور الإسلام، وإرساله الجيوش إلى تلك البلاد لنشر دين الله فيها. فذهب الحكم البيزنطي عنها، وبقي الأثر الثقافي أمدًا يهيمن على البلاد المفتوحة. وقد كانت بصرى من أهم المدن التي يرد إليها عرب الحجاز للاتجار, وكانت

_ 1 Musii, Hegaz, P.306

آخر مكان يصل إليه تجار أهل مكة في الغالب في الشمال. يقيمون فيه، يبيعون ويشترون ويدفعون للروم العشور، وهي الضرائب المتعارف عليها إذ ذاك، ثم يعودون إلى ديارهم، ومعهم ما اشتروه من تجارات بلاد الشأم، من طرف مصنوع في هذه البلاد، أو مستورد إليها من بلاد الروم ومن أوروبا، ومن سلع حية هي الرقيق الذي يباع في سوق بصرى، وقد استورد إليها من مختلف الأنحاء. وتعرف بصرى بـBostra عند الرومان واليونان1, ولأهميتها الحربية والسياسية والتجارية كان يقيم بها حاكم روماني، ثم حكمها حكام من اليونان بعد انتقالها إلى حكم اليونان، كما وضعوا بها حاميات بيزنطية؛ وذلك لقربها من الأعراب وللدفاع عن الحدود المهددة بهجوم أبناء البادية عليها. وقد أُصيبت بخسائر جسيمة ونزل بها خراب شديد على أثر مهاجمة الفرس لبلاد الشأم واستيلائهم عليها، فتهدم قسم كبير من أبنيتها، كما تهدم قسم من أبنية "أذرعات" وذلك سنة "613م"2. و"بصرى" هي الآن قرية مهملة من قرى حوران، ولا تزال بها بقية قائمة من آثار, وقد ورد ذكرها في سيرة الرسول، حيث كان قد نزل بها مع عمه "أبي طالب" حينما قدمها عمه للاتجار. وذكر أن "بحيرا" الراهب الذي يرد اسمه في كتب السير، كان من رهبان بصرى، وقد كان يقيم في دير هناك. وكانت "غزة" من المواضع الأخرى المهمة عند أهل مكة ويثرب؛ لأنها كانت المورد الأخير لتجار هاتين المدينتين على البحر الأبيض. وكانت من المواضع التابعة للروم, ترد إليها السفن الواردة من بلاد الروم وموانئ إيطالية ومصر ولبنان، فتفرغ ما لديها من تجارة ويشتري أصحابها ما يجدون في غزة من أموال؛ ولهذا صارت فرضة مهمة لتجار أهل الحجاز. ومن سادات القبائل الذين انتقلوا من أرض كانت خاضعة للساسانيين إلى أرض كانت تابعة للبيزنطيين, سيد قبيلة ذكره "ملخوس الفيلادلفي" Malchus

_ 1 Hastings, P.102 2 دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية"، "3/ 672".

Philadelphus في تأريخه، وسماه "امرأ القيس" Amorkesos = Amerkesos وقال: إنه كان يقيم في الأصل في الأرضين الخاضعة لسلطان الفرس، ثم ارتحل عنها ونزل في أرضين قريبة من حدود الفرس، وأخذ يغزو منها حدود الساسانيين والعرب Saracens المقيمين في الأرضين الخاضعة للروم. وتوغل في "المقاطعة العربية" حتى بلغ البحر الأحمر، واستولى على جزيرة "إيوتابا" Iotaba Jotaba، وهي جزيرة مهمة كان الروم قد اتخذوها مركزًا لجمع الضرائب من المراكب الآتية من المناطق الحارة أو الذاهبة إليها، فتصيب الحكومة أرباحا عظيمة جدا. فلما استولى على تلك الجزيرة، طرد الجباة الروم، وصار يجبيها لنفسه، فاغتنى. كذلك حصل على ثروة عظيمة من غنائم غزوه للمواضع المجاورة لهذه الجزيرة والواقعة في العربية الحجرية وأعالي الحجاز والأرضين الخاضعة لسلطان الساسانيين. وأراد "امرؤ القيس"، بعد أن بلغ من السلطان مبلغه، الاتصال بالروم، والتحالف معهم، والاعتراف به عاملًا رسميًّا أي: Phylarch أو Satrap على العرب الذين خضعوا له وعلى العرب المعترفين بسلطان الروم عليهم في "المقاطعة العربية"، فأوفد رجلًا من رجال الدين اسمه "بطرس" إلى "القسطنطينية" يعرض رغبته هذه على القيصر "ليو". فلما قابل هذا رجال البلاط، أظهر لهم أنه يريد الدخول في النصرانية, فأظهر القيصر "ليو" رغبته في مقابلة "امرئ القيس" للتحادث معه. فقصده "امرؤ القيس"، فاستقبله استقبالًا حسنًا، وعامله معاملة طيبة، وأجلسه على مائدته، ومنحه لقب Patrician، وجالس رجال مجلس "السنات" Senate، فأدى ذلك إلى استياء الروم من سياسة القيصر هذه مع رجل مشرك, ولكنه بين لهم أنه يريد تنصيره بذلك، وإخضاعه لسلطانه. ولما قرر العودة أعطاه القيصر صورة ثمينة وهدايا نفيسة، وحث رجال مجلس الدولة أن يمنحوه هدايا سخية، ثم منحه درجة "عامل" Phylarch على الجزيرة وعلى جميع ما استولى عليه وعلى أرضين أخرى جديدة لم يكن قد أخذها من قبل، إلا أن الروم لم يرتاحوا من هذه المعاملة، وانزعجوا من إسراف القيصر

في إكرامه ومنحه تلك الأرضين، ولا سيما تلك الجزيرة التي استرجعوها بعد ذلك بمدة ليست طويلة, وفي مدة حكم القيصر "أنستاس" "أنسطاس" "أنسطاسيوس"1 Anastasius. ولما كان القيصر "ليو" Leo "لاون" "اليون"، قد حكم من سنة "457م" حتى سنة "474م"2، فيكون اعتراف "ليو" بحكم "امرئ القيس"، ومنحه لقب "فيلارخ" "فيلارك" قد وقع في أثناء هذه المدة. ويظهر من تأريخ "ثيوفانس" أن هذه الجزيرة كانت في سنة "490م" في أيدي الروم، استولى عليها حاكمهم Dux على فلسطين بعد قتال شديد3. ويدل خبر هذا المؤرخ على أن الروم انتزعوا هذه الجزيرة من "امرئ القيس" أو من خلفائه بعد مدة ليست طويلة من استيلاء "امرئ القيس" عليها، ولعلهم استولوا عليها بعد وفاة هذا العامل على أثر نزاع نشب بين أولاده وورثته، أضعف مركز الإمارة، فانتهز الروم هذه الفرصة، وانتزعوا ما تمكنوا من انتزاعه من أملاك. وإذا كانت هذه الجزيرة، قد كانت في جملة أملاك الروم في سنة "490م" كما يدعي "ثيوفانس" ذلك، وجب أن تكون استعادة حاكم فلسطين لها في أيام القيصر "زينو" "زينون" Zeno الذي ولي الحكم من سنة "474" حتى سنة "491". أما سنة "491م" فقد انتقل فيها الحكم إلى القيصر "أنسطاس"4. وكان "امرؤ القيس" المذكور سيد قبيلة سماها المؤرخ "ملخوس الفيلادلفي" "نكليان" "نخليان" Nokalian. ويظهر أن هذا الاسم هو "النخيلة"5, موضع معروف قرب "الكوفة" على سمت الشأم، وهو موضع ينطبق عليه ما ذكره "ملخوس" من أنه كان في أرض في سلطان الفرس6.

_ 1 MALCHUS OF PHILADELPHIA, IN FRAGMENTA HISTORICORUM GRAECORUM, VOL., 4, PARIS, 1951, PP.112, MUSIL, HEGAZ, P.308, BURY, HISTORY OF THE LATER ROMAN EMPIRE, LONDON, 1931, VOL., I, P.8, 95, SOCRATES, IV, 36, SOZOMEN, VI, 38 2 RUNCIMAN, BYZANTINE CIVILISATION, LONDON, 1959, P.301 3 THEOPHANES, CHRONOGRAPHIA, P.121, MUSIL, HEGAZ, P.307 4 RUNCIMAN, BYZANTINE CIVILISATION, P.301 5 البلدان "8/ 276 وما بعدها". 6 BLAU, IN ZDMG., 22, 1868, S. 578

ولم يذكر "ملخوس الفيلادلفي" أسماء الأرضين التي كانت في حكم "امرئ القيس"، ويرى "موسل" أن هذا الرئيس كان ينزل في بادئ الأمر مع قبيلته في "الوديان" و"الحجيرة" أيام كانت علاقاته بالفرس حسنة. ومن "الحجيرة" هاجر مع قبيلته إلى "دومة الجندل"، ومنها توسع فاستولى على أرضين من "فلسطين الثالثة" Palestina Tertia وهي "العربية الحجرية". ثم استولى على جزيرة Iotaba، وهي على رأيه جزيرة "تاران" "تيران"1, وذكر "ياقوت" أن سكانها قوم يعرفون بـ"بني جدان"2. ولعل هذه الجزيرة هي جزيرة Ainu التي ذكرها "بطلميوس"3، أخذ تسميته هذه من "حنو" "حاينو" Hainu "حينو" الاسم الذي كانت تعرف به عند الأنباط4. وامرؤ القيس هذا، هو مثل واحد من أمثلة عديدة على سادات قبائل راجعوا البيزنطيين لاستمداد العون منهم، وللحصول منهم على اعتراف رسمي بتنصيبهم رؤساء على الأعراب النازلين في ديار خاضعة لسلطانهم أو لمساعدتهم في مقارعة عرب الحيرة أو الفرس. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال, قالوا: إنهم ذهبوا إلى الروم لهذه الغاية، وبعضهم ممن كان يقيم في أرضين بعيدة عن سلطانهم، والظاهر أن مثل هذا الاعتراف كان يكسب الرئيس قوة، ويمنحه منزلة ومكانة في تلك الأيام، وإن كان الروم على مبعدة من الرئيس وليس لهم حول مادي يقدمونه إليه. ولا نجد في الموارد اليونانية أسماء من حكم من رؤساء القبائل في بلاد الشأم بصورة منتظمة قبل الغساسنة، إلا أن الإخباريين يذكرون أن الغساسنة لما جاءوا إلى بلاد الشأم من اليمن بعد "انتقاص العرم"، وجدوا "الضجاعمة" قد ملكوا البلاد قبلهم، وهم "آل سليح بن حلوان"، وهم من قضاعة، فقتلوهم وأخذوا مكانهم5. ولا بد أن يكون الضجاعمة قد سُبِقُوا بغيرهم ممن لم يقف أهل الأخبار

_ 1 Musil, Hegaz, P.306 2 البلدان "2/ 352". 3 Ptolemy, VI, 7, 43 4 Musil, Hegaz, P.307 5 حمزة "ص76".

على أسمائهم، فقد كانت القبائل تهاجم إحداها الأخرى، فتأخذ مكانها، ولا يستبعد أن يكون "الضجاعمة" قد انتزعوا السلطان من قبائل أخرى, لم تبلغ أنباؤها أهل الأخبار. إن حدود الإمبراطورية البيزنطية الجنوبية مع العرب، لم تتغير ولم تتبدل تبدلًَا محسوسًا عما كانت عليه في زمان الرومان, وهي بصورة عامة الحدود الجنوبية للمقاطعة العربية. وكانت لهم الجزر المقابلة للمقاطعة العربية في "خليج القلزم"، وقد اتخذوها مراكز لجباية الضرائب من أصحاب السفن, ولحماية البحر من لصوصه مثل جزيرة Iotba التي تحدثت عنها. ولم يشر أحد من المؤرخين المعاصرين للبيزنطيين إلى تقدم الروم أكثر من ذلك في جزيرة العرب. وكان للبيزنطيين بعض المرافئ على سواحل البحر الأحمر، منها ميناء "كليزما" Clysma، وهو "القلزم" Qulzum، ويقع على مسافة قليلة من "السويس"، تأتي إليه السفن محملةً ببضائع الهند وبالسلك وبالمواد الأخرى المستوردة من السواحل الإفريقية والعربية الجنوبية. وبه يقيم "الوكيل" Agens In Rebus؛ الوكيل التجاري الذي عليه مراقبة سير السفن والتجارة، ووضع التعليمات لتنظيم التجارة البحرية، وعرف بـLogothete في نهاية القرن الرابع للميلاد1. وكانت تجارة الحرير، من أهم المواد المطلوبة في أسواق البيزنطيين. وقد كان الساسانيون قد احتكروها تقريبًا، وعبثًا حاول الإمبراطور "جستنيان" "يستنيانوس" Justinian تحطيم ذلك الاحتكار، وأخذه من أيديهم بالتوسل إلى "نجاشي" الحبشة؛ لإرسال سفنه إلى "سيلان" ولشراء السلك منها، ومنافسة التجار الفرس الذين كانوا قد سيطروا على تجارة هذه المادة المستوردة من الصين إلى هذه الجزيرة، فكانوا ينقلونها إلى بلادهم، بل إلى "القلزم" و"أيلة" وموانئ أخرى وأسواق تابعة للبيزنطيين، فيربحون من هذه التجارة ربحًا حسنًا2. وكان القيصر "يوسطنيان" "527-567م"3، قد نصب "أبا كرب

_ 1 BURY, II, 318 2 BURY, II, PP.320 3 RUNCIMANN, BYZANTINE CIVILISATION, P.301

ابن جبلة"، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" "عاملًا"، أي: "فيلاركا" "فيلارخا" Phylarch على عرب "سرسينس" Saracens فلسطين، وكان "أبو كرب" كما يقول "بروكوبيوس"، رجلًا صاحب مواهب وكفاءة، تمكن من حفظ الحدود ومن منع الأعراب من التعرض لها، وكان هو نفسه يحكم قسمًا منهم، كما كان شديدًا على المخالفين له. وذكر أيضًا أنه كان يحكم أرض غابات النخيل جنوب فلسطين، وهي أرض واسعة تمتد مسافات شاسعة في البر ليس بها غير النخيل. وقد قدمها هدية إلى الإمبراطور، فقبلها منه، وعدها من أملاكه، مع أنه كان يعرف جيدا أنها فيافٍ وبادية لا يمكن الاستفادة منها؛ ليس فيها غير النخيل، وليس لهذا النخيل فائدة تذكر. ويجاور عربها عرب آخرون يسمون "معديني" "مديني" Maddeni، هم أتباع لـ"حمير"1 Homeritae. وهذه الأرض التي حكمها "أبو كرب بن جبلة"، هي الأرض التي حكمها "امرؤ القيس" سابقًا نفسها, أو يظهر أن الروم لم يتمكنوا من ضبطها ومن تعيين حاكم بيزنطي عليها؛ فاضطر إلى الاعتراف بالأمر الواقع، فثبتوا "أبا كرب" في مكانه، واعترفوا به اعترافا رسميا "عاملا" على هذه المنطقة التي تقع في جنوب أرض الغساسنة، وفي الأردن وأعالي الحجاز. ويظهر من ذلك أيضا أن "أبا كرب" كان عاملًا مستقلًّا بشئونه عن الغساسنة؛ ونكون بذلك أمام إمارتين مستقلتين. وإذن يكون "أبو كرب" من المعاصرين للحارث بن جبلة ملك الغساسنة, وقد كان حكمه قبل السنة "542م" بدليل إرساله رسولًا إلى أبرهة لتهنئته عند ترميمه سد مأرب الذي أنجز في هذه السنة. إن اسم "أبو كرب بن جبلة" يثير فينا الظن بأن هذا الرجل كان من آل غسان؛ فهذا الاسم هو من الأسماء التي ترد بكثرة عندهم. وقد يحملنا على تصور أنه كان شقيقًا للحارث بن جبلة، غير أني لا أستطيع الجزم بذلك؛ لسكوت الموارد السريانية واليونانية عن التصريح بذلك أو التلميح إليه. لقد كان من نتائج توثيق الروم صلاتهم بمملكة "أكسوم"، تهديدهم اليمن

_ 1 PROCOPIUS, I, XIX, 8-16, P.180-181, GLASER, MITT., S. 437, S. 78-79, SEP

بغزوها, إن قاومت مصالحهم وتعرضت لسفنهم ولتجارتهم، وذلك بتحريض الجيش على النزول بها. وقد سبق للأحباش أن استولوا عليها، كما سبق للرومان أن استولوا على بعض مواضع من العربية الجنوبية مثل "عدن" في أيام "كلوديوس" "41-54م" أو قبل ذلك بقليل1. ولا يستبعد أن يكون للروم دخل في الغزو الذي قام به الأحباش لليمن والذي بقي من سنة "300" حتى سنة "370ب. م"2. وقد ذكر أن القسطنطينية كانت المحرضة لحكومة الحبشة على غزو اليمن أيضًا في سنة "525م"، وقد امتد حتى سنة "570م" أو "575م"3. ولما عاد الأحباش إلى اليمن حيث بقوا فيها مدة قصيرة، كَرَّ الفرس عليهم فطردوهم منها في حوالي سنة "575م" "595م"، وصارت اليمن من سنة "575م" "595م" حتى الفتح الإسلامي مقاطعة تابعة للساسانيين4. وقد أصيبت مصالح البيزنطيين بأضرار بليغة من هذا التحول السياسي العسكري، وأصيبت بضرر بليغ آخر كذلك في أيام "كسرى برويز" "590-628م" الذي هاجم الإمبراطورية البيزنطية واستولى على مصر وفلسطين، وقطع بذلك عنها شرايين التجارة العالمية المهمة. والبيزنطيون وإن استعادوا ما فقدوه في مصر وبلاد الشأم بعد مدة قصيرة، فعاد الساسانيون إلى مواضعهم، إلا أن الحروب المتوالية كانت قد أنهكت الطرفين: البيزنطيين والساسانيين، وأضرت بالوضع الاقتصادي، وجعلت الناس يتذمرون في كل مكان من سوء سياسة الإمبراطوريتين، ويودون التخلص من الفرس واليونان؛ لذلك لم يكن من المستغرب سقوط الأرضين التي كانت خاضعة لهم بسرعة مدهشة في أيدي المسلمين. ولما وصلت الجيوش الإسلامية بلاد الشأم، رَحَّبَ أهلها بصورة عامة بها. وقد نظر البيزنطيون إلى الإسلام على أنه نوع من أنواع "الآريوسية" Arrianism المنسوبة إلى الكاهن "آريوس" المتوفى سنة "336م", أو أنه مذهب من المذاهب النصرانية المنشقة عن الكنيسة الرسمية, وقد تعودوا على سماع أخبار وقوع

_ 1 العرب والملاحة "ص79". 2 STUHLMANN, S. 13 3 STUHLMANN, S. 14 4 STUHLMANN, S. 14, PHILLIPS, P.223

الانشقاق في الكنيسة، وظهور مذاهب جديدة1؛ لهذا لا يستغرب ما أظهره أساقفة بلاد الشأم من تساهل في تسليم المدن إلى المسلمين, وما بدر من القبائل العربية المتنصرة من تعاون مع المسلمين في طرد البيزنطيين عن بلاد الشأم2.

_ 1 VASILIEV, A. A. HISTOIRE DE L.htm'EMPIRE BYZANTIN, 279, FR. STARK, ROME, P.388 2 DIEHL AND G. MARCAIS, LE MONDE ORIENTAL, PARIS, 1936, P.104, FR. STARK, ROME, P.388

فهرس الجزء الرابع

فهرس: الجزء الرابع الفصل الخامس والعشرون همدان 5 الفصل السادس والعشرون أسر وقبائل 42 سخيم 46 خسأ 50 عقرب 51 خولان وردمان 52 جدن 57 أربعن 58 بتع 59 سمعي 61

حملان 63 يهيب 64 يرسم 64 بنو سمع 65 رمس 66 سقران 67 قرعمتن 67 الفصل السابع والعشرون ملوك سبأ وذو ريدان 68 الفصل الثامن والعشرون سبأ وذو ريدان 125 صنعاء 147 قائمة ريكمنس 147 الفصل التاسع والعشرون

ممالك وإمارات صغيرة 150 الحيانيون 158 بخران 159 مملكة يهيأمر 160 الفصل الثلاثون الحميريون 162 الفصل الحادي والثلاثون سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت 182 ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت 250 الفصل الثاني والثلاثون إمارات عربية شمالية 252 الفصل الثالث والثلاثون ساسانيون وبيزنطيون 278 الفهرس 313

المجلد الخامس

المجلد الخامس الفصل الرابع والثلاثون: مملكة النبط مدخل ... الفصل الرابع والثلاثون: مملكة النبط مملكة النبط، مملكة عربية لم يعرف الأخباريون من أمرها شيئًا. سداها ولحمتها النبط. وهم قوم من جبلة العرب، وإن تبرأ العرب منهم، وعيروا بهم، وأبعدوا أنفسهم عنهم، وعابوا عليهم لهجتهم، حتى جعلوا لغتهم من لغات العجم، وقالوا إنهم نبط، وإن في لسان من استعرب منهم رطانة. وسبب ذلك، هو أنهم كانوا قد تثقفوا بثقافة بني إرم، وكتبوا بكتابتهم، وتأثروا بلغتهم، حتى غلبت الإرمية عليهم؛ ولأنهم فضلًا عن ذلك خالفوا سواد العرب باشتغالهم بالزراعة وبالرعي وباحترافهم للحرف والصناعات اليدوية، وهي حرف يزدريها العربي الصميم، ويعير من يقوم بها ويحترفها. وتكمن عوامل ظهور النبط وغلبتهم على المنطقة التي عرفت بهم، وتكوينهم دولة بعد أن كانوا أعرابًا يعيشون عيشة ساذجة، تكمن في أسباب وأسس اقتصادية1 فقد تمكن هؤلاء النبط الأذكياء من استغلال موقع بلادهم لمرور شرايين التجارة بين العربية الجنوبية وبلاد الشام بها، ففرضوا ضرائب على التجار وعلى التجارة عادت عليهم بفوائد كبيرة، كما قاموا أنفسهم بالوساطة في نقل التجارة بين بلاد الشأم ومصر ومواضع من جزيرة العرب، فدرت هذه الوساطة عليهم أموالًا طائلة جعلتهم من الشعوب العربية الغنية بالنسبة على غيرهم ممن يسكنون البوادي، والمواقع المقفرة المنعزلة.

_ 1 Die Araber, I, S., 288

وقد كان ميناء "غزة"ميناء النبط المفضل على البحر المتوسط. وهو في الواقع ميناء كل التجار العرب، إذ كان المرفأ الوحيد الذي ترفأ إليه تجارة العرب. وقد استفادوا منه كثيرًا لقربه من النبط، صاروا يشترون منه ما يرد عليه من بضائع من موانيء البحر المتوسط، ثم يحملونها إلى بلادهم فيبيعونها للتجار العرب القادمين إليهم من الحجاز ومن العربية الجنوبية ومن أماكن أخرى من جزيرة العرب، كما أنهم صاروا يشترون من التجار العرب ما عندهم من تجارة، ثم يحملونها إلى ذلك الميناء لبيعه في أسواقه، وبذلك حصلوا على أرباح من هذه الوساطة في الاتجار. وقد نشأت دولة النبط التي نتحدث عنها قبل الميلاد في المنطقة الشمالية الغربية من جزيرة العرب، في المكان الذي عرف باسم "العربية الحجرية" "Arabia Petraea" عند اليونان والرومان. وأما أخبارنا عنها، فمستمدة من كتب الكلاسيكيين، ومن مؤلفات المؤرخ اليهودي ""يوسفوس فلافيوس" "Josephus Flavius" "37 -100 بعد الميلاد". صاحب "Ioudaike Archaeologia" و"Periton Ioudaikon Polemon"1، ومن كتابات عثر عليها في "العربية الحجرية" وفي الأخرى التي خضعت لحكمها وهي نبطية ولاتينية ويونانية. وعلى هذه الموارد يعول المؤرخ الحديث في تدوين تأريخ قوم كان لهم نفوذ وسلطان وصوت مسموع وكلمة، ثم إذا هم في الذاهبين {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} 2. وقد تضمن القسم الأكبر من كتابات النبط، كتاب: Corpus Inscriptionum Semiticarum وقد أشير فيه إلى المواضع التي عثر فيها على تلك الكتابات، وإلى السمات التي وسمت بها لتميز بعضها عن بعض. وأسهمت كتب أخرى بالطبع في هذا المجهود العسير، مجهود نشر الكتابات النبطية القديمة وغيرها، ككتاب: "Handbuch Der Nordsemitischen Epigraphik"، وكتاب: Corpus Inscriptionum Semiticarum، للعالم المعروف "مارك ليدربارسكي"

_ 1 Harvey, P.228, A. R. Shilleto, The Works Of Flavius Josephus In 5 Vol., “Bohn’s Standard Library” 2 سورة آل عمران: رقم3، الآية 140.

"Mark Lidzbarski"1, وكتاب: "A Text Book Of North-Semitic Inscriptions" لـ"كوك" "G. A. Cooke"2 وكتاب "REP. EPIG"3، وكتب أخرى سأشير إليها في أثناء الحديث، يضاف إليها ما نشر في المجلات العلمية الاستشراقية كمجلة "ZDMG" وأمثالها4. أما لغة النصوص النبطية، فلغة "بني إرم"5، وأما خطها فبالقلم الإرمي، ولكنه "إرمي" مأخوذ من القلم الإرمي القديم، وقد عرف عند المستشرقين بـ"القلم النبطي" تمييزًا له عن بقية الأقلام6. وأما المواضع التي عثر على هذه الكتابات فيها فهي عديدة، منها "بطرا" و"الحجر" "Hegra" و" العلا" و"تيماء" و"خيبر" و"صيدا" "Sidon" و"دمشق" ومواضع متعددة من "حوران" ومن "اللجاة"7 و"طور سيناء" والجوف واليمن ومصر وإيطاليا وأماكن أخرى سترد أسماؤها في ثنايا هذا الفصل8. وتختلف الكتابات النبطية القديمة، من حيث رسم الحروف، بعض الاختلاف عن الكتابات النبطية المتأخرة المدونة بعد الميلاد، وتختلف أيضًا باختلاف الأماكن التي وجدت فيها، فلكتابات "طور سيناء" مثلًا خصائص. كتابية محلية لا نجدها في النصوص الأخرى. وتفيدنا هذه الخصائص المحلية والتطورات التي طرأت بمرور العصور على أشكال الحروف في مثل "التربيع" والانفصال والاتصال وتقاربها وتباعدها من الخط الكوفي في دراسة تطور الخطوط السامية، وعلاقاتها بعضها ببعض9.

_ 1 Mark Lidzbarski, Handbuch Der Nordsemitischen Epigraphik Nebst Aus-Gewahlten Inschriften, Weimar, 1989, Ephemeris Fur Semitische Epigraphik, I, Giessen 1901, 11, 1903, Iii, 1912 2 G. A. Cooke, A Text-Book Of North-Semitic Inscriptions: Moabite, Hebrew, Phoenician, Aramaic, Nabataean, Palmyrene, Jewish, Oxford, 1903 3 Repertoire D’epigraphie Semitique 4 Zeitschrift Der Deutschen Morgenlandischen Geselschaft 5 "بنو إرم"، الطبري "1/ 220" "طبعة ليدن". 6 Lidzbarski Nord. Epig., I, S., 180 7 البلدان "7/ 323". 8 Musil, Deserta, P.,471,Lidzbarski, I, S. 121, 122 9 Lidzbarski, I, S. 121, 194

وهي على اختلافها تشارك الكتابات العربية التي عثر عليها في العربية الحنوبية أو في المواضع الأخرى من جزيرة العرب في كونها شخصية في الغالب. كتبت في أمور خاصة، لا علاقة لها بالمجموع. فهي لا تفيد المؤرخ إفادة مباشرة، ولكنها تفيد الباحثين من غير شك في أمور أخرى، تفيدهم في الدراسات اللغوية مثلًا، فهي كنز لا يقدر بثمن من هذه الناحية. أما الكتابات العامة، أعني النصوص التي لها علاقة مباشرة بالدولة وحياة الشعب وبساسة الحكومة أيام السلم أو الحرب، فهي قليلة جدًّا -ويا للأسف- مع أنها المادة الأساسية في كتابة التاريخ1. والكتابات النبطية المؤرخة مثل الكتابات السامية الأخرى، قليلة بالنسبة إلى الكتابات الغفل من التأريخ. أما طرائق توريخ الحوادث عند النبط، فكانت متعددة منها التوريخ بأيام الملوك كأن يذكر اسم الشهر الذي دون فيه النص، ثم يذكر بعده عام التدوين، فيقال مثلًا: "في شهر كذا من سنة كذا من حكم الملك....." "بيرح.... شنت.... ملك نبطو....". وقد استعملت هذه الطريقة في أيام استقلال النبط خاصة. والتوريخ بسني حكم قياصرة "رومة" وذلك بذكر الشهر الذي دونت فيه الكتابة، ثم السنة المصادفة من سني حكم القيصر الذي في أيامه جرى التدوين، أو السنة المصادفة دون الإشارة إلى اسم الشهر2. وقد عثر على كتابات مؤرخة بسني حكم "القناصل"، وعلى كتابات أخرى أرخت بتقويم "بصرى"، ومبدأه اليوم الثاني والعشرون من شهر "آذار" من سنة "106" بعد الميلاد، وقد أرخ به في كتابات "طور سيناء" كذلك3. وظلت الأقسام الجنوبية من "الكورة العربية" تؤرخ به حتى بعد فصلها من هذه الكورة وإلحاقها بـ "كورة فلسطين"4. وأرخ بالتقويم "السلوقي"، وأوله

_ 1 Lidzbarski, I, S., 163 2 Lidzbarski, I, S., 112, Rep. Epig., 128, I, Ii, P.,113, Euting, Sinai. Inschr., No: 457. 3 Lidzbarski, I, S., 113, Euting 319, 457, 463, Berger, No: 1060 4 Provincia, III, S., 303

اليوم الأول من شهر "تشرين الأول" "أكتوبر" من سنة "312" قبل الميلاد1. وأرخ بأيام القيصر "بومبيوس" حيث اتخذت مبدأ لتقويم يبدأ بشهر "تشرين الأول". "أكتوبر" من سنة "63" قبل الميلاد، أرخ به في الكتابات وفي النقود2. وأرخ في بعض الكتابات النبطية بتواريخ محلية كانت متعارفة عندهم مشهورة. كما فعل غيرهم في جزيرة العرب حيث أرخوا بالحوادث المحلية المهمة، نظرًا لما كان لها من شهرة بينهم. وقد تمكن العلماء من تشخيص بعض منها، ولم يتمكنوا من تشخيص بعض آخر. ومن الكتابات المؤرخة محلية كتابة عثر عليها في مدينة "فيليبوبولس" "Philippopolis"، وقد أرخت بتقويم يبدأ بسنة "248" تقريبًا أو بين سنة "247" وسنة "249"3. مدينة "شقا" "شقة"، وقد أرخت في عدد من كتاباتها بسنة "92" بعد الميلاد. ومدينة "Constantia" وهي "البراك" في "اللجاة" وفي عدد من الكتابات التي عثر عليها في موضع "شيخ مسكين"، وهو "Maximinopolis" على رأي بعض الناس4. والرأي السائد اليوم بين العلماء أن النبط عرب مثل سائر العرب، وإن استعملوا الإرمية في كتاباتهم، بدليل أن أسماءهم هي أسماء عربية خالصة، وأنهم يشاركون العرب في عبادة الأصنام المعروفة عند عرب الحجاز، مثل "ذي الشرى" و"اللات" و" العزى"، وأنهم رصعوا كتاباتهم الإرمية بكثير من الألفاظ العربية، وبدليل إطلاق اليونان واللاتين والمؤرخ اليهودي "يوسفوس" كلمة "العرب" على النبط، وإطلاق اسم "Arabia Petraea" أي "العربية الحجرية" على أرضهم، ولو لم يكن النبط عربًا، لما أطلق "الكلاسيكيون" كلمة العرب عليهم، وما كانوا يدخلون بلادهم في ضمن العربية ويجعلونها جزءًا من أجزائها الثلاثة. وقد كان النبط من أهل جزيرة العرب في الأصل، نزحوا من البوادي إلى

_ 1 Berytus, archeological studies, published by the museum of archeology of the american university of beirut, vol.. I. American press beirut, 1934. P.,36. 2 Provincia, III, S., 304 3 Provincia, III, S., 205 4 Provincia, III, S., 305, 306

أعالي الحجاز فأقاموا بها، ثم سرعان ما استقروا وتحضروا وأقاموا يفلحون الأرض ويزرعونها، فأقاموا لهم مستوطنات زراعية. واستقروا في المدن والقرى، محترفين بمختلف الحرف وفي طليعتها التجارة وبالاشتغال بالقوافل التجارية التي تنقل التجارة بين مختلف الأمكنة، فجمعوا من ذلك مالًا وثراءً. وقد ذهب. بعضهم إلى أن أصلهم من العربية الجنوبية، وأن عرقهم هذا هو الذي جعلهم يشتغلون بالزراعة وبالعمارة وبالحرف التي كانت مألوفة عند العرب الجنوبيين منذ العهود القديمة1. ولقد وجدنا طائفةً من العلماء تتنكر لهذا الرأي ولا تراه، وترى في الألفاظ العربية الممزوجة في الإرمية بكثرة، وفي تشابه الأسماء واشتراكها بين النبط والعرب، أثرًا من آثار الاختلاط والاتصال بحكم السكنى المشتركة والجوار، ولا علاقة له بوحدة الجنس، وترى لذلك أن النبط إرميون احتكوا بالعرب وتأثروا بهم، أو أنهم إرميون استعربوا من بعد2. أما أن النبط من بني "إرم"؛ لأنهم كتبوا بلغتهم، واستخدموا قلمهم، فهو قول مردود، فقد كتب غير النبط ومن غير "بني إرم" بلغة "إرم" وبقلم "إرم"، ولم يقل أحد من العلماء إن جميع من كتب بلغة الإرميين وبقلمهم هم من "بني إرم" حتمًا. ولا يمكن أن يقال ذلك؛ لأن الإرمية كانت قد تغلبت على أكثر لغات الشرق الأدنى وصارت لغة الكتابة والتدوين قبل الميلاد وبعده بقرون. تغلبت على العبرانية مثلًا وزاحمتها حتى فضلت عليها عند المتكلمين بها من الخاصة والسواد إلى نهاية القرن السابع بعد الميلاد، فدونت بها كتب من "التركوم" والأدعية والشروح و"مجلة تعنيت" و"أنطيوغيوس" وغيرها من مؤلفات القرنين الثاني والأول قبل الميلاد3. وألفت بها فيم بعد الميلاد، فلا عجب إذن إذا ما دون النبط أو غيرهم من العرب بالإرمية لغة الفكر والثقافة، وتكلموا بلغة أخرى هي لغة اللسان4. وقد كان الأعاجم في الإسلام يتكلمون بألسنة أعجمية، ويدونون باللسان العربي لسان العلم الفكر والقرآن.

_ 1 DEITIES, P.,4 2 Kennedy, P., 34 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 58". 4 Ency. Bibli., P., 277, 282

تلك هي آراء المستشرقين في أصل النبط. أما رأي أصحابنا الأخباريين فيهم فخلاصته أن النبط "جيل من العجم ينزلون البطائح بين العراقين، سموا بذلك لكثرة النبط عندهم، وهو الماء. وسمي أولاد شيث أنباطًا؛ لأنهم نزلوا هناك. هذا أصله، ثم استعمل في عوام الناس وأخلاطهم ... "1 والعرب تنفر من النبط وتنظر إليهم نظرة ازدراء واحتقار، وإذا أراد أحدهم الاستهانة بأحد قال له "يا نبطي". "وفي حديث الشعبي أن رجلًا قال لآخر يا نبطي، فقال: لا حد عليه كلنا نبط، يريد الجوار والدار دون الولادة"2. وورد في الأخبار: "أهل عمان عرب استنبطوا، وأهل البحرين نبط استعربوا"3. وضرب المثل في رطانة كلام النبط بالعربية وقبحه: "وقد قبح الكلام، وصار على كلام النبط"4. إلى غير ذلك من كلام فيهم يشير إلى ازدراء العرب بنبط العراق، ونبط الشأم وبالنبط عامة. وقد أشار المسعودي إلى أن "من الناس من رأى أن السريانيين هم النبط ... " وقال في معرض حديثه عن أهل نينوي: "وكان أهل نينوي ممن سمينا نبيطًا وسريانيين، والجنس واحد، واللغة واحدة، وإنما بان النبط عنها بأحرف يسيرة في لغتهم، والمقالة واحدة". وجعل النبط أهل بابل، وملوك بابل هم ملوك النبط. وذكر أيضًا أن هنالك من يزعم أن النبط هم "نبيط بن ماش بن إرم ابن سام بن نوح"5. فيفهم من كلام "المسعودي" أنه لم يكن على علم واضح بأصل أهل نينوي وبأصل أهل بابل، فجعلهم من السريان ومن النبط. والمسعودي مثل بقية الأخباريين عني بالنبط المتكلمين بالإرمية "الآرامية" من أهل العراق. والسريانية كلمة حديثة عهد، يراد بها لغة بني إرم، أي "الإرمية". ولا يرتقي اسم "السريان" "Syrians" على كل حال أكثر من خمسمئة سنة أو أربعمئة

_ 1 تاج العروس "5/ 229"، القاموس "2/ 387"، اللسان "9/ 288 وما بعدها"، البستان "2/ 350". 2 تاج العروس "5/ 230". 3 استعجم العرب في الموامي ... بعدك واستعرب النبيط. الأغاني "5/ 61"، صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي، القاهرة "195م" "2/ 189". 4 الأغاني "5/ 16". 5 مروج الذهب "1/ 129، 133، 134، 266"، "طبعة المطبعة البهية".

سنة قبل الميلاد، وأما إطلاق اسم السريان على الإرميين الشرقيين، أي إرمي العراق، فقد حدث بعد الميلاد. أطلق على متنصرة الإرميين ليميزوا عن بني جنسهم الوثنيين، فصار له مفهوم خاص، وصارت كلمة "إرمي" "آرامي" تعني الصابئ والوثني أما كلمة "سرياني" فتعني النصراني حتى اليوم1. أما "ماش" "Mash"، فهو أحد أبناء "أرام" ذكر في "التكوين"، مع "عوص وحول وجائر" بمعنى أنهم أخوته2. ودعي "ماشك" في "أخبار الأيام الأول"3. ويظن أنهم سكان "ماش" "ماشو" في النصوص الأشورية، أي بادية الشأم4. و"إرم" هو ابن "سام بن نوح" في التوراة5. وتتفق رواية "المسعودي" المأخوذة من أقوال أهل الكتاب ولا شك، مع ما جاء في التوراة من أن "ماش" هو ابن "آرام"، وهو "إرم". وأما ما ذكره على لسان غيره أو لسانه من أن النبط هم "نبيط", وأن "نبيطًا" هو ابن "ماش"، فهو قول لم يرد في التوراة. ولا يعرف العهد القديم شخصًا اسمه "نبيط بن ماش بن أرام". ويقصد المسعودي من "نبيط" "نبايوت"، ولا شك، و" نبايوت" هو الابن البكر لإسماعيل في التوراة6. أما أنهم سموا نبطًا لكثرة النبط عندهم وهو الماء، أو لاستنباطهم الماء، وإنباطهم الآبار، وما شاكل ذلك من تفاسير وردت في معنى النبط7، فهو كلام كان يسمع في القديم. أما اليوم فلا يمكن أن يقام له وزن. والنبط في عرف الباحثين هم "نبط" و"نبطو" في الكتابات8، والكلمة

_ 1 لمعرفة ما قيل في أصل لفظة "السريان" وتكونها، راجع: "دليل الراغبين في لغة الآراميين" تأليف القس يعقوب أوجين حنا الكلداني، طبع مطبعة دير الآباء الدومنيكيين في الموصل سنة 1900م "ص 9 وما بعدها". 2 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 22. 3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 207" الإصحاح الأول، الآية 17. Ency. Bibli., P.,2972 4 Hastings, Pp.,606 5 التكوين: الإصحاح العاشر، الآية 22. 6 التكوين: الإصحاح 25، الآية 3، أخبار الأيام الأول، الإصحاح الأول، الآية 29. 7 ابن دريد: الاشتقاق "2/ 236" طبعة وستنفلد". "نبطو"، CIS, II, I,P., II 157

اسم علم ليس غير مثل سائر أسماء الأعلام، لا علاقة له لا بالماء ولا باستنباط الماء. حار الأخباريون فيه فعالجوه على مألوف طريقتهم بإيجاد معان للأسماء، وتعليلات وأسباب، وظنوا أنهم بهذا التعليل وجدوا سر التسمية ووقفوا عليه، ولا سيما أن النبط زراع، ولهم مياه غزيرة وعلم بالماء، وأن النبط: الماء الذي ينبط من قعر البئر إذا حفرت، فقالوا: النبط من نبط، فالمسألة إذن سهلة هينة. إنهم سموا نبطًا لاستنباطهم ما يخرج من الأرضين، وهو الماء1. وأشير إلى النبط في حديث عمر: "ولا تستنبطوا"، أي تشبهوا بمعد ولا تشبهو بالنبط. وفي الحديث الآخر: "لا تنبطوا في المدائن" أي لا تشبهوا بالنبط في سكناها واتخاذ العقار والملك. وورد ذكر النبط في خبر مرفوع على ابن عباس: "نحن معاشر قريش من النبط من أهل كوثى ريا، قيل: إن إبراهيم الخليل ولد بها، وكان النبط سكانها"2. وورد في حديث "عمرو بن معد يكرب" حين سأله "عمر" عن "سعد بن أبي وقاص"، فقال: "أعرابي في حبوته، نبطي في جبوته"، أراد أنه في جباية الخراج وعمارة الأرضين كالنبط حذقًا بها ومهارة فيها؛ لأنهم كانوا سكان العراق وأربابها. وفي حديث أبي أوفى: "كنا نسلف نبيط أهل الشأم"3. ويقال الآن في نجد للشعر العامي "الشعر النبطي" أو "شعر النبط"، ويرى الباحثون في هذا النوع من الشعر أنه منسوب إلى نبط العراق4. وعلى كل فإن لهذه التسمية علاقة باسم هذا الشعب العربي القديم الذي نتحدث عنه. والنبط الذين قصدهم الأخباريون إذن، هم قبط آخر لا نريدهم نحن في هذا الفصل ولا نقصدهم، هم يقصدون بقايا الشعوب القديمة خاصة النازلين في البطائح منهم، ومنهم مترسبات الإرميين في العراق والشأم، وذلك قبيل الإسلام وفي الإسلام، وكانوا يتكلمون بلهجات عربية ولكن برطانة أعجمية وبلكنة غريبة

_ 1 اللسان "7/ 411" "صادر"، البستان "2/ 2250". 2 اللسان "7/ 411". 3 اللسان "7/ 412". 4 خالد بن محمد المفرج: ديوان النبط، مجموعة من الشعر العامي في نجد. دمشق 1952م "ص: ط"، محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي: صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار، القاهرة، 1951م "2/ 189".

ظاهرة. أما نبطنا، فهم أصحاب كتابات مدونة بالإرمية، وقد عاشوا في "العربية الحجرية" وفي مناطق أخرى خضعت لسلطانهم لم تكن البطائح منها على كل حال، كما عاش فرع آخر منهم في "تدمر"، وسيأتي الحديث عنهم. وعندي أن النبط عرب، بل هم أقرب إلى قريش وإلى القبائل الحجازية التي أدركت الإسلام من العرب الذين يعرفون بـ"العرب الجنوبيين". والنبط يشاركون قريشًا في أكثر أسماء الأشخاص، كما يشاركونهم في عبادة أكثر الأصنام. وخط النبط قريب جدًّا من خط كتبة الوحي، وقد قلت إن من العلماء من يرى أن قلمنا هذا مأخوذ من قلم النبط. يضاف إلى ذلك ما ذكرته من وجود كلمات عربية كثيرة من النصوص النبطية المدونة بالإرمية، هي عربية خالصة من نوع عربية القرآن الكريم. لهذه الأسباب أرى أن النبط أقرب إلى قريش وإلى العدنانيين على حد تعبير النسابين من العرب الجنوبيين الذين تبتعد أسماؤهم وأسمء أصنامهم بعدًا كبيرًا عن أسماء الأشخاص والأصنام عند قريش وبقية العدنانيين. أضف إلى هذا ما ورد في التوراة وما عند أهل الأخبار من أن "نبايوت" وهو "نابت" أهل الأخبار، هو الابن الأكبر لإسماعيل، وإسماعيل في عرف النسابين هو جد العرب العدنانيين. وقد سبب تدوين النبط كتاباتهم بالإرمية خسارة فادحة لنا لا تقدر بثمن؛ لأنه حرمنا الحصول على نصوص بلهجات عربية قديمة نحن في أشد الحاجة إليها، لما لها من فائدة في دراسة تطور اللهجات العربية واللهجة التي نزل بها القرآن الكريم والمراحل التي مرت بها. وخاصة أننا لا نملك من النصوص العربية المدونة باللهجات العربية الشمالية القريبة من عربية القرآن سوى بضعة نصوص. وبعد "ديودورس الصقلي" أقدم كاتب "كلاسيكي" تحدث عن النبط. يليه "سترابون"، فبقية "الكلاسيكيين" الذين عاشوا بعدها. وفي تأريخ "يوسفوس" اليهودي المتوفى حوالي سنة "95" بعد الميلاد، أخبار مفيدة عن النبط، ولا سيما علاقتهم بالعبرانيين الذين كانوا على اتصال وثيق بهم بسبب الجوار. وقد تطرق "سترابون" إلى أمور لم يتطرق لها "ديودورس"، أخذها من صديق له اسمه "أثينودورس" "Athenodrous"، وكان فيلسوفًا ولد بين النبط وعاش بينهم. وقد حدثه هذا الفيلسوف أن عددًا كبيرًا من الرومان ومن الغرباء

من الجنسيات الأخرى كانوا يعيشون بين النبط، وكانوا في نزاع وخصام بينهم. أما النبط فكانوا على صفاء ووئام، يعيشون عيشة سلام وراحة1. ويتبين أثر اختلاط الغرباء بالنبط، في الآثار الباقية وفي الكتابات اليونانية والرومانية التي عثر عليها في أرض النبط وعلى النقود. وقد شملت مملكة النبط في أوج أيامها منطقة واسعة ضمت "دمشق" و"سهل البقاع" "بقأث هـ - لينون" "Biq'ath Ha-Lebanon" "Coelesyria"، والأقسام الجنوبية والشرقية من فلسطين وحوران و"أدوم" "Idunaea"، ومدين إلى "ددن" "ددان" وسواحل البحر الأحمر. وثبت أيضًا أن جماعة من النبط سكنت في الأقسام الشرقية من "دلتا" النيل، وقد تركت لنا عددًا من الكتابات2. ولا يعرف الموطن الأصلي الذي جاء منه النبط على وجه التحقيق، ولا الزمان الذي هاجروا فيه منه. ويظن بوجه عام أنهم كانوا بدوًا في الأصل من سكان البادية الواقعة شرق شرقي الأردن. ثم ارتحلوا نحو الغرب فنزلوا أرض "أدوم" وضايقوا الأدوميين الذين ارتحلوا نحو الشمال والغرب اختيارًا أو كرهًا، فسكنوا في المناطق الخصبة المشرفة على البحر المتوسط. وكان ذلك حوالي "587" قبل الميلاد. ولا يعرف على وجه العموم في الزمن الحاضر شيء ما عن مبدأ تأريخ النبط3. ويرى بعض العلماء أن النبط هم "نبياطي" المذكورون في أخبار الملك "أشور بنبال" "Aschurbanipal"، وهم أيضًا "نبايوت" "Nebjot= "Nabatene" أولاد إسماعيل في التوراة4. وهم سكان أرض "Nabatene"5.

_ 1 Sir Alexander B.W. Kennedy, Petra, Its History And Monuments, London, 1925, P.,33. وسيكون رمزه: Kennedy 2 Ency., Vol. Iii, P.801, Clermont Ganneau, Les Nabatiens En Egypte, In Recueil D’arch. Or., Viii, 1924, Pp.229 3 Kennedy, P.29 4 J. Hastings, Encyclopaedia Of Religion And Ethice, Vol., Ix, P.121 وسيكون رمزها: Ency, Relig 5 Josephus Flavius, Antiquities Of The Jews, I, Xii, 4, Col., I, P.,103, A. R

ويعارض هذا الرأي بعض آخر، ولا يرى وجود صلة ما بين النبط و" نبياطي" أو "نبايوت"1. وأما النبط المذكورون في "المكابيين"، فهم النبط جماعتنا الذين نتحدث عنهم الآن2. وقد أطلق "يوسفوس" اسم "النبطية" "Nebaioth" على منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات فتصل بحدود الشأم إلى البحر الأحمر، وهي من مناطق أولاد إسماعيل3. ويظهر من تأريخ "يوسفوس" أن مؤلف هذا التأريخ كان يرى وجود صلة بين اسم "نبايوت" وهو اسم ابن "يشمعيل" "اسماعيل" وبين اسم النبط، وإلى هذا الرأي ذهب أيضًا "جيروم" "Jerome"4. ومن أخبار "ديودورس" عنهم أن معظم بلادهم قفرة قليلة الماء والقسم المنبت منها قليل، لذلك عاش سكانها عيشة أعرابية، على الغزو، وعلى التحرش بحدود جيرانهم، لعلمهم أن من الصعب على الجيوش تعقب آثارهم والالتحام بهم في البادية لقلة الماء، وإلا تعرضت للتهلكة والموت عطشًا. أما هم، فلهم آبار مخفية، وكهاريس أغلقت فتحاتها، فلا يعلم أحد من الناس سواهم أين هي؟ يشربون منها متى شاءوا، ويأخذون منها ما يحتاجون إليه. وهم قوم يحبون الحرية ويقدسونها، ويأبون الخضوع لحكم الغرباء. ولهذا لم يخضعوا لحكم الأشوريين أو الميديين أو الفرس أو لحكم ملوك المقدونيين، مع أن هذه الدول أرادت استعبادهم فأرسلت عليهم جيوشًا قوية، ولكنها لم تنجح في تحقيق ما أرادت، ولم تتمكن من السيطرة على هؤلاء الأنباط5. وقد ذكر عنهم أنهم كانوا يجمعون المطر ويخزنونه في الصهاريج، التي لا يعرف موقعها أحد غيرهم، وأنهم كانوا لا يذيقون ماشيتهم الماء إلا في كل ثلاثة أيام، حتى تتحمل عطش البادية وقلة مائها، وبذلك تتعود هذه البوادي القاسية.

_ 1 E. Schrader, K.L.T., S., 151 2 المكابيون الأول، الإصحاح الخامس، الآية 25، الإصحاح التاسع، الآية 35، Hastings, P.,649 3 Josephus, Antiqu., I, 12, 4 4 Ency. Bibli., P.,3254 5 Diodorua, 19, 94, 1-100, 3, Die Araber, I, S. 31, 284, J. Cantineau, Nabateen Et Arabe, I, In L’inst. Des Etudes Orient D’alger, 1934-1935, 4

أما الناس، فكانوا يعيشون على اللحوم والحليب، يضاف إلى ذلك نوع من "الفلفل" ولب بعض الشجر، حيث تخلط بالماء1. وقد أخذ "ديودورس" أخباره عن النبط من مؤرخ قبله هو "Hieronymos Of Kardia = Hieronymos Of Cardia، ويعود خبره إلى حوالي السنة "312" قبل الميلاد، إذ تحدث هذا المؤلف عن حملة "انطيغونس" "انتيكونس" "Antigonos" على القبائل العربية، فذكر "النبط" Nabataioi = Nabatoioi وأشار إلى الحملة التي أرسلت عليهم2. ويتبين من أقدم الأخبار الواردة في الكتب "الكلاسيكية" عن النبط أنهم كانوا في بادئ أمرهم أعرابًا رعاة ماشية، ومنهم أصحاب قوافل يتعاطون التجارة، ويقيمون حول البحر الميت، وكانوا يستخرجون "الاسفلت" من سواحله الشرقية فيحملونه إلى مصر لبيعه إلى المصريين3. وكانت لهم أماكن محصنة تحصينًا طبيعيًّا يلتجئون إليها فيصعب على العدو مباغتتهم ومهاجمتهم في هذه الحصون، كما أن لهم علمًا بصحاريهم وبمواضع الماء فيها، يحتمون بها عند الحاجة، ويتخلصون بذلك من تعقيب الجيوش، ويذكر أنهم جنوا أرباحًا كثيرةً من اتجارهم بالاسفلت، إذ كان المصريون يشترونه منهم لاستعماله في "المومياء"، ولهذا أقبلوا عليه إقبالًا كبيرًا، در على النبط ربحًا طيبًا4. وقد وصفوا بأنهم كانوا يكرهون الزراعة ويزدرونها، كما كانوا يزدرون السكنى في بيوت مستقرة، وكانوا رعاة يربون الأغنام وبقية الماشية. إذا وجدوا غريبًا بينهم قتلوه؛ لأنهم كانوا يخشون أن يقعوا تحت حكم الأجانب فيفقدوا حريتهم5. ووصف "سترابو" النبط، فقال: إنهم تجار، أقاموا في بيوت من الحجر، وقد اشتغل قوم منهم بالزراعة6. لقد أظهر هؤلاء الرعاة مقدرة فائقة وكفاية لا تقدر في تكييف أنفسهم وفي

_ 1 Diodorus, 19, 49, Die Araber, I, S., 32 2 Diodorus, 19, 49, 1-100, 3, Die Araber, 1,31 3 Ency., Vol., Iii P., 801, Deities, P.4 4 Die Araber, I, S., 34 5 Die Araber, I, S., 283 6 Dieties, P., 4

أخذهم بالأساليب الحديثة في الحياة. تمكنوا من استغلال أرضهم وما فيها من موارد طبيعية، وتعلموا استغلال مناجم النحاس والحديد القديمة في "أدوم"، واستخدام هذين المعدنين المهمين في صنع المواد اللازمة لشؤون الحياة. وأخذوا من "الهللينية" تنظيم المدن وأصول الإدارة والفن وحولوا مدينتهم الصخرية إلى مدينة حديثة جميلة تنطق حتى اليوم بكفاية أصحابها وبقابلياتهم للمدنية. كما اقتبسوا من "الفرث" "Parthian" ما يلائمهم ويوائم حياتهم وحاجاتهم1. وضربوا النقود على طريقة اليونان والرومان فأحسنوا في صنعها وأجادوا وأثبتوا أن العربي كيفما كان أمره قابل للتطور والإبداع والأخذ والاقتباس، وأنه إذا هيئت له الظروف وأرشده المرشدون ووجهوه توجيهًا حسنًا، أفاد نفسه وقومه والبشرية خير إفادة. ومن النبط انتقلت المصنوعات النحاسية والحديدية المصنوعة في بلاد اليونان أو الشأم أو في بطرا إلى اليمن، وقد كانوا واسطة لنقل "الهيللينية" إلى العرب الجنوبيين. وقد عثر في "خولان" من اليمن على رأس مصنوع من النحاس، محفوظ الآن في المتحف البريطاني، يشبه وجهه الوجوه المطبوعة على النقود النبطية المضروبة في القرن الأخير قبل الميلاد، لذلك يرى الباحثون أنه من صادرات مملكة النبط إلى اليمن، وأنه من المصنوعات المتأثرة بالطابع "الهيلليني"2. ويحدثنا "ديودورس" أن "انطيغونس" "Antigonus" الذي خلف الإسكندر في سورية، جرد حملة على النبط قوامها أربعة آلاف جندي من المشاة وستمئة فارس جعلها في قيادة صديقه "أثينيوس" "Athenaeus" ليجبرهم على التحالف معه وتأييد مصالحه. وأمره بمباغتتهم وسلب كل ما يمتلكون من ماشية. فسار القائد من مقاطعة "أدوم" "Idumaea" بكل حذر وتكتم لكيلا يعلم أحد من النبط به. وباغت الصخرة في منتصف الليل، فقتل من حاول المقاومة وأسر خلقًا منهم، وترك الجرحى، واستولى على ما وقعت عليه يده من البخور والتوابل والطيب والفضة. ثم أمر قوته بالإسراع بالرجوع، فلما قطعت مسافة مئتي "اسطاديون" أضناها التعب، ونهكها قطع الطريق، فاضطرت إلى قطع

_ 1 M. Rostovtzeff, Ii, Pp.853 2 Rostovtzeff, Ii, P., 855, R. P. Hings, In British Museum Quarterly, Xi, 1937, Pp., 153, H. Shlobies, Forschungen Und Fortschritte X, 1934, S., 242

السير للاستراحة في معسكر إقامته. وفيما كان الجنود ينعمون بنومهم، هاجمهم النبط وأعملوا فيهم السيوف، فلم ينج من رجال الحملة إلا خمسون فارسًا هربوا بسلام بعد أن أثخن أكثرهم بالجراح. وكان ذلك كما يزعم "ديودورس" بسبب تهاون رجال الحملة بأمر الحراسة وعدم تصورهم ملاحقة النبط لهم، وتمكنهم من الوصول إلى هذا الموضع في خلال يومين أو ثلاث1. وذكر "ديودورس" أن اليونان تخيروا الوقت المناسب حينما باغتوا "الصخرة" فقد كان من عادة أهلها الذهاب إلى أسواق مجاوريهم للامتيار ولمبادلة سلعهم بسلع يحتاجون إليها من جيرانهم، تاركين في صخرتهم أموالهم ونساءهم وأطفاهلم وعجزتهم وشيوخهم. ولم تكن الصخرة من حصانتها، مسورة، فانتهز رجال الحملة هذه الفرصة، وباغتوا الحصن على نحو ما ذكرت. فلما بلغ الخبر النبط، تركوا السوق وتراكضوا إلى الصخرة، وأسرعوا يتعقبون أثر اليونان حتى أدركوهم في ذلك الموضع، فانتقموا منهم شر انتقام، وعلموهم درسًا لا ينسى ولا شك في وجوب اتخاذ الحذر والحيطة وتقدير كل أمر حق قدره مهما صغر وتفه، وقد تأتي التوافه بنتائج لا تأتي من عظائم الأمور. أما تأريخ إرسال هذه الحملة، فكان في سنة "312" قبل الميلاد2. وبعد انتقام النبط ممن حاول استرقاقهم، عادوا إلى الصخرة راضين مطمئنين، فنظموا أمورهم، ثم كتبوا إلى الملك "انطيغونس" كتابًا كتب بالأبجدية السريانية يلومون فيه "أثينيوس" "Athenaeus" على ما فعل بهم، ويعتذرون فيه عما بدر منهم، ويحملون صاحبه وزر صنعه. وقد أجابهم الملك بأن ما حدث لم يكن بعلمه ورضاه، وأن قائده عمل برأيه فخالف أمره، ولذلك فهو يحمله وزره، ويرجوا أن تتحسن العلاقات فيما بينهم وبينه، وأن ينسى ما حدث، وكان غرضه من هذا الكلام التأثير عليهم، وجلبهم إليه ولو إلى حين حتى يرى أمره، فإن أبوا ضرب ضربته. ونال ما أراد. وبعد مدة هيأ قوة قوامها أربعة آلاف مسلح من المشاة، وأربعة آلاف من الفرسان جعل قيادتها تحت إمرة ابنه "ديمتريوس" "Demetrius"، للانتقام

_ 1 Die Araber, I, S., 33, J. Cantineau, Le Nabateen, I, 1932, Ii 2 Booth, P., Book, Xix, Vi, Kennedy, Pp., 30, Deities, P., Ency. Relig., Vol., 9, P.121, Ency., Iii, P., 801, Die Araber, I, S., 33

من النبط بأية طريقة كانت، فلما سمع النبط بقدومها، أمنوا أموالهم في مواضع حصينة يصعب الوصول إليها، ووضعوا عليها حراسة كافية، وسلكوا طرقًا متعددة تؤدي بهم إلى البادية. فلما وصل "ديمتريوس" إلى "الصخرة"، هاجمها بعنف وشدة، غير أنه لم يفلح في اقتحامها والاستيلاء عليها، ورجع بجيوشه قانعًا بالهدايا التي قدمت إليه1. ويذكر "ديودورس" أن النبط كانوا قد لجأوا إلى اتخاذ أماكن حراسة وضعوا فيها حراسًا، واجبهم تنبيه النبط حين تبدو ظاهرة خطر عليهم، بإيقاد نيران في مواضع مرتفعة من تلك الأماكن، تكون علامة على وجود الخطر. فلما ظهر "ديمتريوس" متجهًا نحو الصخرة، أوقد الحراس النار، فهرب النبط إلى مواضع أمينة من البادية، وتخلصوا مع أموالهم منه؛ لأنه خاف من ملاحقتهم لعدم تمكن جيشه من تعقب آثارهم ولخوفهم من ولوج البادية، وقد كان "المقدونيون" يخشون من دخولها2. كان النبط من الشعوب العربية التي جمعت ثروة عظيمة، واكتنزت الذهب والفضة بفضل اشتغالها في التجارة وموقعها الممتاز الذي تلتقي عنده جملة طرق تجارية برية كانت عماد طرق القوافل في ذلك الزمن إليها يصل طريق اليمن والعربية الجنوبية المهم الموازي للبحر الأحمر، ومنها يتفرع الطريق إلى مصر والشأم وغزة والمدن الفينيقية على البحر المتوسط، وإليها يصل طريق تجاري آخر مهم يصل الخليج بمدينة "بطرا". ويصل مدينة تجارية أخرى لم يكن شأنها في التجارة أقل من شأن عاصمة النبط، وأعني بها مدينة جرها "Gerrha" على الخليج. فتحمل إليها تجارة الهند وما وراء الهند، وحاصلات إيران والعربية الشرقية لتوزع منها في الشأم ومصر وموانئ البحر المتوسط. وقد عمل ملوك النبط بكل ذكاء على الاستفادة من هذه الطرق واستغلالها لمصحلتهم ومصلحة مملكتهم3. وقد اقتضى ذلك بالطبع وضع حرس قوي لحماية القوافل وإجراء التسهيلات الضرورية لأصحابها والاتفاق مع سادات القبائل لضمان سلامتها مقابل مبالغ تدفع لهم عن المرور "الترانزيت".

_ 1 Booth, Pp., 650, Book, Xix, Vi, Kennedy, P.,31, Die Araber, I, S., 32 2 Diodorus, 19, 94, 6, 19, 2, Die Araber, I, S., 284 3 M. Rostovtzeff, The Social, Ii, P.,481

وقد أدت سياسة البطالمة الرامية إلى السيطرة على البحر الأحمر واحتكار التجارة البحرية إلى إلحاق أضرار فادحة بالنبط وبغيرهم من العرب الذين كانوا يتاجرون في البحر الأحمر، فاضطر النبط إلى التحرش بسفن البطالمة وبمهاجمة السفن التي تتجه نحو مصر وبأخذ ما فيها، فاضطر "بطلميوس الثاني" "285-246 قبل الميلاد" إلى إنشاء قوة بحرية لحراسة السفن التجارية، وقد ألحقت هذه القوة خسائر فادحة بأسطول النبط1، منعت النبط أمدًا من التعرض لقوافل البطالمة، غير أن النبط كانوا ينتهزون الفرص، فلما انشغل "بطلميوس" بالحرب مع "سلوقي" سورية عادوا إلى مهاجمة سفن البطالمة والسفن الذاهبة أو الآيبة من مصر2. وألحقت سياسة "بطلميوس فيلادلفيوس" ومشروعاته الرامية إلى السيطرة على البحر الأحمر وعلى تجارة البلاد الحارة، أضرارًا خطيرة بالتجارة العربية، أثرت تأثيرًا سيئًا جدًا في الوضع السياسي في جزيرة العرب. إذ أفقدت العرب السيطرة على البحر الأحمر وأوجدت لهم منافسين خطيرين نافسوهم في أسواق إفريقية والهند، ولم يكن من السهل التغلب عليهم، بفضل ما أدخلوا على سفنهم من تحسينات فنية وابتكارات، وما خصصوا بها من قوات لحمايتها من تعرض سفن العرب لها. وقد ابتنى "بطلميوس فيلادلفوس" مدينة "Berenice" على خليج العقبة "Atlantic Gulf" لحماية التجار والسفن من تعرض النبط. ولعل ميناء "امبلونه" "Ampelone" الذي أسسه تجار الروم في جزيرة العرب على ساحل البحر الأحمر تجاه "العلا" على رأي بعضهم، هو من المواضع التي أنشئت لهذه الغاية في هذا الزمن3. وبإنشاء هذه المواضع سيطر اليونان على البحر والطريق التجاري القريب منه، كما تمكنوا من ضمان الحصول على حاجاتهم بشراء ما يريدون من حاصلات الجزيرة ومن بيع ما يريدون بيعه في هذه الموانئ أيضًا. وكان من نتائج هذه السياسة التي اقتفى أثرها من جاء بعد "بطلميوس فيلادلفوس" من الملوك والقياصرة، مشاطرة تجار العرب أرباحهم العظيمة التي

_ 1 Strabo. Iii, P.,204 2 Murry, The Rock City Petra, P.,80, Die Araber, I, S., 285 3 M. Rostovitzeff, The Social., Vol., I, P.,387

كانوا يجنونها من الاتجار مع مصر والشأم. فلم يدخل في إمكانهم وضع الأسعار كما يريدون ويشتهون كما كان ذلك سابقًا. إذ وضع سادة بلاد الشأم ومصر الجدد أسعارًا ثابتةً للبضائع العربية والهندية التي تصل إلى بلادهم، كما فرضوا عليها ضرائب معينة بحسب قوائم جديدة. وبذلك تحكموا في الأسعار التجارية العالمية، وحرموا تجارة جزيرة العرب وسادتها من ملوك متاجرين وأسر غنية متنفذة ربحًا عظيمًا، وألحقوا بخزانتهم خسائر كبيرة. وكان من أثر هذه السياسة الصارمة هبوط الأسعار هبوطًا بينًا في الأسواق1. وقد تمكن الباحثون في تأريخ النبط من ضبط أسماء جملة ملوك حكموا النبط. ولا نستطيع اليوم ذكر اسم أول من أسس مملكة النبط، ولا الزمن الذي أسست فيه تلك المملكة ولا الأسرة التي نسلت أولئلك الملوك. وكل ما نستطيع قوله هو أن استقلال النبط كان قبل الميلاد، وأننا نعرف أسماء بضعة ملوك حكموا قبل الميلاد، بصورة أكيدة لا مجال فيها لأي شك، كما نعرف أسماء ملوك كان حكمهم بعد الميلاد. ويكثر اسم "الحارث" "أرتاس" "ارتياس" Aretas = Arethas بين أسماء الملوك، حتى لقد ذهب الظن ببعض الباحثين إلى أن هذا الاسم هو لقب، وأنه في معنى "فرعون" بالنسبة إلى ملوك مصر، و" قيصر" بالنسبة إلى ملوك الرومان والروم، و"النجاشي" بالنسبة إلى ملوك الحبشة، و"كسرى" بالنسبة إلى ملوك الفرس، و"تبع" بالنسبة إلى ملوك اليمن2. أما الاسم الذي يليه في المرتبة فهو "عبادة" و"مالك" و"رب ال" "رب ايل". وذهب بعض آخر إلى أن لفظة "Aretas" هي اسم الأسرة الحاكمة التي حكمت النبط، وأنها من أصل "آرامي" هو "حرتت" "Charethath"3. وفي الفصل الخامس من أسفار "المكابيين الثاني" أن "أرتاس" زعيم العرب طرد "ياسون" "Jason" من أرضه "فجعل يفر من مدينة إلى مدينة والجميع ينبذونه ويبغضونه بغضة من ارتد عن الشريعة، ويمقتونه مقت من هو قتال لأهل

_ 1 Rostovtzeff, The Social., Vol., I, P., 387 2 The Bible Dictionary, Vol., I, P.107 3 Hastings, P.48

وطنه حتى دحر إلى مصر"1. ويظهر من هذه الآية أن الحارث كان قد طرد "ياسون" من أرضه، وتغلب عليه، وصار يتعقبه حتى هرب إلى مصر. وكان "ياسون" قد اختلف مع أخيه "أونياس الثالث" "Onias III" في يهوذا على الكهانة العظمى. وقد حكم "أرتاس" أي "الحارث" المعروف بـ"حرثت" "حرتت" "حارثة" "Harithat" في الكتابة النبطية في حوالي سنة "169" قبل الميلاد. ونظرًا إلى أنه أول ملك وصل اسمه إلينا في الأخبار، أطلق الباحثون عليه لقب "الأول" تمييزًا له عن بقية من جاء بعده حاملًا هذا الاسم2. ويلاحظ أن الآية المذكورة لم تلقب "الحارث" بلقب "ملك"، وإنما نعتته بـ "زعيم"، أو بما شابه ذلك من معان، هي دون درجة "ملك". أما الموارد التأريخية، فقد لقبته بلقب "ملك"3. وقد وردت كلمة "النباطيين"، وهم النبط، في موضع من الفصل الخامس من سفر المكابيين الأول، وذكرت بعدها بجملة آيات كلمة "العرب". وكان هؤلاء العرب يشدون أزر "تيموتاوس" الذي حارب "يهوذا المكابي" "يهوذا مكابيوس" "Judas Maccabaeus" "161 ق. م."4 أما النبط فكانوا على وئام مع المكابيين: "يهوذا المكابي" وأخوه "يوناتان" وكانت صلاتهم بجيرانهم المكابيين حسنة. ويظهر من الآية التي ذكر فيها اسم "العرب" أن "تيموتاوس" وأنصاره كانوا قد استأجروا العرب للقتال معهم5. وأغلب الظن أن المراد بـ "العرب". في هذه الآية هم جماعة من الأعراب. وطلب "يوناثان" "المتوفى سنة 143ق. م." –الذي انتخب مكان أخيه يهوذا المكابي بعد مقتله- من النبط مساعدتهم، أن يعيروه عدة يستعين بها على أعدائه، وذلك حين طلب "بكيديس" قتله. وأرسل "يوحنا أخاه في جماعة

_ 1 المكابيون الثاني، الفصل الخامس، الآية 8. 2 Ency. Bibli., Vol., 9, P.121, 296 3 Die Araber, I, S. 290 4 Ency.. Vol., Iii, P.801, Ency Relig Vol., 9, P.121, E. Schrader, Klt, S., 152, Ency. Bibli., P.2853 5 المكابيون الأول، الفصل الخامس، الآية24 وما بعدها.

بقيادته يسأل النباطيين أولياءه. أن يعيروهم عدتهم الوافرة"1. فلما كان يوحنا في "ميدبا" "مأدبا"، خرج عليه "بنو يمرى" وقبضوا عليه وعلى كل من كان معه وذهبوا بالجميع2. ويظهر من إرسال "يوناثان" أخاه النبط ومن جملة "يسأل النباطيين أولياءه" الواردة في "المكابيين" أن علاقة المكابيين بالنبط كانت حسنة جدًّا، وأن النبط كانوا إذ ذاك أقوياء أصحاب عدة وعتاد. وأما "بنو يمري" Bene- Amri/Jambri الذين قتلوا "يوحنا" شقيق "يوناثان"، وهو المعروف بـ "يوحنا المكابي"3، فقبيلة عربية يظهر أن منازلها كانت في "ميدبا" "مادبا" من أقدم مدن "مؤاب"4، وهي تبعد ثمانية أميال إلى الجنوب الشرقي من "حسبان" "Heshbon" و"14" ميلًا شرقي بحر "لوط"5، وهي مدينة "Mydava" التي ذكرها "بطلميوس" وذكر أنها تقع في "العربية النبطية" "Arabia Petraea" و"اندبه" "Undaba" و" Unddaba" لدى "أويسبيوس" و"Medaba" لدى "جيروم"6. وصارت في العصور المسيحية مركزًا لأسقف المقاطعة المعروفة باسم "المقاطعة العربية" "Provincia Arabia". ولا نعرف في الزمن الحاضر شيئًا من أمر هذه القبيلة "Bene Amr"، التي لا يستبعد أن يكون اسمها الصحيح "بنو عمرو". وذكر "يوسفوس" أن "يوناثان" وشقيقه "سمعان" "Simon" سمعا أن "بني عمرى" "Bene Amri" "Amaraeus" سيقيمون عرسًا عظيمًا ويزفون العروس من مدينة "Gabatha" = "Gabbatha"، وهي من أشراف العرب، فقررا الانتقام من قتلة شقيقهما، فذهبا مع قوة كبيرة ووضعا كمينًا في "ميدابا" "مادبا". فلما وصل الموكب، خرج الكمين، فسقط قتلى كثيرون، وهرب من تمكن من النجاة إلى الجبل7.

_ 1 سفر المكابيين الأول، الفصل التاسع، الآية 35. 2 سفر المكابيين الأول، الفصل التاسع، الآية 36، DUBNOW, II, S., 79, JOSEPHUS, ANTIQU., XIII, I, II 3 "يوحنا مكابيوس"، قاموس الكتاب المقدس "2/ 397". 4 "مادبا" DUBNOW, II, S., 79 5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 397"، Ency. Bibli., P.3002 6 Ency. Bibli., P.3003 7 Josephus, Antiq., Xiii, I, Iv

وحكم بعد "الحارث الأول" الملك "زيد ال" "زيد ايل"، وذلك في حوالي السنة "146" قبل الميلاد. ثم الملك "الحارث الثاني" "حرتت" حرثت"، الذي حكم حوالي سنة "110" قبل الميلاد، ودام حكمه حتى حوالي عام "96" قبل الميلاد1. ويرى "شرادر" أنه حكم حوالي سنة "139" قبل الميلاد، ودام حكمه حتى سنة "97" قبل الميلاد2. ويرى بعض آخر أنه حكم حوالي سنة "120ق. م." 3. ويظهر أنه كان يعرف بـ "ايروتيموس" "Erotimus" = "Herotimus"4 ويظن "شرادر" أنه هو الذي قصده "يوسفوس" حين ذكره في حوادث سنة "97" قبل الميلاد5. وتوقف بعض آخر في تثبيت اسم من حكم بعد الحارث الأول، فوضع فراغًا قدره بنحو نصف قرن، ذكر أنه لا يدري من حكم فيه، ثم وضع بعده اسم "الحارث" الثاني المعروف بـ "Erotimus II"، وقد قدر حكمه فيما بين السنة "120" والسنة "96" قبل الميلاد6. ولم تصل إلينا أخبار واضحة أكيدة عن هذا "الحارث". ويذكر المؤرخ اليهودي "يوسفوس" أن أهل "غزة" طلبوا منه العون والمساعدة ليتمكنوا من الثبات أمام محاصرة "اسكندر جنيوس" "Alexander Jannaeus" لمدينتهم، غير أنه خيب آمالهم، فلم يساعدهم. وقد نعته هذا المؤرخ بـ "ملك"، مما يدل على أن هذا اللقب صار لقبًا رسميًّا لحكام النبط في هذا العهد7. وذكر أن "ايروتيمس" "Erotimus" = "Herotimus" "الحارث الثاني"، كان قد اهتبل فرصة ضعف الأوضاع في مصر وبلاد الشأم، فهاجم بأولاده وبجنوده تلك الأرضين، وغنم منها غنائم كثيرة، فكون بذلك لنفسه وللعرب

_ 1 Ency., Iii, P.801, Ency. Relig., Vol., 9, P.121 2 Schrader, Klt, S. 153 3 Die Araber, I, S., 290 4 Ency., Iii. P.,801, Ency. Relig., Vol., 9, P.121 5 Schrader, Klt, S., 153 6 Deities, P.540 7 Josephos, Ant., 13, 360, Die Araber, I, S., 290

صيتًا بعيدًا1. وتبين للنبط على ما يظهر أنهم إذا استمروا في تأييدهم ومساعداتهم للحسمونيين "Hasmoneans" المناضلين للخلاص من حكم السلوقيين السوريين، ألحقوا أضرارًا بمصالحهم الخاصة وبحكومتهم نفسها، فلم تكن سياسة المكابيين مقتصرة على طلب الاستقلال التام والخلاص من الحكم الأجنبي، بل كانت تنطوي على الاستيلاء على الأردن والتوغل في مناطق النبط نفسها، وإنشاء حكومة قوية قد تزاحم حكومتهم في يوم من الأيام، فرأوا أن من الخير لهم أن يدعوا هذا التأييد، وأن يقاوموا إن احتاج الأمر إلى المقاومة. وقد حدث ذلك بالفعل في عهد الملك المكابي "اسكندر جنيوس" "اسكندر ينيوس" "Alexander Jannaeus" "103-76 قبل الميلاد" حيث وقعت حرب بينه وبين النبط بسبب الأردن2. فلما تمكن الملك الماكبي مستعينًا بجنود مرتزقة من اليونان ومن أهل آسية الصغرى ومن "المؤابيين" ومن "الجلعاديين" أهل "جلعاد"، وهم من العرب كما يقول المؤرخ اليهودي "يوسفوس"3، وأجبرهم على دفع الجزيرة اصطدم بمعارضة الملك "عبادة" "Obedas" الذي أعلن حربًا عليه، كان "اسكندر" يهلك فيها لولا الأقدار التي احتضنته ففر مسرعًا هاربًا بنفسه إلى القدس، وبذلك كتب لنفسه السلامة والنجاة4. إن "عبادة" "Obedas" = "Obedas" = "Obedath" هذا الذي ذكره "يوسفوس"، هو "عبادة" المعروف عند المؤرخين بـ "عبادة الأول" تمييزًا له عن ملوك آخرين عرفوا بـ Obedas، وقد حكم حوالي سنة تسعين قبل الميلاد5. وجعل "شرادر" حكمه في عام "93" قبل الميلاد. وقد ورد اسمه مضروبًا على النقود6.

_ 1 Die Araber, I, S. 290 2 The Universal Jewish Encyclopedia, Vol., 8, P.79 3 Josephus, Antiq., Xiii, Xiii, 5, The Jewish War, Book, 1, Iv, 3-4 4 Dubnow, Ii, S., 160, The Cambridge Ancient History, Vol., Ix, Pp.399 5 Ency. Relig., Vol., 9, P.121, Ency., Iii, P.801, The Cambridge Ancient History, Vol., Ix, P.409 6 Die Araber, I, S., 291, Schrader, Klt., S. 153

لم ينعم "اسكندر جنيوس" "اسكندر يانيوس" بعد عودته إلى القدس بأيام طيبة هادئة، فلقد جوبه بمعارضة قوية وبجماعة شديدة أخذت تعارض سياسته وتقاومه، ودبت الفتنة في كل مكان من مملكته وبلغ من حقد الجماعة عليه أنها استدعت "ديمتريوس أويكروس" "Demetrius Eukarus III" المعروف بالثالث من بقايا حكام مملكة السلوقيين السوريين المتداعية ونصبته ملكًا عليها وحاكمًا1. وهكذا نجد الشعب اليهودي الذي استعاد استقلاله يعود إلى طبيعته الأولى، فينقسم على نفسه، ويشعل نار حرب أهلية في مملكته، ويفضل حكم الغرباء على حكم أبنائه. ولما وجد الملك المكابي مركزه حرجًا وخصمه قويًّا وأنه قد يتغلب عليه، وأن له في الجنوب خصمًا آخر طموحًا أقوى من خصمه "ديمتريوس" وأعنف، رأى التودد إلى العرب والتحبب إليهم، فنزل لهم عن "موآب" و" جلعاد" وعن أماكن أخرى كان يخشى من احتمال انضمامها إلى خصومه، وقدمها إلى ملك النبط وتساهل في أمور أخرى ليأمن على ما تبقى من مملكته على الأقل2. وأما "ديمتريوس" الذي ترك "يهوذا" "Jubaea" وارتحل عنها، فقد ذهب إلى "حلب" "Boroea"، وانتصر على أخيه "فيليب" "Philip"3. غير أن "ستراتو" "Strato" حليف "فيليب" وأحد حكامه، أسرع فاستنجد في "Zizus" بسادات القبائل العربية وبالفرث "Parthians"، فأنجدوه وساروا بقوات كبيرة على "ديمتريوس" فانتصروا عليه4. وحكم بعد "عبادة الأول" ملك اسمه "رب ال" "Rabb'il" = "Rabilus". يظهر أن حكمه كان حوالي السنة "87" أو "86" قبل الميلاد. ويعرف عند المؤرخين بـ "رب ايل الأول" تمييزًا له عن عدد من الملوك حكموا بعده عرفوا باسم "رب ايل"5. وقد عثر على كتابة وسمت بـ "CIS II, 349"6، مؤرخة في شهر "كسلو" وشهر "شمادا" "Schemada" في قراءة7 و" شمارة"

_ 1 Dubnow, Ii, 160 2 Josephus, Antiq., Xiii, Xiv, 3, Note 2 3 Josephus, Antiq., Xiii, Xiv, 3, Note 2 4 المصدر نفسه. 5 Ency., Iii, P.801, Ency. Reli., Vol., 9, P.121, Schrader, Klt, S., 153. 6 Cis, Pars, Secunda, Tomus, I, Fasculus Tertius, P.306. وسيكون رمزه: CIS. 7 Provincia Arabia, R, S., 312

"شمرة" "Schamara" في قراءة أخرى1 من سنة "18" على قراءة2 أو سنة "16" على قراءة أخرى من سني ملك اسمه "حرتت ملك"، أي "حارث الملك"، أو "الملك الحارث" بتعبير أصح. وقد دونت هذه الكتابة على قاعدة تمثال عثر عليه سنة "1898م" عند "بطرا" "Petra"3 دونت عليها: "هذا تمثال رب ايل ملك النبط بن ... ت ملك النبط عملها.... ب رحيم "حيم" "ننى" "مجنى" الأقدم"4. فيظهر من هذه الكتابة أن تمثالًا أقيم للملك "رب ايل" عمل في السنة الثامنة عشرة أو الساسة عشرة من سني ملك اسمه "حرتت"، أي "الحارث"، وأن الذي عمل التمثال شخص لعب القدر ببعض حروف اسمه الأول، فلم يبق منه إلا الحرف الأخير، وهو "ب"، كما لعب في طمس معالم بعض الحروف الأخرى من الاسم، حمل الباحثين على الاختلاف في قراءتها. أما اسم الملك وهو "رب ال ملك نبطو"، فهو ظاهر واضح. وأما اسم أبيه الذي هو "ملك نبطو" أي ملك النبط، فقد سقطت حروفه ولم يبق منه إلا الحرف الأخير وهو "ت"، لذلك اختلف فيه الباحثون، فمنهم من قرأه "عبدت"، أي "عبادة"، فجعل لذلك "رب ايل" ابنًا له، أي لـ"عبادة الأول"، ومنهم من قرأه "حرتت"، أي "الحارث"، فجعل أباه ملكًا اسمه "الحارث"5. ولا نعرف شيئًا يذكر من أعمال "رب ايل". ولعل ما ذكره "اصطيفان البيزنطي" "Stephanos Of Byzanz" نقلًا عن "أورانيوس" من أن ملك العرب المسمى "ربليوس" "Rabilus" = "Rabilos" قتل "انتيغونس" "Antigonos" المقدوني في موضع يقال له "Matho"، وهو قرية عربية، أريد به الملك "رب ايل" الذي نتحدث عنه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المراد

_ 1 Cis, Ii, I, Iii, P.306 2 Provincia Arabia, I, S., 312 3 Provincia Arabia, I, S., 312, Nr. 405, J. Cantineau, 2, I 4 Cis, Ii, I, Iii. P.306, Provincia Arabia, I, S., 312, Clermont-Ganneau, Recueil D’archeol. Orientale, Ii, Pp.221, Syria, Tome, Iv, 1923, P.152 5 Die Araber, I, S., 295, Deities, P.540

من لفظة "موثو" "موتو" الموت، وأن المقصود موضع الموت أو قرية الموت، لما وقع فيها من موت، فعرفت به1. ولا نعلم من أمر "رب ايل" شيئًا يذكر، والظاهر أن حكمه كان قصيرًا جعله بعضهم نحو سنة، أي سنة "87 "قبل الميلاد، ثم وضع بعده حكم "الحارث" المعروف بالثالث2. وهو من أشهر الملوك المتقدمين من النبط، وأخباره أوضح من أخبار من تقدمه ممن ذكرت. وقد ذهب بعضهم إلى احتمال كونه هو "اروتيموس" "Erotimus" المذكور في التواريخ اليونانية3. وذهب بعض الباحثين إلى أن حكم الحارث كان من سنة "85" حتى سنة "60 "قبل الميلاد، أو من سنة "87" حتى سنة "62" قبل الميلاد4. وإذ صح أنه أدرك سنة "62" أو "60" قبل الميلاد، يكون الرومان قد استعادوا مدينة دمشق في أيام هذا الملك، إذ يرى كثير من المؤرخين أن "اللجيونات" الرومانية العاملة بإمرة القائدين "لوليوس" "Lollius" و"ميتيلوس" "Metellus" قد احتلت المدينة عام "65" قبل الميلاد، ثم دخلها "بومبيوس" في سنة "64" قبل الميلاد5. وذهب بعض الباحثين إلى أنه اضطر إلى إخلاء "دمشق" سنة "70" قبل الميلاد، إذ لم تستطع جيوشه الوقوف أمام جيش الملك الأرمني "تيكرانس" "Tigranes" التي زحفت على بلاد الشأم6. وقد عرف الحارث الثالث بـ "فيلهيلن" "Philhellen"، وهو لقب يوناني "Aretas Philhellene"، معناه محب اليونان. وقد اشتهر بتوسيعه رقعة ملك النبط. فما هاجمه "أنطيوخس الثاني عشر" "أنطيخس" "Antiochus XII" وأخذ يتوغل في أرض النبط، أسرع "الحارث" فجمع قواته ووقف بحزم أما القوات المهاجمة، ثم اصطدم به عند موضع "Kana" "Cana"، حيث قضى على معظم جيش "أنطيوخس" وألحقه مع من قتل بالعالم الآخر. وقد

_ 1 DIE ARABER, I, S., 294. 2 DIE ARABER, I, S., 291 3 DIE ARABER, I, S., 292 4 SCHRADER, KLT, S., DEITIES, P.540 5 ENCY. BIBLI., P.991, DEITIES, P.540 6 DEITIES, P.541

وقعت هذه المعركة في سنة "86" أو "84-83" قبل الميلاد1. ويرى بعض الباحثين استنادًا إلى النقود التي ضربت باسم "أنطيوخس"، بسنة "87-86" قبل الميلاد، والتي استمر ضربها ثلاث أو أربع سنين، ثم انقطعت أن نهاية هذا الملك كانت بسنة "85-84" أو "84-83"، وهي السنة التي قتل فيها، وانتهت بانتصار "الحارث" عليه2. وقد مكن سقوط "أنطيوخس" في تلك المعركة النبط من تقوية أنفسهم ومن شد عزمهم، فلما مات الملك "رب ايل" الأول سنة "87" قبل الميلاد على بعض الآراء، وتولى "الحارث" الثالث "حارثة" "Aretas" الحكم من بعده انتهز تلك الفرصة فاستولى سنة "85ق. م." على دمشق، وتوسعت بذلك رقعة مملكته وأحاطت بملكة المكابيين من الشرق والجنوب3. وقد افتتح عهد "الحارث الثالث" باستيلائه على "دمشق" وعلى "سهل البقاع" "Coike-Syria" = "Koike-Syria"، فقد استدعاه أهلها لإنقاذهم من مهاجمة "اليطوريين" "Ituraer" لهم، بقيادة ملكهم "بطلميوس بن منيوس" "Ptolemaios Mennaios"، أي "بطلميوس بن معن". وهو من أصل عربي أيضًا، فاسرع إليها، وكانت يومئذ قصبة "السلوقيين"، فاستولى عليها، ودخلت في جملة أملاكه4، ولقبه أهلها "محب اليونان وحاميهم" "Philhellen"؛ لأنه أنقذهم من "غزو الأعراب" لهم5. الآن وقد أصبح "الحارث" ملكًا على مملكة واسعة الأطراف، وتشرف على مملكة "يهوذا" المتداعية، وبإمرته جيش قوي، كان لا بد له من التداخل في

_ 1 “Cana” “Kana” على ساحل البحر المتوسط عند "يافا"، The cambridge ancient history, vol., 9, p.400, josephus, antiq., xiii, xv, i. Vol., 2, p.428, the jewish war, book, i, iv, 7-8, die araber, i, s., 294, dubnow, ii, s., 163, Hastings, p.147, deities, p.540. 2 Die araber, i, s., 294 3 Bernhard stade, geschichte des volkes israel, ii, s., 504, berlin, 1888, deities, p.540 4 Die araber, i, s., 294, b. Stade, ii, s., 405 5 Die araber, i, s., 298, r. Dussaud, penetration, 55, a. Kammerer, petra et la Nabatene, 1929, i, 515, a. R. Bellinger, 78

شؤون هذه الجماعات المتخاصمة المتنافرة التي تكون مملكة، ولكنها لا تخضع لملك ولا لسلطان. وإذا لم يتدخل هو بنفسه فإن الأحزاب اليهودية نفسها لا تتركه على الحياد. وهذا ما حدث. فغزا "الحارث" أرض يهوذا، وفي معركة واحدة وقعت عند موضع "اديدا" "Addida" = "Adida" انهار الجيش اليهودي، وتشتت شمله، فلم يبق أمام "اسكندر ينيس" "Alexander Jannaeus" = "Alexander Jannaios" غير طلب الصلح، فعقد الصلح، وعاد النبط إلى ديارهم إلى حين1. ولم يشر المؤرخ "يوسفوس" إلى محتويات معاهدة الصلح2. أما "Adida "= "Addida" المكان الذي وقعت فيه المعركة، فهو "الحديثة" على مقربة من "اللد" "Ludda"، المسماة أيضًا باسم "Diospolis"3، وقد عرفت "Adida" باسم "حاديد" "Hadid" و"حديد"Hadid" و"Aditha"4. لقد تمكن "الحارث" من بناء جيش يعتمد عليه في المعارك، فبعد أن كان جيش النبط في بادئ أمره جماعات غزو غير منظمة ولا منسقة تهاجم عدوها وتباغته على طريقة الأعراب ثم تتراجع، يسيرها العرف القبلي، تحسن جيش النبط بعض التحسن، وأدخلت على القوات الراكبة بعض الإصلاحات، غير أنها بقيت مع ذلك متأثرة بروح البداوة، التي لا تقبل الخصوع للأنظمة والأوامر، والتي لا تهتم إلا بالغنائم، فإذا حصلت عليها رجعت إلى مواطنها دون تفكير في العاقبة. فلما استولى "الحارث" علىدمشق، وفيها عدد كبير من اليونان، انضم بعضهم إليه، فعملوا على تحسين جيشه وتدريبه، وعلى تكوين جيش مدرب نظامي، استعان به في تقوية مركزه حتى صار به من أقوى ملوك النبط الذين حكموا حتى أيامه، مما حمله على التدخل في شؤون مملكة يهوذا، ثم على مجابهة الرومان، وهم أصحاب جيوش منظمة مدربة، بجيش لم يتعود دخول الحروب النظامية، فتغلب الرومان من ثم عليه.

_ 1 Josephus, XIII, XV, 2, Vol., II, P.428, Dubnow, II, S., 163, The Cambrodge Ancient History, Vol., IX, P.400 2 DIE ARABER, I, S., 298. 3 Hastings, P.12, 324, ncy Bibli., P.1932 4 المكابيون الأول، الفصل الثاني عشر، الآية 38، الفصل الثالث عشر، الآية 13، Ency. Bibli., P.65, 1932. Jerome, Onom., 93, Die Araber. I, S., 298

فلما دب الخلاف بين الأخوين "أرسطوبولس" "Aristobolus" و"هركانوس" "Hyrcanus"، ابني "اسكندرة" "Alexandra" على الملك، وانقسمت "يهوذا" إلى أحزاب وجماعات أبرزها جماعة "الفريسيين" "Pharise'es" يؤيدون "هركانوس" وجماعة "الصدوقيين" "Sadduce'es" أنصار "أرسطوبولس"، وجمع "أرسطوبولس" حوله أنصاره وجيشًا من العرب ومن جنود مرتزقة، وتفوق على أخيه، طلب "هركانوس" مساعدة النبط، وبعث صديقه "انتيبطر" "انتيباطر" "Antipater" إلى "بطرا" ليتوسط لدى "الحارث"، وكان صديقًا له، في أمر مساعدة "هركانوس" وفي أمر الالتجاء إليه. فلما نجحت الوساطة، هرب من القدس ليلًا متجهًا إلى النبط، وطلب من الملك بإلحاح أن يعيده إلى "يهوذا"، وأن يأخذ له التاج من أخيه، ويثبته في ملكه، ويتعهد في مقابل هذه المساعدة بإعادة المدن الاثنتي عشرة التي أخذها أبوه "اسكندر" من العرب، وهي: "مادبا" "مأدبا" "Medaba" و"نبالو" "Naballo" و"ليبياس" "Libias" و"ثربسة" "Tharabasa" و"اكله" "Agalla" و"اتونه" "Athone" و"زوره" "Zoara" و"اورونه" "Oronae" و"ريده" "Rydda" و"لوسه" Lusa" و"اوريبه" "Oryba" و"مريسه" "Marissa" إلى النبط. فوافق "الحارث" على هذه الشروط، وهجم على "يهوذا" "66-65ق. م." بجيش قوامه خمسون ألف جندي راجل وفارس شتت شمل أصحاب "ارسطوبولس" وتركه وحده، فهرب إلى القدس، فتعقبه الحارث على رأس جيش عربي يهودي كبير، وأحكم عليه الحصار، وكادت العاصمة تسقط في يديه لولا حدوث تطور سياسي عسكري خطير قلب الوضع، ذلك هو هجوم الرومان فجأة في أيام "بومبيوس" على دمشق وسورية وهجوم قائدهم "سكورس" "Scaurus" على "يهوذا" وتدخله في هذا النزاع1. لقد كان تقدم الرومان هذا في بلاد الشأم تهديدًا صريحًا لليهود وللنبط. أدى بعد قرون إلى الاستيلاء التام على كل فلسطين والأردن وإلحاقهما بالمستعمرات الرومانية. وقد كانت فاتحة ذلك تدخل الرومان في شؤون يهوذا. وتوجيه إنذار

_ 1 Joseohus, XIV, I, 4, II, 1-3, Dubnow. II, S., 172, Josephus, The Jewish WAR, 302. تاريخ يوسفوس اليهودي، المطبعة العلمية، بيروت "ص 115".

إلى "الحارث" بوجوب فك الحصار عن "القدس" والتراجع عن يهوذا مع جميع جيشه فورًا إن أراد أن تكون علاقاته بـ "رومة" حسنة، وإلا عد عدوًّا لها ومشاكسًا. وقد أدرك "الحارث" أن جيشه لا يستطيع الوقوف أمام جيوش الرومان المدربة المنظمة المسلحة تسليحًا جيدًا حديثًا بالنسبة إلى أسلحة النبط. ففك الحصار، وتراجع ومعه "هركانوس"، فاغتنم "أرسطوبولس" الفرصة، وكان قد اكتسب ثقة "سكوروس" قائد الرومان، وتعقب المتراجعين في طريقهم إلى "ربت – عمان" "فيلادلفيا" "عمان"، فالتحم بهم في معركة عند موضع اسمه "بابيرون" "Papyron"، فانتصر على "الحارث" وقتل ستة آلاف من أتباعه1. وتعقدت الأمور ثانية بين الرومان والنبط، وهدد "سكوروس" النبط بالزحف عليهم وتخريب بلادهم، وقرر الحارث في بادئ الأمر تحديه، ثم وجد أن من المستحيل عليه الثبات له، وتوسط "انتيباتر" فيما بينه وبين "سكوروس" بأن يدفع الحارث جعالة للرومان، وتصالح بذلك معهم، وقد سر "بومبيوس" من هذه النتيجة حتى أنه أمر بوضع صورة "الحارث" في موكب نصره، كما سر "سكوروس" بذلك إذ أمر بضرب نقد، صور الحارث عليه وقد أحنى رأسه راكعًا وحاملًا سعفة تعبيرًا عن استسلامه له2. لقد وقع كل ذلك في حوالي السنة "62" قبل الميلاد، السنة التي هلك فيها هذا الملك، وذهبت بوفاته معه كل آماله وأحلامه في أن يكون وريث مملكة السلوقيين في بلاد الشأم. ولعل النكسة التي وقعت له قد أثرت فيه فجعلت منيته. وقد ورد اسم "الحارث" في كتابة عثر عليها في القسم المعروف بـ "المدراس" "المدرس" "Elmadras" من "بطرا"3. و"المدراس" معبد خصص بعبادة الإله "ذو الشرى" "Duschara" إله النبط الكبير. وقد دونها أحد قواد الملك في السنة السادسة عشرة أو السابعة عشرة من حكم "حرتت" "Haritat"

_ 1 Josephus, XIV, II, 1-3, Vol., 3, PP.4, Dubnow, II, S., 176, The Cambridge Ancient History, Vol., IX, P.382, Die Araber, I, S., 302. 2 Die Araber, I, S., 303, J. De Morgan, Manuel De Numisme Orient., 2, 1924, 237. 3 Provincia Arabia, I, S., 209.

في مناسبة تقربه إلى الإله "ذو الشرى" بصنم لخيره ولخير ملكه1. وحكم بعد "الحارث الثالث" ابنه الملك "عبادة الثاني"، حكم من سنة "62" حتى سنة "47" قبل الميلاد، أو من سنة "62" حتى سنة "60" على رأي آخر2. ولا نكاد نعرف من أمره شيئًا يذكر. وقد عثر على نقد، من الفضة ضرب بأمره وهو من فئة الـ "دراخما" "Dirakhma"، ضرب في السنة الثانية أو الثالثة من سني حكمه. وقد صور عليه وجه الملك حليقًا، وشعر رأسه قصيرًا3. ويظهر من رواية أوردها المؤرخ "يوسفوس" أن القائد "A. Gabinius"، انتصر على النبط في إحدى المعارك، وأن النبط قد هزموا هزيمة منكرة. ولم يذكر اسم الملك الذي انتصر عليه هذا القائد. وإذا أخذنا برواية من يجعل هذا الانتصار في السنة "55" قبل الميلاد4. فمعنى هذا أن الملك المغلوب هو "عبادة الثاني" على رأي من يرى أنه حكم من سنة "62" حتى سنة "47" قبل الميلاد، أو في أيام "مالك الأول" على رأي من يجعل ابتداء حكم هذا الملك من سنة "60" قبل الميلاد. وحكم الملك "مالك" "Malichus" = "Malchus" المعروف بـ "الأول" بعد "عبادة الثاني"، وهو ابنه، من سنة "47" حتى سنة "30" على رأي. ومن سنة "50" أو حوالي السنة "47 حتى سنة "30" قبل الميلاد على رأي آخر5 وذهب بعض المؤرخين إلى أن "مالكًا" كان قد حكم بعد "الحارث الثالث"، وأن حكمه كان فيما بين السنة "62" والسنة "30" قبل الميلاد6. وقد أنجد النبط في أيام ملكهم "ملكوس" "مالكوس" "Malichus"،

_ 1 Provincia Arabia, I, S., 210, Cis, Ii, 442, Euting 16, Lagrange 56, Lagrange, Revue Biblique, Vii, 1898, P.165, Clermont-Ganneau, Recueil D’archeol. Orient., Ii, P.379. 2 اختلف في تاريخ حكمه ولبعض الباحثين رأي آخر، راجع: Ency., Iii, P.801, Dillmann, Neue Petra-Forschungen, 1912, S., 99. 3 Hill, P.Xii, 3, Pl., Xlix, 2, 3. 4 Josephus, Antiqu., 14, 103, Jud., I, 178, Die Araber, I, S., 306. 5 Hill. P. Xiii, Ency. Relig. Vol., 9, P.121, Ency., Vol., Iii, P. Schrader, Klt., S., 153. 6 Deities, P.541.

أي "مالك الأول"، "يوليوس قيصر" "Julius Caesar" سنة "47" أو "48" قبل الميلاد في حصاره لمدينة الأسكندرية، فأمده بقوة من جيشه1. كما ساعده أيضًا عدد من سادات القبائل توسط في إرسالهم إليه "أنتيباطر" "Anripater"، لعلهم من سادات قبائل طور سيناء2. وكان "انتيباتر" قد تزوج امرأة عربية من أسرة كبيرة معروفة، نجلت له أربعة أولاد وبنتًا، وتمكن بهذا الزواج من تكوين صداقة متينة مع ملك العرب "النبط" كما يقول ذلك "يوسفوس"، ولما وقعت الحرب بينه وبين "أرسطوبولس" "Aristobolus، أرسل أولاده إلى جدهم ملك العرب ليكونوا في مأمن هناك3. وكان لـ"بطرا" أثر مهم في الخصومات الشخصية التي وقعت في مملكة "يهوذا" أيام الملك "هركانوس بن إسكندر"، هذه الخصومات التي أدت إلى تدخل "الفرث" "Parthians" من جهة، وإلى تدخل الرومان من جهة أخرى في شؤون مملكة يهوذا، ولكل دولة مصلحة في هذا الجزء المهم من الشرق الأدنى ومطمع. وللدولتين أنصار وأعوان، وطامعون في الملك يريدون المساعدة والمعونة للحصول على العرش. والطامعون في العرش والراغبون في الفتن والخصومات في "يهوذا" كثيرون. فلما بلغت جيوش الفرث حدود "القدس"، بتحريض من "انطيغونس" ابن أخ "هركانوس"4، أسرع "هيرودوس" "Herodus" ابن القتيل "انتيباتر" الذي كان الحاكم الحقيقي في "يهوذا"، وصاحب النفوذ في المملكة، وصاحب الحظوة عند الرومان، فهرب إلى النبط، إلى ملكهم "مالك" "Malchus" في عاصمة "بطرا"، يلتمس منه العون والمساعدة والمال على سبيل الهبة أو الدين لما كان لوالده القتيل من صداقة به، ليرشو به من ينقذ حياة أخيه. فلما كان في طريقه إلى بطرا وصلت رسل الملك تخبره أن الملك لن يتمكن من مقابلته، وذلك بناءً على طب ورجاء تقدم به الفرث إليه، واتصل عندئذ بسادات قبائل عربية كانت لهم صلات وصداقة بوالده، فلما رأى ذلك آثر

_ 1 Deities, P.541, Die Araber, I, S., 306. 2 Josephus, Antiq., Xiv, Viii, I, Vol., 3, P.22. 3 Josephus, The Jewish War, Book, I, Viii, 8. 4 تأريخ يوسفوس "ص 146" “Antigonus” Josephus, Antiqu., Xiv, Xiii, 3, Dubnow, Ii, S., 250.

الذهاب إلى مصر ومنها إلى إيطالية حيث كان له فيها أصدقاء ليساعدوه في الانتقام من قتلة أبيه1. وإلى هذا الملك، أي ملك النبط "مالك" هرب "يوسف" "Joseph" شقيق "هيرودس" مع مئتي رجل من رجاله، على أثر هجوم "انطيغونس"، وحينما بلغه تغير رأيه بالنسبة إلى "هيرودس" أخيه2. وعاد "هيرودس" من "رومة" ملكًا، لقد تفضل "أغسطس" و"أنطونيوس" ومشايخ الرومان عليه فنصبوه ملكًا على اليهود، على مملكة يعين ملوكها الرومان أو الفرث. عاد بفضل الرومان، فصار بالطبع آلة في أيدي سادة "رومة"، ولما نشبت الحرب بين "انطونيوس" و"أوكتافيوس" سنة "32" قبل الميلاد، انضم إلى حزب "أنطونيوس" صاحب الفضل عليه. أما واجبه الذي كلفه، فقد كان محاربة النبط، الذين رفضوا دفع الجزية للرومان، وأبوا الخضوع لهم، والذين أيدوا الفرث. ولما تمكن القائد "فنتديوس باسوس" "Ventidus Bassus" من ضرب الفرث ومن إنزال هزيمة بهم، أصاب الضرر الملك "مالك" حليف "الفرث" فانتزعت منه بعض أملاكه. لذلك فرح "هيرودس" بهذا التكليف، وشجعته على ذلك "كليوبطرة" ملكة مصر وصاحبة "أنطونيوس"، التي طلبت منه الإسراع في محاربة "ملك العرب" الذي أبى دفع الجزية لها، وكانت تكره "هيرودس" وتريد هلاكه إن أمكن، فأرادت بعملها هذا أن تقضي عليه، أو أن تضعف من مركزه ومن مركز ملك العرب، بمحاربتهما بعضهما بعضًا فتتمكن من الملكين فيخضعان لها وتكون سيدة "العربية"، وبادر "هيرودس" بمحاربة النبط، فالتقى بهم عند "اللد" "Diospolis" وانتصر عليهم، ثم التحم بهم في "قنا" "Cana" "قنوات" "Canatha" في البقاع "Coele Syria" وكاد يتغلب عليهم لولا هجوم "أثنياوس" "Atheniaus" فتغيرت الحال، وهاجمه النبط أيضًا فسقط عدد كبير من جيشه في ساحات القتال وأسروا من فر منهم إلى "Ormiza" فاضطر عندئذ إلى الرجوع إلى "القدس"3.

_ 1 Josephus, Antiq., Xiv, Xiv, 1-3, The Jewish War, I, Xiii, 8, Book,, I, Xiv, 1-2, 2 Josephus, The Jewish War, Book, I, Xv, I. 3 تأريخ يوسفوس ص 167 وما بعدها". Josephus, Antiq., Xv, 110, 119, The Jewish War, I, Xviii, 4, 1-4, Die Araber, I, S., 306, 307.

وفي القدس أخذ "هيرودس" يحرض قومه على الانتقام من العرب، والأخذ بالثأر، ولا سيما بعد هجوم العرب على مملكته ومباغتة مدنه، فنشبت سلسلة من الحروب كلفت اليهود والعرب خسائر كبيرة، إذ طالت الحروب، ولم تنته إلا بعد مشقة. ويدعي المؤرخ "يوسفوس" أن النصر، كان في الخاتمة في جانب اليهود. فقد جمع "هيرودس" كل قواته وأعاد تنظيمها، ثم عبر الأردن، ولما بلغ "عمان" "Philadelphia" التحم بالنبط، فأنزل بهم خسائر كبيرة. إذ سقط منهم خمسة آلاف قتيل، واستسلم منهم أربعة آلاف رجل كانوا قد تحصنوا في معسكر حصين، ولكن أجبرهم العطش في الأخير على الاستسلام. كما قتل سبعة آلاف آخرون كانوا حاولوا الفرار من الحصار، فتعقبهم اليهود وقتلوهم1. واضطر النبط عندئذ إلى دفع الجزية إلى "هيرودس"، وعقدوا صلحًا معه، ولم تخالفه العرب بعد ذلك2. يقول "يوسفوس": إن العرب كانوا يكرهون "هيرودس" وحاولوا الثورة عليه والانتقام منه حتى بعد عقد هذا الصلح، وقد كان في جملة من دفع الجزية إليه العرب الساكنون في "حوران" "Aurantitis"، بحكم تبرع القيصر "أغسطس" بأرضهم له، إلا أنهم كانوا يدفعون الجزية إليه أحيانًا، وكانوا يمتنعون من دفعها أحيانًا، أخرى، ويحاولون التخلص منه. ولم تكن قوة "هيرودس" في الحقيقة هي التي جعلت هؤلاء الأعراب يقبلون بمصالحة اليهود أو دفع الجزية لهم، إنما كانت قوة الرومان التي تسخرها أيد إدارية قوية تحسن التوجيه للبطش في القبائل المتعادية وفي سادات القبائل المتنافسين على الزعامة المتباغضين، وفي العساكر المسخرين الذين أكرهو على القتال، ولم يكن لديهم علم بأسلوب القتال ولا بكيفية استخدام الأسلحة، ولا عزم على الوقوف في وجه الخصم، وليس لهم ضباط وقادة مجربون محنكون، لهم هدف وطني وخبرة بأساليب القتال، ولم يكونوا يرون في الفرار ما لا يتفق مع واجبهم العسكري. ولا ندري متى كانت نهاية الملك "مالك" بعد هذه الخسائر التي حلت بالنبط. والظاهر أنه لم يعمر بعدها طويلًا، أو أنه مات في أثنائها، فإن المؤرخ "يوسفوس"

_ 1 Josephus, Antiq., 15, 153, 157-158, Jewish War, I, 383, Die Araber, I, S., 306. 2 تأريخ يوسفوس "ص 168 وما بعدها". Josephus, Antiq., Xv, V, 1-5, The Jewish War, Book, I, Xix, 1-6.

الذي هو مرجعنا في أخبار هذه الحروب لم يشر إليه ولم يذكره في الغارة الانتقامية التي أغارها النبط على أسطول "كليوبطرة" عند موضع "Actium" التي أدت إلى إحراق السفن المتجمعة هناك1. وقد خلف "عبادة" "Obodas" المعروف بالثاني عند بعض المؤرخين وبالثالث عند بعض آخر الملك "مالك الأول". خلفه على الحكم سنة "30" قبل الميلاد، ودام حكمه حتى سنة "9" قبل الميلاد. ويظن أنه مات مسمومًا سنة "9ق. م." سمه وزيره ومستشاره "صالح" "Syllaeus" الذي قطع رأسه في "رومة" سنة "5" قبل الميلاد2. وفي أيام هذا الملك كانت حملة الرومان التي أرسلها "أغسطس" بقيادة "أوليوس غالوس" لفتح بلاد اليمن. وهي حملة أسهم فيها النبط بتقديم قوات لمساعدة الرومان، كما أسهم فيها "هيرودس" ملك "يهوذا" بخمسمئة رجل يهودي، ضمهم الرومان وسار بهم إلى اليمن، كما تحدثت عنها في كلامي على السبئيين. ويصف "يوسفوس" "عبادة" بالضعف وفتور الهمة والكسل، ووصف وزيره "صالح" "Syllaeus" بالقدرة والكفاية على صغر سنه. وأنه لذلك كان هو المتصرف في الأمر والمدير لشؤون المملكة ورجل الدولة الحقيقي. وكان صديقًا لـ"هيرودس" يزوره وينزل عليه. وكان يتزوج أخته لولا اختلاف الدين، ورفض "Syllaeus" الدخول في الديانة اليهودية ليسمح له بالزواج3. وقد انقلبت المودة التي كانت بين "هيرودس" و"صالح" "Syllaeus" عداوة شديدة، فسعى "صالح" حين ذهب إلى "رومة" لإثارة حفيظة "أغسطس" على "هيرودس" بسبب الحملات العسكرية التي قام بها على أرض "اللجاة" "Trachonites" 4 على العرب الذين آووا أهل "اللجاة" وساعدوهم. فلما

_ 1 Dio., 51, 7, I, Zon., 10, 30, Plutarch, Anti., 69, Die Araber, I, S., 307. 2 Deities, P.541, Ency., Iii, P.801, Ency., Relig., Vol., 9, P.121, Die Araber, I, S., 286. 3 Josephus, Antiq., Xvi, Vii, 6, The Jewish War, Book, I, Xxvii, I, Xxiii, 6. 4 واللجاة اسم للحرة السوداء التي بأرض صلخد من نواحي الشام فيها قرى ومزارع وعمارة واسعة يشملها هذا الاسم، البلدان "3/ 323". Xvi, Ix, 1-4.

ذهب "هيرودس" إلى "رومة" ليرفع شكايته عن ابنه "اسكندر" إلى القيصر، والتماسه من القيصر شمول ابنه الآخر "انتيباتر" بالعطف والحماية، انتهز أهل اللجاة "Trachonites" فرصة غيابه فأعلنوا الثورة وهاجموا الحدود، وعادوا إلى الغزو، وكان "هيرودس" قد منعهم منه، وضرب على أيديهم بشدة. فلما تعقبهم وكلاء "هيرودس" وقتلوا خلقًا منهم، هرب عدد من رؤسائهم إلى النبط واحتموا بهم. ولما عاد "هيرودس" أراد الانتقام منهم، فطلب الإذن من حكام سورية الرومان بتأديبهم والموافقة على إرسال قواته إلى المقاطعة لمقاتلتهم. ورجا من "عبادة" ومن وزيره "صالح" إجلاء رؤساء أهل "اللجاة" عن أرض النبط وعدم حمايتهم. فلما رفضا ذلك، طلب من "صالح" إعادة المال الذي اقترضه منه "عبادة" بوساطته. ولما لم تثمر المفاوضات شيئًا، هجمت قوات "هيرودس" على المناطق التي التجأ إليها الهاربون من أهل "اللجاة"، فاستولت على "Raipta" معقلهم وهدمته. فلما سمع النبط بذلك، بادرت جماعة منهم برئاسة قائد يدعى "Nacebus" لمساعدتهم، فاصطدمت بجنود "هيرودس" وسقط "Nacebus" مع زهاء عشرين رجلًا من أتباعه قتلى في هذه المعركة. ثم أمر "هيرودس" بإسكان الأدوميين في "اللجاة"، وكتب بذلك إلى حاكم "فينيقية" يبين له الأسباب التي حملته على إرسال هذه الحملة على "التراخونيين" أهل اللجاة. ويدعي "يوسفوس" أن "Syllaeus" استغل فرصة وجوده في "رومة" وذهب إلى القيصر شاكيًا من العمل الذي قام به "هيرودس" ووشى به كثيرًا، فغضب عليه "أغسطس"1. غير أن القيصر بدل رأيه في "صالح" حين اطلع على الخبر الصحيح، ولما بلغته أخبار وفاة الملك "عبادة" وانتقال العرش إلى "Aeneas" الذي غير اسمه حينما تولى الملك ودعا نفسه "Aretas" على عادة أكثر ملوك النبط دون أن يكتب ملك النبط إليه ويخبره بالحدث، فغضب على "صالح" وأمر بمعاقبته"2. ويدعي "يوسفوس" أن الملك الجديد كان مبغضًا لـ "صالح"؛ لأنه كان يعتقد أنه كان نفسه يطمع في الملك لما كان له من نفوذ ومال، وأنه كتب إلى "أغسطس" يخبره بأنه سم "عبادة" الملك

_ 1 Josephus, Antiqu., Xvi, Ix, 1-4. 2 Josephus, Antiq., Xvi, Ix, 4, X, 8.

السابق، وأنه قتل عددًا من أشراف المملكة في "بطرا"، من بينهم "Sohemus" السيد النبيل، الذي يحترمه قومه ويجلونه، وأنه قتل "Fabatus" خادم "أغسطس" وفعل أمورًا أخرى منكرة تستوجب العقاب1. أما "Nacebus" الذي قتل في معركة "Raipta"، وهو في موضع في العربية، فكان صديقًا لـ" Syllaeus" ومن أبناء عشيرته. ويخيل إلي أن كلمة "Nacebus" ليست علمًا لقائد الحملة، وإنما هي درجة ومنزلة، وأن معناها "نقيب"، وهي درجة من درجات الجيش، ولكني لا أستبعد كونها اسمًا حرف في اليونانية حتى صار على الشكل المذكور، وأن الأصل هو "نقيب" أو "نسيب" أو "نجيب" أو ما شاكل ذلك من أسماء. وأما "Sohemus"، فهو اسم علم قد يكون "سخيمًا" أو "سحيمًا" أو "سهيمًا"، وكلها أسماء معروفة في الجاهلية. وقد أشار "موسل" إلى رواية ذكرها "أورانيوس" "Uranius" و" اصطيفان البيزنطي" عن تأسيس مدينة "Auara" في أيام الملك "عبادة"، خلاصتها أن "حارثة "Aretas" ابن الملك حلم أن والده سينشئ مدينة، وأن هذه المدينة هي "Auara" من كلمة "حوراء" أي "البيضاء". فلما قص "حارثة" حلمه على والده، أخذ يفتش عن موضع أبيض ينشئ عليه المدينة، وبينما كان يفتش عن هذا الموضع تراءى له شبح رجل أبيض على جمل أبيض استخفى فجأة، فلما دنا من مكان الشبح، وجد بقايا شجرة ذات عروق ممتدة، فأمر أن يكون موضع "حوراء" "Auara"2. ويرى "موسل" أن هذه المدينة هي "الحميمة" 3، وهي أيضًا "Auara" التي ذكرها "بطلميوس" وتقع في "العربية الحجرية" "Arabia Petraea" على الطريق بين "أيلة" و"بطرا"4، وأن الملك المقصود هو "عبادة الأول". وأما الوقت، فكان في حوالي سنة "93" قبل الميلاد. وقد ذكرت أنه حكم على

_ 1 Josephus, Antiq., Xvii, Iv, 2. 2 Musim, Hegaz, P.59, Note 20, Uranius, Arabica, “Muller, Fragmenta”, Vol., 4, P. 523, Stephen Of Byzantium, Ethnica, “Meineke”, Vol., 1, P.144. 3 البلدان "3/ 346". 4 Musil, Hegaz, P.69, Tabula Paulingeriana, Sheet, 8, “Vienna”, 1888.

رأى أكثر الباحثين حوالي سنة "90" قبل الميلاد. وأرى أن "Obadas" الذي ذكر "أورانيوس" و"اصطيفانوس البيزنطي" أنه كان صاحب ولد اسمه "حارثة" "Areta"، هو "عبادة" الثالث، فقد كان صاحب ولد اسمه "حارثة" وهو المعروف عندنا بـ" Aretas" الرابع. أما "عبادة"، فالذي خلفه هو "رب ايل"، لذلك يكون "عبادة" الثالث الذي نتحدث عنه أكثر ملاءمة لرواية المؤرخين من "عبادة الأول". وحكم بعد "عبادة الثالث" الملك "الحارث" "حرتت" "Aretas" المعروف بـ"الرابع" والمقلب بـ "راحم عمه" "Philopatris" وبـ "ملك النبط"1. وقد حكم من حوالي سنة "9" قبل الميلاد حتى حوالي سنة "40" بعد الميلاد. وورد اسمه في عدد من الكتابات، منها النصوص المرقمة بـ "CIS 11, 160" و" CIS II, 197-217" و" CIS II, 354". أما الكتابة الموسومة بـ" CIS 11, 160" فقد أرخت بالعام الخامس من حكمه، أي سنة "4" قبل الميلاد2، وقد ورد فيها اسم الإله "دوشرا" أي "ذو الشرى"3. وأما النص الموسوم بـ "CIS II, 197"، فأرخ بشهر نيسان من السنة التاسعة من حكم "حرتت" "الحارث"، "بيرح نيسن شتت تشع لحرثت ملك نبطو"4، أي في السنة الأولى للميلاد، وورد فيه أسماء الآلهة: "دو شرا" "ذو الشرى"، و"منوتو" "مناة" "Manutu" و"قيشح"5. وقد ذكرت في هذا النص بعد جملة: "لحرثت ملك نبطو ... " جملة "رحم عمه"، أي "محب شعبه"، وهي من النعوت التي ظهرت في الكتابات في هذا العهد. وأرخ بأيام صاحبنا "حرثت" "الحارث" النص المعروف بـ "CIS 11, 198" وهو أيضًا من النصوص التي عثر عليها في "الحجر"6. ويعود عهده إلى شهر

_ 1 Ency. Relig., Vol., 9, P.121. 2 Ency., Iii, P.801, Ency. Relig., Vol., 9, P.121, Schrader, Klt, S., Provincia Arabia, I, S., 152. Die Araber, I, S., 304. 3 Cis Ii, 160, M. A. Levy, In Zdmg., 1869, Xxiii, P.435. 4 Cis Ii, I, Ii, Pp.223, Cis Ii, P.194, 4, 197. 5 Cis Ii, 197, 5, Huber, 29, Euting 2. 6 Cis Ii, I, Ii, P.224. Douthy 2, Euting 3.

"طبت" من السنة التاسعة من حكم هذا الملك، أي إلى السنة الأولى للميلاد1. وقد وردت فيه بعض الأسماء، مثل "كمكم" "كمكام" و" ودلت" و"ودلات" و"حرم" "حرام" و"كلبت" "كلبة" "كليبت" "كليبة" و"وهب اللات" و"عبد عبادة". وأسماء الآلهة: "دوشرا" و"هبلو" و" هبل" و"منوتو" "مناة" و"اللت" "اللات". أما النص "CIS 11, 199"، فقد كتب في شهر "شباط" من السنة الثالثة عشرة من سني حكم "الحارث" "حرثت" وهي السنة الرابعة بعد الميلاد2. وقد أرخت بقية النصوص من "CIS 11, 200" حتى "CIS 11, 217" بسني "الحارث" كذلك، وهي تفيذ مثل غيرها فائدة كبيرة من حيث تتبع تأريخ الأسماء، فوردت فيها أسماء كثيرة مثل "كهلن" "كهلان" و "وعلن" "وعلان" و"سعد الله" و"مرت" "مرة" و"سكينت" "سكينه" و"حميد" و"حوشب" و"خلف" و"قين" و"جلهمة" و"تيم الله" و" عميرت" "عميرة" و"وهب" وأمثالها مما كان شائعًا معروفًا عند العرب قبل الإسلام3. وذكرت في الكتابة "CIS 11, 354" مع اسم "الحارث" أسماء "شقيلت" "شقيلة" ملكة النبط و" مالك" و"عبادت" "عبادة" و"رب ال" "رب ايل". وقد دونت في السنة التاسعة والعشرين من حكم الملك، وهي سنة عشرين بعد الميلاد، وذلك عند صنع صنم يوضع في معبد "بطمون". ويلاحظ أن معظم المقابر الكبيرة التي عثر عليها في "الحجر" هي من السنين الأخيرة من حكم "الحارث"4. وإلى هذا الملك يرجع النص الموسوم بـ"REP. EPIG. 54" ويرجع تأريخه إلى السنة الثالثة والأربعين من حكم "الحارث"، وقد دعي فيه بـ" محب شعبه" "رحم عمه" "رحبم عمه" كما ذكر فيه اسم زوجته "شقيلة"5. وكذلك

_ 1 Cis Ii, I, Ii, P.226. 2 Cis Ii, 199, Huber 30, Euting 4, Cis Ii, I, Ii, P.227. 3 Cis Ii, I, Ii, P.229. 4 Cis Ii, 354, Euting 47, Cooke, North-Semitic Inscriptions, Pp.244, Provincia Arabia, I, S., 283. 5 Rep. Epig., I, Ii, P.44.

النص الموسوم بـ "REP. EPIG. 1103" المكتوب في سنة "40" من حكم "الحارث"، أي سنة "31" للميلاد، وهو من النصوص التي عثر عليها في "مدائن صالح"1. وأرخ بحكم هذا الملك النص "REP. EPIG. 674"، وهو شاهد قبر من مدينة "مأدبا" يرجع تأريخه إلى سنة "37" بعد الميلاد2. و"الحارث" "Aretas" الذي أمد القائد الروماني "واروس" "فاروس" "Varus" بقوة من المشاة والفرسان حين زحف على "يهوذا"، هو "الحارث" الرابع الذي نتحدث عنه، فعل ذلك كما يقول "يوسفوس" انتقامًا من "هيرودس" وتقربًا إلى الرومان. وبعد أن استولى "فاروس" على مدن عدة وهو ذاهب إلى القدس، منها مدينة "عكا" "Ptolemais"3 "Acco"، اتجه نحو "الجليل" "Galile'e" ثم السامرة فالقدس. أما القوات العربية، فقد سارت إلى مدينة "Arus" فأحرقها ثم سارت إلى مدينة "Sampho" وهي مدينة محصنة جدًّا فاستولت عليها وأحرقتها، واستولت على أماكن أخرى. حدث ذلك حوالي سنة "4" قبل الميلاد4. واصطدم النبط باليهود في أيام القيصر "طيباريوس"5 و"هيرودس" ملك "يهوذا" المعروف بـ"هيرود انتيباس" "Herodes Antipas"6، وذلك في سنة "36" بعد الميلاد7، بسبب زواج "هيرودس" من زوج أخيه على زوجه الأولى، وهي ابنة "الحارث" "حرثت". وسبب اختلافهما على حدود منطقة "Gamalites"، فجرت حروب بين الطرفين انتهت بانتصار "الحارث" على خصمه انتصارًا كبيرًا في "جلعاد" "Gilead" وبتشتيت شمل جيوشه، فاستنجد "هيرودس" بسيده وحاميه القيصر "طيباريوس"، فغضب القيصر وكتب إلى

_ 1 Rep. Epig., Ii, Iii, P.377. 2 Rep. Epig., Ii, I, P.101, Cis, Ii, 196. 3 Josephus, Antiq., Vol., 3, P.253, “Bohn’s Standard” Library”, Xvii, X, 9. 4 Dubnow, Ii, S., 302. 5 "طيباريوس بن اغوسطوس"، "الطبري "1/ 741، 744"، "طبعة ليدن". 6 Dubnow, Ii, S., 381, Josephus, 3, P.283. 7 Dubnow, Ii, S., 384, The Bible Dictionary, I, P.107.

عامله على سورية "فيتليوس" "Vitellius" أن يسير فورًا بجيشه لمحاربة "الحارث" والقبض عليه حيًّا وإرساله مكبلًا بالسلاسل إلى "رومة" أو إرسال رأسه إليه إن قتل1. وبينما كان العامل يهم بالزحف على مملكة النبط وتنفيذ أمر القيصر، جاءته الأخبار بوفاة "طيباريوس" سنة "37" بعد الميلاد فتوقف عن الحرب، وقرر الرجوع إلى مكانه. وساء موقف "هيرودس" ثم نحاه الرومان عن عرشه ونفوه إلى "اسبانية"، حيث مات هناك2. ويظهر من رسالة "بولس" الرسول الثانية إلى أهل "كورنتوس" أن "دمشق" كانت في أيدي ملك اسمه "الحارث"، وأنه هم بالقبض عليه، غير أنه هرب ونجا منه. قال: "في دمشق وإلى الحارث الملك كان يحرس مدينة الدمشقيين يريد أن يمسكن، فتدليت من طاقة في زنبيل من السور ونجوت من يديه"3. ونرى "بولس الرسول" أيضًا في رسالته إلى أهل "غلاطية" وفي حديثه عن نفسه وعن كيفية اهتدائه إلى ديانة المسيح، يقول: "ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي، بل انطلقت إلى العربية، ثم رجعت أيضًا إلى دمشق، ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس فمكثت عنده خمسة عشر يومًا"4. فهو يذكر هنا العربية وبعدها دمشق. فهل أراد بالعربية البادية؟ أو أراد بها عربية النبط، وأنه من عربية النبط أو البادية عاد إلى دمشق؟. والرأي الراجح بين علماء العهد الجديد، هو أن "الحارث" الذي قصده "بولس الرسول" هو هذا "الحارث"، أي "الحارث" الرابع، وأما الوقت الذي استولى فيه "الحارث" على دمشق، فقد كان في حوالي سنة "37" بعد الميلاد، وذلك على أثر الحرب التي شنها على "هيرود انتيباس"، وتدخل

_ 1 إنجيل مرقس، الإصحاح السادس، الآية 17 وما بعدها تأريخ يوسيفوس "ص 213"، Josephus, Antiq, Xviii, V, I, 4. 2 Josephus, Antiq., Xviii, V, I, Dubnow, Ii, S., 384. Josephus, Antiq., V, 3. تأريخ يويسفوس ص "214 وما بعدها". 3 رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنتوس، الإصحاح الحادي عشر، الآية 32 وما بعدها. 4 رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية، الإصحاح الأول، الآية 17 وما بعدها، N. Gluck, Deities And Dolphins, P.542, The Story Of The Nabataeans, New York, 1965.

"طيباريوس" في الموضوع1. ويظهر أن تدخل الرومان هذا أثار غضب "الحارث" عليهم، فسار بعد انتصاره على "يهوذا" إلى "دمشق" فاستولى عليها وأعادها بذلك مدة لا نعلم طولها إلى مملكة النبط. ويتخذ هؤلاء من وجود فجوة في النقود الرومانية الدمشقية، تبدأ بسنة "34" بعد الميلاد وتنتهي بسنة "62-63" بعد الميلاد دليلًا على صحة نظريتهم في أن المدينة تحررت في خلال هذه الفجوة من حكم الرومان ودخلت في حكم النبط، ولهذا السبب حدثت هذه الفترة في ضرب النقود الرومانية في الشأم2. وفي أيام هذا الملك دونت الكتابة المعروفة بـ "REP. EPIG. 1108"، وهي من الكتابات المدونة في "الحجر" "Hegra"، أي "مدائن صالح"، دونت في السنة "38" للميلاد. وفي جملة الأسماء المذكورة في هذا النص اسم "عبد عدلون" أي "عبد عدنان"3. وقد عثر على كتابة قبرية مؤرخة بالتقويم السلوقي من سنة "4-5" قبل الميلاد، وهي أيام حكم "الحارث" الرابع، صاحبها رجل اسمه "قصي بن تعجلة"، ولم يشر في الكتابة إلى حكم ملك النبط الذي في أيامه دونت هذه الكتابة. ويرى "ليتمان" أن الذي حمل "قصي" على إغفال الإشارة إلى اسم الملك هو أن القيصر "أغسطس" كان قد فوض أمر "Trachonitis" و"Batanaea" "Artanitis" في عام "23" قبل الميلاد إلى ملك "يهوذا" "هيرودس" "Herodes"، وقد كان صاحب الكتابة من سكان هذه الأرضين، فلم يؤرخ بسني حكم ملك النبط الذي في أيامه أنشأ ذلك القبر4. لقد كان الحارث الرابع من المتأثرين بالثقافة الهيللينية وبالحياة الهيللينية. ويظهر هذا الأثر في المباني العامة التي أقيمت في أيامه5 وفي الكتابات اليونانية من عهده. ولا يستبعد أن يكون قد أتقن اللغة اليونانية وأخذ يتكلم بها مع اللسان الإرمي والنبطي، إذ كانت تلك اللغة هي لغة القوة والثقافة في تلك الأيام.

_ 1 Hastings, P.48, Ency. Bibli., Pp.206. 2 Hastings, P.48. 3 Rep. Epig., Ii, Iii, P.381. 4 Ephemeris, Ii, S., 259. 5 N. Glueck, Rivers, P.195.

وحكم بعد "الحارث الرابع" ابنه الملك "ملكو" "مالك" المعروف بالثاني وذلك من سنة "40" حتى سنة "71" أو "75" بعد الميلاد1. ويظهر أن النص المعروف بـ" CIS 11, 195" لصاحبه "عبد ملكو بن عبيشو"، أي "عبد الملك ابن عبيش" والمؤرخ بالسنة الأولى من حكم "ملكو" "مالك"، قصد بـ "ملكو" "مالك الثاني" هذا2، ويرجع تأريخه إلى سنة "41" بعد الميلاد. أما ناشر النص في "CIS 11"، فقد ذهب إلى أنه "مالك الثالث"، وأنه كتب في حوالي سنة "39" بعد الميلاد، ومعنى هذا أن "مالك الثالث" حكم في سنة "38" بعد الميلاد، وهو وهم. وقد عثر على هذا النص في موضع "أم الرصاص" 3. وفي السنة الأولى من حكم "ملكو" "مالك" دونت الكتابة الموسومة بـ "CIS 11, 218"4. وقد ذكر ناشرها أن "ملكو" المقصود هو "ملكو" الثالث، وأن تأريخها يرجع إلى سنة "39" بعد الميلاد5، وهو وهم. وأما النص "CIS 11, 182"6، فقد أرخ كذلك بأيام "ملكو"، أرخ بشهر "اب" "آب" من السنة السابعة عشرة من حكم "ملكو ملك نبطو برحرثت"7، أي من حكم الملك "مالك النبط بن حارثة". ويصادف هذا التأريخ عام "57" بعد الميلاد. أما ناشر النص، فقد جعله أيضًا "ملكو" مالك"، وجعل تأريخ التدوين في حوالي سنة "50" بعد الميلاد8. وهو يناقض ما ذهب إليه كثير من الباحثين من أن حكم الملك "مالك الثاني" كان من سنة "40" حتى سنة "71" بعد الميلاد. ثم إن ما ذهب إليه ناشر النص من أن تأريخه يوافق سنة "50" بعد الميلاد، هو وهم أيضًا، إذ يجب أن يكون سنة "57" للميلاد؛ لأن ابتداء حكم هذا الملك

_ 1 ENCY., VOL., Lll, P.801, Ency., Relig., Vol., 9, P.121, Hill, P.Xix, Littmann, In Princeton University Archaelogical Expedition To Syria In 1904-1905, Div., Iv, Sect., A, P.21, W. Glueck, Deities, P.542. 2 Cis Ii, 195, Cis, Ii, I, Ii, P.217. 3 Cis, Ii, I, Ii, P.218. 4 Cis, Ii, 218, Euting 21, Doughty, I. 5 Cis, Ii, I, Ii, P.256. 6 Cis, Ii, 182, Vogue, N. 6. 7 Cis, Ii, I, Ii, Pp.206. 8 Cis, Ii, I, Ii, P.207.

كان سنة "40"، ولما كان النص قد أرخ بالسنة السابعة عشرة من حكمه تكون السنة إذن سنة "57" للميلاد. لقد انتزعت "دمشق" من حكم "مالك الثاني"، في زمن لا نعرفه، إلا أن الأرضين في شرقها وفي جنوب شرقيها بقيت جزءًا من مملكة النبط1. وانتقل الحكم إلى "رب ال" "رب ايل" ربئيل" الثاني المعروف بـ "سوتر" "سوطر" "Soter" بعد وفاة "ملكو" "مالك" الثاني. وقد حكم من حوالي سنة "70" حتى سنة "106" بعد الميلاد على رأي، ومن سنة "75" حتى سنة "101" على رأي آخر، أو شيئًا آخر قريبًا من ذلك أو بعيدًا بعدًا قليلًا، بحسب تعدد أنظار الباحثين2، لعدم وجود تقاويم ثابتة لدينا أو كتابات تنص على تواريخ حكم كل ملك من هؤلاء الملوك. وإلى عهد هذا الملك تعود الكتابة المعروفة بـ "CIS 11, 183" المؤرخة في السنة الخامسة والعشرين من سني حكم "رب ال" "رب ايل"، وصاحبها رجل اسمه "قصي بن ادينت"، أي "قصي بن أذينة"3. وتكون سنة تدوين هذه الكتابة إذن في سنة "95" أو "100" بعد الميلاد. أما الكتابة "CIS 11, 161"، فتعود إلى أيامه كذلك، وقد دونت في شهر "أيار" من السنة الرابعة والعشرين من حكم "رب ايل"، وقد دون مع التأريخ النبطي ما يقابله بالتقويم المستعمل عند الرومان آنئذ وهو سنة "405"4. والتقويم الروماني هو تقويم السلوقيين. وتقابل هذه السنة سنة "94" للميلاد ويكون مبدأ حكم "رب ايل" إذن في سنة "381" من التقويم السلوقي، أي سنة "70" بعد الميلاد. ووردت في هذه الكتابة بعض الأسماء، مثل: "هنى" "هانئ" و"جدلت" "جدلة" و"بجرت" "بجرة" "بجيرة" و"ادرم" و"عبد الملك"، وهي من الأسماء المعروفة أيضًا عند عرب الحجاز ونجد5.

_ 1 Deities, P.542. 2 Ency., Iii, P.801, Ency. Religi., Vol., 9, P.121. 3 Cis Ii, I, Ii, Pp.208, Levy, In Zdmg, 1868, I, Xxii, S., 262. Vogue, Syrie Centr., Inscr. Semit., P.112. 4 Cis Ii, I, Ii, P.191, Cis 11, 161. 5 Cis Ii, I, Ii, P.192.

وإلى عهد الملك "رب ايل" الثاني تعود كذلك الكتابة التي دونها "منعت بن جديو" "منعة بن جدي" "ببصر ابشنت23 لرب ايل ملكًا ملك نبطو"، أي بمدينة "بصرى"، وذلك في السنة الثالثة والعشرين لحكم "رب ايل" ملك النبط، وقد دونت هذه الكتابة بمناسبة تقرب صاحبها إلى الإله "دوشرى واعرى" بتقديمه مذبحًا إلى معبده في مدينة "بصرى"1. ويكون تأريخ تدوين هذه الكتابة سنة "93" للميلاد. وكذلك الكتابة القبرية المؤرخة بالسنة الثالثة والعشرين من حكم "رب ايل"، أي في سنة "93" للميلاد2. ولدينا كتابة أخرى سجلت في أيام هذا الملك صاحبها رجل اسمه "عذرو برجشمو"، أي "عاذر بن جشم" "عذره بن جشم" "عذير بن جشم" "عذر بن جشم"، ورد فيها اسم الإله "شيع القوم" دونها في السنة السادسة والعشرين من حكم الملك، أي في حوالي سنة "96" بعد الميلاد3. وترينا الكتابة الموسومة بـ "REP. EPIG. 1434" أن للملك شقيقين هما: "جميلت" أي "جميلة" و" هجرو" أي "هاجر"، وقد نعتتا فيها بـ "ملكتي النبط". ويظهر أن هنالك شقيقة ثالثة اسمها "فصائل"، وربما كانت له شقيقة رابعة سقط اسمها من النص4. وقد ذركت "شقيلت" "شقيلة" أم الملك "رب ايل" الثاني مع ابنها في نقد، وذلك في أثناء عهد وصايتها عليه حين انتقل العرش إليه، وكان على ما يظهر صغيرًا. وكان للملك شقيق ساعدها في تحمل أعباء الحكم اسمه "انيشو" "Oneishu" لعله "أنيس". ولما تزوج "رب ايل" من زوجه "جميلت" "جميلة" "Gamilath" أمر بضرب اسمها مع اسمه على النقود5. وقد ذكر بعض الباحثين أن بعض ملوك النبط ولا سيما المتأخرين منهم، أقاموا في أكثر أوقاتهم في "بصرى" "Bostra"، مما أدى إلى إضعاف شأن

_ 1 Mark Lidzbarski, Ephemeris Semitische Epigraphik, S., 330, “Giessen 1902”, Clermont-Ganneau, Receuil, P.170, Rep. Epig. 83. 2 Rep. Epig. 83, I, Ii, P.67. 3 Ephemeris, Ii, I, S., 252, Rep. Epig. 468. Ephemeris, S., 332, Receuil, P.173, Rep. Epig. 886 4 Rep. Epig., Iii, I, P.141. Hill, P.Xx, 12-13, Pl., Ii, 18-23.

عاصمتهم القديمة "بترا" وإلى إضعاف إدارة أمور النبط1. وآخر ملك نعرفه من ملوك النبط، هو الملك "ملكو" "مالك" الثالث، الذي حكم من سنة "101" حتى سنة "106" بعد الميلاد على بعض الآراء، وفي أيامه قضى "تراجان" في سنة "106" بعد الميلاد على استقلال هذه المملكة وجعلها تحت حكم حاكم "سورية" "كورنليوس بالما" "Cornelius Palma" "98 -117م"، وأطلق عليها اسم "الكورة العربية" "Provincia Arabia"2. وقد نقل مقر الحكم من "بترا" إلى "بصرى"، فتضاءل بذلك شأن العاصمة القديمة فلما كان القرن الثالث للميلاد، صارت "بترا" مجرد موضع قليل الشأن3. لقد قضى الرومان على استقلال النبط في العربية الحجرية، فأضافوا بلادهم إلى جملة الأرضين التي استولوا عليها. وخسر النبط ملكهم ودولتهم، ثم خسروا أرضهم فيما بعد. واضطرهم ضغط القبائل العربية الأخرى عليها إلى الرحيل إلى أماكن أخرى، والهجرة إلى مواطن جديدة طلبًا للرزق. كما هاجر من قبلهم سكان الأرضين التي استولى النبط عليها في أيام عزهم وملكهم واندمج أكثرهم في القبائل الجديدة الفتية التي سادت على أرض النبط، وتسموا باسمهم وانتسبوا إليهم حتى نسوا أصلهم القديم فزال النبط بزوال دولتهم، وبقي اسمهم، وبعض رسومهم التي يعود الفضل في إحيائها إلى المستشرقين. وقد بقي النبط يمارسون التجارة وقيادة القوافل حتى بعد فتح الرومان لبلادهم كما يتبين من بعض الكتابات النبطية المؤرخة التي عثر عليها في "طور سيناء" وفي مصر. ومنها كتابة مؤرخة بسنة "160" من تقويم "بصرى" المقابلة لسنة "266" بعد الميلاد. وقد تبين أن أكثر الكتابات التي عثر عليها في الأماكن المذكورة وفي أماكن أخرى هي كتابات وجدها العلماء والباحثون والسياح على الطرق القديمة الموصلة إلى جزيرة العرب أو البحر الأحمر، وفي وجودها في هذه الأماكن دلالة على أن أصحابها كانوا أصحاب تجارة يتجرون بين مصر وجزيرة العرب

_ 1 Deities, P.543. 2 Die Araber, I, S., 304, Groag Stein, Prosopographia, 2, 346, Nr: 1412, 1936, Schrader, Klt, S., 153. 3 N. Glueck The Story Of The Nabataeans, P.543.

وموانئ ساحل البحر الأحمر ولا سيما ساحل النبط المقابل لبر مصر1. ويظن جماعة من المستشرقين أن عرب "الحويطات" الساكنين في منطقة "حسمى" في الأقسام الشمالية من الحجاز، في المنطقة التي كانت تسكنها "جذام"، هم من بقايا النبط2. وتنسب "الحويطات" إلى جد أعلى لهم اسمه "حويط"، وهو على زعمهم من أهل مصر، جاء بيت الله الحرام حاجًا فمات في "العقبة" ودفن في "حسمى". وهم عشائر يتراوح عددها من عشر عشائر إلى اثنتي عشرة عشيرة تسكن في طور سيناء وفلسطين والحجاز3، وتجاور قبيلتي "بلى" و"جهينة"4. وهم في الجملة ميالون إلى الحرب والغزو، ولذلك كانوا يغزون العشائر المجاورة لهم، ويأخذون الأتاوة من القرى والمدن الواقعة في مناطق نفوذهم في أيام العثمانيين5. وتتألف "الحويطات" من ثلاثة بطون هي: "حويطات التهمة" و"حويطات العلويون" "العلاوين" ويعرفون أيضًا بـ "حويطات ابن جاد" "حويطات ابن جازى"6. وتتألف "حويطات التهمة" "حويطات التهم" التي تقعه منازلها على ساحل البحر الأحمر حتى "الوجه" في الجنوب، من عشائر عديدة هي: "العمران"7 و"العميرات" و"المساعيد" والذبابين والزماهرة والطقيقات والسليمانيين والجرافين والعبيات والمواسة والمشاهير والفرعان والجواهرة والقبيضات والفحامين. وأما "حويطات العلويون"، فتتألف من: "الصوياحين" و"المقابلة"

_ 1 Winkler, Rock Drawing Of South Upper Egypt, “1938”, L.A. Tregena And Dr. John Walker, Bulletin Of The Faculty Of Arts, Fouad University, Vol., Xi, Part Ii, December, 1949, Enno Littmann, Nabataean Inscriptions From Egypt, In Bulletin Of The School Of Oriental And African Studies, University Of London, 1953, Pp.1. 2 Ency., Vol., I, P.368, Iii, P.802. 3 Ency., Ii, P.349, Burkhardt, Notes On The Bedouins And Wahabys, London, 1831, P.29, Doughty, Travels In Arabia Deserta, I, 16, 29, 45, 46, 137, 233, 390, Ii, 24, 323. 4 Ency., Ii, P.349, Musil, Arabia Petraea, Iii, P.48. 5 Euting. Tabuch Einer Reise In Inner-Arabien, Ii, S., 103, Ency., 11, P.349. 6 قلب جزيرة العرب "ص 144". Musil, Hegaz, P.6, Petraea, Bd., Bd. 3, S., 48, 51. 7 "حويطات التهم" قلب جزيرة العرب "ص 72، 131، 425"، "حويطات التهامة"، "عمران". Ency., Ii, P.349.

و"المحاميد" و"الخضيرات" و"السلامين" و"العزاجين و"القدمان و"العواجة" و" السلامات". ومن "حويطات ابن جازى" "المطالقة" و"الدراوشة" و" العمامرة" و"المرايع" و"الدمانية" و" العطون" و"التوايهة"1. لقد عثر على كتابات مدونة بالنبطية وعلى كتابات مدونة بثلاث لغات هي النبطية والإرمية واليونانية، بعضها من بعد ضم مملكة النبط إلى "الكورة العربية"، أي بعد سقوطها في أيدي الرومان، وقد تبين منها أن النبط بقوا أمدًا يكتبون ويدونون بلغتهم، وإن كانوا يستعملون معها اليونانية أو الإرمية أو كلتا اللغتين في بعض الأحيان، كما تبين أن اليهود دونوا بالنبطية أيضًا، أولئك اليهود الذين كانوا على اتصال بالنبط، وكانت لهم صلات تجارية بهم. وقد دونوا بهذه اللغة حتى بعد سقوط دولة النبط. وقد وصلت كتابات أصحابها يهود فيها عقود بيع وشراء مع النبط، كما وصلت كتابات نجد فيها خلاصات من عقود ومكاتبات دونت باليونانية أو بالإرمية، على حين دونت الخلاصات بالنبطية وبالعكس2. ولا نعرف شيئًا يذكر عن أصول تنظيم الدولة وكيفيتها عند النبط. والملك بالطبع هو رئيس الدولة والشخص الوحيد الأعلى للحكومة. وهو الذي يختار من يوكل إليهم إدارة الأعمال وتسيير أمور الرعية. وللملك حاشية القربة عنده، وكل إليها النظر في المسائل العليا للدولة وتقديم الاستشارة إلى الملك، ويقال للواحد منها "اخ ملكا"، أي "أخو الملك"، ويظهر أنها كانت طبقة خاصة من الطبقات الأرستقراطية انحصرت فيها هذه الوظائف انحصار الملكية في الأسر المالكة3. ومما يلاحظ على النبط أن ملوكهم كانوا ينعتون أنفسهم بنعوت لا نجدها في الكتابات العربية الأخرى، فجملة: "ملك رحم عمه"، أي "الملك الرحيم بشعبه"، أو "الملك المحب لشعبه" لا نجد لها مثيلًا في الكتابات الأخرى من كتابات ما قبل الإسلام. لكنهم لم يتركوا الجمل التي تنعتهم أيضًا بـ "ملوك

_ 1 وأسماء أخرى، راجع: قلب جزيرة العرب "ص 144". Ency., Ii, P.349, Musil, Petraea, Iii, 48, 51, 407. 2 Deities, P.8. 3 Rep. Epig. 675, 1100, M. Lidzbarski, In Ephemeris, 3, “1909-1915”, 89, 297, Die Araber, I, S., 287.

النبط"، إذ نجدهم يكتبون بعد اسمهم: "ملك ملك نبطو"، أي "الملك: ملك النبط". ويلاحظ أنه قد كان للمرأة منزلة رفيعة عند النبط، بدليل ما نجده في كتاباتهم وفي نقودهم من ذكر اسم الملكات مع الملوك. فقد كان من عادتهم ورسومهم ذكر الملكات مع الملوك رسميًّا، فقد ورد مثلًا: "شقيلت أخته، ملكت نبطو". أي "شقيلة أخته، ملكة النبط". وورد: "شقيلت أمه، ملكت نبطو"، أي "شقيلة أمه: ملكة النبط"، وهكذا. ونجد النقود النبطية وقد أشارت إلى اسم الملك الذي أمر بضرب ذلك النقد، كما نجد اسم زوجته أو أمه معه. وقد ضربت صورة رأس الملك ورأس الملكة معه في النقود المضروبة باليونانية1. وبالرغم من ظفر العلماء بنقود نبطية ويونانية، لم يتمكنوا حتى الآن من الاتفاق على تثبيت أسماء ملوك النبط تثبيتًا زمنيًّا، ولم يتمكنوا أيضًا من تعيين مدة حكم كل واحد منهم تعيينًا مضبوطًا قاطعًا، فما سنذكره عنهم لا يعني إذن أنه شيء ثابت وأكيد2. وقد تأثر النبط بالثقافة اليونانية تأثرًا كبيرًا. ويظهر هذا الأثر في نقودهم، إذ قلدوا في ضربها النقود اليونانية، بل ضربوها بكتابة يونانية في الغالب. وقد نعت "عبادة الثالث نفسه بـ "الها" في نقد ضربه باسمه، محاكاة للسلوقيين الذين لقبوا أنفسهم بـ "ديوس" "Deos"، أي "الإله". كما يظهر هذا الأثر في إدارة الدولة وفي الحجارة المكتوبة، إذ نجد أصحابها بكتبون بالنبطية وباليونانية، بل نجد هذا الأثر على شواهد القبور وغير ذلك3. ولعلهم كانوا قد أخذوا من مناهل العلم اليوناني، وتعلموا العلوم الشائعة في ذلك العهد من اليونان الذين سكنوا بين النبط، ومن بلاد الشأم حيث كانوا على اتصال دائم بها، وفي بلاد الشأم جاليات قوية من الرومان واليونان. ولهذا ظهر أثر اللاتينية واليونانية في الأنباط4.

_ 1 Deities. P.11. 2 J. Cantineau. Le Nabateen, I. 6, R. Dussaud. Penetration, 51, Die Araber. I. S., 289. 3 Le Nabateen, 2, “1932”, P.5, 6, 152, Die Araber, I, S., 288. 4 N. Glueck. Rivers, P.194.

ويظهر أن النبط كانوا مولعين بالشراب والخمور، ونجد لصور الكروم مكانة بارزة في فن النحت والنقش عندهم، وقد أظهروا براعة فائقة في حفر صور الكروم وعناقيدها على الألواح، كما يظهر ذلك من آثارهم التي درسها الباحثون في النبطيات1.

_ 1 Deities, P.4.

مدن النبط

مدن النبط: و"بترا" "البتراء" "بطرا" "Petra"، هي عاصمة النبط القديمة، ومعنى "Petra" "بطرا" في العربية "الصخر". أما اسمها القديم فـ "هـ - سلع" "ها – سلع"، "Sela" = "Selah"، ويعني أيضًا "الصخر" لغة الأدوميين. وهي على خمسين ميلًا تقريبًا إلى الجنوب من البحر الميت. ولما افتتحها "أمصيا" "837-809ق. م."، سماها "يقتئيل" أي "الخاضع لله"1. وكانت عاصمة "أدوم"، وكانت من أشهر المدن في العالم القديم، ثم صارت لمؤاب2. وقد ذكرها "ياقوت الحموي" في مادة "سلع"، فقال: "وسلع أيضًا حصن بوادي موسى عليه السلام بقرب بيت المقدس"3. وتقع آثار المدينة وبقاياها اليوم في وادي موسى، ويسمى أيضًا "وادي السيق"4. وقد عرف هذا الوادي بوادي موسى، لما زعم أن موسى ضرب الصخر بعصاه فشقه فجرى الماء من موضع العين إلى النهر، فسميت لذلك بعين موسى. وكان السيق مبلطًا، ولا تزال آثار التبليط باقية في بعض المواضع. وتجاه نهاية السيق هيكل منحوت في الصخر، يسمى: "خزنة فرعون"، وداخل باب الهيكل دار، وعلى بعد "600" قدم تقريبًا من هذا الهيكل بقايا آثار مسرح عظيم منحوت في الصخر يستع لزهاء أربعة آلاف إنسان.

_ 1 قاموس الكتاب المقدس، "1/ 528". Die Araber, I, S., 283, Kennedy, Pp. 78, Hasting, P.835. 2 قاموس الكتاب المقدس، "1/ 528". 3 البلدان "5/ 107" Ency, Bibli., P.4344, Noldeke, In Zdmg., 55, S., 259 4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 529 وما بعدها"، "باب السيق". Provincia, I, S., 195, 215.

ومن آثارها المهمة، الأثر المعروف باسم "خزنة فرعون"1، وقوس النصر وهياكل وقبور عدة، بعضها على الطراز النبطي القديم، وبعضها متأثرة بالفن المصري الآشوري أو اليوناني أو الروماني2. وتشاهد في "بطرا" كتابات كثيرة، منها ما هو مؤرخ يعود بعضها إلى ما قبل الميلاد، أكثرها كتابات نبطية من نوع الكتابات التي توضع على القبور، وبعضها لاتينية وأخرى يونانية. ووجدت كتابة باليونانية دونها أسقف سكن معبدًا من معابد المدينة القديمة التي تعود إلى ما قبل الميلاد في حوالي سنة "447" للميلاد. كما وجدت كتابة لاتينية على قبر بني على النمط "الروماني" صاحبها ضابط روماني اسمه "سكستيوس فلورنتينوس" "Sextius Florentinus" لا يعلم زمانه على وجه الصحة، ويرى بعضهم أنه من أيام "هدريانوس" "Hadrianus" أو "أنطونيوس بيوس" "Antoninus Pius"3. وقد منحت "بطرا" درجة "Colonia" رومانية في أيام حكم الرومان كما يظهر ذلك من بعض النقود الرومانية التي عثر عليها. ويرى بعض الباحثين أن ذلك كان في أيام حكم "Elagabalus" "218-222" للميلاد4. ولكن هنالك من يعارض هذا الرأي من الباحثين في علم النميات5. وقد وصف "سترابو" "بطرا" "بترا" بقوله: كانت "بطرا" عاصمة النبط ومقر حكمهم ودولتهم وهي لا تبعد إلا أربعة أيام عن "أريحا" "Jericho" وخمسة أيام عن غابة النخيل "بوسيديون" "Poseidion". وهي موضع غني بالماء كثير البساتين بالنسبة إلى من يأتي إليها من البوادي القاحلة الجرد. وقد زارها "أثينودور" "Athinodor" صديق "سترابو"، فوصفها له، وذكر له أنه وجد بها أجانب، بينهم جمع من الروم. ويظهر من أخبار "سترابو" أن النبط

_ 1 راجع وصف "خزنة فرعون" في الجزء الـ "21" من السنة الثامنة من مجلة المشرق الصادر في 1 تشرين الثاني من سنة "1905" "ص 965 وما بعدها". 2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 529 وما بعدها". 3 Kennedy, P.76. 4 Provincia, Iii, S., 291. 5 Berytus, Vol., Ix, Fasc., I, 1918, P.40, “Petra, Colonia”, By Stella Ben-Dor, De Saulcy, Numisme De La Terre Sainte, 1874, Pp.292, 353.

كانوا قد بنوا بيوتًا لهم في هذه المدينة كذلك. وقد أيدت التنقيبات التي أجريت عند مدخل المدينة هذا الرأي1.

_ 1 Die Araber, I, S., 285, Strabo, 16, 779, A. Kranner, Petra Et La Nabatene, 1929, P.510.

الحجر

الحجر: أما "الحجر"، فمدينة من مدن النبط القديمة المهمة، تقع على شريان التجارة في العالم القديم، وهي "Egra" = "Hegra" التي أشار إليها "سترابو" في أثناء حديثه عن حملة "أوليوس غالوس" و"Haegra" = "Hegra" التي ذكرها "بلينيوس" على أنها مقر القبيلة المسماة "ليانيته" "Laenitae"1. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها "مدائن صالح"2، وذهب بعض آخر إلى أن "مدائن صالح"، هي "العلا" لا "الحجر"3. وفرق بعض آخر بين موضع مدائن صالح و"العلا"4. وقد ذكر "بطلميوس" المدينة أيضًا، وذكرها المؤرخ "اصطيفانوس البيزنطي" كذلك5. وقد كانت من مواضع النبط المهمة، وقد عثر على خمس كتابات في "مدائن صالح" خرج بعض الباحثين من دراستها إلى أن "الحجر" هي من الأماكن التي أنشأها "المعينيون". وقد كان اسمها القديم "حجرا" "هجرا" أو "حجرو" "هجرو" و"الـ - حجر" في الكتابات6. و"حجرو" و"الـ - حجرو" هي "الحجر" في العربية. وقد ذكر هذا الموضع في المؤلفات العربية. وذكر "ابن حبيب" أن قوم ثمود نزلوا الحجر7. وذكر علماء اللغة أن "الحجر" ديار ثمود ناحية الشام عند وادي القرى،

_ 1 Musil, Hegaz, P.291, 299. 2 Arabien, S., 55, 59. 3 Arabien, 4, 15. 4 Arabien, S., 39, 40. 5 Ptolemaus, Vi, 7, 29, Stephanus Byzantius, I, 260, Arabien, S., 44. 6 Jaussen-Savignac, I, 157, Nr. 9, Arabien, S., 39. 7 المحبر "ص 384".

وهم قوم صالح النبي، وقد جاء ذكر الموضع في القرآن: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} 1، كما جاء ذكره في كتب الحديث2. وقد تضاءل شأنها في الإسلام، حتى صارت قرية صغيرة في القرن العاشر للميلاد، ثم تركها أهلها، وتقع خرائبها اليوم بين "جبل اثلت" و"قصر البنت" وخط سكة حديد الحجاز، حيث تشاهد آثار حصن قديم وبعض بقايا أبراج وآثار سور، كما عثر على بقايا تيجان أعمدة قديمة وعلى مزولة شمسية، وعلى نقود يرجع عهدها إلى "الحارث الرابع". ويظهر من أسس بعض الدور أنها بنيت بالحجارة. أما الجدران، فقد بني أكثرها باللبن. وتقع خرائب "العلا" إلى الجنوب من "الحجر"3. وقد عثر الباحثون على قبور من بقايا قبور الحجر القديمة، نقشت مداخلها وجدرانها بنقوش تدل على حذق ومهارة، ولا سيما المقبرة التي هي من القرن الأول للميلاد، ومن عهد الملك "الحارث الرابع". وقد تألفت من غرف نحتت في الصخور، ولبعضها دروب وطرق توصل بعضها ببعض. وهي قبور لأسر، ومن هذه المقابر الموضع المعروف بـ "قصر البنت"، وقد نحت في داخل تل، ويعد من أغنى تلك المقابر من الناحية الفنية، وله مدخل خارجي، ارتفاعه عشرون مترًا. وقد زين بالزخارف والنقوش4. ويعد الموضع المعروف بـ "ديوان" من الآثار القيمة الباقية من "الحجر"، وقد عمل في "جبل اثلب". وهو معبد يذكرنا بمعابد "بطرا". وهو على قاعة ذات زوايا مربعة، عرضها عشرة أمتار، وعمقها اثنا عشر مترًا، وارتفاعها ثمانية أمتار، ولها مدخل عرضه ثمانية أمتار و"35" سنتمترًا، واراتفاعه سبعة أمتار وزهاء خمسة سنتيمترات، على كل جانب منه عمود من حجر، جعلت زواياه مربعة. أما الباب، فقد تلف. ويوصل إلى هذا المدخل مدرج. وهناك معبد آخر صغير يقع على مسافة "150" مترًا إلى الجنوب من "جبل اثلب"5.

_ 1 الحجر، الرقم 15، الآية 80، المفردات "107"، تفسير القرطبي "10/ 45 وما بعدها". 2 اللسان "4/ 170". 3 Arabien, S., 44. 4 Arabien, S., 60, Jaussen-Savignac, Mission, I, 316. 5 Arabien, S., 66, Jaussen-Savignac, Mission, I, 118, 405, Doughty, I, 118, Musil, Arabia Petraea. “1907” 133, 146.

وقد وجدت في "القرية" بالحجاز وهي أطلال، مدينة قديمة على خمسة وأربعين ميلًا إلى الشمال الغربي من "تبوك" في أرض "حسمى" كتابات نبطية ويونانية، كما عثر على معبد قريب منها في البادية دعاه "موسل" "غوافة" و"روافة"، وجدت عليه كتابة نبطية يونانية طويلة ورد فيها اسم "مارقوس أورليوس انطونينوس" "Marcus Aurelius Antmninus" و"لوقيوس أورليوس فيروس" "Lrcius Aurelius Verus"1. ويظهر أن هذه المدينة كان لها شأن في أيام النبط، ولا سيما في أواخر أيام مملكتهم، وأن هذا المعبد كان قد ابتناه قوم ثمود في أوائل منتصف القرن الثاني للميلاد2.

_ 1 Musil, Hegaz, P.185, 258. 2 Musil, Hegaz, P.185, 258, The Geographical Journal, Vol., Cxvii, Part, 4, 1951, Pp.448, “The Ruins Of Quraiya”, By H. St. J. B. Phiby.

الكورة العربية

الكورة العربية: ضمت "العربية النبطية" سنة "105" أو "106" بعد الميلاد إلى الأملاك الرومانية وكون منها ومن أرضين أخرى ضمت إليها مقاطعة جديدة عرفت باسم "الكورة العربية" "Provincia Arabia" "المقاطعة العربية" وجعلت تحت حكم حاكم بلاد الشأم المدعو "كورنليوس بالما" "A.Cornelius Palma"1. ولا يعلم على وجه التحقيق أعين الرومان واليًا على هذه الكورة حال تكوينها أم أنها جعلت تحت إدارة حاكم "سورية" المباشرة ثم عين لها حاكم خاص. والمعروف أن أول والٍ "Legat" عين عليها إنما عين في سنة "111" بعد الميلاد2. ولم تكن حدود "الكورة العربية" "المقاطعة العربية" ثابتة، بل كانت تتغير وتتبدل، وتتقلص وتتوسع تبعًا لمراكز الحكام ومنازلهم. ففي سنة "195" بعد الميلاد مثلًا أضيف إليها بعض الأرضين الجنوبية من مقاطعة "سورية الفينيقية" "Syria Phonice"، ولكن هذه الحدود تغيرت مرارًا قبل هذا التاريخ وبعده. وتساعدنا "السكة الرومانية" التي أنشأها "تراجان" ثم وسعت فيما بعد مساعدة

_ 1 Provincia, Iii, S., 250. 2 Provincia, Iii, S., 250.

كبيرة في تعيين حدود ومساحة هذه المقاطعة. وقد أنشئت هذه السكة لأغراض عسكرية لتيسر للجيوش الرومانية الوصول بسرعة إلى المواضع المهمة من الوجهة العربية، ولتتمكن بواسطتها من السيطرة على الوطنيين وضبط الأمن1. ويمكن الاستدلال من أنصاب الأميال، التي وضعها الحاكم "قلوديوس سويروس" "قلوديوس سفيروس" "Claudius Severus" على هذه الطرق للوقوف بواسطتها على الأبعاد والمسافات والاتجاه، على معرفة طريقين مهمين: أولهما طريق جديد انتهى منه في نسة "111" للميلاد، يمتد من الحدود الشمالية للمقاطعة العربية أي من بلاد الشأم إلى "بصرى" "Bostra". ثم إلى "فيلادلفيا" "عمان" "Philadelphia"، ومنها في اتجاه الحنوب ثم الغرب على طريق "بطرا" حتى البحر الأحمر. وثانيها الطريق الممتد من "فيلادلفيا" مارًّا بـ"جرش" "Gerasa" وربما بـ "أذرح" "Adra" نحو "بصرى" "Bostra". وقد كان هذا الطريق معروفًا قبل سنة "105" للميلاد، غير أنه أصلح وعمر، وربما حول إلى طريق عسكري في سنة "112" للميلاد، أي في أيام "تراجان"2. وقد عرفت أسماء أكثر الحكام الذين تولوا منصب حاكم المقاطعة العربية من رومان وبيزنطيين، وردت أسماؤهم مدونة على أنصاب الأميال وفي الكتابات الأخرى التي عثر عليها في مواضع متعددة من هذه المقاطعة. وأولهم "كورنليوس بالما". وقد تبين أن الألقاب الرسمية التي كان يتلقب بها حكام هذه المقاطعة في القرن الثاني بعد الميلاد كانت من درجة الألقاب الرفيعة التي تمنح عادة لحكام مقاطعة "قيصرية" مثل لقب: "Legatus Augusti Pro Praetore" أو "Augustorum" تضاف إليه جملة: "Consul Designatus" متى يكون الحاكم في درجة "قنصل" "Consul"، وذلك يكون عادة بالنسة إلى حكام المقاطعات من درجة "Legatus Pro Praetore" وقد يقتصر اللقب على كلمة "Consulares" إذا كان صاحبه قنصلًا. غير أن هذه الألقاب الرسمية لم تكن ثابتة، بل كانت تتغير بحسب أهمية الحاكم ومنزلته، والوظيفة التي يشغلها، والزمان الذي حكم فيه3.

_ 1 Provincia, Iii, S., 250, 264. المشرق: السنة الثامنة، العدد 10، 15 إيار 1905، ص 457 وما بعدها. 2 Provincia, Iii, S., 264. 3 Provincia, Iii, S., 281.

وتفيدنا وثائق المجامع الكنسية التي انعقدت في أوقات مختلفة لمعالجة المشكلات التي جابهت الكنيسة، وحضرها ممثلون عن كنائس "الكورة العربية" فائدة كبيرة في تعيين أسماء مدن هذه الكورة وتأريخها، ومن هذه المجالس مجلس "نيقية" "Nicaea" الذي انعقد في سنة "325" بعد الميلاد1، ومجمع "أنطاكية" "Antiochia" المعقود في سنة "341" بعد الميلاد2، ومجمع "Sardica" الملتئم عام "347" للميلاد3، ومجمع "القسطنطينية" المنعقد عام "381" بعد الميلاد، ومجمع "أفسوس" "Ephesus" المجتمع عام "431"، ومجمع "خلقدونية" "Chalcedon" الذي انعقد في عام "451"، للميلاد، ومجمع "القسطنطينية" المنعقد سنة "536" للميلاد، ومجمع "القدس" الملتئم عام "536" بعد الميلاد وغيرها من المجالس والمجامع الدينية4. وقد عثر على نقود ضربت في أيام الرومان والبيزنطيين في عدد من مدن "الكورة العربية"5. مثل "Adra" "أذرعات" و"بصرى" "Charachmoba" و"ديوم" "Dium" و"Eboda" و"Esbu" و"جرش" و"مأدبا" "Medaba" و"Moca" و"بطرا" و"فيلادلفيا" "Philadelphia" و"فيليب بوليس" "Philippolis" و"Rabbathmoba"6. أما "Adra"، فهي "أذرعات" المشهورة عند العرب في الجاهلية والإسلام7. وتعرف في الزمن الحاضر بـ "درعة" و"درعا" كذلك، وهي "أذرعى" "Edrei" في التوراة، بمعنى قوة أو حصن8. وهي من مدن "باشان"

_ 1 Provincia, Iii, S., 253, Gelzer, Geographische Bemerkungen Zu Dem Verzelchnis Der Vater Von Nikaea, In Der Festschrift Fur Heinrich Kaipert. Berlin, 1898, S., 47-61. 2 Provincia, Iii, S., 253, Ency., I, P.359. 3 Provincia, Iii, S., 253. 4 Provincia, Iii, S., 255. 5 Hill, P. Xxii, Journal Of Roman Studies, Vol., Vi, “1961”. 6 Hill, P.Xxii-Xxiv. 7 البلدان "1/ 162 وما بعدها"، البكري "1/ 83"، المقدس "ص 162"، الأب 01 س0 مرمرجي الدومنكي: بلدانية فلسطين العربية، مطبعة "جان دارك"، بيروت، 1948م "ص4". 8 Ency. Bibli., Pp.118, Hastings, P.203.

العظيمة1. وقد اشتهرت "أدرعات" بخمرها عند العرب، وقال عنها علماء اللغة إنها موضع بالشأم تنسب إليه الخمور2. و"أذرعات" موطن "عوج" "Og" ملك "باشان"، وكان جبارًا قامة وبأسًا3، من سلالة الرافئيين، حاول أن يمنع مرور بني إسرائيل بأرضه، فاصطدم بهم بأذرعات، وتغلبوا عليه، فقتل هو وبنوه، وانقسمت مدنه الستون المحصنة بين "الرأوينيين" و" الجاديين" ونصف سبط "منى"4. وتقع "أذرعات" في واد يكون القسم الجنوبي من وادي "حوران" وعلى مسافة ستة أميال إلى الشرق من طريق الحج، وفيها كهوف عديدة وصهاريج كبيرة، وبها خرائب وآثار يقرب محيطها من ميلين يظهر أنها من عهد الرومان5. ومن بقاياها "قناة فرعون"، وهي تأخذ مياهها من بحيرة صغيرة قرب موضع "يابس" في حوران. ومسجد يشبه بناؤه "كاتدرائية" بصرى، وآثار الشوارع والحوانيت التي كانت عليها، وموضع سوق. وعثر في خرائبها على كتابات باليونانية كما عثر فيها على نقود ضربت فيها من سنة "83" قبل الميلاد. وقد ألحقها "بومبيوس" "Pompeius" بمقاطعة سورية الرومانية، وألحقها "تراجان" بالمقاطعة العربية، وذكر "أويسبيوس" "Eusebius" و"جيروم" أنها من أشهر مدن "العربية"، وكان بها أسقف حضر مع من حضر من الأساقفة في المجالس الكنسية التي انعقدت في "سلوقية" "Seleucia" و" القسطنطينية" و"خلقدونية" "Chalcedon" "45 م"6. وفي المتحف البريطاني قطع من النقد المضروب في هذه المدينة، وقد أشير في

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 56"، التثنية، الإصحاح الأول، الآية "4"، Ency. Bibli., Pp.1188, Hill, P.Xxiii. 2 اللسان "8/ 97". 3 التثنية، الإصحاح الثالث، الآية 11، يشوع، الإصحاح الثالث عشر، الآية 12. 4 العدد، الإصحاح 32، الآية 2 وما بعدها، تثنية، الإصحاح الثالث، الآية 3 وما بعدها، و12-17، قاموس الكتاب المقدس "2/ 124". 5 قاموس الكتاب المقدس "1/ 56" و Ency. Bibli., P.1189. 6 Ency. Bibli., P.1189, Wetzstein. Ausgewaste Griechische Und Lateinische Inschriften, Gesammelt Auf Reisen In Den Trachonen Des Haurangebirges, Reiseberichte Uber Hauran Und Trachonen, 47, On Mast., 118, 4, 213, 379, Hastings, P.203.

بعضها إلى "دو شرى" "ذي الشرى" إله النبط. كما صور على بعضها صور القياصرة الذين في أيامهم ضرب ذلك النقد1. و"باشان"، ومعناها "التربة الخفيفة"، مقاطعة من أرض كتعان واقعة شرقي الأردن بين جبلي حرمون و"جلعاد"، وسميت "باشان" من جبل في البلاد2. وسكانها القدماء هم "الرفائيون" "Rephalite"، ولهم مملكة ذكر في التوراة من ملوكهم اسم الملك "عوج" الذي قتله الإسرائيليون، وهو المعروف بـ "عوج بن عوق" عند أهل الأخبار، والمعروف بـ "عوج بن عنق" عند العوام. وقد ذكر الأخباريون أنه رجل "ذكر من عظم خلقه شناعة"، وأنه كان ولد في منزل آدم فعاش إلى زمن موسى، وقد قتله موسى3. وقد أخذوا أخبارهم هذه عنه عن أهل الكتاب، أو من وقوفهم على ما جاء في أسفار "التثنية" و" يشوع" و"العدد" عنه. وكان قد حاول منع الإسرائيليين من المرور بأرضه، فقتلوه، وجاء أنه كان ينام على سرير من حديد طوله تسع أذرع وعرضه أربع أذرع4، وذلك لبيان ضخامة جسمه. ونجد في الأسفار المذكورة أخباره مع بني إسرائيل ومقاومته لهم5. وكانت باشان تشمل حوران والجولان واللجاة، وكلها مؤلفة من صخور وأتربة بركانية، وتربتها مخصبة، وماؤها غزير، ويحدها شمالًا أرض دمشق، وشرقًا بادية الشأم، وجنوبًا أرض "جلعاد"، وغربًا "غور الأردن"، ويخترق جانبها الشرقي جبل الدروز، وهو جبل "باشان" القديم. ويمر بالجولان سلسلة تلال من الشمال إلى الجنوب. أما مقاطعة "اللجاة"، فهي حقل من "اللافا" أي الصخر البركاني، سالت من "تل "شيحان"، وهو فم بركان

_ 1 Hill, P.Xxiii, Dussaud, Notes De Mythologie Syrienne, Pp.167, De Sauley, Terre Sainte, Pp. 373. 2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 206"، المزامير، 68، الآية 15. 3 اللسان "2/ 335"، "10/ 281". 4 التثنية، الإصحاح الثالث، الآية 11 وما بعدها. 5 التثنية، الآية1 وما بعدها، والإصحاح32. الآية1 وما بعدها، ويشوع، الإصحاح 13، الآية 11 وما بعدها، والعدد، الإصحاح 21، الآية 34، و32، والآية 2 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "2/ 124".

قديم بقرب شحبة1. ومن أشهر مدن "باشان" "الجولان" "Golan"، وهي من منطقة "الجولان" "Gaulanitis"، وتعني الكلمة "الدائرة"، وأصلها مدينة "جولان"، وبها سميت المقاطعة. وتقع في "باشان"2. و"عشتاروت" "عشتروت" "بعشترة" "Aschtaroth" = "Ashtoreth" = "Be- Eshterah"، ويظهر أنها "تل عشترة" "تل أشعرى" في الجولان"3. ومدينة "عشتاروت قرنايم" "Asther Karnaim" وهي "قرنيون" "Carnion" أو "قرنين" "Carnain" التي استولى عليها "يهوذا المكابي" "Judas Maccabaeus" سنة "164" قبل الميلاد على ما يظن. وهي من مدن "الرفائيين" في "باشان"4. وقد اختلف الباحثون في مكانها في هذا اليوم، فذهب بعضهم إلى أنها "الصنمان" وذهب بعض آخر إلى أنها "قنوات" وذهب آخرون إلى أنها "تل عشترة"5. ويظهر أن كثيرًا من "الباشانيين" كانوا يعيشون عيشة سكان المغاور والكهوف "Troglodytes"، إذ تبين أن قسمًا منهم سكن الكهوف والمغاور، وسكن بعض منهم في أنفاق وكهوف تحت الأرض يبلغ طولها "150 قدمًا، وتتفرع منها أزقة تحت الأرض بجانبها بيوت تنتفتح كواها في سقوفها، فهي في الواقع مدن تحت الأرض. وفضل نفر آخر السكنى في بيوت منقورة في الصخر. وسكن بعض منهم في بيوت منفردة منية من الحجر6. وأما "بصرى" وتعرف بـ "Bostra"، فقصبة "حوران"، ومن أشهر مدنها7. وقد عرفت في أيام الرومان بـ "Nova Trajana Bostra"8. وقد ألحقت بالمقاطعة العربية في مبدأ تأسيس هذه المقاطعة، أي في أيام "تراجان"،

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 206". 2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 345". Hastings, P.303, Schumacher, Across The Jordan, 92. 3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 102" Hastings, P.57. 4 التكوين، الإصحاح الرابع عشر، الآية 5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 102". 5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 102" Hastings, P.57. 6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 206" Ency. Bibli., P.4976. 7 البلدان "2/ 208"، المشترك "طبعة "وستنفلد" "57"، بلدانية فلسطين 1 ص 23 وما بعدها"، عيون الأخبار "2/ 331". 8 Ency., I, P.765, Hill, P.Xxiv.

وصارت عاصمتها وقصبتها العظمى بعد أيام "ديوقليتيان" "Diocletian" "286-337" بعد الميلاد1، ومركزًا من مراكز النصرانية المهمة. وفي القرن السادس للميلاد كانت أسقفية "Avara"، وهي "الحميمة" على رأي "موسل" تراجع "بصرى"2. ويظهر أنها لم تكن تابعة للغساسنة، وإنما كانت في إدراة البيزنطيين. وقد تضررت مثل "أذرعات" في أثناء غزو الفرس لديار الشأم عام "64" للميلاد ضررًا بالغًا، وفقدت مكانتها المهمة من ذلك الحين3. وقد ورد اسم "بصرى" في السيرة في قصة ""بحيرا" الراهب، كما ورد اسمها في خبر فتوح الشأم. وكان أهلها من "قيس" من "بني مرة". وذكر "أبو الفداء" أنها من ديار "بني فزارة" و"بني مرة"4. وقد اشتهرت بصنع السيوف المعروفة بـ "السيوف البصرية"5. وعثر على نقود ضربت في مدينة "بصرى"، منها ما يعود تأريخها إلى أيام "أنطونيوس بيومس" "Antonius Pius"، ومنها ما يعود إلى أيام "هدريانوس" "Hadrianus"، وهي النقود التي ضرب على أحد أوجهها النصف الأعلى لإنسان يظهر أنه يرمز إلى "العربية "Arabia" حاملًا جسمين يشيران، على رأي بعض الباحثين، إلى كورة "Auranitis" أي "حوران" و"العربية الحجرية" "Arabia Petraea" ومنها ما يعود إلى آخرين، وهم: "ديفا فاوسطينا" الأول "Diva Farstina"، وقد صور النصف الأعلى من الجسم على أحد وجهي النقد، "ومارقوس أورليوس قيصر" "Marcus Aurelius Caesar" و"كومودوس قيصر" "Commodus Caesar" و"كومودوس أغسطس" "Commodus Augustus" و"سبتيميوس سويروس" "Septimius Severus" و" يولية دومنا" "Jullia Domina" و"ايلاغبالوس" "Elagabalus"6. ودعيت "بصرى" في النقود التي ضربت باسم "سويروس اسكندروس"

_ 1 History Of The World, Vol., Vi, P.X, Ency., I, P.765. 2 Musil, Hegaz, P.60. 3 Ency., I, P.765. 4 بلدانية فلسطين "ص 23"، Ency, I, P. 765.. 5 اللسان "4/ 68"، "صادر"، "ب ص د". 6 Hill, P.Xxiv.

"Severus Alexanderus"، بـ"مستعمرة بصرى" "Colonia Bostra"1. ويعني هذا حدوث تغير في النظام الإداري لهذه المدينة في هذا العهد. ويرى بعض الباحثين أنها جعلت في درجة مستعمرة، أي "Colonia" قبل أيام "سويروس"، وبقيت في هذه المرتبة حتى عهد "سبتيميوس سويروس" "Septimius Severus" غير أن "هل" وآخرين يعارضون هذا الرأي ويرفضونه، ويرون أن ذلك كان في أيام "سويروس اسكندروس"، لا قبله، وأنها لم تعرف بـ "Colonia Bostra Nova Traiana Alexandiana" إلا في أيامه2. وأما في نقود "يولية مامية" "Julia Mamaea"، فقد دعيت بـ "Colonia Bostra" كذلك3. وأعيد النظر في مرتبتها في أيام "فيليب سنيور" "فيليب الأقدم" "Philip Senior" على ما يظهر، فجعلت في درجة "متروبوليس" "Metropolis"، فدعيت "Colonia Metropolis Bostra". وحافظت على درجتها هذه في أيام "فيليب الأصغر" "Philip Junior"4. ولم يعثر على نقود ضربت في "بصرى" بعد أيام "تراجان دسيوس" "Trajan Decius" أو "تويبونيانوس غالوس" "طريبونيانوس غالوس" "Trebonianus Gallus"5. وأما "Charachmoba"، فإنها "قير موآب" "Kir Moab" في التوراة والتركوم. و"قير حاراش" "قير حراشات" "قير حارسة" من "موآب" وهي "الكرك"6. وقد عثر على نقد يعود إلى عهد "Elagabalus" يظن أنه من نقود هذه المدينة، وأن الصورة المضروبة في الوجه المقابل لصورة "Elagabalus" ترمز إلى الإله "دو شرى"7.

_ 1 Hill. Pp. Xxiv. Morey. In Rev. Numes., P.81, 1911, Berytus, Vol., Ix, Fasc., I, “1948”, P.43. 2 Hill. P.Xxv-Xxvi. 3 Hill, P.22. 4 Hill., P.24, The Quarterky Of The Department Of Antiquities In Palestine Vol., No. 3, 1931, P.135. 5 Hill, P.Xxvi. 6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 230". Hill, P.Xxx. Xxxi, Ency., Ii, P.855, Musil, Petraea, S., 45-62.

وتختلف وجهات نظر الباحثين في موضع مدينة "ديوم" "Dium" "ديون" "Dion"، فمنهم يرى أنها "الحصن" "قلعة الحصن" على مقربة من "اربد" وأنها "Dia" عند "بلطميوس"1 ومنهم من يرى أنها "كفر أبيل"، وآخرون يرون أنها "تل الأشعري"، وهكذا2. وهي من مدن "Decapolis"، ثم ألحقت بـ "المقاطعة العربية" في عهد "سبتيميوس سويروس" "Septimius Severus" على ما يظن3. وقد عثر فيها على نقد ضرب باسم "Geta"4، وأرخ تأريخ الضرب بتقويم "بومبيوس"، وأشير في أحد وجهي النقد إلى الإله "هدد" الذي صورته بعض النقود المضروبة في بعض المدن السورية. وهو يقابل الإله "زيوس" "Zeus" عند اليونان5. ويراد بـ "Decaplis" الحلف المؤلف من عشر مدن، تحالفت لدفع غزو القبائل لها. ويظهر أنه ظهر إلى الوجود في القرن الأول للميلاد. والمدن المذكورة هي: "Pella" و"Scythopolis" و"Dion" و"Gerasa" و"Philodelphia" و"Gadara" و"Raphana" و"Kanatha" و"Hippos" و"دمشق". وقد انضمت إليه مدن أخرى بين حين وآخر. فلكون أرض هذا الحلف ممتدة من دمشق إلى الجنوب الشرقي لبحر الجليل "Sea Of Galilee"6. ومدينة "Eboda"، هي "عبدة" "العبدة" في "العربية الحجرية" "Arabia Petraea"7. وقد أشار "بطلميوس" إلى أن "Eboda" = "Oboda" و "Gerasa" و"Gypsaria" و"Lysa" هي من مدن "العربية الحجرية"، وجعلها بعضهم من "النقب"8. وتقع خرائب "عبدة" في جنوب "بئر السبع" "Beerscheba" وفي غرب "بطرا" وفي جنوبها سباخ، غير أن من المشكوك

_ 1 عن "اربد"، البلدان، "1/ 170"، بلدانية فلسطين "ص5". Provincia, Iii, S., 265, Hill, P.Xxxi. 2 Hill, P.Xxxi. 3 Hill, P.Xxxi. Provincia, Iii, S., 264. 4 Hill, P.28. 5 Hill, P.Xxxi-Xxxii, 28. 6 Hastings, P.183. 7 Provincia, Iii, S., 268, Hill, P.Xxxii. 8 Provincia, Iii, S., 268, Rev. Bibl., 1904, Pp.403, 1905, Pp.74.

فيه أن تكون هذه السباخ موضع "Ge'ham Maleh"، أي وادي الملح1. وأما صنم "Eboda"، فقد عرف باسم "زيوس "عبودة" "Zeus Oboda"2. وأما "Esbus"، فإنها "حشبون" "Heshbon" في التوراة، وتعرف اليوم بـ "حسبان"، وتقع بين "فيلادلفيا" "عمان" و"مأدبا"، وعلى مسافة "26" كيلومترًا من شرق النهاية الشمالية للبحر الميت في صعيد "موآب"3. وهي من مدن العربية القديمة الشهيرة4. وفي التوراة أنها كانت من مدن "الموآبيين" ثم استولى عليها الملك "سيحون" ملك "الأموريين" وجعلها عاصمة له، ثم تغلب عليها الإسرائيليون، ثم استعادها "الموآبيون"5. والظاهر أنها كانت من مدن النبط، ثم دخلت أخيرًا في أملاك الرومان فالبيزنطيين. ولا تزال آثار المدينة القديمة باقية حتى الآن. وأما النقود التي ضربت فيها، فهي من أيام "Elagabalus" وبعضها من عهد "كركلا" "كاركلا" "Caracalla". ويظهر من بعض النقود أنها كانت تعرف أيضًا بـ "Aurelia"6. و"Gerasa" هي "جرش" في الزمن الحاضر، ونسبها "ياقوت الحموي" إلى رجل زعم أن اسمه هو "جرش بن عبد الله بن عليم بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر ابن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة"7. وتقع عند الحافة الجنوبية الشرقية لسلسلة "عجلون"، ولا يعرف أصلها ومبدأ تأريخها على وجه التحقيق. ولم يرد اسمها في التوراة8. وقد أشير إليها في كتب "الحديث"9.

_ 1 Musil, Hegaz, P.253, 255. 2 Hill, P.Xxxii. 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 374". Hill, P.Xxxii, Reallexikon, Vi, S., 613, Musil, Petraea, I, P.383. 4 Ency., Bibli., P.2044. 5 العدد، الإصحاح 21، الآية 25 وما بعدها، الإصحاح 32، الآية 37، اشعيا، الإصحاح 15، الآية4، والإصحاح 16، الآية8 وما بعدها، وأرميا، الإصحاح 48، الآية 2، 34، 45، والإصحاح 49 الآية 3. 6 Hill, P.Xxxiii, Hastings, P.346. 7 البلدان "3/ 85"، بلدانية فلسطين "52". 8 Ency., I, P.1017, Hastings, P.290. 9 اللسان "6/ 272".

ويظن بعض الباحثين أنها "راموت جلعاد" "Ramoth-Gilead" المذكورة في العهد العتيق1. ويظهر أنها من المدن التي عرفت بعد عهد "إسكندر الكبير"، وقد استولى عليها "إسكندر ينيوس" "إسكندر جنيوس" ملك "يهوذا"، ثم تحررت من اليهود في عهد "بومبيوس"، وألحقت بكورة "سورية الرومانية"، ثم أضافها "تراجان" في عام "106" بعد الميلاد إلى "الكورة العربية"، وضمت بعد ذلك إلى كورة "فلسطين الثانية" "Palestina Secunda" أي الأردن2. وكانت "جرش" مركزًا لعبادة الإله "ارتيمس" "Artemis"، وهو "ديانا" "Diana" عند الرومان، وابنة "زيوس" "Zeus"، و"ليتو" "ليطو" "Leto" عند الإغريق3، كما كانت أسقفية معروفة قبل الإسلام، وتشاهد آثار كنائس ومباني رومانية وبيزنظية ونبطية لا تزال باقية حتى اليوم4. وأما "Medaba" = "Medeba"، فهي "مأدبا" وهي "ميدبا" في التوراة. وهي من أقدم مدن "موآب"، وقد ذكرت في سفر "العدد" مع "حشبون" و"ديبون"5، وكانت في أيدي "العمونيين" في ملك "داود"، وفي أيام "أشعيا" عادت إلى يد "موآب"6. وفيها قتل "يوحنا مكابيوس" يوحنا المكابي"7. وسبق أن ذكرت أن "بني يمرى" "Bne- Imri" = "Bne-Amri" قتلة "يوحنا" كانوا من سكان "ميدبا" مأدبا"، وهم من العرب، وقد جعلها "بطلميوس" في جملة مدن "العربية الحجرية"8. أما "أويسبيوس" "Eusebius" و"جيروم"، فذكراها في جملة مدن "العربية"9. وتقع خرائب تلك المدينة القديمة على مسافة "14" ميلًا شرقي "بحر لوط"، وهي مبنية على رأس تل وحوله، وفيه آثار المدينة القديمة. وإلى الجهة الجنوبية منها

_ 1 Hastings. P.290. 2 Ency., I, 1017, Schurer: Geschichte Des Judischen Volkes, Ii, S., 182. 3 Hastings, P.290, Harvey, P.52. 4 Ency., I, P.1017. 5 عدد، الإصحاح 21، الآية 30. 6 أشعيا، الإصحاح الخامس عشر، الآية 2. 7 قاموس الكتاب المقدس "2/ 397". 8 Ptolemy, V, 17, 6, Viii, 20, 20, Ency. Bibli., P.3003. 9 Eusebius. 138, 32, 279, 13, Ency. Bibli., P.3003.

بركة، وإلى الشرق والشمال برك أخرى. وتوجد آثار هيكل كبير بينها عمودان واقفان1. ومن أنفس من عثر عليه في هذه المدينة القديمة خارطة من "الموزاييك" الفسيفساء "Mosaic" لفلسطين النصرانية ومصر2، كما عثر فيها على نقود من أيام الرومان واليونان3. وقد ازدهرت بعد الميلاد: فصارت مركز "أسقف"، ومثلث في مجمع "خلقيدون" "Chelcedon"4. وأما "فيلادلفيا" "Philadelphia"، فهي "ربة" و"ربة بني عمون" "Rabbath- Bene- Ammon" في التوراة. وهي في "جلعاد" بالقرب من مخرج نهر "يبوق" وعاصمة "بني عمون"5. وذكر "اصطيفانوس البيزنطي" أنها كانت تعرف بـ "Astarty". وقد يكون لهذا القول أصل، فقد ورد في بعض الكتب أن من مدن "سورية" مدينة عرفت بـ "Asteria"، وللتسميتين علاقة بالصنم "عشتروت" "Asteria"6. وعلى أنقاض هذه المدينة القديمة تقع "عمان" عاصمة المملكة الأردينة الهاشمية. وأما سبب تسميتها بـ "فيلادلفيا" فلتجديد بنائها وإعادة تعميرها في عهد "بطلميوس فيلادلفوس" Ptolemy "Philadelphia" "285-247" قبل الميلاد فعرفت به7. وصارت من أشهر مدن "Decapolis"8. وقد انتزعها "أنطيوخس أبيفانوس" "Antiochus Epiphanes" من "بطلميوس فيلوباتر" "بطلميوس فيلوباطر" "Ptolemy Philopater" في سنة "218" قبل الميلاد9، وكان يحكمها في أيام "هركانوس" ملك "يهوذا" "135-107" قبل الميلاد، حاكم اسمه "زينو كوتيلوس" "Zeno Cotyles"10.

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 398". 2 Ency. Bibli., P.3093, Hastings, P.596, Clermont Ganneau, In: Recueil D’archeol. Orient., Xi, P.161, 1897”, A. Jacoby, Das Geogr. Mosaik Von Medaba, 1905, Musil, Petraea, I, Pp.113. 3 Hill, I, Xxxv, 33. 4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 297". Hastings, P.596. 5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 473". 6 N. Glueck: The River Jordan, 1946, P.839, 93, 189, Hill, P.Xxxix. 7 Hastings, P. 780, Ency., Bibli., P.3998. 8 N. Glueck, P.48, 89, 175, 189, Ency. Bibli., P.3998. 9 Polybius. “Polubios”, 5, 17, Ency. Bibli., P.3998. 10 Josephus, Antiq., Xiii, 8, I, 15, 3, Ency. Bibli., P.3998.

وكانت بأيدي النبط في سنة "65" قبل الميلاد1. وتنسب "فيليب بولس" "Philippoplis"، وهي "شهبة" "شحبة" في الزمن الحاضر2، وتقع على مسافة سبعة كيلومترات شمال "القنوات" إلى "فيليب" "فيلفوس"3 المعروف بالعربي "M.Julius Philippus Arabus" "244-249م"4. وقد عرف بالعربي؛ لأنه كان عربي المولد5. وكان قد نشأ وترعرع في "بصرى"، ثم دخل الجيش الروماني وتقدم فيه، وأصبحت له مكانة كبيرة أوصلته إلى أعلى مراتب الدولة، وهي "قيصر"6. ويرى بعض الباحثين أنه أنشأ هذه المدينة في سنة "248" بعد الميلاد أو بين "247" و"248" بعد الميلاد. ويرى "كوبيجك" "Kubitschek" أنه أسسها في عام "244"، أي قبل ذهابه إلى "رومة"7. وجعلها في درجة "مستعمرة" "Kolonia" = "Colonia" رومانية. ولا تزال أنقاض هذه المدينة باقية حيث تشاهد آثار معابدها وشوارعها وبعض أبنيتها ومسرح وغير ذلك مما جاء وصفه في كتاب: "Die Provincia Arabia"8، كما عثر فيها على كتابات ورد فيها اسم "القيصر" "فيليب"9، كما عثر فيها على نقود10. وأما "Rabbathmoba"، وتعرف في اليونانية باسم "Areoplis"، فإنها "ربة" "ربا"، وهي مدينة بنيت في عهود الرومان المتأخرة على رأي بعض الباحثين11. وقد عثر فيها على نقود ضرب عليها اسم "سبتيميوس سويروس" وأسرته. ويظن أن الصورة الرمزية المضروبة على عدد من نقود "ربة" تشير إلى

_ 1 Ency. Bibli., P.3998. 2 "شحبة". Provincia, Iii, S., 145, 147. 3 "فيلفوس" الطبري "1/ 694، 719"، فهرست تأريخ الطبري، عمل "دي غويه" "ص 454". 4 Hill, P.Xxxix, Die Araber, Ii, 4. 5 The Historians’ History Of The World, Vol., Iv, P.412. 6 Leopold Von Ranke: Weltgeschichte, Bd., 5, S., 163, 7 Hill, P. Xiii, Provincia, Iii, S., 305. 8 Hill, P. Xiii, Provincia, Iii, S., 305. 9 Hill, P.Xiii. 10 Provincia, Iii, S., 145. 11 Hill, Xiii, Provincia, I, S., 55, Burckhardt, 337, H.B. Tristram: The Land Of Israel, 110.

إله لعله الإله "Kemosh" أو إلى معبده الخاص به، على نحو ما رأينا في بعض النقود من ذكر "متاب"، وهو معبد "دوشرى" ليرمز إلى الإله1. ويرى بعض الباحثين أن "Kemosh" هو إله الحرب2. ومن مدن الكورة العربية الأخرى: "Sodoma"، ولعلها "الزوراء"3، و"السويداء" "Dionysias"، و"Beretana"، وقد وردت أسماؤها في مجمع "نيقية". وقد ألحقت "السويداء" بالكورة العربية في أيام "سويروس" و"Adrama" و"Constantine" و"Neapolis"، وقد وردت أسماؤها في جملة الأسماء المدونة في أعمال مجمع "القسطنطينة" المنعقد عام "381" للميلاد4. و"Ziza" و"Dia-Fenis" و"Tricomia" و"Areopolis" و"Camotha" و"Nela" و"Zeraben" و"Anetha" و"Eutymia" و"Chrysopolis" و"Erra" و"Neve" و"Maximianopolis" و"Phaena" و"Aena"، وقد وردت أسماؤها في سجلات أعمال مجمع "خلقدون" "خلقيدون" "Chalcedon" "451م"5. وذكر "بطلميوس" أسماء مواضع أخرى يقع بعضها في النقب "Negeb" = "Negev" غرب "العربة"6. وسجلت في "Notitia Dignitatum" أسماء "Motha"، وهي: "أمنان" "Speluncae"، وهي "دير الكهف"، "Mofa" و"Gadda" وهي "خو"، و"Betthoro" و"Dia-Fenis" و"Auatha" و"Gomotha" و"Libona" و"Naarsafari" و"Thainatha" و"Adittha" وهي "الحديد" و"Asabaia" و"Uitha" و"Uade Afar" و"Castra" و"Arnonensia"7، على أنها من مواضع الكورة العربية. وهناك أماكن أخرى ذكرت أسماؤها في كتاب: "Die Provincia Arabia"، قد يخرجنا تعدادها عن

_ 1 Hill., P.Xiii. 2 Hill, Xiii, Baethgen: Beitrage Zur Semit, Religiongeschichte, S., 14. 3 Provincia, Iii, S., 253. 4 Provincia, Iii, S., 252, 353. 5 Provincia, Iii, S., 263, Harduin, Kritische Angabe Der Unterschriften Von Geltzer, Leipzig, 1893. 6 Provincia, Iii, S., 256, Ptolmey, V, 16. 7 Provincia, Iii, S., Notitia Dignitatum. Ori., 37.

أصل الموضوع1. وقد أوكلت مهمة المحافظة على الأمن في "الكورة العربية" إلى الكردوس "اللجيون" "Legion VI Ferrata" الروماني الذي كان معسكرًا منذ أمد في "سورية"، فصدر الأمر إليه في سنة "106" للميلاد على ما يظهر بنقل مقره من شمال سورية إلى هذه الكورة الجديدة التي أنشأها "تراجان"2. ثم نقل مقره في أيام "هدريانوس" "Hedrianus" إلى "اللجون" "Caparvonta" في "الجليل" "Galilee"3. وفي أيام "هدريانوس" أيضًا وفي سنة "135" للميلاد وهي سنة استيلائه على القدس وإخماده الثورة التي قامت في "اليهودية" أمر بإنشاء "Aelia Capitolina". لأغراض عسكرية على ما يظهر4. ويرى بعض الباحثين أن الكورة العربية قد قسمت في القرن الثالث للميلاد وفي "ديوقليطيان" "ديوقلطيانوس" "Diocletianus" = "Diocletian" إلى كورتين: كورة شمالية عاصمتها "بصرى" وعرفت بـ "كورة بصرى" "Provincia Bostron"، وكورة جنوبية وعاصمتها "بطرا" وعرفت باسم "كورة بطرا"، وبعبارة أصح "الكورة الحجرية" "Provincia Petrae"، وتعرف بـ "العربية" أيضًا5. أما في القرن الرابع وفي حوالي سنة "307" للميلاد تقريبًا، فقد اقتطعت منها بعض المدن، مثل "أيلة" "Pheinon" وألحقت بفلسطين، وبذلك تقلصت "Praeses Arabiae" وتوسعت رقعة فلسطين "Praeses Palestinae" كثيرًا. ويظهر أن الضرورات العسكرية هي التي دفعت إلى إحداث هذه التغيرات6. وحدثت تغيرات أخرى في "الكورة العربية" في القرنين الخامس والسادس

_ 1 Provincia, Iii, S., 253. 2 The Quarterly Of The Department Of Antiquities In Palestine, Vol., Ii, Iii, 121, Harvard Excavations At Samaria, 1908-1910, I, 251, I, Ii, Plate 59. 3 The Quarterly, Ii, Iii, P.121, 1933. 4 The Quarterly, Ii, Iii, P.120. 5 Provincia, Iii, 271, Mommsen: Verzeichnis Der Romischen Provizen, S., 501. 6 Provincia, Iii, S., 275.

للميلاد، فانتزعت منها مدن أخرى ألحقت بـ "فلسطين الثالثة" "Palestina Tertia" وتعرف أيضًا بـ "Palestina Salutaris"1.

_ 1 Provincia, Iii, S., 280.

أهل الكهف والرقيم

أهل الكهف والرقيم: ولا بد لي وقد انتهيت من الحديث عن النبط وعن "الكورة العربية" من الكلام عن أهل الكهف والرقيم، الذين ذكروا في القرآن الكريم: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} 1. إذ ذهب بعض علماء التفسير إلى أن الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف، وهو قريب من "أيلة". كان اليهود قد أوحوا إلى المشركين من أهل مكة، أن يسألوا الرسول عنهم، امتحانًا له. وكانوا يتداولون أخبارهم، ويروون قصصًا عنهم، كان شائعًا فاشيًا إذ ذاك بين النصارى أيضًا، فجاء الجواب عنهم في سورة "الكهف"2. وهناك من زعم أن "الرقيم" على فرسخ من "عمان"، أو قرية صغيرة بالقرب من البحر الميت، أو أنها "البتراء": وذلك بالإضافة إلى روايات أخرى رجعت مكان "الكهف" إلى "أفسس" "أفسوس"، بالأناضول، أو إلى أماكن أخرى لا داعي إلى ذكرها في هذا المكان، لعدم وجود علاقة لها بهذا البحث. وقد بحث عنها المتخصصون، كما قامت بعثات آثارية بالبحث عن كهف "أهل الكهف" في الأماكن المذكورة، للتأكد عما جاء عنه في الموارد النصرانية والإسلامية، فإليها أحيل من يريد التبسط في الكلام عنه3.

_ 1 سورة الكهف، الآية 9. 2 تفسير الطبري "15/ 126 وما بعدها". "طبعة بولاق"، تفسير النيسابوري "15/ 116 وما بعدها"، "حاشية على تفسير الطبري، طبعة بولاق"، تفسير القرطبي "10/ 356 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "3/ 73". 3 راجع دائرة المعارف الإسلامية. Encyclopedia Of Islam، ومجلة: Review De Qumran, Vol. 5, No. 18, 1965. وما كتبه "ماسنيون" و"بارنيوس" Baronius، و" تاليمونت" Talimont. عن الكهف. وأشكر دائرة الآثار بعمان في المملكة الأردنية الهاشمية لتفضلها علي بإرسال صورة كتابة "بئر أم الرجوم"، ومقال يقع في "3" صفحات للسيد رفيق وفا الدجاني عنوانه: كهف، أهل الكهف في الرجيب، وذلك بكتابها المرقم بـ2 – 14 -4 1958 والمؤرخ لـ "18-8-1966م".

ولقد تبين الآن أن الكتابات المدونة عند مدخل "الشق" في "البتراء"، لا صلة لها بأهل الكهف، وإنما كتبت تخليدًا لذكرى جماعة من اليونان البارزين جاءوا من "جرش" فوافاهم أجلهم بـ "البتراء"، ماتوا قبل "أصحاب الكهف" بأمد. وقد شرح تلك الكتابات "ستاركي" "Starkey"1. وذهب الباحثون في "دائرة الآثار في المملكة الأردنية الهاشمية" إلى أن كهف "أهل الكهف"، هو "كهف الرجيب"، وهو على مقربة من قرية صغيرة تدعى "الرجيب"، وجدت بداخله مدافن يرجع عهدها إلى زمان القيصر "ثيودوسيوس الثاني" "Theodosius II" "408-450م"، الذي في زمانه كان بعث أهل الكهف. وذهبوا إلى أن اسم هذا الموضع في القديم هو "الرقيم"، تحول إلى "الرجيب" فيما بعد. وأيد هذا الرأي الأستاذ "هج نيلي" "Hugh Nilley" الذي زار الموضع ودرسه، وكتب مقالًا عنه2. وذهب من رأى أن كهف الرجيب هو "كهف أهل الكهف"، إلى أن دخول الفتية الكهف، كان في أيام الطاغية "تراجان" "91-117م" المشهور، فاتح "الكورة العربية" ومؤسسها والآمر بإنشاء الممر الحربي المعروف باسم "طريق تراجان" وباني مدينة "أيلة" الرومانية وصاحب الملعب الروماني والآثار العديدة للمباني التي أقامها بعمان وبمدن أخرى من الأردن. وقد كان شديدًا عاتيًا قاسيًا على النصارى، عدهم خونة مرقة خارجون على الدولة والقانون لذلك أصدر أمره سنة "112م" بقتل كل نصراني لا يخلص للقيصر والدولة، فخاف منه النصارى وتكتموا، وكان من جملة من تكتم وانزوى "أصحاب الكهف"3. ووجدت البعثة الأميركية لمدرسة الأبحاث الشرقية بالتعاون مع دائرة الآثار الأردنية في موضع "أم الرجوم" الواقع على بعد "15" كيلومترًا شمال "عمان"،

_ 1 "ص2" من مقال السيد رفيق وفا الدجاني، المرسل إلى، وهو يشير إلى الجزء العاشر من حوليات دائرة الآثار. 2 من مقال السيد رفيق وفا الدجاني، المرسل لي بكتاب دائرة الآثار الأردنية المشار إليه، وقد أشار إلى مجلة Review De Qumarn, Vol., 5, No: 18, 1965.. 3 المصدر المذكور.

آثار بئر قديمة استدل من كتابة عثر عليها مدونة على جدارها أنها تعود إلى ما قبل الميلاد. وأن الموضع المذكور هو حصن من الحصون التي كانت تدافع عن مدينة "ربة عمون"، عاصمة مملكة "عمون"، التي عاشت بين القرن الثالث عشر والقرن السادس قبل الميلاد. و"ربة عمون"، هي "عمان" العاصمة هذه صورة الكتابة التي دونها الباحثون لكتابة بئر أم الرجوم أهدتها لي دائرة الآثار الأردنية بعمان، فلها شكري. الآن. وقد كتبت الكتابة بخط مشتق من القلم العربي الجنوبي، يظن البعض أنها من كتاباب القرن السابع قبل الميلاد. ويظهر من هذه الكتابة المهمة، أن أصحابها كانوا يكتبون بقلم قريب من

75 القلم المسند، وقريب من القلم اللحياني والثمودي والصفوي، وأن لهجتهم كانت لهجة عربية، أي أن أصحابها من العرب. وقد كتبوها لمناسبة إقامة تلك البئر التي حفرها وهيأها "شمان" ,"سمان" و"ساعدن" "سعد" "ساعد" وهما أصحاب هذه الكتابة والبئر1.

_ 1 كتاب دائرة الآثار الأردنية المؤرخ لـ18 8-1966م والمرقم بـ "2-14-4-1958".

الفصل الخامس والثلاثون: مملكة تدمر

الفصل الخامس والثلاثون: مملكة تدمر مدخل ... الفصل الخامس والثلاثون: مملكة تدمر ويتصل الحديث عن النبط بالحديث عن مكان آخر له علاقة بهم أيضًا، هو "تدمر" المعروف بـ "Palmyra" عند الغربيين الذين ورثوا هذه التسمية عن الرومان واليونان. وهو "تدمر امور" المذكور في كتابة من كتابات "تغلت فلاصر الأول" "Tiglat- Pileser I" = "Tiglath- Piles" "1117-1080 ق. م."1 على رأي بعض الباحثين. وقد ورد اسم المدينة وهو "تدمر" في عدد من الكتابات كما ورد اسم علم للأشخاص. وقد رأى بعض الباحثين أن "Palmyra" من لفظة "Palma" اللاتينية ومعناها "نخل" "نخلة"، وأن الإسكندر ذا القرنين لما تغلب عليها أطلق عليها "Palmyra" أي مدينة النخل، وذلك لما يكتنفها من غابات النخل العظيمة، فعرفت عند اليونان والاتين منذ لك الحين بهذا الاسم2. غير أن هذا رأي يحتاج إلى إثبات، فليس لدينا دليل من عهد الإسكندر يؤيد هذا القول. وليست لدينا حجة دامغة تثبت وجود النخل في هذه المدينة إثباتًا يستوجب تسمية الموضع

_ 1 Ency., Vol., Iii, P.1020, Hommel, In Zdmg., Xiiv, 547, Syria, Revue D’art Oriental Et D’archeologie, Tome, Vii, Paris, 1926. P.77, Dhorme: Palmyre Dans Les Textes Assyriens, Revue Biblique, 1924, Pp.106, Ency. Brita., Vol., 17, P.161, Reallex., I, Iv, S., 280. 2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 282". Ency., Iii, P.1020.

بـ "Palmyra" أي مدينة النخل1. وهناك آراء متباينة في سبب تسمية "تدمر" بهذا الاسم، هي موضع جدل، وليس فيها رأي يمكن الاطمئنان إلى صحته وترجيحه على غيره، لذلك أترك البحث عنه إلى المراجع التي بحثته2. ويظن بعض الباحثين أن "Palmyra" هي ترجمة لكلمة "تمار" "تامار" "تمر" "Tamar" العبرانية ومعناها "نخلة" "Date- Palm"، وهي في الأصل اسم موضع إلى الحنوب الشرقي من يهوذا ورد ذكره في "حزقيال"، لا يعرف موضعه اليوم على وجه التحقيق3. ويرى علماء التوراة أنه الموضع الذي بناه سليمان والمذكور في "الملوك الأول" وأن خطأ وقع قديمًا في تعيين الموضع فجعل "تدمر"، سببه أن كتبة أسفار "أخبار الأيام" أو الكتبة قبلهم أخطأوا في معرفة موضع "تامار" "Tamar" الواقع في الصحراء اليهودية جنوب البحر الميت، فظنوا أنه "تدمر" المدينة الشهيرة المعروفة، وكتبوه "تدمر" في محل "تامار"4. فالأصل إذن هو "تامار". وصارت "تدمر" نتيجة لهذا التغير في جملة المدن التي بناها "سليمان". وقد كتبت "أسفار أخبار الأيام" "Chronicles" في حوالي سنة "300" أو "200" قبل الميلاد، لذلك يكون هذا التبديل والتغير قد ظهر في حوالي هذا الوقت5. ومنه صارت "تامار" "تدمر" ومنه أصبح معنى "تدمر" مدينة النخل، أي "Palmyra" عند اللاتين واليونان وقد ظهرت هذه الترجمة بعد تدوين أخبار الأيام بالطبع. ومنها جاءت أسطورة بناء سليمان لمدينة "تدمر" في هذه المنطقة البعيدة عن حدود مملكة إسرائيل6.

_ 1 Hasting, P.889, Johannes Oberdick: Die Romerfeindlichen Bewegungen Im Orient, Berlin, 1869, S., 44. 2 Ency., Iii, P.1020, Hommel, In Zdmg., Xliv, 547, M. Hartmann, In Zdmg., Xxlii, 128. 3 حزقيال، السفر 47، الآية 19، والسفر 28، قاموس الكتاب المقدس "1/ 300". 4 الملوك الأول، الإصحاح التاسع، الآية 18، قاموس الكتاب المقدس "1/ 282 وما بعدها". Hastings., P.892,Ency.. 892 Ency.. Iii, P.1020, The Universal Jewish Encyclopedia Vol., 8, P.381. 5 Ency. Brita. Vol. 17, P.161, Hastings, P.889. 6 Ency. Bibli, P.4886, Hastings. P.889.

وعلى كل حال، فإن الذي نستنبطه من قصة إضافة "تدمر" إلى المباني التي نسب بناؤها إلى سليمان، هو أن هذه المدينة كانت قد اكتسبت شهرة في أيام تدوين أسفار "أخبار الأيام" وأنها كانت مدينة عامرة شهيرة فيما بين السنة "300" و"200" قبل الميلاد1. ويجوز أن تكون الشهرة التي اكتسبتها مدينة "تدمر" "تذمر" في أيام كتبة أسفار "أخبار الأيام" هي التي حملتهم على إضافتها إلى أعمال "سليمان"؛ لأنها "بمباني سليمان" أليق وأنسب من موضع صغير هو "تامار"، فأضافوا هذه المدينة الشهيرة إليه، لتدل على شهرته وعلى مدى بلوغ ملكه في أيامه. وقد أضيف إلى ملك سليمان على هذا النحو من الإضافات ما لا تصح إضافته إليه، وبولغ في ملكه وحكمه في الأيام القديمة التي تلت أيامه؛ لأنه كان من أشهر ملوك "بني إسارئيل"، حتى صارت أخباره من قبيل الأساطير. وذهب المؤرخ اليهودي "يوسفوس فلافيوس" هذا المذهب أيضًا، فنسب بناء "تدمر" إلى "سليمان"2. أخذ رأيه هذا من هذا الموضع من التوراة بالطبع، ومن الروايات التي وصلت إليه وكانت قد ظهرت قبله، للسبب المذكور. أما الروايات العربية، فهي لا تفيد علمًا ولا تصلح أن تكون دليلًا، فهي روايات متأخرة دخلت إلى المسلمين من أهل الكتاب، أشاعها وروجها أمثال "ابن الكلبي" بين الأخباريين، فأخذوها بغير تحقيق ولا تدقيق. وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن قومًا يزعمون أنها مما بنته جن سليمان، وأن أهل تدمر يزعمون أن ذلك البناء قبل سليمان بزمان3. ولدينا أبيات نسبت إلى "النابغة الذبياني" تتضمن أسطورة بناء جن سليمان لتدمر، امتثالًا لأمره الذي أصدره إليها، فقد نسب إليه قوله:

_ 1 Hastings, P.889, Die Araber, I, S., 344. 2 Hommel, In Zdmg., Xiiv, 547, Ency., Iii, P.1020, P. Dhorme. Palmyre Dans Les Textes Assyriens, In: Revue Biblique, 1924, Pp.106. 3 البلدان "2/ 369"، "ثم عاد إلى الشام، فوافى تدمر، وكانت موطنه". "ملك سليمان"، الأخبار الطوال "20".

إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند وجيش الجن إني قد أمرتهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد1 ولا يصلح شعر النابغة ولا أمثاله من شعراء الجاهلية أن يكون حجة في بناء "سليمان" لتدمر. فمن الجائز أن يكون النابغة أو غيره، قد أخذ فكرته هذه من أهل الكتاب، ومن الجائز أن يكون هذا الشعر من وضع الوضاعين نسبوه إليه. وقد وضعت أشعار في الإسلام ونسبت إلى الجاهليين، وإلى آدم وهابيل وقابيل والجن وإبليس. وبين الأخباريين من ينسب بناء "تدمر" إلى "تدمر بنت حسان بن أذينة بن السميدع بن يزيد بن عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح". وذكروا قصة تفيد عثورهم على قبر "تدمر بنت حسان"2. وقد أعجبوا ببنائها ووصف الشعراء صورتين جميلتين من بقية صور كانت فيها. وقد حاصرها خالد بن الوليد ثم ارتحل عنها فبعث أهلها رسلًا وصالحوه على ما أدوه له ورضي به3. أما قصة العثور على قبر في تدمر ووجود جثة فيه، فأمر ليس ببعيد ولا بغريب. وأما قصة "تدمر بنت حسان" ونسبها والكتابة التي على قبرها، فهي من وضع الأخباريين والقصاص ولا شك4. وقد أشار "بلنيوس" "بلينيوس" إلى مدينة "Palmyra"، وهو أول كاتب "كلاسيكي" عرض لها، فذكر أنها مدينة شهيرة، ولها موقع ممتاز أرضها خصبة، وبها ينابيع وعيون، تحيط بحدائقها الرمال. وقد عزلتها الطبيعة عن العالم ببادية واسعة الأطراف، بعيدة المسافات، وتقع بين إمبراطوريتين عظيمتين إمبراطورية "رومة"، وإمبراطورية "الفرث" "Parthia"، ولهذا

_ 1 "وخيس الجن. إني قد أذنت لهم". اللسان "خ/ ي/ س"، معجم ما استعجم "1/ 194"، "وستنفلد"، البلدان "/ 369"، المشرق، السنة الأولى العدد 11، حزيران، 1898م "ص 496"، مروج الذهب "2/ 244"، "دار الأندلس"، "ذكر الأخبار عن بيوت النيران، وغيرها". 2 البلدان "2/ 369"، معجم ما استعجم "1/ 194". 3 البلدان "2/ 371". 4 Lidzbarski, Ephemeris, I, S., 207.

استرعت أنظار الدولتين1. وورد اسمها في كتب "الكلاسيكيين" الذين عاشوا بعد "بلينيوس" مما يدل على ازدياد شهرة هذه المدينة بعد الميلاد2. ويعود الفضل في حصولنا على معارفنا التأريخية عن تدمر إلى الكتابات التدمرية التي درسها المستشرقون وترجموها إلى لغاتهم وشرحوا ما جاء فيها، وهي بالإرمية واليونانية ثم اللاتينية والعبرانية، نشرت في كتب خاصة وفي كتب الكتابات السامية وفي ثنايا المجلات3. وإلى كتب المؤلفين اليونان والاتين والسريان. من هذه الموارد الرئيسية استقى المؤرخون معارفهم عن تأريخ هذه المدينة، تضاف إليها موارد ثانوية ذكرت "تدمر" عرضًا لوجود مناسبة دعت إلى ذلك مثل سجلات المجامع الكنيسية والتلمود. أما تأريخ المدينة فلا نعرف من أمره شيئًا يذكر يعود إلى ما قبل الميلاد. وأكثر ما كتب عن مدينة "تدمر" يعود إلى ما بعد الميلاد. وكان غالبية أهل "تدمر" برغم كتابة أمورهم بالإرمية وبالقلم الإرمي من العرب على رأي أكثر الباحثين، شأنهم في ذلك شأن نبط "بطرا"4. وهم يرون أن القبائل العربية التي أخذت تستولي على المناطق الخصبة الواقعة في شرقي أرض "كنعان"، بعد سقوط الدولة البابلية، كتبوا بالإرمية؛ لأنها كانت لغة الكتابة

_ 1 Pliny, Nat. Histo., V, Xxi, 88, William Wright, An Account Of Palmyra And Zenibia With Travels And Adventures In Bashan And The Desert, London, Wright: وسيكون رمزه 1896, P.110. 2 Ency. Bibil. P.4886. 3 راجع الموراد الآتية فيما يتعلق بكتابات تدمر: Repertoire D’epigraphie Semitique, Corpus Inscriptionum Latinarum, Corpus Inscriptionum Graecarum: Cantineau. Inventaire Des Inscriptions De Palmyre, Beyrouth 1930: Littmann: Semitic Inscription, Part Iv Of “The Publications Of An American Archeological Expedition To Syria In 1899-1900”: Sabernheim: Palmyrenische Inschriften, In: Mittellungen Der Vorderasiatischen Gesellschaft, 1905: De Vogue: Syrie Centrale – Insciptions Semitiques, 1868: J.B. Chabot: Notes D’epigraphie D’archeolegie Orientales, In: Journal Asiatique, 1897-1901: Cooke: Textbook Of North Semitic Inscriptions: Syria, Tome Xiv, 1933, Pp.158, 169: Cantineau: Inscriptions Palmyrennes, Damas 1930: Fr. Rosenthal: Die Sprache Der Palmyrenischen Inschriffen. 4 Fr. Rosenthal, Das Sprache Der Palmyren Inschriftten.

والثقافة في المنطقة الواسعة الواقعة غربي الفرات1. وتظهر في بعض الكتابات بعض المصطلحات والكلمات العربية الأصيلة، كما نجد فيها أسماء أصنام عربية مع أصنام إرمية2. وبالجملة فإن في "تدمر" ثقافة هي خلاصة جملة ثقافات: عربية وإرمية ويونانية ولاتينية، وأقدم كتابة عثر عليها فيها لا يتجاوز تأريخها سنة "304" من التأريخ السلوقي، أي سنة "9" قبل الميلاد3. كانت تدمر عقدة من العقد الخطيرة في العمود الفقري لعالم التجارة بعد الميلاد تمر بها القوافل تحمل أثمن البضائع في ذلك الوقت. كانت على اتصال بأسواق العراق وما يتصل بالعراق من أسواق في إيران والهند والخليج والعربية الشرقية، كما كانت على اتصال بأسواق البحر المتوسط ولا سيما ديار الشأم ومصر، كما كانت على اتصال بالعربية الغربية وبأسواقها الغنية بأموال إفريقية والعربية الجنوبية والهند. إن هذه التجارة هي التي أحيت تلك المدينة. كما أن تغير طرق المواصلات بسبب تغير الأوضاع السياسية هو الذي شل جسم تلك المدينة فأقعدها عن الحركة بالتدريج. لقد كانت القوافل الذاهبة من العراق إلى بلاد الشأم، أو القادمة من بلاد الشأم إلى العراق، تمر بمدينة "تدمر". وكان الموضع الذي تحط فيه قوافل "تدمر" هو موضع "Vologesies" = "Vologesokerta" على نهر الفرات. ومن هذا المكان تنقل التجارة إلى الجهات المقصودة في العراق، ومنه تحمل تجارة العراق بالبر إلى "تدمر" فدمشق4. ويظهر من كتابة عثر عليها في إحدى المقابر أن القوافل التجارية كانت تمر في حوالي سنة مئة قبل الميلاد بمدينة "تدمر" في أثناء أسفارها بين مدينة "دورا" "Doura" والشأم. وبين الطريق القديم وهذا الطريق، تسكن قبائل عربية من سكان الخيام. أي من النوع المعروف باسم "سكينيته" "Skenita" عند "الكلاسيكيين"5.

_ 1 Ency. Brita, 17, P.161. 2 Syria, Xiv, 1933, Noldeke: Uber Orthographie Und Sprache Des Palmyrener, In Zdmg., Xxiv, 1870, S., 85. 3 Cook: Northsemitic Inscriptions, No. 141, Vogue: Syrie Centrale, No. 30a. Ency., Brita., 17, P.162. 4 Die Araber, Ii, S., 61. 5 The Cambridge Ancient History, Vol., Ix, P.599.

وقد اقتضت هذه الأعمال التجارية الواسعة تكوين علاقات سياسية واقتصادية مع الفرس والرومان والروم والقبائل العربية في البادية التي لم يكن من الممكن مرور قوافلها في أرضها بسلام ما لم يتفق مع سادتها على دفع إتاوة سنوية، أو جعل معلوم. ولضمان سلامة قوافلها، اضطرت كما اضطر غيرها إلى إرسال حراس معها وإلى إنشاء مواضع للحماية والاستراحة في مواضع متعددة من البادية. ونجد في الأخبار أن التدمريين جمعوا فأول أهل المدينة الذين سرحوا من الجيش الروماني أو الذين أجبرهم الاضطراب أو ضعف قادة الجيش الروماني، أو عنجهيتهم على ترك الخدمة في جيش الرومان، وألفوا منهم جيشًا درب تدريبًا حسنًا، وصار قوة مقاتلة متفوقة على قوات الأعراب بما توفر عندها من حسن التدريب والطاعة والنظام، واستطاعوا بهذه القوات من الهيمنة على أبناء البادية الجياع إلى الغزو والسلب ونهب القوافل، ووضعوا لهم حاميات في المراكز الضرورية الحساسة. فقد ورد في الكتابات أنه كان لهذه المدينة حامية "Militia" في "عانة" "عاناتا" "Anath" = "Anatha" في عام "132" و"225" بعد الميلاد، وفي "الحيرة "Hirtha" في سنة "132" بعد الميلاد وفي "دورا" "Doura" في سنة "168" و"170" للميلاد1. وقد عثر على مدافن بمقربة من القدس وجدت فيها كتابات تدمرية دونت عليها أسماء أصحاب تلك القبور، ويظهر أنهم من جنود "تدمر" الذين التحقوا بالجيش الروماني، وخدموا فيه، وقد اشتركوا مع الرومان في محاصرة القدس. ويجوز أن يكون بعضهم من التجار جاؤوا إلى هذه المدينة، فأقاموا بها للاتجار. وقد كون الرومان فرقًا من الجنود التدمريين المرتزقة الذين التحقوا بالجيش الروماني، فاستفادوا منهم في قتال القبائل الغازية بصورة خاصة وفي القتال في البوادي لخبرتهم بها ولقدرتهم على القتال في هذه المواضع وتمكنهم منها، كما استخدموهم في قتال الفرس ومن كان في خدمتهم من الأعراب. واشتهر التدمريون في فن الرماية، فكانوا في أيامهم من خيرة الرماة بالسهام، ولذلك استعان بهم الرومان وألفوا كتائب منهم اشتهرت في الحروب. ولما سقطت "تدمر" احتفظ

_ 1 Byrtus. Vol., Iii, Fasc., I, 1943, P.25, 55, Cih. Ii. 3973. A. Cantineau: Syria.

الرومان بهم في جيوشهم، فاستخدموهم في حروبهم في شمال إفريقية. وقد عثر على كتابات أثبتت أنهم كانوا في جملة القوات الرومانية التي كانت في بريطانية1. واشتهر التدمريون بفرسانهم كذلك، فقد ألف "أذينة" قوة من القوات الراكبة لمحاربة أعدائه، جهزها بأسلحة واقية من دروع ومن صفائح من المعدن يلبسها الفارس من أعلى رأسه إلى أسفل قدمه، فلا يستطيع عدوه أن يناله بأذى، كما درعت الخيل والجمال بصفائح الوقاية، على نحو ما كان يفعله الفرس في قوافلهم الراكبة في أثناء القتال. وقد اكتسبت هذه القوات شهرة واسعة في حروبها مع الفرس والرومان2. وكان أهل تدمر خليطًا من تجار ومزارعين. أما أطرافها وحواليها، فكانوا أعرابًا ورعاةً. وكانت مدينة يونانية ولكنها لم تكن مثل المدن الأخرى المتأثرة بالهيلينية في الشرق، ولم تخضع لنظام المدن اليونانية "Greek Polis"، وكانت خاضعة للرومان وبها حامية رومانية، ولكن خضوعها كان في الواقع صوريًّا، كما أن الحامية لم تكن شيئًا تجاه أهل المدينة والقبائل المحيطة بها. كانت المدينة بالرغم من الطابع الهليني –الروماني الذي يبدو عليها، مدينة شرقية، الحكم فيها في يد الأسر ذات السلطان في البلدة تحكمها في السلم والحرب. لقد خلقت الاضطرابات السياسية التي حدثت في الشرق لضعف الحكومات الكبرى وانحلالها وانقسامها إلى "ملوك طوائف" جماعة من الحكام السادات "Tyrannies" تزعموا القبائل أو المدن، وشاركوا الحكومات في الحكم. ومن هؤلاء الأسرة التي حكمت "تدمر". والأسرة التي حكمت "حمص" "Emesa"= "Hemesa"3. وكانت في تدمر جاليات يونانية ورومانية، أقامت فيها وفضلت السكنى فيها على المواضع الأخرى. أقامت بين أهل المدينة حتى صارت من سكان المدينة، كما كانت فيها جاليات يهودية نزحت إليها في زمن لا نستطيع تعيينه بالضبط، قد يكون قبل سقوط القدس في أيدي الرومان بأمد للاتجار، قامت بأعمال التبشير بين

_ 1 Enc. Brit. 17, P.163, Cooke, Nsi, Pp.250 312, Lidzbarski, Ephemeris. Ii, S., 92. 2 Die Araber, Ii, S., 259. 3 Byrtus, Vol., Iii, I, 1943, P.,54, M. Rostovtzeff: Social And Economic History Of The Hellenistic World, Ch., Vi., Pp., 842, 852.

السكان، فتهود أناس منهم، ورحل قسم من هؤلاء المتهودين إلى القدس، وأقاموا فيها قبل خراب الهيكل بأمد1. تمكنت هذه المدينة الصحراوية من رفع منزلتها من منزل منعزل في البادية تنزل به القوافل إلى مكانة مدينة من الدرجة الأولى، ومركز ديني خطير لعبادة الأصنام يحج إليه أعراب البادية، وسوق للتجارة تكدست فيه أنفس البضائع وأثمنها وتجمعت فيه رؤوس الأموال والذهب والفضة والجواهر ولا سيما بعد سقوط "بطرا" بأيدي الرومان، وذهاب ملكهم، فانتقلت أسواقهم إلى أيدي التدمريين. وتولت قوافل "تدمر" نقل البضائع بين العراق والشأم مختقرة البادية إلى المرافئ العراقية على الفرات. وقد عادت هذه القوافل على المدينة بخير عميم من أجور الوساطة في البيع والشراء ومن الضرائب التي تجبيها عن البضائع التي تمر بها أو تباع فيها، والتي يحددها مجلس سادات المدينة. وتتبين مظاهر هذه الثروة في المباني الجميلة المنقوشة والتي تتحدث آثارها عنها، وفي بقايا الهياكل والأعمدة المرتفعة الجميلة المصنوعة من الحجر الصلد المصفوفة على جانب الشارع الكبير من قوس النصر المقام عند المعبد الكبير إلى نهايته في مسافة لا تقل عن "1240" ياردة2. ولما كانت "تدمر" مدينة حياتها الأساسية بالتجارة، صار للتجار وأرباب القوافل ولزعماء القوافل شأن خطير في الحياة الاجتماعية للمدينة، حتى أشير إليهم في الكتابات، حيث كثر فيها ورود ذكر "زعيم القافلة" و"زعيم السوق"3. ومدينة مهمة لها مال وثروة وليس لها جيش ضخم قوي ولا مجال لتكوين هذا الجيش فيها، لا يمكن أن تبقى في مأمن ومنجاة من مطامع الطامعين. ولو كانت في بقعة منعزلة وفي بادية بعيدة. فقد كان لعاب الدول القوية يسيل عند سماعها بوجود شعوب صغيرة أو حكومات مدن أو مواضع ذات ثراء ومال، فتكتب إليها إما بإعطاء ما عندها إليها، وإما بدفع جزية ترضيها، راضية مرضية، وإما أن تمتنع فتزحف جيوشها عليها عندئذ فيكون كل ما يصل إليه يدها حلالًا طيبًا، ويكون الناس لها عبيدًا وخولًا، لا نستثني "تدمر" من هذا الولع

_ 1 The Universal Jewish Encyclopedia, 8, P.,381. 2 Ency. Brita., 17, P.,162, Syria , Xxiv, 1933, P., 396, “Premieres Restaurations A L’arc Monumental De Palmyre”, By Robert Amy: 3 Cooke: North-Semitic, Pp., 274, 279.

الإنساني بالحصول على الثراء السهل بالطبع. لذلك طمع فيها الطامعون من شرقيين وغربيين. طمع فيها أهل العراق، وطمع فيها الفرس، وطمع فيها اليونان والرومان والبيزنطيون. وكان أول طامع فيها وصل خبره إلينا من الفاتحين الأقوياء هو الملك "تغلت فلاصر" "تغلات بليزر" "Tiglath-Pilezer" الأول، تلاه جملة غزاة ورثوا الحكم والملك والتسلط في أرض الشرق الأدنى. وإذا عرفنا أن "تغلت فلاصر الأول" "1117-1080ق. م."، كان قد استولى عليها، فإن ذلك ينفي ما ورد في أخبار اليهود من بناء سليمان لتلك المدينة على نحو ما ذكرت. فقد جاء حكم "سليمان" بعد حكم هذا الملك الآشوري بنحو قرن، وقد كانت المدينة قائمة قبل ذلك الملك بالطبع. وقد صارت "تدمر" في جملة الأرضين التي أخضعها "الإسكندر" الكبير لحكمه. لحكم تلك الإمبراطورية التي أراد أن يكونها في ذلك العالم، ليوحد فيها الأجناس والأديان، وليقيم مملكة واحدة على هذه الأرض. ومن عهد الإسكندر ظهر اسم "تدمر" الأجنبي، أي "بالميرا" "Palmyra" بين اليونان واللاتين1. ولما انقسمت دولة "الإسكندر" قسمين، صارت "تدمر" من نصيب "السلوقيين" على ما يظهر. ولكننا لا نعلم شيئًا عن عهد استيلائهم عليها، ولا عن مدة بقائهم فيها. وقد حاولت "تدمر" أن تقف موقف الحياد بين "الفرث" والرومان، وتمكنت من ذلك أمدًا، إذ كان من مصلحة الدولتين المتنافستين وجود محل منعزل محايد، كي يتمكن تجار الدولتين من الاتجار فيه ومن التسوق منه2. وقد قام أحد القادة السلوقيين ببناء حصن ليضم إليه الجنود المقدونيين في مدينة "تدمر". فعل ذلك سنة "280" قبل الميلاد. ولعل هذا الحصن، هو واحد من سلسلة حصون أقامها السلوقيون في المواضع المهمة ذات المكانة الخطيرة من الوجهة السياسية والعسكرية والتجارية لحماية مصالحهم فيها3. ولا يعرف تأريخ خضوع تدمر للرومان معرفة أكيدة. وقد ورد في تأريخ "أفيفانوس" أن "مرقس أنطونيوس" القائد الروماني بعد أن حارب الملوك

_ 1 Agnes Carr Vaughan, P.,7, New York, 1967. وسيكون رمزه. Vaughan 2 Vaughan, P., 8. 3 Freya Sterk: Rome On The Euphrates, P.,242, New York, 1967.

"الأرشكيين"، ودارت عليه الدوائر توجه إلى الشأم عائدًا من ثم إلى "رومة" فلما قرب من "تدمر" أوفد إلى أهلها رسلًا يخبرونهم أنه قاصد مدينتهم ليريح فيها جنوده من أتعاب الحرب ومشقة الطريق. وكان يريد في نفسه الاستيلاء على المدينة وأخذ ما فيها من أموال ونفائس ... فأحسن التدمريون بالمكيدة، وبادروا إلى نقل أموالهم وما يملكون من أشياء ثمينة، فتعقبهم الرومان حتى أدركوهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا كانت الغلبة فيه للتدمريين1. أما المدينة نفسها فقد حل بها الخراب وأصبحت ركامًا، وكان ذلك في حوالي سنة "41" قبل الميلاد2. وفي أيام القيصر "طيباريوس" "طبريوس" "Tiberius" "14-17م" كانت "تدمر" في جملة الأرضين التابعة لحكم الرومان3. ونجد بين الكتابات التي عثر عليها في هذه المدينة قوائم "كمركية" تبين بعض الرسوم التي كانت تجبى عن البضائع وأثمانها باليونانية والتدمرية يعود تأريخها إلى سنة "17" بعد الميلاد4. ويظهر من قائمة الضرائب التي وضعت في أيام "جرمانيكوس" "Germanicus" "17-19م" لجبايتها عن البضائع التي ترد دوائر "كمارك" المدينة، وفي أيام "دوميطيوس كوربولو" "Domitius Corbulo" "57-66م" أن مدينة "تدمر" كانت في نفوذ وحكم "رومة" في العصر الأول للميلاد. وقد كانت تابعة للرومان في أيام الانبراطون "فيسبسيان" "Vespasian" "60 -79م". غير أن هذا لا يعني أنها كانت خاضعة للرومان خضوعًا تامًا، وأن الإشراف على شؤون المدينة كان كله بأيدي موظفي "رومة"، بل كان ذلك إشرافًا عامًّا، أما الإدارة فكانت بأيدي أهل المدينة5. وأن الحكم الروماني لم يتدخل في أمورها تدخلًا فعليًّا. حتى إن الرومان سمحوا للمدينة الاحتفاظ بحامياتها "Militia" التي

_ 1 المشرق، السنة الأولى، العدد 13، 1 تموز 1898 "ص 588". Appian: De Bello Civili, V, 9. Wright, P.,110. 2 Oberdick: Syria, Tome, Vii, S., 46, 1926, P.,77, Mommsen: Romische Geschichte, 1894, V.S., 243, Ency. Brita., 17, P.,162, Syria. Xxii, 1941, Pp.,170. 3 Vaughan, P.,8. 4 Cooke, Pp.,313-332, J. A. Chabot, Ii, 301 5 Ency. Brita., 17, P.162, Jean Starcky: Palmyre, Paris, 1952, Pp.,27.

كانت لها في الخارج في مثل موضع "Vologasia" وفي مواضع أخرى1. وقد زارها الانبراطور "هدريانوس" "Hadrianus" "117-138م" "سنة "130" بعد الميلاد، ومنحها لقب "هدريانا بالميرا" "Hadriana Palmyra" و"هدريا نوبوليس" "Hadrianopolis"2. وعثر فيها على كتابة مدونة بالإرمية واليونانية يرتقي تأريخها إلى سنة "137" بعد الميلاد، أي إلى أيام هذا الانبراطور، جاء فيها أشياء تخص الأحوال التجارية في هذه المدينة أصدرها مجلس سادات المدينة لتنظيم التجارة، وتثبيت الضرائب، وكيفية الجباية وما إلى ذلك من أمور. وهي من الكتابات المهمة الطويلة التي ترينا ناحية خطيرة من نواحي حياة تدمر3. وقد بذل "هدريانوس" عناية كبيرة بـ "تدمر"، حتى قيل فيه أنه مؤسس المدينة الثاني، واعتنى عناية خاصة بحماية الطرق البرية التي تصلها بنهر "الفرات" الذي كان شريانًا مهمًّا من شرايين التجارة العالمية في ذلك العهد، فقد كان يقوم بالمهمة التي عهدت إلى "قناة السويس"، فيما بعد. ولأهمية هذا النهر الذي هو الممر المائي الذي يوصل تجارة ذلك المحيط الغالية إلى الموانئ الواقعة عليه، سعى لتحسين صلاته بالفرس وبالمحافظة على الأمن في البادية، لتتمكن القوافل من المرور منها بأمن وسلام. وأوصل حامياته إلى شواطئ الفرات الغربية، بل يقال أنه أنشأ أسطولًا فيه، وأن التجار التدمريين أقاموا في مدينة "Vologasia" وأقاموا لهم معبدًا هناك، ليتعبدوا فيه لإلههم الذي منحهم الخير والرفاه4. وقد منحت "تدمر" درجة مستعمرة رومانية عليا، فاكتسبت بذلك حق الامتلاك التام والإعفاء من الخراج، والحرية الكاملة في إدارة سياسة المدينة. ونالت الحقوق الإيطالية "Colonia Juris Italici" "Italici Juris" "Jus Italicum".

_ 1 Freya Stark: Rome On The Euphrates, P.,244. 2 "هدريانوس"، الطبري "1/ 742"، "طعبة ليدن"، "2/ 25" "طبعة المطبعة الحسينية". 3 المشرق، السنة الأولى، الجزء 12، 15 حزيران، 1898، "ص 538". Ency. Brita., 17, P.,162, Cooke, P.,322, Mommsen: Romische Geschichte, V., S., 423, Wright, P.,Iii. 4 Mommsen: Provinces Of The Rome Empire, Ii, P.236, Rostovtzeff: Caravan Cities, Oxford, 1932, P.,144, Leon Homo: Le Siecle D’or De L’empire Romain, Paris, 1947, P.,224 Fr. Stark: Rome, P.,253.

منحت هذه الدرجة في أيام "هدريانوس" على رأي، أو في أيام "سبتيميوس سويروس" "Septimius Severus" "193-211م" على رأي آخر1. وكانت تتمتع بهذه المنزلة في أيام: كراكلا" "Caracalla" "211 -217م" كذلك2. ولكن منحها درجة "مستعمرة" لا يعني أنها صارت مقاطعة رومانية مئة بالمئة، بل كانت في الواقع حكومة مستقلة ذات سلطة واستقلال في إدارة شؤونها خاضعة خضوعًا شكليًّا لحكم الرومان3. وقد استفادت "تدمر" من سياسة "هدريانوس" المنطوية على الميل إلى السلم ومجانبة الحرب، ومن سياسة "انطونينوس بيوس" "Antoninus Pius" "138-161م" الذي نشر ألوية السلم والطمأنينة، فوسعت تجارتها، وزادت في عدد قوافلها، وحصلت على ثروة طائلة. وتعد المدة المنصرمة بين سنة "130" و"270" بعد الميلاد من أحسن أيام هذه المدينة. فإلى هذه الأيام ترجع معظم النصب والآثار العظيمة التي ما برحت تشاهد بقاياها في جملة ما يشاهد من أشلاء المدينة وجدثها المهشم بين الأتربة والصخور. وقد كانت في تدمر حامية رومانية أيام "ماركوس أوريليوس" "مارقوس أوريليوس" "Marcus Aurelius" "161-180م"، على طريقة من سبقه من الحكام في وضع حامية رومانية في هذه المدينة. ولسلطان "رومة" على تدمر، استفاد الرومان من المحاربين التدمريين وكونوا منهم فرقًا وكراديس لحماية الطرق ومصالحهم الممتدة في البوادي، فأودعوا أمر

_ 1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 12، 1 تموز "ص 589". Wright, P.,112. Syria, Tome, Xiv, 1933, P.,32, The Cambridge Ancient History,Xii, 1, 2, P.,18. 2 المشرق، الجزء المذكور، Syria, Xiv, 1933, P., 32, Rowell: Inscriptions Grecqes De Doura Europos, 1929-1930, Pp.,265. 3 Rostovtzeff: Social And Economic History Of The Roman Empire, P.,235, Syme: Cambridge Ancient History, Xi, P.,139, Dessau: Geschichte Der Romischen Kaiserzeit, Ii, S.,627: Kornemann-Volker: Staaten: Ency. Brit., 17, P.,163: Cooke, Nsi, Pp.,250, 312, Lidzbarski: Ephemeris: Manner, S., 99, Iii, Jonnes: Cities Of The Eastern Roman Empire, P.267, Fevrier: Essai Sur History De Palmyre, P.14.

الدفاع عن "دورا" "Doura" إلى الكردوس التدمري العشرين "Xxth Cohore Palmyrenorum"1. وتركوا مهمة حراسة "الفنادق" "Funduq" التي أقامها الرومان على الطريق إلى كراديس الرماة التدمريين لحماية القوافل من لصوص الطرق والسالبين2. وقد تأثرت "تدمر" بأصول اليونان والرومان وطرقهم في إدارة الحكم، فكان للمدينة مجلس "شيوخ" "Senatus" له سلطة سن القوانين والتشريع، وله رئيس وكاتب وجملة أعضاء، ويشرف على السلطة الإجرائية شيخان "Archontes" وديوان يتألف من عشرة حكام، أما السلطة القضائية فينظر فيها بعض الوكلاء "Syndices" وغيرهم من العمال3. ويحمل موظفوا المدينة عناوين يونانية تشير إلى أثر التنظيم اليوناني فيها، وإلى أنها كانت تنفذ النظم الإدارية اليونانية في أعمال الشعب. فالرئيس هو "Proedros" والكاتب أي "السكرتير" هو "Grammateus"، وهنالك عناوين وظائف أخرى هي: "Archontes" و"Syndicus" و"Dekaprotoi"، وهي المجالس المحلية التي يتألف كل مجلس منها من عشرة أعضاء. جرى هذا التنظيم على وفق نظام المدن اليونانية في حماية "الانبراطورية" الرومانية4. ودعيت السلطة التنفيذية، المؤلفة من أعظاء مجلس الشيوخ، وكذلك الشعب بـ "Strategoi" وهي تعادل "Duumviri" "Dumviri" عند الرومان5. وتجمل التدمريون الذين حصلوا على حقوق "مواطن روماني" بأسماء رومانية مثل "سبتيميوس" "Septimius" و"يوليوس أوريليوس" "Julius Aurelius" وضعوها في مقدمة أسمائهم النبطية أو العربية6. وقد فعل ذلك قبلهم العبرانيون ونبط "بطرا" وسكان بلاد الشأم وغيرهم من الضعفاء الذين يظنون أنهم سيكتسبون بهذه المحاكاة الاحترام والتقدير. والضعيف إنما يتشبه بالأقوياء ليخفي ضعفه.

_ 1 Ancient Cambridge History, Xi, 3, 4, P.116. 2 R. Dussaud: Penetration Des Arabes En Syrie, 73. 3 المشرق، السنة الأولى، الجزء 12، 15، حزيران، 1968م "ص 542". 4 Ency. Brita., 17, P.161. 5 Ency. Brita., 17, P.162. 6 Ency. Brita., 17, P.162.

أسرة أذينة

أسرة "أذينة": كان للانقلاب الذي وقع في مملكة الفرث أثر كبير في حياة مدينة تدمر، وأعني بهذا الانقلاب ثورة "أردشير بن بابك بن ساسان" على الملك "أرطبان" الخامس ملك الفرث، وتأسيسه حكومة جديدة هي دولة "الساسانيين" 226م"1. فكان من نتائج ظهور الدولة الساسانية تجدد الحروب بين الرومان والفرس ووقوع معارك بين الدولتين. وقد أحسنت أسرة عريقة من أسر "تدمر" الاستفادة من هذه الحروب، وجر المغانم إليها، والحصول على مركز عال لدى الرومان. وزعيم هذه الأسرة هو "أذينة" من "بني السميدع"، ينسبه "الطبري" إلى "هوبر العمليقي" "العملقي" من عاملة العماليق، فهي من بقايا "العماليق" على رأي الأخباريين2. و"أذينة" من أسرة قديمة معروفة، تولى رجالها رئاسة تدمر والزعامة عليها، واستطاعت بفضل تأييدها للرومان وتقربها إليهم أن تكتسب ود القياصرة وعطفهم عليها والإنعام على أفرادها بالألقاب والأوسمة وبالمال في بعض الأحيان. وبالقوة والمعونة وهي غاية كل سيد قبيلة وأمنية كل رئيس في مجتمع قبلي يقوم النظام السياسي والاجتماعي فيه على مفهوم الحكم القبلي في كل زمان ومكان. ولم يتعرض الرومان لحكم أفرادها على المدينة إذ كانت أحكامهم لا تعارض أحكام "رومة" ولا تصطدم بها. فتركوهم يديرون شؤونها على وفق السياسة الرومانية وإرادة القياصرة وأوامرهم التي يصدرونها إلى "المشيخة"، فكانوا يعدونهم "Procuratores" لدى قياصرة الرومان3. ووردت في الكتابات التدمرية أسماء نفر من رجال هذه الأسرة، منهم "نصور" "Nasores" "Naswar" "نصر" "ناصور"، وهو جد "أذينة". واسمه يشير إلى اسم عربي الأصل هو "نصور" أو"ناصر" أو "نصر" تحول

_ 1 الطبري "1/ 354، 687، 704-708، 710، 711، 744، 747، 799، 813-825، 831-833 ومواضع أخرى"، "طبعة ليدن"، مروج الذهب "1/ 206" "طبعة دار الرجاء". 2 "أذينة بن السميدع بن هوبر"، مروج الذهب "2/ 16"، "الطبري "2/ 31". 3 Zosim, I, 39, Oberdick, S., 22.

إلى "نصرو" ليلائم النطق النبطي. وهو والد "وهبلات" "وهب اللات" "Vahballatat" "Vaballathus"، و"وهب اللات"، هو والد ولد اسمه "خيران" "حيران" "Airanes". و"حيران" "خيران"، هو والد "أذينة"1. و"نصور" إذن هو أقدم من وصل إلينا اسمه من أسماء الأسرة التي حكمت مدينة "تدمر". وهو شخص لا نعرف عنه شيئًا ما. وقد يكون من سادات القبائل في الأصل من جاء إلى هذا المكان فاستقر فيه، وتولى نسله أو هو الحكم فيه. وقد يكون لهذا الاسم صلة بـ "نصر" الذي ينسب أهل الأخبار ملوك الحيرة إليه، فيقولون أنهم من "آل نصر". وكان "سبتيميوس خيران"، على رأس مجلس المدينة، ولقبه الرسمي الذي عرف به عند أهل مدينته "رأس تدمر" "رش تذمور" إضافة إلى لقبه الذي لقبه به الرومان2. وقد تمكن من تثبيت حكم أسرته ومن الهيمنة على شؤون المدينة ومن توسيع تجارتها، فاكتسب بذلك منزلة كبيرة عند أهل تدمر، وعند الرومان. ورافق "سبتيميوس سويروس" "193-211م" في حروبه مع الفرث وتقرب إليه، ولقب نفسه بـ "سبتيميوس"، فصار اسمه "سبتيميوس خيران" "سبتيميوس حيران"3. وقد عثر على كتابة يرجع الباحثون زمان كتابتها إلى حوالي السنة "235" للميلاد، أو بعد ذلك بشيء قليل، ورد فيها اسم "أذينة بن خيران بن وهب اللات بن نصور". وقد لقب "أذينة" فيها بلقب "سقلطيق" "Skiltyk". وقد كان يحمل لقب عضو في مجلس "الشيوخ" الروماني4. وقد نعت "سبتيميوس أذينة" بـ "سقلطيقا" "Skiltyka" في الكتابة التي دونت لتكون شاخصًا لأحد القبور. وقد حصل على لقب عضو مجلس الشيوخ، ثم لقب نفسه بلقب "ملك" "Rex"، وذلك في حوالي سنة "250" للميلاد5.

_ 1 J. Cantinau: Inventaire Des Inscriptions De Palmyra, 8, 1936, No. 55, Die Araber, Ii, S., 252: Oberdick, S., 152, Syria, Tome Xii, 1931, J. Cantineau: Palmyrenien Provenant Du Temple De Bel, Pp.138. 2 Cooke, Nsi, No. 125, Die Araber Ii, S. 252 3 المشرق، السنة الأولى، الجزء 13، تموز 1898م "ص 590". 4 Die Araber, Ii, S., 252. 5 المشرق: السنة الأولى، الجزء 13، تموز 1898م، "ص 592".

وجمع الناس عليه، فأدرك الرومان ما وراء هذه الدعوة من خطر على مصالحهم، فأوعز القيصر إلى "روفينوس" "Rufikus" باغتياله، فقتل وتخلص الرومان منه1. ومن ولد "أذينة"، "سبتيميوس خيران" "حيران" "Septimius Hairan" تولى رئاسة تدمر بعد مقتل أبيه2. وقد ذكر اسمه في كتابة دونت سنة "251" للميلاد، ولم يصطدم بالرومان. وقد كان مثل أبيه بدرجة "Senator" كما لقب أيضًا بلقب "رش تدمور"، أي "رأس تدمر" "رئيس تدمر"3. ولقب بلقب "Exarkus" "Exarchus"4. ولما مات "سبتيميوس خيران"، خلفه "أذينة" "Odenaus" على شؤون المدينة. ولم يرد نسبه في النصوص، فلا ندري أكان ابنًا أم شقيقًا لـ "سبتيميوس خيران"5. وقد ذهب بعضهم إلى أنه كان أخاه6. وكان شجاعًا فارسًا ألف حياة البداوة جريئًا، محبًّا للصيد ولا سيما صيد الذئاب والفهود والأسود7. تولى قبل انتقال الحكم إليه قيادة الجيش والقوافل ورئاسة قبائل البادية، فكانت له مؤهلات خاصة وكفايات حسنة مكنته من رفع شأن "تدمر" في أعين الرومان، ومن تكوين اسم لها عند رجال الدولتين المتزاحمتين. وقد تبين من كتابه دونت سنة "258" للميلاد ومن كتابتين أخريين أنه كان يحمل درجة قنصل "Vir Consularis" في عهد القيصر "فاليريانوس" "Valerianus"8 كما كان يحمل لقب "مرن"، أي "سيدنا"، وهو اللقب الذي يستعمله أهل "تدمر"، وهو يعادل لقب "Exarkos" "Exarchos" في اليونانية9.

_ 1 Oberdick, S. 22, Wright, P.115. 2 يرى "Oberdick" أن "روفينوس" قتل "سبتيميوس خيران" الابن الأكبر لـ "أذينة" مع والده، لذلك تولى "أذينة" الثاني الحكم بعد مقتل أبيه فورًا Oberdick S. 22. 3 Die Araber Ii, S. 252. 4 Die Araber, Ii, S., 252, Cantineau, 3, No. 16. 5 Die Araber, Ii, S., 252, J. Cantineau, 3, No. 16. 6 المشرق: السنة الأولى، الجزء 13، السنة 1898م "ص 592". Die Araber, Ii, S., 252, J. Cantineau, 3, No. 22. 7 المشرق: السنة الأولى، الجزء 13، السنة 1898م "ص 592". 8 Ie Araber, Ii, S., 253, H. Seyrg, In: Annales Archeol. De La Syrie, 13, 1963, 9, 162, J. Cantineau, 3, No. 17, Ency. Brita., 17, P.162, Cooke, Nsi, No. 126. 9 Die Araber, Ii, S. 253.

وقد ذكر بعض المؤرخين أن "أذينة" الذي نتحدث عنه كان ابنًا لـ "أذينة" ابن "خيران" ووالد "سبتيميوس خيران"، وأنه كان قد هرب إلى الجبال وألف حياة البداوة والربى منذ صغره لينتقم من الرومان الذين اغتال قائدهم "روفينوس" "Rufinus" أباه1. فلما انتقل الحكم إليه، عمل جهده على الأخذ بثأر أبيه، فراجع "فاليريانوس" "والريانوس" شاكيًا إليه ما فعله "روفينوس" بأبيه، طالبًا منه إنزال العقاب به. أما القيصر، فلم يأبه لهذه الشكوى, ولم يحسب لها حسابًا، فغاظ ذلك "أذينة" وأزعجه وحمله على التفكير في الاتصال بأعداء الرومان، وهم الفرس2. فلما بلغه نبأ زحف "فاليريانوس" على الفرس في عام "259" بعد الميلاد وخيانة قائده "مكريانوس" وسقوط القيصر أسيرًا في أيدي الفرس على مقربة من "الرها"، أرسل رسلًا إلى "سابور" حملهم هدايا كثيرة وكتابًا يتودد فيه إليه ويظهر رغبته في مصالحته ومحالفته. فلما بلغ الرسل معسكر الملك، وطلبوا ملاقاته لإبلاغه الرسالة، استكبر عليهم وتجبر، وأظهر عجبه من تجاسر "شيخ" على الكتابة إليه، ومخاطبته مع أنه "ملك الملوك"، وهو رئيس مدينة في بيداء قفرة لا قيمة لها ولا أهمية! ومن يكون أذينة؟ هذا الرجل الذي دفعته حماقته إلى التجاسر على سيده بالكتابة إليه؟ فإن كان له أمل في عقوبة خفيفة، فليأت إلي ويداه مغلولتان على ظهره! وإن لم يفعل، فليعلم بأني سأهلكه وأهلك أسرته وأنزل الدمار بمدينته؟ ثم مزق الرسالة، ورمى بالهدايا تحت قدميه3. فعاد الوفد كاسف البال خائفًا مما قد يقوم به هذا الملك المغرور الطائش من عمل تجاه مدينة خسرت الرومان، ولم تحظ بالاتفاق مع الساسانيين. ولما رجع الرسل إلى تدمر وأعلموه بما جرى، قرر الأخذ بثأره من هذا الملك المتغطرس الطائش، فجمع القبائل بظاهر تدمر وجعلها تحت امرة ابنه "هروديس"، وضم إليها فرسان تدمر بقيادة "زبدا" كبير قواده، وقواسيها

_ 1 Oberdick, S. 22, Wright, P.115. 2 "والريانوس"، "والريبانوس"، الطبري "1/ 743"، "ليدن". 3 أمر سابور برمي الهدايا في النهر، Oberdick, S., 23, Wright, P.118 Gibbon: The Decline And Fall Of The Roempire, Vol., I, P.236.

بقيادة "زباي"، وهما من "آل سبتيميوس" أي من أقرباه أذينة، وحشد معهم بعض الكتائب الرومانية وفلول جند "والريانوس" وسار على رأس هذا الجيش قاصدًا المدائن للانتقام من "سابرو" الذي كان قد انشغل بغزو الأنحاء الشمالية، ولإنقاذ القيصر من الأسر1. وفي أثناء زحف "أذينة" على المدائن، وصلته أنباء تغلب القائد الروماني "كاليستوس" على الفرس، وتشتت شملهم وهربهم، فغير اتجاهه وأسرع إليهم لملاقاتهم، وقد أدركهم قبل تمكنهم من عبور نهر الفرات، فالتحم بهم وتغلب عليهم، وولى "سابور" مع فلول جيشه مذعورًا تاركًا أمواله وحرمه غنيمة في أيدي التدمريين ولم يتمكن الفرس من عبور نهر الفرات إلا بعد تعب. ولما عبروه هنأ بعضهم بعضًا على السلامة والنجاح2. أما أذينة، المنتصر الظافر، فكتب إلى "غاليانوس ابن والريانوس" "كاليانوس بن والريانوس" يخبره بهزيمة الفرس، وبإخلاصه للامبراطورية، ففرح القيصر بالطبع بخبر النصر فرحًا عظيمًا، وأنعم عليه بدرجة قائد عام على جميع عساكر المشرق "Dux Romanorum"، وحثه على مواصلة الحرب لإنقاذ "والريانوس" والده من الأسر3. وقد أشار المؤرخ "ملالا" "ملالس" إلى ملك دعاه "Enath"، ذكر أنه كان ملك العرب "السرسين" "Saracens" الأجلاف الغلاظ وحاكم "العربية" وحليف الرومان، وذكر أنه هاجم ملك الفرس "سابور" في أيام "والريانوس" وكان قد سار إلى حدود الامبراطورية الساسانية، وتوغل فيها وأوقع خسائر بالفرس4. وقد قصد به الملك "أذينة" هذا الملك الذي نتحدث عنه. ويظهر أن "أذينة" كان يتحبب إلى الرومان، فأنعموا عليه بالألقاب، ومن ذلك لقب "Vir Consularis" الذي كان يحمله في عام "258" للميلاد. وقد منح قبل هذه السنة على ما يظهر. ولعل ضغطه المتزايد على الفرس هو

_ 1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 13، السنة 1898م، "ص 637 وما بعدها". Oberdick, S., 23, Wright, P.118. 2 المشرق، السنة الأولى، الجزء 13، السنة 1898م، "ص 637 وما بعدها". ويروى "بالستا"، Wright, P.118, 119, 120, Eberdick, S., 23, 24. 3 المشرق، السنة الأولى، الجزء 13، "ص 639"، 1898م. Wright, P.120, Ency. Brita., 23, P.944. 4 Malalas, Xxiii, 5, 2, Musil, Palmyrena, P.247.

الذي حملهم على ترك "دورا" "Dura" "Doura" ففسح بذلك المجال لعودة الحامية الرومانية إلى هذه المدينة، فرفع ذلك من شأنه في أعين الرومان1. وتمكن "أذينة" من تحرير الجزيرة من الفرس، وفتح "نصيبين" "Nicibis" "Nisibis" و"حران" فاستقبل هو وجنوده استقبالًا عظيمًا. وكان الناس يذكرون بازدراء "غاليانوس" الذي تركهم فريسة للفرس2. ثم سار بجيوشه إلى "طيسفون" "Ktesiphon"3 "264م"، فخاف "سابور" وأمر بجمع كل ما عنده من قوات للدفاع عن عاصمته، غير أنها لم تتمكن من وقف زحف التدمريين فوصل "أذينة" إلى "المدائن" وحاصرها، ونصب المجانيق وآلات الحصار لفتحها، وكاد "سابور" يلتمس منه الأمان لولا حدوث حادث أكره أذينة على ترك الحصار والتراجع، هو خروج "مكريانوس" "Macrianus" "Macrinus" القائد الذي كان السبب في وقوع "والريانوس" في الأسر على القيصر "غاليانوس" وتنصيبه نفسه قيصرًا على آسية الصغرى ومصر وفلسطين والشأم. فاضطر هذا الانقلاب "أذينة" إلى الرجوع إلى مدينته بسرعة، لاتخاذ موقف حاسم تجاه هذا الوضع السياسي الجديد4. لم يكن "أذينة مطمئنًّا إلى "مكريانوس" "Macrianus" "Macrinus" كان يكرهه ويخشى أن يستولي على ملكه إن تمكن واستأثر في الحكم، فقرر منازلته قبل منازلة "مكريانوس" له. وبينما كان يهم بالزحف على "حمص" "Emisa" "Emissa" جاء نبأ مقتل "مكريانوس"، فأعلن السوريون ولاءهم لأذينة وخروجهم على "كياثوس بن مكريانوس"، وساروا مع التدمريين لمحاصرة "كياثوس" في مدينة "حمص"، ولما اشتد الحصار على المدينة وطال، قتل

_ 1 Berytus, Viii, Fascl., I, P.56. 2 المشرق، السنة الأولى، الجزء 13، سنة "1898م" "ص 641". Oberdick. S., 25. Berytus, Vol., Viii, Fasc., I, 1934, P.34, Zosim, I, 39, Trebell, Poll. Vaier, Vii, Rostovtzeff: Res Gestae Divi Saporis: Dura, By Michael, I. 3 "طيسفون"، بفتح أوله وسكون ثانيه وسين مهملة وفاء وآخره نون، هي مدينة كسرى التي فيها الإيوان. البلدان "6/ 80". 4 Syria, Xviii, 1937, P.2. Note Sur Herodien, Prince De Palmyre By Henri Seyric, Oberdick, S., 25.

"كاليستوس" سيده "كياثوس" ورمى برأسه من فوق السور تحت قدمي "أذينة" ثم فتح له أبواب المدينة والتمس منه الأمان، فمنحه إياه ودخل المدينة في سنة "262" للميلاد1. ولم يكن استسلام أهل "حمص" للتدمريين أمرًا سهلًا عليهم فقد كانت بين الفريقين شحناء وبغضاء. نظر أهل حمص إلى أهل تدمر نظرة ازدراء وغضاضة، إذ كانوا يرونهم ناسًا أجلافًا، ليس لهم حظ من حضارة وثقافة، أهل بادية حفاة جفاة. وقد يكون لاتصال حدود "تدمر" بحدود حكومة "حمص" وغارات أعراب تدمر على أرض حمص يد في خلق هذا النزاع. وقد لاقت حمص من استيلاء أهل تدمر عليها عنتًا شديدًا إذ حل بها دمار وخراب لرفضها الاستسلام لـ "برابرة تدمر"2. لقد سقطت حمص في أيدي التدمريين، بالرغم من تضرع أهلها وتوسلهم بالإلهة "الشمس" لتنصرهم على أعدائهم وتنزل بهم خسائر فادحة. وقد كانوا من عبادها المخلصين. ولكن أهل تدمر كانوا يتعبدون للشمس كذلك، وقد توسلوا وتضرعوا إليها لتنصرهم على أعدائهم أهل حمص. لقد كان موقف "الشمس" موقفًا حرجًا. فالطرفان المتخاصمان من عبادها. وقد أقام كل منهما معبدًا ضخمًا فخمًا لعبادتها، زوقت أبوابه وذهبت قبابه، وكل منهما يتوسل إليها، فأي طرف تؤيد إذن؟ والظاهر أن اختيارها وقع على تدمر إذ انتصروا على أهل حمص ودخلوا المدينة ظافرين3. وسر "أذينة" ولا شك من هذه النتيجة، فقرر بعد استراحة جنوده بضعة أيام أن يسير نحو الشمال للقضاء على المنشقين. وبينا هو في طريقه، تلقى أنباء تمرد "كاليستوس" وخروجه عليه وإعلان نفسه ملكًا، فأمر نفرًا من رجاله بالذهاب إلى معسكر "كاليستوس" لاغتياله، فذهبوا إليه، وتمكن فارس من الدخول إلى خيمته وقتله4. عندئذ تحسن موقفه، فسار إلى الجزيرة، وتعقب الفرس فقبض على عدد من "المرازبة" "Satrapen" وأرسلهم إلى "رومة"، وأظهر

_ 1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، آب 1898م "ص 687". 2 Petr. Patr. Fra., 167, Dio, Ed: Boiss, 3, 744, A. Alfoldi In: Berytus, 5, 84, Die Araber, Iii, S., 251. 3 Die Araber Ii, S., 250. 4 المشرق، العدد نفسه "ص 687". Trebellius, Trig. Tyr., 17,

إخلاصه وطاعته لقيصر، فرضي عنه واطمأن إليه، وأعطاه منزلة رفيعة هي: "Imperator Totius" "Dux Orientis" ودعاه انبراطورًا على جميع أنحاء المشرق، أي على الشأم والجزيرة وآسية الصغرى عدا "بتينية" وبضع نواح شمالية، "264م"1. وضربت نقود باسمه صور عليها أذينة ووراءه بعض أسرى الفرس. وجعل تحت إمرته جميع القوات الرومانية المعسكرة في المشرق. وكلفه القضاء على فلول جيش "مكريانوس" وتطهير المقاطعات الرومانية منهم2. واختار أذينة لنفسه لقبًا آخر حبيبًا إلى نفوس الشرقيين هو لقب "ملك الملوك" "ملك ملكا"3، لعله فعل ذلك محاكاة لملوك الفرس، ومنح لقبًا آخر هو "أغسطس" "Augustus" لقب قياصرة الرومان4. والإنسان متى أبطرته النعمة مال إلى اتخاذ أمثال هذه الألقاب! وفي رواية أن مجلس الشيوخ الروماني منحه لقب "أغسطس"، فصار مساويًا للقيصر، وأنه أمر بوضع صورته مع صورة الانبراطور على النقود التي أخذت غنيمة من الفرس5. وعرف "أذينة" بـ "متقنا دي مدنحا كله"، "متقنا متقنانوتا"، وتقابل معنى "Reparator Totius Orientis" أو "Correctores Italiae" "Utriusque Italiae, Italiae Regionis Transpadanae"6، وتقابل درجة "Correctores" منزلة "رئيس" "Praesides"7، أي رئيس مقاطعة من المقاطعات. وقام "أذينة" بإصلاحات جمة أظهر فيها أنه لم يكن قائدًا قديرًا فقط، بل كان إلى ذلك رجل إدارة وسياسة وتسامح أيضًا. فمنع تعصب الوثنيين على النصارى واضطهادهم لهم، ومنح كل طائفة حريتها في ممارسة شعائر دينها، وخول

_ 1 المشرق، العدد نفسه "ص 688"، Oberdick, S., 31, Ency. Brita., 17 P.162. 2 المشرق، العدد نفسه "ص 688"، Oberdick, S., 31. 3 Die Araber, Ii, S., 253. 4 المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، السنة "1898م"، "ص 688". Gibbon, I, P.241. 5 Wright, P.121. 6 Die Araber, Ii, S., 253, Cambridge Ancient History, 12, 175. 7 Die Araber, Ii, S. 253.

النصارى حق بناء الكنائس حيثما شاؤوا1. وتعقب اللصوص وقطاع الطرق من الجنود الهاربين والمسرحين من الخدمة والصعاليك الذين وجدوا في الاعتداء على الآمنين، ومهاجمة القوافل والقرى والمدن خير مصدر للحصول على الكسب والمغانم والمال، وقتل "كاليستوس" زعيم الصعاليك الذي اسمال من لا عمل له إلا الفتنة والاعتداء على الناس، وبذلك أراح أذينة نفسه وأراح المقاطعات الرومانية من شر هؤلاء، واطمأن الناس على أنفسهم، وعادوا إلى أماكنهم التي اضطروا إلى تركهم لها بسبب تلك الاعتداءات التي قام بها من أطلق عليهم الكتاب اسم "الظالمون"2. وصمم "انبراطور الشرق" و"ملك الملوك" بعد هذه الأعمال على انتزاع القيصر "والريانوس" من أيدي الفرس، ومحاربة خصمه المتغطرس المتلقب بلقب "ملك الملوك" كذلك. قد يكون حبًّا في إذلال من استهان به فمزق رسالته أمام أعين رسله، وقد يكون تقربًا للرومان وتوددًا إلى القيصر "غاليانوس". والشرقيون مبالغون ويا للأسف في إكرام الغرباء، متزلفون إلى القوي منهم، ولو كان في ذلك هلاك الوطن والرعية. عين ابنه البكر "سبتيميوس هيرودس" "Septimius Herodes" من زوجته الأولى نائبًا عنه في إدارة شؤون الملك، وأخذ هو جيشه وسار به لمحاربة الفرس في أوائل عام "265" بعد الميلاد. سار به إلى "طيسفون" عاصمة "سابور" فحاصرها أمدًا، ويظهر أن "سابور" أظهر استعداده لعقد صلح لولا اشتراط "أذينة" فك أسر "والريانوس"، وهو شرط كان في نظر الفرس جد عظيم3. ووقع حادث مهم اضطر "أذينة" إلى تبديل خططه العسكرية وترك حصار "طيسفون"، ذلك هو انتهاز "القوط" فرصة محاصرة "أذينة" للمدائن وابتعاده عن آسية الصغرى وبلاد الشأم، فعبروا بحر "بنطس" "Pontus" أي البحر الأسود4. ونزلوا بميناء "هرقلية" "Heraclea" ثم زحفوا على "بتينية"

_ 1 المشرق، العدد المذكور "ص 689". 2 "الظالمون الثلاثون"، المشرق "ص 689". Tribelius: Trig. Tyr., 14. 3 Oberdick, S., 35, Hieronym. Cliron. Xii, Gallieni: “Odenatum Persas Ita Cecidisse. Ut Castra A Ctesiphontem Poneret”, Zosim, I, 39, Trebellius, Poll., 2, Gall 10 “Ctesiphon”. 4 "بنطس"، البلدان "2/ 66، 293"، ويعرف أيضًا ببحر "طرابزندة" البلدان "2/ 66".

و"فريجية" و"غلاطية" و"قيادوقية"، وكانوا يقصدون من وراء زحفهم هذا التوسع والاستيلاء على آسية الصغرى وبلاد الشأم وكل ما يمكن الاستيلاء عليه من بلاد الشرق. فلما علم "القوط" بمجيء "أذينة" هربوا إلى ميناء "هرقلية" مسرعين، ومنه ركبوا إلى بلادهم التي جاءوا منها1. فقرر عندئذ الرجوع إلى العراق لفتح "طيسفون". ويبنما كان "أذينة" في "حمص" لإراحة الجند، أعد وليمة كبيرة تذكارًا ليوم ميلاده حضرها قواده وكبار القوم. فانتهز "معنى" "Maeonius" ابن أخيه "خيران" هذه الفرصة، فقتل هو وعصابته عمه "أذينة "وابن عمه "هيرودس" "Herodus"، لاغتصاب عمه منه ملكه الذي ورثه من أبيه. ونادى بنفسه ملكًا على المملكة التي أنشأها وكونها "أذينة" القتيل، وبذلك استرجع حقه من المقتول. ولكن حياة القاتل كما يقول المثل الشرقي لا تطول، وذلك قولهم: "بشر القاتل بالقتل"، فما كاد يتربع على العرش أيامًا حتى انتقمت منه سيوف "حمص"، وألحقته بالعالم الواسع الذي ذهب إليه القتيلان "266-267م"2. ما أعجب الحياة. في مدة قصيرة طفر فيها رجل "تدمر" من رئيس في مدينة صحراوية إلى ملك على عرش مملكة، فقائد كبير في أعظم انبراطورية في عالم ذلك الزمن، ومنافس للقيصر وملك على الشرق، وفي لحظة واحدة انتقل فيها هذا القائد الملك من هذا العالم إلى عالم القبر، إنها الحياة لا بد لها من نهاية مهما بلغ الإنسان من منزلة ومكانة، لا تعرف قوة وصولة ولا فقرًا وضعفًا، الجميع إلى هذه النهاية منتهون، وللفيلسوف أن يستخرج منها حكمة الحياة. هل قتل "معنى" عمه لاغتصابه حقه الطبيعي في الملك؟ أو قتله لأسباب أخرى؟ وهل كان لأحد مثل الملكة "الزباء" ضلع في الحادث؟ وهل كان للرومان يد في هذه الجريمة؟ وهل كان للحزب الوطني التدمري الذي كان يكره اليونان والرومان وكل سيطرة غريبة يد في هذا الاغتيال؟ لما عرف عن "أذينة"

_ 1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، "1898م"، "ص 691". 2 راجع خبر مقتل "أذينة" والعداء الذي كان بينه وبين "معنى" والنزاع الذي حدث بينهما حين كانا في الصيد في مجلة المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، "1898م"، "ص 691 وما بعدها". Oberdick, S., 38, Zosim, I, 39, Treb. Poll., 30, Tyr. 15, Gibbon, I, P.263, Vaughan: Zenobia, P.60.

من دفاعه عن الانبراطورية الرومانية وحماسته في الدفاع عنها؟ هذه أسئلة سألها المتعمقون في تأريخ "تدمر" والباحثون فيه، وأجابوا عنها أجوبة مختلفة. فمنهم من رأى أن الجريمة هي انتقام شخصي بسبب اغتصاب "أذينة" حق القاتل الذي ورثه من أببه، ومنهم من رأى أنها مسألة مدبرة مدروسة وأن للزباء يدًا فيها. ومنهم من رأى أنها بتدبير الرومان وعلمهم، فعلوها للتخلص من رجل أخذوا يشكون في إخلاصه، ويرتابون منه. ومنهم من رأى عكس ذلك: رأى أنها فاجعة للرومان وخسارة كبيرة لسياستهم في الشرق، وأنها من أعمال الوطنيين الذين رأوا في ملك تدمر أداة طيعة مسخرة في أيدي سادة "رومة" فقرروا لذلك الانتقام منه. أما نحن فنرى أن من الصعب البت في سر قتل "أذينة" وابنه، فالأخبار الواردة في هذا الموضوع غامضة، والأدلة غير متوفرة، ومبايعة الجيش وقواده للقاتل في سرعة ومن غير كلام أو قتال، ثم قيام أهل حمص بقتل القاتل بعد أيام، وتولي الملكة "الزباء" الحكم بعده وبسرعة هي قضايا فيها نظر. ولهذا تعددت الآراء، ولن تتفق ما دامت الروايات المقدمة إلينا على هذا النحو من التعقد والأمور1. أظهر "أذينة" مقدرة فائقة جديرة بالإعجاب، استطاع أن يكون جيشًا قويًّا يخيف الفرس ويلحق بهم الخسائر ويكتسب تقدير الرومان واحترامهم في مدة قصيرة، واستطاع أن يكون من القلعة الصغيرة المبنية في البادية مملكة كان لها أثر خطير في النزاع السياسي العسكري بين الرومان والفرس. لقد قام بعمل عسكري عظيم في محاولاته الحربية لإنقاذ القيصر "والريانوس" محاولات لم يقم بها سيد "رومة" وابن القيصر الأسير ولا أتباعه الرومان. لقد "أرسلته الشمس أسدًا مخيفًا مرعبًا"2. لقد وقعت في أيام "أذينة" أحداث خطيرة عظيمة في الشرق الأدنى بين المعسكرين: المعسكر الشرقي وهو معسكر الفرس، والمعسكر الغربي وهو معسكر الرومان يساعدهم التدمريون. كانت انتصارات الفرس في سنة "260" بعد الميلاد،

_ 1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، "1898م"، "ص 693". Oberdick, S., 40, Gibbon, I, P.263, Vaughan: Zenobia, P.60. 2 Oracula: Sibyllinus, Vv, 169, Berytua, Vol., Viii, Fasc., I, 1943.

ثم أسر القيصر "والريانوس"، وغزو بلاد الشأم، وقيام "أذينة" بالهجوم على الفرس، وطردهم من الأرضين التي احتلوها من الأمور الخطيرة التي وقعت في ذلك العهد، أفادت الرومان ولا شك كثيرًا، ولكنها لفتت أنظارهم في الوقت نفسه إلى الخطر الجديد الذي أخذ يتهددهم من ظهور قوة "تدمر"، وتدمر في بلاد الشأم. وقد تتزعم الحركات الوطنية المعادية للر ومان في الشرق، فتكون كارثة على "رومة". ونجد أخبار "أذينة" وأعماله خاصة بعد معركة "الرها" "Edassa" في تأريخ "سوزيموس" "Zosimus"1. ولا بد لي في هذا الموضع، وقد انتهيت من الحديث عن أذينة، من الإشارة إلى رجل كان له شأن وذكر في أيام "أذينة"، وكان أقوى شخصية في تدمر إلا وهو "ورود" "Worod" الذي ورد ذكره في عدد من الكتابات، أقدمها الكتابة المدونة بشهر نيسان من سنة "262" للميلاد وقد لقب فيها بـ "Procurator Ducenarius"2. كما لقب بلقب "مرن" الذي تلقب به "أذينة" أيضًا، أي "سيدنا" و"أميرنا"، وبألقاب أخرى مثل "Cursus Honorum" و"قائد القافلة" و"شريف المستوطنة" وغير ذلك من نعوت حملها "أذينة "نفسه، مما يحملنا على الاعتقاد بأنه كان الرجل الثاني في تدمر بعد "أذينة"، ومن الغريب أن اسمه اختفى مع اسم أذينة في السنة التي قتل فيها الملك نفسها، فلم نعد نقرأه في الكتابات3. وكان "ورود" يقوم مقام "أذينة" بأعباء الحكم عند غياب "أذينة" عن عاصمته. ويرى بعض الباحثين أن اسمه الكامل هو "يوليوس أورليوس سبتيميوس ورود" "جوليوس أورليوس سبتيميوس ورود" "Julius Aurelius Septimius Worod" وأنه كان من الطبقة "الأرستقراطية"، وهو من أصل فارسي روماني. وقد نال أعلى الألقاب المعروفة في أيامه، حتى ضاهت الألقاب التي لقب بها "أذينة". والظاهر أنه كان شخصًا كفؤًا حازمًا لذلك نال مركزًا لم يبلغه أحد غير "أذينة"، إذ كان الرجل الثاني في تدمر بعد الملك4.

_ 1 Oracula: Sibyllinus, Xviii, Zosimus, I, 27, I, 36, I, 39. 2 J. Cantineau, 3n. Ii, Die Araber, Ii, S., 255. 3 Die Araber, Ii, S., 255. 4 Vaughan, P.58.

ولا نعرف شيئًا كثيرًا عن المكانة التي حصل عليها بعد مقتل "أذينة" وتولي "الزباء" أعباء الحكم نيابة عن ابنها "وهبلات"، والظاهر أنه لم ينل عند الملكة المنزلة التي بلغها عند "أذينة"، وأن عينته الملكة نائبًا عنها في بعض الأوقات، وكل ما وصل إليه عندها هو منصب "مستشار"، فقد كانت تستدعيه عند الحاجة لاستشارته في بعض الأمور الخطيرة. وقد كان لها جماعة مستشارين تستعين بآرائهم في إدارة الحكم وفي تنظيم الأمور المالية، ولا سيما الجباية من التجارة والتجار. ولم يشر "الطبري" ولا غيره من المؤرخين المسلمين إلى حروب "أذينة" مع "سابور" على أهميتها وبلوغ ملك "تدمر" فيها العاصمة "طيسفون". وهذا أمر يدعو إلى العجب حقًّا إذ كيف يهمل المؤرخون والأخباريون هذا الحدث الخطير؟ فلا بد أن يكون هنالك سبب. ورأيي أن سببه الموارد الأصلية التي اعتمد عليها المؤرخون المسلمون والأخباريون وأخذوا منها، وهي موارد فارسية الأصل متعصبة للفرس، أو موارد عراقية ميالة إليهم. وقد أخذ المؤرخون المسلمون تأريخ الفرس من موارد فارسية، أما تأريخ الرومان واليونان، فقد أخذوه من موارد نصرانية سريانية في الغالب، ولكنهم أخذوه بقدر، ولم يتوسعوا في الطلب، لذلك كان تأريخ الرومان واليونان مختصرًا جدًّا وضعيفًا بالقياس إلى ما دون عن تأريخ الفرس. عبارة عن جريدة بأسماء القياصرة جافة في الغالب، ونتف وقطع مبثوثة هنا وهناك في الفصول المدونة عن تأريخ الدول الفارسية ذكرت في المواضع التي تكون لها صلات بتأريخ الفرس، ولذلك أيضًا أدمج أكثر ما دون عن تأريخ الغساسنة وعرب الشأم في الأوراق التي دونت عن تأريخ الحيرة وعرب العراق. وقد انتزعت من موارد فارسية –عراقية، ففيها تعصب للفرس وللعراق على الروم والرومان وبلاد الشأم1. وأظن أن الموارد الأولى التي نقل منها الأخباريون والمؤرخون كلامهم عن تأريخ الفرس لم ترقها الإشارة إلىانتصارات ملك كون مملكة في البادية بنفسه، على "سابور" صاحب انبراطورية واسعة تتباهى بنفسها على الرومان، فأهملت الكلام عنها بدافع العاطفة والنزعات القومية. فلما ترجمت تلك الموارد إلى العربية أو نقل.

_ 1 مجلة المجمع العلمي العراقي، الجزء الأول والجزء الثاني.

منها، لم يجد الأخباريون والمؤرخون شيئًا يقولونه عن انتصارات "أذينة" على "سابور"، وإلا ذكروه كما ذكروا حادث أسر "سابور" للقيصر "والريانوس" في أثناء كلامهم عن سابور. وقد ذكره الطبري فقال: "وأنه حاصر ملكًا كان بالروم يقال له الريانوس بمدينة أنطاكية، فأسره وحمله وجماعة كثيرة معه وأسكنهم جنديسابور"1.

_ 1 الطبري "2/ 61" "طبعة المطبعة الحسينية".

الزباء

الزباء: انتقل الملك بعد مقتل "أذينة" و"معن" إلى "وهبلت" و"هبلات" "وهب اللات"، وهو ابن "أذينة" من زوجه "الزباء" ويعرف في اليونانية بـ "اتينودورس" "Athenodorus". وكان لوهبلات أخوة هم: "حيران" "خيران" و"تيم الله" من أذينة ""أذينة" وأمه "الزباء". وكان قاصرًا، لذلك تولت الوصاية عليه وتأديبه بأدب الملوك حتى يبلغ سن الرشد، فعلمته "اللاتينية" والفروسية، وهيأته لكيون ملكًا كبيرًا كقياصرة الرومان أو أكاسرة الفرس وسعت هي لتهذيب الدولة وتوسيعها وبسط نفوذها على أماكن واسعة لم تكن خاضعة لتدمر، لذلك كان لا بد من حدوث احتكاك وتصادم بينها وبين الرومان. وللأخباريين أحاديث وأقاصيص عن الزباء، واسمها عندهم "نائلة بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العميلقي "العملقي" من العماليق1. و"الزباء بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر" على زعم2، و"ليلى" في زعم آخر. وزعموا أن لها أختًا اسمها "زبيبة" بنت "الزباء" لها قصر حصين على شاطئ الفرات الغربي، فكانت تشتو عند أختها وتربع ببطن النجار، وتصير إلى تدمر. كما كان لها جنود هم في نظرهم بقايا من العماليق والعاربة الأولى، وتزيد وسليح ابن "حلوان بن عمران

_ 1 الطبري "2/ 31"، ابن خلدون "2/ 261"، حمزة "65". 2 مروج "2/ 16".

ابن الحاف بن قضاعة" ومن كان معهم من قبائل قضاعة1. وذكر "ابن خلدون" أن ملك العرب بأرض الحيرة ومشارف الشأم كان لعمرو بن الظرب، وكان جنود الزباء من بقايا العمالقة من عاد الأولى ومن نهد وسليح ابني حلوان ومن كان معهم من قبائل قضاعة، وكانت تسكن على شاطئ الفرات وقد بنت هنالك قصرًا، وتربع عند بطن المجاز، وتصيف بتدمر، أخذ قوله هذا من تأريخ الطبري وتصرفه فيه بعض التصرف2. أما الأصل، فخبر من أخبار الأخباريين، وأما النقل فحكمه حكم الأصل بالطبع. وأما أن جنود "الزباء" من بقايا "العمالقة، فهو أمر مقبول في نظر أصحابنا الأخباريين، ولم لا؟ إن "الزباء" في رأيهم من بقايا العمالقة، أي من العرب الأولى فلم لا يكون جنودها إذن من أولئك القوم؟ وزعم بعض الأخباريين أن "الزباء" من ذرية "السميدع بن هوثر" من "بني قطورا" أهل مكة، وهي بنت "عمرو بن أذينة بن الظرب بن حسان". وبين "حسان" و"السميدع"آباء. وزعم آخرون أن "عمرو بن الظرب" كان على مشارف الشأم والجزيرة، وكان منزله بين "الخابور" و"قرقيساء"، فوقعت بينه وبين "مالك بن فهم" حروب هلك "عمرو" في بعضها، فقامت بملكه من بعده ابنته "الزباء". وقد استمرت الحرب بين "مالك" و" الزباء" إلى أن ألجأها إلى أطراف مملكتها. وكان "مالك" على ما يصفه الأخباريون رجلًا قديرًا يغير على ملوك الطوائف حتى غلبهم على كثير مما في أيديهم3. وهو في نظرهم أول من ملك من "عرب الضاحية". وكان منزله مما يلي "الأنبار"، ثم ملك بعده أخوه "عمرو بن فهم". فلما هلك تولى من بعده "جذيمة الأبرش" الشهير في تأريخ الحيرة4. والذي حارب "عمرو بن الظرب" على رواية منسوبة على "ابن الكلبي" ذكرها "الطبري" هو "جذيمة الأبرش". وكان جذيمة على هذه الرواية قد جمع جموعًا من العرب سار بها يريد غزاة "عمرو"، وأقبل "عمرو" بمجموعة

_ 1 الطبري "2/ 32". 2 ابن خلدون "2/ 261". 3 ابن خلدون "2/ 259 وما بعدها". 4 الطبري "2/ 28".

من الشأم فالتقوا فاقتتلو قتالًا شديدًا فقتل "عمرو بن الظرب" وانفضت جموعه، فأجمعت الزباء رأيها لغزو "جذيمة" للأخذ بثأر أبيها، واستعدت لذلك. غير أن أختًا لها هي "زبيبة"، وكانت ذات رأي ودهاء وأدب، نصحتها بترك الحرب، فإن عواقبها غير مضمونة، فاستجابت لنصيحتها، وعمدت إلى طرق المكر والحيل فراسلته واستدرجته إلى عاصمتها في قصة معروفة مشهورة لا حاجة بي إلى إعادتها، فغدرت به وقتلته1. وطلب "قصير بن سعد بن عمرو ابن جذيمة بن قيس بن ربي بن نمارة بن لخم"، وكان أريبًا حازمًا أثيرًا عند "جذيمة بن الأبرش" من "عمرو بن عدي" خليفة "جذيمة" على الحيرة الخروج لقتال "الزباء"، فأحجم فلما رأى ذلك منه، صمم على أن يأخذ هو بالثأر، فذهب إليها مدعيًا أنه مضطهد ممقوت لتهمة نسبت إليه هي أنه ساهم في قتل "جذيمة" فوثقت به واطمأنت إليه وهي لا تعلم ما يخفي لها، ثم طلب منها أن يعود إلى بلده ليعود بأمواله ونفائس ما لديه فسمحت له وأعطته تجارة لتصريفها هناك، فباعها وعاد بأرباح طائلة وبأموال كثيرة، فزادت ثقتها به وتكرر الحال، حتى إذا ما وثق من اطمئنانها إليه عاد في المرة الأخيرة برجال أشداء من بني قومه ومعهم "عمرو بن عدي"، وضعهم في جوالق كبيرة فلما توسطوا في المدينة، أنزلت الجوالق وخرج الرجال منها، فوضعوا سيوفهم في رقاب أهلها، فلما رأت الزباء ذلك، أرادت الهرب من نفق حفرته لمثل هذه الأيام، اطلع قصير عليه، فوضع "عمرو بن عدي" على بابه. فلما رأته الزباء مصت خاتمها، وكان فيه سم، قائلة: "بيدي لا بيدك يا عمرو"، وتلقاها عمرو بن عدي بالسيف فجللها به وقتلها، وغنم كثيرًا، وانكفأ راجعًا إلى العراق2. وهي قصة محشوة بالأمثال المنسوبة إلى أبطالها: جذيمة وقصير والزباء وعمرو

_ 1 حمزة "65". 2 الطبري "2/ 34 وما بعدها"، مروج "2/ 19 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 261" وما بعدها" البلدان "3/ 379"، مروج الذهب "2/ 69 وما بعدها"، "قصة جذيمة". فلما نظرت الزباء إلى مشي الجمال، قالت: ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا؟ أم صرفانا باردًا شديدا ... أم الرجال جثيًّا قعودا؟ مروج "2/ 72"، "دار الأندلس".

ابن عدي، وفيها على عادة الأخباريين في رواية أمثال هذا القصص شعر نسب بعضه إلى هؤلاء الأبطال، ونسب بعضه الآخر إلى شعراء أقحمت أسماؤهم في القصة ليؤكد واضعوها ولا شك صدق حديثهم، وليلونوا كلامهم بعض التلوين. ونجد قصة الزباء وجذيمة وقصير المطالب بالثأر في شعر ينسب إلى "عدي بن زيد العبادي"، جاء فيه: ألا أيها الملك المرجى ... ألم تسمع بخطب الأولينا دعا بالبقة الأمراء يومًا ... جذيمة عصر ينحوهم ثبينا فطاوع أمرهم وعصى قصيرًا ... وكان يقول لو تبع اليقينا ثم يستمر في نظم القصة شعرًا حتى تنتهي. وقد ختمت بنصح للإنسان ليتعظ بالحوادث والمنايا، التي لا تعرف أحدًا مهما كانت درجته ومنزلته، إلا أخذته، ثم صيرته أثرًا بعد عين1. وذكر أهل الأخبار أن "الزباء" كانت تأتي الحصون، فتنزل بها، فلما نزلت بـ "مارد"، حصن دومة الجندل، وبالأبلق، حصن تيماء، قالت تمرد مارد وعز الأبلق، فذهبت مثلًا2. ولم يبخل الأخباريون على الزباء، فمنحوها أبياتًا زعموا أنها قالتها، وجعلوها أديبة في العربية بليغة إلى أعلى درجات البلاغة. لها حكم وأمثال بهذه العربية، عربية القرآن الكريم. ولا غرابة في ذلك، فالذي ينسب شعرًا عربيًّا إلى آدم وإبليس ويرويه مشكلًا مضبوطًا على وفق قواعد النحو والصرف، لا يعجز عن رواية شعر ينسب إلى "عمرو بن الظرب" وإلى ابنته الزباء. وذكر أن معاوية ذكر في أحد مجالسه "الزباء" وابنة "عفزر"، فقال: "إني لأحب أن أسمع حديث ماوية وحاتم، فقال رجل من القوم: أفلا أحدثك يا أمير المؤمنين؟ فقال: بلى، فقال: إن ماوية بنت عفزر، كانت ملكة وكانت تتزوج من أرادت"3.

_ 1 الشعر والشعراء "112 وما بعدها"، "عدي بن زيد العبادي"، وفي الكتب الأخرى اختلاف في الألفاظ والعبادات، مروج "2/ 73"، "دار الأندلس". 2 مروج "2/ 73"، "دار الأندلس". 3 البيان والتبيين "3/ 9".

ويذكر أهل الأخبار أن "ابنة عفزر" قينة كانت في الدهر الأول، لا تدوم على عهد، فصارت مثلًا. وقيل: قينة كانت في الحيرة، وكان وفد النعمان إذا أتوه لهوًا بها. وذكر أن "عفزر" اسم أعجمي، ولذلك لم يصرفه "امرؤ القيس" في قوله: أشميم بروق المزن اين مصابه ... ولا شيء يشفي منك يا ابنة عفزرا1 ولم تشأ الكتابات التدمرية الإعلان عن اسم ملكة تدمر، بل ذكرتها على هذه الصورة: "بت زباي" أي "بنت زباي"2. و"زباي" هو اسم والد الملكة، حذفت كلمة "بت" وهي "بنت" في العربية، وقلب الحرف الأخير وهو الباء من كلمة "زباي" وصير همزة، فصار "زباء"، وعرفت ملكة تدمر عند العرب باسم "الزباء". وقد ذكر المؤرخ "فلافيوس فوبسكوس" "Flavius Vopiscus" أن والد "الزباء" رجل من تدمر اسمه "اخليو" "Achilleo"3، و"Achilleo" هو "انطيوخس" "Antiochus" في رواية أخرى4. وقد أثنى عليها المؤرخ "تريبليوس يوليو" "Trebellius Pollio" ووصفها وصفًا جميلًا، وأشار إلى مقدرتها وقابليتها، وذكر أنها كانت تتكلم اليونانية وتحسن "اللاتينية"، وتتقن اللغة المصرية وتتحدث بها بكل طلاقة، وتهتم بشؤون المملكة، وتقطع المسافات الطويلة سيرًا على الأقدام في طليعة رجال جيشها، إلى غير ذلك من كلام فيه ثناء وإطراء على هذه الملكة5. وقد بلغتنا روايات تفيد أن الملكة ادعت أنها من مصر، من سلالات الملوك وأنها من صلب الملكة الشهيرة "قلبطرة"6 "كليوبطرة" "Cleopatra"، وأنها كانت نفسها تتكلم المصرية بطلاقة، وأنها ألفت كتابًا كتبته بخط يدها اختصرت

_ 1 اللسان "4/ 591". 2 المشرق، السنة الأولى، "1898م"، آب، الجزء 15، "ص 693". 3 Flavius Vopiscus Aur., 31, Oberdick, S., 143. 4 Zosimus, I, 61, Oberdick, S., 143. 5 Trebellius Pollio: Hist. August., P.192, 199, Xxx, Tyranni., C., 14. 6 مروج "1/ 259" "طبعة دار الرجاء". Oberdick, S., 47, Gibbon, I, P.202.

فيه ما قرأته من تواريخ الأمم الشرقية ولا سيما تأريخ مصر1، وأنها استقدمت مشاهير رجال الفكر إلى عاصمتها، مثل الفيلسوف الشهير "كاسيوس ديونيسيوس لونجينوس" "Cassius Lunginus" "220 – 273م" بعد الميلاد. وكان فيلسوفًا على مذهب الأفلاطونية الحديثة ومن أصدقاء الفيلسوف "فرفوريس" "Phorphyrios"، استقدمته الملكة إلى عاصمتها واستضافته عندها وجعلته مستشارًا لها، فأخلص لها في مشورته، فكان ذلك سببًا في قتله. فقتله القيصر "أوريليانوس" "Aurelianus"، لاتهمامه أنه كان يحرض الملكة على الرومان2. ومثل الكاتب المؤرخ "كليكراتس الصوري"، و"لوبوكوس" البيروتي اللغوي الفيلسوف، و"بوسانياس" الدمشقي المؤرخ، و"نيوكوماخس" "Nicomachus" من زمرة الكتاب المؤرخين، المتضلعين بالإغريقية، ومن الفلاسفة، وقد تولى الكتابة باللغة الإغريقية، وصار من مستشاريها كذلك3. ولذلك أمر به القيصر "أورليانوس" فقتل بعد محاكمته بمدينة حمص، في الوقت الذي حوكمت فيه الملكة والفيلسوف "لونجينوس"، الذي قطع رأسه بعد أن مثل به4. وفي حشد هذا النوع من الرجال دلالة على ميول الملكة الفلسفية الأدبية وثقافتها العالية ولا شك. وملكة شأنها هذا، لا بد أن تكون حرة الفكر، متساهلة مع أصحاب العقائد والآراء. وهذا ما كان، ففي مدينة "تدمر" الوثنية عاشت جالية كبيرة من اليهود تمتعت بممارسة شعائرها الدينية بكل حرية، ونالت حقوق المواطنة التي كان يتمتع بها التدمريون، جاءت إلى المدينة مهاجرة من فلسطين خاصة بعد خراب القدس على أيدي القيصر "طيطوس" "تيتوس" "Titus" في سنة "70" بعد الميلاد5. فاشتغلت فيها بالتجارة، فحصلت على أرباح طائلة جدًّا، وصار لها في المدينة اسم وشأن حتى إن مجلس المدينة والشعب أقام تمثالًا في سنة "569"

_ 1 Oberdick, S., 47, Vaughan, P.79. 2 فقدت مؤلفات هذا الفيلسوف ولم يبق منها غير: “Le Sublime” 2 أي كتاب الإيغال، المشرق، السنة الأولى الجزء 20، السنة 1898م، "ص 921". Hervey, P.245. 3 المشرق، الجزء نفسه "921". Vaughan, P.192. 4 Vaughan, P.192. 5 المشرق، السنة الأولى، الجزء 20 "1898م". ص"924".

السلوقية المقابلة لسنة "257" الميلادية ليهودي يدعى "يوليوس أورليوس شلميط" "Julius Aurelius Schalmath" قائد القافلة؛ لأنه ترأس القافلة، وأنفق عليها من ماله1. وقد بالغ بعض المؤرخين في عدد اليهود الذين كانوا في "تدمر" أيام حكم الزباء فزعم أنه بلغ نصف عدد سكان المدينة، وهو زعم يحتاج إلى إثبات. وزعم القديس "أثناسيوس" "St. Athanasius" أن ملكة تدمر كانت تدين باليهودية2 ولكنها مع تهودها لم تهب أبناء دينها الكنائس لتكون لهم مجامع ومحافل3. وذهب إلى هذا الرأي المؤرخ "فوتيوس" "Photius"4. وذكر "فيلاستريوس" "Philastrius" أن الذي هود الملكة هو "بولس السميساطي "Paulus Samosatius"5 وهو أسقف كان مقربًا إلى الزباء، وله منزلة عالية لديها. ونسبت إليه آراء في المسيح وفي بعض الأمور الدينية الأخرى دعت إلى محاكمته في مجمع "أنطاكية" الذي انعقد في سنة "264" للميلاد، فوجد المجمع أن تعاليمه تشبه تعاليم "أرتاماس" "أرتامون" الذي حكم عليه قبلًا، فحرموا آراءه كذلك، ثم حكم عليه في "أنطاكية" سنة "269" بعزله عن الأسقفية، ولم تتدخل "الزباء في القرارات التي اتخذها رجال الكنيسة تجاه بولس، كما أنها لم تنفذ قراراتهم بحقه، بل أبقته في مركزه وتركته على ما كان عليه6. ويرى بعض المؤرخين أن خبر تهود الملكة خبر مختلق، وضعه آباء الكنيسة للإساءة إلى سمعة "بولس السميساطي" والطعن فيه والحط من تعاليمه وللتأثير في نفوس أتباعه7. وقد لاقى "بولس" من خصومه عنتًا شديدًا. ولا يعقل بالطبع أن يعمد رجل كنيسة إلى تهويد شخص مهما كان مذهبه ورأيه في طبيعة المسيح

_ 1 Oberdick, S., 65, Corpus, Insc. Grea., Iii, Nr. 4486, Levy: Palmyr. Inschr. In Zdmg., Vii, 1864, S. 88. 2 المشرق، السنة الأولى، الجزء 20، "1898م" "ص 924"، Oberdick, S., 71, Milman: History Of The Jews, Iii, P.175. 3 المشرق، الجزء 21 "1898م"، "ص 995". 4 Oberdick, S., 71, G. Moss: Jews And Judaism In Palmyra, In: Palestine Exploration Fund Qjuarterly, Vol., 60, 1928, 100-107. 5 المصدر نفسه. 6 المشرق، السنة الأولى، الجزء 21، 1898م "ص 991 وما بعدها". 7 Oberdick, S., 72.

واللاهوت، بل المعقول أن يعمد للتأثير فيه وإدخاله إلى مذهبه. ولدينا خبر آخر أراه من جنس خبر "فيلاستريوس" ذكره "تيودوريت" "Theodoret" خلاصته: أن الأسقف "بولس" أخذ رأيه في "الثالوث" من آراء الملكة المتأثرة باليهودية، وأنه كان قد تأثر بالمرأة حتى سقط إلى الحضيض1. ولا يخفى ما في هذا الخبر من طعن في عقيدة الرجل الذي أبدى رأيًا في "الثالوث" سبب غضب الآباء عليه. ولم نجد في الآثار اليهودية التي بين أيدينا ما يفيد تهود "الزباء"، نعم ورد في التلمود خبر يفيد حماية "الزباء" للأخبار2، غير أنه وردت أخبار أخرى تفيد أن اليهود كانوا ناقمين على "تدمر" حاقدين عليها يرجون من الله أن يطيل في عمرهم ليروا نهايتها. هذا الحبر الكبير "يوحانان" "يوخانان" "Johanan" "Jochanan" رئيس "أكاديمية" "طبرية" والمعاصر لأذينة والزباء، يقول: "مخلد وسعيد من يدرك نهاية أيام تدمر". ولو كانت الملكة على دين يهود، لما صدرت هذه الجملة من فم ذلك الحبر ولا شك. ويفهم من بعض الروايات المروية عن فقهاء اليهود وأحبارهم في فلسطين في ذلك العهد، أن الملكة اضطهدت اليهود وعذبتهم. وهي روايات لا يمكن التسليم بصحتها أيضًا، ويجوز أنها ظهرت على أثر توسع الملكة في الأرضين التي كانت تحت سيطرة الرومان ومنها "اليهودية" غير أن هذا الاستيلاء لم يكن أمده طويلًا3. ووردت روايات أخرى تشير إلى كراهية يهود منطقة الفرات لتدمر، ورد أن الحبر "يهودا" "R.Juda" تلميذ الحبر "صموئيل" "Samuel" تحدث عن تدمر، فقال: "سيحتفل الإسرائيليون في أحد الأيام بعيد، أنه عيد هلاك ترمود "Tarmud"، أنها ستهلك كما هلكت تمود "Tamud". وقد هلكت". وورد أن الحبر "آشة" "R.Asche" ذكر "ترمود" "Tarmud" فقال: "ترمود مثل تمود، أنهما شيئان لأمر واحد، إذا هلك أحدهما قام الثاني مقامه"

_ 1 Oberdick, S., 73. 2 Talmud Jeru. Ter., Viii, 46b, Ency. Brita., 23, P.945. 3 Simon Dubnow: Weltgeschichte Des Judischen Volkes, Iii, S., 179, The Universal Jewish Encyclopedia, Vol., 10, P.639, Graetz: History Of The Jews, Vol., 2, Pp.528, 1927, Yer. Taan., Viii, 465.

ويراد بـ "ترمود" مدينة "تدمر"1. وقد اشترك عدد كبير من اليهود في صفوف أعداء الزباء، واشتركوا مع الفرس في حروبهم مع تدمر كما اشتركوا مع الرومان. وقبض على عدد من الأحبار أحضروا إلى الملكة كانوا يحرضون الناس على التدمريين2. أما "تمود"، الذين هلكوا قبل هلاك "ترمود"، فهم قوم ثمود. ويظهر أنهم حلت بهم نكبة أدت إلى هلاكهم حتى صار هلاكهم مضرب الأمثال. ولم يشر إلى زمن حلول تلك النكبة. ولكن ذلك كان قبل سقوط "تدمر" في أيدي الرومان على كل حال، كما يفهم من كلام الحبر "يهودا" المتوفى سنة "257" للميلاد3. أما أسباب هذا البغض، فلم تذكر. ويظهر أن هنالك جملة عوامل دعت إلى ظهوره، منها آراء الملكة الفلسفية وآراء الفلاسفة والكتاب الذين كانوا يحيطون بها، وكانوا يبثونها في تدمر وفي البقاع التي استولى عليها التدمريون، فنفقت نفاقًا كبيرًا بين يهود "تدمر" ويهود "الكالوتات" على نهر الفرات، فأثارت هذه الآراء "الإلحادية" عند اليهود حقد الأحبار والمتدينين. ومنها الزواج المختلط الذي انتشر في تدمر بين اليهود وغير اليهود، ونشوء جيل جديد من هذا الزواج أضاع الدين وتقاليد الإسرائيليين. وهو أمر نهي عنه اليهود. ومنها الحالة السياسية التي نشأت من أسر الفرس للقيصر "والريانوس"، وهجوم أذينة على الفرس وما أعقب ذلك من حروب ألحقت ضررًا كبيرًا بالجاليات اليهودية الكبيرة التي كانت تسكن شواطئ الفرات، ومعظمها من التجار الذين كانوا يتاجرون مع الفرس والروم، وبين العرق وديار الشأم، فأصيبت هذه "الكالوتات" اليهودية التي كانت تتمتع بشبه استقلال بأضرار كبيرة، وفقدت استقلالها خلال مدة استيلاء التدمريين على شواطئ الفرات. فلهذه الأسباب كانت نقمة اليهود على التدمريين4.

_ 1 Oberdick, S., 80, Jebam 17b. 2 ذكر "Oberdick، أمثلة عديدة على ذلك في "ص 80" وما بعدها من كتابه، راجع أيضًا: Gratz: Geschichte Der Juden, Iv, S., 336, Levy, In Zdmg, Xviii, S., 97. Jost: Geschichte Des Judenthums Und Seiner Sekten, Ii, S., 156. 3 Oberdick, S., 79. 4 Jost: Geschichte Der Juden, 4, 14, 7, Oberdick, S., 78.

وحرص بعض المؤرخين على إدخال الملكة في زمرة النصارى فزعموا أنها كانت على دين المسيح. وتساهل آخرون بعض التساهل فقالوا أنها لم تكن نصرانية أصيلة ولكنها كانت قريبة منها ميالة إليها، وجحد حجج من قال بتهود الملكة وسخفها. وتوسط آخرون فقالوا إنها لم تكن يهودية محضة، ولا نصرانية خالصة، إنما كان دينها وسطًا بين الدينين: كانت تعتقد بوجود الله، وترى التوحيد، ولكنها لم تكن على اليهودية وعلى النصرانية، بل رأت الخالق كما يراه الفيلسوف1. وللمؤرخين آراء في أصل "الزباء" ونسبها وأسرتها، فمنهم من ذهب إلى أنها مصرية، ومنهم من ذهب إلى أنها من العماليق ومن هؤلاء المؤرخ "آيشهورن" "Eichhorn"2. وقد أخذ هؤلاء آراءهم من الكتب العربية على ما يظهر. وذهب المؤرخ اليهودي "كريتس" "Graetz" "Gratz" إلى أنها "ادومية" من نسل "هيرودس" وأنها يهودية الدين3. ورأى "رايت" "Wreght" و"أوبردك" "Oberdick" وآخرون أنها من أب عربي ولكنها من دم مصري من ناحية الأم. والذي عليه أكثرهم أنها عربية الأصل4. وقد ذكر "المسعودي" أن بعض المؤرخين كانوا يزعمون أنها "رومية" تتكلم العربية5. أظهرت "الزباء" مقدرة فائقة في إدراة شؤون الملك، فخاف منها الرومان، وعزم "غاليانوس" بتحريض من شيوخ "رومة" على القضاء عليها قبل استفحال أمرها، فأرسل جيشًا إلى الشرق تظاهر أنه يريد من إرساله محاربة "سابور" غير أنه كان يريد في الواقع مهاجمة تدمر وإخضاع الملكة. فبلغ خبره مسامع "الزباء" فاستعدت لمقابلته وخرجت له، والتحمت فعلًا بكتائب الرومان، وانتصرت عليها انتصارًا باهرًا، وولت هاربة تاركة قائدها "هرقليانوس" "Heraclianus" قتيلًا في ساحة الحرب6.

_ 1 Oberdick, S., 72, 73. 2 Eichhorn, Fundgr. Des Orients, Ii, S., 365, Oberdick, S., 47. 3 Graetz, Geschichte Der Juden, Iv, S., 335. 4 Wright, P.131, Oberdick, S., 47. 5 مروج "1: 259". 6 المشرق، السنة الأولى، ايلول 1898م، 18 "ص 824 وما بعدها"، Zosimus, I, 40 Oberdick, S., 43, Trebellius Pollio, Gall. 31, Trig. Tyr., 29. Hist. August., P.180, 181, Gibbon, I, P.263.

ورأت الملكة الحذر من الفرس، وذلك بتقوية حدود مملكتها، فأمرت بإنشاء حصن "زنوبيا" "Zenobia" على نهر الفرات، ليقف أمام الهجمات التي قد يوجهها الساسانيون عليها من الشرق1. ويقول "بوركوبيوس" أنه سمي بهذا الاسم نسبة إلى الملكة مؤسسته2. وقد اتبعت "الزباء" بعد مقتل زوجها سياسة عربية، سياسة تعتمد على التقرب من الأعراب والتودد إليهم، والاعتماد عليهم في القتال والحروب. وذلك بعد أن رأت أن الرومان هم أعداء تدمر، وأنهم لا يفكرون إلا في مصالح الرومان الخاصة. وبهذه السياسة تقربت أيضًا إلى العناصر العربية المستوطنة في المدن، وأخذت تعمل على تكوين دولة عربية قوية واحدة بزعامتها، وخاصة بعد أن أدركت أن الأعراب قوة لا يستهان بها، وأنهم لو نظموا واستغلوا استغلالًا جيدًا، صاروا قوة يحسب لها كل حساب، فأخذت تعمل لتكوين هذه القوة، ولكن الرومان كانوا أسرع منها، فقضوا على مآربها قبل أن تتحقق، فاستولوا على تدمر وأزالوا مملكة ملكة الشرق3. وجهت "الزباء" أنظارها إلى مصر، ووضعت الخطط للاستيلاء على هذا القطر، بعد أن مهدت لنفسها الدعوة فيه بإعلانها أنها مصرية وأنها من نسل الملكة "كليوبطرة" "قلبطرة" فلها إذن فيه ما يسمح لها بالتدخل في شؤونه، وأخذت تترقب الفرص وتتحين الأسباب، فلما قتل القيصر "غاليانس" سنة "268" للميلاد، وانتقل الحكم إلى "أوريليوس فلوديوس" "Marcus Aurelius Claudius" "268-270م"، وجدت الجو صالحًا للتدخل، كان الألمان "Alemannen" قد هاجموا حدود الانبراطورية في مطلع هذا العام، وكان "الغوط" "القوط" "Gothen" "Goths" قد أربكوا الدولة. وكان أثر الخسارة التي ألحقتها الملكة في الجيش الروماني، ومقتل "هرقليانوس" بالغًا في نفوس الرومان، يتجلى في صياح أعضاء مجلس الشيوخ بصوت واحد سبع مرات في أثناء مبايعة القيصر الجديد: "ياقلوديوس أغسطس نجنا من فكتوريا ومن زنوبيا، ياقلوديوس

_ 1 Oberdick, S., 43. 2 Procopius, History Of The Wars, Ii, V, Iv-Vi, P.295. 3 Die Araber, Ii, S., 270, Vi, S., 270

أغسطس أغثنا من التدمريين"1. وفي الرسالة المؤثرة التي وجهها القيصر إلى مجلس الشيوخ ومدينة "رومة" وهو في طريقه لتأديب المهاجمين، وفيها "إن جبيني ليندى خجلًا كلما تذكرت أن جميع الرماة بالقسي هم في خدمة زنوبية"2. فانتهزت الملكة هذه الفرصة المؤاتية وأرسلت جيشها لاحتلال مصر. كان القيصر قد أمر عالمه على مصر المدعو "بروبوس" "Probus" بالخروج على رأس أسطول الأسكندرية إلى عرض البحر: لمطاردة "الغوط" "القوط" "Goths" ولمنعهم من الهرب عبر المضايق، فخرج على رأس قوة كبيرة من الرومان لمطاردتهم، فانتهز الوطنيون والمعارضون لحكم الرومان –وعلى رأسهم "تيماجينيس" "Timagenes"، وهو رجل يوناني الأصل مبغض للرومان- هذه الفرصة، فكتبوا على الملكة يحضونها على تحرير مصر من حكم "رومة" وتولى الحكم فيها. وأظهر "فيرموس" "Firmus"، وهو رجل ثري جدًّا، استعداده لمساعدة الملكة بالمال وبكل ما ينبغي إذا أرادت الاستيلاء على مصر. فأمرت "الزباء" قائدها" "زبدا" بقصد مصر على رأس جيش قوامه سبعون ألف رجل. وقد قاتل الجيش الروماني الذي كان مؤلفًا من خمسين ألف مقاتل وتغلب عليه، ثم قرر العودة إلى تدمر تاركًا في مصر حامية صغيرة من خمسة آلاف رجل، ويظهر أنه تركها تحت إمرة "تيماجينيس" الذي عين نائبًا عن الملكة على مصر. فلما سمع "بروبوس" بهجوم التدمريين وتغلبهم على الرومان، أسرع عائدًا إلى مصر، فألف جيشًا من المصريين الموالين للرومان، وزحف على الأسكندرية، وأخذ يتعقب التدمريين، وأعمل فيهم السيف. فلما سمعت "الزباء" بذلك، أمرت قائدها بالعودة ثانية إلى مصر، فجرت معارك بين الطرفين انتهت بانتصار التدمريين على "بروبوس" عند "بابلون" أي "الفسطاط"، وكتب النصر لجيش الملكة في مصر3.

_ 1 المشرق، الجزء المذكور "ص 825". Oberdick, 53, Trebellius Pollius, Claud., 4, Triq. Tyr., Vaughan, P.83. 2 المشرق، الجزء المذكور "ص 826". Oberdick, S., 54, Trebellius Pollius, Claud., 7. 3 "بروباتوس"، المشرق، السنة الأولى، أيلول 1898م, الجزء 18 "ص 826"، Zosimus, I, 39, 44, Hist. August., P.198, “Pollius, Xxx, Tyrani, G. 29”, Oberdick, S., 54, Vaughan. P.84, 122, 130.

وقد ساعد عرب مصر من سكان الأقسام الشرقية من مصر، جيش تدمر مساعدة كبيرة، ولا سيما فيما جرى من قتال حول حصن "بابلون" "Babylon" الذي عرف بـ "الفسطاط" فيما بعد. ويظن بعض الباحثين أن "تيماجينس" "Timagenes" الذي وصفة المؤرخ "زوسيموس" "Zosimos" "Zosimus" بأنه مصري، كان في الحقيقة عربيًّا، واسمه عربي أخذ من "تيم اللات"، أو من "تيم جن"1. وكان من المبغضين للرومان. ولم تتحدث الموارد التأريخية عن الحوادث التي جرت في مصر بعد هذا النصر ولا عن موقف الرومان من هذا التطور الذي وقع في منطقة خطيرة من مناطق الانبراطورية. ويظهر أن الملكة تراضت مع "رومة" وعقدت اتفاقية معها، وافقت "رومة" فيها على بقاء جيوش تدمر في مصر، مع اعتراف "تدمر" بسيادة الرومان على وادي النيل. وقد عقدت هذه الاتفاقية في أواخر أيام حكم "قلوديوس". كما يتبين ذلك من خبر ذكره "تربيليوس بوليو" "Tribellius Pollio" مآله حلف المصريين يمين الولاء والإخلاص للقيصر، وقد دام هذا الاتفاق في أوائل سني حكم القيصر "أورليانوس" "Aurelianus" "270-275م" أيضًا كالذي يتبين من نقد ضرب في الأسكندرية في سنتي "270" و"271" للميلاد، وقد ضربت على أحد وجهي النقد صورة مزدوجة لوجه القيصر "أورليانوس" "Aurelianus" حاملًا لقب "أغسطس" "Augustus" مع وجه "وهبلات"، وقد نعت بـ: "Vir Consularis Romanorum Imperator Dux Romanorum" "Vir Consularis Rex Imperator Dux Romanorum"، ويشير إلى اللقب الذي تلقب به أيام حكمه. وأما ازدواج صورة القيصر مع صورة "وهبلات"، فيشير إلى الحكم المزدوج على مصر2. ولم يدم هذا الاتفاق بين الرومان وبين الملكة طويلًا. فقد ضغط سادات

_ 1 Die Araber, Ii, S,. 272, G. Ryckmans: Les Noms Propres Sud-Semitisques, 62, H. Wuthnow: Die Semitischen Menschennamen In Griech. Inschriften Und Papyri, 1930, 39. 2 Mattingly-Sydenham, V, I, 308, No: 381, H. Mattingly, In Cah, 12, 301, Ency. Brita., 17, P.163, Oberdick, S., 61, Wright, P, 137, Die Araber, Ii, S., 254.

"رومة" على الانبراطور بأن ينقذ الامبراطورية مما حاق بها من تصدع في أوروبة وفي الشرق. وفي جملة هذا التصدع ظهور ملكة "تدمر" وأطماعها في مصر وفي الأرضين الأخرى من بلاد الشأم وآسية الصغرى. واضطر القيصر "أوريليانوس" بعد الانتهاء من فتنة "رومة" ومن تأديب الجرمان إلى التدخل والعمل للقضاء على عصيان العصاة وطمع الطامعين. وبلغ سمع الملكة من أصدقائها ومخبريها في "رومة" عزم الانبراطور على القضاء عليها، فقررت القيام بعمل سريع قبل مباغتة القيصر لها، فألغت الاتفاق المعقود مع الرومان في أيام "قلوديوس"، وأمرت بمحو صورة "ارريليانوس" من النقود لتبرهن على قطع علاقتها بالقيصر، وعدم اعترافها بسيادة "رومة" الاسمية عليها، وأمرت بضرب صورة "وهبلات" وحده، مع اللقب "الانبراطوري" المخصص بقياصرة "رومة" وذلك في السنة الخامسة من حكمه. وقد تلقبت الزباء نفسها بهذا اللقب في النقود التي ضربت باسمها في الخارج. أما نقود "تدمر"، فقد لقبت فيها بلقب "ملكة"1، ولقبت في مصر هي وابنها بلقب "أغسطس". وهو لقب القيصر "أوريليانوس". وفي هذا التحدي الصريح، دليل واضح على ما حدث من نزاع شديد في العلاقات السياسية بين تدمر ورومة2. وتفاوضت الملكة "الزباء" على رواية مع الملكة "فيكتوريا" فيكتورية" "Victoria" عاهلة إقليم "الغال"، لتوحيد الخطط في مهاجمة القيصرية الرومانية واقتسامها، وأمرت جيوشها بالسير إلى "بيتينية" "Bithynia" فاستولت عليها، وظلت تتقدم دون ملاقاة معارضة تذكر حتى بلغت "خلقيدون" بإزاء "القسطنطينية"3. ويقال إن الملكة كانت قد أمرت بصنع عجلة فاخرة للدخول بها في موكب الظفر إلى عاصمة الرومان4. واضطرت الملكة لتنفيذ خطتها هذه إلى سحب القسم الأعظم من جيشها المعسكر في مصر معتمدة على دفاع المصريين أنفسهم إذا هجم عليهم الرومان. فانتهز

_ 1 Cooke, Nsi, No: 131, Wadd., 2628. 2 Ency. Brita., 17, P.163. 3 المشرق، السنة الأولى، الجزء "22 "1898م" ,"ص 1033". Oberdick, S., 84, Vaughan, P.117, 130, 133. 4 Oberdick, S., 83.

"أوريليانوس" هذه الفرصة فأرسل مددًا إلى "بروبس"، وكان القائد "زبدا" قد وصل إلى مصر لمساعدة "فيرموس" نائب الملكة على صد الرومان. فوقعت معارك بين الفريقين كاد يكون النصر فيها للتدمريين لولا استمالة "بروبس" جماعة من المصريين، فآزروه ودحروا جيش "زبدا" في سنة "271" للميلاد، واضطر التدمريون إلى ترك مصر إلى أعدائهم، فكانت هذه أول نكبة عظيمة تنزل بالزباء1، ومنذ "29" أغسطس من سنة "271م" انقطع في الأسكندرية ضرب النقود التي تحمل صورة الزباء ووهبلات2. ولا نعرف اليوم شيئًا من الموارد التأريخية عن الأثر الذي تركه انتصار "بروبس" في مصر على التدمريين. ولكننا نستطيع أن نقول أنه وقع وقعًا عظيمًا على الملكة "الزباء". فخسارة مصر على هذه الصورة، كانت خسارة كبيرة عليها، ولا بد أن تكون قد أثرت فيها، فقد مكنت الرومان من القضاء على سلطان الملكة في تلك البقعة المهمة وجعلت في إمكانهم تهديدها من الجنوب، كما أن توقف جيشها عند "خلقيدون"، وعدم تمكنها من الاستيلاء على "نيقية" وتوقف خططها العسكرية الهجومية، ثم اتخاذها خطة الدفاع ثم التراجع ومجيء "أورليانوس" بقوات كبيرة نحو الشرق، كل ذلك قد يكون نيتجة من نتائج هذا الاندحار الذي مني به جيش الملكة وأحزابها الموالية لها بمصر، فأضعف معنويات التدمريين ومن كان يواليهم وشد من أزر الرومان ومن كان يناصرهم. قاوم أهل "خلقيدون" التدمريين، وأبوا التسليم لهم، وأرسلوا إلى القيصر لينجدهم، ويظهر أن الملكة عرفت حراجة وضعها العسكري، وعدم استطاعتها التقدم، فقررت التراجع إلى مواضع جديدة تدافع فيها عن نفسها إذا هاجمها الرومان. وقد هاجمها الرومان فعلًا، إذ عبر القيصر مضيق "البسفور" وفاجأ التدمريين في "بيثينية" في أواخر سنة "271م" أو أوائل السنة التالية، وأجلاهم عنها، ثم سار إلى "غلاطية" "Galatia" و" قفادوقية" "Cappadocia" حتى بلغ "أنقرة" "Ancyra"، فسلمت له. وأخذ الرومان يتقدمون بسرعة إلى بلاد الشأم3.

_ 1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 22، "1898م"، "ص 1034". 2 Oberdick, S. 84. 3 المشرق، الجزء المذكور "ص 1034". Oberdick, S. 87.

أفزع تقدم الرومان السريع الزباء ورجالها ولا شك، وأخذت المدن التي كانت تساندها تشك في تمكن الملكة من الدفاع عن نفسها، وشاعت بين الناس قصص عن نهاية تدمر وخرابها بأيدي الرومان وعن سقوطها لا محالة، أثيرت مع وصول أنباء اعتزام القيصر القضاء على حكم الملكة وإخضاع "تدمر" لحكم الرومان. ومن يدري؟ فلعل الرومان وأنصارهم وأعوانهم وجواسيسهم هم الذين صنعوها وأذاعوها بين الناس لإماتة همة جيش الملكة وأعوانها، والإيحاء إليه أنه مغلوب لا محالة وأن إرادة الآلهة قد قضت بذلك ولا راد لها. فكان من بين ما أشيع أن معبد "الزهرة" في "أفقة" "Aphaca" أنبأ الحجاج التدمريين الذين حجوا قبل سنة من سقوط مدينتهم، يستفتون "الزهرة" فيما سيحل بهم في السنة المقبلة بمصير سيئ سيلحق بتدمر، وأن كارثة ستنزل بهم، أنبأهم بذلك على عادة المعبد في موسم الحج الذي يلي الموسم الذي سئل فيه السؤال1. وكان من بين ما أشيع تخرصات زعم أنها صدرت من معبد "أبولو" "Apollo" تنبئ بزوال دولة التدمريين ومشيئة الآلهة بانتصار "أورليانوس" على الزباء، وتخرصات تزعم أن الحبر "يهودا" "R.Juda" تلميذ الحبر "صموئيل" "Samuel" تنبأ بها عن تدمر، إذ كان قد قال: "سيحتفل الإسرائيليون في أحد الأيام بعيد، إنه عيد هلال "ترمود" "Tarmud"، إنها ستهلك كما هلكت "تمود" "Tamud" وقد هلكت". وورد أن الحبر "أشه" "R.Asche" ذكر "ترمود" "Tarmud" فقال: "ترمود مثل تمود، إنهما شيئان لأمر واحد، إذا هلك أحدهما قام الآخر مقامه". ويراد بـ "ترمود" مدينة "تدمر"2. إلى غير ذلك من تخرصات أوحت بها دعاية الرومان، وأعداء الملكة من يهود ومن قوميات أخرى قهرتها "الزباء" فأذاعتها بين الناس، لإفهامهم أن من العبث مقاومة القيصر وجنوده، وأن من الخير ترك المقاومة والاستسلام، وأن اليوم الذي ستحرر فيه تلك الشعوب من حكم الملكة آت قريب؛ لأن إرادة الآلهة قضت أن يكون ذلك، ولا راد لأمر الآلهة: نعم، لم تصدق الملكة العاقلة

_ 1 Zosimus, I, 54, 57, 58. 2 Oberdick, S., 80, Jebam, 17b.

الحكيمه بهذه الخرافات، فحاربت. ولكن عقول العامة لم تكن على شاكلة عقل الملكة، لقد أثرت فيها هذه الدعاية، وقضت على معنويات التدمريين الوثنيين الذين يدينون بهذه الخرافات ويؤمنون بها، وما زال من طرازهم خلق كثير في القرن العشرين الميلادي هذا. تهيأت الملكة "الزباء" لملاقاة "أورليانوس" عند مدينة "أنطاكية" "Antiochia"، وكانت هي على رأس الجيش فارسة تحارب في الطليعة، أما القيادة، فكانت لقائدها "زبدا". وفي الوقعة الأولى هجم فرسان تدمر على الكتائب الرومانية فشتتوا شملها، فأمر القيصر جنوده بالرجوع إلى مسافات بعيدة، ليوهم التدمريين أنه قد فر، فإذا ساروا في أثرهم وابتعدوا عن قواعدهم باغتهم بالهجوم، فلا يتمكن فرسان تدمر من الهزيمة لثقل أسلحة الفرسان ومعداتهم وبطء خيلهم بالقياس إلى خيل الرومان. وهو ما حدث. فقد خدع التدمريون وظنوا رجوعهم هزيمة، فتعقبوهم إلى مسافات بعيدة، وفجأة انقلبت الكتائب الرومانية على التدمريين، وأطبقوا عليهم، وأعملوا فيهم السيوف وانهزموا هزيمة منكرة إلى مدينة "أنطاكية". وفي هذه المدينة قر رأي الملكة على ترك أنطاكية والارتحال عنها بسرعة لأسباب، منها وجود جالية يونانية كبيرة فيها كانت تفضل حكم الرومان على حكم الشرقيين عليهم، وقد كان لها النفوذ والكلمة في المدينة، ومنها نفرة النصارى من الملكة بسبب موقفها من "بولس السميساطي" الذي قرر مجمع "أنطاكية" عزله من وظيفته، فلم تنفذ الملكة قرار المجمع، وتركته يتصرف في أموال الكنيسة، ولم تكتف بذلك بل عينته "Procurator Decenarius" على المدينة، أي أنها جعلته الرئيس الروحي والدنيوي على الأنطاكيين. أضف إلى ذلك كره اليهود الذين في المدينة للتدمريين. وقد نفذت الملكة هذا القرار في اليوم الذي دخلت فيه جيوشها المدينة، فأمرت قائدها بتركها والسير إلى "حمص" فورًا. وفي اليوم الثاني دخل "أورليانوس" تلك المدينة وأعطاها الأمان1. وتعقب القيصر أثر الملكة ففتح جملة مدن حتى بلغ "حمص" "Emisa"، وهناك وجدها على رأس جيش قوامه سبعون ألفًا في مفازة عريضة تقع شمالي المدينة.

_ 1 المشرق، الجزء المذكور "ص 1035". Oberdick, S., 92, Ritter, Erdkunde, 17, 2, S., 1160, 8, Zosimus, I, Ii; 50; 51; PP.44.

فاشتبك الرومان والتدمريون في معركة حامية ربح فيها التدمريون الجولة الأولى، فولى الرومان مدبرين مذعورين تفتك فيهم سيوف تدمر. غير أن القيصر حزم رأيه، وأدرك وجود ضعف في خطة قتال الملكة، سببه ابتعاد فرسان تدمر عن مشاتهم في أثناء تعقب فرسان الروم، فأمر جنوده بالهجوم على مشاة التدمريين، ولم يكونوا في التدريب والقابلية مثل مشاة الرومان، فمزقوا مشاة الملكة كل ممزق وحلت هزيمة منكرة عامة بجيش الزباء اضطرتها إلى ترك "حمص" وتفضيل الرجوع إلى عاصمتها تدمر للدفاع عنها، فلعل البادية تعصمها منه وتمنعه من الوصول إليها. ودخل القيصر مدينة "حمص"، فتوجه بالشكر والحمد إلى إله "حمص" "الشمس" قاطعًا على نفسه عهدًا أن يوسع المعبد ويجمله ويزينه أحسن زينة، مقدمًا له نذورًا هي أكثر ما غنمه من الغنائم من التدمريين1. أدرك القيصر أن النصر الحقيقي لن يتم له إلا بالقبض على "الزباء" وفتح "تدمر"، وأنه لن يدرك هذا إلا إذا سار هو بنفسه على رأس جيشه لفتح تلك المدينة. لذلك قرر الزحف إليها بكل سرعة قبل أن تتمكن الملكة من تحصين مدينتها ومن الاتصال بالفرس وبالقبائل العربية الضاربة في البادية، فيصعب عندئذ الاستيلاء عليها. فسار مسرعًا حتى بلغ المدينة برغم الصعوبات والمشقات التي جابهت الكتائب "اللجيونات" الرومانية في أثناء قطعها الصحراء، وألقى الحصار على "تدمر" القلعة الصحراوية الحصينة، غير أن المدافعين عنها قابلوه بشدة وصرامة برمي الحجارة والسهام والنيران على جيشه وبالشتائم والسخرية والهزء ترسل إليه من أعالي السور. ويظهر أن "رومة" سمعت بذلك فسخرت من عجز القيصر عن احتلال مدينة صحراوية، ومن التغلب على امرأة، فساء "أورليانوس" ذلك كثيرًا، فكتب إلى مجلس الشيوخ يقول: ".... قد يستضحك مني بعض الناس لمحاربتي امرأة.... فاعلموا أن الزباء "Zenobia" إذا قاتلت كانت أرجل من الرجال...."2. وبعثت سخرية أهل تدمر وهزؤ أهل "رومة" منه في القيصر عزمًا جديدًا على فتح المدينة ودكها دكًّا مهما كلفه الأمر، ليمحوا عنه هذه الوصمة

_ 1 المشرق، الجزء المذكور "ص 1036". Oberdick, S., 102, Zosimus, I, 53, Flav. Vop. Aur., 25, Gibbon, I, P.256. 2 المشرق، الجزء المذكور "ص 1038". Oberdick, S., 108, Flav. Vospicus Aur., 26-27, Hist. August., P.218, Wright, P.167, Gibbon, I, P.266.

المخجلة التي لحقت به. فكاتب الملكة طالبًا منها التسليم والخضوع للرومان لتنال السلامة وتستحق العفو، فيسمح لها بالإقامة مع أسرتها في مدينة يعينها مجلس الشيوخ لها. أما جواب الملكة، فكان: "إن ما التمسته مني في كتابك لم يتجاسر أحد من قبلك أن يطلبه مني برسالة. أنسيت أن الغلبة بالشجاعة، لا بتسويد الصفحات. إنك تريد أن أستسلم لك. أتجهل أن كليوبترة "كليوبطرة" قد آثرت الموت على حياة سبقها عار الدبرة، فها أنا ذي منتظرة عضد الفرس والأرمن والعرب "Saracens" لفل شباتك وكسر شوكتك. وإذا كان لصوص الشأم قد تغلبوا عليك وهم منفردون، فما يكون حالك إذا اجتمعت بحلفائي على مقاتلتك. لا شك أنك ستذل وتخنع لي فتجرد نفسك من كبريائها التي حملتك على طلب المحال كأنك مظفر منصور في كل أين وآن"1. لم ينجد الفرس ملكة الشرق، ولم يرسلوا إليها مددًا ما. فقد كانوا هم أنفسهم في شغل شاغل عنها. توفي "سابور" الأول في عام "271" للميلاد، فتولى "هرمز" "Ormidus" الملك من بعده، وكان رجلًا ضعيفًا خائر القوى، فعزل بعد سنة قضاها ملكًا، وظهرت فتن داخلية بسبب ذلك لم تسمح للفرس وهم في هذه الحال أن يرسلوا قوة لمساعدة ملكة البادية عدوة "أورليانوس" قيصر الروم. وأما القبائل، فأمرها معروف، إنها مع القوي ما دام قويًّا، فإذا ظهرت عليه علائم الضعف، صارت مع غيره، تحرش قسم منها بجيوش الرومان المحاصرة للمدينة هاجمتها، غير أنها منيت بخسائر فادحة، فتركت التحرش بالمحاصرين. ورأى قسم منها الاتفاق مع القيصر، ففي الاتفاق الربح والسلامة. وما الذي يجنيه سادات القبائل من ملكة محاصرة، لم يبق من ملكها غير مدينة في بادية وثروة سيستولي عليها الرومان. وإن بقيت لها فلن يصيبها منها ما يصيبهم من القيصر من مال كثير، ومن لقب وجاه يأتيهم من حاكم مدني قوي، وقد عرف القيصر فيهم هذه الخصلة فاشترى أنفس الرؤساء بالمال. فأمن بذلك شر القبائل، وسلم من عدو يحسب لعداوته ألف حساب2.

_ 1 المشرق، الجزء المذكور "ص 1038". Oberdick, S., 109, Flav. Vop. Aur., 26, 27, Wright, P.157, Vaughan, P.173. 2 Oberdick, S., 108, III.

ولما رأت الزباء أن ما كانت تأمله من مساعدة الفرس والقبائل والأرمن لم يتحقق، وأن ما كانت ترجوه من مساعدة الحظ لها بإطالة أمد الدفاع لإكراه عدوها على فك الحصار والرجوع لم يتحقق كذلك، وأن وضع القيصر قد تحسن بوصول مدد عظيم إليه من الشأم وبوصول مواد غذائية إليه كافية لإطالة مدة الحصار، قررت ترك عاصمتها للأقدار، والتسلل منها ليلًا للوصول بنفسها إلى الفرس علهم يرسلون لها نجدة تغير الموقف وتبدل الحال. ودربت أمر خطتها بكل تكتم وهربت من مدينتها من غير أن يشعر بخروجها الرومان، وامتطت ناقة واتجهت نحو الفرات، ولعلها كانت تقصد الوصول إلى حصنها "زنوبية" ومنه إلى الفرس1. على كل حال، فقد حالفها الحظ في أول الأمر، فأوصلها سالمة إلى شاطئ النهر، عند "الدير" "دير الزور" قريب من "زليبية"2 "Halebiya" ثم خانها خيانة فظيعة. فلما علم "أورليانوس" بنبأ هرب الملكة، أيقن أن أتعابه ستذهب كلها سدى إن لم يتمكن من القبض عليها حية. لهذا أوعز إلى خيرة فرسانه وأسرع رجاله فاقتفاء أثر الملكة والقبض عليها مهما كلفهم الأمر. وقال الحظ كلمته. أنه سيكون في جانب القوي ما دام الناس في جانبه. نقل فرسان القيصر إلى موضع وجود الملكة على الشاطئ، في اللحظة الدقيقة الفاصلة الحاسمة بين الموت والهلاك والدمار وبين العز والسلطان واسترجاع ما ذهب من ملك. كانت الملك تهم بوضع نفسها في زورق لينقلها إلى الشاطئ الثاني من نهر الفرات، ولو عبرت لتغير إذن كل شيء. وإذا بالفرسان ينقضون عليها ويأخذون "ملكة الشرق" معهم مسرعين إلى معيد الشرق للرومان: "Recepto Orientis"، وهو على رأس جنوده يحاصر هذه المدينة العنيدة التي أبت الخضوع لحكمه والتسليم له3. من الباحثين من يرى أن الملكة هربت من نفق سري يصل معبد المدينة بالخارج يمر من تحت السور له باب سري خارج الأسوار أعد لمثل هذه المناسبات، أو من أنفاق أخرى، إذ يصعب تصور خروج الملكة ليلًا من مدينتها ولو بحفر نفق في السور دون أن يشعر بذلك الرومان. ويستشهدون على صحة رأيهم هذا

_ 1 Oberdick, S., III. 2 المشرق، السنة الأولى. الجزء 23 "1898م". WRIGHT, P.160, Freya Stark, Rome, P.367. 3 “Recepto Igitur Orientis”, Flav. Vop. Aur., 25.

بالسراديب والقنوات التي ترى بقاياها تحت أسوار تدمر وقلاعها إلى اليوم1. أحضرت الزباء أمام القيصر، فقال لها: "صرت في قبضتنا يا زينب، ألست أنت التي أدت بك الجسارة إلى أن تستصغري شأن قيصر روماني"، فأجابت: "نعم، إني أقر لك الآن بكونك قيصرًا، وقد تغلبت علي. وأما غاليانوس وأورليوس وغيرهما، فلست أنظمهم في سلك القياصرة. وإنما بارتني فيكتورية في السلطنة والعز، فلولا بعد الأوطان لعرضت عليها أن تشاركني في الملك"2. فأثرت كلمات الملكة في نفس "أوريليانوس"، فمنحها الأمان. وقد أثر أسرها في نفوس التدمريين المتحصنين في بلدتهم، فرأى قسم منهم الاستمرار في الدفاع وعدم تسليم المدينة مهما كلف الأمر، ورأى قسم آخر فتح الأبواب والتسليم، وصاحوا من أعلى الأسوار في طلب الأمان، وفتحوا له أبواب المدينة في بدء السنة "273" للميلاد3. فدخلها دخول الظافرين، فقبض على حاشية الملكة السابقة ومستشاريها ومن كان يحرض على معارضة الرومان، واستصفى أموال الملكة وجميع كنوزها، وأخذ الزباء ومن قبض عليهم معه وتوجه بهم إلى "حمص"4. وتذكر بعض الروايات أن القيصر كان أول ما فعله عند دخوله إلى المدينة أن توجه إلى معبد الإله "بعل" "Bel"، فشكر الإله وحمده على توفيقه له ونصره له على أهل تدمر. ثم اختار له قائدًا نصبه على "تدمر" اسمه "Sandarion" على رواية و"Apsaeus" على رواية أخرى، ليحافظ على الأمن ويحكم المدينة. وجعل في إمرته حامية فيها ستمائة من الرماة، ثم غادر تدمر تاركًا أمرها إلى هذا القائد5.

_ 1 المشرق، الجزء المذكور "ص 1058". Oberdick, S., Iii, Ritter: Erdunde, Xviii, 2, S., 1521. 2 المشرق. الجزء المذكور، "ص 1058". Oberdick, S., 112, Ritter, Erdunde, Xvii, 2, Hist. August., P.199, 218, Wright, Pp.160, Vospicus Aurel., C. 28, Zosimus, I, I, C. 55, P.50, Gibbon, I, P.267, Trebellius Poll., 30. Tyr., 29. 3 المشرق، الجزء المذكور "ص 1059" Leopold Von Ranke: BD, 5, S. 189.. 4 Zosimus, I, 56. 5 Vaughan, P.187.

وفي حمص كما زعم المؤرخ "زوسيموس" "Zosimus" حاكم القيصر الملكة وأصحابها "استحضر القيصر سلطانة تدمر وأشياعها فلما مثلت بين يديه، جعلت تعتذر إليه وتتنصل وتدافع عن نفسها مدافعة الداهية حتى قرفت كثيرين من أصحابها بأنهم أصلوها بسوء نصائحهم وورطوها في الغرور. وكان من جملة الذين وشت بهم عند القيصر "لونجينوس" ... فحكم عليه القيصر من ساعته بالموت بعد أن مثل به. فكابد لونجينوس العقاب بشجاعة وصبر جميل حتى إنه عند وفاته كان يعزي أصدقاءه وأقاربه. وكذلك نكل بكل من تجرمت زينب عليه"1. وقد اختلف الباحثون في صحة رواية هذا المؤرخ، فمنهم من شك فيها ومن هؤلاء "الأب سبستيان رتزفال" الذي نقلت ترجمته العربية لرواية "زوسيموس" فقد استبعد صدور الوشاية والخيانة من ملكة كانت على جانب عظيم من سمو الأخلاق والثقافة2. ومنهم من اعتقد بصحتها وسلم بها ولام الزباء على صدور مثل هذا العمل الشائن منها، ومن هؤلاء المؤرخ الألماني "مومزن" "Mommsen" الشهير في تأريخ الرومان3. وغادر "أورليانوس" مدينة حمص إلى "رومة" ومعه "الزباء" وأبناؤها وعدد من الأسرى أراد إلحاقهم بموكب النصر الذي سيقيمه عند دخوله العاصمة ليتفرج عليهم الناس. وفي أثناء عبور "البسفور" غرق عدة من أصحاب "الزباء" في جملتهم "وهبلات" على رواية المؤرخ "زوسيموس"4. وبينما كان القيصر في "تراقية" "Thrazien" إذ جاءته الأخبار تنبئ بثورة أهل تدمر على قائد المدينة "سنداريون" "Sandarion" الذي عينه القيصر حاكمًا على تدمر5، وبظهور ثورة أخرى في مصر بطلها "فيرموس" "Firmus" الثري الشهير. وكان هدف الثورتين واحدًا، هو التحرر من حكم الرومان والحصول على الاستقلال،

_ 1 أخذت ترجمة "زوسيموس" من مجلة المشرق السنة الأولى، الجزء 23، السنة 1898م "ص 1059"، راجع الأصل في: Zosimus, I, I, C. 56, P.49, 51. Vopiscus: Hist. August., P.219, “Aurel. C. 30” 2 المشرق، الجزء المذكور "ص 1059". 3 Oberdick, S., 113, Georg Finaly: Griechenland Unter Romern, 1861, Leipzig, S., 104. Mommsen The Provinces Of The Roman Empire, Vol., Ii, P.748. 4 Zosimus, I, 58, Zdmg., 1864, S., 748. 5 المشرق، الجزء المذكور "ص 1060".

فأنفق "فيرموس" وهو من كبار رجال المال في العالم في ذلك الحين أموالًا كبيرة على الجمعيات الوطنية المناهضة لرومة، وألف جيشًا تمكن به من الاستيلاء على الأسكندرية، وجمع حوله أشياع "الزباء" في مصر، ولقب نفسه بألقاب القياصرة، وأخذ يتفاوض مع التدمريين في توحيد الخطط والعمل بجد في تقويض الانبراطورية الرومانية في الشرق1. وقرر القيصر الإسراع في العودة إلى الشرق لمعالجة الحالة قبل فوات الوقت، فوصل إلى "تدمر" بسرعة كبيرة أذهلت المدينة الثائرة، فلم تدر ما تصنع. كانت قد قتلت القائد "سنداريون" "سوداريون" "Sandauion"2، وفتكت بالحامية الرومانية، ورفعت راية العصيان في الشرق وتزعمت الحركة الوطنية المعادية للدخلاء وتبنتها، فبأي وجه ستقابل "أورليانوس" القيصر المتغطرس الجبار؟ وماذا سيكون موقفه منها؟ وهي في وضع حرج لا تأمل الحصول على مساعدة لا من الفرس ولا من المصريين. وتداعت المدينة بسرعة حينما مثل أمامها الرومان وسلمت نفسها للقيصر، فسلمها هو غنيمة إلى جنده يفعلون بها ما يشاءون بغير حساب. عفا القيصر "أنطيوخس" عن أقارب الزباء، وكان التدمريون أقاموه ملكًا عليهم. ولم يعف عن الرعية فتناولتهم سيوف الرعاع من جنود "رومة" وخناجرهم من غير تمييز في العمر أو تفريق في الجنس3. وأباح القيصر لجنوده تهديم أبنية المدينة، فدكت الأسوار وهدمت الأبراج وقوضت الأبنية4، حتى أن القيصر نفسه رق قلبه على من تبقى حيًّا من المدينة، فكتب إلى "Cirronius Bassus قائد المدينة أن يصفح عنهم، وأن يعيد بناء هيكل الشمس على ما كان عليه، وكان جنود "اللجيون" الثالث قد نهبوه وخربوه، وأمر بالإنفاق عليه وبتزيينه وتجميله من الأموال التي استصفيت من خزائن "الزباء" وطلب من مجلس الشيوخ في "رومه" إرسال كاهن ليدشن المعبد5. وأرسل

_ 1 Oberdick, S., 115. 2 "سوداريون": المشرق، الجزء المذكور "ص 1060". 3 Oberdick, S., 116, Gratz: Geschichte Der Juden, Iv, S., 336. 4 المشرق، الجزء المذكور "ص 1060". Vaughan, Pp.208. 5 Vopiscus: Hist. August., P.21. Vaughan, P.209.

بعض نفائس الهيكل على عاصمته لتوضع في معبد الشمس الذي أقامه هناك، ومنها أعمدة مصورة1. غير أن ما أفسده الدهر لا يصلحه العطار. ولم يتمكن القيصر من إصلاح ما أفسده الدهر على يديه، فلم يعد المعبد معبدًا كما كان، ولم تعد "تدمر" تدمر الزباء. وقبل أن يرحل "أوريليانوس" عن أرض تدمر، غزا الفرس. ويظهر أنه غزا قوة كانت قد أرسلت لمساعدة "تدمر"، فأرجعها على أعقابها. ثم عين قائده المحنك "ساترنينوس" "Saturninus" بدرجة "Dux" قائدًا على الحدود لحمايتها من الفرس2، وتوجه إلى مصر للقضاء على ثورة "فيرموس"، فكان الحظ فيها حليفه. احتل الإسكندرية وقبض على التاجر الحاكم الذي لقب نفسه قيصرًا فأمر بمعاقبته بعقاب السراق واللصوص، أي بصلبه على الصليب3. وبذلك أعاد معيد الشرق إلى الرومان الشرق المنفتل منهم مرة أخرى إلى الرومان. بعد هذه الانتصارات وانتصارات أخرى أحرزها في غالية، عاد إلى عاصمته في سنة "274" للميلاد في موكب قيصري عظيم وصفه المؤرخ "Flavius Vupiscus" وصفًا رائعًا، اشترك فيه "1600" مصارع وعدد غفير من الأسرى من مختلف الأقوام، ومن بينهم الملكة الزباء ومعها أحد أبنائها، وقيل كلاهما، وبعض رعاياها، وثلاثة عجلات ملكية: عجلة "أذينة" زوج الزباء وهي مزينة بالذهب والجواهر، وعجلة أهداها "هرمز بن سابور" إلى القيصر، وعجلة "الزباء" الخاصة التي أعدتها لتدخل فوقها منتصرة عاصمة الرومان. وتقدم الموكب عشرون فيلًا وعدة وحوش وحيوانات جيء بها من فلسطين وليبيا ومصر وأماكن أخرى. سار إلى "الكابيتول" ثم إلى قصر "الانبراطور". واحتفل الشعب في اليوم الثاني احتفالًا خاصًّا كانت فيه ألعاب مختلفة وكان فيه تمثيل وسباق مختلف الأنواع4. كان هذا الاحتفال نهاية فصل وبداية فصل جديد، قضى على الملكة أن تقبع

_ 1 Zosimus, I, 61, Oberdick, S., 116. 2 Oberdick, S., 118. 3 Flavius Vopiscus, Aur., C. 32, 45, Firmus, C. 2, Hist. August., P.219, Oberdick, S., 118, Gibbon, I, P.268. 4 Oberdick, S., 119, Flavius Vopiscus Aur., C. 33, Hist. August., P.220, Gibbon, I, P.269.

منذ نهايته في بيت خصص بها في "تيبور" "Tibur" مع أولادها، وأن تعتزل السياسة والشرق. عاشت في عزلة في هذه البقعة من إيطالية، ولم يتحدث عنها مؤرخو عصر "أورليانوس" شيئًا بعد أن صارت من سواد الناس. ويظهر أن ما ذكره بعض المؤرخين اليونان عن زواج الزباء بعضو من أعضاء مجلس الشيوخ هو أسطورة من الأساطير العديدة التي راجت بعد ذلك عن حياة ملكة الشرق1. وأما أولاد الملكة، فقد ذكرت قريبًا أن بعض المؤرخين أشار إلى غرق "وهبلات" في أثناء عبور القيصر مضيق "البسفور". وأشار آخرون إلى أنه نقل مع أمه إلى "رومة". وأما "تيم الله" "Timnlaus"، فأسكن مع أمه أيضًا في "تيبور". وزعم في رواية أنه مات مع أخيه "خيران" "حيران" "Herennianus" في أثناء الاحتفال بموكب النصر. وزعم أيضًا أنه عاش وصار خطيبًا مصقعًا من خطباء "اللاتين"2. وروي أيضًا أنها زوجت بناتها بأعيان من الرومان. وروى المؤرخ "تربيليوس بوليو" "Trebellius Pollio"، وهو من رجال القرن الرابع للميلاد "حوالي سنة 304م"، أن ذرية الزباء كان في أيامه3. وذكر أن الأسقف الشهير القديس "زنوبيوس" "Zenobius" أسقف مدينة "فلورنسة" ومعاصر القديس "أنبروسيوس" "Ambrosius" كان من نسلها أيضًا4. ولم تكن تدمر في عهد "ديوقليطيانوس" "ديوكليتيانوس" "Diocletian" "Diocletian" "285-305م" سوى قرية صغيرة وقلعة من قلاع الحدود لحمايتها من هجمات القبائل وغزوها للمدن القريبة من البادية5. ويخبرنا المؤرخ "ملالا" أن "دويقليطيانوس" ابتنى "Castra" فيها، وذلك بعد عقده الصلح مع الفرس6، ورممم بعض أبنيتها. ويرى "الأب سبستيان رتزفال" أنه اضطهد نصارى تدمر كما فعل في سائر الأقاليم7.

_ 1 Oberdick, S., 120. 2 المشرق، الجزء المذكور "ص 1063". 3 Oberdick, S., 120, Trebellius Pollio, 20. 4 المشرق، الجزء المذكور "ص 1062". Oberdick, S., 120, Eutrop. 9, 13, Hieron, Chron., P.758. Vol., Baronius, Ann., Iii, P.146. 5 المشرق، الجزء المذكور، "ص 1062". Oberdick, S., 116 6 Oberdick, S., 117, Malalas, S., 308. 7 المشرق. الجزء المذكور "ص 1063".

وفي حوالي القرن الخامس للميلاد "400م" كانت تدمر مقاطعة تابعة لولاية "فينيقية" وقد عين "تاودوسيوس" "تيودوسيوس" ثيودوسيوس" الثاني "408-450م" فرقة من الجند لحراسة "تدمر"1. والظاهر أن وظيفتها كانت حماية الحدود من هجمات رجال البادية. أما الكتيبة الرومانية التي عسكرت فيها في حوالي سنة "400" بعد الميلاد، فهي "اللجيون الأليري" "Illyrian" الأول2. وذكر الراهب "إسكندر" "Alexander The Acoemete" المتوفى في حوالي سنة "430" للميلاد أنه في أثناء سفره من الفرات إلى مصر قابله الجنود الرومان المعسكرون في القلاع بكل ترحاب وقدموا له ولمرافقيه كل المساعدات الممكنة، وأنه وجد قلاعًا مقامة على طول حدود الفرس والروم على مسافات تتراوح من عشرة أميال إلى عشرين ميلًا رومانيًّا. وقد قطع الحدود هذه حتى بلغ مدينة "سليمان"، ويقصد بها مدينة تدمر3. وأمر القيصر "يوسطنيانوس" "جستنيانوس" "Justinianus" "527-565م" في أوائل تبوئه الحكم "527م" "أرمينيوس" "Armenius" بالذهاب إلى "تدمر" لترميم ما تهدم من المباني وإعادة المدينة إلى ما كانت عليه. وأمده بالأموال اللازمة لهذا المشروع4، كما أمر بتقوية حامية المدينة، وأن تكون مقر حاكم "Dux" مقاطعة "فينيقية لبنان" "Phoenice Libanesia" وذلك لحماية الحدود خاصة حدود الأرض المقدسة5، وذكر المؤرخ "بوركوبيوس" "Procopius" أن القيصر المذكور قوى أسوار المدينة وقلاعها وحصنها تحصينًا قويًّا، وحسن موارد

_ 1 المشرق. الجزء المذكور "ص 1063". Oberdick, S., 117, Wright, P.169, Notitia Dign Orien, P.84, 380, “Ed. Bocking”. 2 Ency. Brita., 17, P.163, Notita Dign., I, 85. 3 Musil: Palmyrena, P.248, De S. Alexandra Fundatore Acoemetorum, Constantinopli, In: Bolland “Acta Sanctorum” P.1025, Edition, E. De Stoop: Vii D’alexandre Acemete, In: Patrologia Orientalis, P.683. 4 المشرق. الجزء المذكور "ص 1063". Oberdick, S., 117. 5 Oberdick, S., 117, Procoptus: De Aedif. Just., Ii, Ii, De Bello Persico, 2, I, P.88, Theophanus, Chro., I, P.267, “Ed. Bonn”, Malalas, P.426, Syria, Vii, 1926, P.77.

مياهها، ولا تزال آثار هذا العهد باقية حتى الآن1. وقد كانت مدينة "تدمر" على الحدود الداخلية "Limes Interior" للانبراطورية في أيام "يوسطينيانوس"2. ويسكن في المناطق التي بين هذه الحدود وبين الحدود الخارجية "Limes Exterior" القبائل المحالفة للرومان. ومن هذه المنطقة تغزو القبائل الحدود3. وقد كان سلطان الروم وقواتهم العسكرية أقوى في الحدود الداخلية منها على الحدود الخارجية التي كان يقوم بالدفاع عنها رجال القبائل الحليفة بالدرجة الأولى بأجور ومخصصات تدفعها الحكومة إلى رؤسائها لضمان حماية تلك الحدود. وقد كانت القبال العربية قبل الميلاد وبعده تقلق راحة سكان الحدود وتزعج الحاميات الموكول إليها أمر سلامتها، وتكون مصدر خطر دائم للحكومات، وكان من الصعب الاطمئنان إليها، ثم إن البادية كانت تصدر لهما بين حين وآخر بضاعة جديدة منها، وموجة عنيفة تزعج القبائل القديمة والحدود معًا، فكان على تلك الحكومات مداراتها واكتساب ود القوية منها، ويقال إن القيصر "دقيوس" "Decius" "249-251م" سئم في زمانه من هذا الوضع وبرم به، ففكر في إدخال الرعب في نفوس هذه القبائل وقهرها، فجاء بأسود اصطادها من إفريقية في البادية لتتناسل وتتوالد ولتكون مصدر خطر ورعب للأعراب4. وقد اتخذ بعض ملوك الغساسنة تدمر منزلًا لهم ومحل إقامة. ولم تزل على هذا الشأن حتى فتحها المسلمون سنة "634م"5. غير أنها منذ تركتها الزباء لم ترجع إلى ما كانت عليه. وقد أثر تحول الطرق التجارية في مركز هذه المدينة كثيرًا ولا شك. وانتهت إلينا أسماء عدد من أساقفة مدينة "تدمر" مدونة في سجلات الأعمال الكنيسة، منهم: الأسقف "مارينوس" "Marinus" وقد حضر المجمع النيقاوي "Nicaa" "Nicaea" الذي انعقد سنة "325" للميلاد6، والأسقف "يوحنا" "357م" وقد ورد اسمه في سجلات أعمال مجمع "خلقيدون" "Chalcedon"

_ 1 المشرق، الجزء المذكور "ص 1036". 2 Musil, Palmyrena, P.248, Theophanes, Chronographia “Migne”, Col: 404. 3 Musil, Palmyrena, P.248. 4 Musil, Palmyrena, P.247, The Chronicon Paschale, “Migne”, Col: 669. 5 المشرق، السنة الأولى، الجزء 23 "1898م"، "ص 1063". 6 المشرق، الجزء المذكور "ص 1063". Oberdick, S., 117.

المنعقد عام "451م"1، و"يوحنا" الثاني المشهور في أيام "انستاس" "أنسطاس" "نسطاس" القيصر "491 -581م". وكان نفي في عهد "يوسطينوس" خليفته لدفاعه عن "المجمع الخلقيدوني" ولقوله بطبيعتين في المسيح سنة "518م"2. ويستدل من وجود أساقفة في تدمر على انتشار النصرانية في هذه المدينة. وفي "تدمر" في الزمن الحاضر ثروة تأريخية مطمورة تحت الأنقاض ستفيدنا ولا شك فائدة كبيرة في تدوين تأريخ المدينة وتأريخ صلاتها بالخارج، لقد عثر فيها على كتابات أفادتنا كثيرًا في تدوين تأريخ المدينة، ولكن ما سيعثر عليه منها مما هو مطمور سيفيدنا أيضًا، وقد يفيدنا أكثر من كتابة تأريخها. وقد قام علماء بالتنقيب في مواضع منها، للكشف عن المواقع المهمة منها، وكتبوا عنها3. غير أن المدينة لا تزال في انتظار من يكشف عنها. ووردت في الكتابات التدمرية أسماء أصنام عديدة عبدها التدمريون، بلغ عددها زهاء اثنين وعشرين صنمًا، منها ما هو معروف ومشهور عند العرب، وأسماؤها أسماء عربية. ومنها ما هو إرمي، وعلى رأس آلهة تدمر الإله "شمش" "شمس". وقد اتصفت دياناتهم بمزايا النظام الشمسي الذي تركزت عليه ديانة عرب الشمال. ومن هذه الأصنام "بل"، أي "بعل"، و"يرح بل" "يرح بول" "يرح بعل"، و"عجل بل" "عجل بول" و"عجل بعل"، و"الت" أي "اللآت"، و"رحم" "رحيم"، "اشتر" أي "عشتار"، و" عثتر" عند العرب الجنوبيين4، و"ملك بل" "ملك بعل"5، و"عزيزو" "عزيز"

_ 1 Oberdick, S., 117. 2 المشرق، الجزء المذكور "ص 1036". 3 Syria, Tome, Vii, 1926, Pp.70, “Recherches Archeologiques A Palmyre”, By Albert Gabriel, Pp.128. Syria, Tome, Xi, 1930, Pp.242, Tome, Xvii, 1936, Pp.229 Bounni A. Les Annales Archeologues De Syrie, Vol., 15, 1955. 4 Ency. Brita., 17, P.163, Syria, Tome, Ix, 1928, Pp.101, Tome, Xiii, 1932, Pp.139, Tome Xiv. 1933. Pp.171, J. Fevrier, La Religion Des Palmyreniens, Pp.57. 5 Syria, Xiv, 1933, P.169.

و"سعد"، و"اب جل"، و"اشر"1، و"بل شمن" "بل شمين" "بعل شمين"، أي "بعل السماوات" "رب السماوات"2، و"جد" "جد بعل"، وغيرها. وعثر في تدمر على مقابر عديدة خارج أسوار المدينة على التلال المشرفة عليها تذكر الأحياء عباد المال بالمصير المحتوم الذي سيواجه كل حي غني أو فقير أو متوسط، تضم رفات من تستقبلهم ثم لا تسمح لهم بالانتقال منها إلى دار أخرى، أنها دور الأبدية والاستقرار، وقد أجاد أهل المدينة كل الإجادة بإطلاقهم "بيت الأبدية" على القبر3. ضمت بيوت الأبدية هذه رفات الآباء والأبناء إلى الأبد: بعضها على هيأة أبراج ذوات غرب تودع فيها الموتى، وبعضها على هيأة بيوت ذوات غرفة واحدة مزينة بالنقوش وأنواع الزخرفة كتبت على جوانبها أسماء ساكنيها في الأبدية ورسمت صورهم عليها4. هذه هي مدينة الأموات تشرف على مدينة الأحياء وتضحك منها.

_ 1 Syria, Xv, 1934, Pp.173, Tome Xviii, 1937, P.9, Xviii, 1937, 198, Baethgen, Beitrage Zur Semitishen Religionglschichte, S., 84. 2 Syria, Xviii, 1937, P.5, Rep. Epig., 30, Tome, I, I, P.28. 3 Ency. Brita., 17, P.162, Syria, Xxvi, 1949, Pp.87, “La Tour Funeraire De Palmyre”, By Ernest Will, Wood, The Ruins Of Palmyra, Pl. 56. 4 Ency. Brita., 17, P.162.

حصن زنوبية

حصن "زنوبية": لم تفكر "الزباء"، على ما يظهر، في نقل عاصمتها إلى موضع آخر، وقد علمت على تقوية "تدمر" وتحصينها وتجميلها، ومعظم الآثار الباقية فيها هي من أيامها. ولو أن كثيرًا من الأبنية التي كانت فيها قبل أيام الملكة قد صيرت باسمها، غير أنها عنيت عناية فائقة بتحسين عاصمتها ولا شك. وابتنت مدينة على نهر الفرات لحماية حدودها من الشرق عرفت بـ "زنوبية" وهو اسمها باليونانية. ويظهر أن هذه المدينة هي التي أشار إليها "الطبري" بقوله: "وكانت للزباء أخت يقال لها زبيبة، فبنت لها قصرًا حصينًا على شاطئ الفرات الغربي"1،

_ 1 الطبري "2/ 32".

فجعل المدينة قصرًا، وصير اسم المدينة وهو "زنوبية" "زبيبة" وجعله اسم أخت للزباء. وذكر "المسعودي" أن مدائن الزباء على شاطئ الفرات من الجانب الشرقي والغربي، "وكانت فيما ذكر قد سقفت الفرات وجعلت من فوقه أبنية رومية، وجعلته أنقابًا بين مدائنها"1. وذكر أيضًا أنها حفرت سربًا من تحت سريرها وبنته حتى خرج من تحت الفرات إلى سرير أختها2. وقد أشير إلى هذا النفق في قصة مقتلها. وذكر "ابن الكلبي" أن أبا الزباء اتخذ النفق لها ولأختها، وكان الحصن لأختها داخل المدينة3. وذكر "البكري" أن المدينة التي بنتها الزباء على شاطئ الفرات هي "الخانوقة"، وزعم أن "الزباء" "عمدت إلى الفرات عند قلة مائه فسكر، ثم بنت في بطنه ازجًا جعلت فيه نفقًا إلى البرية وأجرت عليه الماء، فكانت إذا خافت عدوًّا دخلت إلى النفق وخرجت إلى مدينة أختها الزبيبة"4. وسمى "ياقوت الحموي" تلك المدينة "الزباء"، قال: إنها "سميت بالزباء صاحبة جذيمة الأبرش"5. ودعاها في موضع آخر "عزان"6 وقال: إن في مقابلها على الضفة الثانية من الفرات مدينة تدعى "عدان"، وهي لأخت الزباء7. ويظهر أن هرب "الزباء سرًّا من نفق سري، يمر من داخل المدينة من معبدها أو من قصر الملكة ومن تحت السور إلى الخارج، هو الذي أوحى إلى أهل الأخبار قصة ذلك النفق الطويل الذي زعموا أن الملكة بنته تحت الأرض من قصرها إلى نهر الفرات، حيث مدينتها الثانية، وهو نفق يجب أن يكون طوله مئات الأميال. وقد عثر على بقايا سراديب وقنوات. تحت أسوار تدمر وقلاعها تشير إلى وجود أنفاق للهرب منها عند الاضطرار8، ولكنها لا يمكن أن تكون على شاكلة نفق أهل الأخبار بالطبع.

_ 1 مروج "2/ 19". 2 مروج "2/ 21". 3 "الطبري "2/ 34" "طبعة المطبعة الحسينية". 4 البكري، معجم "1/ 320"، "طبعة وستنفلد". 5 البلدان "4/ 372". 6 البلدان "6/ 126". 7 البلدان "6/ 126". 8 المشرق، الجزء المذكور "ص 1058". Oberdick, S., Iii, Ritter, Erdkunde, Xvii, 2, S., 1521.

ولا يستبعد احتمال وجود نفق في حصن "زنوبية" على الفرات أيضًا، ساعد وجوده في تثبيت هذه القصة في رواية الأخباريين. ويرى "هرتسفلد" "E.Herzfeld" أن هذه المدينة هي الموضع الذي يعرف اليوم باسم "الحلبية"، ويقابله في الضفة الثانية من النهر موضع آخر يسمى "الزليبية". وهو يعارض رأي من يدعي أن "الزليبية" هي المدينة التي بنتها الزباء. وينسب بناء موضع "حلبية" "الحلبية" إلى "الزباء" كذلك1. ويرى بعض الباحثين احتمال كون "الحلبية" القصر الثاني الذي نسب بناؤه إلى الزباء، وذكر في الروايات العربية. وذهب بعض آخر إلى أن "زنوبية" هي "مدينة "السبخة" الحالية2. ويرى "موسل" أن "الحلبية" هي "دور كرباتي" "Dur Karpati" "Nibarti Aschur" التي بنيت بأمر "آشور نصربال الثالث" "Asurnazirpal" عام "877" قبل الميلاد، وأنها عرفت بـ "زنوبية" ثم "الزباء" فيما بعد3. ويعزو "سبستيان رتزفال" سبب بناء مدينة "زنوبية" إلى عزم الملكة على إذلال مدينة "فولوغيسية" "Vologasia" "Vologesias" المعروفة في الكتابات التدمرية باسم "أجليسيا" "Ologesia" "ألجاشيا"، وهي في نظر بعض الباحثين "الكفل" على نهر الفرات في لواء الحلة بالعراق، بناها "فلوجاس" "فوكاس" من ملوك "الأرشكيين" "بنو أرشك" حوالي سنة "60" للميلاد. وذلك لاستجلاب التجارات الواردة عن طريق نهر الفرات من أقاصي الهند والشأم وآسية الصغرى4. فرأت "الزباء" منافسة هذه المدينة ببناء مدينة جديدة تقع في منطقة نفوذها على نهر الفرات.

_ 1 المشرق، السنة الأولى، الجزء الـ20، السنة 1898م، "ص 920". Friedrich Sarre Und Ernst Herzfeid. Archaologische Reise Im Euphart Und Tigris-Gebiet, Berlin. 1911, I, S., 167, Ii, 365. 2 المشرق، السنة الأولى، السنة 1898م، "ص 495، 920". Sarre – Herzfeid, Archaologische, I, S., 164. 3 Musil. Euphrates. P.331, Rawlinson, Cuneiform Inscriptions. “1861-1884”, Vol., I, Pl. 24. Col., 3. Ii. 49, Budge And King. Annals, 1902, Pp.360. 4 المشرق، السنة الأولى، السنة 1898م، "ص 495، 920"، سماها "الأب رتزفال" "الكفيل"، Rostovtzeff. Melange Gloz, 749, Seyrig. Syria, XIII, 1932, P.272.

وكانت قوافل "تدمر" تتاجر مع هذه المدينة العراقية "ألجاشيا"، تحمل إليها بضائع الشأم وسواحل البحر المتوسط، وتنقل منها إلى "تدمر" بضائع الهند وإيران والخليج والعراق. يقود هذه القوافل زعماء شجعان خبروا الطرق وعرفوها معرفة جيدة، ولهم في المدينة مقام محترم. وطالما عمل لهم رجال القافلة والمساهمون في أموالها، التماثيل، تقديرًا لهم وتخليدًا لأسمائهم وكتبوا شكرهم لهم على الحجارة، ولدينا نماذج عديدة منها، من ذلك كتابة دونها رجال قافلة لزعيمهم وقائدهم "يوليوس أورليوس زبيد بن مقيمو بن زبيدا عشتور بيدا"؛ لأنه أحسن إليهم حين قاد قافلتهم وأوصلها سالمة إلى "الجاشيا" في العراق. وكتابة أخرى دونها جماعة قافلة تولى قيادتها زعيم اسمه "نسي بن حالا" لمناسبة توفيقه في حمايتهم وحماية أموالهم في أثناء ذهابهم وعودتهم إلى "الفرات" وإلى "ألجيسيا" "Ologesia" وقد صنعوا لذلك تمثالًا له في شهر "نيسان" من سنة "142" للميلاد تخليدًا لاسمه1. وقد استولى "خسرو" الأول في حوالي سنة "540" بعد الميلاد على "زنوبية" فدمرها. فلما استرجعها "يوسطنيانوس" "جستنيانوس" "Justinianus" "527-565 م"، أعاد بناء ما تهدم منها. وقد عثر على بقايا المباني التي تعود إلى أيامه، وبعضها من عمل معماريه "يوحنا البيزنطي" و"أزيدوروس الملطي" "Isidoros Miletus" حفيد البناء البيزنطي الشهير "أيا صوفيا" "Hagia Sophia" كلفهما القيصر إنشاء تلك العمارات2. غير أن إصلاحات هذا القيصر لم تضف إلى حياة المدينة عمرًا طويلًا، لقد كانت نوعًا من أنواع الحقن المقوية تقوم الجسم إلى حين ولكنها لا تمنحه الأبدية. ففي سنة "610" للميلاد. وفي أيام القيصر "فوقاس" "Phokas" هاجمها "خسرو" الثاني وأنزل فيها الخراب والدمار3. فقد عبر "شهربراز" "Shahrvaraz" نهر الفرات في اليوم السادس من شهر "أغسطس" من عام "610" للميلاد، واستولى على مدينة "زنوبية" "Zenobia"4. وأخذ نجمها منذ ذلك الحين في الأفول، فلم يسمع

_ 1 Rep. Epig., I, Vi, P.342. 2 Sarre-Herzfeld, Archaologische Reise, I, S., 167, Ii, S., 365. 3 المصدر نفسه، Land, Anecdota Syriaca, I, 16. 4 Musil, Euphrates, P.332.

عنها شيء، حتى إنها لم تذكر في أخبار الفتوح، ويدل هذا على أنها لم تكن شيئًا يذكر في ذلك الحين1. ويحدثنا المؤرخ "بروكوبيوس" أن الأيام أثرت في مدينة "زنوبية" "Zenobia" مدينة "الزباء"، فأنزلت فيها الخراب، وتركها أهلها، فانتهز الفرس هذه الفرصة ودخلوها وتمكنوا بذلك من الولوج في الأرضين الخاضعة للروم دون أن يشعر الروم بذلك، ولذلك أعاد "يوسطنيانوس" بناء هذه المدينة وأحكم حصونها وجدد قلاعها وأنزل الناس فيها، وأسكن فيها حامية قوية جعلها تحت إمرة قائد، وأقام لها سدودًا من الحجارة لحمايتها من فيضان الفرات، وقد كانت مياه الفيضان تصل إليها فتلحق بها أضرارًا جسيمة2. وذكر المؤرخ "بروكوبيوس" أن الفرس والروم ابتنوا قلاعًا بنيت جدرانها باللبن لحماية كورة "قوماجين "Commagene" وهي الكورة التي كانت تعرف قبلًا باسم "كورة الفرات" "Euphratesia"، وحماية حدود الانبراطورية الفارسية الواسعة المشرفة على البادية من الغزو أيضًا. ومن جملة هذه الحصون ثلاثة حصون أمر القيصر "ديوقلطيانوس" "ديوقليتيانوس" "Diocletianus" ببنائها، منها حصن "Mabri" "Mambri" الذي أصلحه القيصر "يوسطنيانوس" "جستنيانوس "Justinianus" ورممه. ويقع على مسافة خمسة أميال رومية من "زنوبية" Zenobia". و" Mambri"، هو خرائب "شيخ مبارك" على مسافة سبعة كيلومترات من "الحلبية"3. ولم يبق من آثار عهد "تدمر" في "الحلبية" إلا مقابر خارج أسوار المدينة. وهي على هيأة أبراج تتألف من طابقين أو ثلاثة طوابق وأهرام بنيت على الطريقة التدمرية في بناء القبور، غير أنها دونها كثيرًا في الصنعة وفي الفن، وتشاهد بقايا قبور مشابهة لهذه القبور في المدن الواقعة في منطقة الفرات الأوسط. أي المنطقة التي خضعت لنفوذ حكومة "تدمر"4.

_ 1 Land, Anecdota Syriaca, I, 16, Sarre-Herzfeld, Arch., I, S., 167, Ii, S., 365. 2 Procopius, De Bello Persico, Ii, 5. 4-7, Musil, Euphrates, P.332. 3 Musil, Euphrates, P.332. Procopius, De Aedificus, Ii, 8, 4-8. 4 Sarre-Herzfeld. Arch., Ii. S., 367.

ويلاحظ انتشار هذا النوع من القبور في المناطق التي سكنها العرب في أطراف الشأم والعراق في العهد البيزنطي، خاصة في "تدمر" وفي "حمص" و"الرها" "Edassa" وفي "الحضر" كذلك1. بل وفي "بطرا" أيضًا حيث نجد شبهًا كبيرًا في أشكال القبور المنحوتة من الصخر على هيأة أبراج ذوات رؤوس تشبه الهرم في بعض الأحيان، ولانتشار هذا النوع من القبور في مناطق سكنتها أغلبية من العرب المتحضرين، نستطيع أن نقول إنها نمط خاص من أنماط بناء القبور كان خاصًّا بالعرب المتحضرين2. وذكر "بطلميوس" أسماء عدد من المواضع جعلها في عداد أماكن "كورة تدمر" "Palmyrena"3 وهي: "Resapha" و"Cholle" و"Oriza" و"Putea" و"Adaba" و"Palmyr" و"Adacha" و"Danaba" و"Goaria" و"Aueria" و"Casama" و"Admana" و"Atera" و"Alalis" و"Sura" و"Alamatha"، وتقع هذه المواضع الثلاثة الأخيرة على نهر الفرات4. أما "Palmyra"، فهي "تدمر" العاصمة، وأما "Resapha"، فهي "الرصافة" وهي مدينة قديمة ورد خبرها في النصوص المسمارية فدعيت فيها بـ "Ra-Sap-Pa" ومن ذلك نص يعود إلى سنة "840" قبل الميلاد، وقد اشتهرت بوجود ضريح القديس "سرجيوس" "St.Sergius" بها، المقدس عند الغساسنة5. وأما "Cholle"، فهي "الخولة" "الخلة"، وأما "Oriza"، فهي "الطيبة"، وتقع هذه المواضع على السكة الرومانية الممتدة من الفرات إلى "تدمر"6. ويرى "موسل" أن "Putea"، هو "Beriarac"، وهو موضع "بيار جحار"، ويقع على السكة الرومانية المارة من "تدمر" إلى موضع "Occaraba"7.

_ 1 Sarre-Herzfeld, Arch., Ii, S., 367, W. Andrae, Hatra, Ii, S., 76-106. 2 Sarre-Herzfeld, Arch., Ii, S., 367, Eissfeldt, Tempel Und Kulte Syrischer Stadte In Hellinistisch-Romischer Zeit, 1941. 3 Ptolemy, Geography, V, 14: 19 4 Musil, Palmyena, P.233. 5 Winckler, Keilinschriftliches Textbuch, 1909, S., 75, Musil, Palmyrena, P.262. 6 Musil, Palmyrena. P.233 7 Musil, Palmyrena. P.233

أما المستشرقان "ميلر" "Muller"1 و"موريتس" "Moritz"2، فقد ذهبا إلى أنه "أبو الفوارس" الوقاع على مسافة سبعة كيلومترات في غرب جنوب غربي تدمر. وذهب "موريتس" أيضًا إلى احتمال كونه "القطار"، وهو على مسافة خمسة وعشرين كيلومترًا إلى الشمال الشرقي من "تدمر"3. أما موضع "Adaba"، فكان حصنًا رومانيًّا كذلك، يعرف في الزمن الحاضر بـ "الحير"، ويقع على أربعة عشر كيلومترًا إلى الجنوب الشرقي من "الطيبة" "Oriza"، وعند الحافات الغربية لمرتفع "Adidi"، وهو اسم قريب من ""Adaba"4 وقد ذهب "ميلر" إلى أنه الموضع المسمى بـ "خربة العاشجة" "خربة العاشقة" الواقع على الحافات الشمالية لهضبة تدمر5. ويرى "موسل" أن في كلمة ""Adacha" بعض التحريف، وأن الأصل الصحيح هو "Archa" و"Harac"، وهو "أرك" "رك" الواقع على طريق تدمر وفي الشمال الشرقي من المدينة6. وأما "Danaba"، فيقع على طريق "دمشق" "تدمر"، وهو موضع خرائب "البصيري" على رأي "موسل"7. وأشار المؤرخ "اصطيفانوس البيزنطي" إلى ""Goaria" كذلك، ذكرها على هذا الشكل "Goaria"8. ويظهر أن هذه المدينة كان لها شأن في تلك الأيام، وإذ أطلق اسمها على منطقة واسعة دعيت باسم "Goarene"، ويظن أنها "البخراء" وهي في زمننا خرائب تعق على ستة وعشرين كيلومترًا إلى الجنوب من "تدمر". وقد عرفت بـ "Goaria" عند بني إرم "الآراميين"9. وذهب "ميلر" و"بينتزنكر" "Benzinger" إلى أن "Goaria" هو الموضع المسمى بـ "Cehere"

_ 1 Muller, Ptolemy. Geography. P.983. 2 Moritz, Palmyrena “1889”, S., 8. 3 Musil, Palmyrena. P.233. 4 Musil, Palmyrena. P.233. 5 Muller, Ptolemy, Geography, P.984. 6 Musil Palmyrena, P.234. 7 Musil Palmyrena, P.234. 8 Stephen Of Byzantium. Ethnica, P.210. 9 Musil, Palmyrena, P.234.

على الخارطة الرومانية لأيام الانبراطورية1. وهو رأي يعارضه "موسل"، ويرى أن "Cehere" هو المكان المسمى بـ "خان عتيبة" الواقع على مسافة تزيد على مئة كيلومتر في جنوب غرب "البخراء"2. ويظهر أن "Aueria" "Aueria" "Aberia"، هو موضع "Eumari" "Euhara" "Euarirs" في مؤلفات أخرى، وهو موضع "الحوارين"3. وأما "Casama"، فهو على طريق دمشق المؤدي إلى تدمر، وهو خرائب خان "المنقورة" على رأي "موسل"4. وأما "Admana" "Odmana" "Ogmana"، فهو موضع "Ad-Amana" في الخارطات الرومانية للانبراطورية على ما يظهر، وهو موضع "خان التراب" على رأي "موسل" كذلك5. وأما "Atera"، فالظاهر أنه موضع "Adarin" على الخارطة الرومانية، وهو موضع "خان الشامات" "أبو الشامات" "خان أبو الشامات" على رأي "موسل". أما "ميلر" فيرى أنه موضع "دير عطية"6، وهو رأي لا يقره "موسل" عليه7. وموضع "Sura" هو "سورية" على رأي "موسل". وأما "Alalis" فيقع في غرب "Sura" عند "بطلميوس". ويظن "موسل" أنه يقع بين موضعي "Sura" و"Alamatha" في مقابل "طابوس"8. عانة: ذكرت أن التدمريين كانوا قد وضعوا حاميات لهم في مدينة "Alalis"، أي "عانة"9، وهي لا تزال موضعًا معروفًا حيًّا على نهر الفرات في العراق.

_ 1 Muller. Ptolemy. Geography. P.984, Muller, Palmyrena, S., 22, Paulywisowa, Real-Lex., Bd., 7, 1547, Peutingeriana Tabua Itineraria, Wien, 1888. 2 Musil, Palmyrena, P.234. 3 Musil, Palmyrena, P.235. 4 Musil, Palmyrena, P.235. 5 Musil, Palmyrena, P.235. 6 Muller, Palmyrena, Geography, P.985. 7 Musil, Palmyrena, P.235. 8 Musil, Palmyrena, P.235. 9 Syria, Xiv, 1933, Pp.179, Musil, Palmyrena, P.234.

وعرفت "عانة" بـ "Anat" و" An-At" و" A-Na-At" و" A-Na-Ti "في الكتابات المسمارية. وعرف موضعها بـ "خـ - نا" "H-Na" و"خا – نا – ت" "" Ha-Na-At" في النصوص البابلية القديمة، وقد تكونت مملكة صغيرة بهذا الاسم امتدت رقعتها على الخابور، وعرفت المدينة بـ "Anatha" في مؤلفات "الكلاسيكيين"1. ويشك المسشرق "أدور ماير" "Eduard Meyer" في وجود صلة بين اسم الإله "Ana-Tu" "Anat"، واسم مدينة "An-At"، أي "عانة"2. ومركز "عانة" الجزر الواقعة في النهر، وهي خصيبة، وفي مأمن من غارات الأعراب. وقد تمكن أصحابها بفضل موقعهم هذا من التحكم في القبائل المجاورة لها ومن أخذ الجزية منها. ولهذا السبب استعمل الآشوريون في الغالب رجالًا من أهلها لحكم منطقة "سوخي" "Suhi". وفيها كان يقيم "ايلو ابني" "Ilu-Ibni" حاكم "سوخي" "الذي دفع الجزية إلى الملك "توكلتي أنورتا الثاني" "Tukulti Enurta" "889-884" قبل الميلاد3. وقد ذكر اسم "عانة" و"الحيرة" في الكتابة المرقمة برقم "Littmann 6"4. ويرجع تأريخها إلى شهر أيلول من سنة "443" من التأريخ السلوقي، أي شهر "سبتمبر" من سنة "132" للميلاد، وورد فيها اسم الإله "شيع القوم" حامي القوافل والتجارات. ويظهر أن المراد بـ "حيرتا" الحيرة الشهيرة في العراق5. فإذا كان ذلك صحيحًا، دل على أن نفوذ تدمر قد بلغ هذا المكان، وأن للقصص الذي يرويه الأخباريون عن ملوك الحيرة والزباء أصلًا تطور على مرور الأيام.

_ 1 Sarre-Herzfeld, Arch., Ii, S., 313, Ency., I, P.344-345, G. Bell, In Georgr. Journ., Xxxvi, P.535, Zdmg., Ixi, 701, Pauly-Wissowa, Real-Lexi., I, S., 2069, I, Ii, S., 104. 2 Eduard Meyer, In Zdmg., 31, 1877, S., 716. 3 Musil, Euphrates, P.345 Sheil, Annales, PL. 3, 1909, Ii, 69-73. 4 CIS, II, III, I, P. 156, 3973, Lidzbarski, Ephemeris Fur Semi Epigr, I, S. 345-346, REP. EPGR. 285, G. A. Cooke, NSI NO: 140, Littmann, In Part IV, Of The Puplications Of An American Archaelogical Expedition To Syria In 1899-1999, Palmyrene Inscriptions NO: 6, P. 70, Syria Tome IV, 1923, P. 156, Hartwig Derenbourg Un Dieu Nabateen, 1902, PP. 124, REP EPIG. 285, I, IV, PP. 230. 5 CIS, II, III, I, P. 157. والموارد المتقدمة، تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 81".

فتكونت منه قصة "جذيمة" والزباء". وصاحب هذه الكتابة رجل اسمه "عبيدو بن غانمو بن سعدلات"، من قبيلة "روحو" أي "روح"، وكان فارسًا في حامية مدينة "عنا" وهي "عانة". وقد دون كتابته هذه بمناسبة تقديمه مذبحين إلى الإله "شيع القوم" الذي لا يشرب خمرًا، وهو حامي القوافل. ويلاحظ أن أكثر الكتابات تذكر جملة "الذي لا يشرب خمرًا" بعد اسم هذا الإله. وهي تعني أن هذا الإله كان يشرب الخمر ولا يحبها، فعلى أتباعه تجنبها. ويظهر أن طائفة من الناس حرمت عليها الخمرة، ودعت إلى مقاطعتها، واتخذت "شيع القوم" حاميًا لها. وهي على نقيض عباد الإله "دسره" "دشرة" "Dussares" أي "ذو الشرى" الذين كانوا يتقربون على إلههم هذا بشرب الخمر1. ولا نعرف متى استولى الرومان عليها. ولم يرد ذكرها في قائمة "ماريوس مكسيموس "Marius Meximus" التي عثر عليها في "Dura" والتي يعود تأريخها إلى سنة "211" للميلاد في ضمن المخافر الرومانية التي كانت في المناطق الوسطى لنهر الفرات. ويظهر منها أن "عانة" "Anath" كانت في ذلك الوقت في أيدي "الفرث" "Parthians"، وأن الرومان دخلوها بعد ذلك. قد يكون في أثناء حملة "اسكندر سويرس" "Alexander Severus" كما ذهب "روستوفستزف" "Michael Rostovtzeff" إلى ذلك، أو في أيدي "غورديانوس" "Gordianus" كما ذهب "أولمستيد" "A.T.Olmstad" إلى ذلك2. وقد ذكر "عانة" "Anatha" المؤرخ "أريان" في أثناء حديثه عن أسطول "تراجان" الذي مر بها. وورد اسمها "Anath" في خبر "معين" "Ma'ajn" أحد قواد الملك "سابور الثاني" "309-379م"، وكان قد اعتنق النصرانية وبنى جملة ديارات، ونصب القس على "سنجار "شجار" "Schiggar"، ثم لم يكتف بذلك، فذهب إلى "عانة"، فبنى على شاطئ الفرات وعلى مسافة ميلين منها ديرًا استقر فيه سبع سنوات3.

_ 1 CIS. II, 182, Lidzbarski, Ephemeris, I, III, 1902, S. 345, REP. EPIG. I, IV, P. 232, Syria, Tom, IV, 1923, P. 156. 2 Berytus, VIII, Fasc, I, 1943, P. 25. 3 Musil, Palyrena, P. 345.

وفي سنة "363" للميلاد حاصرها الروم، وألحقوا بها أضرارًا كبيرةً. وأجلوا السكان عنها. ولما أرسل "فاراموس" "Varamus" "Varaious" في عام "591" للميلاد قوة على "عانة" لمناوشة "كسرى" "Chosroes" وصده عن الرجوع إلى فارس، قتل الجنود قائدهم، وانضموا إلى "كسرى". وفي القرن السابع للميلاد، كان مقر أسقف قبيلة "الثعلبية" في هذه المدينة1.

_ 1 Ammianus Marceliianus, Rerum Gastarum, XXIV, I, 6-9 Musil. Euqhrates. P. 346.

الفصل السادس والثلاثون: الصفويون

الفصل السادس والثلاثون: الصفويون وإلى هذا العهد تجب إضافة قوم من العرب أطلق المستشرقون عليهم لفظة "الصفويين"، نسبة إلى أرض "الصفاة"1. وهم أعراب ورعاة كانوا يتنقلون من مكان إلى آخر طلبًا للماء والكلأ. وقد دونوا خواطرهم أحيانًا على الأحجار، وتركوها في مواضعها، ومنها استطعنا الإلمام بعض الشيء بأحوالهم وأخبارهم. وقوم تنتشر الكتابة بينهم على هذا النحو، لا يمكن أن نتصورهم أعرابًا على النحو المفهوم من الأعرابية، بل لا بد أن نتصور أنهم كانوا على شيء من الثقافة والإدراك. وإذا سألتني علن سبب اختيار المستشرقين لهذه التسمية وإطلاقها على أصحاب هذه الكتابات، فإني أقول لك: إنهم أخذوها من اسم أرض بركانية عرفت بالصفا وبالصفاة، تغطي قشرتها الخارجية حتى اليوم صخور سود تقول لك أنها خرجت إلى هذا المكان من باطن الأرض، وأن براكين ثائرة مزمجرة غاضبة كانت قد قذفت بها إلى ظهر الأرض فاستقرت في أمكنتها هذه، ومن يدري؟ فلعلها أصابت أقوامًا كانت تعيش في هذه المواضع أو مارة بها فأهلكتها. وهي تسمية

_ 1 E. Littmann, Thamud Und Safa, In Abhandlung Fur Die Kunde Des Morgenianbses, 1940, 25, I, M. Hofner, Die Befuinen In Denvorisamischen Arabischen Inschrriften In L'antica Societa Beduina Studi Semitici 2, 195

قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام. بدليل أنها وردت في نص يوناني على هذه الصورة: "Safathene"1. وورود اسم إله عرف بـ "زيوس الصفوي" "Zeus Safathenos"، أي نسبة إلى هذه الأرض2. أما "الصفوية"، فتسمية ليست بتسمية عربية قديمة، وليست علمًا على قوم معينين أو على قبيلة معينة، وإنما هي تسمية حديثة أطلقها المستشرقون على قبائل عديدة كانت تنتقل من مكان إلى مكان طلبًا للماء وللكلأ، لرعي ماشيتها التي تكون ثروتها ورأس مالها، تراها يومًا في أرض النبط، ويومًا آخر في بلاد الشأم حيث كان الومان ثم البيزنطيون يسيطرون. فنحن في هذا الموضع لسنا أمام مملكة أو حكومة مدينة، بل أمام قبائل عديدة حرفتها الرعي والغزو وكفى. ومن نسميهم بالصفويين إذن ليسوا بقبيلة واحدة ولا بجنس معين، وإنما هم قبائل متنقلة، كانت تنتقل في هذه الأرضين الواسعة، في أزمنة مختلفة متباينة. ويعود الفضل إلى الكتابات التي عثر الباحثون عليها في إعطائنا فكرة عن تلك القبائل المتنقلة، وفي حصولنا على أسماء بعض تلك القبائل التي كان ينتسب إليها أصحاب تلك الكتابات. وقد جمعت الكتابات الصفوية من أرضين واسعة، تمتد من "حماه" في سورية إلى نهر الفرات في العراق في الشرق، وإلى فلسطين والمملكة الأردنية الهاشمية فأعالي الحجاز، وكلها كتابات شخصية في موضوعات متعددة، ليس بينها وثائق تتعرض للمسائل العامة مثل القوانين والحروب بين الدول بتفصيل وتبسط، ذلك؛ لأن الكتابات الصفوية هي كما قلت كتابات أفراد كتبوها تعبيرًا عن أمور شخصية لا غير، ومثل هذه الكتابات لا تتعرض لما يبحث عنه المؤرخ إلا بقدر، وهو قدر لا يقدم في الغالب اللمؤرخ ما يبحث عنه، ولهذا انحصرت فوائدها في مسائل

_ 1 العرب في سوريا قبل الإسلام "ص 27". 2 العرب في سوريا قبل الإسلام "ص 162". G. Ryckmans, Inscriptions Safaitiques. Extrait Du Museon, Tome, 1-2, Louvain. 1951, Handbuch. S. 46 Dirlef Nieisen. Uber Die Nordarabischen Gotter In Mittei Der Vorderas Gesellsch, Bd 21, 1916, E. Littmann, Safaitic Inscriptions, Leden, 1943, Annual Deprtment Of Antiquities Of Jordan, Vol, I, 1951, P. 17. وكذلك الأعداد التالية لهذه المجلة التي تصدرها مديرية الآثار في المملكة الأردنية الهاشمية.

أخرى، في مثل الدراسات اللغوية والدينية وتطور الخطوط ودراسة أسماء الأشخاص والقبائل وما شاكل ذلك. وانتشار هذه الكتابات وتناثرها في أرضين صحراوية، أمر يلفت النظر ويدعو إلى العجب من أمر الأعراب في ذلك العهد الذين كانوا يقرأون ويكتبون مع أنهم أبناء بادية، وقد عاشوا قبل الإسلام بزمان طويل، ثم إن خطها يلفت إليه النظر أيضًا، فهو خط عربي، ولد من الأم التي نسلت الخط العربي الجنوبي، وهو قريب من الخط الثمودي والخط اللحياني، ويعني هذا أن العرب كانوا يكتبون قبل الميلاد بخط أود أن أسميه بالقلم العربي الأول، أو القلم العربي القديم منه تفرعت الأقلام العربية المتنوعة فيما بعد، فوجد ما نسميه بالقلم المسند وبالأقلام العربية الشمالية، وذلك لظروف كثيرة لا مجال للكلام عليها في هذا المكان، وهو يدل على أن الصفويين وأمثالهم من الأعراب لم يتأثروا بالثقافة الإرمية مع قربهم منها واتصالهم بها، وطغيانها على الثقافات الأخرى في العراق وفي بلاد الشام، فبقوا مخلصين لقلمهم القديم، فكتبوا به، ولم يستعملوا قلم بني إرم كما فعل "أهل المدر" المقيمين في مدن العراق والشأم وقراهما. وكتبوا بلهجاتهم أيضًا ولم يكتبوا بلغة بني إرم كما فعل غيرهم من العرب الحضر. وقد رأى "دوسو" "Dussaud" أن الصفويين كانوا يحاكون الجنود الرومان واليونان في تسجيلهم خواطرهم وذكرياتهم على الحجارة، فقد وجد الباحثون أحجارًا دون عليها أولئك الجنود في أثناء أدائهم واجباتهم العسكرية في بلاد الشأم وعلى الطريق الرومانية ذكرياتهم وخواطرهم ونزولهم في تلك الأمكنة. ولكن وجود كتابات صفوية عديدة من القرن الأول قبل الميلاد يثبت أن الصفويين كانوا يدونون خواطرهم بهذا الأسلوب، وذلك قبل شروع أولئك الجنود الرومان واليونان في تدوين خواطرهم على هذا الأسلوب، وأنهم كانوا يدونون خواطرهم هذه على الأحجار وبهذا الشكل؛ لأن هذه الحجارة كانت هي ورق كتابة أهل البادية، فكتبوا عليها كما يكتب أهل الحضر على الرق والخشب والورق وغيرها من وسائل الكتابة1. ويرجع علماء الصفويات عمر أقدم الكتابات الصفوية إلى القرن الأول قبل الميلاد.

_ 1 Winnett, P. I.

أما آخر ما عثر عليه من كتابات، فيرجع إلى القرن الثالث بعد الميلاد، على رأيهم أيضًا1. فما عثر عليه من الكتابات الصفوية، هو من عهد تبلغ مدته زهاء أربعة قرون. وقد أرخت بعض هذه الكتابات بحوادث محلية عرفت عند أصحابها، إلا أنها مجهولة لدينا، لذلك لم نستطع الاستفادة منها في تكوين رأي في زمن كتابتها. فقد أرخ بعضها بسنة وفاة قريب لصاحب الكتابة، أو بوقت نزوله في المكان الذي كتب به الكتابة، أبو بوقت هربه من الرومان أو بعد كذا من الأيام أو من السنين من رؤية قريب له أو وفاته، ومثل هذه الحوادث، لا تفيد المتأخرين شيئًا، ولا تساعدهم في تثبيت زمن تدوينها بوجه صحيح مضبوط. وأرخ بعضها بحوادث أعم، إلا أنها ذكرت بأسلوب فوت علينا معرفة زمان وقوع الحادث بوجه مضبوط، فقد أرخت كتابة منها بـ "سنت نزز اليهد"، أي "سنة الخصام مع اليهود"2. وهي سنة كان يعرفها صاحب الكتابة وأصحابه. أما نحن فلا نعلم من أمرها شيئًا، فقد خاصم العرب اليهود كثيرًا في تأريخهم. فأية خصومة من تلك الخصومات قصد صاحب الكتابة، فإذا كان قد قصد ثورة العرب أهل اللجاة "Trachonitis" على "هيرود الكبير" الملك المكابي، فهذه الثورة يجب أن تكون قد وقعت فيما بين السنة "23ق. م." والسنة "14ق. م."3. أما إذا كان صاحب النص قد قصد خصامًا آخر، فإننا لا نستطيع التكهن عنه من نصه هذا، لما قلناه من تعدد الخصومات بين العرب واليهود. وأرخت كتابة أخرى بزمن تمرد صاحب الكتابة على الروم، وذلك سنة مجيء "الميديين" الفرس إلى "بصرى"، "ومرد على رم سنت أتى همذى بصرى"4 وقصد بـ "همذى" "الماذويين"، أي الميديين من الفرس، ولما كانت الأخبار لم تشر إلى اكتساح الفرس لـ "بصرى" قبل سنة "614 م"، ظن من عالج هذه الكتابة أن أصحابها قصد استيلاء الفرس عليها في ذلك الزمن، أي في السنين الأولى من سني مبعث الرسول، حيث غلبت الفرس على الروم، كما أشار إلى

_ 1 Winnett, P. I, 2 Winnett, P. 95. 3 Winnett, P. 95, Josephus, Antiq, XVI, IX. 4 F. V. Winnett, Safaitic. P. 19. 323. M43, Harding 37. T31

ذلك القرآن الكريم. غير أن هذا الفريق عاد فأبدل رأيه؛ لأنه وجد أن هذا الرأي لا ينسجم مع نوع الكتابة والأبحاث الآثارية التي دلت على أن الكتابة يجب أن تكون أقدم عهدًا من سنة "614م"، ورأى لذلك أن استيلاء الفرس على "بصرى" يجب أن يكون قبل ذلك بكثير، وقد يكون وقع في القرن الأول قبل الميلاد، غير أننا لا نملك نصوصًا تأريخية تشير إلى وصول الفرس إلى هذا المكان، واستيلائهم عليه في ذلك الزمن. وهكذا نجد أن تلك الكتابة المؤرخة قد أوجدت لنا مشكلة، لم نتمكن من حلها بسبب الغموض الوارد فيها عن سنة استيلاء الفرس على بصرى1. وطالما قرأنا في الكتابات أن أصحابها "نجوا من الروم" أو فروا من الروم، أو تمردوا على الروم وأمثال ذلك من تعابير، وقد قصدوا بالروم بلاد الشأم التي كانت في أيدي الرومان، ثم انتقلت إلى الروم، وهم اليونان البيزنطيون. ولما كانت بلاد الشأم تحت حكم المذكورين، عبروا عنها بـ "رم" "روم" أي "الروم" "وبلاد الروم". لقد كان الصفويون بحكم نزولهم في أطراف بلاد الشأم على اتصال بالروم بل اضطروا إلى الخضوع لحكمهم والاعتراف بسيادتهم عليهم. والتوغل شمالًا وجنوبًا في بلاد الشأم بحثًا عن الماء والكلأ وعن القوت، كما اضطروا إلى مراجعة قرى بلاد الشأم ومدنها للامتيار ولبيع ما عندهم من فائض من منتوج أيديهم ومن حاصل حيواناتهم. وهذا مما يدفعهم إلى التخاصم أحيانًا مع موظفي الأمن الروم وحراس الحدود ورجال الجباية و"الكمارك"، في شأن أمور الأمن، أو أخذ حقوق الحكومة منهم، فيقبض الروم على من يقاوم منهم، أو يتهرب من الأداء، أو يقتل، أو يقوم بأعمال مخالفة، فيلقونه في السجن أو يقتلونه، ولهذا نجد بعض الكتابات وقد سجلت حين هرب صاحبها من سجن الروم. وعاد إلى حريته. وهربه من الروم واستنشاقه نسيم الحرية، معناه اللجوء إلى البادية والاحتماء بها حيث يصعب على الجنود الروم الوصول إليها للقبض عليهم والاقتصاص منهم. والبادية حصن أمين للأعراب.

_ 1 Winnett, P. 3, 19, BASOAR, Num: 122, P. 50, Die Araber I, S. 75, CIS 5, 4448, J. Pirenne I, 212.

ويظهر من هذه النصوص أن شأن الصفويين بالروم لم يكن يختلف عن شأن سائر العرب بهم وبأمثالهم من الدول الأجنبية مثل الفرس، فهم مضطرون بحكم وضعهم إلى التسليم لسلطان الدول الأجنبية ما داموا ضعفاء لا يستطيعون مقاومة الأعاجم، فإذا تغيرت الأحوال، وظهرت مواضع ضعف في الأجنبي، اهتبل الأعراب الفرص، فانقلبوا عليه حتى يرضيهم أو يظهر قوته، وهكذا كان الصفويون ينتهزون الفرص، فمتى وجدوا ثغرة في سلطان الروم وموضع ضعف في حراسة حدودهم، هاجموهم منها حتى ينالوا ما يبتغون من مغنم، وقد ينقلب الحادث عليهم بالطبع، لسوء تقدير في الموقف، وهذا ما يحدث في كل غزو أو حرب، وهو شيء طبيعي فقد ينتصر المحارب فيربح، وقد يندحر فيخسر كل شيء. ويلاحظ من الكتابات الصفوية أن أصحابها كانوا ينزعون نزعة شديدة إلى تخليد أنفسهم وإبقاء آثارهم وذكرياتهم بكل الطرق الممكنة، فأرخوا بكل حادث كان معروفًا عندهم، حتى بحادث ولادة ماشيتهم، أو مقتل أحدهم، أو فرض غرامة مالية على أحدهم، أو سفر أحد منهم وبأمثال ذلك من حوادث صغيرة تافهة، ولكنها مع ذلك وعلى الرغم مما يبدو عليها من سذاجة تدل على وجود نزعة قوية لديهم لتأريخ كل ما يقع عندهم وتدوينه، ليطلع عليه غيرهم ممن يمر بالأماكن التي نزلوا بها1. هذا وما زال الأعراب وأهل القرى عندنا يسجلون حوادثهم على النحو المذكور من تسجيل التواريخ. وللطابع الشخصي الذي تحمله الكتابات الصفوية، لم نتمكن من الاستفادة منها من الوجهة السياسية والعسكرية، فلم نعثر فيها على اسم ملك، لا عربي ولا أجنبي، ولم نعثر فيها على موضوع سياسي يشير إلى الحالة السياسية التي كانت في العراق أو في بلاد الشأم أو في جزيرة العرب في تلك الأيام، ولم نتمكن أيضًا من الخروج منها بأية فكرة عن نوع الحكم الذي كان يعيش فيه الصفويون: أكانوا في حكم ملوك، على شاكلة عرب الغساسنة؟ أم كانوا قبائل متنقلة خاضعة لسلطان الروم، حين تكون في بلاد الشأم، وحرة طليقة حين ترد البادية؟ وقد وردت في الكتابات الصفوية أسماء قبائل، منها: "بدن" و"بعر"

_ 1 راجع النصوص الصفوية.

و"تر"، و"هجدل" "هكدل"، و"جر" "كر" و"حزن" و"حضى"، و"حولت" "حوالة"، و"دمصى" و"سلم"، و" صبح"، و"ضف"، و"عبد"، و"عوذ"، و"غر"، و"فرث"، "وقمر"، و"يحرب"، و"همضر"، و"املكت"1. ومن القبائل الصفوية: "اشلل"، و" بكس"، و"جعبر"، "جوا"، و"حمد"، و"حرم"، و"حظى" "حضى"، و"حمي"، و"زد" "زيد"، و"زهر"، و"عذل"، و"عمرت" "عمرة"، و"فضج"، و" مسكت" "ماسكة"، و"معصى" "معيص"، و"نمرت" "نمرة" "نمارة" "نميرة"، و"هذر" "هذير" "هذار"2، و"نسمن" أي "نسمان"3، و"حمد" "حماد" "حميد"4. وترد لفظة "ال" قبل اسم القبيلة في كثيرة من الكتابات الصفوية، وتؤدي فيها معنى "آل" عندنا، مثل: "ال تم"، أي "آل تيم"5، و"ال عوذ" بمعنى "آل عوذ"6 و"ال ادم" "آل آدم"7، و"ال حد" "آل حد"8. وهي بمعنى أن المذكور أو المذكورين من القبيلة المسماة، أو من العشيرة المذكورة، أو من البيت المسمى. وورود "ال" بهذا المعنى في النصوص الصفوية يدل على أن لغة هذه القبائل وهي قبائل عربية شمالية تشارك لغة القرآن الكريم في هذه الخاصية. وقبيلة "عوذ" ورد اسمها في عدد من الكتابات الصفوية. وقد ورد في إحداها أن حربًا كانت قد نشبت بينها وبين قبيلة أخرى، اسمها "وعل" أو "ويل" أو "وائل"9. وقد يكون لاسم هذه القبيلة صلة باسم الإله "جد عوذ".

_ 1 Winnett. P. 4. 2 Jordan, II, PP. 14. 3 Littmann, Safa, S. 53, 55. 4 Safa, S, 62. 5 Annual Report Of The Department Of Antiquities Of Jordan Vol, I, P. 26. 6 Jordan, I, P. 27. 7 G. Ryekmans, Inscriptions Safaitiques Au Britisch Museum Et Au Musee De Damas, Louvain, 1951, P. 88. 8 Jordan, I, P. 24. 9 Jordan, I, P.

وقد عثر على اسم قبيلة "نعمن"، أي "نعمان" في بعض الكتابات الصفوية التي عثر عليها في "وادي حوران" بالعراق. ويرد "نعمان" اسمًا لأشخاص، ومنهم بعض ملوك الحيرة1. وقد ورد اسم قبيلة في إحدى الكتابات التي عثر عليها في العراق، وهي قبيلة "ال صح"، أي "آل صح"، أو "آل صائح"، أو "آل صيح"، أو "الصائح"2، وما زال اسم "الصائح" معروفًا في العراق، وهو اسم عشيرة فقد يكون له صلة بهذه التسمية القديمة. وقد أفادتنا هذه الكتابات من الناحية الجغرافية، إذ قدمت إلينا أسماء مواضع عديدة لا يزال بعضها يسمى بالأسماء الواردة في تلك الكتابات، وقد يمكن في المستقبل دراسة الأسماء الأخرى لتثبيت مواضعها وتعيينها على مصورات الأرض "الخارطات". ومن المواضع التي ورد اسمها في الكتابات الصفوية، موضع "رحبت"، وهو "الرحبة". وقد ورد في نص سجله رجل اسمه "حنن بن هعتق"، "حنان ابن العاتق"، أو "حنين بن العاتق"، أو "خنن بن العاتق"، وذكر أنه "بن ال – رحبت"، أي "من الرحبة"، أو "من آل زحبة"، وأنه كتب كتابته هذه في السنة التي دار فيها قتال مع قبيلة "ال حمد" "الحمد" أو "آل حمد"3. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه "الرحبة" هو اسم موضع، كما أن "الحمد" هو اسم موضع كذلك، وأن الذين نزلوا في هذين المكانين وفي أمكنة أخرى نسبوا أنفسهم إليها فقالوا: "آل رحبة" و"آل حمد"، وذلك على نحو ما نجده في عربيتنا من ذكر "آل" في الانتساب، وأن هذا معناه أن أولئك الأعراب الذين نزلوا في الموضعين انتسبوا إلى المكانين، فاستعملوا لذلك لفظة "ال"، أي "آل"، قبل الموضع، فظهر الاسم "ال رجبت" "ال رجبة" وكأنه اسم قبيلة4.

_ 1 مجلة سومر، المجلد العشرون، 1964، الجزء الأول والثاني "ص 27" من القسم الانكليزي. 2 مجلة سومر، المجلد العشرون، السنة 1964، الجزء الأول والثاني "ص 18، 27" من القسم الانكليزي. 3 العرب في سوريا قبل الإسلام "ص 105". 4 العرب في سوريا "ص 105 وما بعدها".

ولهذا المظهر من التسميات والانتساب شأن كبير في موضوع دراسة أنساب القبائل، إذ فيه برهان ودليل على أن الإقامة في موضع تكون سببًا للانتساب إليه، ثم لتحويل ذلك النسب إلى اسم جد، وأن ما يرويه أهل الأخبار في هذا الباب مثل انتساب الغساسنة على "غسان"، وأن "غسان" اسم موضع ماء نزلوا عليه، فدعوا به، يجب أن ينظر إليه نظرة اعتبار، لا رفض وازدراء. وفي أسماء القبائل العربية المدونة في كتاب الأنساب والأدب، أو الواردة في الكتابات الجاهلية أمثلة عديدة من هذا القبيل. ومن الأماكن التي ورد ذكرها في النصوص الصفوية: "بصرى" وقد ذكرت على هذه الصورة "بصر"، و"هنمرت"، "النمرت"، أي "النمارة"، و"هشبكي" أي "الشبكي"1، و"حجر"2. و"حجر" موضع قد يراد به "الحجر" المعروف في عربيتنا، وهو "Hegra" و"Hegrae" عند اليونان واللاتين، و"حجرا" و"حجرو" عند النبط3. وورد اسم مدينة "تيما" أي "تيماء" في الكتابات الصفوية كذلك، كالذي ورد في نص دونه رجل اسمه "خل – ال بن شبب" أي "خليل – ايل ابن شبيب"، وقد تذكر فيه رجلًا اسمه "أبرش"، وهو من أهل "تيماء"4. ولم يكن الصفويون كما يبدوا بوضوح من كتاباتهم ومن صور الحيوانات التي نقشوها على الأحجار أعرابًا ممعنين في الأعرابية على نحو عرب البوادي البعيدين في البادية، حيث يقضون حياتهم فيها، فلا يختلطون بالحضر، ولا يمتزجون بالحضارة، وإنما كانوا أشباه أعراب وأشباه حضر، وربما كان تعبير "رعاة" خير تعبير يمكن إطلاقه عليهم ليميزهم عن غيرهم. فقد كان الصفويون أصحاب ماشية، لهم إبل، يعيشون عليها، ويتاجرن بها، ولهم خيل يركبونها، والخيل كما هو معروف لا تستطيع الحياة في البوادي القاحلة العميقة والرمال القليلة المياه،

_ 1 العرب في سوريا "106". 2 Jordan, II, P. 42. 3 Jordan, I, P. 48. 4 Enno Littmann, Zur Entzifferung Der Safa – Inschriften, Leipzig, 1901, S. 51.

ولهم المعز والغنم والحمير والبقر، وهي من الحيوانات التي تحتاج إلى رعي ومراعي1. ولذلك يجب أن يكون أصحابها من طبقة الرعاة. وقد كانت حياتهم حياة رعي، نجدهم في الشتاء في مكان، ثم نجدهم في الصيف في مواضع أخرى قريبة من الجبال حيث يكون الجو لطيفًا والمياه كثيرة، ليكون في استطاعتهم الابتعاد من حر الحرار ومن سموم الأرض القاحلة في الصيف، ولتستمتع ماشيتهم بجو لطيف فيه ما يغريها من خضرة نضرة ومن ماء عذب زلال. إن في بعض هذه الكتابات تعبيرًا عميقًا عن ذكاء فطري يعبر عن طراز حياة الصفويين، فكتابة مثل: "ورعى همعز وولد شهى"، ومعناها: "ورعت المعز وولدت الشياه"، أو "ورعى بقر هنخل"، أي "ورعت البقر في هذا الوادي"، أو "وقف على قبر فلان وحزن"، هي تعابير، وإن بدت ساذجة مقتضبة لا يكتبها حضري، غير أنها تمثل في الواقع ذكاءً فطريًّا عميقًا، ونوعًا من التعبير عن حس أهل البادية أو أهل الرعي، وهو حس مرهف فيه بساطة وفيه اقتضاب نبتا من وحي الصحراء البسيطة الممتدة إلى ما وراء البصر على نمط واحد، وشكل لا تغيير فيه ولا تبديل. وكتابات يكتبها أناس يحيون بعيدين عن حضارة المدن، ويعيشون بين أشعة الشمس وضوء القمر في بيوت وبر أو شعر معز ولا تقي ولا تنفع إلا بمقدار، لا يمكن أن تكون إلا على هذا النحو من البساطة، ولكنها بساطة ذكي يحاول بذكائه التعبير عن حياته تلك. ونجد هذا الذكاء الفطري في الصور المرسومة للحيوانات، فقد أراد مصوروها أن يعبروا عن غرائزهم الفنية بصورة محسوسة ترى، فرسموا صور حيوانات ألفوها ورأوها، بصورة بدائية، ولكنها معبرة أخاذة، ورسموا بعض المناظر المؤثرة في حياتهم مثل الخروج للصيد ومعارك الصيد، فنرى على بعض الأحجار فارسًا وقد حمل رمحًا طويلًا، ونرى مشاة وقد حملوا أقواسًا وتروسًا صغيرة مستديرة لوقاية أجسامهم من السهام أو من الحيوان، ونرى رجالًا يطاردون غزالًا أو ضأنًا، ونرى أناسًا فرسانًا ومشاةً يطاردون أسدًا2، ونرى غير ذلك من صور بدائية من هذا القبيل، مهما قيل فيها، فإنها صور رائعة لا يمكن أن يحفرها

_ 1 العرب في سوريا "107". 2 العرب في سوريا قبل الميلاد "ص 107 وما بعدها".

فنان بأحسن من هذا الحفر، وهو في مثل هذا المحيط، وليست لديه من آلات الحفر غير هذه الآلات. والصور المنقوشة على الأحجار التي ترينا الصفوي وقد ركب حصانه معتقلًا رمحًا طويلًا، هي صورة المحارب الفارس عند الصفويين، وهي في الواقع صورة الفرسان الأعراب، سلاحهم الرئيسي الرماح، يطعنون بها خصمهم. وما زال البدو في بعض البوادي من جزيرة العرب يحملون ذلك السلاح التقليدي القديم، يحاربون به خصومهم في المعارك القبلية البدائية، وأما المحارب الماشي، فإنه يحارب بالقوس وبيده الترس كما يظهر من بعض الصور، وهو لا بد أن يكون قد استعان بأسلحة أخرى بالطبع، مثل السيوف والفؤوس والحجارة وكل ما تقع يده عليه مما يصلح أن يكون مادة للقتال والعراك1. إن الصور التي تمثل الناس، وهم يطارون الغزلان أو بقر الوحش أو الأسد أو الحمار الوحشي، هي صور مفيدة جدًّا تتحدث عن وجود تلك الحيوانات في تلك الأماكن وفي تلك الأوقات، وعن طرقهم في صيدها. وقد كانت لحوم بعض تلك الحيوانات طعامًا شهيًّا لمن يصطادها ولآلهم وجماعتهم، كما أن لوجود صورة الحصان شأنًا في إظهار أن الصفويين وغيرهم كانوا يعرفون الخيل في تلك الأزمنة، وأن الحصان العربي كان موجودًا يومئذ2. وفي جملة ما عثر عليه من أسماء آلهة الصفويين اسم إليه عرف بـ "إله هجبل" "إلاه هاجبل" "إله الجبل"، وهي تسمية تدل على أن عبدته كانوا من سكان جبل أو أرض مرتفعة، ولهذا نعتوا إلههم بـ "إله الجبل" أو أن عبدته هؤلاء قد أخذوه من أناس كانوا قد خلقوا إلههم من ارتفاع أرضهم، وصار إلهًا من آلهة الصفويين. وهو يقابل الإله المسمى بـ "الاجبل" "Elagabal" وهو كناية عن الشمس، وكان يعبد في "حمص" "Emesa" فإن لفظة "Elagabal" تعني "إله الجبل". وقد رمز إليه بـ "حجر أسود" وعباد الحجر الأسود كانت معروفة عند الجاهليين. وقد كان أهل مكة يقدسون الحجر الأسود في مكة ويتقربون إليه3.

_ 1 العرب في سوريا "107 وما بعدها". 2 العرب في سوريا "ص 108". 3 F. Altheim, Aus Spatantike Und Christentum, 1951, 28, Die Araber, I, S. 362.

153 ولا ندري من حل في محل الصفويين فأخذ مواطنهم، ولم اختفت كتاباتهم بعد عهدهم هذا؟ هل كان الذين أخذوا مكانهم أميين لا يقرأون ولا يكتبون فكانت أيامهم صمًّا بكمًا؟ الذين أخذوا مكانهم هم أعراب مثلهم، كانوا أقوى منهم، لذلك تغلبوا عليهم على وفق سنة البادية. هذا جواب لا شك فيه. ولكننا لا نستطيع تحديد هوية أولئك الأعراب وتعيين أسماء قبائلهم، كما أننا لا نستطيع التحدث عن سبب سكوتهم وعدم ترك آثار كتابية لهم تتحدث عن أيامهم وعن قبورهم وأصدقائهم وما شاكل ذلك من أمور إلى زمن مجيء الإسلام، إن الغساسنة، هم آخر من نعرف أنهم كانوا في هذه الأرضين، وفيما جاورها وكذلك قبائل عربية أخرى مثل لخم وكلب، ولكننا لا نعرف أنهم تركوا كتابات تتحدث عنهم. وبين أسماء الأشخاص المدونة في النصوص الصفوية أسماء تشبه أسماء أهل مكة والعرب الشماليين شبهًا كبيرًا، ويحملنا هذا على تصور أن ثقافة الصفويين عربية شمالية. ونجد هذا التشابه في أمور ثقافية أخرى، سأتحدث عنها في الأماكن المناسبة. ومن الأسماء الواردة في النصوص الصفوية: "قصيو"، أي "قصي". وقد ورد اسم "قصيو بن كلبو"، أي "قصي بن كلاب" في أحد النصوص، وكان من رجال الدين. وورد "قصيو بن روحو" أي "قصي بن روح". و"قصيو بن اذينت"، أي "قصي بن أذينة"1. ويرى بعض المستشرقين أن الصفويين هم مثل سائر القبائل العربية الشمالية هاجروا من جزيرة العرب إلى الشمال، فسكنوا في منطقة "الصفاة"، غير أنهم لم يكونوا قد اندمجوا في أثناء تدوينهم كتاباتهم بالثقافة السامية الشمالية كما اندمج غيرهم مثل النبط، بل كانوا لا يزالون محافظين على صلاتهم بالجزيرة ولا سيما بالعربية الجنوبية منها موطنهم القديم، وتعبر عن هذه الصلة بعض الخصائص اللغوية التي ترجع على رأيهم إلى أصل عربي جنوبي، غير أنهم تأثروا بالطبع بمن اختلطوا بهم وبمن تجاوروا معهم من الساميين الشماليين أو العرب الشماليين، ويظهر أثر هذا الاختلاط على رأيهم أيضًا في الأسماء والكلمات والتعابير الخاصة التي نقرأها في هذه النصوص2.

_ 1 رنيه ديسو، العرب في سوريا، "ص 116". 2 Handbuch, S. 48 Ff, Rene Dussaud, Les Arabes En Syrie Avant L'Islam, E. Littmann. Gotting. Gelberte Angeiger, 1908, S. 144.

قلت: إن كلمة "الصفويون" لا تعني شعبًا معينًا أو قبيلة معينة، وإنما هي اصطلاح أوجده "هاليفي" ليطلق على الكتابات التي عثر عليها في مواضع متعددة من "اللجاة" و"حوران" ومواضع أخرى، لذلك يجب ألا يفهم أننا نقصد أناسًا تركوا لنا كتابات متاشبهة كتبت بقلم واحد، ليظهر أنهم كانوا بين البداوة والحضارة فلاحين ورعاة لهم قرى ومزارع، وربما كانت لهم تجارات أيضًا، غير أننا لا نعرف من أمرهم شيئًا كثيرًا. فقد يكونون إذن من قبيلة واحدة، وقد يكونون جملة قبائل، وقد تكون لهم "أمارة" لا نعرف من أمرها شيئًا، وربما لا يكون لهم ذلك. وربما كانوا أتباعًا للسلطة القائمة في بلاد الشأم تتحكم فيهم بنفسها أو بواسطة أمراء أو سادات قبائل. وقد يكون الصفويون أناسًا وصلت أسماؤهم إلينا، وكتب المؤرخون عنهم، ولكننا لا نعرف أنهم هم الذين نبحث عنهم؛ لأننا أمام اصطلاح جديد مبهم، ظهر كما قلنا في القرن التاسع عشر، ليست له حدود واضحة ولا معالم مرسومة، فلا ندري نحن في الواقع ما نريد، قد يكون هؤلاء أسلاف غساسنة الشأم، وقد يكونون غيرهم.

الفصل السابع والثلاثون: مملكة الحيرة

الفصل السابع والثلاثون: مملكة الحيرة مدخل ... الفصل السابع والثلاثون: مملكة الحيرة وللإخباريين واللغويين وعلماء تقويم البلدان، آراء في أصل اسم "الحيرة"، وبينهم في ذلك جدل على التسمية طويل عريض، كما هو شأنهم في أكثر أسماء المدن القديمة التي بعد عهدها عنهم فحاروا فيها. وإيرادها هنا يخرجنا عن صلب الموضوع، وهي أقوال لا تستند إلى نصوص جاهلية، ولا إلى سند جاهلي محفوظ، ومن أحب الوقوف عليها، وتعرف مذاهب القوم فيها، فعليه بمراجعة تلك المظان1، كما أن لبعض المحدثين آراء في هذا الباب2. ومعظم المستشرقين، يرون أنها كلمة من كلمات بني إرم، وأنها "حرتا" "Harta" "Hirta" "He'rta" "حيرتا" "حيرتو" السريانية الأصل، ومعناها المخيم والمعسكر وأنها تقابل في العبرانية كلمة "حاصير" "Haser"3، وأن "حيرتا" "حيرتو"

_ 1 ابن الفقيه "181"، البلدان "2/ 375"، أبو تمام، الحماسة "811" البيت "2"، "والحيرة ... قرب الكوفة، والنسبة حيري وحاري"، القاموس "2/ 16"، البكري، معجم "2/ 478 وما بعدها". "طبعة السقا"، المشرق، السنة 1908، "77"، "والحيرة، بالكسر: بلد بجنب الكوفة ينزلها نصارى العباد، والنسبة إليها حيري وحاري"، اللسان: مادة "حير". 2 يوسف رزق الله غنيمة، الحيرة، المدينة والمملكة العربية، بغداد، سنة 1936م. "ص 11". 3 Ency, II, P. 314, Rothstein, Die Dynastie Der Lakhmiden, S. 12. وسيكون رمزه: Rothstein Frankel, Aram. Fremdworter In Arabish. XV, XVIII, Noldeke, Sasa, S. 25.

في التواريخ السريانية تقابل "العسكر" عند الإسلاميين1. وهي في معنى "الحضر" و"حاضر" و"الحاضرة" كذلك، ولهذا زعم بعض المستشرقين أن "الحضر" اسم المكان المعروف في العراق أخذ من هذا الأصل العربي، أي من "الحضر"2. وقد عرفت "الحيرة" في مؤلفات بعض المؤرخين السريان، فعرفت بـ "الحيرة مدينة العرب"3، "حيرتا دي طياية"، كما عرفت بأسماء بعض ملوكها مثل "النعمان"، فورد "حيرتو د نعمان دبيث بورسويي"، أي: "حيرة النعمان التي في بلاد الفرس"4. ويلاحد أن تعبير "حيرة النعمان" "حيرتا دي نعمان"، تعبير شائع معروف في العربية كذلك، ولابد أن يكون لاشتهار "الحيرة" باسم "النعمان" سبب حمل الناس على نسبة هذه المدينة إليه. ويرى بعض علماء التلمود أن مدينة "حواطره" "حوطرا" التي ورد في التلمود أن بانيها هو "برعدي" "بن عدي"، هي الحيرة5. وقد حدث تحريف في الاسم، بدليل أن التلمود يذكر أنها لا تبعد كثيرًا عن "نهر دعه" "Nehardea"، وأن مؤسسها هو "برعدي"، ويقصد به "عمرو بن عدي"6. ويظن أن موضع "حرتت دارجيز" "حارتا دار جيز" "حرته دار جيز"، الوارد في التلمود، هو "الحميرة"7. وقد ورد أن "ارحيز" وهو ساحر، هو الذي بنى تلك المدينة، ويرى بعض الباحثين احتمال وجود صلة بين هذا الساحر وبين قصة "سنمار" باني "الخورنق"8. وعرفت في التلمود بـ "حيرتا

_ 1 Musil, Palmyrena, P. 289, Hoffmann, In ZDMG, 32, 1878 753, F. Altheim, Geschichte Der Hunnen, I, 1959, S. 130. Die Araber, I, S. 275, Hoffmann, In ZDMG, 32, 1878, 753, F. Altheim, Geschichte Der Hunnen, I, 1959,S. 130. 2 Die Aravber, I, S., 275, Hoffmann, In ZDMG., 32, 1878, 753, F. Altheim, Geschichte der Hunnen, I, 1959, 130, Anm. 34, Brockelmann, Lexi. Syriacum, 2, 1928, 228a, Die Araber, II, S. 225. 3 الديورة في مملكتي الفرس والعرب "ص 32، 47". 4 Rothstein. S. 13, John Of Ephesus, 352, 10, 13, John Of Ephesus, 3, 216, Die Araber, I, S. 275, II, S. 225. S. Funk. Die Juden In Babylonien, II, S. 154, Sabbat I, 14. 5 S. Funk, Die Juden, II, S. 154. 6 Sanhedrin 5b, S. 154. 7 Sanhedrin 5b Sabbat 19b, Erubin 63a. 8 Die Juden. II. S. 155, J. Obermeyer, Babylonien, S. 234.

دي طيبه" أيضًا، أي "معسكر العرب" و"حيرة العرب"1. وقد ذكر اسم الحيرة في تأريخ "يوحنا الأفسوسي" "Joghn Of Ephesus" من مؤرخي القرن السادي الميلاد "توفي سنة 585م"، فقال: "حيرتود نعمان دبيت بور سوبي"، أي "حيرة النعمان التي في بلاد العرب الفرس"2، كما ذكرها "يشوع العمودي" "Josua Stylites"3. وورد اسمها في المجمع الكنسي الذي انعقد في عام "410 م"، وكان عليها إذ ذاك أسقف اسمه "هوشع" "Hosha" اشترك فيه ووقع على القرارات باسم "هوشع" اسقف "حيرته" "حيرتا"4. وقد أشرت في أثناء حديثي عن مملكة "تدمر" إلى ورود اسم مدينتين هما "حيرتا" "الحيرة" و"عاناتا" "عانة" في كتابة يرجع تأريخها إلى شهر أيلول من سنة "132" للميلاد5. وقلت باحتمال أن تكون "حيرتا" هذه هي الحيرة التي نبحث فيها الآن. فإذا كان ذلك صحيحًا، كانت هذه الكتابة أقدم كتابة وصلت إلينا حتى الآن ورد فيها هذا الاسم6. ومدينة "Eertha" التي أشار إليها "كلوكس" "Glaucus" و" اصطيفان البيزنطي" "Stephen Of Byzantium"7، وذكر أنها مدينة "فرثية" "Parthian" تقع على الفرات، هي هذه الحيرة على ما يظن8. وورد في بعض مؤلفات السريان مع "الحيرة" اسم موضع آخر قريب منها هي "عاقولا"9، وقد ذهب "ابن العبري" إلى أنه "الكوفة"10،

_ 1J. Obermeyer, S. 234. 2 John Of Ephesus, 352, 10, 13. 3 Rothstein, S. 13. 4 Musil, Palmyrena, P. 20. ZDMG, 43, S. 388. 5 راجع تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 81"، لجواد علي، "4/ 6". 6 Littmann, 6, CIS, II, III, P. 156, 3073. 7 Glaucus, Fragmenta, P. 409, Muller, Stephen Of Byzantium, Ethnica, P. 276, Meineke, Paulys –Wissowa Elfer Halbbend, 1907, S. 552. 8 Musil, Euphrates, P. 102. 9 الديورة في مملكتي الفرس والعرب "ص 59". 10 Bar Hebraeus, PP. 94, 101.

وأشار "ياقوت" إلى "عاقولاء" غير أنه لم يحدد موقع هذا المكان1. وقد اشتهرت الحيرة في الأدب العربي بحسن هوائها وطيبه، حتى قيل "يوم وليلة بالحيرة خير من دواء سنة"2، وقيل عنها أنها "منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والأسقام"3. وهي على "سيف البادية"4 ليست بعيدة عن الماء، وقد ورد ذكرها كثيرًا في شعر الشعراء الجاهليين والإسلاميين، وهي لا تبعد كثيرًا عن "النجف" و" الكوفة"5. وقد ذكر "حمزة الأصفهاني" أنه بسبب حسن هواء الحيرة وصحته لم يمت بالحيرة من الملوك أحد، إلا قابوس بن المنذر، أما بقية الملوك، فقد ماتوا في غزواتهم ومتصيدهم وتغربهم، وأنه بسبب ذلك قالت العرب: "لبيتة ليلة بالحيرة أنفع من تناول شربة"6. وقد نعتت في المؤلفات الإسلامية بنعوت منها: "الحيرة الروحاء"7 و" الحيرة البيضاء"8، أخذوا ذلك من شعر الشعراء، وزعم بعض أهل الأخبار: أن وصفهم إياها بالبياض، فإنما أرادوا أحسن العمارة. ويظهر من وصف أهل الأخبار للحيرة أنها لم تكن بعيدة عن الماء وأن نهرًا كان يصل بينها وبين الفرات، بل يظهر أن هذا النهر كان متشعبًا فيها، بحيث كون جملة أنهار فيها. أما نواحيها، فكانت قد بنيت على بحر النجف وعلى شاطئ الفرات، وربما كانت مزارع الحيرة وأملاك أثريائها قائمة على جرف

_ 1 البلدان "6/ 98". 2 الاصطخري، المسالك "82". 3 الطبري "1/ 850". 4 الاصطخري "82"، ابن حوقل "163"، البلدان "2/ 375". 5 اليعقوبي، البلدان "ص 309"، و"طبعة دي غويه"، رحلة ابن جبير "ص 210"، "دي غويه"، الاصطخري "163"، "دي غويه". 6 حمزة "75". 7 قال عاصم بن عمرو: صبحنا الحيرة الروحاء خيلًا ... ورجلًا فوق أنباح الكلاب البلدان "3/ 376". 8 قال الشريف الرضي: بالحيرة البيضاء حيث تقابلت ... شمم العباد عريضة الأعطان ديوان الشريف الرضي "2/ 885 وما بعدها"، البلدان "3/ 377".

البحر وشاطئ النهر1 ومن أنهار الحيرة نهر كافر2. ويرى بعض أهل الأخبار أنه هو نهر الحيرة3. وقد أدى ميلاد الكوفة في الإسلام إلى أفول نجم الحيرة، إذ انتقل الناس من المدينة القديمة إلى المدينة الإسلامية الجديدة، واستعملوا حجارة الحيرة وقصورها في بناء الكوفة، وهذا مما ساعد على اندثار تأريخ تلك المدينة الجاهلية ولا شك، غير أنها ظلت أمدًا طويلًا تقاوم في الإسلام الهرم إلى أن جاء أجلها فدخلت في عداد المدن المندثرة. وقد عرف ملوك الحيرة عند أهل الأخبار بـ "آل لخم" وبـ "آل نصر"، كما عرفوا بـ "النعامنة" وبـ "المناذرة"، وذلك لشيوع اسم النعمان واسم المنذر فيما بينهم4. وعرفوا أيضًا بـ "آل محرق"، وفيهم يقول الشاعر الأسود بن يعفر: ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد أرض الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد5 وفي طليعة أهل الأخبار الذين عنوا بجمع أخبار الحيرة الأخباري الشهير، بل رأس أهل الأخبار في أمور الجاهلية: "هشام بن الكلبي". فله كتاب في "الحيرة" سماه "ابن النديم" "كتاب الحيرة وتسمية البيع والديارات ونسب العباديين"، وكتاب ثان سماه "ابن النديم" كتاب المنذر ملك العرب"، وكتاب ثالث اسمه "كتاب عدي بن زيد العبادي"6. وهي مؤلفات لم تصل إلينا –ويا للأسف! – نرجو أن تكون في عالم الوجود، ليتمكن من يأتي بعدنا من الظفر بشيء جديد فيها، قد يفيد عشاق تأريخ الحيرة ويزيد في معارفهم.

_ 1 تقويم البلدان، لأبي الفداء "299". 2 شرح القصائد السبع الطوال الحاهليات، للأنباري "124". 3 "قال أبو عمرو: كافر نهر بالحيرة"، الأغاني "21/ 125"، "فقذف المتلمس صحيفته في نهر الحيرة"، الأغاني "21/ 126 وما بعدها"، ابن حبيب، أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام "نوادر المخطوطات"، "ص 213". 4 التنبيه "ص 158". 5 المعارف "ص 282". 6 الفهرست "146 وما بعدها"، "أخبار هشام الكلبي".

وقد زارها نفر من السياح وكتبوا عنها، كما نبشت بعض البعثات الآثارية آثارها، وعالجت مديرية الآثار القديمة في العراق بعض نواح من تأريخها، وقد توصل الحفارون إلى العثور على نقوش من الجبس مما تكسى به الجدر للزينة، وعلى جرار متعددة وآثار من هذا القبيل صغيرة بعضها من العهد الجاهلي وبعضها من العهد الإسلامي1. غير أنهم لم يعثروا حتى الآن على كتابات جاهلية تتحدث عن تأريخ تلك المدينة القديمة السيئة الحظ. وتأريخ هذه المدينة قبل الميلاد غامض لا نكاد نعرف من أمره شيئًا، فلم يرد خبرها في نص تأريخي مدون أو كتابة مدونة قبل الميلاد، وأقدم ذكر لها هو ما أشرت إليه، غير أن ذلك لا يتخذ دليلًا على أنها لم تكن مولودة قبل هذا العهد، إذ يجوز أنها كانت قبل هذا العهد قرية صغيرة، أو مدينة تسمى باسم غير هذا الاسم، ولعل المستقبل سيكشف عن تأريخها القديم بالسماح لبطن الأرض بإخراج ما في جوفها من أسرار عن ذلك التأريخ. أما الأخباريون، فيرجعون عهدها إلى أيام "بختنصر". هم يقولون: إن "برخيا" لما قدم من "نجران" وأخبر "بختنصر" بما أوحى الله إليه، وقص عليه ما أمره به من غزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب، وأن يطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتلتهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه كفرهم به، واتخاذهم آلهة دون الله، وتكذيبهم الرسل والأنبياء، وثب "بختنصر" على من كان في بلاده من تجار العرب، وكانوا يقدمون عليه بالتجارات والبياعات، ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها، فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرا على النجف وحصنه ثم ضمهم فيه، ووكل بهم حرسًا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهبوا لذلك، وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب فخرجت إليه طوائف منهم سالمين مستأمنين. فاستشار "بختنصر" فيهم "برخيا"، فقال: إن خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوع منهم عما كانوا عليه، فأقبل منهم، فأحسن إليهم، فأنزلهم "بختنصر" السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم بعد،

_ 1 D. Talbot Rice, The Oxford Excavation At Hira, In Ars. Islamica, Vol, I, Part, I, MCM, XXXIV, P. 51. Ann Arbar University Press, Journal Of The Royal Central Aaian Society, Vol, XIX, April, 1932, P. 254, Vol, Sept, 1932, P. 276.

فسموه "الأنبار"، ثم سار "بختنصر" لمقاتلة العرب، فنظم "بختنصر" ما بين "أيلة" و"الأيلة" خيلًا ورجلًا. ثم دخلوا على العرب. وسار "بختنصر" بجيشه حتى التقى بموضع "ذات عرق" بعدنان فهزمه، وسار إلى بلاد العرب حتى قدم إلى "حضور" وقد اجتمع أكثر العرب من أقطار "عربة"، فخندق الفريقان، ثم تصالح "بختنصر" و"عدنان"، بعد أن أكلت السيوف العرب. وعاد "بختنصر" بمن أخذ معه من سبايا العرب فأسكنهم "الأنبار"، وذهب قوم ممن أفلت قبل الهزيمة إلى "ريسوب" وعليهم "عك"، وذهب الباقون إلى "وبار". ولما رجع "بختنصر"، مات "عدنان"، وبقيت بلاد العرب خرابًا حياة "بختنصر"، فلما مات "بختنصر" خرج "معد بن عدنان" ومعه الأنبياء أنبياء بني إسرائيل حتى أتى "مكة" فحج وحج الأنبياء معه، ثم خرج حتى أتى "ريسوب" فاستخرج أهلها، وقتل أكثر "جرهم"، ثم تزوج ابنة معانة، فولدت له نزار بن معد1. فمؤسس الحيرة على رواية هؤلاء الأخباريين هو "بختنصر". وهو مؤسس "الأنبار" في نظرهم أيضًا. وقد كان ذلك في أيام عدنان. وقد سبق لي أن تعرضت لهذه الرواية ولجذورها وأصولها في مواضع من الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب. وفي بعض روايات الأخباريين أن "الأردوان" ملك النبط، وكان معاصرًا لـ "أردشير"، هو الذي بنى الحيرة. كما أن "بابا" خصم "الأردوان" هو الذي أنزل من أعانه من الأعراب "الأنبار". فالحيرة والأنبار إذن هما من عمل ملكين متخاصمين من ملوك النبط تخاصمًا في أيام أردشير. ولأهل اليمن، ويمثلهم "الهمداني"، رواية أخرى في بناء "الحيرة"، فهم يرجعون بناءها إلى "تبع"2. ويحدثنا "ابن الكلبي" بأن تبعًا المعروف بالرائد –وهو تبان أسعد أبو كرب ابن ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ- لما سار في أيام "بشتاسب

_ 1 الطبري "1/ 291 وما بعدها". 2 البلدان "3/ 377".

وأردشير بهمن بن اسفندريار بن يشتاسب" متوجهًا من اليمن في الطريق الذي سلكه "الرائش" قبله، خرج على جبلي طيء، ثم سار يريد الأنبار، فلما انتهى إلى موضع الحيرة ليلًا، تحير، فأقام مكانه، وسمي ذلك الموضع الحيرة. ثم سار وخلف به قومًا من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، فبنوا وأقاموا به. ثم انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيء وكلب والسكون وبلحارث بن كعب وإياد، ثم توجه إلى الأنبار1. وروى الطبري رواية أخرى تشبه هذه الرواية، ولكنها رواية مختصرة لم تذكر اسم تبع، وقد أخذ الطبري روايته هذه عن شيخه عبد الله بن أحمد المروزي2. هذه هي أقوال الأخباريين في كيفية مجيء العرب إلى العراق وفي سكانهم الحيرة والأنبار وما بين المكانين من أرضين. وهي أقوال فيها شيء من الحق، ولكن فيها شيء كثير من الخطأ والضلال. فنحن لا نريد أن ننكر هجرة القبائل العربية من الجزيرة إلى العراق، فهذا أمر ليس على نكرانه من سبيل، ولكننا لا نستطيع أن نوافقهم على أقوالهم في مبدأ تلك الهجرة وفي تواريخها، وفي كيفيتها فتلك أمور لا يعرفها الأخباريون. كما أننا لا نستطيع أن نوافقهم في زعمهم على من قاد تلك الهجرة والهجرات التي تلتها من رجال، فنحن نعلم حق العلم أن من تحدثوا عنهم وجعلوهم في الدهر الداهر وفي العرب العاربة أو في أيام ملوك الطوائف هم في الأكثر أناس عاشوا بعد الميلاد، وبينهم رجال لا تبعد أيامهم كثيرًا عن الإسلام، وبينهم أناس اخترعتهم مخيلة الأخباريين. وتأريخ الحيرة مع سعته وكثرة ما يرويه الأخباريون منه، لا يخلو من اضطراب ومن تناقض يدفعنا أحيانًا إلى العجب من قول "ابن "الكلبي" مثلًا: "إني كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتأريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها"3. وهو كما نعرف سند الأخباريين ومرجعهم الأول في تأريخ الحيرة. فرجل يدعي هذه الدعوى ويستقي أخباره من مواردها الأصلية. لا يجوز صدور روايات منه يناقض بعضها بعضًا، وأخبار لا تؤيد هذا الزعم. فللرجل روايات عن حادث

_ 1 الطبري "2/ 3". 2 الطبري "2/ 3". 3 الطبري "2/ 37".

واحد تثبت، إن صح أنها له، أن الرجل لم يكن صاحب رأي ولا اجتهاد فيما يرويه، وأنه يروي كل ما يقال له دون نقد أو تمحيص. فهو يروي خبرًا عن حادث في شكل، ثم يرويه في شكل آخر يختلف عما رواه كل الاختلاف أو بعض الاختلاف، ثم هو يزيد وينقص في أسماء الملوك وفي مدد حكمهم، ويذكر إجمالًا، ثم يناقض ما قاله تفصيلًا. غير أن علينا –ونحن أحياء نكتب عن شخص مضى على وفاته أكثر من ألف عام- أن نكون حذرين في القول. فنحن لا نستند في حكمنا هذا إلى مؤلف كامل الرواية لذلك الرجل، إنما نستند إلى كتب اقتطعت من مؤلفات ابن الكلبي وروت عنها. فما يدرينا لعل الخطأ في هذه الكتب، والاضطراب فيها، أو أن أصل الاضطراب في الموارد التي نقل ابن الكلبي منها. فما رواه ابن الكلبي إذن هو حكاية لما وجده هو أو أخذه من أفواه الرواة، فلا لوم عليه في هذا الشأن ولا تثريب. ولسنا في هذا المكان قضاة نحاول توجيه اللوم لأحد، أو نسحب اللوم من أحد، فهذا ليس من شأننا في هذا الموضع ولا من اختصاصنا، إنما نريد أن نشير إلى هذا التناقض العجيب الغريب الذي نراه فيما وصل إلينا من روايات تتعلق بحادث واحد، والذي نراه بين تواريخ الأخباريين عن ملوك الحيرة مثلًا، فما ذكره "الطبري" من أسماء ملوك لخم ومدد حكمهم، يختلف بعض الاختلاف عما ورد في تأريخ "حمزة" مثلًا أو في "مروج الذهب" للمسعودي، أو في المؤلفات الأخرى التي سترد أسماؤها في ثنايا البحث، مع أنها تشير أحيانًا إلى المورد الذي استقت منه، كابن الكلبي مثلًا. وهذا هو الذي يحملنا على العجب من وقوع هذا الاختلاف. فهل نقل هؤلاء من كتاب واحد من كتب "ابن الكلبي" مثلًا، أو أنهم نقلوا من مؤلفات متعددة لابن الكلبي، فحدث من أجل ذلك هذا الاختلاف على أنه، مع افتراض هذه الحالة، لا يحوز وقوع مثل هذا الاختلاف، إذ لا يعقل أن يكتب مؤلف واحد فاهم للمادة هاضم لها، له نقد وتفكير تأريخي، خبرًا في كتاب يختلف اختلافًا بينًا عما كتبه في كتاب له آخر، إلا أن يكون قد عثر على موارد جديدة وروايات حصل عليها بعد تأليف الكتب السابقة. ومهما يكن من شيء فإن أمر مناقضة الأخباريين أنفسهم في رواية الأخبار، وفي عدم تنسيقها، من الأمور التي لا ينفرد بها أخباري واحد، وتجد في تأريخ الطبري أمثلة من هذا القبيل حيث يناقض خبره في موضع خبره المروي في موضع آخر

دون أن يشير إليه أو يشير إلى وقوعه من الأخباريين. وقد فطن "ابن الأثير" إلى ذلك فأشار إلى أنه ناقل، وذاكر ما وجده وما قاله مختلف الأخباريين ليقف عليه القارئ. ثم لم يغفل، فذكر ما هو مرجح لديه، أو ما هو مرجح لدى أكثرية الأخباريين. ومن مواضع الاختلاف بين الأخباريين، اختلافهم في تسلسل من حكم "الحيرة" من ملوك، وفي مدد حكمهم. ومن عادتهم ذكر مدة حكم الملك إجمالًا، كأن يقولوا: "حكم مدة كذا من السنين"، ثم يذكرون ذلك تفصيلًا محسوبًا بالنسبة إلى مدة حكم من عاصر ذلك الملك من ملوك الفرس، كأن يقولوا: "منها كذا في حكم الملك الفلاني، وكذا في حكم الملك الفلاني"، وهكذا إن كان الملك قد أدرك جملة ملوك من ملوك الفرس، وأنت إذا فحصت ما ذكروه إجمالًا، ثم ما ذكروه تفصيلًا وجمعته بعضه مع بعض تجد اختلافًا بين حاصل الجمع والعدد المذكور إجمالًا في بعض الأحايين. وقد أوجد اختلاف الأخباريين في تسلسل الملوك وفي مدد الحكم صعوبات جمة للباحثين في هذا التأريخ في تثبيت تواريخ الملوك، وفي تعيين أيامهم على وجه مضبوط ما برحت قائمة في هذا المدون عن تأريخ آل لخم وتأريخ آل غسان. وقد درج بعض المؤرخين مثل الطبري وأبي حنيفة الدينوري وابن الأثير على إدماج تأريخ الحيرة في تأريخ الفرس في الجملة، فهم وأمثالهم يذكرون في كلامهم على ملك من ملوك الساسانيين صلات ذلك الملك بعرب الحيرة، ويشيرون إلى ملكها الذي كان يحكم في أيامه، وإلى عدد من عاصر من ملوك الفرس، ولذلك تجزأ تأريخ الحيرة وتناثر في صفحات فصول هؤلاء المؤرخين عن تأريخ الساسانيين. ودرح فريق آخر كاليعقوبي وحمزة والمسعودي على تدوين تأريخ الحيرة في باب مستقل بني على حسب تسلسل حكم الملوك كما استقر ذلك في ذهن الكاتب، مع ذكر بعض الأمور المتعلقة بالملك من سني حكم، أو من معاصرة لملوك الساسانيين أو من بناء أو ما شابه ذلك. وتجد في مؤلفات هؤلاء الأخباريين أمورًا لم يتطرق إليها أصاحب الطريقة الأخرى في بعض الأحيان. وتفيدنا مؤلفات هؤلاء من هذه الناحية في زيادة علمنا بتأريخ الحيرة المستقى من المورد الأول. ويؤسفنا جدًّا أن لا نملك حتى الآن دراسة علمية دقيقة للتأريخ وللمؤرخين الإسلاميين وللموارد التأريخية وكيفية أخذ بعضها من بعض، وهي دراسة لا بد

منها، إذ بغيرها لا نتمكن من كتابة تأريخ بالمعنى العلمي للعرب قبل الإسلام. وهي تيسر لنا فهم اتجاهات المؤرخين، وتصنيف الموارد على أساس الأسبقية، وبذلك تتيسر مهمة المؤرخ بعض التيسر، وتمهد له الجادة بعض التمهيد. ومن المؤسف حقًّا أن الأخباريين كانوا يتصرفون بالنصوص وبالمقتبسات التي يعتمدون عليها، ويجرون فيها بعض التغيير، وربما أغفلوا أسماء أصولها، فتظهر كأنها منهم على حين أنها نقل وأخذ، ولو أشاروا إلى المقتطفات والمقتبسات في الموضع المناسب، لكان في إشارتهم هذه خدمة كبرى لمن جاء بعدهم، وهداية إلى الموارد الأصلية التي يجب أن يرجع إليها ويعتمد عليها. ومن حسن الحظ أن بين أيدينا جملة مؤلفات لاتينية ويونانية، وردت في ثناياها إشارات إلى "عرب الروم" و" عرب الفرس"، أي عرب الشأم من "آل جفنة" وعرب الحيرة من "آل لخم". وقد عاصر بعض أصحاب هذه المؤلفات أولئك القوم، واشتركوا هم أنفسهم في الحملات لكونهم مؤرخين رسميين يسيرون مع القيصر أو القواد لتدوين الحوادث والمشاهدات. وقد أفادتنا إشاراتهم هذه فوائد كبيرة، وعليها كان جل اعتماد الباحثين في إيجاد مواضع ارتكاز يطمئن إليها في تعيين تواريخ "آل جفنة" أو "آل لخم"، وبها تمكنا من تصحيح أكثر أغلاط الأخباريين. ولقدمها –بالنسبة إلى مؤلفات الإسلاميين- ولكون معظمها من عهد ما قبل الإسلام، وكان لها حق التقديم بالطبع في نظر المؤرخ الحديث، ولكن هذا لا يدفع عنها مع ذلك مواطن النقد والشبهات. وللمؤلفات السريانية فضل يجب ألا ينسى أيضًا في تدوين هذا التأريخ، ولكنها ليست على الإجمال كالمؤلفات اليونانية واللاتينية في الدقة وفي النقد. ولما كان الكثير منها تواريخ كنسية، تعرضت لتأريخ الحيرة أو عرب الشأم أو العرب الآخرين بقدر ما لهؤلاء من صلة بالكنيسة وبالنصرانية، وهي على الجملة تمزج الأخبار بالمعجزات وبخوارق العادات وبرواية كرامات الآباء في هداية الملوك الوثنيين وسادات القبائل، وهي لا تخلو أيضًا من العصبية التي اتسم بها ذلك الزمن في النزاع المذهبي الذي منيت به النصرانية وفي محاولة الغض من الطرف النصراني الثاني، كالذي نجده بين المؤلفات النسطورية واليعقوبية والملكية وأمثالها، فلكل منها رواية بأسلوبها الخاص، لذلك وجب علينا الانتباه لهذه الناحية حين الرجوع إليها، وتخليص رواياتها من شوائب العصبية للمذهب، ونقدها لاستخلاص

العنصر التأريخي منها في تدوين تأريخ صحيح لعرب العراق أو عرب بلاد الشأم أو عرب جزيرة العرب. وأهل الحيرة عرب، يقسمهم الأخباريون إلى طبقات ثلاث: تنوخ، والعباد، والأحلاف1. هؤلاء في نظرهم من قبائل متعددة، فيها من قحطان وفيها من عدنان. وقد ذكروا أن في لهجة أهل الحيرة هجنة، رجعوا سببها إلى اختلاط هؤلاء العرب بمن كان يفد عليهم من النبط ممن كانوا يثيرون الأحداث فيلتجئون إلى هذا المكان2. ولذلك شابت لهجتهم رطانة نبطية. وقد كتبوا بقلم "بني إرم"، شأنهم في ذلك شأن تدمر وأهل "بطرا" إذ استعملوا قلمًا نبطيًّا متأخرًا في الكتابات. أما تنوخ، فهم قبائل سكنوا بيوت الشعر والمظال والوبر غربي الفرات بين الحيرة والأنبار فما فوقها في اصطلاح أهل الأخبار3. ويظهر من وصفهم لتنوخ أنهم قصدوا بهم من كان يشتغل بالزراعة ومن كان يعيش عيشة أهل البادية من سكان هذه المنطقة: منطقة ما بين الحيرة والأنبار. ولم يقصدوا قبيلة معينة4. وللأخباريين رأي خاص في تفسير أصل كلمة "تنوخ" خلاصته: أنه لما مات "بختنصر"، انضم الذين كان أسكنهم الحيرة من العرب إلى أهل الأنبار، وبقيت الحيرة خرابًا، فغبروا بذلك زمانًا طويلًا لا تطلع عليهم طالعة من بلاد العرب ولا يقدم عليهم قادم، وبالأنبار أهلها ومن انضم إليهم من أهل الحيرة من قبائل العرب من بني إسماعيل وبني معد بن عدنان. فلما كثر أولاد معد بن عدنان ومن كان معهم من قبائل العرب، وملأوا بلادهم من تهامة وما يليهم، فرقتهم حروب وقعت بينهم وأحداث حدثت فيهم، فتشتتوا. وأقبلت منهم قبائل حتى نزلوا البحرين، وبها جماعة من الأزد كانوا نزلوها في دهر "عمران ابن عمرو" من بقايا "بني عامر"، وهو: "ماء السماء بن حارثة"، وهو: "الغطريف بن ثعلبة بن امرئ القيس بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"، و" مالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله

_ 1 حمزة "66". Die Araber, I, S. 268, Noldeke, Geschichte Der Perser. 1879, S. 24. 2 البلدان "3/ 380"، Rothstein, S. 18. 3 حمزة "66"، و"تنوخ: حي من اليمن", اللسان "نوخ". 4 Rothstein, S. 28, Noldede, Sassa, S. 24, Anm. 3.

ابن أسد بن وبرة" في جماعة من قومهم، و"الحيقار بن الحيق بن عمير بن قنص بن معد بن عدنان" في "قنص" كلها. ولحق بهم "غطفان بن عمرو ابن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أنصى بن دعمى بن إياد بن نزار بن معد ابن عدنان"، و"زهر بن الحارث بن الشلل بن زهير بن إياد"، و"صنح ابن الحارث بن أفصى بن دعمى بن إياد". فاجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على التنوخ، وهو المقام، وتعاقدوا على التوازر والتناصر، فصاروا يدًا على الناس، وضمهم اسم تنوخ. وتنخ على تنوخ بطون من "نمارة بن لخم"، ودعا "مالك بن زهير" "جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي" إلى التنوخ معه، وزوجه أخته "لميس" ابنة "زهير"، فتنخ "جذيمة بن سالك" وجماعة ممن كان بها من قومهم من الأزد، فصار "مالك" و"عمرو" ابنا "فهم" والأزد حلفاء دون سائر تنوخ. وكلمة تنوخ كلها واحدة. أما اجتماع من اجتمع من قبائل العرب بالبحرين وتحالفهم وتعاقدهم، فكان على حد قول "ابن الكلبي" في أزمان ملوك الطوائف الذين ملكهم الإسكندر وفرق البدان بينهم عند قتله "دارا" ملك فارس إلى أن ظهر "أردشير بن بابك" ملك فارس على ملوك الطوائف، وقهرهم، ودان له الناس. وفي هذا العهد عهد ملوك الطوائف، تطلعت أنفس من كان بالبحرين من العرب إلى ريف العراق وطمعوا فيه، واهتبلوا ما وقع بين ملوك الطوائف من الاختلاف، فأجمعوا على السير إلى العراق. وكان أول من طلع منها "الحيقار بن الحيق" في جماعة قومه وأخلاط من الناس، فوجدوا الأرمانيين "بني إرم"، وهم الذين بأرض بابل وما يليها إلى ناحية الموصل، يقاتلون الأردوانيين، وهم ملوك الطوائف، فاستفادوا من ذلك وانتشروا في السواد، وسكن قسم منهم بين عرب الأنبار، وسكن قسم آخر منهم بين عرب الحيرة. ثم طلع "مالك" و" عمرو" ابنا "فهم بن تيم الله"، و"مالك بن زهير بن فهم بن تيم الله"، و" غطفان ابن عمر بن الطمثان"، زهر بن الحارث"، و"صنح بن صنح" فيمن تنخ عليهم من عشائرهم وحلفائهم على الأنبار على ملك الأرمانين، فطلع "نمارة بن قيس بن نمارة" و"النجدة"، وهم قبيلة من العماليق، يدعون إلى "كندة" و"ملكان بن كندة" و"مالك" و"عمرو" ابني "فهم"

ومن حالفهم، وتنخ معهم على "نفر" على ملك الأردوانيين، فأنزلهم الحير، أي الحيرة، فلم تزل طالعة الأنبار وطالعة "نفر" على ذلك لا يدينون للأعاجم ولا تدين لهم الأعاجم حتى قدمها تبع، وهو: "أسعد أبو كرب بن ملكيكرب" في جيوشه فاستولى عليها، ونزل الحيرة فيمن معه1. وروى "ابن الكلبي" أن كثيرًا من تنوخ نزلوا الأنبار والحيرة وما بين الحيرة وطف الفرات وغربيه إلى ناحية الأنبار وما والاها. نزلوا في المظال والأخبية لا يسكنون بيوت المدر، ولا يزاوجون أهلها. وكانوا يسمون "عرب الضاحية". فكان أول من ملك منهم في زمان الطوائف "مالك بن فهم"، وكان منزله مما يلي الأنبار، ثم مات مالك بن فهم، فملك من بعده أخوه "عمرو بن فهم"، ثم هلك عمرو بن فهم، فملك من بعده "جذيمة الأبرش ابن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي"2. وقد أخذ الطبري ما ذكره عن "تنوخ" من روايات ترجع إلى "ابن الكلبي" وإلى "ابن إسحاق"، وتختلف روايات "ابن إسحاق" التي أخذها "الطبري" عن شيخه "ابن حميد" عن "سلمة" عن "ابن إسحاق" بعض الاختلاف عن روايات "ابن الكلبي". ولدينا رواية تذكر أن "بني زهير بن عمرو بن فهم"، ومنهم "مالك ابن فهم" الذي تنخت عليه تنوخ. هو ومالك بن فهم بن غنم الأزدي، تنخوا بعين هجر، وتحالفوا هناك، فاجتمعت إليهم قبائل من العرب، فنزلوا الحيرة، فوثب "سليمه بن مالك بن فهم" على أبيه، فرماه فقتله، فقال أبوه: أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني فتفرقت بنو مالك، وكانوا عشرة، ولحقوا بعمان، وملك جذيمة بن مالك عشرين ومئة سنة. وذلك في أيام ملوك الطوائف. وهو أول من اتخذ دارًا3.

_ 1 الطبري "2/ 27 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 195 وما بعدها"، البلدان "3/ 377 وما بعدها". 2 الطبري "3/ 28 وما بعدها". 3 الاشتقاق "2/ 317 وما بعدها".

أما ما زعمه أهل الأخبار في معنى تنوخ، فقد أشرت مرارًا إلى جنوح الأخباريين إلى أمثال هذه التفاسير، حين ترسو سفينة علمهم على شاطئ الجهل بالأشياء. وما تنوخ في نظري إلا "Tanueitae" "Thanuitae" القبيلة التي ذكرها "بطلميوس" في جملة القبائل التي كانت في أيامه1. وهي وإن كانت في جغرافيته في مواضع بعيدة عن الحيرة غير أن ذلك لا يمنع من انتقال بطون منها إلى الحيرة وبادية الشأم وإقامتها فيها، وهو حادث مألوف ليس بغريب، أو أنها كانت في هذه المواضع في أيام "بطلميوس" كما كانت بطون منها تقيم في المواضع التي ذكرها أو أنه أخطأ في تعيين مواضعها الصحيحة فظن أنها حيث وضعها من الأماكن، وهو أمر ليس وقوعه من الكتاب في الزمن الحاضر بغريب، فكيف بالنسبة إلى تلك الأيام. فتنوخ إذن على الوصف المتقدم، هم أعراب الحيرة، لا حضرها وأهل مدرها، وكانوا يعيشون في أطرافها وحولها، في بيوت الشعر والمظال، على نقيض "العباديين". وقد تبين من بعض الموارد أن بطونًا من تنوخ نزلت أرضين تابعة للروم2. وأما العباد، فهم الذين سكنوا رقعة الحيرة فابتنوا بها، فهم حضر مستقرون3. ويقول معظم الأخباريين أنهم كانوا على دين المسيح. ويقول بعضهم: إنهم قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية، والنسبة إليهم عبادي4. وذهب بعض إلى أنهم بطن في جزيلة من لخم5. وخالف فريق فذهبوا إلى أنهم كانوا من قبائل شتى انفردوا من الناس في قصور ابتنوها لنفوسهم ظاهر الحيرة6. وأنهم دانوا لأردشير7. ونسبهم بعض أهل الأخبار إلى "بني عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة

_ 1 Sprenger, Alte Geography, 341, Glaser, Skizze, II 283, Blay, In ZDMG 22, 1868, S. 660, Forster, II, P. 247. 2 Die Araber, II, S. 251. 3 حمزة "66"، Die Araber, I, S. 269. 4 الاشتقاق "1/ 7" "طبعة وستنفلد". Rothstein, S. 19. 5 العقد الفريد "2/ 253". 6 ابن القفطي: الحكماء "199"، غنيمة "16". 7 الطبري "2/ 43".

ابن أسد بن ربيعة"، وذكروا أنهم من نسل أربعة، هم: عبد المسيح، وعبد كلال، وعبد الله، وعبد ياليل1. وأشار "السهيلي" إلى ورود اسمهم في الحديث، فقال: "وفي الحديث المسند: أبعد الناس عن الإسلام، الروم، والعباد، وأحسبهم هؤلاء؛ لأنهم تنصروا. وبهم من ربيع، ثم من بني عبد القيس"2. وللأخباريين أقوال في أصل كلمة "العباد"، فمنهم من يقول أنهم إنما سموا بذلك؛ لأن وفدًا وفد على كسرى كانت أسماؤهم تبتدئ بكلمة عبد، فقال كسرى: أنتم عباد كلكم فسموا العباد3. ومنهم من يقول: لا، إنما قيل لهم العباد؛ لأنهم كانوا يعبدون الله، فسموا بهذا الاسم4. ومنهم من يرى أنهم سموا بذلك؛ لأنهم لما قاتلهم سابور الأكبر، اتخذوا شعارًا لهم، هو يا آل عباد، فسموا العباد5. إلى غير ذلك من أمثال هذه التعليلات. وأظن أن خير ما نفعله في هذا الباب لمعرفة من كانت تنطبق عليهم هذه التسمية، هو أن ندرس أسماء مشاهير من نسبوا إلى العباديين من أسر ورجال، مثل: أسرة عدي بن زيد العمادي، وبني مرينا، وبقيلة، وأمثالهم ممن حشروا في العباديين. فقد شملت التسمية هؤلاء وهم من قبائل مختلفة. كان آل عدي ابن زيد مثلًا من تميم، وكان بنو مرينا من لخم، وكانت بقيلة من الأزد6. فهم إذن من قبائل مختلفة، ومع ذلك عرفوا بالعباديين، وذلك يدل على أن هذا الاسم لم يكن يعني قبيلة، أو بطنًا، وإنما يعني جماعة من قبائل شتى جمعت بينها وحدة الدين، ووحدة الموطن. لذلك لم يطلق إلى على النصارى العرب من أهل الحيرة. أما غيرهم من نصارى العرب، فلم يشملهم اسم العباديين7.

_ 1 الروض الأنف "1/ 53". 2 الروض الأنف "1/ 53". 3 اللسان "3/ 272"، "عبد"، ابن قتيبة المعارف "649"، ابن العبري، تأريخ مختصر الدول "250". 4 تاج العروس "2/ 410 وما بعدها"، "عبد" ابن القفطي، "173 وما بعدها"، اللسان "3/ 272"، الروض الأنف "1/ 53". 5 الأغاني "11/ 156". 6 Rothstein, S. 20. 7 Rothstein, S. 20.

ويمكن أن نقول استنادًا إلى روايات الأخباريين في تحديد مدلول الكلمة، واقتصارها على نصارى الحيرة دون غيرهم من نصارى العرب: إن هذه الكلمة أطلقت في الأصل على من تنصر من أهل الحيرة، ليميزوهم عن غيرهم من سكان المدينة من الوثنيين. ولم يكن أولئك النصارى في بادئ أمرهم بالطبع إلا فئة قليلة، ثم توسعت من بعد. فلما انتشرت النصرانية في الحيرة لازمت هذه التسمية جميع نصاراها، كائنًا من كانوا، وصارت علمًا لهم، لم تميزهم عن الوثنيين حسب، وإنما ميزتهم أيضًا عن بقية النصارى العرب من غير أهل الحيرة فلما مضى زمان طويل على هذا الاستعمال، ظن المتأخرون أنه علم، ثم حاروا في تعليله، فأوجدوا على طريقتهم تلك التعليلات. ولعل العباد والعباديين من كلمة "عبد" في الأصل، أطلقها متنصرة الحيرة الأولى على نفسها؛ لأنها تعبدت لإله، لتميز نفسها عن الوثنيين. أو أن أولئك الوثنيين أطلقوها على أولئك المتنصرة، تمييزًا لهم عن سائر الوثنيين. وقد يكون لـ "عبد المسيح" علاقة بهذه التسمية كذلك. وهي تسمية شائعة بين النصارى شيوع "عبد الله" بين المسلمين1. ولا أستبعد أن يكون العباد والعباديين، هم بقية "اباديدي" "Abadidi" أو "إباديدي" "Ibadidi"، الذين تحدثت عنهم في أثناء كلامي عن الآشوريين. وقد كان العباديون أكثر أهل الحيرة ثقافة، حذق بعضهم الصناعات ودرس بعضهم العلوم، وفاق بعض آخر في اللغات فحذق العربية وتعلم الفارسية، وكانوا يتقنون في الغالب لغة بني إرم بحكم تنصرهم واعتبار النصارى لها لغة مقدسة؛ لأنها لغة الدين، لذلك كان لهم وجه ومقام في الحيرة، ولهذا السبب اختار الفرس تراجمتهم ومن كان يتولى المراسلة بينهم وبين العرب من هؤلاء، كالذي كان مع "زيد العبادي" والد "عدي". وأما "الأحلاف"، فهم الذين لحقوا بأهل الحيرة ونزلوا فيها، ولم يكونوا في الأصل لا من تنوخ، ولا من العباد الذين دانوا لـ "أردشير"2. وقد كان بين أهل الحيرة جماعة من النبط3، كما كانت بينهم جماعات من

_ 1 Noldede, Sassa, S. 24, Rothstein, S. 21. 2 حمزة "66". 3 الأغاني "8/ 61".

الفرس ومن اليهود. والنبط هم من بقايا قدماء العراقيين، وقد كان بعضهم يتكلم العربية برطانة ظاهرة، فتأثر بعض عرب الحيرة بهذه الرطانة، فبدت على ألسنتهم، وذلك باختلاطهم بتلك البقية التي تكلمت بلهجة بني إرم وهي التي عرفت بلغة "النبط" عند المسلمين1. وكانت للوثنيين من أهل الحيرة أصنام، منها: اللآت، والعزى، وسبد2، و"محرق" وبه تسمى بعض الرجال تبركًا وتقربًا إليه3. لقد كان معظم نصارى الحيرة على مذهب النساطرة، وهو مذهب شجعه الفرس في بلادهم نكاية بالروم. غير أن هنالك جماعة كانت على مذهب اليعاقبة، كما كان بعضهم على مذاهب نصرانية أخرى لا مجال للحديث عنها في هذا المكان. وقد حاول أصحاب هذه المذاهب كسب أكبر عدد ممكن من الناس إلى مذاهبهم. وطبيعي ألا يجد مذهب الروم صدرًا رحبًا في الأرضين الخاضعة للفرس، لما في ذلك من أخطار سياسية تهدد مصالحهم. وقد كانت الحيرة من المراكز المهمة في حركة التبشير بالنصرانية بين العرب. ومن الحيرة ذهب قسم من المبشرين إلى اليمن والأجزاء الأخرى من جزيرة العرب لنشر النسطورية والمذاهب النصرانية الأخرى هناك، وفيها انعقد مجمع "دار يشوع" في سنة "424"4، وفي هذه المدينة توفي هذا الجاثليق "دار يشوع" ودفن فيها على بعض الروايات5. ما ذكرته عن أهل الحيرة، هو ما يخص أهل المدينة وما حولها من الحضر المستقرين. أما من كان قد خضع لملوك الحيرة، فكانوا قبائل يعيشون في أرضين واسعة، كانت تتقلص سعتها وتتوسع بحسب قدرة "ملك الحيرة" ومكانته، فقد حكم "امرؤ القيس" مثلًا "كل العرب" على حد قول النص: "نص النمارة" الذين وجد على قبره. ويقصد بذلك "كل الأعراب"، وخص منهم "أسدًا" و"نزارًا" و"مذحجًا" وغيرها، حتى بلغ حدود "نجران"،

_ 1 "عرب استنبطنا، ونبط استعربنا"، أمالي المرتضي، "1/ 177". 2 الأغاني "2/ 104"، "طبعة دار الكتب المصرية"، "2/ 20"، "ساسي". 3 Rothstein, S. 95 Noldeke, In ZDMG, 1887, S. 712. 4 الديورة في مملكتي الفرس والعرب "10". 5 أوحين نسران، خلاصة تأريخية للكنيسة السريانية، "تعريب القس سليمان الصائغ"، والموصل 1939 "ص 26 وما بعدها".

كما ملك "معدًّا"1. ولكننا لا نستطيع أن نؤكد أن ملك ملوك الحيرة قد شمل القبائل المذكورة في كل الأوقات، بل في كل أيام حكم "امرئ القيس"، فقد تعودت القبائل الانتفاضة على من يفرض حكمه عليه عند أول فرصة يشعرون فيها بضعف الحاكم، أو أن الأوضاع أخذت تسير عكس ما يريد، فتنقلب عليه وتخرج على طاعته. ونجد في رسالة "شمعون الأرشامي" الحيرة أن في جملة من كان في معسكر "المنذر" الثالث، "طيايه حنبه ومعدايه"، أي "طيء" ومعد. والأغلب أنه قصد بـ "طياية" الأعراب، فقد كانت تطلق بهذا المعنى في هذا المعهد. ولعله قصد بـ "حنبه" "حنفه" قبيلة "بني حنيفة" أو قبيلة أخرى اسمها قريب من هذا الاسم. ويلاحظ أن اسم "معد" كان معروفًا مشهورًا على أنه من القبائل العربية الكبيرة التي تشمل منازلها أرضين واسعة. وقد ميز بينها وبين "نزار" في "نصر النمارة" مما يدل على أن "نزارًا" كانت منفصلة عن "معد" ولها اسم خاص في القرن الرابع للميلاد. أما الأنبار التي زعم الأخباريون أنها بنيت في أيام بختنصر، فقد كانت من المدن المعروفة في أيام الساسانيين، تلي شهرتها في العراق شهرة مدينة "طيسفون" "Ktesiphon". وقد تبين من فحص آثارها ومعالمها الباقية أنها من المواضع التي كانت قبل عهد الدولة الساسانية، غير أننا لا نعرف من أمرها شيئًا يذكر قبل عهد هذه الدولة، والذي بعث فيها الحياة وأنشأ فيها الأبنية والعمارات، هو الملك الساساني "سابور الثاني" "شابور" "Shapur II" "310-379 م"2، أو سابور الأول في بعض الروايات3. وقد حصنت وقويت وجعلت قلعة حربية لصد غارات الروم على حدود هذه المملكة من ناحية الفرات. وكان لها أثر مهم في الحملة التي قام بها الانبراطور "يوليانوس" "Julianus" على مملكة الساسانيين في سنة 363 للميلاد، إذ دافعت عن نفسها دفاعًا شديدًا. ولما تمكن يوليانوس منها، بعد ذلك الحصار المتعب صارت ركامًا وتلالًا من الرماد، فأمر عندئذ ببناء "هيليوبوليس" "Heleopolis". وقد وصف المؤرخ "أميانوس مرسليانوس" "Ammianus Mercellianus" الأنبار،

_ 1 تأريخ العرب قبل الإسلام، لمؤلف هذا الكتاب "4/ 33 وما بعدها"، Die Araber, II, S. 313. 2 Paulys – Wissowa, 64, Halbband, 1950, 1725, Ency, I, P. 348. 3 Paulys-Wissowa, 2 Halbband, 1894, 1791, Musil, Euqhrates, P. 354.

وذكر قلاعها الحصينة1. وفي جنوب هذه المدينة وعلى مسافة قليلة منها، يقع نهر عيسى الذي يصل الفرات بدجلة، وهو نهر قديم يرجع عهده إلى ما قبل الإسلام، عرف بـ "Naarsares" أو "Narsares"2 ويظن أن الملك سابور الثاني المذكور هو الذي أمر بحفره. وقد اكتسبت المدينة بهذا النهر شأنًا خاصًّا إذ صارت فرضة مهمة، ومخزنًا للأموال، ومركزًا عظيمًا في وسط العراق للتجارة ولتبادل السلع المرسلة عن طريق دجلة إلى الفرات وبالعكس. ولاسم هذه المدينة، وهي الأنبار، علاقة بهذا المعنى على ما يظن. وهو من "Ham-Bara" الإيرانية القديمة، ومعناها المخزن، ومنها "أنبار" "Anbar" بالفارسية الحديثة. وقد عرف العلماء المسلمون معنى الكلمة فذكروه3. ومن هذه الكلمة أخذ البيزنطيون "Anbara" "Abbareny" "Abara"، ويقصدون بها الأنبار4. وقد عرفت المدينة بـ "فيروز سابور" "بيروز شابور" "Peroz Shapur" كذلك. ومعنى هذه الكلمة "سابور المنتصر". ومنها جاء اسمها "بيريسابورا" "Pirisaboora" "Bersabora" "Pirisaboras" المذكور في تأريخ "أميانوس مارسليانوس" و"زوزيموس". وقد ذكر هذا الاسم في المؤلفات السريانية. وكان عليها أسقف نسطوري5. ويظن أن موضع "أنكوباريتيس" "Ankobaritis" المذكور في جغرافية

_ 1 Paulys-Wissowa, 64 Halbband, 1950, 1725, Ammianus, XXIV, 2, 9, XXIV, 2, 18, Musil, Euphrates, PP. 234, 236, 240, 354. 2 "نهر صرصر". Paulys-Wissoma, 64 Halbband, 1950, 1725. 3 "وإنما سميت الأنبار أنبار؛ لأنها كانت تكون فيها أنابير الطعام، وكانت تسمى الأهراء؛ لأن كسرى يرزق أصحابه رزقهم منها"، الطبري "2/ 28"، البلدان "1/ 368"، اللسان "5/ 190"، "صادر"، "نبر"، Ency, I, P. 348, Frankel, Die Aramaischen Fremdworter In Arabischen S. 136, Scheftelwitz In ZDMG, IX 699, Noldede Grammatik Der Neusyrichen Sprache, S. 403, Paulys – Wissowa, Zwiter Halbband, 1894, 1461. 4 Ency, I, P. 348. 5 Ammianus Marcellianus, XXIV, 29, 5, 3, Paulys-Wissowa, 2 Halbband. 1894, 1791.

"بطلميوس" يعني المنطقة التي تقع فيها الأنبار، فإذا كان هذا الظن صحيحًا، كان اسم هذه المدينة معروفًا إذن قبل أيام الساسانيين1. ولم يذكر "ايزيدور الكركسي" "Isidorus Of Charax" الذي ساح حوالي ميلاد المسيح في إنبراطورية الفرث، اسم هذه المدينة، ولا اسمًا آخر يقع في هذا المكان، لذلك يرى بعض الباحثين أن الأنبار لم تنشأ إلا بعد أيام "ايزيدور" وربما في القرن الأول للميلاد، وأنها أنشئت في بادئ الأمر لخزن المواد فيها وتموين الحاميات بما تحتاج إليه، ثم توسعت في العصر الساساني حتى أصبحت المدينة الثانية في إقليم بابل بعد طيسفون2. وفي رواية لـ "ثيوفيلكتس" "Theophylactus" أن "كسرى برويز الثاني" "Khusrave Abharvez" "590-628م تقريبًا"، حينما هرب من وجه "بهرام جوبين" حوالي سنة 590 للميلاد، وترك العاصمة طيسفون عبر دجلة واختراق البادية حتى جاء الأنبار، ومنها ذهب إلى عانة "Anatha"، ومنها ذهب إلى "قرقيساء" حيث اتصل بالروم3. وقد صارت "الأنبار" من أهم المواضع العلمية ليهود العراق في عهد "هرمز الرابع" "578-591م" أو "579 -590م"، فلما اضطهد هذا الملك اليهود، وأمر بإغلاق مدارسهم الدينية التي كانت من أهم مدارس اليهود في ذلك العهد في مدينتي "سورا" "Sura'" و"بومبيدثا"، "فومبيديثه" "Pombeditha"، انتقل أحبار المدينتين إلى مدينة "فيروز سابور" "Peroz Shapur" أي الأنبار. وكانت إذ ذاك في حكم ملوك الحيرة4، وصارت منذ ذلك العهد مركزًا من مراكز الثقافة اليهودية في العراق. وتقع "فومبديثه" "Pombeditha" بجوار الأنبار، وتعني "فم البداة"، وقد كانت من أهم المستوطانت اليهودية في العراق، ومن أهم المراكز العلمية التي أخرجت طائفة من كبار أحبار اليهود، أسهموا في تدوين التلمود وفي جمع التراث اليهودي القديم. ومن علمائها "مار رابة الغاؤون" وآخرون. وقد قدم

_ 1 Ptolemy, V, 18, 4, Paulys-Wissowa, 2 Halbband, 1894, S. 1791. 2 Paulys-Wissowa, 2 Halband, 1849, 1791. 3 Theophylactus, IV, 10, 4, Paulys-Wissowa, 2 Halbband, 1894, 1794. 4 Die Araber, I, S. 630, Th. Noldeke, Tabari, 57, Anm, 5.

إليها اليهود من فلسطين هربًا من الرومان الذين لم يعطوا اليهود الحرية الدينية الكافية للانصراف إلى ممارسة شعائرهم الدينية والتعليم على وفق ديانتهم. فأسسوا مستوطنات مهمة في العراق، منها: هذه المستوطنة، ومستوطنة "نهر دعة" وغيرهما، وفي هذه المستوطنات دون التلمود البابلي الذي هو من أهم أركان كتب التشريع عند اليهود1. وقد جاء في "بابا بثرا" أن العرب أتوا إلى "فومبديثه"، استولوا على أرض اليهود. وقد جاء اليهود إلى حبرهم "أبيه" "Abaya" ليكتب لهم نسختين من نسخ تملك الأرض، حتى إذا استولى غريب على نسخة التملك تكون لديه نسخة ثانية. وكان ذلك على أثر هذا الحادث2. وكان العرب عندما ينتزعون تلك الأرضين يأخذون سندات التملك أيضًا. ولهذا راجع اليهود هذا الحبر ليكتب لهم سندي تملك، حتى إذا أخذت نسخة، احتفظ صاحب الأرض بالنسخة الثانية فيكون في إمكانه مقاضاة المغتصب3. ونجد في "نده" "Niddah"، وهو "كتاب الحيض" من باب "كتاب الطهارة" "Seder Toheroth" في الفقه العبراني، قصة تاجر عربي كان في "فومبديثه"، وكان يرتدي عباءة أو جبة سوداء حالكة السواد، ولما كان السواد من الألوان المكروهة عند اليهود، جاءه أحد زوار المدينة من اليهود، فسأله عن هذا السواد، فقال التاجر: وهل يوجد لون كهذا اللون! فقام عليه اليهود، وانتزعوا منه عباءته أو جبته ومزقوها، ثم استرضوه بأن عوضوه بأربعمئة "زوز"4.

_ 1 J. Obermeyer, Die Landschaft Babylonien, S. 215. 2 Baba Bathra 168b. 3 The Babylonian Talmaud, Sedr Nezikin, II, P. 735. 4 Niddah 20a, The Babylonian Talmud, Seder, P. 131.

ملوك الحيرة

ملوك الحيرة: وقد عرف ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، وبـ "آل لخم"، وبـ "آل محرق"، وبـ "آل النعمان"، وبـ "آل عدي". وورد أن العرب كانت تسمي بني المنذر الملوك "الأشاهب" لجمالهم5.

_ 5 الاشتقاق "ص 116".

ويظهر أن شهرة ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، هي شهرة قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام بزمن طويل. فقد ورد في الأخبار عن "نهر دعة" "Nehardea" وهي مستوطنة من المستوطنات اليهودية القديمة الكبيرة التي تأسست في العراق، وتقع عند فم نهر ملكا "Nehr Malka"، أي مخرج نهر الملك من الفرات1، أنه في سنة "570" من التقويم السلوقي الموافقة لسنة "259" للميلاد، جاء "بابا ابن نصر" إلى مدينة "نهر دعة" وخربها، فهربت بعض أحبارها إلى مواضع يهودية أخرى، كانت ملجأ لليهود2. ويظهر أن الأمير المهاجم، وقد سمي في الخبر بـ "بابا" "Papa"، كان من أبناء سيد قبيلة عربية اسمه "نصر"، وقد عرف بـ "برنصر" و"بن نصر" في التلمود3، وقد ذهب الباحثون إلى أن المراد به أحد أمراء الحيرة من "آل نصر"4، أما 4. أما "كريتز" "Gratz"، وهو من المؤرخين اليهود المشهورين، فقد ذهب إلى أنه "أذينة" زوج الملكة "زنوبيا" "الزباء" "Zenobias" ملكة تدمر5. غير أن هنالك أدلة تأريخية لا تؤيد هذا الرأي، ثم إن الموارد العربية تنعت ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، ولم يشتهر ملوك تدمر فيها بـ "آل نصر". وقد تحدثت إليك برأي أهل الأخبار في أول من حكم الحيرة من الملوك، ورأينا أن "مالك بن فهم" هو أول ملك حكم هذا الموضع على زعم، وهو في نظرهم من الأزد6. وقد حكم مدة عشرين عامًا على رواية الأخباريين7. وقد زعم "حمزة الأصفهاني" أن "ملك بن فهم" تملك تنوخ العراق في زمان ملوك الطوائف، وأن منزله كان بالأنبار، وأنه بقي بها إلى أن رماه ابنه "سليمة بن مالك بن فهم" رمية بالنبل، وهو لا يعرفه. فلما علم أن سليمة راميه، قال.

_ 1 J. Obermeyer, Die Landschaft Bavylonien, S. 254 2 J. Obermeyer, Die Landschaft Bavylonien, S. 254 3 Kethuboth 51b. 4 J. Obermeyer, Die Landschaft Bavylonien, S. 255 5 Gratz,Geschichte Der Juden, IV, S. 295. 6 الطبري "2/ 27". 7 اليعقوبي "1/ 169"، المعارف "281".

جزاني لا جزاه الله خيرًا ... سليمة إنه شرًّا جزاني أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني فلما قال هذين البيتين فاظ أي مات، وهرب سليمة هرب إلى عمان1. وحكم بعد "مالك بن فهم" أخوه" عمرو بن فهم" على رواية2، و"جذيمة الأبرش" المعروف بجذيمة الوضاح أيضًا على رواية أخرى, ولا نعرف من أمر "عمرو" هذا شيئًا يستحق الذكر. وتزعم رواية أن الذي حكم بعد "مالك بن فهم" هو "جذيمة الأبرش"، وقد جعلته ابنًا لمالك، وجعلت نسبه على هذه الصورة: "جذيمة بن مالك بن فهم ابن غانم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن الغوث". وقالت: إن والده "مالك هو أول من ملك الضاحية في حكم ملوك الطوائف3. أما حظ جذيمة الأبرش، فهو خير من حظ الرجلين السابقين عند الأخباريين، فله في رواياتهم شعر وحديث. وقد تحدثوا عنه، ونسبوا إليه الغزوات، وجاد عليه بعض الرواة فرفعوا زمانه وجعلوه في العاربة الأولى. جعلوه من بني "وبار ابن أميم بن لوذ بن سام بن نوح"، وصيروه "من أفضل ملوك العرب رأيًا، وأبعدهم مغارًا، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزمًا. وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضم إليه العرب، وغزا بالجيوش"4، وذكر "المسعودي" أنه أول من ملك الحيرة5. وقد وصفوه أيضًا، فقالوا: إنه "كان به برص، فكنت العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به، وتنسبه إليه، إعظامًا له. فقيل: جذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش"6. وذكر "المسعودي" أن جذيمة هو صاحب النديمين اللذين

_ 1 حمزة "64"، الاشتقاق "317". 2 الحيرة "118". 3 الطبري "1/ 612"، "دار المعارف"، البلدان "3/ 379"، مفاتيح العلوم، للخوارزمي "ص 68". 4 الطبري "2/ 29"، البلدان "3/ 379". أسماء المغتالين، لمحمد بن حبيب، "نوادر المخطوطات"، "ص 112". 5 مروج "2/ 16". 6 الطبري "2/ 29"، الكامل "1/ 136"، الاشتقاق "2/ 291".

يضرب بهما المثل، واستشهد على ذلك بشعر لـ "متمم بن نويرة اليربوعي" في مرثيته لأخيه مالك بن نويرة: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا1 وقد ذكر أن النديمين المذكورين هما: مالك وعقيل، وهما ابنا "فرج بن مالك" من "بلقين"، وكانا قد قدما من الشام، يريدان جذيمة، فوجدا فتى قد تلبد شعره، وطالت أظافره، وساءت حاله، أسرع نحوهما يرجو الطعام والرعاية، فلما سألاه عن حاله، وتبين لهما أنه "عمرو بن عدي"، سرًّا به كثيرًا، وعنيا به، وأخذاه معهما إلى "جذيمة"، فلما رآه، فرح به فرحًا كبيرًا، لعودته إليه، ونظر إليه، ثم أعاد عليه الطوق، وكان جذيمة قد صنعة له قبلًا، ثم قال: "كبر عمرو عن الطوق". وكان الجن قد استطارته، أي خطفته. وقال جذيمة لمالك وعقيل: ما حكمكما، أي ما طلبكما! قالا حكمنا منادمتك. فأصبحا يضرب بهما المثل2. وذكر "المسعودي" أن كنية "جذيمة" التي عرف بها هي "أبو مالك"، وروى في ذلك شعرًا، زعم أن قائله هو سويد بن كاهل اليشكري": إن أذق حتفي، فقبلي ذاقه ... طسم وعاد وجديس ذو السبع وأبو مالك القيل الذي ... قتلته بنت عمرو بالخدع3 وذكر الأخباريون أن جذيمة غزا طسمًا وجديسًا، غزاهم في منازلهم من "جو" وما حولهم. فأصاب "حسان بن تبع أسعد أبي كرب"، وقد أغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعًا بمن معه، وأتت خيول تبع على سرية لجذيمة، فاجتاحها وبلغ جذيمة خبرهم، فقال في ذلك شعرًا دون منه الطبري

_ 1 التنبيه "158 وما بعدها"، ابن قتيبة، عيون الأخبار "1/ 274"، الروض الأنف "2/ 303". 2 الكامل، لابن الأثير "1/ 197"، التنبيه "158 وما بعدها"، "أنا شهدت ندماني جذيمة: مالكًا وعقيلًا، وصبحتهما الخمر المشعشعة لما وجدا عمرو بن عدي، فكنت أصرف الكأس عنه"، رسالة الغفران "278". 3 مروج "2/ 16"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".

أحد عشر بيتًا. وقد أراد ابن "الكلبي" أن يكون حذرًا في هذه المرة، أو أن يظهر نفسه في مظهر الحذر الناقد، فقال: "ثلاثة أبيات منها حق، والبقية باطل"1. وجميل صدور هذا الحذر من الطبري، أو من ابن الكلبي، وقد عودانا سرد أبيات من الشعر العربي، نسباها إلى من هو أقدم عهدًا من جذيمة ولم يذكرا أنه باطل، أو أن فيه حقًّا وباطلًا. وفي جملة ما تحدث به الأخباريون عن جذيمة أنه تكهن وتنبأ، وأنه اتخذ صنمين يقال لهما الضيزنان، وضعهما بالحيرة في مكان معروف، وكان يستسقي بهما ويستنصر بهما2. فلم يقنع الأخباريون بالحديث عن ملك جذيمة وحده، فأضافوا إليه التنبؤ والكهانة وعبادة الأصنام. وذكر بعض أهل الأخبار أن "جذيمة بن مالك بن فهم" وهو جذيمة الأبرش كان ينزل الأنبار ويأتي الحيرة ثم يرجع، وكان لا ينادم أحدًا ذهابًا بنفسه، وينادم الفرقدين. فإذا شرب قدحًا، صب لهذا قدحًا ولهذا قدحًا، وهو أول من عمل المنجنيق، وأول من حذيت له النعال، وأول من رفع له الشمع3. بقي على ذلك حتى نادمه مالك وعقيل4، إلى غير ذلك من أقوال وروايات عنه. وهي تدل على أنه كان قد ترك أثرًا في المجتمع في أيامه غير أثر الملك، مما حدا بالقوم أن يضعوا هذه الأقوال فيه. واشتهر "جذيمة" عند أهل الأخبار بفرس له، ذكر أنها كانت من سوابق خيل العرب، اسمها "العصا". وفيها ورد في المثل: "إن العصا من العصية". وقد نجا "قصير بن سعد اللخمي" على فرسه هذه، فأخذ بثأره وقتل "الزباء" على زعم أهل الأخبار. وهم يروون أن جذيمة كان يغازي إيادًا النازلين بـ "عين أباغ"، فذكر له اسم غلام من لخم في أخواله من إياد، هو عدي بن نصر، له جمال وظرف، فغزاهم. فبعثت إياد قومًا سقوا سدنة الصنمين الخمر، وسرقوا الصنمين، فأصبحا

_ 1 الطبري "2/ 29". 2 الطبري "2/ 29"، اليعقوبي "1/ 169"، الكامل، لابن الأثير "1/ 196". 3 المعارف "281"، "ويذكر أيضًا أنه أول من أوقد الشمع"، الروض الأنف "2/ 303". 4 اللسان "15/ 68"، و"عصا"، الخيل لابن الكلبي "31"، نوادر المخطوطات "199".

في إياد، فبعث إليه تفاوضه على إرجاع الصنمين إليه على أن يكف عن غزوهم، ولكنه اشترط عليهم إعطاءه عدي بن نصر مع الصنمين، فوافقوا على ذلك. فانصرف عنهم وضم عديًّا إليه، وولاه شرابه. ويدعون أنه تزوج أخته "رقاش" التي أحبته فيما بعد، في قصة يروونها، ومن هذا الزواج المزعوم كان "عمرو ابن عدي" ابن أخت جذيمة الذي خلف خاله على الملك1. وفي رواية من روايات الأخباريين أن جذيمة زوج أخته من ابن عمه: "عدي بن ربيعة بن نصر"، فولدت له "عمرو بن عدي" الذي استطار به الجن2. وفي جملة ما نسبه أهل الأخبار إلى جذيمة من حروب حربه مع "عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العملقي" "العمليقي" من عاملة العماليق. وعمرو هذا هو أبو الزباء عند الأخباريين. ويذكر هؤلاء أن الطرفين استعدا للقتال استعدادًا كبيرًا، فجمعا كل ما أمكنهما جمعه. ولما اصطدما، قتل عمرو، فانهزم أصحابه، وعاد جذيمة بعد هذا النصر إلى قواعده سالمًا ولم يشر الطبري إلى اسم الموضع الذي وقع فيه هذا القتال. وملك من بعد "عمرو" ابنته الزباء3. أما ملك جذيمة، فكان على حد قول الأخباريين ما بين الحيرة والأنبار وبقة وهيت وناحيتهما وعين التمر وأطراف البر إلى الغير والقطقطانة وخفية وما والاها4 ورقة وسائر القرى المجاورة لبداية العرب. ويفهم من بعض الروايات أيضًا أنه ملك معدًّا وبعض اليمن5. وكانت داره بالموضع المعروف بـ "المضيق" بالمصيرة بين الخانوقة وقرقيسيا6.

_ 1 الطبري: "2/ 30 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير: "1/ 196"، ابن خلدون "القسم الأول"، المجلد الثاني "542، 586، 626"، العقد الفريد: "5/ 260"، الحموي، المشترك: "319"، الهمداني، صفة: "178"، مراصد الاطلاع: "2/ 976". 2 الأخبار الطوال: "56". 3 الطبري: "2/ 31"، الكامل، لابن الأثير: "1/ 199"، مروج: "2/ 90 وما بعدها"، نوادر المخطوطات، "أسماء المغتالين" "ص 112 وما بعدها"، الأغاني: "14/ 71". 4 الطبري: "2/ 29"، بلوغ الأرب: "2/ 175"، محمد بن حبيب، أسماء المغتالين "نوادر المخطوطات"، "112". 5 حمزة "64". 6 البلدان "3/ 378".

أما الأنبار، فقد تحدثت عنها. وهي –على ما يظهر من روايات الأخباريين- من المواضع التي كان يخضع أعرابها في الغالب لحكم اللخميين. وأما بقة، فتقع على الفرات بين هيت والأنبار. وأما هيت، فهي من المواضع القديمة المعروفة قبل الميلاد، وقد ورد اسمها في نص "توكلتي أنورتا الثاني" "Tukulti Enurta II" الذي يعود عهده إلى حوالي سنة 885 قبل الميلاد1. وقد عرفت بـ "ايد" "Id" و"ايت" It"2". وهي "ايس" "اس" Is"3" و"ايس بوليس" "اسبولسي" "Ispolis" "Ispoolis"4 و" ايديكاره" "Idikara"5 و"دياكيرة" "Diakira"6" في مؤلفات الكلاسيكيين. و"ايهي" "Ihi" و" ايهيداكيرة" "Ihidakira" في مؤلفات عصر التلمود7. وفي بقة استشار جذيمة قصيرًا على حد قول الأخباريين في أمر زيارته للزباء8. وتقع بقة على مقربة من الحيرة, وقيل هي حصن كان على فرسخين من هيت على رواية ياقوت9. وقد جعلها "اليعقوبي" على شط الفرات بالقرب من الأنبار وفي ملك الزباء10. وهي على الفرات بين الأنبار وهيت، في رواية أكثر الأخباريين11. وأما القطقطانة، فموضع في البرية لا يبعد كثيرًا عن الكوفة، وهو بالطف12. وأما خفية، فهي أجمة في سواد الكوفة، بينها وبين الرحبة، ينسب إليها

_ 1 Scheil And Gatuier, Annales De Takulti Ninip II, Rol D'Assyrie, 889-84, Paris, 1910, P. 38, Ency, II, P. 322, Musil. Euqhrates, P. 350. 2 Musil, Euqhrates P. 350. 3 Heradotus, I, 179. 4 Isidore Of Charax, Mansiones Parthiace, Muller, P. 249. "ايوبوليس"، المشرق، السنة 1903، العدد 10، "ص 440". 5 Ptolemy, Geography, V. 19, 4. 6 Ammianus Marcellianus, Rerum, XXIV, 2, 3, Zosimus, III, 15. 7 Musil, Euphrates, P. 350. 8 "ببقة خلفت الرأي"، البلدان "2/ 253"، الطبري "2/ 37 وما بعدها"، "كما لم يطع فيما أشار قصير"، رسالة الغفران "533". 9 البلدان "2/ 253"، الطبري "2/ 32". 10 اليعقوبي "1/ 169". 11 البكري، معجم "1/ 264" وما بعدها"، مراصد الاطلاع "1/ 166"، والبلدان "1/ 473"، Musil, Euphrates, P. 160.. 12 البلدان "7/ 125".

الأسود المعروفة بأسود خفية، وهي غربي الرحبة، ومنها إلى عين الرهيمة مغربًا. وقيل أيضًا عين خفية1. وقد اشتهرت "عين التمر" القريبة من "شفاثا" بالقصب والتمر، وهي على طرف البادية، فتحها المسلمون على يد "خالد بن الوليد" في سنة 12 للهجرة في أيام أبي بكر2. وقد طال عمر جذيمة على حد قول "حمزة الأصبهاني" إلى أن لحق ملك "سابور بن أشك الأشغاني" "شابور بن أشك"، وحكم على حد قوله أيضًا ستين سنة. أما نهايته، فكانت على يد الزباء في قصة مشهورة معلومة، رصعها الأخباريون بشعر وأمثلة3، تحدثت عنها في أثناء كلامي على الزباء. وجعل بعضهم مدة حكمه مئة وثماني عشرة سنة، إذ ملك في زمن ملوك الطوائف خمسًا وتسعين سنة، وفي ملك أردشير بن بابك وسابور الجنود ثلاثة وعشرين سنة4. وملك يحكم هذه المدة لا بد أن تكون مدة حياته أطول من مدة حكمه. وذكر "أبو حنيفة الدينوري" أن جذيمة لم يزل ملكًا مقيمًا بالخورنق، حتى دعته نفسه إلى تزويج "مارية" ابنة الزباء الغسانية. وكانت ملكة الجزيرة، ملكت بعد عمها الضيزن الذي قتله "سابور"، فقتلت جذيمة، ثم قتلها قصير مولاه5. فجعل الملكة القاتلة بنتًا من بنات الزباء عينها، فدعاها مارية، وبذلك أنقد الزباء من تهمة القتل التي ألصقها الأخابريون بهذه الملكة، وجعلها ملكة على الجزيرة، وجعل نسبها في غسان، وغسان معادون منافسون لآل لخم، ثم أبى إلا أن يجعل لجذيمة قصرًا منيفًا، فوقع اختياره على الخورنق، وهو قصر لائق أن يكون قصر ملك، وخالف في ذلك رأي الأخباريين الذين ينسبون هذا القصر إلى ملك آخر هو النعمان. وقد جاء اسم "جذيمة" "جديمت" في نص نبطي ويوناني عثر عليه في

_ 1 البلدان "3/ 452". 2 البلدان "6/ 253". 3 حمزة "64 وما بعدها"، البلدان "3/ 379"، الكامل، لابن الأثير "1/ 199"، الطبري "1/ 448". 4 مروج "2/ 90 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 20". 5 الأخبار الطوال "56".

"أم الجمال"، جاء فيه: "هذا موضع أي قبر فهر بن شلي "سلي" مربي جديمت ملك تنوح". ولهذا النص على قصره أهمية بالغة؛ لأنه يشير إلى الصلة التي كانت بين الأسرة الحاكمة في الحيرة وعرب الشام1. ومن الصعب بالطبع استنتاج كيفية وفاة مربي الملك في هذا الموضع: أكان زائرًا هذه الديار فأدركه أجله فقبر هناك! أم جاء مع سيده في حرب فتوفي في ذلك المكان! مهما يكن من شيء، فقد أفادنا الحجر فائدة كبيرة بتدوينه اسم صاحب القبر، واسم جذيمة ملك "تنوح" تنوخ. ويلاحظ أن النص دون اسم "جذيمة" بحرف "الدال" وكتب اسم "تنوخ" بحرف الحاء "تنوح" بدلًا من الخاء. ويكون هذا النص من أقدم النصوص التي ورد فيها اسم "تنوخ". ويرجع عهده إلى حوالي السنة "270" بعد الميلاد2. وجعل "ابن دريد" لجذيمة نسلًا، سماهم "بني جهضم"، وجعل لفظة "جهضم" من "التجهضم"، ومعناه التكبير3. وذكر "حمزة الأصفهاني" أنه لم يلد لجذيمة غير "زينب بنت جذيمة"، وهي أم مرتع. واسمه "عمرو بن معاوية بن كندة"، فغزا في آخر عمره الشأم، فقتل "عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة" ملك العمالقة والد الزباء، فانطوت له الزباء على طلب الثأر حتى قتلته4. وانتقل الملك بعد وفاة جذيمة إلى ابن أخته "عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مسعود مالك بن غنم بن نمارة بن لخم"5. أما أمه، فهي أخت جذيمة، وهي: "رقاش بنت مالك بن فهم بن غنم بن عدثان" على رواية من ينسب مالك بن فهم إلى عدثان6.

_ 1 Rep. Epig, 1097, II, III, P. 373, Enno Littmann, Nabatalsh-Griechische Bilinguen, In Le Florlleglum Melchior De Vogue, P. 375, Die Araber, II, S. 251. 2 Die Araber, I, S. 198, Altheim-Stiehi, Geschiche Der Hunnen I, S. 151, 154. 3 الاشتقاق "2/ 292". 4 حمزة "65". 5 الطبري "2/ 30 وما بعدها"، معجم الشعراء "205"، الأغاني "14/ 72". رسالة الغفران "278"، فرائد اللال "2/ 108". 6 حمزة "65"، مروج "2/ 92"، "محمد محيي الدين عبد الحميد"، التنبيه "158"، نزهة الجليس "2/ 59 وما بعدها".

ويلاحظ أن "الطبري" لم يكن مستقرًّا في موضوع اسم "عدي" والد عمرو، إذ يجعله "نصرًا" في موضع، فيقول "عدي بن نصر بن ربيعة"1، ويجعله "ربيعة" في موضع آخر، فيقول: "عدي بن ربيعة بن نصر"2. ويظهر أن ذلك إنما وقع له بسبب أخذه من روايات مختلفة، وعدم تدقيقه ونقده لتلك الروايات. ويفهم من رواية يرجع "الطبري" سندها إلى "ابن حميد" عن "سلمة" عن "ابن إسحاق" أن زمان حكم "ربيعة بن نصر اللخمي" كان بين ملك "تبان أسعد أبو كرب" وملك ابنه "حسان بن تبان أسعد"3. والرواية مضطربة مشوشة، يفهم منها أن "ربيعة بن نصر" كان نفسه قد حكم اليمن في الفترة الواقعة بين "تبان أسعد" وبين حكم ابنه "حسان"، وأن "حسان" هذا لم يتمكن من الحكم إلا بعد هلاك "ربيعة بن نصر"4. ويزيدها اضطرابًا وتشويشًا ذكر "الطبري" رواية الرؤيا التي رآها "ربيعة بن نصر" وعرضها على "سطيح" و"شق" لتفسيرها له، وما كان من جوابهما له في تفسيرها، حيث "وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور خرزاذ، فأسكنهم الحيرة، فمن بقية ربيعة بن نصر، كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة"5. فيتبين منها أن "ربيعة بن نصر" كان مقيمًا باليمن، وقد أقام بها حياته، وأن بنيه هم الذين ذهبوا إلى العراق، ولكنها لم تشرح كيف وجد "ربيعة" في اليمن وكيف حكمها وهو من لخم؟ وهي رواية شاذة، دسها بعض المتعصبين لليمن –على ما يظهر- على "ابن إسحاق"، فدونها في أخباره، وقد دست أخبار وأشعار على ابن إسحاق، فرواها وصدق بها من غير نقد ولا تحقيق. وللعلماء رأي فيه. ويزعم بعض أهل الأخبار أن "سطيحًا" و"شقًا" أخبرا "ربيعة بن نصر"

_ 1 الطبري "1/ 614، 627"، "دار المعارف". 2 الطبري "2/ 61، 112"، "دار المعارف". 3 الطبري "2/ 61، 111 وما بعدها"، "دار المعارف". 4 "فكل هؤلاء ملكة قبل ملك ربيعة بن نصر اللخمي، فلما هلك ربيعة بن نصر، رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد الطبري "2/ 112، 115". 5 الطبري "2/ 114".

في تأويلهما لرؤيا بما يكون من غلبة الحبش على أرض اليمن، وبغلبة الفرس بعدهم. فلما سمع بذلك، أوجس في نفسه خيفة، فأحب أن يخرج ولده وخاصة أهله من أرض اليمن، فوجه ابنه عمرًا إلى يزدجرد بن سابور، أو إلى سابور ذي الأكتاف، فأنزله الحيرة، فيومئذ بنيت، فضم عمرو إليه أخوته وأهل بيته، فمن هناك وقع آل لخم إلى الحيرة، واتصلوا بالأكاسرة فجعلوا لهم على العرب سلطانًا، فلما مات خلفه من بعده ابنه "جذيمة بن عمرو"1. وزعم "الدينوري" أن وفاة ربيعة بن نصر كانت في أيام "قباذ بن فيروز" وأنه بوفاته رجع الملك إلى حمير، فملك ذو نواس من بعده، وهو ذو نواس صاحب تعذيب نصارى نجران نفسه. فأرجع أيام ربيعة إلى قباذ "قباد"، وهو قول يخالف ما يرويه الأخباريون2. وجعل ذا نواس المالك من بعده، وقد عاش ذو نواس بعد قباذ أمدًا، فخالف في ذلك التأريخ وأقوال الأخباريين. ووصف "الطبري" عمرو بن عدي، فقال عنه: "هو أول من اتخذ الحيرة منزلًا من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر، فلم يزل عمرو بن عدي ملكًا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة، منفردًا بملكه، مستبدًّا بأمره، يغزو المغازي ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأطول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس"3. وذكر الطبري أن الحيرة خربت بعد هلاك بختنصر، لتحول الناس عنها إلى الأنبار، وبقيت خرابًا إلى أن عمرت في زمن عمرو بن عدي، باتخاذه إياها منزلًا4. وثم رواية تنسب نصرًا إلى الساطرون ملك الحضر5، وتجعل آل نصر من الجرامقة، من "رستاق باجرمي"6، ورواية أخرى تجعل ملوك الحيرة من

_ 1 الأخبار الطوال "56". 2 الأخبار الطوال "62 وما بعدها". 3 الطبري "1/ 627"، "دار المعارف"، حمزة "65"، مفاتيح العلوم، للخوارزمي "68". 4 الطبري "2/ 43"، "دار المعارف". 5 Rothstein, S. 42. 6 "وهو جرمقاتي من أهل الموصل من رستاق يدعى باجرمي"، معجم الشعراء، "205"، Rothstein, S. 42.

"أشلاء قنص بن معد"، فقد ذكر أن "عمر بن الخطاب" لما أتى بسيف النعمان بن المنذر، دعا جبير بن مطعم فسلمه إياه، ثم قال: يا جبير، ممن كان النعمان؟ قال: من أشلاء قنص بن معد. وهو من ولد عجم بن قنص، إلا أن الناس لم يدروا ما عجم، فجعلوا مكانه لخمًا، فقالوا هو من لخم ونسبوا إليه1. وكان جبير من أنسب العرب2. والذي عليه أكثر أهل الأخبار أن "آل نصر" هم من اليمن، كانوا قد تركوا اليمن وهاجروا حتى استقروا بالعراق، ونزلوا الحيرة، وأسسوا ملكهم بها3. ويذكر الأخباريون أن عمرًا انتقم من الزباء لقتلها جذيمة، ورووا في ذلك رواياتهم المرصعة بالشعر والأمثال4. وهي روايات لا تستند إلى أسس تأريخية، إذا قصدوا بذلك الزباء ملكة تدمر التي عرفنا تأريخها ونهايتها في مكان آخر من هذا الكتاب. وجعل "الدينوري" مدة حكم "عمرو بن عدي" نيفًا وستين سنة5. وتولى الملك بعد وفاة عمرو ابنه امرؤ القيس. ويقال له امرؤ القيس البدء وامرؤ القيس الأول. أما أمه، فهي ماوية بنت عمرو أخبت كعب بن عمرو الأزدي على رواية حمزة6. وقد عاصر جملة من ملوك الفرس، هم: سابور ابن أردسير "شابور بن أردشير"7، وهرمز بن سابور، وبهرام بن هرمز، وبهرام بن بهرام، وبهرام بن بهرام بن بهرام، ونرسي بن بهرام بن بهرام، وهرمز بن نرسي، وسابور ذو الأكتاف على رواية تجدها مدونة في تأريخ حمزة. وجعل مدة ملكه مئة وأربع عشرة سنة، وهي مدة تتفق مع ما ذكره الطبري حكاية على لسان ابن الكلبي.

_ 1 الروض الأنف "1/ 18". 2 الجاحظ، البيان "1/ 303". 3 مفاتيح العلوم "68". 4 الطبري "2/ 35"، الكامل "1/ 137"، الأغاني "14/ 73"، الأمثال، للميداني "1/ 158، 246"، ابن دريد، المقصورة "17"، مروج "2/ 17 وما بعدها" حمزة "58". 5 المعارف"282". 6 حمزة "66". 7 الطبري "2/ 64"، حمزة "67".

غير أننا إذا ما وازنا بين ما ذكره الطبري حكاية على لسان ابن الكلبي في عدد ملوك الفرس الذين حكم "امرؤ القيس" في أيامهم، وفي مدة حكمه في عهد كل ملك من هؤلاء الملوك1. وبين ما ذكره حمزة نجد اختلافًا في العدد واختلافًا في المدة، مما يدل على أن حمزة نقل من مورد آخر يختلف عن مورد الطبري2. وإذا كانت مدة حكم امرؤ القيس على نحو ما ذكره ابن الكلبي وغير ابن الكلبي من رواة، فكم تكون مدة حياة هذا الملك؟ إنهم لم يعينوا هذه المدة، ولكنها مدة تزيد بالطبع على هذه السنين في نظر أصحاب تلك الروايات، ولم لا تطول؟ وقد ساروا على خطة إطالة أعمار الملوك الأولين. فملك يتجاوز حكمه مئة عام بسنين أمر لا بأس به في نظر هؤلاء الرواة. غير أننا نلاحظ أنهم بخلوا على الملوك المتأخرين، فلم يمنحوهم هذه النعمة، نعمة إطالة مدة الحكم أو مدة العمر، فجعلوا لهم مددًا مقبولة في الغالب معقولة. ولو عاش هؤلاء المتأخرون في زمن بعيد عن أولئك الرواة، بعيد عن أيام تدوين أخبار ملوك الحيرة، لما حرمهم الأخباريون كرمهم هذا، ولأعطوهم ولا شك ما أعطوه من سبقهم من الملوك جملًا من السنين. وقد نعت امرؤ القيس في بعض الروايات بـ "المحرق"3، ونعت أيضًا بـ "محرق الحرب"4. ونصادف كلمة المحرق ومحرق وآل محرق في مواضع من التواريخ المتعلقة بالحيرة، وقد أطلقها بعض الأخباريين على الغساسنة أيضًا5. وهم يرون أنها لقب ألحق بأولئك الملوك؛ لأنهم عاقبوا أعدائهم في أثناء غزوهم لهم بحرق أماكنهم بالنار. ويرى "روتشتاين" أنه تفسير لظاهر الكلمة، وهو تفسير مغلوط. والصحيح في نظره أنها اسم علم لأشخاص عرفوا بمحرق، ولذلك قيل "آل محرق" لا "آل المحرق"6.

_ 1 الطبري "2/ 65". 2 حمزة "67". 3 المعارف "282". 4 Rothstein, S. 64. 5 "ومحرق أيضًا: لقب الحرث بن عمرو ملك الشام من ال جفنة، وإنما سمي بذلك؛ لأنه أول من حرق العرب في ديارهم، فهم يدعون ال محرق"، اللسان "حرق". 6 Rothstein, S. 47

وفي أصنام الجاهليين صنم يدعي محرق والمحرق، تعبدت له بعض القبائل مثل بكر بن وائل وربيعة في موضع "سلمان"1. وقد ورد بين أسماء الجاهليين اسم له علاقة بهذا الصنم، هو عبد محرق2، أفلا يجوز أن يكون للمحرق إذن علاقة بهذا الصنم، كأن يكون قد اتخذ من باب التيمن والتبرك للملك الذي عرف بالمحرق أو أنه قدم قربانًا لهذا الإله أحرقه على مذبحه بالنار، وكان يكثر من حرق القرابين للآلهة، وتلك عادة معروفة وقد وردت أيضًا عند العرانيين، فقيل له لذلك المحرق؟ وإلى هذا الاحتمال ذهب بعض المستشرقين3. ويظهر أن محرقًا كان من الشخصيات الجاهلية القديمة الواردة في الأساطير، وقد اقترن اسمه بالدروع، وورد "بردي محرق" كما اقترن اسمه بـ "نسيج داوود"، مما يدل على أن هذا الاسم من الأسماء المعروفة قديمًا في أساطير الجاهليين4. وقد ورد أيضًا صوت محرق وفرخ محرق5، وذلك يدل على أن "محرقًا" في هذا الموضع حيوان قد تكون له علاقة أيضًا بأساطير الجاهليين6. ومما حكاه الأخباريون عن هذا الملك أنه كان قد تنصر، وأنه لذلك أول من تنصر من آل نصر7. وهو أمر يحتاج إلى دليل، كما ذكروا أن ملكه كان واسعًا وأنه كان عاملًا للفرس "على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة"8. ويظن بعض الباحثين أن امرأ القيس، هو امرؤ القيس الذي ورد اسمه مدونًا في نص "النمارة". فإذا كان هذا الظن صحيحًا، كان أمرؤ القيس أول ملك من ملوك الحيرة يصل خبره إلينا مدونًا، وكذلك خبر تأريخ وفاته في سنة 328

_ 1 J. Wellhausen, Reste Arabischen Heidentums, S. 57. 2 Rothstein, S. 48. 3 Reste, S. 57. 4 Rothstein, S. 49. 5 الأغاني "8/ 65". 6 Rothstein, S. 49. 7 الطبري "2/ 65"، ابن خلدون "2/ 263". 8 الطبري "2/ 64 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 171".

للميلاد، المقابلة لسنة 223 من تقويم بصري، التقويم المعمول به في تلك الجهات التي قبر فيها امرؤ القيس1. ويظهر من نص النمارة أن امرأ القيس صاحب القبر، كان رجلًا محاربًا، وقائدًا كبيرًا، أخضع قبيلتي أسد ونزار، وهزم مذحجًا، وأخضع معدًّا، ووزع بنيه في القبائل، وبلغت فتوحاته أسوار "نجران" مدينة "شمر"، وهو بهذه الفتوحات قد تمكن من معظم أنحاء الجزيرة. وهذا النص يناقض الروايات التي تنسب الفتوحات العظيمة إلى "شمر يهرعش" "شمر يرعش"، فتجعله فاتح العراق وما وراء العراق إلى الصين، وتعكس القضية عكسًا تامًّا. وروايات فتوحات "شمر"، هي روايات يمانية وضعها أناس متعصبون لليمن ولا شك. وقد سبق لي أن بينت أن المستشرقين يرون أن "شمرًا" المذكور في هذا النص أي صاحب "نجران"، هو "شمر يهرعش" "شمر يرعش". وقد ذكرته في باب "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت". ومعنى هذا أن "نجران" كانت في ملكه يوم أغار "امرؤ القيس" عليها فوصل أسوارها، ويظهر أنه لم يتمكن منها وأنه فرض سلطانه على القبائل الساكنة في البادية، فاعترفت بسيادته عليها. ولها لقب في النص بلقب "ملك العرب كلهم الذي نال التاج"، وختمت الكتابة بجلمة "فلم يبلغ ملك مبلغه"، وهي جملة تعبر عن اتساع ملكه وامتداده مسافات شاسعة. ويظهر من ورود كلمة "التبع" أي التاج في هذا النص أن هذه الكلمة كانت معروفة عند العرب الشماليين في ذلك الحين، أي في القرن الرابع للميلاد، وأنها وردت بالمعنى المفهوم منها في الزمن الحاضر، أي ما يوضع على الرأس تعبيرًا عن الملك والحكم. ويفهم من هذا النص أن "امرأ القيس" كان قد بسط سلطانه على كل العرب، أي الأعراب، فملكهم وملك خاصة "بني نزار" و"أسد" وقبائل "معد"، وأنه نصب أولاده على القبائل ليضمن طاعتها وخضوعها له، وأن

_ 1 Francis Nau, Les Arabes Chrestiens, P. 32, Rene Dussaud, Arabes En Syrie Avant L'Islam, Paris, 1907, P. 35, REP. EPIG, I, 1900-1905, 361, NR. 483, R. Dussaud, Mission, 314, J. Cantineau, Le Nebateen, 1932, 49, Die Araber, II, S. 313.

سلطانه بلغ بذلك حدود أرض اليمن. فامتد حكمه إذن من الحيرة وبلاد الشام إلى نجد والحجاز، حتى بلغ حدود مدينة "نجران". وقد كانت منازل "معد" في الحجاز وفي ضمن أرضها "مكة" وتمتد إلى "نجران"1. ويظهر من دفن "امرئ القيس" في موضع "النمارة" من بلاد الشأم أن "امرأ القيس" كان في بلاد الشأم حينما نزل به أجله. ويرى بعض الباحثين أنه كان قد جاء إلى بلاد الشأم؛ لأنه كان من حزب "بهرام" الثالث ومن مؤيديه، فلما وقع الخلاف بين الفرس على العرش وانتصر "نرسي" "293-302م" "293-303"، خرج امرؤ القيس من العراق، وقصد بلاد الشأم، فأقام هناك، وما إلى الروم فأيدوه وأقروه على عرب بلاد الشأم، فيكون قد عمل للفرس وللروم معًا2. وكتابة "النمارة" هي شاهد قبر ملك عربي يدعى "امرأ القيس"، عثر عليها في موضع "النمارة" وهو في الحرة الشرقية من جبل الدروز، ويرجع تأريخها إلى اليوم السابع من شهر "كسلول" من سنة "223" من تقويم "بصرى" أي في اليوم السابع من شهر كانون الأول من سنة "328" بعد الميلاد3. دونت على ضريح الملك، وهو بناء مربع، لتكون دليلًا للناس يعرفون منها اسم صاحب القبر. وتتألف من خمسة أسطر، هذا نصها: 1- تي نفس مر القيس بن عمرو ملك العرب كله ذو اسر التج. 2- وملك الأسدين ونزرو وملوكهم وهرب مدحجو عكدى وجا. 3- بزجي في حبج نجرن مدينة شمر وملك معدو ونزل بنيه. 4- الشعوب ووكلهن فرسو لروم فلم يبلغ ملك مبلغه. 5- عكدى. هلك سنة 223 يوم بكسلول بلسعد ذو ولده4.

_ 1 Die Araber II, S. 321. 2 رينه ديسه، العرب في سورية قبل الإسلام "ص 36 وما بعدها". Die Araber, II, S. 319. 3 REP. EPIG, I, VII, P. 361, No. 483, Syria, Tome. IV, 1932, P. 154. 4 ولفنسون "190"، زيدان، العرب قبل الإسلام "203"، رينه ديسو، العرب في سورية قبل الإسلام "ص 33". Lidzbarski Ephemeris, Zweiter Band, Erstr Hert, S. 34. REP. EPIG, I, VI, P. 362, Dussaud, Nabateo-Arabe D'An-Nemara In Rev. Arch, 1902, II, 409-421, Halevy, In Rev. Sem, 1903, P. 58-82, Peiser Die Arabische Inschrift Von En-Nemara In Orientalis. Literatur-Zeitung, VI 15, Col. 277-281.

وإذا أردنا تقريب هذه الكتابة إلى أفهامنا وتدوينها بلهجتنا العربية، لهجة القرآن الكريم، كتبناها على هذا الشكل: 1- هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي نال التاج. 2- وملك الأسدين ونزارًا وملوكهم، وهزم مذحجًا بقوته وقاد. 3- الظفر إلى أسوار نجران، مدينة شمر. وملك معدًّا واستعمل أبناءه على. 4- القبائل. ووكلهم لدى الفرس والروم، فلم يبلغ ملك مبلغه. 5- في القوة. هلك سنة 223 يوم 7 بكسلول. ليسعد الذي ولده1. وقد استدل المستشرقون من عبارة "ذو أسر التاج" "الذي نال التاج" على أن صاحب هذا التاج هو من الملوك الذين كان لهم اتصال بالفرس، وأن المقصود به ملك من ملوك الحيرة، لوجود صلة لهم بالانبراطورية الفارسية2. ودعواهم في ذلك أن هذه الجملة، وكلمة "تج" "تاج" هما من الاصطلاحات المستعملة عند الفرس وعند من خالطهم من الملوك، فلا بد أن يكون حاملها من الملوك المحالفين لهم, وكلمة "تاج" من الألفاظ المعربة عن الفارسية، من أصل "تاك"3. ولما كان هذا ملكًا عربيًّا، فهو إذن امرؤ القيس ملك الحيرة4.

_ 1 تختلف الترجمات بعضها عن بعض بعض الاختلاف، بسبب اختلاف العلماء في القراءات، راجع جواد علي: تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 437 وما بعدها". Rene Dussaud, Mission, 1903, P. 314-323, R. Dussaud, In Revue Archeologique, 1902, III, Tome 41, PP. 409-421, Les Araves En Syrie Avant L'Islam, P. 34 Hommel, Grundriss, I, S. 155, Clermont-Ganneau, Recueii D'Archeologie Orient, VI, P. 395, VII, P. 167. 2 زيدان، العرب قبل الإسلام "203"، تأريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي "3/ 441". 3 غرائب اللغة "221". 4 Hommel, I, S. 155, De Lagarde, Armen. Stud, 834.

وكان من عمال "سابور بن أردشير" و"هرمز بن سابور" و"بهرام ابن سابور" "على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة" في تأريخ الطبري1. وورد في تأريخ ابن خلدون نقلًا عن "السهيلي": أن "امرأ القيس" كان عاملًا للفرس على مذحج وربيعة ومضر وسائر بادية العراق والجزيرة والحجاز2. ويظهر أن المورد الذي نقل منه "السهيلي" و"الطبري" يرجع إلى منبع واحد، هو "ابن الكلبي". وما رواه "ابن الكلبي" يتفق بوجه عام مع ما جاء في نص "النمارة" من أمر ملك وفتوح "امرئ القيس". و"شمر" صاحب مدينة "نجران"، هو "شمر يهرعش" في رأي أكثر المستشرقين، وينطبق زمانه على زمان "امرئ القيس"3. وإذا صح هذا الرأي نكون قد حصلنا على أول نص عربي جاهلي يشير إلى حرب نشبت بين مملكة الحيرة ومملكة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت" في عهد أول ملك من ملوكها وهو "شمر يهرعش" المعروف بـ "شمر يرعش" عند الإسلاميين. وفي روايات الأخباريين ما يؤيد نشوب حرب بين عرب الحيرة وعرب اليمن في أيام "شمر يرعش"، غير أنها تناقض هذا المدون في النص عن تغلب "امرئ القيس" على نجران مدينة "شمر". فـ "شمر" عندها بطل من الأبطال، فتح الفتوح العظيمة، وبلغ ملكه حدًّا لم يصل إليه ملك "اسكندر ذي القرنين". وعندهم أيضًا أنه هو باني مدينة "سمرقند"، وهو الذي حير "الحيرة". وهو تبع الأكبر وهو وهو، على حين هو –في هذا النص- ملك مغلوب، لم يتمكن من الوقوف أمام "امرئ القيس" الذي بلغت جيوشه مدينة "نجران". فهل تجد تناقضًا أغرب من هذا التناقض؟ على أننا لو فرضنا أن "شمرًا" صاحب نجران هو رجل آخر غير "شمر يرعش"، فهذا النص يهدم بنيان الأخباريين اليمانيين القائم على أساس المبالغة في المفاخرات والمباهاة بالأجداد نكاية بالعدنانيين الذين تعالوا عليهم في الإسلام بفضل النبي وشرق الإسلام، فأحفظهم4 ذلك جدًّا. وقد سبق أن تحدثت عن عثور العلماء منذ عهد غير بعيد على نص أشار إلى

_ 1 الطبري "2/ 64 وما بعدها". 2 ابن خلدون "2/ 171 وما بعدها"، "بولاق 1284هـ". 3 جواد علي تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 141 وما بعدها". 4 أغضبهم.

غزو غزاه قائد من قواد "شمس" على "ملك أسد" وأرض "تنوخ" التي تخص الفرس، وذكرت أن "شمر" المذكور هو "شمر يهرعش" في رأي الباحثين1. وقد تحدثت عنه حديثًا فيه الكفاية في موضعه، وفي أثناء كلامي على "شمر يهرعش"، فلا حاجة بي هنا لإعادة الكلام عليه. ويرى بعض الباحثين أن "المشتى" الأثر الشهير المعروف الذي نقلت أحجار جدرانه المزخرفة إلى متحف "قيصر فريدرش ويلهم" ببرلين، ولا تزال آثاره باقية، هو من بناء "امرئ القيس". وقد استدلوا على ذلك بطراز بنائه الذي يشبه الطراز "الحيري" على رأيهم، وذهبوا إلى أنه أقامه في هذا المكان بعد فراره من أرض الحيرة ومن الساسانيين سنة "293م"، ليكون قصر له وحصنًا يدافع به عن ملكه الجديد2. ويذكر الطبري أن وفاة "امرئ القيس" كانت في عهد "سابور"، أي سابور ذي الأكتاف "310-379 م"، وأنه كان عامل "سابور" على ضاحية مضر وربيعة، وأن سابور استعمل ابنه عمرو بن امرئ القيس في مكان والده3. وحكم بعد امرئ القيس البدء ابنه عمرو. وأمه هند بنت كعب بن عمرو على رواية4. و"مارية البرية" أخت "ثعلبة بن عمرو" من ملوك الغساسنة في رواية أخرى5. وكان يعصر من ملوك الفرس سابور ذا الأكتاف "310-379م" وأخاه "أردشير بن هرمز بن نرسي" "379-383م" وسابور بن سابور "سابور الثالث" "383-388م"6. وقد نعته بعض الأخباريين بموقد الحرب "مسعر حرب". وذكروا أنه حكم خمسًا وعشرين سنة7. ونعت الأخباريين له هذا النعت، يدل على أنه كان محاربًا، ولكنهم لم يذكروا شيئًا من تلك الحروب.

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P. 487. 2 Die Araber, II, S. 258, 318, 320. 3 الطبري "2/ 61 وما بعدها"، "دار المعارف". 4 حمزة "ص 67". 5 المروج "3/ 199"، "2/ 23". "طبعة دار الرجاء". 6 الطبري "2/ 70". 7 شرح قصيدة ابن عبدون المعروفة بالبسامة "ص 100".

وقد ذهب بعض الأخباريين إلى أن مارية التي ضرب المثل بقرطيها فقيل قرطًا مارية، هي مارية هذه أم عمرو1. وقد وضع اليعقوبي بعد امرئ القيس شقيقه الحارث بن عمرو بن عدي ملكًا وجعل مدة ملكه سبعًا وثمانين سنة، ثم وضع عمرًا ابن امرئ القيس ملكًا من بعده. وحكم هذا على زعمه مدة أربعين عامًا2. ولا نعرف من أعمال عمرو هذا شيئًا. وللأخباريين في مدة حكمه أقوال عدة تتراوح عندهم من25 سنة إلى60 سنة3. وقد ذكر الطبري أن عمرًا "بقي في عمله بقية ملك سابور وجميع أيام أردشير بن هرمز بن نرسي، وبعض أيام سابور بن سابور"، ثم قال أن جميع مدة ملكه فيما ذكره ابن الكلبي ثلاثين سنة4. وإذا أخذنا برواية الطبري المذكورة، تكون مدة حكمه حوالي الستين سنة، ومعنى هذا أن عمرًا كان قد عمر أكثر من ستين سنة، وأنه توفي بعد وفاة سابور ذي الأكتاف وبعد سنة "383م"؛ لأن حكم "سابور بن سابور" المعروف عند المؤرخين بـ "سابور" الثالث كان في حوالي السنة "383م". فقد تولى سابور هذا الحكم فيما بين "383" حتى سنة "387" أو "388م"5. وإذا أخذنا برواية من يقول أنه حكم "25" سنة، أو "30"، وجب أن تكون وفاته في أيام "سابور ذي الأكتاف". وقد جعل الطبري في موضع آخر من تأريخه وفاة "عمرو" في عهد "سابور ابن سابور"، أي "سابور" الثالث6. وبذلك يكون قد أطال مدة حكمه وعمره. ويذكر الطبري أن "سابور بن سابور" استخلف "على عمله أوس بن قلام في قول هشام"، وذلك بعد مهلك "عمرو"7. ولم يذكر الأسباب التي حملت سابور على هذا التعيين. ويظهر أنه كان من أسرة غريبة عن أسرة "آل لخم"

_ 1 البسامة "ص 101". 2 اليعقوبي "1/ 170". 3 الطبري "2/ 70"، ابن الأثير "1/ 158"، حمزة "67"، مروج "3/ 199". 4 الطبري "2/ 62"، "دار المعارف". 5 Ency. 4, P. 178. 6 الطبري "2/ 65". 7 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر"، مفاتيح العلوم "69".

الحاكمة. ويرجع ابن الكلبي نسبه إلى العماليق، فيقول إنه من "بني عمرو بن عمليق"1. وذكر حمزة نسبه على هذه الصورة: أوس بن قلام بن بطينا بن جمهير بن لحيان العمليقي2. وجعله ابن خلدون من بني عمرو بن عملاق3. ويتبين من خبر ورد في "الأغاني" أن أوسًا كان من أسرة كانت تقيم في الحيرة، وهي من بني الحارث بن كعب4. وقد ورد اسم رجل آخر من هذه الأسرة، ذكر أنه بنى ديرًا في الحيرة5. ولا نعرف من أعمال أوس هذا شيئًا، وكل ما نعرفه عنه أنه حكم خمس سنوات6. وأن امرءًا اسمه "جحجبن بن عتيك بن لخم" "جحجبا" ثار به فقتله على رواية لابن الكلبي ذكرها الطبري7. أما حمزة فذكر اسمه ونسبه على هذه الصورة، "ححجنا بن عبيل أحد بني فاران". وقال: "قال ابن الكلبي: وهو فاران ابن عمرو بن عمليق، وهم بطن بالحيرة يقال لهم بنو فاران، وححجنا منهم. فقتل ححجنا أوسًا، فرجع الملك إلى آل بني نصر"8. فنحن إذن أمام روايتين في أصل جحجبي "جحجبا" أو ححجنا: رواية ترجعه إلى لخم، ورواية أخرى ترجعه إلى بني فاران، وترجع بني فاران إلى "عمرو بن عمليق"، أي إلى العشيرة التي رجع الأخباريون نسب أوس بن قلام إليها، إذن فهو بموجبها من العماليق. أما هذا الاختلاف الذي نراه بين الرواة في كيفية ضبط اسم هذا الثائر في جحجبا أو حججنا، وفي عتيك أو عبيل، فيمكن رجعه إلى خطأ وقع في تدوين الروايات، إما سهوًا وإما جهلًا بحقيقة الاسم، فمن هذين نشا لدينا هذا الاختلاف. ولم يذكر الأخباريون الأسباب التي حملت "جحجبى" على الثورة والمنافع

_ 1 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر". 2 حمزة "ص 67". 3 ابن خلدون "2/ 48". 4 الأغاني "2/ 18، 26". 5 Rothstein, S. 64. 6 الطبري "2/ 72"، "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر"، حمزة "ص 67". 7 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر". 8 حمزة "ص 67".

التي جرها لنفسه منها، وكل ما ذكروه عنه أنه ثار به جحجبى فقتله، وأن هلاكه كان في عهد "بهرام بن سابور" "388-399م"، وأن "بهرام" استخلف بعده في عمله "امرئ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس البدء" خمسًا وعشرين سنة. وكان هلاكه في عهد يزدجرد الأثيم1. فيتبين من ذلك أن "جحجبا" "جحجبى"، قاتل أوس، لم يحكم الحيرة وأن حكمها عاد فانتقل إلى آل نصر. ولم يذكر اليعقوبي أوس بن قلام ولا الثورة التي قام بها جحجبا "جحجبى"، بل نصب رجلًا آخر بعد عمرو بن امرئ القيس هو المنذر بن امرئ القيس، ونعته بالمحرق، نعته بذلك؛ لأنه أخذ قومًا حاربوه، فحرقهم، فسمي لذلك محرقًا، وجعل بعده النعمان2. ولم يذكر المسعودي كذلك أوس بن قلام ولا جحجبا "جحجبى"، بل ذكر النعمان بن امرئ القيس رأسًا بعد عمرو بن امرئ القيس، وقال أنه قاتل الفرس خمسًا وستين سنة، وأن أمه الهيجانه بنت سلول، وكانت من مراد أو من إياد3. وقد نعت الطبري امرأ القيس هذا بالبدء4. أما حمزة فلقبه بالبدن5. وأظن أن مرد هذا الاختلاف خطأ وقع في الروايات من الرواة أو الكتابة للحرف الأخير من كلمة البدء أو البدن، فصارت الكلمة الواحدة في الأصل كلمتين. وذكر ابن الأثير أن بهرام بن سابور استخلف من بعد أوس امرأ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الكندي، فبقي خمسًا وعشرين سنة، وهلك في أيام يزدجرد الأثيم6، وإضافة الكندي إلى امرئ القيس خطأ، ولا شك، فلم يرو أحد من الأخباريين أن امرأ القيس هذا كان كنديًّا. ومن المعروف أن ابن الأثير قد اعتمد على تأريخ الطبري اعتمادًا كليًّا، حتى ليمكن أن يقال أنه اختصره، والعبارتان خلا زيادة كلمة "الكندي" متشابهتان، ففي استطاعتنا أن نقول بحدوث هذه الزيادة في تأريخ ابن الأثير إما من النساخ وإما من ابن الأثير نفسه، إذ

_ 1 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر". 2 اليعقوبي "1/ 170". 3 مروج "2/ 23" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 4 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف". 5 حمزة "ص 67"، "ثم امرؤ القيس البدن"، مفاتيح العلوم "69". 6 ابن الأثير: الكامل "1/ 176".

استعجل دون تفكير فأضاف كلمة الكندي إلى نسب امرئ القيس، لشهرة امرئ القيس الكندي. ولا نعرف من خبر امرئ القيس شيئًا يذكر. وقد ذكر حمزة أنه هو محرق الأول، وأنه أول من عاقب بالنار. وفي روايته هذه أنه حكم إحدى وعشرين سنة1. أما الطبري، فذكر أنه حكم خمسًا وعشرين سنة2. وذكر الطبري أن "يزدجرد" المعروف بالأثيم "399-420م"، الذي في أيامه كان هلاك "امرئ القيس" استخلف مكان "امرئ القيس" ابنه "النعمان". وهو فارس حليمة، وصاحب الخورنق3. وهذا النعمان المعروف عند المؤرخين بالنعمان الأول، هو أول ملك نستطيع أن نتحدث عنه بشيء من التأكيد والتحقيق والتفصيل، وهو كما يقول الأخباريون: النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي، أما أمه، فهي شقيقة ابنة أبي ربيعة ابن ذهل بن شيبان4، وهي أخت عمرو المزدلف. وقد عرف النعمان بالنعمان الأعور كذلك، كما عرف أيضًا بالسائح5. وكان له شقيق من أمه شقيقة، هو "حسان بن زهير"6. ويظهر من وصف الأخباريين للنعمان أنه كان رجلًا حازمًا قويًّا، محاربًا من أشد الناس نكاية في عدوه. غزا عرب الشأم مرارًا كثيرة فسبى منهم وغنم. وكان يغزو بكتيبتين كانتا عنده: دوسر وأهلها تنوخ، والشهباء وأهلها الفرس. يغزو بهما من لا يدين له من العرب7. وقد اشتهرت دوسر بشدة ضربتها حتى قيل أبطش من دوسر8. وقد نسب بعضهم له خمس كتائب، هي: الرهائن

_ 1 حمزة "ص 67"، "وهو محرق الأول؛ لأنه أول من عاقب بالنار"، مفاتيح العلوم "69". 2 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر". 3 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف بمصر". 4 الطبري "2/ 65" "طبعة دار المعارف". ابن الأثير "1/ 176" ابن خلدون "2/ 48". 5 حمزة "ص 68"، مفاتيح العلوم "69". 6 حمزة "ص 68". 7 الطبري "2/ 73"، "2/ 67" "دار المعارف"، حمزة "ص 67". 8 الميداني: مجمع الأمثال "1/ 78"، "ضربت دوسر فيه ضربة"، اللسان "4/ 285"، "صادر"، مادة "دسر".

والصنائع والأشاهب، والكتيبتان المذكورتان، أما الرهائن، فذكروا أنها كانت تتألف من خمسمائة رجل رهائن لقبائل العرب، يقيمون على باب الملك سنة، ثم يجيء بدلهم خمسمائة أخرى، وينصرف أولئك إلى أحيائهم، فكان الملك يغزو بهم ويوجههم في أموره. وأما الصنائع، فهي: بنو قيس وبنو تيم اللات بن ثعلبة، وكانوا خواص الملك لا يبرحون بابه. وذكر أنه كانت له كتيبة تسمى "الوضائع"، وقوامها ألف رجل من الفرس يضعهم ملوك الفرس بالحيرة نجدة لملوك العرب، وكانوا يقيمون سنة، ثم يأتي بدلهم ألف رجل، وينصرف أولئك1. وقيل إن وجوه العرب وأصحاب الرهائن كانوا يفدون عند رأس كل سنة، وذلك في أيام الربيع، إلى النعمان وبقية من تولى الملك بعده، وقد صير لهم أكلًا عنده، وهم ذوو الآكال، فيقيمون شهرًا، ويأخذون آكالهم ويبدلون رهائنهم وينصرفون إلى أحيائهم. والآكال هم سادة الأحياء. وكانوا يأخذون المرباع، أي ربع الغنيمة في الحرب والغزو2. ونعت بعض المؤرخين مثل الطبري وحمزة النعمان بأنه فارس حليمة3، أي معركة حليمة المعروفة التي وقعت في أيام المنذر بن ماء السماء، لا في أيام النعمان على روايات آخرين4. وإلى النعمان هذا ينسب أكثر الأخباريين بناء قصر الخورنق الشهير في الأدب العربي. قيل: أنه بناه لبهرام جور بن يزدجرد الأول "399-420م" المعروف بالأثيم. وكان يزدجرد لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا، وأمره ببناء الخورنق مسكنًا له، وأنزله إياه، وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب5.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 176". 2 بلوغ الأرب "2/ 176". 3 الطبري "2/ 65" "دار المعارف"، حمزة "ص 68"، مفاتيح العلوم "69". 4 البلدان مادة حليمة، الميداني: مجمع الأمثال "1/ 231"، "2/ 150". 5 الطبري "2/ 73" "2/ 65" "دار المعارف" الأغاني "2/ 144"، "طبعة دار الكتب المصرية".

وذكر "السهيلي" أن الخورنق قصر بناه النعمان الأكبر ملك الحيرة لسابور كون ولده فيه عنده، وبناه بنيانًا عجيبًا لم تر العرب مثله، واسم الذي بناه له سنمار، وكان بناه في عشرين سنة1. ويذكر بعضهم أنه بني على نهر "سنداد"2. وقد ارتبط اسم الخورنق في القصص الذي شاع حوله باسم بانيه المسمى سنمار، هو في زعم الأخباريين بناء رومي كلفه النعمان بناء القصر، فلما انتهى منه وكمل تعجب من حسنه وإتقان عمله، وبدلًا من أن يوفيه النعمان وفاءً حسنًا، أمر به فطرح من رأس الخورنق، فمات في قصص يرويه الأخباريون. ويضرب بهذه لنهاية المثل في الأدب العربي في الجزاء السيئ، فيقال "جزاه جزاء سنمار"3. وقد وردت قصة سنمار في أبيات تنسب لعبد العزى بن امرئ القيس الكلبي، وكان أهدى أفراسًا إلى الحارث بن مارية الغساني ووفد عليه، فأغره وأكرمه، ثم عاقبه لما بلغه خبر وفاة ولد للحارث وكان قد استرضعه لدى بني الحميم بن عوف من بني عبد ود من كلب، نهشته حية فتوفي، فظن الملك أنهم اغتالوه، لذلك طلب من عبد العزى أن يجيء بهم إليه. فلما أبى، أنزل به العقاب، وقد

_ 1 الروض الأنف "1/ 67"، "والخورنق: نهر. والخورنق: المجلس الذي يأكل فيه الملك ويشرب، فارسي معرب، أصله خرنكاه، وقيل: خرنقاه معرب، قال الأعشى: ويجيء إليه السيلحون ودونها ... صريفون في أنهارها والخورنق والخورنق: نبت. والخورنق: اسم قصر بالعراق، فارسي معرب، بناه النعمان الأكبر الذي يقال له الأعور، وهو الذي لبس المسوح فساح في الأرض"، اللسان "10/ 79"، مادة "خرنق". 2 بلوغ الأرب "1/ 376". 3 الطبري "2/ 65 وما بعدها"، "دار المعارف"، البلدان "2/ 1 وما بعدها"، دائرة المعارف الإسلامية "9/ 35"، الميداني، مجمع الأمثال "1/ 167"، البكري، معجم "2/ 516"، "وسنمار: اسم رجل أعجمي، قال الشاعر: جزتنا بنو سعد بحسن فعالنا ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب وحكي فيه السنمار بالألف واللام. قال أبو عبيد: سنمار اسم إسكاف بنى لبعض الملوك قصرًا، فلما أتمه أشرف به على أعلاه فرماه منه غيرة منه أن يبني لغيره مثله، فضرب ذلك مثلًا لكل من فعل خيرًا فيجزى بضده. وفي التهذيب: من أمثال العرب في الذي يجازي المحسن بالسوأى قولهم: جزاه جزاء سنمار، قال أبو عبيد: سنمار بناء مجيد رومي فبنى الخورنق الذي بظهر الكوفة للنعمان ابن المنذر، وفي الصحاح: للنعمان بن امرئ القيس، فلما نظر إليه النعمان كره أن يعمل مثله لغيره، فلما فرغ منه ألقاه من أعلى الخورنق فخر ميتًا" اللسان "4/ 383" "صادر"، مادة "سنمر".

ورد في هذه الأبيات أن سنمار صرف عشرين حجة في بنائه البنيان بالقرميد والسكب، فلما كمل البناء وآض كمثل الطود، وظن سنمار أنه سينال من صاحبه المودة والقرب، إذ بصاحب القصر يأمر بقذفه من فوق برجه فيموت. ولم يذكر الشاعر اسم الملك ولا اسم الخورنق، وهو يخاطب في هذه الأبيات ابن جفنة، كما أشير إلى "المرء حارث" ويقصد به الحارث الغساني1. وقد نسب بعض أهل الأخبار قصة نهاية "سنمار" إلى "أحيحة بن الجلاح". فذكروا أن أحيحة أراد بناء أطم له، فبناه له "سنمار". فلما كمل، عجب من بنائه، فقال له "سنمار": "إني لأعرف فيه حجرًا لو انتزع لتقوض من عند آخره، فسأله عن الحجر، فأراه موضعه، فدفعه أحيحة من الأطم، فخر ميتًا2. وقد ذكر "جزاء سنمار" في شعر لأبي الطمحان القيني، وآخر لسليط بن سعد وآخر ليزيد بن إياس النهشلي3. واقترن اسم هذا القصر في الغالب باسم قصر آخر نسب بناؤه أيضًا إلى هذا النعمان، هو السدير4. ويتبين من روايات أهل الأخبار عن "الخورنق" و"السدير" أن القصر الأول لم يكن بعيدًا عن الحيرة، وإنما كان على مقربة منها، وربما كان على مسافة ميل من الحيرة. أما "السدير"، فكان على مسافة بعيدة، وقد ورد أنه كان في وسط البرية التي بينها وبين الشأم.

_ 1 "ودعا ابنيه: شراحيل وعبد الحارث، فكتب معهما إلى قومه: جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب سوى رصه البنيان عشرين حجة ... يعلي عليه بالقراهيد والسكب فلما رأى البنيان تم سموقه ... وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب فاتهمه من بعد حرس وحقبة ... وقد هره أهل المشارق والغرب وظن سنمار به كل حبرة ... وفاز لديه بالمودة والقرب فقال: اقذفوا بالعلج من فوق برجه فهذا لعمر الله من أعجب الخطب" الطبري "2/ 66 وما بعدها"، "دار المعارف". 2 الميداني، مجمع الأمثال "2/ 167". 3 الطبري "2/ 66 "دار المعارف". 4 البلدان "السدير"، حمزة "ص67"، البكري "3/ 729"، الروض الأنف "1/ 66".

ويظهر من وصف أهل الأخبار للسدير، ومن أنه كان قبة في ثلاث قباب متداخلة1، ومن وصفهم للخورنق، أن السدير لم يكن في مثل ضخامة قصر الخورنق، وأن الخورنق كان قصرًا كبيرًا أعد للسكنى وليكون حصنًا يهيمن على مشارف البادية. ويرى بعض الباحثين أن قصر الخورنق لم يكن من بناء "النعمان"، وأنه إنما بني قبل ذلك، ويرى أن النعمان قد أسكن "بهرام" فيه2. وقد ورد ذكر الخورنق في شعر لحسان بن ثابت: وحارثة الغطريف أو كابن منذر ... ومثل أبي قابوس رب الخورنق3 وقد ذهب بعض شراح هذا البيت إلى أن المراد بـ "ابن منذر" "عمرو ابن هند"، وأن المراد من "أبي قابوس"، "النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن عدي اللخمي"، الذي لبس المسوح وساح في الأرض، والذي نعته الشاعر عدي بن زيد العبادي بـ "رب الخورنق"4. وهو تفسير ينسجم مع رأي المؤرخين في باني القصر، إلا أنه يتعارض معهم في تسمية الملك، فالمعروف عندهم أن "أبا قابوس" هو "النعمان بن المنذر" آخر ملوك الحيرة، وهو قاتل الشاعر "عدي بن زيد العبادي" لا "النعمان السائح"5. ولا يوجد أحد غيره عرف عندهم بـ "أبي قابوس". وقد حكم هذا بعد "عمرو بن هند" بأمد، فيكون هو مراد الشاعر المذكور. غير أن هذا يدفعنا إلى تخطئة "حسان" في نسبة الخورنق إلى هذا الشاعر، أو تخطئة المؤرخين في نسبتهم القصر إلى "النعمان

_ 1 "والسدير: بناء، وهو بالفارسية سهدلي أي ثلاث شعب أو ثلاث متداخلات. وقال الأصمعي: السدير فارسية، كان أصله سادل أي قبلة في ثلاث قباب متداخلة، وهي التي تسميها الناس اليوم سدلي، فأعربته العرب، فقالوا سدير، والسدير: النهر، وقد غلب على بعض الأنهار، قال: الابن امك ما بدا ولك الخورنق والسدير التهذيب: "السدير نهر بالحيرة"، اللسان "4/ 355"، "صادر"، نهاية الأرب "1/ 385 وما بعدها". 2 إيران في عهد الساسانيين، أرثر كريستين، ترجمة يحيى الخشاب "ص 260". 3 البرقوقي "ص 287". 4 الخورنق "ص 287". 5 المحبر "358 وما بعدها".

السائح". والذي أراه أن هذا التفسير، لا يتعارض مع روايات المؤرخين في باني القصر، وأن مراد الشاعر من "ومثل أبي قابوس رب الخورنق"، أنه صاحب الخورنق، أي مالكه والنازل فيه، لا الباني له. وقد ذكره لشهرة القصر في أيامه وبذلك فلا يقع التعارض بين التفسيرين، ويكون الملك المقصود هو "النعمان أبو قابوس". وممن أشار إلى القصرين: الخورنق والسدير في شعره من الشعراء الجاهليين، المنخل، قال: وإذا صحوت فإنني ... رب الشريهة والبعير وإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير وقد نشأ لقب "السائح" الذي لقب به النعمان من القصة الشهيرة التي يرويها الأخباريون عن هذا الملك، وهي أن النعمان جلس في يوم من أيام الربيع في قصره الخورنق فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار ... فأعجبه ما رأى من الخضرة والنور والأنهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قط؟ فقال: لا، لو كان يدوم! قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة، قال: فيم ينال ذلك؟ قال: بترك الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده. فترك ملكه من ليلته، ولبس المسوح مستخفيًا هاربًا لا يعلم به، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله، فحضروا بابه، فلم يؤذن لهم عليه كما كان يفعل. فلما أبطأ الإذن عليهم، سألوا عنه، فلم يجدوه، وساح الملك منذ ذلك الحين في الأرض، فلم يره إنسان1. ويلحق الأخباريون بهذه القصة أبياتًا ينسبونها لعدي بن زيد العبادي. ذكروا أنه خاطب بها النعمان بن المنذر، هي في الواقع اختصار للقصة، لم يذكر فيها اسم النعمان، وإنما اكتفى الشاعر بذكر رب الخورنق، ورب الخورنق هو النعمان في تفسير الأخباريين2.

_ 1 الطبري "2/ 73 وما بعدها"، "2/ 67"، "دار المعارف"، حمزة "ص 68". المعارف "ص 282". 2 الطبري "2/ 67 وما بعدها"، حمزة "ص 69"، المعارف "ص 282"، نهاية الأرب "1/ 387".

والأبيات المنسوبة إلى عدي بن زيد، وهي: وتذكر رب الخورنق إذ فكـ ... ر يومًا، وللهدى تفكير سره ملكه وكثرة ما يملـ ... ك والبحر معرضًا والسدير فارعوى جهله فقال وما غبـ ... طة حي إلى الممات يصير تشير إلى النعمان السائح، وتذكر قصة مفارقته ملكه، ولبسه المسوح وإعراضه عن الملك بعد أن كان ملكًا. ولم يقصد بالنعمان: النعمان بن أبي سلمى صاحبه، كما تصور بعض الناس1 ويظهر أنه نظمها للنعمان صاحبه على سبيل العظة والتذكير، ليدخله في النصرانية، وذلك بعد أن كان يتعبد للأوثان. وقد تمكن من التأثير فيه، فأدخله فيها كما يذكر الأخباريون. وقد ورد في بعض الروايات تنصر النعمان2، ونسب تنصره إلى سلطان القديس "سمعان العمودي" "Symion Stylites" عليه، وكان يقوم، بالتبشير بين أهل الحيرة3. وذكر أنه شفاه ببركته من مرض كان به، فتنصر4. وهي رواية في حاجة إلى دليل. فليم يثبت أن آل لخم كانوا قد تنصروا في هذا العهد. وقد ذكر الطبري أن تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن، تبع حمير أرسل حينما ولى الملك ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى النعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة، فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته، وهزم أصحابه، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر، وأمه ماء السماء امرأة من النمر. فذهب ملك آل النعمان، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كانوا يملكون5. وقد استدرك الطبري على هذه الرواية، فذكر بعدها مباشرة هذه الجملة، قال: "وقال هشام: ملك بعد النعمان بن المنذر ابنه المنذر ابن النعمان، وأمه

_ 1 رسالة الغفران "555", "تحقيق الدكتورة عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ". 2 ابن خلدون "2/ 271". 3 شيخو: النصرانية 82. 4 السمعاني "1/ 247"، الحيرة "151". Causin, 254. 5 الطبري "2/ 86"، "2/ 89 وما بعدها" "دار المعارف".

هر ابنة زيد مناة بن زيد الله بن عمرو الغساني أربعًا وأربعين سنة"1. وذلك يدل على أن هذه رواية أخرى منسوبة إلى ابن الكلبي أيضًا، ولكنه أخذها من مورد آخر غير المورد الذي نقل منه الرواية السابقة، وهي منسوبة أيضًا إلى ابن الكلبي استهلها الطبري بقوله: "حدثت عن هشام بن محمد"2. وهو ابن الكلبي. وحديث الطبري عن قتل الحارث بن عمرو الكندي للنعمان بن امرئ القيس ابن الشقيقة، يناقض ما رواه هو نفسه وما رواه غيره عن تنسك النعمان واعتزاله الملك وسياسته في الأرض وعن اللقب الذي منحه الأخباريون إياه وهو "السائح"، ويظهر أن ابن الكلبي وأضرابه رواة هذه الروايات كانوا قد أخذوا رواياتهم من مصادر عربية مختلفة، غير مدونة، فوقع هذا التناقض بين الروايتين. وعاد الطبري فتكلم على هذا الموضوع في أثناء حديثه عن الأحداث التي وقعت بين العرب في أيام قباذ، فقال: "وحدثت عن هشام بن محمد، قال: لما لقي الحارث بن عمرو بن حجر بن عدي الكندي النعمان بن المنذر بن امرئ القيس ابن الشقيقة، فقتله، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك، بعث قباذ بن فيروز ملك الفرس إلى الحارث بن عمرو الكندي: أنه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهد، وأني أحب أن ألقاك. وكان قباذ زنديقًا يظهر الخير ويكره الدماء3. فجعل الطبري والد النعمان في هذه الرواية المنذر بن امرئ القيس مع أن والد النعمان المقصود هو امرئ القيس. وقد ذكر الطبري أن ملك النعمان إلى أن ترك ملكه وساح في الأرض تسع وعشرين سنة وأربعة أشهر. من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة4. وإذا أخذنا بهذه الرواية وجب أن يكون ابتداء حكم الملك النعمان في سنة "405م"، وتركه الملك واختياره في الأرض وحياة الزهد في حوالي السنة "434م". فقد حكم بهرام بن يزدجرد، المعروف بـ "بهرام الخامس" عند المؤرخين فيما بين السنة "420م" والسنة "438"5. وصار عرش الحيرة بعد النعمان إلى ابنه المنذر، وكانت أم المنذر من غسان.

_ 1 الطبري "2/ 90" "دار المعارف". 2 الطبري "2/ 89" "دار المعارف". 3 الطبري "2/ 89" "2/ 95" "دار المعارف". 4 الطبري "2/ 68" "دار المعارف". 5 Encuy., 4, P. 178.

وهي هند بنت زيد مناة بن زيد بن عمرو الغساني1. أما المسعودي، فذكر أنها: هند بنت الهيجانة من آل بكر2. وقد ذكر الطبري أن يزدجرد لما ولد بهرام جور، اختار لحضانته العرب، فدعا المنذر بن النعمان واستحضنه بهرام، فسار به المنذر، واختار لرضاعته ثلاث نسوة ذوات أجسام صحيحة وأذهان ذكية وآداب حسنة، من بنات الأشراف، وهن عربيتان وعجمية، فأرضعنه ثلاث سنين، فلما بلغ خمس سنين، أحضر له مؤدبين، فعلموه الكتابة والرمي والفقه. وأحضر له حكيمًا من حكماء الفرس، ثم أحضر له معلمي الفروسية، فتعلم الرماية والصيد وركوب الخيل حتى صار من أمهر الناس. وظل هذا شأنه لدى المنذر حتى مات يزدجرد. ففرح الناس بوفاته وقرر الأشراف والموبذان والمرازبة صرف الملك عن أسرة يزدجرد، لسوء سيرته في الناس، ونصبوا شخصًا آخر مكانه. فلما رأى بهرام ذلك، طلب مساعدة المنذر، فأرسل المنذر قوة بقيادة ابنه النعمان، وسار هو على رأس قوة أخرى قوامها ثلاثون ألفًا من فرسان العرب، ومعه بهرام، وبعد مفاوضات وافق الفرس على خلع من نصبوه كسرى عليهم، وتعيين بهرام، وبفضل هذه المساعدة استعاد التاج3. وتناقض هذه الرواية كما نرى من الرواية السابقة التي دونها الطبري نفسه في تعليل سبب بناء الخورنق والتي تحدثت عنها قبل قليل. وقد فطن ابن الأثير الذي نقل الروايتين أيضًا لهذا التناقض، فقال: "هكذا ذكر أبو جعفر، في اسم بهرام جور، أن أباه أسلمه إلى المنذر بن النعمان كما تقدم، وذكر عند يزدجرد الأثيم أنه سلم بهرام إلى النعمان بن امرئ القيس. ولا شك أن بعض العلماء قال هذا وبعضهم قال ذاك، إلا أنه لم ينسب كل قول على قائله"4. وأبو جعفر هذا هو الطبري. ولا نعلم شيئًا من أمر النعمان بن المنذر الذي تولى قيادة القوة التي أمر والده بإرسالها للتحرش بمملكة الفرس، بعد أن رفضوا نصب بهرام جور ملكًا عليهم

_ 1 حمزة "ص 69"، الطبري "2/ 86"، "2/ 68 وما بعدها"، "دار المعارف". 2 مروج "2/ 23". 3 الطبري "2/ 74 وما بعدها"، الدينوري، الأخبار الطوال "ص57 وما بعدها"، تحقيق "فلاديمير جرجاس" "طبعة ليدن". Noldeke, Aufsiltye. S.104. 4 ابن الأثير: الكامل "1/ 162".

على نحو ما رأيناه في رواية الطبري الثانية1. فقد سكت الطبري عنه كما سكت الآخرون. ونجد رواية نشأة بهرام جور بأرض العرب في رواية لليعقوبي مختصرة، هي في الواقع جمع للروايتين السابقتين. ذكر اليعقوبي أن يزدجرد دفع بهرام جور إلى النعمان، فأرضعته نساء العرب، ونشأ على أخلاق جميلة. ولما مات يزدجرد كرهت الفرس أن تولي ابنًا له لسوء سيرته، وقالوا: "بهرام ابنه قد نشأ بأرض العرب لا علم له بالملك". وأجمعوا على أن يملكوا رجلًا غيره، فسار بهرام في العرب، فلما لقي الفرس، هابته، فأذعنوا له وأعطوه الطاعة فوعدهم من نفسه خيرًا. وكتب إلى الآفاق يعدهم بذلك. وقدم المنذر بن النعمان عليه، فرفع منزلته2. فلم تنكر هذه الرواية رواية من زعم أن يزدجرد سلم ابنه إلى النعمان، ولم تنكر صلة المنذر ببهرام جور، ولكنها كما نرى لم تشر إلى اسم من قاد الجيش من العرب وسار إلى الفرس. ولا يمنع على كل حال قول الأخباريين في بناء النعمان الأول الخورنق لبهرام من كون ابنه هو الذي ساعد بهرامًا على أخذ التاج. لقد سلمه والده صغيرًا إلى النعمان، فلما كبر وترعرع، ومات والده وهو بين عرب الحيرة، وامتنع الفرس من توليه التاج، ساعده المنذر في ذلك. وأخذ له حقه ممن اغتصبه منه. ويظهر من أخبار الأخباريين أنه كانت للمنذر منزلة عند "يزدجرد". ذكر الطبري أن يزدجرد "دعا بالمنذر بن النعمان، واستحضنه بهرام، وشرفه وأكرمه، وملكه على العرب وحباه بمرتبتين سنيتين، تدعى إحداهما "رام أبزوذ يزدجرد" وتأوليها "زاد سرور يزدجرد"، وتدعى الأخرى "بمهشت" وتأويلها "أعظم الحول"، وأمر له بصلة وكسوة بقدر استحقاقه لذلك في منزلته، وأمره أن يسير ببهرام إلى بلاد العرب3. وتناقض هذه الرواية رواية الطبري المذكورة في قصة بناء الخورنق، ورواية بقية أهل الأخبار عن قصة بناء ذلك القصر، وتؤكد أن وفاة "النعمان" الأول

_ 1 الطبري "2/ 72" "دار المعارف". 2 اليعقوبي "1/ 132". 3 الطبري "2/ 68 وما بعدها"، Rothstei,N S. 69.

كانت في أيام يزدجرد، لا في أيام بهرام بن يزدجرد، وتفيد أن انتقال الحكم إلى المنذر كان في عهد يزدجرد. واشترك المنذر في الحرب التي وقعت بين الروم والفرس بعد مدة قصيرة من تولي بهرام جور الملك، واختار بلاد الشأم ساحة لهجومه. والظاهر أن إسهامه في هذه الحرب كان بطلب من بهرام الذي لم يكن موقفه حسنًا فيها، فكلف المنذر مهاجمة بلاد الشأم، ليخفف من شدة ضغط الروم عليه. غير أن التوفيق لم يحالف المنذر في هجومه هذا، فمني بخسارة كبيرة وهو يحاول مع جيشه عبور الفرات، فغرق أكثرهم في النهر. وكان ذلك في سنة 421م. ولحقت به خسارة أخرى في السنة نفسها، أو في السنة التي تلتها حينما أعاد الكرة على الروم1. وقد ذكر المؤرخ "سقراط" "Socrates" المتوفى في حوالي سنة 439م غرق زهاء مئة ألف رجل من رجال المنذر في النهر، وهو عدد مبالغ فيه ولا شك. وقد استند الطبري إلى رواية يتصل سندها بابن الكلبي، فجعل مدة حكم المنذر بن النعمان أربعًا وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة، وفي زمن فيروز ابن يزدجرد سبع عشرة سنة2. وهذه الرواية تناقض روايات ابن الكلبي السابقة عن تولي المنذر الحكم في أيام يزدجرد الأثيم والد بهرام جور، كما مر معنا، وقد أغفلت أمر "هرمز" وهو ابن يزدجرد ابن بهرام جور، المعروف بالثالث، الذي حكم من حوالي السنة457 حتى السنة 459 للميلاد، فإذا فرضنا أن حكم المنذر كان ثماني سنين وتسعة أشهر من زمان بهرام جور الذي حكم من حوالي السنة 420 للميلاد حتى السنة 438 للميلاد، صارت السنة 429 هي السنة 430 للميلاد التي يجب أن تكون سنة توليه الحكم، وإذا أضفنا إلى هذا الرقم أربعًا وأربعين سنة، وهي مدة حكم المنذر، إلى هذه الرواية، صارت السنة 473-474 للميلاد، هي سنة انتهاء حكم المنذر بوفاته. وتكون سنة وفاته إذن في زمن "فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور" الذي حكم من حوالي السنة 459 حتى السنة

_ 1 Rothstein, S. 69, Socrates, VII, 18, Bar Hebraeus, Chron. Syriac, 75, Caussin, Essai, II 63, Noldede, Sas, 86, Paulys-Wissowa, Erster Galbband, S. 1281. 2 الطبري "2/ 90" "دار المعارف".

484 للميلاد. وبحسب هذه الرواية يكون المنذر قد عاصر بهرام جور المعروف بـ "بهرام الخامس" عند المؤرخين وعاش في زمن يزدجرد الثاني، وهو ابن "بهرام جور"، وفي زمن "هرمز بن يزدجرد"، ثم في زمن شقيقه فيروز ابن يزدجرد بن بهرام جور1. وتولى بعد المنذر ابنه الأسود من زوجته هر ابنة النعمان من بني الهيجمانة ابنة عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان على رواية الطبري2. ومن لخم على حد قول حمزة3. وأما "الدينوري"، فذكر أن الذي ولي الملك بعد "النعمان بن امرئ القيس" الأعور والسائح، أخوه "المنذر بن امرئ القيس"، وكانت أمه من "النمر بن قاسط" ويقال لها: "ماء السماء" لجمالها وحسنها. وأبوها "عوف بن جشم" وقد ولاه "كسرى أنو شروان" العرش، وزعم أنه تزوج "هندًا" ابنة الحارث ابن عمرو الكندي آكل المرار، وهي التي أولدته ثلاثة أولاد هم: عمرو بن هند المعروف بمضرط الحجارة، وقابوس المعروف بقينة العرس، والمنذر بن المنذر. وذكر أنه بقي ملكًا على الحيرة إلى أن غزا "الحارث ابن أبي شمر الغساني"، وهو الأعرج، فقتله الأعرج بالحيار4. وجعل "الدينوري" "المنذر بن المنذر بن امرئ القيس" بعد "المنذر" المذكور، وقال: إنه خرج يطلب دم أبيه، فقتله الحارث أيضًا بعين أباغ، ويقال: إن قاتله هو "مرة بن كلثوم التغلبي"، أخو عمرو بن كلثوم، ثم نصب من بعده شقيقه عمرو بن هند، ثم النعمان بن المنذر أبا قابوس، وبذلك أنهى قائمته لملوك الحيرة5. وهي قائمة سقط منها عدد من الملوك. ولا نعرف من أخبار الأسود شيئًا كثيرًا. وقد ذكر حمزة أنه حكم عشرين عامًا. وذلك في زمن فيروز بن يزدجرد وبلاش بن فيروز وقباذ بن فيروز6.

_ 1 راجع ترتيب وسن ملك الساسانيين في: Ency. 4, P. 178. 2 الطبري "2/ 86"، "2/ 90" "دار المعارف". 3 حمزة "ص 69". 4 المعارف "ص 283". 5 المعارف "ص 283"، عيون الأخبار "1/ 330". 6 حمزة "ص 69".

وروى أنه حارب الغساسنة وانتصر عليهم، وأسر منهم، كما روى أنه وقع في إحدى معاركه في أيدي الغساسنة، فقتله1. وذكر الطبري أن الفرس أسرته2، ولم يذكر سبب هذا الأمر. وأنه حكم عشرين سنة، من ذلك في زمن فيروز ابن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمان قباذ بن فيروز، ست سنين3. وقد حكم "فيروز" من سنة "459م" حتى سنة "484م"، ويكون حكم "الأسود" بحسب رواية الطبري المتقدمة في حوالي السنة "474م" تقريبًا، وقد حكم "بلاش" أربع سنين، من سنة "484م" حتى سنة "488م"، ثم حكم "قباذ الأول"، وهو ابن فيروز من بعده، حكم من سنة "488" حتى سنة "531" للميلاد. ولما كان "الأسود" قد حكم ست سنين من زمان حكم "قباذ"، تكون سنة وفاته في حوالي السنة "494م"4. وورد في رواية أنه كان للأسود بن المنذر ولد اسمه شرحبيل، قتل، قتله الحارث بن ظالم، وكان طفلًا مسترضعًا عند سنان بن أبي حارثة المري5. وكان سبب ذلك على ما تذكره الرواية أن "خالد بن جعفر بن كلاب" كان قدم على "الأسود بن المنذر" أخي النعمان، ومعه "عروة بن عتبة بن جعفر"، فالتقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم بن غيط بن مرة بن سعد بن ذبيان عند الأسود بن المنذر، فجعل خالد يقول للحارث: يا حمار، أما تشكر يدي عندك إن قتلت عنك سيد قومك زهيرًا وتركتك سيدهم؟ فقال: سأجزيك شكر ذلك فلما خرج الحارث، قال الأسود لخالد. ما دعاك إلى أن تتحرش بهذا الكلب. وأنت ضيفي؟ فقال: إنما هو عبد من عبيدي، ولو وجدني نائمًا ما أيقظني. وانصرف خالد إلى قبته، فلامه عروة الرحال، ثم ناما وأشرجت عليهما القبة، فلما هدأت العيون، انطلق الحارث حتى أتى قبة خالد، فهتك شرجها، ثم ولجها

_ 1 الحيرة "ص 156 وما بعدها". 2 الطبري "2/ 86"، "2/ 90" "دار المعارف". 3 الطبري "2/ 86"، "2/ 90" "دار المعارف". 4 راجع أزمنة حكم الملوك الساسانيين في: Ency. 4, P. 178. 5 ابن الأثير. الكامل "1/ 229 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 353 وما بعدها".

وقتله. فنادى عروة: واجوار الملك! فأقبل الناس، وسمع الأسود الهتاف، وقرر الانتقام ممن خرق جوار الملك. وهرب الحارث منه1. ولما هرب الحارث تنقل في القبائل، فلجأ إلى صديق له من كندة. فطلبه الملك فشخص من عند الكندي، وأضمرته البلاد حتى استجار بزياد أجد بني عجل ابن لجيم، فقام بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان، فقالوا لعجل: أخرجوا هذا الرجل من بين أظهركم، فإنه لا طاقة لنا بالشهباء والدوسر، وأبت عجل ذلك عليهم، فلما رأى الحارث ذلك، كره أن تقع الفتنة بينهما بسببه، فارتحل من بني عجل إلى جبلي طيء، فأجاروه، فمكث عندهم حينًا. ثم إن الأسود لما أعجزه أمره، أرسل إلى جارات كن للحارث بن ظالم استاقهن وأموالهن، فبلغ ذلك الحارث، فخرج من الجبلين، حتى علم مكان جاراته، فأتاهن، واستنقذهن، واستاق إبلهن، فألحقهن بقومهن. واندس إلى بلاد غطفان حتى أتى سنان بن أبي حارثة المري، وهو أبو هرم بن سنان ممدوح زهير. وكان الأسود قد استرضع ابنه شرحبيل عند سنان، ترضعه امرأته. فاستعار الحارث سرج سنان، وهو في ناحية الشرية، فأتى به سلمى امرأة سنان، وقال لها: يقول لك بعلك، ابعثي شرحبيل مع الحارث، وهذا سرجه لك آية. فدفعته إليه، فأتي به من ناحية من الشرية فقتله، وهرب من فوره، وهرب سنان لما سمع بخبر قتله. فلما بلغ الأسود قتل ابنه شرحبيل غزا بني ذبيان، فقتل وسبى، وأخذ الأموال وأغار على بني دودان رهط سلمى، ثم وجد بعد ذلك نعلي شرحبيل في جانب الشرية عند بني محارب بن خصفة، فغزاهم وأسرهم وأحمى لهم الصفا، وقال إني أحذيكم نعالًا، فأمشاهم عليها، فسقطت أقدامهم، ثم إن سيار بن عمرو ابن جابر الغزاوي احتمل للأسود دية ابنه ألف بعير، ورهنه بها قوسه، فوفاه بها. ثم هرب الحارث، فلحق بمعبد بن زرارة فاستجار به، فأجاره، وكان من سببه وقعة رحرحان، ثم هرب حتى لحق بمكة، ثم غادرها إلى الشأم، فلحق بيزيد بن عمرو الغساني، فأجاره وأكرمه، ومكث عنده. ثم افتقد يزيد ناقة له، ولم يعلم خبرها، فأرسل إلى الخمس التغلبي، وكان كاهنًا، فسأله عنها،

_ 1 نهاية الأرب "15/ 348 وما بعدها".

فأخبره أن الحارث صاحبها، فهم به الملك ثم تذمم من ذلك، فأوجس الحارث في نفسه شرًّا، فأتى الخمس التغلبي فقتله. فلما فعل ذلك دعا به الملك، وأمر به ابن الخمس فقتله بأبيه، وأخذ ابن الخمس سيف الحارث، فأتى سوق عكاظ في الأشهر الحرم، فأراه قيس بن زهير العبسي، فضربه به قيس فقتله1. وذكر أن الأسود غزا بني ذبيان وبني أسد بشط أربك وأوقع فيهم، وأنه وجد نعل ابنه شرحبيل القتيل في بني محارب بن خصفة بن قيس عيلان. فانتقم منهم شر انتقام، وأنه قبل من الحارث بن سفيان دفع دية شرحبيل، فدفعها إليه، وهي ألف بعير، "دية الملوك"2. وخبر هذه الغزوة هو جزء متمم لخبر قتل الحارث بن ظالم لابن الأسود، كما جاء في رواية أخرى. وروايات أهل الأخبار عن قتل الحارث بن ظالم لخالد بن جعفر بن كلاب، وعن قتل ابن الملك، روايات متناقضة مضطربة قلقة، والتبس الأمر فيها على الرواة، ولا سيما "ابن الكلبي" و"أبي عبيدة" اللذين هما مرجعا أكثر رواة تلك الروايات. يتداخل فيها اسم النعمان بن امرئ القيس مع اسم النعمان بن المنذر واسم الأسود بن المنذر، وتنسب القصة مرة إلى هذا الملك، ومرة إلى ذاك. وقد تتداخل، فيذكر اسم الملك الأسود، ثم يورد بعده اسم الملك النعمان. يذكر الرواة رواية كالرواية السابقة، جعلت الولد القتيل شرحبيل بن الأسود، وجعلت الحارث بن ظالم يسير متخفيًا إلى الحيرة ليفتك بالأسود، ولكنهم جعلوه في هذه الرواية يسمع صراخ امرأة أخذ جمع الأسود صرمة من إبلها، فتوجع لها، ووعدها على إعادة إبلها فطلب منها أن تذهب إلى موضع عينه لها، ليأتي لها بإبلها. فلما وردت إبل النعمان، أخذ مالها، فسلمه إليها، ثم فر يطلب له مجيرًا فلم يجره أحد قائلين له: من يجيرك على هوازن والنعمان؟ ويختفي اسم المنذر فجأة في هذه الرواية، ويظهر اسم الملك النعمان كما في الرواية السابقة، ولكن دون تصريح باسم والد النعمان، وهو امرؤ القيس3.

_ 1 نهاية الأرب "15/ 353"، "يوم الخريبة"، "العقد الفريد "6/ 7 وما بعدها". 2 الأغاني "10/ 22 وما بعدها". 3 الكامل "1/ 223 وما بعدها".

ثم تستمر الرواية فتأخذ الحارث إلى الشأم، ليستجير بيزيد بن عمرو الغساني من النعمان وهوازن، فيجيره ويكرمه، ولكنه يذبح ناقة ليزيد، ثم يقتل امرأة أرسلها يزيد لتحري بيت الحارث، ثم يقتل الكاهن الذي تكهن بعقر الحارث للناقة وبقتله للمرأة. فلم يبق أمام يزيد إلا قتل الحارث، فأمر به فقتل1. وعلى هذه الصورة انتهت حياة رجل هو في نظر الأخباريين بطل من أبطال المغامرات والمفاجآت. وأما الرواية التي تذكر أن ذلك الملك هو النعمان بن امرئ القيس فتقول إن النعمان بن امرئ القيس كان قد تزوج بنتًا من بنات زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي، وهو من السادة الأشراف، فأرسل النعمان ذات يوم إلى زهير يستزيره بعض أولاده، فأرسل ابنه شأسًا، وكان أصغر ولده، فأكرمه وحباه، ورجع بهدايا وألطاف كثيرة. فلما بلغ ماء من مياه غني بن أعصر، طمع به رباح بن الأشل، فقتله، واستلب ما كان معه. فلما سمع زهير بمقتل ولده، جاء ديار غني، وأخذ يغير عليها، حتى قتل منها مقتلة عظيمة، فاستجارت غني بحلفائهم بني عامر بن صعصعة، فأنجدوها. وتوسعت الحرب، فاشتركت بها هوازن، وكانت تحقد على زهير؛ لأنه كان يسر بها خسفًا ويجبيها الإتاوة كل سنة بعكاظ، وترأس خالد بن جعفر بن كلاب غنيًّا وبني عامر وهوازن، فقتل زهيرًا، وعاد أبناؤه بجسده ليواروه التراب. وذهب خالد بعد مصرع زهير إلى النعمان مستجيرًا به حين علم أن غطفان ستطلبه به، فأجاره، وضرب له قبة وحماه. وبينما كان في مجلس النعمان، قدم الحارث بن ظالم إلى المجلس، وجرى بينه وبين خالد كلام، أغلظ فيه خالد على الحارث، فحقد الحارث عليه وقرر الانتقام منه، فاغتاله وهرب. فجعل النعمان يطلبه ليقتله بجاره، وهوازن تطلبه لتقتله بسيدها خالد. فلحق ببني دارم من تميم، واستجار بهم، فأجاروه على النعمان. فلما علم النعمان ذلك، جهز جيشًا إلى بني دارم، فلما سمعوا بمجيء الجيش عليهم، استعدوا له، وأرسلوا أموالهم إلى بلاد بغيض، واستعدوا مع بني مالك بن حنظلة وبني عامر للقتال. فلما التقوا بجيش النعمان، قتل رئيس جيش النعمان، وانهزم الجيش. وقيل: إن الحارث بن ظالم ركب إلى الحيرة متخفيًّا، واستقا إبلًا

_ 1 الكامل "1/ 234".

له كان قد استولى عليها النعمان، وقتل أحد أبنائه، وفر1. وهناك رواية تجعل النعمان المذكور النعمان بن المنذر، وتجعل الولد القتيل ابنًا لهذا النعمان. وجعلت رواية أخرى قتل الحارث لخالد في عهد الأسود، ثم تذكر أنه هرب منه. ثم إن رجلًا من بني زيد مناة كان بعض حشم النعمان قد أخذوا إبله وأهله، استجار بالحارث فركب الحارث حتى أتى النعمان، فقال: أبيت اللعن! إنك أخذت نساء جاري، وماله، وأنا له جار. فذكره النعمان بقتله خالدًا، وهو في جوار الأسود أخيه. ثم إن النعمان أوعد الحارث وعيدًا شديدًا. فمضى الحارث، وندم النعمان على تركه، وطلبه ففاته، وكان للنعمان ابن مسترضع عند "سنان بن أبي حارثة"، وكانت سلمى بنت ظالم تحت سنان، فجاء الحارث إلى أخته على لسان سنان، حتى أعطته ابن النعمان، فضرب عنقه ولحق بمكة فجاور عبد الله بن جدعان2. وأما قتل "الحارث بن ظالم"، فالروايات مختلفة فيه، منها ما جعل قاتله: "يزيد بن عمرو الغساني" على نحو ما رأيت. ومنها ما جعل قاتله ملكًا من ملوك غسان تسميه النعمان. ومنها، وهي رواية من روايات أهل الكوفة، ما جعل قاتل الحارث هو الملك النعمان بن المنذر، وتذكر قصة كيفية استدراج النعمان للحارث ومراسلته له مصرحًا له أنه قد رضي عنه وعفا عما بدر منه حتى أمن الحارث. فلما جاء إلى النعمان، وكان في قصر بني مقاتل، أمر به فقتل. قتله ابن الخمس التغلبي، وكان الحارث قد قتل أباه3. وجاء في رواية أن "عمرو بن الخمس" هو الذي قتل الحارث، قتله بأمر الملك الأسود بن المنذر4. وذكر "ابن دريد" أن قومًا زعموا أن النعمان قتل "الحارث بن ظالم"، وهذا وهم؛ لأن الذي قتله إنما هو "المنذر بن المنذر أبو النعمان"5. وذكر "محمد بن حبيب". أن "سيار بن عمرو الفزاري" المعروف بـ "ذي القوس"، كان قد رهن قوسه على ألف بعير في قتل الحارث ابن ظالم من النعمان الأكبر6.

_ 1 الكامل" 1/ 229 وما بعدها". 2 المحبر "193 وما بعدها". 3 الأغاني "10/ 27 وما بعدها". 4 الاشتقاق "2/ 203" "طبعة أوربة". 5 الاشتقاق "175". 6 المحبر "461".

ويظهر من "رسالة الغفران" أن "آل لخم" كانوا يعظمون "الأسود بن المنذر"1، ولم يذكر سبب هذا التعظيم. وحكم بعد الأسود أخوه المنذر بن المنذر بن النعمان، وأمه هر ابنة النعمان. حكم على رواية لابن الكلبي سبع سنين2، وذلك في زمان قباذ بن فيروز3. ولما كان حكم قباذ، وهو "قباذ الأول" ويسمى بـ "قباذ بن فيروز" قد امتد من سنة "488" حتى سنة "531" للميلاد4، فيكون حكم المنذر إذن قد وقع في خلال هذه المدة. وإذا أخذنا بهذه الرواية، وجب أن يكون ابتداء حكم المنذر بن المنذر في حوالي سنة "494م"، وانتهاء حكمه في حوالي السنة "501م"، وذلك بحسب سني حكم ملوك الفرس عند المؤرخين5. ولكننا نواجه روايات أخرى رواها ابن الكلبي أيضًا وغيره تخالف هذا التقدير. وبعد المنذر انتقل الملك إلى ابن أخيه النعمان بن الأسود، وأمه هي "أم الملك ابنة عمرو بن حجر، أخت الحارث بن عمرو الكندي"6. إذن فهي أميرة من أمراء كندة. وقد حكم هذا الملك على رواية لابن الكلبي أربع سنين7. وذلك في زمن قباذ8. يظهر من رواية لـ "ثيوفانس" أن النعمان هذا أغار على حدود الروم وعلى العرب المحالفين لهم، فاصطدم بالقائد "أوجينيوس" "Eugenius" عند موضع "بثرابسوس" "Bithrapsos" "البئر" على الفرات، فأصيب بخسارة فادحة. ولا نعرف على وجه التحقيق سنة وقوع هذا الحادث، والمظنون أنه كان حوالي سنة "498م"9.

_ 1 رسالة الغفران "133". 2 الطبري "2/ 94"، "2/ 104" "دار المعارف". 3 حمزة "ص 69". 4 Ency, 4, P. 278. 5 Ency, 4, P. 178. 6 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف"، حمزة "69". 7 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف". 8 حمزة "ص 69". 9 Rothstein S. 74, Theophanes, 217, Huart, I, S. 66, J. Bury: History Of The Later Roman Empire, London, 1931, Vol, I, P. 434.

واشترك النعمان أيضًا في الحرب التي وقعت بين الروم والفرس حوالي سنة "502 للميلاد"، إذ رجا منه قباذ أن يهاجم حدود الروم من جهة الجنوب، فهاجمها في قطاع "حران1" "Carrhae" واصطدم بالقائدين "أوليمبيوس" "Olympius" و" أويجينيوس" "Eugenius" فتغلبا عليه، غير أنه أعاد الكرة فتغلب عليهما. وفي المعركة التي وقعت على مقربة من "قرقيسياء" "Circesium" على الخابور أصيب بجرح بليغ في رأسه فقضى عليه2. وفي أثناء غياب النعمان ومعظم جنوده عن الحيرة، انتهز العرب الذين في بلاد الروم الملقبون بـ "بني ثعلبة" "طايوس دبيت روموين د متقربن دبيت ثعلبة"3 هذه الفرصة، فأغاروا على عاصمته، وأخذوا كل ما أمكنهم أخذه، فاضطر من كان قد تخلف في الحيرة من جيش النعمان إلى الفرار إلى البادية4. ويخيل إلي أن ذلك كان على أثر إصابة الملك بجرحه المميت. وتولى الحكم رجل من "آل لخم" اسمه "أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل بن ثور بن أسس بن ربي بن نمارة بن لخم"، بعد النعمان5، فهو من "ذميل" و "ذميل" بطن من بطون لخم6، ولم يتحدث أصحاب الأخبار عن علاقة هذا الرجل بالأسرة المالكة ولا عن كيفية تعيينه والأسباب التي أدت إلى اختياره لهذا المنصب، وكل ما ذكرته أنه حكم ثلاث سنين، ثم انتقل الحكم من بعده إلى المنذر بن امرئ القيس البدء، وهو ذو القرنين، وذلك في رواية للطبري عن ابن الكلبي7. أما حمزة الأصبهاني، فجعل بعد أبي يعفر ابنًا للنعمان الأعور سماه امرأ القيس ابن النعمان ابن امرئ القيس. قال: أنه هو الذي غزا بكرًا يوم "أوارة" في دارها، وكانوا أنصار بني آكل المرار وهزمهم. وكانت بكر قبله تقيم أود ملوك الحيرة وتعضدهم. ونسب إليه بناء حصن "الصنبر" زاعمًا أن الذي بناه

_ 1 Josua Stylites, 51, Rothstein, S. 74. 2 Josua Stylites, 51, Rothstein, S. 74. 3 Rothstein, S. 74. 4 Rothstein, S. 74. 5 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف". 6 حمزة "ص 69". 7 الطبري "2/ 94"، "2/ 104"، "دار المعارف".

له هو البناء الرومي الشهير سنمار، وأنه هو الذي قتل ذلك البناء. وجعل مدة حكمه سبع سنين1، وذلك في زمن قباد2. وقال "حمزة": وفيه قال المتلمس: جزاني أخو لخم على ذات بيننا ... جزاء "سنمار" وما كان ذا ذنب3 وذكر حمزة أن حصن صنبر المذكور، وهو من عمل "سنمار"، هو الذي قال فيه أحد الشعراء: ليت شعري متى تخب به النا ... قة نحو العذيب والصنبر4 ويعرف المنذر هذا عند أكثر الأخباريين بالمنذر بن امرئ القيس بن النعمان وبـ "ذي القرنين" وبـ "المنذر بن ماء السماء" وبـ "ابن ماء السماء". وماء السماء هي أمه على زعمهم، وهي: مارية ابنة عوف بن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط في رواية ابن الكلبي التي دونها الطبري5. وذكر حمزة نسب ماء السماء كما ذكره الطبري، غير أنه جعل الاسم ماوية بدلًا من مارية6، ولا أراه إلا خطأ من النساخ في كتابة الاسم أدى إلى هاتين الصورتين. وأما سبب تلقيبه بذي القرنين، فيقال إنه لقب بذلك لضفيرتين كانتا له من شعره، فعرف بهما لذلك7. وتلقيب ابن الكلبي امرأ القيس والد المنذر بالبدء هو خطأ ولا شك، إذ لا يعقل أن يكون هذا المنذر ابنًا لامرئ القيس البدء المتوفى سنة 328 للميلاد. ويلاحظ أن الأخباريين لقبوا امرأ القيس الآخر الذي حكم بعد أوس بن قلام

_ 1 حمزة "ص 70"، "وهو صاحب سنمار الذي قتله حين بنى له الحصن الذي يسمى الصنين"، مفاتيح العلوم "ص 69". 2 حمزة "ص 70". 3 حمزة "ص 70". 4 حمزة "ص 70". 5 الطبري "2/ 94"، الروض الأنف "1/ 22". 6 حمزة "ص 70" "وكانت تسمى مارية"، مفاتيح العلوم "ص 69". 7 الطبري "2/ 94".

بالبدء كذلك، مع أنه مسبوق على حد قولهم بملك آخر اسمه هذا الاسم. فلا يجوز تلقيب صاحبنا هذا إذن بالبدء. ولا يجوز بالطبع تلقيب امرئ القيس الآخر الذي زعم أنه والد المنذر بالبدء أيضًا؛ لأنه ثالث المراقسة في ترتيب أسماء الملوك بحسب رواية الأخباريين. ولا نعلم شيئًا يذكر من أمر امرئ القيس والد المنذر، فهم لم يشيروا إشارة صريحة إلى أنه كان ملكًا، فهل هو امرؤ القيس بن النعمان الذي جعله حمزة ملكًا بعد أبي يعفر؟ لا يستبعد أن يكون هو إن صحت رواية حمزة. بعد أبي يعفر؟ لا يستبعد أن يكون هو إن صحت رواية حمزة. ويلاحظ أن المؤرخين البيزنطيين واللاتين قد أطلقوا على المنذر "Alamoundaros O Sacicus" و"Alamundarus O Sacices" و "Alamundarus O Sacicis" وغير ذلك1، مما يفهم منه أنهم قصدوا بـ "Sacicus" و"Sacicis" "Sacices"وأمثال ذلك كلمة "شقيقة" "الشقيقة" العربية، وأنهم أرادوا المنذر بن الشقيقة، وهو هذا المنذر الذي نتحدث عنه في رأس المستشرقين، لذلك ذهب بعض المستشرقين إلى أن أم المنذر هي "الشقيقة" "شقيقة"، وذهب آخرون إلى أنها لم تكن أمه، وإنما قيل له ذلك؛ لأنه كان من آل الشقيقة الشهيرة، فعرف عند أولئك المؤرخين بابن الشقيقة أو بالمنذر ابن الشقيقة كما دعي الملوك بعد المنذر ببني ماء السماء2. أما الأخباريون فقد جعلوا شقيقة أمًّا للنعمان الأعور كما رأيت، ولم يشيروا إلى ملك اسمه المنذر واسم أمه شقيقة، فأيهما المصيب؟ الأخباريون أم المؤرخون اليونان واللاتين والسريان؟ وهل نحن أمام ملك آخر اسمه المنذر بن الشقيقة حكم في أوائل القرن السادس للميلاد؟ وذكر الأخباريون أن المنذر كان قد تزوج هندًا بنت آكل المرار3، فولدت له أولادًا منهم عمرو بن هند الذي ولى الملك بعده، وقابوس، ثم تزوج أختها أمامة فولدت له ولدًا اسمه عمرو وهو المقتول بوادي القضيب4.

_ 1 Rothstein, S. 76. 2 Rothstein, S. 76. 3 الروض الأنف "1/ 22". 4 البلدان "7/ 118"، "وهو ابن أمامة"، الروض الأنف "1/ 22".

ويرى بعض الباحثين أن حكم "المنذر" كان في حوالي السنة "508م"، أو قبل ذلك بقليل في حوالي السنة "506م". وأما انتهاء ملكه فكان في حوالي السنة "554م"1. وكان قباذ قد عقد صلحًا في عام "506" للميلاد مع الروم بعد الحرب التي استمرت من سنة "502" حتى سنة "506م"، غير أن هذا الصلح لم يدم طويلًا. ففي سنة "518" للميلاد تجدد الخلاف بين الفرس والروم، وذلك على أثر مطالبة قباذ القيصر "جستينوس" "يوسطينوس" "Justinus" الأول بدفع الإتاوة التي اتفق في صلح "506م" على دفعها للفرس. وبناء على تباطؤ القيصر في دفعها حرض قباذ المنذر على التحرش بحدود الروم، وقام المنذر بغزوها في سنة "519م"2. لقد تمكن المنذر في بعض حروبه مع الروم من أسر قائدين هما "ديموستراتوس" "تيموستراتوس" "Timostratus" "Denostratus" ويوحنا3 "Johannes". وأراد القيصر أن يفك أسر هذه القائدين ويعقد صلحًا وحلفًا بين الروم والمنذر، فأرسل –على ما يظهر- رسولًا خاصًّا إلى المنذر هو "إبراهيم" "Abraham" والد الكاتب المؤرخ "نونوسوس" "Nonnosus"، ومعه "شمعون الأرشامي" "Symeon Of Beth Arsham" و"سرجيوس" "Sergius" أسقف الرصافة "بيت رصافة". وقد وصل الوفد إلى المنذر في السنة السادسة "السنة السابعة" من حكم "جستينوس" "يوسطينوس" الموافقة لسنة "835" من التقويم السلوقي ولسنة "524" للميلاد4. وكان المنذر آنئذ في البادية في موضع اسمه "رمله" "الرملة"، وقد نجحت مهمته فيما يخص فك أسر القائدين. و"سرجيوس" هو مؤلف القسم السرياني الخاص بشهداء العربية الجنوبية، أي شهداء نجران5. وقد دونت في عهد أسقفيته على الرصافة أسماء الشهداء على

_ 1 J. B. Bury, II, P. 91. 2 Rothstein, S. 79. 3 Rothstein, S. 80, Land, Anecd, III, 235. 4 Kitab Al-Unvan, Histoire Universelle Ecrite, Par Acapius Magbub, De Menbidj, Seconde Partie, II, P. 425. 5 Musil: Pamyrena, P. 267, Guidi: La Lattera Di Simeone Bescova Di Beth Arsham, P. 507.

الجدار الشمالي للكنيسة الكبرى، كنيسة القديس سرجيوس1. وصادف وصول وفد الروم إلى المنذر وصول وفد آخر من اليمن أرسله ذو نواس الملك الشهير المعروف بتعذيبه نصارى نجران إلى المنذر ليفاوضه على تعذيب من في مملكته من النصارى. وقد دون "شمعون الأرشامي" قصة تعذيب هذه مدعيًا أنه نقلها من الكتاب الذي قرئ على الملك ومن أقوال من عرفه من الحاضرين، دونها في صورة كتاب ليقرأ في الكنائس ويطلع عليه المؤمنون. وقد نشر هذا الكتاب، وطبعت ترجمته كذلك2. وذكر أن القيصر "جستينوس" "يوسطينوس" "Justinus" كتب إلى المنذر بن النعمان طالبًا منه إخراج من في أرضه من القائلين بالطبيعة الواحدة3. وقد جادلهم في مجلس عقده بحضرة المنذر "شيلا" الجاثليق. فلما سمع هؤلاء بذلك، هرب بعضهم إلى نجران وأقاموا هناك. وكان من مؤيديهم الحجاج بن قيس الحيري صاحب المنذر. يظهر أن أمل القيصر في عقد هدنة أو معاهدة مع المنذر لم يتحقق، أو أنه تحقق ولكن إلى حين، فلما ساءت العلاقات بين الروم والفرس، ووقعت الحرب سنة "528م" بين الجانبين، هاجم المنذر الروم مؤيدًا الفرس، وكان له أثر خطير في هذه الحرب، وقد توغل في بلاد الشأم، وغنم منها غنائم كثيرة، ولكنه لم يبق فيها أمدًا طويلًا، فعاد مع جنوده سريعًا إلى قاعدته كعادة سائر الملوك بعد أن أشبع نفسه من غنائم الحرب4. ونجد المنذر يجدد هجومه على بلاد الشأم، بعد مدة قصيرة من هجومه الأول. لقد هاجمها سنة "529م". وتوغل فيها حتى بلغ حدود أنطاكية، وأحرق

_ 1 Musil, Palmyrena, P. 265. 2 Land: Anecs, 3, 235, Assemani: Bibl. Orient, I, 364. 3 "يوسطينيانس"، "وفي هذه السنة وجه يوسطينيانس وفدًا إلى المنذر ملك العرب ليصالحه؛ لأنه كان غزا الروم وخرب وسبا، وكان سبب الفتنة بين العرب والروم اضطهاد الملك يوسطينيانس الآباء، القائلين بالطبيعة الواحدة؛ لأن النصارى العرب يومئذ إنما كانوا يعتقدون اعتقاد اليعقوبية لا غير" ابن العبري، تأريخ مختصر الدول "ص 148". Histoire Nestorienne Chronique De Seert, Seconde Partie, P. 143. 4 Noldeke: Sasa, II Anm. 3, Malalas, II, 166, Rothstein, S. 81.

عددًا من المواضع ومنها موضع "خلقيدون" "خلقيدونية" "Chalcedon" وقد زعم بعض المؤرخين السريان أنه ضحى بأربع مئة راهبة للعزى1، وهي دعوى تحتاج بالطبع إلى درس. وقد عرض ابن العبري لتوغل المنذر في أرض الروم، واستيلائه على أرضين واسعة شملت كل منطقة الحدود، ومنها أرض الخابور ونصيبين، حتى بلغ "حمص" "Emessa" و"أباميا" "فامية" "Apamea" وأنطاكية "Antioch" زاعمًا أنه قتل عددًا كبيرًا من السكان، وخرب أكثر تلك الأرضين، ذاكرًا أنه اختار من بين الأسرى أربعمئة راهبة أخذهن لنفسه، غير أنه لم يذكر أنه قدمهن قربانًا إلى العزى2. وقد اضطر هذا الغزو القيصر "يوسطنيانوس" "Justinianus" الذي خلف "يوسطينوس" إلى نصب الحارث الجفني "فيلارخا" "فيلاركا" "Phylarch"، أي عاملًا على عرب بلاد الشأم لحماية الحدود من اعتداءات المنذر وعرب العراق3. وقد عوض قباذ الخسارة التي لحقت به عند موضع "دارا" بربح ناله بواسطة المنذر. لقد قام المنذر وأحد القواد الفرس بمهاجمة منطقة الفرات "Euphratesia" وهي منطقة "قوماجين" "Commagene"، فلما تصدى لها القائد "بليزاريوس" "Belisarius" تراجعًا، ثم التقيا به عند الرقة "Callinikos" فانتصرا عليه. وقد كان ذلك في السنة الرابعة من حكم "يوسطنيانوس" "Justinianus" أي في سنة "531م"4. وقد اشترك الحارث بن جبلة في هذه الحرب مع الروم، وأنيطت به حماية الجانب الأيمن في القتال الذي اضطرم مع الفرس، أما المنذر وجيشه، فكان يكون الجناح الأيسر لجيش الفرس، أي الجناح المقابل لعرب الروم5.

_ 1 Malals II, 166, Noldeke: Ghass, II, Theophanes, 237 Land: Anecd: Syr, III, P. 247, Rothstein, S. 81, Pauly-Wissoa, Erster Band, 1893, S. 1281. 2 Bar Hebraeus, 78, Noldeke: Aufstaze, 112. 3 Rothstein, S. 81. 4 Procopius, I, 17, 18, Rothstein, S. 81. 5 Musil: Palmyrena, P. 274, Procopius: De Bello, I, 17.

وعلى الرغم من الصلح الذي عقد في عام "532م" بين الفرس والروم، لم ينقطع النزاع بين الحارث الجفني والمنذر بسبب اختلافهما على الإتاوة التي تجبى من أعراب الـ "Strata"، أي المنطقة الواقعة في جنوب تدمر، وهي منطقة رعي لا شجر فيها ولا زراعة. وقد زعم "بروكوبيوس" أن كسرى، حرض المنذر على التحرش بالحارث، للإخلال بشروط الصلح، وإيجاد سبب لتجديد الحرب، وأن القيصر يوسطنيانوس "Justinianus" كلف رجلين من ثقاته وهما "ستراتيجيوس" "Strategius"، وهو من أصحاب الخبرة والحنكة في الشؤون الإدارية، و"سوموس" "Summus" وهو ممن قادوا الجيوش في فلسطين ومن السفراء الذين سبق أن كلفوا القيام بمهمات سياسية فأرسل رسولًا إلى نجاشي الحبشة وإلى ملك حمير "Homeritae" دراسة النزاع وإيجاد حل للمشكلة، فأشار "سوموس" على القيصر بعدم إجابة طلب المنذر وبالاحتفاظ بالأرض، أما "ستراتيجيوس"، فقد رأى أن الموضوع تافه وأن الأرض المتنازع عليها لا تستحق كل هذا الاهتمام. وقد مضى وقت طويل دون أن يجزم القيصر برأي1. وفي هذه الأثناء ادعى كسرى أن القيصر قد أخل بشروط الصلح باتصاله بالمنذر "Alamoundarus" وبمحاولته التأثير عليه وجره إليه. وبإرساله "سوموس" إلى المنذر مع كتاب خاص من القيصر يمنيه بالوعود وبمبالغ كبيرة من المال إذا انضم إلى الروم، وبأمور أخرى اتخذها حجة لإعلان إخلال الروم بالصلج2. وصار يتهيأ لحرب جديدة حتى تهيأت له الأسباب، وذلك في عام "540م"3. وبعد مراسلات بين الفرس والروم دون بعضها "بروكوبيوس"، وهي مراسلات جميلة ترينا فن الدبلوماسية ومنطق الملوك في ذلك العهد، هاجم الفرس الروم. وغزا الحارث أرض الجزيرة للوقوف على قوة الفرس، ومقدرتهم4، وهاجم المنذر بلاد الشأم فبلغ فينيقية، وتوغل في مناطق واسعة من لبنان5. وقد أشار الطبري إلى هذا النزاع الذي وقع بين المنذر والحارث بن جبلة،

_ 1 Procopius, II, I, Gibbon, II, P. 607, The Modern Library. 2 Procopius, II, 12-15. 3 Procopius, II, V, Vol, I, P. 295, Dewing. 4 Procopius II, XVI, 4-6, II, XIX, 15-20. 5 Procopius, II, XII, XIX, 32-46.

في أثناء كلامه على الحبشة في اليمن وعلى دخول الفرس إليها، كما أشار إلى الموادعة والهدنة التي عقدت بين كسرى أنو شروان والقيصر، وقد سماه "يخطيانوس" أي "جستنيان" "جستنيانوس" "Justinianus"، فقال: "وكان فيما ذكر بين كسرى أنو شروان وبين يخطيانوس ملك الروم موادعة وهدنة. فوقع بين رجل من العرب كان ملكه يخطيانوس على عرب الشأم يقال له خالد بن جبلة وبين رجل من لخم كان ملكه كسرى على ما بين عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز ومن فيها من العرب يقال له المنذر بن النعمان نائرة. فأغار خالد بن جبلة على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة وغنم أموالًا من أمواله فشكا ذلك المنذر إلى كسرى وسأله الكتاب إلى ملك الروم في إنصافه من خالد، فكتب كسرى إلى يخطيانوس يذكر ما بينهما من العهد على الهدنة والصلح ويعلمه ما لقي المنذر عامله على العرب من خالد بن جبلة الذي ملكه على من في بلاده من العرب، ويسأله أن يأمر خالدًا أن يرد على المنذر ما غنم من حيزه وبلاده ويدفع إليه دية من قتل من عربها وينصف المنذر من خالد وأن لا يستخف بما كتب به من ذلك فيكون انتقاص ما بينهما من العهد والهدنة بسببه، وواتر الكتب إلى يخطيانوس في إنصاف المنذر فلم يحفل بها. فاستعد كسرى فغزا بلاد يخطيانوس في بضعة وتسعين ألف مقاتل فأخذ مدينة دارا ومدينة الرهاء ومدينة منبج ومدينة قنسرين ومدينة حلب ومدينة أنطاكية وكانت أفضل مدينة بالشام ومدينة فامية ومدينة حمص ومدنًا كثيرة متاخمة لهذه المدائن عنوة واحتوى على ما كان فيها من الأموال والعروض وسبي أهل مدينة أنطاكية ونقلهم إلى أرض السواد"1. ويظهر من سياق هذه الرواية أن الطبري لم يكن على علم واضح بالمنذر بن النعمان ولا بخالد بن جبلة. وقد نقل روايته هذه من غير نقد ولا مناقشة، فالشخص الذي تخاصم المنذر معه هو الحارث بن جبلة، لا خالد بن جبلة. وقد وهم المورد الذي نقل الطبري منه، فظن أنه خالد بن جبلة. وهو مورد يظهر كما يتبين من سياق الحديث أنه اعتمد على كتاب من كتب التأريخ، لعله من المؤلفات الفارسية أو السريانية، وقد نقل الدينوري منه أيضًا، فذكر خالد بن جبلة2.

_ 1 الطبري "2/ 121 وما بعدها"، "2/ 149"، "دار المعارف". 2 الأخبار الطوال "70 وما بعدها".

وفي رواية الطبري عن ملك المنذر مبالغة على ما يظهر، فليس في الأخبار التي يرويها الأخباريون عن هذا الوقت رواية واحدة يفهم منها أن نفوذ الفرس قد شمل هذه الأرضين الواسعة الممتدة من الحجاز إلى ساحل الخليج، وليس فيها خبر واحد يفهم منه أن ملك المنذر قد شمل الطائف وسائر الحجاز. ولو كان ملكه قد بلغ هذه البلاد لوعت ذلك ذاكرة أهل الأخبار شيئًا عنه، إذ أنه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام. ولم تنقطع المناوشات بين الحارث والمنذر، بالرغم من الهدنة التي اتفق الفرس والروم على عقدها لمدة خمس سنوات وذلك في سنة "545م"1. فبعد مدة قصيرة من التوقيع عليها، عادت نيران الحرب فاستعرت بين الحارث والمنذر من غير أن يتدخل الفرس أو الروم في هذا النزاع، وقد تمكن المنذر من بماغتة أحد أبناء الحارث: وكان يكلئ خيله في البادية، فأسره، وقدمه على ما يقوله بروكوبيوس ضحية إلى العزى2 "Aphrodite". وبعد أن جمع كل واحد منهما كل ما يملك من قوة ومن حديد، اشتبكا في حرب جديدة انتصر فيها الحارث انتصارًا كبيرًا، وقتل عددًا كبيرًا من جنود خصمه. فلما رأى ما حل به، فر هو ومن بقي حيًّا من أتباعه، تاركًا اثنين من أبنائه في جملة من وقع في الأسر3. وقد تكون غارة قيس بن سلمة بن الحارث الكندي على الحيرة غارة انتقامية من المنذر لما أنزله بآل كندة من خسائر. ويظهر أن قيسًا قد باغت المنذر وفاجأه بغارة خاطفة اضطرته إلى الهزيمة والالتجاء إلى الخورنق مع ابنيه عمرو وقابوس. وبعد مضي عام على هذه الهزيمة، انتقم المنذر لنفسه بغارة أغارها على كندة كلفت الكنديين اثني عشر أميرًا من بني حجر بن عمرو وقعوا في أسره في مكان يسمى ذات الشقوق، ثم أمر بعد ذلك بضرب أعناقهم في الجفر، وهو الموضع الذي أطلق عليه لهذه الحادثة جفر الأملاك، وهو موضع "دير بني مرينا" الذي أشير إليه في الشعر المنسوب لامرئ القيس4. ويذكر أهل الأخبار أن الشاعر "امرأ القيس الكندي" كان في جملة من

_ 1 Procopius, II, 28, 9-11. 2 Procopius, II, 28, 12-14. 3 Procopius, II, 28, 13-14. 4 شعراء النصرانية "ص4".

وقع أسيرًا، إلا أنه أفلت من الأسر ونجا بنفسه، فقال شعرًا يرثي به من قتل، منه: ملوك من بني عمرو بن حجر ... يساقون العيشة يقتلونا فلو في يوم معركة أصيبوا ... ولكن في ديار بني مرينا ولم تغسل جماجمهم بغسل ... ولكن في الدماء مرملينا فهو يتألم ويتأفف من سقوط قومه قتلى، لا في حرب ولا في معركة، ولكن في "ديار بني مرينا"، فأية مصيبة أعظم من هذه المصيبة؟ ملوك أحرار شجعان يقتلون في مثل هذه الديار. وفي رواية أن الذين قتلوا من بني حجر آكل المرار في جفر الأملاك هم تسعة واستشهدت على ذلك بشعر للحارث بن حلزة جاء فيه: وفديناهم بتسعة أملا ... ك كرام أسلابهم أغلاء1 وأشير في قصيدة هذا الشاعر إلى الجون. وهو جون آل بني الأوس، وهو في شرح الرواة ملك من ملوك كندة، وهو ابن قيس بن معد يكرب. قالوا: وكان الجون جاء ليمنع بني آكل المرار، ومعه كتيبة خشناء، فحاربته بكر، فهزموه، وأخذوا بني الجون، فجاءوا بهم إلى المنذر، فقتلهم2. وفي بعض الروايات أن المنذر توسط لعقد الصلح بين بكر وتغلب واشترط أن أي رجل وجد قتيلًا في دار قوم فهم ضامنون لدمه، وإن وجد بين محلتين قيس ما بينهما، فينظر أقربهما إليه، فتضمن ذلك القتيل. وأخذ من الفريقين رهنًا بأحداثهم، فمتى التوى أحد منهم بحق صاحبه أقاد من الرهن3. وفي عهد هذا الملك وقع "يوم طخفة" بحسب رواية بعض الأخباريين.

_ 1 الأغاني "11/ 48" "طبعة دار الكتب المصرية"، شرح المعلقات السبع للزوزني "دار صادر" "ص166". 2 الأغاني "11/ 48" "طبعة دار الكتب"، الزوزني، شرح المعلقات السبع "ص 165". "صادر". 3 الأغاني "11/ 44" "دار الكتب المصرية".

ويذكر هؤلاء أنه وقع بسبب "الردافة" وقيل: "الرفادة". فقد كانت ردافة ملوك الحيرة في "بني يربوع"، وكانت لعتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع في عهد "المنذر بن ماء السماء". فلما توفي، صارت إلى ابنه "قيس ابن عتاب" "عوف بن عتاب الرياحي". بحكم الوراثة، وكان حديث السن، فأشار "حاجب بن زرارة" على الملك أن يجعلها لرجل كهل له سن وعقل، وأشار عليه باختيار "الحارث بن بيبة المجاشعي" "الحارث بن مرط بن سفيان ابن مجاشع"1 ولما فاتح الملك "بني يربوع" برأيه هذا: غضبوا وأبوا، وأصر الملك على رأيه، وإلا حاربهم، فأبوا واستعدا للقتال، وساروا إلى موضع "طخفة" وتحصنوا به، فأرسل المنذر في أثرهم جيشًا كبيرًا من أفناء الناس، عليه حسان أخوه وقابوس ابنه وبعث معهم الصنائع والوضائع، اشتبك مع "بني يربوع" في هذا المكان، وصبر بنو يربوع وثبتوا، ثم أغاروا على جيش المنذر، فانهزم ووقع القتل فيه، وانهزم قابوس ومن معه، وضرب طارق أبو عميرة "طارق ابن عميرة" فرس قابوس فعقره وأسره، وأراد أن يجز ناصيته، فقال: إن الملوك لا تجز نواصيها، وأسر حسانًا بشر بن عمرو بن جوين2، فعاد المنهزمون إلى المنذر، وكان المنذر قد احتبس "شهاب بن عبد "قيس" بن كياس اليربوعي" عنده، فلما رأى سوء العاقبة، استدعاه، فقال له: "يا شهاب، أدرك ابني وأخي، فإن أدركتهما حيين، فلبني يربوع حكمهم، وأرد عليهم ردافتهم، وأترك لهم من قتلوا وما غنموا، وأعطيهم ألفي بعير"، فذهب إلى قومه وأعادهما، ووفى الملك بما قال. ونجد للأحوص وللفرزدق ولأم موسى الكلابية شعرًا في هذا اليوم3. وفي عهد المنذر، كان يوم "أوارة الأول" على قول أهل الأخبار. وسببه

_ 1 نهاية الأرب "15/ 413". "22 نهاية الأرب "15/ 413"، الاشتقاق "147"، "ومنه طخفة لبني يربوع على قابوس بن المنذر بن ماء السماء"، اللسان "9/ 213"، "دار صادر" "طخف". 2 نهاية الأرب "15/ 413"، "بشر بن عمرو والرياحي"، العمدة لابن رشيق "2/ 201". 3 البلدان "6/ 32"، النقائض "1/ 66، 285"، "2/ 924"، الأغاني "3/ 176"، ابن الأثير "1/ 396"، العقد الفريد "3/ 359"، أيام العرب "94".

أن تغلب لما أخرجت "سلمة بن الحارث" عنها، التجأ إلى "بكر بن وائل" ولما بلغ بكرًا أذعنت له تغلب ودانت لحكمه، وقالت له: "لا يملكنا غيرك"، فأرسل إليهم "المنذر" يدعوهم إلى طاعته، فلم يجيبوه، فحلف المنذر ليسيرن إليهم فإن ظفر بهم ذبحهم على قلة جبل أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض، وسار إليهم بمجموعه ليبر بقسمه، والتقى بهم بأوارة، فهزمت بكر، وأسر "يزيد بن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله فقتل، وقتل خلق كثير من بكر، وأمر المنذر بذبح الأسرى الرجال على قلة جبل أوارة، وبإحراق النساء، وإلى ذلك أشار الأعشى بقوله: سبايا بني شيبان يوم أوارة ... على النار إذ تجلى به فتياتها1 وختم عام "554م" هذا النزاع العنيف الذي أتعب الحارث والمنذر فاستراح الجانبان، ختم بسقوط المنذر بن النعمان" مونذر بر نعمن" "ملك العرب" صريعًا بيد خصمه الحارث بن جبلة بعيدًا عن عاصمة ملكه، ففي منطقة قنسرين على روايات المؤرخين السريان، ففي السنة السابعة والعشرين من حكم القيصر "يوسطنيانوس" "جستنيان" "Justinianus" هاجم المنذر منطقة "Rhomaye" التابعة لحكم الروم، فنازله الحارث بن جبلة، وتغلب عليه، وقتله عند عين "عودايا" "Wdaja" في منطقة قنسرين. وقد سقط في هذه المعركة أحد أبناء الحارث، فدفنه أبوه في قلعة هذا الموضع2. و"عودايا"، هو "العذية" على رأي موسل، وهو من مواضع منطقة "بالميرينا" "Palmyrena"، أي منطقة تدمر، ومعظم هذه المنطقة هي من أعمال قنسرين3.

_ 1 الأغاني "1/ 122"، الكامل، لابن الأثير "1/ 259"، العقد الفريد "3/ 154"، العمدة لابن رشيق "2/ 215 وما بعدها"، المختصر في أخبار البشر "1/ 100"، مراصد، "1/ 127"، اللسان "4/ 35"، البكري، معجم "1/ 207"، البلدان "1/ 273"، أيام العرب "99". 2 أمراء غسان "ص 18". Bar Hebraeus, 81, Vol, I, P. 76. The English Translation, London, 1932, Michael The Syrian, Chronicle, Vol, 4, P. 323, Musil, Palmyrena, P. 144, Rothstein, S. 83. 3 Musil, Palyrena, P. 144.

وقد فهم "أوليري" من رواية للمؤرخ "ثيوفانس" أن المنذر كان حيًّا حتى سنة "562م"، وهي السنة التي عقد فيها الصلح بين الروم والفرس، وفيها توفي1. وقد ذكر "هارتمن" "Hartmann" أن المنذر هذا حارب في صفوف الرومان في أيام القيصر "طيباريوس الثاني" "Tiberius II"، غير أنه خانهم وغدر بهم في إحدى المعارك التي قادها "مرويقيوس" "Mauricius" فلما صار "موريقيوس" قيصرًا قبض عليه، ونفى معه زوجته وبعض أبنائه إلى جزيرة صقلية2. ولم يقل هذا القول أحد، وإنما قصد المورد الذي استند إليه هارتمن وهو "ايواكريوس" "Evagrius" منذرًا آخر غير المنذر الذي نتحدث عنه3. وسبق لأوليري أن ظن هذا الظن، فذكر أن المنذر حدس أن في الفرس ضعفًا، وذلك بسبب انقطاع الحروب مدة بين الفرس والروم، فانضم إلى الروم وصار حليفًا لهم، وحارب معهم. فلما تبين لديه الأمر، عاد إلى حلفائه القدامى الفرس. فلما وقع في إحدى المعارك أسيرًا في أيدي الروم، نفاه القيصر موريقيوس سنة "580م" ونفى معه زوجته وبعض أولاده إلى صقلية4. ومصدر وهمهما هو اعتمادهما على رواية للمؤرخين "ايواكريوس" "Evagrius" و" نيقيفورس كالستوس" "Nicephorus Callistus" من غير أن يمحصاها. فالمنذر المقصود في هذه الرواية ليس هذا المنذر، وإنما هو المنذر بن الحارث بن جبلة الذي نفي بعد أن اتهمه الروم باتصاله من طرف خفي بالفرس، وأنه كان السبب في إخفاق الحملة التي قادها "موريقيوس" يوم كان قائدًا، فلما صار قيصرًا، انتقم منه بالنفي. أما الذي عليه أكثر الأخباريين فهو: أن قتل المنذر كان في عين أباغ في

_ 1 O'Leary, P. 160, Theophanes, P. 205. 2 Paulys-Wissowa, Erster Halbband, S. 1281. 3 Evagrius Scholasticus, V, 20, VI, 2, Paulys-Wissowa, Erster Halbband, S. 1281. 4 O'Leary, P. 160, Evagrius, Hist. Eccl, 5, 60, 6, 2: Nicephorus Callistus, 18, 10.

المعركة التي عرفت بـ "يوم عين أباع"1. وعين أباغ بحسب وصف بعض الأخباريين واد من أودية العراق وراء الأنبار على الفرات بين الكوفة والرقة، لا يبعد كثيرًا عن الحيرة2. وسبب وقوع هذه المعركة على ما يقولونه، هو أن المنذر بن ماء السماء سار من الحيرة في معد كلها حتى نزل بعين أباغ، وأرسل إلى الحارث الأعرج بن جبلة: إما أن تعطيني الفدية فأنصرف عنك بجنودي، وإما أن تأذن بحرب. فأرسل إليه الحارث: أنظرنا ننظر في أمرنا. فجمع عساكره وسار نحو المنذر فلما التقى به في عين أباغ، اقتتلا، فقتل المنذر، وقتل فيها ابنان للحارث. فسار الحارث بولديه القتيلين إلى الحيرة، فأنهبها وأحرقها ودفن ابنيه بها ثم عاد3. ويذكر أهل الأخبار أن "عين أباغ" كانت منازل "إياد"، وأن "أباغ" رجل من العمالقة نزل ذلك المكان فنسب إليه. وقد اختلفت الأقوال في "عين أباغ فمنهم من جعلها موضعًا بين الكوفة والرقة، ومنهم من جعلها عين ماء، ومنهم من ينكر أنها عين ماء، ويرى أنها واد وراء الأنبار على طريق الفرات إلى الشأم، ومنهم من يجعلها في "ذات الخيار"4. ويظهر من تعليقات ابن الأثير على هذه المعركة أن من كان يرى أن اسم الملك الغساني الذي انتصر في هذا اليوم هو أبو شمر عمرو بن جبلة بن الحارث ابن حجر بن النعمان بن الحارث بن الأيهم بن الحارث بن مارية الغساني، أو هو رجل من الأزد تغلب على غيرهما، وقد رجح هو رواية من قال إنه الحارث

_ 1 حمزة "ص 70"، ابن الأثير، الكامل "1/ 222"، العقد الفريد 3/ 374"، ديوان الحماسة "2/ 346"، اللسان "10/ 298"، أيام العرب "51". 2 البلدان "1/ 73"، "6/ 251"، "1/ 73"، "طهران"، البكري "1/ 64"، ابن دريد، الاشتقاق "209"، الأغاني "27/ 198"، الحموي، المشترك "319"، اللسان "8/ 417". Noldeke, Hgass, 18, Rothstein, S. 2, 38. 3 ابن الأثير، الكامل "1/ 222 وما بعدها"، "1/ 320 وما بعدها" "المنيرية". أبو الفداء، المختصر "1/ 97"، ديوان النابغة "74"، البلدان "1/ 73"، ابن خلدون "الجزء الثاني"، القسم الثالث "ص 542"، "بيروت"، "حتى نزل بعين أباغ في ذات الخيار"، ابن الأثير، الكامل "1/ 320 وما بعدها". 4 أبو الفداء، المختصر" 1/ 97"، ديوان النابغة "74"، البلدان "1/ 73"، ابن خلدون "الجزء الثاني" القسم الثالث "ص 542"، "بيروت"، "حتى نزل بعين أباغ في ذات الخيار"، ابن الأثير، الكامل "1/ 320 وما بعدها".

الأعرج بن جبلة، وهي رواية أكثرية الأخباريين1. ويؤيد هذه الرواية روايات المؤرخين السريان الذين سموا اسم ملك عرب الشأم، فدعوه "حرث برجابالا" أي الحارث بن جبلة "حارث بن جبل". ويلاحظ أن ابن العبري استعمل جملة "ملك العرب" للمنذر2. كما استعملها غيره من المؤرخين. ويرى "ابن الأثير": أن "الحارث" لما بلغ "عين أباغ" أرسل إلى "المنذر" يقول: إنا شيخان هنا، فلا تهلك جنودي وجنودك، ولكن ليخرج رجل من ولدك، وليخرج رجل من ولدي، فمن قتل خرج عوضه، فإذا فني أولادك وأولادي خرجت أنا إليك، ومن قتل صاحبه ذهب بالملك. فتعاهدا على ذلك. فعهد المنذر إلى رجل من شجعانه، فأمره أن يخرج، ويظهر أنه ابن المنذر. فلما خرج، أخرج إليه الحارث ابنه "أبا بكر". فلما رآه، رجع إلى أبيه، وقال: إن هذا ليس بابن المنذر، إنما هو عبده أبو بعض شجعانه، فقال له الحارث: يا بني أجزعت من الموت؟ فعاد إليه وقاتله، فقتله الفارس، فألقى رأسه بين يدي المنذر. وعاد فأمر الحارث ابنه الآخر بقتاله والطلب بثأر أخيه، فخرج إليه، فشد عليه الفارس وقتله. فلما رأى ذلك" شمر بن عمرو الحنفي"، وكانت أمه غسانية، وهو مع المنذر، غضب، وقال للمنذر. أيها الملك، إن الغدر ليس من شيم الملوك ولا الكرام. وقد غدرت بابن عمك. فغضب المنذر. وهرب "شمر" إلى الحارث فأخبره. فلما كان الغد، أرسل الحارث أصحابه، وحرضهم، وكانوا أربعين ألفًا، واصطفوا للقتال، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وقتل المنذر وهزمت جيوشه. فأمر الحارث بابنيه القتيلين فحملا على بعير، وسار إلى الحيرة فانتهبها وأحرقها، ودفن ابنيه بها، وبنى الغريين عليهما في قول بعضهم3. والمعروف أن الذي بنى الغريين هو النعمان بن المنذر فوق قبري نديميه. وأشار حمزة أيضًا إلى اختلاف الرواة في القاتل والمقتول في يوم عين أباغ،

_ 1 ابن الأثير "1/ 222". 2 مختصر تأريخ الدول "ص148"، "بيروت 1890". Bar Hebraeus, 81, Vol, I, P. 76. 3 الكامل "1/ 320 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 374".

فقال: وقتله الحارث الأعرج، وهو الحارث الوهاب الجفني يوم عين أباغ. وهو اليوم الذي قيل فيه ما يوم حليمة بسر. وفي كتاب المعارف: أن الذي قتله الحارث الأعرج في يوم حليمة هو المنذر بن امرئ القيس. وكان يوم عين أباغ بعد يوم حليمة. والمقتول في يوم عين أباغ المنذر بن المنذر. وكان خرج يطلب بدم أبيه. فقتله الحارث الأعرج أيضًا. وقد سمعنا أن قاتله مرة بن كلثوم أخو عمرو بن كلثوم التغلبي1. وقد ذكر "ابن قتيبة" في "كتاب المعارف" أن الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأعرج، هو الذي قتل المنذر بن امرئ القيس، قتله بـ "الخيار2". ويظهر من خبره هذا أن قتل المنذر إنما كان بـ "الخيار"، لا في "يوم حليمة"، وأن "الخيار" أو "الحيار" موضع أقرب ما يكون إلى الحيرة منه إلى بلاد الشام. وهناك رواية أخرى عن مقتل المنذر بن ماء السماء نجدها مدونة في الأغاني، لم تشر إلى عين أباغ ولا إلى يوم حليمة، أو ذات الخيار، خلاصتها. أن شمرًا ابن عمرو الحنفي أحد بني سحيم هو الذي قتل المنذر بن ماء السماء، قتله غيلة لما حارب الحارث بن جبلة الغساني، فبعث إلى المنذر بمئة غلام تحت لواء شمر هذا، يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه، ويكون له من قبله. فركن المنذر إلى ذلك، وأقام الغلمان معه، فاغتاله شمر بن عمرو الحنفي، فقتله غيلة. وتفرق معه من كان مع المنذر، وانتهبوا عسكره3. وذكر "ابن دريد" أن قاتل المنذر الأكبر، وهو جد النعمان بن المنذر، يوم عين أباغ، هو "شمر بن يزيد". وهو من "بني حنيفة"، وكان في جند الملك الغساني"4. وتحدث "ابن خلدون" عن "يوم عين أباغ"، فقال: "كان جبلة بن النعمان صاحب يوم عين أباغ، يوم كانت الهزيمة له على المنذر بن ماء السماء. وقتل المنذر في ذلك اليوم"5. ولكننا نجده يقول في موضع آخر: "عمرو بن

_ 1 حمزة "ص70". 2 المعارف "ص 283" "طبعة محمد إسماعيل عبد الله الصاوي". 3 الأغاني "11/ 46" "دار الكتب المصرية"، العقد الفريد "2/ 66"، الاشتقاق "209"، البكري "1/ 64". 4 الاشتقاق "2/ 209". 5 ابن خلدون، الجزء الثاني، القسم الثالث "ص 586" "بيروت".

عمرو بن عبد الله بن عبد العزى، قاتل المنذر بن ماء السماء في يوم عين أباغ"1. وذكر أن "عمرًا" هذا هو ابن عم" علي بن ثمامة بن عمر بن عبد العزى بن سحيم بن مرة" وهو الذي توجه كسرى2. وقد ذكر أن "جبلة بن النعمان" صاحب يوم عين أباغ، كان منزله بصفين. وفي رواية أخرى أن "حليمة" كانت قد أخرجت خلوقًا، فخلقت به الفتيان. ولما خلقت أحدهم، واسمه "لبيد بن عمرو"، دنا منها فقبلها، فلطمته وبكت، فأمسكها أبوها، ثم ذهب من ذهب وفيهم "شمر بن عمرو الحنفي" وكانت أمه من غسان، إلى "المنذر" متظاهرين أنهم جاؤوا إليه ليخبروه أن الحارث يدين للمنذر، وهو يريد أن يعطيه حاجته، فتباشر أهل عسكر المنذر، وغفلوا بعض غفلة، فحمل الغلمان على المنذر وقتلوه، فقيل: "ليس يوم حليمة بسر"، فذهب مثلًا3. وذكر "ابن قتيبة" أن "الحارث ابن أبي شمر الغساني، وهو الأعرج وجه إلى المنذر بن ماء السماء مئة فارس، فيهم الشاعر "لبيد بن ربيعة"، وأمره عليهم، فصاروا إلى عسكر المنذر، وأظهروا أنهم أتوه داخلين في طاعته، فلما تمكنوا منه قتلوه وركبوا خيلهم فقتل أكثرهم ونجا لبيد، حتى أتى ملك غسان، فأخبره الخبر، فحمل الغسانيون على عسكر المنذر فهزموهم. وهو يوم حليمة. وكانت حليمة بنت ملك غسان. وكانت طيبت هؤلاء الفتيان حين توجهوا وألبستهم الأكفان والدروع وبرانس الأضريج"4. وقد جعل بعض الأخباريين عين اباغ "ذات الخيار"5، ويفيد قولهم هذا أن عين أباغ هو موضع يقع في منطقة تسمى ذات الخيار "الحيار"، ويرى "نولدكه" أن موضع "الحياران" الوراد في معلقة "الحارث" هو أيضًا هذا

_ 1 المصدر نفسه "ص 626". 2 المصدر نفسه. 3 الميداني، مجمع الأمثال "2/ 295 وما بعدها". 4 الشعر والشعراء "ص 148"، "طبعة ليدن". 5 ابن الأثير "1/ 222".

المكان1. وللتثبت من هذا القول، لا بد من الوقوف على موضع ذات الخيار "الحيار" و"الحياران". وقد ذكر ياقوت الحموي أن الحيار صقع من برية قنسرين، كان الولد بن عبد الملك أقطعه القعقاع بن خليد بينه وبين حلب يومان2. وهذا الوصف لموقع الحيار ينطبق على ما رواه المؤرخون السريان عن موضع مقتل المنذر كما يوافق رأي من جعل عين أباغ ذات الخيار. وممن ذهب هذا المذهب، "أبو الفداء"، فقال في حديثه عن "يوم عين أباغ"، "ومن أيام العرب يوم عين أباغ، وكان بين غسان ولخم، وكان قائد غسان الحارث الذي طلب أدراع امرئ القيس، وقيل: غيره. وكان قائد لخم المنذر بن ماء السماء. وقتل المنذر في هذا اليوم، وانهزمت لخم، وتبعهم غسان إلى الحيرة، وأكثروا بينهم القتل. وعين أباغ في موضع يقال له ذات الخيار"3. وذكر ابن عبد ربه المتوفي سنة 328هـ أن القتيل في يوم عين أباغ هو المنذر ابن ماء السماء وهو الذي تولى ملك الحيرة بعد قابوس وقبل النعمان بن المنذر، الذي قربه "عدي بن زيد العبادي" إلى كسرى. وأما القاتل، فهو الحارث الغساني4. ومرد أمثال هذا الاختلاف في أسماء الملوك في الروايات، إلى تشابه الأسماء إذ يصعب على الرواة، وهم يعتمدون في رواياتهم على الحفظ، أن يميزوا بعد مدة بين أمثال هذه الأسماء، فيحدث لهم مثل هذا الاضطراب. ونجد هذا الرأي عند "النويري" كذلك، إذ جعله أيضًا والد "النعمان" الملك الأخير من ملوك الحيرة، والذي قتله كسرى كما سنرى فيما بعد5. والنويري هو عيال على "ابن عبد ربه" في كثير من الأخبار، ولا سيما أخبار الأيام.

_ 1 وهو الرب والشهيد على يوم الحيارين والبلاء بلاء. المعلقة. البيت 82، شرح الزوزني "ص 169". 2 البلدان "3/ 375". 3 المختصر في تأريخ البشر "1/ 97" "بيروت". 4 العقد الفريد "6/ 110"، "5/ 260" "لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1946م". 5 نهاية الأرب "1/ 430 وما بعدها".

ويتبين من غربلة الأخبار الواردة عن "يوم أباغ"، "يوم عين أباغ" أن من الأخباريين من يرى أن يوم عين أباغ ويوم حليمة، هما يوم واحد، ولا فرق بينهما، وقالوا إنما عرف ذلك اليوم بـ "يوم حليمة"، لبروز اسم "حليمة" فيه، وهي بنت ملك غسان، تخلق المحاربين وتحثهم على القتال. وأن من الأخباريين من جعل "يوم حليمة" يومًا آخر مغايرًا ليوم عين أباغ، ثم اختلفوا فيه، فمنهم من جعله قبل يوم عين أباغ، ومنهم من جعله بعده. وقد ذكروا أنه كان يومًا عظيمًا، اشترك فيه عدد كبير من المقاتلين، "وعظم الغبار حتى قيل: أن الشمس قد انحجبت وظهرت الكواكب المتباعدة من مطلع الشمس"1. وهذا مما يدل على اشتراك عدد كبير من المقاتلين فيه. وممن ذهب إلى أن "يوم حليمة" هو يوم آخر "ابن الأثير"، وقد جعله بعد "يوم عين أباغ". وقال: أنه وقع في موضع يعرف بـ "مرج حليمة"، وسببه أن المنذر لما قتل أراد ابنه "الأسود" الأخذ بالثأر، فسار في جيش لجب، والتقى بجيش "الحارث" في "مرج حليمة". ولما طالت الحرب، أمر الحارث ابنته "هند" بأن تخلق فتيان غسان، ونادى فتيان غسان: من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هند فقال لبيد بن عمرو الغساني لأبيه: يا أبي أنا قاتل ملك الحيرة أو مقتول، ثم ركب فرسه، وشد على الأسود، فقتله، وانهزمت لخم ثانية، وقتلوا في كل وجه. وانصرفت غسان بأحسن ظفر في تفاصيل أخرى لا مجال لشرحها هنا2. فيتبين من خبر "ابن الأثير" هذا أن الموضع الذي وقع فيه القتال اسمه "مرج حليمة"، وأن اسم ابنة الحارث هو "هند" لا حليمة، وأن المقتول فيه هو "الأسود" لا المنذر، وأن هذا اليوم قد وقع بعد "يوم عين أباغ". وفي رواية أن الغساسنة تمكنوا في المعركة التي سقط فيها المنذر من أسر أحد أبنائه وهو امرؤ القيس، وبقي في أسرهم على أن أغارت بكر بن وائل على بعض بوادي الشام، فقتلوا ملكًا من ملوك غسان، واستنقذوا امرأ القيس بن المنذر، وأخذ عمرو بن هند بنتًا لذلك الملك يقال لها ميسون3. وقد ذهب "كوسان دي برسفال" إلى أن هذه الغارة كانت بقيادة أحد أبناء المنذر القتيل، وأنها

_ 1 البلدان "2/ 325 وما بعدها"، أبو الفداء، المختصر "1/ 97". 2 الكامل "1/ 320 وما بعدها". 3 الأغاني "11/ 48".

كانت عارة انتقامية وقعت بعد المعركة التي سقط فيها ابن ماء السماء1. وقد أشار الحارث بن حلزة إلى ذلك في شعره مفتخرًا: وفككنا غل امرئ القيس عنه ... بعد ما طال حبسه والعناء وقد زعم الشراح أن امرأ القيس هذا كان معروفًا بماء السماء2 أما الملك الغساني القتيل، فلم يشيروا إلى اسمه، وأشك في الذي رواه الأخباريون من أنه كان ملكًا. وأرى احتمال كونه أحد أبناء الملوك. واستعمال جملة "رب غسان"، هي من باب التفخيم للعمل الذي قامت به بكر. وذكر بعض الرواة أن حجرًا الكندي، وهو في نظرهم حجر بن أم قطام، غزا امرأ القيس هذا، وكانت مع حجر جموع كثيرة من كندة، غير أن بكرًا التي كانت مع امرئ القيس قاتلته، وقتلت جنوده3. وذهب بعض الأخباريين إلى أن مقتل المنذر بن ماء السماء هو في يوم حليمة، قتله الحارث بن أبي شمر الغساني. وسبب تسمية ذلك اليوم بيوم حليمة أن حليمة ابنة الحارث كانت تخلق قومها وتحرضهم على القتال في ذلك اليوم. وذهب آخرون إلى أنه موضع4. وفي رواية تنسب إلى ابن الأعرابي أن بني تغلب حاربوا المنذر بن ماء السماء، ولكنهم غلبوا على أمرهم، فلحقوا بالشأم خوفًا منه. وبقوا هناك، فمر بهم عمرو بن أبي حجر الغساني في رواية، أبو الحارث بن أبي شمر الغساني في رواية أخرى، فلم يستقبلوه، فانزعج من ذلك، وتوعدهم، وأن عمرو بن كلثوم نهاه عن ذلك5. وقد روى بعض أهل الأخبار أبياتًا من الشعر، زعموا أن ابنة المنذر قالتها في رثاء والدها، ففي جملتها:

_ 1 Caussin, Essai, II, 116. 2 الأغاني "11/ 48 وما بعدها" "دار الكتب المصرية". 3 الأغاني "11/ 49" "دار الكتب المصرية". 4 البلدان "3/ 320"، الكامل، لابن الأثير "1/ 326 وما بعدها". 5 الأغاني "11/ 57 وما بعدها".

وقالوا فارسًا منكم قتلنا ... فقلنا الرمح يكلف بالكريم بعين أباغ قاسمنا المنايا ... فكان قسيمها خير القسيم1 وينسب إلى المنذر بناء الغريين في بعض الروايات، وكان السبب في ذلك كما يقول الأخباريون أنه كان له نديمان من بني أسد يقال لأحدهما خالد بن نضلة "مضلل" "خالد بن المضلل" والآخر عمرو بن مسعود" عمرو بن مسعود الأسدي"، فثملًا، فراجعا الملك ليلة في بعض كلامه، فأمر وهو سكران فحفر لهما حفيرتان فدفنا حيين. فلما أصبح استدعاهما، فأخبر بالذي أمضاه فيهما، فغمه ذلك، وقصد حفرتهما، وأمر ببناء طربالين عليهما، وهما صومعتان، فقال المنذر: ما أنا بملك إن خالف الناس أمري، لا يمر أحد من وفود العرب إلا بينهما، وجعل لهما في السنة يوم بؤس ويوم نعيم، يذبح في يوم بؤسه كل من يلقاه ويغري بدمه الطربالين، ويحسن في نعيمه إلى كل من يلقى من الناس ويحملهم ويخلع عليهم. وقد ظل المنذر على عادته هذه إلى أن حدث له حادث، أظهر فيه رجل ظهر يوم بؤسه وفاءً عظيمًا، فعفا عنه، وترك تلك العادة وتنصر، وكان الرجل الذي بر بوعده فحضر بعد عام ليأخذه سيف الجلاد نصرانيًّا، ولذلك تنصر المنذر. وذكروا أنه لم يكن يتورع من ذبح أعز الناس عليه إذا ظهر له يوم بؤسه. فلما ظهر الشاعر الشهير عبيد بن الأبرص الأسدي، لم ينجه شعره من مصير ذلك اليوم2. وذكروا أن الرجل كاد يسلمه سوء طالعه إلى يد الجلاد، هو حنظلة الطائي، وأنه ترهب بعد هذا وابتنى ديرًا له هو الدير المعروف بدير حنظلة. وأما الذي كفل ذلك الرجل حتى يعود بعد عام، فرجل من أشراف القوم هو شريك بن عمرو، وذكروا أيضًا أن حنظلة هذا هو عم أياس بن قبيصة الطائي ملك الحيرة3.

_ 1 اللسان "8/ 417" "بيروت". 2 البلدان "6/ 283 وما بعدها"، الأغاني "5/ 213" "دار الكتب المصرية"، البكري، معجم "ص694. "طبعة ليدن"، ابن قتيبة. الشعر "ص 144"، الأغاني "19/ 86"، القالي، الأمالي "3/ 195"، "طبعة دار الكتب المصرية"، "ابن هشام "1/ 401"، شرح قصيدة ابن عبدون "132"، شعراء النصرانية "ص600"، الحور العين، للحميري "ص 76". رسالة الغفران "182"، طبقات ابن سلام "31". 3 شعراء النصرانية "ص 89".

وورد في بعض الروايات أن "المنذر بن ماء السماء"، خرج في يوم بؤسه، وكان يومًا يركب فيه فلا يلقى أحدًا إلى قتله، فلقي في ذلك اليوم "جابر بن رألان" أحد "بني ثعل" ومعه صاحبان، فأخذتهم الخيل بالثوية، فأتى المنذر فقال: اقترعوا، فأيكم قرع، خليت سبيله، وقتلت الباقين. فاقترعوا فقرعهم جابر، فخلى سبيله، وقتل صاحبيه، فلما رآهما يقادان ليقتلا، قال عز بز. ورووا في ذلك شعرًا نسبوه إلى جابر1. ومن الأخباريين من نسب بناء الغريين إلى النعمان الثالث. ومنهم من نسبهما إلى جذيمة، وذهب آخرون إلى نسبة الغري إلى الحارث الغساني2. ويرينا هذا الاختلاف مبلغ جهلهم بأصل الغريين. وقد ذكر "النويري" أن الغريين أسطوانتان كانتا بظاهر الكوفة، بناهما "النعمان بن المنذر بن ماء السماء" على جاريتين كانتا قينتين تغنيان بين يديه، فماتتا، فأمر بدفنهما، وبنى عليهما الغريين. وذكر أيضًا أن "المنذر غزا الحارث ابن أبي شمر الغساني، وكان بينهما وقعة عين أباغ، وهي من أيام العرب المشهورة، فقتل للحارث ولدان، وقتل المنذر، وانهزمت جيوشه، فأخذ الحارث ولديه وجعلهما عدلين على بعير، وجعل المنذر فوقهما، وقال: ما العلاوة بدون العدلين؟ فذهبت مثلًا، ثم رحل إلى الحيرة، فانتهبها وحرقها، ودفن ابنيه بها، وبنى الغريين عليهما". وقد ذكر أن "المنصور" أمر بهدم أحدهما، لكنز توهم أنه تحتهما، فلم يجد شيئًا3. وهذا الذي يرويه أهل الأخبار عن سبب بناء الغريين، هو من القصص الذي ألفناه، وعودنا أصحاب الأخبار سماعه، فلا قيمة تأريخية له في نظرنا، وإن أكد لنا الأخباريون أو حاولوا التأكيد بأنه حق، وأنه أمر مسلم به وشائع معروف، وأن عبيدًا لقي حتفه لظهوره يوم بؤس المنذر أو النعمان. وقد يكون ذلك مسلمًا به عندهم، غير أننا لسنا من السذاجة بحيث نصدق بأمثال هذا القصص لمجرد أنه شائع معروف، فليس كل شائع معروف أمرًا صحيحًا يجب الأخذ به.

_ 1 الفاخر "ص73". 2 Rothstein, S. 140. 3 نهاية الأرب "1/ 387".

ونحن لا نريد أن ننكر وجود الغريين، فليس إلى نكرانهما أو نكران "الغري" من سبيل. ولكننا كما قلت ننكر هذا القصص الذي يرويه الأخباريون عن هذين الغريين؛ لأنه قصص نشأ كما نشأ أمثاله عن جهل الناس أو أهل الأخبار بأصول الأشياء، فلما احتاجوا إلى معرفة الأسباب، أوجدت لهم مواهبهم هذا القصص الطريف، وهو أمر لم ينفرد به زمان دون زمان، فما زال الناس يبتدعون قصصًا ثم يروونه، ويتناقلونه على أنه شائع صحيح. مع أن تأريخ ابتداعه لا يبعد عن زماننا بكثير، وأهل الحي بهذا القصص عارفون. أما أن الغريين حفرتان دفن في كل حفرة منهما رجل حي؛ لأنه عربد وسكر، وتحدث بكلام غاظ الملك، وما أشبه ذلك من قصص، فأمر لا نستطيع أن نقف منه موقفًا إيجابيًّا، ولا نسلم به. ففيه شيء من أثر الصنعة والتكلف، ولكننا نستطيع أن نقول أن الغري أو الغريين من المواضع التي كانت لها صلة بعبادة الأوثان، ومن الجائز أنهما كانا مخصصين لتقديم الذبائح والقرابين في المواسم الدينية وفي الأعياد. وقد عرفت مثل هذه العادات عند شعوب أخرى، فكانت تهرق دماء الذبائح عند الأنصاب ثم تطلى بها، وما الغريان إلا نصبان من هذه الأنصاب. على أن الأخباريين أنفسهم قد ذكروا أن الغري نصب كان يذبح عليه العتائر، كما ذكروا أن الغريين كانا طربالين، والطربال صومعة على رأي، وشيء مرتفع عند الأكثرين1. فلا يستبعد أن يكون الغريان موضعين من مواضع ذبح القرابين للأصنام. ويذكر أهل الأخبار أن "شريك من مطر"، وهو جد "معن بن زايدة"، كان من أكبر الناس عند المنذر. وكان له ولد اسمه "الحارث" ويلقب بـ "الحوفزان" وهو من بني "شيبان"2.

_ 1 البلدان "6/ 282". 2 الاشتقاق "ص 215".

الفصل الثامن والثلاثون: عمرو بن هند

الفصل الثامن والثلاثون: عمرو بن هند مدخل ... الفصل الثامن والثلاثون: عمرو بن هند والذي خلف المنذر على ملك الحيرة بعد وفاته، هو ابنه عمرو بن هند المعروف بـ "مضرط الحجارة"، وهو لقب يشير بالطبع إلى قوة ابن هند وشدة بأسه، وقد عرف عمرو بأمه "هند بنت عمرو بن حجر الكندي آكل المرار"، فهو كندي من جهة أمه، وعرف أيضًا بـ "محرق الثاني" على رواية حمزة1، وبـ "المحرق" في رواية لغيره2. وقد كان له من الأشقاء من أمه: قابوس والمنذر. ويرى بعض الباحثين احتمال كون "هند" من "آل غسان"، وإليها ينسب دير هند. ويرى أن حكم ابنها عمرو كان فيما بين السنة "554" والسنة "569م". وزعم ابن الأثير أن الذي تولى الملك بعد المنذر بن ماء السماء هو ابنه المنذر ابن المنذر بن ماء السماء المعروف بـ "الأسود"، وأنه لما استقر الأسود وثبت قدمه جمع عساكره وسار إلى الحارث الأعرج طالبًا بثأر أبيه، ونزل برج حليمة، ووصل الحارث إلى هذا الموضع كذلك، واقتتل الطرفان أيامًا ولم ينتهيا إلى

_ 1 حمزة "ص 72"، معجم الشعراء "ص 205 وما بعدها"، مفاتيح العلوم "69". 2 شرح ديوان لبيد "263".

نتيجة. فلما رأى الحارث طول الوقت، نادى في فتيان غسان: "يا فتيان غسان من قتل ملك الحيرة زوجته ابنتي هندًا". فلما سمع ذلك لبيد بن عمرو الغساني، شد على الأسود فقتله، وانهزم أصحابه، فنزل لبيد واجتز رأس الأسود، وأقبل به إلى الحارث، فألقى الرأس بين يديه، فوافق الحارث على إعطاء لبيد ابنته، ثم إن لبيدًا انصرف ليواسي أصحابه، فرأى أخًا للأسود يقاتل الناس، فتقدم لبيد فقاتل فقتل، ولم يقتل في هذه الحرب بعد تلك الهزيمة غيره. وانهزمت لخم ثانية، وكثر فيها القتل. وذكر الأخباريون أن هذا اليوم هو من أيام العرب الكبرى إذ سار الأسود بجمع من عنده من عرب العراق، وأقبل الحارث بجميع من كان عنده من عرب الشأم. فجعلت هذه الرواية بعد المنذر ابنه المنذر الأسود وجعلته صاحب مرج حليمة1. وتذكر رواية أن جيش الحارث الأعرج بن جبلة أسر كثيرًا ممن كان مع المنذر من العرب، وفيهم مئة من تميم، فيهم شأس بن عبدة. ولما سمع أخوه علقمة، وفد إلى الحارث مستشفعًا وأنشده قصيدة مدح طويلة، فمن عليه، وأطلق له الأسرى من تميم، وكساه وحباه2. وهناك رواية أخرى عن مقتل المنذر بن المنذر، خلاصتها: أن الحارث بن أبي شمر جبلة بن الحارث الأعرج خطب إلى المنذر ابنته هندًا، وقصد انقطاع الحرب بين لخم وغسان فوافق المنذر على ذلك. غير أن هندًا أبت عليه ذلك، فحقد الحارث على آل لخم. فلما خرج المنذر غازيًا، بعث الحارث جيشًا إلى الحيرة، فانتهبها وأحرقها، فانصرف المنذر عن غزاته وسار يريد غسان. وبلغ الخبر الحارث، فجمع أصحابه وقومه، فسار بهم، فتوافقوا في عين أباغ. فاصطفوا للقتال، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وحلمت ميمنة المنذر على ميسرة الحارث وفيها ابنه، فتقلوه وانهزمت الميسرة. وحملت ميمنة الحارث على ميسرة المنذر، فانهزم من بها وقتل مقدمها "فروة بن مسعود بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل ابن شيبان"، وحملت غسان من القلب على المنذر فقتلوه، وانهزم أصاحبه في كل وجه، وقتل منهم خلق كثير، منهم ناس من بني تميم، ومن بني حنظلة،

_ 1 ابن الأثير "1/ 223 وما بعدها، 225"، البلدان "3/ 330". 2 أيام العرب "55 وما بعدها".

241 ووقع عدد في الأسر، ومن هؤلاء الأسرى: "شأس بن عبدة" شقيق علقمة ابن عبدة من شعراء الجاهلية المعروفين. فالقتيل في هذه المعركة وعلى هذه الرواية إذن هو المنذر بن المنذر بن ماء السماء، لا المنذر بن ماء السماء. وقد تشكى ابن الأثير كما تشكى قبله حمزة من اختلاف الأخباريين في الروايات، ومن تضارب الروايات بعضها ببعض، ومن تقديم الأيام وتأخيرها، وفي الشخص المقتول، فذكر أن من الأخباريين من يقول أن يوم حليمة هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن ماء السماء، ويوم أباغ هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن المنذر، ومنهم من يقول بضد ذلك، ومنهم من يجعل اليومين واحدًا، فيقول لم يقتل إلا المنذر بن ماء السماء، وأما ابنه المنذر فمات بالحيرة. وقيل أن المقتول من ملوك الحيرة غيرهما. وقد رجح ابن الأثير رواية القائلين أن المقتول هو المنذر بن ماء السماء، ورجح أيضًا رواية من يقول إن المنذر بن المنذر لم يقتل، وإنما مات حتف أنفه1. ويذكر أن "علقمة بن عبدة" الشاعر الجاهلي، ذهب إلى الحارث، فمدحه بقصيدة شهيرة، رجاء استعطاف الملك، ليمن عليه بالعفو عن أخيه، فيفكه من أسره، فاستحسن الملك شعره وفرح به، ومن عليه بفك أسره، وبفك أسر جميع من وقع من قومه في الأسر. فلما عادوا إلى ديارهم، أعطوا شأسًا أموالًا وأكسيةً وإبلًا، فحصل من ذلك له مال كثير2. وفي يوم "حليمة" ورد المثل. "ما يوم حليمة بسر"3. أعود بعد الكلام على "المنذر بن المنذر" إلى الحديث عن عمرو بن هند شقيقه، فأقول: يظهر من هذه الروايات المذكورة عنه، ومن هذا الشعر الوارد اسمه فيه، أنه كان رجلًا سريع الانفعال، يتألم بسرعة مما يقال له، ولذلك حدثت له مشكلات عديدة لم تكن لتحدث لولا هذا الحس المرهف عنده، الذي جعله عرضة لهجو الشعراء، والشعراء ألسنة الناس وأبواق الدعاية في ذلك العهد، وقصته مع طرفة بن العبد والمتلمس معروفة مشهورة4.

_ 1 ابن الأثير "1/ 225". 2 ابن الأثير "1/ 326 وما بعدها". 3 مجمع الأمثال، للميداني: "2/ 408". 4 "صحيفة المتلمس"، الأغاني "21/ 194"، خزانة الأدب "1/ 412"، اليعقوبي "1/ 172"، الفاخر "ص 60"، شعراء النصرانية "ص 337".

ويصفه أهل الأخبار بالشدة والصرامة، بل جعلوه شريرًا، وزعموا أنه كان له يوم بؤس ويوم نعيم، فيوم يركب في صيده يقتل أول من لقي، ويوم يقف الناس ببابه فإن اشتهى حديث رجل أذن له، فكان هذا دهره1. وقالوا: إنه كان لا يبتسم ولا يضحك. وكانت العرب تسميه "مضرط الحجارة" لشدة ملكه، وكانوا يهابونه هيبة شديدة، وكان عاتيًا جبارًا ويسمى محرقًا أيضًا؛ لأنه حرق بني تميم، وقيل: بل حرق نخل اليمامة2. وقد وصف الشاعر "الرهاب العجلي" الملك "عمرو بن هند" بأنه ملك "يعتدي ويجور" وذلك في معرض وصفه للسدير3. وقد أصحبت الحيرة موئل الشعراء في أيام عمرو بن هند، فلأكثر مشاهير الشعراء الجاهليين خبر مع هذا الملك، كانوا يحضرون إليه من أماكن نائية لإنشاده شعرهم ولنيل جوائزه، ولم تكن مجالسه لتخلو من منافسة الشعراء بعضهم لبعض، ومن نقد بعضهم شعر بعض، كالذي حدث بين طرفة والمسيب بن علس على ما يذكره الأخباريون4. وقد كانت لمثل هذه المنافسات أهمية كبيرة في مجتمع ذلك اليوم، لما كان لها من أثر في نفوس القبائل، وطالما أدت إلى غضب القبائل وغضب الملك نفسه، وغضب الشعراء على منافسيهم وعلى الملك، لاعتقادهم بتحزبه لأحد الخصمين. وذكر بعض الرواة أن سبب هجاء "طرفة" عمرو بن هند أن عمرو بن هند كان يتباطأ في مجلسه في استقبال الناس. فإذا جلس لشرابه، أخذ الناس بالوقوف على بابه حتى ينتهي من مجلس أنسه، فيسمح عندئذ لذوي الحاجات بالدخول عليه، كما كان يصرف وقته بالتلهي بالصيد والقنص، مما جعل وقته

_ 1 شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، للأنباري "ص 122"، العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين "ص317". 2 خزانة الأدب "1/ 417"، شعراء النصرانية "1/ 305". 3 أبى القلب أن يهوى السدير وأهله ... وإن قيل: عيش بالسدير غرير فلا أنذر الحي الذي نزلوا به ... وإني لمن لم يأته لنذير به البق والحمى وأسد خفية ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور الأغاني "21/ 295" "القسم الثاني"، بيروت "1957". 4 شعراء النصرانية "ص 304، 350 وما بعدها".

يضيق عن استقبال الناس، فصاروا يتكالبون على بابه ليجدوا وقتًا يدخلون فيه عليه، فاستاء طرفة من هذه المعاملة. وقال شعرًا يهجوه فيه، كان في جملة ما جاء فيه. فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثًا حول قبتنا تخور لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير قسمت الدهر في زمن رخي ... كذلك الحكم يقصد أو يجور فبلغ الشعر "عمرو بن هند"، أبلغه إياه "عبد عمرو"، وكان من سادات الناس في زمانه، وكان زوج أخت "طرفة"، وقد هجاه "طرفة" أيضًا. فلما أنشد "عمرو بن هند" هجاء طرفة له على سبيل المزاح والاستخفاف بشأنه، قال له "عبد عمرو": أبيت اللعن! ومما قال فيك أشد مما قال في فأنشده الأبيات. فقال عمرو بن هند: أو قد بلغ من أمره أن يقول في مثل هذا الشعر. فكتب إلى رجل من عبد القيس بالبحرين، وهو المعلى ليقتله. فقال له بعض جلسائه: إنك إن قتلت طرفة، هجاك المتلمس وهو رجل مسن مجرب، وكان حليف طرفة، وكان من بني ضبيعة. فأرسل عمرو إلى طرفة والمتلمس فكتب لهما إلى عامله بالبحرين ليقتلهما، وأعطاهما هدية من عنده وحملهما، وقال1: قد كتبت لكما بحباء، فأقبلا حتى نزلا الحيرة، وارتاب المتلمس بأمر الصحيفة واستقبال عمرو لهما، ففك ختمها وعرضها على غلام من أهل الحيرة، فقرأها، فإذا فيها أمر بقتله، فأخذ الصحيفة فقذفها في البحيرة وقال: وألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك ألقي كل رأي مضلل وأشار على طرفة بفك خاتم صحيفته أيضًا ليقرأها له، ولكنه أبى، وذهب إلى صاحب البحرين، فوجد هناك نهايته في قصص منمق محبر يرويه أهل الأخبار2.

_ 1 الشعر والشعراء "ص89 وما بعدها"، "ليدن". 2 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص42 وما بعدها"، الأغاني "21/ 125". ديوان طرفة بن العبد "ص9". شرح القصائد العشر، للزوزني "10"، الشعر والشعراء "ص85 وما بعدها".

ويذكر بعض أهل الأخبار أن قبر طرفة بهجر، وهو معروف هناك1. وللشاعر "طرفة بن العبد" شعر يعاتب به "عمرو بن هند"، ويحرضه فيه على الطلب بحق أخيه "معبد"، الذي أغير على إبل له، وكانت في جوار "عمرو بن هند" فانتهبت. ويقول فيه: نحن في طاعتك، ومضر في طاعتك، فما بالنا أغير علينا، وكلنا ندين لك2. ولطرفة شعر في هجاء "قابوس" كذلك، ونرى بعض الأخباريين ينسبون إليه يومين: يومًا يصيد فيه، ويومًا يشرب فيه، فيقف الناس ببابه حتى يأذن لهم بالدخول إليه، ولذلك سئم منه طرفة فهجاه وهجا عمرو بن هند شقيقه معه3. وينسب بعض أهل الأخبار هذه القصة إلى عمرو بن هند. ويتبين من حديث الأخباريين عن صحيفة المتلمس، ومن قصة نهاية طرفة في البحرين، أن البحرين كانت تابعة في ذلك العهد لملك الحيرة، وأن حاكمها كان عاملًا لعمرو بن هند4. وقد ورد في رواية أن اسم عامل عمرو بن هند هو "أبو كرب ربيعة بن الحرث"، وهو من ذوي قرابة "طرفة" فلما علم بخبر "طرفة" لم يقتله، وكتب إلى "عمرو بن هند" أنه لن يقتله، وقد اعتزل عمله5. فعين عمرو عاملًا آخر مكانه اسمه في بعض الروايات "عبد هند". وتقول رواية أخرى أن قاتل طرفة هو "المكعبر" عامل البحرين، قتله بكتاب عمرو بن هند6. وكان "المكعبر" عامل عمرو بن هند على عمان والبحرين على رواية هؤلاء الرواة7. وتزعم رواية أخرى أن الذي قتله رجل من "الحواثر"

_ 1 خزانة الأدب، "1/ 416"، مجمع الأمثال "1/ 412"، الأغاني "23/ 523 وما بعدها" "بيروت 1955م"، أمالي المرتضى "1/ 183 وما بعدها". الشعر والشعراء "131 وما بعدها". 2 لعمرك ما كانت حمولة معبد على جدها حربا لدينك من مضر المعاني الكبير "2/ 1118"، شرح القصائد العشر "ص 182". 3 شعراء النصرانية "1/ 305". 4 البطليوسي. الاقتضاب "104"، شعراء النصرانية "ص 321، 330 وما بعدها"، شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص 42 وما بعدها"، "دار صادر"، البلدان "7/ 208". 5 مجمع الأمثال "1/ 412 وما بعدها". 6 معجم الشعراء "ص 201"، الأغاني "3/ 524". 7 شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، للأنباري "ص 116"، الشعر والشعراء "ص 91".

اسمه "التربيع بن حوثرة" "أبو ريشة" "أبو رائشة الحوثري" وكان "عمرو بن هند" قد اختاره وعينه على البحرين: حين همت "بكر بن وائل" بعامل "عمرو بن هند". وتزعم رواية أخرى، أن قاتله هو "المعلي بن حنش العبدي" وأن الذي تولى قتله بيده هو "معاوية بن مرة الأيفلي" من "حي صسم وجديس"1. وفر المتلمس إلى بلاد الشأم حيث الغساسنة أعداء المناذرة، وصار يمدحهم ويهجو عمرو بن هند، واستقر بـ "بصرى" إلى أن هلك. وقد خلف ولدًا اسمه "عبد المنان". وهناك قصص عن كيفية عودته إلى زوجته، وعن وصوله إليها ساعة عقد قرانها لرجل جديد في كنيسة، لظن أهلها أنه كان قد مات2. وقد سخر "المتلمس" في أشعاره من "عمرو بن هند"، وأقذع في هجائه حتى قال فيه: ملك النهار فأنت الليل مومسة ... ماء الرجال على فخذيك كالقرس ووصفه فقال: إنه "أخنس الأنف"، وأن أضراسه كالعدس، إلى غير ذلك من هجاء مر شديد. وأود أن أبين أن من الرواة من ينسب هذا الهجاء إلى شاعر آخر، قالوا إن اسمه "عبد عمرو بن عمارة"، وذكروا أنه قاله في هجاء "الأبيرد الغساني"3. ويظهر من رسالة الغفران، أن للناس أقاويل في مقتل "طرفة"، ورد فيها:

_ 1 ديوان طرفة بن العبد "ص5" "كرم البستاني"، الشعر والشعراء لابن قتيبة "137، 144". 2 راجع عن طرفة. الأغاني "21/ 120 وما بعدها"، شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، للأنباري "ص115 وما بعدها"، شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص98"، رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري "ص 326 وما بعدها"، "تحقيق الدكتورة بنت الشاطئ"، طبقان ابن سلام "16"، الشعر والشعراء "ص88"، شعراء النصرانية، للويس شيخو، "ص 298 وما بعدها"، شرح ديوان الحماسة، للمرزوقي، ديوان طرفة. بيروت، شرح المعلقات السبع للزوزني "دمشق 1963م"، خزانة الأدب، للبغدادي "1/ 414" الحيوان "3/ 66"، معجم الشعراء، للمرزباني "ص201 وما بعدها"، المؤتلف والمختلف، للآمدي "ص 146". 3 قولا لعمرو بن هند غير متئب ... يا أخنس الأنف والأضراس كالعدس الأغاني "1 من القسم الثاني ص 293"، الأغاني "14/ 30".

"ولقد كثرت في أمرك أقاويل الناس: فمنهم من يزعم أنك في ملك النعمان اعتقلت، وقال قوم: بل الذي فعل به ما فعل عمرو بن هند"1. وتطرق "الشريف المرتضى" في أماليه إلى موضوع قتل "عمرو بن هند" لطرفة، فذكر أن عامل البحرين يومئذ هو "المعلى بن حنش العبدي" وذهب إلى احتمال كون قاتل "طرفة" هو "النعمان بن المنذر"، استدل على ذلك بقول طرفة: أبا منذر كانت غرورًا صحيفتي ... ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض قال: "وأبو المنذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة النعمان فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان"2. هذا وللمتلمس أشعار في هجاء "عمرو بن هند"، وقد ظل يهجوه إلى أن توفي وهو في الغربة في بلاد الشأم. وفي جملة ما قاله فيه. أطردتني حذر الهجاء ولا ... والله والأنصاب لا تئل فهو يعيره بأنه إنما أبعده عنه وطرده؛ لأنه كان يهجوه؛ ولأنه كان يحذر هجاءه ويقول في أبيات أخرى. ألك السدير وبارق ... ومرابض ولك الخورنق والقصر ذو الشرفات من ... سداد والنخل المسبق فلئن تعشق فلتبلغن ... أرماحنا منك المخنق3 وللشاعر "سويد بن خذاق" شعر في هجاء "عمرو بن هند"، وهو أخو الشاعر "يزيد بن خذاق"، وهما من "عبد القيس". وذكر أن "يزيد بن

_ 1 رسالة الغفران "338". 2 أمالي المرتضى "1/ 183، 185" مجمع الأمثال "1/ 350 وما بعدها"، ديوان المتلمس "172 وما بعدها". 3 شعراء النصرانية "3/ 339".

خذاق"، كان أول من ذم الدنيا في شعر1. وفي جملة ما قاله "سويد" في هجاء "عمرو بن هند"، قوله: أبى القلب أن يأتي السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غزير به البق والحمى وأسد خفية ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور و"المنخل اليشكري" من معاصري "عمرو بن هند" كذلك. وكان يشبب بـ "هند" أخت "عمرو بن هند"، واتهم بامرأة لعمرو بن هند، فقتله على رواية2. وذكر أنه اتهم بالمتجردة امرأة النعمان بن المنذر، وأنه كان ينادم النعمان، وهو الذي أوقع فيما بينه وبين النابغة لحقده عليه، حتى سبب في فرار النابغة إلى "آل غسان" ليخلص نفسه من غضب النعمان عليه3، ومعنى هذا أن "عمرو بن هند" لم يقتله بل عاش إلى أيام النعمان. وقد مدح "المثقب العبدي" "عمرو بن هند" وكان في زمانه، بقوله: غلبت ملوك الناس بالحزم والنهى ... وأنت الفتى في سورة المجد ترتقي ونجب به من آل نصر سميدع ... أغر كلون الهندواني رونق ونعته بالحلم والرزانة "والحلم الرزين"، وبالفعلات4. وقد عد "ابن قتيبة" الشعراء الذين عاصروا "عمرو بن هند" من قدماء شعراء الجاهلية. فلما تحدث عن الشاعرين "سويد" و"يزيد"، قال: "وهما قديمان كانا في زمن عمرو بن هند"5. ولما تحدث عن "المثقب العبدي" قال عنه": "وهو قديم جاهلي. كان في زمن عمرو بن هند"6. وعد "المنخل اليشكري" من قدماء الشعراء الجاهليين، فقال عنه "وهو قديم جاهلي"7.

_ 1 الشعر والشعراء "ص 228". 2 "وقتله عمرو بن هند. وقال قبيل قتله ... "، الشعر والشعراء "ص239". 3 الشعر والشعراء "ص 238". 4 الشعر والشعراء "ص 234". 5 الشعر والشعراء "ص 228". 6 الشعر والشعراء "ص 234". 7 المصدر نفسه "ص 238".

ويجب أن نتذكر أن الشاعر "امرؤ القيس" كان أيضًا من معاصري "عمرو بن هند"، وهو شاعر جاهلي قديم، في نظر علماء الشعر، فيكون زمن أقدم شعر جاهلي، وصل خبره إلينا، هو النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، أي في سنين لا تبتعد كثيرًا عن زمن ميلاد الرسول، كما سأتحدث عن ذلك في القسم الخاص بالناحية الثقافية للعرب قبل الإسلام. وورد في إحدى قصائد الأعشى ما يفيد اتساع ملك عمرو بن هند وجباية كل ما بين عمان و"ملح" له1. ويذكر بعض الرواة أن المراد بـ "عمان" هنا "عمان" بلاد الشأم، وأما "ملح" ففي اليمامة من بلاد بني جعدة2. ويذكر بعض الأخباريين أن عمرو بن هند كان على "بقة" يدير أعمالها في أيام أبيه المنذر، وإليه لجأ امرؤ القيس الشاعر المعروف مستجيرًا به؛ لأنه كان ابن عمته، فأجاره، ومكث عنده زمانًا. فلما سمع به المنذر، وكان يتعقبه، طلبه من ابنه، فأنذره عمرو، فهرب حتى أتى حمير مستجيرًا3. وقد نسب إلى ابن هند غزوة غزا بها تغلب، فقيل: طلب "عمرو" من بني تغلب، حينما تولى الملك مساعدته على أخذ الثأر من بني غسان قتلة أبيه، وكانوا انحازوا عنه، وطلب منهم الرجوع إلى طاعته والغزو معه، فأبوا، وقالوا: مالنا نغزو معك. نحن رعاء لك فغضب عمرو بن هند، وجمع الجموع. فلما تهيأت، كان أول عمل قام به غزو تغلب، فأوجعهم وآذاهم، انتقامًا منهم، لامتناعهم عن نصرته ومعاضدته4. وقد أشار إلى هذا الحادث "الحارث بن حلزه اليشكري"5 الشاعر الجاهلي أحد أصحاب المعلقات. ويذكر أهل الأخبار أن "الحارث بن حلزة" حضر مجلس "عمرو بن هند"،

_ 1 آفقا يجبى إليه خرجه ... كل ما بين عمان فملح ديوان الأعشى "القصيدة 36، البيت9". 2 ديوان الأعشى "ص 160" "طبعة كاير "Geyer"، "ص237" "طبعة الدكتور م. محمد حسين"، البلدان "8/ 147". 3 الأغاني "8/ 67". 4 الأغاني "9/ 173" "11/ 47" "ط. دار الكتب المصرية". 5 كتكاليف قومنا إذ دعا المنذر ... هل نحن لابن هند رعاء المعاني الكبير "2/ 1012"، شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص 162" "طبعة صادر".

وأنشده معلقته، أنشده إياها من وراء سبعة ستور، وذلك لبرص به. وكان الملك يأمر بعد خروج "الحارث" بغسل أثره بالماء، كما يفعل بسائر البرص. فلما أنشده قصيدته هذه، طرب لها الملك كثيرًا، فأمر برفع الستور من بينهما، وأدناه منه، وأطعمه في جفنته، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء، ثم جز نواصي البكريين السبعين الذين كانوا رهنًا عنده وسلمها إليه1، تعظيمًا لشأنه، وتقديرًا له ولقومه اليشكريين. وقد حرض "الحارث" في قصيدته تلك الملك على التغلبيين، وسرد حوادث تأريخية لها علاقة في هذا التعريض مما هاج الملك، وراد في حدة غضبه عليهم. ذكره بالأراقم، وهم بطون من تغلب، وصورهم كأنهم أناس عزموا على الاعتداء على قومه انتقامًا منهم، لوقائع وقعت بينهم وبين قومه ما بين "ملحة فالصاقب"، حيث ثأر قومه بقتلاهم. أما تغلب، فلم تثأر بقتلاهم، ثم ذكر التغلبيين خصومه، بأن قومه أناس أشداء في الحروب، يعتمدون في القتال على أنفسهم، ولا يركنون إلى أحد، ساروا من البحرين سيرًا شديدًا، حتى بلغوا "الأحساء"، طووا المسيرة سيرًا وإغارة على القبائل، ثم لم يكتفوا بذلك، فأغاروا على "تميم" فلما دخل الشهر الحرام، كفوا عن القتال، حرمةً له، وعندهم سبابا من بنات القبائل صرن إماءً لهم. ثم ذكر الملك بامتناع "تغلب" من الانضمام إليه للحرب معه، على حين نصره قومه، وحاربوا معه. وكيف غلبوا على أمرهم، غلبهم الملك. وكيف ذهبت دماء تغلب هدرًا، لم يؤخذ بثأرها وهو لا يترك قومه دماؤهم هدرًا، إذ يأخذون بالثأر من قتلة قتلاهم. ثم انتقل إلى يوم "الشقيقة"، حيث جاءت "معد"، ولكل حي منها لواء حول "قيس بن معد يكرب" من ملوك حمير، وبين كيف أن قومه تعرضوا لقيس ولمن معهم، حتى ردهم بطعن خرج به الدم من جروحهم خروج الماء من أفواه القرب، ثم انتقل إلى وصف قتالهم مع "حجر بن أم قطام"، وكانت له كتيبة فارسية خضراء لما ركب دروع الكتيبة، وجلا صدأها، ثم حدث عن كيفية فكهم غل "امرئ القيس" من حبسه بعد أن طال حبسه ونال منه العناء2.

_ 1 شرح المعلقات للزوزني، "ص154"، دار صادر"، "بيروت 1958م". 2 ويرى بعض علماء الأدب أن المراد "فارسية خضراء"، دروع وبيض فارسية، ركبها الصدأ، شرح الزوزني "ص 165" "صادر".

وتعرض لذكر "الجون: جون آل بني الأوس" ومعه كتيبة شديدة العناد. ولت الأدبار بعد قتالها مع "بني يشكر" قومه. ثم تعرض لقتالهم مع الغساسنة انتقامًا منهم، لقتلهم "المنذر" والد "عمرو بن هند" وأسرهم تسعة من الملوك. وأخذهم أسلابهم منهم، وأسلابهم غالية الأثمان، لعظم أخطارهم وجلالة أقدارهم. ثم انتقل إلى ذكر يوم "ذي المجاز" وكيف جمع "عمرو بن هند" بني "بكر" و"تغلب" وأصلح بينهما، وأخذ منهما الوثائق والرهون، وكتب العهد بينهما بوجوب الوفاء بما اتفق عليه في هذا اليوم، ثم أخذ يعيرهم ويذكر هزائمهم التي ألحقتها "كندة" و"إياد" و"تميم" و"بنو حنيفة" و"قضاعة" وقبائل أخرى بهم، ويتهمهم بخرق العهد والمواثيق وبالغدر. وقد جاءت هذه القصيدة معبرة عن حقد "عمرو" على التغلبيين وعن غضبه عليهم لمقاومتهم له. وغزا عمرو بن هند طيئًا، بتحريض زرارة بن عدس بن عبد الله بن دارم الحنظلي إياه على غزوها، ويقول أهل الأخبار أن عمرو بن هند امتنع في بادئ الأمر عن غزو طيء، لوجود حلف بينه وبينهم، غير أن زرارة ألح عليه بغزوهم، فغزاهم وأخذ أسرى منهم1. ويذكر بعض أهل الأخبار أن عمرو بن هند كان قد عاقد طيئًا ألا ينازعوا ولا يغزوا ولا يفاخروا. ثم غزا اليمامة، فرجع منفضًّا، فمر بطيء، فحرضه زرارة عليهم، ولم يزل به يحرضه ويغريه بالغنائم، حتى غزا طيئًا، وأسر من بني عدي رهط حاتم الطائي سبعين رجلًا، وفيهم قيس بن جحدر ابن خالة حاتم الطائي، وحاتم يومئذ بالحيرة. فلما بلغ عمرو بن هند الحيرة، توسط "حاتم" لديه في فك الأسرى فوهبهم له2. وغزا "عمرو بن هند" تميمًا فقتل من "بني دارم" مئة نفس انتقامًا منهم لقتلهم أخاه سعدًا أو ابنه مالكًا في رواية أخرى. وكان ذلك في يوم أوارة الثاني3 "يوم أوارة الأخير". ويزعم الأخباريون أنه ألقى بالقتلى في النار، ولهذا السبب عرف بـ "المحرق" "محرق" "المحرق الثاني"4. ولبعض الأخباريين تفاسير

_ 1 الأغاني "19/ 127 وما بعدها"، شعراء النصرانية "124". 2 أيام العرب "102". 3 حمزة "ص 73"، معجم الشعراء "ص 205"، البلدان "1/ 392"، الكامل "1/ 295"، العقد الفريد "3/ 154" الأغاني "1/ 122". 4 الأغاني "19/ 129"، الكامل "1/ 228"، الميداني "1/ 226"، اللسان "10/ 42".

أخرى في منشأ هذا اللقب1، تحاول إيجاد مخرج لمعنى "محرق" التي ترد مقرونة بأسماء بعض ملوك "آل جفنة" و"آل لخم". وفي كتب الأمثال مثل هو: "إن الشقي وافد البراجم"، زعم أصحاب الأخبار أن قائله هو الملك "عمرو بن هند" قاله يوم قتلت "البراجم" –وهم أحياء من "تميم": عمرو وقيس وغالب وكلفة وظليم، وهم "بنو حنظلة بن زيد مناة" تحالفوا على أن يكونوا كبراجم الأصابع في الاجتماع- شقيق "عمرو ابن هند"، فسار إليهم وآلى أن يحرق منهم مئة، فقتل تسعة وتسعين، وأحرق القتلى بالنار، فمر رجل من البراجم وراح رائحة حريق القتلى، فحسبه قتار الشواء، فمال إليه، فلما رآه عمرو قاله له: ممن أنت؟ قال: رجل من البراجم فقال: إن الشقي وافد البراجم. وأمر فقتل وألقي في النار، فبرت به يمينه2. وورد أن عمرًا بقي ينتظر وافدًا من البراجم ليلقي به في النار فيكمل بذلك العدد، حتى إذا طال انتظاره قيل له: لو تحللت بامرأة منهم، فدعا بامرأة منهم، فدعا بامرأة من بني نهشل بن دارم اسمها الحمراء بنت ضمرة بن جابر، فأمر بإلقائها في النار. فكمل بذلك العدد3. وكان سبب قتل أسعد أو سعد أخي عمرو بن هند أو ابنه مالك، أنه لما ترعرع مرت به ناقة كوماء سمينة، فرمى ضرعها، فشد عليه ربها سويد أحد بني عبد الله بن دارم فقتله، ثم هرب سويد فلحق بمكة، واستجار بأهلها. فبلغ الخبر عمرو بن هند، وكان زرارة بن عدس التميمي عنده، فاغتاظ زرارة من هذا العمل، إذ كان الملك قد وضع "سعدًا" "أسعد" في بيته، وانتهز زعماء طيء هذه الفرصة وحرضوا عمرو بن هند على مهاجمة بني دارم قتلته للأخذ بثأرهم منه4.

_ 1 الاقتضاب "ص 359". العمدة "2/ 216". 2 البرقوقي "ص 55"، العمدة، لابن رشيق "2/ 205"، الأمثال للميداني "1/ 95"، ابن الأثير "1/ 334"، "النقائض "652، 1081"، اللسان "10/ 42"، "حرق". 3 أيام العرب "105". 4 العمدة "2/ 205"، الأغاني "22/ 186"، "بيروت"، المسعودي، مروج "1/ 23"، اليعقوبي "1/ 171"، ابن خلدون "2/ 566"، خزانة الأدب "3/ 140"، نهاية الأرب للنويري "3/ 18"، البكري، معجم "1/ 207، النقائض "2/ 652 وما بعدها".

وهناك رواية أخرى تنفي تحريق عمرو بن هند للمذكورين من بني دارم والرجل الآخر من البراجم، وترى أنهم قتلوا، قتلوا بأمر عمرو بن هند1. وأوارة الموضع الذي أحرق فيه المذكورون من بني تميم، أو قتلوا فيه، هو اسم ماء أو جبل لبني تميم قيل أنه بناحية البحرين2. وكان "عمرو بن ملقط الطائي"، هو الذي أصاب "بني تميم" مع "عمرو ابن هند" يوم أوارة، فسأله فيهم فأطلقهم له، وكان وفادًا إلى الملوك3. والأعشى الشاعر ممن ذكر هذا اليوم في شعره. وعير الشاعر جرير الفرزدق بيوم أوارة4. وتذكر بعض الروايات عن يوم "أوارة" أن "عمرو بن ملقط الطائي"، هو الذي حرض "عمرو بن هند" على غزو بني دارم، وأنه شاركه في غزوهم. وقد أشير إلى ذلك في شعر للطرماح الطائي يفاخر به الفرزدق، وهو شاعر من بني تميم5. وسبب ذلك أن طيئًا كانت تطلب عثرات زرارة وبني أبيه؛ لأنه كان قد حرض عمرو بن هند عليهم. فلما بلغهم ما صنعوا بأخي الملك، أنشأ "عمرو بن ملقط" شعرًا، بلغ عمرو بن هند، فتأثر به، وقرر السير على زرارة وقومه للانتقام منهم بقتلهم شقيقه6. ويفهم من بعض الرواة أن "يوم الشقيقة" كان قد وقع في عهد عمرو بن هند، إذ تذكر أن قومًا من شيبان جاؤوا مع قيس بن معد يكرب ومعهم جمع عظيم من أهل اليمن، وقصدوا إبلًا لعمرو بن هند، فردتهم بنو يشكر، وقتلوا فيهم، ولم يوصل إلى الإبل7.

_ 1 البلدان "1/ 393"، العمدة "2/ 205". قال جرير: أين الذين بسيف عمرو قتلوا ... أم أين أسعد فيكم المسترضع 2 البلدان "1/ 393". 3 ذيل الأمالي "24". 4 معجم ما استعجم "1/ 207" "طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر القاهرة 1945م". 5 واسأل زرارة والمأمون ما فعلت ... قتلى أوارة من رعلان واللذد ودارم قد قذفنا منهم مئة ... في جاحم النار إذ يلقون في الخدد ديوان الطرماح "ص 145". 6 أيام العرب "103" 7 الأغاني "11/ 48" "دار الكتب المصرية".

وقد رأى بعض أهل الأخبار، استنادًا إلى قصيدة للنابغة مطلعها: أتاركة تدللها قطامِ ... وضنًّا بالتحية والكلام أن الذي قام بالغزو المذكور فيها هو "عمرو بن هند". وأن غزوه بلغ حتى جبال حمى1. غير أن الأبيات تدل على أن صاحب تلك الغزوة كان قد دوخ العراق، وأنه حارب قبائله، ولهذا لا يعقل أن يكون صاحبها عمرو بن هند، بل لا بد أن يكون ملكًا من آل غسان غزا العراق وإلى هذا الرأي ذهب المستشرق "نولدكه"2. وفي بعض الروايات أن عمرًا توسط بين بكر وتغلب ابني وائل فأصلح بينهما بعد حرب البسوس، وأخذ رهائن من كل حي من الحيين مئة غلام من أشرافهم، ليكف بعضهم عن بعض، فكانوا يصحبونه في السلم والحرب3. ويرى فريق آخر من الأخباريين أن الذي توسط لعقد الصلح بين القبيلتين هو المنذر بن ماء السماء4. وذكر أن أناسًا من تغلب جاؤوا إلى "بكر بن وائل" يستسقونهم فطردتهم بكر للحقد الذي كان بينهم، فرجعوا عطاشًا، فمات سبعون منهم، فاجتمع بنو تغلب واستعدوا لملاقاة بكر ومحاربتهم، ثم خاف عقلاء الطرفين من عودة الحرب إلى ما كانت عليه، فتداعوا إلى الصلح، فتحاكموا إلى الملك "عمرو بن هند"، فطلب منهم سبعين رجلًا من أشراف وائل ليجعلهم في وثاق عنده، فإن كان الحق لبني تغلب، دفعوا إليهم ليأخذوا ثأرهم، وإن لم يكن رجعوا سبيلهم، فجاءت تغلب وعلى رأسها عمرو بن كلثوم، وحل الخصومة عمرو بن هند5. وفي رواية يذكرها "ابن دريد": أن "بني الحارث بن مرة" قتلوا ابنًا

_ 1 شعراء النصرانية "ص 715". 2 الأغاني "19/ 127"، شعراء النصرانية "124". 3 الأغاني "11/ 42 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "ص 198 وما بعدها". 4 الأغاني "11/ 44 وما بعدها" "دار الكتب المصرية"، "9/ 172" "مطبعة التقدم". 5 جمهرة أشعار العرب "120"، شرح القصائد السبع للزوزني "146 وما بعدها".

لعمرو بن هند، فرهن "سيار بن عمرو" قوسه بألف بعير، وضمنها لملك من ملوك اليمن، فعرف لذلك بـ "ذي القوس"1. أما "السكري"، فذكر أن سيارًا ذا القوس، كان قد رهن قوسه على ألف بعير في قتل الحارث بن ظالم، من النعمان الأكبر2. ويفهم من الموارد الأعجمية أن عمرًا كان قد أغار على بلاد الشأم في سنة "563م"، وكان على عربها الحارث بن جبلة3. والظاهر أن الباعث على ذلك كان امتناع الروم عن دفع ما كانوا يدفعونه سابقًا لعرب الفرس مقابل إسكاتهم عن مهاجمة الحدود. فلما عقد الصلح بين الفرس والروم سنة "562م"، وهدأت الأحوال، لم يدفعوا لابن هند ما تعودوا دفعه لوالده، فأثر امتناعهم هذا في نفسه، وطلب من الفرس مساعدته في ذلك. فلما طالت الوساطة، ولم تأت بنتيجة، هاجم تلك المنطقة، ثم أعاد الغارة في سنة "566م" وسنة "567م" على التوالي. وقام بهاتين الغارتين أخوه قابوس بأمر أخيه. ويعزو "مينندر" "Manander" أسباب الغارة الأخيرة إلى سوء الأدب الذي أبداه الروم تجاه رسول ملك الحيرة الذي ذهب إلى القيصر "يوسطينوس" "Justinus" لمفاوضته على دفع المال4. وكان الروم قد أرسلوا رسولين قبل ذلك إلى الفرس للبحث في هذا الموضوع، أحدهما اسمه بطرس، والآخر اسمه يوحنا، غير أنهما أنكرا للفرس حق ملك الحيرة في أخذ إتاوة سنوية من الروم. فلما عومل رسول ملك الحيرة معاملة غير لائقة قام قابوس شقيق عمرو بتلك الغارتين5. وتذكر رواية من روايات أهل الأخبار أن "عمرو بن هند" جعل أخاه "قابوس بن المنذر" على البادية، ولم يعط أخاه "عمرو بن أمامة" شيئًا، وكان مغاضبًا له، فخرج "عمرو" إلى اليمن، فأطاعته مراد، وأقبل بها يقودها نحو العراق، ولكنها ثارت عليه، ثار عليه المكشوح وهو "هبيرة بن يغوث" فلما أحيط به ضاربهم بسيفه حتى قتل6.

_ 1 الاشتقاق "2/ 172". 2 المحبر "461". 3 Rothstein, S. 96, Theophanes,371 Noldeke, Sassa, 172, Ghassan, 20. 4 Rothstein, S. 96, Menander, By Dindorf Histo. Min, II, 45. 5 Brothstein, S. 96. 6 معجم الشعراء "ص 206".

أما "أمامة" أم "عمرو بن أمامة"، فإنها "أمامة بنت سلمة بن الحارث الكندي" عم امرئ القيس1. ويفهم من بعض الروايات أن عدي بن زيد العبادي كان من المقربين عند عمرو بن هند، وكان يصحبه مع من يصحبه من الرؤساء في الصيد2. وانتهت حياة عمرو بن هند بالقتل، وهو مسئول عن قتل نفسه إن صحت القصة. وخلاصتها: أن الغرور أخذ مأخذه من صاحبنا عمرو، وأراد يومًا أن يظهر فخره أمام الناس، فقال لجلسائه: هل تعلمون أن أحدًا من العرب من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي؟ قالوا: ما نعرفه إلا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي، فإن أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل أعز العرب وزوجها كلثوم وابنها عمرو، فسكت وأضمرها في نفسه، ثم بعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، ويأمره أن تزور أمه ليلى أم نفسه هند. فقدم عمرو مع أمه، فأنزلهما منزلًا حسنًا، ثم أمر بالطعام فقدم للحاضرين. وكان عمرو قد قال لأمه: إذا فرغ الناس من الطعام ولم يبق إلا الطرف، فنحي خدمك عنك، فإذا دنا الطرف فاستخدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء. ففعلت هند ما أمرها به ابنها. فصاحت ليلى عندئذ: وأذلاه يا آل تغلب! فسمعها ولدها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه، والقوم يشربون، وثار إلى سيف بن هند وهو معلق في السرادق، فأخذه وضرب به رأس مضرط الحجارة، ونادى في التغلبيين فأخذوا ما تمكنوا من أخذه، وعادوا من حيث أتوا3. وهكذا جنى عمرو بن هند حصاد ما زرعه إن صحت الرواية. ويروي الرواة في تأييدها هذا المثل:

_ 1 معجم الشعراء "ص 206". 2 الأغاني "2/ 154". 3 ابن الأثير "1/ 126" الأغاني "9/ 175"، "11/ 53" "دار الكتب المصرية"، ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "566"، "بيروت 1965م" المحبر "202"، الشعر والشعراء، لابن قتيبة "185"، الأمالي، للقالي "1/ 193".

"أفتك من عمرو بن كلثوم". كما افتخر بها الشعراء التغلبيون1. ويقال إنّ أخا عمرو بن كلثوم: "مرة بن كلثوم"، هو قاتل "المنذر ابن النعمان بن المنذر". وفي ذلك يقول الأخطل: ابني كليب إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا يعني بعميه عمرًا ومرة ابني كلثوم2. وذكر الشاعر "أفنون" واسمه "صريم بن معشر"، وهو من بني تغلب "عمرو بن هند" في شعر رواه "ابن قتيبة" على هذا النحو: لعمرك ما عمرو بن هند إذا دعا ... لتخدم أمي أمه بموفق3 وفي هذا البيت إشارة إلى مقتل "عمرو بن هند"، بسبب أم الملك. وقد وقع فيه تحريف ولا شك، صير الأم التي طلبت منها أم عمرو بن هند خدمتها، أم الشاعر المذكور، بينما هي "ليلى" أم الشاعر "عمرو بن كلثوم"، قاتل عمرو بن هند. كما يرويه علماء الشعر على لسان "أفنون" أيضًا، ولكن على هذا الشكل: لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم ليلى أمه بموفق4 "وعمرو بن كلثوم، هو القائل: ألا هبي بصحنك فاصبحينا

_ 1 قانون أفنون التغلبي. لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم ليلى أمه بموفق فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتا ... وأمسك من ندمانه بالمخنق وجلله عمرو على الرأس ضربة ... بذي شطب صافي الحديدة رونق ابن الأثير "/ 226"، الأغاني "9/ 183"، شعراء النصرانية "200". وقال الأخطل مفتخرًا: ابني كليب إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا الأغاني "9/ 183"، ابن دريد. الاشتقاق "204"، خزانة الأدب "1/ 520"، حمزة "ص 72". 2 الشعر والشعراء "ص 119 وما بعدها". 3 الشعر والشعراء "119، 249". 4 الأغاني "9/ 183"، ابن الأثير "1/ 266".

وكان قام بها خطيبًا فيما كان بينه وبين عمرو بن هند. وهي من جيد شعر العرب القديم وإحدى السبع، ولشغف تغلب بها وكثرة روايتهم لها، قال بعض الشعراء: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مسؤوم1 وإلى هند أم الملك ينسب دير هند الكبرى من أديرة الحيرة، وقد أرخ بناؤه في عهد خسرو أنو شروان وفي عهد الأسقف مار افرايم. وقد لقبت فيه بالملكة بنت الأملاك وأم الملك عمرو بن المنذر2. وإذا صحت قراءة الأخباريين هذه، كان بناء هذا الدير في أيام ابنها عمرو. وكان الملك من نصيب قابوس بن المنذر بعد وفاة عمرو بن هند أخي "قابوس" وأمه هند. أما المسعودي فجعل أمه بنت الحارث من آل معاوية بن معد يكرب3. وقد ملك على رواية حمزة أربع سنين في زمان أنو شروان4. وذكر حمزة أن من الأخباريين من قال إنه لم يملك. "وإنما سموه ملكًا؛ لأن أباه وأخاه كانا ملكين"، وقد وصفه بالضعف وباللين، ولذلك قيل له "فتنة العرس" و"قينة العرس" في بعض الروايات. وقد قتله رجل من يشكر، وسلب ما كان عنده وعليه5. وليس بصحيح ما زعمه حمزة نقلًا عن بعض الأخباريين من أن قابوسًا لم يكن ملكًا، وإنما قيل له ذلك؛ لأن أباه وأخاه كانا ملكين. فقد نعته "يوحنا الأفسوسي" "John Of Ephesus" في تأريخ الكنسي بـ "ملكًا" أي ملك، ويوحنا الأفسوسي من الرجال الذين عاشوا في القرن السادس للميلاد. وقد توفي سنة "585م" تقريبًا. ولم يكن لينعته بـ "ملكًا" لو لم يكن قابوس ملكًا على الحيرة حقًّا6.

_ 1 الشعر والشعراء "ص 120"، شرح التبريزي على المعلقات "238"، أمالي المرتضى "1/ 57، 105/ 201، 327، 559". 2 الحيرة "ص 47". 3 مروج "2/ 24". "دار الرجاء". 4 حمزة "73"، المحبر "359"، مفاتيح العلوم "ص 69". 5 حمزة "73"، وجعل المسعودي مدة حكمه ثلاث سنين، مروج "2/ 24"، ابن الأثير "1/ 200"، المعاني الكبير "2/ 118". 6 John Of Ephesus: Eccl Histo, 354, II, 3, Cureton Ed 6, Rothstein, S. 102.

ويظهر أن الصورة التي رسمها الأخباريون لقابوس إنما حصلوا عليها من شعر الهجاء الذي قيل فيه، وأن ما أورده عنه من لين وضعف هو في حاجة إلى دليل، إذ يظهر من الموارد الأخرى مثل التواريخ السريانية أنه كان على العكس1. وقد يكون لتوليه الحكم، وهو رجل متقدم في السن، أصل في ذلك الهجاء. فالذي يظهر من أخباره أنه ولي الحكم وهو شيخ كبير. وأما اللقب الذي لقب به وهو قينة العرس، فقد انتزعه الأخباريون من شعر منسوب إلى طرفة هجا فيه عمرو بن هند وقابوسًا، وهو قوله: يأت الذي لا تخاف سبته ... عمرو وقابوس قينتا عرس2 وقد ذكر المؤرخ "مارسليانوس" "Marsilianus" رجلاً سماه "Chabus"، ذكره مع المنذر الثالث في حوادث سنة "536م"3. ويرى "روتشتاين" أن المراد به رجل آخر غير قابوس. فلو كان هو المقصود به كان قابوس إذن شيخًا هرمًا حين انتقل الملك إليه، ولكنه لا ينفي مع ذلك عدم جوازه4 وقد أشرت إلى إرسال أخيه عمرو إليه في حملة انتقامية على عرب الشأم، وذلك في سنة "566" وسنة "567م". ولما تولى قابوس الحكم، أغار على بلاد الشأم، وكان يحكم عرب الشأم المنذر بن الحارث بن جبلة إذ ذاك. وقد ذكر "ابن العبري" أن المنذر بن الحارث "منذر برحرت" كان نصرانيًّا وأن جنوده كانوا نصارى كذلك. ولم يشر إلى نصرانية قابوس. ويفهم من جملة ابن العبري "وقد أغار قابوس على العرب النصارى" ما يؤيد هذا الظن. وقد ظفر قابوس بغنائم عديدة أخذها وعاد بها غير أن المنذر جمع جيشه وسار يتعقبه. فلما التقى به، تغلب عليه، وأخذ منه أموالًا كثيرة وعددًا كبيرًا من الجمال. ولما أعاد قابوس الكرة، انهزم، فذهب إلى الفرس يلتمس منهم عونًا ومددًا5. ويظهر من رواية أخرى أن انتصار المنذر على قابوس كان في سنة "881" من التقويم السلوقي وهي توافق سنة "570" للميلاد6.

_ 1 Rothstein, S. 102, Caussin, Essai, II, 129. 2 اليعقوبي "1/ 172". 3 Noldeke: Sassa, 345, Rothstein, S. 102. 4 Rothstein, S. 102. 5 Bar Hebraeus, Vol, I, P. 79. 6 Land: Anecd. Syr, I, 13.

ويظهر من رواية لـ "يوحنا الأفسوسي" "John Of Ephesus" أن الملك قابوسًا انتهز الفرصة عند وفاة الحارث بن جبلة، فباغت الغساسنة بهجوم مفاجئ في عقر دارهم، فأسرع عندئذ المنذر بن الحارث وجمع جمعه، وفاجأه بهجوم مقابل لم يتمكن قابوس من الثبات له، فانهزم هزيمة منكرة بحيث لم ينج من أصحابه إلى القليل، وقد فر هو ومن سار معه من الناجين في اتجاه نهر الفرات تاركًا عددًا من الأمراء اللخميين أسرى في أيدي المنذر. غير أن المنذر سار في أثرهم حتى كان على ثلاث مراحل من الحيرة1، ويرى نولدكه أن هذه المعركة هي معركة عين أباغ2 وبعد قليل من هذه الهزيمة جرب قابوس حظه مرة أخرى، غير أنه مني بخسارة جديدة، وكانت هذه الغارة حوالي سنة "570م"3. وجرب قابوس حظه مرة أخرى منتهزًا فرصة القطيعة بين المنذر والقيصر "يسطينوس" "Justinus"، وهي قطيعة لا نعلم أسبابها على وجه التحقيق، وإنما يعزو ابن العبري سببها إلى مطالبة المنذر للقيصر بدفع مال إليه ليتمكن به إعداد جيش قوي منظم يستطيع الوقوف به أمام الفرس4. فأغار على حدود الروم وتوغل في الأرضين التابعة لهم حتى وصل أتباعه إلى منطقة "أنطاكية"5. وقد دامت تحرشات "عرب الفرس" بحدود الروم ثلاث سنين هي مدة القطيعة، حيث كان المنذر قد ذهب مع أتباعه إلى الصحراء فاحتمى فيها، ولم تنقطع هذه التحرشات إلا بعد مصالحة الروم له في الرصافة. حينئذ جمع المنذر أتباعه وفاجأ المناذرة بهجوم خاطف كابدت منه الحيرة الأمرين، وأطلق من كان في سجون الحيرة من أسرى الروم. وقد وقعت هذه المفاجأة حوالي سنة "578م". ويظن "روتشتاين" أنها وقعت بعد وفاة قابوس في عهد المنذر الرابع أخي "قابوس" وخليفته في الملك6. وقد ذكر "البكري" بيتًا من الشعر لأبي دؤاد وردت فيه إشارة إلى غزوة

_ 1 John Of Ephesus, VI, 3, Rothstein, S. 103. 2 Rthstein, S. 103. 3 Rotstein, S. 103. 4 Bar Hebraeus, I, P. 79. 5 John Of Ephesus, P. 348, Rothstein, S. 104. 6 Rothstein, S. 104

غزاها قابوس عرفت بـ "يوم قحاد". ويظهر أن خصوم قابوس أخذوا بثأرهم من هذا اليوم بغزوة قاموا بها على تنوخ1. ويفاجئنا بعض الأخباريين بذكر رجل يقال له "فيشهرت" أو "السهرب" أو "السهراب"، قالوا أنه هو الذي تولى الملك بعد قابوس2. وقد جعل حمزة مدة حكمه سنة واحدة في أيام "كسرى أنو شروان"3. ولم يشر الأخباريون إلى الأسباب التي أدت إلى تعيين هذا الرجل الغريب ملكًا على الحيرة دون سائر آل لخم، ومنهم المنذر أخو عمرو بن هند وقابوس، فلعل اضطرابًا حدث في المملكة أو نزاعًا وقع بين أولاد قابوس أو بين آل لخم أدى إلى تدخل الفرس فقرروا تعيين رجل غريب عن أهل الحيرة لأمد حتى تزول أسباب الخلاف، فقرروا تعيين واحد منهم. فلما زالت تلك المواقع، عين المنذر ملكًا على الحيرة وبذلك عاد الملك إلى آل لخم. ويلاحظ أن بعض الأخباريين لم يذكروا اسم فيشهرت أو السهراب، بل ذكروا أن الملك انتقل إلى المنذر بعد وفاة أخيه قابوس4. وذكر المسعودي في كتابه: مروج الذهب النعمان بن المنذر مباشرة بعد قابوس5. وإذا صحت رواية حمزة من أن حكم المنذر كان ثمانية أشهر في عهد "كسرى أنو شروان" وثلاث سنين وأربعة أشهر في أيام "هرمز بن كسرى"، فيجب أن يكون حكمه قد امتد من سنة "579" حتى سنة "583" للميلاد6، تقريبًا؛ لأن نهاية حكم "أنو شروان" كانت في سنة "579" للميلاد على رأي المؤرخين، وحكم "هرمز" من سنة "579" حتى سنة "590" للميلاد7. ويظهر من شعر منسوب إلى الشاعر "المرقش" أن "المنذر" كان ينقب عنه أي: يستقصي في طلبه، ولم يذكر سبب ذلك، ولعله كان قد هجاه، أو أن

_ 1 البكري. معجم "3/ 149" "طبعة السقا". 2 حمزة "ص 73", المحبر "ص359"، الطبري "2/ 213" "دار المعارف". 3 حمزة "ص 73", المحبر "ص359" "فيسهرب الفارسي"، مفاتيح العلوم "69". 4 اليعقوبي "1/ 172". 5 مروج "2/ 24". 6 حمزة "ص 73". المحبر "ص359"، "ثم ولى بعده المنذر أبو النعمان أربع سنين"، الطبري "2/ 213". 7 Ency., 4, 178.

جماعة وشت به عنده، فصار يبحث عنه للإيقاع به. وقد طلب في شعره هذا من الملك المذكور أن يكف عن طلبه ويسكت عنه، وتمنى لو أنه في "الزج" وهو موضع، أو "بالشام ذات القرون". وذلك؛ لأن بلاد الشام بلاد كانت تحت حكم الروم، فليس للمنذر حكم عليها، فهو يكون بها في بلاد العدو بعيدًا عن المنذر. وذكر "ابن قتيبة" أن معنى "ذات القرون" الروم. وأراد قرون شعورهم1. ويظهر من شعر لـ "سويد بن خذاق" أن "قابوس بن هند" وأخًا من إخوته لم يذكر الشاعر اسمه "غزوا قومه، وهم من عبد القيس، وانتصرا عليهم وأنزلا بهم خسارة فادحة، يوم العطيف: ففرقا القبائل، وكانت أحلافًا متحالفة، وشتتا الشمل، ودعا "الله" أن يجزيهما شر الجزاء بما فعلا، وأن يحبس لبن "لبون الملك"، فلا تدر عليه، جزاء وفاقًا لما قاما به نحو قومه2. أما الذي خلفه على الحيرة، فهو النعمان بن المنذر المعروف بأبي قابوس. وقد كناه بعض الشعراء بـ "أبي قبيس"3. كما كناه بعضهم بـ "أبي منذر"4. ويذكر أهل الأخبار أن الناس كانوا إذا دخلوا على النعمان أو كلموه، قالوا له: "أبيت اللعن". وذكر المسعودي: أنه "هو الذي يقال له: أبيت اللعن"5. أما أم النعمان، فهي "سلمى بنت وائل بن عطية بن كلب"، أو "سلمى بنت عطية"6. وقد نسبها بعض الأخباريين إلى سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ. وقالوا إنها من فدك، وزادوا في ذلك أنها كانت أمة للحارث بن حصن بن ضمضم ابن عدي بن جناب من كلب من دومة الجندل7. فهي بنت صائغ من فدك على رواية بعض، وأمة من دومة الجندل على رواية بعض آخر. وهي في كلتا الحالتين من طبقة وضيعة لا تليق بأسرة مالكة، ولعلها من أصل يهودي8، إذ

_ 1المعاني الكبير "2/ 797". 2 الشعر والشعراء "ص 229"، "ليدن". 3 في شعر النابغة 30، 7، 31، 1، علقمة 12. Rothstein, S. 107. 4 Rothstein, S. 107. 5 مروج "2/ 24" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 6 مروج "2/ 24"، الأغاني "11/ 13" "دار الكتب المصرية"، الأغاني "2/ 106"، "القاهرة 1928". 7 الطبري "2/ 147". 8 Rothstein, S. 108.

كان أكثر أهل فدك من اليهود. وكانوا يحترفون الحرف ومنها الصياغة. وقد دعي النعمان بأمه، فقيل له ابن سلمى في شعر الهجاء، وقصدهم من ذلك إهانته. وقد تولى النعمان الثالث، وهو النعمان الذي نتحدث عنه، الحكم في حوالي السنة "580" أو السنة "581" للميلاد، ودام حكمه حتى السنة "602م"1. والظاهر من وصف الأخباريين له أنه كان دميم الخلقة، فقالوا، إنه كان أحمر، أبرش، قصيرًا2. وهذا مما قوى جانب خصومه في التهكم به، يضاف إلى ذلك أصل أمه، وقد أثر هذا النقص الذي لا يد له فيه، في نفسية النعمان، وفي سلوكه، ولا شك، فصيره سريع الغضب، أخاذًا بالوشايات، فوقع من أجل ذلك في مشكلات عديدة. وقد يكون تسرعه إلى تصديق ما قاله الواشون عن عدي بن زيد، وتأثره بأقوالهم من غير تحقيق ولا امتحان وقتله له، من جملة تلك العوامل التي أدت إلى هلاكه. وقد يكون اللقب الذي لقب به، وهو "الصعب"3، وصفًا لتلك السجايا التي اتصف بها الملك، والتي تعبر عن عقدة "مركب النقص" التي كانت ملازمة له. وقد كان لقبح النعمان ودمامته ولأصل أمه دخل ولا شك في تكوين الخلق العصبي فيه، فصار يهيج ويتأثر به، ويأخذ بأقوال الوشاة من غير تمحيص ولا تروٍّ، فنقمت منه الناس، وهجاه بعض الشعراء. أما إخوته وكانت عدتهم اثني عشر رجلًا عدا النعمان، فقد اشتهروا بالجمال والهيبة والوسامة، ولذلك نعتوا بالأشاهب، فوصفهم الأعشى بقوله: وبنو المنذر الأشاهب بالحـ ... ـيرة يمشون غدوة بالسيوف4 وقد أثرت شهرة أخوته بالأشاهب وبالوسامة في طبع النعمان المذكور، وزادت في عصبيته وفي حدة طبعه وفي تأثره بأقوال الناس. ويظهر من وصف الشعراء وأهل الأخبار للنعمان أنه كان صاحب شراب، يحب

_ 1 Brockelmann; Die Araber, I, S. 10. 2 الطبري "2/ 147"، الكامل، لابن الأثير "1/ 285" "الطباعة المنيرية". 3 المعاني الكبير "2/ 878، 1028". 4 الطبري "2/ 194" "دار المعارف"، الكامل، لابن الأثير "1/ 285" "الطباعة المنيرية".

الخمر ويجالس ندماءه ليشرب معهم، غير أن الخمر كانت تؤثر فيه وتستولي على عقله، فتدفعه إلى السكر والعربدة والتطاول على ندمائه، مما أزعج أصدقاءه وحولهم إلى خصوم وأعداء بسبب إهانات لحقت بهم منه في أثناء فقده وعيه وعدم تمكنه من حفظه اتزانه1. وقد عبر الشاعر "لبيد بن ربيعة العامري" عن النعمان بـ "الصعب ذي القرنين" في شعره، مما يدل على أن لقب "الصعب" الذي لقبه به كان معروفًا شائعًا بين الناس2. وقد يكون معبرًا عن معنى آخر غير معنى الصعوبة في الملك، كأن يكون إطلاقهم له من قبيل إطلاقهم لفظة "تبع" على من ملك من حمير. وأما "ذو القرنين" فقد قيل: إن القرنين هم الضفيرتان، وأن القرن الضفيرة. وقد دعي بذلك؛ لأنه كان قد ربى ضفيرتين3. وقد جاء في رواية أخرى أن "الصعب ذا القرنين" لم يكن النعمان المذكور كما ذهبت إليه الرواية المتقدمة، وإنما هو "المنذر بن ماء السماء، وأنه هو ذو القرنين"4. ويظهر من بيت الشعر الذي نتحدث عنه وهو: والصعب ذو القرنين أصبح ثاويًا ... بالحنو في جدث، أميم، مقيم إن "الصعب ذا القرنين" كان قد ثوى في قبره، فهو يرثيه ويذكره. وذهب الشراح إلى أن "الحنو" اسم بلد، ومعنى هذا أن الملك الذي يشير إليه "لبيد" قد دفن في هذا الموضع، والذي نعرفه من بعض الروايات أن قبر "النعمان" كان بالحيرة، وأن ابنته هندًا قد دفنت إلى جانبه. ومن الشعراء الذين نسب إليهم هجاء النعمان الشاعر عمرو بن كلثوم، وله فيه وفي أمه هجاء مر. وقد وصف خاله بأنه ينفخ الكير، ويصوغ القروط بيثرب أي أنه كان من صاغة تلك المدينة، وهو مما يؤيد روايات الأخباريين في أصل أمه5.

_ 1 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "ص 257". 2 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "تحقيق الدكتور إحسان عباس"، "ص 109". 3 المصدر المذكور. 4 شرح ديوان لبيد "ص 109". 5 الأغاني "11/ 58 وما بعدها".

لم ينتقل الملك إلى النعمان بسهولة، فقد كان للمنذر جملة أولاد حين أتته المنية، عدتهم ثلاثة عشر ولدًا معظمهم طامع في الملك، والظاهر أن المنذر كان عارفًا بالخلاف الذي كان بين أولاده، فلم يشأ أن يزيده بتعيين أحد أبنائه. ولا ندري لم لم ينص على أكبرهم جريًا على السنة المتبعة في انتقال الملك. ولعله كان عارفًا بحراجة الموقف وضعف مركز ابنه الكبير، وعدم تمكنه من فرض نفسه عليهم إذا عينه ونصبه، لذلك وكل أمره كله إلى إياس بن قبيصة الطائي، فتولاه أشهرًا حتى انفرجت المشكلة على النحو التالي على حد رواية ابن الكلبي. دعا كسرى بن هرمز عدي بن زيد العبادي، فقال له: من بقي من بني المنذر؟ وما هم؟ وهل فيهم خير؟ فقال عدي: بقيتهم في ولد هذا الميت، المنذر بن المنذر، وهم رجال. فبعث إليهم يمتحنهم. فلما وفدوا على كسرى، أنزلهم على عدي بن زيد. فاحتال عدي على هؤلاء الأخوة كما يقول الأخباريون وتظاهر أنه يفضلهم على ربيبه النعمان، وأوصاهم أن يجيبوا جوابًا معينًا حين يسألهم كسرى، وأمر النعمان أن يجيب جوابًا آخر يختلف عن جواب إخوته. وهو جواب يعتقد أن كسرى سيرضى عنه ويعينه. فلما أدخلوا على كسرى وأجابوا بجواب واحد هو الجواب الذي لقنهم إياه عدي، وهو: "إن سألكم الملك، أتكفونني العرب. فقالوا نكفيكهم إلا النعمان، وقال للنعمان: إن سألك الملك عن إخوتك فقل له: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز"، رضي كسرى بجواب النعمان وسر به، فملكه وكساه، وألبسه تاجًا قيمته ستون ألف درهم فيه اللؤلؤ والذهب1. فانتصر بذلك النعمان على إخوته، وسر عدي بن زيد بتولي ربيبة الملك. وفي خبر لأبي الفرج الأصبهاني أن عدي بن زيد أخذ النعمان إلى "جابر بن شمعون"، وهو من "بني الأوس بن قلام بن بطين بن جمهير بن لحيان من بني الحارث بن كعب"، وكان أسقفًا على الحيرة، فاقترضا منه مالًا لتدبير أمورهما به، وذكر أن جابرًا هو صاحب القصر الأبيض الذي بالحيرة2، وكان

_ 1 الطبري "2/ 147"، "2/ 195 وما بعدها" "دار المعارف"، الأغاني "2/ 106 وما بعدها" "دار الكتب المصرية". 2 الأغاني "2/ 115" "دار الكتب المصرية".

ذا سلطان واسع في بني قومه، ولذلك فقد يكون لأخذ عدي للنعمان إليه للحصول على تأييده أثر في نجاحه في تولي العرش. ويروي المفضل الضبي أن عدي بن زيد العبادي لما قدم على النعمان صادفه لا مال عنده ولا أثاث ولا ما يصلح لملك، وكان آدم إخوته منظرًا، وكلهم أكثر مالًا منه، فقال له عدي: كيف أصنع بك ولا مال عندك! فقال له النعمان: ما أعرف لك حيلة إلا ما تعرف أنت، فقال له: قم بنا نمضي إلى ابن قردس –رجل من أهل الحيرة من دينه- فأتياه ليقترضا منه مالًا، فأبى أن يقرضهما وقال: ما عندي شيء. فأتيا جابر بن شمعون، وهو الأسقف وهو أحد بني الأوس بن قلام بن بطين بن جمهر بن لحيان من بني الحارث بن كعب، فاستقرضا منه مالًا، فأنزلهما عنده ثلاثة أيام، يذبح لهم ويسقيهم الخمر. فلما كان في اليوم الرابع، قال لهما: ما تريدان؟ فقال له عدي: تقرضنا أربعين ألف درهم يستعين بها النعمان على أمره عند كسرى، فقال: لكما عندي ثمانون ألفًا، ثم أعطاهم إياها، فقال النعمان لجابر: لا جرم، لا جرى لي درهم إلا على يديك إن أنا ملكت1!. ولكن انتصار النعمان أدى إلى هلاك عدي بن زيد على ما يقوله الأخباريون، فقد كان لعدي، كما لكل رجل كبير صار له نفوذ وجاه ومركز خطير، أعداء في مقدمتهم رجل اسمه كاسمه ودينه مثل دينه، هو "عدي بن أوس بن مرينا"، وبنو مرينا أسرة لها مكانتها وخطرها في الحيرة. وكان لهذا الرجل شأن يذكر في أيام المنذر، وكان يميل إلى الأسود بن المنذر؛ لأنه ربيب بني مرينا، فنصحه أن يتجنب الأخذ برأي عدي بن زيد؛ لأنه رجل لا ينصح، فلما أخفق الأسود في الامتحان، وعجز عن نيل التاج، صار يدبر المؤامرات لخصمه عدي، ويشي به إلى النعمان، ويغري آخرين بالتظاهر بأنهم من محبي عدي، ليثق النعمان بهم، فإذا أمن بهم، عادوا فوشوا بعدي عنده، ثم لم يكتف بذلك فوضع رسائل على لسان عدي إلى قهرمان لعدي فيه مكر ومؤامرة بالنعمان، ثم دس له حتى أخذ الكتاب، فجاء به إلى النعمان، فلما قرأه صدق بما جاء فيه، وغضب على عدي وقرر الانتقام منه2.

_ 1 الأغاني "2/ 115 وما بعدها". 2 الطبري "2/ 147 وما بعدها"، اليعقوبي "1/ 173"، الأغاني "2/ 108 وما بعدها" "دار الكتب المصرية".

جرت كل هذه المؤامرات على ما يقوله الأخباريون، وعدي عند كسرى يقوم بوظيفته لا يدري بها. فلما كتب النعمان إليه: "عزمت عليك إلا زرتني، فإني قد اشتقت إلى رؤيتك". صدق كلامه، واستأذن كسرى فأذن له. وسار إلى منيته وهو لا يدري ما يخبئه له القدر. فلما وصل إلى من كان مشتاقًا إلى رؤيته، ألقاه في سجن منفرد لا يدخل عليه فيه أحد، وهو لا يدري بم سجن. وفي السجن أخذ ينظم أشعارًا يتضرع فيها إلى النعمان أن يفك أسره، ويعظه فيها بالموت وبمن هلك قبله من الملوك الماضين، وكاد يطلقه لولا وشاية أعدائه به. فلما طال سجنه، كتب بشعر إلى أخيه "أبي" وهو مع كسرى يستجير به للتوسط لدى كسرى أن يكتب إلى النعمان يأمره بفك أسره. فلما كتب كسرى بذلك كتابًا أرسله مع شخص إلى النعمان، كتب خليفة النعمان عند كسرى إليه يبلغه بمجيء الرسول، وعرف أعداء عدي من "بني بقيلة" من غسان، فقالوا للنعمان: اقتله الساعة قبل وصول الرسول إليك، فإن لم تفعل فسيذهب إلى كسرى فلا يستبقي أحدًا لا أنت ولا غيرك. فبعث إليه النعمان أعداءه فغموه حتى مات في سجنه بالصنين. ولما وصل الرسول، رشي بهدايا كثيرة نفيسة، فعاد إلى كسرى يخبره أن عديًّا مات قبل وصوله بأيام1. وقد أحس عدي بن زيد كما يقول الأخباريون بامتعاض خصمه عدي بن أوس بن مرينا من الحيلة التي دبرها لنجاح النعمان وبمحاولته الغدر به، فأراد مصالحته واسترضاءه كما يقول الأخباريون فعمل له طعامًا دعا إليه من أحب عدي بن أوس بن مرينا حضوره، وحلف بعد انتهاء الطعام في البيعة أنه لن يحقد عليه، وأنه سيتناسى ما حدث، ورجا من خصمه أن يفعل مثله. فقام عدي بن أوس إلى البيعة، فحلف مثل يمينه أن لا يزال يهجوه أبدًا ويبغيه الغوائل ما بقي. وقد كان2. وهم يروون شيئًا من هذا التهاجي الذي وقع بين الخصمين. ويذكر أهل الأخبار أن عدي بن مرينا صار يحرض الأسود ويحثه على الأخذ

_ 1 الطبري "2/ 152"، اليعقوبي "1/ 173"، مروج الذهب "2/ 25 وما بعدها" الأغاني "6/ 65" "دار الكتب المصرية"، الكامل لابن الأثير "1/ 286 وما بعدها" "الطباعة المنيرية"، المعاني الكبير "3/ 1261 وما بعدها". 2 الطبري "2/ 147".

بثأره من عدي بن زيد، فكان يقول له: "أما إذا لم تظفر، فلا تعجزن أن تطلق بثأرك من هذا المعدي الذي فعل بك ما فعل، فقد كانت أخبرك أن معدًّا لا ينام كيدها"1. وعدي من تميم، وتميم من معد. وهناك روايات أخرى في أسباب غضب النعمان على عدي وحبسه له في الصنين لا تخرج في جملتها عن حدود هذه المنافسة التي دبرها عدي بن مرينا وخصوم عدي له، ولكنها تجمع كلها على قتل النعمان لعدي2. وفي كتاب الأغاني رواية تذكر أن النعمان أرسل ذات يوم إلى عدي بن زيد أن يأتيه، فأبى أن يأتيه، ثم أعاد رسوله فأبى أن يأتيه، وقد كان النعمان شرب، وأمر به فسحب من منزله حتى انتهى به إليه، فحبسه في الصنين بظاهر الكوفة من منازل المنذر، وبه نهر ومزارع، وبقي هناك حتى لاقى حتفه3. ويظهر من شعر ينسب إلى عدي، قاله لابنته يوم باتت عنده مع أمها في السجن، وهي جويرية صغيرة، إن النعمان كان قد أمر بوضع الغل في يديه4. والقصة كما يرويها الأخباريون قصة طريفة تصلح أن تكون موضوعًا لشريط سينمائي اختلط فيها التأريخ بالخيال، والواقع بالإبداع. أما نحن فلا يهمنا من أمرها إلا النتيجة، وهي أن الفرس قبضوا على النعمان ملك الحيرة وسجنوه، وأن حادثًا وقع بعد ذلك كان وقعه عظيمًا في نفوس العرب، لا في العراق وحده، إنما دوى صداه إلى جميع جزيرة العرب كلها، هو حادث وقعة ذي قار، وهي من الوقائع الفاصلة في تأريخ الجزيرة كان لها أثر في فتح الإسلام للعراق. وندم النعمان كما يقول الأخباريون على ما صنع، واجترأ أعداء عدي عليه، وهابهم هيبة شديدة. وبينما كان يومًا في صيده، إذ به يشاهد غلامًا ظريفًا ذكيًّا ففرح به فرحًا شديدًا. فلما عرف أنه زيد وأنه ابن من أبناء عدي، قربه وأعطاه وحباه، ثم أرسله إلى كسرى، وكتب معه كتاب توصية رقيقة يشير فيه إلى منزلة عدي منه وإلى خسارته بوفاته وإلى عظم المصيبة، ويوصي كسرى بالولد خيرًا. فلما وصل زيد إلى كسرى، جعله مكان أبيه وصرف عمه إلى عمل آخر،

_ 1 الأغاني "2/ 109" "دار الكتب المصرية". 2 شعراء النصرانية "ص 450". 3 الأغاني "2/ 115 وما بعدها". 4 مجالس العلماء "162 وما بعدها".

فكان هو الذي يلي ما يكتب به إلى أرض العرب وخاصة الملك. ولما مضى وقت على زيد في هذه الوظيفة، وقع عند الملك بهذا الموقع مكانًا حسنًا، وتعالت منزلته عنده. ولما اطمأن إلى مركزه أخذ يدبر مكيدة الانتقام من النعمان قاتل أبيه حتى نجح في مسعاه، إذ قبض عليه كسرى فبعث به إلى سجن خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه. وفي رواية أنه مات بساباط1. وقد رجح الطبري رواية خانقين، وأنه مات بسحق الفيلة به. وفي رواية أخرى أنه سجن في القطقطانه في البر2. وهكذا نجد الرواة يذهبون جملة مذاهب في سجن النعمان. والذين يروون أن حبس النعمان كان بساباط يستشهدون بشعر للأعشى جاء فيه: فداك وما أنجى من الموت ربه بساباط حتى مات وهو محرزق3 وقد ذكر المسعودي قصة حبس النعمان ووفاته فقال: "وأمر كسرى النعمان فجلس في مجلسه بساباط المدائن، ثم أمر به فرمي تحت أرجل الفيلة، وقال بعضهم: بل مات في محبسه بساباط"4، مما يدل على أنه وفاته كانت في المدائن. وفي رواية سريانية أن كسرى بعد أن قبض على النعمان بن المنذر وأولاده سقاهم سمًّا فماتوا، وعصى عندئذ العرب الفرس وأخذوا يهاجمونهم. فأرسل كسرى قائدًا سمته الرواية بـ "بولر" تولى أمر الحيرة، ولكنه لم يتمكن من ضبط أمورها، لشدة أهلها، فانصرف عنها وترك أمرها لمرزبان اسمه "رزوبى

_ 1 البلدان "7/ 125"، ابن الأثير "1/ 173"، "وهو ساباط كسرى بالمدائن، اللسان "7/ 311"، "سبط". 2 البلدان "7/ 125"، الأغاني "2/ 28"، نوادر المخطوطات، المجموعة الثالثة "251". 3 الأغاني "6/ 65" "دار الكتب المصرية"، الكامل، لابن الأثير "1/ 185 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 100 وما بعدها"، "هو ساباط كسرى بالمدائن، وبالعجمية بلاس آباد، وبلاس اسم رجل، ومنه قول الأعشى: فأصبح لم يمنعه كيد وحيلة ... بساباط حتى مات وهو محرزق يذكر النعمان بن المنذر وكان "أبرويز حبسه بساباط ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة. وساباط: موضع، قال الأعشى: هنالك ما أغنته عزة ملكه ... بساباط حتى مات وهو محرزق اللسان "7/ 311"، "سبط". 4 مروج "2/ 26"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "ثم النعمان بن المنذر، وهو الذي قتله أبرويز تحت أرجل الفيلة، وهو آخر ملوك لخم". مفاتيح العلوم "96".

مرزوق"، أقام في برية الحيرة في حصن حفنة، وأخذ يقاتل منه الأعراب1. وفي رواية لـ "حمزة الأصفهاني" أن كسرى لما سخط على النعمان بن المنذر واستدرجه إليه من وسط البادية، رمى به إلى أرجل الفيلة، واستباح أمواله وأهله وولده، وأمر أن يباعوا بأوكس الأثمان2. وتذكر بعض الروايات سبب غضب "كسرى" على النعمان، أن "زيد" وهو ابن المقتول "عدي بن زيد" الذي نال مكانة عظيمة عند كسرى، أو عمه، كانا قد دبرا مكيدة للإيقاع بالنعمان. فلما طلب "ابرويز" النساء دخل عليه "زيد"، فكلمة فيما دخل فيه، ثم قال: إني رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عالمًا، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. قال فتكتب فيهن. قال: أيها الملك، إن شر شيء في العرب وفي النعمان خاصة أنهم يتكرمون عن العجم، فأنا أكره أن يغيبهن، فابعثني وابعث معي رجلًا من العجم من حرسك يفقه العربية، حتى أبلغ ما تحبه. فبعث معه رجلاً جليدًا فخرج به زيد حتى بلغ "الحيرة". فلما دخل على الملك النعمان، قال: إنه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك. فشق عليه، فقال لزيد: أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا؟ فقال زيد للنعمان: إنما أراد كرامتك، ولو علم أن هذا يشق عليك، لم يكتب إليك به. وعادا. فلما دخلا على "كسرى"، وقصا عليه ما وقع وحدث، عرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع. وسكت "كسرى" على ذلك أشهرًا، ثم فعل ما فعل بالنعمان3. وانتقم "زيد" بهذه المكيدة من النعمان قاتل والده. وقد أشير إلى مصرع النعمان في شعر عدد من الشعراء مثل سلامة بن جندل،

_ 1 Histoirenestorienne, Iime Partie, PP. 536, 546. 2 حمزة "ص42". 3 الطبري "2/ 201 وما بعدها"، نوادر المخطوطات، المجموعة الثالثة، رسالة أبي غرسيه "ص 250-251"، رسالة أبي يحيى بن مسعدة "ص277"، رسالة لأبي الطيب بن من القروي "319 وما بعدها".

وقد ورد فيه ذكر القاء كسرى للنعمان تحت أرجل الفيلة1. ويتفق هذا الرأي مع رأي ابن الكلبي ويعارض رواية لحماد جاء فيها أنه مات بحبسه في ساباط2. وذكر أن هانئ بن مسعود الشيباني كان في جملة من رثى النعمان في شعر. وقد نعته بـ "ذي التاج"، ويفهم من رثائه له أن موته كانت تحت أرجل الفيلة، حيث داست على رأسه. وورد في شعر شعراء آخرين أن "فيول الهند" تخبطته وداست عليه3. وهناك قصيدة نسبها بعضهم إلى إلى زهير بن أبي سلمى، ونسبها آخرون إلى صرمة الأنصاري. ذكر فيها كيف ذهب النعمان –قبل ذهابه إلى كسرى- إلى من كان يحسن إليهم، ويغدق عليهم الألطاف، فلما غضب عليه كسرى لم يجره هؤلاء، ولم يساعدوه إلا ما كان من بني رواحة من عبس، فشكرهم النعمان وودعهم وأثنى عليهم، وقال لهم: لا طاقة لكم بجنود كسرى، فانصرفوا عنه4. وساباط: هو على ما يذكره أهل الأخبار، موضع بالمدائن، به كان حبس النعمان على رواية من صرح بأنه كان محبسه لا موضعًا آخر، ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة. وذكر "ابن الكلبي" أنه إنما سمي بساباط نسبة إلى "سابابط بن باما" أخي النخير جان الذي لقي المسلمين في أهل المدائن5. ويظهر من شعر "للأعشى" أن "كسرى" أمر بالنعمان فحبس بـ "ساباط" ثم ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته حتى مات. يقول الأعشى: هو المدخل النعمان بيتًا سماؤه ... نحور الفيول بعد بيت مسردق6 وللبيد بن ربيعة العامري قصيدة نظمها في رثاء النعمان. من أبياتها: له الملك في ضاحي معد وأسلمت ... إليه العباد كلها ما يحاول

_ 1 شعراء النصرانية "ص 491". 2 شعراء النصرانية "ص 464". 3 مروج الذهب "2/ 101". 4 شعراء النصرانية "ص 584"، الكامل، لابن الأثير "6/ 287" "الطباعة المنيرية"، مروج الذهب "2/ 101". 5 ديوان الأعشى، قصيدة 26، "ص128"، اللسان، "7/ 308" بيروت 1956م، البلدان "3/ 166"، دائرة المعارف الإسلامية، لمحمد فريد وجدي "7/ 24". 6 المعارف "ص 650".

وضاحي معد، بمعنى ظاهر معد، لا في معد نفسها؛ لأن "رب معد" في أيامه هو "حذيفة بن بدر". أما النعمان فهو ملك على ما وراء ديار معد. والعباد هنا هي القبائل النصرانية المعروفة من أهل الحيرة1. وقد ذكر الأخباريون أنه كان يتوقع أن يدبر له كسرى مكيدة، فقرر أن ينجو بنفسه قبل حلولها به، فلحق بجبلي طيء، وكان متزوجًا إليهم، فأراد النعمان أن يدخلوه الجبلين ويمنعوه، فأبوا عليه خوفًا من كسرى، فأقبل وليس أحد من العرب يقبله حتى نزل "ذو قار" في بني شيبان سرًّا، فلقي هانئ بن مسعود الشيباني، وكان سيدًا منيعًا، فأودعه أهله وماله وسلاحه، ثم توجه بعد ذلك إلى كسرى، حيث لقي مصرعه2. أما زوجة النعمان هذه، فهي ابنة "سعد بن حارثة بن لأم الطائي"، وهو من أشراف طيء البرص، وكان "النعمان" قد جعل لبني لأم بن عمر ربع الطريق طعمة لهم، وذلك بسبب زواجه المذكور3. وذكر أن أحد أولاد "النعمان بن المنذر" كان شاعرًا، وقد عرف بـ "المحرق" فلما سمع بقتل "كسرى" لأبيه، قال شعرًا يخاطبه فيه، منه قوله: قولا لكسرى، والخطوب كثيرة ... إن الملوك بهرمز لم تحبر4 ويروى أن النابغة الذبياني لما سمع بمقتل النعمان، رثاه بأبيات. وهي إن صح أنها من شعر النابغة حقًّا، تدل على أن هذا الشاعر قد عاش أيضًا بعد مقتل النعمان5. وروي، أن "زهير بن أبي سلمى" رثى النعمان كذلك6. ويروي أهل الأخبار شعرًا زعموا أن "عدي بن زيد" قاله لأهل بيت النعمان، هو:

_ 1 شرح ديوان لبيد "ص 257". 2 الكامل "1/ 173". 3 المحبر "ص 301"، الأغاني "حاتم الطائي". 4 المؤتلف "ص 185". 5 العقد الثمين، "ص 164". شعراء النصرانية "ص 820"، النابغة الذبياني، لعمر الدسوقي "ص 108". 6 الكامل، لابن الأثير "1/ 285 وما بعدها".

فلا يمينًا بذات الودع لو حدثت ... فيكم، وقابل قبر الماجد الزارا وقد علق "ابن قتيبة الدينوري" عليه بقوله: "ذات الودع. صنم كان بالحيرة، ويقال: بل هي الإبل التي تسير إلى مكة، يعلق عليها الودع، ويقال: إن مكة، يقال لها: ذات الودع. وواجه قبر النعمان الزار، وهي الأجمة، أي: دفن حذاءها1". إذن لبؤتم بجمع لاكفاء له ... أوتاد ملك تليد، جده بارا قال: "أي لو مات لغزتكم الجيوش، فأقررتم، أو رجعتم بجيش لا مثيل له، أوتادًا لملك قديم قد سقط جده، أي: صرتم كذلك. وهو منصوب على الحال، ولا يجوز أن يكون منصوبًا على النداء؛ لأنه لا يجوز أن يدعوهم بذلك والنعمان لم يمت"2. وذكر أن ملك النعمان بلغ اثنتين وعشرين سنة. وعلى رأس ثلاث سنين وثمانية أشهر مضت من ملكه، كان الفجار الأكبر، فجار البراض، وهو لتمام عشرين سنة من مولد الرسول، ولثماني عشرة سنة وثمانية أشهر مضت من ملك النعمان بنيت الكعبة وذلك لإحدى عشرة سنة مضت من ملك أبرويز كسرى بن هرمز3. ولا نعلم عن أعمال النعمان الحربية في بلاد الشأم شيئًا يذكر. وقد ذكر حمزة أنه غزا "قرقيسياء" "Circesium"، ولكنه لم يعين تأريخ وقوعها، ويقصد بذلك بالطبع غارة أغارها على أرض الروم4. ولم ينسب غيره من المؤرخين العرب أو السريان إليه حروبًا أخرى أجج نارها في بلاد الشأم.

_ 1 المعاني الكبير "2/ 838"، "والودع: وثن. وذات الودع: وثن أيضًا. وذات الودع: سفينة نوح، عليه السلام، كانت العرب تقسم بها فتقول: بذات الودع، قال عدي بن زيد العبادي: كلا يمينا بذات الودع لو حدثت ... فيكم وقابل القبر الماجد الزارا يريد سفينة نوح عليه السلام يحلف بها ويعني بالماجد النعمان بن المنذر، والزار أراد الزارة بالجزيرة، وكان النعمان مرض هناك، وقال أبو نصر: ذات الودع مكة؛ لأنها كان يعلق عليها في ستورها الودع، ويقال: أراد بذات الودع الأوثان". اللسان "8/ 387". 2 المعاني الكبير "2/ 838". 3 المحبر "360"، حمزة "74"، مروج الذهب "2/ 24". 4 حمزة "ص 73".

وقد ورد في حديث الطبري عن قصة سجن النعمان لعدي ما يفيد أن النعمان خرج يريد البحرين، فأقبل رجل من غسان، فأصاب في الحيرة ما أحب وقد قيل: إن هذا الرجل هو "جفنة بن النعمان الجفني"1. ولعل هذه الغارة هي واحدة من جملة غارات قام بها الغساسنة على الحيرة. وفي شعر النابغة الذبياني إشارات إلى أمثال هذه الغارات2. ويفيد خبر رواه المؤرخ "ثيوفلكتس" "Theophylaktus" أن عرب الروم أغاروا على عرب الفرس حوالي سنة "600م"، أي في أثناء الصلح الذي عقد بين الروم والفرس3. وقد ذكر "الطبري" أن هذه الغزوة كانت في أيام وجود عدي بن زيد في سجنه فلما سمع عدي بها قال: سما صقر فأشعل جانبيها ... والهاك المروح والغريب4 وقد ورد اسم "السيلحون" في جملة المواضع التي كان يجيبها النعمان، وذلك في شعر لأعشى قيس5. ويقع السيلحون في البرية بين الكوفة والقادسية، كما ورد اسم هذا الموضع في شعر لهانئ بن مسعود الشيباني يرثي فيه النعمان ويذكر قتل كسرى إياه6. ويظهر أنه كان من جملة المسالح التي تحمي الحدود من البادية. والمسالح هي مواضع في الثغور يوضع فيها الجنود والمسلحون لحماية الحدود من الأعداء7. ولم يكن النصر حليف النعمان في اليوم المعروف بيوم الطخفة "يوم طخفة"، وهو يوم نسبه بعض الأخباريين أيضًا إلى قابوس بن المنذر بن ماء السماء. كما نسبه

_ 1 الطبري "2/ 148". 2 ديوان النابغة "27، 35" "طبعة Rothstein. S. 112. Ahiwardt 3 Theophylaktus. VIII. I. Noldeke. Ghass. S. 39 Rothstein, S. 112. 4 الطبري "2/ 198" "دار المعارف". 5 ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بأمته يعطي القطوط ويأفق وتجبى إليه السيلحون ودونها ... صريفون في أنهارها والخورنق شعراء النصرانية "ص 383"، البكري، معجم "3/ 772"، تاج العروس "9/ 231"، مراصد "2/ 767". 6 البلدان "5/ 196". 7 البلدان "5/ 198" وما بعدها.

بعض آخر إلى المنذر بن ماء السماء. وخلاصة الحادث: إن حاجب بن زرارة الدارمي التميمي سأل النعمان أن يجعل الردافة للحارث بن بيبة بن قرط بن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي. وكانت لبني يربوع، يتوارثونها صغيرًا عن كبير، وكان الرديف يجلس عن يمين الملك. فلما سأل النعمان موافقتهم على نقل الردافة منهم، أبوا ذلك، لما لها من منزلة ومكانة، فبعث إليهم قابوسًا ابنه وحسان أخاه على رأس جيش كثيف فيهم الصنائع والوضائع وناس من تميم وغيرهم، فساروا حتى أتوا طخفة، فالتقوا هم ويربوع واقتتلوا، وصبرت يربوع وانهزمت جموع النعمان، وأخذ قابوس وحسان أسيرين. فلما بلغ خبر هذه الهزيمة سمع النعمان طلب من أحد بني يربوع –وهو شهاب بن قيس بن كياس اليربوعي- أن يذهب عاجلًا إلى بني يربوع ليفك أسر ابنه وأخيه مقابل إعادة الردافة إليهم وأداء دية الملوك وهي ألف بعير للرجل الواحد. وبذلك صالح مرغمًا "بني يربوع". وهذا اليوم من الأيام التي يفاخر بها أبناء يربوع. وقد ورد ذكره في شعر مالك بن نويرة1 والأحوص2 وجرير3. ويذكر أهل الأخبار أن "النعمان بن المنذر" طلب "مالك بن نويرة"، وكان قد أراد استرضاءه، وهو من "بني يربوع"، فأبى، وهرب منه، وقال فيه شعرًا يهجوه، منه: لن يذهب اللؤم تاج قد حييت به ... من الزبرجد والياقوت والذهب4 ويدل ذلك على أن "النعمان"، كان يتوج رأسه بتاج، فيه ذهب وأحجار كريمة. وكان "مالك بن نويرة اليربوعي" من "بني تميم"؛ لأن "بني يربوع" منهم، وقد لقب بـ "الجفول". وهو شاعر شريف، وأحد فرسان بني يربوع ورجالهم المعدودين في الجاهلية، ومن أرداف الملوك، أي ملوك الحيرة. وقد أدرك الرسول، فأسلم، وعينه على صدقات قومه فلما بلغ وفاة الرسول، أمسك

_ 1 ابن الأثير، الكامل "2/ 272 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 102". 2 البلدان "3/ 518". 3 البكري "1/ 452". 4 الجواليقي "ص 356".

الصدقة، وفرقها في قومه، وجفل إبل الصدقة، فسمي الجفول. قتله "ضرار بن الأسود الأسدي" بأمر خالد بن الوليد1. وكان نصيب النعمان من يوم السلان كنصيبه من يوم الطخفة، وسبب وقوع هذا اليوم هو أن بني عامر بن صعصعة، وكانوا حمسًا لقاحًا متشددين في دينهم لا يدينون للملوك، تعرضوا للطيمة كان الملك النعمان بن المنذر يريد إرسالها إلى عكاظ لبيعها في السوق. وكان من عادته إرسال لطيمة إلى عكاظ كل عام لتباع هناك. فلما بلغ النعمان الخبر، غضب فبعث إلى أخيه لأمه، وهو "وبرة بن رومانس الكلبي"، وإلى صنائعه وهم من مكان يصطنعه من العرب ليغزو بهم، والوضائع وهم الذين كانوا شبه سادة القبائل، وأرسل إلى بني ضبة بن أد وغيرهم من الرباب وتميم فجمعهم، فأجابوه، وأتاه ضرار بن عمرو الضبي في تسعة من بنيه كلهم فوارس ومعه جبيش بن دلف، فاجتمعوا كلهم في جيش عظيم. وأرسل النعمان معهم تجارة، وأمرهم ألا يتحرشوا ببني عامر إلا بعد الانتهاء من عكاظ ومن الأشهر الحرم. فلما انتهوا من عكاظ، أحست قريش بنيات جماعة النعمان، فأخبروا بني عامر وحذروهم فاستعدوا للقتال. فلما وصل أصحاب النعمان إليهم، قاتلوهم عند موضع السلان، وهو موضع قريب من منازل بني عامر، وتغلبوا عليهم، وأسروا وبرة بن رومانس الكلبي وعددًا من رؤساء القوم، وانهزمت جماعة النعمان، ورضي عندئذ من حملته هذه بدفع دية أخيره وبرة ودية عدد من الرؤساء2. ويذكر بعض أهل الأخبار أن الذي أعلم "بني عامر" بعزم الملك النعمان على الانتقام منهم، هو وجيه مكة وثريها: عبد الله بن جدعان3.

_ 1 معجم الشعراء "ص 360". 2 صبح الأعشى "1/ 340"، جمهرة ابن حزم "1/ 381"، ابن خلدون "2/ 255"، القسم الأول، المجلد الثاني، الاشتقاق "237" "الطبعة الأولى بمصر"، ابن الأثير "1/ 268 وما بعدها"، البلدان "5/ 104"، سبائك الذهب، للسويدي "117"، المسعودي مروج "2/ 54"، الطبري "2/ 147"، اليعقوبي "1/ 143"، البكري، معجم "3/ 749"، "لجنة" المختصر، لأبي الفداء "1/ 102" "بيروت"، الروض الأنف، للسهيلي "1/ 133" "الجمالية" نهاية الأرب، للنويري "1/ 412"، ذيل الأمالي للقالي "3/ 147" مرصد "2/ 726"، العقد الفريد "3/ 364". 3 الكامل في التاريخ لابن الأثير "1/ 295".

وكان الذي أسر وبرة "يزيد بن عمرو بن خويلد الصعق"، وقد أبقى "يريد" "وبرة" لديه حتى افتدى نفسه منه، أي من يزيد بن الصعق بألف بعير وفرس. فاستغنى يزيد. فلما أسر "وبرة"، ثبت جيشه "ضرار بن عمرو الضبي"، فقام بأمر الناس، ولكنه وقع في الأسر، ثم وقع رجل آخر من كبار الجيش في الأسر، وهو "حبيش بن دلف"، الذي افتدى نفسه بأربع مئة بعير، وهزم جيش النعمان1. وقد تعرضت لطيمة النعمان مرة أخرى إلى النهب حينما وكل أمر حمايتها إلى رجل من هوازن، فتربص بها رجل خليع معروف اسمه "البراض بن قيس بن رافع" من بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فقتل حامي القافلة وساق الركاب2. وكان من عادة النعمان أن يشتري بثمن اللطيمة الأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشى والمسير والعدني من سوق عكاظ3. وذكرت إحدى الرويات أن الذي كان يجيز لطيمة النعمان له هو "سيد مضر"4 ولم تذكر اسم سيد مضر إذ ذاك. وورد أن "البراض" وهو "رافع بن قيس" كان من فتاك الجاهلية المعروفين. وكان حالف بني سهم من قريش، فعدا على رجل من هذيل فقتله، فخلعه بنو سهم، ثم جاء إلى "حرب بن أمية" فحالفه، فعدا على رجل من خزاعة فقتله وهرب إلى اليمن، ثم جاء مكة بعد سنة، فإذا الهذليون والخزاعيون يطلبونه وقد خلع، فلحق بالحيرة، فوافق وفود العرب بالحيرة عنده. فأقام يطلب الإذن معهم، فلم يصل إليه حتى خرج النعمان فجلس للناس بالحيرة وكانت لطائمه التي توافي سوق الموسم إذا دخلت تهامة لم تهج، حتى قتل النعمان أخا بلعاء بن قيس الكناني، فجعل "بلعاء" يعترض لطائمه فينتهبها. فخاف النعمان على لطيمته، فقال يومئذ: من يجير هذه العير؟ فقال البراض: أنا أجيرها لك. فقال الرحال عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب: أنا أيها الملك أجيرها لك من الحيين كليهما، وسخر من الرحال وازدراه. فدفع النعمان اللطيمة إلى عروة

_ 1 أيام العرب "108". 2 شرح ديوان لبيد "ص 48". 3 الأغاني "19/ 75". 4 الأغاني "19/ 75".

الرحال، فتعقبها البراض، حتى إذا انتهى عروة إلى أهله دوين الجريب بماء يقال له "أوارة"، أنزل اللطيمة وخل قبته فنام، ووثب عليه البراض فقتله، ثم أتى خيبر، فكان بسببه حروب الفجاء بين كنانة وقيس1. وقد عرف بعض العلماء اللطيمة بأنها "سوق المسك" أو العير التي كانت تحمل المسك، ولكن اللطيمة قافلة كانت تحمل تجارة يرسلها ملوك الحيرة، ولا سيما النعمان بن المنذر إلى سوق عكاظ خاصة لبيعها هناك، وكانت تعود محملة بما تشتريه من تجارة اليمن والحجاز، وما يأتي به العرب وسائر التجار إلى السوق في أثناء الموسم. وهي تجارة ثمينة تعود على النعمان بأرباح طائلة وثروة كبيرة. ولوصولها سالمة إلى السوق ثم لعودتها سالمة من السوق إلى الحيرة، كان لا بد من حمايتها بوضعها في جوار سادات أقوياء شجعان يتعهدون بإمرارها بسلام في أرض قبائلهم ثم تسليمها إلى سادات الأرض التي تليهم، وهكذا إلى السوق أو العكس. وقد يقوم مجير اللطيمة نفسه بتولي اللطيمة في الذهاب والأوبة، لمقامه ولوجود عهود جوار بينه وبين سادات القبائل الأخرى، وإلا تعرضت اللطيمة للسلب والنهب. وإذا ما أغضب الملك خفراء اللطيمة، أو انتزاع الخفارة منهم فأعطاها لأناس آخرين، أو أزعج بعض سادات القبائل التي تمر القافلة في أرضهم، فلن ينفعه ملكه في حماية سلامة القافلة، فتنهب فلا يقبض منها شيئًا ما، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئًا؛ لأن سلطانه لا يصل إلى كل مكان2. وفي أيام النعمان كان يوم شعب جبلة، وهو لعامر وعبس على ذبيان وتميم، وهو من أيام العرب المشهورة في نظر الأخباريين. وقد اشترك النعمان فيه بمساعدته لقيط بن الجون الكلبي ملك هجر، وإرساله أخاه لأمه حسان بن وبرة الكلبي لمعاونة لقيط، ويلاحظ أن الرواة قد لقبوا لقيطًا بلقب ملك، وأشاروا إلى اشتراك جملة ملوك في هذا اليوم3. وكان حسان بن وبرة شقيق النعمان لأمه رئيسًا على ضبة. وقد أسره يزيد بن الصعق في الغارة التي قامت بها بنو عامر على تميم وضبة، وانهزمت فيها

_ 1 المحبر "ص 196". 2 الكامل في التاريخ "1/ 358". 3 العقد الفريد "6/ 10 وما بعدها" "طبعة العريان".

تميم. وقد فادى حسان نفسه من يزيد بن الصعق بألف بعير هي فدية الملوك. كما سبق أن ذكرت. وأغار يزيد بعد ذلك على عصافير النعمان وهي إبل معروفة شهيرة كانت إذ ذاك بمكان يسمى ذا ليان1. ويذكر أن "يوم العذيب" كان في عهد حكم "النعمان". وكان "النعمان" قد بعث إلى "الأصهب الجعفي" ينكر عليه بلوغ "سعد بن زيد مناة" و"عنزة" العذيب، فحشد "الأصهب" لهم ولقيهم، فقتلوه، قتله "الأحمر بن جندل"، وانهزمت اليمانية هزيمة شديدة، وأخذ منهم مال كثير وسبي2. وروى أهل الأخبار أن "النعمان بن المنذر" لما توج واطمأن به سريره، دخل عليه الناس، وفيهم أعرابي، فأنشأ يقول: إذا سست قومًا فاجعل الجود بينهم ... وبينك تأمن كل ما تتخوف فإن كشفت عنك الملمات عورة ... كفاك لباس الجود ما يتكشف فقال: مقبول منك نصحك، ممن أنت؟ قال: أنا رجل من جرم، فأمر له بمئة ناقة، وهي أول جائزة أجازها3. ويقال إن "المنذر" أحد أبناء النعمان بن المنذر سقط قتيلًا على يد رجل من تغلب يدعى مرة بن كلثوم، وهو أخو عمرو بن كلثوم، ويقال إنه قتل أيضًا ابنًا آخر من أبناء النعمان4. وكانت للنعمان كتائب يقاتل بها هي: الرهائن والصنائع والوضائع والأشاهب والدوسر. وقد اشتهرت هذه الكتيبة الأخيرة بالشدة وبقوة البطش، فقيل في أمثالهم "أبطش من دوسر"5. أما الصنائع، فقد ورد في بعض الروايات أنهم جماعة كان يصطنعهم الملك من العرب ليحارب بهم، وكان يأخذهم من "بني ثعلبة" خاصة، يتخذهم كالحرس لا يبرحون بابه. وأما الرضائع، فألف رجل من الفرس، يخدمون الملك ليقاتل بهم، ويستبدلون بمثلهم كل سنة.

_ 1 العقد الفريد "6/ 41 وما بعدها". 2 العمدة "2/ 217". 3 الأمالي للقالي "1/ 329" "بيروت". 4 Rothstein, S. 112. 5 الميداني. مجمع الأمثال "781".

ويذكر أهل الأخبار أنه كان للنعمان بن المنذر أخ من الرضاعة يقال له "سعد القرقرة" من أهل "هجر" كان من أضحك الناس وأبطلهم، وكان يضحك النعمان ويعجبه1. وذكر أن أناسًا من البطالين المضحكين كانوا يأتونه لإضحاكه ولنيل جوائزه. وذكروا منهم "العيار بن عبد الله الضبي" وكان بطالًا، يقول الشعر، ويضحك الملوك2. وقد كان النعمان بن المنذر مثل عمرو بن هند محبًّا للشعر والشعراء، والخطب والخطباء، وقد جعله الأخباريون من خير خطباء زمانه، كالذي يظهر من كلامه مع كسرى، وقد ذكر أنه قال له في مجلس كان حافلًا بوفود الروم والهند والصين، اجتمعوا عند كسرى. كما نسب إليه وفد ضم أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميمي، والحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين، وخالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين، وعمرو بن الشريد السلمي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي والحارث بن ظالم المري، وكانوا خيرة من عرف بالخطابة وحسن الكلام في تلك الأيام3. وروى الأخباريون شعرًا من الشعر الذي قاله أصحابه في حضرة النعمان أو في مدحه وفي مدح آل لخم، كما رووا شعرًا في هجائه، ورووا بعض ما قيل في حضرته من حديث وبعض ما صادفه الشعراء حين كانوا يقصدونه لنيل ما يبتغون مثل حديث حسان بن ثابت الشاعر المخضرم المعروف4 فقد زاره ومدحه غير أن هواه كان إلى الغساسنة أكثر منه إلى آل لخم. فقد كان يفتخر بهم، ويسامي الناس بهم، وينال جوائزهم حتى وإن لم يكن عندهم. يرسلونها إليه إن لم يكن في استطاعته أن يشخص إليه5. وقد جاء في شعر لـ "حسان بن ثابت" أنه زار "ابن سلمى"، أي

_ 1 الفاخر "ص56". 2 وفد على النعمان بن المنذر فقال له: أبيت اللعن وأسعدك إلهك ... سلخ التيس وذبحه مستهجن الفاخر "ص 56". 3 العقد الفريد "1/ 253 وما بعدها" "طبعة العريان"، بلوغ الأرب "3/ 147 وما بعدها". 4 العقد الفريد "1/ 267"، الأغاني "15/ 27" "دار الكتب المصرية"، العقد الفريد "2/ 22". 5 العقد الفريد "2/ 22".

"النعمان بن المنذر"، وأنه أكرمه وقدره وحباه، وتكلم إليه في جماعة من قومه، كانوا في سجنه مقيدين مكبلين بالسلاسل حتى صفح عنهم، وأطلق لهم حريتهم، وهم أبي ونعمان وعمرو ووافد، وهم جماعة من أهل يثرب، كانوا قد حبسوا في سجن "النعمان". فأما "أبي"، فهو "أبي بن كعب بن قيس بن معاوية" من "بني النجار". وأما "نعمان"، فإنه نعمان بن مالك بن قوقل بن عوف بن عمرو"، وأما "وافد"، فإنه "وافد بن عمرو بن الإطنابة بن عامر" من الخزرج. ولم يذكر "حسان" سبب حبس "النعمان" لهم، ووضعهم في السجن مكبلين بالحديد، مقفولًا عليهم1. وقد ذهب "نولدكه" إلى احتمال كون "ابن سلمى" أميرًا من أمراء الغساسنة، كما ذهب إلى أن "أبيًّا" الذي كان في جملة المحكومين هو "أبي بن ثابت" وهو شقيق حسان2. ويظهر من كلام أهل الأخبار أن النابغة الذبياني كان من أكثر الشعراء صلة بالنعمان، وفي الشعر الذي يرويه الأخباريون عنه وينسبون قوله إليه، شيء كثير من المناسبات التي وقعت بين الملك وبين هذا الشاعر، وقد استاء خصوم النابغة من قربه من النعمان، ونيله جوائزه وألطافه، فسعوا به إليه حتى غضب عليه، وهم بقتله، ولم ينجه من القتل إلا هربه من آل جفنه ملوك عرب الشأم، فبقي في كنفهم مدة، ثم عاوده الحنين إلى صاحبه وحاميه القديم النعمان، فاعتذر إليه، وتنصل من التهم التي ألصقها خصومه به، وعاد يأخذ جوائزه ونعمه كما كان3. وذكر أن النعمان بن المنذر كان يكرم "النابغة" ويحبوه دومًا، أمر له مرة بمائة ناقة بريشها من نوق عصافيرة، المعروفة بهجائن النعمان، وجام وآنية من فضة، وكانوا إذا حبا الملك بعضهم بنوق يغمزون في أسنمتها ريش النعام ليعلم أنها حباء الملك4. ذكر "حسان بن ثابت" أنه وفد على النعمان بن المنذر فمدحه

_ 1 البرقوقي "ص 114، 377"، ديوان حسان "P.17" "هرشفلد". 2 غسان "ص 47". 3 الأغاني "15/ 27 وما بعدها" "دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "641، 649 وما بعدها"، المعاني الكبير "2/ 1130"، أمالي المرتضى "1/ 264". 4 أمالي المرتضى "1/ 265 وما بعدها".

وأجازه الملك على مدحه وأكرمه. وبينا هو جالس عنده ذات يوم، إذا بالنابغة يدخل قبة الملك، وكان يوم ترد فيه النعم السود، ولم يكن بأرض العرب بعير أسود إلى له، فأنشده كلمته التي يقول فيها: كأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب فدفع إليه مائة ناقة من الإبل السود، فيها رعاؤها، فما حسدت أحدًا حسدي النابغة، لما رأيت من جزيل عطيته وسمعت من فضل شعره1. ويذكر المسعودي أن النابغة دخل على النعمان يومًا، وكان عنده نديمه خالد بن جعفر الكلابي، وكان ممن يعطف على النابغة، فمدح النعمان بشعر، "فتهلل وجه النعمان بالسرور، ثم أمر فحشي فوه جوهرًا، ثم قال: بمثل هذا فلتمدح الملوك"2. وتذكر رواية أخرى أن النابغة لما سأل حاجب النعمان الاستئذان للدخول عليه، قال له الحاجب: الملك على شرابه. ولما سأله: من عنده؟ قال: خالد بن جعفر بن كلاب! فتوسل إليه بأن يبلغه تحية النابغة، وأن يسهل له الدخول على الملك، ففعل وأمر النعمان حاجبه بإدخاله عليه. فلما دخل، سلم عليه وحياه بتحية الملك، وجلس وهو يقول: "أيها الملك. أيفاخرك صاحب غسان؟ فوالله لقفاك أحسن من وجهه، ولشمالك أجود من يمينه، ولأمك خير من أبيه ولغدك أسعد من يومه. فضحك النعمان. ثم قال لخالد: من يلومني على حب النابغة؟ ألك حاجة؟ قال: نعم. فقضى حوائجه بأسرها، وأحسن جائزته، فانصرف داعيًا له"3. ويذكر الأخباريون أن آخر مرة اتصل بها النابغة بالنعمان كانت في أثناء مرض الملك النعمان. وكان النابغة هاربًا آنذاك على أثر الوشاية به. فلما سمع النابغة بمرضه آثر السفر إليه، والاعتذار منه. فلما وصل الحيرة، كان الملك لا زال مريضًا، شديد المرض. وقد حمل سريره على العادة المتبعة عند مرض الملوك مرضًا شديدًا،

_ 1 الشعر والشعراء "ص 71، 75"، "النابغة الذبياني". 2 مروج "2/ 25" طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 3 مجالس العلماء "259 وما بعدها" "عبد السلام محمد هارون"، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي.

يشرف فيه على الموت. فاستأذن للنابغة في الدخول عليه وإنشاده ما نظمه في مدحه فسمح له بالدخول. وأنعم النعمان بالنعم عليه. وهناك روايات تذكر أنه عاد إليه قبل هذا الحادث، فقبل عذره وعفا عنه1. وفي جملة من كان له شرف الاتصال بالنعمان، وبنيل هباته وجوازه من الشعراء: المنخل اليشكري، والمثقب العبدي، والأسود بن يعفر، وحاتم الطائي وأمثال هؤلاء. وللأسود بن يعفر شعر معروف، ذكر فيه "آل محرق" و"الخورنق" و" السدير". وله أشعار أخرى ذكرها الرواة. وكان قد أقام مدة عند النعمان ينادمه ويؤاكله2. ويذكر أن المنخل اليشكري كان ينادم النعمان وينشده القصائد، وكان النعمان يكرمه ويقربه إليه، غير أنه يؤثر شعر النابغة على شعره، وهذا مما غاظ المنخل وجعله يسعى للإيقاع به3. فأوغر صدر النعمان عليه، حتى هم بقتله، فهرب النابغة منه، وخلا المنخل بمجالسة النعمان، وأصبح من أقرب المقربين إليه. ولكن الدنيا كما يقول الناس لا تدوم، فما لبث مدة حتى انقلب الحظ على المنخل، فدفع به إلى "عكب" صاحب سجن النعمان، وهو من بني تغلب، فسجنه وعذبه ثم قتله. وقيل بل دفن حيًّا أو أغرق. ومهما يكن من شيء، فلم تكن خاتمة هذا الواشي خاتمة حسنة، وضرب بنهايته المثل كما ضرب بالقارظ العنزي وأشباهه ممن هلكوا ولم يعلم لهم خبر4. ويروى أن "يزيد بن خذاق" الشاعر، وهو من "الهيصم"، كان قد هجا "النعمان بن المنذر"، فبعث النعمان كتيبته التي يقال لها "دوسر"، فاستباحت قومه5. ويذكر أن "لبيد بن ربيعة" كان في وفد زار "النعمان بن المنذر"، فيه

_ 1 الأغاني "15/ 28 وما بعدها"، الشعر والشعراء "ص77". 2 الأغاني "11/ 128 وما بعدها" "مطبعة التقدم"، الشعر والشعراء "176"، المعارف "ص646 وما بعدها، ابن هشام، سيرة "1/ 91، الأمالي، للقالي "1/ 25، 71". 3 شعراء النصرانية "ص 641 وما بعدها". 4 شعراء النصرانية "ص 421 وما بعدها". 5 الاشتقاق "2/ 200".

أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ملاعب الأسنة، وإخوته طفيل ومعاوية وعبيدة، لقضاء بعض حوائج لهم، فوجدوا عنده "الربيع بن زياد العبسي"، وكان يسمى الكامل، يأكل مع النعمان تمرًا مع زبد، وكان ينادمه ومعه رجل من أهل الشأم، يقال له "سرجون بن توفل" "نوفل"، وكان حريفًا للنعمان، من "الربيع" ومعهما "النطاسي" وهو طبيب كان له، ومن ندمائه، فنظم "لبيد" أبياتًا نابية منفرة في "الربيع بن زياد"، جعلت "النعمان" يعاف من مؤاكلته فتركه1. ولما كتب "الربيع بن زياد" إلى النعمان في ذلك، كتب النعمان إليه: "إنك لست قادرًا على رد ما تكلمت به الألسن، فالحق بأهلك"، ثم كتب إليه شعرًا، كان مما جاء فيه: قد قيل ما قيل إن حقًّا وإن كذبا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا2 ويقال إن "النعمان بن المنذر"، نظر إلى "شبق بن ضمرة"، المعروف بـ "ضمرة بن ضمرة"، وهو من رجال "بني تميم" في الجاهلية، وله لسان وبيان وكلام، فقال "تسمع بالمعيدي لا أن تراه" "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". فقال "ضمرة". "أبيت اللعن، إن الرجال لا تكال بالقفزان، ولا توزن بالميزان". واليمانية تجعل هذا للصقعب النهدي، سيد بني نهد، الذي أخذ مرباعهم دهرًا. وإلى النعمان هذا نسب بعض الأخباريين قتل عبيد بن الأبرص، وذلك لظهروه في يوم بؤس النعمان3. وقد عد يوم عبيد من أيام الشؤم، وضرب به المثل فقيل "يوم عبيد". وإلى النعمان هذا نسب بعض الأخباريين قتل "عمرو بن مسعود" وخالد بن نضلة"، وقد استولوا عليه بشعر لبرة بن عمرو الأسدي4.

_ 1 الفاخر "ص141 وما بعدها"، الأغاني "16/ 22"، نزهة الجليس "2/ 507" وما بعدها". 2 نزهة الجليس "2/ 509 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 189 وما بعدها". 3 حمزة "ص73"، مجاني الأدب "3/ 309"، شعراء النصرانية "ص 600". 4 قال أبو تمام: من بعد ما ظن الأعادي أنه ... سيكون لي يوم كيوم عبيد شعراء النصرانية "602"، اللسان: "4/ 267"، "خ ي ر".

وقد نسب حمزة إلى النعمان بناء الغريين وغريهما بدم من يقتله في يوم بؤسه1. وقد رأينا فيما سلف أن الأخباريين من نسب بناءهما وقصة يومي البؤس والنعيم إلى المنذر بن ماء السماء. وذكر الأخباريون أنه كانت للنعمان عادات، منها أنه إذا غلب الرجل عنده وفلج على خصمه، زاده وسادة، وأمر فلقم عشر لقمات من طعامه قبل أن يأكل أحد2. وللنعمان حاجب، اشتهر حتى خلد اسمه في الشعر وفي كتب الأدب، واسم هذا الحاجب "عصام"، وهو من رجال "جرم"، وفيه قيل: "نفس عصام سودت عصامًا"، وكان النعمان إذا أراد أن يبعث بألف فارس، بعث بعصام. ولخطر مركزه؛ ولأن في استطاعته إدخال من يريد الوصول إلى النعمان أو تأخيره أو منعه، كان الناس يتوددون إليه ليوصلهم إلى الملك، وقد أشار "النابغة"، إذ قال: فإني لا ألومك في دخول ... ولكن ما وراءك يا عصام3 وكان النعمان في أول عهده عابد وثن، يتعبد للعزى، ويذبح الذبائح للأوثان، ثم رأى رأيًا فغير دينه، ودخل في النصرانية. ولبعض مؤرخي الكنيسة ولبعض الأخباريين قصص في كيفية اهتدائه إلى النصرانية، مرجعها قصص نصارى أهل الحيرة على ما يظهر. يحدثنا أصحاب تواريخ الكنيسة أن النعمان ولع به الشيطان وأصيب بلوثة ووسوسة، فحاول الشفاء منها بالتجائه إلى كهنة الأصنام. فلما عجزوا من شفائه، أشير عليه بالالتجاء إلى آباء الكنيسة، فلجأ إلى شمعون بن جابر أسقف الحيرة، وإلى "سبريشوع" أسقف "لاشوم"، و"ايشو عزخا" "ايشوع زخا" الراهب فانتفع بهم، فغير دينه، فتنصر واعتمد وحسن إيمانه، وطرد اليعاقبة من سائر أعماله وتقوت بذلك النسطورية. وكذلك تنصر ولده، ومنهم الحسن والمنذر. وكان الحسن أشد الجماعة تمسكًا بالنصرانية. وقد سبقته

_ 1 حمزة "ص72". 2 شرح ديوان لبيد "ص 404". 3 الاشتقاق "2/ 318".

أختاه هند ومارية إلى الدخول في هذا الدين. وهذه رواية النساطرة في كيفية تنصر النعمان1. أما الأخباريون فينسبون تنصره إلى تأثير عدي بن زيد عليه. وهم يروون أنه خرج ذات يوم راكبًا ومعه عدي بن زيد، فوقف بظهر الحيرة على مقابر مما يلي النهر، فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا! قال: إنها تقول: أيها الركب المخبون ... على الأرض المجدون مثل ما أنتم حيينا ... وكما نحن تكونون ثم قال: رب ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالاً بعد حال فأثر هذا القول –على حد قول الأخباريين- في نفس النعمان، وارعوى، وتنصر2. وقد كان تنصر "النعمان" في حوالي سنة "593م" تقريبًا، وصار يعد نفسه من حماة المذهب النسطوري الذي انتشر في العراق، كما صارت الحيرة من معاقل هذا المذهب أيضًا لدخول أناس من أصحاب الجاه والسلطان فيه. ومن الحيرة خرج "سرجيوس" "Sergios" في أواسط القرن السادس، فذهب إلى اليمن، إلى نجران، حيث قام بالتبشير هناك، مدة ثلاث سنوات حتى وافته منيته بعد ثلاث سنين3. وينسب إلى النعمان أبو قابوس دير اللج، وقد دعي بـ "دير اللجة" في "تأريخ سعرت"، ونسبه إلى اللجة ابنة النعمان. وذكر أن في هذا الدير قبر

_ 1 Histoire Nestorienne, Seconde Partie, P. 468, 478, Evagrius, IV, 22, Pauly-Wissowa 33, 1936, 1254, Die Araber, I, S. 198. 2 حمزة "ص73 وما بعدها"، ذكر صاحب الأغاني هذه الأبيات مع شيء من الاختلاف، الأغاني "2/ 96" "دار الكتب"، معجم الشعراء "ص 249". 3 Die Araber, I, S. 198.

"مار آبا الكبير" الجاثليق1. وينسب أهل الأخبار "شقائق النعمان" إلى "النعمان بن المنذر" فيقولون: "وكان خرج إلى الظهر وقد اعتم نبته من بين أحمر وأخضر وأصفر، وإذا فيه من هذه الشقائق شيء كثير، فقال: ما أحسنها! احموها. فحموها فسميت: شقائق النعمان"2. وذكر أن النعمان كان يعتني بتربية الخيل والإبل والماشية، فكان يشتري خير فصائلها ويحميها لنفسه، ولا يسمح لأحد بالحصول عليها أو تلقيح نعمهم أو خيولهم منها إلا بإذنه. وقد اشتهرت اليحموم والدفوف من جملة خيوله3. وبينما نقرأ في شعر لمالك بن نويرة اليربوعي، أن تاج النعمان بن المنذر كان من ذهب وزبرجد وياقوت4، نرى "المعري" يشير إلى أنه كان خرزات، ولم يكن كتاج المنذر5. وخرزات الملك: جواهر تاجه6. ونجد في كتب الأخبار والأدب، أن وفود العرب كانت تفد على "النعمان بن المنذر"، فيكرمها ويحبوها، ويقضي حوائجها. وكان يتخذ للوفود عند انصرافها مجلسًا يطعمون فيه معه ويشربون. وقد يتفاخر رؤساء الوفود بعضهم على بعض، فيحكمونه في أيهم أفضل. وقد تتحول تلك المفاخرات إلى مخاصمات ومهاترات بسبب ترجيح الملك رئيسًا على آخر7. ونسب حمزة إلى النعمان أربع بنات هن: هند، وحرقة، وحريقة، وعنفقير8. وهند هي البنت الوحيدة التي نعرف عنها شيئًا من بنات النعمان، وقد

_ 1 الحيرة "203". Histoire Nestorienne. Chronigue De Seert Second Partie I, P. 155. 2 المعارف "ص 264"، اللسان "10/ 181 وما بعدها"، الشعر والشعراء "ص 138"، "ليدن". 3 ذيل الأمالي والنوادر، للقالي "ص 185". 4 الجواليقي، المعرب "356". 5 رسالة الغفران "471"، "بنت الشاطئ". 6 اللسان "5/ 345". 7 العمدة "2/ 220 وما بعدها". 8 حمزة "74".

ورد في بعض الروايات أنها لم تكن بنت النعمان، بل كانت أخته1. وذكر أيضًا أن والدها النعمان زوجها من عدي2. وقد عاشت حتى أدركت الإسلام، وكانت مترهبة، فلم تقبل الدخول فيه. ولما ماتت دفنت في ديرها إلى جانب قبر أبيها النعمان. وقد بقي الدير والقبران معروفين مدة طويلة في الإسلام. ويذكر أن "الحرقة" "حرقة" رأت الدنيا كيف أدبرت عن أهلها، ونظرت في حالها بعد هلاك أبيها فقالت: فبينا نسوس الناس، والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف و"السوقة" هم العامة وسواد الناس. وقد ذكر المسعودي هذه الأبيات، وقال إنها قالتها لـ "سعد بن أبي وقاص" يوم أتته في جماعة من قومها، وقد قال إنها كانت "إذا خرجت إلى بيعتها، يفرش لها طريقها بالحرير والديباج مغشى بالخرز والوشي، ثم تقبل في جواريها حتى تصل إلى بيعتها وترجع إلى منزلها. فلما هلك النعمان لفها الزمان فأنزلها من الرفعة إلى الذلة"3. وقد سماها "خرقاء بنت النعمان بن المنذر". ولعله قصد "حرقاء" أو "حرقة"، فحرف النساخ الكلمة وصيرها "خرقاء". وكانت للنعمان جملة نساء، منهن: زينب بنت أوس بن حارثة، وفرعة بنت سعد بن حارثة بن لأم، وقد ولدت له ولدًا وبنتًا، وكانت عنده لما طلبه كسرى، وصار يتجول بين القبائل ليمنعوه4. ومارية الكندية، وهي أم هند التي تزوجها عدي بن زيد5. ويذكر "ابن قتيبة" أنه كانت للنعمان دار في الحيرة عرفت بـ "الزوراء". وقد بقيت قائمة إلى أيام أبي جعفر المنصور، فأمر بهدمها، ولم يذكر السبب

_ 1 الأغاني "1/ 34". 2 Assemani, Bibl. Orient, III, 109, Rothstein, S. 125, Rothstein, S. 125. 3 مروج "2/ 27". 4 الأغاني "1/ 115"، "دار الكتب المصرية". 5 الأغاني "1/ 119".

الذي حمله على ذلك. وقد ذكرها "النابغة" فقال: بزوراء في أكنافها المسك كارع1 وذكر أن في جملة وزراء النعمان عمرو بن بقيلة والد عبد المسيح، وهو صاحب قصر بني بقيلة بالحيرة. وكان عبد المسيح في جملة من اشترك في المفاوضات مع خالد بن الوليد لعقد الصلح وتسليم الحيرة، وله دير بناه في ظاهر الحيرة في موضع يقال له الجرعة عرف بـ "دير الجرعة" وبـ "دير عبد المسيح"2. وقد ورد ذكر زوجة من زوجات "النعمان بن المنذر" في كتب الأدب، هي "المتجردة"3. ويظهر أن "جلم بن عمرو"، كان قد تعرض لها، فبلغ أمره "النعمان" فحمله على أن يركب فرسه "اليحموم"، فأرداه4. وقد وصفها "النابغة" في "الدالية" المنسوبة إليه. وسمع "النعمان" بالقصيدة كما يذكر أهل الأخبار، بدس حساد النابغة القصيدة والأشعار الأخرى إلى النعمان، فانزعج منها. ولما بلغ "النابغة" الخبر، فر إلى الغساسنة لينجو بنفسه من عقابه وكان العمان متيمًا بـ "المتجردة" وللشعراء فيها قصائد مشهورات5. ويذكر أهل الأخبار أن سيفًا من سيوف "النعمان بن المنذر" جيء به إلى الخليفة "عمر"، فأعطاه "جبير بن مطعم"6. أما عدي بن زيد، فهو من العباديين، أي من نصارى الحيرة. وأما والده فهو زيد بن حماد "حماز" بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم، فهو تميمي الأصل7. وكان لزيد ثلاثة أولاد هم: عدي هذا الذي تحدثنا عنه، وعمار "حمار" "حماد" واسمه أبي

_ 1 المعاني الكبير "1/ 465"، اللسان "4/ 338"، "صادر"، "زور". 2 الأغاني "15/ 11"، السجستاني "38"، البلدان "1/ 651، 677"، شعراء النصرانية "15". 3 اللسان "3/ 116"، "صادر"، "جرد". 4 رسالة الغفران "196"، اللسان. 5 رسالة الغفران "196، 204، 207"، الأغاني "1/ 81"، الشعر والشعراء "76، 238". 6 اللسان "2/ 487". 7 الطبري "2/ 146"، الأغاني "2/ 97" "دار الكتب المصرية"، معجم الشعراء للمرزباني "249 وما بعدها"، شعراء النصرانية "1/ 439 وما بعدها".

وكان مع كسرى وعمرو واسمه سمي، ولهم أخ من أمهم يدعى بن حنظلة، وهو من "طيء"1. وكان أيوب جد عدي من أهل اليمامة على رواية الأخباريين، كان يقيم في بني امرئ القيس بن زيد مناة، ولكنه اضطر إلى ترك اليمامة والهجرة إلى الحيرة لإصابته دمًا، فخاف على نفسه من القتل، والتجأ إلى أوس بن قلام، وكان بينه وبين أوس نسب في النساء. فلما قدم أيوب الحيرة، نزل في دار أوس، وأقام عنده أمدًا. ثم أقام في دار أخرى بعد أن حباه أوس وأكرمه، وصار له شأن في البلد ومقام. فاتصل بالملوك وتقرب إليهم وغدا من علية القوم2. وصار لزيد بن أيوب شأن يذكر في البدل، وتزوج امرأة من آل قلام ولدت له ولدًا دعاه حمادًا. وبينما كان زيد يتصيد في البادية، اصطاده رجل من بني امرئ القيس، فقتله بسهم أخذًا لثأر قومه من أبيه أيوب. وعلم حماد "حماز" الكتابة والقراءة، فكان أول من كتب من بني أيوب في رواية الأخباريين، وغدا من أكتب الناس في الحيرة، ولذلك اختير كاتبًا لملك الحيرة، واتصل بكبار الفرس ومنهم "فروخ ماهان" الذي تكفل زيد بن حماد بعد وفاته، ورباه مع أبنائه. ثم أوصله إلى كسرى أنو شروان فجعله على البريد، لما تبين له من ذكاء زيد وقدرته في العربية والفارسية وهي وظيفة لم تكن تعطى لغير أبناء الفرس3. وتزوج زيد امرأة من طيء ولدت له عديًّا، وقد ربي هذا تربية طيبة، فأرسل إلى الكتاب، فلما حذق ومهر فنه بالعربية، أرسل إلى كتاب الفارسية. فتعلم مع أولاد المرازبة ومنهم شاهان مرد الفارسية حتى صار من الحاذقين بها العارفين بفنونها، ثم تعلم الرماية ولعب الصولجان، واتصل بكبار الفرس. وقد ساعده مركزه هذا على التقرب من آل لخم. وإلى "زيد بن حماد" أو كل

_ 1 الطبري "2/ 146"، الأغاني "2/ 105" "دار الكتب المصرية". 2 الأغاني "2/ 89" "دار الكتب"، شعراء النصرانية "ص439"، طبقات ابن سلام "31"، الشعر والشعراء "111"، رسالة الغفران "146، 147، 185، 186، 190، 197، 606". 3 الأغاني "2/ 96 وما بعدها" "دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "1/ 441".

تدبير شؤون ملك الحيرة بعد سياحة النعمان على رواية بعض الأخباريين إلى أن انتقل الملك إلى المنذر بن ماء السماء 1. وقرب عديًّا إلى كسرى أنو شروان المرزبان فروخ ماهان، فعهد إليه الكتابة بالعربية، فتولاها وصار له شأن يذكر عند الفرس، كما صار له مركز خطير في قصور آل لخم. ولما توفي كسرى أنو شروان، وملك هرمز ابنه، أرسل عديًّا إلى قيصر الروم "طيباريوس" "طبريوس" بمهمة سياسية، فأظهر لباقة وحنكة وحكمة، مما جعل القيصر يحترمه، فأكرمه، وحباه، وأراه أطراف مملكته، وذهب إلى دمشق، وأقام فيها أمدًا، وهو على صلات حسنة بالروم، وفي أثناء إقامته بالشأم، أراد أهل الحيرة قتل المنذر والخروج عليه، لظلمه وأخذه أموالهم بغير حق. فلما علم بذلك المنذر، طلب من زيد والد عدي أن يتولى هو الأمر، وفرح الناس على ما يذكره الرواة بهذا القرار، فجاؤوه يحيونه بتحية الملك، ولكنه أبى أن يسمى ملكًا، ورضي بالحكم بغير هذا الاسم، وسر المنذر بهذا الحل، ورضي به. وبقي في هذا المركز إلى أن هلك، وابنه بعيد عنه في دمشق. فلما جاء عدي من الشأم، لم ينس المنذر فضل أبيه عليه، وإنقاذه الملك بهذا الحل، وسلمه ما كان قد تركه أبوه، واستقبله استقبالًا عظيمًا حينما قدم الحيرة قادمًا من المدائن بعد زيارته لكسرى لتقديم هدية القيصر إليه. وأقام في الحيرة سنين يتصيد ويلهو ويعلب، ويبدو في فصلي السنة، فيقيم في حفير، ويشتو بالحيرة، ويأتي المدائن في خلال ذلك فيخدم كسرى، وكان لا يؤثر على بلاد بني يربوع مبدى من مبادي العرب، ولا ينزل في حي من أحياء بني تميم غيرهم. وكان أخلاؤه من العرب كلهم بني جعفر. وكانت إليه في بلاد بني ضبة وبلاد بني سعد، ولم يزل على حاله تلك حتى تزوج هندًا بنت النعمان بن المنذر2.

_ 1 الأغاني "2/ 100" "دار الكتب المصرية" شعراء النصرانية "ص 443"، المرزباني "249 وما بعدها" الشعر والشعراء "ص113 وما بعدها" "عدي بن زيد العبادي". 2 الأغاني "2/ 102 وما بعدها" "دار الكتب المصرية"، المشرق، الجزء الأول، كانون الأول، 1944"، "ص46 وما بعدها"، شعراء النصرانية "1/ 439 وما بعدها"، المرزباني "249 وما بعدها".

وأمها "مارية الكندية" فهي من كندة من جهة الأم. ثم أمره "النعمان" بالافتراق منها وتطليقها بعد ما غضب عليه وألقاه في السجن. وروى الأخباريون لعدي شعرًا زعموا أنه قال أكثره في حبسه وفي معاتبته للنعمان وفي توسله إليه بأنه يطلقه من حبسه، وفيه مواعظ تذكر النعمان بأن الدنيا زائلة، وأنها دار فناء، وأن الملك لا يدوم، وأمثال ذلك. وهو شعر لم ينظر إليه علماء الشعر نظرتهم إلى شعر الشعراء الفحول، وذلك؛ لأنه كان قرويًّا، أي من أهل الحضر، ولذلك أيضًا لم يستشهد به علماء اللغة في ضبط قواعد اللغة1. هذا ويذكر "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" أن جملة مؤلفات "ابن الكلبي" الكثيرة مؤلفًا اسمه "كتاب عدي بن زيد العبادي"2، وهو كتاب لم يصل إلينا حتى الآن. ولعله كان في جملة الموارد الرئيسية التي اعتمد عليها المؤرخون وأهل الأدب والأخبار في تدوينهم أخبار ذلك الشاعر السياسي الأديب. ونجد في "رسالة الغفران" شعرًا لعدي. وقد دعي بـ "السروي" في موضع منها، حين تحدث مؤلفها "المعري" عن المنادمة وعن باطية الخمر3. وكني بـ "أبي سوادة" في موضع آخر4. وانتقل ملك الحيرة بعد مقتل النعمان إلى رجل غريب لم يكن من لخم، اسمه إياس بن قبيصة الطائي5، أو إياس بن قبيصة بن أبي عفراء، أو إياس بن قبيصة بن النعمان بن حية بن سعنة6. وله خال اسمه حنظلة بن أبي عفراء بن النعمان. ويقال إنه كان نصرانيًّا. وقد ذكر له أخ اسمه قيس بن قبيصة كان نازلًا بعين التمر7. وذكر أن والده كان من شعراء جرم، وجرم رهط من طيء8.

_ 1 الأغاني "2/ 109" "دار الكتب المصرية"، الشعر والشعراء "ص114"، "عدي بن زيد العبادي". 2 الفهرست "ص 147". 3 رسالة الغفران "ص 185". 4 رسالة الغفران "186، 190، 203". 5 حمزة "ص 74"، "إياس بن قبيضة بن أبي عفراء بن النعمان بن حية بن سعية بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هني بن عمرو بن غوث بن طيء"، شعراء النصرانية "ص135"، ديوان الأعشى "ص162". "طبعة الدكتور م. محمد حسين". 6 الاشتقاق "231". 7 Rothstein, S. 119. 8 شعراء النصرانية "ص93".

وآل قبيصة من الأسر المعروفة في الحيرة، وقد سبق أن عهدت إلى إياس إدارة مهمات الحكومة بعد وفاة المنذر، فمكث أشهرًا ملكًا يدير أمور الملك إلى أن أعطي التاج للنعمان أبي قابوس. ويظهر من روايات الأخباريين أنه كان مقربًا من كسرى؛ لأنه ساعده حينما هرب من بهرام، وأهدى إليه فرسًا وجزورًا؛ ولأنه عاونه في نزاعه مع الروم1. فلما فر أبناء النعمان بعد مقتل والدهم، وتشتت شمل البيت المالك مدة، تذكر كسرى فضل هذا الرجل عليه فعينه ملكًا على الحيرة، وعين معه رجلًا فارسيًّا اختلفوا في اسمه، فقالوا: "الهمرجان" و" البحرجان" و"النخرجان" و"التخرجان"2. وهو اختلاف يسير، يعود سببه على ما يظهر إلى عدم تمكن النساخ أو الرواة من ضبط الكلمة. والظاهر أنها وظيفة ومركز، حسبها الرواية اسم علم، فأطلقوها على شخص3. وقد كان كسرى قد عينه مدة أشهر على الحيرة، وذلك قبل أن ينتقل الملك إلى النعمان4. وذكر الأخباريون أن كسرى بن هرمز كان يتيمن بـ "إياس"، ويفزع إليه في حروبه ويعجبه، وأنه استنجد به في حربه مع قيصر، فتعقبه حتى أدركه في موضع "ساتيدما" فأثخن القتل في جنوده، ونجا قيصر في خواص من أصحابه بصعوبة. وأصيب إياس بمرض في هذه السفرة، أشار الأعشى في شعره إليه5. وللأعشى قصائد في مدح إياس، وكانت له صلة به، وقد أغدق عليه نعمه6. وفي رواية ذكرها أبو الفرج الأصبهاني أن كسرى كان قد عين إياسًا على عين التمر وما والاها من الحيرة، وأطعمه ثلاثين قرية على شاطئ الفرات7. ويظهر من هذه الرواية ومن رواية وفاته في عين التمر ووجود أخيه فيها أن عين التمر كانت من مناطق نفوذ هذه الأسرة حتى في أيام ملك آل لخم. وذكر "الدينوري" أن كسرى ولي أياس بن قبيصة الطائي ثمانية أشهر،

_ 1 الطبري "2/ 152". 2 حمزة "ص74". ابن الأثير "1/ 200" شعراء النصرانية "137". 3 Noldeke. Sassa. 152, Rthstein, S. 120. 4 شعراء النصرانية "135"، الطبري "2/ 194" "دار المعارف". 5 ديوان الأعشى "ص159" "طبعة كاير" البلدان "5/ 6" "مادة ساتيدما". 6 ديوان الأعشى، القصائد "21، 29، 36، 55، 79. 7 الأغاني "21/ 134".

واضطرب أمر كسرى وجاء الإسلام ومات إياس بعين التمر، وفيه يقول زيد الخيل: فإن يك رب العين خلى مكانه ... فكل نعيم لا محالة زائل وذكر بعض أهل الأخبار أن حكم إياس دام تسع سنين1. ولا نعرف شيئًا مهمًّا قام به إياس في أثناء توليه الملك، ويظهر أن حكمه لم يكن يتجاوز هذه المنطقة التي أشار إليها الأخباريون، ولم يشر الأخباريون إلى قيامه بغارات على عرب الشأم. أما الشيء المهم الذي وقع في أثناء توليه الحكم، فهو يوم ذي قار.

_ 1 المعارف "ص284"، المحبر "359 وما بعدها".

ذو قار

ذو قار: وذو قار ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها وبين واسط1. وبالقرب منه مواضع منها حنو ذي قار وقراقر وجبابات ذي العجرم وجذوان وبطحاء ذي قار2. ويقع حنو ذي قار على ليلة من ذي قار3. يرجع الأخباريون سبب وقوع ذي قار إلى مطالبة "كسرى ابرويز" هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود أحد بني ربيعة بن ذهل بن شيبان بتسليم الودائع التي أودعها النعمان لديه إليه. فلما أبى هانئ تسليم ما اؤتمن عليه لغير أهله، غضب كسرى، فبعث إلى الهامرز التستري، وهو مرزبانه الكبير، وكان مسلحه في القطقطانه، وإلى جلابزين وكان مسحله في بارق، كما كتب إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين، وكان كسرى استعمله على سفوان بأن يرافقوا إياسًا فإذا اجتمعوا فإياس على الناس. وجاءت الفرس معها الجنود والفيلة عليها الأساورة. فالتحموا بأرض ذي قار، فلما كان اليوم الأول، استظهر الفرس على العرب، ثم جزعت الفرس في اليوم الثاني من العطش، فصارت إلى الجبابات، فتبعتهم بكر وباقي العربان، فعطش الأعاجم، ومالوا إلى بطحاء ذي قار وبها اشتدت الحرب، وانهزمت الفرس، وكسرت كسرة هائلة، وقتل

_ 1 البلدان "7/ 8". 2 Rothstein, S. 121. 3 البلدان "7/ 8".

أكثرهم وفيهم الهامرز وجلابزين، وانتصر العرب على الفرس انتصارًا عظيمًا، وانتصفت فيه العرب من العجم1. ويوم ذي قار لم يكن إذن يومًا واحدًا، أي معركة واحدة وقعت في ذي قار وانتهى أمرها بانتصار العرب على الفرس، بل هو جملة معارك وقعت قبلها ثم ختمت بـ "ذي قار"، حيث كانت المعركة الفاصلة فنسبت المعارك من ثم إلى هذا المكان. ومن هذه الأيام: يوم قراقر، ويوم الحنو. حنو ذي قار، ويوم حنو قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذي العجرم، ويوم الغذوان، ويوم البطحاء: بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار2. أما متى وقع يوم ذي قار، فالمؤرخون مختلفون في ذلك، منهم من جعله في يوم ولادة الرسول، ومنهم من جعله عند منصرف الرسول من وقعة بدر الكبرى3، ومنهم من جعله قبل الهجرة4. وقد ذهب "روتشتاين" إلى أنه كان حوالي سنة "604م"، وذهب نولدكه إلى أنه بين "604" و"610 م"5. وأكثر أهل الأخبار أنه وقع بعد المبعث ورووا في ذلك حديثًا قالوا إن الرسول لما بلغه من هزيمة ربيعة جيش كسرى، قال: "هذا أول يوم انتصف العرب من العجم، وبي نصروا"6. والذي يستنتج من روايات أهل الأخبار عن معركة ذي قار أن "هانئ بن مسعود الشيباني"، لم يكن قائد بني شيبان ولا غيرها من العرب يوم ذي قار، بل تذهب بعض الروايات إلى أنه لم يدرك هذا اليوم؛ لأنه هلك قبله، وإنما هو:

_ 1 الطبري "2/ 152 وما بعدها" "المعارف" "ص603"، والبلدان "7/ 8 وما بعدها" شعراء النصرانية "ص137"، مجمع الأمثال "2/ 352"، العمدة، لابن رشيق "2/ 169"، حمزة "ص 91"، أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر، "1/ 101"، "دار الكتاب اللبناني"، مروج الذهب "1/ 236"، "وكتب كسرى إلى قيس بن خالد، وكان عاملاً له على الطف"، العمدة "2/ 218" "وقتل الهامرز بن خلا بزر عامل كسرى"، العمدة "2/ 218". 2 الطبري "2/ 193" وما بعدها. 3 البلدان "7/ 9 وما بعدها"، التنبيه والإشراف "ص241". "بيروت 1965"، اليعقوبي "1/ 184 وما بعدها" "طبعة النجف". 4 المحبر "ص310" 5 Rothstein, S. 123. 6 الطبري "2/ 193" "دار المعارف"، التنبيه ص "241" "بيروت 1965م". الكامل "1/ 285 وما بعدها".

"هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود"1. وترى روايات أخرى أن "هانئ بن مسعود"، كان يخشى عاقبة هذه الحرب وأنه لم يكن يريد مقابلة الفرس، وكل ما كان يريده هو الاحتفاظ برهينة النعمان. وأن الفرس عندما دنوا من العرب بمن معهم: "انسل قيس بن مسعود ليلًا فأتى هانئًا، فقال له: أعط قومك سلاح النعمان فيقووا، فإن هلكوا كان تبعًا لأنفسهم، وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردوه عليك. ففعل. فقسم الدروع والسلاح في ذوي القوى والجلد من قومه. فلما دنا الجمع من بكر، قال لهم هانئ: "يا معشر بكر، إنه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة". فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيار فقال له: إنما أردت نجاتنا، فلم تزد على أن ألقيتنا في الهلكة، فرد الناس وقطع وضن الهوادج، لئلا تستطيع بكر أن تسوق نساءهم إن هربوا –فسمي مقطع الوضن-، وهي حزم الرحال. ويقال: مقطع البطن، والبطن حزم الأقتاب، وضرب حنظلة على نفسه قبة ببطحاء ذي قار، وآلى ألا يفر حتى تفر القبة. فمضى من مضى من الناس، ورجع أكثرهم، واستقوا ماء لنصف شهر، فأتتهم العجم، فقاتلتهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، فهربت ولم تقم لمحاصرتهم، فهربت إلى الجبابات، فتبعتهم بكر وعجل"2، "فقاتلوهم بالجبابات يومًا. ثم عطش الأعاجم، فمالوا إلى بطحاء ذي قار، فأرسلت إياد إلى بكر سرًّا –وكانوا أعوانًا على بكر مع إياس بن قبيصة: أي الأمرين أعجب إليكم. أن نظير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم ونفر حين تلاقون القوم؟ قالوا: بل تقيمون فإذا التقى القوم انهزمتم". فلما التقى القوم في مكان من ذي قار يسمى "الجب" اجتلدوا والتحموا، فانهزمت "إياد" كما وعدتهم، وانهزم الفرس3. ويذكر "الطبري" في رواية من رواياته عن "ذي قار" أن الناس توامروا فسولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وكانوا يتيمنون به، فقال

_ 1 الطبري "2/ 206"، معجم "3/ 1024"، الكامل "1/ 285 وما بعدها". 2 الطبري "2/ 206"، معجم "3/ 1042"، الكامل "1/ 285 وما بعدها". 3 الطبري "2/ 208 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 383 وما بعدها"، "5/ 211"، الكامل، "1/ 285 وما بعدها" "الطباعة المنيرية"، نهاية الآرب "15/ 431 وما بعدها"، صبح الأعشى، "1/ 392" "دار الكتب".

لهم: لا أرى إلا القتال، فتبعوا أمره، وهو الذي تولى إدارة القتال، فكان له شأن كبير فيه، وقد قاد قومه من "بني عجل" في ذلك القتال، فله النصيب الأكبر منه1. وقد احتل "حنظلة" مسيرة "هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود" رئيس بكر في القتال الذي جرى في ذي قار في موضع الجب2. وكان "هانئ بن قبيصة" رئيس بكر يشغل القلب في أثناء الهجوم على الفرس يوم الجب في ذي قار، وكان على ميمنته "يزيد بن مسهر الشيباني"، و"حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي" على ميسرته يحميه من كل هجوم جانبي يقع عليه من الميسرة، كما ذكرت3. وكان "يزيد بن حمار السكوني"، وهو حليف لبني شيبان، قد كمن مع قومه من بني شيبان في مكان من ذي قار هو الجب، فلما جاء إياس بن قبيصة مع الفرس إلى هذا المكان، خرج مع كمينه، فباغت إياسًا ومن معه، وولت إياد منهزمة، فساعد بذلك كثيرًا في هزيمة الفرس4. فهؤلاء المذكورون إذن هم الذين قادوا نصر العرب على الفرس، وقد ذهب بعض الأخباريين إلى أن الحرب الرئيسية دارت على بني شيبان، ورئيس الحرب هو "هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود". أما "حنظلة" فكان صاحب الرأي5. ولكن الذي يظهر من دراسة مختلف الروايات أن شأن حنظلة في القتال كان أهم وأعظم من شأن هانئ فيه، حتى لقد ذكرت بعض الروايات أنه هو الذي ولي أمر القتال بعد هانئ، وأن القوم صيروا الأمر إليه بعد هانئ في معركة "جب ذي قار" وأنه هو الذي قتل "جلابزين"، وأن كتيبته "كتيبة عجل" قامت بأمر عظيم في هذه المعركة التي انتهت بهزيمة الفرس6. وكان حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي من سادات قومه، وهو صاحب قبة،

_ 1 الطبري "2/ 207 وما بعدها". 2 الطبري "2/ 209". 3 الطبري "2/ 209" "دار المعارف" ابن خلدون "2/ 626" "دار الكتب اللبنانية". 4 الطبري "2/ 209" "دار المعارف". 5 الكامل، لابن الأثير "1/ 285 وما بعدها". 6 الطبري "2/ 210" "دار المعارف".

طربت له يوم ذي قار ويوم فلج1، ولا تضرب قبة إلا لملك أو سيد. وكانت له بنت يقال لها "مارية"، كانت معه في هذه المعركة، وهي أم عشرة نفر أحدهم جابر بن أبجر. وأورد الطبري شعرًا في يوم ذي قار نسبه إلى "يزيد بن المكسر بن حنظلة بن ثعلبة بن سيار"، وإذا كان يزيد هذا هو حفيد حنظلة كما يظهر من سياق النسب، يكون حنظلة إذ ذاك كبيرًا في السن. وقد نسب الطبري إلى حنظلة شعرًا ذكر أنه قاله في يوم ذي قار2. وذكر أن "النعمان بن زرعة التغلبي" هو الذي أشار على كسرى بمهاجمة "هانئ بن مسعود الشيباني" في ذي قار، وكان يحب هلاك بكر بن وائل، وأن إيادًا وهي في الحرب اتفقت سرًّا مع بكر على الهرب، فهربت حين كان إياس بن قبيصة والفرس يقاتلون بكرًا، فاضطرب صف العجم، وولوا الأدبار، فقتل منهم من قتل، وأسر عدد كبير. وأسر "النعمان بن زرعة التغلبي"3. والروايات عن معركة ذي قار، هي على شاكلة الروايات عن أيام العرب وعن حروب القبائل وغزو بعضها بعضًا، من حيث تأثرها بالعواطف القبلية وأخذها بالتحيز والتحزب. فنرى فيها تحيزًا لبني شيبان يظهر في شعر "الأعشى" لهم، إذ يمدحهم خاصة، مما أدى إلى غضب غيرهم مثل "اللهازم"4، ونرى فيها إعطاء فخر لفلان وحبسه عن فلان. ولذلك يجب على الباحث عن أيام العرب وعن حروب القبائل وغزواتها أن يفطن لذلك. وشعر الأعشى، أعشى بكر، في ذي قار، ومدحه قومه "بني بكر"، شعر مهم للوقوف على حوادث تلك المعركة وكيف جرت5. ولبكير: أصم بني الحارث، شعر أيضًا يمدح فيه بني شيبان ويمجد عملهم وفعلهم في هذا اليوم6. وقد هجا "أعشى بكر" في قصيدة له عن يوم ذي قار وعن مقام عشيرته

_ 1 الاشتقاق "ص208". 2 الطبري "2/ 209 وما بعدها". 3 ابن الأثير "1/ 173 وما بعدها"، الطبري "1/ 612"، الأغاني "2/ 127، ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "ص556"، "منشورات دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر" بيروت 1956م. العمدة 2/ 218". 4 الطبري "2/ 211". 5 الكامل "1/ 285 وما بعدها". 6 الطبري "2/ 211" "دار المعارف" الكامل، لابن الأثير "1/ 285 وما بعدها".

ومكانته فيه تميمًا وقيس عيلان، ثم تعرض لقبائل معد، فقال: لو أن كل معد كان شاركنا ... في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف1 ونجد شعرًا للعديل بن الفرخ العجلي، يفتخر فيه بقومه ويتباهى بانتصارهم على الفرس في هذا اليوم، فيقول: ما أوقد الناس من نار لمكرمة ... إلا اصطلينا وكنا موقدي النار وما يعدون من يوم سمعت به ... للناس أفضل من يوم بذي قار جئنا بأسلابهم والخيل عابسة ... يوم استبلنا لكسرى كل أسوار2 وكان هانئ بن قبيصة، من أشراف قومه، وكان نصرانيًّا، وأدرك الإسلام فلم يسلم، ومات بالكوفة3. أما "قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين"، فكان سيد قومه في أيامه، وذلك قبل الإسلام. وكان كسرى استعمله على "طف سفوان"4. ويذكر بعض أهل الأخبار أن هناك يومًا آخر، عرف بيوم "ذي قار"، وقد وقع أيضًا بين العرب والفرس، فانتصر فيه العرب أيضًا، وقد وقع قبل اليوم المذكور، فعرف لذلك بيوم ذي قار الأول، وبيوم صيد، وبيوم القبة. وكان سببه أن بكر بن وائل أصيبت بسنة "أي قحط" فخرجت حتى نزلت بذي قار، وأقبل حنظلة بن سيار العجلي، حتى ضرب قبته بين ذي قار وعين صيد، وكان يقال له "حنظلة القباب"، وكانت له قبة حمراء، إذا رفعها انضم إليه قومه، فأتاهم عامل كسرى على السواد ليخرجهم منه، فأبوا، فقاتلهم فهزموه وانتصروا عليه5. وقد نسب إلى "زيد الخير" شعر، زعم أنه قاله يذكر إياس بن قبيصة الطائي هو:

_ 1 الكامل "1/ 285 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 431 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "1/ 375". 3 الاشتقاق "ص216". 4 الطبري "2/ 207" "دار المعارف". 5 البكري "3/ 1042".

أفي كل عام سيد يفقدونه ... تحكك من وجد عليه الكلاكل ثم يكون العقل منكم صحيفة ... كما علقت على السليم الجلاجل وقد قال "ابن قتيبة الدينوري" في تفسيره: "كان كسرى أرسل إلى مال إياس ليأخذه فنفرت عن ذلك طيء، وقد أراد أن يبطش بأناس منهم. فلما رأى ذلك كسرى، كتب لهم كتابًا في أمان، فقال زيد شعرًا، هذان البيتان فيه، يحض قومه، وينهاهم أن يقبلوا كتابه، أو يطمئنوا إلى قوله"1. وليس في هذا الشرح كما نرى تفسيرًا للسبب الذي دفع كسرى إلى المطالبة بمال إياس. هل كان ذلك بسبب اختلافه معه، أو بسبب آخر، ولا يعقل أن تكون هذه المطالبة في حالة صلح وعلاقات طيبة بين الجهتين، بل لا بد أن تكون عن ظروف سيئة لم يتطرق لها "ابن قتيبة". وعندي أن هذه الحادثة إن صحت روايتها، وجب أن تكون قد وقعت بعد موت "إياس"، وتركه ثروة وأملاكًا طائلة، فأراد الفرس الاستحواذ عليها، وأخذ ما جمعه من مال، فحدث ما حدث. وذكر الأخباريون بعد "إياس" رجلًا فارسيًّا قالوا أنه هو الذي حكم "الحيرة" وملكها في زمن "أبرويز"، وفي زمن شيرويه بن أبرويز، وفي زمن أردشير ابن شيرويه، وفي زمن بوران بنت أبرويز، وذكروا أن مدة حكمه سبع عشرة سنة أو أقل من ذلك. وسموا هذا الرجل "أزادبه بن ماهيبيان بن مهرا بنداد"2. أو "أزاذبه بن يابيان بن مهر بنداذ الهمذاني"3، أو "آزادبه بن ماهان بن مهر بنداد الهمذاني" أو "زادويه الفارسي". حكم سبع عشرة سنة، من ذلك في زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن شيرويه بن كسرى ثمانية أشهر، وفي زمن أردشير بن شيرويه سنة وسبعة أشهر، وفي زمن بوران دخت بنت كسرى شهرًا4. ولكنهم لم يذكروا من أمره شيئًا، فلا نعرف من أعماله أي شيء مع طول مدة حكمه إن صحت رواية الأخباريين.

_ 1 المعاني الكبير "2/ 1008". 2 "زاديه بن ماهيبان بن مهرا بنداد الهمذاني"، حمزة "ص74"، المحبر "360". 3 الطبري "2/ 156". 4 الطبري "2/ 213"، مفاتيح العلوم "69".

وأرى أن "دادويه الفارسي" الذي ذكر "حمزة الأصفهاني" أنه كان قد ملك الحيرة، هو "زادويه" المذكور، وأن النساخ قد أخطأوا في كتابة الاسم فصيروه على هذه الصورة، أو أن "حمزة" نفسه قد أخطأ في التسمية، أو هو نقلها من كتابين مختلفين أو من مصدر واحد كتبهما بصورتين، فشايعه حمزة ولم ينتبه إلى أنه صير الاسم الواحد اسمين. وذكر بعض أهل الأخبار أن الذي حكم بعد "آزاذبه" هو "المنذر بن النعمان بن المنذر" المعروف بـ "الغرور" أو "المغرور"، وهو المقتول بالبحرين يوم جواثا"1، "فكان ملكه وملك غيره إلى أن قدم خالد بن الوليد الحيرة ثمانية أشهر"2. وهو كلام مشكوك فيه ففي الأخبار أن المنذر لم يحكم الحيرة، وإنما حكم البحرين في أثناء الردة، وذلك بأن ربيعة حينما ارتدت عن الإسلام قالت: نرد الملك في المنذر بن النعمان بن المنذر. فلما حارب المسلمون المرتدين، منوا بهزيمة منكرة، وسقط المنذر أسيرًا في أيدي المسلمين، ويقال إنه أسلم على أثر ذلك، وسمى نفسه "المغرور" بدلًا من "الغرور". وهو اللقب الذي كان يعرف به قبل إسلامه3. ويظهر أن النصرانية كانت هي المتفشية في البحرين وفي بني عبد القيس، وقد كان المنذر الغرور مع المرتدين، الذين تركوا الإسلام وعادوا إلى النصرانية بعد دخولهم في الإسلام4. وقد ذكر "الطبري" في حديثه عن يوم المقر وفم فرات بادقلي: أن الذي كان يلي أمر الحيرة هو "الآزاذبه"، وقال فيه: "كان مرزبان الحيرة أزمان كسرى إلى ذلك اليوم"5. وقد كان من أشراف الفرس وسادتهم، وذكر أيضًا: أن قيمة قلنسوته خمسون ألفًا، وقيمة القلنسوة عند الفرس تدل على مكانة صاحبها وشأنه عند الساسانيين. وأنه لما سمع بدنو "خالد بن الوليد" من الحيرة تهيأ لحربه، وقدم ابنه، ثم خرج في أثره حتى عسكر خارجًا من الحيرة، وأمر ابنه بسد الفرات، ولكن خالدًا فاجأه وأصاب جيشه فلما بلغ أباه خبر ما حل

_ 1 المحبر "360"، حمزة "75"، مفاتيح العلوم"69". 2 الأغاني "14/ 48"، ابن الأثير، الكامل "2/ 154". 3 الطبري "3/ 136 وما بعدها" "دار المعارف بمصر". 4 الطبري "3/ 359". 5 الطبري "3/ 359".

به، هرب من غير قتال، وكان عسكره بين الغريين والقصر الأبيض، وتمكن بذلك خالد بن الوليد من فتح الحيرة1. فيفهم من حديث الطبري عن فتح الحيرة أن المنذر بن النعمان لم يكن قد ولي حكمها، وأن ما ذكره من تولية الحكم ثمانية أشهر، يناقض ما ذكره هو فيما بعد عن فتح الحيرة وبقية أرض العراق ويخالف كذلك ما ورد في بقية كتب أهل الأخبار عن فتوح العراق. وكان ملوك الحيرة مثل غيرهم من الملوك، كالغساسنة والساسانيين والروم، يتراسلون مع القبائل وعمالهم بالبريد. وكانت برد ملوك العرب في الجاهلية الخيل2. تنطلق في مراحل، فإذا بلغ البريد المرحلة المعينة استراح، وتولى البريد الثاني نقل الرسائل إلى المكان المقصود ... وبذلك تتم المراسلات. ومن الأسر المعروفة في الحيرة، العدسيون، وهم من "كليب"، وقد نسبوا إلى أمهم على ما يذكره أهل الأخبار. ومن سادات الحيرة وأشرافها "بنو الأوس بن قلام بن بطين بن جمهير "جمهر" بن لحيان"، وكان منهم "جابر بن شمعون" الأسقف من أساقفة الحيرة المعروفين، وهو صاحب القصر الأبيض بالحيرة3. وقد اشتهرت الحيرة بسوقها، إذ كان الأعراب وتجار جزيرة العرب يقصدون السوق لبيع تجارتهم وشراء ما فيها من سلع نفيسة مطلوبة في بلاد العرب. وقد اشتهرت بنوع خاص من السيوف، قيل لها "السيوف الحاربة"، كما عرفت بصناعة الأنماط4. واشتهرت الحيرة بقصرها المعروف بـ "الخورنق". وهو قصر يقع على ثلاثة أميال منها، ويقال إنه بني على نهر: بناه للنعمان المعروف بالأعور بناء رومي اسمه "سنمار" في عشرين سنة. وقد لقي البناء مصرعه بسبب هذا القصر، في

_ 1 الطبري "3/ 359 وما بعدها". 2 قال امرؤ القيس الكندي: على كل مقصوص الذنابي معاود ... بريد السرى بالليل من خيل بريرا الكامل "للمبرد "1/ 286". 3 الأغاني "2/ 115". 4 مروج الذهب "2/ 90 وما بعدها"، البلدان "2/ 328"، فتوح البلدان "245".

قصص يرويه عنه أهل الأخبار، ويضربون به المثل في المكافأة على الفعل الحسن بالقبيح1. ولأهل الأخبار آراء في التسمية: منهم من يقول إنها عربية ومن أصل عربي ومنهم من يقول إنها فارسية، وأن اللفظة معربة. وارتبط باسم "الخورنق" اسم قصر آخر هو "السدير". وقد بني في البرية، فهو أبعد من الخورنق عن الحيرة2. ولأهل الأخبار كعادتهم في تعليل الأسماء العادية مذاهب في التسمية. ويرجح المستشرقون أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية3. وقد كان ذا قباب ثلاث، ويتألف من إيوان ينتهي إلى غرفة، وعلى جانبيه غرفتنا، ويظهر من روايات أهل الأخبار أنه كان أقدم عهدًا من الخورنق، وأن ملوك آل لخم كانوا يقيمون فيه في قديم الزمان4. وذكر أن "السدير" نهر بالحيرة، قال عدي: سره حاله وكثرة ما يمـ ... ـلك والبحر معرضًا، والسدير5 وفي شعر ينسب إلى الأسود بن يعفر، ذكر للقصرين المذكورين، رثى الشاعر فيه حال "آل محرق"، وتألم وتوجع لما نزل وحل بهم، كما توجع لإياد، إذ قال: ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد؟ أرض الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد6

_ 1 القاموس "3/ 22" تاج اللغة وصحاح العربية، للجوهري، "1/ 79"، مراصد الاطلاع "1/ 498"، اللسان "1/ 78"، اليعقوبي "1/ 170"، أمثال العرب، للمفضل الضبي "ص69". 2 الجوهري، تاج اللغة "1/ 330"، البكري، معجم "1/ 729"، ابن سيدة، المخصص "5/ 126"، الديارات، للشابشتي "152"، مراصد الاطلاع "1/ 699". 3 "والسدير: بناء، وهو بالفارسية سهد لي، أي ثلاث شعب، أو ثلاث مداخلت. وقال الأصمعي: السدير فارسية"، اللسان "4/ 355". 4 الديارات "152". 5 اللسان "4/ 355"، "صادر"، "سدر". 6 اللسان "11/ 18 وما بعدها"، "صادر"، ابن سلام، طبقات فحول الشعراء "116 وما بعدها".

ويجب أن يكون هذا الشعر قد نظم بعد نكبات حلت بـ "آل محرق"، حملتهم على ترك ديارهم وعلى زوال سلطانهم عنها، أي بعد النكبة التي حلت بالنعمان بن المنذر بعد زوال دولة المناذرة. وبارق: اسم موضع على مقربة من الكوفة، وموضع آخر في السواد على مبعدة من الكوفة1. أما "سنداد" فمن مواضع إياد. ومن الأماكن التي تنسب إلى ملوك الحيرة موضع يعرف باسم "الدوسر". قيل إنه من أبنية أحد أمراء الحيرة. وقد ملكه "جعبر بن مالك"، وهو من "بني قشير"، فنسب إليه، وعرف بـ "قلعة جعبر". ويظن أنه موضع "Dausara" الذي ذكره "اسطيفان البيزنطي". ويقع على الشاطئ الأيسر لنهر الفرات. ومن أسمائها عند اليونان "Dauses" و"دونه" "Daune"، و"Dabanae"2. ومن المواضع القريبة من الحيرة موضع يعرف بـ "الخصوص"، تنسب إليه "الدنان"، ذكر في "صادية" "عدي بن زيد العبادي"3. وموضع "عمير اللصوص" وهو قرية من قرى الحيرة. ودير قرة، وهو بإزاء "دير الجماجم" منسوب إلى "قرة"، وهو رجل من لخم بناه على طرف البر أيام النعمان4. وقد تأثر فن بناء القصور في الحيرة وما والاها من قصور "آل لخم" بالفن الساساني فصار في القصر رواق في الوسط هو مجلس الملك، وهو الصدر، وجناحان هما كمان يكونان طرفي الرواق، ميمنة وميسرة. وقد صار هذا الطراز من البناء سمة من سمات بناء قصور الحيرة، وكذلك تأثر تزويق جدران بيوت الحيرة ونقشها بطريقة الفن الساساني في تزيين جدران القصور والبيوت ونقشها. وقد أثرت طريقة أهل الحيرة هذه في فن البناء في مدينة "سامراء"5. وفي كتاب "مروج الذهب" إشارة إلى قصر المتوكل المعروف بـ "الحيري".

_ 1 اللسان "11/ 18 وما بعدها"، "صادر"، البكري، معجم "1/ 221"، تاج العروس "6/ 285"، مراصد الاطلاع "1/ 151"، المعارف "647"، "ثروت عكاشة"، العقد الفريد "3/ 384"، مقاييس اللغة "1/ 227". 2 رحلة بنيامين، "ص 123". 3 أبلغ خليلي عبد هند فلا ... زلت قريبًا من سواد الخصوص رسالة الغفران "186". 4 رسالة الغفران "187". 5 Die Araber, I, S. 607, Franz Altheim Und Futh Stiehl, Asain Und Rom, Tubingen, 1952, S. 49.

والكمين، قال فيه: "وأحدث المتوكل في أيامه بناءً لم يكن الناس يعرفونه، وهو المعروف بالحيري والكمين والأروقة، وذلك أن بعض سمّاره حدثه في بعض الليالي: أن بعض ملوك الحيرة من النعمانية من بني نصر، أحدث بنيانًا في دار قراره، وهي الحيرة على صورة الحرب وهيأتها للهجته بها وميله نحوها لئلا يغيب عنه ذكرها في سائر أحواله، فكان الرواق مجلس الملك، وهو الصدر، والكمان ميمنة وميسرة، ويكون في البيتين اللذين هما الكمان من يقرب منه من خواصه وفي اليمين منهما خزانة الكسوة وفي الشمال ما احتيج إليه من الشراب، والرواق قد عم فضاؤه الصدر، والكمين والأبواب الثلاثة على الرواق، فسمي هذا البنيان إلى هذا الوقت بالحيري والكمين إضافة إلى الحيرة. واتبع الناس المتوكل في ذلك ائتمامًا بفعله، واشتهر إلى هذه الغاية"1. وفي هذا الوصف وصفه لذلك القصر الذي بناه أحد النعامنة. ولكن أي نعمان هو؟ هل هو النعمان صاحب الخورنق أو هو نعمان آخر بنى قصرًا آخر في عاصمته الحيرة. وقد وجد بعض المؤرخين في هذا الوصف دلالة على احتمال كون القصر المعروف بـ "قصر المشتى"، هو من بناء أحد ملوك الحيرة، إذ وجد في خطة بنائه، وفي هذا الوصف شبهًا حمله على القول باحتمال كونه من أبنيتهم2.

_ 1 مروج "2/ 369". "القاهرة 1346هـ" "طبعة عبد الرحمن محمد"، "4/ 4 وما بعدها"، "دار الأندلس". 2 Die Araber, I, S, 595.

قوائم ملوك الحيرة

قوائم ملوك الحيرة: يصعب تصور حدوث خلاف بين الأخباريين في أسماء ملوك الحيرة وعددهم ومددهم، لدعواهم أنهم أخذوا علمهم بهم من كتب كانت مدونة محفوظة في الحيرة ومن موارد أخرى هي كتب الفرس، وقد ذكر بعضهم ملاحظات من مثل قوله: "ذكر هشام عن أبيه أنه لم يجد الحادث فيمن أحصاه كتاب أهل الحيرة من ملوك العرب، قال: وظني أنهم إنما تركوه؛ لأنه توثب على الملك بغير إذن ملوك الفرس؛ ولأنه كان بمعزل عن الحيرة التي كانت دار المملكة، ولم يعرف له مستقر، وإنما كان سيارة في أرض العرب"3. ومثل ملاحظة أخرى

_ 1 حمزة "ص71 وما بعدها".

لابن الكلبي أشرت إليها سابقًا، هي دعواه أنه كان يستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة ومبالغ أعامر من عمل منهم لآل كسرى وتأريخ سنيهم ممن بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها1. فدعاوى مثل هذه لا تصور لنا وقوع اختلاف كبير بين الأخباريين في أسماء ملوك الحيرة: ومبالغ أعمارهم وتأريخ سنيهم وأمثال ذلك، مع إننا نجد بين الأخباريين اختلافًا غير يسير في أسماء الملوك وفي ترتيب توليهم الحكم ومقدار سنيهم وأمثال ذلك. والعجب أنهم يعتمدون على مورد أو موارد مشتركة قد يشيرون إليها، ثم إذا بهم يختلفون في أمور ما كان ينبغي وقوع اختلاف ما فيها لأخذها من مورد مشترك أو موارد مشتركة. وعدة ملوك الحيرة قد يزيد على العشرين ملكًا بقليل عند بعض الأخباريين، وقد ينقص عن هذا العدد عند بعض آخر. وقد ذهب المسعودي إلى أن عدة ملوكهم ثلاثة وعشرون ملكًا من بني نصر وغيرهم من العرب والفرس، وأن مدة ملكهم ستمائة سنة واثنتان وعشرون سنة وثمانية أشهر2، وذهب حمزة إلى أن مدة ما حكمه ملوك الحيرة منذ عهد عمرو بن عدي الذي اتخذها منزلًا إلى أن وضعت الكوفة واتخذت منزلًا في الإسلام هي خمسمائة وبضع وثلاثون سنة3. ونحن إذا فحصنا القوائم التي سجلها الأخباريون لملوك الحيرة، وفحصنا ما ذكروه من مدة حكم كل ملك إجمالًا، ثم قابلناه بما ذكروه بالنسبة إلى حكم ذلك مجزءًا على مدد حكمه بالقياس إلى من حكم في زمانه من ملوك الفرس، نجد اختلافًا بين ما ذكروه إجمالًا ثم ما ذكروه تفصيلًا، كذلك نجد مثل هذا الاختلاف بين المدة الإجمالية التي ذكروها لعمر مملكة الحيرة وبين المدد التي ذكروها لحكم كل ملك أيضًا على وجه الإجمال، مما يدل على أنهم لم ينتبهو إلى ملاحظة أمثال هذه الأمور الضرورية للمؤرخين. ونجد قائمة "ابن الكلبي" لأسماء ملوك الحيرة ومدد حكمهم ومقدار حكم كل ملك بالنسبة إلى من عاصره من ملوك الفرس مدونة في تأريخ الطبري وفي تأريخ حمزة وفي تواريخ أخرى. ولاقتصار ابن الكلبي على ذكر مدد حكم ملوك

_ 1 الطبري "2/ 37". 2 مروج "2/ 28". 3 حمزة "ص66".

الحيرة إجمالًا، ثم ذكرها تفصيلًا بما يقابل ذلك من سني حكم الأكاسرة دون الإشارة أبدًا إلى ما يقابل ذلك أيضًا بالقياس إلى القياصرة، نستطيع أن نقول إن ابن الكلبي لم يغرف من موارد تأريخية استندت إلى تواريخ الروم أو السريان، وإنما غرف من مناهل تأريخية فارسية أو معتمدة على الموارد الفارسية، ومن موارد أهل الحيرة وهي موارد يظهر أنها لم تكن تعتمد على أصول قديمة مدونة لتواريخ الحيرة؛ لأن أكثر ما رووه لا يختلف في طبيعته في الغالب عن النوع الذي ألفناه من أخبار الأخباريين. وقد جزأ الطبري قائمة ابن الكلبي لملوك الحيرة، فوضعها قطعًا قطعًا في ثنايا حديثه عن ملوك الفرس وفي المناسبات، ولم يذكرها جملة واحدة في مكان واحد، أو في فصل مستقل خاص كما فعل غيره من المؤرخين، وتبلغ جملة ملوك الحيرة عشرين ملكًا، وقد ذكر مع كل ملك مقدار ما حكمه من سنين وأسماء من عاصرهم ذلك الملك من الأكاسرة. أما هؤلاء الملوك فهم: 1- عمرو بن عدي، وقد عاش مئة وعشرين سنة وحكم على حد قول ابن الكلبي مئة سنة وثماني عشرة سنة من ذلك في زمن "أردوان" و"ملوك الطوائف" خمس وتسعون سنة وفي زمن ملوك فارس أي الساسانيين ثلاثًا وعشرين سنة. من ذلك في زمن أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وفي زمن سابور بن أردشير ثماني سنين وشهران. 2- امرؤ القيس البدء. وقد عاش مملكًا في عمله مئة سنة وأربع عشرة سنة من ذلك في زمن سابور بن أردشير ثلاثًا وعشرين سنة وشهرًا، وفي زمن هرمز بن سابور سنة وعشرة أيام، وفي زمن بهرام بن هرمز بن سابور ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وفي زمن بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير ثماني عشرة سنة، ولكنك إذا جمعت هذه المدد وقابلت حاصل الجمع، وجدت فرقًا كبيرًا بين ما زعمه ابن الكلبي من أنه حكم 114 سنة، ثم ما زعمه هو نفسه من حكم هذا الملك مجزءًا بالنسبة إلى ملوك الفرس. 3- عمرو بن امرؤ القيس، وقد حكم على رواية ابن الكلبي أيضًا ثلاثين سنة. وعاصر من الملوك سابور وأردشير بن هرمز بن نرسي وبعض أيام سابور بن سابور.

4- أوس بن قلام، وقد حكم خمس سنين في أيام سابور بن سابور وبعض أيام بهرام بن سابور ذي الأكتاف. 5- امرؤ القيس البدء بن عمرو بن امرئ القيس، وقد حكم خمسًا وعشرين سنة. حكم في أيام بهرام بن سابور ذي الأكتاف، وهلك في عهد يزدجرد الأثيم. 6- النعمان بن امرئ القيس، وقد ملك تسعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر، من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة، وفي زمن بهرام بن يزدجرد أربع عشرة سنة. وينقص ذلك أربعة أشهر عن العدد الإجمالي الذي ذكره ابن الكلبي. 7- المنذر بن النعمان، وقد ملك أربعًا وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور بن يزدجرد ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة، وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة. 8- الأسود بن المنذر، وقد حكم عشرين سنة، من ذلك في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن يزدجرد أربع سنين، وفي زمن قباذ بن فيروز ست سنين. 9- المنذر بن المنذر بن النعمان وقد ملك سبع سنين. 10- النعمان بن الأسود بن المنذر، وكان ملكه سبع سنين. 11- أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل، وكان ملكة ثلاثة سنين. 12- المنذر بن امرئ القيس البدء، وكان ملكه تسعًا وأربعين سنة. 13- عمرو بن المنذر، وكان جميع ملكه ست عشرة سنة. 14- قابوس بن المنذر، وقد ملك أربع سنين: ثمانية أشهر منها في زمن أنو شروان، وثلاث سنين، وأربعة أشهر في زمن هرمز بن أنو شروان. 15- السهرب. 16- المنذر بن المنذر أبو النعمان، وقد ملك أربع سنين. 17- النعمان بن المنذر أبو قابوس، وقد ملك اثنتين وعشرين سنة، من ذلك في زمن هرمز بن أبو شروان سبع سنين وثمانية أشهر، وفي زمن كسري أبرويز بن هرمز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر.

18- إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخير جان، وقد ملك تسع سنين في زمن كسرى بن هرمز. 19- آزاذبه بن بابيان بن مهر بنداذ الهمداني، وقد حكم سبع عشرة سنة: في زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن شيرويه بن كسرى ثمانية أشهر، وفي زمن أردشير بن شيرويه سنة وسبعة أشهر وفي زمن بوران دخت بنت كسرى شهرًا. 20- المنذر بن النعمان بن المنذر، وقد ملك ثمانية أشهر. هذه هي قائمة أسماء ملوك الحيرة كما رواه الطبري عن ابن الكلبي1.

_ 1 الطبري "2/ 213 وما بعدها"، "ذكر من كان على ثغر العرب من قبل ملوك الفرس بالحيرة بعد عمرو بن هند"، "دار المعارف".

ملوك الحيرة بحسب رواية ابن قتيبة

ملوك الحيرة بحسب رواية "ابن قتيبة": 1- ملك بن فهم. 2- جذيمة الأبرش. 3- عمرو بن عدي. 4- امرؤ القيس، ويقال: بل ملك الحارث بن عمرو بن عدي. 5- النعمان بن امرئ القيس. 6- المنذر بن امرئ القيس. 7- المنذر بن المنذر بن امرئ القيس. 8- عمرو بن هند. 9- النعمان بن المنذر. 10- إياس بن قبيصة1. أما "محمد بن حبيب"، فقد رتب أسماء ملوك الحيرة على هذا الشكل: "عمرو بن عدي بن نصر", "امرؤ القيس البدء" وهو الأول، فابنه "عمرو" فـ "أوس بن قلام بن بطينا بن حمير بن لحيان"، و"امرؤ القيس" البدء،

_ 1 المعارف "ص645 وما بعدها".

وهو "محرق الأول"، فـ "النعمان بن امرئ القيس البدء"، فابنه "المنذر"، فابنه "الأسود"، فأخوه "المنذر"، فابن أخيه "النعمان بن الأسود"، فـ "أبو يعفر بن علقمة بن مالك"، فـ "المنذر بن امرئ القيس"، فـ "عمرو بن المنذر بن امرئ القيس"، فـ "قابوس بن المنذر"، فـ "السهرب" الفارسي، فـ "المنذر بن المنذر"، فـ "أبو قابوس النعمان بن المنذر"، فـ "إياس بن قبيصة الطائي"، فـ "آزاذبه"، فـ "الغرور المنذر بن النعمان بن المنذر"، وهو المقتول بالبحرين يوم "جواتا"1.

_ 1 المحبر "ص357 وما بعدها".

ملوك الحيرة بحسب رواية اليعقوبي

ملوك الحيرة بحسب رواية اليعقوبي: 1- عمرو بن عدي، وقد ملك خمسًا وخمسين سنة. 2- امرؤ القيس بن عمرو، وقد ملك خمسًا وثلاثين سنة. 3- الحارث بن عمرو، وقد ملك سبعًا وثمانين سنة. 4- عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي، وقد ملك أربعين سنة. 5- المنذر بن امرئ القيس. 6- النعمان. 7- المنذر بن النعمان، وقد ملك ثلاثين سنة. 8- عمرو بن المنذر. 9- عمرو بن المنذر الثاني. 10- قابوس بن المنذر. 11- المنذر بن المنذر، وقد ملك أربع سنين. 12- النعمان بن المنذر1.

_ 1 اليعقوبي "1/ 169 وما بعدها". "طبعة النجف".

ملوك الحيرة بحسب رواية المسعودي

ملوك الحيرة بحسب رواية المسعودي: 1- عمرو بن عدي، وكان ملكه مئة سنة.

2- امرؤ القيس بن عمرو بن عدي، وقد ملك ستين سنة. 3- عمرو بن امرئ القيس، وقد ملك خمسًا وعشرين سنة. 4- النعمان بن امرئ القيس، وقد حكم خمسًا وستين سنة. 5- المنذر بن النعمان، وكان حكمه خمسًا وثلاثين سنة. 6- المنذر بن الأسود بن النعمان بن المنذر. وقد ملك أربعًا وثلاثين سنة. 7- عمرو بن المنذر، وكان ملكه أربعًا وعشرين سنة. 8- قابوس بن المنذر، وقد ملك ثلاثين سنة. 9- النعمان بن المنذر، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. 10- إياس بن قبيصة الطائي، وكان ملكه تسع سنين. هذه هي أسماء ملوك الحيرة الذين ذكرهم المسعودي، وقد نص هو على أن عدة ملوك الحيرة ثلاث وعشرون ملكًا من بني نصير وغيرهم من العرب والفرس، ومدة ملكهم ستمائة سنة واثنتان وعشرون سنة وثمانية أشهر1. ونص في كتابه "التنبيه"، على أن "عدة من ملك الحيرة من بني نصر والعباد وغسان وتميم وكندة والفرس وغيرهم نيفًا وعشرين ملكًا، ملكوا خمس مئة سنة واثنتين وعشرين سنة وشهورًا"2.

_ 1 مروج "2/ 16 وما بعدها". 2 التنبيه "ص 158".

قائمة حمزة لملوك الحيرة

قائمة حمزة لملوك الحيرة: 1- عمرو بن عدي، وكان جميع ما ملكه مئة وثماني عشرة سنة. ذلك في زمن ملوك الطوائف خمسة وتسعون سنة، وفي زمن ملوك فارس ثلاث وعشرون سنة، منها في أيام أردشير بن بابك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وفي أيام شابور بن أردشير ثماني سنين وشهران. 2- امرؤ القيس بن عمرو بن عدي، وقد ملك مئة وأربع عشرة سنة، منها في زمن شابور بن أردشير ثلاث وعشرين سنة، وفي زمن هرمز بن شابور سنة وعشرة أشهر، وفي زمن بهرام بن هرمز تسع سنين وثلاثة أشهر، وفي زمن

بهرام بن بهرام ثلاثًا وعشرين سنة، وفي زمن بهرام بن بهرام بن بهرام ثلاث عشرة سنة وستة أشهر، وفي زمن نرسي بن بهرام بن بهرام تسع سنين، وفي زمن هرمز بن نرسي ثلاث عشرة سنة، وفي زمن شابور ذي الأكتاف عشرين سنة وخمسة أشهر. 3- عمرو بن امرئ القيس، وقد ملك ستين سنة، من ذلك في زمان شابور ذي الأكتاف إحدى وخمسين سنة وسبعة أشهر، وفي زمن أردشير أخي شابور خمس سنين، وفي زمن شابور بن شابور أربع سنين وخمسة أشهر. 4- أوس بن قلام، وقد ملك خمس سنين في زمن أردشير أخي شابور. 5- امرؤ القيس، وقد حكم إحدى وعشرين سنة وثلاثة أشهر، من ذلك في زمن شابور بن شابور خمس سنين، وفي زمن بهرام بن شابور إحدى عشرة سنة. وفي زمن يزدجرد بن شابور خمس سنين وثلاثة أشهر. 6- النعمان بن امرئ القيس، وكانت مدة ملكه ثلاثين سنة، من ذلك في زمن يزدجرد بن بهرام بن شابور خمس عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة وأربعة أشهر. 7- المنذر بن النعمان، وقد ملك أربعًا وأربعين سنة، من ذلك في زمن بهرام جور بن يزدجرد ثماني سنين وتسعة أشهر، وفي زمن يزدجرد بن بهرام ثماني عشرة سنة وثلاثة أشهر، وفي زمن فيروز بن يزدجرد سبع عشرة سنة. 8- الأسود بن المنذر، وقد ملك عشرين سنة، من ذلك في زمن فيروز بن يزدجرد عشر سنين، وفي زمن بلاش بن فيروز أربع سنين، وفي زمن قباد بن فيروز ست سنين. 9- المنذر بن المنذر، وقد ملك سبع سنين في زمن قباد بن فيروز. 10- النعمان بن الأسود، وكان ملكه أربع سنين في زمن قباد. 11- أبو يعفر بن علقمة الذميلي: وكانت مدة حكمه ثلاث سنين في زمن قباد بن فيروز. 12- امرؤ القيس بن النعمان، وكان ملكه سبع سنين في زمن قباد بن فيروز. 13- المنذر بن امرئ القيس، وقد ملك اثنتين وثلاثين سنة، من ذلك في زمن قباد بن فيروز ست سنين، وفي زمن كسرى أنو شروان بن قباد ستًّا وعشرين سنة.

14- الحارث بن عمرو بن حجر الكندي. 15- عمرو بن المنذر، وكان ملكه ست عشرة سنة. 16- قابوس بن المنذر، وكان حكمه مدة أربع سنين في زمن أنو شروان. 17- فشهرت، وقد حكم سنة في زمن أنو شروان. 18- المنذر بن المنذر، وقد ملك أربع سنين، منها ثمانية أشهر في زمن أنو شروان، وثلاث سنين وأربعة أشهر في زمن هرمز بن كسرى أنو شروان. 19- النعمان بن المنذر، وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة، من ذلك سبع سنين وثمانية أشهر في زمن هرمز بن أنو شروان، وأربع عشرة سنة وأربعة أشهر في زمن كسرى بن هرمز. 20- إياس بن قبيصة ومعه "البحرجان" "النخر جان"، وكان ملكه مدة سبع سنين في زمن أبرويز. 21- زاديه بن ماهبيان بن مهرا بنداد الهمداني، وقد ملك سبع عشرة سنة، من ذلك أربع عشرة سنة وثمانية أشهر في زمن أبرويز، وثمانية أشهر في زمن شيرويه بن أبرويز، وسنة وسبعة أشهر في زمن أردشير بن شيرويه، وشهرًا واحدًا في زمن بوارن بنت أبرويز. 22- المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان ملكه وملك غيره إلى أن ورد خالد بن الوليد الحيرة ثمانية أشهر1. وقد ذكر حمزة أن جميع ملوك آل نصر ومن استخلف من العباد والفرس بالحيرة خمسة وعشرون ملكًا حكموا في مدة ستمائة وثلاث وعشرين سنة وأحد عشر شهرًا. لكنه ذكر في مكان آخر أن الحيرة عمرت "خمسمائة وبضعًا وثلاثين سنة إلى أن وضعت الكوفة ونزلها عرب الإسلام2". وقد استند حمزة في تأليف قائمته هذه على رواية ابن الكلبي في تأريخ الطبري، وعلى رواية محمد بن حبيب وعلى ابن قتيبة، ولذلك خالفت قائمته هذه بعض المخالفة قائمة الطبري في الأسماء وفي السنين.

_ 1 حمزة "ص65 وما بعدها"، "75". 2 حمزة "ص65".

ملوك الحيرة بحسب رواية الخوارزمي

ملوك الحيرة بحسب رواية الخوارزمي: وأما "الخوارزمي"، فقد رتب أسماء ملوك الحيرة على هذا الشكل: 1- مالك بن فهم. 2- ثم ابنه جذيمة الأبرش. 3- ثم عمرو بن عدي. 4- ثم امرؤ القيس البدء. 5- ثم ابنه عمرو، وهو ابن هند. 6- ثم أوس بن قلام. 7- ثم امرؤ القيس البدن، وهو محرق الأول. 8- ثم ابنه النعمان الذي بنى الخورنق والسدير. وفارس حليمة، وهو السائح والأعور. 9- ثم ابنه المنذر. 10- ثم ابنه الأسود. 11- ثم المنذر بن المنذر. 12- ثم النعمان بن المنذر. 13- ثم النعمان بن الأسود. 14- ثم أبو يعفر بن علقمة. 15- ثم امرؤ القيس بن النعمان. وهو صاحب سنمار. 16- ثم ابنه المنذر. وهو ابن ماء السماء. 17- ثم الحارث بن حجر الكندي، آكل المرار. 18- ثم المنذر بن ماء السماء. 19- ثم ابنه عمرو بن هند، وهو مضرط الحجارة ومحرق الثاني. 20- ثم ابنه قابوس بن المنذر. 21- ثم فيسهرب الفارسي في زمن أنو شروان. 22- ثم المنذر بن المنذر، وأخوه عمرو بن هند.

23- ثم النعمان بن المنذر. وهو آخر ملوك لخم. 24- ثم إياس بن قبيصة الطائي. 25- ثم زادويه الفارسي. 26- ثم المنذر بن النعمان بن المنذر1.

_ 1 مفاتيح العلوم "68 وما بعدها".

فهرس: الجزء الخامس الفصل الرابع والثلاثون. مملكة النبط 5 مدن النبط 53 الحجر 55 الكورة العربية 57 أهل الكهف والرقيم 72 الفصل الخامس والثلاثون. مملكة تدمر 76 الزباء 103 حصن "زنوبية" 131 عانة 138

الفصل السادس والثلاثون الصفويون 142 الفصل السابع والثلاثون. مملكة الحيرة 155 ملوك الحيرة 176 الفصل الثامن والثلاثون. عمرو بن هند 239 ذو قار 293 قوائم ملوك الحيرة 304 ملوك الحيرة بحسب رواية "ابن قتيبة" 308 ملوك الحيرة بحسب رواية اليعقوبي 309 ملوك الحيرة بحسب رواية المسعودي 309 قائمة حمزة لملوك الحيرة 310 ملوك الحيرة بحسب رواية الخوارزمي 313 الفهرست 315

فهرس الجزء الخامس

فهرس الجزء الخامس: الفصل الرابع والثلاثون. مملكة النبط 5 مدن النبط 53 الحجر 55 الكورة العربية 57 أهل الكهف والرقيم 72 الفصل الخامس والثلاثون. مملكة تدمر 76 الزباء 103 حصن "زنوبية" 131 عانة 138

الفصل السادس والثلاثون الصفويون 142 الفصل السابع والثلاثون. مملكة الحيرة 155 ملوك الحيرة 176 الفصل الثامن والثلاثون. عمرو بن هند 239 ذو قار 293 قوائم ملوك الحيرة 304 ملوك الحيرة بحسب رواية "ابن قتيبة" 308 ملوك الحيرة بحسب رواية اليعقوبي 309 ملوك الحيرة بحسب رواية المسعودي 309 قائمة حمزة لملوك الحيرة 310 ملوك الحيرة بحسب رواية الخوارزمي 313 الفهرست 315

المجلد السادس

المجلد السادس الفصل التاسع والثلاثون: مملكة كندة مدخل ... الفصل التاسع والثلاثون: مملكة كندة كندة قبيلة قحطانية في عرف النسابين، تنسب إلى "ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن زيد بن عريب بن زيد ب كهلان بن سبإ"، و"ثور" هو كندة"1. وقد عرفت عند الأخباريين بـ"كندة الملوك"2؛ لأن الملك كان لهم على بادية الحجاز من بني عدنان3. ولأنهم ملكوا أولادهم على القبائل. وكانوا يتعززون بنسبهم إلى كندة، وإلى "آكل المرار"؛ لأنهم كانوا ملوكًا4. و"كندة" هي "كدت" القبيلة التي ورد اسمها في نصوص المسند، مثل نص "أبرهة"5. بل ورد اسمها في النصوص المذكورة قبل هذا العهد بكثير.

_ 1 الاشتقاق "2/ 218"، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب "ص399"، الإكليل "10/ 504"، منتخبات "ص94"، ابن خلدون "2/ 276" نهاية الأرب "2/ 287"، البيان والتبيين "3/ 328" "لجنة التأليف والترجمة والنشر"، ENC. II, P. 1018 2 "كندة حي من اليمن منهم كانت الملوك"، منتخبات "ص94"، "فأخبرني عن كندة، قال: "ساسوا العباد، وتمكنوا من البلاد" مروج "2/ 325"، "ذكر خلافة عمر. 3 ابن خلدون "2/ 257". 4 الطبري "3/ 139" "دار المعارف بمصر". 5 Glaser, zei Inschriften uber den Dammbruch von Marib, S. 55, Gunnar olinder, The Kings of Kinda, 1927, P. 33 وسيكون رمزه: Olinder

إذ ورد في النص: "JAMME 635". المدون في أيام الملك "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان. وقد كانت قد انضمت إلى حلف معاد للملك المذكور على نحو ما تحدثت عنه. وكان يحكم "كدت" كندة في ذلك الوقت ملك اسمه "ربعت"، أي "ربيعة"، وذكر أنه من "ذ ثورم" "ذ الثورم"، أي من "الثور" "آل ثور"، وأنه كان ملكًا على "كدت" كندة وعلى "قحطن" أي "قحطان"1. فنحن على هذا النص أمام مملكة كندية كانت قد تكونت في أيام "شعر أوتر" أي في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وذلك فيما لو جارينا رأي "جامة" وسرنا مسراه في تقديم أيام "شعر أوتر"2. وقبل هذا الوقت فيما لو ذهبنا مذهب غيره ممن يرجعون مبدأ تأريخ سبأ إلى أقدم من تقديره ومن تقدير "ريكمنس". ونحن أيضًا بموجبه أمام ملك من ملوك كندة اسمه "ربعت ذا الثورم". أي "ربيعة" من "الثور"، أي من "آل ثور"، فهو إذن من صميم كندة. وقد رأينا أن أهل الأخبار ينسبون كندة إلى "ثور بن عفير"، ويظهر أنهم أخذوا "ثور" القديم، وهو اسم عائلة أو بيت أو عشيرة من كندة، فصيروه الجد الأكبر لكندة. وأعطوه النسب الطويل المذكور. ويلاحظ أن الملك "ربيعة" كان يحكم إذ ذاك "كندة"، كما كان يحكم "قحطان". و"قحطان" في هذا الوقت قبيلة، كانت متحالفة مع "كندة". ومن هذا الاسم أخذ الأخباريون قحطانهم، فصيروه جد العرب القحطانيين. وقد ورد اسم قحطان في نص آخر وسم بـ"REP. EPIG, 4304". هذا نصه: "عبد شمس سبأ بن يشجب، يعرب بن قحطان"3. وهو نص سبق أن تحدثت عنه، وقلت إنه في نظري مصنوع موضوع، وأعتقد أن صانعه وضعه لغاية واضحة هي إثبات أن ما يذكره أهل الأخبار عن نسب سبأ، هو صحيح، وأنه وارد مذكور في المسند. وبين "صنعاء" و"زبيد" مدينة تعرف بـ"قطحان"4

_ 1 السطر 27 من النص: "JAMME 635" 2 MAHRAM, P. 391 3 RIP. EPIG. 4304, Orientalia, V, 1936, P. 63 4 MAHRAM, P. 138

وكانت كندة "كدت" مستقلة وعلى رأسها ملك، في أيام "الشرح يحضب" كذلك. وكان ملكها إذ ذاك من المناهضين المعادين للملك "الشرح يحضب"، فاشترك كما رأينا في أثناء بحثنا عن "الشرح" في الحلف الكبير الذي تألف ضد مملكة "سبأ وذي ريدان"، والذي امتد من الجنوب نحو الشمال، وشمل البر والبحر. وقد أصيبت "كندة" بهزيمة في القتال الذي نشب بينها وبين جيش "سبأ"، ووقع ملكها واسمه إذ ذاك "ملكم" مع عدد من رؤسائها وكبرائها "مراس وأكبرت"، في الأسر. وسيقوا إلى "مأرب"، وأبقوا في الأسر حتى وافقوا على وضع أولادهم رهائن عند ملك "سبأ وذي ريدان" وعلى إعطاء عهد بعدم التحرش مرة أخرى بمملكة "سبأ وذي ريدان" وبمساعدة أعدائها. وقد وافق "مالك" على إعطاء عهد بما طلب منه ووضع ابنه رهينة، كما وضع رؤساء وكبراء كندة أولادهم رهائن لديه، فأفرج بذلك عنهم1. وقد فقدت كندة بعد هذا العهد استقلالها في وقت لا نستطيع تحديده الآن، لعدم ورود شيء عنه في النصوص، وصارت خاضعة لحكم دولة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت"؛ إذ ورد في النصين "JAMME 660" و"JAMME 665" أنها كانت تابعة إذ ذاك لحكم هذه الدولة. يخبر النص: "JAMME 660"، أن كندة كانت تحت حكم حاكم من حكام "شمر يهرعش"، سقط اسمه الثاني من النص وبقي اسمه الأول وهو: "وهب إوم" "وهب أوم" "وهب أوام"، وأن ذلك الحاكم كان يدير بالإضافة إلى كندة قبائل حضرموت ومذحج و"بهلم" "باهلة" و"حدان" و"رضوم" و"أظلم"، ومعنى ذلك أنه كان يدير منطقة واسعة تسكنها قبائل متعددة، في جملتها كندة التي صارت تحت حكم ملوك سبأ2. ويخبرنا النص "JAMME 665" أن رجلًا من "جدنم" "جدن" كان كبيرًا "كبر" على "إعراب ملك سبأ" "أعراب ملك سبأ" وعلى "كندة" "كدت" و"مذحج" وعلى "حررم" "حريرم" "حرر" "حرار" "حرير" وعلى "بهلم" "باهلم" "باهل" "باهلة" وعلى "زيد أيل"، وعلى كل

_ 1 Jamme 576, MaMb 212, Mahram, PP. 67, Geukens 3 2 السطر الثاني من النص: Jamme 660, Mamb 156, Mahram, P. 164

أعراب سبأ "وكل أعرب سبأ" وعلى حمير وحضرموت ويمنت1. وقد عينه بدرجة "كبر" أي "كبير" وهي من أعلى الوظائف في الدولة الملك "ياسر يهنعم" وابنه "ذرأ أمر أيمن". ومعنى هذا أن كندة كانت تابعة أيضًا في هذا العهد لحكم سبئيين، وأن ذلك الكبير كان يدير منطقة واسعة وضعها الملكان تحت تصرفه. ويرى "جامة" أن أرض كندة يجب أن تكون في جنوب "قشمم" "قشم" "قشام" "القشم"، وذلك لأن النص: "JAMME 660" يضعها بين "حضرموت" و"مذحج" فيرى لذلك أن منازلها في ذلك الوقت كانت عند هذه المواضع2. والمعروف اليوم أن أول من ذكر اسم "كندة" من المؤلفين الكلاسيكيين على وجه لا يقبل الشك أو الجدل، هو "نونوسوس"، وقد دعاها باسم "KINDYNOI" أي "كندة" وذكر أنها وقبيلة "مادينوي" "MADDYNOI" "معد" هما من أشهر القبائل العربية عددًا ومكانة، يحكمها رجل واحد اسمه "KAISOS" أي "قيس"3. وعلى أخبار الأخباريين معولنا في تدوين تأريخ كندة. وفي مقدمة هؤلاء ابن الكلبي الأخباري المعروف، وله مؤلف خصصه بتأريخ كندة، سماه: "كتاب ملوك كندة" ومؤلفات أخرى لها علاقة بهذه القبيلة4، وأبو عبيدة والأصمعي، وعمر بن شبة، وأمثالهم ممن سترد أسماؤهم في ثنايا صحائف هذا الفصل. وهي أخبار تمثل جملة نزعات واتجاهات تصور تحزب أولئك الأخباريين وميولهم إلى هذه القبيلة أو تلك، فبينها أخبار تميل إلى تأييد أهل اليمن، وبينها أخبار ترجح كفة "كندة"، وبينها أخبار ترجع الفضل إلى كلب، وبينها أخبار تؤيد بني أسد، وطبيعتها على العموم من طبيعة ما يرونه لنا الأخباريون من روايات عن تأريخ العرب قبل الإسلام، فيها العصبية القبلية والتحزب، فيجب أن ننظر إليها إذن بحذر شديد.

_ 1 السطر الأول فما بعده حتى السطر الرابع من النص. 2 Mahram, P. 318, 372 3 Olinder, PP. 114 4 راجع أيضًا مقدمة "أوليندر" "OLINDER" عن الموارد التي يستعان بها في تدوين تأريخ كندة من الصفحة التاسعة فما بعد، الفهرست "98"، "طبعة خياط".

وقد ذكر حمزة أنه نقل أخبار ملوك كندة من "كتاب أخبار كندة"1، وأظنه قصد كتاب ابن الكلبي، الذي أشرت إليه. وفي استطاعة الباحث العثور على الموارد التي تفيدنا في تدوين تأريخ كندة ومعرفة اتجاهاتها وتعيين أسمائها. و"المفضليات" و"الأغاني" و"النقائض" وأمثالها وبقية كتب الأدب، هي خير أمثلة لتطبيق ما أقول. ويذكر الأخباريون أن مواطن "كندة" الأصلية كانت بجبال اليمن مما يلي حضرموت2. وقد أطلق "الهمداني" عليها "بلد كندة من أرض حضرموت"3. وذكر ياقوت أن كندة مخلاف باليمن، هو باسم قبيلة كندة4، وروى رواية لابن الكلبي تفيد أن هذه القبيلة كانت تقيم في دهرها الأول في "غر ذي كندة" أي في مواطن العدنانيين، ومن هنا احتج القائلون في كندة ما قالوا من نسبهم في عدنان، وهو يدل على وجود فريق كان يرى أن قبيلة كندة من قبائل عدنان5 ويدل هذا الاختلاف على اختلاط كندة بالقحطانيين والعدنانيين، ومن أمثال هذا الاختلاط تتولد الأنساب. ولم يتحدث الأخباريون عن مواطن كندة قبل استقرارهم في "غمر ذي كندة" وكيف وصلوا إلى هذا الموضع، ولا عن كيفية انتقالهم إلى حضرموت قبل الإسلام. وقد تحدث اليعقوبي عن حرب وقعت بين كندة وحضرموت. طال أمدها، وهلك فيها جمع من الرؤساء، منهم: "سعيد بن عمرو بن النعمان بن وهب"، و"عمر بن زيد" وكان على "بني الحارث بن معاوية" و"شرحبيل بن الحارث" وكان على السكون، وهؤلاء من كندة، و"مسعر بن مستعر" و"سلامة بن حجر" و"شرحبيل بن مرة" وهؤلاء من حضرموت. فلما ملكت حضرموت "علقمة بن ثعلب" وهو يومئذ غلام، لانت كندة بعض اللين، وكرهت محاربه حضرموت، وكان القتل قد كثر فيها، فصارت كندة إلى أرض معد، ثم ملكوا رجلًا منهم كان أول ملوكهم يقال له "مرتع بن

_ 1 حمزة "ص92"، "كندة" "السكون" "السكاسك"، الفهرست "1/ 98". "طبعة فلوكل". 2 الصفحة "ص85 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 257". 3 الصفحة "ص85 وما بعدها". 4 البلدان "7/ 284". 5 البلدان "6/ 304". الأغاني "11/ 160" المفضليات "ص427".

معاوية بن ثور" فملك عشرين سنة، ثم ملك ابنه ثور، ثم ابنه معاوية بن ثور، ثم الحارث بن معاوية، وكان ملكه أربعين سنة، ثم ملك وهب بن الحارث عشرين سنة، وملك بعده حجر بن عمرو المعروف بـ"آكل المرار" الشهير الذي حالف بين كندة وربيعة بالذنائب وتولى الملك1 فهؤلاء إذن هم أسلاف "حجر بن عمرو"، حكموا كندة ومعدًا على رأي اليعقوبي قبل حجر بسنين. وفي رواية لابن الكلبي أن "أول من أنسأ الشهور من مضر مالك بن كنانة، وذلك أن مالك بن كنانة نكح إلى معاوية بن ثور الكندي، وهو يومئذ في كندة، وكانت النسأة قبل ذلك في كندة؛ لأنهم كانوا قبل ذلك ملوك العرب من ربيعة ومضر، وكانت كندة من أرداف المقاول"2. وتدل هذه الرواية على أن هذه القبيلة كانت على اتصال وثيق بالقبائل المنتسبة إلى معد، وربما كان اتصالها هذا أوثق وأقوى من اتصالها بقبائل قحطان، مع أن النسابين يعدونها من قبائل قحطان. وأقدم رجل في كندة تحدث عنه الأخباريون بشيء من التفصيل والوضوح، هو "حجر" الملقب بـ"آكل المرار"3، وهو ينسب إلى "عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتفع بن معاوية" على رواية4، وإلى "عمرو بن معاوية بن الحارث الأصغر بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن كندة" على رواية أخرى5.

_ 1 "الذئاب"، الصفة "ص123، 146، 171، 173، 182، 209"، البلدان "4/ 197 وما بعدها" اليعقوبي "1/ 176 وما بعدها"، "طبعة النجف". 2 الأزرقي: أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار "1/ 118" "المطبعة الماجدية بمكة سنة 1352". 3 المرار: عشب مر إذا أكلته الإبل قلصت عنها مشافرها فبدت أسنانها، قيل سمي حجر آكل المرار لكشر كان به. وقيل لأن ابنه له سباها ملك من ملوك سليح يقال له "زياد بن هبولة" من الضجاعة، فقالت له ابنة حجر: كأنك بأبي قد جاء كأنه جمل أكل المرار. تعني كاشرًا عن أنيابه، وقيل: إنه كان في نفر من أصحابه في سفر. فأصابهم الجوع، فأما هو فأكل المرار حتى شبع، فعرف بآكل المرار. وهناك روايات أخرى في هذا المعنى. راجع: اليعقوبي "1/ 177" أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر "1/ 74" شرح ديوان امرئ القيس ومعه أخبار المراقسة وأشعارهم في الجاهلية وصدر الإسلام "ص6" لحسن السندوبي، اللسان "4/ 171". 4 حمزة "ص92". 5 ابن خلدون "2/273".

ورويت روايات أخرى تختلف عن هذه السلسلة بعض الاختلاف1. وذكر أنه كان أخًا لـ"حسان بن تبع" لأمه. فلما دوخ "حسان" بلاد العرب، وسار في الحجاز، وهم بالانصراف، ولَّى أخاه "حجرًا" على "معد بن عدنان" كلها، فدانوا له، وسار فيهم أحسن سيرة2. وفي رواية أخرى من روايات الأخباريين أن التبايعة كانوا يصاهرون "بني معاوية بن عنزة" من كندة، وكانوا يملكون في "دمون"، ويولونهم على "بني معد بن عدنان" بالحجاز، فكان أول من ولي منهم "حجر آكل المرار"، ولَّاه "تبع بن كرب" الذي كسا الكعبة، وولى بعده ابنه "عمرو بن حجر"3. فيفهم من هذه الرواية أن "بني معد" كانوا أتباعًا للتبابعة يعينون عليهم من يشاءون من الناس. وفي رواية ترجع إلى ابن الكلبي، مفادها أن تبعًا المعروف بـ"أبي كرب" حين أقبل سائرًا إلى العراق نزل بأرض معد، فاستعمل عليها "حجرًا آكل المرار"، ومضى لوجهه. فلما هلك، بقي حجر لحسن سيرته مطاعًا في مملكته. وملك الشأم يومئذ "زياد بن الهبولة السليحي" والملك الأعظم في بني جفنة، وزياد كالمتغلب على بعض الأطراف، فقتله حجر. وقد بقي حجر حتى خرف، وله من الولد: عمرو ومعاوية4. فيظهر من الرواية المتقدمة أن حجرًا كان معاصرًا لـ"زياد بن الهبولة السليحي" وهو ملك عرب الشأم يومئذ، ويذكر حمزة أن "حجرًا "قتله5. وفي رواية أخرى أن حجرًا هو أول ملوك كندة. وكانت كندة قبل أن يملك حجر عليها بغير ملك، فأكل القوي الضعيف، فلما ملك حجر سدد أموالها وساسها أحسن سياسة، وانتزع من اللخميين ما كان بأيديهم من أرض "بكر بن وائل". وبقي حجر كذلك حتى مات6. فـ"حجر" على هذه الرواية

_ 1 الأغاني "15/ 82". 2 ابن خلدون "2/ 273"، ابن قتيبة: المعارف "ص308". 3 ابن خلدون "2/ 276". 4 حمزة "ص92"، ابن خلدون "2/ 273" الأغاني "15/ 82" المحبر "ص368 وما بعدها". 5 حمزة "ص92". 6 أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر "1/ 74" "المطبعة الحسينية".

أول ملك من ملوك كندة، وأول زعيم من زعمائها تمكن من توحيد صفوفها ومن تغليبها على قبائل أخرى، ومن توسيع رقعة أراضيها حتى بلغت حدود مملكة لحم. وذكر عدد من الأخباريين أن والد "حسان تبع" هو "أسعد أبو كرب" المعروف بـ"تبع الأوسط"، وهو ابن "كلي كرب بن تبع"1. وقد ذهب "هاتمن" "HARTMANN" إلى أن "حسان تبع" هذا هو "شرحبيل يعفر" المذكور في نص "GLASER 554" الذي يعود تأريخه إلى سنة "450" للميلاد، وهو ابن "أب كرب أسعد" الذي حكم على تقدير "هومل" من سنة "385" حتى سنة "420" للميلاد2، غير أننا يجب أن نأخذ أمثال هذه الأمور بحذر3، خاصة فيما يتعلق بفتوحات التبابعة واتساع ملكهم وغير ذلك مما يقصه علينا الأخباريون. ونزل حجر على رواية بنجد بـ"بطن عاقل" وكان اللخميون قد ملكوا كثيرًا من تلك البلاد، ولا سيما بلاد "بكر بن وائل" فنهض بهم وحارب اللخميين، واستخلص أرض بكر منهم4، ويقع "بطن عاقل" في جنوب "وادي الرمة" على الطريق بين مكة والبصرة5. ويحدثنا بعض الرواة أن حجرًا بينما كان يغزو عمانًا، بلغ ذلك "الحارث بن الأهيم "الأيهم" بن الحارث الغساني"، فأغار على أرض حجر، وأخذ أموالًا لحجر، وقينة من أحب قيانه إليه، وانصرف، فقال للقينة: "ما ظنك بحجر؟ " فقالت: "لا أعرفه ينام إلا وعضو منه يقظان، وليأتينك فاغرًا فاه كأنه بعير أكل مرارًا، فإن رأيت أن تنجو بنفسك فافعل"، فلطمها الغساني فما لبثوا أن لحقهم حجر كما وصفت، فرد القينة والأموال، وكان حجر قد رجع من غزاة عمان وهو يقول بعد أن بلغه غارة الغساني: "لا غزو إلا بالتعقيب"6 وذكر "الهمداني" في معرض تفسيره لـ"آكل المرار" مضمون هذه الرواية دون

_ 1 المعارف "ص307" حمزة "ص85 وما بعدها". 2 Handbuch, S. 104, Hartmann, Die Arabische Frage, S. 481 3 OLINDER, P. 40 4 ابن الأثير "1/ 209"، شرح القصائد العشر، للزوزني "ص6". 5 البلدان "6/98" OLINDER, P. 42 6 منتخبات "ص97".

أن يشير إلى اسم الغساني، أو اسم الموضع الذي كان حجر يغزو فيه1. وذكرت بعض الروايات الحارث بن جبلة بدلًا من الحارث بن الأهيم "الأيهم" بن الحارث الغساني2. وذكر الميداني القصة نفسها عن "الحارث بن مندلة الضجعمي" من "بني سليح". أما "ابن هشام"، فجعله "عمرو بن الهبولة الغساني"3. وفي رواية أخرى أن الغازي هو "زياد بن الهبولة" ملك الشأم، وكان من "سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"، غزا ملك حجر في أثناء إغارة حجر في كندة وربيعة على البحرين، فأخذ الحريم والأموال، وسبى "هندًا بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية" زوجة حجر. فلما سمع حجر وكندة وربيعة، عادوا من غزوهم في طلب "ابن الهبولة" ومع حجر أشراف ربيعة "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، و"عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان"، وغيرهما، فأدركوا "زيادًا" "عمرًا؟ " بـ"البردان" دون عين أباغ، وقد أمن الطلب، فنزل حجر في سفح جبل، ونزلت بكر وتغلب وكندة مع حجر دون الجبل بالصحصحان على ماء يقال له "حفير"، ووقعت معركة تغلب فيها حجر على خصمه، وأخذ زياد أسيرًا، ثم قتل، واسترجعت منه هند في قصة معروفة مشهورة فيها شعر على الطريقة المألوفة عند الأخباريين4. وتقول الرواية أنه بعد أن انتقم وانتصر، عاد إلى الحيرة5. وقد عرفت هذه المعركة بـ"يوم البردان"6. ويلاحظ أن ابن الأثير أورد في روايته عمرًا بدلًا من زياد، أي زياد بن الهبولة ملك الشأم كما هو مقتضى الكلام، وأورد في نهاية القصة هذه الجملة "ثم عاد إلى الحيرة" وهي تشعر أن موضع حجر كان في الحيرة، ولم يذكر أحد أنه كان فيها.

_ 1 الصفة "ص86". 2 الأغاني "13/ 63" OLINDER, P. 44 3 OLINDER, P. 45 4 ابن الأثير "1/ 207" الأغاني "15/ 82" وما بعدها" البيان والتبيين "3/ 328" "لجنة" OLINDER, P. 43 5 ابن الأثير "1/ 208"، "البردان"، تاج العروس "2/ 300" القاموس "1/ 277". 6 ابن الأثير "1/ 207" وما بعدها.

ويظهر أن المورد الذي نقل منه ابن الأثير أو أصحاب القصة، لم يحسن حبكها، أو أنه خلط بين قصتين، فظهرت في هذا الشكل. وقد انتبه ابن الأثير إلى هذا الاضطراب، فقال: "هكذا قال بعض العلماء: أن زياد بن هبولة السليحي ملك الشأم غزا حجرًا. وهذا غير صحيح؛ لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشأم مما يلي البر من فلسطين إلى "قنسرين"، والبلاد للروم، ومنهم أخذت غسان هذه البلاد، وكلهم كانوا عمالًا لملوك الروم، كما كان ملوك الحيرة عمالًا لملوك الفرس على البر والعرب، ولم يكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشأم، وقولهم ملك الشام غير صحيح. وزياد بن هبولة السليحي ملك مشارف الشام، أقدم من حجر آكل المرار بزمان طويل؛ لأن حجرًا هو جد الحارث بن عمرو بن حجر الذي ملك الحيرة والعرب بالعراق أيام قباذ أبي أنو شروان، وبين ملك قباذ والهجرة نحو ثلاثين ومائة سنة. وقد ملكت غسان أطراف الشأم بعد سليح ستمائة سنة، وقيل خمسمائة سنة، وأقل ما سمعت فيه ست عشرة سنة وثلاثمائة سنة، وكانوا بعد سليح، ولم يكن زياد آخر ملوك سليح، فتزيد المدة زيادة أخرى، وهذا تفاوت كثير، فكيف يستقيم أن يكون ابن هبولة الملك أيام حجر حتى يغير عليه، وحيث أطبقت رواة العرب على هذه الغزاة، فلا بد من توجيهها، وأصلح ما قيل فيه: إن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيسًا على قوم، أو متغلبًا على بعض أطراف الشأم. وبهذا يستقيم هذا القول والله أعلم. وقولهم أيضًا أن حجرًا عاد إلى الحيرة لا يستقيم أيضًا؛ لأن ملوك الحيرة من ولد عدي بن نصر اللخمي، لم ينقطع ملكهم لها إلا أيام قباذ، فإنه استعمل الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، كما ذكرنا من قبل، فلما ولي أنو شروان، عزل الحارث، وأعاد اللخميين. ويشبه أن يكون بعض الكنديين قد ذكر هذا تعصبًا، والله أعلم. إن أبا عبيدة ذكر هذا اليوم، ولم يذكر أن ابن هبولة من سليح، بل قال: "هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان، ولم يذكر عوده إلى الحيرة، فزال هذا الوهم"1.

_ 1 ابن الأثير "1/ 208 وما بعدها".

وبهذا التعليق أراد ابن الأثير إصلاح ما جاء في الرواية المذكورة من أوهام. ولكن تعليقه نفسه فيه أوهام وأخطاء من حيث عدد السنين وتقدير المدد وما شاكل ذلك من أمور ترد في روايات أهل الأخبار. ولا نعرف متى توفي حجر، وقد ذكر ابن الأثير أنه توفي بـ"بطن عاقل" وبه دفن1. ويرى "أوليندر" "OLINDER" استنادًا إلى تقدير سنة وفاة الحارث حفيد "حجر" بسنة "528" للميلاد، وإلى تقدير مدة حكم الضجاعمة من "بني سليح"، أنه حكم في الربع الأخير من القرن الخامس للميلاد2. ويرى بعض الباحثين أن حجرًا هو "OGARUS" المذكور في بعض التقاويم في حوادث السنين 497 و501 و502 للميلاد. وقد ذكر معه اسم أخ له عرف بـ"BADICHARIMUS" أي "معديكرب"، كما ذكر أحد أحفاده وهو "ARETHA" أي الحارث3. ونسب الأخباريون لـ"حجر" ثلاث زوجات، هن: "هند" ابنة "ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية" وتعرف بـ"هند الهنود" و"أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني" وهي أم "الحارث بن حجر"4، وأما الثالثة فمن حمير5. وفي ديوان الشاعر الجاهلي "بشر بن أبي خازم الأسدي" قصيدة يمدح فيها "عمرو بن أم أناس"، أو "أم أياس"6، وهو من "كندة". وأم أناس هي ابنة "عوف بن محلم الشيباني" الذي يضرب به المثل، فيقال: "لا حر بوادي عوف". وهو من بيت شرف قديم، لهم قبة يقال لها "المعاذة" من لجأ إليها أعاذوه7. ومما جاء في مدح هذا الشاعر له:

_ 1 ابن الأثير "1/ 209". 2 OLINDER, P. 48 3 Provincia Arabia, III, S. 286 4 الأغاني "9/ 159" "15/ 82"، جمهرة ابن حزم "323"، الزوزني، شرح القصائد العشر "7". 5 OLINDER, P. 41 6 بالياء في ديوان بشر حسب تحقيق الناشر. 7 الاشتقاق "215".

وَالمانِحُ المِائَةَ الهِجانَ بِأَسرِها ... تُزجى مَطافِلُها كَجَنَّةِ يَثرِبِ وَلَرُبَّ زَحفٍ قَد سَمَوتَ بِجَمعِهِ ... فَلَبِستَهُ رَهوًا بِأَرعَن مُطنِبِ بِالقَومِ مُجتابي الحَديدِ كَأَنَّهُم ... أُسدٌ عَلى لُحُقِ الأَباطِلِ شُزَّبِ1 ويستفاد من هذه القصيدة أن الممدوح، وهو عمرو، كان كريمًا سخيًّا يهب المئات من الإبل الهجان الطيبة الأعراق، وأنه كان صاحب جيش قوي. وينطبق هذا الوصف على "عمرو بن حجر". أكثر من انطباقه على "عمرو بن الحارث" جد "امرئ القيس". وذلك على رواية من زعم أنه كان للحارث جد الشاعر المذكور ولد اسمه "عمرو" من زوجة له دعوها "أم أناس" ابنة "عوف بن محلم الشيباني" إذ لم يكن وضع أولاد الحارث وضعًا حسنًا بعد النكبة التي نزلت بمصيبة والدهم وبتعقب المنذر بن ماء السماء لهم، وبثورة القبائل عليهم. فليس من المعقول أن يهب "عمرو" تلك الهبات وأن يجمع له جيش لجب. خاصة وأن الرواة لم يذكروا اسمه في جملة أسماء أبناء الحارث الذين ملكهم على القبائل في حياته أو الذين ورثوا ملكه بعد مماته. وقد نص "ابن قتيبة" في كتابه: "المعاني الكبير" على أن "عمرو بن أم أناس" هو "عمرو بن حجر الكندي" الذي كان جد "عمرو بن هند"، وهند أم "عمرو بن هند" هي ابنته. وذكر أن "أم عمرو بن حجر" هي "أم أناس بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة" وأنه هو المذكور في شعر الحارث بن حلزة، إذ يقول: وَوَلَدنا عَمرو بِن أُمِّ أُناسٍ ... مِن قَريبٍ لَمّا أَتانا الحِباءُ2 وقد اختلف أهل الأخبار كما رأينا في السبب الذي حمل الناس على تلقيب "حجر" بـ"آكل المرار". فذهبوا في ذلك جملة مذاهب ذكروها في أثناء حديثهم عنه3.

_ 1 ديوان بشر "39" الأغاني "15/ 82 وما بعدها". 2 كتاب المعاني الكبير "1/ 531 وما بعدها". 3 الأغاني "8/ 60" "طبعة مطبعة التقدم" التبريزي، القصائد العشر، "ص4" الجاحظ، البيان والتبيين "3/ 328" "مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" الكامل، لابن الأثير "1/ 301" "دار الطباعة المنيرية" دائرة المعارف، للبستاني "1/ 122" الأغاني "15/ 83".

وصار "عمرو بن حجر "المعروف بـ"المقصور" ملكًا بعد أبيه. ويقولون إنه إنما قيل له "المقصور" لأنه قصر على ملك أبيه، أو لأن "ربيعة" قصرته عن ملك أبيه، وبذلك سمي المقصور1. وكان لـ"عمرو" كما يقول الأخباريون أخ اسمه "معاوية" ويعرف بـ"الجون"2 "الجوف"3، كان نصيبه "اليمامة". ويظهر من هذا الخبر أنه أخذ من شقيقه هذه المنطقة وترك الأرضين الباقية لأخيه. ويذكر أهل الأخبار أن "عمرو" و"معاوية" شقيقه هو "شعية بن أبي معاصر بن حسان بن عمرو بن تبع"4. ويظهر من هذا النسب أنها كانت من أسرة يمانية رفيعة ومن البيوتات التي كانت تحكم بعض المقاطعات. وورد في رواية أن "عمرًا" غزا الشأم ومعه ربيعة، فلقيه الحارث بن أبي شمر الغساني فقتله. ولم يضف "اليعقوبي" صاحب الرواية المذكورة إلى هذه الرواية شيئًا عن حياة "عمرو" المقصور5. أما "حمزة"، فلم يشر إليه بشيء6. وفي رواية أن ربيعة حينما قصرت عمرًا عن ملك أبيه، استنجد عمرو المقصور "مرثد بن عبد ينكف الحميري" على ربيعة، فأمده بجيش عظيم. فالتقوا بـ"القنان"، فشد عامر الجون على عمرو المقصور فقلته7. فهذه الرواية تنفي رواية من يقول إن الحارث بن شمر الغساني هو الذي قتله. وإذا صحت الرواية المتقدمة، تكون "ربيعة" قد ثارت على "ابن حجر" لأنها أرادت التخلص من حكم كندة لها. وقد تمكنت من ذلك على الرغم من المساعدة اليمانية التي قدمت له. ويظهر من الروايات الواردة عن عمرو ومن تلقيبه بلقب: "المقصور" ومن

_ 1 ابن الأثير "1/ 209"، المحبر "ص369"، المفضليات "ص429"، الأغاني "8/ 60". 2 ابن الأثير "1/ 209"، الأغاني "15/ 82"، المحبر "ص369". 3 "الجوف"، الأغاني "8/ 61"، وهو تصحيف، والصحيح "الجون". "9/ 79" "طبعة دار الكتب". 4 الأغاني "8/ 60". 5 اليعقوبي "1/ 177"، الأغاني "8/ 65". 6 حمزة "ص92". 7 يوم القنان، المفضليات "ص429"، البلدان "7/ 165".

الشروح التي ذكرها الرواة في تفسير هذه الكلمة، أن "عمرًا" لم يكن قويًّا صاحب عزم وإرادة، وأنه اكتفى بما وقع له من أبيه، فلم يسع في توسيعه وتقويمه، وأن حكمه على ما يظهر لم يكن طويلًا، وقد جعله ابن الكلبي في جملة من كان يخدم "حسان بن تبع" تبع حمير، ولم يلقبه بلقب ملك، بل قال: إنه كان سيد كندة في زمانه. وذكر أن "حسان بن تبع" حين سار إلى جديس، خلقه على بعض أموره. فلما قتل "عمرو بن تبع" أخاه "حسان بن تبع"، وملك مكانه اصطنع "عمرو بن حجر"، وكان ذا رأي ونبل، وكان مما أراد عمرو إكرامه به وتصغير بن أخيه حسان أن زوجة ابنة "حسان بن تبع"، فتكلمت في ذلك حمير. وكان عندهم من الأحداث التي ابتلوا بها؛ لأنه لم يكن يطمع في الترويج إلى أهل ذلك البيت أحد من العرب. وولدت ابنة "حسان بن تبع" لعمرو بن حجر "الحارث" الذي عينه "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن"، أي خال "الحارث" على بلاد معد1. ويظهر من رواية مرجعها ابن الكلبي أن الأسود بن المنذر ملك الحيرة، كان قد تزوج ابنة لـ"عمرو بن حجر"، فولدت له "النعمان بن الأسود" الذي حكم في زمن "قباذ" أربع سنين، ولذلك عرفت بـ"أم الملك"2. وانتقل الملك على رأي أكثر الأخباريين من عمرو إلى ابنه الحارث: وهو المعروف بـ"الحارث الحراب" على بعض الروايات3. وقد ورد في شعر للشاعر "لبيد" هذا البيت: وَالحارِثُ الحَرّابُ خَلّى عاقِلًا ... دارًا أَقامَ بِها وَلَم يَتَنَقَّلِ وقد ذهب الأصمعي إلى أن الشاعر المذكور قصد بـ"الحارث الحراب" الحارث الذي نتحدث عنه. وذلك لأن "عاقلًا" من ديار كندة. وهو جبل كان يسكنه "حجر أبو امرئ القيس"4. وإذا أخذنا بهذه الرواية وجب علينا أن نفترض أنه كان قد أقام بموضع عاقل وحكم منه في أغلب الأوقات.

_ 1 الطبري "2/ 86". 2 الطبري "1/ 900"، حمزة "ص69". 3 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "ص55، 275". 4 شرح ديوان لبيد "ص275".

وقد نعت "حمزة" الحارث بـ"المقصور"1. وقد رأينا أن جماعة من الأخباريين منحت هذا اللقب لـ"عمرو". وقد اختلف الرواة في أم "الحارث"، فذهب بعض منهم إلى أنها ابنة "حسان بن تبع"2، وذهب بعض منهم إلى أنها "أم أناس"3 أو "أم إياس"4 بنت "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، وأمها "أمامة بنت كسر بن كعب بن زهير بن جشم" من تغلب5. وفي رواية أخرى، أن "أم أناس"، وكانت زوجة لـ"حجر" وهي أم "الحارث بن حجر" و"هند بنت حجر". ولذلك فهي ليست أمًّا للحارث بن عمرو المقصور، كما جاء في الرواية المتقدمة. ويظهر أن مرد هذا اختلاف يعود إلى تشابه الاسمين، وإلى عدم تمييز الرواة بينهما. ويكون "الحارث بن حجر" المذكور إذن شقيقًا لعمرو بن حجر6. وقد ذكر "ثيوفانس" رئيسًا عربيًّا دعاه "الحارث من بني ثعلبة" "ARETAS O. THALABAYNYS"، يظن "أوليندر" أنه "الحارث الكندي"7، ويرجح لذلك الرواية الثانية التي تجعل أم الحارث "أم أناس" "أم إياس". ذلك لأن "أم أناس" من شيبان، وشيبان هو ابن ثعلبة في عرف النسابين، فيكون هذا الحارث على رأيه هو الحارث الكندي. ولست أستطيع الجزم بهذا الرأي، فإن "الحارث" من الأسماء المعروفة الكثيرة الاستعمال عند العرب في بادية الشأم وفي بلاد الشأم، وشمال الحجاز ونجد، وقد عرفنا أسماء عدد من الأمراء وسادات القبائل عرفوا بهذا الاسم، ثم إن نسبة الحارث إلى الثعلبانية "ثعلبة"، لا يدل على أن الحارث الذي ذكره "ثيوفانس" هو "الحارث الكندي"، بل يدل على أنه كان من قبيلة اسمها "ثعلبة" أو "ثعلبان". وقد ذكر كتبه اليونان والسريان اسم قبيلة "ثعلبة" وكانت من القبائل الخاضعة

_ 1 حمزة "ص92". 2 الطبري "1/ 100"، حمزة "ص69". 3 المفضليات "ص429"، الأغاني "8/ 62". 4 OLINDER, P. 48. 5 المفضليات "ص429". 6 الأغاني "15/ 83". 7 OLINDER, P. 48

للروم. فورد "طايوي ربيث رومرين ديث ثعلبة"، أي "العرب الذين في أرض الروم الملقبون ببني ثعلبة"، وورد ذكرها في أخبار مؤرخي الكنيسة في النصف الثاني من القرن الرابع للميلاد1. وفي "طيء" ثلاثة بطون عرفت بـ"بني ثعلبة"، هي "ثعلبة بن ذهل"، و"ثعلبة بن رومان" و"ثعلبة بن جدعاء"، وتعرف بـ"ثعالب طيء". ويوجد أيضًا "بنو ثعلبة بن شيبان" من بطون "تميم"2. وقد عرف "بنو شيبان بن ثعلبة بن عكاية بن صعب بن علي بن بكر بن وائل" و"بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكاية" بـ"بني ثعلبة" في تواريخ الروم والسريان. ومن "شيبان" كان "حارث بن عباد" سيد شيبان في حرب البسوس. وقد عرفوا بـ"THALABENES" عند الروم3. وتذكر رواية لابن الكلبي أن "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن"، أعان "الحارث بن عمرو" وساعده على تولي الملك. و"تبع بن حسان بن تبع"، هو خاله على هذه الرواية. وتزعم أنه بعث إلى ابن أخته بجيش عظيم سار معه إلى بلاد معد والحيرة وما والاها، فسار إلى "النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة"، فقاتله، فقتل النعمان وعدة من أهل بيته، وهزم أصحابه، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر، وملك "الحارث بن عمرو الكندي" ما كانوا يملكون4. ولا نعرف من الأسماء المذكورة في الكتابات العربية الجنوبية اسم ملك يدعى "تبع بن حسان بن تبع بن ملكيكرب بن تبع الأقرن". ويرى "هارتمن" "HARTMANN" أن الأخباريين أرادوا به "شرحبيل يكف"، وهو ابن شرحبيل يعف" المذكور اسمه في النص المؤرخ بسنة "467"5. يظهر من رواية "ابن الكلبي" المتقدمة أن الملك لم ينتقل إلى الحارث من أبيه إرثًا، وإنما جاءه بمساعدة خاله "تبع بن حسان بن تبع". ولم تذكر الرواية

_ 1 شيخو، النصرانية "القسم الأول ص79". ROTHSTEIN, 8. 47 2 النصرانية "القسم الأول، ص127". ابن حزم، جمهرة "ص297". 3 النصرانية "القسم الأول، ص131 وما بعدها"، "القسم الثاني: 2/ 422". 4 الطبري "2/ 86". 5 Olinder, P. 54, Hartmann, S. 497

الأسباب التي دعت إلى اعتماد الحارث على "تبع" في تولي الملك. ولو صحت هذه الرواية كان معناها أنه لم يتمكن من الحصول على حقه في الملك إما لامتناع القبائل من قبوله ملكًا عليها، مما دعاه إلى الاستعانة بـ"تبع" أو بغيره، وإما لأن ملك والده يوم توفي لم يكن واسعًا، بل كان مقتصرًا على كندة ومن في حلفها، أو لأنه لقي مقاومة من أشقائه وأقربائه، مما دفعه إلى الاستعانة بالغرباء في تنصيب نفسه ملكًا على كندة وعلى القبائل الأخرى، ثم على توسيع ملكه فيما بعد. ولدينا رواية أخرى، تذكر أن الذي ساعد "الحارث بن عمرو" على تولي الحكم على بلاده معد، هو "صهبان بن ذي خرب"، وذلك أن معدًا لما انتشرت تباغتت وتظالمت، فبعثت إلى صهبان تسأله أن يملك عليها رجلًا يأخذ لضعيفها من قويها مخافة التعدي في الحروب، فوجه إليها الحارث بن عمرو الكندي، واختاره لها؛ لأن معدًا أخواله، أمه امرأة من بني عامر بن صعصعة، فسار الحارث إليها بأهله وولده. فلما استقر فيها، ولى ابنه حجر، وهو أبو امرئ القيس الشاعر على أسد وكنانة، وولى ابنة شرحبيل على قيس وتميم، وولى ابنه معديكرب، وهو جد الأشعث بن قيس الكندي على ربيعة، فمكثوا كذلك إلى أن مات الحارث، فأقر صهبان كل واحد منهم في ملكه، فلبثوا بذلك ما لبثوا. ثم إن بني أسد وثبوا على ملكهم حجر بن عمرو، فقتلوه. فلما بلغ ذلك صهبان، وجه إلى مضر عمرو بن نابل اللخمي، وإلى ربيعة لبيد بن النعمان الغساني، وبعث برجل من حمير يسمى أوفي بن عنق الحية وأمره أن يقتل بني أسد أبرح القتل. فلما بلغ ذلك أسدًا وكنانة، استعدوا. فلما بلغ أوفي ذلك، انصرف نحو صهبان، واجتمعت قيس وتميم فأخرجوا ملكهم عمرو بن نابل عنهم فلحق بصهبان، وبقي معديكرب جد الأشعث ملكًا على ربيعة1. أما صهبان، فهو رجل لم يكن من أهل بيت الملك في حمير، بل كان قد وثب على الملك وأخذه عنوة، وذلك حينما تضعضع أمر الحميرية بقتل "عمرو بن تبع" أخاه "حسان بن تبع"، فانتهز صهبان هذه الفرصة، ووثب على "عمرو بن تبع" فقتله واستولى على ملكه وصار الأمر إليه2.

_ 1الديبوري. الأخبار الطوال "ص53 وما بعدها". 2 الأخبار الطوال "ص52 وما بعدها".

وهناك رواية أخرى تذكر أن "صهبان بن محرث" هو الذي عين الحارث على معد. فهي تأييد للرواية المتقدمة. سوى أنها عينت اسم والد صهبان، بأن نصت عليه، فجعلته "محرثًا" أما الرواية المتقدمة فدعته "ذي خرب" و"ذي خرب" لقب، يعبر عن منصب وليس باسم علم. وفي رواية يرجع سندها إلى أبي عبيدة، أن بكر بن وائل لما تسافهت، وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامها، ارتأى رؤساؤهم فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا فأكل القوي الضعيف. فنرى أن نملك علينا ملكًا نعطيه الشاة والبعير، فيأخذ للضعيف من القوي. ويرد على المظلوم من الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا، فيأباه الآخرون، فيفسد ذات بيننا، ولكننا نأتي تبعًا فنملكه علينا، فأتوه، فذكروا له أمرهم، فملك عليهم الحارث بن عمرو آكل المرار الكندي، فقدم فنزل بطن عاقل1. ويدرك من هذه الروايات أنه كان للتبايعة نفوذ على قبائل معد، وأن تلك القبائل كانت تستشيرهم في أمورها، وتحتكم إليهم فيما يحدث بينهم من خلاف. وأنه كان لهم يد في تعيين الحارث وتنصيبه على تلك القبائل. والشيء الوحيد الذي يمكن استخلاصه من هذه الروايات المدونة عن تعيين الحارث ملكًا، أنه تولى الحكم على كندة بعد وفاة أبيه، وأنه وسع ملكه بعد ذلك وقد يكون بمساعدة "تبع"، فصار ملكًا على كندة وبكر وعلى قبائل أخرى وأنه تمكن بشخصيته من رفع شأن قبيلته. ويرى "أوليندر" أنه حكم حوالي سنة "490" للميلاد2. وليس من السهل تعين اسم "التبع" الذي عين الحارث ملكًا كما جاء ذلك في الروايات اليمانية بالاستناد إلى نصوص المسند، وليس من السهل أيضًا تصور بلوغ نفوذ "ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الجبال وفي تهامة" المواضع التي ذكرها أخباريو اليمن. وقد رأينا آثار الوهن بادية على تلك المملكة، بحيث لم تتمكن من مقاومة غزو الحبشة لها. وليس من السهل أيضًا تصور مجيء "بكر" والقبائل الأخرى مختارة طائعة إلى الحارث تلتمس منه أن

_ 1 نهاية الأرب "15/ 406"، العقد الفريد "6/ 78"، "طبعة العريان". 2 OLINDER, P. 56

يتفضل عليها بأن يكون ملكًا عليها، وقد رأيناها كما يقول الأخباريون أنفسهم تنتقض على البيت المالك من كندة وتثور عليه، وتقتل أمراءها منهم، حال علمها بضعف ذلك البيت، وبوفاة الرجل الذي جمع تلك القبائل بقوته، ووحدها بشخصيته. والأقرب إلى المنطق هو أن هذه القبائل لم تعترف برئاسة الحارث عليها، وبتاجه عليها إلا لما رأته فيه من القوة، وإلا بعد استعمال القوة والعنف مع عدد من القبائل، فرضيت به ملكًا ما دام قويًّا والأمر بيديه، وهو منطق السياسة في الصحراء. وبهذا التفسير نستطيع فهم تكون ممالك أو إمارات بسرعة عجيبة، تظهر فجأة قوية تحتضن جملة قبائل، ثم تسير بسرعة فتهدد حدود الدول الكبرى وتهاجمها كالفيضان، فإذا أصيبت بهذه الدول تمزقت أوصالها وتجزأت كما تتجزأ الفقاعة وتذوب، هكذا حياة المالك في البوادي، ممالك تولد، وأخرى تموت. ويذكر الأخباريون أن الحارث الكندي جمع إلى ملكه ملك الحيرة وآل لحم، وذلك في زمن قباذ. ورووا في ذلك جملة روايات عن كيفية تولي الحارث ملك الحيرة، وطرده لملكها الشرعي وتولي الحكم دونه. فرووا أن الزمن لم يكن مؤاتيًا لـ"قباذ" يوم أوتي الحكم. كانت الأحوال مضطربة، والفتن رافعة رأسها في مواضع متعددة، والنفوذ في المملكة بيد الموابذة، ولموبذان موبذ الكلمة العليا؛ إذ هو الرئيس الروحي الأعلى في المملكة، كما كان للأغنياء وللإقطاعيين الشأن الأول في سياسة الدولة، فلم يعجب قباذ الوضع؛ لأنه "ملك الملوك" "شاهنشاه" ومن حق "ملك الملوك" ألا ينازع في الملك، ففكر في طريقة لتقليص ظل الموابذة والمتنفذين في المملكة من كبار الأغنياء والملاكين، ورأى أن خير ما يفعله في هذا الباب، هو نشر تعاليم مزدك بين الناس، فإذا انتشرت كانت كفيلة بالقضاء على الأغنياء وعلى رجال الدين المتنفذين1. وكان مزدك وأصحابه يقولون إن الناس تظالموا في الأموال والأرزاق، فاغتصبها بعضهم من بعض، وإن الأغنياء قد اغتصبوا رزق الفقراء "وإنهم يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وإنه من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو بأولى به من غيره. فافترص السفلة ذلك، واغتنموه، وكانفوا مزدك وأصحابه وشايعوهم فابتلي الناس بهم، وقوي أمرهم حتى كانوا

_ 1 Noldeke, Aufsatzee zur Persischen Geschichte, Leipzig, 1887, S. 109

يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على منزله ونسائه وأمواله، لا يستطيع الامتناع منهم"1. هكذا وصف الطبري وغيره من الأخباريين دعوة مزدك. فهي على هذا الوصف دعوة اشتراكية جاءت مقوضة لرجال الدين والإقطاعيين ومتنفذة الأغنياء. فلما شايع قباذ المزدكية، اجتمعت كلمة "موبذان موبذ" والعظماء على إزالته من ملكه، فأزالوه عنه وحبسوه، وعينوا أخاه جاماسب مكانه، ويذكر الطبري أن ذلك كان في السنة العاشرة لملك قباذ، فيكون ذلك في سنة "498 م" على رأي من جعل ابتداء ملكه في عام "488م"2. وقدر حدوثه أيضًا في سنة "496م"3. وقد مكث أخوه ملكًا ست سنوات ثم أزاله عنه أخوه قباذ الذي أفلت من السجن في قصة يرويها الأخباريون، واستعاد قباذ بذلك ملكه4. فتكون استعادته ملكه في حوالي سنة "504" أو "502م". وقد مكث ملكًا حتى انتقل إلى العالم الثاني في سنة "531م". وتذكر رواية الأخباريين هذه. أن الملك قباذ طلب من المنذر بن ماء السماء الدخول فيما دخل فيه من مذهب مزدك وزندقته، فامتنع، فاغتاظ قباذ وانزعج منه، ودعا "الحارث بن عمرو" إلى ذلك، فأجابه، فاستعمله على الحيرة. وطرد المنذر من مملكته، فعظم سلطان الحارث، وفخم أمره، وانتشر ولده، فملكهم على بكر وتميم وقيس وتغلب وأسد5. وكان من حل نجدًا من أحياء نزار تحت سلطان الحارث دون من نأى منهم عن نجد6. فتربط هذه الرواية كما نرى بين زندقة قباذ وعزل المنذر وتنصيب الحارث ملكًا على الحيرة، بقبوله مذهب قباذ. وروى "حمزة" أن الحارث كان قد طمع في ملك "آل لخم". وكان قد وجد أن "قباذ" ضعيف الهمة فاتر العزم، غير ميال إلى القتال، وأنه سوف لا يساعد آل لحم. إن هو هاجمهم، لذلك ساق كندة ومن كان معه من بكر بن وائل عليهم، وباغت سادة الحيرة ولم يتمكنوا من الوقوف أمامه، فهرب.

_ 1 الطبري "2/ 88". 2 ency. brita. vol. 17, p. 547 Ency. 4, p 178 3 noldek , aufs. S. 109 4 الطبري "2/ 87". 5 ابن الأثير "1/ 209"، الطبري "2/ 89 وما بعدها" المحبر "ص369". 6 حمزة "ص92".

"المنذر" من دار مملكته بالحيرة ومضى حتى نزل إلى "الجرساء الكلبي" وأقام عنده إلى أن تغير الحال بوفاة قباذ، وتبدل سياسة الحكومة بتولي "كسرى أنو شروان" الملك فعاد إلى ملكه وقهر الحارث وتغلب عليه واستعاد ما اغتصب منه1. وذكر "حمزة" أن سبب لجوء "بكر بن وائل" إلى الحارث، وخضوعها لحكمه واشتراكها معه في مهاجمة "آل لخم" وانتزاع الحكم منهم، هو أن "امرأ القيس البدء" كان يغزو قبائل "ربيعة"، فينكي فيهم، ومنهم أصاب "ماء السماء"، وكانت تحت "أبي حوط الخطائر" فثارت به "بكر بن وائل" فهزموا رجاله، وأسروه، وكان الذي ولي أسره "سلمة بن مرة بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان"، فأخذ منه الفداء وأطلقه، فبقيت تلك العداوة في نفوس "بكر بن وائل" إلى أن وهن أمر الملك "قباذ"، فعندها أرسلت بكر إلى الحارث بن عمرو فملكوه، وحشدوا له، ونهضوا معه حتى أخذ الملك ودانت له العرب2. وبهذه الكيفية شرح "حمزة" كيفية تولي "الحارث" عرش الحيرة، وسبب بغض "بكر بن وائل" لآل لخم، بغضًا دعاها إلى تنصيب "الحارث" ملكًا عليها، وعلى الانتقام من آل لخم. ولابن الكلبي رواية عن كيفية تولي الحارث ملك الحيرة، ذكر "أن قباذ ملك فارس له ملك كان ضعيف الملك، فوثبت ربيعة على النعمان الأكبر أبي المنذر الأكبر ذي القرنين، وإنما سمي ذا القرنين لضفرين كانا له، فهو ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة. فأخرجوه، فخرج هاربًا حتى مات في إياد، وترك ابنه المنذر فيهم، وكان أرجى ولده عنده، فتنطلق ربيعة إلى كندة، وكان الناس في الزمن الأول يقولون إن كندة من ربيعة، فجاءوا بالحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي، فملكوه على بكر بن وائل، وحشدوا له، وقاتلوا معه، فظهر على ما كانت العرب تسكن من أرض العراق، وأبى قباذ أن يمد المنذر بجيش. فلما رأى ذلك المنذر، كتب إلى الحارث بن عمرو: إني في غير قومي، وأنت أحق من ضمني واكتنفني، وأنا متحول إليك. فحوله إليه، وزوجه

_ 1 حمزة "ص70 وما بعدها". 2 حمزة "ص70 وما بعدها".

ابنته هندًا. ففرق الحارث بن عمرو بنيه في قبائل العرب، فصار شرحبيل بن الحارث في بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني زيد بن تميم وبني أسد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، وصار غلفاء وهو معديكرب في قيس، وصار سلمة بن الحارث في بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة بن تميم ... ومع معديكرب الصنائع، وهم الذين يقال لهم بنو رقية أم لهم ينسبون إليها. وكانوا يكونون مع الملوك من شذاذ الناس. فلما هلك أبوهم الحارث بن عمرو تشتت أمرهم وتفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بيينهم، وكانت المغاورة بين الأحياء الذين معهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش ... "1. ولابن الكلبي رواية أخرى دونها الطبري، هذا نصها: "لما لقي الحارث بن عمرو بن حجر بن عدي الكندي النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك بعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي أنه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهد، وأني أحب أن ألقاك. وكان قباذ زنديقًا يظهر الخير ويكره الدماء، ويداري أعداءه فيما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه واستضعفه الناس. فخرج إليه الحارث بن عمرو الكندي في عدد وعدة حتى التقوا بقنطرة الغيوم ... فلما رأي الحارث ما عليه قباذ من الضعف، طمع في السواد، فأمر أصحابه مسالحه أن يقطعوا الفرات؛ فيغيروا في السواد، فأتى قباذ الصريخ وهو بالمدائن فقال: هذا من تحت كنف ملكهم. ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو أن لصوصًا من لصوص العرب قد أغاروا، وأنه يجب لقاءه، فلقيه. فقال له قباذ: لقد صنعت صنيعًا ما صنعه أحد من قبلك. فقال له الحارث: ما فعلت ولا شعرت، ولكنها لصوص من لصوص العرب، ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود. قال له قباذ: فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تطعمني من السواد ما أتخذ به سلاحًا. فأمر له بما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، وهي ستة طساسيح، فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبع وهو باليمن: إني قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيح،

_ 1 المفضليات "ص427 وما بعدها"، النقائض "ص1072 وما بعدها"، "طبعة ليدن".

فاجمع الجنود، وأقبل ... فجمع تبع الجنود، وسار حتى نزل الحيرة، وقرب من الفرات، فآذاه البق، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهر إلى النجف، وهو نهر الحيرة، فنزل عليه، ووجه ابن أخيه شمر ذي الجناح إلى قباذ، فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالري". وقد ترك ابن الكلبي الإشارة إلى الحارث وظفر إلى الحديث عن فتوحات شمر الذي أوصل فتوحاته إلى القسطنطينية، ثم إلى رومة "رومية"، ثم إلى عودة "تبع" وتهوده بتأثير أخبار يثرب، ثم إلى علم "كعب الأحبار" الذي استمده على حد قوله من بقية ما أورثت أحبار يهود1. ويرى "موسل" أن التقاء "الحارث" بـ"قباذ" "488-531م" عند قنطرة الفيوم، كان سنة "525" للميلاد2. والفيوم موضع لا يبعد كثيرًا عن "هيت"3: يفهم من رواية ابن الكلبي هذه أن الحارث التقى بملك الحيرة "النعمان بن المنذر" في معركة أسفرت عن مقتل "النعمان" وفرار المنذر ابنه، وعن انتصار عرب الحارث على عرب الحيرة، واستيلاء الحارث على ما كان يملكه النعمان، فلما حدث هذا ووقع، اضطر "قباذ" إلى ملاطفة الحارث واسترضائه. ولكن الحارث طمع في أكثر من ذلك، طمع في السواد، فأقطعه منه ما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، أقطعه من ستة طساسيح. فليس في هذه إشارة إلى قبول "الحارث". الدخول في المزدكية، ولا إلى طرد النعمان من ملكه نتيجة لرفضه اتباعه في دينه، إنما هو ضعف قباذ وعجزه عن مساعدة صاحبه النعمان وانتهاز الحارث الذكي هذه الفرصة المواتية للاستيلاء على ما طمع فيه من ملك النعمان. أما الشق الثاني، وهو خبر "تبع"، وحروبه ومساعدته له، فهو على ما يظهر من هذا النحو الذي ألفناه في ربط تأريخ كندة باليمن، والإشادة بماضي القحطانيين وانفرادهم بالملك دون خصومهم العدنانيين، وإلى عدم تمكن كندة من العمل وحدها لولا مساعدة اليمانيين. يستنتج من كل هذه الروايات أن "الحارث بن عمرو" الكندي اغتصب عرش الحيرة أمدًا، اغتصبه من "النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة"، أو

_ 1 الطبري "2/ 89 وما بعدها". 2 Musil, Middle Euphrates, P. 350 3 البلدان "6/ 414".

"المنذر الأكبر بن ماء السماء" أو "النعمان الأكبر أبو المنذر الأكبر ذو القرنين"، و"ذو القرنين"، هو "ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة"1، أو "النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة"2، وذلك في زمن "قباذ" ملك الفرس. ويقصد بـ"قباذ" هذا "قباذ" الأول الذي حكم ثلاثًا وأربعين سنة على ما جاء في الأخبار3. ويقدر العلماء ذلك في سنة "488" حتى سنة "531" بعد الميلاد4. ولنتمكن من تعيين اسم الملك الذي قصده الرواة، علينا الرجوع إلى أسماء من حكم في أيام قباذ من ملوك الحيرة، وذلك على نحو ما رواه لنا الأخباريون. إن أول من حكم في عهد "قباذ"، على ما يدعيه "حمزة" هو الملك "الأسود بن المنذر"، وقد حكم في أيامه ست سنين، ثم المنذر بن المنذر، وأمه "هر"، وقد حكم سبع سنين. ثم النعمان بن الأسود، وأمه أم الملك بنت عمرو بن حجر أخت "الحارث بن عمرو بن حجر الكندي"، أربع سنين. ثم أبو يعفر بن علقمة الذميلي، وقد حكم ثلاث سنين. ثم امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس، وقد حكم سبع سنين. ثم امرؤ القيس بن النعمان بن امرئ القيس، وقد حكم سبع سنين، ثم المنذر بن امرئ القيس المعروف بالمنذر بن ماء السماء، وهو ذو القرنين، وقد حكم اثنتين وثلاثين سنة من ذلك ست سنين في زمن قباذ. ثم الحارث بن عمرو بن حجر الكندي، ولم يذكر "حمزة" مدة حكمه، إنما قال: "ذكر هشام عن أبيه أنه لم يجد الحارث فيمن أحصاه كتاب أهل الحيرة من ملوك العرب. ثم قال: وظني أنهم إنما تركوه لأنه توثب به الملوك بغير إذن من ملوك الفرس، ولأنه كان بمعزل عن الحيرة التي كانت دار المملكة ولم يعرف له مستقر وإنما كان سيارة في أرض العرب"5. ولم يذكر حمزة مدة حكم "قباذ"6. أما "الطبري"، فجعل "النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة".

_ 1 المفضليات "ص427". 2 OLINDER , P. 58 3 الطبري "2/ 89". 4 ENCY. IV, P. 178 5 حمزة "ص69-72". 6 حمزة "ص39".

الملك الذي كان قد حكم حينما تولى "قباذ" الحكم، وجعل "الحارث بن عمرو بن الحجر" الذي قتل النعمان على روايته من بعده. وقد دام حكمه على ما يظهر من رواية الطبري حتى أيام "كسرى أنو شروان بن قباذ". فلما قوي شأن "كسرى أنو شروان"، بعث إلى المنذر بن النعمان الأكبر، وأمه ماء السماء، فملكه الحيرة وما كان يلي آل الحارث بن عمرو بن حجر1. أما "ابن الأثير"، وهو عيال على الطبري وناقل منه، فقد ذكر ما ذكره الطبري، وأضاف إليه: أن المنذر بن ماء السماء لما بلغه هلاك قباذ، وقد علم خلافه على أبيه في مذهبه، أقبل إلى "أنو شروان" فعرفه نفسه، وأبلغه أنه سيعيده إلى ملكه، وطلب "الحارث بن عمرو"، وهو بالأنبار، فخرج هاربًا في صحابته وماله وولده، فمر بـ"الثوبة"، فتبعه المنذر بالخيل من تغلب وإياد وبهراء، فلحق بأرض كلب، ونجا، وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسًا من بني آكل المرار، فقدموا بهم على المنذر، فضرب رقابهم بـ"جفر الأميال"2 "جفر الأملاك" في ديار بني مرينا العباديين بين دير بني هند والكوفة3. ترى مما تقدم اختلاف الروايات وتباينها وتعددها، حتى إن الرواية الواحد مثل "ابن الكلبي" يروي لنا جملة روايات، قد يناقض بعضها بعضًا. لقد وجدنا منها ما زعمت أن قباذ طرد المنذر من مملكته، وأحل الحارث محله، ومنها ما زعمت أن المنذر استرضى الحارث بعد أن رأي عجزه وعجز صاحبه، فحوله إليه، وزوجه ابنته هند، ومنها ما ذكرت أن الحارث قتل النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة، وأن المنذر بن النعمان الأكبر فر ونجا بنفسه، وأن الحارث ملك بالقوة ما كان يملكه ملوك الحيرة وأن قباذ داراه واسترضاه لما وجد فيه من البأس. فماذا نستخلص من مجموع هذه الروايات؟ كل ما يستخلص منها أن الحارث استبد بملك آل لخم، في أيام قباذ، وكان مركز هذا الملك صعبًا بسبب ضعفه، وبسبب العقيدة التي قبلها، وهي عقيدة تناقض ما كان عليه الناس. وقد حكم أمدًا: يظهر أنه امتد مدة حكم قباذ، ثم

_ 1 الطبري "2/ 89" وما بعدها". 2 ابن الأثير "1/ 175". 3 البلدان "4/ 127 وما بعدها".

تغيرت به الأحوال، فعاد أصحاب البيت إلى بيتهم، وهرب هو إلى من حيث جاء، ولا نعرف على وجه التحقيق متى ولي الحكم، ولا متى غادره. لقد ذكرت أسماء الملوك الذي حكموا في أيام "قباذ" على رواية حمزة، وهي رواية تكاد تتفق مع القائمة التي دونها الطبري في آخر كلامه عن "كسرى أنو شروان" نقلًا عن هشام بن الكلبي لأسماء ملوك الحيرة ومدد حكمهم، وذلك قبل عهد "كسرى أنو شروان"1. فأي ملك من هؤلاء يمكن أن يكون هو الملك المقصود؟ لقد ذكر "بوشع العمودي" "JOSHUA THE STYLITE" أن ملك الحيرة "النعمان" اشترك مع "قباذ" في المعارك التي وقت بينه وبين الروم، فأصيب النعمان بجروح بليغة على مقربة من "قرقيسياء" "CLRCESLUM" قضت عليه، وذلك في سنة "503" للميلاد. ولقد انتهز عرب الروم المسمون بالثعلبيين. "بني ثعلبة" هذه الفرصة، فغزوا الحيرة، واضطرت القوة التي تركها النعمان في عاصمته إلى الفرار للبادية. أفلا يجوز أن يكون هؤلاء الغزاة هم أعراب "الحارث الكندي"، انتهزوا هذه الفرصة فأغاروا على الحيرة واستولوا عليها، فصارت في قبضة "الحارث" على نحو ما رواه بعض الأخباريين؟ ثم ألا يجوز أن يكون بعض الرواة قد سمعوا بمقتل "النعمان"، فظنوا أن القائل هو "الحارث"، أو تعمدوا نسبة القتل إليه للرفع من شأن كندة ومن كان معها من قبائل2؟ ولكن من يثبت لنا أن هؤلاء الأعراب الثعلبيين، أي من "بني ثعلبة"، وهم من عرب الروم على حد قول "يوسع العمودي" هم من أتباع الحارث أو أنهم من "آل الحارث" أي من كندة، وأن العائلة الكندية المذكورة كانت تعرف بـ"بني ثعلبة". وليس في الذي بين أيدينا من موارد، مورد واحد يذكر بأن "آل آكل المرار" هم من "بني ثعلبة" أو أنهم كانوا قد عرفوا بـ"بني ثعلبة" في يوم من الأيام، أو أنهم كانوا قد خضعوا لسلطان الروم، لذلك لا أظن أن "يوشع العمودي" قصد بالثعلبيين عرب الروم، كندة،

_ 1 الطبري "2/ 94". 2 "قرقيسياء"، البلدان "7/ 59"، OLINDER , P. 59. ency, ii, p. 763, musll, euphrates, p. 334

وإنما قصد أعرابًا من أعراب الروم، كانوا يعرفون بـ"بني ثعلبة" أو "آل ثعلبة"، وكانوا يتمتعون باستقلالهم تحت حماية الروم. ولما وجدوها فرصة ما حل بالنعمان من جروح في الحرب التي خاضها مع الفرس على الروم، هاجموا الحيرة فانتهبوها، وكانت حاميتها ضعيفة ففرت إلى البادية، ولم يذكر المؤرخ مدة مكوث هؤلاء الأعراب في الحيرة، والظاهر أنها لم تكن سوى مدة قصيرة، وأنها كانت من نوع غارات الأعراب على المدن: غزو خاطف، يعقبه انسحاب عاجل لتأمين سلامة ما ينهبونه وإيصاله إلى ديارهم حتى لا تتمكن القوات التي ستأتي لمعاقبتهم من أخذ ما حصلوا عليه من غنائم وأموال. ويظهر أن حكم كندة للحيرة لم يكن طويلًا، ويظن أنه كان بين سنة "525" وسنة "528" للميلاد، وذلك في أثناء ظهور فتنة المزدكية في إيران1. وليس بمستبعد أن يكون الحارث قد اتصل بالفرس قبل هذا الزمن. في أثناء صلح سنة "506" للميلاد، أو على أثر الفتور الذي طرأ على علاقاته بالبيزنطيين؛ لأنه وجد أن الاتفاق مع الفرس يعود عليه بفوائد ومنافع لا يمكن أن يغتنمها من الروم، ووجد بكرًا وتغلب قد زحفتا إذ ذاك من مواطنهما القديمة في اليمامة ونجد نحو الشمال تريدان النزول في العراق. وقد أقره الفرس على المناطق الصغيرة أو الواسعة التي استولى عليها لقاء جعل2. لم يكن من مصلحة ملك الحيرة، بالطبع، الرضى بنزول منافس قوي أو منافسين أقوياء في أرضه أو في أرض مجاورة له. فلما ظهر الحارث في العراق، وعرف ملك الحيرة نياته وتقربه إلى الفرس، وملك الحيرة، هو باعتراف الفرس "ملك عرب العراق"، لم يكن من المعقول سكوته انتظارًا للنتائج. ومن هنا وقع الاختلاف3. لم تكن العلاقات حسنة بين قباذ والمنذر ملك الحيرة، لسبب غير واضح لدينا وضوحًا تامًّا، قد يكون بسبب المزدكية، وقد يكون بسبب تقرب الحارث إلى الفرس وإقطاعهم إياه أرضًا وتودده الزائد إلى قباذ، وقد يكون لأسباب أخرى

_ 1 Olinder, P. 65 2 O. Blau, Arabien in Sechsten Jahrhundert, in ZdMG. Bd, 23, (1869) , S. 579 3 حمزة "ص65"، olinder, p. 65

مثل تردد ملك الفرس وضعفه، فلم تكن له خطة ثابتة مما أثر في وضع "ملك عرب العراق" على كل حال، فقد أدى هذا الفتور إلى استفادة الحارث منه واستغلاله، فتقرب إلى الفرس وتودد إليهم حتى آل الأمر بأن يأخذ ملك الحيرة أمدًا حتى تغيرت الأحوال في فارس بموت قباذ وتولي "كسرى أنو شروان" الملك من بعده، فعاد المنذر عندئذ إلى عرش الحيرة وأبعد الحارث عن ملكه. وآراء الأخباريين متباينة كذلك في المكان الذي اختاره الحارث للإقامة فيه بعد اغتصابه ملك "آل لخم"، فبينما يفهم من بعض الروايات أنه استقر في الحيرة وأقام فيها، نرى بعضًا آخر يرى أنه أقام في الأنبار1. وبينما يذكر "حمزة" أن الحارث حينما بلغه خبر قدوم المنذر عليه واقترابه من الحيرة، هرب فتبعته خيل المنذر، مما يفهم أنه كان في الحيرة، نجده يقول في موضع آخر: "أن الحارث كان بمعزل عن الحيرة التي كانت دار المملكة، ولم يعرف له مستقر، إنما كان سيارة في أرض العرب"2. ونجد صاحب الأغاني يذكر في موضع أنه كان في الأنبار، ويشير في موضع آخر أنه كان في الحيرة3. وتتفق روايات الأخباريين على أن مجيء "كسرى أنو شروان" كان شرًّا على الحارث، وخيرًا لآل لخم، فقد كانت سياسة "أنو شروان" مناقضة لسياسة قباذ بسبب المزدكية. وقد ظهر اختلافهما هذا في السنين الأخيرة من سني حكم قباذ4. وقد أدى هذا الاختلاف إلى محاربة المزدكية وسقوطها. ويحدثنا "ملالا" "john malalas" أن سقوطها كان بعد وفاة "الحارث" وقبل غارة المنذر على بلاد الشأم5. وقد قام المنذر بها في شهر آذار من سنة "528" للميلاد على رواية "ثيوفانس"6 "theophanes". وكانت وفاة الحارث في أوائل سنة "528" للميلاد7. ومن رواية هذين الكاتبين يتبين أن الحارث كان قد قضى نحبه قبل

_ 1 اليعقوبي "1/ 177"، ابن الأثير "1/ 209"، الأغاني "8/ 62" "طبعة الساسي". 2 حمزة "ص72، 93"، rothstein, die dynastle der lakhmiden. s. 88 3 الأغاني "8/ 62". 4 Noldede, Die Sasaniden, S. 462, Christensen, Le Regne du Roi Kawadh I, et le Communisme Mazdaqit, PP. 124, Olinder, P. 65 5 John Malalas, Chronographia, Lib, XVIII, Col. 653 olinder, P 6 Olinder, P. 56, 65 7 Olinder, P. 56

القضاء على المزدكية بمدة غير طويلة، وأن المنذر كان في آذار سنة "528" للميلاد قد قام بغارته على بلاد الشأم1. ويستدل من إشارة "ملالا" و"ثيوفانس" إلى موت الحارث في سنة "528م" ومن تلقيبه بلقب "فيلارخس" أي عامل، على أن علاقات الحارث بالروم في أواخر أيام حياته كانت حسنة. ومعنى هذا أن خلافًا أو فتورًا كان قد وقع فيما بينه وبين الفرس، دفعه على التقرب نحو خصوم الساسانيين وهم الروم، فاتصل بهم وذلك في أيام "قباذ"، أو في أيام، "كسرى أنو شروان"2. ويظهر أن تودد "الحارث" إلى البيزنطيين لم يأت له بنتيجة أو بفائدة تذكر. إذ يحدثنا الكاتبان "ملالا" و"ثيوفانس" أن قائد أن قائد فلسطين الرومي "ديوميدس" "diomedos" أجبر سيد قبيلة يدعى "أريتاس" "aritas"، أي "الحارث" على التراجع في اتجاه الهند "indica"، ويقصد بذلك جهة الجنوب أو الشرق، حيث كان يطلق البيزنطيون على العربية الجنوبية "الهند". فلما سمع بذلك "الموندارس" "alamoundaros" أي "المنذر" رئيس العرب "السرسيني" "saracens" الخاضعين لنفوذ الفرس، هجم على الحارث فقتله، وغنم أمواله وما ملكه وأسر أهله. فلما بلغ النبأ للقيصر "يوسطنيانوس" "justinianus"، أمر حكام "فينيقية" "phenicia" و"العربية" "arabia" والجزيرة وعامل الحدود بتعقب المنذر ومهاجمته. وقد اشترك في هذه الحملة عدد من القادة والحكام، وفي جملتهم سيد قبيلة اسمه "أريتاس" "aritas"، أي "الحارث". وهو الحارث بن جبلة الغساني على ما يظهر3. ولم يتعرض الأخباريون للخبر الذي ذكره الكاتبان عن كيفية قتل "الحارث" ولا عن الأمر الذي أصدره القيصر بتعقب "المنذر"، والظاهر أنهم لم يقفوا عليه4. غير أن للأخباريين رواياتهم الخاصة عن مصير صاحبنا "الحارث" الكندي. حدث صاحب "الأغاني" أن "أنو شروان" حينما ملك، أمر بقتل الزنادقة،

_ 1 Olinder, P. 65 2 Olindder, P. 66 3 Olinder, P. 53, Noldeke, Sasaniden, S. 171 4 Olinder, P. 66

أي أتباع مزدك، "فقتل منهم ما بين جازر1 إلى النهروان إلى المدائن في ضحوة واحدة مائة ألف زنديق وصلبهم"2، وأعاد المنذر إلى مكانه، وطلب "الحارث بن عمرو، فبلغه ذلك وهو بالأنبار وكان بها منزله ... فخرج هاربًا في هجائنه وماله وولده، فمر بالثوبة3، وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وبهراء وإياذ، فلحق بأرض كليب، فنجا وانتهبوا ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسًا من بني آكل المرار، فقدمت بهم على المنذر، فضرب رقابهم بـ"جفر الأملاك" في ديار بني مرينا العبادين بين دير هند والكوفة ... "4. وأضاف "ابن الأثير" إلى هذا الخبر أن "تغلب" قبضت على ولدين من أولاد الحارث هما: "عمرو" و"مالك" في جملة الثمانية والأربعين، فجاءت بهما إلى المنذر في "ديار بني مرينا" فقتلهم5. ويحدثنا "ابن قتيبة" أن "المنذر" لما أقبل "من الحيرة هرب الحارث، وتبعته خيل فقتلت ابنه عمرًا، وقتلوا ابنه مالكًا بهيت، وصار الحارث بمسحلان فقتله كلب". وزعم غير ابن قتيبة أنه مكث فيهم حتى مات حتف أنفه6. وذكر "حمزة" الروايات المدونة في كتاب "الأغاني" بحذف بعض كلماتها7. ولم يشر اليعقوبي إلى من قتل "الحارث" من ملوك الحيرة، بل أوجز فقال: " ... وكانوا يجاورون ملوك الحيرة، فقتلوا الحارث. وقام ولده بما كان في أيديهم، وصبروا على قتال المنذر حتى كافئوه8. ويشعر على كل حال

_ 1 "جازر" قرية من نواحي النهروان من أعمال بغداد قرب المدائن، وهي قصبة طسوح الجازر، والبلدان "3/ 36"، الأغاني "9/ 80" "طبعة دار الكتب المصرية"، "1936"، الأغاني "8/ 62" "طبعة مطبعة التقدم"، وفيها أغلاط عديدة. 2 الأغاني "8/ 63"، "مطبعة التقدم"، "9/ 80" "طبعة دار الكتب المصرية". 3 الثوبة: موضع قريب من الكوفة، وقيل خريبة إلى جانب الحيرة على ساعة منها. وقيل إنه كان سجنًا للنعمان بن المنذر كان يحبس به من أراد قتله، البلدان "3/ 28". 4 الأغاني "8/ 62"، "9/ 80" "طبعة دار الكتب المصرية". 5 ابن الأثير "1/ 209"، "جفر الأملاك"، البلدان "3/ 115"، ابن الأثير "1/ 304 وما بعدها" "الطباعة المنيرية". 6 الأغاني "8/ 62"، musll, middle euphrates. p. 350 7 حمزة "ص93"، "مسجلان"، البلدان "8/ 51". 8 اليعقوبي "1/ 178".

من جملة "وصبروا على قتال المنذر" ومن روايات الأخباريين الأخرى أن القتل كان في أيام المنذر. وفي رواية أخرى أن الحارث بقي في كلب حتى توفي فيما بينهم حتف أنفه1. وقد أضافت الرواية التي تنسب إلى "أبي عبيدة" إلى هذا الخبر أنه دفن بـ"بطن عاقل"2. والظاهر أن إضافة "بطن عاقل" إنما وقعت سهوًا واشتباهًا من باب عدم التمييز فيما بين "حجر" الذي زعم أنه دفن بـ"بطن عاقل" وبين "الحارث"3. وجاء في رواية أن الحارث خرج يتصيد، فرأى جماعة من حمر الوحش فشد عليها، وانفرد منها حمار فتتبعه، وأقسم ألا يأكل شيئًا قبل كبده، فطلبته الخيل ثلاثة أيام حتى أدركته، وأتي به، وقد كاد يموت من الجوع، ثم شوي على النار وأطعم من كبده وهي حارة؛ فمات4. ولا تخلو هذه الروايات المتعلقة بموت "الحارث" ونهايته من مؤثرات العواطف القلبية التي صبغت كل الأخبار التي يرويها الأخباريون بهذه الصبغة. فكلب تدعي أنها هي التي قتلته، وكندة تنكر ذلك مدعية أنه مات كما يموت سائر الناس، وأهل الحيرة يقولون إنهم هم الذين قتلوه، قتلوه في حرب. وأبو الفرج الأصبهاني يقول: "فكلب يزعمون أنهم قتلوه، وعلماء كندة تزعم أنه خرج إلى الصيد فالظ بتيس من الظباء، فأعجزه فآلى أن لا يأكل أولًا إلا من كبده، فطلبته الخيل ثلاثًا، فأتي بعد ثالثة، وقد هلك جوعًا، فشوي له بطنه فتناول فلذة من كبده، فأكلها حارة فمات"5. ولورود خبر مقتل "الحارث" مسجلًا تسجيلًا دقيقًا لدى الكاتبين المذكورين: "ملالا" و"ثيوفانس"، ومطابقته لرواية أهل الحيرة في النتيجة، وهو أن مقتله كان على أيدي "المنذر" وجماعته نرجح هذه الرواية على غيرها من الروايات.

_ 1 وزعم ابن قتيبة أنه مكث فيهم حتى مات حتف أنفه" الأغاني "8/ 62"، أبو الفداء "1/ 74". 2 العقد الفريد "3/ 77"، نهاية الأرب "15/ 406"، العقد الفريد "6/ 87 وما بعدها" "طبعة محمد سعيد العريان"، OLINDER, P. 68 3 OLINDER, P.68 4 أيام العرب "46". 5 الأغاني "8/ 62"، ابن الأثير "1/ 210".

ويظهر من غربلة الروايات التي. رواها أهل الأخبار عن نهاية "الحارث" أنها قد اختلفت فيما بينها وتضاربت في موضوع نهايته، فزعم بعض منها، أنه قتل وأن قاتله هو "المنذر بن ماء السماء"، وزعم بعض آخر أنه قتل، ولكنه لم يصرح باسم قاتله، وزعم بعض آخر أنه هلك، وأنه لم يقتل، وإنما مات حتف أنفه1. والذي أرجحه أنه قتل، قتل في أثناء المعارك التي وقعت من جراء تعقب المنذر بن ماء السماء له. ولا نكاد نعرف شيئًا يذكر عن أعمال الحارث في أثناء توليه ملوكية قبائل "معد" غير ما ذكره الرواة من أنه وزع أولاده عليها، وجعلهم ملوكًا على تلك القبائل. كذلك لا نكاد نعرف شيئًا يذكر عن أعماله وهو ملك على الحيرة، فأصحابنا الأخباريون سكوت عن هذه الأمور. ويفهم من كلام بعض الأخباريين عن "الحارث" أنه حينما نزل ببكر بن وائل، أقام بـ"بطن عاقل"، ومنه غزا بهم ملوك الحيرة اللخميين، وملوك الشأم الغسانيين، وفيه كانت نهايته2. ويفهم من بيت في ديوان "امرئ القيس" أن ملك الحارث قد امتد من العراق إلى عمان، ولا تعني أمثال هذه الأقوال امتلاكًا فعليًّا، بل كانت تتحدث في الواقع عن اتفاقات تعقد بين القبائل يعترف فيها بالرئاسة لمن له النفوذ الأكبر والمكانة، فإذا حدث حادث للرئيس الذي تمكن بمكانته ومنزلته من ضم هذه القبائل وتوحديها، انهد كيان ذلك الاتحاد وتشتت شمله، كالذي حدث بعد وفاة الحارث كما سنرى فيما بعد. وقد لا تعني هذه الأقوال سوى المبالغات والفخر، على نحو ما يرد في شعر غيره من الشعراء من امتلاكهم الدنيا ومن عليها، ومن تدويخهم القبائل والناس، وليس في الواقع أي شيء مما جاء في دعوى أولئك الشعراء المفتخرين. ويحدثنا "أبي الكلبي" أنه كان للحارث زوجات ثلاث، هن: أم قطام بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية، وأسماء، ورقية أمة أسماء. وقد زعم ابن الكلبي أن أم قطام وأسماء كانتا شقيقتين، وأما رقية، فكانت أمة لأسماء. وقيل أيضًا: "هن أخوات، فجمعهن جميعًا"3. وزوجه بعض

_ 1 البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 208". 2 نهاية الأرب "15/ 406"، العقد الفريد "6/ 78" "طبعة العريان". 3 المفضليات "ص429، 432".

الأخباريين بامرأة أخرى هي: "أم أناس" بنت "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان"، وهي والدة "عمرو بن الحارث" المعروف عندهم بـ"ابن أم أناس" "ابن أم إياس"1. وفي رواية "ابن السكيت" أن "أم قطام بنت سلمى" هي امرأة من "عنزة"2. وقد دون لنا الرواة أسماء جملة أولاد من أبناء "الحارث"، ذكروا منهم حجر وشرحبيل ومعديكرب وعبد الله وسلمة، ومحرق ومالك وعمر3. وأم "حجر" هي: "أم قطام"4. ويذكر أهل الأخبار أنه كان للحارث ابن، حج ففقده، فاتَّهم به رجل من بني أسد يقال له حبال بن نصر بن غاضرة، فأخبر بذلك الحارث، فأقبل حتى ورد تهامة أيام الحج، وبنو أسد بها. فطلبهم، فهربوا منه. فأمر مناديًا فنادى من آوى أسديًّا فدمه جبار. ثم إن الملك عفا عنهم وأعطى كل واحد منهم عصا أمانًا له. وبنو أسد يومئذ قليل. فأقبلوا إلى تهامة ومع كل رجل منهم عصا. فلم يزالوا بتهامة حتى هلك الحارث، فأخرجتهم بنو كنانة، وسموا عبيد العصا، بالعصا التي أخذوها5. ويذكر أهل الأخبار أنه كانت للحارث بن عمرو بنت اسمها هند، وقد تزوجها المنذر بن ماء السماء، وهي والدة الملك "عمرو بن هند" وشقيقة "قابوس" وعمه الشاعر امرئ القيس6. وهم يذكرون أن ملك الحارث لما توسع واشتغل هو بالحيرة عما كان يراعيه من أمور البوادي، تفاسدت القبائل وفشا بينها الشر، فجاء أشرافها فشكوا ما حل بهم من غلبة السفهاء، وطلبوا إليه أن يملك عليهم أبناءه. فملك ابنه حجرًا على بني أسد وغطفان، وملك ابنه شرحبيل على بكر بن وائل بأجمعها وعلى

_ 1 ابن الأثير "1/ 207". 2 الأغاني "8/ 61". 3 الأغاني "8/ 62 وما بعدها"، المفضليات "ص432، ابن الأثير "1/ 209". 4 شرح القصائد العشر، للزوزني "ص7". 5 ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي "ص115 وما بعدها"، مجمع الأمثال، للميداني "2/ 19 وما بعدها". 6 الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها"، "ص43"، "طبعة ليدن".

بني حنظلة بن مالك بن زيد مناة وطوائف من بني درام بن تميم والرباب، وملك ابنه معديكرب على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة وطوائف من بني دارم بن حنظلة والصنائع، وهم بنو رقية: قوم كانوا يكونون مع الملوك من شذاذ العرب، وملك ابنه عبد الله على عبد القيس، وملك ابنه سلمة على قيس عيلان1. وقيل إن شرحبيل بن الحارث ملك في بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني زيد بن تميم وبني أسيد وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، ومعديكرب في قيس والصنائع، وهم بنو رقية، وسلمة في بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة2. وقد اكتفى "حمزة" بقوله: "وانتشر ولده، فملكهم على بكر وتميم وقيس وتغلب وأسد"3. وهنالك روايات أخرى تختلف في التفاصيل وفي الأمور الثانوية عن هذه الروايات التي ذكرتها بعض الاختلاف4، سأشير إليها في أثناء البحث عن هؤلاء الأولاد. وذكر "ياقوت الحموي، رواية رجعها إلى "أبي زياد الكلابي"، خلاصتها أن "مضر" و"ربيعة" اجتمعت على أن يجعلوا منهم ملكًا يقضي بينهم، فكلٌّ أراد أن يكون منهم، ثم تراضوا أن يكون من "ربيعة" ملك ومن "مضر" ملك، ثم أراد كل بطن من ربيعة ومن مضر أن يكون الملك منهم، ثم اتفقوا على أن يتخذوا ملكًا من اليمن. فطلبوا ذلك إلى "بني آكل المرار" من كندة، فملكت بنو عامر شراحيل بن الحارث الملك بن عمرو المقصور بن حجر آكل المرار. وملكت بنو تميم وضبة محرق بن الحارث، وملكت وائل شراحيل بن الحارث. وتختلف هذه الرواية كما ترى بعض الاختلاف عن رواية لـ"ابن الكلبي" ذكرها "ياقوت" أيضًا، هي أن سلمة بن الحارث ملك "بني تغلب" و"بكر بن وائل"، وأما "غلفاء" وهو "معديكرب" "معديكرب"، فقد ملك بقية "قيس"،

_ 1 الأغاني "8/ 62 وما بعدها"، "9/ 82" "طبعة دار الكتب المصرية"، البلدان "4/ 472" "كلاب"، نقائض جرير والفرزدق "1/ 452" "تحقيق بيفان" "ليدن 1907". 2 المفضليات "ص428" Ency. ii. P. 1018 3 حمزة "ص92". 4 خزانة الأدب "2/ 500".

وأما "أسد" و"كنانة، فقد ملكت عليها "حجر بن الحارث"، أي والد امرئ القيس1. أما "حجر"، فهو أكثر هؤلاء الأولاد ذكرًا عند الأخباريين. وهو والد الشاعر الجاهلي المعروف "امرئ القيس" وقد يعود الفضل إلى هذا الشاعر في ذيوع شهرة والده وانتشار خبره. وحفظ أخبار هذه الأسرة من كندة. وهو أكبر أولاد الحارث، وإليه انتقلت عامة كندة بعد وفاة والده2. وهو ابن "أم قطام بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية" من كندة3. ملك "الحارث" ابنه "حجرًا" كما ذكرت الأخبار على أسد وكنانة وهما قبيلتان من قبائل مضر. وتقع مواطن "أسد" الرئيسية في القرن السادس للميلاد في جنوب جبلي طيء "أجأ" و"سلمى"، ويسميان جبل شمر في الزمن الحاضر على جانبي بطن الرمة "وادي الرمة"، غير أن بطونها متفرعة منتشرة في مناطق واسعة تمتد من المدينة إلى نهر الفرات4، ولكنها لم تكن سيدة هذه الأرضين، بل كانت تعيش مع غيرها من القبائل متفرقة5. ويظن أنها "أستينوي" "asatynoi" الساكنة في أرض تسمى بهذا الاسم في "جغرافيا" بطليموس6. وتعد هذه القبيلة في عرف النسابين من نسل "أسد بن خزيمة بن مدركة بن مضر"، وهي شقيقة "الهون" و"كنانة"7. وروى المؤرخ "ثيوفانس" أن "رومانس" "romanus" حاكم فلسطين في أيام "أنسطاسيوس" "anastastus"، هزم في سنة "490" للميلاد سيدي قبيلتين، هما: "جبلس" "gabalas" "jabalas" و"أوكاروس" "ogaros" ابن "أرتاس" "aretas"، أي الحارث من "آل ثعلبة" "thalabanys"، ويظن أن "gabalas" هو "جبلة"، والد الحارث بن جبلة.

_ 1 البلدان "3/ 429". 2 OLINDER, P.76 3 المفضليات "ص429". 4 O. Blay, Arabien Im Sechsten Jahrhundert, In ZDMG, BD, 23, S. 579, Olinder, P. 74 5 Olinder, P. 74 Ency, I, P. 474 6 Ency, I, P. 474 7 Pauly-Wissowa, Ogaros, Olinder, P. 51, Ency, II, P. 1019

الغساني. وأما "ogaros"، فيرى بعض المستشرقين أنه "حجر بن الحارث بن عمرو الكندي". وقد وقع أسيرًا في قبضة "رومانوس". ويرى "أوليندر" أن في تقدير هذا المؤرخ بعض الخطإ وأن التاريخ الصحيح هو سنة "497" للميلاد1. ثم أشار هذا المؤرخ إلى تحرش آخر قام به بعد أربع سنوات سيد قبيلة اسمه "madicaripos" "madikaripos" كان شقيقًا لـ"ogaros". أوغل في الغزو وأوقع الرعب في جند الروم. وقد قصد "ثيوفانس" بـ"madikaripos" "معديكرب بن الحارث" شقيق حجر. وكان من نتائج هذه الغارات كما يقول هذا المؤرخ أن عقد القيصر "أنسطاسيوس" صلحًا مع "aretas" أي الحارث، والد الأخوين المذكورين، فخيم الأمن بذلك على فلسطين والعربية وفينيقية2، وقد أشار إلى هذا الصلح المؤرخ "نونوسوس" "nonnosus"، حيث ذكر أن القيصر "أنسطاسيوس" أرسل جده إلى "aretas" لمفاوضته في عقد صلح. ويظهر من قول هذا المؤرخ أن هاتين الغزوتين كانتا في حياة "aretas". ولم يشر الأخباريون إلى هذه الغزوات التي قام بها "حجر" و"معديكرب" على حدود سورية وفلسطين في عهد "أنسطاسيوس" كما روى ذلك هذا المؤرخ3. وورد أن حجرًا أغار على اللخميين في أيام امرئ القيس والد المنذر بن ماء السماء. ويظن "نولدكه" أن هذه الجملة التي لا نعرف من أمرها شيئًا إنما وقعت بعد وفاة الحارث، وقد قصد "حجر" منها استرجاع ما خسره أبوه، وأعادة نفوذ كندة إلى ما كان عليه. لقد كانت نهاية "حجر" بأيدي "بني أسد"، ويظهر أنهم قبلوه ملكًا عليهم مكرهين. فلما حانت الفرصة قاموا عليه وقتلوه. حدث "ابن الكلبي" أنه كان لحجر على بني أشد إتاوة في كل سنة مؤقتة. فلما كان بتهامة، أرسل جابيه الذي كان يجيبهم، فمنعوه ذلك، وضربوا رسله وضرجوهم ضرجًا شديدًا قبيحًا، فبلغ ذلك حجرًا، فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من

_ 1 Pauly-Wissowa, Ogaros, Olinder, P. 51, Ency, II, P. 1019. 2 Olinder, P. 51, 74. 3 Olinder, P. 75. 4 Olinder, P. 76, Noldeke Fur,f Mo'Allaqat, I, S. 80.

قيس وكنانة، فأتاهم وأخذ سراتهم، فضربهم بالعصا وأباح الأموال وصيرهم إلى تهامة، وحبس سيدهم "عمرو بن مسعود بن كندة بن فزارة الأسدي"، والشاعر "عبيد بن الأبرص"، فأثر ذلك في نفوس "بني أسد وأضمروا له الانتقام"1. ثم إن حجرًا وفد على أبيه الحارث في مرضه الذي مات فيه، وأقام عنده حتى هلك، ثم أقبل راجعًا إلى بني أسد، فلما دنا منهم، وقد بلغهم موت أبيه، طمعوا فيه، لما أظلهم وضربت قبابه، اجتمعت بنو أسد إلى "نوفل بن ربيعة"، فهجم على "حجر" ومن معه، فانهزم جيشه وأسر "حجر" وتشاور القوم في قتله، فقال لهم كاهنهم: لا تعجلوا بقتله حتى أزجر لكم، فلما رأى ذلك "علباء" خشي أن يتواكلوا في قتله، فحرض غلامًا من بني كاهل على قتله، وكان حجر قد قتل أباه، فدخل الخيمة التي احتبس حجر بها فطعنه طعنة أصابت مقتلًا2. ويزعم أهل الأخبار أن "بني أسد" الذين عصوا حجرًا عرفوا منذ ضربهم حجر بالعصا بـ"عبيد العصا"، وقد أشير إلى هذه التسمية في الشعر، ويذكرون أيضًا أن "عبيد بن الأبرص"، وقف أمام الملك حجر، فقال شعرًا يستعطفه فيه على قومه، فرق لهم ورحمهم وعفا عنهم، وأرسل من يردهم إلى بلادهم، فلما صاروا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم وهو "عوف بن ربيعة بن عامر الأسدي"، بأنهم سيقتلون حجرًا وسينتقمون منه ومن أهله، فصدقوا بنبوءته وعادوا إلى موضع حجر فوجدوه نائمًا، فذبحوه، وشدوا على هجائنه فاستاقوها. وفي رواية أخرى، أنهم هجموا على عسكر حجر ودخلوا قبته، فطعنه علباء بن الحرث الكاهلي، فلما قتل، استصلحت أسد كنانة وقيسًا، ونهبوا ما كان في عسكر حجر وسلبوه، وأجار "عمرو بن مسعود" عيال حجر. وقيل أجارهم غيره، وبذلك تخلصت بنو أسد من حكم كندة3.

_ 1 الأغاني "2/ 63"، ابن خلدون "2/ 274 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 210"، الأغاني "9/ 81" "طبعة دار الثقافة، بيروت 1957"، ابن الأثير "1/304"، "الطباعة المنيرية 1348 هـ". البداية والنهاية. لابن كثير "2/ 218" "القاهرة 1932". 2 أيام العرب "114 وما بعدها". 3 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها"، "دار الثقافة بيروت، 1964"، الأغاني "8/ 6" "التقدم"، البلدان "4/ 172 وما بعدها"، خزانة الأدب "1/ 159 وما بعدها".

وهناك روايات أخرى يرجع سندها إلى "ابن الكلبي" وإلى غيره مثل "أبو عمرو الشيباني" و"الهيثم بن عدي" و"يعقوب بن السكيت" وغيرهم تختلف فيما بينها بعض الاختلاف في كيفية قتل "حجر". وقد زعمت بعض الروايات بأن "علباء بن الحرث الكاهلي" هو الذي قتله، طعنه، فقضت طعنته هذه عليه، وكان "حجر" قد قتل أباه. وزعمت رواية أخرى أن الذي قتله هو ابن أخت "علباء"، وكان حجر قد قتل أباه، ضربه بحديدة كانت معه سببت وفاته1. وتذكر رواية أن "حجرًا" لما علم أنه ميت أوصى ودفع كتابة إلى رجل أمره أن ينطلق إلى أكبر أولاده "نافع"، فإن بكى وجزع، فليذهب إلى غيره حتى يصل إلى أصغرهم وهو امرؤ القيس، فأيهم لم يجزع يدفع إليه الكتاب. فكان ذلك الولد امرؤ القيس2. ونجد في شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي" فخرًا واعتزازًا بقتل أسد لحجر والد امرئ القيس، وقد دعاه بـ"ابن أم قطام" في إحدى قصائده، وقال إن قومه علوه بالسيوف البيض الذكور. وأم قطام هي بنت سلمة بن مالك بن الحارث بن معاوية3. ودعاه بـ"حجر" في قصيدة أخرى. وافتخر بأن قومه ضربوا رأس حجر بأسياف مهندة رقاق4. وذكر في قصيدة أخرى أن قومه ضربوا خيل حجر بجنب الردة. والردة موضع في ديار قيس. والظاهر أنهم قتلوا حجرًا بجنب الردة5. وأما "شرحبيل"؛ فقد ملكه أبوه على "بكر بن وائل" و"حنظلة بن مالك" و"بني أسيد" و"الرباب"، أي على عدد من قبائل ربيعة ومضر، وكان نصيبه القسم الشرقي من مملكة كندة ما عدا البحرين6. وليس بين الذي

_ 1 الكامل، لابن الأثير "1/ 301 وما بعدها"، الأغاني "8/ 64 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 276"، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب "تحقيق عبد السلام هارون" "دار المعارف بمصر 1962"، "ص427". 2 أيام العرب "115". 3 ديوان بشر بن أبي خازم، تحقيق الدكتور عزة حسن "ص91". 4 ديوان بشر "ص116". 5 ديوان بشر "ص22". 6 OLINDER, P. 82

يروي الأخباريون عنه شيء ذو بال، إلا ما ذكروه عن كيفية مقتله ونهايته، وهذا ملخصه: لما هلك الحارث بن عمرو تشتت أمر أولاده، وتفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بينهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش. وقد بلغت العداوة أشدها بين "شرحبيل" وسلمة، بسبب المنذر الذي عاد إلى الحيرة وأخذ يشعل نار الفتنة بين الأخوين. فسار شرحبيل ببكر بن وائل ومن معه من قبائل حنظلة ومن أسيد بن عمرو بن تميم وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، فنزلت "الكلاب"، وهو ماء بين الكوفة والبصرة على بضع عشرة ليلة من اليمامة، وأقبل "سلمة" في بني تغلب وبهراء والنمر وأحلافها وسعد بن زيد مناة بن تميم ومن كان معهم من قبائل حنظلة وفي الصنائع يريدون الكلاب. وكان نصحاء شرحبيل وسلمة نهوهما عن الفساد والتحاسد، وحذروهما الحرب وعبراتها وسوء مغبتها، فلم يقبلا، ولم يتزحزحا، وأبيا إلا التتابع. فلما تلاقى الجمعان، اقتتلا قتالًا شديدًا. ثم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل، وانصرفت وثبتت بكر بن وائل، وانصرفت بنو سعد وألفافها عن بني تغلب، وصبرت تغلب، وساء أمر شرحبيل، فجاء إليه من عرف موضعه وقتله1. ويذكر أهل الأخبار أن العداوة كانت شديدة بين الأخوين، حتى إن كل واحد منهما وضع جائزة لمن يأتي برأس أخيه، فذهب "أبو حنش" وهو عصم بن النعمان بن مالك "عصيم بن مالك الجشمي"، فطعن "شرحبيل"، واحتز رأسه وجاء به إلى أخيه، فطرحه أمامه. ويقال إن شرحبيل لما رأى "أبا حنش" يريد توجيه طعنة إليه قال له: يا أبا حنش اللبن اللبن، فقال أبو حنش: قد هرقت لنا لبنًا كثيرًا. فقال: يا أبا حنش أملك بسوقة2. وذلك أن دم الملوك

_ 1 المفضليات "ص428 وما بعدها، 1072 وما بعدها"، النويري، نهاية الأرب "15/ 406 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 227"، العقد الفريد "6/ 78"، البلدان "3/ 269 وما بعدها"، نقائض جرير والفرزدق "1/ 452" "ليدن 1907"، "تحقيق بيفان"، الكامل لابن الأثير "1/ 231" "الطباعة المنيرية"، البكري: معجم "4/ 1132"، اليعقوبي "1/ 183 وما بعدها" العقد الفريد "5/ 222" "لجنة"، نقائض "2/ 1073"، الكامل لابن الأثير "1/ 379". 2 نقائض جرير والفرزدق "1/ 452" "بيفان"، أيام العرب "47".

فوق دم العامة، وهم السوقة. وإن الملك لا يقتل بسبب قتله رجلًا من سواء الناس. ويظن أن "يوم الكلاب" كان قد وقع سنة "612" للميلاد1. ويقول الرواة إن "بني تغلب" أخرجت "سلمة"، فلجأ إلى "بني بكر بن وائل"، فانضم إليهم، ولحقت تغلب بالمنذر بن امرئ القيس. وتذكر رواية من الروايات التي يقصها أهل الأخبار عن كيفية نهاية ملوك كندة. أن الأمر لما اشتد على أولاد الحارث، جمع "سلمة" جموع اليمن، فسار ليقتل نزارًا. وبلغ ذلك نزارًا، فاجتمع منهم "بنو عامل بن صعصعة" وبنو وائل: تغلب وبكر، وقيل: بلغ ذلك كليب وائل، فجمع ربيعة، وقدم على مقدمته السفاح التغلبي وأمره أن يعلو "خزازا"2 فيوقد عليه نارًا ليهتدي الجيش بها، وقال له: إن غشيك العدو فأوقد نارين. وبلغ سلمة اجتماع ربيعة ومسيرها فأقبل ومعه قبائل مذحج، وهجمت مذحج على خزاز ليلًا، فرفع السفاح نارين، فأقبل كليب في جموع ربيعة إليهم، فالتقوا بخزاز، فاقتتلوا قتالًا شديدًا فنهزمت جموع اليمن. وفي رواية "أبي زياد الكلابي"، إن الذي أوقد النار على خزاز "خزازا" هو الأحوص بن جعفر بن كلاب، وكان على روايته هذه رئيسًا على نزار كلها. ويذكر الكلابي أن أهل العلم من الذين أدركهم ذكروا له أنه كان على نزار "الأحوص بن جعفر". ثم ذكر ربيعة أخيرًا من الدهر أن "كليبًا" كان على نزار3. أما "محمد بن حبيب" فيروي أن "كليب وائل" هو الذي قاد جموع "ربيعة" و"مضر" و"قضاعة" في يوم خزاز إلى اليمن4. وقال بعض الأخباريين: كان كليب على ربيعة، والأحوص على مضر5.

_ 1 Naval , p. 233 2 ويعرف أيضًا بيوم خزازا، ويوم خزازي، البلدان "3/ 430"، البلدان "3/ 430" النقائض "ص887"، البكري: معجم "106، 303، 563"، ابن الأثير "1/ 310"، العقد الفريد "6/ 97" "العريان"، نهاية الأرب "15/ 420 وما بعدها"، "طبعة دار الكتب". 3 البلدان "3/ 430". 4 المحبر "ص249". 5 البلدان "3/ 430".

ويعود سبب هذا الاختلاف في روايات الرواة إلى النزعات القبلية التي كان يحملها الرواة. فـ"أبو زياد الكلابي" يتعصب كما نرى لـ"بني كلاب"، فيرجع الرئاسة إليهم؛ لأنه منهم، وهذا مما يأباه رواة ربيعة وينكرونه عليه إذ يرون أن الرئاسة فيهم. وتوسط رواة بين رواة ربيعة ورواة مضر حسمًا للنزاع على ما يظهر، فقالوا بالرئاستين: رئاسة كليب على ربيعة، ورئاسة الأحوص على مضر وبذلك أصلحوا ذات البين. وقد ذكر "أبو زياد الكلابي" أن يوم "خزاز" أعظم يوم التقت فيه العرب في الجاهلية وأنه أول يوم استنصفت فيه نزار من اليمن، وأنها لم تزل منذ هذا اليوم ممتنعة قاهرة لليمن في كل يوم يلتقونه حتى جاء الإسلام1. وذكر "الأصمعي" أن يوم خزاز كان للمنذر بن ماء السماء ولبني تغلب وقضاعة على "بني آكل المرار" من كندة وعلى بكر بن وائل، وأن المنذر وأصحابه من بني تغلب أسروا في هذا اليوم خمسين رجلًا من بني آكل المرار. ويفهم من شعر لـ"عمرو بن كلثوم" قيل إنه قاله متذكرًا هذا اليوم، أن رهطه وهم من بني تغلب آبوا بالنهاب وبالسبايا وبالملوك مصفدين. ولم يشر الشاعر إلى هوية هؤلاء الملوك المأسورين، ولكن "الأصمعي" يقول: إنه قصد بقوله: "وأُبنا بالملوك مصفدينا" "بني آكل المرار"2. فيظهر من الرواية المتقدمة أن يوم خزاز، كان بين سلمة ومن جاء من اليمن وبين تغلب ومن انضم إليها من قبائل ربيعة ومضر. ويظهر من رواية الأصمعي أن ذلك اليوم كان بين المنذر بين ماء السماء وتغلب وقضاعة من جهة وبين "بني آكل المرار"، وبكر بن وائل من جهة أخرى. وهناك روايات أخرى تذكر أن هذا اليوم، إنما كان قد وقع بين ملك من ملوك اليمن وبين قبائل معد، ولا علاقة له بسلمة وببني آكل المرار أو المنذر بن ماء السماء في هذا اليوم، الذي أدى إلى انتصار بني معد على أولاد قحطان3.

_ 1 البلدان "3/ 430 وما بعدها". 2 النقائض "ص887"، من بيت لعمرو بن كلثوم: وَآبوا بِالنِهابِ وَبِالسبايا ... وَأُبنا بِالمُلوكِ مُصَفَّدينا 3 ابن الأثير "1/ 310"، العقد الفريد "3/ 364"، نقائض جرير والفرزدق "2/ 193"، البكري، معجم "2/ 496".

ويذكر بعض أهل الأخبار أنه: "لولا عمرو بن كلثوم ما عرف يوم خزاز". وأم عمرو بن كلثوم، هي ابنة "كليب بن ربيعة"، المعروف بـ"كليب وائل"1 فذكره في شعره لذلك اليوم ساعد ولا شك في إبقاء اسمه في ذاكرة الناس، حتى دون خبره في الإسلام. وليوم "أوارة" الأول علاقة وصلة بـ"سلمة بن الحارث" وبـ"المنذر بن ماء السماء" على ما يرويه بعض أهل الأخبار، فهم يذكرون أن تغلب لما أخرجت "سلمة" عنها، التجأ إلى "بكر بن وائل"، فلما صار عند بكر بن وائل أذعنت له، وحشدت عليه، وقالت: لا يملكنا غيرك. فبعث إليهم المنذر يدعوهم إلى طاعته، فأبوا ذلك، فحلف المنذر ليسيرن إليهم، فإن ظفر بهم فليذبحنهم على قلة جبل أوارة. وسار إليهم في جموعه، فالتقوا بأوارة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وأجلت الواقعة عن هزيمة بكر وأسر "يزيد بن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله وبقتل عدد كبير من بكر2. وأما "شراحيل بن الحارث"، فقد قتله "بنو جعدة بن كعب بن ربيعة بن صعصعة"3. ويحدثنا "يعقوب بن السكيت" أنه كان لحجر والد امرئ القيس جملة أولاد أكبرهم "نافع" وأصغرهم "امرؤ القيس"، وبين الأكبر والأصغر جملة أولاد، غير أنه لم يذكر أسماءهم4. وقد ورد اسم "نافع" في بيت شعر لامرئ القيس5. وذكر "ياقوت" ولدًا لـ"سلمة بن الحارث" سماه "قيسًا" قال: إنه أغار على "ذي القرنين المنذر بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي" فهزمه، حتى أدخله الخورنق ومعه ابناه قابوس وعمرو. فمكث ذو القرنين حولًا، ثم أغار عليهم بـ"ذات الشقوق"، فأصاب منهم اثني عشر شابًّا من بني حجر بن عمرو وكانوا يتصيدون، وأفلت منهم امرؤ القيس على فرس شقراء، فطلبه

_ 1 البكري، معجم "2/ 496". 2 ابن الأثف "1/ 228". 3 البلدان "3/ 438 وما بعدها". 4 الأغاني "8/ 65". 5 الأغاني "8/ 65" OLINDER , P. 94

القوم فلم يقدروا عليه. وقدم المنذر الحيرة بالفتية فحبسهم بالقصر الأبيض شهرين ثم أمر بضرب أعناقهم فضربت عند "الجفر"، فعرف منذ ذلك الحين بـ"جفر الأملاك"، وهو موضع "دير بني مرينا". وقد أشير إلى مقتلهم في شعر لامرئ القيس1.

_ 1 البلدان "4/ 127 وما بعدها"، "2/ 648" "طبعة وستنفلد"، التاج "9/ 353".

كندة تلحق بحضر موت

كندة تلحق بحضرموت: وقد ذكر الرواة أن ملك كندة لما انخرق، وهلك من هلك منهم، قام "عمرو أقحل بن أبي كرب بن قيس بن سلمة بن الحارث، الملك، فقال: يا معشر كندة. إنكم قد أصبحتم بغير دار مقام. وقد ذهب أشرافكم وانخرق ملككم، ولا آمن العرب عليكم، فالحقوا بحضرموت"1. ويذكر الرواة أن الملك خرج من "بني آكل المرار" وساد بنو الحارث بن معاوية فأول من ساد منهم "قيس بن معديكرب"، ثم ابنه الأشعث بن قيس، وهو الذي أتى النبي في ستين أو سبعين راكبًا من أشراف كندة فأسلموا. أسلم الأشعث، وكانت كندة قد توجته عليها2. ويذكر "حمزة"، أن المنذر بن ماء السماء تتبع غابرهم، فقتل عامتهم، وصارت رياسة كندة في "بني جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين"، ثم في "معديكرب بن جبلة"، ثم في "قيس بن معديكرب"، وعلى عهده قام الإسلام بمكة، ثم في "الأشعث بن قيس"3. وقد ذكر "ابن حبيب"، "الأشعث بن قيس بن معديكرب" في جملة الجرارين من اليمن4. والجرارون من كان يرأس ألفًا5 ولا بعد الرجل جرارًا

_ 1 المحبر "ص370". 2 الطبري "3/ 139"، المفضليات "ص441". حمزة "ص93". 3 حمزة "ص93". 4 المحبر "ص251". 5 المحبر "ص246".

حتى يقود ألفًا1. وذكره في باب "أعرق العرب في الغدر". فقال عنه إنه غدر بـ"بني الحارث بن كعب". وكان بينهم عهد وصلح، فغزاهم فأسروه، ففدى نفسه بمائتي قلوص، فأدى مائة، ولم يؤد البقية حتى جاء الإسلام، فهدم ما كان في الجاهلية. وغدر الأشعث أيضًا فارتد عن الإسلام. وقال عن والده "قيس بن معديكرب بن معاوية بن جبلة الكندي"، أنه كان من "أعرق العرب في الغدر" كذلك، وكان بينه وبين مراد ولث إلى أجل، فغزاهم في آخر يوم الأجل غادرًا. "وكان ذلك اليوم يوم الجمعة. فقالوا له: إنه قد بقي من الأجل اليوم. وكان يهوديًّا. فقال: أنه لا يحمل لي القتال غدًا. فقاتلهم، فقتلوا وهزموا جيشه. وكان معديكرب عقد لمهرة صلحًا، فغزاهم غادرًا بالعهد، فقتلوه وشقوا بطنه، فملئوه حصى"2. وقد لقب "قيس" بالأشج، لأثر شج في وجه، وعرف بالأعشى كذلك وقيل له: "بطريق اليمن". وذكر بعض الرواة أن كلمة "بطريق" تعني الحاذق في الحرب وأمورها3. وفي حق "قيس" هذا قال "الحارث بن حلزة اليشكري" في جملة ما قاله في قصيدته مفتخرًا بقومه: حَولَ قَيسٍ مُستَلئِمِينَ بِكَبشٍ ... قَرَظِيٍّ كَأَنَّهُ عَبلاءُ وقد قال الشراح إن قيسًا جاء على رأس جيش لجب ومعه راياته متحصن بسيد من بلاد القرظ، وبلاد القرظ اليمن، كأنه في منعته وشوكته هضبة من الهضاب، قد لبسوا الدروع، فردتهم "يشكر" قوم الشاعر، وقتلوا منهم4. ويذكر أهل الأخبار أن الشاعر الأعشى كان ممن يفد على "قيس بن معديكرب"

_ 1 المحبر "ص253". 2 المحبر "ص244 وما بعدها". 3 قيس أو الأشعث بطريق اليمن ... لا يسأل السائل عنه ابن من اللسان "10/ 21" "طبعة بيروت" الأغاني "8/ 78"، البيان والتبيين "1/ 18"، الأغاني "11/ 126"، الأمالي للقالي "1/ 92". 4 المعلقات السبع، للزوزني "ص164" "طبعة صادر، بيروت" ابن قتيبة، كتاب المعاني الكبير "ص943".

من الشعراء. وقد رووا له شعرًا قاله لقيس1. في جملته قوله: وَجُلُنداءَ في عُمانَ مُقيمًا ... ثُمَّ قَيسًا في حَضرَمَوتَ المُنيفِ2 وقد ذكر "ابن حبيب" أن "خالد بن جعفر بن كلاب"، أسر "قيس بن سلمة الكندي" يوم الحرمان3. وذكر أهل الأخبار أن ملوك كندة جعلوا ردافتهم في "بني سدوس"4. وجاء أن "الأشعث بن قيس"، كان قد غلب على أهل نجران وملك رقابهم وجعلهم "عبيدًا مملكة". وذكر أن خاصمهم عند "عمر" في أيام خلافته، فاحتجوا عليه أن ذلك كان في الجاهلية، فلما أسلموا سقطت تلك العبودية عنهم5.

_ 1 الأغاني "2/ 78"، الأمالي "1/ 92"، الجمحي، طبقات الشعراء "ص123". 2 ديوان الأعشى "القصيدة 63، البيت 15". 3 المحبر "ص252". 4 الاشتقاق "ص211". 5 اللسان "10/ 439".

امرؤ القيس الشاعر

امرؤ القيس الشاعر: ويذكر الأخباريون أن "حجرًا" لم يكن راضيًا عن ابنه "امرئ القيس" فطرده من عنده وآلى ألا يقيم أنفة من قوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك. فكان يسير في إحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طيء وكلب وبكر بن وائل. فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد، أقام فذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد، ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الحمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بـ"دمون" من أرض اليمن، أتاه به رجل من بني عجل يقال له عامر الأعور أخو الوصاف. فلما أتاه بذلك، قال: تطاول الليل علي دمون ... دمون، إنا معشر يمانون وإننا لأهلها محبون

ثم قال: ضيعني صغيرًا وحملني دمه كبيرًا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدًا، اليوم خمر، وغدًا أمر. فذهبت مثلًا ثم قال: خليلي، لا في اليوم مصحى لشارب ... ولا في غد إذ ذاك ما كان يشرب ثم شرب سبعًا فلما صحا آلى ألا يأكل لحمًا ولا يشرب خمرًا ولا يدهن بدهن ولا يصيب امرأة ولا يغسل رأسه من جنابة حتى يدرك بثأره1. وفي رواية أخرى أنه طرد لما صنع في الشعر بفاطمة ما صنع، وكان لها عاشقًا فطلبها زمانًا، فلم يصل إليها، وكان يطلب غرة حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ما كان، فقال قصيدته المشهورة: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل". فلما بلغ ذلك والده غضب عليه، وأوصى بقتله ثم طرده2. وهناك من يزعم أنه إنما طرد؛ لأنه تغزل بامرأة من نساء أبيه3. هذا وصف موجز لأصغر أبناء "حجر": "امرئ القيس بن حجر الكندي" الشاعر الشهير و"الملك الضليل" و"ذي القروح"4. وللرواة أقوال في اسم "امرئ القيس"، فقد سماه بعضهم "حندجًا"، ودعاه آخرون "عديًّا"، ودعاه قوم "مليكًا" ودعاه نفر "سليمان" وهو معروف عندهم بالإجماع بـ"امرئ القيس"، وهو لقبه5. ويكنى بأبي وهب وأبي زيد وأبي الحارث وذي القروح6. ولا نعرف سنة ولادة هذا الأمير الشاعر. ويظن "أوليندر" أنه ولد حوالي

_ 1 الأغاني "8/ 65"، ابن قتيبة، الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها" "دار الثقافة بيروت 1964" خزانة الأدب "1/ 159 وما بعدها" شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص6 وما بعدها"، معجم الشعراء، للمرزباني "ص9"، المحبر "ص352"، نزهة الجليس "2/ 148 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "ص31" "طبعة مصطفى السقا"، القاهرة 1932، "32". 3 OLINDER, P. 96. 4 الأغاني "8/ 61"، الشعر والشعراء "ص31"، الخزانة، للبغدادي "3/ 432"، سرح العيون، لابن نباتة "181"، العمدة، لابن رشيق "1/ 41، 42، 97"، تقريب الأغاني، لابن واصل "ص1001". 5 المزهر "2/ 214"، الآمدي: المؤتلف والمختلف، "ص9"، جمهرة أشعار العرب "ص49"، القاهرة 1926"، طبقات فحول الشعراء، "دار المعارف" شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص1 وما بعدها" المحبر "ص233، 349" الاشتقاق "2/ 222"، القاموس المحيط "1/ 546". 6 السندوبي "ص6 وما بعدها" OLINDER, P. 95

سنة "500" للميلاد1. أما أمه فهي "فاطمة" بنت ربيعة بن الحارث بن زهير، أخت "كليب" و"مهلهل" التغلبيين2. وورد في بيت شعر ينسب إلى هذا الشاعر: "امرئ القيس بن تملك"3. وقد استنتج بعض العلماء منه أن أمه هي "تملك" ورجعوا نسبها إلى "عمرو بن زبيد بن مذحج رهط عمرو بن معديكرب"، ويرى بعض المستشرقين أنه أدخل في ديوان هذا الشاعر، وأنه يعود إلى شاعر آخر اسمه "امرئ القيس"، وقد عد "آلوارت" "ahlwardt"، ستة عشر شاعرًا أسماؤهم "امرؤ القيس"4. ويلاحظ أن من زعم من الرواة أن أم امرئ القيس هي "تملك" جعل نسبه "امرأ القيس بن السمط بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن ثور"، وهو: كندة"، وهم يخالفون بذلك سلسلة النسب المألوفة عند غالبية الرواة. وذكر أنه ولد ببلاد بني أسد، وأنه كان ينزل بالمشقر وهو موضع ذكر في شعره5. وروى "ابن قتيبة" أن "امرأ القيس" من أهل نجد، وأن الديار التي وصفها في شعره كلها ديار بني أسد6. وقد تنقل هذا الشاعر في مواضع متعددة من الجزيرة، ووصل إلى القسطنطينية عاصمة الروم. وكان امرؤ القيس بـ"دمون" حينما جاء إليه نبأ مقتل والده على رواية7. ودمون من قرى حضرموت للصدف في رواية8. وفي رواية أخرى مرجعها "الهيثم بن عدي" أن امرأ القيس لما قتل أبوه كان غلامًا قد ترعرع. وكان في بني

_ 1 OLINDER, P. 95 2 ابن الأثير "1/ 211"، الأغاني "8/ 60" ency, ii, p. 477 3 ألا هل أتاها والحوادث جمة ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا ديوان امرئ القيس "20: 37"، الأغاني "8/ 61"، OLINDER, P. 95 4 Ahlwardt, Bemerkungen uber die echtheit der alten Arbischen Gedichte S. 73 راجع أخبار المراقسة وأشعارهم في الجاهلية وصدر الإسلام: تأليف حسن السندوبي، القاهرة 6939، وقد جمع فيه أشعار من كان شاعرًا ويسمى بـ"امرئ القيس". 5 الأغاني "8/ 61"، البلدان "8/ 65"، معجم ما استعجم "561". 6 الشعر والشعراء "ص31" "طبعة السقا"، القاهرة 1932، OLINDER, P. 95 Maritm, arabien, s. 53 7 الأغاني "8/ 95". 8 الصفة "85"، البكري، معجم "1/ 348"، "وساكن دمون هو الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار"، البلدان "4/ 85".

حنظلة مقيمًا؛ لأن ظئره كانت امرأة منهم، وقد روت شعرًا زعمت أنه قاله حينما بلغه النبأ، وهو: أتاني وأصحابي على رأس صليع ... حديث أطار النوم عني فأنعما قلت لعجلي بعيد مآبة ... ابن لي وبين لي الحديث المجمجما فقال: أبيت اللعن عمرو وكاهل ... أباحا حمى حجر فأصبح مسلما1 ويفهم من هذا أن شاعرنا كان في صيلع حينما أبلغ خبر وفاة والده، أتاه به رجل اسمه "عجل" ويعرف بعامر الأعور2. أما صيلع، فموضع من شق اليمن، كثير الوحش والظباء. ورد اسمه في خبر مجيء وفد همدان إلى الرسول3. وقد صرح "ياقوت الحموي" أن به ورد الخبر على امرئ القيس بمقتل أبيه حجر4. وهناك خبر يفيد أنه نزل في "بني دارم" وبقي عندهم حتى قتل عمه "شرحبيل"، وفي رواية تنسب إلى "الهيثم بن عدي" أنه كان مع والده "حجر" حين هاجمته بنو أسد، وأنه هرب على فرس له وتمكن من النجاة5. ويقول "ابن الكلبي" و"يعقوب بن السكيت" أن امرأ القيس ارتحل بعد أن بلغه نبأ مقتل والده حتى نزل بكرًا وتغلب، فسألهم النصر على بني أسد، فبعث العيون على بني أسد، فنذروا بالعيون ولجئوا إلى بني كنانة، ثم أدركوا أن امرأ القيس يتعقبهم، ونصحهم "علباء بن الحارث" بالرحيل بليل، وألا يعلموا بني كنانة، ففعلوا وتركوا "بني كنانة" وارتحلوا عنهم ليلًا دون أن يشعروا. فلما وصل امرؤ القيس إلى بني كناية ظانًّا بني أسد بينهم، نادى: يا لثارات الملك. يا لثارات الملك: فأخبروه أنهم تركوهم وارتحلوا عنهم. فتعقبهم مع بكر وتغلب حتى لحق بهم، فقاتلهم، فكثرت فيهم الجرحى والقتلى حتى جاء الليل فحجز بينهم، وهربت بنو أسد فلما أصبحت بكر وتغلب، أبوا أن يتبعوهم وقالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: والله، ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل

_ 1 "أباحوا حمى حجر فأصبح مسلما"، السندوبي "181"، الأغاني "8/ 66". 2 الأغاني "8/ 65". 3 البكري، معجم "2/ 614". 4 البلدان "5/ 406". 5 OLINDER , P. 96

ولا من غيرهم من بني أسد أحدًا. قالوا. بلى، ولكنك رجل مشئوم، وكرهوا قتالهم بني كنانة، وانصرفوا عنه، ومضى هاربًا لوجهه حتى لحق بحمير1. ولما أقبل امرؤ القيس من الحرب على فرسه الشقراء، لجأ ابن عمته "عمرو بن المنذر" وأمه "هند بنت عمرو بن حجر آكل المرار"، وذلك بعد قتل أبيه وأعمامه، وتفرق ملك أهل بيته، وكان عمرو يومئذ خليفة لأبيه المنذر بـ"بقة"، فمدحه وذكر صهره ورحمه، وأنه قد تعلق بحباله، ولجأ إليه فأرجاه ومكث عنده زمانًا. ثم بلغ المنذر مكانه عنده، وأنذره عمرو، فهرب حتى أتى حمير2. وفي رواية يرجعها الرواة إلى "ابن الكلبي" و"الهيثم بن عدي" و"عمر بن شبة" و"ابن قتيبة": أن "امرأ القيس" خرج فورًا بعد امتناع بكر بن وائل وتغلب من أتباع بني أسد إلى اليمن، فاستنصر أزد شنوءة، فأبوا أن ينصروه وقالوا: إخواننا وجيراننا، فنزل بقيل يدعى "مرثد الحير بن ذي جدن الحميري"، وكانت بينهما قرابة، فاستنصره واستمده على بني أسد، فأمده بخمسمائة رجل من حمير، ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس بهم، وقام بالمملكة بعده رجل من حمير يقال له: قرمل بن الحميم، وكانت أمه سوداء، فردد امرؤ القيس، وطول عليه حتى هم بالانصراف ... فأنفذ له ذلك الجيش، وتبعه شذاذ من العرب، واستأجر من قبائل العرب رجالًا، فسار بهم إلى بني أسد، ومر بـ"تبالة"، وبها صنم للعرب تعظمه يقال له "ذو الخلصة"، فاستقسم عنده بقداحه، وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم، وقال: مصصت بظر أمك لو أبوك قتل ما عقتني، ثم خرج فظفر بـ"بني أسد"3. فلما ظفر بهم، فقال هذه الأبيات: قولا لِدودانَ عَبيدِ العَصا ... ما غَرَّكُم بِالأَسَدِ الباسِلِ قَد قَرَّتِ العَينانِ مِن مالِكٍ ... وَمِن بَني عَمروٍ وَمِن كاهِلِ وَمِن بَني غَنمِ بنِ دودانَ إِذ ... نَقذِفُ أَعلاهُم عَلى السافِلِ

_ 1 الأغاني "8/ 67"، ابن الأثير، الكامل "1/ 306 وما بعدها". 2 الأغاني "8/ 67". 3 الأغاني "8/ 67 وما بعدها"، البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 219".

حَلَّت لِيَ الخَمرُ وَكُنتُ اِمرَأً ... عَن شُربِها في شُغُلٍ شاغِلِ فَاليَومَ أشْربُ غَيرَ مُستَحقِبٍ ... إِثمًا مِنَ اللَهِ وَلا واغِلِ وهي أبيات يفهم منها أنه أوقع في "بني دودان" و"بني مالك" و"بني عمرو" و"بني كاهل" و"بني غنم بن دودان"، وهي بطون من بني أسد، وهي التي قتلت أباه حجرًا، قالها بعد أن أنجده "قرمل بن الحميم الحميري" وأنه ألبسهم الدروع المحماة، وكحلهم بالنار، فبر بيمينه، وحل له شرب الحمر1. وبنو دودان هم بنو ثعلبة بن دودان بن أسد، وإلى ثعلبة هذا تنسب الثعلبية التي بين الكوفة ومكة. وهم جملة بطون ذكرها أهل الأنساب2. وإلى "قرمل" أشار "امرؤ القيس" في شعره: وَكُنّا أُناساً قَبلَ غَزوَةِ قُرمُلٍ ... وَرَثنا الغِنى وَالمَجدَ أَكبَرَ أَكبَرا وهو من "السحول" من "ذي الكلاع"3. وفي رواية تنسب إلى "الخليل بن أحمد الفراهيدي" أن رجالًا من قبائل "بني أسد" فيهم "قبيصة بن نعيم" وكان في بني أسد مقيمًا، قدموا على امرئ القيس بعد مقتل أبيه؛ ليعتذروا إليه وليسووا قضية قتل والده، فرفض إلا الانتقام من "بني أسد" قائلًا: "لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر في دم، وأني لن أعتاض به جملًا أو ناقة، فاكتسب بذلك سبة الأبد وفت العضد. وأما النظرة، فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببًا وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك تحمل القلوب حنقًا وفوق الأسنة علقًا"4. وتذكر الرواية أنه خرج إليهم بعد إبطاء دام ثلاثة أيام، وهو في قباء وخف وعمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتم السواد إلا بالثارات، فلما نظروا إليه، وبدر إليه قبيصة، يتكلم باسمهم معتذرًا، طالبًا الصفح عنهم، ودفع الدية عن

_ 1 السندوبي "ص151"، الشعر والشعراء "43 وما بعدها" OLINDER, P. 102 2 جمهرة أنساب العرب، لابن حزم "ص182". 3 الاشتقاق "ص307، 309". 4 الأغاني "8/ 72 وما بعدها".

حجر، أخبرهم، أن دم حجر لا يعتاض بجمل أو ناقة، وأنه لا بد من أخذه بالثأر، ثم أمهلهم حتى يجمع طلائع كندة، فيهجم عليهم1. وهناك روية أخرى تنسب إلى "أبي عبيدة" في هذا المعنى المتقدم مآلها أن "بني أسد" اجتمعت "بعد قتلهم حجر بن عمرو إلى ابنه امرئ القيس على أنه يعطوه ألف بعير دية أبيه، أو يقيدوه من أي رجل شاء من بني أسد، أو يمهلهم حولًا. فقال: أما الدية، فما ظننت أنكم تعوضونها على مثلي. وأما القود، فلو قيد إليَّ ألف من بني أسد ما رضيتهم ولا رأيتهم كفئًا لحجر، وأما النظرة فلكم، ثم ستعرفونني في فرسان قحطان أحكم فيكم ظبا السيوف وشبا الأسنة حتى اشفي نفسي وأنال ثأري"2. ولم تشر رواية "الخليل" و"أبي عبيدة" إلى ما فعله "امرؤ القيس" بعد ذلك في "بني أسد"، ولكننا إذا ما أردنا ربط هذه الروايات بعضها ببعض وبحسب التسلسل الطبيعي المنطقي، نستطيع أن نجعلها مقدمة لرواية "ابن الكلبي" و"ابن السكيت" و"خالد الكلابي" وملحقها، وهي رواية "محمد بن سلام" عن نزول "امرؤ القيس" بـ"بكر" و"تغلب"، وطلبه النجدة منهم والنصرة على بني أسد، واقتصاصه منهم بعد تركهم لـ"بني كنانة" كما ذكرت ذلك سابقًا. وأن نربطها كذلك برواية "ابن الكلبي" والهيثم بن عدي" و"عمرو بن شيبة" وابن "قتيبة" الملحقة بهذه الرواية، والرواية القائلة بذهاب "امرئ القيس" إلى اليمن واستنصاره بـ"أزد شنونة" و"مرثد الخير بن ذي جدن الحميري" بعد أن امتنعت بكر من وائل وتغلب عن ملاحقة بني أسد. وقد أشار "ابن قتيبة" أشار مختصرة إلى هجوم "امرئ القيس" على بني أسد حينما كانوا في "بني كنانة"، وذكر أنه أوقع بـ"بني كنانة"، ونجت "بنو كاهل" من بني أسد، فقال: يا لهف نفسي إذ خطئن كاهلا ... القاتلين الملك الحلاحلا تالله لا يذهب شيخي باطلا3

_ 1 الأغاني "8/ 72 وما بعدها". 2 الأغاني "19/ 85". 3 الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها"، البداية والنهاية "2/ 218"، شرح القصائد السبع الطوال، للأنباري "ص4 وما بعدها "دار المعارف 1963" ديوان امرئ القيس "ص34" "دار المعارف" "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم"، الحيوان، للجاحظ "5/ 578".

وأما "اليعقوبي" فذكر أن "امرأ القيس" حين بلغه مقتل أبيه جمع جمعًا وقصد "بني أسد"، فلما كان في الليلة التي أراد أن يغير عليهم في صبيحتها، نزل بجمعه ذلك، فذعر القطا، فطار عن مجاثمه فمر ببني أسد، فقالت بنت "علباء بن الحارث" أحد "بني ثعلبة"، وكان القائم بأمر بني أسد: ما رأيت كالليلة قطًا أكثر. فقال علباء: "لو ترك القطا لغفا ونام" فأرسلها مثلًا. وعرف أن جيشًا قد قرب منه، فارتحل، وأصبح امرؤ القيس فأوقع بكنانة، فأصاب فيهم، وجعل يقول: يا لثأرات حجر! فقالوا: والله ما نحن إلا كنانة. فتركهم وهو يقول: أَلا يا لَهفَ نَفْسِي إِثرَ قَومٍ ... هُمُ كانوا الشِفاءَ فَلَم يُصابواهم وَقاهُم جِدُّهُم بِبَني أَبيهِم ... وَبِالأَشقينَ ما كانَ العِقابُ وَأَفلَتَهُنَّ عِلباءٌ جَريضاً ... وَلَو أَدرَكنَهُ صَفِرَ الوِطابُ1 ولم يشر اليعقوبي إلى محاولة "امرئ القيس" تعقيب "بني أسد" وامتناع من كان معه عن الذهاب معه كما رأينا ذلك في الرواية السابقة بل قال: ومضى امرؤ القيس إلى اليمن لما لم يكن به قوة على بني أسد ومن معهم من قيس، فأقام زمانًا، وكان يدمن مع ندامي له، فأشرف يومًا، فإذا براكب مقبل، فسأله: من أين أقبلت؟ قال: من نجد، فسقاه مما كان يشرب، فلما أخذت منه الخمرة، رفع عقيرته وقال: سَقَينا اِمرَأَ القَيسِ بنَ حُجرِ بنِ حارِثٍ ... كُئوسَ الشَجا حَتّى تَعَوَّدَ بِالقَهرِ وَأَلهاهُ شُربٌ ناعِمٌ وَقُراقِرٌ ... وَأَعياهُ ثَأرٌ كانَ يَطلُبُ في حُجرِ وَذاكَ لَعَمري كانَ أَسهَلَ مَشرَعاً ... عَلَيهِ مِنَ البيضِ الصَوارِمِ وَالسُمرِ ففزع امرؤ القيس لذلك ثم قال: يا أخا أهل الحجاز، من قائل هذا الشعر؟ قال: عبيد بن الأبرص. قال: صدقت. ثم ركب واستنجد قومه، فأمدوه بخمسمائة من مذحج، فخرج إلى أرض "معد"، فأوقع بقبائل معد، وقتل الأشقر بن عمرو، وهو سيد بني أسد وشرب في قحف رأسه، وقال امرؤ القيس في شعر له:

_ 1 اليعقوبي "1/ 178".

قولا لِدودانَ عَبيدِ العَصا ... ما غَرَّكُم بِالأَسَدِ الباسِلِ يَا أيُّها السَّائِلُ عَنْ شَأنِنَا ... لَيْسَ الذي يَعْلَمُ كالجَاهِلِ حَلَّت لِيَ الخَمرُ وَكُنتُ اِمرَأً ... عَن شُربِها في شُغُلٍ شاغِلِ وطلبت قبائل معد امرأ القيس، وذهب من كان معه، وبلغه أن المنذر ملك الحيرة قد نذر دمه، فأراد الرجوع إلى اليمن، فخاف حضرموت، وطلبته بنو أسد وقبائل معد، فلما علم أنه لا قوة به على طلب المنذر واجتماع قبائل معد على طلبه ولم يمكنه الرجوع، سار إلى "سعد بن الضباب الإيادي، وكان عاملًا لكسرى على بعض كور العراق فاستتر عنده حينًا حتى مات سعد بن الضباب"، فخرج امرؤ القيس إلى جبل "طيء" ونزل بقوم من طيء، ثم لم يزل في طيء مرة وفي جديلة مرة وفي نبهان مرة حتى صار إلى "تيماء" فنزل بالسموءل بن عادياء فأودعه أدراعه وانصرف عنه إلى قيصر1. وذكر "ابن خلدون" أن "امرأ القيس" سار صريخًا إلى "بني بكر" و"تغلب" فنصروه، وأقبل بهم، فأجفل "بنو أسد" وساروا إلى "المنذر بن امرئ القيس" ملك الحيرة، وأوقع "امرئ القيس" في "كنانة"، فأثحن فيهم، ثم سار في ملاحقة "بني أسد" إلى أن أعيا ولم يظفر منهم بشيء، ورجعت عنه بكر وتغلب، فسار إلى "مؤثر الخير بن ذي جدن" من ملوك حمير صريحًا بنصره بخمسمائة من حمير، ويجمع من العرب سواهم. وجمع المنذر لامرئ القيس ومن معه، وأمده كسرى أنو شروان بجيش من الأساورة، والتقوا، فانهزم امرؤ القيس، وفرت حمير ومن كان معه، ونجا بدمه، وما زال ينتقل في القبائل والمنذر في طلبه، وسار إلى قيصر صريخًا فأمده، ثم سعى به "الطماح" عند قيصر أنه يشبب ببنته، فبعث إليه بحلة مسمومة كان فيها هلاكه ودفن بأنقرة2. و"أبو الفداء" من الذين نفوا كذلك خبر إيقاع "امرئ القيس" بـ"بني أسد". فهو يرى أنه لم يظفر بهم، وأن "بني أسد" هربت حينما علمت بمجيء "بكر" و"تغلب". فلما أعجز القبيلتين الطلب، تخاذلتا عن "امرئ

_ 1 اليعقوبي "1/ 180". 2 ابن خلدون "2/ 274 وما بعدها".

القيس"، وتركتاه. ولما عرفت جموع "امرئ القيس" بتطلب "المنذر بن ماء السماء" له، تفرقت خوفًا من المنذر، وخاف "امرؤ القيس"، وصار يدخل على قبائل العرب وينتقل من أناس إلى أناس حتى قصد "السموءل بن عاديا" اليهودي، فأكرمه وأنزله، وأقام عنده ما شاء الله، ثم سار إلى قيصر مستنجدًا به1. ينفي خبر "ابن خلدون" المتقدم، خبر انتقام امرئ القيس من بني أسد، وهو يتفق بذلك مع رواية مؤيدة لبني أسد تنكر أخذ امرئ القيس بثأره من بني أسد، وتروي في ذلك أبياتًا تنسبها أسد إلى "عبيد بن الأبرص" شاعر بني أسد. قال ابن قتيبة: "وقد ذكر امرؤ القيس في شعره أنه ظفر بهم، فتأبى عليه ذلك الشعراء". قال عبيد: ياذا المخوفنا بقتل أبيه ... إذلالًا وحينا أزعمت أنك قد قتلت ... سراتنا كذبًا ومينا2 وعبيد هذا هو الذي زعم "ابن الكلبي" وأضرابه أنه قال أبياتًا يتوسل فيها إلى "حجر" أن يترفق بقبائل بني أسد، وأن يعفو عنها، ويقبل ندامتها، فيسمح لها بالعودة إلى مواطنها. وكان قد أمر بإجلائها إلى تهامة؛ لأنها أبت دفع الإتاوة إلى جابي "حجر"، وضربته، وضرجته ضرجًا شديدًا. ومطلعها: يا عَينِ فَاِبكي ما بَني ... أَسَدٍ فَهُم أَهلُ النَدامَة ويقول ويقولون: إنه لما سماعها رق على "بني أسد"، فبعث في إثرهم وسمح لهم بالعودة من تهامة3. وهو قول فيه تحيز على بني أسد. ويفهم من هذه الأبيات: كَأَنّي إِذ نَزَلتُ عَلى المُعَلّى ... نَزَلتُ عَلى البَواذِخِ مِن شَمامِ فَما مُلكُ العِراقِ عَلى المُعَلّى ... بِمُقتَدِرٍ وَلا مُلكُ الشَآمِي

_ 1 أبو الفداء "1/ 57"، خزانة الأدب، "3/ 532"، الكامل لابن الأثير "1/ 308 وما بعدها". 2 ابن قتيبة "ص33"، الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها" "دار الثقافة، بيروت، 1964"، خزانة الأدب "1/ 158 وما بعدها" تاريخ اليعقوبي "2/ 189" "طبعة النجف"، الشعر والشعراء "ص39"، "طبعة ليدن". 3 الأغاني "8/ 63".

أَصَدَّ نِشاصِ ذي القَرنَينِ حَتّى ... تَوَلّى عارِضُ المَلِكِ الهمَامِ أَقَرَّ حَشا اِمرِئِ القَيسِ بنِ حُجرٍ ... بَنو تَيمٍ مَصابيحُ الظَلامِ أن امرأ القيس نزل على "المعلى" أحد "بني تيم بن ثعلبة" فأجاره ومنعه. ولم يكن للملكين: ملك العراق وهو المنذر ولا ملك الشآم أي ملك الغساسنة، اقتدار عليه. وقد بقي لديه زمانًا، ثم اضطر إلى الارتحال عنه1. فذهب ونزل عند "بني نبهان" من طيء. ثم خرج، فنزل بـ"عامر بن جوين الطائي" وهو أحد الخلعاء والفتاك. فبقى عنده زمانًا. ثم أحس منه مارًّا به. فتغفله، وانتقل إلى رجل من "بني ثعل" فاستجار به. فوقعت الحرب بين "عامر" وبين "الثعلي"، فخرج ونزل برجل من "بني فزارة" اسمه "عمرو بن جابر بن مازن" فأشار هذا عليه بالذهاب إلى "السموءل بن عادياء" بتماء فوافق فأرسله في صحبة رجل من "فزارة" اسمه "الربيع بن ضبع الفزاري" كان يأتي السموءل، فيحمله ويعطيه. فنزل عنده وأكرمه، ثم إنه طلب إليه أن يكتب له إلى "الحارث بن أبي شمر" الغساني، ليوصله إلى قيصر. ثم أودعه امرؤ القيس ابنته وأدراعه وأمواله، وأقام ابنته مع "يزيد بن الحارث بن معاوية" ابن عمه وخرج2. وكان المذي أشار على "امرئ القيس" بالتوجه إلى قيصر هو ذلك الرجل الفزاري3. ويظهر من غربلة كل هذه الروايات، أن مطاردة "المنذر بن ماء السماء" لامرئ القيس كانت أعنف شيء أصاب هذا الشاعر بعد مقتل والده. لقد أخافته وجعلته يتنقل من قوم إلى قوم. فر عنه من انضم إليه من عصبة حمير، ونجا في جماعة من بني آكل المرار. حتى نزل بالحارث بن شهاب في بني يربوع من حنظلة ومعه أدراعه الخمسة: الفضفاضة، والضافية، والمحصنة، والخريق، وأم الذبول، كن لبني مرار يتوارثونها ملكًا عن ملك، فقلما لبثوا عند الحارث بن شهاب حتى بعث إليه المنذر مائة من أصحابه يوعده بالحرب أن يسلم بني آكل المرار فأسلمهم، ونجا امرؤ القيس ومعه ابن عمه يزيد بن معاوية بن الحارث وبنته هند، والأدرع والسلاح، ومال كان بقي عنده، ومضى إلى أرض طيء

_ 1 الأغاني "8/ 68"، السندوبي "ص179"، OLINDER , P.108 2 الأغاني "8/ 70". 3 الأغاني "8/ 68 وما بعدها".

ونزل عند المعلي بن تيم الذي مدحه شاعرنا، فأقام عنده، واتخذ إبلًا، ثم خرج فنزل بعامر بن جوين على نحو ما ذكرت1. ويذكر الأخباريون أن "عمرو بن قميئة" كان قد رافق "امرأ القيس" في سفره إلى "القسطنطينية" وقد أشير إليه في شعر "امرئ القيس" كذلك. ويذكرون أنه كان من قدماء الشعراء في الجاهلية "وأنه أول من قال الشعر من نزار، وهو أقدم من امرئ القيس، ولقبه امرؤ القيس في آخر عمره، فأخرجه معه إلى قيصر لما توجه إليه، فمات معه في طريقه، وسمته العرب: عمرًا الضائع لموته في غربة وفي غير أرب ولا مطلب"2 بل روي أنه كان من أشعر الناس3. وأنه كان من خدم والد امرئ القيس، وأنه بكى وقال لامرئ القيس غررت بنا، فأنشأ امرؤ القيس شعرًا فيه4. أما خبر "امرئ القيس" مع الغساسنة في طريقه إلى قيصر، فلا نعلم منه شيئًا، وليس في شعره ما يشير إلى أنه ذهب إليهم رجاء التوسط في الوصول إليه. ويظهر من شعر لامرئ القيس، أنه سلك طريق الشأم في طريقه إلى "قيصر" وأنه مر بـ"حوران"5 وبعلبك وحمص وحماة وشيزر6. أما ما بعد ذلك حتى عاصمة الروم، فلا نعرف من أمره شيئًا. ويقول الرواة أن قيصر أكرم امرأ القيس، وصارت له منزلة عنده، وأنه دخل معه الحمام، وأن ابنته نظرت إليه فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه، وأنه

_ 1 الأغاني "8/ 68". 2 الأغاني "16/ 158 وما بعدها". 3 الأغاني "16/ 159". 4 "ثم سار ومعه عمرو بن قميئة أحد بني قيس بن ثعلبة وكان من خدمة أبيه. فبكى ابن قميئة، وقال: غررت بنا، فأنشأ امرؤ القيس يقول: بكي صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له: لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا الشعر والشعراء "ص45 وما بعدها"، "طبعة ليدن"، أمالي الشريف المرتضى "1/ 629". 5 فلما بدت حوران والآل دونها ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا سندوبي "ص70" 6 لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ... ولابن جريج في قرى حمص أنكرا سندوبي "ص70" "ابن جريج"، OLINDER, P. 110

نادمه، واستمده فوعده ذلك وفي هذه القصة يقول: ونادمت قيصر في ملكه ... فأوجهني وركبت البريدا1 ويذكرون أن "القيصر" أنجد "امرأ القيس" وأمده بجند كثيف فيه جماعة من أبناء الملوك، ولكن رجلًا من بني أسد اسمه "الطماح" كان امرؤ القيس قد قتل أخًا له، لحق بامرئ القيس، وأقام مستخفيًا، فلما ارتحل "امرؤ القيس" اتصل بجماعة من أصحابه، اتصلوا بقيصر، وقالوا له: "إن العرب قوم غدر ولا نأمن أن يظفر بما يريد، ثم يغزوك بمن بعثت معه". وفي رواية لابن الكلبي أنه ذهب إلى قيصر، وقال له: إن امرأ القيس غوي عاهر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعارًا يشهر بها في العرب فيفضحها ويفضحك. فبعث إليه حينئذ بحلة وشي مسمومة منسوجة بالذهب، وقال له: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إليَّ بخبرك من مزل منزل. فلما وصلت إليه لبسها، واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم، وسقط جلده، فلذلك سمي "ذا القروح" ويستشهدون على قولهم هذا بشعر امرئ القيس2. ويذكر بعضهم أن امرأ القيس كان مصابًا بداء قديم، وقد عاوده في ديار الروم، وهو عائد إلى دياره، فلما وصل إلى "أنقرة"، اشتد عليه المرض، فمات هناك. وأنه رأى قبر امرأة من أبناء الملوك ماتت هناك، فدفنت في سفح جبل يقال له "عسيب"، فسأل عنها فأخبر بقصتها، فقال في ذلك شعرًا.

_ 1 الأغاني "8/ 70"، الشعر والشعراء "ص46"، "ليدن"، أمالي المرتضى "1/ 519". 2 ابن قتيبة "ص33" Olinder, P. III, FR. Ruckert, Amrllkais der Dichter und Konig, Hannover 1924 الأغاني "8/ 70 ما بعدها"، "الطماح بن قيس الأسدي"، الشعر والشعراء "1/ 50 وما بعدها" "دار الثقافة، بيروت 1964"، "ص46"، "ليدن". قوله: وَبُدِّلتُ قَرحًا دامِيًا بَعدَ صِحَّةٍ ... فَيا لَكِ مِن نُعمى تَحَوَّل أَبؤُسا الشعر والشعراء "ص47"، "ليدن".

ثم مات فدفن في جنب المرأة، فقبره هناك1. ويرى بعض المستشرقين إن ذهاب "امرئ القيس" إلى "القيصر" "يوسطنيانوس" كان حوالي سنة "530" للميلاد، وأنه توفي في أثناء عودته بين سنتي "530" و"540" للميلاد2. وليس في كتب الروم أو السريان الواصلة إلينا إشارة إلى هذه الحوادث التي يرويها الأخباريون عن ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية، وطلبه النجدة من القيصر وموته في أنقرة، ولا عن الشعر الذي قاله في حق القيصر، وفي حق القبر الذي شاهده، وما إلى ذلك مما يذكره الأخباريون. وأما "المعلى" الطائي أحد بني تيم، من "جديلة" والذي يعرف قومه بـ"مصابيح الظلام"، فقد ذكره أهل الأخبار في عداد الوافين من العرب. قيل إن "المعلى" شخص في يوم لبعض أمره، وبلغ "المنذر بن ماء السماء" أن امرأ القيس عند المعلى وقد أجاره، فركب حتى أتى "ابن المعلي" فعمد ابن المعلى حتى انتهى إلى القبة هو فيها. فقال له: "إن فيها حرم المعلى ولست واصلًا إليها" ونادى في قومه، فمنعوه، فقال امرؤ القيس شعرًا يمدح "بني تيم" وذكر نعتهم "مصابيح الظلام"، وقال: فَما مُلكُ العِراقِ عَلى المُعَلّى ... بِمُقتَدِرٍ وَلا مُلكُ الشَآمِي3 وإما "عامر بن جوين الطائي" الذي نزل امرؤ القيس عنده، فهو من

_ 1 "ولما صار إلى مدينة بالروم تدعى أنقرة ثقل، فأقام بها حتى مات وقبر هناك. وقال قبل موته: رب خطبة مسحنفره ... وطعنة متنجره وجعبة متحيره ... تدفن غدًا بأنقره ورأى قبرًا لامرأة من بنات ملوك الروم هلكت بأنقرة، فسأل عن صاحبه فخبر بخبرها، فقال: أجارتنا أن المزار قريب ... وإني مقيم ما أقام عسيب أجارتنا أنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب الشعر والشعراء "ص47"، "ليدن"، الأغاني "8/ 71"، Ency. ii, p 477 2 Ency. ii, p 477 3 المحبر "ص353 وما بعدها".

"طيء" ثم من "بني جرم". وقد أقام امرؤ القيس عنده، حتى قبل عامر امرأة امرئ القيس، فأعلمته بذلك، فسار امرؤ القيس إلى "جارية بن مر الطائي" ثم "الثعلي" المعروف بـ"أبي حنبل"، فلم يصادفه، وصادف ابنه. فقال له ابنه: "أنا أجيرك من الناس كلهم إلا من أبي حنبل". فرضي بذلك وتحول إليه. فلما قدم أبو حنبل رأى كثرة أموال امرئ القيس وأعلمه ابنه بما شرط له في الجوار. فاستشار في أكله نساءه. فكلهن أشرن عليه بذلك: وقلن له: "إنه لا ذمة له عندك". ولكنه خالفهن بعد أن فكر في نفسه وفي سوء عاقبة الغدر ثم قرر الوفاء، فعقد له جوارًا ثم ركب في أسرته حتى نزل منزل عامر بن جوين ومعه امرؤ القيس، فقال له: "قبل امرأته كما قبل امرأتك. ففعل"1. وذكر أهل الأخبار أن "المنذر بن النعمان الأكبر"، ضغن على "عامر بن جوين الطائي، لما أجار "امرأ القيس" أيام كان مقيمًا بالجبلين، وقال كلمته التي يقول فيها: هنالك لا أعطي مليكًا ظلامة ... ولا سوقة حتى يئوب ابن مندلة فلما وفد عليه، وذلك بعد انقضاء ملك كندة ورجوع الملك إلى لخم. ودخل عليه، أنَّبَه على فعلته وهدده بغزو قومه، وبإنزاله العقوبة الصارمة بهم، فخرج "عامر" من عنده، بعد أن قال له: "إن البغي أباد عَمْرًا، وصرع حجرًا، وكان أعز منك سلطانًا، وأعظم شأنًا، وإن لقيتنا لم تلق أنكاسًا ولا أغساسًا، فهبش وضائعك وصنائعك، وهلم إذا بدا لك، فنحن الأُلَى قسطوا على الأملاك قبلك"، ثم أتى راحلته، وأنشأ يقول أبياتًا يتوعد فيه الملك2. ويشير أهل الأخبار إلى ملك من ملوك كندة، عرف بـ"أبي جبر". قالوا عنه، إنه كان ملكًا شديد البأس، خرج إلى "كسرى" يستجيشه على قومه، فأعطاه جيشًا من الأساورة، فلما بلغوا "كاظمة" ونظروا إلى بلاد العرب قالوا: أين يمضي بنا هذا الرجل، وعمدوا إلى سم، دفعوه إلى طباخه،

_ 1 المحبر "ص352 وما بعدها". 2 كتاب ذيل الأمالي "177"، "المجلس الأول: مطلب ما دار من الحديث بين المنذر بن النعمان الأكبر وعامر بن جوين الطائي لما وفد عليه".

فألقاه في أحب الألوان إليه، فلما استقر في جوفه، مرض وتوجع، فجاء الأساورة إليه، طالبين منه أن يكتب لهم أنه قد أذن لهم بالرجوع، فكتب لهم، فرجعوا وخف ما به، فخرج إلى "الطائف" إلى "الحارث بن كلدة الثقفي"، ليداويه فداواه وبرئ، ثم ارتحل يريد اليمن، فنكس ومات. وكانت له عمة اسمها "كبشة" فرثته1. هذه قصة "كندة"، وهذه حكاية شاعرها "امرئ القيس" الذي يعود إليه الفضل في حفظ الأخباريين لتأريخ كندة. أما شعر امرئ القيس وديوانه وصحيحه وفاسده، فقد تحدث العلماء فيه، ولهم فيه كلام يخرجني التعرض له عن صلب هذا الموضوع. فعلى مقالاتهم المعول في هذه الأمور. يتبين للقارئ بعد غربلة الأخبار المتقدمة، أن كندة كانت قد تمكنت من الهيمنة على القبائل النازلة في أواسط جزيرة العرب، ومن تكوين مملكة لها، بلغت أوج ملكها في القرن الخامس للميلاد، إلا أن ملكها على عادة حكومات القبائل لم يدم طويلًا، فسرعان ما أخذ بنيانه يتآكل ويتداعى، فأخذت أجزاؤه تتساقط، وعادات القبائل التي اضطرت بقانون القوة المتحكم في البادية إلى الانفصال عنها وإلى استعادة حريتها بذلك القانون أيضًا. فخسرت كندة ملكها الذي شمل نجدًا ووصل العراق، وبقي رؤساء منها يتحكمون في حضرموت، ثم أخذوا يتعاملون مع قبائل عربية جنوبية أخرى لتوسيع ملكهم لا سيما بعد تركهم نجدًا ولجوئهم إلى حضرموت، ويقدر بعض الباحثين عدد من جاء إلى حضرموت من كندة بحوالي ثلاثين ألف رجل، نزل أكثرهم في "دمون"2.

_ 1 نزهة الجليس "1/ 484". 2 beltrage, s. 121

السموءل

السموءل: ولا بد من الإشارة باختصار إلى "السموءل" الذي مر اسمه في أثناء كلامنا على "امرئ القيس"، وقصته هي في الواقع جزء من قصة هذا الشاعر،

وذيل لها. وهو على ما يقوله لنا الأخباريون يهودي ثري، شاعر: مقره "الأبلق" بـ"تيماء" يعرف بـ"السموءل بن عاديا" وبـ "السموءل بن غريض بن عاديا" "عادياء" اليهودي1. وبـ "السموءل بن حيان "حسان" بن عادياء2" وبـ"السموءل بن عادياء بن حيا"3، وبـ"السموءل بن حيا بن عادياه بن رفاعة بن الحارث بن ثعلبة بن كعب"4، وبـ"السموءل بن أوفى بن عادياء"5. ويظهر من بيتين من قصيدة للأعشى، هما: كُن كَالسَمَوءَلِ إِذ سارَ الهُمامُ لَهُ ... في جَحفَلٍ كَسَوادِ اللَيلِ جَرّارِ جارُ اِبنِ حَيّا لِمَن نالَتهُ ذِمَّتُهُ ... أَوفى وَأَمنَعُ مِن جارِ اِبنِ عَمّارِ أن المراد بـ"ابن حيا" السموءل، أي أن اسم والد السموءل هو "حيا". واختلفوا في نسب "عاديا" "عادياء"، فقالوا: "عادياء بن حباء" وقالوا "عادياء بن رفاعة بن جفنة"، وقالوا: إنه من ولد "الكاهن بن هارون بن عمران"6، وقالوا عن قبيلته إنه كان من "بني غسان"7. ونسبه "دارم بن عقال" إلى "رفاعة بن كعب بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء". وهو نسب أنكره "أبو الفرج الأصبهاني" حيث قال: "وهذا عندي محال؛ لأن الأعشى أدرك شريح بن السموءل، وأدرك الإسلام وعمرو مزيقيا قديم لا يجوز أن يكون بينه وبين السموءل ثلاثة آباء ولا عشرة إلا أكثر ... وقد قيل إنه أمه كانت من غسان"8. ونسب السموءل إلى الأزد9. وللأعشى الشاعر الشهير شعر يرويه الرواة في مدح "الشريح بن السموءل".

_ 1 "عادياء"، الأغاني "19/ 98"، ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء "ص235"، "طبعة دار المعارف"، ency, iv, p. 133 2 الميداني، الأمثال "2/ 276"، المشرق، السنة الثانية عشرة 1909م العدد 3 آذار ص162، "حسان" مروج "2/ 176"، "طبعة دار الأندلس". 3 المعرب، للجواليقي "ص188". 4 الاشتقاق "259". 5 المشرق، العدد المذكور "ص162". 6 المشرق، العدد المذكور، معاهد التنصيص "1/ 131". 7 الاشتقاق "259"، المحبر "349", 8 الأغاني "19/ 98"، المشرق، العدد المذكور. 9 المعرب "ص188".

وقد ورد فيه اسم ولدين للسموءل، هما: "حوط" و"منذر"1. ولم يذكر الأخباريون اسم الولد الذي زعم أن "الحارث بن أبي شمر" أو "الحارث بن ظالم" قتله لرفض "السموءل" دفع أدرع الكندي إليه، على نحو ما يذكره الرواة في قصة الوفاء. ونجد مضمون هذه القصة في قصيدة الأعشى الرائية الموجودة في ديوانه. وهي قصيدة تتألف من واحد وعشرين بيتًا، يروي الرواة أنه قالها مستجيرًا بـ"شريح بن السموءل" ليفكه من الأسر. وكان الأعشى على ما يقوله الرواة قد هجا رجلًا من "كلب"، فظفر به الكلبي وأسره، وهو لا يعرفه، فنزل بشريح بن السموءل وأحسن ضيافته، ومر بالأسرى، فناداه الأعشى بهذه القصيدة، فجاء شريح إلى "الكلبي"، وتوسل إليه بأنه يهبه، فوهبه إياه، فأطلقه، وقال له: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك، فقال له "الأعشى": "إن تمام إحسانك إلى أن تعطيني ناقة ناجية، وتخليني الساعة، فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته. وبلغ "الكلبي" أن الذي وهبه لشريح "الأعشى"، فأرسل إلى شريح ابعث إليَّ الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه، فقال: قد مضى، فأرسل الكلبي في أثره، فلم يلحقه"2. وروى "ابن قتيبة" القصة المتقدمة على هذا النحو: "قال أبو عبيدة: أسر رجل من كلب الأعشى فكتمه نفسه وحبسه، واجتمع عند "الكلبي" شرب فيهم "شريح بن عمرو والكلبي"، فعرف الأعشى. فقال للكلبي: من هذا؟ فقال خشاش التقطته. قال: ما ترجو به ولا فداء له! خل عنه. فخلى عنه. فأطعمه شريح وسقاه. فلما أخذ منه الشراب سمعه يترنم بهجاء الكلبي، فأراد استرجاعه. فقال الأعشى: شُرَيحُ لا تَترُكَنّي بَعدَما عَلِقَت ... حِبالَكَ اليَومَ بَعدَ القِدِّ أَظفاري كُن كَالسَمَوَءَلِ إِذ طَافَ الهُمامُ بِه ... في جَحفَلٍ كَهزيع اللَيلِ جَرّارِ بِالأَبلَقِ الفَردِ مِن تَيماءَ مَنزِلُهُ ... حِصنٌ حَصينٌ وَجارٌ غَيرُ غَدّارِ3

_ 1 المشرق، السنة الثانية عشرة، 1909م، العدد 3 آذار، "ص163". 2 الأغاني "19/ 99 وما بعدها"، ديوان الأعشى "ص126 وما بعدها"، "تحقيق رودلف كاير"، "لندن 1928م"، ديوان الأعشى الكبير "ص179"، "تحقيق الدكتور م. محمد حسين". 3 الشعر والشعراء "ص139"، "الأعشى ميمون بن قيس".

فجعل الرجل المجير "شريح بن عمرو الكلبي"، أي من العشيرة التي أسر أحد رجالها الأعشى، ولم يجعله ابنًا من أبناء السموءل. وجاء نسب "شريح" في شرح "أبي العباس ثعلب" على ديوان الأعشى على هذا الشكل: "شريح بن حصن بن عمران بن السموءل بن حيا بن عاديا"1، فصار "السموءل" جدًّا من أجداد "شريح" لا والدًا له. وقد اختلف الأخباريون في الرجل الذي طالب السموءل بتأدية سلاح "امرئ القيس" إليه، فزعم بعضهم أنه "الحارث بن أبي شمر الغساني"2. وزعم بعض آخر أنه "الحارث بن ظالم" في بعض غاراته بالأبلق، وزعم آخرون أنه "المنذر" ملك الحيرة، وجه بـ"الحارث بن ظالم" في خيل، وأمره بأخذ مال امرئ القيس من السموءل، وزعم أنه "الأبرد" وهو الملك الغساني. وكان الحارث بن أبي شمس لما قتل المنذر بعين أباغ، وجه ابن عمه الأبرد، فجعله بين العراق والشام. فلما سمع الأبرد بهلاك امرئ القيس، طالب السموءل بدفع الدروع إليه، فامتنع، فذبح ابنه وهو يراه. ولم يصرح بعضهم باسم الملك الذي طالب بتأدية الدروع، إنما ذكروا أنه كان بعض ملوك الشأم3. وإذا تتبعنا الروايات الواردة في قصة وفاء السموءل، وذبح ابنه، وامتناعه عن تأدية الأمانة المودعة لديه، نجد أنها ترجع إلى موردين: قصة "دارم بن عقال" وشعر الأعشى. ويلاحظ أن في شعر الأعشى كثيرًا من أخبار السموءل، ومن شعره أخذ الأخباريون "تيماء اليهودي"، وهذه ملاحظة تستحق الدرس4. ويفهم منه أن الأعشى كان ممن يرتادون حصن السموءل. أما "دارم بن عقال"، فهو من ولد السموءل. وهو راوي خبر قصة الوفاء، والأشعار المنسوبة إلى امرئ القيس المتعلقة بهذا الموضوع. وقد أشار إلى ذلك مؤلف كتاب "الأغاني" في أثناء كلامه على قصيدة نسبت إلى "امرئ القيس" ابتداؤها: طرقتك هند بعد طول تجنب ... وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق

_ 1 ديوان الأعشى "125"، "تحقيق كاير". 2 طبقات فحول الشعراء "235"، الأغاني "19/ 99". 3 الأغاني "19/ 99"، ديوان الأعشى "126"، "كاير"، المحبر "349". 4 البلدان "3/442"، الحيوان للجاحظ "6/ 188"، المشرق، الجزء المذكور "ص163".

فقال: "وهي قصيدة طويلة، وأظنها منحولة؛ لأنها لا تشاكل كلام امرئ القيس، والتوليد فيها بين، وما دونها في ديوانه أحد من الثقات، وأحسبها مما صنعه دارم؛ لأنه من ولد السموءل، ومما صنعه من روى عنه من ذلك فلم تكتب هنا ... "1 ولا أستبعد أن تكون هذه القصة، قصة الوفاء من صنع هؤلاء الصناع. ويرى "ونكلر" "winckler" أن قصة الوفاء هذه هي أسطورة استمدت مادتها من أسفار "صموئيل الأول" في التوراة، ومن الأساطير العربية القديمة نظمت على هذه الصورة فجعل بطلها شخصان هما: السموءل وامرؤ القيس2. ولا بد لي وقد انتهت من البحث عن إمارة كندة، من الإشارة إلى "الأكيدر" صاحب "دومة الجندل"، فقد نسبه أهل الأخبار إلى "كندة". وقد ذكروا أنه من السكون، والسكون هم من كندة. ومعنى هذا أن عائلة تنتمي إلى كندة كانت تحكم هذا الموضع المهم في البادية؛ لأنه ملتقى طرق قوافل وسوق معروف من أسواق الجاهليين.

_ 1 الأغاني "8/ 70". 2 H. Winckler, Arabisch-Semitisch-Orientalisch, in Mittei. Der Vorder Asia Gese., 1901, S. 112. 6 Jahrgang

كندة في العربية الجنوبية

كندة في العربية الجنوبية: وقفنا على أخبار كندة بنجد وفي العربية الشرقية إلى العراق. ثم رأينا ما حل بتلك الإمارة وكيف تشتت شملها. ونريد الآن أن نتحدث عن دور هذه القبيلة في العربية الجنوبية. يرى بعض الباحثين أن الخصومات التي وقعت في إمارة كندة، وتعقب ملوك الحيرة ولا سيما "المنذر" لساداتها، وانقضاض القبائل التي كانت تخضع لها عنها ثم سقوط إمارة كندة، دفعت بعشائر كندة إلى الاتجاه نحو الجنوب نحو العربية الجنوبية، ولا سيما حضرموت، وهي موطنها القديم، فنزحت إليها واستوطنت بها. وكونت لها إمارة كندية بحضرموت.

وهذا القول يجب ألا يفسر على أن مجيء كندة إلى العربية الجنوبية إنما كان بعد سقوط حكومتهم وتشتت أمرهم، فقد أشرت فيما سلف في مواضع إلى وجود كندة في العربية الجنوبية قبل هذا العهد بزمن طويل، وأشرت إلى ورود اسمها في نصوص المسند وإلى الأدوار التي لعبتها في أيام ملوك سبأ وذو ريدان، قبل الإسلام بمئات السنين، بل ربما كان ذلك قبل الميلاد. وقد رأينا فيما سلف ورود اسم "كندة" كدت" في نص أمر بتدوينه الملك "معديكرب يعفر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في النجاد وفي المنخفضات". وهو من النصوص التي عثر عليها في "وادي مأسل" "وادي ماسل" "مأسل الجمع"1، وقد دون ووضع في موضع "مأسل الجمح"2 لمناسبة إرسال الحملة العسكرية إلى موضع "كتا" لمحاربة "مذر" أي "المنذر" الذي أعلن الحرب على قبائل هذه الجهات. وقد اشتركت في هذه الحرب قبائل سبأ وحمير و"رحبت" "رحبة" وحضرموت و"يمنت" "اليمن" والأعراب و"كدت" أي "كندة" و"مذحج". واشترك مع المنذر "مذر" بنو ثعلبة "بن ثعلبت" و"شبيع؟ ". وقد أرخ النص بشهر "ذ قيضن" "ذو قيض" "ذو القيض" من سنة "631" من التقويم الحميري أي في صيف سنة 516 للميلاد3. ويظهر من هذا النص أن "المنذر" كان قد بلغ في حروبه مناطق بعيدة عن قاعدة ملكه، وأنه هو الذي غزا القبائل القاطنة في وادي مأسل الجمع "ما سلم جمحن". ولعله كان يتعقب عشائر كندة ومن كان يؤازرها ويعادي ملك الحيرة، حتى بلغ هذا المكان الذي كان خطًّا أماميًّا من خطوط الدفاع لحكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في الأطواد والمنخفضات". ولهذا السبب هب الملك "معديكرب" لمساعدة "كندة" على نحو ما ورد في النص. وقد ذكرت "كدت" كندة مع مراد ومذحج والقبائل الأخرى في الهجوم الذي قام به الملك "يوسف إسار" "يوسف أسأر" على الأحباش في مدينة "ظفار"، وعلى المدن التي كانت تناصرهم. وقد ورد تأريخ هذا الهجوم في

_ 1- كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأيل 2 "بما سلم جمحن" 3 Le Museon, LXVI, 1953, P. 307, 310, Ryckmans 510-446

نص سجله القيل "شرح إيل يقبل بن شرحب إيل يكمل" من "أل يزن" "آل يزن" "آل يزأن" بالاشتراك مع "جدن" "جدنم" و"حيم" "حب" و"نسأ" "نسان" "نسن" و"جبا" "جبأ" لهذه المناسبة. ويتبين من هذا النص أن الملك "يوسف إسار" "يوسف أسأر" هاجم "ظفار" مقر الأحباش، واستولى على الكنيسة "قلسن" "القليس"، ثم سار بعد ذلك على "أشعرن" "الأشعر"، وعين القيل على رأس جيش، ثم سار إلى "مخون" "مخا" فقتل سكانها واستولى على كنيستها، وهدم جميع حصون "شمر" ومعاقلها والسهل. وعندئذ قام بهجوم ماحق على "أشعرن". وقد قُتل في هذه المعارك عدد كبير من الناس، قُتل ثلاثة عشر ألف قتيل، وأخذ تسعة آلاف وخمسمائة أسير، واستولى على "280" ألف من الإبل والبقر والماعز. وأخذت غنائم عديدة أخرى. وأمر الملك بعد هذه المعارك القيل "شرح إيل يقبل" شرح آل يقبل" بالالتحاق بالجيش الذي أرسل إلى نجران. وفي صعيد هذه المدينة اجتمع رؤساء "بني أزأن" "آل يزأن" "بن يزن" وقبائل همدان وكندة ومراد ومذحج وأعرابها. فتغلبت جيوش الملك على هذه المدينة، وأنزلت بسكانها خسائر كبيرة في الأموال والأرواح، ووضعت الأغلال في أيدي الأسرى، وقتل من وجد هناك من الأحابيش. وكان مع الملك في جيشه من الرؤساء: "لحيعت برخم" و"سميفع أشوع" و"شرحب إيل أسعد". وقد دون هذا النص في شهر "ذ قبضن" "ذو القيض" من شهور صيف سنة "633" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "518" للميلاد1. وقد لعبت "كندة" "كدت" دورًا خطيرًا في الأوضاع السياسية والعسكرية في أيام استيلاء الجيش على العربية الجنوبية، كما يتبين ذلك من الفصل الخاص المتعلق بهذا الموضوع. وقد دخل رؤساؤها في الإسلام، فتبعهم أتباعهم، كما يرد ذلك في كتب التواريخ والسير. ويذكر أهل السير والتواريخ، أن وفدًا من وفود "كندة"، كان في جملة

_ 1 Ryckmans 508, Le Museon, LXVI, PP. 295, Bulletin, P. 458

الوفود التي قدمت المدينة لمبايعة الرسول في السنة العاشرة من الهجرة. وكان قد رأسه "الأشعث بن قيس الكندي". "دخلوا على رسول الله مسجده، وقد رجلوا أجممهم، وتكحلوا، عليهم جبب الحيرة، قد كففوها بالحرير"، ثم قال الأشعث: "يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار. وأنت ابن آكل المرار"، يفتخر بجده "آكل المرار"، وبـ "أن كندة كانت ملوكًا"1. وقد عرف جد "الأشعث بن قيس بن معديكرب بن معاوية"، بمعاوية الأكرمين، وإنما سمي معاوية الأكرمين لأنه ليس في آبائه إلا ملك أو رئيس. وكان كريم الطرفين، وقد ذكره "الأعشى" في شعر له. وكان أحد ملوك كندة بحضرموت2. وكان "مخوص" "مخوس" ومشرح وجمد وأبضعة بنو معديكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية من سادات كندة عند ظهور الإسلام. وقد لقب كل واحد منهم نفسه بلقب "ملك"، واختص كل واحد منهم بواد ملكه. وقد نزلوا المحاجر، وهي أحماء حموها، وقد عرف هؤلاء بالملوك الأربعة من "بني عمرو بن معاوية"، وقد لعنهم النبي3. وقتلوا في الردة4. ويرجع النسابون نسب كندة إلى جد أعلى قالوا له "عفير بن عدي" وهو والد "ثور". و"ثور" هو كندة5. وولد "كندة" معاوية بن كندة وأشرس، وأمهما هي رملة بنت أسد بن ربيعة بن نزار6. ويمثل هذا النسب صلة كندة بقبائل معد، وارتباط تأريخها بها، وتملكها عليها قبل الإسلام بزمن. وهو تملك جعل "كندة" تفتخر به، حتى صارت تدعو نفسها: "كندة الملوك". ويذكر "الهمداني"، أن الشاعر "امرؤ القيس"، كان يفتخر ويقول: لا ينكر الناس منَّا يوم نملكهم ... كانوا عبيدًا وكنا نحن أربابًا7

_ 1 الطبري "3/ 138 وما بعدها"، "قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة". 2 الأكليل "1/ 90". 3 ابن الأثير "2/ 158 وما بعدها"، البلدان "3/ 294"، "حضرموت"، ابن خلدون "2/ 56"، القسم الثاني: الوفود. 4 الاشتقاق "220". 5 الإكليل "1/ 146". 6 الإكليل "1/ 145". 7 الإكليل "1/ 145".

وأن "تبعًا الآخر"، وهو "عمرو بن حسان"، عين حجرًا آكل المرار على معد كلها، فالملك على "معد" لكندة. وأن "كندة" كانت تقول: "لم تزل لها نزار ومن نزل الحيرة والشأم من العرب طعمة ورعية". وقد نسب بضع النسابين "كندة" إلى كندة، وهو ثور بن مرتع بن معاوية بن كندي بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان1. ونسبه بعض آخر إلى "كندة بن عفير بن الحارث"، إلى غير ذلك من آراء. وقد زعم بعض النسابين أن "الصدف" واسمه "مالك"، وهو جد "الصدف"، هو شقيق كندة2. ومن بطون كندة معاوية بن كندة، ومنه الملوك بنو الحارث بن معاوية الأصغر بن ثور بن مرتع بن معاوية، أسلاف الشاعر امرئ القيس، وقد حكموا القبائل الأخرى من غير كندة، ومنها قبائل من عدنان3. و"الأشرس بن مرتع"، هو أخو "كندة"، وهو أبو السكون والسكاسك4، ونسب السكاسك إلى "خميس السكسك بن أشرس بن ثور. وهو كندة بن عفير"5. ومن السكون "نجيب". وكان "أكيدر بن عبد الملك" صاحب دومة الجندل من السكون، وأخوه بشر بن عبد الملك. يذكرون أنه ذهب إلى الحيرة، وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان. ومنه تعلم أهل مكة الكتابة6. ويذكر أهل الأخبار أن كندة لما خرجت من "الغمر": غمر ذي كندة نزلت بحضرموت وتآلفت مع الصدف تذكرت الأواصر والقرابات التي كانت تربطها بـ"الصدف" فصارت تحارب معها7، وجعل "الهمداني" أهل حضرموت من كندة والصدف وحمير.

_ 1 جمهرة أنساب العرب "ص399"، الإكليل "10/ 4"، الإنباه "114"، الاشتقاق "218"، ابن خلدون "2/ 257"، صبح الأعشى "1/ 328"، نهاية الأرب "2/ 303"، الروض الأنف "2/ 345"، تاج العروس "1/ 43"، "2/ 287"، اللسان "4/386". 2 الإكليل "10/ 5". 3 ابن خلدون "2/ 257". 4 الإكليل "1/ 358". 5 الإنباه "115"، الاشتقاق "221"، تاج العروس "7/ 141"، تاريخ العرب قبل الإسلام "4/ 281". 6 جمهرة "403 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 257". 7 الإكليل "2/ 15 وما بعدها". Beitrage , s. 133

فلسطين الثالثة

فلسطين الثالثة: لقد ذهب "كوسان دي برسفال" "caussin. de perceval" إلى أن "كيسوس" "kaisus،caisus" المذكور عند "بروكوبيوس" و"نونوسوس" "nonnosus" هو "امرؤ القيس"1. ذكر "بروكوبيوس"، أن القيصر "يوسطنيانوس" "juslinianus"، أرسل رسولًا هو "يوليانوس" "julianus" إلى "esimiphaaeus" "السميفع أشوع" ليطلب منه بحكم رابطة الدين والمصالح المشتركة تنصيب أحد أبناء الأشراف ورؤساء القبائل واسمه "kaisus" "caisus" على "معد" "maddeni"، وأن يرسل قوة كبيرة من رجاله يشتركون مع الـ"سرسين" والـ"massenin" في غزو مملكة الفرس2. وكان "كيسوس" هذا قد قتل أحد أقارب "esimiphaaeus" والتجأ إلى البادية، ولم يقم أي منهما بالغزو، ولم يذكر "بروكوبيوس" شيئًا آخر عن "كيسوس" هذا، أي "قيس"، وقد كانت سفارة "يوليانوس" إلى الحميرين قبل موت "قباذ" أي قبل سنة "531م"3. وفي الخبر إشارة إلى شجاعة "قيس" وكفاءته وحزمه، لهذه الأسباب ولأسباب سياسية أخرى رغب القيصر في تعيينه رئيسًا على معد. وذكر "نونوسوس" أن القيصر "يوسطنيانوس" كلفه الذهاب في سفارة إلى "kaisos" "قيس" حفيد "الحارث" "aretas" ورئيس قبيلتين عظيمتين من أعظم قبائل الـ"سرسينوي" "saracynoi" هما "kindyoi" كندة و"معد" "maadynoi" لمواجهته ودعوته للذهاب إلى الإمبراطور إذا أمكنه ذلك. فذهب إليه، ونفذ أوامر القيصر، وعاد إلى بلده سالمًا. وكان القيصر "أنسطاسيوس" "anastasius" قد كلف جد "نونوسوس" أن يذهب إلى الحارث ليعقد عهدًا معه، كما أن القيصر "يوسطينوس"، كلف أبا "نونوسوس" وهو "إبراهام" "إبراهيم" إن يذهب إلى "المنذر" "alamoundaros" رئيس الـ"سرسينوي" لمفاوضته في فك أسر قائدين كانا أسيرين لديه هما "تيموستراتوس"

_ 1 Olinder, p. 114, Caussin de Perceval, Essai, II, P. 317 2 Procopius, History of the Wars, P. 193, I, XX, 9-13 3 Olinder, P. 114

و "يوحنا". ثم كلف مرة ثانية في عهد "يوسطنيانوس" "justinianus" سفارة أخرى لدى قيس، لعقد معاهدة معه، وقد تمكن من ذلك، وعاد ومعه أحد أبناء "قيس" واسمه "معاوية" "mauias" ليكون رهينة في "بوزنطية" عند "يوسطنيانوس"، وكلف "إبراهيم" مرة أخرى أن يذهب إلى "قيس" بمهمة سياسية أخرى، فذهب إليه وأقنعه بالقدوم إلى "بوزنطية"، فقسم ولايته على القبائل بين أخوين "يزيد" "jezidos" و"aumros" "عمرو"، ونال من الإمبراطور ولاية "فلسطين"، وجاء معه بعدد لا يحصى من مرءوسيه1. وقد ذكر "ملخوس الفيلادلفي" "malchus of philadelphia" اسم عامل عربي سماه "amorkesos" أي "امرؤ القيس". كان كما قال رئيسًا على بطن من بطون الأعراب "sareceni" هو بطن "nokalian" "nokhalian". وذكر أن "بطرس" "peter" أسقف أهل الوبر "saraceni" ذهب في عام "473" للميلاد إلى القسطنطينية ليطلب من القيصر "ليون" "leo" أن يمنح هذا الرئيس. درجة "عامل" "phylarchus" "فيلارخ" على العرب المقيمين في العربية الحجرية. وكان هذا الرئيس يقيم مع قبيلته في الأصل كما ذكر "ملخوس" في الأرضين الخاضعة لنفوذ الفرس، ثم ارتحل عنها ونزل في أرضين قريبة من حدود الفرس وأخذ يغزو منها حدود الساسانيين، والقبائل العربية المقيمة في الأرضين الخاضعة للروم. فتمكن بذلك من بسط نفوذه وسلطانه على القبائل حتى بلغ ساحل البحر الأحمر، واستولى على جزيرة "إيوتابا" "iotabe"، وهي جزيرة مهمة كان الروم ينزلون فيها لجمع الضرائب من المراكب الذاهبة إلى المناطق الحارة أو الآيبة منها، فتصيب الحكومة أرباحًا عظيمة جدًّا. فلما استولى على تلك الجزيرة، صار يجيبها لنفسه، حتى صار غنيًّا جدًّا. كذلك حصل على ثروة عظيمة من الغنائم التي حصل عليها من غزوه للمواضع المجاورة لهذه الجزيرة والواقعة في العربية الحجرية وأعالي الحجاز2

_ 1 المشرق، السنة الثامنة، العدد 21، 1 تشرين الثاني - سنة 1905م، "ص1005"، شيخو، النصرانية وآدابها، "القسم الثاني، الجزء الثاني" "ص433 وما بعدها". Migne, Patrol. Gree, Phot, Bibl. CIII, 46-47, Olinder, P. 114 2 Musil, Hegaz, P. 308

وأراد "امرؤ القيس" "amorkesos"، بعد أن بلغ من النفوذ مبلغه، الاتصال بالروم، والتحالف معهم، والاعتراف به عاملًا رسميًّا على العرب الذين خضعوا له وعلى العرب المعترفين بسلطان الروم عليهم. ولذلك أرسل الأسقف "بطرس" أسقف قبيلته، ليكون رسوله إلى القيصر. وقد نجح هذا الأسقف في مهمته، وتوسط في دعوة "امرئ القيس" لزيارة القسطنطينية" فلما وصل إليها استقبل بها استقبالًا لائقًا ورحب به ترحيبًا حارًّا، ولا سيما بعد أن أعلن دخوله في النصرانية، فأنعم عليه القيصر بالهدايا والألطاف وعينه "عاملًا" "phylaechus" على تلك الجزيرة وعلى مواضع أخرى وعلى أعراب العربية الحجرية. ثم عاد مكرمًا، بالرغم من أن معاهدة الصلح التي كانت بين الروم والفرس كانت قد حرمت دخول رؤساء الأعراب وقبائلهم النازحين من مناطق أحد الطرفين في أرضين الطرف الثاني1. ويحتمل على رأي "إلويس موسل" أن يكون هذا الشيخ قد هاجر من "الوديان" و"الحجيرة" إلى "دومة الجندل" ومنها صار يغزو أعراب "العربية الحجرية"، والمناطق المجاورة لها من "فلسطين الثالثة" "palestina tertia" ويتوسع فيها حتى بلغ ساحل البحر، فتحكم في جزيرة "iotabe" المهمة التي كانت محطة تجارية خطيرة للاتجار مع الهند، وفي الطريق البري المهم الذي يربط ديار الشأم بالعربية الجنوبية، فحصل على سلطان واسع ونفوذ عظيم2. ولعل هذه الجزيرة هي جزيرة "ainu" التي ذكرها "بطلميوس"، أخذ تسميته هذه من "حينو" "حاينو" "hainu" الاسم الذي كانت تعرف به عند الأنباط3. ويظن أنها جزيرة "تاران" "تيران". وذكر "ياقوت" أن سكانها قوم يعرفون بـ"بني جدان"4. ويحدثنا "ثيوفانس" أن هذه الجزيرة كانت في عام "490" للميلاد في أيدي

_ 1 Musil, Hegaz, P. 306 2 Musil, Hegaz, P. 306 3 Musil, Hegaz, P. 307, Ptolemy, VI, 7, 43 4 البلدان "2/ 352" Musil, hegaz. P. 306

الروم، استولى عليها حاكمهم "dux" على فلسطين بعد قتال شديد1. ويدل خبر هذا المؤرخ على أن الروم انتزعوا هذه الجزيرة من "امرئ القيس" أو من خلفائه بعد مدة ليست طويلة من استيلاء امرئ القيس عليها. ولعلهم استولوا عليها بعد وفاة هذا العامل على أثر نزاع وقع بين أولاده وورثته أضعف مركز الإمارة، فانتهز الروم هذه الفرصة وانتزعوا ما تمكنوا من انتزاعه من أملاك هذا الرئيس. ويظن أن "nokalian" هو "النخيلة". و"النخيلة" موضع معروف قرب الكوفة على سمت الشام2، وهو موضع ينطبق عليه ما ذكره "ملخوس" من أنه كان في أرض كانت تحت نفوذ الفرس. وكان يحكم هذه المنطقة في أيام "يوسطنيانوس" "justinianus" "joustinianus" رئيس يدعى "أبو كرب" "abochorabus"، وكانت له واحة خصبة مزروعة بالنخيل، وهبها إلى القيصر. فقبلها منه، وعينه رئيسًا "phylarchus" على أعراب "saracens" فلسطين. فحمى له الحدود من غزو الأعراب، ومنع اعتداء القبائل في الداخل. وذكر "بروكوبيوس" أن هناك أعرابًا آخرين كانوا يجاورون أعراب هذا الرئيس، يدعون بـ"maddeni" أي "معد"، يحكمهم "homeritae" أي الحميريون3. ويظهر من كلام هذا المؤرخ أن قبائل معد كانت في أيامه تابعة لحمير. ومعنى هذا أن نفوذهم كان قد أمتد في هذا العهد حتى بلغ أعالي الحجاز، وفي كلامه هذا تأييد لروايات الأخباريين الذين يتحدثون عن بلوغ التبايعة هذه الأماكن، وعن حروب وقعت بين العدنانيين والقحطانين. وليس في الذي أورده "بروكوبيوس" أو "نونوسوس"، ما يثبت أن "قيسًا" هو "امرؤ القيس". ومجرد تشابه الاسمين لا يمكن أن يكون حجة على أنهما لمسمى واحد. ثم إن ما ذكره "نونوسوس" من أن "قيسًا" كان رئيسًا على قبيلتي "كندة" و"معد" لا يكون دليلًا على أنه كان حتمًا من "كندة" أو أنه كان حتمًا "امرأ القيس" الشاعر الذي يعرفه الأخباريون. لذا فنحن لا نستطيع الجزم في الوقت الحاضر بتعيين هوية هذا الرئيس

_ 1 Theophanes, chronographiq, P. 121, Musil, Husil, Hegaz, P. 307 2 البلدان "8/ 276 وما بعدها". Blau., in zdmg , 22, 1868, s. 578 3 Procopius, De Bello Persico, I, 19, Musil, Hegaz, P. 307

الفصل الأربعون: مملكة الغساسنة

الفصل الأربعون: مملكة الغساسنة مدخل ... الفصل الأربعون: مملكة الغساسنة وحكم عرب بلاد الشام في دولة البيزنطيين، عرب عرفوا بـ"آل غسان"، وبـ"آل جفنة" وبـ"الغساسنة" وقد استمر ملكهم إلى الإسلام. فلما فتح المسلمون بلاد الشأم، زالت حكومتهم، وذهب سلطانهم كما ذهب ملك "آل لخم" منافسوهم في العراق. وقد نقلت كلمة "غسان" في زعم الأخباريين من اسم ماء يقال له "غسان"، ببلاد "عك" بزبيد وربيع، نزل عليه آل غسان، وأصلهم من الأزد، بعد خروجهم من اليمن قبيل حادث سيل العرم أو بعده، فلما أقاموا عليه وشربوا منه، أخذوا اسمهم منه، فسموا "غسان"1، وعرف نسلهم بالغساسنة وبـ"آل غسان". ولم يحدد أهل الأخبار زمان حدوث سبيل العرم، وتهدم السد. لذلك لا نستطيع أن نستنبط شيئًا من رواياتهم عن هذا الحادث في تحديد وقت وصول الغساسنة إلى بلاد الشأم. وحادث تصدع السد لم يكن حادثًا واحدًا، حتى نعتبره مبدأ لتأريخ هجرة الأزد وغيرهم من قبائل اليمن نحو الشمال. فقد تصدع السد مرارًا ورم

_ 1 حمزة "ص76"، المروج "2/ 30"، القاموس "4/ 253"، أما سألت فأنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان البرقوقي "ص413"، شرح ديوان كعب بن زهير لابن سعيد السكري، "ص32 وما بعدها"، "طبعة دار الكتب المصرية" الاشتقاق "ص259" ديوان حسان "ص" "هرشفلد".

مرارًا. والذي يفهم من أقوال الأخباريين أن هذا التصدع كان قد وقع قبل الإسلام بزمن، وقد بقيت ذكراه عالقة في الذاكرة إلى أيام الإسلام. وأما سبب تسميتهم بآل جفنة وبأولاد جفنة، فلانتسابهم إلى جد أعلى يدعونه "جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر" على رأي1، أو إلى "جفنة" قبيلة من غسان من اليمن2. ويذكر "ابن دريد" أن "جفنة" إما من "الجفنة" المعروفة، أو من "الجفن"، وهو "الكرم"، وجفن السيف وجفن الإنسان. ويذكر أن المثل المشهور بين الناس: "وعند جهينة الخبر اليقين"، هو خطأ تقوله العامة، وأن صوابه: "وعند جفينة الخبر اليقين"3. ولم نظفر حتى الآن باسم غسان في نصوص المسند. كذلك لم نظفر به في الأرضين التي عدها الأخباريون في جملة ممتلكات هذه القبيلة. ويزعم الأخباريون أن الذي قاد الغساسنة في خروجهم من اليمن، هو عمرو المعروف بـ"مزيقيا"، وهو ابن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث4. ولهم في نسبه على هذا النحو من ذكر الآباء والأجداد والألقاب أقوال وحكايات5. وروى "ابن قتيبة الدينوري" أن "عمرو بن عامر مزيقياء" لما خرج من اليمن في ولده. وقرابته ومن تبعه من الأزد، أتوا بلاد عك، وملكهم "سملقة" "سلمقة"، وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام حتى يبعثوا من يرتاد لهم المنازل ويرجعوا إليهم، فأذنوا لهم. فوجه عمرو بن عامر ثلاثة من ولده: الحارث بن عمرو، ومالك بن عمرو، وحارثة بن عمرو، ووجه غيرهم روادًا فمات عمرو بن عامر بأرض عك قبل أن يرجع إليه ولده ورواده، واستخلف ابنه ثعلبة بن عمرو، وأن رجلًا من الأزد يقال له جذع بن سنان احتال في قتل سلمقة "سملقة"،

_ 1 أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل شرح ديوان حسان بن ثابت، "إخراج البرقوقي" "طبع المطبعة الرحمانية" القاهرة 1929 م "ص309" شمس العلوم "ج1 ق1 ص342"، اللسان "13/ 91"، "جفن" 2 شمس العلوم، "ج 1 ق 1 ص342". 3 الاشتقاق "ص259"، اللسان "13/ 91"، "صادر"، "ج ف ن". 4 حمزة "ص77". 5 مروج "2/ 30".

ووقعت الحرب بينهم، فقتلت عك أبرح قتل وخرجوا هاربين، فعظم ذلك على ثعلبة بن عمرو، فحلف أن لا يقيم، فسار ومن اتبعه حتى انتهوا إلى مكة وأهلها يومئذ جرهم، وهم ولاة البيت، فنزلوا بطن مر وسألوهم أن يأذنوا لهم في المقام معهم، فقاتلتهم جرهم، فنصرت الأزد عليهم، فأجلوهم عن مكة، ووليت خزاعة البيت، فلم يزالوا ولاته حتى صار "قصي" إلى مكة، فحارب خزاعة بمن تبعه، وأعانه قيصر عليها، وصارت ولاية البيت له ولولده، فجمع قريشًا، وكانت في الأطراف والجوانب، فسمي مجمعًا، وأقامت الأزد زمانًا1. فلما رأوا ضيق العيش شخصوا، فصار بعضهم إلى السواد، فملكوا بها. منهم "جذيمة بن مالك بن الأبرش" ومن تبعه وصار قوم إلى عمان وصار قوم إلى الشأم، فهم "آل جفنة" ملوك الشأم. وصار جذع بن سنان قاتل سلمقة إلى الشأم أيضًا، وبها سليح، فكتب ملك سليح إلى قيصر يستأذنه في إنزالهم، فأذن له على شروط شرطها لهم. وأن عامل قيصر قدم عليهم ليجيبهم فطالبهم وفيهم جذع، فقال له جذع خذ هذا السيف رهنًا أن نعطيك. فقال له العامل: اجعله في كذا وكذا من أمك، فاستل جذع السيف فضرب به عنقه. فقال بعض القوم: خذ من جذع ما أعطاك، فذهبت مثلًا. فمضى كاتب العامل إلى قيصر فأعلمه، فوجه إليهم ألف رجل وجمع له خذع من الأزد من أطاعه، فقاتلوهم فهزموا الروم، وأخذوا سلاحهم، وتقووا بذلك، ثم انتقلوا إلى يثرب وأقام بنو جفنة بالشام وتنصروا. ولما صار جذع إلى يثرب وبها اليهود، حالفوهم، وأقاموا بينهم على شروط فلما نقضت اليهود الشروط، أتوا تبعًا الآخر، فشكوا إليه ذلك، فسار نحو اليهود حتى قتل منهم وأذلهم، وصار الأمر في يثرب للأزد2. وللأخباريين تفاسير في سبب تلقيب عمرو بن عامر بمزيقياء. وقد ذكر "حمزة" بعض الآراء الواردة في ذلك، فقال: "وتزعم الأزد أن عمرًا إنما سمي مزيقياء لأنه كان يمزق كل يوم من سني ملكه حلتين لئلا يلبسهما غيره، فسمي هو مزيقياء، وسمي ولده المزاقية. فهذا قول وقيل: إنما سمي مزيقيا؛ لأن الأزد

_ 1 المعارف "ص640"، "تحقيق ثروت عكاشة". 2 المعارف "ص278 وما بعدها"، "640"، "تحقيق ثروت عكاشة".

تمزقت على عهده كل ممزق عند هربهم من سيل العرم، فأتخذت العرب افتراق الأزد عن أرض سبأ بسيل العرم، فقالوا: "ذهبت بنو فلان أيادي سبأ"1. ومال "نولدكه" إلى هذا التفسير الأخير، فرأى أنه مأخوذ من الآية: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} 2. ويظهر أن الغساسنة اخترعوا أسطورة تمزيق الثياب، للإشارة إلى غنى جدهم "عمرو" واقتداره3. وأما ما ذهب إليه "نولدكه"، فهو في نظري نوع من الظن، استخرجه من هذا التفسير الثاني الذي رواه الأخباريون في تفسير الكلمة الخاص بتفرق الأزد عن أرض سبأ لحدوث السيل. وقد زعم أنه نزح معهم من اليمن قومهم من الأزد، فنزل المدينة رهط "ثعلبة العنقاء بن عمرو بن عامر ومنهم الأوس والخزرج، ونزل مكة رهط حارثة بن عمرو بن عامر، وهم خزاعة، ونزل جفنة بن عمرو. بن عامر بالشام، وهم الغساسنة ونزل لخم في العراق ومنهم المناذرة أو آل نصر"4. فوصل أهل الأخبار بذلك تأريخ خزاعة والأوس والخزرج وآل لخم بآل غسان. وجعلوا ابتداء ظهورهم في أماكنهم منذ ذلك العهد، أي منذ وقوع حادث "سيل العرم". وقد روى الأخباريون في ذلك شعرًا لنفر من الأنصار، ورد فيه انتساب أهل يثرب إلى "عمرو بن عامر"، واتصال نسبهم بنسب غسان. ومن ذلك شعر للشاعر الأنصاري المعروف "حسان بن ثابت"، يقول فيه: أَلَم تَرَنا أَولادَ عَمروِ بنِ عامِرٍ ... لَنا شَرَفٌ يَعلو عَلى كُلِّ مُرتَقي5 ومن ذلك شعر زعم أن قاتله أحد الأنصار هو: أنا ابن مزيقيا عمرو، وجدي ... أبوه عامر ماء السماء6

_ 1 حمزة "ص77"، "وهو مزيقياء. كان يمزق كل يوم حلة لئلا يلبسها أحد بعده"، الاشتقاق "ص258". 2 سورة سبأ، 34، الآية 18، نولدكه: أمراء غسان، "ص3"، ملحوظة 1 "الترجمة العربية". 3 أمراء غسان "ص3 وما بعدها"، "ص5" من النص الألماني. 4 شرح ديوان حسان، للبرقوقي "ص286". 5 البرقوقي "ص286". 6 شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، للبرقوقي "ص286".

فالأنصار، أي أهل يثرب، وهم من الأوس والخزرج، هم من الدوحة التي أخرجت الغساسنة، وقد ظهر تأريخهم من يثرب بعد حادث سيل العرم في نحو ما رأيت. وافتخار أهل يثرب بآل جفنة يزيد كثيرًا على افتخارهم بآل لخم، مع أنهم على حد قولهم من أصل واحد، وقد افترقوا جميعًا في وقت واحد، وهم في درجة واحدة من القرابة، ونجد لحسان بن ثابت شعرًا في الغساسنة، هو أضعاف ما قاله في المناذرة. ويظهر أن لقرب الغساسنة من يثرب، وللمصالح الاقتصادية وللهبات والعطايا التي كان ينالها حسان وأمثاله من الغساسنة بيسر وسهولة، لقربهم منهم، أثر كبير في هذا المدح والتعصب لغسان على آل لخم. وأما عن نعت عامر بماء السماء. فقال حمزة: "إنه إنما سمي ماء السماء لأنه أصابت الأزد مخمصة، فمانهم حتى مطروا، فقالوا: عامر لنا بدل ماء السماء"1. وقد عرف أشخاص آخرون بـ"ماء السماء" من غير غسان، منهم "المنذر بن امرئ القيس اللخمي" و"ماء السماء بن عروة" من ملوك "الحيرة" على زعم "ابن الكلبي"2. وقد نعت "حسان بن ثابت" الغساسنة الذين جاءوا من بعده بـ"أولاد ماء المزن". و"المزن = المطر". يريد بذلك "أولاد ماء السماء"، أي: "بني ماء السماء"، وماء السماء هو المطر، وذلك كناية عن الجود والكرم والإغاثة. والمطر هو غوث للناس ورحمة والجود هو غوث لمن يجاد عليه، فهو بمنزلة المطر للأرضين. فقصد الشاعر بذلك أن "آل غسان". للناس بمنزلة المطر للأرض. وقد يكون جد الغساسنة قد عرف بكرمه وسخائه، فنعت بهذا النعت الدال على السخاء والجود. ولا أستبعد أن تكون هذه النعوت من النعوت التي أطلقها الشعراء على المذكورين، فلازمتهم حتى اليوم3. ونسب آل غسان إلى جد آخر، يعرف بـ"ثعلبة". وقد أشير إلى "عرب الروم من آل ثعلبة"4. وقد ذكر "محمد بن حبيب"، أن رئيس غسان

_ 1 حمزة "ص77" "مانهم، أي احتمل مؤنتهم، أي قوتهم حتى يأتيهم الخصب"، البرقوقي "ص287". 2 المحبر "ص365". 3 كخفنة والقمقام عمرو بن عامر ... وأولاد ماء المزن وابني محرق البرقوقي "ص287". 4 غسان "ص4".

الذي قضى على "الضجاعمة"، وانتزع الملك من "سليح"، هو "ثعلبة" ابن عمرو بن المجالد بن عمرو بن عدي بن مازن بن الأزد1. ومن نسله كان ملوك غسان، فهو أذن "ثعلبة" المذكور. ويظهر من روايات الأخباريين أن الغساسنة أخذوا الحكم بالقوة من أيدي عرب كانوا يحكمون هذه المنطقة قبلهم، ويدعون بـ"الضجاعمة"، وهم من "سليح بن حلوان"2. وبنو سليح، هم عرب ينسبهم النسابون إلى "سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة"3. وقد نسبهم "ابن دريد" إلى "سليح بن عمران بن الحاف"، وجعل لـ"سليح" شقيقًا هو "تزيد" جد "التزيديين"4. ونسبهم "السكري" إلى "سليح بن عمرو بن الحاف بن قضاعة"5. ولكن اختلاف النسابين هذا في نسبهم، يقف عند نهاية سلاسل النسب، إذ تنتهي هذه النهاية في "قضاعة" حيث يتفق الكل أن "سليحًا" هم من قضاعة. أما صاحب كتاب المعارف، فقد جعل سليحًا من غسان، إلا أنه عاد فاستدرك على ذلك بقوله: "ويقال من قضاعة"6. وقد ذكر أهل الأخبار أن "بني سليح" بقوا في بلاد الشأم، إذ ذكروهم في أخبار الفتوح، وكانوا في جملة من أقام على النصرانية من عرب الشأم. وقد أسلم قسم منهم، وكانوا في "قنسرين" في أيام المهدي7. ومن ملوك سليح الذين ذكرهم الأخباريون زياد بن الهبولة ملك الشأم، جعلوه من معاصري حجر بن معاوية بن الحارث الكندي آكل المرار، وذكروا أنه سمع بغارة قام بها حجر على البحرين، فسار إلى أهل حجر ومن تركهم، فأخذ الحريم والأموال وسبى منهم هند بنت ظالم بن وهب بن الحرث بن معاوية. فلما سمع

_ 1 المحبر "ص371". 2 حمزة "ص76 وما بعدها". 3 حمزة "ص76 وما بعدها"، الإكليل "1/ 182". 4 الاشتقاق "2/ 314". 5 المحبر "ص370". 6 المعارف "ص278"، "أول من دخل الشام من العرب: سليح، وهو من غسان، ويقال من قضاعة"، "ص640، "تحقيق ثروت عكاشة". 7 فتوح البلدان، للبلاذري "ص152" "طبعة القاهرة: 190".

حجر وكندة وربيعة بغارة زياد، عادوا عن غزوهم في طلب ابن هبولة، ومع حجر أشرف ربيعة: عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وعمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان وغيرهما. فأدركوا قوم زياد بـ"البردان" دون عين أباغ، فحمل أتباع حجر على أتباع "ابن الهبولة"، فانهزموا، ووقع زياد أسيرًا ثم قتل1. وتذكر رواية أن "حجرًا" أرسل "سدوس بن شيبان" و"صليع بن عبد غنم" إلى عسكر "زياد" يتجسسان له الخبر، ويعلمان علم العسكر، ثم عادا فأخبره، فسار على جيش ابن الهبولة، واقتتلوا قتالًا عنيفًا، فشد "سدوس" على زياد واعتنقه وصرعه، وأخذه أسيرًا، فلما رآه "عمرو بن أبي ربيعة" حسده فطعن زيادًا فقتله، فغضب سدوس لأنه قتل أسيره، وطالب بديته، ودية الملوك، فتحاكما إلى حجر، فحكم على عمرو وقومه لسدوس بدية ملك، وأعانهم من ماله2. ويقتضي على هذه الرواية أن يكون ملك "زياد بن الهبولة" في وقت متأخر إذ لا ينسجم هذا القول مع ما يذكره أهل الأخبار من أن ملك "بني سليح" كان قبل الغساسنة3. ولو أخذنا بالخبر المتقدم، وجب علينا القول بأن زيادًا كان يحكم في أيام الغساسنة لا قبل ذلك. وقد ذكر "ابن الأثير" أن "زياد بن هبولة" لم يكن ملكًا على الشأم؛ لأن ملوك سليح كانوا بأطراف الشأم مما يلي البر من فلسطين إلى قنسرين والبلاد للروم، ولم تكن سليح ولا غسان مستقلين بملك الشأم ولا بشبر واحد، وزياد بن هبولة السلخي أقدم من حجر آكل المرار بزمان طويل. ولم يكن زياد آخر ملوك سليح. ثم خلص من قوله برأي توفيقي، بأن افترض أن زياد بن هبولة المعاصر لحجر كان رئيسًا على قوم أو متغلبًا على بعض أطراف الشأم، فهو غير ذلك الملك المذكور4.

_ 1 ابن الأثير "1/ 208"، حمزة "ص92"، الأغاني "15/ 82"، أيام العرب "42". 2 أيام العرب "45". 3 ابن الأثير "1/ 208". 4 أيام العرب "45".

وقد تحدث "أبو عبيدة" عن ذلك اليوم، ولم يذكر ان ابن هبولة من سليح بل قال: هو غالب بن هبولة ملك من ملوك غسان1. وقد تحدثت بعض الروايات عن "زياد بن هبولة" على هذا النحو: "منهم داود اللثق بن هبالة بن عمرو بن عوف بن ضجعم، كان ملكًا، ومنهم زياد بن هبالة بن عمرو بن عوف بن ضجعم، وكان ملكًا، وهو الذي أغار على حجر آكل المرار. وهو محرق، وكان أول من حرق بالنار"2. فجعلت والد زياد رجلًا اسمه "هبالة"، وجعلت "داود اللثق" شقيقًا له. أما الروايات الشائعة، فتجعل "داود اللثق" ابنًا لـ"هبالة" أي أنه أخو "هبولة بن عمرو بن عوف"، فهبولة على هذا وهبالة أخوان، وزياد وداود ابنا عم3. وأما ملوك "سليح" على رواية "ابن قتيبة الدينوري"، فهم: "النعمان بن عمرو بن مالك"، وقد عينه ملك الروم على قومه -على حد قوله- بعد أن دانوا بالنصرانية، ثم مالك وهو ابنه، ثم "عمرو"، وهو ابن مالك. قال: ولم يملك منهم غير هؤلاء الثلاثة. إذ انتقل الملك من بعد "عمرو" إلى الغساسنة4. ونسب الأخباريون "الضجاعمة" إلي "بني ضجعم بن حماطة بن سعد بن سُليح بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة"5. فهم على هذا النسب، ومن "بني سليح" ومن قبايل قضاعة، وقد حكموا بعد حكم "بني سليح". ونسب بعض الأخباريين "ضجعم" إلى "سعد بن سليح"، أي بإسقاط اسم "حماطة" من النسب، بأن جعلوا "سعد بن سليح" والدًا لضجعم. وقد ذكروا أن منهم "داود اللثق بن هبولة بن عمرو" وهو شقيق "زياد بن هبولة" المذكور. وذكر بعض منهم أن "داود بن هبولة" هو شقيق "هبالة بن عمرو بن عوف بن ضجعم"6.

_ 1 أيام العرب "45". 2 الاشتقاق "2/ 319". 3 الاشتقاق "2/ 319". 4 المعارف "ص278 وما بعدها"، "ص640"، ثروت عكاشة". 5 المحبر "ص370"، الاشتقاق "2/ 319"، ابن خلدون "2/ 279"، حمزة "76"، غسان "6"، الإكليل "1/ 182". 6 الاشتقاق "2/319".

ويظهر أن "داود اللثق" كان قد اعتنق النصرانية. وكان قد عمل للروم. وإليه ينسب "دير داود" "دير الداود"1. ويظهر من بعض الروايات عن "زياد بن هبولة" الذي حارب. "حجرًا آكل المرار"، كان أخًا لـ"داود". ويظهر من روايات أخرى أنه كان ابن عم له2. وإذا أخذنا برواية من زعم أن "زيادًا" هذا حارب "حجرًا أكل المرار"، فمعنى هذا أن "جفنة"، وهو مؤسس إمارة آل جفنة، أي الغساسنة، قد حكم بعد "زياد". وقد زعم "حمزة" أن ملكًا من ملوك الروم اسمه "نسطورس" هو الذي ملك جفنة على عرب الشام3. وذهب بعض أهل الأخبار إلى أن القيصر الذي عين "جفنة" على عرب الشام هو "أنسطاسيوس" "anastasius" الأول، الذي حكم من سنة "491" حتى سنة "518" للميلاد. فتكون نهاية حكم الضجاعمة وبداية حكومة "آل جفنة" في هذا العهد4. و"ضجعم" هو "zocomus" أحد "العمال" "phylarch" الذي نصبهم الروم على عرب بلاد الشأم، حرف اسمه فصار على الشكل المذكور، وقد حكم في أواخر القرن الرابع للميلاد. وقد ذكره "ثيوفلكتوس" "theophlactus" على هذه الصورة5: "zeokomos"، وذكر أنه هو وقبيلته دخلوا في النصرانية وأن الله وهبه ولدًا بفضل دعاء النساك النصارى6. وقد كان الضجاعم من القبائل العربية المعروفة عند ظهور الإسلام. وقد كانوا مثل سائر القبائل المستعربة المستنصرة ضد الإسلام. وقد وقفوا مع "دومة الجندل" في عنادهم ومقاومتهم لخالد بن الوليد، وكان رئيسهم إذ ذاك هو "ابن الحدرجان"7. لقد أشار المؤرخون اليونان والسريان إلى ملكة عربية دعوها "ماوية" "mauia" "mavia" "mawiya"، حكمت القبائل العربية الضاربة في بلاد الشأم، وهاجمت

_ 1 Die Araber, II, S. 331 2 الاشتقاق "2/ 319"، ابن الأثير "1/ 372"، ابن خلدون "2/ 278". 3 حمزة "ص77". 4 die araber, ii, s. 332 5 Sozomenus, VI, 38, Teophylactus, 2, 2, Die Araber, II, S. 330 6 غسان "ص6"، "ص8" من النص الألماني. Zosimus, 6, 38, Socrates, 4, 30, Rufinius, II, 6, Theodoretus, 40, 21 7 الطبري "3/ 378" "خبر دومة الجندل".

فلسطين و"فينيقية"، ويظهر أن هذا الهجوم كان قد حدث بعد ترك القيصر "وألنس" "valens" "364-378م" أنطاكية وذلك سنة "378م"1 وقد حاربت الروم مرارًا، وانتصرت غير مرة، ثم تصالحت معهم. وكان من جملة ما اشترطته عليهم أن يسقف على عربها راهب يدعى موسى كان يتعبد في بادية الشأم، فوافق القيصر على ذلك. وكان هذا الراهب كاثوليكيًا معارضًا لمذهب أريوس2. ويذكر المؤرخون أن غارات تلك الملكة على حدود الروم، كانت عنيفة كاسحة، أنزلت الدمار والخراب بقرى وبمدن عديدة، وألحقت خسائر فادحة بالأرواح والمال. وقد شملت تلك الغارات أرض فلسطين و"الحدود العربية" "arabici limites". وتذكر أن عربها كانوا من الـ"سارسين" "سرسين"3 "saracene". وقد وليت "ماوية" الحكم بعد وفاة زوجها، ويظهر أن نزاعًا وقع بينها وبين الروم أدى إلى توتر العلاقات بينهما، آل إلى هجوم الملكة على حدود الروم. ولما عجز الروم من الانتصار عليها، استعانوا ببعض سادات القبائل للتغلب عليها، ولما وجدوا أن القبائل لم تفعل شيئًا، اضطروا على التفاوض معها، وعلى ترضيتها على نحو ما ذكرت4. وقد قام موسى "moses" بنشاط كبير في نشر النصرانية بين العرب. وقد كان من مصلحة الروم تنصر الأعراب؛ لأن في تنصرهم تأييدًا لهم، حتى وإن خالف مذهبهم مذهب الروم5. وقد حكم قبل "ماوية" "عامل" عربي أشار إليه المؤرخ "أميانوس" "ammianus"، غير أنه لم يذكر اسمه، قال إنه "assanitarum" وإنه من "السرسين"6، "phylarchus saracenorum assanitarum"، وقد حكم

_ 1 Provincia Arabia, III, S. 286, Theophanes, 64, (Ed. De Boor) , Socrates, IV 36, Sozomenus, VI, 38 Eusebios, 2, 2, 2 المشرق، السنة العاشرة، العدد 11، حزيران، 1907، "ص524"، theodoretus, 4, 21. socrates, hist. eccl,4 , 36 3 Die Araber, II, S. 328 4 Die Araber, II, S. 328 5 Die Araber, II, S. 328 6 Ammianus, 24, 4, 2, Provincia Arabia, III, S. 286

في أيام "يوليان" جوليان" "julian" "361-363 م". ويظن البعض أن مراد المؤرخ بـ"أسانيته" "assanitae" الغساسنة، أي أن الكلمة من أصل "غسان"1. غير أن هذا الظن معناه أن حكم الملكة "ماوية"، كان في أيام الغساسنة، وأنها أزعجت الروم في وقت كان فيه "آل جفنة" على عرب بلاد الشأم. وهذا ما لا تؤيده الموارد التأريخية المتوفرة لدينا الآن. لذلك أرى أن حكم "ماوية" كان قبل تولي "الغساسنة" الحكم رسميًّا من الروم، أو أن الملكة كانت تحكم في الأقسام الجنوبية من بادية الشأم، ومنها أخذت تهاجم حدود الروم المؤلفة لكورة فلسطين، وتتوغل بها حتى بلغت "فينيقة" و"مصر"، ولم يكن حكم الغساسنة متمكنًا إذ ذاك، فاستغلت هذا الضعف، وأخذت تهاجم الحدود. وزعم المسعودي أن ملك العرب بالشأم يعود إلى أيام "فالغ بن هور" فالغ بن يغور". وقد صيره من صميم أهل اليمن. ملك ثم ترك الحكم إلى "يوتاب" سومات"، وهو "أيوب بن رزاح". ثم انتقل ملك الشأم على رأيه أيضًا إلى الروم. وكانت قضاعة من مالك بن حمير أول من نزل الشأم، وانضافوا إلى ملوك الروم، فملكوهم بعد أن دخلوا في النصرانية على من حوى الشام من الرعب. وكان النعمان بن عمرو بن مالك أول من تولى من تنوخ بالشأم. ثم ملك بعده عمرو، ثم "الحواري بن النعمان" ثم انتقل الملك إلى سليح. وانتقل الملك منهم إلى آل غسان2. وقد كانت سليح -كما يذكر الأخباريون- يجبون من نزل بساحتهم من مضر وغيرها للروم. فأقبلت غسان في جمع عظيم يريدون الشأم حتى نزلوا بهم، فقالت سليح لهم: إن أقررتم بالخرج، وإلا قاتلناكم. فأبوا عليهم، فقاتلهم سليح، فهزموا غسان. ورئيس غسان يومئذ "ثعلبة بن عمرو بن المجالد بن عمرو بن عدي بن مازن بن الأزد". فرضيت غسان بأداء الخرج إليهم. فكانوا يجبونهم لكل رأس دينارًا، ودينارًا ونصفًا، ودينارين في كل سنة على أقدارهم فلبثوا يجبونهم حتى قتل "جذع بن عمرو الغساني" جابي سليح، وهو سبيط بن المنذر بن عمرو

_ 1 Musil, Kusegr 'Amra, Wien, 1907, P. 130 2 مروج "2/ 29 وما بعدها"، "2/ 82 وما بعدها"، "طبعة دار الأندلس".

ابن عوف بن ضجعم بن حماطة. فتنادت سليح بشعارها وتنادت غسان بشعارها. فالتقوا بموضع يقال له "المحفف"، فأبارتهم غسان، وخاف ملك الروم أن يميلوا مع فارس عليه، فأرسل إلى ثعلبة، فقال: أنتم قوم لكم بأس شديد وعدد كثير، وقد قتلتم هذا الحي، وكانوا أشد حي في العرب وأكثرهم عدة وإني جاعلكم مكانهم، وكاتب بيني وبينكم كتابًا: إن دهمكم دهم من العرب أمددتكم بأربعين ألف مقاتل من الروم بأداتهم، وإن دهمنا دهم من العرب فعليكم عشرون ألف مقاتل على أن لا تدخلوا بيننا وبين فارس. فقبل ذلك ثعلبة، وكتب الكتاب بينهم. فملك ثعلبة وتوجه. وكان ملك الروم يقال له "ديقيوس"1. وقد تحدث الأخباريون وأصحاب كتب الأمثال عن هذا الحادث في معرض كلامهم عن المثل: "خذ من جذع ما أعطاك". وقد اتفقوا كلهم في اسم القائل، هو منصوص عليه في المثل، ولكنهم اختلفوا في اسم المقتول، فقال بعضهم إنه سبيط، وقال آخرون: إنه سبطة2، ويقول بعض آخر: إنه كان رجلًا من الروم3. وقد زعم بعض أهل الأخبار، إن اليوم الذي انتصر فيه الغساسنة على الضجاعمة هو "يوم حليمة" وذلك أن الحرب لما ثارت بين الضجاعمة والغساسنة للسبب الذي ذكرته، وقالوا "خذ من جذع ما أعطاك"، كان لرئيس غسان ابنة جميلة يقال لها "حليمة"، فأعطاها خلوفًا لتخلق به قومها، وانتصر الغساسنة بذلك اليوم على الغساسنة. فقالوا: "ما يوم حليمة بسر"4. ونسب ابن خلدون "سبطة" القتيل إلى المنذر بن داود5، ويظهر أنه قصد "داود اللثق". وإلى داود ينسب دير داود، وذلك يدل على أنه كان نصرانيًّا6، كما أشرت إلى ذلك قبل قليل. وعندي أن "سبطة" هو "aspehetos" "aspehbet" "aspatylatos"،

_ 1 المحبر "ص370 وما بعدها"، حمزة "ص76". 2 ابن خلدون "2/ 279". 3 اليعقوبي "1/ 167" "طبعة النجف". 4 البلدان "2/ 325 وما بعدها" "طهران 1965م". 5 ابن خلدون "2/ 279". 6 غسان "ص7"، الأصل الألماني "ص8".

الذي قيل إنه كان عاملًا "فيلارك" "phylarch" عربيًّا من عمال الفرس، فأغار على "الكورة العربية" "arabia provincia"، وذلك في أواسط القرن الخامس للميلاد، وأعلن نفسه عاملًا على الأرضين التي استولى عليها، واعترف به وبأبنائه عمالًا عليها1. وزعم المؤرخ حمزة أن أول ملك ملك من غسان هو جفنة بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث. وقد زعم أنه ملك في أيام نسطورس، وهو الذي ملكه على عرب الشأم. فلما ملك، قتل قضاعة من سليح الذين يدعون الضجاعمة، ودانت له قضاعة ومن بالشام من الروم، وبني جلق والقربة وعدة مصانع، ثم هلك. وكان ملكه خمسًا وأربعين سنة وثلاثة أشهر2. وقد ابتدأ "حسان بن ثابت" بجفنة هذا في قصيدته التي افتخر فيها بنسبة3. وبجفنة هذا سمي ملوك الغساسنة "آل جفنة"، كما سمي خصومهم "المناذرة" بـ"آل لخم". إلى هذا الرأي ذهب "الأصمعي"، حيث قال: "وجفنة أول ملك ملك من غسان، وإليه تنسب ملوك غسان التي ذكرها حسان بن ثابت الأنصاري في شعره"4. وقد نسب الأصمعي له وصية زعم أنه أوصى بها بنيه في كيفية السير بالناس، وتسيير الملك5. وعند المسعودي أن أول من ملك من بني غسان بالشأم الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن غسان بن الأزد بن الغوث، ومن بعده الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو بن عامر بن حارثة، وهو ابن مارية

_ 1 Provincia Arabia, III, S. 286, Euthymili Vita, Ed: Cotelerius, Ecclesiae Graeca Monumenta, II, P. 221 2 حمزة "ص76"، "جفنة بن علية بن عمرو بن عامر"، اليعقوبي "1/ 167" "طبعة النجف" "جفنة بن مزيقيا"، ابن خلدون "2/ 281"، شرح ديوان النابغة الذبياني، للبطليموس "ص6"، التنبيه "ص158". 3 أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل الأصمعي، تأريخ ملوك العرب الأولية، "ص102"، "محمد حسن آل ياسين" كجفنة والقمقام عمرو بن عامر ... وأولاد ماء المزن وابني محرق. البرقوقي "ص287". 4 الأصمعي، تاريخ ملوك العرب الأولية "ص102". 5 المصدر نفسه "ص101".

ذات القرطين1. أما ابن قتيبة، فذهب إلى أن أول من ملك منهم هم الحارث بن عمرو المعروف بـ"محرق". وسمي بمحرق لأنه أول من حرق العرب أو ديارها، وهو الحارث الأكبر ويكنى بأبي شمر2. وقد ذكر ابن دريد أن الحارث بن عمرو بن عامر، "وهو محرق، وهو أول من عذب بالنار"3. فأيد بذلك رواية من يرى أنه أول من عذب وحرق الناس بالنار. وذهب "محمد بن حبيب" إلى أن أول من ملك من الغساسنة بالشأم هو "ثعلبة بن عمرو بن المجالد بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد"، وذلك بعد فتك "جذع" بالضجاعمة فعهد إليه ملك الروم "ديقيوس" أمر تولي رئاسة عرب بلاد الشأم، وملكه وتوجه، فصار بذلك أول ملك من ملوك غسان4، على نحو ما ذكرته قبل قليل. و"جفنة" الذي صيره حمزة أول من ملك من غسان، هو "جفنة بن عمرو، وهو مزيقيا بن عامر ماء السماء". وقد نجل عمرو بن عامر على رواية ابن خلدون، جملة أولاد، منهم: جفنة، والحارث وهو محرق، وثعلبة وهو العنقاء "العنقاه"، وحارثة، وأبو حارثة، ومالك، وكعب، ووادعة، وعوف، وذهل، وواكل5. فيكون جفنة على هذه الرواية أخًا للحارث بن عمرو الذي عده المسعودي وابن قتيبة أول من تملك من الغساسنة في ديار الشأم. وتولى الحكم بعد جفنة على رواية حمزة ابنه عمرو بن جفنة، وكان ملكه خمس سنين. ونسب حمزة إليه بناء عدة أديرة، منها: دير حالي، ودير أيوب. ودير هند6. أما "الأصمعي" فقد أورد اسم "الحارث بن جفنة بن ثعلبة بن عمرو"، بعد اسم "جفنة". وقال عنه "وهو الحارث الأكبر" ثم ذكر له وصية وصى

_ 1 مروج "1/ 298" "طبع المطبعة البهية". 2 المعارف "ص280"، "ولد عمرو بن عامر الحارث، وهو محرق. وهو أول من عذب بالنار"، الاشتقاق "ص259". 3 الاشتقاق "ص259". 4 المحبر "ص371 وما بعدها". 5 ابن خلدون "2/ 279"، الاشتقاق "259". 6 حمزة "ص77".

بها ابنه "عمرو بن الحارث" وهو وصية نظمها شعرًا. وقد قال له فيها إن هذه الوصية هي وصية أبي لي، وبها يا عمر أوصي وفيها الملك مرسوم1. وأما "محمد بن حبيب"، الذي جعل ثعلبة أول من ملك من الغساسنة، فقد جعل الحكم للحارث بن ثعلبة من بعده، ثم لابنه جبلة بن الحارث بن ثعلبة، ثم لابنه الحارث، وهو ابن مارية ذات القرطين، ثم للنعمان بن الحارث ثم للمنذر بن الحارث ثم للمنيذر بن الحارث، ثم لجبلة بن الحارث2. وأما "ابن قتيبة"، الذي جعل "الحارث بن عمرو بن محرق" أول ملوك آل غسان، فقد وضع "الحارث بن أبي شمر" من بعده. وقال: إنه الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر، وأمه مارية ذات القرطين. وكان خير ملوكهم، وأيمنهم طائرًا، وأبعدهم مغارًا. وكان غزا "خيبر"، فسبى من أهلها، ثم أعتقهم بعد ما قدم الشأم. وكان سار إليه المنذر بن ماء السماء في مائة ألف، فوجه إليهم مائة رجل، فيهم لبيد الشاعر وهو غلام، وأظهر أنه إنما بعث بهم لمصالحته، فأحاطوا برواقه فقتلوه، وقتلوا من معه من الرواق، وركبوا خيلهم فنجا بعضهم وقتل بعض وحملت خيل الغسانيين على عسكر المنذر فهزموهم، وكانت له بنت يقال لها "حليمة" كانت تطيب أولئك الفتيان يومئذ وتلبسهم الأكفان والدروع وفيها جرى المثل: "ما يوم حليمة بسر". وكان فيمن أسر يومئذ أسارى من بني أسد، فأتاه النابغة، فسأله إطلاقهم، فأطلقهم، وأتاه علقمة بن عبدة في أسارى بن بني تميم، فأطلقهم إكرامًا لشأنه. وفي جملة من أطلق حريتهم شأس بن عبدة شقيق علقمة3. وروى "ابن قتيبة" أيضًا أن "علقمة بن عبدة" قال في "الحارث بن أبي شمر" هذه الأبيات: إلى الحارث الوهاب أعلمت ناقتي ... بكلكلها، والقصرين وجبيب وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب فقال الحارث: نعم وأذنبة4.

_ 1 الأصمعي، تاريخ "103وما بعدها". 2 المحبر "ص372". 3 المعارف "ص280"، "ص614 وما بعدها"، "طبعة ثروت عكاشة". 4 المعارف "ص280"، "ص641 وما بعدها"، "ثروت عكاشة".

وزعم "ابن قتيبة" أن الذي ولي الملك بعد "الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر"، هو ابنه "الحارث بن الحارث بن الحارث" ويسميه بالحارث الأصغر ابن الحارث الأعراج بن الحارث الأكبر. وكان له إخوة، منهم: النعمان بن الحارث، يقول، وهو الذي قال فيه النابغة: هَذا غُلامٌ حَسَنٌ وَجههُ ... مُستَقبِلُ الخَيرِ سَريعُ التَمام لِلحرثِ الأَكبَرِ وَالحرثِ الأَصغَرِ ... والحرثِ َالأَعرَجِ خَير الأَنام وله يقول النابغة أيضًا، وكان خرج غازيًا: وَإِن يَرجِعِ النُعمانُ نَفرَح وَنَبتَهِج ... وَيَأتِ مَعَدًّا مُلكُها وَرَبيعُها وَيَرجِع إِلى غَسّانَ مُلكٌ وَسُؤدُدٌ ... وَتِلكَ المُنى لَو أَنَّنا نَستَطيعُها1 وقد وهم "ابن قتيبة" في "الحارث بن أبي شمر" إذ صيره الملك الثاني، وجعله ابنًا للحارث الأكبر، في حين أنه "الحارث بن جبلة" الذي حارب المنذر بن ماء السماء، وهو صاحب يوم حليمة، ووهم في "الحارث الأصغر" أيضًا حين صيره في هذا المكان، وجعله على هذا النسب، ولابن قتيبة أوهام أخرى من هذا القبيل. وتولى بعد عمرو بن جفنة ابنه ثعلبة على رواية حمزة، وكان ملكه سبع عشرة سنة. ونسب إليه بناء عقة وصرح الغدير في أطراف حوران مما يلي البلقاء2. وقد نسب البطليوسي إليه بناء صريح السدير في أطراف حوران مما يلي البلقاء. وذكر مثل حمزة أنه حكم سبع عشرة سنة3. ثم تولى من بعده "الحارث"، وهو ابنه، وكانت مدة ملكه عشرين سنة، وذكر حمزة أنه لم يبن شيئًا. ثم ذكر من بعده "جبلة بن الحارث"، وهو ابنه، وحكم على روايته عشر سنين4. وجعل "البطليوسي" مدة حكمه عشر سنين أيضًا5.

_ 1 المعارف "ص280". 2 حمزة "ص77". 3 البطليوسي "ص6". 4 حمزة ص77". 5 البطليوسي "ص6".

وجبلة هو أول من يمكن أن نطمئن إلى وجوده من ملوك الغساسنة كل الاطمئنان وهو "جبلس" "jabalac" عند ثيوفانس. وقد ذكر عنه أنه غزا فلسطين حوالي سنة 500 للميلاد1. ولا نعرف من أمر هذا الرجل شيئًا يستحق الذكر. وقد نسب حمزة والبطليوسي إليه بناء القناطر وأدرج والقسطل. وقالا إنه حكم عشر سنين2. وذكره "ابن دريد" على هذا النحو: "ومنهم جبلة بن الحارث الملك. وهو ابن مارية التي يقال لها قرطا مارية"3. وجاء بعد "جبلة" ابنه "الحارث بن جبلة"، الذي يمكن عده أول ملك نعرف من أمره شيئًا واضحًا يذكر من ملوك آل جفنة. وهو في نظر "نولدكه" "أريتاس" "aretas" "arethas" الذي ذكره المؤرخ السرياني "ملالا" "malalas". وقد ذكر أنه كان عاملًا للروم4. ويظن أن حكمه كان من حوالى سنة "529" حتى سنة "569" للميلاد تقريبًا5. وأرى أن حكمه كان قبل سنة "529" للميلاد بقليل؛ إذ ذكر أنه حارب "المنذر" "alamundarus" في حوالي السنة "528" للميلاد6. ومعنى ذلك أنه ولي الحكم في هذه السنة، أو قبلها بقليل. وقد عرف الحارث هذا عند أهل الأخبار بـ"الحارث الأعرج" وبـ"الحارث الأكبر". وذكر حمزة والبطليوسي وآخرون أن والدة الحارث هي "مارية ذات القرطين، بنت عمرو بن جفنة"7. وذكر المسعودي ومحمد بن حبيب أنها "مارية بنت الأرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة". واستدرك "محمد بن حبيب" على ذلك بقوله: "ويقال: بل هي مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية بن ثور، من كندة"8. وهي أخت هند الهنود امرأة حجر الكندي، وقد

_ 1 غسان "ص8"، Theophanes, 218, o leary, p. 164 2 حمزة "ص77"، البطليوسي "ص6". 3 الاشتقاق "ص259". 4 غسان "ص9"، Malalas, "melalas", 2. 166 5 Provincia Arabia, II, S. 174, III, S. 285 6 Provincia Arabia, III, S. 352 7 حمزة "ص87"، البطليوسي "ص6". 8 المحبر "ص372".

ضرب المثل بحسنها، فقيل: "خذوه ولو بقرطي مارية". وقالوا: وكان في قرطيها مائتا دينار1. وذكر البطليوسي أن الحارث كان يسكن البلقاء. وبها بني "الحفير" ومصنعة بين "دعجان" وقصر أبير ومعان2، وكان حكمه على رأيه عشرين سنة3. وهو دون العدد الذي يقدره الباحثون لحكمه، حيث قدر بأربعين سنة؛ إذ حكم على تقديرهم من حوالي السنة "529" حتى السنة "569" للميلاد4. ويشك بعض الباحثين في صحة نسبة الأبنية الذكورة إلى الحارث؛ إذ يرون أنها من عمل شخص آخر. غير أنهم يرون احتمال بنائه للقصر الأبيض في "الرحبة". ولقصر الطوبة5. وجعل "ابن دريد" للحارث بن جبلة من الولد: النعمان والمنذر والمنيذر وجبلة وأبا شمر، ذكر أنهم ملوك كلهم6. وذكر الأخباريون أن الحارث بن مارية الغساني، كان قد اجتبى أخوين من بني نهد اسمهما حزن وسهل، وهما ابنا رزاح، فحسدها زهير بن جناب الكلبي وسعى بهما لدى الحارث، وأظهر له أنهما عين للمنذر ذي القرنين عليه حتى قتلهما. ثم تبين له فيما بعد بطلان قول زهير، فطرده من عنده. واسترضى الحارث والد القتيلين رزاح، وأبقاه عنده، فلم يطق زهير على ذلك صبرًا، حتى تخلص منه بمكيدة انتهت بقتل الحارث له وبرجوع زهير إلى ما كان عليه7. وهي قصة من هذه القصص التي يرويها الأخباريون تشير إلى معاصرة زهير للحارث وللمنذر الأكبر ذي القرنين، أي المنذر بن ماء السماء. وقد ذكر ملالا أن الحارث بن جبلة حاربت "المنداروس" "alamundarus" "alamoundros" أمير عرب الفرس، وانتصر عليه في شهر نيسان من سنة "528م"8، وذكر معه اسم أميرين، هما: "جنوفاس" "jnophas"،

_ 1 المحبر "ص372"، البرقوقي "ص309". 2 حمزة "ص78"، البطليوسي "ص7"، provincia arabia, ii, s. 8 3 البطليوسي "ص7"، حمزة "ص87". 4 Provincia Arabia, II, S. 174 5 Probincla Arabia, II, S. 174 6 الاشتقاق "259". 7 الأغاني "5/ 118 وما بعدها". 8 غسان "ص10" Melalas, 2, 166

و"نعمان" "naaman". ويرى "نولدكه" أن "جنوفاس" هو "جفنة" وهو اسم أحد الأمراء الجفنيين، سمي باسم جفنة مؤسس تلك الأسرة. وأما نعمان فهو أيضًا اسم أمير من أولئك الأمراء الجفنيين1. وقد تحدث الطبري عن الحرب التي وقعت بين المنذر بن النعمان ملك الحيرة، والحارث بن جبلة، إلا أنه وهم في اسمه قصيره "خالد بن جبلة" وقال عن الحرب: "وقع بين رجل من العرب كان ملكه يخطيانوس على عرب الشأم، يقال له خالد بن جبلة، وبين رجل من لخم، كان ملكه كسرى على ما بين عمان والبحرين واليمامة إلى الطائف وسائر الحجاز ومن فيها من العرب، يقال له المنذر بن النعمان نائرة، فأغار خالد بن جبلة على حيز المنذر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، وغنم أموالًا من أمواله، فشكا المنذر إلى كسرى، وسأله الكتاب إلى ملك الروم في إنصافه من خالد. فكتب كسرى إلى يخطيانوس2، إلا أنه لم يحفل بكتاباته فغزا كسرى بلاده. وتوغل فيها واضطر "يخطيانوس" عندئذ إلى عقد صلح معه، وإلى إرضائه. ويرى "نولدكه" أيضًا أن هذا الحارث هو الحارث الذي ذكر عند المؤرخ ملالا أنه أخمد ثورة السامريين الذين ثاروا في فلسطين في سنة "529"3. وقد ورد في تأريخ "بروكوبيوس" "procopius" أن المنذر ملك العرب "سركينوي" "sarakynou" الذين كانوا في مملكة الفرس، لما أكثر من الغارات على حدود إمبراطورية الروم، وعجز قواد الروم من أرباب لقب "duxe" "duce" "dux" وسادت القباب من أرباب لقب "فيلارخ" "phylarchus" المحالفين للروم عن صده والوقوف أمامه، رأى القيصر "بسطانوس" "justinianus" أن يمنح الحارث بن جبلة الذي كان يحكم عرب العربية "arabia" لقب "ملك" ليقف بوجه "المنذر" "alamoundaros". وقد ذكر أن هذا اللقب لم يمنح لأحد من قبل. ولكن المنذر لم يرعو مع ذلك من غزو الحدود الشرقية لبلاد الشأم والعبث بها مدة طويلة من الزمن4. وقد ذهب "نولدكه" إلى أن هذه الحوادث

_ 1 غسان "ص10". 2 الطبري "2/ 149 وما بعدها" "طبعة دار المعارف بمصر". 3 غسان "ص10"، O'leary, p. 164, malalas, 2 180 4 Procopius, I, XVII, 43-48, J. B. Bury, II, P. 91

كانت في سنة "529 م"1. وقد بلغ المنذر في هجومه على بلاد الشأم أسوار "أنطاكية"، ولكنه تراجع بسرعة حينما سمع بمجيء قوات كبيرة من قوات الروم، تراجع بسرعة أعجزت الروم عن اللحاق به2. ويشك نولدكه في رواية بروكوبيوس بشأن منح الحارث لقب ملك، ذلك لأن لقب ملك كان خاصًّا بقياصرة الروم، فلا يمنح لغيرهم3. ويلاحظ أن بعض كتبة اليونان أطلقوا أيضًا لقب ملك على الأمراء العرب، مثل "ماوية"، فقد لقبت بـ"ملكة". ولم يستعملوا كلمة "فيلارخوس" "phylarkos" "phylarque" "phylarcos" التي تعني العامل أو سيد قبيلة. وأما الكتبة السريان، فقد لقبوا رؤساء القبائل العربية بلقب "ملك" في بعض الأحيان على نحو ما نجده في الشعر العربي4. ولكن نولدكه يرى أن هذا الاستعمال لا يمكن أن يكون سندًا لإثبات أن الروم أطلقوا لقب ملك على الحارث أو على خلفائه رسميًّا؛ لأن الوثائق الرسمية لم تطلق هذا اللقب عليهم. والذي صح إطلاقه من الألقاب على أمراء الغساسنة، وثبت وجوده في الوثائق الرسمية، هو لقب "بطريق" "patricius"، ولقب "عامل" أو سيد قبيلة "فيلارخوس" "phylarchus" "phylarkos" "phylarcos" مقرونًا بنعت من النعوت التابعة له، أو مجردًا منه، كالذي جاء عن المنذر الذي حكم بعد الحارث بن جبلة البطريق الفائق المديح، ورئيس القبيلة "فلارخوس المنذر"، و"المنذر البطريق الفائق المديح" وما ورد عن الحارث "الحارث البطريق ورئيس القبيلة"5. ولقب "البطريق" من ألقاب الشرف الفخمة عند الروم، ولذلك فلم يكن يمنح إلا لعدد قليل من الخاصة، ولصاحبه امتيازات ومنزلة في الدولة حتى إن بعض الملوك كانوا يحبذون الحصول على هذا اللقب من القيصر6. وقد منح القيصر

_ 1 غسان "ص11". 2 j. b. Bury, i, p.81 3 غسان "ص12"، المشرق، السنة الأولى، الجزء 11، حزيران 1898 "ص485". 4 غسان "ص12". 5 غسان "ص12 وما بعدها". 6 المشرق. السنة الأولى. الجزء 11، حزيران 1898 "ص485".

"يسطنيانوس" "justinianus" "الحارث" هذا اللقب، وكذلك لقب "فيلارخ" فكان بذلك أول رجل من الغساسنة يمنح هذين اللقبين الذين انتقلا منه إلى أبنائه فيما بعد1. ويلاحظ أن نص أبرهة الذي ذكر في جملة ما ذكره أن الحارث بن جبلة أرسل رسولًا عنه إلى مدينة مأرب ليهنئه بترميمه سد مأرب، لم يدون كلمة "ملك" مع اسم الحارث، ولكن ذكر "ورسل حرثم بن جبلت"، أي: "ورسول الحارث بن جبلة"2. فلم يلقبه بلقب "ملك"، ويدل عدم إطلاق أبرهة لقب ملك على الحارث على أنه اتبع الأصول الدبلوماسية المقررة عند البيزنطيين وإن لقب ملك لم يكن لقبًا رسميًّا له مقررًا دوليًّا. وقد كان وصول رسول الحارث أو رسله في سنة "542م". ويتبين من رواية المؤرخين بروكوبيوس وملالا أن الحارث بن جبلة كان قد اشترك في المعركة التي نشبت بين الفرس والروم في 19 نيسان سنة "531م"، وانتهت باندحار الروم، وكان قائدهم "بليزاريوس"3. وذكر أن الفرس أسروا رجلًا اسمه "عمرو" "amros" وكان حائزًا على درجة "قائد"4 "dux". وقد أثار تصرف الحارث في الحرب التي نشبت في سنة "541م" بين الفرس والروم، شبك الروم في إخلاصه لهم، والحذر منه، إذ ما كان يعبر هذا الأمير نهر دجلة مع القائد بليزاريوس حتى بدا له فرجع إلى مواضعه بعد أن سلك طريقًا آخر غير الطريق الذي اتبعه معظم الجيش دون أن يقوم بعمل يذكر في هذه الحرب5. وهذا مما حمل الروم على الشك في صداقته لهم. وجعلهم يحذرون منه ويراقبون حركاته؛ خوفًا من انقلابه عليهم وإلحاقه الأذى بهم وإتفاقه سرًّا مع الفرس. وقد عاد النزاع فتجدد بين الحارث والمنذر حوالي سنة "544م"، وانتهى

_ 1 Provincia Arabia, II, S. 174 2 راجع النص الموسوم Glaser 618 3 غسان Musil, palmyrena, p. 274, procoplus, i, 8 Malalas, 2, 199 4 غسان "ص18". Malalas, 2, 202 5 غسان "ص18". Malalas, 2, 203, procopius 2, 5, 16, 18, Musil, palmyrena, 266

بسقوط ملك الحيرة قتيلًا في معركة حدثت في سنة "544م"، على مقربة من "قنسرين" بالقرب من الحيار. وهذه المعركة هي معركة يوم حليمة على رأي نولدكه1. ويظهر أن المنذر كان قد هاجم بلاد الشأم، وتوغل فيها حتى وصل إلى حدود قنسرين، فصرع هناك. حدث ذلك في السنة السابعة والعشرين من حكم "يوسطنيانوس" "justinianus" على رواية ابن العبري. وقد كان سبب اختلاف الحارث مع المنذر. تنازعهما على أرض يطلق الروم عليها اسم "strata" جنوب تدمر، تمر بها الطرق البرية الموصلة إلى بلاد الشأم وهي من الطرق العسكرية المهمة ومرعى مهم للأعراب، يرعى فيها أعراب العراق وأعراب بلاد الشأم. وقد ألف "جستنيان" لجنة تحكيم، لم تتمكن من فض النزاع. وقد اتهم الفرس أعداءهم الروم بأنهم يريدون الاتصال سرًّا بالمنذر ورشوته لتحريضه على القيام على الفرس2. وقد ذكر ابن العبري في أثناء كلامه على هذه الحرب أن "برحيرت"، "bar-herath" أي "ابن الحارث" سقط قتيلًا في الحرب3. وكان قد ذكر قبل كلمات أن المنذر بن النعمان، لما هاجم منظمة "rhomaye" وتوغل فيها، نازله "الحارث بن جبلة" "herath bar geblala" بهجوم مقابل، فهزمه وقتله في قنسرين. ثم ذكر أن ابن الحارث سقط قتيلًا في هذا الموضع. ويعرف هذا الولد باسم جبلة4. ونجد في شعر "حسان بن ثابت" إشارة إلى "زمين حليمة" أي زمن حليمة5. كما نجد في الأمثال "ما يوم حليمة بسر6"، دلالة على شهرة ذلك اليوم. وكان الحارث من أنصار "المنوفستيين" "monophysites"، أي القائلين بوجود طبيعة واحدة في المسيح، ويقال إنه سعى لدى الإمبراطورة "ثيودورة"

_ 1 غسان "ص20". 2 J. B. Bury, II, P. 92 3 Bar Hebraeus, Vol, I, P. 76 4 Michael the Syrian, Chronicle, (ED: Chabot) , Vol, 4, PP. 323, Musil, Palmyrena, P. 144 5 البرقوقي "ص146". 6 كذلك "ص146".

في تعيين "يعقوب البرادعي" ورفيقه "ثيودورس"، أسقفين للمقاطعات السورية العربية. فنجح في مسعاه هذا في سنة "542-543م"، وبذلك وطد هذا المذهب في بلاده1. ونسب المؤرخ السرياني "ميخائيل الكبير" إلى الحارث محاورة جربت بينه وبين البطريق "إفرام" "526-545م" في السريانية أو اليونانية في طبيعة المسيح وفي مذهبه القائل بوجود طبيعة واحدة فيه. وهو مذهب "يعقوب البرادعي" المتوفى سنة "578م". وقد صيغت الحكاية بأسلوب يفهم منه أنه تغلب بأدب ولطف على خصمه البطريق2. ولمعارضة مذهب اليعاقبة أتباع يعقوب البرادعي لمذهب الكنيسة الرسمي للإمبراطورية عد الروم هذا المذهب من المذاهب المنشقة المعارضة فقاوموه وناضلوا أصحابه ولا سيما في أيام القيصر يوسطنيانوس، باعتباره مذهبًا من المذاهب المناهضة لسياسة الملوك والدولة، كمعارضة الأحزاب السياسية في الزمن الحاضر3. إلا أن الحارث سعى جهد إمكانه في تخفيف حدة غضب الحكومة على رجال هذا المذهب، ومن التقريب ما أمكن بين آراء رجال الكنيستين. ولجهود الحارث ومسعاه في حماية هذا المذهب فضل كبير ولا شك في بقائه، وفي انتشاره بين السريان وعرب الشأم4. وقد زار الحارث القسطنطينية في تشرين الثاني في سنة "563م"، فاستقبل استقبالًا حافلًا. وأثر أثرًا عميقًا في نفوس أهل العاصمة وفي رجال القصر والحاشية، ويقال إن رجال البلاط كانوا يخوفون القيصر "يوسطينوس" "justinius" بعد خرفه بالحارث، فكان يهدأ ويسكت روعه حين سماعه اسمه5. والظاهر أن الغاية التي من أجلها ذهب الحارث إلى القسطنطينية هي مفاوضة رجال الحكم فيمن سيخلفه على عرشه بعد وفاته من أولاده، وفي السياسة التي يجب سلوكها تجاه عمرو

_ 1 Francois Nay, Les Arabes Chrestiens, PP. 52 2 المشرق، المجلد 34 "السنة 1936"، الجزء الأول "ص61 وما بعدها". 3 E. Gibbon, Der Sieg, S. 66 4 المشرق. السنة الأولى، الجزء 11، حزيران 1898، "ص486". 5 غسان "ص20". J. of Ephesus Eccl, 3, 2, O'leary, P. 165, Huart, I, 60, Les Arabes Chrestiens, PP. 58, Michel the syrer, Chronique, I, II, P. 314

ملك الحيرة1. وإلى هذا الحارث قصد امرؤ القيس الكندي الشاعر، ليوصله إلى القيصر ليشكو له ظلامته، ويطلب منه مساعدته في استرجاع حقه وأخذه بالثأر حسب رواية الأخباريين، وإليه تنسب أيضًا قصة مطالبة السموءل بن عاديا بإعادة دروع امرئ القيس التي أودعها لديه في القصة الشهيرة التي يحكيها الأخباريون في معرض كلامهم على امرئ القيس وقصة السموءل والوفاء. وهناك جماعة من الأخباريين ترى أن الحارث الذي طالب بتسليم دروع امرئ القيس إليه هو شخص آخر اسمه الحارث بن ظالم2. ولكنها لم تذكر الصلة التي كانت بين الحارث بن ظالم وامرئ القيس، وحملته على المطالبة بتلك الدروع. وقد ذكر "الجمحي" أن "الحارث بن أبي شمر الغساني" هو الذي طلب إلى "السموءل بن عادياء" أن يدفع إليه سلاح "امرئ القيس" الذي استودعه عنده، فأبى السموءل أن يسلمه إليه3. وقد ذكر "أبو زبيد الطائي" أنه زاره ونعته بأنه "الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام". وقد كان "أبو زبيد" هذا "من زوار الملوك، ولملوك العجم خاصة. وكان عالمًا بسيرها"4. وقد تعرض "ابن قتيبة" لموضوع "امرئ القيس"، فقال: "وكان امرؤ القيس في زمان أنو شروان ملك العجم؛ لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأكبر، والحارث هو قاتل المنذر بن امرئ القيس الذي نصبه أنو شروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنو شروان وبين مولد النبي، صلى الله عليه وسلم، أربعين سنة"5. وذكر أيضًا أن "الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الحارث الأكبر، لما بلغه ما خلف امرؤ القيس عند السموءل، بعث إليه رجلًا من أهل بيته يقال له "الحارث بن مالك" وأمره أن يأخذ منه سلاح امرئ القيس وودائعه فلما انتهى إلى حصن السموءل أغلقه دونه، وكان للسموءل ابن خارج الحصن يتصيد فأخذه

_ 1 غسان "ص20". 2 الأغاني "6/ 331 وما بعدها". 3 طبقات الشعراء "ص70". 4 طبقات الشعراء "ص132". 5 الشعر والشعراء "ص50".

الحارث، وقال للسموءل: إن أنت دفعت إلي السلاح وإلا قتلته، فأبى أن يدفع إليه ذلك، وقال له: اقتل أسيرك، فإني لا أدفع إليك شيئًا، فقتله، وضربت العرب المثل بالسموءل في الوفاء"1. وذكر الأخباريون أن الحارث الأعرج -وهو في روايتهم هذه الحارث بن أبي شمر الغساني- غزا قبيلة تغلب، وكان السبب الذي حمله على هذا الغزو مروره بجماعات منها لم تهتم به كما كان يجب أن يكون. وقد نصحه الشاعر "عمرو بن كلثوم" -على حد قولهم- بعدم غزوهم، واعتذر عنهم إليه. ولكنه لم يأخذ بنصيحته، فلما تقابل معهم، انهزم مع قومه من غسان، وقُتل منهم عدد كثير كان في جملتهم أحد إخوة الحارث2. ويظن بعض الباحثين أن الحارث هو الذي أمر ببناء كنيسة الرصافة الكبرى لا الملك يوسنيانوس، ذلك لأن المؤرخ "بروكوبيوس" لم يشر في أثناء كلامه على هذا القيصر إلى أي أثر له في هذه المدينة، على حين أشار إلى تسوير الحارث لها وإلى احترامه العظيم للقديس "سرجيوس" المدفون بها، وهو قديس له منزلة كبرى في نفوس نصارى عرب الشأم3. وينسب إلى الحارث إصلاح ذات البين فيما بين قبائل طيء، وكانت متخاصمة متحاربة، فلما هلك عادت إلى حربها، ووقع بينها يوم اليحاميم حيث دارت الدائرة فيه على جدلية من طيء، ويعرف أيضًا بقارات حوق4. ومن الأمراء العرب الذين عاصروا الحارث بن جبلة، أمير اسمه "أبو كرب بن جبلة"، لعله شقيق الحارث، وقد ورد اسمه في نص "أبرهة"، حيث كان "أبو كرب" قد أرسل إليه رسولًا لتهنئته بترميمه سد مأرب. والأمير "قيس" "kaisus" وكان عاملًا على "فلسطين الثالثة" في حوالى سنة 530م. والأسود، ويظهر أنه كان قد تحارب مع الحارث5.

_ 1 الشعر والشعراء "ص46"، "طبعة ليدن". 2 ابن الأثير "1/ 222". 3 Rusafah, P. 12, Hertzfeld, I, S. 167 4 أيام العرب "60". 5 غسان "ص17 ملحوظة 48".

وعثر في إحدى الكتابات في حران على اسم أمير يدعى "شرحيل بن ظالم" يرى نولدكه أنه أمير كندي؛ لأن هذين الاسمين من الأسماء الشائعة في كندة ويرجع تأريخ هذه الكتابة المدونة باليونانية والعربية إلى حوالي سنة "568م". وقد دونت عند تدشين هذا العامل بناء إقامة للقديس يوحنا المعمدان، فيكون "شراحيل" شرحيل إذن من المعاصرين للحارث بن جبلة1. ويستنتج نولدكه من ذلك أن عددًا من المشايخ ظلوا يتمتعون بسلطانهم حتى بعد تألق نجم آل غسان. ويرى أن ذلك مما يوافق سياسة الروم الذين لم يكن من مصلحتهم ظهور أمير واحد قوي وإنما كان من مصلحتهم وجود جملة أمراء متنافسين؛ ليتمكنوا بذلك من السيطرة عليهم جميعًا بضرب بعضهم ببعض2. وقد دعي الأمير المذكور بـ"asaraelus" ودعي أبوه بـ"talemus" وكان يحكم "اللجاة" فيظهر من ذلك أن إمارات كانت تنافس إمارة الغساسنة في هذا العهد3. وقد توفي الحارث في سنة "569م" أو "570م" على رأي نولدكه، استنتج ذلك من ورود اسمه في الوثائق الكنسية التي يعود تأريخها إلى سنتي "568 و569"، وإلى ربيع سنة "570م" حيث حل اسم ابنه المنذر في محله، فاستدل من هذا التغيير على أنه توفي في هذا الزمن4. وقد حكم "المنذر" من سنة "569-570م" حتى سنة "581م"، على تقدير بعض الباحثين5. وقد عرف المنذر بـ"alamoundaros" "alamundaros" عند اليونان والسريان وقد استهل حكمه بالحرب مع ملك الحيرة قابوس. والظاهر أن عرب الحيرة كانوا هم البادئين بها، فانتصر عليهم في يوم 20 أيار "مايس" من سنة 570م6.

_ 1 غسان "ص17". Waddington, Inscriptions Grecques, 3, P. 563, ZDMG, 38, 53 2 غسان "ص16"، النص الألماني "ص16". 3 Provincia Arabia, III, S. 268, Waddington 2464, Noldeke, S. 13, Anm: 2 4 غسان "ص25". 5 Die araber, i, s. 10 6 غسان "ص25". Land: i, 13

ثم انتصر عليهم في معركة أخرى فيما بعد1. ويرى نولدكه أن المعركة الأولى هي عين أباغ2. والمنذر هو أبو كرب الذي ذكر اسمه في نص سرياني عثر عليه في إحدى ضواحي تدمر، وهو نص ديني ورد فيه اسم الأسقفين يعقوب وثيودور، وهما: يعقوب البرادعي وصاحبه3. لقد حث سوء تفاهم بين القيصر "يسطينوس" "justinus" وبين المنذر تطور حتى صار قطيعة. ولما أحس المنذر بأن القصر قد دبر له مؤامرة، وأنه أمر عامله البطريق "مرقيانوس" "marcianus" بأن يحتال عليه ليقتله، تمرد على الروم، وغادر أرضهم إلى البادية، فانتهز عرب الحيرة هذه الفرصة المؤاتية فأمعنوا في غزو بلاد الشام، وإيقاع الرعب في نفوس سكان القرى المجاورة لهذه الحدود مما حمل الروم على مراسلة المنذر والتودد إليه لاسترضائه، حتى إذا ما تلطف الجو أرسلوا إليه البطريق "يوسطنيانوس" ليجتمع به في مدينة الرصافة عند قبر القديس "سرجيوس" لإقناعه بترك موقفه والموافقة على العودة إلى محله. وعند القبر المقدس عقد الصلح بينهما في صيف سنة "578 م". فعاد المنذر إلى أرضه، ليقوم بالدفاع عن حدود الشأم4. وقد أشار ابن العبري إلى هذا الحادث، فذكر أن العرب "طياية" كانوا منقسمين إلى جماعتين: جماعة المنذر بن الحارث "منذر برحيرت" "mundar bar herath"، وكان نصرانيًّا وكذلك كان جنوده وجماعة قابوس، فهاجم قابوس وجنوده العرب النصارى، وقصد بذلك الغساسنة، واستاق ما وجده أمامه من ماشية، ثم قفل إلى بلاده. فلما رأى المنذر ما حدث، جمع جيشًا هجم به على قابوس، فتغلب عليه، ورجع بغنائم عديدة وعدد كبير من الإبل. وعاد قابوس فهاجم المنذر. غير أنه مُني بهزيمة ثانية اضطرته إلى طلب النجدة من الفرس. فأخبر القيصر يسطينوس بذلك، وطلب منه إمداده بالمال ليؤلف به جيشًا يقف أمام الفرس، فاستاء القيصر منه، وقرر التخلص منه بقتله، لظنه

_ 1 J. of Ephesus, 6, 3 2 غسان "ص27 وما بعدها"، provincia arabia, iii, s. 355 3 غسان "ص27" provincia arabia, ii, s.174 4 غسان "ص26" j. Of ephesus, 6, 3-46, provincia arabia, ii, s. 174

أنه كان السبب في غزو الفرس لـ"rhomaye" وكتب إلى عامله مرقيانوس وكان معسكرًا يومئذ في منطقة "نصيبين" "nisibis" أن يتربص بالمنذر فيقبض عليه، ويقطع رأسه، وقد أخطأ كاتب الرسالة، فأرسل الرسالة الخاصة بالبطريق مرقيانوس إلى المنذر، وأرسل الرسالة الخاصة بالمنذر إلى البطريق، فلما قرأ المنذر الكتاب وعرف بما أراد القيصر أن يفعله به، غضب غضبًا شديدًا، وتصالح مع قابوس، وصارا يهاجمان بلاد الشأم. فظن يسطينوس أن مرقيانوس قد خانه، وأنه أخبر المنذر بالمؤامرة، فأمر بالقبض عليه، وحبسه ولما صار "طيباريوس" "tiberius" قيصرَ. ذهب المنذر إلى القسطنطينية، فلامه القيصر على ما صنع، ولكنه قدره واحترمه كثيرًا حينما أراه رسالة يسطينوس التي أراد توجيهها إلى عامله لاغتيال المنذر، وأنعم عليه بهدايا كثيرة، وألطاف سنية، ثم عاد مكرمًا إلى مركزه السابق1. لقد قام المنذر بالزيارة المذكورة للقسطنطينية في اليوم الثامن من شباط سنة 580م مصطحبًا معه ابنين من أبنائه. فلما بلغها، استقبل بكل احترام وتبجيل، وأنعم القيصر "طيباريوس" "tiberius" عليه بلقب "rex" وبالتاج وهو لقب كان له شأن كبير في إمبراطورية الروم، ويرى نولدكه أن الروم لم يمنحوا عمالهم العرب على بلاد الشأم من قبل إلا "الإكليل"، ودرجته دون درجة "التاج"2. وقد أغدق القيصر عليه بالهدايا الثمينة النفيسة ومن بينها مصوغات من ذهب وفضة، مما لم ينعم به على أي ملك عربي من قبل. كما أنعم على ولديه بدرجات عسكرية3. وكان المنذر مثل والده من القائلين بمذهب "الطبيعة الواحدة" والمدافعين عنه، ولذلك انتهز فرصة وجوده في القسطنطينية، فسعى في إقناع رجال القصر بالتسامح مع رجال مذهبه والصفح عنهم. ويظهر أنه عقد هناك مجمعًا في اليوم الثاني من شهر آذار سنة "580م" لمعاضدة هذا المذهب والدفاع عنه، كما اتصل بالبطاركة للتوفيق بين رجال الكنيستين، غير أنه خابت مساعيه بالرغم من إظهار البطاركة رغبتهم في ذلك وعدم ممانعتهم فيه4.

_ 1 Bar Hebraeus, Vol, I, P. 80, 82 2 غسان "ص26". j. Of ephesus, 4, 39 , 42, p. 265, 271 3 J. of Ephesus, 4, 39, P. 265, 4, 43, P. 271, Prvincia Arabia, II, P. 174, Die Araber, I, S. 10 4 غسان "ص27"، المشرق، السنة 34 ج1 "ص64"، السنة 1936. J. of Ephesus, 4, 40, Les Arabes Chrestiens, P. 63, Die Araber, I, S. 10

وقد ذكر أن المنذر بنى صهاريج لإيصال الماء إلى الرصافة مدينة القديس "سرجيوس" ذي المكانة العظيمة عند عرب الشأم. وظهر من كتابة عثر عليها في أنقاض كنيسة في الرصافة أن المنذر بنى أو جدد بناء تلك الكنيسة. وأما بناؤها فهو على الطراز البيزنطي1. ولم تمنع قدسية مدينة الرصافة الأعراب، ولا سيما أعراب العراق من التحرش بها، فغزتها مرارًا، وأخذت قبيلة تغلب صورة القديس بعد عودتها من غزو المدينة2، وهدم أهل الحيرة صهاريج المدينة مرارًا، ولحمايتها من الهجمات أحاطها القيصر "يوسطنيانوس" بسور قوي، بدلًا من سورها القديم3. وذكر أن المنذر لما كان في القسطنطينية طلب من البيزنطيين مساعدته في بناء قصر يكون أعظم قصر غساني بُني حتى أيامه، وذلك بأن يرسلوا إليه أحسن المعماريين والبنائين الحاذقين. فلبى البيزنطيون طلبه فأمدوه بما يحتاج إليه من معماريين ومن مواد بناء. ومن أبنيته الخربة المعروفة اليوم بناء يعرف باسم "البرج" وقد عثر على اسمه مدونًا على حجارة من ذلك البناء4. ولما حاول الروم غزو حدود الفرس في سنة "580م"، وجدوا الجسر المنصوب على نهر الفرات مهدمًا، فاضطروا إلى التراجع وترك الغزو. وكان المنذر معهم في هذه الحملة، فذهبوا إلى أن المنذر كان على اتفاق سري مع الفرس، وأنه هو الذي أوعز بهدم الجسر، ليكتب للحملة الإخفاق، وقرروا القبض عليه والإيقاع به؛ انتقامًا منه للخيبة التي منوا بها. ولما عاد المنذر فغزا أرض الحيرة بنفسه فيما بعد ملحقًا بالمدينة أذًى كثيرًا، جاعلًا إياها طعمة للنيران، اتخذ الروم هذه الغزوة دليلًا على تحدي المنذر لهم، ورغبته في الخروج على طاعتهم، فقرروا الانتقام منه بقتله، فأصدروا إلى حاكم بلاد الشأم "ماكنوس" "magnus" صديق

_ 1 Kirchengeschichte, V, S. 315, H. Gelzer in Byzantinischer Zeitschrift, I, 1892, S. 245. Les Arabes Chrestiens, P. 69, Musil, Palmyrena, PP. 165, 264, 323 2 ديوان الأخطل "ص309"، "طبعة الصالحاني". Musii, palmyrena, pp. 263, 267 3 Musil, Palmyrena, P. 264, Rusafah, P. 12 4 Wetzstein, NO:173, Waddington 2562C, Provincia Arabia III, S. 200

المنذر أمرًا سريًّا بالعمل على قتله، وصادف أن الروم كانوا قد انتهوا من بناء كنيسة في "حوارين"، وقد عزم "ماكنوس" على تدشينها، فكتب يدعو صديقه إلى الاحتفال بذلك، فلما كان على مقربة منه، قبض عليه وأرسله محفورًا إلى العاصمة حيث أجبر على الإقامة فيها مع إحدى نسائه وبعض أولاده وبناته، وذلك في أيام القيصر طباريوس وفي ابتداء السنة "582" للميلاد. ولما انتقل العرش إلى موريقيوس، وكان يكرهه ويعاديه، أمر بنفيهما إلى صقلية وبقطع المعونة التي كان الروم يدفعونها إلى الغساسنة في كل عام1. وقد لقب حمزة المنذر بلقب الأكبر، وجعل مدة حكمه ثلاث سنين، ونسب إليه بناء "حربا" وموضع "زرقا" على مقربة من الغدير2. وقد أخطأ "حمزة" في مدة حكم المنذر، إذ هي تزيد على تلك المدة، فقد حكم على رأي الباحثين من سنة "569" حتى سنة "582" للميلاد3. أثار عمل الروم هذا ثائرة أبناء المنذر، فتركوا ديارهم، وتحصنوا بالبادية وأخذوا يهاجمون منها حدود الروم ملحقين بها أذًى شديدًا، فاضطر القيصر على أثره أن يوعز إلى القائد "ماكنوس" بتجهيز حملة من أبناء المنذر ألحق بها أحد إخوة المنذر. وكان قد أعد ليتولى مقام أخيه، غير أنه توفي بعد أيام. ولما كان من الصعب على الروم مهاجمة أبناء المنذر في البادية، عمد القائد إلى المكيدة فأرسل إلى النعمان كبير أبناء المنذر أنه يريد مقابلته للاتفاق معه على وضع شروط للصلح، وقد ظن الأمير أن القائد صادق فيما دعا إليه فذهب لمقابلته، فقبض الروم عليه، وأرسلوه مخفورًا إلى العاصمة حيث حجروا فيها عليه4. وكان موضع "حوارين" في جملة المواضع التي هاجمها النعمان بعد ارتحال "ماكنوس" عنها، وقد استولت عساكره عليها، وقتلوا بعض أهلها، وأسروا قسمًا من الباقين، ثم عادوا بغنائم كثيرة إلى البادية للاحتماء بها من هجمات الروم5.

_ 1 غسان "ص30 وما بعدها". Evagrius, 6, 2, Bar Gebraeus, Vol, I, P. 82, J. J. of Ephesus, Eccl. His, III, PP. 40, 42, 54, Provincia Arabia, II, P. 175 2 حمزة "ص78"، البطليوسي "ص7". 3 Provincia Arabia, II, S. 174 4 غسان "ص22 وما بعدها" Evagrius, 6-2 5 Musil, Palmyrena, P. 38

وذكر ابن العبري أن النعمان لما بلغته رسالة القائد ماكنوس لم يذهب إليه، وإنما أرسل إليه بعض الشبان وأمره أن يتظاهر له بأنه هو النعمان. فلما وصل الشاب إلى القائد، سأله: أأنت النعمان؟ فقال له: نعم، جئتك بحسب أمرك، فقال القائد لمن معه: أقبضوا على عدو الملك، وقيدوه بالحديد. ولما تبين للقائد أنه لم يكن النعمان، هَمَّ بقتله، ثم أمر بإخراجه، فعاد إلى أهله. وتوفي ماكنوس بعد ذلك بأمر قصير1. ويدعي ابن العبري أن النعمان ذهب بعد ذلك إلى "موريقيوس" "mauricius" واعتذر إليه وبين له أنه إنما حارب مع الفرس ليتمكن بذلك من إنقاذ والده من الأسر. ولما طلب منه "موريقيوس" أن يدخل في المذهب الخلقيدوني، أجابه أن جميع القبائل العربية "طياية" هي على المذهب الحنيف "الأرثدوكس" "orthodox"، وأنه إذا بدل مذهبه لا يأمن على نفسه من القتل، ولما قفل راجعًا، قبض عليه ونفي2. لقد تصدع بناء الغساسنة وتفكك، وانقسم الأمراء على أنفسهم، وذلك حوالي سنة "583" أو "584م" على تقدير نولدكه. ويشير ميخائيل السوري وابن العبري إلى أنهم انقسموا بعد القبض على النعمان إلى خمس عشرة فرقة تركت بعضها ديارها فهاجرت إلى العراق وتشتت الباقون، ولم يبق لهم شأن يذكر. ولم يشر الكتبة السريان أو البيزنطيون إلى ملك الغساسنة بعد هذا الحادث3، وهو أمر يؤسف له غاية الأسف. إذ حرمنا بذلك من الحصول على وثائق مهمة تساعدنا في معرفة تأريخ عرب الشام. وقد عقب هذا التصدع حدوث اضطراب في الأمن وفوضى بين القبائل التي أخذت تتنافس بينها للحصول على الرئاسة والسيادة، ولخطورة مثل هذه الأحوال بالنسبة إلى الروم وسلامة الحدود، كان هذا مما حمل البيزنطيين على التفكير في اختيار رئيس قوي من سادات القبائل المتنافسين ليقوم بضبط هذه القبائل وإعادة الأمن إلى نصابه وحماية الحدود من هجمات عرب الحيرة4.

_ 1 Bar Gebraeus, Vol, I, P. 82 2 Bar Gebraeus, I, P. 82 3 غسان "ص33، 35". 4 Noldeke, S. 31, Ency, II, P. 143

ولم يشر الأخباريون إلى هذا الحادث، ويظهر أنهم لم يعرفوه، وقد ذكر حمزة أن الذي حكم بعد المنذر هو شقيقه النعمان. وقد جعل مدة حكمه خمس عشرة سنة وستة أشهر1. وزاد في رَبْك وضع الغساسنة وفي انقسامهم على أنفسهم، غزو الفرس لبلاد الشأم سنة "613-614م"، فقد اكتسح الفرس كل بلاد الشأم، وصار عرب الشأم أمام حكام جدد، لم يألفوا حكمهم من قبل، ولكن ألفوهم دائمًا في جانب عرب الحيرة أعداء الغساسنة ومنافسيهم. وقد تمكن الغساسنة من رؤية وجوه البيزنطيين مرة أخرى وذلك في حوالي سنة "629م"، فقد تمكن البيزنطيون من طرد الفرس من الأرضين التي استولوا عليها ومن إجلائهم نهائيًّا عنها، وإعادة فرض حكمهم عليها، غير أن الأقدار أبت أن تبقيهم هذه المرة مدة طويلة في بلاد الشأم، فأكرهتهم على فتح أبوابها للإسلام، فتساقطت مدنها في أيدي المسلمين تساقط ورق الشجر في أيام الخريف. وصارت دمشق درة بلاد الشأم من أهم حواضر الإسلام. أما ملك الغساسنة، فقد ولى، ولم يبقى للغسانيين حكم في هذه البلاد منذ هذا الزمن. وقد خمد اسم رؤساء غسان في الموارد اليونانية والسريانية منذ قبض على النعمان، فعدنا لا نجد في تلك الموارد شيئًا يذكر عنهم، وفي سكوت هذه الموارد عن إيراد أخبارهم، دليل على زوال شوكتهم وهيبتهم وعدم اهتمام الروم بأمرهم، حيث ضعف أمرهم بسبب تفرق كلمتهم وتنازعهم بينهم. أما الموارد الإسلامية، فإنها بقيت تذكر أسماء رجال منهم زعمت أنهم ملكوا وحكموا، بل زعمت أن بعضهم حكموا دمشق، وبقيت تذكر أسماءهم إلى أيام الفتح الإسلامي، ومن هذه الموارد تأريخ حمزة الأصفهاني، الذي استمر يذكر أسماء من ملك من آل غسان حتى انتهى بآخرهم وهو جبلة بن الأيهم. وفي هذه الأسماء تكرار وزيادات، لذلك زاد عدد من ذكرهم من ملوك غسان على عدد ما ورد عند سواه من المؤرخين. وأنا لا أستطيع أن أوافق حمزة على العدد المذكور، وأخالفه في مدد حكمهم.

_ 1 حمزة "ص78"، البطليوسي "ص7".

وفي ترتيبهم على النحو المدون في تأريخه. فالذين ذكرهم على أنهم ملوك لم يكن مجال حكمهم كبيرًا واسعًا، وهم لم يكونوا في الواقع إلا سادات بيوت أو سادات عشائر منشقة، تمسكت باللقب القديم الموروث: لقب ملك. وقد كان بعضهم يعاصر بعضًا، ويدعي الرئاسة لنفسه، وذلك بسبب تخاصمهم، ولهذا كثرت أسماؤهم في قائمة حمزة. وقد انحسر مد حكمهم وانكمش فاقتصر على البوادي، ولا يتعارض ذلك بالطبع مع ورود أخبار بسكناهم في قصورهم عند أطراف المدن ومشارف القرى، فإن سادات القبائل في هذا اليوم أيضًا يحكمون القبائل ويعيشون في قصور في المدن، وهم لا يحكمون المدن بالطبع. والذي يظهر من روايات أخرى من روايات أهل الأخبار من غير حمزة أن أبين رجل من غسان ظهر بعد النعمان، هو "الحارث" المعروف بـ"الأصغر" ثم "عمرو بن الحارث"، وهو الذي مدحه "النابغة" ثم "النعمان بن الحارث" وهو شقيق "عمرو" وقد مات مقتولًا كما يظهر ذلك من شعر للنابغة الذبياني، ثم "شرحبيل بن عمرو الغساني"، و"جبلة بن الأيهم". ولما كنا قد سرنا على قائمة حمزة في ترتيب الملوك، فإننا نجاريه في ترتيبه لهم فنذكر أسماء من حكم الغساسنة بعد النعمان على وفق هذه القائمة، فنقول: حكم بعد النعمان على رواية حمزة وآخرين "المنذر بن الحارث" أي شقيق المنذر والنعمان، وجعل حمزة مدة حكمه ثلاث عشرة سنة، ولقبه بلقب "الأصغر" وكناه بـ"أبي شمر"1. وتولى بعده على رواية حمزة أخوه جبلة، وجعل منزله بـ"حارب" ونسب إليه بناء "قصر حارب" و"محارب" و"صنيعة"، وكانت مدة حكمه على رأيه أربعًا وثلاثين سنة 2. وحكم بعد جبلة على رواية حمزة أخوه الأيهم. وقد حكم على رأيه ثلاث سنين ونسب إليه بناء "دير ضخم" و"دير النبوة" و"دير سعف"3. ثم انتقل الحكم على رواية حمزة أيضًا إلى عمرو، وهو أيضًا على رأيه أحد

_ 1 حمزة "ص78"، المحبر "ص372". 2 حمزة "ص78"، البطليوسي "ص7". 3 حمزة "ص87".

أبناء الحارث بن جبلة، وقد حكم ستًّا وعشرين سنة وشهرين، وذكر أنه نزل السدير، وبنى قصر "الفضا" "قصر الفضة" و"صفاة العجلات" و"قصر منار"1. وعمرو هذا هو الذي مدحه النابغة الذبياني، وقد كان متكبرًا دميمًا قبيح السيرة أنشأ في دمشق وضواحيها -على حد قول أهل الأخبار- عند قصور شامخات، منها: قصر الفضة، وقصر "صفات العجلات"، وقصر منار. وقد صور في بعض هذه القصور مجالسه وجلساءه ورؤساء دولته، وأشكال صورته. ثم اتعظ وتغير على أثر شعر قاله له عمرو بن الصعق العدواني، وكان قد أسر الأمير أخته، وحسنت سيرته ومات بعد أن حكم ستًّا وعشرين سنة2. ويقول أهل الأخبار إن من قديم الشعر الذي قاله النابغة في مدح عمرو بن الحارث، قصيدته البائية التي يقول في جملة ما يقول فيها: عَلَيَّ لِعَمروٍ نِعمَةٌ بَعدَ نِعمَةٍ ... لِوالِدِهِ لَيسَت بِذاتِ عَقارِبِ وقد أوغل فيها في مدح الغساسنة وفي ذكر ملوكهم، وهي من عيون شعره. وقد قال هذا الشعر حينما اختلف مع النعمان بن المنذر في موضوع الشعر الذي وصف به زوجة النعمان "المتجردة"، وصفًا استغله أعداؤه، فوشوا به إلى النعمان، فهرب منه، وانحاز إلى خصومه آل غسان. ولجأ إلى زعيمهم في تلك الأيام، وهو "عمرو بن الحارث"3. وللنابغة أشعار أخرى في مدح "عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني" في جملتها أبيات يعتذر النابغة فيها إليه من وشاية أثارت حنق عمرو عليه، فنظمها في استرضائه، وقد ذكر فيها أنه أكرامه وحباه بمائة من الإبل، وأنه يريش قومًا ويبري آخرين، وأنه يجزي الناس على أفعالهم4. ونجد في قصيدة للنابغة مطلعها: أَهاجَكَ مِن أَسماءَ رَسمُ المَنازِلِ ... بِرَوضَةِ نُعمِيٍّ فَذاتِ الأَجاوِلِ

_ 1 حمزة "ص87". 2 البطليوسي "ص7". 3 ديوان النابغة الذبياني "ص9 وما بعدها"، "بيروت 1929". 4 ديوان النابغة "ص46" "بيروت 1929".

خبر غزو قام به "عمرو بن الحارث" لبني مرة، وقد أوجعهم فيها على ما يظهر من هذه القصيدة1. هؤلاء الستة الذين ذكرهم حمزة بعد الحارث بن جبلة، هم أبناؤه إذن، وقد حكموا على زعمه بالتعاقب دون فترة. ثم نقل الحكم من عمرو إلى رجل دعاه جفنة الأصغر، وهو على رأيه ابن المنذر بن الحارث. ولم يذكر أي منذر قصد. وذكر أنه كان سيارة جوابًا. ثم هلك، وكان ملكه ثلاثين سنة2. وحكم بعد جفنة الأصغر على رواية حمزة النعمان الأصغر بن المنذر الأكبر. حكم سنة واحدة. ولم ينسب إليه بناء ما3. ثم انتقل الحكم على زعم حمزة إلى النعمان بن عمرو بن المنذر ولم يكن أبوه عمرو على رأي حمزة ملكًا، وإنما كان عازيًا يغزو بها بالجيوش، وكان ملكه سبعًا وعشرين سنة، ونسب إليه بناء "السويدا" و"قصر حارب"4. وذكر حمزة أن "عمرو" المذكور، أي والد النعمان على زعمه، هو الذي مدحه النابغة بقوله: عَلَيَّ لِعَمروٍ نِعمَةٌ بَعدَ نِعمَةٍ ... لِوالِدِهِ لَيسَت بِذاتِ عَقارِبِ وذكر أنه، أي النابغة "ذكر أباه المنذر بقوله"5: وقصر بصيداء التي عند حارب وقد أخطأ حمزة في ذهابه إلى أن الشخص الممدوح هو "النعمان بن عمرو"، فإن رواة هذا الشعر يذكرون إن الملك الممدوح الذي قصده النابغة بمديحه، هو "عمرو بن الحارث بن أبي شمر" المتقدم ذكره، وهو شقيق "النعمان بن الحارث بن أبي شمر" الذي مدحه النابغة كذلك، وكانت له صلات حسنة وثيقة به6.

_ 1 ديوان النابغة "ص85" "بيروت 1929م". 2 حمزة "ص78". 3 حمزة "ص79". 4 حمزة "ص79". 5 حمزة "ص79". 6 ديوان النابغة "ص9 وما بعدها".

وجعل حمزة بعد النعمان ابنه جبلة وزعم أن منزلة بـ"صفين"، وأنه صاحب "عين أباغ"، وقاتل المنذر بن ماء السماء، وكان ملكه ست عشرة سنة1. ثم ملك -بعد جبلة- النعمان بن الأيهم بن الحارث بن مارية، وكان ملكه إحدى وعشرين سنة لم يحدث خلالها على حد قول حمزة شيء، فتولى من بعده النعمان بن الحارث، وهو الذي أصلح صهاريج الرصافة، وكان بعض ملوك لخم خربها، وكان ملكه ثماني عشرة سنة2. ويرى "إلويس موسل" أن النعمان هذا كان قد حارب الفرس من حوالي سنة "604" حتى سنة "616م"، وأنه قد احتمى مرارًا بأسوار الرصافة. وبهذه المناسبات على ما يظهر قام بترميم صهاريج المدينة لخزن الماء3. وذكر حمزة اسم "المنذر بن النعمان" بعد النعمان بن الحارث، وهو ابنه. قال: ولم يحدث شيء في أيامه، ثم هلك وكان ملكه تسع عشرة سنة4. ثم صار الحكم من بعده -على رأي حمزة- إلى عمرو بن النعمان. وهو شقيقه ولم يحدث شيئًا في أيامه، ثم هلك، وكان ملكه ثلاثًا وثلاثين سنة وأربعة أشهر5. ثم انتقل الحكم إلى حجر بن النعمان، وهو شقيق عمرو، وجعل حمزة ملكه اثنتي عشرة سنة. ثم صير الملك إلى ابنه من بعده، وهو الحارث بن حجر. وجعل ملكه ستًّا وعشرين سنة6. وصير حمزة الملك إلى جبلة بن الحارث، بعد وفاة والده "الحارث بن حجر". وجعل مدة حكمه سبع عشرة سنة وشهرًا واحدًا7. ثم صير حمزة الحكم إلى "الحارث بن جبلة"، وهو على رأيه ابن الملك المتوفى "جبلة بن الحارث". وذكر حمزة أنه يسمى أيضًا بـ"الحارث بن أبي شمر"، وهو الذي أوقع ببني كنانة، وكان يسكن الجابية. وكان ملكه

_ 1 حمزة "ص79". 2 حمزة "ص79". 3 Musil, Palmyrena, P. 267 4 حمزة "ص79". 5 حمزة "ص79". 6 حمزة "ص79 وما بعدها". 7 حمزة "ص80".

إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر1. ويجب أن يكون هذا الحارث هو "الحارث بن أبي شمر الغساني"، الذي ذكر أن الرسول وجه كتابًا إليه، حمله إليه: شجاع بن وهب كما سيأتي فيما بعد. وذكر حمزة أن الذي حكم بعد "الحارث بن جبلة" وهو ابنه "النعمان بن الحارث"، وكنيته "أبو كرب" ولقبه "قطام"، وهو الذي بنى ما أشرف على "الغور الأقصى". وكان ملكه سبعًا وثلاثين سنة وثلاثة أشهر2. وقد أخطأ حمزة في إضافة لقب "قطام" إلى النعمان بن الحارث، ولا نعرف أن أحدًا أضاف هذا اللقب إليه. ونجد للنابغة الذبياني أشعارًا في مدح "النعمان" المذكور، وكان يزوره ويتوسط لديه في فك أسرى قومه الذين كانوا يقعون في أسر الغساسنة، وذلك بسبب غاراتهم المتوالية على بني غسان وأعرابهم. وكان قومه "بنو ذبيان" وحلفاؤهم "بنو أسد" إلى جانب عرب الحيرة، وكانوا ينقمون على الغساسنة ويغيرون دومًا على أرضهم، فيتدخل النابغة لدى الغساسنة للصفح عن قومه، ويتوسل إليهم في فك أسرهم. ولما أغار قومه على وادي "ذي أقر"، نهاهم النابغة عن هذه الغارة، وحذرهم من عواقبها، وهولهم بكثرة ما لدى "النعمان بن الحارث"، من جموع وحشود، غير أنهم لم يهتموا بنصح النابغة، ولم يحفلوا بتخويفه لهم، بل عدوا نصيحته هذه لهم من إمارات الخوف والجبن، فتصدت لهم أعراب "النعمان" بقيادة "النعمان بن الجلاح الكلبي" وأوقعت بهم خسائر فادحة، ويذكر بعض الرواة أن "ابن الجلاح" سبى ستين أسيرًا وأهداهم إلى قيصر الروم3 ولم يتطرقوا لبيان الأسباب التي أدت بالغساسنة إلى إهداء هؤلاء الأسرى إلى الروم. وأعتقد أن إقحام "قيصر الروم" في هذا الإهداء، هو من مبالغات الرواة، وقد عودونا أمثال هذه المبالغات. إلا أن يكون أولئك الأعراب قد غزوا حدود الروم، فأوجعوا أهلها، فقدم "ابن الجلاح" الذي تعقبهم، من وقع في أسره إلى حاكم من حكام الروم لتأديبهم.

_ 1 حمزة "ص80". 2 حمزة "ص80". 3 ديوان النابغة "ص54" "بيروت 1929م".

وقد طلب "النابغة" في شعره في وصف هذه الغارة من "حصن بن حذيفة" سيد "ذبيان" ومن "ابن سيار" فك من وقع أسيرًا من النساء دفعًا للخزي والعار من وقعهن أسيرات في أيدي العضاريط من الأتباع والأجراء. ونجد النابغة يحذر "النعمان" من غزو "بني حُن بن حرام"، وينصحه بعدم التورط في قتالهم؛ لأنهم أناس محاربون صعاب. فلما أبى إلا قتالهم، بعث النابغة إلى قومه يخبرهم بغزو النعمان لهم، ويأمرهم أن يمدوا بني حُن، ففعلوا. فلما غزاهم النعمان، هزم بنو حُن وبنو ذبيان جمعه، وحازوا ما معهم من الغنائم، فقال النابغة في ذلك شعرًا منه: لَقَد قُلتُ لِلنُعمانِ يَومَ لَقيتُهُ ... يُريدُ بَني حُنَّ بِبُرقَةِ صادِرِ تَجَنَّب بَني حُنَّ فَإِنَّ لِقاءَهُم ... كَريهٌ وَإِن لَم تَلقَ إِلّا بِصابِرِ فهو يعاتب بذلك النعمان، ويذكره بعدم اهتمامه بنصحه له، وتخويفه إياه من عاقبة هذه الغارة1. وكان في جملة ما قاله النابغة عن بني حُن بن حرام، وهم من غدرة، أنهم كانوا قد منعوا "وادي القرى" عن عدوهم ومن أهله وحموه منهم، وهو كثير النخل، فتمنعوا بثمره، وطردوا "بَليًّا"، وهم من "بني القين" وهم أصحابه من هذا الوادي، واستولوا على نخيلهم، ونفوهم إلى غير بلادهم، وهم الذين ضربوا أنف الفزاري، وهم الذين منعوها من قضاعة كلها ومن "مضر الحمراء"، وقتلوا الطائي بالحجر عنوة، ويريد به "أبا جابر الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد" وكان ممن اجتمع عليه جديلة طيء. ومثل هؤلاء قوم لا يغلبون2. ويظهر من شعر للنابغة أن "النعمان" كان قد غزا تميمًا وقيس وائل، وأنه أوجعهم، وقد غزاهم في الربيع3. وللنابغة أشعار أخرى في مدح "النعمان" هذا، ومنها أبيات استهلها بقوله:

_ 1 ديوان النابغة "ص60 وما بعدها" "بيروت 1929م". 2 ديوان النابغة "ص60 وما بعدها". 3 ديوان النابغة "ص82".

والله والله لنعم الفتى إذ ... أعرج، لا النكسى ولا الخامل1 وقد أدرك النابغة أجل "النعمان بن الحارث بن أبي شمر"، إذ مات مقتولًا فرثاه بقصيدة، يظهر منها أنه كان يكنى بـ"أبي حجر"، وأنه قبر موضع يقع بين "بصرى" و"جاسم"2. وقد غزا "النعمان" العراق، ولا يستبعد "نولدكه" أن يكون هو الذي قصده المؤرخ "ثيوفلكتوس" حين تحدث عن غزو قام به عرب الروم على العراق في زمن الصلح أي حوالي سنة "600م"3. وقد مدح النابغة "النعمان بن الحارث الأصغر" في القصيدة التي تبدأ بقوله: وَإِن يَرجِعِ النُعمانُ نَفرَح وَنَبتَهِج ... وَيَأتِ مَعَدًّا مُلكُها وَرَبيعُها وَيَرجِع إِلى غَسّانَ مُلكٌ وَسُؤدُدٌ ... وَتِلكَ المُنى لَو أَنَّنا نَستَطيعُها4 ورثى "النابغة" النعمان في قصيدة جاء فيها أن شيبان وذهلًا وقيس بن ثعلبة وتميمًا سروا بوفاته؛ لأنهم أمنوا بذلك على أنفسهم من غارته ومن غزوه لهم5. ويظهر من شعر النابغة فيه أنه كان محاربًا يغزو القبائل، ولذلك هابته. وقد بكاه بقوله: بَكى حارِثُ الجَولانِ مِن فَقدِ رَبِّهِ ... وَجورانُ مِنهُ خَاشِعٌ مُتَفائِلُ6 وذكر "ابن قتيبة" أن النابغة لما صار إلى غسان، انقطع إلى "عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني" وإلى أخيه "النعمان بن الحارث"، فأقام النابغة فيهم فامتدحهم، فغم ذلك النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وبلغه أن الذي قُذف به عنده باطل، فبعث إليه من يسأله أن يعود، فاعتذر النابغة في شعر، وقدم عليه مع زبان بن سيار ومنظور بن سيار الفزارين، وقبل عذره ورحب به7.

_ 1 ديوان النابغة "ص90". 2 ديوان النابغة "ص84". 3 غسان "ص42"، Theophylactus, Historiae, 4 البطليوسي "ص57". 5 البطليوسي "ص60 وما بعدها". 6 حمزة "ص80". 7 الشعر والشعراء "ص77" "النابغة الذبياني".

ثم ملك بعده -على رأي حمزة- الأيهم بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر، وهو على حد تعبيره صاحب "تدمر" و"قصر بركة" و"ذات أنمار" وغير ذلك1. ثم ملك بعد الأيهم بن جبلة شقيقه المنذر بن جبلة، وكان ملكه على رواية حمزة ثلاث عشرة سنة2. ثم صار الملك إلى شقيقه "شراحيل بن جبلة" على رواية حمزة. وكان ملكه خمسًا وعشرين سنة وثلاثة أشهر3. ثم انتقل الحكم إلى "عمرو بن جبلة" بعد وفاة "شراحيل" وهو على رأي حمزة شقيقه، وقد حكم عشر سنين وشهرين4. ثم حول حمزة الحكم إلى "جبلة بن الحارث"، بعد وفاة "عمرو بن جبلة" وهو على رأيه ابن أخيه. وجعل حكمه أربع سنين5. ثم صير حمزة الملك إلى "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن مارية" وهو على رأيه آخر ملوك غسان. وكان ملكه ثلاث سنين، وهو الذي كان أسلم ثم تنصر، ولجأ إلى الروم6. وقد سرد المسعودي نسبه على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن حجر بن النعمان بن الحارث بن الأيهم بن الحارث بن جبلة بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة"7، وسرده على هذه الصورة "جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن مازن" في مكان آخر8. وذكره "ابن عبد ربه" على هذه الصورة: "جبلة بن الأيهم بن أبي شمر الغساني"9. وذكر "الذهبي" أن الأصل هو "الأهيم"، لا "الأيهم"، وكناه بـ"أبي المنذر"، وقال إنه كان ينزل "الجولان"10

_ 1 حمزة "ص80". 2 حمزة "ص80". 3 حمزة "ص80". 4 حمزة "ص80". 5 حمزة "ص81". 6 حمزة "ص81"، المحبر "ص372"، لسان العرب "11/ 96". 7 التنبيه "ص158". 8 مروج "2/ 108"، "2/ 30"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 9 العقد الفريد "1/ 187 وما بعدها" "القاهرة 1935م". 10 تأريخ الإسلام، للذهبي "2/ 214" "نسخة دار الكتب المصرية".

وقد وصف بأنه كان طويلًا، طوله اثني عشر شبرًا، وكان إذا ركب مسحت قدمه الأرض1. وقد ورد اسم "جبلة بن الأيهم" في أخبار الفتوحات الإسلامية لبلاد الشأم، إذ ذكر في "فتوح البلدان" للبلاذري: أن "هرقل" لما سمع بتجمع المسلمين ومقدمهم "يوم اليرموك"، بعث على مقدمته "جبلة بن الأيهم الغساني" في مستعربة الشأم من لخم وجذام وغيرهم لمقاتلة المسلمين، غير أن "جبلة" انحاز في القتال إلى الأنصار قائلًا: "أنتم إخواننا وبنو أبينا، وأظهر الإسلام"2. أما الطبري فقد ذكر: أن خالدًا لما صار إلى "مرج الصفر"، لقي عليه غسان، وعليهم "الحارث بن الأيهم"3. ولم يشر إلى جبلة. فيظهر أن وهمًا في الاسم قد وقع للرواة، فصار "جبلة" عند بعض، وصار" الحارث" عند بعض آخر، ولعل مرده إلى سهور وقع من النساخ. ولحسان بن ثابت شعر في مدح "جبلة بن الأيهم"، وفي ذكر ملكه وملك "آل جفنة"، يظهر منه شدة تعلقه بهم على بعده عنهم وزوال ملكهم وابتعاده عنهم بالإسلام4. وقد أورد المسعودي بعض الأشعار التي مدح حسان بها "جبلة بن الأيهم" منها: أشهرنها فإن ملكك بالشا ... م إلى الروم فخر كل يماني5. وقد ورد في رواية من روايات أهل الأخبار أن حسان بن ثابت زار "جبلة بن الأيهم"، وعنده "النابغة" و"علقمة بن عبدة" فأنشده شعرًا، فأعطاه ثلاثمائة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد، في كل عام مثلها. وتذكر رواية أخرى أن الشخص الذي زاره "حسان" هو "عمرو بن الحارث الأعرج"، وأنه مدحه فأعطاه ألف دينار مرجوحة، وهي التي في كل دينار عشرة دنانير6.

_ 1المعارف "ص281". 2 فتوح البلدان "141 وما بعدها"، "القاهرة 1901م". 3 الطبري "2/ 410" "دار المعارف بمصر". 4 مروج "2/ 13" "محمد محيي الدين عبد الحميد"، البرقوقي "414 وما بعدها". 5 مروج "2/ 31" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 6 الأغاني "14/ 2 وما بعدها".

وذُكر أن "جبلة بن الأيهم" لما سمع، وهو ببلاد الروم، أن حسانًا قد صار مضرور البصر كبير السن، أرسل إليه خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج، فلما سلمها الرسول الذي حمل الهدية إليه، نظم شعرًا في مدحه أوله: إِنَّ اِبنَ جَفنَةَ مِن بَقِيَّةِ مَعشَرٍ ... لَم يَغذُهُم آباؤُهُم بِاللَؤمِ لَم يَنسَني بِالشامِ إِذ هُوَ رَبُّها ... كَلّا وَلا مُتَنَصِّرًا بِالرومِ وأخذ يراجع ذكريات تلك الأيام الخالية التي قضاها معه ومع بقية آل غسان1. وقد اتفقت روايات أهل الأخبار في موضوع دخول جبلة في الإسلام، ثم في ارتداده، إلا رواية واحدة ذهبت إلى أنه لم يسلم. وقد ذهب أكثرهم في سبب ردته إلى أن أعرابيًّا من فزارة وطئ فضل إزار جبلة وهو يسحبه في الأرض بمكة، فلطمه جبلة، فنابذه الأعرابي إلى عمر، فحكم عمر له بالقصاص، فعد جبلة القصاص إهانة له وهو ملك، ففر إلى بلاد الروم وارتد بها، وبقي بها مرتدًا حتى وافته منيته2. ولكن رواية "ابن قتيبة"، تختلف عن رواية أكثر أهل الأخبار في موضوع المكان الذي كان السبب في ارتداده عن الإسلام، إذ جعلته مدينة "دمشق"، قالت: "وكان سبب تنصره أنه مر في سوق دمشق، فأوطأ رجلًا فرسه، فوثب الرجل فلطمه، فأخذه الغسانيون فأدخلوه على أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم سيدنا. فقال أبو عبيدة بن الجراح: البينة أن هذا لطمك. قال: وما تصنع بالبينة؟ قال: إن كان لطمك لطمته بلطمتك. قال: ولا يقتل؟ قال: لا. قال: ولا تقطع يده. قال: لا. إنما أمر الله بالقصاص، فهي لطمة بلطمة. فخرج جبلة ولحق بأرض الروم وتنصر"3. ونجد خبر "ابن قتيبة" المذكور مدونًا في كتاب "الطبقات" لابن سعد، حيث جاء: "وكتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأهدى له هدية ولم يزل مسلمًا حتى كان في زمان عمر بن الخطاب،

_ 1 البرقوقي "ص391 وما بعدها". 2 مروج "2/ 31 وما بعدها" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد" ابن خلدون "2/ 586"، تاريخ الخميس "2/ 61"، الأغاني "14/ 2 وما بعدها". 3 المعارف "ص281".

فبينما هو في سوق دمشق إذ وطئ رجلًا من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ وانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبيلة، قال: فليلطمه، قالوا: وما يقتل؟ قال: لا، قالوا: فما تقطع يده؟ قال: إنما أمر الله، تبارك وتعالى بالقود. قال جبلة: أو ترون أني جاعل وجهي ندًّا لوجه جدي جاء من عمق! بئس الدين هذا! ثم ارتد نصرانيًّا! وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر، فشق عليه، وقال لحسان بن ثابت: أبا الوليد، أما علمت أن صديقك جبلة بن الأيهم ارتد نصرانيًّا؟ قال: وحق له، فقام إليه عمر بالدرة فضربه بها"1. وذكر بعض أهل السير والأخبار، أن الرسول كتب إلى جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان، كتابًا دعاه فيه إلى الإسلام. فلما وصل الكتاب أسلم، وكتب إلى الرسول يعلمه بإسلامه2. وذُكر أن "شجاع بن وهب" إنما بعثه رسول الله إلى جبلة، فأسلم3، وأرسل إلى رسول الله هدية. وكان ينزل بالجولان4. وتزعم بعض الروايات أنه زار المدينة في خلافة "عمر". وقد عد يوم مجيئها إليه من الأيام المشهورة؛ إذ جاء إليها في موكب حافل كبير فيه خيول كثيرة لم تر المدينة مثلها من قبل، وخرج الناس إلى الطرق لرؤية موكبه، وفرح عمر بمجيئه. وعد ذلك توفيقًا من الله للإسلام. وأكرمه غاية الإكرام. وبعد أن قابل الخليفة، استأذن منه بالذهاب إلى الحج، فوقع له عندئذ حادث الإزار مع الأعرابي، ففر إلى بلاد الروم، ويقال: إنه توفي بالقسطنطينية سنة عشرين من الهجرة5. وذكر أنه لما قدم المدينة كان في خمسمائة فارس من عك وجفنة. فلما دنا من المدينة ألبسهم ثياب الوشي المنسوخ بالذهب والفضة، وليس تاجه وفيه قرط مارية وهي جدته، فلم يبق يومئذ بالمدينة أحد إلا خرج ينظر إليه6. وقد ذكر "البلاذري" أن "جبلة بن الأيهم" حكم بعد "الحارث بن أبي شمر". وروي أنه لما قدم "عمر" الشأم سنة "17" للهجرة، حدث أن لطم

_ 1 طبقات "1/ 265". 2 تأريخ الخميس "2/ 61". 3 ابن خلدون "2/ 281". 4 تأريخ الإسلام، للذهبي "2/ 214"، "نسخة دار الكتب المصرية". 5 ابن خلدون "2/ 281". 6 العقد الفريد "1/ 187 وما بعدها" "القاهرة 1935م ".

"جلبة" رجلًا من مزينة على عينه، فأمره عمر بالاقتصاص منه، فقال: أو عينه مثل عيني! والله لا أقيم ببلد عليَّ به سلطان. فدخل بلاد الروم مرتدًا. وروى رواية أخرى خلاصتها أن جبلة أتى عمر على نصرانية، فعرض عمر عليه الإسلام، ولكنه لم يتفق مع عمر. فلما قال له عمر: ما عندي لك إلا واحدة من ثلاث: إما الإسلام، وإما أداء الجزية، وإما الذهاب إلى حيث شئت. فدخل بلاد الروم في ثلاثين ألفًا فلما بلغ ذلك عمر ندم1. وتذكر رواية أن "جبلة بن الأيهم" عاش في القسطنطينية حتى مات سنة عشرين من الهجرة2. فنحن أمام روايتين بشأن مكان ردة جبلة، وتجاه رواية عن إسلامه. رواية تجعل ارتداده في مكة، ورواية تجعل ارتداده بدمشق، ورواية تذكر أنه لم يدخل مطلقًا في الإسلام. ويظهر أن رواية دمشق هي أقرب إلى المنطق؛ إذ لا يعقل فرار جبلة من مكة إلى بلاد الروم بمثل هذه السهولة التي تخيلها أهل الأخبار، وبينه وبين بلاد الروم مسافات شاسعة ما كان في إمكانه قطعها قط والنجاة من تعقب المسلمين له، لو كان موضع هربه هو مكة. أما دمشق، فإنها قريبة من حدود الروم، ولدى جبلة فيها وسائل كبيرة تساعده على الهرب. والرأي عندي أن جبلة، لم يدخل أبدًا في الإسلام، وإنما بقي مع الروم. وغادر بلاد الشأم معهم، وكان يحارب المسلمين إلى جانبهم، وانتقل بأتباعه ممن بقوا على دينهم إلى بلاد الروم فأقاموا بها، وقد مات هناك ودفن في تلك البلاد، وما هذا الذي روي عن إسلامه وعن زيارته ليثرب ولمكة إلا من قصص القصاص وضعوه فيما بعد. إن ما يذكره أهل الأخبار من ملك "جبلة"، لا يخلو من مبالغة، وما يقال عن ملكه وعن استقبال "هرقل" له، ذلك الاستقبال العظيم، لا يخلو من مبالغة أيضًا. نعم من الجائز أن الروم قبلوه لاجئًا، ورحبوا به وساعدوه على أمل استخدامه لمهاجمة المسلمين، واسترداد بلاد الشأم منهم، غير أننا لا نستطيع أن نوافق على ما ورد في روايات أهل الأخبار من ذلك الوصف الذي ذكروه من احتفال الروم في القسطنطينية. ومن المعيشة التي كان يعيشها في عاصمتهم

_ 1 فتوح البلدان "ص142 وما بعدها". 2 ابن خلدون "2/ 281".

إلى حين وفاته1. بل لقد شك بعض المستشرقين مثل "نولدكه" حتى في موضوع تملكه وتولية الحكم له على عرب الشأم2. ونجد في خبر فتح دومة الجندل، رجلًا من غسان كان قد تزعم قومه وجاء في "طواف من غسان وتنوخ" لنجده أهل "دومة الجندل". وقد دعاه "الطبري"، "ابن الأيهم" ولم يشر إلى اسمه3. ونجد في "العقد الفريد" وصفًا لمجلس "جبلة" ولمسكنه في القسطنطينية لا يخلو من مبالغة، وقد نسب وصفه إلى رسول ذكر أن الخليفة عمر كان قد أرسله إلى "هرقل" ليدعوه إلى الإسلام. ويذكر الرسول الموفد أن "هرقلًا" هو الذي أشار عليه بزيارة قصر "جبلة" فلما ذهب إليه، وجد على بابه من القهارمة والحجاب وكثرة الجمع مثل الذي على باب "هرقل"، ثم وصف مجلسه وأرائكه المرصعة بالجواهر، وغناء الجواري في مجلسه بغناء حسان بن ثابت مما يجعله في ثراء الملوك الحاكمين لا الملوك الفارين4. واسم الرسول المذكور هو "جثامة بن مساحق الكناني"5. ويذكر بعض أهل الأخبار أن الخليفة معاوية أرسل "عبد الله بن مسعود الفزاري" إلى ملك الروم فوجد عنده "جبلة بن الأيهم"، فوصف مجلسه وما كان عليه من فاخر الملبس والمأكل والمسكن، وهو كلام فيه مبالغات وغلو في الكلام، على نمط ما رأيناه في وصف "جثامة"6. وهو يتفق معه في الخبر. والظاهر أن الرواة قد أخطئوا في هذا الخبر. فنسبوه مرة إلى رسول عمر، ونسبوه مرة أخرى إلى رسول معاوية.

_ 1 العقد الفريد "1/ 188 وما بعدها". 2 غسان "ص45" من النص الألماني، provincia arabia ii, s. 174 4 الطبري "3/ 378" "خبر دومة الجندل". 3 راجع الوصف في العقد الفريد "1/ 188 وما بعدها". 5 الأغاني "14/ 2 وما بعدها". 6 الأغاني "14/ 2 وما بعدها"، البرقوقي "234 وما بعدها"، ابن قتيبة، الشعر "223".

ملوك الغساسنة

ملوك الغساسنة وعدة ملوك الغساسنة على رواية حمزة اثنان وثلاثون ملكًا، ملكوا ستمائة وست عشرة سنة1. أما "المسعودي"، فجعل عددهم أحد عشر ملكًا2.

_ 1 حمزة "ص81". 2 مروج "2/ 32" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، ابن خلدون "2/ 281".

وقد رتب المسعودي أسماء الملوك على هذا النحو: "الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس"، ثم "الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو" ثم "النعمان بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة"، ثم "المنذر أبو شمر بن جبلة بن ثعلبة"، ثم "عوف بن أبي شمر"، ثم "الحارث بن أبي شمر" وكان ملكه حين بعث رسول الله، ثم جبلة بن الأيهم1. والأسماء المذكورة هي أقل من الرقم المذكور كما نرى بكثير؛ إذ هي سبعة فقط، على حين يجب أن تكون بحسب روايته أحد عشر اسمًا. وفي الذي ذكره حمزة عن مدة حكم الغساسنة مبالغة. فلو أخذنا بالعدد الذي ذكره لمجموع حكم ملوكهم، وهو ست عشرة وستمائة سنة، لوجب علينا القول بأن ابتداء حكمهم كان حوالي الميلاد. وهو قول لم يقله أحد، ولا يؤيده أي سند أو دليل. والذي نعرفه أن مدة حكمهم هي دون المدة المذكورة بكثير، كما أن في الترتيب الذي ذكره حمزة لملوكهم تكرارًا وزيادات. وهو يخالف ما نراه عند المؤرخين الآخرين الذي تعرضوا لآل غسان. وتختلف قائمة "ابن قتيبة الدينوري" بأسماء ملوك غسان اختلافًا كبيرًا عن قائمة "حمزة" ومن قائمة "المسعودي". وقد ذكرت فيما مضى أنه جعل "الحارث بن عمرو" المعروف بمحرق أول ملك من ملوك غسان، ثم جعل من بعده الحارث الأعرج، ثم الحارث الأصغر، ثم النعمان، وهو شقيق الحارث الأصغر. وقد ذكر أنه كان للنعمان بن الحارث ثلاثة بنين هم: حجر بن النعمان وبه كان يكنى، النعمان بن النعمان، وعمرو بن النعمان. وقال إن فيهم يقول حسان بن ثابت: مَن يَغُرُّ الدَهرُ أَو يَأمَنُهُ ... مِن قَبيلٍ بَعدَ عَمرٍو وَحُجُر مَلَكا مِن جَبَلِ الثَلجِ إِلى ... جانِبَي أَيلَةَ مِن عَبدٍ وَحُرّ2 وقال "ابن قتيبة الدينوري": ومن ولد الحارث الأعرج أيضًا عمرو بن الحارث، الذي كان النابغة صار إليه حين فارق النعمان بن المنذر، وفيه يقول النابغة:

_ 1 مروج "2/ 30" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "2/ 83 وما بعدها"، "طبعة دار الأندلس". 2 المعارف "ص281".

عَلَيَّ لِعَمروٍ نِعمَةٌ بَعدَ نِعمَةٍ ... لِوالِدِهِ لَيسَت بِذاتِ عَقارِبِ قال: وكان يقال لعمرو أبو شمر الأصغر، ومن ولده المنذر بن الحارث، والأيهم بن الحارث، وهو والد جبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان1. وقد ذكر في كتب السير والتواريخ اسم أمير غساني، هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وهو الذي أرسل الرسول إليه شجاع بن وهب ليطلب إليه الدخول في الإسلام، وكان ملكه على ما يذكره الأخباريون في الشأم، وكان له قصر منيف وحجاب2. وذكر الطبري أنه كان "صاحب دمشق"3. وقد أدخله "محمد بن حبيب" في جملة "العرجان الأشراف"4. وقد عرف بـ"الحارث الأصغر" في شعر لحسان بن ثابت5. وأرى أن الحارث بن أبي شمر هذا هو "الحارث" معاصر "جبلة بن الأيهم" الذي أشار حسان إليه. وقد كان "حسان بن ثابت" زار الحارث بن أبي شمر الغساني، وكان النعمان بن المنذر اللخمي يساميه، فقال له وهو عنده: يابن الفريعة، لقد نبئت أنك تفضل النعمان عليَّ فقال: وكيف أفضله عليك ثم أخذ يشرح تفضيله له على النعمان حتى سر الحارث، ثم عاد حسان فنظم ما قاله نثرًا فيه في أبيات زادت من سروره، وحصل على جوائزه وعطاياه6. وذكر أن حسان بن ثابت كان يفد على جبلة بن الأيهم سنة، ويقيم سنة في أهله. فقال: "لو وفدت على الحارث أبي شمر الغساني فإن له قرابة ورحمًا بصاحبي، وهو أبذل الناس للمعروف، وقد يئس مني أن أفد عليه لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة". فخرج في السنة التي كان يقيم فيها بالمدينة، حتى قدم على الحارث، وقد هيأ له مديحًا. فقال له حاجبه وكان له ناصحًا: "إن الملك قد سر بقدومك عليه، وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة. فإياك أن تقع فيه،

_ 1 المعارف "ص281". 2 السيرة الحلبية "3/ 255"، "طبعة مصر" ابن خلدون "2/ 36". 3 الطبري "2/ 652" "دار المعارف". 4 المحبر "ص304". 5 البرقوقي "ص182". 6 البرقوقي "ص181 وما بعدها"، مروج "2/ 31" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".

فإنما يريد أن يختبرك، وإن رآك قد وقعت فيه زهد فيك، وإن رآك تذكر محاسنه ثقل عليه، فلا تبتدئ بذكره، وإن سألك عنه، فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعيبه، امسح ذكره مسحًا وجاوزه إلى غيره" ثم نصحه بنصائح أخرى تنم عن سلوك الحارث، وقد أفادته كثيرًا. فلما دخل عليه، حسنت منزلته عنده وصار يدعوه، ثم جباه وأعطاه خمسمائة دينار وكسيّ وألطافًا وعاد إلى أهله1. ولو صح هذا الخبر، فإنه يدل على أن أمر الغساسنة في هذا الوقت لم يكن واحدًا، وأن حكمهم كان قد تبدد وتشتت. وأن جبلة بن جبلة كان يحكم على جماعة من غسان، والحارث بن أبي شمر كان يحكم في الوقت نفسه على جماعة أخرى، وكل منهما كان يحلي نفسه بحلية الملك، ومن يدري فلعل أشخاصًا آخرين كانوا ينازعونهما الحكم أيضًا، ويحلون أنفسهم بلقب "ملك"، اللقب الحبيب الذي لم يكن يرتفع في الواقع عن درجة سيد قبيلة أو "شيخ" عشيرة في اصطلاحنا في الوقت الحاضر. وقد ذكر أهل الأخبار اسم رجل قالوا إنه كان قائدًا من قواد "الحارث بن أبي شمر"، ودعوه بـ"النعمان بن وائل بن الجلاح الكلبي"، وذكروا أنه أغار على بني فزارة وبني ذبيان، فاستباحهم، وسبى سبيًا من غطفان. وأخذ "عقرب" بنت النابغة الذبياني. فلما سألها. فانتسبت إلى أبيها، منَّ عليها ثم أطلق له سبي غطفان. فلما سمع بذلك النابغة، مدحه بقصيدة2. وسبق أن تحدثت عن "النعمان بن الجلاح الكلبي" في أثناء كلامي على الملك "النعمان بن الحارث" حين أغار قوم النابغة على أعراب "النعمان بن الحارث" بوادي أقر، وكان النابغة قد نهى قومه وحذرهم من التحرش بهم، فخالفوا رأيه، فأوقع بهم "ابن الجلاح" خسائر فادحة. وفي ديوان حسان قصيدة، مطلعها: إِنّي حَلَفتُ يَمينًا غَيرَ كاذِبَةٍ ... لَو كانَ لِلحارِثِ الجَفنِيِّ أَصحابُ يذكر شراحها أن نظمها في رثاء "الحارث الجفني"، وقالوا: إن الحارث

_ 1 الأغاني "14/ 2 وما بعدها". 2 الاشتقاق "2/ 316"، ديوان النابغة "ص32، 40".

الجفني المذكور هو الحارث بن أبي شمر الغساني. وقد ذكروا أن دافع فيها عن هزيمة أدركت الحارث في إحدى حروبه، فعاد ومن معه بغير أسلاب ولا أسرى بل يظهر من أبياتها أن العدو أوقع به فقتل من جمعه، وقد اعتذر الحارث بأن من معه لم يكونوا من "جذم غسان" وإنما كانوا من "مأشبة الناس" أي جماعة أوشاب الناس وأوباشهم أي الأخلاط التي تجتمع من كل أوب. ومثل هؤلاء لا تكرثهم الهزيمة، ولا يسألون بذلك؛ إذ لا أحساب لهم ولا شرف، فلا عجب أن أصيب بخيبة في هذه المعركة ومعه مثل هؤلاء الناس1. ويظهر من القصيدة المذكورة، أن الحارث بن أبي شمر، كان قد توفي قبل "جبلة بن الأيهم". وذلك لرثاء حسان له ولإجماع أهل الأخبار على أن جبلة عاش أمدًا بعد ظهور الإسلام. وأنه مات في بلاد الروم بعيدًا عن بلاد الشأم وعن أرض آبائه وأجداده. وبدليل ما ورد في تأريخ الطبري من أن الرسول أرسل شجاعًا بن وهب إلى رجل من غسان اسمه "المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني". يدعوه إلى الإسلام2. وهذا الرجل هو أحد أبناء الحارث المذكور. وذكر الأخباريون رجلًا آخر من غسان، دعوه "عديًا"، وقالوا: إنه ابن أخت الحارث بن أبي شمر الغساني، وإنه أغار على بني أسد، فلقيته "بنو سعد بن ثعلبة بن دودان" بالفرات، ورئيسهم "ربيعة بن حذار الأسدي"، فاقتتلوا قتالًا شديدًا. فقتلت بنو سعد عديًا3. وقد سمي "محمد بن حبيب" هذا اليوم الذي وقع فيه القتال "يوم الفرات"4. وأشار الواقدي إلى ملك غساني اسمه "شرحبيل بن عمرو الغساني"، وذكر أنه قتل رسولَ رسولِ الله إلى ملك بصرى في مؤتة5. ويشك "نولدكه" في نسبة هذا الأمير إلى الغسانيين، وحجته في ذلك أن الواقدي ذكره في موضع آخر مع أخويه "سدوس" و"بر"، ونسبه في هذا الموضع إلى الأزد. ثم إنه لم يكن من عادة الغساسنة على رأيه ذكر لقب الغساني بعد الاسم6.

_ 1 البرقوقي "ص29". 2 الطبري "2/ 652" "دار المعارف". 3 الأغاني "11/ 199" طبعة دار الكتب المصرية". 4 المحبر "ص247". 5 الواقدي "ص309"، "طبعة ولهوزن"، السيرة الحلبية "3/ 66". 6 غسان "ص48".

وأشير في كتب الأدب إلى اسم ملك من ملوك "غسان" قالوا له "قرص"، لم يذكروا عنه شيئًا ذكروه في حديثهم عن "عدي" قالوا: إنه ابن "أخي قرص الغساني"، وكان "عدي" هذا قد غزا "بني أسد" فقتلوه، وأرادوا في ذلك شعرًا نسبوه إلى الغساني: لعمرك ما خشيت على عدي ... رماح بني مقيدة الحمار ولكني خشيت على عدي ... رماح الجن أواياك حار1 ولم يرد اسم هذا الملك في القوائم التي وضعها المؤرخون أمثال اليعقوبي والطبري والمسعودي وابن خلدون وأمثالهم لملوك غسان، وعدي المذكور في خبر "قرص" هو "عدي" المتقدم ولا شك. وقد وفد "حسان بن ثابت" على "عمرو بن الحارث"، فاعتاص الوصول إليه، فلما طال انتظاره، قال للحاجب: "إن أذنت لي عليه، وإلا هجوت اليمن كلها، ثم انقلبت عنكم" فأذن له ودخل عليه، فوجد عنده "النابغة" وهو جالس عن يمينه، و"علقمه بن عبدة" وهو جالس عن يساره، فقال له "عمرو": "يابن الفريعة قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع، فإني باعث إليك بصلة سنية، ولا احتاج إلى الشعر، فإني أخاف عليك هذين السَّبُعين: النابغة وعلقمة، أن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي" ثم تلا عليه شعرًا مما قاله الشاعران في مدحه. فأبى إلا أن يقول شعرًا فيه، وطلب من الشاعرين أن يسمحا له بالقول، فقال فيه قصيدته التي تبدأ بقوله: أَسَأَلتَ رَسمَ الدارِ أَم لَم تَسأَل ... بَينَ الجَوابي فَالبُضَيعِ فَحَومَلِ2 وقد أورد في هذه القصيدة أسماء مواضع، منها: "الجوابي"، أي "جابية الجولان"، و"البضيع" أو "البصيع"، وهو جبل قصير أسود على تل بأرض البلسة فيما بين "سيل" و"ذات الصنمين" و"حومل" و"مرج الصفرين"، وهو موضع بغوطة دمشق، و"جاسم"، وهي قرية بينها وبين دمشق ثمانية فراسخ على يمين الطريق إلى طبرية، وكل هذه الأماكن التي ذكرها

_ 1 ديوان حسان، "ص219"، البرقوقي"، "ص79 "هرشفلد". 2 ديوان حسان "ص305"، "البرقوقي".

هي منازل كانت لآل جفنة، إلا أنها خربت، وتركها أهلها حتى صارت دوارس تعاقبها الرياح1. ثم تطرق إلى ذكر من كان يناديهم بـ"جلق"، وهو موضع قيل إنه يقرب دمشق، وقيل إنه "دمشق": كيف كانوا كرماء أجوادًا يجودون على من يفد عليهم، لا فرق عندهم بين غني وفقير، يمشون في الحلل القشيبة المضاعف نسجها، ويجيرون من يستجير بقبر أبيهم "ابن مارية الكريم المفضل"، فلا يخاف من عدو ولا يخشى من اعتداء يقع عليه. كلابهم لا تهر؛ لأنها ألفت الضيوف وأنست بهم من كثرة تدفقهم عليهم. يسقون ماءً باردًا من "البريص"، ومن "بردا"، وهما نهران بدمشق، ممزوجًا بالرحيق، ثم تذكر "قصر دومة" أي دومة الجندل، وكيف شرب الخمر في حانوتها من ساق منتطف، أي مقرط وضع القرط في أذنه، والمنطقة في وسطه2. وجلق كما ذكرت موضع من مواضع الغساسنة، ويظهر أن سلطان البيزنطيين لم يكن كبيرًا عليه. وقد اشتهر ببساتينه وبكثرة أشجار الزيتون به، وبوفرة مياهه وقد تغنى به الشعراء في الإسلام، فورد ذكره في شعر أبي نواس3. وكان الغساسنة يدفنون فيه موتاهم. ولهم ضريح ضم رفات ملوكهم. ومع شهرة المكان فقد اختلف الناس في تثبيت موضعه وتعيينه. والرأي الغالب أنه ليس من أطراف دمشق كما ذهب إلى ذلك بعض أهل الأخبار4. وقد ترك الروم ساقتهم بـ"ثنية جلق" وعليها صاحب الساقة، وذلك ليراقب المسلمين حينما تقدموا لطردهم من بلاد الشام. ولم يرد للغساسنة أي ذكر في الدفاع عن هذا المكان5. ويظهر من نظم هذه القصيدة، ومن أسلوبها ونفسها، ومن تذكر "حسان" لآل جفنة بعد أن كبر وتقدمت بن السن، أن هذا الشعر هو من الشعر المتأخر،

_ 1 ديوان حسان "ص307"، "البرقوقي"، "ص32"، "هرشفلد". 2 البرقوقي "ص308 وما بعدها". 3 اللسان، مادة "جلق"، البلدان، "جلق". 4 الموسوعة الإسلامية "7/ 86"، الأغاني "14/ 2" اللسان "10/ 36". 5 الطبري "3/ 392".

ولا أستبعد أن يكون قد نظمه بعد زوال ملك "الغساسنة"، وقد أنشده أمام أحد الغساسنة المتأخرين، ولم يكن ملكًا بالمعنى المفهوم من الملك. وقد رثى حسان بن ثابت رجلًا من غسان قتله كسرى، ولم يذكر اسمه، ولا الأسباب التي حملت كسرى على قتله، ولا الأحوال التي قتل فيها1. ويظهر من سياق الشعر الذي رُثي به ذلك القتيل أن هذا القتيل قد وقع بعد أفول نجم آل غسان وإدبار الدنيا عنهم، ولعله كان قد قتله بعد احتلال الفرس لبلاد الشأم. فكان هذا الغساني من المعارضين للفرس المناوئين لهم، ولذلك قتلوه في فترة احتلالهم لها. وقد أشار "أبو الفرج الأصبهاني" إلى أمير غساني سماه: "يزيد بن عمرو الغساني"، ذكر أنه قتل الحارث بن ظالم2. ولا نعرف من أمر هذا الأمير شيئًا يذكر. وهناك روايات أخرى تنسب قتل الحارث إلى "النعمان الغساني"، على حين تنسبه روايات ثالثة إلى آل لخم ويرجع نولدكه الرأي الأخير3. وقد ورد في شعر لحسان بن ثابت هجاه لـ"سلامة بن روح بن زنباع الجذامي"، وكان يلي العشور للروم. ولا بد أن يكون ذلك في أيام الغساسنة المتأخرين. وقد شبهه بـ"دمية في لوح باب"، أي كأنه صورة مصورة، أو صنمًا معلقًا على لوح باب4. ومن الأماكن التي وردت في شعر "حسان بن ثابت" على أنها من مواضع الغساسنة "الجواء" و"عذراء"، وهما موضوعان بالشأم بأكتاف دمشق. وإلى "عذراء" هذه يضاف "مرج عذراء"، وكانت في هذه المواضع منازل بني جفنة، لذلك ذكرها "حصان" في شعره5. وذكر كذلك "بطن جلق" و"البلقاء"، و"المحبس" , و"السند" و"بُصرى" و"جبل الثلج"6. أما ما يفهم من شعر "حسان" وغير حسان من شمول ملك الغساسنة مدينة

_ 1 البرقوقي "ص387 وما بعدها". 2 الأغاني "10/ 28 وما بعدها". 3 غسان "ص48". 4 البرقوقي "ص219". 5 البرقوقي "ص1 وما بعدها". 6 البرقوقي "ص110".

"دمشق" أو تجاوزها ومن وصوله مواضع قريبة منها أو ملتصقة بها، فيجب أن تحمله محمل المجاز أو محمل مبالغات الشعراء في التفاخر والتباهي والمدح. فإذا استثنينا هذا الشعر لا نجد أي مورد تأريخي يقول باستيلاء الغساسنة على "دمشق" أو على مواضع متصلة بها. وكل ما نعرفه من الموارد التأريخية أن سلطانهم كان على أطراف بلاد الشأم، أي على المواضع التي رأى الروم أن من الأصلح لهم تركها إلى أمراء غسان، لصعوبة ضبطها من الوجهة العسكرية بالنسبة إليهم، ولعل ما يذكره أولئك الشعراء هو تعبير عن قصور وأملاك اشتراها ملوك الغساسنة وأمراؤهم في "دمشق" وفي مواضع حضرية أخرى لقضاء بعض الوقت فيها كما يفعل الأمراء في الزمن الحاضر من شراء بيوت وقصور في لبنان وفي أوروبة يقيمون فيها بعض الوقت للتسلية والراحة. فزارهم فيها أولئك الشعراء، ووصفوها وصفًا شاعريًّا، صور الشأم وما حولها كأنها ملك من أملاك الغساسنة. لقد كان "آل جفنة" كلهم على النصرانية عند ظهور الإسلام، وكانوا أصحاب دين وعقيدة، يدافعون عن مذهبهم كما رأينا. وكانت لهم بيع وكنائس بنوها لهم ولرعيتهم. وقد أشير إلى رجل عرف بـ"أرطبان المرني"، قيل إنه كان "شماسًا" في "بيعة غسان"1، مما يدل على أنها كانت بيعة خاصة بآل غسان. وقد نسب بعض أهل الأخبار أماكن أخرى إلى الغساسنة، وذلك بالإضافة إلى الأماكن التي سبق أن تحدثت عنها. ومن هذه الأماكن: صفين. وقد زعموا أن منزل "جبلة بن النعمان" كان به. وقد كان في الوقت نفسه صاحب عين أباغ2. ومن الأماكن المنسوبة إلى الغساسنة موضع "حارب" وقد ورد اسمه في شعر ينسب إلى النابغة حيث يقول: لئن كان للقرين قبر بجلق ... وقبر بصيداء التي عند حارب3 وورد "قصر حارب". وقد نسبه "حمزة" إلى النعمان بن عمرو بن المنذر4.

_ 1 الإصابة "1/ 102". 2 ابن خلدون: المجلد الثاني من القسم الأول، "ص586". 3 البلدان "2/ 183"، البكري، معجم "1/ 417"، المعاني الكبير "2/ 1015". 4 حمزة "ص79"، الهمداني، صفة "ص179".

ويذكر أهل الأخبار "السويداء" في جملة الأماكن التابعة للغساسنة. وقد رجع "حمزة" بناءها إلى "النعمان بن عمرو بن المنذر"1. وتقع في "حوران"2. والرصافة من المواضع المهمة عند الغساسنة، ففيها مشهد القديس "سرجيوس" وهو من القديسين الجليلين عند الغساسنة، وكانوا يتبركون بزيارة قبره، ويتقربون إليه بالهدايا والنذور. وكان لآل جفنة مساكن فيها، وقد قاموا بإصلاح ما كان يتهدم منها. فقام "النعمان بن الحارث بن الأيهم" بإصلاح وترميم صهاريج المدينة. وكان "النعمان بن جبلة" فيمن أقام بها3. أما حدود مملكة الغساسنة، فلم تكن على وجه العموم ثابتة، بل كانت تتبدل وتتغير بحسب تبدل سلطة الملوك، وتغيرها. وهي عادة نجدها لدى جميع الممالك والإمارات التي تكونت في البداية أو على أطراف البوادي. حيث تكون معرضة لغزو القبائل، ولنفوذ القبائل الفتية القوية التي تطمع في ملك الإمارات التي تجد فيها شيئًا من الوهن والضعف، وفي رؤسائها دعة أو حزمًا. ولهذا نجد ملك الغساسنة يتوسع ويتقلص بحسب الظروف فيصل إلى مقربة من دمشق، وإلى فلسطين الثانية و"الكورة العربية" و"فلسطين الثالثة" و"فينيقية لبنان". وإلى ولايات سوريا الشمالية في بعض الأحيان4. وفي مساحات شاسعة من البادية إلى المدى الذي يصل إليه سلاحهم. ثم نجده تارة أخرى أقل من ذلك بكثير؛ لضعف الأمير المالك ولطمع القبائل فيه ولاختلافه مع السلطات. ويظهر من شعر حسان بن ثابت أن ملك الغساسنة كان يمتد من حوران إلى "خليج العقبة"5. وتعد منطقة الجولان من أشهر مناطق الغساسنة. وقد ورد ذكرها في الشعر العربي، وفيها قُبر بعض الأمراء الغسانيين. وهي من الأرضين التابعة لولاية فلسطين الثانية في التقسيم الإداري عند الروم. وبها كان في الغالب مقر آل غسان6. وقد اشتهرت "الجابية" بأنها كانت مقر الملوك. ولذلك عرفت بجابية الملوك،

_ 1 حمزة "ص79". 2 الحموي، المشترك "ص311"، مراصد الاطلاع "2/ 70 وما بعدها". 3 البلدان، مادة الرصافة، البكري، معجم، الرصافة. 4 غسان "ص51". 5 المشرق، السنة الأولى، حزيران 1898م "485". 6 غسان "ص51 وما بعدها" john of ephesus, 4, 22

كما عرفت أيضًا بجابية الجولان1. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن قصر المشتى الذي نقلت بعض أحجار جدرانه المحفورة بالصور الجميلة إلى متحف برلين، هو من القصور التي أنشأها الغساسنة، وكذلك بعض الآثار الأخرى الواقعة في البادية. وفي "البرج" عثر على كتابة يونانية جاء فيها: "البطريق الشريف والأمير المنذر" ويدل ذلك على أنه من آثار "المنذر". أما بقية المواضع، وهي عديدة منتشرة في أماكن واسعة، فللعلماء في أصلها نظريات وآراء.

_ 1 Ency, i, p. 1029

أمراء غساسنة

أمراء غساسنة: وذكر الأخباريون أميرًا جفنيًّا دعوه "جفنة من النعمان الجفني"، قالوا إنه غزا الحيرة في أثناء ذهاب النعمان بن المنذر الذي قتله كسرى إلى البحرين، فأصاب في الحيرة ما أحب. وذكروا أنه هو الذي عناه عدي بن زيد العبادي في قصيدة مطلعها: سَما صَقرٌ فأشعل جانِبَيها ... وَألهاكَ المُرَوَّحُ وَالغَريبُ1 وذكر "أبو حنيفة الدينوري" اسم رجل من غسان، دعاه "خالد بن جبلة الغساني"، قال عنه: "قالوا: وإن خالد بن جبلة الغساني غزا النعمان بن المنذر، وهو المنذر الأخير، وكانا منذرين. ونُعمانين، فالمنذر الأول هو الذي قام بأمر بهرام جور، والمنذر الثاني الذي كان في زمان كسرى أنو شروان، وكان عمال كسرى على تخوم أرض العرب، فقتل من أصحاب المنذر مقتلة عظيمة، واستاق إبل المنذر وخيله، فكتب المنذر إلى كسرى أنو شروان يخبره بما ارتكبه منه خالد بن جبلة"2. وقد ذكره في موضع آخر، في أثناء كلامه على ذهاب "كسرى" إلى قيصر، إذ قال: "وسار كسرى حتى. انتهى إلى اليرموك، فخرج إليه خالد بن جبلة الغساني فقراه، ووجه معه خيلًا حتى بلغ قيصر"3.

_ 1 الأغاني "2/ 117 وما بعدها"، "طبعة دار الكتب". 2 الأخبار الطوال "ص68". 3 الأخبار الطوال "ص91".

وقد مدح حسان بن ثابت الأنصاري أميرين من أمراء غسان، هما: عمرو وحجر. وقد ذكر أنهما ملكا من "جبل الثلج" حتى جانبي "أيلة"، وأنهما غزوا أرض فارس1. ويرى "نولدكه" احتمال كون حجر هذا هو أحد أبناء النعمان الذي كُنِّي بأبي حجر2. وقد ذهب بعض الأخباريين إلى أن عمرًا المذكور في هذه الأبيات هو عمرو بن عدي بن حجر بن الحارث. وأما حجر، فهو حجر بن النعمان بن الحارث بن أبي شمر3. والذي يتبين من هذه القصيدة أن الملكين المذكورين حكما في زمن واحد، وغزوا مشتركين أرض فارس، ويقتضي ذلك أن يكونا قريبين، كأن يكونا أبًا أو ابنًا. أو أخوين، أو أن كل واحد منهما كان يحكم فرعًا من فروع غسان، وذلك بعد تصدع أمر غسان وانقسامهم إلى جملة "مشيخات". ويرى "ابن الأثير" أن: أبا جبيلة عبيد بن مالك بن سالم، وهو ملك من ملوك غسان على رواية بعض الأخباريين، لم يكن من آل غسان، وإنما كان من "بني غضب بن جشم بن الخزرج"، ذهب إلى غسان فصار عظيمًا عند ملكهم، مطاعًا بينهم، وإليه ذهب "مالك بن العجلان الخزرجي" مستجيرًا به من يهود يثرب، فأنجده وسار معه حتى أوقع في اليهود، ثم رجع عائدًا إلى غسان4. ولعل "أبا جبيلة الغساني" الذي ذهب إليه الشاعر الجاهلي "الرمق بن زيد بن غنم"5، هو هذا الملك الذي نتحدث عنه. ويتبين من شعر للأعشى ميمون بن قيس أنه زار الغساسنة، وصحب ملوكهم في ديار الشأم6، واتصل بهم، وقد خاطب أحدهم بقوله: "إليك ابن جفنة"7، غير أنه لم يذكر اسمه.

_ 1 من يغر الدهر أو يأمنه ... من قبيل بعد عمرو وحجر ملكا من جبل الثلج إلى ... جانبي أيلة من عبد وحر الأغاني "3/ 16"، "طبعة دار الكتب المصرية"، البرقوقي "ص205". 2 غسان "ص44". 3 الأغاني "3/ 16"، "طبعة دار الكتب المصرية". 4 الكامل، لابن الأثير "1/ 276". 5 البيان "1/ 238". وصحبنا من آل جفنة أملاكًا ... كرامًا بالشام ذات الرفيف ديوان الأعشى "ص315"، "طبعة الدكتور م. محمد حسنين"، "ص211"، "طبعة كاير" "geyer"، القصيدة رقم 63، البيت 13. 7 إليك ابن جفنة من شقة ... دأبت السرى وحسرت القلوصا القصيدة 31، البيت العاشر، ديوان الأعشى "ص207"، "طبعة م. محمد حسنين"، "139"، "طبعة كاير" "Geyer"

ووصل إلينا اسم أمير من غسان، هو "الشيظم بن الحارث الغساني"، قتل رجلًا من قومه، وكان المقتول ذا أسرة، فخافهم فلحق بالعراق أو بالحيرة متنكرًا. وكان من أهل بيت الملك، ومكث أمدًا متنكرًا، حتى وافق غرة من القوم، فركب فرسًا جوادًا من خيل المنذر وخرج من الحيرة يتعسف الأرض، حتى نزل بحي من "بهراء" فأخبرهم بشأنه، فأعطوه زادًا ورمحًا وسيفًا وخرج حتى أتى الشام فصادف الملك متبديًا، فأتى قبته، وقص قصته، فبعث إلى أولياء المقتول فأرضاهم عن صاحبهم1.

_ 1 النوادر، للقالي "ص179"، "خير الشيظم الغساني ونزوله بملك الشام مستجيرًا".

قوائم ملوك الغساسنة

قوائم ملوك الغساسنة: ولا بد لي، وقد انتهيت من الكلام على الغساسنة، من الإشارة إلى ضعف مادة الأخباريين عنهم، وقلة معرفتهم بهم، فأنت إذا درست هذا الذي رووه عنهم، وحللته تحليلًا علميًّا لا تخرج منه إلا بنتائج تأريخية محدودة ضيقة تريك أنهم لم يكونوا يعرفون من أمرهم إلا القليل، وأنهم لم يحفظوا من أسماء أفراد الأسرة الحاكمة غير أسماء قليلة، وما عداها فتكرر وإعادة لهذه الأسماء القليلة، أو أوهام. وأنت إذا راجعت التواريخ مثل تأريخ الطبري لا تكاد تجد فيها شيئًا يذكر عن هذه الأسرة. وقد تفوق كتب الأدب كتب التأريخ في هذا الباب. ويعود الفضل في ذلك إلى الشعر، فلعدد من شعراء الجاهلية أشعار في مدح آل جفنة أو ذمهم، ولهم معهم ذكريات حفظت بفضل هذا الشعر الذي يرويه الرواة ويروون المناسبات التي قيل فيها. فلولاه ضاع أيضًا هذا القليل الذي عرفناه من أخبار الغساسنة. وحتى القوائم، وهي جافة في الغالب، لا تستند أيضًا إلى علم بالرغم من هذا الترتيب الذي يحاول أصحابه إظهاره لنا بمظهر الواقع والحق. ولن تكسب سنوات الحكم المذكورة مع كل ملك ثقتنا بها. ولا اعتمدنا عليها. وقد اعتمد

أكثر من رتب أسماء أمراء الغساسنة على رواية "ابن الكلبي"، غير أنهم كما يظهر من مدوناتهم لم يرووها عنه رواية تامة، بل تصرفوا فيها، فزادوا عليها أو نقصوا منها وحرفوا فيها بعض التحريف. وأخذ آخرون من موارد أخرى، واستعان بعض آخر بما رواه "ابن الكلبي" ومما رواه غيره وأضافوا إليه ما عرفوا من أسماء المذكورين في الشعر، وهم من سادات قبيلة "غسان"، ولم يكونوا كلهم ملوكًا، فجاءت النتيجة قوائم متعددة بتعدد مشارب أصحابها، وهي على العموم شاهد عدل على ضعف الأخباريين في المحاكمات وفي منطق التأريخ. وقد درس "نولدكه" معظم القوائم التي رواها الأخباريون لأمراء الغساسنة، ونقدها وغربلها، وقارن الحاصل بما وجده في الموارد السريانية والبيزنطية، واستخلص من تلك الدراسة هذه القائمة: أبو شمر جبلة. حكم حوالي سنة 500م تقريبًا. الحارث بن جنبلة. استمر حكمه من حوالي سنة 529 حتى سنة 569م. أبو كرب المنذر بن الحارث. حكم من سنة 569 حتى سنة 582م. النعمان بن المنذر. وكان حكمه من سنة 582 حتى سنة 583م. الحارث الأصغر بن الحارث الأكبر. الحارث الأعرج بن الحارث الأصغر. أبو حجر النعمان. بن سنة 583 وسنة 614م. عمرو. حجر بن النعمان. ؟ ؟ ؟ ؟ جبلة بن الأيهم. حوالي سنة 635م. ورتب "ابن قتيبة الدينوري"، أسماء ملوك الغساسنة على هذا النحو: الحارث بن عمرو بن محرق، وهو "الحارث الأكبر" ويكنى "أبا شمر". الحارث بن أبي شمر، وهو "الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر". وأمه "مارية ذات القرطين". الحارث بن الحارث بن الحارث. وهو الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر.

وكان له أخوة، منهم: النعمان بن الحارث. وهو والد ثلاثة بنين: حجر بن النعمان، وبه كان يُكنى، والنعمان بن النعمان، وعمرو بن النعمان. ومن ولد الحارث الأعرج أيضًا عمرو بن الحارث، وكان يقال له: أبو شمر الأصغر. ومن ولده: المنذر بن المنذر والأيهم بن الحارث. وهو أبو "جبلة بن الأيهم"، وجبلة آخر ملوك غسان1. وأما المسعودي، فيرى أن عدة من ملكوا من آل غسان أحد عشر ملكًا، ذكر منهم: 1- الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن ماس "مازن"، وهو غسان بن الأزد بن الغوث. 2- الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو بن عامر بن حارثة. وأمه مارية ذات القرطين بنت أرقم بن ثعلبة بن جفنة بن عمر. 3- النعمان بن الحارث بن ثعلبة بن جبلة بن جفنة بن عمرو. 4- المنذر أبو شمر بن الحارث بن جبلة بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو. 5- عوف بن أبي شمر. 6- الحارث بن أبي شمر. وكان ملكه حين بعث رسول الله. 7- جبلة بن الأيهم2. وذكر المسعودي، أن جميع من ملك من ملوك غسان بالشام أحد عشر ملكًا، ولم يذكرهم في قائمته كلهم3. أما ملوك "الغساسنة"، على ما جاء في "كتاب المحبر"، فإنهم على هذا النحو: "ثعلبة"، فابنه "الحارث"، فابنه "جبلة"، فابنه "الحارث" وهو المعروف بـ"ابن مارية ذات القرطين"، و"النعمان بن الحارث"، و"المنذر" ابنه، و"المنيذر بن الحارث"، و"جبلة بن الحارث"، و"أبو شمر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن عمرو بن جفنة"، و"الحارث الأعراج بن أبي شمر بن عمرو بن الحارث بن عوف بن

_ 1 المعارف "642 وما بعدها"، "طبعة ثروت عكاشة". 2 مروج "2/ 82 وما بعدها"، "دار الأندلس". 3 مروج "2/ 86"، "دار الأندلس".

عمرو بن عدي بن عمرو بن الحسحاس" وهو "حارثة بن بكر بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد" وليس بحفني، ولكن أمه جفنية، فلم يزل الملك فيهم حتى كان آخرهم "جبلة بن الأيهم بن جبلة"، وهو الذي اتصل ملكه بخلافة عمر بن الخطاب1. وجاء ترتيب ملوك الغساسنة في التعليقات التي طبعها "هرشفلد" مع ديوان "حسان" على هذا النحو: "كان أول من ملك من غسان: الحارث بن عمرو بن عدي بن حجر بن الحارث، ثم عمرو بن الحارث، ثم الحارث بن عمرو، وهو أبو شمر الأكبر ثم الحارث بن الحارث بن أبي شمر، فالحارث الأصغر بن الحارث الأوسط وهو الأعرج، فالنعمان بن الحارث، فجبلة بن الأيهم، وهو الذي أدرك الإسلام"2.

_ 1 المحبر "ص372". 2 ديوان حسان "ص96"، "هرشفلد".

قائمة حمزة

قائمة حمزة: وأشهر قائمة ذكرها الأخباريون لملوك غسان، القائمة التي ذكرها حمزة الأصبهاني وتتألف من: 1- جفنة بن عمرو المعروف بمزيقياء. 2- عمرو بن جفنة. 3- ثعلبة بن عمرو. 4- الحارث بن ثعلبة. 5- جبلة بن الحارث. 6- الحارث بن جبلة. 7- المنذر بن الحارث. 8- النعمان بن الحارث. 9- المنذر بن الحارث. 10- جبلة بن الحارث. 11- الأيهم بن الحارث.

12- عمرو بن الحارث. 13- جفنة بن المنذر الأكبر. 14- النعمان بن المنذر الأكبر. 15- النعمان بن عمرو. 16- جبلة بن النعمان. 17- النعمان بن الأيهم. 18- الحارث بن الأيهم. 19- النعمان بن الحارث. 20- المنذر بن النعمان. 21- عمرو بن النعمان. 22- حجر بن النعمان. 23- الحارث بن حجر. 24- جبلة بن الحارث. 25- الحارث بن جبلة "ابن أبي شمر". 26- النعمان بن الحارث "أبو كرب". 27- الأيهم بن جبلة بن الحارث. 28- المنذر بن جبلة. 29- شراحيل بن جبلة. 30- عمرو بن جبلة. 31- جبلة بن الحارث. 32- جبلة بن الأيهم. وقد نقل ابن خلدون من جملة كتب ألف منها الفصل الذي كتبه من تأريخ آل غسان، وكذلك الفصل الذي دونه عن تأريخ الحيرة. أما الموارد التي نقل منها فصل آل غسان، فتواريخ ابن سعيد والمسعودي وابن الكلبي والجرجاني. وأما الموارد التي نقل منها ابن خلدون مادة فصله عن تأريخ الحيرة، فتواريخ السهيلي، وأبي عبيدة والطبري وابن إسحاق والمسعودي وابن سعيد والجرجاني والبيهقي1. وأكثر اعتماده في النقل على الطبري

_ 1 ابن خلدون "2/ 259 وما بعدها".

وقد اكتفى ابن خلدون بالنبذ التي أخذها من هذه الموارد ولم يُبدِ رأيه فيها ولم يرتبها ترتيبًا زمنيًّا مع ذكر أهم الأعمال التي قام بها كل ملك من أولئك الملوك كما فعل حمزة مثلًا، فأورد أسماء ملوك الغساسنة، كما ذكرتها الموارد التي أخذ منها، أو نقلها في شيء من الاختصار، فنقل قائمة المسعودي، والمسعودي نفسه لا يتقيد بالترتيب والتدقيق، ونقل قائمة الجرجاني وتبدأ بثعلبة بن عمرو شقيق جذع بن عمرو وقائل ملك سليح. وتنتقل بالملك من ثعلبة إلى ابنه الحارث بن ثعلبة، وهو ابن مارية عند بعضهم، يليه ابنه المنذر، ثمن، ثم ابنه النعمان، ثم أبي بشر بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة على رواية بعض النسابين أو أبي بشر بن عوف بن الحارث بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن، ثم الحارث الأعرض، ثم ابن أبي شمر، ثم عمرو بن الحارث الأعرج، ثم المنذر بن الحارث الأعرج، ثم الأيهم بن جبلة بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، ثم ابنه جبلة1. وقد ناقش نولدكه في كتابه عن آل غسان هذه القوائم التي نقلها ابن خلدون كما ناقش غيرها من القوائم التي وجدها في التواريخ المخطوطة أو المطبوعة التي تمكن من الحصول عليها، وأظهر ما فيها من خلل ونقص في نهاية ذلك البحث2.

_ 1 ابن خلدون "2/ 280". 2 "ص58 وما بعدها" من النص العربي، "وصفحة 53" من النص الألماني.

الفصل الحادي والأربعون: العرب والحبش

الفصل الحادي والأربعون: العرب والحبش مدخل ... الفصل الحادي والأربعون: العرب والحبش صلات العرب بالحبشة صلات قديمة معروفة ترجع إلى ما قبل الميلاد. فبين السواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب وبين السواحل العربية اتصال وثيق قديم، وتبادل بين السكان. إذ هاجر العرب الجنوبيون إلى السواحل الإفريقية وكونوا لهم مستوطنات هناك، وهاجر الأفارقة إلى العربية الجنوبية، وحكموها مرارًا، وقد كان آخر حكم لهم عليها قبل الإسلام بأمد قصير. ويرى بعض الباحثين أن أصل الحبش من غير اليمن من سفوح الجبال، وفي اليمن جبل يسمى جبل "حُبَيْش"، قد يكون لاسمه صلة بالحبش الذين هاجروا إلى إفريقيا وأطلقوا اسمهم على الأرض التي عرفت باسمهم، أي "حبشت" أو الحبشة1. ويرون أيضًا أن "الجعز" أو "جعيزان" كما يدعون كذلك، هم cesani الذين وضع "بليني" منازلهم على مقربة من "عدن". فهم من أصل عربي جنوبي، هاجر إلى الحبشة وكون مملكة هناك2. وإلى هؤلاء نسبت لغة الحبش، حيث عرفت بالجعزية، أي لغة الجعز3.

_ 1 Beitrage, S. 75, 119, Conti Rossini, In Expeditions et Possesslons des gabasat en Arabia, jounal asiatiqye, 1921, p. 5, die araber I, S. 114, E. Littmann, In: Handbuch der orietalistik, III, 2-3, 350, 376 2 Die Araber, II, S. 274 3 Die Araber, I, S. 114

ويظن أن العرب الجنوبيين هم الذين موَّنوا السواحل الإفريقية المقابلة بالعناصر السامية. وكانوا قد هاجروا مرارا إليها، ومن بين تلك الهجرات القديمة، هجرة قام بها السبئيون في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد هاجر معهم "الحبش" في ذلك الوقت أيضًا. وقد توقف سيل الهجرات هذا حين تدخل "البطالمة" في البحر الأحمر، وصار لهم نفوذ سياسي وعسكري على جانبي هذا البحر. غير أنها لم تنقطع انقطاعًا تامًّا؛ إذ يرى بعض الباحثين أن العرب كانوا قد دخلوا الحبشة والسواحل الإفريقية المقابلة فيما بعد الميلاد أيضًا. فنزحوا إليها فيما بين السنة "232" والسنة "250" بعد الميلاد مثلًا، حيث ركبوا البحر ونزلوا هناك1. وقد تبين أن السبئين كانوا قد استوطنوا في القرن السادس قبل الميلاد المناطق التي عرفت باسم "تعزية" ta'izziya من أرض "أريتريا" ونجد الحبشة وكونوا لهم حكومة هناك. وأمدوا الأرضين التي استولوا عليها بالثقافة العربية الجنوبية2. ولم يقطع هؤلاء السبئيون صلاتهم بوطنهم القديم، بل ظلت أنظارهم متجهة نحوه في تدخلهم. وهم في هذا الوطن بشئونه وإرسالهم حملات عليه واحتلالهم له في فترات من الزمن ولعل ما جاء في أحد النصوص من "مصر" الحبشة، قصد به هؤلاء الذين كانوا قد استوطنوا تلك المنطقة من إفريقيا3. وفي القرن السادس قبل الميلاد، كان الأوسانيون قد نزحوا إلى السواحل الإفريقية الشرقية، فاستوطنوا الأرضين لـpemba ولـ"زنزبار" zanzibar وهي "عزانيا" azania، وتوسعوا منها نحو الجنوب. وقد عرف هذا الساحل في كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"، اسم ausaniteae، وهو اسم يذكرنا بـ"أوسان". وقد ذكر مؤلف الكتاب، أنه كان خاضعًا في أيامه "القرن الأول بعد الميلاد"، لحكام 4mapharitis. ويريد بهم حكام دولة "سبأ وذو ريدان"5. وقد عثر الباحثون على حجر مكتوب في حائط كنيسة قديمة بالقرب من

_ 1 Die Araber, I, S. 126 2 Arabien, S. 25 3 Glaser 1076, Arabien, S. 25 4 Periplys Maris Erythrael, 22, Arabien, S. 25 5 Arabien, S. 25

"أكسوم"، وإذا به كتب بالسبئية، وفيها اسم الآلهة السبئية "ذت بعدن" "ذات بعدن" "ذات البعد" وعثر على بقايا أعمدة في موضع "يحا" الواقع شمال شرقي "عدوة" adua، تدل على وجود معبد سبئي في هذا المكان، كما عثر على مذبح سبئي خصص بالإله "سن" "سين". وعثر على كتابات وأشياء أخرى تشير كلها إلى وجود السبئين في هذه الأرضين1. وعرف ملك الحبش بـ"النجاشي" عند العرب. واللفظة لقب تطلقه العربية على كل من ملك الحبشة، فهي بمنزلة "قيصر"، اللفظة التي يطلقها العرب على ملوك الروم، و"كسرى" التي يطلقونها على من حكم الفرس، و"تبع" التي يطلقونها على من يحكم اليمن. أما في العربية الجنوبية، فقد أطلقت لفظة "ملك" على من ملك الحبشة. وقد ورد "ملك أكسمن" أي "ملك أكسوم" وورد "ملك حبشت"، أي ملك الحبشة، فأخذ العرب اللفظة من الحبش. وهي في الحبشية بمعنى جامع الضريبة، والذي يستخرج الضريبة، فهي وظيفة من الوظائف في الأصل، ثم صارت لقبًا2. وورد في بعض النصوص العربية الجنوبية إذ لقب به "جدرة" مثلًا3. ويظن أن مملكة "أكسوم" التي ظهرت في أوائل أيام النصرانية، قد كانت دولة أقامها العرب الجنوبيون في تلك البلاد، وقد استطاع الباحثون من العثور على عدد من الكتابات تعود إلى ملوك المملكة، دون بعض منها باليونانية مما يدل على تأثر ملوك هذه المملكة بالثقافة اليونانية وعلى وجود جاليات يونانية هناك نشرت ثقافتها في الحبشة، وقد عرفت هذه المملكة بمملكة "أكسوم" "أكسمن" نسبة إلى عاصمتها مدينة "أكسم" "أكسوم"4. وقد كان ملوك أكسوم وثنيين. بقوا على وثنيتهم إلى القرن الرابع أو ما بعد ذلك للميلاد. ويظن أن الملك "عزانا" EZANA وهو ابن الملك "الأعميدا" ELA - AMIDA، هو أول ملك تنصر من ملوك هذه المملكة وذلك لعثور الباحثين على آثار تعود إلى عهده، ترينا القديمة منها أنه كان وثنيًّا، وترينا الحديثة منها

_ 1 Handbuch, I, S. 34 2 Die Araber, II, S. 293 3 Die Araber, I, S. 115, II, S. 295 4 Die Araber, I, S. 114

أنه كان نصرانيًّا، مما يدل على أنه كان وثنيًّا في أوائل أيام حكمه، ثم اعتنق النصرانية، فأدخل شعارها في مملكته، وذلك بتأثير المبشرين عليه1. وفي جملة ما يستدل به على تأثير العرب الجنوبيين في الحبش، هو الأبجدية الحبشية المشتقة من الخط العربي الجنوبي. وقرب لغة الكتابة والتدوين عندهم من اللهجات العربية الجنوبية. وبعض الخصائص اللغوية والنحوية التي تشير إلى أنها قد أخذت من تلك اللهجات. ثم عثور العلماء على أسماء آلهة عربية جنوبية ومعروفة في كتابات عثر عليها في الحبشة والصومال، ووجودها في هذه الأرضين هو دليل على تأثر الإفريقيين بالثقافة العربية الجنوبية، أو على وجود جاليات عربية جنوبية في تلك الجهات. وكما تدخل العرب في شئون السواحل الإفريقية المقابلة لهم. فقد تدخل الإفريقيون في شئون السواحل العربية المقابلة لهم. لقد تدخلوا في أمورها مرارًا. وحكموا مواضع من ساحل العربية الغربية ومن السواحل الجنوبية وتوغلوا منها إلى مسافات بعيدة من الداخل حتى بلغوا حدود نجران. ويظهر من الكتابات الحبشية، أن الحبش كانوا في العربية الجنوبية في القرن الأول للميلاد، وقد كانوا فيها في القرن الثاني أيضًا. ويظهر أنهم كانوا قد استولوا على السواحل الغربية، وهي سواحل قريبة من الساحل الإفريقي ومن الممكن للسفن الوصول إليها وإنزال الجنود بها. كما استولوا على الأرضين المسماة بـ KINAIDOKOLPITAE في جغرافية "بطلميوس"2. وورد في نص من النصوص الحبشية، أن ملك "أكسوم". كان قد أخضع السواحل المقابلة لساحل مملكته، وذلك بإرساله قوات برية وبحرية تغلبت على ملوك تلك السواحل من الـ"ARRHOBITE" "الأرحب" "الأرحبية" "أرحب"3 والـ kinaidokolpite، وأجبرتهم على دفع الجزية، وعلى العيش بسلام في البر

_ 1 Handbuch, S. 34, D.H. Muller, Epigraph, S 2 44, Aksum Expedition, 1913, BD, IV. S. 32 3 "أرحب: حي أو مكان. وفي المعجم: أنه مخلاف باليمن يسمى بقبيلة كبيرة من همدان"، "أرحب: بلد على ساحل البحر بينه وبين ظفار نحو عشرة فراسخ"، تاج العروس "2/ 492"، "طبعة الكويت"، "رحب".

وفي البحر. ويرى بعض الباحثين أن المراد بـ"Arrhabite" بدو الحجاز. وأن Kinaidokolpite، هم "كنانة". وأن السواحل التي استولى الأحباش عليها تمتد من موضع "لويكه كومه" leuke kome "القرية البيضاء" إلى أرض السبئيين1. ويرى "فون وزمن" أن احتلال الحبش لأرض Kinaidokolpitae، الأرض المسماة باسم قبيلة لا نعرف من أمرها شيئًا، والتي ورد اسمها في كتابة Monumentum adulitanum فقط وفي جغرافية "بطلميوس"، كان قبل تدوين تلك الكتابة وربما في حوالي السنة "100" بعد الميلاد. ويراد بها ساحل الحجاز وعسير من ينبع ianbia في الشمال إلى السواحل الجنوبية الواقعة على البحر العربي شمال "وادي بيش"، فشملت الأرض المذكورة والتهائم والساحل كله2. غير أننا نجد أن مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" يشير من جهة أخرى إلى أن الساحل الإفريقي المسمى بـ"تنجانيقا" في الوقت الحاضر كان في أيدي الحميريين في ذلك الوقت3. ومعنى ذلك أن ملك حمير استطاع في أيام ذلك المؤلف من الاستيلاء على ذلك الساحل ومن ضمه إلى ملكه. كما فعل أهل حضرموت وعمان فيما بعد. ووردت جملة "أحزب حبشت" في النص الموسوم بـ"cih 314 + 954". وهي تشير إلى وجود "أحزاب" أي جماعات من الحبش في العربية الجنوبية. وقد يراد بها مستوطنات حبشية وقوات عسكرية كانت قد استقرت في تلك البلاد4. كما وردت في النص الموسوم بـryckmans 535 الذي يتحدث عن حرب أعلنها "الشرح يحضب" على "أحزب حبشت"، و"ذي سهرتن" و"شمر ذي ريدان"5. وأشار "أصطيفان البيزنطي" إلى قوم دعاهم abasynoi، يظهر من قوله أن مواطنهم كانت في شرق حضرموت. ويفهم من كلامه أن هؤلاء كانوا حبشًا

_ 1 Beltrage, S. 119 2 Le Museon, 1964, 3-4, P. 472 3 Le Museon, 1964, 3-4, P. 480 4 Die Araber, II, S. 275 5 Le Museon, 1956, P. 154, Die Araber, II, S. 275

يقيمون في هذه الأرضين. وقد يكونون قد استولوا عليها بالقوة وألحقوا ما استولوا عليه بمملكة أكسوم1. وورد في كتابات تعود إلى أيام "علهان نهفان"، بأن هذا الملك كان قد تفاوض مع "جدرت" "جدرة" ملك "أكسوم" والحبشة لعقد صلح معه. ويظهر من جملة "وأقول وقدمن واشعب ملك حبشت"، أي: "وأقيال وسادات وقبائل ملك الحبشة"، الواردة فيها، أن ملك الحبشة كان يحكم جزءًا من العربية الجنوبية في ذلك الوقت، وإن الملك "علهان نهفان" فتفاوض معه لتحسين العلاقات السياسية فيما بينه وبين الحبش ولضمان مساعدتهم في حروبه مع منافسيه وخصومه2. ويرى "فون وزمن" أن تلك المفاوضات كانت قد جرت في حوالي السنة "180" بعد الميلاد3. وقد عقد "علهان" حلفًا مع الحبش، ويظهر أنه عقده بعد انتهائه من الحرب التي أعلنها على حمير. تلك الحرب التي اشترك الحبش فيها أيضًا وكذلك أهل حضرموت. ولما عقد "علهان" الحلف مع الحبش، كان ابنه "شعر أوتر" قد اشترك معه في الحكم4. ولم يدم الحلف الذي عقد بين "علهان" وابنه "شعر أوتر" من جهة والحبش من جهة أخرى؛ إذ سرعان ما نقض ووقعت الحرب بين "شعر أوتر" وبين "الحبش" على نحو ما ذكرت في أثناء حديثي عن حكم "شعر أوتر". إلا أنه لم يتمكن من القضاء عليهم. ولم يزحهم عن اليمين. بل بقوا في الأرضين التي كانت خاضعة لهم والتي تقع في الجزء الغربي من اليمن5 وقد جاء اسم "جدرت" "جدرة" على هذه الصورة: "جدر نجش أكسم" في النصوص. وورد على هذه الصورة: "جدرت ملك حبشت وأكسمن" في النص الذي وسم بـjamme 6316. ومعنى الجملة الأولى "جدر نجاشي أكسوم".

_ 1 Die Araber, II, S. 275 2 Nami 71 +73, CIH 308 3 Le museon, 1964 3-4, P. 47. F 4 CIH 308, 308a, Le Museon, 1964, 3-4, P. 471 5 Le Museon, 1964, 3-4, P. 475 6 Die Araber, II, S. 284, IV, S. 274

ومعنى الجملة الثانية "جدرة ملك الحبشة وأكسوم". وقد قدر بعض الباحثين زمان حكم هذا النجاشي بحوالي السنة "250" بعد الميلاد1. ويظهر أن الحبش كانوا قد تمكنوا من دخول "ظفار" عاصمة خمير، وذلك فيما بين السنة "190" و"200" بعد الميلاد. وذلك في أيام "لغزز يهنف يهصدق"2. ولا ندري إلى متى بقوا فيها. والظاهر أن حكمهم فيها كان قصيرًا. وقد كان نزول الحبش في أرض اليمن في أيام حكم الملك الحبشي "عذبة" على ما يظن. وكان هذا الملك على صلات حسنة بالرومان، ففتح بلاده للمصنوعات الرومانية النفيسة، وظل الحبش في اليمن في أيامه حتى وفاته، فلما توفي أو عزل تولى ملك آخر مكانه هو "زوسكالس zoskales وقد أدى هذا التغير إلى تبدل الحال؛ إذ اضطر الحبش إلى النزوح من الأماكن التي كانوا قد استولوا عليها. ويرى بعض الباحثين أن ثورة قامت في الحبشة على حكم "عذبة" وأحلت "زوسكالس" محله. فانتهز أهل اليمن فرصة انشغال الحكومة بالاضطرابات التي وقعت بهذه الثورة. ونهضوا على الجيش فأخرجوهم عن ديارهم، وأخرج الحبش من السواحل التي كانوا قد استولوا عليها، المعروفة بـ kinaidokolpitae، ويراد بها ساحل الحجاز وعسير3. ووردت في النص الموسوم بـ"ryckmans 535"، لفظة "وذ ب هـ" "وذبه" ثم ذكرت بعدها جملة: "ملك أكسمن"، أي "ملك أكسوم"، أو "ملك الأكسوميين". وهو الملك الذي استعان به "شمر ذو ريدان". وقد قرأ بعض الباحثين لفظة "وذبه" على هذه الصورة "عذبة" أو "وزبة" وذهبوا إلى أنه ملك الحبشة الذي استعان به "شمر ذو ريدان"4، والذي تدخل في شئون اليمن فيما بين السنة "300" و"320" بعد الميلاد5. ويظهر من اللقب الطويل الذي تلقب به ملك "أكسوم"، أي الحبشة ethiopia وهو الملك "عيزانا" ezana، أن اليمن وما جاورها من أرضين كانت خاضعة

_ 1 Le Museon, 1958, 147, Die Araber, II, S. 285 2 Le Museon, 1964, 3-4, P. 498 3 Le Museon, 1964, 3-4, P. 480 4 Die Araber, II. S. 285 5 Die Araber, II, S. 295

لحكم الحبش في أيامه أيضًا. أما لقبه الذي تلقب به فهو: "ملك أكسوم وحمير وريدان وسبأ وسلحن"، ويذكر بعد هذا اللقب أسماء ثلاثة مناطق إفريقية كانت تحت حكمه، ثم ختم هذا اللقب بتتمته، وهي جملة: "ملك الملوك"1. و"سلحن" "سلحين"، هو قصر ملوك سبأ وذو ريدان بمأرب. وكان الملك "عيزانا" "عزانا"، قد دخل في النصرانية بتأثير المبشر "فرومنتيوس"، الذي أرسله إليه الملك "قسطنطين" ملك البيزنطيين عام "350" للميلاد أو "356". وقد فرض هذا الملك النصرانية على شعبه وأعلنها ديانة رسمية لمملكته كما جعلها الديانة الرسمية للعربية الجنوبية2. وكانت العربية الجنوبية خاضعة لحكم أبيه، ولعله هو الذي أدخلها في حكمه إذ كان أبوه وهو "الأعميدا" ella' amida، قد لقب نفسه باللقب المذكور3. ويرى بعض الباحثين أن حكم "عيزانا" لم يكن فيما بين السنة "330" و"350" بعد الميلاد أو بعد ذلك كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، بل كان في حوالي السنة "450" للميلاد. ويرى أن ملكًا آخر كان قد تدخل في شئون اليمن واستولى على ساحل Kinaidokolpitae، هو الملك "سمبروتس" sembruthes وقد حكم على رأيهم في حوالي السنة "400" بعد الميلاد4. ويرى بعض الباحثين أن الحبش استولوا على العربية الجنوبية بعد وفاة "شمر يهرعش"، وأن ذلك كان حوالي السنة "335م". وأن "ثيوفيلس" نصَّر عرب اليمن في حوالي السنة "354م"، إذ أنشأ كنيسة في "ظفار". وقد صار رئيس أساقفة "ظفار" يشرف على الكنائس التي أنشئت في اليمن وفي ضمن ذلك كنيسة "نجران" والكنائس الأخرى التي بنيت في العربية الجنوبية إلى الخليج5. وأعرف تدخل للحبش في العربية الجنوبية، تدخلهم في شئون اليمن في النصف الأول للقرن السادس واحتلالهم اليمن، إذ بقوا فيها أمدًا حتى ثار أهل اليمن

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P. 448 2 Handbuch, I, S. 35, 36 3 Gandbuch, I, S. 36, 104, E. Littmann, Deutsche Aksum Expedltlon 4 Altheim-Stiehl, Geschichte der Hannen, 5, 175, Die Araber, II, S. 295 5 Grohmann, S.29

عليهم، فتمكنوا من إنقاذ بلادهم من الحبش بمعونة من الفرس. وتركوا بذلك اليمن أبدًا. ويظهر من بعض الكتابات أن حصن "شمر" والسهل المحيط به كان في أيدي الحبش، وقد ورد فيها اسم موضع "مخون"، وهو "مخا". ويرد اسم هذه المدينة لأول مرة. وتتناول هذه الكتابات حوادث وقعت سنة "528" بعد الميلاد1. وتبدأ قصة دخول الحبش إلى اليمن على هذا النحو: لما قتل ذو نواس من أهل نجران قريبًا من عشرين ألفًا، أفلت منهم رجل يقال له "دوس ذو ثعلبان" أو رجل آخر اسمه "جبار بن فيض" أو غير ذلك، ففر على فرس له، فأعجزهم حتى خرج فوصل الحبشة، وجاء إلى ملكها، فأعلمه ما فعل "ذو نواس" بنصارى نجران، وأتاه بالإنجيل قد أحرقت النار بعضه، فقال له: الرجال عندي كثير، وليست عندي سفن. وأنا كاتب إلى قيصر أن يبعث إليَّ بسفن أحمل فيها الرجال. فكتب إلى قيصر في ذلك وبعث إليه بالإنجيل المحرق. فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة عبر فيها البحر ودخل اليمن2. وفي رواية أخرى أن "دوس ذو ثعلبان" قدم على قيصر صاحب الروم، فاستنصره على "ذي نواس" وجنوده وأخبره بما بلغ منهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك من بلادنا ونأت عنا، فلا نقدر على أن نتناولها بالجنود. ولكني سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك منا، فينصرك ويمنعك ويطلب لك بثأرك ممن ظلمك. فكتب معه قيصر إلى ملك الحبشة يذكر له حقه وما بلغ منه ومن أهل دينه، ويأمره بنصره وطلب ثأره ممن بغى عليه وعلى أهل دينه. فلما قدم دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر على النجاشي، بعث معه سبعين ألفًا من الحبشة، وأمر عليهم رجلًا من أهل الحبشة يقال له أرياط، وعهد إليه إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم، وأخرب ثلث بلادهم، واسب ثلث نسائهم وأبنائهم. فخرج أرياط ومعه جنوده، وفي جنوده أبرهة الأشرم، فركب البحر ومعه دوس ذو ثعلبان حتى نزلوا بساحل اليمن. وسمع بهم ذو نواس، فجمع إليه حمير ومن أطاعه من قبائل اليمن، فاجتمعوا إليه على

_ 1 Le Museon, 1964, 3-4, P. 438 2 الطبري "2/105"، المحبر "ص368"، تفسير القرطبي "19/ 293".

اختلاف وتفرق لانقطاع المدة وحلول البلاء والنقمة، فلم تكن له حرب، غير أنه ناوش ذا نواس شيئًا من قتال، ثم انهزموا ودخلها أرياط بجموعه. فلما رأى ذو نواس ما رأى مما نزل به وبقومه، وجه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل فيه، فكان آخر العهد به, ووطئ "أرباط" اليمن بالحبشة، فقتل ثلث رجالها وأخرب ثلث بلادها وبعث إلى النجاشي بثلث سباياها، ثم أقام بها1. ويظهر من دراسة هذا المروي أن الرواة كانوا على اختلاف بينهم في حديثهم عن "أصحاب الأخدود" وقد أشار العلماء إلى هذا الاختلاف2. وقد اختلفوا في زمانهم أيضًا، واكتفى بعضهم بقولهم: "وكانوا بنجران في الفترة بين عيسى ومحمد"3. وقال بعضهم: إنهم كانوا باليمن قبل مبعث الرسول بأربعين سنة، أخذهم "يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفًا وثمانين رجلًا، وحفر لهم أخدودًا وأحرقهم فيه4. وجعل بعضهم عدد من قتل من نصارى نجران عشرين ألفًا، وجعله بعضهم اثني عشر ألفًا، وذكر بعض آخر أن أصحاب الأخدود سبعون ألفًا. وقد قتلهم "ذو نواس اليهودي" واسمه "زرعة بن تبان أسعد الحميري" واسمه أيضًا "يوسف" وجعله بعضهم "يوسف بن ذي نواس بن تبع الحميري"5. وجعلوا زعيم نصارى نجران، والذي ثبت النصرانية فيها ونشرها بين النجرانيين رجل من أهل نجران، اسمه "عبد الله بن ثامر". وكان قد أخذ النصرانية عن راهب، رآه فلازمه وتعلق به، وأثر في قومه بشفائه الأمراض بالدعاء لهم إلى الله لشفائهم، فدخل كثير ممن شفوا وبرئوا بدينه، وبذلك انتشرت النصرانية في نجران6. ولم يبين رواة الخبر المتقدم الأسباب التي دعت نجاشي الحبشة إلى الطلب من قائده "أرياط" بأن يقتل ثلث رجال اليمن، ويخرب ثلث البلاد، ويسبي

_ 1 الطبري "2/ 105 وما بعدها"، ابن قتيبة "ص311"، الكشاف للزمخشري "2/ 1594". تفسير البيضاوي "2/ 295". 2 تفسير القرطبي "19/ 287". 3 تفسير القرطبي "19/ 287". 4 تفسير القرطبي "19/ 289". 5 تفسير القرطبي "19/ 290". 6 تفسير القرطبي "19/ 289 وما بعدها".

ثلث النساء وأبناءهم وأن يتبع هذا النظام الثلاثي في العقوبة. ولم يذكروا الموارد التي أخذوا منها خبرهم على طريقتهم في أخذ الأخبار من غير تمحيص. وزعم "ابن الكلبي" أن السفن لما قدمت على النجاشي من عند قيصر، حمل جيشه فيها، فخرجوا في ساحل المندب. فلما سمع بهم ذو نواس، كتب إلى المقاول يدعوهم إلى مظاهرته، وأن يكون أمرهم في محاربة الحبشة ودفعهم عن بلادهم واحدًا. فأبوا، وقالوا: يقاتل كل رجل عن مقولته وناحيته. فلما رأى ذلك، صنع مفاتيح كثيرة، ثم حملها على عدة من الإبل، وخرج حتى لقي جمعهم فقال: هذه مفاتيح خزائن اليمن قد جئتكم بها. فلما وجه الحبشة ثقات أصحابهم في قبض الخزائن، كتب "ذو نواس" إلى كل ناحية أن اذبحوا كل من يريد إليكم منهم. ففعلوا. فلما بلغ النجاشي ما كان من ذي نواس، جهز سبعين ألفًا، عليهم قائدان: أحدهما أبرهة. فلما صار الحبشة إلى صنعاء ورأى ذو نواس أن لا طاقة له بهم، ركب فرسه واعترض البحر فاقتحمه، فكان آخر العهد به1. هذا مجمل ما ورد في كتب المؤرخين الإسلاميين والأخباريين عن ذي نواس. وقد أخذ بعضه مما علق في أذهان أهل اليمن عن ذلك الحادث، وأخذ بعض آخر مما علق بأذهان أهل الكتاب عنه، ويعود الفضل في تدوينه وجمعه إلى القرآن الكريم؛ إذ أشار بإيجاز إليه: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} 2. فكانت إشارته هذه إلى أصحاب الأخدود حافزًا دفع بالمفسرين وأصحاب التأريخ والأخبار على جمع ما علق بالأذهان من هذا الحادث، فجاء على الصورة المذكورة3. ولم يرد إلينا شيء من هذا القصص الذي رواه الأخباريون عن ذي نواس مكتوبًا في المسند. وكل ما ورد مما له علاقة بحادث دخول الحبشة اليمن، هو ما جاء في النص المهم المعروف بنص حصن غراب والموسوم بـrep - epigr. 2633 من أن الأحباش فتحوا أرض حمير وقتلوا ملكها وأقياله الحميريين والأرحبيين.

_ 1 الطبري "2/ 127" "دار المعارف بمصر"، المحبر "ص368". 2 سورة البروج: رقم 85، الآية 4 وما بعدها. 3 Loth, Tabarl's Korancommentar, Die "Leute der Grbe" in ZDMG, 1881, S. 610

ولم يذكر في النص اسم هذا الملك. ويعود تأريخه إلى سنة "640" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "525" للميلاد1. ويرى ونكلر مستندًا إلى نص "حصن غراب" أن "ذا نواس" كان هو البادئ بالحرب، وأن السميفع أشوع وأولاده أصحاب النص كانوا في معية الملك ذي نواس في حملته على الحبشة، غير أنه لم يكتب له التوفيق، وأصيب بهزيمة إذ سقط فهزم جمعه. وعندئذ غزا الحبش أرض اليمن واستولوا عليها. فأسرع السميفع أشوع وأولاده في الذهاب إلى حصن "ماوية" للتحصن فيه ولتقوية وسائل دفاعه، ولم تكن قلوب هؤلاء مع ذي نواس، وإنما أكرهوا على الذهاب معه. وبقوا في حصنهم هذا إلى أن دخل الحبش أرض اليمن، فتفاهم معهم2. وقد أشرت إلى ملخص ما جاء في التواريخ الإسلامية عن ذي نواس وعن حادث تعذيب نصارى نجران، وهو حادث لم يكن بعيد العهد عن الإسلام. فقد أشير إليه بإيجاز في القرآن الكريم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} 3 فجمع المفسرون والأخباريون على ما علق بالأذهان من هذا الحادث ورووا أخبارًا متناقضة متباينة في أصحاب الأخدود. أما رأي اليهود -وهم طرف من أطراف هذا النزاع- عن حادث نجران فلا علم لنا برأي رجاله المعاصرين في الحادث؛ إذ لم يصل إلينا شيء مدون بقلم مؤلف يهودي معاصر له. وقد أخذ الأخباريون -كما قلت- ما كان علق عن ذلك الحادث بأذهان يهود اليمن ويثرب، على لسان وهب من منبه، وأضرابه، أخذوه عن طريق "الرواية والحفظ، فهذا المدون في كتب أهل الأخبار والمنصوص على سنده هو كل ما نعرفه من رأي اليهود المتأخرين في حادث نجران. وأما ما رواه النصارى عنه، وهم الطرف الثاني في النزاع، فإنه أطيب جدًّا وأوضح مما ورد في الموارد الإسلامية وفي الرواية اليهودية الشفوية إذا اعتمدت

_ 1 RIP. EPIGR, V. I. P. 5> Glaser, Die Abessinler. S. 131-132 Mordtmann, in ZDMG, XLIV, 1890. S. 176 2 Winckler, AOF, IV, 1896. "Zur Alten Geschichte Temens und Abessiniens" S. 327. 3 سورة البروج: رقم 85، الآية 4 وما بعدها.

المواد الإسلامية واليهودية على منابع شفوية، هي السماع والرواية، فجاء وصفها للحادث مزوقًا. أما الموارد النصرانية فقد اعتمدت على السماع والمشافهة أيضًا، ولكنها أخذت من موارد ووثائق مسجلة دون بعضها بعد وقوع الحادث بقليل، وكان لتدوينها الحادث أهمية كبيرة بالنسبة لمن يريد تأريخه والوقوف على كيفية حدوثه، وإن كانت لا تخلو أيضًا من المبالغات والتهويل، والعواطف؛ لأنها كتبت في ظروف عاطفية حماسية. ونقلت من محيط للمبالغة فيه مكانه كبيرة ومن أفواه أناس ليس لهم علم بمنطق المحافظة على صدق الواقع. وقد دونت لبعث حمية النصارى على إنقاذ أبناء دينهم المضطهدين في اليمن. وقد أدرك بعضها زمن الحادث وأخذ سماعًا من رجال شهدوه، أو من رجال نقلوا رواياتهم من شهود العيان. فلهذه الوثائق إذن شأن عظيم في نظر المؤرخ. ومن هؤلاء الرحالة: "قزما"، والمؤرخ "بروكوبيوس" المتوفى في حوالي السنة "560" للميلاد1. ومن المتأخرين: المؤرخ "ملالا"2 johannes malala. وقد نقل من كتابة بعض المؤرخرين المتأخرين عنه، مثل "ثيوفانس"3 "theophanes" "758-818" و"سدرينس" georg cedrenus، و"نيقيفورس كالستي"4 nicephorus callissti. وكان "قزما" المعروف بـ cosmas indicopleutes أي "قزما بحار البحر الهندي"، وصاحب كتاب "الطبوغرافية النصرانية" christian cosmography وكتاب "البحار الهندية" "بحار البحر الهندي" indicopleutes في مدينة "أدولس" adulis، الواقعة على ساحل الحبشة على المحيط الهندي ينقل كتابة "بطلميوس" ptolemaeus اليونانية بأمر النجاشي "elesboas" "elesboan" في العهد الذي كان فيه النجاشي يتهيأ لغزو أرض حمير5. فكتب في جملة ما كتبه

_ 1 Procopius, Gistory of the wars, Musil, Palmyrena, P. 336 2 Johannes Malala, Chron, ED: Bonn 3 Theophanes, Chronographia, ZDMG, 1881 4 Nicephorus Callisti, Hist, Eccl, Lib, XVII, Cap. 32 5 ED: Montfaucon, P. 141, ZDMG, 1881, S. 5 مجلة المجمع العلمي الغربي بدمشق: المجلد الثالث والعشرون: الجزء الأول، 1948، "ص18 وما بعدها".

قصة غزو الحبشة لليمن بعد 25 عامًا من وقوعه1. فلروايته عن الحملة شأن كبير لأنها غير بعيدة عهد عن الحادث، ثم إن صاحبها نفسه كان قد أدركها وقد سمع أخبارها من شهود عيان، ولعله كان نفسه من جملة أولئك الشهود، شاهد السفن وهي تحمل الجنود لنقلهم إلى اليمن، واتصل بالرسميين الحبش واستفسر منهم عن الحملة. ويفهم من رواية "قزما"، أن الحملة كانت في أوائل أيام حكم القيصر "يسطينوس" justinus "518-527م"2. أما "ثيوفانس" theophanes و"سدرينوس" cedrenus ومن اعتمد عليهما، فقد جعلوا الحملة في السنة الخامسة من حكم هذا القيصر، وذكروا أن الذي حمل النجاشي على هذا الغزو هو تعذيب ملك حمير لنصارى نجران، وقد قتل هذا الملك3. ويحدثنا "ثيوفانس" و"سدرينوس" عن غزو ثان قام به الحبش على حمير لاعتداءاتهم على تجار الروم، وذلك في السنة الخامسة عشرة من حكم "يوسطنيانوس" justinianus "527-565م"، وفي عهد النجاشي "أدد" adad.أما ملك حمير، فاسمه "دميانوس"damianus. وقد ذكر "ملالا" هذا الحديث محرفًا بعض التحريف، فجعل اسم النجاشي "أندس" andas بدلًا من أدد، وصير اسم ملك حمير "دمنوس" damnus عرضًا عن "دميانوس" damianus، وذكر حملة "أندس" هذه قبل جملة elesbaas. وأشار إلى أن النصرانية كانت قد انتشرت في الحبشة قبل أيام "أندس". وذكر المؤرخان الآخران أن "أدد" تنصر على أثر إحرازه النصر على الحميريين4. وتحدثنا رواية سريانية أن النجاشي المسمى "أيدوك" aidog حارب الملك "أكسينودون xenedon ملك الهنود. ثم حارب "دميون" dimion ملك حمير لاعتدائه على التجار الروم واستيلائه على أموالهم. فانتصر "أيدوك" على ملك حمير، ثم تنصر، وعين على حمير ملكًا نصرانيًّا. فلما مات هذا الملك،

_ 1 J.B. Bury, Gistory of the roman Empire, II, P. 323 2 Cosmas, P. 141, ZDMG, 31, 1877, 66 3 Mordtmann, In ZDMG, 31, 1877, S. 67, Theophanes, 4 I, 346, Cedrenus, I, 656

عذَّب خلفه نصارى نجران، فغزا "أيدوك" حمير وانتصر عليها. وأقام عليها "إبراهام" "إبراهيم"1 abraham. ولا يشك المستشرق "فيل" fell في أن المراد بـ"adad" "andas" "aidog" رجل واحد هو النجاشي "كالب"، وهو elesbaas "كلب إلا أصبحه" "كالب إلا أصبحه". وأما dimion وdimianus وxenodon، فيراد بها "ذو نواس". وقد تحدث "فل" fell بإطناب عن مختلف الروايات الواردة عن النجاشي "كالب" "كلب إلا أصبحه" و"الأعاميدة" "عيلاميده" وعن انتشار النصرانية في الحبشة، وأمثال ذلك، فإليه يرجع من يطلب المزيد2. وفي المرويات اليونانية عن الشهداء أن الذي قام بتعذيب نصارى نجران هو الملك "ذو نواس" dunaas ملك حمير، وأن ذلك كان في السنة الخامسة من حكم "يوسطينوس" justinus، أن الذي غزا اليمن هو النجاشي ela atzbeha elesbas. فلما دخلت جيوشه أرض حمير، فر dunaas إلى الجبال فتحصن فيها، حتى إذا سنحت له الفرصة خرج فقتل من بقي من جيش النجاشي في اليمن واحتل مدينة "نجران" فقام عندئذ elesbas بحملة ثانية فانتصر بها على "dunaas" وعين abrames في مكانه3. وفي جملة ما لحق بقصص الشهداء الحميريين، المناظرة التي جرت بين أسقف "ظفار" المسمى "كريكنتيوس" gregentius وبين herban اليهودي، والظاهر أنها من القصص الذي وضع في السريانية وليست لها قيمة تأريخية بالطبع4. وقد دون "يوحنا الأفسي" john of ephesus المتوفى في حوالي سنة "585" للميلاد في تأريخه الكنسي وثيقة مهمة جدًّا عن حادث تعذيب نصارى نجران، هي رسالة وجهها "مار شمعون" أسقف "بيت أرشام" simon of beth arsham المعاصر لهذا الحادث إلى "رئيس دير جبلة" abt von gabula يصف فيها ما سمعه وما قصَّه عليه شهود عيان من أهل اليمن عن تعذيب نصارى نجران

_ 1 Mordtmann, in ZDMG, 31, 1877, S. 67, Assemani, Bibl. Orient, 2 359, Fell, in ZDMG, 35, 1881, S. 19 3 Mordtmann, in ZDMG, 31, 1877, S. 67, Anecdota Graecca, vol, V, P. I, Cboissonade Ed) 4 Mordtmann, in ZDMG, 31, 1877, S. 69, Bury, I, P. 327

وما لاقوه هناك من أصناف العذاب1. ومنه أخذها البطريق "ديونيسيوس" patriarch dionysius، فأدخلها في تأريخه المؤلف بالسريانية. وقد نشرها "السمعاني" في مؤلفه "المكتبة الشرقية". وتجد هذه الرسالة أيضًا في تأريخ "زكريا" zacharias von mitylene المتوفى في حوالي سنة "568" للميلاد، وهو بالسريانية أيضًا2. وفي الرسالة اختلافات على نسخ الرسالة الأخرى، ولكنها غير مهمة على كل حال ولا تغير من جوهرها شيئًا3. وقد ذكر "شمعون" في رسالته أنه كان قد رافق "إبراهيم" "إبراهام" abraham والد "نونوسوس" nonnosus الشهير في رسالة خاصة أمر بها القيصر "يوسطينوس" justinus الأول إلى ملك الحيرة "المنذر الثالث". وكان ذلك في العشرين من كانون الثاني من سنة "835" من التأريخ السلوقي، وتقابل هذه السنة سنة "524" للميلاد. فلما بلغا قصر الملك، سمعا بأخبار استشهاد نصارى نجران. وعلم به "شمعون" من كتاب وجهه ملك حمير إلى ملك الحيرة، يطلب منه أن يفعل بنصارى مملكته ما فعله هو بنصارى نجران. وقد قرئ الكتاب أمامه، فوقف على ما جاء فيه، وعلم به أيضًا من رسول أرسله في الحال إلى نجران ليأتيه بالخبر اليقين عن هذه الأعمال المحزنة التي حلت بالمؤمنين4. وقد وجه شمعون في نهاية الرسالة نداء إلى الأساقفة خاصة أساقفة الروم ليعلمهم بهذه الفاجعة التي نزلت بإخوانهم في الدين، وإلى بطريق الإسكندرية ليتوسط لدى

_ 1 مجلة المجمع العلمي العربي، بدمشق، المجلد الثالث والعشرون الجزء الأول السنة 1948 "كتاب الشهداء الحميريين"، لمار أغناطيوس أفرام، النصرانية "1/ 61". Fell, "Die Christenvetfolgung, in Sudarabien und Himjarish Athiopischen Kriege nach Abessinischer Uberlieferung" in ZDMG 35, 1881, S. 2. Assemani, Bibi. Orient, I, P. 364, Bury, II, P. 323 2 النصرانية "1/ 61"، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء المذكور "ص18"، اللؤلؤ المنثور في تأريخ الآداب والعلوم السريانية "254"، حمص سنة 1943. Assemani, Bibl. Orient, I, 369, ZDMG.. 35, 1881, S. 3 3 Zacharias, Hisroria Miscellanea, by J.P.N. Land, Entitled Zacharlae Epicopi Mitylenes Aliorumquae Scripta Gisrotica Graeca Plerumque 4 ZDMG, 35, 1881, S. 3, Bury, II, P. 323, Fragmanta Histori, Greega, IV, P. 177.

نجاشي الحبشة في مساعدة نصارى اليمن، كما وجه نداءه إلى أخبار "طبرية" للتأثير على ملك حمير، والتوسط لديه بالكف عن الاضطهاد والتعذيب1. وقد درس عدد من الباحثين هذه الرسالة، ونقدوها، وهي في الجملة صحيحة ووثيقة مهمة لا شك في ذلك بالنسبة إلى من يريد الوقوف على موضوع استشهاد نصارى نجران أما ما جاء فيها على لسان ملك حمير من جمل وعبارات استخلصت على حد قول "شمعون" من الرسالة التي وجهها ملك حمير إلى المنذر، فمسألة فيها نظر، وقضية لا يمكن التسليم بها، فلا يعقل أن يكون ما قيل فيها على لسانه قد صدر منه. وما دون فيها من عبارات بحق الشهيد "حارثة" الحارث" arethas ونصارى نجران لا يعقل أن يكون قد صدر من ملك يهودي. ولكننا لا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل أمر الرسالة التي أرسلها الملك إلى المنذر لحثه على اضطهاد نصارى مملكته مقابل مبلغ يقدمه ملك حمير إليه. ولا داعي يدعو إلى نكرانها والشك فيها. وكل ما نستطيع أن نقوله إن الرسالة صحيحة، ولكن ما دونه شمعون من جمل وعبارات على أنها من كلام ملك حمير، هو من إنشائه وكلامه، لا ترجمة حرفية للكتاب. وخلاصة ما يقال في الرسالة أنها وثيقة مهمة، ولها قيمة تأريخية في الجملة بغض النظر عن التفصيلات الواردة فيها وعن عواطف كاتبها وعن المبالغات التي وردت فيها. وفي مركز صاحبها والمكانة التي كان فيها ما يسوغ صدور مثل هذه الأمور منه ووقفه عليها2. ومن الوثائق التأريخية التي تتعلق بشهداء نجران كتاب ينسب إلى "يعقوب السروجي" في السريانية في نصارى نجران، وقصيدة في رثاء الشهداء لـ"بولس" paulus bishop of eddessa أسقف "الرها" eddassa = edessa ومدحه إياهم، ونشيد كنسي سرياني لـ"يوحنا بسالطس" johannes psaltes رئيس دير قنسرين المتوفى سنة "600" للميلاد3، وميمر ليعقوب الرهاوي4.

_ 1 ZDMG. 35, 1881, S. 3 2 ZDMG, 35, 1881, S. 4 3 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء المذكور "18"، اللؤلؤ المنثور في تأريخ الآدب والعلوم السريانية "254"، وفي رواية أنه توفي في 30 أكتوبر 526 للميلاد راجع: Bury, II, P. 324, ZDMG, XXXI, 324, 363, 400, XXXV, 1881, S. 4 4 النصرانية "1/ 61"، Bedjan, Acta Martyrum et Sanctorum, I, 372, 397

ويظهر مما ورد في "كتاب الشهداء الحميرين"1 وفي رسالة "شمعون الأرشامي" أن "يعقوب السروجي" أسقف "سرجيوبولس" sergiopolis، أي "الرصافة" كان من رجال البعثة المذكورة التي أوفدها القيصر "يوسطين الأول" "يسطينوس" justin I إلى الملك "المنذر". و"الرصافة" sergiopolis هي "متروبولية منطقة الفرات" metropolis of euphratensis بالنسبة إلى نصارى العرب. ويذكر مؤلف الكتاب المذكور أنه عمد وهو في "حيرة النعمان" "حيرتا دي نعمانا" hirtha dhe' na 'mana أحد سادات حمير، واسمه "أفعو"u ' af، وكان أحد الوثنيين الذين جاءوا من اليمن إلى الحيرة، وقد شاهد بنفسه تعذيب نصارى "نجران"2. وقد كلفه ملكه، أي ملك حمير، السفارة عند ملك الحيرة، ولكنه كان رقيق القلب، فرق قلبه وهو في الحيرة على النصرانية، فتنصر على يديه3. وقد نقل مؤلف كتاب الشهداء الحميريين صورة الكتاب الذي أرسله ملك حمير، وقد دعاه "مسروقًا" masruq، إلى "المنذر بن الشقيقة" "منذر بر شقيقة" mundhar bar zaqiqa وهو يحرضه فيه على النصارى4. ولا بد من الإشارة إلى الأثر المهم المنشور باليونانية لـ"يوحنا بولند" johann bolland وجماعته في عشرات المجلدات، وإلى أثر آخر نشره "بويسونا" boissona في اليونانية كذلك في خمسة مجلدات5. فقد دونت في الكتاب الأول قصة الشهد القديس "الحارث" arethas وبقية شهداء نجران، وقصة الحرب التي وقعت بين النجاشي وذي نواس، ودونت في الأثر الثاني مضامين رسالة "مار شمعون". وقد بين "فينند فل" winand fell رأيه فيما جاء في مجموعة "بولند"6 bolland

_ 1 Axei Moberg. The Book of the Himyarites, Lund, 1924, Le Museon, 1963, 3-4, P. 349 2 Shshid, The Book of the Himyarites, In, Le Museon, 1963, 3-4, P. 354 3 Le museon, 1963, 3-4, P. 352 4 The book of himyarites, Chapter XXV 5 النصرانية "1/ 61"، وفي مكتبة الآباء اليسوعيين نسخة عربية من هذه الأعمال: "أعمال البولنديين". Acta Snctorum oct Tem X 721. Antwerp, 1643 6 ZDMG, 35, 1881, S. 5

وللنصوص الحبشية ولا شك أهمية عظيمة عند من يريد تدوين غزو الأحباش لليمن وتأريخ شهداء نجران إذ كانوا الطرف الرئيسي في هذا الحادث، وهم الذين أغاروا على اليمن فقتلوا ملك حمير. لذا وجه الباحثون أنظارهم نحوها وفتشوا عنها، غير أنهم لم يعثروا على نصوص فيها أمور جديدة عن الحادث تنفرد بها. وما عثر عليه ليس بكثير. ومن ذلك كتابة عثر عليها "يوسف سابيتو" j. sapeto أشير فيها باختصار إلى القديس الحارث "حيروت" herut وبقية الشهداء، وجملة مخطوطات حبشية محفوظة في المتحف البريطاني وردت فيها أخبار الشهداء وغزو الحبشة لليمن، وأمر "ذو نواس" المسمى فيها بـ"فنحاس"، وهي لا تختلف في الجملة اختلافًا كبيرًا عما جاء في أعمال "البولنديين" وأعمال القديس "أزقير" التي نشرها "روسيني"، وهو الذي استشهد بأمر ملك حمير "شرحبيل بن ينكف" مع "38" آخرين1. يتبين من بعض الموارد الإغريقية والحبشية أن الأحباش كانوا قد نزلوا بأرض حمير قبل قيام ذي نواس بتعذيب نصارى حمير بسنين، وأنهم انتصروا على5 ذي نواس، فاضطر إلى التقهقر إلى الجبال للاحتماء بها، وأنهم تركوا في اليمن جيشًا لحماية النصارى والدفاع عنهم. فلما مات قائد الجيش ونائب الملك، انتهز ذو نواس هذه الفرصة فأغار على الحبش فتمكن منهم، وعذب من وجد في بلاده من النصارى واضطهدهم، وأغار على نجران، وحاضرها مدة طويلة بلغت سبعة أشهر على زعم الرواية الحبشية. فلما طال الحصار، عمد ذو نواس إلى الخداع والغش، ففاوض النجرانيين على التسليم له، وتعهد إن فتحوا له المدينة، ألا يتعرض لهم بسوء. فلما صدقوه وفتحوا المدينة له، أعمل فيهم السيف، فحمل ذلك الجيش على غزو اليمن2. وورد في كتاب الشهداء الحميرين، ما يفيد بأن الحبش بعد أن نزلوا أرض حمير، عارضهم رجل اسمه "مسروق" وحاربهم وقاومهم، وهاجم مدينة

_ 1 النصرانية "1/ 61 وما بعدها" Sapeto, Biaggio e Mission e Cattllca fra I Mensa I bogos etc, Roma 1857, P. 412, ZDMG, 35, 1881, S. 9, Conti Rossini, Redic. D. Reale Accad. D. Lencei, 1910, Ser, V, Vol, XIX, P. 705 2 ZDMG, 35, 1881, S. 13. Bury, II. P. 323

"ظفار" عاصمة حمير، وكان الحبش قد استولوا عليها وتحصنوا بها، ولما رأى "مسروق" أنه لا يتمكن من التغلب على الحبش الذين كانوا يحاربونه في مدينة "ظفار"، أوفد إليهم كهانًا ويهودًا من طبرية ورجلين من الحيرة كانا نصرانيين في الاسم، يحملون معهم كتابًا يعدهم فيه أنهم إن سلموا له "ظفار" فلن يؤذيهم، بل يعيدهم إلى الحبشة سالمين. فوثقوا بكلامه وصدقوه، وخرجوا إليه وكانوا ثلاث مائة محارب على رأسهم القائد "أبابوت"، فقبض عليهم وغدر بهم، إذ سلمهم إلى اليهود فقتلوهم. ثم أرسل من حرق بيعة ظفار بمن كان فيها من الحبش. عددهم مائتان وثمانون رجلًا، وكتب إلى الحميريين آمرًا بقتل النصارى قاطبة إن لم يكفروا بالمسيح ويتهودوا. وكتب إلى الحارث من أشراف مدينة نجران أن يأتيه مع من عنده من حملة السلاح لحاجته الشديدة إليهم. فلما بلغ الحارث مدينة ظفار، وسمع بما حدث، رجع إلى نجران، فحاصر مسروق المدينة، وطال الحصار، فراسل أهلها على الأمان. فلما فتحوا له مدينتهم، غدر بهم، وأحرق بيعتهم وأحرق خلقًا منهم بالنار رجالًا ونساءً وأطفالًا. وكان بعض قسيسيهم من حيرة النعمان ومن الروم والفرس والحبشة1. فلما تمادى مسروق في غيه وفي قتل النصارى في نجران وغير نجران من مدن اليمن وقراها، سار سيد من سادات القوم اسمه "أمية" إلى الحبشة فأخبر مطرانها "أوبروبيوس" و"كالب" النجاشي بما حل بنصارى اليمن، فأمر "كالب" جيوشه بغزو حمير، فغزتها وقضى على "مسروق" اليهودي، وهو "ذو نواس" في كتب الإسلاميين2. هذه رواية في السبب المباشر لغزو اليمن. وفي رواية أخرى أن الملك "دميون" dimion "دميانوس" dimianos، ملك حمير homeritae، كان قد أمر بقتل التجار الروم الذين كانوا في بلاده وبنهب أموالهم انتقامًا من الروم الذين أساءوا في بلادهم معاملة اليهود واضطهدوهم، فتجنب التجار الروم الذهاب إلى اليمن أو إلى الحبشة وإلى المناطق القريبة من حمير، فتأثرت التجارة مع الحبشة، وتضرر الأحباش، فعرض النجاشي على ملك حمير عروضًا لم يوفق عليها، فوقعت

_ 1 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء المذكور "11 وما بعدها". Fell, in zdmg , 35 1881 , S. 48 2 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء المذكور "15".

الحرب. وتزعم الرواية أن النجاشي لم يكن نصرانيًّا، فقيل له: إن كتب لك النصر فأدخل في دين المسيح. فوافق على ذلك. فلما انتصر، تنصَّر، وانتقم من حمير. ثم أرسل رجلين من ذوي قرابته إلى القيصر يلتمس منه إرسال أسقف وعدد من رجال الدين. وبعد بحث واستقصاء وقع الاختيار على johannes paramonaris من كنيسة القديس يوحنا، فذهب مع عدد من الكهان، فعمد النجاشي وأتباعه، وأقام الكنائس، وأرشد الناس إلى الدين الصحيح1. وقد عرف ذو نواس في النصوص النصرانية باسم dimnus = damian وdamnus = dimianos و"مسروق"2. ونرى تشابهًا كبيرًا بين dimnus وdamian وdamnus وكلمة "ذو نواس" العربية. فالظاهر أنها تحريف نشأ عن هذا الأصل. وأما النصوص الحبشية فقد دعته "فنحاس" phin 'has، وهو اسم من أسماء يهود3. أما النجاشي الذي حارب حمير وغزا أرضها، فقد دعاه "بروكوبيوس" باسم 4hellestheaeus. ودعاه غيره بأسماء قريبة منه مثل elisbahaz = elesbowan وelesboas = elesbaas = ela - atzbeha. ويظهر أنها أخذت من "إيلا أصباح" ela - asbah أو "إيلاصباح" ela - sebah في الحبشية5. ودعي أيضًا باسم آخر، هو aidug، دعاه به "يوحنا الأفسي"6 johannes von ephesus و"أندس" andas وقد دعاه "ملالا" بذلك7. وadad ودعاه به "ثيوفانس" و"سدرينوس" edrenus8. أما في الروايات الحبشية، فقد سمي "كالب"

_ 1 Glaser, Die Abesslnler, S. 175, Bury, II, P. 322, Dillmann, in ZDMG., VII, 357, Noldeke, Tabarl, S. 188 2 Glaser, Die Abessinler, S. 177, Fell, In ZDMG., 35, 8. 17, 1881, Ludolf, Comm. Ad. Hist Aeth., P. 233 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، الجزء المذكور 15. 3 Fell, In ZDMG., 35, 1881, S. 17, Ludolf, Comm.', P. 233 4 Procopius, History of the Wars, P. .189 5 ZDMG., 35, 1881, s' 18 6 Galser, Die Abesslnler, S. 176, ZDMG., 35, 1881, 8. 19, Assemani, Blbl. Orient. I, 359- 7 ZDMG., 35, 1881, S. 19, Malala, P. 434, Glaser, Die Abesslnier, 8. 176 8 Theophanes, I, P. 346, Cedrenus, I, P. 656

1kaleb. فهو إذن "إلا أصبحة كالب" elle ' asbeha kaleb وتعني "إلا" elle = ells "ذو" أو من "آل". وأما "أصبحة"، فاسم أجداده وعشيرته التي انحدر منها. كما أن "ذا نواس"، لا يعني اسم الملك، بل لقب أسرته، فاسمه هو "يوسف". ويكون النجاشي، أي ملك الحبشة الذي جهز الجيش وفتح اليمن هو "كالب" من "آل أصبحة" أو "إلا أصبحة كالب". كما عرف بذلك2. وقد تحول اسم النجاشي ela sebah = elesboass إلى "أصحمة" في العربية. فقد ذكر بعض العلماء أن "أبرهة ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي"3 فـ"أصحمة" إذن هو النجاشي المذكور. والنجاشي ela atybeba = elesboas، وهو ابن النجاشي tayena الذي كان على النصرانية. وقد خلف هذا النجاشي، النجاشي andas الذي كان قد أقسم أنه إذا انتصر في الحرب يتنصر. فانتصر، فدخل في النصرانية. وصارت النصرانية ديانة رسمية للحبشة. وقد لقب tayena بلقب "ملك أكسوم وحمير homer وريدان وسبأ وسلحين" في كتابة من كتاباته، مما يدل على أنه كان قد حكم اليمن4. وقد عثر في خرائب مدينة "مأرب" القديمة، على نص مصاب بتلف في مواضع عديدة منه، تبين من دراسة ما بقي منه أنه مدون بلغة أهل الحبشة، وأنه يتحدث عن غزو بحري لميناء لم يذكر اسمه في النص، وقد يكون ذلك بسبب التلف الذي أصاب النص، قام بذلك الغزو مدون النص، وقد كان في سفينة تبعتها إحدى عشرة سفينة أخرى، فنزل بذلك الميناء وتغلب عليه ونزل المحاربون من سفنهم ودخلوا الميناء، فأخذوا غنائم وأسرى. ثم تلت هذه السفن دفعة ثانية من سفن جاءت محملة بالمحاربين، نزلوا في موضع يقع جنوب الموضع الذي نزل هو فيه. لم يذكر اسمه في النص كذلك. وقد انتصر الغزاة على الأماكن

_ 1 ZDMG. 35, 1881, S. 20 2 Die Araber, III, S. 28 3 تفسير النيسابوري "30/ 163"، "حاشية على تفسير الطبري". 4 Dilimann, in ZDmG, VII, 357, Noldke, Tabari, S. 188, Bury, II, P. 223

التي هاجموها؛ لأنهم كانوا مع الحق والشرع، فكان الله معهم، وكان أهل الميناء على الباطل وضد الشريعة الحقة فعوقبوا بالهزيمة1. والنص المذكور -وإن كان خلوًا من كل إشارة إلى "ذي نواس"، أو إلى اسم "نجاشي" الحبشة، أو إلى زمن وقوع الغزو والأماكن التي وقع عليها- يشير إلى غزو الحبش لليمن في حكم "ذي نواس"، وإلى تغلب الحبش عليه. ويظهر منه القافلة الأولى تركت ساحل الحبشة من موضع "أدولس" "عدولس" "عدولي" adulis على ما يظهر وكانت بإمرة "إلا أصيحة"، فعبرت باب المندب، حتى وصلت إلى ساحل اليمن. وقد اختارت ميناء "مخا" موضعًا للنزول، فنزلت به وتغلبت على أصحابه. ثم جاءت قافلة أخرى نزلت في موضع يقع جنوب هذا الميناء، وتغلبت على أصحابه كذلك. وبذلك تم النصر للحبش. ولم يشر النص إلى أسماء الموانئ التي تحرك منها الجيش، أو الموانئ التي نزل بها في ساحل اليمن. وقد عالج الباحثون هذه الأسماء. فرأى قسم منهم أنها تعني شخصًا واحدًا هو ملك الحبشة الذي حارب ذا نواس. ورأى آخرون أن المراد بـaidug وadad وandas شخص واحد هو نجاشي حكم قبل هذا العهد، أي في القرن الرابع للميلاد، وهو "إلا عاميدة" "علا عاميدة" ela amida، المعاصر للقيصر قسطنطين، وكان أول من تنصر من ملوك الحبشة على بعض الروايات. وذلك لعدم انسجام هذه الرواية التي تنص على تنصر aidug بعد انتصاره على حمير، كما أشرت إلى ذلك، مع روايات أخرى تشير إلى تنصر ملوك الحبشة قبل غزو اليمن هذا بكثير2. وترى الروايات العربية أن ذا نواس لما غُلب على أمره ورأى مصيره السيئ، ركب فرسه وسار إلى البحر فدخله فغرق فيه، أما الروايات الحبشية والإغريقية، فإنها ترى أنه سقط حيًّا في أيدي الأحباش فقتلوه3.

_ 1 Die Araber, III, S. 24. ff, Journ. Af. Semit, Stud, 9 (1964) , p. 56 2 ZDMG, 35, 1881, S. 20 3 ZDMG, 35, 1881, S. 16, Procopius, I, XX, I, Malala. S. 433

وهناك شعر نسب إلى علقمة ذي جدن زعم أنه قائله، هو: أو ما سمعت بقتل حمير يوسفًا ... أكل الثعالب لحمة لم يقتبر؟ وقد استدل منه "فون كريمر" على أن ذا نواس لم يغرق في البحر كما في الروايات العربية الأخرى، بل قتل قتلًا كما ورد في روايات الروم1.

_ 1 ZDMG, 35, 1881, S. 16, von Kremer, Sudarabische Sage, 92, 127

حكم السميفع أشوع

حكم السميفع أشوع: وذكر "بروكوبيوس" أن الذي حكم حمير بعد مقتل ملكهم هو رجل اسمه esimiphaios = esimiphaeus اختاره النجاشي من نصارى حمير ليكون ملكًا على أن يدفع إلى الأحباش جزية سنوية فرضي بذلك وحكم. غير أن من تبقى من جنود الحبشة في أرض حمير ثاروا عليه وحصروه في قلعة، وعينوا مكانه عبدًا نصرانيًّا اسمه "إبراهام" abraham كان مملوكًا في مدينة "أدولس" "عدول" adulis لتاجر يوناني، فغضب النجاشي وأرسل قوة قوامها ثلاثة آلاف رجل لتأديبه وتأديب من انضم إليه. فلما وصلت إلى اليمن، التحقت بالثوار، وقتلت قائدها وهو من ذوي قرابة النجاشي، فغضب hellestheaeus عندئذ غضبًا شديدًا، وسير إليه قوة جديدة لم تتمكن من الوقوف أمام أتباع abram فأنهزمت ولم يفكر النجاشي بعد هذه الهزيمة في إرسال قوة أخرى. فلما مات، صالح abraham خليفته على دفع جزية سنوية، على أن يعترف به نائبًا عن الملك على اليمن، فعين نائبًا عنه1. وذكر "بروكوبيوس" أيضًا أن القيصر "يوسطنيانوس" أرسل رسولًا عنه إلى النجاشي ela atzbeha hellestheaeus وإلى esimiphaeus اسمه "جوليانوس" julianus ليرجو منها إعلان الحرب على الفرس وقطع العلاقات التجارية معهم؛ لأنهما والقيصر على دين واحد، فعليهما مساعدة أبناء دينهم الروم والاشتراك معهم في قضيتهم، وهي قضية عامة مشتركة، على النصارى جميعًا الدفاع عنها

_ 1 Procopius, L, XX 1-2, Bury, II, P. 324, John Malalas, XVIII, 457

وطلب من ملك حمير homeritae خاصة أن يوافق على تعيين "قيس" kaisos = caisus "phylarch" سيدًا على قبيلة معد maddeni، وأن يجهز جيشًا كبيرًا يشترك مع قبيلة معد في غزو أرض الفرس، وكان قيس كما يقول "بروكوبيوس" من أبناء سادات القبائل، وكان شجاعًا قديرًا وكفئًا جدًّا وحازمًا، قتل بعض ذوي قرابة esimiphaeus فانهزم إلى البادية هائمًا. وقد وعد الملك خيرًا، غير أنه لم ينجز وعده، وإذ كان من الصعب عليه اجتياز أرض واسعة بعيدة وطرق طويلة تمر بصحاري وقفار لمحاربة أناس أقدر من قومه في الحرب1. وقد وصل رسول "جستنيان" "يوسطنيان" justinian سنة "531م" إلى ميناء "أدولس" من البحر، ثم ذهب منه إلى "أكسوم" حيث وجد النجاشي ela atybeba واقفًا على عربة ذات أربع عجلات، وقد ربطت بها أربعة فيلة، وكان عاربيا إلا من مئزر كتان مربوط بذهب، وقد ربط على بطنه وذراعيه حليًا من ذهب، وبعد أداء هذا الرسول رسالته، ثار "إبرام" abram على esimiphios، وقضى على حكمه2. وقد رجع السفير فرحًا مستبشرًا بنجاح مهمته، معتمدًا على الوعود التي أخذها من الملكين. غير أنهما لم يفعلا شيئًا، ولم ينفذا شيئًا مما تعهدا به للسفير. فلم يغزوا الفرس، ولم يعين "السميفع أشوع" "قيسًا" "فيلارخًا" على قبيلة معد. وقد تحرش abramos = abram بالفرس، غير أنه لم يستمر في تحرشه بهم، فما لبث أن كف قواته عنهم3. ولا يعقل بالطبع توسط القيصر في هذا الموضوع لو لم يكن الرجل من أسرة مهمة عريقة، له عند قومه مكانة ومنزلة، وعند القيصر أهمية وحظوة، ولشخصيته ولمكانة أسرته، أرسل رسوله إلى "السميفع" لإقناعه بالموافقة على إقامته رئيسًا على قومه. وبهذا يكتسب القيصر رئيسًا قويًّا وحليفًا شجاعًا يفيده في خططه السياسية الرامية إلى بسط سلطان الروم على العرب، ومكافحة الساسانيين. وقد زار "إبرام" abram والد "نونوسوس" nonnosus الذي أرسله

_ 1 Procopius, I, XX, 9-13 2 Bury, II, P. 325. f 3 Procopius, I, XX

"جستنيان" justinian إلى النجاشي وإلى اليمن وإلى معد kaisos = caisos "قيسًا" هذا مرتين، وذلك قبل سنة "530م"، وزاره "نونوسوس" نفسه في أثناء حكمه، فأرسل "قيس" ابنه "معاوية" معه إلى القسطنطينية إلى "يوسطنيان" ثم استقال "قيس"، وصار أخوه رئيسًا على معد، وزار القسطنطينية، فعين "فيلارخا" على فلسطين1. ويظهر من دراسة خبر المؤرخ "بروكوبيوس" أن قيصر الروم المذكور كان قد أرسل رسولًا عنه إلى "النجاشي" وإلى السميفع"، إبان حكم السميفع لليمن، أي قبل ثورة "أبرام" "أبرهة" عليه. ولهذا كلمه الرسول في أمر "قيس"، ولكنه أخفق في إقناعه بالعفو عنه وبالاعتراف به رئيسًا على معد، فلم يعترف به إلى مقتله. فلما توفي، جاء رسول القيصر ثانية إلى النجاشي وإلى أبرهة وإلى "قيس" بمهمة تحريضهم لمعارضة الفرس، وتوحيد كلمتهم. وكان "أبرهة" على عكس "السميفع" على علاقة طيبة بـ"قيس"، وقد قرر تنصيبه رئيسًا على معد. وقد أشار المؤرخ "ملالا" إلى خبر الرسول الذي أرسله القيصر إلى النجاشي لإقناعة بالاشتراك مع الروم في محاربة الفرس، غير أنه لم يذكر اسم الرسول الذي أوفده القيصر إلى بلاط "أكسوم". وقد ذكر أن النجاشي بعد أن تغلب على ملك حمير عين أحد ذوي قرابته ويدعي aggan = anganes على الحميريين2. وأما "يوحنا الأفسي"، فقد دعاه abramios، ودعاه "ثيوفانس" "الحارث"3 arethas. وesimiphaeus الذي نصبه النجاشي ملكًا على حمير بعد مقتل ملكهم اليهودي،

_ 1 تأريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي "4/ 394". Bury, II, P. 26, Fragmenta Historicorum Graecorum, IV, P. 179, Bulletin of the School of oriental and Argican Studies, University of londn, vol, XVI, Part: 3, p. 435. 2 Malala, P. 456, Fell in ZDMG, 35, 1881, S. 34, ZDMG, 7, 473, Bury, II, 324, Malala XVIII, 457 3 Theophanes, I, P. 377, Fell, in ZDMG, 35, 1881, S. 35, Glaser, Mitt, S. 428, S. 69, Seper

هو "السميفع أشوع"، صاحب النص الموسوم بـcih 621 بين العلماء. وقد دونه مع أولاده: "شرحبيل" "يكمل" و"معديكرب يعفر"، وجماعة من سادات القبائل منهم: أبناء ملحم "ملحهم"، وكبراء "كبور" قبائل محرج سيبان ذو نف. وقد كان السميفع أشوع من "بني لحيعت يرخم"، وكان هو وأولاده سادة "الهت" على: "كلعن" "كلعان" أي الكلاع , "ذ يزن" "ذي يزان" "ذي يزأن" و"ذي جدن" و"مثلن" "مثلان" "مطلحن" "مطلحان" و"شرفن" "شرفان" "شرقان" و"حب" "حبم" ويثعن "يثعان" و"يشر" يشرم ويزر ومكرب "مكربم" و"عقهت" "عقهة" و"بزاي" "بزايان" ويلجب "يلجبم" وغيمن "غيمان" "جيمان" ويسب وجبح وجدوى "جدويان" و"كزر" "كزران" و"رخيت" وجردان "الجرد" وقبيل "قبلان" وشرجي "شرجا"1. أما أبناء ملحهم، فقد كانوا على وحظت "وحظة" و"الهان" "الهن" و"سلفن" "سلفان" "السلف"، و"ضيفتن" "ضيفت" "الضيفة" و"ريان" "رثاج" و"رياح" و"ريحن" و"ركب" "ركبن" و"مطلن" "مطلان" و"مطلفن" "مطلفان" و"ساكلن" "ساكلان"، و"زكرد"2. وقد دونوا النص المذكور، لمناسبة ترميمهم وإصلاحهم أسوار ودروب ومنافذ وصهاريج حصن "مويت" "عرمويت"، "ماويت" ماوية" وتحصنهم فيه بعد أن جاء الحبش على أرض حمير ففتحوها، وقتلوا ملكها وأقياله الحميريين والأرحبيين، وذلك في شهر "ذو حجت" "ذي الحجة" من سنة "640" من

_ 1 CIH 621, CIH, IV, III, I, P. 54, REP. EPIG. 2633, REP. EPIG, V, I, P. 5, Mlaker, in Zeitschrift fur Semitistik, Vii, I, 1929, S. 63, LE Muiseon, LXIII, 3-4, 1950, P. 271. 2 Glaser, Die Abessinier, 132

التأريخ الحميري الموافق لسنة "525" للميلاد1. ويظهر أن "السميفع أشوع"، كان من أهل "نصاب"، وكان قد هاجر لسبب لا نعرفه هو وأولاده إلى الحبشة. فأقام بها، ثم عاد فاستقر في "عر مويت" أي في "حصن ماوية"، وأخذ يوسع من هذا الحصن أرضه ويفتح أرضين جديدة ويتقدم نحو الأرضين التي حكمها "ذو نواس" فلما جاهر "ذو نواس" بمناصبة النصرانية والحبش والروم العداء، كلفه الحبش والروم بمهاجمة "ذي نواس" وقدموا له المساعدات المادية من عون عسكري ومالي؛ ليستعين بها في تنفيذ مشروعه هذا. وأخذ يشتري القبائل ويفرض نفوذه عليها بالقوة وبالمال حتى انتهى الأمر بزوال ملك "ذي نواس"، فعين "السميفع" حاكمًا على اليمن ونائبًا عن ملك الحبشة عليها، إلا أن ثورة وقعت فيها، قضت على حكمه، فولى الأحباش شخصًا آخر في مكانه، وذلك بعد السنة "531" للميلاد2. و"شرحب آل لحمى عت يرخم" شرحبيل لحيعت يرخم"، وهو والد "السميفع أشوع"، ولم يكن ملكًا، غير أنه لم يكن من العامة، بل كان من "أقول" الأقيال. وذلك لعدم ذكر لقب الملك بعد اسمه. وعدم نص ابنه "السميفع" على أن والده كان ملكًا. ويجوز أن يكون للمسيفع أشوع أبناء آخرون غير الولدين: "شرحب آل يكمل" "شرحبيل يكمل" و"معديكرب يعفر" المذكورين في النص3. وفي متحف إستانبول نص اسم بـosma. mus. no: 281 نشره وترجمه العالم

_ 1 "سطرو ذن مزندن بعرن مويت"، السطران السادس والسابع من النص، "عرن" الحصن في الحميرية، العرب قبل الإسلام لزيدان "125"، وقد اختلف الباحثون بعض الاختلاف في قراءة أسماء الأعلام الواردة في هذه النص السطر الحادي عشر من النص. G. Hunt, Himyaric Inscriptions of Hisn Ghurab, Translated and Elucidated, 1848, Praetorius, Himjarische Inschriften, in ZDMG., XXVI, 1872, S. 436, J.H. Mordtmann, Neue Himjarische Inschriften, in ZDMG., XXXIX, 1885, S. 230, Von Maltzen, Reise nach Sudarabien, 1873, S. 225, REP. EPIG. 2633, REP. EPIG., V, I, P. 5, Glaser, Zwei Inschriften, S. 86, M. Hartmann, Die Arabische Frage, 1909, S. 367, J. Raymond Wellsted, Travels to the City of the Caliphs, P. 21 Rodiger, Versuch, S. 13 2 Beitrage, S. 92, 120 3 Le Museon LXIII, 3-4, 1950, P. 273

البلجيكي "ريكمنس" g.ryckmans في مجلة le museon، وردت في مطلعه جملة: "نفس قدس سميفع أشوع ملك سبا"، وفي آخره عبارة: بسم رحمنن وبنهو كرشتش غلبن" ومعناها "بسم الرحمن وابنه المسيح الغالب"1. وفي هاتين الجملتين دلالة صريحة على أن السميفع أشوع كان ملكًا على سبأ وأنه كان على دين النصارى. وقد استعمل النص كلمة "كرشتس" بمعنى المسيح ويستعملها أهل الحبشة كذلك. وقد أخذوها، ولا شك من الروم. ويؤيد كون "السميفع أشوع" نصرانيًّا، ما ذكره المؤرخ "بروكوبيوس" من أن الحبشة عينت رجلًا نصرانيًّا من حمير اسمه esimiphaeus ملكًا على حمير، وذلك بعد قتل الملك الحميري الذي عذب النصارى في بلاده، ويقصد به ذو نواس. ولم يكن "السميفع أشوع" ملكًا مستقلًّا كل الاستقلال يتصرف بملكه كيف يشاء، بل كان في الواقع تابعًا لحكومة "أكسوم". يُفهم ذلك صراحة من هذا النص الذي أتحدث عنه. جاء في السطر الثالث منه: "أمراهموا نجشت أكسمن برو وهوثرن"، أي "في أيام أميرهم نجاشي أكسوم بنوا وأسسوا". وجاء في السطر السادس: "أملكن الأبحه ملك حبشت"، أي "ملك الأبخة ملك الحبشة"، ويقصد بـ"الأبخه" نجاشي الحبشة "إلا أصبحة" elle ' asbeha الذي كان ملك الحبشة في ذلك العهد. وعاصمته مدينة "أكسوم"2. وتعني كلمة "نجشت" الواردة في النص ملكًا أو أميرًا في العربية، وقد أخذها العرب من الحبش، وأطلقوها على ملوك الحبشة، وهي "نجاشي" و"النجاشي" في عربيتنا، كما أطلقوا كلمة "قيصر على أباطرة الروم3. وقد ذكرت في النص أسماء "ذويزان" "ذو يزن" و"حسن" "حسان" و"شرحبال" "شرحبيل" قيل "ذو معفرن"، أي قيل المعافر. و"أسودن" أي الأسود "وسميفع" قيل "دو بعدان" "ذ بعدن"، وزرعة قيل مرحبم، أي مرحب "المراحب" و"حارث" و"مرثد" أمراء "ثعبان" و"شرحبيل"

_ 1 Handbuch, S. 105, Note: 4, Le Museon, LIX, 1-4, 1964, P. 165, REP. EPIG. 3904, REP. EPIG., VI, II, P. 376, Le MusSon, LXIII, 3-4, 1950, P. 272, Istanbul, 7600, Bis, Conti Rossini, Storia D'EUopia, Milano, 1925, Vol., I, P. 180 2 LeMus6on, LIX, 1-4, 1946, P. 167 3 Ency., m, P. 817

يكمل"1 وجاء بعض هذه الأسماء في نصوص أخرى، ومنها نص "حصن غراب" المتقدم وقد اشتهر بعض هذه القبائل في الإسلام. ولدينا نص غفل من التأريخ وسمه العلماء بـ rep. Epig. 4069، وردت فيه جملة أسماء، هي: "شرحب آل يكمل" "شرحبيل يكمل" و"شرحب آل يقبل" "شرحبيل يقبل"، و"مرثد علن أحسن" "مرثد علن أحسن" "مرثد علان أحسن"، و"سميفع أشوع" أبناء "شرحب آل لحي عت يرخم" "شرحبيل لحيعت يرخم" أقيال "أقول" "ذو يزان" "ذو يزن" و"جدنم" "ذو جدن" و"يلجب" و"يصبر"2. ويظن أن "السميفع أشوع" المذكور هنا هو الملك الذي نتحدث عنه3. ولم يلقب في هذا النص بلقب ملك، كما لم يلقب به والده كذلك. والظاهر أنه كتب قبل عهد توليه الملك، وأنه لم يكن من الأسرة المالكة، ولكن من أبناء الذوات والأعيان. ووردت في نهاية النص جملة "الرحمن رب السماء والأرض"، وهي عبارة تختلف عن العبارات المألوفة التي نعهدها في النصوص الوثنية القديمة، تظهر منها عقيدة التوحيد والابتعاد عن الآلهة القديمة بكل جلاء4. غير أننا لا نستطيع أن نستخرج منها أن صاحبها كان يهوديًّا كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، أو أنه كان نصرانيًّا5، إنما نستطيع أن نقول إن أصحاب هذا النص كانوا على دين التوحيد وكفى. ومن الأسماء الواردة في هذا النص: "ضيفتن" "ضيفت" "ضيفة" و"ريحم" "ريح" "رياح" و"مهرت" "مهرة" وقبيلة "سيبن" "سيبان"6. وقد تكون مهرت "مهرة"، هي مهرة التي تنسب إلى "مهرة بن حيدان بن عمرو بن ألحاف بن قضاعة" في اصطلاح النسابين7. ويقع "عرمويت"، أي حصن "مويت" "ماوية "في جزيرة بركانية

_ 1 Le Museon, LIX, 1-4, 1946, PP. 167, 171 2 REP. EPIG. VII, I, P. 66, Bosawen, 13 3 Ryckmans 63, Le Museon, LXIII, 3-4, 1950, P. 272, Beitrage, S. 92 4 السطر الحادي عشر من النص. 5 Le Museon, LXIII, 1950, PP. 273, 274 6 السطران الرابع والخامس من النص. 7 منتخبات "100".

تسمى "حصن الغراب" وهو الآن خرابز وقد عثر الباحثون في أنقاضه على كتابة وسمت بـ cih 728 دونها" صيد أبرد من مشن" "صيد أبرد بن مشان"، أحد أقيال "بدش" "باداش". وورد فيها اسم "قنا". وقد كان لهذا الحصن شأن كبير في تلك الأيام لحماية الجزيرة والميناء من الأعداء المهاجمين ومن لصوص البحر. وللدفاع عن التجار الذين كانوا يتاجرون مع إفريقيا والهند. ولهذا اهتم "السميفع أشوع" وأولاده بترميمه وبإصلاحه وتقويته1. وأما ميناء "قنا" الذي ذكرته في مواضع من هذا الكتاب، وهو في الموضع المسمى بـ"بير علي" في الوقت الحاضر على رأي بعض الباحثين، فقد كان من الموانئ المهمة على البحر العربي. وقد كان مرفأ للتجارة الآتية من الشمال، أو من البحر لإرسالها إلى "شبوة" ومواضع أخرى في شمال هذا الميناء2. ومما يلاحظ أن المواضع الآثارية التي على الساحل الجنوبي لجزيرة العرب قليلة معدودة. وتكاد تنحصر في أرض عدن وأبين وحصن الغراب وفي مواضع من أطراف "ظفار" وحول "المكلا" و"الشحر" وساحل مهرة. مع أن السواحل هي من المواضع التي يجب أن تكون في العادة عامرة بالمدن والمرافئ بسبب سهولة اتصالها بالعالم الخارجي. ووقوعها على طرق مائية تجلب إليهن السفن والناس. والظاهر أن وخامة الجو في هذه السواحل وصعوبة حماية الساحل من لصوص البحر، وتفشي الأمراض، وملوحة المياه الجوفية، وأسبابًا أخرى، كانت في جملة ما حال بين الناس وبين بناء المدن على هذه السواحل3. وقد اشتهرت "ظفار" بأنها المرفأ المعد لتصدير اللبان والمر وحاصلات البلاد العربية الجنوبية الأخرى. وكان محاطًا بسور. أما المواضع الأخرى، فلم تكن مسورة في الغالب، وقد أشار "كرب أيل وتر" في أخباره عن حروبه في السواحل الجنوبية أنه خرب مدينة "تفض" في "أبين"، وأحرق مواضع أخرى على البحر، يظهر أنها لم تكن مسورة، ويظهر أن هذه السواحل لم تكن مأهولة مثل الأرضين الشمالية العالية، فلم يعثر الباحثون على كتابات كثيرة فيها

_ 1 Beitrage, s. 910 2 Beitrage, s. 930 3 Beitrage, s. 870

حتى الآن. وصارت مدينة "عدن" ومدينة "قنا" من أهم المرافئ على الساحل الجنوبي1. هذا ولا بد لي هنا من الإشارة إلى كتابة حبشية ناقصة عثر عليها "أحمد فخري" سنة "1947م" بمأرب، فيها إشارة إلى دخول الحبشة إلى اليمن وإن لم ينص على ذلك نصًّا. ويظن أنها تشير إلى استيلاء "إلا أصبحة" النجاشي على اليمن سنة "525" للميلاد. وانتصاره على "ذي نواس"2. ويظهر من هذه الكتابة أن حملة الحبش على اليمن نقلت في قافلتين من السفن: تحركت القافلة الأولى بقيادة النجاشي الذي كان قد احتجز سفينة خاصة به، فعبرت به باب المندب ورست عند ساحل اليمن. وكانت سفينة النجاشي أول سفينة بلغته، ثم تلتها بقية السفن. وقد سقط من الكتابة اسم الموضع الذي رست السفن فيه، ولعله "مخا". فوقعت معارك بين الحبش وبين الحميريين، انتصر فيها الأحباش فأخذوا أسرى وغنائم. ولما كان النص ناقصًا وقد طمست من الكتابة الباقية منه كلمات، فقد صار غامضًا مقتضبًا، لا يفهم منه إلا إشارات3.

_ 1 Beitrage, S. 88 2 Die Araber, III, S. 24 3 Die Araber, III, S. 24

أبرهة

أبرهة: وabraham وabramios، هما اسمان لمسمى واحد، أريد به "أبرهة" المشهور عند أهل الأخبار الذي اغتصب الملك باليمن، ونصب نفسه حاكمًا عليها، ولقب نفسه بألقاب الملوك، وإن اعترف اسميًّا بأنه "عزلي ملكن أجعزين"، أي "نائب ملك الأجاعزة" على اليمن1. وحكم اليمن أمدًا. وترك في نفوس اليمانيين أثرًا قويًّا. ويرى بعض الباحثين أن "كالب أيلا أصبحة"، كان قد أرسل حملة سنة "523" للميلاد على اليمن، حملتها إليها سفن بيزنطية، نزلت في البلاد وتغلبت على "ذي نواس" فهرب "ذو نواس" من "ظفار"، ثم عاد فباغت

_ 1 راجع السطر الخامس من النص.

الحبش وأنزل بهم خسائر كبيرة، واضطهد النصارى وعذبهم. فحمل النجاشي على إرسال حملة جديدة عليه نزلت اليمن سنة "525" للميلاد. وصارت في أيدي الحبش حتى سنة "530" للميلاد. إذ قامت ثورة على الحبشة، وانتهز "أبرهة" الفرصة، فأخذ الأمر بيديه، وبقي حاكمًا على اليمن منذ هذا الوقت تقريبًا حتى سنة "575" للميلاد. وكان قد انتزع الحكم من "السميفع أشوع"، الذي نصبه الحبش ملكًا على اليمن حين دخولهم إليها وعينوا رجلين من الحبش يحكمان معه ويراقبان أعماله لئلا يقوم بعمل يضر مصالحهم1. ولأهل الأخبار روايات عن كيفية استئثار "أبرهة" بالحكم واغتصابه له. لهم رواية تقول: إنه جاء إلى اليمن جنديًّا من جنود القائد الحبش "أرياط" الذي كلفه نجاشي الحبشة بفتح اليمن، فلما أقام باليمن سنين، نازعه في أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشي، حتى تفرقت الحبشة، وخرج أبرهة على طاعة قائده، ثم غدر به وأخذ مكانه2. ورواية أخرى، تقول إن النجاشي أرسل جيشًا قوامه سبعون ألفًا، جعل عليه قائدين، أحدهما: أبرهة الأشرم3. فلما ركب ذو نواس فرسه واعترض البحر فاقتحمه وهلك به، نصب أبرهة نفسه ملكًا على اليمن، ولم يرسل له شيئًا، فغضب النجاشي ووجه إليه جيشًا عليه رجل من أصحابه، يقال له أرياط، فلما حل بساحته، بعث إليه أبرهة: "أنه يجمعني وإياك البلاد والدين، والواجب علي وعليك أن ننظر لأهل بلادنا وديننا ممن معي ومعك، فإن شئت فبارزني، فأينا ظفر بصاحبه كان الملك له، ولم يقتل الحبشة فيما بيننا". فرضي بذلك أرياط، وأجمع أبرهة على المكر به، فاتعدا موضعًا يلتقيان به، وأكمن أبرهة لأرياط عبدًا يقال له: "أرنجده، في وهدة قريب من الموضع الذي التقيا فيه، فلما التقيا سبق أرياط فزرق أبرهة بحربته، فزالت الحربة عن رأسه وشرمت أنفه، فسمي الأشرم، ونهض أرنجده من الحفرة، فزرق أرياط فأنفذه، فقتله"4. وأخذ أبرهة الحكم لنفسه، واستأثر به.

_ 1 J. Ryckmans, L'Inst, P. 320, Grohmann, S. 31 2 الطبري "2/ 125" "دار المعارف". 3 الطبري "2/ 127" "دار المعارف". 4 ويذكر الطبري في خبر آخر أن اسم العبد الذي قتل أرياط "عتودة" الطبري "2/ 128، 129".

وتذكر رواية أخرى، أن النجاشي كان قد وجه أرياط أباصحم "ضخم" في أربعة آلاف إلى اليمن، فأداخها وغلب عليها. فأعطى الملوك، واستذل الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة الأشرم أبو يكسوم، فدعا إلى طاعته. فأجابوه، فقتل أرياط، وغلب على اليمن1. وتذكر رواية أن "أرياط" أخرب مع ما أخرب من أرض اليمن سلحين وبينون وغمدان، حصونًا لم يكن في الناس مثلها. ونسبوا في ذلك شعرًا إلى "ذي جدن"، زعموا أنه قاله في هذه المناسبة2. ويظهر من روايات أخرى أن تلك الحصون بقيت إلى ما بعد أيامه، وذكر أن "أرياط" كان فوق أبرهة، أقام باليمن سنتين في سلطانه لا ينازعه أحد، ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك3. وتجمع روايات أهل الأخبار على أن النجاشي غضب على أبرهة لما فعله باليمن ولا أقدم عليه من قتل أرياط، وأنه حلف ألا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده، ويجز ناصيته، ويهرق دمه. فلما بلغ ذلك أبرهة، كتب إلى النجاشي كتابًا فيه تودد واعتذار وتوسل واسترضاء. فرضي النجاشي عنه، وثبته على عمله بأرض اليمن4. ولما استقام الأمر لأبرهة باليمن، بعث إلى "أبي مرة بن ذي يزن"، فنزع منه امرأته "ريحانة ابنة علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان"، و"علقمة" هو ذو جدن. وكانت ولدت لأبي مرة معديكرب بن أبي مرة، وولدت لأبرهة بعد أبي مرة مسروق بن أبرهة، وبسباسة ابنة أبرهة. وهرب منه أبو مرة5. ولأبرهة ذكر وشهرة في كتب أهل الأخبار والتأريخ. وقد ورد اسمه في الشعر الجاهلي، وضرب به المثل في القوة والصيت والسلطان، حتى لنجد أهل الأخبار يذكرون أسماء جملة أشخاص دعوهم "أبرهة" ذكروا أنهم حكموا اليمن.

_ 1 الطبري "2/ 137" "دار المعارف"، أخبار مكة، للأزرقي "1/ 81 وما بعدها"، "1/ 88"، "طبعة خياط". 2 الطبري "2/ 125"، "دار المعارف". 3 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 87"، "خياط"، الطبري "2/ 128" "سنين"، "دار المعارف". 4 الطبري "2/ 128 وما بعدها" "دار المعارف". 5 الطبري "2/ 130" "دار المعارف".

والظاهر أن الشهرة التي بلغها في أيامه وغزوه القبائل العربية واستعماله القسوة معها، أحاطته بهالة في أيامه تضخمت فيما بعد، فأحيط بقصص وأساطير وصير من اسمه جملة حكام حكموا باسم "أبرهة". فقد ذكروا اسم "أبرهة تبع ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ" وكان يقال له "الرائد"1. وجعلوا لأبرهة هذا ولدين، هما: إفريقس، والعبد ذو الأذعار. وأولد إفريقس شمر يرعش2. وذكروا "أبرهة" آخر، قالوا له: "أبرهة بن شرحبيل بن أبرهة" وسمي "الهمداني" جملة رجال "أبرهة"، وأدخلهم في "الأصابح"3. ويظهر من دراسة اسم "أبرهة" ونعته في الحبشية أن الأخباريين أخذوا فصيروا منها أسماء عربية ربطوا بينها وبين تأريخ اليمن كما فعلوا مع أشخاص آخرين. وقد ضرب "لبيد بن ربيعة العامري" المثل بـ"أبي يكسوم" وهو أبرهة في وجوب الاتعاظ بهذه الدنيا الفانية التي لا تدوم لأحد، فقال: لو كان حي في الحياة مخلدًا ... في الدهر ألقاه أبو يكسوم4. والتبعان كلاهما ومحرق ... وأبو قيس فارس اليحموم5. وقد ترك أبرهة وثيقة مهمة على جانب خطير من الأهمية، وهي النص الذي وسم بـglaser 618 وبـcih 541 عند الباحثين في العربيات الجنوبية6. وهي ثاني نص طويل يصل إلينا من اليمن، يتألف من "136" سطرًا ومن حوالي "470" كلمة7 وتبحث عن ترميم سد مأرب ذي المكانة الخالدة في القصص

_ 1 الطبري "2/ 566" "دار المعارف"، "2/ 111". 2 الإكليل "2/ 53". 3 الإكليل "3/ 143". 4 ديوان لبيد "ص108" "الكويت 1962م". 5 الإكليل "2/ 159". 6 Glaser 618, (+ 553 + 555 + 556) , CIH 541, CIH, IV, II, III, P. 278, Glaser, Zwei Inschriften uber den Dairimbruch von Mareb, in Mlttellungen der Vorderasiatlschen Gesellschaft, , 1897, S. 390, Seper., S. 31-126, Ryckmans, 506, Jamme 546, A. J. Drewes, Inscriptions de L'Ethlople Antique, 1962, 71, 1961, 65. 7 Handbuch, S. 106, Die Araber.J, S. 587, Le Museon, 66, 1953, P. 340, Beeston, In BSOAS, 16, 1954

العربي وتجديده مرتين، وذلك في أيام أبرهة. المرة الأولى في شهر "ذو المدرح" من سنة "657" من التأريخ الحميري المقابلة لسنة "542" للميلاد، والثانية في شهر "ذو معان" "ذ معن" من سنة "658" من التأريخ الحميري، أي في سنة "543" من الميلاد1. وقد افتتح النص بالعبارة الآتية: "بخيل وردا ورحمت رحمنن ومسحو ورح قدس سطر ذن مزندن، إن أبره عزلي ملكن أجعزين رمحز زبيمن ملك سبأ وذ ريدن وحضرموت ويمنت وأعربهموا طودم وتهمت"2 أي "بحول وقوة ورحمة الرحمن ومسيحه وروح القدس سطروا هذا الكتابة. إن أبرهة نائب ملك الجعزيين رمحز زبيمان ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في النجاد وفي تهامة". ويلاحظ أن أبرهة قد لقب نفسه في هذا النص باللقب الرسمي الذي كان يتلقب به ملوك حمير قبل سقوط دولتهم، مع أنه كان "عزلي ملكن أجعزين"، أي نائب ملك الجعزين. والواقع أنه كان قد استأثر بالحكم في اليمن، وحصر السلطة في يديه، وصار الحاكم المطلق، ولم يترك لنجاشي أكسوم غير الاسم، حتى إنه دعاه في هذا النص بـ"ملك الجعز" حسب3. وفي النص حديث عن ثورة قام بها "يزد بن كبشت" "يزيد بن كبشة" من السادات البارزين في اليمن. وكان أبرهة قد أنابه عنه، وجعله خليفته على قبيلتي "كدت" و"دا"4، غير أنه ثار عليه لسبب لم يذكر في النص، وأعلن العصيان. وانضم إليه أقيال "أقول" سبأ و"أسحرن"، وهم: "ذو سحر" و"مرة" و"ثممت" "ثمامة" و"حنش" "حنشم" و"مرثد" و"حنف" "حنفم" "حنيف" و"ذخلل" "ذو خليل" و"أزانن" الأزان" والقيل "معديكرب بن سميفع"، و"هعن" "هعان" وإخوته أبناء أسلم. فلما بلغ نبأ هذه الثورة مسامع "أبرهة"، سير إليه جيشًا بقيادة "جرح ذزبنر" "جراح ذو زبنور"، فلم يتمكن أن يفعل شيئًا، وهزمه

_ 1 F. Praetorius, Bemerkungen zur den beiden grossenInschriften vom Dammbruch zu Marib, in ZDMG, 1899, 5, 15 2 السطور الأولى من النص: CIH 541, glaser 618 3 Glaser, Zwei Inschriftten uber den Dammbruch von Marib, II, 1897, S. 421. 4 "خلفتهوذ ستخلفوا على كدت ردا"، السطر الحادي عشر من النص، Glaser, zwei, s. 401, 413, Seper, 42 , 54

"يزيد"، واستولى على حصن "كدر" "كدار"، وجميع من أطاعه من "كدت" "كدة" ومن "حريب" حضرموت وهاجم "هجن أذمرين" "هجان الذماري" وهزمه واستولى على أملاكه، وحاصر موضع "عبرن" "عبران" "العبر". عندئذ قرر أبرهة معالجة الموقف بإرسال قوات كبيرة لرتق الحرق قبل اتساعه، فجهز في شهر "ذ قيضن" "ذو القيض" "ذو قيضان" من سنة "657" من التقويم الحميري أي سنة "542" للميلاد جيشًا لجبًا من الأحباش والحميريين، وجهة نحو أودية "سبأ" و"صرواح" ثم "نبط" على مقربة من "الوادي" "عبرن" "عبران" "العبر". وفي "نبط" جعل أهل "ألو" "ألوي" و"لمد" والحميريين في المقدمة. أما القيادة، فكانت بأيدي القائدين: "وطح" "وطاح" و"عوده" "ذو جدن". وبينما كان الجيش في طريقه لحرب "يزيد بن كبشة" إذا به يظهر مع عدد من أتباعه أمام "أبرهة" يطلب منه العفو والصفح. أما الباقون، قد تحصنوا في مواضعهم، وأبو الخضوع والاستسلام. وبينما كان أبرهة يفكر في أمر بقية الثائرين إذا به يسمع بخبر سيئ جدًّا، هو تصدع سد "مأرب" وتهدم بعض توابعه، وذلك في شهر "ذ مذرن" "ذو مذران" "ذو المذري" من سنة "657" من تقوم حمير، أي سنة "542" للميلاد. فأمر مسرعًا بتحضير مواد البناء والحجارة، وحدد أجل ذلك بشهر "ذ صربن" "ذو الصرب" من السنة نفسها. وفي أثناء مدة التحضير هذه، افتتح أبرهة كنيسة في مدينة مأرب يظهر أنه هو الذي أمر ببنائها، ورتب لخدمتها جماعة من متنصرة سبأ. ولما انتهى من ذلك عاد إلى موضع السد لوضع أسسه وإقامته مستعينًا بحمير وبجنوده الحبش، ولكنه اضطر بعد مدة إلى السماح لهم بإجازة، ليهيئوا لأنفسهم الطعام وما يحتاجون إليه، وليريحهم مدة من هذا العمل المضني الذي تبرموا منه، وليقضي بذلك على تذمر العشائر التي لم تتعود مثل هذه الأعمال الطويلة الشاقة. ورجع أبرهة في أثنائها إلى مأرب، فعقد معاهدة مع أقيال سبأ وتحسنت الأحوال، وأرسلت إليه الغلات والموارد اللازمة للنباء، ووصلت إليه جموع من الفعلة وأبناء العشائر، فعاد إلى العمل بهمة وجد، فأنجزه على نحو ما أراد، فبلغ طوله خمسة وأربعين "أممًا"، أي ذراعًا، وبلغ ارتفاعه خمسة وثلاثين "أممًا". أما عرضه. فكان أربع عشرة ذراعًا، بني بحجارة حمر من "البلق". وأنجزت أعمال قنواته وأحواضه والمشروعات الفرعية

المتعلقة به في "خبشم" "خبش" وفي "مفلم" "مفلل" "مفلول". وقد دون أبرهة في نهاية النص ما أنفقه على بناء هذا السد من أموال، وما قدمه إلى العمال والجيش الذي اشترك في العمل من طعام وإعاشة من اليوم الذي بدئ فيه بالإنشاء حتى يوم الانتهاء منه في شهر "ذو معن" "ذو معان" من سنة "658" الموافقة لسنة "543" للميلاد. مدينة مأرب، وتقع على أنقاض مأرب القديمة من كتاب: (Gataban and Sheba) ويظهر من النص أن ثورة "يزيد بن كبشة" "يزد بن كبشت" كانت ثورة عنيفة قوية، وأنها شملت حضرموت و"حريب" و"ذو جدن" و"حباب" عند "صرواح". ولكنها فشلت وتغلب أبرهة عليها بمساعدة قبائل يمانية ذكرها في النص1. أما "يزيد بن كبشة" فلا نعرف من أمره في الزمن الحاضر إلا شيئًا يسيرًا، وهو ما ذكره أبرهة في نصه عنه، من أنه عينه عاملًا، ووكيلًا عنه على قبيلة "كدت" "كدة". وهي كندة على رأي أكثر العلماء2.

_ 1 Beitrage, s. 121 2 Glaser, mitt. S. 434

وأما الأقيال الذين انضموا إليه وساعدوه، وهم: "ذو سحر" و"مرة" وثمامة" و"حنش" و"مرثد" و"حنيف" وآل ذو خليل وذو يزان "ذ يزن" "ذو يزن"، و"معديكرب بن سميفع" و"هعن" "هعان" وإخوته أبناء أسلم. فهم يمثلون على الجملة الطبقات الأرستقراطية القديمة في سبأ. فآل ذو خليل وذو سحر، من الأسر التي ذكرت أسماؤها في النصوص المدونة قبل الميلاد. وقد أرخ بأسره "ذي خليل" في نصوص المسند، وذكروا في كتابات السبئيين العتيقة التي تعود إلى أيام المكربين. وكان لهم في أيامهم شأن يذكر في تأريخ سبأ، إذ كان منهم المكربون1. وذكر "الهمداني" اسم جماعة يقال لهم "البحريون"، قال: إنهم من ولد ذي خليل من حمير2. وليس من السهل تشخيص "مرة" و"ثمامة"، فهما من الأسماء المتعددة المذكورة في الكتب العربية. وقد أشير إلى "ثمامة بن حجر" ملك "قصر الهدهاد" في "عمران"3. وذكر الهمداني "بني ثمامة" وقال: إن جبأ مدينة المعافر، وهي لآل الكرندي من بني ثمامة آل حمير الأصغر4، فهل يكون لهؤلاء صلة بـ"ثمامة" النص؟ وذكر بعض الأخباريين اسم ملك من ملوك اليمن سموه "مرثدًا زعموا أنه كان آخر الملوك، وزعم قسم منهم أنه حكم مدة قصيرة بعد "ذي نواس"، فهل صاحب هذا الاسم هو "مرثد" المذكور في النص؟ ولا عبرة بالطبع بما ذكر من أنه كان ملكًا، فقد كان من عادة الأقيال والأذواء التلقب بلقب ملك5. وورد "ذو مراثد بن ذو سحر"، في الموارد العربية6، فجمعت بين "مراثد" و"سحر، وورد اسم "سحر" واسم مرثد في النص، فهل هناك صلة بين هذه الأسماء؟ ويرى "كلاسر" أن "أزان"، هم "يزن"، ومنهم "سيف بن

_ 1 Glaser, mitt. S. 465 2 الصفة"112". 3 Glaser, mitt. S. 458 4 الصفة "54". 5.Glaser, mitt. S. 100 6.Glaser, mitt. S. 100

ذي يزن" الذي ثار على الحبش واستعان بالفرس لإنقاذ بلاده من أيدي الأحباش1. وأما معديكرب بن سميفع، فيرى الباحثون أنه ابن "السميفع أشوع"2. وقد جاء اسمه بين أسماء الأقيال الذين ثاروا على أبرهة، وانضموا إلى ثورة "يزيد بن كبشة". فهم من الأقيال الحاقدين على أبرهة لاغتصاب أبرهة الملك من والده. ولهذا انضم إلى "يزين بن كبشة" سيد "كدت" "كندة" وحارب معه الحبش3. وفي أثناء وجود أبرهة في مأرب قضى على عصيان الأقيال الذين انضموا إلى ثورة "يزيد"، وأبوا الخضوع لحكم أبرهة بعد استسلام يزيد وخضوعه. وكذلك استسلمت قبيلة كدار "كيدار" "كدر"4. وتحسن موقفه بذلك كثيرًا، وأصبح سيد اليمن وصاحب الأمر، أما الذين ساعدوه وآزروه وعاونوه والتفوا حوله، فهم: ذو معاهر5 و"بن ملكن" ابن الملك6 ومرجزف وذو ذرنح7 وعدل "عادل" وذو فيش، وذو شولمان "ذو الشولم"8 و"ذو شعبان"9 "ذو الشعب" وذو رعين "ذرعن"، و"ذو همدان"10 و"ذو الكلاع"11، و"ذ مهدم" "ذو مهد" و"ذ ثت" "ذو ثت" "ذو ثات" و"علسم" و"ذو يزان" "ذ يزن" "ذو يزن"، و"ذو ذبين" "ذو ذبيان" و"كبر حضرموت" كبير حضرموت، وذو فرنة "ذ فرنة". وقد ذكر النص أنهم كانوا إلى جانب الملك، وأنهم كانوا عسل ود وصداقة معه. وهم بالطبع من أسر عريقة، ومن كبراء القوم، وقد وردت أسماء بعض أسرهم في النصوص المدونة قبل الميلاد.

_ 1. Glaser, mitt. S. 101 2 Handbuch, S. 106 3.Beitrage, S. 93 4 "كدر" في النص، السطر 34 من النص. 5 "ذ معهر" في النص السطر 82. 6 "بن ملكن" السطر 83. 7 "ذ ذرنح"، السطر 83 من النص. 8 "ذ شولمن"، السطر 84 من النص. 9 "ذ شعبن"، السطر 84 من النص. 10 "ذ همدن"، السطر 85 من النص. 11 "ذ كلعن"، السطر 85 من النص.

ولم يذكر في النص اسم "كبر حضرموت"، أي كبير حضرموت الذي كان يحكم حضرموت في أيام أبرهة، ويظهر من ذكره مع الرجال الذين حضروا إلى مأرب أنه كان تابعًا لأبرهة، أو أنه كان حليفًا له1. وتدل جملة "بن ملكن"، على أن المراد بها "ابن الملك"، أي "ابن أبرهة"، ولم يشر النص إلى اسمه، فلعله قصد أكبر أولاده. ويرى البعض أنه كان يحكم "وعلان" "ذو ردمان"، وأنه كان يلقب بـ"ذ معهر" "ذو معاهر" "ذو معهر". وقد أشار "الهمداني" إلى "ذي المعاهر". وذكر أنه قصر "وعلان" بـ"ردمان"2. وفي أثناء وجود أبرهة في مأرب، وفدت إليه وفود من النجاشي ومن ملك الروم "ملك رمن" ومن ملك الفرس "ملك فرسن"، ورسل من "المنذر" "رسل مذرن" ومن "الحارث بن جبلة" "رسل حرثم بن جبلت" ومن "أب كرب بن جبلة" "أبكرب بن جبلة" "رسل أبكرب بن جبلت" ومن رؤساء القبائل3. ويلاحظ أن النص قد قدم النجاشي على ملك الروم، كما قدم ملك الروم على ملك الفرس، ثم ذكر من بعد ملك الفرس اسم المنذر والحارث بن جبلة وأبي كرب بن جبلة "أبكرب من جبلت". أما تقديم النجاشي على غيره فأمر لابد منه، وذلك لسيادة الحبشة ولو بالاسم على اليمن، واعتراف أبرهة بسيادة مملكة أكسوم عليه. وفي إرسال مندوب عن النجاشي إلى أبرهة في مهمة سياسية، ودليل ضمني على انفراد أبرهة بالحكم، واستقلاله في إدارة اليمن حتى صار في حكم ملك مستقل، يستقبل وفود الدول ورسلهم ومن بينهم وفد من ملك قامت حكومته بغزو اليمن والاستيلاء عليها. وأما تقديم ملك الروم على ملك الفرس، فلصلة الدين والسياسة بين الحبشة والروم واليمن، فللروم الأسبقية والأفضلية إذن على الفرس. ويلاحظ أيضًا أن النص قد استعمل كلمة "محشكت" للوفد أو الرسل الذين جاءوا إلى أبرهة من النجاشي ومن ملك الروم، فكتب "محشكت نجشين"

_ 1. Glaser, mitt. S. 467 2 Beitrage, s. 39 3 السطر 88 من النص، وما بعده إلى السطر 93.

و"محشكت ملك رمن" أي "رسل النجاشي "سفراء النجاشي" "سفير النجاشي" و"رسل ملك الروم". وتعني كلمة "محشكت" في اللغة السبئية "الزوجة"، فعبر في هذا النص بهذه الكلمة عن معنى "سفير" "سفراء" و"رسل حكومة صديقة مقربة"، فلها إذن. هنا معنى دبلوماسي خاص1. أما بالنسبة إلى رسل "ملك الفرس"، فقد أطلق عليهم كلمة "تنبلت"، فكتب "تنبلت ملك فرس"، أي "وفد ملك الفرس" وذلك يشير إلى أن لهذه الكلمة معنى خاصًّا في العرف السياسي يختلف عن معنى "محشكت"، وأن الوفد لم يكن في منزلة وفدي الحبشة والروم ودرجتهما. ولقد أحدث مجيء مندوب النجاشي "رمحيز زبيمن" ومندوب ملك الروم ومبعوث ملك الفرس، ورسل المنذر ملك الحيرة، والحارث بن جبلة وأبي كرب بن جبلة، أثرًا كبيرًا ولا شك في نفوس العرب الجنوبيين، وفي نفوس الأقيال وقبائلهم، فمجيء هؤلاء إلى اليمن، وقطعهم المسافات الشاسعة، ليس بأمر يسير، وفيه أهمية سياسية كبيرة. وفيه تقدير لأبرهة ولمكانته في هذه البقعة الخطيرة المسيطرة على البحر الأحمر وفمه عند باب المندب، وعلى المحيط الهندي. كما أحدثت الأبهة التي اصطنعها أبرهة لنفسه في اليمن. والقوة التي جمعها في يديه أثرًا كبيرًا ولا شك أيضًا في نفوس المبعوثين الذين قطعوا تلك المسافات للوصول إلى عاصمة سبأ ذات الأثر الخالد في النفوس2. ولم يكن مجيء هؤلاء المبعوثين إلى أبرهة لمجرد التهنئة أو التسلية أو المجاملة أو ما شاكل ذلك من كلمات مكتوبة في معجمات السياسة. ولكن لأمور أخرى أبعد من هذه وأهم، هي جر أبرهة إلى هذا لمعسكر أو ذلك، وترجيح كفة على أخرى، وخنق التجارة في البحر الأحمر، أو توسيعها، ومن وراء ذلك إما نكبة تحل بمؤسسات الروم وتجاراتهم، وإما ربح وافر يصيبهم بما لا يقدر. لقد كان العالم إذ ذاك كما هو الآن، جبهتين: جبهة غربية، وجبهة أخرى شرقية: الروم والفرس. ولكل طبالون ومزمرون من الممالك الصغيرة وسادات القبائل يطلبون ويزمرون، ويرضون أو يغضبون، ويثيبون أو يعاقبون إرضال

_ 1 Glaser, Mitt, S. 408, Praetorius, in ZDMG, 48, S. 650 2 Glaser, mitt. S. 421

للجبهة التي هم فيها. وزلفى إليها وتقربًا. لقد سخر الروم كل قواهم السياسية للهيمنة على جزيرة العرب. أو إبعادها عن الفرس وعن الميالين إليهم على الأقل. وعمل الفرس من جهتهم على تحطيم كل جبهة تميل إلى الروم وتؤيد وجهة نظرهم وعلى منع سفنهم من الدخول إلى البحر الهندي، والإتجار مع بلاد العرب. وعمل المعسكران بكل جد وحزم على نشر وسائل الدعاية واكتساب معركة الدعاية والفكر، ومن ذلك التأثير على العقول. فسعى الروم لنشر النصرانية في الجزيرة، فأرسلوا المبشرين وساعدوهم، وحرضوا الحبشة على نصرها ونشرها، وسعى الفرس لنشر المذاهب النصرانية المعارضة لمذهب الروم والحبشة ولتأييد اليهودية أيضًا. وهي معارضة لسياسة الروم أيضًا. ولم يكن دين الفرس كما نعلم نصرانيًّا ولا يهوديًّا، وإنما هو دين بغيض إلى أصحاب الديانتين. ولم يكن غرض الروم من بث النصرانية أيضًا خالصًا لوجه الله بريئًا من كل شائبة. أما النجاشي الذي أرسل الوفد إلى أبرهة فاسمه "رمحيز زبيمن" "رمحيز زبيمان" كما ذكر ذلك أبرهة نفسه. ولا يعرف من أمر هذا النجاشي شيء كثير، ولا يعرف كذلك أكان قد خلف النجاشي "كالب إيلا أصبحة" kaleb ela asbeha الذي بأمره كان الفتح أم كان خلفًا لخليفته1. وقد أشرت من قبل إلى ما ذكره "بروكوبيوس" وأهل الأخبار عن التوتر الذي كان بين نجاشي الحبشة وأبرهة، وعن امتناع أبرهة عن دفع جزية سنوية إليه، ويظهر أن أبرهة رأى أن من الخير له مصالحة النجاشي والاعتراف بسلطانه اسميًّا، وفي ذلك كسب سياسي عظيم، كما هو كسب للنجاشي ولو صوريًّا، فدفع الجزية له، وتحسنت العلاقات. وأما "ملك رمن" ملك الروم، فلم يذكر "أبرهة" اسمه في نصه. ولكن يجب أن يكون هو القيصر "يوسطنيانوس" justinian الذي حكم من سنة "527" حتى سنة "566" للميلاد، وكان حكمه بعد حكم "يسطين" الذي ولي الحكم من سنة "518" حتى سنة "527" للميلاد. وكان "يوسطنيانوس" "يوسطنيان" قد وضع خطة للتحالف مع الحبش ومع حمير للإضرار بالفرس. وراسل "السميفع أشوع" esimiphaeus للاتحاد معه ولمحاربة الفرس، فلما تولى "أبرهة" الحكم عاد القيصر فاتصل به، وتودد إليه لتنفيذ ما عرضه على "السميفع أشوع"

_ 1.Glaser, mitt. S. 427

في مهاجمة الفرس. فوافق أبرهة على ذلك، وأغار عليهم، غير أنه تراجع بسرعة1. وأما "حرثم بن جبلت"، فهو الحارث بن جبلة ملك الغساسنة، وأما "أبكرب بن جبلت"، فإنه abochorabus المذكور في تأريخ "بروكوبيوس". وقد ذكر هذا المؤرخ أن القيصر "يوسطنيانوس" "يوسطنيان" justinian كان عينه عاملًا "فيلارخا" phylarch على عرب السرسين saracens بفلسطين، وأنه كان رجلًا صاحب قابليات وكفاية، تمكن من تأمين الحدود ومن منع الأعراب من التعرض لها، وكان هو نفسه يحكم قسمًا منهم، كما كان شديدًا على المخالفين له. وذكر أيضًا أنه كان يحكم أرض غابات النخيل جنوب فلسطين، ويحاور عربها عرب آخرون يسمون "معديني" "معد" maddeni هم أتباع لـ"حمير" homeritae2. أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقربه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات نخل كثير عرفت عند الروم بـ phoinikon "واحة النخيل"، أو "غابة النخيل" وهي أرض بعيدة، لا تُبلغ إلا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة. فقبل القبيصر هذه الهدية الرمزية، إذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس" عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعين هذا الرئيس عاملًا "فيلارخًا" على عرب فلسطين3. وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسية بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس" amorkesos الذي سبق أن تحدثت عنه في كلامي على علاقة العرب بالبيزنطيين. و"غابة النخيل" التي ذكرناها، تجاور أرض قبيلة "معد" maddenoi، وكانت معد كما يظهر من أقوال المؤرخ "بروكوبيوس" خاضعة في عهده لحكم الحميريين. وقد ذكرت كيف أن القيصر توسط لدى "السميفع أشوع" ليوافق

_ 1 ZDMG, 35, 1881, S. 36 2 Procopius, I, XIX, 8-16, P. 180, Glaser, Mitt, S. 437 3 Procopius, I, XXX, 2-16, Bulletin of the School of Oriental and African Studies, University of lonon, vol, XVI, Part: 3, 1954, P. 428. Musil, Hegay, P. 307

على تعيين "قيس" رئيسًا على معد. وقد تمردت هذه القبيلة على "أبرهة"، فسير إليها قوة لتأديبها، كما يظهر ذلك من كتابة أمر "أبرهة" بكتابتها لهذه المناسبة. أدبها بقوة سيرها إليها في شهر "ذو ثبتن" من شهور فصل الربيع، فانهزمت معد، وأنزلت القوة بها خسائر فادحة. وبعد أن تأدبت وخضعت، اعترف "أبرهة" بحكم "عمرو بن مذر" عليها، وتراجعت القوة عنها1. وmaddenoi، هي قبيلة ma'addaya التي ذكرها "يوحنا الأفسوسي" john of ephesus مع "طياية" taiyaye في كتابه الذي وجهه إلى أسقف "بيت أرشام" beth arsham، ويظهر من هذا الكتاب أن عشائر منها كانت مقيمة في فلسطين. وفي القرآن الكريم سورة، أشارت إلى سيل العرم، هي سورة سبأ، ورد فيها: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} 2. ولم يحدد المفسرون الوقت الذي تهدم فيه السد3. ولـ"أبرهة" نص آخر، كتبه بعد النص المتقدم، لمناسبة غزوه "غزيو" "معدًا"، في شهر "ذ ثبتن" "ذي ثبت" "ذي الثبت" "ذي الثبات" من شهور سنة "662" من التقويم الحميري الموافقة لسنة "547" أو "535" للميلاد. وهذا النص عثرت عليه بعثة "ريكمنس" مدونًا على صخرة بالقرب من بئر "مريغان". فوسم بـryckmans 506. وقد ترجمه "ريكمنس" g. Ryckmansإلى الفرنسية، ثم إلى لغات أخرى4.

_ 1 Le Museon, LXVI, 1953, 3-4, P. 277, Ryckmans, No. 506 2 سورة سبأ، الآية 15 وما بعدها. 3 تفسيرالطبري "22/ 52 وما بعدها"، تفسير النيسابوري "22/ 50 وما بعدها"، "حاشية على تفسير الطبري" تفسير الآلوسي "22/ 115". 4 تأريخ العرب قبل الإسلام "4/ 396 وما بعدها". Le Museon, 66, 1953, P. 275, Bulletin of the School of Oriental and African Studies, 1954, vol, XVI, Part, 3, P. 435, W. Caskel, Entdeckungen in Arabien S. 27, Sidney Smith, Events in Arabia in the 6th century A. D. BSOAS 1954, P. 435, A. F. L. Beeston, Notes on the Muraighan Inscriptions, In BSOAS, 1954, P. 389.

وفي النص مواضع طمست فيها معالم بعض الحروف، عز بذهابها فهم المعنى وضبط الأعلام. كما أن فيها بعض تعابير معقدة، عقدت على من عالجه فهم المعنى فهمًا واضحًا. ثم هو نص قصير لا يتجاوز عشرة أسطر، واختصر وصف الحوادث حتى صيره وكأنه برقيه من برقيات "التلغراف"، ولكنه مع كل هذا ذو خطر بالغ؛ لأنه يتحدث عن حوادث لم نكن نعرف عنها شيئًا، ويصف الأوضاع السياسية في ذلك العهد، ويشير إلى اتصال ملوك الحيرة بالحبش وإلى سلطان حكام اليمن على القبائل العربية، مثل معد. مع أنها قبائل قوية وكثيرة العدد. وهو ما يؤيد رواية أهل الأخبار في أنه كان لليمن نفوذ على قبائل معد وأن تبايعة اليمن كانوا ينصبون الملوك والحكام على تلك القبائل. وقد تلقب "أبرهة" في هذا النص كما تلقب في نص سد مأرب بلقب الملك الذي كان يتلقب به ملوك اليمن، وهو: "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت "اليمن" وأعرابها في النجاد "طودم"، وفي المنخفضات "تهمتم"، "تهامة"، كما افتتحه بجملة: "نخيل رحمنن ومسحهو"، أي "بحول الرحمن ومسيحه"، وقد سبق لـ"أبرهة" أن افتتح نصه الذي دونه على "سد مأرب" بجملة: "بخيل ودا ورحمت رحمن ومسحهو ورح قدس"، ومعناها: "بحول وقوة ورحمة الرحمن ومسيحة روح القدس"، والجملتان من الجمل التي ترد في نصوص اليمن لأول مرة، وذلك بسبب كون أبرهة نصرانيًّا، وقد صارت النصرانية في أيام احتلال الحبش لليمن ديانة رسمية للحكومة، باعتبار أنها ديانة الحاكمين، وعرف "أبرهة" في النصين بـ"أبره زيبمن"، أي "أبرهة زيبمان"، ولفظه "زي ب م ن" "زيبمن" من ألقاب الملك في لغة الأحباش1. وإليك هذا النص كما دونه "ريكمنس" عن النص الأصيل: "بخيل رحمنن ومسحهو ملكن أبره زبيمن ملك سبأ وذ ريدن وحضرموت ويمنت وأعربهمو طودم وتهمت سطرو ذن سطرن كغزيو معدم غزوتن ربعتن بورخن ذ ثبتن كقسدو كل بنيعمرم وذكي ملكن أبجبر بعم كدت وعل وبشرم بنحصنم بعم سعدم وم. خ ض. ووضرو قدمي جيشن على بنيعمرم كدت وعلى ود. ع. ز. رن. مردم وسعدم بود بمنهج تربن وهرجو وأزروا ومنمو ذ عسم ومخض ملكن

_ 1 Le museon, 1953, 3-4 p. 279

بحلبن ودنو كظل معدم ورهنو وبعدنهو وزعهمو عموم بن مذرن ورهنهمو بنهو وستخلفهو على معدم معدم وقفلو بن حلبن بخيل رحمنن ورخهو ذ لئي وسثي وست ماتم"1. ونصه في عربيتنا: "بحول الرحمن ومسيحه. الملك أبرهة زبيمان ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت "اليمن" وأعرابها في الطود "الهضبة" وفي تهامة "المنخفضات" سطروا هذه الأسطر لما غزت معد: الغزوة الربيعية بشهر ذو الثبات "ذ ثبتن" "ذو الثبت". ولما غلظ "ثار" كل "بنو عامر". أرسل الملك "أبا جبر" بقبيلة "كدت" كندة وقبيلة "عل" و"بشر بن حصن" "بشرم بن حصنم" بقبيلة "سعد" لحرب "بني عامر" فتحركا بسرعة2 وقدما جيشهما نحو العدو: فحاربت "كدت" كندة وقبيلة "عل" بني عامر ومرادًا، وحاربت "سعد" بواد "بمنهج" ينهج" يؤدي" إلى "تربن" "الترب". فقتلوا من بني عامر وأسروا وكسبوا غنائم3. وأما الملك، فحارب بـ"حلبن" حلبان". وهزمت معد، فرهنت رهائن عنده. وبعدئذ، فاوض "عمرو بن المنذر" "عمرو بن مذرن" وقدم رهائن من أبنائه. فاستخلفه "أقره" على معد. وقفل "أبرهة" راجعًا من "حلبن" "حلبان" بحول الرحمن. بتأريخ اثنين وستين وست مائة". وقد درس بعض الباحثين هذا النص، فذهب بعضهم إلى أنه يشير إلى حملة أبرهة على مكة في العام الذي عرف عند أهل الأخبار بـ"عام الفيل" وأشير إليها في القرآن الكريم4. وذهب بعض آخر إلى أنه يشير إلى غزو قام به أبرهة تمهيدًا لحملة كان عزم القيام بها نحو أعالي جزيرة العرب، فتوقفت عند مكة5.

_ 1 Le museon, 1953, 3-4, p. 277 2 "ومخضو"، "وفي الحديث: أنه مر عليه بجنازة تمخض مخضًا، أي تحرك تحريكًا سريعًا"، اللسان "7/ 231"، "صادر"، "م/ خ/ ض". 3 "ذعسم" "العسم: الاكتساب، والاعتسام: الاكتساب"، اللسان "12/ 402"، "صادر"، "ع/ س/ م". 4 سورة الفيل، الآية فما بعدها"، F. Altheim- R. Stiehi, Araber und Sasaniden, Beriin, 1954, S. 200-207, Flnanzgeschicht3e der Spatantike, S. 145, 353, Le Museon, 1965, 3-4, P. 426 5 W. Caskel, Entdeckungen in Arabien, S. 30, Le Museon, 1965, 3-4, P. 426

وذهب آخرون إلى أن ما جاء في هذا النص لا علاقة له بحملة الفيل، ذلك لأن هذه الحملة كانت في سنة "547" للميلاد على تقديرهم، على حين كانت حملة الفيل سنة:563" على تقديرهم أيضًا1. وذهب "بيستن" إلى أن هذا النص يتحدث عن معركتين: معركة قام بها "أبرهة" في "حلبان": ومعركة كندة وسعد - مراد بموضع "تربن" "الترب" "تربة"، وقد حاربت فيها جماعة من القبائل2. ويظهر من النص أن "أبرهة" غزا بنفسه معدًا في شهر "ذي ثبتن" من ربيع سنة "662 من التقويم السبئي، والتقى بها في موضع "حلبن" "حلبان"، فهزمها وانتصر عليها، فاضطرت عندئذ إلى الخضوع له ومهادنته، وإلى وضع رهائن عنده تكون ضمانًا لديه بعدم خروجها مرة ثانية عليه. فوافق على ذلك. وفيما كان في "حلبان" بعد اتفاقه مع معد، جاءه "عمرو بن المنذر" "عمرم بن مذرن"، وكان أبوه "المنذر" عينه أميرًا على معد، ليفاوضه في أمر "معد" فقابله بـ"حلبان"، وأظهر له استعداد أبيه "المنذر" على وضع رهائن عنده لئلا يتكرر ما حدث، وبحصول اعترافه على تولي عمرو حكم "معد" فوافق أبرهة على ذلك، وقفل "وقفلو" أبرهة راجعًا إلى اليمن، وسوى بذلك خلافه مع معد. وصار "عمرو بن المنذر" رئيسًا على معد بتعيين أبيه له عليها وبتثبيت "أبرهة" هذا التعيين3. و"حلبان" موضع في اليمن في أرض "حضور"، وذكر أنه موضع في اليمن على مقربة من "نجران"، وأنه موضع ماء في أرض "بني قُشَير". وقد وعت ذاكرة أهل الأخبار على ما يظهر شيئًا عن المعركة التي نشبت في هذا الموضع إذ رووا شعرًا للمخبل السعدي بفخر بنصره قومه "أبرهة بن الصباح" ملك اليمن4. وكانت "خندف" حاشيته. ذكروا أنه قال:

_ 1 A. G. Lundin, Yujnaya Arabia W VI Weke (Palestynski Sbornik, 1961, PP. 73, 852) Le Museon, 1965, 3-4, P. 427 2 Le Museon, 1965, 3-4, P. 426, BSOAS, 1954, P. 391 3 في النص ثغرات وألفاظ تجعل من الصعب على الباحث ضبط الترجمة الحرفية والمعنى للنص. 4 البكري، معجم "2/ 461"، "حلبان" "حلبان من أرض الأخروج بين حضور وحدان"، الإكليل "2/ 158"، "حاشية 1".

صَرَموا لِأَبرَهَةَ الأُمورَ مَحَلَّها ... حَلبانُ فَاِنطَلَقوا مَعَ الأَقوالِ وَمُحَرِّقٌ وَالحارِثانِ كِلاهُما ... شُرَكاؤُنا في الصِهرِ وَالأَموالِ1 وأورد "الهمداني" أبياتًا فيها اسم موضع "حلبان" واسم "أبي يكسوم"، وهي قوله: وَيَومَ أَبي يَكسومَ وَالناسُ حُضَّرٌ ... عَلى جَلَبانٍ إِذ تَقَضّي مَحاِمله فَتَحنا لَهُ بابَ الحَصيرِ وَرَبُّهُ ... عَزيرٌ تَمشي بِالسِّيوفِ أَراجِلُه وقد روى هذان البيتان وهما من شعر "المخيل المعدي" في هذا الشكل: وَيَومَ أَبي يَكسومَ وَالناسُ حُضَّرٌ ... عَلى جَلَبانٍ إِذ تَقَضّي مَحاِمله طَوَينَا لَهُم بَابَ الحصينَ ودونَه ... عَزيزٍ يَمشي بالحرابِ مقاولُهُ2. ويظهر من هذا الشعر أن "أبرهة" لما جاء بجيشه إلى موضع "حلبان"، وجد مقاومة، ووجد أبواب الحصن مقفلة، وقد تحصن فيه المقاومون له ودافعوا عنه، فهجم قوم الشاعر عليه، ففتحوا باب الحصن، ودخلوه. أما تأديب "بني عامر"، فلم يقم به"أبرهة" بنفسه، بل قام به قائد اسمه "أبجبر" "أبو جبر"، قاد قبيلتي "كدت"، أي "كندة" و"عل"، وقائد آخر اسمه "بشرم بن حصنم"، أي "بشر بن حصن"، قاد قبيلة "سعدم"، أي "سعد" بنو سعد". وسار القائدان بجيشهما وتقدما بهما إلى "بني عامر"، وحاربا على هذا النحو: حاربت "كندة" و"عل" قبائل سقطت بعض الحروف من اسم كل واحدة منها، فبقي من إحداهما "ود. ع" وبقي من الأخرى "زرن" "ز. رن" وقبيلة "مردم"، أي "مراد". وحاربت "سعد" بوادٍ يؤدي إلى "تربن" "الترب"3، فقتلوا وأسروا "أزروا" وأصابوا غنائم4. ولم يسم النص الوادي الذي يؤدي إلى "الترب".

_ 1 اللسان "1/ 334"، "سادر، تاج العروس "2/ 314"، "طبعة الكويت"، "ضربوا" بدلًا من "صرموا"، البكري "2/ 461". 2 Le museon, 1965, 3-4, p 430 3 "بود بمنهج تربن" السطران الخامس والسادس من النص. 4 السطر السادس من النص.

ويظهر أن موضع "تربن" الذي يؤدي إليه الوادي الذي جرت فيه المعركة، هو موضع "تربة"، مكان في بلاد بني عامر، ومن مخاليف مكة النجدية، على مسافة ثمانين ميلًا تقريبًا إلى الجنوب الشرقي من الطائف1. وذكر أنه وادٍ بقرب مكة على يومين منها، يصب في بستان ابن عامر، حوله جبال السراة، وقيل إنه وادٍ ضخم، مسيرته عشرون يومًا أسفله بنجد وأعلاه بالسراة، وقيل: يأخذ من السراة ويفرغ في نجران، وقيل: موضع من بلاد بني عامر بن كلاب واسم موضع من بلاد بني عامر بن مالك2. و"عمرم بن مذرن"، هو "عمرو بن المنذر" ملك الحيرة، وكان أبوه "المنذر" حليفًا للساسانيين. فيكون قد عاصر "أبرهة" إذن، ويكون "عمرو" ابنه من المعاصرين له أيضًا. وقصد بـ"بنيعمرم"، "بني عامر". وهم "بنو عامر بن صعصعة" من "هوازن"3. ومراد، هي قبيلة مراد التي بها "غطيف". وفي أيام الرسول وفد عليه "فروة بن مسيك المرادي" مفارقًا لملوك كندة. وقد كانت بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعة ظفرت فيها همدان، وكثر فيها القتلى في مراد. وعرفت تلك الوقعة بيوم الروم. ورئيس همدان الأجدع بن مالك والد مسروق4. وأما "سعدم" أي قبيلة "سعد"، التي قادها "بشر بن حصن" في هذه المعركة، فلم يذكر النص هويتها. غير أننا إذا ما أخذنا بشعر "المخبل السعدي" الذي افتخر به بنصرة قومه لأبرهة في يوم "حلبان" وبانضمامهم إليه، ففي استطاعتنا أن نقول حينئذٍ: إن قومه هم "سعدم" أي "سعد" القبيلة المذكورة في النص. و"أبجبر" اسم قد يقرأ "أبو جبر"، وقد يكون "أبو جابر" وقد

_ 1 البكري "1/ 309"، "مادة تربة"، Bulletin of the School of Wriental and African Studies, University of London, VOL, XVI, Part 3, 1954, P. 430 2 تاج العروس "2/ 68 وما بعدها" "طبعة الكويت"، اللسان "1/ 231"، "صادر". 3 الاشتقاق "2/ 177، 178"، Le museon, 3-4, 1953, p. 341 4 ابن الأثير "2/ 123".

يكون "أبجبر" وقد يكون "أبو جبار". وكل هذه الأسماء هي أسماء معروفة عند الجاهلين. وقد ذهب "كستر"m. J. Kister" إلى احتمال كونه "يزيد بن شرحبيل الكندي" أو "أبو الجبر بن عمرو"، وهو من كندة أيضًا1. وهو من "آل الجون" من بطون كندة2. وقد أشير في كتب أهل الأخبار إلى أمير من أمراء كندة عرف بـ"أبي الجبر" وقد ذكر في مقصورة "ابن بريد"3. وروي أنه زار "كسرى" ليساعده على قومه، فأعطاه جماعة من "الأساورة" أخذهم معه ليساعدوه، فلما وصل إلى "كاظمة" سئموا منه، وأرادوا التخلص منه فدسوا السم له في طعامه. ولكنه لم يمت منه، بل شعر بألم منه، فأكرهه الأساورة على أن يكتب كتابًا لهم يحملونه معهم إلى "كسرى" يذكر فيه أنه سمح لهم بالعودة، فكتب لهم كتابًا ثم سافر إلى "الطائف"، فعالجه "الحارث بن كلدة الثقفي"، حتى شفي، فوهبه جارية كانت له اسمها "سمية" أهداها له "كسرى" ثم ذهب إلى اليمن، ولكن عاوده مرضه في طريقة إليها فمات. وقد رأى "كستر" أنه هو "أبو جبر" المذكور في النص4. وأما "بشرم بن حصنم" أي "بشر بن حصن"، أو "بشر بن حصين" أو "بشار بن حصن" أو "بشار بن حصين" أو "بشير بن حصن"، فقد ذهب "لندن" ludin، إلى أنه أحد سادات "كندة"5. لقد أشرت إلى رأي بعض الباحثين في هذه الحملة، وإلى ذهاب بعضهم إلى أنها كانت حملة الفيل، أي حملة أبرهة المذكورة في القرآن الكريم على مكة. كما أشرت إلى رأي آخر، ذكر أن هذه الحملة كانت مقدمة لحملة الفيل، أي حملة

_ 1 Le Museon, 1965, 3-4, P. 434 2 Le museon, 1965, 3-4. p. 436 3 Le museon, 1965, 3-4. p. 434 مقصورة ابن دريد. "ص82" "طبعة الجوائب"، القاهرة 1300 هـ، نزهة الجليس "1/ 484". 4 Le Museon, 1965, 3-4, P. 434 5 Le Museon, 1965, 3-4, P. 435, A. G. Lundin, Yujnaya Arabia W VI Weke Palestyniski Sbornik 1961, PP. 73-84

تجريبية سبقت تلك الحملة. وحجة الفريق الأول ما ورد في بعض الروايات من أن مولد الرسول كان بعد عام الفيل بثلاث وعشرين سنة1. أي في حوالي السنة "547" للميلاد. وهو تأريخ ينطبق مع السنة المذكورة في النص، إذا أخذنا برأي من يجعل مبدأ التقويم الحميري سنة "115" قبل الميلاد2. ومن ورود رواية أخرى في حساب السنين عند قريش، تظهر بنتيجة حسابها وتحويلها أن عام الفيل كان في سنة "552" بعد الميلاد، وهو تأريخ ينطبق مع تأريخ النص أيضًا إذا أخذنا برأي "ريكمنس" في مبدإ التقويم الحميري من أنه كان سنة "109" لا "115" قبل الميلاد3. وأبرهة هذا هو "صاحب الفيل" الذي قصد بفيلته وجنده هدم الكعبة وإكراه الناس على الحج إلى "القُليس" الكنيسة التي بناها بمدينة "صنعاء" في روايات الأخباريين. وهي كنيسة قال عنها أهل الأخبار، إنها كانت عجيبة في عظمتها وضخامتها وتزويقها من الداخل والخارج، حتى إن "أبرهة" لما انتهى من بنائها كتب إلى النجاشي: "إني قد بنيت لك بصنعاء بيتًا لم تبن العرب ولا العجم مثله"4. أو "إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك. كان قبلك"5. ويبالغ أهل الأخبار في وصفها فيذكر "الأزرق"، أنه بناها بجانب قصر غمدان، وأنه أقامها بحجارة قصر بلقيس بمأرب، نقلها العمال والفعلة والمسخرون من مأرب إلى صنعاء. فهدموا ذلك القصر وأخذوا حجره يصلح للبناء من مادة، ثم نقلوه إلى صنعاء لاستعماله في بناء تلك الكنيسة التي بنوها بناءً ضخمًا عاليًا، وجعلوا جدرانها من طبقات من حجر ذي ألوان مختلفة. لون كل طبقة يختلف عن الطبقة التي تحتها أو التي فوقها. وزينوا الجدران بأفاريز من الرخام والخشب المنقوش. وجعلوا الرخام ناتئًا عن البناء، وجعلوا فوق الرخام

_ 1 البدء والتأريخ "4/ 131 وما بعدها"، تأريخ العرب في الإسلام "1/ 91". 2 Le museon, 1965, 3-4, pp. 426, 427 3 Le museon, 1965, 3-4, pp. 427, 428. 4 الأزرقي "1/ 82 وما بعدها"، تفسير الطبري "30/ 193"، تفسير القرطبي "20/ 187". 5 ابن هشام "1/ 43"، ابن كثير، البداية "2/ 169"، "2/ 170 وما بعدها، "مطبعة السعادة، سنة 1932م"، "القاهرة، تفسير ابن كثير "4/ 548 وما بعدها"، "عيسى البابي الحلبي". 191

حجارة سودًا لها بريق، وفوقها حجارة بيضًا لها بريق، فكان هذا ظاهر حائط القليس. وكان عرضه ستة أذرع. وكان للقليس باب من نحاس عشرة أذرع طولًا في أربع أذرع عرضًا. وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه، طوله ثمانون ذراعًا في أربعين ذراعًا معلق العمد بالسياج المنقوش ومسامير الذهب والفضة، ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعًا، عن يمينه وعن يساره، وعقوده مضروبة بالفسيفساء مشجرة، بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة، ثم يدخل من الإيوان إلى قبة ثلاثون ذراعًا في ثلاثين ذراعًا، جدرها بالفسيفساء، فيها صلب منقوشة بالفسيفساء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشر أذرع في عشر أذرع، تغشي عينَ من ينظر إليها من بطن القبة تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة، وكان تحت القبة منبر من خشب اللبخ، وهو عندهم الآبنوس، مفصد بالعاج الأبيض. ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبًا وفضة. وكان في القبة سلاسل فضة1. وفي القبة أو في البيت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعًا يقال لها كعيب، وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها: امرأة كعيب كانوا يتبركون بهما في الجاهلية. وكان يقال لكعيب الأحوزي، والأحوزي بلسانهم الحر2. وكان أبرهة قد أخذ العمال بالعمل أخذًا شديدًا، وأمر بالعمل في بناء الكنيسة ليل نهار. وإذا تراخى عامل أو تباطأ عن عمله أنزل وكلاؤه به عقابًا شديدًا، يصل إلى قطع اليد. وبقي هذا شأنه ودأبه حتى أكمل بناؤها وسر من رؤيتها، فأصبحت بهجة للناظرين. ونجد في وصف "الأزرقي" ومن تقدم عليه من أهل الأخبار للقليس شيئًا من المبالغة، ولكنه على الإجمال وصف يظهر أنه أخذ من موارده وعته وشاهدته وأدركته. لذلك جاء وصفًا حيًّا نابضًا بالحياة، ينطبق على الكنائس الضخمة التي أنشئت في تلك الأيام في القسطنطينية أو في القدس أو في دمشق، أو في المدن الأخرى. والظاهر من هذا الوصف، أن فن العمارة اليماني القديم قد أثر في شكل بناء هذه الكنيسة، التي تأثرت بالفن البيزنطي النصراني في بناء الكنائس.

_ 1 نهاية الأرب "1/ 382". 2 الأزرقي "1/ 84 وما بعدها"، "1/ 90"، "خياط".

ويذكر "الأزرقي" أن القليس بقي في صنعاء ما كان عليه حتى ولي أبو جعفر المنصور الخلافة، فولى "العباس بن الربيع بن عبيد الله الحارثي" "العباس بن الربيع بن عبد الله العامري" اليمن، فذكر له ما في القليس من ذخائر، وقيل له إنك تصيب فيه مالًا كثيرًا وكنزًا فتاقت نفسه إلى هدمه. ثم استشار أحد أبناء وهب بن منبه وأحد يهود صنعاء فألحا عليه بهدمه وبيَّن اليهودي له أنه إذا هدمه فإنه سيلي اليمن أربعين سنة، فأمر بهدمه، واستخرج ما فيه من أموال وذهب وفضة وخاف الناس من لمس الخشبة المنقوشة التي كانوا يتبركون بها، ثم اشتراها رجل من أهل العراق كان تاجرًا بصنعاء وقطعها لدار له1. وخرب القليس حتى عفي رسمه وانقطع خبره2. وإذا كان ما يقوله الأزرقي نقلًا عن رواة أدركوا تلك الكنيسة من أن أبرهة أقامها بأحجار قصر بلقيس باليمن، فإنه يكون بذلك قد قوض أثرًا مهمًّا من آثار مدينة مأرب، وأزال عملًا من الأعمال البنائية التي أقامها السبئيون في عاصمتهم قبله. وهو عمل مؤسف. وفي صنعاء اليوم موضع يعرف بـ"غرفة القليس"، يظن أنه موضع تلك الكنيسة، وهو موضع حفير صغير ترمى فيه القمامات وعليه حائط ويقع أعلى صنعاء في حارة القطيع بقرب مسجد نصير3. وذكر "الهمداني" اسم قصر دعاه "القليس" نسب بناءه إلى "القليس بن عمرو"، وهو في زعمه من أبناء "شرحبيل بن عمرو بن ذي غمدان بن إلى شرح يحضب". وقال: إنه بناه بصنعاء، وهو بناء قديم، وذكر أيضًا أن "عمرو ينأر ذو غمدان ابن آلي شرح يحضب بن الصوار" هو أول من شرع في تشييد "غمدان" بعد بنائه القديم4.

_ 1 الأزرقي "1/ 86"، نهاية الأرب "1/ 383"، وفي رواية أخرى، أن السفاح أول خلفاء بني العباس، هو الذي أمر بهدمها، البداية، لابن كثير "2/ 170 وما بعدها". "السعادة". 2 البلدان "7/ 156" "القليس". 3 الإكليل "2/ 87"، حاشية لـ"لمحمد بن علي الأكوع الحوالي"، رحلة في بلاد العرب. 4 الإكليل "2/ 86 وما بعدها". السعيدة، لنزيه مؤيد العظم، "1/ 165"، مصطفى مراد الدباغ، الجزيرة العربية "1/ 285".

وقد أمر "أبرهة" ببناء كنيسة في "مأرب" أشار إلى بنائها في نصه الشهير، أقامها في سنة "542م"، ورتب لخدمتها جماعة من منتصرة سبأ، واحتفل هو نفسه بافتتاحها، ولعله استعان ببنائها بحجارة قصور مأرب ومعبدها الكبير، وذلك لأن حجارتها منحوتة نحتًا جيدًا، يجعل من السهل استعمالها في البناء على حين يتطلب الحجر الجديد وقتًا طويلًا وأموالًا باهظة. ولهذا السبب ذهب أهل الأخبار إلى أنه أمر بنقل حجارة قصر مأرب إلى صنعاء. جدار معبد "أوم" "أوام" بمأرب، وهو معبد اله سبأ من كتاب (Qataban and Sheba) لقد أصيب مشروع أبرهة الرامي إلى هدم الكعبة والاستيلاء على مكة بإخفاق ذريع، يذكرنا بذلك الإخفاق الذي مُني به مشروع "أوليوس غالوس". لقد كان في الواقع مشروعًا خطيرًا، لو تم إذن لاتصل ملك الروم بملك حلفائهم وأنصارهم الحبش في اليمن، ولتحقق حلم الإسكندر الأكبر وأغسطس ومن فكر في الاستيلاء على هذا الجزء الخطير من العالم من بعدها، ولتغير الوضع السياسي في الجزيرة من غير شك، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حدث أن مكة التي أريد هدمها هي التي هدمت ملك الحبشة في اليمن، وملك من جاء بعدهم لنجدة أهل اليمن، وملك البيزنطيين في بلاد الشأم وملك الفرس في العراق وفي

كل مكان1. ويظهر من الرواية العربية أن نهاية "أبرهة" كانت بعد عودته من مكة بقليل إذ لازمه الوباء الذي نزل برجال حملته أثناء محاصرتهم لها، ولم يتركه حتى بلغ صنعاء وهو مريض متعب، فهلك بها عند وصوله2. ويجب أن يكون ذلك سنة "570" أو "571" للميلاد. أما المصادر اليونانية، فلم تشر إلى سنة وفاته. ويذكر الأخباريون أن الذي حكم بعد "أبرهة"، هو ابنه "يكسوم". وبه كان أبرهة يكنى. فذلت حمير وقبائل اليمن ووطئتهم الحبشة، وعم أذاهم وقتلوا خلقًا من رجالهم، وأخذوا نساءهم، وأتخذوا أبناءهم تراجمة بينهم وبين العرب3. ويذكر "المسعودي" أن "يكسوم" كان سيئ السيرة في أهل اليمن فعم أذاه سائر الناس، إلى أن هلك بعد عشرين سنة من الحكم4. وذكر "أبو حنيفة الدينوري"، أن "النجاشي" أقر "أبرهة" على سلطان اليمن، فمكث على ذلك أربعين عامًا5. أما ابنه "يكسوم"، فمكث على اليمن تسع عشرة سنة6. وصير "حمزة" مدة حكم أبرهة ثلاثًا وعشرين سنة، مذ قتل "أرياطًا"، الذي حكم على زعمه عشرين سنة. جعل حكم "يكسوم" سبع عشرة سنة، وملك مسروق اثنتي عشرة سنة، ومدة حكم الحبشة، اثنتين وسبعين سنة7. ويرى "كلاسر" أن أبرهة كان قد عين ابنه "أكسوم" "يكسوم" على أرض "معاهر" "معهرن"، وكانت له "ذي معاهر"، فعرف "يكسوم" بـ"ذي معاهر". وفي معاهر "عر وعلن"، أي حصن وعلان8.

_ 1 Noldeke, Geschichte der Perser, S. 188, Paullys – Wissowa Supplementband, VII, 1950, S. 75 2 الطبري "2/ 137" "دار المعارف". 3 الطبري "2/ 139"، مروج "2/ 8 وما بعدها" "محيي الدين"، المعارف "278". 4 مروج "2/ 8 وما بعدها" محيي الدين". 5 الأخبار الطوال "ص62". 6 المصدر نفسه "ص63". 7 حمزة "ص89". 9 Glaser, mitt, s. 420, 461

وانتقل الحكم من بعد هلاك "يكسوم" إلى شقيقه "مسروق" وهو من أم عربية هي "ريحانة بنة علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان" وهو "ذو جدن" وكانت تحت "أبا مرة القياض ذا يزن فانتزعها منه أبرهة، وأولدها مسروقًا. ففر "ذو يزن" من اليمن، ولحق ببعض ملوك بني المنذر، ويظن "الطبري" بأنه "عمرو بن هند" وأقام هناك1. وقد كان أسوأ سيرة من "يكسوم"، ويذكر "المسعودي" أنه حكم ثلاث سنين2. وقد قتل الفرس مسروقًا، وذلك حين دخولهم اليمن، وأخرجوا الحبشة عن اليمن3. وقد ذكر المؤرخ "ثيوفانس" ملكًا من ملوك حمير قال إن الفرس أسروه، وذلك في حوالي السنة "570" للميلاد، دعاه باسم "سنطرق" "سنطرقس" sanaturces. وهو فيما يرى "كلاسر" تحريف "شناتر": والأصل "ذو شناتر". و"شناتر" اسم موضع، والمراد به "مسروق بن أبرهة"، وكان والده قد عينه على هذا الموضع فعرف به. وقد ذكر "ابن قتيبة" أن "ذا شناتر"، هو الابن الثاني لأبرهة، ولهذا يرى "كلاسر" أن sanaturces هو "مسروق"4. وبهلاك "مسروق" هلك حكم الحبش لليمن؛ إذ أخرجوا بعد انتصار الفرس وأهل اليمن عليهم. ويذكر الطبري، أن حكم الحبشة لليمن دام اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة ملوك: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة ثم مسروق بن أبرهة5. وجاء في شعر للشاعر "لبيد بن ربيعة العامري" أنه دخل على ملك من ملوك الحبش، اسمه "خمير"، أتاه فكلمه في فداء قوم، فأجازه، وأحسن إليه، وحمله على خيل، "وبذوقه"6، أي: أرسل معه من يحرسه، وأجازه، وأعطاه "طرسًا"، أي كتابًا، كتبه له لأن يعطي، وغلامًا أطلس أي حبشيًّا 7. ولم يذكر كيف

_ 1 الطبري "2/ 142". 2 مروج "2/ 8" "محيي الدين". 3 الطبري "2/ 139". 4 Glaser, Zwei Inschriften, S. 186 5 الطبري "2/ 139". 6 "بذرته: فارسي معرب"، شرح ديوان لبيد "ص155". 7 "والأطلس: الحبشي"، شرح ديوان لبيد "ص155".

وصل إلى "خمير"، ولا في أي مكان، كان يحكم. وما علاقة ذلك الملك الحبشي بجزيرة العرب إن صح أنه ملك الحبش حقًّا؟ وإذا أخذنا بقول هذا الشاعر وصدقناه، فقد يكون ذهب ليتوسل إلى الحبش لفك أسر جماعة من قومه أو من أصحابه قد يكونون ذهبوا للإتجار أو لشراء الرقيق، فقبض عليهم لسبب من الأسباب واحتجزوا، فذهب لإلماسهم فنجح في وساطته وقد يكون "خمير" هذا أحد الحكام أو الإقطاعيين، لا النجاشي ملك الأحباش. ويظهر من كتاب "الإشقاق" أنه كان لأبرهة حفيد اسمه "ابن شمر" إذ ذكر مؤلفه "ابن دريد" اسم رجل سماه "ابن شمر بن أبرهة بن الصباح"، قال: إنه قتل مع "علي بن أبي طالب" بصفين1. ومعنى هذا أنه كان لأبرهة ولد اسمه "شمر". ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء رجال كانوا من حفدة "أبرهة". وقد سعى الأحباش، مدة مكثهم في اليمن، في نشر النصرانية بين الناس، وبناء الكنائس. ويحدثنا "قزما الرحالة" cosmas indicopleustes في نحو سنة "535م"، أي بعد اندحار "ذي نواس"، عن كثرة الكنائس في العربية السعيدة، وعن كثرة الأساقفة والمبشرين الذين بشروا بين الحميريين والنبط وبني جرم2. وقد اشتهرت كنيسة "نجران"، وكذلك كنيسة صنعاء، وكنيسة "ظفار" التي بناها الحبش، وقد أشرف عليها الأسقف "جرجنسيوس" صاحب "كتاب شرائع الحميريين"، وكان مقربًا لدى النجاشي ومستشاره ومساعده في تنصير الحميريين3. وورد أن القيصر "يوسطين" "جستين" كان قد أرسل "كريكنتيوس" gregentius of uippana من الإسكندرية إلى "ظفار" ليكون "أسقفًا" على نصاراها. وقد تناظر مع "حبر" من أحبار يهود فيها، فغلبه. وقدم قانون الشرعية إلى "أبرام" "abram" ملك حمير4.

_ 1 الاشتقاق "2/ 361"، جمهرة أنساب العرب، "لابن حزم 435". 2 النصرانية "1/ 56"، MIGNE. Patrolo. Gre, vol, LXXX col. 169 3 النصرانية "1/ 64"، الأغاني "2/ 75". MIGNE. Patrolo. Gre, vol, 86, col. 567-620 4 Bury, ii, p. 327

حملة أبرهة

حملة أبرهة: وفي أيام عبد المطلب كانت حملة أبرهة على مكة، وهي حملة روعت قريشًا وأفزعتهم، لما عرفوه من قساوة أبرهة ومن شدته في أهل اليمن، ومن انفراده بالحكم، واستبداده في الأمور، حتى إنه لما مات وذهب مع الذاهبين لم تمت ذكراه كما ماتت ذكرى غيره من الحكام، بل تركت أثرًا عميقًا في ذاكرة أهل اليمن، انتقل منهم إلى أهل الأخبار، فرووا عنه أقاصيص، ونسجوا حوله نسيجًا من أساطير وخرافات، على عادتهم عند تحدثهم عن الشخصيات الجاهلية القوية التي تركت أثرًا في أهل تلك الأيام، حتى إنهم لم يكتفوا بكل ما قالوه فيه، وكأنه لم يكن كافيًا، فجعلوا منه جملة رجال سموهم "أبرهة" نصبوهم ملوكًا وتبايعة على مملكة سبأ وحمير. والرأي الغالب بين الناس أن حملة أبرهة على مكة، كانت قبل المبعث بزهاء أربعين سنة، وميلاد الرسول كان في عام هذه الحملة، وهو العام الذي عرف بـ"عام الفيل". وهو يوافق سنة "570" أو "571م". وإنما عرف بعام الفيل؛ لأن الحبش كما يزعم أهل الأخبار جاءوا إلى مكة ومعهم فيل سموه "محمودًا"، وقد جاءوا به من الحبشة. وفي بعض الروايات أن عدد الفيلة كان ثلاثة عشر فيلًا، أو اثني عشر، أو دون ذلك، أو أكثر، وأوصلوا العدد إلى ألف فيل. ولوجود الفيل أو الفيلة في الحملة، عرفت بحملة الفيل، وعبر عن الحبش في القرآن الكريم بـ"أصحاب الفيل"1. وقد ذهب بعض الرواة إلى أن عام الفيل إنما كان قبل مولد النبي بثلاث وعشرين سنة، وذكر بعضهم أنه كان في السنة الثانية عشرة من ملك "هرمز بن أنو شروان". ولما كان ابتداء حكم "هرمز بن أنو شروان" سنة "579" فعام الفيل يكون في حوالي السنة "581" للميلاد لا سنة "570" أو "571" للميلاد

_ 1 سورة الفيل، الطبري "2/ 130 وما بعدها" "دار المعارف"، الكامل "1/ 260" تفسير ابن كثير "4/ 548 وما بعدها"، مروج "2/ 71"، روح المعاني "28/ 233"، الطبرسي، مجمع "30/ 191"، الأزرقي "1/ 82 وما بعدها"، البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 170"، تفسير الطبري "30/ 166" "المطبعة الميمنية"، دائرة المعارف الإسلامية "1/ 61 وما بعدها"، ترجمة الشنتاوي.

كما يذهب الأكثرون إلى ذلك. وأما إذا أخذنا برواية من قال من الرواة وأهل الأخبار من أن عام الفيل قد كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك "أنو شروان"، فيكون هذا العام قد وقع في حوالي السنة "573" للميلاد1 وهو رقم قريب من الرقم الذي ذهب إليه أكثر المستشرقين حين حولوا ما ذكره أهل الأخبار عن سنة ولادة الرسول إلى التقويم الميلادي. وقد ورد ذكر هذا الحديث في القرآن الكريم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} 2؟ وقد خاطبت هذه الآيات الرسول بأن قريشًا سوف تخيب وتحل بها الهزيمة، كما حلت بأصحاب الفيل، وأصحاب الفيل أعظم منهم قوة وأشد بطشًا، وهم لا شيء تجاههم، وفيها تذكير لقريش لما حل بالحبش، وما كان عهد الحبش عنهم ببعيد. وينسب الأخباريون حملة أبرهة على مكة إلى تدنيس رجل من كنانة "القليس" التي بناها أبرهة في اليمن، لتكون محجة للناس. فلما بلغ أبرهة خبر التدنيس كما يقولون، عزم على السير إلى مكة لهدم الكعبة، فسار ومعه جيش كبير من الحبش وأهل اليمن، وهو مصمم على دكها دكًّا، وصرف الناس عن الحج إليها إلى الأبد. فلما وصل، هلك معظم جيشه، فاضطر إلى العودة إلى اليمن خائبًا مدحورًا3. ويذكر أهل الأخبار أن الرجل الذي دنس القليس، هو من النسأة أحد بني فقيم، ثم أحد بني مالك بن كنانة. وقد غضب لما رآه من شأن تلك الكنيسة، ومن عزم أبرهة على صرف حاج العرب إليها، ومن مبالغته في الدعاية لها، ففعل ما فعل4.

_ 1 تفسير القرطبي "20/ 194". 2 سورة الفيل، الرقم 105، تفسير الطبري "30/ 193"، "بولاق"، القرطبي "20/187 وما بعدها". 3 الروض الأنف "1/ 40 وما بعدها"، تفسير القرطبي "20/ 188"، الأزرقي "1/ 9 وما بعدها"، "خياط". 4 الطبري "3/ 130"، تاج العروس "9/ 14"، الكشاف "4/ 233"، تفسير الطبري "30/ 167"، تفسير النيسابوري "30/ 193"، "حاشية على تفسير الطبري".

أحد القصور، وهو يمثل الطراز اليماني في البناء من كتاب: (Gunhther Pawelke) (JEMEN) وقيل إن الرجل المذكور كان من النساك، من نساك بني فقيم، غاظه ما كان من عزم أبرهة على صرف العرب عن الحج إلى مكة، فأحدث في القليس للحط من شأنها في نظر العرب، ولطخ قبلتها بحدثه، فشاع خبره بين الناس، وهزئ القوم من "قليس" حدث به ما حدث. وغضب أبرهة من عمله المشين هذا الموجه إليه وإلى كل الحبش، فعزم على هدم البيت الذي يقدسه ذلك الكناني

ومن يحج إليه1. وينسب أخباريون آخرون عزم "أبرهة" على دك الكعبة وهدمها إلى عامل آخر، فهم يذكرون أن فتية من قريش دخلوا القليس فأججوا فيها نارًا، وكان يومًا فيه ريح شديدة، فاحترقت وسقطت إلى الأرض، فغضب أبرهة، وأقسم لينتقم من قريش بهدم معبدهم، كما تسببوا في هدم معبده الذي باهى النجاشي به2. وذكر أن "أبرهة" بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم يُرَ مثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكان نصرانيًّا، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يُبنَ مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليه حج العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي، غضب رجل من النسأة، فخرج حتى أتى الكنيسة، فأحدث فيها، ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة، فغضب عند ذلك، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه. وبعث رجلًا كان عنده إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة، فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل، فزاد أبرهة ذلك غضبًا وحنقًا، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل3. وذكر "السيوطي" سببًا آخر في قرار أبرهة غزو مكة، زعم أن أبرهة الأشرم كان ملك اليمن، وأن ابن ابنته أكسوم بن الصباح الحميري خرج حاجًّا، فلما انصرف من مكة، نزل في كنيسة بنجران، فعدا عليها ناس من أهل مكة، فأخذوا ما فيها من الحلي وأخذوا قناع أكسوم، فانصرف إلى جده مغضبًا، فبعث رجلًا من أصحابه يقال له: "شهر بن معقود" على عشرين ألفًا من خولان

_ 1 الكامل "1/ 260 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "30/ 269"، روح المعاني "30/ 233 وما بعدها"، الكشاف "3/ 288" "بولاق" "3/ 358 وما بعدها" "1948م". 2 الكشاف 4/ 233، روح المعاني "28/ 233"، تفسير الفخر الرازي "31/ 96"، تفسير ابن كثير "4/ 549"، تفسير ابن السعود "5/ 285"، تفسير النيسابوري "30/ 163"، وهو حاشية على تفسير الطبري "بولاق"، التيجان في ملوك حمير، لوهب بن منبه "ص303"، حيدر آباد الدكن" بالهند، تفسير الطبرسي، مجمع "10/539"، "طهران"، ابن هشام السيرة "1/ 44 وما بعدها"، روح المعاني، للألوسي "30/ 233 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "30/ 269". 3 "تفسير القرطبي "20/ 188"، تفسير الطبري "30/ 193 وما بعدها".

والأشعريين، فساروا حتى نزلوا بأرض خثعم فتيمنت خثعم عن طريقهم. فلما دنا من الطائف خرج إليه ناس من بني خثعم ونصر وثقيف، فقالوا: ما حاجتك إلى طائفنا، وإنها هي قرية صغيرة؟ ولكنا ندلك على بيت بمكة يعبد فيه، ثم له ملك العرب، فعليك به، ودعنا منك، فأتاه حتى إذا بلغ المغمس، وجد إبلًا لعبد المطلب مائة ناقة مقلدة، فأنهبها بين أصحابه. فلما بلغ ذلك عبد المطلب جاءه، وكان له صديق من أهل اليمن يقال له: ذو عمرو، فسأله أن يرد عليه إبله، فقال: إني لا أطيق ذلك، ولكن إن شئت أدخلتك على الملك، فقال عبد المطلب: افعل. فأدخله عليه، فقال له: إن لي إليك حاجة. قال قضيت كل حاجة تطلبها، ثم قص عليه قصة إبله التي انتهبها جيشه. فالتفت إلى ذي عمرو، ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى عجبًا، فقال: لو سألني كل شيء أحوزه، أعطيته إياه، ثم أمر بإرجاع إبله عليه. وأمر بالرحيل نحو مكة لهدمها. وتوجه ألف شهر وأصحاب الفيل، وقد أجمعوا ما أجمعوا نحو مكة، فلما بلغوها، خرجت عليهم طير من البحر لها خراطيم كأنها البلس، فرمتهم بحجارة مدحرجة كالبنادق، فشدختهم، ونزل الهلاك بهم فانصرف شهر هاربًا وحده، ولكنه ما كاد يسير، حتى تساقطت أعضاء جسده فهلك في طريقه إلى اليمن وهم ينظرون إليه1. ويتفق خبر "السيوطي" هذا في جوهره وفي شكله مع الروايات الأخرى التي وصلت إلينا عن حملة "أبرهة" ولا يختلف عنها إلا في أمرين: في السبب الذي من أجله قرر أبرهة هدم الكعبة، وفي الشخص الذي سار على مكة. أما السبب الذي أورده السيوطي، فهو غير معقول، لسبب بسيط واضح، هو أن ابن أبرهة، وهو أكسوم بن الصباح الحميري، هو رجل نصراني، والنصارى لا تحج إلى مكة؛ لأنها محجة الوثنيين، وقد عزم جده أبرهة على صرف العرب من الحج إليها، فكيف يحج إليها ابن ابنته، وهو على دين جده؟ وأما ما زعمه من أن "شهر بن معقود" "مقصود" هو الذي سار على مكة لهدمها، وذلك بأمر من أبرهة، فإنه يخالف إجماع أهل الأخبار والمفسرين من أن أبرهة هو نفسه

_ 1 السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور "6/ 394"، الأصبهاني، دلائل النبوة "100 وما بعدها"، الكشاف "3/ 288".

قاد تلك الحملة، وأنه هو الذي أخذ الفيل أو الفيلة معه، وسار على رأس جيش كبير من الحبش ومن قبائل من أهل اليمن كانت تخضع له. ثم إن السيوطي يشير إلى وجود "الملك" في الجيش، ولم يكن شهر بن معقود ملكًا ولم يلقبه أهل الأخبار بلقب "ملك"، وإنما أنعموا بهذا اللقب على أبرهة وحده. أضف إلى ذلك أن ما ذكره السيوطي من حوار وقع بين عبد المطلب وبين الملك هو حوار يذكر أهل الأخبار أنه جرى بين عبد المطلب وبين أبرهة. لذلك أرى أن الأمر قد التبس على السيوطي، فخلط بين أبرهة وبين شهر أحد قادته من العرب، وأنه قصد بالملك أبرهة لا القائد، وإن لم يشر إليه، بل جعل الفعل كل الفعل للقائد المذكور. وأورد "القرطبي" رواية أخرى نسبها إلى مقاتل بن سليمان وابن الكلبي، خلاصتها: أن سبب الفيل هو ما روي أن فتية من قريش خرجوا تجارًا إلى أرض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى، تسميها النصارى: الهيكل، فأوقدوا نارًا لطعامهم، وتركوها وارتحلوا، فهبت ريح عاصفة على النار فأضرمت البيعة نارًا واحترقت، فأتى الصريخ إلى النجاشي، فأخبره، فاستشاط غضبًا، فأتاه أبرهة بن الصباح وحجر بن شرحبيل وأبو يكسوم الكنديون وضمنوا له إحراق الكعبة. وكان النجاشي هو الملك، وأبرهة صاحب الجيش، وأبو يكسوم نديم الملك، وقيل وزيره، وحجر بن شرحبيل من قواده. فساروا معهم الفيل، وقيل ثمانية فيلة، ونزلوا بذي المجاز، واستاقوا سرح مكة1. وتتفق هذه الرواية مع الروايات السابقة من حيث الجوهر، ولا تختلف عنها إلا في جعل الكنيسة المحترقة بيعة في أرض النجاشي، أي في ساحل الحبش، لا في أرض اليمن، وإلا في جعل الآمر بالحملة النجاشي، لا أبرهة نفسه، أما المنفذون لها، فهم أبرهة ومن معه. وهناك سبب آخر سأتعرض له فيما بعد، يذكره أهل الأخبار في جملة الأسباب التي زعموا أنها حملت أبرهة على السير نحو مكة لتهديمها. وهو سبب أرجحه وأقدمه على السببين المذكورين، لما فيه من مساس بالسياسة؛ ولأنه مشروع سياسي خطير من المشروعات العالمية القديمة التي وضعها ساسة العالم للسيطرة على

_ 1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 187، 192 وما بعدها".

الطرق الموصلة إلى المياه الدافئة وإلى الأرضين المتجه لأهم المواد المطلوبة في ذلك العهد. وتذكر روايات أهل الأخبار أن أبرهة لما رتب كل شيء وجهز نفسه للسير من اليمن نحو مكة، خرج له رجل من أشراف اليمن وملوكهم، يقال له: "ذو نفر" وعرض له فقاتله، فهزم "ذو نفر" وأصحابه، وأخذ له ذو نفر أسيرًا. ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم، عرض له "نفيل بن حبيب الخثعمي" في قبيلتي خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نُفيل أسيرًا وخرج معه يدله على الطريق، حتى إذا مر بالطائف، خرج إليه "مسعود بن معتب" في رجال ثقيف، فقال له: أيها الملك، إنما نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون، ليس لك عندنا خلاف، وليس بيننا هذا بالبيت الذي تريد -يعني اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة، يعنون الكعبة، ونحن نبعث معك من يدلك، فتجاوز عنهم، وبعثوه معه أبا رغال، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس، فهلك أبو رغال به. فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس1. وكان نفيل بن حبيب الخثعمي من سادات خثعم، ولما أخذه أبرهة أسيرًا واحتبسه عنده، جعله دليله إلى مكة، وهو الذي أوصله إلى الطائف، حيث تسلم أبرهة الدليل الآخر من ثقيف، وهو أبو رغال2. وذكر بعضهم أن "نفيل بن حبيب" كان دليل أبرهة على الكعبة، وأنه عرف بـ"ذي اليدين"3. ولأهل الأخبار قصص عن "أبي رغال" صيره أسطورة، حتى صيره بعضهم من رجال ثمود ومن رجال "صالح" النبي. فزعموا أن النبي كان قد وجهه على صدقات الأموال، فخالف أمره، وأساء السيرة، فوثب عليه "ثقيف" وهو قسي بن منبه، فقتله قتلة شنيعة. وهو خبر وضعه أناس من ثقيف ولا

_ 1 الطبري "2/ 131 وما بعدها"، تفسير الطبري "30/ 167"، "30/ 194" "بولاق"، تفسير القرطبي "20/ 188". 2 الاشتقاق "306"، تفسير الطبري "30/ 194" "بولاق". وأرجم قبره في كل عام ... كرجم الناس قبر أبي رغال 3 نوادر المخطوطات "ألقاب الشعراء" "ص327".

شك، للدفاع عن أنفسهم، إذ اتهموا بأن "أبا رغال" منهم، وقد جاءوا بشعر، زعموا أن "أمية بن أبي الصلت" قاله في حقه، منه: وهم قتلوا الرئيس أبا رغالٍ ... بمكة إذ يسوق بها الوضينا1 فصيروا القاتل جد ثقيف، ونسبوا له فضل مساعدة نبي من أنبياء الله. وقد أشار "جرير بن الخطفى" في شعر قاله في الفرزدق إلى رجم الناس قبر أبي رغال، إذ قال: إذا مات الفرزدق فارجموه ... كرجمكم لقبر أبي رغال2. وذكر "المسعودي"، أن العرب ترجم قبرًا آخر، يعرف بينهم بقبر العبادي في طريق العراق إلى مكة. بين الثعلبية والهبير نحو البطان. ولم يذكر شيئًا عن سببه، إذ أحال القارئ على مؤلفاته الأخرى3. وذكر "الهمداني" أن قبر أبي رغال عند "الزيمة". و"الزيمة" موضع معروف حتى هذا اليوم4. ولما نزل أبرهة المغمس، بعث رجلًا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة: فساق إليه أموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وأصاب منها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم من سائر الناس بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به. فتركوا ذلك. ثم قرروا على أن يرسلوا سيدهم "عبد المطلب" لمواجهة أبرهة والتحدث إليه، فذهب وقابله، وتذكر رواية أهل الأخبار أن أبرهة لما سأله عن حاجته وعما معه من أنباء، قال له: حاجتي إلى الملك أن يرد عليَّ مائتي بعير أصابها لي، فعجب أبرهة من هذا القول وقال له: أتكلمني في مائتي بعير قد أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن

_ 1 مروج "2/ 53". 2 إذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال مروج "2/ 53"، "دار الأندلس"، البداية "2/ 170 وما بعدها". 3 مروج "2/ 54". 4 الإكليل "1/ 373".

للبيت ربًّا سيمنعه1. وتذكر هذه الرواية أن أبرهة رد على عبد المطلب إبله، فرجع إلى قومه وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفًا عليهم من معرة الجيش. فلما وصل جيش الحبش. لم يجد أحدًا بمكة، وتفشى الوباء فيه، واضطر إلى التراجع بسرعة. فلما وصل أبرهة إلى اليمن، هلك فيها بعد مدة قليلة من هذا الحادث2. ويذكر "الطبري" أن الأسود بن مقصود لما ساق أموال أهل مكة من قريش وغيرهم، وفي ضمنها إبل عبد المطلب، وأوصلها إلى أبرهة، وأن قريشًا وكنانة وهذيل ومن كان معهم بالحرم من سائر الناس عزمت على ترك القتال؛ إذ تأكدوا أنهم لا طاقة لهم به. بعث أبرهة "حناطة الحميري" إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشريفهم، ثم قل له إن الملك يقول لكم: إني لم آتِ لحربكم، إنما جئت لهدم البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن لم يُرد حربي فائتني به، فلما دخل حناطة مكة، سأل عند سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب، فقال له ما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا له من دافع عنه. ثم انطلق معه إلى أبرهة. فلما وصل المعسكر سأل عن "ذي نفر"، وكان له صديقًا، فدل عليه، فجاءه وهو في محبسه، فكلمه، ثم توصل بوساطته إلى سائق فيل أبرهة وهو أنيس، وأوصاه خيرًا بعبد المطلب، وكلمه في إيصاله إلى أبرهة، وأن يتكلم فيه عند أبرهة بخير. ونفذ أنيس طلب "ذو نفر" وأدخله عليه، فكان ما كان من حديث3. وذكر الطبري: أن بعض أهل الأخبار زعموا أن نفرًا من سادات قريش رافقوا عبد المطلب في ذهابه مع حناطة إلى أبرهة، ذكروا منهم: يعمر "عمرو"

_ 1 الطبري "2/ 132 وما بعدها" "دار المعارف"، ابن الأثير "1/ 321"، تفسير القرطبي "20/ 189". 2 الطبري "2/ 137 وما بعدها". 3 تفسير الطبري "30/ 194 وما بعدها" "بولاق"، تفسير القرطبي "20/ 189 وما بعدها".

ابن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني كنانة، وخويلد بن واثلة الهذلي، وهو يومئذ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع عنهم، ولا يهدم البيت، فأبى عليهم1. ويذكر أهل الأخبار أن جيوش "أبرهة" حين دنت من مكة، توسل عبد المطلب إلى ربه وناجاه بأن ينصر بيته ويذل "آل الصليب" وأنه أخذ بحلقة باب الكعبة وقال: يا رب أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا وقال: لاهُمّ إن العبدَ يمنع رَحْله فامْنَعْ حِلالَكْ لا يَغْلِبَنّ صليبُهم ومحالهم عَدْوًّا محالك وانْصرْ عَلَى آل الصَّلِيبِ وعَابدِيهِ اليَومَ آلك2 وقد بلغ أبرهة مكة، غير أنه لم يتمكن من دكها ومن هدمها، وخاب ظنه؛ إذ تفشى المرضى بجيشه وفتك الوباء به، فهلك أكثره، واضطر إلى الإسراع في العودة، وكان عسكره يتساقطون موتى على الطريق، وهم في عودتهم إلى اليمن. وذكرت بعض الروايات أن أبرهة نفسه أصيب هذا المرض. ولم يبلغ صنعاء إلا بعد جهد جهيد. فلما بلغها، مات إثر وصوله إليها3. وعلى هذه الصورة أنهى أهل الأخبار أخبار حملة أبرهة، فقالوا إنها انتهت

_ 1 تفسير الطبري "30/ 195"، الطبري "2/ 134" "دار المعارف"، تفسير القرطبي "20/ 190". 2 السيرة الحلبية "1/ 24 وما بعدها"، يرد البيت الثاني بشكل آخر في كتاب أخبار مكة للأزرقي "1/ 283"، تفسير الطبري "30/ 195 وما بعدها" "بولاق". 3 تفسير الطبري "30/ 195 وما بعدها" "بولاق"، تفسير البيضاوي "1/269"، مروج "2/ 46"، روح المعاني "30/ 233"، تفسير القرطبي، "20/ 187"، تفسير الخطيب الشربيني، السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير "4/ 563"، تفسير الرازي "31/ 96"، البداية والنهاية "2/ 169"، ابن هشام "1/ 28"، الكامل "1/ 254"، الطبرسي "25/ 191" حمزة "89/ 94".

بإخفاق ذريع، انتهت بإصابة أبرهة بوباء خطير، وبإصابة عسكره بذلك المرض نفسه: مرض جلدي، أصاب جلود أكثر جيشه، فمزقها، وأصابها بقروح وقيوح في الأيدي خاصة، وفي الأفخاذ، أو بمرض وبائي هو الحصبة والجدري، فيذكر أهل الأخبار في تفسير سورة الفيل، وفي أثناء تحدثهم عن هذه الحملة وبعد شرحهم لمعنى "طير أبابيل": مباشرة، هذين المرضين ويقولون: "إن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام"1. وتفسير ذلك بعبارة أخرى أن ما أصاب الحبش، هو وباء من تلك الأوبئة التي كانت تكتسح البشرية فيما مضى، فلا تذهب حتى تكون قد أكلت آلافًا من الرءوس. وكان لرجوع الأحباش إلى اليمن وهم على هذه الصورة من مرض يفتك بهم، وتعب ألمَّ بهم، أثر كبير أثر فيهم وفي قريش، ثم ما لبث أبرهة إن مات بعد مدة غير طويلة، فازداد اعتقاد قريش بـ"رب البيت" وبأصنامها، وهابت العرب مكة، فكانت نكسة الحبش نصرًا لقريش ولأهل مكة قوَّى من معنوياتها, ويتجلى ذلك في القرآن الكريم في سورة الفيل، وهي من السور المكية القديمة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} 2. وقصة تدنيس "القليس"، قد تكون حقيقية وقعت وحدثت، وقد تكون أسطورة حيكت ووضعت، على كل حال، وفي كلتا الحالتين لا يعقل أن تكون هي السبب المباشر الذي دفع النجاشي إلى السير إلى مكة لهدم البيت ونقضه من أساسه ورفع أحجاره حجرًا حجرًا، على نحو ما يزعمه أهل الأخبار بل يجب أن يكون السبب أهم من التدنيس وأعظم، وأن يكون فتح مكة بموجب خطة تسمو على فكرة تهديم البيت وتخريبه، خطة ترمي إلى ربط اليمن ببلاد الشأم، لجعل العربية الغربية والعربية الجنوبية تحت حكم النصرانية، وبذلك يستفيد الروم والحبش

_ 1 تفسير الطبري "30/ 196" "بولاق"، "وهو أول جدري ظهر في الأرض"تفسير النيسابوري "30/ 165"، "حاشية على تفسير الطبري"، "أول ما رُئِيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأول ما دعي من مراير الشجر: الحوامل والحنظل والعشر، ذلك العام"، الأزرقي "1/ 97 وما بعدها"، "خياط". 2 السورة رقم 105.

وهم نصارى، وإن اختلفوا مذهبًا، ويحققون لهم بذلك نصرًا سياسيًّا واقتصاديًّا كبيرًا، فيتخلص الروم بذلك من الخضوع للأسعار العالية التي كان يفرضها الساسانيون على السلع التجارية النادرة المطلوبة التي احتكروا بيعها لمرورها ببلادهم؛ إذ سترد إليهم من سيلان والهند رأسًا عن طريق بلاد العرب، فتنخفض الأسعار ويكون في إمكان السفن البيزنطية السير بأمان في البحار العربية حتى سيلان والهند وما وراءهما من بحار. وآية ذلك خبر يرويه أهل الأخبار يقولون فيه: إن "أبرهة" توَّج "محمد بن خزاعي بن خرابة الذكواني"، ثم السلمي، وكان قد جاءه في نفر من قومه، مع أخ له، يقال له: "قيس بن خزاعي"، يلتمسون فضله، وأمره على مضر، وأمره أن يسير في الناس، فيدعوهم في جملة ما يدعوهم إليه إلى حج "القليس"، فسار محمد بن خزاعي، حتى إذا نزل ببعض أرض نبي كنانة، وقد بلغ أهل تهامة أمره، وما جاء له، بعثوا إليه رجلًا من هذيل، يقال له عروة بن حياض الملاصي فرماه بسهم فقتله. وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس، فهرب حين قتل أخوه، فلحق بأبرهة، فأخبره بقتله، فغضب وحلف ليغزون بني كنانة وليهدمن البيت1. فمقتل "محمد بن خزاعي"، هو الذي هاج أبرهة وحمله على ركوب ذلك المراكب الخشن. ولم يكن هياجه هذا بالطبع بسبب أن القتيل كان صاحبه وصديقه بل لأن من قتله عاكس رأيه وخالف سياسته ومراميه التوسعية القاضية بفرض إرادته وإرادة الحبش وحلفائهم على أهل مكة وبقية كنانة ومضر. وبتعيين ملك أو أمير عليهم، هو الشخص المقتول، فقتلوه. ومثل هذا الحادث يؤثر في السياسة وفي الساسة، ويدفع إلى اتخاذ إجراءات قاسية شديدة، مثل إرسال جيش للقضاء على المتجاسرين حتى لا يتجاسر غيرهم، فتفلت من السياسي الأمور. ومن يدري؟ فلعل الروم كانوا هم المحرضين لأبرهة على فتح مكة وغير مكة حتى تكون العربية الغربية كلها تحت سلطان النصرانية، فتتحقق لهم مآربهم في طرد سلطان الفرس من بلاد العرب. وقد حاولوا مرارًا إقناع الحبش بتنفيذ

_ 1 الطبري "2/ 131"، تفسير الطبري "30/ 194"، "بولاق"، الأرزقي "1/ 86 وما بعدها".

هذه الخطة والاشتراك في محاربة الفرس، وهم الذين حرضوا الحبشة وساعدوهم بسفنهم وبمساعدات مادية أخرى في فتح اليمن. وهم الذين أرسلوا رسولًا اسمه "جوليانوس" julianus، وذلك في أيام القيصر "يوسطنيان" justnian لإقناع النجاشي hellestheaeus و"السميع أشوع" esimiphaeus بالتحالف مع الروم، وتكوين جبهة واحدة ضد الفرس والاشتراك مع الروم في إعلان الحرب على الفرس بسبب الرابطة التي تجمع بينهم، وهي رابطة الدين1. وكان في جملة ما رجاه القيصر من "السميفع أشوع"، هو أن يوافق على تنصيب "قيس" casius رئيسًا على "maddeni" معد2. وقد ذكر "المسكري"، أن "محمد بن خزاعي بن علقمة بن محارب بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان السلمي" كان في جيش أبرهة مع الفيل، أي أنه لم يقتل كما جاء في الرواية السابقة3. وقد ورد في بعض الأخبار أن عائشة أدركت قائد الفيل وسائسة، وكانا أعميين مقعدين يستطعمان. وقد رأتهما4. وقد كان من أشراف مكة في هذا العهد غير عبد المطلب، المطعم بن عدي. وعمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم، ومسعود بن عمرو الثقفي، وقد صعدوا على حراء ينظرون ما سيفعل أبرهة بمكة5. وذكر بعض أهل الأخبار، أن فلالًا من الحبش من جيش أبرهة وعفاء وبعض من ضمه العسكر، أقاموا بمكة، فكانوا يعتملون ويرعون لأهل مكة6. وليس في كتب أهل الأخبار أسماء القبائل العربية التي جاءت مع "أبرهة" للاستيلاء على مكة بتفصيل. وكل ما نعرفه أنه كان قد ضم إلى حبشه قوات عربية قد يكون بينها قوم من كندة، وقد أشير إلى اشتراك خولان والأشعريين فيها، وذكر أن "خندقًا" كانوا ممن اشترك في جيش أبرهة، وكذلك "حميس بن أد"7.

_ 1 Procopius, I, XIX, 8-16, P. 180, Glaser, Mitt, S. 437 2 Procopius, I, XX, 9-12, P. 193 3 المحبر "130". 4 الكشاف "4/ 233". 5 تفسير ابن كثير "4/ 548 وما بعدها". 6 الأزرقي "1/ 97، وما بعدها"، "خياط". 7 Le museon, 1965, 3-4, p. 433

وقد أشير إلى أبرهة الأشرم وإلى الفيل في شعر شعراء جاهليين ومخضرمين وإسلاميين. وقد ورد في شعر "عبد الله بن الزبعرى" أنه كان مع "أمير الحبش" ستون ألف مقاتل1. وورد في شعر "أمية بن أبي الصلت" أن الفيل ظل يحبو بـ"المغمس" ولم يتحرك، وحوله من ملوك كندة أبطال ملاويث في الحروب صقور2. ومعنى هذا أن سادات كندة كانوا مع الحبش في زحفهم على مكة. وذكر "عبد الله بن قيس الرقيات": أن "الأشرم" جاء بالفيل يريد الكيد للكعبة، فولى جيشه مهزومًا، فأمطرتهم الطير بالجندل، حتى صاروا وكأنهم مرجومون يمطرون بحصى الرجم3. وذكر أن "عمر بن الخطاب" كان في جملة من ذكر "أبا يكسوم أبرهة" في شعره، واتخذه مثلًا على من يحاول التطاول على بيت الله وعلى "آل الله" سكان مكة. وذكر أهل الأخبار أنه قال ذلك الشعر في هجاء "زنباع بن روح بن سلامة بن حداد بن حديدة" وكان عشارًا، أساء إلى "عمر بن الخطاب" وكان قد خرج في الجاهلية تاجرًا وذلك في اجتيازه وأخذ مكسه، فهجاه عمر، فبلغ ذلك الهجاء "زنباعًا" فجهز جيشًا لغزو مكة. فقال عمر شعرًا آخر يتحداه فيه بأن ينفذ تهديده إن كان صادقًا؛ لأن من يريد البيت بسوء يكون مصيره مصير أبرهة الأشرم، وقد كف زنباع عن تنفيذ ما عزم عليه ولم يقم به4. لقد تركت حملة "الفيل" أثرًا كبيرًا في أهل مكة، حتى اعتبرت مبدأ تقويم عندهم، فصار أهل مكة يؤرخون بعام الفيل "في كتبهم وديونهم من سنة الفيل". فلم تزل قريش والعرب بمكة جميعًا تؤرخ بعام الفيل، ثم أرخت بعام الفجار، ثم أرخت ببنيان الكعبة5. لقد كان لأهل مكة صلات باليمن متينة؛ إذ كانت لهم تجارة معها، تقصدها قوافلها في كل وقت، وخاصة في موسم الشتاء، حيث تجهز قريش قافلة كبيرة يساهم فيها أكثرهم، وإليها أشير في القرآن الكريم في سورة قريش:

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 258"، روح المعاني "28/ 233". 2 بلوغ الأرب "1/ 260". 3 بلوغ الأرب "1/ 260". 4 بلوغ الأرب "1/ 261 وما بعدها"، الاشتقاق "225". 5 الأزرقي "1/ 102".

{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} 1. ولهذا فقد كان من سياستهم مدارة حكام اليمن وإرضاؤهم، ومنع من قد يعتدي منهم على أحد من أهل اليمن أو الحبش ممن قد يقصد مكة للإتجار أو للاستراحة بها في أثناء سيره إلى بلاد الشأم؛ خوفًا من منع تجارهم من دخول أسواق اليمن، فلما وثب أحدهم على تجار من اليمن كانوا قد دخلوا مكة، وانتهبوا ما كان معهم، مضت عدة من وجوه قريش إلى "أبي يكسوم"، أي أبرهة وصالحوه أن لا يقطع تجار أهل مكة عنهم. وضمانًا لوفائهم بما اتفقوا عليه وضعوا "الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار" وغيره رهينة، فكان "أبرهة" يكرمهم ويصلهم، وكانوا يبضعون البضائع إلى مكة لأنفسهم2. وقد وضع أهل الطائف رهائن عند أبي يكسوم كذلك، ضمانًا لحن معاملتهم للحبش ولمن يقصد الطائف للإتجار من الحبش أو من أهل اليمن3.

_ 1 الآية الأولى وما بعدها. 2 Le museon, 1965m 3-4, p.432 3 Le museon, 1965m 3-4, p.431

طرد الحبشة

طرد الحبشة: لقد عجل الحبش في نهايتهم في اليمن، وعملوا بأيديهم في هدم ما أقاموه بأنفسهم من حكومة، باعتدائهم على أعراض الناس وأموالهم، وأخذهم عنوة كل ما كانوا يجدونه أمامهم، حتى ضج أهل اليمن وضجروا، فهبوا يريدون تغيير الحال، وطرد الحبشة عن أرضهم، وإن أدى الأمر إلى تبديلهم بأناس أعاجم أيضًا مثل الروم أو الفرس، إذا عجزوا هم عن طردهم، فلعل من الحكام الجدد من قد يكون أهون شرًّا من الحبش، وإن كان كلاهما شرًّا، ولكن إذا كان لا بد من أحد الشرين فإن أهونهما هو الخيار ولا شك. وهب اليمانون على الحبش، وثار عليهم ساداتهم في مواضع متعددة غير أن ثوراتهم لم تفدهم شيئًا؛ إذ أخمدت، وقتل القائمون بها. ومن أهم أسباب إخفاقها أنها لم تكن ثورة عارمة عامة مادتها كل الجماهير والسادات، بل كانت ثورات سادات، مادة كل ثورة مؤججها ومن وراءه من تبع. هنا ثورة وهناك

ثورة، ولم تكن بقيادة واحدة، أو بإمرة قائد خبير أو قادة متكاتفين خبراء بأمور الحرب والقتال، فصار من السهل على الحبش، الانقضاض عليها وإخمادها، أضف إلى ذلك أنها لم تؤقت بصورة تجعلها ثورات جماعية، وكأنها نيران تلتهب في وقت واحد، يعسر على مخمدي النيران إخمادها، أو إخمادها على الأقل بسهولة. ولتحاسد الأقيال وتنافسهم على السيادة والزعامة نصيب كبير في هذا الإخفاق، لذلك وجه بعض السادة أنظارهم نحو الخارج في أمل الحصول على معونة عسكرية أجنبية خارجية، تأتيهم من وراء الحدود، لتكره الحبش على ترك اليمن. وكان صاحب هذا الرأي والمفكر فيه "سيف بن ذي يزن"، من أبناء الأذواء ومن أسرة شهيرة. وقد نجح في مشروعه، فاكتسب صفة البطولة وانتشر اسمه بين اليمانيين، حتى صير أسطورة من الأساطير، وصارت حياته قصة من القصص أمثال قصة أبي زيد الهلالي وعنترة وغيرهما ممن تحولوا إلى أبطال تقص حياتهم على الناس في المجالس وفي المقاهي وحفلات السمر والترفيه، أو تقرأ للتسلية واللهو. و"سيف بن ذي يزن"، هو "معديكرب بن أبي مرة"، وقد عرف أبوه أيضًا بـ"أبي مرة القياض"، وكان من أشراف حمير، ومن الأذواء1. وأمه "ريحانة بنة علقمة"، وهي من نسل "ذي جدن" على نحو ما ذكرت يقال إن أبرهة لما انتزع ريحانة من بعلها "أبي مرة"، فر زوجها إلى العراق فالتجأ إلى ملك الحيرة "عمرو بن هند" على ما يظن، وبقي "معديكرب" مع أمه في بيت "أبرهة" على ذلك مدة، حتى وقع شجار بينه وبين شقيقه من أمه "مسروق" الذي ولي الملك بعد موت أخيه "يكسوب" فأثر ذلك في نفسه وحقد على "مسروق" فلما مات يكسوم، خرج من اليمن، حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا ما هم فيه، وطلب إليه أن يخرجهم عنه، ويليهم هو ويبعث إليهم من يشاء من الروم، فيكون له ملك اليمن، فلم يشكه ولم يجد عنده شيئًا مما يريد، فخرج حتى قدم الحيرة على النعمان بن المنذر، فأسكنه عنده ثم أوصله بكسرى، وحدثه في شأنه وفي خاطره في قومه، فأمده بثماني مائة محارب، وبـ "وهرز" أمره عليهم، وبثماني سفن جعل في كل سفينة مائة

_ 1 الطبري "2/ 130، 143"، "معديكرب بن سيف"، مروج "2/ 55"، "دار الأندلس".

رجل وما يصلحهم في البحر، فخرجوا، حتى إذا لجوا في البحر غرقت من السفن سفينتان بما فيها، فخلص إلى ساحل اليمن من أرض عدن ست سفائن فيهن ستمائة رجل فيهم وهرز وسيف بن ذي يزن، نزلوا أرض اليمن، فلما سمع بهم مسروق بن أبرهة، جمع إليه جنده من الحبشة، ثم سار إليهم، فلما التقوا رمى "وهرز" مسروقًا بسهم، فقتله، وانهزمت الحبشة، فقتلوا، وهرب شريدهم، ودخل "وهرز" مدينة صنعاء، وملك اليمن ونفى عنها الحبشة، وكتب بذلك إلى كسرى، فكتب إليه كسرى يأمره أن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها وأن يرجع وهرز إلى بلاده، فرجع إليها. ورضي سيف بدفع جزية وخرج يؤديه في كل عام1. وذكر "الطبري" في رواية له أخرى عن "سيف بن ذي يزن" وعن مساعدة الفرس له، فقال: "فخرج ابن ذي يزن قاصدًا إلى ملك الروم، وتجنب كسرى لإبطائه عن نصر أبيه، فلم يجد عند ملك الروم ما يحب، ووجده يحامي عن الحبشة لموافقتهم إياه على الدين، فانكفأ راجعًا إلى كسرى"2. فقابله وحياه وقال لكسرى: "أنا ابن الشيخ اليماني ذي يزن، والذي وعدته أن تنصره فما ببابك وحضرتك، فتلك العدة حق لي وميراث يجب عليك الخروج لي منه. فرقَّ له كسرى، وأمر له بمال. فخرج، فجعل ينشر الدراهم، فانتهبها الناس. فأرسل إليه كسرى: ما الذي حملك على ما صنعت: قال: إني لم آتك للمال، إنما جئتك للرجال، ولتمنعني من الذل، فأعجب ذلك كسرى، فبعث إليه: أن أقم حتى انظر في أمرك. ثم إن كسرى استشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال له الموبذان: إن لهذا الغلام حقًّا بنزوعه وموت أبيه بباب الملك وحضرته، وما تقدم من عدته إياه، وفي سجون الملك رجال ذو نجدة وبأس، فلو أن الملك وجههم معه، فإن أصابوا ظفرًا كان له، وإن هلكوا كان قد استراح وأراح أهل مملكته منهم، ولم يكن ذلك ببعيد الصواب. قال كسرى: هذا الرأي. وعمل به"3.

_ 1 الطبري "2/ 136" "دار المعارف" ابن خلدون "2/ 63"، المعارف "278". 2 الأخبار الطوال "ص63 وما بعدها"، مروج "2/ 55"، "دار الأندلس". الطبري "2/ 144"، "دار المعارف". 3 الطبري "2/ 144"، "دار المعارف".

ويظهر من هذه الرواية، أن "أبا مرة"، والد "معديكرب"، كان قد فر من اليمن إلى العراق، وقد حاول عبثًا حث كسرى على تقديم العون العسكري له لطرد أبرهة وقومه الحبش عن اليمن، وبقي يسعى ويحاول حتى مات بالعراق، مات بالمدائن على حد زعم هذه الرواية، ويظهر منها أيضًا، أن سيف بن ذي يزن، أي ولد أبي مرة، كان قد أيس هو من كسرى بعد أن رأى ما رأى من موقفه مع أبيه، فذهب أولًا إلى ملك الروم، على أمل مساعدته ومعاونته في طرد الحبش عن بلاده، حتى وإن أدى الأمر إلى استيلاء الروم على اليمن، فلما خاب ظنه ذهب إلى الفرس، فساعدوه. وذكر "الطبري" أن وهرز لما انصرف إلى كسرى، ملَّك سيفًا على اليمن، فـ"عدا على الحبشة فجعل يقتلها ويبقر النساء عما في بطونها، حتى إذا أفناها إلا بقايا ذليلة قليلة، فاتخذهم خولًا، واتخذ منهم جمَّازين يسعون بين يديه بحرابهم، حتى إذا كان في وسط منهم وجئوه بالحراب حتى قتلوه، ووثب بهم رجل من الحبشة، فقتل باليمن وأوعث، فأفسد، فلما بلغ ذلك كسرى بعث إليهم "وهرز" في أربعة آلاف من الفرس، وأمره ألا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود إلا قتله، صغيرًا كان أو كبيرًا، فأقبل وهرز، حتى دخل اليمن ففعل ذلك. ثم كتب إلى كسرى بذلك. فأمره كسرى عليها. فكان عليها، وكان يجبيها إلى كسرى حتى هلك"1. لقد كان استيلاء الحبشة على اليمن بأسرها سنة "525" للميلاد. أما القضاء على حكمهم فكان قريبًا من سنة "575" للميلاد2. ولكن الحبش كانوا في اليمن قبل هذا العهد؛ إذ كانوا احتلوا بعض الأرضين قبل السنة "525" للميلاد، وكانوا يحكمونها باسم ملك الحبشة. وجاء في تأريخ الطبري وفي موارد أخرى أن حكم الحبشة لليمن دام اثنتين وسبعين سنة، توارث ذلك منهم أربعة: أرياط، ثم أبرهة، ثم يكسوم بن أبرهة، ثم مسروق بن أبرهة3. وهو رقم فيه زيادة، إذا اعتبرنا أن نهاية

_ 1 الطبري "2/ 148" "دار المعارف"، المعارف "278". 2 W. Phillips, p. 223. 3 الطبري "2/ 139".

حكم الحبش في اليمن، كانت في حوالي السنة "575م" أما أخذنا برواية أهل الأخبار مثل حمزة، الذي ذكر كما سبق أن بينت أن حكم "أرياط" دام عشرين سنة، وأن حكم أبرهة ثلاثًا وعشرين سنة، وأن حكم "يكسوم" سبع عشرة، وأن حكم مسروق اثنتي عشرة سنة، فيكون ما ذكره "الطبري" وحمزة صحيحًا من حيث المجموع؛ لأن مجموعه "72" سنة. ولكني أشك في أن حكم "أرياط" كان "20" سنة؛ إذ يعني هذا أن حكمه استمر إلى سنة "545" للميلاد، والمعروف من نص "أبرهة" المدون على جدار سد مأرب، أن أبرهة رمم السد وقوَّى جدرانه سنة "542" للميلاد. ومعنى هذا أنه كان قد استبد بأمر اليمن قبل هذا الزمن. وقد تعرض "حمزة" لهذا البحث، ولفت النظر إلى تفاوت الرواة في مدة لبث الحبشة باليمن وفي تأريخ اليمن كله. فقال: "وليس في جميع التواريخ تأريخ أسقم ولا أخل من تأريخ الأقيال ملوك حمير، لما قد ذكر فيه من كثرة عدد سني من ملك منهم، مع قلة عدد ملوكهم"، و"قد اختلف رواة الأخبار في مدة لبث الحبشة باليمن اختلافًا متفاوتًا"1. والواقع أننا نجد اختلافًا كبيرًا بين أهل الأخبار في تأريخ اليمن، حتى في المتأخر منه القريب من الإسلام. ويذكر "أبو حنيفة الدينوري"، أن "وهرز" كان شيخًا كبيرًا، وقد أناف على المائة، وكان من فرسان العجم وأبطالها، ومن أهل البيوتات والشرف، وكان أخاف السبيل، فحبسه كسرى. ويقال له "وهرز بن الكاسجار"، فسار بأصحابه إلى "الأبلة" فركب منها البحر. وذكر أن "كسرى" لما رده إلى اليمن، بعد وثوب الحبش بـ"سيف بن ذي يزن"، وبقي هناك إلى أن وافاه أجله، قُبر في مكان سمي "مقبرة وهرز"، وراء الكنيسة، ولم يشر إلى اسم الكنيسة2، ولعله قصد موضع "القليس". أما "المسعودي، فصير "وهرز" موظفًا كبيرًا بدرجة "أصبهبذ"، ودعاه بـ"وهرز أصبهبذ الديلم". أي أنه كان أصبهبذًا على الديلم إذ ذاك. وذكر أنه ركب ومن كان معه من أهل السجون البحر في السفن في دجلة ومعهم

_ 1 حمزة "ص89". 2 الأخبار الطوال "ص64".

خيولهم وعددهم وأموالهم حتى أتوا "الأبلة"، فركبوا في سفن البحر، وساروا حتى أتوا ساحل حضرموت في موضع يقال له "مثوب"، فخرجوا من السفن فأمرهم "وهرز" أن يحرقوا السفن؛ ليعلموا أنه الموت. ثم ساروا من هناك برًّا حتى التقوا بـ"مسروق"1. وذكر "المسعودي"، أن "كسرى أنو شروان"، اشترط على "معديكرب" شروطًا: منها أن الفرس تتزوج باليمن ولا تتزوج اليمن منها، وخراج يحمله إليه. فتوج "وهرز" معديكرب بتاج كان معه وبدنه من الفضة ألبسه إياها، ورتبه بالملك على اليمن، وكتب إلى "أنو شروان" بالفتح2. قال "المسعودي" ولما ثبت "معديكرب" في ملك اليمن، أتته الوفود من العرب تهنِّيه بعود الملك إليه، وفيها وفد مكة وعليهم عبد المطلب، وأمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وخويلد بن أسد بن عبد العُزى، وأبو زمعة جد أمية بن أبي الصلت، فدخلوا إليه، وهو في أعلى قصره بمدينة صنعاء المعروف بغمدان وهنئوه، وارتجل عبد المطلب خطابًا، ذكر المسعودي وغيره نصه، وأنشد "أبو زمعة" شعرًا، فيه ثناء على الملك وحمد للفرس "بنو الأحرار" الذين ساعدوا أهل اليمن، على "سود الكلاب"3. وإذا أخذنا برواية "المسعودي" عن وفد مكة، وبما يذكره أهل الأخبار عن مدة حكم الحبش على اليمن، وهي اثنتين وسبعين سنة، وجب أن يكون ذهاب الوفد إلى صنعاء بعد سنة "597" للميلاد، وهذا مستحيل. فقد كانت وفاة "عبد المطلب" في السنة الثامنة من عام الفيل، والرسول في الثامنة إذ ذاك فتكون وفاة "عبد المطلب" إذن في حوالي السنة "578" أو "579" للميلاد، أي في أيام وجود الحبش في اليمن، وقبل طردهم من بلاد العرب، أما لو أخذنا برواية الباحثين المحدثين التي تجعل زمن طرد الحبش عن اليمن سنة "575" للميلاد، أو قبلها بقليل، فيكون من الممكن القول باحتمال ذهاب "عبد المطلب" إلى اليمن، على نحو ما يرويه "المسعودي".

_ 1 مروج "2/ 55 وما بعدها". 2 مروج "2/ 56 وما بعدها"، دار الأندلس. 3 مروج "2/ 58 وما بعدها".

لم يذكر أهل الأخبار السنة التي تولى فيها "سيف بن ذي يزن" الحكم على اليمن بعد طرد الحبش عنها، ويرى بعض الباحثين أنها كانت في حوالي السنة "575" للميلاد. وأن حكمه لم يكن قد شمل كل اليمن، بل جزءًا منها. ويظهر أن الفرس استأثروا بحكم اليمن لأنفسهم؛ إذ نجد أن رجالًا منها تحكمها منذ حوالي السنة "598" للميلاد تقريبًا، وكان أحدهم بدرجة "ستراب" "سطراب"1 Satrapie. وذكر "ابن دريد" أن من ذرية "سيف بن ذي يزن"، "عُفير بن زرعة بن عفير بن الحارث بن النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف". وكان سيد حمير بالشأم في أيام عبد الملك بن مروان2. ورووا أن "وهرز" كان يبعث العير إلى كسرى بالطيوب والأموال فتمر على طريق البحرين تارة وعلى طريق الحجاز أخرى. فعدا بنو تميم في بعض الأيام على عيرة بطريق البحرين، فكتب إلى عامله بالانتقام منهم، فسار عليهم وقتل منهم خلقًا، وذلك يوم "الصفقة"3. وعدا بنو كنانة على عيره بطريق الحجاز حين مرت بهم، وكانت في جوار رجل من أشراف العرب من قيس، فكانت حرب الفجار بين قيس وكنانة4. وأمر كسرى بتولي ابن وهرز، وهو "المزربان بن وهرز" منصب أبيه، لما توفي والده. فكان عليها إلى أن هلك5. ثم أمر كسرى "البينجان بن المرزبان" أي حفيد "وهرز" بتولي منصب أبيه حين داهمته منيته. فأمر كسرى بعده "خُرخرة بن البينجان"، فكان عليها، ثم غضب كسرى عليه. واستدعاه إلى عاصمته، فذهب إليها، فخلعه كسرى وعين باذان "باذام" في مكانه، فلم يزل على اليمن حتى بعث الرسول6، وذكر بعض أهل الأخبار أن "خذ خسرو بن السيحان بن المرزبان" هو الذي

_ 1 BEITRAGE, S. 121, W. PHILLIPS, P.223. 2 الاشتقاق "2/ 360". 3 ابن خلدون "2/ 65"، الأغاني "11/ 131". 4 ابن خلدون "2/ 65"، اللسان "6/ 354"، القاموس "2/ 108". 5 الطبري "2/ 148"، صبح الأعشى "5/ 25". 6 الطبري "2/ 148".

حكم بعد "المرزبان بن وهرز"، وهو الذي عزله كسرى، وولى "باذان" باذام" بعده على اليمن1. لقد كانت السنة السادسة من الهجرة، سنة مهمة جدًّا من تاريخ اليمن. فيها دخل "باذان" "باذام" في الإسلام، وفيها قضى الإسلام على الوثنية واليهودية والنصرانية وعلى الحكم الأجنبي في البلاد، فلم يبق حكم حبشي ولا فارسي2. ويرى بعض المستشرقين أن دخول باذان في الإسلام كان بين سنة "628 و"630" للميلاد3. ويذكر "الطبري"، أن إسلام "باذان"، كان بعد قتل "شيرويه" لأبيه "كسرى أبرويز"، وتوليه الحكم في موضع والده. فلما جاء كتاب شيرويه إليه يبلغه بالخبر، ويطلب من الطاعة، أعلن إسلامه، وأسلم من كان معه من الفرس والأبناء4. وقد ولي "شيرويه" الحكم في سنة "628" للميلاد، ولم يدم حكمه أكثر من ثمانية أشهر. وقد عرف بـ"قباذ"5. وقد ذكر أن "باذان" باذام" كان من "الأبناء"، أي من الفرس الذين ولدوا في اليمن، وأن الرسول استعمل ابنه "شهر بن باذان" مكانه، أي بعد وفاة والده6. ويذكر أهل الأخبار أن الفرس الذين عاشوا في اليمن وولدوا بها واختلطوا بأهلها، عرفوا بـ"الأبناء"، وبـ"بني الأحرار"7. ولما قتل "الأسود العنسي" "شهر بن باذام" "شهر بن باذان"، واستبد "العنسي" بأمر اليمن، خرج عمال الرسول عن اليمن. فلما قتل "العنسي" ورجع عمال النبي إلى اليمن، استبد بصنعاء "قيس بن عبد يغوث المرادي"، وتوفي الرسول والأمر على ذلك. ثم كانت خلافة أبي بكر، فولى على اليمن "فيروز الديلمي"8.

_ 1 صبح الأعشى "5/ 25". 2 الطبري "2/ 655 وما بعدها". 3 W. PHILLIPS, P.223. 4 الطبري "2/655، وما بعدها"، "دار المعارف". 5.ENCY, 4, P. 178 6 الإصابة "1/ 170". 7 الأغاني "16/ 73". 8 صبح الأعشى "5/ 26، 46".

وقد تطرق "ابن قتيبة" إلى "ملوك الحبشة في اليمن"، فذكر اسم "أبرهة الأشرم"، ثم "يكسوم بن أبرهة"، ثم "سيف بن ذي يزن"، فقال عنه: أنه "أتى كسرى أنو شروان بن قباذ" في آخر أيام ملكه -هكذا تقول الأعاجم في سيرها، وأنا أحسبه هرمز بن أنو شروان على ما وجدت في التأريخ"1. مما يدل على أنه نقل أخباره عن حملة الفرس على اليمن من كتب سير ملوك العجم، المؤلفة بلغتهم، كما نقل من موارد أخرى غير أعجمية. وقد ذكر أيضًا أن المؤرخين اختلفوا اختلافًا متفاوتًا في مكث الحبشة في اليمن2 وكون الأبناء طبقة خاصة في اليمن، ولما قدم "وبر بن يحنس" على الأبناء باليمن، يدعوهم إلى الإسلام، نزل على بنات النعمان بن يزرج فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم، وإلى "مركبود" وعطاء ابنه، ووهب بن منبه، وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه3. ونجد عهد استيلاء الحبشة الأخير على اليمن عهدًا كريمًا من ناحيته التأريخية؛ إذ دون جملة نصوص، تحدثت عنها فيما سلف. أما عهد استيلاء الفرس على اليمن إلى دخولها في الإسلام، فلم يترك شيئًا مدونًا ولا أثرًا يمكن أن يفيدنا في الكشف عن اليمن في هذا العهد. لم يترك لنا كتابة ما، لا بالمسند ولا بقلم الساسانيين الرسمي بشرح الأوضاع السياسية أو أي وضع آخر في هذا العهد. وحالنا في النصوص الكتابية في أول عهد دخول اليمن في الإسلام، مثل حالنا في استيلاء الفرس عليها، فنحن فيه معدمون لا نملك ولا نصًّا واحدًا مدونًا من ذلك العهد. وهو أمر مؤسف كثيرًا، وكيف لا وهو والعهد الذي قبله المتصل به، ومن أهم العهود الخطيرة في تأريخ اليمن وجزيرة العرب، ونص واحد من هذين العهدين ثروة لا تقدر بثمن لمن يريد الوقوف على التطورات التأريخية التي مرت بالعرب قبيل الإسلام وعند ظهوره.

_ 1 المعارف "ص638"، "ثروت عكاشة". 2 المصدر نفسه. 3 الطبري "3/ 158".

بئر من آبار صنعاء من كتاب: Jemem, das Verbotene Land لمؤلفه: Gunther Pawelke هذا ولا بد لي من الإشارة إلى أن حكم الفرس لليمن لم يكن حكمًا فعليًّا واقعيًّا، فلم يكن ولاتهم يحكمون اليمن كلها، وإنما كان حكمهم حكمًا اسميًّا صوريًّا، اقتصر على صنعاء وما والاها، أما المواضع الأخرى، فكان حكمها لأبناء الملوك من بقايا الأسر المالكة القديمة وللأقيال والأذواء. ذلك أن أهل كل

ناحية ملكوا عليهم رجلًا من حمير، فكانوا "ملوك الطوائف"1 فكان على حمير عند مبعث رسول الله سادات نعتوا أنفسهم بنعوت الملوك، من بينهم "الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر وزرعة ذو يزن بن مالك بن مرة الرهاوي" وقد أرسلوا إلى الرسول مبعوثًا عنهم يخبره برغبتهم في الدخول في الإسلام، وصل إليه مقفلة من أرض الروم، ثم لقيه بالمدينة وأخبره بإسلامهم وبمفارقتهم الشرك، فكتب إليهم رسول الله كتابًا يشرح فيه ما لهم وما عليهم من واجبات وحقوق2.

_ 1 المعارف "278". 2 "قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله بكتابهم"، الطبري "3/120" "دار المعارف".

همدان وصنعاء ومأرب

همدان وصنعاء ومأرب: وكانت همدان عند مبعث الرسول، مستقلة في إدارة شئونها، وقد أسلمت كلها في يوم واحد على يد علي بن أبي طالب1. ولقد صارت "صنعاء" عاصمة لحكام اليمن منذ عهد الحبش حتى هذا اليوم، أما "مأرب" فقد صارت مدينة ثانوية، بل دون هذه الدرجة، وأفل كذلك شأن ظفار، وسائر المواضع التي كان لها شأن يذكر في عهد استقلال اليمن وفي عهد الوثنية، ويرجع بعض أهل الأخبار بناء صنعاء إلى "سام بن نوح"، وزعموا أنها أول مدينة بنيت باليمن، وأن قصر "غمدان" كان أحد البيوت السبعة التي بنيت على اسم الكواكب السبعة، بناه "الضحاك" على اسم الزهرة. وكان الناس يقصدونه إلى أيام "عثمان" فهدمه، فصار موضعه تلًّا عظيمًا2.

_ 1 الطبري "3/ 132"، "دار المعارف". 2 صبح الأعشى "5/ 39 وما بعدها"، "وكان الضحاك بناه على اسم الزهرة، وخربه عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فهو في وقتنا هذا -وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة- خراب قد هدم فصار تلًّا عظيمًا، وقد كان الوزير علي بن عيسى الجراح، حين نفي إلى اليمن وصار إلى صنعاء، بنى فيه سقاية وحفر فيه بئرًا. ورأيت غمدان ردما وتلًّا عظيمًا قد انهدم بنيانه، وصار جبل تراب كأنه لم يكن"، "وقد قيل إن ملوك اليمن كانوا إذا قعدوا في أعلى البنيان بالليل واشتعلت الشموع، رأى الناس ذلك من مسيرة ثلاثة أيام"، مروج "2/ 229 وما بعدها"، "والبناء القائم مكانه يدعى باسمه ويختصر في صنعاء، فيقولون: القصر، وفيه معمل للخرطوش"، مصطفى مراد الدباغ، الجزيرة العربية "1/ 284".

وقد ورد اسم "صنعاء" لأول مرة على ما نعلم في نص يعود عهده إلى أيام الملك "الشرح يحضب" "ملك سبأ وذي ريدان"، ودعيت فيه بـ"صنعو"1. وذكر الأخباريون أنها كانت تعرف بـ"أزال" وبـ"أوال"2. أخذوا ذلك على ما يظهر من "أزال" في التوراة بواسطة أهل الكتاب مثل "كعب الأحبار" ووهب بن منبه3. وذكروا أن قصر غمدان الذي هو بها قصر "سام بن نوح"، أو قصر "الشرح يحضب" "ليشرح يحضب"4. وذكروا أيضًا أنها أول مدينة اختطت باليمن بنتها "عاد"5. ورووا قصصًا عن "غمدان"، فزعم بعضهم أن بانيه "سليمان" أمر الشياطين، فبنوا لبلقيس ثلاثة قصور: غمدان وسلحين وبينون. وزعم بعضهم أن بانيه هو: "ليشرح يحضب" أراد اتخاذ قصر بين صنعاء و"طيوة"، فانتخب موضع "غمدان"6. وقد وصف "الهمداني" ما تبقى منه في أيامه، وأشار إلى ما كان يرويه أهل الأخبار عنه7.

_ 1 Giaser 424. 2 "وكانت تسمى أوال من الأولية بلغتهم"، مختصر تاريخ اليمن المنقول عن كتاب العبر لابن خلدون، "ص125"، تحقيق "h. C. Kay" لندن 1892م. Ency, iv, p. 144, glaser, Skimme, II, S. 310, 424. 3 الإكليل "ص18". 4 الإكليل "ص4"، القزويني، آثار البلاد "51". 5 مختصر تأريخ اليمن "125". 6 البلدان "6/ 301 وما بعدها". Ency, ii. P. 166, niebuhr, reisebeschreibung nach arabien, i, s. 418, 421. 7 الإكليل "8/ 12 وما بعدها".

نجران

نجران: وأما "نجران"، فقد كانت مستقلة بشئونها، يديرها ساداتها وأشرافها، ولها نظام سياسي وإداري خاص تخضع له، ولم يكن للفرس عليها سلطان، وكان أهلها من "بني الحارث بن كعب"، وهم من "مذحج" و"كهلان"،

وكانوا نصارى. ومن أشرافهم "بنو عبد المدان بن الديان"، أصحاب كعبة نجران1، وكان فيها أساقفة معتمون، وهم الذين جاءوا إلى النبي ودعاهم إلى المباهلة، مع وفد مؤلف من ستين أو سبعين رجلًا راكبًا، فيهم أربعة عشر رجلًا من أشرافهم، منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم. العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرن إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم "وهب"، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مِدْراسهم2. ويذكر الأخباريون أن أبا حارثة كان قد شرف في أهل نجران ودرس الكتب حتى حسن علمه في دينهم، وصار مرجعهم الأكبر فيه. وكانت له حظوة عند ملك الروم، حتى إنه كان يرسل له الأموال والقلعة ليبنوا له الكنائس لما كانت له من منزلة في الدين وفي الدنيا عند قومه. وكان له أخ اسمه "كوز بن علقمة" وقد أسلما مع من أسلم من الناس بعد السنة العاشرة من الهجرة3. ويظهر من الحبر المتقدم أن ملوك الروم كانوا على اتصال بنصارى اليمن، وأنهم كانوا يساعدون أساقفتهم ويمولونهم، ويرسلون إليهم العطايا والهبات. وقد أمدوهم بالبنائين والفعلة وبالمواد اللازمة لبناء الكنائس في نجران وفي غيرها من مواضع اليمن، وقد كان من مصلحة الروم مساعدة النصرانية في اليمن وانتشارها؛ لأن في ذلك كسبًا عظيمًا لهم. فبانتشارها يستطيعون تحقيق ما عجز عنه "أوليوس غالوس" حينما كلفه إمبراطور روما اقتحام العربية السعيدة والاستيلاء عليها. وذكر أهل الأخبار أيضًا، أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبًا عندهم، كلما مات رئيس منهم فأضيفت الرئاسة إلى غيره، انتقلت الكتب إليه، وقد عرفت

_ 1 الطبري "3/ 132" "دار المعارف". صبح الأعشى "5/ 39 وما بعدها". 2 ابن هشام "2/ 222 وما بعدها"، ابن الأثير "2/ 122"، ابن خلدون "2/ 57" "الوفود"، البلدان "8/ 258 وما بعدها"، الطبري "3/ 139"، تاج العروس "1/ 389"، raccoita, iii, p. 128. 3 ابن هشام "2/ 222 وما بعدها".

تلك الكتب بـ"الوضائع". وكانوا يختمونها، فكلما تولى رئيس جديد ختم على تلك الكتب فزادت الخواتم السابقة ختمًا1، وذكر علماء اللغة أن الوضائع هي كتب يكتب فيها الحكمة. وفي الحديث: أنه نبي وأن اسمه وصورته في الوضائع2. ونجران أرض في نجد اليمن خصبة غنية، وفيها مدينة نجران من المدن اليمانية القديمة المعروفة قبل الميلاد. وقد ذكرها "سترابون" في جغرافيته، وسماها negrana = negrani في معرض كلامه على حملة "أوليوس غالوس" على العربية، كما ذكرها المؤرخ "بلينيوس" في جملة المدن التي أصابتها يد التخريب في هذه الحملة3. كما ذكرها "بطلميوس"، فسماها negara metropolis = nagera mytropolis4. وفي ذكر "بطلميوس" لها على أنها "مدينة دلالة على أنها كانت معروفة أيضًا بعد الميلاد. وأن صيتها بلغ مسامع اليونان. وبعد النص الموسوم بـglaser 418, 419، من أقدم النصوص التي ورد فيها اسم مدينة نجران؛ إذ يرتفع زمنه إلى أيام "المكربين". وقد ذكر كما سبق في أثناء كلامي على دور المكربين، في مناسبة تسجيل أعمال ذلك "المكرب" وتأريخ حروبه وما قام به من فتوح. وورد ذكرها في النص "glaser1000"، الذي يرتقي زمنه إلى أيام المكرب والملك "كرب إيل وتر" آخر "مكربي" سبأ، وأول من تلقب بلقب "ملك سبأ"5. فورود اسم "نجران" في النصين المذكورين يدل على أنها كانت من المدن القديمة العامرة قبل الميلاد، وأنها كانت من المواضع النابهة في أول أيام سبأ. وورد اسمها في نصوص أخرى. كما ذكرت في جملة المواضع التي دخلها رجال

_ 1 ابن هشام "2/ 222 وما بعدها". 2 اللسان:8/ 399"، "و/ ض/ ع". 3 Strabo, xvi, iv, 24, vol, iii, p. 212, pliny, nat. Histo, ii. P. 458, vi, 160 4 Ptolemy, vi, 7, 37 5 Beitrage, S,9

حملة "أوليوس غالوس" على اليمن. وذكرها نص "النمارة" الذي يرتقي زمنه إلى سنة "328" بعد الميلاد. وقد كانت في أيدي الملك "شمر يهرعش" إذ ذاك على رأي أكثر الباحثين. إذ كان قد وسع رقعة حكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت" وأضاف إليها أرضين جديدة منها أرض "نجران"1، وأشار إلى تدمير ذلك الملك لـ "نبطو"، أي النبط2. وقد ذهب "ريتر" إلى أن negara mytropolis، هو الموضع المسمى بـ"القابل" على الضفة الغربية لوادي نجران3. أما "هاليفي"، فذهب إلى أنها الخرائب المسماة "الأخدود"4. وذهب "كلاسر" إلى أنها الأخدود أو "رجلة"، أو موضع آخر في "وادي الدواسر"5. وقد ذكر "الهمداني" أن موضع "هجر نجران" أي مدينة نجران، هو الأخدود، ومدح خصب أرض نجران. ولم يكن "نجران" اسم مدينة في الأصل كما يتبين من النص cih 363، بل كان اسم أرض بدليل ورود أسماء مواضع ذكر أنها في "نجرن" نجران. ويرى بعض الباحثين أن مدينة "رجمت" كانت من المدن الكبرى في هذه الأرض، ثم تخصص اسم نجران فصار علمًا على المدينة التي عرفت بنجران6. وذهب بعض الباحثين إلى أن "رجمت" "رجمة" هي "رعمة" المذكورة في التوراة. وقد تحدثت فيما سلف عن "رعمة" وعن إتجار أهلها وإتجار "شبا" sheba مع "صور" 7tyrus.

_ 1 Beitrage, s, 11 2 Beitrage, s, 11 3 Paulys - wissowa, 32 ter halbband, 1574 4 Halevy, Rapport sur une Mission Archeologique dans le yemen, in jornal Asia, VI, XIX, 1872, 39, 90 5 Glaser, skizze, ii 6 Beitrage, s. 10 7 أخبار الأيام، الأول، الإصحاح الأول، الآية 9، التكوين الإصحاح العاشر، الآية 7، حزقيال، الإصحاح 27، الآية 22، Beitrage, s. 11

ويذكر الأخباريون أن قومًا من "جرهم" نزلوا بنجران، ثم غلبهم عليها بنو حمير، وصاروا ولاة للتبايعة، وكان كل من ملك منهم يلقب "الأفعى". ومنهم "أفعى نجران" واسمه "القلمس بن عمرو بن همدان بن مالك بن منتاب بن زيد بن وائل بن حمير"، وكان كاهنًا. وهو الذي حكم على حد قولهم بين أولاد نزأر. وكان واليًا على نجران لبلقيس، فبعثته إلى سليمان، وآمن، وبث دين اليهودية في قومه، وطال عمره، وزعموا أنه ملك البحرين والمشلل. ثم استولى "بنو مذحج" على نجران. ثم "بنو الحارث بن كعب"، وانتهت رياسة بني الحارث فيها إلى بني الديَّان، ثم صارت إلى بني عبد المدان، وكان منهم "يزيد" على عهد الرسول1. ويرى بعض أهل الأخبار أن "السيد" والعاقب أسقفي نجران الذين أرادا مباهلة رسول الله هما من ولد الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي، الذي حكم بين بني نزار بن معد في ميراثهم، وكان منزله بنجران2. وقد سميت "نجران" بنجران بن زيد بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قطحان على رأي بعض أهم الأخبار. وقد اشتهرت بالأدم3. وقد أرسل الرسول خالد بن الوليد إلى "بني الحارث بن كعب" بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، فإن استجابوا إليه قبل منهم، وإن لم يفعلوا قاتلهم. فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه، ورجع خالد مع وفد منهم إلى رسول الله، فأعلنوا إسلامهم أمامه، ثم رجعوا وقد عين الرسول "عمرو بن حزم" عاملًا على نجران. فبقي بنجران حتى توفي رسول الله4. ولما عاد خالد بن الوليد من نجران إلى المدينة، أقبل معه وفد الحارث بن

_ 1 "مختصر تأريخ المنقول من كتاب العبر لابن خلدون "133 وما بعدها"، مطبوع من كتاب تأريخ اليمن لعمارة اليمني، سنة 1892، بلندن، بعناية: henry cassels kay. صبح الأعشى "5/ 45". 2 المحبر "132". 3 صبح الأعشى "5/ 40 وما بعدها"، الإكليل:"1/ 14". 4 الطبري "3/ 126 وما بعدها" "سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب وإسلامهم".

كعب"، فيهم قيس بن الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قريظ الزيادي، وشداد بن عبد الله القناني، وعمرو بن عبد الله الضبابي. فلما رآهم الرسول، قال: "من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟ " ثم كلمهم، وأمر قيس بن الحصين عليهم، ورجعوا، وكان ذلك قبل وفاة الرسول بأربعة أشهر1. وقد اشتهرت نجران بثيابها، ولما توفي الرسول، كفن في ثلاثة أثواب نجرانية2. وقد زار "فلبي" وادي نجران، وعثر على خرائب قديمة، يرجع عهدها إلى ما قبل الإسلام، كما تعرف على موضع "كعبة نجران" ووجد صورًا قديمة محفورة في الصخر على مقربة من "أم خرق"، وكتابات مدونة بالمسند. وعلى موضع يعرف بـ"قصر بن ثامر"، وضريح ينسب إلى ذلك القديس الشهيد الذي يرد اسمه في قصص الأخباريين عن شهداء نجران. ويرى "فلبي" أن مدينة "رجمت" "رجمة" هي "الأخدود"، وأن الخرائب التي لا تزال تشاهد فيها اليوم تعود إلى أيام المعينيين3. ويقع "قصر الأخدود" الأثري بين "القابل" و"رجلة"، وهو من المواضع الغنية بالآثار4. وقد تبسط "فلبي" في وصف موضع الأخدود، ووضع مخططًا بالمواضع الأثرية التي رآها في ذلك المكان5. ويتضح من مخطط "فلبي" لمدينة "نجران" أنها كانت مدينة كبيرة مفتوحة وعندها أبنية محصنة على هيئة مدينة مربعة الشكل، وذلك للدفاع عنها، وبها مساكن وملاجئ للاحتماء بها ولتمكين المدافعين من صد هجمات المهاجمين لها6.

_ 1 الطبري "3/ 128"، سيرة ابن هشام "2/ 347 وما بعدها". 2 اللسان "5/ 195"، "ن/ ج/ ر". 3 Philby, arabian highlands, pp. 221, 238, 252, 257 4 فؤاد حمزة، في بلاد عسير "190" "القاهرة 1951م". 5.Philby, arabian highlands, p 237 6 Beitrage, s. 11. beitrage, s. 17

أثر الحبش في أهل اليمن

أثر الحبش في أهل اليمن: ولا بد أن يكون فتح الحبش لليمن قد ترك أثرًا في لهجات أهلها، ولا سيما بين النصارى منهم، ممن دخلوا في النصرانية بتأثير الحبش من ساسة وإداريين ومبشرين، فاستعملوا المصطلحات الدينية التي كان يستعملها الأحباش لعدم وجود ما يقابلها عندهم في لهجاتهم لوثنيتهم. ولكني مع ذلك لا أستطيع أن أقول إن تلك المصطلحات كانت كلها حبشية الأصل والأرومة؛ لأن الكثير منها لم يكن حبشيًّا في المنشإ والوطن، وإنما كان دخيلًا مستوردًا، جاءت به النصرانية من لغة بني إرم، أو من اللغات الأخرى المتنصرة، فأدخلتها إلى الحبشة، فاستعملها الأحباش وحرفوا بعضها على وفق لسانهم، ومنهم انتقلت بالفتوح وبالاتصال إلى اليمن. وقد عرض علماء اللغة المسلمون والمستشرقون لعدد من الألفاظ العربية، ذكروا أنها من أصل حبشي، وهي من الألفاظ التي كانت مستعملة معروفة قبل الإسلام، وقد ورد بعضها في القرآن الكريم وفي الشعر المنسوب إلى الجاهليين. ومثل هذه الألفاظ تستحق أن تكون موضع درس وتمحيص لمعرفة صحة أصلها ونسبها ودرجة أرومتها في الحبشية، لمعرفة أثر الأحباش في العرب، وأثر العرب في الأحباش؛ لأن بعض ما نسب إلى الأحباش من كلم هو من أصل عربي جنوبي، هاجر من اليمن بطرق متعددة إلى إفريقية، واستعمل هناك، ظن أنه حبشي الأصل، وأن العرب أخذوه من الأحباش. وقد أثر فتح الحبش لليمن على سحن الناس أيضًا. فظهر السواد على ألوانهم عند غلبة الحبشة على بلادهم. وقد تأثروا بأخلاق الحبش كذلك1.

_ 1 الروض "2/ 315".

فهرس الجزء السادس

فهرس الجزء السادس الفصل التاسع والثلاثون مملكة كندة 5 كندة تلحق بحضرموت 47 امرؤ القيس الشاعر 49 السموءل 64 كندة في العربية الجنوبية 69 فلسطين الثالثة 73 الفصل الأربعون الغساسنة 77 ملوك الغساسنة 121 أمراء غساسنة 131

قوائم ملوك الغساسنة 133 قائمة حمزة 136 العرب والحبش 139 حكم السميفع أشوع 162 أبرهة 170 حملة أبرهة 197 طرد الحبشة 211 همدان وصنعاء ومأرب 221 نجران 222 أثر الحبش في أهل اليمن 228

المجلد السابع

المجلد السابع الفصل الثاني والأربعون: مكة المكرمة مدخل ... الفصل الثاني والأربعون: مكة المكرمة ومكة بلد في وادٍ غير ذي زرع، تشرف عليها جبال جُرْد، فتزيد في قسوة مناخه, ليس بها ماء غير ماء زمزم، وهي بئر محفورة، وآبار أخرى مجة حفرها أصحاب البيوت. أما مياه جارية وعيون غزيرة، على ما نرى في أماكن أخرى، فليس لها وجود بهذا المعنى هناك. وكل ما كان يحدث نزول سيول، قد تكون ثقيلة قوية، تهبط عليها من شعاب الهضاب والجبال، فتنزل بها أضرارًا فادحة وخسائر كبيرة، وقد تصل إلى الحرم فتؤثر فيه، وقد تسقط البيوت، فتكون السيول نقمة، لا رحمة تسعف وتغيث أهل البيت الحرام1. لذلك لم تصلح أرض مكة لأن تكون أرضًا ذات نخيل وزرع وحب؛ فاضطر سكانها إلى استيراد ما يحتاجون إليه من الأطراف والخارج، وأن يكتفوا في حياتهم بالتعيش مما يكسبونه من الحجاج، وأن يضيفوا إلى ذلك تجارة تسعفهم وتغنيهم، وتضمن لهم معاشهم، وأمانًا وسلمًا يحفظ لهم حياتهم، فلا يطمع فيهم طامع، ولا ينغص عيشهم منغص: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ... } 2.

_ 1 تأريخ مكة، للأزرقي "1/ 38 وما بعدها", البلاذري، فتوح "65 وما بعدها". 2 البقرة، الآية 126.

ويعود الفضل في بقاء مكة وبقاء أهلها بها إلى موقعها الجغرافي، فهي عقدة تتجمع بها القوافل التي ترد من العربية الجنوبية تريد بلاد الشام، أو القادمة من بلاد الشام تريد العربية الجنوبية، والتي كان لا بد من أن تستريح في هذا المكان؛ لينفض رجالها عن أنفسهم غبار السفر, وليتزودوا ما فيه من رزق. ثم ما لبث أهلها أن اقتبسوا من رجال القوافل سر السفر وفائدته، فسافروا أنفسهم على هيئة قوافل، تتولى نقل التجارة لأهل مكة وللتجار الآخرين من مكة المكرمة أهل اليمن ومن أهل بلاد الشام. فلما كان القرن السادس للميلاد, احتكر تجار مكة التجارة في العربية الغربية، وسيطروا على حركة النقل في الطرق المهمة التي تربط اليمن ببلاد الشام وبالعراق1.

_ 1 W. M. Watt. Muhammad at Mecca, p. 3.

وللبيت فضل كبير على أهل مكة، وبفضله يقصدها الناس من كل أنحاء العالم حتى اليوم للحج إليه. وقد عرف البيت بـ"الكعبة"؛ لأنه مكعب على خلقة الكعب, ويقال له: "البيت العتيق" و"قادس" و"بادر"، وعرفت الكعبة بـ"القرية القديمة" كذلك1. وبمكة جبل يطل عليها, يقال له: جبل "أبي قبيس"، ذكر بعض أهل الأخبار أنه سُمِّيَ "أبا قبيس" برجل حداد؛ لأنه أول من بنى فيه، وكان يسمى "الأمين" لأن الركن كان مستودعًا فيه2, وأمامه جبل آخر؛ وبين الجبلين وادٍ، فيه نمت مكة ونبتت, فصارت محصورة بين سلسلتين من مرتفعات. وقد سكن الناس جبل "أبي قبيس" قبل سكنهم بطحاء مكة؛ وذلك لأنه موضع مرتفع ولا خطر على من يسكنه من إغراق السيول له، وقد سكنته "بنو جرهم"، ويذكر أهل الأخبار أنه إنما سمي "قبيسًا" بـ"قبيس بن شالخ" رجل من جرهم, كان في أيام "عمرو بن مضاض"3.

_ 1 نهاية الأرب "1/ 313". 2 نزهة الجليس "1/ 27". 3 اللسان "ق ب س", "وأبو قبيس مصغرًا: جبل بمكة, هذه عبارة الصحاح. وفي التهذيب: جبل مشرف على مسجد مكة، سمي برجل من مذحج حداد؛ لأنه أول من بنى فيه. وفي الروض للسهيلي: عرف أبو قبيس بقبيس بن شالخ, رجل من جرهم كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه مية، فنذرت ألَّا تكلمه وكان شديد الكلف بها، فحلف: ليقتلن قبيسًا، فهرب منه في الجبل المعروف به، وانقطع خبره، فإما مات وإما تردى منه، فسمي الجبل أبا قبيس. قال: وله خبر طويل ذكره ابن هشام في غير هذا الكتاب. وكان أبو قبيس الجبل هذا يسمى الأمين؛ لأن الركن أي: الحجر كان مستودعًا فيه، كما ذكره أهل السير والمغازي" تاج العروس "4/ 212" "قبس", "والأخشبان: جبلا مكة، وفي الحديث في ذكر مكة: "لا تزول مكة حتى يزول أخشباها" أي: جبلاها ... الأخشبان: الجبلان المطيفان بمكة، وهما: أبو قبيس وقعيقعان ويسميان الجبجاب أيضا. ويقال: بل هما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان. وقال ابن وهب: الأخشبان: جبلا منى اللذان تحت العقبة، وكل خشن غليظ من الجبال فهو أخشب, وقال السيد العلوي: الأخشب الشرقي أبو قبيس والأخشب الغربي وهو المعروف بجبل الخط, والخط من وادي إبراهيم -عليه السلام-. وقال الأصمعي:=

ويظهر أنه كان من المواضع المقدسة عند الجاهليين، فقد كان نُسَّاك مكة وزهادها ومن يتحنف ويتحنث ويترهب من أهلها في الجاهلية يصعده ويعتكف فيه. ولعله كان مقام الطبقة المترفة الغنية من أهل مكة قبل نزوح "قريش" إلى الوادي، وسكنها المسجد الحرام المحيط بالبيت. ويظهر من سكوت أهل الأخبار عن الإشارة إلى وجود أُطم أو حصون في مكة للدفاع عنها، أن هذه المدينة الآمنة لم تكن ذات حصون وبروج ولا سور يقيها من احتمال غزو الأعراب أو أي عدو لها. ويظهر أن ذلك إنما كان بسبب أن مكة لم تكن قبل أيام "قصي" في هذا الوادي الذي يتمركزه "البيت"، بل كانت على المرتفعات المشرفة عليه. أما الوادي، فكان حرمًا آمنًا يغطيه الشجر الذي أنبتته السيول ورعته الطبيعة بعنايتها، ولم يكن ذا دور ولا سكن ثابت متصل بالأرض، بل كان سكن من يأوي إليه بيوت الخيام، وأما أهل المرتفعات فكانوا، إذا داهمهم عدو أو جاءهم غزو، اعتصموا برءوس المرتفعات المشرفة على الدروب، وقاوموا العدو والغزو منها, وبذلك يصير من الصعب على من يطمع فيهم الوصول إليهم, ويضطر عندئذ إلى التراجع عنهم، فحمتهم الطبيعة بنفسها ورعتهم بهذه الرءوس الجبلية التي أقامتها على مشارف الأودية والطرق. فلما أسكن "قصي" أهل الوادي في بيوت ثابتة مبنية، وجاء ببعض من كان يسكن الظواهر لنزول الوادي، بقي من فضل السكن في ظواهر مكة, أي: على المرتفعات، يقوم بمهمة

_ = الأخشبان أبو قبيس، وهو الجبل المشرف على الصفا، وهو ما بين حرف أجياد الصغير المشرف على الصفا إلى السويداء التي تلي الخندمة. وكان يسمى في الجاهلية الأمين، والأخشب الآخر الجبل الذي يقال له الأحمر، وكان يسمى في الجاهلية الأعرف، وهو الجبل المشرف وجهه على قعيقعان", تاج العروس "1/ 234"، "خشب"، "قال الزبير بن بكار: الجباجب جبال مكة -حرسها الله تعالى- أو أسواقها أو منحر، وقال البراقي: حفر بمنى كان يلقى به الكروش، أي: كروش الأضاحي في أيام الحج, أو كان يجمع فيها دم البدن والهدايا، والعرب تعظمها وتفخر بها", تاج العروس "1/ 174" "جبب".

حماية نفسه وحماية أهل البطحاء من تلك المرتفعات، وهم الذين عرفوا بقريش الظواهر، فلم تعد لأهل مكة سكان الوادي ثمة حاجة إلى اتخاذ الأطم والحصون، وبناء سور يحمي المدينة من الغزو، لا سيما والمدينة نفسها حرم آمن وفي حماية البيت ورعايته. وقد أكد "قصي" على أهلها لزوم إقراء الضيف ورعاية الغريب والابتعاد عن القتال وحل المشكلات حلًّا بالتي هي أحسن. كما نظم أمور الحج، وجعل الحجاج يفدون إلى مكة؛ للحج وللاتجار, ثم أكد من جاء بعده من سادة قريش هذه السياسة التي أفادت البلد الآمن، وأمنت له رزقه رغدًا. ولم يرد اسم "مكة" في نص الملك "نبونيد" ملك بابل، ذلك النص الذي سرد الملك فيه أسماء المواضع التي خضعت لجيوشه ووصل هو إليها في الحجاز, فكانت "يثرب" آخر مكان وصل إليه حكمه في العربية الغربية على ما يبدو من النص. ولم نتمكن من الحصول على اسم "مكة" من الكتابات الجاهلية حتى الآن, أما الموارد التأريخية المكتوبة باللغات الأعجمية، فقد جاء في كتاب منها اسم مدينة دُعيت بـ"مكربة" "مكربا" "Macoraba"، واسم هذا الكتاب هو "جغرافيا" "جغرافية" "للعالم اليوناني المعروف "بطلميوس" "ptolemy" الذي عاش في القرن الثاني بعد الميلاد, وقد ذهب الباحثون إلى أن المدينة المذكورة هي "مكة"1. وإذا كان هذا الرأي صحيحًا يكون "بطلميوس" أول من أشار إليها من المؤلفين وأقدمهم بالنظر إلى يومنا هذا، ولا أستبعد مجيء يوم قد لا يكون بعيدًا، ربما يعثر فيه المنقبون على اسم المدينة مطمورًا تحت سطح الأرض، كما عثروا على أسماء مدن أخرى, وأسماء قرى وقبائل وشعوب. ولفظة "مكربة" "Macoraba"، لفظة عربية أصابها بعض التحريف ليناسب النطق اليوناني، أصلها "مكربة" أي: "مقربة" من التقريب. وقد رأينا في أثناء كلامنا على حكومة "سبأ" القديمة، أن حكامها كانوا كهانًا

_ 1 Ptolemy, Geography, vl, 7, 32.

أي: رجال دين، حكموا الناس باسم آلهتهم، وقد كان الواحد منهم يلقب نفسه بلقب "مكرب" أي: "مقرب" في لهجتنا. فهو أقرب الناس إلى الآلهة وهو مقرب الناس إلى آلهتهم، وهو مقدس لنطقه باسم الآلهة، وفي هذا المعنى جاء لفظة "مكربة"؛ لأنها "مقربة" من الآلهة، وهي تقرب الناس إليهم، وهي أيضا مقدسة و"حرام", فاللفظة ليست علمًا لمكة، وإنما هي نعت لها، كما في "بيت المقدس" و"القدس" إذ هما نعت لها في الأصل، ثم صار النعت علمًا للمدينة. أما ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن المعبد الشهير الذي ذكره "ديودروس الصقلي" "Diodorus Siculus" في أرض قبيلة عربية دعاها "1Bizomeni"، وقال: إنه مكان مقدس له حرمة وشهرة بين جميع العرب، هو مكة -فهو رأي لا يستند إلى دليل مقبول معقول، فالموضع الذي يقع المعبد فيه، هو موضع بعيد عن مكة بعدًا كبيرًا وهو يقع في "حسمى" في المكان المسمى "روافة" "غوافة" على رأي "موسل". وقد كانت في هذه المنطقة وفي المحلات المجاورة لها معابد أخرى كثيرة أشار إليها الكتبة اليونان والرومان، ولا تزال آثارها باقية، وقد وصفها السياح الذين زاروا هذه الأمكنة2. وإذا صح رأينا في أن موضع "Macoraba" هو مكة، دل على أنها كانت قد اشتهرت بين العرب في القرن الثاني بعد الميلاد, وأنها كانت مدينة مقدسة يقصدها الناس من مواضع بعيدة من حضر ومن بادين، وبفضل هذه القدسية والمكانة بلغ اسمها مسامع هذا العالم الجغرافي اليوناني البعيد، ودل أيضا على أنها كانت موجودة ومعروفة قبل أيام "بطلميوس"؛ إذ لا يعقل أن يلمع اسمها وتنال هذه الشهرة بصورة مفاجئة بلغت مسامع ذلك العالم الساكن في موضع بعيد, ما لم يكن لها عهد سابق لهذا العهد.

_ 1 C.H. Oldfather, Diodorus Siculus, Bibliotheca, Book, III, XXXI, Booth The Historical Library of Diodorus The Sicilian, 105, Gerald De Gury, Rulers of Mecca, London, 1951, P. 12 2 تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 353".

وقد عرفنا من الكتابات الثمودية أسماء رجال عرفوا بـ"مكي", ولم تشر تلك الكتابات إلى سبب تسمية أولئك الرجال بـ"مكي". فلا ندري اليوم إذا كان أولئك الرجال من "مكة", أو من موضع آخر، أو من عشيرة عرفت بـ"مكت" "مكة"؛ لذلك لا نستطيع أن نقول: إن لهذه التسمية صلة بمكة. ولم يشر الأخباريون ولا من كتب في تأريخ مكة إلى هذا الاسم الذي ذكره "بطلميوس"، ولا إلى اسم آخر قريب منه, وإنما أشار إلى اسم آخر هو "بكة", وقد ذكر هذا الاسم في القرآن1, قالوا: إنه اسم مكة، أبدلت فيه الميم باءً، وقال بعض الأخباريين: إنه بطن مكة، وتشدد بعضهم وتزمت، فقال: بكة موضع البيت، ومكة ما وراءه، وقال آخرون: لا, والصحيح البيت مكة, وما والاه بكة، واحتاجوا إلى إيجاد أجوبة في معنى اسم مكة وبكة، فأوجدوا للاسمين معاني وتفاسير عديدة تجدها في كتب اللغة والبلدان وأخبار مكة2. وذكر أهل الأخبار أن مكة عرفت بأسماء أخرى, منها: صلاح؛ لأمنها, ورووا في ذلك شعرًا لأبي سفيان بن حرب بن أمتة3, ومنها أم رخم، والياسّة، والناسة4, والحاطمة, و"كوثي"5, وذكرت في القرآن الكريم

_ 1 آل عمران: الآية 69: "وتسمى بكة، تبكّ أعناق البغايا إذا بغوا فيها، والجبابرة", الطبري "2/ 284", نزهة الجليس "1/ 27". 2 المفردات، للأصفهاني "ص56 وما بعدها"، البلدان "2/ 256 وما بعدها", صبح الأعشى "4/ 248"، تاج العروس "7/ 179"، الصحاح للجوهري "4/ 1609", القاموس "3/ 319", أخبار مكة "1/ 188", ابن هشام, سيرة "1/ 125 وما بعدها", الطبرسي، مجمع البيان "3/ 477 وما بعدها"، البلدان "8/ 134", نهاية الأرب "1/ 313". 3 بلوغ الأرب "1/ 228"، القاموس المحيط "1/ 235"، فتوح البلدان "1/ 60 وما بعدها", الأحكام السلطانية "57 وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "1/ 288", الطبري "2/ 284", أخبار مكة "1/ 189 وما بعدها", صبح الأعشى "4/ 248", القاموس "1/ 239". 5 القاموس المحيط "3/ 79", صبح الأعشى "4/ 248"، أخبار مكة "1/ 189".

بـ"أم القرى"1. ولعلماء اللغة بعد، تفاسير عديدة لمعنى "مكة"2, يظهر من غربلتها أنها من هذا النوع المألوف الوارد عنهم في تفسير الأسماء القديمة التي ليس لهم علم بها، فلجئوا من ثم إلى هذا التفسير والتأويل. ولا أستبعد وجود صلة بين لفظة مكة ولفظة "مكربة" التي عرفنا معناها, ولا أستبعد أن يكون سكان مكة القدامى هم من أصل يماني في القديم، فقد أسس أهل اليمن مستوطنات على الطريق الممتد من اليمن إلى أعالي الحجاز، حيث حكموا أعالي الحجاز وذلك قبل الميلاد. وقد سبق أن تحدثت عن ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب، فلا يستبعد أن تكون مكة إحداها، ثم انضم إليهم العرب العدنانيون، ولأهل الأخبار روايات تؤيد هذا الرأي. وقد ذهب "دوزي" إلى أن تأريخ مكة يرتقي إلى أيام "داود" ففي أيامه -على رأيه- أنشأ "الشمعونيون" "السمعونيون" الكعبة, وهو "بنو جرهم" عند أهل الأخبار3. وهو يخالف بذلك رأي "كيين" "GIBBON"، ورأي جماعة من المستشرقين رأت أن مكة لم تعرف ولم تشتهر إلا في القرن الأول قبل الميلاد، مستدلة على ذلك بما ورد في تأريخ "ديودورس الصقلي" من وجود معبد ذكر عنه أنه كان محجة لجميع العرب، وأن الناس كانوا يحجون إليه من أماكن مختلفة. ولم يذكر "ديودورس" اسم المعبد، ولكن هذه الجماعة من المستشرقين رأت أن هذا الوصف ينطبق على الكعبة كل الانطباق، وأن "ديودورس" قصدها بالذات4. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن "العماليق" كانوا قد انتشروا في البلاد، فسكنوا مكة والمدينة والحجاز، وعتوا عتوًّا كبيرًا، فبعث إليهم موسى جندًا

_ 1 الأنعام, السورة, الرقم 6, الآية 92, الكشاف "2/ 25" البيضاوي "184", تفسير ابن عباس "107", نهاية الأرب "1/ 313". 2 تاج العروس "7/ 179" "مَكّ". 3 R. Dozy, Die Israeliten zu Mekka, S. 15. 4 Dozy, Die Israeliten, S. 13. Gibbon, History of the Decline and fall of the roman empire, Cha. 50. Cussin De Perceval, Essai sur L'Histoire des Arabes Avant L'Islamisme, I, P. 174.

فقتلوهم بالحجاز, وجاء اليهود فاستوطنوا الحجاز بعد العماليق1. ويظهر أنهم أخذوا أخبارهم هذه من اليهود، ففي التوراة أن العماليق "العمالقة" هم أول الشعوب التي حاربت العبرانيين, لما هموا بدخول فلسطين، وقد حاربهم موسى, فوسع يهود الحجاز هذه القصة ونقلوا حرب موسى مع العمالقة إلى الحجاز؛ ليرجعوا زمان استيطانهم في الحجاز إلى ذلك العهد. ثم جاءت "جرهم" فنزلت على قطورا، وكان على "قطورا" يومئذٍ "السميدع بن هوثر"، ثم لحق بجرهم بقية من قومهم باليمن وعليهم "مضاض بن عمر بن الرقيب بن هاني بن نبت بن برهم" فنزلوا بـ"قعيقعان", وكانت قطورا بأسفل مكة, وكان "مضاض" يعشر من دخل مكة من أعلاها، و"السميدع" من أسفلها. ثم حدث تنافس بين الزعيمين فاقتتلا، فتغلب "المضاض" وغلب "السميدع". وجرهم قوم من اليمن، فهم قحطانيون إذن، جدهم هو ابن "يقطن بن عابر بن شالخ", وهم بنو عم "يعرب", كانوا باليمن وتكلموا بالعربية, ثم غادروها فجاءوا مكة2. والعمالقة من الشعوب المذكورة في "التوراة", وقد عدهم "بلعام" "أول الشعوب"3. وقد كانوا يقيمون بين كنعان ومصر وفي "طور سيناء", أيام الخروج، وبقوا في أماكنهم هذه إلى أيام "شاءول" "4Saul". وقد تحدثت عنهم في الجزء الأول من هذا الكتاب5. ومن جرهم تزوج "إسماعيل بن إبراهيم" على رواية الأخباريين، وبلغتهم تكلم. وكانت "هاجر" قد جاءت به إلى "مكة", فلما شب وكبر، تعلم لغة جرهم، وتكلم بها. وهم من "اليمن" في الأصل، وكانت لغتهم هي اللغة العربية6. تزوج امرأة أولى قالوا: إن اسمها "حرا" وهي بنت "سعد بن

_ 1 ابن رستة، الأعلاق "60 وما بعدها". 2 مروج الذهب "1/ 54". 3 العدد، الإصحاح 24, آية 20. 4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 112 وما بعدها". 5 "ص345 وما بعدها". 6 اللسان "12/ 97".

عوف بن هنئ بن نبت بن جرهم" ثم طلقها بناءً على وصية أبيه إبراهيم له, فتزوج امراة أخرى هي السيدة بنت "الحارث بن مضاض بن عمرو بن جرهم", وعاش نسله في جرهم، والأمر على البيت لجرهم إلى أن تغلبت عليهم "بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر" وهم خزاعة في رأي بعض أهل الأخبار1. وطبقت خزاعة على جرهم قانون الغالب, فانتزعت منها الملك، وزحزحتها من مكة, وأقامت عمرو بن لحي -وهو منها- ملكًا عليها، وكان دخول خزاعة مكة على أثر خروجها من اليمن؛ بسبب تنبؤ الكاهن بقرب انفجار السد, في قصة يذكرها الأخباريون. وظلت خزاعة صاحبة مكة، إلى أن كانت أيام عمرو بن الحارث وهو "أبو غبشان" "غبشان" فانتزع قصي منه الملك, وأخذه من خزاعة لقريش2. وكان "عمرو بن لحي" أول من نصب الأوثان, وأدخل عبادة الأصنام إلى العرب، وغير دين التوحيد على زعم أهل الأخبار. ويظهر مما يرويه الأخباريون عنه أنه كان كاهنًا، حكم قومه ووضع لهم سنن دينهم على طريقة حكم الكهان، واستبدَّ بأمر "مكة" وثبت ملك خزاعة بها, فهو مثل "قصي" الذي جاء بعده، فأقام ملك "قريش" في هذه المدينة. ويظهر من بقاء خبره في ذاكرة أهل الأخبار أن أيامه لم تكن بعيدة عن الإسلام، وأن حكمه لمكة لم يكن بعيد عهد عن حكم "قصي" وأن إليه يعود فضل تنحية "جرهم" عن مكة, وانتزاع الحكم منه ونقله إلى قومه من "خزاعة", وذلك بمساعدة "بني إسماعيل" أسلاف "قريش" من "بني كنانة"3. وهو أول رجل يصل إلينا خبره من الرجال الذين كان لهم أثر في تكوين مكة وفي إنشاء معبدها وتوسيع عبادته بين القبائل المجاورة لمكة، حتى صير لهذه

_ 1 الطبري "1/ 251 وما بعدها", أخبار مكة "1/ 42", ابن خلدون "2/ 331 وما بعدها", الأحكام السلطانية "160". 2 ابن خلدون "2/ 332 وما بعدها", الأزرقي, أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار "1/ 46 وما بعدها", "طبعة المطبعة الماجدية بمكة المكرمة", "ص51 وما بعدها", "طبعة وستنفلد", "لايبزك 1858م". 3 الأصنام "ص5".

المدينة شأن عند القبائل المجاورة, وذلك بإتيانه بأصنام نحتت نحتًا جيدًا بأيدٍ فنية قديرة، وعلى رأسها الصنم "هبل" ووضعها في البيت، فجلب بذلك أنظار أهل مكة وأنظار القبائل المجاورة نحوها، فصارت تقبل عليها، وبذلك كوّن للبيت شهرة بين الأعراب، فصاروا يقدمون عليه للتقرب إلى "هبل" وإلى بقية الأصنام التي جاء بها من الخارج فوضعها حوله وفي جوفه. ومن بطون خزاعة: "بنو سلول", و"بنو حُبْشية بن كعب"، و"بنو حليل", و"بنو ضاطر", وكان "حُلَيْل" سادن الكعبة, فزوج ابنته "حبى" بقصي، و"بنو قمير" ومن "بني قمير" "الحجاج بن عامر بن أقوم" شريف، و"حلحة بن عمرو بن كليب" شريف، و"قيس بن عمرو بن منقذ" الذي يقال له: "ابن الحدادية" شاعر جاهلي1, و"المحترش"، وهو "أبو غُبشان" الذي يزعمون أنه باع البيت من "قصي"2. ومن خزاعة "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"، شريف, كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام, وكان له قدر في الجاهلية بمكة3. "وكنانة" التي استعان بها "عمرو بن لحيّ" في تثبيت حكمه بمكة، هي من القبائل العدنانية في عرف أهل الأنساب، ومن مجموعة "مضر". ولما استبد "عمرو بن لحي" ومن جاء بعده بأمر مكة، وأخذوا بأيديهم أمر مكة، تركوا إلى "كنانة" أمورًا تخص مناسك الحج وشعائره، وهي الإجازة بالناس يوم "عرفة" والإضافة والنسيّ, وهي أمور سأتحدث عنها في أثناء كلامي عن الحج. ويذكر أهل الأخبار أن "الإسكندر" الأكبر دخل مكة، وذلك أنه بعد أن خرج من السودان قطع البحر فانتهى إلى ساحل "عدن" فخرج إليه "تبع الأقرن" ملك اليمن، فأذعن له بالطاعة, وأقر بالإتاوة, وأدخله مدينة "صنعاء", فأنزله وألطف له من ألطاف اليمن، فأقام شهرًا، ثم سار إلى "تهامة" وسكان مكة يومئذ خزاعة, وقد غلبوا عليها, فدخل عليه "النضر بن كنانة",

_ 1 الاشتقاق "ص276 وما بعدها". 2 الاشتقاق "ص277". 3 الاشتقاق "ص280".

فعجب الإسكندر به وساعده، فأخرج "خزاعة" عن مكة، وأخلصها للنضر ولبني أبيه، وحج الإسكندر، وفرق في ولد معد بن عدنان صلات وجوائز ثم قطع البحر يؤم الغرب1. وإذا كان أهل الأخبار قد أدخلوا "الإسكندر" مكة، وصيروه رجلًا مؤمنًا، حاجًّا من حجاج البيت الحرام، فلا غرابة إذن أن جعلوا أسلاف الفرس فيمن قصد البيت وطاف به وعظمه وأهدى له, بعد أن صيروا "إبراهيم" جدًّا من أجدادهم وربطوا نسب الفرس بالعرب العدنانيين, فقالوا: وكان آخر من حج منهم "ساسان بن بابك"، وهو جد "أردشير", فكان ساسان إذا أتى البيت طاف به وزمزم على بئر إسماعيل، فقيل: إنما سميت زمزم لزمزمته عليها هو وغيره من فارس. واستدلوا على ذلك بشعر، قالوا عنه: إنه من الشعر القديم، وبه افتخر بعض شعراء الفرس بعد ظهور الإسلام، وقالوا: وقد كان "ساسان بن بابك" هذا، أهدى غزالين من ذهب وجوهرًا وسيوفًا وذهبًا كثيرًا، فقذفه، فدفن في زمزم. وقد أنكروا أن يكون بنو جرهم قد دفنوا ذلك المال في بئر زمزم؛ لأن جرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذلك إليها2. ويزعم الإخباريون أن "حسان بن عبد كلال بن مثوب ذي حرث الحميري"، "أقبل من اليمن مع حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن؛ ليجعل حج الناس عنده ببلاده, فأقبل حتى نزل بنخلة فأغار على سرح الناس، ومنع الطريق، وهاب أن يدخل مكة. فلما رأت ذلك قريش وقبائل كنانة وأسد وجذام ومن كان معهم من أفناء مضر، خرجوا إليه، ورئيس الناس يومئذ فهر بن مالك، فاقتتلوا قتالا شديدا, فهزمت حمير, وأسر حسان بن عبد كلال ملك حمير، أسره الحارث بن فهر، وقتل في المعركة -فيمن قتل من الناس- ابن ابنة قيس بن غالب بن فهر، وكان حسان عندهم بمكة أسيرًا ثلاث سنين، حتى افتدى منهم نفسه، فخرج به، فمات بين مكة واليمن"3. ويشير هذا الحادث إن صح وقوعه وصدق ما رواه أهل الأخبار عنه, إلى

_ 1 الأخبار الطوال "33 وما بعدها". 2 مروج "1/ 265 وما بعدها"، "ذكر ملوك الطوائف". 3 الطبري "2/ 262 وما بعدها".

طمع الملك "حسان", وإلى خطة وضعها للاستيلاء عليها. وهو شيء مألوف، فقد كانت قبائل اليمن تتجه دومًا نحو الشمال، غير أن أهل مكة قاوموا الملك وتمكنوا من الصمود تجاهه، بل من التمكن من جيشه, ومن إلحاق هزيمة به. ويذكر أهل الأخبار حادثًا آخر مشابهًا لهذا الحادث، بل يظهر أنه الحادث نفسه وقد صِيغ في صيغة أخرى، خلاصته: أن "الملوك الأربعة" الذين لعنهم النبي، ولعن أختهم "أبضعة"، ولم يذكروا أسماءهم، لما هموا بنقل "الحجر الأسود" إلى صنعاء ليقطعوا حج العرب عن البيت الحرام إلى صنعاء، وتوجهوا لذلك إلى مكة، فاجتمعت "كنانة" إلى "فهر بن مالك بن النضر"، فلقيهم, فقاتلهم، فقتل ابن لفهر يسمى الحارثة، وقتل من الملوك الأربعة ثلاثة، وأسر الرابع، فلم يزل مأسورًا عند "فهر بن مالك" حتى مات. وأما "أبضعة"، فهي التي يقال لها "العنققير"، ملكت بعد إخوتها على زعم أهل الأخبار1. ويشير الإخباريون إلى احترام التبابعة لمكة، فيذكرون مثلا أن التبع "أسعد أبا كرب" الحميري وضع الكسوة على البيت الحرام، وصنع له بابًا، ومنذ ذلك الحين جرت العادة بكسوة البيت2, ويذكرون غير ذلك من أخبار تشير إلى اهتمام التبابعة بمكة. أما نحن، فلم يصل إلى علمنا شيء من هذا الذي يرويه الإخباريون مدونًا بالمسند، كما أننا لا نعلم أن أصنام أهل اليمن كانت في مكة حتى يتعبد لها التبابعة. ولسنا الآن في وضع نتمكن فيه من إثبات هذا القصص الذي يرويه الإخباريون والذي قد يكون أُوجد؛ ليوحي أن ملوك اليمن كانوا يقدسون الكعبة، وأن الكعبة هي كعبة جميع العرب قبل الإسلام. ولا نملك اليوم أثرًا جاهليًّا استنبط منه علماء الآثار شيئًا عن تأريخ مكة قبل الإسلام؛ ولذلك فكل ما ذكروه عنها هو من أخبار أهل الأخبار، وأخبارهم عنها متناقضة متضاربة، لعبت العواطف دورا بارزا في ظهورها, ولا يمكن لأحد أن يكتب في هذا اليوم شيئا موثوقا معقولا ومقبولا عن تأريخ هذه المدينة المقدسة في أيام الجاهلية القديمة؛ لأنه لا يملك نصوصًا أثرية تعينه في التحدث عن ماضيها

_ 1 الأخبار الطوال "ص39 وما بعدها". 2 وقد نسبوا إلى الرسول أحاديث في هذا المعنى, أعتقد أنها من الأحاديث الموضوعة, راجع الأزرقي, أخبار مكة "1/ 165".

القديم، وأملنا الوحيد هو في المستقبل، فلعل المستقبل يكون خيرًا من الحاضر والماضي، فيجود على الباحثين بآثار تمكنهم من تدوين تأريخ تلك المدينة, تدوينا علميا يفرح نفوس الملايين من الناس الذين يحجون إليها من مختلف أنحاء العالم، ولكنهم لا يعرفون عن تأريخها القديم، غير هذا المدون عنها في كتب أهل الأخبار. وإذا كنا في جهل من أمر تأريخ مكة قبل أيام "قصي" وقبل تمركز قريش في مكة، فإن جهلنا هذا لا يجوِّز لنا القول بأن تأريخها لم يبدأ إلا بظهور قريش فيها وبتزعم قصي لها، وأن ما يروى من تأريخها عن قبل هذه المدة هو قصص لا يعبأ به؛ لأن ما يورده أهل الأخبار من روايات تفيد عثور أهل مكة قبل أيام الرسول على قبور قديمة وعلى حلي وكنوز مطمورة وكتابات غريبة عليهم، يدل كل ذلك على أن المدينة كانت مأهولة قبل أيام قصي بزمن طويل، وأن مكة كانت موجودة قبل هذا التأريخ، وأن تأريخها لذلك لم يبدأ بابتداء ظهور أمر قصي، ونزول قريش مكة في عهده. وتأريخ مكة حتى في أيام قصي، وما بعدها إلى ظهور الإسلام لا يخلو مع ذلك من غموض ومن لبس وتناقض, شأنه في ذلك شأن أي تأريخ اعتمد على الروايات الشفوية, واستمد مادته من أقوال الناس ومن ذكرياتهم عن الماضي البعيد؛ لذلك نجد الرواة يناقضون أنفسهم تناقضًا بينًا في أمر واحد، ما كان في الإمكان الاختلاف فيه لو كانوا قد أخذوه من منبع قديم مكتوب. وسنرى في مواضع من هذا الكتاب وفي الأجزاء التي قد تتلوه عن تأريخ العرب في الإسلام نماذج وأمثلة تشير إلى تباين روايات أهل الأخبار في أخبارهم عن مكة في تلك الأيام.

قريش

قريش: و"قصي" من "قريش", و"قريش" كلها من نسل رجل اسمه "فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان", فهي من القبائل العدنانية، أي: من مجموعة العرب المستعربة في اصطلاح علماء النسب. ومن "فهر" فما بعده عرف اسم "قريش" في رأي أهل الأخبار, أما ما قبل "فهر" من آباء فلم يعرفوا بقريش. فقريش إذن هم "فهر".

وأبناؤه, من سكان مكة أو من سكان ظواهرها، أي: كل من انحدر من صلبه من أبناء1, وما كان فوق "فهر" فليس يقال له "قرشي", وإنما يقال له كناني2. ومعارفنا عن "قريش" لا بأس بها بالنسبة إلى معارفنا عن خزاعة وعمَّن تقدم عليها من قبائل ذكر أهل الأخبار أنها سكنت هذه المدينة, وتبدأ هذه المعرفة بها, ابتداء من "قصي" زعيم قريش ومجمعها، والذي أخذ أمر مكة فوضعه في يديه، ثم في أيدي أولاده من بعده، فصارت "قريش" بذلك صاحبة مكة. وقد اشتهرت قريش بالتجارة، وبها عرفت وذاع صيتها بين القبائل وتمكن رجالها بفضل ذكائهم وحذقهم بأسلوب التعامل من الاتصال بالدول الكبرى في ذلك العهد: الفرس والروم والحبشة، وبحكومة الحيرة والغساسنة, وبسادات القبائل، ومن تكوين علاقات طيبة معها، مع تنافر هذه الدول وتباغضها. كما تمكنوا من عقد أحلاف مع سادات القبائل، ضمنت لهم السير طوال أيام السنة بهدوء وطمأنينة في كل أنحاء جزيرة العرب, والطمأنينة أهم أمنية من أماني التاجر. وبذلك أمنوا على تجارتهم، ونشروا تجارتهم في كل أنحاء جزيرة العرب, حتى عرفوا بـ"قريش التجار", جاء على لسان كاهنة من كهان اليمن قولها: "لله در الديار، لقريش التجار"3. وليس لنا علم بتأريخ بدء اشتغال قريش بالتجارة واشتهارها بها. وروايات أهل الأخبار، متضاربة في ذلك, فبينما هي ترجع ظهور "قريش" بمكة إلى أيام قصي, ومعنى ذلك أن تجارة قريش إنما بدأت منذ ذلك الحين، نراها ترجع تجارتها إلى أيام النبي "هود" وتزعم أنه لما كان زمن "عمرو ذي الأذعار الحميري"، كشفت الريح عن قبر هذا النبي، فوجدوا صخرة على قبره كتب عليها بالمسند: "لمن ملك زمار؟ لحمير الأخيار. لمن ملك ذمار؟ للحبشة الأشرار. لمن ملك ذمار؟ لفارس الأحرار. لمن ملك ذمار؟ لقريش التجار"4. والرواية أسطورة موضوعة، ولكنها تشير إلى أن اشتغال قريش بالتجارة يرجع

_ 1 البلاذري, أنساب "1/ 39", نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار "9". 2 ابن سعد, طبقات "1/ 55". 3 رسائل الجاحظ, "جمع السندوبي"، "ص156" "المطبعة الرحمانية 1958م". 4 الإكليل، الجزء الثامن "خبر آخر عن قبر هود, وقبر قضاعة بن مالك بن حمير".

إلى عهد قديم، عجز أصحاب هذه الرواية عن إدراك وقته، فوضعوه في أيام هود. ثم نرى روايات أخرى ترجع بدء اشتهار قريش بالتجارة إلى أيام "هاشم"، وهي تزعم أن تجارة قريش كانت منحصرة في مكة، يتاجر أهلها بعضهم مع بعض, فتُقْدِم العجم عليهم بالسلع، فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها لمن حولهم من العرب, فكانوا كذلك حتى ركب "هاشم بن عبد مناف" فنزل بقيصر، وتعاقد معه على أن يسمح له ولتجار قريش بالاتجار مع بلاد الشام, فوافق على ذلك, وأعطاه كتابا بذلك. فلما عاد, جعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشام، أخذ من أشرافهم إيلافًا، أي: عقد أمان، فضمن بذلك لقومه حرية الاتجار بأمن وسلام، واشتهرت قريش بالتجارة منذ ذلك العهد1. وقد علَّمت الأسفار سادة قريش أمورًا كثيرة من أمور الحضارة والثقافة، فقد أرتهم بلادًا غريبة ذات تقدم وحضارة، وجعلتهم يحتكون بعرب العراق وبعرب بلاد الشام، فتعلموا من "الحيرة" أصول كتابتهم، وهذَّبوا لسانهم, ودونوا به أمورهم. وذكر أنهم كانوا من أفصح العرب لسانًا, وقد شهد العرب لهم بفصاحة اللسان، حتى إن الشعراء كانوا يعرضون عليهم شعرهم، وذكر أن الشاعر "علقمة الفحل" عرض عليهم شعره، فوصفوه بـ"سمط الدهر"2. وقد علمت الطبيعة أهل مكة أنهم لا يتمكنون من كسب المال ومن تأمين رزقهم في هذا الوادي الجاف، إلا إذا عاشوا هادئين مسالمين، يدفعون الإساءة بالحسنة، والشر بالصبر والحلم، والكلام السيئ اليذيء بالكلام الحسن المقنع المخجل. فتغلب حلمهم على جهل الجاهلية، وجاءت نجدتهم في نصرة الغريب والذب عن المظلوم والدفاع عن حق المستجير بهم، بأحسن النتائج لهم، فصار التاجر والبائع والمشتري يفد على سوق مكة، يبيع ويشتري بكل حرية؛ لأنه في بلد آمن، أخذ سادته على أنفسهم عهدًا بألا يتعدى أحد منهم على غريب؛ لأن الإضرار به يبعد الغرباء عنهم، وإذا ابتعد الغرباء عن مكة، خسروا جميعًا موردًا من موارد رزقهم, يعيش عليه كل واحد منهم بلا استثناء. لذلك

_ 1 ذيل الأمالي "ص199", الثعالبي, ثمار القلوب "115 وما بعدها". 2 الأغاني "21/ 112".

كان الغريب إذا ظُلِمَ، نادى: يا آل قريش، أو يا آل مكة, أو يا آل فلان، ثم يذكر ظلامته، فيقوم سادة مكة أو من نُودي باسمه بأخذ حقه من الظالم له. وقد اصطلحت قريش على أن تأخذ ممن ينزل عليها في الجاهلية حقًّا, دعته: "حق قريش". وفي جملة ما كانوا يأخذونه من الغريب القادم إليهم عن هذا الحق بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر. ويأتي أهل الأخبار بمثل على ذلك هو مثل: "ظويلم ويلقب مانع الحريم، وإنما سمي بذلك؛ لأنه خرج في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي، فأراد المغيرة أن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية, وذلك سمي: الحريم, وكانوا يأخذون بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، فامتنع عليه ظويلم"1. وظويلم منع عمرو بن صرمة الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان2. وقد جعلت طبيعة هذا الوادي أهل مكة يميلون إلى السلم، ولا يركنون إلى الحرب والغزو إلا دفاعًا عن نفس، وهو شيء منطقي محترم، فأهل مكة في وادٍ ضيق بين جبلين متقابلين، وفي استطاعة الأعداء إنزال ضربات موجعة بهم من المرتفعات المسيطرة عليه، وبسد منفذيه، يحصر أهله فتنقطع عنهم كل وسائل المعيشة من ماء وطعام. لذلك لم يجدوا أمامهم من سبيل سوى التجمل بالحلم والصبر واتباع خطة الدفاع عن النفس، بالاعتماد على أنفسهم وعلى غيرهم من أحلافهم كالأحابيش حلفائهم وقريش الظواهر. وقد أدت هذه الخطة إلى اتهام قريش أنها لا تحسن القتال، وأنها إن حاربت خسرت، وأنها كانت تخسر في الحروب؛ فخسرت ثلاث حروب من حروب الفجار الأربعة، إلى غير ذلك من تهم. ولكن ذلك لا يعني أن في طبع رجال قريش جبنًا، وأن من سجية قريش الخوف، وإنما هو حاصل طبيعة مكان، وإملاء ضرورات الحياة لتأمين الرزق. ولو أن أهل مكة عاشوا في موضع آخر، لما صاروا أقل شجاعةً وأقل إقبالًا في الاندفاع نحو الحرب والغزو من القبائل الأخرى. وقد تمكنت مكة في نهاية القرن السادس وبفضل نشاط قريش المذكور من القيام بأعمال مهمة، صيرتها من أهم المراكز المرموقة في العربية الغربية, في التجارة

_ 1 الاشتقاق "ص171 وما بعدها". 2 الاشتقاق "172".

وفي إقراض المال للمحتاج إليه، كما تمكنت من تنظيم أمورها الداخلية ومن تحسين شئون المدينة، واتخاذ بيوت مناسبة لائقة لأن تكون بيوت أغنياء زاروا العالم الخارجي, ورأوا ما في بيوت أغنيائه من ترف وبذخ وخدم وإسراف. وقد ذكر "الثعالبي" أن قريشًا صاروا "أدهى العرب، وأعقل البرية, وأحسن الناس بيانًا" لاختلاطهم بغيرهم ولاتصالهم بكثير من القبائل, فأخذوا عن كل قوم شيئًا، ثم إنهم كانوا تجارًا "والتجار هم أصحاب التربيح والتكسب والتدفيق والتدقيق", وكانوا متشددين في دينهم حمسًا، "فتركوا الغزو كراهة السبي واستحلال الأموال" إلى غير ذلك من أمور جلبت لهم الشهرة والمكانة1. وقد أُشيد أيضا بصحة أجسامهم وبجمالهم حتى ضرب المثل بجمالهم فقيل: "جمال قريش"2. وقصى رئيس قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه, ونظم شئون المدينة وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حين شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام, كانت أمور مكة في يد قريش، ولها وحدها الهيمنة على هذه المدينة، حتى عرف سكانها بـ"آل قصي", فكان أحدهم إذا استغاث أو استنجد بأحد صاح: "يا لقصي"، كناية عن أنهم "آل قصي", جامع قريش3. وهو أول رئيس من رؤساء مكة يمكن أن نقول: إن حديثنا عنه, هو حديث عن شخص عاش حقا وعمل عملا في هذه المدينة التي صارت قبلة الملايين من البشر فيما بعد. فهو إذن من الممهدين العاملين المكونين لهذه القبلة، وهو أول رجل نتكلم عن بعض أعماله ونحن واثقون مما نكتبه عنه ونقوله. وهو أول شخص نقض البيوت المتنقلة التي لم تكن تقي أصحابها شيئًا من برد ولا حر، والتي كانت على أطراف الوادي وبين أشجار الحرم، وكأنها تريد حراسة البيت، وحوَّلها من خيام مهلهلة إلى بيوت مستقرة ثابتة ذات أعمدة من خشب شجر الحرم, وذات سقوف.

_ 1 الثعالبي, ثمار القلوب "11 وما بعدها". 2 الثعالبي، ثمار القلوب "29". 3 يا لقصي لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنَّفَر الأحكام السلطانية "ص78 وما بعدها".

ولم نعثر حتى الآن على اسم قريش أهل مكة في نص جاهلي, كذلك لم نعثر عليه أو على اسم مقارب له في كتب اليونان أو اللاتين أو قدماء السريان ممن عاشوا قبل الإسلام, فليس في إمكاننا ذكر زمن جاهلي نقول: إننا عثرنا فيه على اسم قريش، وإنها كانت معروفة يومئذٍ فيه. وقد وردت لفظة "قريش" اسمًا لرجل عرف بـ"حَبْسل قريش". وذلك في نص حضرمي من أيام الملك "العز" ملك حضرموت1. هذا، وإن لأهل الأخبار كلامًا في سبب تسمية قريش بقريش, فقيل: سُميت بقريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة؛ لأن عير بني النضر كانت إذا قدمت، قالت العرب: قد جاءت عير قريش، قالوا: وكان قريش هذا دليل النضر في أسفارهم، وصاحب ميرتهم، وكان له ابن يسمى بدرًا، واحتفر بدرًا, قالوا فيه: سميت البئر التي تدعى بدرًا, بدرًا، وقال ابن الكلبي: إنما قريش جماع نسب, ليس بأب ولا بأم ولا حاضن ولا حاضنة, وقال آخرون: إنما سمي بنو النضر من كنانة قريشًا؛ لأن النضر بن كنانة خرج يومًا على نادي قومه، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى النضر، كأنه جمل قريش. وقيل: إنما سميت بدابَّةٍ تكون في البحر تأكل دوابَّ البحر, تدعى القرش, فشبه بنو النضر بن كنانة بها؛ لأنها أعظم دواب البحر قوةً2. وقيل: إن النضر بن كنانة كان يقرش عن حاجة الناس، فيسدها بماله، والتقريش -فيما زعموا- التفتيش وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيسدونها بما يبلغهم3. "وقيل: إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشًا، وقيل: بل لم تزل بنو النضر بن كنانة يدعون بني النضر حتى جمعهم قصي بن كلاب, فقيل لهم: قريش، من أجل أن التجمع هو التقرش، فقالت العرب: تقرش

_ 1 تأريخ العرب في الإسلام "1/ 41". 2 وقريش هي التي تسكن البحر, بها سميت قريش قريشًا. تفسير الطبري "25/ 199". 3 الطبري "2/ 263 وما بعدها".

بنو النضر، أي: قد تجمعوا. وقيل: إنما قيل: قريش؛ من أجل أنها تقرشت عن الغارات"1. وذكر أن قريشًا كانت تدعى "النضر بن كنانة"، وكانوا متفرقين في "بني كنانة", فجمعهم "قصي بن كلاب"، فسموا قريشًا, التقرش: التجمع, وسمي قصي مجمعًا. قال حذافة بن غانم بن عامر القرشي ثم العدوي: قصي أبوكم كان يدعى مجمعًا ... به جمع الله القبائل من فهر2 وذكر أن قريشًا إنما قيل لهم "قريش"؛ لتجمعهم في الحرم من حوالي الكعبة بعد تفرقهم في البلاد حين غلب عليها "قصي بن كلاب". يقال: تقرش القوم إذا اجتمعوا, وقالوا: وبه سمي قصي مجمعا، أو لأنهم كانوا يتقرشون البياعات فيشترونها، أو لأن النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يومًا، فقالوا: تقرش، فغلب عليه اللقب، أو لأنه جاء إلى قومه يومًا، فقالوا: كأنه جمل قريش أي: شديد، فلُقب به، أو لأن قصيًّا كان يقال له القرشي، وهو الذي سماهم بهذا الاسم، أو لأنهم كانوا يفتشون الحاج فيسدون خلتها، فمن كان محتاجًا أغنوه ومن كان عاريا كسوه ومن كان معدما كسوه ومن كان طريدا آووه، أو سموا بقريش بن مخلد بن غالب بن فهر، وكان صاحب عيرهم، فكانوا يقولون: قدمت عير قريش وخرجت عير قريش، فلقبوه به, أو نسبة إلى "قريش بن الحارث بن يخلد بن النضر" والد "بدر", وكان دليلًا لبني "فهر بن مالك" في الجاهلية، فكانت عيرهم إذا وردت "بدرًا" يقال: قد جاءت عير قريش، يضيفونها إلى الرجل حتى مات, أو لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع, أو إلى قريش بن بدر بن يخلد بن النضر, وكان دليل بني كنانة في تجارتهم, فكان يقال: قدمت عير قريش, فسميت قريش بذلك, وأبوه بدر بن يخلد، صاحب بدر، الموضع المعروف3.

_ 1 الطبري "2/ 264"، ابن كثير، البداية "2/ 201". 2 العقد الفريد "3/ 312 وما بعدها". 3 تاج العروس "4/ 337"، "قرش"، كتاب نسب قريش، للزبيري "ص12".

ونعتت قريش بـ"آل الله" و"جيران الله" و"سكان حرم الله"1 وبـ"أهل الله"2. إلى غير ذلك من آراء حصرها بعضهم في عشرين قولًا في تفسير معنى لفظة "قريش"، ومن أين جاء أصلها, تجدها في بطون الكتب التي أشرت إليها في الحواشي، وفي موارد أخرى. وهي كلها تدل على أن أهل الأخبار كانوا حيارى في أمر هذه التسمية، ولما كان من شأنهم إيجاد أصل وفصل ونسب وسبب لكل اسم وتسمية، كما فعلوا مع التسميات القديمة، ومنها تسميات قديمة تعود إلى ما قبل الميلاد، أوجدوا على طريقتهم تلك التعليلات والتفسيرات لمعنى "قريش". وقد نجد هذه التعليلات تُروَى وتُنسَب إلى شخص واحد كابن الكلبي مثلًا، وهو ينسب روايتها عادة إلى رواة تقدموا عليه أو عاصروه، وقد لا يرجعها إلى أحد، وربما كانت من وضعه وصنعته أو من اجتهاده الخاص في إيجاد علل للمسميات3. فهذا هو مجمل آراء أهل الأخبار في معنى اسم قريش. أما رأيهم في أول زمن ظهرت فيه التسمية، فقد اختلف في ذلك وتباين أيضًا؛ فذكر قوم "أن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير: متي سميت قريش قريشًا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم من تفرقها, فذلك التجمع التقرش. فقال عبد الملك: ما سمعت هذا, ولكن سمعت أن قصيًّا كان يقال له القرشي، ولم تسمّ قريش قبله"، وورد: "لما نزل قصي الحرم وغلب عليه، فعل أفعالًا جميلة، فقيل له: القرشي، فهو أول من سُمِّيَ به". وورد أيضا أن "النضر بن كنانة كان يسمى القرشي"4. وقد نسب إلى علي وابن عباس قولهما: إن قريشًا حي من النبط من أهل كوثى5. وإذا صح أن هذا القول هو منهما حقًّا، فإن ذلك يدل على أنهما قصدا بالنبط "نبايوت" وهو "ابن إسماعيل" في التوراة. وأما "كوثى"

_ 1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها". 2 الثعالبي، ثمار القلوب "10". 3 نهاية الأرب "16/ 16", تاج العروس "4/ 337"، "قرش". 4 الطبري "2/ 264 وما بعدها". 5 البرقوقي "ص228".

فقصدا بذلك موطن إبراهيم، وهو من أهل العراق على رواية التوراة أيضا ولعلهما أخذا هذا الرأي من أهل الكتاب في يثرب. ويذكر أن جِذْم قريش كلها "فهر بن مالك" فما دونه قريش وما فوقه عرب، مثل كنانة وأسد وغيرهما من قبائل مضر. وأما قبائل قريش, فإنما تنتهي إلى فهر بن مالك لا تجاوزه1, ومن جاوز "فهرًا" فليس من قريش2. ومعنى هذا أن جذم قريش من أيام "فهر بن مالك" فما فوقه، كانت متبدية تعيش عيشة أعرابية، فلما كانت أيام "فهر" أخذت تميل إلى الاستقرار والاستيطان، ولما استقرت وأقامت في مواضعها عرفت بـ"قريش". وذكر أن قريشًا قبيلة، وأباهم النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فكل من كان من ولد "النضر"، فهو "قرشي" دون ولد كنانة ومن فوقه. وورد كل من لم يلده "فهر" فليس بقرشي, وهو المرجوع إليه3. وقد صيرت رابطة النسب هذه قريشًا قبيلة تامة تقيم مجتمعة في أرض محدودة، وبصورة مستقرة في بيوت ثابتة فيها بيوت من حجر، بين أفرادها وأسرها وبطونها عصبية، وبينهم تعاون وتضامن. كما جعلت أهل مكة في تعاون وثيق فيما بينهم في التجارة, حتى كادوا يكونون وكأنهم شركاء مساهمون في شركة تجارية عامة. يساهم فيها كل من يجد عنده شيئًا من مال، وإن حصل عليه عن طريق الاقتراض والربا؛ ليكون له نصيب من الأرباح التي تأتي بها شركات مكة. ويقسم أهل الأخبار قريشًا إلى: قريش البطاح، وقريش الظواهر, ويذكرون أن قريش البطاح بيوت، منهم: بنو عبد مناف, وبنو عبد الدار, وبنو عبد العزَّى, وبنو عبد بن قصي بن كلاب، وبنو زهرة بن كلاب, وبنو تيم بن مرة, وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم، وبنو جمح ابنا عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو عدي بن كعب، وبنو حسل بن عامر بن لؤي، وبنو هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر، وبنو هلال بن

_ 1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها". 2 نهاية الأرب "16/ 15". 3 تاج العروس "4/ 337"، "قريش".

مالك بن ضبة بن الحارث بن فهر, وبنو عتيك بن عامر بن لؤي1, و"قصي" هو الذي أدخل البطون المذكورة الأبطح, فسموا البطاح2. ودخل "بنو حسل بن عامر" مكة بعد، فصاروا مع قريش البطاح، فأما من دخل في العرب من قريش فليسوا من هؤلاء, ولا من هؤلاء3. ويذكر أهل الأخبار أن "قريش البطاح", الذين ينزلون أباطح مكة وبطحاءها, أو هم الذين ينزلون الشعب بين أخشبي مكة، وأخشبا مكة: جبلاها؛ أبو قبيس والذي يقابله، ويقال لهم: قريش الأباطح وقريش البطاح؛ لأنهم صبابة قريش وصميمها الذين اختطوا بطحاء مكة ونزلوها4. وهم أشرف وأكرم من قريش الظواهر, ذكروا أن سادة قريش نزول ببطن مكة، ومن كان دونهم, فهم نزول بظواهر جبالها، أي: قريش الظواهر5. أما قريش الظواهر فهم: بنو معيص بن عامر بن لؤي، وتيم الأدرم بن غالب بن فهر، والحارث ابنا فهر، إلا بني هلال بن أهيب بن ضبة, وبني هلال بن مالك بن ضبة6, وعامة بني عامر بن لؤي وغيره7. عرفوا جميعًا بقريش الظواهر؛ لأنهم لم يهبطوا مع قصي الأبطح، إلا أن رهط "أبي عبيدة بن الجراح", وهم من "بني الحارث بن فهر" نزلوا الأبطح فهم مع المطيبين أهل البطاح8. وورد أن "بني الأدرم من أعراب قريش ليس بمكة منهم أحد"9.

_ 1 المحبر "ص167 وما بعدها", العمدة "2/ 193", رسائل الجاحظ "ص156", "السندوبي", "المطبعة الرحمانية 1933م", مروج الذهب "1/ 58" "1958م". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 71". 3 البلاذري، أنساب "1/ 40". 4 فلو شهدتني من قريش عصابة قريش البطاح لا قريش الظواهر تاج العروس "2/ 125", "بطح". 5 تاج العروس "3/ 372", "ظهر". 6 المحبر "168", البلاذري, أنساب "1/ 39", الثعالبي, ثمار القلوب "97". 7 العمدة "2/ 194". 8 ابن سعد, طبقات "1/ 71". 9 نهاية الأرب "16/ 17".

ويبدو من وصف أهل الأخبار لقريش البطاح، أنهم إنما سُموا بالبطاح لأنهم دخلوا مع قصي البطاح، فأقاموا هناك1. فهم مستقرون حضر، وقد أقاموا في بيوت مهما كانت فإنها مستقرة، وقد انصرفوا إلى التجارة وخدمة البيت، فصاروا أصحاب مال وغنًى، وملكوا الأملاك في خارج مكة، ولا سيما الطائف، كما ملكوا الإبل، وقد تركوا رعيها للأعراب. وعرفوا أيضا بقريش الضب؛ للزومهم الحرم2. وأما قريش الظواهر3, فهم الساكنون خارج مكة في أطرافها، وكانوا على ما يبدو من وصف أهل الأخبار لهم أعرابًا، أي: إنهم لم يبلغوا مبلغ قريش البطاح في الاستقرار وفي اتخاذ بيوت من مدر. وكانوا يفخرون على قريش مكة بأنهم أصحاب قتال، وأنهم يقاتلون عنهم وعن البيت. ولكنهم كانوا دون "قريش البطاح" في التحضر وفي الغنى والسيادة والجاه؛ لأنهم أعراب فقراء، لم يكن لهم عمل يعتاشون منه غير الرعي, وكانوا دونهم في مستوى المعيشة بكثير وفي الوجاهة بين القبائل. ومع اشتراكهم وقريش البطاح في النسب، ودفاعهم عنهم أيام الشدة والخطر، إلا انهم كانوا يحقدون على ذوي أرحامهم على ما أُوتوا من غنى ومال وما نالوه من منزلة، ويحسدونهم على ما حصلوا عليه من مكانة دون أن يعملوا على رفع مستواهم، وترقية حالهم، والاقتداء بذوي رحمهم أهل الوادي في اتخاذ الوسائل التي ضمنت لهم التفوق عليهم وفي جلب الغنى والمال لهم. كان شأنهم في ذلك شأن الحساد الذين يعيشون على حسدهم، ولا يبحثون عن وسائل ترفعهم إلى مصافّ من يحسدونه، ولعل نظرتهم الجاهلة إلى أنفسهم من أنهم أعلى وأجل شأنًا ممن يحسدونهم, وإن كانوا دونهم في نظر الناس في المنزلة والمكانة، حالت دون تحسين حالهم والتفوق على المحسود بالجد والعمل، لا بالاكتفاء بالحسد وبالتشدق بالقول والمباهاة. ويذكر أهل الأخبار أن قسما ثالثا من قريش، لم ينزل بمكة ولا بأطرافها،

_ 1 المحبر "168". 2 ابن الأثير "2/ 8"، البلاذري، أنساب "1/ 39". 3 "قريش الظواهر: الذين ينزلون خارج الشعب"، تاج العروس "2/ 125", "بطح"، البلاذري، أنساب "1/ 39"، "كانوا يفخرون على قريش الظواهر لظهورهم للعدو، ولقائهم المناسر", البلاذري، أنساب "1/ 40".

وإنما هبط أماكن أخرى، فاستقر بها، وتحالف مع القبائل التي نزل بينها. من هؤلاء: سامة بن لؤي وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان، والحارث بن لؤي وقع إلى عمان، فولده هناك حلفاء أزد عمان، والحارث بن لؤي، وقع إلى اليمامة، فهم في بني هزان من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار, والحارث، هو جُشَم, وخزيمة بن لؤي، وقعوا بالجزيرة إلى بني الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان وسعد بن لؤي، وبنو عوف بن لؤي، وقعوا إلى غطفان ولحقوا بهم، ويقال لبني سعد بن لؤي بنانة، وبنانة أمهم، فأهل البادية منهم، وأهل الحاضرة ينتمون إلى قريش. ويقال لبني خزيمة بن لؤي: عائذة قريش، وكان عثمان بن عفان ألحق هذه القبائل، حين استخلف بقريش1. ويلاحظ أن هذا الصنف من أصناف قريش، هو من نسل "لؤي"، أي: من نسل "لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر". وقد تباعدت مواطنهم عن قريش. ومن قريش الظواهر: بنو الأدرم من نسل الأدرم، وهو تيم بن غالب, ومن رجالهم: عوف بن دهر بن تيم الشاعر، وهو أحد شعراء قريش، وهلال بن عبد الله بن عبد مناف، وهو صاحب القينتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي، وهو ابن الخطل الذي كان يؤذي النبي وارتد فأهدر النبي دمه يوم الفتح، قتله أبو برزة الأسلمي وهو متعلق بأستار الكعبة، أو سعد بن حريث المخزومي على رواية قريش2. ومن قريش الظواهر أيضا: بنو محارب، والحارث بن فهر, وبنو هصيص بن عامر بن لؤي. ولم يكن أهل مكة كلهم من قريش، بل ساكنهم أيضًا من كان بها قبلهم، مثل خزاعة وبني كنانة. وقريش وإن كانت من "كنانة"، إلا أنها ميزت نفسها عنها، وفرقت بينها وبين كنانة. ولكنانة إخوة, منهم: أسد وأسدة, ووالدهم هو "خزيمة" وهو جد من أجداد قريش، كما أن "كنانة" هو

_ 1 المحبر "ص168 وما بعدها", الطبري "2/ 261", "وفي قريش من ليس بأبطحية ولا ظاهرية", تاج العروس "2/ 125" "بطح". 2 الاشتقاق "ص66".

جد من أجدادهم, وللأخباريين رأي في معنى كنانة1. وقد عرفت قريش بين أهل الحجاز بسخينة. والسخينة: طعام رقيق يتخذ من سمن ودقيق, وقيل: دقيق وتمر, وهو دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء. وإنما لقبت قريش بسخينة لاتخاذها إياه، أي: لأنهم كانوا يكثرون من أكلها؛ ولذا كانت تُعيَّر به2.

_ 1 الاشتقاق "ص18", الطبري "2/ 226". 2 "وفي الحديث: أنه دخل على حمزة -رضي الله تعالى عنه- فصنعت لهم سخينة فأكلوا منها. قال كعب بن مالك: زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب وفي حديث معاوية -رضي الله عنه- أنه مازح الأحنف بن قيس، فقال: ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: هو السخينة يا أمير المؤمنين! الملفف في البجاد: وطب اللبن يلف به ليحمى ويدرك, وكانت تميم تعير به. والسخينة: الحساء المذكور يؤكل في الجدب, وكانت قريش تعير بها، فلما مازحه معاوية بما يعاب به قومه مازحه الأحنف بمثله"، تاج العروس "9/ 232".

الأحابيش

الأحابيش: ومن أهل مكة جماعة عرفت بـ"الأحابيش", وذكر أهل الأخبار أنهم حلفاء قريش، وهم: بنو المصطلق، والحياء بن سعد بن عمرو، وبنو الهون بن خزيمة، اجتمعوا بذنب حبشي -وهو جبل بأسفل مكة- فتحالفوا بالله: إنا ليَدٌ على غيرنا, ما سجا ليل وأوضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه, وقيل: إنما سموا بذلك لاجتماعهم. والتحابش: هو التجمع في كلام العرب1. وذكر أنهم اجتمعوا عند "حبشي" فحالفوا قريشًا. وقيل: أحياء من القارة انضموا إلى "بني ليث" في الحرب التي نشبت بينهم وبين قريش قبل الإسلام, فقال إبليس لقريش: إني جارٌ لكم من بني ليث فواقعوا دمًا، سموا بذلك لاسودادهم، قال: ليث ودِيل وكعب والذي ظأرت ... جمع الأحابيش، لما احمرت الحدقُ

_ 1 العمدة "2/ 194", اللسان "6/ 278" "حبش".

فلما سميت تلك الأحياء "الأحابيش" من قبل تجمعها، صار التحبيش في الكلام كالتجميع1. وورد أن "عبد مناف"، و"عمرو بن هلال بن معيط الكناني"، عقدا حلف الأحابيش. والأحابيش: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وكانوا مع قريش2. وقيل أيضا: إن الأحابيش، هم: بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وعضل، والديش من بني الهون بن خزيمة، والمصطلق، والحيا من خزاعة3. وقد وصف "اليعقوبي" "حلف الأحابيش" بقوله: "ولما كبر عبد مناف بن قصي, جاءته خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، يسألونه الحلف ليعزوا به. فعقد بينهم الحلف الذي يقال له: حلف الأحابيش, وكان مُدبّر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف عمرو بن هلل "هلال" بن معيص بن عامر. وكان تحالف الأحابيش على الركن, يقوم رجل من قريش والآخر من الأحابيش فيضعان أيديهما على الركن، فيحلفان بالله القاتل وحرمة هذا البيت والمقام والركن والشهر الحرام على النصر على الخلق جميعًا حتى يرث الله الأرض ومن عليها, وعلى التعاقد وعلى التعاون على كل من كادهم من الناس جميعا، ما بل بحر صوفة، وما قام حر أو ثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة, فسمي حلف الأحابيش"4. وقد ذكر أن "المطلب بن عبد مناف بن قصي"، قاد بني عبد مناف وأحلافها من الأحابيش, وهم من ذكرتُ يوم ذات نكيف، لحرب بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة5. كما ورد أن "الأحابيش"، الذين ذكرت أسماءهم, كانوا يحضرون مع من يحضر من طوائف العرب مثل: قريش, وهوازن, وغطفان

_ 1 اللسان "6/ 278". 2 قال الشاعر: إن عميرًا وإن عبد مناف ... جعلَا الحلف بيننا أسبابَا البلاذري، أنساب "1/ 52، 76". 3 المحبر "ص246". 4 اليعقوبي "1/ 212" "طبعة النجف 1964م". 5 المحبر "ص246".

وأسلم، و"طوائف من العرب" سوق عكاظ، فيبيعون ويشترون1. كما ذكر أنهم كانوا مثل قريش يقدسون إسافًا ونائلة2. وورد في بعض أخبار الأخباريين، أن يوم "ذات نكيف"، وقع بين قريش وبني كنانة؛ فهزمت قريش بني كنانة، وعلى قريش عبد المطلب3. وقد بقي "الأحابيش" بمكة، إلى أيام الأمويين، فذكر أن "عبد الله المتكبر", وكان من أشراف قريش في أيام "معاوية" ومن أغناها مالًا، لما وفد على "معاوية" وكان خليفة إذ ذاك، كلَّمه في "قريش" ووجوب الاعتماد عليهم ثم في "الأحابيش"، إذ قال له عنهم: "وحلفاؤك من الأحابيش" قد عرفت نصرهم ومؤازرتهم، فاخلطهم نفسك وقومك4. وقد بحث "لامانس" في موضوع الأحابيش، فرأى أنهم قوة عسكرية أُلفت من العبيد السود المستوردين من إفريقيا ومن عرب مرتزقة، كونتها مكة للدفاع عنها. وقد بحث مستشرقون آخرون في هذا الموضوع، فمنهم من أيده، ومنهم من توسط في رأيه، ومنهم من أيد الرواية العربية المتقدمة التي ذكرتها. وعندي رأي آخر، قد يفسر لنا سبب تسمية "بني الحارث بن عبد مناة" من "كنانة" ومن أيدها من "بني المصطلق"، و"بني الهون" بالأحابيش, هو أن من الممكن أن تكون هذه التسمية قد وردت إليهم من أجل خضوعهم لحكم الحبش، وذلك قبل الإسلام بزمن طويل، فقد سبق أن ذكرت في الجزء الثالث من كتابي: "تأريخ العرب قبل الإسلام"، وفي أثناء كلامي على "جغرافيا بطلميوس"5, أن الساحل الذي ذكره "بطلميوس" باسم: "Cinaedocolpitae" إنما هو ساحل "تهامة", وهو منازل "كنانة". وقد بقي الحبش به وقتا طويلا واختلطوا بسكانه، فيجوز أن تكون لفظة "الأحابيش" قد لحقت بعض "كنانة"

_ 1 المحبر "ص267". 2 المحبر "318". 3 اللسان "9/ 342" "نكف", قال ابن سغلة الفهري: فلله عينا من رأى من عصابة ... غوت غي بكر يوم ذات نكيف أناخوا إلى أبياتنا ونسائنا ... فكانوا لنا ضيفًا لشر مضيف تاج العروس "6/ 261", "نكف". 4 نسب قريش "389". 5 "393".

من خضوعهم للحبش، حتى صارت اللفظة لقبًا لهم، أو علمًا لكنانة ومن حالفها. ويجوز أن تكون قد لحقتهم ولحقت الآخرين معهم لتميزهم عن بقية "كنانة" ومن انضم إليهم ممن سكن خارج تهامة، أو لتزوج قسم منهم من نساء حبشيات حتى ظهرت السمرة على سحنهم؛ ولهذا وصفوا بالأحابيش. فليس من اللازم إذن أن يكون "الأحابيش"، هم كلهم من حبش إفريقيا، بل كانوا عربًا وقومًا من العبيد والمرتزقة ممن امتلكهم أهل مكة. ومما يؤيد رأيي هذا هو ورود "من بني كنانة" مع أهل تهامة في أخبار معارك قريش مع الرسول. ففي معركة "أحد"، نجد "الطبري" يقول: "فاجتمعت قريش لحرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة"1. ونجد مثل ذلك في أخبار معارك أخرى, مما يشير إلى أن الأحابيش، ليسوا عبيد إفريقيا فحسب، بل هم عرب وحبش ومرتزقة، وأن أولئك الأحابيش هم من ساحل تهامة في الغالب من كنانة، أي: ممن أقام بذلك الساحل المستقر به من الحبش واندمج في العرب، فصار من المستعربة الذين نسوا أصولهم وضاعت أنسابهم، واتخذوا لهم نسبا عربيا. وقد كان للأحابيش سادة يديرون أمورهم، منهم "ابن الدغنة" وهو "ربيعة بن رفيع بن حيَّان بن ثعلبة السلمي" الذي أجار "أبا بكر", وشهد معركة حنين2. ومن سادات الأحابيش "الحليس بن يزيد", ويظهر أنه كان يتمتع بمنزلة محترمة بمكة. وقد ذكر "محمد بن حبيب" "الحليس" على هذه الصورة: "الحليس بن يزيد", وذكر أنه من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة", وكان من رؤساء حرب الفجار من قريش3. وذكره غيره على هذه الصورة: "وحليس بن علقمة الحارثي, سيد الأحابيش ورئيسهم يوم أحد, وهو من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"4. وقد حارب الأحابيش مع قريش يوم أحد، وقد رأسهم "أبو عامر"

_ 1 خبر "غزوة أحد"، "فخرجت قريش بحدها وجَدّها وأحابيشها، ومن معها من بني كنانة وأهل تهامة", الطبري "12/ 501". 2 تاج العروس "9/ 200", "دغن". 3 المحبر "169 وما بعدها". 4 تاج العروس "4/ 130", "حلس".

المعروف بـ" الراهب"1, وقاتل بهم، مع أن رئيسهم وسيدهم إذ ذاك هو "الحليس بن زبان" أخو "بني الحارث بن عبد مناة", وهو يومئذٍ "سيد الأحابيش". وقد مر بـ"أبي سفيان"، وهو يضرب في شدق "حمزة" بزج الرمح، فلامه على فعله وأنبه2. ولعل هذا الحليس هو الحليس المتقدم, كتب اسم والده بصور مختلفة بحذف اسم والده, وإضافة جده أو غيره إليه، فصار وكأنه إنسان آخر. وقد ورد ذكر "الحليس" في خبر "الحديبية"؛ فقد ذكر الطبري أن قريشًا أوفدت "الحليس بن علقمة" أو "ابن زبان", وكان يومئذ سيد الأحابيش, وهو أحد "بلحارث بن عبد مناة بن كنانة", إلى رسول الله، فلما رآه الرسول, قال: "إن هذا من قوم يتألهون"، فلما رأى الحليس هدْيَ المسلمين في قلائده، وأحسن أن الرسول إنما جاء معتمرًا لا يريد سوءًا لقريش، قص عليهم ما رأى، فقالوا له: اجلس، فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك، فغضب "الحليس" عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أن تصدوا عن بيت الله من جاء معظمًا له، والذي نفس الحليس بيده, لتخلُّن بين محمد وبين ما جاء له, أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد! فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نوصي به3. وقد ساهم "الأحابيش" في الدفاع عن مكة عام الفتح، وكانوا قد تجمعوا مع "بني بكر" و"بني الحارث بن عبد مناة" ومن كان من الأحابيش أسفل مكة, كما أمرتهم قريش بذلك. فأمر رسول الله خالد بن الوليد أن يسير إليهم، فقاتلهم حتى هزموا, ولم يكن بمكة قتال غير ذلك4. ولم يذكر "الطبري" اسم سيد الأحابيش في هذا اليوم. ويتبين من دراسة أخبار أهل الأخبار عن الأحابيش، ومن نقدها وغربلتها، أن الأحابيش كانوا جماعة قائمة بذاتها، مستقلة في إدارة شئونها، يدبر أمورها رؤساء منهم، يعرف أحدهم بـ"سيد الأحابيش". وقد ذكرت أسماء

_ 1 الطبري "2/ 512", "غزوة أحد". 2 الطبري "2/ 527", "غزوة أحد". 3 الطبري "2/ 627 وما بعدها", "الحديبية". 4 الطبري "3/ 56"، "فتح مكة".

بعض منهم قبل قليل. وقد عاشوا عيشة أعرابية، خارج مكة على ما يظهر من الروايات, وذلك بدليل قول قريش للحليس: "اجلس، فإنما أنت رجل أعرابي، لا علم لك"1, أي: إنهم كانوا أعرابا ويعيشون عيشة أعرابية. ويظهر من هذه الأخبار أيضا أن "الحليس" "سيد الأحابيش"، كان من "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"، وأن "ابن الدغنة" كان من "بني سليم". ولم ينص أهل الأخبار فيما إذا كانا عربيين صريحين أو أنهما كانا من "بني الحارث" ومن "بني سليم" بالولاء، فنسبهما إلى القبيلتين، هو نسب ولاء. ويظهر من خبر "الحديبية" ومن قول النبي لما رأى "الحليس" قادمًا إليه: "إن هذا من قوم يتألهون" , أن الأحابيش لم يكونوا على دين مكة أي: من عباد الأصنام, بل كانوا مؤلهة، يدينون بوجود إله. وقد يشير الرسول بذلك إلى أنهم كانوا نصارى، أخذوا نصرانيتهم من الحبش؛ ولذلك كانوا من المؤلهة بالنسبة لقريش. وأنا لا أستبعد أيضا أن تكون تلك التسمية قد غلبت على هؤلاء؛ لأنهم كانوا من الساحل الإفريقي المقابل لجزيرة العرب. جاءوا إليها بالفتوح وبالنخاسة، وأقاموا في تهامة إلى مكة، وعاشوا عيشة أعرابية متبدية، وتحالفوا مع القبائل العربية المذكورة، وتخلقوا بأخلاق عربية حتى صاروا أعرابًا في كل شيء. وقد لازمتهم التسمية التي تشير إلى أصلهم، وإنما تحالفوا مع "بني الحارث" وبقية المذكورين، عرف حلفهم بـ"حلف الأحابيش"، ثم عرف المتحالفون بـ"الأحابيش". وقد نسي الأصل وهو الأحابيش, أي: اسم الحبش الذين تحالفوا مع "بني الحارث" و"عضل" و"الديش" و"المصطلق" و"الحيا"؛ لسبب لا نعرفه, قد يكون بسبب كونهم عبيدًا سودًا، وأطلق الحلف على المذكورين. غير أن روايات أهل الأخبار تشير إلى كثير من الأحابيش في مثل قولها: "وخرجت قريش بأحابيشها" إلى أن الأحابيش المذكورين كانوا في حكم قريش, أي: جماعة من الحبش من أهل إفريقيا, كانت كما ذكرت تكوّن وحدة قائمة بذاتها، ولكنها تدين بولائها لقريش، ولها حلف مع بعض كنانة ومع قبائل أخرى. ولما كان عام الفتح أمرتها قريش بالتعاون مع "بني بكر" و"بني الحارث بن عبد مناة"؛ للدفاع عن مكة من جهة الجنوب, فامتثلت لأمر قريش، وأخذت مواضعها هنالك، حتى زلزلها "خالد بن الوليد".

_ 1 الطبري "2/ 627", "الحديبية".

وقد منح "لامانس" الأحابيش درجة مهمة في الدفاع عن قريش, حتى زعم أن قريشا ركنت إليهم في دفاعهم عن مكة، وعهدت إليهم دورا خطيرا في حروبها مع الرسول. وقد استند في رأيه هذا إلى ما رواه أهل الأخبار من اشتراكهم مع قريش في تلك الحروب، غير أننا نجد من دراسة أخبار الحروب المذكورة، أن الأحابيش وإن ساهموا فيها، إلا أنهم لم يلعبوا دورا خطيرا فيها, وأنهم لم يكونوا في تلك الحروب سوى فرقة من الفرق التي ساعدت قريشًا، مقابل مال ورزق ووعود. ولم يكن الأحباش وحدهم قد ساعدوا أهل مكة في حروبهم مع غيرهم, فقد ساعدهم أيضا طوئف من الأعراب أي: من البدو الفقراء الذين كانوا يقاتلون ويؤدون مختلف الخدمات في سبيل الحصول على خبز يعيشون عليه. وقريش جماعة استقرت وتحضرت، واشتغلت بالتجارة، وحصلت منها على غنائم طيبة. ومن طبع التاجر الابتعاد عن الخصومات والمعارك والحروب؛ لأن التجارة لا يمكن أن تزدهر وتثمر إلا في محيط هادئ مستقر. لذلك، صار من سياستها استرضاء الأعراب وعقد "حبال" مع ساداتهم؛ لتأمين جانبهم، ليسمحوا لقوافلها بالمرور بسلام. كما صار من اللازم عليها عقد أحلاف مع المجاورين لهم من الأعراب مثل "قريش الظواهر" و"الأحابيش" وأمثالهم للاستعانة بهم في الدفاع عن مكة والاشتراك معهم في حروبهم التي قد يجبرون على خوضها مع غيرهم. بالإضافة إلى عبيدهم "الحبش" الذين اشتروهم لتمشية أمورهم, وليكونوا حرسًا وقوة أمن لهم. ولم تكن قريش تعتمد على القوة في تمشية مصالحها التجارية، بقدر اعتمادها على سياسة الحلم واللين والقول المعسول والكلام المرضي في الوصول إلى غايتها, وأهدافها ومصالحها التجارية. وبهذه السياسة: سياسة اللين والمفاوضة والمسالمة, كانت تبدأ بحل ما يقع لها من صعوبات مع الناس. ولم يكن من السهل عليها في الواقع إرضاء الأعراب وإسكاتهم لولا هذه السياسة الحكيمة التي اختاروها لأنفسهم, وهي سياسة أكثر سكان القرى العامرة الواقعة في البوادي بين أعراب جائعين، سياسة الاسترضاء بالحكمة واللسان الجميل, وأداء المال رشوة لهم بأقل مقدار ممكن؛ لأن الإكثار من السخاء يثير في الأعرابي شهوة طلب المزيد, وشهوته هذه متى ظهرت، فسوف لا تنتهي عند حد. وأهل مكة بخبرتهم الطويلة في تجولهم بمختلف أنحاء جزيرة العرب أعرف من غيرهم بنفسية الأعراب.

وكان لأشرافها أحلاف مع سادات القبائل، تحالفوا معهم لتمشية مصالحهم ولحماية تجارتهم, فكان "زرارة" التميمي مثلًا حليفًا لـ"بني عبد الدار", وكان عامر بن هاشم بن عبد مناف قد تزوج "بنت النباش بن زرارة", وأولد منها "عكرمة بن عامر بن هاشم" الشاعر, و"بغيض بن عامر" الذي كتب الصحيفة على "بني هاشم" في أمر مقاطعة قريش لبني هاشم1. وقد عيرت قريش بأنها لا تحسن القتال, وأنها تجاري وتساير من غلب, وأنها لا تخرج إلا بخفارة خفير, وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصة بن حيَّة الطائي" ابن عم "قبيصة بن إياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة, بـ"سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل: "رجل من قريش، فقال: أما إذا كان قرشيًّا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال. إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"2. ونجد أمثلة أخرى من هذا القبيل تشير إلى ميل قريش إلى السلم، وعدم قدرتها على القتال. وذكر الإخباريون أنه كان لكنانة جملة أولاد، ذكر ابن الكلبي منهم: النضر، والنضير، ومالكًا, وملكان، وعامرًا وعمرًا، والحارث، وعروان "غزوان"، وسعدًا، وعوفًا، وغنمًا، ومخرمة، وجرولًا, وهم من زوجته "برة بنت مرّ" أخت "تميم بن مرّ"؛ ولهذا رأى النسابون وجود صلة بين أبناء هؤلاء الأولاد وقبيلة "تميم". وأما "عبد مناة"، فإنه ابن كنانة من زوجته الأخرى، وهي "الذفراء بنت هانئ بن بليّ" من قضاعة؛ ولذلك عد أبناؤه من قضاعة. ويذكر أهل الأخبار أن من أجداد "قصي"، رجلًا كانت له منزلة في قومه اسمه "كعب بن لؤي", كان يخطب للناس في الحج، وكان رئيسًا في "قريش", فلما توفي أرخت قريش بموته إعظامًا له، إلى أن كان عام الفيل فأرخوا به3. وذكر بعض أهل الأخبار أن أم "كعب" هي من "القين بن

_ 1 نسب قريش "254". 2 الطبري "3/ 572 وما بعدها", "دار المعارف". 3 البلاذري, أنساب "1/ 41".

جسر" من قضاعة، وأن كعبًا هذا أول من سمى يوم الجمعة الجمعة, وكانت العرب تسمي يوم الجمعة: العروبة, وأول من قال: "أما بعد"، فكان يقول: "أما بعد، فاستمعوا وافهموا", وأن بين موته والفيل خمسمائة سنة وعشرين سنة1. وفي قول أهل الأخبار عن وقت موت كعب مبالغة شديدة بالطبع، فإن كعبًا هو والد "مرة" و"مرة" هو والد "كلاب" و"كلاب" هو والد "قصي". فلا يعقل إذن أن يكون بين موت "كعب" وبين الفيل هذا المقدار من السنين. وهم يذكرون أيضا أن والد "قصي" وهو "كلاب" كان قد نزوج "فاطمة بنت سعد بن سيل", فأنجبت له "قصيا". وهي من الأزد, من نسل "عامر الجادر", وقد عرف بـ"الجادر" لأنه بنى جدار الكعبة بعد أن وهن من سيل أتى في أيام ولاية جرهم البيت، فسمي الجادر. وذكر أيضا أن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة، ويأخذون من طيبها وحجارتها تبركًا بذلك، وأن عامرا هذا كان موكلا بإصلاح ما شعت من جدرها فسمي الجادر. وذكر أن "سعد بن سيل" كان أول من حلَّى السيوف بالفضة والذهب, وكان أهدى2 إلى "كلاب" مع ابنته "فاطمة" سيفين محليين, فجعلا في خزانة الكعبة. وذكر أن "كلابًا" هو أول من جعل في الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة ذخيرة للكعبة3. وجاء أيضا أنه أول من جدر الكعبة4. و"قصي" رئيس قريش، هو الذي ثبت الملك في عقبه، ونظم شئون المدينة، وقسم الوظائف والواجبات على أولاده حين شعر بدنو أجله. فلما أشرق الإسلام، كانت أمور مكة في يد قريش، ولم يكن لغير قريش نفوذ يذكر على مكة. فهو الذي بعث الحياة إلى قومه من قريش، وجعل لهم مكانة في هذه القرية ونفوذًا وشهرة في الحجاز، وهو الذي أوجد لمكة مكانة، وخلق

_ 1 نهاية الأرب "16/ 18". 2 البلاذري، أنساب "1/ 48", "كلاب", الدميري، حياة الحيوان "2/ 278". 3 نهاية الأرب "16/ 19". 4 نسب قريش، للزبيري "ص14".

لها نوعًا من التنظيم والإدارة. ومن عهده فما بعد, نجد في أخبار مكة ما يمكن أن يركن ويطمأن إليه من أخبار. وقد روى "ابن قتيبة" خبرًا مفاده: أن "قيصر" أعان "قصيًّا" على "خزاعة"1. وإذا صح هذا الخبر، فإن مساعدة "قيصر" له قد تكون عن طريق معاونة الغساسنة له، وهم حلفاء الروم. وقد تكون قبيلة "بني عذرة" وهي من القبائل المتنصرة التي عاشت على مقربة من حدود بلاد الشام، هي التي توسطت فيما بين قصي والروم, وقد كانت خاضعة لنفوذهم، فأعانه أحد الحكام الروم -وقد يكون من ضباط الحدود، أو من حكام المقاطعات الجنوبية, مثل "بصري" بأن أمده بمساعدة مالية أو بإيعاز منه إلى الأعراب المحالفين للروم بمساعدته في التغلب على خزاعة2. ولا أهمية كبيرة في هذا الخبر لكلمة "قيصر", فقد جرت عادة أهل الأخبار على الإسراف في استعمالهم لهذه اللفظة. وقد ورثوا هذا الإسراف من الجاهليين، فقد كان من عادتهم تسمية أي موظف بارز من موظفي الحدود الروم, أو من حكام المقاطعات بـ" قيصر". وفي روايات أهل الأخبار أمثلة عديدة من هذا القبيل. ويذكر أن "عثمان بن الحويرث"، وكان من الهجائين في قريش ومن العالمين بأخبار رجالها، قد توسط فيما بعد لدى البيزنطيين لتنصيب نفسه ملكًا على مكة، وهو من "بني أسد بن عبد العزى". ويظهر أنه أدرك المرارة التي أصيب بها البيزنطيون من خروج الحبش عن اليمن ومن دخول الفرس إليها, وسيطرتهم بذلك على باب المندب، ومفتاح البحر الأحمر، فتقرب إلى الروم وتوسل إليهم لمساعدته بكل ما عندهم من وسائل لتنصيب نفسه ملكًا على مكة, علمًا منه أن هذا الطلب سيجد قبولًا لديهم، وأن في إمكانهم في حالة عدم رغبتهم بمساعدته مساعدة عسكرية أو مالية, الضغط على سادات مكة ضغطًا اقتصاديًّا، بعرقلة تجارتهم مع بلاد الشام، أو بمنع الاتجار مع مكة، أو برفع مقدار الضرائب التي تؤخذ عن تجارتهم، وبذلك يوافقون على الاعتراف به ملكًا

_ 1 المعارف "ص640", "وأعانه قيصر عليها", Lammens, Macque, p. 269. 2 W. M. Watt, Muhammad at Mecca, p. 13.

عليه، على نحو ما كان عليه الملوك الغساسنة, وكما سأتحدث عن هذا الموضوع فيما بعد. والظاهر أن مشروعه هذا لم يلاقِ نجاحًا؛ لأن سادات مكة وفي جملتهم رجال من "بني أسد بن عبد العزى"، مثل "الأسود بن المطلب" و"أبي زمعة"، والأثرياء من الأسرة الأخرى عارضوه؛ لأنهم كانوا تجارًا يتاجرون مع الفرس والروم، وانحيازهم إلى الروم معناه خروج مكة عن سياسة الحياد التي اتبعوها تجاه المعسكرين: الفرس والروم، وسيؤدي هذا الانحياز إلى عرقلة اتجارهم مع الفرس ومع الأرضين الخاضعة لنفوذهم, وتؤدي هذه العرقلة إلى خسارة فادحة تقع بتجارتهم، لا سيما وأن الفرس كانوا قد استولوا على اليمن, ولأهل مكة تجارة واسعة معها. ثم إن بين أهل مكة رجالًا لهم شأن ومكانة في قومهم، وكانوا أرفع منزلة من "عثمان بن الحويرث"؛ لذلك لم يكن من الممكن بالنسبة لهم الانصياع له, حتى وإن أرسل الروم جيشًا قويًّا منظمًا على مكة؛ لذلك لم يتحقق حلم "عثمان" في الرياسة ولو بمساعدة قوات أجنبية. وزعم بعض أهل الأخبار أن "الحارث بن ظالم المري"، ذكر "آل قصي" في شعره، ودعاهم بـ"قرابين الإله", إذ قال: وإن تعصب بهم نسبي فمنهم ... قرابين الإله بنو قصيّ1 وهو في عرف بعض النسابين: "قصي بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن فهر"2, و"قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضَر بن نزار بن معد بن عدنان"، في شجرة نسبه التي توصله إلى جده الأعلى "عدنان"3. فأبوه هو كلاب, أما أمه فهي "فاطمة بنت سعد بن

_ 1 الثعالبي، ثمار "16". 2 ابن الأثير، الكامل "2/ 7 وما بعدها", المعارف "70، 117، 120، 130"، ابن سعد، طبقات "1/ 68". 3 الطبري "2/ 661 وما بعدها", "دار المعارف بمصر", مروج "2/ 164", "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد", الذهبي، تأريخ الإسلام "1/ 18", أبو الفداء، المختصر "1/ 112".

سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر بن عمرو بن جعثمة بن يشكر" من أزد شنوءة حلفاء في "بني الدِّيل"1. توفي أبوه وهو صغير، وتزوجت أمه بعد وفاة "كلاب" أبيه من رجل من بني عذرة، هو ربيعة بن حرام. ولصغر سن قصي، أخذته أمه معها إلى أرض زوجها في بني عذرة، على مقربة من تبوك، وتركت أخاه الأكبر "زهرة" في أهله بمكة. ولما شب قصي وترعرع، وعرف من أمه أصله وعشيرته، رجع إلى قومه، فنزل بمكة وأقام بها, ونظم أمر قريش2. ولم يكن اسم قصي قصيًّا يوم سُمي، بل كان "زيدًا" وإنما سمي قصيا بعد ذلك، سمي قصيا على ما يذكر أهل الأخبار؛ لأنه قصيٌّ عن قومه، فكان في بني عذرة، فسمي قصيا لبعد داره عن دار قومه3. وبينا قصي بأرض قضاعة لا ينتمي إلا إلى ربيعة بن حرام, زوج أمه، وهو من أشراف قومه، إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء، فأنبه القضاعي بالغربة, فرجع قصي إلى أمه, وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي, فسألها عما قال له ذلك الرجل، فقالت له: أنت، والله، يا بني أكرم منه نفسًا وولدًا. فأجمع قصي الخروج إلى قومه واللحوق بهم، فقالت له أمه: يا بني, لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج في حاج العرب، فإنني أخشى عليك أن يصيبك بعض البأس، فأقام قصي حتى إذا دخل الشهر الحرام، خرج حاج قضاعة، فخرج فيهم حتى قدم مكة فلما فرغ من الحج، أقام بها واتخذها له مستقرًّا ومقامًا4. وتعرف قصي وهو بمكة على "حليل بن حبشية الخزاعي" وكان يلي الكعبة وأمر مكة، ثم خطب إليه ابنته، وهي "حبى" فزوجه إياها، وولدت

_ 1 الطبري "2/ 254", "دار المعارف بمصر", "وسيل: هو خير بن حمالة, من الجدرة من أزد شنوءة", المحبر "52". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 66 وما بعدها". 3 واسمه "زيد" وكنيته "أبو المغيرة", ابن الأثير, الكامل "2/ 7 وما بعدها", "فاطمة بنت سيل بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر", الاشتقاق "13, 25", الطبري "2/ 255", "دار المعارف بمصر", الأزرقي، أخبار مكة "1/ 57" السويدي، سبائك "67". 4 الطبري "2/ 255", "دار المعارف بمصر", نهاية الأرب "16/ 20 وما بعدها".

له ولده: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزَّى، وعبد قصي. وكثر ماله، وعظم شرفه، فلما توفي "حليل" رأى قصي أنه أولى من خزاعة بولاية البيت, وأن قريشًا فرعة إسماعيل وإبراهيم، واستنفر رجال قريش، ودعاهم إلى إخراج خزاعة من مكة. وكتب إلى أخيه من أمه، وهو "رزاح بن ربيعة بن حرام العذري" يستنصره، فأجابه ومعه قومه من بني عذرة من قضاعة، ووصلوا مكة ونصروه؛ وغلبت قضاعة وبنو النضر خزاعة، وزال ملكهم عن مكة, وصار الأمر إلى قصي وقريش1. وفي رواية أنه اشترى ولاية البيت من "أبي غَبْشان" بزق خمر وبعود. وكان "حليل" كما يقول أصحاب هذه الرواية قد جعل ولاية البيت إلى ابنته "حُبى", فقالت: قد علمت أني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه, قال: فإني أجعل الفتح والإغلاق إلى رجل يقوم لك به، فجعله إلى "أبي غبشان", وهو "سليم بن عمرو بن بويّ بن ملكان بن أفصى", فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وبعود. فلما سمعت خزاعة ذلك، تجمعت على قصي، فاستنصر أخاه، فقاتل خزاعة وأصيب خزاعة بوباء العدسة، حتى كادت تفنيهم, فلما رأت ذلك، جلت عن مكة. ويذكرون أن العرب لما سمعت بقصة "أبي غبشان" قالت: "أخسر صفقة من أبي غبشان", فذهب القول مثلًا2. وأبو غبشان، هو "المحترش"3, وقد ورد اسم رجل عرف بالحارث, قيل عنه: إنه غبشان بن عبد عمرو, وإنه كان قد حجب البيت4, فلعل له علاقة بأبي غبشان المذكور، كأن يكون ابنه. وفي رواية: أن القتال حينما اشتدَّ بين قصي وخزاعة، تداعوا إلى الصلح؛ على

_ 1 الطبري "2/ 255 وما بعدها", ابن الأثير "2/ 7 وما بعدها", الأزرقي "1/ 55 وما بعدها", "طبعة الماجدية", "65 وما بعدها", "طبعة وستنفلد", ابن سعد، الطبقات "1/ 68", "صادر", البلاذري, أنساب "1/ 47 وما بعدها". 2 الطبري "2/ 256" "دار المعارف بمصر", ابن الأثير، الكامل "2/ 8", السويدي, سبائك "67", المسعودي, مروج "2/ 58 وما بعدها". 3 الاشتقاق "ص277". 4 الاشتقاق "ص282".

أن يحكم بينهم "عمرو بن عوف بن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة" "يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث" فوافق. فكان حكمه أن قصيًّا أولى بالبيت ومكة من خزاعة, وأن كل دمٍ أصابه من خزاعة موضوع، فيشدخه تحت قدميه، وأن كل دمٍ أصابت خزاعة وبنو بكر حلفاؤهم من قريش وبني كنانة، ففي ذلك الدية مؤداة؛ وبذلك انتصر قصي على خصومه. ويقولون: إن "عمرًا" سمي منذ الحين الشداخ، بما شدخ من الدماء1. ولم يشر بعض أهل الأخبار إلى أن شدخ الشداخ الدماء بين قريش وخزاعة كان في عهد قصي، فأغفلوا اسم "قصي", بل اكتفوا بالإشارة إلى شدخه الدماء وإصلاح ما بين قريش وخزاعة، وذكر بعضهم أنه حكم في جملة ما حكم به, على ألا يخرج خزاعة من مكة2. وأكثر الرواة على أن اسمه "يعمر بن عوف"، لا "عمرو بن عوف" كما جاء في الرواية المتقدمة3. ولم تشر رواية أخرى ذكرها "ابن دريد" إلى وقوع نزاع بين قصي وبين خزاعة، بل قالت: إن حليلًا سادن الكعبة، كان قد أوصى إليها أمر الكعبة وأعطاها مفتاحها، فأعطته زوجها قصيًّا، فتحولت الحجابة من خزاعة إلى بني قصي4. وترجع بعض الروايات نزاع خزاعة مع قصي إلى عامل آخر غير ولاية البيت، فتذكر أن خزاعة كانت قد سلمت لقصي بحقه في ولاية البيت، وأنها زعمت أن "حليلًا" أوصى بذلك قصيًّا، وبقيت على ولائها له، إلى أن اختلف "قصي" مع "صوفة". وكانت "صوفة" وهي من "جرهم" تتولى أمر الإجازة

_ 1 ابن الأثير "2/ 8", "الشداخ: وهو يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر", المحبر "ص133"، "يعمر بن عوف", ابن سعد، الطبقات "1/ 69", "صادر", نهاية الأرب "16/ 38". 2 المحبر "ص133 وما بعدها". 3 المحبر "ص133", الاشتقاق "ص106", سيرة ابن هشام "1/ 79 وما بعدها", الطبري "1097" "طبعة ليدن", "2/ 258", "طبعة دار المعارف بمصر". 4 الاشتقاق "ص276".

بالناس من عَرَفَة, فتجيزهم إذا نفروا من "مِنى", تولت ذلك من عهد جرهم وخزاعة. فلما كان قصي, أتاهم مع قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقالوا: نحن أولى بهذا منكم، فناكروه فناكرهم، فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وحال بينهم وبينه، فانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي بن كلاب، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، فوقع من ثَمَّ ما وقع على نحو ما مر1. غير أن الرواة يذكرون في مكان آخر أن قصيا أقر للعرب في شأن حجهم ما كانوا عليه، وذلك أنه كان يراه دينًا في نفسه، لا ينبغي له تغييره، وكانت صوفة على ما كانت عليه، حتى انقرضت, فصار ذلك من أمرهم إلى "آل صفوان بن الحارث بن شجنة" وراثةً2. فهذه الرواية تنافي ما ذكرته آنفًا من قولهم بقتال قصي لهم, وغلبته عليهم. وبقي أمر "عدوان" والنسأة، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام، فهدم به ذلك كله3. ويذكر الإخباريون أن قصيًّا بعد أن تمت له الغلبة، جمع قومه من الشعاب والأودية والجبال إلى مكة، فسُمِّي لذلك مجمّعًا، وأنه حكم منذ ذلك الحين فيهم، وملك عليهم، فكان قصي أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكًا، وأطاعه قومه به، وأنه قسم مكة أرباعا بين قومه، فبنوا المساكن، وأن قريشًا هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده, وأعانوه, وأنها تيمنت به, فكانت لا تعقد أمرًا، ولا تفعل فعلًا إلا في داره، فما تنكح امرأة ولا رجل من قريش إلا في دار قصي، وما يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء لحرب قوم من غيرهم إلا في داره، يعقدها لهم بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع من قريش إلا في داره، يشق عليها فيها درعها ثم تدرعه، ثم ينطلق بها إلى أهلها، فكان أمره في قومه من قريش في حياته وبعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره تيمنًا بأمره ومعرفة

_ 1 الطبري "2/ 257 وما بعدها", ابن سعد, الطبقات "1/ 68". 2 الطبري "2/ 259". 3 نهاية الأرب "16/ 29".

بفضله وشرفه، واتخذ قصي لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها1. ويذكر الإخباريون أيضا، أن قريشا كانوا إذا أرادوا إرسال عيرهم، فلا تخرج ولا يرحلون بها إلا من دار الندوة, ولا يقدمون إلا نزلوا فيها تشريفًا له وتيمنًا برأيه ومعرفةً بفضله، ولا يعذر لهم غلام إلا في دار الندوة. وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والندوة وحكم مكة، وكان يعشر من دخل مكة سوى أهلها2. وقد وردت في الشعر لفظة "مجمع": أبونا قصي كان يدعى مجمعًا ... به جمع الله القبائل من فهرِ3 فيظهر من هذا البيت أنه جمع قبائل فهر، ووحَّدها. ويذكر الرواة أن "بني بكر بن عبد مناة" صاروا يبغضون قريشا لما كان من "قصي" حين أخرجهم من مكة مع من أخرج من خزاعة, حين قسمها رباعًا وخططًا بين قريش. فلما كانوا على عهد "المطلب"، وهموا بإخراج قريش من الحرم وأن يقاتلوهم حتى يغلبوهم عليه، وعدت "بنو بكر" على نعم لبني الهون فأطردوها، ثم جمعوا جموعهم وجمعت قريش واستعدت, وعقد المطلب الحلف بين قريش والأحابيش، فلقوا بني بكر ومن انضم إليهم وعلى الناس "المطلب"، فاقتتلوا بـ"ذات نكيف", فانهزم بنو بكر، وقتلوا قتلًا ذريعًا، فلم يعودوا لحرب قريش. وقتل يومئذٍ "عبيد بن السفاح القاري" من القارة, قتادة بن قيس أخا

_ 1 الطبري "2/ 258 وما بعدها", ابن الأثير، الكامل "2/ 13 وما بعدها", ابن هشام, سيرة "2/ 124 وما بعدها", "طبعة مصطفى البابي", البلاذري, أنساب "1/ 52". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 70". 3 الاشتقاق "97"، وفي رواية "أبوكم قصي"، الطبري "2/ 16" "الاستقامة", اليعقوبي "1/ 210"، المقدسي، البدء والتأريخ "4/ 109", ابن سعد, طبقات "1/ 71" "بيروت", السويدي، سبائك "76", البلاذري, أنساب "1/ 50".

" بلعاء بن قيس", والقارة من ولد "الهون بن خزيمة"1. ويظهر من هذه الروايات أن أرض حرم مكة كانت مشجرة، وأن تلك الأشجار كانت مقدسة، وأن بعض بيوت مكة كانت ذات أشجار, ويظهر أنها انتزعت من أرض الحرم؛ ولذلك كانوا يهابون قطعها ولا يتجاسرون على إلحاق سوء بها. فلما جاء قصي، خالف عقيدة القوم فيها، فقطعها, ولما وجد أهل مكة أن قطعها لم يلحق أي سوء بقصي، وأنه بقي سالمًا معافًى، تجاسروا هم وفعلوا فعله في قطع الشجر2. وذكر العلماء: أن "الحرم"، أي: حرم مكة، ما أطاف بمكة من جوانبها، وحدُّه من طريق المدينة دون "التنعيم" عند بيوت "بني نفار" على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على ثنيَّة جبل بالمنقطع على سبعة أميال، ومن طريق الجِعرانة بشِعْب "آل عبد الله بن خالد" على تسعة أميال، ومن طريق الطائف على عرفة من بطن "نمرة" على سبعة أميال، ومن طريق "جُدَّة" منقطع العشائر, على عشرة أميال3. والحرم المذكور، هو الأرض الحرام التي كانت مقدسة عند الجاهليين أيضا, وهي مكة وأطرافها إلى حدودها التي اصطلح عليها. وأما الحرم الذي أحاط بالكعبة فقد عرف بـ"المسجد" وبـ"المسجد الحرام" وبـ"الحرم". ولا نعرف حدوده في الجاهلية على وجه واضح معلوم. وقد كان الجاهليون قد وضعوا أنصابًا على الحدود ليعلم الناس مكان الحرم، ولم يكن له جدار محيط به. وذكر أنه كان في عهد الرسول وأبي بكر فناء حول الكعبة للطائفين، ولم يكن له على عهدهما جدار يحيط به. فلما استخلف "عمر" وكثر الناس، وسع المسجد، واشترى دورًا هدمها وزادها فيه، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة، وكانت المصابيح توضع عليه، فكان عمر أول من اتخذ جدارا للمسجد.

_ 1 البلاذري, أنساب "1/ 75 وما بعدها", المحبر "646", نهاية الأرب "16/ 35 وما بعدها". 2 البلاذري, أنساب "1/ 58", ابن سعد، طبقات "1/ 71", "صادر", السيرة الحلبية "1/ 14"، اليعقوبي "1/ 210". 3 الأحكام السلطانية "164 وما بعدها".

ثم وسَّع المسجد "عثمان" ومن جاء بعده، ثم صار كل من ولي من الخلفاء والسلاطين يزيد في اتساع الحي، حتى صار على ما هو عليه الآن1. ودار الندوة إذن هي دار مشورة في أمور السلم والحرب، ومجلس المدينة التي عرف رؤساؤها كيف يحصلون على الثروة كيف يستعيضون عن فقر أرضهم بتجارة تدرُّ عليهم أرباحًا عظيمة وبخدمة يقدمونها إلى عابدي الأصنام، جاءت إليهم بأموال وافرة من الحجيج. في هذه الدار يجتمع الرؤساء وأعيان البلاد للتشاور في الأمور والبتِّ فيها. وفي هذه الدار أيضا تجري عقود الزواج، وتعقد المعاملات, فهي دار مشورة ودار حكومة في آنٍ واحدٍ, يديرها "الملأ"، وهم مثل أعضاء مجلس الشيوخ "أثينا" الذين كانوا يجتمعون في "المجلس" "Ekklesia" للنظر في الأمور2. يمثلون زعماء الأسر، ورؤساء الأحياء, وأصحاب الرأي والمشورة للبت فيما يعرض عليهم من مشكلات3. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن دار الندوة لم يكن يدخلها إلا ابن أربعين أو ما زاد، فدخلها أبو جهل وهو ابن ثلاثين؛ لجودة رأيه4, ودخلها غيره للسبب نفسه. فيظهر من ذلك أن المراد من دخول الدار، هو حضورها للإسهام في إبداء رأي وتقديم مشورة. ولما كانت سن الأربعين في نظر العرب هي سن النضج والكمال، أخذوا بمبدأ تحديده باعتباره الحد الأصغر لسن من يسمح له بالاشتراك في الاجتماعات وإبداء الرأي، إلا إذا وجدوا في رجل أصغر سنًّا جودة في الرأي, وحدة في الذكاء, فيسمح له عندئذٍ بالاشتراك وبإبداء الرأي بصورة خاصة. وذكر أيضا، أنه لم يكن يدخل دار الندوة أحد من قريش لمشورة حتى يبلغ أربعين سنة، إلا حكيم بن حزام، فإنه دخلها وهو ابن خمس عشرة سنة. وكان ولد في الكعبة، وذلك أن أمه دخلت الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل به، فضربها المخاض في الكعبة، وأعجلها عن الخروج، فوضعت به بها، وجاء

_ 1 الأحكام السلطانية "162", نزهة الجليس "1/ 24". 2 Watt, p. 9. 3 Oleary, p. 183. 4 الاشتقاق "ص97".

الإسلام ودار الندوة بيد حكيم، فباعها بعد من معاوية بمائة ألف درهم1. فدار الندوة إذن، هي دار "ملأ" مكة, وهم سادتها ووجوهها وأشرافها وأولو الأمر فيها, ولم تكن "برلمانًا" أو "مجلس شيوخ" على النحو المفهوم من اللفظتين في المصطلح السياسي, وإنما كانت دار "أولي المشورة" و"الرأي", تتخذ رأيًا عند ظهور حاجة أو أخذ "الرأي", وعند وجوب حصول زعماء الملأ على قرار في أمر مهم. ولم تكن قراراتها ملزمة، بل قد يخالفها سيد ذو رأي ومكانة، فينفرد برأيه, ولا يحصل الإجماع إلا باتفاق, والغالب ألا يحصل هذا الاتفاق. ويتوقف تنفيذ رأي "الملأ" على شخصية المقررين وعلى كفاءتهم وعلى ما يتخذونه من إجراء بحق المخالفين المعاندين من مقاطعة ومن مساومة ومن إقناع. والغالب أن الملأ لا يتخذون رأيًا إلا بعد دراسة وتفكير, ومفاوضات يراعى فيها جانب المروءة والحلم والمرونة، حتى لا يقع في البلد انشقاق قد يعرِّض الأمن إلى الاهتزاز. وربما قام وجوه "الشعب" وهم سادة الأسر, بدور هو أكثر فعاليةً من دور "دار الندوة" في فضِّ الخصومات. والعادة عندهم أن الخصومات الداخلية للأسر, تفض داخل الأسرة؛ لأن "آل" الأسرة أقدر على حل خلافاتهم من تدخل غيرهم في شئونهم، ثم إنهم لا يقبلون بتدخل غريب عن الأسرة في شأن من شئون تلك الأسرة؛ لذلك كان "الملأ" لا ينظرون إلا في الأمور التي هي فوق مستوى الأسر و"الشعاب", والتي تخص أمور المدينة كلها، والتي قد تعرض أمنها إلى الخطر، أو التي يتوقف على قراراتهم بصددها مستقبل المدينة. والإنسان بمكة بأسرته وبمقدرته وقابلياته وكفاءته, وقد يرفع الأشخاص من مستوى أسرهم، وقد يهبط مستوى الأسر ومكانتها بسبب هبوط مستوى رجالها وعدم ظهور رجال أغنياء أقوياء فيها. ولما كانت مكة مدينة عمل وتجارة ومال, والمال يتنقل بين الناس حسب اجتهاد الأفراد وجدهم في السعي وراءه؛ لذلك تجد من بين رجالها من يخمل ذكره بسبب خمول أولاده وتبذيرهم لما ورثوه من مال، وعدم سعيهم لإضافة مال جديد إليه، ويستتبع ذلك تنقل النفوذ من بيت إلى بيت. فالحكم في مكة إذن حكم لا مركزي، حكم رؤساء وأصحاب جاه ونفوذ ومنزلة

_ 1 الثعالبي، ثمار القلوب "518 وما بعدها".

تطاع فيها الأحكام، وتنفذ الأوامر، لا لوجود حكومة قوية مركزية مهيمنة لها سلطة على أهل مكة، بل لأن الأحكام والأوامر هي أحكام ذوي الوجه والسن والرئاسة والشرف، وأحكام هؤلاء مطاعة في عرف أهل مكة وفي عرف غيرهم من أهل جزيرة العرب، حكمت بذلك العادة وجرى عليه العرف, ولا مخالفة للعرف والعادة. فالعرف قانون أهل جزيرة العرب حتى اليوم, وانتهاك أحكامهما معناه انتهاك سيادة القانون، وتمرد على الهيئة والنظام، وتحقير الحاكمين وإهانة لهم ولأتباعهم، ليس لأحد الخروج على أوامر سادات القوم وذوي الحسب والشرف والسن والعقل. ولم تكن في مكة حكومة مركزية بالمعنى المفهوم المعروف من الحكومة، فلم يكن فيها ملك له تاج وعرش، ولا رئيس واحد يحكمها على أنه رئيس جمهورية أو رئيس مدينة، ولا مجلس رئاسة يحكم المدينة حكمًا مشتركًا أو حكمًا بالتناوب، ولا حاكم مدني عام أو حاكم عسكري. ولم يتحدث أهل الأخبار عن وجود مدير عام فيها واجبه ضبط الأمن, أو مدير له سجن يزج فيه الخارجين عن الأنظمة والقوانين أو ما شابه ذلك من وظائف نجدها في الحكومات, وكل أمرها أنها قرية تتألف من شعاب، كل شِعْب لعشيرة, وأمر كل شعب لرؤسائه، هم وحدهم أصحاب الحل والعقد والنهي والتأديب فيه. وليس في استطاعة متمرد مخالفة أحكامهم, وإلا أدبه حيه، وملؤه أي: أشرافه. هولاء الرؤساء هم الحكام الناصحون وهم عقلاء الشعب. وقد أشير إلى رؤساء مكة في القرآن الكريم في آية: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 1. فرؤساء مكة هم علماؤها وساداتها, وهم أعلى الناس منزلة ودرجة ومكانة فيها, و"عظماء" مكة أو "عظماء الطائف" هم الطبقة "المختارة" والصفوة المتزعمة في الناس, وإليها وحدها تكون الزعامة والرئاسة والرجاحة في الرأي. وقانون القوم ودستورهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 2. فهم محافظون حريصون على كل ما وصل إليهم، لا يريدون له تغييرا ولا تبديلا, مهما بدا لهم في الجديد من منطق وحق. {قَالَ أَوَلَوْ

_ 1 الزخرف، الآية 31. 2 الزخرف, الآية 32.

جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 1. وفي القرآن الكريم آيات أخرى ترينا تمسك نخبة مكة ورجال الملأ بحقوقهم وبما ورثوه من عرف مكنهم من الملأ، وفي تمسكهم بها محافظة على حقوقهم الموروثة وعلى مصالحهم وعلى زعامتهم في الناس. فملأ مكة أناس محافظون لا يقبلون تجديدًا ولا تطويرًا، سنتهم التعلق بالماضي، وكره الثورة والخروج عن العرف والعادة مهما كانت. فالعرف جرى الناس عليه, فلا خروج على العادة والعرف. أما المستهين بالعرف المخالف لسنة الآباء والأجداد، فيعاقب حتى يعود إلى رشده وصوابه. وهم باستماتتهم في التمسك بالماضي كيف كان، وبتطرفهم في المحافظة على العرف، إنما يراعون بذلك حقوقهم الموروثة ومكانتهم الاجتماعية ومصالحهم الاقتصادية، فالعرف جعلهم الطبقة الحاكمة بالتقاليد، المحافظة على مصالحها، استنادًا إلى العادات. هم يحكمون بهذا القانون الموروث غير المسجل، وعلى الناس الطاعة والانقياد. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} 2. وقد توارث بنو عبد الدار الندوة، حتى باعها "عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار" من معاوية، فجعلها دار الإمارة بمكة، ثم أدخلت في الحرم3. وورد في رواية أخرى أن "حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسلمي" وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد، كان هو الذي باعها من معاوية وكانت بيده، باعها بمائة ألف درهم4, وكان قد اشتراها من منصور بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار5. ودار الندوة، هي أول دار بنيت بمكة على حد قول الرواة، وكانت أشهر

_ 1 الزخرف، الآية 24. 2 البقرة، الآية 170. 3 ابن الأثير، الكامل، "2/ 14 وما بعدها", تاج العروس "10/ 362 وما بعدها", ابن سعد، طبقات "1/ 77"، "وعكرمة بن عامر بن هشام بن عبد الدار بن قصي", الأحكام السلطانية "ص164", البلاذري, أنساب "1/ 53". 4 ديوان حسان "69", "البرقوقي". 5 نسب قريش "254".

دار بمكة وأنشرها في الناس خبرًا1, ثم تتابع الناس فبنوا من الدور ما استوطنوه. ويذكر أهل الأخبار: أن مكة لم تكن ذات منازل، وكانت قريش بعد جرهم والعمالقة ينلجعون جبالها وأوديتها ولا يخرجون من حرمها انتسابًا إلى الكعبة لاستيلائهم عليها وتخصصًا بالحرم لحلولهم فيه. ولما كان "كعب بن لؤي بن غالب" جمع قريشًا صار يخطب فيها في كل "جمعة"، وكان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية "عروبة" فسماه كعب "الجمعة". وبذلك ألف بين قريش حتى جاء "قصي" ففعل ما فعل2. ولدينا خبر آخر، يذكر أنه قد كان حول الحرم شجر ذو شوك، نبت من قديم الزمن وكون غوطة، فقطعها "عبد مناف بن قصي" وهو أول من بني دارا بمكة، ولم تُبْنَ دار قبلها، بل كان بها مضارب للعرب من الشعر الأسود3. وزعم بعض أهل الأخبار أن أهل مكة كانوا يبنون بيوتهم مدورة تعظيمًا للكعبة, وأول من بنى بيتا مربعا "حُمَيْد بن زهير" فقالت قريش: "رَبَّعَ حميد بن زهير بيتًا, إما حياةً وإما موتًا"4, و"الربع": المنزل ودار الإقامة والمحلة5, وهو أحد "بني أسد بن عبد العزى", وأن العرب تسمي كل بيت مربع كعبة، ومنه كعبة نجران6. وذُكر أيضا أن "حميد بن زبير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى" هو أول من خالف سنة قريش وخرج على عرف أهل مكة فبنى بيتًا مربعًا، وجعل له سقفًا. وفي عمله هذا قال الراجز: اليوم يبنى لحُمَيْدٍ بيته ... إما حياته, وإما موته7 وورد في رواية أخرى، أن ثاني دار بنيت بمكة بعد دار الندوة، هي "دار

_ 1 الأحكام السلطانية "ص163 وما بعدها", البلاذري, فتوح "64". 2 الأحكام السلطانية "ص162 وما بعدها". 3 نزهة الجليس "1/ 24". 4 نهاية الأرب "1/ 313". 5 اللسان "8/ 102". 6 ابن رستة، الأعلاق النفيسة "58". 7 الثعالبي، ثمار القلوب "13", مؤرج السدوسي، حذف من نسب قريش "54", الزبير بن بكار، نسب قريش "1/ 443", Kister, p. 126.

العجلة" وهي دار سعيد بن سعد بن سهم, وزعم "بنو سهم" أنها بنيت قبل "دار الندوة"1. ويظهر من روايات أهل الأخبار عن بيوت مكة أن بيوتها، وهي بيوت أثريائها وساداتها، بيوت كانت مقامة بالحجر، وبها عدد من الغرف، ولها بابان متقابلان؛ باب يدخل منها الداخل وباب تقابلها يخرج منها الخارج، ولعلها بنيت على هذا الوضع ليتمكن النساء من الخروج من الباب الآخر عند وجود ضيوف في رحبة الدار عند الباب المقابلة. ومعنى هذا أن أمثال هذه الدور كانت واسعة تشرف على زقاقين. ولبعض الدور "حجر" عند باب البيت، يجلس تحته ليستظل به من أشعة الشمس، وكان منزل "خديجة" ذو حجر من هذا الطراز2. ولو أخذنا بالرواية المتقدمة عن التغيير الذي طرأ على طراز العمارة في مكة، فإن ذلك يحملنا على القول: إنه يجب أن يكون قد حدث في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، في وقت ليس ببعيد عهد عن أيام النبي؛ لأننا نجد أن أحد أبناء "حميد" وهو عبد الله، كان قد حارب في معركة "أحد"3. ويتبين من غربلة روايات الإخباريين المتقدمة عن مدى سعة الحرم وعن زمان بناء الدور بمكة، أن بطن مكة لم يعمر ولم تبن البيوت المستقرة فيه إلا منذ أيام "قصي". أما ما قبل ذلك، فقد كان الناس يسكنون "الظواهر": ظواهر مكة، أي أطرافها, وهي مواضع مرتفعة تكون سفوح الجبال والمرتفعات المحيطة بالمدينة. أما باطن مكة, وهو الوادي الذي فيه البيت, فقد كان حرما آمنا, لا بيوت فيه، أو أن بيوته كانت قليلة حصرت بسدنة البيت وبمن كانت له علاقة بخدمته. لذلك نبت فيه الشجر حتى غطى سطح الوادي، من السيول التي كانت تسيل إليه من الجبال، ولم يكن في وسع أحد التطاول على ذلك الشجر؛ لأنه شجر حرم آمن، وبقي هذا شأنه يغطي الوادي ويكسو وجهه بغوطة، حتى جاء "قصي", فتجاسر عليه بقطعه كما ذكرنا، وخاف الناس من فعله، خشية

_ 1 البلاذري، فتوح "64". 2 الطبري "2/ 282", "ذكر تزويج النبي". 3 Kister, p, 127.

غضب رب البيت، ونزول الأذى بهم إن قطعوه. فلما وجدوا أن الله لم يغضب عليهم، وأنه لم ينزل سوءًا بهم، اقتفوا أثره، فقطعوا الشجر، واستحوذوا على الأرض الحرام, وظهرت البيوت فيه، وأخذت تتجه نحو البيت حتى أحاطت به، وصغرت مسجده، ولم يكن له يومئذ جدار. وظلت البيوت تتقرب إليه حتى ضايقته وصغرت فناءه، مما اضطر الخليفة "عمر" ومن جاء بعده إلى هدم البيوت التي لاصقته لتوسيع مسجده، ثم إلى بناء جدار ليحيط به حتى صار على نحو ما هو عليه في هذا اليوم. ويتبين من خطبة الرسول عام الفتح ويوم دخوله البيت الحرام وقوله: "لا يُختلى خلا مكة, ولا يعضد شجرها" 1، أن حرم مكة كان لا يزال ذا شجر, ولم يكن قد قطع تمامًا منه في أيام الرسول. وتذكر بعض الموارد أن قصيًّا أول من بنى الكعبة بعد بناء تبع، وكان سمكها قصيرا، فنقضه ورفعها2, وإذا صحت الرواية، يكون قصي من بناة الكعبة ومن مجدديها. وذكر أنه كان أول من جدد بناء الكعبة من قريش، وأنه سقفها بخشب الدوم وجريد النخل، وقد أشير إلى هذا البناء في شعر ينسب إلى الأعشى3. وهذه الرواية تناقض بالطبع مما يرويه الإخباريون من أن الكعبة لم تكن مسقفة، وأنها سقفت لأول مرة عندما جدد بناؤها في أيام شباب الرسول, وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة4. والظاهر من روايات الإخباريين، أن البيت كان في الأصل بيتا مسقفا، غير أنه أصيب بكوارث عديدة، فتساقط وتساقط سقفه مرارًا بسبب السيول، وبسبب حريق أصيب به، فصار من غير سقف في أيام شباب الرسول, حتى إذا ما نقضت قريش البيت وأعادت بناءه سقفته, وزوقت جدره الداخلية والخارجية بالأصنام والصور, وأعادت إليه خزائنه حتى كان يوم الفتح، إذ أمر الرسول

_ 1 فتوح البلدان، للبلاذري "ص55". 2 الاشتقاق "97", ابن كثير، البداية والنهاية "2/ 207". 3 بلوغ الأرب "1/ 232": حلفت بثوبي راهب الشام والتي ... بناها قصي جده وابن جرهم لئن شبَّ نيران العداوة بيننا ... ليرتحلن منى على ظهر شيهم الأحكام السلطانية "160". 4 الأحكام السلطانية "160", الطبري "2/ 283", "دار المعارف".

بتحطيم الأصنام وبطمس الصور على نحو ما سأتحدث عنه في تأريخ الكعبة, وذلك في القسم الخاص بأديان الجاهليين. وفي روايات أهل الأخبار عن البيت -كما سنرى فيما بعد حين أتكلم عنه في هذا القسم الخاص بأديان أهل الجاهلية- غموض وتناقض، يجعل من الصعب تكوين رأي واضح عنه. فبينما هو يقولون: إنه كان من غير سقف وإن الطيور كانت تقف عليه، وإن الأتربة المحملة بالأهوية كانت تتساقط في أرض البيت، نراهم يذكرون أنه كان مسقفًا، وأنه سقف بالخشب في أيام قصي وأنه احترق، ثم يقولون: إنه كان في داخله أصنام قريش، مع أن الوصف الذي يقدمونه لنا عن الكعبة من أنها "كانت ضمة فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا من قريش وغيرهم سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة"1, لا يمكن أن يجعل البيت سوى غرفة بسيطة ساذجة من أحجار رصت بعضها فوق بعض. وفي رواية: أن قصيًّا هو أول من أظهر "الحجر الأسود"، وكانت "إياد" دفنته في جبال مكة، فرأتهم امرأة حين دفنوه، فلم يزل "قصي" يتلطف بتلك المرأة حتى دلته على مكانه، فأخرجه من الجبل، واستمر عند جماعة من قريش يتوارثون حتى بنت قريش الكعبة فوضعوه بركن البيت، بإزاء باب الكعبة في آخر الركن الشرقي2. ويذكر أن قصيًّا بعد أن تمكن من مكة، حفر بها بئرًا سماها "العجول" وهي أول بئر حفرتها قريش3. وكانت قريش قبل قصي تشرب من بئر حفرها لؤي بن غالب خارج مكة تدعى "اليسيرة" ومن حياض ومصانع على رءوس الجبال, ومن بئر حفرها "مرة بن كعب" مما يلى عرفة, تدعى "الروى"، ومن آبار حفرها "كلاب بن مرة"، هي "خم" و"رم" و"الجفر"

_ 1 الطبري "2/ 283". 2 نزهة الجليس "1/ 26", البلاذري، أنساب "1/ 51", نهاية الأرب "16/ 31". 3 ابن الأثير "2/ 9", البلاذري, أنساب "1/ 51".

بظاهر مكة1. فكانت "بئر العجول" أول بئر حفرتها قريش في مكة2. وازدادت حاجة أهل مكة بعد قصي, وقد تزايد عددهم, إلى الماء، ولم تعد "العجول" تكفي لتموينهم به، فاقتفى أولاده أثره في حفر الآبار، واعتبروا حفرها منقبة ومحمدة؛ لما للماء من أهمية لأهل هذا الوادي الجاف. وقد حازت بئر زمزم على المقام الأول بين آبار مكة، فهي بئر البيت وبئر الحجاج, تمونهم مما يحتاجون إليه من ماء3. وذكر أهل الأخبار أن في جملة ما أحدثه قصي في أيامه وصار سنة لأهل الجاهلية، أنه أحدث وقود النار بالمزدلفة؛ حيث وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة، فلم تزل توقد تلك النار تلك الليلة في الجاهلية4. ويظهر أن قريشا حافظت على هذه السنة أمدًا في الإسلام, وكانت تلك النار توقد على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان5. ويذكرون أيضا أن في جملة ما أحدثه: "الرفادة"، وهي إطعام الحجاج في أيام موسم الحج حتى يرجعوا إلى بلادهم. وقد فرضها على قريش إذ قال لهم: "يا معشر قريش, إنكم جيران الله وأهل مكة وأهل الحرم، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق بالضيافة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم". ففعلت قريش ذلك، فكانوا يخرجون في كل عام من أموالهم خرجًا, فيدفعونه إلى قصي؛ لكي يصنعه طعاما للناس أيام منى وبمكة, وقد بقيت هذه السنة في الإسلام6. وذكر أن الرفادة شيء كانت

_ 1 البلاذري، فتوح البلدان "ص60"، "المكتبة التجارية". 2 البلاذري، فتوح "60", وفيها قال بعض رُجَّاز الحجاج: تروى على العجول ثم تنطلق ... أن قصيا قد وفى وقد صدق بالشبع للناس وري مغتبق البلاذري، أنساب "1/ 50", "دار المعارف". 3 البلاذري، فتوح البلدان "ص60 وما بعدها". 4 الطبري "2/ 265", ابن الأثير، البداية "2/ 207", السويدي، سبائك الذهب "119"، ابن سعد, طبقات "1/ 72" "بيروت". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 72" "صادر". 6 ابن كثير، البداية "2/ 207 وما بعدها", ابن خلدون "2/ 693" "بيروت", الطبري "2/ 19" "الاستقامة" "2/ 260" "دار المعارف", ابن سعد، الطبقات "1/ 73".

تترافد به قريش في الجاهلية، فيستخرج فيما بينها كل إنسان مالًا بقدر طاقته وتشتري به للحاج طعامًا وزبيبًا للنبيذ، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج1. وكانت إلى قصي أيضا: الحجابة، والسقاية, واللواء؛ فحاز شرف قريش كله2, وصار رئيسها الوحيد المطاع، الناطق باسمها, الآمر والناهي، إذ لا أحد أحكم وأعقل وأحسن إدارةً للملك منه. وذكر أن قصيا أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل، وذلك في أيام المنذر بن النعمان ملك الحيرة، وملك الفرس الساسانيين "بهرام جور"3. وقد كان حكم "بهرام جور" من سنة "420م" حتى سنة "438م"4، أي: في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد، وإذا أخذنا برواية من جعل قصيًّا من المعاصرين لهذا الملك، يكون حكم قصي إذن في النصف الأول من القرن الخامس للميلاد. وقد نسب أهل الأخبار إلى قصي أقوالا وأمثالا وحكما وجعلوه غاية في الحكمة والمنطق. ورُوي: "إن أمر قصي عند قريش دين يعملون به, ولا يخالفونه"5. وقد ترك قصي أثرا كبيرا في أهل مكة، وعدوه المؤسس الحقيقي لكيان قريش, وكانوا يذكرون اسمه دائما بخير، وكانوا لا يطيقون سماع أحد يستهين بشأنه, فلما تطاول الشاعر "عبد الله بن الزِّبَعْرَى"، على ما جاء في بعض الروايات، وتجاوز حده بذكر قصي بسوء في شعر له، كتبه كما يقولون في أستار الكعبة، غضب بنو عبد مناف، واستعدوا عليه "بني سهم"؛ لأنه كان من "بني سهم"، فأسلموه إليهم، فضربوه وحلقوه شعره وربطوه إلى

_ 1 تاج العروس "2/ 355"، "رفد". 2 ابن الأثير، الكامل "2/ 13 وما بعدها"، الأزرقي، أخبار مكة "1/ 61", ابن كثير, البداية والنهاية "2/ 207". 3 بلوغ الأرب "1/ 247". 4 Ency.,4, p. 178. 5 أنساب الأشراف، للبلاذري "1/ 52".

صخرة، فاستغاث قومه، فلم يغيثوه، فجعل يمدح قصيا ويسترضيهم، فأطلقه بنو عبد مناف وأكرموه، فمدحهم بأشعار كثيرة1. ولم نعثر في نصوص المسند على اسم رجل يدعى قصيًّا، وإنما ورد في النصوص النبطية اسم علم لأشخاص, وهذا الاسم هو اسم صنم في الأصل، بدليل ورود عبد قصي. أما حديث الإخباريين عن أصله وفصله، فهو مما لا قيمة له, وقد ابتدعته مخيلتهم على الطريقة المألوفة في اختراع تفاسير لأسباب التسميات. والظاهر أن هذا الاسم من الأسماء التي كان يستعملها العرب النازلون في أعالي الحجاز، وربما في بلاد الشام. وفي جملة النصوص النبطية التي عُثر عليها في "صلخد" اسم رجل عرف بـ"روحو بن قصيو" "روح بن قصي"، كما عثر على نص جاء فيه اسم "مليكو بن قصيو" "مالك بن قصي" وورد اسم "قصيو بن أكلبو" أي: "قصي بن كلاب". وقد تبين من هذه الكتابات أن المذكورين هم من أسرة واحدة، وقد كانوا كهانًا أو سدنةً لمعبد من معابد "صلخد"2, فقصي إذن من الأسماء الواردة عند النبط. والغريب أننا نرى بين قصي صلخد وقصي مكة اشتراكًا لا في الاسم وحده، بل في المكانة أيضا، فلقصي صلخد مكانة دينية، ولقصي مكة هذه المكانة أيضا في مكة. ويلاحظ أن الاسم الذي زعم الإخباريون أنه اسم قصي الأصلي الذي سمي به يوم وُلِدَ بمكة، وهو "زيد"، هو أيضا اسم صنم، فقد نص أهل الأخبار على أن "زيدًا" هو صنم من أصنام العرب3. ويذكر الإخباريون أنه كان لقصي أربعة أولاد، ورووا قولًا زعموا أنه قاله. فقد ذكروا أنه قال: "وُلد لي أربعة، فسميت اثنين بصنمي، وواحدًا بداري، وواحدًا بنفسي". وكان يقال لعبد مناف: القمر، واسمه المغيرة, وكانت أمه "حُبَّى" دفعته إلى مناف، وكان أعظم أصنام مكة، تدينًا

_ 1 ابن هشام، السيرة "1/ 143". 2 رينو ديسو: العرب في سورية قبل الإسلام، تعريب عبد الحميد الدواخلي "ص116", تأريخ العرب في الإسلام, لجواد علي "1/ 40". 3 الاشتقاق "13".

بذلك، فغلب عليه عبد مناف1. وأولاده هم: "عبد مناف"، واسمه "المغيرة"، وعبد الله وهو "عبد الدار", و"عبد العزى"، و"عبد قصي"، و"هند" بنت قصي، تزوجها "عبد الله بن عمَّار الحضرمي"2. ولما مات قصي، دفن بالحَجُون، وقد كانوا يزورون قبره ويعظمونه3. والحجون جبل بأعلى مكة كان أهل مكة يدفنون موتاهم فيه4, فعليه مقبرة جاهلية من مقابر مكة القديمة, وقد ذكر في شعر جاهلي5. وقد أنكر بعض المستشرقين وجود "قصي", وعدوه شخصية خرافية من شخصيات الأساطير، واستدلوا على ذلك بالأقاويل التي رواها ابن الكلبي وابن جريج عنه، وهي ذات طابع قصصي6. غير أن هذه المرويات لا يمكن أن تكون دليلًا قويًّا وسندًا يستند إليه في إنكار وجود رجل اسمه قصي، وإذا كان ما قيل عنه خرافة، فلن تكون هذه الخرافة سببًا لإنكار وجود شخص قِيلت عنه. وقد ترك "قصي" جملة أولاد, هم: عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف وعبد بن قصي. وقد تكتل أبناء هؤلاء الأولاد وتحزبوا، ونافسوا بعضهم بعضا، فنافس بنو عبد مناف بني عبد الدار، وكونوا حلفًا فيما بينهم كان جماعته وأنصاره بنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم والحارث بن فهر. وتراص بنو عبد الدار وجمعوا شملهم وشمل من انضم إليهم، وكونوا جماعة معارضة تألفت من بني مخزوم وبني سهم وبني جمح وبني عدي بن عامر بن لؤي ومحارب, وهم من "قريش الظواهر". وقد عرف حلف "بني عبد مناف" بـ"حلف المطيبين"

_ 1 الطبري "2/ 254"، نهاية الأرب "16/ 32". 2 البلاذري، أنساب "1/ 52". 3 ابن الأثير "2/ 9"، "2/ 14 وما بعدها" "المطبعة المنيرية"، اليعقوبي "1/ 212", ابن سعد, الطبقات "1/ 73", البلاذري، أنساب "1/ 52", نهاية الأرب "16/ 31", تاج العروس "10/ 211" "صفا". 4 البلدان "2/ 225". 5 قال "عمرو بن الحارث بن مضاض" أو الحارث الجُرهمي: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس، ولم يسمر بمكة سامر اللسان "13/ 109", تاج العروس "9/ 171" "حجن". 6 Ency., vol., ll, pp. 1158.

وبـ" المطيبون"، وعرف بنو عبد الدار بـ"الأحلاف". ولما ظهر الإسلام, كان هذا النزاع العائلي على رئاسة مكة قائمًا، وقد تمثل في تنافس الأسر على الرئاسة, اشتهر بعضها بالثراء والغنى، واشتهر بعضها بالوجاهة الدينية أو بالمكانة الاجتماعية. ويلاحظ أن هذا النزاع لم يكن نزاعا عائليا تماما، قام على النسب إلى الأب والجد, بل كان نزاعا على الرئاسة والسيادة في الغالب، فنجد جماعة من عائلة تنضم إلى العائلة الأخرى المنافسة، وتترك عشيرتها؛ لأن مصلحتها الخاصة وتخاصمها مع أحد أقربائها, دفعاها على اتخاذ ذلك الموقف. ولما أسن قصي، جعل لابنه "عبد الدار" -على حد رواية أهل الأخبار- دار الندوة والحجابة, أي: حجابة الكعبة، واللواء, فكان يعقد لقريش ألويتهم، والسقاية وهي سقاية الحاج، و"الرفادة" وهي خَرْجٌ تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي ليصنع به طعاما للحاج يأكله الفقراء، وكان قصي قد قال لقومه: "إنكم جيران الله وأهل بيته، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شرابا وطعاما أيام الحج، حتى يصدروا عنكم", ففعلوا، فكانوا يخرجون من أموالهم، فيصنع به الطعام أيام منى، فجرى ذلك من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام1. ويذكر الإخباريون في تعليل إعطاء عبد الدار هذه الامتيازات أن عبد الدار كان ضعيفًا، وأن عبد مناف شقيقه كان قد ساد في حياة أبيه، وكثر ماله، فأراد قصي بذلك تقويته بهذه الامتيازات2. وقد توارث بنو عبد الدار اللواء، فلا يعقد لقريش لواء الحرب إلا هم, وهي وظيفة مهمة جدا؛ لما للواء من أثر خطير في الحروب والمعارك في تلك الأيام. ولهذا كانوا يتدافعون في الذب عن اللواء، حتى لا يسقط على الأرض بسقوط حامله، وسقوطه معناه نكسة معنوية كبيرة تصيب المحاربين تحت ظل

_ 1 الطبري "2/ 259 وما بعدها", ابن الأثير "2/ 10 وما بعدها", اللسان "3/ 181", تاج العروس "2/ 355", الأزرقي "1/ 61 وما بعدها". 2 ابن الأثير "2/ 9"، نسب قريش، للزبيري "14".

ذلك اللواء. ولما أسلم "بنو عبد الدار" قالوا: يا نبي الله، اللواء إلينا, فقال النبي: "الإسلام أوسع من ذلك"؛ فبطل اللواء1. ويذكر الإخباريون أن قصيًّا لما هلك، قام "عبد مناف بن قصي" على أمر قصي بعده، وأمر قريش إليه، واختط بمكة رباعًا بعد الذي كان قصي قطع لقومه2. ويذكر أهل الأخبار أن بني عبد مناف أجمعوا على أن يأخذوا من بني عبد الدار "الرفادة" و"السقاية", فأبى بنو عبد الدار ترك ما في أيديهم وأصروا على الاحتفاظ به، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد الدار، وطائفة مع بني عبد مناف، وتحالف كل قوم مؤكدًا، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبًا، فوضعوها عند الكعبة، وتحالفوا، وجعلوا أيديهم في الطيب، فسموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم, وتحالفوا, فسموا الأحلاف، وتعبئوا للقتال، ثم تداعوا إلى الصلح، على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة, فرضوا بذلك، وتحاجز الناس عن الحرب، واقترعوا عليهما فصارتا لهاشم بن عبد مناف3. وأما الذين كونوا حلف الأحلاف ولعقة الدم، فهم: بنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو سهم، وبنو عدي بن كعب4. وقد خرجت من ذلك "بنو عامر بن لؤي" و"بنو محارب بن فهر", فلم يكونوا مع واحد من الفريقين5.

_ 1 البلاذري، أنساب "1/ 45 وما بعدها". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 47", نهاية الأرب "16/ 32". 3 ابن الأثير "2/ 9" "1/ 267" "المنيرية"، "1/ 183", "الطبري "8/ 11" "طبعة ليدن", اللسان "10/ 400", ابن هشام "1/ 143", المعارف "604" "دار الكتب", اليعقوبي "1/ 287" "طبعة هوتسما"، التنبيه "180", "الصاوي", ابن كثير, البداية "2/ 209", ابن خلدون "2/ 694", مروج "2/ 59" "السعادة", المحبر "166", تاج العروس "6/ 75", القاموس "3/ 280"، ابن سعد, طبقات "1/ 77". 4 البلاذري، أنساب "1/ 56". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 77".

وتذكر بعض الروايات أن "آل عبد مناف" قد كثروا، وقلَّ "آل عبد الدار"، فأرادوا انتزاع الحجابة من "بني عبد الدار", فاختلفت في ذلك قريش، فكانت طائفة مع "بني عبد الدار" وطائفة مع "بني عبد مناف"، فأخرجت "أم حكيم البيضاء" توءمة أبي رسول الله، جفنة فيها طيب، فوضعتها في الحجر، فقالت: من كان منا فليدخل يده في هذا الطيب, فأدخلت عبد مناف أيديها, وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر، فسموا المطيبين. فعمدت بنو سهم بن عمرو فنحرت جزورًا، وقالوا: من كان منا، فليدخل يده في هذه الجزور، فأدخلت أيديها عبد الدار, وسهم، وجمح، ومخزوم، وعدي، فسُميت الأحلاف، وقام الأسود بن حارثة بن نضلة، فأدخل يده في الدم، ثم لعقها، فلعقت بنو عدي كلها بأيديها، فسموا لعقة الدم1. وتذكر رواية أن "بني عبد مناف" اقترعوا على الرفادة والسقاية فصارتا إلى "هاشم بن عبد مناف"، ثم صارتا بعده إلى "المطلب بن عبد مناف" بوصية, ثم لعبد المطلب، ثم للزبير بن عبد المطلب، ثم لأبي طالب, ولم يكن له مال، فاستدان من أخيه العباس بن عبد المطلب عشرة آلاف درهم، فأنفقها، فلما لم يتمكن من رد المبلغ تنازل عن الرفادة والسقاية إلى "العباس", وأبرأ أبا طالب مما له عليه2. وتذكر رواية أخرى، أن هاشمًا وعبد شمس والمطلب ونوفلًا بني عبد مناف أجمعوا أن يأخذوا ما بأيدي "بني عبد الدار" مما كان قصي جعل إلى "عبد الدار" من الحجابة واللواء والرفادة والسقاية والندوة، ورأوا أنهم أحق بها منهم، فأبت "بنو عبد الدار"، فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا. وعرف حلف "بني عبد مناف" بحلف المطيبين, وعرف حلف "بني عبد الدار" بحلف الأحلاف ولعقة الدم. ثم تداعوا إلى الصلح، على أن تكون الحجابة واللواء ودار الندوة إلى بني عبد الدار، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة3. وولي هاشم بن عبد مناف السقاية

_ 1 نسب قريش "383". 2 البلاذري، أنساب "1/ 57". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 77".

والرفادة1. وتصرح بعض الروايات, أن هاشمًا هو الذي قام بأمر بني عبد مناف، ثم عامر بن هاشم2. ومعنى هذا أن الحلفين المذكورين: حلف المطيبين وحلف "الأحلاف", إنما عقدا في حياة "هاشم بن عبد مناف", أي: قبل ميلاد الرسول، وأن حلف "لعقة الدم" هو نفسه حلف الأحلاف، أو من حلف الأحلاف, عرف بهذه التسمية؛ لأن بني عدي بن كعب، الذين حالفوا عبد الدار وانضموا إليهم, لعقوا الدم، فقيل لهم: لعقة الدم؛ تمييزًا لهم عن الذين لم يلعقوا الدم، وهم الأحلاف3. وذُكر أن "بني عبد الدار" و"بني عدي", أدخلوا جميعًا أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا كلهم "لعقة الدم" بذلك4. ولكننا نصطدم بروايات أخرى، ترجع تأريخ حلف "لعقة الدم" إلى أيام بنيان الكعبة، الذي كان قبل المبعث بخمس سنين، وعمر الرسول يومئذ خمس وثلاثون سنة. فهي تذكر أن أهل مكة لما وصلوا إلى موضع الركن اختصموا في وضع الحجر الأسود، حتى تجاوزوا وتحالفوا وتواعدوا على القتال، "فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماء, ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في الجفنة، فسموا لعقة الدم بذلك"5, ثم اتفقوا على أن يجعلوا بينهم حكمًا، يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون، على أن يكون أول من يدخل من باب المسجد، فكان أول من دخل عليهم رسول الله, فحكم على نحو ما هو معروف. كما نصطدم بروايات أخرى تذكر أن حلف المطيبين إنما عرف بذلك؛ لأن خمس قبائل هي: بنو عبد مناف، وبنو أسد، وبنو تيم، وبنو زهرة، وبنو الحارث بن فهر، لما أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في أيدي بني عبد الدار من الحجابة والرفادة واللواء والسقاية, وأبت بنو عبد الدار تسليمها إياهم -اجتمع المذكورون في دار عبد الله بن جدعان، وعقد كل قوم على أمرهم حلفًا

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 78". 2 نهاية الأرب "16/ 34 وما بعدها". 3 البلاذري، أنساب "1/ 56". 4 الطبري "2/ 289 وما بعدها". 5 الطبري "2/ 290".

مؤكدًا على التناصر وألَّا يتخاذلوا، ثم أخرج لهم بنو عبد مناف جفنة ثم خلطوا فيها أطيابًا وغمسوا أيديهم فيها وتعاقدوا, ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدًا فسُمُّوا المطيبين. وتعاقدت بنو عبد الدار وحلفاؤها, وهم ست قبائل: عبد الدار وجمح ومخزوم وعدي وكعب وسهم, حلفًا آخر مؤكدًا، فسموا بذلك الأحلاف1. وقيل: بل قدم رجل من بني زيد لمكة معتمرًا ومعه تجارة اشتراها منه رجل سهمي, فأبى أن يقضيه حقه فناداهم من أعلى أبي قبيس، فقاموا وتحالفوا على إنصافه، وكان النبي من المطيبين لحضوره فيه، وهو ابن خمس وعشرين سنة, وكذلك أبو بكر، وكان عمر أحلافيا لحضوره معهم2. وقد وهم بعض أهل الأخبار فجعلوا حلف المطيبين هو حلف الفضول، ويظهر أنهم وقعوا في الخطأ من كون الذين دعوا إلى عقد حلف الفضول وشهدوه هم من "المطيبين"، فاشتبه الأمر عليهم، وظنوا أن الحلفين حلف واحد. وقد رد عليهم بعض أهل الأخبار أيضا, إذ ذكروا أن الرسول لم يدرك حلف المطيبين؛ لأنه كان وقع بين بني عبد مناف، وهم هاشم وإخوته ومن انضم إليهم, وبين بني عمهم عبد الدار وأحلافهم، فقيل لهم الأحلاف، قبل أن يولد الرسول3. أما أن الحلفين قد عقدا في أيام "عبد الله بن جدعان" فخطأ، فقد أجمع أهل الأخبار على أن بني عبد مناف كانوا يَلُونَ الرفادة والسقاية قبل هذا العهد، وأن "هاشمًا" كان يليهما في حياته، وأما أنهما وقعا في أيام "هاشم" أو في أيام أبنائه، فإن ذلك أقرب إلى المنطق، وذلك فيما إذا أخذنا برواية من يقول: إن "قصيًّا" أوصى بالرفادة والسقاية واللواء والحجابة ودار الندوة إلى ابنه "عبد الدار", وحرم بذلك ابنه "عبد مناف" من كل شيء, بحجة أنه كان غنيا وجيها, وقد ساد في حياة أبيه, فلا حاجة له به إليها، فتأثر هاشم أو أبناؤه من ذلك, فأجمعوا على انتزاعها من أيدي "بني عبد الدار" وحدث ما حدث، وتولى هاشم الرفادة والسقاية على النحو المذكور4.

_ 1 تاج العروس "1/ 359 وما بعدها", العمدة "2/ 194"، البلاذري, أنساب "1/ 56 وما بعدها", ابن سعد, طبقات "1/ 77". 2 تاج العروس "1/ 360". 3 السيرة الحلبية "1/ 156". 4 "ولما صارت الرفادة والسقاية لهاشم، كان يخرج من ماله كل سنة للرفادة مالًا عظيمًا"، البلاذري, أنساب "1/ 60".

وهناك رواية أخرى رواها "اليعقوبي", تفيد أن قصيًّا كان قد قسم السقاية والرفادة والرئاسة والدار بين ولده؛ فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزى, وحافة الوادي لعبد قصي1, وأخذ كل ابن ما أعطاه والده له. ويتبين من دراسة الروايات المختلفة الواردة عن الحلفين المذكورين, أنهما قد عقدا لأغراض أخرى لا صلة لها بالسقاية والرفادة، وربما كانا قد عقدا قبل أيام هاشم؛ بسبب نزاع وقع بين بطون قريش على الزعامة، فتحزبت تلك البطون وانقسمت على نفسها إلى "مطيبين" و"أحلاف"، وربما كان حلف لعقة الدم حلفًا آخر عقده "بنو عدي" فيما بينهم، وهم الذين انحازوا إلى الأحلاف، ودخلوا معهم في حلف، خاصة ونجد "اليعقوبي" يشير إلى حلف عقده "عبد مناف"، بعد وفاة والده "قصي" مع "خزاعة" و"بني عبد مناة بن كنانة"، عرف بحلف "الأحابيش", وكان مدبّر بني كنانة الذي سأل عبد مناف عقد الحلف "عمرو بن هلل بن معيص"2. مما يشير إذا صح هذا الخبر إلى أن "بني مناف" أو الذين انضموا إليهم، كما يقول ذلك "اليعقوبي" أرادوا تقوية أنفسهم وتكوين قوة مهابة بتأليف ذلك الحلف. وربما كان هذا الحلف موجهًا ضد "بني عبد الدار" مما دفع "بني عبد الدار" إلى جمع صفوفهم وتأليف حلف بهم؛ للدفاع عن مصالحهم. واسم هاشم على رواية الإخباريين "عمرو" وهو أكبر أولاد عبد مناف, وإنما قيل له هاشم؛ لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه. ذكر أن قومه من قريش، كانت أصابتهم لزبة وقحط، فرحل إلى فلسطين، فاشترى منها الدقيق، فقدم به مكة، فأمر به فخبز له ونحر جزورًا، ثم اتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك3. ويذكرون أن شاعرًا من الشعراء، هو مطرود بن كعب الحزاعي,

_ 1 اليعقوبي "1/ 211" "طبعة النجف". 2 اليعقوبي "1/ 212". 3 الطبري "2/ 251 وما بعدها"، اللسان "12/ 611", القاموس "4/ 190", الكامل لابن الأثير "2/ 9".

أو ابن الزبعرى، ذكر ذلك في شعره, حيث قال: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مُسْنِتُونَ عجافُ1 ويظهر من وصف الإخباريين لهاشم أنه كان تاجرًا، له تجارة مع بلاد الشام, وأنه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا أنه هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف2. ويذكر أهل الأخبار أن هاشمًا كان يحث أهل مكة على إكرام الحجاج وإضافتهم وتقديم كل معونة لهم؛ لأنهم يأتون يعظمون بيت الله، ويزورونه، وهم جيران بيت الله، وقد أُكرموا به، وشرفوا بالبيت على سائر العرب، فعليهم تقديم كل معونة لحجاج البيت. وكان يطلب منهم مساعدته بإخراج ما يتمكنون من إخراجه من أموالهم يضعونه في دار الندوة, ليخدم به الحجاج؛ لأنه لا يتمكن وحده من إكرامهم وتقديم الطعام من ماله وحده إليهم3. فكان هاشم يخرج في كل عام مالا كثيرا، وكان قوم من قريش أهل يسار يترافدون، وكان كل إنسان يرسل بمائة مثقال هرقلية، فيجمع هاشم ما يتجمع ويصنع به طعامًا للحجاج4. ولشح الماء في مكة، واضطرار الناس إلى جلبه من أماكن بعيدة، فعل "هاشم" ما فعله قصي حين حفر بئرًا على نحو ما ذكرت، فحفر بئرًا عرفت بـ"بذَّر" وهي البئر التي في حق "المقوم بن عبد المطلب" في ظهر دار الطلوب مولاة زبيدة بالبطحاء في أصل المستنذر, وحفر بئرًا أخرى, وهي البئر التي يقال لها بئر "جبير بن معطم", ودخلت في دار القوارير5. فيسَّر بذلك لمكة الماء، وساعد على إكثاره عندهم.

_ 1 عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف الطبري "2/ 252", الاشتقاق "9", أمالي المرتضى "2/ 269"، أخبار مكة, للأزرقي "1/ 67"، ابن سعد, طبقات "1/ 76"، نهاية الأرب "16/ 33". 2 الطبري "2/ 252" "دار المعارف بمصر". وهو الذي سن الرحيل لقومه ... رحل الشتاء ورحلة الأصياف البلاذري، أنساب "1/ 58", ابن سعد، طبقات "1/ 75". 3 النويري، نهاية الأرب "16/ 34". 4 ابن سعد، الطبقات "1/ 78". 5 ابن سعد، الطبقات "1/ 75", الأزرقي، أخبار مكة "1/ 67", تاج العروس "3/ 36", "بذر".

وأخذ "هاشم" عهدًا على نفسه بأن يسقي الحجاج ويكفيهم بالماء، قُرْبَةً إلى رب "البيت" ما دام حيًّا. فكان إذا حضر الحج، يأمر بحياض من أدم، فتجعل في موضع "زمزم", ثم تملأ بالماء من الآبار التي بمكة, فيشرب منها الحاج. وكان يطعمهم قبل التروية بيوم بمكة، وبمنى وعرفة، وكان يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن والسويق والتمر، ويحمل لهم الماء, فيستقون بمنى، والماء يومئذ قليل في حياض الأدم إلى أن يصدروا من "منى", ثم تنقطع الضيافة، ويتفرق الناس إلى بلادهم1. وموضوع السقاية موضوع غامض؛ فبينما نجد أهل الأخبار يفسرون السقاية بإسقاء المحتاجين من الحجاج بالماء مجانا، نجدهم يتحدثون عن السقاية على أنها إسقاء الحجاج من الزبيب المنبوذ بالماء، وذكر أن العباس كان يليها في الجاهلية والإسلام2. وتحدث أهل الأخبار عن "سقاية" عرفت بـ"سقاية عدي"، زعموا أنها كانت بالمشعرين بين الصفا والمروة، وأن مطرودًا الخزاعي ذكرها حين قال: وما النيل يأتي بالسفين يكفّه ... بأجود سيبًا من عدي بن نوفل وأنبطت بين المشعرين سقاية ... لحجاج بيت الله أفضل منهل وذكر أن هذه السقاية، كانت بسقاية اللبن والعسل3. ويظهر من وصف الإخباريين لهاشم أنه كان تاجرًا، له تجارة مع بلاد الشام، وأنه جمع ثروة من تجارته هذه، حتى زعموا أنه هو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف4, وأنه كان صاحب "إيلاف قريش"5.

_ 1 ابن سعد، الطبقات "1/ 78" النويري، نهاية الأرب "16/ 35". 2 تاج العروس "10/ 181", "سقى". 3 نسب قريش "197". 4 الطبري "2/ 252", "دار المعارف بمصر". وهو الذي سن الرحيل لقومه ... رحل الشتاء ورحلة الأصياف البلاذري، أنساب "1/ 58", ابن سعد، الطبقات "1/ 75", تفسير القرطبي "20/ 205", "سورة قريش". 5 نهاية الأرب "16/ 33".

وذلك أن قريشًا كانوا تجارًا, ولكن تجارتهم -كما يقول أهل الأخبار- لم تكن تتجاوز مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتبايعونها بينهم، ويبيعونها على من حولهم من العرب. فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام، فكان يذبح كل يوم شاة, ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون. وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر، فدعا به فلما رآه وكلمه، أعجب به, فكان يبعث إليه في كل يوم، فيدخل عليه ويحادثه, فلما رأى نفسه تمكن عنده، قال له: أيها الملك, إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابًا تؤمن تجارتهم, فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه، فتباع عندكم، فهو أرخص عليكم, فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم. فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العرب بطريقه إلى مكة، عقد معهم عقدًا على أن تقدم قريش إليهم ما يرضيهم من بضائع وهدايا تؤلف بينهم وبين قريش، فكان الإيلاف. فلما وصل إلى مكة, كان هذا الإيلاف أعظم ما جاء به هاشم إلى قريش، فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوزهم, يوفيهم إيلافهم الذي أخذ من العرب, حتى أوردهم الشام، وأحلهم قراها، فكان ذلك بدء إيلاف قريش1. وذكر أن متجر "هاشم" كان إلى بلاد الشام2, ويصل بتجارته إلى "غزة" وناحيتها، وربما توغل نحو الشمال، حتى زعم بعض أهل الأخبار أنه كان ربما بلغ "أنقرة" "فيدخل على قيصر فيكرمه ويحبوه"3. ويجب علينا ألا نتصور دائما أن أي "قيصر" يرد ذكره في أخبار أهل الأخبار، هو قيصر الروم حقا، بل هو أحد عماله في الغالب، وأحد الموظفين الروم في بلاد الشام. وربما أخذوا اسم "أنقرة" من قصة للشاعر امرئ القيس، فأدخلوها في قصة "هاشم", فلم تكن "أنقرة" مقرًّا

_ 1 القالي، ذيل الأمالي والنوادر "ص199", الثعالبي, ثمار القلوب "1/ 8 وما بعدها", Caetani, Annali, i, 109, "90", M.J. Kister, P. 116. 2 المحبر "162". 3 ابن سعد، الطبقات "1/ 75 وما بعدها", نهاية الأرب "16/ 33", البلاذري, أنساب "1/ 58".

للقياصرة إذ ذاك حتى يذهب هاشم إليها ليدخل على قيصر ويزوره فيها، بل كانت "القسطنطينية" هي عاصمة البيزنطيين. وقد فسر "الجاحظ" "الإيلاف"، أنه جُعْلٌ فرضه هاشم على القبائل لحماية مكة من الصعاليك ومن المتطاولين، إذ قال: "وقد فسره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشما جعل على رءوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة, فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الطوائل، كانوا لا يؤمَنون على الحرم، لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرا, مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب"1. فيفهم من ذلك إذن أن الإيلاف، هو نوع من تأليف قلوب سادات القبائل؛ لصدهم عن التحرش بأهل مكة ومن التعرض بقوافلهم، فألفهم هاشم وصاروا له مثل "المؤلفة قلوبهم" في الإسلام, ولا سيما وأن بين الإيلاف و"ألف" "ألف بينهم" و"المؤلفة" صلة, وأن فيما قاله "الجاحظ" عن "هاشم" من قوله: "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ... وجعل لهم معه ربحًا"2, وبين تأليف القبائل صلة تامة، تجعل تفسير الإيلاف على أنه عهود ومواثيق مع سادات القبائل في مقابل إسهامهم بأموالهم وبحمايتهم لقوافل قريش, في مقابل ضرائب معينة تدفع لهم، وسهام من الأرباح تؤدى لهم، مع إعطائهم رءوس أموالهم وما ربحته في الأسواق هو تفسير منطقي معقول, وبذلك كسبت قريش حياد هذه القبائل ودفاعها عن مصالحها. وقد تعرض "الثعالبي" لموضوع "إيلاف قريش" فقال: إيلاف قريش: كانت قريش لا تتاجر إلا مع من ورد عليها من مكة في المواسم وبذي المجاز وسوق عكاظ، وفي الأشهر الحرام لا تبرح دارها، ولا تجاوز حرمها؛ للتحمس في دينهم، والحب لحرمهم، والإلف لبيتهم، ولقيامهم لجميع من دخل مكة بما يصلحهم، وكانوا بوادٍ غير ذي زرع ... فكان أول من خرج إلى الشام ووفد إلى الملوك وأبعد في السفر ومر بالأعداء وأخذ منهم الإيلاف الذي ذكره الله, هاشم بن عبد مناف، وكانت له رحلتان: رحلة في الشتاء نحو العباهلة من

_ 1 رسائل الجاحظ "70"، "السندوبي" Kister, p. 143. 2 رسائل "70", "السندوبي" "70", الثعالبي، ثمار القلوب "115 وما بعدها".

ملوك اليمن ونحو اليكسوم من الحبشة، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم. وكان يأخذ الإيلاف من رؤساء القبائل وسادات العشائر لخصلتين: إحداهما أن ذؤبان العرب وصعاليك الأعراب وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمَنون على أهل الحرم ولا غيرهم، والخصلة الأخرى أن أناسًا من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدرًا، كبني طيء وخثعم وقضاعة، وسائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له. ومعنى الإيلاف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعًا مع متاعه، ويسوق إليهم إبلًا مع إبله؛ ليكفيهم مؤنة الأسفار, ويكفي قريشًا مؤنة الأعداء، فكان ذلك صلاحًا للفريقين، إذ كان المقيم رابحًا، والمسافر محفوظًا, فأخصبت قريش، وأتاها خير الشام واليمن والحبشة، وحسن حالها، وطاب عيشها. ولما مات هاشم قام بذلك المطلب، فلما مات المطلب قام بذلك عبد شمس، فلما مات عبد شمس قام به نوفل، وكان أصغرهم1. وإلى هذا الإيلاف, أشير في شعر "مطرود الخزاعي" بقوله: يأيها الرجل المحول رحله ... هلا حللت بآل عبد مناف الآخدين العهد في إيلافهم ... والراحلين برحلة الإيلاف2 وعمل قريش هذا هو عمل حكيم، بدَّل وغيَّر أسلوب تجارة مكة، بأن جعل لها قوافل ضخمة تمر بأمن وبسلام في مختلف أنحاء الجزيرة جاءت إليها نتيجة لذلك بأرباح كبيرة، ما كان في إمكانها الحصول عليها، لو بقيت تتاجر وفقا لطريقتها القديمة، من إرسالها قوافل صغيرة للمتاجرة مع مختلف الأسواق, فكانت القافلة منها إذا سلبت، عادت بأفدح الأضرار المادية على صاحبها أو على الأسرة التي أرسلتها، وربما أنزلت الإفلاس والفقر بأصحابها، بينما توسعت القافلة وفقًا للطريقة الجديدة بأن ساهم بأموالها كل من أراد المساهمة، من غني أو صعلوك أو متوسط حال، ومن سادات قبائل. وبذلك توسع الربح، وعمت فائدته عددًا كبيرًا من أهل مكة، فرفع بذلك من مستواها الاجتماعي، كما ضمن لقوافلها الأمن والسلامة، وصيَّر مكة مكانا مقصودا للأعراب.

_ 1 الثعالبي، ثمار القلوب "115 وما بعدها". 2 الثعالبي، ثمار القلوب "116".

ويذكر أهل الأخبار أنه كان المطلب وهاشم وعبد شمس، ولد عبد مناف من أمهم: "عاتكة بنت مرة السُّليمة"، و"نوفل" من "واقدة"، قد سادوا بعد أبيهم عبد مناف جميعًا، وكان يقال لهم: "المجبرون"، وصار لهم شأن وسلطان، فكانوا أول من أخذ لقريش "العِصَم"1, أي "الحبال"، ويراد بها العهود. أخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الروم وغسان، وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلا من الأكاسرة، فاختلفوا بذلك السبب إلى أرض العراق وأرض فارس، وأخذ لهم المطلب حبلا من ملوك حمير، فاختلفوا بذلك السبب إلى اليمن، فجُبرت بهم قريش، فسموا المجبرين2, حتى ضرب بهم المثل، فقيل: أقرش من المجبرين. والقرش: الجمع والتجارة، والتقرش: التجمع, والمجبرون هم الأربعة المذكورون3. وفي رواية أخرى أن "المطلب" هو الذي عقد الحلف لقريش من النجاشي في متجرها إلى أرضه، وأن هاشمًا، هو الذي عقد الحلف لقريش من "هرقل" لأن تختلف إلى الشام آمنة. ولو أخذنا بهذه الرواية وجب أن يكون هاشم قد أدرك أيام "هرقل" "610-641" "Heracleous l"، وهو أمر غير ممكن؛ لأن معنى ذلك أنه عاش في أيام الرسول وأدرك رسالته، ولا يهم ورود اسم "هرقل" في هذه الرواية؛ فأهل الأخبار لا يميزون بين ملوك الروم، ويذكرون اسم "هرقل"؛ لأنه حكم في أيام الرسول وفي أيام الخلفاء الراشدين الأُوَل. وإذا صحت الرواية، يكون "آل عبد مناف" قد احتكروا التجارة وصاروا من أعظم تجار مكة. وقد وزعوا التجارة فيما بينهم، وخصوا كل بيت من بيوتهم الكبيرة بالاتجار مع مكان من أمكنة الاتجار المشهورة في ذلك العهد، وأنهم تمكنوا بهذه السياسة من عقد عقود تجارية ومواثيق مع السلطات الأجنبية التي تاجروا معها لنيل حظوة عندها، ولتسهيل معاملاتها التجارية؛ فجنوا

_ 1 العِصَم، بكسر ففتح. 2 الطبري "2/ 252"، اليعقوبي "1/ 200", ذيل الأمالي "ص199", أمالي المرتضى "2/ 268". 3 مجمع الأمثال "2/ 72", البلاذري، أنساب "1/ 59".

من هذه التجارة أرباحًا كبيرة. فما كان في استطاعة "قريش" إرسال "عيرها" إلى بلاد الشام أو العراق أو اليمن أو العربية الجنوبية، بغير رضاء وموافقة سادات القبائل التي تمر قوافل قريش بأرضها، ورضاء هؤلاء السادات بالنسبة لقريش هو أهم جدًّا من رضاء حكومات بلاد الشام أو العراق أو اليمن عن مجيء تجار مكة إلى بلادها للاتجار في أسواقها, فما الفائدة من موافقة حكومات تلك البلاد على مجيء تجار مكة للبيع والشراء في أسواقها, إن لم يكن في وسع أولئك التجار تأمين وصول تجارتهم إليها، أو تأمين سلامة ما يشرونه من أسواقها لإيصاله إلى مكة أو إلى الأسواق الأخرى؟!. لهذا كان من أهم ما فعله تجار مكة في هذا الباب، هو عقدهم "حبالًا" و"عصمًا" وعهودًا مع رؤساء القبائل؛ لترضيتهم بدفع جعالات معينة لهم أو تقديم هدايا وألطاف مناسبة مغرية لهم، أو اشتراكهم معهم في تجارتهم, يقول الجاحظ في باب "فضل هاشم على عبد شمس": "وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب...... وجُعل لهم معه ربح"1. وبهذه العقود المتنوعة سيطر تجار قريش على الأعراب، وحافظوا على أموالهم، وحَدُّوا من شره فقراء أبناء البادية إلى الغنائم, وصار في إمكانهم الخروج بكل حرية من مكة ومن الأسواق القريبة منها بتجارتهم نحو الأماكن المذكورة بكل أمن وسلام. ولما كان البحث في هذا الموضع، هو في تأريخ مكة بصورة عامة؛ لذلك فسأترك الكلام عن "الإيلاف" إلى الموضع المناسب الخاص به، وهو التجارة والاتجار، وعندئذ سأتكلم عنه بما يتمم هذا الكلام العام. ويذكر أهل الأخبار أن عبد شمس وهاشمًا توءمان، وقد وقع بينهما تحاسد، وانتقل هذا التحاسد إلى ولد الأخوين، حتى في الإسلام. وذكروا أن "أمية بن عبد شمس" حسد عمه هاشمًا، وكان أمية ذا مال, فدعا عمه إلى المنافرة, فرضي عمه بذلك مكرهًا، على أن يتحاكما إلى الكاهن "الخزاعي"، فنفَّر هاشمًا عليه، فأخذ هاشم الإبل التي نافر عليها من أمية، فنحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين، بحسب حُكم الكاهن، وكان هاشم قد نافر على الجلاء عن مكة عشر سنين.

_ 1 الجاحظ، رسائل "70", "السندوبي".

فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية1. ويذكر أهل الأخبار أن أمية بن عبد شمس كان من جملة من ذهب من رجال مكة إلى "سيف بن ذي يزن" لتهنئته بانتصار اليمن على الحبش وطردهم لهم، وقد دخل عليه مع وفد مكة في "قصر غمدان", وكان مثل أبيه عبد شمس حامل لواء قريش، أي: إنه كان يحملها في الحرب2. وكان هاشم أول من مات من ولد عبد مناف، مات بغزة فعرفت بـ"غزة هاشم"، وكان قد وفد بتجارة إليها فمات بها، ومات عبد شمس بمكة، فقبر بأجياد، ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق، ثم مات المطلب بردمان من أرض اليمن3. ويتبين من ذلك أن جميع هؤلاء الإخوة، ما خلا عبدَ شمس, ماتوا في أرض غريبة، ماتوا تجارًا في تلك الديار. وورد في رواية أخرى، أن هاشمًا خرج هو وعبد شمس إلى الشام، فماتا جميعًا بغزة في عام واحد، وبقي مالهما إلى أن جاء الإسلام4. وأجياد: جبل مكة على رأي، وموضع مرتفع في الذرا غربيّ "الصفا" كما ورد ذلك في شعر للأعشى؛ ذكر أن "مضاضًا" ضرب في ذلك الموضع أجياد مائة رجل من العمالقة، فسمي الموضع بذلك "أجياد"5. ويذكر الإخباريون: أن هاشمًا كان قد خرج في عير لقريش فيها تجارات، وكان طريقهم على المدينة، فنزلوا بـ"سوق النبط", فصادفوا سوقًا مقامة، فباعوا واشتروا، ونظروا إلى امرأة على موضع مشرف من السوق تأمر بما يشترى ويباع لها, وهي حازمة جلدة مع جمال، فسأل هاشم عنها: أَأَيِّم هي، أم

_ 1 الطبري "2/ 252 وما بعدها"، ابن الأثير، الكامل "2/ 9", "الطباعة المنيرية"، ابن سعد، طبقات "1/ 76", نهاية الأرب "16/ 34"، أنساب العيون "1/ 40", سيرة ابن دحلان "1/ 15 وما بعدها". 2 الاشتقاق "ص103"، دائرة المعارف الإسلامية "1/ 324". 3 الطبري "2/ 254", ابن الأثير "2/ 7", شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد "1/ 83", ذيل الأمالي "ص199", البلاذري, أنساب "1/ 63"، ابن سعد، طبقات "1/ 79". 4 نهاية الأرب "16/ 37"، الكامل لابن الأثير "2/ 4 وما بعدها"، الطبري "2/ 176". 5 تاج العروس "2/ 330"، "الجيد".

ذات زوج؟ فقيل له: أيم، كانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها: فإذا كرهت رجلًا، فارقته، وهي "سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنيم بن عدي بن النجار"، وهو "تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج"، فخطبها، فزوجته نفسها ودخل بها، وصنع طعامًا، دعا إليه من كان معه من أهل مكة، ودعا من الخزرج رجالا، وأقام بأصحابه أيامًا، وعلقت "سلمى" بعبد المطلب1. وكانت "سلمى"، قد تزوجت من "أُحَيْحَة بن الجُلَّاح بن الحريش بن جَحْجَبَا الأوسي"، وهو من المعروفين في قومه كذلك2. ويذكر أهل الأخبار، أن عمر هاشم لما توفي، كان عشرين سنة، ويقال: خمسًا وعشرين 3. وهو عمر قصير إذا قِيسَ بما يذكره أهل الأخبار ويوردونه عنه من اتجار وأعمال, أعمال لا تتناسب مع تلك السن. ومن سادات مكة في هذه الأيام "قيس بن عدي بن سهم" من بني هصيص بن كعب، قد تكاثروا بمكة، حتى كادوا يعدلون بعبد مناف. وهو الذي منع "عدي بن كعب" و"زهرة بن كلاب" من "بني عبد مناف"، ومنع "بني عدي" أيضا من "بني جمح". وكان "عبد المطلب بن هاشم" ينفر ابنه "عبد المطلب" وهو صغير، ويقول: كأنه في العز قيس بن عديّ ... في دار قيس ينتدى أهل الندى4 مما يدل إن صح أن هذا الشعر هو من شعر "عبد المطلب" حقا، على أن "عديا" كان أعز رجال قريش في أيامه، حتى ضربوا به المثل في العز، وأنه كان سيد قومه, بني سهم بن هصيص بن كعب. ومن ولد هاشم "عبد المطلب"، وأمه من أهل يثرب من بني النجار, فهي

_ 1 ابن سعد، الطبقات "1/ 76"، ابن هشام، السيرة "1/ 144"، نهاية الأرب "16/ 36 وما بعدها"، المحبر "ص398"، الطبري "2/ 246 وما بعدها"، "دار المعارف". 2 المحبر "ص456"، البلاذري، أنساب "1/ 64". 3 البلاذري، أنساب "1/ 63". 4 نسب قريش "400".

خزرجية تدعى "سلمى بنت عمرو بن زيد" على نحو ما ذكرت قبل قليل, تزوجها هاشم في أثناء رحلة من رحلاته التي كان يقوم بها إلى الشام للاتجار. ولما مات هاشم بغزة ولدت سلمى "عبد المطلب"، ومكث عند أخواله سبع سنين، ثم عاد إلى قومه بمكة، عاد به عمه "المطلب". ولما كبر تولى السقاية والرفادة وتزعم قومه. ويذكر أهل الأخبار، أن هاشمًا كان قد أوصى إلى أخيه "المطلب"، فبنو هاشم وبنو المطلب يد واحدة, وبنو عبد شمس وبنو نوفل يد1. ومعنى هذا أن نزاعًا كان قد وقع بين أبناء هاشم وأبناء إخوته، جعلهم ينقسمون إلى فرقتين. ويذكر أهل الأخبار أن اسم عبد المطلب هو "شيبة", وقد عرف بين الناس بعبد المطلب؛ لأن عمه "المطلب" لما حمله من يثرب إلى مكة، كان يقول للناس: هذا عبدي، أو عبد لي، فسمي من ثم بعبد المطلب، وشاعت بين قومه أهل مكة حتى طغت على اسمه، وقيل: إنه عرف بين أهل مكة بـ"شيبة الحمد" لكثرة حمد الناس له، وكان يقال له "الفياض" لجوده، و"مطعم طير السماء" و"مطعم الطير" لأنه كان يرفع من مائدته، للطير والوحوش في رءوس الجبال2. وقد كان "المطلب" عم "عبد المطلب" مثل سائر أفراد أسرته وأهل مكة تاجرًا، فخرج إلى أرض اليمن تاجرا، فهلك بـ"ردمان" من اليمن3. وهم يروون أنه كان مَفزَع قريش في النوائب، وملجأهم في الأمور، وأنه كان من حلماء قريش وحكمائها، وممن حرم الخمر على نفسه، وهو أول من

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 79". 2 وفيه يقول حذافة بن غانم: بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه ... يضيء ظلام الليل كالقمر البدر "شيبة الحمد لنور وجهه، وذلك أنه كانت في ذؤابته شعرة بيضاء حين ولد، فسمي شيبة الحمد"، الثعالبي، ثمار القلوب "79"، الطبري "2/ 247 وما بعدها" "دار المعارف بمصر"، الأصنام "28", بلوغ الأرب "1/ 324", ابن حزم, جوامع السير "2/ 2"، البداية لابن كثير "2/ 252", السيرة الحلبية "1/ 22 وما بعدها", شرح نهج البلاغة, لابن أبي الحديد "1/ 81", ابن سعد, الطبقات "1/ 83". 3 طبقات ابن سعد "1/ 83", اليعقوبي "1/ 216".

تحنث بغار حراء, والتحنث: التعبد الليالي ذوات العدد. وكان إذا دخل شهر رمضان، صعده وأطعم المساكين، وكان صعوده للتخلي من الناس؛ ليتفكر في جلال الله وعظمته1. وكان يعظم الظلم بمكة، ويكثر الطواف بالبيت2. وذكر أنه كان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق, وينهاهم عن دنيات الأمور، وكان يقول: لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم الله منه، وإن وراء هذه الدار دارًا, يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، ورفض في آخر عمره عبادة الأصنام، ووحد الله. وروي: أنه وضع سننًا جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنة بها، منها: الوفاء بالنذر, وتحريم الخمر والزنا، وألا يطوف بالبيت عُريان3. وذكر أنه كان أول من سن دية النفس مائة من الإبل، وكانت الدية قبل ذلك عشرًا من الإبل, فجرت في قريش والعرب مائة من الإبل, وأقرها رسول الله على ما كانت عليه4. ويذكرون أن قريشًا كانت إذا أصابها قحط شديد، تأخذ بيد عبد المطلب، فتخرج به إلى جبل ثَبِير، تستسقي المطر5. وقد وقع خلافٌ بين عبد المطلب وعمه "نوفل"، كان سببه أن نوفل بن عبد مناف، وكان آخر من بقي من بني عبد مناف، ظلم عبد المطلب على أركاح له، وهي الساحات، فلما أصر نوفل على إنكاره حق عبد المطلب, تدخل عقلاء قريش في الأمر على رواية أهل مكة, أو أخوال عبد المطلب, وهم من أهل يثرب، فأكره "نوفل" على إنصاف عبد المطلب حتى عاد إليه حقه6. ومن أهم أعمال "عبد المطلب" الخالدة إلى اليوم "بئر زمزم" في المسجد الحرام، على مقربة من البيت. وهي بئر يذكرون أنها بئر إسماعيل، وأن جرهمًا

_ 1 السيرة الحلبية "1/ 22 وما بعدها". 2 البلاذري، أنساب "1/ 84". 3 السيرة الحلبية "1/ 24 وما بعدها". 4 ابن أبي الحديد "1/ 89"، ابن سعد، الطبقات "1/ 89". 5 السيرة الحلبية "1/ 24 وما بعدها". 6 الطبري "2/ 248 وما بعدها", "دار المعارف".

دفنتها، وأنها تقع بين إساف ونائلة في موضع كانت قريش تنحر فيه. فلما حفرها "عبد المطلب"، أقبل عليها الحجاج وتركوا سائر الآبار1. ويذكر أهل الأخبار أن عبد المطلب لما كشف عن بئر زمزم، وجد فيها دفائن، من ذلك: غزالان من ذهب كانت جرهم دفنتهما، وأسياف قلعية, وأدراع سوابغ، فجعل الأسياف بابًا للكعبة، وضرب في الباب أحد الغزالين صفائح من ذهب، وجعل المفتاح والقفل من ذهب, فكان أول ذهب حُلِّيَتْهُ الكعبة2. وجعل الغزال الآخر في الجب الذي كان في الكعبة أمام هبل. وذكر أن قريشًا أرادت منعه من الحفر، ولكنه أصر على أن يحفر حتى يصل إلى موضع الماء, وذلك بسبب رؤيا رآها، عينت له المكان، وأوحت إليه أنه موضع بئر قديمة طمرت وعليه إعادة حفرها3. ويذكر الإخباريون, أن عبد المطلب لما حلى بالمال الذي خرج من بئر زمزم الكعبة، جعله صفائح من ذهب على باب الكعبة، فكان أول ذهب حليته الكعبة4. وتذكر بعض الروايات أن ثلاثة نفر من قريش عدَوْا على هذا الذهب وسرقوه5, وتذكر رواياتهم أنه ضرب الأسياف التي عثر عليها في البئر بابًا للكعبة، وضرب بالباب الغزالين من ذهب6. ويظهر من وصف أهل الأخبار لما فعله "عبد المطلب" من ضرب الغزالين صفائح في وجه الكعبة، ومن جعل المفتاح والقفل من ذهب، أو من ضرب أحد الغزالين صفائح على الباب، وجعل الغزال الآخر في الجب الذي كان أمام "هُبَل" أي: الغبغب، أن الكعبة لم تكن على نحو ما يصفها أهل الأخبار من البساطة والسذاجة؛ بغير سقف وذات جدر ضمة بقدر قامة إنسان, إذ لا يعقل

_ 1 ابن الأثير "2/ 5 وما بعدها", الطبري "2/ 247", البلاذري, أنساب "1/ 78". 2 الطبري "2/ 251", البداية "2/ 216، 225، 245", أخبار مكة "1/ 282", ابن الأثير "2/ 7 وما بعدها", ابن سعد، الطبقات "1/ 85", البلاذري، أنساب "1/ 78". 3 أخبار مكة "284 وما بعدها". 4 اليعقوبي "1/ 218"، الطبري "2/ 251", ابن سعد، الطبقات "1/ 85". 5 ابن سعد، الطبقات "1/ 85". 6 سيرة ابن دحلان "1/ 26", "حاشية على السيرة الحلبية".

أن يضرب وجه باب الكعبة بالذهب وتوضع في داخلها تلك النفائس وهي على تلك الحالة، اللهم إلا إذا شككنا في أمر هذه الروايات وذهبنا إلى أنها من نوع القصص الذي وضعه أهل الأخبار. وقد طغى ماء "بئر زمزم" على مياه آبار مكة الأخرى؛ فهو أولًا ماء مقدس، لأنه في أرض مقدسة، وفي المسجد الحرام، ثم هو أغزر وأكثر كميةً من مياه الآبار الأخرى, وهو لا ينضب مهما استقى أصحاب الدلاء منه, ثم إنه ألطف مذاقًا من مياه آبار مكة الأخرى. وقد استفاد "عبد المطلب" من هذه البئر، ماديا وأدبيا، وصارت ملكًا خالصة له، على الرغم من محاولات زعماء مكة والمنافسين له مساهمتهم له في حق هذه البئر؛ لأنها في أرض الحرم، والحرم حرم الله، وهو مشاع بين كل أهل مكة. وصار يسقي الحجاج من هذه البئر، وترك السقي من حياض الأدم التي كانت بمكة عند موضع بئر زمزم، وصار يحمل الماء من زمزم إلى عرفة فيسقي الحاج1. وكان أبناء "قصي" قبل حفر بئر "زمزم" يأتون بالماء من خارج مكة -كما يقول أهل الأخبار- ثم يملئون بها حياضًا من أدم ويسقون الحجاج، جروا بذلك على سنة "قصي". فلما حفرت بئر زمزم, تركوا السقي بالحياض من المياه المستوردة من خارج مكة، وأخذو يسقونهم من ماء زمزم2. وقد كان عبد المطلب يزور اليمن بين الحين والحين، فكان إذا وردها نزل على عظيم من عظماء حمير. ويذكر أهل الأخبار أن أحد هؤلاء عَلَّم عبد المطلب صبغ الشَّعر، وذلك بأن أمر به فخضب بحناء، ثم عُلِيَ بالوسمة، وصار يصبغ شعره بمكة، وخضب أهل مكة بالسواد3. ويذكر أهل الأخبار أيضا أنه اتصل بملوك اليمن، وأخذ منهم إيلافًا لقومه، بالاتجار مع اليمن, وكانت قريش تنظم عيرًا إلى اليمن في كل سنة4.

_ 1 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 83"، سيرة ابن هشام "1/ 89", أخبار مكة "285 وما بعدها", السيرة الحلبية "1/ 37", الروض الأنف "1/ 97". 2 ابن سعد، الطبقات "1/ 83". 3 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 86"، ابن سعد، الطبقات "1/ 86". 4 ذيل الأمالي "ص199".

وبذكر "المسعودي" أن "معديكرب" حينما ولي الملك باليمن، أتته الوفود لتهنئه بالملك, وكان فيمن وفد عليه من زعماء العرب، "عبد المطلب", و"خويلد بن أسد بن عبد العزى", وجد أمية بن أبي الصلت، وقيل: أبو الصلت أبوه، فدخلوا عليه في قصره بمدينة صنعاء: قصر غمدان. ويذكر له كلامًا, قاله عبد المطلب له، وجواب "معديكرب" عليه. ويذكر أيضا أن "عبد المطلب" كان فيمن وفد على "سيف بن ذي يَزَن" ليهنئه بطرد الحبش1. ولم يكن عبد المطلب أغنى رجل في قريش، ولم يكن سيد مكة الوحيد المطاع كما كان قصي، إذ كان في مكة رجال كانوا أكثر منه مالًا وسلطانًا. إنما كان وجيه قومه؛ لأنه كان يتولى السقاية والرفادة وبئر زمزم، فهي وجاهة ذات صلة بالبيت. وقد تكون صلته هذه، هي التي جعلته يذهب إلى أبرهة لمحادثته في شئون مكة والبيت. ويروي أهل الأخبار أن عبد المطلب كان قد نذر: لئن أكمل الله له عشرة ذكور حتى يراهم أن يذبح أحدهم. فلما تكاملوا عشرة، همَّ بذبح أحدهم، فضرب بالقداح فخرج القداح على عبد الله، ولكن القوم منعوه، ثم أشاروا عليه بأن يرضي الله بنحر إبل فدية عنه، وكان كلما ضرب القداح يخرج على عبد الله حتى بلغ العدد مائة, فخرج على الإبل، فنحرها بين الصفا والمروة, وخلى بينها وبين كل من يريد لحمها, من إنسيّ أو سبع أو طائر، لا يذب عنها أحدًا، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئًا2. وكان نحر الإبل قبل الفيل بخمس سنين3, إذن فيكون ذلك حوالي سنة "565" للميلاد. وكان لعبد المطلب ماء بالطائف، يقال له: "ذو الهرم", وكان في أيدي ثقيف ردحًا، ثم طلبه عبد المطلب منهم، فأبوا عليه. وكان صاحب أمر

_ 1 المسعودي، مروج الذهب "2/ 10 وما بعدها"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 2 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 88 وما بعدها", ابن سعد، الطبقات "1/ 88 وما بعدها". 3 البلاذري، أنساب "1/ 79".

ثقيف: "جندب بن الحارث" فأبى عليه وخاصمه فيه، فدعاهما ذلك إلى المنافرة إلى الكاهن "العذري"، وكان يقال له: "عزى سلمة"، وكان ببلاد الشام، وتنافرا على إبل، وأتيا الكاهن، فنفر عبد المطلب عليه، فأخذ عبد المطلب الإبل فنحرها1. وقد نادم "عبد المطلب" على عادة أهل مكة جماعة من أقرانه، لقد كانت عادتهم أن يجتمعوا مساءً فيتحادثوا, أو يشربوا ويأكلوا, أو يستمعوا إلى غناء، حتى يحل وقت النوم، وكان ممن نادمهم عبد المطلب "حرب بن أمية"، ثم اختلف معه، ونافره عند "نفيل بن عبد العزى" جد "عمر بن الخطاب"، فنفره على "حرب"، فافترقا2. وكان سبب افتراقه عنه، إغلاظ "حرب" القول على يهودي كان جوار عبد المطلب3. وتذكر رواية أخرى أن عبد المطلب و"حربًا"، تنافرا أولًا إلى النجاشي الحبشي، ولكنه أبى أن ينفر بينهما، فذهبا إلى نفيل, وأن "حرب بن أمية" غضب حين نفر عبد المطلب عليه، وقال له: إن من انتكاس الزمان أن جعلناك حكمًا، وصار نديمًا لعبد الله بن جدعان4. وذكر "ابن الأثير" أن سبب افتراق "عبد المطلب" عن "حرب" كان بسبب جار عبد المطلب اليهودي، واسمه "أُذَيْنَة"، وكان تاجرا وله مال كثير، فغاظ ذلك "حرب بن أمية"، فأغرى به فتيانًا من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله، فقتله "عامر بن عبد مناف"، و"صخر بن عمرو بن كعب التيمي"، فلم يعرف عبد المطلب قاتله، فلم يزل يبحث حتى عرفهما، وإذا هما قد استجار بحرب بن أمية، فأتى حربًا ولامه وطلبهما منه, فأخفاهما، فتغالظا في القول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة، فلم يدخل بينهما، وذهبا إلى نفيل. وترك عبد المطلب منادمة حرب، ونادم عبد الله بن جدعان، وأخذ من

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 51 وما بعدها", ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 88", ابن سعد، طبقات "1/ 88"، "دار صادر". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 51 وما بعدها"، "1/ 87", "صادر". 3 السيرة الحلبية "1/ 25", البلاذري، أنساب "1/ 74". 4 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 87", ابن سعد، الطبقات "1/ 87", "صادر".

حرب مائة ناقة فدفعها إلى ابن عم اليهودي، وارتجع ماله إلا شيئًا هلك, فغرمه من ماله1. وقد صاهر عبد المطلب, رجال من أسر معروفة بمكة، فصاهره "كُريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس"، وكانت عنده "أم حكيم"، وهي "البيضاء بنت عبد المطلب", وصاهره "أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكانت عنده "عاتكة بنت عبد المطلب"، و"عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم", وكانت عنده "برة بنت عبد المطلب". وناسبه "أبو رُهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي"، خلف على "برة" بعد عبد الأسد، وصاهره "جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة", وكانت عنده "أميمة بنت عبد المطلب"، و"العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى", خلف على "صفية بعد عمير بن وهب"2. ويذكر أن "عبد المطلب" كان يفرش له في ظل الكعبة، ويجلس بنوه حول فراشه إلى خروجه، فإذا خرج قاموا على رأسه مع عبيده؛ إجلالًا له3. وكانت عادة سادة مكة تمضية أوقاتهم في مسجد الكعبة، حيث يجلسون في ظل الكعبة أو في فنائها يتحدثون ويتسامرون، ثم يذهبون إلى بيوتهم. وفي أيام عبد المطلب كانت حملة "أبرهة" على مكة، وقد أرخت قريش بوقوعها، وصيرت الحملة مبدأ لتأريخ؛ لأهميتها بالنسبة لمكة. وقد تركت أثرا كبيرا في نفوس قريش، بدليل تذكير القرآن لهم بما حل بـ"أصحاب الفيل"4, وعلى نحو ما تحدثت عنه في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب. وقد رأينا أن "عبد المطلب" وقد أشار على قومه بالتحرز بشعاب الجبال,

_ 1 الكامل "2/ 8 وما بعدها". 2 المحبر "ص62 وما بعدها"، ابن سعد، "8/ 27 وما بعدها". 3 البلاذري, أنساب "1/ 81". 4 الفيل، رقم 105, الآية1 وما بعدها، تفسير الطبري "30/ 299", تفسير ابن كثير "4/ 549", الأزرقي "1/ 85", مروج الذهب "2/ 71", الكامل لابن الأثير "1/ 260", البداية "2/ 170، 145", الملل والنحل "3/ 279".

وبترك البيت وشأنه؛ لأن للبيت ربًّا يحميه، وبعدم التحرش بالحبش وتركهم وشأنهم. والظاهر أنه وجد أن عدد الأحباش كان كبيرًا وأن من غير الممكن مقاومتهم والذب عن مكة في الوادي. ثم إنها حرم آمن، لا يجوز القتال فيه، وليس فيها حصون وآطام يُتحصَّن بها؛ لهذا رأى الرحيل عن الوادي والاحتماء برءوس الجبال، والإشراف منها على الدروب والطرق، فذلك أنفع وأحمى للمال وللنفس. ثم إن من الممكن مباغتة الحبش منها ومهاجمتهم وإنزال خسائر بهم حين يشاءون ويقررون، على حين تكون القوة والمنعة في أيدي الأحباش لو حصروا أنفسهم بمكة، إذ يكونون في منخفض بينما العدو على شُرف يشرف عليهم، وليس في إمكانهم مقاومته، وليس لهم حصون ولا مواضع دفاع؛ فتكون الغلبة لأبرهة حتما، وقد نجحت فكرة عبد المطلب، ولم يصب أهل مكة بسوء. وقد كان من عادة أهل مكة، أنهم إذا داهمهم الخطر توقَّلُوا الجبال واعتصموا بها، ولما حاصرهم الرسول عام الفتح، هرب أكثرهم واعتصموا برءوس الجبال؛ إذ ليس في إمكانهم الحرب والصمود في البطحاء1. ومات "عبد المطلب" بعد أن جاوز الثمانين. مات في ملك "هرمز بن أنوشروان"، وعلى الحيرة قابوس بن المنذر, أخو "عمرو بن المنذر" على رواية, وعمر الرسول ثماني سنين, ومعنى ذلك أنه توفي في حوالي السنة "578" للميلاد. ولما حمل على سريره، جزت نساء "بني عبد مناف" شعورهن، وشق بعض الأولاد قمصانهم، حزنًا على وفاته, ودفن بالحجون2. وذكر أنه لم يقم بمكة سوق أيامًا كثيرة لوفاة عبد المطلب3. وذكر أن عبد المطلب كان أول من تحنث بحراء، وكان إذا أهلَّ هلال شهر رمضان دخل بحراء، فلم يخرج حتى ينسلخ الشهر، ويطعم المساكين، وكان يعظم الظلم بمكة ويكثر الطواف بالبيت4. ومن ولد عبد المطلب: عبد الله وهو والد الرسول، وأبو طالب واسمه

_ 1 البلاذري، أنساب "1/ 355". 2 البلاذري، أنساب "1/ 84 وما بعدها". 3 البلاذري، أنساب "1/ 87". 4 البلاذري، أنساب "1/ 84".

عبد مناف، والزبير، وعبد الكعبة، وعاتكة، وبَرَّة, وأميمة1. وعدة ولده اثنا عشر رجلًا وست نسوة2. ولم يكن ولد عبد المطلب من رجال مكة الأثرياء، وكل ما كان عندهم ثراء روحي، استمدوه من اسم "قصي" وهاشم، فكانوا من وجهاء مكة من هذه الناحية, أما من ناحية المادة والمال، فلم يكونوا من السباقين فيه. لقد كانوا وسطًا، وربما كانوا دون أوساط تجار مكة؛ مات "عبد الله" ولم يخلف لأهله شيئًا، ومات أبو طالب وحالته المالية ليست على ما يرام. لقد كانوا تجارًا يخرجون بتجارتهم على عادة فيهم إلى بلاد الشام، أو إلى اليمن فيبيعون ويشترون، ولكنهم على ما يبدو من الأخبار لم يتمكنوا من جمع ثروة تغنيهم وتجعلهم من أغنياء مكة. وقد توفي "عبد الله" وهو في طريقه من "غزة" إلى مكة، وكان قد أقبل بتجارة له، فنزل بالمدينة وهو مريض، وتوفي هناك3, وإن "عبد المطلب" بعث إليه "الزبير بن عبد المطلب" أخاه، ودفن في دار النابغة4, وإنه ترك عند وفاته "أم أيمن" حاضنة الرسول، وكان يسميها: "أُمّي"، فأعتقها وخمسة أجمال أوراك، وقطعة غنم، وسيفا مأثورا، وورقا5. وخرج "أبو طالب" بتجارة له في "عير قريش" ولكنه لم يتمكن من كسب شيء يريحه ويسعده من كل تجاراته، وآية ذلك أن الرسول أخذ منه ابنه "عليًّا"؛ ليخفف عنه مشقة الإنفاق على ولده، وأخذ "العباس" "جعفرًا" منه لينفق عليه. ووضعٌ مثل هذا لا يدل على يسر6, وكانت له مع فقره هذا وجاهة عند أهله وقومه. قيل: "لم يسد من قريش ممق إلا عتبة وأبو طالب، فإنهما سادا بغير مال"7. وقال "علي" في والده: "أبي ساد فقيرًا وما

_ 1 الطبري "2/ 239" "دار المعارف". 2 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "1/ 89". 3 الطبري "2/ 246" "دار المعارف"، البلاذري، أنساب "1/ 92"، ويقال: كان عبد المطلب بعثه إلى المدينة يمتار له تمرًا. ويقال: بل أتاهم زائرًا لهم، ويقال: بل قدم من غزة بتجارة له. 4 البلاذري، أنساب "1/ 92"، ابن سعد، طبقات "1/ 99". 5 البلاذري، أنساب "1/ 96". 6 ابن الأثير، الكامل "2/ 37" "المنيرية"، الطبري "2/ 312" "الحسينية". 7 السهيلي, الروض الأنف "1/ 121".

ساد فقيرٌ غيره"1. وذكر أن عياله كانوا في ضيقة وخدة، لا يكادون يشبعون لقلة ما عندهم2. وعتبة بن ربيعة، هو أبو هند زوج "أبي سفيان"، وهي أم معاوية. ويذكر أهل الأخبار أيضا: "ساد عتبة بن أبي ربيعة وأبو طالب، وكانا أفلس من أبي المزلق، وهو رجل من بني عبد شمس، لم يكن يجد مؤنة ليلته، وكذا أبوه وجده وجد جده كلهم يعرفون بالإفلاس"3. ويظهر أن "عبد شمس" و"نوفلًا" و"مخزومًا"، كانوا قد تمكنوا من منافسة "عبد المطلب" و"آل هاشم" على التجارة، ومن انتزاع تجارة بلاد الشام منهم، ومن مزاحمتهم في الاتجار مع اليمن والعراق، حتى حصلوا على ثراء طائل، صيرهم من أغنى رجال مكة، وجعل لهم التفوق على البلد، حتى صار رجال من "بني مخزوم" من أغنى رجال مكة, وكذلك رجال من "عبد شمس". وتعد "أيام الفجار" من الحوادث المؤثرة في تأريخ مكة, وهي أفجرة. وإنما سميت بذلك؛ لأنها كانت في الأشهر الحرم، ومن أهمها "فجار البراض"، نسبت إلى "البراض بن قيس" الذي قتل "عروة الرحال" "عروة بن عتبة الرحال"، إلى جانب "فدك" بأرض يقال لها "أوارة"، فأهاج مقتله الحرب بين "قريش" ومن معها من "كنانة" وبين "قيس عيلان"، وكانت الدبرة على "قيس"4. وذكر في رواية أخرى، أن الفجارات الأربعة: فجار الرجل، أو فجار بدر بن معشر الغفاري، وهو الفجار الأول، وفجار القرد، وفجار المرأة، والفجار الرابع هو فجار البراض5, وأن يوم "البراض" أو يوم نخلة, هو أعظم أيام الفجار, وكان البراض قد قدم باللطيمة إلى مكة فأكلها, وهي لطيمة "النعمان بن المنذر"، التي وضع "النعمان" زمامها بيد "عروة بن عتبة الرحال"، وكان سُمي الرحال لرحلته إلى الملوك، فكان ذلك مما أهاج

_ 1 اليعقوبي "2/9". 2 البلاذري، أنساب "1/ 96". 3 السيرة الحلبية "1/ 153". 4 تاج العروس "3/ 465"، "فجر"، عن حروب الفجار، العمدة "2/ 218 وما بعدها". 5 المسعودي، مروج "2/ 271"، تاج العروس "3/ 465".

الحرب. وقد رأس قريشًا: حرب بن أمية، وكان موضعه في القلب، وعبد الله بن جدعان في إحدى المجنبتين، وهشام بن المغيرة في الأخرى، فالتقوا بـ"نخلة"، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجن عليهم الليل, فكان اليوم لهوازن1. وذكر أن هذا اليوم قد وقع بعد عشرين سنة من عام الفيل, وقد شهده الرسول, وعمره عشرون سنة. ثم إن قريشًا وبني كنانة لقوا هوازن بشمطة, وعلى بني هاشم: الزبير بن عبد المطلب، وعلى بني عبد شمس وأحلافها: حرب بن أمية، وعلى بني عبد الدار وحلفائها: عكرمة بن هاشم، وعلى بني أسد بن عبد العزى: خويلد بن أسد، وعلى بني زهرة: مخرمة بن نوفل، وعلى بني تيم: عبد الله بن جدعان، وعلى بني مخزوم: هاشم بن المغيرة, وعلى بني سهم: العاص بن وائل, وعلى بني جمح: أمية بن خلف، وعلى بني عدي: زيد بن عمرو بن نفيل، وعلى بني عامر بن لؤي: عمرو بن شمس، وعلى بني فهر: عبد الله بن الجراح، وعلى بني بكر: بلعاء بن قيس، وعلى الأحابيش: الحليس الكناني، فالتقوا أول النهار على هوازن، فصبروا, ثم استحرَّ القتل في قريش، وانهزم الناس2. ورُوي أن "البراض بن قيس" لقي "بشر بن أبي خازم" الأسدي الشاعر، فأخبره الخبر، وأمر أن يعلم ذلك "عبد الله بن جدعان" و"هشام بن المغيرة"، و"حرب بن أمية"، و"نوفل بن معاوية الديلي"، و"بلعاء بن قيس"، فوافى "عكاظًا"، فأخبرهم فخرجوا إلى الحرم، وبلغ "قيسًا" الخبر، فخرجوا في آثارهم فأدركوهم وقد دخلوا الحرم، ولم تقم في تلك السنة "عكاظ". ومكثت "قريش" وغيرها من "كنانة" و"أسد" بن خزيمة ومن لحق بهم من الأحابيش، وهم الحارث بن عبد مناة وعضل والقارة وديش والمصطلق من خزاعة لحلفهم بالحارث بن عبد مناة، سنة يتأهبون للحرب، لإنذار "قيس" لها. وتأهبت "قيس عيلان" وسارت على "قريش"، وكان فيها "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر", و"سُبَيْع بن ربيعة بن معاوية

_ 1 البلاذري، أنساب "1/ 43، 101 وما بعدها"، السيرة الحلبية "1/ 152". 2 البلاذري، أنساب "1/ 102 وما بعدها".

النصري" و"دريد بن الصمة"، و"مسعود بن معتب الثقفي" و"أبو عروة بن مسعود" و"عوف بن أبي حارثة المري" و"عباس بن رعل السلمي". واستعدت "قريش" ورؤساؤها "عبد الله بن جدعان"، و"هشام بن المغيرة"، و"حرب بن أمية" و"أبو أحيحة سعيد بن العاص"، و"عتبة بن ربيعة"، و"العاص بن وائل"، و"معمر بن حبيب الجمحي"، و"عكرمة بن هاشم"، وخرجوا متساندين, ويقال: بل أمرهم إلى عبد الله بن جدعان. فالتقوا فكانت الدبرة أول النهار لقيس على قريش وكنانة ومن ضوى إليهم، ثم صارت الدبرة آخر النهار لقريش وكنانة على قيس، فقتلوهم قتلا ذريعا, فاصطلحوا على أن عدوا القتلى، وردت قريش لقيس ما قتلت فضلًا عن قتلاهم، وانتهت الحرب. وقد شهد الرسول هذه الفجار، ورمى فيها بسهم، فكان يوم حضر ابن عشرين سنة، وكان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة1. وأغلب حروب الفجار معارك ومناوشات، ولم تكن حروبًا بالمعنى المفهوم من كلمة "حرب". أما أهميتها وسبب اشتهارها فلوقوعها في شهور حرم, ولخروج المتحاربين فيها على سنة قريش ودينهم في تحريم القتال في هذه الشهور, ولهذا السبب حفظ ذكرها وجاء خبرها في كتب أهل الأخبار. وقد كان النصر فيها على كنانة وقريش في الغالب, وهو شيء مفهوم معقول؛ فقد كانت "قيس عيلان" كما كانت "هوازن" قبائل محاربة تعيش على الغزو والقتال، بينما كانت "قريش" قبيلة مستقرة اتخذت التجارة لها رزقًا، كما عاشت على الأرباح التي تجنيها من مجيء الأعراب إليها في مواسم الحج أو أيام العمرة ومن الامتيار من أسواقها. وقوم هذا شأنهم في حياتهم وفي تعاملهم, لا يمكن أن يميلوا إلى الغزو والقتال، بل كانوا يحبون حياة السلم والاستقرار؛ يشترون السلم ولو عن طريق ترضية الأعراب بتقديم الأموال لهم والهدايا والهبات؛ لذلك لم يصر رجالها رجال حروب وقتال، بل صاروا رجال سياسة ومساومة ومفاوضات تنتهي بنتائج طيبة بالنسبة لهم، لا يمكن أن يحصلوا عليها من القتال. وقد رأس "الزبير بن عبد المطلب" بني هاشم، غير أن رئاسته هذه

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 128"، السيرة الحلبية "1/ 152".

لم تكن متينة, وقد كان في جملة من شهد "حلف الفضول" في دار "عبد الله بن جدعان"1, كما رأس "بني هاشم" في حرب الفجار2. وذكر أنه كان نديمًا لمالك بن عُميلة بن السباق بن عبد الدار3, وقد تاجر الزبير مع بلاد الشام إلا أنه لم ينجح في تجارته على ما ظهر، بدليل أنه لم يكن موسرًا، وذكر أنه كان أحد حُكام العرب الذين يتحاكمون إليهم4. وحلف الفضول من الأحداث المهمة التي يذكرها أهل السير والأخبار في تأريخ مكة, وإذا صح ما يذكرونه من أنه عقد بعد الفجار بشهور، وفي السنة التي وقع فيها الفجار الذي حضره الرسول، ومن أن الرسول حضره وهو ابن عشرين سنة، فيجب أن يكون عقد هذا الحلف قد تم في حوالي السنة "590" للميلاد5. ويذكر أن الذي دعا إليه هو الزبير بن عبد المطلب6. وقد شهد حلف الفضول بنو هاشم وبنو زهرة وبنو تيم, وذكر أنهم تعاهدوا على أن يكونوا مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه، وفي التآسي في المعاش, وقد عقد منصرف قريش من الفجار وكان الفجار في شوال, وعقد الحلف في ذي القعدة7. وذكر أيضا أنهم "تحالفوا ألا يُظلم أحد بمكة إلا قاموا معه حتى ترد ظلامته", وقد ذكره الشاعر "نبيه بن الحجاج السهمي"8. وليس لأهل الأخبار رأي ثابت عن سبب تسمية هذا الحلف بحلف الفضول؛ فذكر بعضهم أنه سمي بذلك لأنهم تحالفوا أن يتركوا عند أحد فضلًا يظلمه أحدًا إلا أخذوه له منه. وقيل: سمي به تشبيهًا بحلف كان قديمًا بمكة أيام جرهم, على التناصف والأخذ للضعيف من القوي والغريب من القاطن. وسمي حلف الفضول؛ لأنه قام به رجال

_ 1 المحبر "ص167". 2 المحبر "ص169". 3 المحبر "ص176". 4 البلاذري، أنساب "1/ 88". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 128 وما بعدها". 6 السيرة الحلبية "1/ 153 وما بعدها". 7 ابن سعد، طبقات "1/ 128 وما بعدها". 8 نسب قريش "291", الأغاني "16/ 64".

من جرهم كلهم يسمى الفضل، فقيل: حلف الفضول جميعًا لأسماء هؤلاء1. وذكر أنه سمي حلف الفضول؛ لأن قريشًا قالت: هذا فضول من الحلف، فسمي حلف الفضول2. وقيل: لأن قريشًا تعاقدوا فيما بينهم على "مواساة أهل الفاقة ممن ورد مكة بفضول أموالهم"3, وهو في بعض الروايات تحالف ثلاثة من الفضليين على ألا يروا ظلمًا بمكة إلا غيَّروه. وأسماؤهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن قضاعة، والفضل بن نصاعة، فسمي من ثم باسمهم: حلف الفضول4. وذكر أكثر أهل الأخبار, أن الغاية التي أريد بها منه، هي إنصاف المظلومين من أهل مكة، من الضعفاء والمساكين ومن لا يجد له عونًا ليحميه ويدافع عن حقوقه، وإنصاف الغرباء الوافدين على مكة من حجاج أو تجار، ممن يعتدي عليهم فيأخذ أموالهم أخذًا ويأكلها ولا يدفع لأصحابها عنها شيئًا. فذكر أن رجلًا من "زبيد" من اليمن، وكان باع سلعة له "العاصَ بن وائل السهمي"، فمطله الثمن حتى يئس، فعلا جبل "أبي قبيس"، وقريش في مجالسها حول الكعبة، فنادى رافعًا صوته يشكو ظلامته، ويطلب إنصافه مستجيرًا بقريش، فمشت قريش بعضها إلى بعض، وكان أول من سعى في ذلك "الزبير بن عبد المطلب"، واجتمعت في "دار الندوة"، وكان ممن اجتمع بها من "قريش" "بنو هاشم" و"بنو المطلب" و"زهرة" و"تيم" و"بنو الحارث"، فاتفقوا على أنهم ينصفون المظلوم من الظالم، فساروا إلى دار عبد الله بن جدعان، فتحالفوا هنالك5. وذكر أن رجلًا من "بني أسد بن خزيمة" جاء بتجارة, فاشتراها رجل من "بني سهم"، فأخذها السهمي وأبى أن يعطيه الثمن، فكلم قريشًا وسألها إعانته على أخذ حقه، فلم يأخذ له أحد بحقه، فصعد الأسدي "أبا قبيس",

_ 1 تاج العروس "8/ 63". 2 اليعقوبي "2/ 14"، "طبعة النجف". 3 kister, p. 124. 4 الثعالبي، ثمار القلوب "104". 5 مروج الذهب "2/ 270 وما بعدها", السيرة الحلبية "1/ 156 وما بعدها", الثعالبي، ثمار القلوب "140".

وصرخ بشعر يشكو فيه ظلامته، فتداعيت قريش، وعقدت حلف الفضول. وقيل: لم يكن من "بني أسد"، ولكنه "قيس بن شيبة السلمي"، باع متاعًا من "أبي خلف الجمحي" وذهب بحقه، فاستجار بـ"آل قصي"، فأجاروه، فكان ذلك سبب عقد حلف الفضول1. وقيل: بل كان الرجل من "بارق"، فلما يئس من أخذ حقه من "أبي"، صعد في الجبل ورفع عقيرته بقوله: يا للرجال لمظلومٍ بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر فلما سمعه "الزبير بن عبد المطلب", أجابه: حلفتُ لنعقدن حِلْفًا عليهم ... وإن كنا جميعًا أهل دارِ نُسميه الفضول إذا عقدنا ... يقربه الغريب لذي الجوارِ ثم قام وعبد الله بن جدعان، فدعوا قريشًا إلى التحالف والتناصر والأخذ للمظلوم من الظالم، فأجابوهما، وتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان، فهذا حلف الفضول2. وذكر أن رجلًا من "خثعم" قدم مكة ومعه بنت وضيئة، فاغتصبها منه "نبيه بن الحجاج"، فقيل له: عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى: يا لحلف الفضول، فاجتمعوا حوله، واستردوا الجارية من نبيه, وقالوا له: "ويحك, فقد علمت من نحن وما تعدهدنا عليه" فأعادها إليه3. ويظهر من هذا الخبر أن حلف الفضول كان قد عقد قبل هذه الحادثة، وأن جماعته كانت شديدة متراصة في دفع الحق إلى أهله واسترجاعه ممن اغتصبه كائنًا ما كان. ويظهر أن هذا الحلف استمر قائمًا إلى وقت ما في الإسلام، ثم فقد

_ 1 اليعقوبي "2/ 13 وما بعدها". 2 الثعالبي، ثمار القلوب "141"، السهيلي، الروض الأنف "1/ 91". 3 السيرة الحلبية "1/ 157".

قيمته، فمات. فورد أنه كان بين "الحسين بن علي بن أبي طالب" وبين "الوليد بن عتبة بن أبي سفيان" منازعة في مال متعلق بالحسين، فماطله الوليد. "فقال الحسين للوليد: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم لأدعون لحلف الفضول، فلما بلغ ذاك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه"1. وقد تفسر دعوة "الحسين" المذكورة, بأن الحسين لم يقصد بقوله: "لأدعون لحلف الفضول"، الحلف القديم المعروف، وإنما قصد: لأدعون لحلف كحلف الفضول، وهو نصرة المظلوم على ظالمه، وقد أيده على حقه جماعة، منهم عبد الله بن الزبير، مما دفع الوليد إلى إرجاع حق الحسين؛ خشية وقوع فتنة وتدخُّل في هذه الخصومة2. ومعنى هذا أننا لا نستطيع أن نستنتج من الخبر المتقدم، أن حلف الفضول كان قد بقي إلى ذلك العهد. ويرجع حلف الفضول إلى أحلاف سابقة على ما يتبين من أخبار أهل الأخبار، إلى عهد "هاشم" وإلى ما قبل أيام هاشم. والظاهر أن أهل مكة، بعد أن اجتمعوا وتكتلوا في وادٍ ضيق وفي أرض فقيرة، وجدوا أن من العسير عليهم رؤية حفنة منهم وقد استأثرت بالمال والغنى، بينما عاش الكثير بينهم في فقر وفاقة، وأنهم إن أصموا آذانهم عن سماع نداء الإغاثة، فإن حالة من الذعر ستسود مدينتهم؛ لذلك تواصوا فيما بينهم على مواساة أهل الفاقة وجبر خاطر المحتاج، وعلى تراحمهم فيما بينهم وتواصلهم. وكان مما فعلوه لرفع مستوى الفقير، وللقضاء على الفوارق الكبيرة التي صارت فيما بين سادات مكة وسوادها، أن حثوا كل مكي على المساهمة في أموال القوافل، حتى إذا ما عادت رابحة، وُزِّعت أرباحها على هؤلاء أيضا، كل حسب مقدار ما ساهم به من مال في القافلة. وبذلك خفف أهل مكة من حدة التضاد الذي كان بين النقيضين, وأمنوا من تطاول الشباب الفقراء على الأغنياء، بأن فتح بعض الأغنياء أبواب بيوتهم

_ 1 السيرة الحلبية "1/ 157". 2 السيرة الحلبية "1/ 157".

للجياع، فآووهم وساعدوهم على نحو ما جاء في شعر لمطرود بن كعب الخزاعي, إذ يقول: هبلتك أمك لو حللت بدارهم ... ضمنوك من جوع ومن إقراف1 وقوله: والخالطين غنيهم بفقيرهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي2 والعطف على الفقراء ومواساة الضعفاء وذوي الحاجة من خلال الأشراف السادات؛ لأنهم إن لم يغثيوا الغائث ويرحموا المسكين فمن يرحمهم إذن على وجه هذه الأرض! وقد مدح من يخلط الفقير بالغني فيساوي بينهما، وذم من يبيت شبعان وجاره يبيت خامصًا لا شيء عنده يعتمد عليه3. وكان من أهم الأحداث التي وقعت في أيام الرسول، يوم كان في الخامسة والثلاثين، بناء الكعبة؛ بسبب سيل ملأ ما بين الجبلين، ودخل الكعبة حتى تصدعت، أو بسبب حريق أصاب أستار الكعبة، فتصدعت، فعزمت قريش على بنائها، فهدمتها وأعادت بناءها. وذكر أن قريشًا كانت قد أفردت ببناء كل ربع من أرباع البيت قومًا، وكان ذلك بقرعة بينهم. فلما انتهوا إلى موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يضعه وتشاحّوا عليه، فرضوا بأول من يدخل من الباب, فكان أول من دخل رسول الله، فوضعه بيده، بعد أن قال: "ليأتِ من كل ربع من قريش رجل"، وبذلك فضَّ النزاع4. ويجب أن يكون حادث بناء البيت إذن في حوالي السنة "605" للميلاد.

_ 1 اليعقوبي "1/ 214"، "طبعة النجف 1964م". 2 "فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن من العرب بنو أب أكثر مالًا ولا أعز من قريش, وهو قول شاعرهم: والخالطون فقيرهم بغنيهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله"، تفسير القرطبي، "20/ 205", الطبرسي، مجمع البيان "10/ 546"، "طبعة طهران"، البلاذري، أنساب "1/ 58"، ابن العربي، محاضرات الأبرار "2/ 19". 3 القالي، الأمالي "2/ 158", kister, p. 123. 4 البلاذري، أنساب "1/ 99"، ابن رستة، الأعلاق النفيسة، "وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ, قد ناهز الحلم"، "ص29".

وجهاء مكة

وجهاء مكة: وكان أمر مكة إلى وجهاء أمرها، مثل: "بنو مخزوم"، و"بنو عبد شمس" و"بنو زهرة" و"بنو سهم" و"بنو المطلب"، و"بنو هاشم" و"بنو نوفل" و"بنو عدي" و"بنو كنانة" و"بنو أسد" و"بنو تَيْم" و"بنو جمح" و"بنو عبد الدار" و"بنو عامر بن لؤيّ" و"بنو محارب بن فهر". وذكر بعض أهل الأخبار، أن الشرف والرياسة في قريش في الجاهلية في "بني قصي"، لا ينازعونهم ولا يفخر عليهم فاخر, فلم يزالوا ينقاد لهم ويرأسون. وكان لقريش ست مآثر كلها لبني قصي دون سائر قريش؛ منها الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء والرياسة. فلما هلك "حرب بن أمية"، وكان حرب رئيسًا بعد المطلب، تفرقت الرياسة والشرف في "بني عبد مناف". فكان في بني هاشم: الزبير وأبو طالب وحمزة والعباس بن عبد المطلب، وفي بني أمية: أبو أحيحة، وهو سعد بن العاص بن أمية، وهو "ذو العمامة"، كان لا يعتم أحد بمكة بلون عمامته إعظامًا له. وفي بني المطلب: عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، و"عبد يزيد" هو "المحض لا قذى فيه" وفي "بني نوفل": المطعم بن عدي بن نوفل، وفي بني أسد بن عبد العزى: خويلد بن أسد، وعثمان بن الحويرث بن أسد. وقد كانت النبوة والخلافة لبني عبد مناف، ويشركهم في الشورى: زهرة وتيم وعدي وأسد1. وقد اختص "بنو كنانة" بالنسيء, فكان نسأة الشهور منهم, وهم "القلامسة", وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم2. فمكانتهم إذن بين الناس هي مكانة روحية، فبيدهم الفقه والإفتاء. ومكة وإن كانت مجتمعا حضريا، أهله أهل مدر في الغالب، غير أنها لم تكن حضرية تامة الحضارة بالمعنى الذي نفهمه اليوم؛ لأن الحياة فيها كانت مبنية على أساس العصبية القبلية. المدينة مقسمة إلى شعاب، والشعاب هي وحدات اجتماعية مستقلة، تحكمها الأسر، وبين الأسر نزاع وتنافس على الجاه والنفوذ

_ 1 المحبر "ص164 وما بعدها، 169". 2 المحبر "ص156".

نزاع وإن لم يقلق الأمن ويعبث بسلام المدينة، إلا أنه أثر في حياتها الاجتماعية أثرًا خطيرًا، انتقلت عدواه إلى أيام الإسلام. لقد حاول بعض رؤسائها ووجوهها التحكم بأمر مكة، وإعلان نفسه ملكا عليها, يحلي رأسه بالتاج شأن الملوك المتوجين، ولكنه لم يفلح ولم ينجح، حتى ذكر أن بعضهم التجأ إلى الغرباء؛ لمساعدتهم بنفوذهم السياسي والمادي والعسكري في تنصيب أنفسهم ملوكا عليها، فلم ينجحوا، كالذي ذكروه عن "عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى"، المعروف بـ"البطريق"، من أنه طمع في ملك مكة، فلما عجز عن ذلك خرج إلى قيصر، فسأله أن يملِّكه على قريش، وقال: أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل، وكتب له عهدًا وختمه بالذهب، فهابت قريش "قيصر" وهموا أن يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة فصاح، والناس في الطواف: إن قريشا لقاح! لا تملك ولا تملك, وصاح الأسود بن أسد بن عبد العزى: ألا إن مكة حي لقاح، لا تدين لملك. فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، ولم يتم له مراده، فمات عند ابن جفنة؛ فاتهمت بنو أسد ابن جفنة بقتله1, وابن جفنة هو عمرو بن جفنة الغساني2. ولم يكن عثمان بن الحويرث أول زعيم جاهلي فُتن بالملك وبلقب ملك, الحبيب إلى النفوس، حتى حمله ذلك على استجداء هذا اللقب والحصول عليه بأية طريقة كانت، ولو عن سبيل التودد إلى الأقوياء الغرباء والتوسل إليهم؛ لمساعدتهم في تنصيبهم ملوكًا على قومهم، ففي كتب أهل الأخبار والتواريخ أسماء نفر كانوا على شاكلته، فتنهم الملك وأعماهم الطمع وحملهم ضعف الشخصية وفقر النفس حتى على التوسل إلى الساسانيين والروم، لتنصيبهم على قومهم ومنحهم اللقب الحبيب، ووضع التاج على رأسهم، في مقابل وضع أنفسهم وقومهم في خدمة السادة المساعدين أصحاب المنة والفضل. ولقد استمات عثمان بن الحويرث في سبيل الحصول على ملك مكة، حتى ذكر

_ 1 نسب قريش "209 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 146". 2 جمهرة ابن حزم "190"، الروض الأنف "1/ 146", نسب قريش "209 وما بعدها".

أنه تنصر وتقرب بذلك إلى الروم، وحسنت منزلته عندهم، ومن يدري؟ فلعله كان مدفوعًا مأمورًا حرضه الروم ودفعوه للحصول على المدينة المقدسة؛ ليتمكنوا بذلك من السيطرة على الحجاز والوصول إلى اليمن والسيطرة على العربية الغربية والعربية الجنوبية، وإخضاع جزيرة العرب بذلك لنفوذهم. ولقد جمع القوم ورغبهم وأنذرهم وحذرهم بغضب الروم عليهم إن عارضوا مشروعه وقاوموا تنصيبه ملكًا عليهم, قائلًا لهم: "يا قوم، إن قيصر قد علمتم أمانكم ببلاده، وما تصيبون من التجارة في كنفه, وقد ملكني عليكم، وأنا ابن عمكم، وأحدكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والأوهاب، فأجمع ذلك ثم أذهب إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام، فلا تتجروا به وينقطع مرفقكم منه"1. وإذا صح أن هذا الكلام هو كلام "عثمان بن الحويرث" حقًّا، وأنه خاطب به قومه لحثهم على الاعتراف به ملكا على مكة، فإنه يكون كلام رجل عرف من أين يكلم قومه، وكيف يأتيهم! فقد هددهم بأن الروم سيمنعونهم من الاتجار مع الشام إن خالفوه ولم يبايعوه ولم يسلموا له بالملك، وقد كلفه "قيصر" به؛ لأنه يعلم أن تجارة قريش مع بلاد الشام هي مصدر من أهم مصادر رزقهم, ولهذا ظن بأنهم سيخضعون له ويقبلون بما جاء به. ولكن أشراف مكة من أصحاب المال والنفوذ، لم يحملوا هذا التهديد محمل الجد، فالروم لا يهمهم أمر "عثمان" كثيرًا، ثم إن تهديدهم بقطع تجارة قريش مع الشام تهديد لا يمكن تحقيقه، وحدود الشام طويلة ومفتوحة، ولعلهم وجدوا أن كلام "عثمان" هو ادعاء لم يصدر عن الروم، تفوه به، من حيث لا يعلمون, فلم يقيموا له وزنًا. ولم يذكر أهل الأخبار شيئا عن لقب "البطريق" الذي منحوه لـ"عثمان بن الحويرث"2. ولا أظن أن الروم قد منحوه له؛ لأنهم لم يكونوا يمنحون هذا اللقب المهم إلا لكبار العاملين في خدمتهم، ممن أدى لهم خدمات جليلة، ولا أظن أنه يشير إلى درجة دينية؛ لأنه لم يشتهر بين النصارى شهرة كبيرة ولم ينل من العلم والمكانة ما يؤهله لأن يكون "بطريارخًا" على الكنيسة. وقد ذكر

_ 1 الروض الأنف "1/ 146". 2 نسب قريش "209 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 146".

علماء اللغة أن "البطرق", القائد، معرب، وهو الحاذق بالحرب وأمورها، وهو ذو منصب عند الروم1. فلا يعقل أن يكون "عثمان" قد نال هذه المنزلة عند البيزنطيين, وهي منزلة لم ينلها إلا بعض ملوك الغساسنة مع صلتهم القوية بهم. ومما يذكره أهل الأخبار عن "عثمان" هذا، أنه كان في رؤساء حرب الفجار من قريش, وأنه كان من "بني أسد بن عبد العزى"، وأنه كان أحد الهجائين2. ومن وجهاء مكة وساداتها المقدمين المعروفين: عبد الله بن جدعان، وكان ثريًّا واسع الثراء، كما كان كريمًا، أسرف في أواخر عمره في إكرام الناس وبالغ في إعطائهم حتى حجر رهطه عليه لما أسن، فكان إذا أعطى أحدًا شيئًا، رجعوا على المعطى فأخذوه منه. فكان إذا سأل سائل، قال: "كن مني قريبا إذا جلست، فإني سألطمك، فلا ترضَ إلا بأن تلطمني بلطمتك، أو تفتدي لطمتك بفداء رغيب ترضاه"3. وإلى هذا الحادث أشار ابن قيس الرقيات: والذي إن أشار نحوك لطمًا ... تبع اللطم نائل وعطاء4 وينسبه النسابون إلى "بني تيم بن مُرَّة"، ويقولون في نسبه: إنه "عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة", وهو ابن عم والد الخليفة "أبي بكر"5, ويذكرون "أنه كان في ابتداء أمره صعلوكًا ترب

_ 1 اللسان "10/ 9"، "بطريق". 2 الاشتقاق "59"، نسب قريش "210"، المحبر "165، 170". 3 المحبر "ص138"، نسب قريش "256", عيون الأخبار لابن قتيبة "1/ 335", تأريخ الخميس "1/ 256"، سمط النجوم "1/ 201 وما بعدها". 4 المحبر "ص 138"، نسب قريش "293"، وهو من "بني تيم"، وقد أخطأ المستشرق "ليفي بروفنسال" أو من أشرف نيابة عنه على طبع كتاب "نسب قريش", فصير: "بنو تيم" "بنو تميم"، راجع "ص292 س10", و"ص293 س1". والخطأ خطأ مطبعي ولا شك، ولأهميته أشرت إليه. 5 ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "ص674" "بيروت", ابن كثير، البداية والنهاية "2/ 217" "مطبعة السعادة"، ابن حزم، جمهرة أنساب العرب "136".

اليدين، وكان مع ذلك شريرًا فاتكًا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف ألا يؤويه أبدًا، فخرج في شعاب مكة حائرا مائرا يتمنى الموت أن ينزل به، فرأى شقا في جبل، فظن أن فيه حية، فتعرض للشق يرجو أن يكون فيه ما يقتله فيستريح، فلم يجد شيئا، فدخل فيه"، فإذا به أمام غار هو مقبرة من مقابر ملوك "جرهم"، وفيه كنوز وأموال من أموالهم ثمينة, من بينها "ثعبان" مصنوع من ذهب، له الكعبة الشريفة عينان من ياقوت. ووجد جثث الملوك على أسرَّة، لم ير مثلها، وعليها ثياب من وشي، لا يُمَسُّ منها شيء إلا انتثر كالهباء من طول الزمان، فأخذ من الغار حاجته ثم خرج، وعلَّم الشق بعلامة، وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به منه يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم، فسادهم، وجعل ينفق من ذلك الكنز، ويطعم الناس، ويفعل المعروف. وكان

كلما احتاج إلى مال ذهب، فاستخرج ما يحتاج إليه من ذلك الكنز, حتى صار من أغنى أغنياء مكة1. فثراء "عبد الله بن جدعان" هو من هذا الكنز, على زعم رواة هذه القصة التي يتصل سندها بـ"عبد الملك بن هشام" راوية "كتاب التيجان"، وهو كتاب مليء بالأقاصيص والأساطير، وقد تكون القصة صحيحة، فعثور الناس على كنوز ودفائن من الأمور المألوفة، وقد عثر غيره ممن جاءوا قبله أو جاءوا بعده على كنوز، بل ما زال الناس حتى اليوم يعثرون عليها مصادفة أو في أثناء الحفر والتنقيب. والشيء الغريب فيها هو هذا التزويق والنتميق، وهو أيضا شيء مألوف بالنسبة إلينا، وغير غريب وقد تعودنا قراءته، فمن عادة القصاصين ورواة الأساطير والأباطيل الإغراب في كلامهم والكذب فيه لأسباب لا مجال لذكرها هنا، وعلى رأس هذه الطائفة "وهب بن منبه" صاحب "كتاب التيجان". وذكر أنه لثرائه كان لا يشرب ولا يأكل إلا بآنية من الذهب والفضة, فعرف لذلك بـ"حاسي الذهب"2. ويذكر أهل الأخبار أن "عبد الله بن جدعان" كان نخاسًا، له جوارٍ يساعين، ويبيع أولادهن. فكانت جواريه تؤجر للرجال، وما ينتج عن هذا السفاح من نسل يربى، فيبقي منه عبد الله ما يشاء ويبيع منه ما يشاء3. ولكنه مع اتجاره بالرقيق، وعلى النحو المتقدم، كان -كما يقولون- يعتق الرقاب, ويعين على النوائب، ويساعد الناس, ويقضي الحاجات4، ولا سيما بعد تقدمه في السن.

_ 1 البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 217 وما بعدها"، تأريخ الخميس "1/ 255", عبد الملك بن حسين بن عبد الملك العصامي المالكي، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي "1/ 199", ابن الأثير، الكامل "1/ 359". 2 أيام العرب "248". 3 المسعودي، مروج "4/ 145" "طبعة باريس"، الثعالبي، لطائف المعارف "128" "الأبياري", المعارف لابن قتيبة "576". 4 البداية، لابن كثير "2/ 229".

ولا يستبعد أن يكون ما ذكره أهل الأخبار عن "عبد الله بن جدعان"، هو من صنع حساده ومبغضيه ممن حسدوه على ما بلغ إليه بمكة من مركز وجاه. ومثل هذا التشنيع على الناس شائع مألوف, لا سيما وقد كان في الأصل فقيرا غير موسر، فغني بجده واجتهاده, فتقوَّل عليه حساده من أهل زمانه تلك الأقوال. وقد عرف "ابن جدعان" بإكرام الناس وبالإنفاق على أهل مدينته, وروى أهل الأخبار أمثلة عديدة على جوده وسخائه. من ذلك: ما رووه من أنه كان قد وضع جفنة كبيرة ملأها طعامًا ليأكل منها الناس، وكانت الجفنة على درجة كبيرة من السعة بحيث غرق فيها صبي كان قد سقط فيها. وذكروا أن الرسول قال: "لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكَّة عُمَيّ" أي: وقت الظهيرة1. ووصفوا الجفنة فقالوا: إنها "كانت لابن جدعان في الجاهلية، يطعم فيها الناس، وكان يأكل منها القائم والراكب لعظمها"2. يأكل الراكب منها، وهو على بعيره من عرض حافتها وكثرة طعامها3. وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن، حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت: ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم ... فرأيت أكرمهم بني الديَّان البر يُلْبَك بالشهاد طعامهم ... لا ما يعللنا بنو جدعان فبلغ ذلك عبد الله بن جدعان، فوجه إلى اليمن من جاءه بمن يعمل الفالوذج بالعسل، فكان أول من أدخله بمكة، وجعل مناديا ينادي كل ليلة بمكة على ظهر الكعبة: أن هلموا إلى جفنة ابن جدعان. فقال أمية بن أبي الصلت: له داعٍ بمكة مشمعل ... وآخر فوق كعبتها ينادي4 إلى ردحٍ من الشيزي ملاءٍ ... لُباب البر يلبك بالشهاد5

_ 1 ابن كثير، البداية "2/ 217"، اللسان "10/ 457"، عيون الأخبار "3/ 268", "كتاب الطعام". 2 ابن كثير, البداية "2/ 217"، سمط النجوم "1/ 199"، اللسان "10/ 457". 3 ابن كثير "2/ 229". 4 وفي رواية أخرى: "فوق دارته" بدلًا من "فوق كعبتها"، وهناك اختلافات أخرى في رواية هذه الأبيات وغيرها. 5 البداية "2/ 217"، وذيل الأمالي والنوادر للقالي "38", الأغاني "8/ 329".

ويذكر أهل الأخبار أن "أمية" كان قد أتى "بني الديان" فدخل على "عبد المدان بن الديان" من بني الحارث بن كعب بنجران، فإذا به على سريره وكأن وجهه قمر، وبنوه حوله، فدعا بالطعام، فأُتي بالفالوذج، فأكل طعامًا عجيبًا ثم انصرف فقال في ذلك الشعر المذكور، فلما بلغ شعره "ابن جدعان", أرسل ألفي بعير إلى الشام تحمل إليه البُرَّ والشهد والسمن، وجعل له مناديين يناديان: أحدهما بأسفل مكة والآخر بأعلاها، وكان أحدهما سفيان بن عبد الأسود، والآخر أبا قحافة، وكان أحدهما ينادي: ألا من أراد اللحم والشحم، فليأتِ دار ابن جدعان، وينادي الآخر: إن من أراد الفالوذج فليأتِ إلى دار ابن جدعان. وهو أول من أطعم الفالوذج بمكة1. وذكر "الجاحظ" أن من أشرف ما عرفه أهل مكة من الطعام، هو "الفالوذ", ولم يطعم الناس منهم ذلك الطعام، إلا عبد الله بن جدعان2. ولبعض أهل الأخبار رواية أخرى في كيفية وقوف "ابن جدعان" على الفالوذ "الفالوذج" وإدخاله إلى مكة، وترجع هذه الرواية إلى الفرس، فيقول: وفد "ابن جدعان" على كسرى، فأكل عنده الفالوذ، فسأل عنه فقيل له: هذا الفالوذ، قال: وما الفالوذ؟ قالوا: لُباب البُرِّ يُلْبَكُ مع عسل النحل؛ فأعجبه، فابتاع غلامًا يعرف صنعه، ثم قدم به مكة معه، ثم أمره فصنع له الفالوذ بمكة، فوضع الموائد بالأبطح إلى باب المسجد، ثم نادى مناديه: ألا من أراد الفالوذ فليحضر، فحضر الناس. فكان فيمن حضر أمية بن أبي الصلت3. وذكر أنه كان يضع "الحَيْس" على أنطاع على الأرض ليأكل منها القاعد والراكب, والحيس: الأَقِطُ يخلط بالتمر والسمن. وقد يُجعل عوض الأقِط الدقيقُ والفتيت. وقيل: الحيس: التمر والأقط يُدقان ويعجنان بالسمن عجنا شديدا حتى يندر النوى منه نواةً نواةً، ثم يسوى كالثريد. وهو الوَطْبة أيضا، ألا أن الحيس ريما جعل فيه السويق، وإما الوطبة فلا4.

_ 1 سمط النجوم "1/ 199"، ذيل الأمالي والنوادر "38". 2 البخلاء "210" "طه الحاجري". 3 الأغاني "8/ 329". 4 الجاحظ، الحيوان "3/ 403"، لسان العرب "6/ 61".

ويروي أهل الأخبار أن أهل مكة كانوا يفدون على مائدة "ابن جدعان", وأن رسول الله كان فيمن حضر طعامه1. ورُوِيَ أن الرسول لما أمر بأن يستطلع خبر القتلى من قريش يوم بدر، وأن تلتمس جثة "أبي جهل" في القتلى، قال لهم: " انظروا إن خفي عليكم في القتلى، إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يومًا أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان، ونحن غلامان، وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه، فخدشت ساقه وانهشمت ركبته، فأثرها باقٍ في ركبته ", فوجدوه كذلك2. ويذكر أهل الأخبار أن "عبد الله بن جدعان" كان قد مثل قومه "بني تيم" في الوقت الذي أرسلته قريش إلى "سيف بن ذي يزن"، واسمه "النعمان بن قيس"؛ لتهنئته بظفره بالحبشة، وإخراجهم من وطنه. وكان هذا الوفد في وفود من العرب جاءته لتهنئته، وفيها شعراء وأشراف وسادات قبائل. وقد كان في وفد قريش: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وخويلد بن أسد، ووهب بن عبد مناف. وقد قدمت تلك الوفود إلى صنعاء، ودخلت قصره: قصر غُمدان3. ويروى أن عبد الله بن جدعان كان عقيمًا، لم يولد له ولد4, فتبنى رجلًا سماه "زهيرًا" وكناه "أبا مليكة"، فولده كلهم ينسبون إلى "أبي مليكة", وفقد "أبو مليكة" فلم يرجع5. وكانت له بئر بمكة تسمى "الثريا", وقد ذكر أن "بني تيم" حفروها6.

_ 1 اللسان "10/ 457"، أيام العرب "329". "2/ 217". 2 ابن هشام "2/ 288"، سمط النجوم "2/ 202"، البداية لابن كثير "2/ 217". 3 ابن عساكر, التأريخ الكبير، "1/ 361"، العقد الفريد "2/ 23" "لجنة التأليف" ابن كثير، البداية والنهاية "2/ 328". 4 المحبر "ص97"، "ومن ولده: عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جدعان ... وعلي بن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جدعان", نسب قريش "293". 5 المعارف "ص475"، المحبر "ص307". 6 الحموي، المشترك "87"، البلدان "2/ 77"، الأزرقي، أخبار مكة "440", "لايبزك".

وذكر أن دار عبد الله بن جدعان كانت في "ربع بني تيم"، وكانت شارعة على الوادي.1 وكانت دارا فخمة، وبقيت مشهورة معروفة بمكة حتى بعد وفاته. وبهذه الدار عقد "حلف الفضول"؛ وذلك لشرفه ومكانته بين أهل مكة إذ ذاك, ولثرائه الضخم دخل كبير في ذلك، ولا شك. وقد صنع للمدعوين طعاما كثيرا قدمه إليهم، ثم عقد الحلف. وكان الرسول ممن شهده، وهو ابن عشرين أو خمس وعشرين, وكان يتذكره ويقول: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أُحب أن لي به حمر النعم, ولو دعي به في الإسلام لأجبت "2, أو " أما لو دعيت في الإسلام لأجبت، وأحب أن لي به حمر النعم، وإني نقصتُه وما يزيده الإسلام إلا شدة "3. وقد تكون حلف الفضول من هاشم، و"المطلب"، و"أسد"، و"زهرة"، و"تيم"، وربما من "بني الحارث بن فهر" أيضًا, وهم الذين كونوا حلف المطيبين. ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى أن حلف الفضول, هو استمرار للحلف المذكور, إذ تألف من الأسر التي كانت ألفت ذلك الحلف ما خلا "بني عبد شمس" و"بني نوفل". وكان قد وقع نزاع بين "نوفل" و"عبد المطلب بن هاشم"، فعلَّه كان السبب في عدم انضمام "نوفل" إلى هذا الحلف، وقد تعاون "نوفل"، و"عبد شمس"، ووجدا في استطاعتهما التعاون بينهما من غير حاجة إلى الدخول في حلف الفضول؛ ولهذا لم يكن حلف الفضول في نظر هؤلاء، غير حلف من أحلاف الأسر، ولم يكن على رأيهم لنصرة الضعيف وإنصاف المظلوم، على نحو ما جاء في روايات أهل الأخبار.4

_ 1 أخبار مكة "ص 468" "لايبزك". 2 المقدسي، البدء والتأريخ "4/ 137", تأريخ الخميس "1/ 261"، النويري، نهاية الأرب "6/ 267"، البخلاء "2/ 12", ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "15/ 203"، طبقات ابن سعد "1/ 126، 128"، مروج "4/ 122 وما بعدها" "باريس". 3 النويري، نهاية الأرب "6/ 267"، سمط النجوم العوالي "1/ 190", ابن هشام "1/ 190"، البداية "2/ 291 وما بعدها"، ابن خلدون "القسم الأول، المجلد الثاني ص706 وما بعدها" ابن الأثير، الكامل "ذكر حلف الفضول"، اللسان "11/ 527". 4 Annail I, 164, Watt, Muhammad at Mecca. P. 6,.

وروي أنه لمكانة "عبد الله" التي بلغها عند قومه وعند العرب، كانت العرب إذا قدمت عكاظًا دفعت أسلحتها إليه حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم، ثم يردها عليهم إذا ظعنوا. وكان يحافظ على الأمانات محافظة شديدة، فلما جاءه "حرب بن أمية" صديقه، وهو من وجهاء مكة وأثريائها كذلك، قائلًا له: أحتبس قِبَلَكَ سلاحَ هوازن وذلك يوم نخلة من أيام الفجار الثاني، أجابه ابن جدعان: أبالغدر تأمرني، يا حرب؟ والله لو أعلم أنه لم يبقَ منها سيف إلا ضُربت به، ولا رمح إلا طعنت به، ما أمسكت منها شيئًا. ثم أبى إلا تسليم السلاح إليهم1. وقد أسهم "ابن جدعان" في أيام الفجار، وكان على "بني تيم"2, وأمد قومه بالسلاح والمال, فأعطى مائة رجل سلاحا تاما كاملا وذلك "يوم شمطة", غير ما ألبس من بني قومه والأحابيش3, وحمل مائة رجل على مائة بعير، وقيل: ألف رجل على ألف بعير، وذلك يوم "يوم شرب"4, أو يوم عكاظ5, وله أخ اسمه "كلدة بن جدعان" قتل في الفجار6. وكان "ابن جدعان" يشرب الخمر على عادة الجاهليين في شربها، بقي يشربها حتى كبر فعافها، ودخل فيمن عاف الخمر على كِبَره من سادات قريش وأشرافها. وكان من عادتهم إذا كبروا ولعب بهم العمر، حرموا شرب الخمر على أنفسهم، "ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمر استحياءً مما فيها من الدنس. ولقد عابها ابن جدعان قبل موته"7. ويروون في سبب تركه لها قصتين: قصة تقول: إنه عافها؛ لأنه سكر مرة

_ 1 أيام العرب "329". 2 ابن الأثير، الكامل "1/ 359 وما بعدها"، تأريخ الخميس "1/ 255"، البدء والتأريخ "4/ 134 وما بعدها". 3 ابن الأثير، الكامل "1/ 361"، الصحاح "2/ 778", نهاية الأرب "15/ 427 وما بعدها", أيام العرب "331". 4 سمط النجوم "1/ 196"، نهاية الأرب "15/ 429". 5 أيام العرب "334". 6 نسب قريش "291". 7 الأغاني "8/ 332", نسب قريش "292 وما بعدها".

ففقد رشده فاعتدى على أمية بأن لطم عينه، فندم على ما فعل حين سمع بالخبر، وقال: "وبَلَغَ مني الشراب ما أبلغ معه من جليس هذا المبلغ؟ فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر عليَّ حرام، ألا لا أذوقها أبدًا", ثم قال شعرًا في ذم الخمر وفي وصف حاله إذ ذاك1. ومن الرقيق الذي كان في ملك "ابن جدعان" واكتسب شهرة في الإسلام "صهيب الرومي". بِيعَ في سوق النخاسة، ثم وضع في شراء "ابن جدعان"، وبقي في ملكه إلى أن هلك سيده، ويقال: إنه أعتقه وهو في حياته, وإنه لازمه حتى مماته2. وقد كان "ابن جدعان" يلتزم من يستجير به، ويحمي من يأوي إليه. وكان "الحارث بن ظالم" قاتل "خالد بن جعفر بن كلاب" وهو في جوار ملك الحيرة, في جملة من لجأ إلى "ابن جدعان" حين طلبه ملك الحيرة، وبقي في جواره وبمكة حتى أتاه ملك الحيرة. ويقال: إن "الحارث بن ظالم" قدم على عبد الله بن جدعان بعكاظ، وهم يريدون حرب قيس، فلذلك نكس رمحه، ثم رفعه حين عرفوه وأمن. وكانو إذا خافوا فوردوا على من يستجيرون به، أو جاءوا لصلح، نكسوا رماحهم, ويوم عكاظ من أيام الفجار3. ورجل ثري وجيه له مكانة ومنزلة عند بني قومه، لا بد أن يصير مرجعًا للناس، يرجعون إليه في المنازعات والخصومات، ليحكم بينهم بما لديه من رجاحة عقل وسلطان؛ لذلك كان في جملة حكام العرب الذين تُحُوكِمَ إليهم4. ولأمية بن أبي الصلت شعر في مدح "عبد الله بن جدعان"، نجده في ديوان أمية وفي كتب الأدب. وقد كان من المقربين عند "أبي زهير"5, ومن المكرمين له بسخاء، وكان يعطيه دائمًا. ونجد لأمية شعرًا يطلب فيه من

_ 1 نهاية الأرب "4/ 88". 2 المعارف "264"، أنساب الأشراف "1/ 180". 3 أنساب الأشراف "1/ 42 وما بعدها". 4 البخلاء "ص214". 5 الجاحظ, البيان والتبيين "1/ 17"، الأغاني "8/ 327 وما بعدها".

"ابن جدعان" إعطاءه مالًا1. وكان هلاك "ابن جدعان" قبل سنوات من المبعث2, وذكر "البلاذري" أن هلاكه كان قبل المبعث ببضع عشرة سنة3, ولما مات دفن بمكة4. وذكر في رواية أخرى أنه دفن بموضع "برك الغماد"، وراء مكة بخمس ليالٍ بينها وبين اليمن مما يلي البحر أو بين حلى وذهبان. وفيه يقول الشاعر: سقى الأمطار قبر أبي زهير ... إلى سقف إلى برك الغماد 5 ومن رجال مكة الأغنياء "الأسود بن المطلب" المعروف بـ"أبي زمعة", و"زمعة" ابنه، قُتل يوم "بدر" في جملة من قُتل من رجال قريش, وكان يقال له: "زاد الركب"6. وقد عرف ولده الأسود بـ"زاد الركب" كذلك7. وكان الأسود ممن أدرك أيام الرسول وعارضه, وعده "ابن حبيب" في جملة المستهزئين من قريش بالرسول، وممن مات كافرا بعد أن أصابه العمر8. وكان "الأسود" نديمًا للأسود بن عبد يغوث الزهري, وكانا من أعز قريش في الجاهلية، وكانا يطوفان بالبيت متقلدين بسيفين سيفين, وكانا من المستهزئين بالرسول9. وذكر أن "الأسود بن عبد يغوث" كان إذا رأى المسلمين، قال لأصحابه: "قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى وقيصر. ويقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أما كلمت اليوم من السماء، يا محمد؟

_ 1 أأطلب حاجتي؟ أم قد كفاني ... حياؤك؟ إن شيمتك الحياء ابن عساكر، التأريخ الكبير "3/ 122". 2 الإصابة "2/ 279"، البداية "2/ 218"، تأريخ الخميس "1/ 256", سمط النجوم "1/ 202". 3 أنساب الأشراف "1/ 180". 4 المعارف "ص175". 5 تاج العروس "7/ 107"، "برك". 6 الاشتقاق "ص58"، نسب قريش "218 وما بعدها". 7 المحبر "ص137". 8 المحبر "ص159"، البلاذري، أنساب "1/ 149 وما بعدها". 9 المحبر "174".

وما أشبه هذا القول". مات حين هاجر النبي, ودفن بالحجون1. وكان "زمعة بن الأسود" تاجرًا، متجره إلى الشام. وعرف بالدقة في العمل وفي وضع خطط سفره وتجارته, "فكان إذا خرج من عند أبيه في سفر، قال: أسير كذا وكذا، وآتي البلد يوم كذا وكذا، ثم أخرج يوم كذا وكذا، فلا يخرم مما يقول شيئًا"2. ومن سادات قريش: "يزيد بن زمعة بن الأسود", وكانت إليه المشورة. وذلك أن رؤساء قريش لم يكونوا مجتمعين على أمر حتى يعرضوه عليه، فإن وافقه ولاَّهم عليه، وإلا تخير، وكانوا له أعوانا. وقد أسلم، واستشهد مع الرسول بالطائف3. ويعد حرب بن أمية من وجهاء مكة وسيدًا من سادات كنانة، وكان أمر كنانة كلها إليه يوم شمطة4. واشترك يوم عكاظ، وقيد نفسه ومعه سفيان وأبو سفيان بن أمية بن عبد شمس؛ وذلك كي يثبتوا في أماكنهم ويتقوى بذلك قومهم, فيثبتوا في القتال5. وكان من أثرياء مكة المعروفين. ومن سادات مكة: "هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم" وكان له ولبنيه صيت بمكة وذكر عالٍ6. وذكر أنه كان سيد قريش في دهره، ولما مات صار يوم موته من أيام مكة المشهورة حتى إنهم أرخوا بموته7, ونادى منادي مكة في أمثال هذه المناسبات: "اشهدوا جنازة ربكم", وكان سيدًا مطاعًا8. وظل يوم وفاة "هشام" يومًا يؤرخ به سبع سنين إلى أن

_ 1 البلاذري، أنساب "1/ 131 وما بعدها". 2 المحبر "ص 158 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "1/ 249". 4 أيام العرب "331". 5 أيام العرب "334". 6 الاشتقاق "60". 7 وأصبح بطن مكة مقشعرًّا كأن الأرض ليس بها هشام الاشتقاق "92"، نسب قريش "301". 8 الاشتقاق "63", المحبر "139"، المعارف "32".

كانت السنة التي بنوا فيها الكعبة، فأرخوا بها1. وهو من الرجال الذين نعتوا بين قومهم بـ"زاد الركب"؛ لأنه كان يُقري المسافرين الذين يسافرون معه2. ومن أبناء "هشام بن المغيرة" المذكور "أبو جهل" و"الحارث بن هشام". أما "الحارث بن هشام" فقد عرف بالكرم والجود. ذكر أن داره كانت مفتوحة للضيوف يدخلون, وإذا جفانٍ مملوءة خبزًا ولحمًا, وهو جالس على سرير يحث الناس على الأكل. ويروى أن "أبا ذر" قدم مكة معتمرًا، فقال: "أما من مضيف؟ " قالوا: "بلى كثير, وأقربهم منزلًا الحارث بن هشام". فأتى بابه، فقال: "أما من قِرًى؟ " فقالت له جارية: "بلى". فأخرجت إليه زبيبًا في يدها. فقال: "ولِمَ لَمْ تجعليه في طبق؟ " فعُلم أنه ضيف, وقالت: "ادخل" فدخل, فإذا بالحارث على كرسي وبين يديه جفانٍ فيها خبز ولحم, وأنطاع عليها زبيب. فقال: "أصب" فأكل, ثم قال: "هذا لك". فأقام ثلاثًا ثم رجع إلى المدينة، فأخبر النبي خبره، فقال: "إنه لسري ابن سري, وددت أنه أسلم"3. وكان نديمًا لحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد4. وأما "أبو الحكم: عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن مُرَّة"، فكان من رجال "بني مخزوم" المعدودين ومن المعادين للإسلام، بل كان على رأس أشد الناس عداوةً للرسول، وقد كناه الرسول بـ"أبي جهل" لأنه كان يكنى قبل ذلك بـ"أبي الحكم" فاشتهر بهذه الكنية، حتى لم يعد يعرف إلا بها في الإسلام5. وكان من المقتسمين، وهم سبعة عشر رجلًا من قريش اقتسموا عقاب مكة, فكانوا إذا حضروا الموسم يصدون الناس عن رسول الله, وفيهم نزلت: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} 6.

_ 1 المحبر "139"، الأغاني "15/ 11". 2 الاشتقاق "92". 3 المحبر "ص139 وما بعدها", نسب قريش "301". 4 المحبر "ص176". 5 المحبر "ص139"، البلاذري، أنساب "1/ 125". 6 المحبر "160".

وكان من المطعمين لحرب يوم بدر, نحر عشرًا1. وكان نديمًا للحكم بن أبي العاص بن أمية, و"الحكم" هذا هو الطريد2. وأخبر "ابن الكلبي" أن أخوين من "بني سليم"، دخلا مكة معتمرين, فما وجدا بها شراء ولا قرى، فبينا هما كذلك إذ رأيا قوما بمضون، فسألا: "أين هؤلاء القوم؟ " فقيل لهما: يريدان الطعام. فمضيا في جملتهم حتى أتوا دارًا فولجوها، فإذا رجل آدم، أحول، على سرير وعليه حلة سوداء, وإذا جفانٍ مملوءة خبزا ولحما. فقعدوا فأكلوا, فشبع أحد الأخوين وقال لأخيه: "كم تأكل؟ أما شبعت؟ ". فقال الجالس على السرير: "كُلْ, فإنما جعل الطعام ليؤكل". فلما فرغوا, خرجوا من باب الدار غير الذي دخلوا منه, فإذا هم بإبل موقوفة، فقالوا: "ما هذه الإبل؟ " قيل: للطعام الذي رأيتم. وكان الرجل الجالس على السرير صاحب الطعام, فإذا به أبو جهل بن هشام3. ويظهر أنه كان قاسيًا قسا حتى على النساء، فعذب عددًا منهن بنفسه عذابًا أليمًا. عذب "زنيرة"، وكانت لبني مخزوم حتى عميت، وعذب غيرها حتى هلكت، وممن هلكن "سمية" أم عمار بن ياسر4. وكان يأتي من يسلم، فيكلمه ليفتنه عن دينه: يأتي الرجل الشريف، ويقول له: أتترك دينك ودين أبيك، وهو خير منك؟ ويقبح رأيه وفعله, ويسفه حلمه. وإن كان تاجرًا يقول له: ستكسد تجارتك، ويهلك مالك. وإن كان ضعيفًا, أوصى بمن يعذبه حتى يترك دينه. جاء مرة دار أبي بكر، فلما لم يجده لطم خد أسماء ابنته لطمة طرح قرطها. وكان فاحشًا بذيئًا5. ويذكر أهل الأخبار أنه كان لا يبالي في أكل حقوق الغرباء القادمين إلى

_ 1 المحبر "161". 2 المحبر "ص176". 3 "فاذا هو أبو جهل بن هشام"، هكذا في نهاية الخبر. بينما الخبر يخص الحارث بن هشام، كما جاء في أوله، راجع المحبة "ص139", ويظهر أن مراده من الخبر الثاني الخاص بالأخوين: "أبو جهل"؛ لأنه كان أحول كما هو بهذا الخبر, وقد كان أبو جهل من الحولان الأشراف، المحبر "ص303". 4 ابن الأثير، الكامل "2/ 47 وما بعدها". 5 ابن الأثير, الكامل "2/ 47 وما بعدها".

مكة، فماطل مرة في أثمان إبل اشتراها من رجل من "أراش"، وماطل مرة أخرى في إبل أخذها من رجل من "زبيد"، ولم يدفع أثمانها ولم يعوض عنها إلا بالتجاء الرجلين إلى النبي، فأخذ حقهما منه، وانتصف منه. ويظهر أن "أبا جهل" وإن كان قاسيًا بغيضًا للرسول مؤذيًا له، غير أنه كان يخشاه إذا رآه ووقف أمامه، وأما إيذاؤه له, فكان بانتهاز غفلة يعتدي فيها على الرسول, أو بتحريض غيره للتحرش به1. وعرف "عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية" بالجود، وذكر أنه كان معرقًا به. كان جوادًا ابن جواد ابن جواد ابن جواد2. وكان الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، من أشراف مكة وسادتها, وقد عرف بين قومه بـ"العدل". وذكر أنه إنما عرف بذلك؛ لأنه كان يعدل قريشًا كلها، فكانت قريش تكسو الكعبة جميعها، ويكسوها الوليد وحده، وذلك لثرائه وغناه. قيل: إنه كان له مال وزرع بالطائف، وكان يملك حديقة بها غرس فيها الأشجار والفواكه3, وقد كان لذلك متعاليًا متغطرسًا. فلما أظهر الرسول الإسلام، كان مثل بقية سراة مكة وأغنيائها من المعادين له؛ لأنه أنف أن يتبع رجلًا هو دونه في المال والاسم والثراء, فكافح الإسلام, واستهزأ بالرسول وبالإسلام، وكان أحد "المستهزئين" الذين نزلت بحقهم آيات تعنفهم وتوبخهم وتصفهم بالكفر وبالغرور والاستكبار، وأنه كان يرى أن من الذلة الخضوع للرسول؛ لأنه دونه مالًا ونفرًا4. وقد كان "الوليد" من الحكام الذين تُحُوكِمَ إليهم, وإليه تحاكم بنو عبد مناف في موضوع قتل "خداش" إنسانًا منهم5. وقد عرف بـ"ابن صخرة" نسبة إلى أمه6, وذكر أنه كان في جملة من حرَّم في الجاهلية الخمر على نفسه

_ 1 البلاذري، أنساب "1/ 130". 2 المحبر "ص140 وما بعدها". 3 Ency., Iv, p. 111. 4 تفسير الطبري "5/ 36"، ابن هشام "1/ 72 وما بعدها". 5 المحبر "ص337". 6 المحبر "ص337".

وضرب فيها ابنه هشامًا على شربها1. وقد عده "ابن حبيب" في جملة زنادقة قريش، وذكر أنه وجماعته تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة2، ولم يفسر قصده من الزندقة. ويذكرون أن "الوليد" كان أسنَّ قريش يوم حكم في قضية "خداش"، وحكم فيها بـ"القَسامة"، فكان بذلك أول من سن "القسامة" في قريش3. ومات الوليد بعد الهجرة بثلاثة أشهر أو نحوها، ودفن بالحجون4. وذكر "محمد بن حبيب" أن "أبا أحيحة" كان نديمًا للوليد بن المغيرة, على عادة القوم في اتخاذ الندماء5. وأبو "أحيحة" هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، المعروف بـ"ذي العمامة"؛ لأنه كان لا يعتم أحد بمكة بلون عمامته إعظامًا له6, كما عرف بـ"ذي التاج" وذلك للسبب نفسه7, وقد ذكره "أبو قبيس بن الأسلت" في شعر ينسب إليه8. وكان مثل أكثر رجال تاجرًا, قدم مرة الشام في تجارة، فحبسه "عمرو بن جَفْنَةَ"؛ حبسه مع هشام بن سعد العامري، وبقي في محبسه حتى جاء بنو عبد شمس، فافتدوه بمال كثير9. وكان أبو أحيحة ممن أخذتهم العزة من أشراف مكة، فلم يقبلوا الدخول في الإسلام, وممن أظهر عداوته للرسول، خاصة بعد تحريض النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة له على معاداته. وقد كان مثل سائر أشراف مكة يرى أن الأمر العظيم يجب أن يكون في العظماء, وهو من العصبة التي أشير إليها في هذه

_ 1 المحبر "237". 2 المحبر "161". 3 المحبر "ص337". 4 البلاذري، أنساب "1/ 134". 5 المحبر "174"، البلاذري، أنساب "1/ 134". 6 المحبر "ص165", الاشتقاق "ص49". 7 الطبري "2/ 398"، المحبر "165", البلاذري، أنساب "1/ 141". 8 البيان والتبيين "3/ 97"، البلاذري، أنساب "1/ 141". 9 البيان والتبيين "3/ 97"، الإصابة "3859".

الآية: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ, أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} 1. وقد مات أبو أحيحة بماله في الطائف في السنة الأولى، أو في السنة الثانية من الهجرة, مات كافرًا وقد بني له قبر مشرف. وقد رأى أبو بكر قبره فسبه، فسب ابناه أبا قحافة، فنهى النبي عن سب الأموات؛ لما يثير ذلك من عداوة بين الأحياء، ولما فيه من إهانة للأموات2. وقد ساهم "أبو أحيحة" بثلاثين ألف دينار في رأس مال القافلة التي تولى قيادتها أبو سفيان. ومبلغ مثل هذا ليس بشيء قليل بالنسبة إلى الوضع المالي في تلك الأيام. ومن سادة قريش: الأسود بن عامر بن السبَّاق بن عبد الدار بن قصي3. ومن رجال بني فِهر: ضِرار بن الخطاب بن مرداس بن كبير بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب. وكان فارس قريش في الجاهلية، وأدرك الإسلام. وكان شاعرًا فارسيًّا, وقد أخذ مرباع بني فهر في الجاهلية4. ومن رجال بني عامر بن لؤي: عمرو بن عبد ود بن أبي قيس، كان فارس قريش في الجاهلية، بل فارس كِنانة, قتله علي بن أبي طالب5. ومن "بني عبد ود" سهيل بن عمرو، وكان من رجال قريش في الجاهلية، ثم أسلم، وهو الذي بعثته قريش يحكم الهدنة بينهم وبين النبي, يوم الحديبية6. ومن سادات قريش: قيس بن عدي بن سعد بن سهم. وقد ضرب به المثل في العز حتى قيل: "كأنه في العز قيس بن عدي", وكان يأتي الخمار وبيده مقرعة، فيعرض عليه خمره، فإن كانت جيدة، وإلا قال له: "أجد

_ 1 الزخرف، الرقم 43, الآية 31 وما بعدها، البلاذري، أنساب "1/ 141". 2 الطبري "2/ 398"، أنساب الأشراف "1/ 142". 3 الاشتقاق "ص100". 4 الاشتقاق "ص64". 5 الاشتقاق "ص68". 6 الاشتقاق "ص69".

خمرك، ثم يقرع رأسه وينصرف"1. وذكر أنه كانت له قينتان يجتمع إليهما فتيان قريش: أبو لهب وأشباهه، وهو الذي أمرهم بسرقة الغزال من الكعبة، ففعلوا فقسمه على قيانه، وكان غزالًا من ذهب مدفونًا، فقطعت قريش رجالًا ممن سرقه، وأرادوا قطع يد أبي لهب، فحمته أخواله من خزاعه2. وذكر أن "مقيس بن عبد قيس بن قيس بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم"، هو صاحب قصة الغزال3. وكان "الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم"، أحد المستهزئين المؤذين لرسول الله، وهو "ابن الغيطلة". وهو الذي نزلت فيه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} ، وكان يأخذ حجرًا، فإذا رأى أحسن منه تركه وأخذ الأحسن. وكان دهريا يقول: "لقد غر محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث"4. وممن اشتهر من بني عبد شمس: "عتبة بن ربيعة بن عبد شمس"5، وكان نديمًا لمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف6. أما أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن مناف، ويكنى أيضًا بأبي حنظلة، فكان مثل سائر رجال مكة تاجرًا صاحب أسفار، ثريًّا، جمع مالًا من تجارته. وكان صاحب "عير قريش"، فهو المؤتمن عليها وهو قائدها، وهو رجل جد خبير بالطرق والمسالك. وقد نجح في كل أسفاره، وأوصل تجارة مكة إلى أماكنها سالمة مضمونة، فلم يتمكن المسلمون من مفاجأته وأخذه مع أموال قريش وتجارتهم العظيمة التي تحت قيادته، حينما كان قافلًا من

_ 1 المحبر "ص178"، جمهرة النسب "156". 2 فلذلك يقول بعض شعرائها: همو منعوا الشيخ المنافيَّ بعدما رأى حمة الأزميل فوق البراجم الاشتقاق "76". 3 شرح ديوان حسان "47"، "للبرقوقي". 4 البلاذري، أنساب "1/ 132". 5 المحبر "ص160", ابن هشام، السيرة "2/ 262". 6 المحبر "ص175".

بلاد الشام يريد مكة، إذ أحس بالخطر، فغير طريقه وسلك طريق الساحل, وأفلت مع قافلته ورجالها، وعدتهم سبعون، ووصل إلى مكة سالمًا، فنشبت على أثر ذلك معركة بدر1. وكانت قيادة قريش في الحرب إلى أبي سفيان أيضًا، ورثها من أبيه2. ورجل له فضل قيادة عير قريش، وقيادة مكة في الحرب، لا بد أن يكون في مقدمة سادات مكة وعلى رأس طبقتها المحافظة ذات العنجهية، التي ترى أن لها حق الرئاسة والزعامة والكلمة والرأي. وليس لأحد مكانة إلا إذا كان ذا مال وجاه وحَسَب، وعلى الباقين طاعة السادة، ومراعاة سنن الآباء والأجداد، والإخلاص لعبادة الآباء والأجداد، والدفاع عن آلهة الكعبة التي كانت السبب في إعطاء قريش منزلة خاصة عند العرب. وكان -فضلًا عن هذا وذاك- رجلًا صاحب لسان، ينظم الشعر ويجيد الهجاء, ويحسن النزول إلى أسوأ مستوًى يصل إليه السوقي والحوشة من الإقذاع في الكلام وإلحاق الأذى بالناس. وقد أظهر قابلياته في ذلك في عناده ضد الإسلام, وفي إيذائه الرسول وفي إلحاقه الأذى بالمسلمين, وقد هيأ كل ما عنده من مواهب وكفايات وقدرات مالية لمقاومة الإسلام ولمحاربة الرسول وللقضاء على الدعوة التي جاءت مقوضة لديانة الآباء والأجداد من عبادة الأصنام، ومن المحافظة على العرف، ومن تحطيم الزعامة، والخضوع لحكم الفقراء والرقيق. وفي القرآن الكريم آيات نزلت في حقه، وقد كان من المحرضين العاملين في معركة أحد3. ويذكر أنه ذهب إلى الشام واتصل بـ"هرقل" وأخذ يحرضه على الرسول, ولكن الروم لم يبالوا بتحريضه, فعاد إلى مكة4.

_ 1 الطبري "2/ 131". 2 أخبار مكة "1/ 66". 3 البداية "4/ 9"، "المطبعة السلفية"، اليعقوبي "2/ 35"، الطبري "2/ 157" "الاستقامة" الطبرسي، مجمع "سورة آل عمران، الآية 172". 4 الأغاني "6/ 329"، "بيروت 1956م", تهذيب ابن عساكر "73".

ويُعد "عبد العزى بن عبد المطلب" من هذا الرعيل من وجهاء مكة الذين حاربوا الرسول، ونصبوا له العداوة. كان موسرًا جمع مالًا طائلًا، كما يفهم ذلك من "سورة المسد": {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} . وكان من التجار، له تجارة مع بلاد الشام1, وكان من هؤلاء الذين أبوا التنكر لدين آبائهم وأجدادهم وإطاعة رجل فقير، وهم أكثر منه مالًا وأكبر سنًّا. رُوي أن رسول الله كان بسوق ذي المجاز يقول: "أيها الناس, قولوا: لا إله إلا الله, تفلحوا" وإذا برجل يأتي من خلفه ويرميه بحجارة أدمت ساقيه وعرقوبيه، وهو يقول للناس: إنه كذاب لا تصدقوه2. ويعد "أبو لهب" وهو "عبد العزى" ويكنى أيضا بـ"أبي عتبة"، من هذه الطبقة الوجيهة المعروفة من قريش. وهو عم الرسول3, وكان مع ذلك من الذين حملوا حقدًا شديدًا عليه. وكانت زوجته تحرضه على معاداته وإيذائه، وفي حقهما نزلت سورة "تبت", وهي السورة الحادية عشرة من السور التي نزلت بمكة على رأي أكثر العلماء. وكان بيته في جوار بيت رسول الله, فذكر أن رسول الله قال: "كنت بين شر جارين: بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط, إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحونها في بابي". وكان النبي يقول: "يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟ " ثم يميطه عن بابه4. ويذكر أهل الأخبار أن هنالك عشرة أبطن من بطون قريش انتهت إليها الشرف في الجاهلية، ووصل في الإسلام، وهم: أمية، ونوفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي، وجمح، وسهم5.

_ 1 حاشية الشهاب "8/ 409". 2 الطبرسي "10/ 559". 3 ابن أبي الحديد "1/ 89". 4 البلاذري، أنساب "1/ 131". 5 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".

كسب مكة

كسب مكة: ومكة كما ذكرت بلد في وادٍ غير ذي زرع؛ لذلك كان عماد حياة أهلها التجارة, والأموال التي تجبى من القوافل القادمة من الشام إلى اليمن والصاعدة من اليمن إلى الشام، وما ينفقه الحجيج القادمون في المواسم المقدسة؛ للتقرب إلى الأصنام, وهناك مورد آخر درَّ على أثرياء هذه المدينة المقدسة ربحًا كبيرًا، هو الربا الذي كانوا يتقاضونه من إيداع أموالهم إلى المحتاجين إليها, من تجار ورجال قبائل. ولقد استفادت مكة كثيرًا من التدهور السياسي الذي حل باليمن، ومن تقلص سلطان التبابعة، وظهور ملوك وأمراء متنافسين، إذ أبعد هذا الوضع خطر الحكومات اليمانية الكبيرة عنها، وكانت تطمع فيها وفي الحجاز؛ لأن الحجاز قنطرة بين بلاد الشام واليمن، ومن يستولي عليه يتصل ببلاد الشام وبموانئ البحر الأبيض المهمة. وأعطى تدهور الأوضاع في العربية الجنوبية أهل مكة فرصة ثمينة عرفوا الاستفادة منها, فصاروا الواسطة في نقل التجارة من العربية الجنوبية إلى بلاد الشام، وبالعكس، وسعى تجار مكة جهد إمكانهم لاتخاذ موقف حياد تجاه الروم والفرس والحبش، فلم يتحزبوا لأحد، ولم يتحاملوا على طرف، وقوَّوْا مركزهم بعقد أحلاف بينهم وبين سادات القبائل، وتوددوا إليهم بتقديم الألطاف والمال إليهم؛ ليشتروا بذلك قلوبهم. وقد نجحوا في ذلك، واستفادوا من هذه السياسة كثيرًا. وفي القرآن إشارة إلى تجارة مكة، وإلى نشاط أهلها ومتاجرتهم مع الشام واليمن: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} 1. قال المفسرون: إن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن، أما رحلة الصيف فكانت إلى بلاد الشام، وإنهم كانوا يجمعون ثروة طائلة من الرحلتين تدرُّ على قريش خيرًا كثيرًا، وتعوضهم عن فقر بلادهم. ويظهر أن أهل هذه المدينة كانوا يسهمون جميعًا في الاتجار, فيقدم المكي

_ 1 سورة قريش، الآية الأولى والثانية.

المتمكن كل ما يتمكن تقديمه من مال ليستغله ويأتيه برزق يعيش عليه؛ ولذلك يعد رجوع القافلة آمنة مطمئنة بُشرى وسرورًا للجميع. وقد أدى نشاط بعض أسر مكة في التجارة إلى حصولها على ثروات كبيرة طائلة، وقد أسهم رجل واحد من أهل هذه المدينة هو "أبو أحيحة", بثلاثين ألف دينار في رأس مال القافلة التي تولى قيادتها أبو سفيان. ومبلغ مثل هذا ليس بشيء قليل بالقياس إلى الوضع المالي في تلك الأيام, كذلك كان "عبد الله بن جدعان" و"الوليد بن المغيرة المخزومي" من أثرياء مكة، وقد اشتهر بنو مخزوم بالثروة والمال. وكانت لأسر مكة تجارات خاصة مع العراق وبلاد الشام واليمن ومواضع من جزيرة العرب, تجارات لا علاقة لها برحلتي الشتاء والصيف، وكان لبعضها تجارة مع الأنبار والحيرة في العراق، وكان لبعض آخر تجارة مع "بصرى" و"غزة" وأذرعات في بلاد الشام, وكان لآخرين تجارة مع بلاد اليمن, وكان للأسر الغنية الثرية اتصال تجاري مع كل هذه المواضع, وتعاملت مع كل الأماكن المذكورة، ولها وكلاء يبيعون لها ويشترون, كما كانت هي تتوكل لتجار العراق وبلاد الشام واليمن، وتجني من هذا التعامل أرباحًا طيبة. وقد تحدثت عن النزاع الذي كان قد نشب بين أهل مكة و"أبرهة"، وهو نزاع ذو طبيعة سياسية في الأغلب، وإن جعله أهل الأخبار ذا طبيعة دينية. والأغلب أن الروم حثوا أبرهة على السير إلى مكة والاتجاه منها نحو الشمال، للاتصال ببلاد الشام، والاستيلاء بذلك على العربية الغربية، وبذلك يكون لهم سلطان على القسم الغربي من جزيرة العرب، فيأمنون على مصالحهم الداخلية وينزلون بذلك ضربة كبيرة بأعدائهم الساسانيين, وبمن كان يساعدهم من سادات قبائل1. ولكن أخفق التدبير، ورجع "أبرهة" خائبًا لم يحقق شيئًا. وأدى استيلاء الفرس على اليمن إلى حدوث تطور في علاقات أهل مكة بالفرس وبالروم. وقد أخذ الفرس يتدخلون في تجارة العربية الجنوبية، فصاروا يرسلون ببضائع من أسواق العراق إلى اليمن، ويأخذون في مقابلها بضائع من أسواق

_ 1 Ency., III, p. 440.

إفريقيا والعربية الجنوبية، كما أخذ ملوك الحيرة يرسلون بـ"لطائمهم" إلى اليمن للبيع والشراء. وقد أثر هذا الوضع في تجارة أهل مكة أثرًا كبيرًا، إذ انتزع الفرس وملوك الحيرة من أيديهم قسطًا من أرباحهم، وربما لا يبعد أن يكون الهجوم الذي وقع على "لطيمة" "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، بتشجيع من أهل مكة، ذلك الهجوم الذي عرف بـ"الفجار"؛ وذلك للإضرار بالفرس وبملوك الحيرة, ولتخويف القوافل التي صارت تسلك طريق "الطائف"، ثم منها إلى مواضع في البادية إلى الحيرة متجنبة طريق مكة1. وكانت "الشعيبة" ميناء مكة، إليها ترد السفن قبل جُدَّة، ثم أخذت جدة موضعها في أيام الخليفة عثمان بن عفان2. وقد قصدت ميناء "الشعيبة" سفن الروم وسفن الحبش، إذ كانت السفن القادمة من إفريقيا، لبيع تجارتها لأهل مكة، ترسو في هذا الميناء. ويظهر من كتب أهل الأخبار أن تجار مكة لم يكونوا يملكون سفنًا خاصة بهم لنقل تجارتهم إلى موانئ إفريقيا، أو لنقل ما يشترونه من الموانئ الإفريقية لتصريفه في أسواق العراق أو أسواق بلاد الشام، فنحن لا نكاد نجد في هذه الكتب شيئًا يفيد أن أهل مكة كانوا يملكون سفنًا يسيرها بحارة منهم. بل نجد أنهم كانوا يركبون سفنًا حبشية عند ذهابهم إلى الحبشة، وهي سفن لم تكن شيئًا بالقياس إلى سفن الروم في ذلك العهد. ولمركز مكة ونشاطها في التجارة، توافد عليها أيضًا تجار من الخارج من بلاد الشام ومن العراق ومن بلاد الروم والفرس وغيرهم. ساكنوا المكيين، وتحالفوا مع أثريائهم، ومنهم من أقام فيها في مقابل دفع جزية لحمايته ولحفظ أمواله وتجارته. وكان تجار بلاد الشام خاصة يجلبون القمح والزيوت والخمور الجيدة إلى تجار مكة, وقد اتخذوا مستودعات فيها لخزن بضاعتهم هذه ولتصريفها.

_ 1 الأزرقي، أخبار مكة "128"، المرزوقي، الأزمنة والأمكنة "2/ 161", الأغاني "6/ 64", "بيروت 1956م", صبح الأعشى "1/ 201 وما بعدها". 2 البلدان "5/ 276", Ency., lll, p. 440.

ولا يستبعد "أوليري" أن يكون من بين تجار الروم في مكة من كان عينًا للبيزنطيين على العرب، يتجسس لهم، ويتسقط أخبارهم، ويكتب لهم عن صلاتهم بالفرس، وعن أنباء الفرس في جزيرة العرب واتصالهم بالقبائل, لشدة حاجة الروم إلى تلك الأخبار، لإفساد خطط الفرس وإبعادهم عن بلاد العرب وعن البحار، والعالم يومئذ معسكران متخاصمان: معسكر للروم، ومعسكر للفرس1. وقوم هم أصحاب تجارة واتصال بالعالم الخارجي بحكم اتجارهم معه، وذهابهم إليه، لا بد أن يكون لهم اهتمام بما كان يجري ويقع في السياسة الدولية. وكان لهم علم بما يحدث بين الفرس والروم، وبين الحبش وأهل اليمن؛ لأن لما يحدث علاقة كبيرة بتجارتهم وبالأسواق التي كانوا يخرجون إليها للبيع والشراء. ونجد في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك, فلما وقعت الحرب بين الفرس والروم، هذه الحرب التي استولى فيها الفرس على القدس، وعلى "الصليب" المقدس عند النصارى، كان اهتمام مكة بها كبيرًا, وانقسم أهل مكة فريقين: مؤيد للروم، ومؤيد للفرس، مما يدل على وقوف أهل مكة على ما كان يقع في الخارج، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة "الروم". وقد كان المكيون يهتمون اهتمامًا خاصًّا بما كان يقع في بلاد الشام وفي اليمن من أحداث، إذ كانت تجارتهم مرتبطة بهذه البلاد بالدرجة الأولى، فما يقع فيها يؤثر تأثيرًا مباشرًا في تجارتهم، ولذلك حاولوا جهد إمكانهم إنشاء صلات حسنة مع الحاكم على بلاد الشام والحاكم على اليمن, كما كان من مصلحة الروم مصالحة حكام العربية الغربية وترضيتهم؛ ليأمنوا بذلك على سلامة تجارتهم في البحر الأحمر، وعلى وصول بضائع إفريقيا والبلاد العربية الجنوبية والهند إليهم عند تعسف الفرس بالتجارة البرية التي كانت تأتي من الهند ومن الصين لتباع في بلاد الروم، وعند نشوب الحرب، وهي متوالية كثيرة فيما بينهما، فتنقطع التجارة عندئذ بينهما، وترتفع الأسعار. أما التجارة عن طريق العربية الغربية، فلم تكن تصاب بأذى الحروب وبالنزاع بين الفرس والروم؛ لأنها كانت بعيدة عن ساحة الحروب، وهي في مأمن من الغارات.

_ 1 Oleary, p. 184.

ويظهر من روايات أهل الأخبار أن سادات مكة والمواضع الأخرى من الحجاز كانوا يتوددون إلى الروم وإلى حكام اليمن ليمكِّنوهم من التحكم في شئون مواطنيهم وللسيادة عليهم, وقد روى "ابن قتيبة" أن قصيًّا" استعان بـ"قيصر" في نزاعه مع خزاعة1. وقد تكون مساعدة قيصر له، بإشارته على الغساسنة حلفاء الروم لتقديم العون إليه، ويجوز أن يكون "بنو عذرة" وهم من العرب النصارى النازلين في أطراف بلاد الشام قد ساعدوه بطلب من الروم2. ولا يستبعد أن يكون تجار اليمن في أيام قصي وبعد موته كانوا يأتون بتجارتهم إلى "مكة"، ثم يقوم تجار مكة بنقلها إلى بلاد الشام، أو بشرائها من تجار اليمن، ثم يقومون هم ببيعها على حسابهم في "بُصْرَى" أو غزة من بلاد الشام. وقد كان يقع اختلاف في بعض الأحيان بين تجار اليمن وتجار مكة، وقد يقع اعتداء على تجار اليمن فيصادر بعض أهل مكة أموالهم ويغتصبونها، كالذي حدث لتاجر من تجار اليمن، مما حداه بالاستجارة بأشراف مكة وسادتها لإنصافه، وأدى الحال إلى عقد حلف الفضول3. ولطبيعة أهل مكة المستقرين التجار، لزم الابتعاد عن الحروب وعن خلق المشكلات، وحل كل معضلة بالمفاوضات أولًا وبالسلم, كما سعت للاتفاق مع القبائل المجاورة على محالفتها ومهادنتها. وقد أفادت هذه السياسة قريشًا كثيرًا، فظهرت زعامة مكه على القبائل بعد تدهور ملك حمير في السياسة وفي الدين والاقتصاد, ولارتفاع مستوى مكة الثقافي بالنسبة إلى الأعراب، ولزعامتها الدينية على القبائل المجاورة لها، ولاتصال سادتها بالعالم الخارجي، ولوجود جاليات أجنبية فيها طورت حياتها الاقتصادية والصناعية مما جعل القبائل تعترف لها بالتفوق عليها، وتسير في ركابها، وتتبع تقويمها، وتحضر في مواسمها، حتى صارت مكة عند ظهور الإسلام القاعدة للغربية العربية والزعيمة لها، ولذلك كانت رمز مقاومة الإسلام، والحصن العتيد المقاوم له. فلما دك هذا الحصن، دكت المقاومة دكا، واستسلمت المواضع والقبائل للإسلام دون مقاومة تذكر4.

_ 1 المعارف "ص313". 2 Lammens, Mecque, 269, Watt, Muhammad at Mecca, P. 13. 3 Watt, Muhammad at Mecca, P. 13. 4 Wellhausen, Reste, S. 92.

وبلد مثل مكة فيها تجار وتجارة ورقيق وغنى وفقر وراحة وأصنام وعبادة وحجاج يأتون للتقرب إلى الأصنام، لا بد أن يضع أهله لهم وللقادمين إليه أنظمة وقوانين لتنظيم الحياة، وتأمين الأمن وحفظ الحقوق وحماية من يفد إليه من الأذى؛ لدوام مجيء الحاج إليه على الأقل. فالكعبة، وهي بيت الأصنام، أرض حرام لا يجوز البغي فيها، ولا المعاصي واقتراف الآثام. والمدينة, وهي في جوار البيت ذات حرمة وقدسية، ودار الندوة دار مشورة وحكم وزعامة. وسكان البلد الحرام هم في حمى البيت وفي جواره، ولا بد من إنصافهم وإحقاق حقهم. ولإنصافهم ودفع الأذى عن فقيرهم، عقد حلف الفضول، وتعهد سادات مكة بالدفاع عمن يستجير بهم، وبتأديب من يتجاسر منهم على العرف والسنة؛ وبذلك جعلوا مكة بلدًا آمنًا مستقرًّا في محيط تتعارك فيه الأمواج. ولسياسة أهل مكة القائمة على المسالمة وحل الخلاف بالتشاور والتفاوض، رميت قريش البواطن، وهم غالبية أهل المدينة, بعدم القدرة على القتال وبالاتكال على غيرهم في الدفاع عن بلدهم، وباعتمادهم على الأحابيش وعلى قريش الظواهر وعلى القبائل المحالفة لهم في الدفاع عن مكة. ولم تكن مكة وحدها بدعًا في هذا الأمر، إذ كان أهل يثرب وأهل الطائف وسائر أهل القرى والمدر مثل أهل مكة، غير ميالين إلى الغزو والقتال، ولهم حبال وأحلاف مع القبائل الساكنة بجوارهم، لمنع تعدياتهم عليهم، ولمنع من يطمع فيهم من تنفيذ ما يريد.

الرقيق

الرقيق: وقد كانت بمكة جالية كبيرة من أصل إفريقي عرفت بـ"الأحابيش"، وهم سود البشرة، اشتراهم أثرياء مكة للعمل لهم في مختلف الأعمال ولخدمتهم. وقد كان هذا الرقيق ضرورة لازمة لاقتصاد مكة ولنظامها الاجتماعي في ذلك الزمن, فقد كان يقوم مقام الآلة في خدمة التاجر وصاحب العمل، فكان مصدرًا من مصادر الثروة، وآلة مسخرة تخدم سيدها بأكل بطنها، كما كان سلاحًا يستخدم

للدفاع عن السادة في أيام السلم, وفي أيام الحرب1. وقد سبق أن أشرتُ إلى وجود "أحابيش" بين أهل مكة، زعم الإخباريون أنهم عرب، وأنهم إنما عرفوا بالأحابيش؛ لأنهم تحابشوا, أي: تحالفوا وتعاهدوا على التناصر والتآزر عند جبل "حبشي"، فهم على زعم هؤلاء الإخباريين أحابيش آخرون لا صلة لهم بالأحابيش الذين أتحدث عنهم. وقد أشار أهل الأخبار إلى أن قومًا من أشراف مكة تزوجوا حبشيات, فأولدن لهم أولادًا. ذكروا منهم "نضلة بن هاشم بن عبد مناف" و"نفيل بن عبد العزى" و"عمرو بن ربيعة" و"الخطاب بن نفيل" والد "عمر بن الخطاب", ويذكر أن "ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري" عيَّر "عمر بن الخطاب" فقال له: يابن السوداء, فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} 2, و"عمرو بن العاص" وجماعة آخرين3. وقامت بخدمة قريش طائفة أخرى من الآلات الحية، هي أدق عملًا وأحسن خدمةً وأرقى في الإنتاج من الطائفة الأولى: الأحابيش، استوردت من الشمال من بلاد الشام والعراق، هي الأسرى البيض الذين كانوا يقعون في أيدي الروم أو الفرس أو القبائل المغيرة على الحدود، فيباعون في أسواق النخاسة, ومنها ينقلون إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب للقيام بمختلف الأعمال. يضاف إلى هؤلاء، الرقيق المستورد من أسواق أوروبا، لبيعه في أسواق الشرق، وأسعار هذه البضاعة وإن كانت أغلى ثمنًا من أسعار البضاعة المستوردة من إفريقيا، إلا أن الجودة في الإنتاج والتفنن فيه، والبراعة في الصناعات التي لا تعرفها بضاعة الجنوب تعوِّض عن هذا الفرق.

_ 1 راجع مقال الأب لامانس في مجلة المشرق، السنة الرابعة والثلاثون "1936" "ص1 وما بعدها", "ص527 وما بعدها", وعنوانه: "الأحابيش والنظام العسكري في مكة". 2 الحجرات, الآية 11. 3 المحبر "ص306", "أبناء الحبشيات".

ومن جملة ما وُكل إلى رقيق العراق وبلاد الشام والروم وغيرهم من ذوي البشرة البيضاء من أعمال, إدارة المبيعات، والقيام بالحرف التي تحتاج إلى خبرة ومهارة وفن، وهي من اختصاص أهل المدن والمستقرين, مثل: أعمال البناء والتجارة والأعمال الدقيقة. وهذه البضاعة التي استوردتها قريش إلى مكة -وإن كانت تابعة، تُؤْمَرُ فتفعل، وتُكَلَّفُ فتستجيب- كانت بضاعة حية، لها قلب نابض، ودماغ يعمل، ولحم ودم، ولبعضها علم وفهم ومعرفة تفوق معرفة أصحابها المالكين لها. فبضاعة هذا شأنها لا بد أن تترك أثرًا في البيئة التي استوردت إليها. والإخباريون الذين هم مرجعنا الوحيد في رواية أيام الجاهلية قبيل الإسلام، وإن لم يحدثونا عن أمر هؤلاء القوم في نفوس ساداتهم والذين اختلطوا بهم، نستطيع بالاعتماد على نقد بعض النتف من رواياتهم أن نصل إلى هذه النتيجة التي هي شيء طبيعي وأمر ليس بغريب؛ نتيجة تقول: إن هذه البضاعة تركت في نفوس أهل مكة وفي نفوس العرب الآخرين ممن كان لهم رقيق، أثرًا ليس إلى إنكاره من سيبل، وإن بعض المصطلحات الفارسية والرومية والحبشية التي كانت معروفة عند العرب قبيل الإسلام، والتي أكدوا هم أنفسهم أنها لم تكن عربية، ولا سيما ما كان يتعلق منها بالصناعات والأعمال التي يأنف العربي من الاشتغال بها، إنما دخلت لغتهم وشاعت بينهم من طريق هؤلاء1. وقد كان أغلب الرقيق الأبيض على النصرانية، وقد ذكر الإخباريون أسماء لبعضهم من نزلاء مكة تشير بوضوح إلى تنصرهم. وقد كان فيهم من يتقن العربية، ويعبر عن أفكاره بها تعبيرًا صحيحًا واضحًا, وفيهم من لا يفقه هذه اللغة؛ لأنه حديث عهد بها، فكان يتكلم بلسان أعجمي أو بعربية ركيكة، ومنهم من كان يتباحث في أمور الدين ويشرح لمن يجالسه ما جاء في ديانته وفي كتبه المقدسة. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في الآيات: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ

_ 1 صحيح مسلم: "2/ 189", أسد الغابة "5/ 579", المشرق, السنة "35" "1937" "82".

مُبِينٌ} 1. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا, وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2. وقال "ابن هشام" في تفسير الآية: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} : "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني، كثيرًا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني، يقال له جبر، عبد لبني الحضرمي، وكانوا يقولون: والله ما يعلِّم محمدًا كثيرًا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بني الحضرمي، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ....} "3. وهناك أشخاص آخرون كانوا موالي لا يحسنون العربية ولا يجيدون النطق بها4. وروي عن "عبد الله بن مسلم الحضرمي" أنه "قال: كان لنا عبدان أحدهما يقال له يسار، والآخر يقال له جبر، وكانا صيقلين, فكانا يقرآن كتابهما ويعملان عملهما, وكان رسول الله يمر بهما فيسمع قراءتهما, فقالوا: إنما يتعلم منهما, فنزلت: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُون} "5. وأشير إلى غلام آخر كان بمكة، اسمه "بلعام"، وكان قينًا، ذكر أن الرسول كان يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنه كان يتعلم منه، وقيل: إن ذلك الرجل الذي قال أهل مكة: إن الرسول كان يتعلم منه، اسمه "أبو اليسر"، وكان نصرانيًّا6. وفي جملة من أشار إليهم أهل اليسر من النصارى الذين كانوا بمكة, رجل اسمه "نسطاس"، وكان من موالي "صفوان بن أمية"7, ونسطور الرومي،

_ 1 النحل 16, الآية 103. 2 الفرقان، الآية 4 وما بعدها. 3 ابن هشام: السيرة "ص260". 4 الواحدي: أسباب النزول "212"، أسد الغابة "3/ 131"، "5/ 194، 462". 5 الإصابة "1/ 222". 6 الإصابة "1/ 165". 7 الأغاني "4/ 42"، ابن هشام, السيرة "640"، أسد الغابة "2/ 240"، المشرق, السنة الخامسة والثلاثون، "1937م" "ص88".

ويوحنا مولى صهيب الرومي، وصهيب الرومي نفسه، وهو من الصحابة، جاء من بلاد الشام، ونزل بمكة، وتشارك مع مثري قريش عبد الله بن جدعان, ثم استقل عنه، وصار ثريا من أثرياء مكة. ثم دخل في الإسلام1, ومنهم مولى يوناني تزوج سمية أم بلال2. وقد بقي نفر من النصارى محتفظين بدينهم بمكة في أيام الرسول3. وفي حديث الإخباريين عن بناء الكعبة أن قريشًا استعانت بعامل من الروم، أو من الأقباط اسمه باقوم، كان نجارًا مقيمًا بمكة، في تسقيف البيت. وفي حديث آخر لهم: إن هذا الرجل كان في سفينة جهزها قيصر الروم لبناء كنيسة, وقد شحنها بالرخام والخشب والحديد، فجنحت عند "الشعيبة" فاستعانت قريش بما تبقى من أخشابها وبخبرة هذا الرومي في تسقيف البيت4. وقد دعى بـ"بلقوم الرومي" أيضًا5. وفي كتب السير وكتب تراجم الصحابة أسماء جوارٍ يونانيات أو من بلاد الشام أو من العراق، وقد تزوجن في مكة ونسلن ذرية كانوا فيها قبل الإسلام, وقد كان منهن في مواضع أخرى من جزيرة العرب بالطبع. ويعود قسط كبير من وجود الكلمات الحبشية والرومية والفارسية في العربية إلى الرقيق الأسود والأبيض. وهذه الكلمات هي مسميات لأمور غريبة عن العربية لم يكن لأهل مكة ولا لغيرهم علم بها، فاستعملوها كما وردت وأخذت، أو صقلت حتى لاءمت اللسان العربي، كما حدث ويحدث في اللغات الأخرى، وعربت وصارت من ألفاظ العربية، وقد لاحق قسمًا منها علماء اللغة، فوضعوا فيها كتبًا بحثت في تلك المعربات، وفي القرآن الكريم طائفة منها لم يغفل عنها أرباب اللغة والمفسرون6.

_ 1 ابن هشام "321". 2 المشرق، الجزء المذكور "ص89". 3 "ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نصراني بمكة دينارًا كل سنة"، كتاب الخراج ليحيى بن آدم "53"، ابن سعد، الطبقات "1/ 39", المشرق, الجزء المذكور "ص95". 4 الطبري "2/ 200", السيرة الحلبية "1/ 143"، الإصابة "1/ 136 وما بعدها ", Ency., III, P. 584. 5 الإصابة "1/ 166". 6 المعرب، للجواليقي.

أغنياء ومعدومون

أغنياء ومعدومون: كان أهل مكة بين غني مُتْخَم وفقير معدم, وبين الجماعتين طبقة نستطيع أن نقول: إنها كانت متوسطة. وأغنياء مكة، هم أصحاب المال، وقد تمكنوا من تكثيره بإعمال ما عندهم من مال بالاتجار وبإقراضه للمحتاج إليه، وبإعماله بالزراعة، واستغلاله بكل الطرق المربحة التي يرون أنها تنفحهم بالأرباح. وقد تمكن هؤلاء الأغنياء من بسط سلطانهم على قبائل الحجاز، ومن تكوين صلات وثيقة مع أصحاب المال في العربية الجنوبية وفي العراق وبلاد الشام، بحيث كانوا يتصافقون في التجارة ويشاركونهم في الأعمال، حتى صاروا من أشهر تجار جزيرة العرب في القرن السادس للميلاد. ويظهر مما جاء في القرآن الكريم أن بعض هؤلاء الأغنياء كان قاسيًا، لم تدخل الرحمة ولا الشفقة قلبه. فكان يقسو على المحتاج، فلا يقرضه المال إلا بربا فاحش وكان يشتط عليه. وكان بعضهم لا يتورعون من أكل أموال اليتيم والضعيف، طمعًا في زيادة ثرائه، وكان يستغل رقيقه استغلالًا شنيعًا، حتى إنه كان يكره فتياته على البغاء ليستولي على ما يأتين به من مال. وفي ذلك نزل النهي عنه في الإسلام: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1. قال "الطبري": "كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا, يأخذون أجورهن. فقال الله: لا تكرهوهن على الزنا من أجل المنالة في الدنيا, ومن يكرههن, فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن, يعني: إذا أكرهن" وقال: "كانوا يأمرون ولائدهم يباغين، يفعلن ذلك، فيصبن فيأتينهم بكسبهن". وروي أن هذه الآية نزلت في حق "عبد الله بن أبي سلول"2.

_ 1 النور الآية 33. 2 تفسير الطبري "18/ 103 وما بعدها"، سورة النور.

وكان من أغنياء مكة من يأكل بصحاف من ذهب وفضة، ويشرب بآنية من ذهب وفضة ومن بلور، ويأكل على طريقة الروم والفرس بسكاكين وشوكات مصنوعة من ذهب أو من فضة, على حين كان أكثر أهل مكة فقراء لا يملكون شيئًا, وكانوا يلبسون الحرير، ويتحلون بالخواتم المصنوعة من الذهب، تزينها أحجار كريمة. ولعل هذا الإسراف والتبذير كانا في جملة العوامل التي أدت إلى منع المسلمين من استعمال الأواني المصنوعة من الذهب والفضة للأكل والشرب، ومن صدور النهي من استعمال الحرير للرجال1. وقد حرص هؤلاء الأغنياء على إكثار أموالهم, وعلى توسيع تجارتهم، لذلك كانت هجرة الرسول إلى يثرب وتحرش المسلمين بقوافلهم الذاهبة الآيبة بين بلاد الشام ومكة لطمة كبيرة أصابتهم. لقد اجتمع ملؤهم بعد وقعة بدر للتداول في أمرهم. فقال قائل منهم: "قد عور علينا محمد مَتْجَرنا وهو على طريقنا. وقال أبو سفيان وصفوان بن أمية: إن أقمنا بمكة أكلنا رءوس أموالنا. قال زمعة بن الأسود: فأنا أدلكم على رجل يسلك بكم النجدية، لو سلكها مغمض العينين لاهتدى. قال صفوان: من هو, فحاجتنا إلى الماء قليل, إنما نحن شاتون؟ قال: فرات بن حيان، فدعواه فاستأجراه، فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم على ذات عرق، ثم خرج بهم على "غمرة"، وانتهى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر العير وفيها مال كثير, وآنية من فضة حملها صفوان بن أميه، فخرج زيد بن حارثة فاعترضها، فظفر بالعير، وأفلت أعيان القوم، فكان الخمس عشرين ألفًا، فأخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقسم أربعة الأخماس على السرية، وأتى بفرات بن حيان العجلي أسيرًا، فقيل: إن أسلمت لم يقتلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلم، فأرسله"2. وقد عرفت هذه الغزوة بـ"غزوة القردة", وقد كانت في السنة الثالثة من الهجرة. وقد أشير في ديوان "حسان بن ثابت" إلى "فرات" هذا, كما أشير

_ 1 شمس العلوم "جـ1, قسم 2, ص293". 2 الطبري "2/ 492"، "دار المعارف"، الاشتقاق "208"، البلاذري، أنساب "1/ 374".

إلى رجل آخر هو "قيس بن امرئ القيس العجلي"، استأجرته قريش كذلك؛ ليكون لها دليلًا يهدي قوافلها الطريق1. وقد كانت قريش، كما كان غير قريش، ومنهم المسلمون يستعينون بالأدلاء لإرشادهم الطرق، ولا سيما في أيام الخطر. وأيام جزيرة العرب كلها خطر دائم بالنسبة للتجار, لما كانوا يحملونه معهم من أموال، تسيل لعاب الطامعين في المال، وتنسيهم كل عهد وموثق. لذلك كانوا يتحسسون جهدهم الطرق، ولا يسيرون إلا في الطرق الآمنة التي يوثق من ذمم أصحابها ومن قدرة سادتها على ضبطها وعلى إنزال أقصى العقوبة بالخلعاء وبالخارجين على الطاعة والعرف, ويستأجرون الأدلاء أصحاب العلم والدراية العملية بالطرق وبمخارجها وبكيفية الخروج من مآزقها ومهالكها وأخطارها، ينفقون معهم على إرشادهم، على أن يكون لهم أجر حسن إن نجت القافلة من الخطر ووصلت سالمة إلى مكانها المقصود. وقد استغل تجار مكة أموالهم في الخارج، وامتلكوا الضياع، فامتلك "أبو سفيان بن حرب" أيام تجارته إلى الشام في الجاهلية ضيعة بالبلقاء تدعى بقبش، فصارت لمعاوية وولده2. ولم يبالِ رجال مكة من الاشتغال بالصناعات، فقد اشتغل قوم منهم بالبزازة، واشتغل بعض منهم بالخياطة، فكان "العوام أبو الزبير خياطًا" و"كان الزبير جزارًا، وكان عمرو بن العاص جزارًا، وكان عامر بن كريز جزارًا، وكان الوليد بن المغيرة جزارًا، وكان العاص بن هشام أخو أبي جهل حدادًا، وكان عقبة بن أبي معيط خمارًا، وكان عثمان بن أبي طلحة الذي دفع إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفتاح البيت خياطًا، وكان قيس بن مخرمة خياطًا، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم, وكان عتبة بن أبي وقاص أخو سعد نجارًا، وكان أمية بن خلف يبيع البرم، وكان عبد الله بن جدعان نخاسًا، له جوارٍ يساعين ويبيع أولادهن، وكان العاص بن وائل أبو عمرو بن العاص يعالج الخيل والإبل, وكان النضر بن الحارث بن كلدة

_ 1 ديوان حسان "295"، "البرقوقي"، "ص38"، "هرشفلد". 2 البلاذري، فتوح "125".

يضرب بالعود ويتغنى، وكان الحكم بن أبي العاص أبو مروان بن الحكم حجامًا, وكذلك حريث بن عمرو"1. وإذا صح ما ذكرته من كلام نقلته من "الأعلاق النفيسة" لابن رستة, فإن ذلك ينفي ما يذكره أهل الأخبار من عدم وجود "نجار" في مكة كالذي ذكروه من عدم وجود نجار بها يوم جددوا بناء الكعبة، فحاروا في كيفية العثور على نجار يقوم بتسقيف البيت، وبقوا في حيرتهم حتى اهتدوا إلى رومي تحطمت سفينته عند الساحل، فجاءوا به وبخشب سفينته فسقف الرومي "باقوم" لهم عندئذ الكعبة. وتنفي رواية "ابن رستة" ما ذكره غيره من ترفع ذوي الأسر من قريش من الاشتغال بالحرف اليدوية؛ لأنها حرف لم تخلق للأشراف، ويكون ذلك دليلًا على أن بعض ما يذكره أهل الأخبار عن أهل مكة بعيد عن الواقع وتناقض فيما يروونه، لم يفطنوا إليه؛ لأنهم كانوا ينقلون الأخبار، ويأخذونها أنَّى جاءت، وغايتهم الجمع، وعلينا الآن واجب التمحيص بين تلك الروايات ونقدها وغربلتها، لاستخراج اللب من القشور. وعندي أن الإسلام هو الذي صير قريشًا, قريشًا المذكورة في الكتب, وهو الذي سودها على العرب, وجعل لها المكانة الأولى بين القبائل، والخلافة فيها، بفضل كون الرسول منها وظهور الإسلام في مكة. ولولا الإسلام، لكانت مكة قرية من القرى، لبعض أسرها ثراء حصلت عليه بفضل نشاطها وتقرب رجالها إلى سادات القبائل وحكام العراق وبلاد الشام واليمن، وبفضل دعوة رجال قريش القبائل المحيطة بمكة لحج البيت والتقرب إلى الأصنام التي كدسوها فيه وحوله, ومنها أصنام القبائل التي لها تعامل مع مكة، فحصلت على ربح هو "حق قريش" من الغرباء وحق تعشير التجار وتعاطي البيع والشراء معهم. ويبدو من أخبار الإخباريين عن البيت، أن العناية لم توجه إليه إلا قبيل الإسلام، وأن الإسلام هو الذي رفع قواعده، وعني بعمارته، وهو الذي فرش مسجده بالرخام، وجعل له أشياء كثيرة لم تكن موجودة في أيام الجاهلية. وقد صرف عليه الخلفاء أموالًا طائلة؛ وذلك قربة لله رب البيت. والواقع أن في كثير مما يذكره أهل الأخبار عن مكة, ما يناقض بعضه

_ 1 ابن رستة، الأعلاق "215".

بعضًا، وما لا يلتئم مع ما يذكرونه عنها, وهو في حاجة إلى نقد وغربلة. والظاهر أن الرواة عندما وجهوا عنايتهم نحو تدوين تأريخ مكة, وعمدوا إلى الشيبة يسألونهم عن تأريخها، تكلم كل منهم بحسب ما بقي في ذهنه عنها، وبما سمعه من آبائه، فجاء متناقضًا، لا توافق ولا تناسق فيما بين تلك الروايات التي أخذت من الأفواه, وقد زوَّقها بعضهم بعض التزويق، أو هذَّب فيها وشذب، حتى وصلت إلى الشكل الذي بلغته إلينا. وإني أرجو أن يعثر في المستقبل على كتابات جاهلية قد تلقي بعض الضوء على تأريخ هذه المدينة المقدسة قبلة المسلمين، وأن يقوم العلماء بتخصيص وقت كافٍ لدراسة ما ورد في كتب التفسير والحديث والموارد الأخرى عن مكة؛ لتقديم تأريخ واضح عن مكة. هذا ما عندي عن تأريخ مكة, أما عن "الكعبة" وعن الحج وعن المسائل الأخرى المتعلقة بالدين أو بالتجارة أو بالحكم وبما شاكل ذلك، فسيكون الكلام عنها في المواضع المناسبة، فإليها المرجع إذن.

الفصل الثالث والأربعون: يثرب والطائف

الفصل الثالث والأربعون: يثرب والطائف يثرب ... الفصل الثالث والأربعون: يثرب والطائف وكان ليثرب مكان مهم عند ظهور الإسلام، وفيها وفي أطرافها سكنت جاليات من يهود, وهي من المواضع التي يرجع تأريخها إلى ما قبل الميلاد. وقد ذكرت في الكتابات المعينية، وكانت من المواضع التي سكنتها جاليات من معين، ثم صارت إلى السبئيين بعد زوال مملكة معين1. ولعل هذا السكن هو الذي حمل النسابين على إرجاع نسب أهل يثرب إلى اليمن، فقالوا: إنهم من الأزد، وإنهم من "قحطان". وللإخباريين كعادتهم آراء في الاسم، قالوا: إنها سميت "يثرب" نسبةً إلى "يثرب بن قانية بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوص بن إرم بن سام بن نوح"، وكان أول من نزلها فدعيت باسمه. وقالوا: بل قيل لها "يثرب" من التثريب، وقالوا أشياء أخرى من هذا القبيل2. وزعم أهل الأخبار أن الرسول لما نزلها كره أن يسميها "يثرب"، فدعاها "طيبة"، و"طابة", وذكروا لها تسعةً وعشرين اسمًا، منها "جابرة"

_ 1 Ency. III, P. 83. Hartmann, Die Arabische Frage, S. 253, H. Winckler, Arabisch-Semitisch-orientalisch, in Mitteilungen der borderasiatischen Gesellschaft, 1901. S. 63. 2 البلدان "8/ 498"، ابن خلدون "2/ 286".

و"مسكينة" و"محبورة" و"يندر الدار" و"دار الهجرة"1. ويذكر بعض أهل الأخبار أن أقدم من سكن "يثرب" في سالف الزمان قوم يقال لهم "صُعل" و"فالج"، فغزاهم النبي "داود" وأخذ منهم أسرى، وهلك أكثرهم وقبورهم بناحية "الجرف"، وسكنها "العماليق", فأرسل عليهم النبي "موسى" جيشًا انتصر عليهم، وعلى من كان ساكنًا منهم بـ"تيماء"، فقتلوهم، وكان ذلك في عهد ملكهم الملك "الأرقم بن أبي الأرقم", ولم يترك الإسرائيلون منهم أحدًا، وسكن اليهود في مواضعهم2, ونزل عليهم بعض قبائل العرب، فكانوا معهم واتخذوا الأموال والآطام والمنازل. ومن هؤلاء "بنو أنيّف"، وهم حي من "بليّ"، ويقال: إنهم بقية من العماليق، و"بنو مُريد" مزيد "مرثد"، حي من "بلي"، وبنو معاوية بن الحارث بن بُهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وبنو الجدمى "الجدماء" حي من اليمن، فعاشوا مع من كان بيثرب وأطرافها من اليهود، واتخذوا المنازل والآطام يتحصنون فيها من عدوهم إلى قدوم الأوس والخزرج إياها3. وكان قدوم "الأوس" و"الخزرج" على أثر حادث "سيل العرم"، فأجمع "عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة"، الخروج عن بلاده وباع ما له بمأرب، وتفرق ولده، فنزلت الأوس والخزرج "يثرب" وارتحلت "غسان" إلى الشام، وذهبت "الأزد" إلى عمان, وخزاعة إلى تهامة. وأقامت الأوس والخزرج بالمدينة ووجدوا الأموال والآطام والنخل في أيدي اليهود, ووجدوا العدد والقوة معهم، فمكثوا معهم أمدًا وعقدوا معهم حلفًا وجوارًا يأمن به بعضهم بعضًا ويمتنعون به ممن سواهم، فلم يزالوا على ذلك زمانًا طويلًا، حتى نقضت اليهود عهد الحلف والجوار، وتسلطها على يثرب، فاستعان الأوس والخزرج

_ 1 البلدان "7/ 425"، "8/ 498"، المقدسي: أحسن التقاسيم "ص30", "الطبعة الثانية" "ليدن 1906م"، ابن رستة، الأعلاق "ص59"، "للمدينة في التوراة "التوريه" أحد عشر اسمًا"، ابن رستة "ص78". 2 ابن رستة، الأعلاق "60 وما بعدها"، ياقوت، البلدان "4/ 461 وما بعدها", الأغاني "19/ 94". 3 ابن رستة، الأعلاق "62".

بأقربائهم على اليهود، فغلبوهم، وصارت الغلبة للعرب على المدينة منذ ذلك العهد, على نحو ما سأتحدث عنه بعد قليل1. وأقدمُ مورد أشير فيه إلى "يثرب"، هو نص الملك "نبونيد" ملك بابل، الذي سكن "تيماء" أمدًا، وذكر فيه أنه بلغ هذه المدينة، كما سلف أن تحدثت عن ذلك في أثناء حديثي عن صلات العرب بالبابليين. وقد عرفت بـ"يثربة" "Jathripa" في جغرافيا "بطلميوس" وعند "إصطيفان البيزنطي"2. وعرفت بـ"المدينة" كذلك من كلمة "Medinto" "Medinta" الإرمية، التي تعني "مدينة" في عربيتنا و"هكر" في العربية الجنوبية3. وقد ورد اسمها في الكتابات المعينية4. ويظهر أنها عرفت بـ"مدينة يثرب" على نحو ما وجدنا في كتاب "إصطفيان البيزنطي"، ثم اختصرت، فقيل لها "مدينتا"، أي: "المدينة". ولما نزل الرسول بها، عرفت بـ"مدينة الرسول" في الإسلام5. ولقدم تأريخ "يثرب" ولورود اسمها في نص "نبونيد"، الذي يدل على أنها كانت معروفة إذ ذاك، لا يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات وآثار قد تكشف عن بعض تأريخ هذه المدينة في أيام ما قبل الإسلام. ولم يشر أهل الأخبار إلى وجود حرم أو بيت بيثرب، كما يتعبد فيه اليثربيون ويتقربون إليه بالنذور، مع أنهم أشاروا إلى بيت اللات في الطائف. ويثرب مدينة مثل الطائف ومثل مدن أخرى كانت ذات محجات ومعابد، وقد كان أهل يثرب -مثل غيرهم من العرب- مشركين يتقربون إلى الأصنام، وكانوا يحفظون

_ 1 ابن رستة، الأغلاق، "62 وما بعدها"، البداية والنهاية لابن كثير "2/ 160", "مطبعة السعادة، 1932م". 2 تأريخ العرب قبل الإسلام، لجواد علي "3/ 395"، "4/ 181", Ptolemy, VI, 7, 31. 3 Blay, in ZDMG, 22, 1868, S. 668, Ency, III, P. 83. Paulys-Wissowa, 17 ter Halbband, 1914, 791. 4 Ency, III, P. 83, Winckler, Arabisch –Semitiseh in Mitteilungen der vorderasiatischen Gesellschaft, 1901, S. 63. 5 Ency. III, P. 83.

أصنامًا لهم في بيوتهم يتقربون إليها، كما كانوا يحجون إلى محجَّات كانت على مسافة من يثرب؛ ولذلك يبدو غريبًا سكوت أهل الأخبار عن ذكر بيت في هذه المدينة، يحج له الأوس والخزرج ومن والاهم من قبائل وعشائر. وعثر في مواضع لا تبعد كثيرًا عن "يثرب" على كتابات جاهلية, لم تعرف هويتها الآن؛ لأن الباحثين لم يتمكنوا من فحص مواضعها ومن نقلها إلى العلماء المختصين لقراءتها, كما أنهم لم يتمكنوا من تصويرها ولا من التنقيب في تلك الأماكن تنقيبًا علميا. وقد أشار "عثمان ورستم" إلى وجود كتابات من هذا النوع على جبل "سلع"، وعند موضع "بئر عروة"، بوادي العقيق وفي أماكن أخرى1, أرجو أن يصل إليها الباحثون للتنقيب فيها ولحل رموز هذه الكتابات. وقد يعثر على كتابات أخرى مطمورة في تربة "يثرب" وفي الأماكن القريبة منها، تكشف للقادمين من بعدنا أسرار هذه المدينة المقدسة. ويثرب, مثل مكة من شعاب، تسكنها بطون الأوس والخزرج: الأوس في شعاب، والخزرج في شعاب, اليهود في شعاب. وفي الشعاب "حوائط" بساتين صغيرة، وفي الحوائط "آبار" يستقون منها للشرب وللسقي وللغسل2, كما كانت فيها دور مبنية بالآجر ودور مبنية باللبن، وبعضها ذو طابقين. وقد احتفر اليهود آبارًا، كانوا يبيعون الماء منها بالدلاء، مثل "بئر أرومة"، وكانت ليهودي، وقد أمر الرسول بشرائها، فاشتراها عثمان3. ومن آبار المدينة "بئر ذروان"، وهي البئر التي ذكر أن لبيد "ابن الأعصم" اليهودي سحر بها الرسول4. ويثرب على شاكلة مكة, بغير سور ولا حائط يحيط بها، ولا خندق يقف حائلًا أمام من يريد بالمدينة سوءًا. وقد كان عماد دفاع أهلها بالتحصن في بيوتهم وبسد منافذ الطرق في أثناء الخطر, والأغنياء الموسرون يعتمدون على آطام هم

_ 1 Osman R. Rostem, Rok Inscriptions in the Hijaz. PP. 4. 2 الطبري "2/ 357" "دار المعارف", اللسان "7/ 279". 3 المعارف "ص83". 4 نزهة الجليس "1/ 61", تفسير النيسابوري "30/ 215"، حاشية على تفسير الطبري.

وحصونهم وقصورهم، يلجئون إليها عند الشدة ومن معهم من أتباعهم يرمون أعداءهم من فوق السطوح بالسهام وبالحجارة، إذ لا حائط يحيط بها على نحو ما كان لمدينة الطائف. وقد تحارب الأوس والخزرج على الآطام، وأرخوا بتلك الحرب، وصاروا يؤرخون بـ"عام الآطام". وذكر أن أهل المدينة من الأوس والخزرج كانوا يمتنعون بها، فأخربت في أيام عثمان1. ويظهر من وصف أهل الأخبار ليثرب، أنها كانت تشبه مدينة "الحيرة" بالعراق, من حيث خلوها من سور ومن تكونها من "قصور" هي بيوت السادة ومعاقل المدينة ومواضع دفاعها آناء الشدة وأوقات الحروب, وقد عرفت بـ"أطم" و"آطام" عند أهل يثرب. وذكر أن "الأطم" كل حصن بُني بحجارة، أو كل بيت مربع مسطح. وورد أن "الأُطوم": القصور والحصون لأهل المدينة والأبنية المرتفعة كالحصون2. والمدينة عند "وادي إضم". يقال للقسم الذي هو عند المدينة منه "القناة", والذي هو أعلى منها عند السد: الشظاة، أما ما كان أسفل ذلك فيسمى أضمًا إلى البحر. وذكر أن أضم وادٍ يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر, وأعلى أضم القناة التي تمر دُوين المدينة3, وأن المدينة هي ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف, وما بين الماء الذي يقال له "ألبوا" إلى "زبالة"4. وجو "يثرب" على العموم خير من جو مكة، فهو ألطف وأفرح. ولم يعانِ أهلها ما عانى أهل مكة من قحط في الماء ومن شدة الحصول عليه، حتى بعد حفر "بئر زمزم". فالماء متوفر بعض الشيء في المدينة، وهو غير بعيد عن سطح الأرض، ومن الممكن الحصول عليه بسهولة بحفر آبار في البيوت. ولهذا صار في إمكان أهلها زرع النخيل، وإنشاء البساتين والحدائق، والتفسح فيها، والخروج إلى أطراف المدينة للنزهة، فأثر ذلك في طباع أهلها فجعلهم ألين عريكةً وأشرح صدرًا من أهل البيت الحرام.

_ 1 الأغاني "1/ 14" "ساسي", التنبيه "ص176". 2 تاج العروس "8/ 187"، "أطم"، اللسان "12/ 19"، "أطم". 3 تاج العروس "8/ 187" "أضم". 4 ابن رستة، الأعلاق "62".

وتأريخ المدينة مثل سائر تواريخ هذه الأماكن التي نتحدث عنها، مجهول لا نعرف من أمره شيئًا يذكر، وإنما ما يذكره الإخباريون عن وجود العماليق وجرهم بها1 فأمر وإن قالوه، لا يستند إلى دليل، وحكمه حكم الأخبار الأخرى التي يروونها والتي عرفنا نوع أكثرها وطبيعته, ولكن الشيء الذي نعرفه يقينًا أن أهل المدينة كانوا ينتسبون عند ظهور الإسلام إلى يمن، وكانوا يقسمون أنفسهم فرقتين: الأوس والخزرج، وبين الفرقتين صلة قربى على كل حال. ثم يذكرون أنه كان بينهم يهود، وهم على زعمهم من قدماء سكان يثرب. ويلاحظ أن الأوس والخزرج لا يدعون أنفسهم بأبناء حارثة، وإنما يدعون أنفسهم بـ"بني قيلة" وبـ"ابني قيلة", ويقصدون بها "قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة"، أو "قيلة بنت هالك بن عُذْرة" من قضاعة، أو "قيلة بنت كامل بن عذرة بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن إلحاف بن قضاعة"2. ولا بد أن يكون لهذه الامرأة التي ينتسبون إليها شهرة في الجاهلية حملتهم على الانتساب إليها. وقد ورد أن "قيلة" اسم أم الأوس والخزرج, وهي قديمة3. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن الأوس والخزرج ابني قيلة لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته، فغزاهم تبع أبو كرب، فكانوا يقاتلونه نهارًا ويخرجون إليه العشاء ليلًا، فلما طال مكوثه ورأى كرمهم رحل عنهم4. ويرجع الإخباريون مجيء الأوس والخزرج إلى المدينة إلى حادث سيل العرم، ويقولون: إنهم لما جاءوا إلى يثرب وجدوا اليهود وقد تمكنوا منها، فنزلوا في ضنك وشدة، ودخلوا في حكم ملوك يهود إلى أيام ملكهم المسمى "الفيطوان"

_ 1 البلدان "7/ 427 وما بعدها", ابن خلدون "2/ 286 وما بعدها". 2 البلدان "7/ 428"، الكامل "1/ 275", ابن حزم، جمهرة "1/ 232"، ابن خلدون، المجلد الثاني، القسم الأول "596"، "منشورات دار الكتاب اللبناني 1956م, بيروت". 3 اللسان "11/ 580"، "صادر" "قيل". 4 العقد الفريد "1/ 192 وما بعدها"، الأصمعي، ملوك العرب الأولية "87 وما بعدها".

أو "الفيطون" أو "الفِطيون"، وكان رجلًا شديدًا فظًّا يعتدي على نساء الأوس والخزرج، فقتله رجل منهم اسمه "مالك بن العجلان" وفر إلى الشام إلى ملك من ملوك الغساسنة اسمه "أبو جبيلة", وفي رواية: أنه فر إلى "تبع الأصغر بن حسان". وتذكر الرواية أن أبا جبيلة سار إلى المدينة ونزل بذي حرض، ثم كتب إلى اليهود يتودد إليهم، فلما جاءوا إليه قتلهم، فتغلبت من يومئذ الأوس والخزرج، وصار لهم الأموال والآطام. ثم رجع "أبو جبيلة" إلى الشام, وصارت اليهود تلعن "مالك بن عجلان", وهم يروون في ذلك أبياتًا ينسبونها إلى شاعر اسمه "الرمق بن زيد الخزرجي"1. ويذكر الإخباريون أن اليهود صورت "مالك بن عجلان" في كنائسهم وبيعهم؛ ليراه الناس فيلعنوه2. وذكر "ابن دريد" أن "الفِطيون" اسم "عبراني"، وكان تملك بيثرب، وكان هذا أول اسم في الجاهلية الأولى. وقد شهد بعض ولد الفطيون بدرًا، واستشهد بعضهم يوم اليمامة، فمن ولد "الفطيون": أبو المقشعر، واسمه أسيد بن عبد الله3. ويذكر بعضهم أن اسم "الفطيون"، وهو "عامر بن عامر بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الحارث المحرق بن عمرو مزيقياء"4, فهو من العرب على رأي هذا البعض، ومن اليمن، وليس من أصل عبراني. وأبو جبيلة عند بعض الإخباريين، هو "عبيد بن سالم بن مالك بن سالم"، أحد بني غضب بن جشم بن الخزرج. فهو على هذة الرواية رجل من الخزرج ذهب إلى ديار الشام، فملك على غسان، وذهب بعض آخر من الإخباريين إلى أنه لم يكن ملكًا, وإنما كان عظيمًا ومقربًا عند ملك غسان5. ونسبه بعض

_ 1 البلدان "7/ 428 وما بعدها"، الاشتقاق "ص259"، الكامل "1/ 275", البداية، ابن كثير "2/ 160"، "مطبعة السعادة، 1932م". 2 ابن خلدون "2/ 287"، الاشتقاق "ص270", الأغاني "19/ 95 وما بعدها", السمهودي خلاصة الوفاء "82 وما بعدها"، الطبري "2/ 371"، تأريخ اليهود في بلاد العرب، إسرائيل ولفنسون "56 وما بعدها", Graetz, bd., 3, s., 91, 410. 3 الاشتقاق "ص259". 4 الاشتقاق "ص259". 5 الكامل "1/ 276", ابن خلدون "2/ 286 وما بعدها".

أهل الأخبار إلى "بني زريق"، بطن من بطون الخزرج, ونعته بـ"أبي جبيلة الملك الغساني"1. ونحن إذا أخذنا بهذه الرواية، وجب علينا القول: إن أخذ الأوس والخزرج أمر المدينة بيدهم، وزحزحة اليهود عنها، يجب أن يكون قد وقع في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، أي: في زمن لا يبعد كثيرًا عن الإسلام؛ لأننا نجد أن أحد أولاده وهو "عثمان بن مالك بن العجلان" في جملة من دخل في الإسلام وشهد بدرًا, كما نجد جملة رجال من "بني العجلان"، من أبناء إخوة "مالك" وقد شهدوا "بدرًا" ومشاهد أخرى2, وهذا مما يجعل زمن "مالك" لا يمكن أن يكون بعيدًا عن الإسلام. ويظهر من دراسة هذه الأخبار المروية عن اليهود وملكهم "الفطيون" وعن الأوس والخزرج وما فعلوه باليهود، أن عنصر الخيال قد لعب دورًا في هذا المروي في كتب أهل الأخبار عن الموضوع. ونجد في القصص المروي عن ملوك اليمن وعن ولعهم بالنساء وعملهم المنكر بهن، ما يشبه هذا القصص الذي نسب إلى "الفطيون", ونجد للعلاقات الجنسية مكانة في هذا القصص الجاهلي الذي يرويه أهل الأخبار عن ملوك الجاهلية، وما قصة "الفطيون" إلا قصة واحدة من هذا القصص الذي نجد للغرائز الجنسية مكانة بارزة فيه. ويظهر أن كلمة "الأوس" هي اختصار لجملة "أوس مناة", و"مناة" كما نعلم صنم من أصنام الجاهلية، و"الأوس" هو جد الأوس، وهو في عرف النسابين "أوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد"3.

_ 1 الاشتقاق "ص272". 2 الاشتقاق "ص271 ومواضع أخرى". 3 البلدان "7/ 428"، "أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"، ابن الأثير، الكامل "1/ 275"، ابن خلدون "2/ 288"، اللسان "4/ 18 وما بعدها", تاج العروس "4/ 103"، ابن حزم، جمهرة "ص322", العقد الفريد "3/ 36، 159"، "لجنة"، ابن هشام "2/ 347"، دائرة المعارف الإسلامية "3/ 150".

وينقسم الأوس إلى بطون، منهم: عوف، والنبيت، وجشم، ومرة، وامرؤ القيس, وقد عرف "بنو مرة" بالجعادرة كذلك. واتفقت جشم ومرة وامرؤ القيس وكونت حلفًا عرف بـ"أوس اللات", وبـ"أوس" كذلك. وانقسمت هذه الكتلة إلى أربعة أقسام، هي: ختمة وهي "جشم" في الأصل، وأمية، ووائل وهي مرة، وواقف وهي امرؤ القيس. وانقسمت هذه البطون إلى أفخاذ عديدة، حدثت بينها منازعات وحروب1. ويرجع أهل الأخبار نسب أهل "قباء" إلى "عوف"، ونسب "النبيت" إلى "عمرو"، ونسب "الجعادرة" إلى "مرة", وقيل: إنهم سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يقولون للرجل إذا جاورهم: "جعدر حيث شئت، فأنت آمن، أي: اذهب حيث شئت". ومنهم بنو كلفة وبنو حنش وبنو ضبيعة2. ومن الأوس "أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبا"، سيد الأوس في الجاهلية شاعر, وكانت عنده "سلمى بنت عمرو التجارية"، وأولاده منها إخوة عبد المطلب، وهو من "بني جحجبا". ومن ولده "المنذر بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح"، شهد بدرًا وقتل يوم بئر معونة3, وله أشعار ذكرها الرواة، منها أبيات في رثاء ابن له4. وأما الخزرج، فإنهم إخوة الأوس في عرف النسابي,. فالخزرج، وهو جد الخزرج، هو شقيق أوس, وهو "الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد" وقد جاء نسله كما جاء نسل الأوس من اليمن بعد حادث سيل العرم، وسكنوا يثرب وإلى الشمال منها حتى "خيبر" و"تيماء". وتأريخهم مثل تأريخ الأوس في رأي الإخباريين بدأ بالاتصال باليهود وبالعيش معهم وبينهم إلى أن تمكنوا منهم بعد الحادث الذي ذكرته, وبعد مجيء أبي جبيلة لنصرتهم5.

_ 1 الاشتقاق "ص259". 2 الاشتقاق "ص259 وما بعدها". 3 الاشتقاق "ص362". 4 رسالة الغفران "554، 562". 5 البلدان "7/ 428"، الكامل "1/ 275"، السويدي، سبائك الذهب "63"، المعارف لابن قتيبة "260", دائرة المعارف الإسلامية "3/ 150"، السهيلي، الروض الأنف "1/ 14"، سيرة ابن هشام "2/ 204"، "القاهرة 1936م", ENCY., I, P. 523.

ومن سادات الأوس عند ظهور الإسلام "سعد بن معاذ"، الذي قتل يوم "الخندق"، وأخوه "عمرو بن معاذ"، وقتل يوم أحد, و"سماك بن عتيك" فارسهم في الجاهلية، وابنه "حضير الكتائب"، وكان سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث, وابنه "أسيد بن حضير"، شهد بدرًا1. ومنهم "أبو الهيثم بن التيهان"، وكان نقيبًا، شهد العقبة وبدرًا، و"قيس بن الخطيم بن عدي" الشاعر2, و"سعد بن خيثمة"، وكان نقيبًا، وقتل يوم بدر، وأبو قيس بن الأسلت الشاعر, و"شاس بن قيس بن عبادة"، وكان من أشراف الأوس في الجاهلية3. والخزرج أيضًا بطون، أشهرها: بنو النجار وينتسبون إلى "تيم الله بن ثعلبة", والحارث، وجشم، وعوف، وكعب4. ويلاحظ أن جشمًا وعوفًا هما اسما بطنين أيضًا من بطون الأوس. ومن الخزرج "أبو أيوب خالد بن زيد", نزل عليه النبي أيام قدم المدينة، و"نعيمان بن عمرو"، وكان النبي يستخف نعيمان، لم يلقَهُ قط إلا ضحك إليه, و"أسعد الخير بن زرارة بن عدس"، شهد العقبة وكان نقيبًا، و"أبو أنس بن صرمة" الشاعر، وهو جاهلي5، و"ثابت بن قيس بن شاس"، خطيب رسول الله، وعمرو بن الأطنابة الشاعر، جاهلي وهو أحد فرسان الخزرج6, و"سعد بن عبادة بن دليم"، وابنه "قيس بن سعد بن عبادة" وكان نقيبًا سيدًا جوادًا، وابنه قيس أجود أهل دهره في أيام معاوية، ومنهم "مالك بن العجلان" قاتل "الفطيون"، وابنه "عثمان بن مالك بن العجلان"، شهد "بدرًا"7, و"خالد بن قيس بن العجلان"، شهد بدرًا، و"عمرو بن النعمان بن كلدة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة",

_ 1 الاشتقاق "ص263". 2 الاشتقاق "ص264". 3 الاشتقاق "ص265 وما بعدها". 4 الاشتقاق "ص266". 5 الاشتقاق "ص267". 6 الاشتقاق "ص268". 7 الاشتقاق "270 وما بعدها".

رأس الخزرج يوم بُعاث1, و"رافع بن مالك بن العجلان"، وهو أول من أسلم من الأنصار، و"النعمان بن العجلان"2, و"مرداس بن مروان"، شهد يوم الحديبية، وبايع تحت الشجرة، وكان أمين النبي على سُهمان خبير3, و"خشرم بن الحباب"، وكان حارس النبي, و"البراء بن معرور"، عقبيّ وكان نقيبًا، وهو أول من أوصى بثلث ماله وأول من استقبل القبلة، وأول من دفن عليها4, و"أبو قتادة بن ربعي" فارس النبي. ويذكر الإخباريون أنه كان للخزرج رئيس منهم، هو "عمرو بن الأطنابة"5، وقد ملك الحجاز. وكان ملكه على رأيهم في أيام "النعمان بن المنذر"، قتله الحارث بن ظالم قاتل خالد بن جعفر بن كلاب6, وكانت بينه وبين "عمرو" خصومة. وذكر أن "عمرًا" قال شعرًا يهزأ فيه بالحارث جاء فيه: أبلغ الحارث بن ظالم المُوعِدَ ... والناذر النذور عَلَيّا إنما تقتل النيام ولا تقتل ... يقظان ذا سلاحٍ كميّا وكان عمرو شاعرًا, ومن الفرسان7. وبالرغم من صلة الرحم القريبة التي كانت بين الأوس والخزرج، فقد وقعت بينهما حروب هلك فيها من الطرفين خلق كثير. وأول حرب وقعت بين الأوس والخزرج هي على رواية الإخباريين حرب "سمير" "سميحة". و"سمير" في روايتهم رجل من الأوس من بني عمرو، شتم رجلًا اسمه كعب بن العجلان، وهو من بني ثعلبة من سعد بن ذبيان، نزل على مالك بن العجلان رئيس الخزرج وحالفه وأقام معه، ثم قتله. فثارت الثائرة بين الأوس بسبب هذا القتل وبسبب دفع دية القتيل، ثم وقعت الحرب. ثم اتفقوا على أن يضعوا حكمًا بينهم يفصل في الأمر، فوقع اختيارهم على "المنذر بن حرام النجاري الخزرجي"، وهو

_ 1 الاشتقاق "ص271 وما بعدها". 2 الاشتقاق "272". 3 الاشتقاق "273". 4 الاشتقاق "273". 5 الاشتقاق "275". 6 ابن خلدون "2/ 289"، الأغاني "11/ 121 وما بعدها". 7 الاشتقاق "ص268".

جد حسان بن ثابت، فحكم بينهم بأن يؤدوا لكعب دية الصريح، ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، وهي دفع نصف الدية عن الحليف. فرضوا وتفرقوا، ولكن بعد أن تمكنت العداوة والبغضاء في نفوس الطرفين1. واشتعلت نيران حرب أخرى بين الأوس والخزرج بسبب امرأة من "بني سالم", وقد كانت الحرب في هذه المرة بين "بني جحجبا" من الأوس, و"بني مازن بن النجار" من الخزرج. وقد وقعت في موضع "الرحابة" انهزمت فيه "بنو جحجبا"2. ثم تجددت الحرب بين "عمرو بن عوف" من الأوس وبني الحارث من الخزرج بسبب مقتل رجل من بني عمرو، وقد عرفت هذه الحرب باسم: "يوم السرارة". وقد كان على الأوس "حضير بن سماك"، وهو والد "أسيد بن حضير"، وكان على الخزرج "عبد الله بن سلول" "عبد الله بن أُبَيّ" المعروف في الإسلام بـ"رأس المنافقين". وقد انتهت بانصراف الأوس إلى دورها، فعدت الخزرج ذلك نصرًا لها3. ووقعت حرب أخرى لأسباب تافهة كهذه الأسباب، وما كانت لتقع لولا هذه العصبية الضيقة, يثيرها في الغالب أفراد لا منازل كبيرة لهم في المجتمع, ومنهم من الصعاليك والمغمورين بأمور سخيفة، فإذا وقع على أحدهم اعتداء نادى قومه للأخذ بثأره، فتثور الحرب. ومن هذه الحروب، حرب بني وائل بن زيد الأوسيين وبني مازن بن النجار الخزرجيين، وحرب بني ظفر من الأوس وبني مالك من الخزرج، وحرب فارع، وحرب حاطب, ويوم الربيع, وحرب الفجار الأولى, وهي غير حرب الفجار التي وقعت بين قيس وكنانة، ثم حرب معبس ومضرس، وحرب الفجار الثانية، ثم يوم بعاث. وكان هذا

_ 1 الكامل "1/ 277"، الأغاني "3/ 18 وما بعدها" "20/ 24 وما بعدها"، المفضليات "ص135"، الاشتقاق "ص266"، ابن رستة، الأعلاق "64", البلخي, البدء والتأريخ "3/ 130". 2 الكامل "1/ 277". 3 الكامل "1/ 278 وما بعدها"، "فمن بني الحبلى: عبد الله بن أبي بن مالك، الذي يقال له ابن سلول، وسلول أمه، وكان رأس المنافقين، وكان ابنه عبد الله من خيار المسلمين"، الاشتقاق "271".

اليوم آخر الأيام المشهورة التي وقعت بين الأوس والخزرج1. وكان رئيس الخزرج في يوم بعاث "عمر بن النعمان بن صلاءة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة", أما رئيس الأوس، فكان "حضير الكتائب بن سماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل", وقد ساعد الخزرج في هذا اليوم أشجع من غطفان، وجهينة من قضاعة، وساعد الأوس مزينة من أحياء طلحة بن إياس, وقريضة, والنضير. وقد قتل فيه "عمرو بن النعمان" رئيس الخزرج, فانهزم الخزرج، وانتصرت الأوس2. وكان "حضير الكتائب بن سماك" سيد الأوس ورئيسهم يوم بعاث، ركز الرمح في قدمه وقال: ترون أفر؟! فقتل يومئذ, وابنه "أسيد بن حضير" من الصحابة الذين شهدوا العقبة وبدرًا3. وقد تخلل أخبار هذه الأيام كالعادة شعر، ذكر أن شعراء الطرفين المتخاصمين قالوه على الطريقة المألوفة في الفخر، وفي انتقاص الخصم، وفي إثارة النخوة لتصطلم الحرب ويستميت أصحاب الشاعر في القتال. وقد كان المحلّق في هذه الأيام حسان بن ثابت الشاعر المخضرم الشهير، شاعر الرسول, وهو لسان الخزرج والمدافع عنهم، و"قيس بن الخطيم" وهو من الأوس، ثم جماعة ممن اشتركوا في المعارك مثل عامر بن الأطنابة، والربيع بن أبي الحقيق اليهودي، وعبد الله بن رواحة, وآخرين. ويظهر من روايات أهل الأخبار عن يثرب أن الأوس والخزرج، لم يكونوا كأهل مكة من حيث الميل إلى الهدوء والاستقرار، بل كانوا أميل من أهل مكة إلى حياة البداوة القائمة على الخصومة والتقاتل. وقد بقي الحيان يتخاصمان حتى جاء الرسول إليهما، فأمرهما بالكف عنه، ووجههما وجهة أخرى أنستهما الخصومة العنيفة التي كانت فيما بينهما. ويظهر من رواياتهم أيضا أن الأوس والخزرج، وإن

_ 1 الكامل "1/ 280 وما بعدها". 2 ابن خلدون "2/ 289 وما بعدها"، ابن هشام "ص385", البرقوقي "ص278 وما بعدها"، البلدان، لياقوت "1/ 451", الميداني، الأمثال" 1/ 2"، اللسان "6/ 18"، "أوس"، تاج العروس "1/ 604"، البكري، معجم "1/ 260". 3 الاشتقاق "263".

كانوا قد تحضروا واستقروا، غير أنهم لم يتمكنوا من التخلص من الروح الأعرابية تخلصًا تامًّا، بل بقوا محافظين على أكثر سجاياها، ومنها النزعة إلى التخاصم والتقاتل، فألهتهم هذه النزعة عن الانصراف إلى غرس الأرض والاشتغال بالزراعة كما فعل اليهود، وعن الاشتغال بالتجارة بمقياس كبير على نحو ما فعل أهل مكة. ونظرًا لمساعدة أهل يثرب للرسول ومناصرتهم له وللمهاجرين، عرف الأوس والخزرج بـ"الأنصار" في الإسلام. وصاروا يفتخرون بهذه التسمية، حتى غلبت عليهم، وصارت في منزلة النسب. وكان أهل "يثرب" مثل غيرهم تجارًا، يخرجون إلى أسواق الشام فيتجرون بها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال منها تاجروا مع بلاد الشام، وكان "يهود" يثرب يتاجرون أيضًا، ويأتون إلى أهل "يثرب" بما يحتاجون إليه من تجارات. كما "كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والإسلام يقدُمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش، وما يكون في الشام"1, وكانوا يتسقطون الأخبار وينقلونها إلى الروم عند ظهور الإسلام. فقدم بعض الساقطة المدينة، وأبو بكر ينفذ الجيوش، وسمعوا كلام أبي بكر لعمرو بن العاص، وهو يقول: عليك بفلسطين وإيليا، "فساروا بالخبر إلى الملك هرقل"2, وتهيأ لملاقاة المسلمين. ولم يذكر الرواة جنس هؤلاء "الساقطة"، الذين كانوا يأتون بالتجارة من بلاد الشام إلى المدينة، هل كانوا رومًا, أم عربًا، أم يهودًا، أم كانوا خليطًا من كل هؤلاء؟. على كلٍّ, كانوا تجارًا يأتون يثرب في الجاهلية لبيع ما يحملونه من تجارة، ولشراء ما يجدونه هناك، وبقوا شأنهم هذا إلى الإسلام، كما نرى من الخبر المتقدم. هذا هو مجمل ما نعرفه عن تأريخ "يثرب" وهو شيء قليل، لا يكفي المتعطش لمعرفة تأريخ هذه المدينة التي تعد من المواضع المقدسة في الإسلام, ولا بد وأن يأتي يوم سنكتشف فيه الأقنعة عن تأريخ المدينة قبل الإسلام، وذلك حين يقوم المنقبون المتخصصون بالبحث في تربتها عن الماضي المستور الدفين.

_ 1 الواقدي، فتوح "ص16", "طبعة بيروت 1956م". 2 الواقدي، فتوح "16 وما بعدها".

الطائف

الطائف: والطائف على مسافة خمسة وسبعين ميلًا تقريبًا إلى الجنوب الشرقي من مكة، وهي على عكس مكة أرض مرتفعة ذات جو طيب في الصيف, فيه زرع وضرع، وغنى جادت الطبيعة به على أهله. وقد كان وما زال مصيفًا طيبًا يقصده أهل مكة فرارًا من وهج الشمس. وتقع الطائف على ظهر جبل غزوان، وهو أبرد مكان في الحجاز، وربما جمد الماء في ذروته في الشتاء، وليس بالحجاز موضع يجمد فيه الماء سوى هذا الموضع, وبينها وبين مكة وادٍ اسمه نعمان الأراك. وهي كثيرة الشجر والثمر، وأكثر ثمارها الزبيب والرمان والموز والأعناب، ولا سيما الصديفي، وفواكه أخرى عديدة. وهي تمون مكة بالفواكه والبقول1, وتحيط بها الأودية. ومن مواضعها "الوهط"، وهو واد، أو مكان مطمئن من الأرض مستوٍ، تنبت فيه العضاه والسمر والطلح والعرفط، وقد اتخذ بستانًا، صار لـ"عمرو بن العاص"، ثم لابنه، وقد عرف بكثرة كرمه وأنواع أعنابه2. وإلى الشرق من الطائف وادٍ يقال له "لِيَّة"، ذكر بعض أهل الأخبار أن أعلاه لثقيف, وأسفله لـ"بني نصر بن معاوية" من هوازن3. وتأريخ مدينة الطائف تأريخ غامض، لا نعرف من أمره شيئًا؛ إذ لم تمس تربتها أيدي علماء الآثار بعد، كما أن السياح لم يجدوا في الطائف كتابات قديمة بعد. ولكن مكانًا مثل الطائف لا بد أن يكون له تأريخ قديم، ولا يعقل أن يكون من الأمكنة التي ظهرت ونشأت قبيل الإسلام, وليس لنا من أمل في

_ 1 تقويم البلدان "95"، صورة الأرض، لابن حوقل "39"، البكري، معجم "3/ 31، 886". 2 تاج العروس "5/ 243"، "وهط". 3 صفة "120"، تاج العروس "10/ 334"، "لوو".

الحصول على شيء من تأريخ الطائف إلا بقيام العلماء بمناجاة تربتها واستدراجها لتبوح لم بما تكنه من كتابات مسجلة في الألواح تتحدث عن تأريخ هذا المكان المهم. وقد عثر الباحثون فعلًا على كتابات مدونة على الصخور المحيطة بمدينة الطائف الحديثة وفي مواضع غير بعيدة عنها. وقد تبين أن بعضًا منها بالنبطية وبعضًا آخر بالثمودية، وأن بعضًا بأبجدية أخرى، وأن بعضًا بأبجدية القرآن الكريم، أي بقلم إسلامي. ولا يستبعد عثور العلماء في المستقبل على كتابات ستكشف عن تأريخ هذه البقعة، وعن تأريخ من سكنها قبل الإسلام وقبل ثقيف. وذُكر أن بعض كتابات يشبه شكلها شكل الأبجدية اليونانية، وكتابات أخرى يشبه خطها الخط الكوفي, عثر عليها في "بستان شهار" على مسافة كيلومترين إلى الجنوب من الطائف1, غير أنها لم تدرس حتى الآن. ومكان مهم بالنسبة للطرق التجارية ولموقعه المعتدل الجميل، لا بد وأن يكون قد لفت أنظار سكان العربية الغربية قبل الميلاد فسكنوه، ولا أستبعد إمكانية تدوين تأريخ صحيح لهذه المدينة إذا ما قام المنقبون بالبحث فيها وفي الأماكن القريبة منها لاستنطاقها، لتتحدث لهم عما عرفته من أخبار تلك الشعوب التي سكنت هذا الموضع قبل ثقيف. ويزعم أهل الأخبار أن الطائف إنما سيمت طائفًا، بحائطها المطيف بها, أما اسمها القديم فهو "وج". ولهم روايات عن كيفية قيام ذلك الحائط، وقد حاول بعض أهل الأخبار إعطاء الطائف مسحة دينية، فزعموا بأنها من دعوات إبراهيم، وأنها قطعة من أرض ذات شجر كانت حول الكعبة، ثم انتقلت من مكانها بدعوة إبراهيم، فطافت حول البيت، ثم استقرت في مكانها، فسميت الطائف، وزعمت أن جبريل اقتطعها من فلسطين، وسار بها إلى مكة فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حول الطائف2. وهكذا أكسبت هذه الروايات الطائف

_ 1 OSman r. rostem, rock inscriptions in the Hijaz, p. 11. 2 البلدان "3/ 499 وما بعدها"، المقدسي, البدء والتأريخ "2/ 109"، الكامل، لابن الأثير "1/ 420 وما بعدها"، "والطائف من بلاد ثقيف. قال أبو طالب بن عبد المطلب: منعنا أرضنا من كل حي ... كما امتنعت بطائفها ثقيف وهي في وادٍ بالغور، أول قراها لقيم وآخرها الوهط، سميت لأنها طافت على=

قدسية، وجعلت لها مكانة دينية، وهي روايات يظهر أنها وضعت بتأثير من سادات ثقيف المتعصبين لمدينتهم، والذين كانوا يرون أن مدينتهم ليست بأقل شأنًا من مكة أو يثرب. وقد كان بها سادات وأشراف كانوا أصحاب مال وثراء. وقد زعم بعض أهل الأخبار أن الذي أقام حائط الطائف رجل من الصدف، يقال له "الدمون بن عبد الملك"، قتل ابن عم له يقال له "عمرو" بحضرموت، ثم فر هاربًا، ثم جاء إلى "مسعود بن متعب الثقفي" ومعه مال كثير، وكان تاجرًا، فقال: أريد أن أحالفكم على أن تزوجوني وأزوجكم

_ = الماء في الطوفان، أو لأن جبريل -عليه السلام- طاف بها على البيت سبعًا. نقله الميورقي عن الأزرقي، أو لأنها كانت قرية بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم -عليه السلام- اقتلاعًا من تخوم الثرى بعيونها وثمارها ومزارعها, وذلك لما قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} . نقله أبو داود الأزرقي في تاريخ مكة وأبو حذيقه إسحاق بن بشر القرشي في كتاب المبتدأ، وهو قول الزهري. وقال القسطلاني في المواهب: إن جبريل -عليه السلام- اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصريم فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت ثم أنزلها حيث الطائف، فسمي الموضع بها, وكانت أولًا بنواحي صنعاء, واسم الأرض وج, وهي بلدة كبيرة على ثلاث مراحل أو اثنتين من مكة من جهة المشرق كثيرة الأعناب والفواكه. وروى الحافظ بن عات في مجالسه أن هذه الجنة كانت بالطائف، فاقتلعها جبريل وطاف بها البيت سبعًا ثم ردها إلى مكانها ثم وضعها مكانها اليوم. قال أبو العباس الميورقي: فتكون تلك البقعة من سائر بقع الطائف, طِيف بها بالبيت مرتين في وقتين، أو لأن رجلًا من الصدف، وهو ابن الدمون بن الصدف. واسم الصدف: مالك بن مرتع بن كندة من حضرموت أصاب دما في قومه بحضرموت ففر إلى وج ولحق بثقيف وأقام بها وحالف مسعود بن معتب الثقفي أحد من قيل فيه: إنه المراد من الآية: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} ، وكان له مال عظيم. فقال لهم: هل لكم أن أبني لكم طوفًا عليكم يطيف ببلدكم يكون لكم ردءًا من العرب. فقالوا: نعم فبناه وهو الحائط المطيف المحدق به. وهذا القول نقله السهيلي في الروض عن البكري وأعرض عنه. وذكر ابن الكلبي ما يوافق هذا القول, وقد خصت بتصانيف. وذكروا هذا الخلاف الذي ساقه المصنف وبسطوا فيه، أورد بعض ذلك الحافظ ابن فهد الهاشمي في تأريخ له خصه بذكر الطائف"، تاج العروس "1/ 184"، "طوف".

وأبني لكم طوفًا عليكم مثل الحائط لا يصل إليكم أحد من العرب. فوافقوا على ذلك، وبنى لهم طوفًا عليهم، فسميت الطائف, فزوجوه1. وقد كان لأهل الطائف معبد يحجون إليه، هو معبد "اللات"، وكانوا يعظمونه ويتبركون به. ويذكر أهل الأخبار أن اللات كان صخرة مربعة يلتّ يهودي عندها السَّوِيق، وكان سدنتَه "بنو عتاب بن مالك" وهم من ثقيف, وقد بنو له بناء ضخمًا. وكانت العرب، ومنها قريش، تعظمه وتحج إليه وتطوف به, وقد هُدم في الإسلام عند فتح الطائف ودخول أهلها فيه. وقد هدم الصنم: المغيرةُ بن شعبة، وأحرقه بالنار, ويقع موضعه تحت منارة المسجد، الذي بني على أنقاض ذلك المعبد، وهو مسجد المدينة. فمسجد الطائف إذن هو معبد اللات القديم، وهو في الطائف نفسها2. ويرجع أهل الأخبار زمان الطائف إلى العمالقة، ويقولون: إنها إنما سميت "وَجًّا" بوج بن عبد الحي، من العماليق، وهو أخو "أجأ" الذي سمي به جبل "طي", ثم غلب عليها "بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر"، ثم غلبهم "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن"، وذلك بعد قتال شديد. ثم استغلت ثقيف الظروف، فاستولت عليها، وأخذتها من "بني عامر"، فارتحل "بنو عامر" عنها، ونزحوا إلى تهامة، وتحكم بها بنو ثقيف3.

_ 1 البلدان "6/ 10 فما بعدها". 2 ابن الكلبي، الأصنام "16 وما بعدها"، القزويني، آثار البلاد "64 وما بعدها". 3 الكامل، لابن الأثير "1/ 420 وما بعدها"، ابن قتيبة، المعارف "91"، "ووج اسم وادٍ بالطائف بالبادية, سمي بوج بن عبد الحي من العمالقة, وقيل من خزاعة. قال عمرو بن حزام: أحقًّا يا حمامة بطن وج ... بهذا النوح إنك تصدُقينا غلبتك بالبكاء لأن ليلي ... أواصله وإنك تهجعينا وإني إن بكيت بكيت حقًّا ... ولكني أسر وتعلنينا فنوحي يا حمامة بطن وج ... فقد هيجت مشتاقًا حزينا قرأت هذه الأبيات في الحماسة لأبي تمام, والذي ذكرت هنا رواية المعجم، وبينهما تفاوت قليل"، تاج العروس "2/ 110"، "الوج"، "ووج موضع بالبادية، وقيل: هي الطائف" "وفي الحديث: "صيد وج وعضاهه حرام محرم", قال: هو موضع بناحية الطائف ويحتمل أن يكون حرمه في وقت معلوم ثم نسخ. وفي حديث كعب: أن وجًّا مقدس، منه عرج الرب إلى السماء", اللسان "2/ 397"، "وجج".

ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من ملك الطائف "عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر". فلما كثر "بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن"، غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد1. وقد كانت مواطن "بني عامر" بنجد, وكانوا يصيفون بالطائف، حتى غلبتهم ثقيف, فخرجوا إلى تهامة. وكان منهم "عامر بن الظرب العدواني" أحد الحكماء العرب2. وقد ورد في بعض الأخبار أن قوم ثمود هم الذين نزلوا بالطائف بعد العماليق، فأخذوها منهم، وذلك قبل ارتحالهم عنها إلى وادي القرى، بسبب منازعة القبائل لهم، ومن ثم ربط رواة هذه الأخبار نسب ثقيف بثمود، وقد صير بعض أهل الأخبار ثقيفًا مولى من موالي هوازن، ونسبهم آخرون إلى إياد3. وجاء في رواية أخرى أن أقدم سكان الطائف هم بنو مهلائيل بن قينان, وهم الذين عمروها وغرسوها وأحيوا مواتها, وقد سكنوها قبل الطوفان، فلما وقع الطوفان, كانوا في جملة من هلك فيه من الأمم الباغية. فخلت الطائف منهم، وسكنها بعدهم بنو هانئ بن هذلول بن هوذلة بن ثمود، فأعادوا بناءها وعمروها حتى جاءهم قوم من الأزد على عهد "عمرو بن عامر"، فأخرجوهم عنها، وأقاموا بها وأخذوا أماكنهم، ثم توالى عليها العرب حتى صارت في أيدي ثقيف4. وصير بعض أهل الأخبار ثقيفًا رجلًا متشردًا، اتفق مع ابن خاله النخع على الهجرة في طلب الرزق والعيش، فذهب النخع إلى اليمن، فنزل بها، وذهب "ثقيف" إلى وادي القرى، فنزل على عجوز يهودية لا ولد لها، واتخذها ثقيف أمًّا له. فلما حضرها الموت، أوصت له بما كان عندها من دنانير وقضبان، ثم دفنها وذهب نحو الطائف، فلما كان على مقربة منها، وجد أمة

_ 1 الكامل، لابن الأثير "1/ 420 وما بعدها". 2 ابن خلدون "5/ 63". 3 ابن خلدون "2/ 641 وما بعدها". 4 الهمداني، صفة "1/ 312 وما بعدها", البلدان "3/ 498 وما بعدها", اللسان "9/ 225"، صورة الأرض "39".

حبشية ترعى غنمًا, فأراد قتلها ليستولي على ماشيتها، فارتابت منه، وأخبرته بأن يصعد إلى الجبل، فيستجير بـ"عامر بن الظرب العدواني" فإنه سيجيره ويغنيه، ويربح أكثر من ربحه من استيلائه على هذه الغنم، فذهب إليه، وأجاره، وأغناه، وأنزله عنده، وزوجه ابنة له، وبقي مقيمًا في الطائف، وتكاثر ولده، حتى زاحموا بني عامر، وتلاحيا ثم اقتتلا، فتغلبت ثقيف على بني عامر، واستولت على الطائف1. ويذكر هؤلاء الرواة أن ثقيفًا اتفقوا مع "بني عامر" على أن يأخذوا الطائف لهم ويرحل بنو عامر عنها، فيدفعوا لهم نصف ما يحصلون عليه من غلات. وقد بقوا على ذلك أمدًا، حتى ثبتت ثقيف نفسها في الطائف وقوت دفاعها وأحكمت مواضعها، ثم امتنعت عن دفع أي شيء كان لبني عامر، فوقع قتال بين الطرفين انتهى بانتصار ثقيف. وصارت بذلك سيدة الطائف بلا نزاع. وقد حسدهم طوائف من العرب، وقصدوهم لما صار لهم من مركز ومن رزق رغد وأثمار وجنان، ولكنهم لم يتمكنوا من الظفر بطائل، وتركوهم على حالهم2. وذكر بعض أهل الأخبار أن "عبد ضخم" كانوا فيمن سكن الطائف, وقد كانوا من عاد الأولى، وهلكوا فيمن هلك من عاد ومن أقوام بائدة. وذكر أنه كان بالطائف قوم من يهود، طُردوا من اليمن ومن يثرب, فجاءوا إلى الطائف، وسكنوا فيها، ودفعوا الجزية لساداتها، ومن بعضهم ابتاع "معاوية" أمواله بالطائف3. وقد كان لوقوع الطائف على مرتفع، ولحائطها المزود بأبراج واستحكامات

_ 1 البلدان "3/ 498 وما بعدها"، "وثقيف كأمير، أو قبيلة من هوازن واسمه قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان. وقد يكون ثقيف اسمًا للقبيلة والأول أكثر. قال سيبويه: وأما قولهم هذه ثقيف فعلى إرادة الجماعة. وإنما قال ذلك لغلبة التذكير عليه, وهو مما لا يقال فيه من بني فلان"، تاج العروس "6/ 51"، "ثقف". 2 البلدان "3/ 498 وما بعدها". 3 البلاذري، فتوح "68".

الفضل بالطبع في صد الأعراب ومنعهم من نهبها وغزوها. والظاهر أن أهل الطائف كانوا قد اقتفوا أثر اليمن في الدفاع عن مدنهم وقراهم, حيث كانوا يبنونها على المرتفعات في الغالب، ثم يحيطون ما يبنونه بأسوار ذات أبراج لمنع العدو من الدنو منها, ولا سيما الأعراب الذين لم يكونوا بحكم طبيعة معيشتهم في أرض منبسطة مكشوفة، ولفقرهم وعدم وجود أسلحة حسنة لديهم يستطيعون مهاجمة مثل هذه التحصينات، وأخذها على غِرَّة حيث تقفل أبواب الأسوار وتغلق ليلًا، وفي أوقات الخطر, فلا يكون في استطاعة أحد ولوجها؛ لذلك صارت هذه التحصينات من أثقل الأعداء على قلوب الأعراب. ولما هم "أبرهة" بالسير إلى مكة، كانت الطائف في جملة المواضع التي نزل بها في طريقه إليها. وقد خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف، فأتوه بالطاعة، وبعثوا معه "أبا رغال" دليلًا، فأنزله المغمس بين الطائف ومكة، فهلك "أبو رغال" هناك وقبره في ذلك الموضع. وعند ظهور الإسلام كان أغلب سكان هذا الموضع ينتسبون إلى قبيلة ثقيف. وترجع هذه القبيلة نسبها مثل القبائل الأخرى إلى جد أعلى، يقولون: إن اسمه "قسي بن منبه"، ويقول الإخباريون: إنما دعي قسيًّا؛ لأنه قتل رجلًا، فقيل: قسا عليه، وكان غليظًا قاسيًا1. والنسابون يختلفون في نسبه، فمنهم من ينسبه إلى إياد، فيجعله قسي بن نبت بن منبه بن منصور بن مقدم بن أفصى بن دُعْمِيّ بن إياد بن معد، ومنهم من يجعله من هوازن، فيقول: قسي بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان2. ونحن إذا درسنا ما رواه أهل الأخبار عن نسب ثقيف، وعن القبائل التي اتصلت بها، نجد أنها كانت ذات صلة وثيقة بقبائل "قيس عيلان" من مجموعة مضر. ومعنى هذا أنها كانت على مقربة منها، وأنها كانت من قبائل مضر, كما نجد في الوقت نفسه أنها كانت على صلات وثيقة مع بعض قبائل اليمن. وقد

_ 1 الاشتقاق "183". 2 ابن الأثير، الكامل "1/ 288"، الأغاني "4/ 74"، البلاذري، أنساب الأشراف "25 وما بعدها", ency., iv, p, 734.s

فسرت هذه الصلات بوجود نسب لثقيف باليمن، وهذا النسب المزدوج، هو كناية عن الصلات التي كانت تربط بين "ثقيف" ومجموعة "مضر", وبينها وبين قبائل اليمن. وهو تعبير عن موضع الطائف المهم الوسط، الذي يربط بين اليمن والحجاز والطرق المارة إلى نجد، مما جعله وسطًا وموضعًا للاحتكاك بين قبائل هذه الأرضين. وصيروا ثقيفًا في رواية أخرى ابنًا لأبي رغال, ثم رفعوا نسب الابن والأب إلى قوم ثمود، وجعله حماد الراوية ملكًا ظالمًا على الطائف، لا يرحم أحدًا، مر في سنة مجدبة بامرأة ترضع صبيا يتيما بلبن عنز لها، فأخذها منها فبقي الصبي بلا مرضعة، فمات، فرماه الله بقارعة فأهلكه، فرجمت العرب قبره، وصار رجم قبره سنة للناس1. فهل تجد رجلًا ألأم من هذا الرجل على هذا الوصف؟. وقد قيل في "أبي رغال": إنه كانت رجلًا عشَّارًا في الزمن الأول, جائرًا, وقيل: كان عبدًا لشعيب، وقيل: اسمه "زيد بن مخلف" عبدٌ كان لصالحٍ النبي، وأنه أرسله إلى قوم ليس لهم لبن إلا شاة واحدة، ولهم صبي قد ماتت أمه يغذونه بلبن تلك الشاة، فأبى أن يأخذ غيرها، فقالوا: دعها نحايي بها هذا الصبي، فأبى "فيقال: إنه نزلت به قارعة من السماء, ويقال: بل قتله رب الشاة. فلما فقده صالح، قام في الموسم ينشد الناس، فأخبر بصنيعه فلعنه، فقبره بين مكة والطائف يرجمه الناس"2.

_ 1 الأغاني "4/ 74". 2 "عن أنس, قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال: "هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود, وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه" الحديث. وأورده القسطلاني هكذا في المواهب في وفادة ثقيف, وبسطه الشراح. وقول الجوهري والصاغاني كذلك أنه كان دليلًا للحبشة حين توجهوا إلى مكة -حرسها الله تعالى- فمات في الطريق بالمغمس, قال جرير: وإذا مات الفرزدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال غير جيد. وكذا قول ابن سيده كان عبدًا لشعيب -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-. وكان عشارا جائرا فقبره بين مكة والطائف يرجم اليوم. وقال ابن المكرم: ورأيت في هامش الصحاح ما صورته: أبو رغال اسمه: زيد بن مخلف, عبد كان لصالح النبي=

وفي رأيي أن معظم هذه الروايات التي يرويها الإخباريون عن ثقيف إنما وضعت في الإسلام، بغضًا للحَجَّاج الذي عرف بقسوته وبشدته، فصيروا ثقيفًا عبدًا لأبي رغال, وجعلوا أصله من قوم نجوا من ثمود. وأبو رغال نفسه جاسوس خائن في نظر الإخباريين، حاول إرشاد أبرهة إلى مكة، فكيف يكون إذن حال رجل من قوم فَسَقَة كَفَرَة, ثم صار عبدًا لجاسوس لئيم! وقد رأيت أن من أهل الأخبار من صير "ثقيفًا" رجلًا مهاجرًا، هاجر في البلاد يلتمس العيش حتى جاء وادي القُرَى، فتبنته عجوز يهودية، وعطفت عليه، حتى إذا ما ماتت أخذ مالها، وهاجر إلى الطائف، وكان لئيما فطمع في غنم لأمة حبشية، وكاد يقتلها لولا إشارتها عليه باللجوء إلى "عامر بن الظَّرِب"، الجواد الكريم، وصاحب الطائف، فأعطاه وحباه، ولكن أبى لؤم ثقيف إلا أن ينتقل إلى ولده، فتنكروا لبني عامر وأخرجوهم عن الطائف، واستبدوا وحدهم بها. وبنو ثقيف حزبان: الأحلاف ومنهم: "غيلان بن سلمة" و"كنانة بن عبد ياليل" و"الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب"، و"ربيعة بن عبد ياليل" و"شرحبيل بن غيلان بن سلمة" و"عثمان بن أبي العاص" و"أوس بن عوف" و"نمير بن خرشة بن ربيعة"، وقد ذهب هؤلاء إلى الرسول وأسلموا، فاستعمل عليهم "عثمان بن أبي العاص". وأما القسم الثاني، فعُرف بـ"بني مالك"، وقد ذهب نفر منهم مع هذا الوفد إلى الرسول، فضرب لهم قبة في المسجد, وأما الأحلاف فنزلوا ضيوفًا على "المغيرة بن شعبة" وهو من ثقيف1.

_ = -عليه السلام- بعثه مصدقًا، أنه أتى قوما ليس لهم لبن إلا شاة واحدة ولهم صبي قد ماتت أمه، فهم يعاجونه بلبن تلك الشاة، يعني: يغذونه، فأبى أن يأخذ غيرها. ففالوا: دعها نحايي هذا الصبي فأبى، فيقال: إنه نزلت به قارعة من السماء, ويقال: بل قتله رب الشاة، فلما فقده صالح -عليه السلام- قام في الموسم ينشد الناس، فأخبر بصنيعه فلعنه، فقبره بين مكة والطائف يرجمه الناس"، تاج العروس "7/ 348" "رغل", "والمغمس كمعظم ومحدث، الأول هو المشهور عن أهل مكة والثاني نقله الصاغاني، وقال لغة فيه بطريق الطائف بالقرب من مكة, فيه قبر أبي رغال دليل أبرهة الحبشي إلى مكة ويرجم إلى الآن. قال أمية بن أبي الصلت: حبس الفيل بالمغمس حتى ظل فيه كأنه مقبور"، تاج العروس "4/ 203"، "غمس". 1 ابن سعد، طبقات "1/ 312 وما بعدها".

ومن الأحلاف في الإسلام: المختار بن أبي عبيد، والحجاج بن يوسف. ومن زعماء الأحلاف عند ظهور الإسلام: أمية بن أبي الصلت، والحارث بن كلدة، ومعتب، وعتاب، وأبو عتبة، وعتبان1. ويذكر أهل الأخبار أن حربًا وقعت بين "مالك" والأحلاف، فخرجت الأحلاف تطلب الحلف من أهل يثرب على "بني مالك"، وعلى رأسها "مسعود بن معتب" رأس الأحلاف. فقدم على "أحيحة بن الحلاج"، أحد بني عمرو بن عوف من "الأوس", فطلب منه الحلف، فأشار عليه "أحيحة"، أن عليه أن يعود إلى الطائف ويصالح إخوانه، فإن أحدًا لن يبر له إذا حالفهم, فانصرف "مسعود" عن "عتبة" بعد أن زوده بسلاح وزاد وأعطاه غلامًا يبني الأسوار، فلما وصل، أمر الغلام ببناء سور حول الطائف، فبناه له، وأحيطت الطائف بسور قوي حصين، وآمنت بذلك على نفسها من غارات الأعراب2. ويختلف أهل الطائف عن أهل مكة، وعن الأعراب من حيث ميلهم إلى الزراعة واشتغالهم بها وعنايتهم بغرس الأشجار. وقد عرفت الطائف بكثرة زبيبها وأعنابها واشتهرت بأثمارها، وقد كان أهلها يُعنون بزراعة الأشجار المثمرة, ويسعون إلى تحسين أنواعها وجلب أنواع جديدة لها، فقد استوردوا أشجارًا من بلاد الشام ومن أماكن أخرى وغرسوها، حتى صارت الطائف تمون مكة وغيرها بالأثمار والخضر. وثقيف حضر مستقرون متقدمون بالقياس إلى بقية أهل الحجاز, فاقوا غيرهم في الزراعة إذ عنوا بها كما ذكرت، واستفادوا من الماء فائدة كبيرة، وأحاطوا المدينة ببساتين مثمرة، كما فاقوا في البناء فبيوتهم جيدة منظمة، وكان لهم حذق ومهارة في الأمور العسكرية. وقد تجلى ذلك في دفاعهم عن مدينتهم يوم حاصرها الرسول وتحصنهم بسورهم، ورميهم المسلمين بالسهام وبالنار من فوق سورهم، يوم لم يكن لمكة ولا للمدينة سور ولا خنادق. كذلك اختلف أهل الطائف عن غيرهم من أهل الحجاز في ميلهم إلى الحرف

_ 1 المعارف "91". 2 ابن الأثير، الكامل "1/ 420 وما بعدها".

اليدوية مثل الدباغة والنجارة والحدادة، وهي حرف مستهجنة في نظر العربي، يأنف من الاشتغال بها. ولكن أهل الطائف احترفوها، وربحوا منها، وشغَّلوا رقيقهم بها. وقد استفادوا من خبرة الرقيق, فتعلموا منهم ما لم يكن معروفًا عندهم من أساليب الزراعة وأعمال الحرف، فجددوا وأضافوا إلى خبرتهم خبرة جديدة. وقد عاش أهل الطائف في مستوى هو أرفع من مستوى عامة أهل الحجاز، فقد رزقوا فواكه أكلوا منها، وجففوا بعضًا منها مثل "الزبيب"، وأكلوا وصدروا منه ما زاد عن حاجتهم، كما اقتاتوا بالحبوب واللحوم, حتى حظ فقراء الطائف هو أرفع وأحسن درجة من حظ فقراء المواضع الأخرى من الحجاز. وقد ذهب المفسرون إلى أن كلمة القريتين الواردة في القرآن الكريم، تعني مكة والطائف. {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 1. وكان رؤساؤها من المثرين الكبار، لهم حصون يدافعون بها عن أنفسهم وعن أموالهم، ولهم علم بالحرب. ولحماية مدينتهم أقاموا حصونًا على مسافات منها، وحوطوا مدينتهم بسور حصين عالٍ، يرد من يحاول دخولها، وجمعوا عندهم كل وسائل المقاومة الممكنة التي كانت معروفة في ذلك العهد، مثل أوتاد الحديد التي تحمى بالنار لتلقى على الجنود المختفين بالدبابات، وغير ذلك من وسائل المقاومة والدفاع، كما كانوا قد تعلموا من أهل اليمن مثل مدينة "جرش" صناعة العرادات والمنجنيق والدبابات2. وكان أغنياء "الطائف" كأغنياء مكة وأغنياء المواضع الأخرى من جزيرة العرب, أصحاب ربا. ولما أسلموا اشترط عليهم الرسول ألا يرابوا، ولا يشربوا الخمر، وكتب لهم كتابًا3. وكانت لهم تجارة مع اليمن، ولكننا لا نسمع

_ 1 الزخرف، الآية 31، الطبرسي، مجمع "5/ 46"، تفسير الطبري "25/ 39". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 312" "بيروت 1957م"، السيرة الحلبية "3/ 131 وما بعدها". 3 البلاذري، فتوح "67".

شيئًا عن قوافل كبيرة كقوافل أهل مكة، كانت تتاجر مع بلاد الشام أو العراق، ولعلهم كانوا يساهمون مع تجار مكة في اتجارهم مع تلك الديار. وقد اشتهرت الطائف بدباغة الجلود، وذكر أن مدابغها كانت كثيرة، وأن مياهها كانت تنساب إلى الوادي، فتنبعث منها روائح كريهة مؤذية1, واشتهرت بفواكهها وبعسلها2. وقد استغل أثرياء قريش أموالهم في الطائف، فاشتروا فيها الأرضين وغرسوها واستثمروها، واشتروا بعض المياه، وبنوا لهم منازل في الطائف ليتخذوها مساكن لهم في الصيف، وأسهموا مع رؤساء ثقيف في أعمال تجارية رابحة، وربطوا حبالهم بحبالهم، وحاولوا جهد إمكانهم ربط الطائف بمكة في كل شيء3. ولما فتحت مكة وأسلم أهلها, طمعت ثقيف فيها، حتى إذا فتحت الطائف أقرت في أيدي المكيين، وصارت أرض الطائف مخلافًا من مخاليف مكة4. وقد كان بين أهل مكة وأهل الطائف تنافس وتحاسد، وقد حاول أهل الطائف جلب القوافل إليهم، وجعل مدينتهم مركزًا للتجار يستريحون فيه، وقد نجحوا في مشروعهم هذا بعض النجاح يوم استولى الفرس على اليمن، وتمكنوا فيه من طرد الحبش عن العربية الجنوبية, فصارت قوافل "كسرى" التجارية و"لَطائم" ملوك الحيرة تذهب إلى اليمن وتعود منها من طريق الطائف, ونغصت بذلك عيش أهل مكة, غير أن أهل مكة تمكنوا من التغلغل إلى الطائف ومن بسط سلطانهم عليها، بإقراض سادتها الأموال، وبشراء الأرضين, فبسطوا بذلك سلطانهم عليها، وأقاموا بها أعمالًا اقتصادية خاصة ومشتركة، وهكذا استغل أذكياء مكة هذا الموضع المهم، وحولوه إلى مكان صار في حكم التابع لسادات قريش. ومن سادات الطائف: "عبد ياليل" وإخوته "حبيب" و"مسعود" و"ربيعة" و"كنانة" وهم "بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن

_ 1 البلدان "6/ 10 وما بعدها". 2 البلاذري، فتوح "68 وما بعدها". 3 البلاذري، فتوح "68". 4 البلاذري، فتوح "68".

غيرة الثقفي"، وكانوا أثرياء أجوادًا يطعمون بالرياح1. وأمهم "قلابة بنت الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج" الثقفي2, وبيت "بني علاج" من البيوت القديمة المعروفة بالطائف3. ولقد لقي الرسول مقاومة عنيفة من أهل الطائف حين حاصرها وأحاط بها، فقد تحصن أهلها بحائطهم وبحصونهم, وأغلقوا عليهم أبواب مدينتهم، وصنعوا الصنائع للقتال. أما من كان حول الطائف من الناس, فقد أسلموا كلهم، ولما ضيق المسلمون الحصار عليها، وقربوا من الحائط، دخل نفر من أصحاب رسول الله تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالا، فأمر رسول الله بقطع أعناب ثقيف؛ كي يحملهم على فتح أبواب مدينتهم ومهادنة الرسول، للإبقاء على أموالهم، غير أنهم لم يبالوا بما رأوا من قطع أعنابهم وتخريب بساتينهم، وبقوا على عنادهم، مما حمل الرسول على ترك حصارهم والرحيل عنهم انتظارًا لفرصة أخرى4. ويذكر أهل الأخبار، أن "سلمان الفارسي" اتخذ منجنيقًا نصبه المسلمون على الطائف، وأن المسلمين كانت لهم دبابة، جاء بها "خالد بن سعيد بن العاص" من "جرش"5. ويذكر الطبري أن عروة بن مسعود، وهو من وجوه الطائف، كان قد تعلم مع غيلان بن سلمة صنعة الدبابات والضبور والمجانيق من أهل جرش6. وقد اشتهرت هذه المدينة بصنع آلات الحرب. ولما انصرف الرسول عن الطائف، اتبع أثره "عروة بن مسعود بن متعب" حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم. فلما رجع إلى الطائف على أمل

_ 1 المحبر "460". 2 المحبر "460". 3 الاشتقاق "185". 4 الطبري "3/ 82 وما بعدها" "غزوة الطائف". 5 البلاذري، أنساب "1/ 366". 6 الطبري "3/ 82".

إقناع أهلها بالدخول في الإسلام، لمكانته فيهم، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله. ثم أقامت ثقيف بعد مقتل عروة أشهرًا، ثم إنهم ائتمروا بينهم ألا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب, فأرسلوا وفدًا إلى المدينة لمفاوضة الرسول على الدخول في الإسلام. فلما دخلوا عليه أبوا أن يحيوه إلا بتحية الجاهلية، ثم سألوه أن يدع لهم "الطاغية" وهي اللات لا يهدمها, إلى أجل؛ لأنهم أرادوا بذلك "فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروِّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام. فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم، فقال رسول الله: "أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه. وأما الصلاة، فلا خير في دين لا صلاة فيه". فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة"1. فلما وصل الوفد ومعه أبو سفيان والمغيرة بن شعبة إلى الطائف، وأرادا هدم الصنم، "أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: ادخل أنت على قومك، وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم2, فلما دخل المغيرة بن شعبة، علاها يضربها بالمعول، وقام قوم دونه -بنو معتب- خشية أن يرمى أو يصاب.... وخرجن نساء ثقيف حسَّرًا يبكين" "ويقول أبو سفيان والمغيرة يضربها بالفأس: واهًا لك، فلما هدمها المغيرة، أخذ مالها وحُليَّها، وأرسل إلى أبي سفيان وحليها مجموع، ومالها من الذهب والجزع، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا سفيان أن يقضي من مال اللات دين عروة والأسود ابني مسعود، فقضى منه دينهما"3. وذكر عن "عروة بن مسعود الثقفي" أنه كان من الرجال الذين كان عندهم عشر نسوة عند مجيء الإسلام4, وأنه نادى على سطحه بالطائف بالأذان

_ 1 الطبري "3/ 99 وما بعدها". 2 "الهدم". 3 الطبري "3/ 99 وما بعدها". 4 المحبر "ص357".

أو التوحيد، فرماه رجل من أهل الطائف فقتله، وأن الرسول قال فيه: "مثله مثل صاحب ياسين" 1. "ويقال: إنه الذي ذكره الله عز وجل في التنزيل: {مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} ، وذكر بعض أهل العلم أن أربعة سؤددهم في الجاهلية والإسلام: عروة بن مسعود، والجارود واسمه: بشر بن المعلى، وجرير بن عبد الله، وسراقة بن جعشم المدلجي"2. وثقيف أقرب في الواقع إلى اليمن منهم إلى أهل الحجاز، وتكاد تكون ثقافتهم ثقافة يمانية، وحياتهم الاجتماعية حياة اجتماعية من النوع المألوف في اليمن, حتى في الوثنية نجد لهم معبدًا خاصًّا بهم، يتقربون إليه ويحجون له. ولعل هذه الاختلافات وغيرها هي من جملة العوامل التي صيرت ثقيفًا مجتمعًا خاصًّا معارضًا لمجتمع مكة, وجعلت أهل الطائف يكرهون أهل مكة الذين امتلكوا أملاكًا في الطائف، وكانوا يأتون إليها في الصيف هربًا من جو مكة المحرق. ومن بطون ثقيف: "بنو الحطيط" و"بنو غاضرة"، ومن بني الحطيط "مالك بن حطيط"، وكان من ساداتهم في الجاهلية، ومن ثقيف الشاعر أمية بن أبي الصلت، وكان بعض العلماء يقول: لولا النبي -صلى الله عليه وسلم- لادعت ثقيف أن أمية نبي؛ لأنه قد دارس النصارى وقرأ معهم ودارس اليهود وكل الكتب قرأ, ولم يسلم ورثى قتلى بدر3. ومن رجالهم "أبو محجن"، كان شاعرًا فارسًا شجاعًا شهد يوم القادسية، وكان له فيها بلاء عظيم، وقد شهد يومئذ "عمرو بن معد يكرب" وغيره من فرسان العرب, فلم يبل أحد بلاءه, و"الأخنس بن شريق", وتزعم ثقيف أنه أحد الرجلين اللذين ورد ذكرهما في القرآن, {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيم} : الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة, وقد كان حليفًا لبني زهرة. وقد خنس ببني زهرة يوم بدر4. ومن ثقيف "بنو علاج"، ومنهم "الحارث بن كلدة", "كان طبيب

_ 1 المحبر "ص106". 2 الاشتقاق "186". 3 الاشتقاق "184". 4 الاشتقاق "185".

العرب في زمانه وأسلم ومات في خلافة عمر"1, والمغيرة بن شعبة2. ومن بني ثقيف عثمان والحكم ابنا أبي العاص بن بشر بن دهمان الثقفي، كانا شريفين عظيمي القدر، ولى "عمر" عثمان عمان والبحرين وأقطعه الموضع المعروف بالبصرة بـ"شط عثمان". ومنهم "تميم بن خَرشة بن ربيعة"، أحد وفد ثقيف إلى رسول الله، ومن فرسانهم في الجاهلية: "أوس بن حذيفة" وأدرك الإسلام، و"ضبيس بن أبي عمرو"، و"همام بن الأعقل", وآخرون3.

_ 1 الاشتقاق "ص185 وما بعدها". 2 الاشتقاق "186". 3 الاشتقاق "184".

الفصل الرابع والأربعون: مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام

الفصل الرابع والأربعون: مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام استعرضنا في الفصول المتقدمة من هذا الكتاب حالة العرب السياسية قبل الإسلام, على قدر ما أدى إليه بحثنا، وساعفتنا عليه الموارد. أما في هذا الفصل وهو خاتمة فصول القسم السياسي، فنستعرض حالة العرب السياسية في القرن السادس للميلاد بوجه عام. والقرن السادس للميلاد فترة من الفترات المهمة في تأريخ البشرية، فيه ظهرت أمارات الشيخوخة على الإمبراطورية الساسانية التي شيدها "أردشير الأول" على أثر الثورة التي اندلعت عام "224م" أو "226م"، ثم لم تلبث أن انهارت في القرن السابع للميلاد بسرعة عجيبة، وبأيدٍ لم يحسب لوجودها حساب، ومن مكان لم يكن له قبل ظهور الإسلام أثر ما فعال في السياسة العالمية. وفي هذا القرن أيضًا برزت الأمراض العديدة التي ألمت بالقيصرية، والأملاك التي كانت خاضعة لها، وهي أمراض لم تنجُ منها إلا ببتر بعض أطرافها في القرن التالي له, فخرجت من ردهة العمليات تئن من فاجعة الألم الذي حل بها، ومن هول ما أصيب به بذلك البتر. وفي النصف الثاني من هذا القرن وُلِدَ الرسول، وبميلاد الرسول ظهر حدث تأريخي خطير للبشرية في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، يكفي أن أثره

قائم حتى الآن، وأنه سيقوم إلى ما شاء الله، وأنه أوجد مفاهيم خلقية جديدة للبشرية، وأنه بشَّر برسالة قائمة على أن الدين لله، وأن الناس أمامه سواء, لا فرق بين فرد وآخر وجنس وجنس، ولا تمييز للون على آخر، ثم لم يلبث أن انتشر بسرعة عجيبة لم ينتشر بمثلها دين من الأديان، فقضى على إحدى الإمبراطوريتين العظيمتين في عالم ذلك العهد, واستأصل الأعضاء الثمينة من الإمبراطورية الأخرى، وأوجد من أشتات سكان جزيرة العرب أمة، ومن قبائلها المتنازعة حكومة ذات سلطان، وفاض على سداد الجزيرة، وسقى ما وراءها من أرضين، ثم وحد بين أقوام عديدين وجمعهم في صعيد دين الله. وقد ابتُلِيَ هذا القرن والنصف الأول من القرن التالي له بأوبئة وبآفات وبمجاعات زادت في مشكلاته الكثيرة التي ورثها من القرون السابقة له، ففيه انتشرت أوبئة ابتلعت بضع مئات من البشر في كل يوم من أيام انتشارها، كانت كالعواصف تنتقل من مكان إلى مكان مكتسحة من تجده أمامها من مساكين، وتعود بين الحين والحين لتبتلع ما يسد حاجتها من البشر والحيوانات. وفيه مُنِيَ العالم بزلازل وبنقص كبير في الغلات أوجد قحطًا ومجاعةً وفقرًا في كثير من الأقطار، حتى اضطر كثير من الناس إلى هجر الأماكن المنكوبة والارتحال عنها إلى أماكن أخرى فيها النجاة والسلامة. ولا ريب أن ظروفًا هذه حالتها، لا بد أن تتولد منها مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية للحكومات وللرعية، فاختل الأمن خاصة في المناطق الواقعة تحت أقدام الجيوش، فيومًا تكتسحها جيوش الفرس فتهدم كل ما تجده أمامها من حاصلات زراعية ومن أموال. وفي ظروف هذه شأنها لا بد أن يجد الخارجون على النظام والطامعون في الربح السهل الحرام فرصًا مواتية, لا يفرَّط فيها, للكسب والظفر بما يرغبون فيه، فتأثرت بذلك حالة سكان هذه الأرضين، كما تعرضت التجارة للأخطار، واضطر التجار إلى سلوك طرق نائية ليكونوا بمأمن من شر قطاع الطرق وفسادهم، وترك أكثر الناس مزارعهم وقراهم فرارًا من هذا الوضع إلى المدن الكبيرة البعيدة عن مواطن الغزو والأخطار، فتحولت خيرة الأرضين الخصبة إلى أرضين مجدبة؛ نتيجة لهذه الهجرة, ولتراكم الأتربة في شبكات

الري. ولكن هذا القرن لم يعدم مع ذلك حكامًا حاولوا جهد إمكانهم إصلاح الخطأ، وأناسًا كان لهم حسٌّ وشعورٌ بما وصلت إليه الحالة، فنادوا بإصلاح. ولكن صيحاتهم لم تكن ذات أثر خطير في قوم قلقين حائرين، وليس في أيديهم زمام أمورهم، وقد اعتراهم ذهول جعلهم لا يعرفون كيف يتصرفون. ثم إن الحمل كان ثقيلًا والأخطاء كثيرة، والأمراض عديدة، لا يقومها طبيب واحد أو أطباء معدودون. لقد عزم "كسرى" الأول "531-579م" المعروف بـ"كسرى أنوشروان"، على إصلاح الحال في مملكته، فأمر بوضع دستور جديد للجباية يخفف عن كاهل الدافعين بعض الثقل، وأمر بإصلاح الأرض وتوزيعها على شعبه بالعدل وبالإنصاف بين الناس حتى عرف لذلك بالعادل، واستعان بمستشارين حكماء كانوا يعظونه ويرشدونه بطريقة الحكم والأمثال والعظات إلى كيفية سياسة الرعية وتدبير أمورها، كما ولى النواحي الروحية عنايته كذلك، فأعاد الزردشتية القديمة، وقاوم الحركة المزدكية التي قام بها "مزدك" في عهد والده "قباذ الأول" "483-531م" "488-531م"1 وهي حركة تدعو إلى إلغاء الملكية، وإلى الإباحية، وإلى القضاء على امتيازات النبلاء ورجال الدين على ما تقوله الموارد التأريخية العربية المستندة إلى موارد "فهلوية" شجعها "قباذ" لما وجد فيها من مبادئ توافق سياسته الرامية إلى مقاومة تلك الطبقات المتنفذة التي عارضت في انتقال العرش إليه، والتي اجتمعت كلمتها برئاسة "موبذان موبذ" والعظماء على إنزاله من عرشه، لما بدا لهم من ازوراره عنهم، وانحرافه عن الزردشتية إلى تعاليم مزدك المناهضة للموابذة ولعظماء المملكة الذين كانوا يتمتعون في المملكة بنفوذ واسع حد من سلطان "شاهنشاه". ورساله مزدك وتعاليمه غامضة، لا نعلم من حقيقتها شيئًا، فقد أبيدت كتبهم وطمست معالم دينهم في عهد "أنو شروان"، ولم يبق منها إلا هذه النتف المدونة في الكتب العربية عن موارد "فهلوية" دُونت في أيام محنة المزدكية وبعدها. ويظهر من هذه النتف أنها حركة دينية اجتماعية سياسية تدعو إلى توزيع الثروات بين الناس بالتساوي، وإلى انتزاع الأموال والأرضين من الأغنياء لإعطائها

_ 1 ENCY., IV, P, 178.

للمقلين، حتى من كان عنده جملة نساء تؤخذ منه لتعطى لغيره من المحتاجين، فهي على هذا التعريف فكرة اشتراكية متطرفة عارضت النظم الاجتماعية القائمة، وهددت الدين القائم، وجرَّأت العامة على تلك الطبقات، كان الملك في حاجة إليها للانتقام ممن عارضه فأيدها1. هذا وحيث إننا قد تعلمنا من التجارب التي تجري في الوقت الحاضر, ومن دراستنا للموارد التأريخية القديمة، أن ما يكتب عن قوم غضب الحاكمون عليهم، لا يمكن أن يكون مرآة صافية يعبر عن وجه أولئك القوم وعن ملامحهم الحقيقية؛ لذا فإننا لا نستطيع أن نقول: إن ما وصل إلينا عن المزدكية يمثل رأيها وعقيدتها تمام التمثيل، إذ يجوز أن يكون منه ما هو مصنوع موضوع حمل عليهم، وأن رواة الأخبار قد غرفوا منه، ودونوه على نحو ما وصل إلينا في كتبهم. لذلك يجب الانتباه إلى هذه الملاحظة. وحمل عدل الملك الساساني وحلمه وتسامحه مع رعيته ومساعدته للخارجين على الكنيسة الرومية الرسمية "من الفلاسفة والمثقفين بالثقافة الإغريقية القديمة ممن كانوا هدفًا لهجمات الكنيسة الأرثوذكسية في الإمبراطورية البيزنطية" على الهجرة إلى المملكة الساسانية، طامعين في عدل الملك وحمايته، وفي بيئة تكون فيها الحرية الفكرية مكفولة مضمونة، لا ضغط فيها ولا إكره. ولكنهم ما لبثوا أن وجدوا أن الزردشتية التي نصرها وأيدها "كسرى أنوشروان"، وهي ديانة المملكة غير ملائمة للفلسفة، وأنها ليست أرحب صدرًا من "الأرثوذكسية"، وأنهم لم يكونوا على صواب بمجيئهم إلى هذه الأرض, فرجوا من "ملك الملوك" الترفق بهم، بالسماح لهم بالعودة إلى بلادهم. فلما كانت الهدنة، طلب "كسرى" من قيصر في سنة 549م إباحة العودة إلى ديارهم والتلطف بهم والعفو عما بدر منهم من الذهاب إلى مملكته2.

_ 1 الطبري "2/ 87 وما بعدها". Noldeke, Geschichte der Perser, S. 455, A. Christensen, Le Ragne du Roikawadh I et le Communisme Mazdakite In der Kongl. Danske Viedenskalernes Selskab. Copenhagen. 1935. 2 H. G. Wells. The outlind of History, P. 564.

وكان مما فعله "كسرى أنوشروان" أن هاجم الإمبراطورية البيزنطية وقيصرها في عهد "يوسطفيان" "يسطنيانوس" "جستنيان" "527-565م" واشتبك معها في جملة حروب، ووسع حدوده في الشرق، وساعد الأحزاب المعارضة للروم، وأرسل حملة إلى اليمن بناء على طلب الأمراء المعارضين لحكم الحبشة عليها، ساعدتهم في وضع خطة لإزاحة الحبشة عنها1. والحبش هم حلفاء البيزنطيين، وإخوانهم في الدين وهم الذين حثوا النجاشي على فتح اليمن بعد أن يئسوا من الاستيلاء عليها, ومن الاستيلاء على الحجاز وبقية جزيرة العرب. واتبع "كسرى الثاني" "590-628م" المعروف بـ"كسرى أبرويز"، وهو ابن "هرمز بن كسرى أنوشروان" خطوات جده وأسلافه الملوك الماضين في الحرب مع البيزنطيين، فبلغ "خلقيدونية" ثلاث مرات، واستولى على بلاد الشام، ودخلت جيوشه القدس في سنة "614م". ثم استولى على مصر في سنة "619م", ودوخ بفتوحاته الروم إلى أن عاجله ابنه بخلعه, فاستراح الروم منه، ثم لم يلبثوا أن استردوا من الفرس أكثر ما أخذوه منهم في تلك الحروب. وقد أضعف هذه الحروب المتوالية الحكومة الساسانية وآذت الشعوب التي خضعت لحكمها وأفقرتها، وأثرت على الأمن الداخلي وعلى الأوضاع الاقتصادية والعمرانية تأثيرًا كبيرًا, ولا سيما في البلاد التي صارت ساحة تعبئة وتلاحم جيوش، وهي بلاد العراق. ولم يعد الإنسان يأمن على حياته وعلى ماله، وصار سواد الناس وكأنهم أبقار واجبها إعطاء الحليب وأداء الأعمال الأخرى للحكام، والذبح للاستفادة من لحومها ومن جلودها وعظامها, حينما تنتفي الحاجات الأخرى منها. وتأسد المرازبة وقادة الجيوش في الحكم، حتى صار الحكم حكم عواطف وأهواء ومصالح، "والشاهنشاه" عاجز عن عمل كل شيء؛ لأن "الشاهنشاهية" لم تعد متقيدة بالوراثة القديمة وبالآداب السلطانية، بل صارت لمن يستعين بأصحاب العضلات ويمثيري الفتن والاضطرابات. أضف إلى ذلك أن من بيده مفتاح الدفاع عن الدولة، وهم الجنود والضباط الصغار، شعروا أنهم يقاتلون لا في سبيل وطن ودين وعقيدة، بل يقاتلون لأنهم يساقون إلى القتال قسرًا، وهم في حالة سيئة ووراءهم عوائلهم لا تملك شيئًا، وقد جيء بهم إلى الجيش قسرًا وعلى

_ 1 الطبري "2/ 93 وما بعدها".

طريقة "السخرة". وهم يحاربون ولا سلاح لهم؛ لأن الحكومة لا تملك سلاحًا, ولا نظام لهم؛ لأنهم لم يدربوا على القتال ولم يعلموا أصوله، أجسامهم تقاتل، وقلوبهم مشغولة في مصير أولادهم وزوجاتهم وبيوتهم، وهم المعيلون لهم، ليس لهم غيرهم من معين. وحكومة هذا شأنها، لا يمكن لها أن تحافظ على حدود طويلة مفتوحة سهلة تقيم عليها قبائل غازية، تترقب الفرص لتجد فرصة تهتبلها لتغير فيها على الحضر، فتنتزع منهم ما قد تقع أيديهم عليه من أي شيء. فصار الأعراب يغيرون على الحدود من كل مكان فيه نفوذ وجنود للساسانيين، ولا سيما بعد معركة "ذي قار" التي منحتهم قوة معنوية عالية، وعلمتهم مواطن الضعف عند الساسانيين. فلما جاء الإسلام من جزيرة العرب صاروا عونًا له في تقويض تلك الدولة، ودالة ساعدته في تفهم مواطن الضعف فيها، ومنها نفذ الإسلام إلى ما وراء البحار، وقوض الحكومة الضخمة بسرعة عجيبة وبمحاربين لم يكونوا قد عرفوا من قبل أساليب القتال المنظم، ولا المعارك الضخمة التي صادفوها لأول مرة في حروبهم مع الساسانيين والبيزنطيين. وقد طمعت القبائل في حكومة الحيرة أيضًا، هذه الحكومة التي ظهر عليها الوهن كذلك. فأخذت تغير عليها وتتعرض بحدودها، وتتحرش بقوافلها التي كان يرسلها ملوكها للاتجار في أسواق الحجاز واليمن، حتى صارت الطرق التي تسلكها خطرة غير آمنة، لا يتمكن رجالها من المرور بها بسلام. ولم يستطع الساسانيون من مساعدتها وحمايتها؛ لأن أوضاعهم الداخلية كانت كما ذكرتُ على غير ما يرام, وهذا مما زاد في تصميم القبائل على مهاجمة ملوك الحيرة وحدود الفرس في آن واحد. ولعل هذه الغارات كانت في جملة الأسباب التي حملت "كسرى" على القضاء على النعمان وعلى إنهاء حكم "آل نصر"، إما بسبب ما رآه "كسرى" من عدم تمكن الملك "النعمان" من تأديب القبائل ومن ضبط الطرق والأمن، فارتأى استبداله بعربي آخر أو برجل قوي من قادة الجيوش الفرس، وإما لظنه أو لما وصل إلى علمه من خبر يفيد بأن النعمان قد أخذ يفاوض سادة القبائل الكبار لإرضائهم وضمهم إليه، وفي هذا العمل تهديد لمصالح الفرس ومحاولة للابتعاد عنهم. فأراد لذلك القضاء عليه وعلى الأسرة الحاكمة، قبل أن

يتمكن من الحصول على تأييد أولئك السادة الذين أدركوا نواحي الضعف في حكومة الساسانيين. وهناك روايات يُشْتَمُّ منها أن "النعمان" قال لسادات القبائل: "إنما أنا رجل منكم، وإنما ملكتُ وعززتُ بمكانكم وما يتخوف من ناحيتكم.... ليعلم أن العرب على غير ما ظن وحدث"1, وروايات تفيد أن "كسرى" إنما قتل "النعمان"؛ لأنه وسائر أسرته سايروا سادات القبائل وتواطئوا معهم على الساسانيين2. ولعل عجز ملوك الحيرة عن حماية قوافل الفرس الذاهبة إلى اليمن والآيبة منها، وعن حماية الطرق البرية المهمة التي توصل العراق باليمن، ثم عجز ملك الحيرة من منع الأعراب من الإغارة على حدود الساسانيين، ثم اضطرار الملك "النعمان" إلى الاتصال بسادات القبائل لترضيتهم ولضمهم إليه لتأييده ولتقوية ملكه الضعيف, الذي كان يهدده خصوم له. لعل هذه الأسباب وغيرها، كانت في جملة العوامل التي حملت "كسرى" على القضاء على "النعمان" وعلى استبدال الأسرة الحاكمة بأسرة أخرى، أو تسليم أمور الحيرة نهائيا إلى قائد فارسي, يحكمها حكمًا عسكريًّا3. وقد نصب الفرسُ حاكمًا منهم على الحيرة، لكنه لم يتمكن من سد أبواب الحدود الطويلة وغلقها، ومنع الأعراب من دخولها. لقد اجتازوها ثم جاوزوها إلى مسافات بعيدة في الإسلام، أوصلت العرب إلى الصين والهند وتركستان الصينية؛ ذلك لأن الفرس كانوا منهوكي القوى في الداخل وفي الخارج، وقد أتعبتهم الأوجاع, بينما جاء العرب بإيمان برسالة، وبعزم وتصميم، وباعتماد على النفس، من أن النصر سيكون لهم حتمًا. لقد بدأ هذا العزم قبل "ذي قار"، ثم تجسم في "ذي قار"، فكان نصر المعركة في هذا الموضع ناقوس النصر، و"الهرمون"

_ 1 ابن عبد ربه، العقد "1/ 169". M. J. Kister, In Journal of Journal of the Economic and Social History of the Orient, vol, VII, Part: II, November 1965, P. 114. 2 Rothstein, PP. 116, Kister, P. 115. 3 Noldeke, Geschichte der Perser, S. 332, Rothstein, S. 116, Levi Della Vida In the Arab Heritage, P. 50. Brockelmann, History of the Islamic Peopl P. 8, Kister, P. 114.

الذي بعث الحيوية في جسم القبائل، فجعلها تشعر أن في استطاعتها أن تفعل شيئًا لو وحدت نفسها، وعلمت عملًا إيجابيًّا منتظمًا، بعد دراسة وتفكير, وباعدت نفسها عن الهياج والحماس والكلام الكثير، الذي يذهب بعد تكلمه مع الهواء. ولم تكن مشكلات الروم أقل خطورة أو عددًا من مشكلات الساسانيين. لقد تمكنت النصرانية، بعد عنت واضطهاد ومقاومة, أن تكون ديانة رسمية للحكومة والشعب. وكان المأمول أن تتوحد بذلك صفوف الأمة، غير أن التصدع الذي أصاب هذه الديانة لم يحقق لها ذلك الأمل، فتدخلت المذهبية في السياسة؛ في المذهبيات. وتولدت من هذا التدخل مقاومة رسمية من الحكومة للمذاهب المعارضة، واضطهاد لكل من يعارض مذهب القيصر, وظهرت كنيسة شرقية وكنيسة غربية، وتجزأ النصارى الشرقيون إلى شِيَعٍ وفِرَقٍ عُدَّ بعضها خارجًا على تعاليم الحق والإيمان -هي في نظر "الأرثوذكسية" مذاهب إلحادية باطلة- فعُوملت كما عاملت وثنية روما النصرانية حين ظهورها، فحوربت بغير هوادة واضطر الكثير من المخالفين إلى التكتم أو الهرب إلى مواضع ليس للبيزنطيين عليها سلطان. والحروب المتوالية التي شنها الفرس على البيزنطيين, والبيزنطيون على الفرس، وانقسام الإمبراطورية إلى حكومتين: حكومة روما وحكومة القسطنطينية، ثم مهاجمة الملوك والأقوام الساكنة في أوروبا لهاتين الحكومتين من الشمال والغرب، كل هذه أنتجت مشكلات خطيرة للعالم الغربي عامة وللروم خاصة. وقد كان إزعاج الروم وإقلاقهم، مما يفيد بالطبع منافسيهم الفرس ويسُرُّهم، فكانوا يشجعون الثائرين ويتحالفون معهم لأن في ذلك قوة لهم، كما كان الروم أنفسهم يشجعون الأحزاب المعارضة للفرس ويحرضونها على الثورة على الساسانيين والتمرد عليهم، وعلى مهاجمة حدودهم نكاية بأعدائهم وللانتقام منهم حتى صارت الحروب بين الإمبراطوريتين تقليدًا موروثًا، لا يتركها أحد الطرفين إلا اضطرارًا، ولا تعقد هدنة بينهما إلا بدفع جزية تكون مقبولة لدى الطرف الغالب تغنيه عن المكاسب التي يتأملها من وراء الحرب، يدفعها المغلوب صاغرًا بسبب الأحوال الحرجة التي هو فيها، آملًا تحسن الموقف للانتقام من الخصم. فتأريخ الساسانيين والروم, هو تأريخ هدن وحروب عادت إلى بلاد الطرفين بأفدح الأضرار, وما الذي يكسبه الإنسان من الحروب غير الضرر والدمار؟.

لقد وجد "كسرى أنوشروان" "531-579م" في انشغال "يوسطنيان" "جستنيان" "jUSTINIAN" "527-565م" بالحروب في الجبهات الغربية, فرصة مواتية للتوسع في المناطق الشرقية من الإمبراطورية البيزنطية، فتحلل من "الهدنة الأبدية" التي كانت قد عقدت بين الفرس والروم, وهاجم الإمبراطورية منتحلًا أعذارًا واهية، واشترك في قتال دموي مر بجيوش الروم. ولم يفلح مجيء القائد "بليزاريوس" "BELISARIUS" من الجبهات الإيطالية لإيقاف تقدم الفرس، فسقطت مدن الشام وبلغت جيوش الفرس سواحل البحر المتوسط، وبعد مفاوضات ومساومات طويلة تمكن الروم من شراء هدنة من الفرس أمدها خمس سنوات بشروط صعبة عسيرة، وبدفع أموال كثيرة. ثم مُدت هذه الهدنة على أثر مفاوضات شاقة مع الفرس خمسين عامًا, حيث عقد الصلح في سنة "561" أو "562م", تعهد الروم لكسرى بدفع إتاوة سنوية عالية، وتعهد الفرس في مقابل ذلك بعدم اضطهاد النصارى، وبالسماح للروم في الاتجار في مملكتهم على شرط معاملة الروم لرعايا الفرس المعاملة التي يتلقاها تجار الروم في أرض الساسانيين1. و"يوسطنيان" معاصر "كسرى أنوشروان" شخصية فذة مثل شخصية معاصره، ذو آراء في السياسة وفي الملك، من رأيه أن الملك يجب أن يكون دليلًا وقدوةً ونبراسًا للناس، وأنه لا يكون عظيمًا شهيرًا لحروبه ولكثرة ما يملكه من سلاح وجند، إنما يكون عظيمًا بقوته وبقدرته وبالقوانين التي يسنها لشعبه للسير عليها، تنظيما للحياة. فالملك في نظره قائد في الحروب ومرشد في السلم، حامٍ للقوانين، منتصر على أعدائه. وكان من رأيه أن الله قد جعل الأباطرة ولاته على الأرض، وأدلة للناس، قوامين على الشريعة، ولذلك فإن من واجب كل إمبراطور أن يقوم بأداء ما فرضه الله عليه, بسن القوانين وتشريع الشرائع، ليسير الناس عليها. ولما كانت القوانين التي سارت عليها الإمبراطورية الرومانية كثيرة جدًّا، حتى صعب جمعها وحفظها، تطرق إليها الخلل، وتناقضت

_ 1 A. A. Vasillev, History of the Byzantine Empire, 1952, PP. 138, K. Guterbck, Byzants und Persien in 9hren Dipkomatischen Wolkerrechtlioden Beziehungen in Zeitalter Justinains, S. 57, 105. Bury, Later Roman Empire, II, PP. 120.

الأحكام، لذلك رأى أن من واجبه جمعها وتنسيقها وتهذيبها وإصدارها في هيئة دستور إمبراطوري يسير عليه قضاة الإمبراطورية في تنفيذ الأحكام بين الناس. وعهد بهذا العمل الشاق إلى "تريبونيان" "TRIBONIAN" من المشرعين المعروفين في أيامه1. فجمع هذا المشرع البارع القوانين في مدونات، ورتبها في كتب وأبواب، وصان بتدوينه هذا بعض القوانين البيزنطية والرومانية من الضياع، وأورث المشرعين ذخيرة ثمينة من ذخائر البشرية في التشريع. ويعد هذا العمل من الأعمال العظيمة في تأريخ التشريع، ولم يكن "يوسطنيان" أول من فكر في جميع القوانين السابقة في مدونة، ولكنه كان أول من أقدم على تنسيقها وجمع ما تشتت منها وتيسيرها للمشرعين، وقد وحد بذلك قوانين الإمبراطورية, فعُدَّ صنيعه هذا إصلاحًا كبيرًا يدل على شعور الملك وتقديره للعدالة في مملكته. وقد أدخل معاصره "كسرى أنوشروان" إصلاحات على قوانين الجباية، فعد القرن السادس من القرون المهمة في تأريخ التشريع. ولكن الذي يؤسفنا أننا لا نملك موارد تفصل إصلاحات "كسرى", وهل هي نتيجة شعور بضرورة ملحة وحاجة، أم هي صدى للعمل الذي قام به "يوسطنيان"؟ ثم أي مدى بلغته تلك الإصلاحات؟ وفكرة إخضاع الإمبراطورية لقانون واحد نابعة من أصل عام كان يدين به "يوسطنيان"، يتلخص في دولة واحدة وقانون واحد وكنيسة واحدة. كان يوسطنيان يرى أن الدولة المنظمة هي الدولة التي يخضع فيها كل أحد لأوامر القيصر، وأن الكنيسة إنما هي سلاح ماضٍ يعين الحكومة في تحقيق أهدافها؛ لذلك سعى لجعلها تحت نفوذ الحكومة وفي خدمة أغراضها، فتقرب إلى رجال الدين، وساعد على إنشاء كنائس جديدة، واستدعى إلى عاصمته رؤساء الكنيسة "المتوفيزيتية" "MONOPHYSITES" القائلين بالطبيعة الواحدة واليعاقبة وأتباع "آريوس" "ARIAUS" وغيرهم من المعارضين لمباحثتهم ولعقد مناظرات بينهم وبين الكنيسة الرسمية للتقريب فيما بينهم, وإيجاد نوع من الاتفاق يخدم أهداف الملك المذكور. ولكن هذه المحاولة لم تنجح، ومحاولات التوفيق لم تثمر، ولتحقيق نظريته في الكنيسة الواحدة اضطهد أصحاب المذاهب المعارضة، وكذلك اليهود.

_ 1 VASiIiEW., PW,PP. 142.

واضطر بعضهم إلى ترك الإمبراطورية والهجرة إلى مملكة الساسانيين وإلى المحلات التي ليس للحكومة عليها سلطان1. وزادت نظريته المذكورة في الدولة وفي الكنيسة من حدة المشكلات التي ورثها من أسلافه وجاءت بنتائج معاكسة لما كان يريد منها. فمحاولة تقربه من "البابا" وتأييده له، اصطدمت بفكرة كانت مسيطرة عليه، هي أن علمه باللاهوت لا يقل عن علم رجال الدين به، وأن من حقه التدخل في أمور الكنائس وفي تسيير المجامع الكنيسية، لتوحيد الكنائس وإعادتها إلى أصلها، فأزعج بذلك "البابا"، وصار من أضداده، وأزعج أصدقاءه ومعارضيه من رجال المذاهب الأخرى؛ لأنه خالفهم، وجاء بتفسيرات لم ترضِ أي مذهب منها. واضطر أخيرًا إلى الخضوع لعقيدته المهيمنة على عقله، وهي أن ما يراه في الدين هو الصحيح، وهو الحل الوسط للنزاع الكنسي، وهو الأصلح للدولة, فخلق معارضين له, وأغلق "جامعة أثينا" ومدارس البحث، وأصدر أمرًا بمنع الوثنيين وكل من ليس نصرانيًّا من الاشتغال في الدولة. وهكذا ولدت نظريته في "أنا الدولة" مشكلات خطيرة لدولته, ولدولة من جاء بعده من قياصرة. وكانت لدى الروم مثل هذه المشكلة التي كانت عند الفرس: مشكلة تهرب كبار الملاكين والمتنفذين من دفع الضرائب، وزيادة نفوذهم وسلطانهم في الدولة. فعزم "يوسطنيان" على الحد من سلطانهم، والتشديد في استيفاء الضرائب لمعالجة الوضع الحربي الناتج من قلة المال اللازم للإنفاق على جيش كبير، مما اضطر الحكومة إلى تقليص عدد الجنود. فأصدر أوامر عديدة بالتشديد في جمع الضرائب، وبإجراء الإصلاحات في الإدارة، غير أن إصلاحاته هذه لم تنفذ؛ إذ لم يكن في مقدور الحكومة تنفيذها لعدم وجود قوة لديها تمكنها من الحد من نفوذ المتنفذين ورجال أكفاء أقوياء يقومون بالتنفيذ. واهتم "يوسطنيان" بأمر التجارة، والتجارة مورد رزق للدولة كبير، ولا سيما مع الأقطار الشرقية، فقد كانت بضائعها مرغوبًا فيها في أوروبا ومطلوبة, تجني الحكومة منها أرباحًا كثيرة، وفي مطلع قائمة هذه البضائع النفيسة الأموال

_ 1 Vasiliev, PP. 150, Knecht, Die Religions Politik Kaser Justinianus, S. 36.

التي ترد إلى الإمبراطورية من الصين والهند، فقد كانت تلاقي إقبالًا كبيرًا من أثرياء الإمبراطورية ومن أثرياء إمبراطورية روما الغربية وبقية أنحاء أوروبا. وأثمن بضاعة في قائمة البضائع الواردة من الصين مادة الحرير، ولثمن الحرير الباهظ حرص الصينيون على ألا يسمحوا لأي غريب كان أن ينقل معه البيض أو الديدان التي تتولد منه إلى الخارج، خشية المزاحمة والمنافسة التي تلحق بهم أفدح الأضرار. وتلي هذه المادة البضائع النفيسة الأخرى مثل: العطور والقطن الوارد من الهند والتوابل وأمثالها من المواد التي كان يعجب بها أصحاب الذوق في ذلك الزمن. كل هذه يشتريها تجار الروم، وبعد أن تأخذ الدولة البيزنطية الضرائب المفروضة، تسمح للتجار بالتصرف فيها وبيعها على بقية الأوروبيين. وأسعار هذه المواد عالية باهظة إلى درجة كبيرة صارت مشكلة من مشكلات الدولة البيزنطية؛ ولهذا كانت تتصل دومًا بالإمبراطورية الساسانية لمحاولة الاتفاق على تحديد الأسعار، وتعيين مقدار الضرائب، وذلك بسبب ورود أكثرها من هذه الإمبراطورية، إذ كان التجار يأتون بالأموال من أسواق الصين تنقلها القوافل التي تجتاز أرض الدولة الساسانية لتسلمها إلى حدود الإمبراطورية البيزنطية، ومنها إلى العاصمة لتوزع في الأسواق الأوروبية. هذا طريق، وهناك طريق آخر هو طريق البحر، يحمل تجار الصين أموالهم على سفن توصلها إلى جزيرة "تبروبانة" "TAPROBANE" وهي جزيرة "سيلان" ثم تفرغ هناك، فتحمل في سفن تنقلها إلى خليج البصرة، ثم تحمل في سفن أخرى تمخر في دجلة والفرات إلى حدود الروم. ولما كانت علاقات الروم بالساسانيين غير مستقرة، والحروب بين الإمبراطوريتين متوالية, صارت هذه التجارة معرضة للتوقف والانقطاع طوال أيام الحروب، وهي كثيرة، فترتفع أسعارها هناك، كما أن الساسانيين كانوا يزيدون في أسعار البيع وفي ضريبة المرور، فتزيد هذه في سعر التكليف؛ ولهذا فكَّر "يوسطنيان" في التحرر من تحكم الساسانيين في مورد مهم من موارد رزقهم، وذلك باستيراد

بضائع عن طريق البحر الأحمر، وهو بعيد عن رقابة الساسانيين1. والخطة التي اختطها "يوسطنيان" لتحرير التجارة البيزنطية من سيطرة الساسانيين عليها، هي الاتصال بالأسواق الرئيسية المصدرة، ونقل المشتريات إلى الإمبراطورية بالبحر الأحمر الذي كان يسيطر الروم على أعاليه. لقد كان ميناء "أيلة" في أيدي البيزنطيين، وكان هذا الميناء موضعًا لتفريغ السفن الموسقة بالبضائع المرسلة من الهند إلى فلسطين وبلاد الشام، كما كان ميناء "القلزم" "CIYSMA" في أيديهم كذلك، تقصده السفن التي تريد إرسال حمولتها إلى موانئ البحر المتوسط. أما جزيرة "أيوتابة" "IOTABE" وهي جزيرة "تاران" "تيران"، فقد كانت مركزًا مهمًّا لجباية الضرائب من السفن القادمة من الهند، وكانت في أيدي بعض سادات القبائل، فأمر "يوسطنيان" بإقامة موظفي الجباية البيزنطيين بها؛ ليقوموا بالجباية. وأما ما بعد هذه المنطقة حتى مضيق المندب والمحيط الهندي فلم يكن للبيزنطيين عليه نفوذ2. ولتحقيق هذه الخطة، كان عليه وجوب السيطرة على البحر الأحمر والدخول منه إلى المحيط الهندي، للوصول إلى الهند وجزيرة "سيلان". ولا يمكن تحقيق هذه الخطة إلا بعملين: عمل عسكري يعتمد على القوة، وعمل سياسي يعتمد على التقرب إلى الحبشة الذين كانوا قد استولوا على اليمن، فصار مدخل البحر الأحمر: "مضيق باب المندب" بذلك في أيديهم. ثم بالتودد إلى سادات القبائل العربية النازلة في العربية وفي بادية الشام؛ لضمهم إلى صفوف البيزنطيين، ولتحريضهم على الفرس، وبذلك يلحق البيزنطيون ضررًا بالغًا بالفرس ويكون في استطاعتهم نقل التجارة نحو الغرب عن جزيرة العرب والبحر الأحمر إلى أسواقهم بكل حرية وأمان. أما العمل العسكري، فلم يكن في وسع البيزنطيين القيام به في ذلك الوقت؛ لعدم وجود قوات برية كبيرة كافية، لتتمكن من اجتياز العربية الغربية للوصول

_ 1 Vasiliev, P. 163 Bulletin of the School of Oriental and Argican, Studies University of London, Vol, XVI, Parts 3, 4954, P. 425. 2 W. Heyd, Histoire du Commerce du Lavant au Moyen Age, I, 10, 1885, 1935, 2 end, Vasiliev, P. 167.

إلى اليمن، حيث الحبش هناك إخوان البيزنطيين في الدين. وقد علموا من التجارب السابقة, أن الجوع والعطش يفتكان بالجيش فتكًا، وأن القبائل لا يمكن الاطمئنان إليها والوثوق بها أبدًا؛ لذلك تركوا هذا المشروع, فلم يبقَ أمامهم غير تنفيذه من ناحية البحر، وقد وجدوا أن هذا التنفيذ غير ممكن أيضًا؛ لأن أسطولهم في البحر الأحمر لم يكن قويا، ولم يكن في استطاعته السيطرة عليه سيطرة تامة، فتركوه ولو إلى حين، مفضلين عليه العمل السياسي. أما العمل السياسي، فقد تم بالاتصال بالحبش، وقد كان ملكهم على النصرانية، لذلك كان من الممكن جلبه إلى البيزنطيين بالتودد إليه باسم الأخوة في الدين. كما تم بالتقرب إلى سادات القبائل المنتصرين، والتودد إليهم باسم الدين أيضًا، وتم بإرسال المبشرين إلى جزيرة العرب، وبتشجيعهم على المعيشة بين الأعراب وفي البوادي لتنصير سادات القبائل، وللتأثير عليهم بذلك، وبإقامة الكنائس وإرسال المال وعمال البناء لبنائها بأسلوب يؤثر في عقول الوثنيين، فيجعلها تميل إلى النصرانية، ولتكون هذه المعابد معاهد تثقيف تثقف بالثقافة البيزنطية كما تفعل الدول الكبرى في هذه الأيام. وأرسل "يوسطنيان" -كما سبق أن بينا ذلك1- رسولًا عنه يدعى "يوليانوس" "جوليانس" "julIANUS" إلى النجاشي وإلى "السميفع أشوع" "ESIMBHANUS" حاكم اليمن في ذلك العهد، ليتودد إليهما، وليطلب منهما باسم "العقيدة المشتركة" التي تجمعهم أن يكوِّنا مع الروم جبهة واحدة في محاربة الساسانيين، وأن يقوما مع من ينضم إليهم من قبائل العرب بمهاجمتهم، وحمل السفير إلى "السميفع أشوع" رجاء آخر، هو موافقته على تعيين رئيس عربي اسمه "KAISOS" أي "قيس" عاملًا "فيلارخ" "BHYLARCH" على قبيلة عربية تدعى "معديني" "MADDENI"، أي قبيلة "معد"، ليشترك معه ومع عدد كبير من أفراد هذه القبيلة بمهاجمة الساسانيين. وقد رجع السفير فرحًا مستبشرًا بنجاح مهمته، معتمدًا على الوعود التي أخذها من العاهلين، غير أنهما لم يفعلا شيئًا، ولم ينفذا شيئًا ما مما تعهدا به

_ 1 الجزء الثاني والثالث من هذا الكتاب.

للسفير، فلم يغزوا الفرس، ولم يعين "السميفع أشوع" "قيسًا" "فيلارخًا" عاملًا على قبيلة معدّ. وورد أيضًا أن القيصر جدد في أيام "أبراموس" "ABRAMOS" الذي نصب نفسه في مكان "ESIMIBHAEUS"، طلبه ورجاءه في محاربة الفرس، فوافق على ذلك وأغار عليهم، غير أنه تراجع بسرعة1. ويظهر أن اتصال البيزنطيين بـ"أبراموس" "ABRAMOS" كان بعد القضاء على "السميفع أشوع" الذي لم يتمكن من مهاجمة الفرس؛ إذ كان من الصعب عليه اجتياز أرض واسعة بعيدة وطرق بعيدة تمر بصحارى وقفار لمحاربة أناس أقدر من رجاله على القتال2. فلما تمكن "أبراموس" من التحكم في شئون اليمن ومن تنصيب نفسه حاكمًا عامًّا على اليمن وصارت الأمور بيديه تمامًا، فكر البيزنطيون في الاستفادة منه بتحريضه على الساسانيين، وذلك باسم الأخوة في الدين. وقد تحرش "أبراموس" بالفرس، غير أنه لم يستمر في تحرشه بهم، فما لبث أن كف قواته عنهم3. ولم يذكر المؤرخ "بروكوبيوس" كيف هاجم "أبراموس" الساسانيين، ومن أين هاجمهم ومتى هاجمهم. لذلك أبقانا في جهل بأخبار الهجوم. و"أبراموس" هو "أبرهة" الذي تحدثت عنه في أثناء كلامي عن اليمن، أما ما أشار إليه "بروكوبيوس" من تحرشه بالفرس ومن تركه لهم بعد قليل, فقد قصد به حملته على "مكة" على الغالب، وهي حملة قصد بها "أبرهة" على ما يظهر الاتصال بالبيزنطيين عن طريق البر, وإخضاع العربية الغربية بذلك إلى حكمه وهو من المؤيدين البيزنطيين. وبذلك تؤمن حرية الملاحة في البحر الأحمر، ويكون في إمكان السفن البيزنطية السير به بكل حرية، ولعله كان يقصد بعد ذلك مهاجمة الفرس من البادية بتحريض القبائل المعادية للساسانيين عليهم، وبتأليف حلف من قبائل يؤثر عليها فيهاجم بها الفرس.

_ 1 Procopius, I, XX, 1-13, ZKMG, 1881, S. 36. 2 Procopius, I, XX, 9-13. 3 Procopius, I, XX, 9-13.

أما "KAISOS" "CAISUS"، فكان كما وصفه المؤرخ "بروكوبيوس" شجاعًا ذا شخصية قوية مؤثرة, حازمًا, من أسرة سادت قبيلة "معد", وقتل أحد ذوي قرابة "السميفع أشوع" "ESIMABHAIOS""ESIMAPHAEUS" فتعادى بذلك معه، حتى اضطر إلى ترك دياره والهرب إلى مناطق صحراوية نائية1. فأراد القيصر الشفاعة له "ESIMAPHAIOS" والرجاء منه الموافقة على إقامته رئيسًا "PHYLARCH" على قبيلته قبيلة معد. ولا يعقل بالطبع توسط القيصر في هذا الموضوع، لو لم يكن الرجل من أسرة مهمة عريقة، لها عند قومها مكانة ومنزلة، وعند القيصر أهمية وحظوة, ولشخصيته ومكانة أسرته أرسل رسوله إلى حاكم اليمن لإقناعه بالموافقة على إقامته رئيسًا على قومه. وبهذا يكتسب القيصر رئيسًا قويًّا وحليفًا شجاعًا يفيده في خططه السياسية الرامية إلى بسط نفوذ الروم على العرب، ومكافحة الساسانيين. ونحن لا نعرف من أمر "قيس" هذا في روايات الإخباريين شيئًا غير أن هناك رواية لابن إسحاق جاء فيها أن أبرهة عين محمد بن خزاعى عاملًا له على مضر، وأن "قيسًا" كان يرافق أخاه حين كان في أرض كنانة. فلما قتل "محمد"، فر إلى "أبرهة"2. وقد ورد نسب "محمد" على هذه الصورة: "محمد بن خزاعى بن علقمة بن محارب بن مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمي" في بعض الروايات، وذكر أنه كان في جيش أبرهة مع الفيل3. فهل قيس هذا هو قيس الذي ذكره "بروكوبيوس", اتصل مع أخيه محمد بأبرهة، وصار من المقربين لديه؟ أم هو رجل آخر لا علاقة له بـ"قيس" الذي ذكره "ابن إسحاق"؟ وقد زار والد "نونوسوس" "NONNOSOS" "قيسًا" هذا مرتين، وذلك قبل سنة "530م", وزاره "نونوسوس" نفسه في أثناء حكمه. وأرسل "قيس"

_ 1 Procopius, I, XX, 9-13 2 Bulletin of the School of Oriental and African Studies, University of London Vol, XVI, Part: 3 1954, PP. 434. 3 المحبر "130".

ابنه "معاوية" إلى "يوسطنيان"، ثم أعطى أخاه ثم ابنه الإمارة، وعينه القيصر عاملًا "PHYLARCH" على فلسطين1. وكانت للقيصر "يوسطنيان" صداقة مع رئيس آخر اسمه "أبو كرب" "ABOCHORABUS"، يقع ملكه في أعالي الحجاز وفي المناطق الجنوبية من فلسطين. عرف هذا الرئيس بالحزم والعزم فخافه الأعداء، واحترمه الأتباع، واتسع لذلك ملكه، وتوسع سلطانه حتى شمل مناطق واسعة، ودخلت في تبعيته قبائل عديدة أخرى على القانون الطبيعي في البادية الذي يحتم دخول القبائل طوعًا وكرهًا في تبعية الرئيس القوي. أراد هذا الرئيس أن يتقرب إلى القيصر، وأن يبالغ في تقربه إليه وفي إكرامه له، فنزل له عن أرض ذات نخيل كثيرة، عرفت عند الروم بـ"فوينيكون" "PHOINIKON" "واحة النخيل"، أو "غابة النخيل". وهي أرض بعيدة، لا تُبلَغ إلا بعد مسيرة عشرة أيام في أرض قفرة، فقبل القيصر هذه الهدية الرمزية، إذ كان يعلم، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس", عدم فائدتها له، وأضافها إلى أملاكه، وعين هذا "الشيخ" عاملًا "فيلارخًا" على عرب فلسطين2. وقد قام ملك هذا الرئيس على ملك رئيس آخر كانت له صلات حسنة بالروم كذلك، هو "امرؤ القيس" "AMORKESOS" وكان "AMORKESOS" في الأصل من عرب المناطق الخاضعة للفرس، ثم هجر دياره لسبب لا نعرفه إلى الأرضين الخاضعة لنفوذ الرومان، وأخذ يغزو الأعراب، حتى هابته القوافل، فتوسع نفوذه، وامتد إلى العربية الصخرية، واستولى على جزيرة "تاران" "IOTABA"، وترك رجاله فيها يجبون له الجباية من السفن القادمة من الهند، حتى حصل على ثروة كبيرة، وعزم في سنة "473م" على إرسال الأسقف "بطرس" أسقف الأعراب التابعين له, إلى القسطنطينية؛ ليتصل بالقيصر، وليتوسط لديه هناك أن يوافق على تعيينه عاملًا "PHYLARCH" على الأعراب المقيمين في العربية الحجرية

_ 1 Bulletin, Vol. XVI, Part: 3, P. 435, Muller, Fragmenta Historicorum, Graecorum IV, 179. 2 Procopius, I, XIX. 2-16, Bulletin, Vol, XVI, 1954, P. 428, Musil, Hegaz, P. 307.

والخاضعين لنفوذ الروم مقابل دخوله في حلف معهم، فاستجاب القيصر "ليون" "LEO" إلى طلب "بطرس"، فأرسل دعوة إلى "امرئ القيس" لزيارة القسطنطينية، فذهب إليها بالرغم من وجود شرط في معاهدة الصلح التي كانت قد عقدت بين الفرس والروم لا يسمح بموجبه لعربي ما من سَكَنَة المناطق الخاضعة لنفوذ الإمبراطورية الساسانية بالذهاب إلى مناطق الروم. ولما وصل إلى القسطنطينية، رحب به البيزنطيون ترحيبًا جميلًا واستقبلوه استقبالًا حسنًا, فأعلن هناك دخوله في النصرانية، وأغدق عليه القيصر الهدايا والألطاف, ومنحه لقب "فيلارخ" "PHYLARCH"، وثبته على المواضع التي أرادها، وعلى جزيرة "تاران"1 "IOTABA". وكان دخل البيزنطيين كبيرًا من الضرائب التي يجبيها موظفو الجمارك المقيمون في جزيرة "تاران""IOTABA". وكان لهؤلاء الموظفين واجب آخر، هو واجب مكافحة التهريب، والقبض على كل مهرب يريد إدخال التجارة خلسة إلى بلاد الشام أو مصر، ومصادرة الأموال التي يحملها معه، ولهم حق مكافأة المخبرين الذين يرشدونهم للقبض على المهربين2. و"غابة النخيل" التي ذكرناها، تجاور أرض قبيلة "معد" "Maddenoi" وكانت معد خاضعة لحكم حمير، وقد رأينا كيف أن القيصر "يوسطنيان" توسط لدى "السميفع أشوع" ليوافق على تعيين "قيس" رئيسًا على معد، وقد تمردت هذه القبيلة على "أبرهة" فسير إليها قوة لتأديبها، كما يظهر ذلك من كتابة أمر "أبرهة" بكتابتها لهذه المناسبة: أدبها بقوة، سيرها إليها في شهر "ذو ثبتن" من شهور فصل الربيع، فانهزمت معد، وأنزلت القوة بها خسائر فادحة. وبعد أن تأدبت وخضعت، اعترف "أبرهة" بحكم "عمرم بن مذرن" عليها, وتراجعت القوة عنها3. و"عمرم بن مذرن", أي "عمرو بن المذر" هو "عمرو بن المنذر" ملك الحيرة. وقد كانت "معد" في حكم ملوك الحيرة، وعلى هذا تكون هذه الغزوة "غزوتن" التي قام بها "أبرهة" على قبيلة "معد" موجهة إلى "عمرو

_ 1 Malchus of Philadelphia, Muller ed, PP. 112, Musil, Hegaz P. 306. 2 Bury, Later Roman Empire, Vol, II, P. 8, Runciman, P. 165. 3 Le Museon, LXVI, 1953, 3-4. P. 277< Ryckmans, 506.

ابن المنذر" حليف الفرس، بمعني أنه تعرض لجماعة كانت في جانب الساسانيين. فهل الغزاة التي أشار إليها المؤرخ "بروكوبيوس" هي هذه الغزاة؟ و"Maddenoi" هي قبيلة "معداية" "Ma'addaye" التي ذكرها "يوحنا الأفسوسي" "John Of Ephesus" مع "طياية" "طيايا" "طيايه" "Tayaye" "Taiyaya" في كتابه الذي وجهه إلى أسقف "بيت أرشام" "Beth Arsham" ويظهر من هذا الكتاب أنها كانت مقيمة في فلسطين. وقد تحدثتُ سابقًا عن ورود اسم قبيلة "معد" في نص النمارة الذي يرجع عهده إلى سنة "328م" حيث ورد أن "امرأ القيس بن عمرو" ملك العرب ملك على "معد" وعلى قبائل أخرى ذكرها النص، منها أسد ونزار ومذحج. ويربط الإخباريون في العادة بين ملوك الحيرة وقبيلة معد، وطالما ذكروا أن ملوك الحيرة غزوا بمعد، مما يدل على وجود صلة تأريخية متينة بين الحيرة وهذه القبيلة المتبدية التي كانت تمعن في سكنها مع البادية. ويظهر من روايات أهل الأخبار أنه قد كان للتبابعة شأن في تنصيب سادات على معد. فهي تذكر أنهم هم الذين كانوا يعينون أولئك السادة، فينصبونهم "ملوكًا" على معد. وذلك بسبب تنازع سادات معد فيما بينهم وتحاسدهم وعدم تسليم بعضهم لبعض بالزعامة. ولهذا كانوا يلجئون إلى التبابعة لتنصيب "ملوك" عليهم. يضاف إلى ذلك أن معدا كانت قبائل متبدية, منتشرة في أرضين واسعة تتصل باليمن، وقد كان أهل اليمن المتحضرون أرقى منهم، وجيوشهم أقوى وأنظم نسبيا من محاربي معد ومقاتليهم الذين كانوا يقاتلون قتال بدو، لا يعرفون تنظيمًا ولا تشكيلًا ولا توزيعًا للعمل. وكل ما عندهم هو كر وفر, إذا وجدوا خصمهم أشطر منهم وأقدر على القتال هربوا منه. وقد مُنيت الإمبراطورية البيزنطية بانتكاسات عديدة بعد وفاة "يوسطنيان"، فاشتد الاضطهاد للمذاهب المخالفة للمذهب الأرثوذكسي، وعادت الفوضى إلى الحكومة بعد أن سعى القيصر الراحل في القضاء عليها، وتجددت الحروب بين البيزنطيين والساسانيين، وعاد الناس يقاسون الشدائد بعد فترة من الراحة لم تدم طويلًا، وبعد حروب متتالية دخل الساسانيون بلاد الشام. وفي سنة "614م" احتل أتباع ديانة زرادشت عاصمة النصرانية القدس، فأصيبت المدينة بخسائر كبيرة

في أبنيتها التأريخية وفي ثروتها الفنية التي لا تقدر بثمن، ثم أصيبت الإمبراطورية بنكبة عظيمة جدا هي استيلاء الفرس على مصر، وبلوغ جيوش الساسانيين في هذه الأثناء الساحل المقابل للقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية1. لقد وقعت هذه الأحداث ونزلت هذه الهزائم بالروم في وقت كان أمر الله قد نزل فيه على الرسول بلزوم إبلاغ رسالته للناس, والرسول إذ ذاك بمكة، يدعو أهلها إلى دين الله. فلما جاء الخبر بظهور فارس على الروم، فرح المشركون، وكانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب. فلقي المشركون أصحاب النبي، فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون, وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب, وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله: {الم, غُلِبَتِ الرُّومُ, فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ, بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العزيزُ الرَّحِيمُ} 2. وفرح المسلمون بنزول هذه الآيات المقوية للعزيمة وأيقنوا أن النصر لا بد آتٍ, وأنهم سينتصرون على أهل مكة أيضًا ويغلبونهم بإذن الله، وخرج أبو بكر إلى الكفار "فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا, فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فقام إليه أبي بن خلف فقال: كذبت يا أبا فضل. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: أنت أكذب يا عدو الله. فقال: أناحبك على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس على الروم غرمت إلى ثلاث سنين، ثم جاء أبو بكر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره, فقال: "ما هكذا ذكرت, إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايدْه في الخطر وماده في الأجل". فخرج أبو بكر فلقي أبيًّا، فقال: لعلك ندمت؟ فقال: لا. فقال: أزايدك في الخطر وأمادك في

_ 1 Vasiliev, pp. 193. 2 سورة الروم, الآية 1 وما بعدها، تفسير الطبري "21/ 11 وما بعدها"، تفسير القرطبي "14/ 1 وما بعدها".

الأجل، فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين. قال: قد فعلت"1. لقد وقعت هذه الهزائم الحربية الكبيرة في عهد القيصر "هرقل" "Heraclius" "610-641م". ففي عهده, اقتطعت بلاد الشام ومصر من جسم الإمبراطورية، وهي أعضاء رئيسية في ذلك الجسم. غير أن طالع هذا القيصر لم يلبث أن تحسن بعد سنين من النحس، فاستعاد تلك الأملاك في المعارك التي نشبت بين سنة 622 وسنة 628م. في هذه الفترة نال هرقل أعظم نصر له في ثلاث معارك كبيرة, ولكن نصره الأكبر جاءه يوم قتل "كسرى أبرويز" صاحب هذه الفتوحات بيد ابنه "شيرويه"2, فورد طائر السعد على القيصر بهذا الخبر المفرح، ثم تحققت البشرى بالصلح الذي عقد بين القيصر وبين "شيرويه". وفيه نزل الفرس عن كل ما غنموه, ورضوا بالرجوع إلى حدودهم القديمة قبل الفتح. فعادت الشأم وفلسطين ومصر إلى البيزنطيين، وأعيد الصليب المقدس إلى موضعه في القدس, في موكب حافل عظيم3. وسُر المسلمون وهم بالمدينة بانتصار الروم على الفرس، وزاد أملهم في قرب مجيء اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على المشركين، وقويت عزيمتهم في التغلب على قريش، "وأسلم عند ذاك ناس كثير"4, وتضعضعت معنويات قريش، وغلب "أبو بكر" أبيا على الرهان، وكسبه، أخذه من ورثته، لأنه كان قد توفي من جرح أصيب به، فلم يدرك زمن طرد من تعصب له من بلاد الشام وخسارته الإبل التي تراهن عليها. وشاء ربك ألا يكون النصر في هذه المرة لا للروم ولا للفرس، بل للمسلمين، وشاء ألا يبقى الروم في بلاد الشام إلا قليلًا، إلا سنين، إذ تهاوت مدن بلاد الشام ثم مصر فشمال إفريقيا، الواحدة بعد الأخرى، في أيدي أناس لم يخطر ببال الروم أبدًا أنهم سيكونون شيئًا ذا خطر في هذا العالم، أعني بهم أبناء مكة ويثرب ومن تبعهم من أهل جزيرة العرب. تهاوت بسرعة عجيبة لا تكاد

_ 1 تفسير الطبري "21/ 13"، تفسير القرطبي "1/ 14 وما بعدها". 2 الطبري "2/ 108 وما بعدها". 3 vasiliev, p, 198. 4 تفسير القرطبي "2/ 14".

تصدق، وبطريقة تشبه المعجزات. وقد بدأ هذا الانهيار بكتاب يذكر أهل السير والأخبار أن الرسول أرسله إلى "هرقل عظيم الروم"، يدعوه فيه إلى الإسلام, فإن أبى وبقي على دينه فعليه تبعته، فلما لم يسلم، جاءه الإنذار، قوات صغيرة لا تكاد تكون شيئًا بالنسبة إلى جيوش الروم الضخمة، أخذت تمهد الطريق لنشر الإيمان في بلاد رفض حكامها الدخول فيه. طهرت الأرض الموصلة إلى الحدود من المخالفين، ثم أحذت تتحرش ببلاد الشام، ولم يأخذ الروم ذلك التحرش مأخذًا جديًّا، إذ تصوروه غزوًا من غزو العرب المألوف يمكن القضاء عليه بتحريك عرب بلاد الشام من الغساسنة ومن لف لفهم عليهم، أو بإشارة رؤسائهم بالهدايا والمال وتنصيبهم ملوكًا على عرب بلاد الشام في موضع الغساسنة كما كانوا يفعلون مع القبائل القوية الكبيرة التي كانت تتحرش بالحدود، وينتهي بذلك الغزو وتصفو الأمور. ولم يعلم البيزنطيون أن المسلمين يختلفون عن الجاهليين، يختلفون عنهم في أن لهم عقيدة ورسالة، وأن من يسقط منهم يسقط في سبيل إعلاء كلمة ربه، وله الجنة، وأن من يعيش منهم وينجو فلن يركن إلى الدعة والحياة الهادئة والرجوع إلى البادية بل لا بد له من أحد أمرين: إما نصر حاسم، وإما موت شريف في سبيل الله ورسوله. وبقوا في جهلهم هذا إلى أن نبهتهم الضربات العنيفة التي وقعت بينهم وبين العرب في "أجنادين" "Gabatha" وفي "اليرموك" "Hieromax" بأن المعارك التي وقعت ليست غزوًا من الغزو المألوف، بل خطة مهيأة لطرد الروم الذين لا يؤمنون برسالة الرسول من كل بلاد الشام وما وراءها من أرضين، وعندئذ جمعوا جموعهم، وألفوا قلوب العرب المستعربة، أي: العرب النصارى القاطنين في بلاد الشام، بالمال وباسم الدين، وجعلوهم معهم وتحت قيادتهم في جيوشهم الضخمة لمقابلة المسلمين الذين لم يعرفوا الحروب الكبيرة، ذات العدد الضخم من المحاربين، والأسلحة المتنوعة الحديثة، بالنسبة إلى أسلحتهم المكونة من سيوف وسهام ورماح وحجارة وخناجر. وهنا وقعت غلطة فنية حربية أخرى من الروم، إذ قابلوا المسلمين بجيوش ضخمة، يسيرها قواد كبار تعودوا الحرب بأساليبها النظامية وبالطرق المدرسية الموروثة عن الرومان وتزودوا بالخبرة الفنية العالية التي كسبوها من حروبهم مع الفرس ومع الأوروبيين، فظنوا أن الحرب مع

المسلمين شيئًا بسيطًا، بل أبسط من البسيط, حتى إن كبار القادة وجدوا أن من المهانة الاهتمام بأمر أولئك البدو الغزاة, فتركوا الأمر لمن دونهم في الدرجات يديرونها مع العرب الذين أظهروا ذكاء فطريا عظيما في هذه الحروب، بتجنبهم الالتحام بالجيوش، إذ لا قبل لهم بمقاتلتها، وباتخاذهم خطة المناوشات والكر والفر بقوات غير كبيرة العدد، وبذلك تتوفر لهم السرعة في العمل ومباغتة الجيوش الضخمة من ورائها ومن مجنباتها، وبغزو خاطف كالبرق يلقي الفزع في القلوب، وبذلك أفسدوا على الروم خطتهم بالهجوم على العرب، بجيوش نظامية كبيرة مدربة على القتال يكون في حكم المحال بالنسبة للعرب الوقوف أمامها لو أنهم حاربوهم حربهم، ووقفوا أمامهم وجهًا لوجه. وبركون العرب إلى هذه الخطة المبتكرة، وبمعاملتهم من خضع لهم واستسلم لأمرهم معاملة حسنة، وبتحريض "العرب المستعربة"، "العرب المتنصرة"، وسكان بلاد الشام من غير الروم، بل ومن الروم على الانضمام إليهم، غلبوا البيزنطيين، وحصلوا ما حصلوا عليه من أرضين. وعند ظهور الإسلام كانت اليمن في حكم الساسانيين كما رأينا، غير أن حكمهم لم يكن في الواقع حكمًا تامًّا فعليًّا، بل كان حكما شكليا اسميا، محصورًا في صنعاء وما والاها. أما الأطراف والمدن الأخرى, فكان الحكم فيها لسادات اليمن من حضر ومن أهل وبر, وهو حكم نسميه حكم "أصحاب الجاه والنفوذ". وقد شاء بعض منهم أن يظهر نفسه بمظهر الملوك المنفردين بالحكم والسلطان والجاه، فلقبوا أنفسهم بلقب "ملك" وحملوه افتخارًا واعتزازًا، ولم يكن أولئك الملوك ملوكًا بالمعنى المفهوم، إنما كانوا سادات أرض وقبائل، جملوا أنفسهم بألقاب الملك. فقد نعتت كتب التواريخ والسير سادات حمير في أيام الرسول: الحارث بن عبد كلال، وشريح بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، و"النعمان قيل ذي رعين وهمدان ومعافر"، و"زرعة ذو يزن" "زرعة بن ذي يزن" بـ"ملوك حمير"، وذكرت أنهم أرسلوا إلى الرسول رسولًا يحمل إليه كتابًا منهم يخبرونه فيه بإسلامهم، وقد وصل إليه مقفله من تبوك، ولقيه بالمدينة، فكتب الرسول إليهم جوابه، شرح لهم فيه ما لهم وما عليهم، وما يجب عليه

مراعاته من أحكام1. ويذكر "ابن سعد" أن هذا الرسول هو "مالك بن مُرارة الرهاوي" "مالك بن مرة الرهاوي"، وقد وصل المدينة في شهر رمضان سنة تسع، وذلك بعد رجوعه من أرض الروم2. ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول أرسله إلى "الحارث" و"مسروح" و"نعيم" أبناء "عبد كلال" من حمير, حمله إليهم "عياش بن أبي ربيعة المخزومي". وأوصاه بوصايا ليوصي بها أبناء "عبد كلال" إن أسلموا, منها أنهم إذا رطنوا "فقل ترجموا"، حتى يفقه كلامهم, وإذا أسلموا، فليأخذ قضبهم الثلاثة التي إذا حضروا بها سجدوا, وهي من الأثل قضيب ملمع ببياض وصفرة، وقضيب ذو عجر كأنه خيزران، والأسود البهيم كأنه من ساسم، ثم أخرجها فحَرِّقها بسوقهم. فذهب إليهم ووجدهم في دار ذات ستور عظام على أبواب دور ثلاثة. فكشف الستر ودخل الباب الأوسط، وانتهى إلى قوم في قاعة الدار. ففعل بمثل ما أمره به الرسول3. ويظهر من قوله: "فإذا رطنوا فقل ترجموا"، أنهم لم يكونوا يحسنون عربية أهل مكة، وأنهم كانوا يتكلمون فيما بينهم بلهجاتهم الخاصة بهم, وأن معنى تحريق القضب الثلاثة، هدم ما كان لهم من عزة وسلطان وتكبر على الرعية؛ لأن الإسلام قد أمر باجتثات ذلك، وبأن يكون الحكم للرسول وحده، ولما كانت تلك القضب رمزًا للحكم والسلطان، وقد جعل الإسلام الحكم للرسول وحده، لهذا أمر الرسول بكسر تلك القضب، وفي كسرها إشعار لهم بأن حكمهم القديم قد زال عنهم، وأن الحكم الآن للرسول. ويظهر من نص الكتاب الذي وجهه الرسول إلى "زرعة بن ذي يزن"، وفيه: "أما بعد، فإن محمدًا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير, وقتلت

_ 1 الطبري "3/ 120 وما بعدها" "دار المعارف"، ابن الأثير "2/ 121"، ابن خلدون "2/ 52" "القسم الثاني" "الوفود", الطبري "3/ 153، 156", البلاذري, فتوح "81"، "اليمن", و"شرح بن عبد كلال"، و"نعمان قيل ذي يزن"، "وزرعة ذي رعين"، ابن سعد، طبقات "1/ 264", نهاية الأرب "18/ 118". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 356". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 283".

المشركين....إلخ"1، أن "زرعة" هذا كان رأس حمير، والمطاع فيها، ولهذا أرسل إليه رسولًا خاصًّا به هو "مالك بن مرة الرهاوي"، واستلم جوابًا خاصًّا من الرسول كتب باسمه، ولم يذكر اسمه في الجواب الذي أرسله إلى الباقين بصورة مشتركة. وذكر "ابن سعد" أن رسول الله كتب كتابًا إلى "بني عمرو" من حمير، ولم يذكر من هم "بنو عمرو"، وأشار إلى أن في الكتاب: "وكتب خالد بن سعيد بن العاصي"2, ما يدل على أنه كان كاتب ذلك الكتاب. ويشير "ابن سعد" أيضًا إلى أن الرسول أرسل "جرير بن عبد الله البجلي" إلى "ذي الكلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع" وإلى "ذي عمرو" يدعوهما إلى الإسلام، فأسلما وأسلمت "ضريبة بنت أبرهة بن الصباح" امرأة "ذي الكلاع"، وتوفي رسول الله، وجرير عندهم، فأخبره "ذو عمرو" بوفاته3. ويشير نسب "ذي الكلاع" المذكور إلى أنه من الأسرة التي كانت تحكم اليمن قبيل غزو الحبش لها. فهو من الأسر الشريفة الحميرية في اليمن، وقد عرف بـ"ذي الكلاع الأصغر" عند أهل الأخبار تمييزًا له عن "ذي الكلاع الأكبر" الذي هو في عرفهم "يزيد بن النعمان الحميري" من ولد "شهال بن وحاظة بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن شدد بن زرعة بن سبأ الأصغر". وأما صاحبنا "ذو الكلاع" الأصغر الذي راسله الرسول وأسلم، فهو أبو "شراحيل سميفع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن ذي الكلاع الأكبر". قال أهل الأخبار: التكلع: الحلف "وبه سمي ذو الكلاع الأصغر؛ لأن حمير تكلعوا على يده، أي: تجمعوا، إلا قبيلتين: هوازن وحراز، فإنهما تكلعتا على ذي الكلاع الأكبر: يزيد بن النعمان"4. وذكر نسب "ذي الكلاع الأصغر" على هذا الشكل: "سميع بن ناكور

_ 1 الطبري "3/ 121 وما بعدها". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 265"، نهاية الأرب "18/ 168". 3 ابن سعد، طبقات "8/ 265 وما بعدها". 4 تاج العروس "5/ 496"، "كدع".

ابن عمرو بن يعفر بن يزيد بن النعمان الحميري", و"يزيد" هذا هو "ذو الكلاع الأكبر". وذكر أن "أبا شراحيل" هو الرئيس في قومه المطاع المتبوع، أسلم في حياة النبي، فكتب إليه النبي على يد جرير بن عبد الله البجلي كتابًا في التعاون على الأسود ومسيلمة وطليحة. وكان القائم بأمر معاوية في حرب صفين، وقتل قبل انقضاء الحرب، ففرح معاوية بموته، وذلك أنه بلغه أن "ذا الكلاع" ثبت عنده أن عليا بريء من دم عثمان، وأن معاوية لبس عليهم ذلك، فأراد التشتيت عليه فعاجلته منيته بصفين وذلك سنة سبع وثلاثين1. ويكون "ذو الكلاع" الأصغر، قد تزوج بنتًا من بنات أبرهة هي "ضريبة"2. ونسب إلى النابغة قوله: أتانا بالنجاشة مجلبوها ... وكندة تحت راية ذي الكلاع يريد تميمًا وأسدًا وطيًّا أجلبوا الجيش على بني عامر مع أبي يكسوم وذو الكلاع كان معه أيضًا3. وذكر أن رسول الله كتب إلى "معد يكرب بن أبرهة" أن له ما أسلم عليه من أرض خولان4. ولم يشر "ابن سعد" إلى بقية اسم أبرهة أو إلى شهرته؛ لذلك لا ندري إذا كان قصد "أبرهة" المعروف, أو شخصًا آخر اسمه أبرهة. ولكننا نعرف اسم قيل عرف بـ"معد يكرب" اسم والده "أبو مرة الفياض" ذو يزن، كان متزوجًا من "ريحانة" ابنة "ذي جدن" فولدت له "معد يكرب" المذكور. ثم انتزعها منه "الأشرم"، ونشأ "معد يكرب" مع أمه "ريحانة" في حجر "أبرهة"5, فلعله نسب إليه، لذلك قال له "ابن سعد" "معد يكرب بن أبرهة". وكان للفرس وللجيل الجديد الذي ظهر في اليمن من تزاوجهم باليمانيين، وهو

_ 1 تاج العروس "5/ 389". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 266". 3 تاج العروس "5/ 496". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 266". 5 الطبري "2/ 142 وما بعدها".

الجيل الذي عرف بـ"الأبناء" نفوذ كبير في اليمن، وقد تحدثت عنه في الجزء السابق من هذا الكتاب، وإلى هذا الجيل أرسل الرسول "وبر بن يحنس"، يدعوه إلى الإسلام، فنزل على بنات "النعمان بن بزرج" فأسلمن، وبعث إلى فيروز الديلمي فأسلم، وإلى مركبود وعطاء ابنه، ووهب بن منبه. وكان أول من جمع القرآن بصنعاء ابنه عطاء بن مركبود ووهب بن منبه1. وقد كان الفرس الذين أقاموا باليمن مثل سائر الفرس على المجوسية، ولما دخل أهل اليمن في الإسلام، دخل بعض هؤلاء فيه, وأقام بعض آخر على دينه، وفرض الرسول على من بقي على دينه جزية2. وقد نفر منهم بعض سادات اليمن من الأسر القديمة، بسبب أنهم غرباء عن اليمن، جاءوا إلى اليمن فحكموها، ولهذا انضم بعض منهم إلى "الأسود" في ردته؛ لأن "الأسود العنسي" كان كارهًا للأبناء، حاقدًا عليهم, يرى أنهم عصابة دخيلة، استأثرت بحكم اليمن3. وقد شاءت الأقدار أن تكون نهايته بأيديهم؛ إذ كان قاتله منهم فكأن قلبه كان يعلم بما سيفعلونه به، ولهذا كرههم. وكانت الأزد من القبائل المعروفة في اليمن، وقد جاء وفد منهم إلى الرسول, على رأسه "صرد بن عبد الله" في بضعة عشر، فأسلم، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من أهل بيته المشركين من قبائل اليمن، وكان أول ما فعله أنه حاصر "جرش", وكانت قد تحصنت وضوت إليها خثعم, فلما وجد أن من العسير عليه فتحها بالقوة آوى إلى جبل "كشر"، فظن أهل جرش، أنه إنما ولى عنهم منهزمًا، فخرجوا في طلبه، حتى إذا أدركوه عطف عليهم فقتلهم قتلًا, ثم أسلم من نجا منهم. وحمى الرسول لهم حمى حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس، وللراحلة، وللمثيرة تثير الحرث، فمن رعاها من الناس سوى ذلك فماله سحت4. وكتب الرسول كتابًا إلى "خالد بن ضباد الأزدي" أن له ما أسلم عليه من

_ 1 الطبري "3/ 158". 2 البلاذري، فتوح "83". 3 البلاذري، فتوح "113 وما بعدها". 4 الطبري "3/ 130 وما بعدها", "دار المعارف"، ابن سعد، طبقات "1/ 337 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 96 وما بعدها".

أرضه، وكان كاتب كتابه "أبي"1, وكتب مثل ذلك لجنادة الأزدي وقومه, وكان كاتب هذا الكتاب "أبي" كذلك2. وكتب الرسول إلى "أبي ظبيان الأزدي" من "غامد" يدعوه ويدعو قومه إلى الإسلام, فأجابه في نفر من قومه بمكة, وكانت لأبي ظبيان صحبة، وأدرك عمر بن الخطاب3. وذكر أن "ضماد بن ثعلبة" الأزدي، كان صديقًا للرسول في الجاهلية، وكان يتطبب ويرقي من هذه الرياح، ويطلب العلم، فقدم مكة قبل الهجرة، واجتمع بالرسول وكلمه، ثم أسلم، وهو من "أزد شنوءة"4. ونجد "ابن سعد" يدون صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لبارق من الأزد. نظم فيه حقوقهم مثل ألا تُجذ ثمارهم وألا ترعى بلادهم في مربع ولا مصيف إلا بمسألة من بارق، وغير ذلك. وكتب الكتاب "أبي بن كعب"، وشهد عليه أبو عبيدة الجراح وحذيفة بن اليمان5. ويجاور الأزد من الشرق "خثعم" و"مذحج" و"مراد" و"همدان" و"بلحارث"، ويجاورهم في غربهم "بنو كنانة" و"بنو عك". أما من الجنوب، فتتصل ديارهم بديار "همدان" و"حمير". وتجمع بعد وفاة النبي قوم من الأزد وبجيلة وخثعم، عليهم حميضة بن النعمان وذلك بـ"شنوءة"، وعلى أهل الطائف "عثمان بن ربيعة"، فبعث إليهم "عثمان بن أبي العاص" عامل النبي على الطائف, بعثًا التقى بهم بشنوءة، فهزموا تلك الجُمَّاع، وتفرقوا عن "حميضة"، وهرب وفسدت ثورة هؤلاء المرتدين6. وتمرد قوم من "خثعم" على "أبي بكر" حينما بلغهم نبأ وفاة الرسول وخرجوا غضبًا إلى "ذي الخلصة" يريدون إعادته، فأمر "أبو بكر" جرير

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 267". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 270". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 280". 4 نهاية الأرب "18/ 7 وما بعدها". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 287". 6 الطبري "3/ 320"، "دار المعارف".

ابن عبد الله" أن يدعو من قومه من ثبت على أمر الله، وأن يستنفر "مُقويهم"، فيقاتل بهم خثعم, فنفذ أمره فتبعهم وقتلهم وعاد إلى الإسلام من تاب1. وكان الرسول قد بعث سنة تسع للهجرة "قطبة بن عامر بن حدية" إلى خثعم بناحية "تبالة"، فتغلب عليهم2. وبقيت "همدان" قبيلة قوية من قبائل اليمن، وقد أسلمت كلها في يوم واحد، أسلمت يوم مقدم "علي بن أبي طالب" إلى اليمن على رأس سرية أمر الرسول بإرسالها إلى هناك. وقد فرح الرسول بإسلامها، وتتابع أهل اليمن على الإسلام3. وقد كانت همدان بطونًا عديدة؛ من بطونها "بنو ناعط"، ومن رجالهم "حمرة ذو المشعار بن أيفع"، وكان شريفًا في الجاهلية، والظاهر أنه كان صاحب موضع "المشعار"4, وهو "أبو ثور". وقد وفد على الرسول, ووفد معه "مالك بن نمط"، و"مالك بن أيفع"، و"ضمام بن مالك السماني"، و"عميرة بن مالك الحارفي"، فلقوا رسول الله بعد مرجعه من تبوك، وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم المعدنية، برحال اللبس على المهرية والأرحبية5. ويذكر أهل الأخبار، أن الوفد لما وصل المدينة، ارتجز "مالك بن نمط" رجزًا، ثم خطب بين يدي الرسول ذاكرًا له أن نصية، أي: أخيارًا أشرافًا من همدان، يريد رجال الوفد، قدمت إلى الرسول، وهي "من كل حاضر وبادٍ"، أي: من أهل الحضر ومن أهل البادية، ومن أهل مخلاف خارف ويام وشاكر، ومن أهل الإبل والخيل، قدموا إليه، بعد أن عافوا الأصنام واعتنقوا الإسلام، فأثنى الرسول عليهم وشكرهم وكتب لهم كتابًا وجهه "لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب، وحقاف الرمل مع وافدها, ذي المشعار: مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه", ثم بين لهم ما عليهم وما لهم6.

_ 1 الطبري "3/ 322". 2 نهاية الأرب "17/ 250". 3 الطبري "3/ 131 وما بعدها". 4 الاشتقاق "ص251". 5 نهاية الأرب "18/ 10 وما بعدها". 6 نهاية الأرب "18/ 11 وما بعدها".

وورد أن "قيس بن مالك بن سعد بن لأي الأرحبي" قدم على رسول الله وهو بمكة، فعرض رسول الله عليه الإسلام فأسلم، ثم خرج إلى قومه فأسلموا بإسلامه، ثم عاد إلى الرسول فأخبره بإسلامهم، فكتب له عهدًا على قومه "همدان". وذكر أن رجلًا مر بالرسول، وهو من "أرحب" من "همدان"، اسمه "عبد الله بن قيس ابن أم غزال" فعرض عليه الرسول الإسلام، فأسلم، فلما عاد إلى قومه قتله رجل من "بني زُبَيْد"1، وجاء وفد آخر من "همدان" إلى الرسول فأسلم على يديه، وكان فيه "حمزة بن مالك" من "ذي شعار"، وكان على الوفد مقطعات الحبرة مكففة بالديباج، فكتب الرسول لهم كتابًا، وأوصاهم بقومهم من بقية بطون همدان2. وورد أن الرسول كتب لـ"قيس بن مالك بن سعد الأرحبي" عهدًا ثبته فيه على قومه "همدان: أحمورها وعربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا"3. وذكر أن الأحمور: قدم، وآل ذي مران، وآل ذي لعوة، وأذواء همدان, وقيل: حمورها: أهل القرى. وأرى أن المراد بالأحمور هم بقايا حمير الناطقون بالحميرية وهم سكان القرى والمدن، ذُكروا وخُصوا بالذكر؛ لأنهم اختلفوا عن غيرهم ممن كان يتكلم بلهجات أخرى, ولهذا ميزوا عن "عربها"، أي عرب همدان وهم الأعراب، وعن الخلائط وهم الذين يكونون أخلاط الناس وعن الموالي. وذهب بعض الباحثين إلى أن "عربها" بالغين، أي: "غربها", ويراد بهم: أرحب، ونهم وشاكر ووداعة ويام وموهبة ودالان وخارف وعذر وحجور4. وأما "بنو زبيد" فكان على رأسهم "عمرو بن معد يكرب الزبيدي"، وكان قد قدم على الرسول في أناس من قومه، ليعرض عليه الإسلام، فأسلم وأسلم من كان معه5. وقد نعت بالشجاعة فدعي بـ"فارس العرب"6، وهو

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 340 وما بعدها", نهاية الأرب "18/ 9 وما بعدها". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 340 وما بعدها". 3 نهاية الأرب "18/ 9". 4 الطبري "3/ 132 وما بعدها"، "دار المعارف". 5 الاشتقاق "ص245". 6 الطبري "3/ 134 وما بعدها", ابن سعد، طبقات "1/ 328".

لقب يلقب به الشجعان الفرسان, وأقام في قومه من بني زبيد، وعليهم "فروة بن مسيك المرادي"، الذي كان قد استعمله الرسول على مراد وزبيد ومذحج كلها. فلما توفي رسول الله ارتد عمرو بن معد يكرب, ووثب "قيس بن عبد يغوث" على "فروة بن مسيك"، وهو على مراد، فأجلاه ونزل منزله1. وكان "عمرو بن معد يكرب" قد لقي "قيس بن مكشوح المرادي" حين انتهى إليه أمر رسول الله، فعرض عليه أن يذهب معه إلى رسول الله حتى يعلم علمه، فإن كان نبيا، فإنه لا يخفى أمره عليهم، وإن كان غير ذلك علم علمه أيضا وتركه، فلم يأخذ "قيس" برأيه وسفه فكرته، ثم أوعد "قيس" "عمرو بن معد يكرب" يوم سمع بذهابه إلى الرسول وباعتناقه الإسلام، وقال: "خالفني وترك رأيي"2. وكان "فروة بن مسيك المرادي" من "بني مراد"3. وقد عده "ابن حبيب" في جملة الجرارين، أي: الذين قادوا ألفًا4. وقد كان مفارقًا لملوك كندة، ومعاندًا لهم, وقد شهد يوم الرزم، وهو يوم كان بين مراد قوم فروة وبين همدان، انتصرت فيه همدان على مراد. وقد نسبوا شعرًا لفروة ذكروا أنه قاله يعتذر فيه عن الهزيمة التي أصابت مرادًا في ذلك اليوم، وكان الذي قاد همدان فيه "مراد الأجدع بن مالك"5. ولما وصل "فروة" المدينة، نزل على "سعد بن عبادة"، وقد أكرمه الرسول، واستعمله على مراد وزبيد ومذحج، وبعث معه "خالد بن سعيد بن العاص" على الصدقات6. وإلى بني الحارث بن كعب أرسل الرسول خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام,

_ 1 الطبري "3/ 185". 2 الطبري "3/ 132 وما بعدها"، "قدوم وفد زبيد"، نهاية الأرب "18/ 85". 3 الاشتقاق "ص246". 4 المحبر "ص252". 5 الطبري "3/ 134 وما بعدها", "دار المعارف". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 327", نهاية الأرب "18/ 84 وما بعدها".

أو البقاء على دينهم وهو النصرانية مع دفع الجزية. فأسلم أكثرهم، وذهب وفد منهم فيه "قيس بن الحصين بن يزيد بن قنان ذي الغصة"، و"يزيد بن عبد المدان"، و"يزيد بن المحجل"، و"عبد الله بن قريظ الزيادي"، و"شداد بن عبد الله القناني"، و"عمرو بن عبد الله الضبابي"، فقابل الرسول، وكان السواد غالبًا على لونهم، فقال الرسول لما رآهم: "من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال من الهند؟ ". قيل: يا رسول الله، هؤلاء بنو الحارث بن كعب1. وأمر رسول الله "قيس بن الحصين" على "بني الحارث بن كعب", كما زار الرسول "عبدة بن مسهر الحارثي" في المدينة، وأسلم على يديه2. وكتب الرسول لبني الضباب من "بني الحارث بن كعب" أن لهم ساربة ورافعها، لا يُحاقّهم فيها أحد ما داموا مسلمين، وكتب كتابهم هذا المغيرة3. وكتب لبني قنان بن وعلة من بني الحارث كتابًا أن لهم محبسًا وأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، كتبه له المغيرة أيضا. وأمر الرسول كاتبه: الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، أن يكتب لعبد يغوث بن وعلة الحارثي، أن له ما أسلم عليه من أرضها وأشيائها، أي نخلها ما دام يقوم بما يفرضه الإسلام عليه من واجبات, وكتب له "علي بن أبي طالب" أن لبني زياد بن الحارث جماء وأذنبة. وأمر رسول الله المغيرة بن شعبة أن يكتب ليزيد بن المحجل الحارثي، أن له ولقومه نمرة ومساقيها ووادي الرحمان من بين غابتها، وأنه على قومه من "بني مالك" و"عقبة" لا يغزون ولا يحشرون4. وأمر الرسول أن يكتب كتابًا لـ"قيس بن الحصين ذي الغصة" أمانة لبني أبيه بني الحارث ولبني نهد حلفاء بني الحارث، يؤمنهم على أموالهم ما داموا مسلمين، وكتب كتابًا يشهد بإسلام "بني قنان بن يزيد" الحارثيين، ويؤمنهم فيه أيضا أن لهم مذودًا وسواقيه. وكتب مثل ذلك لعاصم بن الحارث الحارثي،

_ 1 الطبري "3/ 126 وما بعدها", "دار المعارف بمصر"، ابن سعد، طبقات "1/ 339 وما بعدها". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 340". 3 ابن سعد "1/ 267 وما بعدها". 4 ابن سعد "1/ 268".

أن له نجمة من راكس لا يحاقه فيها أحد1. وكان "عوز بن سُرير الغافقي" في جملة من وفد من "غافق" على الرسول، كما كان فيهم "جليحة بن شجار بن صُحار الغافقي"2. وقد آلم -ولا شك- خروج الحبش من اليمن البيزنطيين كثيرًا, وأصيبوا بخروجهم منها بخسارة من الوجهة العسكرية والاقتصادية، غير أن مما خفف من هذه المصيبة أن الفرس لم يكن لديهم آنذاك أسطول قوي يستطيع الهيمنة على مضيق المندب، مدخل البحر الأحمر، بل ولا سفن كافية يكون في وسعها حماية سواحل اليمن والعربية الجنوبية. لذلك لم يهدد دخولهم اليمن السواحلَ الإفريقية المقابلة لسواحل جزيرة العرب، وهي مهمة بالنسبة للروم، ثم إنهم عوضوا عن خسارتهم الكبيرة الفادحة التي نزلت بهم باحتلال الفرس لبلاد الشام، بطردهم الفرس وإجلائهم عن كل الأرضين التي استولوا عليها, وبإعادتهم "الصليب المقدس" إلى مكانه. فرفعوا بذلك من معنوياتهم في الشرق الأوسط وفي إفريقيا. وقد سُرَّ اليهود من خروج الحبش من اليمن ومن استيلاء الفرس عليها، إذ صاروا في حكم حكومة لا تحقد عليهم، حكومة لا يهمها أمر اليهود لعدم وجود علاقة لها بها. بل ربما ساعدتها لأنها تناهض الروم على عكس النصرانية التي كانت قد وجدت في الحبشة نصيرًا ومساعدًا؛ لذلك قل أتباعها وانحسروا تدريجيا وبقيت متمركزة بمدينة نجران. ولنجران وضع خاص, فقد تمتعت باستقلال ذاتي في الغالب, وقد تحرشتُ بتأريخها في مواضع متعددة من هذا الكتاب وبحسب المناسبات. ولما استولى الفرس على اليمن لم تدخل في طاعتهم ولم تخضع لحكم "عاملهم"، بل أخذت تدير شئونها بنفسها وبمجلس تنفيذي حصر أمور البلد في أيدي سادات ثلاثة اختص أحدهم بالحكم المدني، واختص ثانيهم بالنظر في أمور الدين، واختص الثالث في شئون الأمن والدفاع عن المدينة، وقد عرفوا بالعاقب والسيد والأسقف، وقد قدموا على الرسول وباهلوه، وكتب لهم كتاب الصلح وذلك سنة عشر للهجرة,

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 268". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 352".

واشترط عليهم في جملة ما اشترطه فيه، ألا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به1, وكتب الكتاب: المغيرة2. وذكر أن الوفد الذي خرج إلى الرسول من نجران كان مؤلفًا من أربعة عشر رجلًا من أشرافهم نصارى، فيهم: العاقب، وهو عبد المسيح، رجل من كندة، وأبو الحارث بن علقمة، رجل من بني ربيعة، والسيد وأوس ابنا الحارث، وزيد بن قيس، وشيبة، وخويلد، وخالد، وعمرو، وعبيد الله، وفيهم ثلاثة نفر يتولون أمورهم، والعاقب، وهو أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، والسيد، وهو صاحب رحلهم. فتقدمهم "كرز" أخو "أبي الحارث"، ثم قدم الوفد بعده، فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، ثم كلموا الرسول، وصالحهم على شروط، ثم عادوا إلى ديارهم، ثم عاد السيد والعاقب إلى المدينة فأسلما، وبقي الآخرون على دينهم إلى زمن "عمر" فأجلاهم؛ لأنهم أصابوا "الربا" وكثر بينهم، واشترى عقاراتهم وأموالهم، فتفرقوا، فنزل بعضهم الشام ونزل بعضهم "النجرانية" بناحية الكوفة3. وكان الحكم في نجران لـ"بني الأفعى"، ثم تحول إلى "بني الحارث بن كعب"، فلما ظهر الإسلام كان حكامها من بني الحارث بن كعب. أما بنو الأفعى فكانوا كثرة فيها, غير أن الحكم لم يكن في أيديهم4. ولما توفي رسول الله، كان عامله "عمرو بن حزم" بنجران5. ولما قام "ذو الخمار عبهلة بن كعب" وهو "الأسود"، بعامة مذحج على الإسلام في حياة الرسول وكان كاهنًا شعباذًا، يُرِي الناس الأعاجيب، ويسبي قلوب من سمع منطقه، أخرج "عمرو بن حزم" من نجران، واستولى عليها ثم سار

_ 1 الطبري "3/ 139", "دار المعارف", البلاذري، فتوح "75 وما بعدها". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 266". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 358 وما بعدها", البلاذري, فتوح "75 وما بعدها", نهاية الأرب "18/ 121 وما بعدها". 4 الطبري "3/ 321 وما بعدها". 5 الطبري "3/ 130".

"عبهلة" إلى صنعاء فأخذها، وأخذ يدعو الناس إليه، حتى قضى عليه1. وأرسل الرسول قبل وفاته بقليل "وبر بن يُحنس" إلى "فيروز" و"جُشيش الديلمي"، و"داذوية الإصطخري"، و"جرير بن عبد الله" إلى "ذي الكلاع" و"ذي ظليم"، و"الأقرع بن عبد الله الحميري" إلى "ذي زود" و"ذي مران"؛ وذلك للقضاء على "الأسود" وعلى من استجاب إليه، فقتل. قتله "فيروز الديلمي" و"قيس بن مكشوح المرادي"، وعاد من ارتد واتبعه إلى الإسلام، ولم يكن الرسول قد فارق الدنيا بعد2. وكان النبي حين وفاته قد نصب عمالًا على عمالات تمتد من مكة إلى اليمن، فكان على مكة وأرضها "عتاب بن أُسَيْد" و"الطاهر بن أبي هالة"؛ عتاب على بني كنانة والطاهر على عك, وعلى "الطائف" وأرضها "عثمان بن أبي العاص" و"مالك بن عوف النصري"؛ "عثمان" على أهل المدر ومالك على أهل الوبر أعجاز هوازن, وعلى نجران وأرضها عمرو بن حزم وأبو سفيان بن حرب؛ عمرو بن حزم على الصلاة، وأبو سفيان بن حرب على الصدقات, وعلى ما بين "رمع" و"زبيد" إلى حد "نجران" خالد بن سعيد بن العاص، وعلى همدان كلها "عامر بن شهر"، وعلى "صنعاء" فيروز الديلمي يسانده داذوية وقيس بن المكشوح، وعلى الجند يعلى بن أمية، وعلى مأرب أبو موسى الأشعري، وعلى الأشعريين مع عك الطاهر بن أبي هالة، ومعاذ بن جبل يعلم القوم، يتنقل في عمل كل عامل. بقي الحال على هذا المنوال حتى نزا بهم الأسود الكذاب3. وورد في رواية أخرى، أن رسول الله وجه "خالد بن سعد بن العاص" أميرًا على صنعاء وأرضها، وذكر أنه ولى "المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي" صنعاء، فقبض وهو عليها. وقال آخرون: إنما ولى "المهاجر" "أبو بكر"، وولى "خالد بن سعيد" مخاليف أعلى اليمن. وذكر أيضا أن رسول الله ولى "المهاجر" كندة والصدف، فلما قبض رسول الله، كتب

_ 1 الطبري "3/ 185", "ثم دخلت سنة إحدى عشرة". 2 الطبري "3/ 187، 227 وما بعدها", "بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي". 3 الطبري "3/ 318 وما بعدها".

أبو بكر إلى "زياد بن لبيد البياضي" من الأنصار بولاية كندة والصدف إلى ما كان يتولى من حضرموت, وولى المهاجر "صنعاء". والذي عليه الإجماع أن رسول الله ولى "زياد بن لبيد" حضرموت1. ولما ارتد "قيس بن عبد يغوث المكشوح" ردته الثانية، وعمل في قتل فيروز وداذوية وجشيش، وكتب إلى "ذي الكلاع" وأصحابه: "إن الأبناء نُزَّاع في بلادكم، وثقلاء فيكم، وإن تتركوهم لن يزالوا عليكم، وقد أرى من الرأي أن اقتل رءوسهم، وأخرجهم من بلادنا"، كتب "أبو بكر" إلى "عمير ذي مران" وإلى "سعيد ذي زود" وإلى "سميفع ذي الكلاع" وإلى "حوشب ذي ظلم"، وإلى "شهر ذي يناف"، يأمرهم بالتمسك بالإسلام، وبمقاومة "قيس" والمرتدين. فكاتب "قيس" "تلك الفالة السيارة اللحجية، وهم يصعدون في البلاد ويصوبون, محاربين لجميع من خالفهم" "وأمرهم أن يتعجلوا إليه، وليكون أمره وأمرهم واحدًا، وليجتمعوا على نفي الأبناء من بلاد اليمن"؛ فاستجابوا له، ودنوا من صنعاء. وعمد إلى الحيلة لقتل "فيروز"، و"داذوية" و"جشيش", وتمكن من "داذوية"، فقتله. فأحس "فيروز" و"جشيش" بالمكيدة، فهربا إلى "خولان"، وهم أخوال "فيروز"، وامتنع "فيروز" بأخواله، فثار "قيس" بصنعاء، وجمع "فيروز" من تمكن جمعه من الأبناء، وكتب إلى "بني عقيل بن ربيعة بن عامر بن صعصعة" وإلى "عك" يستنصرهم ويستمدهم على "قيس". فساروا إليه ووثبت "عك" وعليهم "مسروق"، وسار "فيروز" بهم نحو "قيس", فهرب في قومه والتحق بفلول "العنسي" التي تذبذبت بعد مقتله، وسار فيما بين صنعاء ونجران، وانضم إلى "عمرو بن معد يكرب". وكان "عمرو" قد فارق قومه "سعد العشيرة" في "بني زبيد" وأحلافها وانضم إلى "العنسي". ولما أرسل "أبو بكر" مددًا إلى من أرسله إلى اليمن، انضم إليه قوم من "مهرة" وسعد زيد والأزد وناجية وعبد القيس وحُدبان من بني مالك، وقوم من العنبر, والنخع، وحمير، واختلف "قيس" مع "عمرو بن معد يكرب"،

_ 1 البلاذري، فتوح "80".

وانفلَّ من كان معهما وأُخذا أسيريْنِ إلى أبي بكر، فعفا عنهما, وانتهت بذلك ردة هذين المرتدين1. ومن "بني خُشَين" "أبو ثعلبة الخشي"، وقد وفد على الرسول وأسلم, ووفد عليه نفر من "خشين", فنزلوا عليه وأسلموا وبايعوه ورجعوا إلى قومهم2. وكان من جملة وفود أهل اليمن إلى الرسول، وفد "بهراء", جاءوا إلى المدينة فأسلموا، وقد نزلوا على "المقداد بن عمرو"3. ومن قبائل اليمن قبائل "مذحج"، وتقع منازلها جنوب منازل "خثعم" وفي شمال ديار "فهد". ومن بطونها "الرهاويون"، وهم حي من مذحج، قدم وفد منهم على الرسول سنة "عشر" للهجرة فأسلموا, وقدم رجل منهم اسمه "عمرو بن سبيع" على الرسول فأسلم، فعقد له رسول الله لواء4. وأرسل "النخع" رجلين منهم إلى النبي: "أرطاة بن شراحيل بن كعب" من "بني حارثة بن مالك بن النخع" و"الجهيش"، واسمه "الأرقم" من "بني بكر بن عوف بن النخع" فأسلما، وعقد لأرطاة لواء على قومه، وجاء وفد آخر من وفد النخع من اليمن سنة إحدى عشرة، وهم مائتا رجل، وكان فيهم "زرارة بن عمرو" وقيل: هو "زرارة بن قيس بن الحارث بن عداء"، وكان نصرانيا، فأسلموا، وبايعوا الرسول، وكانوا قد بايعوا "معاذ بن جبل" باليمن5. وقدم "جرير بن عبد الله البجلي" سنة عشر المدينة على رأس وفد من قومه "بجيلة", فأسلموا وبايعوا الرسول. وقدم وفد آخر منهم فيه "قيس بن عزرة الأحمسي" فأسلموا وعادوا إلى ديارهم6.

_ 1 الطبري "3/ 323 وما بعدها". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 329", نهاية الأرب "18/ 23". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 344 وما بعدها". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 331". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 346", "زرارة بن قيس بن الحارث بن عدي بن الحارث بن عوف", نهاية الأرب "18/ 110". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 347".

وجاء وفد "خثعم" وفيه "عثعث بن زحر" و"أنس بن مدرك", فأسلموا، وكتب النبي لهم كتابا1. وقد دون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لـ"خثعم" "من حاضر بيشة وباديتها"، وأن الذي كتبه له وشهد عليه "جرير بن عبد الله" ومن حضر2. ودون "ابن سعد" صورة كتاب آخر، أمر الرسول بكتابته لـ"مطرف بن الكاهن الباهلي", جاء فيه: "هذا كتاب من محمد رسول الله لمطرف بن الكاهن, ولمن سكن بيشة من باهلة"3. ويظهر منه أن "مطرفًا" المذكور وقومه من باهلة كانوا يقيمون إذ ذاك بـ"بيشة", ودون "ابن سعد" صورة كتاب آخر كتبه الرسول إلى "نهشل بن مالك الوائلي" من "باهلة"4, ولم يذكر الكتاب مواضع منازلهم. وكان من رجال "جُعْفى" الذين وفدوا على الرسول: "قيس بن سلمة بن شراحيل" و"سلمة بن يزيد"، فأسلما واستأذنا الرسول بالعودة إلى منازلهما. فلما كانا في الطريق، لقيا رجلًا من أصحاب رسول الله، معه إبل من إبل الصدقة، فطردا الإبل، وأوثقا الراعي. ومن "جعفي" "أبو سيرة", وهو "يزيد بن مالك بن عبد الله الجعفي" وابناه "سبرة" و"عزيز"، قدم بهما أبوهما على الرسول، وأسلموا5. وأما "تهامة"، فكان بها عك والأشعرون، وكانوا قد ارتدوا بعد سماعهم خبر وفاة الرسول، ولكنهم غُلبوا على أمرهم، وعادوا إلى الإسلام6. ولما توفي الرسول، كان أول منتقض بعد النبي بتهامة عك والأشعرون, وذلك أنهم حين بلغهم موت النبي تجمعوا وأقاموا على الأعلاب طريق الساحل, فسار إليهم "الطاهر بن أبي هالة" ومعه "مسروق المكي" فهزمهم وقتلهم كل قتلة, وعرفت الجموع من عك ومن تأشب إليهم: الأخابث, وسُمِّي

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 348". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 286". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 284". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 284". 5 نهاية الأرب "18/ 83 وما بعدها". 6 الطبري "3/ 320 وما بعدها".

الطريق الذي تجمعوا به "طريق الأخابث"1. وجاء وفد من الأشعريين، فيه "أبو موسى الأشعري" ومعه رجلان من "عك", قدم في سفن في البحر، ثم نزلوا الساحل وذهبوا برًّا إلى المدينة, فرأوا الرسول وبايعوه2. وأرسلت "جبشان" نفرًا إلى المدينة فيهم "أبو وهب الجشاني"، فأسلموا3. وكان الحكم في حضرموت إلى الأقيال كذلك. وفي أيام الرسول قدم عليه "وائل بن حجر" راغبًا في الإسلام، وكانت له مكانة كبيرة في بلده، وقد نعته كتاب الرسول الذي كتبه إليه بـ"قيل حضرموت"4. وقد كان لكندة والسكاسك والسكون والصدف أثر كبير في تأريخ حضرموت في هذا العهد الذي نتحدث عنه. وذكر "ابن سعد" أن الرسول كتب إلى أقيال حضرموت وعظمائهم؛ كتب إلى "زرعة" و"فهد" و"البسّي" و"البحيري" و"عبد كلال" و"ربيعة" و"حجر"5. وكانت كندة هي القبيلة المتنفذة بحضرموت. كان "الأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي" من رؤساء هذه القبيلة البارزين, وقد مدح الأعشى "قيس بن معد يكرب" بقوله: وجُلُنداء في عُمان مُقيمًا ... ثم قيسًا في حضرموت المُنيف6 وكان "الأشعث بن قيس" على رأس وفد كندة الذي وفد على الرسول سنة عشر، فأسلم مع قومه على يديه7. وقد كان رجال الوفد قد رَجَّلوا جمعهم واكتحلوا، ولبسوا جباب الحبرة قد كَفّوها بالحرير، وعليهم الديباج ظاهر مخوص بالذهب، فأمرهم الرسول بترك ذلك، فألقوه8.

_ 1 الطبري "3/ 320 وما بعدها". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 348"، نهاية الأرب "18/ 23". 3 ابن سعد, طبقات "1/ 359". 4 ابن خلدون "2/ 56 وما بعدها", "القسم الثاني", "الوفود". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 283 وما بعدها". 6 ديوان الأعشى "القصيدة 63، البيت 15". 7 الطبري "3/ 138 وما بعدها" "قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة", نهاية الأرب "18/ 87 وما بعدها". 8 ابن سعد, طبقات "1/ 328".

وذكر "أبو عبيدة"، أن "الأشعث بن قيس" لم يكن كِنديًّا، وإنما صار في كندة بالولاء. وزعم أن والد "قيس" وهو "معد يكرب" كان علجًا من أهل فارس إسكافًا اسمه "سيبخت بن ذكر", قطع البحر من توج إلى حضرموت, وللفرزدق شعر في ذلك قاله في حق "عبد الرحمن" حين خالف عبد الملك بن مروان. كما زعم أن "وردة بنت معد يكرب" عمة الأشعث كانت عند رجل من اليهود، فماتت ولم تخلف ولدًا، فأتى الأشعث "عمر بن الخطاب" يطلب ميراثها، فقال له عمر: لا ميراث لأهل ملتين1. وقد عرف ملوك كندة الذين راسلهم الرسول بـ"بني معاوية"2، وهم الذين عرفوا بـ"بني معاوية الأكرمين" في شعر مُدحوا به. وكان مخوص "مخوس" ومشرح وجمد "حمدة" وأبضعة, بنو معد يكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية من الرؤساء الملقبين بلقب ملك؛ لأن كل واحد منهم قد اختص بوادٍ ملكه، ولقب نفسه بلقب ملك3. وقد نزلوا المحاجر، وهي أحماء حموها، وقد عرف هؤلاء بالملوك الأربعة من بني عمرو بن معاوية وقد لعنهم النبي4. وعرفوا بـ"بني وليعة" ملوك حضرموت وقد جاءوا إلى الرسول مع وفد كندة فأسلموا5. ووفد رئيس آخر من رؤساء حضرموت على الرسول اسمه "وائل بن حجر"، ويظهر أنه كان ذا منزلة كبيرة عند قومه، فلما وصل المدينة أمر الرسول "معاوية بن أبي سفيان" باستقباله وبإنزاله منزلا خاصا بـ"الحرة", وأمر بأن ينادى ليجتمع الناس: الصلاة جامعة، سرورًا بقدومه، ولما أراد الشخوص إلى بلاده كتب له الرسول كتابًا دعاه فيه بـ"قيل حضرموت"، وذكر فيه أنه جعل له في يديه من الأرضين والحصون. ولما أمر الرسول معاوية بأن ينزل "وائلًا" بالحرة، مشى معاوية معه ووائل راكب, فقال معاوية: الق إليَّ

_ 1 ابن رستة, الأعلاق "205". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 265". 3 البلدان "3/ 294" "حضرموت", ابن خلدون "2/ 56", "القسم الثاني", "الوفود" البلاذري، فتوح "109". 4 ابن الأثير "2/ 158 وما بعدها". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 349".

نعليك أتوقَّ بهما من الحر، فقال له: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك، ولما قال له: فأردفني، قال: لستَ من أرداف الملوك، ولكن إن شئتَ قصرت عليك ناقتي فسرتَ في ظلها، فأتى معاوية النبي، فأنبأه بقوله، فقال رسول الله: "إن فيه لعُبَيّة من عُبَيّة الجاهلية"1. وكان "الأشعث الكندي" وغيره من "كندة" نازعوا "وائل بن حجر" على وادٍ بحضرموت فادعوه عند رسول الله، فكتب به رسول الله لوائل بن حجر, بعد أن شهد له أقيال حمير وأقيال حضرموت. فكتب له بذلك، وأقره على ما في يده من الأرضين2. ومن قرى حضرموت: تريم ومشطة والنجير وتنعة وشبوة وذمار3. وكان الرسول قد استعمل "المهاجر بن أبي أمية" على كندة والصدف, و"زياد بن لبيد البياضي" من "بني بياضة" على حضرموت، و"عكاشة بن محصن" على "السكاسك" و"السكون"4. ولما توفي الرسول, خرج "بنو عمرو بن معاوية" إلى محاجرهم، ونزل "الأشعث بن قيس الكندي" محجرًا، و"السمط بن الأسود" محجرًا، وطابقت "معاوية" كلها على منع الصدقة وأجمعوا على الردة، إلا ما كان من "شرحبيل بن السمط" وابنه، فإنهما خالفاهم في رأيهم، فهجم المسلمون على المحاجر، وقتلوا الملوك الأربعة, وساروا على "الأشعث" ومن انضم إليه من "كندة", والتقوا بمحجر الزرقان، فهزمت كندة وعليهم الأشعث, فالتجأت إلى حصن النجير، ومعهم من استغووا من السكاسك وشذاذ من السكون وحضرموت والنجير، فلحقتهم جيوش المسلمين ومنعت المدد عنهم، وأخضعت من بقرى "بني هند" إلى "برهوت"، وأهل الساحل وأهل "محا"، فخاف من بالحصن على نفسه، واستسلم الأشعث وانتهت

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 287". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 349 وما بعدها". 3 المحبر "ص185". 4 المحبر "ص186 وما بعدها", الطبري "3/ 330", "ذكر خبر حضرموت في ردتهم".

فتنته1. وأُخذ إلى المدينة، فحقن "أبو بكر" دمه، وزوَّجه أخته، ثم سار إلى الشام والعراق غازيًا ومات بالكوفة2. وكان "شرحبيل بن السمط" الكندي مقاومًا للأشعث بن قيس الكندي في الرئاسة، وانتقل العداء إلى الأولاد3. وينسب "الصدف" إلى الصدف بن مالك بن مرتع بن معاوية بن كندة, فهم إذن من كندة. وذكر أن من سادات حضرموت في هذا العهد: "ربيعة بن ذي مرحب الحضرمي", وقد كتب إليه الرسول كتابًا أقره فيه وأقر أعمامه وإخوته وكل "آل ذي مرحب" على أرضهم وأموالهم ونحلهم ورقيقهم وآبارهم ونخلهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشراجعهم وأن "أموالهم وأنفسهم وزافرًا حائط الملك الذي كان يسيل إلى آل قيس" هو لهم. وكتب الكتاب للرسول معاوية بن أبي سفيان4. وكان يتنازع على رئاسة مهرة رجلان منهم عند ظهور الإسلام، أحدهما "شخريت" وهو من "بني شخراة"، وكان بمكان من أرض مهرة يقال له: "جَيْروت" إلى "نضون"، وأما الآخر فبالنجد. وقد انقادت مهرة جميعًا لصاحب هذا الجمع, عليهم "المصبح" أحد بني محارب, والناس كلهم معه، إلا ما كان من شخريت، فكانا مختلفين، كل واحد من الرئيسين يدعو الآخر إلى نفسه. وقد قتل "المصبح" في أثناء ردة مهرة، أما شخريت الذي كان قد أسلم ثم ارتد، فقد سلم على نفسه بعودته إلى الإسلام، وأرسل مع الأخماس إلى "أبي بكر"5. ويذكر أهل الأخبار أن بعض رجال "مهرة" وفدوا على الرسول، منهم "مَهْري بن الأبيض", وقد كتب له الرسول كتابًا, و"زهير بن قِرْضم

_ 1 الطبري "3/ 332 وما بعدها". 2 البلاذري، فتوح "110". 3 البلاذري، فتوح "143". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 266". 5 الطبري "3/ 316 وما بعدها"، "ذكر خبر مهرة بالنجد".

ابن العُجيل بن قباث بن قمومي"، وقد أسلم، وكتب له الرسول كتابًا حين همَّ بالانصراف إلى قومه1. ومن مواضع "مهرة" "رياض الروضة", بأقصى أرض اليمن من مهرة, و"جيروت" و"ظهور الشحر" و"الصبرات" و"ينعب" و"ذات الخيم"2. وأما عمان، فكان المتنفذ والحاكم فيها "الجلندي بن المستكبر"، وكان قد نصب نفسه ملكًا عليها، ويفعل في ذلك فعل الملوك، فيعشر التجار في سوق "دبا" و"سوق صحار". وكانت سوق دبا من الأسواق المقصودة المشهورة, يأتي إليها البائعون والمشترون من جزيرة العرب ومن خارجها، فيأتيها تجار من السند والهند والصين3. وورد في باب الرسل الذين أرسلهم رسول الله إلى الملوك، أنه أرسل "عمرو بن العاص" إلى "جيفر بن جلندي" و"عباد بن جلندي" "عبيد" "جيفر بن جلندي بن عامر بن جلندي" "عبدا" الأزديين صاحبي عمان4. مما يدل على أنهما كانا هما الحاكمين على عمان في هذا الوقت. وتعني لفظة "جلنداء" الواردة في شعر الأعشى في مدح "قيس بن معد يكرب" "الجلندي" صاحب عمان5, وتذكر الروايات أن "جيفر"، كان هو الملك منهما, وكان أسن من أخيه6. وكان يُسامي "الجلندي" "ذو التاج" "لقيط بن مالك الأزدي"، وقد ارتد وادعى بمثل ما ادعى من تنبأ, وغلب على عمان، والتجأ "جيفر" و"عباد" إلى الجبال". فأرسل "أبو بكر" إليهما مددًا، فتغلبا عليه وعلى من

_ 1 ابن سعد، طبقات "3551 وما بعدها". 2 الطبري "3/ 317". 3 المحبر "ص265 وما بعدها"، البلاذري "87"، "عمان". 4 الطبري "3/ 645"، "المحبر "ص77"، "الطبري" 3/ 29" "دار المعارف". 5 وجلنداء في عمان مقيمًا ثم قيسًا في حضرموت المنيف ديوان الأعشى "312" "طبعة الدكتور م. محمد حسين"، القصيدة 63، البيت 15، البلاذري، فتوح "87", ابن الأثير، الكامل "2/ 252"، تاج العروس "2/ 323"، "جلد". 6 نهاية الأرب "18/ 167 وما بعدها".

التف حوله1. ويظهر أن "لقيطا" كان ينافس ال الجلندي بن المستكبر" على السلطان، وقد اعتصم ال الجلندي" بالإسلام, وانتصروا بفضل المدد الذي وصل إليهم عليه. وقد قتل "لقيط" وسبي أهل "دبا". وكلمة "الجلندي" على ما يظهر من روايات الإخباريين ليست اسمًا لشخص, وإنما هي لقب، وقد تعني "لقبا" أو "قيلا" أو "كاهنا" في لهجات أهل عمان. ويؤيد ذلك ما ورد من أنه "ادعى به من كان نبيا"2. وارتدت طوائف من أهل "عمان"، ولحقوا بالشحر، وارتد جمع من "مهرة بن حيدان بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة"، فجهز عليهم "أبو بكر" "عكرمة بن أبي جهل بن هشام المخزومي" و"حذيفة بن حصن البارقي" من الأزد، فتغلبا عليهم جميعًا، وعادوا عن ردتهم إلى الإسلام3. ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لرجل من "مهرة" اسمه "مهري بن الأبيض", كتبه له "محمد بن مسلمة الأنصاري"4. وغالب أهل عمان من الأزد, وهم من القحطانيين على رأي أهل الأنساب" من نسل "أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ". وقد عرفوا بـ "أزد عمان"، تمييزًا لهم عن أزد شنوءة وأزد السراة وعن أزد غسان. وذكر أن أصل كلمة "أزد" هي "أسد"، وأن "أسد" أفصح من "أزد"5, وأن الأزد نزلت عمان بعد سيل العرم، فغلبت على من كان بها من ناس6. وأما أزد "شنوءة" فقد اتجهوا نحو الشمال، فذهب قوم منهم إلى العراق، وذكر أنهم سموا "شنوءة" لشنآن، أي: تباغض وقع بينهم أو لتباعدهم عن بلدهم7. وإذا أخذنا بهذا التفسير، قلنا: إنه يعني أن هذه الجماعة من الأزد، كانت مستبدية أعرابية، عاشت متباغضة يقاتل بعضها بعضًا، وهذا ما دفع فلولها إلى الارتحال

_ 1 الطبري "3/ 213 وما بعدها"، "دار المعارف"، ابن الأثير "2/ 156، 252". 2 الطبري "3/ 314". 3 البلاذري، فتوح "87 وما بعدها". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 286". 5 اللسان "3/ 71 وما بعدها"، الاشتقاق "283"، تاج العروس "2/ 389". 6 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 7". 7 تاج العروس "1/ 82".

عن مواضعها الأصلية وعلى الانتشار والتفكك والذهاب إلى أماكن بعيدة عن مواطنها شأن الأعراب المتقابلين المتخاذلين. ثم نراهم يذكرون أن أول من لحق بعمان من الأزد: "مالك بن فهم بن غانم بن دوس بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن عبد الله بن مالك" وكان سبب خروجه عن قومه إلى عمان: أن كان له جار وكان لجاره كلبة، وكان بنو أخيه "عمرو بن فهم بن غانم يسرحون ويروحون على طريق بيت ذلك الرجل، وكانت الكلبة تعوي عليهم وتفرق غنمهم، فرماها أحدهم بسهم فقتلها, فشكا جار مالك إليه ما فعل بنو أخيه، فغضب مالك وقال: لا أقيم في بلد ينال فيه هذا من جاري، ثم خرج مراغمًا لأخيه عمرو ابن فهم، ثم لحقت به قبائل أخرى من الأزد"1. ويذكر الإخباريون أن "عمان" نسبة إلى رجل اسمه "عمان بن قحطان", وكان أول من نزلها بولاية أخيه يعرب، وذكر أيضًا أن "عمان" اسم وادٍ، كان ينزل الأزد عليه حين كانوا بمأرب، وأن الفرس كانوا يسمون "عمان" "مزون"2. وذكر أن العرب كانت تسمي "عمان" المزون. وذكر أن "أردشير بابكان" جعل الأزد ملاحين بشحر عمان قبل الإسلام بستمائة سنة، وقيل: إن المزون، قرية من قرى عمان يسكنها اليهود والملاحون ليس بها غيرهم3. ونزل بعمان ناس من غير الأزد, منهم جمع من "بني تميم"، ومنهم "آل جذيمة بن حازم"، وقوم من "بني النبيت" من الأنصار، ومنازلهم في قرية يقال لها "ضنك" من أعمال "السر"، و"بنو قطن"، من أهل يثرب كذلك، ومنازلهم "عبرى" و"السليف" و"تنعم" من أرض السر، وقوم من "بني الحارث بن كعب"، وآخرون من "قضاعة"، وفروع من "عبس"4. وكان في جملة من وفد من أزد عمان على الرسول، "أسد بن يبرح

_ 1 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 9". 2 اللسان "13/ 289"، السالمي، تحفة الأعيان "1/ 7". 3 اللسان "13/ 407". 4 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 9".

الطاحي، خرج في وفد، فبايعوا الرسول وطلبوا منه أن يرسل إليهم رجلًا يقيم أمرهم، فأمر رسول الله "مخربة العبدي"، واسمه "مدرك بن خُوط" بأن يذهب إليهم، ويعلمهم القرآن والأحكام. وجاء بعده وفد آخر فيه "سلمة بن عياذ "عباد" الأزدي"1. ومن عمان "صحار"، وقد اشتهرت بسوقها, و"قلهات" وهي فرضة عمان على البحر، إليها ترفأ أكثر سفن الهند2, و"دبا" "دمار", و"مهرة"3. ويعقد سوق صحار في أول يوم من رجب، ولا يختفر فيها بخفير، ثم يرتحلون إلى سوق دبا، فيعشرهم "آل الجلندي"4. ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه إلى وفد "ثُمالة" و"الحُدان", جاء فيه: "هذا كتاب من رسول الله لبادية الأسياف ونازلة الأجواف مما حاذت صحار"، ثم ورد بعدها ما وضع عليهم الرسول من حقوق. وقد كتب الصحيفة "ثابت بن قيس بن شماس"، وشهد عليها: سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة. وأما البحرين، فجلُّ سكانها من "بني عبد القيس" وبكر بن وائل وتميم, وهم بين أهل شرك أو نصرانية وبين شراذم من يهود ومجوس. أما الوالي عليها في أيام ظهور الرسول، فكان "المنذر بن ساوي"5, وهو من بني عبد الله بن زيد من "بني تميم". وكانوا ملوك المشقر بهجر، وكانت ملوك الفرس قد استعملتهم عليها6. و"عبد الله بن زيد" هذا هو "الأسبذي"، نسبة إلى قرية بـ"هجر" يقال لها "الأسبذ"، ويقال: إنه نسب إلى "الأسبذيين"، وهم قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين7.

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 351"، نهاية الأرب "18/ 115". 2 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 8"، البكري، معجم "3/ 109". 3 البلاذري، فتوح "88". 4 السالمي، تحفة الأعيان "1/ 8". 5 ابن الأثير "2/ 89", الطبري "2/ 161 وما بعدها"، البلدان "2/ 74", المحبر "ص265". 6 المحبر "ص265". 7 البلاذري، فتوح "89"، تاج العروس "2/ 564"، "السبذة".

و"المشقر" حصن آخر من حصون البحرين المعروفة، وهو من الحصون العادية لذلك نسب بعض أهل الأخبار بناءه إلى "سليمان بن داود" على عادتهم في إرجاع نسب الأبنية العادية إليه في الغالب, عند عجزهم عن معرفة أصل الأبنية. وذكر بعض آخر أنه من بناء "طسم", وقد كان لعبد القيس، ولهم حصن آخر يليه اسمه "الصفا" قبل مدينة "هجر"، وبين الصفا والمشقر نهر يجري يقال له "العين"، ويذكر أهل الأخبار أن "بني عبد القيس" لما جاءوا بها "إيادًا" فأخرجوهم عنها قهرًا، وأخذوا مكانهم, وأن "كسرى" حبس "تميما" بهذا الحصن، وفيه فتك "المكعبر" والي "كسرى" ببني تميم. وعرف الموضع لذلك بـ"فج بني تميم"1. وقد ورد اسم هذا الحصن في شعر "لبيد بن ربيعة العامري"، إذ قال: وأعوصن بالدومي من رأس حصنه ... وأنزلن بالأسباب رب المشقر وقد ذكر شارح الديوان أن الشاعر "لبيدًا" قصد بالدومي ملك دومة الجندل, وأن المشقر حصن بالبحرين. "قال أبو عمرو: كان ربه رجلًا من الفرس"2. وجاء في هامش التحقيق أن "المشقر: قصر بالبحرين بناه معاوية بن الحارث بن معاوية الملك الكندي، وكانت منازلهم ضرية، فانتقل أبوه الحارث إلى الغمر، وبنى ابنه المشقر، وقال ابن الأعرابي: المشقر بمدينة قديمة في وسطها قلعة، وهي مدينة هجر"3. وتقع ديار "عبد القيس" إلى الشمال من ديار "أزد عمان"، وهي تشرف على الخليج، وتمتد نحو الشمال حتى تصل إلى منازل قبائل "بكر بن وائل"، وقد خالطتها قبائل أخرى، وسكنت إلى الغرب من ديار "عبد القيس" قبائل "تميم" التي تمتد ديارها موازية لديار "بني عبد القيس" الواقعة إلى شرقها حتى تصل إلى ديار "بكر بن وائل" وديار "أسد" التي تؤلف الحدود الشمالية الغربية لها. وأما القبائل النازلة إلى الغرب من ديار تميم، فهي: أسد وهوازن

_ 1 وهناك مواضع أخرى عرفت باسم "المشقر"، البلدان "4/ 615" "طهران"، القزويني، آثار البلاد وأخبار العباد "73"، مراصد الاطلاع "3/ 1275"، البكري، معجم "3/ 1232". 2 شرح ديوان لبيد "ص56". 3 شرح ديوان لبيد "ص56"، هامش رقم "1".

و"غني" و"باهلة"، وأما القبائل النازلة إلى الجنوب من بلاد تميم، فهي: "أزد عمان" و"عبد مناة" و"ضبة". ويظهر من دراسة الروايات التي يرويها أهل الأخبار عن هجرة القبائل، أن "بني عبد القيس" لما جاءوا إلى البحرين، كانت البلاد إذ ذاك لإياد، فجلت إياد من البحرين ونزحت نحو العراق، فكان ما كان لها من مواقف هناك مع الفرس1. وسبب غدر "المكعبر" ببني تميم، هو وثوبهم على قافلة كانت محملة بالطرف والأموال أرسلها "وهرز" عامل كسرى على اليمن إلى كسرى، فاغتاظ "كسرى" من ذلك، وأراد إرسال جيش عليهم، فأخبر أن بلادهم بلاد سوء، قليلة الماء، وأشير إليه أن يرسل إلى عامله بالبحرين أن يقتلهم، وكانت تميم تصير إلى هجر للميرة، فلجأ العامل إلى الغدر بهم، فأمر مناديه أن ينادي: لا تطلق الميرة إلا لتميم، فأقبل إليه خلق كثير، فأمرهم بدخول المشقر وأخذ الميرة، والخروج من باب آخر، فدخل قوم منهم فقتلهم, ثم أجهز على الباقين، وبعث بذراريهم في سفن إلى فارس2. وذكر أن "المكعبر" واسمه "فيروز بن جشيش"، تحصن بـ"الزارة" وانضم إليه مجوس كانوا تجمعوا بالقطيف، وامتنعوا عن أداء الجزية، فحاصرها "العلاء" وفتحها في أول خلافة "عمر". وفتح "العلاء" "السابون" و"دارين" في الساحل المقابل من الخليج3. وتميم من القبائل الكبيرة التي كان لها شأن عند ظهور الإسلام، وقد سكنت في مواضع متعددة من جزيرة العرب وفي العراق وبادية الشام. وكان من أشرافها عند ظهور الإسلام: عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي، والأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، وقيس بن عاصم4,

_ 1 الأغاني "20/ 23"، البكري "1/ 67، 82", البلاذري، أنساب "1/ 25", الجاحظ، البيان "1/ 121". 2 آثار البلاد "ص73". 3 البلاذري، فتوح "95 وما بعدها". 4 الطبري "3/ 115"، "قدوم بني تميم ونزول سورة الحجرات", نهاية الأرب "18/ 32 وما بعدها".

وربيعة بن رفيع، وسبرة بن عمرو، والقعقاع بن معبد، ووردان بن محرز, ومالك بن عمرو، وحنظلة بن دارم، وفراس بن حابس1، وقيس بن الحارث, ونعيم بن سعد، ورباح بن الحارث2, و"سفيان بن الحارث بن مصاد"3. وكان "الزبرقان بن بدر" على الرباب وعوف والأبناء، وقيس بن عاصم على "مقاعس" والبطون، و"صفوان بن صفوان" على "بهدى"، و"سبرة بن عمرو" على "خضم" من "بني عمرو", و"بهدى" و"خضم" قبيلتان من "بني تميم"، و"وكيع بن مالك"، و"مالك بن نويرة" على "بني حنظلة", و"وكيع" على "بني مالك"، و"مالك" على "بني يربوع". ولما وقعت "الردة"، ارتبك موقف زعماء "تميم"، وكانوا متخاصمين غير متفقين فيما بينهم، وبينهم تحاسد وتباغض، منهم من أدى الصدقة ومنهم من امتنع، وتخاصموا فيما بينهم بسبب ذلك. وزاد في ارتباكهم هذا قدوم "سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان" من الجزيرة، وكانت ورهطها في "بني تغلب" تقود أفناء "ربيعة"، ومعها "الهذيل بن عمران" في "بني تغلب" و"عقة بن هلال" في النمر، و"تاد" في إياد، و"السُّليل بن قيس" في "شيبان"، وحاروا في أمرهم، منهم من انضم إليها ومنهم من خالفها وقاتلها، ثم اتجهت نحو"مسيلمة" باليمامة واتفقت معه، ثم غادرته راجعةً إلى قومها4. ولما امتنع "مالك بن نويرة" عن دفع الصدقة، سار إليه "خالد بن الوليد", إلى "البطاح"، وكان قد فرق قومه، وأمرهم بعدم التعرض والمقاومة، ولكنه قتل، وانتهى بذلك أمر تميم5. وكان "الأقرع بن حابس بن عقال" المجاشعي الدارمي في جملة المؤلفة

_ 1 الطبري "3/ 157". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 293 وما بعدها". 3 ابن سعد، طبقات "3/ 267 وما بعدها". 4 الطبري "3/ 267 وما بعدها". 5 الطبري "3/ 276 وما بعدها"، "ذكر البطاح وخبره", الميداني، مجمع الأمثال "2/ 139"، العقد الفريد "3/ 264"، زهر الآداب "3/ 761"، تأريخ خليفة بن خياط "1/ 70".

قلوبهم1, وهو من سادات تميم. وذكر أنه كان على دين المجوس2. ولقبيلة تميم صلات بملوك الحيرة، وقد كانت "الردافة" إليها, وهي مكانة ودرجة مهمة جدا، لا تعطى إلا للقبائل المتنفذة القوية. ومع ذلك فقد وقعت بينها وبينهم خطوب ومعارك, لما في طبع القبائل من شق عصا الطاعة عند شعورها بوجود وهن في الحكم, وبأن في إمكانها الانفراد بنفسها في الحكم. كما كانت لها صلات متينة برجال مكة التجار، ولها معهم أعمال وتجارة وعهود وحبال؛ لحماية قوافل قريش ولتأمين وصولها سالمة إلى الأماكن التي كانت تقصدها. ونجد تميمًا تحارب "بكر بن وائل" ومن يشد أزرها ويعاونها من "الأساورة" وذلك يوم "الصليب". وقد انتصر "بنو عمرو" وهم من تميم على "بني بكر"، وقُتل "طريف" "رأس الأساورة"3. وقد كانت "بكر بن وائل" من القبائل المؤيدة للساسانيين, وكان الفرس يقومونهم ويجهزونهم، ويشرف على تجهيزهم عاملهم على "عين التمر"4. وتظهر صلات "تميم" الطيبة بقريش من أخبار أهل الأخبار عن تجارة قريش وعن الطرق التي كان يسلكها تجارهم لوصولهم إلى الأسواق، مثل سوق دومة الجندل والمشقر والأسواق الأخرى. لقد كانت الطرق المؤدية إلى تلك الأسواق تمر بأرضين هي لأحياء من تميم، ولم تكن هذه الأحياء تتعرض لتجار مكة أو للتجار المتحالفين معهم والذين يتاجرون باسمهم، بأي سوء. على العكس كانت تحترمهم وتقدم لهم المعونة؛ لوجود حبال وعهود عقدها ساداتهم مع سادات قريش. ونظرًا إلى ما كان من حلف بين "كلب" و"تميم"، فقد صار في وسع تاجر مكة ومن هو في حلفه أو يتاجر بحماية تجار مكة، المرور في منازل "كلب" بأمن وسلام5. ومن ديار تميم "الحزن"، وهو لـ"بني يربوع", وهو مرتع من مراتع

_ 1 تاج العروس "6/ 44"، "ألف". 2 الأعلاق النفيسة "217". 3 M. J. Kister, VIII, II, November, 1965, p. 114. 4 النقائض "581", Kister. 5 Kister, p. 128.

العرب، فيه رياض وقيعان، وقيل: هو صقع واسع نجدي بين الكوفة وفيد، وقيل: هو قف غليظ، ومربع من مرابع العرب، بعيد عن المياه، فليس ترعاه الشياه ولا الحمر، فليس فيها دمن ولا أرواث1, وعرف بأنه بلاد بني يربوع. وهناك حزن آخر ما بين زبالة فما فوق ذلك مصعدًا في بلاد نجد, وفيه غلظ وارتفاع. وقد ورد ذكر "الحزن" في شعر للأعشى، حيث يقول: وما روضة من رياض الحزن، معشبة ... خضراء جاد عليها مُسبل هطل وذكر أنه موضع كانت ترعى فيه إبل الملوك، وهو من أرض "بني أسد"2. وكانت قوافل قريش إذا قصدت "دومة الجندل"، وسلكت السبل التي تمر بـ"الحزن"، فإنها تكون آمنة مطمئنة؛ لأنها تمر ببلاد مضر، ولا يتحرش مضري بمضري. وكان إذا عادت وأرادت سلوك مواضع الماء، مرت بديار كلب، فتكون عندئذ آمنة مطمئنة؛ لأن لكلب حلفًا مع "تميم" و"تميم" من مضر ولها صلات وعلاقات بمكة. وإذا مرت بحزن أسد، فإنها تكون آمنة كذلك؛ لأن "بني أسد" من مضر. وإذا دخلت ديار "طيء"، صارت آمنة أيضًا؛ لأن لطيء حلفًا مع بني أسد.3 ويظهر أنه قد كانت لتميم صلات بقريش وبمكة تعود إلى أيام سابقة على الإسلام, إذ نجد في روايات أهل الأخبار أن نفرًا منهم كانوا يذهبون إلى مكة ومنهم من كان يذهب إليها للاتجار. فقد ذكر أن تميميا كان متجره بمكة، وقد اختلف مع "حرب" فاعتدى عليه "حرب", فذهب التميمي إلى "بني هاشم" واستجار بهم، فأجاره "الزبير بن عبد المطلب" رئيس "بني هاشم"4, وذكر أن نفرًا من "بني دارم" كانوا في جوار رجال من "بني هاشم"5. بل يظهر أنه قد كان لهذه القبيلة علاقة بمكة نفسها وبسوق عكاظ، وهو

_ 1 اللسان "13/ 113"، "حزن"، تاج العروس "9/ 174"، "حزن". 2 اللسان "13/ 113"، "حزن"، تاج العروس "9/ 174 وما بعدها"، "حزن". 3 المرزوقي، الأمكنة "2/ 162". 4 ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة "3/ 465"، ابن عساكر، تأريخ "7/ 329", سيرة ابن دحلان "1/ 22"، Kister, p. 130. 5 Kister, p. 131.

سوق مهم تقصده قريش، وكانت تتحكم في شئونه، فلتميم صلة بـ"الإفاضة"، ولها صلة بالحكومة في سوق عكاظ، وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من حكام تميم حكموا بعكاظ. وكانت هي وقريش وكنانة، تدير مراسم الحج وتحافظ على شعائره، مما يدل على أنها كانت ذات صلة قديمة بمكة، ولا سيما بعض أحياء منها، مثل "بني دارم" الذين ظهروا على أكثر أحياء تميم. ولعل ابتعادها عن مكة وارتحال أحيائها إلى مواطن بعيدة عن مكة، قد باعد فيما بينها وبين قريش، وقلل من صلاتها بهم. وتتجلى هذه العلاقة في تزوج قريش من "تميم"، مع ما عرف عن قريش من الامتناع من التزوج من غير قريش، وقد روى أهل الأخبار أسماء جماعة من أشراف مكة، كانت أمهاتهم من "تميم". ونجد في مكة رجالًا من تميم تحالفوا مع رجال من مكة، فصاروا من حلفائهم1. وقيام "تميم" بمهمة "الحكومة" قي سوق عكاظ، وبـ"الإجازة"، يدل على أهمية مركز هذه القبيلة بالنسبة لقريش, وما كانت قريش تعطي "الإجازة" لتميم لولا ما كان لها من نفوذ ومن علاقات طيبة بقريش. وقد افتخر "بنو تميم" بالحكومة في "عكاظ", وبالإجازة في الجاهلية وفي الإسلام2. وكان "بنو عبد القيس" من قبائل البحرين المتنفذة, وكانت غالبيتهم على النصرانية، ومنهم كان "الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلي"، الذي قدم في وفد عبد القيس إلى الرسول، فأسلم على يديه، وقد رفض الدخول فيما دخل فيه قومه من الردة عن الإسلام والعودة إلى النصرانية وتأييد "الغرور": المنذر بن النعمان بن المنذر3. وكان في جملة الوفد الذي قدم على الرسول عام الفتح: "عبد الله بن عوف الأشج"، و"منقذ بن حيان"، وهو ابن أخت الأشج، فأسلما وعادا إلى ديارهما4. ودون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول وجهه إلى "الأكبر بن عبد القيس", ولم يشر إلى المراد من "الأكبر بن عبد القيس". ومما جاء فيه

_ 1 المصعب الزبيري، نسب قريش "267", Kister, p. 157. 2 Wellhausen, Peste, S. 57, Gipebaum, Mohammadan Festivals, P. 32. F, Kister, P. 155. 3 الطبري "3/ 1136"، "قدوم الجارود في وفد عبد القيس". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 341"، نهاية الأرب "18/ 65 وما بعدها".

أن "العلاء بن الحضرمي" "أمين رسول الله على برها وبحرها وحاضرها وسراياها وما خرج منها، وأهل البحرين خفراؤه من الضيم وأعوانه على الظلم وأنصاره في الملاحم"1. وكان الرسول قد أرسل "العلاء بن الحضرمي" سنة ثمانٍ قبل فتح مكة إلى "المنذر بن ساوي العبدي"، يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، فهلك بعد وفاة الرسول بشهر، وارتد بعده أهل البحرين2. واجتمعت "ربيعة" بالبحرين وارتدت، وملكوا عليهم "المنذر بن النعمان بن المنذر الغرور"، وكان يعاونه "الغرور بن سويد" أخي النعمان بن المنذر، ويسمى "المنذر بن سويد بن المنذر"3, وكان رأس أهل الردة "الحطم بن ضبيعة" أخو بني قيس بن ثعلبة، فجمع من اتبعه من بكر بن وائل، حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط ومن فيها من الزط والسيابجة، وبعث بعثًا إلى "دارين" وبعث على "جواثي" فحصرهم4, وكان قد منى "سويد بن المنذر" بأن يجعله كالنعمان بالحيرة، غير أنه فشل وغلب المسلمون أهل الردة، وقتل "الحطم"5. وكان "المنذر بن النعمان" يسمى "الغرور"، فلما ظهر المسلمون قال: لست بالغرور ولكني المغرور، ولحق هو وفُلّ "ربيعة" بالخط، فأتاها "العلاء" ففتحها وقتل المنذر ومن معه. وذكر أنه نجا فدخل إلى "المشقر"، ثم لحق بسليمة فقتل معه. وذكر أنه قتل "يوم جواثا"، وذكر أنه استأمن ثم هرب فلحق فقتل6, وقيل: إنه أسلم. والمنذر بن ساوي هو رجل عربي من "بني تميم" من "بني دارم" على رأي أكثر أهل الأخبار، وقد ذهب بعضهم إلى أنه من "بني عبد القيس". ولكن أكثرهم على أنه "المنذر بن ساوي بن الأخنس بن بيان بن عمرو بن عبد الله بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي"7. وكان هو المتولي على البحرين في أيام الرسول.

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 283". 2 الطبري "3/ 136 وما بعدها", "30", البلاذري، فتوح "89". 3 الطبري "3043/ 309 وما بعدها". 4 وهو حصن بالبحرين، البلاذري، فتوح "94". 5 الطبري "3/ 304 وما بعدها". 6 البلاذري، فتوح "95". 7 أسد الغابة "4/ 417".

ونجد في طبقات ابن سعد صورة كتاب أرسله الرسول إلى "المنذر بن ساوي", يذكر فيه أن رُسُل رسول الله قد "حمدوك، وأنك مهما تصلح أصلح إليك وأثبتك على عملك وتنصح لله ولرسوله"، كما نجد للرسول كتابًا آخر، يخبر "المنذر" فيه أنه قد بعث إليه "قدامة" و"أبا هريرة"، و"فادفع إليهما ما اجتمع عندك من جزية أرضك". وأرسل كتابًا مثله إلى "العلاء بن الحضرمي" يخبره فيه، أنه بعث إلى المنذر بن ساوي من يقبض منه ما اجتمع عنده من الجزية، فعجله بها, وابعث معها ما اجتمع عندك من الصدقة والعشور, وكاتب الكتابين أبي1. وكتب المنذر كتابًا إلى الرسول، جاء فيه: "إني قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه"2. وفي طبقات ابن سعد كتاب من الرسول، ذكر أنه أرسله إلى "الهلال صاحب البحرين"، فيه دعوة لهلال إلى الإسلام وإلى عبادة الله وحده والدخول في الجماعة فإن ذلك خير له3. ويظهر أن هلالًا هذا كان أحد سادات البحرين في هذا الوقت، وأنه كان قد تأخر عن "الجماعة" أي: قومه, في الدخول في الإسلام، فكتب الرسول له ذلك الكتاب. وأما "هجر"، فكان عليها عند ظهور الإسلام مرزبان يدعى "سيبخت" وإليه ذهب أيضًا العلاء بن الحضرمي يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وأسلم معه جميع العرب وبعض العجم4, وأما أهل الأرض هناك من اليهود والنصارى والمجوس، فقد صالحوا العلاء على الجزية5. وهَجَر سوق من أسواق الجاهلية، يؤمها "بنو محارب" من "عبد القيس"6. ويظهر من كتاب أمر رسول الله بتدوينه إليه، أنه لما أسلم وصدق أرسل إلى رسول الله رسولًا يخبره بذلك اسمه "الأقرع"، فكتب إليه الرسول كتابًا حمله إليه الأقرع صاحبه، ويذكر رسول الله فيه أنه

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 276". 2 نهاية الأرب "18/ 167". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 275". 4 البلدان "2/ 74"، البلاذري، فتوح "89 وما بعدها". 5 أسد الغابة "4/ 7"، فتوح البلدان "86", البلدان "2/ 72". 6 صفة "136 وما بعدها", "ابن بليهد 1953م".

علم بما جاء في كتاب "سيبخت" إليه، وأنه يحثه ويدعوه إلى القيام بشعائر الإسلام1. وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن هجرًا كانت قاعدة البحرين، وقال بعض آخر: إنها اسم لجميع أرض البحرين، وقد اشتهرت بالتمر، فقيل في المثل: كمُبضِع التمر إلى هجر، كما عرفت بأوبئتها. وقد رُوي أن الخليفة عمر قال: "عجبت لتاجر هجر وراكب البحر"، كأنه أراد ذلك لكثرة وبائها، فعجب من تاجر يذهب لذلك إليها، كما عجب من راكب البحر؛ لأنه سواء في الخطر. ويظهر أنها كانت كثيرة المياه ذات مستنقعات؛ لذلك تفشت بها الأوبئة. وذكر الإخباريون أنها عرفت بـ"هجر"، نسبة إلى "هجر بنت المكفف"، وكانت من العماليق، أو من العرب المتعربة، وكان زوجها محلم بن عبد الله صاحب النهر الذي بالبحرين، ويقال له: نهر محلم, وهناك عين ماء عرفت بعين هجر وبعين محلم2. وذكر أهل الأخبار أن "ملك هجر"، ولم يشيروا إلى اسمه، كان قد سوَّد "زُهرة بن عبد الله بن قتادة بن الخوية"، ووفده على النبي، وأنه كان في جيش "سعد بن أبي وقاص" الذي أرسله إلى العراق، فجعله "سعد" من "أمراء التعبية"3. ولعلهم قصدوا بذلك المرزبان "سيبخت"، الذي ذهب إليه "العلاء بن الحضرمي" بأمر الرسول ليدعوه إلى الإسلام، فأسلم على يديه. ويعرف الساحل المقابل لجزيرة "أوال" من جزر البحرين، بـ"السيف" سيف البحر، والسيف في اللغة: ساحل البحر4, ويليه "الستار": "ستار البحرين"5. و"كاظمة" جو على سيف البحر، وفيها ركايا كثيرة وماؤها شروب6.

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 275". 2 تاج العروس "3/ 613 وما بعدها"، البكري، معجم "3/ 346"، البلدان "5/ 393"، المعاني الكبير، لابن قتيبة "2/ 954". 3 الطبري "3/ 488". 4 اللسان "9/ 167". 5 صفة "136 وما بعدها", "طبعة ابن بليهد"، اللسان "4/ 345". 6 اللسان "12/ 521 وما بعدها".

وعرفت بـ"كاظمة البحور"1, وقد أكثر الشعراء من ذكرها2. وهي موضع مجهول في الوقت الحاضر، يظن أن مكانه على ساحل الجون المقابل لموضع "الجهرة"، ويعرف ذلك الموضع بـ"دوحة كاظمة"3. وكان على الأبلة وما والاها "قيس بن مسعود بن خالد"، فلما علم بما فعله كسرى بملك الحيرة، تفاوض سرًّا مع بكر، واتفق معها على مساعدتها. فلما انتهت معركة "ذي قار" لم يجرؤ كسرى أن يلحق به أذى ما هو في أرضه، فعمد إلى الحيلة للانتقام منه، بأن كتب إليه يطلب منه المجيء لرؤيته، فلما ذهب إليه، قبض عليه وحبسه في قصره بالأنبار أو بساباط4. وقد عده أهل الأخبار في المعدودين من "أجواد الجاهلية", وذكروا أنه كانت له مائة ناقة معدة للأضياف, إذا نقصت أتمها؛ وقد مدحه لذلك الشعراء. وعد من "ذوي الآكال", وذكر أن كسرى كان قد أطعمه "الأبلة" وثمانين قرية من قراها5. وكان على اليمامة "هوذة بن علي الحنفي"، وكان ملكًا على دين النصرانية، وإليه أرسل رسول الله "سليط بن عمرو" "سليط بن قيس بن عمرو الأنصاري" يدعوه إلى الإسلام. فأرسل "هوذة" وفدًا إلى الرسول ليقول له: "إن جعل الأمر له من بعده أسلم، وسار إليه ونصره، وإلا قصد حربه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا، ولا كرامة"6. ثم مات بعد قليل، وذكر أنه كان شاعر قومه وخطيبهم، وكانت له مكانة عند العرب7. وذكر أنه كان من "قُرَّان" من مواضع اليمامة، وأهلها أفصح بني حنيفة.

_ 1 صفة "136 وما بعدها"، "ابن بليهد". 2 البلدان "4/ 431"، "بيروت 1957م"، صبح الأعشى "3/ 247"، تقويم البلدان "5/ 65"، البكري "4/ 110", شرح مقامات الحريري "2/ 359", "الشريشي". 3 التحفة النبهانية في تأريخ جزيرة العرب، لخليفة بن أحمد آل نبهان "8/ 57". 4 ديوان الأعشى "القصيدة 26"، "ص128"، "طبعة كاير", Geyer. 5 المحبر "ص143 وما بعدها، 253". 6 ابن الأثير "2/ 89"، البلاذري، فتوح "97". 7 "سليط بن عمرو العامري"، نهاية الأرب "18/ 166".

وأنه كان من وجهاء قومه. وقد نسب على هذه الصورة: "هوذة بن علي بن ثمامة بن عمرو الحنفي" من بكر بن وائل1. وورد أن تميمًا كانت قد قتلت والد "هوذة"، وأن هوذة كان يكره بني تميم كرهًا شديدًا حتى إن كسرى حين سأله عنهم, أجابه: "بيني وبينهم حساء الموت، فهم الذين قتلوا أبي". وورد أن كسرى سأل هوذة عن عيشه وعن ماله، فقال: "أعيش عيشة رغيدة، وأغزو المغازي، وأحصل على الغنائم"2. ولكن الظاهر أنه لم يكن كفؤًا لبني تميم, وأن ملكه لم يتجاوز حدود اليمامة. وزعم أهل الأخبار أن "كسرى" توجَّه إلى اليمامة، أو أنه سمع بجوده وكرمه، فاستدعاه إليه، ولما وجد فيه عقلًا وسياسة ورجاحة رأي توَّجه بتاج من تيجانه؛ ولذا لقب هوذة بـ"صاحب التاج"، وأقطعه أموالًا بـ"هجر"، وكان نصرانيا. وقيل: إن كسرى دعا بعقد من الدر فعقد على رأسه وكساه قباء ديباج مع كسوة كثيرة، فمن ثم سمي هوذة ذا التاج. وذكر أن سبب استدعاء كسرى له، أنه أكرم رجال العير التي حملت ألطاف وهدايا وأموال "وهرز" التي أرسلها من اليمن إلى "كسرى"، وكانوا قد انتُهبوا حتى لم يبق عندهم شيء، فصاروا إلى "هوذة"، فأكرم مثواهم وآواهم وكساهم وزودهم وحماهم، وسار معهم إليه، فأكرمه كسرى على النحو المذكور3. وقيل: إنه لم يكن صاحب تاج، وإنما كان يضع على رأسه إكليلًا رصعه بأحجار ثمينة كأنه التاج تشبهًا بالملوك4. ويروي أهل الأخبار أن الشاعر الأعشى قال في حق هوذة: له أكاليل بالياقوت فصَّلها ... صوَّاغها لا ترى عيبًا ولا طبعا

_ 1 البكري، معجم "ص1063"، "وقران كرمان باليمامة. وهي وملهم لبني سحيم من بني حنيفة"، تاج العروس "9/ 309"، "قرن". 2 الكامل، لابن الأثير "1/ 378", المعارف، لابن قتيبة "97 وما بعدها", الأغاني "16/ 75 وما بعدها". 3 الأغاني "16/ 75 وما بعدها"، العمدة، لابن رشيق "2/ 206"، الطبري "2/ 169 وما بعدها" "طبعة دار المعارف بمصر". 4 العقد الفريد "2/ 243".

وذكر أنه كان أول معدّيّ لبس التاج، ولم يلبس التاج معدي غيره1. ويظهر من روايات أهل الأخبار عن يوم الصفقة وعن يوم المشقر، أن نفوذ "هوذة" لم يكن واسعًا بعيدًا، بل كان محدودًا بحدود قبيلته، وأنه لم يكن في مستوى ملوك الحيرة أو آل غسان، بل كان سيد قومه إذ ذاك، حتى إنه لما طمع في الجعالة التي كان الفرس يعطونها لمن يتولى خفارة قوافلهم الآتية من اليمن إلى العراق أو الذاهبة من العراق إلى اليمن، ووافق الفرس على أن يعطوه ما أراد، وسار مع القافلة خفيرًا لها من "هجر" حتى "نطاع"، وبلغ "بني سعد" ما صنعه "هوذة", خرجوا عليه وأخذوا ما كان مع الأساورة والقافلة وما معه، وأسروه، حتى اشترى منهم نفسه بثلاثمائة بعير، وقد عُيِّر في ذلك، وتغنى شاعر "بني سعد" بذلك اليوم، الذي سيق فيه هوذة, وهو مقرون اليدين إلى النحر، فلما استلم بنو سعد الإبل المذكورة جاءوا به إلى اليمامة فأطلقوه2. ويذكر أهل الأخبار أن هوذة سار مع من تبقى من الأساورة وبقية فلول القافلة إلى "كسرى"؛ ليخبره بما حدث له، وبما فعلت به بنو تميم، ودخل على ملك الفرس فأكرمه، وأمر بإسقائه بكأس من ذهب، ثم أعطاه إياه وكساه قباء, له ديباج منسوج بالذهب واللؤلؤ وقلنسوة قيمتها ثلاثون ألف درهم وحباه ثم عاد إلى بلاده. ولو كان هوذة قد جاء كسرى بخبر انتصار وإنقاذ للقافلة جاز لنا أخذ هذا الوصف على محمل الصدق، أما وأن الرواية هي في موضوع هزيمة واندحار، فإن من الصعب علينا التصديق بها، ولا سيما وأن ملوك الفرس كانوا أصحاب غطرسة وكانوا إذا جاءهم أحد بخبر هزيمة قابلوه بالازدراء والتبكيت وبإنزال اللعنات عليه في الغالب، وليس في هذا الموقف ما يدعو إلى إسقاء هوذة بكأس من ذهب. ويذكر أهل الأخبار أن اليمامة من نجد، وقاعدتها "حجر"، وكانت

_ 1 وكل زوج من الديباج يلبسه أبو قدامة مجبورًا بذاك معا له أكاليل بالياقوت زينها صواغها، لا ترى عيبًا ولا طبعا الأمالي, للمرتضى "2/ 172"، ديوان الأعشى "86". 2 الأغاني "5/ 8", الطبري "1/ 581".

تسمى "جدا" في الأصل، كما عرفت بـ"جو". وذكروا أنها سميت "يمامة" نسبة إلى "اليمامة بنت سهم بن طسم"، وكانت منازل طسم وجديس في هذا المكان, وقد تناولتها الأيدي حتى صارت في أيدي "بني حنيفة" عند ظهور الإسلام, في قصص من قصص أهل الأخبار1. واليمامة من الأماكن الخصبة في جزيرة العرب، وبها "وادي حنيفة", وبه مياه ومواضع كانت عامرة ثم خربت، وهي اليوم خراب أو آثار, وقد اشتهرت قراها ومزارعها، وكانت من أهم الأرضين الخاضعة لمملكة كندة. ويظهر أن سيلًا جارفًا أو سيولًا عارمة اكتسحت في الإسلام بعض قراها فهجرت, إذ ترى في هذا اليوم آثار أسس بيوت مبنية من اللبن ومن الطين، يظهر أنها اكتسحت بالسيول وجاءت الرمال فغطتها بغطاء لتستر بقاياها عن رؤية النور2. وقد ذكر أهل الأخبار أن اليمامة كانت من "أحسن بلاد الله أرضًا وأكثرها خيرًا وشجرًا ونخيلًا"3, وبها مياه كثيرة, وقد عرف أهلها بالنشاط وبالتحضر، وذلك بسبب وجود الماء بها، إذ أغرى سحر الماء الناس على الإقامة عند مواضع المياه، فنشأت مستوطنات كثيرة. ولا زال أهل اليمامة يعدون من أنشط سكان المملكة العربية السعودية. وحدود اليمامة من الشرق البحرين ومن الغرب تنتهي إلى الحجاز، وأما من الشمال فتتصل بوادٍ متصل بالعذيب والضرية والنباج وسائر حدود البصرة وجنوبها بلاد اليمن, هذا على تعريف "ابن رستة", وتبعد "جو" وهي الحضارم عن حجر يومًا وليلة4. ومن مواضع اليمامة "منفوحة"، وهي قرية مشهورة كان يسكنها الأعشى وبها قبره, وهي لبني قيس بن ثعلبة بن عكابة5. ومن مواضع اليمامة الأخرى "المعلاة" من قرى "الخرج"6.

_ 1 البلدان "5/ 441"، فتوح البلدان "118"، البكري, معجم "1/ 83", المعاني الكبير لابن قتيبة "2/ 1041", الهمداني, صفة "141", تاج العروس "9/ 114 وما بعدها", "يمم". 2 Naval, R., 233. 3 تاج العروس "9/ 15"، "يمم". 4 ابن رستة، الأعلاق "182"، تاج العروس "9/ 115", "يمم". 5 تاج العروس "2/ 242"، "نفح". 6 تاج العروس "10/ 250"، "علا".

ومن أبرز قبائل اليمامة في أيام الرسول "بنو حنيفة"، و"حنيفة" لقب "أثال بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل". ويذكر أهل الأخبار، أن "الأحوى بن عوف" المعروف بجذيمة، لقي أثالًا فضربه فحنفه، فلقب حنيفة، وضربه أثال فحذمه جذيمة, فقال جذيمة: فإن تَكُ خنصري بانت فإني ... بها حنفت حاملتي أثال1 وقد وفدَ وفدٌ منهم، فيه "مسيلمة بن حبيب" الذي عرف بـ"الكذاب" لادعائه النبوة، وكان قد طلب من الرسول أن يشركه معه في الأمر, وادعى النبوة، ثم قتل, وكان يسجع السجعات مضاهاة للقرآن2. وممن كان في هذا الوفد: "رحال بن عنفوة"، وقد شهد لمسيلمة أن رسول الله أشركه في الأمر فافتتن الناس به، و"سلمي بن حنظلة السحيمي" و"طلق بن علي بن قيس" و"حمران بن جابر بن شمر" و"علي بن سنان" و"الأقعس بن مسلمة" و"زيد بن عبد عمرو"، وعلى الوفد "سلمي بن حنظلة"3. ويذكر أن "سجاح"، وهي "سجاح بنت أوس بن العنبر بن يربوع" التميمية التي تكهنت وادعت النبوة، أتت "مسيلمة الكذاب"، وهو بـ"حجر", فتزوجته، وجعلت دينها ودينه واحدًا، وكان قد اتبعها قوم من "بني تميم" وقوم من أخوالها من "بني تغلب"4. ومن "بني حنيفة": "عُمير" و"قُرين" ابنا "سلمي". وكان "عمير" أوفى العرب، قتل أخاه "قرينًا" بقتيل قتله من جيرانه5. ومنهم "مجاعة بن مرارة بن سلمي"، وكان رسول الله قد أقطعه "الغورة" و"غرابة" و"الحبل", ثم أقطعه "أبو بكر" "الخضرمة" ثم أقطعه "عمر" "الرياء", ثم أقطعه "عثمان" قطيعة أخرى6.

_ 1 تاج العروس "6/ 78"، "حنف". 2 الطبري "3/ 137 وما بعدها"، "دار المعارف"، "قدوم وفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة". 3 ابن سعد، طبقات "316 وما بعدها". 4 البلاذري، فتوح "108". 5 الاشتقاق "ص209". 5 البلاذري، فتوح "89، 102 وما بعدها".

ومن رجال اليمامة "محكم بن الطفيل بن سبيع" الذي يقال له "محكم اليمامة"، وقد ارتد وقتل مع من قتل من المرتدين1. ومن قبائل اليمامة: بنو باهلة بن أعصر، وبنو نمير, وأحياء من تميم. واستقرت بطون من بكر وعنزة وضبيعة في القسم الشرقي من اليمامة حتى البحرين، واتصلت منازل بطون منها بالعراق2, كما كان بها "بنو هزان" وهم من قطنة اليمامة القدامى, إذ نجد أهل الأخبار يرجعون تأريخهم بها إلى أيام طسم، أي: إلى أيام العرب العاربة أو العرب البائدة الأول. والظاهر أن أهل الأخبار قد حاروا في أمر "هزان", فجعلوهم من العرب البائدة ودعاهم الهمداني بـ"هزان الأولى"3, وجعلوهم من اليمن ونسبوهم إلى "قحطان" وجعلوهم من "معد", وهم الذين بقوا في يارهم اليمامة إلى الإسلام وفي الإسلام4. ويظهر من روايات أهل الأخبار، أنهم قصدوا قبائل مختلفة لا قبيلة واحدة هي "هزان" التي ظلت باقية ولها بقية في اليمامة حتى اليوم. ولكننا نستبعد كون القبائل الثلاث قبيلة واحدة في الأصل, بدليل أن أهل الأخبار يذكرون أن هزان اليمانية الأصل كانت تقيم في اليمامة, وأن هزان "معد" هم من أهل اليمامة أيضا، أي: إن مواطن القبيلتين واحدة، بل إن منهم من يرجع مواطن هزان الأولى إلى اليمامة كذلك، وهذا ما يحملنا على القول: إن الهزانيين كلهم من قبيلة واحدة، بقيت فروعها في مواطنها القديمة اليمامة حتى اليوم، ولا قيمة لما يرويه أهل الأنساب من سرد نسب كل قبيلة من القبائل الثلاث إلى العرب البائدة أو إلى العرب العاربة أو إلى العرب المستعربة. والظاهر أن "بني حنيفة" ضغطوا على الهزانيين، فاغتصبوا معظم أرضهم باليمامة، فقل بذلك شأنهم، وصاروا دون "بني حنيفة" في القوة. ومن "بني هزان" تزوج الأعشى، ثم أكرهوه على تطليقها، فطلقها حين ضربوه، وأصروا عليه بلزوم تخليه عنها ففعل، فقال في ذلك شعرًا، رواه الرواة.

_ 1 البلاذري، فتوح "98", الاشتقاق "210". 2 البكري، معجم "4/ 85 وما بعدها". 3 الإكليل "1/ 73 وما بعدها". 4 العرب، الجزء السابع، السنة الثالثة، نيسان 1969م, الرياض.

ومنهم نفر أسروا "الحارث بن ظالم المري"، ولم يكونوا يعرفونه، وظنوه صعلوكًا، ثم باعوه إلى نفر من القيسيين بزق خمر وشاة، وقيل: من بني سعد. ومنهم كان قاتل حيان بن عتبة بن جعفر بن كلاب، وهو المعروف بصاحب الرداع1. ومن مواطن "هزان" العلاة، وهو جبل من جبال اليمامة، وبرك, ونعام، وشهوان، وماوان، والمجازة. ويلاحظ أن أخلاطًا من قبائل أخرى جاورت "بني هزان" وسكنت معهم, منهم "بنو جرم" و"بنو جشم" و"الحارث بن لؤي بن غالب بن فهر" من قريش، و"ربيعة" وهم من اليمن2. وأما منازل طيء عند ظهور الإسلام فجبلَا طئ: أجأ وسلمى، غير أن هناك بطونًا من طيء كانت قد انتشرت في أماكن أخرى، فنزلت في العراق وفي بلاد الشام وفي أماكن أخرى في جزيرة العرب. وطيء من القبائل التي كان لها شأن كبير قبل الإسلام, ولعلها كانت من أشهرها وأعرفها قبيل الميلاد وفي القرون الأولى للميلاد، بدليل إطلاق السريان كلمة "طيايا" على كل العرب، من أي قبيلة كانوا, أي: إنها استعملت عندهم بمعنى "عرب"، وأصلها من اسم القبيلة التي نتحدث عنها وهي قبيلة "طيء". ولم تكن طيء متصافية فيما بينها متحابة، فوقعت بين عشائرها حروب، حتى تداخل "الحارث بن جبلة" الغساني فيما بينها, فأصلح حالها، فلما هلك عادت إلى حربها، فالتقت جديلة وغوث بموضع تحاربتا فيه، قتل فيه قائد بني جديلة، وهو أسبع بن عمرو بن لأم، وأخذ رجل من سنبس أذنيه فخصف بهما نعليه، فعظم ما صنعت الغوث على أوس بن خالد بن لأم، وعزم على لقاء الغوث بنفسه، وحلف ألا يرجع عن طيء حتى ينزل معها جبليها أجأ وسلمى، وتجبى له أهلها، وكان لم يشهد الحروب المتقدمة، لا هو ولا أحد من رؤساء طيء، كحاتم، وزيد الخيل، وغيرهما من الرؤساء. فلما أقبلت جديلة وعلى

_ 1 الاشتقاق "321"، العرب, نيسان "1969م", "ص665 وما بعدها". 2 العرب، نيسان 1969م "262 وما بعدها".

رأسها أوس بن حارثة بن لأم، وبلغ الغوث جمع أوس لها، أوقدت نارًا على ذروة أجأ، وذلك في أول يوم توقد فيه النار، فأقبلت قبائل الغوث، كل قبيلة وعليها رئيسها، ومنهم زيد الخيل، وحاتم، وتلاحمت بجديلة في يوم اليحاميم ويعرف أيضًا بقارات حوق، الذي انتهى بهزيمة منكرة حلت بجديلة, فلم تبق لها بقية للحرب، فدخلت بلاد كلب، وحالفتهم وأقامت معهم1. وكان سيد طيء في أيام الرسول "زيد الخيل بن مهلهل الطائي"2, وهو ممن قدم على الرسول في وفد طيء, وقد قطع له الرسول فيدًا وأرضين معه، وكتب له بذلك، ولكنه توفي في موضع يقال له "فردة" من بلاد نجد من حمى علقت به أثناء إقامته بيثرب، فلما يبلغ مكانه3. وقد مدحه الرسول وأثنى عليه4, و"زيد الخيل" الذي سماه الرسول "زيد الخير" هو من "بني نبهان" من "طيء". وكان في الوفد رجال آخرون منهم: "وزر بن جابر بن سدوس" من "بني نبهان"، و"قبيصة بن الأسود بن عامر" من "جرم طيء"، و"مالك بن عبد الله بن خيبري"، من "بني معن"، و"قُعين بن خليف بن جديلة"5. ومن "طيء" الرجل الذي ضرب بجوده المثل، والذي لا زال الناس يذكرون اسمه على أنه المثل الأعلى في الكرم، وهو "حاتم الطائي", مقري الضيوف ومغيث الفقراء. فمدحه لجوده الشعراء: عبيد بن الأبرص والنابغة الذبياني وبشر بن أبي حازم وغيرهم, وكان مضربه ملجأ للمحتاجين ولمن يسلك الطريق يريد "الحيرة". ونظرًا لجوده وكرمه هابته العرب وصارت له دالة ومكانة عند ملوك الحيرة وعند آل غسان6. وذكر أنه "إذا أسر أطلق، ومر في سفره على عنزة وفيهم أسير، فاستغاث به الأسير ولم يحضره فكاكه, فاشتراه من العنزيين،

_ 1 ابن الأثير "1/ 388", أيام العرب "60". 2 المحبر "ص233". 3 الطبري "3/ 145". 4 الاشتقاق "236"، الطبري "3/ 145"، "قدوم زيد الخيل في وفد طيء". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 321 وما بعدها". 6 الأغاني "16/ 93 وما بعدها، 104 وما بعدها"، العقد الفريد "1/ 332" "طبعة اللجنة".

وأقام مكانه في القدّ حتى أُدي فداؤه1. وقد توفي "حاتم الطائي" قبل الإسلام، وانتقلت رئاسة طيء منه إلى ابنه "عدي بن حاتم طيء"، وكان نصرانيا يسير في قومه بالمرباع، وكان بمثابة الملك فيهم، فلما جاءت خيل الرسول سنة تسع بلاد طيء، قرر اللحوق بأهل دينه من النصارى بالشام، ثم ترك الشام ولحق بالمدينة فأسلم وأكرمه الرسول2, وعينه الرسول على صدقة طيء وأسد3. وذكر أن "عمرو بن المسبح بن كعب بن عمرو بن عصر بن غنم", الذي كان أرمى العرب، وهو الذي ذكره "امرؤ القيس" في شعره وأشار إليه، هو من "طيء"، كان قد أدرك الرسول، ووفد عليه4. وقد وقع بين طيء نزاع أدى إلى وقوع حروب وأيام بينها، ومن بينها يوم عرف بـ"يوم اليحاميم". وقد كان "الحارث بن جبلة الغساني" قد أصلح بين قبائلها، فلما هلك عادت إلى حروبها، فالتقت جديلة والغوث، فقتل "أسبع بن عمرو بن لأم"، وهو من جديلة وقائدها، قُتل في موضع يقال له "غرثان"، وأخذ رجل من "سنبس" أذنيه فخصف بهما نعليه، فغضبت "بنو جديلة"، وأقسم "أوس بن خالد بن لأم" على الانتقام من "الغوث" ومنهم "بنو سنبس", وأخذ في حشد قومه "جديلة"، وبلغ الغوث ذلك، فأوقدت النار على "أجأ"، فأقبلت قبائل الغوث، وعلى رأسها ساداتها ومنهم "زيد الخيل" و"حاتم الطائي"، ووقع القتال بين جديلة والغوث في موضع يقال له "قارات حوق"، فانهزمت جديلة، وقتل فيها أبرح القتل، حتى لم تبق لها بقية للحرب، فدخلت بلاد كلب وحالفوا كلبًا وأقاموا معهم, وعرف هذا اليوم بـ"يوم اليحاميم"5. وكتب الرسول كتبًا إلى جماعة من "طيء", منهم "بنو معاوية بن جرول"،

_ 1 الشعر والشعراء "ص123". 2 الطبري "3/ 112 وما بعدها"، "دار المعارف"، نهاية الأرب "18/ 77 وما بعدها". 3 الطبري "3/ 147"، "خروج الأمراء والعمال على الصدقات"، ابن سعد، طبقات "1/ 322" "وفادات أهل اليمن: وفد طيء". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 322 وما بعدها". 5 ابن الأثير, الكامل "1/ 266".

و"عامر بن الأسود بن عامر بن جوين الطائي"، وجماعة من "بني جوين"، و"لبني معن" الطائيين.1 وتقع إلى الشرق من ديار "طيء" منازل "أسد" وإلى الشمال من ديار أسد منازل "بكر", وأما إلى الجنوب من منازل "أسد" فديار "هوازن"، و"غطفان"، وتتاخم ديار أسد من الشرق قبائل "عبد القيس" و"تميم". ولما أخذت الوفود تترى على المدينة لمبايعة الرسول والدخول في الإسلام، كان وفد "أسد" في جملة الوفود التي بايعت الرسول ودخلت في الإسلام، وذلك سنة تسع للهجرة. وكان فيه "حضرمي بن عامر" و"ضرار بن الأزور" و"وابصة بن معبد" و"قتادة بن القايف"، و"سلمة بن حبيش" و"طلحة بن خويلد" و"نقادة بن عبد الله بن خلف"، ومعهم قوم من "بني الزنية"، وهم من "مالك بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد".2 وكتب رسول الله كتابًا إلى "بني أسد" كتبه له "خالد بن سعيد"، ورد فيه: "ألا يقربن مياه طيء وأرضهم, فإنه لا تحل لهم مياههم ولا يلجن أرضهم من أولجوا"، وأمَّر عليهم "قضاعي بن عمرو"، وهو من "بني عذر" بأن جعله عاملًا عليهم3. وكتب الرسول إلى "حصين بن نضلة الأسدي" "أن له آراما وكسة، لا يحاقه فيها أحد".4 ومن ديار "بني أسد بن خزيمة"، "قطن"، وهو جبل بناحية "فيد" به ماء. وأمر الرسول "أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي" بغزوه، لما بلغه أن "طليحة" و"سلمة" ابني "خويلد" قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوانهم إلى حرب الرسول، فذهب إلى "قطن", ثم عاد ومعه إبل وشاء.5 وتقع إلى الشمال الغربي من ديار "طيء"، ديار "بكر"، وهي "بكر بن وائل". وهي قبائل ضخمة ذات فروع عديدة، سكنت في مواضع عديدة أخرى غير هذه المواضع.

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 269". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 292 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 31". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 270". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 274". 5 نهاية الأرب "17/ 127 وما بعدها".

وذكر في خبر فتوح السواد, أن "المثني بن حارثة الشيباني" كان يغير على السواد، فبلغ "أبا بكر" خبره, فسأل عنه، فقال له قيس بن عاصم بن سنان المنقري: هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، وأثنى عليه. ثم إن المثنى قدم على "أبي بكر"، فقال له: يا خليفة رسول الله, استعملني على من أسلم من قومي أقاتل هذه الأعاجم من أهل فارس، فكتب له أبو بكر في ذلك عهدًا, فسار حتى نزل "خفان" ودعا فيه إلى الإسلام فأسلموا. ثم إن أبا بكر أمر "خالد بن الوليد" بالمسير إلى العراق، وكتب إلى "المثنى بن حارثة" يأمره بالسمع والطاعة له وتلقيه. وكان "مذعور بن عدي العجلي", قد كتب إلى أبي بكر يعلمه حاله وحال قومه ويسأله توليته قتال الفرس, فكتب إليه يأمره أن ينضم إلى خالد ويسمع له بالطاعة1. و"خفان"2 مأسدة وموضع أشبّ الغياض كثير الأسد، أو أجمة قرب "الكوفة"3. ونجد في موارد أخرى أن "المثنى بن حارثة الشيباني" و"سويد بن قطبة العجلي"، وكلاهما من "بكر بن وائل", كانا يغيران على الدهاقين، فيأخذان ما قدرا عليه. فإذا طُلبا أمعنا في البر فلا يتبعهما أحد, وكان المثنى يغير من ناحية الحيرة و"سويد" من ناحية "الأبلة". فكتب إلى "أبي بكر"، يعلمه ضراوته بفارس ويعرفه وهنهم, ويسأله أن يمده بجيش, فكتب إليه "أبو بكر" يخبره أنه مرسل إليه "خالد بن الوليد" وأن يكون في طاعته، فكره "المثنى" ورود خالد عليه، وكان ظن أن أبا بكر سيوليه الأمر، ولكنه لم يتمكن أن يفعل شيئًا فانضم إلى خالد4. ومن "بني عجل" "فرات بن حيان العجلي"، كان دليل "أبي سفيان"

_ 1 البلاذري، فتوح "242". 2 "وخفَّان كعفَّان" بتشديد الفاء، تاج العروس "6/ 93"، "خَفَّ". 3 قال الأعشى: وما مخدر ورد عليه مهابة أبو أشبل أضحى بخفان حاردا تاج العروس "6/ 93", اللسان "9/ 81", "خفف". 4 الأخبار الطوال "111 وما بعدها".

إلى الشام1. وذلك أن قريشًا خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكون إلى الشام حين وقعة "بدر"، فكانوا يسلكون طريق العراق، فخرج بهم دليلهم "فرات" في السنة الثالثة من الهجرة، ومعه أبو سفيان, وصفوان بن أمية, وحويطب بن عبد العزى، وعبد الله بن أبي ربيعة، ومعهم مال كثير فيه فضة كثيرة، وهي أعظم تجارتهم. فلما بلغوا موضع "القردة"، وكان "فرات" قد سلك بهم على ذات عرق، اعترض "زيد بن حارثة" القافلة، وكان الرسول قد أرسله للتحرش بها، يوم بلغه أمر القافلة, فهرب أعيانها واستولى زيد على العير, وجاء بها إلى الرسول، وأسر فرات، فأسلم2. ويذكر أهل الأخبار أن قبائل مضر كانت تنزع إلى العراق، وكان أهل اليمن ينزعون إلى الشام، وأنه لم يكن أحد من العرب أجرأ على فارس من ربيعة, وقد قيل لها لذلك: ربيعة الأسد، وكانت العرب في جاهليتها تسمى: فارس الأسد3. وقد قدم وفد من "بكر بن وائل" على الرسول، فيه "بشير بن الخصاصية" و"عبد الله بن مرثد"، و"حسان بن حوط" "خوط"، فأسلموا وعادوا إلى ديارهم4, وذهب "حريث بن حسان الشيباني" في وفد من "بكر بن وائل" إلى الرسول، فأسلم على يديه5. وذكر أن "عبد الله بن أسود بن شهاب بن عوف بن عمرو بن الحارث بن سدوس" قدم مع الوفد المذكور، وكان ينزل اليمامة، فباع ما كان له من مال باليمامة واستقر بالمدينة6. وذكر أن رسول الله كتب كتابًا إلى "بكر بن وائل"، فما وجدوا رجلًا يقرؤه حتى جاءهم رجل من "بني صبيعة بن ربيعة" فقرأه. وكان الذي أتاهم بكتاب رسول الله: "ظبيان بن مرثد السدوسي"7. وخرج "خالد" إلى العراق، فمر بـ"فيد" و"الثعلبية" وأماكن أخرى

_ 1 الاشتقاق "ص208". 2 نهاية الأرب "97/ 80". 3 الطبري "3/ 487"، "دار المعارف". 4 طبقات ابن سعد "1/ 315". 5 طبقات ابن سعد "1/ 318 وما بعدها". 6 نهاية الأرب "18/ 67". 7 ابن سعد، طبقات "1/ 81 وما بعدها".

منها "العذيب" و"خفان"، ثم سار قاصدًا "الحيرة" وهي أهم موضع للعرب في العراق، فخرج إليه ساداتها في هذا الوقت: "عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة"، وهو من الأزد وصاحب القصر الذي يقال له: "قصر بني بقيلة" بالحيرة، وهو من "بني سبين", وكان من المعمرين1, و"هانئ بن قبيصة بن مسعود الشيباني"، ويقال: "فروة بن إياس"، وكان "إياس" عامل كسرى أبرويز على الحيرة بعد النعمان بن المنذر، و"عدي بن عدي بن زيد العبادي"، وأخوه "عمرو بن عدي"، و"عمرو بن عبد المسيح" و"حيري بن أكال"، وهم نقباء أهل الحيرة. فصالحوه على دفع الجزية وعلى أن يكونوا عيونًا للمسلمين على أهل فارس2. وفيد موضع مهم بطريق مكة في نصفها من الكوفة، به حصن عليه باب حديد، وعليه سور دائر. كان الناس يودعون فيه فواضل أزوادهم وما ثقل من أمتعتهم إلى حين رجوعهم. وذكر أن فيدًا فلاة في الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية، فلما قدم "زيد الخيل" الفارس المشهور على رسول الله أقطعه فيدًا, وذكر أهل الأخبار أن فيدًا إنما سميت فيدًا بفيد بن حسام أول من نزلها. والظاهر أنها من المواضع القديمة وقد ورد اسمها في الشعر الجاهلي والإسلامي3. و"العذيب" إذ ذاك مسلحة كانت للفرس على طريق البادية، ومن القادسية التي تبعد عن الكوفة "15" ميلًا إلى العذيب "6" أميال، ويؤدي الطريق من العذيب إلى البرية4, وكان لبني تميم5. وذكر أهل الأخبار أن "محلم بن سويط الضبي" أخا بني صباع، قاد الرباب كلها, وهو الرئيس الأول: أول من سار في أرض مضر برئاسة، وغزا العراق وبه كسرى حتى بلغ العذيب, فجعلت الإبل تتهيب خرير الماء. ويظهر من شعر لبعض الضبيين أن العذيب كان أحساء، يخرج الماء فيه من باطن الأرض ويندفع مكونًا خريرًا؛

_ 1 الاشتقاق "285"، الطبري "3/ 345، 364"، "دار المعارف"، البلاذري, فتوح "244". 2 البلاذري، فتوح "244"، الطبري "3/ 364"، "دار المعارف". 3 تاج العروس "2/ 457"، "فاد". 4 ابن رستة، الأعلاق "175". 5 تاج العروس "1/ 370"، "عذب".

لذلك هابته الإبل، فكانت تتخوف من الشرب منه1. وبعد العذيب نهاية حد نجد في الشمال2. ويذكر "ابن رستة" أن "البطانية"، هو "قبر العبادي"3، وسماه بعضهم "بطان". وذكر اليعقوبي أن هذا الموضع من ديار "بني أسد"4. وكان للثعلبية شأن يذكر، فقد ذكر أنها كانت موضعًا معروفًا، بل ذكر أنها مدينة عامرة عليها سور وفيها حمامات وسوق، وهي على ثلث الطريق للقادم من بغداد إلى مكة. وقد صار لها شأن في صدر الإسلام فيما بعد؛ لأنها تقع على طريق التجارة والحاج، وهي على جادة مكة من الكوفة، ومن منازل أسد بن خزيمة5. وكان أهل الحيرة قد تحصنوا بقصورهم: في القصر الأبيض، وهو قصر "النعمان بن المنذر", وقصر ابن بقيلة، قصر العدسيين، والعدسيون من "كلب" نسبوا إلى أمهم وهي كلبية أيضًا6. وذكر أنه كان في طرف الحيرة, لبني عمار بن عبد المسيح بن قيس بن حرملة بن علقمة بن عدس الكلبي، نسبوا إلى جدتهم "عدسة بنت مالك بن عوف الكلبي"، وهي أم "الرماح" و"المشظ" ابني عامر المذمم7. وعدة قصور الحيرة ثلاثة على ما ورد في بعض الروايات, وهي عدة الحيرة وملاجئها أيام الخطر، فإذا سقطت، سقطت الحيرة؛ لأنها هي المكونة لها. وقد صالحت "خالد بن الوليد" لما وجدته أن ليس في استطاعتها الصمود أمام المسلمين8, ولم يكن لها على ما يظهر من روايات أهل الأخبار سور. ومن مواضع الحيرة "ربيعة بني مازن"، لقوم من الأزد من بني عمرو

_ 1 المحبر "248". 2 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "81". 3 ابن رستة، الأعلاق "175". 4 اليعقوبي، البلدان "311". 5 ابن رستة، الأعلاق "175"، اليعقوبي، البلدان "311". 6 البلاذري، فتوح "245". 7 البلاذري، فتوح "284". 8 الأخبار الطوال "112"، تاج العروس "3/ 165" "حارة".

ابن مازن من الأزد، وهم من غسان1, و"دير هند"، لأم "عمرو بن هند بن ماء السماء"، و"ربيعة بني عدي بن الذميل" من لخم2. وقد هدمت قصور الحيرة التي كانت لآل المنذر واستخدمت حجارتها وأنقاضها لبناء المسجد الجامع بالكوفة ولأبنية أخرى، وقد عوض أصحاب القصور عنها, وفقًا لما جاء في "قراطيس هدم قصور الحيرة"3. وقد هدم بعض الخلفاء العباسيين قصور الحيرة وأزالوا بذلك من معالمها, منهم الخليفة "أبو جعفر المنصور"، فقد هدم "الزوراء"، وهي دار بناها النعمان بن المنذر على ما يذكره أهل الأخبار4. وذكر "اليعقوبي" أن الحيرة "هي منازل آل بقيلة وغيرهم"، وأن علية أهل الحيرة نصارى، منهم من قبائل العرب من بني تميم ومن "سليم" ومن "طيء" وغيرهم, وأن "الخورنق" بالقرب منها مما يلي المشرق، وبينه وبين الحيرة ثلاثة أميال، والسدير في برية5. وكان الفرس يستعينون بعرب الحيرة في أمر الترجمة فيما بينهم وبين العرب. ومن هؤلاء أسرة "عدي بن زيد العبادي" على نحو ما ذكرت, وترجمان كان يترجم لـ"رستم" اسمه "عبود"، وكان عربيا من أهل الحيرة6. كما استخدم المسلمون تراجمة؛ ليترجموا ما كان يدور بينهم وبين الفرس من حوار، أو بينهم وبين من يقبضون عليه من أسرى الفرس، ومن هؤلاء رجل اسمه "هلال الهجري". واستخدموا كتبة لكتابة الكتب والأخبار، ذكروا منهم "زياد بن أبي سفيان"7. وقد استعان الفرس ببعض "آل لخم" لمحاربة العرب, ولإشغالهم في معارك

_ 1 البلاذري، فتوح "280". 2 البلاذري، فتوح "282". 3 البلاذري، فتوح "284". 4 تاج العروس "3/ 246"، "زار". 5 البلدان "309"، "مع ابن رستة", تاج العروس "3/ 261"، "سدر" "6/ 332". 6 الطبري "3/ 524". 7 الطبري "3/ 489".

صغيرة، من هؤلاء "قابوس بن قابوس بن المنذر"، وقد كلفه "الآزاذبة مرد بن الآزاذبة" بالذهاب إلى "القادسية" لإشغال المسلمين، وأن يكون للفرس كما كان آباؤه قبله من النصر والعون، فنزل القادسية، وكاتب بكر بن وائل، بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به، فلما بلغ خبره المسلمين حاصروه1. والقادسية موضع مهم جدًّا من الوجهة العسكرية، وقد قال عنه الخليفة "عمر" في كتابه الذي وجهه إلى "سعد" بأنه "باب فارس"، وأجمع أبوابهم لمادتهم2. وقد وضعوا ما بعده الحصون والقناطر والأنهار لحماية مواقعهم من وقوعها في أيدي من قد يأتي إليهم من البادية، وأهله من العرب، وكان الفرس قد أقاموا فيه مسالح عبئت بجنود من فارس، للدفاع عن خطوطهم الأمامية، ولمشاغلة الغزاة إلى حين وصول المدد الكبير. وممن ساعد الفرس ودافع عنهم "النعمان بن قبيصة"، وهو ابن "حية الطائي" ابن عم "قبيصة بن إياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة، وكان مرابطًا في قصر "بني مقاتل"، وكان منظرة له. وقد قتله "سعد بن عبد الله بن سنان الأسدي" لما سمعه يستخف بقريش وبالقريشيين. فلما سأل عن "سعد بن أبي وقاص"، قيل له: إنه من قريش، قال: "أما إذا كان قرشيًّا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"3. ونجد في "فتوح الشام" للواقدي، خبرًا مفاده أن "سعد بن أبي وقاص" لما وجهه الخليفة "عمر" إلى العراق قدم أرض "الرحبة"، فاتصلت الأخبار بـ"اليعمور بن ميسرة العبسي"، فكتب إلى كسرى يخبره بمجيئه إلى هذا المكان، وأن "سعدًا" لما ارتحل من "الرحبة" إلى "الحيرة البيضاء" في ثلاثين ألفًا من بجيلة والنخع وشيبان وربيعة وأخلاط العرب، وجد هناك جيش "النعمان بن المنذر"، وقد ضرب خيامه والسرادقات إلى ظاهرها، وهو في ثمانين ألفًا من جميع عرب العراق، فكتب "النعمان" إلى "كسرى" بمجيئهم

_ 1 الطبري "3/ 489". 2 الطبري "3/ 491". 3 الطبري "3/ 572 وما بعدها".

وحث عربه على الصمود وعلى مقاومة سعد قائلًا لهم: "إن هؤلاء عرب وأنتم عرب, وهلاك كل شيء من جنسه" "وليس لأصحاب محمد فخر يفتخرون به علينا، ولكن نحن لنا الفخر عليهم. وهم يزعمون أن الله بعث فيهم نبيا وأنزل عليهم كتابًا يقال له القرآن، ونحن لنا الإنجيل وعيسى ابن مريم وجميع الحواريين، ولنا المذبح، ولنا القسوس والرهبان والشمامسة، وعلى كل حال ديننا عتيق ودينهم محدث، فاثبتوا عند اللقاء, وكونوا عند ظن الملك كسرى بكم"1. ويذكر رواة هذا الخبر أن عم "النعمان بن المنذر"، وكان صاحب حرسه، دخل إليه وقال له: إن أعداءنا قد أنفذوا إلينا رسولًا، فأمر بإدخاله عليه، وكان الرسول "سعد بن أبي عبيد القاري"، فلما وقف بين يدي النعمان صاح به الحجاب والغلمان: قَبِّل الأرض للملك, فلم يلتفت إليهم، وقال: إن الله أمرنا ألا يسجد بعضنا لبعض، ولعمري إن هذه كانت العادة المعروفة في الجاهلية قبل أن يبعث الله نبيه محمدًا، فلما بعث جعل تحيته السلام، وكذا كانت الأنبياء من قبله. وأما السلام، فهو من أسماء الله تعالى، أما تحيتكم هذه، فهي تحية جبابرة الملوك. فقال النعمان: لسنا من الجبابرة، بل نحن أجلُّ منكم؛ لأنكم توحدون في دينكم وتقولون: إن الله واحد وتجحدون ولده عيسى ابن مريم". ويذكرون أن "سعدًا" جادل "النعمان" في طبيعة المسيح"، فأعجب بكلامه، ثم كلمه في الإسلام أو دفع الجزية، فغضب "النعمان"، وقال له: "يا ويح قومك، فليس عندنا جواب إلا السيف"2. وتقدمت جيوش المسلمين حتى التحمت بجيش "النعمان" بظاهر الحيرة، وإن "القعقاع بن عمرو التميمي" أو "بشر بن ربيعة التميمي"، أحدهما التقى بالنعمان في كبكبة من الخيل والازدهارات على رأسه، فحمل القعقاع أو بشر على الكبكبة ففرقها، وعلى الكتيبة فمزقها وعلى النعمان بطعنة في صدره فقتل. فلما نظرت جيوش الحيرة إلى الملك النعمان مجندلا ولوا الأدبار يريدون القادسية نحو جيش الفرس. وأخذ المسلمون أسرى وغنائم، واحتوى "سعد" على قصري الخورنق والسدير، وترك جميع ما أخذه بالحيرة, وتحرك نحو القادسية. وكانت أخبار هزيمة النعمان

_ 1 الواقدي، فتوح الشام "2/ 185 وما بعدها". 2 الواقدي، فتوح الشام "2/ 186".

وقد وصلت الفرس وهم بالقادسية، وقد وصلت إليهم الفلول المنهزمة من جيش النعمان، فوقع التشويش في عسكر الفرس، وخارت قواهم؛ مما أدى إلى انتصار المسلمين عليهم في هذا المكان1. ولا نجد هذا الخبر في أي مورد آخر من موارد أهل الأخبار، فقد نصت جميع الموارد الأخرى على أن النعمان كان قد لقي مصرعه على نحو ما تحدثت عنه في أثناء كلامي على مملكة الحيرة, فلعل "النعمان" هذا هو أحد أبناء "آل لخم", واستعان به الفرس للدفاع عن الحيرة ومنّوه في مقابل مساعدته لهم بالملك، كما استعانوا بـ"قابوس بن قابوس". وقد يكون خبره من صنع أهل الأخبار، أقحموا اسمه إقحامًا، وما فطنوا إلى أنه كان قد توفي قبل هذا الوقت بسنين. على كلٍّ, ففي الخبر كلام منمق وحوار وجدل ينبئك لونه أن فيه تكلفًا وصنعة، وأن الخبر قد وضع, وضعه أناس لغايات لا مجال للبحث عنها في هذا المكان. وسار "خالد" من "الحيرة" إلى الأنبار فحاصرها، وكان أصحاب النعمان وصنائعه يعطون أرزاقهم منها، ثم صالحهم، ثم أتى "خالد" بعد مواقع أخرى "عين التمر"2. وكان على رأس العرب الذين عاونوا الفرس وانحازوا إليهم: "عقة بن أبي عقة"، و"هلال بن عقة بن قيس بن البشر" الثمري، على النمر بن قاسط بعين التمر، و"عمرو بن الصعق" و"بجير" أحد بني عتبة بن سعد بن زهير، والهذيل بن عمران، ومعهم رجال من قبائلهم3. ولكنهم لم يتمكنوا من الوقوف أمام "خالد بن الوليد"، إذ انهزم جندهم, وأُسر "عقة" و"عمرو بن الصعق", وكان "عقة" خفير القوم، وسقط حصن عين التمر في الإسلام4. وورد في خبر آخر أن "خالدًا" قتل "هلال بن عقة" "هلال بن عقبة" وصلبه، وكان من "النمر بن قاسط"، وكان خفيرًا بعين التمر5.

_ 1 الواقدي، فتوح الشام "2/ 187 وما بعدها". 2 البلاذري، فتوح "246 وما بعدها". 3 البلاذري، فتوح "249". 4 الطبري "3/ 376 وما بعدها". 5 الأخبار الطوال "112".

وتعرف "عين التمر" بـ"شفاثا" "شفاثى" وبـ"عين شفتة"، وقد اشتهرت بالقسب والتمر، وكانت تصدرهما إلى البادية وإلى أماكن أخرى، ويقصدها الأعراب للامتيار, وبها حصن يتحصن به وعين ماء. ولما اقترب المسلمون منها، كان بها "مهران بن بهرام جوبين"، في جمع عظيم من الفرس للدفاع عنها ومعه جمع عظيم من النمر وتغلب وإياد ومن لافهم، ولكنهم غلبوا على أمرهم، وفر الفرس1. وكان بعين التمر مسلحة لأهل فارس2. وقد وجد "خالد" في كنيسة "عين التمر" جماعة سباهم، ووجد أولادًا كانوا يتعلمون الكتابة في الكنيسة، وقد اشتهر وعرف عدد من هؤلاء الذين سبوا, واشتهر أولادهم أيضًا. وقد كان من هؤلاء من كان من "بني النمر بن قاسط" النازلين بعين التمر3. وكانت قُريَّات السواد وهي: بانقيا وباروسما وأُلّيس خليطًا من العرب ومن النبط وسواد العراق، وقد صالح أهلها "خالد بن الوليد" حينما ظهر أمامها، صالحوه على الجزية، وكان الذي صالحه عليها "ابن صلوبا السوادي" المعروف بـ"بصبرى بن صلوبا"، ومنزله بشاطئ الفرات. وقد ورد في كتاب الصلح الذي أعطاه "خالد بن الوليد" له: "وقد أعطيت عن نفسك وعن أهل خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتك -بانقيا وباروسما- ألف درهم"4. وذكر "البلاذري" أن الخليفة "عمر" وجَّه "أبا عبيدة الثقفي" إلى العراق، فلما وصل إلى هناك، وهزم "جابان" بالعذيب، ثم هزم الفرس في معارك أخرى حتى بلغ "باروسما"، صالحه "ابن الأنذر زعر" "ابن الأندر زعر" عن كل رأس على أربعة دراهم5, ولم يشر إلى الصلة التي كانت بين "ابن صلوبا" و"ابن الأنذر". ويرجع أهل الأخبار تأريخ "بانقيا" إلى أيام "إبراهيم"، فهم يذكرون

_ 1 الطبري "3/ 376"، "دار المعارف بمصر". 2 الأخبار الطوال "112". 3 البلاذري، فتوح "249"، تأريخ خليفة بن خياط "1/ 86". 4 الطبري "3/ 344، 346". 5 البلاذري، فتوح "251", تأريخ خليفة "92".

أنه كان ينزل بها, وأن اليهود كانوا يدفنون موتاهم بها, ويذكرون أنها أرض بالنجف دون الكوفة، وأن سكانها كانوا على النصرانية عند ظهور الإسلام, وأن الساسانيين كانوا هم الذين يدافعون عنها ويتولون أمر إدارتها، أما شئونها المحلية فكان أمرها بيد ساداتها ورؤسائها1. وكانت عشائر "إياد" من العشائر التي نزحت إلى العراق قبل الإسلام بوقت طويل، نزل بعضهم بـ"عين أبَّاغ"، ونزل بعض منهم بسنداد. فأمروا هناك، وكثروا، واتخذوا بسنداد بيتًا ذا شرفات تعبدوا له, ثم انتشروا وغلبوا على ما يلي الحيرة، وصار لهم "الخورنق" و"السدير", فلهم "أقساس مالك", وهو مالك بن قيس بن زهر بن إياد، ولهم دير الأعور، ودير السواء، وديرة قرة، ودير الجماجم. وإنما سمي دير الجماجم لأنه كان بين إياد وبهراء القين حرب، فقتل فيها من إياد خلق، فلما انقضت الحرب، دفنوا قتلاهم عند الدير, فكان الناس بعد ذلك يحفرون فتظهر جماجم, فسمي دير الجماجم2. وقيل غير ذلك مما لا مجال لذكره في هذا الموضع. وكانت إياد تغير على السواد وتفسد، فجعل "سابور" ذو الأكتاب مسالح بالأنبار وعين التمر وغير هاتين الناحيتين؛ لحماية الحدود منهم. ثم إن إيادًا أغارت على السواد في ملك كسرى أنوشروان، فوجه إليهم جيوشًا كثيفة، فخرجوا هاربين, واتبعوا, فغرق منهم بشر، وأتى فُلُّهم "بني تغلب"، فأقاموا معهم على النصرانية، فأساءت "بنو تغلب" جوارهم, فصار قوم منهم إلى الحيرة، ودخل منهم في جند ملوك الحيرة، ولحق جُلّهم بغسان بالشام, فلما جاء الإسلام دخل بعضهم بلاد الروم، ودخل منهم قوم في خثعم وفي تنوخ وفي قبائل أخرى. ويقال: إن مواطن إياد قبل نزوحها إلى العراق كانت بالبحرين، واجتمعت عبد القيس والأزد على إياد، فأُخرجوا عن الدار, فأتت العراق3.

_ 1 البلدان "1/ 331" "طبعة بيروت"، البكري، معجم "1/ 221"، "طبعة السقا", اليعقوبي "1/ 131"، مراصد الاطلاع "1/ 123". 2 البلاذري، أنساب "1/ 26". 3 البلاذري، أنساب "1/ 29".

وقد وصف "ابن قتيبة" إيادًا على هذا النحو: "وكانت إياد أكثر نزار عددًا وأحسنهم وجوهًا وأمدهم وأشدهم، وأمنعهم, وكانوا لقاحًا لا يؤدون خرجًا، وهم أول معدي خرج من تهامة, ونزلوا السواد وغلبوا على ما بين البحرين إلى سنداد والخورنق". فاصطدموا بالساسانيين؛ لأنهم أغاروا على أموال فأخذوها، فهزموهم إلى الجزيرة, ووجه إليهم "كسرى" ستين ألفًا فكتب إليهم "لقيط" ينبههم. وانتصر عليهم كسرى، وانقسموا ثلاث فرق, فرقة لحقت بالشام, وفرقة أقامت بالجزيرة، وفرقة رجعت إلى السواد1. ولما سار "خالد" من "عين التمر" أتى "صندوداء" وبها قوم من كندة وإياد والعجم، وتركها واتجه نحو جمع من "تغلب" كانوا بـ"المضيح" و"الحصد" مرتدين, عليهم "ربيعة بن بجير", فأتاهم فقاتلوه فهزمهم. ثم أغار "خالد" على "قراقر"، وهو ماء لكلب، ثم فوَّز منه إلى "سُوى" وهو ماء لكلب أيضًا، ومعهم فيه قوم من "بهراء" فقتل "حرقوص بن النعمان البهراني" من "قضاعة". وكان المسلمون لما انتهوا إلى "سوى" وجدوا "حرقوصًا" وجماعة معه يشربون ويتغنون فهجموا عليهم وقتلوا "حرقوصا", وخرج خالد من "سوى" إلى "الكوائل"، ثم أتى "قرقيسيا" وانحاز إلى البر، وأتى "أركة" "أرك"، فأغار على أهلها، وفتحها، وسار منها نحو"دومة الجندل"2. وذكر "ابن سعد" أن الرسول كتب إلى "نفاثة بن فروة بن الدئلي ملك السماوة"3, ولم يشر إلى موضع ملكه من بادية السماوة ومقداره في البادية. وكانت "دومة الجندل" عند ظهور الإسلام في ملك "أكيدر بن عبد الملك الكندي السكوني"، والسكون من كندة، فهو كندي النسب أيضًا، وكان يتنقل في البادية فيصل إلى الحيرة وإلى أرض الغساسنة، ويقال: إنه ملك "دومة الحيرة"، ونزل بها قبل جلائه عن "دومة الجندل" أو بعده على رأي أهل الأخبار. وكان مثل أكثر رؤساء القبائل في العراق وفي البادية وبلاد الشام على

_ 1 الشعر والشعراء "97 وما بعدها". 2 البلاذري، فتوح "119", الواقدي، فتوح الشام "1/ 30". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 284".

النصرانية، وله عقود ومعاهدات مع القبائل العربية الشمالية الضاربة في البادية، تأتي إلى مقره في الموسم أيام افتتاح السوق لتمتار ولبيع ما تحمله من تجارات. وكان لأكيدر بن عبد الملك أخٌ اسمه "بشر بن عبد الملك", يذكر أهل الأخبار أنه ذهب إلى الحيرة, وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج "الصهباء بنت حرب" أخت أبي سفيان1. وقد أرسل الرسول خالد بن الوليد إلى دومة الجندل ليفتحها، فسار خالد على رأس خيل إلى "دومة"، فلما بلغها وجد الأكيدر خارج حصنه يصطاد مع نفر من قومه فيهم أخ له يقال له: حسان، فهجم رجال خالد على الأكيدر وأسروه، وقتل حسان، وأخذ خالد قباء "أكيدر" وكان من ديباج مخوص بالذهب، وبعث به إلى الرسول ليقف عليه المسلمون، فلما رأوه عجبوا منه وجعلوا يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه، فقال رسول الله: "أتعجبون من هذا, فوالذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا" 2. وقد زاد عجبهم حين وصل خالد ومعه أسيره "أكيدر"، فحقن له دمه وصالحه الرسول على الجزية، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته3. ويذكر الرواة أن الرسول استقبل خالدًا ومعه أسيره "الأكيدر" في المدينة، فعرض الرسول الإسلام على الأكيدر، فقبله وحقن الرسول دمه وكتب له كتابًا، وعاد إلى "دومة". فلما قبض النبي منع الصدقة وارتدَّ إلى النصرانية ديانته الأولى, وخرج من دومة الجندل فلحق بالحيرة وابتنى بها بناء على مقربة من "عين التمر" سماه "دومة" أو "دومة الجندل" على اسم موضعه، وسكن هناك. ثم عاد إلى "دومة الجندل"، وتحصن بها، فأمر "أبو بكر" خالد بن الوليد بالتوجه إليها، فسار إليه وقتله. أما أخوه "حريث بن عبد الملك" فقد أسلم، وحقن دمه, وقد تزوج "يزيد بن معاوية" ابنة له4.

_ 1 جمهرة "ص403 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 257". 2 الطبري "3/ 108 وما بعدها"، "طبعة دار المعارف"، ابن هشام "2/ 319", البلاذري, فتوح "72 وما بعدها". 3 الطبري "3/ 108", البكري، معجم "2/ 564 وما بعدها"، فتوح البلدان "223", الكامل "2/ 192" "المنيرية", تاج العروس "3/ 518" "كدر". 4 فتوح البلدان "223", البلدان "2/ 625 وما بعدها"، البلاذري، فتوح "73", تأريخ خليفة بن خياط "1/ 56", "تحقيق أكرم ضياء العمري".

وتذكر رواية أخرى أن "الأكيدر" بعد أن نقض الصلح وعاد إلى نصرانيته, أجلاه "عمر" من "دومة" فيمن أجلى من مخالفي الإسلام إلى الحيرة، فأقام في موضع قرب "عين التمر"، ابتناه فسماه "دومة" وقيل "دوماء" باسم حصنه1. وهي رواية لا تتفق مع المشهور بين أهل الأخبار من أن خالدًا قتل "الأكيدر" في السنة الثانية عشرة أو السنة الثالثة عشرة من الهجرة، وذلك في أيام "أبي بكر" بعد أن أمره الخليفة بالتوجه إليه، وهي رواية أقوى من الرواية المتقدمة في نظر المؤرخين. ويظهر أن أهل "دومة الجندل" كانوا قد سمعوا بخبر مسير "خالد" إليهم، فأرسلوا إلى حلفائهم وأحزابهم من بهراء وكلب وغسان وقبائل تنوخ والضجاعم ليساعدوهم في الوقوف أمامه. فأتاهم "وديعة" في "كلب" وبهراء وسانده "رومانس بن وبرة بن رومانس" الكلبي، وجاءهم "ابن الحدرجان" في الضجاعم، و"جبلة بن الأيهم" في طوائف من غسان وتنوخ، وكذلك "الجودي بن ربيعة الغساني"، وكان من المتزعمين في "دومة"، وقد احتمى أهل "دومة" بحصنهم وخلف أسوار المدينة، والتفت حول السور من الخارج نصارى العرب الذين جاءوا لمساعدة أهلها. وقد تمكن "خالد" يساعده "عياض" من التغلب على أهل المدينة وحلفائهم, وقتل رؤساءهم, ودخل المدينة منتصرًا فغنم جيشه غنائم كثيرة وقُتل من أهلها خلق كثير، وسبى ابنة "الجودي" وكان الأكيدر في جملة القتلى2. وكان الرسول قد غزا "دومة الجندل" بنفسه، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة الخامسة من الهجرة، وبلغها ولم يلق كيدًا. كان سبب غزوه لها، أن رسول الله أراد أن يدنو إلى أراضي الشام؛ لأن ذلك مما يفزع الروم، ثم إن أهل دومة الجندل كانوا يظلمون من يمر بهم وينزل عندهم، ومن يحل بسوقهم للبيع والشراء، وقد كان الناس يذهبون إليها ويعودون إلى المدينة، فقرر غزوها، فلما وصل الرسول كان أهلها قد فروا وتركوا قريتهم، فنزل بها

_ 1 البلدان "2/ 625 وما بعدها". 2 الطبري "2/ 578 وما بعدها"، "القاهرة 1939م", الكامل "2/ 270", الطبري "3/ 378، 385" "دار المعارف", البلاذري، فتوح "74".

ولم يجد أحدًا، فرجع عنها، وذلك قبل غزو خالد لها1. وورد في سبب غزو الرسول لها، أن جمعًا من قضاعة ومن غسان تجمعوا، وهموا بغزو الحجاز, فسار في ألف انتخبهم، فلما انتهى إلى موضعهم ألفاهم قد تفرقوا أو هربو، ولم يلق كيدًا2. وفي هذه الغزوة وادع رسول الله "عيينة بن حصن" على أن يرعى بـ"تغلمين" وما والاه إلى "المراض"3. ويفهم من حديث بعض أهل الأخبار عن "دومة الجندل"، أنها كانت قرية عادية، إلا أن الدهر كان قد لعب بها، فخربت وقل عدد من كان بها، إلى أن نزل بها "أكيدر"، فأعاد إليها رواءها، وغرس الزيتون بها، فتوافد إليها الأعراب. ويذكر هؤلاء أن "أكيدر"، كان ينزل مع إخوته قبل مجيئه إلى "دومة" "دومة الحيرة"، ولما جاء يزور أخواله من "كلب" ونزل بخرائب "دومة الجندل" أعجبته فنزل بها، وأمر بإعادة بناء ما تهدم من حائطها وببعث الحياة بها حتى صارت قرية عامرة يقصدها الأعراب للبيع والشراء4. وصار "أكيدر" يتردد بينها وبين "دومة الحيرة"5. ويحمي "دومة" سور قديم، بُني قبل "أكيدر" في زمان لا يحيط علم أهل الأخبار به, يقولون: إنه بني من "الجندل"، وإنه هو الذي جعل الناس يسمون الموضع بـ"دومة الجندل"، ويذكرون أنه كان في داخل السور حصن منيع يقال له "مارد"، وهو حصن "أكيدر بن عبد الملك بن الحي بن أعيا بن الحارث بن معاوية بن خلادة بن أبامة بن سلمة بن شكامة بن شبيب بن السكون بن أشرس بن شور بن عفير، وهو من كندة"، فهو سكوني كندي6.

_ 1 الطبري "2/ 564" "دار المعارف", ابن عساكر، التأريخ الكبير "1/ 17"، ابن خلدون, القسم الأول من المجلد الثاني "ص773"، ابن هشام "2/ 668" "الطبعة الأوروبية"، شرح المواهب "3/ 360"، الكامل "2/ 270 وما بعدها". 2 البلاذري، أنساب "1/ 341". 3 نهاية الأرب "17/ 163", "غزوة دومة الجندل". 4 البلاذري, فتوح "ص223" "بيروت 1957م". 5 البلدان "2/ 625 وما بعدها" "طهران 1965م"، "4/ 106" "طبعة 1906". 6 البلدان "2/ 625 وما بعدها" "طبعة طهران 1965م".

وحصن "مارد"، حصن شهير له ذكر بين أعراب الشمال بُني قبل أيام "أكيدر". قال عنه بعض أهل الأخبار: إنه حصن عادي، أي من الحصون الجاهلية القديمة. وقد رأينا فيما سلف أن "دومة" من المواضع المعروفة التي يعود عهدها إلى ما قبل الميلاد. وذكر أهل الأخبار، أن سكانها كانوا أصحاب نخل وزرع، ويسقون على النواضح، وحولها عيون قليلة وزرعهم الشعير، وأنها "دوماء الجندل" أيضًا1. وكان أكثر سكان "دومة الجندل" من "بني كنانة" من "كلب", ويعدها بعض أهل الأخبار من "القريات" ويقصدون بمصطلح "القريات": دومة وسكاكة وذو القارة2. وتحيط بدومة مستوطنات وقرى تحتمي بسلطان حاكم "دومة", وكان "أكيدر" يلقب نفسه بلقب "ملك" على عادة ذلك الوقت في تلقيب سادات المواضع أنفسهم بهذا اللقب، وإن كان لا يعني في الواقع أكثر مما يعنيه مصطلح "شيخ" في الوقت الحاضر. وكان أهل "دومة" على النصرانية، شأنهم في ذلك شأن أكثر أهل القرى في العراق وفي بادية الشام وبلاد الشام. وكان أهل "أكيدر" على هذه الديانة أيضًا، إذ ورد أن الرسول أرسل "عبد الرحمن بن عوف" على رأس جيش إلى دومة، فذهب إليها ودخلها، وأسلم "الأصبغ"، وتزوج عبد الرحمن ابنته "تماضر"، إذ كان الرسول قد كتب إليه أن يتزوج ابنة ملكها، أي ملك "دومة" وهو "الأصبغ"3. فيظهر من هذا الخبر، أن "الأصبغ" كان يلقب نفسه بلقب "ملك أيضًا, وأنه كان يحكم "دومة" في أيام الرسول، في نفس الوقت الذي كان فيه "الأكيدر" يحكم "دومة"، ويلقب نفسه بلقب "ملك".

_ 1 التأريخ الكبير، لابن عساكر "1/ 89 وما بعدها"، "مطبعة روضة الشام", تاج العروس "8/ 297", "دوم". 2 البلدان "2/ 625 وما بعدها"، "طهران 1965م", مراصد الاطلاع "2/ 542 وما بعدها". 3 التأريخ الكبير، لابن عساكر "1/ 89 وما بعدها"، البكري، معجم "2/ 564 وما بعدها", المحبر "ص120".

وذكر بعض الإخباريين أن أهل دومة الجندل كانوا من عُباد الكوفة1, ويقصدون بذلك أنهم نصارى، فقد كانت عادتهم إطلاق لفظة "عباد" على النصارى العرب، عرب الحيرة بصورة خاصة. وقصدوا بالكوفة, الحيرة؛ لأن الكوفة لم تكن موجودة في الجاهلية، إذ بنيت في أيام الخليفة "عمر". ويظهر من أهل الأخبار أن "أكيدر السكوني" لم يتمكن من تثبيت ملكه على "دومة الجندل" بصورة دائمة، إذ كان ينافسه زعماء كلب الأقوياء. فقد ذكر "محمد بن حبيب" أن ملكها كان بين "أكيدر العبادي ثم السكوني وبين قنافة الكلبي، فكان العباديون إذا غلبوا عليه وليها أكيدر، وإذا غلب الغسانيون ولوها قنافة. وكانت غلبتهم أن الملكين كانا يتحاجيان فأيما ملك غلب صاحبه بإخراج ما يلقى عليه، تركه والسوق فصنع فيها ما شاء. ولم يبع بها أحد شيئًا إلا بإذنه حتى يبيع الملك كل ما أراد بيعه مع ما يصل إليه من عشورها"2. ويؤيد هذا الخبر ما ذكرته من وجود ملك آخر على دومة، هو "الأصبغ" الكلبي المتقدم الذكر. وهناك خبر آخر يفيد أن "الجودي بن ربيعة"، كان مثل "الأكيدر" رئيسًا على "دومة", وأن الاثنين كانا رئيسين عليها3. وورد أنه كان من غسان وأن اسمه "عدي بن عمرو بن أبي عمرو الغساني", وأن "عبد الرحمن بن أبي بكر"، "كان يختلف إلى الشام في تجارة قريش في الجاهلية، فرأى هناك امرأة يقال لها: ابنة الجودي من غسان، فكان يهذي بها، ويذكرها كثيرًا في شعره"، "وأصيبت حين غزو الروم ليلى بنة الجودي، فبعثوا بها إلى عبد الرحمن بن أبي بكر لذكره إياها"4. فهو إذن على هذه الرواية من غسان. ويظهر من غربلة روايات الإخباريين أن هنالك موضعًا آخر عرف بـ"دومة" و"دوماء", يقع في العراق على مقربة من "عين التمر". ذكر الإخباريون

_ 1 البلاذري، فتوح "74". 2 المحبر "ص263 وما بعدها", الأزمنة والأمكنة "2/ 161 وما بعدها". 3 الكامل "2/ 270 وما بعدها". 4 نسب قريش "276".

أن اسمه "دومة" و"دوما" و"دومة الجندل"، ونسبوا كما ذكرت قبل قليل بناءه إلى "الأكيدر". وهو موضع لا نعرف من أمر تأريخه شيئًا يذكر. وذكر أن "حارثة بن قطن"، و"حمل بن سعدانة بن حارثة بن مغفل"، وهما من "كلب" قدما إلى رسول الله وأسلما، فكتب رسول الله لحارثة كتابًا "لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب مع حارثة بن قطن"، ثم بين ما على المذكورين من حقوق وواجبات، وما عليهم من أحكام فرضها الإسلام على المسلمين1. وترك "خالد" "دومة الجندل"، ثم أتى "قصم"، فصالحه "بنو مشجعة بن التيم بن النمر بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة"، وكتب لهم أمانًا، ثم أتى "تدمر"، فأمنهم، ثم أتى "القريتين"، ثم "حوارين" من "سنير"، ثم أتى "مرج راهط"، فأغار على "غسان"2. وكان "حاضر" "قنسرين" لتنوخ، من أول ما تنخوا بالشام، نزلوه وهم في خيم الشعر. ثم ابتنوا به المنازل، فدعاهم "أبو عبيدة" إلى الإسلام، فأسلم بعضهم وأقام على النصرانية "بنو سليح". وكان بهذا الحاضر قوم من "طيء" نزلوه بعد حرب الفساد التي كانت بينهم حين نزلوا الجبلين، فلما ورد "أبو عبيدة" عليهم أسلم بعضهم وصالح كثير منهم على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك3. وقضاعة قبائل عديدة، منها "بنو جرم بن ربان" و"بنو سليح" و"تزيد" ابنا "عمران بن إلحاف بن قضاعة" و"كلب بن وبرة"، وهو قبيل عظيم, منهم "الأسبع". ومن قبائل قضاعة "عذرة بن زيد اللآت" و"العبيد بن زيد اللآت", و"بنو كنانة"، و"بنو جناب بن هبل"، و"بنو عليم بن جناب"، و"بنو مصاد"، و"بنو حصن"، و"بنو معقل". ومن "بني جناب" "بحدل بن أتيف"، "يزيد بن معاوية" لأمه، ومن رجالهم "ابن الجلاح"، وكان قائدًا للحارث بن أبي شمر الجفني,

_ 1 نهاية الأرب "18/ 93 وما بعدها". 2 البلاذري، فتوح "118 وما بعدها"، الطبري "3/ 417"، تأريخ خليفة "1/ 87". 3 البلاذري، فتوح "151".

واسمه "النعمان". وهو الذي أغار على "بني فزارة" و"بني ذبيان"، فاستباحهم وسبى "عقرب" بنت النابغة، ومن عليها، فمدحه "النابغة"1. وقد انتشرت بطون "كلب" في أرضين واسعة، شملت دومة الجندل وبادية السماوة والأقسام الشرقية من بلاد الشام. ولما أُخرج الروم عن ديار الشام، لعبت بطون كلب دورًا بارزًا في السياسة، إذ أيدت الأمويين، وتزوج "معاوية" "ميسون" أم "يزيد" وهي كلبية، فصارت كلب في جانب الأمويين. ومن قبائل "قضاعة"، "بنو عامر الأجدار", ومن رجال "بني وبرة" غير كلب، "بنو القيس بن جسر"، و"بنو مصاد بن مذعور"، و"بنو زهير بن عمرو بن فهم". ومن قبائل "جرم بن ربان": "بنو أعجب" و"بنو طرود" و"بنو شميس", ومن بطون "جرم": "بنو خشين"، ومن رجالهم "رأس الحجر"، وقد رأس في الجاهلية وأخذ المرباع. ومن رجال "جرم"، "عصام بن شهبر"، حاجب النعمان، وكان النعمان إذا أراد أن يبعث بألف فارس بعث بعصام2. وقد ذهب وفد من "جرم" إلى المدينة، فيه "الأصقع بن شريح بن صريم" و"هوذة بن عمرو"، فأسلما، وكتب الرسول لهما كتابًا3, وذهب وفد آخر، أخبر الرسول بإسلام حواء من جرم، كان عليه "سلمة بن قيس الجرمي"، ومعه ابنه "أبو زيد عمرو بن سلمة بن قيس الجرمي"4. وقد ساعد الغساسنة الروم في حروبهم مع المسلمين، وكان على رأسهم "جبلة بن الأيهم الغساني"، الذي حارب مع مقدمة جيش الروم في مستعربة الشام من غسان ولخم وجذام وغيرهم يوم اليرموك، ثم انحاز "جبلة" إلى المسلمين، وأظهر الإسلام, ثم عاد ففر إلى بلاد الروم, واستقر بها, وبها مات5. وقد استمر "المستعربة" يناصرون الروم، فلما تراجع قوادهم نحو الشمال لضغط

_ 1 الاشتقاق "313 وما بعدها". 2 "عصام بن شهبر الجرمي، حاجب النعمان بن المنذر ملك العرب، ومنه قولهم: ما وراءك يا عصام؟ يعنون به إياه"، تاج العروس "8/ 399"، "عصم". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 335"، "الأسقع"، نهاية الأرب "18/ 94 وما بعدها". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 336 وما بعدها". 5 البلاذري، فتوح "140 وما بعدها", البلاذري، فتوح "169".

المسلمين عليهم، التحق بهم هؤلاء "المستعربة" من غسان وتنوخ وإياد، وقد التحموا بالمسلمين في "درب بغراس"1. ويذكر الإخباريون أن "دمشق" كانت منازل ملوك غسان، وبها آثار لآل جفنة. والظاهر، أنهم كانوا قد اشتروا وابتنوا بها قصورًا عاشوا فيها، ومنها كانوا يتصلون بكبار الموظفين الحاكمين البيزنطيين، فإذا أرادوا الاتصال بقومهم الغساسنة عادوا إلى قصورهم بين قومهم. وكانت الغوطة: غوطة دمشق من المناطق التي سكن بها الغساسنة2. ويظهر من رواية يرجع سندها إلى "محمد بن بكير الغساني" عن قومه "غسان" أن الغساسنة لم يقبلوا على الإسلام إقبال غيرهم من العرب، وأنهم لم يسلموا إلا بعد فتوح الشام. ولما ذهب ثلاثة نفر منهم إلى المدينة، وأسلموا وبايعوا الرسول، لم يستجب قومهم لهم في دعوتهم إلى الإسلام، فكتموا أمرهم عنهم، خوفًا من بطش قومهم بهم3. وورد في أخبار الرسل الذين أرسلهم الرسول إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام, أن الرسول أرسل "شجاع بن وهب" إلى "الحارث بن أبي شمر الغساني" من غسان، وكان يقيم إذ ذاك بغوطة دمشق في قصر منيف، ليدعوه إلى الإسلام، فلما دفع "شجاع" كتاب رسول الله إلى "الحارث" رمى به، ولم يدخل في الإسلام وبقي على النصرانية حتى توفي عام الفتح4. وكان "جبلة" مع الروم يوم "اليرموك" ومعه "المستعربة" من غسان وقضاعة وذلك سنة "15" للهجرة، وكان قد انضم إلى المسلمين بعض لخم وجذام، فلما وجدوا جدّ القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى وخذلوا المسلمين5. وقد كان "جبلة بن الأيهم" على رأس "العرب المتنصرة" يحارب مع

_ 1 البلاذري، فتوح "169". 2 ابن رستة، الأعلاق "326". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 338 وما بعدها". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 261", نهاية الأرب "18/ 165". 5 الطبري "3/ 570 وما بعدها".

الروم، لمنع المسلمين من التقدم نحو "قنسرين"، ويذكر أهل الأخبار أن محاورات جرت بينه وبين المسلمين في موضوع اشتراكه مع الروم, ومنها محاورات مع "خالد بن الوليد" صاغوها بأسلوب قصصي منمق، وذكروا أنه كان جالسًا "على كرسي من ذهب أحمر وعليه ثياب الديباج الرومي وعلى رأسه شبكة من اللؤلؤ وفي عنقه صليب من الياقوت"1. وكان ذلك بعد ارتداده عن الإسلام2، فلما غلب الروم، "كان جبلة أول من انهزم والعرب المتنصرة أثره"3. ومن الغساسنة "شرحبيل بن عمرو الغساني"، الذي قتل رسولَ رسولِ الله "الحارث بن عمير الأزدي", الذي كان الرسول قد بعثه إلى ملك "بصرى". فلما نزل "مؤتة" قتله "شرحبيل", فأمر رسول الله بإرسال حملة إليه سنة ثمانٍ للهجرة, جعل أميرها "زيد بن حارثة"، ولما سمع بها "شرحبيل" جمع جمعًا من قومه وتقدم نحوهم، وكانوا قد نزلوا "معان". وبلغ المسلمين أن "هرقل" كان قد نزل "مآب" من أرض البلقاء في جمع من بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام والقين، عليهم "مالك بن رافلة" الإراشي من "بلي"، فانحازوا إلى "مشارف"، ولما دنا العدو انحازوا إلى "مؤتة"، وقتل فيها "جعفر بن أبي طالب"، و"عبد الله بن رواحة", و"ثابت بن رواحة", و"ثابت بن أرقم"، ثم "زيد بن حارثة"، ثم تراجعوا إلى المدينة, وقتل من العرب الذين كانوا مع الروم "مالك بن رافلة" "زافلة"4. واعتزل بعض "حَدَس" وهم "بنو غنم" الحرب، لإشارة كاهنتهم عليهم بذلك، فأخذوا بقولها، فاعتزلوا عن "بني لخم" وصلم الحرب بعض منهم، وهم "بنو ثعلبة"5. وكان بقرب "حلب" حاضر، عرف بـ"حاضر حلب"، جمع أصنافًا من العرب من تنوخ، فصالحهم "أبو عبيدة" على الجزية6. ويرجع هذا

_ 1 الواقدي، فتوح الشام "1/ 106"، و"ذكر فتح قنسرين". 2 الواقدي "1/ 110". 3 الواقدي "1/ 114". 4 نهاية الأرب "17/ 277"، "سرية مؤتة". 5 الطبري "3/ 41"، ذكر الخبر عن غزوة مؤتة. 6 البلاذري، فتوح "151".

الحاضر إلى أيام الجاهلية، فقد كان العرب قد توغلوا إلى هذه الديار قبل ظهور الإسلام، وأقاموا في الحواضر بظواهر المدن يتعيشون من اتصالهم بأهل تلك المدن. ولم تكن الرابطة الدينية التي ربطت بين أكثر عرب بلاد الشام والبيزنطيين، هي العامل الوحيد الذي جعل أولئك العرب ينضمون إلى صفوف الروم في الدفاع عنهم وفي مقاومة جيوش المسلمين، بل كانت هنالك عوامل أخرى، مثل المنافع المادية التي كان يجنيها سادات الأعرب من البيزنطيين، حيث كانوا ينالون هدايا ورواتب منهم في مقابل حماية الحدود والمحافظة عليها من غارات الأعراب، وفي مقابل الغارات التي كان البيزنطيون يكلفونهم بها لغزو حدود العراق؛ لإزعاج أعدائهم الفرس وقت الحاجة والضرورة، ومثل التسهيلات التي كانوا ينالونها من البيزنطيين في الاتجار مع مدن الشام وفي معاملات البيع والشراء والرواتب السخية التي تدفع للأعراب إذا خدموا في صفوف العساكر المتطوعة، وهي رواتب سخية إذا قِيسَتْ بالنسبة لحالة أهل البادية المنخفضة من الناحية المادية كثيرًا بالنسبة إلى حالة سكان بلاد الشام. وكان "الحيار": "حيار بني القعقاع" بلدًا معروفًا قبل الإسلام، وبه كان مقيل "المنذر بن ماء السماء" اللخمي، ملك الحيرة, فنزله "بنو القعقاع" من "عبس بن بغيض"1. وكانت البلقاء في أيدي قبائل من العرب مثل لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي، وهي قبائل يطلق عليها المؤرخون اسم "المستعربة"2. وكانوا على النصرانية في الغالب؛ لذلك كان هواهم إلى جانب الروم, فكانوا معهم في غزوة "مؤتة" يقاتلون مع "هرقل" ضد المسلمين وعليهم "مالك بن رافلة"، وهو من "بلي" ثم أحد إراشة. وكان المسلمون إذ ذاك في "معان"، وهي من أعمال البلقاء يستعدون للروم3, وكان صاحب هذه المدينة في أيام الرسول رجلًا من "جذام"، هو "فروة بن عمرو الجذامي"، وكان عاملًا للروم على من

_ 1 البلاذري، فتوح "151 وما بعدها". 2 الطبري "3/ 37" "دار المعارف". 3 ابن الأثير "2/ 97", الطبري "3/ 108"، "غزوة مؤتة"، البلدان "8/ 93" "معان".

يليهم من العرب، ومنزله بمعان. فلما أرسل فروة رسولًا عنه إلى الرسول يبلغه بإسلامه، قبض الروم عليه وحبسوه، ثم ضربوا عنقه وصلبوه1. ومن "لخم" "بنو الدار بن هانئ". وقد قدم وفد منهم على رسول الله منصرفه من "تبوك"، فيه: "تميم بن أوس بن خارجة الداري"، و"نعيم بن أوس بن خارجة", و"يزيد بن قيس بن خارجة", و"الفاكه بن النعمان بن جبلة بن صفارة"، و"جبلة بن مالك بن صفارة"، و "أبو هند" و"الطيب" ابنا "ذر", وهو "عبد الله بن رزين بن عِمّيت بن ربيعة دراع"، و"هانئ بن حبيب", و"عزيز" و"مرة" ابنا "مالك بن سواد بن جذيمة"، فأسلموا، وأهدى "هانئ بن حبيب" لرسول الله راوية خمر وأفراسًا وقباء مخوصًا بالذهب، فقبل الأفراس والقباء. وقال تميم: لنا جيرة من الروم لهم قريتان, يقال لإحداهما "حِِبرى" والأخرى "بيت عينون"، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي، فوهبهما رسول الله له. فلما توفي الرسول وقام أبو بكر أعطاه ذلك وكتب له كتابًا2. ولما أمر الرسول "أسامة بن زيد بن حارثة" أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، تجهز معه المهاجرون الأولون، ولكن وفاة الرسول لم تمكنه من السفر، فكان أول ما فعله خليفته "أبو بكر" أن أمره بتنفيذ ما أمره به رسول الله3. ولكنه لم يتقدم كثيرًا, بل بلغ الموضع الذي قُتِلَ أبوه زيد بن حارثة فيه، وهو من أرض الشام فرجع؛ لأن الرسول أمره في حياته بالمسير إليه4. و"الداروم" قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر, يجاورها عربان بني ثعلبة بن سلامان بن ثعل من بني طيء، وهم درماء وزريق5.

_ 1 ابن الأثير "2/ 124"، البكري "4/ 1242" "معان"، ابن سعد، طبقات "1/ 261 وما بعدها". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 343 وما بعدها". 3 الطبري "3/ 184 وما بعدها"، "ثم دخلت سنة إحدى عشرة". 4 الطبري "3/ 241"، نهاية الأرب "17/ 370". 5 تاج العروس "8/ 288"، "درم".

وكانت "جذام" نازلة في "حسمى" عند ظهور الإسلام، وهي من مواطن "ثمود". و"جُذام" من نسل "جذام" شقيق "عاملة" و"لخم" أبناء "عدي بن الحارث بن مرة بن كهلان", واسم "جذام" الحقيقي في رأيهم "عمرو"1. وتقع أرض جذام في الأقسام الجنوبية من بلاد الشام، وتصل إلى "أيلة" ثم تمتد مع الساحل حتى تبلغ "ينبع"2. ويرجع بعض النسابين نسب جذام إلى اليمن، ويرجعها بعض آخر إلى مضر، وتوسط قوم فقالوا: إنهم كانوا من مضر في الأصل، ثم غادروا ديار مضر فذهبوا إلى اليمن, وعاشوا بين قبائل قحطان، فنسوا أصلهم بتقادم العهد، وعُدوا في القحطانيين. ويظهر أن هذا الرأي هو محاولة للتوفيق بين الرأيين السابقين، أما الذي عليه غالبية جذام، فهو أنها من قحطان3. وقد وفد رجال من "جذام" على رسول الله، منهم "رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجذامي" ثم أحد "بني الضبيب"، فأسلم وكتب الرسول له كتابًا. أما "فروة بن عمرو بن النافرة" الجذامي، فقد كان كما سبق أن ذكرت عامل الروم على ما يليهم من العرب، وكان منزله "معان" وما حولها أو على "عمان"، فلما بلغهم أنه كاتب الرسول وأنه أسلم أخذوه فحبسوه، ثم ضربوا عنقه4. ويذكر أهل الأخبار أن "فروة" كتب إلى الرسول كتابًا أرسله مع "مسعود بن سعد"، وبعث إليه ببغلة وفرس وحمار وأثواب لِين وقباء سندس مخوص بالذهب5, وأن الرسول كتب إلى فروة جواب كتابه. ويذكر أهل الأخبار أن الروم لما قبضوا على "فروة"، قال شعرًا يذكر فيه

_ 1 البلدان "3/ 276"، الاشتقاق "225"، المعارف "ص50". 2 صفة "129". 3 "وجذام قبيلة من اليمن تنزل بجبال حسمى، وراء وادي القرى. وهو لقب عمرو بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وهو أخو لخم وعاملة وعفير, ويقال: اسم جذام عوف وقيل: عامر, والأول أصح. وتزعم نساب مضر أنهم من معد بن عدنان"، "وإنما سمي جذام جذامًا؛ لأن أخاه لخمًا وكان اسمه مالكًا، اقتتل وإياه، فجذم أصبع عمرو فسمي جذاما، ولخم عمرو مالكًا فسمي لخمًا"، تاج العروس "8/ 323"، "جذم". 4 طبقات ابن سعد "1/ 354 وما بعدها". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 281".

نفسه والرسول، وقال مثل ذلك لما نقله الروم إلى موضع يقع على ماء لهم بفلسطين اسمه "عفراء"، فلما أرادوا ضرب عنقه، قال بيتًا من الشعر في إسلامه وفي إيمانه1. وقد انتشرت النصرانية بين كلب، كما انتشرت بين أكثر القبائل النازلة بديار الشام. والظاهر أنها كانت على مذهب القائلين بالطبيعة الواحدة "Monophysities"2. وفي جوار "الحجر" وفي شرق "حرة ليلي" أقامت بنو عذرة، وهي من قبائل قضاعة، وتنسب إلى "عُذرة بن سعد بن هُذيم بن زيد بن ليث بن أسلم بن إلحاف بن قضاعة"3. ولا نعلم من تأريخ هذه القبيلة في الجاهلية شيئًا يذكر, ولم يرد اسمها كثيرًا في الأيام, والظاهر أن ذلك لقلة شعرائها، فإن شعر الشعراء هو الذي خلد أسماء القبائل عند الإخباريين، ويظن أنها قبيلة "Adritai" "Adraetai" التي ذكرها "بطلميوس"4. أما ديار هذه القبيلة, فكانت في وادي القرى وتبوك، ولكنها امتدت حتى بلغت قرب أيلة5, ويذكر الإخباريون أن هذه القبيلة هاجرت مع من هاجر من قبائل قضاعة بعد حربها مع حمير، فنزلت هذه الديار5, وتعاهدت مع قوم من يهود على مجاورتهم, وإلا تتحرش بهم وبنخيلهم وبساتينهم. وتجاور ديار عذرة ديار قبائل أخرى من قضاعة مثل: نهد وجهينة وبلي وكلب، كما جاورت من الشمال قبيلة غطفان6. ولعذرة حلف مع عدد من بطون سعد هذيم، مثل بني ضنة، ويعدهم النسابون بطنًا من عذرة، وكذلك مع بني سلامان، وقد عرفوا بصحار، وكان لهم مع جهينة, ويرجع الإخباريون عهد هذا الحلف إلى أيام حرب قضاعة، وهي الحرب المسماة بـ"حرب القريض"7.

_ 1 نهاية الأرب "18/ 29". 2 Ency., II, P. 689. 3 Ency., II, P. 989. Sprenger, Geographie, s., 205, 333. 4 5 البكري "18، 22، 27"، الأغاني "16/ 161". 6 Ency., Iv, p. 988. 7 البلدان "3/ 368"، وهم أبناء "صحار"، الاشتقاق "320", Ency., Iv, P. 988.

وهنالك جملة قبائل ذكر الإخباريون أربعًا أو خمسًا قالوا: إنها كانت تعرف بـ"عذرة"1, وقد سبب تعدد هذه الأسماء للنسابين بعض التشويش. ويظهر من روايات الإخباريين أنه كان لهذه القبيلة صلة بقريش، فزعموا أن أم "قصي" تزوجت رجلًا من "بني عذرة"، وأن أخاه من أمه "رزاح بن ربيعة بن حرام" اشترك مع قريش في الدفاع عن الكعبة وفي طرد خزاعة عنها. ورووا أيضًا أنه كان لها صلة بالأوس والخزرج كذلك؛ لأن أم القبيلتين، وهي "قيلة بنت كاهل أو بنت هالك", كانت من هذه القبيلة2. ولما قدم وفد "عذرة" على الرسول في صفر سنة تسع، وفيه "حمزة بن النعمان العذري", و"سليم" و"سعد" ابنا مالك، و"مالك بن أبي رباح"، سلموا على الرسول "بسلام أهل الجاهلية، وقالوا: نحن إخوة قصي لأمه، ونحن الذين أزاحوا خزاعة وبني بكر عن مكة، ولنا قرابات وأرحام". وكان من رجال عذرة الذين وفدوا على الرسول "زمل بن عمرو العذري"3. وذكر "ابن سعد" أن الرسول كتب إلى "عذرة" في "عَسيب", وبعث به مع رجل من "بني عذرة", فعدا عليه "ورد بن مرداس" أحد "بني سعد هذيم"، فكسر العسيب وأسلم واستشهد مع "زيد بن حارثة" في غزوة وادي القرى أو غزوة القردة4. وكانت مواطنها عند ظهور الإسلام في منطقة مهمة جدا تقع بين الحجاز وبلاد الشام ومصر، فتمتد من منازل "كلب" في "الشمال" حتى منطقة المدينة, وكانت بطونها منتشرة في "وادي القرى" وحول "تبوك" وعند "أيلة" وفي طور سيناء. ولمرور طريق القوافل منها، تولى رجالها حراستها وجباية رسوم المرور منها. ولما رأى بعض المستشرقين أنها تقطن منطقة كان يسكنها "أهل

_ 1 محمد بن حبيب، مختلف القبائل "ص37"، "طبعة وستنفلد", Ency., II, P. 289. 2 Ency., IV, P. 989, Wustenfeld, Genealo, I, 24. 3 ابن سعد، طبقات "1/ 331 وما بعدها". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 284".

مدين" وكذلك النبط، ذهبوا إلى أنها من نسل "مدين" أو من بقايا "النبط"1. ومن المستشرقين من يرى أن "بني النضير" هم فرع من جذام، دخلوا في دين يهود، ودليلهم على ذلك انتشار اليهودية بين بعض بطون جذام التي تقع منازلها على مقربة من "يثرب", وكانت النصرانية قد وجدت لها سبيلًا بين جذام، وذلك باتصالها ببلاد الشام ومصر. وقد كانت مع "المستعربة" أي: النصارى العرب, تحارب المسلمين مع الروم في حروب بلاد الشام2. وفي أرض جذام موضع يقال له "السلاسل"، وقعت غزوة عرفت بـ"ذات السلاسل". وقد قام بها "عمرو بن العاص"، وكان الرسول قد بعثه إلى أرض "بلي" و"عذرة" يستنفر الناس إلى الشام3. ومن جذام "رفاعة بن زيد الجذامي" ثم "الضُّبيبي"، وكان قد قدم إلى الرسول فأسلم، وكتب الرسول له كتابًا، وذهب إلى قومه ونزل الحرة: حرة الرجلاء4, و"ضبيب" بطن من جذام. ولما أغار "الهُنيد بن عوص"، وهو من "الضليع"، بطن من جذام على "دحية بن خليفة الكلبي"، حين قدومه من بلاد الشام، وكان رسول الله بعثه إلى "قيصر" صاحب الروم ومعه تجارة له، فأصاب كل شيء كان مع "دحية" -نَفَرَ "رفاعة" وقومه ممن أسلم إلى "الهنيد"، فاستنقذوا ما كان في يده، فردوه على "دحية"، وكان المعتدون يقيمون بحسمى5. ومن "جذام" "زنباع بن روح بن سلامة بن حُداد بن حديدة"، وكان عَشَّارًا، مر به "عمر بن الخطاب" في الجاهلية تاجرًا إلى الشام، فأساء إليه في اجتيازه وأخذ مكسه، فقال "عمر" فيه شعرًا يتوعده ويهجوه، فبلغ ذلك "زنباعًا" فجهز جيشًا لغزو مكة، فنُهي عن ذلك وأشير عليه بعدم تمكنه منها، فكف عنها6.

_ 1 Ency., I, P. 1058. 2 Ency., I, P. 1058. 3 الطبري "3/ 32". 4 الطبري "3/ 140"، "قدوم رفاعة بن زيد الجذامي". 5 نهاية الأرب "17/ 207". 6 بلوغ الأرب "1/ 361 وما بعدها"، الاشتقاق "225".

وكانت "أيلة" في أيام الرسول، في أيدي "يوحنا بن رؤبة" "يحنة بن رؤبة". ولما سمع "يوحنا" بمجيء الرسول مع جيش إلى "تبوك"، جاء إليه وصالحه على الجزية، وصالحه أهل "جرباء" و"أذرح" على الجزية أيضًا، كما صالح أهل "مقنا" على ربع كروعهم وغزولهم وحلقتهم وعلى ربع ثمارهم، وكانوا يهودًا1. وقد دون "ابن سعد" صورة كتاب ذكر أن الرسول كتبه لـ"يحنة بن رؤبة" "يحنة بن رَوْبَةَ" وأهل أيلة "لسفنهم وسيارتهم في البر والبحر ... ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر"2. وأورد "ابن سعد" نص كتاب أرسله الرسول إلى "يوحنا بن رؤبة" "يحنة بن روبة" و"سَرَوات" أهل أيلة, جاء فيه أن رسول الله قد أرسل إليه رسلًا هم: "شرحبيل" و "أبي" و"حرملة" و"حريث بن زيد الطائي" و"أن حرملة" قد شفع له ولأهل أيلة لدى الرسول, وأن عليه أن يكسو "زيدا" كسوة حسنة, وأنه قد أوصى رسله بهم. ويظهر من هذا الكتاب أن حامله كان "زيدا"، وجاء فيه "وجهزوا أهل مقنا إلى أرضهم"3. وكتب الرسول كتبًا إلى أهل "أذرح" و"جربا" ولأهل مقنا، وذكر أن أهل مقنا كانوا يهودًا على ساحل البحر, وأهل جربا وأذرح يهود أيضًا4. أما "كلب" التي كانت ديارها تتاخم ديار جذام، فينسبها النسابون إلى "كلب بن وبرة", وهي من القبائل التي كانت تنزل ديار الشام عند ظهور الإسلام. غير أننا لا نعرف من تأريخها شيئًا يذكر قبل الإسلام5. وتتصل بديار كلب من الشرق أرض الحيرة وديار "بني بكر"، ومن الجنوب ديار طيء، ومن الغرب ديار "بنو بلي" و"جذام"، ومن الشمال "بنو بهراء" وقبائل غسان. ويرجع نسب "كلب" في عرف النسابين إلى قبائل "قضاعة". ومن كلب

_ 1 الطبري "3/ 108"، البلاذري، فتوح "71". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 289"، نهاية الأرب "17/ 357". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 278". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 29 وما بعدها". 5 Ency., II, P. 688.

الأسبع, وهي بطون ثعلب وفهد ودب والسيد والسرحان وبرك. ومن قبائلها: ثور وكلب ورفيدة وعوذي وعرينة وقبائل أخرى يذكرها النسابون1 وينسب إلى هذه القبيلة "زهير بن جناب الكلبي"، وهو في جملة من يذكرهم الإخباريون من المعمرين. ويذكرون أنه كان رئيسًا من رؤساء هذه القبيلة, وأنه كان شاعرًا، وأنه كان في أيام "كليب وائل" و"المهلهل بن ربيعة"، ومعنى ذلك أنه عاش في القرن السادس للميلاد2 وقد ذكر الإخباريون أسماء رجال برزوا في الجاهلية، ينتمون إلى بطون هذه القبيلة، منهم "هوذة بن عمرو"، نعتوه بـ"رب الحجاز"3, وهذا النعت يدل على منزلة الرجل ومكانته التي كان عليها قبل الإسلام. وهو من "حَرْدش" وقد مدحه "النابغة الذبياني". وقد نسب الإخباريون هوذة إلى "عص" أو "عيثر بن لبيد"، وهو في زعمهم من المعمرين في الجاهلية4 وقد وفد رجل من "كلب" على الرسول اسمه "عبد عمرو بن جبلة بن وائل بن الجَلَّاح الكلبي"، ومعه "عاصم" من "بني وقاش" من "بني عامر"، فأسلما, ووفد "حارثة بن قطن بن زائر بن حصن بن كعب بن عليم الكلبي" و"حمل بن سعدانة بن حارثة بن مغفل بن كعب بن عليم"، فأسلما. وكتب الحارثة بن قطن كتابًا لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب، دوَّن فيه أوامره لهم ونواهيه وشروطه إن أرادوا الدخول في الإسلام5 وأورد "ابن سعد" صورة كتاب، ذكر أن الرسول كتبه "لبني جناب" من كلب وأحلافهم ومن ظاهرهم. وقد بين فيه الأمور التي يجب عليهم مراعاتها من حقوق وأحكام, وأشهد عليه فيه: سعد بن عبادة، وعبد الله بن أنيس, ودحية الكلبي6

_ 1 الاشتقاق "ص314 وما بعدها". 2 الاشتقاق "ص204", 1237. Ency., Iv, P. 3 الاشتقاق "320". 4 الاشتقاق "320", Ency., Iv, P. 989., 5 ابن سعد, طبقات "1/ 334 وما بعدها". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 286".

ولعذرة عدة بطون، منها: بنو الجلحاء، وبنو جلهمة، وبنو زقزقة، وبنو ضنة، وبنو حردش، وبنو حنّ، وبنو مدلج1. ويظهر من أبيات للشاعر النابغة أن "النعمان بن حارث الغساني" لما همّ بغزو "بني حن" في موضعهم بـ"برقة صادر", نهاه عن ذلك، غير أنه لم ينتهِ، فأصيب غزوه بهزيمة2. وحن هم الذين قتلوا "الجلاس بن وهب بن قيس بن عبيد" من طيء، في الحجر, وكان الجلاس ممن اجتمعت عليه جديلة طيء3. وتبوك هي من جملة مواضع بني عذرة، وهي موضع "Thapaua" الذي ذكره "بطلميوس"4، ولا نعرف من أمرها قبل الإسلام شيئًا يذكر. وقد ذكرت في الفتوح، إذ وصل الرسول إليها، وصالح أهلها على الجزية، مما يدل على أن سكانها كانوا من أهل الكتاب5. وكان غزو الرسول لها سنة تسع للهجرة، إذ بلغه أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام، وأنهم قد جمعوا إليهم جمعًا من لخم وجذام وعاملة وغسان وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فأراد الرسول مباغتتهم قبل أن يباغتوه، فلما وصل إليها وجد أن الروم بعيدون عنه فرجع6. ويذكر أهل الأخبار أن "بني عذرة" نصروا قصيا وساعدوه، لوجود صلة له بهم. ويظهر أنه قد كان عند القدامى من "بني عذرة" كتاب في أخبارهم كانوا يرجعون إليه إذا احتاجوا إلى الوقوف على خبر يخص هذه القبيلة, فقد ذكر "أبو عمرو بن حريث العذري"، أنه رجع إلى كتاب من كتب آبائه في أمر "وفد عذرة" الذي ذهب إلى الرسول7.

_ 1 الاشتقاق "320", Ency., Iv, P. 989. 2 الاشتقاق "320"، البلدان "2/ 143". 3 البلدان "7/ 74"، "قرى". 4 ptolemy, Geography, vI, 7, 27. 5 البلدان "1/ 824", ابن هشام "902"، الطبري "1/ 1692"، غزوة تبوك، فتوح البلدان "59", شمال الحجاز, تأليف ألويس موسل, ترجمة: الدكتور عبد المحسن الحسيني, سنة 1952م، "ص140 وما بعدها". 6 نهاية الأرب "17/ 352 وما بعدها". 7 عن أبي عمرو بن حريث العذري قال: وجدت في كتاب آبائي، قالوا.....", ابن سعد، طبقات "1/ 331".

وتقع ديار "غطفان" جنوب "طيء" وشمال "هوازن" و"خيبر", وإلى الغرب من بلي وديار سعد. وهم من القبائل الكبيرة التي يرجع النسابون نسبها إلى "سعد بن قيس بن مضر", فهي من القبائل المضرية في اصطلاح أهل الأنساب, وهم قبائل منهم: ريث وبغيض وأشجع، ومن بغيض ذبيان، وهو والد عبس، وإنما أجداد قبائل كبيرة1. وتقع ديار أشجع على مقربة من المدينة، وأما ديار "بغيض" فتقع عند شربة والربذة، وتجاورها "خصفة بن قيس عيلان"، وسليم الذين تقع ديارهم في جنوبهم. ومن رجال "أشجع": "مسعود بن رخيلة بن نويرة بن طريف"، وقد وفد على الرسول على رأس وفد قوامه مائة رجل، وادعوا رسول الله، ثم أسلموا2. وقد كانت بين "غطفان" وبين "بني عامر بن صعصعة" وهم بطن من هوازن حوادث وأيام. من ذلك "يوم النفراوات", وفيه قتل خالدُ بن جعفر بن كلاب العامري زهيرَ بن جذيمة سيد عبس، وكانت هوازن تخضع لزهير, وتقدم له الإتاوة كل سنة في سوق عكاظ. فلما استبد بهم زهير، ولم يرعَ لهم حرمة، ولم ينصفهم، نقموا عليه, وأقسم جعفر ليقتلنه، وقد وفى بقسمه في يوم "النفراوات"3. وقد غزا الرسول قومًا من "غطفان"، هم من "بني محارب"، و"بني ثعلبة"، حتى نزل نخلًا فلقي جمعًا من "غطفان"، ولم تقع بينهم حرب، وعرفت الغزوة بـ"غزوة ذات الرقاع"4. وكانت هذه الغزوة في أول السنة الثالثة من الهجرة، وعرفت أيضًا بـ"غزوة ذي أمر" ناحية "النخيل". وكان قد جمعهم رجل يقال له: "دعثور بن الحارث" من "بني محارب"، وهم من الأعراب، فلما وصل الرسول إليهم هربوا في رءوس الجبال، ثم

_ 1 الاشتقاق "164 وما بعدها", ابن حزم, جمهرة "ص237 وما بعدها", Ency., II, P. 144. 2 نهاية الأرب "18/ 22". 3 العقد الفريد "3/ 304"، الأغاني "10/ 10". 4 الطبري "2/ 555 وما بعدها".

أسلم "دعثور" ودعا قومه إلى الإسلام1. وقد تجمع جمع من غطفان بالجناب، وأرادوا مباغتة المسلمين، فوصلت الأنباء بذلك إلى الرسول، فأرسل سرية عليهم فلّت ذلك الجمع2. وقد استجابت "غطفان" لدعوة سادات "بني النضير" أمثال: "سلام بن أبي الحقيق"، و"حيي بن أخطب"، و"كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق"، ودعوة نفر من "بني وائل"، فيهم "هوذة بن قيس الوائلي" و"أبو عمار الوائلي"، ولزعماء مكة وعلى رأسهم "أبو سفيان"، فخرجت وقائدها "عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري" في بني فزارة, و"الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري" في "بني مرة", و"مسعود "مِسْعر" بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة الأشجعي" فيمن تابعه من أشجع, واستجابت لهم "بنو سليم"، يقودهم "سفيان بن عبد شمس" وهو أبو "أبي الأعور السلمي"، وانضمت إليهم "بنو أسد" يقودهم "طليحة بن خويلد الأسدي"، وكونوا الأحزاب, وساروا باتجاه المدينة, فوجدوا المسلمين وقد حفروا خندقًا حولها، حال بينهم وبين اقتحامها. ووقعت مناوشات انتهت برجوع الأحزاب, ونجاح المسلمين في الدفاع عن أنفسهم3. ومن رجال "عبس" الذين وفدوا على الرسول: "ميسرة بن مسروق"، و"الحارث بن ربيع" وهو الكامل، و"قنان بن دارم"، و"بشر بن الحارث بن عبادة", و"هِدْم بن مسعدة"، و"سباع بن زيد", و"أبو الحصن بن لقمان"، و"عبد الله بن مالك"، و"فروة بن الحصين بن فضالة". وذكر أن رسول الله سأل نفرًا من "عبس" عن "خالد بن سنان", فقالوا: لا عقب له، فقال: "نبي ضيعه قومه"، ثم أنشأ يحدث أصحابه حديث خالد4.

_ 1 نهاية الأرب "17/ 77 وما بعدها". 2 الطبري "3/23". 3 الطبري "2/ 564 وما بعدها"، "غزوة الخندق"، نهاية الأرب "17/ 166 وما بعدها". 4 طبقات ابن سعد "1/ 295 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 17".

وقد كتب الرسول إلى "بني زهير بن أقيش" كتابًا، أمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم1. و"بنو أقيش" هم حي من "عكل", و"عكل" من "الرباب", وهم "تيم" و"عدي" و"عكل" و"مزينة". وذكر أن الرسول كتب لبني أقيش في ركية بالبادية2. ومن ديار "هوازن"، "تربة"، وهي ناحية "العبلاء" على طريق صنعاء ونجران, وتقع في "عجز هوازن". وقد أرسل الرسول عليهم سرية بقيادة "عمر" وذلك سنة سبع للهجرة3. وتقع ديار هوازن بغور تهامة إلى إلى بيشة والسراة وحنين وأوطاس4. وفي جنوب شرقي "حسمى" أقامت بطون "فزارة"5, وتنسب إلى "فزارة بن ذبيان بن بغيض بن غيث بن غطفان". وقد اشتركت في حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان، وفي معارك أخرى، وتعاونت مع يهود خيبر ضد الرسول6. ومن رجال "فزارة" "خارجة بن حصن"، وكان فيمن وفد على النبي من وفد "بني فزارة" سنة تسع للهجرة7. ومن "بني فزارة" في أيام الرسول "عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر"، أغار على لقاح رسول الله وهي ترعى بالغابة، وهي على بريد من المدينة، فوجه رسول الله جمعًا إليه، قتل "مسعدة بن حَكَمَة بن مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري" و"حبيب بن عيينة"، ثم لحقهم الرسول بـ"ذي قرد" فوجدهم قد مضوا8. وقد نعت النبي "عيينة" بـ"الأحمق المطاع في قومه"9. ومن بني فزارة الذين وفدوا إلى الرسول بعد رجوعه من تبوك سنة تسع للهجرة,

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 279". 2 الاشتقاق "111/ 113". 3 نهاية الأرب "17/ 270". 4 البكري، معجم "1/ 88". 5 Musil, Hegaz, p. 315. 6 Ency., II, p. 93. 7 الطبري "3/ 122". 8 البلاذري، أنساب "1/ 348 وما بعدها". 9 الاشتقاق "173".

"خارجة بن حصن" و "الحر بن قيس بن حصن". وذكر أن "عيينة بن حصن" كان من المؤلفة قلوبهم، شهد حنينًا والطائف, وكان أحمق مطاعًا دخل على النبي بغير إذن وأساء الأدب، فصبر النبي على جفوته وأعرابيته. وقد ارتد وآمن بطليحة، ثم أسر، فمنَّ عليه الصديق، ثم لم يزل مظهرًا للإسلام. وكان يتبعه عشرة آلاف قناة, وكان من الجرارة, واسمه حذيفة ولقبه عيينة لشتر عينه.1 ولما خرج "زيد بن حارثة" في تجارة له إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب رسول الله، وكان دون "وادي القرى", لقيه ناس من "فزارة" من "بني بدر"، فضربوه وأخذوا ما كان معه، فعاد "زيد" إلى المدينة وأخبر الرسول بما حدث, فأعاده مع سرية لغزوهم، فحاصرهم، ولكنهم كانوا قد هربوا، فأسر منهم "فاطمة بنت ربيعة بن بدر"، وابنتها "جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر"، وقُتل "النعمان" و"عبد الله" ابنا "مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر"2. وعلى السُّنة الجارية بين القبائل، تشتَّت شمل عشائر غطفان بسبب الحروب التي نشبت بينها من جهة، وبينها وبين بطون خصافة من جهة أخرى, ونعني بخصافة هوازن وسليمًا. وقد استمر التنافس بين عشائر غطفان وعشائر خصافة إلى ظهور الإسلام، وتميز بحوادث الفتك والاغتيالات، وبرز في هذا النزاع اسم "دريد بن الصمة" وهو من هوازن، ومعاوية وصخر أخوي الحنساء, وهما من سليم3. ولما انتقل الرسول إلى جوار ربه، ارتد كثير من غطفان، وأيد بعضهم طليحة، ولم يرجعوا إلى الإسلام إلا بعد انتصاره على المرتدين. وكان من وجوه "بني عامر بن صعصعة"، عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس بن مالك بن جعفر، "أربد بن ربيعة بن مالك بن جعفر"، وجبار بن

_ 2 تاج العروس "6/ 45", "ألف" و"عين". 3 نهاية الأرب "17/ 210 وما بعدها". 4 Ency., II, p. 145.

سلمى بن مالك، وكان هؤلاء رءوس القوم وشياطينهم. وقد وفدوا على الرسول, ولم يسلم "عامر بن الطفيل"، بل رجع كافرًا ومات على الشرك1. وكان معجبًا بنفسه، جريئا على الناس2, من الفرسان3، طلب من الرسول أن يجعل الأمر له من بعده في مقابل إسلامه، أو أن يقتسم معه الحكم على الناس مناصفة، فيكون للرسول حكم أهل المدر، وله حكم أهل الوبر. فلما قال له الرسول: "لا, ولكني أجعل لك أعنة الخيل؛ فإنك امرؤ فارس" قال: أَوَلَيست لي؟ لأملأنها خيلًا ورجالًا. ثم ولى، فلما كان في طريقه إلى منازله مرض وهلك4. وكان "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" المعروف بـ"ملاعب الأسنة الكلابي"، بعث إلى رسول الله أن ينفذ إليهم قومًا يفقهونهم ويعرضون عليهم الإسلام وشرائعه، فبعث إليهم قومًا من أصحابه، فعرض لهم "عامر بن الطفيل" يوم بئر معونة فقتلهم أجمعين, واغتم "أبو براء" لإخفار عامر بن الطفيل ذمته في أصحاب رسول الله، ثم توفي بعد ذلك بقليل, وكان سيد "بني عامر بن صعصعة" في أيامه5. و"بئر معونة"، أرض بين أرض "بني عامر" و"حرة بني سليم"، وهي إلى حرة بني سليم أقرب6. وقد استصرخ "عامر بن الطفيل" جماعة من "بني سليم" و"عصية" و"رعلا" و"ذكران" فنفروا معه على المسلمين7. ولما أرسل "أبو بكر" "خالد بن الوليد" إلى "بني عامر بن صعصعة"، لم يقاتلوه ودفعوا الصدقة. وكان "قرة بن هبيرة القشيري" امتنع من أداء الصدقة، وأمدَّ "طليحة الأسدي"، فأخذه خالد، فحمله إلى "أبي بكر" فحقن أبو بكر دمه8.

_ 1 الطبري "3/ 144"، "وفد بني عامر بن صعصعة". 2 مروج "2/ 328"، "دار الأندلس". 3 الاشتقاق "180، 215". 4 نهاية الأرب "18/ 51 وما بعدها". 5 المحبر "472", الطبري "3/ 545"، "ذكر خبر بئر معونة". 6 الطبري "2/ 546". 7 نهاية الأرب "17/ 130 وما بعدها". 8 البلاذري، فتوح "106".

ومن بني "عامر بن صعصعة"، بنو "رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة", ومنهم "عمرو بن مالك بن قيس" الذي وفد على الرسول فأسلم1, ومنهم "بنو البكاء", ووفدَ وفدٌ من "بني البكاء" على الرسول كان فيه "معاوية بن ثور بن عبادة بن البكاء"، و"الفُجيع بن عبد الله بن جندح بن البكَّاء" و"عبد عمر البكائي"، وهم الأصم2. وتقع ديار "بني عامر بن صعصعة" في الأقسام الغربية من نجد وتمتد إلى الحجاز. وذكر انهم كانوا يصيفون بالطائف لطيب هوائها، فلما اشتد عود ثقيف وقوي أمرهم، منعوهم منها، واستقلوا بها وحدهم3. ويرجع نسب "بني سليم" إلى "قيس عيلان"، وتقع منازلها في مواطن حرار ذات مياه ومعادن عرفت بـ"معدن سليم"، وكانوا يجاورون عشائر غطفان وهوازن وهلال. ولخيرات أرضهم ووقوعها في منطقة مهمة تهيمن على طرق التجارة، صارت بنو سليم من القبائل الغنية، وكانت صلاتها حسنة بيهود يثرب، كما كانت صلاتها وثيقة بقريش. وقد تحالف عدد كبير من رجالات مكة مع بني سليم، واشتغلوا معهم في الاستفادة من المعادن والثروة في أرض سليم4. وقد قدم رجل من "بني سليم" اسمه "قيس بن نسيبة"، على الرسول فأسلم. ذكر أنه كان على علم بلسان الروم وبهينمة الفرس، وبأشعار العرب، وأنه كان ذا حظ بثقافة ذلك اليوم. فلما رجع إلى قومه، وكلمهم بالإسلام، اقتنعوا بحديثه فأسلم منهم عدد كبير، وذهب وفد عنهم إلى الرسول، فيه "العباس بن مرداس" و"أنس بن عياض بن رعل" و"راشد بن عبد ربه"، فأسلموا على يديه. وكان "راشد" يسدن صنمًا لبني سليم، وكان اسمه "غاوي"، وكان قد رأى ثعلبين يبولان على صنمه فشد عليه فكسره، ثم جاء مع الوفد إلى الرسول فأسلم، وسماه الرسول "راشدًا" على طريقته في تغييره

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 300". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 304". 3 البكري، معجم "1/ 77 وما بعدها". 4 البلدان "2/ 250"، "8/ 94"، Ency., Iv, p. 518.

أمثال هذه الأسماء, وأعطاه الرسول "رهاطا" وفيها عين ماء. ويذكر أهل الأخبار، أن سيدًا من سادات "بني سليم"، اسمه "قِدْر بن عمَّار"، كان قد قدم على النبي بالمدينة فأسلم، وعاهده على أن يأتيه بألف من قومه، فلما ذهب إلى قومه، وعاد ليأتي إلى الرسول برجاله، نزل به الموت، فأوصى إلى رهط من "بني سليم" بالذهاب إلى الرسول، هم "عباس بن مرداس" و"جبار بن الحكيم" و"الأخنس بن يزيد" وأمَّر كل واحد منهم على ثلاثمائة، ليقدموا على الرسول، ثم جاء من بعدهم "المنقع بن مالك بن أمية" وهو على مائة رجل، فصار عددهم ألفًا1. وكتب الرسول إلى "سلمة بن مالك بن أبي عامر السلمي" من "بني حارثة"، أنه أعطاه مَدْفَوًا لا يحاقه فيه أحد2, وأعطى "العباس بن مرداس" "مدفورا" لا يحاقه فيه أحد، كتبه له العلاء بن عقبة، وشهد عليه3. ويظهر أن "سلمة بن مالك السلمي" الذي ذكر "ابن سعد" أن الرسول "أعطاه ما بين ذات الحناظى إلى ذات الأساور"4, هو "سلمي بن مالك بن أبي عامر" المتقدم. وكان العباس بن مرداس يهاجي "خفاف بن ندبة السلمي" أحد الشعراء المعروفين، ثم تمادى الأمر إلى أن احتربا، وكثرت القتلى بينهما. ولما تماديا في هجائهما، ولم يسمعا نصيحة "الضحاك بن عبد الله السلمي"، وهو يومئذ صاحب أمر بني سليم، ولجَّا في السفاهة، خلعتهما بنو سليم. ثم أتاهما "دريد بن الصمة" و"مالك بن عوف النصري" رأس هوازن، وأصلحا بينهما، واستراح منهما بنو سليم5. وأسلم "العباس بن مرداس" قبل فتح مكة, وحضر مع النبي يوم الفتح في جمع من "بني سليم" بالقنا والدروع على الخيل، وله ولد اسمه جلهمة، روى

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 307 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 24". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 273". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 273". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 285". 5 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "ص467 وما بعدها".

عن النبي1. ويروى أن العباس بن مرداس، شهد حنينًا على فرسه العُبيد، فأعطاه النبي أربع قلائص، فقال العباس: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع؟، فقال النبي: "اقطعوا عني لسانه"، فأعطوه ثمانين أوقية فضة2. وكان فيمن اشترك مع العباس بن مرداس من قومه في فتح مكة، "أنس بن عباس بن رعل" و"راشد بن عبد ربه" وقد طلب العباس وقومه من الرسول، أن يجعل لهم لوء أحمر، وشعارًا مقدمًا, ففعل ذلك بهم3. وكان للعباس أخ اسمه "عمرو بن مرداس"، ويعد مثل أخيه في جملة المؤلفة قلوبهم كذلك4. وأعطى الرسول "هوذة بن نبيشة السلمي" من "بني عُصَيَّة" "ما حوى الجفر كله"5, وكتب للأجبّ رجل من "بني سليم" أنه أعطاه فالسًا", وكتب كتابه وشهد عليه "الأرقم"6. وأعطى الرسول "راشد بن عبد السلمي" "غَلْوتين بسهم, وغلوة بحجر برهاط" "لا يحاقه فيها أحد"7, كما أعطى "حرام بن عبد عوف" من "بني سليم" "إذامًا وما كان له من شواق"8. ومن "بني سليم" "نبيشة بن حبيب"، قاتل "ربيعة بن مكدم" الكناني, وكان فارس كنانة9. ويذكر أن الردة لما وقعت بوفاة الرسول، جاءت "بنو سليم" إلى "أبي بكر"، فطلبوا منه أن يمدهم بالسلاح لمقاتلة المرتدين، فأمر لهم بسلاح، فأقبلوا يقاتلون "أبا بكر", فبعث أبو بكر خالد بن الوليد عليهم، وجعلهم في حظائر ثم أضرم عليهم النيران10.

_ 1 ابن قتيبة، الشعر "ص467 وما بعدها"، المعارف "336". 2 الاشتقاق "188". 3 نهاية الأرب "18/ 24". 4 تاج العروس "6/ 45". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 273". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 273 وما بعدها". 7 المصدر نفسه "1/ 274". 8 المصدر المذكور. 9 الاشتقاق "189". 10 تأريخ خليفة بن خياط "1/ 68".

ومن ديار "بني سليم" معدن بني سليم، وهو منزل كثير الأهل فيه أعراب بني سليم، وماؤه من "البرك"، وهي قرى قديمة1. وقد غزا الرسول على رأس ثلاثة وعشرين شهرًا من مهاجره "قرقرة الكدر" "قراقرة الكدر"، ناحية معدن "بني سليم" بينه وبين المدينة ثمانية بُرُد، وذلك لما سمع أن بهذا الموضع جمعًا من "بني سليم" و"غطفان"، فلما لم يجد أحدًا، أخذ ما عثر عليه من جمال تعود إليهم، كانت ترعى هناك، ورجع إلى المدينة2. وغزا الرسول في السنة الثالثة من الهجرة موضعًا آخر من مواضع "بني سليم" اسمه: "بحران" من ناحية الفرع، وهي قرية من ناحية المدينة؛ لما بلغه أن بها جمعًا كثيرًا من "بني سليم"3. وكانت منازل عجز هوازن بموضع شربة4. ومن رجال "هوازن" في أيام الرسول "مالك بن عوف النصري" أحد بني نصر, وهو الذي جمع جموع هوازن وثقيف وأقبل عامدًا إلى النبي، حتى وافاه بـ"حنين" فوقعت غزوة حنين. وقد جمعت نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال، وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء وغابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب. وفي جشم "دريد بن الصمة" شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخًا كبيرًا مجربًا. وفي ثقيف سيدان لهم في الأحلاف: قارب بن الأسود بن مسعود، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه الأحمر بن الحارث في بني هلال5. وبنو سليم أيضًا قبائل, منها: بنو ذكوان، وبنو بهثة، وبنو سمال، وبنو بهز، وبنو مطرود، وبنو الشريد، وبنو قنفذ، وبنو عصية، وبنو ظفر6. وقد نجلت هذه القبائل رجالًا عرفوا في الجاهلية والإسلام، منهم: العباس بن مرداس الشاعر الشهير، ممن شهدوا معركة حنين مع الرسول، ومجاشع بن مسعود

_ 1 ابن رستة، الأعلاق "179". 2 نهاية الأرب "17/ 71 وما بعدها". 3 نهاية الأرب "17/ 79". 4 الطبري "3/ 22"، "دار المعارف"، نهاية الأرب "17/ 323 وما بعدها". 5 الطبري "3/ 70 وما بعدها". 6 الاشتقاق "187 وما يعدها".

ممن قاد الجيوش، وهو من المهاجرين، والعباس بن أنس الأصم من فرسان الجاهلية، ورجال آخرون. ولسليم شقيق في عرف النسابين اسمه "مازن", أما أبوهما فهو منصور1. و"جهينة" بطن مثل "بلي" و"بهراء" و"كلب" و"تنوخ" من بطون "قضاعة"، كانت ديارها في نجد، ثم هاجرت إلى الحجاز، فسكنت على مقربة من يثرب في المنطقة التي بين البحر الأحمر ووادي القرى، عند ظهور الإسلام. وقد دخلت في الإسلام في حياة الرسول ولم تشترك مع من اشترك في الردة بعد وفاته2. وينسب النسابون جهينة إلى صحار والد جهينة، ومن بطونها بنو حميس3. ومن ديار "جهينة" موضع "بواط"، وهو من "جبال جهينة" من ناحية "رضوى" قريب من "ذي خشب" مما يلي طريق الشام, وبين "بواط" والمدينة نحو أربعة برد، ويمر به طريق إلى بلاد الشام. ولما سمع الرسول، وهو على رأس ثلاثة عشر شهرًا من مهاجره، أن قافلة لعير قريش, فيها أمية بن خلف الجمحي ومائة من رجال قريش وألف وخمسمائة بعير, تمر من هناك، خرج في مائتين لاعتراضها، ولكنها فرت ونجت، فلم تقع في الأسر4. وكان في جملة من وفد على الرسول من جهينة: "عبد العزى بن بدر بن زيد بن معاوية الجهني" من "بني الربعة بن رشدان بن قيس بن قيس بن جهينة", ومعه أخوه لأمه "أبو روغة". وكان لهم وادٍ اسمه "غويّ". ومن "بني جهينة" "بنو دهمان" ومنهم "عمرو بن مرة الجهني"، وكان سادن صنمهم, فأسلم وكسر الصنم، وقدم المدينة, وأعلن إسلامه أمام الرسول5. وقد كتب الرسول كتابًا لبني زرعة وبني الربعة من جهينة، أمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم6. كما كتب لعَوْسَجَة بن حرملة الجهني من "ذي المروة"

_ 1 الاشتقاق "189"، الصفة "132، 154، 170". 2 Ency., I, p. 1060. 3 الاشتقاق "ص319 وما بعدها". 4 نهاية الأرب "17/ 4 وما بعدها". 5 طبقات ابن سعد "1/ 33 وما بعدها", نهاية الأرب "18/ 18 وما بعدها". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 270".

وقد "أعطاه ما بين بَلَكثة إلى المصنعة إلى الجفلات إلى الجد جبل القبلة, لا يحاقه أحد"، وشهد على صحة الكتاب وكتبه "عقبة"1. كما كتب الرسول كتابًا لقوم آخرين من جهينة، هم من "بني شنخ"، وقد "أعطاهم ما خطوا من صفينة وما حرثوا"، وكتب الكتاب وشهد عليه "العلاء بن عقبة"2. كما كتب الرسول كتابًا لبني الجرمز بن ربيعة، وهم من "جهينة"، كتبه المغيرة3, وكتب كتابًا لـ"عمرو بن معبد الجهني" و"بني الحرفة" من جهينة وبني الجرمز، أهم ما جاء فيه "وما كان من الدين مدونة لأحد من المسلمين قضى برأس المال وبطل الربا في الرهن، وأن الصدقة في الثمار العشر"4. ويظهر من ذلك أن هذا الكتاب قد دون بعد نزول الأمر بتحريم الربا. وبلي من قبائل قضاعة كذلك، وتنسب إلى بلي بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة, وتقع ديارها على مقربة من تيماء بين ديار جهينة وديار "جذام"، وهي مثل أكثر قبائل قضاعة لا نعرف من تأريخها في الجاهلية شيئًا يذكر. أما في أول ظهور الإسلام, فقد اشتركت مع القبائل النصرانية في جانب الروم ضد المسلمين5, ومنهم "مالك بن رافلة" قاتل "زيد بن حارثة" يوم "مؤتة"6. وفي سنة ثمانٍ من الهجرة أرسل الرسول "عمرو بن العاص" إلى أرض "بلي" و"عذرة", فلما بلغ موضع "السلاسل" خاف، فبعث إلى رسول الله يستمده، فأمده بجماعة من المهاجرين الأولين، فيهم "أبو عبيدة بن الجراح" و"أبو بكر" و"عمر", وقد عرفت تلك الغزوة بـ"ذات السلاسل"7. وقد دخل دين يهود فرعٌ من بلي, ينسب إلى "حشنة بن أكارمة"، وسكن

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 271". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 271". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 271". 4 ابن سعد, طبقات "1/ 271 وما بعدها". 5 الطبري "1/ 1604، 1610 وما بعدها"، ابن هشام "792", الاشتقاق "322", Ency., I, p. 618, Caussin de perceval, Essai., III, 212, Blau, in ZDMG., XXII, 664, xxIII, 573. 6 الاشتقاق "ص322". 7 الطبري "3/ 32".

على مقربة من تيماء مع يهود، وظل في هذا الدين وفي هذه الديار إلى أن أمر "عمر" بإجلائهم عنها في الإسلام1. وقد وفد نفر من "بلي" على الرسول، وكان "شيخ الوفد" "أبو الضباب" "أبو الضبيب", فأسلم وأسلم من كان معه، ثم عادوا إلى ديارهم2. وتقع إلى الجنوب من ديار "بلي" ديار "مزينة"، وهي في الشرق من منازل "جهينة" وإلى الغرب من ديار "سعد" وإلى الشمال من بلاد "خزاعة", ويرجع نسب "مزينة" إلى "مضر". وقد وفد قوم منهم إلى الرسول فيهم "خزاعي بن عبد نهم", فبايع الرسول على قومه مزينة، وقدم معه جماعة من أعيان مزينة منهم: "بلال بن الحارث" و"النعمان بن مقرن" و"عبيد الله بن درة"، و"بشر بن المحتقر". و"خزاعي" هو الذي حمل لواء مزينة يوم الفتح، وكانوا يومئذ ألف رجل، وهو أخو المغفل أبي عبد الله بن المغفل, وأخو عبد الله ذي البجادين3. وأما وادي القرى، فهو وادٍ كثُرت قراه؛ لذلك قيل له وادي القرى, وأهله عرب ويهود. وهو من المواضع المعروفة بالخصب في جزيرة العرب، وبه عيون وآبار؛ لذلك اشتهر بالعمار منذ أيام ما قبل الميلاد، فنزلت به قبائل عديدة، منها قوم ثمود. وقد جلب خصب هذا الوادي أنظار من نزح إليه من اليهود، فحفروا فيه الآبار وأساحوا العيون, وزرعوا فيه النخيل والحبوب, وعقدوا بينهم حلفا وعقدا, ودفعوا عنه قبائل بلي بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة، وغيرهم من القبائل4, وعقدوا لهم أحلافًا مع القبائل القوية؛ لتحميهم ولتدافع عنهم، مقابل جعل سنوي. وقد غزا الرسول بعد فراغه من خيبر هذا الوادي، فقاتله أهله، ففتحه

_ 1 Ency., I, p. 618. 2 ابن سعد، طبقات "1/ 330"، نهاية الأرب "18/ 90". 3 طبقات ابن سعد "1/ 291 وما بعدها"، "دار صادر", نهاية الأرب "18/ 19 وما بعدها". 4 البكري، معجم "11/ 45 وما بعدها".

عنوة، وترك الرسول النخل والأرض في أيدي اليهود، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر1. وكانت "فدك" حكومة مستقلة كسائر الواحات والقرى في أعالي الحجاز، وأهلها من اليهود، وعليهم في أيام الرسول "يوشع بن نون اليهودي"، وإليه بُعث "مُحيصة بن مسعود" لدعوته ولدعوة قومه إلى الإسلام2, وبها قوم من "بني مرة"3, وقوم من "بني سعد بن بكر"4. وكان أهل خيبر من يهود كذلك، يتحكم فيهم رؤساء منهم، ولهم حصون وآطام تحمي أموالهم ومساكنهم، فُتحت في أيام الرسول بسبب معاداة أهلها للإسلام واتفاقهم مع المشركين, وكان يظاهرهم "غطفان". ومن حصونهم "حصن ناعم" و"حصن القموص", حصن "أبي الحقيق"، و"الوطيح" و"السلالم"، وكان آخر حصون خيبر، و"الشق" و"النطاة"5. وكاتب الرسول "بني غاديا"، وهم قوم من يهود, وكتب كتاب رسول الله إليهم: "خالد بن سعيد"6. وكتب "خالد" كتابًا آخر إلى "بني عريض" وهم أيضًا قوم من يهود، حدد لهم الرسول ما فرضه عليهم، يؤدونه لحينه في كل عام7. وكان يهود "بني قينقاع" قد تحالفوا مع الأوس والخزرج، تحالفوا مع "عبد الله بن أبي سلول"، كما تحالفوا مع "عبادة بن الصامت", وكانوا صاغة، ولهم سوق عرف بـ"سوق بني قينقاع"، وكانوا أشجع يهود. فلما كانت وقعة "بدر" أظهروا ميلًا إلى قريش، فحاصرهم الرسول، ثم غلبهم فأجلاهم عن ديارهم ولحقوا بأذرعات8.

_ 1 البلدان "8/ 275" "وادي القرى"، "5/ 343" "بيروت 1957"، تأريخ الخميس "2/ 58"، البلاذري، فتوح "47". 2 ابن الأثير "2/ 93"، البلدان "6/ 343 وما بعدها". 3 الطبري "3/ 32", "ذكر مقاسم خيبر وأموالها"، نهاية الأرب "17/ 272". 4 نهاية الأرب "17/ 209". 5 الطبري "3/ 9 وما بعدها". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 279". 7 المصدر نفسه. 8 نهاية الأرب "67/ 67"، "ذكر غزوة بني قينقاع".

ومن منازل "بني لحيان" موضع "غُرَّان"، وادٍ بين أمج وعُسفان إلى بلد يقال له "ساية". وهو موضع مرتفع غزاه الرسول غزوته التي عرفت بـ"غزوة بني لحيان" في سنة ست للهجرة1, وكان بنو لحيان ومن لافهم من غيرهم قد استجمعوا، فلما بلغهم إقبال الرسول إليهم هربوا، فلم يلقَ كيدًا2, واعتصموا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد, ولم تستطع السرايا أن تقبض على أحد منهم، فرجع الرسول3. وأقام "القُرطاء"، وهم "بنو قرط"، "قريط" من "بني كلاب"، بناحية "ضرية"، فبعث رسول الله إليهم "محمد بن مسلمة"، فاستاق إبلًا وغنمًا منهم، وهرب القرطاء4. وقد أرسل الرسول "أبا بكر" لغزو "بني كلاب" بنجد، وذلك سنة سبع للهجرة, وذكر أنه غزا "بني فزارة"5. وأرسل إليهم سنة تسع "الضحاك بن سفيان الكلابي"، ومعه "الأصيد بن سلمة بن قرط"، فلقيهم بـ"الزج" موضع بنجد، وتغلب على "القرط"6. ولما غزا الرسول غزوة "الأبواء"، وهي غزوة "ودَّان"، وكانت أول غزوة غزاها الرسول، وادعه "مخشي بن عمرو الضميري"، وكان سيد "بني ضمير" "بني الضمير" في ذلك الوقت. والأبواء قرية من أعمال "الفرع" من المدينة، بينها وبين "الجحفا" مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلًا7. وتقع ديار "بني مدلج" بناحية "ينبع"، ومن أرضهم "ذو العشيرة" وهو لبني مدلج. وقد غزاهم الرسول غزوته المعروفة بـ"ذي العشيرة" على رأس ستة عشر شهرًا من مُهاجَره، فوادعهم ووادع حلفاءهم من "بني سمرة"8.

_ 1 الطبري "2/ 595". 2 البلاذري، أنساب "1/ 348". 3 نهاية الأرب "17/ 200 وما بعدها". 4 نهاية الأرب "17/ 200". 5 نهاية الأرب "17/ 271". 6 نهاية الأرب "17/ 350 وما بعدها". 7 نهاية الأرب "17/ 4". 8 نهاية الأرب "17/ 6".

ويظهر أن هذا الموضع إنما سمي بـ"ذي العشيرة"، نسبةً إلى الصنم "ذي العشيرة"، كان له معبد في هذا المكان، فعرف به. ومن القبائل التي أقامت على مقربة من مكة "خزاعة"، ومن رجالهم عند ظهور الإسلام "عمرو بن الحمق" الكاهن، صحب النبي وشهد المشاهد مع "علي" وقتله "معاوية" بالجزيرة, وكان رأسه أول رأس نصبت في الإسلام1, و"عمرو بن سالم الخزاعي"، الذي جاء إلى الرسول يشكو تظاهر "بني بكر بن عبد مناة بن كنانة" وقريش على خزاعة، ونكث قريش عهدهم الذي قطعوه للرسول ألا يظاهروا أحدًا على خزاعة، فكان ذلك من عوامل فتح مكة2. ومن رجال خزاعة "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"، شريف كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة3. ومن بطون خزاعة "بنو المصطلق"، وعرفوا بـ"بلمصطلق" أيضًا، وقد كانوا ينزلون بـ"المريسيع"، وهو ماء لهم، من ناحية "قُديد" إلى الساحل. وقد كان قائدهم وسيدهم "الحارثُ بن أبي ضرار"، أبو "جويرية" التي تزوجها النبي بعد أن خرج إليهم في غزوة "بني المصطلق" من سنة ست، وهم من "خزاعة"4. وكان "الحارث" قد سار في قومه ومن قدر عليه من العرب, ودعاهم إلى حرب الرسول. فلما وصل الرسول إلى "المريسيع"، تفرق من كان مع الحارث من العرب، وتغلب الرسول على "بني المصطلق" وأخذ منهم أسرى وغنائم، وكانت "جويرية" في جملة من وقع في الأسر فتزوجها الرسول. ومن بطون خزاعة "بنو الملوّح"، وكانوا بـ"الكديد"5. وكان في جمله من يقيم بتهامة "بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة"، ومن مياههم "الغميصاء"6. ولما توفي الرسول تجمعت بتهامة جموع من مدلج،

_ 1 الاشتقاق "279". 2 الطبري "3/ 42"، الاشتقاق "280"، البلاذري، أنساب "1/ 353". 3 الاشتقاق "280". 4 الطبري "2/ 604"، "دار المعارف"، إرشاد الساري "6/ 336". 5 الطبري "3/ 27 وما بعدها"، الاشتقاق "280 وما بعدها". 6 الطبري "3/ 66 وما بعدها".

تأشب إليهم شذاذ من خزاعة وأفناء من كنانة، عليهم جندب بن سلمى، أحد "بني شنوق"، من بني مدلج، فحاربهم "خالد بن أسيد"، وشتت شملهم, وأفلت جندب، ثم ندم على ما صنع1. وكتب الرسول لقوم من "أهل تهامة": بديل وبسر وسروات بني عمرو, ذكر فيه أنه لم يأثم مالهم، ولم يضع في جنبهم، ثم قال لهم: "وإن أكرم أهل تهامة علي وأقربهم رحمًا مني أنتم, ومن تبعكم من المطيبين". ثم أخبرهم أن "علقمة بن علاثة" قد أسلم, وأسلم "ابنا هوذة وهاجرا وبايعا على من تبعهم من عكرمة"2. وينقل "ابن سعد" صورة كتاب كتبه "أبي بن كعب" وجهه "لجماع كانوا في جبل تهامة, قد غصبوا المارة من كنانة ومزينة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد"، فلما ظهر رسول الله، وقوي أمره، وفد منهم وفد على النبي, فكتب لهم كتابًا جاء فيه: "هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء. إنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فعبدهم حر ومولاهم محمد, ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها, وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه فهو لهم, وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان"3. ويظهر من مضمون هذا الكتاب, ومن بيان أهل الأخبار عن الذين كانوا قد اعتصموا في جبل تهامة، أنهم كانوا من الخارجين على الأعراف، ومن الرقيق الآبق، تجمعوا في هذا المكان المرتفع وتحصنوا وأخذوا يغتصبون منه المارة. وبقوا على ذلك حتى ظهر الإسلام على أعدائه، فوجدوا إذ ذاك أنهم لن يتمكنوا بعد ظهور الرسول من الاستمرار في التحرش بالمارة والتحرز بهذا الجبل، وأن ظروفًا جديدة فد ظهرت، ستؤمن لهم سبل العيش، وأن الرسول سيعفو عنهم

_ 1 الطبري "3/ 67 وما بعدها". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 272". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 278".

ويغفر لهم ما وقع منهم قبل الإسلام، فجاءوا إليه وأسلموا عنده, وكتب لهم كتاب أمان بذلك. ومنازل "كنانة" بتهامة، وهم فيها قبل الإسلام بأمد طويل. و"علقمة بن علاثة" هو "علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب"1. وهو الذي نافر "عامر بن الطفيل" عند "هرم بن قطبة بن سنان"2. وأما "ابنا هوذة" فهما: العداء وعمرو ابنا خالد بن هوذة, من بني عمرو بن ربيعة بن عامر بن صعصعة3. وأما "عكرمة"، فعكرمة بن خصفة بن قيس عيلان, وذكر أن مراد الرسول بـ" ومن تبعكم من المطيبين"، "بنو هاشم"، وبنو زهرة، وبنو الحارث بن فهر، وتيم بن مرة، وأسد بن عبد العزى4. وكتب الرسول إلى "العداء بن خالد بن هوذة"، ومن تبعه من "عامر بن عكرمة"، أنه "أعطاهم ما بين المصباعة إلى الزح ولوابة", يعني لوابة الحرار. وكتب لهم الكتاب: خالد بن سعيد5. ومن منازل "هذيل" "الرجيع"، وهو ماء لهم6. ويقع إلى الشرق من "هذيل" ديار "ضبة" وديار "عبد مناة"، أما في جنوبها فتقع ديار "خثعم" وثقيف، وتمتد ديارها في الشمال حتى تتصل بديار "بني سليم"، ومن "هذيل" "سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي"، وكان قد جمع جمعًا ليغزو به الرسول، وكان قد نزل "نخلة" أو "عرنة"، موضعًا بقرب عرفة، أو قرية بوادي عرفة، فأرسل رسول الله إليه "عبد الله بن أنيس"

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 272". 2 المحبر "135". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 273". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 273". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 273". 6 البلاذري، أنساب "1/ 375".

فقتله1. ومن القبائل المجاورة لهذيل: "فهم" و"عدوان", وكانت ديارهم بالسراة2. وممن كتب إليهم الرسول، ودون "ابن سعد" صور كتبه إليهم: "سعيد بن سفيان الرعلي", وقد أعطاه الرسول "نخل السوارقية وقصرها، لا يحاقه فيها أحد", وكتب الكتاب وشهد عليه "خالد بن سعيد"3, و"عتبة بن فرقد", وقد أعطاه الرسول موضع دار بمكة، يبنيها مما يلي المروة4. على هذا النحو كان الوضع السياسي في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام وفي أوائل أيامه: قوى مستقلة تخشى القبائل المحيطة بها, وأذواء وأقيال في اليمن وحضرموت ورؤساء قبائل يتحكمون في مناطق نفوذ قبائلهم، ويعيشون على ما يأخذونه من أتباعهم من حق الرئيس على المرءوس في السلم وفي الحرب، وهم فيما بينهم في خصام وتنافس، لم تتركهم الخصومة من الانصراف إلى شئون رعيتهم، وهم أنفسهم لم يفكروا في الانصراف إلى ذلك. فتدهورت الأحوال، وظهر أفراد ينادون بإصلاح السال، وبالتفكير في تحسين الأوضاع وبالتعقل, وكان الصراع بين الفرس والروم, قد جسَّر الأعراب على الدولتين, وأخذت النصرانية ترسل المبشرين إلى العرب، لنشر النصرانية بينهم. وتغلب القلم المتصل الحروف، الذي صار قلم العرب والإسلام على القلم المنفصل الحروف, قلم العرب القديم، القلم المسند, وانتشر في مكة ويثرب. ونادى الأحناف بنبذ الوثنية والأوثان, ونزل الوحي على الرسول في أول العشر الثاني من القرن السابع للميلاد. وظهر الإسلام داعيًا العرب وغيرهم إلى الإيمان بإله واحد خالق لهذا الكون, وبرسالة رسوله وبما جاء به من أوامر وأحكام. فكان ظهوره نهاية للجاهلية، وبداية لعهد جديد، عهد الإسلام. وبظهور الإسلام على أعدائه في جزيرة العرب، وبقضائه على أهل الردة، أوجد لجزيرة العرب وجهًا جديدًا من وجوه الحياة، لم تشهده في حياتها ولم

_ 1 نهاية الأرب "17/ 128 وما بعدها". 2 البكري, معجم "1/ 88". 3 ابن سعد, طبقات "1/ 285". 4 ابن سعد, طبقات "1/ 285".

تعرفه. وقد أوجد الإسلام موارد غنية من موارد الرزق، وبسط لهم الأرض من الصين إلى المحيط "الأطلنطي", وأخرج سكانها من ديارهم الفقيرة وأنزلهم في ديار غنية كثيرة السكان. وعرفوا بذلك نظمًا لم تكن مألوفة عندهم، وأممًا لم يسمع أكثرهم بها، وخرج المؤمنون الأولون والمؤلفة قلوبهم ومن دخل الإسلام وقلبه غير مطمئن به، إلى خارج جزيرة العرب يحكمون باسم الإسلام, حدث كل ذلك في مدة لا تعد طويلة بالنسبة إلى ما وقع فيها من أحداث. فالإسلام، إذن نهاية حياة قديمة، وبداية حياة جديدة، وتختلف عن الحياة الأولى كل الاختلاف.

الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي

الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي مدخل ... الفصل الخامس والأربعون: المجتمع العربي المجتمع العربي: بدو وحضر, أهل وبر وأهل مدر، يتساوى في هذه الحال عرب الشمال وعرب الجنوب وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب الأخرى. وقسم بعضهم عرب الجاهلية إلى ملوك وغير ملوك، وقسموا سائر الناس بعد الملوك إلى طبقتين: أهل مدر وأهل وبر. فأما أهل المدر فهم الحواضر وسكان القرى، وكانوا يعيشون من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض للتجارة. وأما أهل الوبر فهم قطان الصحاري, يعيشون من ألبان الإبل ولحومها، منتجعين منابت الكلأ، مرتادين لمواقع القطر، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب وأمكنهم الرعي، ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه، فلا يزالون في حل وترحال1. ويعرف الحضر، وهم العرب المستقرون بـ"أهل المدر"، عرفوا بذلك لأن أبنية الحضر إنما هي بالمدر, والمدر: قطع الطين اليابس. قال "عامر للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لنا الوبر, ولكم المدر"، فعنى به المدن أو الحضر2, ومن هنا قيل للحضر: بنو مدراء3. وورد في حديث "الجسَّاسة والدجال":

_ 1 ابن العبري، مختصر الدول "158 وما بعدها". 2 اللسان "5/ 162"، "مدر". 3 اللسان "5/ 162"، "مدر".

"تبعه أهل الحجر وأهل المدر، يريد أهل البوادي الذين يسكنون مواضع الأحجار والرمال، وأهل المدر، أهل البادية"1. ويظهر من روايات أخرى أن "أهل المدر" هم أهل البادية، ولكن أكثرها أن "أهل المدر" هم الحضر؛ لأن اتخاذ بيوت المدر لا يكون في البادية، بل في الحضر. وورد أن أهل البادية إنما قيل لهم "أهل الوبر"؛ لأن لهم أخبية الوبر, تمييزًا لهم عن أهل الحضر الذين لهم مبانٍ من المدر، ومن هنا قيل للقرية "المدرة"؛ لأنها مبنية بالطين واللبن، وذكر أن "المدرة" القرية والمدينة الضخمة أيضًا؛ لأن المدن تبنى بالمدر أيضًا, ومن هنا قيل للحضر عمومًا: بنو مدراء2. ويذكر علماء اللغة أن الحضر والحاضرة والحضارة خلاف البادية والبداوة والبدو. والحضارة الإقامة في الحضر, والحاضر والحضر هي المدن والقرى والريف، سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار3. وقد عرفوا بأهل القارية، وذلك في مقابل أهل البادية، لأهل البدو4. و"أهل القرار" هم الحضر؛ لأنهم اختاروا القرار وأحبوا الاستقرار والإقامة في مكان واحد, ولأن الطبيعة حبتهم بكل شيء يغري على الارتباط بالأرض, ولو ولد الأعرابي بين الحضر وتوفر لديه ما يؤمن له رزقه الدائم في مكانه الذي ولد فيه، لما تنقل وارتحل، ولصار حضريا من دون شك مثل سائر أهل الحضر. ولكن الطبيعة حرمته من نعم الاستقرار، فصار بدويًّا يتتبع العشب والماء, فالطبيعة هي المسئولة عن البداوة وعن انتشارها في جزيرة العرب. ومن هنا قيل للحضري الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار "القراري", ولما كان أكثر "أهل القرار" هم من الصناع، قيل لكل صانع: "قراري".

_ 1 اللسان "4/ 166"، "حجر". 2 تاج العروس "3/ 535"، "مدر". 3 تاج العروس "3/ 146"، "حضر". 4 اللسان "15/ 178"، "قرا".

وذكر بعض علماء اللغة أن "القراري": الخياط, واستشهدوا على ذلك ببيت شعر للأعشى، هو: يشق الأمور ويجتابها ... كشق القراري ثوب الردن وذكر بعض آخر أنه القصَّاب. وقد تجوَّز الناس فيما بعد، فقالوا: خياط قراري، ونجَّار قراري1. ويقال لساكن القرية القاري، كما يقال لساكن البادية البادي. والقارية سَكَنَة القرى أي خلاف البادية والأعراب, والقرية كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارًا, وتقع على المدن وغيرها2, وسكانها من الحضر. ويذكر علماء اللغة أن المدينة من مَدَنَ، بمعني: أقام بمكان, ويراد بها الحصن يبنى في أصطمة الأرض3، وتقابلها لقظة "مدينتو" في الأرمية4. و"هكرن" "هكر" "هجر" في العربية الجنوبية. وأما "البلدة"، فذكر علماء اللغة أنها كل موضع أو قطعة من الأرض مستحبزة عامرة أو عامرة، خالية أو مسكونة5. فالبلدة، إذن من مواطن الحضر أيضًا. وقد كان من الصعب التمييز عند الشعوب القديمة بين القرى والبلدان والمدن، وكل بلدة أو مدينة كانت قرية في الأصل، أي: مستوطنة صغيرة غير محصنة، وعندما ازداد عدد سكانها، وكثر عمرانها ومالها لأسباب عديدة، توسعت وحصن أهلها أنفسهم بحصون وبأطم أو بسور وخندق يحيط به لمنع العدو من الدنو منها6. وبهذه التحصينات وبكثرة عدد السكان تميزت هذه المستوطنات السكنية بعضها عن بعض، ولهذا كانت الشعوب القديمة لا تطلق لفظة "مدينة" إلا على القرى المحصنة المسورة، وفي ضمن هذه الشعوب العرب. وتطلق لفظة "عرب" على أهل المدر خاصة، أي: على الحضر، و"الحاضر"

_ 1 تاج العروس "3/ 490"، "قرر". 2 تاج العروس "10/ 290"، "قرى". 3 تاج العروس "9/ 342"، "مدن". 4 غرائب اللغة "205". 5 تاج العروس "2/ 305"، "بلد". 6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 321"، "مدينة", Hastings, p. 143, 944, 958.

و"الحاضرة" من العرب، أما أهل البادية فعرفوا، بـ"أعراب"، مع أن كلمة "العرب" قد أطلقت في لغتنا لتشمل العربين: عرب الحاضرة وعرب البادية1. ويظهر أن هذا الإطلاق إنما وضع قبيل الإسلام، فقد سبق لي أن بينت في الجزء الأول من هذا الكتاب تأريخ كلمة "عرب"، وبينت كيف تطورت اللفظة إلى ظهور الإسلام، وقد رأينا أنها كانت تعني أهل البادية، أي: الأعراب في الأصل. أما الحضر فعرفوا بأسماء أماكنهم أو قبائلهم، وآية ذلك أن التوراة والكتابات الآشورية والبابلية بل والجاهلية، أي الكتابات العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، كانت كلها إذا ذكرت الحضر، ذكرتهم بأسمائهم ولم تطلق عليهم لفظة "عرب"، أما إذا ذكرت أهل البادية، فإنها تستعمل لفظة "عرب" و"عربي"، أي أعراب وأعرابي مع أسمائهم، وذلك مثل "جندب"، وهو رئيس قبيلة، وقد حارب الآشوريين، فقد دعي في الكتابات الآشورية بـ"جندب العربي"، أو "جندب الأعرابي" بتعبير أصح، ومثل "جشم" الذي نعت في سفر "نحميا" من أسفار التوراة بـ"جشم العربي" إشارة إلى كونه من الأعراب، لا من الحضر، وهو من الملوك كما سبق أن تحدثت عنه في الجزء الأول من هذا الكتاب2, إلى غير ذلك من أمثلة تحدثت عنها في أثناء حديثي عن لفظة عرب. أما "يقطن" وهو "قحطان", ونسله مثل: سبأ وحضرموت. وأما "إسماعيل" ونسله، وأما أهل "تيماء" و"مدين" وأمثالهم فلم تطلق التوراة عليهم لفظة "عرب"؛ لأنهم لم يكونوا أعرابًا، بل كانوا حضرًا؛ ولهذا ذكرتهم بأسمائهم، فاستعمال "عرب" إذن بمعنى أهل الحاضر والحاضرة، أو أهل المدر، هو استعمال متأخر، ظهر بعد الميلاد. لقد ذهب علماء العربية كما سبق أن بينت في الجزء الأول من هذا الكتاب، إلى أن العربية هي لغة "يعرب"، وهو أول من أعرب بلسانه على حد قولهم، وذهبوا إلى أن العدنانيين متعربون، ولم يكونوا عربًا في الأصل، ثم تعلموا

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 12". 2 "ص646 وما بعدها".

واختلطوا بالعرب، حتى صاروا طبقة خاصة منهم1. وذهبوا إلى أن التبابعة كانوا عربًا ينظمون الشعر بالعربية التي نظم بها الشعراء الجاهليون شعرهم, ثم ذهبوا إلى أن "حمير" كانت تتكلم بلسان غريب عده بعض العلماء غير عربي2, مع أنها من لب العرب الصرحاء على حسب رأيهم، ولم يبينوا كيف وقع ذلك عندهم، إلى آخر ما نراه عندهم من آراء، لم تبن على دراسات تأريخية أصلية ونصوص جاهلية. ولو كان المذكورون أحياء في هذا اليوم، ولو كانوا قد وقفوا على النصوص الجاهلية المختلفة وقرءوها لغيروا رأيهم حتمًا من غير ريب، ولقالوا قولًا آخر غير قولهم المتقدم في العربية وفي سبب تسميتها. فعربية القرآن الكريم هي عربية أهل مكة وما والاها، وهي عربية الأعراب، أي: عربية أهل البادية، أما عربية أهل اليمن، وهم صلب القحطانية، فعربية أخرى، وإن أردت قولًا أصح تعبيرًا وأدق تحديدًا، فقل: عربيات أخرى، فعربية يعرب إن تجوزت وجاريت رأي أهل الأنساب والأخبار وقلت قولهم في وجود جد وهو يعرب، يجب أن تكون عربية أخرى، بل عربيات مخالفة لعربية أهل مكة، وذلك استنادًا إلى النصوص الجاهلية المدونة بأقلام أبنائه وحفدته والواصلة إلينا. ولما كانت اللغة العربية، هي عربية القرآن الكريم في رأي علماء اللغة، وهي عندهم وحدها اللغة الفصحى، وأشرف لغات العرب، إذن فلغة يعرب على هذا القياس لغة أعجمية غير عربية, أو عربية من الدرجات الدنيا إن أردنا التساهل في القول. وعندئذ يكون يعرب هو العربي المتعرب، ويكون نسله على وفق هذا المنطق، هم العرب المستعربة، لا العرب العدنانيين. ويكون العدنانيون هم أصل العرب ولبّها والعرب العاربة الأولى، أي عكس ما يراه ويزعمه أهل الأخبار. أحكي هذا القول بالطبع متجوزًا أو مجاريًا رأي أهل الأخبار ولا أحكيه لأني أراه، فأنا لست من المؤمنين بمثل هذه الأقاصيص التي يقصها علينا القصاص، ولا سيما قصاص أهل اليمن من أمثال وهب بن منبه وابن أخته، أو ابن الكلبي، وبعض القصاص الذين هم من أصل يهودي

_ 1 تاج العروس "1/ 371"، "عرب". 2 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام "1/ 15 وما بعدها".

مثل وهب المذكور ومحمد بن كعب القرظي، فرأيي أن كل لغات العرب الجاهلية هي لغات عربية، وأنها كانت متباينة عديدة، وبعضها لغات وصلت مرحلة التدوين مثل المعينية والسبئية والقتبانية والحضرمية وغيرها، ولغات تصل إلى درجة التدوين عند المتكلمين بها، لا يمكن أن تعد لغات سوقة ولهجات عامة. وبعد, فلست أرى أن بين "يعرب" المزعوم، وبين لفظة "العربية" والعرب أية رابطة أو صلة، وأن الصلة المزعومة المذكورة التي يذكرها أهل الأخبار في تفسير اللفظة، هي صلة خلقت خلقًا وصنعت صنعًا؛ لكي يجد صانعوها لهم مخرجًا في تفسيرها، وليس تفسيرهم هذا هو أول تفسير أوجدوه، فلدينا مئات من التفاسير المصنوعة، لألفاظ أشكل أمرها على الرواة وأهل الأخبار، فوضعوا لها تفسيرات على هذا النمط، ليظهروا أنفسهم مظهر العالمين بكل شيء. هذا وقد قلنا: إن العربية هي بمعنى الأعرابية، أي: البداوة في لغة الأعاجم وفي لغات أهل جزيرة العرب أنفسهم، وهي نسبة إلى العرب، والعرب هم الأعراب في البدو في لغات المذكورين. فتكون العربية إذن بمعنى عربية الأعراب, أي: لغة أهل الوبر، وقد نسبت إليها، لا إلى يعرب بن قحطان. وهي بالطبع لم تكن لهجة واحدة، أي عربية واحدة، بل كانت لهجات, قيل لها عربية؛ لأن الأعراب وإن كانوا قبائل، تجمع بينهم رابطة واحدة هي رابطة البداوة, فكأنهم طبقة واحدة، تقابلهم طبقة "أهل المدر" وهم الحضر؛ لذلك نعت لسانهم بلسان عربي. ولما كانت البداوة أعم من الحضارة في بادية الشام وفي طرفي الهلال الخصيب ونجد والحجاز والعربية الشرقية، صار لسانها اللسان الغالب في هذه الأرضين، وبلسانها نظم الشعراء شعرهم، وبلسان عرب الحجاز نزل القرآن الكريم، فصار لسانهم لسان الوحي والإسلام. ومن ثَمَّ صار اعتماد أوائل علماء العربية في دراستهم لقواعد اللغة من نحو وصرف ومن استشهاد بشواهد على "العرب"، أي أهل الوبر من أبناء البادية، من الأعراب المعروفين بصدق لسانهم وبصحة أعرابيتهم وبعدم تأثر ألسنتهم بألسنة الحضر من أهل الحواضر, بل لم يكتف أولئك العلماء بألسنة هؤلاء الأعراب القادمين عليهم من البوادي، لأسباب لا مجال لذكرها هنا، فركبوا إبلهم وذهبوا بأنفسهم إلى صميم البوادي البعيدة عن الحضر؛ ليأخذوا اللغة صافية نقية من أفواه رجالها الأصلاء الذين لم يتعلموا خدع أهل الحاضرة وغشهم وكذبهم، ولم تنحرف

ألسنتهم عن ألسنة أجدادهم، ولم تتأثر بأحرف الأعاجم المندسِّين في القرى والمدن والأرياف. فكان "سيبويه" مثلًا إذا استشهد بشاهد أشار إلى أنه من "العرب الذين ترضى عربيتهم" أو من "العرب الموثوق بعربيتهم"1, أو من "العرب الموثوق بهم"، أو من "فصحاء العرب". وكان يرى أن لسان أهل الحجاز هو "الأول والأقدم"2, وكان علماء اللغة إذا اختلفوا في شيء من اللغة من ألفاظ أو قواعد، حكَّموا أهل البادية، أي: الأعراب, فيما شجر بينهم من خلاف، حتى وإن كان أولئك العلماء من أوثق الناس علمًا بعلم العربية، فحكموا الأعراب مثلًا في المناظرة اللغوية التي وقعت بين سيبويه والكسائي والأخفش في حضرة "يحيى بن خالد" مع أنهم أعلم الناس بعلوم العربية3. وقد أورد "ابن النديم" أسماء عدد من "الأعراب" كان علماء العربية يلجئون إليهم في الملمات، ويأخذون عنهم، ويحكمونهم فيما يقع بينهم من خلاف، فهم "حكام" ذلك الزمن وقضاته، يحكمون في منازعات الناس في اللغة4. والحد الفاصل بين الحضارة والبداوة، هو طراز الحياة ونوعها؛ فالحضر أهل قرار، والأعراب ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث, يرعون الكلأ والعشب إذا أعشبت البلاد، ويشربون "الكرع" وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع إلى أن يهيج العشب من عام قابل وتنش الغدران، فيرجعون إلى محاضرهم على إعداد المياه5, وحياتهم على الإبل فلا يعتنون بتربية ماشية غيرها. ومن هنا اقترنت البداوة بالبادية وبتربية الإبل, التي تنفرد عن غيرها من الحيوانات بقابليتها على المعيشة في البادية, وبقوة صبرها على تحمل الجوع والعطش أيامًا, بينما تقصر همم الحيوانات الأخرى عن مجاراتها في هذا الباب. ومن هنا نقصد بالأعراب البدو الحقيقيين أبناء البادية, وأصحاب الجمال الذين ينتجعون ويتتبعون مساقط الغيث ويشربون الكرع ويكون تماسهم بالحضارة والحضر قليلًا6.

_ 1 الكتاب "1/ 93، 153، 451"، "2/ 264، 423، 451". 2 الكتاب "2/ 41، 424"، يوهان فك، العربية: دراسات في اللغة واللهجات والأساليب, "ص50 وما بعدها", "تعريب عبد الحليم النجار". 3 الفهرست "82 وما بعدها". 4 الفهرست "ص71 وما بعدها". 5 تاج العروس "5/ 519"، "نجع". 6 De Vaux, Ancient IsraeI, P. 3.

وما أقوله يخص أعراب نجد وبادية الشام بالدرجة الأولى. أما أعراب العربية الجنوبية، فإن وضعهم يختلف عن وضع هؤلاء الأعراب، فهم وإن عدوا أعرابًا ونُص عليهم بـ"أعرب" "أعراب" في نصوص المسند، لكنهم لم يكونوا أعرابًا نقلًا، يعيشون على تربية الإبل والغارات وعلى بعض الزراعة وكره الاشتغال بالحرف، بل كانوا شبه مستقرين سكنوا خارج المدن والقرى في مستوطنات متجمعة مؤلفة من بيوت وأكواخ وعشش من طين، ومارسوا تربية الإبل والماشية الأخرى, واشتغلوا بالزراعة وبالحرف اليدوية لم يجدوا في ذلك بأسًا, وكانوا يغيرون على الحضر إن وجدوا فرصة مواتية ولم يكونوا أقوياء بالنسبة إلى الحضر، لوجود حكومات منظمة في استطاعتها ضربهم إن تحرشوا بأهل المدن والقرى، ولهذا لا نجد للأعراب ذكرًا في نصوص المسند القديمة ولم يظهر اسمهم فيها كقوة ضاربة إلا بعد الميلاد وقبيل الإسلام، حين ارتبك الوضع السياسي في العربية الجنوبية، وتدخل الحبش في شئونها، وولع بعض ملوكها مثل الملك "شمر يهرعش" في إثارة الحروب، مما أفسح المجال للأعراب فجربوا حظهم بالدخول في لعب الحروب. فلما وجدوا لهم حظا حسنا وربحا طيبا, مارسوها مع هذا الحاكم أو ذاك, وظهر اسمهم عندئذ في المسند, بل دخل في اللقب الرسمي الذي حمله الملوك, فصار اللقب: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في الهضاب وفي التهائم", وطمع أعراب نجد في الحصول على مغانم في العربية الجنوبية فارتحلوا نحوها، وزاد بذلك عدد الأعراب. ومن هؤلاء كندة الذين تركوا ديارهم بنجد بعد نكبتهم وانضموا إلى إخوانهم في العربية الجنوبية, فصار لهم فيها شأن كبير, حتى ذُكروا في النصوص، ومنها نصوص أبرهة. ومعاش الحضر على الأرض, يزرعونها ويعيشون عليها، أو على التجارة أو على الحرف اليدوية ونحوها، ومن طبيعة أهل الحضر الاستقرار في أرض تكون وطنًا ثابتًا لهم، ومقامًا يقيمون فيه فيحبونه ويموتون في سبيله. أما أهل الوبر، فهم رحل، يتنقلون طلبًا للماء والكلأ والامتيار، فموطنهم متنقل قلق غير مستقر, الأرض كلها وطنهم، ولكنها الأرض التي يكونون فيها, فإذا ما ارتحلوا عنها، صارت الأرض الجديدة وطنًا لهم جديدًا. أما الأرض القديمة فتكون وطنًا لمن يحل فيها من طارئ جديد أو طارئ قديم. والمشهور عند العرب وعند الأعاجم، أن العرب قوم يكرهون الزراعة والاشتغال

بالحرف والصناعات، ويستخفون بشأن من يشتغل بها ويزدرونه، فلا يتزوجون منه ولا يزوجونه منهم، وينطبق هذا القول على الأعراب وعلى بعض الحضر إلى حد ما، لكنه لم ينطبق على كل العرب. فالعرب الحضر، الذين وُجد الماء بغزارة عندهم، غرسوا الأشجار أيضًا وزرعوا، ولم يجدوا في ذلك خسة ولا دناءة. والعرب الذين توفرت لهم مواد العمل وظروف العمل، اشتغلوا بالحرف وبالصناعات، كما هو شأن الطائف والعربية الجنوبية بل وبعض رجال مكة أيضًا, أما الذين ازدروها وكرهوها فهم الذين لم تتوفر لهم الأسباب التي تغريهم على الاشتغال بالحرف والصناعات، ولم تتوفر لديهم المواد الأولية ولا الظروف المساعدة على قيام الحرف؛ لذلك كرهوها كره من يكره شيئًا لأنه لا يملكه ولا يناله، أو لأن يده لا تصل إليه، ولو ملكه لغيَّر حكمه عليه من غير شك. وقد أشار "أمية بن خلف الهذلي" إلى اشتغال أهل اليمن بالحرف، بقوله: يمانيًّا يظل يشد كيرًا ... وينفخ دائبًا لهب الشواظ1 وقد أمدَّ أهل اليمن الحجاز وأماكن أخرى من جزيرة العرب بالسيوف وبمصنوعات المعادن وبالبرد والأنسجة الأخرى. كما عرفوا بإتقانهم البناء والنجارة وغير ذلك من حرف الحضر التي أشير إليها في الشعر الجاهلي. وقد عِيبَ على أهل اليمن اشتغالهم بالحرف: كالحدادة والحياكة والصياغة وما شاكل ذلك من حرف، على نحو ما تحدثت عن ذلك في فصل: "طبيعة العقلية العربية". ولكن من عابهم كان عالة عليهم وعلى غيرهم من أهل الحرف في أكثر الأمور التي كانت تخص شئون حياتهم اليومية، كالسيوف والخناجر الجيدة مثلًا التي هي عماد المحافظة على حياة الإنسان في البادية. كما اعترف لهم بالتفوق على من كان يزدري الصناعة والحرف، فكانوا يخافونهم في الحروب، ويهابونهم عند القتال، لامتلاكهم أسلحة لا يملكونها هم، وكانوا يلجئون إليهم لتنصيب رئيس منهم عليهم تهابه القبائل؛ لصعوبة انصياع القبائل لقيادة رئيس منها، بسبب التحاسد القبلي، كما كانوا يخضعون لحكم أهل اليمن بسبب تفوقهم عليهم في السلاح وفي الثقافة إلى غير ذلك من أسباب ترجع في الواقع إلى الطبيعة التي

_ 1 تاج العروس "9/ 371"، "يمن".

عطفت على اليماني وعلى العربي الجنوبي، ففوَّقته على الأعراب. ولما كانت طبيعة الجفاف هي الغالبة على جزيرة العرب, كان لهذه الطبيعة أثرها في حياة العرب، فغلبت البداوة على الاستقرار, وأثرت في النظم والآراء السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحربية وفي سائر نواحي الحياة الأخرى. لقد حالت دون قيام المجتمعات الكبرى القائمة على الاستقرار والاستيطان واستغلال الأرض, وجعلت من الصعب قيام الدول الكبيرة في هذه البلاد، وتكوين حكومات تقوم على احترام حقوق جميع أبناء الحكومة دون نظر إلى البيوتات والعشائر والقبائل والرئاسات. وفي الأماكن التي توافرت فيها المياه، المياه النابعة من الأرض أو النازلة من السماء، نشأت مجتمعات مستقرة، وظهرت حكومات، غير أنها حكومات اختلف طابعها وشكلها باختلاف المحيط الذي ظهرت فيه, والأحوال الطبيعية التي ألمت بها, والقدرة المادية التي تيسرت لديها, فيها الحكومات الصغيرة التي قد تكون حكومات "قرية"، أو رئاسات عشائر, وفيها ما يمكن أن يعبر عنه بحكومات مدن، إن جاز إطلاق مصطلح "المدن" عليها، وفيها حكومات أكبر وأوسع مثل حكومات الحيرة والغساسنة, وفيها حكومات مثل حكومات العرب الجنوبيين, وهي حكومات كبيرة إذا قيست إلى الحكومات التي كونها سادات القبائل في أنحاء أخرى من جزيرة العرب، ولم تعمر طويلًا، بل كانت مثل رغوة الصابون، لا تكاد تنتفخ حتى تزول؛ وذلك لأسباب وعوامل لا يتسع لها صدر هذا المكان. فالطبيعة هي التي صيرت العرب على هذا الحال، وهي التي غلبت عليهم البداوة, إذ حرمتهم من الماء وجادت عليهم برمال تلفح الوجوه، وبسموم مؤذية وبحرارة شديدة، وبأرض متسعة تظهر وكأنها بحر من رمل لا حد له، صيرت من وُلد فيها إنسانًا قلقًا هائمًا على وجهه، يتنقل من مكان إلى مكان بحثًا عن ماء وأكل, خلا الأماكن السخية التي خرجت منها دموع جرت فوق الأرض بقدر وبمقدار، أو مواضع قَرُبَ الماء فيها من سطح التربة فاستنبطه الإنسان، أو أماكن انهمرت من سمائها العاشقة للأرض دموع حبها في مواسم من السنة فأصابت الأرض بطلٍّ، فاستهوت الإنسان، واستقر بها وتحضر, وصار العرب من ثم بدوًا وحضرًا، أهل بادية وأهل حاضرة.

ومن آيات ذلك، أننا نجد قبيلة واحدة، فيها بادية وفيها حاضرة، استقرت وتحضرت وسكنت في بيوت ثابتة، لا يهمنا أكانت بيوتها من صخر أم من حجر أم من مدر أم من بيوت شعر, إنما المهم أنها بيوت ثابتة ارتبطت بالأرض، شعر قطانها أن لهم صلة بهذه الأرض وأن لهم بها رابطة، لا يحل عقدها إلا الموت أو الضرورات القصوى، فقريش حاضرة وبادية، وجهينة حضر، أقاموا بينبع وقرية "الصفراء"، وأعراب هبطوا رضوى و"عَزْوَر"1. و"همدان" حاضرة وبادية, ونهد حضر، وهم من سكن الصفراء منهم، وأهل وبر، وهم من سكن دون المدر في جبلي رضوي وعزور2. وتنوخ حضر، وتنوخ أهل بادية وتنقل, إلى غير ذلك من قبائل استقرت أحياء منها، وتبدت أحياء أخرى منها. ثم إننا نجد قرى منتشرة في مواضع من العربية الغربية وفي نجد والعربية الشرقية أو العربية الجنوبية، وقد سكنها قوم عرب حضر زرعوا وحفروا لهم الآبار وتعهدوا العيون بالرعاية ليستفيدوا من مياهها، وجاءوا بأشجار من الخارج لزرعها هناك. وفي كتب "الهمداني" و"عرام"، وكتب غيرهما ممن بحث عن جزيرة العرب أسماء قرى ومدن جاهلية، كانت ذات مزارع وحدائق، أما اليوم، فبعضها أثر, وبعض منها قد زال وذهب مع الذاهبين، لم يترك له حتى بقية من أثر. وتلك المواضع هي دليل في حد ذاته على أن الماء إذا وُجد في مكان ما أكره سكانه على الاستقرار به، وأجبر قسمًا من أهله على الاشتغال بالزرع. ولم ينضب الماء من تلقاء نفسه عن المواضع التي اندثرت وماتت وإنما وقعت أحداث لا مجال لي للبحث عنها في هذا المكان، ومنها الهجرة إلى خارج جزيرة العرب بالفتح وتحول الطرق التجارية العامة وإعراض الحكومات عن الاهتمام بشئون جزيرة العرب ونحوها, فأكرهت السكان على الارتحال عنها، فأهملت آبارها وترستها الرمال فجفت وذهب ماؤها عنها. وفي تلك المواضع التي توفرت فيها المياه, من مطر وعيون وآبار ومياه جوفية

_ 1 بفتح العين وسكون الزاي وفتح الواو، اللسان "4/ 563"، "عزر"، عرام، أسماء جبال تهامة "8 وما بعدها". 2 عرام "7".

قريبة من سطح الأرض, ظهرت الحضارة على شكل قرى ومستوطنات وأسواق موسمية، كان لها كلها أثر خطير في حياة العرب عمومًا من عرب وأعراب, لما كان يقع فيها من اتصال ومن تبادل آراء بين الحضر والبدو، وبين هؤلاء جميعًا وبين الأعاجم الذين كانوا يؤمونها للاتجار بها بصورة مؤقتة أو دائمة، حيث كانوا يقيمون بها إقامة طويلة أو أبدية، وبالأعاجم الذين كانوا يقيمون فيها رقيقًا مملوكًا لمن اشتراهم من الملاكين. وبذلك حدث نوع من التلقيح في الآراء والأفكار وفي شئون الحياة، تلقيح مهما قيل فيه وفي درجته فإنه تلقيح على كل حال1. وهذه المواضع هي التي كونت وخلقت تأريخ العرب فيما قبل الإسلام. وقد نبه "الجاحظ" إلى الاختلاف بين البدوي والحضري، والسهلي والجبلي، فأشار إلى اختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وإلى اختلاف ما بين من نزل البطون وبين من نزل الحزون، وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار، ثم إلى ما ترك هذا الاختلاف في المواضع والمكان من أثر في اختلاف اللغة, فتحالفت عليا تميم، وسفلى قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز في اللغة. وهي في أكثرها على خلاف لغة حمير، وسكان مخاليف اليمن, "وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص". وأشار إلى ما تركه هذا السكن من أثر في أخلاق العرب، حتى ليقال: "إن هذيلًا أكراد العرب"2؛ بسبب طباعهم وصبرهم على تحمل القتال. كما أشار "الجاحظ" إلى أن هذا الاختلاف ظاهر في العرب جميعًا، قحطانيين وعدنانيين. ومع ذلك فهم كلهم عرب؛ لأنهم استووا في التربة وفي اللغة والشمائل والهمة وفي الأنفة والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكًا واحدًا، وأفرغوا إفراغًا واحدًا3. وكان من أثر اختلاف طبيعة الجو والأرض والضغوط الجوية في أهل جزيرة العرب، أن صار لأهل المدر مجتمع يختلف في شكله وتكوينه عن مجتمع أهل الوبر، وأن صار مجتمع أهل المدر جملة مجتمعات اختلفت في تكوينها باختلاف

_ 1 Hastings, Dlctionary of the Bible, l, p. 133. 2 رسائل الجاحظ "1/ 10، 71"، "مناقب الترك". 3 رسائل الجاحظ "1/ 10 وما بعدها"، "مناقب الترك".

الظروف المؤثرة التي تحدثت عنها, وباختلاف المؤثرات الخارجية المحيطة بها أو المجاورة لها والقريبة منها في ظروف تلك المجتمعات. وصار من ثم مجتمع العرب الجنوبيين، ولا سيما مجتمع اليمن، مجتمعًا خاصًّا له طبيعة خاصة وشخصية مستقلة متأثرة بظروف اليمن الكلية من طبيعة أرض وطبيعة جو، وصار لأهل مكة وهم أشبه بأهل الحضر مجتمع خاص له طابع متميز، وصار لأهل الحيرة طابع خاص بهم، وصار لأهل يثرب كذلك مجتمع وطبيعة خاصة متميزة, وهكذا قل عن بقية المجتمعات الحضرية. فمجتمع اليمن مثلًا مجتمع خاص نجد فيه صفات المجتمع الحضري أكثر مما نراه في أي مجتمع حضري آخر في جزيرة العرب، مجتمع يختلف حتى "عربه" أي بدوه وهم الطبقة الثانية من هذا المجتمع، عن أعراب بقية جزيرة العرب. فهم بالقياس إلى بدو الجزيرة شبه أعراب، ووسط بين البداوة الصرفة وبين أدنى درجات الحياة الحضرية الساذجة المستندة إلى الاستقرار والتعلق بالأرض. ومجتمع اليمن الحضري مجتمع استغل عقله ويده في سبيل تكييف حياته وإسعاد أيامه في الدنيا، فاستغل الأرض وكيفها بحسب قدره واستعداده في إنتاج الغلة الزراعية وفي إنتاج المعادن وفي تربية الحيوان، وأقام له قصورًا وحصونًا، واستورد آلات حية يستعملها وتُيسر له ما يحتاج إليه، واستوردها من كل الأنحاء من الشمال ومن العراق ومن بلاد الشام, واستوردها من إفريقيا, وسخرها في استغلال الأرض وفي إقامة الأبنية وفي أداء الأعمال اليدوية التي تحتاج إلى حذق ومهارة، فتفوق هذا المجتمع من ثم وبمزايا إقليمه من جو وأرض على المجتمعات العربية الأخرى، وأنتج حضارة لا نجد لها مثيلًا في بقية أنحاء جزيرة العرب. فعرف اليمني في جاهليته واشتهر بمهارته وبحذقه بحرف وبمنتجات بقى ذكرها خالدًا إلى الإسلام, وتميز عن غيره بحسن الذوق وبالبراعة في استعمال أنامله. وحين برع بقية عرب الجزيرة في التعبير عن أحاسيسهم بكلام منظوم، نجد عرب اليمن وبقية العربية الجنوبية يعبرون عن أحاسيسهم بنقشها على المرمر، وعلى بقية الأحجار وعلى المعادن والخشب، ونجد السيوف اليمانية، ولها شهرة وخبر، ونجد بُسُط اليمن وبرودهم وأكسيتهم مشهورة لها صيت في كل مكان، لا يدانيه صيت أي صنف مما ينتج في مكان آخر من أمكنة جزيرة العرب، ونجد لهم ذكرًا في الصياغة وفي سوق الأحجار الكريمة والعطور، وغير ذلك من المنتجات التي تحتاج إلى يد وفكر.

ومجتمع اليمن المحتضر، مجتمع طبقي، تكوَّن من طبقات: طبقات رفيعة ذات منزلة ومكانة عالية، تتلوها طبقات أخرى أقل درجة ومنزلة حتى تنتهي بالطبقات الدنيا التي تكون قاعدة لهرم هذا المجتمع وسواد الناس. وهي طبقات تكاد تكون مقفلة، أو شبه مقفلة إن صح هذا التعبير، ولا سيما بالقياس إلى الطبقات الدنيا, التي تجنبت الطبقات التي هي فوقها التصاهر معها والاتصال بها، للفروق المنزلية التي تشعر بوجودها فيما بينها. ثم إن الناس فيها يرثون منازل آبائهم ودرجاتهم، فابن النجار نجار، وابن الحداد حداد في الغالب، وابن التاجر يرث عمل والده, ويستطيع تغيير حرفته وتحسين حاله، إذ ليس لديهم قوانين إلزامية تجبر الناس على البقاء في طبقتهم إلى أبد الآبدين، ولكن مثل هذا التغيير لا يقع إلا إذا كان الشخص ذا استعداد وكفاية وطموح، فيشق طريقه بنفسه هاتكًا ستور الأعراف والعادات. وما زالت الحياة الاجتماعية في العربية الجنوبية، تستمد قوتها وحياتها من جذور الحياة الاجتماعية القديمة التي كانت عليها قبل الإسلام. فقد نشأت هذه الحياة ونبتت من حاصل ظروف ذلك المجتمع الذي تحدثت عنه، وحافظ على خصائصه إلى هذا اليوم؛ لأنه عاش في عزلة عن العالم الخارجي أو في شبه عزلة؛ ولهذا بقي يعيش على ما تغذيه به بقايا جذور تلك الأيام من غذاء1. والحضر، وإن استوطنوا واستقروا في أماكن ثابتة، لم يكونوا حضرًا بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا، فلم يكونوا على شاكلة حضر الروم أو الفرس، ولا على شاكلة حضر العراق أو حضر بلاد الشام من غير العرب. إنهم حضر من ناحية السكنى والاستقرار، أي: من ناحية تعلقهم بالأرض ونزولهم بها واستيطانهم فيها، وعدم ارتحالهم عنها على نحو ما يفعل الأعراب، واتخاذهم مساكن دائمة في مكان ما. أما من ناحية التفكير وطراز المعيشة ونظم الحياة الاجتماعية, فقد بقوا مخلصين لمُثُل البوادي ولطبيعتها في الحياة, فهم في قراهم ومدنهم "بيوت" و"بطون"، يقيمون في "شعاب" ولهم عصبية، وهم مثل الأعراب في أكثر مألوف حياتهم. وما زال هذا الطابع الأعرابي باديًا على حياة من نسميهم الحضر في جزيرة العرب وفي خارجها، مؤثرًا في حياتهم السياسية والاجتماعية بل

_ 1 Naval.,P. 405.

في عقلية من نسميهم "المثقفين" الدارسين من مدنيين وعسكريين؛ ذلك لأن عقول هؤلاء المثقفين وإن حُشيت بالمعلومات وبالعلوم، لم تتمكن مع ذلك من التخلص من إرث البداوة المستمدة من طبيعة الجو وأثرها في الناس، في الماضي السحيق وفي الحاضر، ومن طبيعة المجتمع الذي خلقته هذه الطبيعة وجبلت الناس عليه. ومن أهم صفاته: العنجهية، والتغني بذكريات الماضي, والابتعاد عن الواقع وعن مشكلات الحياة العلمية، واللجوء إلى العواطف والخيال، والإسراف في تمجيد النفس إلى حد أدى إلى ازدراء كل ما هو غير عربي من إنسان ومن نتاج إنسان, أضف إليها "العصبية" بأنواعها: العصبية للأهل والعصبية للعشيرة ثم القبيلة فالحلف في حالة الأعرابية، والعصبية للأهل والبيوت والشعاب ثم للقرية أو المدينة والقبيلة التي يرجع أهل القرى نسبهم إليها في الأخير، وذلك بالنسبة إلى أهل المدن، ثم الفردية المفرطة التي جعلت من الصعب على الفرد الانقياد لغيره والخضوع لأحد إلا إذا وجد نفسه أمام مصلحة خاصة أو أمام قوة؛ ذلك لأنه يرى نفسه أشرف الناس، وأن من المذلة خضوعه لحكم أحد، ولا سيما إذا كان من يحكمه من أناس هم دون أهله، ومن عشيرة دون عشيرته, ثم ليس هو من أهل الجاه ولا من أهل المال، فيكف يسلم أمره إليه؟!

الرعاة

الرعاة: وندخل في الحضر الرعاة: رعاة الغنم والمعز والبقر؛ ذلك لأنهم اضطروا بحكم طبيعة حياة حيواناتهم إلى شيء من الاستقرار، وإلى عدم التنقل مسافات بعيدة طويلة في البوادي على نحو ما يفعل الأعراب، ثم إنهم يعيشون على الآبار وبرك الماء وعلى مقربة من الحضر، وفي وضع يجعلهم شبه مستقرين في أكثر أيام حياتهم. وهم "أعراب الضواحي"، وعنصر مهم من عناصر تكون القرى والمستوطنات، إذ إن قربهم من الحضر واعتماد حياتهم عليهم، يحملانهم على التأثر بهم، وعلى التقرب منهم ومن مستوطناتهم، فتصير "الخيمة" بيتًا مستقرًّا، ثم تصير "كوخًا" من طين أو من أغصان شجر, ثم تتحول بيتًا من بيوت قرية أو حي من أحياء مدينة، لما في المدينة من وسائل معاشية تستهوي الناس، لا تتوافر في الضواحي البعيدة، فتحول الرعاة قطان مدن.

ولا يشترط في الرعاة الاقتصار في حياتهم على تربية الغنم، إذ فيهم من يربي الإبل أيضًا, وهم "رعاة الإبل"1. والفرق الوحيد بينهم وبين الأعراب وهم رعاة الإبل, أن الرعاة يلازمون أرضهم وإذا تنقلوا طلبًا للماء والكلأ, فلا يذهبون إلى مسافات بعيدة ولا يمعنون في اختراق البوادي؛ لأنهم لا يستطيعون الابتعاد عن الماء كثيرًا ولا يستطيعون الاكتفاء بكلأ البادية لوجود ماشية أخرى عندهم, لا تستطيع الصبر على الجوع طويلا، كما أن اتصالهم بالحضر أكثر من اتصال الأعراب بهم. ومنازلهم هي في الغالب خليط من بيوت مدر ومن بيوت وبر, ولكنها ثابتة على العموم وحياتهم حياة وسط بين البداوة والحضارة, والأرض التي يقيمون بها تكون ذات آبار وعيون ومتجمعات أمطار، وهم لا يبتعدون عنها كثيرًا ولا يفارقونها لارتباط معيشتهم بها, بينما تكون حياة الأعراب على الغيث في الغالب، وعلى الآبار والتنقل. وفي العربية لفظة "جشر", ذكر علماء اللغة أنها تعني القوم يبيتون مع الإبل في المرعى لا يأوون بيتوتهم, والقوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم لا يأوون البيوت, والمال الذي يرعى في مكانه لا يرجع إلى أهله بالليل, وأن تخرج بخيلك فترعاها أمام بيتك2, إلى آخر ذلك من معانٍ تدل على أن الجشر رعاة يخرجون إلى المجاشر، أي: المراعي لرعي إبلهم أو خيلهم بعض الوقت, إذا شبعت إبلهم واكتفت عادوا بها إلى بيوتهم فأقاموا بها.

_ 1 تاج العروس "10/ 152", "رعى". 2 اللسان "5/ 207", تاج العروس "3/ 100"، "جشر".

الأعراب

الأعراب: أما أهل الوبر، وهم الأعراب، فحياتهم حياة تنقل وارتحال، وعماد حياتهم "الإبل"، ولولا هذا الحيوان الصبور لما تمكن الأعرابي أن يقهر البوادي، وأن يوسع تنقله في أنحائها، وأن يعيش في هذه الأرضين المقفرة الشحيحة التي يشح فيها سقوط المطر، ويضطر الإنسان فيها إلى ضرب الأرض بأرجل جمله بحثًا عن الكلأ والماء. ولهذا صار "الجمل" "المالَ" الوحيد الذي يملكه

الأعرابي، به يقدر الأسعار، وبه يقدر "الصداق" وثراء الإنسان. وقد سبق لى أن تحدثت عن معنى "عرب"، وعن المراد منها إلى قبيل الإسلام، فلا حاجة لي هنا إلى إعادة الكلام عن شيء سبق أن تكلمت عنه. أما مصطلح "أهل الوبر" فمعناه "عرب"، أي: أعراب بالمعنى الجاهلي القديم؛ وذلك لأن الأعراب قوم نقل، يتنقلون من مكان إلى مكان، حاملين بيوتهم وما يملكونه معهم، وبيوتهم هي الخيام، وهي مصنوعة من "الوبر" وبر الإبل في الغالب؛ ولذلك عرفوا بها1. وعرفوا في الموارد اليونانية بـ"أهل الخيام" وبـ"سكنة الحيام"، وقد استعمل أعراب العراق وبادية الشام وأعراب بلاد الشام الخيام المصنوعة من شعر الماعز، وهي خيام لونها السواد، وقد أشير إليها في التوراة وفي موارد تأريخية أخرى. وذكر علماء اللغة أن العرب: سكان القرى والمدن أي: الحضر، أهل الحاضرة, أما الأعراب، فهم سكان البادية من هذا الجيل. ويقال للرجل أعرابيا إذا كان بدويًّا همه البحث عن الكلأ وتتبع الغيث والرعي، وأما من ينزل الريف ويستوطن القرى والمدن فهو عربي، وإن كان دون الأعراب في الفصاحة وفي سلامة اللغة, ويقال للأعراب "الأعاريب" وذلك جمع للأعراب. فالأعرابي البدوي، وهو صاحب نجعة وانتواء وارتياد للكلأ، وتتبع لمساقط الغيث، وسواء كان من العرب أو من مواليهم2, ومن نزل البادية أو حاور البادين وظعن بظعنهم، وانتوى بانتوائهم: فهم أعراب، ومن نزل بلاد الريف واستوطن المدن والقرى العربية وغيرها مما ينتمي إلى العرب، فهم عرب، وإن لم يكونوا فصحاء.3 ويذكر علماء اللغة أن البادية من البروز والظهور, قيل للبرية لكونها ظاهرة بارزة، وأن البادية اسم للأرض التي لا حضر فيها، وهي خلاف الحاضرة

_ 1 تاج العروس "3/ 594"، "وبر". 2 روح المعاني، للألوسي "11/ 4"، "المنيرية"، اللسان "1/ 586"، "صادر" "عرب". 3 اللسان "1/ 586" "صادر"، "عرب"، تاج العروس "1/ 371"، "عرب".

والحضارة. وقيل لسكان البادية البدو والبداة1. ومن هذا الأصل جاءت لفظة "Bedouin" في الإنجليزية وفي عدد من اللغات الأوروبية الأخرى، بمعنى أعراب. والأعرابي بالمعنى العلمي المفهوم من اللفظة، هو -كما قلت قبل قليل- المتبدي، أي: الذي قطن البادية وعاش معظم حياته فيها وانقطع معظم حياته عن القرى والمدن, مكتفيًا باتخاذ الإبل شريكة له في حياته هذه, قاطعا البوادي الجافة التي يقل معدل سقوط الأمطار فيها عن "4" عقد في السنة، للبحث عن الكلأ والماء2, قانعًا بحياته التي يحياها والتي أحبها وتعلق بها على ما فيها من قساوة وضراوة وفقر وشح في العيش, حتى صار لا يفارقها لأنه ولد بها. فهو لا يعرف دنيا غيرها، ولا يعرف أن في الدنيا مكانا أطيب من وطنه الذي يعيش فيه, وكل مولود على ما يولد عليه. وتعيش بين الحضر والبادية قبائل، صيرتها إقامتها بين العالمين عالمًا وسطًا، لا هو مجتمع حضري ولا هو بدوي أصيل، حافظ على خصائصه البدوية الموروثة من البادية، واكتسب باحتكاكه بالحضر ما يلائم طبعه وما فرضه عليه محيطه الجديد من حياة أهل الحضر. فصار يزرع بعض الزرع ويرعى البقر والخيل والأغنام والمعز ويأتي إلى القرى والمدن للامتيار، ويستخدم مواد لا يستخدمها الأعراب لعدم وجود حاجة لهم بها، ولفقرهم الذي لا يسمح لهم بشرائها، وأخذ يبيع لأهل الحضارة ما يفيض عن حاجته من الألبان والزبد والجلود والأصواف والحيوانات. فأهل هذا لعالم إذن هم عالم وسط عالمين، وقنطرة تربط بين العتبة الأولى من عتبات الحضارة والدرجة الأولى من درجات البداوة. وخير مثل على هؤلاء هم عرب مشارف الشام، وعرب مشارف العراق. ويراد بالمشارف القرى والمستوطنات والمضارب القائمة على ما بين بلاد الريف وبين البوادي3. و"الريف" في رأي بعض علماء اللغة الخصب والسعة في المأكل والمشرب, وما قارب الماء من الأرض. أو حيث يكون الخضر والمياه والزرع؛ ولهذا قيل: "تريف" إذا حضر القرى وهي المياه، و"راف البدوي" يريف

_ 1 De vaux p, 3. 2 تاج العروس "10/ 32", "بدا". 3 تاج العرس "6/ 154"، "شرف".

إذا أتى الريف، ومن هنا عرف البدوي بأنه جوَّاب بيداء، لا يأكل البقل ولا يريف1. وورد في الحديث: "كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، أي: إنا من أهل البادية, لا من أهل المدن"2. ولكن المفهوم من لفظة "ضرع"، أنها لفظة تطلق على الماشية ذوات الظلف والخف، أو للشاء والبقر3، ولهذا فيجب تفسيرها بإنا من أهل ذوات الظلف والخف، أي: من الرعاة لا أهل الزرع -والرعاة هم قُطَّان المشارف- القريبين من القرى والريف، ولا يقيمون في البادية؛ لأن الشاء والبقر وبقية الماشية باستثناء الإبل لا تعيش في البادية, وإنما ترعى الأماكن الخصبة من الماء والريف. والحاضرة خلاف البادية، وهي القرى والمدن والريف، سموا بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار. وذكر أن كل من نزل على ماء عدّ ولم يتحول عنه شتاءً ولا صيفًا، فهو حاضر، سواء نزلوا في القرى والأرياف وبيوت المدر أو بنوا الأخبية عند المياه فقروا بها ورعوا ما حواليها من الكلأ؛ ولهذا قالوا: الحاضر: القوم نزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه. وقد يكون ذلك في البوادي، إذ يقيمون حول بئر أو ماء دائم، ولا يرتحلون عنه. فهذا نوع من أنواع الحاضرة في جزيرة العرب4, وهم بهذا حضر جزيرة العرب، فهم سكان مستوطنات صغيرة ظهرت في مواضع الماء وعند مفترق الطرق، في هذه البوادي الجافة الواسعة. وفي هذه الحواضر التي أسعفها الحظ بالماء، ظهرت مجتمعات متحضرة، أي مستقرة، استفادت من الماء فبنت بعض البيوت وزرعت بعض النخيل والأشجار. ومقياس هذه الحواضر هو الماء, فإذا وجد بغزارة أو كان قريبًا من سطح الأرض, توسعت به رقعة الحضارة بمقدار سعة الماء, وسعد الناس بالعيش في بيوت

_ 1 جواب بيداء بها غروف ... لا يأكل البقل ولا يريف ولا يرى في بيته القليف اللسان "9/ 128 وما بعدها"، "ريف"، تاج العروس "6/ 123"، "تريف". 2 اللسان "9/ 128"، "ريف". 3 اللسان "8/ 23"، "ضرع"، تاج العروس "5/ 430"، "ضرع". 4 اللسان "4/ 197 وما بعدها"، "حضر".

مستقرة دائمة ثابتة، أما إذا كانت الأرض شحيحة بخيلة، لا تسعف من يعيش فوقها بماء، فإن الإنسان يتحاشاها بالطبع ويبتعد عنها خلال أيام الغيث. وحواضر البوادي هي المواضع التي يجب أن نوجه إليها أنظارنا للبحث فيها عما قد يكون الدهر قد خبأه فيها من كنوز وآثار. وهي منتشرة في مواضع عديدة من جزيرة العرب، ولا سيما عند الأودية وقرب الحسي والجعافر والعيون. و"عرب الضاحية" أو "عرب الضواحي"، هم العرب النازلون بظواهر الريف والحضارة وبظواهر البادية، و"الضاحية" الظاهرة الخارجة من الشيء التي لا حائل دونها، و"الضامنة" ما أطاف بالشيء مثل سور المدينة، أي: ما كان داخل شيء, وضواحي الروم: ما ظهر من بلادهم وبرز1. ويراد بـ"عرب الضاحية"، عرب مشارف العراق وعرب مشارف الشام؛ لأنهم أقاموا بضواحي العراق وبلاد الشام، وعلى تخوم البادية2. وقد تأثر أكثر الأعراب الساكنين بأطراف الحضارة وبأخلاق الحضر، ودخلوا مثلهم في النصرانية، بحكم تأثرهم بهم وبعوامل التبشير والسياسة، إلا أن نصرانيتهم كانت نصرانية أعرابية مكيفة بالعقيدة الوثنية الموروثة من السنين الماضية التي كونتها طبيعة البداوة في عقلية أهل الجاهلية. وسوف نجد في بحثنا عن اللغة، أن لغة "أهل المشارف" أو "أهل الضواحي" و"عرب الأرياف"، قد تأثرت بلهجات "إرم" العراق وبلاد الشام, فظهرت في لغتهم رطانة، وبرزت فيها ألفاظ آرمية وأعجمية، وانحازت في النطق بعض الانحياز عن عربيات أهل البوادي، وكتبوا بقلم نبطي وبلهجات عربية، لا تقرها عربية القرآن الكريم، التي صارت لسان الإسلام. ولهذا حذر علماء اللغة من الاستشهاد بشعر شعراء القرى والريف وأهل المشارف والضواحي؛ لاعوجاج لسانهم بالنسبة إلى لسان الإسلام. فأعراب الضواحي، أو عرب الضاحية، هم أعراب أيضًا, لكنهم لم يعزلوا أنفسهم عن العالم الخارجي، وإنما عاشوا على مقربة منه ومن مواطن الحضر، فصار حالهم أحسن من حال الأعراب الأقحاح، وارتفع مستواهم العقلي عن أولئك

_ 1 اللسان "14/ 474 وما بعدها"، "ضحا". 2 تأريخ الطبري "3/ 353"، "ذكر وقعة الولجة".

المعنيين في حياة الأعرابية؛ بسبب اتصالهم بالأجانب وأخذهم عنهم واحتكاكهم بالحضر، الذين هم أرقى من الأعراب بكثير, فأخذوا عنهم وتعلموا منهم أشياء كثيرة, من مادية ومعنوية, سأتحدث عنها في المواضع المناسبة من أجزاء هذا الكتاب. وقد عرفت الأرض التي تقع بين الفرات وبين بَرِّيَّة العرب بـ"العبر". قال علماء اللغة: "والعبر بالكسر: ما أخذ على غربي الفرات إلى برية العرب"1؛ لأنها المعبر الذي يعبر عليه للوصول إلى البادية، أو الدخول من البادية إلى الفرات. وقد تكونت بها قرى عربية لعبت دورًا مهمًّا في تأريخ العراق لموقعها العسكري المهم، ولأنها الخط الأمامي الذي كان يواجه الأعراب الغزاة ومن كان يحكم بلاد الشام من حكام، ولكونها المنطلق الذي تنطلق منه الجيوش التي تريد غزو بلاد الشام، أو صد القوات الزاحفة على العراق من الغرب. والبداوة هي التي أمدت العراق وبلاد الشام وسائر جزيرة العرب بالحضر، فقد كان الأعراب يأتون الحواضر وينيخون هناك، ويستقرون ثم يتحولون إلى حضر. لذلك تكون البادية المنبع الذي يغذي تلك الأرضين بالعرب الحضر.

_ 1 تاج العروس "3/ 377"، "عبر".

عبية الجاهلية

عُبَيَّة الجاهلية: ولقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن العقلية العربية بصفة عامة: عقلية العرب أي الحضر وعقلية الأعراب. وأعود في هذا الموضع إلى الحديث عن عقلية الأعراب وما رماهم به أهل الحضر من الغلظة والجفاء والجهالة والعنجهية والكبر, إلى غير ذلك من نعوت عرفت عند العلماء بـ"عبية الجاهلية"؛ وذلك لما لهذه العبية من صلة بهذا الموضوع في هذا المكان. وإذا أردت الوقوف على عنجهية الجاهلية وتكبر سادات القبائل وعلى نظرتهم إلى من هم دونهم في ذلك الوقت، فخذ ما روي عن قصة وقعت لمعاوية بن أبي سفيان على ما يرويه أهل الأخبار. فقد رُوي أن الرسول أمر معاوية بإنزال "وائل بن حجر" الحضرمي منزلًا بالحرة، فمشى معه ووائل راكب وكان

النهار حارًّا شديد الحرارة، فقال له معاوية: ألق إليَّ نعلك، قال: لا، إني لم أكن لألبسها وقد لبستها. قال: فأردفني، قال: لست من أرداف الملوك, قال: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي، قال: لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك, ولكن إن شئت قصرت عليك ناقتي فسرت في ظلها. فأتى معاوية النبي، فأنبأه فقال: "إن فيه لعُبَيَّة من عُبَيَّة الجاهلية"1. و"العبية" الكبر والفخر, "وعبية الجاهلية: نخوتها, وفي الحديث: إن الله وضع عنكم عبية الجاهلية، وتعظمها بآبائها، يعني الكبر". وقد وصفت "قريش" ونعتت بتكبرها حتى قيل: "هذه عبية قريش"2, ونجد في القرآن الكريم إشارات إلى عبية زعماء قريش وفخرهم على غيرهم بالآباء وبالأحساب وبأمور لا تستوجب فخر مفاحر؛ لأنها لا تتناول عمل إنسان ليحمد أو ليذم عليه. وقد ذمها الإسلام ونهى المسلمين عن عبية الجاهلية. ونظرًا إلى ما للبداوة من فقر وقساوة وغلظ في المعاش، ومن ضيق أفق في المدارك وقصر نظر في شئون هذا العالم الخارجي وفي فهم الحياة -نظر العربي إلى الأعرابي نظرة استجهال وازدراء، ونظر إلى نفسه نظرة فيها علو واستعلاء. فورد أن الأعرابي إذا قيل له: يا عربي, فرح بذلك وهش له، والعربي إذا قيل له: يا أعرابي! غضب له3؛ لما بين الحياتين من فروق وتضاد. فقد جبلت البادية أبناءها على أن يكونوا غرباء عن العالم الحضر وعن عقلية أهل القرى والمدن, متغطرسين مغرورين على فقرهم وفقر من يحيط بهم، فخورين بأنفسهم إلى حد الزهو والإعجاب والخروج عن الحد، فكانوا إذا تكلموا رفعوا أصواتهم، وظهرت الخشونة في كلماتهم، وإذا تعاملوا مع غيرهم ظهر الحذر عليهم، خشية الغدر بهم. ولهذا قال الحضر: "أعرابي جلف"، أي جاف4, وفي الحديث: "من بدا جفا"، أي: غلظ طبعه لقلة مخالطة الناس5. وقالوا: "أعرابي قح" و"أعرابي قُحاح"، وهو الذي لم يدخل الأمصار ولم يختلط

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 349 وما بعدها"، "وفد حضرموت". 2 تاج العروس "1/ 574 وما بعدها"، "عبب". 3 اللسان "1/ 586"، "صادر"، "عرب". 4 تاج العروس "6/ 60"، "جلف". 5 تاج العروس "6/ 74"، "جفا".

بأهلها1. ولهذه الخشونة التي خلقتها طبيعة البادية في الأعرابي، وهو لا دخل له بها الطبع، كما أنه لا يشعر بها ولا يرى أن فيه شيئًا منها، كان العرب إذا تحدثوا عن شخص فيه عنجهية وخشونة، قالوا عنه: فيه أعرابية، كالذي ذكروه مثلًا عن "عيينة بن حصن الفزاري"، من أنه كان أحمق مطاعًا، دخل على النبي من غير إذن وأساء الأدب فصبر النبي "على جفوته وأعرابيته"2. إلى غير ذلك من نعوت تصف الأعرابي بالغلظ والقسوة والأنانية وما شاكل ذلك من نعوت تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب. وهي حاصل هذا المحيط الذي وُلد فيه وعاش، والظروف التي ألمت به، فعزلته عن العالم الخارجي، وأبعدته عن التحسس بتنوع مظاهر الطبيعة وبتغيرها، فلم يرَ الثلج في حياته وهو يتساقط من السماء، ولم يتعود على رؤية الأمطار وهي تتساقط عليه على نحو ما يقع في عالم أوروبا أو في البلاد الحارة ذات الأمطار الموسمية الواضحة، حتى يستفيد منها في استغلال أرضه، ولم تعطِه الطبيعة أنهارًا ومياهًا جارية، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنها أثناء كلامي على العقلية العربية, في الجزء الأول من هذا الكتاب. ووصف الأعرابي بالجهل، بل بالجهل المطبق. فهو وثني ولكنه لا يفهم شيئًا من أمور الوثنية، وهو نصراني، لكنه نصراني بالاسم، لا يعرف عن النصرانية في الغالب شيئًا، وهو مسلم ولكنه لا يعرف عن الإسلام إلا الاسم. ونجد في كتب أهل الأخبار والأدب قصصًا مضحكًا يمثل هذا الجهل الذي رُمي به الأعراب في بعضه حق بعض وفي بعضه باطل؛ لأنه موضوع حمل عليهم حملًا للانتقاص منهم وليكون قصصًا وتفكهةً وتسلية يتسلى بها الحضر في مجالسهم, في أثناء قتلهم للوقت. وهو حقود، لا يرى أن يغفر ذنب من أساء إليه, بل يظل في نفسه حاقدًا عليه حتى يأخذ بثأره منه. "قيل لأعرابي: أيسرك أن تدخل الجنة ولا تسيء إلى من أساء إليك؟ فقال: بل يسرني أن أدرك الثأر وأدخل النار"3. ويذكر أن الرسول كان يميز بين الأعراب وبين البادية، وهم الذين كانوا

_ 1 تاج العروس "2/ 202"، "قح". 2 تاج العروس "6/ 45"، "ألف". 3 نهاية الأرب "6/ 67".

ينزلون أطراف القارة "القارية" وحولهم. فلما أهدت "أم سنبلة" الأسلمية لبنًا إلى بيت رسول الله، أبت عائشة قبوله؛ لأن الرسول قد نهى أهله عن قبول هدية أعرابي. وبينما كانت أم سنبلة في بيته، دخل رسول الله، فقال: "ما هذا؟ " قالت عائشة: يا رسول الله، هذه أم سنبلة أهدت لنا لبنًا، وكنت نهيتنا أن نقبل من أحد من الأعراب شيئًا، فقال رسول الله: "خذوها، فإن أسلم ليسوا بأعراب، هم أهل باديتنا"1. ويفهم من هذا الخبر، أن الرسول فرق بين العرب البادية المقيمين حول "القارية" أهل الحاضرة، الذين هم على اتصال دائم بالحضر، وبين الأعراب، وهم البادون البعيدون عن أهل الحواضر، وهم الذين نهى الرسول عن قبول هدية منهم؛ وذلك بسبب جفائهم على ما يظهر ولأنهم لا يهدون شيئًا إلا طمعوا في رد ما هو أكثر منه لغلظ معاشهم وضيق تفكيرهم, وآية ذلك ما ورد عنهم في القرآن الكريم. فأهل البادية المجاورون للحضر أخف على النفس من الأعراب، لتأثرهم بحياة الحضر, ولعل منهم من شارك أهل الحضر في التعاطي والتعامل. ونرى أهل الأخبار يروون أن أهل القرى كانوا أصحاب زرع ونخيل وفواكه وخيل وشاء كثير وإبل، يقيم حولهم أناس بادون, كالذي كان حول مكة ويثرب والطائف وقرى الحجاز واليمن وغير ذلك، فإن هؤلاء لم يكونوا أعرابًا أي: بدوًا صرفًا, هجروا الحواضر وأقاموا في البوادي البعيدة، بل هم وسط بين الحضر وبين الأعراب. فأخلاقهم ألين من أخلاق الأعراب وأرق, ويمكن الاعتماد عليهم نوعًا ما، بينما لا يمكن الركون إلى قول أعرابي. وقد بلغ من استعلاء الحضر على أهل البادية، أن الأعراب لما أرادوا التسمي بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا، منعوا من ذلك، فأعلموا أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين، وعليهم التسمي بها2. والأعراب أهل منة، إذا فعلوا معروفًا بقوا يتحدثون عنه، ويمنون بصنعه على من قدموه له, وهم يريدون منه صنع أضعاف ما صنعوه له. وهم خشنون إذا تكلموا رفعوا أصواتهم, وقد وبهخم القرآن وأنبهم لفعلهم هذا, فجاء فيه:

_ 1 ابن سعد، الطبقات "8/ 215". 2 تفسير الطبري "26/ 9".

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ, إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} 1. وأمر المسلمين بالتأدب بأدب الإسلام, فقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير} 2, وقد كانوا يجهرون له بالكلام ويرفعون أصواتهم، فوعظهم الله ونهاهم عن ذلك، يقول تعالى ذكره: "يأيها الذين صدقوا الله ورسوله, لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت رسول الله تتجهمونه بالكلام, وتغلظون له في الخطاب"3. وكان من خشونتهم وأعرابيتهم أن أحدهم إذا جاء الرسول فوجده في حجرته نادى: يا محمد, يا محمد؟ وذكر أن وفدًا من "تميم" وفد على رسول الله, فوجده في حجرته، ونادى مناديه: اخرج إلينا يا محمد؟ فإن مدحنا زين وذمنا شين, أو: يا محمد! إن مدحي زين وإن شتمي شين، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ, وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4. وقد اتهم الأعرابي بماديته المفرطة وبطمعه الفظيع. فهو يحارب معك، ثم ينقلب عليك ويصير مع خصمك، إذا وجد أن في الجانب الثاني حلاوة، وأنه مستعد لإعطائه أكثر مما أعطيته، حاربوا مع الرسول ثم صاروا عليه وانتهبوا عسكره، وجاءوا إليه فعرضوا عليه الإسلام، فلما أرادوا العودة إلى بلادهم وهم مسلمون، وجدوا رعاء للرسول، فانتهبوه وقتلوا حماته مع علمهم بأنه له، وأن انتهاب مال المسلم حرام، فكيف بهم وهم ينتهبون مال رسول الله. وقد ندد القرآن الكريم بطمعهم في الآية: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فهؤلاء قوم من بوادي العرب، قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة طمعًا في الصدقات، لا رغبة في الإسلام، فسماهم الله تعالى

_ 1 الحجرات, الآية 2 وما بعدها. 2 لقمان, الآية 19. 3 تفسير الطبري "26/ 74 وما بعدها". 4 الحجرات, الآية 4 وما بعدها، تفسير الطبري "26/ 76 وما بعدها".

الأعراب. ومثلهم الذين ذكرهم الله في سورة التوبة، فقال: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} 1. وذكر عن "قتادة" قوله: "قالت الأعراب آمنا، قل: لم تؤمنوا، ولعمري ما عمت هذه الآية الآعراب. إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكن إنما أنزلت في حي من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. فقال الله تعالى: لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا"2. "وقال آخرون: قيل لهم ذلك؛ لأنهم منوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلامهم. فقال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: "قل لهم لم تؤمنوا ولكن استسلم خوف السباء والقتل"3. ولا يعرف الأعرابي شيئًا غير القوة ولا يخضع إلا لسلطانها، وبموجب هذه النظرة بنى أصول الحق والعدل، وما يتبعهما من حقوق, كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد، وهو فخور بنفسه متباهٍ بشجاعته، لكنه لا يصبر إذا طال القتال وجد، ولا يتحمل الوقوف طويلًا في ساحة المعركة، لا سيما إذا شعر أن القتال غير متوازن، وأن أسلحة خصمه أمضى وأقوى في القتال من أسلحته، فيولي عندئذ الإدبار، ولا يرى في هروبه هذا من المعركة شيئًا ولا عيبًا. وفي تأريخ معارك الجاهلية ولا سيما في معاركهم مع الأعاجم ومع القوات النظامية العربية أمثلة عديدة من هذا القبيل. ففي الحروب التي وقعت بين المسلمين والفرس أو الروم، خذلت بعض القبائل المسلمين، وتركتهم لما رأت جد القتال وألا فائدة مادية ستحصل عليها منه. "وقد كان انضم إلى المسلمين حين ساروا إلى الروم ناس من لخم وجذام, فلما رأوا جد القتال فروا ونجوا إلى ما كان قربهم من القرى، وخذلوا المسلمين"4, فروا وهربوا لأنهم وجدوا أن القتال قد طال وأنه قتال جد، ولا قبل للقبائل على القتال الطويل الشديد الجد، فاختاروا الهروب دون أن يفكروا في عقدهم الذي عقدوه مع إخوانهم في الجنس على القتال معهم والاستمرار فيه حتى النهاية، فإما نصر وإما هزيمة وموت وهلاك، ولكن طبيعة الأعراب لا تقيم

_ 1 اللسان "1/ 586"، "عرب". 2 تفسير الطبري "26/ 90". 3 تفسير الطبري "26/ 90". 4 الطبري "3/ 571"، "دار المعارف".

وزنًا ولا تعطي أهمية للعقود في مثل هذه المواقف, إن رأت هواها في القتال قد تغير وتحول، وأن الأمن في كسب مغنم قد تضاءل، انسحبت منه بعذر قد يكون تافهًا وبغير عذر أيضًا. وقد لا تنسحب، وإنما تبدل الجبهة، بأن تذهب إلى الجانب الآخر فتحارب معه، وتقاتل عندئذ من كانت تقاتل معه؛ لأنها وجدت أن الربح من هذا الجانب مضمون، وأن ما ستناله منه من فائدة أكثر. وذلك بعد مفاوضات سرية تجري بالطبع, وهذا ما أزعج الروم والفرس وجعلهم لا يطمئنون إلى قتال العرب معهم وفي صفوفهم، فرموهم بالغدر، فكانوا إذا كلفوهم بالحرب معهم عهدوا إليهم القيام فيها بأعمال حربية ثانوية، أو الانفراد بحرب الأعراب الأعداء الذين هم من أنصار الجانب الآخر. فقد حدث مرارًا أن هرب الأعراب من ساحة القتال حين سعرت نار الحرب، وارتفع لهيبها، فأحدث هروبهم هذا ارتباكًا في جانب من كان يقاتلون معه, أدى إلى هزيمته هزيمة منكرة، لما أحدثه فرارهم هذا من فجوة في صفوف المقاتلين، وقد أشارت إلى هذه الحوادث مؤلفات الكتاب اليونان واللاتين. وهو صارم عبوس، إذا ضحك ضحك بقدر، وكأنه يدفع بضحكته هذه ضريبة فرضت عليه. يكره الدعابة، ويرى فيها تبذلًا لا يليق صدوره من إنسان كريم، بقي هذا شأنه حتى في الإسلام فلما وصف "أبو عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري" "عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق" قال عنه: "كان امرأً صالحًا. وقد كانت فيه دعابة"1, حتى إن من العلماء من عد "الدعابة" من الشوائب التي تنقص المروءة، وتؤثر في صاحبها، وتطعن فيه، فلا تجعله أهلًا لأن يؤخذ عنه الحديث، أي جعلوه شخصًا غير موثوق به. وقد بحث "غوستاف لبون" و"رينان" و"الأب لامانس" في عقلية الأعرابي، وما رأوه فيه من وجود "فردية" متطرفة عنده، إلى درجة تجعله يقيس كل شيء بمقياس الفائدة التي يحصل عليها من ذلك الشيء. ثم ما وجدوه فيه في الوقت نفسه من خوفه من الإمعان في القسوة، ومن الإمعان في القتل، لما يدركه من رد الفعل الذي سيحدث عند أعدائه ضده إذا تمكنوا منه، ومن

_ 1 نسب قريش "278".

نتائج الأخذ بالثأر. كما بحثوا عن ميل الأعرابي إلى المبالغة؛ المبالغة في كلامه والمبالغة في إعطائه إذا أعطى، والمبالغة في مدح نفسه، والتباهي بشجاعته وبكرمه وبشدة صبره إلى غير ذلك، مع وجود تناقض فيه بالنسبة إلى دعاويه هذه. وهو يحب المديح كثيرًا, وهو على حد قولهم إذا أعطى، صور ذلك غاية الجود، وبالغ فيه، ويظل يذكره في كل وقت ويحب أن يطرى عليه، لا سيما إذا كان من شاعر وهو صحافي ومذيع ذلك الوقت1. وللفوارق الموجودة بين العرب والأعراب، بين الحضر وبين أهل البوادي رأى "الأزهري" وجوب التفريق بين الاثنين. إذ قال: "والذي لا يفرق بين العرب والأعراب والعربي والأعرابي، ربما تحامل على العرب، بما يتأوله في هذه الآية. وهو لا يميز بين العرب والأعراب, ولا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب؛ لأنهم استوطنوا القرى العربية، وسكنوا المدن, سواء منهم الناشئ بالبدو ثم استوطن القرى, والناشئ بمكة ثم هاجر إلى المدينة. فإن لحقت طائفة منهم بأهل البدو بعد هجرتهم واقتنوا نعمًا ورعوا مساقط الغيث بعد ما كانوا حاضرة أو مهاجره، قيل: قد تعربوا أي: صاروا أعرابًا بعد ما كانوا عربًا, وفي الحديث تمثل في خطبته مهاجر ليس بأعرابي؛ جعل المهاجر ضد الأعرابي، قال: والأعراب، ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة. وقال أيضًا: المستعربة عندي قوم من العجم دخلوا في العرب فكانوا بلسانهم وحكوا هيئاتهم وليسوا بصرحاء فيهم. وتُعربوا مثل استعربوا"2. وقد ذهب هذا المذهب "ابن خلدون", إذ رأى أن الأعراب يختلفون عن العرب؛ ولذلك فإن ما أشار إليه "ابن خلدون" من أن العرب إذا دخلوا بلدًا أسرع إليه الخراب إنما قصد به الأعراب, لا العرب الحضر. ولكي نكون منصفين في الأحكام عادلين غير ظالمين علينا التفريق بين الأعراب وبين العرب, فما يقال عن الأعراب يجب ألا يتخذ قاعدة عامة تطبق على العرب؛ لما بين العرب والأعراب من تباين في الحياة وفي النفسية والعقل. ثم علينا لكي

_ 1 المشرق, عدد "2" سنة 1932 "ص101 وما بعدها". 2 تاج العروس "1/ 371"، "عرب".

نكون منصفين أيضًا أن نفرق بين عرب وعرب؛ لما أصاب عرب كل أرض من أرض العرب من أثر تركه الأجانب فيهم، ومن امتزاج الأعاجم في العرب ودخولهم فيهم واندماجهم بهم حتى صاروا منهم تمامًا. والامتزاج والاندماج يؤثران بالطبع في أخلاق أهل المنطقة التي وقعا فيها, أضف إلى ذلك عوامل البيئة والمحيط؛ ولهذا يرى المرء تباينًا بينًا بين عرب كل قطر، تباينًا يلمسه حتى الغريب. فبين أهل العراق وأهل بلاد الشام العرب تباين وفروق في الملامح الجسمية وفي المظاهر العقلية والاجتماعية وغيرها, مع أنهم جميعا عرب يفتخرون بانتسابهم إلى العروبة، وبين عرب العربية الجنوبية وبين عرب عالية نجد فروق واضحة جلية, هكذا قل عن بقية بلاد العرب. بل نجد هذا التباين أحيانًا بين أجزاء قطر واحد, فإذا كان هذا هو ما نراه ونلمسه في الجاهلية وفي الإسلام، فهل يجوز لأحد التحدث عن عقلية عامة جامعة تشمل كل العرب؟! وقد أدرك المتقدمون علينا بالزمن اختلاف العرب في الصفات والشمائل، فتحدثوا عن "حلم قريش"، وعن لينها ورقة ذوقها وعن براعتها في التجارة, وتحدثوا عن عمق تفكير أهل اليمن وعن اشتهارهم بالحكمة، حتى قيل: الحكمة يمانية. وورد أن "علي بن أبي طالب" لما وافق على اختيار "أبي موسى الأشعري" ليكون ممثله في التحكيم، قال له "أبو الأسود الدؤلي": "يا أمير المؤمنين لا ترض بأبي موسى، فإني قد عجمت الرجل وبلوته، فحلبت أشطره، فوجدته قريب القعر، مع أنه يمان"1.

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 292".

الحنين إلى الأوطان

الحنين إلى الأوطان: ومع فقر البادية وغلظ معاشها وشحها، فإن الأعرابي يحن إليها، ولا يصبر عن فراقها حتى وإن أخذ إلى جنان الريف. قال الجاحظ: "وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب, والمحل القفر, والحجر الصلد, وتستوخم الريف"1. "واعتل أعرابي في أرض غربة، فقيل له: ما تشتهي؟ فقال: حل

_ 1 رسالة في الحنين إلى الأوطان، من "رسائل الجاحظ" "2/ 388"، "تحقيق عبد السلام هارون".

فلاة، وحسو قلات"1. ويروى أن "ميسون بنت بحدل" الكلبية، زوجة معاوية، كانت تحن إلى وطنها، وقد سمعها زوجها وهي تنشد أبياتًا فيها شوق وحنين إلى البادية، فخيمتها التي تلعب الأرياح بها خير عندها وأحب لها من العيش في قصر منيف، ورجل من بني عمها نحيف أحب إليها من "علج عليف", أي: حضري سمين من كثرة الأكل2, وانتقل أعرابي من البداوة إلى الحضارة، فرأى المكاء في الحضر، فقال يخاطبه: فارق هذا المكان؛ فإنه ليس لك فيه الشجر الذي تعشش عليه, وأشفق من أن تمرض كما مرضت3. والعربي الذي ألف الحضارة وأمعن في الترف وتفنن في العيش بالمدن، لا يفقه سحر البادية الذي يجلب إليه أهل البادية؛ لأنه يرى أن كل ما فيها ضيق وجوع وحر شمس وفقر, فيسخر من الأعرابي ويضحك عليه لحنينه إلى باديته. ولما استظرف "الوليد بن عبد الملك" أعرابيا واستملحه، فأبقاه عنده وسأله عن سبب حنينه إلى وطنه, أجابه جوابًا خشنًا مثل جفاء الأعراب وصلفهم. فقال الوليد، وهو يضحك: أعرابي مجنون4. ولم يتأثر منه؛ لأنه أعرابي، والأعرابي في حكم المجانين, وقد سقط حكم القلم عنه. ويروي أهل الأخبار حديثًا لكسرى أنوشروان مع وفد وفدَ عليه فيه بعض خطباء العرب, فسألهم عن سبب تفضيلهم السكن بالبادية وعن حياتهم بها وعن طبائعهم إلى غير ذلك من أسئلة وأجوبة دونوها على أنها أسئلة كسرى وأجوبة العرب عليها5, وفيها أمور مهمة عن حياة الأعراب. وقد يكون الخبر قصة موضوعة، غير أننا لا ننظر إليها من جهة تأريخية, إنما نأخذها مثالًا على ما كان يدور في خلد من صنعها عن نفسية الأعراب, وعن نظرة الحضر إلى أهل البوادي. وللمسعودي كلام في اختيار العرب سكنى البادية وسبب ذلك, كما تحدث

_ 1 المصدر المذكور "2/ 390". 2 بلوغ الأرب "3/ 426 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "3/ 428". 4 رسالة في الحنين إلى الأوطان "2/ 397". 5 بلوغ الأرب "3/ 433".

عن أثر البوادي في صحة أجسام العرب وفي تكوين أخلاقهم، مما جعلهم يختلفون بذلك عن بقية الناس. والعرب وإن عرفوا بالترحل والتنقل؛ بسبب البداوة، إلا أنهم يحنون إلى أوطانهم، ولا ينسون موطنهم القديم، يستوي في ذلك العربي والأعرابي. وهم يرون أن في الغربة كربة، وأن الإنسان إذا صار في غير أهله ناله نصيب من العذل1. "وكانت العرب إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلدها رملًا وعفرًا تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع"2, "وقيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟ قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا ميلًا فيرفضّ عرقًا, ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه, ويجلس في فيئة يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى"3. وجاء أن "الوليد بن عبد الملك" استظرف أعرابيا فاحتبسه عنده وحباه, فمرض فبعث إليه "الوليد" بالأطباء، وعالجوه، ورأى من الخليفة كل رعاية, لكن هواه بقي في وطنه، ولم يطق على هذه المعيشة الراضية الطيبة صبرًا، فهلك بعد قليل4, إلى غير ذلك من قصص وشعر ورد في الحنين إلى الأوطان, وفي تفضيل الوطن على كل منزل آخر، ولو كان آية في الجمال ومثالًا من الراحة والاطمئنان. وهو يعجب من لغة أهل الحضر, ولا سيما حضر ريف العراق وريف بلاد الشام, ومن الأكرة الذين لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فكان يجد نفسه وكأنه في سجن مطبق، يريد الخلاص منه. حدث ذلك حتى في الإسلام، وقد ذكر "أبو عثمان الجاحظ"، أنه رأى أعرابيًّا، وكان عبدًا حبشيًّا لبني أسيد، وقد صار "ناظورًا"، وكأنه أصيب بمس من الجن، فلما رآه، قال له: لعن الله أرضًا ليس بها عرب5.

_ 1 رسالة في الحنين إلى الأوطان "2/ 390 وما بعدها". 2 رسالة في الحنين إلى الأوطان "2/ 392". 3 المصدر نفسه. 4 رساله في الحنين إلى الأوطان "2/ 397 وما بعدها". 5 رسائل الجاحظ "2/ 403 وما بعدها".

حياة الإعراب

حياة الأعراب: وحياة الأعراب حياة تكاد تكون حياة واحدة لا تغير فيها ولا تبدل، فهي على وتيرة واحدة, على تعدد القبائل وابتعاد مواضع بعضها عن بعض. ذلك لأن الظروف المخيمة عليهم، ظروف واحدة لا اختلاف فيها ولا تبدل, إلا ما كان منها بالنسبة إلى أعراب الضواحي والحواضر, فإن ظروفهم تختلف عن هؤلاء، ومجال تفكيرهم أوسع من مجال تفكير الأعراب؛ بسبب نوع المعيشة المتغير، المتصل بالأرض، وقربهم من الحضر. ولو درسنا حياة القبائل في الجاهلية, وجمعنا دراستنا من المروي عنها في الكتب, وجدنا أن بين الماضي البعيد وبين الحاضر شبهًا في نمط الحياة، وأن ما ذكرته عن قبائل الجاهلية يكاد ينطبق على حياة قبائل البادية في وقتنا هذا؛ ذلك لأن الظروف والمؤثرات بالنسبة إلى حياة الأعراب الممعنين في البادية لا تزال كما كانت عليه, ولكنها سوف لن تبقى على ما هي عليه وإلى أبد الآبدين بالطبع؛ لأن التقدم الحضاري والاكتشافات المادية، قد أخذت تغزو الأعراب وتضيق الخناق عليهم، لتغير من حالهم. فبعد أن كان البدو قوم غزو، أكرهتهم الحكومات القوية على الابتعاد عن الغزو ونبذه، حتى اضطروا إلى توديعه إلى الأبد أو كادوا وصاروا مغزوين، تغزوهم الحضارة الحديثة والآليات بما لا قبل لهم بمقاومته، لتفرق الغزو الجديد عليهم. وهم سيكونون ولا شك بمرور الوقت على شاكلة النصف الآخر من العرب, أي: إخوانهم الحضر, يوائمون أنفسهم مع التطور الجديد. وسوف يبدل هذا من حياتهم ولا شك، ومن أهم ما سيفعله فيهم، تحويل حياتهم من حياة غير مرتبطة بالأرض، إلى حياة ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا, فتتحول البداوة عندئذ إلى حضارة, وسيشعر الأعرابي عندئذ أنه مواطن له أرض ووطن وقوم هم إخوة له يشعرون بشعوره, وأن من يعزل نفسه عن العالم، فلن يعزل بذلك إلا نفسه، ولن يضر إلا بصالحه, وأن الإنسان بغير عمل ولا إنتاج، إنسان تافه لا قيمة له، وأن العنتريات والعبية الجاهلية من جملة مؤخرات الحياة في كل الأزمنة والأوقات.

ملامح العرب

ملامح العرب: والعرب وإن كانوا من الجنس السامي، إلا أنهم يختلفون عن بقية "أبناء سام" في الملامح الجسمانية وفي فصائل الدم، وفي أمور أخرى؛ ذلك لأن السامية

كما سبق أن قلت, جنسية ثقافية. أما من الناحية "البيولوجية" وهي تتعلق بالملامح وبأمور بيولوجية أخرى فليست بجنسية خاصة يمكن تمييزها من بين قبائل الأجناس البشرية، لما نراه فيما بين شعوبها من تباين. ثم إن بين العرب أنفسهم، تباينًا واختلافًا في الملامح، بسبب قرب العرب وبعدهم من الأعاجم, وأثر فعل الرقيق والأسرى في امتزاج الدم بينهم, ثم أثر فعل الطبيعة وعملها في الإنسان، وما تقدمه له من غذاء ونوع ماء وحر وبرد ومطر وضغط جوي ونوع تربة. واليهود هم من الجنس السامي، جنس خليط كذلك في القديم وفي الحديث, فقد دخل اليهود دم غريب أيضًا، ونجد في التوراة وفي أسفار المكابيين والكتب العبرانية الأخرى، إكراه اليهود للشعوب التي استولوا على أرضها على التهود, فدخلت في اليهودية، وهي ليست من أصل يهودي، وصارت من يهود. وقد دخلت اليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحارث كعب وكندة، وهم من العرب1, ودخل آخرون في اليهودية، وصاروا يهودًا. فاليهود مثل غيرهم، فيهم اليهودي الخالص، وفيهم اليهودي الغريب, وفي ملامحهم المتباينة ما هو دليل على وجود الاختلاط في الدم. وأنا إذ أتكلم عن ملامح العربي، فإني لا أزعم أن لدي أو لدى الباحثين مقاييس خاصة ثابتة نستطيع أن نقيس بها ملامح العرب, بحيث نحددها في حدود ونرسم لها رسومًا لا تتعداها ولا تتخطاها. فحدود مثل هذه لا يمكن أن توجد ولا يمكن أن ترسم؛ لأن بين العرب تباينًا وتنابزًا في الصور وفي الملامح بحيث يكون من الصعب علينا وضع حدود ثابتة لملامح العرب، يخضع لها كل العرب أو أكثرهم. وسبب ذلك اتساع جزيرة العرب, ووجود سواحل طويلة جدا تقابل قارتين: قارة سوداء هي إفريقيا، وقارة أخرى هي آسيا، لون بشرة سكان سواحلها الجنوبية الشرقية السواد والسمرة الغامقة. وهي سواحل مفتوحة غذَّت جزيرة العرب بعناصر ملونة اختلط دمها بالدم العربي حتى أثر ذلك اللون في سحن الناس هناك, فبان السواد أو اللون الداكن على السواحل العربية المقابلة لسيلان وللهند, وظهرت الملامح الإفريقية على سحن الساحل الغربي لجزيرة العرب من تهامة فيما بعد حتى ساحل عمان، وظهرت سحن وملامح أقوام بيض من روم

_ 1 الأعلاق النفيسة "217".

ورومان وأهل فارس في مواضع أخرى من جزيرة العرب، بسبب سياسة الحكومات القاضية بالتهجير نكاية بالمهجرين، أو بسبب تنقلات الجيوش والحروب، أو التجارة، أو الخطط العسكرية القاضية بحماية المصالح الاقتصادية, وذلك بوضع حاميات عسكرية على سواحل الجزيرة لحماية السفن من غارات الأعراب ولصوص البحر. ثم يحدث أن تنقطع الأسباب برجال تلك الحاميات، وتنقطع صلاتهم بالأم لعوامل عديدة، فيستقروا في مواضعهم ويتعربوا حتى صاروا عربًا نسوا أصلهم وعدوا من خلص العرب, ولكن العرق دساس كما يقول الناس، فبقي أثره بارزًا ظاهرًا على الوجوه، نراه حتى اليوم في تغاير وتمايز سحن سكان السواحل فيما بينها، وفي تغايرها عن سحن أهل باطن جزيرة العرب تغايرًا ملحوظًا. وقد أشرت في كتابي "تأريخ العرب قبل الإسلام" وفي الجزء الأول والثاني من هذا الكتاب إلى أثر المستعمرات اليونانية في سحن العرب، كما هو الحال في جزيرة "فيلكة" في الكويت وإلى أثر الرقيق والتجارة في باطن جزيرة العرب مما يجعلني في غنى عن إعادة الكلام عن ذلك مرة أخرى. وقد ذكر أهل الأخبار أن الروم سكنت في الجاهلية جبل "ملكان" وهو جبل في بلاد طيء1, فلا يستبعد بقاء هؤلاء فيه وسكنهم فيه، وتحولهم إلى عرب بتعربهم كما تعرب غيرهم من اليونان ممن نزل المستوطنات اليونانية في بلاد العرب. ونجد بمكة ويثرب وبمواضع أخرى من جزيرة العرب موالي أصلهم من الفرس أو الروم, برز منهم بعض الصحابة مثل: "سلمان الفارسي" و"رومان الرومي", وهو من موالي الرسول2, وغيرهم. وقد ترك هؤلاء الموالي أثرًا في ملامح الناس ولا شك. ثم يلاحظ أن أجسام سكان السواحل أقصر من أجسام أبناء الجبال والنجاد, وأن أهل التهائم والسواحل الجنوبية لجزيرة العرب أقصر قامة من أهل نجاد اليمن أو أهل نجد. كما نجد اختلافًا بين ملامح القبائل لا زال بارزًا حتى اليوم، اختلافًا يتحدث عن طبيعة الامتزاج الذي وقع في الدم في أيام الجاهلية أيضًا،

_ 1 تاج العروس "7/ 184"، "ملك". 2 تاج العروس "8/ 320"، "روم".

لاختلاط الدماء وامتزاجها بالعوامل التي ذكرتها، وإن ذهب البعض إلى أن جزيرة العرب كانت في عزلة عن العالم, فهذه العزلة التي يتحدثون عنها، هي عزلة لم تكن عامة ولا يمكن أن نسميها عزلة صحيحة إلا بالنسبة للقبائل المتبدية التي عاشت في صميم البوادي، غير أن تلك القبائل لم تتمكن مع ذلك من عزل نفسها عن الرقيق والأسرى الغرباء. ثم نجد فروقًا بين العرب والأعراب، سببه اختلاف المحيط والظروف والغذاء, فالعربي ممتلئ الجسم بالقياس إلى الأعرابي الرشيق القليل اللحم، الدقيق العظم. وتظهر هذه النحافة في وجه الأعرابي أيضًا، فوجهه ممشوق قليل اللحم، دقيق ممتد, ذو ذقن بارز، وأنف دقيق، وعينين براقتين. وتعد الرشاقة في جسم العربي من محاسنه؛ لأنها تجعله معتدل القوام، خفيف الحركة، وقد مدح "امرؤ القيس" الغلام الخف، أي: الخفيف الجسم، السريع الحركة الذي ينزل عن صهواته ويلوي بأثواب العنيف المثقل, أي: الثقيل الجسم السمين. وقيل: الخفيف في الجسم والخفاف في التوقد والذكاء1, ويعد ثقل الجسم من المعيبات. ومن المجاز التخفيف ضد التثقيل والخفيف ضد الثقيل, وقد اعتبروا الثقل ذمًّا في الإنسان, فقيل: هو ثقيل على جلسائه، وهو ثقيل الظل، ويقال: مجالسة الثقيل تضني الروح، حتى ألف بعض العلماء في أخبار الثقلاء2. و"الربع" من الرجال، أي المتوسط القامة، النموذج الأوسط للإنسان وحد الكمال في الجسم عند العرب, ويقال له: "ربعة", و"مربوع". وقد نعت رسول الله بأنه "ربعة" من الرجال، وورد أنه كان أطول من المربوع وأقصر من المشذب3. والوسط عند العرب هو بين الجيد والرديء, وأوسط الشيء أفضله وخياره, ومنه الحديث: "خيار الأمور أوساطها"4. وقد هابت العرب أصحاب الطول في الجسم، والكبر في الرأس, واحترموا أصحاب الهيبة والتأثير في النفس، وقد ذكر بعض منهم في كتب أهل الأخبار. وقد رموا القصير

_ 1 تاج العروس "6/ 92 وما بعدها"، "خف". 2 "قال الراغب: الثقل في الإنسان يستعمل تارة في الذم وهو أكثر في التعارف، وتارة في المدح"، تاج العروس "7/ 245"، "ثقل". 3 تاج العروس "5/ 338"، "ربع". 4 تاج العروس "5/ 240 وما بعدها"، "وسط".

بالمكر والخديعة، ولكنهم اعتبروا القصر في الجسم من العيوب، لا سيما إذا كان ذلك القصير غليظ البطن, وقد عرف الإنسان الموصوف بهذه الصفة بالدحداح وبالداح وبالدودح وبالذحذاح1. والدودحة القصر مع السمن2, وأما "الدرحاية"، فالرجل الكثير اللحم القصير السمين البطين، اللئيم الخلقة, وعرف الرجل المسن الذي ذهبت أسنانه بـ"الدردح"3. واعتبر العرب طول العنق من سمات المدح؛ ولذلك وصف رؤساء العرب بطول العنق. وعُبر عن الرؤساء والكبراء والأشراف بـ"الأعناق"، و"أعناق", وعبر عن الجماعة الكثيرة بـ"الأعناق" كذلك4. وذكر الشاعر "عروة بن الورد" عنق الآرام في شعر له, وصفه للناشئات الماشية بتبختر. إذ قال: والناشئات الماشيات الخوزرى ... كعنق الآرام أوفى أو صرى5 والعرب مثل غيرهم لا يحبون الصلع، ويكثر ظهوره بين العجزة والمسنين والأشراف. وقد ذكر أن أكثر الأشراف من العرب كانوا من الصلع، وتفسير ذلك أن أكثر الأشراف هم من ذوي الأسنان، وأن الإنسان إذا تقدمت به السن، أخذ الصلع يجد له مكانًا في رأسه فيلعب فيه. ومن ذلك قول الناس يوم بدر: "ما قتلنا إلا عجائز صلعًا" أي: مشايخ عجزة عن الحرب. وأنشد "ابن الأعرابي": "يلوح في حافات قتلاه الصلع" أي: يتجنب الأوغاد ولا يقتل إلا الأشراف6. وهم يفضلون "الأفرع" على الأصلع, والأفرع هو الكثير الشعر, وكان "أبو بكر" أفرع، وكان عمر أصلع, وكان رسول الله أفرع ذا جمة7. والصلع خير من "القرع"؛ لأن القرع داء يصيب الرأس، فيؤثر في منظره

_ 1 تاج العروس "2/ 135"، "دح". 2 تاج العروس "2/ 136"، "دودحة". 3 تاج العروس "2/ 136"، "دردح". 4 تاج العروس "7/ 26"، "عنق". 5 اللسان "4/ 237"، "خزر". 6 تاج العروس "5/ 416"، "صلع". 7 تاج العروس "5/ 449"، "فرع".

ويسبب سقوط شعره وحدوث أثر دائم فيه، وقد تنبعث رائحة كريهة منه1. وقد ذكر الإخباريون أسماء عدد من الأشراف عرفوا بقرعهم. وقد اشتهر بعض العرب بطول القامة، حتى زعم أن بعضًا منهم كان إذا ركب الفرس الجسام خطت إبهاماه في الأرض, وذكروا من هؤلاء: "جذيمة بن علقمة بن فراس"، المعروف بـ"جذل الطعان" الكناني، و"ربيعة بن عامر بن جذيمة بن علقمة بن فراس"، وكان يماشي الظعينة فيقبلها، فسمي "مقبل الظعن"، و"زيد الخيل بن المهلهل الطائي"، و" أبا زيد حرملة بن النعمان الطائي"، وعدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، وأباه سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وعبد الله بن أبي بن سلول، وبشير بن سعد أخا بني الحارث بن الخزرج، وجبلة بن الأيهم الغساني، وحمل بن مرداس النخعي، ومالكًا الأشتر بن الحارث النخعي, وعبد الله بن الحصين ذي الغصة الحارثي، وعامر بن الطفيل الجعفري، وقيس بن سلمة بن شراحيل بن أصهب الجعفي2.

_ 1 تاج العروس "5/ 463"، "قرع". 2 المحبر "ص233 وما بعدها".

العرب أفخر الأمم

العرب أفخر الأمم: يرى الجاحظ أن العرب أفخر الأمم، وأرفعها وأحفظها لأيامها، وينسب ذلك إلى طبيعة بلادهم، إذ "كانوا سكان فيافٍ وتربية العراء, لا يعرفون العمق ولا اللثق، ولا البخار ولا الغلظ ولا العفن ولا التخم، أذهان حداد، ونفوس منكرة، فحين حملوا حدهم ووجهوا قولهم لقول الشعر وبلاغة المنطق, وتشقيق اللغة وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيامهم أحفظ وأذكر"1. وهم

_ 1 مناقب الترك، من رسائل الجاحظ "1/ 70".

لطبيعة الأرض التي وُلدوا بها صاروا على هذه الحال, ولم يصيروا كاليونان في الحكمة وفي العلوم، ولا كالصين في السبك والصياغة والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنحت والتصاوير، ولا كالهنود أو الفرس1. وقد وصف الأعرابي بالتفاخر وبالتباهي، فهو فخور معجب بنفسه مترفع عن غيره حتى لكأنه النمر، مع أنه من أفقر الناس؛ ولهذا صاروا إذا أرادوا وصف شخص متغطرس متجبر مع أنه لا يملك شيئًا يفوّق به نفسه على غيره, قالوا عنه: "نبطي في حبوته, أعرابي في نمرته، أسد في تامورته"2.

_ 1 مناقب الترك, من رسائل الجاحظ "1/ 66 وما بعدها". 2 تاج العروس "3/ 585"، "نمر".

العجم

العجم: ويطلق العرب على غيرهم ممن لا ينتمون إلى العرب، لفظة "أعاجم", و"العجم" عندهم خلاف العرب, والرجل الواحد "أعجمي", ولعلماء اللغة آراء في تفسير هذه اللفظة1. وهي من الألفاظ الجاهلية؛ لورودها في القرآن الكريم, ففيه: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} 2, و {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} 3, و {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} 4، و {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ, فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} 5. ففي هذه الآيات دلالة واضحة على أن المراد من "أعجمي" خلاف العربي, وأن هذا المصطلح كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام. ويطلق العرب على العجم "الحمراء" لبياضهم, ولأن الشقرة أغلب الألوان عليهم. وكانت العرب تقول للعجم الذين يكون البياض غالبًا على ألوانهم مثل الروم والفرس ومن صاقبهم: إنهم الحمراء، والعرب إذا قالوا: فلان أبيض

_ 1 تاج العروس "8/ 389 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 229". 2 النحل، الآية 103. 3 فصلت, الآية 44. 4 فصلت, الآية 44. 5 الشعراء, الآيتان 198, و199.

وفلانة بيضاء، فمعناه الكرم في الأخلاق لا لون الخلقة. وإذا قالوا: فلان أحمر وفلانة حمراء عنوا بياض اللون, والعرب تسمي الموالي: الحمراء1. جاء في الحديث: "بعثت إلى الأحمر والأسود"، أي: إلى العجم والعرب كافة2. وورد أن العرب تقول: جاء بغنمه حمر الكلى وجاء بها سود البطون، معناهما المهازيل، وهو مجاز3. ويذكرون أن معنى حمر الكلى الامتلاء والسمن، والسواد بمعنى الهزال والرشاقة. ولما كان الأعاجم ممتلئي الجسم بالنظر إلى العرب، قالوا لهم "الحمراء". وقد كان العرب يطلقون على الموالي "الحمراء"، واذا سبُّوا أحدهم قالوا: "يابن حمراء العجان, أي: يابن الأمة، كلمة في السب والذم"4. ولعلهم فعلوا ذلك بسبب امتلاء أجسام الموالي ولا سيما العجان، الذين لا يتحركون ولا يتنقلون من أماكنهم، ويأكلون الخبز فامتلأت لذلك بطونهم وتكرشوا. ولم يشرح علماء العربية الأسباب التي حملت العرب على تلقيب العجم بـ"رقاب المزاود" "رقاب المزود"5. وقد ذكر بعض العلماء، أن العرب إنما لقبت العجم بـ"رقاب المزاود"؛ لطول رقابهم أو لضخامتها كأنها ملأى6. ويكنى العرب بـ"السبط" عن العجمي, وبـ"الجعد" عن العربي7؛ وذلك لأن سبوطة الشعر هي الغالبة على شعور العجم من الروم والفرس وجعودة الشعر هي الغالبة على شعور العرب. ولكنهم كانوا يفرقون بين جعودة شعر العرب وجعودة شعر الزنج والنوبة؛ لأنهم ينظرون إلى الزنج والسود على أنهم دونهم في المنزلة والمكانة؛ ولهذا قالوا: إن العرب تمدح الرجل إذ تقول: رجل جعد، أي: كريم جواد كناية عن كونه عربيًّا سخيًّا؛ لأن العرب موصوفون بالجعودة، وتذم الرجل أيضًا حين تقول: رجل جعد، إذ يقصدون بذلك

_ 1 اللسان "4/ 210"، "حمر"، تاج العروس "3/ 154"، "حمر". 2 تاج العروس "3/ 154"، "حمر". 3 تاج العروس "3/ 158". 4 تاج العروس "3/ 158". 5 اللسان "ز/ و/ د"، "3/ 198". 6 تاج العروس "2/ 366"، "زاد". 7 تاج العروس "5/ 149"، "سبط".

رجلًا لئيمًا لا يبض حجره، وقد يراد به رجل قصير متردد الخلق, فهو من الأضداد؛ لذلك فالجعد في صفات الرجال يكون مدحًا وذمًّا. وإذا قالوا: رجل جعد السبوطة فمدح، إلا أن يكون قططًا مفلفل الشعر فهو حينئذ ذم1. ومن المجاز قول العرب: الأعداء صهب السبال وسود الأكباد، وإن لم يكونوا كذلك، أي صهب السبال، فكذلك يقال لهم. ورد في الشعر: جاءوا يجرون الحديث جرًّا ... صهب السبال يبتغون الشرَّا وإنما يريدون أن عداوتهم كعداوة الروم, والروم صهب السبال والشعر، وإلا فهم عرب وألوانهم الأدمة والسمرة والسواد2. ويذكر علماء اللغة أن العرب تصف ألوانها بالسواد، وتصف ألوان العجم بالحمرة, وقد افتخر الشعراء بذلك في الجاهلية وفي الإسلام. من ذلك قول الفضل بن عباس بن عتبة اللهبي: وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب يقول: أنا خالص؛ لأن ألوان العرب السمرة. ومن ذلك قول مسكين الدارمي: أنا مسكين لمن يعرفني ... لوني السمرة ألوان العرب3 قال "الجاحظ": "والعرب تفخر بسواد اللون ... وقد فخرت خُضر محارب بأنها سود، والسود عند العرب الخضر". ثم ذكر أمثلة من أمثلة افتخار بعض القبائل والأشخاص بكونهم "خضرًا", حتى قال: "وخضر غسان بنو جفنة الملوك, قال الغساني: إن الخضارمة الخضر الذين ودوا ... أهل البريص ثمانى منهم الحكم وقد ذكر حسان أو غيره الخضر من بني عكيم، حين قال: ولست من بني هاشم في بيت مكرمة ... ولا بني جمح الخضر الجلاعيد

_ 1 تاج العروس "2/ 320 وما بعدها", "جعد". 2 تاج العروس "1/ 342"، "صهب". 3 تاج العروس "3/ 179 وما بعدها"، "خضر"، رسائل الجاحظ، كتاب فخر السودان على البيضان "1/ 207"، "تحقيق عبد السلام هارون".

قالوا: وكان ولد عبد المطلب العشرة السادة دُلمًا ضخمًا، نظر إليهم عامر بن الطفيل يطوفون كأنهم جمال جون، فقال: بهؤلاء تمنع السدانة. وكان عبد الله بن عباس أدلم ضخمًا، وآل أبي طالب أشرف الخلق، وهم سود وأدم ودلم"1. واشتهر بعض سودان العرب بالشجاعة والإقدام، منهم أربعة عرفوا بـ"أغربة العرب" وذؤبان العرب, منهم: عنتر وخفاف بن ندبة السلمي، سار فيه السواد من قبل أمه، وهو من حرة بني سليم، أدرك النبي، وكان شاعرًا شجاعًا، وقل ما يجتمع الشعر والشجاعة في واحد. ومنهم السليك بن السلكة2. وهناك قبائل غلب على لونها السواد، حتى عبر عنها بـ"دلم", والدلم: الرجل الشديد السواد3. جاء إليها السواد؛ لكون أصلها من إفريقيا على ما يظهر، وكانت قد استقرت بجزيرة العرب وتعربت، حتى عدت من العرب, أما الأسر والأفراد الدلم، فقد ظهر السواد على لونهم بالتزاوج من الملونين. فقد كان من عادة الأشراف الاتصال بالإماء السود، فإذا ولدن منهم أولادًا نجبًا شجعانًا ألحقهم آباؤهم بهم، ونسبوهم إليهم كالذي كان من أمر عنترة العبسي، وقد مال قوم من قريش إلى التزوج بالإماء السود، وقد ظهرت هذه النزعة بين السادات والأشراف. وقد ذكر "الجاحظ" في معرض حجج السودان على البيضان، وعلى لسان الزنج قولهم للعرب: "من جهلكم أنكم رأيتمونا لكم أكفاء في الجاهلية في نسائكم، فلما جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسدًا, وما بنا الرغبة عنكم، مع أن البادية منا ملأى ممن قد تزوج ورأس وساد، ومنع الذمار، وكَنَفَكم من العدو"4. وفي هذا القول إشارة إلى التزاوج الذي كان بين العرب والزنج, أي: السودان المجلوبين من إفريقيا، في أيام الجاهلية، وإلى انصراف العرب عنه

_ 1 فخر السودان، للجاحظ "1/ 207 وما بعدها"، من "رسائل الجاحظ"، تحقيق "عبد السلام هارون". 2 الثعالبي، ثمار "159 وما بعدها". 3 تاج العروس "8/ 292", "دلم". 4 من رسائل الجاحظ "1/ 197".

في الإسلام، ما خلا البادية؛ وذلك بسبب إقبالهم على التزوج بالفارسيات والروميات وبغيرهن على ما يظهر، بسبب الفتوح وتوسع أسواق النخاسة في هذا الوقت, وارتفاع مستوى الوضع الاقتصادي للعرب في الإسلام عنه في الجاهلية؛ مما مكنهم من التزوج بالأجنبيات البيض الجميلات وتفضيلهن على السودانيات. وظهور نظرة الازدراء إلى السودان في الإسلام؛ بسبب الأعاجم المسلمين الذين كانوا يزدرون العبيد وينظرون إليهم على أنهم دونهم في المنزلة، فانتقلت هذه النظرة منهم إلى العرب. ويظهر من رسالة الجاحظ: "فخر السودان على البيضان"، أن نزاعًا كان قد دبَّ بين السودان والعرب في الإسلام؛ بسبب نظرة الازدراء التي أخذ الفاتحون ينظرون بها إليهم, فصاروا يترفعون عنهم ولا يخالطونهم، وهذا مما أغاظهم، وحملهم على نبش الماضي، والإتيان بالأخبار وبالأشعار عن دور الحبش في جزيرة العرب قبل الإسلام، وكيف أنهم كانوا قد ملكوا "بلاد العرب من لدن الحبشة إلى مكة"1، وهزموا ذا نواس، وقتلوا أقيال حمير، فملكوا العرب ولم يملكهم العرب2, إلى غير ذلك من دعاوٍ تجدها في قصيدة الشاعر الزنجي "الحيقطان", التي يفتخر فيها بالحبش على العرب, على نحو فخر الشعوبية بأصولهم على العرب. وهي قصيدة شهيرة، قالها يوم سمع "جرير" يسخر منه بشعر قاله في وصفه, فرد عليه ردًّا شديدًا بقصيدته هذه التي نظمها وهو باليمامة3. وقد عُرفت بعض القبائل ببياض بشرتها، واشتهرت نساؤها ببياض البشرة، ورد "في الحديث: أنه لما خرج من مكة قال له رجل: إن كنت تريد النساء البيض والنوق الأدم, فعليك ببني مدلج"4. ويقال للمرأة التي يغلب على لونها البياض: "الحمراء"، وقد لقب الرسول زوجته "عائشة" بـ"الحميراء"؛ لبياض لونها.

_ 1 رسائل الجاحظ "1/ 193 وما بعدها". 2 المصدر نفسه. 3 رسائل الجاحظ "1/ 180، 182 وما بعدها". 4 تاج العروس "8/ 181 وما بعدها"، "أدم".

القبيلة

القبيلة: والقبيلة هي عماد الحياة في البادية، بها يحتمي الأعرابي في الدفاع عن نفسه وعن ماله، حيث لا "شُرَط" في البوادي تؤدب المعتدين، ولا سجون يُسجن فيها الخارجون على نظام المجتمع، وكل ما هناك "عصبية" تأخذ بالحق و"أعراف" يجب أن تطاع. والرابط الذي يربط شمل القبيلة ويجمع شتاتها هو "النسب", ويفسر ذلك بارتباط أبناء القبيلة كلها بنسب واحد وبدم واحد وبصلب جد أعلى, من صلبه انحدر أفراد القبيلة في اعتقادهم؛ ولهذا نجد أهل الأنساب يرجعون نسب كل قبيلة إلى حد أعلى، ثم يرجعون أنساب الجدود، أي: أجداد القبائل إلى أجداد أقدم، وهكذا حتى يصلوا إلى الجدين العرب: قحطان وعدنان. وقد حفظت الكتابات العربية الجنوبية أسماء عدد كبير من القبائل، لم يعرف أسماء أكثرها أهل الأخبار. وهي تفيدنا من هذه الناحية فائدة كبيرة في الوقوف على هذه القبائل، وبعضها كان قد هلك وانحلَّ واختلط في القبائل الأخرى قبل الميلاد وبعضها بعد الميلاد وقبل الإسلام بأمد. وتتألف القبيلة من بيوت، يختلف عددها باختلاف حجم القبيلة، وباختلاف المواسم. ففي مواسم الربيع، تضطر أحياء القبيلة إلى الانتشار والابتعاد؛ لتتمكن إبلها من الرعي ومن إملاء بطونها بالعشب, فتتجمع على شكل مستوطنات يتراوح عدد بيوت كل مستوطنة منها ما بين الخمسين والمائة والخمسين بيتًا. أما في المواسم الأخرى، حيث تنحبس الأمطار وتجف الأرض، فتعود أحياء القبيلة إلى تكتلها وتجمعها، فتكون كل مجموعة حوالي "500" بيت أو أكثر, تتجمع حذر وقوع غزو عليها، وللتعاون فيما بينها عند الشدة والعسر1. والقبيلة في عرف علماء اللغة: جماعة من أب واحد، والقبائل في نظرهم من قبائل الرأس لاجتماعها، أو من قبائل الشجرة وهي أغصانها2، فهي إذن جماعة من الناس تضم طوائف أصغر منها، وهي تنتمي كلها إلى أصل واحد، وجذر

_ 1 W. Caskel, Die Bedeutung der Beduinen, S., 8. 2 تاج العروس "8/ 72"، "قبل".

راسخ، ولها نسب مشترك يتصل بأب واحد هو أبعد الآباء والجد الأكبر للقبيلة. فالرابط الذي يربط بين أبناء القبيلة ويجمع شملها ويوحد بين أفرادها هو "الدم"، أي النسب، والنسب عندهم هو القومية ورمز المجتمع السياسي في البادية. والقبيلة هي الحكومة الوحيدة التي يفقهها الأعرابي, حيث لا يشاهد حكومة أخرى فوقها. وما تقرره حكومته هذه من قرارات يطاع وينفذ، وبها يستطيع أن يأخذ حقه من المعتدي عليه. وهذه النظرة الخاصة بتعريف القبيلة, هي التي حملت أهل الأنساب والأخبار على إطلاق لفظة "القبيلة" على الحضر أيضًا, مع أنهم استقروا وأقاموا. فقريش عندهم قبيلة، والأوس والخزرج قبيلة، وثقيف قبيلة؛ ذلك لأن هؤلاء الناس وإن تحضروا واستقروا وأقاموا وتركوا الحياة الأعرابية، إلا أنهم بقوا رغم ذلك على مذهب أهل الوبر ودينهم في التمسك بالانتساب إلى جد أعلى وإلى أحياء وبطون, وفي إجابة النخوة والعصبية، وما شابه ذلك من سجايا البداوة، فعدوا في القبائل، وإن صاروا حضرًا وأهل قرار، وقد طلقوا التنقل وانتجاع الكلأ. وتشارك الشعوب السامية العرب في هذه النظرة؛ لأن نظامها الاجتماعي القديم هو كالنظام العربي قائم على القبيلة, والقبيلة عندها جماعة من بيوت ترى أنها من أصل واحد، وقد انحدرت كلها من صلب جد واحد. فهم جميعًا أبناء الجد الذي تتسمى به القبيلة، وهم مثل العرب في النداء وفي النسب, قد يذكرون الاسم فقط, فيقولون مثلًا: أدوم ومؤاب وإسرائيل ويهوذا، أو أبناء إسرائيل وأبناء يهوذا، وبنو إسرائيل وبنو يهوذا، وقد يقولون: بيت إسرائيل وبيت يوسف وبيت خمرى وبيت أديني بمعنى أبناء المذكورين، تمامًا كما نقول: غسان، وآل غسان، وأبناء غسان, وأولاد غسان, ومن غسان، وغساني، وما شاكل ذلك، ويريدون بها شيئًا واحدًا، وهو النسب، أي: الانتماء إلى جد واحد, به تسمى القبيلة وإليه يرجع نسبها. وهم يشعرون كالعرب أن أبناء القبيلة هم إخوة وهم من دم واحد, ومن لحم ودم ذلك الجد. وهم يخاطبون بعضهم بعضًا بقولهم: "أنت من لحمي ودمي", وفي التوراة أمثلة عديدة من هذا القبيل. فلما ذهب "أبو مالك بن

يربعل" إلى عشيرة أمه خاطب أبناءها بقوله: "أيما خير لكم! أن يتسلط عليكم سبعون رجلًا جميع بني يربعل، أم أن يتسلط عليكم رجل واحد, واذكروا أني أنا عظمكم ولحمكم"1. وقد اعتبر "داود" جميع أبناء عشيرته إخوة له2, وخاطب "شيوخ يهوذا" بقوله: "أنتم إخوتي، أنتم عظمي ولحمي"3. فأبناء القبيلة هم إخوة من دم واحد, يسري في أجسامهم جميعًا ما دامت القبيلة حية باقية. ووحدة الدم هذه هي الرابط الذي يجمع شمل القبيلة, وهي صلة رحم، وعصبية، والحكومة الصحيحة التي يجب أن تطاع. والعربي مثل بقية الساميين لم يفهم الدولة إلا أنها دولة القبيلة, وهي دولة صلة الرحم التي تربط الأسرة بالقبيلة، دولة العظم واللحم، دولة اللحم والدم, أي: دولة النسب. فالنسب هو الذي يربط بين أفراد الدولة ويجمع شملهم، وهو دين الدولة عندهم وقانونها المقرر المعترف به. وعلى هذا القانون يعامل الإنسان، وبالعرف القبلي تسير الأمور، فالحكام من القبيلة، وأحكامهم أحكام تنفذ في القبيلة، وإذا كانت ملائمة لعقلية القبيلة والبيئة، وهذا هو ما يحدث في الغالب, تصير سنة للقبيلة، نستطيع تسميتها بـ"سنة الأولين". ووطن القبيلة هو بالطبع مضارب القبيلة حيث تكون، وحيث يصل نفوذها إليه، فهو يتقلص ويتوسع بتلقص وبتوسع نفوذ القبيلة. وقد واجه المسلمون في أيام الفتوح صعوبة كبيرة في فتوحهم؛ بسبب العقلية القبلية وضيق أفقها، وعدم تمكنها من التخلص من مثلها الجاهلية بسهولة. فقد كان على القائد أن يقاتل عدوه بجيش يحارب على شكل كتل قبائل، تتكون كل كتلة من مقاتلي قبيلة واحدة، لا من جنود ينتمون إلى أمة هي فوق الكتل والقبائل. وكان على رأس كل وحدة مقاتلة رؤساء من القبيلة التي ينتمي إليها الجنود، وقد واجه الإمام "علي" صعوبة حينما حارب في معركة الجمل وفي معركة صفين وغيرها، إذ اشترطت عليه القبائل المحاربة، ألا تحارب إلا رجال قبيلتها الذين يكونون ضده، فالهمدانيون الذين معه يحاربون الهمدانيين الذين يحاربون مع خصمه. وهكذا فعلت بقية القبائل، للعصبية القبلية؛ لأنهم لم يكونوا يستطيعون رؤية قبيلة غريبة تفتك

_ 1 سفر القضاة، الإصحاح التاسع، الآية 2. 2 صموئيل الأول، الإصحاح 20, الآية 29. 3 صموئيل الثاني، الإصحاح التاسع عشر, الآية 13.

بإخوانهم من قبيلتهم، وهم ينادون بشعار العصبية، شعار القبيلة. أما هم فإن قاتلوا إخوانهم من قبيلتهم، فإن قتالهم هذا يختلف عن قتال الإخوة حين يقتتلون قتالًا قد يكون أشد ضراوة من قتال الغرباء، لا يلتفت فيه إلى وجود دم واحد بين المتقاتلين، وإلى أنهم من بيت أب وأم، يحتم عليهم التكتل والتعصب، إذ لا غريب هنا أمامهم في هذا القتال. ولست بحاجة وأنا في هذا المكان، لتكرار قول سبق أن قلته في الجزء الأول من هذا الكتاب, من أن أسماء القبائل لا تعني بالضرورة أنها أسماء أجداد حقيقيين عاشوا وماتوا. فبينها كما سبق أن قلت أسماء مواضع، مثل غسان، وبينها أسماء أصنام مثل "بني سعد العشيرة", وبينها أسماء أحلاف مثل "تنوخ", وبينها نعوت وألقاب ... إلى آخر ذلك من أسماء قبائل وصلت إلى علم علماء الأنساب, فأوجدوا لها معاني واعتبروها أسماء رجال حقيقيين تزوجوا ونسلوا ومنهم من كان عاقرًا فلم ينسل، فذهب أثره، ولم تبق له بقية1. والمفهوم من لفظة "القبيلة" في العادة: القبائل التي تتألف من عمائر وما وراء العمائر من أقسام. فإذا ذكرت القبيلة انصراف الذهن إلى آلاف من البيوت تجتمع تحت اسم تلك القبيلة. ولكن الناس يتجوزون في الكلام، وفي الكتابة أحيانًا فيطلقونها على عدد قليل من الناس, قد يبلغ ثلاثة نفر أو أربعة مثل: "بني عبد الله بن أفصي بن جديلة"، و"بني جساس بن عمرو بن خوية بن لوذان" من "بني فزارة"، و"كليب بن عدي بن جناب بن هبل"، و"بني شقرة" من تميم. وقد يطلقونها على أكثر من ذلك، ولكن على عدد قليل من الناس أيضًا، كأن يكون خمسين رجلًا أو ستين2, وهذا الاستعمال، هو على سبيل التجوز لا الاصطلاح. ويرى علماء العربية أن هناك تجمعات، هي في نظرهم أكبر حجمًا من القبيلة, أطلقوا عليها "الشعوب". فذكروا أن الشعوب فوق القبائل، ومثاله: بنو قحطان، وبنو عدنان، فكل منهما شعب, وما دونهما قبائل. وذهب بعض منهم إلى أن "الشعوب" للعجم، فإن الشعوب بالنسبة لهم، مثل القبائل

_ 1 راجع الجزء الأول من كتابي "ص294 وما بعدها". 2 المحبر "ص256"، "القبائل التي لا يزيد عددها".

للعرب، ومنه قيل للذي يتعصب للعجم "شعوبي"، وقيل: بل هي للعرب وللعجم. والذي عليه أكثر علماء الأنساب أن الشعب أكبر من القبيلة، وأن الشعب أبو القبائل الذي ينتسبون إليه، أي: يجمعهم ويضمهم1. ويظهر أن مرد هذا الاختلاف هو ما ورد في القرآن الكريم من قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} 2. فقدم "الشعوب" على القبائل, فذهب أكثر المفسرين والعلماء إلى أن هذا التقديم يعني أن الشعب أكبر من القبيلة، وأن الشعوب الجمَّاع والقبائل البطون، أو الشعوب الجمهور والقبائل الأفخاذ، أو الشعوب: النسب البعيد، والقبائل: دون ذلك، كقولك فلان من بني فلان، وفلان من بني فلان. وتأول بعض آخر هذا المعنى، فذهبوا إلى أن هذا التقديم أو التأخير، لا علاقة له بالكبر، أي: بحجم الشعب أو القبيلة، والآية لا تريد ذلك، وإنما تريد الأنساب، وأنها نزلت في بيان أن الإنسان لا بنسبه، وإنما بعمله. وعلى هذا, فإن الشعب في نظرهم دون القبيلة في الترتيب, والشعب بعد القبيلة في الدرجة3. وقد أخذ العلماء بالتأويل الأول للفظة "الشعب" حتى صار هذا المعنى هو المعنى المفهوم منها عند الناس في الإسلام، فهي إنما تعني اليوم جنسًا من أجناس البشر له خصائصه ومميزاته، كالشعب العربي والشعب اليوناني والشعب التركي والشعب البريطاني والشعب الأمريكي، وهكذا, أو جزءًا كبيرًا مستقلًّا من أجزاء أمة واحدة، كأن نقول: الشعب العراقي، والشعب السوري، والشعب السعودي، والشعب المصري، أي: وحدة جغرافية سياسية ذات كيان. ولفظة "الشعب" من الألفاظ الواردة في نصوص المسند, وهي فيها بمعنى قبيلة، وتكتب "شعبن"، بمعنى "الشعب"، وحرف النون في أواخر الأسماء أداة للتعريف في العربيات الجنوبية. فهي إذن مرادف "قبيلة" بالضبط, والجمع "أشعب"، أي "شعوب". ورد "سباواشعبهمو"، أي "سبأ وشعوبهم",

_ 1 تاج العروس "1/ 318"، الخوارزمي، مفاتيح العلوم "74". 2 سورة الحجرات، السورة رقم 49، آية 13، تفسير الطبري "26/ 88", تفسير الألوسي "26/ 147". 3 تفسير الطبري "26/ 88".

أو "سبأ وقبائلهم" بتعبير أدق وأصح. وورد "شعبن معن"، أي "قبيلة معين"، و"شعين همدان", أي "قبيلة همدان". والظاهر أن أهل مكة وقفوا في الجاهلية على هذه اللفظة أيضًا فاستخدموها, وأن قبائل حجازية مجاورة لمكة، كانت تستعمل لفظة "شعب" و"الشعب" بمعنى قبيلة، ونظرًا لورودهما معًا في القرآن الكريم، فرَّق العلماء بين اللفظتين، باعتبار أن ذكرهما معًا يعنى وجود بعض الاختلاف في المراد منهما. فوقع من ثَمَّ بين المسلمين هذا التمييز، وصارت لفظة "الشعب" تدل على معنى يختلف عن معنى كلمة "قبيلة" و"القبيلة". ويلي الشعب في اصطلاح أهل النسب: القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة. فالشعب النسب الأبعد مثل عدنان وقحطان، والقبيلة مثل ربيعة ومضر، والعمارة مثل قريش وكنانة، والبطن مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، ومثل بني هاشم، وبني أمية، والفصيلة مثل بني أبي طالب وبني العباس1. وجعل "ابن الكلبي" مرتبة بين الفخذ والفصيلة هي مرتبة العشيرة, وهي رهط الرجل2. وورد أن البطن دون القبيلة أو دون الفخذ وفوق العمارة. وذكر بعضهم أن أول العشيرة: الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ3. وذلك على رأي من جعل العشيرة: العامة، مثل: بني تميم وبني عمرو بن تميم، أي: الجماعة العظيمة4. وزاد بعض العلماء الجذم قبل الشعب، وبعد الفصيلة العشيرة، ومنهم من زاد بعد العشيرة الأسرة، ثم العترة. ورتبها آخرون على هذه الصورة: جذم, ثم جمهور، ثم شعب، ثم قبيلة، ثم عمارة، ثم بطن، ثم فخذ، ثم عشيرة,

_ 1 اللسان "14/ 57"، "16/ 199"، بلوغ الأرب "3/ 187 وما بعدها"، "تاج العروس "8/ 72"، السيرة الحلبية "1/ 37"، العمدة "2/ 191"، "محمد محيي الدين عبد الحميد", تاج العروس "9/ 141"، "بطن". 2 العقد الفريد "3/ 283 فما بعدها", المقريزي، النزاع والتخاصم "65", نهاية الأرب للنويري "2/ 262 وما بعدها". 3 تاج العروس "9/ 141"، "بطن". 4 تاج العروس "3/ 403"، "عشر".

ثم فصيلة، ثم رهط، ثم أسرة، ثم عترة، ثم ذرية. وزاد غيرهم في أثنائها ثلاثة هي: بيت، وحي، وجماع1. وذكر بعض علماء اللغة أن "الجذم"، الأصل في كل شيء؛ فيقال: جذم القوم: أهلهم وعشيرتهم, ومنه حديث حاطب: "لم يكن رجل من قريش إلا له جذم بمكة"2. وذكر بعض العلماء أن العمارة الحي العظيم يقوم بنفسه3, وأن الفرق بين الحي والقبيلة هو أن الحي لا يقال فيه: بنو فلان نحو قريش وثقيف ومعد وجذام, والقبائل يقال فيها: بنو فلان مثل بني نعيم وبني سلول4. وذكر أيضًا أن العمارة: الحي العظيم الذي يقوم بنفسه، ينفرد بظعنها وإقامتها ونجعتها, وقيل هو أصغر من القبيلة. وفي الحديث: "أنه كتب لعمائر كلب وأحلافها كتابًا". قال التغلبي: لكل أناس من معد عمارة ... عروضٌ، إليها يلجئون، وجانب5 وقسم "النويري" النظام القبلي عند العرب إلى عشر طبقات6, وابتدأ بـ"الجذم" وهو الأصل, وهو قحطان وعدنان، والطبقة الأولى، ثم الجماهير وهي الطبقة الثانية، ثم الطبقة الثالثة: الشعوب، والطبقة الرابعة: القبيلة، وهي التي دون الشعب تجمع العمائر، ثم الطبقة الخامسة: العمائر، وهي التي دون القبائل، وتجمع البطون، ثم الطبقة السادسة: البطون، وهي التي تجمع الأفخاذ, والطبقة السابعة: الأفخاذ, وهي أصغر من البطن، والفخذ تجمع العشائر, والطبقة الثامنة: العشائر، واحدها عشيرة، وهم الذين يتعاقلون إلى أربعة آباء, والطبقة التاسعة: الفصائل، واحدها فصيلة، وهم أهل بيت الرجل وخاصته، والطبقة العاشرة: الرهط، وهم الرجل وأسرته7.

_ 1 اللسان "18/ 235"، نهاية الأرب، للنويري "3/ 262 فما بعدها", الخوارزمي، مفاتيح العلوم "74". 2 تاج العروس "8/ 222". 3 المفضليات "ص414"، القاموس "2/ 95". 4 الخوارزمي، مفاتيح "ص74". 5 اللسان "4/ 606"، "عمر". 6 نهاية الأرب "2/ 277"، "الباب الرابع من القسم الأول من الفن الثاني في الأنساب". 7 نهاية الأرب "2/ 284 وما بعدها".

ما ذكرته يمثل مجمل آراء علماء النسب عند العرب في موضوع كيان القبيلة وفروعها التي تتفرع منها درجة درجة، حتى تصل إلى البيت الذي يتكون من الأب والأم وأولادهما. وقد رأينا أنهم قد اختلفوا فيما بينهم وتباينوا في الترتيب وفي العدد, منهم من يقدم، ومنهم من يؤخر، ومنهم من يزيد، ومنهم من ينقص. واختلافهم هذا فيما بينهم، هو دليل يشعرنا أن التقسيم المذكور لم يكن تقسيمًا ثابتًا عند كل القبائل وأنه لم يكن تقسيمًا جاهليًّا بل كان تقسيمًا محليًّا اختلف بين قبيلة وأخرى، وأن أسماء أجزاء القبيلة، لم تكن أسماء عامة متبعة عند الجميع، أي أسماء مقررة عند كل قبيلة، بل هي أسماء أخذها العلماء من هنا وهناك، ولهذا وقع بينهم هذا الاختلاف، ولو كان عند الجاهليين تقسيم واحد لأجزاء القبيلة فما كان من المعقول أن يقع علماء النسب واللغة فيما رأينا من تباين واختلاف, ولوجب اتفاقهم في الترتيب وفي العدد. فالتقاسيم المذكورة إذن، هي من وضع وترتيب وجمع علماء النسب واللغة في الإسلام. وأصغر وحدة من وحدات القبيلة هي: الأسرة، أي "البيت". فهي نواة القبيلة وبذرتها وجرثومتها، ومن نموها ظهرت شجرة القبيلة التي يختلف حجمها وتختلف كثرة أغصانها وفروعها باختلاف منبت الشجرة والظروف والعوامل التي أثرت في تكوينها، من بذرة جيدة ومن تربة صالحة وماء كافٍ. والبيت هو نواة القبيلة عند العرب، وهو نواة القبيلة عند كل الشعوب القبلية, بل هو نواة المجتمع في كل مجتمع إنساني.

القحطانية والعدنانية

القحطانية والعدنانية: تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن القحطانية والعدنانية بما فيه الكفاية1, وأعود هنا فأقول: إن ما ذكرته عن أهل المدر وأهل الوبر، أي: عن الحضر والبدو أو الأعراب وهم أهل البادية، لا يعني أن الحضر هم القحطانيون، وأن الأعراب هم العدنانيون, كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين باعتبار أن غالبية من نسميهم القحطانيين هم حضر، أو أقرب من غيرهم إلى الحضر، وأن غالبية العدنانية

_ 1 "1/ 493 وما بعدها".

أعرابية متبدية، والصواب عندي: أن في القحطانيين عربًا وأعرابًا، وفي العدنانيين حضرًا وبادية، وإن غلبت البداوة على العدنانيين؛ لأن من وجد الماء الدائم تنخ عليه وتحضر، قحطانيًّا كان النازل أو عدنانيًّا، فالحضارة تنبت حيث يكون الماء، والماء لا يعرف النسب والقبائل, من وجده وظفر به وأقام عليه تحضر واستقر فصار حضريًّا. ولهذا نجد أن في حضر جزيرة العرب أقوامًا يحشرهم أهل الأنساب في قحطان, ونجد في حضرها أقوامًا يرجعون نسبهم إلى عدنان. ونحن إذا ما رسمنا خارطة لكيفية توزع الحضر والأعراب, أو كيفية انتشار القبائل، فإننا نجد أن منازل القبائل متداخلة مشتبكة، ليست بينها حدود ولا أسوار حاجزة تحجز القبائل القحطانية عن القبائل العدنانية, إلا في العربية الجنوبية حيث يرجع النسابون نسب أكثر قبائلها إلى أصل قحطاني. أما في الأماكن الأخرى، فإن القبائل القحطانية وكذلك القبائل العدنانية منتشرة انتشارًا لا يدل على وجود تكتل وتحزب, بل نجد القحطانية تجاور العدنانية وتخالطها ونجد القحطانية في جوار القحطانية، والعدنانية في جوار العدنانية، مما يدل على أن هذا التوزيع لم يقم ولم يستند على عنصرية وحزبية وعلى هجرات منتظمة، وإنما قام على حق القوة وتحكم القوي في الضعيف، مهما كان عنصر القوي وأصله, وأن التكتل قد حدث بدوافع سياسية عسكرية لعبت دورًا خطيرًا في تكون النسب. وظاهرة أخرى نراها عند القبائل، تتجلى في أن القبائل وإن تنقلت وارتحلت من مكان إلى مكان، سعيًا وراء الماء والكلأ، كما يذكر أهل الأخبار، إلا أن ذلك لا يعني أن هذه الحركة هي حركة دائمية مستمرة، وأن القبائل كانت تنتقل دومًا من مكان إلى مكان، بحيث صار الترحل لها سنة دائمة لازمة. فلو ثبتنا منازل القبائل على "خريطة" صورة جزيرة العرب، استنادًا إلى روايات أهل الأخبار عنها، وجدنا أن منازل القبائل لم تتبدل إلا للضرورات ولأسباب قاهرة تكره القبيلة على ترك ديارها والارتحال عنها إلى منازل جديدة، كأن تغزوها قبائل كثيرة العدد أقوى منها أو ينحبس عنها المطر سنين، تهلك الضرع، أو تحاربها قوة نظامية أقوى منها، كالذي وقع لـ" إياد"، حيث أزاحها "بنو عبد القيس" عن مواطنها في البحرين، ثم شتت الفرس شملها في العراق فعندئذ تضطر القبيلة وهي مكرهة مجبورة على ترك ديارها للبحث عن ديار أخرى

جديدة. وتكاد تكون أكثر أسباب هجرات القبائل وارتحالها من أماكنها إلى أماكن أخرى هي الأسباب المذكورة. وطراز حياة القبائل في جزيرة العرب باستثناء العربية الجنوبية، متشابه، بحيث يصعب أن نجد فروقًا واضحة ظاهرة بين القبائل التي ينسبها النسابون المسلمون إلى قحطان أو إلى عدنان، فهي متشابهة وعلى وتيرة واحدة. وأما اللغة، فإننا لا نجد فيما بين القبائل العدنانية والقحطانية أي خلاف يذكر على ما يظهر من روايات علماء اللغة، بل نجد أن لهجات القبائل القحطانية الشمالية هي لهجات عدنانية، مخالفة للهجات أهل اليمن المعروفة التي كانت سائدة في اليمن إلى ظهور الإسلام. فلهجات أهل اليمن من الحميرية وغيرها، بعيدة عن لهجات القبائل القحطانية والعدنانية بعدًا متساويًا، حتى بالنسبة إلى القبائل اليمانية التي غادرت اليمن في عهد متأخر، كما سأبحث عن ذلك فيما بعد، وفي القسم الخاص بلغات أهل الجاهلية. ولهذه الظاهرة أهمية كبيرة بالنسبة إلى دراسة اللغة والنسب عند العرب الجاهليين. وعندي أن ما يذهب إليه المستشرقون من تقسيم العرب إلى عرب جنوبيين وعرب شماليين، هو تقسيم لا يمكن اعتباره تقسيمًا علميًّا؛ فإن ما نشاهده من فروق في الملامح والمظاهر بين أهل العربية الجنوبية من أهل اليمن وحضرموت ومسقط وعمان, وبين أهل الحجاز ونجد والعرب الشماليين الآخرين، وإن كان واضحًا ظاهرًا ولا مجال إلى نكرانه, إلا أن هذه الفروق لا يمكن اعتبارها مع ذلك حدًّا فاصلًا يقسم العرب إلى مجموعتين: مجموعة شمالية ومجموعة جنوبية، لسبب بسيط جدا سبق أن بينته في الجزء الأول من هذا الكتاب، وتحدثت عنه في مواضع أخرى منه، وهو أن كل مجموعة من المجموعتين لا تكون في نفسها وحدة متناسقة متجانسة، بل تتألف من مجموعات يختلف بعضها عن بعض في السحن وفي الملامح؛ بسبب عوامل الاتصال بالعالم الخارجي، وبسبب اختلاف الظروف الطبيعية التي يعيش فيها أفراد كل مجموعة. فأهل جبال اليمن والجبال المتصلة بها الممتدة إلى عمان، يختلفون اختلافًًا بينًا عن أهل السواحل والأرضين المنخفضة، ليس في الملامح والسحن فحسب، بل وفي العمل وفي النشاط وفي المدارك أيضًا. وأهل السراة في العربية الغربية يختلفون عن أهل تهامة وبقية ساحل البحر الأحمر، وأهل نجد يختلفون عن أهل ساحل الخليج. يختلفون عنهم في السحن والملامح كما

يختلفون عنهم في المدارك وفي حدة الذهن. وهذا الاختلاف هو شيء واقعي بين العيون، يراه كل إنسان حين يزور بلاد العرب، وهو في حد ذاته شاهد على فساد نظرية المستشرقين في تقسيم العرب إلى مجموعتين. وبعد، فهذه الطبيعة طبيعة جزيرة العرب؛ من جو وأرض، من انحباس مطر ومن ارتفاع في درجات الحرارة, ومن يبوسة في الهواء، وقلة في الرطوبة, ومن اختلاف في ضغط الجو اختلافًًا يخل بتوازنه فيثير فيه أعاصير وعواصف، تعتدي على حرمة التربة الهادئة الراقدة، فترتفع رمالها إلى ارتفاعات متباينة، وتلفح الأوجه والأجسام بـ"سموم" وبما شاكله من أهوية مزعجة تثير الغضب وتلهب العصب، وتجعل الجو داكنًا أظلم مغبرا. أضف إلى ذلك ما نراه من نور ساطع وأشعة لامعة تحمل أمواجًا غير مرئية تؤثر في خلايا البشرة وفي النفس، ثم هذه الرطوبة المفرطة المتحكمة في التهائم، وهذه الندرة في الأنهار، والإسراف في ظهور البوادي والصحاري، وتحكم الطبيعة تحكمًا جائرًا في توزيع النبات والحيوان على أهل جزيرة العرب, كل هذه الأمور وأمثالها أثرت أثرًا كبيرًا في نفس أهل جزيرة العرب، وفي شكل أجسامهم، وفي حالة معيشتهم, فجعلتهم يختلفون عن غيرهم بأمور، ويتباينون فيما بينهم بأمور، وذلك لاختلاف طبيعة أجزاء الجزيرة نفسها. ونحن لن نستطيع فهم العرب فهمًا صحيحًا دقيقًًا إلا إذا درسنا هذه الأمور المذكورة وأمثالها دراسة علمية دقيقة؛ وعندئذ فقط نستطيع فهم سبب تفشي البداوة بين العرب، وسبب تطبع العرب بطباع خاصة, واتسامهم بسمات وعلامات خاصة وبملامح ومظاهر جسمية متباينة، وأمثال ذلك مما تعرضت له في بحث الجنس والسامية، وفي بحث طبيعة العقلية العربية، وما قيل في حقها من أقوال، وما ورد في العرب من مدح أو ذم, ومن وصف صادق أو كاذب.

أركان القبائل

أركان القبائل: يرجع كل العرب من حيث النسب إلى ركن من "أركان القبائل". فقد اصطلح علماء النسب على أن للنسب عند العرب بعد قحطان وعدنان أربعة أركان:

ربيعة ومضر ويمن وقضاعة1. وذلك على رأي من جعل قضاعة ركنًا قائمًا بذاته, ولا يمكن أن يخرج نسب عربي أصيل عن أصل من هذه الأصول. وورد أن العرب في النسب على أربع طبقات: خندفي, وقيسي، ونزاري، ويمني2, ويمن هي قحطان. وكان العرب يتعززون بانتسابهم إلى اليمن، فكان من ينقلب على نسبه يتخذ لنفسه نسبًا يمانيًّا. "وأكثر العزوة لمن ينقلب عن نفسه إلى اليمن، لأجل أن الملوك كانت في اليمن مثل: آل النعمان بن المنذر من لخم، وآل سليح من قضاعة، وآل محرق، وآل العرنج، وهو حِمْيَر الأكبر ابن سبأ كالتبابعة والأذواء, وغيرهم. والعرب يطلبون العز ولو كان في شامخات الشواهق، وبطون الأمالق البوالق، فينتسبون إلى الأعز لحماية الحمية وإباءة الدنية ... "3. ورجع بعض النسابين المعروفين نسب العرب إلى ثلاث جراثيم: نزار، واليمن, وقضاعة4. ويمثل رأيهم هذا رأي القائلين بالأركان الأربعة للقبائل بالضبط؛ لأن نزارًا هو في عرفهم والد ربيعة ومضر، وكل ما فعلوه هنا هو أنهم حذفوا اسمي الولدين وأحلوا اسم والدهما في محلهما. ورجع "المأمون" الخليفة العباسي، أصول العرب إلى: قيس ويمن وربيعة ومضر. فلما تعرض عربي بالمأمون وهو في زيارته لبلاد الشام، ولامه في تقديم أهل خراسان على العرب، بقوله: "يا أمير المؤمنين, انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان"، أجابه الخليفة: "أكثرت عليَّ يا أخا أهل الشام، والله ما أنزلت قيسًا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد. وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط. وأما ربيعة فساخطة على ربها منذ بعث الله نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاربا, اغرب عني فعل الله بك......"5. فأركان العرب في رأي المأمون أربعة: قيس ويمن وربيعة ومضر. وهي كتل

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 203". 2 نهاية الأرب "3/ 278". 3 نهاية الأرب "2/ 283". 4 الإنباه "63". 5 الإسلام والمشكلة العنصرية، لعبد الحميد العبادي "ص90 وما بعدها".

كانت على عادة العرب متنافسة متحاسدة متباغضة، ترى كل واحدة منها نفسها وكأنها أمة دون سائر الأمم، و"يمن" كناية عن العرب الجنوبيين من همدان وحمير وكندة وأمثالها، وأما قيس وربيعة ومضر، فكناية عن تكتلات وتجمعات العرب من غير اليمن. وذهب "ابن حزم" إلى أن جميع العرب من أب واحد، سوى ثلاث قبائل هي: تنوخ، والعُتق، وغسان، فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون؛ وذلك أن تتوخًا اسم لعشر قبائل اجتمعوا وأقاموا بالبحرين، فسموا تنوخًا, والعتق: جمعٌ اجتمعوا على النبي، فظهر بهم فأعتقهم فسموا بذلك، وغسان عدة بطون نزلوا على ماء يسمى غسان فسموا به1. ولما جاء "خالد بن الوليد" إلى العراق كان جيشه من "ربيعة" و"مضر"2 ومن قبائل يمانية، ومعنى هذا وجود ثلاثة أركان قبائل محاربة. ولما قال "خالد بن الوليد" لـ"عدي بن عدي بن زيد العبادي: "ويحكم! ما أنتم! أعرب, فما تنقمون من العرب؟ أم عجم, فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ قال عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا, فقال له عدي: ليدلك على ما نقوله أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت"3. ولا تعني جملة "بل عرب عاربة وأخرى متعربة" معنى: أن العرب عربان، عرب عاربة وعرب متعربة، على النحو المفهوم منها عند أهل الأخبار. بل هي تعبر عن واقع أصل أهل الحيرة, فقد كان أهلها بين عرب صرحاء وبين عرب متعربة أي جماعة لم تكن عربية في الأصل, وإنما كانت من أصل عراقي وفارسي أقامت في الحيرة، وتأثرت بأهلها العرب فتكلمت العربية حتى صارت العربية لسانها، فهي من العرب المتعربة. وقد كان كل عرب العراق على هذا النحو في ذلك الوقت، فهم بين عرب خلص وبين عرب متعربة، لم تكن أصولها من منبت عربي، وإنما دخلت في العرب فتطبعت بطباعهم وأخذت لسانهم حتى نسيت ألسنتها القديمة، وصارت من العرب.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 191". 2 الطبري "3/ 347"، "مسير خالد إلى العراق وصلح الحيرة". 3 الطبري "3/ 361".

وقد ذكر بعض المؤرخين أن العرب من "نزار" ملكتهم الفرس, وأن العرب من غسان ملكتهم الروم1, فجعل "نزارًا" في مقابل غسان، ولم يكن كل عرب العراق من "نزار", يدلك على ذلك أن ملوك الحيرة على رأي أهل الأخبار من قحطان. والذي يلاحظ من كيفية توزيع القبائل على حسب رواية أهل الأخبار أن معظم قبائل العراق، هي من قبائل "نزار" أو من "ربيعة" و "مضر" بتعبير آخر. أما معظم قبائل بلاد الشام فهي من "يمن", أي على عكس الحال في العراق, فهل يمثل هذا التقسيم توزيعًا تأريخيًّا صحيحًا, بمعنى أن أكثر قبائل العراق، قد وردت العراق من العربية الشرقية والعربية الوسطى، أي: من سواحل الخليج ونجد، وأن عرب بلاد الشام إنما جاءوا إلى هناك من اليمن، عن طريق الحجاز ونجد؟ أم أنه تقسيم سياسي اصطلاحي، نشأ قبل الإسلام بعهد طويل من المنافسة التي كانت بين العراق وبلاد الشام، المنافسة التي ظلت باقية في الإسلام, فقد كان بين العراق وبين بلاد الشام عداء وتباغض، لعوامل لا مجال للبحث فيها في هذا المكان؟. وقد استولت حكومات العراق من حكومات وطنية وأجنبية على بلاد الشام مرارا، مما ولد مرارة وأوجد حقدًا بين أهل العراق وأهل الشام، فانتقل ذلك إلى عرب القطرين أيضًا. فحارب عرب العراق عرب بلاد الشام، حتى وصل هذا العداء إلى دعوى وجود فرق بين أصل عرب العراق وأصل عرب بلاد الشام, فصارت أكثر قبائل العراق في عرف أهل الأنساب من ربيعة ومضر ونزار، وصار معظم بلاد الشام في عرفهم من اليمن، قياسًا على ما كان عليه العرب عند ظهور الإسلام من أنصار ومهاجرين، أو من يمن وعدنان، أو قحطان وعدنان وما شابه ذلك من أسماء. أما رأيي، فإن لأهل الأخبار يدًا طولى في هذا التقسيم الذي ظهر وأينع في الإسلام، وإن الجاهلية لم تكن تخلو من تجمعات وتكتلات قبلية، ولكنها كانت تختلف عن التجمعات التي أثارتها النعرة القبلية الجديدة التي برزت في الإسلام، والتي أثرت على ظهورها عوامل عديدة إلى أن ثبتت ودونت في كتب أهل الأنساب والأخبار. وجعل بعض أهل الأخبار العرب يمنًا ونزارًا، وذكر أن اليمن أصحاب بحر وبني نزار أصحاب بر2. وقصدوا باليمن أصحاب الساحل، الذين عركوا البحر

_ 1 المعاني الكبير "2/ 941 وما بعدها". 2 المعاني الكبير "2/ 640".

وخبروه، عكس "نزار"، عرب البر، وهم قوم لا علم لهم بالبحر، إنهم لم يتعودوا على ركوبه؛ إذ سكنوا البر ولم يعركوا البحر، فخافوا منه وتجنبوه. والآراء المتقدمة في تقسيم العرب إلى أركان وكتل، هي آراء عربية محضة أخذت من واقع الحال, ولم تستمد من التقسيم المألوف للعرب إلى قحطانيين وعدنانيين، التقسيم المأخوذ من التوراة على نحو ما شرحت ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب؛ وذلك لأن الحياة في بلاد العرب هي حياة تكتل وتحزب, فكان لا بد للقبائل من عقد أحلاف فيما بينها للمحافظة على نفسها من افتراس القبائل الكبيرة لها، ومن استذلالها وأخذ ما تملكه. وبهذه الأحلاف حافظت القبائل الضعيفة على حياتها، وحدَّت من طمع القبائل الضخمة في القبائل الهزيلة، وصار في الإمكان السيطرة على الأمن والتقليل من حمى غزو القبائل بعضها بعضًا. وحاجة الأعراب إلى الأحلاف أكثر وأشد من حاجة الحضر إليها، وذلك بسبب أن الغزو في البادية ضرورة من ضرورات الحياة لفقر البادية وشحها؛ لانبساط أرضها وعدم وجود حواجز طبيعية تعوق الغزو وتحمي المغزو منه. فاضطرت القبائل إلى خلق حماية طبيعية لها هي الأحلاف, والأحلاف هي لغاية حماية المال والنفس في الغالب، ولكبح جماح المعتدين إذن. أما الأحلاف الهجومية التي تعقد لتحقيق أغراض هجومية مثل غزو حلف حلفًا آخر أو قبيلة ضخمة قبيلة ضخمة أخرى، فإنها لا تعمر طويلًا كما تعمر الأحلاف الدفاعية؛ لأن أسباب انعقادها تزول بتنفيذ ما اتفق عليه، وقد يتحطم الحلف بسبب ظهور اختلافات مصالح لم تكن في حسبان المتحالفين يوم عقدوا حلفهم، فيتصدع بنيان الحلف ويتهدم ويزول الحلف ليظهر محله حلف آخر جديد. أما الحضر، فإن لهم من حماية أرضهم لهم, ومن طبيعة الحياة التي يحيونها ما يخفف من حاجتهم إلى الحلف القبلي، ويجعل أحلافهم أحلافًًا من طراز آخر. فقد منحت الطبيعة الحضر حجرًا صلدًا بنوا به أبراجًا وحصونًا ومعاقل حموا بها مستوطناتهم، من طمع الطامعين فيهم، ولا سيما من الأعراب الذين لا يسهل عليهم اقتحام الحصون ولا تهديمها لعدم وجود أسلحة تؤثر فيها، ومنحتهم تربة صار من الممكن عمل الآجر واللبن منها لبناء المحافد والآطام وما شاكل ذلك من وسائل الدفاع، كما أمدتهم بمواد بناء مكنتهم من إنشاء الحيطان والأسوار حولها،

وهي مانع يصد الأعراب عن الحضر. وهم بالإضافة إلى ذلك أقدر على الدفاع عن أنفسهم وعلى اللجوء إلى الحيل للتخلص من الأعراب؛ بسبب تحضرهم وتقدمهم في التفكير على عقلية الفطرة التي جبل البدو عليها. وغاية ما فعله الحضر من الأحلاف، هو تحالفهم مع من أحاط بهم من الأعراب لضمان عدم تحرشهم بهم أو لمنع الأعراب الآخرين من التحرش بهم, وعقد حبال مع القبائل لمرور تجارهم من أرضها بأمن وسلام مقابل هدايا أو أرباح أو أموال تعين، تدفع إلى ساداتها تأليفًا لقلوبهم وضمانًا منهم لهم بعدم تحرش أحد بهم. ولما تقدم انحصرت الأحلاف الكبرى أو التكتلات القبلية الضخمة بالأرضين المكشوفة التي غلب عليها الطابع الصحراوي، وبين القبائل التي غلبت البداوة عليها. والأحلاف الكبرى، هي في نظري كناية عن النسب الأكبر عند العرب؛ فربيعة ومضر وإياد وأنمار وقضاعة، هي في الواقع تكتلات قبلية تكونت من قبائل غلبت البداوة على طبعها، وقد ظهرت خارج العربية الجنوبية، أي: خارج الأرضين التي غلب علي سكانها طابع الارتباط بالأرض والقرار. أما القبائل القحطانية، التي هي في التوراة كناية عن قبائل عربية جنوبية مستقرة، فكتل أخذت أسماءها من الأرضين التي كانت تحكمها أو من اسم القبيلة التي سميت باسمها, وبين أسماء القبائل وأسماء الأرضين صلة متينة، بحيث يصعب الحكم فيما إذا كانت الأرض قد أخذت اسمها من اسم القبيلة, أو أن القبيلة أخذت اسمها من اسم الأرض. وقد لعبت فكرة "قحطان" و"عدنان" دورًا مهمًّا في حصر الأنساب عند العرب في الإسلام. يذكر الجاحظ أن رجلًا اسمه "شويس الساسي التميمي العدوي" المعروف بـ"أبي فرعون"، كان قد قدم البصرة، فذهب إلى رجل منها اسمه "كهمس" يلتمس العون منه، فأعطاه رغيفًا من الخبز الحواري، ثم ذهب إلى رجل آخر اسمه "عمر بن مهران"، فلم يعطه ما كان يريد، فضاق ذرعًا من هذا الرغيف، وذهب إلى حلقة "بني عدي" فوقف عليهم وهم مجتمعون، وأخرج الرغيف من جرابه وألقاه في وسط المجلس, وقال: يا بني عدي, استفحلوا هذا الرغيف؛ فإنه أنبل نتاج على وجه الأرض! ثم قال شعرًا سخر فيه من أهل البصرة, ومن تشدقهم في الانتساب إلى قحطان

أو عدنان، وفحش بهما ومن انتساب الناس إليهما، بينما الناس هنالك ما بين نبط أو خوزان.1 ومن أهم القبائل القحطانية التي كان لها شأن يذكر عند ظهور الإسلام وفي الإسلام, حمير وكهلان, ومن مجموعة حمير قضاعة، في رأي من جعل قضاعة من اليمن, ومن قضاعة كلب وأسد ومن أسد تنوخ. وأما مجموعة كهلان، فتتألف من الأزد وهمدان ومذحج وطيء، ومن الأزد: غسان والأوس والخزرج. وربيعة من القبائل العربية الكبيرة العدد، وقد سبق أن تحدثت عنها في مواضع من الأجزاء السابقة من هذا الكتاب. وقد عرفت "ربيعة" بـ"ربيعة الفرس"، ويعلل أهل الأخبار اشتهارها بذلك بقولهم: "وربيعة الفرس, هو ابن نزار بن معد بن عدنان، أبو قبيلة. وإنما قيل له ربيعة الفرس؛ لأنه أعطي من ميراث أبيه الخيل، وأعطي أخوه مضر الذهب, فسمي مضر الحمراء. وأعطي أنمار أخوهما: الغنم، فسمي أنمار الشاة2. وذكروا أيضا: أن نزارًا لما حضرته الوفاة، آثر إيادًا بولاية الكعبة، وأعطى مضر ناقة حمراء، فسمي مضر الحمراء، وأعطى ربيعة فرسه، فسموا ربيعة الفرس، وأعطى أنمارًا جارية له تسمى: بجيلة فحضنت بنيه، فسمي بجيلة أنمار"3. وذكر أيضًا أن نزارًا لما حضرته الوفاة قسم ماله بين بنيه، "وهم أربعة: مضر وربيعة وإياد وأنمار، وقال: يا بني، هذه القبة, وهي من أدم, حمراء وما أشبهها من المال لمضر، وهذا الخباء الأسود وما أشبهه من المال لربيعة، وهذه الخادمة وما أشبهها من المال لإياد, وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه". ولما مات توجهوا إلى "الأفعى بن الأفعى الجرهمي" وكان ملك نجران، وصادفوا في طريقهم أعرابيا ضل بعيره، فوصفوه له، فقال لهم: دلوني عليه. ولما حلفوا له أنهم لم يروه وإنما وصفوه من أثره، لم يصدقهم بل أخذهم إلى "الأفعى" ليحلفوا أمامه أنهم لم يروه، فلما بلغوه قصوا قصتهم مع الأعرابي، وذكروا أنهم إنما وصفوه من أثره على الأرض، فحكم لهم "الأفعى" بأنهم صادقون، وأنهم لم يشاهدوه، ثم احتفل بهم بعد أن عرفهم وجرب ذكاءهم، وحكم بأن لمضر القبة الحمراء والدنانير

_ 1 كتاب البغال، من رسائل الجاحظ "2/ 314 وما بعدها". 2 تاج العروس "5/ 343"، "ربع". 3 نهاية الأرب "16/ 10".

والإبل، وهي حمر فسميت: مضر الحمراء، وأن لربيعة الخباء الأسود من دابة ومال، فصارت له الخيل، وهي دهم، فسميت ربيعة الفرس. ثم قال: وما أشبه الخادم، وكانت شمطاء، فهو لإياد، فصارت له الماشية البلق من الخيل وغيرها، وقضى لأنمار بالدراهم والأرض1. و"مضر" من القبائل الكبيرة، وقد عرفت بـ"مضر الحمراء" كما ذكرت. وفسر علماء اللغة والنسب اشتهار "مضر" على نحو ما ذكرت قبل قليل، وفسره بعضهم بقوله: ومضر الحمراء؛ لأنه أعطي الذهب من ميراث أبيه, وأخوه ربيعة أعطي الخيل، فلقب بالفرس, أو لأن شعارهم في الحرب الرايات الحمر2. وقال بعض علماء اللغة: وإنما سمي مضر بمضر: "لولعه بشرب اللبن الماضر أو لبياض لونه"، و"العرب تسمي الأبيض أحمر؛ فلذلك قيل مضر الحمراء"3. وذكر بعض أهل الأخبار أن مضر مضران: مضر الحمراء لسكناها قباب الأدم، ومضر السوداء لسكناها المظال4. ويظهر من هذه التفسيرات، أن "مضر" كانت قد نعتت بـ"الحمراء" قبل ظهور الإسلام. وأن "ربيعة" كانت قد عرفت بـ"ربيعة الفرس"، ولعل هذا بسبب أن "مضر" كانت إذ ذاك قبائل ذات إبل وتجارة ومال، ومنها "قريش" التي عرفت بتجارتها وبما جمعته من مال، فقالوا "مضر الحمراء". وأما "ربيعة"، فكانت قبائل متبدية غازية محاربة، لها خيل وفرسان؛ لهذا عرفت بـ"ربيعة الفرس". وقد أشار الشاعر "لبيد" إلى ربيعة ومضر في شعره, حين تعرض لذكر الموت، فقال: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر5

_ 1 الدميري، حياة الحيوان "1/ 31" "الأفعى". 2 تاج العروس "3/ 158"، "حمر". 3 تاج العروس "3/ 44"، "مضر". 4 نهاية الأرب "916". 5 ديوان لبيد "1/ 28"، "2/ 1".

أراد: هل أنا إلا من أحد هذين الجنسين؟! فسبيلي أن أفنى كما فنيا1. ونسب إليه قوله: فإن لم تجد من دون عدنان والدًا ... ودون معدّ فلتزعك العواذل2 فأشار بذلك إلى "عدنان" و"معد". ومن أشهر قبائل مضر "قريش"، حتى إن الناس كانوا إذا قالوا: مضري انصرف ذهنهم إلى قرشي, على سبيل الشهرة؛ لاشتهار قريش بالمضرية. فلما رأى رجل "أبا سفيان" واقفًا بباب "عثمان بن عفان" ينتظر الإذن بالدخول عليه, قال له: "يا أبا سفيان، ما كنت أرى أن تقف بباب مضري، فيحجبك! فقال أبو سفيان: لا عدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني"3.

_ 1 أمالي، المرتضى "1/ 171"، "2/ 55"، "تود ابنتاي". 2 أمالي، المرتضي "1/ 171". 3 نهاية الأرب "6/ 88".

القبائل القوية

القبائل القوية: والقبائل مثل الدول، أنماط ودرجات، منها قبائل قوية نشطة تعتمد على نفسها في الدفاع عن كيانها، ومنها قبائل أقل من هذه القبائل شأنًا وقوة تتحالف مع غيرها في الدفاع عن نفسها؛ لتكون من الحلف كتلة قبلية مهابة, وقبائل صغيرة ليست لها قدرة على الدفاع عن حياضها وحدها؛ لذلك تركن إلى التحالف مع قبائل أخرى أقوى منها لتحافظ بذلك على وجودها. والقبائل القوية هي القبائل الكثيرة العدد والموارد. وإذا ترأسها سادات ذوو كفاءة وقدرة، هابتها القبائل الأخرى، وسادت على غيرها، وكونت منها ومن القبائل التي تستولي عليها مملكة، كالذي فعلته كندة. ولم يورد العلماء شروطًا في الحد الأدني أو الحد الأكبر للقبيلة، وذلك من ناحية عدد العشائر والبطون والأفخاذ، فلم نعثر على حد معين إذا بلغته جماعة من الناس وجب إطلاق لفظة "قبيلة" عليها. بل نجد علماء النسب يطلقونها أحيانًا على بطون وأفخاذ،

فيقولون: قبائل قريش، ويذكرون أسماءها، بينما هي في الواقع "آل" أو أرهاط وبطون. ويقال للقبائل التي تستقل بنفسها وتستغني عن غيرها "الأرحى"1، وعرفت القبيلة التي لا تنضم إلى أحد بـ"الجمرة". وذكر أنها القبيلة تقاتل جماعة قبائل, وكل قبيل انضموا فصاروا يدًا واحدةً ولم يحالفوا غيرهم، فهم جمرة. وقيل: الجمرة: كل قوم يصيرون لقتال من قاتلهم لا يحالفون أحدًا ولا ينضمون إلى أحد, تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لقراع القبائل كما صبرت عبس لقبائل قيس. ولما سأل "عمر" "الحطيئة" عن عبس ومقاومتها قبائل قيس، قال: "يا أمير المؤمنين, كنا ألف فارس كأننا ذهبة حمراء، لا نستجمر ولا نحالف، أي: لا نسأل غيرنا أن يجتمعوا إلينا لاستغنائهم عنهم". والجمرة: اجتماع القبيلة الواحدة على من ناوأها من سائر القبائل2. وذكر أن "الجمرة" ألف فارس، أي: القبيلة التي يكون فيها ذلك العدد من الفرسان، وقيل: ثلاثمائة فارس أو نحوها. والذي يستنتج من آراء علماء اللغة والنسب في تعريف "الجمرة"، أنها القبائل المقاتلة القوية التي تعتمد على نفسها في القتال، ولا تركن إلى غيرها، ولا تحالف غيرها لتستفيد من هذا الحلف في قراع القبائل3. ومن مفاخر هذه القبائل كثرة ما عندها من فرسان، والفرسان في ذلك اليوم هم عماد حركة الجيوش، ومن أسباب القوة والانتصار. وقد عدوا القبيلة التي يكون فيها ثلاثمائة فارس أو نحوها جمرة، وقيل: الجمرة ألف فارس4. ومن جمرات العرب: ضبة بن أد، وعبس بن بغيض، والحارث بن كعب، ويربوع بن حنظلة5. وذكر بعض العلماء أن جمرات العرب ثلاث

_ 1 اللسان "14/ 314"، "صادر"، "رحا"، تاج العروس "10/ 146", "رحا". 2 اللسان "4/ 145"، "صادر"، "جمر"، الحصري، زهر الآداب "1/ 25". 3 تاج العروس "3/ 107"، "صادر", "جمر". 4 المحبر "ص234".

جمرات: بنو ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وبنو الحارث بن كعب، وبنو نمير بن عامر, فطفئت منهم جمرتان؛ طفئت ضبة؛ لأنها حالفت الرباب, وطفئت بنو الحارث؛ لأنها حالفت مذحج. وبقيت "نمير" لم تطفأ؛ لأنها لم تحالف. وورد أن الجمرات: عبس بن ذبيان بن بغيض، والحارث بن كعب، وضبة بن أد، وهم إخوة لأم؛ لأن أمهم امرأة من اليمن, تزوجها كعب بن عبد المدان يزيد بن قطن، فولدت له: الحارث بن كعب، وهم أشراف اليمن، ثم تزوجها "بغيض بن ريث بن غطفان"، فولدت له عبسًا وهم فرسان العرب، ثم تزوجها "أد" فولدت له ضبة. فجمرتان في مضر، وهما عبس وضبة وجمرة في اليمن، وهم بنو الحارث بن كعب. وذكر بعض آخر أن الحارث, هم بنو كعب بن علة بن جلد، ومنهم من عد تميمًا من الجمرات1. "قال الخليل: الجمرة: كل قوم يصبرون لقتال من قاتلهم، لا يحالفون أحدًا، ولا ينضمون إلى أحد، تكون القبيلة نفسها جمرة تصبر لمقارعة القبائل كما صبرت عبس لقيس كلها"2. وإذا تأملت كلام العلماء في جمرات العرب، تجده يصادم بعضه بعضًا حتى إن الواحد منهم يذكر عددًا، ثم يذكر عددًا غيره في موضع آخر من كتابه. وقد اعتذر عن ذلك بعض العلماء إذ قال: "قلت: فإذا تأملت كلامهم تجده مصادمًا بعضه مع بعض"، ثم ذكر أمثلة من أمثلة هذا التصادم، ثم خلص إلى هذه النتيجة، واعتذر عنهم بقوله: "وإذا تأملت كلامهم, علمت أنه لا مخالفة ولا منافاة، إلا أن البعض فصَّل والبعض أجمل"3. وعندي أن للعواطف القبلية دخلًا في هذا الاضطراب، فمن النسابين من تعصب لقبيلة، فجعلها من الجمرات؛ بسبب صلته بها، ومنهم من تعصب لغيرها، ومنهم من تعصب على هذه القبيلة أو تلك، فأخرجها من الجمرات، فمن هنا وقع هذا الارتباك عند العلماء, حين سألوا نسابي القبائل ورواة الأخبار عن أيام

_ 1 تاج العروس "3/ 107". 2 الثعالبي، ثمار "160". 3 تاج العروس "3/ 107".

الجاهلية، وعن الأنساب والقبائل، وهي من أهم الأمور حساسية عند العرب, فظهرت العصبية في مؤلفات أهل النسب والأخبار حين شرعوا بالتدوين. وعرفت القبائل القوية الكبيرة التي تفرعت منها جملة قبائل بـ"أم القبائل", ومن هذه القبائل "بكر بن وائل"1. وسبب ذلك أن القبيلة القوية تكبر بسبب انضمام القبائل الصغيرة، فإذا توسعت وتضخم عددها صار من الصعب عليها البقاء في منازلها، فتضطر عندئذ إلى التوسع والانتشار في أرضين جديدة. وقد تغادر أحياء منها منازلها لتجد لها منزلًا طيبًا جديدًا، فتبتعد بذلك عن القبيلة الكبيرة التي جمعت تلك الأحياء, فتكون بمثابة الأم للقبائل النازحة، تربطها بها رابطة ذكرى الأمومة, التي تتحول إلى نسب تحفظه ذاكرة حفاظ الأنساب. وعرفت أربع قبائل بشدتها وبأسها، فقيل لها: "رضفات العرب", وهي: "شيبان وتغلب وبهراء وإياد"2. وقيل لـ"كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان" من قضاعة، و"طيء بن أدد", و"حنظلة بن مالك بن زيد مناة" من "تميم"، و"عامر بن صعصعة بن معاوية" من "هوازن"، "جماجم العرب"3. وذكر أن "الجماجم" السادات والرؤساء، وأن القبائل المذكورة كانت من جماجم القبائل، أي: من رؤسائها، وقد دُعيت بـ"جماجم"؛ لأنها بمنزلة جمجمة الرأس بالنسبة للإنسان4, أي: إن هذه القبائل من القبائل الرئيسة عند الجاهليين. وبين القبائل، قبائل دعاها "ابن حبيب" "أثافي العرب"، وهي: "سليم" و"هوازن" من "قيس عيلان"، و"غطفان"، و"أعصر" و"محارب بن خصفة"5, و "الإثفية": العدد الكثير والجماعة من الناس6. والظاهر أنها إنما عرفت بذلك لكثرة عددها.

_ 1 المعارف "ص96"، "بكر بن وائل". 2 تاج العروس "6/ 119"، "رضف"، المحبر "234". 3 المحبر "ص134". 4 تاج العروس "8/ 233". 5 المحبر "234". 6 تاج العروس "6/ 37" "أثف"، الثعالبي، ثمار "161".

ومن مفاخر القبائل اعتزالها القبائل الأخرى وعدم مخالطتها قبيلة ثانية. وتفخر الأحياء بحردها أيضًا, فيقال "حي حريد منفرد"، ومعناه: معتزل عن جماعة القبيلة, لا يخالطهم في ارتحاله وحلوله لعزته؛ لأنه لا ينزل في قوم من ضعف وذلة لما هو عليه من القوة والكثرة1. وذكر أن القوم الذين يكون أمرهم واحدًا يعرفون بـ"الخليط", وذلك أنهم كانوا ينتجعون أيام الكلأ، فتجتمع منهم قبائل شتى في مكان واحد، فتقع بينهم ألفة، ويكونون يدًا واحدة. فإذا افترقوا ورجعوا إلى أوطانهم ساءهم ذلك وريعوا2. وهناك قبائل ضعيفة، لم تتمكن أن تعيش وحدها؛ لذلك تحالفت مع غيرها من قبائل أقوى منها، واندمجت بها, كما يندمج الأشخاص بالقبائل، بالحلف أو بالجوار أو بالموالاة. وعند انضمام الأحياء والعشائر والقبائل الضعيفة إلى الأقوى منها بطريقة من الطرق، يتم ذلك بطقوس دينية على نحو ما سأتحدث عنه في عقد الأحلاف, بسبب أن العقود في نظر العرب تستوجب البر بها والوفاء؛ ولهذا تعقد في ظروف خاصة أمام الكهنة وفي المعابد.

_ 1 وفي هذا المعنى قول جرير: نبني على سنن العدو بيوتنا ... لا نستجير ولا نحل حريدا تاج العروس "2/ 333 وما بعدها"، "حرد". 2 ديوان بشر بن أبي خازم "129"، تاج العروس "5/ 132"، "خلط"، نهاية الأرب "18/ 9".

ألقاب بعض القبائل

ألقاب بعض القبائل: ولقد لُقبت بعض القبائل بألقاب؛ فقد قيل: مازن غسان أرباب الملوك، وحمير أرباب العرب، وكندة كندة الملوك، ومذحج الطعان، وهمدان أحلاس الخيل, والأزد أسد البأس, والذهلان: أحدهما ذهل شيبان بن ثعلبة ويشكر, والآخر ضبيعة وذهل بن ثعلبة, واللهزمتان: إحداهما عجل وتيم اللات، والأخرى قيس بن ثعلبة وعنزة، وكلهم من بكر بن وائل، إلا عنزة بن ربيعة1.

_ 1 العمدة "2/ 194".

وبعض هذه الألقاب حسنة جميلة, وبعضها ألقاب تشير إلى قوة وبأس وشدة، وبعض منها مقبول لا بأس به, وهي ألقاب كانت القبائل الملقبة بها تفاخر وتتباهى بها، أو تقبلها ولا ترى فيها أي بأس. وهي على العموم إما أن تكون قد نبعت من القبيلة، كأن ينعت سيد قبيلة قبيلته بنعت، فتتمسك به، أو أن ينعتها بذلك شاعر منها أو شاعر من قبيلة أخرى، فيذهب هذا النعت بين الناس، ويصير سمة للقبيلة. غير أن في الألقاب بعضًا آخر يشير إلى استصغار شأن القبيلة التي نعتت به، مثل "القين"1، و"الأجارب"2, و"الأقارع"3, و"قراد"4، وما شاكل ذلك من ألقاب تحولت إلى مسميات, أي: تحول اللقب فصار اسم علم. وهي نعوت يظهر أن مصدرها شعر الهجاء والقبائل المعادية المنتابزة بالألقاب, وقد شاعت وثبتت؛ لأنها أثرت في القبائل المهجوة وآلمتها، فتمسك قائلوها بها، وشاعت بين الناس حتى نسي سبب قولها، وصارت اسم علم للقبيلة، ولم ير من جاء بعد ذلك بأسًا من الانتماء إلى القبيلة المنبوزة به. وقد رمت بعض القبائل قبيلة إياد بالفسو، وعيرتها به، حتى إذا كان أحد رجالها بعكاظ، ومعه بردا حبرة، قام فقال: من يشتري من عار الفسو بهذين البردين؟ فقام عبد الله بن بيدرة أحد "مَهْو" حي من عبد القيس، فقال: هاتها، واشهدوا أني اشتريتُ عار الفسو من إياد لعبد القيس بالبردين. فلما أتى رحله وسُئل عن البردين، قال: اشتريت لكم بهما عار الدهر، فوثبت عبد القيس وقالت: إن الفساة قبلنا إياد ... ونحن لا نفسو ولا نكاد وتفرق الناس عن عكاظ بابتياع عبد القيس عار الفسو. ثم إن هذا العار زال عن إياد ولصق بعبد القيس، فهُجُوا به كثيرًا. وضرب المثل بـ"عبد الله بن بيدرة"، فقيل: "شيخ مَهْو"، ضرب به المثل في الخسران, وقيل: أخسر صفقة من شيخ مهو5.

_ 1 تاج العروس "9/ 316"، "قان". 2 تاج العروس "1/ 181"، "جرب". 3 تاج العروس "5/ 446"، "قرع". 4 تاج العروس "2/ 465"، "قرد". 5 الثعالبي، ثمار "106".

وبعض هذه النعوت قيل في الإسلام، من ذلك رُمي "تميم" بالبخل واللؤم؛ بسبب هجاء الطرماح لها وقوله فيها: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت1 ونجد لجرير وللفرزدق وللأحابيش ولغيرهم ذمًّا في قبائل الشعراء المتهاجين. ومن القبائل الملقبة: الأحابيش وقد تحدثت عنهم، والمطيبون والأحلاف وهم من قريش، وقد تحدثت عنهم أيضًا, والأراقم, وهم: جشم، ومالك, وعمرو بن ثعلبة، ومعاوية، والحارث، بنو بكر بن حبيب بن غنم بن ثعلب بن وائل2, وهم أحياء من ثعلب، جعلهم بعضهم ستة, هم: جشم ومالك وعمرو وثعلبة ومعاوية والحارث, بنو بكر بن حبيب بن غنم بن ثعلب بن وائل. وقال بعض علماء اللغة: الأراقم: بطون من بني تغلب يجمعهم هذا الاسم, قيل: سموا بذلك؛ لأن ناظرًا نظر إليهم تحت الدثار وهم صغار، فقال: كأن أعينهم أعين الأراقم، فلج عليهم اللقب3. وعرفت بعض القبائل بـ"البراجم"، وهم خمسة بطون من بني حنظلة: قيس، وغالب، وعمرو، وكُلفة، والظليم، وهو مرة. قيل: إنهم إنما سموا بذلك؛ لأنهم تبرجموا على إخوتهم: يربوع وربيعة ومالك, وكلهم أبوهم حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة4. وذكر أيضا أنهم إنما سموا البراجم؛ وذلك لأن أباهم قبض أصابعه, وقال: كونوا كبراجم يدي هذه, أي: لا تفرقوا، وذلك أعز لكم. وقيل: لا، وإنما سموا بذلك؛ لأنهم تحالفوا أن يكونوا كبراجم الأصابع في الاجتماع5. وعرف "الثعلبات" بهذه التسمية؛ لأنهم بطون، اسم كل بطن منهم "ثعلبة", وهم: ثعلبة بن سعد بن ضبة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، وثعلبة بن عدي

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 289". 2 العمدة "2/ 194". 3 تاج العروس "8/ 317"، "رقم". 4 العمدة "2/ 195". 5 تاج العروس "8/ 199"، "البرجمة".

فزارة، وأضاف إليهم قوم: ثعلبة بن يربوع1, ويقال لهم "الثعالب" أيضًا. وهم قبائل شتى، فثعلبة في "بني أسد"، وثعلبة في تميم، وثعلبة في ربيعة، وثعلبة في قيس, ومنهما الثعلبتان من طيء, وهما: ثعلبة بن جذعاء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة من طيء، وثعلبة بن رومان بن جندب المذكور. وذكر أن الثعالب في طيء يقال لهم مصابيح الظلام، كالربائع في تميم2. وأما "الرباب" فهم: ضبة بن أد بن طابخة، وتيم، وعدي، وعوف، وهوعكل، وثور، وكل هؤلاء بنو عبد مناة بن أد بن طابخة3. قيل: إنهم إنما سموا بذلك لتفرقهم، وقيل: سموا ربابًا لترابهم، أي: تعاهدهم وتحالفهم على تميم، وقيل: سموا بذلك؛ لأنهم أدخلوا أيديهم في رُبّ, وتعاقدوا وتحالفوا عليه, فصاروا يدًا واحدة4. وأما "الأجارب"، فهم خمسة بطون من "بني سعد"، وهم: ربيعة, ومالك، والحارث، وعبد العزى، وبنو حمار5. وورد الأجارب: حي من بني سعد بن بكر من قيس عيلان، وإذا قيل: الأجربان, فهما: عبس وذبيان6. و"الحرام", هم: بنو كعب بن سعد بن زيد مناة7. وذكر أن في العرب بطونًا ينسبون إلى "آل حرام", منهم بطن في تميم وبطن في جذام وبطن في بكر بن وائل. وهناك بطون أخرى عُرفت بـ"حرام"8. وأما "الضباب"، فهم "بنو عمرو بن معاوية بن كلاب". قال بعض أهل الأنساب: إنهم أربعة بطون من "بني كلاب"، وقال بعض آخر: إنهم أكثر، وأوصلوهم إلى أربعة عشر بطنًا9.

_ 1 العمدة "2/ 195". 2 تاج العروس "1/ 165"، "ثعلب". 3 العمدة "2/ 195". 4 تاج العروس "1/ 264"، "ربب". 5 العمدة "2/ 195". 6 تاج العروس "2/ 181"، "جرب". 7 العمدة "2/ 195". 8 تاج العروس "8/ 243"، "حرم". 9 العمدة "2/ 195"، تاج العروس "1/ 345", "ضبب".

واشتهرت بعض القبائل والعشائر والبيوت بنعوت لازمتها في الجاهلية وامتدت إلى الإسلام، فقد عرف بنو مخزوم وبنو جعفر بن كلاب بالتيه والكبر، حتى قيل: "أربعة لن يكونوا ومحال أن يكونوا: زبيدي سخي، ومخزومي متواضع، وهاشمي شحيح، وقريشي يحب آل محمد"1. واشتهرت "طيء" بالجود؛ لكون حاتم وأوس بن حارثة بن لأم منهم2. وعرفت "باهلة" باللؤم، حتى ضرب بها المثل في اللؤم، فقيل: لؤم باهلة3. واشتهر "بنو ثعل" بالرمي، وذكروا بذلك في شعر لامرئ القيس4. واكتسبت "مدلج" شهرة واسعة في القيافة، إذ اختصت بها من بين سائر العرب5. وبرز "بنو لهب" في العيافة, فهم أزجر العرب وأعينهم6. وعرفت "إياد" بخطبائها، وملوك غسان بثريدهم، الذي قيل له: "ثريدة غسان"7. وعرفت كندة بغلاء مهور بناتهم8, وعرفت "خزاعة" بالجوع والأحاديث، قيل لزهمان: ما تقول في خزاعة؟ قال: جوع وأحاديث9, أي: فقر ودعاوى فارعة وأضغاث أحلام. وعرفت بعض القبائل بـ"الضبيعات", وهي: "ضبيعة بن قيس بن ثعلبة" أشرفهن, و"ضبيعة أضجم بن ربيعة بن نزار"، و"ضبيعة بن عجل بن لجيم"10. وذكر أيضًا أن في العرب قبائل تنسب إلى "ضبيعة": "ضبيعة بن ربيعة بن نزار"، وهو المعروف بـ"الأضجم"، و"ضبيعة بن أسد بن ربيعة"، قال بعضهم: إنما ضبيعة أضجم، و"ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل"، وهو أبو رقاش أم مالك وزيد مناة ابني شيبان، وهم رهط الأعشى: ميمون بن قيس، و"ضبيعة بن عجل بن

_ 1 الثعالبي، ثمار القلوب "117". 2 الثعالبي، ثمار القلوب "117". 3 المصدر نفسه "119". 4 كذلك "120". 5 الثعالبي، ثمار القلوب "120 وما بعدها". 6 المصدر نفسه "121". 7 كذلك "122 وما بعدها". 8 كذلك "123". 9 البيان "1/ 9"، "لجنة". 10 المحبر "335".

لجيم بن صعب بن بكر بن وائل، رهط الوصاف، و"ضبيعة بن فريد", بطن من الأوس من بني عوف بن عمرو، وضبيعة بن الحارث العبسي1. وذكر "ابن حبيب" أسماء قبائل عُرفت بـ"الربائع" وهي في "تميم", وهي: "ربيعة الجوع بن مالك بن زيد مناة بن تميم"، و"ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد بن تميم"، و"ربيعة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم"، كل واحد منهم عم صاحبه، و"ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة"، وهم "الحباق"2. وورد: في تميم ربيعتان: الكبرى وهي ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وتدعى: ربيعة الجوع, والصغرى وهي ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة من تميم3.

_ 1 تاج العروس "5/ 427"، "ضبع". 2 المحبر "235". 3 تاج العروس "5/ 342"، "ربع".

أسماء أجداد القبائل

أسماء أجداد القبائل: ولكل قبيلة -كما ذكرت- جد تنتمي إليه وتفاخر وتباهي به. وقد يكون هذا الجد جدًّا حقيقًّا, أي: إنسانًا عاش ومات، وساد القبيلة، وترك أثرًا كبيرًا في قبيلته حتى نسبت القبيلة إليه. وقد يكون الجد اسم حلف تكوَّن وتألف من قبائل عديدة، حتى عرفت به، ودعيت بذلك الحلف, وصار وكأنه اسم جد وإنسان عاش. ومن هذا القبيل اسم "تنوخ" على حد زعم أهل الأخبار, فقد رووا أن تنوخًا قبائل عديدة، اجتمعت وتخالفت، وأقامت في مواضعها1. وقد يكون اسم موضع، أقامت قبيلة به، فنسبت إليه, كما يذكر أهل الأخبار من اسم "غسان". وقد يكون اسم إله عبد، فنسب عباده إليه مثل "بني سعد العشيرة"، و"تالب ريام" جد قبيلة "همدان"، وقد يكون اسم حيوان أو نبات أو ما شابه ذلك، مما يدخل في دراسة أصول الأسماء

_ 1 تاج العروس "2/ 254"، "تنخ".

ومصادرها واشتقاقها، وهو شيء مألوف نراه عند غير العرب أيضًا، فليس العرب بدعًا وحدهم في هذه الأمور. وما يذكره ويرويه أهل الأخبار عن أزمنة أجداد القبائل، فيه أغلاط وأوهام. فقد يرفعون زمان رجل فيبعدونه كثيرًا عن الإسلام, بينما هو من الرجال الذين عاشوا قبيل الإسلام, وقد يجعلون الرجل من الجاهلية القريبة من الإسلام، بينما يجب وضعه قبل الإسلام بقرون، ثم هناك أخطاء فادحة في سرد سلاسل النسب، وفي أسماء الأشخاص، ولا سيما في الأنساب القديمة، بحيث يصعب على الباحث الأخذ بها والتأكد منها. أما بالنسبة إلى الأنساب القريبة من الإسلام، فإن وضعها يختلف عن وضع الأنساب المذكورة، إذ يغلب عليها طابع الصحة والضبط. وقد ذهب المستشرق "بلاشير" إلى أن طريقة النسابين بالنسبة إلى الأرهاط، هي طريقة إيجابية مقبولة، ولكنها لا تستند إلى أسس صحيحة بالنسبة للقبائل والأحلاف؛ بسبب أن تحالف القبائل وتكتلها راجع إلى عوامل المصلحة الخاصة والمنافع السياسية، وهي تتغير دومًا بتغير المصالح، تتولد تبعًا لذلك أحلاف لم تكن موجودة, وتموت أحلاف قديمة، وتظهر قبائل كبيرة وتموت غيرها. ولهذا التغير فعل قوي في تكوين الأنساب وفي نشوئها, إذ تتبدل وتتغير الأنساب تبعًا لذلك التغير، ومن ثَمَّ فلا يمكن الاعتماد على الأنساب الكبرى، التي دونها علماء النسب وجمعوها في مجموعات، وشجروها حفدة وآباء وأجدادًا1. والمصالح السياسية للقبائل لا تقيم وزنًا للأخوة وللنسب؛ فإذا اختلفت المصلحة فلا تجد القبائل عندئذ أي غضاضة في الانفصال عن قبيلة مؤاخية لها, لتتحالف مع قبيلة غريبة عنها في النسب، ومحاربة أختها التي انفصمت عنها. فعبس مثلًا تحالفت مع "بني عامر" في حرب البسوس على "ذبيان"، وهي أختها, وتحالفت ذبيان مع "تميم" على "عبس"، مع ما بين "تميم" و"عبس" و"ذبيان" من عداء قديم. وقد وقعت أيام بين "تغلب" و"بكر" مع صلة الرحم والقرابة القوية التي ربطت بين القبيلتين الأختين2. وقع كل ذلك وحدث بسبب تغير المصالح التي كانت تربط فيما بين هذه القبائل.

_ 1 بلاشير، تأريخ الأدب العربي "العصر الجاهلي"، تعريب الدكتور إبراهيم كيلاني "ص25 وما بعدها". 2 بلاشير "25".

أرض القبيلة

أرض القبيلة: ولكل قبيلة أرض تعيش عليها وتنزل بها وتعتبرها ملكًا لها، تنتشر بها بطونها وعشائرها، ولا تسمح لغريب النزول بها والمرور بها إلا بموافقتها وبرضاها. وقد اختص كل بطن منها بناحيته فانفرد بها واعتبرها أرضًا خاصة به. وتكون الأرض التي تحل القبيلة بها "منزلًا" لها، و"منازل" لأبنائها الذين ينزلون بها. يضربون بها خيامهم, فتكون الأرض مضارب لها, تستوطنها وتقيم بها وتصير وطنًا لها، أي: دار إقامة، ما دامت تقيم بها, وموضع بيوتها. لذلك يعبر عن الأرض التي تقيم بها القبيلة بـ"بيوت القبيلة" وبـ"بيوت العشيرة"؛ لأنها مضرب البيوت. وتمتد أرض القبيلة إلى المواضع التي تصل بيوتها إليها, فما يقع إلى الداخل فهو من موطن القبيلة، وما وقع خارج حدود نفوذ القبيلة خرج عن مواطنها. وتعين الحدود بالظواهر الطبيعية البارزة، مثل تلال أو أودية أو رمال أو ما شاكل ذلك, ونظرًا إلى عدم تثبيت القبائل لحدودها على الأرض برسم معالم بارزة لها، صارت الحدود سببًا من أسباب النزاع المستمر والقتال الدائم بين القبائل. وتكون مواضع الماء في أرض القبيلة قبلة أبنائها، يستقون منها ما يحتاجون إليه من "إكسير الحياة", وتكون هذه المواضع آبارًا أو عيون ماء أو حسيًّا وما شاكل ذلك. وتتفق القبيلة فيما بينها على حقوق السقي، ويؤدي الإخلال بحقوق السقي إلى وقوع نزاع، قد يؤدي إلى قتال، ولا سيما في أيام القيظ وانحباس المطر، حيث تشتد الحاجة إلى الماء، ويصير افتقاده سببًا لهلاك الأنفس والمال. والقاعدة أن ماء القبيلة مشاع في القبيلة, أما المياه المحمية: المياه التي تحمى للسادة والرؤساء، والمياه الخاصة، كالآبار التي يحفرها أصحابها، فتكون خاصة بهم, لا يجوز الاستقاء منها إلا بإذن.

ولكل قبيلة حق حماية أرضها, شأنها في ذلك شأن الدول، وإذا أراد غريب اجتياز أرضها فلا بد من أن يكون في حماية إنسان منها. وإذا كان المجتاز جماعة، كأن يكون قافلة أو قبيلة أو حيا يريد التنقل إلى أرض أخرى، ولا بد له من المرور بأرض هذه القبيلة للوصول إلى هدفه، فعليه أخذ إذن من القبيلة يخوله جواز المرور بها، وإلا تعرض للمنع والقتال. لذا كان لا بد للتجار من ترضية سادات القبائل للسماح لهم بالمرور، بدفع حق المرور، وهي إتاوات تعارفت القبائل آنذاك على أخذها من المارة.

سادات القبائل

سادات القبائل: وسيد القبيلة بالنسبة للقبيلة، مثل ملك مملكة بالنسبة لمملكته, فهو الرئيس والمرجع والمسئول عن أتباعه في السلم والحرب, يقصده ذوو الحاجات من أبناء القبيلة إن احتاجوا إلى حاجة. وقد يجمع هذا الرئيس شمل جملة قبائل، ويترأسها، وقد ينصب نفسه ملكًا عليها، كالذي فعله ملوك كندة من بني "آل آكل المرَّار" وغيرهم من الملوك. وقد لا نخطئ إذا ما قلنا: إن أكثر مؤسسي الأسر المالكة في بلاد العرب، كانوا سادات قبائل في الأصل، استغلوا مواهبهم وقابلياتهم، وإمكانية قبيلتهم, وسخروها في سبيل الحصول على الملك، وعلى التلقب بلقب "ملك"، فنالوه. ويقال للسيد: المسوّد, ويذكر علماء اللغة أن السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومحتمل أذى قومه والزوج والمقدم والرئيس. وسيد القبيلة هو رئيسها، تقول العرب: "فلان سيدنا" أي: رئيسنا والذي نعظمه, وتقول: "ساد قومه"1. وهي من الألفاظ المستعملة عند عرب الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشام، أما العربية الجنوبية فقد استخدمت ألفاظًا أخرى بدلًا عنها. ويقال لسيد القبيلة "رئيس القبيلة", والرئيس: سيد القوم، والرياسة: السيادة, ويقال: فلان رأس ورئيس القوم2, ورؤساء القبائل هم سادات القبائل

_ 1 اللسان "3/ 228 وما بعدها", "سود". 2 اللسان "6/ 92"، "رأس".

والمتولون لأمورها. كما يقال: فلان ساد قومه، وهو سيد القوم وسيدهم, فاللفظتان مترادفتان وفي معنى واحد. ووردت لفظة "زعيم" بمعنى سيد القوم ورئيسهم والمتكلم عنهم، والجمع: زعماء, كما وردت الزعامة: الشرف والرياسة على القوم, وحظ السيد من المغنم1. غير أن استعمال "زعيم القبيلة"، أقل في الكلام من استعمال "سيد" و"رئيس". وأنا حين أستعمل "سيد قبيلة"، أقصد بها الرئيس الفعلي لقبيلةٍ، المسئول عنها، والمدبر لأمورها والمرجع الأخير لها، والذي يكون كالملك أو الحاكم بالنسبة لقبيلته؛ لأن هناك سادات آخرين سادوا في القبيلة وقد عرف خبرهم في كل مكان، وربما اشتهر ذكرهم أكثر من اشتهار اسم سيد قبيلتهم، ومع ذلك فإنهم لا يعدون رأس تلك القبيلة؛ لأن الرأس المسئول عن القبيلة رأس واحد, -ألا إن العرف أن يسود الرؤساء في القبائل- هو كما يترأس الأشراف أمر مدينة، بأن يترأسوا عمائر القبيلة ثم فروعها الدنيا التي تلي العمائر. فهم رؤساء في قبيلة بالمعنى المجازي، الذي جوز إطلاق لفظة "القبيلة" حتى على الأفخاذ والبطون، بل والبيوت, بأن يبزوا الرئيس بالخصال الحميدة، التي تجلب لهم الشهرة والسيادة، وتجعل اسمهم يعلو اسم رئيس القبيلة في كثير من الأحايين.

_ 1 تاج العروس "8/ 324 وما بعدها"، "زعم", Goldziher, Muh. Stud., II, S. 52.

صفات الرئيس

صفات الرئيس: وعلى من يسود في قومه أن يتحلى بخلال حميدة وسجايا طيبة، تجعل الناس يعترفون بسيادته عليهم، كأن يحتمل أذى قومه؛ ولذلك قيل للسيد "محتمل أذى قومه"، وأن يكون شريفًا في أفعاله حليما كريما، يغض نظره عن أعمال الحمقى والجهلة، وأن يتجاهل السفلة والسفهاء الجاهلين, قلا يغضب ولا يثور، وأن يكظم غيظه, جاء في المثل: "احلم تسد"1, وأن يحترم الناس مهما كانت منازلهم، وأن يؤلف بينهم ويكتسب محبتهم، وأن يكون ملاذهم، وأن يجعل

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 99 وما بعدها".

بيته بيتًا للجميع ومضيفا لكل من يفد إليه من كبير أو حقير أو صغير، وأن يفتح قلبه للجميع.1 وعلى الرئيس أن يكون في مقدمة القوم في الحروب والغزو، وأن يكون شجاعًا لا يهاب الموت، حتى يكسب النصر لنفسه ولقومه، وعليه أن يكون قائد قبيلته وواضع خطط الحرب؛ لأنه رمز القبيلة ورمز النصر وباعث الهمم في نفوس أبنائه، وهو أب القبيلة، وإذا لم يكن قدوة لأبنائه في ساعات الشدة والخطر، فترت همم أبناء القبيلة, ولا يثير القبائل إلا الشعارات والنخوة وإلهاب المشاعر، حتى تندفع اندفاعًا في القتال. والرئيس هو روح القبيلة وشعارها، فإذا أصيب بمكروه أو جبن في القتال، وإذا خرَّ صريعًا في المعركة، هربت قبيلته في الغالب, وتراجعت القهقرى, إلا إذا وجد في القبيلة من يؤجج فيها نار الحماسة ويبث فيها العزيمة للوقوف والصمود. ويكون مثل هذا الرجل من الشجعان الأقوياء أصحاب الإرادة القوية الذين يعرفون نفسية قبيلتهم، وإلا فليس من السهل على رجل التأثير على قبيلة, وهي في مثل هذا الوضع. ولأثر الرئيس في مصير الحرب، كان الفرسان يوجهون كل قوتهم نحو الرؤساء؛ لأنهم على علم بأنهم إن تمكنوا من الرئيس فقتلوه, غلبوا عدوهم في الغالب وقضوا عليه. فهو الروح المعنوية عند الأعراب، يليه حامل اللواء فإذا سقط حامل اللواء قتيلًا, أسرع من عُين ليكون خليفته في التقاط الراية وحملها، وإذا سقط هذا أيضًا أسرع من يأتي بعده، وهكذا. فإن سقوط الراية معناه هزيمة منكرة ستحيق بمن سقطت رايته؛ ولهذا كانوا يختارون رجالًا شجعانًا يولونهم أمر اللواء, بحيث إذا سقط أحدهم أخذ من يليه مكانه، وهكذا حتى النصر.

_ 1 لامانس، مجلة المشرق، 1932م, عدد 2 "110".

صعوبة انقياد القبائل

صعوبة انقياد القبائل: وليست قيادة القبيلة بأمر سهل يسير، لا سيما إذا كانت القبيلة قبيلة كبيرة ذات عشائر وأرهاط منتشرة في مواضع متباعدة. فإن رؤساء العشائر يستغلون فرصة ابتعادهم عن أرض الأم، ويعلنون انفصالهم عنها، وتوليهم أمرهم بأنفسهم،

فيحدث الانفصام والانقسام، وقد يعلن الرئيس حربًا على العشيرة العاقَّة المنشقة، ولهذا يعد سيد القبيلة الذي تجتمع له رئاسة قبيلة كبيرة من السادات المحظوظين, وحظه هو ثمرة ذكائه ومواهبه وقابلياته, ولا شك. ومن هؤلاء المحظوظين الذين دوَّن أهل الأخبار أسماءهم: "جَهْبل بن ثعلبة اليشكري"، سيد "بكر بن وائل"، فقد اجتمعت "بكر" حوله، و"عمرو بن شيبان بن ذهل"، و"عمرو بن قيس الأصم", و"الكلح", و"بشر بن عمرو بن مسعود"، و"همام بن مرة", و"الحارث بن عباد"1, وقد اجتمعت حولهم "بكر بن وائل"، وانضوت تحت لوائهم, وذلك في مناسبات أشار إليها أهل الأخبار, مثل وقوع بعض الأيام. ولولا هذه الأيام، وتلك المناسبات التي اضطرت القبيلة إلى التكتل والتجمع فيها حول زعيم واحد ليخلصها من المخاطر، لما تجمعت حوله؛ لأن التجمع لا يلتئم مع طبع أهل البادية، الذين جبلتهم الطبيعة على التشتت والتفرق. وذكر أهل الأخبار أن "خالد بن جعفر بن كلاب"، و"عروة الرحال بن عتيبة بن جعفر"، و"الأحوص بن جعفر"، و"عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"، هم أربعة اجتمعت عليهم "هوازن"، ولم تجتمع "هوازن" كلها في الجاهلية إلا على هؤلاء الأربعة, وهم كلهم من "بني جعفر بن كلاب"2, مما يدل على صعوبة انقياد عشائر "هوازن" لزعامة رجل واحد. وهذا مثل واحد من أمثلة صعوبة انقياد القبائل لرئاسة رئيس؛ لأن الانقياد لرئيس واحد, معناه في نظر رؤساء العشائر، خضوعهم لغيرهم واستذلالهم له وتنازلهم عن حريتهم وعن استقلالهم في إدارة شئون عشائرهم لغيرهم ولو كان هذا الرئيس منهم، أضف إلى ذلك الخسائر المادية التي قد يصابون بها من هذا الانقياد. وقد عرفت قبائل "ربيعة" خاصة بتخاصمها وبتباغضها وبتحاسد رؤسائها؛ لذلك لم تقبل في الغالب بتملك رئيس منها عليها. بل كان سادتها يراجعون التبابعة -على ما يقوله أهل الأخبار- لتمليك سيد منهم عليهم, كانوا يراجعون اليمن كلما اختلفوا فيما بينهم على تمليك ملك عليهم. وقد ذكر أهل الأخبار أن من جملة

_ 1 المحبر "ص254". 2 المحبر "253 وما بعدها".

أسباب تعيين والد الشاعر "امرئ القيس" الكندي ملكًا على بني أسد وتعيين أعمامه ملوكًا على القبائل الأخرى، هو تناحر سادات ربيعة فيما بينهم، وتباغضهم وتفرق كلمتهم، حتى كان كل واحد منهم يرى أنه أولى من غيره بالملك، فدبَّ الخلافُ بين القبائل، وتطاول السفهاء على الأشراف وأهل البيوتات، وعندئذٍ وجد سادات القبائل أن الأمن لا يرجع إليهم إلا بذهابهم إلى كندة لتنصيب ملوك منها عليهم. فكان ما كان من تنصيب والد الشاعر على "بني أسد" وتنصيب أعمامه على القبائل الأخرى، إلا أن الأمن لم يستتب ولم يستقر طويلًا بين هذه القبائل المتنازعة، إذ قرر الرحيل عنها -وعاد الخصام داء "ربيعة"- إلى وطنه, وعادت حليمة إلى عادتها القديمة على ما يقوله أهل الأمثال. وقد أشار أهل الأخبار إلى رجال ذكروا أنهم تمكنوا من حكم معد وربيعة, ومعنى ذلك أنهم كانوا من ذوي الشخصيات القوية, وبذلك تمكنوا من فرض أنفسهم على هذه القبائل المتباغضة. من هؤلاء: حذيفة بن بدر, وهو من سادات غطفان وبيتهم, وهو والد "حصن" أبي عيينة, وقد أدرك "عيينة" النبي، فأسلم ثم ارتد, وأسلم بعد ذلك على يد أبي بكر1. وقد قاد "حذيفة" "بني فزارة" و"مرة" يوم النسار، ويوم الجفار، وفي حرب داحس حتى قتل فيها يوم الهباءة. وقد عرف بـ"رب معد"2, وما كان ليعرف بذلك لو لم يكن من أصحاب القوة والمكانة حتى ساد قبائل معد. ومن سادات "ربيعة" "الأفكل"، و"عمرو بن جعيد" من "بني الديل", وكان ذا بغي، فسارت إليه "بنو عَصَر" فقتلوه3, و"الحارث الأضجم بن عبد الله بن ربيعة بن دوفن"، من "بني دوفن", قديم السؤدد فيهم كانت تجبى إليه إتاوتهم4, و"عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم بن النمر بن قاسط", وكان سيد "النمر بن قاسط" في الجاهلية وصاحب مرباعهم5.

_ 1 ابن دريد، الاشتقاق "173". 2 المحبر "249"، "461"، جمهرة "243". 3 الاشتقاق "197". 4 الاشتقاق "193"، "جمهرة "275". 5 الاشتقاق "202"، جمهرة "283".

وكان "القُدار بن الحارث" رئيس ربيعة في أول الإسلام1. وورد أن "القدار بن عمرو بن ضبيعة" كان رئيس ربيعة، يلي العز والشرف فيهم2. ويمتاز سيد القبيلة عن سائر رجال قبيلته ببيته الكبير المكون من خيمة ضخمة، والتي قد تتكون من جملة قطع من النسيج خيطت بعضها إلى بعض لتتكون منها خيمة كبيرة, تكون مضيفًا للرئيس, ومجلسًا للقوم يؤمه سادات القبيلة وأشراف الأحياء, وموئلًا لذوي الحاجات من الناس. وله خيام أخرى أعدت لحريمه ولأهله, فهي منازل رئيس القبيلة الخاصة به وبأفراد أسرته. وامتاز الرئيس عن أفراد قبيلته بكثرة عدد نسائه, فسيد القبيلة مزواج في الغالب, عنده المال, وعنده الجاه والرئاسة، فلا يجد صعوبة في الحصول على زوجات صغيرات السن لينجبن له أولادًا، يكونون له حصنًا حصينًا وأمنًا له على ماله, وعونًا له على القبيلة. فيحمي بهم نفسه ممن قد يطمع في الرئاسة وفي انتزاع السيادة منه بالقوة. ومن واجب الرئيس الإشراف على تقسيم الغنائم، ومن حقه المرباع إن كان من ذوي المرباع، وله أن ينفق من جيبه على الضيوف، وأن يفتح بيته للقادمين إليه من مختلف الناس، وأن يستقبل ضيوف القبيلة بوجه فرح بشوش، وأن يرعى شئون قبيلته، ويسأل عن أبنائها. وعليه أن يسعى لفك من يقع من أبناء عشيرته أسيرًا في أيدي قبيلة أخرى، وأن يشارك قومه في تحمل الديات، حين يعجز رجال القبيلة عن حملها. وعليه أن يعين أتباعه في كل جناية يجنونها، فهي وإن صدرت من غيره لكنها تقع في النهاية على رأس سيد القبيلة، فعليه وحده إيجاد حل لها ومخرج. ومن هنا كنَّت العرب عن سيد القبيلة بقولها: "سيد معمم", يريدون أن كل جناية يجنيها أحد من عشيرته معصوبة برأسه3.

_ 1 الاشتقاق "195". 2 تاج العروس "3/ 483"، "قدر". 3 عيون الأخبار "1/ 226".

رئاسة القبائل

رئاسة القبائل: لا نملك نصًّا جاهليًّا فيه شيء عن الشروط التي يجب أن تتوفر في الرجل كي

يكون رئيسًا على قبيلة, ولا نجد في روايات أهل الأخبار أخبارًا واضحة صريحة عن طريقة تولي الرئاسة عند الجاهليين. لذا لا نستطيع البتَّ في موضوع شروط انتقال الرئاسة من رئيس قبيلة متوفى أو مخلوع إلى رئيس جديد, وهل كانت الرئاسة وراثية على طريقة انتقال العروش في النظام الملكي، أم كانت اختيارًا وانتخابًا وشورًى, بمعنى أن اختيار الرئيس يكون برأي من رؤساء القبيلة، وليس بسنة الإرث؟. والذي ظهر لنا من دراسة أخبار أهل الأخبار في هذا الموضوع أن الجاهليين كانوا قد ساروا على سنة الإرث في تولي الرئاسة, كما ساروا على طريقة الاختيار. أما أنها كانت رئاسة وراثية؛ فلأنها رئاسة مثل سائر الرئاسات عند العرب، كرئاسة المكربين والملوك والأقيال والأذواء والأقيان وكل الرئاسات الجاهلية الأخرى. وقد كانت هذه الرئاسات رئاسات وراثية في الأغلب؛ لذا كانت رئاسة القبيلة بالوراثة أيضًا, تنتقل الرئاسة من الأب إلى الابن الأكبر. ويؤيد هذا الاستنتاج ما نجده في أكثر روايات القبائل, وتولي الأبناء رئاستها بعد الآباء. وأما أنها بالنص والتعيين، فكالذي ذكروه من أمر اختيار "حصن بن حذيفة بن بدر" ابنه "عيينة" لرئاسة قومه من بعده. ولم يكن عيينة أليق من غيره بأن يكون سيد قومه، فاستدعى أولاده وقال لعيينة: أنت خليفتي ورئيس قومك من بعدي. ثم قال لقومه "بني بدر": لوائي ورياستي لعيينة، ثم أوصاهم بما يجب أن يفعلوه على عادة السادات عند اشتداد المرض بهم وشعورهم بدنو أجلهم؛ من وجوب التكتل والتهيؤ للقتال وعدم التجرؤ على الملوك، فإن أيديهم أطول من أيدي الرعية، فسمعوا له وأطاعوا، واختاروه رئيسًا عليهم1. وأما أنها شورى ورأي، فعند عدم وجود عقب للرئيس المتوفى، أو عند وجود تنافس وتباغض بين أبناء الرئيس المتوفى بسبب كونهم من زوجات مختلفات فيما بينهن، يخشى عندئذ من انقسام القبيلة على نفسها، ويحسم الخلاف باختيار أحزم الأبناء أو تنصيب رجل قريب أو بعيد عن الرئيس، يجدونه أهلًا وكفؤًا لتولي الرئاسة فيولونها إياه. وقد يلجئون إلى الرأي في حالة تشتت شمل القبيلة, بظهور رجال أشراف فيها, لهم كفاءات وقابليات وشهرة تفوق شهرة أسرة

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 531".

الرئيس المتوفى، يطمعون في الرئاسة، فينتخبون أكفأهم وأقواهم ليكون الرئيس الجديد. وقد لا تجتمع كلمة المتنافسين على الرئاسة، ولا تتفق على اختيار رئيس، فلا يكون أمام القبيلة في مثل هذه الحالة سوى اللجوء إلى الملوك في الغالب؛ لتعيين رئيس عليهم يختارونه من جماعتهم وينصبونه سيدًا عليهم. وقد كان هذا شأن قبائل "معد" في الغالب, إذ كانت قبائلها متبدية متنافرة، ذات رؤساء متحاسدين، لا يقرون برئاسة واحد منهم؛ لذلك كانوا يلجئون إلى ملوك اليمن لتعيين رئيس من غيرهم عليهم, وبذلك يحل الخلاف. ونجد في شعر "عامر بن الطفيل"، وهو أحد مشاهير فرسان العرب, تغنيًا بفعاله وبشجاعته وبدفاعه عن قومه, وتبجحًا بسيادته على قومه, واعتزازًا بأن سيادته هذه لم تأت إليه عن وراثة، وإنما جاءته بفعاله وبدفاعه عن قومه وذبه عن حماهم، فسودوه لهذه الخلال عليهم، ولم يسودوه لأنه "ابن سيد عامر". وفي هذا الشعر دلالة على أن الرئاسة كانت بالوراثة, وأن والد "عامر" كان سيدًا, فأراد "عامر" أن يتبجح بنفسه على غيره، بأنه ليس من أولئك الرؤساء الذين يرثون السيادة إرثًا, فلا دخل لهم بمجيئها إليهم، وإنما أخذها عن جدارة واستحقاق، ولو لم يكن أبوه سيدًا, لجاءته السيادة تركض إليه؛ لما فيه من محامد ومكارم. فسيادته سيادة وراثة؛ لأنه ورثها عن أبيه، وسيادة جدارة جاءته لما فيه من خصال السادة الأشراف1.

_ 1 إني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل موكب فما سودتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب الشعراء والشعراء "192", البلاذري، أنساب "2/ 179"، ابن قتيبة، عيون الأخبار "1/ 227".

خصال السادة

خصال السادة: يذكر أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كانوا لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال: السخاء والنجدة والصبر والحلم والتواضع والبيان, وقالوا: قيل

لقيس بن عاصم: بِمَ سُدْتَ قومك؟ قال: ببذل الندى وكف الأذى ونصرة المولى وتعجيل القِرَى, وقد يسود الرجل بالعقل والعفة والأدب والعلم. ووصف بعضهم السؤدد بأنه اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة. وقد سئل أحد السادات: بأي شيء سدت قومك؟ فقال: "إني -والله- لأعفو عن سفيههم، وأحلم عن جاهلهم، وأسعى في حوائجهم, وأعطي سائلهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن فعل أحسن من فعلي فهو أفضل مني، ومن قصر عن فعلي فأنا خير منه"1. وذكر أهل الأخبار أيضًا، أن العرب كانت تسود على أشياء, فكانت مضر تسود ذا رأيها, وأما ربيعة فمن أطعم الطعام، وأما اليمن فعلى النسب2. والرئيس الناجح، هو الرئيس الذكي الفطن الذي تكون له قدرة وقابلية على التصرف بذكاء وبحذر وفقًا لعقلية القبائل. فيعرف كيف يعامل كل شخص يأتي إليه المعاملة التي تلائمه وتليق به، بحلم وصبر وأناة، وبقساوة وغلظة أحيانًا؛ من أجل إخافة أتباعه، لخوف القبائل من البطاش الظالم. على ألا يسرف في ظلمه ويمعن في غيه، فيقع له ما وقع لكليب وائل ولأمثاله من الذين أسرفوا في الاعتماد على أنفسهم وعلى قابلياتهم، فأهلكوا أنفسهم. ولهذا كان من شأن عقلاء سادات القبائل عرض المنازعات والخصومات القبلية للحكم فيها, وبذلك يخلصون أنفسهم من مشكلات صعبة كانت ستقع تبعتها على أكتافهم فيما إذا انفردوا بالنظر بها دون سائر الرؤساء. ومن أعراف الحكم عند القبائل، أن سيد القبيلة يستمد رأيه من رأي أشراف قبيلته ووجوهها في الأمور الهامة التي تخص حياة القبيلة؛ ليستنير برأيهم، وليعرف رأي أتباعه في معالجتها. وتساعد هذه المشورة سادات القبائل مساعدة كبيرة في التمكن من إدارة القبيلة إدارة حسنة ترضي الغالبية، وقد توصل الرئيس إلى النجاح والنصر في الغزو، فيرتفع اسمه ويعلو نجمه. ولا زال سادات القبائل يستمعون إلى مشورة رؤساء القبيلة، ويقيمون لرأيهم وزنا إلى يومنا هذا. ورأيهم هذا هو مجرد مشورة ونصح؛ بمعنى أنه لا يلزم سيد القبيلة بوجوب العمل بموجبه, فقد ينبذه ويعمل برأيه وبقراره، لا سيما إذا كان قوي الشخصية متجبرًا عنيدًا.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 187 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "2/ 187".

وقد يكون النجاح حليفه، فتزداد بذلك هيبته على أتباعه، وقد يمنى بخسارة فادحة فتقضي عليه وعلى حياته أيضًا. والنظام القبلي بعد, هو نظام استشاري, الرأي فيه لأصحاب الرأي فقط, أما الأفراد, أي: أبناء القبيلة وسوادها، فلا رأي لهم في تسيير الأمور، إلا إذا برز أحدهم وظهر في قبيلته بمواهب يعترف بها، كالحكمة أو الشرف، فقد يدخل في عداد أولي الرأي، ويكون له عندئذٍ عندهم رأي مسموع. وعلى الرغم من استبداد بعض السادة برأيهم، وحكمهم بما يوحي إليه به حسهم وشعورهم، وتصرفهم في الأمور تصرفًا كيفيًّا، فإنهم كانوا يقيمون مع كل ذلك وزنًا للرأي، وقد يكون هذا الرأي رأي رجل مغمور من عامة أبناء القبيلة، أو رأي شاعر أو خطيب أو أي شخص آخر من أبناء القبيلة. فالحكم عند القبائل بهذا, حكم فردي استشاري يتوقف الرأي فيه على شخصية وكفاءة رئيس القبيلة، وعلى شخصية وكفاءة رؤساء البطون والأحياء. وقد أدت غطرسة وعنجهية بعض سادات القبائل بهم إلى الموت, فقد لجئوا إلى القسوة والقهر في الحكم واستبدوا برأيهم استبدادًا فرق بينهم وبين رؤساء قبيلتهم؛ مما دفع بعض فرسان القبيلة وشجعانها على قتلهم للتخلص منهم، كالذي كان من أمر "كليب وائل"، الذي تعسف في حكمه وتجبر فاختار خيرة الأرضين الخصبة، فجعلها حمًى له، لا يحق لأحد الرعي بها، إلا بإذن منه. فأزعج عمله هذا من خضع لحكمه، فكانت عاقبته القتل. والحلم عند العرب من أهم الصفات التي تؤهل الإنسان لحكم الناس. وهو عندهم الأناة والعقل، وقيل: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب1, ومعالجة الأمور بهدوء وضبط أعصاب. وهو أحزم سياسة تلائم طبع الحكم، وقد عدوه من خلال الحكماء. وممن عرف واشتهر أكثر من غيره بالحلم: "الأحنف بن قيس"، حتى ضربت العرب به المثل, فقالت: هو أحلم من الأحنف. وقد نسب أهل الأخبار

_ 1 تاج العروس "8/ 256"، "حلم".

له حكمًا كثيرة وأمثالًا، هي من الأمثال التي ينسبونها في العادة إلى الحكماء1. وذكروا من أمثلة حلمه أنه كان قاعدًا يومًا بفناء داره, محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه، حتى أُُتي بمكتوف ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك، فما قطع كلامه حتى انتهى، ثم كلم ابن أخيه وأنبه وعفا عنه، ثم قال لابن آخر له: وارِ أخاك وحل كتاف ابن عمك, وسق إلى أمك مائة ناقة دية ابنها, فإنها غريبة. إلى قصص آخر من هذا القبيل2.

_ 1 الفاخر "242"، الثعالبي, ثمار "4، 85، 92". 2 نهاية الأرب "6/ 50 وما بعدها".

النسب

النسب: النسب هو جرثومة العصبية وأساسها؛ ولهذا حرص العربي على حفظ نسبه، ولا يزال يحرص عليه، فيروي لك شجرة نسبه حفظًا ويرفعها إلى جملة أجداد. وقد وجد السياح أعرابًا سردوا لهم نسبهم سردًا من غير كتاب مكتوب, إلى عشرات من الأجداد، وقد تأكدوا بعد فحوص واختبارات أن ما قيل لهم وسرد عليهم كان صحيحا في الغالب. وأما أهل المدر، فإن حرصهم على حفظ نسبهم, وإن لم يكن حرص أهل الوبر، غير أن فيهم من يحفظ شجرة نسبه، وفيهم من يحتفظ بها مكتوبة, وقد شهد على صحتها جماعة من النسابين. وفي جملة من يعتني بنسبه اعتناءً كبيرًا، ويأبى الزواج من غير الأسر الكفوءة له, السادة المنتمون إلى الرسول من ذوي الجاه والحسب والنسب، والأشراف السادات من أهل الحضر والوبر. وحفظ النسب هذا هو استمرار لما كان عليه الجاهليون من حرص على حفظ أنسابهم. وإذا كنا لا نملك اليوم جرائد جاهلية في النسب، فإن في بعض الكتابات الجاهلية تأييدًا لما نقول؛ فبين أيدينا في هذا اليوم كتابات جاهلية ذكرت أسماء جملة أجداد لأشخاص دونوا أسماءهم في تلك الكتابات، وقد دون على شاهد قبر "معنو" "معن"، اسم أبيه وجدين من أجداده1. كما عثر على

_ 1 F.Altheim und. Stiehl, Die Araber, I, S., 280.

أسماء عشرة أجداد في بعض الكتابات الصفوية1. وهنالك أمثلة أخرى من هذا القبيل، تثبت عناية العرب في الجاهلية بتدوين أنسابهم وحفظها, وهي من أهم المزايا التي حافظ عليها العرب إلى هذا اليوم. ويبدأ النسب بالأب في الغالب، وبـ"الأم" في الأقل في حالات تتغلب فيها شهرة الأم على شهرة الأب، ويكون "البيت" إذن جرثومة النسب, وحين ينسب إنسان يقول: إنه "ابن فلان". ويشمل نسب البيت الأب والأولاد والبنات والزوجة أو الزوجات، وهم أكثر الناس التصاقًا بالأب، وقد يقال: إنه من "بيت فلان" تعبيرًا عن الانتساب إلى رئيس ذلك البيت. وقد عرف بعض علماء اللغة النسب: أنه القرابة، أو هو في الآباء خاصة، وأن النسب: أن تذكر الرجل فتقول: هو فلان ابن فلان، وذكر أنه يكون من قبل الأم والأب2. والبيت هو بيت أب. ولما كان المجتمع مجتمع بيوت، صار النظام فيه نظامًا أبويًّا, السلطة العليا فيه للأب، إليه يُنتسب وهو المسئول قانونًا عن العائلة, يتساوى في ذلك مجتمع الحضر ومجتمع أهل الوبر. ويذكر أهل الأخبار أن العرب تنسب ولد المرأة إلى زوجها الذي يخلف عليها بعد أبيهم، وذلك عنى حسان بن ثابت بقوله: ضربوًا عليًّا يوم بدر ضربة ... دانت لوقعتها جميع نزار أراد بني عليّ هؤلاء من كنانة، وهم بنو عبد مناة. وإنما قيل لهم: بنو على عزوة إلى علي بن مسعود الأزدي, وهو أخو عبد مناة لأمه، فخلف على أم ولد عبد مناة. وهم: بكر وعامر ومرة وأمهم: هند بنت بكر بن وائل النزارية, فرباهم في حجره فنسبوا إليه3. وإذا توفي والد وله مولود في بطن زوجته، أو كان طفلًا رضيعًا وكان له

_ 1 Littmann, Thamud und Safa, 1940, S, 98, Inschriften, 4, 5, S. 121, Die Araber, I, S. 280. 2 تاج العروس "4/ 260 وما بعدها", "طبعة الكويت"، "ن س ب". 3 تاج العروس "10/ 253"، "علو".

أعمام، تركه أعمامه عند أمه حتى يكبر، ثم يأخذه أعمامه، وقد تأتي أمه معه. ولكن العادة أن الأم تبع أهلها أي: عشيرتها، فإذا توفي زوجها وهي من عشيرة أخرى، تركت عشيرته لتعود إلى عشيرتها، فإذا كبر المولود خُيِّر بين البقاء مع أمه أو الالتحاق بأعمامه، أي: بعشيرة والده. والأغلب أن يختار الولد عشيرة الوالد؛ لأن نسب الولد من نسب والده، فيلتحق المولود بعشيرة الأب, وتقدم عشيرته على عشيرة الأم, إذ يشعر أن عشيرة أمه وإن كانت قريبة منه، إلا أن قربه منها ليس كقربه من عشيرة والده، وقد يعير باختياره عشيرة أمه عشيرة له. ولدينا أمثلة تشير إلى تعيير الأولاد أولادًا آخرين؛ لالتحاقهم بعشيرة أمهم وتركهم عشيرة والدهم، كالذي كان من أمر عبد المطلب يوم كان طفلًا, إذ عيره أطفال عشيرة أمه بلجوئه إلى عشيرتهم، إذ لا عشيرة له, ولو كانت له عشيرة للحق بها؛ مما حمله على ترك يثرب والرجوع إلى أعمامه بمكة. فالعم في نظرهم بمنزلة الوالد، وهو أقرب الناس إليه، وهو وريثه في العصبات. وبهذه الحجة احتج العباسيون على العلويين في تقدمهم عليهم بحق الخلافة. ومن هنا نجد العرب يوصون بأولاد العم خيرًا، وألا يتهاتروا معهم ولا يختلفوا مهما وقع بينهم من خلاف. وفي هذا المعنى يقول أبو الطمحان: إذا كان في صدر ابن عمك إحنة ... فلا تستثرها سوف يبدو دفينها1 وللخئولة مكانة كبيرة في العصبة عند العرب, قد تقوى على العمومة، فإذا هلك إنسان وكان إخوته على خلاف مع زوجته أو كان حالهم ضعيفًا قامت الخئولة مقام العمومة في رعاية الأولاد وحمايتهم ومدهم بالعصبية. بل قد نجد أن عصبية الخئولة أقوى عند العرب في الغالب من عصبية العمومة، وفي تأريخ الجاهلية والإسلام أمثلة كثيرة على ذلك. ومن حسن حظ الإنسان في الجاهلية أن يكون له أعمام وأخوال كثيرون، خاصة إذا كانوا أصحاب جاه وسيادة؛ لأنه سيعتز بهم، ويفتخر بكثرتهم. وكان الجاهليون يقولون: رجل معم ورجل مخوِل وأخول، إذا كان له أعمام

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 259".

وأخوال, ويقال: كريم الأعمام والأخوال، على سبيل المدح والتقدير1. ومنه قول امرئ القيس: بجيد معم في العشيرة مخول. وقول الشاعر: تروح بالعشي بكل خرق ... كريم الأعممين وكل خال2 والنسب نسب أهل، ويقوم على الدم القريب، ونسب قبيلة، ويقوم على العصبية للدم الأبعد، دم جد القبيلة يجري في عروق المنتسبين إليه. والعرب من حيث النسب صرحاء وحلفاء وجيران وموالٍ وشركاء يستلحقون بالنسب. أما الصريح، فهو المحض من كل شيء، والخالص النسب، ويقال: جاء بنو فلان صريحة إذا لم يخالطهم غيرهم3. والنسب إذن نسب آباء، وهو نسب الصرحاء الخلص من العرب المنحدرين من صلب جد القبيلة، على حد تعبير أهل الأنساب، ونسب حلف أو جوار، أي: نسب استلحاق. والغالب أن يتحول نسب الاستلحاق إلى نسب صريح، حين تطول إقامة الدخيل بين من دخل بينهم, فينسى أصله، ويأخذ أحفاده نسب من دخل جدهم فيهم, ويشمل ذلك نسب القبائل أيضًا. ونجد في كتب أهل الأخبار أمثلة كثيرة من أمثلة تحول الأنساب، حيث نجدها تنص على دخول نسب فلان في نسب بني فلان، ونسب قبيلة في نسب قبيلة أخرى. ويقال للقوم الذين ينتسبون إلى من ليسوا منهم "الدخل", والدخيل هو الرجل الغريب الذي ينتسب إلى قوم ليس هو بواحد منهم. وذكر أيضًا أن "الدخل" بمعنى الخاصة، وأيضًا الحشوة الذين يدخلون في قوم وليسوا منهم, أي: في المعنى المتقدم4. وفي كتب أهل الأخبار أمثلة عديدة على تنقل الأنساب وإثبات نسب قوم في قوم ليسوا منهم لغاية ومأرب، وقع ذلك في الجاهلية وفي الإسلام. قال "الكندي": "كان أبو رجب الخولاني وفلان وفلان يتحرشون أهل الحرس

_ 1 تاج العروس "7/ 312"، "خول". 2 تاج العروس "8/ 409"، "عمَّ". 3 اللسان "2/ 509", "صرح", بلوغ الأرب "3/ 191 وما بعدها". 4 تاج العروس "7/ 320 وما بعدها", "دخل".

ويؤذونهم، فمشى أهل الحرس إلى زكريا بن يحيى كاتب العمري، فقالوا له: حتى متى نؤذَى ويطعَن في أنسابنا؟ فأشار عليهم زكريا بجمع مال يدفعونه إلى العمري ليسجل لهم سجلًا بإثبات أنسابهم، فجمعوا له ستة آلاف دينار، فلما صار المال إلى العمري لم يجسر على أن يسجل لهم، وقال: ارفعوا إلى الرشيد في ذلك، فخرج وفد منهم إلى العراق وأنفق مالًا عظيمًا هناك، وادعى الوفد أن المفضل بن فضالة قد كان حكم لهم بإثبات أنسابهم وأنهم بنو خوتكة بن إلحاف بن قضاعة، ثم عاد الوفد بكتاب محمد الأمين إلى العمري بالتسجيل لهم، فدعاهم العمري إلى إقامة البينة عنده على أنسابهم, فأتوا بأهل الجوف الشرقي وأهل الشرقية, وقدم جماعة من بادية الشام، فشهدوا أنهم عرب فسجل لهم العمري. ثم تجدد نظر القضية فيما بعد وفسخ حكم القاضي العمري، ورد أهل الحرس إلى أصلهم القبطي"1. وأشار أهل الأخبار إلى قبائل كانت تتنقل من قوم إلى قوم، فتنتمي إليهم, قالوا لها: "النواقل". والنواقل: من انتقل من قبيلة إلى قبيلة أخرى فانتمى إليها2, والتنقل دليل على أن النسب لم يكن من الصرامة والشدة على نحو ما يصوره لنا النسابون المتأخرون. وفي الذي يذكره علماء النسب عن أنساب القبائل، أمور لا يمكن لنا قبولها، لا سيما ما يتعلق منها بالتعصب القبلي وبسرد الأنساب وتشجيرها وفي تفرعها. وأنساب القبائل موضوع لم يبحث بعد بحثًا علميًّا، وهو يحتاج إلى تفرغ وتتبع وإلى مقارنة ما جاء عند العرب فيه بما جاء عند غيرهم من الساميين وغيرهم عنه. فقد لعبت الأنساب دورًا خطيرًا عند البشرية؛ لأنها كانت الحماية والوقاية للإنسان، قبل أن تتولد الحكومات الكبيرة التي رعت الأمن وبسطت سلطانها، وبذلك خففت من غلواء النسب والانتساب.

_ 1 كتاب قضاة مصر "397", العبادي، الإسلام والمشكلة العنصرية "88". 2 تاج العروس "8/ 143"، "نقل".

الاستلحاق

الاستلحاق: والاستلحاق، هو أن يستلحق إنسان شخصًا فيلحقه بنسبه، ويجعله في حمايته

ورعايته، أي في عصبيته. وقد يكون الرجل صريحًا معروف النسب، وقد يكون أسيرًا أو مولًى أو عبدًا، فيسميه مولاه وينسبه إليه. ومن هذا القبيل ما كان يفعله أهل الجاهلية من استلحاق أبناء الإماء البغايا بهم, وذلك أنه كان لأهل الجاهلية إماء بغايا وكان سادتهن يلمون بهن، فإذا جاءت إحداهن بولد ربما ادعاه السيد والزاني، فيقع خلاف بينهما على الولد. وقد وقع مثل هذا الخلاف في أيام الرسول، في أول زمان الشريعة، فقضى الرسول بإلحاقه بالسيد؛ لأن الأمة فراش كالحرة، فإن مات السيد ولم يستلحقه ثم استلحقه ورثته بعده, لحق بأبيه. وفي ورثته خلاف1.

_ 1 اللسان "10/ 328", "صادر", "لحق"، تاج العروس "7/ 60"، "لحق".

الدعي

الدعيّ: ويقال للمستلحق "الدعي", والدعي: المنسوب إلى غير أبيه، و"الدعوة"1 في النسب: أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه وعشيرته, وقد كانوا يفعلونه فنُهي عنه وجعل الولد للفراش. ومن هذا القبيل المتبنى الذي تبناه رجل فدعاه ابنه ونسبه إلى غيره، وكان النبي تبنى "زيد بن حارثة"، ثم ألحقه بنسبه، بعد أن نزل الوحي عليه {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمِْ} 2, وقال: {مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} 3. ويكون حكم الدعي من الناحية القانونية في حكم النسب الصحيح والبنوة الشرعية عند الجاهليين؛ لذلك كان الجاهليون يورثونه كما يورثون الأبناء4. ويقال للدعي ينتمي إلى قوم: منوط مذبذب, سمي مذبذبًا؛ لأنه لا يدري إلى من ينتمي5. وقد يكون الرجل دعي أدعياء, فيكون هو دعيا في رهطه,

_ 1 الدعوة بكسر الدال. 2 سورة الأحزاب، الرقم 33, الآية 5, اللسان "14/ 261". 3 سورة الأحزاب، الرقم 33، الآية 4, اللسان "14/ 261"، "صادر"، "دعا". 4 الأغاني "17/ 94". 5 اللسان "7/ 420", "صادر", "نوط".

ورهطه دعيا في قبيلة مثل "ابن هرمة"، فقد كان دعيًّا في الخلج وكان الخلج دعيًّا في قريش1. ويقال للدعي "ملصقا"، والملصق: هو المقيم في الحي وليس منهم بنسب2. وقد ورد في حديث "علي بن الحسين": المستلاط لا يرث، ويُدعى له ويدعى به. المستلاط: المستلحق في النسب، ويدعى له, أي: ينسب إليه فيقال: فلان ابن فلان، ويدعى به أي: يكنى فيقال: هو أبو فلان، وهو مع ذلك لا يرث لأنه ليس بولد حقيقي3. ومن ذلك قولهم: "لاط القاضي فلانًا بفلان: ألحقه به". وورد أن أناسًا في الجاهلية كانوا يليطون الأولاد بآبائهم، أي: يلحقونهم،4. والظاهر أن استلحاق الأبناء بالآباء، كان معروفًا بين الجاهليين بسبب الاتصال بالإماء وببعض الأعراف الأخرى التي حرمت في الإسلام. ويقال للدعي: المخضرم، وقيل: هو من لا يُعرف أبوه أو أبواه ورجل مخضرم أسود وأبوه ابيض، أو هو من ولدته السراري، وذلك ذم في الإنسان5. ويقال: رجل "خلط ملط"، بمعنى: مختلط النسب. وذكر أن الملط الذي لا يعرف له نسب ولا أب, وأما خلط، فإما بمعنى المختلط النسب، وإما بمعنى ولد الزنا, والخليط المشارك في حقوق الملك كالشرب والطريق ونحو ذلك. ومنه الحديث: "الشريك أولى من الخليط, والخليط أولى من الجار"، والشريك: المشارك في الشيوع, والخليط: القوم الذين أمرهم واحد6. و"الأهل" أهل الرجال وأهل الدار، وأهل الرجل أخص الناس به. وأهل الدار أهل البيت، و"آل الرجل"، أهله. ويقال في النسب: هو من آل فلان7.

_ 1 الأغاني "3/ 76". 2 تاج العروس "7/ 61"، "لزق"، "ألصق". 3 اللسان "14/ 262"، "دعا". 4 تاج العروس "5/ 218"، "لاط"، اللسان "7/ 395"، "لوط". 5 تاج العروس "8/ 281"، "الخضرم". 6 تاج العروس "5/ 132"، "خلط"، "5/ 226"، "ملط". 7 اللسان "11/ 28 وما بعدها", "صادر", "أهل".

وينتهي النسب بجد القبيلة الأكبر، فلكل قبيلة جد أكبر تنتمي إليه وتتسمى به، وله ابن ينتسب إليه أو أبناء ينتسبون إليهم، ويكون هذا الجد محور "النسب" و"العصبية" للقبيلة. ونجد هذا النوع من النسب معروفًا عند غير العرب أيضًا؛ عند العبرانيين والآراميين وعند الإغريق والرومان مثلًا.

الجوار

الجوار: وللجوار صلة كبيرة بـ "النسب" وبالعصبية عند العرب، فقد يتوثق الجوار، وتتقوى أواصره فيصير نسبًا، فيدخل عندئذ نسب "المستجير" بنسب "المجير"، ويصير وكأنه نسب واحد, هو نسب "المجير". وقد اندمجت بـ"الجوار" أنساب كثيرة من القبائل الصغيرة، أو القبائل التي تشعر بخوف من قبيلة أخرى أكبر منها، فتضطر إلى طلب "جوار" قبيلة أكبر منها؛ لتدافع عنها، ولتكون بذلك قوة رادعة تحمي حياتها وتحافظ على نفسها ومالها بهذا الجوار. وهو من السنن التي حافظ عليها الجاهليون، واعتدوها كالقوانين. فإذا استجار شخص بآخر، أو استجارت قبيلة بأخرى، اكتسب هذا الجوار صيغة قانونية، ووجب على المجير المحافظة على حق الجوار, وإلا نزلت السبة بالمجير، وازدراه الناس. ويكتسب الجوار حكمه بإعلان الطرفين قبولهما له على الملأ، في أماكن الاجتماع في الغالب، في مثل المواسم من حج أو سوق. فإذا أعلن ذلك، وعلم الناس الخبر، صار المجار في ذمة المجير، وترتب على المجير أن يكون مسئولًا عن كل ما يقع على المجار وما يصدر منه. وقد ورد في القرآن الكريم: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِِ} 1. والجار ذو القربى هو نسيبك النازل معك في الحواء, ويكون نازلًا في بلدة وأنت في أخرى، فله حرمة جوار القرابة. والجار الجنب ألا يكون له مناسب فيجيء إليه ويسأله أن يجيره، أي: يمنعه فينزل معه،

_ 1 النساء، الآية "63".

فهذا الجار الجنب له حرمة نزوله في جواره ومنعته وركونه إلى أمانه وعهده؛ لأنه جاوره وإن كان نسبه في قوم آخرين ولا قرابة له به. وكان سيد العشيرة إذا أجار عليها إنسانًا لم يخفروه1, وإذا دخل قبته أو خباءه أو دار حول خيمته، ونادى بالجوار والأمان صار آمنًا. وقد وجب على صاحب القبة أو الخباء أو الخيمة حمايته، حتى وإن كان من سائر أبناء القبيلة. والجار والمجير والمعيذ واحد، ومن عاذ بشخص استجار به2, ومن هذا القبيل استجارة أهل الجاهلية بالجن. "قيل: إن أهل الجاهلية كانوا إذا نزلت رفقة منهم في وادٍ، قالت: نعوذ بعزيز هذا الوادي من مردة الجن وسفهائهم, أي: نلوذ به ونستجير"3. وللجوار حرمة كبيرة عند الجاهليين, فإذا استجار شخص بشخص آخر, وقبل ذلك الشخص أن يجعله جارًا ومستجيرًا به، وجبت عليه حمايته، وحق على المجار الدفاع عن مجيره, والذب عنه, وإلا عد ناقضًا للعهد، ناكثًا للوعد، مخالفًا لحق الجوار. وعلى القبائل استجارة من يستجير بها, والدفاع عنه دفاعها عن أبنائها. ويقال للذي يستجير بك: "جار", والجار: الذي أجرته من أن يظلمه ظالم، وجارك: المستجير بك، والمجير: هو الذي يمنعك ويجيرك, وأجاره: أنقذه من شيء يقع عليه4. وقد أوصوا بالجار خيرًا، ورجوا من الجار أن يكون كذلك قدوة حسنة في جواره، فلا يسيء إلى جاره أو إلى جيرانه، وعلى الجار أن يغض نظره عن عيوب جاره، وأن يكون يقظًا في حفظ حقوق جاره، فطنًا في الدفاع عنه.

_ 1 اللسان "4/ 155"، "جور". 2 اللسان "4/ 155"، "جور". 3 اللسان "3/ 500"، "عوذ". 4 اللسان "4/ 154 وما بعدها"، "جور".

ليس له أن يتملص من حقوق الجوار إذا استحقت ووجبت؛ لأن للجار حقًّا عليك1. وكان يقال في الجاهلية للرجل إذا استجار بيثرب: قوقل في هذا الجبل ثم قد أمنت. فإذا فعل أحد ذلك، وجب على أهل يثرب قبول جواره والدفاع عنه. وذكر أن "قوقل" رجل من الخزرج، اسمه "غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج"، سمي به "لأنه كان إذا أتاه إنسان يستجير به أو بيثرب, قال له: قوقل في هذا الجبل، وقد أمنت, أي: ارتق". وقيل: "لأنهم كانوا إذا أجاروا أحدًا أعطوه سهمًا, وقالوا: قوقل به حيث شئت, أي: سر به حيث شئت"، وذكروا أيضًا أن "القوقل" اسم أبي بطن من الأنصار، اسمه ثعلبة بن دعد بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن الخزرج. وقالوا: هو النعمان بن مالك بن ثعلبة2. والغاية من الجوار طلب الحماية والمحافظة على النفس والأهل والمال؛ لذلك لا يطلبه في العادة إلا المحتاج إليه. ولا يشترط في الجوار نزول الجار قرب المجير، أو في جواره أي أن يكون بيته ملتصقًا ببيته, فقد يكون على البعد كذلك؛ لأن الجوار حماية ورعاية، وتكون الحماية حيث تصل سلطة المجير، وتراعى فيه حرمته وذمته. ويكون في إمكانه الدفاع عن جاره. ولهذا كان على الجار أن يعرف حدود "الجوار"، وقد يعلقانه بأجل احترازًا وتحفظًا من الجوار المطلق، الذي لا يعلق بزمن وإنما يكون عاما. ولا يجير أحد إنسانًا إلا إذا أحس أن في إمكانه أداء أمانة الجوار, وإلا عرض نفسه وأهله وقبيلته للأذى والسبة، إن قبل شخص جوار أحد وهو في وضع لا يمكنه من الوفاء بحقوق الجوار, ولا يطلب رجل مجاورة رجل آخر إلا إذا شعر أن من سيستجير به هو كفؤ لأن يجيره, وإلا فما الفائدة من الاستجارة برجل ضعيف قد يكون هو نفسه في حاجة إلى الاستجارة بأحد. ولا يشترط في الجوار أن يكون جوار أحياء, فقد يستجير إنسان بقبر, فيصير

_ 1 قال قيس بن عاصم: لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن المرزوقي، شرح الحماسة "4/ 584". 2 المعارف "ص50", تاج العروس "8/ 84"، "القوقل".

في جواره وفي حرمة ذلك القبر, وعلى أصحاب ذلك القبر الذب عن هذا الجار والدفاع عنه. ومن هذا القبيل استجارة الناس بقبر "عامر بن الطفيل", فقد ذكر أن قومه من "بني عامر"، وضعوا حول قبره أنصابًا على مسافة منه, إذا اجتازها اللاجئ ودخل "الحرم" المحيط بالقبر، صار آمنًا على ماله ونفسه، لا يخشى خشية أحد يريد إنزال سوء به. وقد منعوا دخول حيوان إليه أو مرور راكب به؛ احترامًا لحرمة صاحب هذا القبر1. وكالذي كان من أمر قبر "تميم بن مر" جد قبيلة تميم في عرف النسابين. وقد يستجير الإنسان بمعبد أو بأي موضع مقدس، فيكون في جوار وحرمة ذلك المكان, وعلى أصحابه أداء حقوق الجوار. ومن هذا القبيل جوار مكة, فمن دخل حرم "البيت" صار في جواره، آمنًا مطمئنا لا يجوز الاعتداء عليه ولا إخافته؛ لأنه في حرمة "البيت" وعلى قريش الذب عنه. وقد كان لآل "محلم بن ذهل" قبة بوادي "عوف" عرفت بـ"قبة المعاذة"، من لجأ إليها أعاذوه، و"آل عوف" من أشرافهم في الجاهلية ومن رجالهم "عوف" الذي يضرب به المثل: لا حرّ بوادي عوف2. والعوذ: الالتجاء؛ ولهذا عرفت بتلك التسمية, وهو "عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان". وقد ضرب به المثل في الوفاء, فورد: "هو أوفى من عوف", وذلك لأن عمرو بن هند طلب منه مروان القرظ, وكان قد أجاره فمنعه عوف وأبى أن يسلمه، فقال عمرو: لا حر بوادي عوف, أي: إنه يقهر من حل بواديه وكل من فيه كالعبيد له لطاعتهم إياه. وهو من أمثال العرب في الرجل العزيز المنيع الذي يعز به الذليل ويذل به العزيز. وقيل: إن كل من صار في ناحيته خضع له, أو قيل ذلك لأنه كان يقتل الأسارى3. ولما توفي "عوف" دفن بواديه، وأقاموا قبة على قبره صارت ملاذًا لمن يطلب الجوار. ومن طرق الجوار، أن يأتي رجل إلى رجل ليستجير به فلا يجده، فيعقد

_ 1 الأغاني "2/ 184"، "15/ 149". 2 الاشتقاق "215". 3 تاج العروس "6/ 206"، "تعوف".

طرف ثوبه إلى طنب البيت، فإذا فعل ذلك عد جارًا، ووجب على صاحب البيت أن يجيره1. والجوار جواران: جوار جماعة كجوار بيت أو فخذ أو بطن أو ظهر أو عشيرة أو قبيلة، وجوار أفراد. وللجوارين حرمة وقدسية ليس أحدهما دون الآخر في الحرمة والوفاء. وإذا نزل إنسان على إنسان آخر جارًا، فإن من المتعارف عليه أن تكون حرمة جواره ثلاثة أيام، "وكانت خفرة الجار ثلاثًا"2, فاذا انتهت، انتهت مدة الجوار. وعلى الجار الارتحال، إلا إذا جدد "المجير" جواره له، وطلب منه البقاء في جواره, فيكون عندئذ لهذا الجوار حكم آخر، إذ يبقى الجوار قائمًا ما دام عقده باقيا. وقد استفاد من حق الجوار الغرباء والمسافرون والمحتاجون وأمثالهم, فقد أمنوا على راحتهم ورزقهم وهم في محيط صعب، كما أمنوا على حياتهم, حتى إن المجير ليغفر لجاره ما قد يبدر منه من سوء بسبب حكم الجوار, قال مجير لجاره: "لولا أنك جار لقتلناك"3. ويشمل هذا الجوار المسافر والضيف. ومن عادتهم في الجوار، أن أحدهم إذا خاف، فورد على من يريد الاستجارة به، نكس رمحه، فإذا عرفه المجير، رفع رمحه، فيصير في جواره. فلما هرب "الحارث بن ظالم المري" من ملك الحيرة، وأخذ يتنقل بين القبائل حتى وصل عكاظ وبها "عبد الله بن جدعان", نكس رمحه أمام مضرب "ابن جدعان" ثم رفعه حين عرفوه، وأمن. وأقام بمكة، حتى أتاه أمان ملك الحيرة4. وقد يحدد الجوار بحدوده, كأن يذكر من يطلب الاستجارة لمن يريد أن يستجير به، أن استجارته به من قبيلة كذا أو من القبائل الفلانية أو من الشخص

_ 1 الأغاني "2/ 184". 2 الفاخر "220". 3 الفاخر "220". 4 البلاذري "1/ 42 وما بعدها".

الفلاني، فإذا قبل المجير ذلك حدد جواره بما حدد في عقد الجوار. فإذا اعتدت على المستجير قبيلة أخرى لم تذكر في نص الجوار، فلا ذمة للمستجير على المجير, وليس من حقه طلب مساعدته له. كما قد يحدد الجوار بزمن، كإقامة شخص في مكان، أو إيصاله من موضع إلى موضع، أو تعيين أمد له. والخفارة الخفرة: الأمان، والخفير: المجير، والخفارة: الذمة. ويقال: خفرت الرجل: أجرته وحفظته، وتخفرت به: إذا استجرت به, وأخفرت الرجل: إذا نقضت عهده وذمامه1, بأن يعلن ذلك ليقف عليه الناس، وإلا بقيت التبعة في عنق الخفير. وعلى من أعطى خفارته لأحد، الوفاء بما أعطى، والوفاء بما ألزم نفسه به عليه، وإلا عد ناكثًا للعهد حقيرًا2.

_ 1 اللسان "4/ 253 وما بعدها". 2 تاج العروس "3/ 186"، "خفر".

المؤاخاة

المؤاخاة: وتكون المؤاخاة بين الأفراد كما تكون بين الجماعات كالعشائر والقبائل. وهي تدعو إلى المناصرة والمؤازرة والمساعدة، وتؤدي إلى الموارثة. وخير مثل على المؤاخاة، ما فعله الرسول يوم مقدمه المدينة من مؤاخاته بين الأنصار والمهاجرين؛ لتوحيد الكلمة وليساعد بعضهم بعضًا1. ولا يشترط في المؤاخاة أن تكون بين أعراب وأعراب، أو بين حضر وحضر، إذ يجوز أن تعقد أيضًا بين العرب والأعراب، أي: بين الحضر والبدو؛ لأن المؤاخاة عقد، والعقد يقع بين كل الناس. كما قد تقع بين عربي وأعجمي، فقد آخى الرسول بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء.

_ 1 تاج العروس "10/ 11"، "أخا".

الموالي

الموالي: والمولى: الولي والعصبة والحليف وابن العم والعم والأخ والابن وابن الأخت والعصبات كلهم والجار والشريك1. فللفظة إذن معانٍ عديدة، أهمها بالنسبة لنا أن المولى: العبد, أي: المملوك الذي يمن عليه صاحبه، بأن يفك رقبته فيعتقه، ويصير المملوك بذلك مولى لعاتقه. وسوف نرى أن الموالي أنواع, وهم الذين نبحث عنهم في هذا المكان. و"الموالي: العصبة. هم كانوا في الجاهلية الموالي، فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم اسمًا، فقال الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} . فسموا الموالي.... والمولى اليوم موليان: مولى يرث ويورث, فهؤلاء ذوو الأرحام، ومولى يورث ولا يرث, فهؤلاء العتاقة"2. والعرب تسمي ابن العم المولى، ومنه قول الشاعر: ومولى رمينا حوله وهو مدغل ... بأعراضنا والمندبات سروع يعني بذلك: وابن عم رمينا حوله. ومنه قول الفضل بن العباس: مهلًا بني عمنا, مهلًا موالينا ... لا تظهرنّ لنا ما كان مدفونا3 والموالي أنواع، موالي عتق وموالي عتاقة، وهو الرقيق أو الأسير الذي تفك رقبته بعتقه, كأن يشتري رجل مملوكًا فيشتريه فيعتقه4. وفي جملة ما كان يفعله الجاهليون في مقابل فك رقبة المملوك اشتراطهم على المملوك عمل عمل يعيَّن له، فإن قام به وأتمه أعتقت رقبته, ويصير مولى لمعتقه إن شاء، وله الخيار في أن يختار غير سيده مولى له، إن اشترط ذلك على سيده، أو اشترط

_ 1 اللسان "15/ 408 وما بعدها"، "صادر", "ولي". قال الشاعر: هم المولى وإن جنفوا علينا ... وأنا من لقائهم لزور يعني بني العم. وقال اللهبي يخاطب بني أمية: مهلًا بني عمنا, مهلًا موالينا ... امشوا رويدا كما كنتم تكونونا تاج العروس "10/ 399", "ولي". 2 تفسير الطبري "5/ 33". 3 تفسير الطبري "5/ 32". 4 اللسان "10/ 243"، "عتق".

سيده عليه ذلك الشرط. وقد يقع الاختيار على ذلك بعد وقوع العتق. ومن الموالي: موالي مكاتبة "موالي المكاتبة", وذلك بأن يشترط في عقد البيع، أن العبد يكاتب على نفسه بثمنه، فإذا سعى وأداه عتق. ذكر أيضًا أن المكاتبة: أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه إليه منجَّمًا، فإذا أداه صار حرًّا، والعبد مكاتب. وقيل: المكاتبة: أن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال ينجمه عليه، ويكتب عليه أنه إذا أدى نجومه في كل نجم كذا وكذا، فهو حر، فإذا أدى جميع ما كاتبه عليه، فقد عتق، وولاؤه لمولاه الذي كاتبه. وذلك أن مولاه سوغه كسبه الذي هو في الأصل لمولاه, فالسيد مكاتب، والعبد مكاتب إذا عقد عليه ما فارقه عليه من أداء المال. سميت مكاتبة لما يكتب للعبد عليه -على السيد- من العتق إذا أدى ما فُورق عليه, ولما يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها في محلها، وأن له تعجيزه إذا عجز عن أداء نجم يحل عليه1. والأصل في ولاء المكاتبة، أن من أعتق عبدًا كان ولاؤه له، فينسب إليه, وإذا مات كان هو وارثه. وقد لا يتحول الولاء للولي، إذا اشترطوا أولًا ألا يكون ولاؤه لمعتقه، بل لمن يؤدي ثمن المكاتبة مثلًا, وقد يعتق المملوك ولا يكون لأحد ولاء عليه, وتكون العتاقة عندئذ "سائبة". و"السائبة": العبد يعتق على ألا ولاء له، أي: عليه، ويحق عندئذ أن يضع ماله حيث يشاء2. ومن أسباب العتاقة: التدبير, وهو أن يعلق المالك عتق مملوكه على شرط, هو بعد وفاته، كأن يقول له: أنت حر بعد موتي, فلا يرثه أهله3. وأما مولى العقد, ويقال له: مولى حلف ومولى اصطناع، فيكون بانتماء رجل إلى رجل آخر بعقد، أو قبيلة إلى قبيلة أخرى بحلف. وذلك بأن يتعاقد ضعيف مع قوي على أن يساعده ويعاضده، ويقوم في مقابل ذلك بأداء ما اتفق عليه من شروط, وينتسب المولى عندئذ إلى سيده، أي: مولاه الذي قبل ولاءه. ومن هذا القبيل يهود يثرب، فقد كانوا في ولاية الأوس والخزرج، لجأ كل بطن

_ 1 اللسان "1/ 700"، "كتب". 2 تاج العروس "1/ 305". 3 تاج العروس "3/ 200"، "دبر".

منهم إلى بطن من الأوس أو الخزرج يتعززون بهم، وصاروا موالي لهم, إذا وقع عليهم ضيم لجئوا إلى من انتموا إليه بالولاء للدفاع عنهم. ولما ظهر الإسلام كان من دخل في ولاء "عبد الله بن أبي"، ومنهم من دخل في ولاء "سعد بن معاذ", ومنهم من كان في ولاء "عبادة بن الصامت". وكان عليهم في مقابل ذلك، العون والنصرة لمن دخلوا في ولائه أو ولائهم، والدفاع عنهم، وأن يكونوا بمثابة العون لهم. وكان من موالي الحلف، قوم من اليهود والنصارى والمجوس. ولما ظهر الإسلام، أبطل عن تولي أهل الكتاب1, إذ جعلهم في ذمة المسلمين. ويدخل في هذا الولاء ولاء قبائل وعشائر صغيرة لقبائل أكبر منها, وذلك في سبيل الحصول على حمايتها لها ودفاعها عنها, فيتوجب عليها أداء ما شرط عليها من شروط عند طلبها الولاء, من العصبية والعقل وما شاكل ذلك من حقوق. أما مولى الرحم، فيكتسب الولاء بالزواج من موالي بعض القبائل، فينسب إلى القبيلة التي تزوج من مواليها2. وذكر بعض أهل الأخبار أن الموالي ثلاثة: مولى اليمين المحالف، ومولى الدار المجاور، ومولى النسب ابن العم والقرابة. وقد ذكرت هذه الأنواع في هذا البيت: نبئت حيًّا على نعمان أفرادهم ... مولى اليمين ومولى الدار والنسب3 وقد ذكر "الجاحظ" "أن الموالي أقرب إلى العرب في كثير من المعاني؛ لأنهم عرب في المدّعى، وفي العاقلة، وفي الوارثة. وهذا تأويل لقوله: مولى القوم منهم، ومولى القوم من أنفسهم. والولاء لحمة كلحمة النسب"4. ولهذا عد الموالي في نسب من دخلوا في ولائه, وتعصبوا وتحزبوا لولاء المولى. والموالي مهما كانوا عربًا أو عجمًا، كانوا أقل شأنًا في مجتمعهم من

_ 1 المائدة، الآية 51، تفسير الطبري "6/ 177", الآلوسي، تفسير "6/ 140". 2 تأريخ التمدن الإسلامي "4/ 31". 3 العمدة "2/ 198". 4 مناقب الترك "1/ 12"، من رسائل الجاحظ، "تحقيق عبد السلام هارون".

الأحرار. إذ نظر إليهم على أنهم دون العرب الأحرار في المكانة؛ ولهذا فقلما زوج الأحرار بناتهم للموالي, حتى ضرب بهم المثل في القلة والذلة, ولا سيما إذا كان الإنسان مولى موالٍ, فقيل: "مولى الموالي"، قيل ذلك في الإسلام أيضا. ورد في الشعر: فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى مواليا1 وقد بقيت نظرة الازدراء المذكورة حتى في الإسلام, فمع مساواة الإسلام للعرب بغيرهم وإتيانه بمقياس جديد في تفضيل الخلق بعضهم على بعض هو مقياس العمل الصالح، المتجسم في قوله: "أيها الناس, إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء، كلكم لآدم، وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى"2, أو قوله: "الناس في الإسلام سواء، الناس طف الصاع لآدم وحواء, لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي إلا بتقوى الله"، "لا تأتوني بأنسابكم وأتوني بأعمالكم، فأقول للناس هكذا ولكم هكذا"3 -نجد أن العرب بقيت في الإسلام أيضًا تأنف من تزويج بناتهم إلى الموالي بسبب شرط "الكفاءة" الذي كان سنة من سنن أهل الجاهلية في الزواج: كفاءة النسب والمنزلة والحرفة, وإذا تزوج مولى بنتًا عربية، عُيرت القبيلة به. وقد هجا الشاعر "أبو بجير" "عبد القيس"؛ لتزويجهم بناتهم للموالي4، وذهب البعض إلى قاعدة: "الكفاءة في النسب والدين والصنعة والحرية, ولا تزوج عربية بأعجمي, ولا قرشية بغير قرشي، ولا هاشمية بغير هاشمي، ولا عفيفة بفاجر"5, وأن "قريشًا بعضهم أكفاء لبعض, بطن ببطن، والعرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، والموالي بعضهم أكفاء لبعض, رجل برجل"6.

_ 1 الثعالبي, "ثمار", "690". 2 العبادي، الإسلام والمشكلة العنصرية "58". 3 اليعقوبي "2/ 100"، "حجة الوداع"، وتروى الخطبة بصور مختلفة. 4 العقد الفريد "3/ 232". 5 العبادي, الإسلام والمشكلة العنصرية "67"، أبو إسحاق الشيرازي, كتاب التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعي "95". 6 العبادي، الإسلام والمشكلة العنصرية "66".

أما كفاءة النسب، فيراد بها النسب العربي، أي: إن الرجل لا يزوج بنتًا عربية إلا إذا كان عربيًّا. وأما المنزلة، فيراعى فيها الكفاءة في المكانة، كأن يراعى في اختيار الزوجة أن تكون من عائلة ليست منزلتها دون منزلة الزوج، وإلا عير بزواجه, وأما الحرفة، فأن يتزوج الرجل بنتًا من بنات حرفته، فلا يتزوج الرجل ابنة صائغ مثلًا وإلا عير ابنها به، كالذي كان من أمر "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، فقد عيره الناس بأمه؛ لأنها ابنة صائغ، ثم لأنها يهودية. وكان هذا العرف صارمًا في اليمن، فحصروا الزواج بأصحاب الحرف على نحو ما سأتحدث عنه في باب الزواج. ونظرًا إلى ازدراء العرب لشأن الموالي، وما كان يجلبه الولاء من ازدراء العرب بعضهم بعضًا لهذا السبب، بسبب ولاء العتق أو ولاء الموالاة، فقد أمر الخليفة "عمر" بإبطال الولاء بين العرب، وجوز بقاءه فيما بين العرب وغير العرب1, فاقتصر الولاء على هذا النوع وحده في الإسلام.

_ 1 العبادي، الإسلام والمشكلة العنصرية "74".

الأحلاف

الأحلاف: وكان للأحلاف شأن خطير في حياة الجاهليين. والحلف في اصطلاح علماء اللغة: العهدُ بين القوم، والحلف والمحالفة: المعاهدة، وأصله اليمين الذي يأخذ بعضهم من بعض بها العهد، ثم عُبر به عن كل يمين, والمحالفة: أن يحلف كل للآخر1. فمعنى الحلف في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، وتحالفوا بمعنى تعاهدوا وعقدوا اتفاقًا وعهدًا، وتآخوا على العمل يدًا واحدة، وقد حالف الرسول بين المهاجرين والأنصار, أي: آخى بينهم2. وفي كلمة الحلف شيء من الدلالة على الشعائر والأيمان والمعاني الدينية؛ ولذلك قيل للحلف اليمين، لأن من عادتهم عند عقد الحلف بسط أيمانهم إذا حلفوا

_ 1 المفردات "ص128"، اللسان "9/ 53" "بيروت"، تاج العروس "6/ 75", المخصص "13/ 109", المعاني "6/ 125". 2 تاج العروس "6/ 75", اللسان "9/ 53"، الصحاح "1/ 512"، اللسان "12/ 403"، الصحاح "4/ 1346"، أساس البلاغة "1/ 193".

وتحالفوا وتعاقدوا وتبايعوا1. وكانوا ينظرون إليها على أن لها قداسة خاصة وحرمة، والحانث بيمينه ينظر إليه بأشد أنواع التحقير والازدراء. ويعد الحنث باليمين من الموبقات ومن الكبائر التي لا يُغتفر صدورها من شخص في شريعة الجاهليين, وقد أمر الإسلام بالوفاء بالعهد2. و"العهد" بمعنى الحلف أيضًا, وقيل: العهد: كل ما عُوهد عليه، وكل ما بين الناس من المواثيق. وهو أيضًا الموثق واليمين؛ ولذلك ورد: "على عهد الله" و"أخذت عليه عهد الله"، و"ولي العهد"؛ لأنه ولي الميثاق الذي يؤخذ على من بايع الخليفة, وعلى من يعطي العهد الوفاء به: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 3, {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} 4, أي: من وفاء5. ووردت لفظة "عاهدتم" بمعنى التحالف والتعاقد في مواضع من كتاب الله6. ويرد "الميثاق" بمعنى العهد, والمواثقة: المعاهدة، وأما "التواثق"، فالتحالف والتعاهد. وفي القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} 7, {فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} 8، {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} 9. وقد قال العلماء: إنه عقد مؤكد بيمين

_ 1 اللسان "17/ 356"، "13/ 462"، "بيروت"، تاج العروس "6/ 75". 2 تفسير ابن كثير "2/ 509"، تفسير الرازي "2/ 147"، تفسير الطبري "1/ 182"، جامع أحكام القرآن للقرطبي "1/ 246"، "9/ 307"، تفسير ابن حيان الأندلسي: البحر المحيط "1/ 174"، تفسير الطبرسي "1/ 40"، تفسير ابن مسعود "1/ 76"، تفسير الخازن "1/ 61"، تفسير البيضاوي "1/ 83". 3 النحل, الآية 91، الكشاف "1/ 41"، تفسير الطبري "3/ 319"، "1/ 182"، تفسير الطبرسي "2/ 379". 4 الأعراف, الآية 102. 5 التوبة, الآية 1، 4، 7, النحل، 91، تفسير الرازي "5/ 47"، شرح صحيح البخاري "11/ 203"، النهاية لابن الأثير "3/ 159"، تفسير الخازن "1/ 423". 7 الرعد، الآية 20. 8 الأنفال، الآية 72. 9 الرعد، الآية 25.

وعهد1. والحلف الذي نتحدث عنه هو "ميثاق"؛ لأنه عهد يؤخذ بحلف مؤكد بيمين. وتكون بين المتحالفين مواثيق على الوفاء بالالتزامات التي نص عليها، واتفق الطرفان المتعاقدان أو الأطراف المتعاقدة على الوفاء بها كاملة غير منقوصة. ويكون الحلف بين الأفراد، كما يكون بين الجماعات والحكومات، فيتحالف الأفراد بعضهم مع بعض، ويعلن ذلك الحلف ليكون معلومًا بين الناس, وتتحالف القبائل بعضها مع بعض, ويعلن حلفها هذا ليكون معلومًا عند أفرادها وعند القبائل الأخرى، وتتحالف الحكومات: حكومات عربية مع حكومات عربية، أو حكومات عربية مع حكومات أعجمية. وفي المسند أمثلة عديدة على محالفات الحكومات العربية بعضها مع بعض، أو محالفتها لحكومة أجنبية مثل: الحبشة، كما في الكتابات الآشورية وفي مؤلفات اليونان واللاتين، وفي كتب أهل الأخبار أمثلة من محالفات العرب مع غيرهم، أو محالفاتهم بعضهم مع بعض. والفكرة التي حملت العرب على عقد الأحلاف، هي نفس الفكرة التي تدفعهم اليوم على عقد الأحلاف بينهم أو مع غيرهم. وهي الضرورة والدفاع عن مصالح خاصة أو عامة، أي: نفس الفكرة التي تدفع الدول على التكتل والتحزب وعقد الأحلاف الدولية في هذا اليوم، أو في المستقبل. وهناك أحلاف عقدت لأغراض هجومية، وأحلاف عقدت لمصالح اقتصادية، مثل أكثر أحلاف قريش مع القبائل, وأحلاف لتثبيت نظم وإقرار قوانين وأخذ حقوق وردع ظالم وإنصاف مظلوم. وقد تعقد الأحلاف لأغراض معينة، فتكون لها آجال محددة، كأن تسعى قبيلة لعقد حلف مع قبيلة أخرى لمساعدتها في صد غزو سيقع عليها, أو لمساعدتها في غزو قبيلة أخرى، أو الوقوف موقف حياد تجاه الغزو، أو مساعدة قبيلة قبيلة أخرى للأخذ بثأر من قبيلة لها ثأر معها. ومثل هذه الأحلاف لا تعمر طويلًا، إذ ينتهي أجلها بانتهاء الغاية التي من أجلها عقد الحلف.

_ 1 المفردات "522"، اللسان "12/ 154"، الصحاح "4/ 1564"، الكشاف "1/ 71", البيضاوي "7/ 161"، تفسير الطبري "3/ 329"، اللسان "10/ 370"، "بيروت", تفسير الطبرسي "6/ 157".

والغالب أن الضعيف هو الذي يبحث عن حليف يحالفه؛ ليقوي بهذا التحالف نفسه، ويعز به مكانه. قال البكري: "فلما رأت القبائل ما وقع بينها من الاختلاف والفرقة، وتنافس الناس في الماء والكلأ، والتماسهم المعاش في المتسع، وغلبة بعضهم بعضًا على البلاد والمعاش، واستضعاف القوي للضعيف -انضم الذليل منهم إلى العزيز, وحالف القليل منهم الكثير، وتباين القوم في ديارهم ومحالِّهم، وانتشر كل قوم فيما يليهم"1. لقد دفعت الضرورات قبائل جزيرة العرب إلى تكوين الأحلاف؛ للمحافظة على الأمن وللدفاع عن مصالحها المشتركة كما تفعل الدول. وإذا دام الحلف أمدًا, وبقيت هذه الرابطة التي جمعت شمل تلك القبائل متينة، فإن هذه الرابطة تنتهي إلى نسب يشعر معه أفراد الحلف أنهم من أسرة واحدة, تسلسلت من جد واحد. وقد يحدث ما يفسد هذه الرابطة، أو ما يدعو إلى انفصال بعض قبائل الحلف، فتنضم القبائل المنفصلة إلى أحلاف أخرى، وهكذا نجد في الجزيرة أحلافًا تتكون، وأحلافا قديمة تنحل أو تضعف2. لم يكن في مقدور القبائل أو العشائر الصغيرة المحافظة على نفسها من غير حليف قوي يشد أزرها إذا هاجمتها قبيلة أخرى، أو أرادت الأخذ بالثأر منها. لقد كانت معظم القبائل داخلة في هذه الأحلاف، إلا عددًا قليلًا من القبائل القوية الكثيرة العدد، وكانت تتفاخر بنفسها؛ لأنها لا تعتمد على حليف يدافع عنها، بل كانت تأخذ بثأرها وتنال حقها بالسيف. ويشترك المتحالفون في الغالب في المواطن، وقد تنزل القبائل على حلفائها، وتكون الهيمنة بالطبع في هذه للقبائل الكبيرة3. وقد عرفت مثل هذه الأحلاف عند سائر الشعوب السامية كالعبرانيين مثلًا، وطالما انتهت تلك الأحلاف كما انتهت عند العرب إلى نسب، فيشعر المتحالفون أنهم من أسرة واحدة يجمع بينهم نسب واحد4. ويقال للحلف "تكلع"

_ 1 معجم ما استعجم "1/ 53". 2 Goldziher, Muh. Stud., I S., 64. 3 الأغاني "12/ 118، 123 وما بعدها". 4 Keunen, De Godsdienst Van Israel, I, p. 113, Noldeke, in ZDMG., XI, S., 15.

عند اليمانيين1, "وبه سمي ذو الكلاع, وهو ملك حميري من ملوك اليمن من الأذواء، وسمي ذا الكلاع؛ لأنهم تكلعوا على يديه أي تجمعوا، وإذا اجتمعت القبائل وتناصرت فقد تكلعت"2. ولما كانت المصالح الخاصة هي العامل المؤثر في تأليف الأحلاف، كان أمد الحلف يتوقف في الغالب على دوام تلك المصالح. وقد تعقد الأحلاف لتنفيذ شروط اتفق عليها، كأن تعقد لغزو قبيلة، أو للوقوف أمام غزو محتمل، أو لأجل معين. ومتى نفذت أو تلكأ أحد الطرفين في التنفيذ، انحل الحلف، وتعد هذه الناحية من النواحي الضعيفة في التأريخ العربي، فإن تفكير القبائل لم يكن يتجاوز عند عقدهم هذه الأحلاف مصالح العشائر أو القبائل الخاصة؛ لذلك نجدها تتألف للمسائل الداخلية التي تخص قبائل جزيرة العرب, ولم تكن موجهة للدفاع عن بلاد العرب ولمقاومة أعداء العرب. ولا يمكن أن نطلب من نظام يقوم على العصبية القبلية أن يفعل غير ذلك، فإن وطن القبيلة ضيق بضيق الأرض التي تنزل فيها, فإذا ارتحلت عنها، ونزلت بأرض جديدة، كانت الأرض الجديدة هي المواطن الجديد الذي تبالغ القبيلة في الدفاع عنه. ولما كانت هذه النزعة الفردية هي هدف سياسة سادات القبائل، أصبحت حتى اليوم من أهم العوائق في تكوين الحكومات الكبيرة في جزيرة العرب، ومن أبرز مظاهر الحياة السياسية للأعراب. وخير مثال للقبائل التي اقتضت مصالحها التكتل والتحالف بينها، هو الحلف الذي قيل له "تنوخ". فقد اجتمع بالبحرين قبائل من العرب، وتحالفوا وتعاقدوا على التناصر والتساعد والتآزر فصاروا يدًا واحدة، وضمهم اسم "تنوخ"3, وحلف "فرسان" وهو حلف آخر قديم تكون من انضمام قبائل عديدة بعضها إلى بعض للتناصر والتآزر4. ولما لم يعرف أهل الأخبار واللغة شيئًا من تلك الأمور العادية، أوجدوا تلك القصص والأخبار والأنساب المدونة

_ 1 المخصص "3/ 109". 2 اللسان "8/ 313"، "كلع". 3 تاريخ ابن الأثير "1/ 135"، تأريخ الطبري "1/ 746" "طبعة ليدن"، الأغاني "11/ 155". 4 الاشتقاق "ص8", Muh. Stud., I, S. 66.

عن تنوخ وأمثال تنوخ1. ومن هذا القبيل، الحلف الذي قيل له: "البراجم", وهو من عمرو وظليم وقيس وكلفة وغالب. زعم أهل الأخبار أن "حارثة بن عمرو بن حنظلة"، قال لهم: أيتها القبائل التي قد ذهب عددها، تعالوا فلنجتمع ولنكن كبراجم يدي هذه, فقبلوا، فقيل لهم: البراجم, وهم يد مع عبد الله بن دارم. فنحن أمام حلف من أحياء قل عددها وذهب أمرها، وخافت على نفسها، فلم تجد أمامها من وسيلة للمحافظة على حياتها سوى التحالف، فكان من ذلك حلف البراجم2. ونجد لفظة "الحليفان" للدلالة على تحالف قبيلتين، أو "الأحلاف" تعبيرًا عن حلف عُقد بين قبيلتين أو أكثر -تتردد في كتب أهل الأنساب والأخبار, وقد قصد بها أحلاف عديدة. فقد قيل لأسد وغطفان: "الحليفان"؛ لأنهما تحالفا وتعاقدا وعقدا حلفًا بينهما على التناصر والتآزر، كما قيل لهما "الأحلاف", والأحلاف أسد وغطفان3, وقيل لقوم من ثقيف: "الأحلاف". والظاهر أنهم كانوا في الأصل طوائف لم تتمكن من البقاء وحدها في وسط عالم لا يعيش فيه إلا القوي، فتحالفت للدفاع عن نفسها، ويقال لأسد وطيء: "الحليفان", ولفِزَارة وأسد: "حليفان"؛ لأن خزاعة لما أجلت بني أسد عن الحرم، خرجت فحالفت طيئًا، ثم حالفت بني فزارة4. ولما تحالفت غطفان وبنو أسد وطيء، قيل لهم: الأحاليف؛ لعقدهم حلفًا على التناصر والتآزر5.

_ 1 Muh. Stud., I. S., 66. 2 خلق الإنسان "230 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 199", "البرجمة". 3 قال زهير: فمن مبلغ الأحلاف عني رسالة وذبيان: هل أقسمتم كل مقسم؟ وفي رواية: "ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة", اللسان "10/ 400"، ديوان زهير "ص18", اللسان "9/ 54"، شرح القصائد العشر للتبريزي "219", الصحاح "4/ 1346". 4 اللسان "10/ 401". 5 قال ربيعة بن مقروم: إذا حل أحياء الأحاليف حوله ... بذي لجب هداته وصواهله المفضليات "ص364"، تاج العروس "6/ 75"، شرح ديوان زهير "18".

وقد ورد في معلقة "الحارث بن حلزة اليشكري" اسم "حلف ذي المجاز", الذي عُقد بين بكر وتغلب بوساطة "عمرو بن هند"، وقد أخذ فيه عمرو بن هند العهود والمواثيق والكفلاء من الطرفين حذر الجور والتعدي1. وتكون الهيمنة في الأحلاف التي تعقد بين قبائل غير متكافئة للقبائل القوية، أي: للقبائل التي لجأت إليها القبائل الضعيفة لعقد حلف معها. فتكون الكلمة عندئذ لسادات القبائل البارزة في هذا الحلف, وعلى القبائل الضعيفة دفع شيء للقبائل القوية في مقابل حمايتها لها وبسط سلطانها عليها, ومنع ما قد يقع من اعتداء من قبائل أخرى عليها. وقد كانت هذه الأحلاف تدوم ما دامت المصالح متشابهة، فإذا اختل التوازن بين المتحالفين، أو وجد أحد الطرفين أن مصالحه تقتضي الانضمام إلى حلف آخر, فسخ ذلك العقد وعقد حلفا آخر، وحالف قبائل أخرى قد تكون معادية لقبائل الحلف السابق، ويقال لفسخ الأحلاف: "الخلع"2. وهكذا كانت الحياة السياسية في الجاهلية: أحلاف تتكون وأخرى قديمة تنحل, ولا سيما إذا كانت قد تكونت من قبائل لا رابطة دموية بينها ولا اشتراك في المواطن، وإنما كانت عوامل مؤقتة وأحوال طارئة اقتضت تكتلها, ثم اقتضت انحلالها لزوال تلك الأسباب. وتعقد الأحلاف أحيانا بين عشائر وبطون قبيلة واحدة، تعقد على نمط الأحلاف التي تعقد بين القبائل. وقد يعقد الحلف بين عشائر وبطون قبيلة، وبين عشائر وبطون قبائل غريبة؛ وذلك بسبب حدوث مشاحنات ومنافسات بين عشائر وبطون القبيلة، فتتكتل العشائر والبطون وتتحزب وقد تتقاتل, وتضطر عندئذٍ إلى تأليف أحلاف بينها لتتغلب بها على العشائر والبطون المنافسة. ومثل هذه الأحلاف تضعف القبيلة وتؤدي إلى تصدعها ما لم يتدارك أمرها أصحاب الرأي والسداد فيتولوا

_ 1 واذكرو حلف ذي المجاز وما قد ... م فيه العهود والكفلاء شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص166". 2 Muh. Stud., I, S, 68.

إصلاح ما قد وقع بين رجال القبيلة من فساد, وتهدئة الحال حفظًا لمصلحة القبيلة. ونجد أمثلة من هذا القبيل عند أهل الأخبار. ولم يكن من الواجب على كل أحياء قبيلة، الاشتراك في الأحلاف التي تعقدها غالبية أحياء تلك القبيلة، فقد اعتزلت "حنيفة" الحلف الذي عقدته قبائل "بكر" في الجاهلية؛ لأنها كانت من أهل المدر، وكان الحلف في أهل الوبر, فلما جاء الإسلام دخلت في "عجل"، وصارت لهزمة1. وكان في العرف الجاهلي أن الأحياء التي تتحضر من قبيلة ما، لا تدخل في الأحلاف التي تعقدها الأحياء المتبدية؛ لاختلاف الحالة، لا سيما إذا كانت المواطن بعيدة. فالحضارة تبعد الأعراب عمن يتحضر منهم, إلا إذا وجدت مصالح خاصة، والمصالح أساس التعامل. ونظرًا إلى ما للحلف من قدسية في النفوس، أصبح من المعتاد عقده في مراسيم مؤثرة ورد وصف بعضها في الأخبار، مثل حلف "المطيبين" الذي عقد في مكة بعد اختلاف بني عبد مناف وهاشم والمطلب ونوفل مع بني عبد الدار بن قصي، وإجماعهم على أخذ ما في أيدي بني عبد الدار مما كان قصي قد جعله فيهم من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، فعقد كل قوم على أمرهم حلفًا مؤكدًا, على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضًا "ما بَلَّ بحرٌ صوفةُ"، فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبًا, فيزعمون أن بعض نساء بني عبد مناف أخرجنها لهم، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسكوا الكعبة بأيديهم توكيدًا على أنفسهم، فسُموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفًا مؤكدًا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضًا، فسُموا الأحلاف2.

_ 1 النقائض "728"، تاج العروس "9/ 69"، "لهزم". 2 ابن هشام "1/ 143 وما بعدها"، ابن الأثير، الكامل "1/ 183"، الطبري "1/ 1138"، "ليدن"، اللسان "10/ 400"، المعارف "204" "طبعة وستنفلد"، اليعقوبي "1/ 287" "هوتسما"، التنبيه "180", "طبعة الصاوي"، تاج العروس "6/ 75"، "حلف".

"والأحلاف ست قبائل: عبد الدار، وجمح، ومخزوم، وبنو عدي, وكعب، وسهم"1. ومن هذا القبيل حلف الفضول، إذ تداعت قبائل من قريش إلى حلف وتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها ومن غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عنه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول2, وهو من الأحلاف التي ظل الناس يحترمون أحكامها حتى الإسلام. وقد عقد على هذه الصورة: اجتمعت بنو هاشم وأسد وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم طعامًا كثيرًا, ثم "عمدوا إلى ماء من ماء زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت به أركانه، ثم أتوا به فشربوه"3. وأضيف إلى هذه الأحلاف، حلف "الرباب". وهو حلف عقد بين المتحالفين بإدخال أيديهم في "رُبّ" وتحالفوا عليه، أو لأنهم جاءوا برب فأكلوا منه، وغمسوا أيديهم فيه، وتحالفوا عليه, فصاروا يدًا واحدة، وقيل: لأنهم اجتمعوا كاجتماع الربابة، وهم: تيم وعدي وعُكْل ومُزَينة وضَبَّة أو: ضبة, وثور، وعكل، وتيم، وعدي4. ومن تلك الأحلاف، حلف لَعَقة الدم, وقد عقد على أثر تخاصم القبائل من

_ 1 اللسان "9/ 54"، ابن هشام، سيرة "1/ 84"، البداية والنهاية "2/ 209"، ابن الأثير، الكامل "1/ 267"، المسعودي، التنبيه "180"، المروج "2/ 59"، ابن خلدون "2/ 694"، المحبر "166"، تاج العروس "6/ 75"، القاموس "3/ 280"، النويري، نهاية الأرب "16/ 35"، المعارف "ص204" "طبعة هوتسما"، دائرة المعارف الإسلامية "8/ 49" "الترجمة العربية"، لسان العرب "9/ 54". Caetani, Annali, Voi., I, Intro., 120, 2, I, Anno., 8, 20-21, Ency.; 2; p. 307. 2 ابن هشام "1/ 145"، الأغاني "16/ 64 وما بعدها", المعارف "204" "طبعة هوتسما", الاشتقاق "111" "طبعة وستنفلد"، العقد الفريد "2/ 41"، اللسان "10/ 399", السيرة الحلبية "1/ 146", تاريخ الخميس "1/ 261"، المحبر "167"، عيون الأثر "1/ 52". 3 الأغاني "16/ 64". 4 الاشتقاق "111"، الصحاح "1/ 131"، اللسان "1/ 388، 403"، تاج العروس "1/ 264"، الأغاني "9/ 14"، العقد "2/ 59".

قريش في وضع الحجر الأسود في موضعه. فلما استعدت للقتال قربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا، ثم تعاقدوا هو وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا "لعقة الدم"1. ويظهر أن عقد الحلف بإدخال الأيدي في الدم من المراسيم المعروفة. وقد عرف قوم من بني عامر بن عبد مناة بن كنانة بلعقة الدم, وكانوا ذوي بأس شديد2, وجاء أن خَثْعَمًا إنما سموا خثعمًا؛ لأنهم غمسوا أيديهم في دم جَزُور3. وتعقد الأحلاف على النار كذلك، وقد وصف "هيرودوتس" طريقة من طرق التحالف والمؤاخاة والمحافظة على العهود عند العرب، فذكر أن العرب يحافظون على العهود والمواثيق محافظة شديدة، لا يشاركهم في ذلك أحد من الأمم، ولها قداسة خاصة عندهم، حتى تكاد تكون من الأمور الدينية المقدسة. وإذا ما أراد أحدهم عقد حلف مع آخر، أوقفا شخصًا ثالثًا بينهما ليقوم بإجراء المراسيم المطلوبة في عقد الحلف؛ ليكتسب حكما شرعيًّا، فيأخذ ذلك الشخص حجرًا له حافة حادة كالسكين يخدش به راحتي الشخصين قرب الإصبع الوسطى، ثم يقطع قطعة من ملابسهما فيغمسهما في دمي الراحتين، ويلوث بهما سبعة أحجار. ويكون مكان هذا الشخص الذي يقوم بإجراء هذه الشعائر في الوسط، يتلو أدعية وصلاة للإلهين "باخوس" "Bachus" و"أورانيا" "Urania"، حتى إذا انتهو منها قاد الحلف حليفه إلى أهله وعشيرته لإخبارهم بذلك وللإعلان عنه، فيصبح الحليف أخًا له وحليفًا، أمرهما واحد بالوفاء4. وما ذكره "هيرودوتس" عن عقد العرب أحلافهم على النار، هو صحيح على وجه عام. يؤيده ما ذكره أهل الأخبار عن "نار التحالف", وقولهم: كان أهل الجاهلية إذا أرادوا أن يعقدوا حلفًا، أوقدا نارًا وعقدوا حلفهم

_ 1 ابن هشام "1/ 213"، عيون الأثر، لابن سيد الناس "1/ 52"، أبو الفداء, المختصر في أخبار البشر "1/ 114"، تاج العروس "7/ 62"، القاموس "3/ 280", نسب قريش "283". 2 الأغاني "7/ 26". 3 المفضليات "ص705"، "واشتقاق خثعم فيما ذكر ابن الكلبي, أنهم نحروا جزورًا, فتخثعموا عليه بالدم، أي: تطلوا به", الاشتقاق "2/ 304". 4 Harodotus, Voi., I, p. 213. "Rawlinson".

عندها، ودعوا بالحرمان والمنع من خيرها على من ينقض العهد ويحل العقد، وكانوا يطرحون فيها الملح والكبريت، فإذا استشاطت قالوا للحالف: هذه النار تهددتك، يخوفونه بها حتى يحافظ على العهد والوعد، ولا يحلف كذبًا ويضمر غير ما يظهر؛ ولذلك عرفت هذه النار بنار التحالف. وهي نار يقسم المتخاصمون عليها كذلك، فإن كان الحالف مبطلًا نكل، وإن بريئًا حلف ولهذا سموها أيضًا "نار المهوّل" و"الهولة"1, وذكر أنهم كانوا لا يعقدون حلفًا إلا عليها. وقد أشار إلى هذه النار "أوس بن حجر"، إذ قال: إذا استقبلته الشمس، صد بوجهه ... كما صد عن نار المهوّل حالف كما أشار إليها الكميت: هُمُو خوَّفوني بالعمى هُوَّة الردى ... كما شب نار الحالفين المهوّل2 وقد ذكر أهل الأخبار حلفًا سموه: "حلف المحرقين"، وزعموا أن المتحالفين تحالفوا عند نار حتى أمحشوا أي: احترقوا, وأن يزيد بن أبي حارثة بن سنان, وهو أخو هرم بن سنان الذي مدحه زهير، يمحش المحاش، وهم بنو خصيلة بن مرة وبنو نشبة بن غيظ بن مرة على بني يربوع بن غيظ بن مرة رهط النابغة، فتحالفوا على بني يربوع على النار، فسموا المحاشّ بتحالفهم على النار3. وزعموا أن المحاش القوم يجتمعون من قبائل شتى، فيتحالفون عند النار4. وذكر علماء اللغة أن "المحاشن": القوم يجتمعون من قبائل يحالفون غيرهم من الحلف عند النار, وكانوا يوقدون نارًا لدى الحلف ليكون أوكد. وقد أشير إلى ذلك في شعر للنابغة، إذ يقول: جمع محاشك يا يزيد، فإنني ... أعددت يربوعًا لكم، وتميما قيل: يعني صرمة وسهمًا ومالكًا, بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض وضبة بن سعد؛ لأنهم تحالفوا بالنار، فسموا المحاش5.

_ 1 صبح الأعشى "1/ 409"، اللسان "11/ 703"، سبائك الذهب، للسويدي "119"، بلوغ الأرب "1/ 162". 2 نهاية الأرب "1/ 111". 3 اللسان "14/ 238"، و"ورد غيط" و"غيظ". 4 تاج العروس "4/ 384". 5 اللسان "6/ 344 وما بعدها", "محش"، تاج العروس "4/ 348"، "محش".

وقريب من هذا ما كانت تفعله قريش حين تعقد حلفًا، فيأخذ الحليف حليفه إلى الكعبة، ثم يطوفان بالأصنام لإشهادها على ذلك، ثم يعود الحليف بحليفه لإشهاد قريش ومن يكون في الكعبة آنئذ على صحة هذا الحلف، وقبوله محالفة الحليف، إذ أصبح وله ما له وعليه ما عليه، وعلى قومه حمايته حمايتهم له. وقد ذكرت كتب السيرة والأخبار والأدب طرفًا من أخبار المحالفات التي كانت تعقد بمكة وكيفيتها وبعض المراسيم التي تمت فيها. ولا تعرف صيغة واحدة معينة للقسم الذي يقسم به المحالفون. فمنهم من أقسم بالأصنام التي يعبدونها ويقفون عندها حين يعقدون الحلف, ومنهم، وهم أغلب أهل مكة، من كانوا يحلفون عند الركن من الكعبة، فيضع المتحالفون أيديهم عليه، فيحلفون. وقد ذكر أن قَسَم قريش والأحابيش عند الركن يوم تحالفوا وتعاقدوا، حلفوا "بالله القاتل وحرمة البيت والمقام والركن والشهر الحرام على مصر, على الخلق جميعًا, حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى التعاقد والتساعد على من عاداهم من الناس ما بل بحر صوفة، وما قام حراء وثبير، وما طلعت شمس من مشرقها إلى يوم القيامة"1. ومنهم من أقسم بالآباء والأجداد، لما لهم من مكانة ومقام في نفوسهم. ومنهم من حلف وعقد الحلف عند المشاهد العظيمة، أو في معابد الأصنام، أو عند قبور سادات القبائل المحترمين، فيحلفون بصاحب هذا القبر ويذكرون اسمه على التعاقد والتآزر أو على ما يتفق المتحالفون عليه، وعلى الوفاء بالعهد. وقد رُوي أن النبي أدرك "عمر" في ركب وهو يحلف بأبيه، فنادى رسول الله: "أما أن الله -عز وجل- ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. من كان حالفًا، فليحلف بالله أو يصمت"2. وفي كتب أهل الأخبار والأدب أسماء قبائل يظهر أنها كانت أسماء أحلاف, عقدت في مراسيم خاصة، يمكن الوقوف عليها وتعيينها من دراستها والوقوف على معانيها، مثل الرباب والمحاش وما شاكل ذلك من أسماء. ومن عاداتهم في عقد الأحلاف ما ذكرته من التحالف على الطيب أو النار أو

_ 1 اليعقوبي "1/ 212". 2 التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، للشيخ منصور علي ناصف "3/ 74".

القسم عند صنم. "وفي حديث الهجرة: وقد غمس حلفًا في آل العاص، أي: أخذ نصيبًا من عقدهم وحلفهم يأمن به. وكان عادتهم أن يحضروا في جفنة طيبًا أو دمًا أو رمادًا، فيدخلون فيه أيديهم عند التحالف ليتم عقدهم عليه باشتراكهم في شيء واحد"1. وحلفوا بالملح وبالماء, "قال ابن الأعرابي": "والعرب تحلف بالملح والماء تعظيما لهما"2, ومن المجاز: "ملحه على ركبته"، بمعنى قليل الوفاء3, وحلفوا بالخبز والملح. وعلى من يأكل خبز وملح شخص الوفاء لذلك الشخص، ولا يجوز الاعتداء على من أكل خبز وملح قبيلة، وعليها الدفاع عنه وأخذ حقه ممن ظلمه من أهل تلك القبيلة. وتدون الأحلاف أحيانا لتوكيدها وتثبيتها، وتحفظ عند المتعاقدين، وقد تودع في المعابد كالذي رُوي في خبر "صحيفة قريش" يوم تآمر المشركون وتحالفوا على مقاطعة "بني هاشم" في شِعْبهم، إذ كتبوا صحيفة بما اتفقوا عليه, ثم أودعوها -كما يقول أهل الأخبار- جوف الكعبة، وكالذي ورد من تحالف ذبيان وعبس وتدوينهم ما تحالفوا عليه في الكتاب، وتعاهدوا وأقسموا على اتباع ما كتب فيه، والعمل به. وإلى ذلك أشير في شعر قيس4. ونجد في شعر "زهير": ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة ... وذبيان: هل أقسمتم كل مقسم؟ إشارة إلى قسم أخذ من المتعاقدين ليلتزموا الوفاء بما تحالفوا عليه، وهم "الأحلاف". كما نجد في شعر الحارث بن حلزة اليشكري: واذكروا حلف ذي المجاز وما قد ... م فيه العهود والكُفلاءُ حذر الجور والتعدي، وهل ينـ ... ـقض ما في المهارق الأهواءُ إشارة إلى العهود والرهائن التي أخذت من "بني تغلب" و"بني بكر" للوفاء بما توافقوا وتعاهدوا عليه ودونوه من شروط على "المهارق"،

_ 1 تاج العروس "4/ 203"، اللسان "6/ 157"، "غمس". 2 تاج العروس "2/ 230"، "ملح". 3 قال مسكين الدارمي: لا تلمها, إنها من نسوة ... ملحها موضوعة فوق الركب أي: هذه قليلة الوفاء، تاج العروس "2/ 230", "ملح". 4 لعمري لقد حالفت ذبيان كلها ... وعبسا على ما في الأديم الممدد شعر قيس "21".

أي: القراطيس، توكيدًا لما اتفقوا عليه مشافهة. وكان الملك "عمرو بن هند"، قد أصلح بين الطرفين بحلف، سمي حلف ذي المجاز، فأخذ عليهم المواثيق والرهائن1. ويوثق ما اتفق عليه من عهود وأحلاف ومواثيق، رؤساء الأطراف المتعاقدة, بأن تدون أسماؤهم وتختم بخواتيمهم، لتكون شهادة بصحة ما اتفق عليه، كما يفعل المتعاهدون على صحة العقد، وعلى صحة الخواتيم، وبأن ما اتفق عليه كان بحضورهم، وبأنهم شهود على كل ذلك. وفي أخبار أهل الأخبار شواهد تشهد بتدوين الجاهليين لعقود الأحلاف. ورد في شرح "التبريزي" على المعلقات قوله في معرض شرحه لمعلقة "الحارث بن حلزة اليشكري": إن كانت أهواؤكم زينت لكم الغدر والخيانة بعد ما تحالفنا وتعاقدنا، فكيف تصنعون بما هو في الصحف مكتوب عليكم من العهود والمواثيق والبينات فيما علينا وعليكم2؟. وورد أن أهل الجاهلية "كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة تعظيمًا للأمر، وتبعيدًا من النسيان"3. وورد في شعر ينسب إلى "درهم بن زيد الأوسي"، ما يفيد وجود صحف مكتوبة بعهود عقدت بين الأوس والخزرج4, ووردت إشارة إلى "الصحف": صحف العهود والمواثيق في شعر للشاعر قيس بن الخطيم5. وروي أنه قد كان عند "عمر بن إبراهيم" من ولد "أبرهة بن الصباح" الحبشي المعروف، كتاب دون "الدينوري" صورته، فيه حلف اليمن وربيعة في حكم الملك "تبع بن ملكيكرب"، وقد دون بشهر رجب الأصم6. وهو كتاب يظهر أنه دون في الإسلام، وأن واضعه لم يكن له علم بأحوال اليمن في

_ 1 شرح القصائد العشر، للزوزني "345"، شرح القصائد السبع "201", الحيوان للجاحظ "1/ 69 وما بعدها"، المعروف للجواليقي "303". 2 شرح المعلقات "268 وما بعدها". 3 الحيوان، للجاحظ "1/ 69 وما بعدها". 4 وإن ما بيننا وبينكم حين يقال: الأرحام والصحف ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي "ص66". 5 ديوان قيس بن الخطيم "19". 6 الأخبار الطوال "354".

ذلك العهد. على كل، فإنه يشير إلى وجود تدوين العهود عند الجاهليين. ولما تحالفت قريش على مقاطعة "بني هاشم" و"بني المطلب" كتبت كتابًا بما اتفقت عليه، كتبه "منصور بن عكرمة العبدري"، وذكر أنه حفظ عند "أم الجُلَّاس بنت مُخربة الحنظلية" خالة أبي جهل، وذكر أنه عُلِّق في جوف الكعبة1. وشهادات الشهود على صحة العقود أو الأوامر معروفة عند أهل اليمن، إذ وردت في الأوامر الملكية التي أصدرها ملوك اليمن وفي قوانينهم التي كانوا يصدرونها لأتباعهم. وقد عرفت عند أهل مكة، وهم قوم تجار وأصحاب مصالح، ولهم عقود ومواثيق ومعاهدات مع غيرهم من أهل القرى وسادات القبائل. وفي القرآن الكريم ألفاظ لها صلة بالشهادة والشهود, منها: "شهدتم" و"شهدوا"، و"أشهد"، و"تشهد", و"تشهدون"، و"شاهد", و"الشهادة", وقد أمر بوجوب المحافظة على الشهادة وعدم كتمانها: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} 2. ولما كانت مراسيم الأحلاف من المراسيم المهمة ومن الأحداث الخطيرة، اقترنت من أجل ذلك بتقديم الطعام للمتحالفين. فيجلس المتحالفون من جميع الفرقاء على مائدة واحدة كالذي ذكرته من تقديم عبد الله بن جدعان الطعام للمتحالفين يوم عقدوا "حلف الفضول". وقد تكون الوليمة نفسها مظهرًا من مظاهر مراسيم عقد الأحلاف؛ لما للخبز والملح من أثر عند العرب، فعلى من يأكل خبز رجل وملحه أن يمر به ويوفي له؛ ولهذا يعنف الإنسان الإنسان الغادر ويوبخه، لأنه لم يراعِ حرمة الخبز والملح، وهي حرمة تكاد تصل إلى حرمة الدم والرحم. يتبين مما تقدم أن العرب كانت ترى توكيد الأحلاف بكسوتها بقدسية خاصة، وذلك بعقدها مراسيم ذات صبغة دينية. وقد راعت في تلك المراسيم جهد إمكانها إيلاج ما يوضع في تلك المراسيم إلى أجسام المتحالفين، وكأنهم أرادوا بذلك إدخال القسم وما حلف عليه في جسم المتحالفين؛ ولهذا كان الذين يغمسون إصبعهم في جفنة الدم أو في دم الجزور, يلطعون إصبعهم، وكان الذين يغمسون

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 208 وما بعدها". 2 البقرة, الآية 283.

أصابعهم في الطيب يلطعون أصابعهم أيضًا، وكان الذين يقسمون على الماء المقدس يشربون من ذلك الماء، وكان الذين يجرحون أيديهم ويعقدون الحلف يضعون راحتي المتحالفين اليمنيين إحداهما فوق الأخرى، إلى آخر ذلك من مظاهر توحي أن المتحالفين لم يكونوا قد فعلوا ذلك عبثًا ومن غير هدف ولا قصد، بل أرادوا من كل ذلك التأثير في المتحالفين, وجعلهم يشعرون بأن حلفهم هذا -أي قسمهم- على التحالف لتنفيذ ما اتفق عليه, قد صار جزءًا من جسمهم، وقد حل في دمهم كما يحل الدم والخبز في دم الجسم. وتعقد الأحلاف الخطيرة المهمة أمام الأصنام وفي المعابد في الغالب؛ وذلك كي تكتسب قدسية خاصة. ويشرف على عقدها سادن الصنم، وقد يساعده مساعدون؛ ليقوموا بمساعدته في إتمام المراسيم. ويكون بين قبائل الحلف سلم وود؛ لذلك يستطيع أبناء القبائل المتحالفة المرور بمواطن هذه القبائل غير خائفين، وتمر قوافلهم بأمان لا يُتعرض لها، ولا تجبى إلا على وفق ما اتفق عليه وجرت عليه عادة المتحالفين. وعلى أبناء هذه القبائل حماية من يجتاز بأرضهم وتقديم المساعدات له وإضافته ودفع الأذى عنه، وإذا وقع عليه اعتداء من قبائل غريبة فعليه مساعدته والذب عنه واستصراخ قومه لنجدته؛ لأنهم من حلف واحد, وعلى الإنسان أن يتعصب للحلف تعصبه لقبيلته. ويلاحظ أن الأحلاف إذا طالت وتماسكت، أحدثت اندماجًا بين قبائل الحلف قد يتحول إلى النسب، بأن تربط القبائل والعشائر الضعيفة نسبها بنسب القبيلة البارزة المهيمنة على الحلف, وينتمي الأفراد إلى سيد تلك القبيلة البارزة, فتدخل أنسابها في نسب الأكبر. وفي كتب الأنساب والأدب أمثلة عديدة على تداخل الأنساب، وانتفاء قبائل من أنسابها القديمة ودخولها في أنساب جديدة. ويؤدي انحلال الحلف أو انحلال عقد عشائر القبيلة الذي هو في الواقع حلف سمي "قبيلة", إلى انحلال الأنساب وظهور أنساب جديدة، فإن القبائل المنحلة تنضم إلى حلف جديد، فيحدث ما ذكرته آنفًا من تولد أنساب جديدة، ومن تداخل قبائل في قبائل أخرى, وأخذها نسبها. ومن هنا قال "جولد زيهر": إنه لفهم الأنساب عند العرب، لا بد من معرفة الأحلاف والتحالف, فإنها تكوِّن القبائل؛ لأن أكثر أسماء أجداد القبائل هي أسماء أحلاف، ضمت عددًا

من القبائل توحدت مصالحها, فاتفقت على عقد حلف فيما بينها على نحو ما مر1. وفي كتب الأنساب والأدب أدلة عديدة معروفة على أسماء أحلاف, مشت بين الناس وفشت وشاعت حتى صارت كأنها نسب من الأنساب, ومن ذلك "الأحلاف" و"المطيبون". جاء "ابن صفوان" إلى "عبد الله بن عباس", فقال له: "نعم الإمارة إمارة الأحلاف، كانت لكم", فقال "ابن عباس": "الذي كان قبلها خير منا. كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المطيبين، وكان عمر من الأحلاف" يعني: "إمارة عمر"2, وقيل لعمر: أحلافي؛ لأنه عَدَوِي. والأحلاف صار اسمًا لهم كما صار الأنصار اسمًا للأوس والخزرج3. وقد أشرت سابقًا إلى اسم "تنوخ". و"الأحابيش" حلف عُقد عند جبل حبش بأسفل مكة، فعرف المتحالفون به. وهم "بنو المصطلق، والحيا بن سعد بن عمرو، بنو الهون بن خزيمة"، وذلك على حد قول أكثر أهل الأخبار4. و"الرباب" حلف أيضًا ضم خمس قبائل، هي: تيم، وعدي, وعكل، ومزينة, وضبة، ولكنه سار بين الناس ومشى وكأنه اسم جماعة ترجع إلى نسب واحد5. وأما "الأحلاف" الذين ورد اسمهم في شعر "زهير بن أبي سلمى"، فهم "أسد" و"غطفان"، ويقال لحلفهما المذكور أيضًا: "الحليفان"6. و"الأحلاف" كذلك: قوم من "ثقيف"7. لقد تركت الأحلاف أثرًا مهمًّا في الحياة السياسية والاجتماعية عند العرب قبل

_ 1 Muh. Stud., I, S., 64. 2 اللسان "9/ 54" "بيروت"، "وفي حديث ابن عباس: وجدنا ولاية المطيبي خيرًا من ولاية الأحلافي"، يريد أبا بكر وعمر. يريد أن أبا بكر كان من المطيبين, وعمر من الأحلاف. 3 اللسان "9/ 54"، تاج العروس "6/ 75"، المعارف "616". 4 اليعقوبي "1/ 212"، البلدان "2/ 225". 5 الاشتقاق "ص111"، اللسان "1/ 403". 6 شرح القصائد العشر, للتبريزي "219"، شرح ديوان زهير، لثعلب "15", اللسان "9/ 54". 7 اللسان "9/ 55"، تاج العروس "6/ 75"، الصحاح "4/ 1346".

الإسلام وعند العرب في الإسلام كذلك، على الرغم من الحديث المنسوب إلى الرسول الذي يناهض الحلف: "لا حلف في الإسلام"1. وقد أدرك الرسول, ولا شك، ضررها بالمجتمع العربي إذ كانت من أسباب التفريق، فحل الأحلاف وأحل الدولة مكانها، وحتم على القبائل إطاعة الرسول أو من يقوم مقامه من المسلمين. وأما ما رواه "قيس بن عاصم" من أن الرسول قال: "لا حلف في الإسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية"، فالظاهر أنه قصد بذلك الجوار2. وقد أكد الإسلام احترام الجار، ووجوب الدفاع عنه، كما أيد الأحلاف الجاهلية التي تدعو إلى الخير ونصرة الحق. أما الممنوع، فما خالف حكم الإسلام، ودعا إلى الهلاك والضرر والفتن والقتال، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام3. واستعمل الجاهليون لفظة "حبل"، و"حبال" للعهود والمواثيق؛ فـ"الحبل" هو العهد والذمة والأمان، وهو مثل الجوار. وكان من عادة العرب في الجاهلية أن يخيف بعضهم بعضًا، فكان الرجل إذا أراد سفرًا أخذ عهدًا من سيد كل قبيلة، فيأمن به ما دام في تلك القبيلة، حتى ينتهي إلى الأخرى، فيأخذ مثل ذلك أيضًا، يريد به الأمان. فهذا حبل الجوار، أي: ما دام مجاورًا أرضه. وفي هذا المعنى جاء قول الأعشى: وإذا تجوَّزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالها وجاء في الحديث: "بيننا وبين القوم حبال"، أي: عهود ومواثيق. وفي هذا المعنى، أي: العهد والذمة والأمان، جاء: وما زلت معتصمًا بحبل منكُمُ ... من حَلّ ساحتكم بأسباب, نجا4

_ 1 تاج العروس "6/ 75"، النهاية في غريب الحديث "1/ 249"، اللسان "9/ 53"، الكامل، لابن الأثير "1/ 267". 2 الأغاني "12/ 151". 3 اللسان "1/ 54"، النهاية في غريب الحديث "3/ 143". 4 اللسان "11/ 134 وما بعدها"، تفسير الطبري "4/ 30"، روح المعاني للآلوسي "4/ 17"، تفسير الرازي "8/ 173"، جامع أحكام القرآن، للقرطبي "4/ 158".

وقد استفادت قريش من "الحبال" التي عقدتها بينها وبين القبائل؛ إذ أمنت بذلك على تجارتها، وقد كانت واسعة تشمل كل جزيرة العرب، وتتصل بالعراق وببلاد الشام، فصارت قوافلها العامة والخاصة تمر بأمن وسلام من كل مكان, بفضل حنكة سادة مكة وذكائهم في تأليف قلوب سادات القبائل وربطهم بهم بعهود ومواثيق، جعلت التحرش بقوافلهم من الأمور الصعبة، وإذا طمع بها طامع أدبه سيد قبيلته الذي يخضع له. ولقريش ولغيرها أحلاف مع أسر وأفراد. فقد كان لـ"بني دارم" من تميم حلف مع "بني عبد مناف" من قريش, وكان لـ"عكاشة بن محصن" حلف مع رجال من مكة. رُوي أن رسول الله قال: "منا خير فارس في العرب: عكاشة بن محصن", فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذاك رجل منا يا رسول الله, قال: "بل هو منا بالحلف", فجعل حليف القوم منهم كما جعل ابن أخت القوم منهم1. وكان للأخنس بن شريق، وهو رجل من ثقيف، وكذلك "يعلى بن منبه"، وهو رجل من "بلعدويَّة"، وكذلك "خالد بن عرفطة"، وهو رجل من عذرة -حلف مع قريش، فصاروا منها بالحلف؛ ذلك لأن "حليف القوم منهم، وحكمه حكمهم"2. وقد يقع أسير في أسر آسر، فلا يتمكن من فداء نفسه، ثم يطلب من آسره أن يكون حليفًا له، فإذا قبل آسره منه ذلك، صار في حلفه وفي حلف قبيلته, أي: يكون ذلك الشخص حليفًا لقبيلة آسره، ويكون حكمه بالنسبة للإرث، أنه يرث من القبيلة كما يرث الصريح من أبنائها. أما إذا قتل، فديته نصف دية الصريح3. وكان "معيقيب بن أبي فاطمة" حليفًا لبني أسد, وكان يكتب مغانم الرسول4.

_ 1 مناقب الترك، من رسائل الجاحظ "1/ 13"، "تحقيق عبد السلام هارون". 2 مناقب الترك "1/ 12 وما بعدها". 3 تاريخ التمدن الإسلامي "4/ 23". 4 الجهشياري "12"، "القاهرة 1938".

التخالع

التخالع: وإذا أراد المتحالفون إنهاء حلفهم وعهدهم الذي تعاهدوا عليه بينهم، أعلنوا

عن ذلك، وكتبوا به كتابًا؛ ليكون مشعرًا بتخالعهم، وأنهم نقضوا الحلف الذي كان بينهم، فتسقط بذلك كل مسئولية تولدت عن الوفاء بذلك الحلف أو العهد، فلا يطالب طرف الطرف الثاني بالوفاء به. ورد في كتب اللغة: وتخالعوا: نقضوا الحلف والعهد بينهم وتناكثوا1. ويكون التخالع باتفاق الطرفين عليه, وبرضائهما عنه. وأما إذا نكل طرف واحد بتنفيذ ما جاء في الحلف، أو أعلن عن انسحابه منه ساعة الحاجة إليه، كأن يتبرأ منه في وقت يكون فيه حليفه في شدة وضيق، عُدَّ ذلك غدرًا وخيانة؛ لتلكئه عن تنفيذ ما اتفق عليه, وليس الغدر من سجايا إنسان شريف. وقد كان للحلف أثر مهم في تلاحم الأنساب وفي انفكاكها وتجزئها، وطالما نقرأ في الكتب عبارات تشير إلى تلاحم الأنساب وتداخلها بسبب العوامل المتقدمة, مثل: "ومنهم سليم بن عباد, كان حليفًا لأبي طالب, وولده اليوم يدعون في آل أبي طالب"2. والأحلاف بنوعيها: أحلاف القبائل, وأحلاف الأفراد قد لا تدوم أمدًا طويلًا, ولا سيما أحلاف القبائل؛ فالقبائل في تنقل وحركة، ومصالحها وضرورات الحياة عندها متغيرة غير ثابتة، وهي قلقة غير مستقرة. وأحلاف تقوم على مثل هذه الأسس لا يمكن أن تدوم وتعمر, ولا سيما إذا ما تشتت شمل الحلف، وتنقلت قبائله، وتحولت إلى أماكن بعيدة؛ فتضعف الروابط والصلات التي تجمع بين شملها، ثم ترخى وتزول ولا يبقى من الحلف غير الاسم. تزول بغير تخالع ولا تقاتل أو تباغض، تزول لأن الظروف التي دعت إلى عقدها تكون قد زالت وتغيرت, ولأن التباعد قد برَّد من نار الحب التي كانت قد قاربت بين القلوب, فجعلها تنسى ذلك الحب، ولا تذكره إلا عندما تتذكره.

_ 1 اللسان "8/ 76"، "صادر"، "خلع"، تاج العروس "5/ 322"، "خلع". 2 الاشتقاق "189".

إخاء القبائل

إخاء القبائل: وإخاء القبائل هو إخاء اصطناعي، وإن عده أهل الأنساب والأخبار إخاء

حقيقيًّا من اقتران والد بأم. فنحن نعلم في هذا اليوم ومن قراءاتنا للكتابات الجاهلية، ومن نقدنا وغربلتنا لأخبار أهل الأخبار ولروايات أهل الأنساب، أن التآخي هو في الواقع جوار، ونزول قبيلة بجوار قبيلة أخرى، أو نتيجة حلف تآخت قبائله واتحدت، فعد تآخيًا بالمعنى المفهوم من الأخوة, أو حاصل تضخم قبيلة لم تعد أرضها يتسع صدرها لها، فاضطرت عشائرها وبطونها إلى التنقل والارتحال إلى مواطن جديدة، وعدت نفسها لذلك من نسل تلك القبيلة التي كانت تعيش معها، فعد ذلك أهل الأنساب نسبًا حقيقيًّا بالمعنى المفهوم من النسب عندنا. وقد تضطر بعض القبائل إلى ترك مواطنها والارتحال عنها؛ بسبب غزو قبيلة أقوى منها لها، فتنزل بين قبيلة جديدة وتتحالف معها، أو تقهرها على النزول بأرضها. وفي كتب أهل الأنساب والأخبار أمثلة عديدة على ذلك, فتتداخل أنسابها، ويتولد من ذلك نسب جديد. من ذلك، ما يرويه أهل الأنساب عن "عك" وهو أخو "معد" على زعم أهل النسب، فلما حارب "بختنصر" "عدنان", والد "معد" و"عك"، هاجر أبناء "عك" نحو الجنوب فرارًا من "بختنصر" وأقاموا في اليمن، فدخل نسبهم في اليمن، وعدهم بعض أهل الأنساب من قحطان. ومن ذلك قضاعة وقبائل عديدة.

الهجن

الهجن: وتزوج العرب من الإماء, وذلك أن من الإماء من كانت جميلة الصورة حلوة المنظر والكلام؛ ولهذا تزوج ساداتهن منهن، فوُلد لهم نسل، قيل للواحد منه: الهجين. والهجين: ولد العربي من غير العربية، وقيل له ذلك؛ لأن الغالب على ألوان العرب الأدمة1. ويقال للزواج الذي يقع بين عربي وأعجمية: "مهاجنة", وقد عابته العرب وعدت الهجين دون العربي الصريح، لوجود دم أعجمي فيه. والأعاجم هم، مهما كانوا عليه من منزلة، دون العرب في نظر العرب2. ويظهر من تعريف علماء اللغة للفظة "الهجين"، أنها خصصت بمن يولد

_ 1 اللسان "أ/ د/ م"، "13/ 431". 2 اللسان "أ/ د/ م"، "13/ 431".

من أم أعجمية بيضاء، كأن تكون الأم رومية أو فارسية. فقد ذكروا أن العرب أطلقت على أولادها من العجميات اللائي يغلب على ألوانهن البياض، الهجن والهجناء؛ لغلبة البياض على ألوانهم وإشباههم أمهاتهم، فيجب أن تكون الأمهات الأعجميات إذن من ذوات البشرة البيضاء؛ تمييزًا لهن عن ذوات البشرة السوداء من الرقيق المستورد من إفريقيا. ويذكر علماء اللغة أيضًا أن العرب قالت للعجم: "الحمراء" و"رقاب المزاود"؛ لغلبة البياض على ألوانهم، ويقولون لمن علا لونه البياض: أحمر1. وقد هجا "حسان بن ثابت" "سعد بن أبي سرح" بأن اتهمه بأنه عبد هجين، أحمر اللون فاقع، موتر علباء القفا، قَطَط، جعد2. والهجنة من الكلام: ما يعيبك3. وقد جاء هذا المعنى من الفساد الذي قد يظهر في كلام الهجن؛ بسبب عجمة الأمهات وعدم إتقانهن العربية. ولما كان الخطأ في اللغة عيبًا، عدت الهجنة من الأمور المعيبة. ويطلق العرب لفظة "رجل مولَّد" على الرجل إذا كان عربيا غير محض. و"المولدة": الجارية المولودة بين العرب, وقيل: تُولد بين العرب وتنشأ مع أولادهم ويغذونها غذاء الولد ويعلمونها من الأدب مثل ما يعلمون أولادهم. و"التليد" التي ولدت ببلاد العجم وحُملت فنشأت ببلاد العرب، وقيل: هي التي تولد في ملك قوم وعندهم أبوها4.

_ 1 اللسان "13/ 431"، الأغاني "16/ 73". 2 أعبد هجين أحمر اللون فاقع ... موتر علباء القفا قطط جعد ديوان حسان "ص149", "البرقوقي". 3 اللسان "هـ/ ج/ ن", "13/ 431". 4 اللسان "ولد"، "3/ 467 وما بعدها".

الجوار

الجوار: وللجوار حرمة كبيرة عند الجاهليين. فإذا استجار شخص بشخص آخر، وقبل ذلك الشخص أن يجعله جارًا ومستجيرًا به، وجبت عليه حمايته، وحق على المجار الدفاع عن مجيره، والذب عنه, وإلا عد ناقضًا للعهد، ناكثًا للوعد، مخالفًا

لحق الجوار. وعلى القبائل استجارة من يستجير بها, والدفاع عنه دفاعها عن أبنائها. ويقال للذي يستجير بك: "جار"، والجار: الذي أجرته من أن يظلمه ظالم, وجارك المستجير بك, والمجير: هو الذي يمنعك ويجيرك, وأجاره: أنقذه من شيء يقع عليه1.

_ 1 اللسان "4/ 154 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 111 وما بعدها"، "جار".

العصبية

العصبية: وأساس النظام القبلي هو العصبية، العصبية للأهل والعشيرة وسائر متفرعات الشعب أو الجذم أو القبيلة أو العشيرة. ومن شروطها أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين، وليس له أن يتساءل: أهو ظالم أم مظلوم؟ 1. وهي ضرورية للقبائل؛ لأنها لا تستطيع أن تدافع عن نفسها إلا إذا كانت ذات عصبية ونسب، وبذلك تشتد شوكتها، ويخشى جانبها، كما أنه لا يمكن وقوع العدوان على أحد مع وجود العصبية. وتقوم العصبية على النسب، وهي تختلف لذلك باختلاف درجات تقارب الأنساب؛ ولذلك نجد عصبيات مختلفة2. وتشمل العصبية الصرحاء والموالي والجيران. وتشمل العصبية أهل المدر كذلك، فأهل المدر وإن تحضروا واستقروا وأقاموا في بيوت ثابتة، إلا أن نظامهم الاجتماعي والسياسي بني على العصبية أيضًا، فتألفت المدن والقرى من "شعاب", وتكونت الشعاب من جماعات بينها روابط دم ووشائج قرابة. والشِّعْب هو وحدة، وهو الذي يأخذ بحق المظلوم من الظالم، وبظلامة من تقع عليه ظلامة. وغالبًا ما تكون بين الشعاب المتجاورة قرابة وصلة رحم، وإذا حدث حادث لهذه الشعاب، هبت للنظر فيه واتخاذ ما ينبغي اتخاذه من موقف، ثم تكون عصبية الشعاب للمدينة أو للقرية, ثم إن سكان هذه المدن وإن تحضروا واستقروا كانوا يُرجعون أنفسهم كأهل الوبر إلى

_ 1 "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، الأمثال "22"، لسان العرب "1/ 606"، قاموس المحيط "2/ 1405"، "للبستاني". 2 راجع بحث العصبية في مقدمة ابن خلدون "ص108 فما بعدها"، الحيوان "1/ 166".

قبائل وعشائر. فهم إذن أعراب من حيث التعصب والأخذ بالعصبية، واختلافهم عن الأعراب هو في استقرارهم وفي عيشهم في محيط ضيق محدود وفي خطط مثبتة مرسومة. وفي المعنى المتقدم عن العصبية، ورد قول الشاعر: إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم ... على القوم، لم أنصر أخي حين يُظلَم فالعصبية: أن يدعو الرجل عصبته إلى نصرته, وهي: "النصرة على ذوي القربى وأهل الأرحام، أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة"1. وفي هذا المعنى أيضًا ورد قول الشاعر، قريط بن أنيف، حيث يقول: قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زُرافات ووحدانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا2 فهو يهبُّ إذا سمع نداء العصبية, حاملًا سيفه أو رمحه أو أي سلاح يملكه وبغير سلاح، لينصر أخاه، لا يسأله: لِمَ؟ فليس من العصبية والأخوة القبلية أن تسأل أخاك عما وقع له، بل عليك تلبية ندائه وتقديم العون له، معتديًا كان أو معتدًى عليه. وللعصبية صلة كبيرة بالمسئولية وبالعقوبات, فعلى درجة العصبية تقع المسئولية. فأقرب الناس إلى الجاني، يكون أول من يتناوله الأخذ بالثأر، ثم الأبعد فالأبعد. ومن هنا كان الطالبون للثأر يبدءون بالجاني أولًا، فإن فاتهم أخذوا أقرب الناس رحمًا به, فإن فاتهم أخذوا الذي يليه أو من هو في درجته وهكذا. وكلما بعدت العصبية عن دم الأبوين، خفت حدتها، وطبيعي ألا تكون العصبية إلى القبيلة مثل العصبية إلى الأهل في الشدة؛ ولهذا فإن العصبية ترتبط بدرجة الدم والتحام النسب ارتباطًا طرديًّا. وهذا شيء طبيعي، وهو حاصل هذه الحياة. ولا تمنع العصبية بطون القبيلة من مخاصمة بعضها بعضًا ومن التقاتل فيما بينها؛ بسبب تغلب المصالح الشخصية على عاطفة "العصبية". ومتى اصطدمت المصالح

_ 1 اللسان "1/ 606"، "عصب"، ابن خلدون، مقدمة "138". 2 المرزوقي، شرح الحماسة "1/ 27 وما بعدها".

بالعواطف، تغلبت المصلحة عليها. فالمصلحة حاجة وواقع عملي، والعصبية شعور, والحاجة أقوى منها؛ ولهذا نجد المصلحة تدفع بطون القبيلة المتخاصمة على الاستعانة ببطون غربية عنها، أو بقبائل بعيدة عنها في النسب لمقارعتها أخواتها وللتغلب عليها، مدفوعة إلى ذلك بدافع المصلحة وغريزة المحافظة على الحياة. فتقاتلت بطون من طيء وتحاربت فيما بينها، وتقاتلت قبائل بكر ووائل مع وجود النسب والدم، وتقاتل بنو جعفر والضباب1. تقاتلت لظهور مصالح تغلبت على العصبية وعلى الشعور بالأخوة. ومتى ظهرت المصالح المادية عجزت عاطفة النسب والعصبية عن التغلب عليها. وجرثومة العصبية، العصبية للدم، وأقرب دم إلى إنسان هو دم أسرته، وعلى رأسها الأبوان والإخوة والأخوات ثم الأبعد فالأبعد, حتى تصل إلى العصبية للقبيلة. ولهذا تكون شدة العصبية وقوتها تابعة لدرجة قرب الدم والنسب وبعدهما, فإذا ما حل حادث بإنسان، فعلى أقرب الناس دمًا إليه أن يهب لإسعافه والأخذ بالثأر ممن ألحق الأذى بقريبه؛ ولهذا صارت درجات العصبية متفاوتة بحسب تفاوت الدم ومنازل النسب. وآخر مرحلة من مراحل العصبية، العصبية للقبيلة، والعصبية للحلف، أو العصبية للنسب الأكبر، وذلك في حالة تكتل القبائل وتخاصمها كتلًا. وتكون العصبية للقبيلة أقوى من العصبية للحلف أو النسب الأكبر مثل معد أو نزار أو حمير أو ما شاكل ذلك؛ وذلك لشعور أبناء القبيلة بأن الرابطة التي تربطهم هي رابطة الدم، والدم أبرز وأظهر في القبيلة من رابطة الحلف أو رابطة النسب الأكبر, ولا سيما رابطة الحلف، فإنها رابطة مصلحة في الغالب لا رابطة دم، والشعور بروابط المصالح لا يكون مثل الشعور بروابط الدم. وتدفع العصبية للحلف، قبائل الحلف على التناصر والتآزر والتكتل والوفاء بالعهد، وإلا لم تكن للمتحالفين فائدة ما من الحلف، وعلى أفراد الحلف أن ينصر بعضهم بعضًا، وعلى قبائل الحلف أن يتآزروا في دفع الديات أيضًا, وبالمطالبة بديات من يُقتل من قبائل الحلف، إذا عجز أهل القتيل أو قبيلة القاتل عن الأخذ بحقه.

_ 1 ابن الأثير "1/ 388"، البلدان "8/ 450"، العمدة "200 وما بعدها".

وتشمل العصبية كل منتمٍ إلى القبيلة، تشمل أحرارها، أي: أبناءها الخلص الصرحاء، وتشمل الموالي أي: الرقيق وكل مملوك تابع لحر، كما تشمل أهل الولاء والجوار. فالعصبية لا تعرف تفريقًا في هذه الناحية، فعلى كل من ينتمي إلى قبيلة ويحمل اسمها أن يتعصب لقبيلته ويذود عنها، وإن كان عبدًا مملوكًا، ذلك قانون وأمر محتوم، لا جدال فيه ولا نقاش، من حيث وجود حقوق أو عدم وجودها، ومن حيث إن أصل هذا حر وأصل هذا عبد؛ لأن ما يصيب الحر يصيب المولى والجار، وما يصيب المولى والجار يؤثر على الحر؛ لأنه مسئول عن مولاه وعن جاره بحكم التملك والجوار، وعلى الرقيق والجار تبعة الدفاع عن الصريح وعن القبيلة التي ينتمي إليها الصريح. وتلزم العصبية أبناء القبيلة بوجوب تحمل التبعة والقيام بواجبها وتلبية ندائها وإجابة الصارخ بالعصبية، ليس له أن يسأل عن السبب، ولا أن يعتذر عن تلبية النداء، وإنما عليه أن يعمل بقول الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا1 وإذا قتل قتيل لزم الأخذ بثأره، وإذا كان القتيل سيد قبيلة وجب على القبيلة الأخذ بثأر سيدها، وهيهات أن تسكت عن قتله، وعلى كل فرد من أفراد تلك القبيلة واجب الأخذ بثأره ممن قتله. ويفرض قانون العصبية على القبيلة تحمل التبعة، إذ جعلها تبعة جماعية. فإذا جنى رجل جناية قتل، تكون قبيلته مسئولة عن جنايته، وعليها تقع تبعة قتل القاتل إذا تعذر الأخذ بالثأر منه أو تعذر تسليم القبيلة له, كما يقع على القبيلة دفع الدية إذا عجز القاتل أو آله عن دفعها، وذلك لتوزيعها على المتمكنين من أفرادها، أو بقيام ساداتها أو سيدها بدفعها كاملة أو بدفع ما تبقى منها. ومن هنا خضعت فردية الأعرابي المتطرفة لقانون الجماعة، أي: لسلطان العصبية فصار واجبًا عليه أن يضع نفسه تحت إمرة القبيلة, وذلك بتلبية ندائها حين يبلغه ذلك النداء، وتقديم نفسه طائعًا مختارًا لإمرة القبيلة ليدافع عنها أو ليشترك معها في الغزو، ليس له أن يفر أو يعتزل أو يتلكأ، فهذا واجب مفروض عليه، إذا خالفه خالف جماعته وخسر حمايتها له، وصار مسبوبًا من الناس.

_ 1 حماسة أبي تمام "1/ 16".

الحمية

الحَمِيَّة: ومن مظاهر العصبية: "الحميَّة", وهي الأنفة والغيرة والغضب، وذلك أن الشخص كان يأنف من عمل قبيح، وتأخذه حميته من أن يفعل شيئًا يعاب ويعار عليه1. وهو يغضب وتأخذه حميته من أن يترك سنة آبائه وأجداده, وقد نهى الإسلام عن الحمية, واعتبرها من أخلاق أهل الجاهلية والكفر. ونزل الوحي يندد بها {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 2, وذلك حين جعل "سهيل بن عمرو" في قلبه الحمية فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين الرسول والمشركين: بسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب فيه: محمد رسول الله, وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله مكة عامه ذلك3, فوضع الإسلام "السكينة" في موضع حمية الجاهلية. و"النعرة"، وهي الصياح ومناداة القوم بشعارهم طلبًا للغوث والاستعانة، أو لإهاجتهم ولتجمعهم في الحرب. ومن هنا ورد في الحديث: "ما كانت فتنة إلا نعر فيها فلان", أي: نهض فيها. وفي حديث الحسن: كلما نعر بهم ناعر اتبعوه، أي: ناهض يدعوهم إلى الفتنة ويصيح بهم إليها4. ولما كان العرب أصحاب حس مرهف، وعاطفة ذات حساسية شديدة؛ لذلك لعبت النعرات فيهم دورًا خطيرًا في إثارة الفتن بينهم، وكانت سببًا لحدوث حوادث مؤسفة عند الحضر وعند الأعراب. وإذا أصيب شخص بضيم، أو نزلت به إهانة أو نازلة، نادى قومه بشعائر العصبية، وعلى قومه تلبيته ونصرته. وقد ينادي الإنسان شخصًا طالبًا منه العون والنصرة، فتلزمه مساعدته كأن ينادي: "يا لَفلان"، وهو شعار يستعمل عند التحزب والتعصب، ينادي به بصوت عالٍ مسموع، عند بيت المنادى أو في موضع عام أو في مكان مرتفع؛ ليصل الصوت إلى أبعد مكان5.

_ 1 تاج العروس "10/ 99", "حمى", اللسان "18/ 216 وما بعدها". 2 سورة الفتح, رقم 48، الآية 26. 3 تفسير الطبري "26/ 65"، تفسير القرطبي "16/ 288 وما بعدها". 4 تاج العروس "3/ 577"، "نعر". 5 الروض الأنف "1/ 93 وما بعدها"، الأغاني "15/ 71", شرح ديوان الحماسة "1/ 168", Muh. Stud., I, S., 61 Kinship. 44.

وللقبائل شعار ينادون به عند العصبية، فإذا وقع على أحد من أهل يثرب اعتداء وأراد المؤازرة والنصرة، نادى: يا لَآل قَيْلة، وإذا كان من تميم نادى: يا لَتميم، وهكذا, فيهرع من يكون حاضرًا ساعة النداء لينصر صاحبه الذي هو من قومه، وليؤازره. وتعد التلبية من أهم مفاخر الرجال والقبائل وواجبًا من الواجبات1. ويتداعى الناس إلى العصبية في القتال, وإذا أرادوا إهاجة قومهم نادوا بالعصبية. وقد وقع خلاف بين المهاجرين والأنصار في المدينة والرسول فيها, فقال قوم: يا للأنصار, وقال قوم: يا للمهاجرين. فسمع النبي تداعيهم وصراخهم، فقال لهم: "دعوها؛ فإنها منتة"، ودعاها بـ"دعوى الجاهلية"، وفي الحديث: "ما بال دعوى الجاهلية؟ " هو قولهم: يا لفلان, كانوا يدعون بعضهم بعضًا عند الأمر الشديد2.

_ 1 اللسان "6/ 81"، ابن هشام "4/ 28"، الأغاني "15/ 71"، "يا لَطيء"، شرح ديوان الحماسة "1/ 168". 2 اللسان "دعا"، "14/ 259".

الإسلام والعصبية

الإسلام والعصبية: وقد تركت "العصبية" أثرا مهما في الحياة السياسية والاجتماعية عند العرب قبل الإسلام. وقد كانت إذ ذاك ضرورة من الضرورات اللازمة بالنسبة إلى الحياة في الجاهلية؛ لأنها الحائل الذي يحول بين الفرد وبين الاعتداء عليه، والرادع الذي يمنع الصعاليك والخلعاء والمستهترين بالسنن من التطاول على حقوق الناس، إذ لا حكومة قوية رادعة ولا هيئة حاكمة في استطاعتها الهيمنة على البوادي وعلى الأعراب المتنقلين. بل هنالك قبائل متناحرة وإمارات متنافرة، إذا ارتكب إنسان جريمة في أرضها، وفر إلى رض أخرى، نجا بنفسه وأمن على حياته هناك, ولكنه كان يخشى من شيء واحد، لم يكن لأحد فيه عليه سلطان، وهو "العصبية" وسنة "الأخذ بالثأر"، وهي العصبية في ثوبها العملي. كان يخشى من سلطان الأخذ بالثأر، حيث يتعقبه أهل الثأر، فلا يتركون الجاني يهنأ بالحياة ولو بعد مضي عشرات من السنين، حتى يُقتل أو يقتل أقرب الناس إليه. وبذلك صارت العصبية ضرورة من ضرورات الحياة، بالنسبة لسكان جزيرة العرب؛ لحمايتهم وصيانتهم من عبث العابثين.

وقد أدرك الإسلام ما في العصبية من أخطار على المجتمع، ولما في الأخذ بالثأر من ضرر على الأمة، إذ يحول المجتمع إلى مجتمع ذئاب، يأخذ كل ذئب بحقه من غريمه، فنهى عنها، وحول العصبية الجاهلية إلى عصبية إسلامية، بأن يتعصب المسلم لأهل عصبيته، ولدينه، فيدافع عنه ويقاتل في سبيله وفي سبيل رفع الظلم عمن وقع عليه بمساعدة من بيدهم الأمور على إحقاق الحق وإظهار حق المظلوم لديهم, وحرم العصبية الجاهلية المعروفة، فورد في الحديث: "ليس منا من دعا إلى عصبية أو قاتل عصبية"1, ومنع الأخذ بالثأر، إذ جعل حقه من حقوق أولي الأمر، ومن بيده سلطان المسلمين، ومن ينيبونه عنهم للقضاء بين الناس.

_ 1 اللسان "1/ 606"، "عصب". وتوقد ناركم شررا يرفع ... لكم في كل مجمعة لواء المفضليات "ص56"، تاج العروس "3/ 440"، بلوغ الأرب "2/ 162".

من أعراف العرب

من أعراف العرب: وللأعراب بصورة خاصة أعراف أوجبت الطبيعة عليهم إطاعتها والعمل بها؛ لأن في تنفيذها مصلحة الجميع، وفي الخروج عليها ضررًا بالغًا. من ذلك وجوب الأخذ بالثأر، والبحث عن القاتل لقتله مهما طال من الزمن؛ لأن "الدم لا يغسل إلا بالدم". وقد أملت طبيعة المحيط الذي يعيش فيه العرب عليهم هذا العرف, فليس في البادية من يحول بين قتل الناس بعضهم بعضًا إلا الأخذ بالثأر، وقيام أهل القتيل والعصبية بالأخذ بدمه. ولولا الخوف من الأخذ بالثأر لَعَمَّ القتل الحياة, فالحياة في البوادي وفي أكثر أنحاء جزيرة العرب شدة ومحنة وفقر وقسوة, وليس في البادية أي خير كان مما يستمتع به أهل الحواضر، ولا سيما تلك التي امتازت بوفرة الماء فيها وبحسن جوها واعتداله. لذلك صارت حياة الأعراب ضنكًا في العيش وفقرًا مُرًّا، وصار كل شيء تقع عليه عين الأعرابي ذا قيمة وفائدة عنده مهما كان تافهًا، فيريد الاستيلاء عليه وسلبه من صاحبه؛ لأنه محتاج إليه وفقير، ويرى أن من حقه أن يستولي على كل ما يراه عند من هو أضعف منه، وإن أدى ذلك إلى إزهاق حياته. ولكن الطبيعة التي علمت

الأعرابي هذا المنطق ودرَّسته هذا الدرس, درَّسته في الوقت نفسه أن الاستهتار بالسلب والنهب والقتل يؤذيه ويهلكه، وأنه لا بد له من الحد من غلوائه ومن اعتدائه على غيره, ووضعت له حدودا وقيودا من طبيعة هذه الحياة التي يحياها. منها عرف "العصبية"، والأخذ بالثأر, وغير ذلك من أعراف أملتها الطبيعة على سكان هذه البوادي، وصارت سننًا متبعة بعضها يتعلق بالأعراف التي تخص داخل القبيلة، وبعضها يتعلق بالأعراف التي تتعلق بالقبائل المتحالفة, ومنها ما يتعلق بالأعراف التي تكون بين القبائل المتعادية. والقاعدة عند العرب: أن الدم -كما سبق أن قلت- لا يغسل إلا بالدم، وأن تعويض الدم بمال يرضى عنه "آل" القتيل، منقصة وذلة لا يقبل بها إلا ضعاف النفوس. أما أهل البيوت والحمولة، فلا يقبلون إلا بالقِصاص وبأخذ الثأر, وبقتل رجل كفء يكافئ المقتول في المنزلة والدرجة والمكانة، فإذا كان القتيل سيد قبيلة والقاتل من عامة الناس أو من عبيدهم، أبوا الاكتفاء بقتله به اقتصاصًا منه، إذ إنه دون القتيل في المنزلة والشرف والمكانة، بل لا بد عندهم من قتل سيد من سادات القبيلة التي يكون منها القاتل، على أن يكون مكافئًا للقتيل حتى يغسل الدم, وإن كان ذلك السيد بعيدًا عن القاتل ولا صلة له به, فالسيد سيد ولا يغسل دمه إلا بدم سيد مثله. ولعل الطبيعة وضعت لهم هذه السنة لتأديب سادات القبيلة, أو غيرهم ممن قد يحرضون العبيد أو غيرهم من السوقة على قتل خصومهم وأعدائهم, فإذا عرفوا أن أهل القتيل سينتقمون منهم بقتلهم، حاربوا سَفَكَة الدماء من أتباعهم ولاحقوهم, وبذلك ينظفون المجتمع منهم، ويخلصون الناس من سفاكي الدماء. والأصل في القتل: القِصَاص وقتل القاتل بدل القتيل, فيطالب أهل المقتول بالقَوَد وهو قتل النفس بالنفس, وقد ورد ذكره في الحديث، إذ جاء: "من قتل عمدًا، فهو قود" 1. وإذا لم يتم القود، أو لم يحدث التراضي على الدية، أو إذا فر القاتل، فلا بد من الأخذ بالثأر, ولا يستقر لأهل القتيل قرار إلا بعد الأخذ بثأر القتيل. وقد يتركون الخمر والطيبات ولا يقربون النساء طيلة طلبهم للثأر. وقد يلبسون ألبسة الحزن ويجزُّون شعورهم، ولا يأكلون لحمًا،

_ 1 تاج العروس "2/ 478"، "قود".

ولا يميلون إلى ضحك ولا سماع دعابة ولا إلى الاستراحة، حتى ينالوا منالهم من الأخذ بثأر القتيل, كالذي روي في قصة طلب امرئ القيس الكندي ثأر أبيه من بني أسد, وقد آلى على نفسه ألا يمس رأسه غسل ولا يشرب خمرًا حتى يثأر بأبيه. فلما ظفر ببني أسد قتلته وأدرك ثأره حل له ما حرم على نفسه1. وكالذي روي في قصة طلب قيس بن الخطيم ثأر أبيه2, أو عن "يوم الأقطانيين"، إذ أقسموا ألا يغسلوا أجسامهم حتى يأخذوا بثأرهم3. وقد يستغرق طلب الأخذ بالثأر عشرات السنين، لا يكلّ خلال هذه المدة أصحاب القتيل عن إدراك الثأر. وينظر إلى الذين يتوانون عن إدراك الثأر نظرة ازدراء واحتقار، وقد يلحق بهم وبنسلهم العار من هذا الإهمال، وقد يلحق ذلك العشيرة أو القبيلة برمتها ويكون لها سُبَّة, إذا كان القتيل من أشرافها أو من سادتها. لهذا لا يتهاون أهل القتيل عن تتبع آثار القاتل أو أقربائه أو أفراد قبيلته التي ينتمي إليها لغسل هذا العار، فإن الدم لا يغسل إلا بالدم. ومتى أدرك أهل الثأر ثأرهم, ووجدوا المقتول كفؤًا لدم القتيل ورضوا عن ذلك، قالوا لهذا النوع من الثأر: "الثأر المنيم"4. وقد عرفه بعضهم: أنه الذي إذا أصابه الطالب رضي به فنام بعده, وقيل: هو الذي يكون كفؤًا لدم وليك. ويقال: أدرك فلان ثأرًا منيّمًا، إذا قتل نبيلًا فيه وفاءٌ لطلبته، وكذلك: أصاب الثأر المنيم. قال أبو جندب الهذلي: دعوا مولى نفاثة ثم قالوا: ... لعلك لست بالثأر المنيم أي: لست بالذي ينيم صاحبه، أي: إن قتلتك لم أنم حتى أقتل غيرك، أي: لست بالكفؤ فأنام بعد قتلك5. ومتى أخذ بثأر القتيل بكته النساء؛ لأن من عادة نساء الجاهليين ألا يبكين المقتول

_ 1 حلت له من بعد تحريم لها أو أن يمس الرأس منه غسولا شرح ديوان امرئ القيس "ص156". 2 شعر قيس بن الخطيم "1، 15"، بلوغ الأرب "3/ 24". 3 الفاخر "252 وما بعدها"، نهاية الأرب "17/ 70". 4 اللسان "5/ 167"، المعاني الكبير "2/ 1018". 5 تاج العروس "3/ 72"، "ثأر".

إلا أن يدرَك بثأره، وإذا أدرك بثأره بكينه1. ويشبه الثأر أن يكون عقيدة من العقائد الدينية عند العرب؛ لما يكتنفه أحيانًا من "حلف" و"قسم" بوجوب الأخذ بالثأر, ولما تحوط به من شعائر يحافظ عليها من أخذ على نفسه القسم بوجوب الأخذ بالثأر. وهي من شعائر الدين عند الجاهليين، ولا يتركها حتى يبرَّ بقسمه2. وإذا عجز الإنسان عن أخذ ثأره بنفسه, استغاث بغيره لينجده على ثأره. وعلى من قبل نداء الاستغاثة ووافق على النجدة، مساعدة المستغيث في الأخذ بالثأر, وعدم تركه حتى يأخذ بثأره من طلبته. وقد لعب الأخذ بالثأر دورًا خطيرًا في الإسلام كذلك, ولا سيما في الأحداث السياسية. فلما قُتِلَ "عثمان" ارتفع نداء: يا لثارات عثمان. قال حسان: لتسمعن وشيكًا في ديارهم ... الله أكبر, يا ثارات عثمانا ومن ذلك قولهم: "يا لثارات الحسين"، و"يا لثارات زيد" إلى غير ذلك3. وهو لا يزال يلعب دورًا خطيرًا في الحياة العربية إلى اليوم. وقد عيَّر أحد الشعراء "بني وهب"؛ لأنهم أخذوا دية قتيل فاشتروا بها نخلًا، فقال لهم: ألا أبلغْ بني وهب رسولًا ... بأن التمرَ حلو في الشتاء أي: اقعدوا وكلوا التمر, ولا تطلبوا بثأركم4. وهناك رجال ضُرب بهم المثل في إدراكهم الثأر, ويقال للواحد من هؤلاء: البيهس5.

_ 1 نهاية الأرب "3/ 122". 2 حلفت فلم تأثم يميني لأثارن ... عديًّا ونعمان بن قيل وأيهما تاج العروس "3/ 71"، "ثأر". 3 تاج العروس "3/ 71"، "ثأر". 4 المعاني الكبير "2/ 1019". 5 تاج العروس "4/ 113"، "البهس".

الاستغاثة

الاستغاثة: ومن مظاهر العصبية: الاستغاثة, وهي أن يصيح الإنسان: وا غوثاه؛ طلبًا للعون والنصرة1, وعلى من يسمع نداء الاستغاثة من أهل المستغيث أو من رجال قبيلته أو الحلف الذي تكون قبيلته, فيد مد يد العون له ونصرته، ويعاب من يسمع الاستغاثة فلا يعمل على مساعدة المستغيث. وقد يهجو المستغيث قومه إذا تباطئوا في إغاثة المستغيث أو لم يستجيبوا لندائه، وقد يتبرأ منهم ويتركهم ليلحق بقوم آخرين. ومن أخلاق الجاهلية المناداة بالنصرة2, وقد ذكرت معناها في العصبية فهي أيضًا وجه من وجوهها. ذكر أن الرسول قال: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، وتفسيره: أن يمنعه من الظلم إن وجده ظالمًا، وإن كان مظلومًا أعانه على ظالمه, والتناصر: التعاون. وقد حول الإسلام نصرة الجاهلية إلى تناصر، أي: تعاون وتعاضد لأن المسلمين إخوة, ويكون بالانتصار من الظالم وبالانتصاف حتى يؤخذ بحق المظلوم من الظالم3.

_ 1 اللسان "2/ 174"، "غوث"، المعاني "2/ 1106". 2 العقد الفريد "1/ 58". 3 اللسان "5/ 210"، "نصرة".

الوفاء

الوفاء: وعلى الإنسان الوفاء لأهل عصبيته, ليس له مخالفتهم ولا معاكستهم مهما كانت درجه الخلاف بينه وبينهم؛ لأنه واحد وهم جماعة, إن أصابه ضيم فلا بد لجماعته من مواساته ومن الانتصار له مهما كانت أسباب الفرقة. وما يصيب جماعته سيصيبه، وما سيصيبه سيؤثر في جماعته حتمًا، فيجعلها إلى جانبه في الأخير. وهل أنا إلا من غَزِيَّةَ إن غوت ... غَوَيْت وإن تَرْشُد غزيةُ أرشد1 وهي في الأخير كما يقول الشاعر "المتلمِّس" لشخص ظن أنه منتقل عنهم

_ 1 هذا البيت لدريد بن الصمة، حماسة أبي تمام "2/ 306"، شرح المرزوقي على الحماسة "2/ 815"، الأصمعيات "112".

لحلاف وقع بينه وبينهم: أمنتقلًا من نصر بهثة خِلتي ... ألا إنني منهم, وإن كنت أينما ألا إنني منهم وعرضيَ عرضهم ... كذي الأنف يحمي أنفه أن يصلّما1 فإذا أعطى رجل رجلًا عهدًا، فلا يسعه أن يغدر به، ولا بد له من المحافظة على العهد وما برح العرب يحافظون على عهودهم حتى اليوم. وقد يضحي الإنسان بنفسه على أن يخدش سمعته فيوسم بالغدر, وكانوا في الجاهلية إذا غدر الرجل رفعوا له في سوق عكاظ لواء ليعرفوه الناس2. وقد ورد: "إن لكل غدرة لواء", ونصبُ اللواء في المواضع العامة وفي المواسم للإشارة إلى غدر شخص بشخص آخر, من أشهر الأشياء عند العرب3. وإلى هذا اللواء أشار "الحادرة"، "قطبة بن أوس" إذ قال: أسميَّ, ويحك هل سمعت بغدرةٍ ... رفع اللواء لنا بها في مجمع4 وإذا غدر الرجل بجاره، أوقدوا النار بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين، ثم صاحوا: "هذه غدرة فلان" ليحذره الناس5. وقد قيل لهذه النار: نار الغدر6. وربما جعلوا للغادر تمثالًا من طين، ينصبونه ليراه الناس، وكانوا يقولون: ألا إن فلانًا قد غدر فالعنوه. جاء في الشعر: فلنقتلن بخالد سَرَوَاتكم ... ولنجعلن لظالمٍ تمثالَا فهذا التمثال هو تمثال الغدر والخيانة، نصب ليقف الناس على خبر غدر الشخص الذي نصب له7. وقد عاب الناس الغادر وعيروا به, فإذا شتموا شخصًا قالوا: يا غُدَر! وقد جعلوا الذئب من الحيوانات الغادرة، فقالوا: الذئب غادر، أي: لا عهد له, كما قالوا: الذئب فاجر8.

_ 1 نوادر أبي زيد "160"، الأصمعيات "286". 2 "إن لكل غادر لواء"، المفضليات "ص56". 3 إرشاد الساري "9/ 106". 4 المفضليات "56"، البحتري، حماسة "216". 5 وتوقد ناركم شررا ويرفع ... لكم في كل مجمعة لواء 6 المفضليات "ص56"، تاج العروس "3/ 440"، بلوغ الأرب "2/ 162"، نهاية الأرب "1/ 111". 7 بلوغ الأرب "3/ 28". 8 اللسان "5/ 8"، "غدر".

أهل الغدر

أهل الغدر: وقد حفظ أهل الأخبار أسماء رجال عرفوا بالغدر. وقد قال بعضهم: أعرف الناس بالغدر "آل الأشعث بن قيس بن معد يكرب", وذكر أن الغدر إرث فيهم انتقل بهم إلى الإسلام1. وضربوا المثل بغدر الضيزن بأبيها صاحب الحصن2. ومن الوفاء: الوفاء بالعهود والمواثيق, فلا يجوز لمن أعطى عهدًا وميثاقًا الغدر بهما والتنصل من الوفاء بهما. والوفاء من أنبل الخصال التي يتخلق بها إنسان, وهو من المثل العليا عند العرب ومن أخلاق "الإنسان الفاضل" عندهم. وقد أوفى "حنظلة الطائي" بعهده الذي أعطاه للملك "النعمان" يوم بؤسه بأن يعود إليه؛ ليرى الملك رأيه في قتله. فعاد وهو يعلم أن الملك سيقتله؛ لأنه أعطاه قولًا بالعودة، وجعل "شريكًا" نديم الملك ضامنًا له بالعودة. فلما عاد واستمع الملك إلى قصة وفائه, أبطل عادته في قتل أول من كان يظهر أمامه يوم بؤسه؛ إكرامًا لعمله3. ورأى "السموءل"، ابنه وهو في أيدي أحد ملوك الغساسنة أو ملوك كندة، وهو يناديه بوجوب دفع ما عنده من دروع وأسلحة مودعة عنده، من دروع وأسلحة "امرئ القيس", فقال له: "ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي, فاصنع ما شئت". فذبح ولده واحتسب السموءل ذبح ولده وصبر محافظة على وفائه، ولم يسلم الوديعة إلا إلى ورثة امرئ القيس4. وقد دون أهل الأخبار أسماء أناس عرفوا بالوفاء, منهم "أوفى بن

_ 1 نهاية الأرب "3/ 365". 2 نهاية الأرب "3/ 366". 3 المستطرف في كل فن مستظرف "1/ 199 وما بعدها", "عبد الحميد أحمد الحنفي". 4 المحبر "348 وما بعدها".

مطر المازني"، جاوره رجل ومعه امرأة له، فأعجبت قيسًا أخاه، فقتل زوجها غيلة، فبلغ ذلك "أوفى" فقتل قيسًا بجاره1, و"الحارث بن عباد"، وكان من وفائه أنه أسر يوم "قضة" "عدي بن ربيعة" أخا مهلهل وهو لا يعرفه, فقال له: دلني على عدي, فقال له عدي: إن دللتك عليه فأنا آمن؟ فأعطاه ذلك. فقال له: فأنا عدي, فخلى سبيله2. ومن أوفياء العرب "عوف بن محلم الشيباني"، وهو من مشاهير سادات العرب. وكان من وفائه أن "مروان بن زنباع العبسي" كان قد وتر "عمرو بن هند" فجعل على نفسه ألا يؤمنه حتى يضع يده في يده. وإن "مروان" غزا "بكر بن وائل" فأسر، ولم يكن آسره منيعًا، فطلب من أم آسره أن توصله إلى "عوف بن محلم"، ولها منه مائة بعير، فحمل إلى "عوف"، ولاذ بقبته، وبلغ "عمرو بن هند" مكانه، فبعث يطلبه، فأبى عوف أن يسلمه إلأ أن يؤمنه. ثم أخذه عوف إلى "عمرو بن هند"، وجعل يده بين يد عمرو ويد مروان، وأصلح بينهما, فعفا "عمرو" عنه وآمن مروان. فقال عمرو: "لا حر بوادي عوف"، فذهبت مثلًا3. وعد "مروان بن زنباع" من أوفياء العرب؛ لأنه وفى بعهده الذي أعطاه لأم آسره، وكان قد أعطاه عودًا التقطه من الأرض ليكون رمز وفائه، على أن توصله إلى "محلم". فلما أوصلته دفع إليها المائة بعير، كما تعهد لها بذلك4. وضرب المثل بوفاء "عمير بن سلمى الحنفي"، وله قصة في الوفاء تشبه قصة "أوفى بن مطر المازني". وذكروا أن من وفائه أن رجلًا من "بني عامر بن كلاب" استجار بعمير وكانت معه امرأة جملية, فرآها "قرين بن سلمى الحنفي" أخو عمير، وصار يتحدث إليها حتى بلغ ذلك زوجها، فنهاها فخافته فانتهت. فلما رأى "قرين" ذلك وثب على زوجها فقتله, وعمير غائب, فأتى أخو المقتول قبر "سلمى" فعاذ به. فقدم "عمير بن سلمى"،

_ 1 المحبر "348". 2 المحبر "348". 3 المحبر "349 وما بعدها"، الاشتقاق "215"، الأمثال للميداني "2/ 531". 4 المحبر "351".

فأخذ أخاه. وبلغ وجوه "بني حنيفة" الخبر، فأتوه فكلموه، فأبى إلا أن يقتله أو يعفو عنه جاره، وأبى أخو المقتول أخذ دية أخيه القتيل ولو ضُوعفت, فأخذ عندئذ "عمير" أخاه وقتله لغدره بجاره1. ومن الأوفياء "أبو حنبل: جارية بن مر الطائي ثم الحنبلي". وكان من وفائه أن "امرأ القيس بن حجر الكندي" كان جارًا "لعامر بن جوين الطائي", فقبَّل "عامر" امرأة "امرئ القيس"، فأعلمته ذلك فارتحل إلى "جارية" ليستجير به. فلم يجده, ووجد ابنًا له أجاره، فلما جاء "جارية" ورأى كثرة أموال "امرئ القيس" طمع فيها، وعزم على الغدر بـ"امرئ القيس" ثم فكر في أمره ورأى أن الغدر عار، فعقد له جواره، ثم أخذه إلى "عامر بن جوين"، فقال لامرئ القيس: قبل امرأته كما قبل امرأتك, ففعل2. ومنهم "المعلى الطائي"، أحد "بني تيم" من جديلة، وهم "مصابيح الظلام". وكان "المنذر" يطلب امرأ القيس، فلجأ إلى "المعلى" فأجاره، وبلغ المنذر مكان "امرئ القيس" فركب حتى أتى منزل المعلى، ولم يكن المعلى موجودًا، وأبى ابنه تسليم امرئ القيس إلى المنذر ومنعوه3. ومن الأوفياء "عصيمة بن خالد بن سنان بن منقر"، وكان "النعمان" قد غضب على "بني عامر بن صعصعة"، فقتل منهم ناسًا وشردهم، فألجأهم "عصيمة" وأجارهم، فبعث إليه النعمان: "ابعث إليَّ بعبيدي" فأبى ونادى في قومه شعاره "كوثر"، وأقبل "النعمان" فأهوى "عصيمة" بالرمح إلى معرفة فرسه، ورجع الملك خائبًا. ثم كسا "عصيمة" "بني عامر" وبلغهم مأمنهم4. وقد عد الوفاء محمدة وواجبًا، ولأجل توكيد الوفاء وترسيخه كانوا يضعون رهنًا، قد يكون ثمينًا مثل أبناء سادات القبائل، يقدمونهم رهينة لدى

_ 1 المحبر "ص352". 2 المحبر "352 وما بعدها". 3 المحبر "353 وما بعدها". 4 المحبر "354".

الملوك ضمانًا لهم في مقابل وفائهم بما تعهدوا للملك, وبما عاهدوه عليه من شروط. وقد يكون شيئًا لا قيمة كبيرة له من الوجهة المادية، مثل رهن قوس أو سهم أو التقاط عود من الأرض وإيداعها رهنًا بالوفاء، كما مر معنا في قصة "مروان بن زنباع العبسي" مع "عوف بن محلم الشيباني"1، أو في مقابل إعطاء كلمة بالوفاء، كما في قصة "الحارث بن عباد"2، أو الوفاء بسبب استجارة إنسان بقبر، كما في قصة وفاء "عمير بن سلمى الحنفي"3.

_ 1 المحبر "349". 2 المحبر "348". 3 المحبر "351".

العرض

العرض: وعرض الرجل نفسه وبدنه، وقيل العرض: موضع المدح والذم من الإنسان, سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره. وقيل أيضًا: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه ويحامي عنه أن ينتقص ويثلب. وذكر أيضًا أن العرض: عرض الإنسان، ذم أو مدح1, ويحرص الجاهلي على ألا يمس بسوء، وإذا تحرش أحدهم به، أو شعر أن شخصًا أراد الانتقاص منه، ولو بتلميح أو بإشارة أو بغمز, ثار وهاج مدافعًا عن نفسه وعرضه؛ لأن عرض الإنسان أشرف شيء بالنسبة له في هذه الحياة. ومن العرض صيانة أعراض الناس؛ لأن من ينتهك عرض غيره، ينتهك الناس عرضه ويعرض نفسه وماله وأهله للتهلكة. فقد لا يصبر شخص أهينت كرامته على هذه الإهانة فينتقم ممن تعرض به شر انتقام. إن لم يتمكن هو بنفسه، ساعده في أخذ حقه أهل عصبته ورجال قبيلته، حتى يثأر لنفسه ممن تعرض لعرضه بسوء. ونجد في الشعر الجاهلي تبجحًا بالنفس وإشادة في الدفاع عن العرض وتهديدًا ووعيدًا لمن يحاول النيل منه بأي سوء. وهو كلام يحمل حساد المتبجح بنفسه على الرد عليه وعلى الطعن فيما قاله. وبذلك تتولد خصومة قد تطول وتكبر وتؤدي إلى سقوط قتلى كانوا في غنى عنها, لولا هذه الحمية الجاهلية القائمة على التفاخر والتباهي والزهو والحمق.

_ 1 اللسان "3/ 171"، "عرض".

الحرية

الحرية: والعربي مجبول على الحرية، وهو لا يطيق الخضوع لأحد غير قبيلته, على ألا يؤثر ذلك في حريته الشخصية. وقد أعجب "هيرودوتس" وغيره من كتبة اليونان والرومان بحب العرب للحرية ولمقاومتهم للاسترقاق، فذكروا أنهم كانوا الشعب الوحيد من بين الشعوب الآسيوية الذي لم يخضع لحكم الفرس، فلم يتمكن ملوك الفرس من استعبادهم، وإنما اضطروا إلى معاملتهم معاملة أصدقاء حلفاء، فقاموا لهم بخدمات جليلة سهلت لهم فتح مصر، ولو كان العرب حربًا على الفرس لما تمكنوا قط من حملتهم على مصر. والعربي من هذه الناحية شديد التعلق بالحرية، والأعرابي يشعر, وهو في الحضر بين سكان القرى أو المدن، أنه في سجن لا يطاق؛ لكثرة القيود التي تقتضيها عادات المتحضرين، ويسعى للعودة إلى وطنه حيث ينطلق حرًّا كما يشاء. والقبائل تشعر هذا الشعور نفسه، فهي تعيش متمتعة بأعظم قسط من الحرية، لا تضحي بها، إلا لمقتضيات المحافظة على الحياة, حيث ترتبط بواجبات التحالف مع القبائل الأخرى للدفاع عن النفس وضمان ضروريات الحياة. ولما كان لكل شيء حد ونهاية، غدت هذه الحرية أنانية شديدة، وفردية مطلقة حالت دون تعاون الأفراد, ومنعت من مساعدة القبائل بعضها بعضًا مع وجود خطر أجنبي داهم، وحالت دون تكون المجتمعات الكبرى وهي الحكومات، واقتصرت التنظيمات السياسية على القبائل، وأصبحت العصبية للقبيلة تعني القومية. وزاد في حدة هذه الأنانية القبلية اعتقادهم بالرابطة الدموية التي تربط الأسر بالعشائر، والعشائر بالقبائل، وإرجاع ذلك إلى الأنساب فلا تتعصب القبائل إلا لتلك القبائل التي تعتقد أنها وإياها من شجرة واحدة وأصل واحد. وإن الحياة الصحراوية التي طبعت أصحابها بطابع الإفراط في حب الحرية الفردية، قد أثرت كثيرًا في الحياة السياسية والتفكير السياسي في بلاد العرب، فاقتصرت

الأفعال السياسية على أفعال القبيلة، وتراجع الفرد بل الأهل والعشيرة تجاه القبيلة، وأثرت في أِشكال الحكومات التي تكونت في الأماكن الخصبة وبين المتحضرين، فجعلت منها اتحادًا مع قبائل جمعت بينها مصالح متشابهة ومنافع مشتركة. فإذا ما شعرت بزوال مصلحتها أو أن من مصلحتها الانفصال عن هذا الاتحاد, فلا تتوانى عن تنفيذ رغباتها وتحقيقها بالقوة؛ ولهذا نجد القبائل تهيج وتثور على الحكومات التي تخضع لها، وتدين بالولاء لها؛ لأسباب تافهة منبعها ومبعثها هذه الأنانية الضيقة التي تدفع سادات القبائل إلى الانفصال والخروج من عبودية الخضوع لحاكم، عليهم تقديم واجب الإخلاص والطاعة له. حاكم يرون أنه لا يمتاز عنهم بشيء، بل يرى كل واحد منهم لأنانيته أنه أولى منه بالحكم وبتسلم القيادة، وأن من حقه الخروج عن طاعته إن وجد ظروفًا ملائمة متهيئة للانفصال عنه. فلما وجدت القبائل التي خضعت لحكم "ملوك كندة" ضعفًا في الأسرة الكندية الحاكمة، ثارت عليها وقتلت منهم من قتلت، وطردت من طردت، وكوَّن سادات القبائل إمارات عديدة حلت محل مملكة كندة. ولما كان سادات القبائل يجدون ضعفًا في العلاقات بين ملوك الحيرة والفرس، وبين ملوك الغساسنة والروم, كان يسارعون إلى الاتصال بالفرس وبالروم لتنصيبهم مكان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة، لا يرون في هذا العمل أي شين أو بأس. ويصعب في الحقيقة التوفيق بين الفكرة القبلية الضيقة والفكرة القومية التي تسمو فوق القبائل، فالفكرة القبلية لا تعترف بوجود قومية غير قومية القبيلة، ولا ترى وجود وطن غير الوطن الذي تنزل فيه القبيلة. فإذا ارتحلت عنه وحلت في أرض أخرى, أصبحت هذه الأرض وطن القبيلة الجديد، الذي يجب أن يدافع عنه, وأما الأوطان الأخرى ومنها وطن القبيلة السابق، فليست بأوطانها. ومن هنا كان بون شاسع بين هذه الفكرة الوطنية الضيقة، وبين الفكرة القومية التي تدين بعقيدة الإيمان بالقوم, أي: الجنس الذي هو فوق القبائل والأمكنة، وبالوطن العام الذي يشمل كل الأرضين التي يستوطنها ذلك الجنس. وقد جابهت الحكومات العربية في الجاهلية ثم في الإسلام متاعب كثيرة من الروح القبلية العنيفة، ومن الفردية المتطرفة. فكانت هذه من أهم عوامل هد المجتمعات السياسية الكبرى في بلاد العرب، وكانت من أعنف أعداء القومية العربية, لا في الجاهلية فحسب, بل في الجاهلية وفي الإسلام كذلك.

وأهم ما يعوز العرب في الجاهلية الشعور بفكرة "الأمة"، التي تسمو فوق القوميات القبلية وفوق الإقليميات الضيقة التي هي أيضًا صفحة من صفحات الأنانية، والشعور بلزوم الحد من الفردية الجامحة التي لا تعترف بحريات الآخرين، وبضرورة إطاعة المجتمع في سبيل المصلحة العامة، وإخضاع إرادة الحاكمين لمصلحة حكم الجماعة، والحد من أنانيتهم المفرطة ومن البت في أمور الرعية، وكأن الرعية سواد من ماشية، عليها إطاعة سوط الحاكم وأوامره، دون أن يكون لها حق في إبداء الرأي. فإن غلطة الاستبداد بالرأي تؤدي إلى أسوأ العواقب، غير أن الحرية المفرطة أو الأنانية الشديدة بتعبير أصح، التي كادت تجعل المجتمع فوضى -ضبطتها من ناحية أخرى قوة كبحت جماحها، وحدت من حريتها، وأجبرتها على التقيد بقيود، وعدم التحرك إلا بحد وحدود. هي سنة وجوب إطاعة أوامر المجتمع، والاستجابة لنداء الجماعة, ولأحكام رؤساء الأحياء والبطون والأفخاذ، والصيحات التي تصرخها القبيلة أو فروعها لتنادي بنداء "العصبية", وإلا عد الخارج على نداء الجماعة والمخالف لقرار رؤساء الأسرة أو الحي أو القبيلة خارجًا على القانون وعلى العصبية, فاستحق بذلك واجب خلعه من عصبية القبيلة له, وطرده من قومه. وهو أشد عقاب يفرض على مخالف ما, عقاب الخلع.

الخلع

الخلع: ويبقى الفرد متمتعًا بعطف قبيلته عليه وبحمايتها له, ما دام قائمًا بواجباته المترتبة عليه، شاعرًا بعظم التبعة. فإذا أجرم، أو عمل عملًا ينافي شرفه أو شرف قبيلته، واستمر في غيه لا يسمع نصائح أهله وعشيرته، كاسرًا أعراف آله وقبيلته -فقد عصبية أهله وقبيلته له، وهام على وجهه طريدًا يلتمس مجاورة رجل من عشيرة أو قبيلة أخرى قريبة من موطنه أو بعيدة عنه. وتكون هذه الفترة من حياة الإنسان شرَّ فترة في حياته، ولا يهدأ للطريد بال إلا إذا وجد له حليفًا أو جارًا يتعهد له بحمايته وببذل "العصبية" له وبالدفاع عنه. ويقال للرجل الذي تغضب عليه قبيلته وتحرمه عطفها وعصبيتها له: "الخليع", ويقال ذلك لمن يخلعه أهله أيضًا. وقد يقال له: "الرجل اللعين"، و"اللعين", واللعين هو المطرود؛ ولذلك يقال له: "الطريد", إلى غيرها من مصطلحات.

وربما خلعوا الرجل من القبيلة ولو كان من صميمها، ويسقط عن أهله وقبيلته كل واجب يترتب عليهم أو عليها إذا عمل عملًا يستوجب خلعه، كما تسقط عن القبائل التي قد تتعرض للخليع بشر كل تبعة تقع عليها من الاعتداء عليه، لخلع أهله أو قبيلته له، وتبرئهم أو تبرئها منه، فلا يطالبون بثأر. ولا بد من إعلان خلع أهل "الخليع" أو خلع قبيلته له وتبرئها منه؛ ليكون ذلك معلومًا عند أفراد قبيلته أو القبائل الأخرى، فتسقط العصبية عندئذ عن "الخليع" عند إعلان قرار الخلع، وإلا بقيت في رقبة أولياء أمره وقبيلته، وذلك كأن يعلن الأب في المواضع العامة وفي المواسم أنه خلع ابنه، بأن يقول: ألا إني قد خلعت ابني هذا، فإن جَرَّ لم أضمن، وأن جُر عليه لم أطلب، أو يعلن قومه: إنما خلعنا فلانًا، فلا نأخذ أحدًا بجناية تجنى عليه، ولا نؤخذ بجناياته التي يجنيها. وقد كان الحج من المواسم المناسبة لإعلان خلع الخلعاء، وكذلك كانت مواسم الأسواق كسوق عكاظ. فهي مواسم تجمُّع, ينادي فيها المنادي بخلع من يراد خلعه، وكان أهل مكة يكلفون مناديًا بالطواف بالأحياء، ينادي بأعلى صوته عن خلع الخليع. وقد يكتبون كتابًا يحفظونه عندهم أو يعلقونه في محل عام ليقف عليه الناس1. وقد عاش الخلعاء عيشة صعبة، لا أحد يساعدهم أو يئويهم خشية أن ينزل بهم أذى، أو يترتب على قبول جوارهم تبعة تجاه من يقتص آثارهم طلبًا للثأر منهم؛ ولذلك تكتل الصعاليك أحيانًا وكونوا عصابات تغزو وتغير وتقطع الطريق. وكان الشاعر "عروة بن الورد" وهو منهم, يجمع حوله الصعاليك والفقراء في حظيرة ويغزو بهم ويرزقهم مما يغنمه؛ ولذلك سمي "عروة العصاليك"2. ذكر أنه كان إذا شكا إليه فتى من فتيان قومه الفقر, أعطاه فرسًا ورمحًا، وقال له: إن لم تستغنِ بهما, فلا أغناك الله3.

_ 1 الأغاني "8/ 52". 2 اللسان "10/ 456"، "صعلك". 3 الثعالبي، ثمار القلوب "103".

والصعلوك: الفقير الذي لا مال له1. ومن الصعاليك "السليك بن سلكة" الشاعر العدَّاء, وهو من العدائين الذين ضرب بهم المثل في العدْو2. وكان "حاجز بن عوف بن الحارث"، وهو شاعر جاهلي مقل، أحد الصعاليك العدائين, كان يعدو على رجليه عدوًا يسبق به الخيل، وكان يغير على قبائل العرب3. وكان "قيس بن الحدادية" من الشعراء الصعاليك الفاتكين الشجعان, خلعته خزاعة بسوق عكاظ، وأشهدت على نفسها بخلعها إياه، فلا تحتمل جريرة له، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه4. ومن بقية الصعاليك "الشنفرى" و"تأبط شرًّا", غير أن أعرفهم وأشهرهم وحامل لواء الصعلكة فيهم، هو "عروة بن الورد" الذي نصب نفسه سيدًا على الصعاليك. فكان يجمعهم ويشركهم فيما يغنمه ويرزقهم من رزقه، ويبذل جهده لمواساتهم، فاجتمع حوله صعاليك "عبس"، وهو منهم واتخذ لهم حظائر آووا إليها؛ ولهذا نعت بـ"عروة الصعاليك". قال أهل الأخبار: إنما قيل له عروة الصعاليك مع أنه عروة بن الورد؛ لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة, فيرزقهم مما يغنمه5. فعروة لم يكن فقيرًا محتاجًا معدمًا، كما يفهم من لفظة "صعلوك", لقد كان في وسعه أن يجمع مالًا مما كان يغنمه من غاراته على العرب، فيكون حسن الحال غنيًّا, لكنه فضل الصعلكة على اكتناز المال، ورجَّح إشراك الفقراء فيما يغنمه على جمعه له واستئثاره له وحده؛ لأن له مروءة تأبى عليه أن ينام شبعان وجاره فقير جائع, فكان ينفق ما يغنمه على المحتاجين. فهو صاحب مذهب إنساني أحس بالألم، وأدرك ما أصابه يوم خلعه أهله من شدة وضنك، فأراد أن يخفف من آلام أمثاله ممن خلعهم مجتمعهم لعدم وقوفه على أسباب خروجهم عليه, فصار بذلك نصير الصعاليك. ولقد ذكره "عبد الملك بن مروان" فقال: "ما كنت أحب أن أحدًا ولدني من العرب إلا

_ 1 اللسان "10/ 455 وما بعدها"، "صعلك". 2 الأغاني "18/ 133". 3 الأغاني "12/ 47". 4 الأغاني "13/ 2". 5 تاج العروس "7/ 153"، "صعلك".

عروة بن الورد"1. فعروة صعلوك فلسف الصعلكة بأن جعلها مثلًا من مُثُل الحياة, بينما كانت تعني فقرًا مدقعًا وجوعًا قتالًا وهيامًا على وجه الأرض للاستجداء. وقد كون الصعاليك عصابات تنقلت من مكان إلى مكان, تسلب المارة وتغير على أحياء العرب؛ لترزق نفسها ومن يأوي إليها2, انضم إليها الصعاليك من مختلف القبائل. ولكن أكثر الصعاليك من الشبان الطائشين الخارجين على أعراف قومهم, ومن الذين لا يبالون ولا يخشون أحدًا، صاروا قوة خشي منها، وحسب لها حساب، خاصة وفيها شعراء فحول، يحسنون الهجاء ويتقنون فن ثلب الأعراض، وفيها مقاتلون شجعان لا يعبئون بالموت، يفتكون بمن يريدون الفتك به. وخافهم الناس وامتنعوا جهد إمكانهم من التحرش بهم ومعاداتهم، ومنهم من قبل جوار الصعاليك وردَّ عنهم وأحسن إليهم، فاستفاد منهم واستفادوا منه. وقد كان العرب ينفون الخلعاء إلى أماكن معينة مثل "حَضَوْضى"، وهو جبل في الجزيرة العربية, كان الناس في الجاهلية ينفون إليه خلعاءها3. وقيل: جبل في البحر أو جزيرة فيه, كانت العرب تنفي إليه خلعاءها4.

_ 1 الأغاني "3/ 78"، ديوان عروة بن الورد "ص 138 وما بعدها"، العقد الفريد "1/ 191". 2 الأغاني "19/ 111". 3 البلدان "3/ 296". 4 تاج العروس "5/ 20"، "حَضَّ".

فهرس الجزء السابع

فهرس: الجزء السابع الفصل الثاني والأربعون مكة المكرمة 5 الفصل الثالث والأربعون يثرب والطائف 128 الفصل الرابع والأربعون مجمل الحالة السياسية في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام 142 الفصل الخامس والأربعون المجتمع العربي 271 الفهرست 415

المجلد الثامن

المجلد الثامن الفصل السادس والأربعون: أنساب القبائل ... الفَصْل السَّادِس والأربَعُون: أنساب القبائل تحدثت في مواضع متعددة من هذا الكتاب عن تقسيم القبائل العربية المألوف عند الأخباريين. أما الحديث في هذا الفصل، فهو عن أثر القبائل العربية في الجاهلية المتصلة بالإسلام. وبعبارة أخرى القبائل العربية التي كانت في القرن السادس للميلاد. ويضيق بنا هذا الفصل لو أردنا الكلام على جميع القبائل وبطونها وأفخاذها وعمائرها، لذلك سأكتفي في هذا الفصل بذكر القبائل الكبرى وبالإشارة إلى بطونها إن كانت مهمة. وفي كتب الأخباريين والمؤلفات المدونة في الأنساب الكفاية لمن طلب المزيد. والتصنيف المألوف للقبائل هو حاصل عرف جرى عليه النسَّابون، ولا نعرف تدوينًا لأهل الجاهلية للأنساب، إنما نعرف أن أول تدوين رسمي كان هو التدوين الذي تم في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث ظهرت الحاجة إلى التسجيل، فسجلت. ولم تصل ويا للأسف سجلات ذلك الديوان إلينا، ولم يصرح أحد من النسابين أنه أخذ مادة أنسابه من تلك السجلات. وإنما الذي بين أيدينا هو خلاصة وجهة نظر النسابين في أنساب القبائل، وعلى هذا التقسيم اعتمد المعنيّون بهذا الموضوع. وإذا غضضنا الطرف عن التصنيف المتبع في حصر أنساب العرب كلها في أصلين أساسيين قحطان وعدنان، فإننا نرى القبائل كما يفهم من روايات الأخباريين كتلًا، ترجع كل كتلة منها نسبها إلى جدّ قديم تزعم أن قبائلها انحدرت من صلبه. وقد تحدثت مرارًا عن طبيعة هؤلاء الأجداد.

ومن هذه الكتل التي كانت عند ظهور الإسلام، كتلة حمير، وكتلة كهلان، وكتلة قضاعة، وكتلة مضر، وكتلة ربيعة. وكل كتلة مجموعة قبائل كبيرة، ترجع في عصبيتها إلى تلك الكتلة. أما حمير، فقد تحدثت عنها سابقًا، وأشرت إلى ورود اسمها لدى بعض الكتبة الكلاسيكيين مثل "سترابون" والمؤرخ "بلينيوس" وذلك في أثناء كلامه على حملة "أوليوس غالوس" حيث عدها من أشهر القبائل العربية التي كانت في اليمن إذْ ذاك1، كما أشرت إلى ورود اسمها في نصوص المسند التي يعود تأريخها إلى ما بعد الميلاد2، وهو اسم أرض معينة واسم شعب. أما الذي نفهمه من الأخباريين، فهو أن حمير اسم واسع يشمل قبائل قحطان عند ظهور الإسلام3. وقد يكون مرد ذلك إلى ظهور هذه القبيلة في هذا الزمن وبروزها في هذا العهد في اليمن، فانتمى إليها كثير من القبائل على العادة الجارية في الانتماء إلى المشاهير. ويرجع النسابون نسب حمير إلى حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب، ويقولون إن اسمه "العرنج"4 "العرنجج"5، وهو في نظرهم والد جملة

_ 1 PLINY, VI, 161. 2 تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 137". 3 Rubin, Ancient West Arabian, P. 42. 4 منتخبات "ص28، 70"، المبرد، نسب عدنان وقحطان "ص18"، "العرفج" شرح قصيدة ابن عبدون "ص84". 5 "والعرنجج، اسم حمير بن سبأ. قاله السهيلي في الروض وابن هشام وابن إسحاق في سيرتهما"، تاج العروس "2/ 73"، لسان العرب "3/ 147". "وحمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، أبو قبيلة. وذكر ابن الكلبي أنه كان يلبس حللا حمرا. وليس ذلك بقوي. قال الجوهري: ومنهم كانت الملوك في الدهر الأول. واسم حمير العرنجج. قال الهمداني: حمير في قحطان ثلاثة: الأكبر والأصغر والأدنى، فالأدنى: حمير بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة. وهو حمير الأصغر بن سبأ الأصغر بن كعب بن سهل بن زيد بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حذار بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير الأكبر بن سبأ الأكبر بن يشجب". تاج العروس "3/ 158". "وزرعة هو الأصغر"، الاشتقاق "ص311، حاشية".

أولاد، جعلهم بعضهم تسعة، هم: الهميسع، ومالك، وزيد، وعريب، ووائل و "مشروح" مسروح1، ومعد يكرب، وأوس، ومرة2. وجعلهم بعض آخر أقل من ذلك، أو أكثر عددًا3 وهم أنفسهم أجداد قبائل حمير. ومن نسل هؤلاء: بنو مرة، وهم في حضرموت، والأملوك، وبنو خيران، وذو رعين، وبنو هوزن، والأوزاع4، وبنو شعبان5، وبنو عبد شمس، وبنو شرعب، وزيد الجمهور. وبنو الصوّار، وأكثر قبائل حمير منهم. وقد كان الملك فيهم وبقي إلى مبعث الرسول. ومنهم الحارث الرائش الذي غزا -على زعم الأخباريين- الأعاجم والروم، وعرف ب "ملك الأملاك"، وحملت إليه الهدايا من أرض الصين وبلاد الترك والهند، وملك الأرض بأسرها، وأدت إليه جميع الناس الخراج6. وقد جعلوا مدة حكمه خمسًا وعشرين ومئة سنة، وهي مدة لا أدري كيف اكتفى بها أصحاب الأخبار الذين اعتادوا منح العمر الطويل لملوك هم أقل شأنًا ودرجة بكثير من هذا الملك المظفر السعيد. ويظهر لنا من تدقيق منازل القبائل والبطون المنسوبة إلى حمير، أنها كانت في العربية الجنوبية، وأنها بقيت في مواضعها على الغالب في الإسلام. بينما نجد قبائل "كهلان" وبطونها، وهي فرع سبأ الثاني وقد سكنت في مواضع بعيدة عن اليمن. وهي قبائل ضخمة. أضخم من قبائل حمير. ثم إنها كانت تتكلم بلهجة قريبة من لهجة القرآن الكريم في الإسلام. أما بطون حمير، فقد كانت تتكلم بلغة ركيكة رديئة غير فصيحة بعيدة عن العربية على حدّ تعبير الأخباريين، ويظهر أن هذا التباين كان عاملًا مهما في تميز حمير عن غيرها وفي حشر البطون في جذم حمير. فمن حافظ على لهجته القديمة، وبقي يستعملها، عُدّ في هذا

_ 1 "مسروح" ابن حزم: جمهرة "ص406" "تحقيق ليفي بروفنسال". 2 ابن خلدون "2/ 242 وما بعدها" "والهميسع أحد قبيلي حمير، وهما الهميسع ومالك بن حمير الأكبر". منتخبات "ص110". 3 سبائك الذهب. "ص18". 4 ابن حزم "ص406 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 242 وما بعدها". 5 خلاصة الكلام "ص52"، منتخبات "ص56". سبائك الذهب، "ص18". 6 طرفة الإصحاح في معرفة الأنساب "ص43 وما بعدها".

الجذم. ولم يحافظ على هذه اللهجات إلا الذين بقوا في أماكنهم وفي مواضعهم، ولم يختلطوا بالقبائل الأخرى التي تأثرت لهجتها بلهجة القرآن الكريم. وحمير عند الأخباريين أبو الملوك التبابعة والأذواء والأقيال، وهو شقيق كهلان أبي الملوك من الأزد من بني جفنة ومن لخم1. ويلاحظ أنهم قد حصروا حكم اليمن والقبائل القحطانية المقيمة بها في حمير، على حين جعلوا الملك على عرب الشأم وعرب العراق ويثرب في أيدي المنتسبين إلى كهلان، أي أنهم خصوا الحكم في خارج اليمن بأيدي إخوة حمير، فوزعوا الملك في اليمن وفي خارجها بين الأخوين. وحمير في عرفهم هو الابن الأكبر لسبأ، فلعلَّ هذا الكبر هو الذي شفع له أن يكون الوارث لليمن، والحاكم على قبائل قحطان وعدنان فيها. وأخذ مكانة الأب بعد موته والجلوس على عرشه، ميزة لا ينالها إلا الابن البكر، وقد ملك حمير بعد أبيه على حدّ قولهم أكثر من مئة عام2. ويذكر قوم من الأخباريين أن حكم حمير كان للملوك منها، ثم للأقيال. والقيل هو الذي يخلف الملك في مجلسه، فيجلس في مكانه، ويحكم فلا يرد حكمه. ومن هؤلاء الأقيال على زعمهم المثامنة، "وهم ثمانية رجال كانوا من حمير، وكانوا ملوكًا على قومهم، وهم من تحت أيدي ملوك حمير، وأولادهم قبائل من حمير، ويسمون المثامنة. وكان من شأنهم لا يتملك ملك من حمير إلا بإرادتهم، وإن اجتمعوا على عزله عزلوه. وهم: يزن، وسحر، وثعلبان الأكبر، ومرة ذو عثكلان. هؤلاء من أولاد سبأ الأصغر. ومقار بن مالك من أولاد حمير الأصغر، وعلقمة ذو جدن، وذو صرواح"3.

_ 1 طرفة الأصحاب "ص43". 2 المصدر نفسه. 3 طرفة الأصحاب "ص48 ما بعدها"، "ثمانية أملاك من ولد حمير الأصغر بن سبأ الأصغر يسمون المثامنة، جعلوا ذلك اسما علما لهم للفرق بينه وبين ثمانية العدد النكرة. قال رجل من العتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، لرجل من بني يربوع: تطول علي بالأنساب حتى ... كأنك من مثامنة الملوك من آل مراثد أو ذي خليل ... وذي جدن بني القيل المليك وذي صرواح أو ذي ثعلبان ... ومن ذي حزفر عالي السموك ومن ذي عثكلان وذي مقار ... ذوي العلماء والمجد العتيك

ويلي الأقيال في الحكم الأذواء، وهم كثيرون منهم: ذو فيفان، وذو يهر، وذو يزن، وذو أصبح، وذو الشعبين، وذو حوال، وذو مناخ، وذو يحضب، وذو قينان1. ولما أعاد "عمر بن يوسف بن رسول" مؤلف كتاب "طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب" المتوفى سنة ست وتسعين وستمائة، وهو نفسه ملك من ملوك اليمن، الحديث عن المثامنة، ذكر أنهم ثمانية أقيال استقاموا بعد سيف بن ذي يزن، وهم: آل ذي مناخ، وآل ذي يزن، وآل ذي خليل، وآل ذي مقار، وآل ذي عثكلان، وآل ذي ثعلبان، وآل ذي معافر، وآل ذي جدن. وأعظمهم آل ذي يزمن لخؤولة أسعد الكامل2. وهكذا نجده يرجع تأريخ ظهورهم إلى ما بعد أيام سيف بن ذي يزن، ثم يرجعها إلى ما قبل ذلك، ويغير الأسماء ويبدل. ولكن علينا أن نعلم أن الأخباريين لا يعرفون التواريخ على وجه صحيح مضبوط، ثم إنهم يخلقون من الرجل جملة رجال، فخلقوا من أبرهة مثلا، وقد عرفنا زمانه، جملة أبرهات، وزَّعوا أيامها في أزمان تبدأ عندهم قبل أيام سليمان بن داود وتنتهي بأبرهة الحقيقي حاكم اليمن بعد الميلاد. فلا غرابة إن ذكروا أكثر من سيف بن ذي يزن ورجعوا بتاريخ أيامه إلى الوراء. وكثيرا من أسماء البطون والقبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى حمير، هي أسماء وردت في نصوص المسند، ومنها أسماء قبائل وبطون حقًّا، ولكنها ليست بالطبع على الشكل الذي يراه الأخباريون، ولا من حمير بالضرورة. هي أسماء أقوام ولكنها خالية من الآباء والأجداد. أما الآباء والأجداد، فهي من مولدات

_ = أولئك خير أملاك البرايا وأرباب الفخار بلا شريك فأجابه اليربوعي: تفاخرني بقوم لست منهم ... فما سبب الملوك إلى العتيك شهدت بما شهدت به فأبلغ ... بصدق شهادتي لهم ألوكي ولكن لي عليك قديم مجد ... وعالي مفخر صعب السلوك بيربوع وغلب من بنيه ... لهم كانت ردافات الملوك منتخبات "ص16". 1 طرفة الأصحاب "ص50 وما بعدها". 2 طرفة الأصحاب "ص55".

المتأخرين منهم، وأغلب ظني أنها من المستحدثات التي ظهرت في الجاهلية المتصلة بالإسلام وفي الإسلام. وقد ذكر الأخباريون أسماء عدد كبير من البطون والقبائل المنتسبة إلى حمير، كان لها شأن كبير في تأريخ اليمن في الإسلام. أما في خارجها، فقد أعطى الأخباريون الأدواء الكبرى لأبناء كهلان. وأما "قضاعة" فللنسابين في أصلها آراء، منهم من أرجع نسبها إلى حمير، فجعل نسبها قضاعة بن مالك بن عمرو بن مُرّة بن زيد بن حمير1. ومنهم من نسبها إلى معدّ، فجعل قضاعة الابن البكر لمعدّ2، ومنهم من صيرها جذمًا مستقلًّا مثل جذم قحطان عدنان. ومرد هذا الاختلاف إلى عوامل سياسية أثرت تأثيرًا كبيرًا في تصنيف الأنساب، ولا سيما في أيام معاوية وابنه يزيد اللذين بذلا أموالًا جسيمة لرؤساء قضاعة في سبيل حملهم على الانتفاء من اليمن والانتساب إلى معد، لكونها قوة كبيرة في بلاد الشأم في ذلك العهد، ولا سيما أن منهم بني كلب، فذكر أن زعماءها وافقوا تجاه هذه المغريات على الانتساب إلى معدّ، غير أن الأكثرية رفضت ذلك، وأبت إلا الانتساب إلى قحطان3. ويرى بعض النسابين والمستشرقين أن انتساب قضاعة إلى يمن غير قديم4. "قال أبو جعفر بن حبيب النّسَّابة: لم تزل قضاعة في الجاهلية والإسلام، تعرف بمعدّ حتى كانت الفتنة بالشأم بين كلب وقيس عيلان أيام مروان بن الحكم. فمالت كلب يومئذ إلى اليمن، فانتمت إلى حمير، استظهارًا منهم بهم على قيس. وذكر ابن الأثير في الأنساب هذا الاختلاف، ثم قال: ولهذا قال محمد بن سلام البصري النَّسَّابة لما سئل: أنزار أكثر أم اليمن؟ فقال: إن تمعددت قضاعة،

_ 1 منتخبات "ص87"، ابن خلدون "2/ 247"، المبرد "ص23"، ابن حزم: جمهرة "ص411 وما بعدها"، "عمرو بن مالك بن حمير". القاموس "3/ 69"، الاشتقاق "ص313"، خلاصة الكلام، "ص49"، سبائك الذهب "ص19، 23". 2 ابن عبد البر: الإنباه على قبائل الرواة "ص59، 121"، "وتزعم نساب مضر، أنه قضاعة بن معد بن عدنان، والصواب هو الأول" تاج العروس "5/ 470"، اللسان "10/ 147". 3 منتخبات "ص87"، وتجد القصة في شكل آخر في كتاب "الإنباه على قبائل الرواة" لابن عبد البر "ص60 وما بعدها". ولكنها لا تغفل العامل السياسي في هذا الباب. الجاحظ كتاب الحيوان "4/ 107"، الأغاني "7/ 77 وما بعدها". 4 Wellhausen, Das Arabische Reich, S. 113, Ency, II, P. 1093.

فنزار أكثر، وإن تيمنت، فاليمن"1. والظاهر أن اختلاط قبائل قضاعة بقبائل قحطان وبقبائل عدنان هو الذي أحدث هذا الارتباك بين أهل الأنساب، فجعلهم ينسبونها تارة إلى قحطان، وأخرى إلى عدنان. تضاف إلى ذلك العوامل السياسية التي يغفل عن إدراكها أهل الأخبار. ولا أستبعد كون قضاعة كتلة من القبائل كانت قائمة بنفسها قبل الإسلام. ربما كانت حلفًا كبيرًا في الأصل، ثم تجزأت وتشتّت، فالتحق قسم منها بمعد، وقسم منها باليمن. وقد صرح بعض النَّسَّابين المعروفين أن العرب ثلاث جراثيم: نزار، واليمن وقضاعة2. فجعل قضاعة جذمًا قائمًا بذاته مما يشير إلى أهميتها قبل الإسلام وفي الإسلام، خاصةً إذا ما تذكرنا مكانة القبائل المنتمية إليها وأثرها الكبير في السياسة في الجاهلية وبعدها. ولما للنسب من أثر خطير في الميزان السياسي لذلك العهد، خاصة في أيام معاوية وفي دور الفتن التي وقعت في صدر دولة الأمويين، ولثقل هذه الكتلة، كان من المهم لمعاوية اجتذابها إليه، وضمّها إلي معدّ وهو منها، لتقوية هذا الحزب. وكان قضاعة جد القضاعيين الأكبر على رواية أهل الأخبار، مثل سائر أبناء سبأ، مقيمًا في اليمن أرض آبائه وأجداده. ولكنه تشاجر مع وائل بن حمير، وتخاصم معه وآثر الهجرة إلى الشَّحر، فذهب إليها، وأقام في هذه الأرض مع أبنائه، وصار ملكًا عليها إلى أن توفي بها، فقبر هناك. فصار الملك لابنه "الحاف" "الحافي"3، وهو في زعم الأخباريين والد ثلاثة أولاد، هم: عمرو، وعمران، وأسلم. ومن نسل هؤلاء تفرعت قبائل قضاعة4. وأما أمهم، فبنت غافق بن الشاهد بن عك5. فكان من صلب عمرو: حيدان:

_ 1 تاج العروس "5/ 470". 2 الإنباه "63". 3 "والحافي بن قضاعة والد عمران، معروف" تاج العروس "10/ 94". 4 ابن خلدون "2/ 247". طرفة الأصحاب "ص56"، سبائك الذهب "ص23"، "ولد الحاف رجلين: عمران بن الحاف، وعمرو بن الحاف. هذا ما لم يختلف فيه"، الإنباه "ص121". 5 ابن حزم، جمهرة "ص412".

وبليّ، وبهراء. وكان من عمران ابنه حلوان1، وأمه ضرية بنت ربيعة بن نزار بن معدّ. فولد حلوان: تغلب، وربان2، ومزاحا وعمرا وهو سليح، وعابدًا وعائذًا وقد دخلا في غسان، وتزيد وقد دخل نسله في تنوخ3. وكان من نسل أسلم: سعد هذيم، وجهينة4، ونهد5. وجعل من رجّع نسب قضاعة إلى معد، الأرض التي أقام فيها قضاعة وأبناؤه

_ 1 "وحلوان بالضم بن عمران بن الحاف بن قضاعة" القاموس "4/ 319"، "وحلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة من ذريته الصحابيون. وهو باني حلوان بالعراق". تاج العروس "10/ 96". 2 "وربان، ككتاب، اسم شخص من جرم. وليس في العرب ربان بالراء غيره ومن سمواه بالزاي قلت: الذي صرح به أئمة النسب: أنه ربان، كشداد، وهو: ابن حلوان. وهو والد جرم من قضاعة، ينسب إليه جماعة من الصحابة وغيرهم. وهكذا ضبطه الحافظ الذهبي وابن حجر وابن الجواني النسابة. وقوله: اسم شخص من جرم غلط أيضا. فتأمل"، تاج العروس "9/ 311". القاموس "4/ 226". 3 الاشتقاق "ص314". ابن حزم، جمهرة: "421". "وتزيد بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، هكذا بالمثناة الفوقية، وفي نسختنا بالفوقية والتحتية، أبو قبيلة، ومنه البرود التزيدية، وقال علقمة: رد القيان جمال الحي فاحتملوا ... فكلها بالتزيديات معكوم وهي برود، فيها خطوط حمر. يشبه بها طرائق الدم. قال أبو ذؤيب: يعثرن في حد الضباة كأنما ... كسيت برود بني تزيد الأذرع قال أبو سعيد السكري: العامة تقول بني تزيد. ولم اسمعها. هكذا قال شيخنا. قيل وصوابه تزيد بن حيدان كما نبه عليه العسكري في التصحيف في لحن الخاصة. وفي كتاب الإيناس للوزير المغربي في قضاعة: تزيد بن حلوان وفي الأنصار: تزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة، وسائر العرب غير هذين فبالياء المنقوطة من أسفل. وقال السهيل في الروض. إن في بني سلمى من الأنصار شاردة بن تزيد بن جشم بالفوقية، ولا يعرف في العرب إلا هذا وتزيد بن الحاف بن قضاعة، وهم الذين تنسب إليهم الثياب التزيدية"، تاج العروس "3/ 368". 4 ابن خلدون "2/ 247"، "وجهينة: قبيلة من قضاعة، وهو ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وقضاعة من ريف العراق، وسبب نزول جهينة في الحجاز قرب المدينة، مذكور في الروض، تاج العروس "9/ 169". 5 ابن حزم، جمهرة "415"، "ونهد"، قبيلة باليمن، وهم: بنو نهد بن زيد بن ليث بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، وفي همدان: نهد بن مرهبة بن دعام بن مالك بن معاوية بن صعب"، تاج العروس "2/ 519"، "وفي قضاعة سعد هذيم"، تاج العروس "2/ 377".

جُدّة وما دونها إلى منتهى ذات عرق، إلى حيِّز الحرم، من السهل والجبل. وبجُدّة ولد جدّة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وبها سُمِّي على قول أصحاب الأخبار1. أما حيدان2، فتنسب إلى حيدان بن عمرو بن الحاف، والد مهرة في نظر النسابين3، فهو جدّ قبيلة عربية جنوبية على هذا الرأي4، وما زال اسم مهرة معروفًا حتى الآن، ولمهرة لغة خاصة، عني بدراستها المستشرقون، وهم من القبائل العربية القديمة التي ورد ذكرها في مؤلفات "الكلاسيكيين"5. وقد علل بعض العلماء القدماء بعد لغة مهرة عن العربية بقوله: "مهرة انقطعوا بالشَّحر، فبقيت لغتهم الأولى الحميرية لهم، يتكلمون بها إلى هذا اليوم"6. وذكر ابن حزم لحيدان أولادًا آخرين، هم يزيد، وعُريب، وعربد، وجنادة7. ويظهر من روايات النسابين أن بطون حيدان لم تكن كثيرة، وأن مواطنها لم تتجاوز العربية الجنوبية، وأنها كانت تتكلم بلهجات العربية الجنوبية القديمة، وحافظت عليها في الإسلام. فهي مثل بطون حمير، تختلف في لهجتها عن القبائل الأخرى التي تكلمت بلهجة مقاربة من اللهجة العربية الفصحى. إذنْ فما الرابط الذي جعل النسابين يرجعون نسب قبائل حيدان إلى قضاعة مع هذا الاختلاف البين في اللهجات؟ ومع سكناها في محل قاص ناءٍ عند الساحل الجنوبي للجزيرة؟

_ 1 البكري "1/ 17"، "وبجُدة ولد جدة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فسمي جدة باسم الموضع" البلدان "3/ 67 وما بعدها". 2 "وبنو حيدان، قال ابن الكلبي: هو أبو مهرة بن حيدان" تاج العروس "2/ 342". "وحيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، أبو مهرة بن حيدان"، منتخبات "ص30". 3 منتخبات "ص30"، ابن خلدون "2/ 247". القاموس "3/ 137"، "ومهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بالفتح، أبو قبيلة. وهم حي عظيم وإليها يرجع كل مهري." تاج العروس"3/ 551". 4 منتخبات "ص100". 5 Ency., III, p, 138. 6 الاشتقاق "333". 7 جمهرة "ص412".

اللهم إلا أن تكون كل فروع قضاعة على هذا الطراز من اللهجات، وهذا أمر لم يتحدث عنه الأخباريون ولم يعرفوه. وأما بليّ1، فقد كانت مواطنهم عند ظهور الإسلام على مقربة من تيماء بين مواطن جهينة وجُذام، أي في المنطقة التي كانت لثمود في جغرافية "بطلميوس". ومن بليّ، بنو فران2 وهني3. ولم يذكر الأخباريون بطونًا ضخمة عديدة لبهراء4، ويظهر أنها لم تكن من القبائل الكثيرة العدد. ومن بطونها: قاسط، وعبدة، وأهود "أهوذ"، ومبشر، وبنو هنب بن القين5، وبنو فائش "بنو قاس"، وشبيب ابني دريم، ومطرود، وثمامة، وعكرمة، وثعلبة، ودهز، وسعد6. وأما عمران بن الحاف "الحافي". فولد حلوان، وقد ولد هذا جملة أولاد هم: تغلب، وربان وهو علاف، ومزاح، وعمرو، وهو سليح7،

_ 1 "بلي، فعيل"، بلي قبيلة من اليمن من قضاعة والنسبة إليهم بلوي، وهم ولد بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، قال المثلم بن قرط البلوي: ألم تر أن الحي كانوا بغبطة ... بمأرب إذ كانوا يحلونها معا بلي وبهراء وخولان إخوة ... لعمرو بن حاف فرع من قد تفرعا منتخبات "ص9". 2 الاشتقاق "ص322"، القاموس "4/ 255". 3 ابن حزم، الجمهرة "ص4013". 4 "بهراء: قبيلة من اليمن، وهم ولد بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، والنسبة إليهم بهراني بنون على غير قياس" منتخبات "ص10". 5 ابن حزم: جمهرة "ص412 وما بعدها"، "وهنب اسم رجل. وهو أبو قبيلة. وهو هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد، وهو أخو عبد القيس وأبو عمرو وقاسط. قاله ابن قتيبة، ولا عجب في تفسير المصنف، كما توهمه شيخنا، وقبيلة أخرى، تعرف بهنب بن القين بن أهوذ بن بهراء بن عمرو بن الحاني بن قضاعة، ذكره الصاغاني". تاج العروس "1/ 518". 6 "بنو فائش". Wustenfeld Genea., Tab. 2 "بنو قاس" هكذا ضبطه ليفي بروفنسال وهو خطأ، ابن حزم "ص413". 7 "سليح كجريح"، قبيلة باليمن، هو سليح بن حلوان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة قلت: واسمه عمرو. وهو أبو قبيلة. وإخوته أربع قبائل: تغلب الغلباء، وغشم "غثم"، وربان، وتزيد بني حلوان بن عمرو"، تاج العروس "2/ 165". سبائك الذهب "33".

وعابد، وعائذ، وهم أجداد قبائل، كما ذكرت ذلك آنفًا. ومن بني سليح1: حماطة2، وهم ضجعم بن سعد بن سليح، وهم الضجاعمة الذين ملكوا بالشأم قبل غسان. وبنو سليح هم أسلاف الغساسنة كذلك، وهم في نظر النسابين أبناء: سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف3. ونسبت إلى سليح بطون أخرى منها: أشجع وعمرو والأبصر والعبيد4. ومن نسل "ربان" "زبان"5، قبيلة "جرم"، ومن ولد جرم: قدامة، وملكان، وناجية، وجدّة6. ومن جرم كان "عصام" حاجب النعمان7. ومن بطون جرم الأخرى: بنو راسب، وبنو شمخ8. أما تغلب بن حلوان، فولد وبرة، وولد وبرة أسدًا، والنمر وكلبًا. وهي قبائل ضخمة، والبرك، والثعلب، وهما بطنان ضخمان9. وولد أسد، تيم الله وشيع اللآت. فولد تيم الله بن أسد: فهم، وهم من تنوخ، وقسم، وهم بالجزيرة، حلفاء لبني تغلب، ومن فهم: مالك بن زهير بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة. وعليه تنخت تنوخ وعلى عمّ أبيه مالك بن فهم، فتنوخ على ثلاثة أبطن: بطن اسمه فهم، وهم هؤلاء. وبطن اسمه نزار، وهم

_ 1 "وعمرو، وهو سليم"، "وهؤلاء بنو سليم، وهو عمرو بن حلوان"، ابن حزم، جمهرة "ص421"، "تحقيق ليفي بروفنسال"، "بنو سليم"، هكذا ضبط "ليفي بروفنسال" الاسم، وهو خطأ، وصوابه سليح، سبائك الذهب "ص23"، راجع كتب الأنساب الأخرى، wustenfeld genea., tab. 2. 2 جمهرة "ص421". 3 الإنباه "ص123". 4 سبائك الذهب "ص24". 5 الإنباه "ص121"، منتخبات "ص20"، الاشتقاق "314، 318"، "جرم بن زبان"، تاج العروس "8/ 226"، اللسان "14/ 362" راجع ملاحظة رقم "3" من صحفة 340 من كتابي: تأريخ العرب قبل الإسلام. 6 ابن حزم: الجمهرة "421". 7 الاشتقاق "318"، ابن خلدون "2/ 347". "وجرم بن زبان بن حلوان بن عمران بن الحافي، بطن في قضاعة"، تاج العروس "8/ 226"، "وجرم بطنان: بطن في قضاعة. وهو جرم بن زبان، والآخر في طيء"، اللسان "4/ 362". 8 ابن حزم: الجمهرة "422". 9 ابن حزم: الجمهرة "423 وما بعدها"، سبائك الذهب "ص24".

لوث، ليس نزار لهم بوالد ولا أم. ولكنهم من بطون قضاعة كلها، من بني العجلان بن الثعلب، ومن بني تيم الله بن أسد بن وبرة، ومن غيرهم؛ وبطن ثالث يقال له الأحلاف، وهم من جميع القبائل كلها، ومن كندة ولخم وجذام وعبد القيس1. ومن نسل شيع اللآت: بنو القين. وهو النعمان بن جسر بن شيع اللآت بن أسد بن وبرة2. ومن بطون بني القين، جشم "جسم"3، وزعيزعة، وأنس، وثعلبة، وفالج، وبنو مالك بن كعب بن القين. وكعب وكنانة، ومالك ومعاوية. وبطون أخرى ذكرها "وستنفلد"4. وكان للقين جمع عظيم وثروة في أكناف الشأم، فكانوا يناهضون كلب بن وبرة، ثم ضعف أمرهم ووهن حتى ما يكاد أن يعرفوا5. ومن نسل النمر بن وبرة بن تغلب: التيم، وجعثمة، ووائل وهو خُشَيْن، وقتبة، وغاضرة، و "عاينة" عاتية، وبطون أخرى دخلت في قبائل عديدة، فعدت منها6، مما يدل على أنها لم تكن ذات عدة وعدد، لذلك كان لا بد

_ 1 ابن حزم: الجمهرة "ص423". 2 ابن حزم، الجمهرة "ص424". "القين هذا الذي نسبوا إليه اسمه: النعمان بن شيع الله شن أسد بن وبرة بن ثعلب؟ "تغلب" بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة. وقال ابن الكلبي: النعمان حضنه عبد يقال له القين، فغلب عليه. ووهم ابن التين فقال: بنو القين قبيلة من تميم". تاج العروس "9/ 316". "شيع الله" هكذا ضبطه "ليفي بروفنسال"، والأصح "شيع اللآت" الإنباه "ص123" "بنو القين بن جسر بن شيع اللآت بن أسد بن وبرة"، "القين بن جسر"، الاشتقاق "ص317". 3 "جسم" هكذا حققه "ليفي بروفنسال". جمهرة "ص424"، والصحيح "جشم". 4 Wustenfeld Genea., Tab 2. 5 الإنباه "ص121". 6 ابن حزم، جمهرة "ص424"، "وخشين بن النمر بن وبرة بن تغلب بن حلوان في قضاعة. واسمه وائل بن النمر"، تاج العروس "9/ 191"، "وفي قضاعة تيم بن النمر بن وبرة، منهم الأفلج الشاعر الفارس"، تاج العروس "8/ 211"، "وجعثمة بالضم، اسم. وقال أبو نصر: حي من هذيل، أو حي من أزد السراة، قاله الأزهري. وفي شرح الديوان من أزد شنوءة أو من اليمن"، تاج العروس "8/ 230".

لها من الدخول في القبائل الأخرى والاندماج فيها، لحماية نفسها من تعديات القبائل والبطون القوية عليها. وكلب من قبائل قضاعة الشهيرة. وتنسب إلى هذه المجموعة: تغلب بن حلوان فجدّها في عرف النسابين كلب بن وبرة بن تغلب1 بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وكانوا ينزلون في الجاهلية دومة الجندل وتبوك وأطراف الشام2. وقد كانت لهم لهجة خاصة لم يستعملها أحد من الشعراء الجاهليين3. ولعل ذلك بسبب اتصال هذه القبيلة بالنبط، أي ببقية بني إرم وبغيرهم ممن لم تكن لهم عربية نقية، فتأثرت لهجتها بهذا الاختلاط. واشتهر من رجال هذه القبيلة زهير بن جناب، وهو ممن يدخله الأخباريون في المعمرين الجاهليين4. وجعلوا عمره أربعمائة وعشرين سنة، ونسبوا إليه مئتي وقعة، وجعلوه سيد قومه وخطيبهم وشاعرهم ووافدهم إلى الملوك وطبيبهم وكاهنهم وفارسهم، ونسبوا إليه الأمثال والشعر، وذكروا أن من شعره قوله: ونادمت الملوك من آل عمرو ... وبعدهم بني ماء السماء5 وأنه قاله وقد بلغ من العمر مئتي عام، فجعلوه بذلك معاصرًا للمناذرة ملوك الحيرة، فيكون على قولهم هذا قد عاش طويلًا في الإسلام. وقد أدرك هشام بن الكلبي هذا التناقض في إحدى رواياته، فصحح عمر زهير واقتصر على مئتي عام6. وهو عمر كاف ولا شك يشتاق أن يبلغه كل إنسان. ولكنه عمر استقله

_ 1 الإنباه "ص121"، خلاصة الكلام "ص49"، سبائك الذهب "ص30"، ابن حزم: جمهرة "ص425"، "وكلب وبنو كلب، وبنو أكلب، وبنو كلبة، وبنو كلاب، قبائل من العرب، قال الحافظ ابن حجر في الاصابة: حينما أطلق الكلبي، فهو من بني كلب بن وبرة، قال شيخنا: هو أخو نمر وتنوخ، كما في معارف ابن قتيبة، وقال العيني: في طي كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة، وأما تغلب بن وائل فعدناني، وهذا قحطاني"، تاج العروس "1/ 411"، "وكلب حي من قضاعة"، اللسان "2/ 222". 2 خلاصة الكلام "ص49". 3 Ency.,II., P. 688. 4 السجستاني: كتاب المعمرين "27 وما بعدها". 5 السجستاني "ص28". 6 السجستاني "ص28".

الأشياخ الكلبيون الذين لا يرضيهم هذا التنقيص في السن. ولم يكن زهير رئيسًا لكلب خاصة، بل كان على رأي الرواة الكلبيين رئيسًا على كلِّ قضاعة. ويذكر الأخباريون أن قضاعة لم تجمع على إطاعة رئيس إلا زهيرًا وإلا رزاح بن ربيعة، وهو من عذرة. وكان رزاح هذا أخا قصي بن كلاب لأمه1. وقد جعل الأخباريون زهيرًا معاصرًا لكليب بن وائل. ويفهم من شعر منسوب إلى المسبب بن الرفل، وهو من ولد زهير بن جناب قاله مفتخرا بزهير متبجحًا به: أن أبرهة كان قد اصطفى آل زهير، وسوّدها على الناس، وأعطاه الإمرة عليهم، وجعله أميرًا على حيي معد وعلى ابني وائل حيث أهانهما وأذلهما2. ومعنى ذلك أن زهيرًا كان في أيام أبرهة، أي في النصف الأول من القرن السادس للميلاد، وأنه على ذلك كان معاصرًا لقصي زعيم قريش. ولم يقنع الرواة الكلبيون بكل ما ذكروه عن حياة زهير، بل أرادوا أن تكون خاتمة زهير خاتمة غريبة كذلك كغرابة حياته، فذكوا أنه كبر حتى خرف وحتى استخفت به نساؤه، وأنه لم يتمكن من الأكل بنفسه، فصارت معزبته تطعمه بنفسها، إلى أن ملّ الحياة على هذا النمط، فأخذ يشرب الخمر صرفًا أيامًا حتى مات. وذكروا أن أحدًا من العرب لم يفعل هذا الفعل غير زهير وغير أبي براء عامر بن مالك بن جعفر، والشاعر عمرو بن كلثوم3. ومن حروب زهير حربه مع بكر وتغلب ابني وائل، ويروي الأخباريون في ذلك أن أبرهة حين طلع على نجد أتاه زهير فأكرمه وفضله على من أتاه من العرب، ثم أقرّه على بكر وتغلب ابني وائل، فوليهم. وصار يجبي لهم الخراج، وحدث أن أصابتهم سنة شديدة لم يتمكنوا فيها من دفع ما عليهم إليه. فلما طالبهم بها، اعتذروا عن الدفع، فاشتدّ عليهم، ومنعهم من النجعة حتى يؤدوا ما عليهم، فكادت مواشيهم تهلك. فلما رأى ذلك "ابن زيابة" أحد بني تيم الله بن ثعلبة، وكان فاتكًا معروفًا، أتى زهيرًا وهو نائم، فأغمد السيف في بطنه، ثم فرَّ هاربًا ظانًّا أنه قد أهلكه. ولما أفاق زهير، أخذه من كان معه من قومه

_ 1 السجستاني "ص28". 2 السجستاني "ص29". 3 السجستاني "ص28".

حتى وصلوا به إلى قبيلته، فجمع عندئذ جموعه ومن قدر عليه من أهل اليمن وغزا بهم بكرًا وتغلب، وقاتلهم قتالًا شديدًا انهزمت به بكر، وقاتلت تغلب بعدها، فانهزمت أيضًا، وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة، وأخذت الأموال، وكثرت القتلى في بني تغلب، وأسرت جماعة من فرسانهم ووجوههم، وانتصر زهير نصرًا عظيمًا1. ونسبت إليه حرب أخرى مع غطفان، قالوا إن سببها أن بني ريث بن غطفان حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم، فتعرض لهم صداء، وهي قبيلة من مذحج، فقاتلوهم، وبنو بغيض سائرون بأهليهم وأموالهم، فقاتلوهم عن حريمهم فظهروا على صداء وفتكوا فيهم، فعزت بغيض بذلك، وأثرت، وكَثُرَتْ أموالها، فلما رأت ذلك، قال: "والله لنتخذن حرمًا مثل مكة لا يقتل صيده ولا يهاج عائذه"، فبنوا حرمًا، ووليه "بنو مرة بن عوف" فلما بلغ فعلهم وما أجمعوا عليه زهير بن جناب، أبى ذلك، وقرر منع غطفان من اتخاذ هذا الحرم، فسار إليها بجموع كبيرة، فظفر بها، وأصاب حاجته منها، وأخذ فارسًا منهم في حرمهم فقتله، وعطل ذلك الحرم2. وروى الأخباريون أنه حارب بني القين بن جسر. وكانت له أخت متزوجة فيهم، فأرسلت من أخبره بعزم بني القين على محاربته، فاستعد لها، فقاتلها، وقتل رئيسها وانصرفت خائبة عنه"3. ويظهر من غربلة روايات الأخباريين عن زهير بن جناب، أن بطل كلب هذا كان من رجال القرن السادس للميلاد، وأنه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، وأنه كان معاصرًا لأبرهة، ولعلّه كان قد تحالف معه، فترك حلفه معه أثرا في ذاكرة الأخباريين. والظاهر أنه كان ذا شخصية قويّة، ومحاربًا، حارب جملة قبائل فأخضعها، وبذلك بسط نفوذه عليها، ورفع اسم قبيلته على القبائل الأخرى. ولعل اتصاله بأبرهة وباليمن هو الذي أوجد رابطة نسب قبائل قضاعة بحمير. وقد سبق أن قلت إن المحالفات كانت تؤدي في الغالب إلى الالتحام في الأنساب.

_ 1 ابن الأثير "1/ 205". 2 ابن الأثير"1/ 205". 3 ابن الأثير "1/ 206".

أما ما أورده الأخباريون بشأن زمانه وعمره، فهو مما لا قيمة له. فمن عادة القصاص، رفع من كانوا يتحدثون عنهم من الشخصيات البارزة التي كانت لها شأن وخطر في القدم، وإضافة السنين الطويلة إلى أعمارهم، والمبالغات والإغراب إلى قصصهم ليكون ذلك أوقع في نفوس السامعين وفي مخيلة المعجبين بهذا النوع من الحكايات. ولهذا الإغراب جعل بعض المستشرقين زهيرًا شخصية خرافية، وبطلًا خياليًّا أوجدته على رأيهم مخيلة الأخباريين1، ولكن الإغراب في القصص مهما بولغ فيه لا يكون حُجَّة قاطعة في كون من قيل فيه شخصية خرافية لا وجود لها. فقد أغرب الأخباريون في أبرهة معاصر زهير، وبالغوا في الذي رووه عنه، ورفعوا أيامه إلى أيام داود وأيام سليمان، وجعلوا له أياما أخرى. ولكن أبرهة فند أقاصيصهم عنه وبيّن في كتاباته التي دونها على سد مأرب أنه من رجال القرن السادس للميلاد. ومعظم من روى عنهم الأخباريون هذا النوع من القصص، هم رجال مثلنا، عاشوا وماتوا، وكانت أيامهم في الغالب في القرن السادس للميلاد، أي في عهد لم يكن بعيدًا جدًّا عن الإسلام لم تتمكن ذاكرة الرواة وحفظة الأخبار من حفظ شيء عنهم، إلا أن هذا النوع من القصص المحبوب، المطلوب من الناس، يقصه القصّاصون في الليالي المقمرة الجميلة ويقصه المعمرون من رجال القبيلة ليكون فخرًا لقبيلتهم. وهذا النوع من القصص هو نوع بدائي من أنواع حفظ التأريخ، وأكثر من حفظ وروى أخبارا زهير بن جناب الشرقي بن القطامي، وهشام بن الكلبي، وأبوه محمد، وجماعة آخرون من المشايخ الكلبيين.2 كانوا يروون هذا النوع من القصص عن رجال كلب، حملهم على ذلك تعصبهم لقبيلتهم كلب. وأكثر ما روي عن كلب، هو من إخراج تلك الأيدي الكلبية، نشرته وأذاعته بين الناس، ومن حسن حظ كلب أن شيوخ الأخباريين الذين ذكرتهم كانوا منها، فكان لقصصهم هذا صداه البعيد عند جمهرة الأخباريين.

_ 1 Ency, II, P. 688. 2 Ency, II, P. 688.

وكلب في حد ذاتها جملة قبائل وبطون ضخمة، منها: رفيدة، وعُرَيْنة، وصحب، وبنو كنانة، وهي قبيلة ضخمة من بطونها: بنو عدي، وبنو زهير، وبنو عليم، وبنو جناب1. وذكر بعض الأخباريين أن كلبا كانت تحكم دومة الجندل، وأن أول من حكمها منهم هو دجانة بن قنافة بن عدي بن زهير بن جناب. وذكروا أيضًا أن الملك على دومة الجندل وتبوك، كان لهم إلى أن ظهر الإسلام، وأنهم كانوا يتداولونه مع السكون من كندة. فلما ظهر الإسلام، كان على دومة الجندل الأكيدر بن عبد الملك بن السكون2. وأظهر قبائل مجموعة أسلم، جهينة، وسعد هذيم، ونهد. أبناء زيد بن ليث بن الأسود بن أسلم بن الحاف قضاعة. أما جهينة، فقد كانت منازلها في نجد في الأصل، وعند ظهور الإسلام كانت تقيم في الحجاز على مقربة من المدينة بين ساحل البحر الأحمر ووادي القرى3. ومن جهينة: قيس ومودعة. فولد قيس: غطفان وغيّان. ويعرفون برشدان كذلك. عرفوا في أيام الرسول4. وأما نهد، فقد سكنت أكبر بطونها في منطقة نجران. وقد دخلت بطون منها في قبائل أخرى واندمجت فيها. وأما سعد هذيم5، فأشهر قبائلها: بنو عذرة، وبنو ضنة6.

_ 1 الجمهرة "ص426"، سبائك الذهب "ص29". 2 ابن خلدون "2/ 249". 3 Ency, I, P. 1060, Caetani, Annali, II, 367. 4 الجمهرة "ص415 وما بعدها". الإنباه "ص123". 5 الجمهرة "ص418 وما بعدها". "وسعد بن هذيم كزبير، بإثبات الألف بين سعد وهذيم، أبو قبيلة. وهو ابن زيد بن ليث بن سود. لكن حضنه عبد حبشي أسود، اسمه هذيم، فغلبت عليه، ونسب إليه. ومن سعد هذيم هذا، بنو عذرة بن سعد إليه يرجع كل عذري، ما خلا ابن عذرة بن زيد اللآت في كلب، قاله ابن الجواني النسابة"، تاج العروس "9/ 101". 6 "وضنة بالكسر. خمس قبائل من العرب. وقول الجوهري: قبيلة قصور، قال شيخنا: إذا قصد من قبيلة جنس القبيلة، فيصدق بكل قبيلة، فلا قصور، على أن الجوهري لم يلتزم ذكر كل شيء كالمصنف حتى يلزمه القصور، بل يلزمه أن يذكر ما يصح عنده. ضنة بن سعد هذيم في قضاعة، وضنة بن عبد الله. كذا في النسخ، والصواب: ضنة بن عبد بن كبير في عذرة بن سعد هذيم، فهم أشرافهم إلى اليوم. من ذريته: رداح بن ربيعة بن حزام بن ضنة أخو قصي بن كلاب. وضنة بن الحلاف في أسد بن خزيمة، وضنة بن العاص بن عمرو في الأزد. وضنة بن الحرث في بني نمير بن عامر بن صعصعة. أخي خويلعة عبد الله بن الحرث بطن أيضا"، تاج العروس "9/ 266".

وتقع منازل بني عذرة في أعالي الحجاز عدد من القبائل المنتمية إلى مجموعة قضاعة، وهي: نهد، وجهينة، وكلب، وبلي. وتقع أرضها في جوار غطفان، ومن مواضعها: وادي القرى، وتبوك حتى أيلة، ويذكر الإخباريون أن بني عذرة حينما وفدوا إلى وادي القرى من مواطنهم الأصلية على أثر الحروب التي وقعت بين قبائل قضاعة وحمير، وجدوا اليهود في هذه الديار، فتحالفوا معهم، وعاشوا في هذا الوادي وفي المواضع المجاورة له1. وقد ذهب شبرنكر إلى أن "عذرة" هي "أدريته adrithae" القبيلة التي ذكرها "بطلميوس"2. أما تأريخ "عذرة" البعيدة عن الإسلام فلا نعرف عنه شيئًا يذكر. وما نعرفه منه يخص الأيام القريبة من الإسلام. وإلى صلاتها الوثيقة وحلفها مع قبائل سعد هذيم، خاصة بني ضنة وبنو سلامان، يعود نشوء هذا النسب الذي ربط فيما بين فروع هذه الكتلة، وكذلك كتلة بني أسلم ومنها جهينة التي كانت ذات صلات حسنة ببني عذرة، ولهذا السبب أطلق النسابون على هذه الجماعة "صحار"3. وكان لبني عذرة صلات بقبيلة قريش تتجلى في خبر الأخباريين عن مساعدة رزاح، وهو منهم لأخيه من أمه قصي زعيم قريش في نزاعه مع خزاعة كما أشرت إليه في أثناء كلامي على مكة. كذلك كان لهم صلت بالأوس والخزرج

_ 1 أغاني "14/ 161". 2 stenfeld, Die Wohnsitze und Wanerungen der Arabischen Stamme, S. 25, 31, 37, 41, Ency, VI, P. 988. 3 renger, Die Alte Geographie Arabiens, S. 205.

حيث يذكر الأخباريون أن والدة الأوس والخزرج كانت من تلك القبيلة، فهي -في عرفهم- قَيْلَة بنت كاهل "هالك" بن عذرة، وهكذا نجد لبني عذرة علاقات بأهل المدينتين المتنافستين: يثرب، ومكة1. والزواج بين القبائل من الأمور التي تقرب بينها وتصل أنسابها بعضها ببعض. ومن بطون هذه القبيلة. بنو ضنة، وبنو جلهمة، وبنو زقزقة، وبنو الجلحاء، وبنو حردش، وبنو حُنّ، وبنو مدلج على رأي بعض النَّسَّابين2، وبنو رفاعة، وبنو كثر، وبنو صرمة، وبنو حرام، وبنو نصر، وبطون أخرى يذكرها أهل الأنساب3. وتنتسب قبائل كثيرة من اليمن إلى كهلان بن سبأ، وكهلان هو شقيق حمير، فهناك إذنْ صلة بين قبائل حمير وقبائل كهلان. ويذكر النسابون أن بني كهلان وبني حمير كانوا يتداولون الملك في بادئ الأمر بينهم، ثم انفرد به بنو حمير، وبقيت بطون كهلان في حكمهم في اليمن. فلما تقلص ملك حمير، صارت الرياسة على العرب البادية لبني كهلان، لما كانوا بادين لم يأخذ ترف الحضارة منهم. وهكذا نجد النَّسَّابين يقسمون أبناء سبأ إلى قسمين: حضر، وهم في رأيهم أبناء حمير، وأهل وبر أو متزعمون لأهل الوبر وهم من نسل كهلان. والابن الذي ذكره الأخباريون لكهلان، هو زيد ومن ظهره تسلسلت قبائل كهلان4. وقد نََجَلَ زيد، على حد قول النسابين، ولدين، هما: مالك وعريب. وأضاف الهمداني إلى هذين الولدين ولدًا ثالثًا سماه غالبًا. ومن صلب هؤلاء الأبناء انحدرت قبائل كهلان5.

_ 1 ency.,vi, p. 989 2 الاشتقاق "ص320". Ency, VI, P. 989 3 سبائك الذهب "ص28". 4 منتخبات "ص94"، الإكليل "10/ 1" وما بعدها". الهمداني: مشتبه "تحقيق أوسكار لوفكرين Oscar Lofgren" "سنة 1953" "ص16". جمهرة النسب الكبير لابن الكلبي. رواية محمد بن حبيب: مخطوطة المجمع العلمي العراقي مصورة "ورقة 247". وسيكون رمزها: جمهرة النسب. 5 الإكليل "10/ 1 وما بعدها"، سبائك الذهب "ص32 وما بعدها". الاشتقاق "ص218".

ونَجَلَ مالك بن الولد الخيار ونبتًا، فولد نبت الغوثَ وولد الغوث أددَ، وهو الأزد، وعَمْرًا. ومن ولد عمرو خثعم1 وبجيلة2. ونَجَل عمرًا وقداز ومقطعان "مقطعا" على رواية للهمداني3. أما الخيار فقد ولد ربيعة، وولد ربيعة أوسلة، وولد أوسلة زيد بن أوسلة، وولد زيد بن أوسلة مالكًا وسبيعًا وساعًا الأكبر على رأي4. ومالكا وتبع، وعبدًا، على رواية ابن حزم5. وقد دخل تبع وعبد في همدان. وولد مالك بن زيد من الولد همدان6 والهان. وقد ولد همدان نوفا "نوفل؟ " بن همدان7 على رأي وجملة أولاد آخرين على روايات أخرى8. ومن نسل نوف9 تفرعت

_ 1 "وخثعم بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث من اليمن، واسمه أفتل، أبو قبيلة. وخثعم لقبه. قال الجوهري: ويقال: هم من معد بن عدنان، وصاروا من اليمن. وقيل: خثعم، جمل نحره. فسمي به أبو القبيلة"، تاج العروس "8/ 268". 2 ابن حزم، جمهرة "ص310 ما بعدها"، "وبجيلة، كسفينة: حي باليمن من معد. والنسبة إليه بجلي. محركة. قال ابن الكلبي في جمهرة نسب بجيلة: ولد عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، أراشا، فولد أراش، أنمارا، فولد أنمار، أفتل، وهو من خثعم، وأمه هند بنت مالك بن الغافق بن الشاهد بن عك. وعبقرا، والغوث، وصهيبة، وخزيمة، دخل في الأزد، ووادعة: بطن مع بني عمرو بن يشكر، وأشهل وشهلا، وطريفا، وسمية رجل، والحرث، وخدعة، وأمهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، بها يعرفون، قال: وقد اختلف أئمة النسب في بجيلة، فمنهم من جعلها من اليمن، وهو قول ابن الكلبي الذي تقدم، وهو الأكثر، وقيل: هم من نزار بن معد، قاله مصعب بن الزبير، كأن المصنف جمع بين القولين، وفيه نظر لا يخفى"، تاج العروس "7/ 222". 3 الإكليل "10/ 5". "مقطعا" جمهرة النسب "ورقة 247". 4 الإكليل "10/ 6" 5 جمهرة "ص369". 6 ابن حزم، جمهرة "ص374 وما بعدها"، سبائك الذهب "ص33". 7 "وهمدان: بفتح فسكون، قبيلة باليمن من حمير، واسمه أوسلة بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ"، تاج العروس "3/ 547". 8 الإكليل "10/ 11"، سبائك الذهب "ص78"، "ولد همدان، نوفا، وخيران، فمنهم بنو حاشد، وبنو بكل"، الاشتقاق "ص250". 9 "نوفل" هكذا ضبطه "ليفي بروفنسال"، جمهرة "ص369"، وهو خطأ وصوابه: نوفل، ابن خلدون "2/ 252"، الاشتقاق "ص250"، "فأولد همدان بن مالك: نوفا وفيه العدد والعز، وعمرا وفيه الشرف والملك. ورقاش زوج عدي بن الحارث"، الإكليل "10/ 11". "وبنو نوف: بطن من همدان"، القاموس "3/ 203".

قبائل همدان: حاشد1، وبكيل2 ابنا جشم بن خيران بن نوف. أما عريب، فولد يشجب على رواية ابن حزم3، وعمْرًا على رواية الهمداني4، فولد يشجب أو عمرو زيد بن يشجب أو زيد بن عمرو على اختلاف الروايتين. والهميسع وهو ذو القرنين السيّار ويكنى بالصعب على رواية ذكرها الهمداني5. ونَجَلَ زيد أدد بن زيد، فولد أدد مرة، ونبتًا، وهو الأشعر، وجلهمة وهو طيء، ومالكًا، وهو مذحج. وقد تفرعت من هؤلاء قبائل وبطون. والأزد قبائل عديدة تنتمي كما قلت إلى الأزد، وهو الغوث. وينسب الأخباريون بيتًا من الشعر إلى حسان بن ثابت، يقولون: إنه قاله في نسب الأزد، هو: ونحن بنو الغوث بن نبت بن مالكِ بْـ ... ـنَ زيد بن كهلانٍ وأهل المفاخر6 يذكرون أنه قاله مفتخرًا بهذا النسب، وهو منهم. وهو شعر قد يكون وضعه النسابون وأهل الأخبار على لسانه، وهو ما أظنه، ليكون دليلًا لهم على صحة دعواهم في نسب الأزد، وهم يعلمون ما كان عليه الشاعر من تعصب لليمن. وقد ذكر الأخباريون أيضًا أن حمير تقول إن الأزد منهم، وأنه هو الأزد بن الغوث الأكبر بن الهميسع بن حمير الأكبر. ولم يكفهم ذلك، بل أرادوا أن يثبتوا هذا القول ويؤيدوه بشعر. والشعر في نظرهم سند قوي لإثبات رأي، ولا سيما إذا كان من شعر معمر أو ملك من الملوك القدماء. وقد قرأت في كتبهم ولا شك ما كتبوه من الأشعار على لسان آدم وهابيل وقابيل وعاد وثمود وأمثال ذلك من شعر زعموا أنهم نظموه بهذه العربية الجميلة التي نكتب اليوم بها، فكيف لا يأتون بشعر لإثبات رأيهم في هذا الباب ينسب إلى التبابعة،

_ 1 "وحاشد: حي من همدان. يذكر مع بكيل، ومعظمهم في اليمن"، تاج العروس "2/ 336". 2 "وبكيل: كأمير حي من همدان. وهو: بكيل بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان"، تاج العروس "7/ 232". 3 ابن حزم: جمهرة "ص374". 4 الإكليل "10/ 1". 5 الإكليل "10/ 1". 6 منتخبات "ص3".

وهم من خلص العرب وملوكها المعروفين البارزين؟ فرووا شعرًا للتبع أسعد تبع، قالوا إنه ذكر فيه الأزد، وكانوا معه، فهم من حمير إذن وهو: ومعي مَقاولُ حميرٍ وملوكُها ... والأزدُ أزد شنوءة وعمان1 وهكذا أضافوا إلى حمير الأزد بجملتها. وأسعد تبع من التبابعة الذين لهم حظ سعيد عند الأخباريين، فهو مؤمن في نظرهم، وهو ذو القرنين. وهو من أعظم التبابعة، وأفصح شعراء العرب. ولم يكتفوا بما أغدقوا عليه من نعوت، بل أرادوا أكثر من ذلك وأبعد، فقالوا إنه كان نبيًّا مرسلًا إلى نفسه، وأنه تنبأ بظهور الرسول، صلى الله عليه وسلم، قبل ظهوره بسبعمائة سنة، وأنه قال شعرًا في ذلك حفظه الناس هذه السنين الطويلة عنه، وأنه لذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن سبه2. فهو إذن من المؤمنين الصالحين ومن رجال الجنة ولا شك، وهو قصص روَّجه ولا شك الحميريون والقحطانيون المتعصبون في الإسلام، ليُسكتوا بذلك خصومهم السياسيين. وهم في نظرهم العدنانيون الذين شرفتهم النبوة ورفعت مقامهم في الإسلام، فافتخروا بها على القحطانيين، ولم يكن القحطانيون أقل باعًا في توليد القصص في الفخر من منافسيهم القحطانيين، فأوجدوا هذه الحكايات عن تبابعتهم، وأوجدوا لهم الفتوحات العظيمة، ثم لم يكفهم ذلك كله، فقالوا: إن النبوة إذا كانت في العدنانيين، فإنها كانت أيضًا في القحطانين، بل هي أقدم عهدًا فيهم منهم، فمنهم كان عدة أنبياء. وهكذا سدوا الثغرة التي كان يهاجم منها العدنانيون. وقد ولد الأزد عدة أولاد، منهم: مازن، ونصر، وعمرو، وعبد الله، ووقدان، والأهبوب3. ومن ولد مازن عمرو، وعدي، وكعب، وثعلبة. ومن ولد ثعلبة: عامر، وامرؤ القيس، وهو البطريق، وكرز. فولد امرؤ القيس حارثة، وهو الغطريف، وولد حارثة هذا عامرًا المعروف بماء

_ 1 منتخبات "ص3". 2 منتخبات "ص12 وما بعدها". 3 جمهرة "ص311"، تاج العروس "2/ 289"، سبائك الذهب "ص45"، جمهرة النسب "ورقة 247". Wustenfeld, Genea, Tab, 10.

السماء، والتوأم، وهو عامر، وعديًّا1. وولد عامر ماء السماء عمرانَ الكاهن، وعمرًا مزيقياء "مزيقيا"، فولد عمرو مزيقياء ذُهل بن عمرو؛ وهو وائل، وقد سكن نسله بنجران، وعمران بن عمرو، وحارثة بن عمرو، وجفنة بن عمرو، وثعلبة العنقاء بن عمرو، وأبا حارثة بن عمرو، ومالك بن عمرو، وكعب بن عمرو، وقد نزل بعض هؤلاء الولد على موضع ماء اسمه غسان، فشربوا منه، فسُمّوا به. وهم بنو الحارث، وجفنة، ومالك، وكعب2. ويظهر من فحص روايات الأخباريون عن الأزد أنها كانت مجموعة ضخمة من القبائل، ودليل ذلك عدّ النسابين إياها جرثومة من جراثيم قحطان، وقد ذكروا أنها كانت سبعًا وعشرين قبيلة3، منها الأوس والخزرج. وهم من نسل حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف4، وأمهم قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة بن عمرو مزيقياء5. ومن ولد عدي بن حارثة بن عمرو مزيقياء، سعد، وهو بارق جد القبيلة المسماة بهذا الاسم6. أما من ولد عمران بن عمرو مزيقياء، فقد ولد الأزد والحجر7، وولد الأزد العتيك وشهميلًا8، ومن ولد الحجر زهران

_ 1 جمهرة "ص311"، Wustenfeld, Tab,11. جمهرة النسب "ورقة 247". 2 جمهرة "ص312"، منتخبات "ص80"، البلدان "6/ 292". 3 الإنباه "ص106". 4 "ومزيقياء: لقب عمرو بن عامر ماء السماء. أي حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن السبراح بن الأزد. ملك اليمن، وهو جد الأنصار، لأنه كان يلبس كل يوم حلتين ويمزقهما بالعشي، يكره العود فيهما، ويأنف أن يلبسهما غيره، وقيل: إنه كان يمزق كل يوم حلة، فيخلعها على أصحابه، وقيل لأنه كان يلبس كل يوم ثوبا، فإذا أمسى مزقه ووهبه والأقوال متقاربة"، تاج العروس "7/ 69" جمهرة النسب "ورقة 247". 5 جمهرة "ص312"، جمهرة النسب "ورقة 249". 6 منتخبات "ص6"، جمهرة "ص347". 7 سبائك الذهب "ص65". 8 جمهرة "ص47"، الاشتقاق"ص8".

وزيد مناة، وسود ومرحوم وعمرو1. وذكر ابن حزم أن الأزد تدعي أن عمرو بن حجر هذا كان نبيًّا2، وبذلك يكون القحطانيون قد أضافوا إليهم نبيًّا آخر من الأنبياء الذين نسبوهم إلى قحطان. وقد نزلت بارق في أرض تسمى بارقًا، فنسبت إليها. وقيل وجاء في نسبها أنها من نسل سعد بن عديّ بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وهم إخوة الأوس والخزرج، وليسوا من غسان. ولابن الكلبي أخبار عن بارق وعن القبيلة التي نزلت بها3. وقد نزل مع سعد بن عديّ ابنا أخيه عمرو بن عدي بن حارثة، وهما مالك وشبيب فسُمّوا بارقًا كذلك4. ومن نسل جفنة بن عمرو مزيقياء كان آل جفنة ملوك الشام5، ويقال إن اسم جفنة هو علبة، ولذلك عرف آله بآل علبة كذلك6. وعرف ولد عمرو بن مازن بن الأزد، وهم عديّ وزيد الله ولوذان، وامرؤ القيس، والحارث، وحارثة ومالك وثعلبة وسوادة وعوف والعاصي وخالد والوجيه بغسان كذلك، وكان منهم بنو شقران وهم بالشام، وبنو زمّان بن تيم الله بن حقال، وهو بالحيرة من العباد. وإليهم نسبت بيعة ربيعة بن زِمّان، ومنهم أيضا الحارث الأعرج بن أبي شمر الغساني على رأي بعض النسابين ممن أخرجه من آل جفنة وأدخله في نسل عمرو بن مازن، ومنهم عبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة وهم من آل بقيلة، وكان نصرانيًّا، وهو الذي صالح خالد بن الوليد عن أهل الحيرة، ومنهم ثعلبة بن عمرو بن المجالد رئيس غسان أيام ساروا من بطن مرّ إلى الشام وشقيق جذع، وكذلك سطيح الكاهن على رأي ابن حزم. ومنهم

_ 1 منتخبات "ص6"، جمهرة "ص351"، مع بعض الاختلاف في سبائك الذهب "ص65". 2 جمهرة "ص351 وما بعدها". 3 البلدان "2/ 32 وما بعدها". 4 الإنباه "ص112". 5 جمهرة "351"، منتخبات "ص21". 6 طرفة الأصحاب "69".

بنو غافق، وبنو صوفة، وبنو تفلذ. وبطون أخرى أشار إليها النسابون1. وولد عبد الله بن الأزد عدثانَ وقرنًا، وهما قبيلتان، والحارث، وعبد الله بنو عبد الله بن الأزد. وإلى عدثان يرجع بعض النسابين نسب عك، فيقولون: إنه عك بن عدثان بن عبد الله بن الأزد2. وكان من ولد عمرو بن الأزد ماوية وعرمان، وهما بطنان بعمان، وألمع وجدجنة وهما أزديون بالحجاز، وسعد والضيق وقد دخلا في عبد القيس، وربيعة وامرؤ القيس وهما من غسان3. ومن ولد دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب، منهب وغنم، فولد غنم فهم بن غنم، وولد فهم مالك بن فهم وأكثرهم بعمان، وسليم بن فهم، وطريف بن فهم، وهم بالحجاز. فولد مالك بن فهم ثوابة وولده بعمان، وجذيمة الوضّاح ملك الحيرة، وعوفًا وجهضمًا وسلمة، ومعنا وهناءة وشبابة والحارث وعَمْرًا وثعلبة بن مالك بن فهم. وقد دخلت ثعلبة في تنوخ4. ومن قبائل الأزد المعروفة خزاعة5. وتنسب إلى عمرو بن لحي بن حارثة بن عمرو مزيقياء6، أو عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة بن عمرو بن

_ 1 جمهرة "ص354"، الاشتقاق "285". 2 جمهرة "ص354". 3 جمهرة "ص354". 4 جمهرة "ص358". 5 العقد الفريد "2/ 75"، فؤاد حمزة، قلب جزيرة العرب "ص231 وما بعدها"، البكري "1/ 269"، الهمداني: صفة "ص120، 211"، الأغاني "13/ 3، 19/ 76"، أبو الفداء "1/ 107"، نهاية الأرب "2/ 301 و 325"، كحالة، "1/ 339".Ency., ii, p. 984. 6 خلاصة الكلام "ص53"، "وخزاعة، حي من الأزد، قال ابن الكلبي: ولد حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر، وهو ماء السماء: ربيعة وهو لحي، وأفصي، وعديا وكعبا وهم خزاعة، وأمهم بنت أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، فولد: ربيعة عمرا، وهو الذي بحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان. وهو خزاعة: وأمه فهيرة بنت عامر بن الحارث بن مضاض الجرهمي، ومنه تفرعت خزاعة. وإنما صارت الحجابة إلى عمرو بن ربيعة من قبل فهيرة الجرهمية، وكان أبوها آخر من حجب من جرهم، وقد حجب عمرو"، تاج العروس "5/ 317".

عامر1، أو خزاعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن الغطريف2، ويذكر الأخباريون عن عمرو والد خزاعة أنه من بحر البحيرة وسيب السايبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي3. وأنها سميت بخزاعة لأنها تخزعت عن بقية قومها وهم الأزد، أي تخلفت عنهم فلم تذهب معهم، ثم أقامت بمكة4. ويروي الأخباريون بيتًا ينسبونه إلى الشاعر حسان بن ثابت هو: ولما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة عنا في حلول كراكر5 ويفهم من هذا البيت أن خزاعة إنما تخلفت عن الأزد بموضع "بطن مرّ"، وهو موضع من نواحي مكة، فأقامت به، ولم تلحق ببقية ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من مأرب يريدون الشام، وقد نسب "ياقوت الحموي" هذا البيت

_ 1 المبرد: نسب عدنان وقحطان "ص22"، "وسميت خزاعة بهذا الاسم، لأنهم لما ساروا مع قومهم من مأرب، فانتهوا إلى مكة، تخزعوا عنهم، فأقاموا وسار الآخرون إلى الشأم، وقال ابن الكلبي: إنما سُمّوا خزاعة، لأنهم، انخزعوا من قومهم حين أقبلوا من مأرب، فنزلوا ظهر مكة، وقيل خزاعة من الأزد. مشتق من ذلك لتخلفهم عن قومهم، وسُمّوا بذلك لأن الأزد لما خرجت من مكة لتتفرق في البلاد تخلفت عنهم خزاعة وأقامت بها، قال حسان بن ثابت: فلما هبطنا بطنَ مرّ تخزعت ... خزاعة عَنَّا في حلول كراكر وهم بنو عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة، فإنه أول من بحر البحائر، وغير دين إبراهيم. "اللسان "9/ 422"". 2 البلدان "8/ 21". 3 الاشتقاق "ص276". 4 منتخبات "ص32"، "وهذه خزاعة، سُمُّوا بذلك، لأنهم لما ساروا مع قومهم من مأرب، فانتهوا إلى مكة، تخزعوا عن قومهم وقاموا بمكة، وسار الآخرون إلى الشأم، وقال ابن الكلبي: لأنهم انخزعوا عن قومهم حين أقبلوا من مأرب، فنزلوا ظهر مكة، وفي الصحاح، لأن الأزد لما خرجت من مكة، لتتفرق في البلاد، تخلفت عنهم خزاعة، وأقامت بها، قال الشاعر: فلما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة عنا في حلول كراكر والبيت لحسان، كما هو في هوامش الصحاح، وهكذا أنشده له الليث، والصواب أنه لعدي بن أيوب الأنصاري أحد بني عمرو بن سواد بن غنم كما حققه الصاغاني"، تاج العروس "5/ 317"، منتخبات "ص33"، الاشتقاق "ص372"، الأزرقي "1/ 50". 5 البلدان "2/ 20 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 253".

مع أبيات أخرى إلى عون بن أيوب الأنصاري الخزرجي1. ولبعض النسابين والأخباريين رأي في نسب خزاعة، فهم يرون أنها من معدّ، أي من العدنانية، وأنها من نسل خزاعة بن لحي بن قمعة بن إلياس بن مضر2. ولكن الأكثرية من النسابين ترى أنها من الأزد، أي من قحطان. وقد اختارت خزاعة بعد اعتزالها الأزد الذاهبين إلى الشام الإقامة بمكة، وكانت مكة بأيدي جرهم يومئذ أخذتها في أيام ملكها مضاض بن عمرو من العماليق أصحابها قبل جرهم، وساعده في ذلك "السميدع" ملك قطورا، وبقيت جرهم فيها إلى أن أجلتهم خزاعة عنها أجلاهم رئيسها يومئذٍ، وهو ثعلبة بن عمرو مزيقياء بعد حرب، فانتقل الحكم إلى الخزاعيين، وتولاها رجال منهم تلقبوا كسابقيهم بألقاب الملوك. وانفرد زعيم خزاعة لحيّ بالحكم، وتزوّجَ فهيرة بنت عامر بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي ملك جرهم، فولدت له عَمْرًا، وهو عمرو بن لحيّ على نحو ما ذكرت. ثم انتقل الحكم من بعده إلى أولاده، فكان مجموع ما حكموا خمسمائة عام، وآخرهم حليل بن حبشية في أيام قصيّ3. وللأخباريين روايات في كيفية استيلاء خزاعة على مكة، وفي الذي استولى عليها من رؤساء خزاعة، وهم يبالغون كثيرا في الزمن الذي استولت خزاعة فيه على مكة، وربما لا يتجاوز ذلك القرن الخامس للميلاد4. أما تأريخ انتهاء حكمها على مكة وانتقاله إلى قريش في أيام قصيّ، فقد كان في النصف الأول من القرن السادس للميلاد. ولكن انتقال السلطة منها إلى قريش لا يعني أنها أصيبت بما أصيبت جرهم أو غير جرهم به من ضعف واندثار، فقد بقيت خزاعة معروفة مشهورة ذات بطون عديدة في الإسلام.

_ 1 البلدان "2/ 21". 2 الإنباه "ص92". 3 الأزرقي "1/ 46 وما بعدها". 4 Ency., II, P, 984.

فمن جملة خزاعة كعب ومليح وسعد، ومنهم بنو سلول بن عمرو، وبنو حليل بن حبشية سادن الكعبة، وبنو قمير، وبنو المصطلق الذين غزاهم الرسول1، وبطون أخرى عديدة يذكرها النَّسَّابون2. وكانت خزاعة محالفة للرسول في نزاعه مع قريش. ولما وقعت حرب بينها وبين بني بكر، وأعان مشركو قريش حلفاءهم بني بكر، ونقضوا بذلك العهد، نصر الرسول خزاعة، وأعلن الحرب على قريش، فكان ذلك سبب فتح مكة3. ويعد آل الجُلنْدي، وهم ملوك عمان، من الأزد كذلك. والجُلندي لقب لكل من ملك منهم عُمان. وآخر من ملك منهم جيفرٌ وعبد ابنا الجلندي، أسلما مع أهل عمان على يد عمرو بن العاص4، وقد كان "الجُلندي بن المستكبر" يعشر من يقصد سوق "صحار"، ومن يقصد ميناء "دبا" من التجار القادمين من مختلف أنحاء الجزيرة أو من الهند والصين وإفريقية. ويفعل في ذلك فعل الملوك5. ويرجع نسب "المستكبر" إلى "بني نصر بن زهران بن كعب". وهو في عرف النَّسَّابين "المستكبر بن مسعود بن الجرار بن عبد الله بن مغولة بن شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر بن زهران". أما جيفر، فهو ابن الجُلندي بن كركر بن المستكبر وكان أخوه عبد الله، ملك عمان. وقد جعل بعض علماء الأنساب الأزد ستًّا وعشرين قبيلة يجمعها جميعها الأزد،

_ 1 خلاصة الكلام "ص52". 2 المبرد: نسب عدنان وقحطان "ص22 وما بعدها"، الاشتقاق "ص276 وما بعدها"، 3 الإنباه "ص95"، تأريخ أبي الفداء "1/ 101 وما بعدها". 4 خلاصة الكلام "ص54"، "جيفر بن الجُلندي الأزدي، ملك عمان ورئيسها، أسلم هو وأخوه عبد الله على يد سيدنا عمرو بن العاص بن وائل السهمي، رضي الله عنه، لما وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما، وهما على عمان"، تاج العروس "3/ 105"، "وجلنداء: بضم أوله وفتح ثانيه وممدودة وبضم ثانيه مقصورة اسم ملك عمان"، قال الأعشى: وجلنداء في عمان مقيما ... ثم قيسا في حضرموت المنيف تاج العروس "3232"، لسان العرب "4/ 101". 5 المحبر "265 وما بعدها".

وهي: جفنة، وغسان والأوس والخزرج، وخزاعة، ومازن، وبارق، وألمع، والحجر، والعتيك "العتيق" وراسب، وغامد، ووالبة، وثمالة، ولهب، وزَهْران، ودهمان، والحُدان، وشكر، وعك، ودوس وفهم، والجهاضم، والأشاقر، والقسامل والفراهيد1. وهي أكثر من ذلك، أو أقل عددًا على حسب مذاهب أهل الأنساب في ضبط أسماء البطون2. ويصنف النَّسَّابون قبائل الأزد جميعها في أربعة أصناف من الأزد، هي: أزد عمان وأزد السراة وهم الذين أقاموا في سراة اليمن، وأزد شنوءة أبناء كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وهم من سكنة السراة كذلك، وأزد غسان وهم من شرب من ماء غسان3. ويلاحظ أن هذا التصنيف مبني على أسماء مواضع نزلت فيها قبائل الأزد. ومواطن الأزد القديمة هي مثل مواطن بقية القحطانيين في اليمن، وقد تركتها على أثر حادث سيل العرم، فتفرقت مع من تفرق من القحطانيين إلى الأماكن المذكورة، وذكر أن أزد السراة حاربت قبيلة خثعم التي كانت نازلة في السراة، فتغلبت عليها وانتزعت الأرض منها، وأن "أردشير" الأول أسكن الأزد في عمان. فبقوا فيها تحت حكم الفرس4. وكان مناة وذو الخلصة من أصنام الأزد الرئيسية التي تعبدت لها، كما تعبدت لصنم اسمه العائم كان في السراة5. ولصنم آخر اسمه باجر، كان للأزد ولمن جاورهم من طيء6. وأما القبائل المتفرعة من عمرو بن الغوث، فهي أنمار، وتنسب إلى أنمار بن

_ 1 ابن خلدون "2/ 253"، أبو الفداء "1/ 102". 2 راجع شجرة الأزد في كتاب سبائك الذهب "65، 66، 69"، المبرد نسب عدنان "ص21 وما بعدها" و Wustenfeld Genea, Tab, 10، نهاية الأرب "2/ 296". 3 Ency., I, p, 529، صبح الأعشى "1/ 319"، كحالة "1/ 15 وما بعدها". 4 Ency., I, p, 530. 5 في Ency, I., p, 530. ذو الحبصة وهو خطأ مطبعي ولا شك: Wellhausen, Reste, s., 45. 6 القاموس "1/ 362"، لسان العرب "5/ 103"، صبح الأعشى "1/ 329".

"أراش"1 "إراش" "أراشة"2، وأراش هو ابن عمرو، وقد نسب بعض النسابين أنمارًا إلى أنمار بن نزار بن معدّ بن عدنان، فجعلوها من العدنانيين3، ويدل ذلك على اختلاط هذه القبيلة بالقبائل التي ترجع نسبها إلى مجموعة معدّ. وولد أنمار أفتل4، وهو خثعم، وأمه هند بنت مالك بن الغافق بن الشاهد بن عكّ، فهي ذات صلة بعكّ من ناحية الأم، وولد أنمار أيضًا خزيمة وقد دخلت في الأزد، ووادعة، وعبقرًا، والغوث، وصهيبة، وأشهل، وشهلًا، وطريفًا، وسنية، والحارث، وخذعة. وأمهم كلهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، وكانوا كلهم متحالفين على ولد أخيهم خثعم5. ولهذا يرجع كثير من النسابين قبائل أنمار إلى أصلين: خثعم وبجيلة6.

_ 1 جمهرة "ص365"، الاشتقاق "ص302"، "وإراشة بالكسر: أبو قبيلة من بلي وهو إراشة بن عامر بن عبيلة بن شميل بن قران بن عمرو بن بلي، وأريش كزبير، بطن، وقال ابن حبيب: من لخم جدس بن أريش بن إراش بالكسر. وأراش هو ابن الحيان بن الغوث، وقيل: أراش هو ابن عمرو بن الغوث، وهو والد أنمار أبو بجيلة من خثعم، وأراشة بطن من خثعم، وأراشة، أيضا من العماليق ... وبالضم في أزد وفي قضاعة"، تاج العروس "4/ 280"، صبح الأعشى "1/ 329". 2 الإكليل "10/ 5"، منتخبات "ص31، 150". 3 "أنمار بن نزار، مضى إلى اليمن، فتناسل بنوه، ثم حسبوا من العرب اليمانية". تأريخ ابن الوردي "1/ 92"، ابن هشام: "ص49" "طبعة وستنفلد"، ابن قتيبة: المعارف "ص50"، البلخي: كتاب البدء والتأريخ "4/ 107" "تحقيق كليمان هوار". وسيكون رمزه: البلخي. 4 "أقيل" جمهرة "أفتل" الاشتقاق" ص304"، وهو الصحيح. تاج العروس "3/ 321"، الصحاح للجوهري "2/ 280"، النووي: تهذيب الأسماء "ص289"، نهاية الأرب "2/ 310"، لسان العرب "8/ 295"، "15/ 56" تاج العروس"6/ 216"، لسان العرب "8/ 295"، "15/ 56" تاج العروس "6/ 216"، الفائق للزمخشري "1/ 66"، كحالة "1/ 231 وما بعدها". "أقبل" نسب قريش "ص7". 5 جمهرة "ص365". 6 البلخي "4/ 107". تأريخ ابن الوردي "1/ 90".

وولد خثعم ولدًا اسمه حلف أو خلف، ويعود هذا الاختلاف إلى غلط النسّاخ، ومن نسله عفرس، فولد عفرس ناهسًا1 وشهران2 وناهبًا ونهشًا وكودًا وربيعة أبا أكلب3. ومن بني "ناهش" ناهس حام بن "ناهس"4 ناهش5، وهم بطن، وبنو أجرم وهم بطن أيضًا. ويُسمّون ببني معاوية كذلك، وأوس مناة بن ناهس، وهو الحنيك، وهم بطن، وبنو عنة، وبنو قحافة6. وكانت منازل خثعم في الهضبة الممتدة من الطائف إلى نجران عند طريق القوافل الممتدة من اليمن إلى الحجاز. ولا تزال بطون خثعم معروفة حتى الآن. ومنها بطون في تهامة وفي عسير. منها ما هي بادية، ومنها ما هي مستقرة تتكسب قوتها من الزرع7. وذهب "ليفي ديلافيدا" في "المعلمة الإسلامية" إلى أن خثعمًا ليست قبيلة في الأصل إنما هي حلف تألف من قبائل متعددة تحالفت بينها لمصالح مشتركة

_ 1 "وناهس بن خلف، بطن من خثعم"، تاج العروس "4/ 266". "عفرس ... أبو حي باليمن. وهو عفرس بن خلف بن أقبل؟ وهو خثم؟ بن أنمار"، تاج العروس "4/ 193"، العقد الفريد "2/ 78"، كحالة "2/ 794"، ناهش بن عفرس"، كحالة "3/ 1169"، "شهران وربيعة وناهش أولاد عقرس بن خلف بن أفتل" نهاية الأرب "2/ 294". 2 جمهرة "ص 369"، "خثعم بن أنمار بن أراشة بن عمرو بن الغوث بن نبت بن زيد بن كهلان بن سبأ الأكبر. ويقال إنما سمي خثعم بجمل له اسمه خثعم. فكان يقال ارتحل آل "خثعم"، منتخبات "ص31"، الاشتقاق "ص304" وشهران بن عفرس بن خلف بن أفتل" أبو قبيلة من خثعم، وأفتل هو خثعم"، تاج العروس "3/ 321"، نهاية الأرب "2/ 293"، العقد الفريد "2/ 78"، كحالة "2/ 617". 3 الإكليل "10/ 5". 4 جمهرة "368". 5 ency., ii, p, 924. 6 الاشتقاق "ص305"، "أجرم" القاموس "4/ 89". تاج العروس "8/ 226"، كحالة "1/ 5"، "بنو قحافة"، لسان العرب "11/ 183"، القاموس، "3/ 183"، كحالة "3/ 939". 7 فؤاد حمزة: في بلاد عسير "ص60"، "القاهرة 1951".

جمعت بينهما، كما يحدث في سائر الأحلاف1، والذي أداه إلى هذا الفهم اختلاط هذه القبيلة في القبائل العدنانية واختلاف النسابين في نسب خثعم وتفسيرهم معنى كلمة خثعم. وقد ورد ذكر خثعم في روايات الأخباريين عن حملة أبرهة على مكة، إذْ هم يذكرون أنها عزمت على منعه من الوصول إلى مكة، وأن نفيل بن حبيب الخثعمي رئيس خثعم إذ ذاك، خرج بقبيلي خثعم: شهران وناهس ومن تبعه من قبائل العرب، وقاتله حينما بلغ أرض خثعم، غير أن أبرهة تغلب عليه، وأسره، وأبقاه حيًّا على أن يكون دليله في طريقه إلى مكة، وقد سار معه حتى أبلغه الطائف، وهناك قام بوظيفة إرشاد الحبش إلى مكة أبو رغال الثقفي، وذلك بأمر من مسعود بن متعب رئيس ثقيف2. ويقول الأخباريون إن العرب صارت ترجم قبر أبي رغال بالمغمس، وصار سبّة للناس، ولست أدري لم خص الأخباريون قبر أبي رغال بالرجم، ولم يشركوا معه قبر مسعود بن معتب، وهو الذي كلف -على حد قولهم- أبا رغال أن يرشد أبرهة إلى مكة. وقد اشترك خثعم في المعركة المعروفة عند الأخباريين باسم يوم فيف الريح، وهو يوم كان لِمَذْحِج على بني عامر بن صعصعة. اشتركت فيه عدة قبائل أخرى مع المتخاصمين3. وقد كانت بطون من مذحج تسكن في جوار خثعم، وعند ظهور الإسلام كانت خثعم في حلف مع مراد، وقد اشتركت معها في حربها مع قيس4. وقد تعبدت خثعم مثل بجيلة ودوس وباهلة والأزد للصنم المسمى بذي الخلصة الذي هدم في الإسلام، هدمه عبد الله بن جرير البجلي5. وكان لها بيت يدعى كعبة اليمامة به الخلصة. تعبدت إليه6.

_ 1 Ency., II, p, 924. 2 الطبري "2/ 111"، الاشتقاق "ص306". 3 ابن الأثير "1/ 265"، الأمثال: للميداني "2/ 308". البلدان "6/ 13". الأغاني "5/ 21" النقائض "ص469"، العقد الفريد "3/ 359". 4 Blau, in, ZDMG, 23, 2869, S. 562. 5 المحبر "317"، Ency., ii, p, 924. 6 كحالة "1/ 332".

أما بجيلة1، فهم بطون عديدة متفرقة، تفرقت في أحياء العرب منذ يوم حربها مع كلب بن وبرة بالفجار، وقد أعاد شملها وجمعها جرير بن عبد الله بن جابر البجلي، وهو الشليل بن مالك بن نصر بن ثعلبة بن جشم، صاحب رسول الله2. ومن أشهر بطون بجيلة قسر، وعلقمة، وبنو أحمس3. وقيس كبة، وبنو عرينة بن نذير، وبنو دهن بن معاوية. ومن قسر خالد بن عبد الله القسري4. وأعرف قبائل المجموعة الثانية من قبائل كهلان، وهي المجموعة التي ترفع

_ 1 منتخبات "ص5 وما بعدها"، "بجيلة: امرأة، وهي ابنة صعب بن سعد العشيرة، ولدت لأنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث. وعمرو بن الغوث، أخو الأزد بن الغوث"، الإنباه "ص100"، "وبجيلة، هو عبقر بن أنمار بن أراش. ولد عبقر، والغوث وصهيبة، أمهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، فنسبوا إليها، وعرفوا بها"، الإنباه "ص101"، البلخي "4/ 118"، الاشتقاق "ص302"، البكري "1/ 63"، وبجيلة كسفينة، حي باليمن من معد والنسبة إليه بجلي. محركة. قال ابن الكلبي في جمهرة نسب بجيلة: ولد عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان أراشا، فولد أراش أنمارا، فولد أنمار أفتل وهو خثعم. وأمه هند بنت مالك بن الغافق بن الشاهد بن عك. وعبقرا، والغوث، وصهيبة، وخزيمة، دخل في الأزد، ووادعة بطن مع بني عمرو بن يشكر، وأشهل وشهلا، وطريفا، وسمية رجل والحارث وخدعة، وأمهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، بها يعرفون، قلت وقد اختلف أئمة النسب في بجيلة، فمنهم من جعلها من اليمن، وهو قول ابن الكلبي الذي تقدم وهو الأكثر، وقيل هم من نزار بن معد، قال مصعب بن الزبير، كان المصنف جمع بين القولين، وفيه نظر لا يخفى"، تاج العروس "7/ 222"، كحالة "1/ 63". 2 جمهرة "ص365 وما بعدها"، ابن الوردي "1/ 90". 3 الاشتقاق "ص305"، المبرد، نسب عدنان "ص23". 4 المبرد: نسب عدنان وقحطان "ص23"، وفي بجيلة، أحمس بن الغوث بن أنمار، وقيس كبة بن الغوث بن أنمار بن أراش. بطون. وفي بجيلة بطون غير هؤلاء. ومن بطون بجيلة: دهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار.. وقد مضى دهن في عبد القيس. ومن بطون بجيلة: قسر بن عبقر بطن. وهو رهط خالد بن عبد الله القسري. وعرينة بن نذير بطن، ومنهم: النضر". الإنباه "102"، البلخي "4/ 118". "وبنو دهن بالضم، حي من بجيلة، وهم بنو دهن بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث". تاج العروس "9/ 205" لسان العرب "17/ 20"، القاموس "4/ 224".

نسبها إلى الخيار بن زيد بن كهلان، هي قبيلة همدان. وهي من القبائل المعروفة في الجاهلية والإسلام، وكان لها شأن خطير في كلا العهدين. وقد تحدثت في الجزء الثاني من كتاب: تأريخ العرب قبل الإسلام عن همدان استنادًا إلى كتابات المسند، وأشرت إلى صنمها وهو "تألب ريام" وإلى نفر من ملوكها، وإلى منازل في الأرض التي عرفت ببلد همدان1. أما الأخباريون وأهل الأنساب، فيروون أن هذه القبيلة من نسل جدّ أعلى هو "همدان" وكان يسمى "تلاد الملك"2، وهو في نظرهم والد نوف3 "نوفل"4، وعمرو، ورقاش زوج عديّ بن الحارث5. ويختلف النسابون بعض الاختلاف في سرد أسماء آباء همدان6، وهو اختلاف لا يهمنا نحن كثيرًا أو قليلًا بعد أن وقفنا على طبيعة هذه الأنساب. وأولد نوف بن همدان "حُبران"7 "خيوان"8 "خيران"9، ويعود اختلاف هذا الاسم إلى الخطأ الذي وقع فيه النُسَّاخ ولا شك. وولد حبران "خيوان" ولدًا اسمه "جُشم"، وهو والد حاشد وبكيل. وهما قبيلا همدان

_ 1 "2/ 214 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 328"، كحالة "3/ 1225 وما بعدها". 2 الإكليل "10/ 10". 3 الإكليل "10/ 11". 4 "نوفل" هكذا حققه "ليفي بروفنسال"، جمهرة "ص369"، وهو خطأ. وصوابه "نوف" نهاية الأرب "2/ 203". 5 الإكليل "10/ 11". 6 طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب "ص29 وما بعدها". 7 "حبران" هكذا في طبعه الإكليل "10/ 28"، وفي منتخبات "ص27". 8 "خيوان" هكذا في طبعة جمهرة ابن حزم "ص369"، "تحقيق ليفي بروفنسال". "خيوان"، سبائك الذهب "ص78". 9 "خيران" هكذا في الاشتقاق "ص250"، "خيران: هكذا ذكره ابن الجواني النسابة، ولد نوف بن همدان، وقال شيخ الشرف النسابة: هو خيوان بالواو، فصحف"، تاج العروس"3/ 195"، "وخيران.. والد نوف بن همدان" القاموس "3/ 25".

العظيمان، والحارث وقد غبر في قيس، وزيد وقد دخل في حاشد1. وأولد حاشد جشمًا، وعوصًا وقد دخل في كلب.. وولد جشم بن حاشد مالكًا ومعد يكرب وعمرًا وأسعد وعريبًا وزيدًا ومرثدًا وضمامًا ويريم الأكبر وعامرًا وربيعة، وأولد يريم بن جشم حاشد الوحش، وهم بطن بالوحش من أرض الكلاع بين السحول وزبيد، وعمرًا، وأولد عمرو زيدًا وهو والد تباع جدّ التباعيين، وتقع منازلهم بالسحول من بلد الكلاع بعلقان ووادي النهى2. وإلى حاشد3 تنسب مرثد، وهو مرثد بن جشم بن حاشد في عرف النسّابين، وقد سبق أن أشرتُ إلى مرثد، وهو والد ولد اسمه ربيعة، وهو ناعط، وهو بطن، وولد آخر اسمه الحارث وهم اسم بطن كذلك. وأولد ناعط مرثدًا وشراحيل وعامرًا وشرحبيل، فولد شرحبيل أفلح، وأولد أفلح عُمَيْرًا ذا مرّان وكان معاصرًا للنبي4. ومن هَمَدان بطون عديدة كان لها صيت في الجاهلية وفي الإسلام، مثل بني عليان، وبني حجور، وبني قدم، وبني فائش، وبني شاحذ، وبني جحدن، وبني ابزن، وبني شبام. وذي جعران وذي حدّان، وبني ناعط. وهم في الواقع عدة بطون5، ومنهم آل ذي المشعار6. ومن بطون بكيل7 بن جشم بن حبران آل ذي لعوة، وبنو جذلان وثعلان،

_ 1 الإكليل "10/ 28"، "حاشد وبكيل قبيلا همدان بن جشم بن حيران بن نوف بن همدان مألك زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ" الهمداني: مشتبه: "ص45". 2 الإكليل "10/ 29"، سبائك الذهب "78"، وفي قائمة الأسماء أوهام وأخطاء. 3 "حاشد" الصفة "111"، تاج العروس "2/ 336، 547"، كحالة "1/ 235". 4 الإكليل "10/ 30". 5 الاشتقاق "ص250 وما بعدها"، الإكليل "10/ 96 وما بعدها". 6 الإكليل "10/ 36". 7 "بكيل" البلدان "1/ 707"، الاشتقاق "250"، تاج العروس "2/ 232، 547"، الصفة "110 وما بعدها"، القاموس "3/ 336". لسان العرب "13/ 67"، نهاية الأرب "2/ 303".

وبنو دومان، ومنهم النشقيون، وبنو صعب بن دومان، وبنو مرهبة من الصعب، وبنو أرحب من الصعب كذلك، وبطون أخرى ذكرها الهمداني في الجزء العاشر من الإكليل1. وهو الجزء الخاص بقبائل همدان. ويظهر من رويات الأخباريين أن الهمدانيين كانوا يتعبدون للصنمين: يغوث ويعوق عند ظهور الإسلام2. ومعنى ذلك أن تطورًا خطيرًا كان قد طرأ على عبادة هذه القبيلة، فابتعدت عن صنمها الخاص بها وحاميها الذي كانت تلجأ إليه في الملمات، وهو "تألب" الذي كان معبده بمدينة "ريام"، ونسيته وتعبدت للصنمين المذكورين اللذين لم يرد اسمهما في كتابات المسند، وهما من الأصنام التي استوردت إلى الحجاز ونجد على ما يظن من الشمال. وقد وقع بين مراد وهمدان والحارث بن كعب يوم عرف بيوم رزم "يوم الرزم"، وهو موضع في بلاد مراد3، وقد أخذ فيه الصنم يغوث4. أما قبائل مجموعة عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، فأشهرها الأشعر، وطيء، ومذحج، وبنو مرّة. أما الأشعر، فولد نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وهم الأشعريون والأشعرون والأشاعرة، وتقع منازلهم في ناحية الشمال من زبيد5.

_ 1 "ص108 وما بعدها"، الاشتقاق "ص256 وما بعدها"، سبائك الذهب "ص78 وما بعدها". 2 Ency., II, P. 246. "وكان يعوق لهمدان، وخولان، وكان في أرحب" المحبر "ص316". 3 البلدان "4/ 247". 4 blau, in, Zdmg., 23, s., 562. 5 جمهرة "ص374"، ابن خلدون "2/ 254"، "الأشعرون، اختلف فيهم. فمنهم من يقول إنهم من ولد الأشعر بن سبأ.. ومنهم من يقول إنهم من ولد الأشعر بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان بن سبأ. واسم الأشعر: "نبت بن أدد"، الإنباه "ص115"، طرفة الأصحاب "ص10"، البكري "1/ 53"، الصفة "53/ 119"، الصحاح "1/ 341"، تاج العروس "3/ 302"، لسان العرب "6/ 84"، صبح الأعشى "1/ 335".

ومن بطون الأشعر: الجماهر، وجدّة والأنغم "الأنعم" "الأتعم"، والأرغم، ووائل، وكاهل. ومن بطونهم: غاسل، وناجية، والحنيك، والركب1. وأما طيء، فإنها من ولد جلهمة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد كهلان، ويذكر الأخباريون أنها كانت باليمن، ثم خرجت على أثر الأزد إلى الحجاز، ونزلوا سميرًا وفيدًا في جوار بني أسد، ثم استولوا على أجأ وسلمى وهما جبلان من بلاد أسد، فأقاموا في الجبلين حتى عرفا بجبلي طيء2. وتفرقت طيء إلى بطون عديدة، يرجع أصولها النسابون كعادتهم إلى آباء وأجداد، ومن هؤلاء جديلة، وتيم الله "بنو تيم" وحيش والأسعد، وقد جلا هؤلاء عن الجبلين. وبحتر بن عتود، وبنو نبهان، وبنو هنيء، وبنو ثعل والثعالب. وهم بنو ثعلبة بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء، وهم في طيء نظير الربائع في بني تميم. ومن بني ثعلبة بن جدعاء تيم بن ثعلبة، وعليهم نزل امرؤ القيس بن حجر، وعمرو بن ثعلبة بن غياث، وكان على مقدمة عمرو بن هند يوم أوارة3، وبنو لأم بن ثعلبة4. ويذكر الأخباريون أن طيئًا بعد أن بلغت جبلي أجأ وسلمى، شاهدت هناك شيخًا كان مع ابنته يمتلكان جبلي أجأ وسلمى، وقد ذكرا لطيء أنهما من بقايا

_ 1 طرفة الأصحاب "ص10"، الجمهرة "ص374 وما بعدها". Wustenfeld, genea, taf.,7. الاشتقاق "248"، كحالة "1/ 31". 2 ابن خلدون "2/ 254"، "وعاش طيء بن أدد.. خمسمائة سنة. وذكر هشام أنه سمع أشياخًا من طيء، يذكرون ذلك، وأنه حمل من جبلة باليمن، وكان يقال له ظريب إلى جبلي طيء. وأقام بهما حينا، وقتل العادي الذي كان بالجبلين"، كتاب المعمرين من العرب "ص64"، أبو الفداء "1/ 102"، القاموس "1/ 65، 4/ 64، 229، 348"، لسان العرب "1/ 15، 160"، صبح الأعشى "1/ 320"، الاشتقاق "227 وما بعدها"، ابن صاعد "43"، تاج العروس "1/ 92، 5/ 2، 362، 6/ 197، 287، 7/ 150"، الأغاني "10/ 47، 18/ 193، 19/ 128"، الميداني الأمثال "1/ 194" النويري، تهذيب الأسماء واللغات قسم أول "2/ 289"، كحالة "2/ 691". 3 جمهرة "ص375 وما بعدها"، الإنباه "ص116"، "وبحتر من طيء". الهمداني: مشتبه "ص47"، طرفة الأصحاب "ص10". 4 ابن خلدون "2/ 254".

صحار، وذكروا أن لغة طيء هي لغة هذا الشيخ الصحاري1. وقد أوجد الأخباريون هذه القصة تفسيرًا لبعض المميزات اللغوية التي امتازت بها لهجة طيء. وصحار اسم موضع واسم بطن من قضاعة أيضًا. وقد أخذت بطون قضاعة مواطن طيء في الشمال، واختلطت بعض بطون طيء بقضاعة. فهل عنى الأخباريون بصحار هذا البطن من قضاعة، ولا سيما إذا تذكرنا أن علماء اللغة يذكرون وجود التلتلة في لغة طيء، وقد نسبوا التلتلة إلى قضاعة كذلك؟ ولا يستبعد أن يكون لأسطورة الأخباريين عن الشيخ الصحاري، شيء من الواقع، كأن يشير ذلك إلى صلة صحار بطيء. ويذكر الأخباريون أن الرئاسة في الجاهلية على طيء كانت لبني هنيء بن عمرو بن الغوث بن طيء، وهم رمليون وإخوتهم جبليون، ويعنون بذلك أنها كانت تنزل البوادي، لا جبلي طيء. ومن ولده إياس بن قبيصة بن أبي غفر بن النعمان بن حيّة بن سعنة بن الحارث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سفر بن هنيء بن عمرو بن الغوث بن طيء2 الذي ولي ملك الحيرة بأمر كسرى -كما سبق أن أشرت إلى ذلك في الفصل الخاص بتأريخ الحيرة- وكان له شأن يذكر عند الفرس. وكان لطيء جد هذه القبيلة من الولد: فطرة، والغوث والحارث. فأما ولد الحارث فدخلوا في مهرة بن حيدان. وأما ولد فطرة3، فمنهم: جديلة، وولد خارجة بن سعد بن فطرة، وتيم الله، وحيش، والأسعد. ومن نسل هؤلاء تفرعت سائر بطون طيء4. ومن بني الغوث بن طيء بنو ثعل5، ومنهم سلامان وجرول6. ومن بني

_ 1 البلدان "1/ 117". 2 الجمهرة "377". 3 نهاية الأرب "2/ 298"، كحالة "3/ 923". 4 الجمهرة "ص375 وما بعدها"، الاشتقاق "ص228 وما بعدها"، الإنباه "ص116". 5 "بنو ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء"، نهاية الأرب "2/ 299"، الاشتقاق "231". لسان العرب "13/ 89"، كحالة "1/ 142". 6 "سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء"، الاشتقاق "231"، صبح الأعشى "1/ 321"، كحالة "1/ 184" "2/ 531".

سلامان بحتر، ومعن، وهما بطنان ضخمان، وجرول بن ثعل. ومن بني جرول بن ثعل ربيعة بن جرول. وهم بطن ضخم، ولوذان بن جرول بن ثعل. ومن بني ربيعة بن جرول أخزم والنجد. والأخزم بطون عديدة، ومنها عدي بن أخزم، ومن رجالها الطائي المعروف بجوده1. وعمرو بن الشيخ وكان أرمى الناس في زمانه2. وفي استطاعتنا أن نقول عن طيء -وإن كنا لا نعرف شيئًا يذكر من تاريخها في الجاهلية- إنها كانت ذات مكانة خطيرة في تلك الأيام، بدليل إطلاق اسمها عند بعض الكتبة الكلاسيكيين وعند الفرس والسريان وعند يهود بابل، على جميع العرب كما أشرت إلى ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب. ولا يعقل إطلاق اسم هذه القبيلة على جميع العرب لو لم تكن لها منزلة ومكانة في تلك الأيام، ولو لم تكن قوية كثيرة العدد ممعنة في الغزو ومهاجمة الحدود، حتى صار في روع السريان أنها أقوى العرب، فأطلقوا اسمها عليهم. وبدليل اختيار الفرس لإياس بن قبيصة، وهو من طيء لتولي الحكم في الحيرة مرتين، ولا بد أن يكون لمركز قبيلته سند قوي أسنده في الحكم. وليس بمستبعد أن تكون قبائل قضاعة قد حلت محل طيء في الشمال مما اضطر الأخيرة إلى التزحزح من أماكنها والدخول في غيرها والاكتفاء بمنطقتها في جنوب النفود. أي في جبلي طيء3. وبالرغم من انتزاع طيء لجزء من أرض بني أسد، وهم من مضر، وسكناهم فيها، فإن بني أسد وكذلك بني ضبة التي كانت قد تحولت عن بني تميم إلى طيء، انضموا إلى طيء وساعدوها في الحرب التي وقعت بينها وبين بني يربوع، وهم من تميم، تساعدهم بنو سعد. وانتهت بهزيمة بني يربوع في

_ 1 الجمهرة "ص378". 2 أبو الفداء "1/ 102". 3 ARABIN, ANCIENT WEST-arabian, P. 193.

موضع "رجلة التيس"1. ولكن ذلك لا يعني أن العلاقات بين بطون طيء وأسد كانت حسنة دومًا، وثيقة لم يعكر صفوها ما يقع عادة بين القبائل من حروب. فقد وقعت بين القبيلتين حروب كذلك. منها: الحرب التي وقعت بالخص في العراق على مقربة من قادسية الكوفة. وقد انتهت هذه الحرب كما تنتهي الحروب الأخرى بتصفية حسابها بدفع الديات وبعقد صلح2. وقد وقعت بين عبس وطيء جملة غزوات. قضت إحداها على حياة "عنترة بن شداد"، البطل الأسود الشهير3. أغار عنترة مع قومه على بني نبهان من طيء، وهو شيخ كبير، قد عبثت به يد الدهر، فجعل يرتجز، وهو يطرد طريدة لطيء. فانهزمت عبس. وأصيب عنترة بجرح قضى عليه4. وهناك رواية أخرى في مقتل بطل عبس5. وفي رواية للأخباريين أن ابن هند ملك الحيرة أغار على إبل لطيء، فحرض زرارة بن عدس، عمرو بن هند على طيء، وقال له إنهم يتوعَّدونك، فغزاهم فوقعت بسبب ذلك جملة حوادث تسلسلت إلى يوم أوارة. وكان عمرو بن هند كما يقول الأخباريون قد عاقد الحيّ الذي غزاه على أن لا ينازعوا ولا يفاخروا ولا يغزوا، فلما غزا عمرو بن هند اليمامة، ورجع، مرّ بطيء، انتهز زرارة بن عدس -وكان كارهًا لطيء مبغضا لها- هذه الفرصة، وأخذ يحرضه على غزوها، ويشجعه عليه. وما زال به على ذلك، حتى غزاها، بعد أن بلغه هجاء الشعراء الطائيين له، لإصابته بعض النسوة من طيء. فتمكن منها وأخذ جملة أسرى، من بطن "أخزم"، وهم رهط حاتم الطائي6. وكانت صلة هذه القبيلة بالفرس حسنة، ولما أراد الملك النعمان الالتجاء إليهم والدخول فيهم ليمنعوه من الفرس، لمصاهرته لهم، وأخذه زوجتين هما فرعة

_ 1 ency., iv, p. 623 "رجلة التيس"، البلدان "4/ 228"، البكري "2/ 640" "تحقيق السقا". 2 الأغاني "18/ 163"، "الخص: قرية قرب القادسية"، البلدان" 3/ 444". 3 الأغاني "8/ 235، 239" "طبعة دار الكتب المصرية". 4 الأغاني "8/ 345" "طبعة دار الكتب"، "7/ 145" "طبعة الساسي". 5 المصدر نفسه. 6 الأغاني "19/ 127 وما بعدها".

بنت سعد بن حارثة بن لام بنت أوس بن حارثة بن لام منهم، لم تقبل طيء جواره ولا مساعدته، وقالت له: "لولا صهرك قاتلناك، فإنه لا حاجة لنا في معاداة كسرى"1. وقد جعل كسرى إياس بن قبيصة على الرجال من الفرس والعرب في حرب بكر بن وائل في معركة ذي قار. ويظهر من روايات الأخباريين أن رؤساء طيء كانوا يحكمونها، وكانوا يلقبون بملك. فقد ذكروا أن عدي بن حاتم الطائي كان رئيس طيء في أيام الرسول، وكان مالكًا عليهم يأخذ منها المرباع. فلما جاءت خيل الرسول إليه بقيادة علي بن أبي طالب، فرّ إلى الشأم، ثم ترك الشأم، وذهب إلى الرسول فأسلم2. أما صنم طيء، فكان "الفلس"، وكان بنجد، قريبًا من فيد. وسدنته من بني بولان3. هدمه علي بن أبي طالب بأمر النبي، وكانت طيء قد قلدت الصنم سيفين يقال لأحدهما مخذم وللآخر رسوب، أهداهما إليه الحارث بن أبي شمر، فأخذهما عليّ بن أبي طالب. وتعبدت طيء لصنم آخر هو "رضى"4. كما تعبدت لصنم ثالث هو سهيل5. ومَذْحِج من القبائل اليمانية الكبيرة، وقد تفرعت منها قبائل كبيرة كذلك. وتنتسب إلى جدّ أعلى لها، هو مذحج. وهو مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، وأبو عدة أولاد، هم: جلد بن مذحج، ويحابر. وهو مراد: وزيد. وهو عنس، وسعد العشيرة6، ولهيس بن مذحج.

_ 1 الطبري "2/ 151 وما بعدها". 2 "ذكر غزوة طيء وإسلام عدي بن حاتم"، ابن الأثير "2/ 119". 3 المحبر "ص316". 4 Ency., IV, P. 624. 5 كحالة "2/ 691". 6 الجمهرة "ص381"، ابن خلدون "2/ 255". الاشتقاق "ص237 وما بعدها" Wustenfeld, Genea., taf., 7,8، "فولد يحابر مذحج، وولد مذحج مرادا، وجلدا، وعنسا، وسعد العشيرة، وإنما سمي سعد العشيرة، لأنه شهد الموسم، ومعه بنون عشرة، فقيل له من هؤلاء؟ فقال: هم العشيرة، وولد سعد العشيرة جعفن بن سعد، وحبيب بن سعد، وصعب بن سعد، وعائذ الله بن سعد"، البلخي "4/ 119 وما بعدها"، "وأما مذحج، فكل من انتسب إلى مالك بن أدد ابن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، فهو مذحجي ومن لم ينتسب إلى مالك بن أدد، ليس بمذحجي، ومالك بن أدد، هو جماع مذحج، وقال ابن إسحاق: مذحج بن يحابر بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ولم يتابع ابن إسحاق في ذلك"، الإنباه "ص116"، ابن الوردي "1/ 90"، أبو الفداء "1/ 102"، القاموس "1/ 171"، لسان العرب "2/ 480"، "3/ 1062" "3/ 103"، الروض الأنف "1/ 139"، البكري "1/ 298"، كحالة "3/ 1062 وما بعدها".

وأمهم كلهم سلمى بنت منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر1. ومن بني عَنْس بن مذحج: عمّار بن ياسر الصحابي المعروف، والأسود العنسي المتنبي2. ولمذحج مثل القبائل الأخرى أيام. منها يوم فيف الريح3 ويوم السلان. وهو لربيعة على مذحج4. وسأتحدث عن أيام مذحج في الفصل الخاص بأيام العرب قبل الإسلام. ويشير هذا النسب الذي يذكره النسّابون إلى وجود صلات قديمة وثيقة بين مراد وخثعم، وبين مجموعة القبائل المعروفة بمذحج. وهم أبناء إخوة على رأي النسابين5. ويذكر الأخباريون أن مواطن مراد القديمة هي في الجوف، في منطقة رملية جرداء، ويظهر أنها كانت متبدية وكان معبودها الصنم يغوث6، الصنم الذي تعبدت له مذحج كذلك7. روي أن الصنم يغوث، كان لمذحج كلها. وكان في

_ 1 الجمهرة "ص381". 2 الأغاني "18/ 135"، ابن الوردي "1/ 90"، "عنس بن مالك وهو مذحج"، الاشتقاق "247"، نهاية الأرب "2/ 301" صبح الأعشى "1/ 327"، الصفة 54/ 104"، كحالة "2/ 847 وما بعدها". 3 نهاية الأرب "15/ 414"، العقد الفريد "2/ 80"، الأمالي للقالي "3/ 147"، البكري "3/ 1038" "طبعة السقا". 4 بين معد ومذحج وكلب يومئذ معديون. وشهدها زهير بن جناب الكلبي.. فقال: شهدت الموقدين على خزاز ... وفي السلان جمعا ذا زهاء البلدان "5/ 104". 5 Wustenfeld, Genea., I. 6 Ency., III, p. 726. 7 الأصنام "10".

أنعم، فقاتلتهم عليه غطيف من مراد، حتى هربوا به إلى نجران، فأقروه عند بني النار من الضباب، من بني كعب، واجتمعوا عليه جميعًا1. ويذكر الأخباريون أن المنذر بن ماء السماء حينما بغى على أخيه عمرو، هرب عمرو إلى مراد، فاحتفلت به، وعينته رئيسًا عليها، غير أنه اشتدّ عليها حينما تمكن وقويَ أمره، فغدرت به وقتلته. لذلك غزاها عمرو بن هند، وقتل قتلة عمرو2. وكانت بين مراد وهمدان حرب، وقعت في عهد لم يكن بعيدًا عن الإسلام. عرفت بيوم الرزم، انتصرت فيها همدان على مراد. وكان رئيس مراد أيام الرسول فروة بن مسيك المرادي. وقد استعمله الرسول على صدقات مراد وزبيد ومذحج، فاستاءت زبيد ومذحج من ذلك. وارتد عمرو بن معد يكرب في مرتدين من زبيد ومذحج. فاستجاش فروة النبيّ، فوجه إليهم جيشًا، هزم المرتدين3. وقبيل الإسلام كان هبيرة بن المكشوح بن عبد يغوث رئيسًا بارزًا على مراد، وقد عدّه الأخباريون من "الجرارين" في اليمن، ويقصد بالجرار من ترأس ألفًا في الجاهلية4. وقد كان ابنه قيس من رؤساء مراد البارزين عند ظهور الإسلام5. وهو الذي قتل الأسود العنسي6. وكان هناك رئيس آخر على مراد عند ظهور الإسلام هو فروة بن مسيك المتقدم ذكره، كان كذلك من الجرارين7. وأشهر أولاد يحابر، وهو مراد، ناجية وزاهر8. ومن ولد ناجية مفرج، وكنانة، وعبد الله، ومالك، ويشكر، وردمان. وقد انتسب ردمان إلى

_ 1 المحبر "ص317". 2 Ency., III, P. 726. 3 البكري "2/ 649 وما بعدها". الأغاني "15/ 25 وما بعدها". 4 المحبر "ص252". 5 Ency., III, p. 726. 6 الاشتقاق "ص247". 7 المحبر "ص252". 8 "ويحابر بن مالك، وهو مراد، وإنما سمي مرادًا، لأنه أول من تمرد باليمن"، الاشتقاق "ص238، 236" نهاية الأرب "2/ 285".

حمير. ومن ولد عبد الله غَطِيفٌ، وهم بطن1. ومن نسل ردمان2 قرين ونابية، وهما بطنان. ومن بني زاهر قيس بن المكشوح، وبنو الحصين والربض والصنابح وهما بطنان3. وأولاد سعد العشيرة كثيرون، تفرعت منهم قبائل وبطون، ويذكر الأخباريون أن سعد العشيرة كان رجلًا كثير الأولاد حتى إنه كان إذا ركب ركب معه ثلاثمائة فارس من صلبه. والظاهر أنها كانت من القبائل الكبيرة، وأظن أنها كانت تحتمي بصنم هو "سعد العشيرة"، ثم نسبته فتصور أبناؤها أنه إنسان، وأنهم من صلبه منحدرون، وليس هذا بأمر غريب، وقد ذكرت أمثلة من هذا القبيل، ومنه "تالب" صنم همدان المذكور في المسند، الذي صيره النسابون جدًّا من أجداد همدان. ومن أولاد سعد العشيرة: الحكم4، والصعب5، ونمرة، وجعفي، وعائذ الله، وأوهن الله، وزيد الله، وأنس الله، والحرّ. ومن البطون المتفرعة من هؤلاء الدئل، وهم من نسل الحكم، وقد دخلوا في تغلب6. وأسلم. ومن جعفي مرّان وحريم7. أما بنو صعب فأشهرهم أود ومنبه8، ويسمى أيضًا بزبيد. ومن نسل زبيد مازن، وهم بطن9. ومن قبيلة أود الأفوهُ الأودي الشاعر المعروف10.

_ 1 "غطيف بن عبد الله بن ناجية بن مراد"، تاج العروس "6/ 213"، القاموس "3/ 181"، كحالة "3/ 889". 2 "ردمان بن ناجية"، الاشتقاق "ص247"، تاج العروس "8/ 310". 3 الجمهرة "ص382 وما بعدها". 4 تاج العروس "8/ 255"، نهاية الأرب "2/ 301" لسان العرب "15/ 34"، كحالة "1/ 287". 5 "الصعب بن سعد العشيرة بن مالك"، نهاية الأرب "2/ 301"، كحالة "3/ 641". 6 الجمهرة "ص383". 7 "جعفي بن سعد العشيرة"، الاشتقاق "ص242"، نهاية الأرب "2/ 301" أبو الفداء "1/ 108"، لسان العرب "10/ 371". 8 البكري "1/ 57"، تاج العروس "2/ 297"، لسان العرب "4/ 41"، أبو الفداء "1/ 108"، كحالة "1/ 41". 9 الجمهرة "ص385"، الاشتقاق "ص245"، نهاية الأرب "2/ 285". 10 ابن الوردي "1/ 90"، الأغاني "11/ 44 وما بعدها"، الجمهرة "ص386".

وأبين بطون جلد بن مالك بن أدد، أي جلد بن مذحج، بنو عُلة بن جلد. ومن أولاد عُلة: عمرو، وعامر، وحرب تفرعت جملة قبائل أظهرها: النخع بن عمرو بن علة. وبنو الحارث بن كعب بن عمرو بن علة، ورهاء وهو ضبة بن الحارث بن علة1، وصداء وهم من نسل يزيد بن حرب بن علة2. وقد تحالفت منبّه والحارث والعلاء "العلى" وسيحان "سيحان" "سنجان" وهفان وشمران، وهم ولد يزيد بن حرب بن علة بن جلد على بني أخيهم صداء بن يزيد بن حرب، فسُمّوا جَنْبًا، لأنهم جانبوا عمهم صداء، وحالفوا بني عمهم بني سعد العشيرة. ومن جنب، معاوية الخير الجنبي، صاحب لواء مذحج في حرب بني وائل، وكان مع تغلب3. أما صداء، فحالفت بني الحارث بن كعب. ومن بني منبّه، كان معاوية بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن منبه بن يزيد الذي تزوّج بنت مهلهل بن ربيعة التغلبي4. وتنتسب قبيلة النخع إلى النخع وهو جسر بن عمرو5 بن علة بن جلد بن

_ 1 "رهاء بن منبه بن حرب بن علة بن جلد بن مالك"، تاج العروس "10/ 161"، لسان العرب "19/ 63"، الاشتقاق "ص242"، نهاية الأرب "2/ 286"، كحالة "2/ 448". 2 الإنباه "ص116 وما بعدها"، الاشتقاق "ص237، 242". 3 خلاصة الكلام "ص55"، ابن الوردي "1/ 90"، الاشتقاق "ص130"، صبح الأعشى "1/ 326"، كحالة "1/ 210"، تاج العروس "1/ 192"، أبو الفداء "1/ 108". 4 الجمهرة "ص388"، الاشتقاق "ص242"، تاج العروس "1/ 88"، القاموس "1/ 20" نهاية الأرب "2/ 286". 5 "ولد عمرو بن علة كعبا، وعامرا، وجسرا وهو النخع"، الجمهرة "ص389". وبعد أسطر من هذا النسب، وفي باب "وهؤلاء بنو جسر أخيه، وهو النخع بن عامر" جاءت هذه الأسطر "ولد النخع بن عامر بن علة.. إلخ"، فصار والد النخع عامر في هذا الباب، بينما هو "عمرو"، ولم يشر "ليفي بروفنسال" إلى هذا التناقض الناشئ من تحريف النساخ، وفي تحقيقه هفوات من هذا القبيل. الإنباه "ص116".

مالك، وهو مذحج1. ومن النخع الأشتر النخعي، واسمه مالك بن الحارث، صاحب رسول الله، ثم علي بن أبي طالب. وللنخع بطون عديدة2 منها: صُهبان، ووهبيل، وجسر، وجذيمة، وقيس، وحارثة3، وصلاءة، ورزام، والأرت، ومن الأرت بنو عبد المدان وعبد الحجر بن المدّان4. وولد مرّة بن أدد رُهْمًا، والحارث. ومن رهم كان الأفغى الذي كان يتحاكم إليه بنجران على رواية ابن حزم5 أو من رهم، من طيء على رواية ابن دريد6. أما الهمداني، فذهب إلى أنه من رهم بن مرة بن أدد، أي على نحو ما ذهب ابن حزم إليه7. وبنو مُرّة بن أدد، إخوة طيء ومذحج والأشعريين، بطون كثيرة تنتهي كلها إلى الحارث بن مُرّة، مثل خولان ومعافر ولخم وجذام وعاملة وكندة8. أما خولان، فيرجع نسبها إلى خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرّة بن أدد. ويسمي النسابون خَوْلان فكلا "أفكلًا" كذلك9، والخوليون هؤلاء هم خولان أدد، وعرفوا بخولان العالية أيضًا10، وهم غير خولان بن عمرو بن الحاف "الحافي" بن قضاعة، أي خولان القُضاعية، وهي قبيلة يمانية كذلك في نظر من جعل قضاعة من اليمانيين11. وأظن أن هناك صلة بين "فكل"

_ 1 منتخبات "ص102". الاشتقاق "ص237"، ابن خلدون "2/ 255"، نهاية الأرب "2/ 302"، أبو الفداء "1/ 108"، لسان العرب "10/ 226"، القاموس "3/ 87"، المصباح المنير "2/ 114"، كحالة "3/ 1876". 2 أبو الفداء "1/ 103"، صبح الأعشى "1/ 327". 3 جمهرة "ص389". 4 الاشتقاق "ص337". 5 جمهرة "ص392". 6 الاشتقاق "ص218". 7 الإكليل "10/ 2"، "مرهم"، نهاية الأرب "2/ 286"، كحالة "3/ 1077". 8 ابن خلدون "2/ 256"، نهاية الأرب "2/ 286 وما بعدها". 9 جمهرة "ص392"، الاشتقاق "ص227"، ابن خلدون "2/ 256"، نهاية الأرب "2/ 287"، تاج العروس"6/ 652، 7/ 312"، القاموس "2/ 232"، لسان العرب "13/ 240"، صبح الأعشى "1/ 325"، القاموس "3/ 272"، كحالة "1/ 365 وما بعدها". 10 الإكليل "10/ 2، 42". 11 منتخبات "ص35"، الإكليل "10/ 293"، الإنباه "ص115، 120".

و "أفكل" و "يكلى" أو "ركلى" المذكور عند بعض الأخباريين، وقد زعم الهمداني أنه شقيق خَولان، وابن الابن الآخر لعمرو بن مالك. وقد نشأت هذه الصور للأمم من تحريف النُسّاخ، ومن التبلبل الذي يحدثه أمثاله للنسّابين والباحثين في الأنساب. وأما أن يكلى أو فكل هو شقيق خَوْلان، أو أنه خولان نفسه، فأمر لا قيمة له. ورجح نشوان بن سعيد الحميري كون المراد ب "خولان العالية" خَولان قضاعة، وقد ذكر الرأيين وناقش كل واحد منهما، ثم رَجَّحَ أن خولان العالية هي خولان قضاعة1. واسم خولان من الأسماء التي ورد ذكرها في كتابات المسند. ورد اسمًا لأرض، كما ورد اسمًا لقبيلة، هي قبيلة خولان2 ويعود تأريخ هذه الكتابات إلى ما قبل الميلاد. وتقع أرض خولان في نفس المكان الذي عرف في الإسلام ب "عرّ خَوْلان" وبأرض خولان3. وقد ذهب "شيرنكر" إلى أن خولان هي "حويلة" إحدى القبائل العربية المذكورة في التوراة4. وعند ظهور الإسلام، كانت خولان تتعبد للصنم، عم أنس "عميأنس" وللصنم يعوق5. وفي السنة العاشرة للهجرة، وصل وفد منها إلى الرسول معلنًا له الدخول في الإسلام. وقد اشتركت خولان مع من اشترك من القبائل العربية في الفتوح، فلعبت دورًا هامًا فيها خاصة في فتوحات مصر6. وإلى جعفر بن مالك بن الحارث بن مُرّة يرجع نسب المعافر7. جد المعافرين، ويسمى بالمعافر الأكبر تمييزًا له عن المعافر الأصغر، وهو ابن حضرموت8.

_ 1 منتخبات "ص35 وما بعدها". 2 Halevy 585, Glaser 1076, Glaser 119. 3 Ency, II, P. 933. 4 Ency, II, P. 933. 5 الأصنام "43". كحالة "1/ 366". 6 Ency, II, P. 933. 7 جمهرة "ص293"، نهاية الأرب "2/ 287" كحالة "3/ 1115". 8 الإكليل "10/ 3"، الاشتقاق "ص228"، ابن خلدون "2/ 256"، الإنباه "ص118".

وقد اشتهرت المعافر بنوع من الثياب سميت باسمهم1. ومن ولد عدي بن الحارث بن مرّة بن أدد بن يشجب، كان الحارث بن عديّ وهو عاملة، وعمرو بن عديّ وهو جذام، ومالك بن عديّ وهو لخم، وعفير بن عديّ وهو والد كندة2. وكلها كما نرى قبائل معروفة شهيرة تنتسب إلى القحطانيين. وأما أمهم، فهي رقاش بنت همدان3. وذكر ابن خلدون أن الحارث بن عديّ والد عاملة، سمي عاملة باسم أمه عاملة، وهي من قضاعة. وذكر أنها كانت في بادية الشام4. وقد يستنتج من هذه الصلة بين القبائل الثلاث، أنها كانت حلفًا في الأصل جمع بينها لمصالح مشتركة ولظروف متشابهة ألفت بينها على نحو ما رأينا عند قبائل أخرى فصارت نسبًا بمرور الأيام5. وقد كانت هذه الصلة قوية خاصة بين لحم وجذام، حيث اقترن اسمهما معًا في الغالب، ولا سيما في الإسلام، مما يدل على اشتراك المصالح بين القبيلتين. وكانت عاملة حليفة لكلب، "وغزت معها إلى طيء، فأسر رجل من عاملة، اسمه قعيسيس، عديّ بن حاتم، فانتزعه منهم شعيب بن مسعود العُليمي من كلب، وقال له: ما أنت وأسر الاشراف؟ "، وأطلقه بغير فداء6. ومن عاملة الشاعر عديّ بن الرقاع7. ويذكر الأخباريون أن بطونًا من عاملة كانت في الحيرة، كما أن بعضًا منها كانت خاضعة للزبّاء8. وإذ صح زعم الأخباريون هذا، فإنه يدل على قدم

_ 1 "المعافرية" منتخبات "ص73". 2 جمهرة "ص394". 3 الإكليل "10/ 4". 4 ابن خلدون "2/ 257"، "عاملة"، تاج العروس "8/ 35"، القاموس "4/ 22"، نهاية الأرب "2/ 287"، صبح الأعشى "1/ 335 وما بعدها". 5 Ency., III, p. 11. 6 جمهرة "ص394". 7 منتخبات "ص77"، جمهرة "ص394". 8 Ency., I, p. 327.

وجود هذه القبيلة في بلاد الشام والعراق، ولكننا لا نجد لها ذكرًا مثل أكثر القبائل الأخرى في كتب "الكلاسيكيين". وكانت منازلها عند ظهور الإسلام في المنطقة الجنوبية الشرقية للبحر الميت. وقد اشتركت مع القبائل العربية الأخرى التي ساعدت الروم، وانضمت إلى جانب "هرقل" "heraclius"، ولكن اسمها لم يرد كثيرًا في أخبار فتوح المسلمين لبلاد الشام، وإنما كان من الأسماء المعروفة في أيام الأمويين. وتدل إقامتها في هذه البلاد منذ أيام الجاهلية على أن صلتها ببلاد الشام كانت أقوى وأمتن من صلتها بالعراق. وصنم عاملة هو الأقيصر، وكان في مشارف الشام، يحجون إليه، ويحلقون رءوسهم عنده1. وولد جذام: وهو عمرو بن عديّ بن الحارث بن مرّة2 والد قبيلة جذام الشهيرة من الولد حراما، و "جُشَمَ"3. ومن بني حرام غطفان وأفصى، وهما ابنا "سعد بن إياس بن أفصى بن حرام بن جذام". وذكر ابن حزم: أن روح بن زنباع، وهو من بني أفصى، أراد أن يرد نسب جذام إلى مضر، فيقال جذام بن أسدة أخو كنانة وأسد ابنا خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، فعارضه في ذلك نائل بن قيس4. ومن بطون جذام: "بنو ضبيب، وبنو مخرمة، وبنو بعجة، وبنو نفاثة، وديارهم حوالي أيلة من أول أعمال الحجاز إلى ينبع من أطراف يثرب. وكانت لهم رياسة في معان وما حولها من أرض الشأم لبني النافرة من نفاثة، ثم لفروة بن عمرو بن النافرة. وكان عاملًا للروم على قومه وعلى من كان حوالي معان من العرب. وهو الذي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وأهدى

_ 1 كحالة "2/ 714". 2 منتخبات "ص19"، ابن خلدون "2/ 257". تاج العروس "8/ 323"، لسان العرب "14/ 356"، أبو الفداء "1/ 109"، نهاية الأرب "2/ 303"، صبح الأعشى "1/ 330"، الصحاح "2/ 269"، كحالة "1/ 174". 3 "جشم"، جمهرة "ص395"، وهو في الاشتقاق "ص225" "حشم". 4 جمهرة "ص395 وما بعدها" ency., I, p. 1058.

له بغلة بيضاء وسمع بذلك قيصر، فأغرى به الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان، فأخذه وصلبه بفلسطين"1. أما لخم، الأخ الآخر لعاملة وجذام، فولد جزيلة ونمارة، وولد نمارة عديًّا، وهو عَمَم وحبيب وجذيمة، وهم العباد، وغيرهم. وولد حبيب، هانئًا، ومن نسله تميم الداري صاحب رسول الله، ومن نمارة عمرو بن رزين بن لخم، ومن ولده قصير الوارد اسمه في قصة الزبّاء، ومن نسل عَمَم بنو نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم، رهط آل المنذر ملوك الحيرة2. ويظهر أن اللخميين كانوا أقدم جماعة في هذا الحلف، وقد كانوا قبل الإسلام في بلاد الشأم والعراق وفي البادية الفاصلة بينهما وفي مواضع متعددة من فلسطين. ومنهم كما رأينا كان آل لخم ملوك الحيرة. ولا يستبعد أن يكون ظهور هذه القبيلة على أثر تصدع حكومة تدمر. حيث مكن هذا التصدع رؤساء القبائل الكبرى من الظهور. وقد كان اللخميون على النصرانية مثل الغساسنة في الشأم3. وبدل القصص المروي عن أصل لخم، وانحدارها من صلب إبراهيم، على قدم هذه القبيلة في نظر أهل الأخبار. ومما جاء في هذا القصص أن أحد بني لخم هو الذي أخرج يوسف من البئر4. وقد لعب اللخميون دورًا هامًّا كما رأينا في سياسة البادية وفي مقدرات عرب الشأم والعراق. وفي الإسلام صارت كلمة "لخم" تطلق على جذام. ويدل ذلك على الصلات الوثيقة التي ربطت بين القبيلتين. ثم قل استعمال كلمة "لخم" ولخمي، بالقياس إلى جذام. حتى صات لخم تعني في الغالب الأمراء اللخميين.

_ 1 ابن خلدون: "2/ 257". 2 جمهرة "396 وما بعدها"، الاشتقاق "225"، صبح الأعشى "1/ 334 وما بعدها" لسان العرب "16/ 12"، تاج العروس "4/ 126"، الصحاح "2/ 333"، كحالة "3/ 1012". 3 Ency., III, p. 11. 4 Ency., III, p. 11.

وشقيق لخم هو عفير بن عدي والد ثور، وهو كندة جدّ قبيلة كندة الشهيرة. وولد كندة معاوية بن كندة، وأشرس، وأمهما هي رملة بنت أسد بن ربيعة بن نزار1. ويمثل هذا النسب صلة كندة بقبائل معد. وقد نسب بعض النسّابين كندة إلى كندة، وهو ثور بن مرتع بن معاوية بن كندي بن عفير بن عديّ بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان2، وقد ولد هذا النسب من نسب آخر جعل اسم ولد عفير "كندي"، ثم ساقوا النسب على هذا النحو إلى أن وصلوا إلى ثور بن مرتع، فقالوا: إنه هو كندة وأنه شقيق مالك وهو الصدف، وقيس3. ومن بطون كندة معاوية بن كندة، ومنه الملوك بنو الحارث معاوية الأصغر بن ثور بن مرتع بن معاوية4 أسلاف الشاعر امرؤ القيس، وقد حكموا القبائل الأخرى من غير كندة، ومنها قبائل من عدنان. ومن ولد أشرس: السكون والسكاسك5، ومن السكون بنو عديّ وبنو سعد وأمهما من مذحج اسمها تجيب بنت ثوبان بن سُليم بن رها بن مذحج،

_ 1 جمهرة "ص399"، الإكليل "10/ 4" كندة، واسمه ثور بن غفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيد كهلان بن سبأ. هذا قول ابن الكلبي. وقال ابن هشام: كندي ويقال كمدة بن ثور بن مرتع.. وقال ابن إسحاق: كندة هو ثور بن مرتع. وقال الزبير: ثور بن مرتع بن كندة من ولد معاوية الإصغر" الإنباه "ص144"، الاشتقاق "ص218"، تاريخ ابن خلدون "2/ 257"، تاج العروس "1/ 43، 2/ 287"، لسان العرب "3/ 386"، صبح الأعشى "1/ 328"، نهاية الأرب "2/ 303"، الروض الأنف "2/ 345، كحالة "3/ 988 وما بعدها". 2 منتخبات "ص94". "كندة بن غفير بن الحارث. من ولد زيد بن كهلان". خلاصة الكلام "ص55" وما بعدها. 3 الإكليل "10/ 5". 4 ابن خلدون "2/ 257". 5 الإنباه "ص115". "السكاسك: نسل حميس السكسك بن أشرس بن ثور. هو كندة بن عفير من بطونها: خداش، صعب، ضمام، والأحدر".، الاشتقاق "221"، تاج العروس "7/ 141"، كحالة ":2/ 527".

ولذلك عرفوا ب "تجيب"1. وكان أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل في أيام الرسول من السكون، وأخوه بشر بن عبد الملك. يذكرون أنه ذهب إلى الحيرة، وتعلم بها الخط، ثم رجع إلى مكة فتزوج الضهياء بنت حرب أخت أبي سفيان2. وأما الصدف، فهو عقب مالك بن أشرس على رواية. وقد نسب إلى كندة، كما نسب إلى حضرموت. ونسبه بعض النسابين إلى حمير. فمن نسبه إلى كندة، قال: الصدف هو: عمرو بن مالك بن أشرس بن شبيب بن السكون بن أشرس بن ثور وهو كندة3، أو عمرو بن مالك بن أشرس أخو السكون بن أشرس. ومن نسبه حضرموت، قال: الصدف، هو الصدف بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر4. وقد قال عنه بعض الأخباريين: إنه مالك بن الصباح، أخو أبرهة بن الصباح5. وأبرهة بن الصباح هو عربي في نظر أكثر الأخباريين. ولم يعرفوا أنهم يقصدون به أبرهة الحبشي، صاحب حملة الفيل. ومن نسبه إلى حمير قال: الصدف هم من نسل: الصدف بن عمرو بن ديسع بن السبب بن شرحبيل بن الحارث بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير الاصغر6. أو: الصدف بن سهلة بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن

_ 1 "تجيب. قال الزبير وغيره: تجيب امرأة. وهي ابنة ثوبان بن سليم بن رها بن مذحج. نسب إليها ولدها. وولدها عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد. وعفير بن عدي، بنو عم خولان، يجمعهم الحارث بن مرة بن أدد. ولدت تجيب في السكون من كندة، فهم أشراف السكون"، الإنباه "ص115". ابن خلدون "2/ 257". نهاية الأرب "2/ 304"، الاشتقاق "221"، كحالة "2/ 528 وما بعدها". 2 جمهرة "ص403 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 257". 3 كحالة "2/ 637"، نهاية الأرب "2/ 304"، لسان العرب "11/ 90". 4 الجمهرة "ص431". 5 الإنباه "ص114"، نهاية الأرب "2/ 304"، لسان العرب "11/ 90"، كحالة "2/ 637". 6 منتخبات "ص59"، "الصدف بن مرتع، والصدف من حمير هذا قول الهمداني. وغيره يقول: جميع الصدف من حمير"، الهمداني: مشتبه "ص40"، "الصدف بالضم ابن عمرو بن الغوث بن حيدان. الصدف بن ديسع: الصدف بالفتح وهو مالك بن مرتع أخو كندة في قول الهمداني. وفي قول غيره: الصدف من حمير"، الهمداني: مشتبه "ص32".

عبد شمس بن وائل بن الغوث بن هميسع بن حمير1. واختلاف أهل الأنساب، وأهل الأخبار في نسب الصدف، دليل على اختلاط هذه القبيلة ببطون كندة وحمير وحضرموت. ودخول بطونها فيها، وانتسابها إلى البطون التي دخلت فيها، ويؤدي ذلك في الغالب كما رأينا إلى اختلاط الأنساب.

_ 1 كحالة "2/ 637".

الفصل السابع والأربعون: القبائل العدنانية

الفصل السابع والأربعون: القبائل العدنانية مدخل ... الفَصْلُ السَّابِعُ والأربَعُون: القبائل العدنانية أوجزت الكلام في الفصل المتقدم على القبائل القحطانية، أي القبائل التي يرجع نسبها إلى اليمن، وفي هذا الفصل سأحاول الكلام على قبائل القسم الثاني من العرب، أي قبائل العدنانيين، مقتصرًا في الغالب على ذكر القبائل الكبرى، سالكًا ما سكلته في الفصل المتقدم من طريقة أهل الأنساب في ترتيب القبائل. وجدّ قبائل هذا الفصل عدنان من سلسلة تنتهي بإسماعيل بن إبراهيم الخليل، جد الإسماعيليين. وهو مثل قحطان شخصية لا نعرف من أمرها شيئًا، ولا من خبرها غير هذا الذي يقصّه علينا الأخباريون. وهو على حد قولهم من معاصري الملك بختنصر ملك بابل "604 - 561 ق. م" الذي أوحى الله إليه على لسان "برخيا بن أحنيا بن زربابل بن سلتيل" أن يغزو العرب في أيام ابنه معدّ بن عدنان على حد قول الأخباريين1. ويزعم الأخباريون أنهم وجدوا في كتب "برخيا" هذا نسب عدنان، وأنه كان معروفًا عند أهل الكتاب وعلمائهم، مثبتًا في أسفارهم. واستشهدوا على نسبه بشعر لأمية بن أبي الصّلت2. فمن ذرية عدنان إذن، تفرعت هذه القبائل التي سأتحدث عنها في هذا الفصل.

_ 1 الطبري "1/ 291". 2 الإنباه "ص47".

وقد بخل الأخباريون على عدنان، فلم يمنحوه من الولد غير ولدين، هما: معد، والحارث وهو عكّ1. وأمهما: منهاد بنت لهم بن جليد بن طسم2. وقد بخلوا عليه بأسماء نسائه أيضًا على ما يظهر، إذ لم يذكروا لنا اسم زوجة أخرى له. ولا ندري نحن، وقد عشنا بعدهم بقرون، سر هذا البخل الشنيع. ومن نسل هذين الولدين تفرعت قبائل عدنان، فأولد معد نزارًا3، وأضاف بعض النسابين قضاعة إليه. وأمهما معانة بنت جوشم بن جهلمة بن عامر بن عوف بن عديّ بن دُب بن جرهم4. وقد أشرت إلى اختلاف النسابين في نسب قضاعة وإرجاع بعضهم إياه إلى معدّ وبعضهم إلى قحطان، وإلى محاولة كل فريق جرهم إليه، لعوامل سياسية بحتة وإن اكتسبت صبغة نسب وأصل وحسب، فالموضوع هو تكتل وتحزب وتنافس. وقضاعة كتلة من القبائل كبيرة، لذلك كان لاجتذابها إلى أحد المعسكرين السياسيين المتطاحنين أهمية عظيمة في سياسة ذلك العهد، لذلك نجد نَسّابي كل فريق يحاولون جهدهم إثبات نسب قضاعة في فريقهم، حريصين على نفي نسبتها إلى الفريق المعارض، وإخراجها منها، وتفنيد حجج الخصوم. هذا أبو عبد الله الزبيري "156 - 236هـ" وهو قرشي، ومعدود من مشاهير النسابين، يذكر نسب قضاعة فيقول: "وقد انتسبت قضاعة إلى حمير، فقالوا: قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ، وأمه عُكبرة، امرأة من سبأ، خلف عليها معد، فولدت قضاعة على فراش معدّ، وزَوّروا في ذلك شعرًا فقالوا: يا أيها الداعي ادعنه وأبشر ... ولكن قضاعيًّا ولا تَنَزّرْ قضاعة بن مالك بن حمير ... النسب المعروف غير المنكرْ

_ 1 وقد منحه ابن الكلبي خسمة أولاد. هم: "معد، والديث، وأبي، والعي، وعديد. فولد الديث: الحارث، وهو عك. فولد عك بن الديث: الشاهد وصحارا. وهو غالب." جمهرة النسب "ورقة 3". 2 أبو عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري: كتاب نسب قريش تحقيق "ليفي بروفنسال" "ص5". "وقد قيل: عك بن الديث بن عدنان"، جمهرة "ص8"، وأمهم مهدد بنت اللهم بن جلحب من جديس"، جمهرة النسب "ورقة 3". 3 طرفة الأصحاب "ص57"، سبائك الذهب "ص20"، ابن خلدون "2/ 300". 4 نسب قريش "ص5".

قال: وأشعار قضاعة في الجاهلية، وبعد الجاهلية، تدل على أن نسبهم في معدّ"1. وجعل ابن حزم لمعدّ خمسة أولاد، هم: نزار بن معدّ، وإياد بن معدّ، وقنص بن معدّ، وعبيد الرماح بن معدّ، والضحاك بن معدّ. وذكر أن من الأخباريين من يزعم أن ملوك الحيرة من المناذرة هم من ولد قنص، وأن عبيد الرماح دخلوا في بني مالك بن كنانة، وأن الضحاك بن معد هو الذي أغار على بني إسرائيل في أربعين من تهامة2. ونسب ابن الكلبي لمعد جملة أولاد آخرين3. ويذكر بعض الأخباريين أن الإمارة بعد معدّ على العرب كانت إلى قنص بعد أبيه، فأراد إخراج أخيه نزار من الحرم، فأخرجه أهل مكة، وقَدّموا عليه نزارًا4. وقد ولد لنزار مضر وإياد، وأمهما، خبيّة بنت عك بن عدنان، وربيعة وأنمار، وأمهما حُدالة بنت وعلان بن جوشم بن جهلمة بن عامر بن عوف بن عديّ بن دُبّ بن جرهم، فهما ليسا صريحين في نظر النسابين كمضر وإياد، لأنهما ليسا مثلهما من أب عدناني وأم عدنانية. ومن النسابين من قال: إن "ربيعة ومضر الصريحان من ولد إسماعيل"5، فلم يجعل إيادًا بذلك من العدنانيين الصريحين. وفي رواية الأخباريين أن نزارًا حينما شعر بدنو أجله قسم ما عنده على أولاده، فجعل لربيعة الفرس، ولمضر القبة الحمراء، ولأنمار الحمار، ولإياد الحلمة والعصا. ثم تخاصموا بعد ذلك، واتفقوا على التحكيم، فحكم بينهما أفعى نجران6.

_ 1 نسب قريش "ص5". 2 جمهرة "ص8". 3 جمهرة النسب "ورقة 3 وما بعدها". 4 ابن خلدون "2/ 300". 5 نسب قريش "ص6"، "ولد نزار بن معد مضر وإيادا، وأمهما سودة بنت عك بن الديث بن عدنان، وربيعة، وأنمارًا، وأمهما الحدالة بنت وعلان بن حوثم بن جلهمة بن عمرو بن هلينية بن دوة"، جمهرة النسب "ورقة 4"، سبائك الذهب "ص20". 6 ابن خلدون "2/ 300"، نهاية الأرب "2/ 310".

ولم يجزم ابن حزم في نسبة أنمار نزار، فبعد أن ذكر مضر وربيعة وإيادًا، وهم ولد نزار، قال: "وقيل: أنمار"، ثم قال: "وذكروا أن خثعمًا وبجيلة من ولد أنمار"1. أما أبو عبد الله المصعب بن عبد الله مصعب الزبيري، فأثبت نسب أنمار في نزار، وذكر أن من أنمار بجيلة "انتسبوا إلى اليمن، إلا من كان منهم بالشام والمغرب، فإنهم على نسبهم إلى أنمار بن نزار"2. ويظهر أن نسابي خثعم وبجيلة يأبون انتسابهم إلى أنمار، إذ ذكروا ذلك، ويرون أن أراش بن عمرو تزوّج ابنة أنمار، وهي سلامة، فولدت له ولدًا سمي أنمار بن أراش. ويذكر النسابون أنه لم يشتهر أحد من ولد أنمار3. ومعنى هذا أن هذه القبيلة، كان قد ضعف حالها وذابت في غيرها، لذلك لم يذكر لها النسابون شيئًا من البطون. وقد نسب "الزبيري" خثعمًا إلى أقبل "أفتل" بن أنمار بن نزار، وذكر أن خثعمًا هو اسم جبل تحالفوا عليه، "فنسبوا إليه، وهم بالسراة على نسبهم إلى أنمار بن نزار. وإذا كانت بين اليمن فيما هنالك وبين مضر حرب، كانت خثعم مع اليمن على مضر". كذلك نسب خزيمة، وهو يشكر إلى أنمار4. وكان إياد على رواية الأخباريين أكبر أولاد معد5، وإليه يرجع نسب كل إيادي. وأولد إياد زهرًا ودعميًّا ونمارة، ومن نسلهم تفرعت سائر إياد6. وقد ارتحلت إياد عن منازلها الأصلية، بسبب الحروب، فذهب قسم كبير منها إلى العراق حيث نزلوا في الأنبار وفي عين أباغ وسنداد وتكريت وبطن إياد وباعجة وأماكن أخرى، وذهب قسم آخر منهم إلى البحرين حيث انضموا إلى قضاعة، كما سكن قسم منهم في بلاد الشام7.

_ 1 جمهرة "ص9". 2 نسب قريش "ص7". 3 سبائك الذهب "ص20". 4 نسب قريش "ص7". 5 خلاصة "ص58". 6 جمهرة "ص208". نهاية الأرب "2/ 310" "طبعة الكتب المصرية"، صبح الأعشى "1/ 336" "طبعة دار الكتب المصرية". 7 الأغاني "15/ 93". Ency, ii, p. 565.

ويروي الأخباريون أن إيادًا الذين كانوا اختاروا الإقامة في البحرين وهجر بعد تركهم مواطنهم القديمة في تهامة اضطروا إلى ترك مواطنهم الثانية والهجرة منها إلى العراق على أثر قدوم بني عبد القيس وشن بن أفصى ومن معهم مهاجرين من منازلهم إلى هجر والبحرين، فإن هؤلاء القادمين الجدد لما بلغوا هجر والبحرين ضاموا من وجدوهم بها من إياد والأزد، ثم أجلت عبد القيس إيادًا عن تلك البلاد، فساروا نحو العراق، وتبعتهم شن بن أفصى، فعطفت عليهم إياد واقتتلوا معهم حتى كاد القوم يتفانون، وقد بادت بسبب ذلك قبائل من شن1. أما منازل إياد القديمة، فكانت تهامة مع أبناء أنمار ما بين حد أرض مضر إلى حد نجران وما والاها وصاقبها من البلاد2. ثم فارقت أنمار إخوتها ربيعة ومضر وإيادًا، فكثرت إياد وزاد عددها وكثرت قبائلها، فأخذت تعتدي على أبناء ربيعة ومضر، فوقعت بينها وبينهم من جراء بغيها هذا حروب، واجتمعت مضر وربيعة عليها، ثم تحاربوا في موضع من ديارهم يسمى "خانقًا" وهو لكنانة، فغلبت إياد، وظعنت من منازلها، وافترقت عن إخوتها، وتفرقت على رأي بعض الأخباريين ثلاث فرق: "فرقة مع أسد بن خزيمة بذي طوى، وفرقة لحقت بعين أباغ. وأقبل الجمهور حتى نزلوا بناحية سنداد. ثم اتفقوا، فكانوا يعبدون ذا الكعبات: بيتا بسنداد -وعبدتها بكر بن وائل بعدهم- فانتشروا فيما بين سنداد وكاظمة، وإلى بارق والخورنق وما يليها، واستطالوا على الفرات، حتى خالطوا أرض الجزيرة، فكان لهم موضع دير الأغور ودير الجماجم ودير مرة، وكثر من بعين أباغ منهم، حتى صاروا كالليل كثرة، وبقيت هناك تغير على من يليها من أهل البوادي، وتغزوا مع ملوك آل نصر المغازي"3، وحالها حسن معهم ومع الأكاسرة، حتى حدث حادث أفسد ما بينهم وبين الفرس، يرجعه الأخباريون إلى اعتداء نفر من إياد على نسوة من أشراف الأعاجم، وذلك في أيام "أنو شروان بن قباذ" أو "كسرى بن هرمز"، فسار إليهم الفرس، فانحازت إياد إلى الفرات، وجعلوا يعبرون إبلهم بالقراقير، ويجوزون الفرات. فتبعتهم الأعاجم، وكان على إياد يومئذ "بياضة

_ 1 البكري "1/ 80 وما بعدها". 2 البكري "1/ 18". 3 البكري "1/ 69 وما بعدها".

ابن رباح بن طارق الإيادي". فلما التقى الناس، ارتجزت "هند بنت بياضة" شعرًا مشهورًا معروفًا، أوله: نحن بنات طارق ... نمشي على المفارق1 ثم هجمت إياد على الفرس، وهزمتها آخر النهار، وقتلت الجيش الذي كان يتعقبها، فلم يفلت منه إلا الشريد، وجمعوا جماجمهم، فجعلوها كالكوم، فسمي ذلك الموضع دير الجماجم2. هذه رواية من عدة رويات وردت عن الحرب التي وقعت بين الفرس وإياد، وهي الرواية الوحيدة التي يرد فيها خبر انتصار إياد على الفرس. أما الرويات الأخرى، فتقول بانتصار الفرس على إياد. فرواية أبي علي القالي مثلًا عن رجاله تنص على غزو أنو شروان لإياد على أثر اعتداء نفر من إياد على نسوة الأعاجم، وتعقيبه لهم، وقتله خلقًا منهم، حتى اضطر بعضهم إلى النزول بتكريت، وبعضهم أرض الموصل والجزيرة، عندئذ بعث أنو شروان ناسًا من بكر بن وائل مع الفرس، فنفوهم عن تكريت والموصل إلى قرية يقال لها الحَرَجيّة، ثم التقوا بهم ثانية في هذا الموضع، فهزمهم الفرس، وقتلت منهم كثيرًا، ودفنت أجسادهم بها في مقبرة ذكر صاحب الرواية أنها كانت معروفة بها إلى يومه. وسارت البقية حتى نزلت بقرى من أرض الروم، وسار بعضهم إلى حمص وأطراف الشام. وكان الحارث بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان فيمن سار إليهم من بكر بن وائل مع الأعاجم، فأجار ناسًا من إياد، كان فيهم: أبو دواد الإيادي3. وفي رواية أخرى أن إيادًا كانت مقربة عند الفرس، حتى إن كسرى بن هرمز كان قد اتخذ جماعة منهم امتازوا بحسن الرماية، فجعلهم رماة عنده، وجعلهم مراصد على الطريق فيما بينه وبين الفرات لئلّا يعبره أحد عليهم، إلى أن حدثت حادثة الاعتداء على النسوة، فغضب كسرى على إياد، وأرسل جيشًا

_ 1 وهو من الرجز القديم، نسب إلى نساء أخريات غير هند بنت بياضة، البكري "1/ 70 حاشية 2"، شرح الحماسة للتبريزي "3/ 35". 2 البكري "1/ 70". 3 "جار كجار أبي داود"، البكري "1/ 71".

عليهم، لحقهم وقد عبروا دجلة، فجثا الإياديون على الركب، ورموا الفرس رشقًا واحدًا. عندئذ أمر كسرى بإرسال الخيل عليهم، وأمر "لقيط بن يعمر بن خارجة بن عَوْبَثان الإيادي"، وكان كاتبه بالعربية وترجمانه، وكان محبوسًا عنده أن يكتب إلى من كان من شداد قومه، فيما بينهم وبين الجزيرة، أن يقبلوا إلى قومهم، فيجتمعوا، ليغير على إياد كلهم، فيقتلهم. فكتب لقيط إلى قومه ينذرهم كسرى، ويحذرهم إياه في جملة قصائد رواها الأخباريون1. فهربت إياد وأمر كسرى الخيل، فأحدقت بهم وبالذين بقوا من خلف الفرات. ثم وضعوا فيهم السيوف، ومن غرق منهم بالماء أكثر ممن قتل بالسيف. ولما بلغ كسرى شعر لقيط قتله2. أما من هرب من إياد إلى الشام، ومن كان قد هاجر إليها، فقد دان للغساسنة، وتنصر كأكثر عرب الروم، ولحق أكثرهم بلاد الروم فيمن دخلها مع جبلة بن الأيهم من غسان وقضاعة ولخم وجذام3. ولدينا رواية أخرى في أسباب تسمية موضع دير الجماجم بهذا الاسم، تشير إلى حدوث معركة بين الفرس وإياد، وقتل إياد لقوم من الفرس، ولكنها حادثة أخرى غير الحادثة المتقدمة على ما يظهر، يرويها ابن الكلبي، خلاصتها: أن رجلًا من إياد اسمه بلاد الرماح أو بلال الرماح، وهو أنبت بن محرز الإيادي، قتل قومًا من الفرس، ونصب رءوسهم عند الدير، فسمي دير الجماجم. ولم تذكر هذه الرواية زمن حدوث هذا القتل، وهل كان قبل إجلاء إياد عن العراق أو بعده كما جاء في الروايات السابقة؟ وهل كان هذا انتقامًا من الفرس بعد ما فعلوه بإياد؟ غير أن هناك رواية أخرى يرويها ابن الكلبي أيضا تشير بوضوح إلى أن فتك إياد بالفرس في موضع دير الجماجم إنما كان بعد نفي كسرى إياهم إلى الشام وفتكه بهم، أي أن هذا الفتك كان عملا انتقاميًّا من الفرس، لما فعلوه بإياد. يقول ابن الكلبي: "كان كسرى قد قتل إيادًا، ونفاهم إلى الشام، فأقبلت ألف فارس منهم حتى نزلوا السواد. فجاء رجل منهم وأخبر كسرى

_ 1 منها: سلام في الصحيفة من لقيط ... على من بالجزيرة من إياد البكري "1/ 72 وما بعدها". 2 البكري "1/ 73". 3 البكري "1/ 75"، الأغاني "2/ 23 وما بعدها"، كحالة "1/ 53".

يخبرهم، فأنفذ إليهم مقدار ألف وأربعمائة فارس ليقتلوهم، فقال لهم ذلك الرجل الواشي: انزلوا قريبًا حتى أعلم لكم علمهم. فرجع إلى قومه وأخبرهم، فأقبلوا حتى وقعوا بالأساورة، فقتلوهم عن آخرهم، وجعلوا جماجمهم قبة. وبلغ كسرى خبرهم، فخرج في أهليهم يبكون. فلما رآهم، اغتم لهم، وأمر أن يبنى عليهم دير سمي دير الجماجم"1. وهذه الرواية عن فتك إياد بالفرس، وهي أقرب إلى المنطق من الرواية الأولى التي ذكرتها عن النزاع بين كسرى وإياد. على أن هناك أخبارًا أخرى ذكرها الأخباريون في تعليل اسم موضع "دير الجماجم" لا تشير إشارة ما إلى هذا الاصطدام بين الفرس وإياد، إنما أشار بعضها إلى حرب وقعت بين إياد وبين بني نهد في هذا المكان، قتل فيها خلق من إياد وقضاعة، ودفنوا هناك، فسمي الموضع بهذا الاسم، كما نسبت الحرب إلى قبائل أخرى لم يرد بينها اسم إياد2. وفي رواية الأخباريون عن فتك كسرى بإياد، ونفيه إياهم إلى الشام، مبالغة كبيرة ولا شك. فإننا نجدهم أنفسهم يذكرون إيادًا مع الفرس تحارب في معركة "ذي قار"، ثم يذكرون أنها اتفقت سرًا مع بكر على أن تخذل الفرس يوم اللقاء. وقد خذلتهم بالفعل، إذ ولت منهزمة ساعة اشتداد القتال فانهزمت الفرس3. ثم تراهم يذكرون إيادًا في أخبار الفتوح، فيروون أنها حاربت تحت إمرة "بهران بن بهران جوبين" المسلمين، أي أنها كانت تحارب مع الفرس في العراق4. وأن صلاتهم كانت حسنة بهم. وهذا يناقض ما زعموه عن نفي الفرس لهم عن العراق. ولم تكن إياد من القبائل العربية النصرانية التي مالت إلى تأييد المسلمين، ففي الفتوحات الإسلامية للعراق كانوا مع الفرس على المسلمين وإن ساعدهم قسم منهم بالاتفاق معهم سرًّا، كما حدث في فتح تكريت. وفي الشام انضم قسم منهم إلى "هرقل" "heraclius" في محاولاته اليائسة التي قام بها للاحتفاظ ببلاد الشام ولاستخلاص ما استولى عليه المسلمون من تلك البقاع. ولما حلت الهزائم بالروم، فضل قسم منهم الهجرة إلى بلاد الروم والإقامة فيها. وقد كان ذلك عن عاطفة دينية ولا شك5. غير أن هذا لا يعني أن جمهرة إياد كانت كلها مع الروم.

_ 1 البلدان "3/ 131". 2 البلدان "4/ 131". 3 الطبري "2/ 253 وما بعدها". 4 Ency., II, p. 566. 5 Ency., II, p. 566.

ذكرت أن من المواضع التي كانت لإياد في العراق، موضع سنداد. ويفهم من روايات الأخباريين عنه، أنه قصر ونهر ومنازل نزلت بها إياد حين مجيئها إلى العراق، وأنه كان في الأصل اسم حاكم فارسي كان قد عين على هذه المنطقة، فأقام بها مدة طويلة، وبنى أبنية كثيرة من جملتها القصر الذي ذكر في شعر ينسب إلى الأسود بن يعفر النهشلي، جاء فيه: أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد وأنه أيضًا اسم قصر كان العرب تحج إليه1، وهو الذي قصده الهمداني بقوله: "وكانوا يعبدون بيتًا يسمى ذا الكعبات، والكعبات حروف الترابيع"2. ويظهر من روايات الأخباريين عن هذا القصر أنه كان من القصور الضخمة المعروفة. يظهر أنه كان مربع الشكل، أو ذا مربعات ولذلك عرف ب "الكعبات"، وب "ذي الكعبات". وذكر أيضًا أنه كان لربيعة، وأنها كانت تطوف حوله حيث قالوا: "الكعبات، بيت كان لربيعة، كانوا يطوفون به"3. ويظهر من أقوال الأخباريين وجود عدة بيوت كانت على هيأة كعبات في جزيرة العرب لعبادة الأصنام، تحج القبائل إليها وتطوف حولها، سأتحدث عنها في الجزء الخاص بالحياة الدينية عند العرب قبل الإسلام، ومنها بيت كان ب "أحد" على رواية، أو على مقربة من شداد "سنداد" على رواية ابن دريد، أو على شاطئ الفرات على رواية تنسب إلى ابن الكلبي عرف ب "السعيدة" كانت ربيعة تحجه في الجاهلية4، وأظنهم يقصدون هذا البيت بيت سنداد. أما مضر5، فولد إلياس والناس، ويعرف أيضا بعيلان، وأمهما الحنفاء

_ 1 البلدان "5/ 149 وما بعدها". "والبيت ذي الكعبات من سنداد"، اللسان "2/ 213". تاج العروس "1/ 457"، الأصنام "ص45". 2 الصفة "ص171" "طبعة القاهرة 1953"، بعناية محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي". 3 تاج العروس "1/ 457"، "اللسان "2/ 213"، "وكان لربيعة بيت يطوفون به، يسمونه الكعبات وقيل ذا الكعبات". 4 تاج العروس "2/ 378"، لسان العرب "4/ 199". 5 تاج العروس "4/ 544"، جمهرة "9"، صبح الأعشى "1/ 339"، منتخبات "ص35، 55".

ابنة إياد بن معدّ1، وسماها ابن حزم "أسمى بنت سود بن أسلم بن الحارث بن قضاعة"2، فهي قضاعية على هذا الرأي. وجعل بعض النسابين أم إلياس امرأة دعوها الرباب بنت إياد المعدية3، فهي إذن على هذه النسبة من معد. ومضر هو شعب في نظر أهل الأنساب، والشعب في عرفهم أعظم من القبيلة4، فهو أكبر وحدة اجتماعية سياسية في اصطلاح النسابين، وهو من أعظم شعوب مجموعة عدنان، ولم يعثر على هذا الاسم في الكتابات الجاهلية، ولا في مؤلفات الكلاسيكيين. أما اسم معدّ، فقد أشير إليه كما ذكرت سابقًا في بعض مؤلفات الكلاسيكيين. وأما اسم نزار فقد ورد في نص النمارة الذي يرجع عهده إلى سنة 328 للميلاد. وقد عرف مضر ب "مضر الحمراء" عند النسابين، ويقولون إنه عرف بذلك "لأن أباه أوصى له من ماله بالذهب". ويظهر أنها كانت قبيلة عظيمة عند ظهور الإسلام، ثم اندمجت في غيرها من قبائل هذه المجموعة: مجموعة عدنان، حتى تغلبت على مضر تسمية قيس، أي تسمية أبناء قيس عيلان "قيس بن عيلان" "قيس عيلان" في الإسلام، فصارت "قيس" تؤدي معنى العدنانية، واستعملت في مقابل عرب اليمن قاطبة، فيقال: قيس ويمن5. وولد لإلياس مدركة واسمه عامر، وعمرو وهو طابخة، وقمعة واسمه عمير، وأمهم خندف، واسمها ليلى بنت حُلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وقد نسبوا إلى أمهم فقيل لهم خندف6. وقد حصر بعض النسابين نسل خندف في مدركة وطابخة، ولذلك حصروا قبائل مضر في أصلين خندف وقيس عيلان7.

_ 1 نسب قريش "ص7"، سبائك الذهب "ص21". 2 جمهرة "ص9". 3 نهاية الأرب "2/ 325". 4 منتخبات "ص55". 5 صبح الأعشى "1/ 329". وهناك جملة تفاسير ل "مضر الحمراء"، نهاية الأرب "2/ 310". 6 "خندف: فعلل، بكسر الفاء واللام" منتخبات "ص55"، جمهرة النسب "ورقة 4". وتجد في هذه الورقة تفسير ابن الكلبي على طريقته المألوفة في وضع القصص عن معنى مدركة وطابخة وقمعة وخندف، نهاية الأرب "2/ 330"، اللسان "خندف". 7 نسب قريش "ص7"، جمهرة "ص9"، طرفة الأصحاب "ص57"، تاج العروس "3/ 544"، صبح الأعشى "1/ 339"، كحالة "3/ 1107"، منتخبات "ص55".=

أما مدركة1، فولد له خزيمة، وهذيل. وأمهما سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار2، ونسب بعضهم له ولدًا هو غالب3. وولد خزيمة كنانة. وأمه عوانة بنت قيس بن عيلان4، وأسدًا، وأسدة، والههون، وأمهم برّة بنت مرّ بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن مضر بن نزار، وهي أخت تميم بن مرّ5. وهذيل قبيلة متسعة، لها بطون كثيرة6. وليس النسابون على اتفاق بينهم في تعيين أولاد أسدة، فجعلهم بعضهم جذامًا ولخمًا وعاملة، ونسب هؤلاء في اليمن كما أشرت إلى ذلك في أنساب قبائل قحطان على رأي أكثر النسابين7. وأما نسل الهون8 فهم: عضل9، وديش10، ويعرفون

_ = قال العجاج: لا قدح إن لم تور نارا بهجر ... ذات سنى يوقدها من افتخر من شاهد الأمصار من حيي مضر يعني قيسا وخندف. وقال جرير: إذا أخذت قيس عليك وخندف ... بأقطارها لم تدر من حيث تسرح المبرد "ص1 وما بعدها". 1 صبح الأعشى "1/ 348"، ابن خلدون "2/ 319". 2 نسب قريش "ص8"، وهي "سلمى بنت أسلم بن الحاف بن قضاعة"، في جمهرة النسب "ورقة 4". 3 جمهرة "ص9"، وأضاف ابن الكلبي إليهم "غالبا" و "سعدا" و "قيسا"، وأمهم "ليلى بنت السيد؟ بن الحاف بن قضاعة"، جمهرة النسب "ورقة 4". 4 "ويقال: هند بنت عمرو بن قيس عيلان"، جمهرة النسب "ورقة 4". 5 نسب قريش "ص8"، جمهرة" ص9". "وعبد الله"، جمهرة النسب "ورقة 3". 6 صبح الأعشى "1/ 349". 7 نسب قريش "ص8 وما بعدها"، "وأسدة. فجذام، تنسب إلى أسدة"، جمهرة "ص9" جمهرة النسب "ورقة 4". 8 "الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر"، نهاية الأرب "2/ 394"، صبح الأعشى "1/ 349"، لسان العرب "17/ 231"، كحالة "3/ 1235"، أبو الفداء "1/ 107". 9 صبح الأعشى "1/ 349"، لسان العرب "13/ 480"، الصحاح للجوهري "2/ 215". كحالة "2/ 787". 10 "الديش بن مليح بن الهون"، صبح الأعشى "1/ 349"، تاج العروس "7/ 316"، "الديش بن الهون. وهو أخو عضل. ويقال لهاتين القبيلتين، وهما: عضل والديش القارة" أبو الفداء "1/ 107".

بالقارة1، وهم بنو بيشع بن مليح بن الهون2. على حدّ قول بعض النسابين وبطنان من خزاعة هما الحيا والمصطلق، حلفاء لبني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. ويعرفون على حد قولهم بالأحابيش: أحابيش قريش. لأن قريشًا حالفت بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة على بكر بن عبد مناة، فهم حلفاء قريش3. وأولاد كنانة، هم: النضر، وهو أكبر أولاده وبه يكنى، ومالك "مالكا"، وملكان، ومليك وغزوان، وعمرو، وعامر، وأمهم برّة بنت مرّ أخت تميم بن مرّ4، وهي نفسها زوج خزيمة والد كنانة، تزوجها كنانة بعد وفاة أبيه. وكانت العادة في الجاهلية أن يتزوج الولد البكر زوجة أبيه بعد وفاته إذا لم تكن أمه، وأن يرث خيار ماله، وهو زواج منعه الإسلام. ويعرف هذا الزواج بزواج المقت5. وكانت لكنانة زوج أخرى، هي هالة بنت سويد بن الغطريف، ويقصدون بالغطريف حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن النبت، وقد ولدت له حُدال وسعدًا وعوفًا ومجربة. وقد ترك هؤلاء الأولاد ذرية، فكان من نسل حدّان جماعة أقامت بعدن أبين، وكان من نسل مجربة بنو ساعدة6. أما زوج كنانة الثالثة، فكانت الذفراء: واسمها فكيهة. وهي بنت هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وقد ولدت له: عبد مناة7.

_ 1 جمهرة "ص179"، تاج العروس "3/ 510"، لسان العرب "6/ 436". الإنباه "ص73"، كحالة "3/ 935". 2 جمهرة "179". 3 "فأما الهون بن خزيمة، فهم عضل، وديش، والقارة، بنو ييثع بن الهون، وهم، وبطنان من خزاعة يقال لهما الحيا والمصطلق، حلفاء لبني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وهم كلهم يقال لهم: الأحابيش أحابيش قريش"، نسب قريش "ص9". 4 نسب قريش "ص10"، "وبنو عبد مناة"، الجمهرة "ص434"، وأضاف ابن الكلبي إليهم أولادًا آخرين، جمهرة النسب "ورقة 5". 5 نسب قريش "ص10"، جمهرة النسب "ورقة 5"، بلوغ الأرب "2/ 52 وما بعدها". 6 نسب قريش "ص10". 7 نسب قريش "ص10".

وولد النضر، وهو قريش على بعض الآراء1 مالكًا على رأي أكثر النسابين وأضاف بعضهم إليه ولدين آخرين، هما: يخلد الصلت، وأمهم عكرشة بنت عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان2. ومن يخلد قريش بن بدر بن يخلد بن النضر، وكان دليل قريش في التجارة في الجاهلية، وبه سميت قريش على رأي بعض النسابين، وباسم بدر والده دعي بدر3، وإلى الصلت بن النضر ينسب بنو مليح4 "ملح"5، على رأي، بينما يعدون من خزاعة في رأي آخر6. أما ولد مالك، فهو فهر، وهو قريش، وأمه جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعد بن الحارث بن عضاض بن جرهم7، فهي جرهمية على هذا النسب. وبه سميت قريش قريشًا على رأي أكثرية أهل الأخبار. ولهذا يقال لهم بنو فهر8. وللأخباريين روايات عديدة في معنى قريش9. وولد فهر غالبًا والحارث ومحاربًا وجندلة، وأمهم ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة10، وولد غالب بن فهر لؤيًّا وتميمًا وهو الأدرم، وأمهما عاتكة بنت يخلد بن النضرة بن كنانة11، وقيس بن غالب وقد انقرض نسله12.

_ 1 المبرد "ص2". 2 نسب قريش "ص11"، جمرة النسب "ورقة 5". 3 الجمهرة "ص10"، البلدان "2/ 88"، البكري "1/ 231"، "تحقيق السقا". 4 نسب قريش "ص11". 5 الجمهرة "ص11". 6 الجمهرة "ص11"، نسب قريش "ص11". 7 نسب قريش "ص22"، الجمهرة "ص11"، جمهرة النسب "ورقة 5". 8 قال الحطيئة: وإن الذي أعطيتهم أو منعتهم لكالتمر أو أحلى لحلف بني فهر المبرد "ص2". 9 راجع كتب اللغة مادة "قريش"، نهاية الأرب "2/ 333"، القاموس "2/ 284"، الصحاح "1/ 495". 10 نسب قريش "ص12 وما بعدها"، وأضاف ابن الكلبي أولادا آخرين إليه، جمهرة النسب "ورقة5". 11 نسب قريش "ص12"، جمهرة النسب "ورقة 5". 12 جمهرة "ص11".

ومن ولد لؤي كعب وعامر، وهما البطاح، وسامة ومن نسله بنو ناجية، وخزيمة وهم عائذة، وقد نزلوا في بني أبي ربيعة من شيبان، والحارث وهو جثم، وهم في همدان، وأمهم ماربة بنت كعب بن القين بن جسر بن شيع الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وسعد بن لؤي وهم بنانة، وقد نزلوا في بني شيبان، وأمه يسرة بنت غالب بن الهون بن خزيمة1، وعوف بن لؤي وقد دخل نسله في بني ذببيان بن غطفان بن قيس عيلان، وهم بنو مرّة بن عوف بن ذببيان رهط الحارث بن ظالم المري. وقد دخل أكثر هؤلاء الأبناء في غيرهم، ولذلك أدخلهم النسّابون فيمن دخلوا فيهم، وعدوا نَسْلَ كعب وعامر الصرحاء من ولد لؤي وحده2. وولد كعب مرَّة3، وهصيصًا4، وأمهما وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر، وعدي وأمه حبيبة بنت بجالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر5، وولد مرّة كلابًا، وأمه هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، وسرير والد هند هو أول من نسأ الشهور، ثم نسأها القلمس ابن أخيه من بعده، واسمه عديّ بن ثعلبة بن الحارث بن كنانة. ثم صار النسيء في ولده، وكان آخرهم جنادة بن عوف. وولد أيضا تيم بن مرة ويقظة بن مرة، وأمهما بنت سعد، وهو بارق بن حارثة بن عمرو بن عامر، جد قبيلة بارق6. ومن عدي بن كعب عمر بن الخطاب وزيد7. أما كلاب، فكان له من الولد قصيّ وزهرة. ومن نسل قصي: عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى8. وقد تحدثت سابقًا عن قصيّ منظم قريش.

_ 1 نسب قريش "ص13"، وتجد في هذا الكتاب بعض الاختلاف عما ورد في جمهرة النسب "ورقة 5 وما بعدها". 2 جمهرة "ص11". 3 ابن خلدون "2/ 326"، صبح الأعشى "1/ 354"، القاموس "2/ 133"، لسان العرب "2/ 326". تاج العروس "3/ 539". 4 نهاية الأرب "2/ 355"، كحالة "3/ 1219". 5 نسب قريش "ص13"، الجمهرة "ص12 وما بعدها"، جمهرة النسب "ورقة 6". 6 نسب قريش "ص13 وما بعدها". 7 المبرد "ص3". 8 نسب قريش "ص14"، الجمهرة "ص12"، جمهرة النسب "ورقة 6".

فولد عبد مناف بن قصيّ: عمرًا وهو هاشم، والمطلب وهو عبد شمس ونوفلًا. وأم هاشم وعبد شمس والمطلب عاتكة بنت مرّة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمية، وأم نوفل واقدة من بني مازن بن صعصعة السلمية، خلف عليها هاشم بن عبد مناف بعد أبيه، فولدت له ابنتين خالدة وضعينة1. ومن بطون كلاب بنو زهرة2، ومن بطون تيم3 بن مرّة أبو بكر الصديق، وعبد الله بن جدعان سيد قريش في الجاهلية، ومن بطون يقظة بن مرّة بنو مخزوم، ومنهم خالد بن الوليد4. ومن نسل هصيص بن كعب، بنو جمح، وهم ولد جمح بن عمرو بن هصيص5، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص6. ومن بني سهم، عمرو بن العاص7. وقد وقعت حرب بين بني جمح وبني محارب بن فهر في موضع عرف بردم بني جمح بمكة، قتلت فيه بنو محارب بني جمح أشد القتل، فعرف ذلك الموضع بالردم، بما ردم عليه من القتلى يومئذ8. وكان أمية بن خلف على بني جمح في حرب الفجار9.

_ 1 الجمهرة "ص12". 2 "بنو زهرة بن كلاب"، تاج العروس "3/ 248"، أبو الفداء "1/ 114"، نهاية الأرب "2/ 357"، جمهرة "119 وما بعدها". 3 "تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر"، نهاية الأرب "2/ 357"، أبو الفداء "1/ 113"، صبح الأعشى "1/ 354"، كحالة "1/ 138". 4 المبرد "ص3"، الاشتقاق "ص61/ 88"، "بنو يقظة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر"، نهاية الأرب "2/ 356"، ابن خلدون "2/ 326"، أبو الفداء "1/ 113" صبح الأعشى "1/ 354، 355"، "بنو مخزوم بن يقظة" جمهرة "131 وما بعدها"، لسان العرب "15/ 68"، الاشتقاق "60"، تاج العروس"6/ 263"، "8/ 276". الإنباه "17"، كحالة "3/ 1058". 5 الجمهرة "ص150"، تاج العروس "2/ 133"، صبح الأعشى "1/ 353"، نهاية الأرب "2/ 356"، الإنباه "ص71". كحالة "1/ 202 وما بعدها". 6 الجمهرة "ص154 وما بعدها". 7 المبرد "ص3"، أبو الفداء "1/ 113"، القاموس "4/ 134"، الإنباه "71"، نهاية الأرب "2/ 356"، تاج العروس "8/ 352"، كحالة "2/ 560". 8 البكري "2/ 649" "تحقيق السقا"، أبو الفداء "1/ 113". 9 الأغاني "19/ 77".

أما نسل ربيعة بن نزار، فهم أسد وضبيعة1، ويضاف إليهما أكلب2 على بعض الروايات، ومن نسل هؤلاء تفرعت قبائل ربيعة. فمن أسد كانت جديلة وعنزة وعمير3. ومن بني عنزة بنو هزّان بن صباح بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة. وبنو جلّان بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة. وبنو الحارث بن الدؤل بن صباح بن عتيك بن أسلم. كان إذا مصر ثوبيه مصرت عنزة معه. وعرف من بني هزان آل ضور بن رزاح وهو الذي يقال إنه الحارث بن لؤي بن غالب الذي يسمى جشمًا، وجشم كان عبدًا لأبيه، حضنه فسمي به4. وتعد عنزة5 من القبائل العربية الكبيرة، وهي لا تزال من القبائل البارزة في الزمن الحاضر، ولها بطون عديدة في الحجاز ونجد وبادية الشأم والشأم. أما تأريخها قبل الإسلام، فهو مثل تواريخ القبائل الأخرى من حيث الغموض. وقد كانت تتعبد في الجاهلية لمحرق ولسعير6. وأما ولد ضبيعة7، فهم أحمس8 والحارث. ومن بني أحمس الشاعر المسيب، وهو زهير بن علس، والحارث الأضجم بن عبد الله بن ربيعة بن دوفن سيد

_ 1 ابن خلدون "2/ 300"، نسب ربيعة بن مضر بن عدنان. وهو ربيعة بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان". طرفة الأصحاب "ص62"، سبائك الذهب "ص53"، لسان العرب "9/ 469"، صبح الأعشى "1/ 337، 339"، نهاية الأرب "2/ 328"، لسان العرب "4/ 39"، الاشتقاق "194"، كحالة "1/ 224، 2/ 663"، تاج العروس "5/ 427". 2 جمهرة "ص275"، نهاية الأرب "2/ 310، 328". 3 نهاية الأرب "2/ 328"، الاشتقاق "194". 4 جمهرة "ص276 وما بعدها". 5 ابن خلدون "2/ 300"، نهاية الأرب "2/ 328"، الاشتقاق "ص194، 202". لسان العرب "7/ 251"، جمهرة "277". تاج العروس "3/ 62"، القاموس "2/ 184"، كحالة "2/ 846 وما بعدها". 6 ency., I, p. 346. 7 الاشتقاق "ص190"، ابن خلدون "1/ 300"، نهاية الأرب "2/ 328" صبح الأعشى "1/ 339"، تاج العروس "5/ 427"، كحالة "2/ 663". 8 الاشتقاق "ص190"، كحالة "1/ 10".

ربيعة الذي نشبت بسبب مقتله حرب بين بني ربيعة، والمتلمس الشاعر. ومن بني أحمس أيضًا بنو الكلبة، وهم أولاد مرّة بن مازن بن أوس بن زيد بن أحمس بن ضبيعة، ومنهم الحُلَيْس وابن المسيب1. أما جديلة2، وهو جدّ جديلة، فولد دُعميًّا3 وجدْيًا4. وقد دخل بنوه في بني شيبان، وجدار "جدانا"5، وقد دخل نسله في بني زهير بن جشم من بني النمر بن قاسط. وولد غير ذلك في بعض الروايات6. وولد دعمي أفصى7، وولد أفصى هنبسًا وعبد القيس وجشمًا ودخل بنوه في عبد القيس، وناشمًا، ودخل بنوه في بني تغلب8. ومن نسل عبد القيس بن أفصى، شن9 ولكيز10. ومن ولد لكيز وديعة وهو جدّ بطن، وصباح، وهم بطن كذلك ونكرة، ومن بطون وديعة عمرو، وغنم، ودهن، ومن عمرو بن وديعة مالك وثعلبة وعائدة وسعد وعوف والحارث، ومن الحارث، ابن أنمار بن عمرو بن وديعة البراجم، وهم عبد شمس وعمرو وحيّ بني معاوية بن ثعلبة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن ربيعة، وهؤلاء

_ 1 جمهرة "ص275 وما بعدها". 2 الاشتقاق "196"، ابن خلدون "2/ 300"، نهاية الأرب "2/ 311"، كحالة "1/ 173"، "جديلة بفتح الجيم وكسر الدال المهملة وسكون الياء المثناة تحت وفتح اللام، وهاء في الآخر، والنسبة إليهم جدلي"، صبح الأعشى "1/ 327". 3 "دعمى"، لسان العرب "15/ 92"، القاموس "4/ 112"، تاج العروس "8/ 291". نهاية الأرب "2/ 311". 4 جمهرة "278". 5 "جدار" جمهرة "278"، "جدان بن جديلة بن أسد بن ربيعة"، تاج العروس "2/ 316، 9/ 160"، كحالة "1/ 170"، جمهرة "ص278"، سبائك الذهب "ص53"، المبرد "18". 6 سبائك الذهب "ص53". 7 نهاية الأرب "2/ 329". 8 جمهرة "ص278"، سبائك الذهب "53". 9 "شن بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار"، الاشتقاق "ص196"، تاج العروس "9/ 256"، لسان العرب "17/ 109"، الصحاح للجوهري "2/ 387"، جمهرة "282"، سبائك الذهب "ص54". 10 سبائك الذهب "ص54"، الاشتقاق "196"، لسان العرب "7/ 272".

البراجم هم غير براجم تميم1، والجارود وقد كانت له صحبة بالرسول وولي أولاده منازل رفيعة في الإسلام2. ومن نسل عجل بن عمرو بن وديعة بن لكيز، ذهل وذاهل، ومن بني ذهل ليث وثعلبة، وهما ابنا حداد بن ظالم بن ذهل بن عجل بن عمرو. ومن ليث بن حداد، بنو ذهل بن ليث، ومنهم جيفر بن عبد عمرو بن خوليّ بن همام بن الفاتك3، ومن نسل عمرو بن وديعة بنو محارب4، ومنهم الحطم بن محارب، وإليه تنسب الدروع الحطمية، وبنو الدّيل بن عمرو بن وديعة5، ومن نسل وديعة بن لكيز بنو دهن وبنو غنم، ومنهم الدّيل ومازن6. واشتهر من ولد نكرة بن لكيز، الشاعر المثقب، والشاعر الآخر الممزق، وهو شأس، والمفضل بن معشر بن أسجم وهو شاعر كذلك7. أما شن بن أفصى، فكان من نسله يزيد بن شن، يذكر أهل الأخبار أنه أول من ثقف القنا بالخط، وعديّ، والدّيل. ومنهم عمرو بن الجعيد بن صبرة بن الدّيل بن شن بن أفصى بن عبد القيس، وهو الذي ساق عبد القيس من تهامة إلى البحرين، وعرف بالأفكل8، وكان سيد ربيعة في الجاهلية، وكان ذا بغي، فسارت إليه بنو عصر، فقتلوه. ومن بني عمرو رثاب بن البرّاء، وكان على دين المسيح9. ومواطن بني عبد القيس بتهامة في الأصل، ثم ارتحلت عنها بسبب الحروب التي وقعت بين أبناء ربيعة، فذهبت إلى البحرين، فتغلبت على من كان قد

_ 1 الأغاني "1/ 209". 2 الجمهرة "ص278 وما بعدها"، المبرد "18"، الإصابة "1042". الاشتقاق "197"، المعارف "115". 3 جمهرة "ص280". 4 الصفة "132"، كحالة "3/ 1043". 5 الصحاح "2/ 186"، لسان العرب "13/ 249". 6 جمهرة "ص180 وما بعدها"، سبائك الذهب "ص54". 7 جمهرة "282"، شيخو: شعراء النصرانية "القسم الثالث: في شعراء بكر بن وائل من بني عدنان، ص400 وما بعدها". 8 جمهرة""ص282"، الاشتقاق "ص197". 9 الاشتقاق "ص197".

سكن قبلهم بها من إياد ومن بكر بن وائل وتميم. واقتسمتها بينهم، فنزلت جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز الخط وأفناءها، ونزلت شن أفصى طرفها وأدناها إلى العراق، ونزلت نكرة بن لكيز القطيف وما حوله والشفار والظهران إلى الرمل وما بين هجر إلى قطر وبينونة، ونزلت عامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو بن وديعة والعمور، وهم بنو الدّيل بن عمرو، ومحارب بن عمرو، وعجل بن عمرو الجوف والعيون والأحساء، ودخلت قبائل منهم جوف عُمان فصاروا شركاء للأزد في بلادهم1. وقد بقيت بنو عبد القيس في هذه المواضع محتفظة بها عند ظهور الإسلام. ويظن أن "aboukaiun"، وهو اسم قبيلة وموضع ذكر في جغرافية "بطلميوس" هو "عبد القيس"2. ولم يتحدث "الكلاسيكيون" شأنهم في أكثر ما كتبوه عن بلاد العرب بشيء عن هذه القبيلة. ولكن الأخباريين يروون أن عرب بلاد عبد القيس والبحرين وكاظمة غزوا السواحل المقابلة لهم من أرض إيران، وذلك لضيق معاشهم، وللضنك الذي حل بهم في عهد سابور ذي الأكتاف "سابور الثاني" منتهزين فرصة اضطراب الأمن في تلك البلاد وضعف الحكومة بسب صغر سن الملك. فلما كبر الملك واشتد، جمع جموعه وسار بها على الغازين، ففتك بهم، وأسر منهم خلقًا كثيرًا، ثم عبر البحر "فورد الخط واستقرى بلاد البحرين، يقتل أهلها ولا يقبل فداء. ولا يعرج عن غنيمة، ثم مضى على وجهه، فورد هجر، وبها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فأفشى فيهم القتل" "ثم عطف على بلاد عبد القيس، فأباد أهلها" ثم سار إلى اليمامة، فقتل بها مقتلة كبيرة، ولم يمر في طريقه بماء إلا غوره، ولا جب من جبابهم إلا طمّه، حتى وصل قرب المدينة، فقتل من وجد هناك من العرب، وأسر. ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيما بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام، فقتل من وجد بها من العرب، وسبى وطَمَّ مياههم، ثم أسكن من

_ 1 البكري "1/ 80 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 300"، نهاية الأرب "2/ 329". الاشتقاق "ص196"، صبح الأعشى "1/ 337"، القاموس "2/ 244، 387"، لسان العرب "8/ 72، 398"، الأغاني "13/ 56، 14/ 44، 103 وما بعدها". كحالة "2/ 726 وما بعدها". 2 ency., I, p. 45.

بني تغلب من البحرين دارين واسمهما هيبح والخط، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم هجر، ومن كان من بكر بن وائل كرمان، ومن كان منهم من بني حنظلة بالرملية من بلاد الأهواز1. وهم يذكرون أيضًا أن عرب الشام قد تأثروا بما فعله سابور بهم، فاتفقوا مع الروم، وانتقموا منه. ولكن سابور بعد انتصاره على الروم، عاد فاتبع سياسة استرضاء العرب، فاستصلحهم، وأسكن بعض قبائل تغلب وعبد القيس وبكر بن وائل كرمان وتوج والأهواز2. وهذه الرواية الثانية هي، ولا شك الجزء الأخير من حديثهم عن حملة سابور على بلاد العرب، أخذها الطبري أو المورد الذي اعتمد عليه من مورد كان قد جزأ الكلام، فصار الحديث الواحد حديثين اثنين. ونجد ذلك واضحًا وضوحًا تامًّا في اتفاق العبارات بين الروايتين، ثم إن الإسكان الإجباري في أرض ما ليس نوعًا من الاستصلاح والاسترضاء. وفي حديث الأخباريين عن حملة سابور على بلاد العرب ووصوله إلى مقربة من المدينة وعن تنكيله بالعرب وحرقه المدن وطمّه المياه، مبالغات كبيرة ولا شك، أخذت من موارد فارسية بولغ فيها، وليس في روايات المؤرخين الروم عن هذا الحادث ما يؤيد هذا الزعم. وكان والي البحرين عند ظهور الإسلام، المنذر بن ساوى، وهو من بني تميم، يحكمها باسم الفرس على حد رواية الأخباريين، وقد أرسل إليه الرسول رسولا عنه يدعوه وقومه من بني عبد القيس إلى الإسلام. وكان رسول رسول الله هو العلاء بن الحضرمي. فلما أتاه العلاء يدعوه ومن معه بالبحرين إلى الإسلام أو الجزية، أسلم المنذر، وأسلم جميع العرب بالبحرين3. وقد أوفدوا وفدًا عنهم إلى الرسول برئاسة المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن نصر بن عمرو بن عوف بن جزيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن بكر، فاتصل بالرسول، وصارت له صحبة ومكانة منه. ووفد منهم إلى الرسول أيضًا الجارود وهو "بشر

_ 1 الطبري "2/ 66 وما بعدها". 2 الطبري "2/ 70". 3 ابن الأثير "2/ 86 وما بعدها"، ابن خلدون "2 بقية الجزء الثاني ص 26"، المحبر "ص265".

ابن عمرو بن خناش"، وثعلبة أخو عوف بن جذيمة، وفدا في بني عبد القيس سنة تسع مع المنذر بن ساوى. وكان نصرانيًّا فأسلم. وكان بين بني عبد القيس وسكان البحرين والعربية الشرقية بصورة عامة جماعة على دين يهود، وجماعة أخرى على دين المجوس، وجماعة على دين النصارى. وقد صالح من قرر البقاء في دينه العلاء بن الحضرمي والمنذر بن ساوى على الجزية1. وينسب إلى أبي عبيدة معمر بن المثنى كتاب أخبار بني عبد القيس، اسمه "كتاب خبر عبد القيس" وإلى عَلّان الشعوبي كتاب اسمه "مثالب عبد القيس"، كذلك ينسب إلى المدائني كتاب اسمه "كتاب أشراف عبد القيس"2. ومن ولد هنب بن أفصى3 قاسط بن هنب4، وهو والد وائل بن قاسط5، والنمر6 ومن بني النمر تيم الله وأوس مناة وعبد مناة وقاسط، ومن بني تيم الله بن عامر سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط. وأبو حوط الحظائر بن جابر، والد جابر الخير، أخو المنذر بن ماء السماء لأمه7. ومن رجال بني النمر بن قاسط سنان بن مالك، وكان على الأبلة، استعمله كسرى عليها. وهو والد صهيب من أصحاب الرسول. وقد عرف "صهيب" بصهيب الرومي. وذكر ابن خلدون أنه ينسب إلى الروم8، فهل عنى بذلك

_ 1 ابن الأثير "2/ 89". 2 ency. I, p.46. 3 تاج العروس "1/ 518". لسان العرب "2/ 287"، نهاية الأرب "2/ 329"، ابن خلدون "12/ 301"، كحالة "3/ 1229". 4 لسان العرب "9/ 255"، الاشتقاق "202". 5 نهاية الأرب "2/ 330"، الاشتقاق "202"، لسان العرب "14/ 245"، القاموس "4/ 63"، كحالة "3/ 1244"، ابن خلدون "2/ 301". 6 جمهرة "283"، القاموس "2/ 149"، لسان العرب "7/ 95"، تاج العروس "3/ 586"، صبح الأعشى "1/ 338"، كحالة "3/ 1193". 7 جمهرة "ص283 وما بعدها". 8 جمهرة "ص283 وما بعدها".

أن أمه من الروم، أو أن أجداده من أصل رومي، عُدّوا من النمر بن قاسط؟ ومن أشهر ديار النمر بن قاسط رأس العين "رأس"1. وقد كانت النمر بن قاسط في جملة القبائل العدنانية الأخرى التي خضعت لحكم كندة، ويذكر الأخباريون في تعليل ذلك أن الحارث بن أبي شمر الغساني لما قتل عمرو بن حجر "ملك بعده ابنه الحارث بن عمرو، وأمه بنت عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان. ونزل الحيرة. فلما تفاسدت القبائل من نزار، أتاه أشرافهم، فقالوا: إنا في دينك، ونحن نخاف أن نتفانى فيما يحدث بيننا، فوجه معنا بنيك، ينزلون فينا، فيكفون بعضنا عن بعض. ففرق ولده في قبائل العرب، فملك ابنه حجرًا على بني أسد وغطفان، وملك ابنه شرحبيل قتيل يوم الكلاب على بكر بن وائل بأسرها وبني حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم والرباب، وملك ابنه معد يكرب، وهو غلفاء، على بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة وطوائف من بني دارم بن مالك بن حنظلة والصنائع، وهم بنو رُقَيّة قوم كانوا يكونون مع الملوك من شذاذ العرب، وملك ابنه عبد الله على عبد القيس، وملك ابنه سلمى على قيس"2. فكانت هذه القبيلة إذن في جملة القبائل العدنانية التي جمع شتاتها تاج كندة. وليس في رواية الأخباريين هذه غرابة، فقد رأينا امرأ القيس يحكم قبله قبائل عديدة، ويفرض تاجه عليها، ثم يوزّع أبناءه على تلك القبائل. ولكن هذا التوحيد لا يدوم في العادة أمدًا طويلًا، إنما يتوقف على حكمة الحكام، وعلى حسن تصرفهم، وعلى قوتهم وقدرتهم، وسلطة ذات يدهم. فإذا ظهر ضعف على الحاكم أو الحكام، أو حدث حادث، يتبين منه للقبائل الخاضعة أن من خضعت له لم يعد قويًّا متمكنًا، ثارت عليه ثم لا يلبث ذلك البناء أن ينهار. أما نسل وائل بن قاسط، فهم بكر ودثار، وهو تغلب، وعبد الله، وهو عنز، والشُّخيص3، وقد دخل نسله في بني تغلب، والحارث وقد دخل في بني عائش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة بن بكر بن وائل. أمهم كلهم هند

_ 1 ابن خلدون "2/ 301". 2 الأغاني "9/ 81 وما بعدها". 3 الجمهرة "285".

بنت مرّ بن طابخة بن إلياس بن عامر1. وولد تغلب بن وائل غنمًا، والأوس، وعمران. ومن ولد غنم عمرو ووائل ومن ولد وائل شيبان ولوذان، ومن ولد عمرو بن غنم بن تغلب حبيب ومعاوية وزيد، ومن نسل حبيب بكر وجشم ومالك، ومن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب كان الشاعر عمرو بن كلثوم، وبنوه: عبد الله والأسود، وهما شاعران كذلك، وعباد، وهو قاتل بشر بن عمرو بن عدس. وكان من بني جشم مُرّة بن كلثوم، وهو فارس من فرسان الجاهلية، وكان أخًا لعمرو بن كلثوم، وأبو حنش عاصم بن النعمان بن مالك بن عتاب وهو ابن عم عمرو بن كلثوم، وعاصم هذا هو قاتل شرحبيل بن الحارث الملك آكل المرار يوم الكلاب2. ومن بني الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب، كليب، ومهلهل، وعديّ، وسلمة بنو ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم، ومن نسل مهلهل ليلى وهي أم عمرو بن كلثوم، ومن نسل كليب هجرس بن كليب3.

_ 1 الجمهرة "ص287"، المبرد "17". 2 الجمهرة "ص287". 3 "تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار"، لسان العرب "2/ 145"، تاج العروس "1/ 231"، الاشتقاق "ص202"، القاموس "1/ 113"، الصحاح "1/ 88"، نهاية الأرب "2/ 316".

تغلب

تغلب: وتغلب من القبائل العربية الكبيرة التي ورد اسمها كثيرًا في مؤلفات الأخباريين والمؤرخين ولها أيام مع القبائل الأخرى، وهي مثل سائر القبائل العدنانية الأخرى مهاجرة على عرف النسابين، تركت ديارها وارتحلت إلى الشمال، فسكنت في العراق وفي بادية الشام، واتصلت منازلها بالغساسنة والمناذرة والروم والفرس. وكانت غالبيتها على النصرانية عند ظهور الإسلام.

وينسب النسابون تغلب إلى جد أعلى زعموا أن اسمه "تغلب"، وهو "تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار"1. وقد عرفت هذه القبيلة ب "الغلباء"2. وهو نعت يدل على فخر القبيلة بنفسها وعلى تباهيها على غيرها من القبائل. وقد ذكر بعض أهل الأخبار عنها قوله: "لو أبطأ الإسلام قليلًا، لأكل بنو تغلب الناس"3. تعبيرًا عن قوتها وكثرتها وأهميتها إذْ ذاك بين القبائل. وقيل في اسمها تغلب بنت وائل بالتأنيث، ذهابًا إلى القبيلة، كما قالوا: تميم بنت مرّ. جاء في شعر الفرزدق: لولا فوارس تغلب ابنة وائل ... ورد العدو عليك كل مكان4 وقد كانت لرؤساء تغلب الرئاسة على قبائل ربيعة، كما صار لها اللواء. أي رئاسة الحرب. فمن يحمل اللواء تكون له الرئاسة في الحرب5. ويرى أهل الأخبار أن قبيلة تغلب مثل سائر قبائل ربيعة كانت تسكن في الأصل في تهامة، ثم انتشرت فنزلت الحجاز ونجد والبحرين، فلما تحاربت مع "بكر بن وائل"، زحفت نحو الشمال حتى بلغت أطراف الجزيرة، فسكن قوم منها جهات سنجار ونصيبين، حتى عرفت تلك الديار ب "ديار ربيعة"6. وديار ربيعة بين الموصل إلى رأس عين ونصيبين و "دنيسر" والخابور، وما

_ 1 لسان العرب "2/ 145"، تاج العروس "1/ 231"، الاشتقاق "ص202"، القاموس "1/ 113"، الصحاح "1/ 88" نهاية الأرب "2/ 316"، جمهرة أنساب العرب، لابن حزم "286". 2 قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان، للقلقشندي "ص130"، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، للقلقشندي "ص287". 3 شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص283" "القاهرة 1962م"، النصرانية "125"، شرح التبريزي لمعلقة عمرو بن كلثوم "108"، "طبعة لايل"، النصرانية "125". 4 القلقشندي، نهاية الأرب "286". 5 ابن الأثير، الكامل "1/ 312". 6 نهاية الأرب "170"، قلائد الجمان "132"، سبائك الذهب "52".

بين هذه المدن والقرى. وجمعت هذه الديار بين "ديار بكر" و "ديار ربيعة" وسميت كلها ب "ديار ربيعة"1. وقد انتشرت بطون تغلب في الثرثار، بين سنجار وتكريت2. ويروي أهل الأخبار أن أول من نزل بطون تغلب في الجزيرة الفراتية هو: "علقمة بن سيف بن شرحبيل بن مالك بن سعد بن جشم بن بكر" وقد قاتل أهل الجزيرة حتى غلبهم، وأنزل قومه بها. ويؤيدون رأيهم هذا بما جاء في معلقة "عمرو بن كلثوم": ورثنا مجد علقمة بن سيف ... أباح لنا حصون المجد دينا3 وقد كان شريفًا رئيسًا في الجاهلية4 وقد أدى اتصال تغلب بالروم وبنصارى العراق والجزيرة وبلاد الشأم إلى دخول قسم منهم في النصرانية كمعظم القبائل التي دخلت العراق وبلاد الشام. وهي من القبائل المتنصرة ومن سكان الخيام5. وقد تغلب الشاعر "جابر بن حنى التغلبي"، ويقال إنه قال في شعر له مخاطبًا بهراء: وقد زعمت بهراء أن رماحنا ... رماح نصارى لا تخوض إلى الدم6 وهو بيت من قصيدة يفتخر فيها بقومه وبشجاعتهم: ومعنى هذا البيت إن صح، أن النصارى لم يكونوا أشداء في الحروب، وأنهم لم يكونوا على شاكلة العرب الوثنيين في الطعن والضرب. ومن ولد تغلب في رأي النسابين: غنم والأوس وعمران. ومن بطون غنم:

_ 1 ابن خلدون "2/ 104"، صبح الأعشى "1/ 337"، البلدان "2/ 494" "بيروت 1956م". 2 البلدان "1/ 921" "طهران". 3 جمهرة أشعار العرب "124"، شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص129"، شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص411". 4 الاشتقاق "203". 5 raccolta, p. 142. 6 النصرانية "126"، شعراء النصرانية "190".

"الأراقم". وهم جشم ومالك وعمرو وثعلبة والحارث ومعاوية وهم بنو بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب1. ومنهم: عمرو بن الخنس قاتل "الحارث بن ظالم"، وكان "الأسود بن منذر" ملك الحيرة قد طلب ذلك منه. ومنهم "الهذيل بن هبيرة" وكان قد رأس تغلب في الجاهلية2. وكان جرارًا للجيوش، أسره يزيد بن حذيفة السعدي3. ومن "بني تغلب" "السفّاح بن خالد"، واسمه "سلمة". وكان جرارًا للجيوش في الجاهلية. وإنما سمي "السفاح"، لأنه سفح المزاد يوم كاظمة، وقال لأصحابه: قاتلوا فإنكم إن أهزمتم مُتم عطشًا4. ومن بني غنم: بنو جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. ومنهم الشاعر: عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم، ومن ولده: عبد الله والأسود، وهما شاعران سيدان. وعَبّاد، وهو قاتل بشر بن عمرو بن عدس5. ومنهم "أبو حنش"، عاصم بن النعمان بن مالك بن عتاب، وهو ابن عم عمرو بن كلثوم. وهو قاتل "شرحبيل بن الحارث" الكندي، وذلك يوم الكلاب6. ومنهم "الفدوكس" الذين منهم "الأخطل"7. ومن بني جشم بن بكر بن الحارث، "كليب وائل"، ذو الصيت الشهير في كتب أهل الأخبار شقيق. "مهلهل". و "كليب وائل" هو "وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير". وقد ضرب به المثل في العز فقيل "أعز من

_ 1 المبرد، نسب عدنان وقحطان "ص17"، المعارف "32"، الاشتقاق "203"، ابن رشيق، العمدة "157". 2 الاشتقاق "339". 3 الاشتقاق "203". 4 قال الشاعر: وأخوهما السفَّاح ظمأ خيله ... حتى وردن جباء الكلاب نهالا الاشتقاق "ص203". 5 المعارف، لابن قتيبة "ص43"، شرح المعلقات، للتبريزي "ص283"، جمهرة ابن حزم "ص287". 6 ابن حزم، جمهرة "ص287". 7 الاشتقاق "204".

كليب وائل"1. وكان والده "ربيعة"، قد قاد مضر وربيعة يوم السلان إلى أهل اليمن، وأدخله "السكري" في جملة "الجرارين"2. أما السبب الذي حمل "ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير التغلبي" على مقارعة قبائل اليمن وحروبها، فهو شعور أبناء تغلب بوجوب التخلص من نفوذ اليمن عليها، ومن حكم "زهير بن جناب الكلبي" عليها. فقد زعم أهل الأخبار أن "تغلب" كانت مثل سائر قبائل "معدّ" خاضعة لنفوذ حكام اليمن، وقد سئمت من جوار الحكام الذين ينصبهم "التبابعة" عليها، فظهر رجال فيها عزموا على التخلص من ذلك النفوذ، وتكوين حلف قوي يكبح جماح اليمن يتألف من قبائل معد. وكان من بين أولئك الرجال "ربيعة بن الحارث بن زهير" والد "كليب وائل"، وكانت خطته ضرب اليمن للتخلص من حكم "زهير بن جناب" الذي كان حكّام اليمن قد أقاموه على قبائل معدّ. وجمع قبائل مضر وربيعة تحت زعامة واحدة، وبذلك تتخلص تلك القبائل من تحكم اليمن في شئونها ومن دفع الإتاوة لها. ويذكر أهل الأخبار أن "زهير بن جناب" الكلبي القضاعي، كان قد ولي أمر "معد" بمساعدة حكّام اليمن وتأييدهم له، ويذكر بعض منهم أن "أبرهة" الحبشي هو الذي نصب زهيرًا عليها وأيده وأعانه على معدّ. وذاك حينما غزا "أبرهة" نجدًا وتوسع فيها، فجاءه "زهير" ليتقرب إليه، وليعينه على بعض قبائل معدّ3. وسار "زهير" في حكم معدّ، حتى اشتط وبغى وقسا في جمع الإتاوة، فضجر الناس منه، وهاجمه "زيابة" من "بني تيم الله"، وطعنه طعنة ظن أنه قد قضى بها عليه. ولكن زهيرًا نجا منها، فجمع عندئذ قومه ومن كان معهم من قبائل قحطان وغزا بكرًا وتغلب، فانهزمت بكر ثم تغلب، وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة، وجماعة من أشراف تغلب. فتأثرت قبائل ربيعة من هذه الهزيمة، وعينت "ربيعة بن مرّة بن الحارث بن زهير التغلبي" رئيسًا

_ 1 الاشتقاق "204"، ابن الأثير، الكامل "1/ 214". 2 المحبر "ص249". 3 ابن الأثير، الكامل "1/ 205".

عليها، فحمل ربيعة ومن انقاد إليه على زهير، واسترجع الأسرى ولكن زهيرًا لم يلبث أن عاد إلى ما كان عليه من جمع الإتاوة من معد1. وكليب وائل، كما يظهر من روايات الأخباريين، رجل صلب قوي، ارتفع نجمه بعد يوم "خزازى" "خزاز" الذي أظهر قوة معدّ لما اجتمعت؛ فانتخب رئيسًا مطاعًا على هذه القبائل، وأعطي الملك والتاج، وبقي على ذلك دهرًا، حتى دخله زهو شديد، فأخذ يبغي على القبائل ويشتط في أخذ الإتاوة منها وفي اتخاذ خيرة الأرض المخصبة ذات المياه الغزيرة مناطق حمى لا يجوز لإبل غيره الرعي فيها، وفي الاستيلاء على مواضع الماء، حتى ضجرت الناس منه وسئمت حكمه وودت لو تمكنت من التخلص ممن جوره وتعسفه2. قال "ابن الكلبي": لم تجتمع معد كلها إلا على ثلاثة من رؤساء العرب، وهم: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث: والثاني ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب، وهو قائد معد يوم السلان. وهو كما رأينا والد "كليب". والثالث: كليب بن ربيعة3. ويظهر من ذلك أنه ورث رئاسة قومه ورئاسة معدّ من والده، وأنه زاد في قومه وفي مكانته يوم قاوم قبائل اليمن، وتغلب عليها في "يوم خزاز"، وكانت معدّ تهاب اليمن، وتخضع لملوكها، لذلك كان يوم السلان ويوم خزاز، نصرًا معنويًّا كبيرًا لها، جرأها على الوقوف أمام اليمن، وعلى تحديها. وجعلها تشعر بأنها قوة وأن في إمكانها صد اليمن لو اتحدت قبائل "معدّ" فيما بينها، ووحدت كلمتها تحت رئاسة رئيس قوي قدير. ويذكر أهل الأخبار أن معدا اجتمعت كلها تحت رايته، وجعلت له قسم الملك وتاجه وتحيته وطاعته، فغبر بذلك حينًا من الدهر ثم دخله زهو شديد وبغى على قومه حتى بلغ من بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه،

_ 1 المحبر "ص249"، العقد الفريد "6/ 97" "العريان"، نهاية الأرب "15/ 420 وما بعدها". 2 ابن الأثير، الكامل "1/ 214"، النقائض "905 وما بعدها" الميداني، الأمثال "1/ 254"، خزانة الأدب "1/ 301 وما بعدها"، المحبر "249"، المعارف "605 وما بعدها" "دار الكتب سنة 1960م". 3 نهاية الأرب" 15/ 396 وما بعدها"

ويقول: وحش أرض كذا في جواري، فلا يهاج، ولا تورد إبل أحد مع إبله ولا توقد ناره. وكان إذا رأى أرضًا فأعجبته حماها ومنع الناس عنها، وذلك بأن يطلق جروا يعوي، فيكون المكان الذي ينقطع فيه صوت العواء فلا يسمع، هو حد تلك الأرض. قيل ولذلك عرف ب "كليب"1. وكان "كليب" قد تزوج "جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة"، وهي أخت "جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة"2. وهي أيضًا من أشراف قومها، و "ذهل بن شيبان" من الأسر المعروفة التي نجد لها اسمًا بين الجاهليين. وقد أدت عنجهية "كليب" وغطرسته إلى مقتله، وسبب ذلك على ما يقوله أهل الأخبار أن ناقة كانت للبسوس خالة "جَسّاس"، أو إلى "جليلة أخت جساس" على رواية، أو إلى رجل اسمه "سعد الجرمي" واسم الناقة "السراب" كانت قد اختلطت بإبل "كليب" وأخذت ترعى معها، فلما رآها كليب، أنكرها واستعظم أمر دخولها المرعى مع إبله، فرمى ضرعها بسهم فنفرت وهي ترغو. فلما رأت "البسوس"، أو "جليلة" أو رأى "سعد الجرمي" الناقة وقد أصيبت بسهم كليب، عز على صاحبها ذلك، أو على صاحبتها حسب اختلاف الروايات، وذهب أو ذهبت كل واحدة منهما إلى "جساس"، صارخًا أو صارخة، وكل منهم في جواره وعند فناء بيته، فثار الدم في رأسه، وأخذته العزة، وذهب غاضبًا إلى "كليب" ومعه "عمرو بن الحارث" فكلماه، وأظهر جسّاس ما حلّ به من ذل وإهانة برمي "السراب" بالسهم، فلم يبال بهما، فطعنه "جساس" وضربه "عمرو بن الحارث"، فقتل كليب3. وقد أثار مقتل "كليب وائل" هذا حربًا استمرت أربعين سنة على ما يذكره أهل الأخبار عرفت ب "حرب البسوس". وهي في الواقع معارك وغزوات

_ 1 نهاية الأرب "51/ 396"، أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر "1/ 65 وما بعدها" "طبعة بيروت"، السويدي، سبائك الذهب "105". 2 المحبر "ص300". 3 العقد الفريد "5/ 150"، النويري، نهاية الأرب "15/ 396"، اللسان "6/ 28"، "دار صادر".

وقعت في أوقات متقطعة وقعت بين "تغلب" ومن حالفها وبين "بكر". أثارها وأشعل نارها "مهلهل" أخو "كليب" أخذًا بثأر أخيه من "بني بكر" قوم "جساس". وأعلنها دون اهتمام لتوسط عقلاء "بكر" بحل القضية حلا سليمًا حقنًا لدماء الطرفين. بتأدية دية الملوك، وهي ألف ناقة سود المقل، أو أن يأخذوا أحد أبناء "مرة بن ذهل" والد جساس، فيقتلوه بدم "كليب"1. وأبت بعض قبائل بكر الدخول في حرب مع "تغلب": واعتزلت عن "بني شيبان" قوم جساس: ومن هؤلاء "بنو لجيم" و "بنو يشكر". وانسحبت "الحارث بن عباد". وعشائر أخرى. وتولى "مرة بن ذهل" قيادة قومه من "بني شيبان" من بكر. فكانت معارك وملاحم ذكر أسماءها أهل الأخبار. منها "يوم النهى"، وهو أول يوم من أيام حرب البسوس على رواية، ويوم عنيزة، وهو أول يوم من هذه الأيام على رواية أخرى2. ثم وقعت أيام أخرى منها يوم الذنائب، وهو يوم قتل فيه: "شراحيل بن مرّة بن همام" والحارث بن مرة، وهمام بن مرّة أخو جساس من أمه وأبيه. وعمرو بن سدوس بن شيبان. وهو من بني ذهل بن ثعلبة، وسعد بن ضبيعة، وهو من بني قيس بن ثعلبة وآخرون. وقد قيل إن منهم من قتل في أيام أخرى. ومن بقية الأيام: يوم واردات، ويوم عويرضات، ويوم الحنو ويوم أنيق، ويوم ضربة، ويوم القصيبات، ويوم العصيات، ويوم قضة، وهو يوم التحالق، وفيه حَلَقَ رجال بكر لمتهم، وذلك ليميز البكريون عن غيرهم، إلى غير ذلك من أيام تجد أسماءها في كتب الأخبار والتأريخ والأدب. وقد توسط رؤساء بكر عند "مهلهل" بأن يوقف القتال، بعد أن سقط القاتل وهو "جسّاس" قتيلًا في معركة من هذه المعارك، يقال إنها معركة "يوم واردات" لكنه لم يقبل وأبي إلا الاستمرار في القتال حتى يشفي نفسه من "بني بكر"، فتدخل "الحارث بن عياد: عندئذ واشترك مع البكريين، وتولى أمر "بني بكر"، ووقعت أيام أخرى أثرت في "بني تغلب". وقد وقع

_ 1 نهاية الأرب "15/ 396"، ابن الأثير، الكامل "1/ 312". 2 أبو الفداء، المختصر "1/ 95 وما بعدها" "طبعة بيروت"، المعارف "605 وما بعدها" "دار الكتب المصرية".

"مهلهل" في يوم "قضة" وهو يوم "تحلاق اللمم" أسيرا في أيدي "الحارث بن عباد" ولم يكن يعرفه. فسأله الحارث عن مكان "مهلهل" قائلا له: دلني على عدي بن ربيعة "وهو اسم مهلهل" وأخلي عنك. فقال له عدي: عليك العهود بذلك إن دللتك عليه؟ قال: نعم. قال: فأنا عدي. فجزَّ ناصيته وتركه. وقال فيه: لهف نفسي على عدي ولم أعـ ... ـرف عديًا إذ أمكنتني اليدان1 وورد في بعض الأخبار أن الذي قتل "جساسًا" هو "الهجرس"، وهو ابن كليب، وابن أخت جساس، إذ إن أمه هي "جليلة". وكان جسّاس قد سباه، ثم زوجه ابنته ولكنه أبى إلا أن يقتل خاله، أخذًا منه بدم والده. ويقال إن جسّاسًا لم يقتل وإنما مات حتف أمه2. وفي هذا الأسر وجز الناصية كان نهاية زعامة "مهلهل" على قومه، فقد ترك أهله، وفر إلى "مذحج"، حيث نزل ب "بني جنب"، فخطبوا إليه ابنته وقيل أخته فمنعهم، فأجبروه على تزويجها، وساقوا إليه جلودًا من أدم. وكان قد كبر وتقدم في السن وضعف حاله فجاءه أجله بعد مدة غير طويلة، ويقال إن عبدين من عبيد اشتراهما "مهلهل" ليغزوان معه، سئما منه، فلما كانا معه بموضع قفر أجمعا على قتله، فقتلاه، وبذلك انتهت حياته، وحياة حرب البسوس3. ويذكر أهل الأخبار أن العرب صارت تضرب المثل في شؤم "البسوس" وفي شؤم "سراب"، فقالت "أشأم من البسوس" و "أشأم من سراب"4.

_ 1 العقد الفريد "5/ 213 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 391". 2 الكامل لابن الأثير "1/ 319"، الأغاني "4/ 294"، "5/ 294" "بيروت". 3 النويري، نهاية الأرب "15/ 396"، ابن الاثير "1/ 312"، صبح الأعشى "1/ 399"، العقد الفريد "5/ 213"، سبائك الذهب، الفصل الحادي عشر، لسان العرب "6/ 28". 4 الميداني، مجمع الأمثال "1/ 387"، ابن الأثير، الكامل "1/ 312"، سبائك الذهب "104"، مقامات الحريري "260"، "المكتبة التجارية"، فرائد اللآل في مجمع الأمثال "1/ 319 وما بعدها" "المطبعة الكاثوليكية بيروت"، إبراهيم بن السيد علي الأحدب الطرابلسي، جمال الدين محمد بن نباته المصري، سرح العيون شرح رسالة ابن خلدون "48 وما بعدها" "مصطفى البابي"، الشعر والشعراء "99 وما بعدها"، شعراء النصرانية، القسم الثاني "164 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 391".

وقد اقحم الرواة شعرًا في قصصهم عن هذه الحرب، وذلك على عادتهم في رواية أخبار الأيام، وهو لا يخلو من أثر الإثارة والعواطف القبلية. ونجد في الشعر المنسوب إلى البسوس تحريضًا أثار جسّاسًا حتى دفعه على قتل "كليب" دون أن يفكر في سوء عاقبة ذلك القتل. ويعرف هذا النوع من الشعر ب "الموثبات". وهو من شعر التحريض. ومن هذا النوع الشعر الذي تقوله النساء في ندب الموتى لإثارة شجون الحاضرين1. ويعد "مهلهل" في جملة فرسان العرب الشجعان المعروفين. كما يعدّ في جملة الشعراء المتقدمين. لقب ب "مهلهل"، لأنه أول من رقق الشعر، أو لقوله: لما توغل في الكراع هجينهم ... هلهلت أثأر مالكًا أو صنبلا فتدبر2 وقد كان لتغلب جملة رؤساء، منهم رئيس يقال له الجرّار أدرك النبي، وأبى الإسلام فبعث رسول الله زيد الخيل الشاعر المشهور وأحد الشجعان المشهورين، ليطلب منه الدخول في الإسلام كما تقول إحدى الروايات أو القتال، فأبى الإسلام وقاتل حتى قتل3. ولاعتزاز تغلب بنفسها، ولشعورها بعزتها، امتنعت عن دفع الجزية المفروض أداؤها على أهل الكتاب، وذهبت إلى عمر بن الخطاب قائلة له: "نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض". ورضيت بدفع ضعف ما يدفعه المسلمون صدقة أنفة من كلمة "جزية"4. واقتدت قبائل

_ 1 دائرة المعارف الإسلامية "3/ 645" "ترجمة إبراهيم شنتناوي وجماعته". 2 بلوغ الأرب "3/ 108"، الشعر والشعراء "99"، جمهرة أشعار العرب "218". شرح التبريزي "310"، الاشتقاق "339"، سرح العيون "56"، الكامل "1/ 316". 3 الأغاني "16/ 52" "أخبار زيد الخيل". 4 السنن الكبرى "9/ 216"، "باب نصارى تغلب تضعف عليهم الصدقة"، "فصل في شأن نصارى تغلب وسائر أهل الذمة وما يعاملون به"، كتاب الخراج "120 وما بعدها"، "القاهرة 1352هـ"، البلاذري. فتوح "185 وما بعدها".

أخرى مثل تنوخ وبهراء بتغلب، فرضيت بدفع الصدقة التي يدفعها المسلمون مضاعفة مفضلين إياها على دفع الجزية، لكي لا تكون في مصاف النبط، ومن لف لفهم من غير العرب، والمساواة فيها تعد إهانة لهم في نظرهم، وإن كان دافعوها نصارى مثلهم، وهم إخوانهم في الدين. وذكر أن "عمر بن الخطاب" لما هَمّ بفرض الجزية عليهم، قطعوا الفرات وأرادوا اللحاق بأرض الروم، فانطلق "النعمان بن زرعة" أو "زرعة بن النعمان" إلى "عمر"، فقال له: أنشدك الله في بني تغلب، فإنهم قوم من العرب نائفون من الجزية، وهم قوم شديدة نكايتهم، فلا يغن عدوّك بهم. فأرسل عمر في طلبهم وأضعف عليهم الصدقة1. ومن مواضعها التي كانت تتبرك بها قبر القديس مارسرجيوس "مارسرجس" بالرصافة2. وكانت تغلب أيضًا في جملة القبائل العدنانية التي خضعت لآل كندة، حكم منهم عليها معد يكرب المعروف بغلفاء3، وخضعت أيضًا لحكم ملوك الحيرة الذين حاولوا إصلاح البين بين تغلب وبين بكر بن وائل، فأخذوا رهائن من الطرفين، ليمنعوهم بذلك من القتال4. وقد وقعت بين الحيين حروب طويلة سأتحدث عنها في الفصل الخاص بأيام العرب قبل الإسلام. وقد ثار التغلبيون مرارًا على ملوك الحيرة وحاربوهم، والواقع أن خضوع تغلب والقبائل الكبيرة الأخرى لملوك الحيرة لم يكن إلا خضوعًا اسميًّا، يتمثل في حمل الإتاوات إلى الملوك ما داموا أقوياء، ولذلك كان ملوك الحيرة كما كان

_ 1 البلاذري، فتوح "185 وما بعدها". 2 من شعر الأخطل: لما رأونا والصليب طالعا ... ومارسرجيس وسما ناقعا وأبصروا راياتنا لوامعا ... خلوا لنا راذان والمزارعا المشرق: 1936 "ص247". 3 الأغاني "9/ 82". 4 الأغاني "11/ 42 وما بعدها".

الأكاسرة والقياصرة يسترضون الرؤساء بالهبات والمال، ومن جملة هؤلاء، سادت "مشايخ" هذه القبيلة. وأما بكر بن وائل، فكان من نسله عليٌّ، ويشكر، وبدن. وقد دخل بنو بدن في بني يشكر، ومن بني يشكر الشاعر الحارث بن حلزة، والريّان اليشكري، سيد بني بكر في حربهم مع بني تغلب. وكان من نسل عليّ بن بكر، صعب بن علي، وهو والد مالك ولُجَيْم وعكابة. ومن مالك بن صعب سهلُ بن شيبان بن زمان المعروف بالنفد1. ومن بطون يشكر، بنو غُبر بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر، وبنو كنانة وبنو حرب بن يشكر، وبنو ذبيان بن كنانة بن يشكر2. وبكر بن وائل، من القبائل الكبيرة التي كان لها شأن معروف عند ظهور الإسلام. وهي مثل القبائل العدنانية الأخرى من القبائل المهاجرة التي تركت ديارها القديمة على حد قول الأخباريين، وهي تهامة، على أثر الحروب الكثيرة المملّة التي وقعت بين العدنانيين، فهاجرت إلى اليمامة ثم إلى البحرين والعراق. ويذكر أنها أخذت تغزو مع تميم وعبد القيس حدود الفرس، حتى اضطر "سابور" الثاني المعروف ب "سابور ذي الأكتاف" حوالي سنة "350 للميلاد" على مهاجمة هذه القبائل ومحاربتها، وتخريب المنازل التي كانت تنزل بها. فلما انتهى من حروبه، أمر بنقل كثير من الأسرى إلى الأهواز وكرمان لإسكانهم هناك3. وفي القرن الخامس للميلاد، كان الحكم على بكر وأكثر قبائل معدّ على حد رواية الأخباريين في أيدي التبابعة، ثم في أيدي ملوك كندة، نصبهم التبابعة أنفسهم ملوكًا على تلك القبائل. وكان أولهم حجر آكل المرار الذي انتزع من اللخميين ما كان في أيديهم من ملك بكر بن وائل، ووسع ملكه. فلما توفي حجر تولى الملك ابنه عمرو المعروف بالمقصور من بعده، وبقيت بكر تابعة له، وكذلك لابنه الحارث مغتصب عرش الحيرة على نحو ما ذكرت. وكان الحارث

_ 1 الجمهرة"ص291"، "بنو زمان"، الاشتقاق "207"، المعارف "32". 2 المبرد "17". 3 أبو الفداء "1/ 48"، الطبري "2/ 66".

قد وزع أبناءه على القبائل، ليتولوا إدارة شئونها فعين ابنه شراحيل أو شرحبيل أو سلمة حاكمًا على بكر. فلما أعاد أنو شروان عرش الحيرة إلى أصحابه اللخميين، وانتكس الأمر مع الحارث، حتى اضطر إلى الهَرَب إلى ديار كلب أو غيرها، حيث لاقى مصيره بكيفية لم يتفق على وصفها الأخباريون، وقعت النفرة بين أولاده، ودَبَّ الخلاف بين أبنائه، فاقتتلوا، وتحزبت القبائل واقتتلت. ثمَّ وجد رؤساؤها أنها فرصة سانحة، فاستقلوا عن كندة، وعادت إلى ما كانت عليه من الفرقة والاستقلال. وترأس كليب وائل تغلب وبكرًا وقبائل معد، وقاتل جموع اليمن، وهزمهم، وعظم شأنه، وصار ملكًا زمانًا من الدهر، ثم داخله الزهو والغرور، فبغى على أتباعه، وحمى أكثر الأرضين، فلم يسمح لأحد بالرعي فيها إلا بإذنه، فقتله رجل من بكر اسمه "جساس" في قصة يرويها الأخباريون، فثارت تغلب، وطالب أخو كليب وهو "مهلهل" بالأخذ بالثأر من بكر. فجرت بين القبيلتين حروب طويلة استمرت على ما يذكر الأخباريون أربعين عامًا، هلك فيها خلق كثير وانتهت بمقتل جساس، وهلاك مهلهل في قصص مُنَمَّق من هذا القصص الذي يرويه أهل الأخبار1. وقد أضعفت هذه الحروب القبيلتين ولا شك، وقد تدخل ملوك الحيرة في الأمر، فأصلحوا بينهم: أصلح بينهم المنذر بن ماء السماء على رواية، أو عمرو بن هند في رواية أخرى2، وقد كانوا مع المنذر الثالث في غزوته التي غزا بها الغساسنة، كما كانوا مع النعمان بن المنذر. وقد حاربوا الفرس مع بني شيبان، فانتصروا عليه في معركة ذي قار. وكان يؤيد الفرس من العرب تغلب وطيء وإياد وبهراء وقضاعة والعباد والنمر بن قاسط. وقد اتفقت إياد سرًّا مع بكر بن وائل، فانهزمت حين اشتباك المعركة، فانهزمت الفرس ومن ساعد الفرس من القبائل التي اشتركت معها تأييدًا لإياس بن قبيصة، أو بغضًا لبكر كما هو شأن تغلب، أو طمعًا في ربح من الفرس أو رغبة في التقرب إليهم. وقد كان لهذه المعركة أثر كبير في نفوس القبائل، ومركزها مع الفرس.

_ 1 أبو الفداء "1/ 77 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 301". 2 الأغاني "11/ 22، 44 وما بعدها".

ويظهر أن بكرًا لم تخضع للفرس، ولا لحكم الحيرة بعد معركة ذي قار. وفي السنة التاسعة من الهجرة دخل قسم منها في الإسلام، فعين الرسول المنذر بن ساوى عليها وعلى بني عبد القيس. غير أنها ارتدت عنها بعد وفاة الرسول، فهاجمت مع قيس بن ثعلبة برئاسة الحطيم بن ضبيعة البحرين، وعينت "الغرور" ملكًا على هذه الديار. عندئذ أرسل أبو بكر عليهم جيشًا بقيادة العلاء الحضرمي ومن بقي على الإسلام من بكر وشيبان، تمكن منهم ورَجَمَهُمْ إلى حظيرة الإسلام. ومن لُجَيْم بن صعب، بنو حنيفة، وبنو عجل، ابنا لجيم بن صعب بن عليّ وبنو حنيفة هم أهل اليمامة1. ومن حنيفة الدُّئل، وتقع مواطنهم في اليمامة كذلك2. ومن ولد الدُّئل بن حنيفة بنو مرة وعبد الله وذهل وثعلبة. ومن بني مرّة هود بن علي بن ثمامة الذي توجه إلى كسرى، وعمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العُزّى، وهو قاتل المنذر بن ماء السماء يوم عين أباغ3. ومن عديّ بن حنيفة مسيلمة الكذّاب4. وأما ولد عُكابة بن صعب5. فهم: ثعلبة وهو الحضن، وقيس وقد دخل بنوه في بني ذهل. فولد ثعلبة بن عكابة شيبان، وذهل، وقيسًا، والحارث. وقد دخل بنوه في بني أنمار بن دب بن مرة بن ذهل بن شيبان. وأمهم رقاش، وهي البرشاء بنت الحارث بن العتيك بن غنم بن تغلب. وولد ثعلبة أيضًا تيم الله بن ثعلبة، وأمه الجدماء بنت جلّ بن عدي بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وأتيد، وضنّة. ودخل بنو ضنّة في بني عذرة. ودخل بنو أتيد في بني هند من بني شيبان6.

_ 1 الجمهرة"291، 439"، نهاية الأرب "2/ 331"، الاشتقاق "207"، "لحيم"، سبائك الذهب "56"، الإنباه "ص97". 2 تاج العروس "7/ 327"، لسان العرب "13/ 249"، الاشتقاق "209"، نهاية الأرب "2/ 231"، ابن خلدون "2/ 302". 3 جمهرة "ص292"، التبريزي، شرح الحماسة "4/ 15". 4 المبرد "16 وما بعدها". 5 لسان العرب "2/ 18"، الاشتقاق "212 وما بعدها"، نهاية الأرب "2/ 331"، ابن خلدون "2/ 303"، كحالة "2/ 803". 6 جمهرة "ص295 وما بعدها"، سبائك الذهب "58".

ومن ولد ثعلبة بن عكابة، تيم الله1. ومن ولد تيم الله بن ثعلبة بن عكابة، شيبان2، ومنهم أوس بن محصن، وهو الذي أطلق له السبي يوم أوارة. وصعير بن عامر وكان من فرسان بكر3. ومن بني ذهل بن ثعلبة بن عكابة، بنو سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وتقع مواطنهم في اليمامة، وكانوا أرداف ملوك كندة4. وبنو رقاش وهم الرقاشيون أبناء مالك "ملكان" وزيد "زيد مناة" ابني شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة من زوجه رقاش بنت ضبيعة بن قيس بن ثعلبة5. وكان بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة من البطون الضخمة، ورئيسهم في الجاهلية مرة بن ذهل بن شيبان، ومن نسله جساس قاتل كليب6. ومن نسل قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب، ضبيعة، وتيم، وثعلبة، وسعد. ومن نسل ضبيعة الأعشى ميمون بن قيس الشاعر المعروف، والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، وشعراء آخرون. وتعدّ هذه القبيلة في طليعة القبائل بكثرة من ظهر فيها من الشعراء7. وتقع منازل قيس في اليمامة. وكانت صلاتهم وثيقة بالمناذرة. ومنهم كتيبة الصنائع إحدى كتائب النعمان بن المنذر8. ومن بني أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، عمرو بن أبي ربيعة بالمزدلف، وابنه حارثة ذو التاج، وكان على بني بكر يوم أوارة، وهاني بن مسعود

_ 1 تاج العروس "7/ 203"، "8/ 216، الاشتقاق "212"، ابن خلدون "2/ 303". 2 لسان العرب "1/ 495"، صبح الأعشى "1/ 338"، نهاية الأرب "2/ 332"، ابن خلدون "2/ 303"، الاشتقاق "210". 3 الجمهرة"ص296". 4 لسان العرب "7/ 410"، الاشتقاق "211". 5 جمهرة "ص298 وما بعدها"، القاموس "2/ 275"، لسان العرب "8/ 195"، تاج العروس "9/ 84"، كحالة "2/ 442". 6 ابن خلدون "2/ 303". 7 جمهرة "ص300"، شيخو: شعراء النصرانية: القسم الثالث في شعراء بكر بن وائل من بني عدنان "264 وما بعدها"، كحالة "3/ 971". 8 ابن خلدون "2/ 303"، تاج العروس "2/ 242"، "10/ 233"، نهاية الأرب "2/ 332"، جمهرة "300 وما بعدها".

الشيباني الذي هاج القتال بين بني بكر وبني تميم وضبة والرباب يوم ذي قار، ومفروق واسمه النعمان بن عمرو الأصم، وهو من فرسان بكر وساداتهم، وأعشى بني ربيعة، وهو عبد الله بن خارجة بن حبيب بن قيس بن عمرو بن أبي ربيعة الشاعر1. ومن بني مرة بن ذهل بن شيبان، همام، وجساس قاتل كليب التغلبي، والمثنى بن حارثة بن سلمة بن ضمضم بن سعد بن مرّة بن ذهل الشيباني القائد الإسلامي الشهير قاتل مهران2. وأما عَك، فهم من القبائل العربية القديمة، وهم "أكيته" "AKKITAI" عند "بطلميوس"، ولا نعرف من أخبارها في نصوص المسند شيئًا، ويظهر من اختلاف النسّابين في نسبها، ومن جعلها من قحطان تارة ومن عدنان تارة أخرى، أنها كانت على اتصال بالجماعتين، واختلطت بهما بالفعل، ولهذا الاختلاط أثره في تكوين الأنساب، كما أن لمحالفاتها لقبائل عدنان وقحطان أثره في النسب. ولهذا نجد بعض النسابين يجعلون عكا ابنًا لعدنان، فهو على حد قولهم شقيق معدّ، ونجد بعضا آخر يسميه الحارث، ويجعل عكًّا لقبًا له، ثم يصيره ابنًا للديث بن عدنان فيقول: هو عك بن الديث بن عدنان، أي أنه حفيد عدنان. ثم نجد قسمًا آخر يصيره من الأزد، أي من قحطان، فيجعله عَكّ بن عدنان بن عبد الله بن الأزد، بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان3. وأرى أن "عدثان" و "عدنان" كلمة واحدة. وقع فيها تحريف، فصارت الكلمة الواحدة كلمتين، وليس من المستغرب وقوع ذلك. فالكلمتان واحدة في الحروف، ما عدا حرفي الثاء والنون اللذين يتشابهان في الرسم أيضا فيما عدا عدد النقط.

_ 1 جمهرة "ص305". 2 جمهرة "ص305 وما بعدها"، نهاية الأرب "2/ 333"، الاشتقاق "15"، كحالة "3/ 1071". 3 جمهرة "ص309"، ابن خلدون "2/ 299"، طرفة الأصحاب "ص65 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 164"، لسان العرب"12/ 357"، الصحاح "2/ 141"، الصفة "54".

وقد رجح نشوان بن سعيد الحميري، وهو من اليمن من حمير، رأي القائلين من النسّابين برجوع نسب عَكّ في الأزد، فقال: "عك قبيلة من العرب يقال لهم ولد عك بن عدنان أخي معد، ويقال لهم ولد عك بن عدثان بن عبد الله بن الأزد، وهو أصح القولين. وإنما سبب انتسابهم في معد أن غسان وقت خروج الأزد من مأرب نزلوا تهامة وبها عكّ، فخيرتهم عَكّ بين شرقي تهامة وغربيها، فاختارت غسّان الشرقي، ومكثت به زمانًا، حتى قيل لهم إن عكًّا أثخن منكم لَبَنًا، وأدسم منكم سمنًا، لأن أموالكم إذا سرحت استقبلت الشمس، وإذا راحت استقبلت الشمس، فأحرّت الشمس رءوسها، وأموال عكّ تستدبر الشمس عند الطلوع والغروب، فاستقالت غسان عكًّا، فلم تقلها، فاقتتلوا، فقتلت غسان عكًّا قتلًا ذريعًا وأجلتها عن كثير من أوطانها، فمن ثم انتفت عك من اليمن، وانتسبت إلى معد"1. وقد ذكر نشوان شعرًا جاء فيه: ألم ترَ عكًّا هامة الأزد أصبحت ... مذبذبة الأنساب بين القبائل وعقت أباها الأزد واستبدلت به ... أبا لم يلدها في القرون الأوائل ومن ولد عك علقمة، ومن ولد علقمة الشاهد، ومن ولد الشاهد غافق، من نسل هؤلاء تفرعت سائر عك2. ونجد بعض النسابين يغفلون علقمة، ويجعلون الشاهد ولدًا من أولاد عدنان، ومنهم من جعل لعك ولدين، هما: الشاهد، وعبد الله، وجعل للشاهد ولدين كذلك، هما غافق، وساعدة، ولعبد الله بطنين كذلك، هما: عبس وبولان. ومن بطون غافق، القيانة، والمقاصرة، ودهنة. ومن بطون ساعدة: لام، وصخر، ودعج، ونعج، وزعل، وقين، وقاضية، وعلاقة، وهامل، ووالبة، وقحر. ومن بطون عبس: زهير، ومالك، وطريف، وزيد، والعسالق، والحجبية، وغنم،

_ 1 منتخبات "ص74". 2 سبائك الذهب "ص63"، جمهرة "ص309"، ابن خلدون "2/ 299"، نهاية الأرب "2/ 312"، تاج العروس "7/ 37"، أبو الفداء "1/ 107"، كحالة "3/ 875".

وتاج، ومنسك، ومن بطون بولان: الهليلي، والحربي1. ويلاحظ أن معظم قبائل عكّ وبطونها، هي في اليمن، بينما هي قبائل عدنانية على رأي أكثرية النسابين. وقد علل بعض النسابين ذلك بقوله: "وإنما كثرت قبائل عك بن عدنان باليمن، لأن عكًّا تزوج بنت أشعر، فأولد فيهم، فكانت الدار واحدة لذلك السبب"2. وسمى النسابون ابن مضر عيلانَ كذلك3، وقال بعضهم "إن عيلان لم يكن بأب لقيس ولا ابن لمضر، وإنما هو قيس بن مضر. وعيلان اسم فرس لقيس مشهور في خيل العرب مفضل، وكان قيس بن مضر يسابق عليه. وكان رجل من بجيلة يقال له قيس كبة الفرس له مشهورة أيضًا، وكانا متجاورين في دار واحدة قبل أن تلحق بجيلة بأرض اليمن. وهذا على مذهب من جعل بجيلة ابنًا لأنمار بن نزار. وكان فرساهما مشهورين مذكورين، فكان الرجل إذا سأل عن قيس، أو ذكر قيسًا، قيل له: أقيس عيلان تريد، أم قيس كبّة؟ فصار قيس لا يعرف إلا بقيس عيلان، وهو قيس بن مضر بن نزار.. وقد قيل إن قيسًا سُمّي عيلان بغلام كان له، وقيل سُمّي عيلان بكلب كان له يقال له عيلان"4 إلى غير ذلك من تفاسير وتعليلات تشير إلى اضطراب النسابين والأخباريين في الناس وفي قيس عيلان5. وقد عرف المنتسبون إلى قيس عيلان ب"قيس" و "بقيس عيلان" وب"عيلان" وب"القيسيين" وب"القيسية" كذلك6، وهي من الكتل القبائلية الضخمة. ومع ذلك لا نعرف من تأريخها قبل القرن السادس للميلاد شيئًا يذكر. ولم يرد اسمها في كتب "الكلاسيكيين". وقد ذكر لها الأخباريون

_ 1 طرفة الأصحاب "ص64 وما بعدها". 2 طرفة الأصحاب "ص66". 3 سبائك الذهب "ص21"، الصحاح للجوهري "1/ 472"، لسان العرب "8/ 71". تاج العروس "8/ 40"، القاموس "2/ 244"، الاشتقاق "162"، ابن خلدون "2/ 305"، أبو الفداء "1/ 111"، نهاية الأرب "2/ 334 وما بعدها"، كحالة "3/ 972 وما بعدها". 4 الإنباه "ص81 وما بعدها". 5 راجع التفاسير الأخرى لمعنى عيلان في: الاشتقاق "ص162 وما بعدها". 6 ency., ii, p. 652.

أيامًا عديدة، تشمل حروبًا وقعت بين القبائل القيسية نفسها، وحروبًا وقعت بين قيس وقبائل أخرى من غير قيس. وقد خضعت قبائل قيس مثل أكثر القبائل العدنانية الأخرى لحكم مملكة كندة القصير1. وقد ولد الناس أو عيلان قيسا ودهمان. وقد جعل بعض النسابين قيسا ابنًا لمضر، وقالوا: إنه عيلان، وأن عيلان عبد حضنه، فنسب قيس إليه2. وقد ولد قيس عدة أولاد، هم: خصفة3، وسعد، وعمرو4. ومن ولد عمرو فهم، والحارث وهو عدوان5، وأمهما جديلة بنت مرّ بن أد، فنسبوا إليها. وقيل: هي جديلة بنت مدركة بن إلياس6. وكان لفهم عدة أولاد، منهم: قَيْن، وسعد، وعامر، وعائد، ومن بني سعد تأبط شرًّا الشاعر7. وكانت الطائف من مواطن فهم، وعدوان، ثم غلبتهم عليها ثقيف، فخرجوا إلى تهامة ونجد. ومن بني طرود، وهم بطن من فهم، كان بأرض نجد، الأعشى8. أما أبناء عدوان بن عمرو، فهم زيد، ويشكر، ودَوْس. ويقال إنهم دَوْس التي في الأزد، وكانت ديارهم بالطائف، ثم تركوها بعد نزول ثقيف فيها وارتحلوا إلى تهامة9. ومن ولد زيد بن عدوان، أبو سيارة الذي كان يدفع

_ 1 ency., ii, p. 654. 2 جمهرة "ص232"، الاشتقاق "ص162". 3 ابن خلدون "2/ 307"، لسان العرب "10/ 421" الصحاح "2/ 20"، كحالة "1/ 345". 4 جمهرة "ص232"، سبائك الذهب "ص33"، الاشتقاق "ص162، المبرد "ص10". 5 طرفة الأصحاب "ص61". 6 جمهرة "ص232"، لسان العرب "13/ 112"، الإنباه "83"، كحالة "1/ 173". 7 جمهرة "ص232"، الاشتقاق "ص162 وما بعدها"، نهاية الأرب "2/ 343"، ابن خلدون "2/ 305"، تاج العروس "9/ 16". 8 الأغاني "4/ 75"، ابن خلدون "2/ 305". 9 ابن خلدون "2/ 305"، نهاية الأرب "2/ 343"، صبح الأعشى "1/ 346"، أبو الفداء "1/ 112"، لسان العرب "19/ 270"، القاموس "4/ 360"، كحالة "2/ 760 وما بعدها".

بالناس في المواسم. ومن بني يشكر بن عدوان، عامر بن الظرب بن عمرو بن عَيّاذ بن يشكر بن عدوان، وقد عرف عامر بن الظرب هذا ب "حاكم العرب" في الجاهلية. وهو شقيق سعد، وعمر، وصعصعة، وثعلبة. ومن بني ثعلبة بن الظرب، ذو الأصبع العداوني من الشعراء المعروفين1. ومن بطون عدوان الأخرى، بنو خارجة، وبنو وابش، وبنو رهم بن ناج2. ومن نسل سعد بن قيس عيلان، غطفان ومنبه وهو أعصر3. أما غطفان، فقبيلة كبيرة معروفة، وهناك قبيلة أخرى تسمى ب "غطفان" كذلك، وهي يمانية، تنسب إلى غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام4. أما هذه، فعدنانية في عرف النسّابين، وتقع منازل هذه القبيلة شرقي خيبر وحدود الحجاز إلى جبلَيْ طيء5. وقد وقعت بين غطفان وبني عامر بن صعصعة عدة أيام، منها: يوم الرقم، ويوم القرنتين، ويوم طوالة، ويوم قرن6. وقد كانوا مع الأحزاب في محاربة الرسول. وكانوا يعبدون العُزّى. شجرة بنخلة عندها وثن تعبدها غطفان، سدنتها من بني صرمة بن مرّة، وكانت قريش تعظمها، وكانت غنى وباهلة تعبدها معهم. هدمها خالد بن الوليد، وهدم البيت وكسر الوثن. وكانوا يطوفون حول البيت، بيت بساء تشبهًا بطواف القبائل الأخرى حول الكعبة بمكة، ولهم صنم آخر موضعه في مشارف الشأم يسمى الأقيصر7. ومن رؤساء غطفان الذين سادوا فيها، زهير بن جذيمة العبسي، وقد قاد عطفان كلها، وعمرو بن جؤيّة بن لوذان الفزاري، وقد قاد غطفان كلها إلى

_ 1 جمهرة "ص232 وما بعدها"، الاشتقاق "ص164". 2 الاشتقاق "ص163". 3 جمهرة "ص233"، الاشتقاق "ص164"، المبرد "ص10". 4 ابن خلدون "2/ 256"، نهاية الأرب "2/ 308"، كحالة "3/ 889". 5 ency., ii, p.144. 6 كحالة "3/ 888". 7 المحبر "ص31". كحالة "3/ 889".

يوم الخنان إلى بكر بن وائل، وبدر بن عمرو، وقد قاد غطفان لبني أسد، وعيينة بن حصن بن حذيفة، قاد غطفان إلى بني تغلب يوم الساجسي1. ويبدأ تأريخ غطفان باستقلال قبائل معدّ، وخروجها من حكم اليمن على ما يرويه الأخباريون. وكان رئيس قبائل غطفان في هذا العهد زهير بن جذيمة العبسي سيد عبس، وعبس من غطفان، وقد تلقب بلقب ملك وجبى الإتاوة من هوازن، ثم قتله خالد بن جعفر بن كلاب، فترأس عبس ابنه قيس، وترأس ذبيان -وهي من قبائل غطفان كذلك- حذيفة بن الفزاري. وتمكن الحارث بن ظالم أحد الفُتّاك في الجاهلية من قتل خالد بن جعفر، وهو في جوار ملك الحيرة، وقد أدت هذه الحوادث إلى تشتيت قبائل غطفان، وإلى نشوب حروب بينها خاصة بين عبس وذبيان2. وقد كانت قبائل غطفان في جملة القبائل التي قاومت الإسلام، واشتركت مع القبائل الأخرى في محاربة الرسول ومهاجمة المدينة، ثم أسلمت في السنة الثامنة للهجرة. وبعد وفاة الرسول عادت أكثرية غطفان، فارتدت عن الإسلام، وهاجمت المدينة. ولكن أبا بكر تمكن من صدّها، ثم عادت كما عاد غيرها إلى حظيرة الإسلام. وولد غطفان ثلاثة أولاد، هم: ريث، وبغيض وأشجع على رواية3، وولد ريثًا وعبد العزَّى على رواية أخرى. وقد بدل رسول الله اسم عبد العزى فجعله عبد الله، فعرف نسله بالاسم الجديد4. وقد ولد ريث من الولد أهون، ومازنًا وأشجع وبغيضًا5، وذلك على رواية من جعل لغطفان ولدين، هما: ريث وعبد العزى.

_ 1 المحبر "ص192، 248 وما بعدها". 2 المحبر "ص192 وما بعدها". 3 الاشتقاق "ص167"، تاج العروس "1/ 626". 4 جمهرة "ص237". 5 جمهرة "238"، ابن خلدون "2/ 305"، نهاية الأرب "2/ 323"، تاج العروس "1/ 626"،wustenfeld, genea, tag. H.

ومن بطون أشْجَع1 بكر وسبيع، ومن سبيع حلاوة2 "خلاوة"3، وهفّان وفتيان، وقنفذ، وذبيان4. وتقع مواطن أشجع في الحجاز بضواحي يثرب، وكانوا حلفاء للخزرج من الأزد. وقد ساعدوهم في يوم بعاث5. وقد كان بينهم وبين سُلَيم بن منصور يوم كان في موضع الجر6. ومن ولد بغيض7: عبس، وذُبيان ويضاف إليهما أنمار في بعض الروايات. ومن نسل عبس قطيعة، ووردة، والحارث، وورقة8. ومن نسل قطيعة9 زهير بن جذيمة سيد بني عبس، وجميع غطفان، وقيس بن زهير بن جذيمة صاحب حرب داحس والغبراء، والربيع بن زياد وزير النعمان، والحارث بن زهير قتله كليب يوم عراعر، وشأس بن زهير قتله فَزَارة10، ومن عبس عنترة بن شدّاد البطل الجاهلي الشهير11. وهناك جملة قبائل وبطون عرفت بعبس، ففي أسد وحنيفة وهوازن وعمرو

_ 1 "أشجع"، ابن خلدون "2/ 305"، تاج العروس "3/ 92، 5/ 393"، البكري "1/ 329 وما بعدها"، لسان العرب "10/ 40"، نهاية الأرب "2/ 323"، صبح الأعشى "1/ 344". 2 "حلاوة" جمهرة "ص238"، "هكذا ضبط الاسم ليفي بروفنسال". 3 سبائك الذهب "ص50"، تاج العروس "10/ 119"، ابن خلدون "2/ 305"، wustenfeld, genea., taf, h. 4 سبائك الذهب "ص35"، "تجد أخطاء عديدة في الطبع"، تاج العروس "10/ 276". Wuatenfeld, genea., taf, h. 5 الأغاني "15، 152". 6 كحالة "1/ 29". 7 نهاية الأرب "2/ 323"، لسان العرب "8/ 390"، كحالة "1/ 86 ما بعدها". 8 جمهرة "ص239"، أما ابن دريد فاكتفى بذكر ولدين لعبس، هما: قطيعة وورقة. الاشتقاق "ص169" نهاية الأرب "2/ 323". Wuatenfeld, genea., taf, h. 9 قطيعة بن عبس"، نهاية الأرب "2/ 323". 10 جمهرة "ص239 وما بعدها"، الاشتقاق "169"، نهاية الأرب "2/ 323"، ابن خلدون "2/ 306". 11 طرفة الأصحاب "ص62".

ابن قيس عيلان وعكّ بطون عرفت بعبس، وهي تسمية معروفة وردت في الكتابات الصفوية والتدمرية والنبطية1، فهي من الأسماء القديمة المعروفة عند العرب الشماليين. وتعد عبس جمرة من جمرات العرب، وجمرات العرب هي: ضبّة بن أد، وعبس بن بغيض، والحارث بن كعب، ويربوع بن حنظلة، وبنو نمير بن عامر أو أقل من ذلك على حسب تعدد الروايات2. ويقصدون بالجمرة القبيلة التي لا تنضم إلى أحد، ولا تحالف غيرها، وتصبر في قتال من يقاتلها من القبائل، أو القبيلة التي يكون فيها ثلاثمائة فارس أو ألف فارس3. وهو تعريف لا يمكن أن ينطبق على قبيلة ما من القبائل، حتى على هذه القبائل التي قالوا عنها إنها الجمرات، فلا بد في القتال بين القبائل من حلف، ومن طلب مساعدة القبائل الأخرى. ولذلك نجد الأخباريين يذكرون أن بعض هذه القبائل طفئت لأنها حالفت القبيلة الفلانية. فذكروا أن ضبة طفئت لأنها حالفت الرباب، وأن الحارث طفئت لأنها حالفت مذحجًا، وأن عبْسًا طفئت أيضًا لانتقالها إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبلة4. وهكذا إذا استقصيت كلام الأخباريين الوارد في مناسبات أخرى عن هذه القبائل، تجد أنه يصادم ما قالوه من عدم تحالف القبائل المذكورة وانضمامها إلى القبائل الأخرى. وظنّي أن شهرة عبس في الشجاعة خاصة من دون القبائل الأخرى إنما وردت إليها من هذا القصص المروي عن عنترة بن شداد. ومن ولد ذبيان5 فزار وسعد6، وفي روايات أخرى أن والد سعد هو ثعلبة

_ 1 ency., I, p. 73. 2 المحبر "ص234". 3 تاج العروس "3/ 107"، لسان العرب "5/ 215"، القاموس "1/ 393". 4 من شعر ينسب لأبي حية النميري: لنا جمرات ليس في الأرض مثلها ... كرام وقد جربن كل التجارب نمير وعبس يتقى بفنائها ... وضبة قوم بأسهم غير كاذب تاج العروس "3/ 307"، لسان العرب "5/ 215"، منتخبات "ص22". 5 ابن خلدون "2/ 306"، تاج العروس "6/ 287، 10/ 135"، الصحاح "2/ 477"، لسان العرب "18/ 309"، الاشتقاق "171". 6 الاشتقاق "ص171"، جمهرة "ص240".

ابن ذبيان1. وولد سعد عوفًا، وهو والد مُرّة وثعلبة2. ومن بني مرّة بن عوف خزيمة، وغطفان، وسنان. ومن بني سنان هرم بن سنان، وبنو يربوع بن مرة بن عوف، ومنهم النابغة الذبياني، والحارث بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيظ من الفتاك، ومن بني مرة بنو سهم بن مرة3، ومن بني ثعلبة بن سعد، بنو بجالة بن ثعلبة بن سعد، وبنو عجب بن ثعلبة بن سعد، وبنو رزام بن ثعلبة بن سعد4. وقد وقعت بين بني عبس وذبيان حروب عديدة، سأتحدث عنها في الأيام، والظاهر أنه كانت بين القبيلتين منافسة شديدة. أما فزارة5، فولد عديًّا، وظالمًا، ومازنًا، وشمخًا6 "سمخا"7 "شمجا"8، ومرّة. ومن بني عديّ: بغيض بن مالك بن سعد الذي اجتمعت عليه قيس في الجاهلية، وبنو بدر بن عمرو بن حوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة، وهم بيت فزارة وعددهم، وبنوه حذيفة الذي يقال له ربّ معد، وحمل، المقتولان يوم الهبأة، ومالك، وعوف، المقتولان في حرب داحس والغبراء، والحارث، وربيعة، وقد سادوا كلهم9. ومن بني ظالم،

_ 1 الاشتقاق "ص174"، كحالة "2/ 514". 2 جمهرة "ص240"، نهاية الأرب "2/ 324". 3 جمهرة "241"، المحبر "192". 4 نهاية الأرب "2/ 324". 5 "فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر"، نهاية الأرب "2/ 324"، لسان العرب "6/ 361"، القاموس "2/ 84، 149"، تاج العروس "3/ 470" "9/ 117"، المبرد "11"، أبو الفداء "1/ 112". 6 الاشتقاق "171"، القاموس "1/ 262"، لسان العرب "3/ 133"، ابن خلدون "2/ 306"، تاج العروس "2/ 65"، المقريزي: البيان "ص53". 7 "سمخ" هكذا ضبطه "ليفي بروفنسال"، جمهرة "ص243". 8 "شمج" "شمخ"، كحالة "2/ 608"، بنو شمج بن فزارة من ذبيان. قال ابن بري: قال الجوهري: بنو شمج من ذبيان بالجيم قال: والمعروف عند أهل انسب: بنو شمخ بن فزارة بالخاء المعجمة ساكنة الميم، لسان العرب "3/ 133". 9 جمهرة "ص243 وما بعدها".

نعامة الذي يتمثل به في إدراك الثأر، وكان فيه هوج، ورويت له أمثال كثيرة1. ومن بني شمخ، ظويلم المعروف بمانع الحريم، "سُمّي بذلك لأنه خرج في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي، فأراد أن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، ولذلك سُمّي الحريم. وكانوا يأخذون بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، فامتنع عليه ظويلم، وقال: يا ربّ هل عندك من غفيره ... إن منى مانعة المغيره ومانع بعد منى ثبيره ... ومانعي ربي أن أزوره وظويلم الذي منع عمرو بن صرمة الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان"2. وتقع مواطن فزارة بنجد وبوادي القرى3، وانتشروا بعد ذلك -وخاصة في الفتوحات الإسلامية- في مواطن أخرى، وذهبت بطون منهم إلى شمال إفريقية، وكان لحذيفة بن بدر رئيس فزارة أثر خطير في حرب داحس التي وقعت بين عبس وذبيان، ولهم حروب وأيام مع القبائل الأخرى مثل حربها مع عمرو بن تميم ومع التيم ومع هوازن ومع بني جشم بن بكر ومع بني عامر. يذكرها أهل الأخبار في حديثهم عن الأيام. وقد قاد حذيفة بن بدر فزارة، ومرّة يوم النسار، ويوم الجفار، وفي حرب داحس حتى قتل فيها يوم الهبأة4. وقد عرف "حذيفة" هذا ب "رب معد"5. وكان ابنه "حصن" من سادات فزارة. ومن بني مازن بن فزارة: بنو العشراء6، "وبنو سيار بن عمرو الذي

_ 1 الاشتقاق "ص171". 2 الاشتقاق "172". 3 الهمداني: الصفة "174، 177 وما بعدها"، البكري "1/ 63، 160، 223، 256 ومواضع أخرى"، لسان العرب "6/ 361". 4 المحبر "ص461". 5 المحبر "ص249". Ency., ii, p. 93. 6 "بنو العشراء، وهو عمرو بن جابر بن عقيل بن هلال"، الاشتقاق "ص172". القاموس "2/ 90"، لسان العرب "6/ 351"، المحبر "ص135".

رهن قوسه بألف بعير، وضمنها لملك من ملوك اليمن، وذلك أن بني حارث بن مرّة، قتلوا ابنا لعمرو بن هند، فرهن سيّار قوسه1. ومن ولد سيّار، زبّان، وقطبة. ومن ولد قطبة هرم بن قطبة، وهو من حكماء العرب، وإليه تحاكم عامر بن طفيل وعلقمة بن علاثة، وكان ممن أدركوا الإسلام2. وأما ولد أعصر بن سعد بن قيس عيلان3، فهم: مالك، ومن نسله باهلة، وعمرو وهو غنيّ، وأمهما من هَمْدان، وثعلبة وعامر ومعاوية، وأمهم الطفاوة بنت جرم بن "زبان"4. ومن ولد مالك، سعد مناة، وأمه باهلة بنت صعب بن سعد العشيرة من مذحج، وبها عرف سعد مناة ونسله. معن بن مالك وهو الذي خلف أباه على باهلة، ومن نسله عمارة بن عبد العزى، قاتل عبد الدار بن قصي5. ومن بطون باهلة بنو قتيبة، ومنهم سهم، وبنو أصمع، ووائل بن معن6. وتقع منازل هذه القبيلة في اليمامة في الأصل7، ويظن بعض المستشرقين أنها قبيلة bahilitae" "pachylitae"" التي ذكرها "بلينيوس"8. وقبيلة "bliulaei" الوارد اسمها في جغرافية "بطلميوس"9".

_ 1 الاشتقاق "ص172"، "سيار ذو القوس رهن قوسه على ألف بعير في قتل الحارث بن ظالم، من النعمان الأكبر"، المحبر "ص461". 2 الاشتقاق "ص172"، المحبر "135". 3 تاج العروس "3/ 406"، الصحاح "1/ 366"، لسان العرب "6/ 146"، كحالة "1/ 35". 4 لسان العرب "19/ 234"، نهاية الأرب "2/ 334"، جمهرة "ص233"، الاشتقاق "ص164، المبرد "ص10"، "الطعاوة"، البلخي "4/ 123". 5 جمهرة "ص233 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 406"، وقد نسبت "باهلة" إلى همدان كذلك، الصحاح "2/ 159"، لسان العرب "13/ 76"، ابن خلدون "2/ 305"، أبو الفداء "1/ 111". 6 المبرد "10"، الاشتقاق "164 وما بعدها"، منتخبات "ص10". 7 "ديار باهلة"، "أرض باهلة"، مراصد "1/ 30، 496، 2/ 26"، Ency, I, P. 576, Blay, in ZDMG, 1869, XXIII, S. 584. 8 تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 321". Pliny, 6, 32, Glaser, Skizze, II, P. 145. 9 تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 416". Blau, In ZDMG, 1898, 22, S. 670, 1869, 32, S. 584.

وأما غنيّ، فقبيلة كانت ديارها في جوار طيء وعند حمى ضَرِيّة1. ومنها رباج بن الأشل، وابن أخيه ثعلبة قاتل شأس بن زهير بن خزيمة العبسي. وقيل: إن رباحًا هو قاتل شأس. وكانت لهم ظاعنة ضخمة بالشام2. ومن بطون غنيّ عبد، وزبان، وصريم، وضبينة3، وبنو عتريف4، وكانت لهم حروب مع عبس ومع زيد الخيل. ومن أصنامهم التي عبدوها: اللات، ومناة، والعزى5. ومن شعرائهم طفيل بن عمرو الغَنَوي6، وكعب بن سعد الغَنَوي7. ومن ولد خصفة بن قيس عيلان: عكرمة، وأمه أخت كلب بن وبرة لأبيه8، ومحارب9. ومن محارب: عامر بن وهب بن مجاشع المعروف بذي الرمحين، وكان سيد قومه، وقد غزا باهلة وأوقع فيها، وأسر منها، وسبع الوارث، وهو مالك بن عمرو بن حارثة بن عبد بن سلول الكيدبان، واسمه عبد الله. القائل لرسول الله: "جملي أحب إليّ من ربّك"10، والعقب من

_ 1 نهاية الأرب "2/ 323"، البكري "3/ 866"، "تحقيق السقا"، الصفة "ص153، 170، 174"، الأغاني "7/ 147، 10/ 9 وما بعدها"، كحالة "3/ 896"، ency. ii, p. 584. 2 جمهرة "ص236". 3 وفيهم يقول لبيد: ابني كلام كيف تنفي جعفر ... وبنو ضبينة حاضروا الأجباب الاشتقاق "165"، المبرد "10". Wustenfeld, Genea, 2 Abt, Taf, Register, S. 170. 4 المبرد "10"، Register, S. 170. 5 Ency, II, P. 140. 6 Ency, II, P. 140. 7 شيخو: شعراء النصرانية "القسم الخامس في شعراء نجد والحجاز والعراق" "ص746". 8 لسان العرب "15/ 310"، القاموس "4/ 153"، جمهرة "247 وما بعدها، كحالة "2/ 804". 9 جمهرة "247"، نهاية الأرب "2/ 323"، المبرد "12". Wustenfeld, Geagea, Taf, F. 10 جمهرة "ص248".

محارب لصلبه في فخذين: طريف، وجسر1. والفرع الثاني من فرعي خصفة، فرع ضخم كبير بالقياس إلى فرع محارب، فهو يشتمل على ولد منصور بن عكرمة، وهم: مازن، وهوازن، وسُليم، وسلامان، وأبو مالك2. ومن بني هوازن، ومن ولد بكر: معاوية، ومنبه، وسعد، ويزيد. وقد قتل معاوية، فجعل عامر بن الظرب العدواني ديته مائة من الإبل. ويقول الأخباريون إن هذه أول دية قضى فيها بذلك، وأن لقمان كان قد جعلها قبل ذلك مائة جدي3. وفي بني سعد بن بكر بن هوازن استرضع الرسول. ومن بطون بكر الأخرى: جشم بن معاوية بن بكر، ومنهم بنو جداعة، رهط دريد بن الصمة، وبنو سلول وهم بنو مرّة بن صعصعة بن معاوية بن بكر، وعامر بن صعصعة4. وهوازن من القبائل العربية الضخمة، وقد تفرعت منها قبائل كبيرة معروفة كانت لها شهرة بين القبائل. سكنت في مواضع متعددة من نجد على حدود اليمن وفي الحجاز5. ويظهر من انتساب هذه القبائل المعروفة الكبيرة إليها، ثم من اقتصار اسم هوازن على قبيلة واحدة فيما بعد، واختصاصها به، أنها كانت في الأصل حلفًا ضم جملة قبائل، ثم انفصل لعوامل سياسية واقتصادية مختلفة، فلم يبق من ذلك الحلف إلا الرابطة التأريخية التي بقيت في ذاكرة نسابي القبائل، وهي رابطة النسب. وقد وقعت بين القبائل التي ترجع نسبها إلى هوازن وبين قبيلة هوازن حروب عديدة. وقد كانت هوازن في جملة القبائل الخاضعة للتبابعة، فلما استقلت قبائل معدّ عن اليمن، كانت هوازن في جملة من استقلت من تلك القبائل. ولكنها أخذت تدفع الإتاوة لزهير بن جذيمة سيد عبس من غطفان. فلما قتل زهير، استقلت من غطفان، ولم تدفع الإتاوة إليها. ولما انتهت حرب عبس وذبيان، وعقد الصلح بين القبيلتين المتنافستين، وقعت حروب وأيام بين بطون غطفان

_ 1 نهاية الأرب "2/ 323". 2 جمهرة "ص248"، طرفة الأصحاب "ص61" نهاية الأرب "2/ 323". 3 جمهرة "ص252". 4 المبرد "13"، الاشتقاق "ص177"، طرفة الأصحاب "ص61". 5 Ency, I, P. 293, Blay, in ZDMG, 1869, 23, S. 586.

وهوازن، منها: يوم الرقم، ويوم النباع، ويوم اللوى، دارت الدائرة فيها على هوازن، كما وقعت بينها وبين قبائل كنانة وقريش وثقيف أيام عديدة1. وكان هوازن في جملة القبائل التي قاومت الإسلام. وقد غزاها الرسول، بعد فتح مكة، فتمكن منها، ودخلت في الإسلام ثم ارتدت بعد وفاته، ثم عادت مع التوابين بعد أن غلبهم الخليفة أبو بكر الصديق. وكان لهوازن صنم يعظمونه في عكاظ اسمه جهار، سدنته من آل عوف النصريين، تشاركهم في عبادته محارب، وكان في سفح أطْحَل2. ومن ولد منبه بن بكر بن هوازن بن منصور، قَسيّ وهو ثقيف3. وولد قسي جشمًا وعوفًا ودارسًا4. وقد دخل ولده في الأزد. ومن بني عوف بن ثقيف، الحجاج بن يوسف الثقفي. ومن بني غيرة بن عوف بن ثقيف، الشاعر أمية بن أبي الصلت. والأخنس بن شريق، والحارث بن كلدة وأبو عبيدة بن مسعود، والد المختار5. ومن بطون ثقيف الأخرى بنو عقدة بن غيرة، وبنو معتب، وبنو حبيب، وبنو اليسار بن مالك بن حطيط6. ومن بني مُعتب، غيلان بن مسلمة بن معتب، وكانت له وفادة على كسرى7. ولثقيف حروب يظهر أنها كانت في الغالب دفاعًا عن النفس، إذ نجد ثقيفًا تهاجم فيها في الطائف، فتضطر إلى الدفاع عنها. وقد كان من أصنامها اللات، وله بيت بالطائف على صخرة يضاهون به الكعبة بمكة. وكانوا يهدون

_ 1 ency., ii, p., 293. 2 المحبر "ص315"، "أطحل"، البكري "1/ 167" "طبعة السقا"، البلدان "1/ 282 وما بعدها"، ency., ii, p. 293. 3 ابن خلدون "2/ 309"، الأغاني "12/ 44"، القاموس "3/ 121"، لسان العرب "10/ 363"، الصحاح "2/ 11"، الاشتقاق "183". 4 "جشم بن ثقيف"، لسان العرب "14/ 367"، تاج العروس "8، 239"، الصحاح "2/ 271"، "جهم بن ثقيف"، ابن خلدون "2/ 309"، كحالة "1/ 148". 5 الجمهرة "ص526 وما بعدها"، "غيرة بن عوف بن ثقيف"، ابن خلدون "2/ 309"، تاج العروس "3/ 459"، الاشتقاق "185"، كحالة "4/ 902". 6 المبرد "ص13"، الاشتقاق "ص185 وما بعدها". 7 ابن خلدون "2/ 309".

إليه الثياب لستره به، ويطوفون حوله. وسدنته من آل أبي العاص بن أبي يسار بن مالك من ثقيف1. وولد سليم بن منصور، بُهثة2 "بُهتة". ومن ولد بهثة الحارث، وثعلبة، امرؤ القيس، وعوف، ومعاوية. ومن بطون امرئ القيس، بنو عصيّة، مالك ذو التاج، وكرز، وعمرو، وهند، وبنو خالد بن صخر بن الشريد. وقد توجت بنو سليم مالكًا ملكًا عليها، وقتل مالكًا وكرزًا عبد الله بن جذل الطعان الكناني. وقد اشتهرت بلاد بني سليم بالمعْدِن الذي فيها، ولذلك قيل لها معدن بني سليم3. ومن بني الحارث بن بهثة بنو ذكوان4. ومن بني عبس بن رفاعة بن الحارث، العباس بن مرداس5، وهم من القبائل التي لعنها الرسول، لقتلها أهل بئر معونة. وقد لعن الرسول بني عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة كذلك للسبب نفسه6. ومن بني ثعلبة بن بهثة بن سليم حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، وكان بمكة في الجاهلية محتسبًا بأمر بالمعروف وينهي عن المنكر7. وتعد قبيلة بني سليم من القبائل المهمة الساكنة في الحجاز في أرض اشتهرت بمعادنها وبخصبها، وبها حِرَار منها: حرة بني سليم، وحرة ليلى، وبها مياه

_ 1 المحبر "315". 2 "بهشة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر"، لسان العرب "2/ 424"، الاشتقاق "192"، الحماسة للتبريزي "1/ 231"، صبح الأعشى "1/ 345". 3 جمهرة "ص249، 251"، الصفة "154". 4 "ذكوان بن رفاعة بن الحارث بن رجا بن الحارث بن بهثة بن سليم"، الاشتقاق "287" لسان العرب "13/ 307"، تاج العروس "10/ 137"، ابن خلدون "2/ 307". 5 "بنو عبس بن رفاعة بن الحارث بن رجا بن الحارث بن بهثة بن سليم"، ابن خلدون "2/ 307"، الأغاني "11/ 138"، الاشتقاق "188". 6 جمهرة "ص251"، الاشتقاق "ص187 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 308"، نهاية الأرب "2/ 323"، لسان العرب "19/ 298"، كحالة "2/ 786". 7 جمهرة "ص251".

استفادت منها القبيلة في الزرع. وتجاورها من القبائل غطفان وهوازن وهلال. وكانوا على صلات حسنة باليهود، كما كانوا على صلات وثيقة بقريش. وقد تحالف معهم أشراف مكة وكبارها لما لهم من علاقات اقتصادية بهذه القبيلة1. ويروى أن النعمان بن المنذر كان قد نقم على بني سُليم لأمر أحدثوه، فأرسل عليهم جيشًا، ولكنه لم يتمكن منهم، وهُزم الجيش2. ولبني سليم ككل القبائل الأخرى أيام. منها: يوم ذات الرَّمرم وهو لبني مازن على بني سُليم، ويوم تثليت وهو بين مراد وبني سليم3. وكان لهم صنم يقال له "ضمار" كان عند مرداس والد العباس بن مرداس. فلما توفي مرداس، وضعه العباس في بيت يتعبد له. فلما ظهر الإسلام، أسلم، وأحرق ذلك الصنم4. وولد معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور أولادًا، هم: نصر، وجشم، وصعصعة، وعوف. ويسمون بنية الوقَعَة5. وقد دخلوا في بني عمرو بن كلاب بن الحارث6. ومن بني نصر معاوية ربيعة بن عثمان، وهو أول عربي قتل عجميًا في يوم القادسية. ومن بني جشم بن معاوية، دُريد بن الصمة من

_ 1 صبح الأعشى "1/ 345 وما بعدها"، ency., iv, p. 519. 2 كحالة "2/ 544". بعث النعمان بن المنذر جيشا "إلى بني سليم لشيء كان وجد عليهم من أجله. وكان مقدم الجيش عمرو بن فرتنا، فمر الجيش على غطفان، فاستجاشوهم على بني سليم، فهزمت بنو سليم جيش النعمان، وأسروا عمرو بن فرتنا، فأرسلت غطفان إلى بني سليم. وقالوا ننشدكم بالرحم التي بيننا إلا ما أطلقتم عمرو بن فرتنا، فقال أبو عامر هذه الأبيات، أي لا نسب بيننا وبينكم ولا خلة، أي ولا صداقة بعدما أعنتم جيش النعمان، ولم تراعوا حرمة النسب بيننا وبينكم"، لسان العرب "6/ 428". 3 كحالة "2/ 544". 4 الأغاني "13/ 92". 5 "بنو عوف بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور"، الاشتقاق "177"، لسان العرب "10/ 290"، القاموس "2/ 96"، كحالة "3/ 1251". 6 جمهرة "ص257"، الصفة "121"، ابن خلدون "2/ 310"، تاج العروس "2/ 300، 30/ 105، 570، 4/ 33" الاشتقاق "178"، كحالة "3/ 1181".

الفرسان المعروفين. ولهم حروب مع أسد وغطفان وعبس، وكانت مواطنهم بالسروات1. أما ولد صعصعة بن معاوية، فهم: عامر، ومرّة ويعرف أبناؤه ببني سلول نسبوا إلى أمهم2، وغالب وأمه تماضر، وقد نسب ولده إلى أمهم. وربيعة وأمة عويصرة، وإليها نسب. وعبد الله، والحارث: وأمهما عادية 3، وإليها نُسبا، وكبير، وعمرو، وزبير وأمهم وائلة، وإليها نسبوا. وقيس، وعوف، ومساور، وسيار، ومشجور أمهم عدبة، فنسبوا إليها4. ويلاحظ أن النسابين قد جعلوا لصعصعة عدة نساء، ونسبوا إلى هؤلاء النسوة أولادهن، فعلوا ذلك للتمييز بين هؤلاء الأولاد ولا شك. وذهب بعض المستشرقين إلى احتمال كون بني عامر هم: hamirei""، "hamirou"، "hamirinoei" المذكورين في تأريخ "بلينيسوس"5. وتقع منازلهم بين منازل قبائل هوازن وسليم وثقيف، ولهم مع القبائل الأخرى مثل بني حنيفة وعبس وذبيان وفزارة وتميم وبني نهد وسعد والرباب حروب عديدة، ترد أخبارها في الأيام. ومن نسل عامر بن صعصعة: ربيعة، وهلال، ونمير، وسواءة. ومن بني ربيعة بن عامر صعصعة كلاب، وعامر، وكليب6. ومن بني عامر

_ 1 جمهرة "ص258"، ابن خلدون "2/ 310"، الاشتقاق "177"، أبو الفداء "1/ 111"، لسان العرب "14/ 368، 15/ 287"، تاج العروس "4/ 52"، "8/ 229، 9/ 146"، القاموس "2/ 327، 4/ 44"، الصحاح "2/ 271"، صبح الأعشى "1/ 343"، المحبر "211"، 298، 299". 2 "وهي ابنة ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل" تاج العروس "7/ 378"، لسان العرب "13/ 365"، الصحاح "2/ 199"، ابن خلدون "2/ 310"، القاموس "3/ 397، جمهرة "ص259". 3 تاج العروس "10/ 238"، كحالة "2/ 701". 4 جمهرة "ص259". 5 ency., I, 329. 6 جمهرة "ص263 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 340 وما بعدها"، الاشتقاق "178"، ابن خلدون "2/ 310"، تاج العروس "7/ 350"، القاموس "2/ 141"، لسان العرب "3/ 272، 6/ 286"، كحالة "2/ 708 وما بعدها".

ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة، معاوية ذو السهمين، لأنه كان يأخذ سهمه من غزوات بني عامر، أقام أو غزا1. وبنو عمرو بن عامر المعروف ب "فارس الضحياء"2. ومن بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة3. وهم خالد الأصبغ وربيعة الأحوص، ومالك الطيّان، أمهم بنت رياح بن الأشل الغنويّ. وعتبة، وعوف، أمهما فاطمة بنت عبد مناف بن قصيّ بن كلاب. فولد الأحوص عوفًا، وعمرًا، وشريحًا، قاتل لقيط بن زرارة يوم جبلة، وقد سادوا جميعًا. ومن عوف بن الأحوص علقمة بن علاثة الذي نافر عامر بن الطفيل4. ومن نسل خالد بن جعفر بن كلاب أرْبَد بن قيس بن جزء بن خالد، وهو الذي أراد مع عامر بن الطفيل قتل رسول الله. ومن نسل مالك بن جعفر بن كلاب، عامر، وهو أبو براء ربيعة ملاعب الأسنة، والطفيل، وهو والد عامر بن الطفيل، ولبيد الشاعر6. ومن نسل عتبة بن جعفر بن كلاب عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر الذي أجار لطيمة الحيرة، فقتله البرّاض الكناني، ومن أجله كانت حرب الفجار، وابنته كبشة هي أم عامر بن الطفيل، ولدته يوم جبلة7. ومن نسل عمرو بن كلاب الصعق، وهو عمرو بن خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب. وكان سيدًا يطعم بعكاظ، ومن ولده الشاعر يزيد بن عمرو الصعق8. ومن بني الضباب بن كلا بن ربيعة شَمِر بن ذي الجوشن قاتل

_ 1 جمهرة "ص264 وما بعدها". 2 جمهرة "ص264"، المحبر "ص458". 3 الأغاني "11/ 132، 15/ 52 وما بعدها"، المحبر "ص253"، جمهرة "264 وما بعدها" الاشتقاق "180"، كحالة "1/ 195". 4 جمهرة "267، وما بعدها". 5 الأغاني "5/ 137 وما بعدها"، جمهرة "ص268". 6 الأغاني "14/ 93"، جمهرة "ص268"، المحبر "254، 472، 473". 7 جمهرة "ص268 وما بعدها". 8 جمهرة "ص269"، الاشتقاق "ص180 وما بعدها".

الحسين بن علي1. ومن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة جَعدة، والحَرِيش، وعقيل، وقشير، وعبد الله، وحبيب. ومن ولد عبد الله نهم والعجلان2، وهم قبيلة. ومن جعدة الشاعر النابغة الجعدي3. ومن بني قُشير مالك ذو الرقيبة بن سلمة الخير الذي أسر حاجب بن زرارة يوم جبلة. ومن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، المنتفق بن عامر بن عقيل، وهم بطن، وربيعة بن عامر، ومنهم الحارث الأبرص قاتل زيد بن عمرو بن عدس يوم جبلة، وبنو خفاجة بن عمرو بن عقيل. وتقع منازل الضباب في أرض كلاب، ومن بطونهم ضبّ وضبيب وحسل وحسيل، وقد وقعت بينهم وبين جعفر بن كلاب يوم عرف بيوم حرابيب4، ويوم آخر عرف بيوم هراميت5. وأما منازل جعدة، فهي في الفلج من اليمامة6. وأما الحريش، فكانت منازلهم باليمامة، واشتركت في يوم الرحرحان7. وكانت مساكن عقيل بالبحرين، وهاجروا إلى العراق، وكان لهم أثر ملحوظ في تأريخ العراق في الإسلام. والفرع الثاني من فروع مضر، هو من نسل إلياس8، ويتكون هذا الفرع من ثلاث كتل: طابخة، وقمعة، ومدركة. ولكل من هذه الكتل قبائل وبطون.

_ 1 جمهرة "270"، الميداني "2/ 269"، العمدة لابن رشيق "2/ 157، 167". كحالة "2/ 660"، الاشتقاق "ص180". 2 جمهرة "ص269 وما بعدها"، الاشتقاق "181". 3 جمهرة "ص273"، الاشتقاق "ص181"، صبح الأعشى "1/ 341 وما بعدها"، الأنساب للمقدسي "ص110"، نهاية الأرب "2/ 322"، كحالة "2/ 801". 4 كحالة "2/ 660"، نهاية الأرب "2/ 321". 5 "هراميت بالفتح وكسر الميم ثم ياء وتاء مثناة"، "يوم الهراميت" البلدان "8/ 450"، البكري "4/ 1305"، وبهذا الموضع آبار ينسبون حفرها إلى لقمان بن عاد، مما يدل على أنها من الآبار القديمة. 6 ency., I, p. 991. 7 الاشتقاق "183"، كحالة "1/ 267". 8 صبح الأعشى "1/ 346"، سبائك الذهب "ص21"، جمهرة النسب "ورقة 4".

أما طابخة، واسمه عمرو "عامر"1، فهو والد ولد يسميه النسابون أُدا، وأُد والد عدة أولاد هم: مر، وضبة، وعمرو وهو مزينة، وعبد مناة، وحميس "خميس". وذكروا أن بني حميس، شهدوا يوم الفيل مع الحبشة، فقتلوا، فقل نسلهم2. أما ضبّة بن أُد، فولد سعد بن ضبّة، وسعيد ولا عقب له، قتله الحارث بن كعب، ثم قتل ضبّة الحارث بن كعب، وفي ذلك سارت الأمثال الثلاثة: "أسعد أم سعيد" و "الحديث ذو شجون" و "سبق السيف العذل" قالها كلها ضبة3، وباسل بن ضبّة. ويذكر الأخباريون أن الديلم من نسله. وولد سعد بن ضبة بكر بن سعد، وثعلبة، وصريم ومن بكر بن سعد ضرار بن عمرو بن مالك، سيد بني ضبّة. وقد شهد يوم القرنتين، والمفضل بن يعلى صاحب المفضليات، وحبيش بن دلف بن العون، وكان ينازع ضرار بن عمرو الرياسة وحضر يوم القرنتين، وبني تيم بن ذهل4. وتعد ضبّة جمرة من جمرات العرب التي أشرت إليها، وتقع منازلها في اليمامة، وفي خلال الحرب التي وقعت بين عبس وذبيان دخلت عبس أرض ضبة، ولكنها اضطرت إلى مغادرتها بعد النزاع الذي حدث بين عبس وضبة. وجاورت بني عامر بن صعصعة. وفي يوم "جَبَلة"، وهو من الأيام المشهورة التي وقعت بعد يوم رحرحان بعام، ويصادف ذلك عام مولد النبي على رواية5. أو قبل مولده بسبع عشرة سنة على رواية أخرى6. كانت ضبة مع ذبيان وتميم

_ 1 "عامر" جمهرة النسب "ورقة 4"، ابن خلدون "2/ 315"، صبح الأعشى "1/ 347"، جمهرة "187 وما بعدها"، نهاية الأرب "2/ 325". 2 "حميس"، جمهرة "ص187"، ويختلف النسابون فيما بينهم في عدد ولد طابخة، سبائك الذهب "ص25"، نسب قريش "ص8"، المبرد "ص6"، ابن خلدون "2/ 315"، "بنو خميس" نهاية الأرب "2/ 325". Wustenfeld, genea., taf., j. 3 الميداني: مجمع الأمثال "1/ 350، 599، 601". 4 جمهرة "ص192 وما بعدها". 5 البكري "2/ 365" "طبعة السقا" "مادة جبلة"، نهاية الأرب "15/ 350 وما بعدها". 6 البلدان "3/ 52".

وأسد والرباب وفزارة في مهاجمة بني عامر بن صعصعة1. وبالرغم من كثرة هذه القبائل، تمكنت بنو عامر من الظفر به ومن إلحاق الهزيمة بتميم وبمن ضامها. وإلى مشورة قيس بن زهير العبسي يعود الفضل في انتصار بني عامر. وفي رواية أن لقيطًا استنجد أيضًا بالنعمان بن المنذر، فأنجده بأخيه لأمه حسّان بن وبرة الكلبي، وبصاحب هجر وهو الجون الكندي، فأنجده بابنيه معاوية وعمرو وغزا بني عامر2. وقد أصيب تميم ومن كان معها من القبائل بخسائر، وبوقوع عدد من الزعماء أسرى في أيدي بني عامر، فقتل في هذا اليوم لقيط بن زرارة، وأسر حاج بن زرارة، أسره ذو الرقيبة، وأسر سنان بن أبي حارثة المري وجزت ناصيته، وأطلق إمعانًا في امتهانه، وأسر عمرو بن عدس وجزت ناصيته كذلك ثم أخلي سبيله. وقتل معاوية بن الجون، ومنقذ بن طريف الأسدي، ومالك بن ربعي بن جندل3. ويعد جزّ الناصية بعد الأسر خاصة من أشد درجات الامتهان، ولا سيما جزّ نواصي السادة والرؤساء. وفي يوم النسّار، لحقت ضبّة وعديّ بأسد وطيء وغطفان في غزوهم لبني عامر، وقد ألحقوا خسائر فادحة ببني عامر، وهذا مما غاظ تميمًا، فجعلها تلحق طيئًا وغطفان وحلفاءهم من ضبة وعدي يوم الفجار، حتى قتلت من طيء أكثر مما قتلت طيء يوم النسار4. ومن ذرية عبد مناة بن أُد: تيم5، وعدي، وعوف، وثور، وأشيب. وهؤلاء هم الرباب، لأنهم تحالفوا مع بني عمهم ضبّة علي بني عمهم تميم بن

_ 1 ency., I, p. 884. 2 البكري "2/ 366". 3 نهاية الأرب "15/ 350 وما بعدها". 4 "يوم الفجار" نهاية الأرب "15/ 421"، "يوم الجفار"، البكري "4/ 1306" "تحقيق السقا"، مادة "النسار"، "النسار ... جبال صغار كانت عندها وقعة بين الرباب وبين هوازن وسعد بن عمرو بن تميم، فهزمت هوازن، فلما رأوا الغلبة، سألوا ضبة أن تشاطرهم أموالهم وسلاحهم وبخلوا عنهم"، البلدان "8/ 284". 5 المبرد "ص6"، الاشتقاق "ص114"، تاج العروس "8/ 316"، كحالة "1/ 138".

مرّ، فغمسوا أيديهم في رُب1. ومن بني عوف بن عبد مناة بنو عكل. ومن بني عمرو بن أد: مزينة، نسبوا إلى أمهم مزينة بنت كلب بن وبرة2. وتقع ديار الرباب بالدهناء في جوار بني تميم3. ومن ولد أُد بن طابخة مر بن أُد4 فولد مر تميمًا وثعلبة، وهو ظاعنة، وبكر بن مرّ، وهو الشعيراء، ومحارب بن مرّ، وهو صوفة. ومن النساء برة أم النضر، وملك وملكان بني كنانة. وهي أيضا أم أسد بن خزيمة، وهند ابنة مر وقد ولدت بكرًا وتغلب وعنز بني وائل بن قاسط، وتُكمة بنت مر وقد ولدت غطفان بن سعد، وسليما وسلامان بن منصور، وجديلة بنت مر وقد ولدت فهمًا وعدوان، وإليها ينسبون، وعاتكة بنت مر. وهي والدة عذرة بن سعد وإخوته5. وأما صوفة، فإنهم كانوا يجيزون بالحاج. وقد انقرضوا عن آخرهم في الجاهلية، فورث ذلك آل صفوان بن شجنة "سجنة" "شحمة"، من بني سعد بن زيد مناة بن تميم6. ومن هؤلاء على رواية كان عامر بن أحيمر السعدي

_ 1 جمهرة "ص287"، "فالرباب، تيم، وعدي، وعكل، ومزينة، وضبة، وإنما سموا الرباب لأنهم تحالفوا، فقالوا اجتمعوا كاجتماع الربابة، وهي خرقة تجمع فيها القداح. وقال قوم: بل غمسوا أيديهم في رب وتحالفوا، والقول الأول أحسن" الاشتقاق "ص111"، المبرد "ص6" ابن خلدون "2/ 318"، لسان العرب "1/ 388" "والرباب: ولد تيم بن عبد مناة وعدي بن عبد مناة وعوف بن عبد مناة: سموا الرباب لأنهم غمسوا أيديهم في رب، إذ تحالفوا على بني تميم، قال: ومن النسابين من يجعل الرباب بني تميم وعدي وثور وعكل وهم بنو عبد مناة وضبة بن أد"، نهاية الأرب "2/ 329". 2 جمهرة "ص190"، صبح الأعشى "1/ 348"، ابن خلدون "2/ 318". الاشتقاق "111"، أبو الفداء "1/ 112"، تاج العروس "9/ 345"، لسان العرب "17/ 294"، القاموس "1/ 366"، كحالة "3/ 1083 وما بعدها". 3 ابن خلدون "2/ 318"، كحالة "2/ 415". 4 المبرد "ص6"، الصحاح "1/ 398"، نهاية الأرب "2/ 325"، ابن خلدون "2/ 315". 5 جمهرة "195 وما بعدها"، "طابخة، مر، أد"، سبائك الذهب "ص25". 6 القاموس "3/ 164"، "وبنو صوفة، وهم ولد الغوث، وهو الربيط بن مر"، نهاية الأرب "2/ 325"، "شحمة"، ابن خلدون "2/ 319"، "سجنة"، كحالة "2/ 655"، الصحاح "2/ 39"، اللسان "11/ 102"، جمهرة "196".

الذي حصل على برديّ مُحوّق من النعمان بن المنذر في مجلس مفاخر حضرته وفود العرب عقد بحضرة النعمان بن المنذر في الحيرة. وقد بزّ عامر هذا الحاضرين في الفخر وفي الانتساب على الطريقة المألوفة. ولما سأله النعمان: بِمَ أنت أعز العرب؟ قال: العِزّ والعدد من العرب في معد، ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني؟ فلما لم ينافره أحد، ذهب بالبردين1. وتميم من القبائل العربية الكبيرة المعروفة، وقد نعتهم ابن حزم بقوله: "وهم قاعدة من أكبر قواعد العرب"2. وتعد في مقابل قيس وربيعة، وهي الممثلة لمجموعة مضر في بعض الأحيان. وهي أقرب جغرافيًّا وتأريخيًّا إلى قيس وربيعة منها إلى كنانة3. ومعارفنا عن تأريخها مستمدة مثل معارفنا عن القبائل الأخرى المماثلة من الروايات المدونة في كتب الأخباريين4. ويزعم الأخباريون أن جد هذه القبيلة مدفون في موضع "مُرّان"5، وهم يروون قصصًا عنه وعن ميلاد أولاده من هذا النوع الذي ألفنا وروده عن الأخباريين6. ولا نستطيع في الوقت الحاضر أن نرتقي بتأريخ تميم عن القرن السادس للميلاد، فليست لدينا موارد تأريخية يعتمد عليها ترفع تأريخ هذه القبيلة إلى

_ 1 وفيه يقول الفرزدق: فما تم في مسعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما قيل لم يتبهدل لهم وهب النعمان بردي محرق ... بمجد معد والعديد المحصل وفي أهل هذا البيت من سعد بن مناة، يقول أوس بن مغراء السعدي: ولا يريمون في التعريف موقفهم حتى يقال أجيزوا آل صفوانا العقد الفريد "2/ 65"، "تحقيق محمد سعيد العريان". 2 جمهرة "ص196". 3 ency., iv, p. 643. 4 ابن قتيبة: المعارف "37 وما بعدها" "طبعة وستنفلد"، جمهرة النسب "ورقة 62 وما بعدها"، الاشتقاق "ص123 وما بعدها"، الأغاني "4/ 7 وما بعدها"، "12/ 36، 15/ 69 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 315"، أبو الفداء "1/ 112". 5 البلدان "8/ 7". 6 ency., iv, p. 644

ما قبل ذلك، ولا يعني هذا أننا ننكر أن يكون لها تأريخ قديم، إذ يجوز أن يكون لها عهد أقدم من هذا العهد الذي نتحدث عنه. ولكننا لا نملك الآن نصوصًا جاهلية أو موارد إسلامية يُطْمأن إليها، ترجع تأريخ تميم إلى ما قبل هذا القرن. أما في القرن السادس، فقد كانت تميم قبيلة بارزة ظاهرة، بطونها منتشرة في العربية الشرقية، وفي نجد وفي العراق، وفي أنحاء مختلفة من جزيرة العرب، مجاورة لقبائل معروفة مثل أسد وغطفان وبني عبد القيس وتغلب، متصلة بها. ومن بني دارم من تميم كان المنذر بن ساوي حاكم البحرين والذي أسلم في أيام الرسول1. وكانت لتميم صلات متينة بملوك الحيرة، وكان من عادتهم جعل الردافة في بطن من بطونهم، وهو بطن بني يربوع. وقد ثار هذا البطن وهاج، لما حولت الردافة إلى بطن آخر من بطون تميم، هو بطن بني دارم، ولم يقبلوا إلا برجوعها إليهم، لما كان للردافة من مكانة في ذلك الوقت2. ونجد في كتاب الأخباريين أسماء أيام عديدة وقعت بين تميم وغيرها من القبائل، خاصة قبائل بكر بن وائل. كما نجد إشارات إلى حروب وقعت بينهم وبين بعض ملوك الحيرة. وقد أشرت إلى القصص الذي يرويه أهل الاخبار عن غزو "سابور ذي الأكتاف" لجزيرة العرب وإلى ما زعموه من تنكيله بالقبائل وانتزاعه أكتافهم، ومن هذه القبائل قبيلة تميم3. ويذكر الأخباريون أيضا أن "كسرى برويز" "كسرى أبرويز" "khusrawparwez"، كتب إلى عامله على هجر، وهو "المكعبر"، أن ينتقم من تميم، لتعرضها لقافلة كانت محملة بالتجارات وبالهدايا مرسلة إليه، فقتل المكعبر بالمشقر عددًا كبيرًا منهم4. ولتميم صلات متينة برجال مكة، وقد كان لرجالهم ذكر وخبر في سوق

_ 1 Ency., IV, P. 644 2 Ency., IV, P. 945 3 Journal of the Economic and Social History of the Orient, Vol., VIII, 1965. 4 Ency., IV, P. 645

"عكاظ". فمنهم كان حكّام الموسم. كما تولوا القيام ببعض مناسك الحج وقد صاهرهم بعض رجال مكة. ويظهر من بعض روايات الأخباريين أن تميمًا وبقية القبائل المنتمية إلى "أد" كانت تتعبد ل "شمس". وكان لشمس بيت "تعبده بنو أُد كلها: ضبة وتميم، وعدي، وعكل، وثور. وكان سدنته من بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي هالة بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن"1. وعبدت طائفة من تميم "الدَّبَران" من النجوم، ولهم قصة عن هذه النجوم2. وكان بعض تميم على النصرانية، ومنهم عدي بن زيد العبادي، كما كان بعض منهم من دان بالمجوسية، ومن هؤلاء زرارة بن عدس التميمي وابنه حاج بن زرارة والأقرع بن حابس3. وفي شواهد كتب النحو والصرف أمثلة عديدة من لهجة تميم4، وهي تشير إلى وجود فوارق ومميزات في تلك اللهجة تميزها عن اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم. وقد أخرجت هذه القبيلة عددًا من الشعراء في الجاهلية والإسلام. وللاستشهاد بلهجة تميم، ولوجود عدد من الشعراء الذين يعدون من كبار الشعراء عند علماء الشعر، أهمية كبيرة ولا شك في دراسة اللهجات العربية، وعلاقاتها بلهجة القرآن الكريم5. وقد أدى تعدد بطون تميم وانتشارها إلى نشوب حروب بينها، وإلى تكتّلها كتلًا وتكوين أحلاف بينها، كالحلف الذي كان بين بني يربوع وبني نهشل. وقد نسب لأبي اليقظان النسابة كتاب في أحلاف تميم اسمه: "كتاب حلف تميم بعضها بعضًا"6.

_ 1 المحبر "ص316". 2 بلوغ الأرب "2/ 239". 3 بلوغ الأرب "2/ 233 وما بعدها". 4 ابن فارس: الصاحبي "24"، المزهر "1/ 211"، السيوطي: الإتقان "ص109". 5 Voller, Volkssprache und Schriftsprache in alten Arabien, S. 8ff, Ency IV, P. 645. 6 الفهرست "94". Ency., iv, p. 644.

وبطون تميم عديدة، تفرعت على رأي النسابين من الحارث، وعمرو، وزيد مناة أولاد تميم1. ومن ولد عمرو: العنبر، والهجيم، وأسيد، ومالك، والحارث، وقليب2. والحرماز، وكعب على رواية أخرى3. ومن بطون بني كعب بنو فهد. وقد عرف نسل الحارث بالحَبِطات4. ومن بطون بني مالك بن عمرو بن تميم: مازن، والحرماز، وغيلان، وغسان5. ومن بني أسيد بن عمرو بن تميم بنو كاهل، ومنهم أوس بن حجر الشاعر الجاهلي المعروف. وكان شاعر مضر حتى أسقطه زهير6، وبنو شريف ومنهم أكثم بن صيفي من حكماء العرب في الجاهلية، وحنظلة بن ربيعة، بن أخي أكثم. وقد كتب للنبي الوحي7. ومن بني مالك بن زيد مناة بن تميم البراجم، وبنو دارم8، ومن بني حنظلة بنو يربوع، ومن بني يربوع بنو ثعلبة9، ومن بني الحارث بن يربوع بنو سليط، ومن نسل مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم: بنو فُقَيْم، وبنو نهشل، وبنو مجاشع10، وفي بني رياح بن يربوع كانت ردافة قبل الإسلام11، ومن بني العنبر بن يربوع كانت سجاح12.

_ 1 جمهرة "ص196"، "وبنو أسد بن عمرو بن تميم"، هكذا في الصفحة "435"، من الجمهرة، "والحارث أبو شقرة، وإنما سمي أبا شقرة لبيت قاله: وقد أخضب الرمح الأصم كعوبه به من دماء القوم كالشقرات المبرد "ص6"، الإنباه "76" الاشتقاق "126"، المعارف "26". 2 جمهرة "ص297"، المبرد "ص7"، الاشتقاق "126"، المعارف "26". 3 الاشتقاق "ص123 وما بعدها"، المبرد "ص7". 4 المبرد "ص7"، الاشتقاق "ص124"، العقد "2/ 222". 5 الاشتقاق "ص124"، جمهرة "ص200". 6 الاشتقاق "ص127". 7 الاشتقاق "ص127" جمهرة "ص200". 8 الإنباه "ص76 وما بعدها"، جمهرة "ص212"، المبرد "ص7"، طرافة الأصحاب "ص60". 9 جمهرة "213"، الاشتقاق "ص125"، المبرد "ص7". 10 جمهرة "ص217 وما بعدها"، المبرد "ص7"، "وأما تميم بن مر، فهي قبيلة كبيرة، ترجع إلى طابخة بن إلياس بن مضر، فبطونها: دارم ومجاشع"، طرفة الأصحاب "ص60" الأغاني "12/ 48"، نهاية الأرب "2/ 326 وما بعدها". 11 المبرد "ص8"، الاشتقاق "135"، العمدة لابن رشيق "2/ 165"، تاج العروس "5/ 358"، لسان العرب "3/ 295"، كحالة "2/ 457". 12 المبرد "ص8"، جمهرة "215"، صبح الأعشى "1/ 348"، ابن خلدون "2/ 317"، كحالة "2/ 845".

وذكر "البلاذري" أن "بكر بن وائل" أغارت على "بني عمرو بن تميم" يوم "الصليب"، ومعها ناس من الأساورة، فهزمتهم بنو عمرو وقتلت "طريفا" رأس الأساورة1. وذكر أن "بكرًا" كانت تحت يد كسرى وفارس، فكانوا يقوونهم ويجهزونهم، وكان يشرف عليهم عامل "عين التمر"2. ويظهر أن "بني عمرو"، كانوا قد اعتدوا على "عِير كسرى"، فجهز "بكر بن وائل" عليهم. أما بنو قمعة بن إلياس فهم من نسل عامر بن قمعة، واسم قمعة عمير3. وقد ولد عامر أفصى وربيعة وهي لحيّ. فولد لحيّ عامر بن لحيّ، وولد عامر بن لحيّ عَمْرًا وهو عمرو بن لحي، نسب إلى جده، فعرف بعمرو بن لحي. وهو على قول الأخباريين أول من غير دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان4. وأشهر بطون قمعة أسلم، وخزاعة في رأي بعض النسابين5. ولم يشر إلى عقب يذكر لقمعة بعض آخر من علماء الأنساب6. أما أسلم، فهم بنو أفصى بن عامر بن قمعة، وأما خزاعة، فهم بنو عمرو بن عامر بن لحيّ وهو ربيعة، وقد كانت مواطن خزاعة في أنحاء مكة في مرّ الظهران وما يليه. وكانوا حلفاء لقريش. ودخلوا في عام الحديبية في عهد رسول الله، وقد ذهب بعض النسابين كما أشرت سابقًا إلى ذلك إلى أن خزاعة من غسان، وأنها من نسل حارثة بن عمرو "عامر" مزيقياء، وأنها أقامت بمر الظهران حين سارت غسان إلى الشام، وتخزعوا عنهم، فَسُمّوا خزاعة. وإلى نسبة خزاعة إلى غسان ذهب نسابو خزاعة7.

_ 1 M. J. Kister, in Journal of the Economic and Social History of the Orient, P. 114 2 النقائض "518". 2 نسب قريش "ص8". 4 الجمهرة "ص223"، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "أول من سيب السائبة، وبحر البحيرة، وحمى الحامي، عمرو بن لحي بن قمعة، رأيته في النار يجر قصبة، وأشبه ولده به أكثم بن أبي الجون. فقال أكثم: أيضرني ذلك يا رسول الله؟ قال: أنت مؤمن، وهو كافر"، نسب قريش "ص8". 5 ابن خلدون "2/ 315"، جمهرة "ص437". 6 صبح الأعشى "1/ 348". 7 نسب قريش "ص8".

ومن صلب عمرو بن لحيّ، أي خزاعة، بنو سلول بن كعب بن عمرو بن عامر بن لحيّ، ومنهم قمير "قمر"، ومطرود ومازن وسعد وحليل، وحُبْشيّة وهم بطن، وهو حاجب الكعبة1. ووالد حُبّي التي تزوجها قصيّ بن كلاب، ومن نسل حليل أبو غبشان، واسمه المحترش، باع الكعبة بزق خمر من قصيّ بن كلاب. ومن ولد حبشية بن كعب بن عمرو بن عامر بن لحي: حرام، وغاضرة2. ومن نسل بني عوف بن عمرو بن عامر بن لحي: جفنة "بنو جهينة"، وهم عباد بالحيرة. ومن نسل سعد بن عمرو بن لحي بنو المصطلق. ومن بني أفصى بن عامر بن قمعة بن عامر بن قمعة: بنو أسلم، وسلامان وهوازن، وبنو ملكان بن أفصى بن عامر بن قمعة وبنو مالك بن أفصى3. وقد تحدثت سابقًا عن رأي نسابي اليمن في خزاعة، وعدها من جماعة قحطان. ونظرًا لعد بعض النسابين إياها من عدنان تحدثت عنها في هذا الباب. أما فرع مدركة، فيتكون من أصلين: خزيمة، وهذيل. وأمهما سلمى بنت أسد بن ربيعة بن نزار4. وأضاف بعض النسابين ولدًا آخر إليهما اسمه غالب بن مدركة، دخل نسله في بني الهون بن خزيمة بن مدركة5. أما ولد خزيمة، فهم كنانة وأمه عوانة بنت قيس بن عيلان، وأسد، وأسدة، والهون، وأمهم برة بنت مر بن أد بن طابخة. أخت تميم بن مر6. ويرى بعض النسابين أن جذامًا ولخمًا وعاملة هم نسل أسدة، ولكنهم انتسبوا في اليمن، فقالوا جُذام بن عدي بن الحارث بن مُرّة بن أُدَد بن زيد بن يشجب بن عريب بن مالك بن زيد بن كهلان، وأن هذا الانتساب كان لعوامل سياسية كما حدث لقبائل أخرى، خاصة في أيام الأمويين7.

_ 1 نهاية الأرب "2/ 301"، الاشتقاق "ص276"، جمهرة "223". 2 نهاية الأرب "2/ 301"، جمهرة "223"، الاشتقاق "278"، كحالة "2/ 874". 3 نهاية الأرب "2/ 301"، جمهرة "223 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 315". 4 ابن خلدون "2/ 319"، جمهرة "9"، نسب قريش "ص8"، سبائك الذهب "ص22 وما بعدها"، "مدركة ... وله فرع واحد على حاشية عمود النسب، وهو هذيل"، صبح الأعشى "1/ 348". 5 جمهرة "ص9". 6 نسب قريش "ص8"، الجمهرة "ص9"، "فولد خزيمة بن مدركة كنانة وأسد والهون"، طرفة الأصحاب "ص59". 7 نسب قريش "ص9".

وكانت منازل كنانة عند ظهور الإسلام في أطراف مكة بين هذيل وأسد بن خزيمة، وكان لها أثر مهم في تأريخ مكة على ما يفهم من روايات الأخباريين. وقد ساعدت قريشًا، وقريش من كنانة في نزاعها على رئاسة مكة مع خزاعة، ولها مع خزاعة جملة وقائع، كما كان لها أثر خطير في حروب الفجار1. وتتألف كنانة من بطون عديدة، هي: النضر، والنضير، ومالك، وملكان، وعامر، وعمرو، والحارث، وعروان "عزوان"، وسعد، وعوف، وغنم، ومخرمة، وجرول. وفي رواية لابن الكلبي أن جميع هؤلاء الأبناء هم من أم واحدة هي برّة بنت مرّ، أخت تميم بن مرّ2، وهي أم أسد وأسدة والهون أبناء خزيمة في رواية أخرى. أما أم عبد مناة بن كنانة، وذلك في رواية من جعله ابنًا لكنانة، فهي بنت هنيء بن بَليّ من قضاعة. ولهذا السبب نسبت إلى قضاعة عند بعض النسابين3. ومن بطون عبد مناة بن كنانة: بكر، وعامر، ومرّة، وغفار. وهي بطون. ومن بكر: ليث، والدئل وأمهما أم خارجة البجلية، وضمرة، وعريج. ومن ليث بن بكر: عامر وجُندع، وسعد. ومن الدُّؤل أبو الأسود الدُّؤلي. ومن بني مرة بن عبد مناة: بنو مدلج، وقد اشتهروا بالقيافة4. ومن بطون مالك بن كنانة: ربيعة بن مكدم، فارس بني كنانة، وبنو فراس بن تميم، وبنو فُقَيم، وهم الذين كانوا ينسئون الشهور في الجاهلية،

_ 1 نسب قريش "ص10"، الصفة "54"، القاموس "2/ 66، 3/ 10"، تاج العروس "8/ 240، 10/ 178"، لسان العرب "12/ 154، 17، 243"، ابن خلدون "2/ 320"، صبح الأعشى "1/ 350"، الإنباه "72"، زيدان: العرب قبل الإسلام "241"، كحالة "3/ 966"، Ency., II, p. 1017 2 جمهرة النسب "ورقة 4"، الاشتقاق "105 وما بعدها". Wustenfeld Genea., Taf., N. 3 Ency,, II, p, 1018. 4 جمهرة "ص170 وما بعدها"، "الدئل"، الاشتقاق "105 وما بعدها"، المعارف "22، 150"، المبرد "ص4"، طرفة الأصحاب "ص59"، صبح الأعشى "1/ 350 وما بعدها"، الأغاني "19/ 77"، تاج العروس "9/ 323"، أبو الفداء "1/ 112"، ابن خلدون "2/ 320"، كحالة "2/ 735"، "3/ 1061".

ثم أبطل ذلك في الإسلام1. ومن نسل الهون: عضل2، وديش3، والقارة4. وبنو ييتع "يتتع"5 "يثيع"6، بن مليح بن الهون. وهم، وبطنان من خزاعة هما: الحيا والمصطلق، حلفاء لبني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. ويقال لهم جميعًا الأحابيش، أحابيش قريش، لأن قريشًا حالفت بني الحارث بن عبد مناة على بكر بن عبد مناة، فهم وأحلافهم حلفاء قريش7. أما نسل أسد بن خزيمة، فهم: دودان8، وكاهل9، وعمرو، وصعب، وحملة10. ويقال لبني عمرو بنو نعامة11. وجعل بعض النسابين بني النعامة من نسل عبد الله بن صعب بن أسد، وهم: بنو جعدة، وبنو البحيرة بن عبد الله

_ 1 صبح الأعشى "1/ 351"، الإنباه "74"، المعارف "22"، المبرد "5"، الأغاني "12/ 48"، "فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة"، كحالة "3/ 926"، نهاية الأرب "2/ 351". 2 لسان العرب "13/ 480"، الصحاح "2/ 215"، أبو الفداء "1/ 112"، صبح الأعشى "1/ 349"، كحالة "2/ 787". 3 تاج العروس "7/ 316"، أبو الفداء "2/ 112"، صبح الأعشى "1/ 349". 4 طرفة الأصحاب "ص60"، الاشتقاق "ص110"، ويطلق بعض النسابين القارة على عضل والديش مجتمعين، تاج العروس "3/ 510"، لسان العرب "6/ 436". الصحاح "1/ 391"، الإنباه "ص73"، كحالة "3/ 935"، "عضل والديش ابني بليغ بن الهون وهم القارة، سموا قارة لأن يعمر بن عوف بن الشدا "أحد بني ليث لما أراد أن يفرقهم في بطون كنانة قال رجل منهم: دعونا قارة لا تنفرونا ... فنجفل مثل إجفال الظليم فسمو قارة. وهم رماة العرب"، نهاية الأرب "2/ 331". 5 نسب قريش "ص9". Wustenfeld, genea., taf., n. 6 "يثيع" جمهرة "ص179". 7 نسب قريش "ص9"، جمهرة "ص179". 8 لسان العرب "4/ 147"، صبح الأعشى "1/ 349"، تاج العروس "2/ 347". أبو الفداء "1/ 112"، نهاية الأرب "2/ 321". 9 لسان العرب "14/ 124"، الصحاح "2/ 237"، أبو الفداء "1/ 112"، ابن خلدون "2/ 320"، نهاية الأرب "2/ 321"، صبح الأعشى "1/ 350"، كحالة "3/ 976". 10 جمهرة "ص179". 11 الاشتقاق "ص110"، المبرد "ص6".

ابن مرّة بن عبد الله بن صعب بن أسد1. وحصر بعض النسابين بطون أسد بن خزيمة في كاهل، وفقعس، والقعين، ودودان2. ومن نسل عمرو بن أسد بن خزيمة: القليب، ومعرض واسمه سعد، والهالك3، ومن نسل كاهل بن أسد بن خزيمة مازن بن كاهل، ومنهم علياء بن حارثة بن هلال الشاعر قاتل حجر بن عمرو الكندي والد الشاعر امرئ القيس4. وولد دودان بن أسد: ثعلبة، وغنمًا5. فولد غنم بن دودان كبيرًا، وعامرًا ومالكًا. ومن بني غنم بنو جحش6. ومن بني ثعلبة7 بن دودان الشاعر عبيد بن الأبرص، والكميت الشاعر. ومن بني سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان عمرو بن مسعود الذي يقال إن النعمان بنى عليه الغَرِيّ. ومن بني الحارث بن ثعلبة بن دودان: قُعين، ووالبة، وسعد، ومن بني قعين عامر بن عبد الله بن طريف بن مالك بن نصر بن قعين، صاحب لواء بني أسد في الجاهلية. ومن بني عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان، طليحة بن خويلد بن نوفل الذي ادعى النبوة8. وأشهر بطون بني ثعلبة: بنو غاضرة، وبنو مالك، وبنو والبة، وبنو نصر بن قعين، وبنو الصيداء، وبنو فقعس، وبنو دبير9. أما ولد هذيل بن مدركة، فهم: سعد، ولحيان. وولد لحيان طابخة، ودابغة. ومن طابخة أبو قلابة الحارث بن صعصعة الشاعر. ومن سعد بن هذيل:

_ 1 جمهرة "ص180". 2 طرفة الأصحاب "59". 3 جمهرة "ص180". 4 جمهرة "ص180"، وفيه يقول امرؤ القيس: أأفلتهن علباء جريض ... ولو أدركته صفر الوطاب المبرد "ص6". 5 تاج العروس "9/ 8"، ابن خلدون "2/ 320"، كحالة "3/ 894". 6 جمهرة "ص180 وما بعدها". 7 ابن خلدون "2/ 320"، تاج العروس "1/ 165"، لسان العرب "1/ 231". كحالة "1/ 144". 8 جمهرة "ص180 - 185"، وهو من بني فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان، المبرد "ص5"، الإصابة "4290". 9 جمهرة "ص435"، المبرد "ص5".

الشاعر أبو كبير الهذلي، وحوية. وقيل إن الحطيئة منهم. ومنهم خناعة وهم بطن، ورهم، وتميم، والحارث، ومعاوية، وعوف. ومن سعد هذيل: عبد الله بن مسعود، والمؤرخ المسعودي. وقد اشتهرت هذيل بكثرة من نبغ فيها من الشعراء، وحيث بلغ عددهم نيفًا وسبعين شاعرًا1. ومن بطون هذيل الأخرى: بنو دهمان، وبنو عادية، وبنو صاهلة، وبنو ظاعنة2، وبنو مخزوم، وبنو قُريم، وبنو قرد بن معاوية3. وتعد هذيل من القبائل العربية الكبيرة التي كانت في القرن السادس للميلاد، أما منازلهم في هذا الوقت، ففي سراة هذيل بين مكة والمدينة وفي جوار بني سُليم وكنانة4، وهي مثل أكثر القبائل الأخرى لا نعرف من تأريخها قبل الإسلام شيئًا يذكر. ويذكر الأخباريون أنها كانت في جملة القبائل التي أرادت الدفاع عن مكة حينما عزم أبرهة على احتلالها. وكانت تتعبد للصنم سواع بنعمان، وسدنته بنو صاهلة من هذيل، وتعبدت له بنو كنانة وبنو مزينة وبنو عمرو بن قيس عيلان كذلك5. وله معبد آخر بموضع "رهاط"6، كما تعبدت للصنم "مناة" ومعبد بقديد7. إن ما ذكرته في هذين الفصلين، هو خلاصة آراء علماء الأنساب في أنساب القبائل. وهي آراء لا نستطيع أن نذهب مذهبهم في أنها جاهلية قديمة، وأنها على هذه الصيغة كانت معروفة قبل الإسلام، وإن قالوا إنهم توارثوها عن الجاهليين، ونقلوها عن المشتغلين بالنسب في الإسلام والجاهلية كابرًا عن كابر، ولا نستطيع أيضا أن نزعم أنها تمثل أنساب القبائل على نحو ما دونت وصنفت في الديوان بأمر الخليفة عمر بن الخطاب. فلم نجد في أقدم ما انتهى إلينا من

_ 1 جمهرة "ص185 وما بعدها". 2 طرفة الأصحاب "ص60". 3 جمهرة "ص435"، المبرد "ص6". 4 الصفة "ص173"، ابن خلدون "2/ 319"، صبح الأعشى "1/ 348"، نهاية الأرب "2/ 330"، كحالة "3/ 1213 وما بعدها". 5 المحبر "ص316". 6 البكري "2/ 679"، "طبعة السقا" "مادة رهاط". Ency., II, p. 329. 7 Ency., II, p, 329.

كتب النسب إشارة تفيد أن ما قصوه علينا وما ذكروه في النسب، منتزع من سجلات ديوان الخليفة. ثم إننا رأينا أمثلة عديدة، لتنقل نسب القبائل في أيام الأمويين بين قحطان وعدنان لأسباب سياسية وعوامل ترجع إلى هذا التعصب المزري الذي انتشر في ذلك العصر، حتى جزّأ العرب إلى قيس ويمن. وهذه الخصومة السياسية العنيفة التي جزأت العرب ويا للأسف إلى جزأين، وأسالت الدماء بين الفرقين، صارت سببًا لتثبيت أنساب القبائل وضمها في مجموعتين: إما إلى قحطان، وإما إلى عدنان، ولا وسط بين الكتلتين. وقد صادف هذا التحزب عصر بدء التدوين، فكان النسب "لأهميته عند القبائل والناس وفي الحياة السياسية في ذلك العهد" في طليعة الأمور التي شملتها حركة التدوين، فبدلا من أن يعتمد النسابون على الذاكرة والرواية سطروا تلك الروايات في الأوراق، وضبطوا أنساب القبائل التي عاشت قبيل الإسلام وفي صدر الإسلام بهذا التدوين. وقد أحدث عدم ضبط قواعد الخط في صدر الإسلام، وعدم استعمال النقط في أول العهد بالتدوين بعض المشكلات للمتأخرين في ضبط الأعلام. فاختلاف النقط يحدث كما هو معروف اختلافًا في ضبط الأسماء، وهذا ما حدث فعلا. وإنك لتجد في كتب الأنساب المطبوعة والمحفوظة أمثلة عديدة من هذا القبيل. كذلك أدى إهمال بعض النسابين ذكر الآباء أو الأجداد إلى حدوث شيء من الارتباك في ضبط الأنساب. يضاف إلى هذا تشابه أسماء بعض القبائل والبطون في قحطان وعدنان. وقد أشار الهَمْداني إلى العصبية التي كان لها أثر خطير في وضع الأنساب في عهد معاوية وغيره في الشأم وفي العراق، ثم إلى تقصير نسابي العراق والشام في عدة آباء كهلان وحمير، ليضاهوا بذلك على حد تعبير الهمداني عدة الآباء من ولد إسماعيل، وذكر أنه كانت عند أهل اليمن مثل حمير وهمدان والمرانيين وغيرهم زُبُر مُدوّنة فيها أنسابهم، يتناقلها الناس، وهي تختلف عن الأنساب التي يتداولها أهل النسب في العراق والحجاز والشأم بعض الاختلاف، وأن بعضًا من أنساب عرب الحجاز دخل في أنساب الناس من أهل اليمن، وذلك على رأيه لأسباب، منها: فتك "بخت نصر" بأقيال اليمن في عهد أسعد تبع،

وفي أيام حسان بن أسعد وتخريبه حصونهم، وقتل حسان لجديس التي أفنت طسمًا1. وفي هذا الحديث على علاته ما فيه من اعتراف صريح باضطراب النسابين في ضبط الأنساب. ولا يخلو بعض هذه الأنساب من تحامل العصبية التي كانت في نفوس القبائل والبطون، إذْ خلقت هذه مثالب لصقتها بآباء القبائل المتباغضة وأجدادها حفظت على مرور الأيام، ولازمت من قيلت فيهم، ليس من الصعب الوقوف عليها ومعرفتها كما الحال في نسب ثقيف مثلا. وقد أوجدت قسوة الحجاج بن يوسف، وهو من ثقيف، ذلك القصص الذي قيل في جدّ ثقيف ولا شك. وقد أشرت فيما سبق إلى أثر التوراة وأثر نفر من أهل الكتاب ممن ادعوا العلم بكتب الأولين في النسابين والأخباريين ووضعهم أسس النسب، وإرجاعها إلى قحطان وعدنان، وبناء نسب القبائل على هذين الأساسين. وقد وجدنا "يقطان" في التوارة أبًا لشبا وحضرموت وبقية إخوتهما، وهم من العرب الساكنين في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية. ويقطان هو قحطان. ثم وجدنا الإشماعيليين في التوارة كذلك، والإشماعيليون هم الإسماعيليون أبناء إسماعيل جد العرب العدنانيين. ووجدنا نابت وقدار في التوراة كذلك وعند النسابين أيضًا، ونابت هو "نبابوت". أما الذي يتجلى لنا من استعراض كل هذه الأنساب ودراستها، سواء أكانت قحطانية أم عدنانية، فهو أن الحياة السياسية للقبائل كانت حياة كتل، وهي حياة اقتضتها ضرورات الحياة للدفاع عن النفس والمصالح، كما هو شأن الدول في كل زمان، حيث تعقد بينها المحالفات. فالحلف بين القبائل، هو كالحلف بين الدول بكل ما للحلف من معنى. وقد رأينا نماذج من تلك الكتل الضخمة أشرت إليها في أثناء كلامي على القبائل. ويخيل إليّ أن فكرة رجوع العرب إلى قحطان وعدنان، فكرة تثبتت في الإسلام، ساعد في ترسيخها وتثبيتها تلك العصبية التي أشرت إليها، وتلك النظرية التي انتزعها ابن الكلبي وأضرابه من التوراة ومن أهل الكتاب بخصوص يقطان وقيدار.

_ 1 الإكليل "8/ 100 وما بعدها" "طبعة نبيه أمين فارس"، "10/ 30 وما بعدها".

وفي الذي يذهب إليه أهل الأخبار والأنساب من ادعاء وجود خلاف بين القحطانيين والعدنانيين، شيء من الصحة، لا سبيل إلى نكرانه، غير أنه ليس على النحو الذي ذهبوا إليه. والكتابات الجاهلية التي تحدثت عنها سابقًا، وأسماء الأشخاص والأصنام، شواهد على وجود هذا الاختلاف. ولكن ليس اختلافًا بالمعنى الذي ذهب إليه الأخباريون. فبين العرب الذين يطلق الأخباريون عليهم "القحطانيين" اختلاف في اللهجة وفي الأسماء لا يقلّ عن الاختلاف بين القحطانيين والعدنانيين. كذلك نجد مثل هذا الاختلاف بين العدنانيين أنفسهم. وقد وجدنا نص النمارة لامرئ القيس، وهو أصل قحطاني على حد تعبير الأخباريين وأهل الأنساب، بلهجة قريبة من لهجة القرآن الكريم بعيدة عن لهجات أهل اليمن. بلهجة نستطيع أن نقول إنها من الأم التي ولدت عربية القرآن الكريم. كذلك نجد النصوص الأخرى قريبة من هذه العربية، مع أنها لأناس يجب عدّهم من قحطان إن سرنا مع النسابين في مذهبهم في تقسيم العرب إلى قحطانيين وعدنانيين. ثم إن الأخباريين لم يشيروا إلى فروق في اللسان بين القحطانيين والعدنانيين، وإنما جعلوهم يتكلمون بعربية واحدة هي عربية القرآن الكريم، ونسبوا إليهم أصنامًا مشتركة. وشعراء الجاهلية هم في عرفهم من قحطان وعدنان.. ولهذا قالوا عن اللهجات العربية الجنوبية التي ظلت حية في اليمن وفي حضرموت إنها غير فصيحة وأنها ليست بعربية، وأن لسان حمير ليس بلساننا، إلى غير ذلك مما أشرت إليه في أجزاء الكتاب السابقة مأخوذة من أقوال العلماء. وقد ذكرت في كتابي "تأريخ العرب قبل الإسلام"، في أثناء كلامي على النبط ما كان من وجود أداة "أل" المستعملة في عربية القرآن الكريم، في كتاباتهم، وأشرت إلى استعمالهم أسماء استعملتها قريش وغيرهم من العرب العدنانيين1. وهي أسماء لم نعثر عليها في الكتابات العربية الجنوبية حتى الآن، كما أشرت إلى مشاركتهم العرب الشماليين في أسماء الآلهة التي تعبدوا لها، وأوردت آراء بعض المستشرقين في أصلهم، وفي أنهم عرب مثل العرب الآخرين. ولهذه الملاحظات أهمية كبيرة في الحديث عن العرب الشماليين، وفي النواحي التي يختلفون فيها عن العرب القحطانيين. كما أن لنص النمارة ولتأريخ "بروكوبيوس"

_ 1 "3/ 13".

أهمية خطيرة كذلك في هذا الموضوع لإشارتهما لأول مرة إلى "معدّ". فقد وردت كلمة "معدو" أي معدّ في السطر الثالث من النص، ووردت كلمة "نزرو" أي "نزار" في السطر الثاني منه. يضاف إلى ذلك ورود أسماء قبائل أخرى هي "الأسدين"، أي قبيلة أسد، ومذحج. أما تأريخ "بروكوبيوس"، فقد وضع "Maddeni" أي معدا في الأقسام الشمالية من الحجاز. وقد ذكر هذا المؤرخ، القيصر "يوسطنيان" طلب من "السميفع أشوع" "Esimiphjius" أن يوافق على تعيين سيد قبيلة اسمه "قيس Caisus" "Kaisus"" رئيسًا على "معدّ"1. وقد ذكرت أن هذا يدلّ ضمنًا على خضوع معد لحمير، ولو كان خضوعًا بالاسم. ولوجود معدّ في هذا الزمن، أي في القرن السادس للميلاد، في أرض كانت مأهولة بالنبط أهمية كبيرة ولا شك. كما أشرت إلى ورود كلمة "مضر" في نص يماني، وإلى اشتراكها في حرب خاضتها سبأ وحمير ورحبة وكدت ومضر وثعبة2. وهي حرب يظهر أنها كانت واسعة من الحروب التي وقعت قبيل الإسلام. ومضر في هذا النص قبيلة من هذه القبائل التي اشتركت في الحرب، وليس اسمًا عامًّا لقبائل كثيرة، أي على نحو ما يذهب إليه الأخباريون. فيتبين من هذه النصوص أن معدا ونزارًا ومضر كانت قبائل تقيم في الأقسام الشمالية من جزيرة العرب وفي العربية الغربية. وقد لاحظنا أن نص النمارة قد فرق بين معد ونزار، ولم يشر إلى وجود رابطة بين القبيلتين، بمعنى أن كُلًّا من نزار ومعد كان قبيلة مستقلة، في حين يضع النسابون نسبًا بينهما ويربطون بين القبيلتين. والظاهر أن هذا الارتباط الذي ذهب إليه الأخباريون وأهل الأنساب إنما حدث في صدر الإسلام، بعد تثبيت القبائل في الديوان. وفي أثناء كلام الأخباريين على تأريخ الحيرة، ذكروا أن معدا كانت خاضعة لها، وأن ملوكها كانوا يحكمون معدا. ذكروهم في جملة من كان قد خضع

_ 1 تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 205 وما بعدها". 2 تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 166".

لحكم أولئك الملوك. والذين يستنتج من كلامهم أن معدا كانوا بادين، أي أعرابًا، وأنهم كانوا يقطنون مناطق كانت في نفوذ ملوك الحيرة. فهل قصد الأخباريون معدا الذين كانوا يسكنون في أعالي الحجاز كما ذكر ذلك "بروكوبيوس" أم قصدوا جماعات منهم هاجرت إلى بادية الشام، وخضعوا لحكم أهل الحيرة؟ ويلاحظ أن الأخباريين يتوسعون أحيانًا في مُلك ملوك الحيرة فيبلغون به البحرين والحجاز. أما كيف تطورت هذه الأنساب، وكيف توزعت، وكيف حصرت في جدّين ومن قام بذلك، وأمثال هذا. فليس من السهل إيجاد جواب لأمثال هذه الأسئلة ما دمنا لا نملك الأسباب التي تهيئ لنا العلم الكافي للإجابة عنها.

الفصل الثامن والأربعون: الناس منازل ودرجات

الفصل الثامن والأربعون: الناس منازل ودرجات مدخل ... الفَصْلُ السَّابِعُ والأربَعُون: الناس منازل ودرجات وأهل الجاهلية مثل غيرهم من شعوب ذلك الزمن: أحرار وعبيد، يستوي في ذلك الأعراب وأهل المدر. والحرّ نقيض العبد، والحرة نقيض الأمة1. والحر هو الذي يتصرف بأموره كما يشاء. وأما العبد فلا، فأمره بيد مالكه، فلا يجوز له أن يفعل شيئًا من غير رضا سيده ومالك رقبته. ويعبر عن الحر بلفظة "حرم" في المسند، فيقال "حرم"، أي "حر". والجمع "أحرر"، أي "أحرار"2. والجاهليون وإن بدوا "ديمقراطيين" شعبيين، لا فرق عندهم بين حر وعبد، كبير أو صغير. يخاطب الفقير ملكه أو سيد قبيلته بلهجة بسيطة تنم عن "ديمقراطية" عميقة أصيلة إلا أنهم في الواقع طبقيون يعاملون الناس حسب منازلهم ودرجاتهم، ويعملون بمبدأ عدم التكافؤ بين الناس. وآية ذلك عُرف جلوس الناس في مجالس الملوك والمجتمعات، وعرف تقديم الطعام أو الشراب مبتدئين بالملك ثم بمن يجلس على جانبه الأيمن باعتبار أنه أشرف القوم ثم بالجالس على الجانب الأيسر من الملك، على ترتيب الناس في درجات جلوسهم أو حسب إشارة الملك إلى الساقي أو مقدم الطعام. ثم في نظرتهم إلى "الحق" وإلى الأعراف الاجتماعية كالأخذ بالثأر والزواج. فلهم في الأخذ بالثأر مبدأ مقرر

_ 1 اللسان "4/ 181". 2 Rep. Epig, VII, P. 416, Nu. 4912, Philby 84.

معروف. هو أن القتيل إذا كان شريفًا في قومه. وكان قاتله وضيعًا صعلوكًا، أو عبدًا فلا يقبل أهل القتيل ب "القود"، بل بعرف تكافؤ الدم. فعندهم أن دم القتيل الشريف، لا يغسل إلا بدم شريف مثله ومن أهل مكانته، ومعنى هذا أن قتل القاتل لا يكفي، بل لا بد لأهل القتيل في هذه الحالة من البحث عن شريف من قوم القاتل يكون مكافئًا للقتيل في المنزلة والمكانة حتى يقتل به، فيغسل عندئذ بقتله دمه. وينام الثأر. وقد يكون المقتول وهو ما يحدث في الغالب بريئًا ولا علاقة له بالقتيل ولا القاتل. ولكن العرف القائم على نظرية التكافؤ بين الطبقات، لا يفهم براءة بريء، وحتى قتل القاتل وحده، بل يدين بعقيدة أن الدم لا يغسل إلا بدم موازٍ له، فلا بد من قتل شريف بشريف إذن حتى ينام أهل القتيل. وإلى ما تقدم من الإسراف في القتل البريء بدم مقتول، أشير في القرآن الكريم: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} 1. "وذلك أن أهل الجاهلية، كانوا يفعلون ذلك، إذا قتل رجل رجلًا عمد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل فقتله بوليه، وترك القاتل، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك عباده، وقال لرسوله، عليه السلام، قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله. وإن قتلت القاتل بالمقتول، فلا تمثل به"2. وعلى هذه النظرية الطبيعية بنوا تقييم أثمان الديات، أي ثمن الدم. فدية الملوك في الجاهلية أغلى ما دفع ثمنًا عن دم. إذْ جعلت دية الملك ألفًا من الإبل، فعرفت لذلك بدية الملك. تليها في الثمن ديات الأشراف وسادات القوم حسب الشرف والمنزلة حتى نصل إلى ديات المغمورين المطمورين فتكون أقلها ثمنًا. إذْ تبلغ خمسًا من الإبل، وقد تنقص في ذلك. وعلى هذه النظرية القائمة على "الفوقية"، و "التحتية"، قدرت فدية الأسرى أيضًا. ففدية الملوك الذين يقعون في أسر آسر ألف من الإبل، وعرفت ب "فدية الملوك" وفدية من هم دونهم أقل حتى تصل إلى أبخس ثمن، وهي فدية سواد الناس. ولهذا حرص

_ 1 "الإسراء"، الآية 33. 2 تفسير الطبري "15/ 59".

الأسير الشريف الذي لا يعرفه آسره على إخفاء شخصيته وعلى التظاهر بالإملاق وبأنه من المغمورين ليجنب نفسه دفع فدية عالية قد يفرضها آسره عليه، فتوجعه وتؤلمه. ومن هذه النظرة أيضًا ولد اعتقاد أهل الجاهلية أن دم الرئيس يشفي من عضة الكلب الكلب1. فإذا كُلب إنسان أتوا رجلُا شريفًا فيقطر لهم من دم أصبعه فيسقون المكلوب فيبرأ. أو يسقونه من دم ملك فيشفى. جاء في المثل: دماء الملوك شفاء الكلب. ودماء الملوك أشفي من الكلب. قال أهل الأخبار عن الكلب: "وأجمعت العرب أن دواءه قطرة من دم ملك يخلط بماء فيسقاه"، فيشفى بذلك من الكلب2. ولو لم يكن للجاهليين رأي خاص في الملوك والأشراف، وفي وجود تفوق لهم على سواد الناس، لما اعتقدوا هذا الاعتقاد في إشفاء دماء الملوك والأشراف لمن يصاب بالكلب. وبعدم إشفاء دم غيرهم لهؤلاء المرضى. ومن هذه النظرة أيضا، تولد امتناعهم من تزويج بنات الأشراف والأسر من رجال هم دون البنت في المنزلة. وهو عرف يراعونه ويحافظون عليه إلى يومنا هذا. ويزدرون من شأن الخارج على "التكافؤ" بين البنت والولد في الزواج. وقد يرفضون تزويج رجل ثري مكتنز للمال، من امرأة فقيرة شريفة الأصل، إذا كان الرجل من أصل ذابل، كأن يكون أبوه أو جده "صانعًا" أو "خضارًا"، لأن الأصل في نظر العرب فوق المال. والشريفة يجب ألا تتزوج إلا من شريف مثلها، مراعاة منهم لمبدأ نقاوة الأصل وإنجاب الأولاد النجباء. ومن هذه النظرة امتنع العرب من تزويج بناتهم من الأعاجم حتى لو كان ذلك الأعجمي ملكًا. وقد رأينا كيف أن "النعمان بن المنذر"، رد طلب "كسرى" لمّا طلب منه تزويجه إحدى بناته من أحد أبنائه. وشق ذلك عليه حتى إنه لم يتمالك من ضبط نفسه، فقال للرسول: أما في عين السواد وفارس ما تبغون حاجتكم. ومراده من لفظة "عين" البقر. ومن اغتنام "زيد بن عديّ بن زيد العبادي" هذه الفرصة، وكان هو الذي اقترح على "كسرى" أن يزوج أحد ولده من بنات النعمان، فقال لكسرى: "قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم،

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 319". 2 تاج العروس "1/ 460"، "كلب".

وأن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياش، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه حتى إنهم ليسمّونها السجن". ومن قوله له: "أيها الملك: إن شر شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرمون عن العجم"1. فكان ما كان من غضب "كسرى" على النعمان ومن القضاء عليه على النحو الذي تحدثت عنه2. وقد جعل بعض العلماء تخوف العرب من القهر عليهم ومن طمع غير الأكفاء في بناتهم، في جملة العوامل التي حملتهم على وأد البنات. "قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن"3. ومن شروط الكفاءة في الزواج عند الجاهليين، التكافؤ في النسب والحسب والمكانة وفي الأصل. وسبب امتناع العربي من تزويج ابنته إلى أعجمي، هو تكرم العرب عن الأعاجم واستعلاؤهم عليهم. ونظرتهم إلى الأعاجم على أنهم دونهم في المنزلة والكرامة. لذلك رأوا أن تزويج بنت عربية إلى علج أعجميّ، خسّة ما بعدها خسّة ودناءة ما وراءها دناءة. حتى وإن كان العربي فقيرًا لا يملك شيئًا. بل عابوا العربي الذي يتزوج أعجمية بسبب النسل، واستصغروا شأن المولود من أب عربي ومن أم أعجمية. فهو وإن كان عربيًّا في عرف العرب من أجل أن النسب إلى الأب، ولكنه أعجمي من ناحية الأم، فهو دون الأصيل في المرتبة. وفي غنى العربية بالمصطلحات الكثيرة التي تطلق على السادة والأشراف وعلى الفقراء والمعدمين التربين وعلى الطبقات الأخرى، دلالة ليس فوقها دلالة على وجود هذه النظرة الطبقية عندهم، وعلى نظرتهم إلى أنفسهم على أنهم منازل ودرجات، وأنهم غير متكافئين. وأن القيادة في المجتمع يجب أن تكون للبيوت.

_ 1 الطبري "2/ 202 وما بعدها"، "ذكر خبر يوم ذي قار". 2 وقد هجا عبد القيس بن خفاف البرجمي، النعمان بن المنذر، في الجاهلية، وذكر ولادة الصائغ له، فقال: لعن الله ثم ثنى بلعـ ... ـن ابن ذا الصائغ الظلوم الجهول يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا الحيوان، "4/ 379"، "هارون"، الأغاني "9/ 158". 3 القرطبي، الجامع "10/ 117"، "تفسير سورة النحل".

ثم إن الأحرار على منازل ودرجات. وهم متفاوتون من حيث الشرف والمال. ويظهر التفاوت بين أهل المدر أكثر مما يظهر بين أهل الوبر، لأن الأعرابي فخور بنفسه، يرى أنه "شريف" مثل غيره نبيل وإن قل ماله وشح. ثم إن التفاوت بين الطبقات لا يمكن أن يظهر في البادية ظهوره بين الضواحي والقرى، لأن طبيعة البادية لا تساعد على ظهور ذلك التباين، حتى إن عبيد الأعراب لم يكونوا يكوّنون طبقة خاصة مضطهدة، ينظر إليها نظرة أهل القرى بازدراء، بل كانوا يعدون في البادية كأعضاء من أعضاء الأسرة1. والتباين الطبقي هو على أوضح ما يكون في اليمن، لأن الطبيعة قد حبت أرض اليمن خيرات وجوًّا لم تحب المناطق الأخرى من جزيرة العرب مثلها، فكانت نتيجة ذلك ظهور الإقطاع فيها، واشتدت الحاجة إلى شراء الرقيق واستجلابه لاستغلال التربة واستثمار خيرات الأرض وتشغيله في المهن الوضيعة، وظهر في اليمن أغنياء ومتوسطو حال وفقراء معدمون، أي طبقات اجتماعية كونت ذلك المجتمع بشكل واضح لا نراه في المجتمعات العربية الأخرى، أشير إليهم في الكتابات.

_ 1 Ancient Israel, p, 68.

رجال الدين

رجال الدين: ورجال الدين طبقة في رأس طبقات المجتمع مكانة ومنزلة، ولها امتيازات خاصة، لأنها ألْسِنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض، والآمرة والناهية باسمها، وهي تقرب الناس إلى الآلهة، وتحرّم وتحلّل. وقد رأينا أن أوائل حكام العربية الجنوبية هم "مكربون"، أي رجال دين. ولرجال الدين أملاك وأموال، ولهم على الناس حقوق، يأخذونها منهم، كما تأخذ الحكومة حقها من الشعب. وهم طبقة كبيرة ذات قوة وسلطان مصالحها مع مصالح الحكّام بالرغم من الانفصام الذي وقع فيما بين الدولة والمعبد، وإبعاد "المكرب" عن الحكم، وحصر حق الحكم في الملك وحده، وحصر حق إدارة المعبد في رجال الدين وحدهم، وذلك لأن مصالح الملك ومصالح رجال الدين متشابهة، وكل جهة من

الجهتين بها حاجة إلى مساعدة الجهة الأخرى. وكثيرًا ما نقرأ في كتابات معين: أن ال "شوع" أو ال"رشو" الفلاني قدم قربانًا إلى آلهة معين، أو بنى معبدًا، أو أقام بناء، أو عمل عملاً تقدمة لآلهة معين. ولفظتا "شوع" و "رشو" تعنيان الكاهن والسادن، أي منزلة دينية ذات مركز سام، وهي أعلى درجات الكهنوت في العربية الجنوبية.

السادة والأشراف

السادة والأشراف: ويعبر عن السادة والأشراف بتعابير التعظيم والتفخيم، ومنها "أبعل" "أبعل"، أي سيد ورئيس. وهي لفظة استعملت للآلهة كذلك. استعملت بمعنى رب وإله. فورد "ود بعل ... "و "عشتر بعل ... " وهكذا. وقد استعملت في النصوص القديمة خاصة. ويقال للسادة "أسود" "أسواد" في العربية الجنوبية، وهم السادة الأشراف1. وتقابل اللفظة لفظة "سادات" في عربيتنا. وهم سادة القوم وأشرافهم وأصحاب المنزلة والمكانة في المجتمع. ويعد أعضاء الأسرة المالكة في طليعة السادات، وهم في السيادة على حسب قربهم أو بعدهم من الملك، ويقدمون على هذا الأساس عند حضورهم إلى الملك وفي المواسم الرسمية. ولهم أرضون يستغلونها، ورقيق يخدمهم. ويعبر عن وجيه القوم وذي المنزلة والمكانة بلفظة "كهثم" "كهث"2 وعكسها الوضيع والخامل والصغير والحقير، فقد ورد: "كل إنسم كهثم وقطم"، ومعناها: "كل إنسان: كبير وصغير" أو "كل إنسان وجيه ووضيع". وتطلق لفظة "القطين" وهي "قطنم" و "قطن" في لغة المسند، على الخدم والأتباع والإماء في لغة القرآن الكريم3. فهي إذنْ في نفس

_ 1 Ancient Israel, P. 68. 2 راجع النص: Glaser 509, Rhodokanakis, Stu, I, S. 68. 3 اللسان "17/ 222".

المعنى المراد من اللفظة في لغة المسند. وقد ذكر علماء اللغة أن القطين أتباع الملك ومماليكه1. ويقابل أهل الوجاهة والمنزلة في المجتمع، من يطلق عليهم "ص غ ر م" "صغرم"، أي صغير. ويراد بها سواد الناس، ممن لا وجاهة لهم ولا مركز لدى الحكومة والمجتمع، كما في هذه الجملة: "كبرم فاوصغرم"، ومعناها: "كبير أو صغير"2. وفي الدرجات العليا من درجات المجتمع، الأقيال وهم إقطاعيون كبار، لهم أرضون واسعة وسلطان، وقد يجد "القول" القَيْلُ قوة في نفسه ومنعة، فينازع الملوك على الملك، ويأخذ الحكم بيده. وترد في الموارد الإسلامية درجة أخرى تذكر عادة مع الأقيال، هي درجة "ذو" وتجمع أذواء. ويظهر أنها من الدرجات الإقطاعية التي صار لها شأن في العهود المتأخرة القريبة من الإسلام. ويراد بها أصحاب الأرضين ورؤساء الإقطاعيات، كما تطلق على القبائل. وقد أخذت من "ذ" التي ترد في المسند، ومعناها "ذو" في عربيتنا وهي بمعنى "صاحب" في العربيات الجنوبية.

_ 1 اللسان "17/ 222". 2 راجع الفقرة السادسة من النص المرسوم ب: Osiander 35.

الوجوه

الوجوه: وسادة القوم هم وجوه المجتمع وسادات القبائل وقادة الجيوش. من "مقتوين" ومن أمراء حرب، ومن المقربين إلى الملوك وكبار موظفي الدولة. وهم أنفسهم من الطبقات العالية في الغالب. وقد ورثوا منازلهم إرثًا، ولهم أرضون وثراء وقصور يقيمون فيها، وبيوت مشيدة، وخدم يخدمونهم، وقد حصلنا على أسماء عدد منهم من الكتابات. والتجارة من أشرف ما يشتغل به إنسان عند قريش وعند غيرهم من العرب.

وقد اشتغل بها أكثر أشراف مكة، إذ كانوا تجارًا يتاجرون مع اليمن ومع بلاد الشأم والعراق. وقد كانت الحرفة الوحيدة المربحة في جزيرة العرب. فالزراعة لا تدر عليهم ربحًا كبيرًا، لعدم توفر الماء الكافي لزراعة أرضين واسعة تأتي لأصحابها بغلات واسعة وبأموال طائلة، والصناعة غير متيسرة، لذلك عافوها وعابوها، ولم تكن لديهم وسيلة مربحة أخرى غير التجارة. ومن الألفاظ الدالة على الوجاهة والمكانة عند العرب الجنوبيين، لفظة "قرمن"، أي "القرم"1. وهي في هذا المعنى في عربيتنا كذلك، فيقال للسيد قرم. والقرم من الرجال السيد المعظم و "المقرم"، هو أيضًا السيد المعظم2..

_ 1 Ryckmans 508. 2 اللسان "12/ 473"، تاج العروس "قرم". قال أوس بن حجر: إذا مقرم منا زر أحد نابه ... تخمط مناذرا ناب اخر مقرم أمالي المرتضى "1/ 258".

المحاربون

المحاربون: ويكون المحاربون طبقة خاصة بهم، وهم أناس احترفوا الخدمة العسكرية وعاشوا عليها، وقد أشير إليهم في الكتابات وعرفوا ب"قسم" "قسد" "ق س د". وقد ذكروا بعد أصحاب الأرض في إحدى الكتابات1. وقبل "التجار" "مكر" و "الكيالين" "سلا" في كتابة أخرى2. وقد أشار إليهم "سترابو" إذْ جعلهم في الطبقة الأولى من طبقات المجتمع في "العربية السعيدة". وكان قد قسم هذا المجتمع ثلاثَ طبقات: المحاربين، والمزارعين، وأصحاب الحرف اليدوية3. ويظهر من دراسة بعض النصوص التي وردت فيها كلمة "قسدن"، أن

_ 1 Glaser 1210, A. Grohmann, S. 123. 2 Glaser 1571, Rhodokanakis, Bodenwirtschaft, S. 183. Altsabaische Texte, I, 105, Kata. Texte, I, 73. 3 Handbuch, I, 123, A. Grohmann, S, 123.

"القسود"، كونوا طبقة كبيرة خاصة في دولة سبأ، كانت منزلتها دون منزلة الأشراف وأصحاب الإقطاع وفوق رقيق الأرض، المسمون ب "أدومت"، التابعين للأرض والذين يباعون معها عند بيع الأرض. وكانوا يستغلون الأرض التي تعطى لهم لاستغلالها في مقابل أداء الخدمة العسكرية والاشتراك في القتال عند وقوعه، فهم عساكر وفلاحون في آن واحد. ويشبه حالهم حال العساكر الذين منحهم الخلفاء الراشدون أرضين زراعية لاستغلالها في مقابل هرعهم إلى القتال مع المحاربين عند توجيه الدعوة لهم. وهو نظام كان عند الساسانيين والبيزنطيين. وقد كان الأشراف وأصحاب الإقطاع يستأجرون من لا أرض له، بإعطائه أرضًا لاستغلالها في مقابل الدفاع عنهم والقتال دونهم. ولذلك كان لكل إقطاعي "قسود" أستطيع تسميتهم بالفلاحين المحاربين. يحاربون معه ويدافعون عنه. وإذا مات سيدهم، صارت السيادة إلى من ينتقل الإرث إليه. ويعرف المحارب ب "أسدم" "أسد" في العربيات الجنوبية، أي جندي وعسكري في اصطلاحنا اليوم. وهم أحرار وعبيد. ووردت في بعض الكتابات جملة "أسد أملكن" "أسد أملكان"، أي "جنود الملك" و "جنود الملوك" وذلك تعبيرًا عن جماعة اختصت بالخدمة في جيش الملك. وقد أشير إليهم في كتابة بمناسبة إنشاء طريق1. ويلحق هذه الطبقة طبقة ال "أتمت" ويراد بها الجنود المرتزقة، أو ما يعبر عنه ب "العساكر" في الزمن الحاضر2، وقد كَوّن "العساكر" أو "عساكر السلطان" كما عرفوا في بعض البلاد الإسلامية في أيام الخلافة طبقة خاصة، اعتمدت على سلطانها وقوتها، فلم تحفل بأحد وأخذت تعتدي على الأهلين. وقد كانوا خليطًا من الأحرار ومن الرقيق، واعتمد عليهم الحكّام في الدفاع عنهم وفي القضاء على خصومهم، فعاشوا على خدمة سادتهم، وقد صارت حرفتهم وراثية، فابن ال "أتمت"، ينتسب إلى الخدمة في المعسكر أيضًا حين بلوغه سن الخدمة ويعيش في خدمة سيده.

_ 1 Rep. Epig. 4624, J. Rvckmans, L.htm'institution Monarchique, 147, Arabien, S. 123. 2 A. Grohmann, S. 123.

التجار وتوابعهم

التجار وتوابعهم: ويكوّن "التجار" طبقة خاصة من طبقات المجتمع العربي الجنوبي، ويقال لهم "مكر" في لغة المسند. وقد كانوا يتاجرون في البر والبحر، ولهم قوافل وطبقات دنيا من رقيق وخدم تؤدي الواجبات التي يريدها سادتهم منهم. وكان لهذه الطبقة شأن خطير في تاريخ العربية الجنوبية في القديم، وأثر بليغ في اقتصاد البلاد، وتزويد الحكومة بمصدر كبير من مصادر دخلها وهو الضرائب التي كانت تدفعها إليها. وقد تعرض علماء العربية للفظة "المكر"، فقالوا: إن من معانيها السوق، وفيها يقع المكر والخداع. وإن "الماكر" العير تحمل الزبيب، والتمكير احتكار الحبوب في البيوت1. ولهذه المعاني صلة مباشرة بالتجارة وبالإتجار في البرّ والبحر. وفي العربية طبقة عرفت ب "سلا"، تعاطت تجارة الملح، كانت تبيعه وتستورده وتصدره وتقوم بنقله من مواضعه إلى الأسواق. وقد شبه "رودوكناكس" هذه الطبقة ب "الكواليان" في الوقت الحاضر2.

_ 1 تاج العروس "3/ 549". "مكر". 2 Glser 1571, A. Grohmann, S. 124.

الطبقات الدنيا

الطبقات الدنيا: ومن الطبقات الدنيا عند العرب الجنوبية: ال "أدم" وال "صغرم" "الصغر" "الصغار"، والأجراء "أجرم"، والمتربون "غبر"، وال "ومي" "أمي".

الادم

الأدم: وترد في كتابات المسند كلمة هي "أدم" و "أدومت". وتقابل لفظتي "أدم" و "أدومت" و "آدمي" و "أوادم" في العراق، بمعنى خادم وخدم1. ووردت في صورة: "أديمت" "أد ي م ت" و "أدوم" في الكتابات

_ 1 راجع النصوص الموسومة ب: 689، 697، 704، 707، 712، 725، 726، 730، 784، من كتاب: Jamme, Southarabian Insctiptions, P. 76, 77. راجع النقش رقم "16"، "ص23"، من كتاب خليل نامي: نقوش خربة معين.

القتبانية المتأخرة1. وتؤدي معنى التبعية. وأعني بالتبعية الاعتراف بسيادة رئيس على مرءوس2. فقد كان أصحاب الأرض يؤجرون الأرض لمن لا أرض لهم، ومن لا مال لهم، فيقيمون فيها يشتغلون لأصحابها، ويكونون تبعًا لهم. ويعبرون عن هذه التبعية بتلك اللفظة المعبرة عنها. فهم في هذه الحالة إذن مزارعون يعيشون من كراء الأرض3. وقد وردت هذه اللفظة بهذا المعنى، خاصة في النصوص المتعلقة بقبيلة "سخيم"4. وهي ذات أملاك واسعة وأرضين خصبة، وأجرتها لمن لا أرض له من الوافدين عليها من الأماكن الأخرى، لتستغل هذه الأرضين وتعيش عليها، معترفة بذلك أنها في حماية هذه القبيلة وفي خدمتها. وهي فضلًا عن ذلك تعبر عن التبعية بكل أشكالها، فتعبر عن الانتماء إلى شخص أو قبيلة كذلك، بمعنى أن "الأدم" تابع لذلك الشخص أو القبيلة، منتمٍ إليه. ولذلك يذكر ال "ادم" اسم سيده الذي ينتمي إليه ويحتمي به، كأن يذكر اسمه أو اسم القبيلة التي ينتمي إليها. وقد يعبر باللفظة عن معنى "تابع" و "خادم" بالمعنى المجازي أيضًا، في مثل مصطلح "أدم ملكن" أي "خادم الملك" و "عبد الملك" و "آدم الملك"5. وذلك تعبيرًا عن الاحترام للملك وعن الإقرار بتبعية الشخص المذكور له، وبإخلاصه له إخلاص العبد لسيده، وإن كنا نجد أن للملك حاشية كبيرة هي حاشية "أدم" حقيقية، أي طبقة لا تملك أرضًا ولا ملكًا، ومعاشها من خدمة الملك، حيث يتولى القصر الإنفاق عليها، كما كانت للأسرة الكبيرة جماعات من ال "أدم" تخدمها وتؤدي لها مختلف الأعمال.

_ 1 Glaser 1398, Handbuch, I, S. 122, Anm. 4. 2 Rip. Epig, VII, P. 269, 4651. 3 Rep. Epig, VII, P. Num 4651, 4662. 4 Rep. Epig, VII, P. 301, 4659, P. 302, 4600, P. 303, 4662. 5 SE 80, Rhodokanakis, Die Inschriften an der Mauer von Kohlan-Timna, 25, A. Grohmann, S. 124.

فال "أدم" إذن وفي الغالب، تعبير عن جماعات من الناس كانوا أحرارًا، إلا أنهم لم يكونوا من المتمكنين في حياتهم من حيازة أرض أو ملك، لذلك جعلوا أنفسهم في خدمة غيرهم، بأن كروا الأرضين من أصحابها، لاستغلالها في مقابل حق معلوم، أو اتفقوا مع ثري على أداء عمل له في مقابل أجر يقدمونه إليه، وهم طبقة واسعة العدد. وهي لذلك أرقى منزلة وأحسن حالًا من حال العبيد المملوكين، والرقيق المشترى من الأسواق. وقد فسّر بعض الباحثين كلمة "أدوم" "أدوام" و "أديمت"، و "أدومت"، بمعنى عمال الأرض، أو طبقة واطئة من المزارعين الذين لا يملكون أرضًا، أحوالهم ضعيفة، لأن ما ينتجونه لا يكفي لإعاشتهم. وذكروا أن كلمة "ضعيف" المستعملة في العربية الجنوبية تعبر عن ذلك المعنى المراد من تلك الكلمات1. وقد ورد في بعض النصوص لفظ "أج ر م" بمعنى "أجير" و "أجراء"2 وهم الأشخاص الذين يشتغلون بأجور يدفعها لهم أصحاب الأرضين أو أصحاب المال أو أصحاب العمل. وقد كانوا طبقة من الطبقات الدنيا، بدليل ذكرهم في هذه الجملة: "كل معنم حرم وأجرم"3، "كلّ معينيّ حرّ وأجير"، أي كل فرد من أبناء معين حر وأجير، بتعبير أوضح، والأجراء هم أكثر حرية من العبيد، لأنهم يشتغلون بأجر وبعقود يتفقون عليها. فإذا انتهى العقد، أو حصل خلاف، جاز للأجير الانتقال إلى موضع آخر، أو إلى صاحب محل آخر للعمل لديه، على حين لا يجوز للعبد فعل ذلك، لأنه ملك يمين. والأجراء أناس أحرار، يستطيعون التنقل والتصرف بحرية، ولكنهم فقراء معدمون لا يملكون شيئا، وعيشتهم من العمل الذي يقومون به لغيرهم مقابل الأجر الذي يقدمه رب العمل لهم. وقد يكون الأجر الذي يدفع عن عمل مقطوع، وقد يكون عن أمد يحدد كأن يكون أجر يوم واحد أو أيام، فإذا تم النهار دفع الآجر للأجير، وقد

_ 1 A. Grohmann, S. 124. 2 النقش رقم 577، Jamme, Southeratabian Inscriptions. 3 النقش رقم 5، الفقرة 3 من كتاب: نقوش خربة معين "ص5".

يكون الأجر لموسم كامل، كموسم زرع، وقد كان الأجراء يشتغلون في الزراعة خاصة كحرث الأرض وزرعها أو حصاد الزرع أو قطف الثمر. ولضعف هذه الطبقة، وعدم تمكنها من أخذ حقها بالقوة، كان بعض من يؤجرهم يأكل حقوقهم، ولا يدفع أجورهم، أو يأكل قسمًا منها. ونجد هذه الطبقة في العراق حيث أشير إليها في شريعة "حمورابي"، كما نجدها في أماكن أخرى من العالم، وما زال العامل يستخدم في مقابل أجور يومية للقيام بمختلف الأعمال1. وقد ورد في الكتابات القتبانية ذكر جماعتين: جماعة عرفت ب "غبر"، وجماعة عبر عنها ب "ومي"، أو "أمي"2. و "الغبر" في عربية القرآن الكريم هم الفقراء والصعاليك، وفي العربية كلمة أخرى تؤدي هذا المعنى هي لفظة "غبراء الناس"، أي فقرائهم، ومنه قيل للمحاويج بنو غبراء، كأنهم نسبوا إلى الأرض والتراب. وبنو غبراء الفقراء. وأما "الغرباء"، فهم الصعاليك3. فالغبر، إذن هم طبقة من الطبقات البائسة الدنيا التي كانت في قتبان وفي غير قتبان، طبقة من الفقراء والصعاليك، لا تملك شيئًا، ليس لها في حياتها غير البؤس والتعاسة لأنها ولدت بائسة تاعسة فعاشت في تعاستها هذه في هذا العالم على صدقات الناس وعلى ما يحصلون عليه بالسرقة أو بالاستجداء وبالقيام بالخدمات والأعمال المتعبة في سبيل الحصول على ما يقوتهم إلى يوم خلاصهم من هذا العالم بالوفاة. وبمعنى المحاويج والصعاليك فُسّر بيت "طرفة بن العبد"، بقوله: رأيت بني غبراء لا ينكرونني ولا أهل هذاك الطراف الممدّد4 وعرف "بنو غبراء" ب "المدقعين" للصوقهم بالدقعاء، وهي الأرض. كأنهم لا حائل بينهم وبينها5، و "الدوقعة الفقر والذل" و "جوع أدقع وديقوع شديد"6.

_ 1 Ancient Israel, P. 76. 2 A. Grohmann, S. 124. 3 اللسان "5/ 5 وما بعدها". 4 تاج العروس "3/ 437"، "غبر". 5 المصدر نفسه. 6 تاج العروس "5/ 331"، "دقع".

وأما "الومي" "أمي؟ "، فطبقة من الطبقات الدنيا كذلك، من هذه الطبقات العاملة البائسة التاعسة التي لا تحصل على عيشها إلا بشق الأنفس. ولعلّها الطبقة التي يقال لها "شفلوت" في العربية الجنوبية في هذه الأيام1. ويجوز أن تكون للكلمة صلة بلفظة "أمي" في عربيتنا التي تعني الجاهل والشخص الذي لا يقرأ ولا يكتب. وفي العربية لفظة "الحشم"، قيل إنها تعني المماليك والأتباع، مماليك كانوا أو أحرارًا2. وورد أن الحشم الأحرار، والقطين: المماليك3.

_ 1 A. Grohmann, S. 125. 2 اللسان "12/ 136". 3 اللسان "13/ 343".

رؤوس وأذناب

رؤوس وأذناب ... رءوس وأذناب: ونجد التفاوت الاجتماعي في ذروته عند العرب الجنوبية كما بينت ذلك من إيرادي للمصطلحات الاجتماعية المتقدمة. ويقع هذا التفاوت في الدولة وفي المجتمع عند الحضر وعند "أعربن" الأعراب. ويقع بين القبائل كما يقع في القبيلة الواحدة. فالقبائل أيضا منازل ودرجات. وعلى رأس القبائل التي ينتسب لها المكربون أو الملوك. مثل "معين" و "سبأ" و "قتبان" و "حضرموت"، و "أوسان". ولهذا ذكرت مع الآلهة والحكّام ونسبت إليها الحكومات. ثم ذكر بعدها القبائل الأخرى التي هي أقل أهمية منها. أما في القبيلة الواحدة، فنجد تفاوتًا بين أبنائها، وقد رتبوا وصنفوا في درجات ومنازل. أعلاها عند السبئيين مثلا أعضاء ال "مزود" و "حسود؟ "، أصحاب المشورة والرأي والذين يستشيرهم الملوك، وهم طبقة ممتازة كانت فوق القانون، ذات امتيازات خاصة. يليها أصحاب الأملاك والأرض والمال المسمّون ب "مسحنن" في السبئية، وب "طبنن" في القتبانية. ثم تليها طبقات أخرى تتدنى حتى تصل إلى أسفل، وهي طبقة "الأدومت" "أدم": "طبقة "الأوادم" أي الخدم. ويعد المقربون إلى الملوك من أشراف الناس ومن أصحاب الحظوة والجاه.

وهذا شيء طبيعي، بالنسبة لكل مكان وزمان، فالذي يصل إلى الملك أو الحاكم لا بد وأن يكون من ذوي الجاه والمنزلة والمكانة. وقد عرف من اختص بالملوك ب "أصفياء الملوك" وب "أحباء الملك" وب "ندماء الملوك"، وهم من الخاصة بالطبع. ويعبر عنهم ب "مودد ملكن" في العربيات الجنوبية. وأدنى الطبقات منزلةً في المجتمع، هي طبقة العبيد، هي طبقة تقوم بالخدمة وبسائر الأعمال التي يأنف الإنسان الحر من ممارستها. وقد يكون معظم أفرادها من الزنوج المستوردين من إفريقية. وأما الباقون فمن الرقيق الأبيض المستورد من أسواق العراق ومن أسواق بلاد الشأم. وقد كان العبيد ملكًا يباع ويشترى بيع الأموال المنقولة، ويتصرف صاحب العبد به تصرفه بملكه الخاص، ولم يخول القانون العبد حق إبداء رأيه في مستقبله في أي حال من الأحوال، لأنه ملك وبضاعة مملوكة، وكالماشية، وإن كان إنسانًا حيًّا له ما لكل إنسان من روح وإدراك وشعور. ويعرف العبد بلفظة "عبدم" في الكتابات العربية الجنوبية، أي "عبد" وبلفظة "عبدن"، أي "العبد"1. وتشمل كل العبيد، مهما اختلفت ألوان بشرتهم. وترد هذه اللفظة في عربية القرآن الكريم كذلك، وفي سائر اللهجات العربية الأخرى مثل اللهجة "اللحيانية"2؛ كما ترد في لغة بني إدم "عبدو" وفي اللغة العبرانية3. وتستعمل اللفظة للتعبير أيضًا عن العبودية المعنوية، مثل نسبة عبودية الإنسان إلى الآلهة أو للملوك أو الكبار وللأشراف والسادات. وتؤدي لفظة "قن" معنى عبد؛ أما "قنت" "قنيت" "قنية"، فتؤدي معنى عبدة. وردت بهذا المعنى في الكتابات الصفوية4. وتعبر عن طبقة العبيد التي كانت منتشرة في كل أنحاء جزيرة العرب، وفي كل أنحاء العالم إذ ذاك. إذ كانت القوانين الحكومية والقوانين الدولية تعد الإتجار ببيع الرقيق تجارة

_ 1 Rep. Epig, VII, P. 148, Num. 4217, P. 155, Num. 4230, Southarabian Inscriptions, P. 444. 2 Lihyan und lihyanisch, S. 143. 3 Hastings, P. 864. 4 Littmann, Safa, P. 139.

مشروعة وتعدّ العبد ملك يمين لصاحبه، متى أبق جاز لصاحبه ومالكه قتله. وهو ملك مثل أي ملك، وحق الملكية حقّ مقدس مصون. و"القن" في عربية القرآن: العبد الذي مُلك هو وأبواه. وعرف أنه العبد الذي ولد عندك، ولا يستطيع أن يخرج عنك. وورد "لم نكن عبيد قن، إنما كُنّا عبيد مملكة". وقيل عبد قن الذي كان أبوه مملوكًا لمواليه، فإذا لم يكن كذلك فهو عبد مملكة1. فالقن إذن هو عبد بالولادة، وقد ورثه سيده: فهو عَبْد عبدٍ، أو عبد عبيدٍ. و"القني المملوك، فهو في ملك سيد. وقد اقتني وصار في مقتنيات مالكه، فهو من طبقة المملوكين. ومن هذه الطبقة المملوكة جماعة عرفت ب "رب ملكن" "ربب ملكن" "ربيب الملوك" "ربيب الملك"، بمعنى "عبد الملك" و "عبيد الملك"2.

_ 1 اللسان "13/ 348"، تاج العروس "9/ 314"، "قن". 2 Rep. Epig. 4145, Arabien, S. 125.

أبناء الحبش والأبناء

أبناء الحبش والأبناء: وقد تولد من استيلاء الحبش على اليمن جيل جديد تعرب وكون طبقة خاصة من طبقات مجتمع اليمن. وقد تكون هذا الجيل من عنصرين: حبش ولدوا في اليمن من أبوين حبشيين، ثم بقوا في اليمن وعاش أبناؤهم فيها، وحبش تزوّجوا من اليمن، فنشأ لهم نسل فيه دماء الحبش ودماء أهل اليمن. وقد عاش الجيلان في اليمن وتعربا ونسيا أصلهما وصارا يتكلمان العربية واعتدّاها لغتهما، ولكن ملامحهما الإفريقية، أو الملامح المختلطة دساسة، لم تتمكن من الاختفاء عن الجيلين، بل بقيت تنطق بأصلهما وبصلتهما القديمة بالأرض السوداء. وعرف الجيل الذي ظهر في اليمن من تزوج الفرس في العرب ب "الأبناء"، وغلب عليهم الإسلام لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم1. وقد كتب إليهم النبي يدعوهم إلى الإسلام. وقد ساعدوا المسلمين ودافعوا عن الإسلام وقاوموا الردة،

_ 1 اللسان "14/ 91"، "بنى".

ومنهم وهب بن منبه بن سيج بن ذكبار، وطاووس، وذادوية، وفيروز الديلمي1. وقد قيل عنهم: الأبناء قوم من العجم سكنوا اليمن، وهم الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن لما جاء يستنجده على الحبشة فنصره وملكوا اليمن وتديروها وتزوّجوا في العرب؛ فقيل لأولادهم الأبناء، وغلب عليهم هذا الاسم لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم.. وذكر أنهم عرفوا ب "أبناوي" في لغة "بني سعد" و "بنوي" في لغة بعض العرب2. ويظهر من بعض الأخبار أن العرب توسعت في مفهوم الأبناء فأطلقتها على كل الفرس الذين اجتذبتهم الحروب إلى جزيرة العرب3. وعرف "الأبناء" بتسمية أخرى أيضا هي "بنو الأحرار". أما الذين ولدوا من آباء فرس وأمهات عربيات فقد عرفوا في الكوفة بالأحامرة، وفي البصرة بالأساورة، وفي جزيرة العرب بالخضارمة، وفي الشأم بالجراجمة4. وقد ذهبت بعض كتب التواريخ التي ألفها أهل اليمن، "أن أبناء اليمن ينسبون إلى "هرمز" الفارسي الذي أرسله كسرى مع سيف بن ذي يزن. فاستوطن اليمن. وأولد ثلاثة، بهلوان ودادوان وبانيان؛ فأعقب بهلوان بهلول. والدادويون يسعوان، ومنهم بنو المتمير بصنعاء وصعدة وجراف الطاهر ونحر البون. والدادويون خوارج. ومنهم غزا كراذمار وهم خلق كثير"5. وعرف العربيّ المولود من أمة ب "الهجين". وهو معيب. وقيل هو ابن الأمة الراعية ما لم تحصن، فإذا حصنت فليس الولد بهجين. أو "مَنْ أبوه خير من أمه". "قال المبرد: قيل لولد العربي من غير العربية هجين، لأن الغالب على أولاد العرب الأدمة. وكانت تسمى العجم الحمراء ورقاب المزاود، لغلبة البياض على ألوانهم"6.

_ 1 الروض الأنف "1/ 54". 2 تاج العروس "10/ 48"، "بنى". 3 البيان "3/ 114". 4 الأغاني "16/ 73". 5 تاج العروس "10/ 48"، "بنى". 6 تاج العروس "9/ 365"، "هجن".

أما طبقات المجتمع الحضري بالنسبة إلى العرب الآخرين وأسماؤها، فلا ذكر لها في النصوص الجاهلية، وإنما ذكر في الموارد الإسلامية، وأكثره مما يخص عرب الحجاز؛ لأن أكثر ما ورد عن الجاهلية القريبة من الإسلام هو ما يخص موطن الإسلام. فكل اعتمادنا فيه على هذه الموارد الإسلامية. وفي العربية ألفاظ عديدة تعبر عن منازل الناس في الشرف والسيادة. هي في الواقع من النعوت التي أطلقها الناس على الأشراف مبالغة في مدحهم وتفخيمهم وأشراف القوم هم سادتهم من أرباب البيوت. ونجد في الموارد الإسلامية ذكر "أشراف قريش". وهم كبار قريش وسادتها وأصحاب البيوت فيها. كما نجد تعبيرًا يدل على الرئاسة والزعامة هو "رحى القوم"، يقال لسيد القوم الذي يصدرون عن رأيه وينتهون إلى أمره1. وقد عُيّر السودان في الجاهلية وفي الإسلام. عُيّروا بسوادهم وبملامح أجسامهم وبطريقة تكلمهم. هذا حسان يهجو أحدهم بقوله: وأمّك سوداء نوبيّة ... كأن أناملها الحنظب2 و"الخلاسي" الولد3 بين أبوين أبيض وأسود، أبيض وسوداء أو أسود وبيضاء. فهو المضرب. وقال بعض علماء اللغة: تقول العرب للغلام إذا كانت أمه سوداء وأبوه عربيًا آدم فجاءت بولد بين لونيهما غلام خلاسي والأنثى خلاسية قال الجاحظ: "ورأينا الخلاسيّ من الناس، وهو الذي يتخلق بين الحبشي والبيضاء، والعادة من هذا التركيب أنه يخرج أعظم من أبويه وأقوى من أصليه ومثمريه. ورأينا البَيْسريّ من الناس، وهو الذي يخلق من بين البيض والهند، لا يخرج ذلك النتاج على مقدار ضخم الأبوين وقوتهما، ولكنه يجيء أحسن وأملح"4. وقد شابت السنة هؤلاء "طُمطمانية"، أي عجمة. قال عنترة: تأوي له قلص النعام كما أوت خرق يمانية لأعجمَ طمطم5

_ 1 اللسان "14/ 314"، "صادر"، "رحا". 2 العمدة "1/ 300". 3 تاج العروس "4/ 138"، "خلس". 4 الحيوان "1/ 157"، "هارون". 5 تاج العروس "8/ 381"، "طم".

السادات

السادات: وسادة القوم أشرافهم ورؤساؤهم، وذكر أن السيد الذي فاق غيره بالعقل والمال والدفع والنفع، المعطي ماله في حقوقه المعين بنفسه. وذكر أن السيد: الحليم لا يغلبه غضبه1. والسيادة منزلة ودرجة، ولا تأتي أحدًا إلا باعتراف قومه له بسيادته عليهم وبتنصيبهم له سيّدًا عليهم. وكانوا إذا سوّدوا شخصًا عصبوه، والتعصيب التسويد، ولهذا كانوا يسمّون السيّد المطاع معصبًا. وذكر أن العصابة العمامة. وكانت عمائم سادة العرب هي العمائم الحمر2. وتعدّ الأسر الحاكمة التي ينشأ فيها عدد كبير من الملوك والحاكم أسرًا عريقة في الشرف، وينظر إليها نظرة تقدير واحترام، لأنهم ورثوا المجد عن آبائهم أبًا بعد أب. وينطبق ذلك على سادات القبائل الذين يرثون سيادتهم قبائلهم أبًا عن جد، فإنهم يفتخرون بذلك على غيرهم، لأنهم ليسوا من أولئك الذين انتزعوا السيادة فصاروا سادة، على حين كان آباؤهم أو أجدادهم من الخاملين. وقصد سادات القبائل وبعض الشعراء الكبار الملوك، ورحلوا إليهم من منازلهم، وتقربوا إليهم، وتوسطوا لديهم لبعض الناس. وقد عرف هؤلاء ب "الرحال". ولهذا نجد في الكتب، أنها إذا تعرضت لمثل هؤلاء قالت عنهم إنهم من "الرحال". فقد عرف "عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب" ب "عروة الرحال"، "وإنما سمّي الرحال لرحلته إلى الملوك"3. كما عرفوا ب "زوّار الملوك"، منهم "أبو زيد الطائي". وأشراف الناس، هم الذي نالوا الشرف والسؤدد بين قومهم، فسادوهم. والسيد هو الرئيس، ويطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم وعلى من ساد قومه، مثل سادات القبائل. وقد نعت رسول الله "سعد بن معاذ" ب "سيد الأنصار". وتقول العرب "هذا سيدنا" و "فلان سيدنا"،

_ 1 اللسان "3/ 228 وما بعدها". 2 تاج العروس "3/ 386" "طبعة الكويت". 3 البلاذري "1/ 110".

أي رئيسنا والذي نعظمه. وتقول "ساد قومه"، أي صار سيدهم ورئيسهم1. ونعت "قيس بن عديّ" ب "سيد قريش"2. وكان يوم وفاة "سعد ب معاذ" بالمدينة يومًا مشهودًا. حتى حضر الرسول جنازته وكبر عليه تسعًا، كما كبر على حمزة، تعظيمًا لشأنه. وشهد دفنه3: وكان من عادة أهل مكة في الجاهلية أنه إذا مات لهم سيد كبير أغلقوا أسواقهم إعظاما لموته، وتعبيرًا عن تقديرهم له4. فغلق الأسواق عند الجاهليين عند وفاة رجل خطير من أمارات التقدير والتعظيم. ومن أمارات تكريم الميت الشريف، تجمع الناس عند بيته، احتفالًا به لنقله إلى موضع دفنه. وإذا كان الميت خطير الشأن كان الجمع أكبر. وهو يتناسب في كثرته مع مكانة ودرجة الميت في المجتمع. وقد ذكر أنهم كانوا يقولون للرجل الشريف يقتل: "العقيرة"5. والسادات هم الرءوس، رءوس الناس. أما من دونهم فأذناب. وعرفوا ب "أذناب الناس وذنباتهم"، أي أتباعهم وسفلتهم، والأتباع دون الرؤساء. ويقال: جاء فلان بذنبه، أي أتباعه. قال الحطيئة يمدح قومًا: قوم هم الرأس والأذناب غيرهم ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا6 والسادات "مصابيح الظلام" ومشاعله، بنورهم يهتدي الفقراء وأصحاب الحاجة والفاقة، فينالون منهم ما يخفف عن كربهم وفقرهم. يطعمون الناس في الحضر والسفر، فهم سادة الناس وملاذهم حين تغلق كل الأبواب بأوجه الأذناب التاعسين البائسين. ويقال لأشراف قوم وللبارزين منهم وجوه القوم ووجهاء القوم، فورد "وكان من وجوه القرشيين"، و "كان من وجوه قريش". وأما "سروات" مثل

_ 1 اللسان "3/ 229 وما بعدها"، "صادر"، "سود". 2 نسب قريش "400". 3 الثعالبي، ثمار "64". 4 البلاذري، أنساب "1/ 87". 5 تاج العروس "3/ 415"، "عقر". 6 تاج العروس "1/ 254"، "ذنب".

"سروات الأنصار" و "سروات قريش"، ففي هذا المعنى أيضا، وجوه الأنصار وأشرافهم ووجوه قريش وأشرافهم. و "السريّ"، هو الرئيس1. وتعني كلمة "النواصي" خيار العرب وأشرافهم. فيقال هو ناصية قومه، وهو من ناصيتهم ونواصيهم. و "النصية" من القوم الخيار الأشراف2. ويعرف الأشراف المعرقون ب "النجوم"، وواحدهم "نجم". وقد أشار إليهم "حسان" في شعره، فذكر أن الذين يحملون "اللواء" أي "لواء الحرب"، هم النجوم3. ويقال لسادة الناس "الجحاجح" كذلك4. ويقال لهم: "العرى"، وهم سادات الناس الذين يعتصم بهم الضعفاء، ويعيشون بعُرفهم. شبهوا بعرى الشجر العاصمة الماشية في الجدب5. وأما لفظة "رب" التي تعني بعلا أيضًا، وإلها، والتي تعبر عن معنى "إله" في الزمن الحاضر؛ فقد أطلقت في لغة المسند على السيد والشريف، لتعبر عن معاني التفخيم والاحترام، وأطلقت في معنى "إله" أيضا في النصوص المتأخرة في الغالب، وهي من الألفاظ السامية القديمة التي وردت في معظم لغات الساميين. وقد وردت في عربيتنا بمعنى المالك والسيد والمدبر، وأطلقت بمعنى الملك كذلك. وقد كان أهل الجاهلية يطلقونها على الملك، قال الحارث بن حلزة: وهو الرب والشهيد على يو ... م الحيارين والبلاء بلاء6 هذا وللسنّ أهمية كبيرة عند العرب، لأن الإنسان إذا ما تقدم في السن ازدادت حكمته وتجاربه في الحياة ورجح عقله. لذلك يكون مرجعًا لمن هو دونه في العمر، وملاذًا في المشورات، ويعبر عنهم ب "ذوي الأسنان"7. وهم الطبقة الذكية

_ 1 تاج العروس "10/ 176"، "سره". 2 تاج العروس "10/ 370"، "نصا". 3 لم تطق حمله العواتق منهم ... إنما يحمل اللواء النجوم البرقوقي "ص380"، ديوان حسان "هرشفلد" "ص19". 4 ديوان حسان "ص36" "هرشفلد". 5 اللسان "15/ 46"، "عرا". 6 تاج العروس "2/ 459" "الكويت"، "رب" "ربب". 7 اللسان "13/ 222"، "صادر"، "سنن".

الفطنة المجربة من ذوي المكانة في الناس بالطبع. ولهذا نجد القبائل تتمسك بأخذ الرأي والمشورة من ساداتها المسنين ومن حكمائها المعمّرين، لأنهم عركوا الحياة وخبروها وعرفوا ما فيها من مرّ وحلو. لذلك جعلوا في الطبقات العليا من الناس. و"الربّ" الرئيس والمرجع ومن تكون إليه الطاعة. والأرباب، هم السادات "قال المنذر يومًا لخالد، وهم على الشراب، يا خالد، من ربك؟ فقال خالد: عمرو بن مسعود ربي وربك. فأمسك عليهما"1. و "المنذر" هو المنذر الأكبر اللخمي، وخالد، هو خالد بن نضلة. ولهذا كان يقول العبد لسيده: ربّي. وتقول حاشية السيّد والملك لسيدها وملكها: ربّنا. قال الحارث بن حلزة: ربُّنا وابننا وأفضل من يمـ ... ـشي ومن دُون ما لديه الثناء وقال لبيد حين ذكر حذيفة بن بدر: وأهلكن يومًا ربّ كندة وابنه ... وربّ معدّ بين خَبت وعرعر2 و"الخُطر"3 الأشراف من الرجال العظيمو القدر والمنزلة. والخطير الواحد. ويقال للرجال الشريف، هو عظيم الخطر. وقوم خطيرون: قوم أشراف4. ويقال "العبقري" للكامل والسيد من الرجال. وهو سيد القوم وكبيرهم والذي ليس فوقه شيء والشديد القوي5. وقد عرف سادة قريش ووجوهها ب "خضراء قريش". ولما صعد الرسول "الصفا"، عام الفتح، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا وجاء "أبو سفيان"، فقال: "يا رسول الله أبيدت خضراء قريش! لا قريش بعد اليوم"6. يقصد

_ 1 أسماء المغتالين، "ص133"، "نوادر المخطوطات"، "عبد السلام هارون". 2 الحيوان "1/ 328 وما بعدها"، "هارون". 3 بضم الخاء. 4 تاج العروس "3/ 184"، "خطر". 5 تاج العروس "3/ 379"، "عبقر". 6 صحيح مسلم "5/ 172"، "باب فتح مكة".

نخبة قريش وخاصتها، في مقابل "أوباش قريش"، الذين قال عنهم الرسول للأنصار: يا معشر الأنصار! هل ترون أوباش قريش1. والأخضر عند العرب الأسود. وقد افتخر "الفضل بن عبّاس بن عتبة اللهبي" بلونه، إذ قال: وأنا الأخضر من يعرفني ... أخضر الجلدة في بيت العرب يقول: أنا خالص لأن ألوان العرب السمرة، وأنه عربي محض لأن العرب تصف ألوانها بالسواد: وتصف ألوان العجم بالحمرة، والخضرة عند العرب السواد2. وورد "خضر غسان"، و "خضر محارب". قال الشاعر: إن الخضارمة الخضر الذين غدوا ... أهل البريص ثمانٍ منهم الحكم والخضارمة جمع خضرم، وهو السيّد الحمول3. ويقال لمن هم دون الأشراف وفوق الطبقات الدنيا، "أوساط الناس"، و "الأوساط"، و "اللهازم". يقال هو من لهازم القبيلة، أي من أوساطها لا أشرافها4.

_ 1 صحيح مسلم "5/ 170 وما بعدها"، "باب فتح مكة". 2 تاج العروس "3/ 179 وما بعدها"، "خضر". 3 الحيوان"3/ 247"، "هارون". 4 تاج العروس "9/ 69"، "لهزم".

المستضعفون من الناس

المستضعفون من الناس: والمستضعفون من الناس، كثيرون، وقد نظر إليهم مجتمعهم نظرة ازدراء واستهجان، واعتدّهم من الطبقات الدنيا. إما لفقرهم وضيق ذات يدهم، ومنهم الفقراء والصعاليك والمحتاجون وأبناء السبيل، وإما لطيشهم وخروجهم من مجتمعهم، ومنه الطريد والضال والخليع، وإما لانشغالهم بحرف يدوية، وهي حرف لا تليق بالرجل الكريم، ولا سيما الحرف الدنيا مثل الحلاقة والحجامة والحمالة وأمثالها، وأما من ناحية أصلهم، مثل أن يكونوا عبيدًا أو عبيدًا مملوكين. ولاستصغارهم شأن، الحرف اليدوية، لم يقبل عليها الأحرار وأبناء البيوت. إلا

من اضطرته الفاقة ووجد ألّا سبيل له إلى العيش إلا بالاشتغال بها، فانصرف إليها صاغرًا. ولهذا كان أكثر أصحاب الأعمال اليدوية من الرقيق والأعاجم واليهود. وإذا أخذنا بروايات أهل الأخبار نجد أن عدد أصحاب الحرف اليدوية كان قليلا جدًّا، فلم يكن في مكة مثلًا أحد من النجارين البارعين على ما يفهم من رواياتهم كروايتهم عن إعادة بناء الكعبة قبل النبوة بخمس سنين، أو كانوا قلة يعدون عدًّا. وكذلك يقال عن بقية الحرف، ويقال مثل ذلك عن يثرب. ولا أستبعد أن تكون في روايات أهل الأخبار مبالغات، ولكننا لا نستطيع نكران ازدراء العرب للحرف والصناعات. وكانوا يعيرون من يتزوج من ابنة صائغ أو حداد أو نجار، ويعيرون نسله، ولا سيما إذا كان من بيت رفيع. وقد وجد أعداء "النعمان بن المنذر" آخر ملوك الحيرة وحساده في أُمه "سلمى" التي قيل إنها ابنة قين أو صائغ يهودي، سببًا قويًّا من أسباب استهزائهم به والاستصغار لشأنه. أما الحرفي، أي الذي يشتغل بالحرف اليدوية، فلم يكن من السهل عليه التزوج من بنات الأحرار، لما قد تتعرض له أسر البنات من تعيير وسبّة وإهانة بين الناس، بتزويجهم ابنة حرة لشخص وضيع مستصغر. وأدنى المتعيشين بالحرف منزلة، الحلاقون والحجامون والحمالون، ثم أولئك الذي يعيشون على تلهية الناس، مثل سائس قرد، وهو الشخص الذي يربي القردة ويعلمها القيام ببعض الألعاب لتسلية المتفرجين وإضحاكهم في مقابل صدقة يقدمونها لقردته وله، ومثل أناس آخرين يربون حيوانات أخرى للغرض نفسه، أو يتخذون لهم مهنة إضحاك الناس عليهم لدر عطفهم والجود عليهم، ومثلهم المخنثون والمغنون المطربون. وقد عرف المعدمون المتربون، وهم الذين لا يملكون شيئًا ب "بني غبراء"، للزقهم بغبراء الأرض، ويقال لهم "الصعاليك" أيضا1، وقد ذكرت قبل قليل

_ 1 اللسان "14/ 92"، "بني"، "هم اللصوص والصعاليك المهتدون في مجاهل الأرض، والعالمون بطرقها، وقيل بل هم الفقراء اللاصقون بالغبراء من سوء الحال. على غير غطاء ولا وطاء، وقال طرفة بن العبد: رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد يقول: أنا معروف عند الأخيار والأشرار، وعند اللئام والكرام"، الثعالبي، ثمار "1/ 270".

ورود لفظة "غبر" في الكتابات القتبانية، وأن لها صلة ب "غبراء الناس" وب "بني غبراء" في عربيتنا. وقد تكون لهذا المصطلح صلة بمصطلح اختلف علماء التوراة في المراد منه، هو مصطلح "عم هـ - أرز"، أي "ناس الأرض" "أهل الأرض"، فقد ذهب بعض العلماء إلى أنها تعني طبقة وضيعة من سواد الناس، أو "الفلاحين" الذين يعيشون على استغلال الأرض. ونعت الخادم الذي يخدم بطعام بطنه "بالعضروط"، وهو الصعلوك، والعضاريط الصعاليك. وتعهد إلى العضروط مختلف الخدمات، مثل العناية بالراحلة وأداء أي عمل آخر يقوم به في مقابل طعام بطنه1. ويقال للعضروط: اللعموظ، وهو الذي يخدم بطنه. و "العضارط" الأجراء2. و"الخول" العبيد والخدم، ويقال: القوم خول فلان، أي أتباع، وهم حشم الرجل وأبتاعه. ويقع على العبد والأَمة3 فهم إذن الأتباع المغلوبون على أمرهم الخاضعون لحكم المتحكمين في رقابهم من السادة. والمملوك خلاف الحر، والرقيق: المملوك واحد وجمع. والرقيق العبد4. ورَقّ صار في عبودية5 والعبد: المملوك خلاف الحر6. ونجد لعلماء اللغة تفاسير كثيرة لمعنى "العبد"، والرقيق، وفي مدى حرية كل واحد منهما. وقد استعملت لفظة "العبد" للدلالة على معان مجازية، ومعان حقيقية. فقد قصد بها الخضوع والتذلل، ولهذا نهي عن استعمالها بهذا المعنى في الإسلام، فورد: "لا يقل أحدكم لمملوكه عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي"7. وقصد بها أيضًا العبودية الحقيقية. ولفظة "عبد" و "العبد" لفظة عامة في الأصل، وقد وردت بهذا المعنى في أكثر اللغات السامية، فاستعملت في معانٍ مجازية وفي معان حقيقية، ولم تكن

_ 1 اللسان "7/ 351". 2 اللسان "7/ 351، 460". 3 اللسان "11/ 225"، "صادر"، "خول". 4 اللسان "10/ 124"، "صادر "رقق". 5 اللسان "10/ 123"، "صادر"، "رقق". 6 اللسان "3/ 270"، "عبد". 7 اللسان "3/ 271"، "عبد".

تعني شخصًا مملوكًا بالمعنى الحقيقي من لفظة "مملوك" بالضرورة. وطالما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملًا، مثل: "ومن هو؟ عبد من عبيدي"، و "أنت عبد من عبيدي"، وذلك تعبيرًا عن ازدراء شخص لشخص آخر، واستصغار لشأنه، لأنه جعله في منزلة خدمه وعبيده. واستعملوا لفظة: "عبد" و "العبد" بالمعنى الحقيقي الخاص بالعبودية، وقصدوا بها "مملوكًا"، فقالوا: "كان عبدًا روميًّا"، وقالوا: "كان عبدًا حبشيًّا"، فقصدوا بها "مملوكًا" كائنا ما كان لونه، أو جنسه. والظاهر أن المتأخرين قد غلَّبوا استعمالها على العبيد والسود، فأطلقوا عليهم من غير ذكر صفتهم، وعنوا بها الرقيق الأسود فحسب. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن "العبد" إذا مُلك ولم يملك أبواه، أو الذي سبي، ولم يُملك أبواه. وقالوا: هم عبيد مملكة، وهو أن يغلب عليهم ويستعبدوا وهم أحرار. وفي الحديث: "أن الأشعث بن قيس خاصم أهل نجران إلى عمر في رقابهم، وكان قد استعبدهم في الجاهلية، فلما أسلموا، أبوا عليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا إنما كنا عبيد مملكة ولم نكن عبيد قن1. أي أن يغلب عليهم فيستعبدهم وهم في الأصل أحرار. وذكر علماء العربية أن القن: العبدُ الذي مُلك هو وأبوه، وأن العبد القن الذي ولد عندك ولا يستطيع أن يخرج عنك. وعبد قن خالص العبودة2. فالقن إذنْ، هو العبد المملوك، الذي تنقل إليه العبودية عن أبيه. وقد أسلفت أن هذه اللفظة وردت في لغة المسند، وإنها كانت تعني هذا المعنى عندهم أيضا. ويشبه العبد القن، العبد الذي يقال له "CERF" عند الرومان. و "القين": العبد والجمع قيان3. ويعبر عن العبد بلفظة "مولى" أيضا، ويراد بها المعتق كذلك. وتؤدي معاني اجتماعية أخرى ذكرها علماء اللغة منها: الحليف، والعقيد، والربّ

_ 1 اللسان "10/ 493"، "ملك". 2 اللسان "13/ 348"، "قنن". 3 اللسان "ق/ ي/ ن"، "13/ 351".

والمالك، والسيد. ويتبين معناها من الاستعمال1. وقد كان بمكة وسائر الأمكنة الأخرى من جزيرة العرب عدد كبير من الموالي. والعبيد هم حاصل الحروب. فإذا وقع انسان أسيرًا في غزو أو حرب صار ملكًا لآسره، إن شاء مَنّ عليه ففك رقبته، وإن شاء ملكه فصار عبدًا له. يحتفظ به لنفسه إن أراد، أو أن يهديه لغيره فيصير في ملك من أهدي له، أو أن يبيعه، فيقبض ثمنه، فتنتقل ملكية العبد إلى شاريه، فالسباء هو مصدر مهم من مصادر الرقيق. ومورد آخر أمدَّ الجاهليين بالعبيد، وهو التجارة: تجارة العبيد. وقد اختص بها قوم عرفوا بالنخاسين. يأتون بالرقيق من مختلف الأماكن ويبيعونه. وكانت تجارة رابحة. ومن العبيد، قوم كانوا مدينون فلم يتمكنوا من سداد ديونهم فبيعوا رقيقًا. ومنهم من صار رقيقًا لعدم تمكنه من دفع مال يجب عليه تأديته. كالذي روي من تقامر أبي لهب والعاص بن هشام على أن من قمر صار عبدًا لصاحبه، فقمره أبو لهب فاسترقه واسترعاه إبله2. ويكون عدد ما يملكه الإنسان من الرقيق أمارة على الغنى والمنزلة والجاه والقوة. هم قوة لأنهم عُدّة لسيدهم في القتال وفي الدفاع عنه حتى وإن كرهوه. وهم خدم له يؤدون له كل ما يطلبه منهم من أعمال، ولا يخلو منهم بيت. وذكر أن بعض السادات كان يملك المئات من العبيد فلما وفد "ذو الكلاع ملك حمير" على أبي بكر "ومعه ألف عبد دون من كان معه من عشيرته وعليه التاج، وما وصفنا من البرود والحلل"3. وكان كثير من ملاك الرقيق ذوو قلوب غلاظ، لا يرحمون عبيدهم ولا يرفقون بهم. وإذا شهد العبد غزوًا أو حربًا وغنم فلا يعطي حقه له. ويؤخذ

_ 1 اللسان "و/ ل/ ي"، "15/ 409". 2 الأغاني "3/ 100". 3 التنبيه "2/ 299"، "باب ذكر خلافة أبي بكر الصديق".

سهمه ويعطي إلى سيده. ولم يكونوا يثقون بأمانة رقيقهم1 لذلك حقد العبيد على سادتهم، وانضموا إلى أعدائهم إن وجدوا فرصة مواتية لهم أملًا منهم بإصلاح الحال. ولما حاصر الرسول الطائف نادى مناديه: أيما عبد نزل فهو حر وولاؤه لله ورسوله" فنزل جمع منهم وأسلموا وصاروا أحرارًا2. ويذكر علماء اللغة طبقة سموها "القطين"، وهم في عرفهم تبّاع الملك ومماليكه، والخدم والأتباع. وقالوا أيضا: إن القطين تبع الرجل، ومماليكه، وخدمه3. ويقال للرعية من الناس "السُّوقة" سموا بذلك لأن الملوك يسوقونهم فينساقون لهم4. وأما "سواد الناس"، فعامتهم. وكل من ذكرت من الطبقات الدنيا هم "سوقة". و "عوام"، و "سواد". ويقال للأخلاط والسفلة من الناس: الأوباش. وهم مثل الأوشاب5. وأما الأشابة فأخلاط الناس تجتمع من كل أوب والتأشب التجمع. ويقال: أوباش من الناس وأوشاب. وهم الضروب المتفرقون6. ويذكر علماء اللغة أن أهل اليمن يطلقون على المستضعفين من الناس "مستخمرون". و "المستخمرون" هم الجيران الضعفاء. ومن "أخمره الشيء"، بمعنى أعطاه إياه أو ملكه بلغة اليمن7. ويقال لأوغاد الناس وأرذالهم "الطغام" و "الطغامة". وذكر أن "طغامة"

_ 1 الأغاني "1/ 32"، "14/ 1241". 2 العقد الفريد "3/ 2". 3 اللسان "13/ 343"، "قطن". 4 ديوان بشر بن أبي خازم "ص200". 5 تاج العروس "4/ 361"، "وبش". 6 تاج العروس "2/ 148"، "أشب"، "هل ترون أوباش قريش"، صحيح مسلم "5/ 171"، "فتح مكة". 7 اللسان "4/ 258"، "خمر".

و "دغامة" الأحمق. وورد "ياطاسة الأحلام"، بمعنى من لا عقل له ولا معرفة، وقيل: هم أوغاد الناس وأسافلهم1. وعرف أوغاد الناس ب "أولاد درزة". وذكر أن أولاد درزة: السفلة والسقاط والغوغاء من الناس، كذلك أولاد ترنى. و "أولاد درزة" أيضا الخيّاطون. ويقال: أولاد درزة هم الحاكة، وهم من أسافل الناس، كما صرح به المفسرون في قوله تعالى {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} . وابن درزة الدعي، أو ابن أمة تُساعي، فجاءت به من المساعاة ولا يعرف له أب2.

_ 1 اللسان "13/ 368"، "صادر"، "طغم"، تاج العروس "8/ 380"، "طغم". 2 تاج العروس "4/ 35"، "درز"، "درزة كناية عن السفل والسقاط، ويقال لهم: أولاد درزة. قال المبرد: هم خياطون من أهل الكوفة خرجوا مع زيد بن علي". النيسابوري، ثمار "271".

أهل الوبر

أهل الوبر: ما ذكرته عن المجتمع يتناول الحضر، أما المجتمع البدوي، أي مجتمع الأعراب، فمجتمع ساذج ليس في تكوينه تعقيد ولا تعدد طبقات. صقلت البادية أهلها، وبسطت لهم أسلوب الحياة، وقلصت من الفروق الطبقية، فلا تجد فيها ما نجده عند الحضر من اختلاف كبير في منازل الناس. وكل ما هنالك من طبقات: سادات القبائل، وهم رؤساء القبيلة وأشرافها، وأحدهم "سيد القبيلة" أو رئيس القبيلة. ثم أشراف العشائر ومتفرعاتهم. ولهم أموال، ورقيق يخدمونهم. أما سواد القبيلة، فهم منتشرون في أرض القبيلة على هيأة مجتمعات صغيرة متفرقة مبعثرة، لضيق العيش الذي لا يساعد على تجمع أفراد القبيلة تجمعًا كبيرًا في محل واحد، تظهر فيه الحرف وتتنوع الأعمال التي تكون ضرورية لمجتمع الحضر. ولسادات القبائل المال، وهي: الإبل. ويشربون من ألبانها، ويأكلون لحومها، وهم الذين في استطاعتهم الذهاب إلى القرى والمدن ومواطن الحضارة للعيش فيها زمنا، ولشراء ما يجدون في أسواقها مما يحتاجون إليه من سلع.

وللتمتع بمناظر الحضارة. ولزيارة الملوك والحكام. والسكان منهم على مقربة من الحضر، يخالطهم وقد يشتري له ملكًا يعيش فيه بينهم. فإذا جاء الربيع، وحمد وقت البادية عاد إلى وطنه، ليرعى ماله، ولينظر في شئون قبيلته. وقد استخدم الأعراب "العبيد" أيضًا، ولكنهم لم يكثروا من استخدامه استخدام أهل الحضر له، لعدم وجود حاجة كبيرة عندهم إليه. وقد كان عبيد الأعراب أكثر حرية وأحسن حالا من عبيد أهل الحضر، ذلك لأن البادية لا تعرف الأعمال المرهقة، ولا الحرف الكثيرة التي فرضتها الحضارة على أهل الحضارة، لذلك صارت الأعمال التي يقوم بها عبيد الأعراب أقل بكثير من الأعمال التي يقول بها عبيد أهل القرى، وصار العبد في البادية ألصق بصاحبه من مثيله في القرية، حتى صار وكأنه جزء من أهل البيت الذي اشتراه أو ورثه.

بيوت العرب

بيوت العرب: لقد تبين لنا مما تقدم أن العرب وإن بدوا وكأنهم سواسية كأسنان المشط، الكل متساوون في المعاملة لا فرق عندهم بين غني وفقير، كل معتز بنفسه فخور بفعاله، إلا أنهم مع ذلك وفي الواقع طبقيون، لكل طبقة عرف وتقاليد، فبيوتهم تتفاوت عندهم في الشرف والمكانة، هناك بيوت اشتهرت في القبيلة وحافظت على فعالها ومكانتها، وكانت تتفاخر وتتباهى على غيرها فلا تزوج أحدًا من أبنائها أو بناتها إلا لمن كان كفؤًا لها. وقد تحدث أهل الأخبار والأنساب عن بيوت برزت في القبائل وتفوقت على غيرها في ناحية من نواحي الفضل والفخر. فذكر ابن الكلبي: مثلا أن العدد من تميم في بني سعد، والبيت في بني دارم، والفرسان في بني يربوع، والبيت من قيس في غطفان، ثم في بني فزارة، والعدد في بني عامر، والفرسان في بني سليم، والعدد من ربيعة في بكر، والبيت والفرسان في شيبان1. وكان يقال: إذا كنت من تميم ففاخر بحنظلة، وكاثر بسعد، وحارب بعمرو،

_ 1 العمدة "2/ 191".

وإذا كنت من قيس ففاخر بغطفان، وكاثر بهوازن، وحارب بسليم، وإذا كنت من بكر ففاخر بشيبان، وكاثر بشيبان، وحارب بشيبان1. وقد اشتهرت ثلاثة بيوت شهرة خاصة في الجاهلية القريبة من الإسلام، وهي: بيت بني زرارة، وهم من "بني عبد الله بن دارم" في تميم، وبيت "بني بندر"، وهم من "بني فزارة" من "بني قيس"، وبيت "ذي الجدّين"، وهم من "بني شيبان" من "بكر بن وائل"2. وجعل "أبو عبيدة" بيوت العرب ثلاثة: فبيت قيس في الجاهلية بنو فزارة، ومركزه بنو بدر، وبيت ربيعة بنو شيبان، ومركزه ذو الجدين، وبيت تميم بنو عبد الله بن درام، ومركزه بنو زرارة3. وذكر أنه قال: ليس في العرب أربعة إخوة أنجب ولا أعدّ ولا أكثر فرسانًا من بني ثعلبة بن عكابة. وكان يقال له الأغر والحصن. وبنوه: شيبان وذهل وقيس وتيم الله. وفارس غطفان الربيع بن زياد العبسي، وفاتكها الحارث بن ظالم، وحكمها هرم بن قطبة، وجوادها هرم بن سنان المريّ؛ وشاعرها النابغة الذبياني. وفارس بني تميم عتيبة بن الحرث بن شهاب أحد بني يربوع. وفارس عمرو بن تميم طريف بن تميم العنبري. وفارس دارم عمرو بن عدس، وفارس سعد فدكي بن المنقري، وفارس الرباب زيد الفوارس بن حصين الضبيّ، وفارس قيس عامر بن الطفيل، وفارس ربيعة بسطام بن قيس4. وقال أبو عمرو بن العلاء: بيت بني سعد إلى الزبرقان بن بدر من بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد، وبيت بني ضبة بنو ضرار بن عمرو الرديم، وبيت بني عديّ بن عبد مناة آل شهاب من بني ملكان، وبيت التيم آل النعمان بن جساس5. وزعم "ابن الكلبي" أن آل حصن الفزاريين، وآل الجدين الشيبانيين،

_ 1 العمدة "2/ 192"، بلوغ "2/ 189". 2 الكامل "1/ 35". 3 العمدة "2/ 192". 4 بلوغ الأرب "2/ 189". 5 العمدة "2/ 192 وما بعدها".

وآل عبد المدان الحارثيين، هم أعلى بيوت العرب. ويقال: بيت تميم في بني حنظلة، أي شرفها1. فهذه البيوت هي البيوت البارزة المسلم لها بالسيادة والشرف عند الجاهليين على رأي "ابن الكلبي". وذكر "الجمحيّ": أن الفروسية في اليمن في بني زبيد بن عمرو بن معد يكرب. وأن شاعر اليمن امرؤ القيس، وأن بيتها في كندة: في الأشعث بن قيس. لا يختلف في هذا وإنما اختلف في نزار. وقال أخباري: كان بيت قيس في آل عمرو بن الظرب العدواني، ثم في غني في آل عمرو بن يربوع ثم تحول إلى بني بدر. فجاء الإسلام وهو فيهم. وقال الأخفش: فرعا قريش هاشم وعبد شمس. وفرعا غطفان بدر بن عمرو بن لوذان وسيّار بن عمرو بن جابر. وفرعا حنظلة رياح وثعلبة ابنا يربوع. وفرعا ربيعة بن عامر بن صعصعة جعفر وأبو بكر ابنا كلاب. وفرعا قضاعة عذرة والحرث بن سعد2. وقد ذكر "الجاحظ" أن هناك قبائل في شطرها خير كثير، وفي االشطر الآخر شرف وضعة. "فمن القبائل المتقادمة التي في شطرها خير كثير، وفي الشطر الآخر شرف وضعة، مثل قبائل غطفان وقيس عيلان، ومثل فزارة ومرّة، وثعلبة، ومثل عبس، وعبد الله بن غطفان، ثم غنيّ وباهلة، واليعسوب والطفاوة. فالشرف والخطر في عبس وذبيان، والمبتلى والملقى والمحروم والمظلوم، مثل باهلة وغنيّ. ومن هذا الضرب تميم بن مرّ، وثور وعكل، وتميم ومزينة. ففي عكل وتيم ومزينة من الشرف والفضل ما ليس في ثور"3. وذكر "الجاحظ" أن بعض الناس تكبّروا على غيرهم، لما وجدوا لأنفسهم من الجاه والثراء والمكانة، ومنهم: بنو مخزوم، وبنو أمية، وبنو جعفر بن كلاب، وبنو زرارة بن عدس. فلم يكونوا كبني هاشم في تواضعهم، وفي إنصافهم لمن دونهم4.

_ 1 تاج العروس "1/ 530"، "بيت". 2 بلوغ الأرب "2/ 190". 3 الحيوان "1/ 359 وما بعدها"، "هارون". 4 الحيوان "6/ 72"، "هارون".

الشرف

الشرف: وللشرف مقام كبير عند العرب. وإذا دخل شريف قوم في مجتمع جلس في

المقام اللائق به. ويلعب هذا المقام دورًا كبيرًا في مجالس الملوك وفي مجالس سادات القبائل وفي أندية الحضر. وإذا لم يأخذ الشريف مكانه، كأن يجلس في مجلس هو دون مجلسه اللائق بمقامه بالنسبة إلى الحاضرين، عد ذلك إهانة له، ومعاملة سيئة متعمدة. قد تأتي بأوخم النتائج إذا كان الشريف من أصحاب الحول والطول. ولهذا كان الملوك خاصة وسادات القبائل يراعون حرمة المكان، ويعينون للقادم مكانة، وبأسلوب لطيف لا يثير مشاعر الجالسين ولا يشعرهم بأنهم قصدوا إهانتهم إن طلبوا من القادم التقدم على الحاضرين، والجلوس على مقربة منهم. وذلك على حسب مكانته ومنزلته، والغالب أن ينص على المكان الذي يجلس به. والشرف في العرف الجاهلي، هو الحسب بالآباء. والشرف والمجد عندهم لا يكونا إلا بالآباء. أما الحسب والكرم فيكونان، وإن لم يكن له آباء لهم شرف1. ولهذا حرصوا على استمرار الشرف في الأسر الشريفة، وعلى إمدادها بالحيوية والنشاط حتى يبقى الشرف متألقًا لامعًا فيها. ومن ذلك الزواج المكافئ والفعال الحميدة والمحافظة على سجايا الأسرة الطبية، والأعراف المثالية، والتمسك بالنسب وعدم تلويثه بدم من هو دونهم في الشرف، ورعاية ذلك النسب وحفظه، ليكون نسب كل شريف بيّنًا واضحًا ظاهرًا للناس. ومن الشرف: التخلق بالأخلاق الحميدة، وعمل الأمور المحببة المفيدة التي تخلد الذكر لصاحبها وتجعل الناس يلهجون باسمه من ذلك.

_ 1 اللسان "9/ 169"، "شرف".

العرض

العرض: والعرض في معنى الشرف، ويتجلى في مظاهر متنوعة يراد بها صيانة السمعة وطرد سوء الظن وما يخدش شرف الإنسان من سوء أو مكروه. وهو لا يكتفي بالدفاع عن عرضه، بل يلزم نفسه أيضًا بالدفاع عن عرض قبيلته وعن عرض من يدخل في جواره أو في حلفه، لأن أعراضهم عرضه. فهو يلزم نفسه بلوازم كثيرة ثقيلة، يحاول مهما كلفه الأمر الوفاء بها خشية العار. وهو في سبيل الوفاء بالتزامات العرض يفعل ما يشاء، ويدخل في ذلك القتل والعنف في سبيل الدفاع عن الالتزامات التي ألزم نفسه بها في سبيل حماية العرض1.

_ 1 بلاشير "ص38 وما بعدها".

وإذا مُسّ عرض امرئ بأذى هاج وأهاج مَنْ هو من ذوي دمه ولحمه، للاقتصاص ممن دنس عرضه. وهو لا يهدأ حتى يأخذ بثأره ممن داس على عرضه. فثأر العرض مثل ثأر القتل، لا يهدأ صاحبه ولا يهجع إلا إذا أخذ بثأره ممن تجاوز على عرضه. والغالب في عقوبة هذا الثأر الذبح. أي بقطع الرأس عن الجسد. يذبح حتى في حالة إذا كان قد توفي من طعنة بخنجر يقضي عليه، فإنه يذبحه عندئذ. ويكون هذا غسلًا للعار الذي ألحقه ذلك المتجاسر بعرض القاتل.

المروءة

المروءة: وتتمثل المثل الجاهلية العليا في "المروءة"، وقد فسرت المروءة بأنها كمال الرجولية. ومن المروءة: الحلم، والصبر، والعفو عند المقدرة، وقرى الضيف، وإغاثة الملهوف، ونصرة الجار، وحماية الضعيف. فإذا تمثلت أمثال هذه السجايا في رجل، كان كاملًا، عظيم الشأن في قومه. والمروءة عند الجاهليين كالدين عند المسلم. وقد ورد أن المروءة ألّا تفعل في السرّ أمرًا وأنت تستحي أن تفعله جهرًا1 فهي أقصى ما تكون من أخلاق في الرجال الكامل الشجاع. وقد أقرها الإسلام في جملة ما أقره من فضائل الجاهلية، ورد: الدين، المروءة، ولا دين إلا بالمروءة2. والشهامة هي من صفات السيد الشريف النبيل. والشهم، وهو السيّد النجد، الذي إذا دعي أنجد، وإذا طلب أجاب3.

_ 1 اللسان "1/ 149"، "1/ 154 وما بعدها"، "صادر"، "مرأ". 2 Muh. Stud, I, S. 14. 3 تاج العروس "8/ 361"، "شهم".

الكملة

الكَمَلة: وتحدث أهل الأخبار عن جماعة من الجاهليين قالوا إنهم عرفوا بين قومهم بالكملة. منهم "بنو زياد العبسيون"، وهم أنس الحفاظ، ويقال له أيضًا أنس الفوارس، وعمارة الوهاب، وربيع الكامل، وقيس الجواد. وقيل: ربيع الحفاظ، وعمارة الوهاب، وأنس الفوارس، أمهم فاطمة بنت الخُرشب الأنمارية1.

_ 1 العمدة: 2/ 197، المحبر "398".

وكان "الربيع بن زياد العبسي" المعروف بالكامل، ممن ينادم الملك النعمان، ويكثر عنده، ويتقدم على من سواه. وينزل في قبة يضربها له. حتى أفسد "لبيد" الشاعر، وكان إذ ذاك غلامًا ما كان بينهما من ودّ في خبر ترويه كتب الأدب والأخبار1. وعرف قوم ب "الأكابر"، قيل هم: شبيان، وعامر، وجليحة، والحارث بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل2. والإنسان الكامل عند الجاهليين وفي أول الإسلام، هو الذي يكتب بالعربية، ويحسن العوم والرمي. وقد لقب رجال عديدون بهذا اللقب، منهم: "أوس بن خولي"، وهو من المخضرمين3. قال "ابن سعد" عنه: "وكان أوس بن خَوَلي من الكَمَلة، وكان الكامل عندهم في الجاهلية وأول الإسلام الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي"4.

_ 1 المرتضى، أمالي "1/ 189 وما بعدها"، المعارف "82". 2 العمدة "2/ 196". 3 ابن سعد، الطبقات "3/ 542"، الإصابة "1/ 95 وما بعدها"، "رقم 334". 4 ابن سعد، الطبقات "3/ 542".

من الخصال الحميدة

من الخصال الحميدة: ومن الخصال الحميدة عند العرب: النخوة. والنخوة في اللغة الافتخار والتعظم، والنخوة الكبر والعظمة. ومن صفات العرب أنها كانت تتنحى من الدنايا أي تستنكف5.

_ 5 تاج العروس "10/ 362"، "نخا".

الكرم

الكرم: ومن الأعراف عرف إكرام الضيف، وتقديم حق الضيافة له مهما كانت درجة تلك الضيافة ومنزلة المضيف. يقدم له ما يقدر عليه وما يتسع حاله له. والضيافة درس من الدروس التي لقنتها الطبيعة للإنسان أيضًا. لقنته أن الإنسان مهما كان

فقيرًا، عليه أن يقدم ما عنده لمن يأتيه من ضيف قريب أو غريب ليضيفه، إنقاذًا لحياته من قحط البادية ومن شحها. فليس في البادية ملجأ يلجأ الفرد إليه غير الخيام المضروبة هنا وهناك، ملاجئ مهما قيل فيها، لكنها قوارب النجاة أو جزر صغيرة في محيط واسع شاسع. لا يطمع الإنسان منها إلا في الاستراحة وإمضاء أمور سفره إلى الموضع الذي يريده، وإذا امتنع صاحب الخيمة عن أداء حق الضيافة، وعرض حياة ضيفه للخطر، وعرض حياه نفسه إلى ذلك الخطر، فلا بد أن تنزل به في يوم ما حاجة ما، ولا بد أن يقطع البادية مرارا في حياته بحثا عن رزق، فإذا بخل ولم يضيّف غيره، لم يستضفه الآخرون فيقع في ضنك قد يكون به هلاكه وهلاك من معه. والعرف أن الضيافة ثلاثة أيام وثلاث ليال، فإذا انتهت المدة، سقط حق الضيافة من رقبة "المضيف" إلا إذا جددها، وزاد عليها. ويعبر عن منزلة الضيف عند المضيف يحمل وتعابير تعبر عن ترحيب المضيف بضيفه، مثل جملة: "بيتي بيتك"، وعلى الضيف بالطبع أن يتأدب بأدب الضيافة، فيصون حرمة بيت مضيفه، فلا يسرق منه، ولا ينظر إلى العائلة بسوء وألا يقوم بأي عمل يخل بعرف الضيافة1. ونظرًا إلى ما للمعابد من حرمات، اعتبر الوافدون عليها لزيارتها والتقرب لأصنامها ضيوفًا لها، وعدوا الذي يعتدون عليهم خارجين عن العرف مارقين بالنسبة لمجتمعهم. فمن كان يفد إلى مكة يقال له "ضيف الله"، وقيل للحُجَّاج "ضيوف الكعبة"، فلا يجوز الاعتداء عليهم، ومن وقع اعتداء عليه، يجد حتمًا من بين أهل مكة من يدافع عنه2. والجود، وهو السخاء صفحة أخرى من صفحات الكرم. وهو أن يمطر الرجل غيره بمعروفه، وأن يجود على غيره بما عنده3. وقد بالغ بعضهم بجوده حتى ضرب به المثل. ومن هؤلاء حاتم الطائي. وهو "حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عديّ بن أحزم" من قبيلة طيء.

_ 1 Smith, Kinship, P. 70. 2 Smith, Kinship, P. 41, Hastings, P. 427. 3 اللسان، العقد الفريد "1/ 337"، نهاية الأرب "3/ 208".

وقد ضرب به المثل في الجود والسخاء، فقيل "أجود من حاتم"، ورووا عنه قصصًا كثيرًا في الجود والسخاء، يرينا أن الجود فيه سجية، نبت فيه مُذْ كان صغيرًا، فقد روي أنه اختلف مع والده، وهو صغير، لأنه فرق إبله وغنمه وكان يرعى بها على قوم مرّوا به، فيهم: عَبِيد بن الأبرص، وبشر بن أبي خازم، والنابغة الذبياني، فطرده أبوه، وقال له: إذن لا أساكنك بعدها أبدًا ولا آويك، فقال حاتم: إذا لا أبالي1. ويذكر: أنه كان إذا أهل شهر رجب نحر في كل يوم عشرة من الإبل، وأطعم الناس، وأنه كان يقول لغلامه يسار، إذا اشتد البرد وكلب الشتاء: أوقد نارًا في يفاع من الأرض: لينظر إليها من أضل الطريق ليلًا فيقصد نحوه2. وكان يوقد نار القرى، ليقصدها من يريد الضيافة من الناس. وذكروا أنه كانت لحاتم قدور عظام بفنائه لا تنزل عن الأثافي، إلى غير ذلك من أخبار في كرمه وسخائه3. وذكر عنه أنه قسم ماله بضع عشرة مرّة؛ وأنه مرّ في سفر له على بني عنزة ولهم أسير في القدّ، فاستغاث به، ولم يحضره فكاكه، ففاداه وخلّاه، وأقام مقامه في القدّ حتى أُدي فداؤه. ورووا أنه ذبح فرسه، ووزع لحمها على جيرانه، لأن امرأة كانت جارة له جاءت إليه مستغيثة به، تقول له: أتيتك من صبية يتعاوون من الجوع ولم يكن لديه ما يعطيها، فذبح فرسه، مع أنه وعائلته كانوا جياعًا مثل صبيتها، فلما مانعت زوجته في ذبح فرسه، قال لها: إن هذا للُؤم أن تأكلوا وأهل الحي جياع4. وينسب أهل الأخبار إليه شعرًا، في جملته قصيدة تتعلق بالكرم وبمكارم الأخلاق وبالحكم5، وقد جمعوا من شعره ديوانًا، وذكروا أنه من الشعر

_ 1 بلوغ الأرب: "1/ 72 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "1/ 73، 77 وما بعدها"، العقد الفريد "1/ 332". 3 ثمرات الأوراق للحموي "حاشية على المستطرف"، "1/ 127"، الشعر والشعراء "123 وما بعدها". 4 الثعالبي، ثمار القلوب "97 وما بعدها". 5 بلوغ الأرب "1/ 79".

البليغ الجيد1. وضرب المثل بجود "كعب بن مامة الإيادي". ويذكر أهل الأخبار أنه هلك بسبب جوده، فقد مات عطشًا، لأنه أعطى الماء غيره، فمات هو من العطش2. وقد فضله "الجاحظ" ورَجَّحه على "حاتم الطائي" في الجود. ذلك لأن حاتمًا كان يجود على غيره بماله، أما "كعب"، فقد بذل النفس حتى أعطبه الكرم، وبذل المجهود في المال، فساوى حاتمًا من هذا الوجه وباينه ببذل المهجة. فهو على رأيه فوقه في الكرم بمنازل ودرجات3. وذكر أن من عادة "كعب بن مامة" أنه إذا جاوره رجل قام له بكل ما يصلحه وعياله، وحماه ممن يريد. وإن هلك له بعير أو شاة أو عبد أخلف عليه، وإن مات وداه، فجاوره "أبو دواد الإيادي" الشاعر، فكان يفعل به ذلك ويزيد في بره، فصارت العرب إذا حمدت جارًا بحسن جواره، قالوا: كجار أبي دواد4. وقد افتخرت به إياد. وعدّ من مفاخرها5. وذكر "عبد الملك بن مروان" إيادًا، فقال: هم أخطب الناس لمكان قس، وأسخى الناس لمكان كعب، وأشعر الناس لمكان أبي دواد، وأنكح الناس لمكان ابن الغز6. و"أوس بن حارثة بن لأم الطائي". يذكرون أن "النعمان بن المنذر" حباه حلة نفيسة بحضور وفود العرب من كل حيّ، وكانوا قد اجتمعوا عنده، فقال لهم: "إني ملبسٌ هذه الحلة أكرمكم" فألبسه النعمان الحلة7. ويذكرون أنه تمكن من الشاعر "بشر بن أبي خازم"، وكان "أوس" قد نذر لئن

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 75"، تأريخ الأدب العربي، ل "كارل بروكلمان"، "1/ 111، 112، 113". 2 بلوغ الأرب "1/ 81"، العقد الفريد "1/ 337"، نهاية الأرب "3/ 208"، ثمرات الأوراق "1/ 127"، "حاشية على المستطرف". 3 الثعالبي، ثمار "126". 4 قال قيس بن زهير: أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى جار كجار أبي دواد الثعالبي، ثمار "127 وما بعدها". 5 الثعالبي، ثمار "122". 6 الثعالبي، ثمار "142". 7 الثعالبي، ثمار "118".

ظفر به ليحْرِقنه، لأنه أسرف في هجائه، حتى تجاسر فهجا أمه "سُعدى". فلما ظفر به، أشارت "سُعدى" على "أوس" بأن يمنّ على بشر، فخلى سبيله وأكرمه وأحسن كسوته وحمله على نجيبة وحباه، فصار "بشر" يمدحه1 ويذكر أهل الأخبار، أن أوسًا وحاتمًا وفدا على "عمرو بن هند"، فأراد امتحانهما، والوقوف على رأي أحدهما في الآخر، فما انتقص واحد منهما الآخر. فقال عمرو: والله ما أدري أيكما أفضل! وما منكما إلا سيد كريم2. و"هرم بن سنان المُريّ"، من أجواد الجاهلية أيضا. وهو سيد غطفان. وكان والده سيّد غطفان كذلك. وقد مدحه الشاعر زهير بن أبي سلمى في أبيات لا يزال الناس يحفظونها ويذكرونها عن هرم وقد كان هرم أعطاه مالًا كثيرًا من خيل وإبل وثياب وغير ذلك مما أغناه، وفيه ورد المثل: "أجود من هرم". وقد أدركت بنت له أيام عمر فسألها عن أبيها وعن صلته بزهير3. قال "أبو عبيدة": "أجود العرب ثلاث: كعب بن مامة، وحاتم الطائي، وكلاهما ضُرب به المثل، وهرم بن سنان صاحب زهير"4. وقد ضرب المثل بجود "عبد الله بن حبيب العنبري" فقيل: "أقرى من آكل الخبز". ذكر أنه سمي آكل الخبز، لأنه كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن. وأكل الخبز ممدوح عند العرب. وهو عندهم من علامات الغنى والمال. وعرف "ثور بن شحمة العنبريّ" بالجود كذلك، وقد كان قومه "بنو العنبر" إذا افتخروا، قالوا: "منا آكل الخبز، ومنا مجير الطير"5. وقد عرف "ثور بن شحمة" ب "مجير الطير" لأنه كان يشفق على الطيور فيطعمها ويشبعها لجوده وكرمه. واشتهر "عبد الله بن جُدعان" بجوده كذلك، وقد كان يسمى ب "حاسي الذهب"، لأنه كان يشرب في إناء من الذهب، وقيل: "أقرى من حاسي

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 83 وما بعدها". 2 الثعالبي، ثمار "118". 3 بلوغ الارب "1/ 84 وما بعدها"، ثمرات الأوراق "1/ 127" حاشية على المستطرف. العقد الفريد "1/ 337" نهاية الأرب "3/ 208"، الشعر والشعراء "123". 4 الشعر والشعراء "123". 5 بلوغ الأرب "1/ 87".

الذهب". وكان يجود على "أمية بن أبي الصلت"، ويقري أهل مكة ومن يأتي إليها، وله جفنة كبيرة يأكل منها الناس، ويصنع لهم "الفالوذج"، ولم يكن معروفًا قبله بمكة، فلما كان بالعراق. أكله واستذوقه، وجاء منه بطبّاخ ليطبخ له "الفالوذج". وهو من "بني تيم". وكان ممن حرم الخمر على نفسه بعد أن كان بها مغرى، لما رأى فيها من ضرر وإسفاف يلحق بشاربها. وذكر أنه لما كَبُرَ وهرِم، أراد قومه أن يمنعوه من تبذير ماله، ولاموه في العطاء، فكان يدعو الرجل، فإذا دنا منه، لطمه لطمة خفيفة، ثم يقول له: قم فانشد لطمتك واطلب ديتها، فإذا فعل، أعطته بنو تيم من مال ابن جُدعان1. وقد ضرب المثل بفالوذج ابن جُدعان في أطايب الأطعمة2. وقد عدّ في "مطعمي قريش"، وهم سادات قريش وأشرافها ممن كان يطعم الناس ويفتح بيته للضيوف، ولا يمنع جائعًا من دخول داره. كهاشم بن عبد مناف. وكانت له جفان يأكل منها القائم والراكب، إذا وقع في إحداها صبي غرق. فجرى بها المثل في العظم3. وللتعبير عن إسراف الأجواد في جودهم، وفي قراهم الضيوف، نعت أحدهم ب "مطعم الطير"، كناية عن كرمهم، وعن كثرة طعامهم المهيأ، حتى كانت الطيور تشارك الضيوف في أكل الزاد، وهو كثير. وقد نعت "حسان بن ثابت" عمه "خالد بن زيد" المعروف ب "ابن هند"، وهو من "بني النجّار"، ب "مطعم الطير"، كناية عن أنه كان ينحر الإبل للأضياف، فيأكل منها الناس والطير4. ونعتت "ليلى بنت الخَطِيم بن عدي بن عمرو"، وهي أخت الشاعر "قيس بن الخطيم" أباها بأنه "مطعم الطير ومباري الريح"، وذلك أمام الرسول5.

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 87 وما بعدها"، نهاية الأرب "3/ 217"، مجمع الأمثال "2/ 72"، الثعالبي، ثمار "672"، البيان والتبيين "3/ 124"، الأغاني "8/ 334"، نسب قريش "291". 2 الثعالبي، ثمار "123"، الحيوان، للجاحظ "3/ 403"، عيون الأخبار "3/ 268". 3 الثعالبي، ثمار "609"، البخلاء "210"، سمط النجوم، للعصامي "1/ 200". 4 البرقوقي "117". 5 المحبر "ص96".

ومن الأجواد من كان يجود في أوقات الشدة والحاجة بصورة خاصة، في مثل حلول الجدب. وقد عرف نفر من العرب ب "مطاعيم الريح"، وذلك لأنهم كانوا يطعمون إذا هبت ريح الصبا، لأنها لا تهب إلا في جدب، فمدحوا. ومن هؤلاء: "كنانة بن عبد يا ليل الثقفي" عم أبي محجن1. وزعم "ابن الأعرابي" أن "مطاعيم الريح"، هم أربعة منهم: كنانة بن عبد يا ليل الثقفي المذكور و "لبيد بن ربيعة"2. ويقال للرجل الذي يهتز للمعروف والعطية "الأريحي"، وهو السخي، و "الأريحية" السخاء3. وقد ضرب المثل بجماعة من الجاهليين عرفوا بجودهم وكرمهم، حفظ العرب ذكرهم لجودهم، وما زالوا يحتفظونه حتى اليوم، يتذاكرونه ويروونه في كتاباتهم وفي أنديتهم وفي كلامهم. من هؤلاء ثلاثة سُمّوا "زاد الراكب" و "أزواد الركب"، لأنهم كانوا إذا سافروا مع قوم لم يتزودوا معهم. كانوا من أهل مكة هم: أبو عمرو بن أمية "مسافر بن أبي عمرو بن أمية"، وأبو أمية بن المغيرة المخزومي، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزّي "زمعة بن الأسود بن المطلب". وقد ضرب بهم المثل، فقيل: أقرى من زاد الراكب4. وقد كان "عبد الله بن أبي أمية"، المعروف ب "زاد الركب" شديد الخلاف على المسلمين، ثم خرج مهاجرًا من مكة يريد النبي، فلقيه ب "الصلوب" فوق العرج، فأعرض عنه رسول الله، ثم عفى عنه5. وفي معنى "زاد الركب" معنى "جفنة الركب"، والجفنة: الرجل

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 91 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "1/ 91 وما بعدها". 3 اللسان "2/ 460 وما بعدها"، "صادر"، "روخ". 4 مجمع الأمثال "2/ 72"، اللسان "3/ 198"، "صادر"، "زود"، المحبر "177، 457"، تاج العروس "2/ 366"، "زاد"، نسب قريش "300، 315"، الثعالبي، ثمار القلوب "103". 5 نسب قريش "ص315 وما بعدها".

الكريم. قيل له: "جفنة الركب"، لأنه كان مطعامًا يضع جفنته ويطعم الناس فيها، ومن يكون معه في ترحاله فسمي باسمها1. وكانت العرب تقول: السفر ميزان القوم، كأنه يزنهم بأوزانهم ويفصح عن مقاديرهم في الكرم واللؤم2. إذ يتبين الكريم من اللئيم في سفره. فاللئام إذا ما سافروا ضجروا، لخوفهم من تقديم ما عندهم إلى من هم دونهم من فقير ومحتاج، أما الكريم، فإنه لا يبالي في سفره فيعطي وينفق ويساعد من يسافر معه بما يجود به عليهم. فهو على عكس اللئيم فرح بسفره هذا مستبشر. وزعم الأخباريون أن "سويد بن هرمي بن عامر الجمحي"، كان أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة3. ومعنى هذا أنه أول من وضع الأرائك لراحة الناس في الجاهلية، ولعلّهم قصدوا أرائك وضعت في الحرم لجلوس الناس عليها. كما ذكروا أن "أبا أمية بن المغيرة المخزومي" و "أبا وادعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم" وكانا يسقيان العسل بمكة، بعد سويد بن هرمي4. وقد كان "عدي بن نوفل" يسقي الحجيج اللبن والعسل على ما ذكره أهل الأخبار5. وقد عدت السقاية من مفاخر قريش. وقد كان من عادة الأجواد إيقاد النار في الظلام ليراها الغريب والمحتاج والجائع من مسافة بعيدة فيفد إليها، فيجد له من يقريه ويقدم له ما يحتاج إليه من طعام. ويقال لها "نار القرى" و "نار الضيافة". وهي نار توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل، وكانوا يوقدونها على الأماكن المرتفعة، لتكون أشهر. حتى زُعم أن منهم من كان يوقدها بالمندلي الرطب، ليهتدي إليها العميان، بشم رائحة الطيب التي تفوح منها عند الاحتراق. وهي من أجل الأعمال عند العرب. وقد ذكرت في الشعر الجاهلي6.

_ 1 اللسان "13/ 90 وما بعدها"، "صادر"، "جفن". 2 الثعالبي، ثمار القلوب "688". 3 المحبر "ص176 وما بعدها". 4 المحبر "177". 5 نسب قريش "197". 6 بلوغ الأرب "2/ 161".

ويعدّ الشتاء محكًّا للأجواد ولكرام الأنفس فالشتاء عدو الفقير، يؤلمه ببرده ويوجعه بفقره ويضيف آلامًا على آلامه. فخيمته الممزقة البالية، لا تقيه من رياح ولا من مطر ولا من برد. والصيد يختفي ويقل، والأعشاب تزول، فلا يجد الفقير أمامه سوى ما ادخره من قوت ليعيش عليه. فإذا أكله أو كان قليلًا، فليس أمامه من ملجأ سوى الاستجارة بأهل الجود والسخاء. ممن كانوا إذا جاء الشتاء أدنوا إليهم الناس وأطعموهم، فيقتلون بذلك جوع الشتاء. ولهذا عرف الواحد منهم ب "قاتل الشتاء"1. وغاية الجود أن يجود الإنسان بأعز ماله لغيره، يقال: "إنه لمنحار بوائكها، أي ينحر سمان الإبل"، وهو للمبالغة، يوصف للجود2. فهو ليس من أولئك الذين يبخلون بمالهم العزيز، فينحرون الهزيل من الإبل، حرصًا على العزيز، بل يقدم أقصى ما عنده لضيوفه. ويعد العرب "إقراء الضيف" و "الرفادة": "رفادة الحج" في جملة "إرث إبراهيم وإسماعيل". ويدخل أهل الأخبار في جملة هذا الإرث تعظيم الحرم ومنعه من البغي فيه وقمع الظلام ومنع المظلوم3. فالكرم إذن من السنن القديمة الموروثة عن سنة إبراهيم على أهل الأخبار. ولا يعد الكريم كريمًا إذا وهب ماله في سبيل غرض. فمن وهب المال لجلب نفع أو دفع ضرر أو خلاص من ذم فليس بكريم4. ويقال للعطية الجزيلة "الدسيعة". ويقال للجواد، هو ضخم الدسيعة، أي كثير العطيّة. وقيل هي المائدة الكريمة والجفنة على سبيل المجاز5، لما عرف به الأجواد من تقديم الطعام للأضياف. ويقال للجواد المعطاء السيد الحمول: "الخضرم"، تشبيها بالبحر الخضرم وهو الكثير الماء6.

_ 1 تاج العروس "8/ 76"، "قتل". 2 تاج العروس "3/ 558"، "نحر". 3 الكلاعي، الاكتفاء "1/ 150". 4 تاج العروس "9/ 41"، "كرم". 5 تاج العروس "5/ 327"، "دسع". 6 تاج العروس "8/ 280 وما بعدها"، "الخضرم" بكسر الخاء.

وقد يعبر عن غاية الجود بقولهم: "هو جبان الكلب"، أي نهاية في الكرم وكثرته، لأنه لكثرة تردد الضيفان إليه يأنس كلبه فلا يهر أبدًا. قال حسان بن ثابت: يُغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون من السواد المقبل1 ومن الجود والكرم: الرفادة. والرفد: العطاء وإعانة المحتاج. ومن ذلك ما فعلته قريش من "الرفادة"، حيث اتفقت أن يخرج كل إنسان مالًا بقدر طاقته، يشترون به للحاج الجُزر والطعام والزبيب للنبيذ، فيجمعون من ذلك مالًا عظيمًا، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج. وذكر أن "هاشم بن عبد مناف"، كان أول من قام بالرفادة، وأول من هشم الثريد، وقد سُمّي هاشمًا لهشمه الثريد2. وذكر علماء اللغة أن السخاء مراتب ثلاث: سخاء وجود وإيثار. فالسخاء إعطاء الأقل وإمساك الأكثر. والجود إعطاء الأكثر وإمساك الأقل، والإيثار إعطاء الكل من غير إمساك شيء. وهو أشرف درجات الكرم3. ويعبر عن السخاء ب "الندى". ويقال "هو ندي الكف"، إذا كان سخيًّا4. و "طلحة الندى"5، أي السخي الكريم.

_ 1 تاج العروس "9/ 159"، "جبن". 2 اللسان "3/ 181"، "صادر" "رفد". 3 نهاية الأرب "3/ 204". 4 تاج العروس "10/ 363"، "ندا". 5 نسب قريش "237".

من شيم السادة

من شيم السادة: ويعد حمل أثقال الديات من شيم السادة، إذ لم يكن من الممكن للأسر الفقيرة دفع دية القتلى حين توزع في العشيرة أو القبيلة، لذلك يحملها السادة عن الضعفاء. وقد مدح "حسان بن ثابت" "حكيم بن حزام من خويلد"، فكان مما مدحه به أنه "أنه حمال أثقال الديات"1.

_ 1 البرقوقي "70".

وممن حمل الدماء ودفع أثمان دياتها: "عمرو بن عصم"، الذي حمل الدماء التي كانت بين "بني سدوس" و "بني عنزة" في الجاهلية1، وهرم بن سنان، والحارث بن عوف، إذ تحمل ديات قتلى الحرب التي وقعت بين عبس وذبيان2. كما يعد حمل ثقل المولودة التي يراد وأدها من الشيم ومن الأعمال الحميدة التي يحمد القائم بها عليها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء جماعة دفعوا مالا لآباء كانوا قد همّوا بوأد بناتهم لإملاقهم ولضعف حالهم، فأبقوا بذلك على حياتهن. وهو عمل يقدر حقًّا، لأنه عن حس انساني ودافع خيري نبيل.

_ 1 الاشتقاق "192". 2 الشعر والشعراء "61"، "ليدن".

فك الأسر

فك الأسر: ومن شيم الرجال المنّ على الأسرى بفك رقابهم وإعطائهم حريتهم. وقد أبت مروءة بعض السادات إلا أن يقوموا بفك أسر الأسرى وإعتاق رقبتهم، ولو بشراء أسرهم بثمن. وقد ذكر العلماء أسماء رجال منهم عاشوا في الجاهلية عرفوا بعدم رضاهم عن الأسر، فكانوا يدفعون مالًا في مقابل فكّ رقبتهم. من هؤلاء "سعد بن مُشمت بن المُخَيّل"، وهو من رجال "بني المخيل" في الجاهلية. وكان آلى أن لا يرى أسيرًا إلا افتكّه1. ومن شيم الرجال العفو عند المقدرة والحلم والصفح عن المسيء، وكان من عاداتهم في غفران الذنب، حفر بئر، ثم ينادي من يريد غفران الذنب والعفو عن المذنب: اشهدوا أني جعلت ذنبه في هذه البئر. ثم يرد فيها ترابها، وبذلك يغفر الذنب2. وقد ضرب العرب المثل بحلم "قيس بن عاصم"، وب "الأحنف بن قيس" و "قيس بن عاصم"، هو من بني منقر من تميم. وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وذكر أنه كان أول من وأد، لأنه خشي أن يخلف على بناته من هو غير كفء لهن. وكان قد وأد ثماني بنات، ووفد في وفد

_ 1 الاشتقاق "193". 2 شرح ديوان حسان. للبرقوقي "107".

"بني تميم" على الرسول فأسلم. وقد قال له الرسول لما دنا منه: "هذا سيد أهل الوبر"1. وأما "الأحنف بن قيس"، فهو تميمي كذلك. أدرك النبي ولم يجتمع به. وكان يضرب بحلمه المثل. وله قصص مع الخلفاء. وسكن البصرة، وبها مات سنة سبع وستين2. وقد رجّح الجاحظ "الأحنف" على كل من عرف عند العرب واشتهر بينهم بالحلم، حتى رجحه على لقمان ولقيم وقيس بن عاصم ومعاوية بن أبي سفيان. وله قصص مع معاوية3. ونسبوا له حكمًا وشعرًا4. وذكر أنه هو القائل: "لا تزال العرب بخير ما لبست العمائم، وتقلدت السيوف، وركبت الخيل، ولم تأخذها حميّة الأوغاد. قيل: وما حمية الأوغاد؟ قال: أن يروا الحلم ذلًّا، والتواهب ضيمًا"5. وقيل للأحنف بن قيس: بماذا سدت؟ فقال: بثلاث، بذل الندى، وكف الأذى، ونصر المولى. وقال: إنما تعلمت الحلم من قيس بن عاصم: أُتي بقاتل ابنه فقال: رعبتم الفتى. وأقبل عليه فقال: يا بني لقد نقصت عددك، وأوهنت ركنك، وفتت في عضدك، وأشمتَّ عدوك، وأسأت بقومك، خلوا سبيله، وما حل حبوته، ولا تغير وجهه6. وللعرب كلمة تقولها عند طلب العفو والحلم وفي مواطن الغضب والتشاجر، هي: "إذا ملكت فاسجح"، يقصد بها طلب العفو والحلم عند ثوران الغضب. ولهم كلمات أخرى كثيرة في الحث على التحلي بالحلم والصبر7. ومن خصال السادة: النخوة. وقد عرف بها العرب حتى ضرب بها المثل، فقيل: نخوة العرب، وورد: "لؤم النبيط ونخوة العرب". وهم ينتخون لمن

_ 1 الإصابة "3/ 242"، "رقم 7196"، أمالي المرتضى "1/ 112". 2 الإصابة "1/ 110"، "رقم 429"، أمالي المرتضى "1/ 112". 3 الثعالبي، ثمار "89". أمالي المرتضى "1/ 273، 275، 292، 298". 4 كتاب فصل ما بين العداوة والحسد، ومن رسائل الجاحظ "1/ 344، 361، 381"، عيون الأخبار "4/ 9"، أدب الدنيا والدين "135". 5 كتاب فصل ما بين العداوة "1/ 361". 6 أمالي المرتضى: "1/ 113 وما بعدها". 7 بلوغ الأرب "1/ 101 وما بعدها".

لمن ينتخيهم مع ترفع وتعزز1. فإذا نخي شخص، فعلى من انتخى إجابة داعي النخوة وإلا عدّ جبانًا وصار سبة للناس. ولا يعني أن ما ذكرته كان يجب أن يتوفر حتمًا في رجل ليستحق أن يكون سيدًا. فقد رمي بعض الرؤساء بالبخل وبشدة الحرص وبإمساك يدهم، ووصف بعض السادات بالظلم وبالقسوة، ومع ذلك، فقد حكموا قبيلتهم وساد بعضهم وهم شُبّان، والعادة عند العرب أن الرئاسة للمسنّ، وإنما الذي ذكرته يمثل رأي ذوي الرأي في الرئيس المثالي الذي يعرف كيف يحكم قومه وكيف يوجه قبيلته. وهي ليست بالضرورة مؤهلات وصفات يجب أن تكون لازمة في الرجل الذي سيسود قومه، لقد ذكرت أن السيادة بالوراثة، وأن هذه الخلال إذا تحلى بها إنسان آخر من رجال القبيلة عدّ أيضا سيدًا من ساداتها، بمعنى أنه صار شريفًا مقدمًا فيها ووجهًا من وجوهها. تمامًا كما يكون لمدينة ما رئيس مدينة، يحكمها بصفة رسمية، ويكون لها في الوقت نفسه وجهاء وأشراف قد يكون من بينهم من هو أكثر ذكرًا وأعلى مكانة وأشرف منزلة من رئيس المدينة، ولكنه مع ذلك لا يمثل المدينة في الحفلات والمجتمعات، لأنه ليس برئيسها العامل المعين. وهكذا هو شأن تلك الخصال، خصال مثالية قد تتوفر في رئيس القبيلة، وقد لا تتوفر فيه، بل تتوفر في غيره من أبناء القبيلة ومن رؤساء فروعها، ليكون لهم السيادة والشرف فيها ويشار إليهم على أنهم سادة القبيلة، ولكنهم لا يعنون بذلك رئاسة فعلية، وإنما رئاسة شرف ومكانة وتقدير في مجتمع. ومن هنا نجد أهل الأخبار يذكرون أسماء جملة سادات، على أنهم سادات قبيلة واحدة وفي وقت واحد، فهم في الواقع سادات مجتمع وفروع قبيلة.

_ 1 الثعالبي، ثمار "161".

المدح والهجاء

المدح والهجاء: وللمدح والهجاء شأن كبير عند الجاهليين إذ كان الجاهليون يقيمون وزنًا كبيرًا للقيم المعنوية. فرب مدح يخلد الممدوح ويبقي ذكره، ورب هجاء يغض من شأن المهجو ويحط من اسمه. ونحن هذا اليوم نقرأ ما ورد عندهم من المدح، ونسمع أسماء الممدوحين وما حصلوا عليه من جاه وفخر بين الناس، ونقرأ ما ورد في ذم أناس وما قيل فيهم من ذمّ وقذع. ولولا الأهمية التي أعطاها الماضون للمدح وللهجاء لما بقي الذم والمديح حتى اليوم.

ومن أسباب المدح سخاء الممدوح أو شهامته ونجدته وشجاعته وعفته وحلمه وصبره وتضحيته وما إلى ذلك من صفات وخلال حميدة. فكان إذا جاءه ضيف يعرفه أو لا يعرفه قدم إليه واجب الضيافة، وبالغ في إكرامه وإن كان فقيرًا لا يملك شيئًا. ويقدمه على نفسه وعلى أهله، لأن الضيافة حق وواجب، وعلى من يقصَد للضيافة أداء هذا الواجب. وقد كان الملوك يهبون على المدح ويثيبون المادح على قدر ما جاء في مدحهم لهم من تفنن في المدح ومن إطراء زائد ومبالغة في المدح. ولما دخل "النابغة الذبياني" على "النعمان بن المنذر"، وحياه بتحية الملوك، ثم مضى مسترسلًا في مدحه، تهلل وجه النعمان سرورًا، وأمر أن يقدم له الدر، و "كسي أثواب الرضى. وكانت جُبّات أطواقها الذهب بقصب الزمرد. ثم قال النعمان: هكذا فليمدح الملوك"1. وفي كتب الأدب والأخبار أشعار قيل عن كل شعر منها "إنها أمدح بيت قالته العرب"2. وفيها مبالغات وغلو في المدح، تجعل الممدوح شمسًا والملوك كواكب، إذا طلعت لم يبد منهن كوكب3. وأمثال ذلك. وهذا الشعر وشعر الفخر وأمثالهما، يجب أن يكونا موضوعين لدراسات نفسية، لأنهما يمثلان أعمق الأحاسيس النفسية للعرب، ويتحدثان عن المواطن الرقيقة عند العرب، التي تهتز أوتارها بسرعة عند سماعها هذا النوع من المدح. والنواحي العاطفية التي يمكن منها التأثير في العرب. ونحن لا نستطيع بالطبع، أن نأخذ هذا الفخر أو ذاك المدح على أنهما يمثلان الواقع ويمثلان الممدوح تمام التمثيل. أو أنهما تعبير عن نفس صادقة مخلصة في كل ما قالته أو نظمته. فنحن نعلم أن من الشعراء من يمدح للعطاء ويهجو إذا حُرم منه. وأن الممدوح إذا قطع عطاءه عن الشاعر، كفّ شاعر عن مدحه، وربما انقلب عليه فيغسل كل ما قاله في مدحه له، بشعر يشتمه فيه بأبشع أنواع الشتم وأمضه. فشعر مثل هذا، وإن كنا نرويه ونتحدث عنه ونحفظه، ولكنا نرويه ونستلذ بروايته، لأنه لذيذ من

_ 1 نهاية الأرب "3/ 177". 2 نهاية الأرب "3/ 182 وما بعدها". 3 نهاية الأرب "3/ 182".

ناحية الأدب، ولأنه شعر قديم يمثل ضربا من ضروب الحياة في ذلك الوقت. وقد يمدح الشخص بنعته بنعوت مشرفة، مثل "فلان أبيض" و "قوم بيض"، و "البيض المناجيد" وهم لا يريدون من اللفظة بياض البشرة، وإنما يريدون المدح بالكرم ونقاء العرض من الدنس والعيوب1. وقد ينعت قوم بالخضرة، ويريدون بذلك أن المنعوتين قوم عرب خلص. والأخضر بمعنى الأسود، والعرب تسمي الأسود أخضر، يريدون بذلك سواد الجلد، والمراد بسواد الجلد أنهم عرب خلص2. ويمدح المحافظون على الوفاء بالعهد والمتمسكون بالودّ، والمحامون على عوراتهم الذابّون عنها. ويعبر عنهم ب "أهل الحفاظ"3.

_ 1 البرقوقي "ص134". 2 البرقوقي "ص135". 3 اللسان "7/ 412"، "صادر"، "حفظ".

التفاخر

التفاخر: والتفاخر، وهو التعاظم، من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية عند أهل الجاهلية4. وفي الكتب العربية أمثلة كثيرة من تفاخر الجاهليين بعضهم على بعض، وتباهيهم بالأشياء الخارجة عن الإنسان والتمدح بالخصال. وتكون المفاخر بالآباء والأجداد، وبالسيادة والشرف، وبالكثرة، وبالحسب والنسب، حتى إنهم انطلقوا في بعض الأوقات إلى القبور فكانوا يشيرون إلى القبر بعد القبر، ويقولون: فيكم مثل فلان ومثل فلان؟ وفي ذلك نزلت الآية: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} 5. فذكر أن حيين من قريش، بني عدنان وبني سهم، تكاثروا بالسيادة والأشراف، فقال كل حيّ بهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} . وقيل: إن قبيلتين من قبائل الأنصار، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى

_ 4 اللسان "ف/ خ/ ر"، "5/ 48 وما بعدها". 5 سورة "التكاثر" "102"، الآية 1 فما بعدها، بلوغ الأرب "1/ 279".

الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبر، وقال الآخرون مثل ذلك فأنزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} 1. وتقع المفاخرات بحضور محكمين في الغالب، أو طرف ثالث محترم، وعلى الطرفين قبول الحكم وإطاعته، وسماع رأي الطرف الثالث في حجج وأقوال المتخاصمين المتفاخرين، وتكون المفاخرة بإظهار كل طرف ما عنده من خصال يفاخر بها، ومن مناقب يستأثر بها، ومن مجد يرى أنه انفرد به دون خصمه، ثم يذكر ما امتاز به على خصمه، بكلام منثور ومنظوم، منسق منمق، وما قام به من أعمال فريدة، وما حل عليه من حروبه مع الناس. وبعد أن يفرغ المتفاخرون من إلقاء ما عندهم من حجج وبيان، ينظر المحكمون في الحجج التي استمعوا إليها، ليبدوا حكمهم بموجبها ويكون حكمهم أصعب شيء يواجهونه، لما يتركه من أثر في نفوس المتخاصمين، ولما سيكون له من تأثير في مكانة من سيخسر المفاخرة. ويقال للمفاخرة "المنافرة". و "المنافرة" المحاكمة في الحسب، وأن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكّما بينهما رجلًا، كفعل "علقمة بن علاثة" مع "عامر بن طفيل" حين تنافرا إلى "هرم بن قطبة الفزاري"، وفيهما يقول الأعشى يمدح "عامر بن الطفيل" ويحمل على "علقمة بن علاثة": قد قلت شعري فمضى فيكما ... واعترف المنفور للنافر وقد نافر "أنيس" أخو "أبي ذرّ الغفاري" شاعرًا على شعره، إذْ كان يرى أنه أجود منه شعرًا2. وتكون المنافرة في كل شيء، يرى إنسان أنه يفوق به غيره، كالمنعة والعزّ والجاه والكرم وما شاكل ذلك من خصال. قال "ابن سِيده": "وكأنما جاءت المنافرة في أول ما استعملت أنهم كانوا يسألون الحاكم: أينا أعز نفرًا؟ "3. و"النفار" أن يتنافروا إلى حاكم يحكم بينهم. و "النفورة" الحكومة.

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 279". 2 اللسان "5/ 226". 3 اللسان "5/ 226"، القاموس "2/ 146".

وورد "يوم نفورة": أي يوم حكومة، حكم فيه بالنفار1. ومن المفاخرات، مفاخر وفود ربيعة ومضر ابني نزار عند النعمان بن المنذر. فكان فيمن قدم عليه من وفود ربيعة "بسطام بن قيس" و "الحوفزان بن شريك". وفيمن قدم عليه من وفد مضر من قيس بن عيلان "عامر بن مالك" وعامر بن الطفيل. ومن تميم قيس بن عاصم، والأقرع بن حابس2. ومفاخرة "آل حذيفة بن بدر" و "آل الأشعث بن قيس الكندي" عند كسرى. وهم من أعرق الأسر في أيامهم، وأشرفها. وقد عَجِب "كسرى" بذكائهم وبحدة أذهانهم3. ومفاخرات أخرى مدونة في الكتب. ومن مفاخرات أهل الجاهلية، منافرة "عامر بن الطفل" مع "علقمة بن علاثة"4 المذكورة، ومنافرة "بني فَزَارة" و "بني هلال"5، ومنافرة "الفقعسي" و "ضمرة"6، ومنافرة "جرير البجلي" و "خالد بن أرطاة الكلبي"7، ومنافرة "القعقاع بن زُرارة بن عدس" و "خالد بن مالك بن رُبعي بن سلم بن جندل بن نهشل"8 ومنافرة "هاشم بن عبد مناف" و "أمية بن عبد شمس"9. ومن المنافرات، منافرة "عامر بن أحيمر" عند "المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء". فقد ذكر أن "المنذر" أخرج بردين يومًا يبلو الوفود، وقال: ليقم أعز العرب قبيلة، فليأخذهما. فقام "عامر بن أحمير" فأخذهما وائتزر بأحدهما وارتدي الآخر، فقال له المنذر: أأنت أعز العرب قبيلة؟ فقال: العز والعدد في معدّ، ثم في نزار، ثم في مضر، ثم في خندف،

_ 1 البيان والتبيين "1/ 240، 304، 351". 2 بلوغ الأرب "1/ 280 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "1/ 281 وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "1/ 288". 5 بلوغ الأرب "1/ 297". 6 بلوغ الأرب "1/ 298 وما بعدها". 7 بلوغ الأرب "1/ 301". 8 بلوغ الأرب "1/ 306". 9 بلوغ الأرب "1/ 307 وما بعدها".

ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عَوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا فلينافرني، فسكت الناس، فقال المنذر: هذه عشيرتك كما تزعم، فكيف أنت في أهل بيتك وفي نفسك؟ فقال: أنا أبو عشرة، وأخو عشرة، وخال عشرة، وعم عشرة، وأما أنا في نفسي، فشاهد العز شاهدي، ثم وضع قدمه على الأرض، فقال: من أزلها عن مكانها، فله مائة من الإبل. فلم يقم إليه أحد من الحاضرين، ففاز بالبردين، وعرف ب "ذي البُردَين"1. وطالما كانت تؤدي هذه المفاخرات إلى وقوع حروب وسفك دماء، ولذلك أبطلها الإسلام، ونهى عنها؟ وعدّها من شعار الجاهلية2. والمساجلة في معنى المفاخرة، بأن يصنع مثل صنيعه في جري أو سقي. وتساجلوا بمعنى تفاخروا. ذكروا أن أصل المساجلة: أن يستقي ساقيان، فيخرج كل منهما في سَجْله مثل ما تخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب مثلًا للمفاخرة، فإذا قيل فلان يساجل فلانًا فمعناه أنه يخرج من الشرف مثل ما يخرجه الآخر، فأيهما نكل فقد غلب3. وتعرف "المفاخرة" ب "المُباهاة" أيضًا. فيقال. تباهوا إذا تفاخروا. وأما إذا صايحه، فيقال هاباه4. وذلك بأن يذكر كل متباه مناقبه ومناقب قومه، يتفاخر بها على خصمه. وطالما أدت المباهاة إلى وقوع خصومات ومعارك. ومن مفاخر العرب التفاخر بمن برز عندهم في عمل فذ وفي عمل خصال كريمة، أو قام بفعل استحق الإعجاب. فكانت القبائل تتفاخر بذكر أسماء هؤلاء، وتحفظ أسمائهم للتباهي بهم، كما تفعل الدول في التباهي برجالها. ومن مفاخرها: الفروسية، فعد "الحوفزان" مثلًا وهو "الحوفزان بن شريك" فارس بكر بن وائل.

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 76". 2 سورة "لقمان"، "31"، الآية "18"، سورة "الحديد"، "57"، الآية "23"، سورة "النساء" "4"، الآية "36"، العقد الفريد "6/ 101"، "طبعة العريان"، بلوغ الأرب "1/ 278". 3 قال الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب: من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب اللسان "11/ 326"، "صادر"، "سجل". 4 اللسان "14/ 99"، "بها".

وافتخروا ب "الأصم عمرو بن قيس"، ولقب عند المتفاخرين به ب "صاحب رءوس بني تميم"، وافتخروا ب "مفروق بن عمرو" "حاضن الأيتام" والظاهر أنه كان يحن على الأيتام ويعطف عليهم، لذلك لقب بهذا اللقب، وافتخروا ب "سنان بن مفروق"، الذي عرف ب "ضامن الدمن". كما افتخر ب "عمران بن مرة" لأنه أسر "يزيد بن الصعق" مرتين1.

_ 1 العمدة "2/ 221".

الخيلاء

الخيلاء: وقد عرف بعض الجاهليين بالخيلاء والزهو والتغطرس. وقد اعتبرها الإسلام من سمات أهل الجاهلية. وقد اشتهر "سماك بن خرشة الأنصاري" بمشية خاصة به، فيها تبختر وخيلاء؛ حتى عرفت ب "مشية أبي دجانة"1. والتبختر هي مشية العجب والخيلاء. وكانت من مشية بعض المغرورين المترفين من أصحاب الجاه والمال.

_ 1 الثعالبي، ثمار "87 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 196"، "دجن".

الهجاء

الهجاء: والهجاء عكس المدح، وهو ذم الشخص والانتقاص منه وشتمه. وقد نبغ فيه بعض الشعراء، وتخصص به، ويجب أن نقف منه موقف الحذر الشديد، لما للعواطف والهوى من أثر فيه. وقد يهجو شخص شخصًا أو قومًا لسبب تافه، أو بسبب حادث وقع له لا يستوجب صدور ذلك الهجاء منه. وهناك أشخاص جبلوا على ازدراء الناس وشتمهم والانتقاص منهم، فهجوا أكثرهم، بل بلغ بهم الهجاء حدًّا حملهم على هجر أقاربهم وأهلهم، بل أنفسهم في بعض الأحيان. ويستحق الهجاء من اتصف بسوء الخصال، واتسم بأخلاق الأرذال، والأنذال، وجعل اللؤم جلبابه وشعاره، والبخل وطاءه ودثاره. وقد حفظ الرواة بعض الأشعار التي قيل إنها كانت من أهجى أشعار العرب في الجاهلية

وفي الإسلام. وذكر أن من شعر الهجاء المرّ القاسي قول الأعشى: تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا1 وقوله في "الزبرقان بن بدر": دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي2 وقول الطرماح: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت3 إلى غير ذلك من شعر، يجب أن نأخذه بحذر. وأن نعالجه دائما على أنه يمثل العواطف الشخصية والانفعالات النفسية، والتهيج الآني. وأن شعرًا من هذا القبيل لا يمكن أن يحمل محمل الصدق، وأن نقول عنه إنه يعبر عن الواقع. بل نأخذه كما سبق أن ذكرت عن شعر المديح على أنه تعبير عن نوع من أنواع الأدب في ذلك الوقت. وعلى أنه باب يجب أن يدرس من الوجهة النفسية لأنه يفيد في الوقوف على النفسية العربية والعقلية الجاهلية في ذلك الوقت. ولم يكن الهجّاءون يراعون الصدق في كلامهم، وكيف يراعونه وهم يريدون هجو خصومهم والإساءة إليهم وإلى سمعتهم بأية طريقة ووسيلة كانت، حتى وإن علموا أن سامعي الهجاء لا يصدقونه. ومن هذا القبيل رمي بعض القبائل أو الأُسر بأنها من أصل أعجمي، وفي كتب الأخبار أمثلة عديدة على ذلك، وقد يكون ذلك بسبب وجود دم أعجمي من أم أو من أب بعيد أو قريب، وقد لا يكون أي أثر من ذلك. شتم "عمرو بن الأهتم" "قيس بن عاصم"، فقال له ولقومه: إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ... والروم لا تملك البغضاء للعرب4 وقد عير "حسان بن ثابت" "بني المغيرة" وسبهم بأنهم عبيد قيون، أبوهم

_ 1 نهاية الأرب "3/ 272". 2 نهاية الأرب "3/ 275". 3 نهاية الأرب "3/ 276". 4 ديوان حسان "ص44" "هرشفلد".

قين لدى "كيره" جاثم. يأخذون "الإهالة" وهو الدهن الذي يستخرج من اللحم، ويبيعونه من الدبّاغين1. فما ذكره فيهم هو من أعمال العجم والصعاليك، لا العرب الأصلاء والأقحاح. وذكر أن "الوليد" المعروف ب "الوليد بن المغيرة" لم يك عربيًّا، وإنما كان عبدًا روميًّا، وكان اسمه "ديم"، واسم أبيه "صقعب"، فرغب فيه "المغيرة"، فادعاه، وألحق صقعبًا بالشام، فاشتاق إليه، فصوره في الحائط. وقد هجاه "حسان بن ثابت"، فقال له إن والدك "صقعبًا" كان قينًا، وأما أمك فهي "حباشة"، وهي عبدة سوداء. وقد تباهيتَ إذ صرت غنيًّا، وإنما صرت ثريًّا بكلبتك هذه، وهي آلة من آلات الحدادين يشير بذلك إلى أنه كان حدادًا، يعرف ضرب النصال، وحسن الرقع للبرم. وهي القدور2. ويظهر من شعر حسان ومن شرح الشراح أن "الوليد" كان مصورًا ماهرًا متمكنًا من فنه، حتى صور أباه، إن صح هذا الادعاء من "حسان". ولحسان بن ثابت هجاء شديد لثقيف، قال في بعضه خلّوا "معدًّ" ولا تنتسبوا إليها، واتركوا "خندفا"، فما لكم من ولادة فيها، وذلك على عاداته وعادة الشعراء والناس عند هجاء قوم، حيث يرمونهم بكل قبيح، ويجردونهم من كل مكرمة، إلا أنه لم يصرح في شعره بأنهم من ثمود، إذ كانوا وقت هجاء "حسان" إياهم من "قيس". وقد نسبهم بعضهم إلى "الفهود بن بني جائر بن إرم، إخوة ثمود"، ونسبهم آخرون إلى "وحاظة" بن حمير، وقال آخرون إن "ثقيفًا"، هو عبد3. كل ذلك نكاية بثقيف. وذكر أهل الأخبار أن "الأزرق"، وهو غلام رومي في الأصل كان للحارث بن كلدة الثَّقفي، وقد ادعى نسله أن "الأزرق" هو ابن "عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني"، فهم من غسان. وذكر أنهم ادعوا في أول أمرهم أنهم من تغلب، ثم من بني عكب، ثم أفسدتهم خزاعة، ودعوهم إلى اليمن، وزينوا لهم ذلك، وقالوا: أنتم لا يغسل عنكم ذكر الروم إلا أن تدعوا أنكم

_ 1 البرقوقي "ص403". 2 البرقوقي "ص400 وما بعدها". 3 البرقوقي "ص346".

من غسان. فانتموا إلى غسان بعد1. وقد عَيَّرت العرب وسبت من كان ذا أصل خامل، كأن يكون قينا، والقين العبد والحداد. ولعلها جمعت هذا المعنى من الترابط بين الحرفة والمنزلة، فقد كان القيون من العبيد. وقد عَيّر "حسان بن ثابت" "بني عوف بن عوف" بأنهم منتسبون إلى قريش، ولكن نسبهم ليس منهم، بل من جذع قين لئيم العروق عرقوب والده أصهب2. فرماهم بأنهم ليسوا من قريش، ولا من العرب، بل من الروم، ووالدهم أصهب به حمرة، وليست الصهبة من لون العرب. وقال لهم: وإذا أردتم الانتساب إلى العرب، فانتسبوا إلى "تغلب"، إنهم شرّ جيل، وليس لكم غيرهم مذهب3. ويبعث قول "حسان" هذا "تغلب" على الظن أن أقواما من الغرباء دخلوا في تغلب، وصاروا منهم. ولعله قصد أن من تنصر، دخل في تغلب، حتى دخل فيهم من ليس من العرب بسبب نصرانيته، حتى دخل فيهم قوم أصلهم من الروم. وعير ب "أولاد درزة"، ويراد بهم الغوغاء. وبنو درز: الخياطون والحاكة، والعرب تقول للدعي: هو ابن درزة وأولاد فرتني. وذلك إذا كان ابن أمة تُساعي، فجاءت به من المساعاة، ولا يعرف له أب، وقال: هؤلاء أولاد درزة وأولاد فرتني للسفلة والسقاط4. والسب: الشتم، والسباب: الشتائم والمشاتمة. وأما "السبّة" فالعار5. وكانوا يتشاتمون جماعات وفرادى، ويعير بعضهم بعضًا وقد يقذعون في السب، ولا سيما في الأمور التي تتغلب فيها العواطف على العقل. ومن شتائم الجاهليين وسبابهم "عضضت بأير أبيك"6، ويا ابن الزانية،

_ 1 طبقات ابن سعد "3/ 247"، "دار صادر". 2 إلى جذم قين لئيم العرو ... ق عرقوب والده أصهب البرقوقي "ص63". 3 على تغلب أنهم شر جيل ... فليس لكم غيرهم مذهب البرقوقي "ص63". 4 اللسان "5/ 348"، "صادر" "درز". 5 تاج العروس "3/ 34 وما بعدها". 6 البرقوقي "121 وما بعدها".

ويا ابن الفاعلة، و "يا عاض أير أبيه"، و "يا مصفر استه"1، و "يا ابن ملقى أرحل الركبان"2. وعيرت العرب بالبخل. والبخل هو على نقيض الكرم. وقد ذُمّ بعض الجاهليين لبخلهم ولحرصهم الشديد على مالهم وعدم مساعدتهم للفقراء والمحتاجين، وقد انتخبوا من بينهم رجلًا زعم أنه أبخل الناس في الجاهلية اسمه "مادر"، "بخل مادر" و "أبخل من مادر". وهو رجل من "بني هلال بن عامر". ذكر أنه كان إذا أتى ماءً روي وأروى، ملأه مدرًا ضنا على غيره بوروده. وأنه بلغ من بخله أنه سقى إبله، فبقي في الحوض ماء قليل، فسلح فيه ومدر الحوض بالسلح، أي لطخه3. وورد في الأمثال: "ألأم من مادر"4. وعيّرت بالغدر. قال بشر: رَضِيعَةُ صَفْحٍ بالجباه ملمة ... لها بَلَقٌ فوقَ الرءوس مشهَّرُ وصفح رجل من "بني كلب بن وبرة"، جاور قومًا من "بني عامر"، فقتلوه غدرًا. يقول غدرْتكم ب "زيد بن ضباء الأسدي"، أخت غدرتكم بصفح الكلبي5. وعيرت من ينكر الصنيع الجميل والفعل الحميد، فينسى إحسان من أحسن له، وعيرت من لا يفي، ولا سيما من أكل الخبز والملح، وهما من موجبات الوفاء، فقالوا: "ملحه على ركبته"، في عدم الوفاء6. وإذا سبت العرب أحد الموالي، قالت: يا ابن حمراء العجان، أي يا ابن الأَمة. كلمة تقولها في السبّ والذمّ. والعرب تسمّي الموالي: الحمراء7. وكانوا يعيرون "الأتاوي"، وهو الغريب في غير موطنه، ولا يعدلون أحدًا من

_ 1 التعالبي، ثمار "21". 2 تاج العروس "7/ 342"، "رحل". 3 الثعالبي، ثمار "127". 4 تاج العروس "3/ 536"، "مدر". 5 تاج العروس "2/ 180"، "صفح"، اللسان "2/ 516"، "صفح". 6 تاج العروس "2/ 230"، "ملح". 7 تاج العروس "3/ 158"، "حمر".

الأتاويين بأصحاب المحلات. قال الشاعر: لا تعدلن أتاويين قد نزلوا ... وسط الفلاة بأصحاب المحلات وقالت امرأة من الكفار، وهي تحرض الأوس والخزرج، حين نزل فيهم النبي: أطعتم أتاويّ من غيركم ... فلا من مُراد ولا مذحج أرادت أن تؤلب وتذكي العصبية1. وكانوا إذا أرادوا الاستهزاء برجل جاهل سفيه، قالوا له: هذا من أشد سباب العرب، أي أن يقول الرجل لصاحبه إذا استجهله يا حليم! أي أنت عند نفسك حليم وعند الناس سفيه2. ويعير الإنسان بأبويه، أو بأحدهما، إذا كان بهما أو بأحدهما مثلبة ومنقصة يؤاخذ عليها، كأن يكون ابن أمة أو ابن سبي بيع في السوق. وقد رأينا أنهم كانوا يزدرون الهجين، ولا ينظرون إليه نظرتهم إلى إنسان صريح، كما كانوا يزدرون مَنْ أُمه أو أبوه من أصحاب الحرف. وقد عير "النعمان بن المنذر" لأن أمه "سلمى" كانت ابنة قَيْن، على زعم بعض الرواة. وكانوا إذا شتموا ابن أمة، قالوا له: يا ابن استها3. وقد كان للجاهليين أعراف في إهانات الناس، من مثل سب الشخص على ما ذكرت، وتحريض الأطفال على العبث بمن يريدون إهانته، ورميه بالحجارة والركض خلفه، وبأمثال ذلك أو بتحريض السفهاء على التحرش بالشخص، أو تحريض النسوة بسبِّه، وبالإقذاع في كلامهم معه، وبما شاكل ذلك من وسائل دنيئة لا تنم على قدرة المحرض ولا على جرأة عنده، فيعمد إلى أمثال هذه الأمور. وأما المقتدرون المتمكنون، فكانوا إذا أرادوا إهانة إنسان أهانوه بأسلوب يدلّ على قدرة المهين وتمكنه من مُهانه وازدرائه، فكان أحدهم إذا تمكن من عدوه،

_ 1 الحيوان "5/ 97"، "هارون". 2 اللسان "12/ 146"، "صادر"، "حلم". 3 قال الأعشى: أسفها أوعدت يا ابن استها ... لست على الأعداء بالقادر وقال حسان بن ثابت: فما منك أعجب يا ابن استها ... ولكنني من أولى أعجب البرقوقي "ص61".

عمد إلى إهانته بنتف لحيته. ونتف اللحية من الإهانات الشديدة عند العرب، لأن اللحية من سيماء الرجولة، فإذا نتفت عد نتفها انتقاصًا من شأن ذلك الرجل وازدراءً شديدًا به. وما يقال عن الإهانة التي توجه إلى الرجل بنتف لحيته، ينطبق كذلك على "جز الناصية". فجز الناصية من وسائل التحقير والازدراء، وفيه دلالة على ازدراء مَنْ جَزَّ الناصية بمن جُزّت ناصيته، بعد أن تمكن منه. وقد كان في إمكانه استرقاقه، أو المن عليه بفك أسره، أو بفك رقبته بفدية، ولكنه لم يفعل كل ذلك، ولم يطمح في الفدية إمعانا في ازدراء خصمه بإفهام الناس أن ذلك الشخص لا يساوي شيئًا، وأن المتمكن أرفع من أن يقبل فدية عن رجل وضيع خامل. وكانوا إذا ذكروا خصومهم، تمنوا لهم الشر والأذى، واستعملوا جملًا فيها هذه المعاني. مثل: أخس الله حظه1، وأبعده الله وقبحه، أو رضيع اللؤم أو أبعد الله دار فلان، وأوقد نارًا في أثره2، وقد يذكرونهم بهزء وسخرية. ويكثر ذلك عند أهل القرار. ومن معاني الشتم لفظة "لحى"، التي تعني "شتم". يقال "لحى الله فلانا"، أي قبحه ولعنه. و "الملاحاة" المنازعة. وفي المثل من لاحاك، فقد عاداك3. وكان من دعاء بعضهم على بعض قولهم: "حبنًا وقدادًا". والحبن الاستسقاء، والقداد، وجع في البطن4. وكان إذا دعا الرجل على صاحبه، يقول: قطع الله مطاك. فيقول الآخر: بسلا بسلًا، أي آمين آمين. وكان يحلف الرجل ثم يقول بسل، أي: آمين. وكان "عمر" يقول في دعائه: آمين وبسلًا، أي إيجابا وتحقيقًا. وهي في معنى الويل، يقال: بسلًا له أي ويلًا له5.

_ 1 تاج العروس "4/ 138"، "خسس". 2 اللسان "3/ 466"، "وقد". 3 تاج العروس "10/ 323 وما بعدها"، "لحا". 4 تاج العروس "2/ 461"، "قد". 5 تاج العروس "7/ 227"، "بسل".

191 وكانوا إذا ما أرادوا التكنية عن الكذاب، قالوا: "أبو بنات عبر". و "بنات عبر" الكذب والباطل1.

_ 1 إذا ما جئت جاء بنات عبر ... وإن وليت أسرعن الذهابا تاج العروس "3/ 377".

الخسة والدناءة

الخسة والدناءة: والخسة والدناءة، والخسيس الدنيء والحقير1. والدنيئة النقيصة2. والدنيّة الخصلة المذمومة3. وهي من المثالب التي تكون في الإنسان. فيزدرى من شأنه ويحتقر بين قومه. ومنها الحسد واللؤم وعدم احترام العرض. والعرب تتنخى من الدنايا وتستنكف منها4. والحسد من الصفات السيئة التي كرهها العرب. وقد كان الحسد إذ ذاك كثيرًا، بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر. فكان الفقير يحسد غيره على ما عنده، مهما كان ما عنده قليلا، لأنه لا يملك حتى هذا القليل. وقد بحث "الجاحظ" في الحسد، ووضع رسالة فيه دعاها: كتاب فصل ما بين العداوة والحسد. والحسد عنده شيء مألوف يقع لكل طبقة ولكل إنسان. ومن أسبابه: حب للرياسة، ووجود النعمة، وأمور أخرى ذكرها وتحدث عنها. كما تكلم عن مظاهر الحسد وأشكاله عند الجاهليين والإسلاميين، وقد جعله فوق العداوة، لأن العداوة تزول بزوال أسبابها، أما الحسد، فإنه دائم باق5. و"الجبن"، من الصفات التي يعير "الجبان" بها. وهو الذي لا يحب القتال ولا يستعمل سيفه. ولما كانت الحياة عند العرب حياة قتال صارت الشجاعة في الإنسان صفة من صفات التكريم والتعظيم والتقدير، عكس "الجبن"،

_ 1 تاج العروس "4/ 137"، "خس". 2 تاج العروس "1/ 66"، "دنأ". 3 تاج العروس "10/ 132"، "دنو". 4 تاج العروس "10/ 362"، "نخا". 5 راجع رسالته في رسائل الجاحظ "1/ 325 وما بعدها"، تحقيق "عبد السلام محمد هارون".

وينظر الناس إلى "الجبان" نظرتهم إلى النساء، بل هو عندهم دونهن شأنًا. لأن المرأة ولدت وفي طبعها اللين والاستسلام، أما الرجل فقد خلق للعراك والقتال، وقد حفظ أهل الأخبار قصصًا عن الجبناء وعن تحايلهم في سبيل تخليص أنفسهم من القتال ومن استعمال السيف. وقد اتهموا بتهم. منها: أنهم كانوا ينتابهم "الضراط" عند شعورهم بخوف وبأصوات السيوف. حتى استخفَّت النساء بهم من أجل ذلك. قيل في المثل: أجبن من المنزوف ضرطًا. ومن ذلك أن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل، فتزوجت إحداهن رجلا كان ينام الصبحة، فإذا أتينه بصبوح، قلن قم فاصطبح، فيقول: لو نبهتُنَّني لعادية، فلما رأين ذلك. قال بعضهن لبعض: إن صاحبنا لشجاع، فتعالين حتى نجربه، فأتينه كما يأتينه، فأيقظنه. فقال: لو لعادية نبهتنني. فقلن هذه نواصي الخيل. فجعل يقول: الخيل الخيل ويضرط، حتى مات. إلى غير ذلك من قصص يرويه الأخباريون1.

_ 1 تاج العروس "5/ 176"، "ضرط".

الشرف والخمول في قبائل العرب

الشرف والخمول في قبائل العرب: والقبائل كالأفراد والأسر، فيها النابة المذكورة المهاب، وفيها الخامل الهزيل الضعيف الذي لا ينظر إليه نظرة تقدير وتبجيل. والقبيل الكثير الذَّرء والفرسان والحكماء والأجواد والشعراء، وكثير السادات في العشائر، وكثير الرؤساء في الأرحاء، هو القبيل المقدر المعظم، ذو الشأن بين القبائل2. وقد تقع أحداث وعوامل، تؤدي إلى خمول القبيل وإلى انفصام وحدته، وإلى طمع غيره فيه، فيهزل عندئذ ويخمل، ويأخذ مكانه من هو أقوى منه. وقد ذكر "الجاحظ"، أن القبيل الذرء والعدد، والذي لا يكون فيه خير كثير ولا شرّ كثير، ويخمل ويدخل في غمار العرب، ويغرق في معظم الناس، وصار من المغمورين ومن المنسيين، وسلم من ضروب الهجاء ومن أكثر ذلك؛ وسلم من أن يضرب به

_ 1 الحيوان "1/ 357 وما بعدها"، "هارون".

المثل في قلة ونذالة إذا لم يكن شر، وكان محلهم من القلوب محل من لا يغيظ الشعراء، ولا يحسدهم الأكفاء.. وإذا تقادم الميلاد ولم يكن الذرء وكان فيهم خير كثير وشر كثير، ومثالب ومناقب، لم يسلموا من أن يُهجوا ويضرب بهم المثل.. وقد يكون القوم حلولا مع بني أعمامهم، فإذا رأوا فضلهم عليهم حسدوهم، وإن تركوا شيئًا من إنصافهم اشتد ذلك عليهم، وتعاظموا بأكثر من قدره، فدعاهم ذلك إلى الخروج منهم إلى أعدائهم. فإذا صاروا إلى آخرين نهكوهم وحملوا عليهم، فوق الذي كانوا فيه من بني أعمامهم، حتى يدعوهم ذلك إلى النَّدم على مفارقتهم، فلا يستطيعون الرجوع، حميّة واتقاء، ومخافة أن يعودوا لهم إلى شيء مما كانوا عليه، وإلى المقام في حلفائهم الذين يرون من احتقارهم، ومن شدة الصولة عليهم"1. وقد ذكر "الجاحظ"، أن مما تبتلى به القبائل فيصيبها الخمول: الشعر ونبوغ الأقارب أو المنافسين. فالشعر عند العرب يرفع من قدر الناس ويحط من درجاتهم. فقد يقال بيت واحد يربطه الشاعر في قوم ليس لهم جاه، فيرفع من شأنهم، وقد يقال بيت واحد في قوم لهم النباهة والعدد والفعال، فيغض من مكانتهم، ويكون سبّة لهم، ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء، كما بكى مخارق بن شهاب، وكما بكى علقمة بن عُلاثة، وكما بكى عبد الله بن جُدعان، والبلية الأخرى: أن يكون القبيل متقادم الميلاد، قليل الذرء قليل السيادة، وتهيأ أن يصير في ولد إخوتهم الشرف الكامل والعدد التام، فيستبين لمكانهم منهم من قلتهم وضعفهم لكل من رآهم وسمع بهم، أضعاف الذي هم عليه لو لم يكونا ابتلوا بشرف إخوتهم. ومن شؤم الإخوة أن شرفهم ضعة إخوتهم، ومن يمن الأولاد أن شرفهم شرف من قبلهم من آبائهم ومن بعدهم من أولادهم2. ولذلك كانت القبائل تفخر بنبوغ الشعراء بها، لأنهم لسانها الذابّ عنها، وسيفها المصلت على رقاب

_ 1 الحيوان "1/ 357 وما بعدها"، "هارون". 2 الحيوان "1/ 365".

الأعداء. وتتباهى بما يقوم به ساداتها من فعال حميدة وأعمال مجيدة ترفع رأس أبناء القبيلة بين الناس. ولأهمية الشعراء عند الجاهليين، قال بعض العلماء: كلاب الحيّ شعراؤهم، وهم الذين ينبحون دونهم، ويحمون أعراضهم. وفي هذا المعنى جاء قول عمرو بن كلثوم: وقد هرَّت كلابُ الحيّ منّا ... وشَذَّبنا قتادة من يلينا1

_ 1 الحيوان "1/ 351"، "هارون"، "كلاب الجن"، الثعالبي، ثمار "69".

الإسلام والجاهلية

الإسلام والجاهلية: وقد أبطل الإسلام كل سمة من سمات الجاهلية وعلامة من العلامات التي كانت تعد من صميم حياة الجاهليين. وفي جملتها المثل الأعرابية والحياة البدوية، فاعتبر الأعرابية بعد الإسلام ردة ونهى عن الهجرة من المدن إلى البوادي، فكان الأعرابي إذا دخل الإسلام، لزم الحضارة، وكلف بواجب الجهاد في سبيل نشر الإسلام، لما في التبدي والأعرابية من ابتعاد عن الجماعة وترك للواجب الملقى على المواطن في الدفاع عن الإسلام وفي العمل على إنهاض المجتمع والإنتاج في سبيل الخير العام. لذلك لام الناس "أبا ذر الغفاري"، حين لجأ إلى "الربذة" فأقام بها وتعزب بذلك عن الجماعة1. وفي جملة ما حاربه الإسلام من أمور الجاهلية الأصنام والأوثان، فطُمست وأزيلت معالمها، بل غيّر أمورًا أقلّ منها شأنًا وخطرًا، مثل: خضرمة النوق. وكان أهل الجاهلية يخضرمون نعمهم، فلما جاء الإسلام أمروا أن يخضرموا من غير الموضع الذي يخضرم منه أهل الجاهلية2. وذلك منعًا من التشبه بالجاهليين، وإبعادًا للمسلمين عن تذكر أيام ما قبل الإسلام. ونهى عن تسنيم القبور وعن لبس بعض الملابس، وعن أمور أخرى، لأنها كانت من صميم أعمال الجاهليين.

_ 1 تاج العروس"1/ 380"، "عزب". 2 تاج العروس "8/ 281"، "الخضرم".

وحارب الإسلام العصبية التي كانت من أهم سمات الجاهلية، والتي بقيت مع ذلك كامنة في نفوس الناس. عصبية القبائل وعصبية القرى والمواضع. من ذلك ما كان بين يمن وأهل مكة من نزاع، تحول إلى نزاع قحطان وعدنان. فعير أهل مكة اليمن بأنهم قيون، وأجابهم أهل اليمن بكلام غليظ شديد. هذا "أمية بن خلف" يهجو حسان بن ثابت بقوله: أليس أبوك فينا كان قينًا ... لدى القينات فسلا في الحفاظ يمانيًّا يظل يشدّ كيرًا ... وينفخ دائبًا لهب الشواظ1 وهذا "حسان" يجبيه ويرد عليه في شعر مطلعه: أتاني عن أميّة زُورُ قولٍ ... وما هو في المغيب بذي حفاظ2 وطالما ظهرت هذه العصبية في أيام الرسول، بتنازغ الأنصار وقريش وتفاخرهم بعضهم على بعض. وذكر أن في جملة أسباب تحريم الخمر، أن رجلا من الأنصار صنع طعامًا، فدعا جمعًا من الأنصار وقريش، وشربوا الخمر حتىانتشوا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضل منكم. وقالت قريش نحن أفضل منكم، وتخاصموا، فبلغ ذلك الرسول، فنزل الأمر بتحريم الخمر3. وفي جملة ما نهى الإسلام عنه "دعوى الجاهلية" من التفاخر بالأحساب والأنساب والتباهي بالمال والبنين والأموات، وتحريم بعض الطعام والشراب والعادات الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية على نحو ما رأينا فيما تقدم، وما سنراه فيما بعد. وقد ترك المسلمون أمورًا كثيرة أخرى مما كان مستعملًا في الجاهلية، فمن ذلك تسميتهم للخراج إتاوة، وكقولهم للرشوة ولما يأخذه السلطان: الحُملان والمكس. وكما تركوا: أنعم صباحًا، وأنعم ظلامًا، وصاروا يقولون: كيف أصبحتم؟ وكيف أمسيتم؟ كما تركوا أن يقولوا للملك أو السيّد المطاع:

_ 1 اللسان "7/ 446"، "شوظ". 2 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ". 3 تفسير الطبري "7/ 22".

أبيت اللعن، وتركوا أن يقول العبد لسيده: ربّي، وأن تقول حاشية الملك والسيد للملك وللسيد: ربنا. وكما تركوا أن يقولوا لقوّام الملوك السدنة وقالوا: الحجبة. كما تركوا أشياء أخرى مثل المرباع والنشيطة والصفايا، إلى غير ذلك، مما كان مستعملًا في الجاهلية. فكره لذلك استعماله في الإسلام1.

_ 1 الحيوان للجاحظ "1/ 327"، "ما ترك الناس من ألفاظ الجاهلية".

الفصل التاسع والأربعون: الحياة اليومية

الفصل التاسع والأربعون: الحياة اليومية مدخل ... الفَصْلُ الثَّامِنُ والأرْبَعُون: الحياة اليومية لا نستطيع أن نتصور وجود حياة يومية صاخبة أو متغيرة عند أهل الوبر، فحياة البادية في غاية البساطة ساذجة إلى أقصى حدّ من السذاجة. تذهب وتأتي على وتيرة واحدة ونمط واحد. فليس للرجل في البادية من عمل سوى رعي الإبل والإشراف عليها. وهو عمل لا يستوجب مجهودًا ولا يتطلب بذل طاقة، لذلك يعهد به إلى الأحداث في الغالب، أما الرجال، فليس لهم عمل مهم يذكر. لذلك يقضون معظم وقتهم جلوسًا بغير عمل، أو في التحديق بعضهم إلى بعض. وحياة على هذا النحو تجبل الإنسان على الكسل والخمول. فصار الأعرابي خاملًا كسولًا على صحة جسمه وتوقد ذهنه وذكائه. يحسن الكلام ويجيد تنميق الحديث ويتلاعب في كلامه وفي إيجاد معانٍ وحيل ومخارج له، ويسترسل في الخيال وفي التصور وفي شعوره الذي سبكه وصاغه في كلام موزون منظوم مقفى، وفي كلام مسترسل غير مقفى، وفي كل حرفة لسانية، أو تعبير عن شعور ذاتي كالحب والبطولة وما شاكل ذلك مما لا يحتاج إلى مجهود وعمل. أما النواحي العملية من الحياة، النواحي التي تحتاج إلى جهد وعمل، فقد ترك أمرها لغيره، بل ازدراها وازدرى شأن من يعمل بها، واحتقر الحرف والصناعات، لأنها من عمل الأعاجم والعبيد. ورأى أن من العار أن يصاهر أهل الصناعات والحرف والزراعة، لأنهم دونه في المنزلة بكثير. وهو غير ملوم على نظرته هذه إلى العمل اليدوي المجهد، فالإنسان عدو ما جهل معظّم لما يكون عنده؛ كاره لما لا يملكه ويكون عند غيره. فقد حرمته الطبيعة من كل

ما يحمله على بذل الجهد للاشتغال في صناعات أو حرفة أو زراعة، ولم تهيّئ له البذور والمواد اللازمة لإقامتها، لذلك جهلها فحاربها وازدراها وازدرى شأن من يشتغل بها. كما سأتحدث عن ذلك في المواضع المناسبة لهذا البحث. والبادية أرضون واسعة شاسعة جرداء في أغلب أيام السنة، خلا مواسم نزول الغيث وهي قليلة، وقد تنحبس. إذا أمطرت السماء ظهر "الربيع"، فتفرح الأرض وتكسى بخضرة تتخللها أوراد وأزهار وشقائق، ويضحك عندئذ وجهها، بعد يبوس وعبوس، ضحكًا يُفهم الإنسان الحضري عندئذ سرّ تعلق الأعرابي بباديته. ففي البادية على ما فيها من شقاء وجفاف ويبوسة؛ سحر ينسي الإنسان صعوبة الحياة، وحلاوة تنسيه مرارة الأيام القاسية التي يعيشها البدوي في باديته. بعيدًا عن الحضر وعن المجتمع المتكثف في مستوطنة أو قرية أو مدينة، بل بعيدًا حتى عن أبناء عشيرته. فمن طبيعة الصحراء أن قلبها لا يتقبل المجتمعات الكبيرة، بل يفضل المجتمعات الصغيرة المتناثرة. فصارت البيوت فيها متباعدة منتشرة هنا وهناك انتشار النجوم في السماء. كل بيت مسئول عن حماية نفسه وعن وقاية أفراده من أذى الإنسان والحيوان، وعن حماية جاره وذوي رحمه وأبناء عشيرته. لأنه إن لم يفعل ذلك، لم يجد من يدافع عنه أيام الشدة والعناء، حتى صار الجار عنده بمنزلة الأهل والدار. وحياة من هذا النوع هي حياة لا بد وأن تصير بسيطة جدًّا ساذجة إلى أقصى حدود السذاجة. أحاديثها اليومية تكرار وإعادة، وأحاسيسها نسخة لأحاسيس اليوم الماضي والأيام السابقة. وأفق التفكير فيها محدود ضيق. إذ لا مجال فيها للفكر أن يتفتق وأن يتفتح ويتوسع. ومنها طبعت الحياة العقلية والاجتماعية بطابع الفطرة والبساطة. وهي لا يمكن إلا أن تكون كذلك. وكيف تريد منها أن تكون غير ذلك، ومحيطها وظروفها هي على هذا النحو من الحدود والقيود! وفي وسع الرجل بفضل ما أوتي من قوة ومن بسطة في الجسم، قطع المسافات لزيارة الأقارب والجيران، لقتل الوقت بالكلام معهم، أو للتحدث عن غزو سابق أو عن شئون سيد القبيلة أو عن إشراف العشيرة أو للخروج إلى صيد لاصطياد ما قد يجده من حيوان مسكين، حَتَّم عليه سوء طالعه أن يولد في هذا الأرض الفقيرة، فهو مثل الإنسان تائه بهذه الحياة في هذه البادية الواسعة المكشوفة الشحيحة، يشكو إلى خالقه من ظلم طبيعةٍ أنبتته في هذه الأرض الفقيرة، على

حين زرعت غيره في غابات كثيفة ذات ظروف حياتية غنية، فيها من المأكول أشكال وألوان. بينما هو لا يكاد يجد أمامه شيئًا، حتى إذا اشتد عوده واستوى، وقع في قبضة أناس جائعين، لا يقل جوعهم عن جوعه، فلا يخرج من قبضتهم أبدا. يتلذذون في أكله شواءً، ويتحدثون عن صيدهم ويفتخرون به. وقد يكون الصيد ظبيًا أو ضبًّا أو يربوعًا. ويفخرون بصيدهم لأنهم محرومون من اللحم، وكل ما تقع عليه عين المحروم من الأكل، هو أكل لذيذ دسم في نظر المحروم. أما الأطفال فهم أطفال أينما وجدوا. لا يعرفون من أسرار الحياة وعنائها وشقائها شيئًا. همّهم اللعب، يلعب الذكور مع الإناث، الإخوة مع الأخوات، فهم أطفال البيوت. وقد يلعب معهم أطفال جيرانهم، إذا كانت البيوت متقاربة. يلعبون ألعابا هي من نتاج طبيعة أرضهم ومحيطهم. لا يعبئون بحر ولا برد، ولا بريح أو بأشعة شمس محرقة، وما الذي يفعلونه تجاه طبيعة قوية قهارة لم تعطهم إمكانيات بناء بيوت من مدر يأوون إليها لحماية أنفسهم من أشعة الشمس لهم على الأقل. وإنما مكنت آباءهم من صنع بيوت من وبر أو صوف أو شعر معز قد تقيهم من الأشعة بعض الوقاية، بأن تمنحهم شيئا من ظل. ولكنها عاجزة عن حمايتهم من البرد ومن الحر ومن الغيث إذا نزل عليهم مدرارًا. لا سيما إذا طال عهد هذه البيوت ولعب بها العمر، وصارت مهلهلة بالية، ذات جيوب وشقوق كالغرابيل، تعبث بها الرياح ساخرة من جهل هذا الإنسان القانع الراضي بحياته هذه على ما فيها من شظف وعسر وفقر، بينما هناك مجال واسع له لتحسين حاله، لو حرك نفسه واستخدم عقله وذراعه لتسخير الطبيعة في خدمته، لتحسين وضعه والترفيه عن نفسه ولو إلى حد.

الرجل

الرجل: والرجل بحكم تفوق بنيته على بنية المرأة، وبفضل قوة عضلاته ومقاومته للطبيعة وللأخطار سيد الأسرة و "رب العائلة" و "بعل المرأة"، أي سيدها. منح نفسه حقوقًا لم يعطها للنساء. وبنى مفاهيم العدل والحق على أساس أن العدل هو القوة، فاغتصب حق المرأة والبنت والولد والرجل العاجز لقوته ولأنه مقاتل، أما غيره

من المذكورين فعاجز عن القتال، فحرمهم من الحقوق. ومنها حقوق الإرث، وأباح لنفسه حق الاستمتاع بملاذ الحياة، وفي جملتها الاستمتاع بالنساء وبالخمور وببقية الأطايب. فله أن يتزوج ما يتمكن من النساء، وجعل بيده حق الطلاق، وجوّز لنفسه الاتصال بأية امرأة شاء وإن كان متزوجًا، وله أن يتسرى ما يشاء، وله غير ذلك من امتيازات وحقوق، بسبب قوته وتفوقه على الجنس الآخر وعلى المستضعفين من المخلوقات، لأن الحق للمخلوق القوي، ولا حق عند القوي لإنسان ضعيف.

اللحية

اللحية: ومن الرجولة الشجاعة والإقدام وعدم المبالاة والمحافظة على مقوّمات الرجل وما منحته الطبيعة إياه من ملامح ميزته عن المرأة، وأهمها: اللحى. فاللحية عند العرب رمز الرجولة وزينتها وسيماء تكريم الرجل وتقديره. وإهانة اللحية عند العرب وعند الساميين هي من أعظم الإهانات التي لا تغتفر، وتقبيلها عندهم من علامات التقدير والاحترام والإجلال. ويعد نتف اللحية أو حزها أو حلقها إهانة كبيرة تنزل بصاحبها. يفعلها من يريد الازدراء بشأن الملتحي، ويعد عدم الاكتراث بتسوية اللحية من سيماء الحزن أو الغيظ أو المرض أو الارتباك وتضعضع الحال. ونجد في التوراة أن في جملة الإهانات التي تلحق بالناس حلق أنصاف لحاهم1. ويقسم باللحية، ويعد القسم بها من الأيمان المغلظة بمسك بها الحالف بيده اليمنى فيحلف بحلقها أنه لا يكذب أو أنه سيفعل، أو ما شابه ذلك، ولكن العادة أن الحلف بها يكون بإمساكها باليد، وإذا مد غريب يده على لحية رجل أكبر منه في المنزلة والدرجة وأقسم بها أو استجار بها، وجب على صاحبها الأخذ بقسمه والاهتمام بأمره ومساعدته. وقد يمسك غريب محتاج أو مطارد بلحية سيد قبيلة أو شريف قوم، ويبين له أنه في حماه ومنعته، وعلى الرجل بذل الحماية والمنعة له. والعربي يكرم لحيته، ولا يحلقها، وتكون لحيته مدببة في الغالب على نمط

_ 1 صموئيل الثاني، الإصحاح العاشر، الآية 4، قاموس الكتاب المقدس "2/ 291".

اللحى الفرنسية. ويصرف بعض الوقت لإصلاحها حتى لا تكون متناثرة بشعة، وقد يعير الإنسان بلحيته، فيقال: له لحية تيس. وتنسب عادة إكرام اللحى إلى سنن إبراهيم. وقد تكون اللحية كثة كبيرة منتظمة. ويقال للرجل ذي اللحية الطويلة: "اللحياني" و "رجل لحيان"1. ويحلف العربي بشاربه، فإذا أراد إعطاء عهد أو جوار أو أي عهد آخر وأقسم بشاربه، وجب عليه الوفاء بعهده. ومن عادة العرب تخفيف الشارب، وقد تحف وتنسب هذه العادة إلى سنن إبراهيم، ومن السنن الأخرى تقليم الأظافر وحلق العانة2. وذكر أن الرسول كان يقص شاربه وأنه قال: "قصوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس". وورد أنه قال: "خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب"3. ويعد قص الشارب من "الفطرة". وهي عشرة أو خمسة أمور4. يذكرون أنها من سنن إبراهيم ومن اتبعه من العرب. وفي جملتها الختان. ويذكر العلماء أن الله ابتلى "إبراهيم" بسنن الفطرة، وهي التي ذكرت في القرآن في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} 5، وهي الكلمات العشر: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فأما التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والفرق والسواك. وأما التي في الجسد فالاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان. فلما جاء الإسلام، قررها سنة من السنن6. والعرب من أصحاب الشعور السوداء. وهم مثل غيرهم يفاخرون بشعر

_ 1 تاج العروس "10/ 324"، "لحى". 2 القسطلاني، إرشاد الساري "2/ 161". 3 زاد المعاد "1/ 45 وما بعدها". 4 زاد المعاد "1/ 44 وما بعدها". 5 "البقرة"، الآية "124". 6 بلوغ الأرب "2/ 287".

رأسهم، ويتركونه ينمو ولا يحلقونه على نحو ما كان يفعل اليهود والمصريون1. وكانوا يدهنونه ويمشطونه بالمشط، ويتركونه يتدلى على المنكبين. وقد يضفرونه ضفائر. ومنهم من يضفره ضفيرتين يجعلهما تتدليان على جانبي الوجه. وذكر أن العرب تسمى الخصلة من الشعر أو الضفيرة قرنًا. ولهذا عرف "المنذر بن ماء السماء" جد "النعمان بن المنذر" ب "ذي القرنين" لضفيرتين كانتا في قرني رأسه2. والعرب تكني عن العربي بالجعدي وعن العجمي بالسبط3. والجعد من الشعر خلاف السبط، أو هو القصير منه. وهم يعنون بذلك أن سبوطة الشعر هي الغالبة على شعور العجم من الروم والفرس، وجعودة الشعر هي الغالبة على شعور العرب. وكانوا إذا قالوا رجلا جعدًا عنوا رجلا كريمًا، كناية عن كونه عربيًّا سخيًّا، لأن العرب موصوفون بالجعودة. وقد يقصدون بذلك رجلا بخيلًا لئيمًا، فهو من الأضداد. وذكر أن العرب تقول: رجلًا جعدًا، إذا كان قصيرا متردد الخلق. وإذا قالت جعد السبوطة، فإنها تريد بذلك المدح، إلا أن يكون مفلفلا كشعر الزنج والنوبة، فهو حينئذ ذم4. وكان الرسول يسدل شعره، ثم فرقه. والفرق أن يجعل شعره فرقتين كل فرقة ذؤابة. والسدل أن يسدله من ورائه ولا يجعله فرقتين5. وذكر أنه كان يضفره غدائر، والغدائر الضفائر. وكان إذا طال شعره جعله غدائر أربعًا. وكان يكثر دهن رأسه ولحيته ويكثر القناع كأن ثوبه ثوب زيّات. وكان يحب الترجل، وكان يرجل نفسه تارة وترجله عائشة تارة6. وترجيل الشعر تسريحه.

_ 1 أشعياء، الإصحاح السابع، الآية 20، حزقيال، الإصحاح الخامس، الآية الأولى، قاموس الكتاب المقدس "1/ 68 وما بعدها". 2 تاج العروس "4/ 307"، "قرن". 3 تاج العروس "5/ 149"، "سبط". 4 تاج العروس "2/ 320 وما بعدها"، "جعد". 5 زاد المعاد "1/ 44". 6 زاد المعاد "1/ 45".

وقد تقوم به المرأة1. ويكون ذلك بالمشط. قال امرؤ القيس: كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حَنّاء بشيب مرجّل2 وللعرب عادات بالنسبة إلى شعرهم. فهم إذا غضبوا وأرادوا الأخذ بالثأر، لم يغسلوا شعورهم وتركوا تدهينها حتى يأخذوا بثأرهم. كالذي رووه من قصة امرئ القيس، حينما جاءه خبر مقتل والده. وهم إذا أرادوا إذلال رجل وإهانته كإذلال سيد قبيلة أو شريف قوم سقط أسيرًا، وأرادوا الإمعان في إذلاله جزوا ناصيته وتركوه يذهب فذلك عندهم شر إذلال. والناصية مقدم الرأس3. ويستوي الرجل والمرأة في دهن شعر الرأس. ولا زال الأعراب يدهنون شعورهم على الطريقة القديمة. ويستعمل أغنياؤهم الدهون الجيدة المستوردة من الخارج. مثل "الزيت" المطيب بالعطور وبأنواع الطيب، يدهنون به شعورهم ولحاهم في أيام الأفراح بصورة خاصة وفي الأعياد. وكان الرومان واليونان يدهنون الجسم كله بالزيت. ويعد دهن شعر الرأس من علامات الفرح والسرور، وتركه من علامات الغم والحزن4. وقد كان الصحابة يطلون شعر رأسهم ولحيتهم بالدهن ليزيلوا شعث رءوسهم ولحاهم به5. ويضفر شعر الأولاد والبنات ضفائر، تتدلى على جانبي الوجه ومؤخرة الرأس. وأما الرجل، فكان منهم من يضفر شعر رأسه ضفيرتين يتركهما تتدليان على جانبي وجهه، ومنهم من يضفره جملة ضفائر، قد تبلغ سبعًا. وعادة ضفر شعر الرأس سبع ضفائر عادة معروفة عند غير العرب أيضًا. وكان شعر "شمشون" المشهور مضفورًا في سبع خصل6. ولا زال الأعراب يضفرون شعورهم. ويقال للضفيرة "الذؤابة". والذؤابتان اللتان تسقطان على الصدر.

_ 1 شرح النووي على صحيح مسلم، المطبوع حاشية على إرشاد الساري، للقسطلاني "2/ 338"، "باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله". 2 تاج العروس "7/ 337"، "رجل". 3 تاج العروس "10/ 369"، نصا. 4 مزامير 23، 5، متى 6، 17، صموئيل الثاني الإصحاح 14، الآية 2، قاموس الكتاب المقدس "1/ 522". 5 القسطلاني، إرشاد الساري "2/ 161". 6 قاموس الكتاب المقدس "1/ 619".

ويقال لهما "غديرتان". وكل عقيصة غديرة: قال امرؤ القيس: غدائره مستشزرات إلى العلى ... تضل العقاصي في مثنى ومرسل1 ولما قدم "صمام بن ثعلبة" من "بني سعد على الرسول، كان رجلا جلدًا أشعر ذا غديرتين. فلما ولى قال رسول الله: إن صدق ذو العقيصتين2. ويقال لهما "القرنان" كذلك. والعرب تسمي الخصلة من الشعر القرن. والقرن الذؤابة عامة. ومنه: الروم ذات القرون، لطول ذوائبهم3. وهم مثل غيرهم من الناس يعتبرون الشعر الأشيب إكليل مجد الشيخ، والشعر الأبيض رمزًا للحكمة والجلالة4. وذلك بسبب أن تقدم العمر بالإنسان يكسبه خبرة وحكمة، لما يراه في حياته من تجارب وعظات. لذلك أقاموا للسن وزنًا كبيرًا في أخذ الرأي وفي التقدم في الدخول وفي الجلوس في المجالس. ولم يكن شيوخ الجاهلية وشيبها أقل عناية بمظهرهم وبمرآهم من شيوخ هذا اليوم وشيبه، فحاولوا ما قدروا إخفاء شيبهم وإطفاء لعب الزمان بشعرهم وبأوجههم بمختلف الوسائل والسبل، ومنها إخفاء الشيب بصبغه وباستعمال الخضاب، وبعضه أسود، كما خضبوا بالعِظْلم وبالحنّاء5. وصبغوا لحاهم. ولم يهملوا العيون، فاكتحلوا لتظهر براقة مؤثرة. ولا تزال "الوسمة"، وهي خضاب أسود معروف، ويستعملها بعض الناس اليوم. وذكر بعض علماء اللغة أن الخضاب، إخفاء الشيب بالحناء، وإذا كان بغير الحناء قيل: صبغ شعره، ولا يقال خضبه. وذكر آخر أن أول من خضب بالسواد من العرب "عبد المطلب"6. وقد تعلمه من أهل اليمن. إذْ كان قد زارهم فوجد شيبهم يخضبون شعورهم بالسواد، فأعطوه خضابًا، فجاء إلى مكة، وعنه شاع الخضاب بين أهلها.

_ 1 تاج العروس "3/ 441"، "غدر". 2 الطبري "3/ 124 وما بعدها"، "قدوم ضمام بن ثعلبة وافد عن بني سعد". 3 تاج العروس "9/ 307"، "قرن". 4 دانيال، الإصحاح السابع، الآية 9، قاموس الكتاب المقدس "1/ 619". 5 المعرب "ص16"، تاج العروس "1/ 236"، "خضب". 6 تاج العروس "2/ 366"، "الكويت"، "خضب".

وقد استعملوا الزعفران في صبغ لحاهم وشعورهم. واستعملوا لون الزعفران في صبغ ثيابهم أيضا. وذلك لغلاء ثمن "الزعفران" الطبيعي. كما استعمل "العصفر" في الصبغ، وهو نبات ينبت في جزيرة العرب، إذا صبغ الثوب به قيل: عصفر الثوب به1. كما استعملوا "الكتم" في تخضيب الشعر. وهو نبت يخلط بالحناء ويخضب بالشعر فيبقى لونه. وقد أشار إليه "أمية بن أبي الصلت" بقوله: وسودت شمسهم إذا طلعت ... بالجلب هفا كأنه كتم والمكتومة: دهن من أدهان العرب أحمر، يجعل فيه الزعفران أو الكتم. وطبخوا الكتم بالماء واستخرجوا منه مدادًا للكتابة2. ويكون الخضاب بالحناء، كما يكون بالحناء والكتم كما ذكرت، وقد يكون بالحناء والوسمة. وتجعل الوسمة الشعر أسود فاحمًا. وكل هذه من النباتات التي تنبت في الحجاز وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد استعلموا "السواد" ويكون بالوسمة في الغالب لتسويد شعر الجارية والمرأة الكبيرة والشيخ للغش والتدليس، حتى إذا جاء سيد لشراء جارية ظن أن شعرها على هذه الصورة من السواد، أو جاء رجل يطلب المرأة الكبيرة ظن أنها أصغر من عمرها، أو عرض الرجل الشيخ نفسه للزواج، ظهر أصغر من عمره. ونظرًا إلى ما في هذا العمل من غش نهي عنه في الإسلام3. وخوفًا من أن يقملوا لبّدوا شعر رءوسهم بالخطمي والصمغ. وقد عرف من يفعل ذلك ب "الملبد". وقيل: إن "الملبد" المحرم، الذي لبد شعره حتى لا يقمل، إذا دخله الغبار بعد العرق4. وقد كان القمل قد عشش في آباط كثير من الناس، لا سيما الفقراء والأعراب منهم. وفي شعر رءوسهم في المواضع المشعرة من أجسامهم، نظرًا لسوء وضعهم من الناحية الاقتصادية وفقرهم: وعدم تمكنهم من غسل أجسامهم. وقد أشير إلى القمل والتلبيد في الشعر. ذكر أن القمل

_ 1 تاج العروس "3/ 408"، "عصفر". 2 تاج العروس "9/ 39"، "كتم"، "9/ 93"، "وسم"، العقد الفريد "3/ 49". 3 ابن قيم الجوزية، زاد المعاد "3/ 183 وما بعدها". 4 المعاني الكبير "1/ 426"، تاج العروس "2/ 491"، "لبد".

كان يتهافت من رأس "كعب بن عجوة بن عدي" على وجهه، وكان محرمًا، فرآه الرسول، فأمره أن يحلق رأسه وأن يطعم فرقًا بين ستة مساكين1. وذكر أن التلبيد، أن يأخذ شيئًا من خطمي وآسٍ وسدر، وشيئا من صمغ، فيجعله في أصول شعره وعلى رأسه، كي يتلبد شعره ولا يعرق ويدخله الغبار، فيخمّ ويقمل2. وتطيب الرجال بالطيب، ودهنوا شعورهم بالدهن المطيب. وكانوا يتطيبون إذا ذهبوا إلى زيارة بيت، وفي المجتمعات العامة كالمواسم والأفراح. وللرجال طيب يختلف عن طيب النساء. وقد يرقن الرجل كما ترقن المرأة بالحناء والزعفران. يقال: أرقن الرجل لحيته ورقنها، أي خضبها بالحناء وبالزغفران. قال الشاعر: ومسمعة إذا ما شئت غنت ... مضمخة الترائب بالرقان3 والرقان والرقون الحناء والزعفران. ويكثر العرب من حمل "العصا" معهم. إذ هي ضرورة بالنسبة لحياتهم. يستعينون بها في طرد الكلاب عنهم، ورد الحيوانات المتوحشة التي قد تصادفهم، كما يستعملونها في ضرب إبلهم حتى تطيع أوامرهم. حتى إنهم جعلوا العصا رمزًا لأمور عديدة. منها الطاعة والجماعة. ومنها "شق العصا" بمعنى مخالفة الجماعة. والعصا الجماعة. ومنها "ألقى المسافر عصاه"، أي بلغ موضعه وأقام. وضرب مثلا لكل من وافقه شيء فأقام عليه. ومنها "هو لين العصا"، أي رقيق لين حسن السياسة، و "هو ضعيف العصا"، أي قليل ضرب الإبل. "وإن العصا من العصية"، يقال ذلك إذا شبه بأبيه، أي: إن بعض الأمر من بعض4. كما حملوا القضب، وهي من علائم السلطة والقوة والحكم والنفوذ عندهم. وقد ورد في خبر إرسال رسول الله "عباس بن أبي ربيعة المخزومي" إلى

_ 1 الحيوان "5/ 277"، "هارون". 2 المصدر نفسه. 3 تاج العروس "9/ 218"، "رقن". 4 تاج العروس "10/ 244 وما بعدها"، "عصا".

"الحارث" و "مسروح" و "نعيم" بني عبد كلال من حمير، أنهم كانوا يحملون قضبًا معهم. وهي من الأثل: قضيب ملمّع ببياض وصفرة وقضيب ذو عُجَر وكأنه خيزران، وقضيب أسود بهيم كأنه من ساسم1. وكان أحدهم إذا جلس وفكر في أمره، أو أراد الإجابة على سؤال يحتاج إلى عمل روية نكت الأرض بالقضيب الذي يحمله بيده.

_ 1 ابن سعد "1/ 282 وما بعدها".

المرأة

المرأة: والمرأة في المحيط البدوي أنشط وأكثر عملًا من الرجال؛ فعليها تهيئة الطعام وحلب النياق وغسل الملابس وغزل الصوف والوبر، والعناية بالأطفال وتحضير مادة الوقود، إلى غير ذلك من أعمال لا يقوم بها الرجل، لأنها من عمل المرأة، ولا يليق بالرجل القيام بها. ولم نقرأ في كتب أهل الأخبار ما يفيد سيادة النساء على القبائل، في الجاهلية القريبة من الإسلام. ولم نقرأ في المسند ما يفيد بوجود ملكات حكمن اليمن. بينما قرأنا في الكتابات الآشورية وجود ملكات عربيات حكمن قبائل عربية، كانت تنزل البوادي من بادية الشام. ووقفنا أيضا على حكم الملكة "الزباء" لتدمر وذلك بعد الميلاد. ولكننا نقرأ في أخبار أهل الأخبار أخبار كاهنات، كانت لهن مراكز خطيرة عند القبائل. وكذلك أخبار حاكمات حكمن فيما بين الناس في الخصومات. وقد كان منهن من يقرأ ويكتب كما سنرى فيما بعد. وللمرأة الشريفة ذات السؤدد حظ في المجتمع لا يدانيه حظ المرأة الحرة الفقيرة. فسؤددها حماية لها ودرع يصونها من الغض من منزلتها ومكانتها. وأسرتها قوة لها، تمنع زوجها من إذلالها أو إلحاق أي أذى بها، وهي نفسها فخورة على غيرها لأنها من أسر كريمة موازية لها في المنزلة والشرف. ومن ذلك قولهم: "استنكح العقائل، إذا نكح النجيبات"1.

_ 1 تاج العروس "9/ 41"، "أكرم".

حال المرأة في الجاهلية

حال المرأة في الجاهلية: وقد اختلف حال المرأة في الجاهلية عن حالها في الإسلام، بسبب تغير الأحوال

وتبدل الظروف. "فلم يكن بين رجال العرب ونسائها حجاب، ولا كانوا يرضون مع سقوط الحجاب بنظرة الفلتة ولا لحظة الخلسة، دون أن يجتمعوا على الحديث والمسامرة، ويزدوجوا في المناسمة والمثافنة، ويسمى المولع بذلك من الرجال الزِّير، المشتق من الزيارة. وكل ذلك بأعين الأولياء وحضور الأزواج، لا ينكرون ما ليس بمنكر إذا أمنوا المكر"1. "فلم يزل الرجال يتحدثون مع النساء، في الجاهلية والإسلام، حتى ضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة"2. "ثم كانت الشرائف من النساء يقعدون للرجال للحديث، ولم يكن النظر من بعضهم إلى بعض عارًا في الجاهلية، ولا حرامًا في الإسلام"3. وما نراه اليوم من اعتكاف النساء في بيوتهن ومن عدم اختلاطهن بالرجال ومن التشدد في الحجاب وأمثال ذلك، هو بين أهل الحضر خاصة. وقد كان هذا التحفظ معروفًا نوعًا ما عند أهل الحواضر والقرى في الجاهلية، إلا أن التزمُّت والتشدد في وجوب ابتعاد الرجل عن المرأة وانفصالهما بعضهما عن بعض إنما نشأ في الإسلام، بسبب تغير الظروف واختلاط العرب بالأعاجم، وظهور حالات جعلت العوائل الكبيرة تحرص على حصر المرأة في بيتها. أما في البادية فإن المرأة لا تزال تشارك الرجل في أعماله وتجالسه وتكلمه ولو كان غريبًا عنها، لأن محيط البادية محيط بعيد عن موطن الريبة والشبهات، وينشأ البنات والأولاد فيه سوية، ويلعبون سوية ويشبون سوية، ولذلك لم تنشأ عندهم القيود والحدود التي تفصل بين المرأة والرجل. وقد كان حال المرأة الأعرابية على هذه الحال في الجاهلية. وقد عرفت المرأة بالكيد بين الجاهليين، ونظروا إليها نظرتهم إلى الشيطان وليست هذه النظرة العربية إلى المرأة هي نظرة خاصة بالجاهليين، بل هي نظرة عامة نجدها عند غيرهم أيضًا. بل هي وجهة نظر الرجل بالنسبة للمرأة في كل العالم في ذلك الوقت. وهي نظرة نجدها عند الحضر بدرجة خاصة، لما لمحيط الحضر من خصائص التجمع والتكتل، والتصاق البيوت بعضها ببعض، ولما لهم من حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد تجبر المرأة على دس أنفها، والاتصال بالغرباء، فنشأ من ثم هذا الرأي بين أهل الحضر أكثر من الأعراب.

_ 1 كتاب القيان، من رسائل الجاحظ "2/ 148"، "تحقيق عبد السلام هارون". 2 كتاب القيان "2/ 149". 3 كتاب القيان "2/ 149".

وعرفت المرأة عندهم بالمكر والخديعة. إذ كان في وسعها استدراج الرجل والمكر به. وهم يتمثلون بمكر "الزبّاء". واستدراجها "جذيمة الأبرش" إليها، ثم فتكها به. على نحو ما ورد من قصص عنها في كتب أهل الأخبار. غير أنهم يروون في الوقت نفسه قصة "قصير" معها، وكيف تمكن من الأخذ بثأره منها، في حيلة ومكر ومكيدة، حتى فتك بها في قصة من قصص المكر والخديعة، ضرب بها المثل1. وعُدَّت المرأة كالحيّة في المكر. ونظر الرجل إلى رأي المرأة على أن فيه وهنًا وضعفًا وأنه دون رأيه بكثير، وتصور أن مقاييس الحكم عندها، دون مقاييسه في الدقة والضبط، ولهذا رأى العرب أن من الحمق الأخذ برأي المرأة. فكانوا إذا أرادوا ضرب المثل بضعف رأي وخطله قالوا عنه: "رأي النساء"2 و "رأي نساء" وقالوا: شاوروهن وخالفوهن، لما عرف عن المرأة من تأثر بأحكام العاطفة عندها. حتى ذهب البعض إلى عدم وجود رأي للمرأة، ولهذا قالوا: يقال للرجل "الفند" إذا خرف وخف عقله لهرم أو مرض، وقد يستعمل في غير الكبر وأصله في الكبر. ولا يقال "عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي أبدًا فتفند في كبرها. وفي الكشاف: ولذا لم يقل للمرأة مفندة لأنها لا رأي لها حتى يضعف. قال شيخنا: ولا وجه لقول السمين إنه غريب، فإنه منقول عن أهل اللغة. ثم قال: ولعل وجهه أنّ لها عقلًا وإن كان ناقصًا يشتد نقصه بكبر السن"3. ويكني العرب عن المرأة ب "الدُّمية". والدمية الصنم، وقيل: الصورة المنقشة: العاج ونحوه. وقيل هي الصورة. وقول الشاعر: والبيض يرفلن في الدُمي ... والريط والمذهب المصون يعني ثيابًا فيها تصاوير4. ويقال للمرأة البذيئة القليلة الحياء "العنفص". وقال بعض علماء اللغة إنها

_ 1 الثعالبي، ثمار القلوب "311"، الميداني "2/ 272"، تاج العروس "1/ 237"، "خطب". 2 الثعالبي، ثمار القلوب "306". 3 تاج العروس "2/ 454"، "فند". 4 اللسان "14/ 271"، "دمي".

المرأة القليلة الجسم الكثيرة الحركة. أو الداعرة الخبيثة. وقيل هي القصيرة المختالة المعجبة. أو المرأة الكثيرة الكلام، وهي المنتنة الريح1. وقد ذمت المرأة "النمامة"، والبذيئة التي تشتم الناس وتنطق بالبذاء. والسليطة اللسان التي تتطاول على الناس، ولا تبالي أحدًا. وقد كان بعض الناس يحرضون أمثال هؤلاء النسوة لإهانة كرام الناس والتحرش بهم، لما يعرفونه من أن في طبع الرجل الكريم عدم الرد على المرأة ردًّا قبيحًا والتعرض لها بسوء. وتشاءموا من بعض النسوة. وقالوا: "امرأة مشئومة"، و "عقرى حلقى"، أي عقرها الله وحلقها، بمعنى حلق شعرها أو أصابها بوجع في حلقها، أو أنها تعقر قومها وتحلقهم بشؤمها وتستأصلهم2. وقد كانوا يطلقونها إذا تشاءم الزوج أو أهله منها، لاعتقادهم الشديد بالشؤم. وتشاءموا من الفرس الأشقر ومن عتبة الباب، ومن أشياء أخرى سأتحدث عنها في موضع التفاؤل والتشاؤم عند العرب. وجمال المرأة في حلاوة العينين، وفي جمال الأنف، والملاحة في الفم. قال الشاعر: خزاعيّة الأطراف مريّة الحشا ... فزارية العينين طائيّة الفم3

_ 1 تاج العروس "4/ 410"، "العنفص". 2 تاج العروس "3/ 415"، "عقر". 3 الدينوري، عيون الأخبار "4/ 27"، "كتاب النساء".

المرأة القبيحة

المرأة القبيحة: وذكر بعض علماء اللغة أن العرب تصف ب "السعلاة" العجائز والخيل، وقيل السعالي: النساء الصاخبات البذيئات، والمرأة القبيحة الوجه السيئة الخلق. ومن ذلك قول الأعشى: ونساء كأنهم السعالي1. والعرب تكني عن المرأة بالعتبة والنعل والقارورة والبيت والدمية الغل والقيد والريحانة والقوصرة والشاة والنعجة2.

_ 1 تاج العروس "7/ 376"، "سعل". 2 تاج العروس "1/ 364"، "عتب".

وما قلته يمثل الفكرة العامة عن المرأة بين سواد الناس. غير أن هناك نسوة اشتهرن بالعقل والحكمة عند الجاهليين. وكن مرجعًا للرجال في أخذ الرأي. حتى إن منهن من تولين أمر الحكومات، وقد سبق أن ذكرت فيما مضى أن قبائل بادية الشام كانت تحت حكم ملكات في أيام الآشوريين. ومنهن الملكات "شمس" و "زبيبة". كما أشرت إلى الملكة "الزباء". فلم يجد العرب قبل الميلاد ولا بعده غضاضة من تعيين النساء ملكات عليهم. وقد كن يصاحبن الرجال إلى القتال لإثارة هممهم عند اشتداد المعارك ولمداواة الجرحى، وحمل الماء إلى العطشى من المقاتلين. وقد كانت "رفيدة" تداوي جرحى المسلمين في مسجد الرسول بيثرب1. وكانت "زينب" طبيبة "بني أود" تعالج المرضى وحازت على شهرة بين العرب2. حتى الشعر، برزت به شاعرات. مثل الخنساء، وخرانق، وجليلة، وكبشة أخت عمرو بن معد يكرب، وغيرهن. ومنهن من حكمن بين الشعراء المتنافسين في تفضيل شعر شاعر على شعر شاعر آخر. وكان من بينهن كاتبات ومتاجرات إلى غير ذلك من حقول الأعمال التي تحتاج إلى عقل وذكاء.

_ 1 نهاية الأرب "17/ 191". 2 جرجي زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 40"، "1957م".

زينة المرأة

زينة المرأة: والمرأة الحضرية أكثر تفننا واعتناءً بنفسها من الأعرابية، بسبب اختلاف المحيط والوضع الاقتصادي. ولها من أمور الزينة ما لا تعرفه الأعرابيات، من وسائل تجميل وتحلية جسم وملبس. ولا سيما النساء الغنيات القريبات من مواطن الأعاجم. فقد تأثرن بالأعجميات وأخذن منهن ما راق لهن من ملبس وزينة وطيب وحلية. والعادة أن المرأة تضفر شعر رأسها ضفائر وغدائر، أما الرجال فيتخذون لهم ضفيرتين، تتدليان على طرفي الوجه إلى المنكبين1. ويقال للضفيرة:

_ 1 تاج العروس "3/ 352"، "ضفر".

العقيصة. وذكر أن "العقيصة" الذؤابة. وذكر بعض علماء اللغة أن كل عقيصة غديرة، والغديرتان الذؤابتان تسقطان على الصدر. وقيل الغدائر للنساء، وهي المضفورة. والضفائر الرجال1. وقيل العقص الفتل، أي فتل الشعر، وهو أن يلوي الشعر حتى يبقى ليُّه ثم يرسل. وذكر بعض علماء اللغة أن العقص أن تأخذ المرأة كل خصلة من شعر فتلويها ثم تعقدها حتى يبقى فيها التواء ثم ترسلها، فكل خصلة عقيصة. وقد عرف "ضمام بن ثعلبة" أحد بني سعد بن بكر ب "ذي العقيصتين"، وكان أشعر ذا غديرتين. وكان خصل شعره عقيصتين وأرخاهما من جانبيه. وهو من الصحابة2. ويعد شعر المرأة من أثمن الأشياء عندها لذلك تستعز به وتحافظ عليه، وتسعى لإثارته وتنشيطه، وهي لا تحلقه إلا إذا نزلت بها نازلة، مثل موت زوجها أو عزيز آخر عليها، ويعد ذلك غاية في التضحية وفي إظهار حزنها على رجلها الراحل العزيز3. فإذا مات عزيز حلقت المرأة شعرها وذَرَّت التراب أو الرماد على رأسها، إظهارًا لشدة ألمها وحزنها على ميتها. ويقال لها "الحالقة". وقد لعن الرسول من النساء الحالقة والصالقة والخارقة. والحالقة التي تحلق شعرها في المصيبة4. وقد ضرب بها المثل في الشؤم. لأن من عادة الناس في الجاهلية أنهم إذا أصيبوا بمصيبة حلقت النساء شعورهن. وإلى ذاك أشير في شعر الخنساء: ولكني رأيت الصبر خيرا ... من النعلين والرأس الحليق وأصل ذلك أن المرأة كانت إذا أصيب لها كريم حلقت رأسها وأخذت نعلين تضرب بهما رأسها وتعفره. وفي هذا المعنى جاء في الشعر: ألا قومي أولو عقرى وحلقى ... لما لاقت سلامان بن غنم ولهذا السبب اعتبرت الحالقة علامة من علامات الشؤم ونذيرًا من نذر الفرقة

_ 1 قال امرؤ القيس: غدائره مستشرزرات إلى العلى ... نضل العقاص في مثنى ومرسل تاج العروس "3/ 441"، "غدر". 2 تاج العروس "4/ 408"، "عقص". 3 Hastings, A Dictionary of the Bible, II, P. 283. 4 تاج العروس "6/ 320"، "حلق".

يضرب بها المثل. وفي الحديث: "دبّ إليكم داء الأمم: البغضاء والحالقة". "هو قطيعة الرحم والتظالم والقول السيء"1. ويسرح الشعر ب "المشط". وقد عرفه الجاهليون، وهو من آلات التجميل القديمة.. وقد أشير إليه في الحديث. كما أشير إليه في الشعر. ورد قول عبد الرحمن بن حسان: قد كنت أغنى ذي غنى عنكم كما ... أغنى الرجال عن المشاط الأقرع2 وتمشط شعر العرائس "الماشطة"، فتقوم بترجيله وتجميله لخبرتها فيه3. ويكون المشط من خشب في الغالب، وقد يعمل من ذهب أو فضة أو من معدن آخر، وقد يتخذ من "العاج". وتغسل المرأة رأسها بطين وأشنان وخطمى ونحوه لتنظيفه. وقد تغتسل بالطيب، وذلك بالنسبة للغنيات. وإذا انتهت من غسله استعملت "الغسلة"4، وهو ما تجعله المرأة في شعرها عند الامتشاط من طيب وورق الآس يطرى بأفاويه من الطيب ويمتشط به5. والطين أنواع، يختلف باختلاف طبقات الأرض. وأجوده الحر النقي الخالص بعد رسوب الماء، ويستعمل في تنظيف الشعر. وقد كانت القبائل إذا أرادت الصبر في القتال، والوقوف في الحرب إلى النهاية وحتى النصر، حلقت نساؤها شعورهن، لبثّ الشجاعة في نفوس المقاتلين وإذكاء نار الشجاعة فيهم. وذكر أن "يوم تحلاق اللمم"، إنما سمي بذلك، لأن شعارهم كان الحلق. وكان لتغلب على بكر بن وائل6. وتجملت المرأة الجاهلية وتزينت على قدر حالها وإمكانها، لتظهر بذلك جمالها وأنوثتها على سنة الطبيعة، وعلى عادة المرأة بل والإنسان: رجلا كان أو امرأة

_ 1 تاج العروس "6/ 320"، "حلق". 2 قد كنت أحسبني غنيًا عنكم ... إن الغني عن المشاط الأقرع تاج العروس "5/ 223"، "مشط"، اللسان "7/ 403". 3 تاج العروس "5/ 224"، "غسل". 4 كسر. 5 تاج العروس "8/ 45"، "غسل". 6 تاج العروس "6/ 320"، "حلق".

في كل وقت وزمان، من حبه في إظهار الزينة وحسن المظهر. جملت نفسها بالاعتناء بالنظافة وبالثياب وبالحلية، كالخلخال والسوارين والخاتم والقُلبين والقلب والفتخة والمسكة والقرطين والقلائد الأخرى، وبالتجميل بالكحل وبالمساحيق التي توضع على الوجه والدهن الذي يدهن به الشعر وخضاب الكف والقدم، وبالوشم وما شاكل ذلك من أمور تجميل وتحلية كانت معروفة في ذلك العهد. ومن وسائل الزينة: الوشم. غرز إبرة ونحوها في عضو حتى يسيل الدم ثم يحشى بنؤور أو بالكحل أو بالنيلج أو نحوها فيزرق أثره أو يخضر1. وكانوا يقصدون بذلك التزين فينقشون به غالب أبدانهم، أنواعًا من النقوش من صور حيوانات أو نبات أو صور إنسان وكذلك الشفاه، فترى غالب شفاه نسائهم زرقًا. والأطفال منهم يوشمون في بعض المحال من وجوههم لقصد الزينة. وكذلك الرجال. وذكر أن الرسول قد نهى عن ذلك في حديث: "لعن الله الواشمة". أو "لعن الله الواشمة والمستوشمة"2. وكانوا يعتنون بتجميل حواجبهم وإزالة الشعر من وجوههم ب "النماص" وهو "المنقاش". وعرفت مزينة النساء ب"النامصة". وهي مزينة بالنمص. وذكر أن النمص نتف الشعر. وأن المشط ينمص الشعر وكذلك المحسّة لأن لها أسنانا كأسنان المشط. ويقال إن النماص مختص بإزالة الشعر من الحاجبين ليرققهما أو ليسويهما. وفي الحديث: لعنت النامصة والمتنمصة3. وعنوا بالأسنان فاستعملوا المبرد لبرد ما بين الثنايا والرباعيات، لتجميلها. وقد لعنت المتفلجات في الحديث. والمتفلجات جمع متفلجة التي تفلج بين الأسنان4. وعنوا بتبييض الأسنان باستخدام "المسواك"، وهو ما يدلك به الفم. ويكون من عيدان بعض الأشجار ذات الرائحة الطيبة. وقد أشير إليه في الحديث5.

_ 1 تاج العروس "9/ 94"، "وشم". 2 تاج العروس "9/ 94"، "وشم"، بلوغ الأرب "3/ 10 وما بعدها". 3 تاج العروس "4/ 443"، "نمص"، بلوغ الأرب "3/ 11". 4 بلوغ الأرب "3/ 11". 5 تاج العروس "7/ 146"، "سوك".

ويقص الشعر والظفر بالمقص، أي المقراض وهما مقصان1. يقص به الرجل شعره، كما تقص به المرأة. وتتخذ المرأة "القُصة" في مقدم رأسها تقص ناصيتها ما عدا جبينها2. وذكر أن من نساء الجاهلية من كن يقمحن لثنهن ب "النوور"، حصاة كإثمد تدق فتسفها اللثة. وكن يتّسمن ب "النؤر". وهو دخان الشحم أو دخان الفتيلة، يتخذ كحلًا أو وشمًا، وخصصه بعضهم بالوشم3. ولم تنس المرأة الجاهلية زينتها، فزينت نفسها ب "الحلي" من ذهب وفضة ومعادن أخرى ومن أحجار كريمة وأحجار تلفت النظر وبالعظام أيضا وبالخرز. ومن الحلي "الأساور" المصنوعة من الذهب. بالنسبة إلى المرأة الموسرة، والحلي المطعمة باللؤلؤ. ومن الحليّ؛ ما يزين به الرأس والعنق، ومنه ما يزين به الأيدي أو الأرجل4. وسأتحدث عنها في القسم الخاص بالحرف، بشيء من التفصيل. و"الكرم": القلادة. وقيل هي القلادة من الذهب والفضة، وقيل تكون من لؤلؤ أيضًا5. ويضفر شعر رأس الأطفال ذوائب، أي ضفائر تتدلى على رأسه وعلى ناصيته. ومتى كبر الطفل وبلغ سن الرشد، أو شعر برجولته، ضفرت له ذؤابتان، وهي علامة الشباب والرجولة عندهم. وقد كان الساميون يحتفلون بحلق الذوائب، لأن هذا الحلق معناه انتهاء مرحلة من الحياة ودخول الطفل مرحلة الرجولة، وهي مرحلة الحياة الصحيحة. وكانوا يرمون الذوائب أمام الأصنام. والعادة أنهم يضفرون للأطفال سبع ضفائر. وهي عادة معروفة عند الجاهليين أيضًا. ولا تزال متبعة عند الأعراب وأشباه الحضر. وقد يعلقون حليًّا على

_ 1 تاج العروس "4/ 422"، "قصص". 2 تاج العروس "4/ 423"، "قصص". 3 تاج العروس "3/ 589"، "نور". 4 تاج العروس "10/ 97"، "حلى". 5 تاج العروس "9/ 42"، "كرم".

كل ضفيرة، وذلك إمعانًا منهم في تدليل الطفل وفي إراءة جماله. فالزينة وتعليق الحلي من مظاهر التدليل والتجميل.

نساء شهيرات

نساء شهيرات: وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نساء ذكروا أنهن عشن في الجاهلية. منهن: صحر بنت لقمان بن عاد. وكان أبوها لقمان وأخوها لقيم خرجا مغيرين، فأصابا إبلا كثيرة فسبق لقيم إلى منزله، وعمدت صحر إلى بعض ما جاء به لقيم، فصنعت منه طعامًا يكون معدًّا لأبيها لقمان إذا قدم، وقد كان لقمان حسد لقيمًا في تبريزه عليه، فلما قدمت صحر إليه الطعام وعلم أنه من غنيمة لقيم، لطمها لطمة قضت عليها، فصارت عقوبتها مثلًا لكل من لا ذنب له ويعاقب1 "فقيل: ما لي ذنب إلا ذنب صحر"، ولم يكن لها ذنب2. وقد حصلت "الزبّاء" على شهرة بين العرب، ووضعوا حولها القصص. ذكروا أنها امرأة من العماليق، وأمها من الروم. وكانت تغزو بالجيوش، وهي التي غزت ماردًا والأبلق فاستعصيا عليها، فقالت: تمرد مارد وعز الأبلق، فذهبت مثلًا. ويروي أهل الأخبار لها أمثلة أخرى3. ورموها بالغدر، فقالوا: "قال عدي بن زيد يذكر قصة جذيمة الأبرش لخطبة الزباء": لخطيبي التي غدرت وخانت ... وهن ذوات غائلة لحينا أي لخطبة زباء. وهي امرأة غدرت بجذيمة الأبرش حين خطبها فأجابته وخاست بالعهد فقتلته4. واشتهرت "البسوس" بالبؤس والشؤم حتى قالوا "شؤم البسوس". وهي بنت منقذ التميمية، زارت أختها أم جساس بن مرة ومع البسوس جار لها من جرم، يقال له سعد بن شمس، ومعه ناقة له، فرماها كليب وائل لما رآها

_ 1 الثعالبي، ثمار القلوب "307". 2 تاج العروس "3/ 327"، "صحر". 3 الثعالبي، ثمار القلوب "311". 4 تاج العروس "1/ 237"، "خطب".

في مرعى قد حماه، فأقبلت الناقة إلى صاحبها وهي ترعو وضرعها يشخب لبنًا ودمًا، فلما رأى ما بها انطلق إلى البسوس فأخبرها بالقصة، فقالت: وا ذلاه! وا غربتاه! وأنشأت تقول أبياتًا تسميها العرب أبيات الفناء. فسمعها ابن أختها جساس فثار الدم في رأسه، وخرج معقبًا كليبًا حتى وجده فطعنه طعنة قضت عليه. ووقعت الحرب بين بكر وتغلب ودامت أربعين سنة. وسار شؤم البسوس مثلا، ونسبت الحرب إليها لكونها سببها، فقيل: حرب البسوس1. وهكذا فسر أهل الإخبار سبب وقوع حرب البسوس. وقص أهل الأخبار قصة امرأة أخرى، قالوا إن رغيف خبز لها صار سببًا في وقوع شر بين حيّين، وأدى إلى وقوع قتلى. حتى قيل: أشأم من رغيف الخولاء. والخولاء خبازة في "بني سعد بن زيد مناة"، فمرت وعلى رأسها كارة خبز، فتناول رجل عن رأسها رغيفًا، فاشتكت إلى رجل كان جارًا لها. فثار وثار معه قومه إلى الرجل الذي أخذ الرغيف وقومه بينهم ألف نفس، وسار رغيف الخولاء مثلا في الشيء اليسير بجلب الخطب الكبير2. وذكر أهل الأخبار اسم امرأة أخرى اشتهرت بعطرها، حتى ضرب به المثل، فقيل: "عطر منشم". ولهم أقوال في سبب ضرب هذا المثل. وخلاصتها أن "منشم" امرأة عطارة تبيع الطيب، فكانوا إذا قصدوا حربًا غمسوا أيديهم في طيبها، وتحالفوا عليه بأن يستميتوا في الحرب ولا يولوا أو يقتلوا، فكانوا إذا دخلوا الحرب بطيب تلك المرأة يقول الناس: قد دقّوا بينهم عطر منشم، فلما كثر القوم صار مثلا. فممن تمثل به زهير حيث قال: تدراكتما عبسًا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم3 واختار أهل الأخبار من بين النساء امرأة جعلوها مثالا للحمق، حتى قالوا: "حمق دغة". وهي دغة بنت منعج. روي لها حماقات كثيرة. وجعلوها مثلًا

_ 1 الثعالبي، ثمار القلوب "307 وما بعدها"، الميداني، الأمثال "1/ 372". 2 الثعالبي، ثمار "310". 3 الثعالبي، ثمار القلوب "308 وما بعدها"، ديوان زهير "15"، ابن قتيبة، المعارف "613".

سائرًا بين الناس في الحمق1. وضرب المثل ب "أم خارجة" في السرعة، فقال أسرع من نكاح أم خارجة. وهي "عمرة بنت سعد بن عبد الله بن بجيلة". كان يأتيها الخاطب فيقول: خطب، فتقول: نكح. ولدت أم خارجة في نيف وعشرين حيا من آباء متفرقين، وكانت إذا تزوج منها الرجل فأصبحت عنده كان أمرها إليها، إن شاءت أقامت، وإن شاءت ذهبت، وكانت علامة ارتضائها للزوج أن تصنع له طعامًا كلما تصبح2. وضربوا المثل ب "عز أم قرفة"، فمن أمثالهم إذا أرادوا العز والمنعة قالوا: إنه لأمنع من أمر قرفة. وهي بنت "مالك بن حذيفة بن بدر": وكان يحرس بيتها خمسون سيفًا بخمسين فارسًا، كلهم لها محرم3. كما ضربوا المثل ب "برد العجوز". ولهم قصص في سبب ضربه وهم متفقون على أن المثل جاهلي، وليس بإسلامي. ذكر بعضهم أن عجوزًا دهرية كاهنة من العرب كانت تخبر قومها ببرد يقع في أواخر الشتاء وأوائل الربيع، فيسوء أثره على المواشي، فقالوا: هذا برد العجوز، يعني العجوز الذي أنذرت به. وذكر بعض آخر؛ أن عجوزًا كانت بالجاهلية ولها ثمانية بنين فسألتهم أن يزوّجوها، وألحت عليهم، فتآمروا بينهم، وقالوا لها: إن كنت تزعمين أنك شابة فابرزي للهواء ثمان ليال، فإننا نزوجك بعدها، فوعدت بذلك، وتعرضت تلك الليلة والزمان شتاء كلب، وبرزت للهواء، وبقيت تفعل ذلك سبع ليال، ثم ماتت في الليلة السابعة. فضرب بها المثل: وقيل برد العجوز4.

_ 1 الثعالبي، ثمار القلوب "309". 2 الثعالبي، ثمار "311 وما بعدها". 3 الثعالبي، ثمار "310 وما بعدها". 4 الثعالبي، ثمار "313 وما بعدها".

أهل الحضر

أهل الحضر: وما ذكرته يتناول حياة الأعراب، وحياتهم الاجتماعية هي حياة أخرى تختلف

عن حياة أهل الحاضرة. ففي حياة الحضر تجمع وتكتل وإذا تجمع الإنسان وتكتل في موضع وكوّن جماعة، ظهرت عنده خلال، لا يمكن ظهورها عند الأعراب. تتسع وتكبر كلما بعدت الشقة بين البداوة والحضارة. لذا فإن بين حياة أهل الحيرة أو يثرب أو مكة أو المستوطنات الحضرية الأخرى المنتشرة في جزيرة العرب وبين حياة أهل البادية فروقًا كبيرة، تختلف في الدرجة والشدة، بدرجة تكاثف السكان في المستوطنة الحضرية، وبدرجة قربها أو بعدها من الأعاجم، وبدرجة اتصالها بالعالم الخارجي. فالمستوطنات التي تقع على سواحل البحر يكون لها اتصال خاص بالعالم الخارجي، لا يمكن أن يتوفر لأهل البواطن، ويؤدي هذا الاتصال إلى التلاحم في الأفكار وإلى الاختلاط والامتزاج وإلى توسع أفق أهل الساحل بالنسبة إلى من وراءهم في الباطن، بسبب هذا الاختلاط في الموقع. لقد تأثر أهل الحواضر من عرب العراق بأخلاق أهل النبط وغيرهم من أهل العراق، حتى بان ذلك على لسانهم وعلى طراز معاشهم كما بان ذلك على عرب بلاد الشام لاختلاطهم بالروم وبأهل بلاد الشام. فعرفوا عنهم أكل الأعاجم وأحبوا غناء الفرس وغناء الروم. ودخل من دخل منهم في النصرانية. وقلّد ملوك الفرس في بعض شئون حياتهم، وتشبه ملوك عرب الشام بملوك الروم، حتى في أمور دينهم حيث اعتنقوا النصرانية، وجاءوا إلى قصورهم بقيان يغنين بغناء الروم وبقيان يغنين بغناء الفرس. وزار سادات عرب العراق "المدائن"، ووقفوا على حياتها؛ وعاش سادات عرب الشام بدمشق وبمدن بلاد الشام الأخرى، وجلبوا إلى قصورهم وبيوتهم شيئًا مما أعجبهم ونال حبهم. فصارت حياتهم من ثم حياة تختلف عن حياة الأعراب من هذه النواحي. وكان لأهل قرى العربية الشرقية اتصال دائم بالعراق وبسواحل الهند الغربية، وبإيران وبالتجار الروم، فأخذوا منهم وتأثروا بهم، كالذي يظهر من الآثار التي عثر عليها ويعثر عليها المنقبون في مواضع العاديات. وتأثر أهل العربية الغربية بأهل بلاد الشام والعراق لما كان لهم من اتصال تجاري دائم بهم. ولما كانوا يجلبونه من هذه البلاد من رقيق. كما كان لهم ولأهل العربية الجنوبية اتصال بأهل إفريقية، سكان السواحل المقابلة لبلاد العرب فأثروا فيهم وتأثروا بهم. ومن آيات هذا التأثير الملامح الإفريقية التي ظهرت في العربية الجنوبية بصورة خاصة، لا سيما باستيلاء الأحباش مرارًا على السواحل العربية المقابلة لإفريقية، وظهور جيل أخذ

من ملامح الجنسين، نتيجة للازدواج الذي صار بين العرب والإفريقيين. ونجد أثر هذا الاختلاط في اللغة كما نجده في الغناء وفي آلات الطرب. إذ يختلف غناء أهل سواحل جزيرة العرب عن غناء القبائل الساكنة في الباطن، بعيدة بعض البعد عن السواحل وعن التأثير بمؤثرات الأعاجم الذين يقصدون المواني الساحلية للإتجار.

يزال الكثير منها قائما في أنحاء متعددة من العالم. وهي في الغالب مرآة صافية للظروف التي يعيش فيها الناس. وبعض هذه الأنواع زناء معيب في عرفنا، غير أننا يجب أن نفكر دائمًا أن أولئك القوم كانت لهم مقاييس دينية وخلقية خاصة بهم، وهي سليمة صحيحة بالقياس إليهم، وأنهم عاشوا قبل الإسلام وفي ظروف تختلف عن ظروفنا، وأن ما نسميه عيبًا لم يكن عيبًا بالقياس إلى المراحل التي كانوا فيها وإلى عرف ذلك العهد. ويقال للرجل العزب الذي لا زوج له "الخالي"، قال امرؤ القيس: ألم ترني أصبي على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي1 وللرجولة عند العرب أثر بارز، لما في طبيعة بلادهم من الحر وعدم وجود أمور مسلية لديهم تصرف ذهنهم عن التفكير فيه وتلهيهم بعض الشيء عن الغريزة الجنسية. ونجد في الأدب العربي شيئًا كثيرًا مما يتعلق بهذا الموضوع. وللغلمة المفرطة صار العربي مزواجًا، يتشبب بالنساء ويتغزل، والتشبيب من أمارات الرجولة عند الجاهليين. ونجد في القصص المنسوب إلى الجاهليين وفي شعرهم شيئًا كثيرًا يتعلق بالحب: حب الرجل للمرأة، وليس العكس، ذلك لأن في طبع الرجل التباهي والتفاخر بحبه للنساء. أما المرأة فإن في طبعها الخجل الذي يمنعها من إظهار حبها وتعلقها برجل ما، ثم إن المجتمع لا يسمح لها بذلك، وهو يردعها عن أن تبوح بحبها لرجل ما، ويعد ذلك نوعًا من الخروج على الآداب العامة وجلب العار إلى البنت وإلى الأسرة. ويعبر عن النسيب بالنساء، أي بذكرهن في ابتداء القصائد، ب" التشبيب". ويعد ابتداء القصيدة بالتشبيب من العرف الجاهلي، ويقولون إن في ذلك ترقيقًا للشعر2. والنسيب في الشعر، التشبب بالمرأة والتغزل بها، وذلك في أول القصيدة، إذا ذكرها في شعره ووصفها بالجمال والصبا، ووصف أعضاء جسمها وغير ذلك، ثم يخرج الشاعر بعد ذلك إلى المديح. ويدخل في النسيب، ووصف مرابع الأحباب ومنازلهم واشتياق المحب إلى لقائهم ووصالهم وغير ذلك3.

_ 1 اللسان "14/ 239"، "خلا"، تاج العروس "10/ 118"، "خلا". 2 تاج العروس "1/ 308"، "شبب". 3 تاج العروس "1/ 183"، "نسب".

والغزل في نظر بعض العلماء كالتشبيب والنسيب، كلها بمعنى واحد. وهو وصف الأعضاء الظاهرة من المحبوب، أو ذكر أيام الوصل والهجر أو نحو ذلك. وفرق بعض آخر بينها، بأن جعل التشبيب ذكر صفات المرأة وهو القسم الأول من النسيب، فلا يطلق التشبيب على ذكر صفات الناسب ولا على غيره. والتغزل بمعنى النسيب ذكر الغزل. فالغزل غير التغزل، والنسيب والغزل في رأي بعض آخر هو الأفعال والأقوال والأحوال الجارية بين المحب والمحبوب نفسها. وأما التشبيب فذكر حال الناسب والمنسوب به والأمور الجارية بينهما. وقال بعض: الغزل إنما هو التصابي والاستهتار بمودّات النساء1. وإلى غير ذلك من آراء لا صلة لها بهذا الموضوع. والعادة أن يتغزل الرجل بامرأة فيجعلها بطلة غزله. يلف ويدور في غزله حولها ويلهج بذكرها. وقد يذكر اسمها وقد لا يذكره. وهي قد تكون امرأة حقًّا، رآها الشاعر فأعجب بها، وقد لا تكون امرأة معينة خاصة، وإنما امرأة تخيلها ذهن الشاعر، فصار يتغزل بها ويلهج بذكرها ويلج في إظهار وصفها وصفاتها وما قالت له وما قال لها إلى غير ذلك. وسبب ذلك هو أذواق أهل ذلك العهد، وعاداتهم في وجوب الابتداء بالقصيدة بهذا النوع من المقدمات، حتى يكون شعرًا رقيقًا مرموقًا، وقد أدى تغزل بعض الشعراء بنساء رجال معروفين أو ببناتهم إلى وقوعهم في مهالك. ومن أمثلة ذلك ما زعم من تغزل "النابغة الذبياني" بالمتجردة زوج الملك "النعمان بن المنذر"، وما كان من غضب الملك عليه وتهديده له بالقتل، مما اضطر النابغة إلى الهرب إلى الغساسنة أعداء النعمان، ليسلم بريشه من سيد الحيرة وما ورد في قصة الشاعر "طرفة بن العبد". والطابع العام في هذا الغزل البراءة والعفة ونقاء الألفاظ المؤدبة، لا يتطرق فيه الشاعر إلى ما وراء إظهار الوجد والحب والتلهف إلى زيارة معشوقته له، أو زيارته لها، وذكر الأيام الجميلة وأحلام الحب الصافية الخالصة النقية، وقَلَّما نجد في الشعر الجاهلي إقذاعًا وفحشًا. فالشاعر متأدب في شعره، يعرف حدوده في الغزل فلا يتجاوزها، لأنه يعلم حقًا أنه إذا ذكر الفحش في شعره وتعرض بامرأة معينة، فأصابها بسوء قول، فإنها لن تسكت عنه، وإذا سكتت هي، فلن يفلت من عقاب أسرتها وآلها له. وقد يكون ذلك العقاب القتل.

_ 1 تاج العروس "8/ 43"، "غزل".

وقد ضرب العرب المثل ببعض الرجال في شدة النكاح وكثرته. ومن هؤلاء "حوثرة" رجل بني عبد القيس، ضربت به العرب المثل في ذلك فقالت "أنكح من حوثرة"1، و "خوات بن جبير الأنصاري"، وكان يأتي أحياء العرب يتطلب النساء، فإذا سئل عن حاجته قال: قد شرد لي بعير فخرجت في طلبه. وأدرك الإسلام، ورأى الرسول، فقال له: ما فعل بعيرك الشرود؟ فقال: أما منذ قيده الإسلام فلا2. وكان يحسن الغناء. وكان إذا رأى النساء لبس حلته وجلس إليهن. وذكر أنه "صاحب ذات النحيين"3. ويقال: "اغتلم الرجل" إذا هاج من الشهوة، وكذلك الجارية وفي الحديث: "خير النساء الغلمة على زوجها". والغلمة: شهوة الضراب، "وفسره جماعة بالشبق واشتهاء الغلمان"4. و"الشبق" شدة الغلمة وطلب النكاح، يقال: رجل شبق، وامرأة شبقة5. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال عرفوا بالشبق والغلمة، ومن هؤلاء "ابن الغز". فذكر أن عبد الملك بن مروان ذكر إيادًا، فقال: "هم أخطب الناس لمكان قس، وأسخى الناس لمكان كعب، وأشعر الناس لمكان أبي دواد، وأنكح الناس لمكان ابن الغز"6. وفي المثل: "أنكح من ابن الغز"، وهو من بني إياد، واسمه سعد أو عروة أو الحارث بن أشيم. وذكروا أنه كان نكّاحًا عظيم الأير، زعموا أن عروسه زفت إليه، فأصاب رأس أيره جنبها، فقالت: أتهددني بالركبة7. وقد عرف من يحب محادثة النساء ومجالستهن ومخالطتهن ب "الزير"8، ومن هنا قيل: "زير نساء". وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر من المشهورين بذلك.

_ 1 الثعالبي، ثمار "141". 2 الثعالبي، ثمار "141". 3 الإصابة "1/ 451 وما بعدها"، "2298". 4 اللسان "12/ 439"، "غلم"، تاج العروس "9/ 4"، "غلم". 5 اللسان "10/ 171"، "شبق"، تاج العروس "6/ 390"، "شبق". 6 الثعالبي، ثمار "142". 7 تاج العروس "4/ 78"، "لغز". 8 تاج العروس "3/ 347"، "زير".

ويقال لمن لا يأتي النساء عجزًا أو لا يريدهن" العنين". كما يقال للمرأة التي لا تريد الرجال ولا تشتهيهم "العنينة" على بعض الآراء1. ويقال امرأة مساحقة. وامرأة سحاقة، لمن تشتهي النساء. ويقال إنها لفظة مولدة2. وقد عرف "التبتل" عند بعض الجاهليين، ممن تأثر بآراء الرهبان. ويراد به ترك النكاح والزهد فيه، ويكون ذلك للرجال كما يكون للنساء. وتعرف المرأة المنقطعة عن الرجال ب" البتول". وقد نهى الرسول "عثمان بن مظعون" عن التبتل. وورد في الحديث: "لا رهبانية ولا تبتل في الإسلام"3. ويقال لمن لم يأت النساء ولم يتزوج "الصارور". و"الصارورة"، المتبتلة، فلم تتزوج ولم تتصل برجل. ومن ذلك: "لا صرورة في الإسلام"4. و "الصرورة" عند الجاهليين أرفع الناس في مراتب العبادة، وقد أطلقت على الراهب المتعبد، كما جاء في شعر "ربيعة بن مقروم" الضبي، من مخضرمي الجاهلية والإسلام: لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متبتل لدنا لبهجتها وحسن حديثها ... ولهمَّ من تاموره بتنزل5 وقد عيب العازف عن اللهو والنساء، والذي لا يطرب للهو ويبعد عنه. ولا يقرب النساء، ولا يحدثهن ولا يلهو. فإن مثل هذا الرجل هو كالحجر الصلد الجلمد، وفيه غفلة. ويقال له "العزهاة"6.

_ 1 تاج العروس "9/ 281"، "عن". 2 تاج العروس "6/ 378"، "سحق". 3 تاج العروس "7/ 220"، "بتل"، "رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل"، الإصابة "2/ 457". "رقم 5455". 4 تاج العروس "3/ 331"، "صرر". 5 الحيوان "1/ 347". "هارون". 6 اللسان "13/ 514 وما بعدها"، "عزه".

الزواج

الزواج: والزواج هو من أهم ملامح الأفراح في حياة الإنسان؛ وهو ما زال وسيبقى من أهم الأفراح في حياته، لما له من علاقة سعيدة به. ولهذا يحتفل الناس به عادة؛ بإقامة المآدب فيه وبدعوة ذوي القرابة والأصداقاء إليها لمشاركة الزوجين أفراحهما. وقد صنف "روبرتسن سمث" زواج العرب ثلاثة أصناف: زواج يكون في حدود القبيلة فلا يتعداه، ولا يسمح لرجال القبيلة إلا بالزواج من بنات القبيلة نفسها، وهو ما يسمى ب "Endogamous"، وزواج يفرض فيه على الرجل أن يتزوج امرأته من قبيلة أخرى، وهو ما يعرف ب"Exogamous" أي "زواج خارجي". وزواج يجمع الطريقتين المذكورتين، أي الزواج في داخل القبيلة والزواج من خارجها1. ويظهر من دراسة كل ما ورد في كتب أهل الأخبار وفي كتب التفسير والحديث عن الزواج والطلاق عند الجاهليين أن أهل الجاهلية لم يكونوا يسيرون على سنّة واحدة في عرف الزواج والطلاق، ولكن كانوا يسيرون على أعراف مختلفة اختلفت باختلاف الأماكن وباختلاف الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية واتصالها بالخارج. وقد وردت إلينا مسميات بعض تلك الأنواع، مثل "الخدن" و "المتعة" و "البدل" و "الشغار" و "البعولة" وزواج ذوات الرايات وغير ذلك مما ورد وصفه وشرحه، ولكنه لم ينعت باسم معين. وأنواع الزواج هذه، ليست خاصة بالجاهليين، وإنما هي معروفة عند غيرهم أيضًا، ولا سيما عند الشعوب السامية، وهي مراحل مر بها جميع البشر، ولا

_ 1 Kinship and Marriage, P., 60.

عدد الزوجات

عدد الزوجات: ومن حق الرجل في الجاهلية أن يتزوج ما يشاء من النساء من غير تحديد ولا

حصر. إذ لم تحدد شرائعهم للرجال عدد ما يتزوجونه من نسائهم. فلما جاء الإسلام، حدد العدد وجوَّز للرجل أن تكون له أربع زوجات في وقت واحد، ومنعه من تجاوز العدد في حالة الجمع، بمعنى أنه لا يسمح له أن يجمع بين خمس زوجات أو أكثر من ذلك في وقت واحد بشرط العدالة بينهن، فإن خاف الزوج ألا يعدل بينهن فواحدة. ويذكر أهل الأخبار أن أهل الحرم أول من اتخذ الضرائر1، والضرائر زوجات الرجل الواحد، وكل منها ضرة للأخرى. والغاية الأولى من الزواج هي النسل، لذلك قالت العرب: من لا يلد لا وُلد2. وكرهت العاقر وعدتها شؤمًا. واتخذ العقر من الأسباب الشرعية للطلاق، إذ كان الرجل يأبى البقاء مع امرأة لا تلد. لذلك كان يطلقها في الغالب، لانتفاء الفائدة منها مع إنفاقه عليها، أو يتزوج عليها ليكون له عقب، وعندهم أن المرأة القبيحة الولود، خير من الحسناء العاقر، وأن "سوداء ولودًا خير من حسناء عاقر"3. وليست هذه العادة من عادات العرب وحدهم ولكن يشاركهم فيها أكثر الشعوب الأخرى، ومنها الشعوب السامية. ولسادات القبائل والأشراف والملوك غرض آخر من الزواج، هو غرض كسب الألفة واجتذاب البعداء، والنصرة، حتى يرجع المنافر مواليًا، ويصير العدو مؤالفًا، فهو زواج "سياسي". يتزوج الملك أو سيد قبيلة ابنة سيد قبيلة أخرى، فيشد بزواجه هذا من أزر ملكه أو من قوة قبيلته. لا سيما إذا كانت البنت من قبيلة كبيرة. وقد عمل بهذا الزواج كثيرًا في الجاهلية، كما عمل به في الإسلام. فقد استفاد معاوية كثيرًا من زواجه من قبيلة "كلب"، إذ ساعدته وأيدته. وروعي هذا الزواج في المواضع التي تغلبت عليها الحياة القبلية بصورة خاصة للتغلب على طباع البداوة، القائمة على النفرة من الخضوع لحكم حاكم غريب عنها. وبهذا الزواج تخف هذه النفرة، فتشعر القبيلة أنها من أصهار هذا الحاكم، وعليها واجب مساعدته بحكم عصبية المصاهرة.

_ 1 اللسان "12/ 121". "حرم". 2 بلوغ الأرب "2/ 9". 3 بلوغ الأرب "2/ 10".

وكثرة الإخوة عزة، فمن كثرت إخوته استظهر بهم. فلا يتمكن أحد من النيل منه بسوء، ولا من ابتزاز حق من حقوقه، ولا من الاعتداء عليه1. وحظ الرجل العقيم خير من حظ المرأة العاقر. فهو يتزوج عدة زوجات فإن لم يلدن منه، آمن عندئذ بعقمه. أما المرأة، فتبقى قانعة راضية في بيت الزوجية، إن أراد زوجها ذلك، لأن من الصعب عليها الحصول على زوج آخر إن طلقت، إذ كان الرجال يفضلون الأبكار على المطلقات، وإذا طلقت المرأة العاقر، بقيت بين أهلها من غير زواج في الغالب. ويرغب العرب في التزوج بالأبكار، ويفضلون الأبكار الصغار على الأبكار الكبار، والبكارة من الشروط التي يجب توافرها في الزواج، وإذا تبين أن البنت ليست بكرًا، عُدّ ذلك نكبة2 وعير أهلها بها، ولذلك يكون مصيرها القتل تخلصًا من عارها. أما الزواج بالثيب، فلا يشترط فيه البكارة لأن المرأة كانت قد تزوجت من قبل، ثم طلقها زوجها أو مات عنها، فهي مما لا يتوافر فيها شروط البكارة، وهو زواج يعزف عنه الشباب ويعير به من يقدم عليه، إذ يتهم بالوهن الجنسي وبالطمع في مال الزوجة، فليس يجمل بالشاب أن يتزوج امرأة أعطت بكارتها غيره. ومن صارت ثيبًا من النساء، صار نصيبها الثيب من الرجال في الغالب، وإن كانت لا تزال شابة صغيرة السن. ويكره العرب الجمال البارع، لما يحدث عنه من شدة الإدلال، ومن الخوف من محنة الرغبة وبلوى المنازعة وشدة الصبوة وسوء عواقب الفتنة، لكنهم كانوا يراعون حسن الصورة وجمال الجسم وتناسق أعضائه. ولهم صفات ونعوت ذكروا أنها تمثل جمال المرأة، تختلف باختلاف الأذواق3، كما أن لهم رأيًا في محاسن أخلاق المرأة وفي الخصال التي يجب أن تتحلى بها في معاشرة زوجها وفي العناية ببيتها وفي تربية أولادها4. من ذلك أن تكون حريصة على إرضاء زوجها وخدمة أولادها والعناية ببيتها.

_ 1 الثعالبي، ثمار "143". 2 تاج العروس "3/ 56 وما بعدها"، "بكر". 3 بلوغ الأرب "2/ 13 وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "2/ 14 وما بعدها"، عيون الأخبار "4/ 1 وما بعدها".

وللعرب نعوت رأوا أنها إن وجدت في المرأة عابتها، منها أن تكون بذيئة اللسان، نمامة كذوبة، عابسة قطوبًا، كثيرة الانتباه والتدخل، طويلة مهزولة، ظاهرة العيوب، سبابة وثوبة إن ائتمنها زوجها خانته، وإن لان لها أهانته، وإن أرضاها أغضبته، وإن أطاعها عصته، إلى غير ذلك من نعوت رووها عن الجاهليين في ذم المرأة المتخلقة بها1. وقد نعتت المرأة التي تلبس درعها مقلوبًا، وتكحل إحدى عينيها وتدع الأخرى ب "القرثع"، وهي المرأة الجريئة القليلة الحياء البذيئة الفاحشة2. ويرغب العرب في الزواج بالنساء الشقراوات البيض، ورد أن بعض العرب قالوا الملوك: هل لكم في النساء الزهر، والخيل الشقر، والنوق الحمر3. والعادة أن أمر الزواج بيد الأبوين، وليس للبنت معارضة وليّها الشرعي في الزواج، غير أن بعض بنات الأسر الشريفة لم يكنّ يقبلن بالزواج بأحد إلا بموافقتهن، فإلى البنت يكون حق قبول الزوج أو رفضه4. كما اشترطت بعض النسوة أنهن إن أصبحن عند زوجهن، كان أمرهن إليهن، إن شئن أقمن معهم، وإن شئن تركنهم، أي أن حق الطلاق بيدهن. وذلك لشرفهن وقدرهن. ومن هؤلاء "سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش"، وهي أم عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، و "فاطمة بنت الخرشب الأنمارية"، وهي أم الكَمَلة من بني عبس، وهم: الربيع الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحفاظ، وأنس الفوارس، بنو زياد5. ومنهن "عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة"، وهي أم هاشم، وعبد شمس، والمطلب بني عبد مناف. و "السوا بنت

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 22 وما بعدها". 2 عيون الأخبار "4/ 3". 3 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 342". 4 ابن سعد، طبقات ج1 قسم 1 ص41، ابن هشام، سيرة "1/ 148"، القالي أمالي "1/ 198". 5 المحبر "398".

الأعيس" من عنزة، وكانت تحت خالد بن جعفر بن كلاب1. و "مارية بنت الجعيد بن صنبرة بن الديل بن شن بن أفصى" من لكيز2. وقد اشتهرت "أم خارجة" وهي "عمرة بنت سعد بن عبد الله بن قداد بن ثعلبة بن معاوية بن زيد بن الغوث بن أنمار" من بجيلة بأنها كانت قد اشترطت أن يكون طلاقها بيدها، فكانت كما يقول أهل الأخبار تتزوج وتطلق. وقد أكثرت من الولد في العرب، وبها ضرب المثل فقيل: "أسرع من نكاح أم خارجة"3. كان يقال لها: خطب، فتقول: نكح وخارجة ابنها، ولا يعلم ممن هو4. وولدت ل "بكر بن عبد مناة": الليث والدُّول، وعُريجًا، وهي أم العنبر، والهجيم، وأُسيد. وولدت أيضًا في "بني القين" من اليمن، قوم يقال لهم: بنو الحرة، وولدت في بهراء5. وللعداوات بين القبائل أثر بليغ في اختلاق أمثال هذا القصص، كما لا يخفى. وذكر أهل الأخبار أسماء نساء تزوجن ثلاثة أزواج فصاعدًا. منهن "مارية بنت الجعيد"، ذكر "ابن حبيب" أنها تزوجت من عشرة رجال. ونسوة أخر ذكر أسماءهن "محمد بن حبيب"6.

_ 1 المحبر "399". 2 المحبر "398". 3 المحبر "398، "وهي أم خارجة بنت قراد"، الدينوري، "المعارف"، "ص609". 4 تاج العروس "2/ 29"، "خرج". 5 الدينوري، المعارف "609 وما بعدها". 6 المحبر "435"، "أسماء من تزوج ثلاثة أزواج فصاعدًا من النساء".

تخفيف غلمة النساء

تخفيف غلمة النساء: وقد أمر بعض الجاهليين بختان النساء للحدّ من طغيان الشهوة، فإن البظراء تجد من اللذة ما لا تجده المختونة، وفي حديث: يا ابن مقطعة البظور. دعاه بذلك، لأن أمه كانت تختن النساء. والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم،

وإن لم تكن أم من يقال له هذا خاتنة1. وذكر أن الرسول قال لأم عطية الخاتنة: "أشميه ولا تنهكيه، فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند البعل". كأنه أراد أنه ينقص من شهوتها بقدر ما يردها إلى الاعتدال، فإن شهوتها إذا قلت ذهب التمتع، ونقص حب الأزواج، وحب الزوج قيد دون الفجور2. وذكر أن العرب اتخذت بعض الطرق لتضييق فرج المرأة، من ذلك استعمال عجم الزبيب. وذكروا أن نساء ثقيف فعلن ذلك، ويظهر أن أعداء ثقيف أيام الحجاج قد أشاعوا قصصًا من هذا النوع نكاية به. ويقال لذلك التفريب3 والتفريم4.

_ 1 تاج العروس "3/ 52"، "بظر"، وهو حديث مناقض لما عرف عن الرسول من عدم النطق بمثل هذا الجهر. وفي تاج العروس أحاديث ضعيفة أو موضوعة ذكرها من غير روية ولا تثبت. 2 الثعالبي، ثمار "1/ 303". 3 "فربت المرأة تفريبا"، "ضيقت فلهمها، أي فرجها بالأدوية، وهي عجم الزبيب وما أشبه ذلك"، تاج العروس "1/ 417"، "فرّب". 4 الفرام: ككتاب.... دواء تتضيق به المرأة قبلها، فهي فرماء ومستفرمة، وقد استفرمت، إذا احتشت بحب الزبيب ونحوه"، تاج العروس "9/ 11"، "فرم".

حق التقدم في الزواج

حق التقدم في الزواج: ويقدم ابن العم على غيره في الزواج، فإذا جاء رجل يريد خطبة ابنة رجل، سئل ابن عمها إن كان لها ابن عم عن رأيه في بنت عمه، فإن أظهر رغبته في الاقتران بها قدم على غيره، وزوّجت منه، وإن أظهر أنه غير راغب فيها زوجت من غيره. ذلك لأن ابن العم مقدم على كل أحد في الزواج من ابنة العم، وقد يأبى ابن العم من تزويج ابنة عمه من غيره ويصر على أن تكون له. ولكنه يأبى أن يحدد موعدًا للزواج منها، ويتركها أمدًا طويلا تنتظر حتى يرى رأيه، وقد تأبى ابنة العم الزواج من ابن عمها، ويأبى ابن عمها إلا الزواج منها، فتنشأ من ذلك منازعات وخصومات قد تصل إلى إراقة الدم.

ومع وجود عرف أن القريب أولى بالبنت من البعيد، فإن العرب تراعي في الغالب إنكاح البعداء والأجانب. يرون أن ذلك أنجب للولد وأبهى للخلقة، وأحفظ لقوة النسل؛ لأن إنكاح الأهل والأقارب يضر بالمولود ويسمه بالضعف والهزل، ويزعمون أن تقارب الأنساب مدح في الإبل، لأنه إنما يكون في الكرائم يحمل بعضها على بعض حفظًًا لنوعها، وذم للناس لأنه فيهم سبّب الضعف. وبهذا المعنى ورد الحديث: "اغتربوا ولا تضووا" أي أن تزوج القرائب يوقع الضوى في الولد، والضوى: الضعف والهزال1. وقد أوصى "حصن بن حذيفة بن بدر" قومه أن "ينكحوا الكفء الدريب، فإنه عز حادث"2. وقال "عمر" مخاطبًا آل السائب: "يا بني السائب، إنكم قد أضويتم، فانكحوا في النزائع". أي تزوجوا في البعاد الأنساب، لا في الأقارب، لئلا تضوى أولادكم. والنزائع جمع نزيعة، وهي المرأة التي تزوج في غير عشيرتها. وأضوى: ولد له ولد ضاو أي ضعيف3. وروي أن رجلًا قال: بنات العم أصبر والغرائب أنجب، وما ضرب رءوس الأبطال كابن أعجمية4. وقد أدركوا أثر العرق في الولد. قال رجل: لا أتزوج امرأة حتى أنظر إلى ولدي منها، قيل له: كيف ذلك؟ قال: أنظر إلى أبيها وأمها، فإنها تجر بأحدهما5. وقال بعض الشعراء: إذا كنت تبغي أيّمًا بجهالة ... من الناس فانظر من أبوها وخالها فإنهما منها كما هي منهما ... كقدّك نعلًا إن أريد مثالها فإن الذي ترجو من المال عندها ... سيأتي عليه شؤمها وخبالها6 ويراعى التكافؤ في الزواج، فالأشراف لا يتزوجون إلا من طبقة مكافئة لهم، والسواد لا يتجاسرون على خطبة ابنة سيد قبيلة أو ابنة أحد الوجهاء، ويعير السيد الشريف إن تزوج بنتًا من سواد الناس، ولا سيما إذا كانت ابنة

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 10". 2 أمالي المرتضى "1/ 531". 3 الدينوري، عيون "4/ 3". 4 عيون الأخبار "4/ 3". 5 عيون الأخبار "4/ 3". 6 عيون الأخبار "ص6".

صائغ أو نجار أو ابنة رجل يشتغل بحرفة من الحرف اليدوية لأنها من حرف العبيد. وقد عيّر "النعمان بن المنذر" بأمه، لأنها كانت ابنة يهودي صائغ، على ما يزعمه أهل الأخبار. ولم يكن من المستساغ عرفًا تزويج ابنة رجل حر من عبد مملوك أو مفكوك الرقبة، ولم يكن من الممكن تزويج البنت الأصيلة الحرة من ابن عبد أو من حفيد عبد، أو من حفيد حفيد عبد، وهكذا لأن سمة العبودية والضعة تلازم الأسر، وإن تحررت وحسن حالها وصارت غنية، وما زال هذا العرف قائمًا في جزيرة العرب. ويقدم العرب البيت على الجمال. فللبيت أثر في أخلاق المرأة وفي نجابة الأولاد، وهو أثر دائم. والجمال صورة زائلة. فكانوا يهتمون بالبيت المنجب، ليكون النسل نجيبًا صحيح البنية والعقل1 لقد علمتهم الطبيعة، وتبين من تجارب الحياة أن لبيت البنت أثرًا كبيرًا في مستقبل الأسرة وفي نجابة الأولاد وصحة أجسامهم وسلامتهم من المرض. لذلك فضلوا أصالة البيت على جمال المرأة. لما للأصالة من أثر في الوراثة التي تنتقل من الأبوين إلى الأولاد. ونجد هذا المسلك عند غير العرب من الساميين أيضًا، ورد في التلمود: "لا تحفل بجمال المرأة. وانظر إلى أسرتها"2. وروي أن رجلا شاور حكيمًا في التزوج، فقال له: افعل، وإياك والجمال الفائق، فإنه مرعى أنيق. فقال: ما نهيتني إلا عما أطلب، فقال: أما سمعت قول القائل: ولن تصادف مرعى ممرعًا أبدًا ... إلا وجدت به آثار منتجع3 وورد في الحديث: "إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء"4. فللمنبت شأن كبير في الزواج وفي أخلاق الولد، فلا قيمة للمرأة الحسناء إذا كانت من بيت سوء.

_ 1 إذا تزوجت فكن حاذقا ... اسأل عن الغصن وعن منبته وأول خبث الماء خبث ترابه ... وأول خبث القوم خبث المناكح "لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء، فإن اللبن يعدي"، المستطرف "2/ 218". 2 Taan IV, 8, Everyman.htm's Talmud, P. 175. 3 عيون الأخبار "4/ 9". 4 ثمار القلوب "1/ 302 وما بعدها".

المناكح الكريمة

المناكح الكريمة: وقد روي عن "أكثم بن صيفي" قوله: "المناكح الكريمة مدراج الشرف"1. ولهذا حرصوا على تطبيق قاعدة التكافؤ في الزواج، واختيار كرائم البنات لكرائم الرجال. وروي أن جملة ما أوصى به "الحارث بن كعب" سيد مذحج قومه أن "تزوجوا الأكفاء، وليستعملن في طيبهن الماء، وتجنبوا الحمقاء. فإن ولدها إلى أفنٍ ما يكون، إلا أنه لا راحة لقاطع القرابة"2. وقد عرفت هذه القاعدة ب "الكفاءة في النكاح". وهي أن يكون الزوج مساويًا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها وبيتها وغير ذلك3. والمرأة في نظر العرب وعاء للولد. هذه نظرتهم إليها في الجاهلية وفي الإسلام. قال "عروة بن الزبير": "لعن الله فلانة، ألفتُ بني فلان بيضًا طوالاً، فقلبتهم سودًا قصارًا". وفي هذا المعنى جاء في الشعر: وأول خبث الماء خبث ترابه ... وأول خبث القوم خبث المناكح4 وللأم أثر خطير في الولد. وقد ذكر "الجاحظ" أن العرب تقول: "عرق الخال لا ينام". وإن كثيرًا من العلماء يزعمون أن عرق الخال أنزع من عرق العم. ومن دلائل ذلك تباهي الناس بأخوالهم، واعتبار الخال بمنزلة الوالد. وقول العرب: "لئيم الخال"، واحتماء الأولاد بأخوالهم ولجوؤهم إليهم أكثر من لجوئهم إلى أعمامهم5. ودعوتهم لهم عند العصبية. وقول العرب "العرق دساس" و "عرق الخال". ولكننا لا نستطيع القطع برأي العرب في موضوع "دس العرق". وفي أن أيًّا هو أكثر أثرًا ووضوحًا في الولد: عرق الخال، أم عرق العم؟ فهناك أمثلة في التأريخ الجاهلي تظهر أن من الجاهليين من كان يقدم العم على الخال،

_ 1 ثمار القلوب "691". 2 أمالي المرتضى "1/ 233". 3 تاج العروس "1/ 108"، "كفأ". 4 عيون الأخبار "4/ 2 وما بعدها". 5 الثعالبي، ثمار "343 وما بعدها".

ويرى أن العم مقام الوالد. ولما كان الوالد هو الأصل في النسب عند الجاهليين، وهو الولي وصاحب الحق الشرعي الأول في ولده، يكون هذا الحق في إخواته بعد وفاته. كما أننا نجد أن بعض الأولاد كانوا ينزعون إلى أعمامهم أكثر من نزوعهم إلى أخوالهم. وموضوع نزع العرق عند العرب، اعتباري اصطلاحي بالطبع، يمثل وجهة نظرهم في النسب، ولا يقوم على أسس "بيولوجية" أي من ناحية أثر الدم وانتقال الخصائص الدموية من الوالد، أو من الأم إلى الولد. وهو موضوع علمي، يختلف عن هذه النظرة الاعتبارية، حيث إنه يقوم على الدراسات العلمية، ولا يأخذ بالاعتبارات والآراء المبنية على اعتبارات أهل النسب في خصائص الولد. والظاهر أن الوئام لم يكن واقعًا دائما بين أبناء العم، إذ نجد أن الخصومات طالما كانت تحدث بينهم. ولعل ذلك بسبب ما ألقاه المجتمع على عاتق العم من تبعات أولاد إخوته حين وفاة الأخ، فإنه يكون بحسب العرف القبلي الوصي الشرعي على أولاد المتوفى، وله حق في إرثه بحسب قانون "العصبة" عند وفاة الأخ عن بنات ومن غير أبناء، أو لطمع الأعمام في أموال اليتامى، إلى غير ذلك من أمور سببت حدوث خصومات أحيانًا بين الأعمام وبين أبناء الإخوة، أو بين أبناء الأعمام. ولعل هذه الخصومات هي التي جعلت "الجاحظ" يتصور أن أبناء العم محسودون1. ونجد العرب يقولون: "عرق فيه أعمامه وأخواله"2، فقدموا الأعمام على الأخوال، واعترفوا بأثر عرق الاثنين في الولد، من كرم أو لؤم، إذ يكون دس العرق في اللؤم والكرم3. ولاحظ العرب أن الأبوين قد يلدان ولدًا يكون لونه مغايرًا للونهما، فيحدث نزاعًا بين الرجل وزوجته في هذه الولادة الغريبة، وتتهم المرأة أحيانًَا باتصالها برجل غريب جاء منه هذا المولود، إلا أن منهم من أدرك "دس العرق" في هذه الولادة، واحتمال انتقال هذا اللون من آباء أحد الوالدين. وقد اختصم رجل

_ 1 كتاب فصل ما بين العداوة والحسد، من رسائل الجاحظ "1/ 344". 2 تاج العروس "7/ 10"، "عرق". 3 المصدر نفسه.

مع زوجته في مولود ولد له، فجاء إلى رسول الله وقال له: إن امرأتي قد ولدت غلامًا أسود، فقال له الرسول: "لعل عرقا نزعه"1. فاعتقاد العرب أن الولد قد ينزعه عرق من الأب. وفي هذا المعنى أيضا قول "ابن الزبير": "لا يمنعكم من تزوج امرأة قصرها، فإن الطويلة تلد القصير، والقصيرة تلد الطويل، وإياكم والمذكَّرة فإنها لا تنجب"2. والمذكرة المتشبهة بالذكور. وقد حرص العرب لما تقدم على التزوج في الأسر الصحيحة السالمة من الأمراض والعيوب، ليكون النسل صحيحًا نجيبًا. قال أعرابي لصاحب له: "إذا تزوجت امرأة من العرب فانظر إلى أخوالها، وأعمامها، وإخوتها، فإنها لا تخطئ الشبه بواحد منهم"3.

_ 1 الدميري، حياة الحيوان "1/ 4". 2 عيون الأخبار "4/ 3". 3 الحيوان "3/ 165"، "هارون".

لبن الأم

لبن الأم: وللبن الأم شأن كبير عند العرب، لما يتركه من أثر في طبيعة الولد، ولذلك كانوا يرون أن تكون الأم مرضعة الولد، إلا إذا تعذر ذلك لسبب، فترضعه مرضعة قريبة من أهل المولود أو من المرضعات السليمات من المرض، ومن ذوات العرق الطيب. لأن اللبن دساس يؤثر في شاربه. واهتم العرب باختيار المرضعات. لما يكون للبن الرضاع من أثر في الرضيع، ولما يكون للمرضعة ولبيتها من أثر فيه، كما اهتموا باختيار من يتأبط المولود ويحمله، لتسليته وتلهيته، لما يتركه ذلك من أثر في تربيته وخلقه. وفي حديث عمرو بن العاص: "ما تأبطتني الإماء ولا حملتني البغايا في غبرات المآلي" أراد أنه لم تتول الإماء تربيته. وغبرات المآلي: بقايا خِرَق الحيض1. وإذا أرادوا مدح إنسان والثناء عليه ذكروا مرضعته وصفاء لبنه الذي رضعه، فقالوا "نعمت المرضعة"، , و "نعمت المرضعة مرضعته". وإذا أرادوا

_ 1 تاج العروس "3/ 436"، "غبر".

ذم إنسان قالوا: "بئست المرضعة مرضعته"، كناية عن أنها هي التي أرضعته، فخرج رضيعها على شاكلتها. وفي الحديث حين ذكر الإمارة، فقال: "نعمت المرضعة وبئست الفاطمة"، ضرب المرضعة مثلا للإمارة وما يوصله إلى صاحبها من الأحلاب، يعني المنافع، والفاطمة مثلا لموت الذي يهدم عليه لذاته ويقطع منافعها1. وتعد الرضاعة بمنزلة الأخوة بين المتراضعين، ويفتخر ويتعزز الواحد منهم بالآخر، خاصة إذا كان من السادات والأشراف، والعرب تقول: "هذا رضعيك"، أي أخوك من الرضاع2، وتقول: "استرضع في بني فلان"3. ويصير كأنه واحد من القوم الذين استرضع فيهم. وتكون المراضع بمنزلة الأم للرضيع. ويبدأ الزواج برغبة يبديها الرجل لوالديه، أو برغبة من والديه، أو من أحدهما تقدم إلى الولد تطلب إليه أن يتزوج، فإن حصلت الموافقة اختيرت له زوجة، وقد يكون الرجل قد اختار خطيبته وعينها، فإذا وافق أهله خطبوها إلى ولي أمرها، وإذا أبوا فعليه أن يختار أخرى زوجًا له، وإذا أبى أهل البنت عليه ذلك تركها، وقد يصر على الزواج بها، ويصر أهله أو أهلها على رفضهم ذلك، وقد يزداد الرجل أو البنت إصرارًا على الاقتران معًا حتى يتحول ذلك إلى هرب من مكانهما إلى مكان آخر. وقد تقع بغضاء بين أهلي الرجل والبنت من وقوع هذا الزواج.

_ 1 تاج العروس "5/ 356"، "رضع". 2 تاج العروس "5/ 356"، "رضع". 3 المصدر نفسه "ص357".

الخطبة

الخطبة: وإذا استقر الرأي على البنت، يذهب ولي أمر الرجل أو أقرب الناس إليه إلى ولي أمر البنت، كالأب أو الأخ أو العم أو بني عمها أو غيرهم ممن هم أقرب الناس إليها، يخطب البنت بعد أن يكونوا قد مهدوا لذلك وحددوا الصداق.

وكان الخاطب إذا دخل بيت أهل البنت حياهم ومن كان حاضرًا بتحية أهل الجاهلية، مثل انعموا صباحًا، أو عموا صباحًا، أو أمثال ذلك، فإذا استقر به المقام، تكلم فيما جاء فيه، كأن يقول: نحن أكفاؤكم ونظراؤكم، فإن زوجتمونا فقد أصبنا رغبة وأصبتمونا وكنا لصهركم حامدين، وإن رددتمونا لعلة نعرفها رجعنا عاذرين. ثم يجيب ولي أمر البنت جوابًا مناسبًا يضمنه الرضى والقبول، وبذلك تكون البنت قد خطبت لذلك الرجل1. ووصف بعض أهل الأخبار طريقة من طرق الخطبة عند بعض الجاهليين، فقال: كان الرجل في الجاهلية يأتي الحي خاطبًا، فيقوم في ناديهم، فيقول: خطب، أي جئت خاطبًا. فيقال له: بعد الموافقة نكح، أي قد أنكحناك إياها، ومن ذلك ما قدمت من خبر أم خارجة إن صح. وذكر أن "نكحًا" هي كلمة كانت العرب تتزوج بها2. ويرتدي أهل الخاطب وأهل المخطوبة خير ما عندهم من ملابسهم ويزينون أنفسهم عند مجيء أهل الرجل إلى بيت البنت لخطبتها. وإذا تمت الخطبة ضمخ والد الخطيبة بالعبير وخلِّق بالطيب ونُحر بعير وأكثر على حسب منزلة أهل البنت. والعادة عند العرب أن ينحروا بعيرًا أو شاة في المناسبات المفرحة المبهجة، فلا بد لمثل هذه المناسبات من "ذبيحة" وإسالة دم. ولما خطب النبي "خديجة" وأجابته، استأذنت أباها في أن تتزوجه وهو ثمل، فأذن لها في ذلك، وقال: هو الفحل لا يقرع أنفه. فنحرت بعيرًا، وخلّقت أباها بالبعير، وكسته بردًا أحمر3. وكان الجاهليون يقولون للإبل تساق في الصداق: النوافج. وكانوا يقولون عند تقديمها: تهنئك النافجة. على أن بعضهم من كان يكره ذلك. وقد بطل هذا القول في الإسلام4.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 3". 2 تاج العروس "1/ 237"، "خطب"، "2/ 243"، "نكح"، المحبر "398". 3 تاج العروس "3/ 118"، "حبر". 4 قال الشاعر: وليس تلادي من وراثة والدي ... ولا شان مالي مستفاد النوافج الصاحبي "ص92".

وتلبس العروس ثوبًا يجعل له ذيل تسحبه حين تمشي. لأنه يكون طويلا، وقد أشير إليه في شعر لامرئ القيس. إذ قال: لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر كما أشير إليه في شعر لخداش بن زهير. إذ قال: لها ذنب مثل ذيل الهديّ ... إلى جؤجؤٍ أيدِ الزافر1 والهديّ: العروس التي تهدى إلى زوجها. واستعملت المرأة الغنية المسك والطيب في تطييب جسمها وثيابها. حتى كان المسك يفوح من أردانها. قال قيس بن الخطيم: وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها2 و"الصداق" هو مهر المرأة، أي ما يدفعه الرجل إلى أهل البنت عند عقد الزواج، ويقال له الصَّدَقة والصَّدُقة والصُّدُقة والصَّداق. وترادف هذه الكلمة كلمة أخرى هي "مهر"، وهي من المصطلحات الجاهلية كذلك3. وطريقة العرب من جاهليين وإسلاميين في دفع الرجل "المهر" للزوجة، تناقض المألوف عند اليونان والرومان، حيث جرت عادتهم أن تقدم المرأة صداقها إلى زوجها نقودًا أو عينًا. وهي الطريقة المألوفة عند الغربيين حتى الآن. وكان الرومان يستغربون طريقة الجاهليين هذه في دفع المهر4. ويروي "روبرتسن سمث" أن ترادف معنى "الصداق" و "المهر" إنما حدث في الإسلام. أما في الجاهلية، فقد كان هناك فرق بين مدلول الكلمتين. فإن المراد من كلمة الصداق عند الجاهليين هو ما يقدم إلى العروس. أما المهر، فهو ما يقدم إلى الوالدين5.

_ 1 أمالي المرتضى "2/ 94 وما بعدها". 2 اللسان "13/ 177"، "ردن". 3 اللسان "12/ 65"، النهاية "4/ 122"، جامع الأصول "7/ 579"، عمدة القاري "10/ 136"، تاج العروس "3/ 550"، "مهر". 4 Ency. Religi, 8. P. 447. 5 Kinship. P. 76, Ency, III, P. 137.

والرجل إما أن يكون من ذوي قرابة البنت وإما أن يكون من الأباعد، أي غريبًا عنها. فإن كان ذوي قرابتها، قال لها ولي أمرها إذا حملت إليه: أيسرتِ وأذكرتِ ولا أنثت، جعل الله منك عددًا وعزًّا وخلدًا. أحسني خلقك، وأكرمي زوجك، وليكن طيبك الماء ... ومثل ذلك من كلام. وإذا زوّجت في غربة قال لها: لا أيسرتِ، ولا ذكرتِ، فإنك تدنين البعداء، أو تلدين الأعداء. أحسني خلقك، وتحببي إلى أحمائك، فإن لهم عينًا ناظرة إليك، وأذنًا سامعة إليك، وليكن طيبك الماء1. وإذا كان العرس أولموا وليمة، ودعوا إليها ذوي قرابة الزوجين وأصدقاءهم. وتتناسب الولائم مع مكانة العريس وأهله، للهو، فإن كان غنيًا كانت وليمته ضخمة، وربما دعوا إليها أهل الطرب، وقدموا فيها المأكولات الشهية والخمور. ويقال للوليمة التي تقام "الملاك" ويقال "الإملاك"، ويقال للطعام الذي يقدم في "الإملاك" "الشندخ" لأنه يقدم الدخول. وأما ما يصنع للدخول بالمرأة، فيقال له: "وليمة" و "وليمة العرس"2. وكانوا يعدون ولائم العرس من الأمور اللازمة، ويفعل ذلك حتى الفقير الضعيف الحال. وقد حث الإسلام عليها، فورد في الحديث أن الرسول قال لعبد الرحمن بن عوف: "أولم ولو بشاة"3. وتزف العروس إلى زوجها، ومعها أصدقاؤها وأهلها: وقد يقترن ذلك بضرب الدفوف والغناء. وقد كان الأنصار يعجبهم اللهو، ولهذا كانوا يهتبلون هذه المناسبات للهو فيها. ومما كان يقال في زف العروس: أتيناكم أتيناكم ... فحيانا وحياكم ولولا الذهب الأحمر ... ما حلت بواديكم ولولا الحنطة السمراء ... ما سمنت عذاريكم4 ويقال لليلة التي تزف فيها العروس إلى زوجها ليلة الزفاف. ويعرف موكب

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 3". 2 بلوغ الأرب "1/ 386". 3 البخلاء "246"، المخصص "4/ 120". 4 إرشاد الساري "8/ 67".

الزفاف وب "الزفة" ويزف "العروس" إلى بيته أيضًا، فقد كان من عادة ذوي القرابة والأصدقاء إقامة وليمة له، إذا انتهت رافق المدعوون العريس إلى بيته في موكب يغنى فيه ويضرب بالدفوف. وقد يبقى المدعوون إلى الصباح؛ حيث يحيون ليلتهم، وهي ليلة العرس، بالشرب والغناء واللعب. وتخلّق العروس بالعبير وبأنواع الطيب بحسب سعة حالها وأحوال أهلها المعاشية. وذكر أن "العبير" الزعفران وحده عند أهل الجاهلية. وذكر أنه أخلاط من الطيب يجمع بالزعفران، وورد أن العبير غير الزعفران. وقد اشتهر رداء العروس بطيب رائحته، لما فيه من العبير. قال الأعشى: وتبرد برد رداء العرو ... س في الصيف رقرقت فيه العبيرا1 وتزف العروس إلى زوجها ليلا: تزف على قدر حال العروسين، وقد تزف في النهار، ويرافق العروس "موكب" موكب من نساء ورجال على الإبل المزينة يسير والنيران بين يدي العروس. وقد توضع الأنماط على هودج العروس وفي بيتها. وقد منع استعمال النيران في الإسلام؛ لما في ذلك من التشبه بالمشركين، كما نهي عن استعمال أنماط الحرير2. وقد تزف العروس في محفة يقال لها "المزفة"، ومعها أصحاب "الزفة". وذكر أن "الزفة"، الزمرة. ومنه الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم، قال لبلال حين صنع طعاما في تزويج فاطمة، رضي الله عنها: "أدخل الناس عليّ زفةً زفةً" أي: فوجًا بعد فوج؛ وطائفة بعد طائفة3. وفي المثل: "لا عطر بعد عروس" أول من قال ذلك امرأة اسمها: أسماء بنت عبد الله العذرية، واسم زوجها -وكان من بني عمها- "عروس". ثم مات عنها، فتزوجها رجل من قومها أعسر أبخر بخيل دميم، يقال له "نوفل". فلما أراد أن يظعن بها، قالت: لو أذنت لي، رثيت ابن عمّي، وبكيت عند رمسه؟ فقال: افعلي. فقالت: أبكيك يا عرس الأعراس،

_ 1 تاج العروس "3/ 377"، "عبر"، اللسان "4/ 531"، "عبر". 2 عمدة القارئ "20/ 148، 158". 3 تاج العروس "6/ 128 وما بعدها"، "زفف".

يا ثعلبًا في أهله، وأسدًا عند الباس، مع أشياء ليس يعلمها الناس! فقال: وما تلك الأشياء؟ فقالت: كان من الهمة غير نَعّاس، ويعمل السيف صبيحات الباس. ثم قالت: يا عروس الأغر الأزهر، الطيب الخيم، الكريم المحضر، مع أشياء لا تذكر! فقال: وما تلك الأشياء؟ قالت: كان عيوفًا للخنا والمنكر، طيب النهكة غير أبخر، أيسر غير أعسر. فعرف الرجل أنها تعرّض به. فلما رحل بها، قال: ضمّي عطرك. وقد نظر إلى قشوة عطرها مطروحة. فقالت: "لا عطر بعد عروس" فذهبت مثلًا. أو "لا مخبأ لعطر بعد عروس"1. وتحمل العروس معها أدوات زينتها وموادها الأخرى تضعها في قشوة: قفة من خوص يجعل فيها مواضعها للقوارير بحواجز بينها لعطر المرأة وقطنها، قال الشاعر: لها قشوة فيها ملابٌ وزنبق ... إذا عزبٌ أسرى إليها تطيبا2 ويقال للبنت العذراء التي لم تفتض "البكر"3. ويقال ذلك للرجل الذي لم يقرب امرأة بعد4. وزوجها الأول هو الذي يفتض بكارتها. وإذ كانت لسلامة بكارة البنت مكانة عند العرب، كانوا يعرضون دم البكارة على الأقارب، ليكون شهادة على سلامة بكارتها. ويكنى عن البكارة والبنت البكر ب "بنت سعد"5. والزواج حادث مهم في حياة الإنسان، ولذلك يعلن عنه بفرح وسرور، ويقال لذلك "بشاشة العرس"6. يعلن عنه بدعوة "وليمة" تولم لذوي القربى والأحباء والجيران والأصدقاء، تقترن بالغناء وبالضرب على الدفوف أحيانًا، وبارتداء ملابس نظيفة مناسبة، أو ملابس مصبوغة بصفرة، والصفرة عند أهل

_ 1 تاج العروس "4/ 188"، "عرس". 2 تاج العروس "10/ 294"، "قشا". 3 بالكسر. 4 تاج العروس "3/ 57"، "بكر". 5 تاج العروس "2/ 379"، "سعد". 6 عمدة القاري "20/ 138 وما بعدها".

الحجاز في ذلك العهد علامة العرس والفرح والسرور، كما كانوا يصبغون أيديهم ولحاهم بالزعفران، ويكحلون عيونهم، والكحل عندهم من الزينة أيضا1. ويقال للطعام يصنع لعرس: "الوليمة". وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى أن اسم الوليمة مختص بطعام العرس. وقد حث الإسلام عليها. ورد في الحديث قوله لعبد الرحمن بن عوف: "أولم ولو بشاة"2. ويقابل الزوج على تفضله بالدعوة إلى الوليمة بكلمات فيها خير وشكر وتمنيات للحياة الزوجية الجديدة، ويقال له عند الانتهاء والانصراف: على الطائر الميمون، وبالرفاه والبنين. وقد كره في الإسلام القول: بالرفاه والبنين لأنه من أقوال الجاهلية، ولما فيه من الإشارة إلى بغض البنات، لتخصيص البنين بالذكور3، وإحياء سنن الجاهلية4.

_ 1 عمدة القاري "20/ 143 وما بعدها"، "22/ 22". 2 تاج العروس "9/ 96"، "أولم". 3 عمدة القاري "20/ 145 وما بعدها". 4 اللسان "1/ 81"، "رفأ"، تاج العروس "1/ 71"، "رفأ".

المال والبنون

المال والبنون: وإذا ولد مولود ذكر، سُرَّ أهله بميلاده. والعرب مثل غيرهم من الشعوب القديمة كانوا يفرحون بميلاد ولد ذكر، ويغتمون إذا ولدت لهم أنثى، ويقيمون وليمة لميلاده، وكثرة البنين من المفاخر التي يفتخر بها أهل الجاهلية. إن كثرتهم نعمة وعزة. والبنون والمال زينة الحياة الدنيا. بالبنين يدافع الرجل عن نفسه وعن بيته، وبهم ينال المال والحق والأخذ بالثأر، فهم الحماية ورأس المال. ونقرأ في أهل الأخبار افتخار الآباء والأمهات بكثرة ما أنجبوا من أولاد، ولا سيما إذا كان الأولاد حازوا شهرة بالجود أو بالشجاعة أو بأمثال ذلك، أو سادوا قومهم ورأسوهم. ورد في القرآن: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1. صحيح أن إعالتهم مسألة صعبة عسيرة، ولا سيما إعالة الفقراء أولادهم، غير أن الحياة الاجتماعية في ذلك العهد لم تكن على مستوى عال من المعيشة تطلب مالًا

_ 1 "الكهف"، الآية 46.

يضمن الوالد به عيش أولاده، إنما كانت المعيشة سهلة لا تتطلب حاجات كثيرة، ولم تكن بالناس حاجة شديدة إلى النقود، فما يقوم به المرء من مجهود بدني هو أصيلة1 كل إنسان، وبه يعيش، وبه يحصل على ما يحتاج إليه من وسائل معيشة محدودة. فإذا كثر الأولاد، ازادادت وسائل المعيشة، وعاش الوالد عيشة ناعمة طيبة، وحصل بفضلهم على قوة ومنعة. وقد ذكر أهل الأخبار عددًا من الرجال عرفوا ببنين حصلوا على شهرة وذكر، فكانوا يفتخرون بهم بين الناس. من هؤلاء "سعد العشيرة"، قيل له "سعد العشيرة" لأنه كان يركب في عشرة من أولاده الذكور، فكأنه منهم في عشيرة، فصار مثلًا للرجل يستكثر بأبنائه وعشيرته ويتعزز بهم2. و "الحارث بن سدوس". وكان له واحد وعشرون ولدًا ذكرًا3. ويكون الذكور فخرًا للأمهات وقوة لهن، ويقال للمرأة التي تلد الأولاد الكرماء الأشراف منجبة ومنجاب. "ولم تكن العرب تعد منجبة من لها أقل من ثلاثة بنين أشراف"4. وتعرف ب "أم البنين" كذلك. ومنهن "أم البنين بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة"، و "عمرو بن عامر" هو "فارس". ولدت "أبا براء" ملاعب الأسنة، و "طفيلا" فارس قرزل و "ربيعة" ربيع المقترين، و "معاوية" معوذ الحكماء، "سلمى" تزال المضيق، بني مالك بن جعفر بن كلاب5. وقد أشار القرآن الكريم إلى نفرة العرب من البنات، وما كان يصاب به الرجل من ضيق صدر ومن همّ إذا بلّغ أن مولوده أنثى، قال تعالى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} 6. ويزداد كربه إذا زاد عدد بناته، وقد يعمدون إلى "الوأد"، أي دفنهن أحياء للتخلص منهن.

_ 1 الأصيلة: رأس المال. 2 ثمار القلوب "104". 3 ثمار القلوب "142". 4 المحبر "ص455"، تاج العروس "1/ 477"، "نجب". 5 المحبر "458"، تاج العروس "3/ 423"، "عمر". 6 "النحل"، الآية 58.

قيل: "إنهم كانوا يقتلونهن خوف العار"1. وإلى ذلك أشار القرآن الكريم: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} 2، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} 3. وقد افتخرت "بنو عبس" ب "زهير بن جذيمة بن رواحة" العبسي، لأنه كان أبا عشرة، وعم عشرة، وأخا عشرة، وخال عشرة، ورأس غطفان كلها في الجاهلية ولم يجمع على أحد قبله4. فكثرة البنين من موجبات الفخر والاعتزاز والتباهي عند الجاهليين.

_ 1 المستطرف "2/ 77". 2 "الإسراء، الآية 31. 3 "الأنعام، الآية 151. 4 الإصابة "3/ 266 وما بعدها"، "رقم 7352".

العقيقة

العقيقة: وإذا كانت نهاية الإنسان عند الجاهليين مقترنة بالدم، فإن مبدأ حياته مقترن عندهم بالدم كذلك. لقد كان عادتهم ذبح شاة عند ميلاد مولود وتلطيخ شيء من دمها برأس المولود، ويقال لهذه الذبيحة "العقيقة"، وهي كلمة جاهلية وردت في الشعر الجاهلي1. وتذبح عادة في اليوم السابع من ميلاد المولود2. وقد أقر الإسلام ذلك، فوردت الكلمة في الحديث. ويذكر علماء اللغة أن معنى العقيقة هو شعر كل مولود يخرج على رأسه في بطن أمه، وأنه قيل للشاة المذبوحة لذبحها عند الاحتفال بحلق هذا الشعر. وقد كانوا يعيرون من لم تحلق عقيقته، إذ يرون في ذلك منقصة لا تليق بالرجل الكامل3. ويستقبل المولود بدلك حنكه بالتمر الممضوغ، أو الحلو مثل عسل النحل،

_ 1 تاج العروس "7/ 15"، اللسان "12/ 129". 2 فهارس البخاري "ص333". 3 في شعر منسوب إلى امرئ القيس: يا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا تاج العروس "7/ 15"، البخاري "كتاب العقيقة" حديث "1"، عمدة القاري "31/ 82".

وكل ما لم تمسه نار من الحلو1. وكان العبرانيون يفركون المولود بالملح. واستقبال المواليد بمثل هذه الأمور من العادات الشائعة عند كثير من الأمم القديمة، وهي عادات وشعائر دينية أيضًا. فإن الشعوب القديمة لم تكن تفرق كثيرًا بين العادات والشعائر بخلاف الحال في الزمن الحاضر2. ولاستقبال المولود بدلك جسمه بالحلو أو بالملح أو بما شابه ذلك، معنى التفاؤل. فالحلو رمز السعادة والفرح. وأما الملح، فإنه عنصر مهم من عناصر الحياة عند الأمم القديمة. والخبز والملح هما رمز الصداقة والمودة حتى اليوم. ويسلى الأطفال بإعطائهم العرائس والتماثيل الصغيرة يلعبون بها ويقضون وقتهم بالتسلي بها وبمكالمتها على نحو ما يفعل أطفال اليوم. كما يتسلون باللعب معًا بألعاب خاصة بالصبيان.

_ 1 عمدة القاري "21/ 83"، اللسان "12/ 298"، "حنك". 2 Reste, S. 173.

الختان

الختان: ويعد الختان من العادات الجاهلية القديمة، والعرب في ذلك كالعبرانيين. وهو أمر لم يرد ذكره في القرآن إنما ورد ذكره في الحديث، وترجع الكلمة إلى أصل سامي شمالي قديم3. والختان في الأصل نوع من أنواع العبادة الدموية التي كان يقدمها الإنسان إلى أربابه، وتعدّ أهم جزء من العبادات في الديانات القديمة4. فقطع جزء من البدن وإسالة الدم منه، تضحية ذات شأن خطير في عرف أناس ذلك العهد، كما كان حلق الشعر كله أو جزء منه نوعًا من أنواع التقرب إلى الآلهة5. والختان في الإسلام معدود من سنن الفطرة التي ابتلى اللهُ إبراهيمَ بها؛ وهي الكلمات العشر. وفي جملتها الختان6. وقد كان الجاهليون يسمون من لم يختتن: أقلف وأغلف وأغرل، ويعيبونه،

_ 1 Shorter Ency, P. 254, Ancient Israel. PP. 46. 2 Reste, S. 3 Smith, P. 328. 4 بلوغ الأرب "2/ 287"، الحيوان "7/ 27"، "هارون".

ويعدّونه ناقصًا1. وذكر انتشار هذه العادة عند العرب بعض الكتبة "الكلاسيكيين" مثل: "يوسفوس" المؤرخ اليهودي و "أويسبيوس" و ""سوزومينوس" "Sozomenius"2 ويظهر أنه كان معروفًا عند العرب الجنوبيين وعند الحبشة كذلك3. وقد طبق على النوعين الذكور والإناث. وكانت العرب تزعم أن الغلام إذا ولد في القمراء قسحت قلفته فصار كالمختون؛ قال امرؤ القيس وقد كان دخل مع قيصر الحمام فرآه أقلف، على ما يزعمه أهل الأخبار: إني حلفت يمينًا غير كاذبة ... لأنت أقلف إلا ما جنى القمر4 وذكر "يوسفوس" أن العرب يختنون أولادهم عند بلوغهم عشرة من سنهم5. ومن الضعف قبول خبره، ويظهر من موارد أخرى أن الجاهليين لم يعينوا عمرًا معينًا للاختتان6 وأحسب أن هذا الكاتب اعتمد على ما جاء في التوراة عن اختتان إسماعيل وهو في الثالثة عشر من عمره، أو أنه اعتمد على ما سمعه من بعض القبائل الإسماعيلية الساكنة في المناطق الشمالية الغربية من جزيرة العرب، فظن أن الاختتان عند جميع العرب هو هذه السن. وقد ورد في بعض الأخبار أن الروم حاولوا منع العرب من الاختتان7. والاختتان من المناسبات المفرحة المبهجة في حياة الأسرة، لهذا كان من عادة العرب يدعون ذوي القرابة والأصدقاء إلى الولائم ويلبسون الأطفال أحسن ما عندهم من لباس ابتهاجًا وفرحًا بذلك.

_ 1 Reste, S. 174. 2 Josephus, Anti, I, XII, 2, Eusep, VI, II, 3 Ency. Religi, 3, P. 679. 4 تاج العروس "6/ 226"، "قلف". Sozomen, Hist. Ecci, VI, 38. 5 Josephus, Antiq, XX, II, 4. 6 Ency. Religi, 3, P. 679. 7 Ancient Israel, P. 47.

الرجولة

الرجولة: وإذا بلغ الطفل، صار رجلًَا، وجاز له حينئذ أن يفعل فعل الرجال.

واحتفل أهله بذلك عند الصنم "Oratal"، الذي يقابل الإله "باخوس" "Bacchus" عند اليونان، ويبلغ الاحتفال غايته عند قص الضفائر ورميها أمامه، لأن ذلك معناه عندهم دخول الشاب في مرحلة الرجولة، ودخوله في عبادة هذا الإله1. والبلوغ إدراك الغلام والجارية. وقد كان أهل مكة إذا بلغت عندهم الجارية أخذوها إلى "دار الندوة" فدرعوها بها، علامة على بلوغها. ومن أمثال العرب: "ولدك من دمّى عقبيك"2، أي من نفِست به، وصير عقبيك ملطخين بالدم، فهو ابنك حقيقة، لا من أخذته وتبنّيته وهو من غيرك3. والابن الشرعي، من ينسب إلى أبيه بنسب صحيح، وعزي إلى والده. ويقال: إنه لَحَسن العزوة، أي صحيح النسب حسنه4. والعادة عند أكثر الساميين نسبة الأولاد إلى الآباء. ونجد أكثر أسماء الجاهليين على هذا النحو. وهناك أشخاص عرفوا بأسماء أمهاتهم، وللأخباريين في تفسيرها آراء، الغالب أنهم اشتهروا بأمهاتهم لما كان لأمهاتهم من كفايات وصفات خاصة جعلت لهن صيتًا بعيدًا طغى على اسم الرجال، فنسب أبناؤهم إليهن لهذا السبب تمييزًا عن بقية الأبناء الذين قد يكونون للرجل من زوجة أخرى. ومن هذا القبيل اشتهار "عمرو" ملك الحيرة ب "عمرو بن هند". واشتهار "المنذر"، وهو أحد الملوك ب "المنذر بن ماء السماء" على رأي من جعل "ماء السماء" اسم والدة الملك. ولم يكن للجاهليين قواعد ثابتة معينة في تسمية المواليد، ففي بعض الروايات أن الأجداد أو الآباء هم الذي كانوا يقومون بتسمية المولود، وفي روايات أخرى ما يفيد قيام المرأة بهذه المهمة. والذي يتبين من غربلة الروايات أن الرجال هم يسمون الأولاد، فيضعون لهم الأسماء. أما تسمية البنات فكانت في الغالب من اختصاص النساء. وقد يثبت اسم المولود ويحدد في اليوم السابع من مولده، أي

_ 1 Hastings, I, P. 283, Herodotus, III, 8. 2 محركة وكسر الكاف فيهما بناء على أنه خطاب للأنثى. 3 تاج العروس "2/ 540"، "ولد". 4 تاج العروس "10/ 241"، "عزا".

في يوم "العقيقة". وتذكر كتب السير أن "عبد المطلب" هو الذي سمى الرسول محمدًا، في يوم سابعه، أخذه فدخل به الكعبة، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها، وفي هذا اليوم عقّ له على عادة العرب في ذلك العهد. وتذكر أيضا أن قريشًا "قالوا لعبد المطلب ما سميت ابنك هذا؟ قال سمّيته محمدًا"1. وتختلف التسميات في جزيرة العرب، كما تختلف معانيها، فالأسماء المشهورة عند العرب الجنوبيين والواردة في نصوص المسند لا ترد في قوائم أسماء الجاهليين الذين كانوا يعيشون قبيل الإسلام في نجد والحجاز. وأسماء أكثر ملوك العرب الجنوبيين ولا سيما الذين عاشوا منهم قبل الإسلام هي أسماء مركبة، ولها صلة بالآلهة. أما أسماء الملوك الشماليين فأكثرها مفردة مثل المنذر والنعمان والحارث وعمرو وأمثال ذلك. والأسماء الشمالية المركبة لها صلة بالأصنام، ولكن بأصنام العرب الشماليين، مثل عبد مناة، وعبد العزى، وامرئ القيس، وعبد ودّ. وأما أسماء سواد الناس، فتختلف كذلك في العربية الجنوبية عنها في الشمال، وفي المواضع الأخرى من جزيرة العرب. وقد أحدث الإسلام تغييرًا كبيرًا في الأسماء، فاجتث منها كلّ ما له صلة بالوثنية والأوثان، وجاء بتسميات لم تكن شائعة بين الجاهليين، مثل: محمد وعلي وأمثال ذلك من أسماء لها صلة بالرسول وبالصحابة وبتأريخ الإسلام.

_ 1 الاشتقاق "6"، المواهب "241"، الحلبية "1/ 94 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 106 وما بعدها"، ابن هشام، سيرة "1/ 166 وما بعدها"، تأريخ الإسلام، للذهبي "7/ 23 وما بعدها"، تفسير روح المعاني "4/ 73".

ما كان العرب يسمون به أولادهم

ما كان العرب يسمون به أولادهم: وقد بحث "الجاحظ" في علل التسميات عند العرب وفي أسبابها، فقال: "والعرب إنما كانت تسمّى بكلب، وحمار، وحجر، وجعل، وحنظلة، وقرد، على التفاؤل بذلك. وكان الرجل إذا ولد له ذكر خرج يتعرض لزجر الطير والفأل، فإن سمع إنسانًا يقول حجرًا، أو رأى حجرًا، سمى ابنه به وتفاءل فيه الشدة والصلابة والبقاء والصبر، وأنه يحطم ما بقي: وكذلك إن سمع إنسانًا يقول ذئبًا أو رأى ذئبًا، تأول فيه الفطنة والخبّ والمكر والكسب. وإن

كان حمارًا تأول فيه طول العمر والوقاحة والقوة والجلَد. وإن كان كلبًا تأول فيه الحراسة واليقظة وبُعد الصوت والكسب وغير ذلك". وجاء بآراء آخرين على هذه التسميات وعلى آرائهم فيها1. وتعرض "الجاحظ" إلى أسماء الحيوان التي تسَمّى بها الناس. فذكر منها: غراب، وصُرد، وفاختة، وحمامة، ويمام، ويمامة، وعقاب، وقطامي، وحجل، وصقر، وصقير، وطاووس، وطويس، وحيقطان، والغرانيق، والغرنوق2.

_ 1 الحيوان "1/ 325 وما بعدها"، "هارون". 2 الحيوان "7/ 53 وما بعدها"، "هارون".

المعمرون

المعمرون: وقد عمر بعض أهل الجاهلية عمرًا طويلا، فعُدّوا من المعمّرين في الجاهلية. وروى أهل الأخبار وألف بعضهم كتبًا فيهم. فلأبي حاتم السجستاني مؤلف في المعمرين1. والعادة عند العرب أن المرء إذا شاخ وكبر بالغوا في تقدير عمره، وزادوا في سني حياته. حتى جعلوا المعمر من عاش فوق المائة عام. ولا يعد المعمر معمرًا عندهم إلا إذا عاش مائة وعشرين سنة وصاعدًا2. ولهذا، فلا نستغرب ما يرويه أهل الأخبار عن بعضهم من أنهم عاشوا فوق المائة بكثير. ومن المعمرين: الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن خالد المذحجي. يزعمون أنه عاش مائة وستين سنة. ورووا له وصية في الأخلاق والآداب والمواعظ والحكم. بَيَّن فيها أنه على دين شعيب النبي، وما عليه أحد من العرب غيره، وغير أسد بن خزيمة، وتميم بن مُرّة. وأنه لم يصافح غادرًا، ولم يتخلق بأخلاق فاجر، ولا صبى بابنة عم له ولا كنة. ولا جاءته مومسة. وأوصى أولاده بالتجمع، وبالموت في سبيل العز، وبالحذر من الناس، وبتزوج الأكفاء وبتجنب الزواج من المرأة الحمقاء، لانتقال الحمق منهن إلى من يلدن. وأوصى بوصل

_ 1 أخبار المعمرين. 2 أمالي المرتضى "1/ 336".

الرحم، وبلزوم إطاعة الوالدين، ونبذ الحقد والضغينة1. ومنهم: المستوغر: وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة. ذكروا أنه عاش ثلاثمائة وعشرين، وأدرك الإسلام أو كاد يدرك أوله. ونسبوا له شعرًا وحكما2. وحشروا في المعمّرين: "دويد بن زيد" من قضاعة. ذكروا أنه عاش أربعمائة سنة وستًّا وخمسين سنة ونسبوا له وصية فيها: "أوصيكم بالناس شرًّا، لا ترحموا لهم عبرة، ولا تقيلوا لهم عثرة" إلى آخر ذلك من وصية فيها شدة على الناس وحث لأهله على عدم الرحمة بهم، وألا يرحموا أحدًا، وألّا يهنوا3. وهي تمثل وضعًا خاصًّا ورأيًا لواضع هذه الوصية ولراويها من أناس زمانه، فيها سوء ظن، ووجوب الحذر والاعتماد على النفس: حيث لا ينفع الإنسان في حياته إلا نفسه. ومن المعمرين زهير بن جناب. عاش مائتي سنة وعشرين سنة. وأوقع مائتي وقعة، وكان سيّدًا مطاعًا شريفًا في قومه. فيه عشر خصال لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه، كان سيد قومه وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم، وحازي قومه، وكان فارس قومه وله البيت فيهم. وقد نسبوا له وصية، على عادتهم في نسبتهم الوصايا إلى المعمرين. ذكروا أنه أوصى بنيه فيها بوجوب التجمع ومقاومة النوائب وترك التخاذل والاتكال، وبعدم الغرور في هذه الدنيا، فإنما الإنسان في هذه الدنيا غرض تعاوره الرماة فمقصر دونه، ومجاوز موضعه، وواقع عن يمينه وشماله، ثم لا بد أنه مصيبه. ورووا له شعرًا وحكمًا. وذُكر أنه كان على عهد "كليب وائل"، ولم يكن في العرب أنطق من زهير ولا أوجَه منه عند الملوك، وكان لسداد رأيه يسمى كاهنًا، ولم تجمع قضاعة إلا عليه وعلى رزاح بن ربيعة4. واختلف في عمر "ذو الأصبع العدواني" يوم مات. فذكر بعضهم أنه

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 232 وما بعدها". 2 أمالي المرتضى "1/ 334 وما بعدها". 3 أمالي المرتضى "1/ 236 وما بعدها". 4 أمالي المرتضى "1/ 240 وما بعدها".

عاش مائة وسبعين سنة. واستقل "أبو حاتم السجستاني" هذا المقدار، فجعله ثلاثمائة سنة. وهو من "عدوان". وأحد حكّام العرب في الجاهلية. ونسبوا له على عادتهم بالنسبة للمعمرين حكمًا وشعرًا1. ومن المعمرين الذين ذكرهم أهل الأخبار "معد يكرب الحميري"، من آل ذي رعين، و "الربيع بن ضبع الفَزاري". ذكر أنه عاش أكثر من مائتي سنة. وأنه لما بلغ مائتين وأربعين سنة قال شعرًا في ذلك. وقد عاش في الإسلام أيضًا وأدرك أيام معاوية2. وجعلوا عمر "أبو الطحان القيني" مائتي سنة ونسبوا له حكمًا وشعرًا3. وأبي "الكلبيُّ" أن يجعل عمر "عبد المسيح بن بقيلة الغساني"، وهو عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيّان بن بقيلة، أقل من ثلاثمائة وخمسين سنة. وجاراه في ذلك "أبو مخنف" وآخرون. وذكروا أنه عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام فلم يسلم، ومات نصرانيًا. وذكروا أن "خالد بن الوليد" لما نزل على الحيرة، وتحصن منه أهلها أرسلوا إليه "عبد المسيح بن بقيلة" ليكلمه فسأله خالد أسئلة عديدة. منها: أعرب أنتم أم نبط؟ قال عبد المسيح: عرب استنبطنا ونبيط استعربنا. ثم سأله: كم أتى لك؟ قال: ستون وثلاثمائة سنة. ثم عاد إلى قومه فنصحهم بمصالحة خالد. ورووا له شعرًا في دخول المسلمين الحيرة، وكيف صار أمر "آل المنذر"، وقد تحسر فيه على الأيام الماضية، التي ولت حتى آل الأمر بهم أن يؤدوا الخراج إلى "معدّ" التي اقتسمتهم علانية كأقسام الجزور، يؤدون لهم الخراج، بعد خراج كسرى وخراج من قريظة والنضير. ثم خلص إلى أن الدهر هو كذلك لا يدوم على حال. فيوم من مساءة ويوم من سرور4. وذكر أن بعض سادات أهل الحيرة خرج إلى ظاهرها يختط4 دارًا، فلما احتفر

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 244 وما بعدها"، الأغاني "3/ 94 وما بعدها"، الكامل، للمبرد "5/ 94 وما بعدها". 2 أمالي المرتضى "1/ 253 وما بعدها". 3 أمالي المرتضى "1/ 257 وما بعدها". 4 أمالي المرتضى "1/ 261 وما بعدها".

موضع الأساس، وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة البيت، فدخله فإذا رجل على سرير من رخام، وعند رأسه كتابة: أنا عبد المسيح بن بقيلة: حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى بُلَغَ المزيد وكافحت الأمور وكافحتني ... فلم أحفل بمعضلة كثود وكدت أنال في الشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود1 وأدخلوا "النابغة الجعدي"، واسمه "قيس بن عبد الله بن عدس" في المعمّرين. ولكنه لم ينل من أهل الأخبار عمرًا يستحق الذكر. إذ منحوه أقصر ما يمكن من العمر بالنسبة للمعمرين. وهو عشرون ومائة سنة. وتفضل "أبو حاتم السجستاني" عليه فمنحه مائتي سنة2. وأبو حاتم من الكرماء جدًا بالنسبة لمنح الأعمار إلى المعمرين. وقد أدرك الإسلام فأسلم. ومدح الإسلام بشعر. ويذكر أنه جاء الرسول وأنشده من شعره3. وذكر "الجاحظ" نقلًا عن المتقدمين عليه، أنهم "ذكروا أنهم وجدوا أطول أعمار الناس في ثلاثة مواضع: أولها سرو حمير، ثم فرغانة، ثم اليمامة، وإن في الأعراب لأعمارًا أطول، على أن لهم في ذلك كذبًا كثيرًا"4.

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 263". 2 أمالي المرتضى "1/ 263 وما بعدها"، جمهرة أشعار العرب "301 وما بعدها". 3 أمالي المرتضى "1/ 265 وما بعدها"، أخبار المعمرين "64 وما بعدها"، ابن قتيبة، الشعر والشعراء "247 وما بعدها"، الإصابة "6/ 218 وما بعدها"، الأغاني "4/ 127 وما بعدها". 4 الحيوان "1/ 157"، "أطول الناس أعمارًا"، "عبد السلام محمد هارون".

أصحاب العاهات

أصحاب العاهات: والعمى من العاهات المعروفة بين الجاهليين. منهم من ولد أعمى، أو أصيب بالعمى في طفولته، ومنهم من أصابه وهو على كبر. وذكروا أن من أشراف العميان "زهرة بن كلاب" و "عبد المطلب بن هاشم" و "العبّاس بن عبد المطلب"، وغيرهم. و"العور" من العاهات التي كان الجاهليون يعيبون من أصيب به. وكانوا

يرمون العوران باللؤم والخبث. وقد أصيب به بعضهم في الحروب. "كأبو سفيان" فقد أصيب يوم الطائف بالعَوَر، وأصيب غيره في معارك أخرى1. وأصيب بعض الناس بالبرص. وقد ذكر "السكري" أسماء جماعة من "البرص الأشراف"2، ومن هؤلاء: "جذيمة الأبرش"، الملقب ب"الوضاح"، وذكر أن "الوضح" كناية عن "البرص"3،وكانت قريش تخاف البرص خشية العدوى. فأخرجت "أبا عزة عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب" عنها، مخافة العدوى. فكان يكون بالليل في شعف الجبال، وبالنهار يستظل في الشجر، وسقي بطنه، فأخذ مدية فوجأ بها في معدته. فسال ذلك الماء، فبرأ برصه، ورجع إلى مكة4. ومن العاهات "الفقم"، وهو تقدم الثنايا العليا، فلا تقع على السفلى، إذا ضم الرجل فاه. ثم كثر حتى صار كل معوج أفقم5 و "العرج"، ومن أشهر "العرجان الأشراف" الحارث بن أبي شمر الغساني"، و "عبد الله بن جدعان"، و "الحوفزان بن شريك الشيباني"، و "النابغة الذبياني"، وغيرهم6. ومن المعيبات في الإنسان، ألا يكون للرجل شعر في وجهه. ويقال لمن عرى وجهه من الشعر "الكوسج". وذكر أنه الذي عرى وجهه من الشعر إلا كطاقات في أسف حنكه، كالأثط والثط. والثط هو القليل شعر اللحية والحاجبين. ويقال: رجل ثط، وامرأة ثطة الحاجبين7. ومن الثط "الحارث بن أبي شمر الغساني"، و "المنذر بن النعمان بن ماء السماء اللخمي"، و "عبد الله بن جدعان" و "قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري"8.

_ 1 المحبر "302"، "العوران الأشراف". 2 المحبر "299". 3 تاج العروس "2/ 247"، "وضح". 4 المحبر "301". 5 المحبر "304"، تاج العروس "9/ 14". 6 المحبر "304". 7 تاج العروس "2/ 91". 8 المحبر "305".

حياة الشبان

حياة الشبان: ومن الشبان من كان يقضي وقته بالشراب، وبمصاحبة القيان، وهم أولاد اليسار والمجّان. وكان منهم من يأوي إلى منزل أحدهم فيعكفون على اللهو أو الشرب، لا يعبئون ولا يكترثون1 ومنهم شباب مكة قبل الإسلام. وكان منهم قوم مستهترون لم يبالوا بحرمة ولا بأحد، حتى إن شبابًا من شباب مكة سرق من خزانة الكعبة لينفق مما سرقه على شربه وقيانه. وقد عرف هؤلاء ب "الفتيان". وكانوا يقضون أوقاتهم بالشرب وبلبس الملابس النظيفة، وبالسماع إلى القيان كما عرفوا بالسخاء على من حولهم وعلى من يجتمع معهم من الفتيان. وكانوا شجعانًا، يخرجون إلى القنص والصيد. وقد أشار أهل الأخبار إلى أسماء بعض هؤلاء الفتيان2. وشباب الجاهلية مثل شباب أهل كل زمان، لا يختلفون عنهم بشيء، في تأنق بعض منهم وفي محاولته إظهار شبابه تجاه البنات. فكان شباب القرى والمدن ولا سيما الوضيئون منهم وأهل الجمال يتسكعون في الأسواق وفي مواضع التجمع، بل وحتى في المعابد ليعبثوا في كلامهم مع البنات وليتحدثوا إليهن، شأن أي شاب في هذه الدنيا بالنسبة إلى الشابات. وقد اضطر آباء وأقرباء بعض هؤلاء الشباب إلى تقريع أبنائهم لتجاسرهم على بنات الحي. حتى منع البعض من الشباب الجميل من التأنق في الملبس حتى لا يلفتوا إليهم أنظار البنات، فيثرن فيهم عاطفة الجموح نحو التشبب والحب. وذكر "محمد بن حبيب" أسماء رجال من مكة كانوا يتعممون مخافة النساء على أنفسهم من جمالهم3. ويظهر أنهم كانوا يرخون العمائم حتى تنزل على الوجه فتخفي معالمه، ولا يبدو عندئذ شيء من معالم جمال ذلك الشخص. ولم يذكر فيما إذا كانوا قد فعلوا ذلك من أنفسهم ضبطًا للنفس من الوقوع في غوى الشيطان، وتحت تأثير سحر العيون، أم أنهم أجبروا على ذلك إجبارًا، على

_ 1 المحبر "173 وما بعدها"، تاج العروس "10/ 275 وما بعدها"، "فتى" تاج العروس "9/ 341"، "مجن". 2 المحبر "173 وما بعدها". 3 المحبر "ص232".

نحو ما كان يفعله أهل مكة بالنسبة إلى المستهترين من شبابهم، ليكون التعميم أحد الحواجز التي تحول دون سقوط عين المرأة على الشاب الجميل أو الرجل الجميل. أو أنهم فعلوه هم، على أنه "موضة" وزِيّ من أزياء الشباب. ومن الرجال الذين ذكر "ابن حبيب" أنهم تعمموا مخافة النساء ولم يكونوا من أهل مكة، "امرؤ القيس بن حجر الكندي"، "قيس بن الخطيم" الأوسي، و "ذو الكلاع الحميري"، و "زيد الخيل بن مهلهل الطائي". ولم يذكر السبب في إقحام مثل هذه الأسماء في موضع التعمم بمكة. هل ذكرهم بمعنى أنهم كانوا إذا قدموا مكة تعمموا، خشية الوقوع في هوى النساء، فيجلب عليهم صداعًا وصدامًا مع أهل أولئك النسوة، أو أنه ذكرهم بمعنى أنهم كانوا يتعممون مثل أهل مكة حذر الوقوع في الحب، فدرج أسماءهم في هذا الموضع لهذه المناسبة. وقد ذكر "ابن حبيب" أن "الحضر"، وهو أحد من كان يتعمم مخافة الوقوع في حب النساء، لم يكتف بالتعمم، بل تبرقع أيضًا1. ولعله فعل ذلك بتأثير ديني. أخذ ذلك عن الرهبان والمتزمتين بدينهم من أهل الجاهلية الذين حجبوا أنفسهم عن الناس وآووا إلى الغار أو قمم الجبال للتبصر والتأمل والابتعاد عن الملأ، ولا سيما عن النساء.

_ 1 المحبر "231".

الفتيان

الفتيان: وعرف شباب أبناء الأغنياء والجاه ب "الفتيان". وأحدهم "فتى". ويراد به الشاب. وقد تطلق على السخيّ الكريم، وهو من "الفتوة"1. وكثيرًا ما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملا تشير إلى"الفتوة" في الجاهلية، مثل "وهو من فتيان قريش أيضًا"2. يريدون بذلك جماعة من أبناء الأسر عاشت عيشة شباب وعبث، تلهو وتشرب، وتنفق وتعطي، وتغيث،

_ 1 تاج العروس "10/ 275"، "فتى". 2 المحبر "ص176".

وتتسابق، وتقتل وقتها في اللذة والاستمتاع وفي الإنفاق على الجسد، على نحو ما يفعله أبناء الطبقة المترفة في كل وقت. وقد كانت لها نجدة وشهامة، إذا استنجد بأحدها هبّ لنجدة المستنجد ودافع عنه.

الأحامرة

الأحامرة: والحياة عند بعض الناس: خمر ولحم وخُلوق. فهي متع الحياة عندهم. قال الأعشى: إن الأحامرة الثلاثة أهلكت ... مالي وكنت بها قديمًا مولعا الخمر واللحم السمين وأطَّلي ... بالزعفران فلن أزال مبقعا1 والحياة عند البعض خمر ونساء. واتهمت المرأة بحبها الحليّ والطيب. ورد: "أهلك النساء الأحمران. يعنون الذهب والزعفران، أي أهلكهن حب الحلي والطيب". وورد "الأحمران: اللحم والخمر". ويقال للذهب والزعفران: الأصفران، وللماء واللبن الأبيضان، وللتمر والماء الأسودان. وفي الحديث: أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض. والأحمر الذهب والأبيض الفضة. والذهب كنوز الروم، لأنها الغالب على نقودهم. وقيل أراد العرب والعجم. وقيل: الأحامرة: اللحم والخمر والخلوق. وورد الأحمران: الخمور والبرود2.

_ 1 تاج العروس "3/ 154"، "حمر". 2 تاج العروس "3/ 154"، "حمر"، الحيوان "3/ 249"، "هارون".

الخمور

الخمور: وفي مجتمع الحياة فيه على وتيرة واحدة، والفراغ فيه أكثر من العمل، ومرافق اللهو والتسلية فيه قليلة أو ومعدومة، والفقر فيه أكثر من الغنى، وتشغيل الفكر فيه محدود ضيق، في مجتمع كهذا المجتمع لا بد وأن يقبل الناس فيه على قتل فراغهم بالبحث عن شيء ينسيهم فراغهم وفقرهم وشدة حاجتهم، ويلهيهم عن قساوة الطبيعة عليهم، ويبعث فيهم الأمل والطرب والنشوة، والشعور بأنهم

سادة ملكوا الدنيا، وأن كل واحد منهم هو "رب الخورنق والسدير"1، فكان إقبالهم على الخمر شديدًا، حتى أفرطوا في شربه وآذى بعضهم نفسه من شدة إقباله عليه، فصار آفة من الآفات، حتى ضحى شاربه بمركزه وماله في سبيله، فكان ذلك من عوامل تحريمه في الإسلام. وقد كان الخمر من متع الحياة الثلاث بالنسبة للشباب. والمتع الثلاث: الخمر والقمار والنساء2. فإذا أضيف الشجاعة إليها صار الفتى من خيرة الفتيان، لذلك كان الشباب يفتخرون إذا جمعوا بين هذه المتع ويتباهون على غيرهم بها. وربما ارتكبوا المعاصي والمخالفات في سبيل الحصول على المال للإنفاق على متعهم هذه وعلى ملذاتهم وملاهيهم في هذه الحياة. ومن أسماء الخمر: العقار، سُميت لمعاقرتها أي لملازمتها الدنّ. والمعاقرة الإدمان ومعاقرة الخمر إدمان شربها. وقيل سميت عقارًا لأن أصحابها يعاقرونها أي يلازمونها أو لعقرها شاربها عن المشي، وقيل هي التي لا تلبث أن تسكر3. والسكران نقيض الصاحي. والسكر حالة تعترض بين المرء وعقله. وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب المسكر. و "السكّير" الكثير السكر4. و "المدمن" هو الملازم للشراب وغيره، لم يقلع عنه، فهو يلازمه ولا يقلع عن شربه أو شرب الخمر5. وقد أدمن كثير من أهل الجاهلية على شرب الخمر، وهلك قسم منهم بسببها. وقد حذر من ذلك الإسلام فورد: "مدمن الخمر كعابد الوثن"6، و "لا يدخل الجهة مدمن خمر"7.

_ 1 وإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير وقال حسان بن ثابت: ونشربها فتتركنا ملوكًا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء 2 التبريزي، شرح القصائد العشر "43". 3 تاج العروس "3/ 417"، "عقر". 4 تاج العروس "273 وما بعدها"، "سكر". 5 اللسان "13/ 159"، "دمن". 6 اللسان"13/ 159، "دمن". 7 المستطرف "2/ 229".

وعرف علماء اللغة "الخمر" بما أسكر من عصير العنب ومن عصير كل شيء يُسكر. ولما نزل الأمر بتحريم الخمر، كان شرابهم بالمدينة يومئذ الفضيخ، البُسْر والتمر في الغالب1. غير أن الجاهليين كانوا يصنعون الخمر من أي شيء يقع في أيديهم مما يمكن تخميره للحصول على مادة مسكرة منه مثل الحبوب والأعشاب وغير ذلك، بل كان منهم من يخمر اللبن، ولا سيما ألبان الإبل، للانتشاء بها. و "النشوة" السكر2. وكان أهل المدينة يسقون ضيوفهم شرابًا من الفضيح. فإذا جاءهم ضيف سقوه منه. كانوا يضعونه في قلال وجرار وهو خليط من بسر وتمر، ومن تمر وزَهْو. والزهو3 هو البسر الملون الذي ظهرت فيه الحمرة والصفرة4، كما كانوا يصنعونها من خلط الزبيب والتمر5 أيضًا وكانوا يجلسون مجلسهم، ويسقيهم أحد أبناء صاحب الدار أو خادم من خدمه، من قلال أو كئوس يدور بها عليهم قليلا قليلا6. واستخرج أهل اليمن من الشعير شرابًا عرف عندهم باسم "المزر"7. وذكر أن "المزر" نبيذ الذرة والشعير والحنطة والحبوب، وقيل: نبيذ الذرة خاصة. وذكر أبو عبيد أن ابن عمر فسر الأنبذة، فقال: البتع نبيذ العسل، والجعة نبيذ الشعير، والمزرة من الذرة، والسكر من التمر، والخمر من العنب8. وورد أن أهل اليمن كانوا يتخذون شرابًا مسكرًا من القمح يستعينون به على برد بلادهم ويتقوون به على عملهم. وقد منعوا عن ذلك في الإسلام حين نزل الأمر بتحريم الخمر9.

_ 1 تاج العروس "3/ 186 وما بعدها"، "خمر"، صحيح مسلم "6/ 85"، "باب تحريم الخمر". 2 تاج العروس "10/ 368"، "نشي". 3 بفتح الزاي وسكون الهاء وبالواو، وقد يضم الزاي. 4 صحيح مسلم "6/ 87 وما بعدها". 5 صحيح مسلم "6/ 89". 6 تاج العروس "3/ 541". 7 صحيح مسلم "6/ 99". 8 تاج العروس "3/ 541"، "مزر"، الإصابة "1/ 466". 9 الإصابة "1/ 466"، "رقم 2409".

ومن الخمور نوع اشتهر في العراق باسم "الخمور الصريفية" نُسبت إلى قرية "صريفون" عند "عكبراء" في العراق، وإياها عنى الأعشى بقوله: وتجبى إليه السيلحون ودونها ... صريفون في أنهارا والخورنق ووصف الأعشى في شعر آخر الخمر الصريفية فقال: تعاطي الضجيع إذا أقبلت ... بُعَيْد الرقاد وعند الوسن صريفية طيب طعمها ... لها زبد بين كوب ودن وذكر بعض العلماء أنها إنما عرفت بصريفية، لأنها أخذت من الدن ساعتئذ كاللبن الصريف1. وكانوا يضعون خمرهم في زق يحملونه معهم، فأينما يكون الإنسان يكون خمره معه. وقد كانوا يكثرون من استعماله كما يظهر ذلك من روايات أهل الأخبار مع فقر شاربها وعدم وجود طعام عنده. أما في المدن والقرى والحواضر، فهناك خمارات، جمعت إلى الخمر وسائل المتع الأخرى، يقصدها أهل المكان والغرباء للاستمتاع بها، والترفيه عن خاطرهم. وقد هيأت بعض الخمارات المغنين فيها وجلبوا إلى حاناتهم أنواع الخمور. وكانت الخمارات منتشرة في كل مكان، ولا سيما على الطرق. حيث ينزل بها المسافرون للاستراحة واستعادة النشاط بعد تعب ونصب. وكان بمكة وبسائر القرى خمارات كذلك. أصحابها نصارى ويهود في الغالب. ومعظمهم من غير العرب، وفودا من الخارج للتكسب والعيش فامتهنوا مهنة بيع الخمر وإسقائها للناس. وقد عرفت "الخمارة" بالحانوت. يذكر علماء اللغة أن "الحانوت دكان الخمير". وقد أشير إلى الحانوت في الشعر الجاهلي. وكانت العرب تسمي بيوت الخمارين الحوانيت. وأهل العراق يسمونها المواخير. وورد أن الخليفة "عمر" أحرق بيت "رويشد الثقفي"، وكان حانوتًا يعاقر فيه الخور ويباع2. وعرفت "الخمارة" بالدكة أيضًا3.

_ 1 تاج العروس "6/ 164"، "صرف". 2 تاج العروس "1/ 539"، "حانوت". 3 تاج العروس "9/ 301"، "دكن".

وقد يجتمع فتيان من مواضع شتى للشرب، فيقال لهم "الأندرون" يتنادرون فيما بينهم شذ وخرج من الجمهور. وذكر أن قول عمرو بن كلثوم: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا هو في هذا المعنى1. وقد تاجر اليهود بالخمر، وفتحوا لهم الخمارات في الأماكن التي أقاموا بها من جزيرة العرب، فقصدها الناس للشرب. ومن جملتهم الشاعر الأعشى الذي كان كلفًا بشرب الخمر حريصًا على تعاطيها، قيل إنه عزم على الدخول في الإسلام وأراد الذهاب إلى الرسول لينشده ويعلن أمامه دخوله في الإسلام، ونظم شعرًا في مدحه، فأدرك "أبو سفيان" ما في شعر "الأعشى" في مدح الرسول والإسلام من أثر في تصرفه وفي إضعاف قريش، فلقيه وحادثه وكلمه وجاءه من ناحية نقطة الضعف التي كانت فيه. وهي حبه للخمرة. فهيج أشجانه فيها، وأظهر له كيف أن الإسلام حرمها على المسلمين، وجعل في شربها الحد، فهو سيُحرم من متعته الوحيدة التي بقيت له في حياته أن دخل في الإسلام. وأثار فيه الحنين إليها، ورغبه في الذهاب إلى قومه والمكوث هناك سنة يشربها، ثم رأى رأيه بعد ذلك، فإما أن يستمر على شربها، وإما أن يعافها ويدخل في الإسلام، على أن يأخذ مقابل ذلك مائة من الإبل. فأثر كلام "أبو سفيان" فيه، وأخذ الإبل وذهب بها إلى قومه8 وأقام ب "منفوحة" حتى مات بها قبل الحول2. وذكر "بلينيوس" أن العرب كانوا يصنعون الخمر من النخيل، وذلك كما يفعل سكان الهند3. ويقصد بذلك التمور بالطبع. وقد ذكر ذلك من باب التنويه بالأمور الغريبة. فليس استخراج الخمر من التمور مألوفًا عند اليونان والرومان.

_ 1 تاج العروس "3/ 560"، "ندر". 2 جمهرة أشعار العرب "56"، الشعر والشعراء "135"، الأغاني "8/ 77"، "10/ 143"، "15/ 52"، "16/ 160"، المحبر "321". 3 مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الثالث، الجزء الأول، "ص139"، "1954م"، "بلاد العرب: من تأريخ بلينيوس".

ولهذا السبب أشار إليه، ليقف عليه قومه. غير أن العرب كانوا يستخرجون النبيذ من الكروم أيضًا، وذلك في الأماكن التي توفرت فهيا الكروم، مثل الطائف واليمن. وقد أشار "سترابون" إلى صنع الخمر من التمر1. أما خمور العرب فمن البتع، وهو نبيذ العسل، وهو خمر أهل اليمن. ومن التمر ومن البُرّ والشعير والزبيب. ولأهل اليمن شراب من الشعير، يقال له المزر، أشرت قبل قليل إليه2. وشرب الجاهليون أشربة استخرجوها من الذرة ومن مواد أخرى. فقد صنع أهل اليمن "المرز" من الذرة أيضًا. فلما أسلم قوم منهم سألوا الرسول عنه. فقال لهم: أله نشوة؟ فلما قالوا له: نعم، قال: فلا تشربوه3. وانتبذوا في "النقير": أصل النخلة ينقر فينبذ فيه، فيشتد نبيذه. وذكر أن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم يشدخون فيها الرطب والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت4 وانتبذوا في "الحنتم": الجرار الخضر، وفي "الدبّاء"، اليقطين، وفي "المزفت" أي ما طلي بالزفت5. ومن الخمور "المقدى". يتخذ من العسل على بعض الروايات. يقال إنه من قرية تسمى "المقدة" بالأردن، وقيل هي في طرف حوران قرب أذرعات6. وللخمر أسماء عديدة، ذكرها علماء اللغة. منها ما هي معربة. عربت عن اليونانية، أو الفارسية، أو السريانية، لأنها استوردت من بلاد الشام، أو العراق7. ومن الخمور خمر يقال له: "الإسفنط". وهو المطيب من عصير العنب.

_ 1 مجلة المجتمع العلمي العراقي، المجلد الثاني، "1952م"، "ص267". 2 العقد الفريد "6/ 356". 3 الإصابة "1/ 133". 4 تاج العروس "3/ 581"، "نقر". 5 القسطلاني، إرشاد الساري "6/ 11". 6 تاج العروس "2/ 460 وما بعدها"، "قد". 7 راجع كتب اللغة والأدب.

وقيل هي خمر فيها أفاويه، أو أعلى الخمر وصفوتها. وذكر أن اللفظة "رومية". قال الأعشى: وكان الخمر العتيق من الإ ... سفنط ممزوجة بماء زلال باكرتها الأغراب في سنة النو ... م فتجري خلال شوك السيال1 واستعمل الجاهليون أواني الشرب المصنوعة من الزجاج والبلور ومن الذهب والفضة، واستعملوا أواني أخرى تتناسب مع منزلة الشارب ومكانته. وقد كان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة يشربون بالآنية الغالية، وبعضها منقوش. وكذلك تفنن أغنياء مكة في الشرب، فاستعمل عبد الله بن جدعان الأواني المصنوعة من الذهب في شربه، حتى ضرب به المثل، فقيل: "أقرى من حاسي الذهب"، وعرف ب "حاسي الذهب". وشرب غيره من أصحاب الثراء بأواني غالية استوردوها من الخارج، على حين كان أكثر سكان مكة فقراء لا يملكون شيئًا. ولهذا ورد في الحديث النهي عن الشرب بآنية الذهب والفضة2. وقد ذكر أن النابغة الذبياني، وهو من شعراء الجاهلية الكبار، كان لا يأكل ويشرب إلا في آنية الذهب والفضة، من عطايا النعمان وأبيه وجده، ولا يستعمل غير ذلك3. وحرم قوم من الجاهليين الخمر على أنفسهم، وأكثرهم ممن يسمون الأحناف، ومنهم من كان يشربها ويقبل عليها، ولكنه وجد نفسه وقد قم بأعمال لم يرتضها، جعلته يشعر بالخجل منها، فتركها وحرمها على نفسه. ويذكر أهل الأخبار أن أول من حرمها على نفسه وامتنع منها في الجاهلية، هو "الوليد بن المغيرة". وهو رجل ينسب إليه أهل الأخبار جملة أمور، منها أنه أول من خلع نعيه لدخول الكعبة في الجاهلية، فخلع الناس نعالهم في الإسلام، وأول من قضى بالقسامة في الجاهلية فأقرها الإسلام وأول من قطع في السرقة في الجاهلية، فأقرها

_ 1 تاج العروس "5/ 154"، "الإسفنط". 2 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص293"، بلوغ الأرب "1/ 87". 3 بلوغ الأرب "3/ 22".

الإسلام. ويذكرون أن الجاهليين كانوا يقولون: "لا وثَوْبي الوليد، الخلق منهما والجديد"1. وممن ترك الخمر في الجاهلية "عبد الله بن جدعان"، وسبب تركه لها أنه شرب مع أمية بن أبي الصلت الثقفي، فلطم وجه "أمية" بعد أن ثمل، فأصبحت عينه مخضرَّة فخاف عليها الذهاب، فسأله عبد الله: ما بال عينك؟ فقال: أنت أصبتها البارحة. قال: وبلغ مني الشراب ما أبلغ معه من جليسي هذا المبلغ، فأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر علي حرام، لا أذوقها أبدًا2. وذكر أيضًا أنه سكر فجعل يساور القمر. فلما أصبح أخبر بذلك، فحرمها3. إلى غير ذلك من قصص. وممن حرمها في الجاهلية، قيس بن عاصم المنقري، وعامر بن الظرب العدواني، وصفوان بن أمية بن محرث الكناني، وعفيف بن معد يكرب الكندي، والأسلوم بن اليامي من همدان، ومقيس بن عدي السهمي، والعباس بن مرداس السلمي، وسعيد بن ربيعة بن عبد شمس، وورقة بن نوفل، والوليد بن المغيرة، وأبوه أمية بن المغيرة، والحارث بن عبيد المخزومي، وزيد بن عمر بن نفيل، وعامر بن جذيم الجمحي، وأبو ذر الغفاري، ويزيد بن جعونة الليثي، وأبو واقد الحارث بن عوف الكناني، وعمرو بن عَبَسَة، وقس بن ساعدة الإيادي، وعبيد بن الأبرص، وزهير بن أبي سُلمى المزني، والنابغتان الذبياني والجعدي، وحنظلة الراهب بن أبي عامر، وقبيصة بن إياس الطائي، وإياس بن قبيصة بن أبي غفر، وحاتم الطائي، و "سويد بن عدي بن عمرو بن سلسلة الطائي"4. وذكر أن ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية: "بشير الثقفي". وكان نذر في الجاهلية ألا يأكل الجزور ولايشرب الخمر5.

_ 1 المعارف "ص240". 2 نهاية الأرب "4/ 88". 3 المحبر "237". 4 المحبر "ص237 وما بعدها"، نهاية الأرب "4/ 88 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 294 وما بعدها"، الأمالي، للقالي "1/ 204 وما بعدها"، الأغاني "5/ 9"، "بيروت". 5 الإصابة "1/ 160".

وروي أن "عفيف بن معد يكرب الكندي"، عم الأشعث بن قيس، كان قد طلق الخمر وحرمها على نفسه وحرَّم معها القمار والزنا، والثلاثة من أهم وسائل التلهي والتمتع بالحياة عند الجاهليين1. وكان قيس بن عاصم يأتيه في الجاهلية تاجر خمر فيبتاع منه ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفد ما عنده. فشرب قيس ذات يوم فسكر سكرًا قبيحًا، فجذب ابنته وتناول ثوبها، ورأى القمر فتكلم بشيء ثم نهب ماله ومال الخمار. فلما صحا أخبرته ابنته بما صنع وما قال فآلى لا يذوق الخمر2. وبعض هؤلاء هم من الحنفاء، وبعضهم من السادة الأشراف الذين لم يتذوقوها، أو أنهم تعاطوها ثم رأوا ضررها فتركوها وحرموها على أنفسهم. ويظهر أن بعضهم قد حرمها على نفسه وعلى آله أيضًا، فذكر مثلا أن الوليد بن المغيرة ضرب فيها ابنه هشامًا على شربها، ولعل منهم من كان يستعمل الحد، وهو الجزاء الذي قرره الإسلام على شاربي الخمر. وقد أشار أهل الأخبار إلى وقوع حوادث لأكثر من ذكرتهم دفعت بهم إلى تحريم الخمر على أنفسهم، كالذي ذكرته من أمر عبد الله بن جدعان، وكالذي أشار إليه أهل الأخبار من تحرش بعضهم بمحارمهم تحرشًا لا يفعله إنسان سوي، أو تخليطهم أثناء سكرهم وقيامهم بأعمال مضحكة صيرتهم سخرية للحاضرين، فلما صحوا وسمعوا بما فعلا ندموا على ما بدا منهم، وقرروا اجتنابها وتحريمها على أنفسهم منذ ذلك اليوم3. وكان الجاهليون يشتدون على النساء في شرب الخمر حتى لم يحفظ أن امرأة سكرت4.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 294". 2 بلوغ الأرب "2/ 297". 3 المحبر "ص237 وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "2/ 297 وما بعدها".

المخدرات

المخدرات: لم أعثر على نص جاهلي جاء فيه ذكر لاستعمال الجاهلية للمخدرات، ولم

أعثر في أخبار أهل الأخبار على خبر يفيد تعاطي الجاهليين لها. ولكن هذا لا يعني نفي معرفة عرب الجاهلية بالمخدرات، ويظهر أن إفراطهم في تناول الخمور ووجود الخمور الرخيصة لديهم، وتحضيرهم لها بطرق بدائية رخيصة، وتخدرهم بنا، كانت من الأمور التي صرفتهم عن استعمال المخدرات الأخرى التي ربما زاد ثمنها على ثمن الخمر.

الانتحار بشرب الخمر

الانتحار بشرب الخمر: وقد قتل بعض الجاهليين أنفسهم بشرب الخمر صرفًا، ذكر "السكري" منهم "عمرو بن كلثوم الثعلبي". وكانت الملوك تبعث إليه بحبائه وهو في منزله من غير أن يفد إليها. فلما ساد ابنه الأسود بن عمرو، بعث إليه بعض الملوك بحبائه كما بعث إلى أبيه، فغضب "عمرو" وقالك "ساواني بولدي"، وحلف لا يذوق دسمًا حتى يموت، وجعل يشرب الخمر صرفًا على غير طعام، فلم يزل يشرب حتى مات1. وأهلك "البرح بن مسهر الطائي" نفسه بشرب الخمر الصرف كذلك، في قصة ذكرها "السكري"2. و"زهير بن جناب بن هبل"، هو ممن أتلف نفسه بشرب الخمر أيضًا، لمّا خالفه ابن أخيه عبد الله بن عليم بن جناب، فانزعج من ذلك وغضب، وأمات نفسه بشرب الخمر. ذكر أنه قال في ابن أخيه: "عدو الرجل ابن أخيه، غير أنه لا يدع قاتل عمه"3. وذكر أن "أبا براء بن مالك بن جعفر"، قتل نفسه بشرب الخمر أيضًا انتحر لمخالفة قومه أمره. فدعا قَيْنَتَيْن له، فشرب، وغنتاه، ثم دعا بالشاعر "لبيد"، وطلب منه أن يقول ما يقول فيه من المراثي، فلما أثقله الشراب، اتكأ على سيفه حتى مات4.

_ 1 المحبر "471". 2 المحبر "471". 3 المحبر "471"، الإصابة "2/ 249"، "رقم 4423". 4 المحبر "472 وما بعدها"، الإصابة "2/ 249"، "4423".

الاغتيال

الاغتيال: الغيلة: هي الخديعة وإيصال الشر إلى إنسان من حيث لا يعلم ولا يشعر1. وقد كان معروفًا بين الجاهليين، شجع على ظهوره وانتشاره بينهم عرف الأخذ بالثأر، والتنافس الذي كان بينهم على الرئاسة والوجاهة، وقواعد مجتمع ذلك الوقت التي كانت تقيم وزنًا كبيرًا للكلمة، وللمدح والهجاء، ولتقديم شخص على شخص في الجلوس في المجالس، فكانت هذه الأمور وأمثالها تدفع من يتعرض لها على الانتقام ممن أهانه والتربص به وتتبع آثاره حتى يتمكن من قتله أو اغتياله. وقد اتبع المغتالون أساليب شتى في الاغتيال. منها الطعن بالرمح أو الخنجر أو بالسكين، ومنها الذبح، والخنق، ومنها اللجوء إلى الحيلة بدس السم في الشراب أو الطعام، إلى غير ذلك من أسباب الغيلة. والغيلة غير الفتك. ذكر أن الفتك أن يقتل الرجل الرجل مجاهرة. وهو أن يأتي الرجل صاحبه وهو غار غافل حتى يشد عليه فيقتله، وإن لم يكن أعطاه أمانا قبل ذلك، ولكن ينبغي له أن يعلمه ذلك. قال المخبل السعدي: إذ فتك النعمان بالناس محرما ... فمن ليَ من عوف بن كعب سلاسله وكان النعمان بعث إلى "بني عوف بن كعب" جيشًا في الشهر الحرام، وهم آمنون غارون فقتل فيهم وسبا2. ولمحمد بن حبيب السكري، كتاب ذكر فيه أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام، وأسماء من قتل من الشعراء3. بدأ فيه ب "جذيمة الأبرش"

_ 1 تاج العروس "8/ 53"، "غيل". 2 تاج العروس "7/ 166"، "فتك". 3 نوادر المخطوطات، "القاهرة 1954م"، المجموعة السادسة "تحقيق عبد السلام هارون".

الذي غدرت به "الزباء" ملكة "تدمر"، فأجلسته على نطع، وسقته الخمر، ثم أمرت بقطع رواهشه، حتى مات. ثم ثنى ب "حسان بن تبع"، فزعم أن أخاه قتله غيلة وهو نائم على فراشه، طمعًا في ملكه، ثم تكلم عن "عمليق" ملك طسم، وكانت منازلهم "عذرة" في موضع اليمامة1. وذكر في جملة من ذكرهم اسم "عمرو بن مسعود" و "خالد بن نضلة" من بني "أسد". وكانت أسد وغطفان حلفاء لا يدينون ويغيرون عليهم، فوفدا سنة من السنين ومعهما "سيرة بن عمير الفقعسي" الشاعر، على "المنذر" الأكبر اللخمي، فكلمهما في أمر دخولهما في طاعته والذب عنه كما ذبت "تميم" و "ربيعة"، فعلم أنهم لا يدينون له. فقرر الكيد بهما، فأومأ إلى الساقي فسقاهما سمًا، فماتا، ثم ندم على ما فعل، فأمر فحفر لهما قبران ودفنا فيهما، وبنى عليهما منارتين، وهما "الغريان" وعقر على كل قبر خمسين فرسًا وخمسين بعيرًا، وغراهما بدمائهما، وجعل يوم نادمهما يوم نعيم، ويوم دفنهما يوم بؤس2. وقد كان خنق الأشخاص في جملة وسائل الاغتيال والتخلص من الأعداء، وقد ذكر أن الملك "النعمان بن المنذر"، أمر بخنق "عدي بن زيد العبادي"، فمات منه. ويكون الخنق بالضغط الشديد على الرقبة باليد، وباستعمال الحبل أو قطع القماش. ويقال للحبل الذي يخنق به "الخناق"3. وذكر أن "الحكم بن الطفيل"، لما انهزم في نفر من أصحابه يوم "الرقم" "حتى انتهوا إلى ماء يقال له المرورات، فقطع العطش أعناقهم فماتوا، وخنق ابن الطفيل نفسه مخافة المثلة، فقال في ذلك عروة بن الورد: عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغى كان أعذرا4

_ 1 "ص117". 2 "ص133 وما بعدها". 3 تاج العروس "6/ 339"، "خنق". 4 ديوان عروة "135"، نهاية الأرب "15/ 364".

الصيد

الصيد: والصيد في جزيرة العرب رغبة وحاجة. رغبة للملوك والرؤساء والأثرياء للأنس

والترويح عن النفس، وحاجة عند السواد وهم فقراء في الغالب لا يملكون شيئا، فلحم الصيد نعمة كبرى لهم وغذاء طيب لا يصل إليهم دائمًا. أما اصطياد الرؤساء والأثرياء فبالاستعانة بالصقور في الغالب، حتى إذا قيل كنا نتصقر، انصرف الذهن في الحال إلى الصيد، لاستعمال الطيور في الصيد، حيث تدرب تدريبًا خاصًّا وتعلم تعليمًا متقنًا، فإذا رأت الحيوان انقضت عليه، فلا تتركه يستطيع الحركة والهرب إلى أن يصل الصياد إلى الفريسة المسكينة. ويدعى قيم الصقور ومعلمها "الصقار". وتستعمل كلاب الصيد كذلك، وهي كلاب سريعة مدربة تدريبًا خاصًّا، فإذا رأت الصقر فوق الفريسة عدت خلفها لتساعد الصقر في القبض على الحيوان فلا يهرب ويولي. ومنها ما تفتش عن مواضع اختفاء الحيوانات، فإذا شعرت بوجود حيوان في كهف أو مغارة تدخل إليها أو تقوم بحركات تضطره إلى الخروج فيصطاده الصياد. وقد تستعمل الخيل كذلك. وهي لم تكن كثيرة في الجاهلية، ولا يملكها إلا المتمكنون. وقد ذكر الصيد في آيات القرآن الكريم، مما يدل على أهميته ومكانته في حياة العرب يومئذ. ويقال للصياد القانص كذلك. وأما استثارة الصيد وإخراجه، فيعبر عن ذلك بلفظة "النُّجش"، والمنجاش والنجاش هو المثير للصيد. ويقال: هَبِض الكلب إذا حرص على الصيد وقلق نحوه، ويقال أيضًا: غرَّبت الكلاب، إذا امعنت في طلب الصيد. وكانت العرب تعيش في الغالب بلحوم الصيد، وكانت خيلهم تسهل عليهم نيل صيدهم، وتعينهم على الوصول إلى غايتهم. فكانت عندهم من أعز الأموال وأثمن الأشياء يُعتنى بها اعتناء الرجل بنفسه، ولولاها حرم من لذة أكل اللحوم. وكانت إذا أغارتها على صيد، خضبوا نحر السابق بدم ما يمسكونه من الصيد، علامة على كونه السبّاق الذي لا يدرك في الغارات1. ولأهل الجاهلية عناية خاصة ب"الصقور". يربونها تربية خاصة. وذكر علماء اللغة أن كل شيء يصيد من البزاة والشواهين، صقر. وقد أشير إلى صيد "الصقور" في الحديث2.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 18". 2 تاج العروس "3/ 339"، "صقر".

وقد استعانوا بالكلاب السريعة الجري في الصيد كذلك. وقد عنوا بتربية أنواع ذكية سريعة الجري منها لمطاردة الفريسة، إذا أدركتها نهشتها أو قبضت عليها، فيأتي الصياد، فيأخذها منها. ويتحايل الصيادون في الاصطياد، فيحفرون حفيرة تلجف من جوانبها، أي يجعل لها نواحي، وتعرف عندهم بالقرموص، وذلك للتمويه على الحيوان. وقد يتخذ الصياد أو أي شخص آخر موضعا فوق أطراف الشجر والنخل خوفًا من الأسد، فيقال لذلك "العرزال". وأما "الزُّبية" فحفرة تحتفر للأسد، وكذلك "الزونة"، و "القُترة" حفرة يحتفرها الصائد يكمن فيها حتى لا يشعر به الصيد. وقد يدخن الصائد في قترته لكيلا تجد الوحش ريحه، ويقال لذلك "المدمر". و "الروق" موضع الصائد، و "الدجية"، قترة الصائد. وهناك ألفاظ أخرى من هذا القبيل يراد بها الحفر التي يستتر بها الصيادون في الصيد. ويستخدم الصيادون جملة أدوات في الاصطياد، منها آلة تسمى "الجرة"، وهي خشبة نحو الذراع يجعل في رأسها كفة وفي وسطها حبل، فإذا نشب فيها الظبي ناوصها واضطرب، فإذا غلبته استقر فيها. و "الحبالة" الحبل الذي يصاد به. و "الأحبول" حبالة الصائد. وأما "الشرك" فحبائل الصائد والواحدة "شركة" و "المصلاة" شرك ينصب للصيد، و "الكصيصة" حبالة الظبي التي يصاد بها وهناك آلة تشبه المنجل تشد بحبالة الصائد ليختطف به الظبي يقال لها "الخاطوف". وأما "الرداعة" فمثل البيت تجعل فيه لحمة يصيد الصياد به الضبع والذئب. ويتخذ الصيادون بيتًا يبنونه من حجارة، ثم يجعلون على بابه حجرًا يقال له السهم. والملسن يكون على الباب، ويجعلون لحمة السبع في مؤخرة البيت فإذا دخل السبع لتناول اللحمة، سقط الحجر على الباب فسدها، وبذلك يحبس، فلا يستطيع الخروج. ويقال لذلك البيت "الرواحة". وأما "الجريئة"، فإنها بمعنى "الرداعة". ولعرقبة الحمير الوحشية تستعمل آلة خاصة تشبه الهلال يقال لها "هلال الصيد". وتستعمل الشباك في الصيد كذلك. تستعمل في صيد البحر والبر. ويغدف الصياد بالشبكة على الصيد ليأخذه. وأما القصبة التي تصاد بها العصافير، فيقال لها الغاية. والغاية الراية كذلك. وأما "الرامق" و "الرامج" فبمعنى الملواح الذي يصاد به البُزاة والصقور، وهو أن يؤتى ببومة فيشد في رجلها شيء أسود،

ويخاط عيناها، ويشد في ساقيها خيط طويل، فإذا وقع عليها البازي صاده الصياد من قترته. ويقال إنها لفظة عجمية. وقد تعشى الطيور بالليل بالمنار ليصيدوها، ويعبرون عن ذلك بجملة: قمر القوم الطير. و"المفقاس" عودان يشد طرفاهما بخيط، كالذي في وسط الفخ، ثم يلوى أحدهما، ثم يجعل بينهما شيء يشدهما، ثم يوضع فوقهما الشركة، فإذا أصابها شيء، وثبت، ثم أغلقت الشركة في صيد. والعطوف والعاطوف مصيدة فيها خشبة منعطفة الرأس، والمقلة والقلة عود يجعل في وسطه حبل، ثم يدفن، ويجعل للحبل كفة فيها عيدان، فإذا وطئ الظبي عليها عضت على أطراف أكارعه. وأما الدواحيل فخشبات على رءوسها خرق، كأنها طرّادات قصار، تركز في الأرض لصيد حمر الوحش. وأما البجة، فإنها "الرداحة". وأما "اللبجة"، فإنها حديدة ذات شعب كأنها كف بأصابعه تنفرج، فيوضع في وسطها لحم ثم يشد إلى وتد، فإذا قبض عليها الذئب، التبجت في خطمه، فقبضت عليه، وصرعته. و "النامرة" مصيدة تربط فيها شاة للذئب. وقد يستتر الصياد بحيوان أو غيره ليخفي نفسه عن الصيد، ويقال لذلك "الدريئة"، وبهذا المعنى "الذريعة" و "الرقيبة" و "السيفة"، وإذا استتر الإنسان بالبعير من الصيد فيقال لذلك "المسوق". وفي جزيرة العرب حيوانات وحشية، وقد قتل فيها الأسد الآن. أما في الجاهلية، فقد كان معروفًا في مواضع عديدة عرفت عندهم بالمآسد، جمع مأسدة1، وقد كانوا يصطادونه بطريقة إسقاطه في حفر تغطى، فإذا سار عليها الأسد سقط فيها، وبطرق أخرى. وهناك الفهود والنسور والضباع والذئاب، وتكثر القردة في المناطق الجبلية وفي النجود، وهي لا تزال موجودة في نجود الحجاز واليمن والعربية الجنوبية. ويقال لمأوى الأسد في خيسه: "العريس" "والعريسة". ويصعب صيده وهو في مكمنه، وضرب المثل بذلك فقيل: كمبتغي الصيد في عريسة الأسد

_ 1 "وأرض مأسدة: كثير الأسد"، اللسان "2/ 72"، "أسد".

وقال طرفة: كليوث وسط عريس الأجم1 ومن الحيوانات الوحشية المعروفة في جزيرة العرب الحمار الوحشي. ويظهر أن بعض الناس كانوا يأكلونه، بدليل ما ورد في كتب الفقه من النهي عن أكل لحوم الحمر الوحشية. ويذكر علماء اللغة أن الحميريين كانوا يطلقون على الحمار لفظة "العكسوم" و "الكسعوم"2. ويكثر الظبي في جزيرة العرب، ويطمع فيه الصيادون. وقد كان الجاهليون يلجئون إلى جحوره فيسدون أبوابها ويحفرون من موضع آخر للوصول إليه، كما كانوا يضربون بحجر على الحجر ليفزع الظبي، فإذا فزع تهيأ للقتال، وتهيأ الصياد للقبض عليه، ويتحايل عليه فيقبض عليه من ذيله. وهو ما زال كثيرًا في مواضع عديدة من جزيرة العرب، وقد استعملت السيارة في الزمن الحاضر في صيده وذلك في باب التجديد في الصيد3. والنعام من الحيوانات المعروفة في جزيرة العرب. وقد ذكر علماء اللغة ألفاظًا كثيرة قالوا إن العرب أطلقوها على النعام، على ذكر النعامة وعلى أنثاها وعلى صغار النعام. ومنها "الجعول" ويراد بها ولد النعام، وهي يمانية. وكذلك لأصوات النعام وجماعاتها4. وورود هذه الألفاظ دليل على كثرة النعام في جزيرة العرب ووقوف العرب عليها. وأما أهل السواحل، فقد اضطرتهم طبيعة بلادهم على الاصطياد في البحر، على اصطياد سمكه، للاعتياش عليه ولبيع الفائض منه. أو لتجفيف الزائد منه لأكله وقت الحاجة أو لتقديمه علفًا لحيواناتهم. وقد اشتهر سكان الخليج في الجاهلية أيضًا بالغوص لاستخراج اللؤلؤ من الصدف الكامن على قاع البحر. وقد كان يؤتيهم ذلك أرباحا طائلة، أما أهل باطن جزيرة العرب والأماكن البعيدة عن السواحل فقد قل علمهم بالسمك، لعدم وجود أنواع منه في البوادي. وعدم إمكان إيصاله طريًّا إليهم. فقلت أسماء أنواعه في لهجاتهم. بينما نجد له أسماء عديدة في لغات أهل السواحل لوجود أنواع عديدة منه في البحار كانوا يصطادونها. فتكون القسم الغالب من اللحم عندهم.

_ 1 اللسان "6/ 136"، "عرس". 2 المخصص "8/ 47". 3 فؤاد حمزة: في بلاد عسير "ص23". 4 المخصص "8/ 51 وما بعدها".

وذكر علماء اللغة أن "السمك" الحوت من خلق الماء1. وذكر أن الحوت ما عظم من السمك2. ومن أنواع سمك الحوت: "القرش"3. وهو من الأسماك العظام. ومن وسائل صيد السمك "العروك"، خشب يلقي في البحر، يركبون عليه، ويلقون شباكهم، يصيدون السمك4. و "العركي" صياد السمك. ولهذا قيل للملاحين عرك، لأنهم يصيدون السمك. وفي الحديث في كتابه إلى قوم من اليهود: "إن عليكم ربع ما أخرجت نخلكم؛ وربع ما صادت عروككم، وربع المغزل". والعروك هم الذين يصيدون السمك5. ومن عادة ملوك الحيرة والغساسنة أنهم كانوا يتبدون في المواسم الطيبة من السنة، بعد هطول الأمطار واكتساء البادية بسط الربيع، وتعييد الطيور والماشية بالمناسبة السعيدة. وكانوا يخرجون إلى البوادي للاستمتاع بالمناظر الجميلة وللصيد والقنص، ومن الأماكن التي كان ملوك الحيرة يقصدونها منزل "ماوية"، وهو منزل بين مكة والبصرة6. ذكر أن الملك "النعمان" كان إذا أراد الاستئناس برؤية حلل الربيع والماء، خرج إلى "النجف" وإلى البادية، فتنصب له ولأصحابه القباب ويمضي أيامًا هناك يتصيد ويستمتع بمنظر الشقائق ذوات الألوان الأخاذة للقلوب، حتى زعم أن "شقائق النعمان" إنما سميت بذلك نسبة إليه. جاء إلى موضع وقد اعتم نبته من أصفر وأحمر وإذا فيه من هذه الشقائق ما راقه ولم ير مثله، فقال: ما أحسن هذه الشقائق! احموها! وكان أول من حماها، فسميت شقائق النعمان بذلك7. ويظهر من حديث جرى بين يدي "النعمان" أن من العرب من كان يذم الصياد، ويفضل صاحب الإبل عليه. فقد روي أن "معاوية بن شكل" ذمَّ

_ 1 تاج العروس "7/ 144"، "سمك". 2 تاج العروس "1/ 529". 3 تاج العروس "4/ 337"، "قرش". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 277". 5 تاج العروس "7/ 161"، "عرك". 6 الاشتقاق "191". 7 تاج العروس "6/ 398"، "شق".

"حجل بن نضلة" بين يدي النعمان، إذ قال فيه: "إنه مقبل النعلين، منتفخ الساقين، قعو الإليتين مشاء بأقراء، قتال ظباء، بياع إماء". فقال له النعمان: "أردت أن تذمه، فمدحته"، وصفه بأنه صاحب صيد لا صاحب إبل1. ولعله قصد بذلك أنه كان صيادًا محترفًا، اتخذ الصيد حرفة له. فقد كان بين الصيادين قوم اتخذوا الصيد لهم حرفة. فإذا اصطادوا باعوا صيدهم، ولم يستفد منه، فهو مثل الجزار، الذي يبيع اللحم ولا يطعم أهله منه، ولذلك نظروا إليه نظرة استصغار.

_ 1 اللسان "15/ 179"، "قرا"، تاج العروس "10/ 290"، "قرى"، "وقد وجدنا العرب يستذلون الصيد ويحقرون الصياد"، الحيوان "3/ 309" "هارون".

سباق الخيل

سباق الخيل: والتسابق على ظهور الخيل رياضة الأثرياء والفرسان القديمة. وهي لا تزال معروفة، وإن كانت قد أخذت تلفظ أنفاسها بسب إقبال الأثرياء على ركوب السيارات الفخمة التي لفتت أنظارهم وجرتهم إليها، فلم يبق من يمارس تلك الرياضة إلا أولئك الذي لم تصل السيارات إليهم بكثرة، لوعورة الطرق وإمعانهم في البوادي وابتعادهم عن المواطن التي أخذت تغزوها منتجات الغرب. ويذكر أهل الأخبار أن أول من ركب الخيل "إسماعيل"، ولذلك سميت ب "العراب"، وكانت قبل ذلك وحشية كسائر الوحوش. خرج إلى موضع "أجياد"، فنادى بالخيل، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا أجابته فأمكنته من نواصيها وتذللت له. ولذلك قال النبي: "اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل"1. وراهن أهل الجاهلية على الخيل، فكانوا يخرجون إلى السباق ويقال: مجتمع الناس للرهان، ثم يتراهنون هنالك على الخيل المتجمعة و "السابق" من الخيل، وهو الأول، هو الذي يأخذ الجائزة الأولى، ويتلوه "المصلَّي" وهو الفائز الثاني2. و "الحلبة" الدفعة من الخيل في الرهان خاصة، وقيل: خيل تتجمع

_ 1 الدميري، حياة الحيوان "1/ 311". 2 العقد الفريد "1/ 206 وما بعدها".

للسياق من كل أوب1. ومجمع الخيل. ويقال للحبل الذي يمد في صدر الخيل عند الإرسال الحلب. والمنصبة الخيل حين تنصب للإرسال. ويقال للسابق من الخيل: الأول، والمصلي الثاني الذي يتلوه. وما سوى ذينك يقال له الثالث والرابع وكذلك إلى التاسع ثم السكيت. فما جاء بهد ذلك لا يعتد به. والغسكل الذي يجيء آخر الخيل. وذكر: أن: أسماء خيل الحلبة عشرة لأنهم كانوا يرسلونها عشرة عشرة، وسمي كل واحد منا باسم. فالأول منها السابق. وهو المجلي لأنه كان يجلي عن صاحبه، والثاني المصلي لأنه يضع جحفلته على صلا السابق، والثالث المسلي، والرابع والخامس المرتاح، والسادس العاطف، والسابع المؤمل، والثامن الحظي، والتاسع اللطيم، والعاشر السكيت، والغسكل الذي يجيء آخر الخيل في الحلبة. ويقال للحبل الذي يجعل في صدور الخيل يوم الرهان المقبض والمقوس. وقيل في أسماء خيل الحلبة أن أولها المجلي ثم المصلي ثم المسلي ثم العاطف ثم المرتاح ثم الحظي ثم المؤمل. هذه السبعة لها حظوظ، ثم التي لا حظوظ لها. اللطيم، ثم الوغد، ثم السكيت2. وكانوا يضعون عند نهاية الحد الذي يقررونه للسباق قصبة فمن يصل إليها قبل غيره من المتسابقين، يعد السابق لقصبة السبق، ويكون قد أحرز القصب لأن الغاية التي يسبق إليها تذرع بالقصب. وتركز تلك القصبة عند منتهى الغاية، فمن سبق إليها حازها واستحق الخطر3. و"الخطر" الذي يوضع بين أهل السباق، وقيل الذي يوضع في النضال والرهان في الخيل فمن سبق أخذه. والسابق إذا تناول القصبة، علم أنه قد أحرز الخطر4. وكانوا يقلدون السابق من الخيل؛ ولا يقلد من الخيل إلا سابق كريم. ويقولون للسابق من الخيل: المقلد5.

_ 1 تاج العروس "2/ 311"، "الكويت". 2 نهاية الأرب "2/ 102 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 151"، "روح". 3 اللسان "1/ 677"، "قصب". 4 اللسان "4/ 251"، "خطر"، "10/ 151". 5 تاج العروس "2/ 475"، "قلد".

وقد سابق الرسول بين الخيل التي قد ضمرت من موضع "الخفياء" إلى "ثنية الوداع" والمسافة بين الموضعين خمسة أميال أو ستة، وقيل ستة أميال أو سبعة. وسابق بين الخيل التي لم تضمر من "الثنية" إلى مسجد "بني زريق" والمسافة ميل أو نحوه. وسابق بين الخيل على حلل أتته من اليمن، فأعطى السابق ثلاث حلل والمصلي حلتين، والثالث حلة، والرابع دينارًا، والخامس درهمًا، والسادس قصبة. وقد ساهمت خيله في السباق. وراهن رسول الله على الخيل، وذكر أن أول مسابقة كانت في الإسلام سنة ست من الهجرة. سابق رسول الله بين الخيل، فسبق فرس أبي بكر فأخذ السبق. والمسابقة مما كان في الجاهلية، فأقرها الإسلام1. وفي الحديث: أحاديث عن الرسول في السبق، منها: " لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر "، فالخف للإبل، والحافر للخيل، والنصال للرمي2 وبقية الأحاديث في كتب الحديث والفقه. ولم يقتصر السباق عند الجاهليين على السباق بين الخيل، بل سابقوا بين الإبل، وجعلوا للسباق خطرًا، كما سابقوا بين الكلاب والحمير والحيوانات الأخرى. ومن سباق أهل الجاهلية والإسلام، السبق بالنصل، أي المراماة بالسهم. وذلك بأن يوضع خطر، ويذكر عدد الرمي والهدف، فمن أصاب الهدف أكثر من غيره نال السبق. وقد عرف نفر من الجاهليين بإصابتهم الهدف، وبقوة رميهم، وجعلوا لقوة الرمي وشدته أو لرخاوته ولمكان من إصابته الهدف درجات هي: الخاضل، والخازق والخاسق، والحابي، والمارق، والخارم، والمزدلف. والخاضل الذي يقرع الشن ولا يخدشه، والخازق الذي يخدشه ولا يثقبه، والخاسق الذي يثقبه ويثبت فيه، والحابي أن يدني الرامي يده من الأرض فيرميه فيمر على وجه الأرض فيصيب الهدف، والمارق الذي يمرق الشن

_ 1 نهاية الأرب "9/ 368 وما بعدها"، القسطلاني، إرشاد "5/ 78 وما بعدها". 2 اللسان "10/ 151"، "سبق".

أي يثقبه وينفذ فيه، والخارم الذي خرم طرف الشن أي يقطعه، والمزدلف الذي يسقط بقرب الغرض ثم يشتن فيصيب الهدف1. وفي السباق: المناضلة، وهي المباراة في الرمي: والنضيل هو الذي يرامي ويسابق. والمناضلة المفاخرة والتسابق الأشعار2. وتكون المباراة في الرمي بثلاثة أنواع: مبادرة، ومحاطة، ومناضلة. فالمبادرة أن يشترطا إصابة عشرة من عشرين، فيبتدر أحدهما إلى العشرة فينضل صاحبه، والمحاطة أن يقولا نرمي عشرين رشقًا على أن من فضل صاحبه بخمس إصابات فقد نضله، فإذا اشترطا ذلك، ورمى كل واحد مهما عشرين رشقًا وأصابا إصابات نظر إن استويا في الإصابة لم يحصل النصل، وأن تفاوتا في الإصابة حط الأقل أو الأكثر، فإن بقي لصاحب الأكثر الخمس المشروطة فقد نضل صاحبه، وإن بقي له أقل من الخمس المشروطة لم يحصل النضل. والناضلة أن يشترطا عشرة من عشرين على أن يستوفيا جميعًا، فيرميان معًا جميع ذلك، فإن أصاب كل واحد منهما عشرة أوفوقها أو دونها لم يحصل النضل، وإن أصاب واحد منهما دون العشرة والآخر عشرة فما فوقها، فقد نضل صاحبه3. وللعرب عناية خاصة بالخيل، وما زالوا يعتنون بها إلى اليوم، حتى لقد حفظوا أنسابها حفظهم لأنساب الناس، وألفوا الكتب فيها. ونجد في كتب الأدب واللغة أسماء خيل اشتهرت في الجاهلية. وذكر "ابن النديم" في كتابه "الفهرست" أسماء كتب ألفت في الخيل، ذهب أكثرها، وبقي بعض منها. ونجد في "تاج العروس" أسماء خيل اشتهر أمرها في الجاهلية ذكرت في مواضع متناثرة من أجزاء الكتاب4. وذكر معها أسماء أصحابها، كما أشار إلى مؤلفات رجع إليها في هذا الموضوع مثل كتاب الخيل لابن الكلبي5، وقد طبع،

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 254". 2 تاج العروس "8/ 138"، "نضل". 3 بلوغ الأرب "3/ 355". 4 تاج العروس "9/ 60"، "لطم". 5 وقد طبع ببولاق بمصر، "أنساب الخيل"، "ليدن".

وكتاب الخيل لأبي عبيدة وقد طبع كذلك، ومؤلفات أخرى لم تطبع حتى الآن1.

_ 1 أسماء الخيل، لابن الأعرابي، وقد طبع ب "ليدن"، ولأبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل المعروف بابن الأجدابي، كتاب كفاية المتحفظ ونهاية المتلفظ على ألوان الخيل، مطبوع، نهاية الأرب "10/ 14".

ولائم العرب

ولائم العرب: الوليمة كل طعام يصنع لعرس وغيره ويدعى إليه. وأما الدعوة: فهي أعم من الوليمة، وأما المأدبة، فكل طعام صنع لدعوة أو عرس. والآدب الداعي إلى الطعام1. وولائم العرب ست عشرة وليمة. هي: وليمة العرس، وهي ما يصنع للدخول بالزوجة، و "الملاك" "الأملاك" وهي ما يصنع للخطبة، و "الخُرس" وهي طعام يصنع للنفساء لسلامة المرأة من الطلق، وقيل: هي طعام الولادة. و "العقيقة" وهي ما يصنع للطفل بعد ولادته وتختص باليوم السابع، و "الأعذار" وهي ما يصنع للختان، و "الشندخ" وهي أيضًا طعام الأملاك، و "الوكيرة" وهي ما يصنع للبناء يعني للسكن المتجدد، و "التحفة" هي ما يصنع للزائر، و "الشندخ" وهي طعام الأملاك كما ذكرت، وما يصنع عند وجود الضالة، و "النقيعة" وهي ما يصنع للقدوم من السفر، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم والتي تصنع له تسمى "التحفة"، و "القرى" وهي ما يصنع للضيف، و "الوضيمة" وهي ما يصنع للميت، أي لأهل المصيبة. ويقال للدعوة التي تعم دعوتها "الجَفلى"، وأما "النقرى" فهي التي تخص دعوتها. قال طرفة: نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر

_ 1 اللسان "1/ 206"، "أدب"، المخصص، لابن سيده "4/ 188 وما بعدها"، البخلاء، للجاحظ "246"، "دار بيروت، بيروت 1960"، النهاية، لابن الأثير "2/ 34".

يفتخر بقومه وأنهم إذا صنعوا مأدبة دعوا عمومًا لا خصوصًا، وخص أيام الشتاء لأنها أيام الشدة والضيق1. ويقال للطعام المستعجل، وهو الذي يقدم للراكب: "العُجل" و "العجيل"، وهو من السويق والتمر في الغالب. وإذا أكرم رجل رجلا آخر بتقديم "اللبن" إليه، قيل لذلك الكرم "القفي"، ويقال لما يرفع للإنسان من المرق "العفارة". وهنالك أسماء تجدها في كتب اللغة لأنواع المأكول والأطعمة2.

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 385"، البخلاء، للجاحظ "246"، المخصص "4/ 120". 2 المخصص "4/ 120 وما بعدها".

فهرس: الجُزْءُ الثَّامِن الفصل السادس والأربعون أنساب القبائل 5 الفصل السابع والأربعون القبائل العدنانية 58 الفصل الثامن والأربعون الناس منازل ودرجات 132 الفصل التاسع والأربعون الحياة اليومية 197 الفهرست 279

فهرس الجزء الثامن

فهرس: الجُزْءُ الثَّامِن الفصل السادس والأربعون أنساب القبائل 5 الفصل السابع والأربعون القبائل العدنانية 58 الفصل الثامن والأربعون الناس منازل ودرجات 132 الفصل التاسع والأربعون الحياة اليومية 197 الفهرست 279

المجلد التاسع

المجلد التاسع الفصل الخمسون: البيوت مدخل ... الفصل الخمسون: البيوت ومساكن العرب متباينة مختلفة. منها: البيوت المتنقلة، ومنها المباني المبنية بالمدر أو الحجر، وهي أبنية أهل الحضر. وهي مختلفة أيضًا في طرازها المعماري وفي سعتها ومادتها ويكون اختلافها باختلاف مكانها وباختلاف مكانة صاحبها، ومنزلته من حيث الغنى والفقر. والبيت لفظة تطلق على الصغير من البيوت وعلى الكبير منها. وقد جعل "ابن الكلبي" بيوت العرب ستة: قبة من أدم، ومظلة من شعر، وخباء من صوف، وبجاد من وبر، وخيمة من شجر، وقنة من حجر، وسوط من شعر، وهو أصغرها. وذكر بعض علماء اللغة أن الخباء بيت صغير من صوف أو شعر، فإذا كان أكبر من الخباء فهو بيت، ثم مظلة إذا كبرت عن البيت. وهي تسمى بيتًا أيضًا إذا كان ضخمًا مزوقًا. وذكر بعض آخر أن الخباء بيت يعمل من وبر أو صوف أو شعر. ويكون على عمودين أو ثلاثة. والبيت يكون على ستة أعمدة إلى تسعة. وذكر أن الخباء هو البيت كيفما كان1. وذكر علماء اللغة أن البناء المبني، ويراد به أيضا البيت الذي يسكنه الأعراب في الصحراء. ومنه الطراف والخباء والبناء والقبة والمضرب2. والطراف بيت من

_ 1 تاج العروس: "1/ 529"، "بات". 2 تاج العروس: "10/ 46"، "بنى".

أدم ليس له كفاء، وهو من بيوت الأعراب ذكر في شعر طرفة بن العبد: رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد1 وقد اشتهر "بنو قيدار" بخيمهم المصنوعة من شعر الماعز. وقد أشير إليها في التوراة. وهم رعاة في الغالب يعيشون على الرعي، ولذا اتخذوا بيوتهم من شعر الماعز، فصارت ذات لون أسود. وقد اشتهروا ببراعتهم في الرمي بالقوس2. وأصحاب الخيام المصنوعة من شعر الماعز أو من الصوف، هم من الأعراب أصحاب الماشية، الذين يعيشون في مواضع تكثر فيها الأمطار وتكون غير بعيدة عن المدن والقرى ومواضع الماء، ولذلك يعيشون في الغالب على الرعي. وفي سعة الخيمة دلالة على منزلة صاحبها ومكانته وثرائه. ولذلك يفتخر العزيز منهم بسعة بيته، أي خيمته. وقد تقطع الخيمة بقاطع، يقسمها إلى قسمين: قسم للحريم، أي للنساء والسكن، لا يدخله غريب. وقسم يكون للرجال وللضيوف، يجلسون ويأكلون فيه. ويكون ناديًا ومضيفًا يخصص للقادمين ولضيوف صاحب ذلك البيت. ولسيد القبيلة خيمة كبيرة تكون "مضرب القبيلة"، ومقر السيد الرئيس ونادي القوم. يسمر فيها "رب القبيلة"، ويأوي إليها الضيوف3. وإليها يلتجئ المحتاج ومن به حاجة إلى الإقراء أو أية حاجة أخرى. ويفتخر سيد القبيلة بمضربه هذا، ويتباهى به على أقرانه، وتفتخر قبيلته به أيضا؛ لأنه يرفع رأسها بين القبائل. وورد المضرب: الفسطاط العظيم، وهو فسطاط الملك4. وتضرب للسادات الأشراف والأغنياء قبب خاصة تكون من الأدم. فكان لرؤساء القبائل أصحاب العز قباب من أدم، كما كان من عادة ملوك الحيرة ضرب قباب من الأدم لأصحاب الجاه وسادات القبائل الكبار الذين يفدون عليهم. وتعتبر هذه القباب من أمارات التعظيم والتفخيم والامتياز والجاه عند الملوك. ولذلك

_ 1 اللسان "9/ 219"، "طرف"،تاج العروس "6/ 179"، "طرف". 2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 230". 3 تاج العروس "3/ 247"، "الكويت" "ضرب". 4 تاج العروس "1/ 348"، "ضرب".

يعامل من تضرب له القبة معاملة خاصة. وتعرف قبة الأدم بـ "قبة المبناة" أيضا1. وذكر بعض علماء اللغة أن القبة هي البناء من الأدم خاصة. وذكر بعض آخر أن القبة من الخباء بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب2. وذكر "الطبري" في كلامه عن غزوة الخندق، أن الرسول أدار المعركة "وهو ضارب عليه قبّة تُرْكِيّة"3. ولم يشر إلى شكل هذه القبّة ولا إلى سبب تسميتها بذلك. وقد اشتهرت "القباب الحُمْر"المصنوعة من أدم، يأوي إليها أصحاب الجاه واليسار والمشهورون. وقد ذكر أن النابغة الذبياني كان يضرب له بسوق عكاظ قبة حمراء من أدم، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها. وكان ممن أنشده "حسان بن ثابت". وقد انتقده النابغة بأدب ولطف4. وقيل: إن بيت الأدم، قبة الملك، يجتمع فيها كل ضرب، يأكلون الطعام5. ويذكر أهل الأخبار أن العرب تضرب الأخبية لأنفسها، والمضارب لملوكها، والمضارب إنما ترتبط بالأوتاد6. وذكر أن الخباء هو ما كان من وبر أو صوف ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت. وقيل: الخباء من شعر أو صوف، وهو دون المظلة. وهو من بيوت الأعراب7. وذكر أن "المظلة" الكبير من الأخبية ذات رواق، وربما كانت شقة وشقتين وثلاثا، وربما كان لها كفاء وهو مؤخرها. قال بعض علماء اللغة: إنها تكون من الشعر، وقال بعض آخر: لا تكون إلا من الثياب8. و"المضرب" الفسطاط العظيم، وهو فسطاط الملك. وقد استعمل للملوك خاصة، لأصحاب الجاه والعز والمكانة. ولهذا كانوا إذا مدحوا إنسانًا وأرادوا

_ 1 البرقوقي "ص156"، اللسان "14/ 95"، "بني". 2 تاج العروس "1/ 419"، "قبب". 3 تاريخ الطبري "2/ 568". 4 البرقوقي "ص371 وما بعدها". 5 المعاني الكبير "3/ 1254". 6 مجمع الأمثال "1/ 364". 7 اللسان "14/ 223"، "خبي"، "14/ 95"، "بني"، تاج العروس "1/ 59 وما بعدها"، "خبا". 8 تاج العروس "7/ 427"، "ظلل".

الإشادة بمكانته وبمنصبه قالوا: "إنه لكريم المضرب شريف المنصب"، وإذا أرادوا ذَمَّ إنسان، قالوا: "مايعرف له مضرب عسلة"1، و"لا منبض عسلة"، أي: من النسب والمال، يقال ذلك إذا لم يكن له نسب معروف ولا يعرف أعراقه في نسبه2. ولما كانت المضارب من بيوت الملوك، وأهل الجاه وهم خيار الناس ونخبتهم، صارت المضارب كناية عن الجاه والشرف والمال. و"السرادق"، كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء. وقيل: كل بيت من "كرسف" فهو سرادق3. وترد اللفظة في الفارسية بمعنى حائط أو حاجز من نسج غليظ حول خيمة4. وذكر أن "الفسطاط" ضرب من بيوت الشعر. والظاهر أنه البيت الكبير. وورد "الفسطاط العظيم"، وهو "فسطاط الملك"5. وذكر أن الفسطاط هو مجتمع الناس. وذكر أن الفسطاط ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق وبه سميت المدينة: مدينة الفسطاط6. ويظهر أن الكلمة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وهي في هذه اللغة بمعنى "خيمة"7. و"الطراف" خباء من أدم يتخذه الأغنياء8. و"الطوارف" من الخباء ما رفعت من جوانبه ونواحيه للنظر إلى خارج9. قال عروة بن الورد: رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد10 يعني أن الفقراء يعرفونني بإعطائي، والأغنياء يعرفونني بفضلي وجلالة قدري وتكون بيوت الأعراب المتناثرة، وهي خيامها، منازل القبيلة ومضاربها. وتحيط خيامها بخيم الرئيس. فتكون من ذلك مستوطنة بدوية. ومنها يتألف مجتمع

_ 1 بفتح الميم وكسر الراء. 2 تاج العروس "1/ 349"، "ضرب". 3 اللسان "10/ 157 وما بعدها". 4 غرائب اللغة "233". 5 تاج العروس "3/ 247"، "الكويت" "ضرب". 6 اللسان "7/ 371"، "فسط"، تاج العروس "5/ 198 وما بعدها"، "فسط". 7 غرائب اللغة "240". 8 تاج العروس "3/ 437"، "غير". 9 تاج العروس "6/ 178"، "طرف". 10 تاج العروس "3/ 437"، "غبر".

البوادي. ويرتبط حجم هذه المستوطنات، بسعة ماء المكان وبعدد بيوت القبيلة النازلة به، فإن كان الماء قليلًا، قل عدد خيامها، وإن كان غزيرًا، كثر عددها. واتسعت رقعة المضارب اتساعًا بتناسب مع كفاءة ذلك الماء وما على الأرض من رزق تعيش إبلهم عليه.

بيوت أهل المدر

بيوت أهل المدر: أما أهل القرى والمدن، أي أهل المدر، وهم المستقرون وشبه المستقرين، فإنهم يقيمون في بيوت ثابتة أو شبه ثابتة. وهي تتفاوت بالطبع بتفاوت منازل ودرجات أصحابها. فربّ بيت يكون من خيمة أو من أغصان شجر وعيدان وجريد، ويقال له: "العنة". وقد قيل: إن العنة الخيمة تتخذ من أغصان الشجر1. وقيل: البيت يعمل من الخشب2. وربّ بيت يكون من طين، ويسقف بجريد أو بأغصان أو بحصير يطين أيضًا. ويختلف حجم مثل هذا البيت باختلاف حجم العائلة. وقد يبنى البيت باللبن وهو الغالب، وتكون حالة أصحابها أحسن من حالة أصحاب بيوت الطين. وكنتيجة لتيسر مواد البناء في العربية الجنوبية، ظهرت مدن لا نجد لها مثيلًا في أنحاء أخرى من جزيرة العرب. مدن كبيرة بيوتها ثابتة وبعضها ذو جملة طوابق، تحاط بأسوار عالية وأبراج وحصون يأوي فيها المدافعون. وقد تمكن المنقبون من التنقيب في بعض خرائبها ومن وضع مخططات لبعض شعابها أو مخططات عامة مبدئية للمدينة كلها وللسور الذي كان يحتضنها. والقرية في نظر علماء العربية لفظة يمانية الأصل. يقولون: إنها المصر الجامع، وكل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارًا. وتقع على المدن وغيرها3. ولكن الأغلب أنها أصغر حجمًا من المدن. وأنها تكون غير مسورة. فإذا أحاط بها "سور" صارت مدينة. وذلك على نحو ما نفهم من نصوص الجاهليين ومن

_ 1 الاشتقاق "ص312". 2 المعاني الكبير "2/ 1121". 3 تاج العروس "10/ 290"، "قرى".

المتعارف عليه بين الساميين من أن القرية أصغر حجمًا من المدينة. وأن المدن هي القرى الكبيرة المسورة1. وقد فهم علماء العربية هذا المعنى بالنسبة للمدينة أيضًا. إذ قالوا: مدينة الحصن يبى في اصطمة الأرض2. وتقابل "مدنتو" Medinto في لغة بني إرم3. وتقابل لفظة "هكر" "هجر" "هجرن" "هكرن" في لغة أهل اليمن. وهي لا تزال مستعملة في العربية الجنوبية لهذا اليوم. وذكر علماء اللغة أن "هجر" هي القرية بلغة حمير4. وورد أن العرب تسمي "القرى" مصانع، واحدتها مصنعة. يقال: هو من أهل المصانع، أي القرى. و"المصانع" أيضًا المباني من القصور والحصون5. ويطلق العرب على الرجل من أهل القرى مصطلح: "أخضر النّواجذ"، يريدون أنه ممن يأكل الكرات والبصل والبقول والخضر6. ولا يتناول الأعراب هذه الخضر. وفي العربية لفظة "الحير" بمعنى شبه الحظيرة والحمى، و"الحيرة" بمعنى المعسكر والمقام، و"الحائر"7 وهي من مواطن الحضر، أي من المستوطنات. قد كانت مستعملة بين الجاهليين. ومثلها "الحاضرة" و"الحضرة" و"الحضر"، وهي المدن والقرى والريف. وهي من مساكن الحضر وأهل القرار8. وتسمى المدن بأسماء. أما القرى والمستوطنات الصغيرة، فقد تسمى بأسماء، وقد تنسب إلى أصحابها المالكين لها أو إلى العشائر أو الأفخاذ أو الأسر النازلة بها. ولا تزال هذه العادة متبعة في مواضع من جزيرة العرب. أما بيوت كبار الناس وأغنيائهم، فتستعمل فيها الحجارة والخشب وغير ذلك من مواد تجعل البناء يدوم أمدًا ويعيش مدة طويلة، وبفضل ذلك بقيت آثار بعض منها حتى الآن. ولا يزال الناس في مواضع من جزيرة العرب، ولا سيما الأماكن المعزولة

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 321"، Hastings, P. 143 2 تاج العروس "9/ 343". 3 غرائب اللغة "205". 4 تاج العروس "3/ 614"، "هجر". 5 تاج العروس "5/ 422"، "صنع". 6 الحيوان "3/ 248"، "هارون". 7 تاج العروس "3/ 164 وما بعدها"، "حار". 8 تاج العروس "3/ 146"، "حضر".

القصية، يتخذون بيوتًا تشبه بيوت العرب قبل الإسلام، وخاصة بيوت سادات القبائل والرؤساء. وبعض ذلك قصور وحصون ذوات جدر وأسوار مرتفعة وتقوم في طرف من الأرض أبراج لها مزارق ومرابيع للدفاع، وأبراج مربعة. وقد تقع البيوت في عدة طبقات تحمى بمختلف وسائل الدفاع. وتستعمل الزينة من أصباغ محلية ومن حجارة طبيعية ذوات ألوان مختلفة. وأعتقد أن هذه الأبنية يجب أن يعنى بدراستها المهندسون المعماريون والآثاريون، فإن دراستها تحل لنا مشكلات كثيرة للفن العربي الجاهلي، وتوصلنا إلى وضع مخططات عن بقايا الأبنية الجاهلية القديمة التي تهدمت غالبيتها، أو اعتدى عليها الإنسان ويا للأسف فاستخدم حجارتها في أبنيته الحديثة، وقضى بذلك على معالمها في الغالب، وتجاوز على حجارتها المكتوبة فحطمها وأبادها، وبذلك ألحق بتأريخ العرب قبل الإسلام ضررًا بليغًا. وأعظم شيء في المدن هو هياكلها، أي معابدها المسماة بأسماء الآلهة التي بنيت لها، وقصور الملوك وسادات القوم وأشرافهم. فلهؤلاء مال مكنّهم من بناء قصور ضخمة ذات جملة طوابق، بنوها بحجارة طبيعية اقتلعت من الصخور، وزخرفوا الوجوه البارزة منها، وافتنَّ فيها الفنانون على وفق أذواقهم وذوق طبيعة بلادهم، ونشروا الرخام الأبيض والملون وشرحوه ألوانًا رقيقة جعلوها في النوافذ بدلًا عن الزجاج. فهذه الأماكن إذن هي التي تتحدث لنا عن العمارة عند الجاهليين. وقد استعين في بناء بعض المدن بحجارة اقتلعت من مواضع بعيدة بعض البعد عنها في بعض الأحيان. فقد بنيت "قرنو" "معين"، بحجارة جلبت من موضع يبعد عشرين كيلومترًا تقريبًا من شمال "معين"، من "جبل اللوذ" أو من جنوب "جبل يام". ويرى بعض الباحثين احتمال جلب بعض الصخور إليها من مواضع تبعد ثمانين كيلومترًا من المدينة. وبعض هذه الأحجار ثقيل يبلغ طول الواحدة منها خمسة أمتار1. وجاءوا بـ "المرمر" إلى "شبوة" من موضع "مداث" و"كلوة" على مسافة خمسين كيلومترًا من المدينة2. وقد تبين من الدراسات العامة الأولية التي قام بها الباحثون لخرائب المدن الجاهلية أن بعضها قد بني على شكل مستطيل، ويحيط به سور مستطيل الشكل أيضًا

_ 1 محمد توفيق، آثار معين "7"، ARABIAN s. 140 2 H. V. Wissmann, Geogr. Grundlagen, S. 78, Arabien, S. 140

ذو أبراج، وبعضها بني على شكل إهليلجي أو قريب منه، وبعضها على شكل دائري. وقد أحيطت بأسوار لحمايتها من غزو الغزاة وللدفاع عن نفسها والثبات بوجه الأعداء. ولها أبواب تغلق ليلًا وتحرس حراسة شديدة حتى لا تفاجأ المدينة بعدو يأخذ على حين غرة، كما تغلق وتسد سدًّا محكمًا أيام الحروب. ويظن أن تخطيط المدن على شكل مستطيل كان هو الشكل الغالب، إذ وجد المنقبون أكثر خرائب المدن قد بني في الأصل على هذا النحو فـ "مأرب" بنيت على شكل مستطيل على رأي بعض من درس آثارها. وكذلك خربة "غربون" في جنوب "المشهد" بوادي "حجرين" بحضرموت. وذهب بعض من زارها إلى أنها كانت مربعة الشكل1. وعلى هذا النحو كانت "شبوة" و"حريب"2 و"يلط" "يليط"3، و"قرنو" التي هي معين في الجوف4. ومن المدن التي بنيت على شكل إهليلجي تقريبًا مدينة "حاز" "حيزم" وهي محاطة بسور يتراوح ارتفاعه من ستة أمتار إلى ثمانية أمتار، تخترقه خمسة أبواب. وبنيت مدينة "بيحان النقب" التي تقع على مسافة عشرة أميال إلى الشمال من "بيحان" على شكل إهليلجي كذلك5. وقد تبين أن أكثر المدن اليمانية القديمة قد بني في بطون الأودية على مرتفعات طبيعية، أو صناعية، أي من عمل الإنسان. وقد يكون ذلك بسبب خصب الأودية وتوافر الماء فيها بسهولة، بحفر الآبار أو من العيون أو بواسطة بناء السدود. غير أن هناك مدنًا أقيمت على الهضاب والنجاد وعلى سفوح الجبال، وذلك لتتمتع حماية طبيعية وليكون من الصعب على الأعداء التغلب عليها. ومن المدن القديمة التي أقيمت في بطون الأودية مدينة "قرنو" "القرن" "معين"، فقد بنيت على تل أقامه المعينيون أنفسهم ارتفاعه خمسة عشر مترًا عن سطح أرض الوادي، وذلك لحماية المدينة من طغيان ماء السيول في الوادي في موسم الأمطار6.

_ 1 Arabien, S. 140, Von Wissmann-M. Beitrage, S. 27, 245, Le Museon, 61, 1948, P. 221. 2 وتسمى بـ "الساحل" في هذا اليوم. 3 وتسمى بخربة سعود في هذا اليوم. 4 محمد توفيق، آثار معين، 4، Arabien, S. 141 5 Rathjens-H. V. Wissmann, Vorislamische Altertumer, S. 101, 102, Arabien S. 141. 6 Arabien, S. 141

وتحمي المدن حصون وقلاع، وقد تقام الأسوار على مسافة من المدينة لتشغل العدو وتمنعه من الدنو منها، ثم لتحمي مزارع المدينة وأموالها، وتكون أبنيتها حصينة ذات جدر سميكة فيها منافذ ترمي منها السهام، وفي أعلاها أبراج يرمي منها الرماة الحجارة والسهام على المهاجمين. كما تبنى في المدن نفسها خلف الأسوار، لحماية داخل المدينة من العدو عند تغلبه على الحصون والقلاع الخارجية، وأسوار المدن. وبيوت الملوك والأشراف وسادات المدينة، قلاع وحصون في حدّ ذاتها، فيها كل وسائل المقاومة والدفاع ومخازن لحفظ مواد الإعاشة، وآبار. ويكاد يكون لكل مدينة من المدن حصن يقيها ويحميها، وقد اشتهرت وعرفت به. فاحتمت "ظفار" مثلًا بحصنها "ذو ريدان"، وأقيمت "شبام سخيم" عند حصن "عر ذو مرمر"، و"شبام أقيان" عند "الوة" "كوكبان"، و"بيحان" عند "ذي ريدان"، و"برج أتوت" على "ميفع ظبيان"، وأنشئت "غيمان" على تلّ مرتفع يحمي المدينة من المهاجمين. وأقيم "ذو معاهر" ليحمي مدينة "وعلان" بـ "ردمان"1. ويظهر من كتابات المسند ومن الآثار أن بعض مدن اليمن كانت مسورة، يحيط بها سور للدفاع عنها. ويقال لمثل هذه المدن "هجرن" في العربيات الجنوبية، أي "المدن". مثل "هجرن قرنو"2، بمعنى المدينة "قرنو" وهي عاصمة معين. وهو "هجرن مرب"، أي المدينة مأرب، و"هجرن نجرن" أي المدينة نجران، المدينة الشهيرة عاصمة مخلاف نجران والتي لا يزال اسمها حيًّا معروفًا في العربية السعودية في هذا اليوم. وتختلف أطوال أسوار المدن وارتفاعها بحسب حجم المدن وبحسب مواقعها. فالمدن الكبيرة تكون أسوارها طويلة يتناسب طولها مع سعتها. والمدن التي تبنى فوق الجبال والهضاب والمحلات الحصينة تكون أسوارها أقل ارتفاعًا من أسوار المدن المبنية في السهول. وقد وجد سور مدينة "قرنو" مستطيلًا، وطوله زهاء أربع مئة متر، وعرضه زهاء خمسين ومائتي متر، وعلى كل زاوية من زوايا هذا المستطيل الأربع برج لمراقبة الأعداء ولرميهم بالحجارة والسهام وبوسائل الدفاع

_ 1 Araien, S. 275 2 REP. EPIGR, Tome V, p. 124, NR. 2774

الأخرى التي كانت ميسورة لهم1. وقد وجدت أسس سور مدينة "حيزم" "حزم"، وهي "حاز"، مبنية بحجر بركاني، أخذ من لابة قريبة من المكان2. على حين بنيت أسس أسوار المدن الأخرى وجدرها من أحجار تقع مقالعها على مقربة من المدن المسورة، ليكون في الإمكان نقلها بسهولة إلى مواضع البناء. وغالب مدن العربية الجنوبية، لها بابان متقابلان، فإذا كان أحدهما في الجدار الشرقي للمدينة كان الثاني في الجدار الغربي. وقد وجد في بعض المدن أربعة أبواب أو خمسة. فـ "شبوة" عاصمة حضرموت كان لها خمسة أبواب، يقع الباب الرئيسي في الجهة الشمالية من المدينة. وتؤدي الأبواب إلى أفنية تكون متجمع الناس3، تعلن على جدرانها الأوامر الحكومية ليقف عليها الغادي والرائح، ويعلن المعلنون فيها أوامر الحكومة، كما ينادي الدلالون بما عندهم من خبر أو بضاعة. وتكون هذه الساحات أسواقًا كذلك، ومواضع لتنفيذ أحكام القتل أو العقوبات الأخرى ليعتبر بها الناس. وهكذا نجد أن أبواب المدن كانت من أهم الأماكن العامة للمدينة في تلك الأيام. وقد وجد بعض الأبواب، وهي الأبواب الرئيسية، محصنًا من الجهتين ببناءين قويين، للدفاع عن الباب، فيهما منافذ ومواضع يرمي منها المدافعون من يريد اقتحام المدينة. وبين البناءين أو الحصنين باب قوي يغلق في الليل وعند وقوع خطر ما. ويؤدي هذا الباب إلى ساحة تحيط بها غرف ومواضع لإيواء الجنود، ثم تنتهي هذه الساحة بحائط قوي أو سور يخترقه باب آخر يغلق ويفتح ليؤدي إلى المدينة. والغاية من وجود هذا الباب الثاني سد الطريق على الأعداء عند اقتحامهم الباب الأول وتغلبهم على الجواسيس ووصولهم إلى الساحة التي يقيم فيها الجنود، فيقابلهم عندئذ باب ثان يسد عليهم الطريق ولا يمكنهم من دخول المدينة إلا إذا تغلبوا على هذا الباب. وقد عُني العرب الجنوبيون بزخرفة الأبواب وبزخرفة الإطار الذي ترتكز عليه،

_ 1 Arabien, S. 143 2 Arabien, S. 140 3 R. A. B. Hamilton, Six Weeks in Shabwa, in geogr. Jour, 1942, 100, 112, Arabien, S. 145, Philby, The Land of Sheba, Geogr. Jour, 1938, 92, 110

والجدار الذي يضم الإطار، والأعمدة التي تبنى على جانبي الباب أحيانًا والبناءين المحكمين اللذين يبنيان عند طرفي أبواب المدن والقصور والمعابد لحراستها. وتتصل شوارع المدن والقرى بهذه الساحات. والشوارع الرئيسية مبلطة في الغالب، ولا سيما الشوارع المؤدية إلى قصور الملوك ودور الكبار والحكومة والمعابد، وتؤدي إلى ساحات أمام هذه المواضع المهمة. ويكون تبليط الشوارع عندهم بتغطيتها بصخور عريضة مستطيلة أو مربعة نحتت بأطرافها بحيث يوضع طرف حجر فوق طرف الحجر الذي يليه، فيظهران كأنهما حجر واحد، أو يصقل أطراف الحجر صقلًا جيدًا ووضعه بجانب حجر مصقول آخر ولصقهما لصقًا تامًّا، حتى يبدوَا كأنهما قطعة واحدة. ويظهر أنهم كانوا يعتنون عناية شديدة تامة بالتبليط. وقد تبين من دراسة بعض قطع شوارع مدينة "غيمان" الباقية من أيام الجاهلية حتى اليوم أن أهل هذه المدينة لم يعتنوا بتبليط شوارعهم عناية أهل المدن الأخرى، كما يتبين من طريق رصف الحجر ومن وضعه بعضه إلى بعض ومن دراسة المواد التي توضع تحت الأحجار وبينها1. وللمدن حدود، ما كان بعدها عُدّ تابعًا للمدينة، وما كان خارجها عُدّ منقطع الصلة بتلك المدينة. وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "أود" التي ترد في بعض الكتابات تعني "الحد" كما في هذه الجملة "أود هجرن"، أي "حد المدينة"2. وعندي أن المراد بها "السدود" وكل شيء يقي شيئًا. فإن الأياد في العربية ما أيد به من شيء، وإياد كل شيء ما يقوى به من جانبيه، والتراب يجعل حول الحوض والخباء يقوى به أو يمنع ماء المطر3. وعلى هذا فإن تفسير "أود" بسداد تحيط بمدينة أوفق في نظري من تفسيرها بـ "حد" وحدود" والواقع أن من الصعب علينا في الزمن الحاضر أن نتحدث عن هندسة المدن وتخطيطها وعن طراز أبنيتها وارتفاعها، وعن ساحاتها وأسواقها، لقلة التنقيبات الأثرية العلمية واقتصارها على وجه الأرض وفي بقاع قليلة جدًّا من جزيرة العرب، وانعدامها من أكثر الأنحاء مع وجود آثار كثيرة فيها لا تزال مطمورة تحت الرمال.

_ 1 Arabien, S. 147. 2 Rhodokanakis, Stud. Lexi, II, S. 151 3 تاج العروس "2/ 293"، "آد".

ولو تهيأت للجزيرة بعثات أثرية على شاكلة البعثات التي تقصد العراق أو بلاد الشام أو فلسطين أو مصر أو غيرها من أماكن، لكان علمنا بأحوال المدن العربية الجاهلية وبأحوال الجاهلين غزيرًا جديدًا يختلف عن هذا النزر اليسير الذي نتحدث به عن أحوال العرب قبل الإسلام. أما الحجاز، فالظاهر أن الطائف منه، كانت القرية أو المدينة الوحيدة المحاطة بجدار أو حائط، يمكن أن نسميه سورًا. وكان يحيط بالمدينة وبه مواضع يتحصن فيها، وفيها تحصنت ثقيف يوم قاومت الرسول في أثناء حصاره لها. وكانت له أبواب أغلقوها عليهم، وامتنع على المسلمين عندئذ الدخول منها، والاقتراب من الجدار. ولما اختفى المسلمون تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف، أرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، وقتلوا رجالا من المسلمين1. وأما مكة، فيظهر من وصف أهل الأخبار لها أنها لم تكن مسوّرة. وإنما كانت ذات منافذ وطرق تؤدي إلى داخل المدينة وتمر بالشعاب. وعلى كل شعب حماية حد شعبه من الأطراف عند دنو عدو من مكة. وأما المدينة، فلم يكن لها سور كذلك. ويمكن أن يقال مثل ذلك عن بقية قرى الحجاز. ولا نجد في وصف أهل الأخبار لقرى أهل الحجاز وبيوتها، ما يفيد بوجود أبنية ضخمة فيها على طراز أبنية اليمن. فلم يتحدث أهل الأخبار عن وجود قصور فيها تشبه "قصر غمدان" أو "قصر ذو ريدان" أو غير ذلك من القصور. حتى مكة وهي أم القرى لا يشير أهل الأخبار إلى وجود بناء ضخم فيها على طراز أبنية اليمن، ولا وجد بيت كبير فيها على طراز بيوت سراة اليمن. و"دار الندوة"، وهي دار قصي، مؤسس ملك قريش، لم تكن دارًا ضخمة ولا كبيرة على ما يظهر من روايات أهل الأخبار ويظهر أن أهل الأخبار لم يحفلوا كثيرًا بالنواحي العمرانية من الجاهلية، لذلك صارت معلوماتنا بسيطة جدًّا عنها من هذه الناحية. فلا نكاد نعرف شيئًا عن بيوت مكة أو غيرها قبل الإسلام. وقد كانت بيوت المتمكنين من الناس وأصحاب اليسر والمال، مشيدة بالحجارة وباللبن. ويذكر علماء اللغة أن كل بيت مربع مسطح، فهو "أجم". ويظهر

_ 1 الطبري "3/ 83 وما بعدها"

من شعر ينسب إلى امرئ القيس: وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ... ولا أجمًا إلا مشيدًا بجندل1 أن آجام "تيماء"، كانت مشيدة بالجندل. والجندل الحجر، وقيل: الصخور، وذكر أنها الصخرة كرأس الإنسان2. وقد استعين بتشييد السقوف بجذوع النخل. ويقال للآجام: القصور بلغة أهل الحجاز، وعرفت بالآكام كذلك3، وهي حجر، وذكر أن اللفظة "قرشية"4. ووردت لفظة "قصر" و"قصور" في القرآن الكريم5. وقد ذهب المفسرون إلى أن معنى "مشيد" في الآية: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} 6، المجصص. والجص بالمدينة يسمى: المشيد7. فالقصر، البناء الضخم المبني بالجص والحجارة، وقد يكون منفردًا محصنًا، وقد يكون في قرية، مع قصور أخرى، ولكل قصر بئر، يؤخذ منها الماء. وهي ضرورية جدًّا بالنسبة لبيوت ذلك الوقت. ويظهر من روايات أهل الأخبار عن البيوت أن في بيوت يثرب بيوت تكونت من طابقين. طابق أرضي وطابق علوي. وكانوا يسكنون الطابقين. ولعلهم كانوا يودعون ماشيتهم ودوابهم الطابق الأرضي، أو مواضع خاصة بها ملحقة بهذا الطابق. وكانت دار "أبو أيوب الأنصاري" التي نزل بها الرسول ذات طابقين نزل الرسول بطابق، وسكن "أبو أيوب" بالطابق الثاني8. وكان سادات القرى قد حلوا مشكلة الدفاع عن أنفسهم وعن مواليهم ببناء

_ 1 تاج العروس "8/ 180"، "أجم"، اللسان "12/ 8". 2 تاج العروس "7/ 226"، "الجندل". 3 النهاية، لابن الأثير "1/ 78". 4 تاج العروس "3/ 494"، "قصر". 5 الحج، الآية 45، الأعراف، الآية 74، الفرقان، الآية 10. 6 الحج، الآية 45. 7 تفسير الطبري "17/ 127 وما بعدها". 8 الطبري "2/ 396".

أبنية حصينة ذات جدران سميكة قالوا لها: الحصون والآطام والواحد هو الأطم. فكان أهل المدينة من الأوس والخزرج يلجئون إلى آطامهم وقت الخطر فيتحصنون بها ويمتنعون، وكذلك كانت ليهود وادي القرى حصون وآطام. بها آبار ومواضع لخزن ذخيرتهم وما عندهم من غال وثمين ودخلوا حصونهم وآطامهم وأغلقوا عليهم الأبواب. وبذلك صارت القرية مجموعة حصون وآطام. والأطم القصر وكل حصن بني بالحجارة. وقيل: هو كل بيت مربع مسطح. وقد ورد أن "بلالًا الحبشي" كان يؤذن على أطم المدينة. وقد اشتهرت بها المدينة. وذكر أن الأطمة الحصن. وأن "الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم"، بنى أطمًا باليمن، عرف باسمه: "أطم الأضبط". وكان قد أغار على أهل صنعاء. وأشير في شعر "أوس" إلى "آطام نجران". حيث ذكر أن أحد الملوك بث الجنود في الأرض، فأخذوا بقتل أعدائه ما بين بصرى وآطام نجران1. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن قرى الحجاز ومدنها كانت شعابًا، أي أحياء. تكونت على الطريقة البدوية. وذلك بإقامة كل عشيرة في حيّ معين من أحياء القرية أو المدينة. وتكون بين الحيّ عصبية مثل عصبية أفراد القبيلة للقبيلة. وينتمي الحي إلى القبيلة أو العشيرة التي يرجع إليها، ويتعصب لها. ويشعر أن بين أفراد الحي قرابة ورابطة دم. ويعبر عن سكان الحي بـ"آل ... ". ويكون وجيه الشعب، هو نقيبه وممثله وسيده. وقد يقال للمنزل أو المحلة: "الربع" والجمع "الرباع". وذكر أن "الرباع" المنازل وجماعة الناس2. فتتألف كل قرية أو مدينة من رباع. وقد كانت "الحيرة" على هذه الشاكلة أيضًا. فقد كانت مؤلفة من مواضع حصينة بناها سادات المدينة وأشراف الأحياء، عرفت عندهم بـ"القصور" والمفرد "قصر". فإذا داهم المدينة خطر دخل أهل الحي قصر سيدهم وشريفهم وتحصنوا به.

_ 1 تاج العروس "8/ 187 وما بعدها"، "أطم". 2 اللسان "8/ 102"، "صادر" "ربع".

الأبراج

الأبراج: وتؤلف الأبراج والحصون صفحة من صفحات كتاب الفن المعماري والحربي في التاريخ الجاهلي. فقد بنيت لتؤدي واجب الدفاع والحماية والوقوف بجبروت وتعنت في وجه من يريد الكيد بمن يحتمي وراء تلك الحصون. وطبيعي أن تراعى في تصميمها وبنائها الأغراض التي من أجلها شيدت وبنيت والمكان الذي تقام عليه. ويراعى في جدران الحصون أن تكون سميكة وأن تبنى بمواد متماسكة تماسكًا شديدًا حتى لا تنهار عند ضرب المهاجمين لها ومحاولتهم تهديمها لإيجاد ثغر فيها يهجمون منها، وتنشأ فيها مخازن لخزن الأسلحة، ويُيَسَّر فيها الماء ومواد المعيشة التي يحتاج إليها المدافعون، وتحدث منافذ في أعالي الأبراج لرمي المهاجمين منها. ويكون سمك الحائط عند القاعدة أكثر من سمكه أعلاه. وأما الأبواب المؤدية إلى الحصن، فإن الطريق إليها لا يكون مستقيمًا ممتدًّا، بل يأخذ اتجاهات مختلفة، ويمر بممرات وقاعات، ليكون في إمكان المدافعين الاحتماء بها حين يتمكن المهاجمون من اقتحام الباب الخارجي. وتقام الأبراج فوق الأسوار والأبواب لحمايتها من المهاجمين. وتكون هندسة بنائها عندئذ متناسبة مع هندسة بناء السور أو أعلى الباب. وقد تنتهي بما يشبه الأسنان والأفاريز، ليتمكن المدافع من إصابة المهاجمين بما عنده من مواد مؤذية فيمنعهم بذلك من اقتحام السور ومن إلحاق أي أذى به. وذكر علماء العربية أن "البرج" بيت يبنى على السور والحصن. وقد يسمى بيتًا. وذكروا أن برج الحصن ركنه1. ولم يذكر أولئك العلماء أصل الكلمة. وهو من الألفاظ المعربة عن اليونانية، إذ هو Pirghos فيها. بمعنى "بناء" وبرج فوق بناء يدافع به المدافعون ولصدّ المهاجمين من التقدم نحوه2.

_ 1 تاج العروس "2/ 7ح، "برج"، الكشاف "4/ 199" تفسير الطبري "30/ 127 وما بعدها". 2 غرائب اللغة "254".

الطرق

الطرق: وتوجد آثار طرق جاهلية في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية مبلطة تبليطًا حسنًا،

وأخرى ممهدة تمهيدًا فنيًّا. وقد أنشئ بعضها في أرض جبلية وفي أرضين وعرة، وذلك باستعمال آلات بمهارة في قطع الصخور لإنشاء هذه الممرات. وأنشئ بعض آخر في الأودية وفي السهول برفق وعناية وقد كسيت ورصفت بالأحجار رصفًا متينًا قويًّا كالذي يظهر من بقايا هذه الطرق التي لا تزال متماسكة شديدة، تقاوم الأيام بالرغم من طول عمرها ومن عدم اهتمام الناس بها. ومن الطرق الجاهلية التي وجدها السياح والباحثون، طريق "مبلقة" "مبلقت"1 في وادي بيحان. الذي يتراوح طوله من ثلاثة أميال إلى أربعة أميال، ويرجع عهده إلى حوالي السنة "325" قبل الميلاد في تقدير بعض الباحثين2 وهو يؤدي إلى "حريب". وقد رصف وجهه وكسي بصفاح ضخم عريض. ونحت قسم منه طوله زهاء مئة قدم في الصخر نحتًا إلى عمق ثلاثين قدمًا، وذلك اختصارًا للمسافة. وهو عمل يقدر بالنسبة إلى ذلك الزمن3. ومن هذه الطرق طريق مدرج عمله الجاهليون في المرتفعات المؤدية إلى "وادي ذنه" على مقربة من مأرب. "مدرج نقيل" "نقيل مدرج". وقد نحت في الصخر4 وطريق آخر عرضه زهاء أربعة أمتار يقع شمال "معبر"، وطريق آخر يؤدي من هضبة "عقبة" إلى وادي عرمة ثم إلى "شبوة"5. وطريق في جنوب حافة جبل اللوذ، نحت نحتًا في الصخر حتى يؤدي بسالكيه من "خربة السود" إلى "كعاب اللوذ"6. ونجد طرقًا نحتت في صخور المرتفعات والهضاب والجبال لتؤدي إلى الحصون "العر" والمحافد والقصور والمدن مثل "عر ذو مرمر" و"عراتوت" "حصن أتوت" في أرحب، و"قصر ريدان" "ذو ريدان" "جبل ريدان في بيحان"7. وأشير في النص: Glaser إلى طريق جبلي،

_ 1 "مبلقت" في الكتابات. 2 Arabien, S. 146 3 G. Ryckmans, In Le Museon, 62, 1949, Num: 399, P. 74, 77, Arabien, S. 148. 4 Arabien, S. 146 5 المصدر نفسه. 6 كذلك. 7 كذلك.

عمل على جبل "جحاف" في هضبة "الضالع"1. ومن الطرق الجبلية المسماة "منقل" في المسند2، طريق في جبل "علمان" يؤدي إلى "مأرب"3. وقد ذكر علماء اللغة أن "المنقل: الطريق في الجبل"4. وقد وصفه "هاملتون"، الطريق القديم الذي ربط عدن بالداخل5. وهناك طريق معروف مشهور اشتهر باسم "درب الفيل"، ينسب إلى "التبع أسعد كامل" في حوالي السنة "400" للميلاد، ومنه بقايا بين "تربة" ومواضع أخرى من أعالي اليمن6. وقد وجدت شوارع المدن وطرقها مبلطة مرصوفة رصفًا حسنًا في بعض الأحيان بحجارة وضع بعضها فوق بعض، وربطت بينها مادة بناء مثل الجبس، ذات قوة وتماسك كقوة "السمنت" وتماسكه حين يجف. وقد رصف بعض آخر بحجارة مربعة أو مستطيلة قدت من صخر، وضع بعضها إلى جانب بعض وضعًا محكمًا بحيث بدت وكأنها حجر واحد، ورصف بعض آخر بحجارة هذبت أوجهها وصقلت وجعلت لها حواشي منخفضة، وحواشي بارزة يكون سمكها سمك القسم المنخفض من الحواشي المنخفضة حتى توضع فوقها فتغطيها، فتكون الأحجار متماسكة بذلك كقطعة واحدة7. وقد وجد بعض الطرق مكسوًّا بـ"الأسفلت". وقد ذكر علماء اللغة أن "البلق" الرخام، وحجارة باليمن تضيء ما وراءها كالزجاج8. ولم يذكروا أن "مبلقة" بمعنى الطريق الممهد. وقد تبين من فحص البقية الباقية من الطريق القريب من "غيمان"، وعهده أيام ما قبل الإسلام، أن تبليطه ورصفه لم يكونا على جانب كبير من الدقة

_ 1 Arabien, S. 147, G. U. R. Yule, A Rock-Cut Himyarite Inscription on jabal Jahaf in the aden Hinterland, in PSBA, 27, 1905, 153-155, D. H. Muller, The Himyaritic Inscription from jabal jegaf, PSBA 28, 1906, 143 2 "نقيل" في اللغة اليمانية. 3 CIH, 418, Arabien, S. 147 4 اللسان، "نقل"، تاج العروس "8/ 143"، "نقل". 5 R. A. B. Hamilton, Archaeological Sites in the Western Aden Protectorate Gj, 101, 1943, 113, Rathjens, Sabaeica, I, 94, 139 6 Arabien, S. 147, Philby, Arabian Highlands, 183, 259, 365 7 Arabien, S. 147, Rathjens, Sabaeica, I, 94, 139 8 تاج العروس "6/ 298"، "بلق".

والعناية. وهو بعرض أربعة أمتار تقريبًا، ويؤدي إلى "قصر غيمان". وقد أقيم في موضع منه على سدّ ارتفاعه خمسة أمتار، وقد حفظ من الجانبين بجدارين1. ويقال للطرق الضيقة التي يسلكها الإنسان للوصول إلى أعلى البرج أو القلعة "محول" في اللهجة المعينية. وقد تكون مسقوفة، وقد تكون بغير سقف، كما تكون مدرجة أي ذات سلالم، وربما لا تكون كذلك، وقد تؤدي إلى ارتفاع، وقد تكون ممرًا مستويًا يخترقه الإنسان كالدهليز2. واتخذ الجاهليون القناطر، والقنطرة لغة في الجسر3. ويراد بها القنطرة المعقودة المعروفة عند الناس. والعرب تسمي كل أزج قنطرة. وقد ورد ذكرها في شعر لطرفة بن العبد. وهي تعقد بالحجارة وتشاد بالجص أو بجياد وهو الكلس4. ويعبر عليها الناس ووسائط النقل وقد عثر على آثار قناطر في مواضع متعددة من جزيرة العرب، ولا سيما في اليمن وبقية العربية الجنوبية حيث تكثر الأودية والسيول. وجاء في شعر لـ"طرفة بن العبد"، هذا البيت: كقنطرة الرومي اقسم ربّها ... لتكتفنن حتى تشاد بقرمد وقد ذكر "الزوزني"، أن صاحب القنطرة وهو رومي، حلف ليحاطن بها حتى ترفع أو تجصص بالصاروج أو بالآجر. وأن القرمد: الآجر، وقيل: هو الصاروج، والشيد الرفع والطلي بالشيد وهو الجص. ولم يذكر الشارح موضع القنطرة المذكورة التي بناها صاحبها وهو رومي فنسبت إليه5.

_ 1 Rathjans, Sabaeica, I, 77, 141, Arabien, S. 147 2 Rhodokanakis, Stud. Lexi, II, S. 31 3 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص333". 4 الكامل، "1/ 59". 5 شرح المعلقات "للزوزني" "دار صادر" "ص52".

أثاث البيوت

أثاث البيوت: وليست لدينا صور واضحة دقيقة عن بيوت أغنياء المدن، وعن محتوياتها وعما فيها من أثاث وأدوات. غير أن بعضًا منها يجب أن يكون واسعًا كبيرًا حوى

كل وسائل الراحة المتوفرة بالقياس إلى ذلك العهد. فرجل مثل "عبد الله بن جدعان" كان ثريًّا ثقيل الثراء، يملك آنية من الذهب والفضة، ويشرب بكئوس غالية، ويأكل أكلات غريبة، ويتفنن في مأكله، وقد استحضر لذلك طباخين من الخارج من العراق مثلًا، ليطبخوا له طعامًا غريبًا عجميًّا، أقول: إن رجلًا مثل هذا لا بُدَّ أن يكون بيته بيتًا كبيرًا يتناسب مع ثراء صاحبه وماله وقد بني بناء محكمًا، وأحصنت جدرانه وارتفعت حتى يكون في مستطاعه التحصن فيه وقت الخطر والمحافظة على نفسه، السراق والطامعين في ماله في الليل والنهار. ولا بد أن يكون بيت عبد الله بن جُدْعان هذا قد بني من أجنحة متعددة، جناح لسكناه مع نسائه، وجناح لقيانه وخادماته وجناح لخدامه وعبيده، وجناح لاستقبال أصحابه وندمائه وأصحاب الحجات والأشغال، فقد كان يجلس للأصدقاء يتسامر معهم ويسمع معهم غناء قيانه، وعلى رأسهن "الجرادتان"، وهما قينتاه المختارتان، وكان لهما صوتان شجيان، وقد اشتهرتا بمكة، وخلد ذكرهما حتى الآن، فلا يعقل أن يكون بيته صغيرًا أو حقيرًا أو بدائيًّا، إذْ لا يتناسب ذلك مع ما يذكره أهل الأخبار ويروونه عن ثرائه وبذخه وعن شربه بآنية من ذهب وفضة، إلى غير ذلك مما يحملنا –لو صدقنا روايات الأخباريين- على أن بيته يجب أن يتناسب مع ثرائه. وعاصر ابنَ جُدْعان نفر آخر كانوا من أغنياء مكة ومن أصحاب المال والثراء، لهم ذوق في الجمال وحب للشراب. وكان لهم خدم وحشم، ورجال من هذا الطراز لا بد أن تكون بيوتهم حسنة ومن حجارة، وفيها وسائل الراحة، ولها مواضع خاصة بإقامة النساء، وأماكن خاصة باستقبال الضيوف، ومواضع لإقامة الخدم والعبيد. والحيوانات التي يرتبطها للركوب، وحجر لحفظ الأطعمة والأشربة بمقادير كافية احتمالا لحالات الطوارئ. وعرفت الزرابي، وهي "الطنافس"، في بيوت أثرياء الجاهليين وقصور الأمراء. وقد ذكرت "الزرابي" و"النمارق" في القرآن الكريم1. وورد أن الزرابي ضرب من الثياب محبر، منسوب إلى موضع2، وذكرت "الزرابي" في شعر "حسان"3.

_ 1 الغاشية، الآية 16. 2 المفردات، للأصفهاني "ص211". 3 تَرى فَوقَ أَثناءِ الزَرابِيِّ ساقِطًا ... نِعالًا وَقَسّوبًا وَرَيطًا مُعَضَّدا البرقوقي "ص146".

وعرف عند الجاهليين نوع خاص من الطنافس قيل له: "الرحال"، ذكر أنه من طنافس الحيرة. وإليه أشار الأعشى بقوله: وَمَصابِ غادِيَةٍ كَأَنَّ تِجارَها ... نَشَرَت عَلَيهِ بُرودَها وَرِحالَها1 وقد استعملت الكراسي والأسرة في بيوت الأغنياء. والكرسي السرير. وأما السرير، فهو ما يجلس عليه وينام فوقه أيضًا. وقد عبر به عن الملك والنعمة2. والظاهر أن ذلك بسبب كونه من مظاهر الغنى والجاه. و"الخلب" الكرسي قوائمه من حديد3. ويقال للمجلس "الموثب" في لغة "حمير". ويراد بها أسفل الشيء وما يستقر على الأرض. وهي قريبة في المعنى من لفظة "شت" و"اشدو"4. وقد استورد أهل مكة الأواني الغالية والأثاث الراقي من بلاد الشام، لما عرفت به هذه البلاد من التقدم في الصنعة وحسن الذوق، ولقربها من الحجاز، كما استوردوها من العراق. ويمكن معرفة أصولها والأماكن التي وردت منها بدراسة أسمائها. فأكثر أسماء الأشياء المستوردة، هي أسماء معربة. عربت من أصول أعجمية، ويمكن الوقوف على أصلها بدراسة أصولها اللغوية التي جاءت منها. وقد تبنى "دكك" عند باب البيت، يجلس عليها الدرابنة، أي "البوابون"، لمنع الغرباء من الدخول داخل البيت، ولحراسة الدار. وقد أشير إليها في شعر ينسب للمثقب العبدي: فَأَبقى باطِلي وَالجِدُّ مِنها ... كَدُكّانِ الدَرابِنَةِ المَطينِن5 أما بيوت الفقراء، فهي كما يظهر من روايات أهل الأخبار، بيوت حقيرة إن جاز إطلاق لفظة "بيت" و"بيوت" عليها. وهي من طين ومن بيوت شعر، لا تقي من برد ولا من حر، لذلك فإن الطبقة الفقيرة عاشت عيشة

_ 1 تاج العروس "7/ 342"، "رحل". 2 تاج العروس "3/ 264 وما بعدها"، "سرر". 3 اللسان "1/ 365"، "خلب". 4 Rhodokanakls, Stud., II, S.37 5 تاج العروس "7/ 130"، "دك".

بؤس وشقاء. وليس في مثل هذه البيوت مرافق صحية ولا مغاسل ولا حمامات، فكان أصحابها يقضون حاجاتهم في خارج البيوت. وإذا كان من السهل على الذكور أداء هذا الواجب، فإن ذلك كان من أصعب الأشياء بالنسبة للأثاث.

وسائل الركوب

وسائل الركوب: وكان السير على الأقدام للوصول إلى المواضع المقصودة هو المألوف عند أكثر الناس، بسبب فقرهم وعدم تمكنهم من امتلاك دابة ركوب. لقد كان أكثرهم يقطع مسافات طويلة مشيًا على قدميه في ذهابه إلى قبيلته أو للتنقل من مكان إلى مكان. أما المتمكنون منهم، فقد ركبوا الجمال في قطع المسافات البعيدة والأرضين الصحراوية، وركبوا الخيل والبغال والحمير في القرى وفي الأرضين التي لا تغلب عليها الطبيعة الصحراوية. ولحماية النفس أثناء النوم من "البعوض" والحشرات الأخرى استعملوا "الكلل". و"الكلة" ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقى به من الحشرات1. ومن هذه الحشرات والهوام: البعوض، وأكثر ما يكون في بيوت الحضر، حيث تتوفر له وسائل النمو والمعيشة، من أوساخ ورطوبة وماء. في المواضع التي يكثر وجود الماء بها، مثل خيبر، حيث عرفت بكثرة بعوضها الحامل للبرداء "الملاريا". و"الناموس"، و"البرغوث" الذي يزعج الإنسان ويقلقه، فلا يجعله يستريح في نومه، ثم الذباب.

_ 1 تاج العروس "8/ 102"، "كلل".

آداب المجالس

آداب المجالس: وللقوم آداب في مجالسهم على الإنسان اتباعها ومراعاتها، من ذلك أن لكل بيت مهما كان حجمه أو مكانته حرمة. وأن على كل إنسان صيانة حرمة بيته وبيت غيره سواء بسواء. لأن بيوت الناس هي في الحرمة سواء. ومن ينتهك حرمة بيت غيره يكون قد قام بإثم كبير وعرض نفسه لانتقام أهل البيت المنتهك

منه. وقد يؤدي ذلك إلى وقوع قتال بنداء العصبية وبتجمع أهل البيت للأخذ بثأرهم ممن ثلب حرمة بيتهم وتطاول عليه، ودنس شرفه، بالإساءة إليه. ولن تغفر الإساءة ولا يغسل عارها إلا بالانتقام وبالانتقاص من شأن ذلك الإنسان الذي انتهك حرمة بيت غيره. ومن حرمة البيت عدم جواز دخوله إلا بإذن من صاحبه. فإن دخل إليه دون إذن، عنف الداخل وأنب، وإن ثبت أنه دخله عن غاية وتصميم عد معتديًا عليه منتهكًا لحرمته. ويكون جزاءه الانتقام منه. وعلى من يريد دخول بيت الاستئذان من أصحابه حتى وإن كان البيت خيمة مهلهلة تذروها الرياح. لأن تلك الخيمة هي بيت ومأوى. ولا ينظر الناس إلى نوع البيت وإلى جنسه بل إلى أهله، فالبيت بأهله لا بكيفيته، وحرمته من حرمة أصحابه. وقد كان بعض الجاهليين يدخلون البيوت من غير استئذان، ولا سيما الأعراب. ومنهم من كان يقف عند الباب فينادي: يا فلان اخرج، أو يا فلان أأدخل. ونجد في كتب السير والأخبار أن من الأعراب من كان يقف أمام حجر النبي وينادي: أخرج يا محمد؟ ولهذا شدد على "الاستئذان" وعلى السلام في الإسلام1. ولا يخاطب الرجل الرجل الأكبر منه سنًّا أو منزلة باسمه، وإنما يخاطبه بكنيته. كأن يقول يا أبا فلان، وتكون الكنية باسم الابن الأكبر، إلا إذا حدث ما يستوجب عدم ذكر اسمه. فيكنى بغيره ممن يختارهم ذلك الرجل. وقد لا يكون ولدًا، ولكنه يكنى مع ذلك بكنية يختارها هو، أو تكون متعارفة عن الاسم بين الناس. ولا تزال عادة التكنية مستعملة عند الحضر وعند الأعراب. وقد عرف بعضهم الكنية بـ"اسم يطلق على الشخص للتعظيم نحو أبي حفص وأبي حسن، أو علامة عليه". وتقوم الكنية مقام الاسم فيعرف صاحها بها كما يعرف باسمه كأبي لهب عرف بكنيته. وأبو فلان كنيته2.

_ 1 إرشاد الساري "9/ 130، 140" "باب الاستئذان". 2 تاج العروس "10/ 319"، "كنى".

التحية

التحية: والعادة عند الجاهليين أن يحيي الصديق صديقه إذا رآه. والتحية: السلام.

ومن تحياتهم: حياك الله أو حياك ... ثم يذكر الصنم1. وإذا كان صباحًا قالوا: أنعم صباحًا وعم صباحًا، أما إذا كانوا جماعة فيقول عندئذ: أنعموا صباحًا، وعموا صباحًا، وإذا كان الوقت مساء، قال: أنعم مساءً وعم مساءً وأنعموا مساءً إذا كانوا جماعة. والمصافحة معروفة عند الجاهليين. وتكون باليد اليمنى. وقد يتصافحون باليدين2. وقد يتعانقون، إذا كانوا قد جاؤوا من سفر أو من فراق3. وقد أشير في الحديث إلى المصافحة باليدين عند اللقاء4. وتكون إجابة الصغير للكبير بتلبية مؤدبة. فإذا سأل إنسان ذو منزلة إنسانًا آخر أقل منزلة منه أجابه بجمل فيها أدب وتقدير مثل لبيك وسعديك5. أي لزومًا لطاعتك، وأنا مقيم على طاعتك، وإجابة لك، وأنا مقيم عندك، واتجاهي إليك وقصدي لك وما شاكل ذلك من معان ذكرها علماء اللغة. ومن هنا قيل لقول الحجاج في الحج: لبيك اللهم لبيك، التلبية6. ويجاب بـ"نعم" وبـ"نعم وكرامة". وقد يكون الجواب لطلب عمل عملٍ. كأن يطلب رجل من رجل آخر عمل عملٍ، فيقول له: "نعم"، و"نعم وكرامة"، و"نعم عين ونعمة عين"، و"نعام عين"، و"نعيم عين"، و"نعام عين"7. وتعد لفظة "بلى" من ألفاظ الإجابة كذلك. ومن آداب البيت الامتناع عن قول الفحش بحضور النساء. وعدم النظر بسوء إلى البنات والنساء، وعدم تركيز النظر عليهن. لأن معنى ذلك توجيه إهانة إلى رب البيت، وإظهار أنه إنما قصد من دخول البيت التمتع برؤية النساء. وعليه السيطرة على نفسه وضبطها فلا يسمح لنفسه بإخراج الريح من جوفه، لأن ذلك عند العرب عيب كبير. فالضراط والفساء إذا وقعا من إنسان بحضرة غرباء عدّا

_ 1 تاج العروس "10/ 106 وما بعدها"، "حيى". 2 إرشاد الساري "9/ 154"، اللسان "2/ 514". 3 إرشاد الساري "9/ 155". 4 تاج العروس "2/ 181"، "صفح". 5 إرشاد الساري "8/ 210". 6 تاج العروس "1/ 465"، "لبب". 7 تاج العروس "9/ 78"، "نعم".

من المغامز التي قد يؤاخذونها على الرجل. لا سيما إذا كان الرجل معروفًا مشهورًا وله حساد. ومن عاداتهم: تشميت العاطس، لا سيما إذا كان كبيرًا ذا جاه. كأن يدعى له بطول العمر. وقد أكده الإسلام. فإذا عطس إنسان قال: الحمد لله؛ فيجيبه الحضار بـ"يرحمك الله". ويحمد العطاس عند العرب، ما لم يكن من زكام ويذم التثاؤب1. وذكر أن كل دعاء بخير فهو تشميت2. ويقال للشاب إذ سعل: عمرًا وشبابًا. أما إذا كان الساعل شيخًا أو رجلًا بغيضًا، فيقال لهما: وريًا وقحابًا. وللحبيب إذا سعل: عمرًا وشبابًا3. وكانت تحيتهم للملك أن يقولوا: أبيت اللعن. وإذا قال أحدهم للآخر: أنعم صباحًا، أو أنعم مساءً، أو أنعم ظلامًا، أجابه صاحبه: نعمتَ4.

_ 1 إرشاد الساري "9/ 125"، "باب مشروعية تشميت العاطس"، تاج العروس "5/ 192" "عطس". 2 تاج العروس "1/ 559"، "شمت". 3 تاج العروس "1/ 421 وما بعدها". 4 الحيوان "1/ 328"، "هارون".

ثقال الناس

ثقال الناس: ومن الناس مَنْ يُستَثْقل ظلهم ويرجى انصرافهم بسرعة. لثقل طبعهم ووجود جفاوة فيهم، أو تلبد في طبعهم يجعلهم لا يدركون طباع الناس. ويقال لأمثال هؤلاء: الثقلاء. وثقال الناس وثقلاؤهم من تكره صحبته ويستثقله الناس. يقال: مجالسة الثقيل تضني الروح. ويقال: هو ثقيل على جلسائه، وما أنت إلّا ثقيل الظل بارد النسيم1. ومن الثقلاء من يطيل الجلوس في المجالس: أو يدخلها دون دعوة، أو يتدخل فيما لا يعنيه أو فيما يجهله ليظهر علمه وفهمه. أو يزور صديقًا في وقت لا تستحب زيارة أحد فيه، أو يعود مريضًا ثم يطيل الجلوس عنده. وكانوا إذا وجدوا من الثقيل بلادة، فلربما أسمعوه كلامًا يشعر بتثاقلهم منه، فإذا لم ينتبه أشعروه بصور أخرى تفهمه أنه ثقيل الظل حتى يرحل عن المجلس.

_ 1 تاج العروس "7/ 245"، "ثقل".

و "الظريف" على عكس "الثقيل"، يستظرفه الناس ويستملحون كلامه ويحبون مجالسته. وهو البليغ الجيد الكلام، أو هو حسن الوجه والهيئة، كما يكون في اللسان. وقيل الظرف: البزاعة وذكاء القلب. والبزاعة هي الظرافة والملاحة والكياسة1. وقد يدعون بالشر على الأعداء والحساد والثقلاء، فيقولون: رماه الله في الدوقعة، أي في الفقر والذل2، و"أخسّ الله حظه"3، و"أبعد الله دار فلان، وأوقد نارًا إثره". والمعنى لا رجعه الله ولا ردّه. و"أبعده الله وأسحقه وأوقد نارًا إثره"4.

_ 1 تاج العروس "6/ 187"، "ظرف". 2 تاج العروس "5/ 131"، "دقع". 3 تاج العروس "4/ 138"، "خس". 4 اللسان "3/ 466"، "وقد".

الصلف

الصلف: وأما "الصلف"، فالتمدح بما ليس عندك، وقيل: مجاوزة قدر الظرف والبراعة فوق ذلك تكبرًا. وفي الحديث: آفة الظرف الصلف. وهو الغلو في الظرف والزيادة على المقدار مع تكبر1. وهو مكروه ويستثقل صاحبه ويقل أصحابه.

_ 1 تاج العروس "6/ 167"، "صلف".

المجالس

المجالس: والعادة عندهم أنهم إذا زاروا ملكًا أو سيد قبيلة أو عظيمًا، لبسوا أحسن ما عندهم من لباس، وتزينوا بأجمل زينة يعرفونها ومنها التكحل والترجيل ولبس جبب الحبرة المكففة بالحرير، كالذي فعله سادات نجران1 يوم وفدوا على الرسول. والتكحل عادة منتشرة عند جميع الجاهليين رجالًا ونساء وفي كل جزيرة العرب. كما كانوا يتطيبون بالطيب والعطر2.

_ 1 نهاية الأرب "18/ 87 وما بعدها". 2 نهاية الأرب "17/ 75".

ومن آدابهم في مجالسهم قيام القاعد للقادم عند قدومه وتوجيه التحية لهم. ولا سيما إذا كان القادم شريفًا وله منزلة عند قومه ومكانة. فيقف القوم على أرجلهم ويجيبون المحيي على تحيته هي خير منها، هذه سنة كانت معروفة عندهم، ولا تزال. وقد تطرق "الجاحظ" إلى هذه القاعدة، ثم قال: "قالوا: ومن الأعاجيب أن الحارث بن كعب لا يقوم لحزم، وحزم لا تقوم لكندة، وكندة لا تقوم للحارث بن كعب". ثم قال: "قالوا: ومثل ذلك من الأعاجيب في الحارث: أن العرب لا تقوم للترك، والترك لا تقوم للروم، الروم لا تقوم للعرب"1. وتفرش أرض سيد القبيلة وذوي اليسار من الناس، وكذلك غرف بيوتهم بالفرش، كالبسط، وتوضع الوسد في صدر المجلس ليتكئ عليها الجالسون. وليتوسدوها عند النوم2. ويعد تقديم الوسادة إلى الضيوف من أمارة التكريم والتقديس بالنسبة لمن قدمت له. ولا تزال هذه العادة متبعة عند الأعراب. ويجلس العرب على الأرض وعلى الحصير والبساط. وقد يجلسون على وسادة وقد يستلقون ويضعون إحدى رجليهم على الأخرى، وقد يتكئون على الوسادة، وربما اتكأوا على اليمين وربما اتكأوا على اليسار3. والحصير سقيفة تصنع من بردى وأسل ثم يفترش. سمي بذلك لأنه يلي وجه الأرض. وتصنع الحصر من خوص السعف أيضًا، وتفرش على الأرض. يستعملها أهل القرى والمدن والأرياف، وفي بيوت الفقراء. وذلك لعدم تمكن الفقير من شراء بساط منسوج، ولا سرير يجلس عليه. قال شاعر: فأضحى كالأميرِ على سرير ... وأمسى كالأسيرِ على حصير4 وقد عدّ "السرير من أمارات الغنى والرفاه والنعمة، حتى عبروا عنه بالملك. فقالوا: "سرير الملك"5.

_ 1 مناقب الترك، من رسائل الجاحظ "1/ 81 وما بعدها". 2 تاج العروس "2/ 534"، "وسد". 3 زاد المعاد "1/ 43". 4 تاج العروس "3/ 143 وما بعدها"، "حصر". 5 إرشاد الساري "9/ 161"، "باب حكم اتخاذ السرير".

ويقال للحصير المنسوج من القصب "البارية" و"البوري". وقد عرف أهل الحجاز "البارية". وأشير إليها في الحديث1. ويتناول الإنسان عند نهوضه من نومه "الصبوح". ويحيي أهله ومن هو حوله بتحية الصباح: عم صباحًا وعموا صباحًا إذا كانوا جماعة. وهي تحية الجاهلية. و"الصبوح" كل ما أكل أو شرب من أكل أو لبن2. وهم يستحبون الجلوس من النوم صباحًا، لأن ذلك عندهم أنشط للجسم وأدعى للصحة، ثم إن الغارات تقع في الصباح، وإذا أغاروا صاحوا: يا صباحاه! ينذرون الحي أجمع بالنداء العالي، ويسمون الغارة يوم الصباح. ولكن أكثرهم كانوا ينامون الصباح أي نوم الغداة، ويسمون ذلك النوم "الضجة" ولا ينهضون إلا متأخرين أو بعد حيل وإزعاج لهم، لإكراههم على النهوض. وقد كره الإسلام هذه النومة، فجاء النهي عنها في حديث الرسول3.

_ 1 تاج العروس "3/ 60 وما بعدها"، "بور". 2 تاج العروس "2/ 175"، "صبح". 3 تاج العروس "2/ 175"، "صبح"، "5/ 176"، "ضرط".

تنظيف الأجسام

تنظيف الأجسام: ولتنظيف الجسم من الأوساخ والأدران استعملت الحمامات. وذلك عند الحضر بالطبع. أما حمامات البدو، فهي بيوتهم والعراء، يسكبون الماء على أجسامهم ويغتسلون. وقد عرف أهل القرى والمدن الحمامات ولها مساخن تسخن لهم الماء ليغتسلوا بها. وكانوا يستعملون النورة في الحمامات لإزالة الشعر. وإذا خرج أحدهم من الحمام قيل له: طابت حمتك1. وذكر أن من أسماء الحمام "الديماس". وزعم بعضهم أن الديماس من الألفاظ المعربة. عربت من لغة الحبشة2. وكانت الحمامات العامة قليلة العدد وربما لم تكن معروفة، إذ لم تكن شائعة بين الناس في الشرق الأدنى، لأنهم كانوا يستحمون في بيوتهم في الغالب، فجزيرة العرب حارة ومن الممكن الاغتسال في البيوت بكل سهولة. ولم يعرف

_ 1 تاج العروس "8/ 260"، "حم"، المعرب، للجواليقي "341". 2 تاج العروس "4/ 154"، "دمس".

اليهود الحمامات العامة، وإنما تعلموها من الروم والرومان. وكانوا يستحمون في المياه الجارية وفي البيوت1. وقد ورد أن الرسول لم يدخل حمامًا قط، ولم يصح في الحمام حديث2. مما يدل على أن الحمام العام لم يكن شائعًا في أيامه. فكان الرسول يغسل جسمه في بيته. وإذا وجد الحمام العام فلم يكن الأغنياء وذوو اليسار وأهل البيوت يقصدونه، إذْ كانوا يرون أن في تعري الرجل من ملابسه أمام الغرباء زراية ومنقصة، وأن في مخالطة الناس والاغتسال معهم في حمام، مثلبة ودلالة على نقص في البيت. فاستحموا في بيوتهم. وقد قام السدر في الحجاز مقام الصابون في الاغتسال، فكانوا إذا أرادوا تنظيف أجسامهم استعملوا ورق السدر مع الماء، فيخرج له رغاء أبيض، وذلك بعد طحن الورق أو دقه. وقد جرت العادة بغسل الميت به. وذكر أن الرسول أمر قيس بن عاصم بأن يغتسل بالماء والسدر3. وعندما تغتسل المرأة، تغسل رأسها بالخطمي والطين الحرّ والأشنان ونحوه. ثم تمشط شعرها. وقد تستعمل المرأة المتمكنة ورق الآس يطرى بأفاويه من الطيب لتمشيط شعرها به4. ونظرًا لقلة وجود الماء في البادية، اقتصدوا في استعماله كثيرًا، حتى أنهم لم يكونوا يشربون منه إلا قليلًا وعند الضرورة، وذلك خوفًا من الإسراف فيه، فينفد ويهلكون عطشًا، لذلك كان من الطبيعي بالنسبة لهم عدم غسل أجسامهم حتى صار عدم الاستحمام بالماء شبه عادة لهم. وقد أدى ذلك إلى توسخ أجسامهم وظهور رائحة الوسخ منهم. ورد في حديث "عائشة": "كان الناس يسكنون العالية فيحضرون الجمعة وبهم وسخ، فإذا أصابهم الروح سطعت أرواحهم، فيتأذى به الناس. فأمروا بالغسل"5. وكان منهم الفقراء من أهل الحضر كذلك، ممن لا يملكون بيتًا ولا يجدون لهم مكانًا يغسلون أجسادهم فيه. وكان من بينهم

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 388". Hastings, P. 86 2 زاد المعاد "44". 3 الطبقات "7/ 36". 4 تاج العروس "8/ 45"، "غسل". 5 تاج العروس "2/ 148"، "روح".

وكانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة دخلوا "الخلاء". وهو موضع قضاء الحاجة1. وتكون في بيوت الحضر. وقد تكون غرفة وقد تكون سترًا. ويستنجى بالماء إن وجد وبالحجارة. والنجو ما يخرج من البطن من ريح أو غائط. وقيل: العذرة نفسها. واستنجى مسح النجو أو غسله2. وكانوا إذا ذهبوا في سفرهم للحاجة انطلقوا إلى موضع يتوارون فيه عن أصحابهم، ليقضوا حاجتهم به. وربما تستروا بالهدف وبحشائش النخل وبشجر الوادي. ويقال للكنيف المشرف في أعلى السطح المتصل بقناة إلى الأرض "الكرياس". أما إذا كان أسفل فليس بكرياس. وقد تكون للغرف "مراحيض"3. والكنيف المرحاض كأنه كنف في أستر النواحي4. وكانوا إذا أرادوا أن يبولوا ابتعدوا عن أصحابهم بعض الشيء ثم بالوا. وأكثر ما يبولون قعودًا. ولكنهم كانوا يبولون وقوفًا أيضًا، وهو في الأقل. وإذا أرادوا قضاء حاجتهم أو التبول لم يرفعوا ثوبهم بل جعلوه يتدلى حتى يدنوا من الأرض، إلا من الأمام حيث يرتفع بعض الشيء، ويبعد من الخلف أو يرفع قليلًا حتى لا يتأذى بالعذرة5. ويرى العرب أن ما بين السرة والركبة من الرجل عورة، لذلك يجب ستره. والعورة السوأة من الرجل والمرأة6. وكانوا يرون ظهورها عارًا أي مذمة. لذا حرصوا على إنزال ثيابهم إلى الأرض لسترها قدر الإمكان، وذلك عند قضاء الحاجة.

_ 1 تاج العروس "10/ 120"، "خلا". 2 تاج العروس "10/ 358"، "نجو". 3 تاج العروس "4/ 232"، "كرس". 4 تاج العروس "6/ 239"، "كنف". 5 زاد المعاد "1/ 43 وما بعدها". 6 تاج العروس "3/ 429 وما بعدها".

الخدم والخصيان

الخدم والخصيان: وتحتاج البيوت الكبيرة إلى خدم، لتحضير ما يحتاج البيت إليه من طعام وماء ولتنظيفه وللعناية بدوابه وبما يربط في مرابطه من حيوان. كما يوكل إليهم خدمة الضيوف وتقديم الشراب إلى المتنادمين. وكانوا يستخدمون "الخصي" لخدمة أهل

البيت من النساء، لأنهن محرم، ولا تصح خدمة الرجال لمحارم البيت ونظرًا إلى ضرورة استخدام الرجال في بعض أمور البيت، استعاضوا عنهم باستخدام "الخصي" في هذه الأمور. وقد كان "مأبور" القبطي الخصي، الذي قدم مع "مارية القبطية" أم ولد الرسول من مصر يدخل عليها ويجلس في بيتها، وكان خصيًّا.

_ 1 الإصابة "3/ 315"، "رقم 7583".

الحياة الليلية

الحياة الليلية: والحياة الليلية حياة هادئة على وتيرة واحدة، يأوي الناس إلى بيوتهم مع غروب الشمس في الغالب، أما وجهاء القوم، فقد كانوا يتسامرون في بيوتهم وفي مضاربهم، وذلك بأن يأتي أصدقاؤهم إليهم فيتحدثون معهم ويتذاكرون الأيام الماضية وما يقع من أحداث إلى ساعات من الليل ثم يعودون إلى بيوتهم. ويكون السمر في الليل خاصة، والسمر الظلمة. ولهذا كانوا يقسمون بالسمر والقمر. أي بالظلمة والقمر. ثم أطلق السمر على السمر عامة في الليل أو في النهار1. وقد صار هذا "السمر" أساسًا للقصص العربي وللأدب العربي والتاريخ الجاهلي. وعلى الرغم من أن طابع السمر -أي القص والتحدث والاتصالات إلى المسامر- لا يتفق مع الطابع التأريخي، إلا أنه موّن المؤرخين مع ذلك بشيء من أخبار أيامها ورجالها في صورة من الصور المعروفة عن القص. والعادة أن الذين يبرزون ويظهرون في رواية القصص هم أصحاب الألسنة، اللبقون الذين أوتوا مواهب خاصة، والذين يجيدون معرفة نفسيات من يحيط بهم للاستماع إلى قصصهم. فيحدثون السامعين إليهم بما سمعوه ممن تقدم عليهم أو من يعاصرهم من أخبار وحوادث مسليّة طريفة كان الجاهليون إذ ذاك يتشوقون إلى الاستماع إليها. ومن ذلك قصص الأيام والأبطال الشجعان الذين ساهموا فيها، وقد يكون المتكلم نفسه ممن شهد الأيام وقاتل فيها. وهذا النوع من السمر، لا يتقيد بالصدق وبالتعقل، كما أن المستمعين لا يهمهم فيه إذا كان معقولًا أو غير معقول.

_ 1 تاج العروس "3/ 277"، "سمر".

وكل ما يهمه منه هو التلذذ بسماع القصص أو الأشعار أو الأخبار وأمور الشجعان أو غير ذلك ولما كان السمر يكون في كل بيت وفي كل مكان. وهو يتناسب مع عقلية القاص أو المتكلم وعقلية السامع وحالاته النفسية التي يكون عليها عند الاستماع إلى السمر، لهذا كان السمر ألوانًا وأشكالًا، منه ما يتناول أخبار العالم، كما وصلت إلى البادية، ومنه ما يتناول أخبار الملوك وأخبار سادات القبائل، ومنه ما يتناول الشعر والمناسبات التي قيل الشعر فيها، ومنها ما يتناول الجن والأساطير والخرافات وأمثال ذلك من غريب، قد يبهر لب أذكى الناس، ويلهب في السامعين نيران العواطف، فيجعلهم يقبلون على الاستماع إليه بكل قلوبهم. على الاستماع إلى هذا العنصر: عنصر التصنع في القص والإغراب، لأن من طبع الإنسان البحث والتفتيش عن كل شيء غريب عجيب. ويتخذ الملوك والأشراف وذوو اليسر لهم ندماء، يشربون معهم ويقضون وقتهم بالمنادمة. وهم من المقربين إلى الملوك ومن ضيوفهم الذين تكون لهم عندهم مكانة خاصة، وكان من عادة أهل القرى، اتخاذ الندماء، والغالب أن المنادمة تكون على الشراب1. ونجد في أخبار "مكة" التي يذكرها أهل الأخبار، أسماء جماعة من أشرافها، اختصوا بمنادمة بعضهم بعضًا. يبقون في منادمتهم مدة طويلة وقد يقع سوء فهم بينهما، فيترك أحدهما منادمة صاحبه، لينادم غيره. ويجلس الملك أو سيد القبيلة في صدر المجلس، ودونه بقية الجالسين على حسب المنازل والدرجات، وقد عطر نفسه، وتطيب، وتضمخ بالعنبر وبالمسك. والظاهر أنهم كانوا يكثرون من وضع المسك على رءوسهم حتى كان يبدو واضحًا جليًّا من مفارقهم. وقد أشير إلى هذه العادة في الشعر والأخبار2. وكان من عادة سادة العرب استعمال الخلوق والطيب في الدعة وفي جلوسهم مجالس أنسهم، مثل مجالس السماع والغناء3. وكان المتمكنون منهم وعلى رأسهم الملوك يضمخون أجسادهم ورءوسهم بالطيب حتى يقطر منهم4 فكانت

_ 1 تاج العروس "9/ 74" "ندم"، اللسان "ندم". 2 الكامل "1/ 36"، العقد الفريد "2/ 23 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 267"، "ضمخ". 3 الروض الأنف "2/ 67". 4 تاج العروس "2/ 267"، "ضمخ".

تفوح منها رائحة الطيب، فضلًا عن البخور الذي يتبخر به. وقد كان الأغيناء والمتمكنون من الناس يشترون العطور ويكثرون من التطيب بها. وقد تباهى "كعب بن الأشرف" بأنه كان يملك أطيب العطور المعروفة عند العرب1. وتكون ملابسهم بالطبع من أحسن الملابس، من الديباج أو من الخز أو من الكتان، وتوشى بالذهب، وتقصب به. وقد تكون للملك دور خاصة بنسيجه، تنسج فيها حلله وما يجود به على ضيوفه وزائريه. ولديه ملابس كثيرة حاضرة، إذ طالما كان يخلع ملابسه التي يرتديها في المجلس ليعطيها إلى حاضر مدحه فأجاد في مدحه، أو لشخص قال كلامًا ظريفًا استحسنه، ومن يناله هذا التكريم يفتخر به بين أقرانه ويتباهى، فهي من المفاخر التي كان يتباهى بها في ذلك الزمان. وعادة الخلع، خلع الحلل والملابس التي يلبسها الملوك على السادة رؤساء القبائل والأشراف، أمارة على التكريم والتقدير، هي عادة معروفة في الجاهلية، وطالما أثارت حسد الرؤساء وتباغضهم، إذ عدّ خلع الملوك لملابسهم على السيد، تفضلًا له وتقديمًا على غيره من السادة رؤساء القبائل. وكان لهذه الرسوم والعادات التي لا نعيرها اهتمامًا في زماننا ولا نقيم لها وزنًا، أهمية كبيرة في عرف ذلك العهد، وقد عرفت هذه العادة في الإسلام أيضًا. وقد كان المسلمون يتباهون بالحصول على خلع من الرسول، يخلعها عليهم من ملابسه التي يلبسها، فإن فيها تكريمًا، وفيها بركة لمن خلعت عليه، لأنها من ملابس الرسول. وقد عرفت هذه الحلل والخلع بـ"أثواب الرضى"، لأنها لا تعطى إلا تعبيرًا عن رضى الملك عن الشخص الذي أعطيت له. وكان جباب أطواقها الذهب بقصب الزمرد. وقد أغدق "النعمان" بها على مادحيه. وكان يقول: "هكذا فليمدح الملوك"2. وقد ذكر أهل الأخبار أن أولئك الملوك اتخذوا ندماء من الفرس والروم أيضًا، فذكروا مثلًا أن الملك النعمان كان له نديمان، يعرف أحدهما بـ"النطاسي" واسمه "سرجون"، ويعرف الآخر بـ "توفيل"، وكلاهما من الروم3. وورد

_ 1 تاج العروس "3/ 409"، "عطر". 2 نهاية الأرب "3/ 177". 3 مجمع الأمثال "2/ 49 وما بعدها".

في رواية أخرى: أن أحد النديمين هو "سرجون بن توفل"، "توفيل"، وكان رجلًا من أهل الشأم تاجرًا حريفًا للنعمان يبايعه، وكان أديبًا حسن الحديث والمنادمة: فاستخفه النعمان. وكان إذا أراد أن يخلو عن شرابه بعث إليه وإلى "النطاسي"، وهو رومي كذلك متطبب، وهو النديم الآخر له1، وكان طبيبًا بارعًا، ضرب به المثل عند العرب لبراعته بالطب. وفي منادمة النعمان للنطاسي ولابن توفيل، أشير في بيت شعر للشاعر الربيع ابن زياد المعروف بالكامل، وهو: أبرُقْ بأرضك يا نعمان متّكِئًا ... مع النطاسيّ يومًا وابن توفيلا2 وممن ذكرهم أهل الأخبار من ندماء قريش عبد المطلب بن هاشم. كان نديمًا لحرب بن أمية حتى تنافرا إلى "نفيل بن عبد العزى". فلما نفر عبد المطلب افترقا. ونادم حرب عبد الله بن جدعان. ونادم حمزة عبد الله بن السائب المخزومي، وكان أبو أحيحة سعيد بن العاص نديمًا للوليد بن المغيرة المخزومي، وكان معمر بن حبيب الجمحي نديمًا لأمية بن خلف بن وهب بن حذافة. وكان عقبة بن أبي معيط نديمًا لأبيّ بن خلف. وكان الأسود بن المطلب بن أسد نديمًا للأسود بن عبد يغوث الزهري. وكان من أعز قريش في الجاهلية وكانا يطوفان بالبيت متقلدين بسيفين سيفين. وكان أبو طالب نديمًا لمسافر بن أبي عمرو بن أمية. فمات مسافر. فنادم أبو طالب بعده عمرو بن عبد ود بن نضر. وكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس نديمًا لمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وكان أبو سفيان نديمًا للعباس بن عبد المطلب. وكان الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم نديمًا لعوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة. وكان زيد بن عمرو بن نفيل نديمًا لورقة بن نوفل بن أسد. وكان شيبة بن ربيعة بن عبد شمس نديمًا لعثمان بن الحويرث. وكان العاص بن سعيد بن العاص نديمًا للعاص بن هشام بن المغيرة. وكان يدعيان أحمقيْ قريش. وكان أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب نديمًا للحارث بن عامر بن نوفل. وكان الوليد بن عتبة

_ 1 الأغاني "16/ 22". 2 الأغاني "16/ 23".

ابن ربيعة نديمًا للعاص بن منبّه السهمي. وكان ضرار بن الخطّاب بن مرداس الفهري الشاعر نديمًا لهبيرة بن أبي وهب المخزومي. وكان أبو جهل بن هشام، وهو عمرو بن هشام نديمًا للحكم بن أبي العاص بن أمية. وكان الحارث بن هشام بن المغيرة نديمًا لحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد. وكان العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم نديمًا لهشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبي جهل. وكان نبيه بن الحجاج بن عامر السهمي نديمًا للنضر بن الحارث. وكان عمارة بن الوليد بن المغيرة نديمًا لحنظلة بن أبي سفيان بن حرب. وكان الزبير بن عبد المطلب، وهو من فتيان قريش، نديمًا لمالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار. وكان الأرقم بن نضلة بن هاشم بن عبد مناف -وهو من فتيان قريش أيضًا- نديمًا لسويد بن هرمي بن عامر الجمحي. وكان سويد أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة. وكان الحارث بن حرب بن أمية نديمًا للحارث بن عبد المطلب. فلما مات نادم العوام بن خويلد بن أسد. وكان الحارث بن أسد بن عبد العُزى نديمًا لعبد العزى بن عثمان بن عبد الدار. وكان أبو البختري العاص بن هاشم بن الحارث بن أسد نديمًا لطلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار. وكان منبه بن الحجاج السهمي نديمًا لطعيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب نديمًا لعمرو بن العاص بن وائل السهمي. وكان أبو أمية بن المغيرة المخزومي نديمًا لأبي وداعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، وكانا يسقيان العسل بمكة بعد سويد بن هرمي. وكان أبو قيس بن عبد مناف نديمًا لسفيان بن أمية بن عبد شمس. وكان أبو العاص بن أمية نديمًا لقيس بن عدي بن سهم. وكان يأتي الخَمَّار وبيده مقرعة. فيعرض عليه خمره، فإن كانت جيدة، وإلا قال له: أجد خمرك، ثم يقرع رأسه وينصرف1. وقد يستدعي الملوك في مجالس أنسهم الخاصة من يضحكهم ويسليهم ويجلب لهم البهجة والسرور. من أمثال القصاصين الذي يقصون لهم القصص، والمسامرون الذين يسامرون الملوك بأنواع قصص السمر والحكايات المضحكة الغريبة والأمور المثيرة، والمضحكون الذين يأتون بالنكت وبالأفعال المضحكة لإضحاك الملك.

_ 1 المحبر "ص173 وما بعدها".

وقد كان للملك "النعمان بن المنذر" مضحك اسمه "القرقرة"، كان يضحك منه "النعمان"، واسمه "سعد"1. والقرقرة: نوع من الضحك، اختص بالضحك العالي منه. وقد أدخلوه في المستأكلين والمتطفلين. قالوا: سأله أحد الأشخاص يومًا ما رأيناك إلا وأنت تزيد شحمًا وتقطر دمًا. فقال: لأني لا آخذ ولا أعطي، وأخطئ ولا ألام، فأنا طول الدهر مسرور ضاحك2. وقد جاء في شعر للشاعر "لبيد" وصف مجلس للنعمان، وقد وقف فيه "الهبانيق" أي الوصفاء بأيديهم الأباريق ينتظرون إشارة من أحد جلساء النعمان ليصبوا له خمرًا طيبة من خمور تلك الأباريق. فإذا طلب منهم ملء كأس ساروا إلى الطالب سيرًا فاترًا وبتؤدة ليملأوا له الكأس3. وكانت لهم عادات وتقاليد في مجالس الشرب وفي مجالس الطعام على نحو ما نفعل اليوم في المآدب الرسمية، فكان من عادة ملوك الغساسنة والمناذرة إجلاس السادة الرؤساء والمقربين إليهم على يمينهم وعلى مقربة منهم، تعظيمًا لشأنهم، ودلالة على مكانة الشخص عندهم. فإذا قدم الشراب أو الطعام، قدم إلى الملك أولًا، فإذا شرب منه، أو ذاقه، أمر فقدم الشراب أو الطعام إلى من هو في يمينه. وقد اتبعت هذه العادة عند سائر الناس في الولائم والدعوات. فكان "النعمان بن المنذر" مثلًا إذا همت الوفود التي تفد إليه بالانصراف، أمر باتخاذ مجلس لهم، يطعمون فيه معه، ويشربون. وكان إذا وضع الشراب سقي النعمان، فمن بدأ به على أثره فهو أفضل الوفد. ويذكر أنه أقام مجلسًا ذات يوم ضم فيه من وفود "ربيعة" "بسطام بن قيس" و"الحوفزان بن شريك" البكريّان. وفيمن قدم عليه من وفد "مضر" من قيس عيلان: "عامر بن مالك" و"عامر بن الطفيل"، ومن تميم "قيس بن عاصم" و"الأقرع بن حابس"، فلما انتهوا إلى النعمان أكرمهم وحباهم، وأمر "القينة" أن تسقي "بسطام بن قيس"، المعروف بـ"ذي الجدين" أولًا، ثم تسقي الآخرين. فانزعج بقية

_ 1 اللسان "5/ 98". 2 الثعالبي، ثمار "109". 3 المعاني الكبير "1/ 466 وما بعدها". قال لبيد: وَالهَبانيقُ قِيامٌ مَعَهُم ... كُلُّ مَحجوبٍ إِذا صُبَّ هَمَل ويروى كل ملثوم، تاج العروس "7/ 93"، "الهبنق".

سادات الوفود من هذه المعاملة التي اعتبروها إهانة متعمدة ألحقت بهم1. وإلى هذه العادة، عادة تقديم الأيمن، أشير في شعر عمرو بن كلثوم في هذا البيت: صَبَنتِ الكَأسَ عَنّا أُمَّ عَمرٍو ... وَكانَ الكَأَسُ مَجراها اليَمينا2 و"الردف"، هو الذي يجلس على يمين الملك في قصور الحيرة. فإذا شرب الملك، شرب الردف قبل الناس. وإذا غزا الملك، جلس الردف في مجلسه، وخلفه على الناس حتى يرجع من غزاته. وله المرباع، فهي منزلة كبيرة، ولهذا شرف بالجلوس على يمين الملك، والشرب من بعده. وقد اتخذت هذه المنزلة لإرضاء سادات القبائل وإسكاتهم، ومنعهم بذلك من التحرش بعرب الحيرة. وقد خصصت في "بني يربوع"، وكانوا من القبائل القوية التي تكثر الغارات3. وقد تأثر رؤساء الحيرة وأصحاب الحل والعقد والجاه منهم، والمتصلون بالحكومة الساسانية، بالعادات والرسوم المتبعة عند الفرس، فإذا هم يحاكونهم في مآكلهم وفي مجالس شربهم وأنسهم، وفي طريقة معيشتهم. جاء ذلك إليهم عن طريق اختلاطهم بهم بالطبع وشدة امتزاجهم بهم، فنرى عديّ بن زيد العبادي يذكر "النستق" في شعره. وقد دخلت على الحسناء كلتها ... بعد الهدوء تضيء البيت كالصنم يَنْصِفُها نُسْتُق تكادُ تُكْرِمهم ... عن النَّصافة كالغِزْلانِ في السَّلَم و"النستق" الخدم، وهي من الألفاظ المعربة4. و"الكلّة"، هي الستر الرقيق، ولا تزال تعرف بهذه التسمية في العراق، توضع فوق الفراش وينام تحتها، فتكون كالقبة فوقها، لتمنع البعوض والذباب والحشرات الأخرى من الدخول إلى داخلها ومن إزعاج النائم. وهي "كلتو" Kelto في لغة بني إرم5.

_ 1 العمدة "2/ 220 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "1/ 394"، تاج العروس "9/ 258"، "صبن". 3 اللسان "9/ 116". 4 الجواليقي "ص343"، تاج العروس "7/ 76"، "النستق". 5 غرائب اللغة "ص204".

وكان المتمكنون من أهل الجاهلية يستعملون "الكلل" للتخلص من البعوض. ينصبونها على سرير المنام وينامون تحتها1. ولا بد في المجالس والأندية التي يقصدها الضيوف أو في البيوت من تكريم الرجل بتقديم طيب إليه أو تجميره. ويكون التجمير بمبخرة فيها نار، يرمى عليها شيء من بخور أو مواد أخرى عطرة لتنبعث منها رائحة طيبة تتجه نحو الشخص المراد تكريمه، فيتبخر بها. والتجمير علامة بالطبع من علامات التقدير والتكريم. وهي ما زالت معروفة، وإن أخذت شأن كثير من العادات والتقاليد القديمة بالانقراض. وقد كانوا يجمرون الميت كذلك، إكرامًا له، وهو تبخيره بالطيب. لتكون رائحته طيبة. ورد في الحديث: إذا أجمرتم الميت، فجمروه ثلاثًا2. ونظرًا إلى شح البادية وفقر الحياة وصعوبتها في تلك الأيام، صار الملوك ملاذًا لذوي العسر والحاجات، ولا سيما لأصحاب الألسنة من الشعراء الذين كان للسانهم خطر وأثر في نفوس المجتمع إذ ذاك، فللمديح قيمة وللهجاء أثر في الناس ينتقل بينهم من مكان إلى مكان. فكان هؤلاء يتحايلون ويبحثون عن مختلف المناسبات للوصول إلى الملوك لنيل عطائهم وألطافهم. وكانت مناسبات الشرب والأنس من خيرة المناسبات بالنسبة إليهم، لجو السرور والمرح الذي كان يخيم فيه على الملوك، فيعطون ويجودون ولا يبالون بما يعطون إذا كان صاحب الحاجة لبقًا لطيفًا حلو المعشر، يسيطر بلسانه على الملك، وقد يجعله في عداد المقربين إليه. ولما كانت الدنانير والدراهم، قليلة إذ ذاك، صارت أعطية الملوك لسادات القبائل مالًا في الغالب، والمال عندهم: الإبل. ويعطون الأكسية والألبسة والطعام لهم ولسواد الناس من الفقراء المحتاجين الذين يقفون عند أبواب الملك يلتمسون منهم الرحمة والشفقة والإنقاذ من الجوع. والجائزة العطية. فكان الملوك يجيزون من يطلب منهم الجوائز3 ومنها: "القطوط"، جمع "قط"، وهي الصك بالجائزة والصحيفة للإنسان بصلة يوصل بها. قال الأعشى:

_ 1 تاج العروس "8/ 102"، "كلل". 2 تاج العروس "3/ 109"، "جمر". 3 اللسان "5/ 327 وما بعدها"، "صادر"، "جوز".

ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته، يعطي القطوطَ ويأفق1 ولسادات القبائل أنديتهم أيضًا، يقصدها أشراف القبيلة والناس. وكانوا إذا اجتمعوا تداولوا أمور قبيلتهم وما وقع بين القبائل ونظروا في أيامهم الماضية وقد يتناشدون الأشعار ويتفاخرون2. ويذكر علماء اللغة أن "النادي المجلس يندون إليه من حواليه ولا يسمى ناديًا حتى يكون فيه أهله. وإذا تفرقوا لم يكن ناديًا. وفي التنزيل العزيز: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَر} . قيل: كانوا يحذفون الناس في المجالس، فأعلم الله تعالى أن هذا من المنكر وأنه لا ينبغي أن يتعاشروا عليه ولا يجتمعوا على الهزء والتلهي وأن لا يجتمعوا إلا فيما قرب من الله وباعد من سخطه"3. وقد كان ملأ مكة إذا اجتمعوا في نواديهم تذاكروا أمور ساداتها فغض قوم من قوم، وسخر بعض من بعض وروى بعض عن بعض قصصًا للغض من شأنهم، شأن المجتمعات الفارغة التي لا لهو فيها يلهي ولا عمل فيها يشغل. فكان هذا شأنهم حتى نزل التنديد بفعلهم في القرآن. كما نزل يندد في أمور أخرى كانت من هذا القبيل، مثل "المشمعة"، العبث والاستهزاء والضحك بالناس والتفكه بهم. وفي الحديث: "من تتَبَّعَ المَشْمَعَةَ يُشَمِّعُ اللهُ به". أراد من كان شأنه العبث والاستهزاء والضحك بالناس والتفكه بهم جازاه الله جزاء ذلك. وقال الجوهري: أي من عبث بالناس أصاره الله إلى حالة يعبث به فيها"4. وقد لجأ العرب إلى اتخاذ وسائل للتخفيف من شدة وطأة الحرّ عليهم. إذْ أن الجو حار في بلاد العرب بالصيف. وفي جملة ما استخدموه: "المراوح". ورد أن الناس كانوا يستعملونها للترويح عن أنفسهم5. وللريح أهمية كبيرة في جزيرة العرب وفي البلاد الحارة. إذ أن وقوفه يزعج الناس ويؤذيهم، فلا غرابة إذا ما اعتبروا الرياح رحمة تغيث الناس وتفرج عن كربهم. وتغَنّوا بها وسروّا بهبوبها سرورًا كبيرًا. بهبوب الرياح المنعشة المرطبة التي تحمل المزن لهم. فتصيب الأرض وترويها بما تحمله معها من مزن. ولريح الصبا، ذكريات طيبة عند العرب.

_ 1 اللسان "7/ 382"، "صادر"، "قطط". 2 الأغاني "2/ 52". 3 تاج العروس "10/ 363"، "ندا". 4 تاج العروس "5/ 403"، "شمع". 5 تاج العروس "2/ 152"، "روح".

ولها أثر خالد في الشعر، حتى أنهم كانوا يطعمون عند هبوبها. وهي ريح معروفة تقابل الدبور. سميت بذلك لأنها تستقبل البيت وكأنها تحن إليه. قال ابن الأعرابي مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. وتزعم العرب أن الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء ثم تسوقه، فإذا علا كشفت عنه واستقبلته الصبا، فوزعته بعضه على بعض حتى يصير كسفًا واحدًا، والجنوب تلحق روادفه به وتمده من المدد، والشمال تمزق السحاب1. ومن وسائل التلطيف من حدة الحر، رش الأرض بالماء. أي نفح المكان بالماء2. ورش الحصر المنسوجة من جريد النخل أو من الحلفاء أو من غيرها بالماء، حتى تبرد فينام الإنسان عليها، أو تعليقها ونضحها بالماء. فيبرد الهواء الذي يمر من مساماتها بعض الشيء3. ورش ستر الكرباس والخيش بالماء، ليبرد الهواء الذي يخترق مساماتها، فينعش الجالس أمامها. وكان الوجوه وأشراف البلد إذا أرادوا الانشراح شربوا وسمعوا القيان، وكان لأكثرهم قيان امتلكوها للترفيه عنهم بالغناء. و"القينة" الأمة المغنية أو أعم. يذكر علماء اللغة، أن اللفظة من "التقين" التزين، لأنها كانت تزين. وذكر أن القينة الأمة والجارية تخدم حسب4. و"المغنية" هي التي تغني للناس، والتي اتخذت الغناء حرفة لها، تعيش عليها. ومنهم من يستدعي إليه أصحاب المجون والنوادر والفكاهات والملح للترفيه عنهم. وقد اشتهر بالمزاح رجل اسمه "نعيمان" وكان من أصحاب رسول الله البدريين5. والمجون ألا يبالي الإنسان بما صنع. والماجن عند العرب: الذي يرتكب المقابح المردية والفضائح المخزية، ولا يمضه عذل عاذله ولا تقريع من يقرعه6، ولا يبالي قولًا وفعلًا لقلة استحيائه7.

_ 1 تاج العروس "10/ 206"، "صبا". 2 تاج العروس "4/ 312"، "رش". 3 تاج العروس "3/ 144"، "حصر". 4 تاج العروس "9/ 316"، "قان". 5 نهاية الأرب "4/ 3". 6 اللسان "13/ 400"، "صادر" "مجن". 7 تاج العروس "9/ 341"، "مجن".

والمزاح: الدعابة، والمزح نقيض الجد1. وليس في طبع العربي ميل إلى المزاح، إذ يراه منقصة بحق الرجل وإسفافًا يعرضه إلى التهكم والازدراء به. وذكر بعض علماء اللغة أن الدعابة المزاح مع لعب2. وقيل: يتكلم بما يستملح3.

_ 1 اللسان "2/ 593"، "صادر" "مزح"، تاج العروس "2/ 222"، "مزح". 2 تاج العروس "2/ 407"، "الكويت"، "دعب". 3 تاج العروس "1/ 247"، "دعب".

الخصومات

الخصومات: ويقع النزاع بين الناس، يقع بين الأهل كما يقع بين الجيران أو بين الأباعد. وقد يتحول إلى "عراك" وإلى وقوع معارك1. والمشاجرة الخلاف والاشتباك. وقد تكون المشاجرة بسيطة بأن يشاتم ويسابب طرف طرفًا آخر. ويعبر عن ذلك باللحاء. ونظرًا لجهل الناس في ذلك الوقت، فشا السباب والتشاتم بينهم. بين الرجال والرجال وبين النساء والنساء وبين الجنسين. وإذا طال واشتد تدخل الناس في الأمر لإصلاح ذات البين. وقد تتطور الخصومة البسيطة فتتحول إلى خصومة كبيرة يساهم فيها آل المتخاصمين وأحياؤهم، وقد يقع بسبب ذلك عدد من القتلى. وقد حفظت كتب الأخبار والأدب أسماء معارك وأيام، سقط فيها عدد من القتلى بسبب خصومات تافهة، كان بالإمكان غض النظر عنها، لو استعمل أحد الجانبين الحكمة والعقل في معالجة الحادث.

_ 1 الحيوان "7/ 96"، "عداوات الناس"، "هارون".

قتل الوقت

قتل الوقت: وقد أشرت إلى أن "النعمان بن المنذر" كان يستخدم المضحكين، وعلى رأسهم "سعد القرقرة" لإضحاكه. وقد عد في المستأكلين والمتطفلين. وقد استعان السادة والأشراف بالمضحكين أيضًا ليقصوا لهم القصص المضحك. والقرقرة الضحك إذا استغرب فيه. وقد لقب بها سعد هازل النعمان بن المنذر ملك الحيرة. كان يضحك منه1. وكان من أهل هجر2.

_ 1 تاج العروس "3/ 488 وما بعدها"، "قرر". 2 تاج العروس "6/ 136"، "سدف".

والمخنثون مادة من مواد التسلية والفكاهة والطرب. وقد خصي بعضهم، وعادة الخصاء عادة قديمة معروفة عند مختلف الشعوب، ذلك لأنهم كانوا يدخلون على النساء في البيوت، فخصوا اتقاء حدوث اتصال بين هؤلاء والنساء. وكان في المدينة على عهد الرسول ثلاثة من المخنثين: هيت، وهرم، وماتع، فسار المثل من بينهم بهيت، فقيل: أخنث من هيت1. ومن المخنثين في الإسلام طويس، ويقال له: إنه أول من غنى بالمدينة في الإسلام، ونقر الدفّ المربع. وكان أخذ طرائف الغناء عن سبي فارس. وقد خصي مع غيره من المخنثين. وكان مألوفًا خليعًا يضحك كل ثكلى2. وقد عير العرب بالخنث، والخنث من فيه انخناث وتثن. وهو المسترخي. وهو جبان لا يطيق القتال. وتكون المرأة أشجع منه مع أنه رجل. ويقال للجمع: "الخناث". قال الشاعر: لعمرك ما الخناث بنو قشير ... بنسوان يلدن ولا رجال3 والمحمقون مادة من مواد التسلية والترويح عن النفس. ومنهم من اتخذ التحمق وسيلة للوصول إلى الملوك والسادات. ومنهم من كان محمقًا بطبعه. مثل هؤلاء يكونون وسيلة من وسائل السمر، بما يظهر منهم طبعًا أو تصنعًا من حمق. وقد عرف "نعامة"، واسمه "بيهس"، بالتحمق، فقيل: "أحمق من بيهس". وهو من "بني ظالم بن فزارة"4. وذكر أنه أحد الأخوة السبعة الذين قتلوا وترك هو لحمقه. وهو القائل: ألبس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها5 واشتهرت بمكة امرأة عرفت بالحمق. قيل لها: "خرقاء مكة". ذكر أنها كانت إذا أبرمت غزلها نقضته. فاشتهر أمرها حتى ضرب بها المثل. وإليها أشير

_ 1 مجمع الأمثال "1/ 260"، إرشاد الساري "10/ 26 وما بعدها". 2 مجمع الأمثال "1/ 268 وما بعدها". 3 تاج العروسة "1/ 619 وما بعدها"، خنث". 4 المعارف "ص37"، "83"، "طبعة ثروت عكاشة". 5 تاج العروس "9/ 79"، "نعم".

في القرآن في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} 1. "وقيل: المراد امرأة معينة من قريش: ريطة بنت سعد بن تيم. وكانت خرقاء. اتخذت مغزلًا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع. وهي الحديدة في رأس المغزل وفلكه عظيمة على قدرها. وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن"2. وذكر أن تلك المرأة هي: "ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة"، وكانت امرأة حمقاء بمكة، وكانت تفعل ذلك3. والظاهر أن أهل مكة كانوا يتندرون بذكر حمقها، فضرب القرآن بها المثل لتذكير قريش قومها بها، لئلا يكونوا مثلها في الحمق. وعرف الجاهليون لونًا آخر من ألوان الترويح عن النفس والترفيه عنها، هو التنزه في البساتين وفي مواطن الكلأ والأماكن الجميلة من البادية في أيام الربيع حيث تكتسي ببسط من الخضرة، وحيث تظهر الأزهار البرية، ذات الروائح الزكية. فكان ملوك وأهل الحيرة يقضون أيامًا في المتنزهات القريبة منهم وفي مواطن في البادية يروحون عن أنفسهن ويتلهون بالصيد. وكان أهل يثرب يخرجون إلى "العقيق" متنزههم للتسلية4. وهكذا فعل غيرهم من سكان بلاد الشام وجزيرة العرب. ومن ملوك الحيرة الذين ارتبط اسمهم باسم الأزهار التي تجود بهام البوادي أيام الربيع الملك "النعمان بن المنذر" فقد قيل للشقائق التي تنبتها البادية، مثل أرض النجف، "شقائق النعمان". قيل: إنها دعيت باسمه لأنه جاء إلى موضع وقد اعتم نبته من أصفر وأحمر، وإذا فيه من هذه الشقائق ما راقه ولم ير مثله، فحماها فسميت "شقائق النعمان" بذلك5. وكان من عادة أهل مكة الذهاب إلى الطائف في أيام القيظ، للتخلص من حر مكة الشديد، لطيب هواء الطائف واعتداله، ولوجود الماء البارد بها الخارج من العيون والآبار. ولوجود مختلف الأثمار والخضرة بها. وقد كان لأغنياء مكة

_ 1 سورة النحل، 16، الآية 92، تفسير الطبري "14/ 11". 2 تفسير النيسابوري، حاشية على تفسير الطبري "14/ 113". 3 الجامع لأحكام القرآن "10/ 171". 4 الأغاني "2/ 167" "طبعة الساسي". 5 تاج العروس "6/ 398".

أملاك بها وبساتين استغلوها. ومنهم من كان يذهب إلى بلاد الشام للاتجار ولتمضية الصيف هناك. وكان في جملة ما ابتكره الجاهليون لقطع الوقت "الأغلوطات"، وهي صعاب المسائل، فيطرح سائل ما سؤالًا عويصًا على المستمعين، ويطلب منهم أن يعملوا فكرهم لحلّه، وقد ورد في الأخبار أن الرسول نهى عن "الأغلوطات"1. وقيل: "الغلوطات". وهي الكلام الذي يغلط فيه ويغالط به2. وكان تناشد الشعر والتساجل فيه من جملة الأمور التي أمضوا أوقاتهم بها. فكان أحدهم يطارح صاحبًا له أو جملة أصحاب له الشعر، وقد يجتمع الأصدقاء حولهم ليروا الفائز من المتبارين. والفائز هو من يبز غيره في الحفظ، إذ يبقى يطارح أصحابه ما يحفظ حتى يعجزهم، فيغلبهم ويكسب الفوز. وقد يكون ذلك برهن يعطى للغالب، وقد يكون بغير رهن. والمساجلة المباراة والمفاخرة في الأصل، بأن يصنع كل من المتبارين صنعه في شيء فمن بقي وبز صاحبه غلبه. وهكذا تكون في الشعر، فمن يثبت يكسب المساجلة3.

_ 1 العقد الفريد "2/ 225"، تاج العروس "5/ 193"، "غلط". 2 اللسان "7/ 363". 3 تاج العروس "7/ 370"، "سجل".

اللباس

اللباس: جاء في بعض الأخبار: "كل ما شئت والبس ما شئت"1. ولكن الشائع بين الناس "كل ما شئت والبس ما يشتهي الناس"، ذلك لأن اللباس مظهر، وعلى الإنسان أن يظهر في خير مظهر أمام الناس. وقد ورد أن العرب تلبس لكل حالة لبوسها2. وينطبق ذلك على السراة وذوي اليسار والثراء بالطبع، أما سواد الناس، فلم يكن من السهل عليهم الحصول على اللباس. إذ كان غاليًا مرتفع الثمن بالنسبة لأوضاعهم الاقتصادية. فكانوا يسترون أجسامهم بأسمال بالية وبكل ما يمكن أن يستر الجسم به. وكسوة العرب، تختلف وتتباين، باختلاف الشخص وباختلاف الجماعة التي

_ 1 إرشاد الساري "8/ 417"، عيون الأخبار "1/ 296"، "باب اللباس". 2 اللسان "6/ 202 وما بعدها".

ينتسب إليها والمكان الذي يعش فيه. فللأعراب ألبسة وذوق، ولأهل المدر أذواق وأمزجة في اللباس، تتباين فيما بينها، بتباين المنزلة والمكانة والحرفة. ولذوي اليسار والثراء ألبسة فاخرة، يستوردونها من الخارج في بعض الأحيان، فيها أناقة وفيها تصنع، وهي من المواد الغالية الثمينة في الغالب، لا يتاح لغير الموسرين الحصول عليها. ثم إن بعض الناس يفضلون لونًا يعافه بعض آخر ويتجنبه. فكان الكاهن لا يلبس المصبغ، والعرف لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر، ولحرائر النساء زيّ، ولكل مملوك زي، يتساوى في ذلك لباس الرأس ولباس البدن1. وقد كان أثرياء مكة ويثرب والقرى والقبائل يلبسون الملابس الفاخرة المصنوعة من الحرير ودقيق الكتان والخز، وغير ذلك من الثياب الغالية الرقيقة، المستوردة من دور النسيج المعروفة في جزيرة العرب ومن خارجها، ويلبسون النعال الجيدة، مثل النعل الحضرمية المشهورة بمكة، ويتعطرون بعطور غالية ثمينة2، ويركبون الدواب الحسنة المطهمة مبالغة في التباهي والتظاهر. وتختلف كسوة الرأس عند العرب باختلاف منزلة الرجل ومكانته ووضعه وحاله. و"العمامة" هي فخرهم وعزهم وأفخر ملبس يضعونه على رءوسهم. حتى قيل: "عمم الرجل: سوّد؛ لأن تيجان العرب العمائم، فكما قيل في العجم: توج من التاج، قيل في العرب: عمم"، "والعرب تقول للرجل إذا سود: قد عمم، وكانوا إذا سودوا رجلًا عمموه عمامة حمراء"3. وورد عن عمر قوله: "العمائم تيجان العرب4". وهي تعد عادة من عادات العرب5. خاصة العرب أصحاب الجاه والمكانة والنفوذ من حضر وبادية، فإنها تميزهم عن بقية الناس. وقد جاء في الخبر: "أن العمائم تيجان العرب". "وكان يقال: اختصت

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 406 وما بعدها". 2 طبقات ابن سعد "3/ 116" "طبعة صادر". 3 اللسان "12/ 425" "صادر". 4 البيان والتبيين "2/ 88". 5 بلوغ الأرب "3/ 410"، اللسان "12/ 424 وما بعدها".

العرب من بين الأمم بأربع: العمائم تيجانها، والدروع حيطانها، والسيوف سيجانها، والشعر ديوانها"1. وتعد العمامة من لبس الطبقة العالية والمترفة، وذلك لأن الطبقة الفقيرة والعامة لم تكن تتمكن من اقتنائها، وإنما تضع على رأسها أغطية أخرى، أخف وزنًا وثمنًا من العمامة، ولذلك كانوا إذا أرادوا التعبير عن رخاء شخص، قالوا: "أرخى عمامته: أمن وترفه، لأن الرجل إنما يرخي عمامته عند الرخاء"2. وجاء في الحديث: أنه كان يتعوذ من الحور بعد الكور، أي من النقصان بعد الزياد. وهو من تكوير العمامة، لأن الكور تكوير العمامة، والحور نقضها، وتكوير العمامة دلالة على الرخاء وحسن الحال، والحور يعني تغير الحال كما ينتقض كور العمامة بعد الشد3. ففي تكوير العمائم، دلالة على النعمة والرخاء. إذ لم يكن في وسع الفقير شراء قماش يعمم به رأسه على سنة الأغنياء. فكيف به يعمم رأسه بعمامة كبيرة. ولم يكن تكوير العمامة العلامة الوحيدة الدالة على الغنى والجاه، بل كان الإسراف في إطالة الردن والذيل في الثوب من علائم الغنى والجاه أيضًا. فقد كان السادات والأغنياء يطيلون الأردان وأذيال الثياب، حتى تصير تلامس الأرض، للتعبير عن غناهم وكثرة مالهم وأنهم لا يبالون بالمال ولا بالثياب فيتركونها تجر الأرض وراءهم من سعة عيشهم. بينما لم يكن في وسع الفقير أكساء جسمه حتى بالأسملة. وللعمامة منزلة كبيرة عند العرب. فهي تعبر عن شرف الرجل وعن مكانته، فإذا اعتدي عليها أو أهينت، لحق الذل بصاحبها، وطالب بإنصافه وبأخذ حقه. وإذا أهين شخص أو شعر بإهانة لحقت به، ألقى بعمامته على الأرض، ونادى بوجوب إنصافه. ويعدّ اللوذ بعمامة رجل، وذكرها من موجبات الوفاء والإنصاف لمن لاذ بها. "وإذا قالوا سيد معمم، فإنما يريدون أن كل جناية يجتنيها الجاني في تلك العشيرة، فيه معصوبة برأسه"4. كما يريدون بذلك السيادة لأن تيجان العرب العمائم، فكما قيل في العجم: توج من التاج. قيل في العرب: عمم. وكانوا

_ 1 الثعالبي، ثمار القلوب "159". 2 اللسان "12/ 425". 3 اللسان "5/ 155 وما بعدها"، "صادر"، "كور". 4 بلوغ الأرب "3/ 409"، البيان والتبيين "3/ 52".

إذا سودوا رجلًا عمموه عمامة حمراء. وكانت الفرس تتوج ملوكها فيقال له: المتوج1. ويدل سيماء العمامة على مكانة حاملها، فلقماش العمامة وللونها ولشكلها العام، أي كيفية تكويرها، دلالة على مكانة صاحبها ومنزلته في المجتمع. فعمامة المترفين المتمكنين هي من أقمشة فاخرة، نسجت بعناية، منها عمائم الديباج والخز، وذكر أن العمائم المهراة، وهي الصفرة، هي لباس سادة العرب2. وأن بعض السادة مثل "الزبرقان بن بدر" كانوا يصبغون عمائمهم بصفرة، ويعصفرونها بالعصفر وإلى ذلك أشار الشاعر بقوله: وَأَشهَدُ مِن عَوفٍ حُلولًا كَثيرَةً ... يَحُجّونَ سَبَّ الزَبرَقانِ المُزَعفَرا والسب: العمامة3. وورد في الحديث "كانت عمائم العرب محنكة" أي طرف منها تحت الحنك4. وقد جرت عادة العرب بإرخاء العذبات، وقد يزيدون في ذلك دلالة على الوجاهة والغنى5. ويذكر علماء اللغة أن "من أسماء العمامة: العصابة، والمقطعة، والمعجر، والمشوذ، والكوارة"6. وقيل: إن العصابة والعمامة سواء7. وقد كان السادات يتفننون في لبس العمامة وفي اختيار ألوانها، فكانوا يختارون لكل مناسبة لونًا، فكان بعضهم إذا قاتل لبس عمامة حمراء، ولبس بعضهم عمامة صفراء أو سوداء. يتبع ذلك مزاج لابسها وعمره، ونُظر إليها على أنها جمال الرجل، ومظهره الذي يظهر به. ورد أن علي بن أبي طالب كان يقول:

_ 1 تاج العروس "8/ 410"، "عم". 2 بلوغ الأرب "3/ 408"، فقه اللغة، للثعالبي، "242"، "مطرف خز وعمامة خز وجبة خز"، الطبقات، لابن سعد "7/ 37". 3 بلوغ الأرب "2/ 408"، شرح ديوان حسان "ص245" "للبرقوقي"، تاج العروس "1/ 292"، "سب". 4 بلوغ الأرب "3/ 408". 5 إرشاد الساري "8/ 420". 6 بلغ الأرب "3/ 408". 7 البيان والتبيين "3/ 95".

جمال الرجل في عمته، وجمال المرأة في خفها1. وفي الأمثال: "أجمل من ذي عمامة"، وهو مثل من أمثال مكة، قيل: إنهم قالوه لسعيد بن العاص بن أمية، المعروف عندهم بـ"ذي العمامة". وكان في الجاهلية إذا لبس عمامة، لا تلبس قريش عمامة على لونها. وقيل: إنه كناية عن السيادة. وذلك لأن العرب تقول: فلان معمم، يريدون أن كل جناية يجنيها الجاني من تلك القبيلة والعشيرة، فهي معصوبة برأسه. وإلى مثل هذا ذهبوا في تسميتهم سعيد بن العاص، ذا العمامة، وذا العصابة2. وربما جعلوا العمامة لواء، فينزع سيد القوم عمامته، ويعقدها لواء، وفي ذلك معنى التقدير والاحترام، لأنها عمامة سيد القوم، وربما شدوا بها أوساطهم عند التعب والمجهدة3. وما يكون تحت الحنك من العمامة هو "الحنكة". أما ما أرسل منها على الظهر فهو الذؤابة. وأما "القفدة" فأعلى العمامة. والعمة العجراء. هي العمة الضخمة. وفي العمامة الكور، وهي الطرائق التي يعصب بها الرأس4. ولطريقة شد العمامة ووضعها على الرأس أسماء، وضعت لكل شدة أو طريقة من طرق وضعها فوق الرأس. ويختلف حجم العمامة وألوانها باختلاف العمر أيضًا. فللشاب عمائم تميزهم عن الكهول والشيوخ. كما يختلفون عنهم في اختيار ألوان الألبسة. وذكر أن الرسول كانت له عمامة تسمى السحاب، وكان يلبسها ويلبس تحتها "قلنسوة". وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ويلبس العمامة بغير قلنسوة. وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه. ولما دخل مكة، دخلها وعليه عمامة سوداء5. ووضعت القلنسوة على الرأس كذلك، فورد أن خالد بن الوليد كان يضع قلنسوة على رأسه6. وقد لبسها الرسول. وكانت معروفة عند الجاهليين وأشير إليها في الشعر. ولفظة "قلنسوة" من الألفاظ المعربة عن "اللاتينية". عربت من Calantica. ويراد بها ضرب من ملابس الرأس7.

_ 1 البيان والتبيين "2/ 88". 2 مجمع الأمثال "1/ 197". 3 البيان "3/ 105"، بلوغ الأرب "3/ 412". 4 بلوغ الأرب "3/ 412". 5 زاد المعاد "1/ 34 وما بعدها"، "فصل في ملابسه". 6 الأغاني "15/ 12". 7 غرائب اللغة "279".

وقد كان الجاهليون يوفقون أيضًا بين نوع ملابسهم، فكانوا يلبسون مثلًا عمامة خز مع جبة خز ومطرف خز1 وذلك للتناسق في اللباس. وجعلوا العمامة شعارًا للعرب ورمزًا لهم، إذا زال زالت عروبتهم. "قال غيلان بن خرشة للأحنف: يا أبا بحر. ما بقاء ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلدوا السيوف، وشدوا العمائم، واستجادوا النعال، ولم تأخذهم حمية الأوغاد"2. وورد "في الخبر، إن العمائم تيجان العرب، فإذا وضعوها وضع الله عزهم". وقيل: اختصت العرب: بالعمائم تيجانها، وبالدروع وبالسيوف وبالشعر3. وعرفت "المساتق" في الحجاز. وهي فراء طوال الأكمام، واحدتها "مستقة". وذكر الجواليقي أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأنها "مشته" في لغة الفرس. وروي أن الرسول كان يصلي وعليه مستقة، وأن مستقته من سندس مبطنة بالحرير، أهديت إليه4. ذكر أن ملك الروم أهداها إليه5. وأما الجبة، فهي من ألبسة الموسرين كذلك، لأنها غالية، تكون من خز، وتكون من ديباج ومن أقمشة أخرى. وقد ذكر أن الأكيدر أهدى إلى الرسول جبة من ديباج منسوج فيها الذهب6. وقد تكون واسعة الكمين، كما تكون ضيقتهما. وقد لبس الرسول في السفر جبة ضيقة الكمين7. وذكر أنه قد كانت عند "أسماء بنت أبي بكر" جبة لرسول الله، "طيالسية خسروانية لها لينة ديباج وفرجاها مكفوفان بالديباج. فقالت هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يلبسها، فنحن نغلسها للمريض نستشفي بها"8. وتعدّ الجبب من مقطعات الثياب. فقد اصطلح علماء اللغة على تقسيم الثياب إلى مقطعات وغير مقطعات. والمقطع من الثياب كل ما يفصل ويخاط من قميص

_ 1 الطبقات "7/ 23". 2 بلوغ الأرب "3/ 409". 3 الثعالبي، ثمار "159". 4 الجواليقي "ص308". 5 زاد المعاد "1/ 35". 6 الطبقات "7/ 23"، الإصابة "1/ 126". 7 زاد المعاد "1/ 35". 8 زاد المعاد "1/ 35"، مسند ابن حنبل "4/ 307".

وجباب وسراويلات وغيرها، وما لا يقطع منها كالأردية والأزر والمطارف، والرياط التي لم تقطع، وإنما يتعطف بها مرة ويتلفع بها أخرى1. والجبب مثل سائر الثياب، لا تكون بلون واحد. فقد تكون بيضاء، وقد تكون سوداء، وقد تكون حمراء، وقد تكون خضراء، ويختار لابسها اللون الذي يلفت نظره. وقد تكون له جملة جبب بألوان مختلفة، يلبس صاحبها الجبة التي يلائم لونها المناسبة والمكان الذي يذهب إليه. و"البرنس"2: قلنسوة طويلة، أو كل ثوب رأسه منه، ملتصق به، درّاعة كان أو جبة، أو ممطرًا. وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام3. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية، عربت من أصل "فيروس" Virros، بمعنى ثوب عريض الكمين، غطاء الرأس ملتص به، أي: هو جزء منه. ويلبس عندهم فوق الثياب4. و"القميص" من الثياب المقطعة. ذكر بعض علماء اللغة أنه لا يكون إلا من قطن أو كتان. وأما من الصوف فلا. والظاهر أنهم خصصوه بالقطن أو الكتان للغالب5. وذكر أن الرسول لبس قميصًا من قطن، وكان قصير الطول، قصير الكمين. والظاهر أن هذه الصفة كانت هي الصفة الغالبة على القمصان، ثم طولت فيما بعد ووسعت أكمامها6. و"الخميصة" من الألبسة القديمة. وهي ثياب من خز ثخان سود وحمر ولها أعلام ثخان أيضًا. وذكر أن الخميصة كساء أسود مربع له علمان، فإن لم يكن معلمًا، فليس بخميصة. وذكر أنها قد تكون من خز أو صوف. والظاهر أنهم كانوا لا يسمون الخميصة خميصة، إلا إذا كانت ذات أعلام. وهي من ألبسة الموسرين7. و"الرداء"، الوشاح، ويقع على المنكبين ومجتمع العنق8. وهو ما يشمر

_ 1 اللسان "8/ 283"، "قطع"، تاج العروس "1/ 172"، "جيب". 2 بالضم. 3 اللسان "6/ 26"، "برنس"، تاج العروس "4/ 108"، "البرنس". 4 غرائب اللغة "255". 5 تاج العروس "4/ 428"، "قمص". 6 زاد المعاد "1/ 43"، ابن سعد، الطبقات "3/ قسم1 ص17". 7 تاج العروس "4/ 390"، "خمص". 8 تاج العروس "10/ 148"، "ردى".

على النصف الأعلى من الجسم لتغطيته، ويكون من قطعة واحدة من القماش، يلف على هذا النصف. قد يكون طويلًا واسعًا، وقد يكون قصيرًا. وقد يلف على الجسم رأسًا، وهو الغالب، وقد يلف فوق ألبسة أخرى. و"الإزار" الملحفة، وما يستر أسفل البدن، والرداء ما يستر به أعلاه. وكلاهما غير مخيط. وقيل: الإزار ما تحت العاتق والظهر. ولا يكون مخيطًا فهو قطعة قماش، يلف به القسم الأسفل من البدن لستره1. يختلف طوله وعرضه حسب رغبة لابسه. ويلبس الإزار مع الرداء في الغالب، وقد تلبس معه ألبسة أخرى. و"النمرة" شملة فيها خطوط بيض وسود، وبردة مخططة من صوف تلبسها الأعراب. وذكر أن كل شملة مخططة من مآزر الأعراب، فهي نمرة. وجمعها أنمار ونمار. كأنها أخذت من لون النمر، لما فيها من السواد والبياض. وقد لبس النبي النمار. وورد: نبطي في حبوته، أعرابي في نمرته أسد في تامورته2. والمطرف: رداء من خز مربع، له أعلام. وهو من الأردية التي يلبسها الأغنياء وذوو اليسار. وذكر أن المطرف رداء في طرفيه علمان3. ولبس الجاهليون القباء. وقد كان كسرى قد أهدى "الأكيدر" قباءًَ من ديباج منسوج بالذهب4. وكان من عادة الأكاسرة أن يكسوا الرؤساء وسادات القبائل أقبية من الديباج، للتلطف والاسترضاء. واكتسبت البرد اليمانية شهرة كبيرة بين الجاهليين، وبقيت شهرتها في الإسلام، وهي ذات ألوان. وفي كتب الأخبار: إن وفد رؤساء مكة حينما ذهبوا على سيف بن ذي يزن، لتهنئته، ودخلوا عليه في قصر غمدان، وجدوه متضمخًا بالعنبر، يلمع وبيص المسك في مفرق رأسه، وعليه بردان أخضران قد ائتزر بأحدهما5. واشتهرت برود "تزيد" عند العرب كذلك وضرب بها المثل، كما يضرب

_ 1 تاج العروس "3/ 11"، "أزر". 2 تاج العروس "3/ 585"، "نمر". 3 فقه اللغة "246". الطبقات "7/ 23"، البيان "1/ 206". 4 الإصابة "1/ 126". 5 العقد الفريد "2/ 23 وما بعدها"، الثعالبي، ثمار القلوب "598".

ببرود اليمن. وذكر أن العرب تنسب البرود الفاخرة إلى تزيد، وتزعم أنها قبيلة للجن1. ولبس الجاهليون الألبسة الحمراء مثل: المياثر الحمر والألبسة الحمراء البحتة القانية. وذكر أن الرسول نهى عن لبس الألبسة الحمراء الخالصة التي لا يخالط لونها هذا لون آخر. ولم ينه عن لبس الألبسة المخططة بحمرة مع لون آخر، مثل الحلل اليمانية، وهي إزار ورداء، منسوجان بخطوط حمر مع الأسود. كما نهى الرجال من لبس الربط المضرجة بالعصفر، لأنها من لبس الكفار2. ولبس العرب الثياب المصبغة، وذكر أن ساداتهم كانوا يصبغون ثيابهم بالزعفران. وأن من صبغ ثيابه به "ذو المجاسد"3. وهو من حكام الجاهلية وفقهائها. وذكر أن العرب كانت مصفقة على توريث البنين دون الأناث، فورث ماله لولده في الجاهلية للذكر مثل حظ الأنثيين. فوافق حكم الإسلام4. وورد أن ملحفة رسول الله التي يلبس في أهله مورسة حتى أنها لتردع5 على جلده6. وقد كان الأغنياء والشباب يبالغون في ألبستهم، فكان منهم من يشمر ثوبه، ومنهم من يسبله ويتركه يجر الأرض، ومنهم من يبالغ في ردائه خيلاء وتيهًا وتكبرًا. ونظرًا إلى ما يتركه من أثر في نفوس الفقراء، وإلى ما فيه من إسراف وتبذير في استعمال الأقمشة، نهي عن فعل ذلك في الإسلام. وورد النهي عن ذلك في كتب الحديث7. وورد النهي عن لبس القمصان ذات الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج، لأنها من جنس الخيلاء8. ويلبس العرب النعال في أرجلهم، ويفضلونها على غيرها من ألبسة الرجل مثل الخف. وقد ورد ذكرها في شعر النابغة9. وتصنع من الجلود المدبوغة، ولا سيما

_ 1 الثعالبي، ثمار "598". 2 زاد المعاد "1/ 35". 3 تاج العروس "2/ 320"، "جسد". 4 المحبر "236، 324". 5 تردع تنفض صبغها. 6 عيون الأخبار "1/ 296"، "باب اللباس". 7 إرشاد الساري "8/ 416"، "كتاب اللباس". 8 زاد المعاد "1/ 35". 9 رِقاقُ النِعالِ طَيِّبٌ حُجُزاتُهُم ... يُحَيّونَ بِالريحانِ يَومَ السَباسِبِ البيان "3/ 107".

جلود البقر1. ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من حذا النعال هو جذيمة الأبرش بن مالك2. وقد ضرب العرب المثل بموضع تجميع الأنعلة في الذلة والهوان. فقيل: هو في صف النعال، لا في صف الرجال3. دلالة على أن الرجل من الطبقة الذليلة. والخفاف، جمع الخف، هي في منزلة النعل عند العرب. لبسوها في أرجلهم، وشاع استعمالها بين أهل المدر في الحجاز وفي الأمكنة الأخرى. وذكرت في كتب الفقه، في باب الوضوء والصلاة، حيث جوز الفقهاء المسح على الخفين. وورد النهي باستعمال الخفين للمحرم إلا عند عدم النعلين4، وذلك يدل على استعمال أهل الحجاز للخفاف قبيل الإسلام. ومن الخفاف، نوع يقال له: "الموزج"، ويذكر بعض علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها "موزه"5. وهناك نوع آخر يسمى "الموق" ويجمع على "أمواق"، وقد عرف بأنه خف غليظ يلبس فوق الخف. ويظهر من بيت للشاعر المخضرم النمر بن تولب، إن العباديين كانوا يلبسون الأمواق إذ وصف مشية النعاج بمشي العباديين في الأمواق6. وورد في الأخبار: أن العرب تلهج بذكر النعال، والفرس تلهج بذكر الخفاف7. وورد أن النساء كن يلبسن الخفاف، وقد ورد أن أصحاب رسول الله كانوا ينهون نساءهم عن لبس الخفاف الحمر والصفر. ويقولون: هو من زينة آل فرعون8. ويعني هذا أن نساء الجاهلية كن يلبسن الخفاف الملونة، فوجد المسلمون أن في ذلك تقليدًا للأعاجم فأمروهن بنبذ الملون منها.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 415". 2 المعارف "ص241". 3 الثعالبي، ثمار "607". 4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص149". 5 الجواليقي "ص311". 6 فترى النعاج به تمشي خلفه ... مشى العبادين في الأمواق الجواليقي "ص311"، جمهرة ابن دريد "3/ 166". 7 البيان "3/ 106". 8 بلوغ الأرب "3/ 413".

وقد ضرب العرب المثل بخفي حنين عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة. فيقال: رجع بخفي حنين. وكان حنين إسكافًا من أهل الحيرة، فساومه أعرابي بخفين، فاختلفا حتى أغضبه الأعرابي، وأراد حنين غيظ الأعرابي، فلما ارتحل أخذ أحد خفيه، فطرحه، ثم ألقى الآخر في مكان آخر، فلما مر الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا الخف بخفي حنين ولو معه الآخر لأخذته، ومضى فلما انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأول، فأناخ راحلته ورجع في طلب الأول، وقد كان حنين كمن له، فعمد إلى راحلته وما عليها فذهب بها، وأقبل الأعرابي وليس معه إلا خفان. فقال له قومه: ماذا جئت به من سفرك؟ قال جئتكم بخفي حنين. فذهبت كلمته مثلًا1. وحيث أني سأتكلم عن ملابس الجاهليين بشيء من الإطناب في أثناء حديثي عن الحرف، لذلك أكتفي بما ذكرته في هذا الموضع عن الملابس، على أمل التحدث عنها في ذلك المكان. ومن عادة أهل "نجد" الاستصباح بـ "الداذين". مناور من خشب الأرز ليستصبح بها. وهي بنجد من شجر المظ2. ومصابيح القوم من الفخار، أي الطين المشوي بالنار، يوضع في بطنه زيت الوقود تتصل به فتيلة تولع بالنار، ليستضاء بها، وذلك في الأماكن التي يندر فيها استعمال الحجر. أما في الأماكن الجبلية ذات الحجر، فتستعمل كذلك المصابيح المستعملة من الحجر، وخاصة في بيوت الكبار والموسرين. ويستعملون فيها زيت الزيتون. ولا يزال بعض الناس يستعملون هذه "الضواية" في الإنارة3، وتعرف بـ "المسرجة" كذلك. و"السراج" هو المصباح والنبراس. و"القراط" شعلة السراج، و"الذبال" ما يحمل "السراج". ويقال: سَغْم المصباح، أي مده بالزيت. والنسيلة الفتيلة في بعض اللغات. والمشاعل القناديل والزهليق السراج في القنديل4. أما الأعراب، فلم يكونوا يعرفون المصابيح، ومصابيحهم نجوم السماء وضوء القمر يهتدون بها ويستلهمون منها معنى الحياة.

_ 1 الثعالبي، ثمار "606". 2 تاج العروس "9/ 198"، "ددن"، اللسان "13/ 153"، "دذن". 3 نزية مؤيد العظم "ص78". 4 المخصص "11/ 38 وما بعدها".

المأكل والمشرب

المأكل والمشرب: يختلف أكل العرب عن أكل الأعراب. كما يختلف أكل أهل كل مكان عن أكل أهل مكان آخر من جزيرة العرب. وأكل الحضر، متنوع نوعًا ما بالنسبة إلى مأكول أهل الوبر. لفقرهم ولشح باديتهم ولذلك صار طعام الأعراب على العموم بسيطًا. وقد أثر اختلاف نوع الطعام على هيئة الإنسان ووزن جسمه. فصار جسم الأعرابي نحيفًا في الغالب، لبساطة أكله، وقلة المواد النشوية والدهنية فيه. ومن عادات العرب أنهم يقلون من الأكل. ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، و"البطنة تأفن الفطنة". وكانوا يعيبون الرجل الأكول الجشع. ويرون أن "الأزم"، أي قلة الأكل أفضل دواء لصحة الأبدان. قيل للحارث بن كلدة، طبيب العرب في الجاهلية: ما أفضل الدواء؟ قال: الأزم. ولهم في ذلك أمثلة كثيرة في الأزم، وضرر البطنة. رووا بعضًا منها على لسان لقمان، ورووا بعضًا آخر على ألسنة الحكماء العرب. وهم يعالجون البطنة بالحمية. لأن المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء1. وهم يرون أن الشبع والامتلاء يضعف الفطنة. أي الشبعان لا يكون فطنًا2 لبيبًا. فللأكل علاقة كبيرة بالفطنة والعقل والذكاء. وللعرب مصطلحات عديدة في درجات الأكل. أي من حيث كيفية تناول الطعام، ومن حيث الإقبال عليه إلى حد التخمة. ولما كان الإكثار من الأكل معيبًا عندهم وضعوا ألفاظًا في هؤلاء الذين كانوا يسرفون في الأكل، فإذا دعوا إلى وليمة أسرفوا في الأكل، وأقدموا عليه، وكأنهم جاءوا من سني قحط. وعابوهم، ومدحوا من اعتدل في أكله وتوسط فيه، وأظهر نظافة وأدبًا في تعاطيه3.

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 370 وما بعدها". 2 اللسان "13/ 19"، "أفن". 3 بلوغ الأرب "1/ 379".

ومن عادات العرب، أنهم كانوا يبكرون في الغداء، ويرون أن ذلك أقرب إلى راحة البدن وصحته، ويؤخرون العشاء1. ومآكل الأعراب قليلة شحيحة مثل شح البادية، خاصة إذا انحبس المطر وهلك الزرع. فإن رزقه يقل وقد يذهب ما معه من زاد فيهلك خلق من الأعراب من شدة الجوع. قيل لأعرابي: ما طعامكم؟ قال: "الهبيد، والضباب واليرابيع، والقنافذ والحيات، وربما والله أكلنا القد، واشترينا الجلد، فلا نعلم والله أحدًا أخصب منا عيشا"2. و"الهبيد" حب الحنظل، تنقعه الأعراب في الماء أيامًا، ثم يطبخ ويؤكل3. وأما القد، فجلد السخلة. "وفي حديث عمر، رضي الله عنه، كانوا يأكلون القد. يريد جلد السخلة"4. وكانوا يفصدون عرق الناقة ليخرج الدم منه فيشرب، يفعلونه أيام الجوع. كما كانوا يأخذون ذلك الدم ويسخنونه إلى أن يجمد ويقوى فيطعم به الضيف في شدة الزمان، إذا نزل بهم ضيف فلا يكون عندهم ما يقويه، ويشح أن ينحر المضيف راحلته فيفصدها. و"الفصيد" دم كان يوضع في الجاهلية في معي من فصد عرق البعير ويشوى وكان أهل الجاهلية يأكلونه وتطعمه الضيف في الأزمة. وأما "الفصيدة"، فتمر يعجن ويشاب بدم. وهو دواء يداوى به الصبيان5. ويقال للفصيد: "البجة" كذلك. و"البجة" دم الفصيد، يأكلونها في الأزمة. والبج الطعن غير النافذ، فقد كانوا يفصدون عرق البعير ويأخذون الدم يتبلعون به في السنة المجدبة. جاء في الحديث: "إن الله قد أراحكم من الشجة والبجة"، وورد "أراحكم الله من الجبة والسجة"6. أي قد أنعم عليكم بالتخلص من مذلة الجاهلية وضيقتها ووسع لكم الرزق وأفاء عليكم الأموال. وكان أحدهم إذا نال شربة من اللبن الممذوق بالماء، وخمس تميرات صغار، ظن نفسه ملكًا، ودب إليه نشاطه، قال الشاعر:

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 371". 2 رسالة في الحنين إلى الأوطان "2/ 394". 3 المصدر نفسه. 4 كذلك. 5 تاج العروس "2/ 453"، "فصد". 6 تاج العروس "2/ 6"، "بج".

إذا ما أصبنا كل يوم مُذيقة ... وخمس تميرات صغار كنائز فنحن ملوك الأرض خصبًا ونعمة ... ونحن أسود الغاب عند الهزاهز وكم متمن عيشنا لا يناله ... ولو ناله أضحى به حق فائز1 وأكل الجراد معروف مشهور عند الأعراب. يأكلونه نيئًا، وقد يطبخونه أو يحمصونه ويلقون عليه شيئًا من الملح. وقد يأكلونه بالتمر. وبغيره، وهو عندهم طعام لذيذ. يذكر بعضهم أن الإنسان قد يصاب بالشري من أكله، وقد يشكو من بطنة قد تصيبه2. وغالب أكل الأعراب لحوم الصيد والسويق والألبان. وكانوا لا يعافون شيئًا من المآكل لقلتها عندهم. حتى أنهم كانوا يأكلون كل شيء تقع أيديهم عليه. ولا نجد من كتب أهل الأخبار ما يفيد تحريم العرب لأكل بعض الحيوان. بل نجد أن أغلبهم قد استباحوا أكلها جميعًا. مهما كان ذلك الحيوان صغيرًا أوكبيرًا حسن المنظر أو قبيحه، من ذات الأظلاف أو من غيرها. حيًّا كان أم ميتًا3. وذلك لفقرهم ولشدة الجوع عندهم. فلما جاء الإسلام حرم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير والمختنقة وحدد الذبح وما يمكن أكله من الحيوان، بسبب ما كان يصيب الناس من أكل لحومها من أضرار. وقد أكلوا لحوم الحمر الوحشية والحمر الأهلية، فنهى الإسلام عن أكلها لما في ذلك من ضرر. وتمنى أحد الرجّاز لو اصطاد ضبًّا سحبلًا سمينًا، ليفوز بلحمه من شدة الفاقة والحاجة إلى اللحم4. نعم لقد ورد أن بعض القبائل عافت أكل لحوم بعض الحيوانات، أو عابت أكل بعض أجزائها، إلا أن هذا لا يعتبر عامًّا، كما أنه من قبيل العرف والعادة أو مما له علاقة بالعقائد عندهم. فقد ذكر أن قبيلة "جعفي" كانت تحرم أكل "القلب"5، إلا أن هذا التحريم هو تحريم خاص بهذه القبيلة. أما القبائل الأخرى فقد كانت تأكله ولا تبالي، لأنه غير حرام عندها.

_ 1 رسالة في الحنين إلى الأوطان "2/ 394". 2 تاج العروس "2/ 318 وما بعدها"، "جرد"، "8/ 311"، "رزم". 3 بلوغ الأرب "1/ 380". 4 تاج العروس "7/ 352"، "رمل". 5 نهاية الأرب "18/ 83".

وفي أيام الشدة وفي الأيام الأخرى أيضًا يرسل الأعراب أولادهم لجمع الحنظل، فإذا جمع نُقِف، لإخراج هبيدة، أي حَبّه، لطبخه، أو تحميصه لأكله. وقد تفاخر "حسان بن ثابت" بالغساسنة، لأنهم كانوا في بحبوحة من العيش، وليسوا بصعاليك يرسلون ولائدهم لنقف الحنظل1. وإلى ذلك أشار "امرؤ القيس" بقوله: كأني غداة البين حين تحملوا ... لدى سمرات الحي ناقف حنظل2 وقد كانوا يقاسون من شدة الجوع والفقر في بعض السنين حتى يموت من يموت منهم من الجوع. قيل: "كانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم بابًا وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعًا"، "ولقي رجل جارية تبكي فقال لها: ما لك؟ فقالت نريد أن نعتفد"، "والاعتفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل حتى يموت جوعًا"3. فالاعتفاد انتحار للتخلص من ألم الجوع. قال بعض المدنيين لبعض الأعراب: أتأكلون الحيّات والعقارب والجعلان والخنافس؟ فقال: نأكل كل شيء إلا أم حُبين. فقال المدني: لتَهْنِ أم الحُبَينِ العافية4. فالفقر كافر، والجوع يدفع الإنسان إلى أكل كل شيء. والعرب تكني عن الجوع بـ"أبي مالك". وتسمي الخبز جابرًا وعاصمًا وعامرًا5. وقد كنّت عنه وعن الإفلاس بـ"أبي عمرة"6. وهو على فقر أكله وبساطته وجوعه يهزأ بأكل الحضر ويسخر منه، ويرى فيه طعامًا صعبًا لا يهضم. وأكلًا لا يناسب مزاج العرب. إذا أكله آكل أصيب بمرض. وهو محق في ذلك، فرجل ذو معدة فارغة، لا يذوق إلا القليل من الأكل والماء، لا تتمكن معدته من هضم طعام مهما كان بسيطًا، فإنه ثقيل بالنسبة

_ 1 البرقوقي "ص310"، ديوان حسان "ص33" "هرشفلد". 2 تاج العروس "6/ 260"، "نقف". 3 تاج العروس "2/ 426"، "عقد". 4 الحيوان "3/ 526"، "هارون". 5 الثعالبي، ثمار "6/ 249". 6 الثعالبي، ثمار "1/ 248".

إلى معدة الأعرابي، فإذا أقبل على أكل طعام أهل الحضر، وهو طعام غير مألوف عنده أصيب ببطنة تجعله يكره أكل الحضر، وطعام أهل القرى والمدن، ويعجب كيف يأكله أولئك ثم لا يصابون بمكروه. قال أعرابي قدم الحضر فشبع فأتخم: أقول للقوم لما ساءني شبعي ... ألا سبيل إلى أرض بها الجوع ألا حيل إلى أرض يكون بها ... جوع يصدع منه الرأس ديقوع1 وقد كان الجاهليون يأكلون كل ما وقع تحت أيديهم من حيوان مقتول أو ميت، فنزلت الحرمة عن ذلك في الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} 2. وذكر أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها، فإذا ماتت أكلوها. وأنهم كانوا يضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها. وذكر أن الموقوذة: هي التي ترمى أو تضرب بحجر أو عصًا حتى تموت من غير تذكية. والوقذة شدة الضرب3. وأما المتردية، فهي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت، كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه. وسواء تردت بنفسها أو ردّاها غيرها. وكانت الجاهلية تأكل المتردي، ولم تكن تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحوه دون سبب يعرف. فأما هذه الأسباب، فكانت عندها كالذكاة. فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة. وبقيت هذه كلها ميتة. وكذا النطيحة وأكيلة السبع التي فات نفسها بالنطح والأكل4. وكانت الجاهلية تأكل النطيحة الميتة كما تأكل الشاة التي يأخذها السبع فتخلص منه، وكذلك إن أكل بعضها5. وقد كان الجاهليون يستحلون أكل المحرمات المذكورة التي حرمت في الإسلام، ويأكلون ما يذكى من الحيوان على الأنصاب للأصنام، وما يذكى على غير

_ 1 تاج العروس "5/ 331"، "دقع". 2 المائدة، الآية3. 3 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي "6/ 47 وما بعدها". 4 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي "6/ 49". 5 المصدر نفسه "ص50".

الأنصاب على نحو ما يفعل القصاب. والذكاة في كلام العرب الذبح. فلما جاء الإسلام حدد الذبح، على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة، ولو بعض حياة. فأبطل ذكاة ما خمد نفسه من حيوان1. وهو بهذا خالف الجاهليين، إذ لم يشترطوا الشروط التي اشترطها الإسلام في الذبح. وللأغنياء والحضر آداب في مآكلهم، تبدأ بغسل الأيدي في الغالب، لإزالة ما قد يكون قد علق بها من أتربة وأوساخ، فإذا انتهوا من غسل الأيدي، أكلوا بها. إذ قلما كانوا يستعملون السكاكين و"الملاعق" و"الشوكات" في أكلهم على نحو ما كان يفعله أغنياء العجم. وإذا انتهوا من طعامهم غسلوا أيديهم كذلك لتنظيفها من الدسم ومن المواد الأخرى التي تكون قد علقت بها من بقايا الطعام. والأكل باليد عادة شائعة بين الشعوب السامية، يرون لها مزايا على الاستعانة بأدوات الأكل في الأكل، حتى صارت في حكم العرف والعادات، بل جعل الأكل باليد من السنن المحببة في الدين. وتستعمل "الربطة" وهي المنديل و"الفوطة" لمسح اليد وتنشيفها من الماء2. وقد استعمل الملوك والأغنياء المناديل المصنوعة من الحرير أو من الكتان، وهي غالية ثمينة. وذكر بعض علماء اللغة أن الربطة لا تكون إلا بيضاء3. والمنديل الذي يتمسح به من أثر الماء وغيره4. ويظهر أن "الفوطة" و"الفوط" من الألفاظ المعربة، ذكر أنها من لغة سندية معربة "بوته". وهي في الأصل ثياب تجلب من السند، غلاظ قصار تكون مآزر، أو هي مآزر مخططة يشتريها الجمالون والعراب والخدم وسفل الناس، فيأتزرون. ثم استعملت في معنى "منديل" و"مناديل"، يضعها الإنسان على ركبتيه ليقي بها ملابسه عند الطعام5. وقد استخدم الملوك والأغنياء الخدم في تقديم الأطعمة والأشربة، وكما كان يفعل ملوك الفرس والروم وسراتهما، في كسو خدمهم أكسية خاصة نظيفة

_ 1 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي "6/ 50 وما بعدها". 2 البرقوقي "ص146". 3 تاج العروس "5/ 145"، "ريط". 4 تاج العروس "8/ 132"، "ندل". 5 تاج العروس "5/ 200"، "فوط".

وإلباسهم "سرابيل"، معتملة، كذلك فعل ملوك العرب وسراتهم ولا سيما عرب العراق وبلاد الشام، بخدمهم، وقد قرطوا آذانهم بالنطف -أي: الأقراط- أحيانًا مبالغة في تزيينهم، حتى يعطي جو المآدب والضيافة لونًا شعريًّا خاصًّا. فإذا قدم شيئًا، وضع المنديل أو الديباجة على كتفه، ووضع تحت صحن الطعام شيئًا، ثم يقدمه إلى الضيوف1. ويختلف الحضريّ عن الأعرابي في طريقة أكله. فإذا تناول الحضري لقمة صغرها وأكلها بأطراف الأسنان، وحاول جهده ألّا يملأ فمه بلقمة كبيرة، فيبدو الفم منتفخًا منها. وهذا ما يخالف مألوف الأعرابي. "قدم أعرابي على ابن عم له بمكة، فقال له: إن هذه بلاد مقضم وليست ببلاد مخضم". والخضم أكل بجميع الفم. والقضم دون ذلك2. وقيل: الخضم: ملء بالمأكول3. ويعد أكل "اللحوم" من أطايب الحياة، ومن المفاخر التي يتباهى بها الناس على غيرهم، إذ لم يكن في ميسور كل إنسان الحصول على اللحم، ولا سيما "اللحم السمين". وإذا أضيفت إليها الخمور والطيب، والنساء، تمت بذلك مباهج الحياة. وقد عبر عن "الخمور واللحم والطيب"، بالأحامرة الثلاثة. وكانت هذه تستنزف المال، لما ينفق الإنسان في الحصول عليها من ماله. قال الأعشى: إن الأحامرة الثلاثة أهلكت ... مالي وكنت بها قديمًا مولعًا وقال: الخمر واللحم السمين وأطلي ... بالزعفران فلن أزال مولعا4 وكان من تنصر من العرب يأكلون لحم الخنزير، يأكلونه أشد الأكل، ويرغبون في لحمه أشد الرغبة5. وذكر أن غيرهم كانوا يأكلونه أيضًا. وزعم

_ 1 وذا نطف يسعى ملصق خده ... بديباجة تكفافها قد تقددا البرقوقي "ص146". 2 تاج العروس "9/ 29"، "قضم". 3 تاج العروس "8/ 279"، "خضم". 4 اللسان "4/ 208 وما بعدها". 5 الحيوان "4/ 41 وما بعدها"، "هارون".

"أن العرب لم تكن تأكل القرود"، وروي أنهم كانو يأكلون كل شيء يقع بين أيديهم لشدة الفاقة والحاجة، ولا سيما الأعراب1. فأكلوا دم "الفصيد"، وكانوا يحبونه، ويرون أنه يورث القوة2. وورد في ألسنة الناس "أهلك الرجال الأحمران: اللحم والخمر". وورد أيضًا "أهلك النساء: الأحمران، الذهب والزعفران". وذلك لما كان الرجال والنساء ينفقونه من مال للحصول على هذه الأشياء3. وورد أيضًا: "الأحمران: الطيب والذهب"4. وتسربت إلى أهل الحجاز وسائر جزيرة العرب مأكولات أعجمية أخرى، حافظت بعضها على أصالتها وعلى عجمتها. فذكر أن أهل المدينة، لما نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر، علقوا ببعض مأكولاتهم، فسموا السميط "الرزدق" والمصوص المزور، والبطيخ الحريز5، ومأكولات أخرى، أدخلها هؤلاء الفرس وأمثالهم بحكم نزولهم على العرب قبل الإسلام. والثريد هو طعام محبوب مشهور عند العرب. وهو طعام يتكون من فت الخبز وتهشيمه ثم بله بالمرق. والغالب أن يكون بالمرق واللحم. وقد اشتهر "هاشم بن عبد مناف"، بتقديمه الثريد لقومه6. ومن أكلات العرب المعروفة "الحريقة"، وهي أن يذر الدقيق على ماء أو لبن حليب فيحتسى، وهي أغلظ من السخينة يبقى بها صاحب العيال على عياله وقت الشدة7. و"الحيسة" وهي تمر وسمن وأقط، وقد أهدت "أم سليم" حيسة إلى الرسول وضعتها في "برمة" في قدر من حجر، وأرسلتها إليه، لمناسبة دخوله بـ"زينب"8.

_ 1 الحيوان "4/ 44 وما بعدها"، "هارون". 2 الحيوان "4/ 96"، "هارون". 3 تاج العروس "3/ 154"، "حمر". 4 اللسان "4/ 408"، "حمر". 5 البيان "1/ 19". 6 وفيه يقول مطرود بن كعب الخزاعي: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف معجم الشعراء "ص200". 7 بلوغ الأرب "1/ 383". 8 إرشاد الساري "8/ 68".

وعند العرب أكلات تعير بها من يأكلها، منها "السخينة"، وهي تتخذ من الدقيق، دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء، وإنما يأكلونها في شدة الدهر وغلاء السعر وعجف المال. والظاهر أنها كانت أكلة معروفة عند قريش خاصة، لذلك عُيّرت بها. وقد عَيَّرها "حسان بن ثابت" بها، فدعاها "سخينة"1، كما سماها بهذه التسمية كعب2. وقد مازح "معاوية" "الأحنف بن قيس"، فقال: ما الشيء المُلفَفُ في البجاد؟ قال: هو السخينة يا أمير المؤمنين3. وإنما أراد معاوية قول الشاعر: إذا ما مات ميّت من تميم ... فسرك أن يعيش فجئ بزاد بخبز أو بتَمر أو بسمن ... أو الشيء الملفف في البجاد تراه يطوف في الآفاق حرصًا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد وكان الأحنف من تميم، وإنما أراد الأحنف بالسخينة رمي قوم معاوية بالبخل، لأنهم كانوا يقتصرون عليها عند غلاء السعر حتى صار هذا اللفظ لقبًا لقريش4. والشواء هو الطريقة الشائعة بين الأعراب وأهل الريف في طبخ اللحوم. فهو وطريقته سهلة: توقد نار، ثم يوضع اللحم عليها، ومتى نضج أُكل. فكان أهل الوبر إذا اصطادوا أو ذبحوا لضيف، أوقدوا نارًا، واشتووا اللحم وأكلوه. ونجد في قصص أجواد العرب، مثل حاتم، أنهم كانوا ينحرون الإبل أو يذبحون فرسًا، ثم يوقدون نارًا فيشوون اللحم عليها. ويدعى الناس إلى الأكل، فإذا فرغوا منه، مَشوا أيديهم بكل ما يكون أمامهم، حتى أعراف الجياد. كما نجد ذلك في شعر لامرئ القيس5. وللعرب أواني استخدموها لتقديم الطعام بها إلى الضيوف. منها: الفيخة والصحفة، وهي تشبع الرجل، ولمكتلة تشبع الرجلين والثلاثة، والقصعة تشبع

_ 1 زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبن مغالب الغلاب اللسان "13/ 206"، "سخن"، تاج العروس "9/ 232"، "سخن"، ونسب. 2 هذا الشعر إلى "كعب بن مالك"، بلوغ الأرب "1/ 382". 3 اللسان "13/ 206"، "سخن"، تاج العروس "9/ 232"، "سخن". 4 بلوغ الأرب "1/ 382". 5 نمش بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب الثعالبي، ثمار "219".

الأربعة والخمسة، والجفنة تشبع ما زاد على ذلك، والدسيعة وهي أكبر الأواني عندهم. وقيل: أكبرها الجفنة التي ورد ذكرها في شعر الشعراء على سبيل الفخر والمدح1.

_ 1 تاج العروس "9/ 162"، "جفن"، بلوغ الأرب "1/ 387".

الذبح

الذبح: والغالب على الجاهليين ذبح الحيوان، لأخذ لحمه، وذلك بقطع الحلقوم بسكين1. يفعلون ذلك في الشياه والكباش والتيوس والطيور والدجاج. أما بالنسبة إلى السمك وما يستخرج من البحر، فإنهم يتركونه حتى يموت، أو يشقون بطونها وقد يذبحونها أيضًا. ويأكلون الميت منه كذلك. وأما الإبل، فإنهم ينحرونها، ونحر البعير طعنه في منحره2. وكانوا إذا أرادوا نحر البعير عقروه، أي قطعوا أحد قوائمه ثم ينحر، يفعل ذلك به كيلا يشرد عند النحر3. هذا هو الأصل في الحصول على اللحم، ولكنهم كانوا كما جاء في القرآن الكريم لا يعافون أكل الميتة والمختنقة والمتناطحة، لفقرهم وجوعهم. مع ما كان يلحقهم من ضرر من أكلها بسبب فسادها. ولذلك حرم أكل لحومها في الإسلام. والعادة عند العرب أن من العيب بيع شيء من طعام لمن هو في حاجة إليه. وهم يشعرون بالخجل وبالإهانة إذا طلب معسر طعامًا أو شرابًا كلبن أو ماء ثم لا يجاب طلبه، أو يطلب عن ذلك ثمنًا يقبضه مقابل ما قدم من طعام أو شراب. لأن القرى واجب على كل عربي، ولا يكون القرى بثمن. فكيف يقف إنسان موقف بخل وإمساك أمام مرمل محتاج4. ويقال لكل ما يؤكل "الطعام"، فالطعام اسم جامع، وجمع أطعمة. وأشهر وجبات الطعام عند العرب الغداء والعشاء. فالغداء وقت الغدي، والعشاء وقت العشي. أما الفطور، وهو ما يتناوله الإنسان صباحًا، أي عند نهوضه

_ 1 اللسان "2/ 436" وما بعدها، "ذبح". 2 تاج العروس "3/ 557"، "نحر". 3 تاج العروس "3/ 415"، "عقر". 4 تاج العروس "7/ 351"، "رمل".

من نومه، فليس له عند غالبية العرب مقام كبير، كمقام الغداء أوالعشاء ولا سيما عند أهل الوبر، وحظفه مع ذلك عند أهل المدر أحسن حالًا وأكثر مكانة. والطعمة: الدعوة إلى الطعام1. ويعبر عن الطعام بـ"الزاد" كذلك. وورد أن الزاد: طعام السفر والحضر. وورد: التزود بمعنى اتخاذ الزاد. وأما "العيش"، فالزاد والطعام في لغة أهل اليمن2.

_ 1 المخصص، لابن سيده "4/ 118". 2 المخصص "4/ 119"، تاج العروس "2/ 366"، "زاد".

الضيافة والأضياف

الضيافة والأضياف: وعرف الجاهليون بالقرى -أي: إطعام الأضياف- والجود خلة يتفاخر بها العرب ويتسامون، حتى إن بعضهم أوقد نارًا ليراها الأضياف فيستدلون بها على المنزل، وتسمى هذه النار: "نار القرى"، أي نار الضيافة. وأفقر رجل عندهم يقوم قدر حاجته وإمكانه بإكرام من يفد عليه. والبخل سجية مذمومة يعاب بها، وتكون سبة بين الناس. وهو لؤم، واللؤم قبيح بالعربي. ولا يقتصر واجب المضيف على تقديم الطعام لضيفه والترحيب به، بل عليه حمايته والدفاع عنه ما دام في بيته. فإذا اعتدى عليه، كان الاعتداء كأنه وقع على المضيف، وخزي وكسف اسمه بين الناس. يلحق العار به وبأسرته، فلا بد له من حماية ضيفه والدفاع عنه مهما كان شأنه وحاله من ضعف وفقر، فإن كان عاجزًا استدعى قومه للدفاع عن اسمه من المعتدين. وخفرة الجار ثلاث، فإذا انتهى الأجل ومضى اليوم الثالث، انتهت خفرة الجوار، وعلى الضيف الخروج. وفي أثناء الضيافة ونزول الضيف في خفرة مضيفه، يكون في مأمن وفي حمى جاره، فإن وقع عليه شيء، طالب مضيفه بالانتصاف ممن أهان ضيفه، لأنه في ضيافته، وتكون الإهانة كأنها قد لحقت به1. وورد في الأخبار أن العرب أصحاب حياض. وأنهم كانوا يقرون في الحياض

_ 1 الفاخر "220".

وينفون الأقذاء عن الماء1، وذلك لما للماء من أهمية في جزيرة العرب، فعليه تتوقف حياة الإنسان. ولذلك عدت السقاية في مكة مفخرة من مفاخر قريش. وقد فسرت هذه السقاية بأنها وضع الماء في حياض داخل الحرم ليستقي منها الحاج، والاستقاء مجانًا من ماء زمزم للفقراء والمعوزين. وقد يكون هذا هو الأصل من السقاية. غير أن أهل الأخبار يشيرون أيضًا إلى نوع آخر من السقاية كان يليها الهاشميون في مكة وذلك بإسقاء الحاج الزبيب المنبوذ في الماء مجانًا لهم2. وهو أغلى وأثمن من الماء. وذكر أن "بني أفصى بن نُذير بن قسر بن عبقر"، وهم من بجيلة، كانوا "لم ينزل بهم نازل قط إلا عمدوا إلى ماله فحبسوه ودفعوه إلى رجل يرضون أمانته ومانوه بأموالهم ما أقام بين أظهرهم. فإذا ظعن أدوا إليه ماله ورحلوا معه. فإن مات ودوه، وإن قتل طلبوا بدمه، وإن سلم ألحقوه بمأمنه. وفي ذلك يقول عمرو بن الخثارم: ألا من كان مغتربًا فإني ... لغربته على أفصى دليل يعينون الغني على غناه ... ويثرو في جوارهم القليل3 وطبيعي أن يكون بينهم من يشذ عن العرف ويخالف المألوف، فيمسك يديه ويبخل. فقد روي أن ناسًا سافروا من الأنصار فأرملوا فمروا بحي من العرب فسألوهم القرى فلم يقروهم، وسألوهم الشراء فلم يبيعوهم، فأصابوا منهم وتضبطوا، أي: أخذوه على حبس وقهر4.

_ 1 الميداني، مجمع الأمثال: "1/ 364". 2 تاج العروس "10/ 181"، "سقى". 3 المحبر "ص243". 4 تاج العروس "5/ 175"، "ضبط".

إلى الطعام في أوقات الأتراح أيضًا، وذلك مثل وفاة عزيز، أو مرور أمد على ذكراه، ولهم ولائم أيضًا في المناسبات الدينية. والغاية من كل ذلك هو مشاطرة من يدعون أصحاب الدعوة في مشاعرهم والاجتماع بهم. ويذكر علماء اللغة أن "الوليمة" طعام العرس، أو كل طعام صنع لدعوة وغيرها. وقد كانت العادة إيلام الولائم في الأعراس، لذلك غلب اسم الوليمة على وليمة العرس. وذكر أن الرسول قال لعبد الرحمن بن عوف: أولم ولو بشاة. أي اصنع وليمة1. والدعوة اسم لكل طعام دعيت إليه الجماعة. فهي تشمل كل أنواع الطعام والدعوات. وبهذا المعنى ترد لفظة: المأدبة. حيث يدعى الناس إلى الطعام لمختلف المناسبات. وهي أعم من الوليمة2. وتذبح الذبائح في الولائم والمناسبات إكرام الضيوف. والمفرد "ذبيحة". وإن كانت تدل على أنثى، غير أنها قد تكون حيوانًا ذكرًا. فلا يشترط فيها أن تكون شاة، بل يجوز أن تكون خروفًا، وهي لا تختص بحيوان معين، فقد تكون جملًا وقد تكون ناقة. ويقال لما يهلّ للآلهة: "ذبائح" كذلك. وتكون الذبائح في مناسبات إكرام الضيف، تبعًا لمنزلة الضيف. فإذا كان الضيف ملكًا مثلًا أو سيد قبيلته بولغ في عدد الذبائح التي تقدم له، إكرامًا لمنزلته ومكانته. والوليمة هي طعام الإملاك، وقد تطلق على الولائم عامة، ولكن الناس يخصصونها في الغالب بمثل هذه الحالات. فيقولون: وليمة العرس، ووليمة الختان، ونحو ذلك. والدعوة أعم من الوليمة. وأما "الخُرس" فطعام الولادة، وقيل: الطعام الذي يصنع للنفساء لسلامة المرأة من الطلق. و"العقيقة"، وهي طعام سابع الولادة، و"الأعذار" "العذيرة" الطعام يصنع للختان، و"النقيعة" طعام الإملاك، أي: التزويج، وقيل: وما يصنع للقدوم من السفر، وقيل: النقيعة التي يصنعها القادم، والتي تصنع له تسمى التحفة، و"الملاك" ما يصنع للخطبة، ويقال: "الأملاك"، ودعي طعام "الأملاك" بـ"الشدخ" كذلك3.

_ 1 تاج العروس "9/ 96"، "أولم". 2 بلوغ الأرب "1/ 386". 3 العقد الفريد "6/ 292"، بلوغ الأرب "1/ 386"، الفاخر "ص98"

وقيل: إنما قيل لطعام الإملاك "الشندخ"؛ لأن الشندخ هو الفرس الذي يتقدم بقية الخيل. وحيث إن طعام الإملاك هو طعام يتقدم العرس. أي: هو طعام الزفاف، أو ما يصنع للخطبة، لذلك قيل له: الشندخ. وذكر بعض العلماء الشندخ1: الطعام يجعله الرجل إذ ابتنى دارًا أو عمل بيتًا2، أو قدم من سفر أو وجد ضالته3. وقد أشير إلى "النقيعة" على أنها الطعام الذي يصنع للقادم، والناقة التي ينحرها القادم للطعام الذي يتخذه، في شعر ينسب إلى "مهلهل" هو: إنّا لنضرب بالسيوف رءوسهم ... ضرب القدار نقيعة القُدّام4 وذكر أن النقيعة كل جزور جزرت للضيافة. ومنه قولهم: الناس نقائع الموت. وذهب بعضهم إلى أن النقيعة طعام الرجل ليلة يملك5. وورد أيضًا أن "المنقع"، طعام المآتم، وأن النقيعة الذبيحة التي تذبح عند الوفاة، والنقع، رفع الصوت وشق الجيب6. وهذا المعنى يخالف بالطبع المعنى المتقدم لذلك الطعام. وإذا قام الإنسان بعمل مفيد جديد، فقد بصنع وليمة لهذه المناسبة فإذا قام إنسان ببناء بيت، أو أي بناء آخر جديد، أو استفاد الرجل شيئًا جديدًا، يتخذ طعامًا يدعو إليه إخوانه وأصدقاءه، ويسمون ذلك: العذار7. وذكر أيضًا أن العذار طعام البناء وطعام الختان، وأن تستفيد شيئًا جديدًا فتتخذ طعامًا تدعو إليه إخوانك8. وأما "الوكيرة"، فهي طعام يصنع عند تمام البيت يبنيه الرجل لنفسه، مشتقة من "الوكر"، وهو المأوى والمستقر. وعادتهم عند الانتهاء من البناء

_ 1 المخصص "4/ 120". 2 اللسان "3/ 31"، "شندخ". 3 تاج العروس "2/ 265"، "شندخ". 4 الفاخر "ص98"، اللسان "8/ 362"، "نقع". 5 تاج العروس "5/ 530"، "نقع". 6 القاموس "3/ 289" "النقع"، المخصص "4/ 120". 7 اللسان "4/ 551"، "عذر". 8 تاج العروس "3/ 387"، "عذر".

بيت، دعوة الأقرباء والأصدقاء إلى وليمة لمشاركة صاحب البيت في أنسه وفرحه بتمام البيت1. و"العقيقة" من الولائم التي يدعى الناس إليها، لمناسبة المساهمة بفرح أهل مولود، حينما يحلقون شعر رأسه لأول مرة، أي: الشعر الذي ولد به2. وقد تكون العقيقة في الأسبوع الأول من ولادة المولود. وعندئذ يعلن عن اسم المولود الذي سيعرف به. والختان من المناسبات المبهجة في حياة الأسر. لذلك يولم الناس ولائم لهذه المناسبة يدعونها "العذيرة"، والجمع الإعذار. والمعذور هو المختتن. وقد كان الاختتان معروفًا بين الجاهليين. ويقال للعذيرة أيضًا: العذار والإعذار والعذير. وكل ذلك في معنى طعام الختان. وفي الحديث: الوليمة في الإعذار حق. وورد في الحديث أيضًا: كنا إعذار عام واحد، أي ختنا في عام واحد. وكانوا يختتنون لسن معلومة فيما بين عشر سنين وخمس عشرة3. و"القِرَى": ما يصنع للضيف، و"المأدبة": كل طعام يصنع لدعوة، و"الآدب" صاحب المأدبة4. وإذا كانت الدعوة عامة مفتوحة للجميع، قيل لها: "الجَفلَى"، أما إذا كانت خاصة فيقال لها: "النقرى". وفي هذا المعنى ورد في شعر طرفة: نحن في المشتاة ندعو الجَفَلى ... لا نرى الآدِبَ منها ينتقر5 ويقال انتقر الرجل إذا دعا بعضًا دون بعض، فكأنه اختارهم واختصهم من بينهم6.

_ 1 العقد الفريد "6/ 292"، بلوغ الأرب "1/ 386"، الفاخر "ص98"، البخلاء "246"، تاج العروس "3/ 608"، "وكر". 2 القاموس "3/ 266"، شرح ابن عقيل "1/ 223"، البخلاء "246"، محيط المحيط "2/ 1442". 3 البخلاء "246"، اللسان "4/ 551"، المخصص "4/ 120". 4 العقد الفريد "6/ 292"، بلوغ الأرب "1/ 386". 5 بلوغ الأرب "1/ 386". نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا نرى الآدب فينا ينتقر تاج العروس "7/ 258"، "جفل". 6 تاج العروس "3/ 852"، "نقر".

وورد أن الجَفَلى، ويقال لطعامها الجفالة: الوليمة، التي ينادي الداعي فيها جميع القوم، أي كل من حضر إلى الطعام. ولا يستثني أحدًا، فكل من حضر يحضر تلك الوليمة عكس النقرى، حيث ينتقر الداعي، أي: صاحب الوليمة الأشخاص بأن يذكر أعيانهم، ولا يدعي غير هؤلاء المنتقرين إلى تلك الوليمة، وهي لذلك مذمومة. يقال: نقرت باسمه، أي: اسميته بين جماعة1. وقد يقدم طعام يتعلل به قبل الطعام، يعرف عندهم بـ"السُّلْفَة". وإذا أريد أن يكرم الرجل بطعامه عبر عن ذلك بلفظة "القفي". وأما ما يرفع من المرق للإنسان، فيقال له: "القفاوة"2، وذلك دلالة على التكريم والتقدير. وإذا هل هلال شهر رجب، دعي بعض الناس إلى وليمة يسمونها "العتيرة"3. ولشهر رجب حُرمة ومكانة ومنزلة خاصة في نفوس الجاهليين. وقد كان الجاهليون ينذرون، أنهم إذا كثر مالهم، فإنهم يذبحون منه، ما يذكرون عدده في هذا الشهر. وكان منهم من يذبح من الإبل حين يبلغ الحد الذي ذكر في النذر، ومنهم من يذبح الشاة. كما كانو ينذرون بتقديم عتيرة في كل نذر آخر يريدون تحقيقه. فإذا أولموا لذلك وليمة أو وزعوا لحم العتيرة أو طعامها على الناس فعملهم هذا عتيرة4. وهناك عتيرة أخرى، هي الذبيحة التي كانت تذبح للأصنام ويصب دمها على رأسها، فهذه عتيرة أيضًا5.

_ 1 البخلاء "546"، القاموس "3/ 349"، البخلاء "247". 2 العقد الفريد "6/ 292"، اللسان "9/ 161"، "سلف"، "10/ 192 وما بعدها". 3 بلغ الأرب "1/ 386". 4 اللسان "4/ 537"، المخصص "13/ 98". 5 المصدر نفسه.

المتطفلون

المتطفلون: وقد عاب أهل الجاهلية أهل التطفل ومن يتحين طعام الناس، أو يكثر من السؤال. وقالوا للحريص من الرجال: "الفلحس". وقالوا: أسأل من "فلحس"، و"تفلحس الرجل"، إذا تطفل. وذكر أهل الأخبار أن "الفلحس" رجل من بني شيبان، زعموا أنه كان إذا أعطي سهمه من الغنيمة، سأل سهمًا لامرأته

ثم لناقته، وكان يسأل سهمًا في الجيش، وهو في بيته، فيعطى لعزه وسؤدده، فقالوا: "أسأل من فلحس"1. وذكر أنه كان حريصًا رغيبًا وملحفًا ملحًا، وكل طفيلي، فهو عندهم فلحس2. والطفيلي الذي يدخل الولائم والمآدب بلا دعوة. وقد نسب التطفل إلى رجل من أهل الكوفة، زعموا أن اسمه "الطفيل بن زلال"، وهو من "بني عبد الله بن غطفان"، كان يأتي الولائم بلا دعوة، وكان يقول: وددت أن الكوفة مصهرجة، فلا يخفى علي منها شيء. فنسب الطفيليون إليه3.

_ 1 تاج العروس "4/ 210"، "الفلحس". 2 الحيوان "1/ 257"، "هارون". 3 تاج العروس "7/ 418"، "طفل"، الميداني، أمثال "1/ 317".

المعاقرة

المعاقرة: العقر قطع الفرس أوالإبل أو الشاة بالسيف، وهو قائم. يقال: جمل عقير. بمعنى مقطوع القوائم وكذلك ناقة عقيرة، أي قطعت إحدى قوائمها أو قوائمها. وكان الموسرون منهم يتعاقرون، يفاخر بعضهم بعضًا ويتفاضلون في عقر الإبل، ويتبارون في ذلك ليرى أيهم أعقر لها، فيكون له الفضل والفخر على الغير. ومن ذلك معاقرة "غالب بن صعصعة" أبي الفرزدق و"سحيم بن وثيل الرياحي"، لما تعاقرا بـ"صوأر"، موضع من أرض "كلب" من طرف السماوة، مسافة يوم وليلة من الكوفة مما يلي الشام1. فعقر "سحيم" خمسًا ثم بدا له، وعقر غالب مائة2. ذكر أنهم كانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرًا، ولا يقصدون به غير ذلك، ولهذا نهي عنه في الإسلام، لأنه لم يقصد به وجه الله. جاء في حديث ابن عباس: "لا تأكلوا من تعاقر الأعراب، فإني لا آمن من أن يكون مما أهل به لغير الله. قال ابن الأثير: هو عقرهم الإبل. كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء، فيعقر هذا وهذا حتى يعجز أحدهما الآخر، وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرًا ولا يقصدون به وجه الله تعالى فشبهه بما ذبح

_ 1 تاج العروس "3/ 322"، "صوأر". 2 تاج العروس "3/ 415"، "عقر".

لغير الله. وفي الحديث: "لا عقر في الإسلام". قال ابن الأثير: كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى أي ينحرونها ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. وأصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. وفي الحديث: "لا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة"، "وإنما نهي عنه؛ لأنه مثلة وتعذيب للحيوان"1.

_ 1 تاج العروس "3/ 415"، "عقر".

مبرات جاهلية

مبرات جاهلية: وكانت للجاهليين مناقب ومبرات ومكرمات، فعلوها في جاهليتهم وقبل إسلامهم. لا ندري إذا كانوا فعلوها عن دين وعقيدة في ثواب تثيبهم الآلهة عليها في هذه الدنيا أو في الدنيا الآخرة، وذلك بالنسبة لمن آمن بوجود عالم ثان، أم أنهم فعلوها عن مروءة وكرم نفس. فمنها "السقاية:" سقاية مكة، وهي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وذلك في أيام الجاهلية. وكانت تعد مأثرة من مآثرهم، أو إقامة البيوت في المواسم وعلى الطرق وفي المعابد تتخذ سقاية يستقي منها الناس بلا ثمن. وقد ورد في الحديث: أنه كان يستعذب الماء من بيوت السقيا1. ومن مبراتهم قبة عوف بن أبي عمرو بن عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، لا يدخلها جائع إلا أشبع، ولا خائف إلا أمن2. ومنها نخل ربيعة بن الأسود اليشكري، وكان جعلها لابن السبيل وكل مقطوع وقبره فيها. فلما كانت حجة الوداع، ووضع رسول الله كل دم ومكرمة في الجاهلية إلا السدانة والسقايا، قام ابن ربعة بن الأسود، فقال: يا رسول الله إن أبي كان وقف نخلًا له على أبناء السبيل أفهي مكرمة له؟ فأمضها. فأمره النبي بإمضائها. وقد مدح أولاده ونسله فنعتهم أحد الشعراء بـ"بني مورث

_ 1 اللسان "14/ 390 وما بعدها"، "سقي"، تاج العروس "10/ 179". 2 المحبر "341 وما بعدها".

الأضياف من آل أسود". وتذكرهم معاوية، فقال: "وددت أن صاحب نخل ربيعة بن أسود مكان الخلافة لي"1.

_ 1 المحبر "ص242".

مياه الشرب

مياه الشرب: ولما كان الجفاف هو الغالب على طبع جزيرة العرب، لذلك قل الماء فيها، واضطر الناس إلى قطع المئات من الأميال للوصول إلى موضع ماء للتزود به. ولهذا صار عزيزًا عندهم ثمينًا، فقد تنقذ كمية قليلة منه حياة شخص. وتكثر الحاجة إليه بصورة خاصة في الصيف، حيث تكثر الحرارة، فيشتد العطش، ويضطر الإنسان إلى الإكثار من شرب الماء لكسر حدة ذلك العطش. ولذلك يقترب الناس في موسم الصيف من مواضع الماء، حتى إذا نفد ما عندهم منه، ذهبوا إلى أقرب ماء إليهم، للتزود به. وألذ المياه عند العرب ماء الغيث. أي: ماء المطر، فإذا جادت السماء به، سال إلى المواضع المنخفضة وتجمع بها، فيأتي الأعراب إليها للاستقاء منها. ولهم أسماء ومصطلحات عديدة لأنواع المطر ولمواضع تساقطه، نظرًا لما لذلك من علاقة بحياتهم، ولما لهم من حاجة شديدة إلى الغيث. والعيون والآبار والحسي، هي من المنابع الأخرى التي أمدت العرب بالماء والعين، هي ينبوع الماء الذي ينبع من الأرض. وقد تطلق على موضع تجمع مطر خمسة أو ستة أيام أو أكثر1. والبئر، هي القليب. قد تكون بئرًا عادية، وهي البئر القديمة التي لا يعلم لها حافر ولا مالك، وقد تكون بئرًا يعرف صاحبها وحافرها ومالكها. وقد كان الجاهليون يحفرون الآبار لأنفسهم للاستقاء منها وللزرع بمائها، كما كانوا يبيعون ماءها لغيرهم. وقد كانت لليهود آبار بالحجاز حصلوا منها على أموال بسبب بيع مائها للمحتاج إليه، وأما "الحسي"، فهي المواضع التي يظهر فيها الماء من جوف الأرض على وجه التربة. ومنها حسي المواضع التي يظهر فيها الماء من جوف الأرض على وجه التربة. ومنها حسي الأحساء وأحساء خرشاف، وأحساء "بني وهب" على خمسة أميال من المرتمى،

_ 1 تاج العروس "9/ 289".

فيه بركة وتسع آبار كبار وصغار بين القرعاء وواقصة على طريق الحاج، وإحساء "غنى" وأحساء اليمامة، أحساء جديلة1. ويشرب الأعراب الماء بأيديهم، بأن يمدوا أيديهم في عين الماء أو في مستجمعه ثم يغرفوا منه، فيشربوه وهكذا حتى يرتووا. وقد ينبطح أحدهم على الأرض، ثم يمد فمه إلى الماء فيشرب منه. أما بالنسبة إلى الآبار والقرب ومخازن الماء، فإنهم قد يشربون من أفواه الدلاء أو القرب، وقد يستعملون أواني يشربون بها منها: الغمر، وهو قدح صغير، والقدح والتبن، والصحن والقعب، وغير ذلك من أسماء ذكرها علماء اللغة2. وقد يتجمع الماء في حفر، فيكوِّن بركًا. وذكر أن البركة مثل الحوض يحفر في الأرض لا يجعل له أعضاد فوق صعيد الأرض. وذكر أن العرب يسمون الصهاريج التي سويت بالآجر وصرجت بالنورة في طريق مكة ومناهلها بركًا. وربَّ بركة تكون ألف ذراع وأقل وأكثر. وأما الحياض التي تسوى لماء السماء ولا تطوى بالآجر، فهي الأصناع3. وذكر علماء اللغة أن "الصنع"، مصنعة الماء، وهي خشبة يحبس بها الماء وتمسكه حينًا، والجمع "أصناع". وذكر أن "المصنعة" كالحوض أو شبه الصهريج يجمع فيها ماء المطر، يحتفرها الناس فيملأونها ماء السماء يشربونها. وورد أن "الحبس" مثل المصنعة4. ولهم في سقي إبلهم عادات. وكانوا يسمّون كل سقية حسب يومها. فإذا سقوا الإبل كل يوم، قالوا: سقيناها رفهًا، وإذا أوردوها يومًا وتركوها في المرعى يومًا، قالوا: سقيناها غبًّا. وإذا أقاموها في المرعى بعد يوم الشرب يومين ثم أوردوها في اليوم الثالث يقولون: سقيناها ربعًا، وهكذا. وتمام ظمأ الإبل في الغالب ثمانية أيام فإذا أوردوها في اليوم التاسع منه، وهو العاشر من الشرب الأول، قالوا: سقيناها عِشرًا بالكسر. إلى غير ذلك مما تجده في كتب اللغة عن هذا الموضوع5. ومن أوعية الماء "المهراس". حجر منقور ضخم لا يقله الرجال ولا يحركونه

_ 1 تاج العروس "10/ 9"، "حسى". 2 بلوغ الأرب "1/ 393 وما بعدها". 3 تاج العروس "7/ 106"، "برك". 4 تاج العروس "5/ 422"، "صنع". 5 بلوغ الأرب "1/ 394 وما بعدها".

لثقله، يسع ماء كثيرًا. يؤخذ منه الماء للشرب وللاستعمال، وقد استعمل في الإسلام للوضوء منه1. والحب، معروف عند الجاهليين، يختزن فيه الماء للشرب، يعمله الكواز والفخار. والكوز إناء يشرب به، ذكر أنه يكون بعروة، أما إذا لم تكن به عروة فهو "كوب"2. وهناك الأباريق وأوان أخرى استعملت في الشرب.

_ 1 اللسان "6/ 248"، "هرس". 2 تاج العروس "4/ 76"، "كاز".

طرق معالجة الماء

طرق معالجة الماء: وللعرب طرق في معالجة المياه المالحة، مثل ماء البحر، وفي معالجة المياه الكدرة. من ذلك أنهم كانوا إذا اضطروا إلى شرب ماء البحر، وضعوه في قدر، وجعلوا فوق القدر قصبات وعليها صوف جديد منفوش، ويوقد تحت القدر حتى يرتفع بخارها إلى الصوف، فإذا كثر عصروه، ولا يزالون على هذا الفعل حتى يجتمع لهم ما يريدون. فيكون ما استخرج من الماء من عصر الصوف ماء عذب، ويبقى في القدر الزعاق1. وربما حفروا على ساحل البحر أو شاطئ مجتمع الماء المالح حفرة، يرشح الماء من الماء المالح إليها، ويحفرون حفرة أخرى على مسافة منها، يرشح إليها الماء من الحفرة الأولى، ثم يحفرون ثالثة، وبذلك يتحايلون على ملوحة الماء، حتى يعذب، فيكون صالحًا للشرب2. ولهم في دفع كدرة الماء حيل. من ذلك أنهم كانوا إذا اضطروا إلى شرب الماء الكدر، ألقوا فيه قطعة من خشب الساج أو جمرًا ملتهبًا يطفأ فيه، أو طينًا أو سويق حنطة، فإن كدورته ترسب إلى أسفل3. وقد يضعون إناء تحت حب الماء، لتتجمع قطرات الماء الصافية فيه، فيشربون منه ماءً صافيًا لا كدرة فيه. وربما عرفوا استعمال "الشب" في إزالة كدرة الماء. وهو أنواع، منه شب يماني4.

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 396". 2 بلوغ الأرب "1/ 396". 3 بلوغ الأرب "1/ 396". 4 تاج العروس "1/ 308"، "شبب".

الفصل الحادي والخمسون: فقر وغنى وأفراح وأتراح

الفصل الحادي والخمسون: فقر وغنى وأفراح وأتراح مدخل ... الفصل الحادي والخمسون: فقر وغنى وأَفراح وأَتراح وبين الجاهليين أناس عرفوا بالغنى وبالثراء وبكثرة المال، كالذي ذكرته عن بعض رجال مكة. فقد كان بينهم رجال متخمون شبعون، سكنوا بيوتًا حسنة، زينوها بأثاث جيد وثير، ولبسوا ملابس الحرير والألبسة الجيدة المستوردة من بلاد الشام واليمن، وأكلوا أكلات الأعاجم وتفننوا في الطبخ، وشربوا بآنية من ذهب وفضة وبلور. وساهموا في قوافل تجارة مكة الجماعية. كما كانت لهم قوافل خاصة بهم، تأتي إليهم بأرباح طيبة. ومنهم من استغل ماله بالربا وبامتلاك الأرض لاسغلالها، كما فعلوا بالطائف، إلى غير ذلك من وسائل اتبعوها في جمع المال. وكان منهم أناس ذوو حس وعاطفة، فعطفوا على المحتاج وأطعموا الناس، رقة بحالهم أو طلبًا للشهرة والاسم. فهم جماعة محسنة على كل حال، وكان بينهم من لم يكن له قلب ولا حس، فلم يعرف محتاجًا أو فقيرًا ولم يفهم معنى للإحسان على الفقير. فاشتط وأبى وقسى في رباه، ولم يتساهل فيه. ومنهم من أكل أموال اليتامى ومنع الماعون. وإذا باع أنقص في المكيال، ليزيد في ماله. وفي القرآن الكريم آيات في وصف حال هؤلاء الأغنياء، وتقريع لهم وتوبيخ على ما فعلوه: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 1. أي يدفع

_ 1 سورة الماعون، الآية2 وما بعدها.

اليتيم عن حقه، ويقهره ويظلمه. وأنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار، ويقولون: "إنما يحوز المال من يطعن بالسنان، ويضرب بالحسام"1. وكان منهم من يبخل بماله فلا ينفق منه على المحتاجين والمساكين. وكان منهم من يعتذر عن بخله وحرصه، فيقول: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} فنزلت هذه الآية: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} فيهم، "وتوجه الذم إليهم. فيكون معنى الكلام: لا يفعلونه إن قدروا، ولا يحثون عليه إن عسروا"2. وكان بين الجاهليين فقراء معدمون مدقعون لم يملكوا من حطام هذه الدنيا شيئًا. وكانت حالتهم مزرية مؤلمة. منهم من سأل الموسرين نوال إحسانهم، ومنهم من تحامل على نفسه تكرمًا وتعففًا، فلم يسأل غبًّا ولم يطلب من الموسرين حاجة، محافظة على كرامته وعلى ماء وجهه، مفضلًا الجوع على الشبع بالاستجداء. حتى ذكر أن منهم من كان يختار الموت على الدنية. والدنية، أن يذهب رجل فيتوسل إليه بأن يجود عليه بمعروف. ومنهم من اعتفد. والاعتفاد أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل أحدًا حتى يموت جوعًا. وكانوا يفعلون ذلك في الجدب. قيل: كانوا إذا اشتد بهم الجوع وخافوا أن يموتوا أغلقوا عليهم بابًا وجعلوا حظيرة من شجرة يدخلون فيها ليموتوا جوعًا3. وكان بعض تجار مكة إذا أفلسوا أو ساءت حالتهم، خرحوا إلى البادية سرًّا، وأقاموا هناك حتى يهلكوا جوعًا. خشية معرة وقوف رجال مكة على حالهم، وإشفاقًا على أنفسهم من التوسل بالأغنياء لمساعدتهم4. فالموت على هذه الصورة أسهل عندهم من الاستجداء. روي "عن ابن عباس" في تفسير {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} ،قوله: "وذلك أن قريشًا كانوا إذا أصابت واحدًا منهم مخمصة، جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضربوا على أنفسهم خباء فماتوا"5. وكان منهم من رضي وقنع بالدون من المعيشة، فعاش في فقر مدقع. والدقع

_ 1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 211". 2 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 211". 3 تاج العروس "2/ 246"، "عفد". 4 السيوطي، الدر المنثور "4/ 397". 5 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 204"، تفسير سورة قريش.

الرضا بالدون من المعيشة وسوء احتمال الفقر واللصوق بالأرض من الفقر والجوع. فهم ينامون على التراب ويلتحفون السماء. والدوقعة الفقر والذل، وجوع أدقع وديقوع شديد1. وهم مثل "بنو غَبْراء" في الفقر والحاجة، أولئك الذين توسدوا الغبراء واتخذوا التربة فراشًا لهم، لعدم وجود ملجأ لهم يأوون إليه، ولا مكان يحتمون به. ولم يكن في وسع كثير من الجاهليين الحصول على اللحم لفقرهم فكانوا يأتدمون "الصليب" وهو الودك. ودك العظام. يجمعون العظام ويكسرونها ويطبخونها، ثم يجمعون الودك الذي يخرج منها ليأتدموا به. وقد عرفوا بـ"أصحاب الصلب". ولما قدم الرسول مكة "أتاه أصحاب الصلب الذي يجمعون العظام إلا لحب عنها لحماتها فيطبخونها بالماء ويستخرجون ودكها ويأتدمون به"2. ولم يكن في استطاعة الفقراء أكل الخبز لغلائه بالنسبة لهم. لذلك عدّ أكله من علائم الغنى والمال3. وكان الذي يطعم الخبز والتمر يعد من السادة الكرام. وكان أحدهم يفتخر بقوله: "خبزتُ القومَ وتمرتهم"، بمعنى أطعمتهم الخبز والتمر4. وقد افتخر "بنو العنبر" بسيدهم "عبد الله بن حبيب العنبري"، لأنه كان لا يأكل التمر ولا يرغب في اللبن، بل كان يأكل الخبز. فكانوا إذا افتخروا قالوا: منا آكل الخبز. وكانوا يقولون: "أقرى من آكل الخبز"5 لأنه كان جوادًا. وذكر أن "كسرى" حين سأل "هوذة بن علي الحنفي" عن غذائه ببلده، قال له هوذة: الخبز. "فقال كسرى: هذا عقل الخبز لا عقل اللبن والتمر"6. وكان منهم من لا يستطيع شراء الملابس ليلبسها، فيستر جسمه بالأسمال البالية وبالجلود، ويعيش متضورًا جوعًا. وقد ذكر أن الفقراء من الصحابة كانوا لا يملكون شيئًا، ويتضورون جوعًا، وينامون في صفة المسجد، يرزقهم الرسول

_ 1 تاج العروس "5/ 330"، "دقع". 2 تاج العروس "1/ 337"، "صلب". 3 بلوغ الأرب "1/ 87". 4 تاج العروس "4/ 32"، "خبز". 5 بلوغ الأرب "1/ 87". 6 بلوغ الأرب "1/ 87".

من رزقه، تنبعث منهم روائح كريهة، من عدم الغسيل. ويلعب القمل في شعرهم، ويتنقل على أجسامهم حيث يشاء. ويظهر أن بعض زعماء مكة قد شعر بخطر ظاهرة انتشار الفقر بمكة، وبما سيتركه الاعتقاد من أثر في مجتمعها، فعمل على معالجة مشكلة الفقر والجوع والتسول، حفظًا لمصالح الأغنياء على الأقل. فهم إن تركوا الفقر ينتشر ويتفشى، ولم يعملوا على معالجته، تطاول الفقراء منهم على أموال الأغنياء، وقاموا عليهم وأرغموهم على أخذ أموالهم أو على أن يساهموهم فيه. أضف إلى ذلك ما سيحدثه اعتداء الفقراء على أموال الأغنياء من خوف، ومن فزع في نفوس أهل هذه المدينة المتاجرة، لذلك سعوا لإقناع تجار المدينة على إنصاف الفقراء والمحتاجين ومساعدتهم للتخفيف من شدة الجوع والفقر. ويظهر أن المخمصة، كانت شديدة، شدة حملت البعض على السطو على أموال الناس وعلى سرقة ما يجدونه أمامهم. ففزع من ذلك أهل مكة، وعمل زعماؤها على التفكير في اتخاذ أقسى العقوبات في حق السارق، فكان أن حكم "الوليد بن المغير" بقطع يد السارق، ذكر أنه كان أول من حكم بقطع يد السارق في الجاهلية1 فصار القطع سنة عندهم. وكان أن نادى "هاشم"، وهو "عمرو بن عبد مناف" إنصاف الفقراء والمحتاجين وتقديم المعونة لهم، حتى يصير فقيرهم كالكافي، فما ربح الغني أخرج منه نصيبًا ليكون للفقراء2. وبذلك يخفف من حدة وطأة الفقر في هذه المدينة المتاجرة. وذكر في تعليل دعوة "هاشم" إلى إنصاف الفقراء ومساعدتهم، أنه "كان سيدًا في زمانه، وله ابن يقال له: أسد، وكان له ترب من بني مخزوم، يحبه ويلعب معه. فقال له: نحن غدًا نعتفد. فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق، فعاشوا به أيامًا. ثم إن تربه أتاه أيضًا، فقال: نحن غدًا نعتفد، فدخل أسد على أبيه

_ 1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "6/ 160". 2 والخالطون فقيرهم بغنيهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 205".

يبكي، وخبره خبر تربه، فاشتد ذلك على عمرو بن عبد مناف، فقام خطيبًا في قريش وكانوا يطيعون أمره، فقال: إنكم أحدثتم حدثًا تقلون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعزّ العرب، وأنتم أهل حرم الله جل وعز، وأشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد يأتي عليكم. فقالوا: نحن لك تبع. قال: ابتدئوا بهذا الرجل -يعني: أبا ترب أسد- فأغنوه عن الاعتفاد، ففعلوا. ثم إنه نحر البدن، وذبح الكباش والمعز، ثم هشم الثريد، وأطعم الناس، فسمي هاشمًا. وفيه قال الشاعر: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف تم جمع كل بني أب على رحلتين: في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسّمه بينه وبين الفقير، حتى صار فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على هذا، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالًا ولا أعز من قريش، وهو قول شاعرهم: والخالطون فقيرهم بغنيّهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي فلم يزالوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} بصنيع هاشم {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} أن تكثر العرب ويقلوا1. وورد أن "حكيم بن حزام" كان يقاسم ربحه من تجارته الفقراء وأهل الحاجة والمحاويج2. وذكر أن قريشًا كانت تتراحم فيما بينها وتتواصل. وأن تفسير "لإيلاف قريش"، هو "لتراحم قريش وتواصلهم". فالإيلاف التراحم والتواصل.

_ 1 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "20/ 205"، وينسب البيت: والخالطون فقيرهم بغنيهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي إلى مطرود بن كعب، راجع البكري، سمط "547 وما بعدها"، القالي، أمالي "1/ 241"، الطبرسي، مجمع البيان "10/ 546، طبعة طهران"، اليعقوبي، "1/ 202"، البلاذري، أنساب "1/ 58"، ابن العربي، محاضرات الأبرار "2/ 1190"، تاريخ الخميس للدياربكري "1/ 156"، المرتضي، أمالي "1/ 178 وما بعدها". الزبير بن بكار، نسب قريش "1/ 367"، رقم "644".

وذكر أن قريشًا كانوا "يتفصحون عن حال الفقراء ويسدون خلة المحاويج"1. ويظهر أن هذا إنما حدث بفعل "هاشم" وبتنظيمه وجمعه وبدعوته تلك. فصار أصحاب القلوب الرقيقة يخرجون منذ يومئذ من دخلهم نصيبًا يجمعونه ويوحدونه، لينفقوا منه على من به حاجة من أهل مكة ومن الغرباء. والإيلاف هو التطبيق العملي لدعوة "هاشم" إلى إنصاف الفقراء والمساكين والمحاويج. فبعقد "الإيلاف" وإجماع قريش على تلبية دعوة هاشم بإخراج نصيب من أموالهم يخصص لمساعدة المحتاج، تمكن "هاشم" من تطبيق دعوته تطبيقًا عمليًّا، ومن مساعدة المحتاجين. حتى صار عمله سنة لمن جاء بعده. فحسن حال المحتاجين، ونعش فقراء مكة. يؤيد ذلك ما نجده من قول "ابن حبيب": "أصحاب الإيلاف من قريش الذي رفع الله بهم قريشًا ونعش فقراءها"2. والرفادة والسقاية، هما من ثمرات دعوة "هاشم"، فالرفادة، هي إقراء ضيوف مكة وإطعام المحتاجين من أهلها. والسقاية إسقاءهم الماء، والنبيذ واللبن. فلم تقتصر السقاية على تقديم الماء بلا ثمن إلى العطشان والمحتاج إلى الماء. بل اشتملت على تقديم اللبن والنبيذ بل والعسل كذلك إلى المحتاج بلا ثمن. وقد ذكر أن "سويد بن هرمي بن عامر الجمحي"، كان "أول من وضع الأرائك وسقى اللبن والعسل بمكة"3. وأن "أبا أمية بن المغيرة المخزومي": المعروف بـ"زاد الركب"، و"أبا وادعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم"، "كانا يسقيان العسل بمكة بعد سويد بن هرمي"4. وكل هذه الأعمال، هي من الأعمال الخيرية النافعة، التي تدل على نفس طيبة، تسعى للتخفيف عن مصاعب الناس، وعن رغبة في مساعدة الفقراء والمحتاجين. فصار في وسع من يقصد البيت الجلوس على أرائك ليرتاح عليها، كما صار في وسعه الحصول على ماء أو سقاء لبن أو ماء معسل، أي محلى، مجانًا إن لم يتمكن من دفع الثمن. وفي حلف "الفضول" دعوة لـ"مواساة أهل الفاقة ممن ورد مكة بفضول أموالهم"5، وذلك لمنع الظالمين من أهل مكة من اغتصاب أموال أهل الفاقة

_ 1 تفسير النيسابوري، حاشية على تفسير الطبري "30/ 169"، "طبعة بولاق". 2 المحبر "162". 3 المحبر "176 وما بعدها". 4 المحبر "177". 5 ابن هشام "1/ 141".

والغرباء ممن يرد إلى المدينة وليس لهم من جار ومعين، ومن أهل مكة كذلك. فهو توثيق وتتمة لعمل "هاشم". ونجد هذه الدعوة الإنسانية في مساعدة الجار والفقير في الشعر: في مثل قول الشاعر: يبيتون في المشتى ملاء بطونهم ... وجاراتهم غرثى يبتن خمائصًا1 وهو بيت يمثل المثل الجاهلية العليا التي تجسمت في الجوار وفي المروءة والإحسان والحميّة وأمثال ذلك. ونجد مثل هذه النزعة في قول الشاعر: هنالك إن يُستحبلوا المال يُحبلوا ... وإن يسألوا يُعطوا وإن ييسروا يُغْلوا على مُكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المُقِلّين السماحةُ والبذل وفي قول "الخرنق بنت هفان" ترثي زوجها "عمرو بن مرثد" وابنها "علقمة بن عمرو" وأخويه حسان وشرحبيل، حيث قالت في جملة ما قالته: والخالطين نَحيِتهم بنضارهم ... وذوي الغنى منهم بذي الفقرِ2 والنحيت الدخيل في القوم، والنضار الخالص النسب3. فهم قوم كرام، لم يفرقوا بين الدخيل والأصيل، ولا بين الغني والفقير، فنال الدخيل ما عند الأصيل، وشارك ذو الفقر والمدقعة الغني في ماله، وهو أعز شيء عند الإنسان، لأنه أبى أن يستأثر به، وجاره فقير ليس عنده ما يسد حاجته. فمجتمعهم مجتمع "خليط، و"الخليط: القوم الذين أمرهم واحد"، والمشارك الحقوق. وفي الحديث: الشريك أولى من الخليط. والخليط أولى من الجار. وأراد بالشريك: المشارك في الشيوع4. ونجد فكرة مساعدة الفقير، والاستهانة بالمال بإنفاقه على المعوزين، والإنعام به على الفقراء، في أبيات أخرى في مثل:

_ 1 الأمالي للقالي "2/ 158". 2 الأمالي للقالي "2/ 158". 3 ويروى لحاتم الطائي، تاج العروس "1/ 591" "نحت". 4 تاج العروس "5/ 132"، "خلط".

والخالطين غنيّهم بفقيرهم ... والمنعمين على الفقير المرمل1 وفي مثل قول الأعشى: وأهان صالح ماله لفقيرها ... وآسى وأصلح بينها وسعى لها2 وقول الشاعر عمرو بن الأطنابة: والخالطين حليفهم بصريحهم ... والباذلين عطاءهم للسائل3 وأرى أنّ في ورود لفظة "الخالطين" في هذه الأبيات، بمعنى خلط المال، وتخصيص الأغنياء نصيبًا من أموالهم للفقراء، دلالة على أن من الجاهليين الأغنياء من كان قد وضع في ماله حقوقًا للمحتاجين، بحيث صاروا كالمخالطين لهم في مالهم، وفي منزلة الشركاء لهم في المال. من دون إرغام لهم ولا إكراه، أو طمع في ثواب دنيوي أو في عالم ما بعد الموت. وذلك غاية الجود والكرم. وفي شعر للنعمان بن عجلان الأنصاري، إشادة بعمل قومه الأنصار، إذ قَسَّموا أموالهم وديارهم بينهم وبين المهاجرين. فيقول: وقلنا لقولم هاجروا مرحبًا لكم ... وأهلًا وسهلًا قد أمنتم من الفقر نقاسمكم أموالنا وديارنا ... كقسمة أيسار الجزور على الشطر4 ويذكرنا شعره هذا الذي افتخر فيه بقومه الأنصار بالمؤاخاة، إذ آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار. بعد مقدمه بخمسة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر. فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثًا مقدمًا على القرابة. ثم نسخ التوارث بالمؤاخاة بعد بدر5. والمؤاخاة هي "المخالطة" الجاهلية في صورة أخرى. وقد كان بين الجاهليين من حبس الحبوس، لتكون وقفًا على الفقراء والمحتاجين.

_ 1 الخالديان، الأشباه والنظائر "1/ 20"، ديوان حسان "308". 2 ديوان الأعشى "3/ 35". 3 الحماسة، لابن الشجري "56". 4 الإصابة "8748"، "3/ 532"، "القاهرة 1939م"، الاستيعاب "298"، Journal of the Economic and social History of the orient, vol. VIII, part II, 1965 P. 125 5 إمتاع الأسماع "1/ 49 وما بعدها".

وأبناء السبيل. ومنهم من ساعد الفقراء والصعاليك بتقديم الخيل لهم للإغارة بهما واكتساب الرزق عن طريق الغارات. كالذي روي عن "الريّان بن حويص العبدي" من أنه كان قد جعل فرسه "هراوة" موقوفة على الأعزاب من قومه. فكانوا يغزون عليها ويستفيدون المال ليتزوجوا، فإذا استفاد واحد منهم مالًا وأهلًا دفعها إلى آخر منهم، فكانوا يتداولونها كذلك، فضربت مثلًا، فقيل: أعز من هراوة الأعزاب1. وذكر أنها جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدق بها على العزاب، يتكسبون عليها في السباق الغارات2. ومن تقاليد العرب مساعدة الضال والمنقطع والمعزب، وهو الذي عزب عن أهله في إبله وانقطع عنهم. ومن ذلك ما ورد في الحديث: أنهم كانوا في سفر مع النبي، فسمع مناديًا، فقال: انظروا ستجدوه معزبًا أو مكلئًا. والتعزب: الابتعاد عن الجماعات بسكنى البادية، وقد نهي عن ذلك في الإسلام. كما أشير إلى ذلك في حديث "ابن الكوع" لما أقام بالزبدة "أبو ذر الغفاري"، قال له الحجاج ارتددت على عقبيك تعزبت3. ومنهم من جعل في ماله صدقة يؤديها إلى الفقراء على وجه القربة إلى الآلهة أو عن دافع إنساني أو عن حب للظهور والفخر. ويقال لمن يتصدق على غيره "المتصدق". وهو عمل تطوعي، يقوم به الإنسان اختيارًا وتطوعًا، لمساعدة المعوز والمحتاج. و"ابن السبيل" هو "ابن الطريق"، الذي قطع عليه الطريق، ولا يجد ما يتبلغ به. والضيف المنقطع به، فيجب أن يعطى ما يتبلغ به إلى وطنه4. وقد تتعرض السابلة إلى لصوص الطرق، يسلبونهم ما معهم، وقد يأخذون حتى ملابسهم، فيتعرض مثل هؤلاء للهلاك والأخطار، حتى يتهيأ لهم من له شفقة ورحمة فيغيثهم بما يتمكن منه، وقد يحملهم معه. وكان لفقر الكثير منهم، يصعب عليهم دفع ديونهم، ويماطلون في الأداء

_ 1 تاج العروس "1/ 380"، "عزب"، نهاية الأرب "10/ 44 وما بعدها، 46"، العمدة "2/ 235". 2 العمدة "2/ 235 وما بعدها". 3 تاج العروس "1/ 380"، "عزب". 4 تاج العروس "7/ 366"، "سبل".

حتى أنهم كانوا إذا رأوا الهلال، قالوا: لا مرحبًا بمحل الدين ومقرب الآجال1. وذلك لأنهم كانوا يتواعدون في دفع الديون على مطالع القمر2. ومما زاد في فقر بعضهم، شرب الخمر والمقامرة. فكان بعضهم يفني ماله في شرب الخمر، "وكان الجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله فيقعد حزينًا سليبًا، ينظر إلى ماله في يدي غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضًا"3. فعلوا ذلك أملًا في التخلص من ألم الفقر والحرمان باللجوء إلى الخمور لطمس ألم الفقر والذل، وإلى القمار، أملًا في الكسب والربح، فزادوا بذلك فقرهم، وعرضوا أنفسهم إلى الخسارة.

_ 1 تاج العروس "7/ 286"، "حلل". 2 تاج العروس "9/ 72"، "نجم". 3 تفسير الطبري "7/ 21 وما بعدها".

الوأد

الوأد: والوأد من ذيول الفقر. وقد جاء ذكره في الآية: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} 1. والوأد على ما يذكر علماء التفسر وأهل الأخبار هو دفن البنات وهن أحياء، وذلك خوفًا من العار أو لوجود نقص فيها أو مرض أو قبح كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء وأمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العرب2، أو خوفًا من الفقر والجوع، أو مخافة العار والحاجة3. ورجع "القرطبي" أسباب الوأد لخصلتين: "إحداهما، كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية، إما مخافة الحاجة والإملاق وإما خوفًا من السبي والاسترقاق"4. وذكر غيره أن سنين شديدة كانت تنزل بالناس تكون قاسية على أكثرهم، ولا سيما على الفقراء، فيأكلون "العِلْهِز".

_ 1 سورة التكوير، الآية 7. 2 بلوغ الأرب "3/ 43"، اللسان "3/ 442"، "وأد". 3 تاج العروس "2/ 520"، "وأد". اللسان "3/ 442". 4 القرطبي، الجامع "19/ 232".

وهو الوبر بالدم، وذلك من شدة الجوع1. فهذا الفقر وهذه الفاقة وذلك الإملاق، كل ذلك حملهم على وأد البنات حذر الوقوع في الغواية، فتلحق السُّبَّة بأهل البنت وبعشيرتها وقبيلتها. وذكر أيضًا أن من جملة أسباب الوأد وجود نقص في الموؤودة أو مرض أو قبح، كأن تكون زرقاء أو شيماء أو برشاء أو كسحاء وأمثال ذلك، وهي من الصفات التي كان يتشاءم منها العرب2. وذكر بعض أهل الأخبار، أن بعض العرب كانوا يتشاءمون من البنت الزرقاء أو الشيماء، أو الكسحاء، فكانوا يئدون من البنات من كانت على هذه الصفة، ويمسكون من لم يكن على هذه الصفة. وذكروا أن والد "سودة بنت زهرة" الكاهنة، وهي عمة "وهب"، والد "آمنة" أم الرسول، أرسل بها إلى "الحجون" لوأدها، للصفة المذكورة، ثم تركها في قصة يروونها، وصارت كاهنة شهيرة3. فسبب الوأد عند هؤلاء، هو هذه العقيدة القائمة على التشاؤم من البنت الزرقاء والشيماء. ويذكرون أنهم كانوا يحفرون حفرة، فإذا ولدت الحامل بنتًا ولم يشأ أهلها الاحتفاظ بها رموا بها في الحفرة، أو أنهم كانوا يقولون للأم بأن تهيئ ابنتها للوأد وذلك بتطييبها وتزيينها. فإذا زينت وطيبت، أخذها أبوها إلى حفرة يكون قد احتفرها، فيدفعها فيها، ويهيل عليها التراب حتى تستوي الحفرة بالأرض. وذكر أيضًا، أن بعضهم كان يغرقها، أو يقوم بذبحها، ليتخلص بهذه الطرق منها4. وذكر أن الرجل منهم كان إذا ولدت له بنت، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إحماتها، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء فيبلغ بها البئر، فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض. وروي عن

_ 1 الكامل "1/ 288". 2 نهاية الأرب "3/ 126 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 43". 3 السيرة الحلبية "1/ 50"، "مطبعة الاستقامة"، "القاهرة 1962"، "1/ 53"، "المكتبة التجارية"، "القاهرة"، "باب تزويج عبد الله". 4 الكشاف "4/ 188"، سورة التكوير، تاج العروس "2/ 520"، "وأد"، بلوغ الأرب "3/ 42 وما بعدها، 52".

ابن عباس أنه قال: كانت الحامل إذا قربت ولادتها حفرت فمخضت على رأس تلك الحفرة، فإذا ولدت بنتًا رمت بها في الحفرة وردت التراب عليها، وإذا ولدت ولدًا حبسته1. ومنه قول الراجز: سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهرٌ ضامن زميّتُ الزميت: الوقور2. وفاعل العمل هو "الوائد" والبنت المدفونة وهي حية "الموؤودة"، والعادة "الوأد". ويرجع بعض أهل الأخبار تاريخ الوأد إلى أيام "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، فيقولون: إن "بني تميم" منعوا الملك ضريبة الإتاوة التي كانت عليهم، فجرد الملك حملة عليهم كان أكثر رجالها من بني بكر بن وائل، أو قعت بهم وسبت ذراريهم. فلما ارضوا الملك وكلّموه في الذراري، "حكم النعمان بأن يجعل الخيار في ذلك إلى النساء، فأية امرأة اختارت زوجها، ردّت عليه، فاختلفن في الخيار. وكانت فيهن بنت لقيس بن عاصم المنقري، فاختارت سابيها على زوجها، فنذر قيس بن عاصم أن يدسَّ كل بنت تولد في التراب، فوأد بضع عشرة بنتًا. وبصنيع قيس بن عاصم وإيجاده هذه السنة نزل القرآن في ذم. وأد البنات3. ورجع بعض الأخباريين الوأد إلى قبيلة ربيعة. زعموا أن بنتًا لرئيسها وسيدها وقعت أسيرة في أيدي قبيلة أغارت عليها: فلما عقد الصلح، لم تشأ البنت العودة إلى بيتها، فاختارت بيت آسرها، فغضب رئيس ربيعة لذلك، واستنّ هذه السنة، وقلدته بقية العرب حتى فشت بين القبائل4. وهي رواية قريبة في مضمونها وفي فكرتها

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 43"، تفسير البيضاوي "1/ 670"، تفسير القاسمي "17/ 6069 وما بعدها"، تفسير الشربيني "4/ 471 وما بعدها"، روح المعاني "28/ 30 وما بعدها". 2 القرطبي، الجامع "19/ 233"، الطبرسي، مجمع البيان "10/ 444"، "طبعة طهران"، "13/ 45 وما بعدها"، "بيروت". الكشاف "3/ 315"، تفسير الخازن "3/ 119"، "4/ 356". 3 بلوغ الأرب "3/ 42 وما بعدها"، الأغاني "12/ 150"، تفسير الطبري "30/ 45 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 404"، "اختارت صاحبها وعمرو بن المشمرج"، نهاية الأرب "3/ 927". 4 بلوغ الأرب "3/ 43"، تفسير الخازن "3/ 119".

من الرواية الأولى. والفرق بين الروايتين هو في تسمية القبيلة والأشخاص. وورد أن "قيس بن عاصم" التميمي، جاء إلى النبي، فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية. قال: فأعتق عن كل واحدة منهن بدنة1. أو: فأعتق عن كل واحدة منهن رقبة2. ويذكر الأخباريون أن "الوأد كان مستعملًا في قبائل العرب قاطبة، فكان يستعمله واحد ويتركه عشرة فجاء الإسلام، وقد قل ذلك فيها إلا من بني تميم، فإنهم تزايد فيهم ذلك قبيل الإسلام"3. وقبيلة كندة وقيس وهذيل وأسد وبكر ابن وائل من القبائل التي عرف فيها الوأد، وخزاعة، وكنانة، ومضر، وأشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن4. وذكر بعض أهل الأخبار أن الوأد كان في تميم، منهم انتقل إلى غيرهم. وقيل: إنه كان في تميم، وقيس، وأسد، وهذيل، وبكر بن وائل، وهم من مضر5. فهي عادة تفشت في قبائل مضر خاصة. وقيل: إنها كانت في غير مضر كذلك. وذكر أنها كانت في ربيعة ومضر6، أي: في العرب الذين تغلب الأعرابية على حياتهم. وذكر "عكرمة" في تفسير الآية: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، أنها نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر. كان الرجل يشترط على امرأته، أن تستحيي جارية وتئد أخرى. فإذا كانت الجارية التي توأد غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: أنت علي كظهر أمي إن رجعت إليك ولم تئديها، فتخد لها في الأرض خدًّا وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها، ثم يتداولنها حتى إذا أبصرته راجعًا دستها في حفرتها ثم سوت عليها التراب"7. أما أن أول من سن الوأد في العرب، هو "قيس بن عاصم المنقري"

_ 1 تفسير الطبري "30/ 46"، "بولاق". 2 القرطبي، الجامع "19/ 233"، ابن كثير، تفسير "4/ 478". 3 بلوغ الأرب "3/ 42". 4 القرطبي، الجامع "10/ 116 وما بعدها"، نهاية الأرب "18/ 83"، الكامل "1/ 288". 5 الكامل "1/ 288". 6 تفسير الطبري "7/ 38". 7 تفسير الطبري "8/ 38".

للسبب المذكور، فدعوى من الدعاوى المألوفة عن أهل الأخبار، وقصة من القصص الذي كانوا يضعونه أحيانًا حين يقفون عند أمر غريب عليهم، ليس لهم علم به، فكانوا يوجدون قصصًا في تفسيره وتعليله، وقفنا على كثير منه. والظاهر أن وأد "قيس" لبنات من بناته، ووجوده في تميم خاصة بعد أن خف عند بقية العرب، حمل أصحاب الأخبار على إرجاع أصله وأساسه إلى "قيس"، مع أنهم يذكرون حوادث عن الوأد، مثل ما ذكروه عن "سودة بنت زهرة" الكاهنة، تتقدم في الزمن على "قيس". والوأد عند العرب أقدم منه، وربما يعود إلى ما قبل الميلاد. وفي القرآن الكريم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .1 وفي هذه الآية وصف للحالة النفسية التي كانت تعتور الأب عند إخباره بميلاد بنت له، وشرح لبعض الأسباب التي كانت تحمل الآباء على وأد البنات. ويروى أن بعض الجاهليين يتوارى في حالة الطلق، فإن أُخبر بذكر ابتهج أو بأنثى حزن، وبقي متواريًا أيامًا يدبر ما يصنع أيتركه ويربيه على ذل، أم يدسه في التراب، بأن يئده ويدفنه حيًّا حتى يموت، أم يهلكه بأمر آخر، بأن يلقيه من شاهق. روي أن رجلًا قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت. وقد كانت لي في الجاهلي بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتَها فلما انتهيت إلى وادٍ بعيد القعر ألقيتها، فقالت: يا أب قتلتني! فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال الرسول: "ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام، وما في الإسلام يهدمه الاستغفار ". وكان بعضهم يغرقها وبعضهم يذبحها2. وقد ذكر العلماء في تفسيرهم: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ، قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 3. أن الله "أخبر بخسرانهم لوأدهم البنات وتحريمهم البحيرة وغيرها بعقولهم، فقتلوا أولادهم سفهًا

_ 1 النحل، الآية: 58، تفسير الطبري "14/ 83 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "2/ 51 وما بعدها". 3 الأنعام، الآية 139وما بعدها.

خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم ولم يخشوا الإملاق، فأبان ذلك عن تناقض رأيهم"1. قال "القرطبي": "إنه كان من العرب من يقتل ولده خشية الإملاق، كما ذكر الله -عز وجل- في غير هذا الموضع. وكان منهم من يقتله سفهًا بغير حجة منهم في قتلهم، وهم ربيعة ومضر، كانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية. ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالبنات. وروي أن رجلًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان لا يزال مغتمًّا بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "مالك تكون محزونًا؟ " فقال: يا رسول الله، إني أذنبت ذنبًا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله لي وإن أسلمت. فقال له: "أخبرني عن ذنبك": فقال: يا رسول الله، إني كنت من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إليّ امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء فخطبوها، فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زواج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق بألا أخونها، فذهبت إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر فالتزمتني، وجعلت تبكي، وتقول: يا أبت، أيش تريد أن تفعل بي؟ فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت، لا تضيع أمانة أمي! فجعلت مرة انظر في البئر ومرة أنظر إليها فأرحمها حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت، قتلتني. فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت. فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وقال: "لو أمرت أن أعاقب أحدًا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك" 2. فالفاقة والحمية واعتقاد بعض منهم أن الملائكة بنات الله، فيجب إلحاق البنات بالبنات، هي عوامل دفعت بالعرب إلى الوأد. فهي بين عامل اقتصادي نص عليه في القرآن الكريم، وعامل اجتماعي، هو الحمية، وخشية لحوق العار بالإنسان

_ 1 القرطبي، الجامع "7/ 96"، تفسير الخازن "3/ 163، 356". 2 القرطبي، الجامع "7/ 97".

من السبي والغارات وعامل ديني، يرجع إلى رأي في دين. لقد تعرض "قتادة" إلى قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، فقال: "هذا صنيع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويغذو كلبه. وقوله: {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} الآية وهم أهل الجاهلية جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميًا تحكمًا من الشياطين في أموالهم"1. ولكن أغلب الوأد هو عن العامل الأول، وهو الخشية من العيلة والفقر والإملاق، وهو ما نص عليه في الآيات المتعلقة بالوأد وبقتل الأولاد2. وورد أن الجاهلية كانوا يدفنون البنات وهن أحياء. خصوصًا كندة، خوف العار، أو خوف الفقر والإملاق"3. ومن النساء من تكون خصبة في ولادة البنات، فيجلب لها هذا الخصب هجر زوجها لها وفراره منها ومن رؤية بناته. يحدثنا الأصمعي أن امرأة ولدت لرجل بنتًا سمتها الذلفاء، فكانت هذه البنت سببًا في هرب الرجل من البيت، فقالت: ما لأبي الذلفاء لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا؟ يحرد أن لا نَلِدَ البنينا ... وإنما نأخذ ما يعطينا4 ومثل تلك المرأة المسكينة كثير من النساء هجرهن أزواجهن لكثرة ما كن يلدن لهم من البنات، ولسان حالهن يكرر كلمات أم الذلفاء. وبمكة جبل يقال له "أبو دلامة" كانت قريش تئد فيه البنات5. وذكر أن هذا الجبل يطل على "الحجون". وقيل: كان الحجون هو الذي يقال له:

_ 1 تفسير الطبري "8/ 38". 2 تفسير الطبري "15/ 57"، القرطبي، الجامع "10/ 252". 3 السيرة الحلبية "1/ 53"، "باب تزويج عبد الله". 4 ونسبت هذه الأبيات إلى امرأة أبي حمزة الضبي، الذي هجر زوجته ولجأ إلى خيمة جيرانه يبيت فيها فرارًا من زوجته التي ولدت له بنتًا، وقد وردت على هذه الصورة: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنينا ... تالله ما ذلك في أيدينا وإنما نأخذ ما يعطينا ... ونحن كالأرض لزارعينا ننبت ما قد زرعوه فينا بلوغ الأرب "3/ 51"، البيان والتبيين "1/ 104"، "1/ 186"، "عبد السلام محمد هارون"، روح المعاني، للآلوسي "14/ 153"، تفسير الطبري "14/ 83". 5 المستطرف "2/ 77".

أبو دلامة1. وورد في القرآن الكريم ما يشير إلى قتل بعض الجاهليين أولادهم خشية الإملاق وخوف الفقر. وهم الفقراء من بعض قبائل العرب وفيهم نزلت الآيات: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} 2. و {كَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 3. و {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 4. و {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} 5. وظاهر لفظ الآيات النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورًا كانوا أو إناثًا مخافة الفقر والفاقة6. وذكر أن المراد من كلمة "أولادكم" البنات، وأن المقصود بذلك الوأد7. أي: وأد البنات، لا قتل الأبناء. وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بها الأولاد ذكورًا كانوا أو إناثًا. "فقد كان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلامًا لينحرن أحدهم، كما فعله عبد المطلب حين نذر ذبح ولده عبد الله"8. فنحن أمام هذه الآيات تجاه موضوعين: وأد البنات وقتل الأولاد الذكور عند الجاهليين. وأد البنات للأسباب المذكورة الواردة في كتب التفسير والحديث، وقتل الأولاد للأسباب المذكورة في تلك الكتب أيضًا، وفي كلتا الحالتين نتيجة واحدة، هي القضاء على حياة إنسان. قتل الأولاد الذكور عند الجاهليين هو أقل استعمالًا من وأد البنات بكثير. ويظهر أنه كان عن عامل ديني في الأغلب، كما يتبين ذلك من قصة إقدام

_ 1 اللسان "12/ 205"، "صادر"، "دلم". 2 الإسراء، الآية 31، تفسير الطبري "15/ 75". 3 الأنعام، الآية 137". 4 الأنعام، الآية 140. 5 الأنعام، الآية 151. 6 بلوغ الأرب "3/ 44". 7 تفسير الطبري "8/ 32 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 44". 8 القرطبي، الجامع "7/ 91".

عبد المطلب على قتل ابنه عبد الله بسبب النذر الذي أخذه على نفسه على ما جاء في روايات أهل الأخبار1. وهذا العامل هو الذي يفسر ما جاء في التوراة عن إقدام إبراهيم على ذبح ابنه، ويشير إلى وجود هذه العادة عند الإسرائيليين. وسبب قلة قتل الأولاد بالقياس إلى وأد البنات أن الولد عنصر مهم في الحياة الاقتصادية وفي الحياة الاجتماعية حيث يكون عُدة لوالده ولأهله وعشيرته في الحروب، ثم أن أسره في الحروب لا يعد شائنًا مثل أسر البنات. والمرأة بالأسر تكون فريسة للآسرين. والمرأة ليست قادرة كالرجل على إعاشة نفسها وغيرها ولا على الغزو، ولذلك صارت البنت هدفًا للوأد أكثر من الذكر2. وقد تأثر بعض ذوي القلوب الرقيقة من عادة "وأد البنات"، وسعوا لإبطالها. وكان بعض الموسرين منهم يفتدي البنات من القتل بدفع تعويض إلى أهلهن، وأخذهن لتربيتهن. فكان "صعصعة بن ناجية" جدّ الفرزدق الشاعر المعروف، ومن أشراف تميم، يشتري البنات ويفديهن من القتل كل بنت بناقتين عشراوين وجمل3. فجاء الإسلام وعنده ثلاثون موؤودة4. وذكر أنه فدى أربعمائة جارية، وقيل: ثلاثمائة جارية من الجاهلية حتى مجيء الإسلام. وذكر على لسان الفرزدق أنه قال: "أحيا جدي اثنتين وتسعين موؤودة"5. وأنه منع الوئيد في الجاهلية فلم يدع تميمًا تئد وهو يقدر على ذلك6. وذكر أنه قال للرسول إنه اشترى "280" موؤودة، دفع عن كل واحدة منهن ناقتين عشراوين وجملًا7. وأنه كان لا يسمع بموؤودة يراد وأدها، وهو يتمكن من إحيائها، إلا جاء والدها

_ 1 القرطبي، الجامع "7/ 91"، الماوردي، أعلام النبوة "126"، بلوغ الأرب "3/ 46 وما بعدها"، السيرة الحلبية "1/ 39"، البداية والنهاية، لابن كثيرط 2/ 248 وما بعدها". 2 الأمومة عند العرب "ص50". 3 المستطرف "2/ 77"، القرطبي، الجامع "10/ 117" وضع لفظة "عمي" في موضع "جدي" في شعر "الفرزدق"، و"صعصعة" جد الفرزدق، لا عمه، الإصابة "2/ 179"، "رقم 4068". 4 الاشتقاق "1/ 147"، المرزباني، معجم الشعراء "2/ 486". 5 أمالي المرتضي "2/ 284 وما بعدها"، الأغاني "19/ 2 وما بعدها". 6 أمالي المرتضي "2/ 284"، الأغاني "19/ 3"، تيسير الوصول "3/ 113". 7 نهاية الأرب "3/ 126 وما بعدها".

ففداها، وأنه سأل قومه في ترك الوأد، فخفف بذلك منه. وعد ذلك مكرمة ما سبقه إليها أحد من العرب1. وإلى "صعصعة بن ناجية"، أشار الشاعر "الفرزدق"، مفتخرًا به في شعره، إذ قال: وجديّ الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوأد2 وله أشعار أخرى في هذا المعنى. وكان "عمرو بن نفيل" يحيي الموؤودة لأجل الإملاق. يقول للرجل إذا أراد أن يفعل ذلك: لا تفعل! أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها3. وذكر "القرطبي" في تفسير الآية: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} 4. أنها "نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، فكانوا يقولون: ألحقوا البنات بالبنات"5. فنسب فعلهم الوأد إلى هذه العقيدة. ولست أستبعد ما ذكره أهل الأخبار من وجود دافع ديني حمل الجاهليين على قتل الأولاد وعلى الوأد، بأن يكون ذلك من بقايا الشعائر الدينية التي كانت في القديم، وتقديم الضحايا البشرية إلى الآلهة لخير المجتمع وسلامته، وإرضاء الآلهة هي شعيرة من الشعائر الدينية المعروفة. فليس بمستبعد أن الوأد والقتل من بقايا تلك الشعائر، والغريب في الوأد أنه يكون بالدفن، بينما العادة في الضحايا التي تقدم إلى الآلهة أن تكون بالذبح أو بالطعن وبأمثال ذلك، كي يسيل الدم من

_ 1 الأغاني "19، القسم الأول، ص3 وما بعدها". 2 اللسان "3/ 442 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 520 وما بعدها"، "وأد". وقال: ومنا من أحيا الوئيد وغالب ... وعمرو ومنا حاملون ودافع تفسير الطبري "30/ 46". ومنا الذي أحيا الوئيد وغالب ... وعمرو ومنا حاجب والأقارع 3 السيرة الحلبية "1/ 53". 4 النحل، الآية 57 وما بعدها. 5 القرطبي، الجامع "10/ 116"، تفسير الخازن "3/ 119"، في تفسير سورة النحل.

الضحية، والدم هو الغاية من كل ضحية، لأنه الجزء المهم من الضحايا المخصص بالآلهة. وعلى الجملة إن الوأد هو نوع أيضًا من القتل، وذبح الأولاد وتقديمهم قرابين إلى الآلهة Infantcide، عبادة معروفة عند أمم أخرى كانت تمارسها لترضي بذلك الآلهة وتجيب مطالبها1. وعد من الوأد "العزل"، وهو أن يعتزل الرجل امرأته لئلا تنجب له أولادا. وقد عرف في الإسلام بـ"الوأد الخفي" وبـ "الوأد الأصغر". سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال: "ذلك الوأد الخفي"، وفي حديث آخر: "تلك الموؤودة الصغرى" 2. وقد بحث عنه في كتب الفقه والتفسير. وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في ناس: "لقد هممت أن أنهي عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم، ولا يضر أولادهم ذلك شيئًا". ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي، وهو {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} " 3. والغيلة إذا أتيت المرأة وهي ترضع ولدها، وكذلك إذا حملت أمه وهي ترضعه4. وقد جعل الحديث "العزل" عن المرأة بمنزلة الوأد إلا أنه خفي؛ لأن من يعزل عن امرأته إنما يعزل هربًا من الولد. ولذلك سماه الموؤودة الصغرى؛ لأن وأد البنات الأحياء الموؤودة الكبرى5. ولم ينفرد العرب بقتل الأولاد وبوأد البنات، بل نجد ذلك عند غيرهم من الشعوب كذلك، مثل المصريين واليونان والرومان وشعوب أسترالية. أما العوامل التي حملت تلك الشعوب عليها فهي عديدة، منها عوامل دينية مثل الاعتقاد بحلول الأرواح، ومنها اقتصادية كالخشية من الفقر، ومنها ما يتعلق بالصحة كأن يكون المولود ضعيفًا فيقضي عليها الوالدان6. ومن ذيول الفقر وسوء الأوضاع الاقتصادية، انتشار اللصوصية والاعتداء على أموال الناس، وابتزازها وقطع الطرق وسلب الناس. وما الذي يفعله الفقير

_ 1 Ency. Relig I, P. 669, Smith, Kinship, P. 370 2 بلوغ الأرب "3/ 53"، النهاية في غريب الحديث "4/ 189"، اللسان "3/ 442 وما بعدها"، "وأد". 3 تفسير ابن كثير "4/ 477". 4 تاج العروس "8/ 53"، "غيل". 5 اللسان "3/ 443"، "وأد". 6 Ency. Brita., 12, P. 322

والمحتاج ومن له منعة في الجسم وضعف شديد في الجيب لإعاشة نفسه وأهله غير اللجوء إلى هذه الطرق في الحصول على لقمة العيش، إن لم يجد له وسيلة كسب أخرى؟ واللص، هو السارق. وذكر أن اللفظة من لغة طيء وبعض الأنصار1. وتقابل Listis في اليونانية، بمعنى السارق. لذلك ذهب البعض على أنها من هذا الأصل2. ونظرًا لتستر اللص في حرفته، وممارسته لها بتكتم وحذر خوفًا من الفضيحة والقبض عليه. مارس عمله بالليل في الغالب، حيث يرقد الناس. مارسه بخفة ومهارة، فكنى عنه بكنى. منها: "ابن الليل" و"ابن الطريق"، لأنه يمارس اللصوصية بالليل وعلى الطرق3. ويقال لمن يسرق الدراهم بين أصابعه "القفاف". يقال: "قف الصيرفي قفوفًا"، بمعنى سرق الدراهم بين أصابعه4. وأظن أن هذا الاستعمال استعمال مولد، ولد في الإسلام. ويعبر عن السطو والاستيلاء عنوة وعن سرقة أموال الناس، بتعابير أخرى في اللغات العربية الجنوبية، منها "خرط"5، بمعنى سرق، و"حلص"6، بمعنى سرق ونهب وسلب، وكل ما يؤخذ حيلة وسرقة. وتعدّ السرقة عيبًا عند العرب، لأنها تكون دون علم صاحب المسروق وبمغافلته. والمغافلة والاستيلاء على شيء من دون علم صاحبه عيب عندهم، وفيه جبن ونذالة. أما الاستيلاء على شيء عنوة وباستخدام القوة، فلا يعد نقصًا عندهم ولا شيئًا ولا يعد سرقة، لأن السالب قد استعمل حق القوة، فأخذه بيده من صاحب المال المسلوب. فليس في عمله جبن ولا غدر ولا خيانة. ولذلك فرقوا بين لفظة "سرق" وبين الألفاظ الأخرى التي تعني أخذ مال الغير، ولكن من

_ 1 تاج العروس "4/ 432"، "لص". 2 غرائب اللغة "268". 3 اللسان "بني"، "14/ 92". 4 تاج العروس "6/ 224"، "قف". 5 South Arabian Inscriptions, P. 436 6 المصدر نفسه.

غير تستر ولا تحايل. فقالوا: "السارق عند العرب من جاء مستترًا إلى حرز، فأخذ مالًا لغيره. فإن أخذه من ظاهر، فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس، فإن منع ما في يده، فهو غاصب"1. ولم تعد "الغارة" سرقة ولا عملًا مشينًا يلحق الشين والسبة بمن يقوم به. بل افتخر بالغارات وعدّ المكثر منها "مغوارًا". لما فيها من جرأة وشجاعة وإقدام وتكون الغارة بالخيل في الغالب، ولذلك قال علماء اللغة: "أغار على القوم غارة وإغارة دفع عليهم الخيل"2. وقد عاش قوم على الغارات، كانوا يغيرون على أحياء العرب، ويأخذون ما تقع أيديهم عليه، ومن هؤلاء "عروة بن الورد"، إذ كان يغير بمن معه على أحياء العرب، فيأخذ ما يجده أمامه، ليرزق به نفسه وأصحابه. بعد أن انقطعت بهم سبل المعيشة، وضاقت بهم الدنيا. فاختاروا الغارات والتعرض للقوافل سببًا من أسباب المعيشة والرزق. وذكر أهل الأخبار أسماء رجال عاشوا على الغارات وعلى التربص للمسافرين لسلب ما يحملونه معهم من مال ومتاع.

_ 1 تاج العروس "6/ 379"، "سرق". 2 تاج العروس "3/ 458"، "غور".

الأفراح

الأفراح: الأفراح، عامة أو خاصة، فمن الأفراح العامة، الأعياد والمناسبات المماثلة، مثل انتصار في حرب وغزو أو تولي ملك عرشًا أو سيد رئاسةَ قبيلة، ومن الخاصة، الزواج والبرء من مرض، والعود من سفر، وأمثال ذلك. ولما كان العرب في جاهليتهم قبائل وشيعًا وكان الاتصال بينهم صعبًا، صارت أعيادهم كثيرة غير متفقة في زمان أو مكان، ذات صفة محلية، لا يشترك فيها كل عرب جزيرة العرب. وهي مرتبطة بالأصنام في الغالب وبالمواسم التجارية التي تتجلى في انعقاد الأسواق. ولذلك، فأنا حين أتحدث عن أعياد الجاهلية فلن أستطيع أن آتي باسم عيد واحد، أقول إن جميع العرب كانوا يعيدون ويفرحون جميعهم به، لما ذكرته من انقسام الجاهليين إلى قبائل وشيع وعدم وجود دين واحد لهم، يجمع

شملهم. والدين من أهم العوامل المساعدة لظهور الأعياد وجمع شمل المؤمنين به للاحتفال بها. ولذلك فأعياد الجاهليين هي أعياد موضعية تعيّد قبيلة أو مدينة أو مملكة بعيد، ولا يعرف عنه بقية العرب أي شيء. أما أعياد اليهود والنصارى والعرب فأمرها أمر آخر؛ لأن اليهودية والنصرانية قد حددتا تأريخًا ثابتًا للأعياد فيها، فصارت معروفة عند أتباع الديانتين يحتفلون بها في الأجل الموقوت. وكان الحج إلى مكة من أهم مواسم العرب في الحجاز، وهو عيد، يجتمع فيه الناس من مختلف القبائل ومختلف الأماكن للتقرب إلى الأصنام وللتلاقي في ظروف أمن وسلام لا يحل فيها قتال ولا اعتداء ولا لغو ولا فحش. ويقوم أهل مكة بخدمة الوافدين الضيوف، ضيوف "البيت"، وتمر أيام خالية من غدر واعتداء وقتل وأخذ بثأر يلبس فيها الناس خير ما عندهم من لباس ويتجلون بأحسن صورة. فإذا انتهت الأيام عادوا إلى ديارهم. وذكر أنه كان لأهل "يثرب" يومان يعيّدون فيهما، يلعبون فيهما ويستأنسون، هما: النيروز، والمهرجان. فلما قدم الرسول المدينة أبدلهما بيوم الفطرة والأضحى1. والظاهر أن اليثربيين أخذوا عيديهما المذكورين من الفرس2، "النيروز" عيد شهير من أعياد الفرس من أصل "نو" بمعنى جديد و"روز" بمعنى يوم، أي: أول يوم من السنة الإيرانية الشمسية. وأما "المهرجان"، فإنه عيد من أعياد الفرس كذلك، يعيّد به في الشهر السابع من شهورهم الشمسية، وهو شهر "مهر" "مهرماه"، ويدعى العيد "مهركان". وقد بقي الفرس يحتفلون به في الإسلام، حتى زماننا هذا، وورد ذكره في الأشعار3. ولم يذكر أهل الأخبار كيف عيد أهل "يثرب" بهذين العيدين اللذين هما من أعياد الفرس. ولا ما هي صلتهم بهما. وذكر أهل الأخبار عيدًا سموه "يوم السبع"، قالوا: إنه عيد كان لهم في

_ 1 جامع الأصول "10/ 166"، عن العيد، راجع المخصص "13/ 102"، اللسان "3/ 318 ومابعدها"، تاج العروس "2/ 438"، المحكم والمحيط الأعظم "2/ 232"، معجم مقاييس اللغة "4/ 181، 182"، القاموس "1/ 319"، مقدمة الصحاح "1/ 512". 2 بلوغ الأرب "1/ 347"، اللسان "5/ 416". 3 بلوغ الأرب "1/ 352 وما بعدها". غرائب اللغة "ص246".

الجاهلية، يشتغلون فيه بلهوهم وعيدهم من كل شيء1. ولم يتحدثوا بشيء مفصل عنه، ولم يذكروا أنه عيد من. وورد في بيت شعر للنابغة اسم عيد دعاه "السباسب"، وقد ذكر أهل الأخبار أنه كان عيدًا لقوم من العرب في الجاهلية وكانوا يحيون فيه بالريحان. رقاق النعال طيّبٌ حُجُزاتهم ... يحيّون بالريحان يوم السَّباسِبِ2 وهو في الواقع عيد من أعياد النصارى، كما أشار إلى ذلك أهل الأخبار. إذ ذكروا أنه "عيد للنصارى ويسمونه يوم الشعانين"3 وقد كان هذا العيد معروفًا في الحجاز أيضًا، ورد في الحديث: "إنّ الله تعالى أبدلكم بيوم السباسب يوم العيد"4. وإذا صح ورود هذا الحديث عن الرسول، كان ذلك دليلًا على أن أهل مكة كانوا قد عرفوا هذا العيد وعيدوه وربما كانوا أخذوه عن النصرانية. ولم ترد في نصوص المسند إشارات إلى أعياد العرب الجنوبيين ولم ترد إشارات إلى الأعياد في النصوص الثمودية أو اللحيانية أو الصفوية. لذلك لا أستطيع أن أتحدث عن العيد عند العرب الجنوبيين أو اللحيانيين أو الصفويين أو قوم ثمود. وقد أشار بعض الكتبة "الكلاسيكيين" إلى تعييد النبط وعرب أعالي الحجاز واحتفائهم فيها بأصنامهم وحجّهم إلى معابدهم، إلا أنهم لم يسموا تلك الأعياد بأسمائها. وقد عيد يهود جزيرة العرب بأعيادهم أيضًا. وكانوا يحافظون عليها، لأنها في عقيدتهم عمل من الأعمال الدينية. ولم يكونوا يشتغلون فيها5، إذ يرون في

_ 1 تاج العروس "5/ 372"، "سبع"، بلوغ الأرب "1/ 347"، اللسان "8/ 148". 2 بلوغ الأرب "1/ 347"، تاج العروس "3/ 41"، "الكويت" "سبب" اللسان "سبب"، ديوان النابغة "45". 3 تاج العروس "1/ 294"، "سبب". 4 تاج العروس "3/ 41"، "طبعة الكويت"، "سبب"، "1/ 294"، "المطبعة الخيرية". 5 صبح الأعشى "2/ 426 وما بعدها".

الخروج عليها خروجًا على الدين الذي منعهم من الاشتغال في أيام السبت والأعياد وحتم عليهم وجوب مراعاة حرمة تلك الأيام مراعاة تامة. ومن أعياد اليهود التي عرفها الجاهليون عيد رأس السنة، وعيد الصوم الكبير "الكبور"، و"عيد المظال" وأعياد أخرى. أما العرب النصارى، فقد عيّدوا بأعيادهم الدينية، واحتلفوا بها، وفي المواضع التي كانت فيها جماعة كبيرة منهم كانت احتفالاتهم بها أوضح وأفرح. وفي الحيرة، حيث تفشت النصرانية وانتشرت، كان الناس يتزينون ويتجملون ويلبسون أحسن ما عندهم من حلل في أيام أعيادهم، مثل "عيد السعانين" "عيد الشعانين"، ويحتفلون في البيع والكنائس والأديرة فرحًا بذكرى العيد، ويخرجون بصلبانهم1. وذكر أن "يوم السعانين" "يوم الشعانين"، هو "يوم السباسب"، العيد الذي مر ذكره، وقد كان من أعياد النصارى2. وقد اشتقت كلمة "السعانين" "الشعانين" من العبرانية، أخذت من لفظة "هوشعنا"، التي كان يتهلل بها اليهود أمام المسيح. و"السباسب": الأغصان، يريدون منها سعف النخيل الذي قطعه اليهود يوم استقبلوا المسيح في دخوله أورشليم3. وذكر أن "الهنزمر"، و"الهنزمن"، و"الهيزمن"، كلها: عيد من أعياد النصاى أو سائر العجم، وهي أعجمية. قال الأعشى: إذا كان هنزمن ورُحْتُ مخشما4 واشتهر "عيد الفصح"، وهو عيد فِطر النصارى، إذا أفطروا وأكلوا اللحم. وقد أشار إليه الأعشى بقوله:

_ 1 الأغاني "2/ 30"، "طبعة ساسي"، صبح الأعشى "2/ 415 وما بعدها"، اللسان "13/ 209". 2 اللسان "1/ 460"، "صادر"، "سبب"، المخصص "13/ 102" تاج العروس "4/ 294"، نهاية الأرب "1/ 191 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 235". 3 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص215"، المخصص "13/ 102"، ديوان النابغة "ص15". 4 المخصص "13/ 102"، الآثار الباقية "292"، اللسان "5/ 267"، "هنزمر"، تاج العروس "3/ 623"، "هنزمر".

بهم تقرّب يوم الفصح ضاحية ... يرجو الإله بما سدّى وما صنعا1 وذكر العلماء اسم عيد آخر من أعياد النصارى دعوه "السلاق"، ذكروا أنه مشتق من تسلق المسيح إلى السماء2. والكلمة من أصل إرمي، هو Souloqo بمعنى صعود. وقصد به عيد صعود المسيح إلى السماء3. وللنصارى عيد آخر اسمه "خميس الفصح"، وعرف أيضًا بـ"خميس العهد". وقد احتفل به نصارى الحيرة4. وذكر علماء اللغة أن للنصارى عيدًا من أعيادهم اسمه "دنح"، وتكلمت به العرب5. وهو من أصل إرمي هو "دنحو"، بمعنى إشراق وظهور. ويراد به "عيد الغطاس"6. وتضاف إليها الأعياد المحلية، التي كان يحتفل فيها بأيام القديسين. فقد كان الغساسنة يحتلفون مثلًا في الرصافة بعيد "القديم سرجيوس". وكان لنصارى العراق أعيادهم الخاصة بهم حسب مذاهبهم. يكرسونها تخليدًا لذكرى قديسيهم. وقد اشتهر النصارى بين الجاهلين وفي الإسلام بمحافظتهم على أعيادهم حتى ضربوا المثل بأعياد النصارى. فقال العجاج: واعتاد أرباضًا لها آريّ ... كما يعود العيد نصرانيّ7 والعادة –كما هو شأن كل الأمم- أن يتزين في أيام الأعياد بأحسن الثياب والملابس المفتخرة والحلل المثمنة والبرود المعجبة، وأن يظهر الشبان مقدرتهم وبراعتهم في التسابق على الخيل وفي الألعاب وفي الظهور أمام النساء، ويلعب الصبيان أنواعًا من الملاعب، وأن يتغنى ويزمر بالدفوف والمزاهر وأمثال ذلك،

_ 1 ديوان الأعشى "القصيدة 13، سطر 69"، اللسان "2/ 545"، القاموس "1/ 240"، مقاييس اللغة "4/ 507"، مقدمة الصحاح "1/ 391". 2 اللسان "10/ 163"، "صادر"، "سلق". 3 غرائب اللغة "ص188". 4 الأغاني "3/ 23"، النصرانية، القسم الثاني الجزء الثاني القسم الأول "ص216"، نهاية الأرب "1/ 191 وما بعدها". 5 اللسان "2/ 436"، "دنح"، تاج العروس "2/ 136"، "دنح"، المخصص "13/ 102". 6 غرائب اللغة "181"، نهاية الأرب "1/ 191 وما بعدها"، الآثار الباقية "292 وما بعدها". 7 تاج العروس "2/ 438"، "عود".

لتكسب الأيام بهجتها وروعتها. وكان من عادة أشراف الحيرة اللعب على الخيل بالصوالجة، وذلك على طريقة العجم1. وقد يخضب الرجال والنساء أيديهم بالخضاب، ولا سيما "الحناء". ولكن هذا النوع من إظهار الفرح والسرور، غالب في الأعراس وفي الختان، حيث تولم الولائم وتقام الأفراح، ويخضب بالحناء.

_ 1 الأغاني "2/ 19"، "طبعة ساسي".

اللعب في العيد

اللعب في العيد: ومما كان يتلقى به المعيدون ويتسلون به، الغناء، واللعب بمختلف أنواعه. وفي جملته استخدام السودان للعب بلعبتهم الشهيرة لعبة الدرق والحراب1. وقد برع في الغناء نساء ورجال. وذكر أن أهل "يثرب" كانوا أهل طرب وكانوا يحبون الغناء2، وأنهم استخدموا "الحبش" للضرب على الدف والغناء في أيام الأعياد. وقد كانوا يلعبون في المسجد بالدرق والحراب ولم ينههم الرسول عن ذلك، لأن اللعب كان في أيام العيد3. وقد غنت جاريتان لـ"عائشة" بإنشاد العرب بغناء بعاث، كما أذن الرسول للسودان باللعب في مسجده في الحراب والدرق، ونشطهم بقوله: "يا بني أرفدة"4.

_ 1 نهاية الأرب "4/ 138". 2 نهاية الأرب "4/ 139 وما بعدها"، "أما كان معكن لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو"، نهاية الأرب "4/ 148". 3 القسطلاني، إرشاد الساري "6/ 20". 4 القسطلاني، إرشاد "2/ 204 وما بعدها"، "باب إباحة الحراب والدرق يوم العيد".

الغناء

الغناء: وطرب الأعراب، طرب ساذج يتناسب مع طبيعة بيئاتهم، وكذلك كان غناؤهم غير معقد ولا متنوع. أما طرب أهل الحضر، فكان أكثر تعقيدًا وتفننًا ولا سيما طرب أهل الحضر الساكنين في ريف العراق وفي بلاد الشأم، وعند أهل

اليمن، فاستعملوا آلات طرب متعددة، أخذوا بعضها من الأعاجم الذين اتصلوا بهم، كما أخذوا من أولئك الأقوام ألوانًا من ألوان الغناء وفنونه. هذا الاختلاف لا بد أن يقع، لاختلاف أهل الوبر وأهل المدر في البيئات، وفي الطباع والعادات. وللشعر علاقة كبيرة بالغناء. فالغناء هو التغني بالشعر. ولذلك قالوا: تغنى بالشعر، وفلان يتغنى بفلانة إذا صنع فيها شعرًا. وله علاقة بالحداء أيضًا. قالوا: حدا به، إذا عمل فيه شعرًا1، فالغناء نغم ووزن ويكون لذلك بكلام موزون. وهو الشعر الذي يناسب نغم الغناء. أما النثر، فلا يناسب طبعه طبع الغناء. ويكون بينهما جفاء. إذ لا يستقيم النثر العربي مع الوزن دائمًا. لذلك فلا يمكن للمغني أن يغني به. قال "الجاحظ": العرب تقطع الألحان الموزونة والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في الوزن اللحن، فتضع موزونًا على غير موزون2. وذكر أن الغناء من الصوت ما طرب به3. وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يستمعون إلى القيان. وأن فارس كانت تعد الغناء أدبًا والروم فلسفة. وأن الملوك العرب كانوا يملكون القيان أيضًا. ومنهم أشراف مكة وعلى رأسهم "عبد الله بن جدعان"4. وقد عرف غناء أهل البادية بـ"غناء الأعراب"، وذلك لاختلافه عن غناء الحضر5. فكان لأهل الحيرة مزاج في الغناء يختلف عن مزاج أهل البادية، بل حتى عن مزاج غيرهم من الحضر. وذلك للظروف الخاصة التي تحيط بهم، مثل اختلاطهم بالفرس، ووجود النصرانية والمؤثرات اليونانية فيما بينهم. وقد كان في كنائس العباديين نصارى الحيرة، تراتيل وترانيم، وهي بالطبع نوع من الغذاء الروحي، وقد كان عندهم خمر تبعث على الانشراح والانبساط، وأديرة مزدانة بالخضرة والرياحين والأزهار، وفيها ماء طيب وغناء رهبان وراهبات،

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 369"، تاج العروس "10/ 272"، "غنى"، اللسان "15/ 135"، "غنى". 2 بلوغ الأرب "1/ 369". 3 تاج العروس "10/ 272"، "غنى". 4 رسائل الجاحظ "2/ 158". 5 نهاية الأرب "4/ 193".

فلا عجب إن طرب سكانها وتفننوا في غنائهم، وتميزوا به عن بقية الغناء العربي، حتى قيل له: غناء أهل الحيرة، وقد ذكر: أنه بين الهزج والنصب، وهو إلى النصب أقرب، كما كانت لهم لغة امتازت عن لغات العرب الآخرين غنوا بها، فأكسب غناؤهم طابعًا حيريًّا خاصًّا1. ومن مرادفات الغناء "السمود" بلغة حمير. وقيل السمود اللهو وبصورة خاصة الغناء2. وللفقهاء في الإسلام آراء في قراءة القرآن. منهم من جوز قراءته بالألحان، ومنهم من جوز قراءته بالترجيع، وغير ذلك3. والترجيع ترديد الصوت في الحلق في قراءة أو غناء أو زمر أو غير ذلك مما يترنم به. وقيل: الترجيع هو تقارب ضروب الحركات في الصوت4. وأما "العزف"، فالملاهي واللعب بالمعازف، وهي الدفوف وغيرها مما يضرب. والعازف اللاعب بها والمغني. وعزف الدف صوته. والمعزف، ضرب من الطنابير يتخذه أهل اليمن وغيرهم، ويجعل العود معزفًا5. ويعبر عن الاستماع إلى الغناء والإنصات لصوت المغني بـ"السماع". ويحدث السماع طربًا في النفس. وقد صار للكلمة معنى خاص في الإسلام، إذ حولت إلى سماع الترانيم الدينية في الغالب، لذلك لم ينظر إليه نظرة الناس إلى الغناء6. وتغني أهل الجاهلية في كل المناسبات المبهجة، وضربوا على آلات الطرب. ومن هذه المناسبات الزواج والعودة من الأسفار، كما كانوا ينذرون أنه إن تحقق مطلب لهم فإنهم يقيمون مجلس طرب يتغنى فيه: كمناسبة شفاء من مرض أو عودة من حرب7. وكان شبان مكة يذهبون إلى السمر ويلهون بسماع الغناء وبالضرب على الدفوف والاستماع إلى تزمير المزمار8. كما استعمل الغناء في الغزو، وذلك

_ 1 الأغاني "2/ 121" "طبعة ساسي". 2 اللسان "3/ 219"، نهاية الأرب "4/ 134". 3 ابن قيم الجوزية "1/ 134"، "في هديه صلى الله عليه وسلم، في قراءة القرآن" 4 تاج العروس "5/ 351"، "رجع". 5 اللسان "9/ 244"، المخصص "13/ 12"، تاج العروس "6/ 197"، "عزف". 6 نهاية الأرب "4/ 161 وما بعدها". 7 نهاية الأرب "4/ 140 وما بعدها". 8 نهاية الأرب "4/ 145 وما بعدها".

لتنشيط الغازين وتحريضهم على القتال. ومن هذا القبيل ما يرتجز به الشجعان عند اللقاء في الحرب. واستعمل في الختان وفي العقيقة والولائم1.

_ 1 نهاية الأرب "4/ 168 وما بعدها".

آلات الطرب

آلات الطرب: وآلات الطرب عند العرب ثلاثة: آلات ذات أوتار كالعود وآلات نفخ، وآلات ضرب كالصنوج والطبل والدف. والطرب: الفرح والحزن وهو ضد، أو هو خفة تلحقك سواء تسرك أو تحزنك. فهي تعتري عند شدة الفرح أو الحزن أو الغم. والتطريب التغني. ويقال: طرب فلان في غنائه تطريبًا إذا رجع صوته وزينه1. والدفّ من آلات الطرب القديمة المشهورة ويستعمل. للتعبير عن العواطف في الفرح والسرور. وهو معروف عند الساميين ويسمى "توف" "تف" Toph عند العبرانيين. وقد ورد ذكره في التوراة. وتنقر به النساء أيضًا2. وقد كان شائعًا عند العرب، ينقرون به في أفراحهم. ولما وصل الرسول إلى يثرب، استقبل بفرح عظيم وبالغناء وبنقر الدفوف. وأكثر ما استعمله العرب في المناسبات المفرحة، كالنكاح. ورافقوا الضرب به أصوات الغناء3. وقد وردت في الشعر الجاهلي أسماء آلات طرب عرفت في ذلك العهد، فورد في شعر للأعشى: الناي، والبربط، والصنج، وهي آلات عرفت عند الفرس. وقد دعي "الناي" بـ"ناي نرم". والناي نرم وبربط ذي بُحة ... والصنج يبكي شجْوَهُ أن يوضعا4 وقد ذكر الجواليقي أن الربط معرّب، وهو من ملاهي العجم، شبّه بصدر

_ 1 تاج العروس "1/ 354"، "طرب". 2 Smith, Diction, Vol. III, P. 1502, Hastings, P. 638, A Relig. Ency Vol. III, P. 1599 3 تاج العروس "6/ 108"، "دف". 4 المعرب "ص72، 214، 340"، العقد الفريد "6/ 23".

البط. والصدر بالفارسية "بر"، فقيل: بربط1. وقد ورد في العقد الفريد: "العود الكران. والمِزْهر أيضًا هو العود، وهو البربط"2. والبربط من آلات الملاهي المشهورة عند الروم. وعرف الجواليقي "الصنج" فقال: "والصنج الذي تعرفه العرب هو الذي يتخذ من صفر، يضرب أحدهما بالآخر ... فأما الصنج ذو الأوتار، فتختص به العجم، وهما معربان. وسمّوا الأعشى "صناجة العرب" لجودة شعره3. وذكر أن اللاعب بالصنج هو "الصنّاج" و"الصنّاجة"4. وجاء الأعشى باسم آلة طرب أخرى من آلات الملاهي عند العجم، دعاها "الوَنّ". بالجُلسَّان وطيب أردانه ... بالوَن يضرب لي يكرُّ الإصبعا5 ويظهر من هذا البيت أن ألون آلة طرب ذات أوتار، يضرب عليها بالأصابع. وقد ذكر بعض العلماء أن الونّ: "الصنج الذي يضرب بالأصابع وهو الونج، كلاهما دخيل مشتق من كلام العجم6. وعرف بعضهم "الونج" بأنه "المعزف أو العود، فارسي معرب. وأصله بالفارسية وَنَهْ. وقد تكلمت به العرب"7. ومنهم من جعل "الونّ" و"الونج" شيئًا واحدًا. ويذكر علماء اللغة أن "العَرْطَبة" هي اسم للعود، وقيل: الطبل، وقيل: الطنبور: وقد ورد ذكرها في الحديث مع اسم آلة أخرى من آلات الملاهي، هي "كوبة"8. ويرى العلماء أن "الكوبة"، الطبل الصغير، وهي "النرد"، بلغة اليمن9. وذكر أن "المرطبة" طبل الحبشة خاصة10، وأن "الكوبة".

_ 1 المعرب "ص71"، ابن خلكان، الوفيات "2/ 400"، تاج العروس "5/ 105". 2 "2/ 27"، تاج العروس "5/ 104 وما بعدها"، "البربط". 3 المعرب "ص214"، الأغاني "8/ 75". قال الأعشى. ومستجيبا تخال الصنج يسمعه ... إذا ترجع فيه القينة الفضل اللسان "2/ 311"، "صنج"، تاج العروس "2/ 67". 4 تاج العروس "2/ 67"، "صنج". 5 المعرب "ص344"، تاج العروس "9/ 363"، "الون". 6 المعرب، الحاشية، تاج العروس "9/ 363"، "الون". 7 المعرب "ص344"، تاج العروس "9/ 363"، "الون". 8 المعرب "ص234"، تاج العروس "1/ 377"، القاموس "1/ 103". 9 المعرب "ص295"، تاج العروس "1/ 464". 10 تاج العروس "1/ 377"، "عرطبة".

البربط والشطرنج والطبل الصغير1. وذكر أهل الأخبار أن "النضر بن الحارث بن كلدة" كان يغني بالعود2. والعود من جملة آلات الطرب القديمة. وهو "عوديت" عند العبرانيين. وقد أشير إليه في جملة آلات الموسيقى المستعملة في أيام داود، وذلك في المزامير3. وذكر أن من أساء العود "الكران"، وأن "الكرينة" المغنية الضاربة بالعود أو الصنج4. ويعرف الوتر بـ"اليم"، ويقال هو الوتر الغليظ من أوتار المزهر5. و"الناي" من آلات الطرب، ينفخ فيه، يصنع من الخشب ومن القصب6. وذكر أن الناي من أسماء "المزمار"، وهو من آلات النفخ كذلك. و"القصاب"، وهو الذي ينفخ في القصب الزمار7. وأما "الهيرعة"، فالقصبة، التي يزمر فيها الراعي8. وذكر أن "القنين" طنبور الحبشة "وفي الحديث: إنّ الله حرم الخمر والكوبة والقنين". والتقنين الضرب بالقنين. وذكر أن الكوبة: الطبل9. وأما "الكبر"، فهو الطبل، وقيل: طبل له وجه واحد. وقيل: هو الطبل ذو الرأسين10. ويقال للطنبور: "طبن" كذلك11. و"المزمار" و"الزمارة": ما يزمر فيه. ويقال للقصبة التي يزمر

_ 1 تاج العروس "1/ 464"، "كوب". 2 المعارف "ص250". 3 Smith, A Diction III, P. 1304 4 قال لبيد: صعل كسافلة القناة وظرفه ... وكأن جؤجؤه صفيح كران تاج العروس "9/ 320"، "كرن"، اللسان "13/ 357"، "كرن". 5 شمس العلوم "جـ1 ق1 ص118"، الأغاني "2/ 120" "ساسي" اللسان "3/ 36". 6 العقد الفريد "6/ 23". 7 المخصص "13/ 15". 8 المخصص "13/ 14"، تاج العروس "5/ 556"، "هرع". 9 اللسان "13/ 349"، تاج العروس "9/ 315". 10 اللسان "5/ 130"، تفسير الطبري "28/ 66". 11 اللسان "13/ 264".

بها زمّارة1. وأما "الرباب"، فمن آلات اللهو كذلك2. وقد اشتهر الغناء بالمزمار عند العرب، وأجادوا فيه. وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الساميين يستخدمون الغناء في عباداتهم، وربما استخدموا معه بعض آلات الطرب. وذلك تعبيرًا عن بهجتهم وسرورهم بتعبدهم للآلهة وتقربًا إليها بهذا الغناء الذي يدخل السرور إلى نفوسها. وقد ذكر المفسرون أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت يصفرون ويصفقون3. وإذا صح قولهم هذا، فإنه يعني استعمال نوع من الطرب في حجهم وطوافهم بالبيت. وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع الغناء العربي وما يختلف به ويمتاز عن غناء الأعاجم، فقال: "العرب تقطع الألحان الموزونة على الأعشار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونًا على غير موزون"4. واللحن: الغناء. وفي الحديث: "اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل العشق"5. ويراد به التطريب وترجيع الصوت وتحسين القراءة والشعر والغناء. وقد كان اليهود والنصارى يقرءون كتبهم نحوًا من ذلك6.

_ 1 اللسان "4/ 327". 2 تاج العروس "2/ 472". 3 تفسير الطبري "9/ 157 وما بعدها". 4 العمدة "314". 5 اللسان "13/ 383"، "صادر"، "لحن". 6 المصدر نفسه.

أصول الغناء الجاهلي

أصول الغناء الجاهلي: ويرجع أهل الأخبار غناء الجاهليين إلى ثلاثة أوجه: النصب، والسناد، والهزج. فأما النصب، فغناء الركبان وغناء الفتيان والقينات، ويغنى به في المراثي كذلك. وقد دعاه إسحاق بن إبراهيم الموصلي، الغناء الجنابي نسبة إلى رجل من كلب يقال له: جناب بن عبد الله بن هبل. وهو الذي يقال له "المراثي"، ومنه كان أصل الحداء، وكله يخرج من الطويل في العروض. وأما السناد، فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات. وأما الهزج، فالخفيف الذي يرقص عليه

ويمشي بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحليم1. ويذكر أهل الأخبار أن الأنواع المذكورة كانت غناء العرب، حتى جاء الإسلام وفتحت العراق، وجلب الغناء والرقيق من فارس والروم، فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية، وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير2. وذكر أيضًا أن الغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب قبل ذلك إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمونه "الركباني" "الركبانية"3. والنشيد رفع الصوت، ومن المجاز الشعر المتناشد بين القوم ينشده بعضهم بعضًا4. وذكر "المسعودي" أن غناء العرب النصب، ثلاثة أجناس: الركباني، والسناد الثقيل، والهزج الخفيف5. ويرى بعض أهل الأخبار أن أصل الغناء ومعدنه إنما كان في أمهات القرى من بلاد العرب، حيث فشا بها، وانتشر. ومن هذه مكة والمدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب. ورووا أن أول من غنى في العرب قينتان لعاد، يقال لهما: الجرادتان6. وهما قينتا "معاوية بن بكر الجرهمي" "معاوية بن بكر العملقي" غنّتا لوفد "عاد" بمكة، فشغلوا عن الطواف بالبيت وسؤال الله فيما قصدوا، فهلكت عاد وهم سامدون. فلما رأى الجرهمي، وهو معاوية بن بكر، أحد العماليق، ذلك قال: هلك أخوالي "عاد"، ولو قلت لضيوفي شيئًا، ظنوا بين البخل، فألقى إلى الجرادتين شعرًا يذكر بمحنة "عاد"، فأنشدتاه الضيوف. وكان الجرهمي سيد مكة حين وفدت عاد تستقي في قحطها. وكان "قيل ابن عتر" أحد الرءوس الثلاثة لوفد عاد، حين ذهبوا في القحط إلى مكة يستسقون لقومهم7.

_ 1 العقد الفريد "6/ 27"، بلوغ الأرب "1/ 369 وما بعدها"، اللسان "2/ 390 وما بعدها"، العمدة "313"، اللهو والملاهي، لابن خرداذبه "ص18". 2 العمدة "314". 3 نهاية الأرب "4/ 239". 4 تاج العروس "2/ 514"، "نشد". 5 مروج "4/ 133"، "دار الأندلس". 6 العقد الفريد "6/ 27". 7 الأمثال للميداني "1/ 87"، رسالة الغفران "243"، مروج "4/ 133"، "دار الأندلس".

وورد أيضًا أن الجرادتين كانتا مغنيتين للنعمان. كما ورد ذكر الجرادتين وغناءهما لأبي رغال. وورد أنه كان بمكة في الجاهلية قينتان يقال لهما: الجرادان مشهورتان بحسن الصوت1. وقيل: إن الجرادتين كانتا أمتين تتغنيان في الجاهلية وكانتا لعبد الله ابن جدعان2. وقد ذكر "أبو العلاء المعري"، أن العرب تسمي كل قينة جرادة، حملًا على أن قينة في الدهر الأول كانت تدعى الجرادة. واستشهد بهذا البيت: تغنينا الجراد ونحن نشرب ... نعلّ الراح خالطها المشور3 وذكر بعض العلماء أن "جذيمة الخزاعي بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة ابن عمرو بن عامر"، المعروف بـ"المصطلق"، كان من أحسن الناس صوتًا، وقد غنى بعد "الجرادتين"، غنى غناء النصب4. وذكر أنه أول من غنى في خزاعة5. ثم غنى بعده "ربيعة"، وهو "ضبيس بن حزام بن حيشة بن سلول بن كعب بن عمرو بن عامر" الخزاعي، ثم غنى بعده "زمام بن خطام الكلبي"، وقد ذكره "الصمة القشيري"، بقوله: دعوت زمامًا للهوى فأجابني ... وأي فتى للهو بعد زمام6 وذكر "المسعودي"، أن غناء أهل اليمن بالمعازف وإيقاعها جنس واحد، وغناؤهم جنسان: حنفي، وحميري. والحنفي أحسنها7، فهذا هو غناء أهل اليمن. ورجع بعض أهل الأخبار غناء أهل اليمن إلى "علس بن زيد ذي جدن"، زعموا أنه أول من تغنى باليمن8. وزعموا أنه كان من ملوك اليمن، لقب بذي جدن، لجمال صوته. فالجدن الصوت عند أهل اليمن9.

_ 1 اللسان "3/ 118"، "صادر"، "جرد"، تاج العروس "2/ 318" "جرد". 2 الأغاني "8/ 2" "طبعة ساسي". 3 رسالة الغفران "244". 4 كتاب اللهو والملاهي "18". 5 تاج العروس "6/ 412". 6 كتاب اللهو والملاهي "18". 7 مروج "4/ 134". 8 الأغاني "4/ 37". 9 اللهو والملاهي "20".

وذكر أن قريشًا لم تكن تعرف من الغناء، إلا النصب، حتى قدم "النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي" العراق، فعلم ضرب العود وغناء العباديين، فقدم مكة، فعلم أهلها، فاتخذوا القيان1. ويظهر من غربلة ما ورد في الأخبار عن الغناء، أن المراد به، تلحين ما يراد التغني به وتطريبه، حتى يثير الطرب في نفوس السامعين، لا سيما إذا اقترن بآلة من آلات الطرب. ونادرًا ما يكون غناء دون "موسيقى". فالموسيقى تصاحب الغناء. والغناء: تلحين ما يراد التغني به بتقطيعه قطعًا موزونة تكون نغمة، يوقع على كل صوت منها بإيقاع يناسبه، فيزيده لذة في السماع2. وذهب "المسعودي" إلى أن أول من اتخذ القيان من العرب، أهل يثرب. أخذوا ذلك من بقايا عاد3. بينما يذكر الأخباريون، أن أول من غنى من العرب العاربة الجرادتان، وكانتا فينتين على عهد عاد، لمعاوية بن بكر العمليقي4. وفي جملة من قال ذلك "ابن خرداذبه"، الذي اعتمد "المسعودي" عليه في موضوع الغناء، ونقل من كتابه "اللهو والملاهي" بالنص5. والقينة عند علماء اللغة: الأمة المغنية، وذكروا أنها كلمة هذلية. وقال بعض آخر: مغنية كانت أو غير مغنية. وإنما قيل للمغنية قينة، إذا كان الغناء صناعة لها، وذلك من عمل الإماء دون الحرائر6. والظاهر أنها من الألفاظ المعربة، فالغناء في لغة "بني إرم" هو "قنتو" Qinto والمغنية "قينة" من الغناء "قنتو"7. وذكر أن من أسماء "القينة" "الزمّارة" و"الزامرة"، وقيل للمغني: "الزمار"، وذلك من التزمير بالمزمار8.

_ 1 كتاب اللهو والملاهي "19"، مروج الذهب "4/ 134"، المخصص "2/ 142 وما بعدها"، "4/ 54". 2 مقدمة ابن خلدون "758"، "دار الكتاب، بيروت 1961"، اللسان "15/ 135". 3 مروج الذهب "4/ 134"، كتاب اللهو والملاهي "19". 4 كتاب اللهو والملاهي "18". 5 راجع كتاب اللهو والملاهي وقارنه بكتاب مروج الذهب، للمسعودي "4/ 131 وما بعدها". 6 اللسان "13/ 351 وما بعدها". 7 غرائب اللغة "202". 8 اللسان "4/ 327"، "ذمر".

ويقال للمغنية: "الكرينة" أيضًا1. وقد وردت اللفظة في شعر لبيد: بصبوح صافية وجَذْب كرينة ... بموترٍ تَأتاله إيهامها2 وذكر أن "الكرينة" المغنية الضارية بالعود أو الصنج، والضاربة بـ"الكران". و"الكران" هو العود3. وذهب أهل الأخبار إلى أن الغناء محدث في العرب، أخذ من "الحداء". وكان الحداء في العرب قبل الغناء. وكان أول السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحداء. اشتقه "حباب بن عبد الله الكلبي"، فغنى النصب4. وقد أشير إلى غناء النصب في كلام ينسب إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب، فذكر أنه قال: مَرَّ بنا ابن الخطّاب، وأنا وعاصم بن عمر نغني غناء النصب، فقال: أعيدا علي5. وورد أن أنس بن مالك سمع أخاه البراء بن مالك يغني، فقال: ما هذا؟ قال: أبيات عربية أنصبها نصبًا6. مما يدلّ على أن غناء النصب إنما ورد من هذا المعنى كذلك أشير إلى الحداء في خبر ينسب إلى ابن جريج، قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن على ألحان الغناء والحداء7. وقد أخرج هذا الخبر الحداء من الغناء. وعرف بعض العلماء النصب: أنه غناء الرُّكبان. وعرف أنه "العقيرة"، يقال: رفع عقيرته إذا غنى النصب. وعرف أنه ضرب من أغاني العرب "وفي حديث نائل مولى عثمان: فقلنا لرباح بن المغترف: لو نصبت لنا نصب العرب، أي: لو تغنيت، وفي الصحاح: لو غنيت لنا غناء العرب. "وكان رباح بن المغترف يحسن غناء النصب وهو ضرب من أغاني العرب، شبيه الحداء، وقيل:

_ 1 العقد الفريد "6/ 27"، كتاب اللهو والملاهي "ص16". 2 شرح القصائد العشر، للتبريزي "214 وما بعدها"، "295" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 3 العقد الفريد "6/ 27". 4 اللهو والملاهي "18". 5 العقد الفريد "6/ 8". 6 المصدر نفسه. 7 العقد الفريد "6/ 9"، تاج العروس "1/ 485".

هو الذي أحكم من النشيد، وأقيم لحنه ووزنه"1. وعرف النصب: أنه ضرب من مغاني العرب أرق من الحداء2. وقد أشار أهل الأخبار إلى أن العرب كانت "تتغنى بالركباني، إذا ركبت الإبل، وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها، فلما نزل القرآن أحب النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يكون هجيراهم بالقرآن مكان التغني بالركباني، وأول من قرأ بالألحان عبيد الله بن أبي بكرة، فورثه عند عبيد الله بن عمر، ولذلك يقال: قرأت العمري، وأخذ ذلك عنه سعيد العلاف الإباضي"3. وذكر أن "عمر" سمع "عبد الرحن بن عوف" وهو يتغنى وينشد بالركبانية، وهو غناء يحدى به الركاب4. والحداء، هو من أقدم أنواع الغناء عند العرب، يغنى به في الأسفار خاصة، ولا زال على مكانته ومقامه في البادية حتى اليوم. ويتغنى به في المناسبات المحزنة أيضًا لملاءمة نغمته مع الحزن. وقد كان للرسول حادي هو "البراء بن مالك بن النضر الأنصاري" وكان حداءً للرجال5. وكان له حداء آخر، يقال له "أنجشة الحادي" وكان جميل الصوت أسود، وكان يحدو للنساء6، نساء النبي، وكان غلامًا للرسول7. وذكر أن النبي قال لقوم من بني غفار -سمع حاديهم بطريق مكة ليلًا- قال لهم: "إن أباكم مضر خرج إلى بعض رعاته فوجدها قد تفرقت، فأخذ عصًا فضرب بها كفَّ غلامه، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: وا يداه، وا يداه، فسمعت الإبل ذلك فعطفت، فقال مضر: لو اشتق مثل هذا لانتفعت به الإبل واجتمعت، فاشتق الحداء"8. وذكر بعض أهل الأخبار "أن أول من أخذ في ترجيعه الحداء "مضر بن نزار"9

_ 1 اللسان "1/ 762"، "نصب". 2 تاج العروس "1/ 486"، "نصب". 3 اللسان "15/ 137". 4 الروض "2/ 219". 5 الإصابة "1/ 143"، اللسان "14/ 168". 6 الإصابة "1/ 67"، الاستيعاب "1/ 117" "حاشية على الإصابة". 7 إرشاد الساري "9/ 92". 8 العمدة "314 وما بعدها"، المعارف "241"، الروض الأنف "1/ 60"، العقد الفريد "6/ 27"، إرشاد الساري "9/ 88". 9 مروج الذهب "4/ 159".

فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده، فحملوه وهو يقول: وا يداه وا يداه، وكان أحسن الله جرمًا وصوتًا، فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالًَا لقوله هايدا هايدا يحدون به الإبل"1. وللأخباريين كلام آخر من هذا النوع عن الحداء2. يتفق كله في أن هذا النوع من الغناء كان من خصائص غناء مضر3. وكان "عامر بن سنان الأكوع بن عبد الله بن قشير الأسلمي" المعروف بـ"ابن الأكوع" رجلًا شاعرًا وراجزًا، وكان يحسن الحداء، فطلب منه أصحاب الرسول أثناء سيرهم إلى خيبر أن يحدو بهم. فسمع الرسول حداءه4. وهناك أخبار أخرى يفهم منها أن العرب لم تدخل الحداء في الغناء، وإنما ذكرته معه، على أنه باب خاص5. والعادة أن يجعل المسافرون معهم حاديا أو جملة حداة يحدون بهم في السفر. وكان أبو هريرة أحد الصحابة المحدثين عن رسول الله، يحدو لركب بسرة بنت غزوان6. والحداء إذن ضرب مخصوص من الغناء، ويكون بالرجز غالبًا لأن طبيعة الرجز تلائم هذا النوع من الغناء7. ويذكر "المسعودي" أن الحداء كان في العرب قبل الغناء. وكان أول السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحداء8. فالحداء متقدم على الغناء إذن، وهو الباب الذي ولج العرب منه إلى الغناء. والحداء، هو في الواقع غناء أهل البادية، وفي إرجاع أهل الأخبار أصله إلى "مضر" أو غيره من الرجال صحة، إذا اعتبرنا أن "مضر" أو غيره كناية عن الأعراب. لأن هذا النوع من الغناء مما يتناسب مع لحن البوادي ونغمها الحزينة البسيطة التي تطرب بها طبيعة البداوة نفس الأعراب. ولا زال غناء أهل البادية متأثرًا بهذه الضربات من العزف، التي تعزفها البادية للتخفيف عن كآبة.

_ 1 العمدة "314". 2 المعارف "241"، العمدة "314". 3 العقد الفريد "6/ 27"، الروض "1/ 60"، بلوغ الأرب "1/ 369 وما بعدها". 4 إرشاد الساري "9/ 90 وما بعدها". 5 المعارف "ص232"، اللسان "14/ 168". 6 المعارف "ص120"، نهاية الأرب "4/ 164". 7 إرشاد الساري "9/ 88". 8 مروج "2/ 133"، "دار الأندلس".

الطبيعة وللتعبير عن الروح الحزينة التي تحملها هذه الطبيعة من نشوئها ونموها في هذه الفيافي الساحقة الشاسعة التي لا ترى حدودها العين، والتي ترشق الأوجه برشقات من الرمال، تسد العين، حتى لا تتجاسر فتمد بصرها لتسترق سر هذه المحيطات ذات الأمواج المتفاوتة في الارتفاع من تموجات الرمال. وقد تخصص أناس من رجال ونساء بالغناء، واتخذوه حرفة لهم يتكسبون بها. والمغنون المحترفون هم من سواد الناس، ومن الرقيق. لأن من طبع الشريف والحر الابتعاد عنه. وقد احترف هؤلاء الغناء وتعيشوا عليه. فكانوا يدعون إلى إحياء الحفلات في مقابل أجر يدفع لهم. وقد كان من بينهم من يغني بلغته كالرومية والحبشية، ولهذا فلم يكن من المستبعد سماع غناء أجنبي في موضع مثل مكة أو يثرب لوجود رقيق فيه. وقد تغنى بشعر بعض الشعراء الجاهليين، ومن هؤلاء شعر الشاعر "مرة بن الرواغ". ويذكر أهل الأخبار أن "امرئ القيس بن حجر"، كان يأمر قيانه أن يغنين بشعره. وأن قيان الملوك كن يغنين به أيضًا1، وقد كان النخاسون في الجاهلية يعلمون المغنيات الشعر، للتغني به. وقد كان أغنياء مكة والقرى الأخرى يملكون القيان، ومنهم من كان يملك عددًا منهن. مثل "عبد الله بن جُدْعان". وكان "لمقيس بن عبد قيس بن قيس بن عدي"، قينتان تغنيان، وكان بيته مألفًا لشباب قريش ينفقون عنده ويشربون ويتهاتكون يبقون على ذلك ليالي وأيامًا2. ومن القيان: "هريرة" التي شبب بها "الأعشى". وهي أمة سوداء، لحسان بن عمرو بن مرثد. ولها أخت اسمها "خليدة": كانت قينة كذلك. وقد ورد في رواية أخرى، أنهما كانتا قينتين لـ"بشر بن عمرو بن مرثد"، وكانتا تغنّيانه النصب. وقدم بهما اليمامة، لما هرب من "النعمان"3. وذكر أنه كان لـ"عائشة" جاريتان تغنيان بغناء بعاث، أي تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بعاث4.

_ 1 الآمدي، المؤتلف "ص127"، معجم الشعراء "ص382". 2 شرح ديوان حسان "47" "البرقوقي". 3 الأغاني "9/ 113". 4 اللسان "15/ 137".

ومن أهل الحداء حاد يقال له: "أنجشة" أشرت إليه قبل قليل، وكان حسن الصوت. وهو من الصحابة. "وفي الحديث: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأنجشة وهو يحدو بالنساء: "رفقًا بالقوارير ... " وكان أنجشه يحدو بهن ركابهن ويرتجز بنسيب الشعر والرجز وراءهن"1. وهو من أصل حبشي، يكنى "أبا مارية"2. وكان يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال3. وربما كان على النصرانية قبل دخوله في الإسلام. وكان "البراء بن مالك بن النضر الأنصاري"، حسن الصوت كذلك. وكان يرجز لرسول الله في بعض أسفاره، كما أشرت إلى ذلك قبل قليل. وذكر أنه كان حادي الرجال. وكان يتغنى بالشعر. وقد شهد المشاهد مع رسول الله إلا بدرًا، وله يوم اليمامة أخبار. واستشهد في أيام عمر4. وكان من الشجعان5. ومما يلفت النظر أن الأخباريين حين يتحدثون عن مجلس طرب وشرب وغناء، يذكرون أن صاحب المجلس أمر قينتين له بأن تغنيا له أولهم، وذلك في الغالب، ولم يذكروا قينة أو أكثر إلا في الأقل، حتى ليشعر القارئ أن العرف في ذلك الوقت أن تكون للسادة وللأشراف قينتين تغنيان تكونا في البيت بصورة دائمة. فلما اغتاظ "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" ما قيل عنه، وأراد الترفيه عن نفسه قبل أن يقتل نفسه "دعا قينيتن له فشرب وغنتاه"6. وكان "عبد الله بن جدعان" إذا أراد سماع الغناء أمر قينتين له تسميان "الجرادتين" بالغناء7. ولا يستبعد استخدام الجاهليين آلات الطرب والغناء في معابدهم وفي أعيادهم. فقد كان الساميون كالعبرانيين يستعملون أنواع آلات الموسيقى في معابدهم وفي أعيادهم تقربًا إلى آلهتهم8. وقد وصلت إلينا أسماء بعض آلات الطرب التي استعملها الجاهليون ولكن معارفنا لا تزال مع ذلك قليلة ضعيفة. وستزيد ولا شك

_ 1 اللسان "5/ 87 وما بعدها. 2 الإصابة "1/ 80"، "رقم261". 3 الاستيعاب "1/ 121 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 4 الإصابة "1/ 147"، "رقم 620". 5 الاستيعاب "1/ 141 وما بعدها". 6 شرح ديوان لبيد "ص61". 7 الأغاني "8/ 2"، البيان والتبيين "1/ 71" "لجنة". 8 A Relig. Ency., Vol. III, P. 1598

متى قام الآثاريون بالتنقيب تنقيبًا علميًّا عميقًا في مواضع الآثار في مختلف الأنحاء. أما العرب في العراق وفي بلاد الشام، فقد تأثروا بالغناء الأعجمي، واستعملو آلات الطرب المعروفة عند الفرس واليونان، وسمعوا الغناء بالفارسية والرومية واستحسنوه، بل استحسنه أناس من عرب الحجاز أيضًا. سمع حسان بن ثابت غناء "رائقة"، فلما عاد إلى بيته، تذكر ليلة قضاها في الجاهلية مع "جبلة بن الأيهم"، لم ينسها قط، قال: "لقد رأيت عشر قيان: خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة وأهداهن إليه إياس بن قبيصة. وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها. وكان إذا جلس للشرب، فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب، وأتي بالمسك الصحيح في صحاف الفضة، وأوقد له العود المندى إن كان شاتيًا، وإن كان صائفًا بطّن بالثلج، وأتي هو وأصحابه بكساء صيفية ينفصل هو وأصحابه بها في الصيف، وفي الشتاء بفراء الفَنَك وما أشبهه، ولا والله ما جلست معه يومًا قط إلا وخلع عليّ ثيابه التي عليه في ذلك اليوم وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمن جهل، وضحك وبذل من غير مسألة"1. وإذا كان الغناء للطرب بوجه عام، فإن هنالك نوعًا آخر من الغناء هو "الترنيم"، وهو تطريب الصوت، ويستخدم في الغالب في التلاوة، أي: تلاوة الأدعية والتراتيل الدينية. فقد كان الجاهليون يرتلون أغانيهم الدينية أمام أصنامهم، كما فعل ذلك اليهود والنصارى ويترنمون بها. وتصحب هذه الترانيم آلات موسيقية لتعزف الألحان المناسبة الموافقة لها. وذكر علماء العربية أن "الرنم" المغنيات المجيدات، والرنم الصوت. والرنيم والترنيم ترجيع الصوت وتطريبه2. وعرف "الترجيع" بـ"ترديد الصوت في الحلق في قراءة أو غناء أو زمر أو غير ذلك مما يترنم به". وقيل: "الترجيع هو تقارب ضروب الحركات في الصوت"3. وقد كان الجاهليون يرجعون الشعر، بأن يقرأونه على الألحان والتطريب والإيقاع ليؤثر في السامعين.

_ 1 الأغاني "16/ 14". 2 تاج العروس "8/ 320"، "رنم"، إرشاد الساري، القسطلاني "7/ 480 وما بعدها" اللسان "12/ 256". 3 تاج العروس "5/ 351"، "رجع".

أما المناسبات المحزنة كالموت والكآبة، فقد كانوا يستعملون فيها نغمات حزينة وهادئة للتخفيف من شدة الحزن والكآبة والألم. وقد كانت لهم في ذلك ألحان وأوزان ونغم. وأما "الهزج"، فالخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدف والمزمار، فيطرب ويستخف الحليم1. وذكر أن الهزج من الأغاني ما فيه ترنم، وصوت مطرب، وقيل: هو صوت فيه بحح، وصوت دقيق مع ارتفاع. وكل كلام متدارك متقارب في خفة هزج2. فهو الخفيف المطرب من الغناء. وكانت المناسبات المفرحة مثل الزواج تقترن بالعزف والغناء. روي أن رسول الله لما كان غلامًا يرعى غنمًا ومعه غلام من قريش يرعى معه كذلك قال له: "لو أنك أبصرت غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشباب، قال: أفعل. فخرجت أريد ذلك حتى جئت أول دار من ديار مكة، سمعت عزفًا بالدفوف والمزامير. فقلت ما هذا؟ فقالوا: فلان تزوج فلانة بنت فلان. فجلست أنظر إليهم"3. وذكر أن من عادة أهل مكة أن يفعلوا ذلك عند الزواج. وفعل أهل يثرب ذلك أيضًا في مثل هذه المناسبات وفي مناسبات الفرح الأخرى4.

_ 1 العمدة "2/ 314"، كتاب اللهو والملاهي، لابن خرداذبه "ص16 وما بعدها"، "المطبعة الكاثوليكية، بيروت". 2 تاج العروس "2/ 116"، "هزج". 3 نهاية الأرب "4/ 145". 4 رغبة الآمل من كتاب الكامل "6/ 908"، "للمرصفي".

الرقص

الرقص: والرقص وجه آخر من وجوه التسلية والتفريج عن النفس. يرقصون في المناسبات، مثل الأعراس والأفراح الأخرى. وهو في الغالب ارتفاع وانخفاض، وقد يكون ذلك هو الذي حمل علماء اللغة على تفسير الرقص أنه ارتفاع وانخفاض1. والراقصون هم من الشباب في الغالب، أما الشيوخ، فكانوا لا يرقصون، لعدم ملاءمة الرقص مع جلال السن.

_ 1 اللسان "7/ 42 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 399"، "رقص".

وذكر علماء اللغة أن من الرقص نوع يقال له: "الدرقلة". وذكر بعض آخر أن "الدرقلة" الرقص. "قال محمد بن إسحاق: قدم فتية من الحبشة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يدرقلون، أي يرقصون". وقيل: الدرقلة: لعبة للعجم معربة1. وهي من الحبشة على بعض آراء علماء اللغة. ونطقت بـ"الدركلة" كذلك. وذكروا أن الرسول "مرّ على أصحاب الدركلة فقال: "جدّوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة" 2. قيل: إن الدركلة ضرب من الرقص ولعبة للعجم معربة. وقد عرف الحبش بحبهم للرقص. وكان أهل مكة وغيرهم من أهل الحجاز إذا أرادوا الاحتفال بعرس أو ختان أو أية مناسبة مفرحة أخرى أحضروا الحبش للرقص والغناء على طريقتهم الخاصة. وورد في الحديث أنه قال للحبشة: "دونكم يا بني أرفدة". وقيل: هم جنس من الحبشة يرقصون. وقيل: "أرفدة" لقب لهم، هو اسم أبيهم الأقدم يعرفون به3. وقد كان الرقص عند الشعوب السامية نوعًا من أنواع التعبير عن الفرح والشكر تجاه آلهتهم4. ويدخل في جملة الشعائر الدينية. ولا يستبعد أن يكون الجاهليون مثل غيرهم قد رقصوا لآلهتهم في المناسبات الدينية، تعبيرًا عن شكرهم للآلهة. ولكن معارفنا عن ذلك قليلة جدًّا، فلا نجد في الكتابات الجاهلية أية إشارة إليه، أما أخبار أهل الأخبار عن الرقص عند الجاهليين، فهي قليلة. ولا أستبعد أن يكون السعي بين الصفا والمروة كان رقصًا في الأصل فكان الساعون يرقصون ويغنون أغاني دينية، في تمجيد رب البيت والتقرب إليه. كما كانوا يرقصون في المعابد الأخرى. ويعدّ يوم وصول الملوك والأمراء والسادات إلى مكان ما، يومًا مشهودًا يجلب الفرح والسرور إلى قلوب الناس، ويعطي ذلك اليوم بهجة وسرورًا. وكانوا يستقبلون كبار الوافدين عند قدومهم بأصناف اللهو. ويخرج "المقلسون" بالسيوف والريحان وبالدفوف والغناء. ولذلك قيل: "القلس"، و"التقليس": الضرب

_ 1 اللسان "11/ 244". 2 اللسان "11/ 244". 3 اللسان "3/ 183"، "رفد"، تاج العروس "2/ 356"، "رفد". 4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 489"، "رقص".

بالدف والغناء. و"المقلس": الذي يلعب بين يدي الأمير. ولما قدم "عمر" الشام لقيه المقلسون بالسيوف والريحان. والقلس: الرقص في غناء، وقيل: هو الغناء الجيد1.

_ 1 اللسان "6/ 180"، "صادر"، "قلس"، تاج العروس "4/ 221 وما بعدها" "قلس".

ألعاب مسلية

ألعاب مسلية: وقطع الجاهليون وقتهم ببعض الألعاب المسلية، مثل "النرد" وقد أشير إليه في الحديث بـ"النردشير" وبـ"النرد". وذكر بعض العلماء أن "النرد" هو "الكوبة"، بلغة أهل اليمن1. وأشير إليه في حديث أهل الأخبار عن "امرئ القيس الكندي" وعن الناعي الذي أوصل الخبر إليه، فقالوا: "فوجده مع نديم له يشرب الخمر، ويلاعبه بالنرد، فقال له: قتل حجر، فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب، فضرب، حتى إذا فرغ، قال: ما كنت لأفسد عليك دستك"2 والدست مصطلح فارسي، أي ما كنت لأفسد عليك لعبك. وكان في الجاهلية إذا خاب قدح أحدهم ولم ينل مرامه قيل: تم عليه الدست. وقيل: الدست: هو دست القمار، كان في اصطلاح الجاهلية. وفلان حسن الدست: شطرنجي حاذق3. واللعب اللهو والتسلية، وهو أنواع. كما أن لكل عمر نوع من اللعب يليق به. و"التلعابة" و"التلعاب" الكثير اللعب، والكثير المزح والمداعبة. و"الشطرنج" لعبة، والنرد لعبة كذلك، وكل ملعوب به فهو لعبة. و"اللعبة" الأحمق الذي يسخر به ويلعب ويطرد عليه4. ويعبر عن اللهو واللعب بلفظة "الديدان"، و"الددن"، و"الدد"،

_ 1 صحيح مسلم "2/ 199"، الجواليقي "ص331"، تنوير الحوالك، "2/ 237"، اللسان "3/ 421". 2 الأغاني "8/ 65" "طعة ساسي" غرائب اللغة "ص227". 3 تاج العروس "1/ 543"، "دست". 4 تاج العروس "1/ 471"، "لعب".

و"الددا"، و"ديد"، و"ديدان"، و"الديدبون". وفي الحديث: "ما أنا من دد ولا الددُ مني". أي: ما أنا في شيء من اللهو واللعب. وورد لعديّ بن زيد العباديّ: أيها القلب تعلل بددن ... إن همّي في سماع وأذن وذكر أن الدد: هو الضرب بالأصابع في اللعب، وأن الديدبون: اللهو1. وللأطفال ألعاب تتناسب مع سنهم، منها: "الجماح"، وهي سهيم يلعب به، يجعلون مكان زجه طينًا2، و"البقيري"3، ولعبة "الغراب"، وقد ذكر أن صبيانًا كانوا يلعبونها ليلًا4. و"الكعاب" و"الفيال"، وهي لعبة كانوا يلعبون بها، يجمعون ترابًا ويخبئون فيها خِبْئًا، ويقولون لصاحبه: في أي الجانبين هو5؟. ومن ألعاب الصبيان لعبة يقال لها "الدخرجاء" و"الدحيريجاء"، وفيها قال الشاعر: عليك الدحيريجا فاتبع صحابها ... سيكفيك زين الحرب أروع ماجد6 ومن ألعاب الصبيان، لعبة "عظم وضاح" "عظيم وضاح"، أن يأخذ بالليل عظمًا أبيض، فيرمونه في ظلمة الليل، ثم يتفرقون في طلبه، فمن وجده فله القمر. وذكر أن من وجده يركب الفريق الآخر من الموضع الذي وجدوه فيه إلى الموضع الذي رموا به منه. وورد في الحديث أن النبي لعب وهو صغير بعظم وضاح7. و"البُقيَّري": أن يجمع يديه على التراب في الأرض إلى أسفله، ثم

_ 1 اللسان "13/ 151 وما بعدها"، "ددن"، تاج العروس "9/ 198"، "الددن". 2 الأغاني "8/ 75" "طبعة ساسي". 3 شمس العلوم الجزء الأول، القسم الأول "ص180". 4 المعارف "ص121". 5 شرح ديوان لبيد "ص80". 6 الاشتقاق "2/ 306". 7 الحيوان "6/ 145"، "هارون".

يقول لصاحبه: اشته في نفسك، فيصيب ويخطئ. وذكر أنهم يأتون إلى موضع قد خبئ لهم فيه شيء، فيضربون بأيديهم بلا حفر يطلبونه1. والخطرة، أن يعملوا مخراقًا، ثم يرمي به واحد منهم من خلفه إلى الفريق الآخر، فإن عجزوا عن أخذه رموا به إليهم، فإن أخذوه ركبوهم2. وأما "الدارة"، ويقال لها: "الخراج"، أن يمسك أحدهم شيئًا بيده ويقول لسائرهم: أخرجوا ما في يدي. و"الشحمة"، أنه يمضي واحد من أحد الفريقين بغلام فيتنحون ناحية ثم يقبلون، ويستقبلهم الآخرون، فإن منعوا الغلام حتى يصيروا إلى الموضع الآخر فقد غلبوهم عليه، ويدفع الغلام إليهم، وإن لم يمنعوه ركبوهم، وهذا كله يكون في ليالي الصيف، عن غب ربيع مخصب3. وسابق الأطفال والشبان بعضهم بعضًا. سابقوا على الخيل وسابقوا على الأقدام فكان السابق يفخر على المسبوقين، وربما خاطروا في السباق، فيأخذ السابق "الخطر"، وهو ما جعلوه رهنًا للسابق. وصارعوا. واعتبروا المصارعة رياضة وفخرًا. فالقوي يصرع الضعيف. ولهذا كان المصارع الذي لا يصرع يتباهى ويفخر بنفسه على غيره وقد سابق رسول الله بنفسه على الأقدام4. ويقال للمصارعة: "المراوغة"، لما فيها من مرواغة الواحد منهما للآخر، للتغلب عليه5. وقد صارع النبي "ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب"، فصرعه مرتين. "وكان شديدًا. يحكى أنه كان يقف على جلد بعير لين جديد حين سلخه، فيجذبه من تحته عشرة فيتمزق الجلد ولا يتزحزح هو عن مكانه"6. ومن ألعاب الصبيان "الطبن"، وهو خط مستدير يلعب به الصبيان7. و"الشعارير" وهي من لعب الصبيان8. وأما البنات فالتماثيل الصغار التي يلعب

_ 1 الحيوان "6/ 145"، "هارون". 2 الحيوان "6/ 145 وما بعدها"، "هارون". 3 الحيوان "6/ 146"، "هارون". 4 زاد المعاد "1/ 41". 5 تاج العروس "6/ 14"، "روغ". 6 تاج العروس "9/ 219"، "ركن". 7 اللسان "13/ 263"، تاج العروس "9/ 267"، "طبن". 8 اللسان "4/ 416"، تاج العروس "3/ 305"، "شعر".

بها. وفي حديث عائشة: كنت ألعب مع الجواري بالبنات1. و"الدحندح" لعبة للصبية يجتمعون لها فيقولونها، فمن أخطأها قام على رجل وحجل سبع مرات2. ومن ألعاب الغلمان "الحكة"، وهي لعبة لهم يأخذون عظمًا فيحكونه حتى يبيض ثم يرمونه بعيدًا فمن أخذه فهو الغالب3. واللعبة التمثال يلعب به الصبيان. و"الملعبة" ثوب بلا كم يلعب فيه الصبي4. وعرفت ألعاب الشدة والقوة عند الجاهليين. ومن هذه لعبة "الربع"، وهي رفع الحجر باليد وشيله امتحانًا للقوة. وفي الحديث: أنه مر بقوم يربعون حجرًا، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا الأشداء5.

_ 1 تاج العروس "10/ 48"، "بنى". 2 تاج العروس "2/ 135"، "دح". 3 تاج العروس "7/ 122"، "حك". 4 تاج العروس "1/ 471"، "لعب". 5 تاج العروس "5/ 338"، "ربع".

القمار

القمار: و"القمار" من الألعاب المتفشية كثيرًا بين الجاهليين، ولم يكن الباعث عليه التسلية واللهو في الغالب، وإنما كان طمعًا في الربح. ويسمى "الميسر" في العربية التي نزل بها القرآن الكريم. وقد أشير إليه في الشعر الجاهلي. وقد حرمه الإسلام، ونزل الأمر بالنهي عنه في القرآن الكريم. ويذكر أهل الأخبار أن أول من حرم القمار في الجاهلية "الأقرع بن حابس التميمي"، ثم جاء الإسلام بتقريره1. وذكر أن كل شيء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز. وعرف الميسر: أنه القمار بالقداح في كل شيء2. وقامر الرجل راهنه3. وذكر أن الياسرين: الذين يلون قسمة الجزور، والميسر الجزور نفسه، سمي ميسرًا لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضع التجزئة، وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح

_ 1 صبح الأعشى "1/ 435". 2 اللسان "5/ 298". 3 اللسان "5/ 115".

والمتقامرين على الجزور: الأيسار1. وذكر أن اشتقاق "الميسر" إما من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب، أو من اليسار لأنه سلب يساره2. وقد ألف بعض العلماء كتبًا في الميسر، منها كتاب ألفه "ابن قتيبة الدينوري" وكتاب ألفه "الزبيدي" دعاه "نشوة الارتياح في بيان حقيقة الميسر والقداح"3. وآراء العلماء متباينة في الميسر وفي المراد منه، وفي طريقته. ويظهر أن قسمًا ممن كان يلعب الميسر لم يكن يلعبه ابتغاء الكسب، وإنما كان يلعبه للتسلية وللترفيه عن الآخرين، وذلك بإعطائه ما يكسبه للمحتاجين وللفقراء، ولذلك افتخروا بعملهم هذا وعدوه مفخرة من مفاخر العرب، لأنهم كانوا يفعلونه في أيام الشدة وعدم اللبن وأيام الشتاء4. فيعطون اللحم للمحتاج إليه، إذ عيب من كان يأخذه لنفسه، وعدوه عارًا5. وقد افتخروا به في شعرهم6، ومدحوا من يأخذ القداح وعابت من لا ييسر ودعته "البرم"7، وذلك لبخله وظنه بماله من أن يذهب إلى غيره، مع أن الناس في حاجة شديدة إليه. وإلى لعب الموسرين الأيسار في الشاء لمساعدة ذوي الحاجة، أشار طرفة في شعره إذ قال: وهم أيسار لقمان إذا ... أغلت الشتوة أبداء الجزور8 وأما القسم الآخر ممن كان ييسر، فكان يبغي الكسب والمال، لذلك كان يقامر بكل ما يملك في سبيل الحصول على المال للمياسرة. روي عن "ابن عباس" أنه "كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله" في سبيل

_ 1 اللسان "5/ 298" وما بعدها. 2 بلوغ الأرب "3/ 53". 3 بلوغ الأرب "3/ 64"، تاج العروس "1/ جي" "الكويت". 4 بلوغ الأرب "3/ 54 وما بعدها". 5 بلوغ الأرب "3/ 60". 6 بلوغ الأرب "3/ 57". 7 بلوغ الأرب "3/ 65". 8 اللسان "5/ 298"، بلوغ الأرب "3/ 60".

المياسرة1. وكان يلجأ إلى الغش والخداع والسرقة وإضاعة العيال، ولأضراره هذه حرمه الإسلام2. وقد ييسرون على الأسرى، فقد وقع "سحيم بن وثيل اليربوعي" في سباء، فضرب عليه بالسهام، فقال في ذلك: أقول لهم بالشعب إذ ييسروني ... ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم3 وصفة الميسر: أن القوم كانوا يجتمعون فيشترون الجزور بينهم، فيفصلونها على عشرة أجزاء يُؤتى بالحرضَة وهو رجل يتأله عندهم لم يأكل لحمًا عندهم قط بثمن، ويؤتى بالقداح وهو أحد عشر قِدْحًا، سبعة منها لها حظ إن فازت، وعلى أهلها غرم إن خابت، بقدر من الحظ إن فازت، وأربعة ينفل بها القداح، لا حظ لها إن فازت ولا غرم عليها إن خابت. فأما التي لها الحظ: فأولها الفذ في صدره حز واحد، فإن خرج أخذ نصيبًا، وإن خاب غرم صاحبه ثمن نصيب، ثم التوأم، له نصيبان إن فاز، وعليه ثمن نصيبين إن خاب، ثم الضريب، وله ثلاثة أنصباء، ثم الحلس وله أربعة، ثم النافس وله خمسة، ثم المسبل، وله ستة، ثم المُعَلّى وله سبعة. والمسبل يسمى: المصفح، والضريب يقال له: الرقيب. وأما الأربعة التي ينفصل بها القداح، فهي: السفيح، والمنيح، والمضعف، والوغد. وقيل: إن للمنيح موضعين: أحدهما لا حظ له، والثاني له حظ؛ فكأنه الذي يمنح الحظ، واستدلوا على ذلك بقول عمرو بن قبيصة: بأيديهم مقرومة ومغالق ... يعود بأرزاق العيال منيحها4 فيؤتى بالقداح كلها وقد عرف كل ما اختار من السبعة ولا يكون الأيسار إلا

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 53 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "3/ 65"، اللسان "5/ 300"، اليعقوبي "1/ 300" "طبعة هوتسما". 3 اللسان "5/ 298"، بلوغ الأرب "3/ 54". 4 نهاية الأرب "3/ 117 وما بعدها".

سبعة، لا يكونون أكثر من ذلك، فإن نقصوا رجلًا أو رجلين، فأحب الباقون أن يأخذوا ما فضل من القداح، فيأخذ الرجل القدح والقدحين فيأخذ فوزهما إن فازا، ويغرم عنهما إن خابا ويدعى ذلك، التميم. قال النابغة: إني أتمم أيساري وأمنحهم ... من الأيادي وأكسوا الجفنة الأدما فيعمدون إلى القداح، فتشدّ مجموعة في قطعة جلد، ثم يعمد إلى الحرضة فيلف على يده اليمنى ثوبًا لئلا يجد مس قدحٍ له في صاحبه هوى، فيحابيه في إخراجه، ثم يؤتى بثوب أبيض يدعى المجول، فيبسط بين يدي الحرضة، ثم يقوم على رأسه رجل يدعى الرقيب، ويدفع ربابة1 القداح إلى الحرضة وهو محول الوجه عنها، فيأخذها ويدخل شماله من تحت الثوب، فينكسر القداح بشماله، فإذا نهد منها قدح تناوله فدفعه إلى الرقيب فإن كان مما لا حظ له ردَّ إلى الربابة، فإن خرج بعده المسبل، أخذ الثلاثة الباقية، وغرم الذين خابوا ثلاثة أنصباء من جزور أخرى، وعلى هذه الحال يفعل بمن فاز ومن خاب، فربما نحروا عدة جُزُر ولا يغرم الذين فازوا من ثمنها شيئا، وإنما الغرم على الذين خابوا ولا يحل للخائبين أن يأكلوا من ذلك اللحم شيئًا، فإن فاز قدح للرجل فأرادوا أن يعيدوا قدحه ثانية على خطار فعلوا ذلك به2. و"الحرضة"، الذي يضرب للأيسار بالقداح لا يكون إلا ساقطًا، يدعونه بذلك لرذالته، وعرف أنه من المقامرين، ومن شأنه المعروف له أنه الرجل الذي لا يشتري اللحم ولا يأكله بثمن إلا أن يجده عند غيره أو يهدي له الأيسار3. ويظهر من هذا الوصف ومن أوصاف أهل الأخبار له، ومن قول للطرماح في وصف حمار، فتعرض بهذه المناسبة لذكر الحرضة: ويظلُ المليء يوفى على القّر ... عذوبًا كالحرضة المستفاض4

_ 1 الربابة: ما يجمع فيها القداح. 2 نهاية الأرب "3/ 118 وما بعدها". 3 اللسان "7/ 136"، بلوغ الأرب "3/ 61"، صبح الأعشى "1/ 400 وما بعدها". 4 اللسان "7/ 135".

إن الناس كانوا ينظرون إلى "الحرضة" نظرة استصغار وازدراء ويعرف أيضًا بـ"الضريب". ويسمى "الرقيب" "رابئ الضرباء" يقعد خلف ضارب قداح الميسر يرتبي لهم فيما يخرج من القداح فيخبرهم به ويعتمدون على قوله فيه، ثم يجلس الأيسار حوله دائرين به. ثم يفيض الضريب بالقداح، فإذا نشز منها قدح استسله الحرضة من غير أن ينظر إليه، ثم ناوله الرقيب فينظر الرقيب لمن هو فيدفعه إلى صاحبه، فيأخذ من أجزاء الجزور على قدر نصيب القدح منها وذلك هو الفوز. فإن شاء بعد ذلك أمسك، وإن شاء أعاد السهم على "خطار" آخر، وهو السبق يراهن عليه، وهو ما يوضع بين أهل السباق. وإعادة السهم تسمى التثنية1. وقد وصفت "القداح" بأنها عيدان من نبع، قد نحتت وملست وجعلت سواء في الطول. وهي عشرة من رواية أخرى غير الرواية المتقدمة. هي: الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد. وللأول سهم إن فاز، وفوزه خروجه وعليه عزم سهم إن خاب، وكذلك باقيها على الترتيب فيما له وعليه إلى المعلى، وهو السابع، وله سبعة وعليه سبعة يفرض في كل سهم منها بحسب ماله، وعليه حز وتكثر هذه السهام بثلاثة أخر أغفال ليس فيها حزوز ولا لها علامات ليكون ذلك أنفى للتهمة وأبعد من المحاباة. وهي: المنيح والسفيح والوغد، وتسمى القداح مغالق، لأنها تغلق الرهن إذا ضربوا بها2. وإذا حضرت القداح وحضر الأيسار أخذ كل منهم من القداح على قدره وطاقته ورياسته، فمنهم من لا يبلغ حاله أكثر من الفذ فأخذه له، فإن خاب غرم سهمًا، وإن فاز أخذ سهمًا، ومنهم من يأخذ المعلى ولا يبالي بالغرم إن خاب وينال النصيب الأوفر إن فاز. ومنهم من يأخذ المعلى وسهمًا إن لم يحضر من يتمم السهام، فيأخذ ما فضل من القداح، ويقول للأيسار قد تممتكم3. ويقع الغرم -أي: ثمن الجزور- على من لم يخرج سهمه وهم أربعة: أصحاب الرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل. ولجملة هذه القداح ثمانية عشر سهمًا، فيجزأ الثمن على ثمانية عشر جزءًا. ويلزم كل صاحب قدح من هذه القداح مثل ما كان

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 61 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "3/ 58 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "3/ 59".

نصيبه من اللحم لو فاز قدحه، فإن لم يخرج الفذ ولا التوأم وخرج الرقيب أخذ صاحبه ثلاثة أجزاء، ثم ضربوا ثانية فخرج المعلى، أخذ صاحبه السبعة الأجزاء الباقية، وهي تتمة الجزور، وكانت الغرامة على من لم يخرج قدحه، وهم أصحاب القداح الخمسة التي خابت. وقد ينحرون جزورًا آخر لأن في القداح التي خابت نصيبًا يزيد على نصيب ما بقي من اللحم. وإن فضل من أجزاء اللحم شيء وقد خرجت القداح كلها كانت تلك الفاضلة لأهل الوبد من العشيرة، وهم أهل الضعف وسوء الحال1.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 62 وما بعدها".

الأسفار

الأسفار: ومن أيام الفرح والسرور عندهم يوم العودة من السفر ومن حقهم أن يفرحوا به. فقد كان السفر شاقًّا خطرًا في تلك الأيام، ولا سيما إذا طال. فقد يتعرض المسافر فيه للهلاك والموت جوعًا أو عطشًا، عدا ما يتعرض له من السلب والنهب. لذلك كانوا يحاولون جهدهم أن يسافروا جماعة وقوافل يتعاونون ويشد بعضهم أزر بعض. وكانوا إذا عادوا فرح أهلهم بعودتهم سالمين، وتلقوهم بالبشر والتهنئة، وذبحوا الذبائح ووزعوا لحومها بين الأصدقاء والفقراء، وأولموا الولائم للمهنئين والجيران. وكان أول ما يفعله المسافر إلى مكة عند عودته إلى مدينته الذهاب إلى "البيت" للطواف به ولشكر رب البيت على حمايته له وإغداقه نعمته عليه بالعودة سالمًا. وقد عثر السياح والمنقبون عن الآثار في جزيرة العرب على كتابات جاهلية توسل فيها أصحابها إلى آلهتهم لترعاهم في سفرهم، وتحفظهم من لصوص الطرق ومن كل شر وسوء. وقد تعهدوا فيها بتقديم نذور لمعابدها بعد عودتهم سالمين غانمين. كما عثر على كتابات فيها حمد وشكر لتلك الآلهة لأنها أجابت دعوة أصحاب الكتابات، فحمتهم ورحمتهم في سفرهم ويسرت لهم العودة سالمين. وكانوا إذا أرادوا السفر عمدوا إلى فعل الجاهلية في زجر الطير والاستقسام بالأزلام لاختيار الطالع، فإذا خرج سهم "الأمر" فسروه بالأمر بالسفر، وإذا

خرج "النهي" "الناهي"، انتهوا عنه1. وكانوا إذا خرجوا إلى الأسفار أوقدوا نارًا بينهم وبين المنزل الذي يريدونه. ولم يوقدوا بينهم وبين المنزل الذي خرجوا منه تفاؤلًا بالرجوع إليه2. وللمهنئين بسلامة العودة، تعابير خاصة يقولونها للمسافرين حين السفر وحين العودة. وفي جملة ما كانوا يقولونه للإياب من السفر: "سفر رجيع". وسفر رجيع: مرجوع فيه مرارًا3. ومن مناسبات الفرح والسرور، الإبلال من مرض والشفاء منه. فالشفاء من المرض عودة إلى الحياة وولادة من جديد، وعمر يضاف إلى عمر المريض. لذلك كان المرضى يتوسلون إلى آلهتهم أن تمن عليهم بالصحة والشفاء والعافية مما ابتلوا به، ويعدونها بتقديم نذر إن أعادت إليهم صحتهم وعافيتهم. وقد حصل المنقبون على ألواح كثير كتب فيها شكر وحمد وثناء على الآلهة لأنها أجابت دعوة صاحب الكتابة، فعافته من مرضه، ومنت عليه بالصحة والعافية، وأبرأته مما أصيب به من أمراض أو جروح في معارك، فهو يوفي بوعده لها ويقدم لها نذره ويحمدها على نعمها عليه. وقد يولمون وليمة يقولون لها "البلة"، و"البلّة" العافية من المرض4. ويعود أهل الجاهلية مرضاهم، للإعراب لهم عن تمنياتهم لهم بالشفاء العاجل والإبلال من المرض، كما يعودونهم بعد الشفاء لتهنئتهم على عودة الصحة إليهم، وشفائهم مما ابتلوا به من مرض. ويقع "العود" من الرجال والنساء5. ويقال لمن حسنت حاله بعد الهزال، ولمن شفي من مرض "بل الرجل"، من مرضه و"بل من مرضه"، و"أبل"6.

_ 1 ابن قيم الجوزية، كتاب الهدي النبوي "2/ 31"، "في هديه صلى الله عليه وسلم في أذكار السفر وآدابه". 2 بلوغ الأرب "2/ 324". 3 تاج العروس "5/ 351"، "رجع". 4 تاج العروس "7/ 233"، "بلل". 5 تاج العروس "2/ 436"، "عود". 6 تاج العروس "7/ 233"، "بلل".

مواسم الربيع

مواسم الربيع: وللربيع مكانة خاصة في نفوس العرب، حتى صار في منزلة العيد عندهم. ففيه يطيب الجو، ويرق الهواء، وتكسى الأرض بأكسية خضراء ويبسط منمقة مزركشة، تسحر مناظرها الألباب، تسير عليها الإبل بفخر وإعجاب، تقضم ما تجده فوقها من طعام. فتشبع وتسمن بعد فقر وجوع وضنك. وفيه يكثر مال العرب، ومال العرب إبلهم، وتكثر مواضي الحضر، من غنم وبقر. وتكون سنة الربيع للعربي سنة يمن وبركة. وسنة انحباس الغيث وانقطاع المطر، سنة بؤس وشقاء. ولا يفرح العربي بشيء فرحه بالغيث وبظهور الربيع، أي موسم اخضرار الأرض واكتسائها ببساط سندسي يبهر العين ويؤثر في النفس فيجعلها فرحة مستبشرة، فيخرج السادات إلى المرابع، يتلذذون هناك بمنظر الربيع وبرؤية أموالهم وهي فرحة مستبشرة ترعى فيه، فيزيد بذلك مالهم ويكثر لبن نوقهم وتنشط إبلهم في إنجاب الولد. ويتوجه سادات القبائل إلى المرابع الجيدة، التي يجود فيها الربيع، وليس في بلاد العرب مربع كالدهناء1. ويترك الملوك قصورهم على ما فيها من وسائل الراحة، للذهاب إلى البادية، للاستمتاع بما خلقته الطبيعة هناك، وبما أوجدته من صنعة متقنة وفن عجيب لا يضاهى. يبقون هناك أيامًا وأسابيع، يجددون فيها عهدهم بالبوادي وبما فيها من هواء صحيح سليم، يعطي الجسم نشاطًا، ويبعث فيه "اكسير" الحياة.

_ 1 تاج العروس "9/ 205"، "دهن".

البغاء

البغاء: البغاء الفجور. و"البغي" الأمة فاجرة كانت أو غير فاجرة، والجمع البغايا. والزنا هو الفجور، وهو عيب كبير عند العرب، فلا تقربه الحرة. أما الرجال، فلا يرونه عيبًا، بل قد يتبجح بعضهم به، لأنه من أمارات الرجولة. وقد كانوا يذهبون إليهن ويتصلون بهن في مقابل أجر، وكن من الإماء.

لأن المرء في الحياة لبطنه وفرجه. ومنه المثل: "المرء يسعى لِغاريَهْ" أي يكسب لبطنه وفرجه1. وعرفت "البغي" بـ"القحبة". قيل لها: قحبة لأنها كانت في الجاهلية تؤذن طلابها بقحابها، وهو سعالها2. فقد كان من عادة "قحبة" الجاهلية أن تسعل أو تتنحنح، تراود بذلك عن نفسها، وتشعر الرجل أنها حاضرة للفجور إن أراد ذلك، فيتفق معها. و"المسافحة"، المزاناة لأن الماء يصب ضائعًا. و"السفاح" أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح، وفي الحديث: "أوله سفاح وآخره نكاح". وهي المرأة تسافح رجلًا مدة فيكون بينهما اجتماع على فجور، ثم يتزوجها بعد ذلك. وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة قال: أنكحيني، فإذا أراد الزنا، قال: سافحيني3. ويقال للزنا: الفاحشة، والفاحشة الزانية وكل ما يشتد قبحه من الذنوب والمعاصي وكل ما نهي عنه، وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال والأفعال4. فاللفظة عامة تتناول الفحش الذي هو الزنا كما تتناول غيره من الأعمال والخصال القبيحة. ويقال للبغي وللأمة "تزني". ويقال لابنها "ابن تزني" و"ابن درزة"5. ولما نزلت الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 6، وفرغ رسول الله من بيعة الرجال بمكة واجتمع إليه نساء من قريش فيهن: "هند بنت عتبة" وأخذن يبايعن الرسول، فلما وصل إلى قوله تعالى: {وَلا يَزْنِينَ} ، فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة7؟.

_ 1 تاج العروس "10/ 177"، "سعى". 2 تاج العروس "1/ 421"، "قحب". 3 تاج العروس "2/ 164"، "سفح"، تفسير الطبري "5/ 14". 4 تاج العروس "4/ 331"، "فحش". 5 تاج العروس "9/ 153"، "تزن". 6 سورة الممتحنة، الآية 12. 7 تاريخ الطبري "3/ 62"، "فتح مكة"، تفسير الطبري "28/ 50".

وفي القرآن الكريم آيات ذكرت الزنا في الجاهلية، من ذلك آية سورة النور: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 1. قال المفسرون: قدم المهاجرون إلى المدينة وفيهم فقراء ليست لهم أموال، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن، وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المهاجرين، فقالوا: لو إنا تزوجنا منهن فعشنا معهن إلى أن يغنينا الله تعالى عنهن. فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم، في ذلك، فنزلت هذه الآية وحرم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك. وقال عكرمة: نزلت الآية في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة، وكن كثيرات، ومنهن تسع صواحب رايات، لهن رايات كرايات البيطار يعرفونها: أم مهدون "أم مهزول" جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، و"أم غليظ" "أم غليط" جارية صفوان بن أمية، و"حبة القبطية" "حنة القبطية" جارية العاص بن وائل، و"مرية" جارية مالك بن عميلة "عمثلة" بن السباق بن عبد الدار، و"حلالة" "جلالة" جارية سهيل بن عمرو، و"أم سويد" جارية عمرو بن عثمان المخزومي، و"شريفة" "سريفة" جارية زمعة بن الأسود، و"قرينة" "فرسة" جارية هشام بن ربيعة بن حيب بن حذيفة بن جبل بن مالك بن عامر بن لؤي، و"فرنتا" "قريبا" جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر بن غالب بن فهر. وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية "المواخير" لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن ليتخذوهن مأكلة، فأنزل الله تعالى، هذه الآية، ونهى المؤمنين عن ذلك، وحرمه عليهم"2. وورد أن امرأة يقال لها: أم مهدون "أم مهزول" كانت تسافح وكانت تشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة. وأن رجلًا من المسلمين أراد أن يتزوجها، فذكر ذلك للنبي، صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ} 3. وكان لمرثد صديقة في الجاهلية، يقال لها: عناق، وكان مرثد

_ 1 سورة النور، الآية3. 2 أسباب النزول "236 وما بعدها"، تفسير الطبري "18/ 55 وما بعدها". 3 أسباب النزول "236".

رجلًا شديدًا، وكان يقال له: دلدل، وكان يأتي مكة فيحمل ضعفة المسلمين إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلقي صديقته، فدعته إلى نفسها، فقال: إن الله قد حرم الزنا، قالت: إني تبرز. فخشي أن تشيع عليه، فرجع إلى المدينة فأتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كانت لي صديقة في الجاهلية، فهل ترى لي نكاحها؟ قال: فأنزل الله: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ ... } 1. وذكر أنهن كن بغايا متعالمات كنّ في الجاهلية، بغي آل فلان وبغي آل فلان، فأنزل الله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، فحكم الله بذلك من أمر الجاهلية على الإسلام2. وورد: كان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية التي قد علم ذلك منها، يتخذها مأكلة، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، فنهوا عن ذلك"3. وفي القرآن الكريم: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4. قال المفسرون: نزلت في معاذة ومسيكة جاريتي عبد الله بن أبي المنافق، كان يكرهها على الزنا لضريبة يأخذها منها. وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم. فلما جاء الإسلام، قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين، فإن يك خيرًا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرًّا فقد آن لنا أن ندعه. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في ست جوار لعبد الله بن أُبي كان يكرههن على الزنا ويأخذ أجورهن، وهن: معاذة، ومسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة، فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى بدونه، فقال لهما: إرجعا فازنيا. فقالتا.: والله لا نفعل، قد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا. فأتيا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وشكتا إليه. فأنزل الله تعالى هذه الآية"5. وذكر أن رجلًا من قريش

_ 1 تفسير الطبري "18/ 56". 2 تفسير الطبري "18/ 75"، ابن قيم الجوزية، زاد المعاد "4/ 7". 3 تفسير الطبري "18/ 58". 4 سورة النور، الآية 23. 5 أسباب النزول "245 وما بعدها"، "مصر 131هـ"، تفسير الطبري "18/ 103 وما بعدها".

أسر يوم بدر، وكان عبد الله بن أُبي أسره، وكان لعبد الله جارية يقال لها: معاذة، فكان القرشي الأسير يراودها عن نفسها، وكانت تمتنع منه لإسلامها. وكان ابن أُبي يكرهها على ذلك ويضربها، لأجل أن تحمل من القرشي، فيطلب فداء ولده، فقال الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ....} 1 ويرى بعض علماء اللغة أن "المساعاة" تكون في الحرة وفي الأمة. وذهب بعض آخر إلى أنها تكون في الإماء خاصة بخلاف الزنا والعهر، فإنهما يكونان في الحرة وفي الأمة. "وفي الحديث إماء ساعَيْن في الجاهلية. وأتي عمر برجل ساعي أمة. وقيل: مساعاة المرأة أن يضرب عليها مالكها ضريبة تؤديها بالزنا. وفي الحديث: لا مساعاة في الإسلام، ومن ساعى في الجاهلية فقد لحق بعصبته"2 والمساعاة الزنا3. وذكر ابن فارس أن المساعاة الزنا بالإماء خاصة4. ولم تكن للمسافحة أجور ثابتة، بل كانت تتوقف على المعاملة والتراضي، وقد تكون نقدًا، دنانير أو دراهم، وقد تكون عينًا مثل برد أو أنسجة أو طعامًا أو ما شاكل ذلك، لقلة العملة في ذلك العهد. ويلحق أهل الجاهلية نسب ولد المساعية بها إذا ولدت، ويكون الولد رقيقًا لمن يملك رقبة الأم إن شاء جعلهم في ملكه وإن شاء باعهم لأن الأمة وما تملك ملك للمالك. وقد تاجر ملاك الرقيق بأولاد الإماء، وربحوا من هذه التجارة ربحًا حسنًا. فلما جاء الإسلام أبطل المساعاة، ولم يلحق النسب بالأمة، وعفا عما كان منها في الجاهلية ممن ألحق بها. وفي حديث عمر: أنه أتي في نساء أو إماء ساعين في الجاهلية، أمر بأولادهن أن يقوموا على آبائهم ولا يسترقوا. فصاروا أحرارًا لاحقي الأنساب بآبائهم الزناة5. وقد ورد في الحديث: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " 6 وبموجبه حكم الشرع على من ولد من الزنا في الجاهلية وأدرك الإسلام. ولم يرد في نصوص المسند ذكر للزنا وعقوبة الزاني والزانية عند الجاهليين. وأقصد بالزنا هنا الزنا الذي يكون بين المحصن والمحصنة أو بين المحصن والبكر،

_ 1 تفسير الطبري "18/ 103"، أسباب النزول "247". 2 تاج العروس "10/ 177"، "سعي". 3 اللسان "14/ 387"، "سعا". 4 الصاحبي "ص265". 5 اللسان "14/ 387"، "سعا". 6 إرشاد الساري "10/ 11 وما بعدها".

أو بين البنت الحرة والرجل العزب أو الذي لم يتزوج، أي الزنا مع غير الإماء. أما الزنا مع الإماء، فلم يكن الجاهليون يعيبون الإنسان عليه كما بينت ذلك. ويظهر من بعض الأخبار الواردة عن الزنا أن من الجاهليين من كان يأخذ الفدية عنه. فقد روي أن رجلًا من الأعراب قام فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلا ما قضي بيننا بكتاب الله وائذن لي. فقال رسول الله: "قل" قال: "إن ابني كان عسيفًا على هذا -وأشار إلى أعرابي كان جالسًا إلى جانبه- فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم ثم سألت رجالًا من أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم لإحصانها". فقال النبي: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره: المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها ". "فغدا عليها فاعترفت فرجمها"1. وقد كان هذا الحادث بعد نزول الأمر بالرجم. فيظهر منه أن من جملة عقوبات الزنا عند الجاهليين كان أخذ فدية، أو أخذ فدية وتغريب. واختلاف وجهة نظر الجاهليين إلى الزنا، هو بسبب اختلاف عاداتهم وعرفهم وتعدد قبائلهم، وعدم وجود دين واحد لهم يخضعون جميعًا لحكمه. فلما جاء الإسلام وجعل الزنا من المحرمات، تغير حكمهم عليه، وصار شرعهم في ذلك هو شرع الإسلام. و"المواخير"، بيوت أهل الفسق ومجالس الخمارين، ومواضع الريبة. والماخور: بيت الريبة ومن يلي ذلك البيت ويقود إليه2. واللفظة من الألفاظ المعربة. يرى بعض علماء اللغة أنها معربة عن أصل فارسي "ميخور" "مي خور"، أي شارب الخمر، وذهب بعض آخر إلى أنها من أصل عربي3. ولكن الصحيح أنها فارسية معربة. وقد كانت المواخير في الجاهلية موجودة في القرى والمدن وعلى طرق التجارة. حيث يأوي التجار وأصحاب الأسفار للراحة، فيجدون أمامهم تلك المواخير. ذكر عن "ابن عباس" في تفسير قوله تعالى:

_ 1 إرشاد الساري "10/ 17". 2 اللسان "5/ 161"، تاج العروس "3/ 534"، "مخر". 3 اللسان "5/ 161"، تاج العروس "3/ 534"، غرائب اللغة "245".

{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 1 أنه قال: "كانت بيوت تسمى المواخير في الجاهلية، وكانوا يؤاجرون فيها فتياتهن، وكانت بيوتًا معلومة للزنا لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلى زان"2. وكان من الرجال من يتهم أزواجه بالزنا ويرميهن بالفاحشة، لأسباب عديدة، منها الرغبة في التخلص منهن أو انتقامًا من أهلهن أو عضلًا لهن، فلا يتزوجن ويحبسن في البيوت حتى يتوفاهن الموت، وقد حدثت مثل هذه الحوادث في الإسلام، فنزل الحكم فيها في القرآن الكريم3.

_ 1 النور، الآية 4. 2 تفسير الطبري "18/ 57". 3 النساء، الآية 15، تفسير الطبري "4/ 197".

صواحب الرايات

صواحب الرايات: وهن البغايا كنّ ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن، وتفاوض معهن على أجورهن في مقابل دخوله بهن1. وذكر أن تلك الرايات كانت رايات حمرًا2. وروي أنه "كان لبعضهن راية منصوبة في أسواق العرب فيأتيها الناس فيفجرون بها. فأذهب الإسلام ذلك، وأسقطه فيما أسقط"3. وقد وجد بعض الناس صعوبة في تقبل حكم الإسلام في تحريم الزنا والخمر. "وفي حديث عليّ كرم الله وجهه، لما طلب إليه أهل الطائف أن يكتب لهم الأمان على تحليل الزنا والخمر، فامتنع، قاموا ولهم تَغَذْمُرٌ وبَرْبَرة"4، من شدة غضبهم ونفورهم من هذا التحريم. وأما اليهود، فقد ساروا على وفق ما جاء في التوراة في أمر الزنا. وهو من الخطايا المنهي عنها في الوصية السابعة من الوصايا العشر. ويقاص الرجل الذي يضاجع امرأة غيره بالموت، وتعاقب المرأة بالعقوبة نفسها5. وإذا ضاجع رجل

_ 1 تفسير الطبري "18، 57 وما بعدها، 103 وما بعدها". 2 تفسير المنار "5/ 22". 3 المحبر "340". 4 تاج العروس "3/ 38"، "بر"، اللسان "4/ 56"، "برر". 5 اللاويون، الإصحاح 20 الآية 10، تثنية، الإصحاح 11، الآية 22.

ابنة مخطوبة ولم تصرخ الابنة رجم الاثنان، وإذا صرخت رجم هو فقط1. وإذا ضاجع رجل ابنة حرة غير مخطوبة، فوجدا، لزم عليه إعطاء والدها خمسين شاقلا من الفضة، ويلتزم أن يأخذها له امرأة2. وإذا كانت الابنة غير حرة، كأن يقدم الرجل تقدمة حظيته3. وقد نص في سفر "العدد" على طريقة إظهار زنا المرأة المتهمة ومعاقبتها4. ويظهر من كتب السير والحديث أن يهود المدينة في أيام الرسول، كانوا قد تساهلوا في تطبيق أحكام التوراة بشأن الزنا، وابتدعوا طرقًا أخرى غير طرق العرف والعادة. فقد روي أنه أتي رسول الله بيهودي ويهودية، وقد أحدثا جميعًا، أي زنيا. فقال رسول الله لليهود: "ما تجدون في كتابكم؟ " قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية. أي الإركاب معكوسًا، وقيل: إن يحمل الزانيان على حمار مخالفًا بين وجهيهما. قال عبد الله بن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة، فأتي بها، وقرأ موضع الرجم، فرجما5. وعرفت "القيادة" عند الجاهليين. قالت "عائشة رضي الله عنها: ليست الواصلة بالتي تعنون، وما بأس إذا كانت المرأة زعراء أن تصل شعرها، ولكن الواصلة أن تكون بغيًّا في شبيبتها، فإذا أسنت وصلته بالقيادة"6. والقوادة هي التي تجلب البغايا للرجال، وأما القواد، فالذي يقوم بالقيادة. و"التدييث" القيادة. و"الديوث" القوّاد على أهله والذي لا يغار على أهله. وقيل: الديوث والديبوب الذي يدخل الرجال على حرمته بحيث يراهم، كأنه لين نفسه على ذلك. وقيل: هو الذي تؤتى أهله وهو يعلم7.

_ 1 التثنية، 22 الآية 23 وما بعدها. 2 التثنية، 22 الآية 28 وما بعدها. 3 اللاويون، 19، الآية 20 وما بعدها. 4 العدد، الإصحاح5، الآية 11 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "1/ 520". 5 إرشاد الساري "10/ 11 وما بعدها، 30" زاد المعادن لابن قيم الجوزية "3/ 207 وما بعدها". 6 عيون الأخبار، للدينوري "4/ 102"، "باب القيادة"، اللسان "11/ 727"، "وصل". 7 اللسان "2/ 150"، "ديث" تاج العروس "1/ 622"، "ديث"، "2/ 478" "قود".

وضرب المثل بـ"ظلمة" في القيادة. وكانت "صبيّة في الكتاب، فكانت تضرب دويّ الصبيان وأقلامهم، فلما شبت زنت، فلما أسنَّت قادت، فلما قعدت اشترت تيسًا تنزيه على العنز"1. وذكر أنها كانت فاجرة هذلية. فضرب بها المثل فقيل: "أقود من ظلمة" و"أفجر من ظلمة"2.

_ 1 عيون الأخبار، للدينوري "4/ 103". 2 الميداني، الأمثال "2/ 60"، "بولاق"، تاج العروس "8/ 386"، "ظلم".

المخادنة

المخادنة: وهناك نوع آخر من العلاقات يكون بين الرجل والمرأة بغير عقد ولا نكاح يكون الرجل خدنًا للمرأة أي: صديقًا لها، تكون هي خدنة له، أي: صديقة له1، ولذلك عبر عن هؤلاء النسوة المتخادنات بـ"ذوات الأخدان" و"متخذات أخدان". جاء ذكر هذه المخادنة في الآية الكريمة: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} 2. أي أصدقاء على السفاح. وقد ذكر أن ذلك قيل كذلك، لأن الزواني كُنّ في الجاهلية المعلنات بالزنا والمتخذات الأخدان اللواتي قد حبسن أنفسهن على الخليل والصديق للفجور بها سرًّا دون إعلان بذلك. وقد ذكر أن متخذات الأخدان ذوات الخليل الواحد. قالوا: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي، يقولون: أما ما ظهر منه فهو لؤم، وأما ما خفي فلا بأس بذلك. فأنزل الله تباك وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 3. فذات الخدن، المرأة ذات الخليل الواحد المستسرة به. وقد يقيم معها وتقيم معه4 وقد عد صداقة ومودة، لذلك اختلفت وجهة نظر أهل الجاهلية إليه عن وجهة نظرهم إلى الزنا، فلم يعدوه من الزنا الشائن.

_ 1 تاج العروس "9/ 190" "خدن". 2 النساء، الآية 25. 3 تفسير الطبري "5/ 13 وما بعدها". 4 المصدر نفسه.

المضامدة

المضامدة: والمضامدة قريبة من المخادنة. والضمد أن تخالَّ المرأة ذات الزوج رجلًا غير زوجها أو رجلين. والضاد أن تصادق المرأة اثنين أو ثلاثة في القحط لتأكل عند هذا وهذا لتشبع. و"الضمد" الخل1.

_ 1 اللسان "2/ 266"، "ضمد"، تاج العروس "2/ 406"، "ضمد".

الشذوذ الجنسي

الشذوذ الجنسي: والشذوذ الجنسي معروف عند الجاهليين أيضًا كما هو عند جميع الأمم منذ القدم، وليس من المعقول استثناء الجاهليين من ذلك، بدليل ورود النهي عنه والتحذير منه في القرآن الكريم وفي الحديث. ومن الشذوذ الجنسي، الشذوذ المعروف، وهو ذهاب الرجل مع الرجل ومزاولته عمل الجنس معه، أو اتصال المرأة بالمرأة اتصالًا جنسيًّا، أوإتيان الرجل المرأة من دبر، كما كان الحال عند أهل مكة فقد ذكر أن منهم من كان يأتي النساء من أدبارهن، وقد منع ذلك في الإسلام1. وقد عرف إتيان المرأة في دبرها بـ"التحميض" ويقال للتفخيذ في الجماع "التحميض" أيضًا2. وذكروا في تفسير الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} 3: "إنما كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن، مع هذا الحي من يهود، وهم أهل كتاب، وكانوا يرون لهم فضلًا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحًا منكرًا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف! فاصنع ذلك، وإلا فاجتنبني، حتى شرى أمرهما فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعني بذلك موضع الولد4. وذكر أن

_ 1 تفسير الطبري "2/ 230 وما بعدها"، القرطبي الجامع لأحكام القرآن "3/ 91"، في تفسير الآية، {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، الآية 223 من سورة البقرة. 2 تاج العروس "5/ 23"، "حمض". 3 سورة البقرة، الآية 223. 4 تفسير تفسر الطبري "2/ 234"، القرطبي، الجامع "3/ 92 وما بعدها"، تاج العروس "10/ 66".

أهل مكة كانوا يجبون النساء، وكانت الأنصار لا تجبي وتنكر فعل ذلك، وإنما يؤتين على جنوبهن. فوقع خلاف بين أهل مكة ممن تزوج من أهل المدينة وبين من تزوجوا في كيفية إتيانهن، فنزلت الآية في شرح ذلك، وأنه يكون على أي شكل كان، ما دام في وضع الحرث. والإجباء: أن تكون المرأة منكبة على وجهها كهيئة السجود، فيأتيها الرجل على هذه الهيئة. وذكر أن يهود يثرب، كانت تقول: إذا نكح الرجل امرأته مجببة جاء الولد أحول1. وتستعمل لفظة "اللواطة" للتعبير عن إتيان الذكران في أدبارهم2 وأرى أن هذا المعنى إنما وقع في الإسلام. أخذ مما جاء في القرآن الكريم عن عمل قوم لوط: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} 3، {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 4. {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 5، فنسب فعل إتيان الرجال بعضهم بعضًا إلى قوم "لوط"، واشتق الفعل من اسمه. ونرى أن الآيات قد استعملت: "لتأتون الرجال"، للتعبير عن هذا الفعل. واستعمل المفسرون هذا التعبير وتعبير "المجامعة" للتعبير عنه. وقد استعمل الجاهليون "لاط" في معانٍ أخرى لا صلة لها بالمعنى المذكور. وفي ذلك دلالة واضحة على أن استعمال "اللِّواط" إنما وقع في الإسلام. والمأبون الذي تفعل به الفاحشة، وهي الأبنة6. ومن المجاز برقع لحيته، أي صار مأبونًا، تزيا بزي من لبس البرقع، ومنه قول الشاعر: ألم تر قيسًا قيس عيلان برقعت ... لحاها وباعت نبلها بالمغازل7

_ 1 تاج العروس "10/ 66"، "جبى". 2 تفسير الطبري "20/ 1". 3 العنكبوت، الآية 28 وما بعدها. 4 النمل، الآية 54. 5 الأعراف الآية80 وما بعدها، تفسير الطبري "8/ 164 وما بعدها". 6 تاج العروس "9/ 116"، "ابن". 7 تاج العروس "5/ 274"، "برقع".

وذكر "ابن قيم الجوزية" أن هذا الفعل لم يكن معروفًا بين العرب ولم يرفع إلى الرسول في أيامه حادث به1. وتعبير "السحاق" و"المساحقة" و"امرأة سحاقة" من التعابير التي انتشرت في الإسلام وقال الأزهري: ومساحقة النساء لفظة مولدة2. ومن علماء اللغة من يرجع عهدها إلى الجاهلية، ويجعلها من الألفاظ العربية الأصيلة. واللفظة عربية ولا شك، ولكن استعمالها في المعنى المذكور مجازي، وقول الأزهري إنها مولدة غير صحيح. وكان منهم من يضرب جاريته على ظهرها ثم يجامعها3. كأنهم كانوا لا يشعرون بشهوة الجنس على ما يظهر إلا بعد ضرب الجارية، ويعبرون عن ذلك بقولهم: "صلق جاريته"، ويعرف هذا بين الغربيين في العصر الحاضر بالسادية Sadism نسبة إلى "الكونت دي ساد". كناية عن الابتهاج بالقسوة. وعن انحراف جنسي يتلذذ فيه المرء بإنزال أصناف العذاب بمحبوبه. ومن الشذوذ أيضًا إتيان الحيوان. فقد ذكر أن "بني كليب" كانوا يرمون بإتيان الضأن، وكذلك بنو الأعرج وسُلَيم وأشجع تُرمى بإتيان المعز. ونجد ذلك واضحًا مذكورًا في شعر الشعراء كالنجاشي والفرزدق4. ورميت "بنو دارم" بإتيان الأتن5. وتعرض "الجاحظ" في أثناء حديثه عن زواج الإنس بالجن لهذا الموضوع فقال: ونحن نجد الأعرابي والشاب الشبق، ينيكان الناقة والبقرة والعنز والنعجة، وأجناسًا كثيرة، فيفرغون نطفهم في أفواه أرحامها، ولم نرَ ولا سمعنا على طول الدهر، وكثرة هذا العمل الذي يكون من السفهاء، القح منها

_ 1 زاد المعاد "3/ 209". 2 تاج العروس "6/ 378"، "سحق". 3 تاج العروس "6/ 411"، "صلق". 4 ألست كليبًا وأمك نعجة ... لكم في سمان الضأن عار ومفخر وقال النجاشي: ولو شتمتني من قريش قبيلة ... سوى ناكة المعزي سليم وأشجع فخر السودان على البيضان، من رسائل الجاحظ "1/ 189". 5 إذا أحببت أن تغلي أتانا ... فدل الدارمي على شراها يقبل ظهرها ويكاد لولا ... قحول الظهر يدنو من قفاها وود الدارمي لو أن فاه ... إذا نال الحمارة نال فاها فخر السودان، من رسائل الجاحظ "1/ 189".

شيء من هذه الأجناس، والأجناس على حالهم من لحم ودم، ومن النطف خلقوا1. ورميت "بنو فزارة" بإتيان الإبل. رماها بذلك "بنو هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن" في ملاحاة كانت بين الحيين. والعادة أن القبائل إذا تخاصمت رمت بعضها بعضًا بالتهم، وذلك في الجاهلية وفي الإسلام. فلما رمى "بنو هلال" "بني فزارة" بأكل أير الحمار، وبإتيان الإبل، قالت بنو فزارة: أليس منكم يا بني هلال من قرا في حوضه فسقى إبله، فلما رويت سلح فيه ومدره بخلًا أن يشرب من فضله2.

_ 1 كتاب البغال، من رسائل الجاحظ "2/ 371". 2 قال الكميت بن ثعلبة: نشدتك يا فزار وأنت شيخ ... إذا خيرت تخطئ في الخيار أصيحانية أدمت بسمن ... أحب إليك أم أبر الحمار؟ بلى أير الحمار وخصيتاه ... أحب إلى فزارة من فزار وقال سالم بن دارة: لا تأمن فزاريًا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار لا تأمننه ولا تأمن بواثقه ... بعد الذي أمتك أير العير في النار فقال الشاعر: لقد جللت خزيًا هلال بن عامر ... بني عامر طرًّا بسلحة مادر فأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها ... بني عامر أنتم شرار المعاشر تاج العروس "3/ 536"، "مدر".

الأتراح والأحزان

الأتراح والأحزان: وإذ كنت قد تحدثت عن الأفراح في حياة الإنسان، وما كان يفعله أهل الجاهلية فيها، فلا بد لي من التحدث هنا عن الأتراح والأحزان عندهم، وما كانوا يفعلونه عند نزول مصيبة بهم أو وقوع حادث محزن مفجع لهم، فأقول: يلعب الحزن دورًا كبيرًا في حياة الشرقيين، بل نستطيع أن نقول إن الحزن أظهر في حياتهم من الفرح، وأن المبالغة في إظهاره عندهم هي من المظاهر البارزة في مجتمعاتهم. وطالما يلجأ الحزين إلى المبالغة في حزنه، ليظهر نفسه وكأنه كان أكثر الناس تحملًا للمصائب والأهوال والنكبات، وما قصة "أيوب" الواردة في التوراة إلا نوعًا من هذا القصص: قصص الحزن وتحمل الصبر من شدة البلاء.

وفقدان المال بعد ثراء وغنى وجاه والعلل والأسقام التي تنزل بالإنسان، والكوارث والموت وأمثال ذلك، هي مما يثير الحزن والأشجان في النفس، فتجعل الإنسان يحزن على ما أصابه ويظهر جزعه أو تحمله للآلام أمام الناس، وذلك بمختلف أساليب التعبير عن الحزن الذي نزل بالحزين. والحزن: الهمّ. وقيل: خلاف السرور. وقد فرّق بعضهم بين الهمّ والحزن. وقال بعض علماء اللغة: الحزن: الغمّ الحاصل لوقوع مكروه أو فوات محبوب في الماضي ويضاده الفرح. وقد سمى رسول الله العام الذي ماتت فيه "خديجة" وعمه "أبو طالب" "عام الحزن"، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، لما أصابه فيه من همّ وغمّ1. وللعرب كما لغيرهم من الشعوب مصطلحات وتعابير خاصة، يعبرون بها عن آلامهم وأحزانهم وما يجيش في صدورهم من أحزان. منها تعابير يستخدمها المحزون نفسه تعبيرًا عن حزنه وآلامه الشديدة، ومنها تعابير يستعملها المحزون في الرد على من يتفضل عليه بمواساته للتخفيف عن آلامه، بأن يدعو لهم ويشكرهم على تكليف أنفسهم مشقة المجيء إليه لمؤاساته أو مشاركتهم له في حزنه. ومنها تعابير يقولها المؤاسون للشخص المحزون للتخفيف عن مصابه وللترويح عنه ولإظهار حزنهم له ومشاركتهم له في أحزانه. كما أن لهم كما لغيرهم علامات وشعارات يظهرونها للناس لإشعارهم بأنهم مصابون بآلام وأحزان، وبحلول نكبات وكوارث بهم. وذلك مثل لبس ألبسة خاصة تكون شعارًا خاصًّا بالحزن، وذرّ الرماد أو التراب على الرأس أو تلطيخ الرأس والوجه بالطين، وترك الشعر ينمو دون حلق ولا إجراء تعديل فيه أو ترك دهنه مدة معينة إظهارًا للحزن على ميت، وما إلى ذلك من علامات، هي ضرورية ولازمة جدًّا، بالنسبة للمحزون أو للمحزونين والمفجوعين ولأصدقائهم، إذ أن إهمالها وتركها هو في نظرهم عيب ومنقصة على المفجوع وعلى أصدقائه وعلى آله على حدّ سواء. ثم هي تقاليد لا بد من مراعاتها والمحافظة عليها. ومن ذلك أيضًا: النداء وذلك بإعلان شخص عن المصيبة بصوت عال يسمع حتى يشاركه الناس مصيبته أو ليحصل منهم على ما يرجوه من مساعدة.

_ 1 تاج العروس "9/ 74"، "حزن".

مثل وأسوء صباحاه: في المصيبة التي تقع في آخر الليل وأول النهار. أو أن يعلن عن وفاة كبير وذلك بأن ينادي بصوت عال في الأحياء وفي الأماكن العامة عن موت ذلك الكبير بعبارات مؤثرة وبصوت رخيم. ليكون ذلك معلومًا لأهل المكان، فيتجمعون حول المفجوع ويشاطرونه حزنه ويشتركون في تشييع الجنازة. ويعبر عن الكوارث والآفات والمصائب بلفظة "لمت"، في بعض اللهجات العربية الجنوبية، كما في هذه الجملة: "كل لمت لمت"، ومعناها من كل ملمة ألمت، أو من كل نازلة نزلت1. وفي هذا المعنى أيضًا جملة: "بعد حدثت حدثت"2 أي: بعد حادثة حدثت، أو بعد الحادثة التي حدثت، أو بعد الفاجعة التي حدثت. ويقال: لا يصيب الناس من عظيم نوب الدهر: "دواهي الدهر". وإذا نزلت بشخص مصيبة قالوا: "دهنة داهية"، وقد يقولون: "داهية دهياء" على سبيل التوكيد والمبالغة. ويقول الشخص: دهيت. وتقول ما دهاك؟ أي: ما أصابك؟ وكل ما أصابك من منكر من وجه المأمن فقد دهاك دهيًا. والدهياء: الداهية من شدائد الأمر. أَخُو مُحافَظَةٍ إِذا نزَلَتْ به ... دَهْياءُ داهِيَةٌ من الأَزْمِ3 والاصطلاح الشائع عن هلاك الإنسان وفقده الحياة هو "الموت"4. وقد وردت هذه اللفظة في لهجات عربية أخرى، مثل اللهجة الصفوية واللحيانية5 وهناك ألفاظ أخرى تؤدي معنى الموت والهلاك. مثل الهلاك والمنايا والأحداث والحِمام والأجل والحتف والقدر والمنون والزمان والسأم والنحب وغير ذلك6. وهي مصطلحات جاهلية، بعضها من المصطلحات القديمة، لها معان أوسع من مصطلحات الموت. ولكن ربط بينها وبين هذا المصطلح لما لها من صلة بهلاك الإنسان وبمصيره، فجعلت تؤدي معنى الموت.

_ 1 راجع السطر السادس من النص: Glaser 131, CIH 99 2 Rhodokanakis, Stud., II, S. 160 3 اللسان "14/ 275"، "دها". 4 المخصص "6/ 119" "أسماء الموت". 5 W. Caskel, Lihyan Und Lihyanisch 6 اللسان "20/ 161"، تاج العروس "10/ 347".

وهلك بمعنى مات، معروف عند أهل اللغة1. وقد وردت اللفظة بهذا المعنى في نص النمارة الذي يعود تأريخه إلى سنة 328م. وأما المنية، فالموت كذلك في نظر علماء اللغة، لأن المنى القدر والموت قدر علينا2. وأما الحتف، فهو الموت أيضًا، وجمعه حتوف. وهو معنى مجازي جاهلي متأخر، ورد في المثل: "مات حتف أنفه". أي على فراشه من غير ضرب ولا قتل ولا غرق ولا حرق، وخص الأنف لأنهم كانوا يتخيلون أن روح الرجل تخرج من أنفه، فإن جرح خرجت من جراحته. وهناك مثل آخر يشبهه وهو "مات حتم فيه" لأن الفم مجرى النفس كذلك3. وترادف لفظة "الميت" و"ميت" لفظة "جنز" في العربيات الجنوبية4. وذكر علماء العربية أن الجنازة الميت5، فهي في معنى لفظة "جنز" الواردة في المسند. وقريب من معنى "مات حتف نفسه"، ما ورد في بعض النصوص الصفوية من تعبير "رغم مني"6، فإنه يريد أن الشخص لم يمت قتلًا، وإنما مات رغمًا منه، مات بمنيته وبأجله. ويعبّر مصطلح "مات بحد السيف" أو "مات صبرًا"، عن معنى أن الوفاة لم تكن طبيعية، وإنما كانت قتلًا، إما بضرب عنقه، وإما بوسائل أخرى من وسائل التعذيب، صبر عليها ذلك الشخص، حتى مات. وورد: "الموت الأبيض" و"الموت الأحمر". الأبيض الفجأة، أي ما يأتي فجأة، ولم يكن قبله مرض يغير لونه. والأحمر الموت بالقتل لأجل الدم7. والانتحار، أي: قتل الإنسان نفسه، معروف عند الشعوب القديمة، ويكون إما بإزهاق الإنسان روحه باستعمال آلة حادة، مثل سكين أو خنجر وما شابه ذلك، وإما برمي الشخص نفسه من محل مرتفع، أو بإغراق نفسه، أو بإحراق

_ 1 اللسان "12/ 394"، تاج العروس "7/ 194". 2 اللسان "20/ 161"، تاج العروس "10/ 347". 3 اللسان "10/ 382"، تاج العروس "6/ 64"، القاموس "حتف". 4 South Arabian Inscriptions, P. 430 5 تاج العروس "4/ 18"، "جنز". 6 Annual Of the Department Of Antiquities Of Jordan, II. 1953, P. 20 7 تاج العروس "5/ 10"، "بيض".

نفسه بنار، وما إلى ذلك. ويعد من الأعمال الشريرة في الأديان. ويعبّر في العربية بـ"قتل نفسه" عن "الانتحار". ومن الألفاظ التي تعني الموت: القشم. يقال: قشم الرجل قشمًا، أي مات1. وأم قشعم، فإنها تعني المنية، كما تعني الحرب والداهية2. والحِمام، لأنه قضاء الموت وقدره3. و"أم اللهيم": ويراد بها "الحمى"، ويكنى بها عن الموت، لأنها تلتهم كل أحد. وقيل: هي "المنية"، وكنية الموت، لأنها تلتهم كل أحد4. ويعبّر عن الحالات التي يكون فيها المرض قد اشتد بالمريض حتى صار يشرف على الموت بتعابير خاصة مثل: "سكرات الموت" و"الحشرجة"، ويراد بها تردد النفس5. ويعبّر عن القتل المعجل بالقصص، فيقال: مات فلان قصصًا، إذ أصابته ضربة أو رمية فمات مكانه. ويقال: ضربه فأقصصه، أي قتله في مكانه6. وللدهر والحدثان والزمان والقدر، صلات قوية بالموت، إذ تنسب إليها إماتة الإنسان. والدهر على الأخص مسئول في نظر أهل الجاهلية عن قوارع الزمان وحوادثه التي تنزل بالإنسان. إنه هو المبيد، وهو المهلك، وهو المفقر، فهو إذن بالنسبة إلى الجاهليين رأس كل بلاء. ولكنهم بدلًا من التقرب إليه والتودد له ليبتعد عنهم، وليرأف بحالهم كانوا لا يستطيعون ضبط أعصابهم عند نزول الشدائد بهم، فيسبّونه، لذلك ورد أن الرسول نهى عن سب الدهر فقال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر". وجعل الدهر في الإسلام من أسماء الله الحسنى، وذكر أنه ورد في الحديث القدسي: "يؤذيني ابن آدم، يسبّ الدهر، وإنما أنا الدهر" 7. والموت في نظر الجاهليين مفارقة الروح للجسد لسبب من الأسباب التي تؤول

_ 1 اللسان "12/ 484"، "صادر". 2 اللسان "12/ 485"، "صادر"، قاموس المحيط "4/ 165"، "1935م". 3 تاج العروس "8/ 258". 4 اللسان "12/ 554". 5 تاج العروس "2/ 22". 6 اللسان "7/ 78"، "صادر"، تاج العروس "4/ 424". 7 تاج العروس "3/ 218"، اللسان "2/ 437"، "6/ 382".

إلى هلاكه. تخرج الروح من الأنف أو من الفم وذلك في الموت الطبيعي وفي موت الفجأة. أما إذا كان الموت بسبب جرح، فإن الروح تخرج على ما ذكره الأخباريون من الجرح1. والروح قد تتحول وتصير طائرًا يرفرف فوق قبر الميت يسمى "الهامة" في حالة كون الميت قتيلًا. واعتقد بعض الجاهليين أن الموت أجل مثبت وأمر معين محتم، وهو لا يأتي إلا في حينه. فإذا جاء الأجل كان حذر الإنسان وجبنه غير دافع عنه المنية إذا حلت به. وذكر أن أول من قال ذلك "عمرو بن مامة" في شعره وفي حديث عامر بن فهيرة: والمرء يأتي حتفه من فوقه ولحنش بن مالك بيت في الحتوف، إذ يقول: فنفسك إحرز فإن الحتوف ... ينبان بالمرء في كل واد2 وكلمة "الروح" من الكلمات المعروفة عند الجاهليين. وقد صورتها بعض الأخبار الإسلامية حفظة على الملائكة، وجعلت لها وجهًا كوجه الإنسان وجسدًا كجسد الملائكة، ولا يمكن رؤيتها كما لا يمكن رؤية الملائكة3. بها يعش الإنسان وبها حياة الأنفس. وقد سأل الجاهليون الرسول على ماهية الروح، فنزلت الآية: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 4. ويذكر المفسرون أن سائليه هم اليهود5 أو أن اليهود علموا المشركين أن يسألوه عن الروح محاولين بذلك إثارة مشكلة للرسول كانت مهمة في أعين الناس يومئذ، مما يدل على أهمية هذه القضية في ذلك العهد. ويظهر من تمحيص الأخبار الواردة عن الموت والقبر وأشباه ذلك أن عقيدة الجاهليين أن الروح متصلة بالجسد ملازمة له في أثناء الحياة، فإذا وقع الموت انفصلت عن الجسد وفارقته. ثم اختلفوا فيما بينهم في مصير الروح، فمنهم من

_ 1 اللسان "10/ 382"، تاج العروس "6/ 64". 2 اللسان "9/ 38"، "حتف"، تاج العروس "6/ 64"، "حتف". 3 تاج العروس "2/ 147"، اللسان "3/ 281 وما بعدها". 4 الإسراء، الآية 85. 5 الجلالين "1/ 220"، الروض الأنف "1/ 196 وما بعدها".

تصورها وهي ملازمة "قبر صاحبها لا تفارقه، وكأنها لا تريد أن تفارق الجسد الذي كانت مستقرة فيه" فصارت المقابر موضع تجمع الأرواح، ومنهم من ذهب إلى هلاكها بهلاك الجسد أو تحولها أرواحًا تسبح في عالم الأرواح. ونجد في حديث "مجاهد" أن "الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك"1. تفسيرًا لرأي بعض الجاهليين في مدة بقاء الروح حول القبر. وهناك أحاديث أخرى يظهر منها أن الروح تلازم القبور فلا تفارقهم. وهناك كلمة أخرى لها صلة وعلاقة متينة بهذه الكلمة. هي لفظة "النفس". وهي من الكلمات الجاهلية القديمة التي وردت في النصوص، معناها الروح والشخص والذات والجسد. وقد ذكر لها علماء اللغة جملة معان استعملت في الأكثر على سبيل المجاز. ولم يفرق بعض هؤلاء بين الروح والنفس2. ويظهر من بعض التعابير والجمل التي كان يستعملها الجاهليون مثل "خرجت نفس فلان" و"فاظت نفسه" "فاضت نفسه" أن المراد بالنفس الروح3. وقد تصور بعضهم أن النفس الدم، وإنما سمي الدم نفسًا لأن النفس تخرج بخروجه. وفي الحديث: "ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه4" ولبعضهم آراء في التفريق بين الاثنين نشأت في العهد الإسلامي. ولا سيما من ورود استعمال الكلمتين في معان متعددة في القرآن الكريم وفي الحديث. ويُعَدّ "المرض" من جملة الآثام التي تنزلها الآلهة بالإنسان، لخروجه على أوامرها ولعدم أداء ما عليه من واجبات وفروض تجاهها، ومنها الحقوق التي فرضتها عليه، وفي رأسها النذور والصدقات والزكاة التي أمرت الآلهة بتقديمها

_ 1 كتاب الروح: لابن قيم الجوزية "ص115". 2 المخصص "2/ 62"، الروض الأنف "1/ 196 وما بعدها". 3 "وكذلك فاضت نفسه، أي: خرجت روحه. نقله الجوهري. عن أبي عبيدة والفراء، قال: وهي لغة في تميم وأبو زيد مثله. قال: وقال الأصمعي: لا يقال: فاض الرجل، ولا فاضت نفسه. وإنما يفيض الدمع والماء. زاد في العباب: ولكن يقال: فاظ بالظاء إذا مات، ولا يقال: بالضاد البتة"، تاج العروس "5/ 71"، "فاض"، "قال الجوهري: وكذلك فاظت نفسه، أي خرجت روحه. عن أبي عبيدة والكسائي وعن أبي زيد مثله، وقال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: لا يقال: فاظت نفسه، ولكن يقال: فاظ إذا مات"، تاج العروس "5/ 258"، "فيظ". 4 اللسان "6/ 233 وما بعدها".

على معابدها. ولهذا نجد المريض يتوسل بآلهته لكي تصفح عنه وتعفو عن تقصيره تجاهها، وأن تعيد إليه ما أخذته منه من صحة وعافية في مقابل تقديم نذر لها ووفائه بقيامه بكل ما أمرت به من واجبات تجاهها. وفي المتاحف الخاصة والعامة مئات من الكتابات الجاهلية في هذا المعنى، ومئات أخرى، كتبت شكرًا وحمدًا للآلهة، إذ سمعت توسلات عبيدها بأن تمن عليهم بالصحة والعافية، فمنت عليهم؛ ولهذا فإنهم كتبوا كتاباتهم تلك للتعبير عن شكرهم لها، ولمناسبة تقديمهم النذر الذي نذروه لمعابد الآلهة.

نعي الميت

نعي الميت: ويكون الإعلان عن موت شخص بالبكاء وبالنعي، ويتوقف نعي الميت والبكاء عليه على قدر منزلة الميت ودرجة أهله ومكانتهم الاجتماعية. ويعد نعي الميت وشق الجيوب عليه من وسائل التقدير والإكرام وتبجيل الميت، ولذلك كانوا يوصون قبل موتهم بنعيهم للناس نعيًا يليق بهم، ويقوم بذلك ناع أو جملة نعاة. يركب الناعي فرسًا ويسير ينعي الميت بذكر اسمه وتمجيده ليسمع بذلك القوم، قائلًا: "نعاء فلان ... " وترد كلمة "الناعي" و"النعاة" كثيرًا في الشعر وفي النثر1. وقد كان الجاهليون يستغلون نعي القتلى للتحريض على القتال والأخذ بالثأر، ويقال لذلك: "التناعي"2. وقد نُهي في الإسلام عن "نعي الجاهلية"، وذلك لما كانوا يبالغون من النداء بموت الشخص وذكر مآثره ومفاخره ورثاءه رثاء يتجاوز الحد3. والولولة والنياحة على الميت من التقاليد التي تشدد فيها أهل الجاهلية، وكانت عندهم سمة من سمات التقديس. ولهذا كان أهل الجاه والغنى والأشراف يستأجرون النائحات للنياحة على الميت في بيته وخلف نعشه إلى القبر وفي مأتمه، ويبالغون في ذلك تبعًا لمنزلة المتوفي. وتلك عادة متبعة عند غيرهم أيضًا، فقد كان العبرانيون

_ 1 أقول لما أتاني الناعيان به ... لا يبعد الرمح ذو النصلين والرجل بلوغ الأرب "3/ 13"، تاج العروس "10/ 373"، "نعي". 2 تاج العروس "10/ 373"، "نعي". 3 القسطلاني، إرشاد "2/ 378"، "باب الرجل ينعي إلى أهل الميت نفسه".

يستأجرون النادبات ليندبن الموتى1.كما كان الرومان يتبعون هذه السنة. وكلمة "الرثاء" من الكلمات الجاهلية وهي تعني بكاء الميت وتعديد محاسنه، ونظم الشعر فيه، ويقال للمرأة النواحة، والتي ترثي بعلها أو غيره من الأقارب والأعزاء ممن يكرم عندها "الرثاءة" و"الرثاية"2. وأما "المناحة"، فهي اجتماع النساء في مناحة لإظهار حزنهن على الميت. ويقال للاجتماع "نياحة" أيضًا. والكلمة من الكلمات الجاهلية كذلك3. ويفهم كثير من الناس من كلمة "مأتم" المصيبة وإظهار الحزن والنوح والبكاء، وليس هو كذلك، وإنما "المأتم" في عرف أهل اللغة المجتمع يجتمع فيه النساء في حزن أو فرح في خير أو شرّ، ويطلق على اجتماعات الرجال والنساء4. وفي الشعر الجاهلي أبيات يحث فيها الشعراء أهلهم ويوصونهم بالبكاء وبالنوح عليهم إذا ماتوا. فقد ذكروا أن طرفة بن العبد خاطب ابنة أخيه معبد بهذا البيت: فَإِن مُتُّ فَاِنعيني بِما أَنا أَهلُهُ ... وَشُقّي عَلَيَّ الجَيبَ يا اِبنَةَ مَعبَدِ5 وذكروا أن الشاعر حازم بن أبي طرفة الحارث بن قيس الشدّاخ الكناني، وهو شاعر جاهلي أوصى ابنته لما شعر بدنو أجله بأن تبكي والدها وأن تندبه وتذكر محامده وفعاله، وذلك في هذين البيتين: بنية إنّ الموت لا بد لاحق ... بشيخك ماضي الأنام المودع فإن قمت تبكيني فقولي أبو الندى ... ومأوى رجال بائسين وجوّع6 أما الشاعر لبيد، فقد أوصى ابنته بهذه الوصية لما حضرته الوفاة: تَمَنّى اِبنَتايَ أَن يَعيشَ أَبوهُما ... وَهَل أَنا إِلّا مِن رَبيعَةَ أَو مُضَر؟

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 200". 2 تاج العروس "10/ 144". 3 تاج العروس "2/ 243"، "نوح". 4 تاج العروس "8/ 179". 5 بلوغ الأرب "3/ 101". 6 الآمدي المؤتلف "ص100".

فَقوما وَقولا بِالَّذي تَعْلمانه ... وَلا تَخمِشا وَجهًا وَلا تَحلِقا شَعَر وَقولا هُوَ المَرءُ الَّذي لا خَليلَهُ ... أَضاعَ وَلا خانَ الصَديقَ وَلا غَدَر1 وهي وصية فيها تعقل واقتصاد بالنسبة إلى طلبات غيره ممن كان يرى البكاء والنياحة وخمش الوجوه وحلق الشعور وإظهار أكثر ما يمكن من مظاهر الحزن والتوجع والتألم وأمثال ذلك، هي سيماء من سيماء التقدير والتعظيم والاحترام للميت بل للأحياء من آله وأقربائه أيضًا؛ لأنها دلالة على شدة تألمهم لذهاب فقيدهم، وعلى أنهم لا يبالون في الإنفاق في شيء حتى في إيلام أنفسهم وتوجيع أجسامهم وهلاكهم في سبيله، وأنهم كرماء لا يبالون في البذل في سبيل من يفتقدونه. وما كان لبيد، ليقنع بهذا المأتم لو كان على رأي أهل الجاهلية. فمأتمه هذا مأتم بارد لا يليق بمقام رجل جاهلي، ولكنه كان مسلمًا، دفعه إسلامه على القناعة في مأتمه وعلى الاكتفاء بهذا القليل. فقد ورد في الحديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله"، وأن الرسول قال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية"، وأنه: "بريء من الصالقة والحالقة والشاقة"، وأنه قال: "اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت" إلى غير ذلك من أحاديث تنهى عن هذه المظاهر، التي هي في نظر الإسلام من سيماء أهل الجاهلية2. ويصحب البكاء شق الجيب وتعفير الرأس بالتراب واجتماع النسوة أيامًا لندب الميت وذكر مناقبه. تقوم بذلك نادبات ممتهنات أو غيرهن ممن رزقن موهبة القول في مثل هذه الأحوال من أفراد الأسرة أو القبيلة أو الحي أو القرية. وفي بيت لـ"طرفة بن العبد" نجده يوصي بنعيه بما يستحقه وبشق الجيب عليه3. وقد يمتد نعي الميت ورثاؤه حولًا كاملًا، وهي مدة عزاء أهل الجاهلية4. فإذا انتهى

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 11". 2 بلوغ الأرب "3/ 12 وما بعدها"، "النياحة على الميت من أمر الجاهلية " "البخاري: التاريخ الكبير" "1/ 232"، "ثلاث من قبل الجاهلية لا يدعهن أهل الإسلام: استسقاء بالكواكب وطعن في النسب، والنياحة على الميت"، الإصابة "1/ 247" القسطلاني إرشاد الساري "2/ 404"، "باب ما يكره من النياحة على الميت". 3 فَإِن مُتُّ فَاِنعيني بِما أَنا أَهلُهُ ... وَشُقّي عَلَيَّ الجَيبَ يا اِبنَةَ مَعبَدِ بلوغ الأرب "3/ 11". 4 تاج العروس "6/ 320"، بلوغ الأرب "3/ 12".

الحول وقد بكوه البكاء الذي استحقه الميت عذر أقرباؤه عن الاستمرار في بكائه إلا في المناسبات. قال لبيد لابنتيه لما حضرته الوفاة: إِلى الحَولِ ثُمَّ اِسمُ السَلامِ عَلَيكُما ... وَمَن يَبكِ حَولًا كامِلًا فَقَدِ اِعتَذَر1 وتعرف التي ترفع صوتها بالنياحة بـ"الصالقة". وأما التي تحلق شعرها عند نزول المصيبة فيقال لها: "الحالقة". وأما التي تشق جيبها، فيقال لها: "الشاقة". ويقال لتعديد النادبة بأعلى صوتها محاسن الميت النادبة ولعملها الندب2. والظاهر أن الندب كان خاصًّا بالنساء، وإن وردت كلمة "نادب" عند اللغويين3. وقد نهى الإسلام عن "الصلق"، ورد في الحديث: "ليس منا من صلق أوحلق أو خرق". أي: ليس منا من رفع صوته عند المصيبة وعند الموت. ويدخل فيه النوح أيضًا4. و"السالقة"، هي بمعنى "الصالقة"، وهي لهجة ولا شك من لهجات القبائل، وقد وردت في رواية أخرى للحديث المذكور أيضًا5. ولطم الخدود وخمشها وشق الجيوب وذر التراب أو الرماد أو وضع الطين على الرأس والخدود عادة لا ينفرد بها العرب وحدهم، بل هي موجودة عند غيرهم من الأمم أيضًا. وفي التوراة آيات تشير إليها كلها وتعدها من دلائل الحزن والأسى الشديد والتوجع على الميت. وهي كلها مذكورة فيها من البكاء والنحيب على الميت إلى ذرّ الرماد والتراب أو وضع الطين على الرأس إلى شق الجيوب ولطم الصدر والخدود. وليست عادة استئجار النادبات بعادة خاصة بالعرب الجاهليين، فقد كان العبرانيون يستأجرون النادبات كذلك ليندبن الميت، وقد أشير إلى ذلك في التوراة6، ولعلها من العادات السامية القديمة المعروفة عند بقية الساميين.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 12". 2 بلوغ الأرب "3/ 13". 3 تاج العروس "1/ 481"، "ندب". 4 "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، برئ من الصالقة والحالقة والشاقة"، صحيح مسلم "1/ 70 وما بعدها"، "باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية" تاج العروس "6/ 411". 5 تاج العروس "6/ 320 وما بعدها، 382". 6قاموس الكتاب المقدس "2/ 200".

ويقال لمد الصوت بالنحيب "النقع"، وأما مدّ اللسان بالولولة ونحوها، فيقال له: "اللقلقة"1. ويحترم الجاهليون الموت والميت فكانوا يقومون إذا مرت بهم جنازة، ويقولون إذا رأوها: "كنت في أهلك مائتًا مرتين". أما أهل الميت وأقرباؤه وأصدقاؤه فكانوا يسيرون أمام الجنازة وخلفها إلى المقبرة2. وتعفر النساء رءوسهن بالتراب وبالرماد وبالطين ويلطمن خدودهن بأيديهن، كما كن يلطخن رءوسهن بالطين ويسرن مع الجنازة إظهارًا للحزن والجزع على الفقيد. وترافقهن النادبات والمولولات، يندبن الميت يولولن عليه، يسرن حافيات مبالغة في إظهار الحزن. وكانت العرب لا تندب قتلاها ولا تبكي عليها حتى يثأر بها، فإذا قتل قاتل القتيل، بكت عليه وناحت3. ويتبين من حديث "عمرو بن العاص" أن من عادات الجاهليين حمل النار مع الجنازة تصطحبها اصطحاب النائحة لها. وقد أباح "عمرو" لأهله نحر جزور عند قبره لتوزيع لحمها على المحتاجين، وأن يقيموا حول قبره حتى يستأنس بهم، وينظر ماذا يراجع به رسل ربه4. ونجد مثل ذلك في خبر يذكر أن "أبا موسى الأشعري" لما حضره الموت دعا ابنه، فقال: "انظروا إذا أنا مت فلا تؤذنن بي أحدًا ولا يتبعني صوت ولا نار"5. ويدل ذلك على أن عادة حمل النار مع الجنازة بقيت زمنًا في الإسلام. ويؤخذ من شعر للأفوه الأودي إن الجاهليين كانوا يغسلون موتاهم قبل دفنهم6. وذكر "اليعقوبي"، أنه لما مات عبد المطلب "أعظمت قريش موته وغسل بالماء والسدر. وكانت قريش أول من غسل الموتى بالسدر، ولف في حلتين من حلل اليمن قيمتها ألف مثقال ذهب وطرح عليه المسك حتى ستره، وحمل على

_ 1 الأغاني "15/ 12". 2 عمدة القاري "16/ 293". 3 نهاية الأرب "3/ 132". 4 صحيح مسلم "1/ 78"، "كتاب الإيمان" كتاب الروح، لابن القيم الجوزيه "ص10" "الطبعة الثالثة" حيدر آباد 1357هـ. 5 طبقات ابن سعد "4/ 115"، "صادر". 6 الطبري "2/ 288"، بلوغ الأرب "2/ 288".

أيدي الرجال عدة أيام إعظامًا وإكرامًا لتغيبه في التراب"1. وغسل الجاهليون موتاهم بالخطمي والأشنان2، وما شابه ذلك من مواد لإزالة الأوساخ عن جسم الميت وتطهيره. كما وضعوا الطيب مع الكفن ليطيب الميت فيذهب مطيبًا إلى قبره. ويحمل سرير الميت الذي وضع عليه على الأكتاف لإيصاله إلى قبره، ويقال له: "النعش" كذلك. وقد يحمل في محفة، وقد يحمل على الإبل لإيصاله إلى قبره إذا كان القبر بعيدًا. ويتبارى الأقرباء والأصدقاء في حمل نعش الميت احترامًا له وتقديرًا لشأنه. وورد أن "السرير -النعش- قبل أن يحمل عليه الميت، فإذا حمل عليه فهو جنازة"3. وذكر بعض أهل الأخبار أن النعش لم يكن معروفًا عند العرب، وأن أول من عمل له النعش "زينب بنت جحش" زوج النبي، أو فاطمة الزهراء، أي في الإسلام. وقد قلد في ذلك أهل الحبشة الذين كانوا يصنعون نعوشًا لموتاهم4. وذكر أن "النعش" في الأصل الذكر الحسن. "إذا مات الرجل، فهم ينعشونه، أي: يدركونه ويرفعون ذكره". و"النعش شبه محفة كان يحمل عليها الملك إذا مرض وليس ينعش الميت. وأنشد للنابغة الذبياني: أَلَم تَرَ خَيرَ الناسِ أَصبَحَ نَعشُهُ ... عَلى فِتيَةٍ قَد جاوَزَ الحَيَّ سائِرا وَنَحنُ لَدَيهِ نَسأَلُ اللَهَ خُلدَهُ ... يَرُدَّ لَنا مُلكًا وَلِلأَرضِ عامِرا قال: فهذا يدل على أنه ليس بميت. وقيل: هذا هو الأصل ثم كثر في كلامهم حتى سمي سرير الميت نعشًا. وإنما سمي لارتفاعه، فإذا لم يكن عليه ميت محمول فهو سرير"5. وقد كنى "الأسود بن يعفر النهشلي" عن النعش، أي سرير الميت بـ"ذي

_ 1 اليعقوبي "2/ 10" "النجف". 2 تاج العروس "8/ 44"، "غسل". 3 تاج العروس "3/ 265"، "سرر". 4 المعارف "ص241". 5 تاج العروس "3/ 357"، "نعش"، المخصص، لابن سيده، "6/ 130 وما بعدها

الأعواد". وسبب ذلك على ما يقوله علماء اللغة أن البوادي لا جنائز لهم، فهم يضمون عودًا إلى عود ويحملون الميت عليها إلى القبر وذكر أنه أراد بقوله: ولقد علمتُ سِوى الذي نبأتِني ... أنَّ السبيلَ سبيلُ ذي الأعوادِ لو أغفل الموت أحدًا لأغفل ذا الأعواد، وأنا ميت مثله. وذو الأعواد الذي قرعت له العصا، "غويّ بن سلامة الأسيدي"، أو هو "ربيعة بن مخاشن الأسيدي"، أو هو "سلامة بن غوي" على اختلاف في ذلك. قيل: كان له خرج على مضر يؤدونه إليه كل عام، فشاخ حتى كان يحمل على سرير يطاف به في مياه العرب فيجبيها. وفي اللسان: قيل: هو رجل أسن، فكان يحمل على محفة من عود، أو هو جد لأكثم بن صيفي المختلف في صحبته. وهو من بني أسيد بن عمرو بن تميم. وكان أعز أهل زمانه، فاتخذت له قبة على سرير، ولم يكن يأتي سريره خائف إلّا أمن، ولا ذليل إلا عزّ ولا جائع إلا شبع وهو قول أبي عبيدة. وبه فسر قول الأسود بن يعفر النهشلي1. ويحمل الموتى على "الحرج" أيضًا. والحرج خشب يشدّ بعضه إلى بعض ثم يحمل فيه الموتى2. وللعلماء آراء في الجنازة. ذكر بعض منهم أن الجنازة من الجنز بمعنى الستر، وذكر بعض آخر أن اللفظة من ألفاظ النبط، وتعني جنز في لغتهم الإخفاء، ويقصدون بالنبطية لغة بني إرم3. معنى جملة "جنز الميت" عندهم، وضع الميت على السرير وصلاة الكاهن عليه4. وذكر بعض العلماء أن الجنازة بالكسر، الميت وبالفتح السرير، وذكر بعض آخر العكس. وذهب فريق آخر إلى أن الجنازة الميت نفسه، لذلك لا تكون جنازة حتى يكون ميت، وإلا، فهو سرير أو نعش. فالجنازة على هذا الرأي، الميت محمولًا على سريره أو نفش، أو تابوت في الاصطلاح الحديث5. وبهذا المعنى يعبر عن الجنازة في الوقت الحاضر.

_ 1 تاج العروس "2/ 440"، "عود". 2 المخصص "6/ 130 وما بعدها". 3 تاج العروس "4/ 18". 4 غرائب اللغة "177". 5 تاج العروس "4/ 18"، "جنز".

وصلاة الجنائز، هي الصلاة التي تقام على جنازة الميت -أي: الميت وهو في تابوته- ليرسل إلى القبر، وهي صلاة أقرها الإسلام، وقد أفرد لها باب في كتب الحديث والفقه يعرف بـ"كتاب الجنائز"1. والعادة عند أكثر الساميين السير بسرعة في الجنازة. فيسرع المشيعون الذين يسيرون مع الجنازة إلى موضع القبر في مشيهم للوصول بالجنازة بسرعة إليه. وقد أشير إلى هذه العادة في كتب الحديث2. والظاهر أن لطبيعة الجو دخل في ظهور هذه العادة. ويقال لتهيئة الميت ودفنه في القبر "تجهيز الميت". ويقوم الأبناء والأقرباء بوضعه في لحده. وإذا كان الميت عزيزًا كريمًا في قومه سيدًا رئيسًا اشترك الرؤساء في إدخاله القبر، وقد يتنافسون في نيل هذا الشرف، وقد يؤدي هذا التنافس إلى وقوع الشر بين المتنافسين، لأن تجهيز الميت ووضعه في لحده من علامات تقدير الميت وتعظيمه، ومن دلائل قرب من دخل القبر من الميت واتصالهم الوثيق به3. ويقال للميت عند وضعه في قبره: "لا تبعد"4، أي: أنه وإن ذهب عنهم سيكون دائمًا معهم وفي قلوبهم. ولعل هذا التفكير هو الذي حملهم على إخراج حصته مما كانوا يأكلونه ويشربونه يسمّونها باسم الميت، وعلى زيارة قبور الموتى والجلوس عندهم وضرب الخيام حولها، وعلى مناجاة صاحب القبر بذكر اسمه وتحيته، لأن روح الميت في رأيهم حية لا تموت. ولهذا السبب أيضًا كانوا يسقونها بصب شيء من الماء على القبر، كما كانوا ينضحونه بالدم. وبهذا المعنى يفسر ما ورد في الشعر وفي النثر من سقي الغمام للقبر، ونزوله عليه، وما ورد من شرب الخمر على القبر وسكب بعضه عليه. وقد كان العبرانيون يخرجون.

_ 1 صحيح مسلم "6/ 219". 2 إرشاد الساري "2/ 240 وما بعدها". 3 Hasting, Vol, II, P. 731 4 وفي هذا المعنى ورد في شعر مالك بن الريب المزني: يَقولونَ لا تَبعُد وَهُم يَدفِنونَني ... وَأَينَ مَكانُ البُعدِ إِلا مَكانِيا بلوغ الأرب "3/ 14 وما بعدها" الأمالي، للقالي "3/ 137".

حصة مما يأكلونه لتكون من نصيب الموتى1. ويذكر أهل الأخبار أن الناس كانوا يسكبون الخمر على قبر "الأعشى" بـ"منفوحة" اليمامة، وذلك لولعه بها وتقديرًا لذكراه. ويدفن بعض العرب الميت بملابسه، ويغطى رأسه. ويكفن بعضهم موتاهم ويدفنونهم مكفنين. ويذكر علماء اللغة أن من أسماء الكفن الجنن، واستشهدوا على ذلك ببيت للأعشى2. وفي الحديث: "أن ثمود لما استيقنوا بالعذاب تكفنوا بالأنطاع وتحنطوا بالصبر، لئلا يجيفوا وينتنوا. يضعون الحنوط في أكفان الميت"3. كما وردت كلمة "أكفاني" في بيت لامرئ القيس4، مما يدل على معرفة الجاهليين للكفن. وقد كان قدماء العبرانيين يدفنون موتاهم بملابسهم التي كانوا يستعملونها -أي: ما كان يفعل قدماء الجاهليين- ثم كفَّن المتأخرون منهم موتاهم بكفن مكوّن من قماش أبيض مصنوع على الأكثر من الكتان على هيأة البرد اليماني يلفّ على جسم الميت، وربطوا الرأس بمنديل، كما ربطوا يدي الميت وقدميه برباط خاص، على النسق الذي أقر في الإسلام5. ويظهر من الأخبار الواردة عن تكفين رسول الله، أن أهل مكة أو الحجاز عامة كانوا يفضلون الأكفان السحولية، وهي أثواب بيض سحولية من كرسف، أي: من قطن. وقد نسجت في "سحول"، وهي قرية باليمن منها هذه الثياب. وقد كره الإسلام تكفين الموتى بالمصيّغات ونحوها من ثياب الزينة، كما كره التكفين بالحرير، بل حرم بعض العلماء التكفين فيه6. وقد كان أغنياء الجاهلية يكفنون موتاهم بالألبسة الغالية، مبالغة منهم في تقديرهم لمنزلة ميتهم عندهم.

_ 1 Reste, S. 183 2 وَهالِكِ أَهلٍ يُجِنّونَهُ ... كَآخَرَ في أهلهِ لَم يُجَن اللسان "16/ 245"، تاج العروس "9/ 321" "المطبعة الخيرية". المحبر "ص319 وما بعدها". 3 اللسان "9/ 148"، صحاح الجوهري، "6/ 2188" المخصص لابن سيده "6/ 130 وما بعدها". 4 اللسان "17/ 239". 5 قاموس الكتاب المقدس "2/ 199 وما بعدها". Ency. Relih, 4, P. 498, Hastings. A Dectionary of Chrt. And Gospels, vol. I, p. 241. 6 صحيح مسلم "7/ 2".

وقد ذكر "اليعقوبي"، أن "عبد المطلب" لفّ في حلتين يمانيتين ثمينتين1 وكانت البرود اليمانية مفضلة على غيرها في التكفين. وذكر أنه كان من المستحسن عندهم الإحسان في الكفن. ورويت أحاديث في تحسين الكفن. منها: "إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه" 2. وذكر أن "التحسيب"، بمعنى التكفين وأن لفظة "محسب" بمعنى مكفن. وذكر أيضًا أن التحسيب دفن الميت بالحجارة3. عند وضع الميت في قبره يقوم من يذكر محاسنه وأعماله، ثم يظهر حزنه وحزن الناس لفراقه، ويقال لذلك "الصلاة". وقد أطلق الإسلام على هذه وعلى الندب والأعمال الأخرى "دعوى الجاهلية"، ونهى عنها4. ويوارى الميت في حفرته ثم يهال التراب عليه. وإذا كان الميت من أصحاب الاسم والجاه فقد يجصص قبره ويبنى عليه، ويكتب على قبره اسم صاحبه وما يناسب المقام5. وكثيرًا ما نسمع بنحر الإبل أو عقرها على القبور لتبتل بدماء الإبل6. ولا سيما إذا كان الهالك من سادات القبائل والأجواد. وإذا حلقت النساء شعورهن حزنًا على الميت، وضعن شعورهن على القبر7. وقد اختلف العلماء في سبب عقرهم للإبل على القبور، فقال قوم: إنما كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت على ما كان يعقره من الإبل في حياته وينحره للأضياف8. وقال قوم: إنما كانوا يفعلون ذلك إعظامًا للميت كما كانوا يذبحون للأصنام. وزعم بعض آخر أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك، لأن الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت فكأنهم يثأرون لهم فيها. وقيل: إن الإبل أنفس أموالهم، فكانوا يريدون بذلك أنها قد هانت عليه لعظم المصيبة، وقد نهى الإسلام ذلك بحديث: "لا عقر في الإسلام" 9.

_ 1 اليعقوبي "2/ 10"، "النجف". 2 اللسان "13/ 358"، "صادر" تاج العروس "9/ 321"، اللسان "1/ 246". 3 تاج العروس "1/ 213"، "حسب". 4 إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، للقسطلاني "2/ 406". 5 شمس العلوم الجزء الأول، القسم الثاني "ص291". 6 الأغاني "19/ 88". 7 الأغاني "15/ 12". 8 وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخادم وذبائح بلوغ الأرب "2/ 310". 9 بلوغ الأرب "2/ 311".

وإذا وضع الميت في لحده، أهالوا التراب عليه. وقد ينظم الشعراء شعرًا لهذه المناسبة ينشدونه على القبر إظهارًا لحزنهم ولحزن الناس على فراقه. وطريقة دفن الميت هي العادة الشائعة المعروفة بين الجاهليين، غير أن هناك من كان يوصي بحرق جثته وذرّ رماده في الهواء، أو بدفن الرماد في الأرض1. وطريقة حرق الموتى ليست من العادات السامية -أي: من العادات المنتشرة بين الساميين- إذ يرون أنها تنافي حرمة الميت وأحكام الآلهة. وكانوا إذا سبوا شخصًا أو أرادوا به سوءًا دعوا له بالحرق، أو قالوا له: يابن المحروق. وقد وجد من فحص القبور التي عثر عيها خارج سور "مأرب" أن من الموتى من دفن على هيأة إنسان نائم، أي: وضع متمددا في لحده، كما نفعل في موتانا، وأن بعضهم لم يدفن على وفق هذه الطريقة، ولكن دفن قائمًا. وقد عثر في بعض هذه القبور على كتابات قصيرة، كما عثر فيها عل رءوس منحوتة دفنت مع الميت، لعلها ترمز إلى رمز ديني، أو عقيدة من عقائدهم في الموت، أو تمثل الميت نفسه لتكون شاهدًا عليه2. ولم نعثر على جثث في جزيرة العرب محنّطة على طريقة المصريين، والذي نعرفه الآن أن الجاهليين كانوا يضعون الحنوط في أكفان الميت وملابسه ليطيب به جسمه وليحفظه مدة طويلة3. ويظهر من التفسير الذي يرويه علماء اللغة لجملة "عطر منشم" الواردة في شعر "زهير بن أبي سلمي"، أن "خزاعة" وربما غيرها كانت تشتري "الكافور" لموتاها4. وقد كانت قريش تضع الكافور مع الميت، وهي عادة استمرت في الإسلام أيضًا. ويقال: إن منشمًا امرأة كانت تبيع الحنوط في الجاهلية، فقيل للقوم إذا تحاربوا: دقوا بينهم عطر منشم، يراد طيب الموتى5، مما يدل على أن تطبيب الميت عادة جاهلية قديمة، ويقال لطيب الموتى: الحنوط. وقد طرح المسك على

_ 1 النهاية "2/ 115". 2 BEITRAGE., S. 28 3 اللسان "9/ 148" الصحاح، للجوهري "3/ 1120". 4 شرح ديوان زهير لثعلب "15"، "دار الكتب المصرية". "1944م"، ديوان زهير "110"، "طبعة كرم البستاني". 5 المعارف "ص265".

عبد المطلب لتطييه1، "وكل ما يطيب به الميت من ذريرة أو مسك أو عنبر أو كافور من قصب هندي أو صندل مدقوق، فهو كله حنوط"2. وقيل: إن منشمًا، هي ابنة "الوجيه" العطارة بمكة من حمير، وقيل: من همدان، وقيل: من خزاعة، وقيل: من جرهم. وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال وتطيبوا بطيبها كثرت القتلى فيما بينهم. وذكر أنهم كانوا إذا قصدوا الحرب غمسوا أيديهم في طيبها وتحالفوا عليه بأن يستميتوا في الحرب ولا يولوا أو يقتلوا. وقال "الكلبي": "جرهمية. وكانت جرهم إذا خرجت لقتال خزاعة خرجت معهم فطيبتهم فلا يتطيب بطيبها أحد إلا قاتل حتى يقتل أو يجرح. وقيل: امرأة كانت صنعت طيبًا تطيب به زوجها، ثم أنها صادقت رجلًا وطيبتها بطيبها، فلقيه زوجها فشم ريح طيبها عليه فقتله. فاقتتل الحيّان من أجله. قال الكلبي: "ومن قال منشم بفتح الشين فهي امرأة كانت تنتجع العرب تبيعهم عطرها فأغار عليها قوم من العرب فأخذوا عطرها، فبلغ ذلك قومها فاستأصلوا كل من شموا عليه ريح عطرها. وقد ضرب بها المثل في الشر، فقالوا: أشأم من عطر منشم"3. وورد أن "المنشم" عطر شاق الدق أو شيء يكون في قرون السنبل، يسميه العطارون "روقا". وهو سم سوعة. وقيل: ثمرة سوداء منتنة الريح، أو حب البلسان4. ويجعل الحنوط في مرافق الميت وفي بطنه وفي مربع رجليه ومآبضه ورفغيه وعينيه وأنفه وأذنيه. يجعل يابسًا. ونظرًا لوجود لفظة "حنط" في العربية في المعنى الذي نفهمه من التحنيط، أي: حفظ الجسد، ولاستعمال الجاهليين "الحنوط" في تجهيز موتاهم، وهي مواد عطره5 ذات رائحة طيبة ولورود اللفظة في العبرانية وفي السريانية "حونطو"، نرى أن نوعًا من التحنيط كان معروفًا عند الساميين5. وإن لم يكن بالشكل الذي

_ 1 اليعقوبي "2/ 10"، "النجف". 2 اللسان "7/ 279"، "صادر". 3 تاج العروس "9/ 76"، "نشم". 4 تاج العروس "9/ 76"، "نشم". 5 غرائب اللغة "ص179". J. W. gibbs, A Hebrew and English Lexicon, London, 1827, P. 201, Smith, A Dictionary of Bible, vol, I, p. 545

كان عند المضريين. ولا يستبعد أن يكون أهل الجاهلية قد مارسوا التحنيط أيضًا، وذلك بالنسبة إلى أغنيائهم وأصحاب الثراء منهم. ويؤيد هذا الاحتمال ما رواه أهل الأخبار من عثور الجاهليين وبعض الإسلاميين على جثث عادية كانت محافظة على هيأتها حتى أنها تبدوا وكأنها دفنت بالأمس، وما رووه من عثورهم على نفائس وأواني وكتابات، إلى جانب تلك الجثث. مما يبعث على الظن بأن تلك الجثث كانت محنطة بطريقة ما. ولم تستعمل التوابيت المصنوعة من الحجارة في نجد والحجاز. أما في بطرا وتدمر فقد اتخذت التوابيت المصنوعة من الحجر والنواويس1. والتابوت، هو الصندوق الذي يوضع فيه الميت. ويصنع من الخشب والحجر. أو من مواد أخرى. وهو "تبا" في العبرانية. وقد ذكر بعض علماء اللغة، أن "التابوه" لغة في التابوت2. والتابوت في الأصل "صندوق من الخشب وقد أشير إليه في القرآن الكريم"3. وقد عرف العرب لفظة أخرى استعملوها في معنى "التابوت" هي لفظة "إران"، ويراد بها صندوق من خشب يوضع الميت فيه4. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الإران تابوت يضع النصارى فيه أمواتهم ويدفنونه مع الميت. واللفظة عبرانية، وقد وردت جملة "حمل على الإران"، أي: حمل في التابوت5. وذكر علماء اللغة أن "الإران" الجنازة، وخشب يشد بعضه إلى بعض تحمل فيه الموتى، وسرير الموتى، وتابوت الموتى6. والعادة أن تذكر مناقب الميت عند قبره في أثناء الاحتفال بدفنه إذا كان عظيمًا سيدًا، وأن يعجل بدفنه في مقبرة القبيلة أو القرية أو في بيته. وقد كان من

_ 1 Reste, S. 178 2 تاج العروس "9/ 381". 3 البقرة الآية 248، طه الآية 39، اللسان "2/ 17"، "طبعة صادر". 4 غرائب اللغة "ص211". 5 المخصص، "6/ 130 وما بعدها". 6 قال الأعشى: أثرت في جناجن كاران ال ... ميت عولين فوق عوج رسال وقال طرفة: أَمونٍ كَأَلواحِ الأَرانِ نَسَأتُها ... عَلى لاحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهرُ بُرجُدِ اللسان "13/ 14 وما بعدها"، "أرن".

عادتهم دفن الميت في البيوت أو على مقربة منها. أما الأعراب، فقد كانوا يدفنون موتاهم في المنازل التي يكونون فيها، وإذا كانوا في أثناء رحيلهم دفنوهم على قارعة الطرق ولا سيما على المرتفعات المشرفة عليها. ويعجل العرب بدفن موتاهم. والتعجيل بدفن الميت من الضرورات التي اقتضتها طبيعة الجو. فجو جزيرة العرب لا يساعد على بقاء جسد الميت مدة طويلة، وإلا تعرض للفساد، ولحق الأذى به ولهذا صار من الاستحباب التعجيل بدفن الميت ليس في العرف حسب، بل من الناحية الدينية كذلك. ويحلق بعض الجاهليين شعر الرأس كله أو بعضه ويرمونه على القبر. وحلق شعر الرأس أو جز الناصية أو حلقها أو حلق الضفيرتين من التقاليد القديمة. وكانوا يقومون بذلك؛ إكرامًا وتعظيمًا لشأن الأرباب، وعند الحج إلى بيوت الآلهة، فيرمون بالشعر أمام الأصنام تعظيمًا لها وبيانًا عن مقدار احترامهم لها حتى ضحوا بأعز رمز لديهم في سبيلها، ولهذا كان لرمي ضفائر شعر الرأس عند القبر أهمية خاصة في نظر الجاهليين1. وكان في روع الأمم القديمة أن الشعر للفرد قوة وحياة، فحلقه أوجز جزء منه، معناه تضحية كبيرة وصلة تربط الميت بالحي2.

_ 1 Muh. Stud. I, S. 247 2 Ency. Relig, VI, P. 476

القبر

القبر: ويدفن الموتى عادة في حفر تحفر يقال لها: قبر، وجدث، ومقبر، ووجر، ورمس، وجنن1. أما في "بطرا"، وفي بعض المناطق الجبلية والصخرية، فقد نقرت المقابر في الصخور، فصنعت على هيأة حجر وضعت جثث الأموات فيها، كما استعملت المقابر المرتفعة في مدينة "تدمر"، وذلك بتشييد مبان وضعت فيها جثث الموتى في حجر صغيرة تعمل في تلك الأبنية. واستعملت الكهوف مقابر كذلك. ففي المناطق الصخرية توجد كهوف طبيعية

_ 1 جنن، ويجمع على أجنان، اللسان "16/ 245"، Littmann, Safa, P. 69

سكنها الإنسان، واتخذها مقبرة له. وذلك بدفن الأموات فيها وسد بابها. وقد عثر الباحثون والسياح على عدد منها. والقبر هو التسمية المعروفة الشائعة في أغلب أنحاء جزيرة العرب، وقد وردت في نص النمارة، وجمعها القبور. ذكر علماء اللغة أن "القبر" مدفن الإنسان وأن "المقبر" موضع القبر. وأما "المقبرة". فهي موضع القبور1. وقد وردت لفظة "مقبر" و"مقبرت" أي: مقبرة، و"مقبرتم" أي: "مقبرة" في حالة التنكير في نصوص المسند2. وأما "الجدث" فالقبر، والمجمع أجداث وأجدث، وهو قلة. وورد "الجدف" في بعض الروايات3. وأما الوجر، فهو كالكهف عند علماء اللغة4. فهو يؤدي معنى قبر على سبيل المجاز. وقد ورد في نص مدون بالمسند يعود إلى القرن السادس للميلاد، عثر عليه في العربية الشرقية. وهو شاهد قبر رجل اسمه "إيليا". ويذكر علماء اللغة، أن الجنن: القبر، سُميّ بذلك لستره الميت، وأيضًا الميت لكونه مستورًا فيه، وأيضًا "الكفن" لأنه يجن الميت، أي يستره، فالأصل في الكلمة الستر5، ويجمع على أجنان6. وقد وردت لفظة "ضرح"، أي "ضريح" بمعنى قبر في اللغة الصفوية7. ولكن من الجائز أن تكون قد وردت فيها بالمعنى المفهوم من الكلمة في عربيتنا. كما وردت فيها ألفاظ أخرى بمعنى قبر، مثل: "نفست" أي، "نفس"، و"مقل"، بمعنى "مقيل"، أي موطن الراحة ومحلها، و"نيت". ويظهر أن لفظة "نفست" قد أخذت من أصل إرمي هو "نفسا" "نفشا"،

_ 1 اللسان "6/ 376"، المخصص "6/ 130 وما بعدها". MM8, REP. EPIGR. 3974, CIH 20, 21, F.V. Winnett, A Monotheistic Himjarite Insctiption, in BASOOR, NUM: 83, 1961, p. 24. 2 تاج العروس "3/ 599". 3 اللسان "3/ 433"، تاج العروس "1/ 609" "المطبعة الخيرية". 4 تاج العروس "3/ 599، "وجر". 5 تاج العروس "9/ 163"، المخصص "6/ 130" وما بعدها". 6 اللسان "16/ 245". 7 E. Littmann, in Safaitic Inscriptions, Leyden, 1943, p. X

وقد وردت لفظة "نفش" و"نفس" في النصوص النبطية واللحيانية والسبئية وفي نصوص دُوّنت بلهجات عربية أخرى1. ولعل للفظة "نيت"، علاقة بـ"منوت" و"منايا" و"منون"، وهي تعني في الصفوية: المسافر والسفر، أي: في معنى أدبي لطيف، له صلة بالموت، باعتبار أن الميت مسافر من هذا العالم إلى عالم آخر، وأن القبر هو مستقر ذلك السفر. ويلحد أهل الحجاز لحدًا في القبر لوضع الميت فيه. ويقال للذي يلحد القبر ويضع الميت فيه: "اللاحد". ويقال للذي يعمل الضريح: "الضارح"2. وكان من عادة الجاهليين رجم القبور -أي: وضع أحجار فوقها- وذلك على سبيل التقدير والتعظيم للميت. فإذا زار قريب أو صديق قبر قريب أو صديق له رجمه -أي: وضع أحجارًا فوقه- والرجام الحجارة. والرجمة أحجار القبر ثم يعبر بها عن القبر وجمعها رجام ورجم. وقد ورد في كتب الحديث أن الرسول قال: "لا تُرَجِّمُوا قَبْرِي"3، وأن "عبد الله بن مغفل المزني" قال: "لا تُرَجِّمُوا قَبْرِي، أي: لا تجعلوا عليه الرجم. وأراد بذلك تسوية القبر بالأرض"4، وعدم نصب أحجار فوقه ليظهر واضحًا شاخصًا. وتؤدي لفظة "رجم" و"رجمت" و"هرجم" أي "الرجم"، معنى قبر أيضًا. وترد بكثرة في الكتابات الصفوية. ويراد بها الأحجار التي تكوم فوق قبر5. والعادة عندهم أن الشخص الذي يمر على قبر ما، أو يزور قبر قريب له، يضع حجرًا أو أحجارًا فوق القبر، تكريمًا لصاحبه وتخليدًا لذكره، حتى وإن لم يعرفه، لأن ذلك من باب احترام الموت والميت. فالرجام إذن، هي قبور غطيت بأحجار. وقد عثر على عدد من الرجام المكتوب الذي اتخذ شواخص للقبور فيه اسم الميت ودعاء على من يحاول نقل الرجمة من محلها أو على من يحاول تغيير معالم

_ 1 المصدر نفسه. 2 تاج العروس "2/ 492" "لحد". 3 المفردات، للأصفهاني "ص189". 4 اللسان "12/ 226"، "صادر"، "رخم" تاج العروس "8/ 304"، "رجم"، قاموس المحيط "4/ 117". 5 Annual of the Department of Antiquities of Jordan, vol. II, 1953, P. 15, 20, 23

القبر وإزالته أو على من يريد اتخاذه قبرًا له أو لأحد أفراد أسرته أو يدفن أي أحد فيه. وقد أفادتنا هذه الشواهد في معرفة لهجة القوم وفي بعض الأمور التي لها صلة بالأصنام وبالدين. وقد استعملت اللحيانية لفظة "قبر" ومنها "هنقبر"، أي "القبر"، للتعبير عن القبر، كما استعملت لفظة أخرى هي "مثبر" "م ث ب ر" ومنها "همثبر"، أي "المثبر" في معنى قبر1. وللثبر بالطبع صلة بالموت. وتعبر لفظة "كهف" في هذه اللهجة عن هذا المعنى أيضًا2. ويقال للقبر المسوى مع الأرض "رمس" فإذا كان مرفوعًا عن الأرض فهو قبر مسنم3. ويظهر أن الجاهليين كانوا يسنمون قبورهم. وقد ورد في حديث "ابن غفل": "ارمسوا قبري رمسًا"4. أي سووه بالأرض ولا تجعلوه مسنمًا. والرمس تراب القبر والمَرْمَس موضع القبر5. ووردت لفظة "مقبر" في الكتابات الصفوية، بمعنى "القبر"، أي: الموضع الذي يقبر به. وهم يرصفون القبر، ويعبرون عن ذلك بكلمة "ارصف". كما يرجمونها بالرجم ويعتبرون ذلك من أمارات التقدير والاحترام6. وعرفت مقابر النصارى بـ"الناووس". وقد شك بعض علماء اللغة في أصلها، فذهب إلى احتمال كونها من أصل أعجمي7، وهي من أصل يوناني، ومعناها فيها: حجر منقور لدفن ميت، كما أطلقت على مقبرة النصارى وعلى المعبد والكنيسة، لأن كثيرًا ما كان النصارى القدامى يقبرون موتاهم في الكنائس8. وقد حارب الإسلام عادة أهل الجاهلية في تسنيم القبور ورفعها عن سطح الأرض، وشدد على ذلك في الحديث، وجعلت القبور المسنمة في حكم

_ 1 W. caskel, Lihyan und lihjanisch, S. 84 2 راجع النصوص: 1، 2، 36، 93 في المصدر المذكور. 3 اللسان "7/ 405"، "15/ 199". 4 اللسان "7/ 405"، تاج العروس "4/ 163"، النهاية "2/ 109". 5 بوزن المذهب، مختار الصحاح "198"، الصحاح، للجوهري "2/ 933". 6 Littmann, Saf. P. 55, 69 7 تاج العروس "4/ 265"، "نوس". 8 غرائب اللغة "270".

الأوثان1. ولا بد أن يكون لهذا التشديد سبب، إذ لا يعقل ورود تلك الأحاديث في موضوع طمسها بغير داع ولا أساس. وسبب ذلك هو تقديس أهل الجاهلية لتلك القبور تقديسهم الأوثان وتقربهم إليها، وهو ما لا يتفق ومبادئ التوحيد في الإسلام. ونهى الإسلام عن تكليل القبور. "أي رفعها تبنى مثل الكلل. وهي الصوامع والقباب التي تبنى على القبور. وقيل: هو ضرب الكلة عليها. وهي ستر مربع يضرب على القبور"2. وقد كانوا يبنون البيوت والأبنية فوق القبور. وقد نادى الشاعر "لبيد" باني قبر عزيز له بأن يضعف من سمك القبر وأن يرفع الحائط أو السقف؛ حتى يكون هناك متسع من فضاء فوق القبر3. وذكر أنه كانت على قبر "أبي أحيحة" قبة مشرفة4. وقد ورد في شعر "بشر بن أبي خازم الأسدي" ما يفيد بناء أضرحة فوق القبور، ورفع القبر عن الأرض حتى يكون كسنام الجمل بارزًا ظاهرًا. وقد عبر عن بناء القبر ورفعه عن الأرض وبناء ضريح عليه بـ"ارتفد الضريح"5 والضريح في تعريف علماء اللغة، الشق في وسط القبر، وقيل: القبر كله أو قبر بلا لحد. وذلك لأنهم يجعلون اللحد في جانب القبر6. ويظهر أن يهود الحجاز ونصاراه كانوا قد بالغوا في ضرب القباب والأضرحة على قبور موتاهم وفي تعظيم قبور أحبارهم وقسسهم، حتى تحولت قبورهم إلى أضرحة ومزارات. تزار في المناسبات وقد دفنوهم في المعابد. لذلك نهي عن التشبه بفعلهم في الإسلام. وأشير إلى عملهم هذا في القرآن الكريم وفي كتب

_ 1 "عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته"، صحيح مسلم "3/ 61" "باب الأمر بتسوية القبر". 2 تاج العروس "8/ 103"، "كلل". 3 شرح ديوان لبيد "ص292". 4 أنساب الأشراف "1/ 142". 5 سَنامًا يَرفَعُ الأَحلاسَ عَنهُ ... إِلى سَنَدٍ كَما اِرتُفِدَ الضَريحُ ديوان بشر "ص50". 6 اللسان "2/ 526". مختار الصحاح "73"، تاج العروس "3/ 187"، اللسان "2/ 526"، المخصص، "6/ 130 وما بعدها".

الحديث. وقد وضع اليهود والنصارى شعار اليهود والنصارى على قبورهم لتمييزها عن مقابر الوثنيين1. ويقال للحائر الذي يحيط بالقبر "الودع" وقيل: الودع القبر، أو الحظيرة حوله، أو المدفن يحير به حائر2. وتعرف علامات القبر ومعالم حدوده بـ"الآيات"، والآية هي العلامة3. وقيل للرجمات التي وضعت على القبر: الأحجار والأطباق والصفيح والصفائح والصفاح4. ويراد بالصفائح الحجارة العريضة التي توضع على القبر لتغطيته5. وكان منهم من يضع الجريد على القبر، ومنهم من يضعه داخل القبر6. وقد تغرز الجريدة في القبر فيكون رأسها بارزًا فتكون علامة تشير إلى القبر. وذكر أن رسول الله أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة7. ولا زال الناس يتبعون هذه العادة. وقد استعملوا الأذخر والحشيش في قبورهم كذلك. كانوا يضعون الأذخر في الفرج التي تكون بين اللبنات، ويضعون الحشيش تحت الميت وفوقه8. وعثر في مواضع من جزيرة العرب على مقابر دعاها الباحثون: "تمولي" Tamuli لأنها على شكل تلال أو هضاب. وقد اتخذت مدافن. منها "تمولي" البحرين. وسأتحدث عنها في أثناء حديثي عن الفن والعمارة عند الجاهليين. وقد عثر المنقبون على مقابر جاهلية عامة، على نحو ما نجده من المقابر العامة في هذا الوقت. وقد نبش عدد منها في الإسلام، لاتخاذها أملاكًا أو مساجد، كما حول بعضًا منها إلى مقابر إسلامية، دفن فيها المسلمون بعد أن أزيلت ونبشت قبور الجاهليين. وأشير إليها في كتب الحديث. ويظهر أن بعضًا منها كان ذا أضرحة وقبور مرتفعة عن الأرض9.

_ 1 إرشاد الساري "1/ 429". 2 تاج العروس "5/ 537"، "ودع". 3 تاج العروس "10/ 26"، Muh. Stud. I, S. 233, Noldeke, Beitrage, S. 99 4 Muh, Stud., I, S. 233 5 تاج العروس "2/ 181". 6 إرشاد الساري، للقسطلاني "2/ 452 وما بعدها". 7 المصدر نفسه. 8 إرشاد الساري "2/ 442 وما بعدها". 9 إرشاد الساري "1/ 429"، "2/ 437".

ولا يدفن في المقابر إلا أفراد العائلة التي تمتلكها، أو من يؤذن بدفنه فيها. ويعد الإذن بدفن غريب في مقبرة خاصة من علامات التقدير والاحترام بالنسبة للمتوفى الغريب. وقد تحجز مناطق من مقبرة عامة لتكون مقبرة خاصة، فلا يسمح لأحد بالدفن فيها إلا لمالكها. وقد تسور ويعمل لها باب، وقد يقام ضريح أو بناء ضخم، مع أن المقبرة هي جزء من مقبرة عامة. ولا تزال هذه العادة متبعة وقد تشترى الأرض ممن يتولى أمر المقبرة العامة. ويحافظ أهل المقابر الخاصة على مقابر أسرهم فيتعهدونها بالرعاية والعناية وبإدامتها على خير وجه. وهي تزار في المناسبات تقربًا إلى أصحاب القبور، لئلا تنقطع صلتهم بموتاهم. وورد أن بعضًا من الجاهليين كان يضرب قبة على قبر عزيز له مدة سنة "للاستمتاع بقربه وتعليلًا للنفس وتخييلًا باستصحاب المألوف من الأنس ومكابر للحسن. كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية ويخاطب المنازل الخالية"1. وتراعى القرابة والمنزلة في دفن الموتى في المقابر فتدفن الزوجة على مقربة من زوجها في الغالب والابن على مقربة من أبيه، وهكذا فكأنهم يريدون بذلك جمع شمل العائلة، وإعادتها إلى ما كانت عليه يوم كانوا أحياء. وإذا كان المتوفى عظيمًا وذا مكانة ومنزلة حرص أقرب الناس إليه من أصحابه على نيل شرف الدفن على مقربة منه عند دنو أجلهم. وقد تتحول أمثال هذه المقابر إلى مزارات، خاصة إذا كانت مقابر كهنة وسدنة ورجال دين. أما قبور الأعراب والفقراء والسواد، فهي بسيطة، حفرة تحفر في الأرض يوارى فيها الميت، ثم يهال عليه التراب أو الرمال أو الحجارة حسب طبيعة الأرض فتكون قبر ذلك الميت. وقد يسوى القبر بالأرض فلا تظهر آثاره ولا تبرز معالمه عن معالم القشرة، وقد يرفع التراب بعض الشيء ليكون علامة عليه. وقد توضع عصي أو أحجار فوقه لتكون إشارة تشير إلى مكانه. وليس في إمكان الأعراب النازلين في البوادي البعيدة عن الحضر، فعل غير ذلك، ولا سيما إذا كان الموت قد وقع في حين نزول القبيلة في أرض جاءت إليها في الموسم لترعى العشب أو في اثناء تنقل فإنها لا تستطيع أن تصنع قبرًا لميتها غير هذا القبر. ومدة العزاء عند الجاهليين حول -أي: سنة- لا يترك أهل الميت فيها ذكرى

_ 1 إرشاد الساري "2/ 429 وما بعدها"

فقيدهم، فيندبونه في أوقات معينة ويبكون عليه عند قدوم قادم إليهم، وينحرون لذكراه ويكرمون من يأتي إليهم لتعزيتهم1. وقد كانت مدة العزاء حولًا عند العبرانيين أيضًا وعند غيرهم من الساميين والشعوب الأخرى، يقوم فيها أبناء الميت أو بناته بتلاوة صلوات خاصة في خلالها على الميت ليرحمه الله وليغفر له وليسعد روحه2. وتكاد هذه المدة تكون أمدًا للعزاء ولذكرى الميت عند كل الشعوب إلى هذا اليوم. وأما مدة المناحة فهي في العادة سبعة أيام. فلما مات "زيد الخيل"، الشاعر الفارس، وهو في طريقه إلى دياره، أقام "قبيصة بن الأسود" المناحة سبعة أيام3. ولا تزال هذه المدة مرعية في العراق، حيث تنوح وتبكي النسوة فيها موتاها، ويكون اليوم السابع هو ختام العزاء. أما الرجال، فيقيمون العزاء ثلاثة أيام، ويسمونه "الفاتحة" في الإسلام بالعراق في هذه الأيام. ويجلس أقرباء الميت وأهله عند العبرانيين سبعة أيام في البيت حزنًا عليه وتقبلًا لتعازي الناس. وقد ورد أن مدة النياحة قد تستمر عند الجاهليين فتكون حولًا4.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 12". 2 Isidor Epstein, Judaism, P. 178 3 الأغاني "16/ 48". 4 اللسان "3/ 216".

ملابس الحزن

ملابس الحزن: ويلبس أهل الميت وأقرباؤه ملابس الحزن مدة العزاء أو حولًا كاملًا. واللونان الأبيض والأسود هما اللونان اللذان تتخذ منهما الملابس في الحزن، فقد لبسوا الملابس البيض، ولبسوا الملابس السود، وما زال اللونان شعاري الحزن حتى الآن. فاللون الأبيض هو شعار الحزن في الحجاز والشام، أما الأسود، فهو شعار الحزن في العراق. وحداد المرأة على زوجها حداد صعب عسير، عليها في هذه المدة الامتناع عن الزينة والطيب امتناعًا تامًّا، ويقال لها في هذه الأثناء: "الحادة" لأنها حدت على زوجها، وفي خلال الحداد يمتنع الخطاب من خطبتها والطمع فيها حتى تنتهي منه1.

_ 1 عمدة القاري "21/ 2 وما بعدها".

ويفهم من بعض روايات الأخباريين أن من عادة الجاهليين حجز المرأة عند وفاة زوجها في بيت صغير، قد يكون خيمة أو بناء يسمونه "الحفش"، لتقضي فيه مدة العدة. فإذا كانت في هذا البيت، لبست شرّ ثيابها، وامتنعت عن الطيب وعن تزيين نفسها مدة عام1. فإذا انتهت المدة افتضت عدتها "بمس الطيب أو بغيره كقلم الظفر أو نتف الشعر من الوجه أو دلكت جسدها بدابّة أو طير، ليكون ذلك خروجًا عن العدة. أو كان من عادتهم أن تمسح قُبُلها بطائر، وتنبذه فلا يكاد يعيش"2. وتصف رواية أخرى دخول المرأة الحفش وخروجها منه على هذه الصورة: "كانت إذا توفي زوجها دخلت حفشًا ولبست شر ثيابها حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة، شاة أو طير فتفتض بها، فقلما تفتض بشيء إلا مات. ثم تخرج فتعطي بعرة ترمى بها". وجاء: و"كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفرًا ولا تنتف من وجهها شعرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتض بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش"3. ومن عادات بعض الجاهليين ضرب القباب على قبور موتاهم أيامًا أو أشهرًا قد تبلغ عامًا، يقيم فيها نساء الميت أو ذوو قرابته، ليجاوروا الميت، وليستقبلوا فيه من يفد لزيارة القبر4. واعتقادهم بإحساس روح الميت بوجودهم هناك وبمجيئهم إلى القبر لمؤانستهم له هو الذي حملهم، ولا شك، على ضرب هذه القباب وعلى مجاورتهم لتلك الأجداث. ومن هذه القباب المؤقتة ظهرت الأضرحة الثابتة ذات القباب السامقة الشامخة، كما أن من المعابد المتنقلة، أي: الخيام المقدسة، نشأت المعابد الثابتة عند العبرانيين وعند الجاهليين وعند غيرهم من الشعوب. ومن عادة الجاهليين إسالة دم الذبائح على القبر أو تضريجه بتلك الدماء. فيعقر على قبور الموتى، وعند إهالة التراب على الميت، وقد يعقر على القبر كل عام وفي أثناء المناسبات إذا كان الميت من السادة المشهورين المعروفين بالخصال الحميدة كالشجاعة والكرم. وفي الشعر الجاهلي والأخبار أسماء أناس كانوا من المشاهير في

_ 1 تاج العروس "4/ 300"، اللسان "8/ 174 وما بعدها". 2 تاج العروس "5/ 70"، صبح الأعشى "1/ 403". 3 تاج العروس "5/ 70"، نهاية الأرب "3/ 120". 4 Muh. Stud., I, S. 257

أيامهم، جرت العادة بأن تذبح الذبائح عند قبورهم إكرامًا لهم. وقد بقيت هذه العادة الجاهلية خالدة حتى اليوم مع إبطال الإسلام لها بحديث: "لا عقر في الإسلام " 1. وليس من الضروري أن يكون أصحاب العقائر من ذوي قرابة صاحب القبر أو من قبيلته. ومن هذه القبور قبر "ربيعة بن مكدم" من "بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة"2. وكان الناس يعقرون على قبره. ويظهر من شعر لحسان بن ثابت قاله لما مر بقبره، أن قبره كان قبرًا مبنيًّا بني من حجارة حرة3. والعادة في العقر، عقر قوائم الدابة، وقد تعقر الدابة ثم تذبح، والغالب أن تكون الدابة جملًا أو ناقة، ولكن بعضهم كان يعقر شاة كذلك، وذلك إذا كان أهل الميت من طبقة ضعيفة، يصعب عليها عقر جمل أو ناقة. وقد ورد النهي عن ذلك في حديث آخر هو: "لا تعقرن شاة أو بعيرًا إلا لمأكلة"4. وقوم كانوا يحبسون ناقة الرجل، وذلك بأن يشدوا الناقة إلى قبر الرجل، ويعكسو رأسها إلى ذنبها، ويغطو رأسها بولية، وهي البردعة، وتربط برباط وثيق حتى لا تهرب، فإن أفلتت لم ترد عن ماء ولا مرعى، وإذا بقيت على القبر، فإنها تبقى في حفرة لا تعلف ولا تسقى حتى تموت عطشًا وجوعًا، ويقال لهذه الناقة السيئة الحظ: البلية. ويزعمون أنهم إنما يفعلون ذلك، ليركبها صاحبها في المعاد، ليحشر عليها فلا يحتاج أن يمشي. قال أبو زبيد: كَالبَلايا رُءوسُها في الوَلايا ... مانِحاتِ السَموم حَرَّ الخُدودِ5 ووجدت في قبور الجاهليين أشياء مما يستعمله الإنسان في حياته مما يدل على أنهم كانوا كغيرهم يدفنون مع الموتى ما يشعرون أن الميت قد يحتاج في حياته الأخرى إليه6. أما الأعراب فلا نتصور أنهم كانوا يدفنون مع الموتى أشياء ثمينة

_ 1 "لا فرع ولا عتيرة" الحديث رقم6، 7، من أحاديث كتاب العقيقة، صحيح البخاري. 2 بلوغ الأرب "2/ 125 وما بعدها". Muh. Stud. I, S. 241 3 نفرت قلوصي من حجارة حرة ... بنيت على طلق اليدين وهوب بلوغ الأرب "2/ 125". 4 اللسان "4/ 592". 5 النهاية، لابن الأثير "1/ 95"، نهاية الأرب "3/ 121". 6 Reste, S. 180

لفقرهم وبساطة معيشتهم. وقد عثر في مقابر أهل العربية الجنوبية مثل اليمن وحضرموت على حليّ وأحجار نفيسة وأمثال ذلك مما دفنه أهل تلك البلاد مع موتاهم، ليتزينوا بها في العالم الثاني. وتؤيد روايات أهل الأخبار عن فتح القبور في الإسلام بحثًا عن الغنى والمال، ما ذكرته من احتمال وجود رأي عند عرب ما قبل الإسلام، بأن الميت سيحتاج إلى هذه الأشياء التي دفنت معه، وأنه سيستفيد منها في عالمه الثاني الذي رحل إليه. ولكني لا أستبعد احتمالًا آخر، قد يكون أهل الجاهلية قصدوه من دفن الذهب والفضة من حلي أو سبائك أو صفائح مكتوبة مع الميت، هو رغبة أهل الميت في إظهار شعور الود والمحبة نحو ذلك الميت، بدفن تلك النفائس العزيزة معه، لإظهار أنهم لا يبالون بها بعد فقدهم عزيزهم الميت، وأنهم يريدون دفن كنوزه معه، تعففًا عنها وازدراء بها وقد ورد في بعض الأخبار أن امرأة ماتت، فدفنوها مع متاعها1. ولصيانة القبر وبقائه على حاله أهمية كبيرة عند الجاهليين، تتجلى في الجمل التي دونوها على شواخص قبورهم، هذه الشواخص التي عثر عليها السياح والباحثون في مواضع متعددة من جزيرة العرب، وهي تطلب إلى الآلهة بأن تنزل الآلام والأمراض والعاهات بمن يتجاسر فينقل شاخص القبر من مكانه، أو يكسره ويأخذه ليستعمله، أو ما شاكل ذلك2. وجملة "عور لذ عور سفر" أي: "عور للذي يعور الشاخص"، أو جملة "وعور دشر وخبل"، أي: عمى وجنون "خبل" من الإله "ذو الشرى"، على من يحوّر هذا الشاخص ويغيره أو يأخذه ويغيره لغرض ما3، وأمثالها، هي من العبارات المألوفة التي نقرأها بكثرة على شواخص القبور. ومن الطبيعي أن نجد هذه العبارات وعبارات أخرى أشد منها مدونة على تلك الشواخص، راجية من الآلهة أن تنزل عقابها على من يحاول التطاول على حرمة

_ 1 اللسان "12/ 484"، "صادر"، "قشم". 2 South Arabian Inscriptions, p. 53, Annual of the Department of Antiquities of Jordan, vol. II, 1953, p. 33 3 Annual of the Departmenf of Antiquities of Jordan, vol. I, 1951, P. 27

القبر بدفن غريب فيه. ويظهر من هذه العبارات أن من الجاهليين من كان يتطاول على القبور، ولا سيما القبور المنحوتة والقبور الجيدة المبنية على شكل غرف، وأضرحة، فيدفنون موتاهم فيها، وبذلك تدخل جثث غريبة في تلك القبور، أو يحولوا تلك المقبرة القديمة إلى مقبرة جديدة. وقد يزيلون معالمها تمامًا، أو يدفنون أمواتًا فوق أموات على نحو ما نفعل اليوم في المقابر القديمة المشهورة المقامة حول الأولياء، حيث تتحول المقابر القريبة من الولي إلى مقبرة قد ترتفع من كثرة ما يدفن عليها، حتى تكون مرتفعًا عن ظاهر الأرض. وتزار قبور السادات والأشراف، وخاصة قبور كبار سادات القبائل، ويذبح عندها، ويحلف بها، ويلجأ إليها طلبًا للأمان والسلامة، فلا يستطيع أحد التحرش بمن التجأ إلى صاحب القبر ولا ذويه. وقد هجا "بشر بن أبي خازم الأسدي" "أوس بن حارثة" من "آل لأم"، فكان في جملة ما قاله في هجائه: جَعَلتُم قَبرَ حارِثَةَ بنِ لَأمٍ ... إِلَهًا تَحلِفونَ بِهِ فُجورا وحارثة بن لأم صاحب القبر، هو أبو أوس المهجو1. وقد أشار أهل الأخبار إلى قبور سادات جاهليين كان الناس يفدون إليها، ويعظمونها، ويلوذون بها، ويطوفون حولها، منها قبر "تميم" بموضع "مر الظهران"، وقبر "عامر بن الطفيل"، وقد وضعوا الأنصاب حول القبر لتكون علامة له، فلا يدخل الساحة التي يكون فيها القبر إلى موضع الأنصاب حيوان أو راكب ولا يهتك حرمتها إنسان. كذلك كان الناس يحلقون شعورهم عند مثل هذه القبور، كالذي كانوا يفعلونه عن الأصنام2. وقد حجت قبائل قضاعة إلى قبر كان على مرتفع من الشحر، زعم أنه قبر جدّ قبائل قضاعة3. وكانت أمثال هذه القبور ملاذًا يلوذ بها أصحاب الحاجات، كما قصدها الشعراء لإنشاد قصائدهم في مدح صاحب القبر والتغني بمجده وبمجد

_ 1 ديوان بشر "ص91". 2 Reste, S. 184, Muh. Stud. I, S. 231, Smith, Dictionary p. 1 3 Muh. Stud, I, S. 231, 235

قبيلته. ولها حمى حكمه حكم الحمى الذي يحيط ببيوت الأصنام. ويقسم بهذه القبور وبحق أصحابها، ما يقسم بالأجداد، ويعد هذا النوع من القسم يمينًا لا يجوز الكذب فيه، وهو كالأيمان المغلظة التي يحلف بها الناس ويذكرون فيها الآلهة وأسماء الأصنام. وفي كتب الحديث أن النبي نهى عن الحلف بالآباء والأجداد وبتربهم، لأن ذلك من عمل أهل الجاهلية. وقد كانت قريش تحلف بآبائها وبأجدادها فتقول: وأبي أفعل هذا، أو وأبي لا أفعل وحق أبي أو تربة أبي أو وتربة جدك، ونحو ذلك. وهي أيمان من أيمان الجاهلية نهى النبي عنها1.

_ 1 عمدة القاري "16/ 292"، Muh. Stud. I, S. 229

الفصل الثاني والخمسون: الدولة

الفصل الثاني والخمسون: الدولة مدخل ... الفصل الثاني والخمسون: الدولة أقصد بالدولة الشعب والحزب أو الجماعة الحاكمة له في أرضه وتحت سلطانه وفي حيازته وملكه. لذلك لا أشترط في هذه الدولة أن تكون دولة كبيرة كالدولة الرومانية أو اليونانية أو الساسانية، فقد تكون الدولة حكومة قَرْيَة مثل يثرب أو مكة، وقد تكون حكومة قبيلة، وقد تكون أكبر من ذلك وأوسع مثل دولة الحيرة ودولة الغساسنة ودول اليمن. فلا علاقة إذن لكبر أو لصغر الحكومة بمفهوم الدولة في نظري، فكل حكومة جاهلية مستقلة، هي عندي مع شعبها -أي: التابعين لها- دولة صغرت أم كبرت. والشعب في الجاهلية وعند الجاهليين، هو القبيلة. فالقبيلة هي أصل الدولة ونواتها، وتقوم على رابطة الدم، أي: على فكرة أن القبيلة هي من صلب رجل عاش حقًّا ومات، وأن أفرادها من هنا يرتبطون بينهم برابط الدم، أي: أن بينهم قرابة وصلة رحم. أما وطن القبيلة، فالأرض التي نشأت فيها، ثم الأرض التي هي عليها. فمن القبيلة ومن أرضها، تكونت دولتها، وعلى رأسها سيد القبيلة. هذا بالنسبة إلى الأعراب، أما بالنسبة إلى الحضر، فإن فكرة الدولة عندهم تختلف باختلاف درجة أولئك الحضر. فالدولة في العربية الجنوبية، تجمع شمل قبائل عديدة كما تضم طوائف وفئات رُسمت لها حدود معينة وحددت بحدود وقيود، فلا تتجاوزها. وقد حدد المجتمع مكانتها ومنزلتها بحيث جعل من المجتمع العربي الجنوبي مجتمعًا طبقيًّا. يتمتع فيه الملوك ومن يأتي بعدهم من حكام

وأصحاب معبد وأرض بأعلى المنازل، ثم تليهم بقية الطبقات حسب قوتها ومكانتها إلى أن تصل إلى سواد الناس، وأقلهم منزلة الرقيق وأصحاب الحرف المبتذلة. وهو نظام بقيت روحه وجذوره قائمة في اليمن إلى الوقت الحاضر، ولكنه بدأ يجابه بمقاومة روح العصر وتقدم البشرية، فأخذ يتهدم بعض التهدم حسب مواطن الضعف في البناء. وأما في الأماكن الحضرية الأخرى، مثل العربية الشرقية وفي الحجاز، أو نجد، فإن درجة فهم الناس فيها للدولة، اختلف فيها، باختلاف تقدم ذلك المكان في الحضارة وباتصاله بالعالم الخارجي. وبفضل عثور الباحثين على كتابات تعود إلى عهود مختلفة من تاريخ العربية الجنوبية، استطعنا الإلمام بعض الإلمام بشيء من نظم الدولة في تلك الأرضين. وفي جملتها طرق الحكم فيها ونفوذ رجال الدين وأصحاب الأرض والحياة الاقتصادية التي جعلت العربية الجنوبية مجتمعًا مكونًا من طبقات، يسيره الحكام ورجال الدين وأصحاب المال والأرض. أما بالنسبة إلى المواضع الأخرى، فإن علمنا عن هذه الأمور هو دون علمنا عن العربية الجنوبية بكثير، بسبب عدم عثور الباحثين على كتابات جاهلية فيها، نستطيع أن نستلهم منها وحينا عن الماضي البعيد. ولذلك فعلمنا عنها ضحل، استمد أكثره من أخبار أهل الأخبار، وهي فجة أو مصنوعة، أو محرفة حرفها مرور الزمن، أو مدسوسة عمدًا من إخباري أراد إظهار علمه للناس، أو من متعصب لقبيلة أراد بدسه الأخبار التفريج عن عاطفة التعصب الكامنة في نفسه. ويعبر عن سكان القرى والمدن بـ"أهل" وبـ"آل". فيقال: "أهل مكة" و"أهل يثرب"، ويراد بهم قطان مكة وسكّان يثرب، و"شعب" في التعبير الحديث، على اعتبار أن كل مدينة مستقلة بشئونها قائمة بإدارة أمورها وهي حكومة ذاتية يدير حكمها سادات المدينة. على نحو ما كان عليه الوضع في القرى الأخرى من الحجاز وفي نواح عديدة من جزيرة العرب. وإذا أصيب أحدهم بضيم، أو أراد شيئًا يتطلب العون والمساعدة نادى: "يا أهل مكة" أو "يا آل مكة"، فيلبي ساداتها نداءه ويمضون في معالجة أمره، والغريب عن "أهل مكة"، له حق النخوة والاستجارة، فإذا نادى بشعارهما حصل على من يدافع عنه ويأخذ حقه ممن ظلمه. ويشعر سكان المدن والقرى أنهم كالقبيلة من أصل واحد، وأن لهم جدًّا

أعلى، يرجع نسبهم إليه، أو جدة إن انتمى أهل المدينة إلى امرأة. وذلك، لاعتقادهم أنهم من قبيلة واحدة في الأصل، هاجرت إلى هذا المكان فسكنت فيه. فمرجع نسب مكة إلى "قريش"، ونهاية نسب أهل يثرب من الأوس والخزرج إلى "قيلة" جدتهم، ونسب أهل الطائف إلى ثقيف. فنحن إذن وإن كنا أمام مدن وقرى، أي: أمام عرب حضر، لكننا نجد أنفسنا أمام نظم تقوم على أسس قبلية وعقلية قبلية. فالقرية في الواقع قبيلة مستقرة تمركزت في مكان واحد. وقد تمسكت بنظم تفرع القبيلة وبالعصبية، وبما إلى ذلك من عرف مجتمع أهل البادية. وقد بقيت رابطة النسب وصلة الدم بها قوية. ذلك لأن تلك القرى، وإن جلبت إليها الجانب والغرباء، غير أنها بقيت مجتمعات منعزلة، لأن وسائل الاختلاط لم تكن متهيئة لها في ذلك الوقت، حتى تجبرها على الخروج عن العزلة، والاختلاط بالغير، اختلاطًا شديدًا على نحو ما يحدث للحضر في الأمكنة المتحضرة الممتزجة بالسكان. وجد القبيلة، هو مصدر إلهامها، ورابطها الروحي الذي يربط بينها. باسمه تتنادى في الغزوات والحروب، لتبعث حرارة الاندفاع والحماسة في القتال، وبه يدعو للنخوة أبناؤها ومن يلتجئ إلى القبيلة من مولى أو جار، وبقبره يلاذ إن كان له قبر، وباسمه يحلف كما يحلف بأسماء الآلهة. وللقبائل مصدر إلهام روحي آخر، هو أصنامها. فكان "المقه" صنم سبأ، وكان "ود" صنم "معين"، وكان للقبائل العربية الشمالية التي حاربت الأشوريين أصنام يحملونها معهم في سلم وفي حرب. ويستمدون منها المدد والعون في الغزوات والحروب. ويعد سقوط الصنم في أيدي الأعداء نكسة للقبيلة وعارًا على أبنائها، لذلك كانوا لا يهدأ لهم بال حتى تعاد إليهم أصنامهم. وكان من أهم ما يدعو القبائل العربية إلى التهادن مع الأشوريين رغبتهم في استعادة أصنامهم وضمان عودتها من المنفى والأسر إلى الحرية. ولما ظهر الإسلام كانت القبائل لا تزال تحتمي بأصنامها وتدعوها لتنصرها في الحرب، حتى من تحضر منها واستقر، مثل أهل مكة الذين كانوا ينادون: "أُعْلُ هُبَلْ. أُعْلُ هُبَلْ" في حربهم مع المسلمين. أما الذين غيروا دينهم وتنكروا لعبادة الأصنام فقد احتموا بشفعاء جدد، أخذوهم من النصرانية التي دخلوا فيها، فكان لهم قديسون يلوذون بهم في أثناء القتال.

ويعبّر عن القبيلة بلفظة "شعب" في العربيات الجنوبية1. فالقبيلة والشعب إذن لفظان مترادفان على معنى واحد. الشعب بمعنى قبيلة في عربية القرآن الكريم، والقبيلة بمعنى شعب في العربيات الجنوبية. ولكن علماء العربية يفرقون بين اللفظتين، فيجعلون الشعب أكبر من القبيلة. والظاهر أن هذا التفريق قد وقع في الجاهلية القريبة من الإسلام، ونجده في القرآن الكريم في آية الحجرات: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2. فذكر المفسرون أن الشعب أكبر من القبيلة. غير أن كثيرًا من علماء العربية يرون أن الشعب والقبيلة في معنى واحد3. وقد وردت كلمة "شعب" في الكتابات السبئية بمعنى قبيلة كما ذكرت، فورد: "شعب سبأ"، بمعنى قبيلة سبأ. وورد "سبأ واشعبهموا" بمعنى "سبأ وأشعبهم"، أي السبئيون وقبائلهم، ويراد بقبائلهم القبائل الأخرى الخاضعة لهم4. ويرى بعض الباحثين في العربيات الجنوبية، أن لفظة "شعب" لا تعني عند العرب الجنوبيين معنى "قبيلة" بالمعنى المفهوم من اللفظة عندنا، بل تعني جماعة ترتبط بالدولة وبالآلهة: آلهة الدولة ارتباطًا ثقافيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. فإذا قلنا: شعب سبأ "شعبن سبا"، فإننا لا نقصد قبيلة سبأ، بل أمة سبأ، أو شعب سبأ بالاصطلاح الحديث. أي: رابطة مواطنة تجمع شمل جميع المواطنين بالدولة جمعًا روحيًّا وماديًّا، أي: أن أمة سبأ تجمع السبئيين وغيرهم من الغرباء من أتباع حكومة سبأ، الخاضعين لحكم هذه الحكومة، ويدينون بالولاء لها ولأنظمتها ولقوانينها الروحية المادية5. ونجد في النصوص العربية الجنوبية إشارات إلى وجود ثلث أو ربع أو نصف قبيلة. فورد: "ثلثن سمعي"، أي: "ثلث سمعي". ومعنى هذا أن جزءًا

_ 1 Jamme, South Arabian Inscriptions, P. 448 2 الحجرات، الآية 13. 3 تاج العروس "3/ 134"، "شعب". 4 يراجع السطر التاسع من النص في: REP. EPIG V, 2726 5 Grohmann, S. 122, Rhodokanakis, Der Grundsatz der Offentichkeit in Sudarabischen Urkunden, S. 42. 1945, Bldenwirtschaft, 181, 183 Handbuch I, S. 119.

من قبيلة ما تعاون مع سكان منطقة ما لاستغلال أرض وللاستفادة من غلاتها. فيذكر عندئذ رقم الجزء الذي نزل في هذا المكان. ولا يعني هذا بالضرورة ثلث أبناء القبيلة أو ربعها أو نصفها أو خمسها على الوجه المفهوم من القبيلة عندنا. بل يعني ذلك توزيع الأعمال والشغل على المجتمعين الذين تجاوزوا ورضوا بالعمل معًا حسب الأجزاء المذكورة، التي تمثل نسب اشتراك المشتركين في العمل. وفي العربيات الجنوبية مصطلح، له صلة بمعنى "المواطنة" والمواطنين بالمعنى الحديث. وهو مصطلح: "خمس" ويجمع على "اخمس" "أخمس"، ويراد به مواطنو مملكة أو إمارة. فهو بمعنى المواطنة أو الرعاية في الاصطلاح الحديث. فكل من يعيش في حكومة ما في أي مكان كان، من قرية أو مدينة، فهو "خمس"، أي: مواطن ومن رعايا تلك الحكومة، كما نرى في هذه الفقرة في نص "معيني": "ركل الالت معنم ويثل وكل الالت ذا خمسم واشعبم"، ومعناها: "وكل آلهة معين ويثل وكل آلهة المواطنين والقبائل". ويراد بـ"اشعبم" هنا القبائل، أي: الأعراب. وأما "أخمس"، فيظهر أن المراد بها الرعايا الحضر المستقرون. وورد في نص سبئي: "خمسيهو وحميرم"، أي: "مواطنو سبأ وحمير". وترد لفظة "جوم" "كوم" في النصوص السبئية القديمة بوجه خاص، مثل هذه الجملة "هوصت كل جوم"1. ويرى بعض الباحثين أن "هوصت" بمعنى "ملة". و"الملة"، في الإسلام، يراد بها نظام ديني واقتصادي واجتماعي، ارتبط أفراده بمجتمع واحد، برابط الأمور المذكورة2. أما لفظة "جوم" "كوم"، فترادف لفظة "قوم" في عربيتنا. وقد يكون القوم عددًا صغيرًا، وقد يكون كبيرًا ويرتبط القوم برباط متين يربط أفراده، هو الإله الذي ينتمي القوم إليه. فورد "جوم عثتر" و"كوم ود"، أي: "قوم عثتر" "وقوم ودّ". فالقوم إذن جماعة وإخوان في دين، تؤمن بإله يجمع شمل المؤمنين به، ويربط بينهم برباط العقيدة والإيمان به، لا برباط النسب وصلة الرحم والدم. هذا، ويذكر علماء اللغة أن "الملة"، الشريعة والدين، كملة الإسلام

_ 1 يراجع النص: Glaser 484 2 Rhodokanakis, Stud. II, S. 8. WZKM, 28, 110, Note: 2

والنصرانية واليهودية. وهي في اللغة السنة والطريقة1. وقد وردت في خمسة عشر موضعًا من القرآن الكريم2. استعملت في ثمانية مواضع منها للتعبير بها عن دين إبراهيم: "ملة إبراهيم". وللمستشرقين آراء متضاربة في أصل الكلمة3. والمواطنون هم أبناء "القبيلة"، التي هي نواة الحكومة وجرثومتها، والتي بقوتها تكونت تلك الحكومة، والقبائل المتحالفة معها، أو التي خضعت لحكمها فتبعتها. ولهذا تذكر القبيلة ويشار إليها، باعتبار أن الحكومة هي حكومتها في الأصل ثم يشار إلى القبائل الخاضعة لها للدلالة على أنها في حكم تلك الحكومة. فقد ورد في الكتابات السبئية "سبأ واشعبهمو"، بمعنى سبأ والقبائل التابعة لها4. وورد: "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، وهو لقب ملوك سبأ بعد توسع رقعة سبأ واستيلاء السبئيين على غيرهم وضمهم أرضهم إلى أرض دولتهم. فدوّن اسم سبأ أولًا، باعتبار أن السبئيين هم العنصر الحاكم المكون الأول للدولة، ثم أشار إلى من تبعهم وانضم إليهم سلمًا أو حربًا. وبين "الشعب" وإلهه رابطة مقدسة وصلة متينة لا انفصام لها. وفي استطاعتنا أن نقول: إن مجتمعات العرب الجنوبيين كانت مجتمعات دينية؛ فالشعب عبيد الإله، والإله بالنسبة لأتباعه أب غفور رحيم. شفيق قدير. "الجوم" "الكوم" أي: القوم أبناؤه وأولاده. فالسبئيون هم ولد "المقه". أي: أولاد المقه، إله سبأ، والمعينيون هم "ولد ود"، وقد خاطبوا إلههم" ودًّا" بعبارة: "ودم ابم" أي: "ودّ أب" و"ودّ الأب". وقال القتبانيون عن أنفسهم: "ولد عم" و"أولد عم"، أي: ولد الإله "عم" وأولاد الإله "عم". وفي هذه الجمل أجمل تعبير عن وجهة نظر المجتمع إلى ربه. إن رب القبيلة، هو الرابط المقدس الذي يربط شملها ويجمع بين أبنائه، وبه يعتصم الناس، وإليه يلاذ في الخير وفي الشر. وقد عبر عن هذه الرابطة بلفظة جميلة هي "حبلم" في بعض

_ 1 اللسان "13/ 631"، المفردات "488". 2 Dictionary of Islam, P. 348 3 Shorter Ency. Of Islam, P. 380 4 يراجع السطر التاسع من النص المنشور في: REP. EPIG. V. 2726

الكتابات1. والحبل يربط ويجمع ويجعل من المتفرق وحدة. وهو مصطلح يذكرنا بالآية الكريمة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} 2، وبالآية: {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} 3. فلفظة "ولد" إذن بمعنى قوم وأبناء صنم أو موضع. فهي في معنى أبناء في اصطلاحنا الحديث، تستعمل قبل اسم الصنم أو الموضع أوالقبيلة، لتدل على معنى المواطنة. ولا يشترط فيها أن تكون مواطنة نسب، أي: صلة رحم وقرابة دم، بل مواطنة دينية ورابطة سياسية واجتماعية واقتصادية. والإله حامي شعبه والذاب عنه، والمؤيد له في السلم وفي الحرب. لذلك نعت بـ"شيمم" "ش ي م م" أي: "شيم"، وتعني اللفظة معنى حام وحافظ ومدافع. ونجد الناس وهم ينعتون آلهتهم بهذا النعت في كتاباتهم طالبين منهم العون لشفائهم من أمراضهم ولحمايتهم من الأسوأ. وفي جملة "أهل عثتر" وأمثالها التي ترد في مختلف كتابات المسند، تعبير عن هذه الرابطة المتينة التي تربط القوم بإلههم. تعبير عن صلة ملة عثتر بربهما. الجماعة المؤمنة بالإله عثتر. وتعبير عن جماعات انتمت إلى آلهة أخرى، وقالت عن نفسها: "أهل". ويشبه هذا التعبير تعبير "أهل الله" الوارد في الإسلام ويراد بهم المؤمنون بالله، المنقطعون له وحده، العابدون القانتون الزاهدون. وهكذا نجد شعوب حكومات العربية الجنوبية، مؤلفة من وحدات سياسية دينية. لكل وحدة رابطة روحية تربط أفرادها، جعلت "المؤمنين إخوة"، في عقيدتهم وفي تمسكهم واعتقادهم بإله قبيلتهم الخاص، هو إله القبيلة. ونحن إذ نقرأ لفظة "شعب" في الكتابات العربية الجنوبية، يجب أن لا نفهم منها ما نفهمه من لفظة "قبيلة" في نظر الأعراب، وعند العرب الشماليين، أي: رابطة دموية تجمع أبناء القبيلة، ترجع بهم إلى جد واحد أعلى. بل يجب علينا أن نفهمها على وجه آخر. يجب أن نفهمها بمفهوم "الملة" أو "الأمة" في المصطلح الإسلامي، وعلى النحو الذي فهمه المسلمون الأول من مصطلح "أمة" و"ملة"، أي: رابطة تجمع بين شمل جماعات شعرت بوجود روابط دينية

_ 1 Glaser 484, Skyye I. S. 68 2 آل عمران، الآية 103 3 السورة نفسها، الآية 112.

وفكرية واقتصادية واجتماعية بينها، وبوجود إخوة في العقيدة والرأي. على نحو ما نفهمه من آية الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. وذلك كما سبق أن تحدثت عن ذلك قبل قليل. وترد لفظة "عم" بمعنى شعب في الكتابات النبطية، وترد بهذا المعنى في لهجات عربية أخرى2. وقد نعت ملوك النبط أنفسهم بـ"رحم عمه" "راحم عمه"، أي "رحيم شعبه" أو "راحم شعبه"، بمعنى أنه محب لشعبه رحيم به3. وأن ملوك النبط رحماء بشعبهم محبون له. والذي يجمع شمل الدولة ويقويها ويأخذ بها إلى الحكم ثلاثة أركان: إله أو آلهة، يدافع أو تدافع عن الحاكم وعن رعيته، وحاكم قد يكون "كاهنًا" وقد يكون ملكًا، وقد يكون أميرًا، وقد يكون سيد قبيلة، واجبه حكم رعيته وإرشادهم وقيادتهم في السلم والحرب، ثم رعية طيعة طائعة تدين بالولاء للآلهة وللحكام، ليس لها الاعتراض على "حق الحكم"، لأنه حق إلهي مقرر، ولا اعتراض على قدر الآلهة ومقدراتها: ومن يخالف أوامر السلطان، كان كمن يخالف أمر ربه، عاصيًا خارجًا عن سواء السبيل، فيجب تأديبه، ولو بالقتل، لأن جزاء من يخرج على أمر الآلهة القتل. ومن سيماء الإخلاص للدولة ذكر أسماء الآلهة التي يتعبد لها الحكام، أي: آلهة الشعب الحاكم، تيمنًا بها، وتقربًا إليها، وذكر أسماء الحكام في الكتابات في المناسبات تعبيرًا عن ولاء صاحب الكتابة وإخلاصه للحاكم. وذكر اسم القبيلة الحاكمة مع اسم القبيلة التي ينتمي إليها صاحب الكتابة، ليكون ذكرها تعبيرًا عن الاعتراف بسيادتها عليه وعلى قبيلته.

_ 1 الحجرات، الآية 10. 2 GIS, II, 197, 5, Huber 29, Euting 2 3 GIS, II, 197. 5. Huber 29, Euting 2

أصول الحكم

أصول الحكم: المجتمع العربي الجاهلي: بدوٌ وحضر، أهل وبر وأهل مدر. يتساوى في ذلك عرب العراق وعرب بلاد الشام وعرب جميع أنحاء جزيرة العرب.

وفي كل مجتمع من هذين المجتمعين تكوّن نظام من أنظمة الحكم يتناسب مع المحيط، لأنه نبات ذلك المحيط، وحاصله، وما ينبت في مكان ينبت وقد اكتسب خصائص التربة وخصائص الجو، وما يحيط بالنبات من مؤثرات طبيعية أو بشرية. ومن هنا صارت "الرئاسة" قاعدة الحكم عند أهل الوبر، و"الملكية" و"رئاسة القرى والمدن"، أداة الحكم عند أهل المدر. ولا ينال الحكم في المجتمعات البدوية وفي المجتمعات الصغيرة التي لم تبلغ مرحلة متقدمة من الحضارة، والتي لم تنل حظًّا من الغنى والمهارة في العمل وفي كثرة الإنتاج وتنويعه، إلا من كان ذا قابلية عالية وذو شخصية قوية، وذو أسرة متجانسة متآلفة متماسكة كثيرة العدد، وذا عشيرة أو قبيلة تندفع في تأييده لمزاياه المذكورة أو لخوفها منه، أضف إلى ذلك: العصبية والرغبة في كسب المال عن طريق الاندفاع معه في غزو القبائل الأخرى. فمجتمع من هذا النوع تكون قيادته بيد "سادته"، وقد يفرض أحدهم نفسه على الآخرين، طوعًا أو كرهًا فيكوّن حكومة تنسب في الغالب إليه، قد يطول أجلها إذا جاء من بعده حكام أكفاء لهم قابلية وشخصية، وقد تموت بموته، لعدم كفاءة من يخلفه، ولأنه كون دولته بشخصيته، وليس عن دوافع أخرى مثل إيمان بعقيدة وإخلاص لها، أو وجود وعي مشترك وحس بوجوب التكاتف والتآزر، لتأليف مجتمع متكاتف يعيش فيه المواطنون عيشة مؤاخاة ومواطنية بالعدل والإنصاف، حتى يطول عمر تلك الحكومة، ولما كانت تلك الدولة قد تكونت إما عن مصلحة أو عن خوف وقهر أو عن طمع، وقد زالت هذه بموت صاحبها، لذلك يصيبها التفكك وانهيار البناء. ومما يؤيد ذلك ردة من ارتد بعد وفاة الرسول عن الإسلام، فقد كانت حجتهم في ردتهم أنهم إنما بايعو الرسول وآمنوا به، ولم يبايعوا غيره. وبوفاته انتهى حكم البيعة، فلن يخضعوا لغيره ولن يدفعوا صدقة ولا زكاة ولن يطيعوا أحدًا. ولو لم يؤدبهم "أبو بكر"، بأدب القوة، لما عادوا ثانية إلى الإسلام. وللحكم الملكي صلة كبيرة بحياة الاستقرار والاستيطان، فهو لا ينمو ولا يظهر إلا في المجتمعات المستقرة وفي المواضع الغنية بالماء وفي القرى والمدن. فنرى أن حكام قرى فلسطين ومدنها كانوا قد لقبوا أنفسهم بلقب "ملك" في أيام "إبراهيم" مع أنهم لم يكونوا إلا رؤساء قرى أو مدن وقد كان أكثرهم كهنة في الأصل،

أي حكامًا حكموا رعيتهم باسم الآلهة، فكان لهم الحكم في الدين وفي تدبر أمور الرعية من الناحية الدنيوية، ثم عافوا هذا المركز وتركوا المعبد، وخصصوا أنفسهم بالنظر في الأمور الدنيوية. ولما تقدمت وسائل الحروب وتفنن الإنسان في صنع الأسلحة، وفي استذلال الحيوان وتسخيره لنقل محاربيه وأسلحتهم ومواد إعاشتهم، توسعت سلطة كبار الملوك، وتضخمت حدود ممالكهم، فظهرت الملكيات الكبيرة: ظهرت على أنقاض "ممالك القرى" و"ممالك المدن". حيث حكم التاريخ بتسلط الممالك القوية على الممالك الصغيرة، وبأكل القوي منها الضعيف، لأن الحق للأقوى والبقاء للقوي المكافح المناضل المكالب في هذه الحياة تكالب الكلاب فيما بينها، لمجرد شعور كلب قوي بتفوقه على كلب آخر غريب أو كلاب غريبة عنه. ولعب "المال" دورًا خطيرًا في ظهور "الملوك الكبار" وفي تكوين "الحكومات الملكية الكبيرة"، ونضيف إليه شخصية صاحب المال والطبيعة التي عاش بها، من برودة وحرارة وتبدل في الضغط الجوي، ومن تربة ومعدن ونبات وماء. فالمال وحده لا يكفي لخلق دول كبرى، وهو لا يدوم إذا لم يقرن بعقل فطن خلاق يعمل على الإيجاد والتكوين وتسخير الطبيعة في خدمته وخلق قوة تكون سندًا له وسدًّا منيعًا يقف حائلًا منيعًا أمام المعتدين. والاستفادة من المال بتشغيله بحكمة وبعلم، وبإيجاد موارد جديدة تحل محل الموارد القديمة إن نفقت. وقد كان ظهور الحكومات الملكية الكبيرة في الأرضين الغنية بخيراتها ذات الماء الغزير والجو المساعد على العمل. فوسعت رقعتها وطمعت في غيرها فابتلعتها وقوَّت نفسها بخيراتها وعبأت كل قواها لخدمتها، وأخذت تكتسح غيرها وتتوسع وكونت الممالك الكبيرة المشهورة في التاريخ. وقد سمح بعض ملوك الحكومات الكبيرة لملوك الممالك الصغيرة بالاحتفاظ بحمل لقب "ملك"، على أن يكون ذلك مقرونًا باعتراف أولئك الملوك بحماية الملوك الكبار لهم، وبوجوب عدم الخروج على طاعتهم وبلزوم الاشتراك معهم في الحروب إن طلب منهم الاشتراك فيها، وبدفع جزية مرضية لهم. فلم تتمكن الحكومات الصغيرة التي عاش على التجارة والاتجار من العيش بأمن وسلام، إذ طمعت فيها الدول القوية، فأرسلت إليها من يخيرها بين الاستسلام والطاعة أو الهلاك وإحراق الدور وإنزال الدمار. وقد رأينا أمثلة عديدة على ذلك فيما سلف من هذا الكتاب. من ذلك تهديد حكومات العراق

لحكومات مدن الخليج، وتهديد الرومان واليونان للنبط. وحملة "أوليوس غالوس" على اليمن، لضم أصدقاء أغنياء إلى إمبراطورية الرومان، يؤدون لها الخراج ويقدمون لها ما عندهم من ذهب إبريز، وإلا فالنار والخراب والدمار والقتل. فلا مجال للحكومات الغنية الصغيرة من العيش بأمن وسلام. وليس عندها سوى الاختيار بين أمر من أمرين. فإما دفع جزية ثقيلة ترضي القوي، وإما الاستسلام وإنزال النار بها والدمار. أما البوادي والأرضين القفرة الفقيرة القليلة الماء، فلا يمكن أن تنبت بها "ممالك" كبيرة، لعدم توفر مستلزمات المعيشة والتجمع الكبير فيها، لهذا صارت حكوماتها حكومات "رئاسات" رئاسة قبيلة أو أحلاف. وقد يحلو للرئيس أن يختار له "ملك"، لقب لا يعني في الواقع العملي أكثر من سيد قبيلة. وحكومات باطن جزيرة العرب هي من هذا النوع في الأكثر. أما الملكيات فقامت في مواضع الحضارة، حيث التربة الصالحة الخصبة المساعدة على حياة التجمع والاستقرار. ووجود حضر، يقبلون بالطاعة والخضوع لحكم حاكم، ومال يجبى من الناس ليستعين به الحاكم على الإنفاق على نفسه وعلى جيشه، وعلى من ينصبهم لإدارة الأمور، قامت تلك الملكيات في العراق وفي بلاد الشام وفي أطراف جزيرة العرب، وفي مواضع الماء من نجد كاليمامة. وقد تكلمت عنها في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب. أما الرئاسة، فهي درجات تبدأ برئاسة بيت، وتنتهي برئاسة قبيلة. ولكل رئيس سلطان على أتباعه وحقوق وواجبات. وعليه أيضًا حقوق وواجبات يجب أن يوفي بها لأتباعه ومن هم في عنقه ويمينه. والرئيس هو "بعل" و"رب" و"سيد" جماعته والمسئول الشرعي عن أتباعه، وهو ممثلهم ولسانهم الناطق باسمهم وحاميهم في الملمات. وقد عرف "هشام بن المغيرة" بـ"رب قريش" ونسبت قريش إليه في الجاهلية، فقال الشاعر: أحاديث شاعت في معدٍّ وغيرها ... وخبّرها الركبان حيّ هشامِ وذلك تعظيمًا له واحترامًا لشأنه1

_ 1 الاشتقاق "ص94".

ويعرف رئيس القبيلة بـ"سيد القبيلة"، وسادات القبائل هم رؤساء القبائل. وقد ينعت رجل بـ"سيد العرب" وبـ"سيد مضر" وبـ"سيد أهل الوبر"، وذلك للتعبير عن سلطانه وعن مكانته وعن حكمه لقبائل كثيرة عديدة. فقد نعت "الأفكل"، وهو "عمرو بن جعيد" بـ"سيد ربيعة" لرئاسته على ربيعة1. وعرف "حذيفة بن بدر" بـ "سيد غطفان"، وكان يقال له: "رب معد"2. وعرف "قيس بن عاصم بن سنان المنقري" بـ"سيد أهل الوبر"، فلما وفد على رسول الله في وفد "تميم"، قال رسول الله: "هذا سيد أهل الوبر". وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية؛ لأنه سكر فعبث بذي محرم له3. وعرف حاكم "تدمر" بـ"رش تذمور"، أي: "رأس تدمر" و"رئيس تدمر"، في الكتابات التدمرية القديمة. ثم عرف بـ"ملك"، في الكتابات المتأخرة المدونة وصار اللقب الرسمي لحكام "تدمر" في أيام "الزبّاء" فما بعد، إلى احتلال الرومان لتدمر وإلغائهم الحكم التدمري4. ولقب "أذينة" ملك "تدمر" نفسه بـ"ملك ملكا" أي: "ملك الملوك"5 أيضًا، تشبهًا بملوك الفرس وبملوك حكموا قبلهم، مثل: الملوك الأشوريين، واتخذ لنفسه ألقابًا يونانية لاتينية تقليدًا للرومان. ولم نعثر في النصوص العربية الجنوبية على لقب "ملك الملوك". ويظهر أن الملوك العرب لم يتلقبوا بهذا اللقب الأعجمي.

_ 1 الاشتقاق "ص197". 2 المعارف "ص38". 3 معجم الشعراء "ص324". 4 المشرق، السنة الأولى، تموز 1898م، "ص590". 5 Die Araber II, S. 254

المكربون

المكربون: وترينا أقدم الكتابات العربية أن العربية الجنوبية حكمها قبل الملوك أناس حكموا حكمًا مزدوجًا، أي: حكمًا دينيًّا ودنيويًّا، على نحو ما حدث في العراق وفي

مصر وفي أماكن أخرى من الشرق، قبل أن ينتقل الحكم إلى الملوك، ويتحول إلى حكم زمني، ينصرف فيه الملك إلى الأمور الزمنية لرعيته، تاركًا الشئون الدينية لرجال الدين، حكموا الأرض باسم السماء، وحكموا حكم الساسة والحكام، ونطقوا باسم الآلهة، فحكمهم حكم إلهي مقدس، على أتباعهم ومن يؤمن بهم إطاعتهم، لأنهم ألسنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض1. ويعرف هذا الكاهن الملك بـ"مكرب"، أي: "مقرب". وقد حصلنا من كتابات المسند على أسماء عدد من "المكربين"، غير أن تلك الكتابات خرساء، لم تبح لنا بشيء ما عن أصول حكمهم للمعابد ولإدارة الدولة ولا عن كيفية تلقيهم الأوامر الإلهية التي يطلبون من أتباعهم تنفيذها، هل كانت وحيًا من الآلهة، يحملها إليهم ملائكة مقربون، أو إلهامًا يتجلى في نفوسهم فينطق به المكربون ويبلغونه للناس، أو صوتا يخرج من رَئِيّ أو صنم أو ما شاكل ذلك يسمعه "المكرب" فيفسره للناس على طريقة الكهان؟ وليس في نصوص المسند تعليل ما للدوافع والأسباب التي حملت آخر "مكرب" في كل دولة من الدول العربية الجنوبية على تغيير لقبه القديم، الموروث عن آبائه، واتخاذ لقب له جديد، لقب "ملك"، وهو لقب يشير إلى الحكم الدنيوي فقط، وإلى ابتعاد الملك عن الحكم الديني وتركه لغيره غير أننا نستطيع أن نقول باحتمال تأثر هؤلاء "المكربين" بالمظاهر الخارجية التي كانت عند الدول المعاصرة التي لقبت حكامها بلقب ملك، وهي دول كبيرة ذات جاه واسم وسلطان فأراد أولئك الحكام، حكام حكومات اليمن، التشبه بهم، ومحاكاتهم في المظهر، فغيروا لقبهم، ليظهروا أنفسهم أنهم مثلهم، وأنهم ليسوا أقل شأنًا من أقرانهم الملوك. ولا يظن أن التغيير الذي حدث فأدى إلى إبدال حكم "المكربين" بحكم الملوك كان تغييرًا قسريًّا، أي: نتيجة انقلاب عسكري أو ثورة، ذلك لأننا نعلم أن آخر مكرب من مكربي سبأ كان هو المكرب "كرب ال وتر" "كرب إيل وتر". وقد كان هذا المكرب أول من افتتح العهد الملكي في سبأ، وأول من حمل لقب "ملك" وذلك يدل على أنه هو الذي اختار اللقب الجديد، واستبدله باللقب القديم.

_ 1 A. Grohmann, S. 122

ولم يكن "المكرب" رجل دين بالمعنى المفهوم من الجملة، أي: عالمًا بأمور الدين فقيهًا بها كرس وقته لها، ومتوليًّا إمامة الناس في صلواتهم وفي أداء الشعائر الدينية للأرباب في معابدها، مقدمًا القرابين بنفسه إليها، بل يرى بعض الباحثين أنه مجرد منصب له صبغته الدينية، وأنه يشبه منصب "الخليفة" في الإسلام، حيث كان الخليفة يعد "أمير المؤمنين" ورئيس المسلمين. ولم يكن مع ذلك أعلم المسلمين بأمور الدين ولا أفقههم بالأحكام، وإنما هو "خليفة الله" في أرضه. وكذلك كان المكربون خلفاء الآلهة على الأرض1. وقد استتبع انتقال الحكم من "المكربين" إلى الملوك، حدوث تغيير في أصول الحكم. فانقطعت صلة الملك بالمعبد، ولم يعد الرئيس المباشر له ولرجال الدين، وإن بقي الملك حامي الدين والمعبد. لما للمعبد من ارتباط بالدولة ولما للاثنين من مصالح مشتركة مترابطة، إذا اختلت أصاب الأذى الجهتين. وانصرف رئيس المعبد إلى إدارة المعبد وأملاكه الكثيرة الواسعة، وإلى جباية الضرائب الدينية، أي: حقوق الآلهة على الناس. وهي حقوق واجبة مفروضة. وانصرف الملك إلى إدارة الدولة، وجباية حقوقه على شعبه. وإدارة أملاكه الخاصة وأملاك الدولة، التي هي أملاك الملك أيضًا. حيث لم يفرق الملوك بين جيبهم الخاص وبين جيب الدولة. لأن الدولة الملك، والملك الدولة. وبيت المال هو بيت مال واحد، للملك أن يتصرف به كيف شاء.

_ 1 A. Grohmann, S. 122

الملك

الملك: وأما "الملك"، فهو الرئيس الأكبر والإنسان الأعلى في مجتمعه. ولفظة "ملك" من الألفاظ العربية القديمة التي ترد في جميع اللهجات العربية1، وهي أيضًا من الألفاظ التي ترد في أغلب اللغات السامية. وقد تلقب بها ملوك العربية الجنوبية، وتلقب بها ملوك الحيرة وملوك آل غسان وملوك كندة، بل طمع في هذا اللقب أمراء وسادات قبائل، أعجبهم فلقبوا أنفسهم به.

_ 1 اللسان "12/ 381"، "ملك"، تاج العروس "7/ 180 وما بعدها"، "ملك"، مقدمة ابن خلدون "143"، تفسير الطبري "2/ 595"، روح المعاني "13/ 223". "16/ 9".

ولا يعني هذا أن حكم الملك كان دائمًا حكمًا شاملًا واسعًا بالمعنى المفهوم من هذا اللقب، فقد كان سلطان الملك في بعض الأحيان لا يتجاوز سلطان سيد قبيلة، أو سلطان صاحب قرية أو أرض. وعلى ذلك نجد في العربية الجنوبية وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب عشرات من أمثال هؤلاء الملوك يحكمون قبائلهم أو أرضهم بهذه النعوت والصفات المغرية المحببة إلى النفوس والقلوب، ذلك لأنهم أحبوا هذا اللقب، فلقبوا أنفسهم به، وصاروا ملوكًا، وهم في الواقع سادة قبائل أو أرض صغيرة. ونجد في كتب السير والتواريخ أسماء جملة "ملوك" عاشوا قبيل الإسلام وعند ظهوره، لم يكونوا في الواقع سوى سادات "شيوخ" قبائل أو قرى، ولم يكن لهم على من حولهم نفوذ أو سلطان. ومعنى "ملك"، الرأي والمشورة والنصيحة. و"مَلَكَ"، بمعنى قدم رأيًا أو نصيحة أو مشورة، وذلك في بعض اللغات السامية. وتعني كلمة "شارو" "شرو"، "الملك" في الأشورية، وهي في معنى "الحكيم" في الأصل، أي: في المعنى المتقدم. وتعني كلمة "مليخ" "ملخ"، أي: "ملك" في العبرانية، الحكيم الذي يقدم رأيًا وحكمة ومشورة، فهي في معنى Adviser وCounseller في الإنكليزية1. إذ كان الملوك بمنزلة الحكماء القضاة في شعوبهم، ثم تخصصت بالحاكم الذي يحكم شعبه على النحو المفهوم من اللفظة عندنا. وقد وردت لفظة "ملك" في نصوص المسند. وردت على هذه الصورة: "ملكن"، أي: "الملك"، و"ملكم"، أي: "ملكٌ". ووردت على هذه الصورة: "ملك" في النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية. و"ملكو" في النصوص النبطية. أما في النصوص العربية الشمالية، فإن أقدم نص وردت فيه هذه اللفظة، هو نص "أم الجمال"، الذي يعود عهده إلى سنة "250" أو "270" بعد الميلاد2. وهو شاهد قبر رجل اسمه "فهر بن سلى مربّي جذيمة ملك تنوخ" ونص "النمارة" الذي هو شاهد قبر الملك "امرؤ القيس"، وقد دوّن سنة "328" للميلاد3.

_ 1 Hastings, P. 515 2 السامية "139"، خليل يحيى نامي، أصل الخط العربي وتطوره إلى ما قبل الإسلام، محلة كلية الآداب، مايو 1935م، "سنة 270م"، De Vogue, Syrie Centrale, P. 1, 15, II 3 Littmann, Nabataen Inscriptions from the Southern Hauran, p. 37 Cantineaue, Nabateen et Arabe, p. 27

ولا نعرف في الزمن الحاضر مكانة درجة من يحمل لقب "أخ ملكا" أي: "أخي الملك" الوارد في النصوص النبطية. فلسنا ندري أكانت تعني "وصاية" أو "وزارة" أو مقربًا من الملك، أم تعني أن حامله من الأسرة المالكة1. ونطلق لفظة "تبع"، والجمع "التبابعة"، على ملوك حمير، تطلقها الموارد الإسلامية في بعض الأحيان على كل ملوك اليمن. فهي في معنى "ملك". ولا يطلقونها على غيرهم، أي: على الملوك الآخرين من ملوك العرب. فهي إذن اصطلاح خاص بأولئك الملوك. كما اصطلحوا على تسمية كل من ملك الحبشة "النجاشي"، وكل من ملك الروم "قيصر"، وكل من ملك الفرس "كسرى". وقد ذكر علماء اللغة في تفسيرها: "وتبع كانوا رؤساء، سمّو بذلك لاتباع بعضهم بعضًا في الرئاسة والسياسة. وقيل: تبع ملك يتبعه قومه والجمع التبابعة"2. وورد في القرآن الكريم: "وقوم تبع" في جملة الأقوام التي كذبت فحق عليها وعيد3. وذكر بعض أهل الأخبار "أن العرب لم تكن تسمي أحدًا تبعًا حتى يملك اليمن والشحر وحضرموت، وقيل: حتى يتبعه بنو جشم بن عبد شمس". فإن لم يكن كذلك سمي ملكًا. وأول من لقب منهم بذلك "الحارث بن ذي شمر" وهو الرائش. ولم يزل هذا اللقب ملازمًا لملوكهم إلى أن زالت مملكتهم بملك الحبش اليمن4. وذكر أن العرب كانت تسمي الملك "الحصير" كذلك. لأنه محجوب عن الناس، أو لكونه حاصرًا، أي: مانعًا لمن أراد الوصول إليه. قال لبيد: وَقَمَاقِم غُلبِ الرِقابِ كَأَنَّهُم ... جِنٌّ على باب الحَصيرِ قِيام ُوالمراد به النعمان بن المنذر. وروي لدى طرف الحصير قيام. أي عند طرف بساط النعمان

_ 1 Die Araber I, S. 288 2 المفردات "ص71"، اللسان "8/ 31"، تاج العروس "5/ 287"، المحكم "2/ 44"، صبح الأعشى "5/ 23"، مجمع البيان، للطبرسي "9/ 66، العبر "2/ 112". 3 الدخان، 44، الآية 37، سورة ق، رقم 50، الآية 14، روح المعاني "15/ 116 وما بعدها"، الطبري "1/ 404"، ابن الأثير، الكامل "1/ 156 وما بعدها". 4 صبح الأعشى "5/ 480". ابن خلدون، العبر "القسم الأول من المجلد الثاني"، "ص92 وما بعدها" مروج الذهب "2/ 88". 5 تاج العروس "3/ 144"، "حصر".

وذكر بعض أهل الأخبار أن "حمير" تسمي الحاكم "الفتاح" بلغتها1. والعادة أن الملكية وراثية، تنتقل من الآباء إلى الأبناء، ويتولاها الابن الأكبر في الغالب. فإذا حكم هذا وتوفي، انتقلت إلى ابنه الأكبر، وهكذا. وبذلك يحرم إخوته الآخرون، إلا إذا نص الأب الملك على خلاف ذلك، كأن يذكر اسم الذي سيخلفه، أو يعين جملة أبناء أو أشخاص يحكمون من بعده على التوالي، فإذا توفي الابن الأكبر مثلًا، انتقل الحكم إلى أخيه الذي يليه، وهكذا إلى نهاية الوصية. وقد يوصي المتوفي لأخيه من بعده، أو لإخوته، بدلًا من ابنه أو أولاده، فنظام الحكم إذن نظام وراثي في العادة، ينتقل طبيعة إلى الابن الأكبر للحاكم المتوفي، إلا إذا حدث خلاف ذلك، لوصية يوصيها المتوفي ولرأي يراه، أو لأحوال قاهرة كأن يكون الشخص المتوفي عقيمًا لا عقب له، ففي مثل هذه الحالة ينتقل الحكم إلى أقرب الناس إليه، بحسب وراثة الدم، أو بحسب رأي الأسرة التي ينتمي إليها المتوفي فيكون عندئذ لها وللمسنين والوجهاء الرأي والاختيار2. والعادة أن الحكم يكون في الأسر الكبيرة الرفيعة، ينتقل إما من أب إلى ابن على حسب العمر، وإما إلى أخ أو غيره من أفراد الأسرة. وقد ينشب خصام بين أفراد هذه الأسرة في موضوع تولي العرش، ولا سيما في العهود القديمة، حيث لم يكن العرف قد استقر على ضرورة انتقال الحكم من الأب إلى ابنه الأكبر. فتنقسم الأسرة، وقد يطول انقسامها، عند تكافؤ المتخاصمين واستعانة كل فريق على الآخر بمؤيدين أقوياء، فيدعي حق الحكم له، ويلقب زعيمه بلقب "ملك". وتفتح هذه الخصومات الأبواب لزعماء الأسر الكبيرة الأخرى، لمنافسة الأسرة الحاكمة على الحكم، فتدعيه أيضًا لنفسها وقد تنجح مدة، وقد تنجح في انتزاعه من الأسر الحاكمة وابتزازه لنفسها. وقد يقارع تلك الأسر شخصٌ من سواد الناس من المغمورين، وينتزع الحكم من أصحابه، وذلك بفضل كفاية فيه، وقوة شخصية دفعته للتزعم وللطموح. وفي تاريخ الحكم في العربية الجنوبية أمثلة عديدة على ذلك. وقد يصير هذا الشخص مؤسس أسرة حاكمة جديدة، إذ ينتقل الحكم منه إلى أبنائه أو أعضاء أسرته

_ 1 تاج العروس "2/ 195"، "فتح". 2 Grohmann, S. 128, Ryckmans, L'institution. P. 39, 41

بعد وفاته، وقد يقتصر الحكم عليه، فإذا توزع وقتل أو مات، قتل حكمه بقتله، ومات اغتصابه له بموته. وقد أرتنا بعض كتابات المسند أن العرب الجنوبيين، لم يجدوا غضاضة في تلقب أب وابنه أو أب وأبنائه أو أخ وإخوته بلقب "ملك" في وقت واحد، فقد انتهت إلينا كتابات عديدة، وفيها أب يحمل لقب ملك، ومعه أبناؤه يحملون هذا اللقب كذلك، كما انتهت إلينا كتابات يحمل فيها أخ وإخوته لقب "ملك". وقد يدل ذلك على اشتراك المذكورين في الكتابة إشتراكًا فعليًّا في الحكم، غير أن ذلك لا يعني الحتمية، فقد يجوز أن يكون "الملك" مجرد لقب يمنح لذلك الشخص أو لأولئك الأشخاص ليشير إلى صلة الشخص أو الأشخاص به، أو إلى منزلته ومنزلتهم بين الناس. وقد يكون ذلك للتخفيف عن أعمال الملك بسبب من كثرة عمله أو من عدم تمكنه من القيام بأعمال الملك كلها لضعف شخصيته وقابلياته، أو لمرض ألمَّ به، أو لأن الملك أراد بذكرهم معه تدريبهم على أعمال الحكم، حتى يكونوا قد خبروا أمور الملك إذا انتقل الحكم إليهم، مع بقاء الملك الأصل في عرشه ومكانه، يمارس أعماله على نحو ما يريد. ولم يصل إلينا نص ما من العربية الجنوبية يشير إلى وجود اسم ملكة على عرش إحدى الحكومات التي تكونت هناك. أما خارج العربية الجنوبية، وخارج جزيرة العرب، فقد وردت في الكتابات الأشورية وفي كتابات غيرها أسماء ملكات عربيات، وكل ذلك دليل على أن العرب الشماليين لم يجدوا ما يمنعهم من تعيين ملكات عليهم، وإن ملكات ولين حكومات. وقد كان ذلك قبل الإسلام بزمن طويل. أما في الأيام القريبة من الإسلام، فلم نعثر على اسم ملكة حكمت فيها، لا في الكتابات ولا في القصص الذي يرويه الأخباريون عن تلك الأيام. ولا نعرف في جزيرة العرب نظامًا انتخابيًّا عامًّا ينتخب الشعب فيه ملكه على النحو الذي نفهمه في الزمن الحاضر، أو على النحو الذي كان معروفًا عند الرومان أو اليونان في زمن من الأزمان، انتخابًا لأمد محدود معين بسنين أو لأمد طويل يحد بحياة الإنسان، فلم يرد نص ما فيه شيء من ذلك، ولم يرد في قصص الأخباريين ما يشير إلى وجود مثل هذا الانتخاب.

ولا نعرف أيضًا أن المزاود وهي المجالس أو طبقة قادة الجيش أو سادة المدن والقبائل كان لها رأي في تعيين الملوك، أو إقرارهم على نحو ما كان يجري في الدولة البيزنطية. ولا نعرف كذلك أكان لأحد حق إقالة الملوك وتنحيتهم عن عرشهم إذا تبين أنه غير صالح لتولي الحكم لسبب من الأسباب، فإننا لم نعثر حتى الآن على نصوص تتحدث عن مثل هذه الأمور. وأما قيام شخص من الأسرة المالكة أو من غيرها بمنافسة الملك أو بالثورة عليه وانتزاع الملك منه، فإن ذلك شيء آخر، يعود إلى استعمال القوة والخروج عن الطاعة، وهما بالطبع من الأمور المخالفة في كل عهد وزمان. لقد تحدث "الهمداني" عن طريقه من طرق تعيين الملك عند "حمير"، فقال: "وبأسفل المعافر قصرُ ذي شمر، ويدخلون في قيالة حمير، وكانت أقوالها تكون في كل عصر ثمانين قيلًا من وجوه حمير وكهلان، فإذا حدث بالملك حدث، كانوا الذين يقيمون القائم من بعده ويعقدون له العهد. وكان قيام الملك من قدماء حمير عن إجماع رأي كهلان، وفي الحديث عن رأي أقوال حمير فقط، وكانوا إذا لم يرتضوا بخلف الملك، تراضوا لخيرهم، وأدخلوا مكانه رجلًا ممن يلحق بدرجة الأقوال، فيتم الثمانين قيلًا، ولم يكن هذا في حمير إلا مرات يسيرة لأن الملك لم يكن يعدو آل الرائش، إلا أن يُتوفى الملك وأولاده صغار، أو يكل1، فيفعل ذلك حتى يتدبر في سواه من آل الرائش"2. وما ذكرته عن حكاية "الهَمْداني" عن كيفية تعيين الملوك في حمير، يؤيد كون الملكية في اليمن ملكية وراثية تنتقل في الأصل بالإرث من الأب إلى الابن، إلا في الحالات الطارئة، مثل موت ملك فجأة وأولاده صغار، أو موته وهو عقيم لا خلف له، ولم يوص لأحد بالحكم من بعده، فيكون الرأي لسادات المملكة الذين جعل "الهمداني" عدة مجلسهم ثمانين قيلًا، فيختارون للملك من يرون أنه أكفأ الناس للملك، وينصبونه ملكًا. وقد رأينا أنه نص في حديثه هذا على أن ما ذكره يتناول حالات خاصة، وقد وقع في مرات يسيرة، لأن الملك لم يكن يعدو الإرث المعهود عنهم الذي ينتقل في الأسرة المالكة.

_ 1 أي: يموت عقيمًا لا أولاد له. 2 الإكليل "2/ 114".

ولعلّ هذه الظروف الطارئة هي التي حملت الملك على تنصيب ابن له أو ابنين أو أخ له ملكًا معه يلقب بلقب الحكم في أثناء حياته، ويذكر ويذكرون بعده في الكتابات. وغايته من هذا النص هو أن الشخص المذكور اسمه بعد اسم الملك، هو الذي يرث الملك بعد وفاة الملك لسبب من الأسباب، فلا يقع حينئذ خلاف ما في تعيين الشخص الذي سيلي الملك. ولعل ذلك كان يحدث عند مرض الملك أو عند تقدمه في السن وشعوره بالعجز والكلال، أو لكونه محاربًا فهو يخشى أن يقتل في المعارك، وما أشبه هذا، فكان يحتاط لذلك بالنص على اسم من يليه وتعيينه معه ليعينه في تحمل أعباء الحكم، حتى إذا حدث له حادث يكون قد تدرب على إدارة الملك. وذكر بعض أهل الأخبار أنه لم يكن لملوك اليمن نظام، وإنما كان الرئيس منهم يكون ملكًا على مخلافه لا يتجاوزه. وإن تجاوز بعضهم عن مخلافه بمسافة يسيرة من غير أن يرث ذلك الملك عن آبائه فلا يرثه أبناؤه عنه، وإنما هو شأن شذاذ المتلصصة، يغيرون على النواحي باستغفال أهلها، فإذا قصدهم الطلب لم يكن لهم ثبات. وكذلك كان أمر ملوك اليمن، يخرج أحدهم من مخلافه بعض الحيان، ويبدو في الغزو والإغارة، فيصيب ما يمر به، ثم يرجع عنه، عند خوف الطلب، زاحفًا إلى مكانه من غير أن يدين له أحد من غير مخلافه بالطاعة أو يؤدي إليه خراجًا1. وقد أخذوا وصفهم هذا للملوك من الحالة السياسية التي كانت في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية، أيام تدهور الأوضاع بعد الميلاد، ولا سيما في أوائل القرن السادس للميلاد إلى دخوله العربية الجنوبية في الإسلام. فقد استبد الحكام وأصحاب الإقطاع بالمخاليف، ولقبوا أنفسهم بألقاب الملك، وأخذ بعضهم يغير على بعض، ويغزو أرض جاره على طريقة الأعراب. والسيادة على القبيلة، هي كالملكية تنتقل إلى مستحقها بالوراثة في الغالب. فإذا توفي سيد قبيلة، انتقلت سيادتها إلى ابنه الأكبر. هذا عامر بن الطفيل، وهو ابن سيد قبيلة، وقد صار سيدها بعد وفاة والده، يفتخر بنفسه، ويذكر

_ 1 ابن خلدون، العبر: القسم الأول من المجلد الثاني "ص111 وما بعدها"، "بيروت 1956م".

أنه ورث السيادة من وراثة، إذ أتته من والده، هذا صحيح، وليس في ذلك من شك، لكن قومه لم يسودوه ولم يعينوه مكان أبيه، لهذا السبب، وإنما سودوه لأنه كان يحمي حمى قبيلته ويذب عنها، ولأن فيه شروط السيادة وحقوقها، فهو سيد قومه، قبل أن تأتي السيادة إليه من والده: وإني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كل موكب فما سودتني عامر من وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب1 وهذا "بشامة بن الغدير"، خال "أبي سلمى" والد زهير، يقول في شعر له: وجدت أي فيهم وجَدّي كليهما ... يطاع ويؤتى أمره وهو مُحْتبي فلم أتعمّل للسيادة فيهم ... ولكن أتتني طائعًا غير متعب2 فهو رئيس ابن رئيس قبيلة، أتته السيادة من أبيه طائعة، لفضل فيه واستحقاق لها، دون أن يعمل وأن يركض للحصول عليها. فالسيادة إذن عند العرب، تتبع نظام الإرث في الغالب، إلا إذا حدث حادث يجعل أهل بيت السيادة، يعرضون عن الابن الأكبر إلى غيره، كأن يكون الابن الأكبر معتوهًا أو سفيهًا أو ضعيفًا، وأخوته أو أقرباؤه أقوى منه.

_ 1 الحيوان "2/ 95"، "هارون". 2 الحيوان "2/ 96"، "هارون".

الأمراء

الأمراء: والأمير ذو الأمر، أي: الآمر. وأولو الأمر: الرؤساء وأهل العلم. وذكر أن الأمير الملك لنفاذ أمره، والجمع أمراء، وهو يأمر إمارة1. ولما كان

_ 1 اللسان "4/ 27 وما بعدها"، "أمر"، تاج العروس "3/ 18 وما بعدها"، "1/ 41"، "2/ 189 وما بعدها".

الخليفة في الإسلام أميرًا على المسلمين، نعت بـ"أمير المؤمنين". ولم ترد اللفظة في النصوص الجاهلية بمعنى "ملك". ويظهر أنها كانت تعني عند أهل الحجاز الرئيس الآمر. وقد ورد في كتب التاريخ أن الأنصار لما اختلفوا مع المهاجرين بعد وفاة الرسول على "الإمارة" واجتمعوا في "سقيفة بني ساعدة" قالوا: "منا أمير ومنكم أمير"1. وفي استعمال الأنصار لهذه اللفظة، دلالة على وجودها عند الجاهليين واستعمال أهل الحجاز لها بهذا المعنى في أيام الجاهلية. ويظهر من الموارد "البيزنطية" ومن روايات أهل الأخبار، أن الملوك الغساسنة والملوك من "آل نصر"، أي ملوك الحيرة، لم يكونوا ملوكًا بالمعنى العلمي الصحيح المفهوم من الكلمة، وإنما كانوا "عمالًا"، إذا كاتبهم الروم أو الفرس، لقبوهم بـ"عامل". إذ عينوهم عمالًا على الأعراب ولم يعينوهم "ملوكًا". فلقب "ملك" من الألقاب الخاصة بملوك الروم لم يمنحوه لغيرهم2. وكذلك كان الشأن عند الفرس. نعم لقد ذكر المؤرخ "بروكوبيوس" Procopius أن القيصر "يسطنيانوس" Justinianus منح "الحارث بن جبلة" لقب "ملك" ولقب بعض الكتبة اليونان سادات غسان باللقب المذكور، غير أن هذا التلقيب لا يمكن أن يكون دليلًا على أن الدولة البيزنطية كانت تطلق عليهم بصفة رسمية وأنه كان لقبهم الرسمي المعترف به عند الدول الأجنبية. ومن هنا شك المستشرق "نولدكه" في صحة رواية "بوكوبيوس" بشأن منح الحارث لقب "ملك"، ذلك لأن لقب "ملك" كان خاصًّا كما ذكرت بقياصرة البيزنطيين، فلا يمنح لغيرهم، ولأن الوثائق الرسمية لم تطلق هذا اللقب عليهم3. ثم إن نص أبرهة الشهير الذي تحدثت عنه أثناء حديثي عن "أبرهة"، لم يلقب "المنذر" ولا "الحارث بن جبلة" بلقب "ملك"، بل لم يلقبهما بأي لقب، بما في ذلك لقب "عامل". وهذا مما يدل على أن "آل نصر" و"آل غسان" وإن لقبوا أنفسهم بلقب "ملك" أو لقبهم العرب به، إلا أن ذلك التلقيب لم يكن

_ 1 الطبري "3/ 218"، "ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار في أمر الأمارة في سقيفة بني ساعدة". 2 غسان "ص12"، المشرق: السنة الأولى، الجزء11، حزيران 1898م، ص485"، جواد علي تاريخ العرب قبل الإسلام "4/ 129". 3 غسان "ص12"، جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام "4/ 129".

بصفة دولية رسمية، وإنما كان بصورة غير رسمية وعلى سبيل التجمل بهذا اللقب والتشبه بالملوك الأجانب، استعمله الناس من باب التزلف والتقرب إلى أولئك الحكام، أو أنهم نظروا إليهم من وجهة نظرهم الخاصة، فدعوهم ملوكًا، لأنهم كانوا رعيتهم وكانوا هم مالكي رقبتهم. ومن هنا اعترفوا بهم ملوكًا، أما الدول الأجنبية فقد اعتبرتهم مجرد عمال وسادات قبائل. والذي صح إطلاقه على أمراء الغساسنة، وثبت وجوده في الوثائق الرسمية، هو لقب "بطريق" Patricius، ولقب "عامل" أو رئيس قبيلة Phylarcos = Phylarkos = Phylarchus مقرونًا بنعت من النعوت التابعة له، أو مجردًا منه، كالذي جاء عن المنذر الذي حكم بعد الحارث بن جبلة "فلابيوس المنذر البطريق الفائق المديح، ورئيس القبيلة"، و"المنذر البطريق الفائق المديح، وما ورد عن الحارث "الحارث البطريق ورئيس القبيلة"1. ولقب "البطريق" من ألقاب الشرف الفخمة عند الروم، ولذلك فلم يكن يمنح إلا لعدد قليل من الخاصة، ولصاحبه امتيازات ومنزلة في الدولة حتى أن بعض الملوك كانوا يحبذون الحصول على هذا اللقب من القيصر، ويفضلونه على غيره من الألقاب2. ويلاحظ أن بعض كتبة اليونان أطلقوا لقب "ملك" على الأمراء العرب، مثل "ماوية" فقد لقبوها بـ"ملكة". ولم يستعملوا كلمة "فيلارك" فيلارخ" "فيلاركس" "فيلاركوس" التي تعني "العامل" أو "سيد قبيلة" والظاهر أنهم نهجوا في ذلك نهج الكتبة "السريان"، فقد لقبوا سادات القبائل العربية بلقب "ملك" على نحو ما نجده في الشعر العربي3. ويظهر أن عرب العراق كانوا قد لقبوا حكام "الحيرة" بلقب "ملك" و"ملوك"، وأن عرب بلاد الشام لقبوا حكامهم الغساسنة بلقب "ملك" كذلك، وذلك على سبيل التفخيم والتعظيم كما ذكرت، وباعتبار أنهم حكاهم ومالكو أمرهم. كما لقب من خضع لـ"آل آكل المرار" حكامهم من هذه العائلة بلقب "ملك". وكما

_ 1 غسان "ص12". 2 المشرق: السنة الأولى: الجزء11، حزيران 1898م "ص485". 3 غسان "ص12"، المشرق: السنة الأولى: الجزء11، حزيران 1898م "ص485".

لقب بعض سادات القبائل أنفسهم بلقب "ملك"، ولم يكونوا ملوكًا، بل كانوا سادات قبائل و"أمراء". ومما يؤيد أن حكام الحيرة وغسان، لم يكونوا "ملوكًا" في نظر الدول الأجنبية بل عمالًا، ما نجده من إطلاق أهل الأخبار عليهم لقب "عامل" ولقب "ملك" أيضًا. فكانوا إذا تحدثوا عن صلاتهم بالفرس، أو نقلوا من موارد فارسية قالوا لهم: "عمالًا"، وقالوا عنهم جملًا مثل: كان يلي ذلك من قبل ملوك الفرس من آل نصر ... وقدر ولاية كل من ولي منهم1. وأمثال ذلك من جمل تشعر أنهم كانوا عمالًا وولاة. أما إذا تحدثوا عنهم من ناحية حكمهم للحيرة وللعرب وعن صلاتهم بالشعراء وبمدد حكمهم لقبوهم بـ"ملك" وقالوا: "وقد ملك"، وسبب ذلك أنهم أخذوا أخبارهم من منبعين: منبع أجنبي يوناني وفارسي، وهو منبع وثائقه مدونة ومورده من الموارد الرسمية التي تنعتهم بـ"عمال". ومنبع عربي يلقبهم بـ"ملوك"، استند على العرف العربي، أي: على ما كان يخاطب به العرب أولئك الملوك، فوقع من ثم هذا الالتباس.

_ 1 الطبري "2/ 89، 213 ومواضع أخرى"، "في سياقة تواريخ اللخميين من ملوك عرب العراق"، "في سياقة تواريخ غسان ملوك عرب الشام"، "كان آل جفنة عمال القياصرة على عرب الشام، كما كان آل نصر عمال الأكاسرة على عرب العراق" حمزة "63 وما بعدها، 76".

السادات

السادات: وسادة القوم أشرافهم ورؤساؤهم، وذكر أن السيد الذي فاق غيره بالعقل والمال والدفع والنفع، المعطى ماله في حقوقه المعين بنفسه. وذكر أن السيد الحليم الذي لا يغلبه غضبه1. والسيادة منزلة ودرجة، ولا تأتي أحدًا إلا باعتراف قومه له بسيادته عليهم وبتنصيبهم له سيدًا عليهم. إذا سوّدوا شخصًا، عصبوه. والتعصيب التسويد. ولهذا كانوا يسمّون السيد المطاع معصبًا. وذكر أن العصابة العمامة. وكانت عمائم

_ 1 تاج العروس "2/ 384"، "سود".

سادة العرب هي العمائم الحمر1. وتعد الأسر الحاكمة التي ينشأ فيها عدد كبير من الملوك والحكام أسرًا عريقة في الشرف. وينظر إليها نظرة تقديم واحترام، لأنهم ورثوا المجد عن آبائهم أبًا بعد أب وينطبق ذلك على سادات القبائل الذين يرثون سيادتهم على قبائلهم أبًا عن جد، فإنهم يفتخرون بذلك على غيرهم، لأنهم ليسوا من أولئك الذين انتزعوا السيادة فصاروا سادة، على حين كان آباؤهم أو أجدادهم من الخاملين. ويعبر عن السادة والأشراف بتعابير التعظيم والتفخيم، ومنها لفظة "ابعل" "أبعل"، أي سيد ورئيس. وهي لفظة استعملت للآلهة كذلك. استعملت بمعنى رب وإله. فورد "ود بعل"، و"عثتر بعل"، وهكذا. وقد استعملت في النصوص القديمة خاصة. ويقال للسادة: "أسود" "أسواد" في العربية الجنوبية، وهم السادة الأشراف2. وتقابل اللفظة لفظة سادات في عربيتنا. وهم سادة القوم وأشرافهم وأصحاب المنزلة والمكانة في المجتمع. ويعد أعضاء الأسر المالكة في طليعة السادات، وهم في السيادة على حسب قربهم أو بعدهم من الملك، ويقدمون على هذا الأساس عند حضورهم إلى الملك وفي المواسم الرسمية. ولهم أرضون يستغلونها، ورقيق يخدمهم. وكانوا يقولون: "هذا سيدنا"، و "انظروا إلى سيدكم"، و "جاء سيدنا"، تعبيرًا عن السيادة والرئاسة. وقد كره الرسول أن يقال له: "أنت سيد قريش"، و"أنت سيدنا"، كما كانوا يدعون رؤساءهم3.

_ 1 ومنه قول المخبل الزبرقاني: رأيتك هريت العمامة بعدما ... أراك زمانًا حاسرًا لم تعصب وهو مأخوذ من العصابة، وهي العمامة. وكانت التيجان للملوك والعمائم الحمر للعرب. ورجل معصب ومعمم، أي: مسود. قال عمرو بن كلثوم: وَسَيِّدِ مَعشَرٍ قَد عَصَّبوه ... بِتاجِ المُلكِ يَحمي المُحجَرينا فجعل الملك معصبًا أيضًا، لأن التاج أحاط برأسه كالعصابة التي عصبت برأس لابسها. ويقال: اعتصب التاج على رأسه، إذا استكف به. ومنه قول ابن قيس الرقيات: يَعتصبُ التاجُ فَوقَ مَفرِقِهِ ... عَلى جَبينٍ كَأَنَّهُ الذَهَبُ وكانوا يسمون السيد المطاع معصبًا، لأنه يعصب بالتاج، أو يعصب به أمور الناس، أي ترد إليه وتدار به. والعمائم تيجان العرب، تاج العروس "1/ 385" "عصب"، اللسان "3/ 228 وما بعدها"، "سود"، تاج العروس "2/ 384"، روح المعاني "3/ 130 وما بعدها"، تفسير الطبري "3/ 72، 254 وما بعدها". 2 راجع النصوص. 3 ابن الأثير، النهاية "2/ 189 وما بعدها".

علائم الملك

علائم الملك: وللملك علامات ومميزات تميزه عن غيره من الناس. منها "التاج" والعرش والرمح أو الحربة وعربة الملك والحرس الخاص، ووجود محل خاص يخصص له في المعبد ونقد يضرب عليه اسمه وشعاره وصورته. و"قصر" له يحكم منه، أو قبة كبيرة يتخذها قرارًا له ومجلسًا حين يتبدى أو يخرج للصيد إلى غير ذلك من علامات، تكون سيماء للملك، وعلامة فارقة تميزه عن رعيته وعن سواد مملكته. وقد وصلت إلينا بعض الآثار التي تشير إلى شعار الملوك وعلائمهم ومنها النقود. فلدى العلماء وفي المتاحف العامة والخاصة اليوم، نقود ضربت في العربية الجنوبية، منها نقود معينية وقتبانية وحميرية. وقد ضرب عليها أسماء الملوك أصحابها. ومن ذلك نقد ظهر الملك "اب يثع" "اب ي ث ع" "ابيشع" فيه وهو جالس على كرسي، لعله يرمز إلى كرسي العرش. أما رأسه، فهو مكشوف بغير غطاء. مما يدل على أنه لم يستعمل "التاج". ولا نجد التاج على رءوس بقية الملوك ممن ضربت صورهم على النقود. ولا على التماثيل التي عثر عليها لبعض ملوك أوسان. ولما كنا لا نملك في الوقت الحاضر، صور ملوك جاهليين، ولا تماثيل كافية أو كتابات تشير إلى شعار الملوك وعلاماتهم ونوع ملابسهم وأمثال ذلك مما يميز الملوك عن الرعية، لذلك صار الحديث في هذا الموضوع من اختصاص الأجيال القادمة، فلعلها تعثر على آثار هي الآن في باطن الأرض، فيها حديث شيق عنه، فتقدمه لهم لنشره للناس. ومن علامات الملك "العمارة": رقعة مزينة تخاط في المظلة علامة للرياسة. و"العمار": ما يضعه الرئيس على رأسه عمارة لرياسته وحفظًا لها، ريحانًا كان أو عمامة. وكانوا إذا استقبلوا ملكًا أو رئيسًا، استقبلوه بالريحان، يرفعونه له،

وكانوا إذا جلسوا مجالس شربهم، زينوها بالريحان، فإذا دخل عليهم داخل، رفعوا شيئًا منه بأيديهم وحيوه به. كما كانوا يضعون أكاليل الريحان على رءوسهم كما تفعل العجم1. وإذا سار الملك بين الناس، استقبلوه برمي الريحان عليه، وبنثر الورود عليهم، تحية للملوك. وذكر أن من علائم الملك، أن يقال للملك أو السيد المطاع: "أبيت اللعن". وقد زعموا أن "حذيفة بن بدر" كان يحيى بتحية الملوك ويقال له: أبيت اللعن. وقد ترك ذلك في الإسلام2.

_ 1 تاج العروس "3/ 422"، "عمر". 2 الحيوان "1/ 328"، "هارون".

مظاهر التتويج

مظاهر التتويج: وكان من عادة الملوك الإعلان عن تتويجهم للناس، والاحتفال بيوم التتويج والإفصاح عنه، وعندئذ يتلقب الملك بلقب يختاره لنفسه، فيعرف به "هملقب". وكان من عادة ملوك حضرموت مثلًا الاحتفال بحمل اللقب في "محفد أنود" "محفد انودم". وقد انتهت إلينا جملة كتابات تشير إلى هذا المحفد. وقد اختتمت بكلمة "هملقب" أي: "ليتلقب"، واستعملت فيها بعض التعابير والكلمات التي لها صلة بهذه المناسبة، مثل "متلل"، ومعناها "بين" و"شهر" وأظهر، و"علن"، ومعناها أعلن، ليكون ذلك معروفًا بين الناس1. وقد يدعى إلى هذه الاحتفالات رجال من حكومات أخرى، لمشاركة الملك وحكومته في الأفراح والمسرات، فيأتي رجال من قتبان أو من حضرموت أو من حكومات أخرى إلى سبأ مثلًا، لتهنئة ملكها وحكومتها، يحملون إليه الهدايا والألطاف التي تقدم في أمثال هذه المناسبات. ولا يستبعد استدعاء مندوبين من خارج العربية الجنوبية لحضور هذه المناسبات، غير أننا لم نظفر، ويا للأسف، بنص يفيد ورود رسل أجانب أو زيارات ملوك إلى اليمن وبقية العربية الجنوبية لهذه المناسبات، إن لمناسبات أخرى مثل الدعوة إلى زيارة العربية الجنوبية ومشاهدتها في الأعياد أو في سائر الأيام، إلا ما رأيناه في عهد "أبرهة" الحبشي.

_ 1 REP. EPIG. VII, P. 418, NUM. 4914, 4915, 4916

وقد حافظ ملوك العربية الجنوبية، على اختلاف حكوماتهم، على عادة اتخاذ الألقاب الملكية حين تولي العرش. فالرجل الذي يُملك لا بد له من اتخاذ لقب له، يعرف به. وقد بقوا يحافظون على هذه العادة إلى ما بعد الميلاد. ثم أخذوا يتساهلون في حمل هذه الألقاب ولا سيما بعد تدخل الحبش في شئون العربية الجنوبية ودخول اليهودية والنصرانية إليها. وقد كان فراعنة مصر يتخذون لهم لقبًا ملكيًّا عند توليهم العرش. ونجد هذه العادة، عادة اتخاذ ألقاب ملكية خاصة، عند ملوك آشور وعند غيرهم من الملوك، ليتميزوا بذلك عن أسماء الناس1. ولهذه الألقاب صلة بالآلهة التي كانوا يعبدون. ومعارفنا في "مراسيم التتويج" مع ذلك ضئيلة جدًّا، ولا سيما ما يخص العرب الشماليين، فلا نعرف اليوم شيئًا يستحق الذكر عن كيفية التتويج وعن المراسيم والحفلات التي كانت تقام عندهم في هذه المناسبات. ولم نعثر حتى اليوم على نص جاهلي يصف أسلوب التتويج وكيفية إجراء المراسيم الخاصة بالتتويج عند الجاهليين عامة. فلا ندري أكانت تلك المراسيم تتم في المعابد وبرئاسة رجال الدين كما كانت الحال عند الأشوريين وعند غيرهم مثلًا، حيث يقوم رجل الدين الأكبر بإجراء الطقوس الدينية وبتلاوة الصلوات والأدعية، ثم يقوم بعد ذلك بوضع التاج على رأس الملك، وأمام تمثال الإله: "آشور". أم كانت تلك المراسيم تتم في القصور الملكية، أم كانت تجري بسذاجة وبغير تكلف، بأن يأتي سادات القوم لتهنئة الملك، ثم تقام المآدب. ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن عادة اتخاذ الألقاب الملكية لم تكن معروفة عند ملوك الحيرة والغساسنة وملوك كندة وأمثالهم ممن وعت أسماءهم ذاكرتهم، بدليل ورود أسمائهم ساذجة لا تختلف عن تسميات الناس بشيء ليس فيها نعوت ولا صلة بالآلهة على نحو ما نجده في العربية الجنوبية عند المعينيين والسبئيين والقتبانيين، وغيرهم من حكومات ظهرت هناك. ولم تصل إلينا أخبار في وصف كيفية احتفال ملوك الحيرة أو الغساسنة عند تتويجهم، أو عند وفاة ملوكهم وكيفية دفنهم، ثم كيفية تنصيب خلفائهم من بعدهم. ولا بد بالطبع من أن تكون تلك الحكومات قد احتفلت في هذه المناسبات،

_ 1 Roland de Vaux, Anciuent Israel, P. 107

وأن يكون ملوكها قد جلسوا لتقبل التهاني من المهنئين، وأن يكونوا قد أولموا الولائم لكبار الوافدين عليهم. ونجد في أخبار "مكة" أن سادتها مثل "عبد المطلب"، كانوا يقصدون ملوك اليمن عند انتقال العرش إليهم لتهنئتهم ولتقديم التبريكات لهم. ثم يمضون أيامًا هناك حتى تنتهي أيام التهنئة، فيغدق الملك عليهم بالألطاف والطرف، لمناسبة عودتهم إلى ديارهم. وتكون هذه الألطاف من دواعي الفخر عندهم. ولا نعرف شيئًا عن رسوم "البيعة" عند الجاهليين. وأعني بالبيعة كيفية مبايعة الملوك عند انتقال الملك إليهم. ولكن المألوف بين العرب أن كبار الناس يبايعون الملوك، بوضع أيديهم اليمنى على يد الملك اليمنى، ثم يبايعونه على الإخلاص له والسمع والطاعة وما شاكل ذلك من جمل وعبارات. وقد يقسمون له يمين الطاعة والولاء. وقد ورد في بيعة الناس لرسول الله يوم فتح مكة، ما قد يشرح لنا أصول البيعة في الحجاز. فقد ذكر أن الناس اجتمعوا، فجلس لهم رسول الله على الصفا وعمر بن الخطاب تحت رسول الله، أسفل من مجلسه يأخذ على الناس. فبايعوا رسول الله على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، وكذلك كانت بيعتهم لمن بايع رسول الله من الناس على الإسلام. فلما فرغ رسول الله من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع إليه نساء من نساء قريش، وكانوا قد وضعوا إناء فيه ماء بين يدي رسول الله، فإذا أخذ عليهن العهد وأعطينه غمس يده في الإناء، ثم أخرجها، فغمس النساء أيديهن فيه. وكان بعد ذلك يأخذ عليهن، فإذا أعطينه ما شرط عليهن، قال: اذهبن فقد بايعتكن، لا يزيد على ذلك. وتكون هذه البيعة بغير ماء1. وتكون المبايعة بمبايعة السادات والأشراف للملك أو لسيد القبيلة. والمبايعة هي المعاقدة والمعاهدة على الطاعة. وبايعه عليه مبايعة عاهده. كأن كل واحد منهما باع ما عنده لصاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره2. ويبدأ أقرب الناس من الملك بمبايعته ثم الأبعد فالأبعد حسب الوجاهة والمكانة. ولا بد وأن يكون للشعراء والخطباء المكان الأول في "البيعة"، فالبيعة هي من المناسبات التي

_ 1 الطبري "3/ 61 وما بعدها". 2 تاج العروس "5/ 285"، "باع".

يبحث عنها لسن الناس، لإظهار أنفسهم وللحصول على نوال وعطايا المُبايَعين، ولا تحدث هذه المناسبات إلا في الفترات، لهذا كانوا يتلهفون لسماع أخبارها، لعرض ما عندهم من فنون القول، ولنيل ما عند الملوك من الكرم والبذل. وكان ملوك الجاهلية يأخذون الوضائع والودائع من السادات والوجوه، لتكون رهائن عندهم بالوفاء بعهود البيعة، لخشيتهم من خيسهم بعهدهم وتنصلهم منه. وقد فعل "الأكاسرة" مثل ذلك بسادات القبائل، فأخذوا "الوضائع" منهم، وجعلوها رهنًا عندهم. وقد عرفت بـ"وضائع كسرى"1. ووضائع كسرى: هم الرهائن كان يرتهنهم وينزلهم بعض بلاده، حتى يصيروا بها وضيعة. وهم الشحن والمسالح2. وقد بعث رسول الله، إلى وضائع كسرى بهجر، فلم يسلموا، فوضع عليهم الجزية دينارًا على كل رجل منهم3. وكانت "وضائع كسرى" من أبناء أشراف العجم، ومن خضع لحكمه من عجم وعرب.

_ 1 تاج العروس "5/ 545"، "وضع"، فتوح، البلاذري "92". 2 تاج العروس "5/ 545"، "وضع". 3 البلاذري، فتوح "92"، "البحرين".

التيجان

التيجان: ويضع الملوك شيئًا فوق رءوسهم، يتوجون به أنفسهم ليميزهم بذلك عن الرعية، يسمى "التاج" في عربيتنا. ولا نعرف في الزمن الحاضر اسم "التاج" في العربيات الجنوبية. لعدم وروده في نصوص المسند. أما أهل الحيرة والغساسنة وعرب نجد والعربية الشرقية، فقد عرفوه واستعملوه، فورد في نص النمارة من سنة "328م" حيث ورد "ذو أسر التاج" أي: "الذي حاز التاج"1. وهذا النص هو أقدم نص تاريخي مدون وردت فيه هذه الكلمة. وقد وردت الكلمة في الشعر، إذا جاء "تاج آل محرق"2 وفي أخبار "النعمان" حيث عرف "بذي التاج"3. وذكر علماء اللغة أن التيجان للملوك4.

_ 1 Lidzbarski, Ephemeris. II, S. 34, Peiser, Die Arabische Inschrift bon En Nemara, in Orient Literatur Zeitung, VI, 15, 1905, 277-281 2 شعراء النصرانية "ص329". 3 Rothstein, S. 128 4 تاج العروس "3/ 386" "طبعة الكويت".

وقد رصع ملوك الحيرة تيجانهم بالأحجار الكريمة على طريقة الفرس. وقد ورد في بيت شعر لمالك بن نويرة اليربوعي إن تاج النعمان بن المنذر كان من الزبرجد والياقوت والذهب1. ونحن إذا جهلنا اليوم التاج أو أي شعار آخر يشير إلى الملك والحكم، كان يصنعه ملوك العربية الجنوبية على رءوسهم ليكون سمة لهم تميزهم عن الرعية وعمن هم دونهم، فإن ذلك لا يعني أننا ننكر وجودًا لشعار الملك عندهم، بل إني أرى أنه لا بد أن يكون لأولئك الملوك من تاج ومن شعارات أخرى، كانوا يتخذونها لتميزهم عن غيرهم ولتشعرهم بأنهم أصحاب السلطان. وإذا كان لملوك الرومان والروم والحبشة والفرس تيجان، فَلِمَ لا يكون لملوك العربية الجنوبية تيجان، وقد كانوا يحاكون ملوك زمانهم في رسوم الملك وأسلوب الحكم؟ وفي عربيتنا لفظة أخرى استعملت لتمييز شخص عن بقية الناس في المنزلة والدرجات، هي لفظة "الإكليل". فلمن يضع الإكليل على رأسه منزلة رفيعة، إلا أنها لا تبلغ درجة "ملك" ولا تؤدي معنى "تاج" فالتاج لا يكون إلا للملوك. وأما "الإكليل" فلمن دونهم. وقد كان شيئًا يضعه الشخص فوق مفرق رأسه، قد يعلق به خرز وأحجار وقد لا يعلق. وقد ورد في بعض الأخبار أن "هوذة بن علي الحَنَفي"، صاحب اليمامة، كان يضع إكليلًا على رأسه، وإليه أشار الأعشى في شعره: لَهُ أَكاليلُ بِالياقوتِ زَيَّنَها ... صُوّاغُها لا تَرى عَيبًا وَلا طَبَعا وقد عرف "الإكليل" أنه شبه عصابة مزينة بالجواهر، ويسمى التاج إكليلًا. وقيل: إن الإكليل يجعل كالحلقة، ويوضع على أعلى الرأس2. وقد ورد في روايات أخرى أن كسرى أعطى "هوذة" قلنسوة فيها جوهر، فكان يلبسها، فسمي ذا التاج3. غير أن أكثر الروايات تعارض في حصول

_ 1 لن يذهب اللؤم تاج قد حبيت به ... من الزبرجد والياقوت والذهب وقد قاله لما عرض عليه الردافة، فأبى، فطلبه، فهرب منه. ومالك بن نويرة شاعر شريف، وأحد فرسان بني يربوع، قتله ضرار بن الأزور الأسدي بأمر خالد بن الوليد، ابن قتيبة، الشعر "ص192 وما بعدها"، الأغاني "14/ 63 وما بعدها"، الجواليقي "ص356"، المرزباني "ص360". 2 اللسان "11/ 595 وما بعدها". 3 الاشتقاق "ص209ح، اللسان "6/ 181"، "قلنسوة".

"هوذة" على التاج، وفي بلوغه منزلة ملك. وترى أن تلقيبه بـ"ذي التاج" هو على سبيل المجاز، وأن الذي كان يضعه على رأسه هو إكليل، لا تاج من التيجان. وذكر بعض الأخباريين أن التيجان كانت لليمن، وذكر أن غيرهم كانوا يتوجون أنفسهم بخرزات تنظم لهم. ويقال: إن الملك كان إذا ملك سنة زيد في تاجه وقلادته خرزة، ليعلم عدد السنين التي ملك فيها. وذلك كالذي ورد في بيت شعر من قصيدة قالها لبيد في رثاء النعمان بن المنذر، وهو قوله: رَعى خَرَزاتِ المُلكِ عِشرينَ حِجَّةً ... وَعِشرينَ حَتّى فادَ وَالشَيبُ شامِلُ1 وقد ورد في شعر أعشى بكر في هوذة بن علي الحنفي الذي كان يجيز لطيمة كسرى في كل عام: مَن يَرَ هَوذَةَ يَسجُد غَيرَ مُتَّئبٍ ... إِذا تَعَصَّبَ فَوقَ التاجِ أَو وَضَعا لَهُ أَكاليلُ بِالياقوتِ فَصَّلَها ... صُوّاغُها لا تَرى عَيبًا وَلا طَبَعا ويتبين من ذلك أن هوذة كان من أصحاب التيجان. غير أن بعض العلماء ينكرون وجود التيجان عند غير أهل اليمن، ويقولون كما ورد عن أبي عبيدة عن أبي عمرو: "لم يتتوج معدي قط، وإنما كانت التيجان لليمن. ولا سئل عن هوذة بن علي الحنفي، قال: إنما كانت خرزات تنظم له"2. وذكر أن عادة نظم الخرز في عِقْد يوضع على الرأس، ليكون شعارًا للملك والحكم، عادة كانت معروفة في الحجاز. وقد ورد أن "عبد الله بن أُبي بن سلول" كان رجلًا شريفًا في يثرب لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره، وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم. فما راعه إلا مجيء الإسلام إلى يثرب وقدوم الرسول إليها، فانصرف قومه عنه، فضغن على الإسلام،

_ 1 شرح ديوان لبيد "ص266"، اللسان "5/ 345"، "حرز"، الثعالبي، ثمار القلوب "183". 2 العقد الفريد "2/ 244".

ورأى أن الرسول قد استلبه ملكه1 وورد في الحديث أن الرسول: "شكا إلى سعد بن عبادة، عبد الله بن أُبي، فقال: اعف عنه، يا رسول الله، فقد كان اصطلح أهل البُحيرة، على أن يعصبوه العصابة. فلما جاء الله بالإسلام، شَرِق لذلك". ويعصبونه: معناه يسودونه ويملكونه، وكانوا يسمّون السيد المطاع معصبًا، لأنه يعصب بالتاج. وفي ذلك قال عمرو بن كلثوم: وَسَيِّدِ مَعشَرٍ قَد عَصَّبُوهُ ... بِتاجِ المُلكِ يَحمي المُحجَرينا فجعل الملك معصبًا أيضًا، لأن التاج أحاط برأسه كالعصابة التي عصبت برأس لابسها. ويقال: اعتصب التاج على رأسه، إذا استكف به، ومنه قول قيس الرقيات: يعتصب التاجُ فوق مفرقه ... على جبين كأنه الذهب2 ولا تؤدي لفظة "سموط" معنى "تاج"، بل ولا تبلغ في المنزلة منزلة "إكليل". و"السمط": الخيط ما دام الخرز أو اللؤلؤ منتظمًا فيه. وقد استعملت كلمة سموط في مقام التاج، للتعبير عن تاج ملوك الحيرة3، غير أنني أرى إن ذلك على سبيل التجوز، لا التخصيص. وقد ذكر علماء اللغة أن السمط يشد في العنق والجمع سموط4. ومن مظاهر الملك "السرير"، ويقال له: "العرش" كذلك. ويعبر بالسرير عن الملك والنعمة5. ويذكر أهل الأخبار أن أول من جلس على السرير من ملوك العرب "جذيمة الأبرش"، وهو أول من وقعت له السمعة من ملوك العرب، وأول من لبس الطوق6. وقد أشير في القرآن إلى عرش ملكة سبأ،

_ 1 نهاية الأرب "16/ 356 وما بعدها". 2 اللسان "1/ 606"، "عصب". 3 Rothstein, S. 129 4 الاشتقاق "2/ 304"، اللسان "7/ 322"، "سمط". 5 الاشتقاق "2/ 304"، اللسان "7/ 322"، "سمط". 6 صبح الأعشى "1/ 416".

ويكنى به عن العزّ والسلطان والمملكة. ولذلك يقال: "عرش فلان" و"عرش المملكة" و"ثل عرشه"، و"أصحاب العروش" أي الملوك1. وذكر أهل الأخبار أن "السرير": الوِثاب. وقيل: السرير الذي لا يبرح الملك عليه، واسم الملك "مُوثبان". والموثبان بلغة حمير: الملك الذي يقعد، ويلزم السرير. والوثاب المقاعد. قال أمية بن أبي الصلت: بِإِذنِ اللَهِ فَاِشتَدَت قِواهُم ... عَلى مَلكَينِ وَهيَ لَهُم وِثابُ2 وقد كان الملوك يلبسون قلائد عرفت بـ"قلائد الملك" تكون من الذهب والأحجار الكريمة. وربما كان "السمط" قلادة تنظم من اللؤلؤ والأحجار الكريمة، يتقلدها الملك للزينة ولتكون شعارًا للملك. وذكر علماء اللغة أن كل ما يضعه الملوك والرؤساء على رءوسهم من تاج أو عمامة أو قلنسوة أو غيره، فهو "عمارة" و"العمارة"، رقعة مزينة تخاط في المظلة علامة الرياسة، وهي "التحية" أيضًا3. ومن عادة الملوك استخدامهم الحراس يمشون معهم إذا ركبوا، دلالة على الملك، ولحراستهم يمشون معهم، وقد تقلدوا سلاحهم ولبسوا ألبسة خاصة تشعر أنهم من حرس السلطان. ويذكر أهل الأخبار أن أول من مشت الرجال معه، وهو راكب، "الأشعث بن قيس الكندي". كانت "بنو عمرو بن معاوية" ملكوه عليهم وتوجوه4. وكان من عادة الأشراف والسادات حتى في الإسلام، أن تسير مع ركابهم حاشية يتناسب عدد أفرادها مع منزلة الشريف ومكانته وغناه. فكان "كريب بن أبرهة" سيد حمير في زمانه، إذا سار بالشام خرج وتحت ركابه خمسمائة نفر من حمير يسعون5.

_ 1 المفردات "332". 2 اللسان "1/ 792"، "وثب". 3 تاج العروس "3/ 422"، "عمر". 4 صبح الأعشى "1/ 416". 5 الإصابة "3/ 296"، رقم"7490"، "كريب بن أبرهة بن الصباح".

القصور

القصور: وقد عرفت البيوت التي كان يقطن فيها المكربون وملوك العربية الجنوبية بالقصور، مثل "قصر غندن" أي: "قصر غمدان" و"قصر سلحن"، أي: "قصر سلحين". ولفظة "قصر" من الألفاظ الواردة في العربيات الجنوبية. وقد أشار علماء اللغة والأخبار إلى "قصور اليمن"، وذلك يدل على اختصاص اليمن بها. وذكر علماء اللغة أن القصر: المنزل، وقيل: كل بيت من حجر1. وترد في لغة بني إرم على هذه الصورة: "قصرو"2. ويقطن القصور حرم الملوك، أي: أزواجه. وقد يكون للملك زوج واحدة، وقد تكون له جملة أزواج، إذ كانت العادة أن يتزوج الملوك بجملة نساء، ليتمتع بهن، وقد يتزوج لعوامل سياسية، فيأخذ الملك ابنة سيد قبيلة كبير، أو ابنة رجل من أصحاب الجاه والسلطان ليقوي مركزه وليحصل على مؤازرة أصحاب البنت له. وربما لا يكتفي الملك أو سيد القبيلة بالزوجة أو الزوجات، فيضيف إليها أو إليهن عددًا من "الجواري" والسراري، ممن وقعن في الأسر وعرفن بالجمال وبحسن الذوق، ممن يشتريه من سوق النخاسة، وإذا ولد لهن مولود عد المولود من أبناء الملك أو سيد القبيلة إن قرر الملك أو سيد القبيلة ذلك، ويعامل معاملة أبناء الأسرة المالكة، غير أن الناس لم يكونوا ينكرون عليه نظرتهم إلى ابن ملك ولد من أم من بنات الأسر المالكة أو من أسرة شريفة معروفة. ولملوك الحيرة قصور ذكر أهل الأخبار أسماء بعض منها. مثل: الخورنق والسدير، كما كان لملوك الغساسنة قصور في مواضع مختلفة من مملكتهم وقصور في دمشق، يمضون فيها أيامًا عند زيارتهم لها، وعند وجود مراجعات لهم مع حكامها من الروم. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء بعض القصور التي بناها الغساسنة في مواضع متفرقة من الأرضين التي خضعت لحكمهم، تحدثت عنها في أثناء كلامي على الغساسنة في الجزء الثالث من هذا الكتاب: كما تحدثت عن قصور ملوك الحيرة في الجزء نفسه.

_ 1 اللسان "5/ 100"، "قصر". 2 غرائب اللغة "201".

وكان للملك "النعمان" قصر بالحيرة عرف بـ"القصر الأبيض"، لبياضه، يظهر أن جدرانه كانت مجصصة، فظهرت بيضاء. ويذكر أهل الأخبار أن النعمان، كان عنده دواوين شعر فيها ما مدح به، أو ما مدح به آله. ثم أمر فدفنها في قصره هذا، فلما كان "المختار" قيل له: إن تحت القصر كنزًا فأمر به فحفر، فاستخرج الكنز ثم صار إلى آل مروان أو ما صار منه. وكان هذا القصر دار ملكه ومقره في الحيرة، إذ لم يذكروا له قصرًا آخر له فيها. وكان للأكاسرة القصر الأبيض بالمدائن، ذكر أنه كان من العجائب، ولم يزل قائمًا إلى أن نقضه "المكتفي بالله" العباسي في حدود سنة 290هـ. وبني بشرفاته أساس التاج الذي بدار الخلافة وبأساسه شرفاته. وقد ذكره البحتري1. وذكر "الزبيدي"، اسم قصر دعاه "لحيان"2، زعم أنه "قصر النعمان بن المنذر بن ساوى" بالحيرة3. فهل قصد بذلك شخصًا آخر من أهل الحيرة؟ أم إنه وهم من أوهام عديدة نجدهم في "تاج العروس" في أمور تاريخية، قد يكون المسئول عنها نساخ الكتاب في بعض الأحيان. ونسب بعض أهل الأخبار إلى "النعمان بن المنذر"ن دارًا، قالوا لها: "الزوراء"، ذكروا أن "أبا جعفر المنصور" هدمها4.

_ 1 تاج العروس "5/ 10"، "بيض". 2 بالفتح. 3 تاج العروس "10/ 324"، "لحى". 4 تاج العروس "3/ 246"، "زور".

الحكم وأخذ الرأي

الحكم وأخذ الرأي: ولم يكن الملوك في العربية الجنوبية أو في العربية الغربية ملوكًا مطلقين لهم سلطان مطلق وحق إلهي في إدارة الدولة على نحو ما يريدون، ولكن كانوا ملوكًا يستشيرون الأقيال والأذواء وسادات القبائل والناس وكبار رجال الدين فيما يريدون عمله، واتخاذ قرار بشأنه. وهو نظام تقدمي فيه شيء من الرأي والمشورة وحكم الشعب "الديمقراطية" بالقياس إلى حكم الملوك المطلقين الذي حكموا آشور وبابل ومصر وإيران1.

_ 1 A. Grohmann. S. 128

أما الطبقات الضعيفة وبقية السواد من السوقة والفلاحين وما شاكلهم، فليس لهم رأي في تسيير الأمور، ولا يستثارون في البت في أي شيء حتى في المسائل الصميمة المتعلقة بمصيرهم، ولم يكن عالم ذلك اليوم يحفل بسواد الناس، أي: بالغالبية؛ لأن الرأي لأصحاب الوجاهة والسيادة والسلطان إذ ذاك، وفي كل مكان من أمكنة العالم. وترينا الكتابات المعينية أن ملوك معين كانوا مقيدين في حالات معينة بأخذ رأي "المزود" عند اتخاذ قرار خطير، ولذلك يذكر "المزود" عند صدور التشريعات والقرارات الخطيرة في نص القوانين والقرارات، للتعبير عن موافقته عليها وعلى أنها صدرت بعد وقوفه عليها وأخذ الملك رأيه فيها1. ويؤخذ رأي المعبد أيضًا، فقد ذكر في قرار بشأن الضرائب، وذلك يدل على أن المعبد كان يستشار في المسائل الخطيرة أيضًا2. وقد تبين من بعض الكتابات أن ملوك العربية الجنوبية، قد أخذوا برأي الجمعيات وأصحاب الحرف والعمل، حتى لا يبرموا أمرًا يظهر بعد تنفيذه أنه غير واقعي ولا عملي، وأنه سيلقى معارضة من بعض الفئات والطبقات. كما أخذوا برأي المستشارين وأصحاب الرأي من جماعة الـ"فقضت" والـ"بتل" و"طبنن" "الطبن"، وهم الملّاكون، عند وضع القوانين3. وقد تبين من النص: Rep. Epigr. 2771 أن ملك معين استشار "المزود" في فرض ضريبة. وتبين من النص: Rep. Epigr. 2774 أنه استشاره في فرض ضرائب خصصت بالمعبد. ولكننا نجد في نصوص أخرى، مثل النص: Rep. Epigr. 3699 أن الملك لم يستشر "المزود" حين أصدر أمره في موضوع زواج المعينين بأهل "ددن" "ددان" "ديدان". ولعله فعل ذلك لأن موضوع الزواج موضوع إداري ولا علاقة له بالسياسة العامة أو بفرض الضرائب أو بالمسائل الداخلية الخطيرة، وهي الأمور التي يأخذ فيها الملك رأي المجلس. كما نجد الملك يصدر قانونًا باسم "معن" "معين" أي: شعب "معين" دون أن يذكر اسم "المزود"4.

_ 1 A. Grohmann, S. 128, REP. EPIG. 2771 2 REP. EPIG. 2774, 2458, A. Grohmann, S. 128 3 Glaser 1606, Grohman, S. 126. ff 4 REP. EPIGR. 2952, Grohmann, S. 128

وقد تبين من بعض الكتابات أن ملوك معين أصدروا تشريعات في أمور لم يأخذوا فيها رأي المزود، لعدم ورود إشارة فيها إليه. فلدينا قرار في تنظيم أمور الزواج بين المعينين وأهل "ددن" "ديدان"، لم يرد فيه ذكر للمزود1. ولدينا قرار آخر لم يذكر فيه اسم المزود أيضًا، غير أنه يشير إلى أنه صدر باسم شعب معين2، مما قد يبعث على الظن بأن الملوك لم يكونوا ملزمين دائمًا بالرجوع إلى رأي المزود ووجوب أخذ موافقته في كل قضية، بل في القضايا العامة الخطيرة التي تخص مصير الشعب. ويتبين من الكتابات السبئية أن ملوك سبأ ولا سيما قدماؤهم كانوا يتبعون سُنَّة "معين" في الرجوع إلى رأي المزود في القضايا الخطيرة للدولة وإصدار القوانين. فكان الملك إذا أراد إصدار تشريع، أحاله على المزود ليبدي رأيه فيه، وفي طليعة هذه المسائل القوانين الخاصة بالأرضين وبالزرع وبحصص الحكومة من الضرائب لما لها من صلة بمصالح رجال المزود. ومتى وافق المزود على القانون أحيل على الملك لتصديقه ولإعلانه. وهنالك شبه كبير في موضوع التشريع بين القوانين القتبانية والقوانين السبئية العامة، الصادرة في سبأ، ولا سيما في أيام حكم قدماء الملوك، حتى ذهب بعض الباحثين إلى وجود ما يشبه حد الاتفاق بين قوانين المملكتين، إلا في القوانين الخاصة التي تتعلق بالتشريعات المحلية للمخاليف والمدن. فإنها شرعت على وفق الأحوال الملائمة لتلك الأمكنة3. وقد يشار في التشريعات إلى قصور الملوك، مثل "قصر سلحن" "قصر سلحين"، كما أشير إليها في كتابات مختلفة، تتعلق بأخبار الحروب والجباية، وذلك كناية عن مقر الحكم، على نحو ما يستعمل في الزمن الحاضر من قولهم: "صدر من قصرنا العامر" أو "صدر من قصر ... " وذلك رمز إلى مقر الحكم وكناية عن الملك الذي يقيم في ذلك القصر. ومن تلك القصور: "قصر غمدن" أي: "قصر غمدان" و"قصر وعلن" "قصر وعلان" و"قصر ريدن". أي "قصر ريدان" ومن هذه القصور تصدر الأوامر بالموافقة على القوانين والمراسيم، وفيها يوقع على ما يراد نشره ليكتسب صبغة رسمية مقررة.

_ 1 REP. EPIG. 3699, a. Grohmann, S. 128 2 REP. EPIGG. 2952, A. Grohmann, S. 128 3 Handbuch I, S. 128, Bodenwirtschaft, S. 180, A. Grohmann, S. 129

في أخلاق الحكام

في أخلاق الحكام: ليس لدينا وثائق جاهلية في أخلاق الحكام والصفات التي يجب أن يتصف بها الحاكم، ليتمكن بها من حكم الناس ومن الحكم بينهم. وكل ما لدينا، نتف ومقتبسات في أصول الحكم تنسب إلى الجاهليين، مدونة في المؤلفات الإسلامية، يظهر أن بعضها أخذ من حكم الفرس ومن آداب اليونان في السياسة، فنسب إلى الجاهليين، وبعضه إسلامي خالص وضع ليكون وعظًا وإرشادًا وإشارة هادية إلى الخلفاء والحكام في كيفية حكم الرعية وفي تنبيههم إلى واجباتهم وإبعادهم عن الظلم والاتعاظ بمصير الحكام الطغاة الماضين حتى لا يكون مصيرهم مصير أولئك الملوك. وفي كتاب "تاريخ ملوك العرب الأولية من بني هود وغيرهم"، لأبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي، وصايا وعظات في أصول الملك والحكم، نسبها إلى ملوك العرب الماضين قبل الإسلام، دوّنها للخليفة "المأمون" لتكون له هاديًا ومرشدًا في كيفية الحكم. وقد استهله بوصية نسبها إلى "قحطان بن هود" أوصى بها بنيه أن يتعظوا بما نزل بقوم عاد حين عتوا على ربهم، وعصوا أمر نبيهم، فحثهم على التآلف والتعاضد والتناصر وعلى الطاعة للحكام، ثم حث ابنه "يعرب" كبير أولاده على العمل بسيرته ومنهجه، وأن يصل ذوي القربى، وأن يحفظ لسانه ويصونه، وأن يكون كاظمًا للغيظ، يقظًا من الأعداء، حليمًا، لأن الذين سادوا لم يسودوا إلا بالعلم، وأن يكون كريمًا، لأن البخل يبعد الأتباع من الحاكم1. وذكر "الأصمعي" أن يعرب أوصى أبناءه بخصال وبما وصاه به أبوه. أوصى بأن يتعلم العلم ويعمل به، وأن يترك الحسد، وأن يتجنب الشر وأهله، وأن ينصف الناس، وأن يبتعد عن الكبرياء، لأن الكبرياء تبعد قلوب الرجال عن

_ 1 تاريخ ملوك العرب، "ط. الشيخ محمد حسن آل يسين"، سنة 1959م ببغداد "ص3 وما بعدها".

المتكبر، وأوصى بالتواضع، فإنه يقرب المتواضع من الناس ويحببه إليهم، وأن يصفح عن المسيء، وأن يحسن إلى الجار، ولأن يسوء حال أحدهم، خير له من أن يسوء حال جاره، وأن يوصي بالمولى، لأن المولى منكم وإليكم، وأن يخلص بالاستشارة والنصيحة، وأن يتمسك الإنسان باصطناع الرجال1. ونجد في الوصايا التي ذكرها "الأصمعي" وصايا بوجوب التعاضد والتآزر، والابتعاد عن الفرقة، والطاعة من غير خوف2، والعدل في الرعية، والتجاوز عن المسيء، والكف عن أذى العشيرة3، والأخذ بالرأي لأنه لا بد للملك ممن يعينه في الرأي والأمر والنهي، ولا بد له من مشير يحمل عنه بعض ما يثقله من ذلك4. والملك صانع، فإن قام الصانع حق قيامه على صنعته، استجاد الناس له، فكسب المال والجاه؛ وإن استهان بها، ذهبت الصنعة من يده، وكسب الندم والحرمان5. واستمر "الأصمعي" يذكر الوصايا التي ذكر أن ملوك العرب الماضين وضعوها في كيفية الحكم حذر الزلل، ولتجنب الوقوع في الخطأ، وهي نثر وشعر، قد تكون من وضعه وصنعته، صنعها للخليفة ليتعظ بها في الحكم على نسق ما كان يفعله أدباء الفرس والهند في وضع الوصايا والمواعظ والقصص على ألسنة الملوك الماضين والحكماء ليتعظ بها الحكام في أثناء حكمهم للناس. ونجد أمثلة كثيرة من هذا النوع دبجت في كتب السياسة والأدب، على ألسنة أرسطو أو الإسكندر أو أكاسرة الفرس6. ونجد في شعر ينسب إلى "لقيط الإيادي"، أن الحاكم الذي يقلد الأمر يجب أن يكون رحب الذراع، مضطلعًا بأمر الحرب، لا مترفًا ولا إذا عض به مكروه خشع وخضع، يحلب دَرَّ الدَّهْر، يكون مُتَّبِعا طورًا ومُتَّبعًا، متسحصد الرأي لا قحمًا ولا ضرعًا7.

_ 1 "ص9 ومابعدها". 2 "ص17 وما بعدها". 3 "ص20 وما بعدها". 4 "ص25". 5 "ص33، وما بعدها". 6 نهاية الأرب "6/ 16" "في وصايا الملوك". 7 نهاية الأرب "6/ 17".

وكان الملوك على استبدادهم أحيانًا بآرائهم يستشيرون من يرون فيه الأصالة في الرأي، ولا سيما المتقدمون في السن، فقد "كانت العرب تحمد آراء الشيوخ لتقديمها في السن، ولأنها لا تُتبع حسناتها بالأذى والمنّ، ولما مرّ عليها من التجارب التي عرفت بها عواقب الأمور، حتى كأنها تنظرها عيانًا، وطرأ عليها من الحوادث التي أوضحت لها طريق الصواب وبينته تبيانًا، ولما منحته من أصالة رأيها، واستفادته بجميل سعيها"1. ويظهر أن الملوك الغساسنة والمناذرة كانوا قد تطبعوا بطباع الروم والفرس، وأخذوا عنهم أبهة الحكم، فحجبوا أنفسهم عن رعيتهم، مخالفين بذلك العرف العربي، وحصروا أنفسهم في قصورهم وفي قبابهم، حتى أن من كان يريد الوصول إليهم من ذوي الحاجات كان عليه أن يقف أيامًا أمام باب الملك، حتى يأتيه الإذن بالدخول عليه، وهذا ما أزعج الوافدين عليهم كثيرًا، وسبب إلى تجاسر الشعراء وذوي الألسنة الحادة عليهم. وكان على أكثر الوافدين التقرب إلى "الحاجب" والتذلل إليه ورشوته ليعجّل لهم بالدخول على الملوك، ومنهم من كان يتعهد له بأن يجعل له نصيبًا فيما قد يناله من جوائز الملك وهداياه، فيسرع الحاجب عندئذ إلى الملك، لطلب أخذ الإذن منه بدخول ذلك الوافد عليه. وتوصف أخلاق الملوك بالتلون والتغير، لأن الملوك لهم بَدَوات. حتى ضرب بتلون أخلاقهم المثل. فقيل: ويومٍ كأخلاق الملوك ملوّنٍ ... فشمسٌ ودجنٌ ثم طلٌّ ووابلُ2 ولهذا حذر أصحاب المكانة والجاه من الوصول إليهم في أيام غضبهم وبؤسهم. خشية صدور شيء منهم قد يزعجهم فيغضبوا عليه، أو يتفوهوا بعبارات قد تخدش من كرامتهم، وتسبب لهم الألم والأذى. وقد ورد في الحكم: اتقوا غضب الملوك ومدّ البحر3. وقد ضرب المثل بيومي البؤس والنعيم. وقد وردت في الكتابات الجاهلية مصطلحات تعبر عن تقدير الناس لملوكهم،

_ 1 نهاية الأرب "6/ 74". 2 الثعالبي، ثمار القلوب "184"، "أخلاق الملوك. رقم263". 3 الثعالبي، ثمار القلوب "186".

مثل مصطلح "أمرهم"، أي: "آمرهم" و"أميرهم" أو سيدهم، ونجد الكتابات العربية الجنوبية تطلق لفظة "مراهمو" و"مراسهمو" بمعنى "آمرهم" أو "أميرهم" و"سيّدهم" على من هو فوقهم، كالملوك أو الأقيال أو السادات، احترامًا واعترافًا بسيادتهم عليهم. أما في كتابات "تدمر"، فقد وردت لفظة "مرن"، أي: "سيدنا". وقد أطلقت على الملوك، كما استعملت للأشخاص الكبار من أصحاب السلطان. وتقابل هذه اللفظة كلمة Exarkos في اليونانية1. وفي الشعر ذمّ للحكام وشعر في هجاء السادة، لظلمهم وتنمرهم في حق رعيتهم، حتى ذهب الظن بهم أن كل مطاع يظلم، وأن المسوّد ظالم غشوم2.

_ 1 Die Araber II, S. 255 2 الحيوان "3/ 80"، هارون".

الراعي والرعية

الراعي والرعية: الراعي هو الوالي، أي: الذي يلي أمور قوم ويرعى شئونهم، فهو بمنزلة الراعي للماشية المرعية. أما القوم فهم الرعية، أي: العامة1. والملك هو راعي مملكته، وراعي رعيته، وهم من هم دونه، يتبعونه ويخضعون لرأيه وحكمه. ويعبر عن الرعية بالسوقة كذلك. سموا سوقة لأن الملوك يسوقونهم فينساقون لهم، والسوقة من الناس من لم يكن ذا سلطان. والسوقة خلاف الملك. قال نهشل بن حري: ولم تَرَ عيني سوقةً مثل مالك ... ولا ملكًا تجبى إليه مرازبه وفي البيت المنسوب إلى "بنت النعمان بن المنذر"، وهو: فبينا نسوس الناسَ والأمر أمرُنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف2 تعبير عن فكرة التعالي والترفع التي كانت عند أهل الحكم والملك بالنسبة إلى

_ 1 اللسان "14/ 327"، "رعي". 2 اللسان "س، و، ق"، "10/ 170".

المحكومين. وفي حديث المرأة الجَوْنية التي أراد النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يدخل بها، فقال لها: "هبي لي نفسك"، فقالت: "هل تَهَبُ الملكة نفسها للسوقة؟ "1 ما ينم عن هذه الروح. ويعبر عن السواد الأعظم بـ"سواد الناس" وبـ"سواد القوم" أي: عوامهم وكل عدد كثير. وهو مصطلح يقرب معناه من معنى "السوقة". والسواد الأعظم من الناس، هم الجمهور الأعظم والعدد الكثير2 وهم "الغوغاء" الذين لا يفقهون شيئًا من أمور دنياهم وإنما هم تبع وغنم يتبعون أي راع. وقد برزت أهميتهم في صدر الإسلام، إذ عرفت الفائدة منهم فيما لو وجهوا توجيهًا حسنًا. قال الخليفة "عمر": "استوصوا بالغوغاء خيرًا، فإنهم يطفئون الحريق، ويسدّون البثوق"3. وقد عرف الجاهليون قيمة وأهمية السواد؛ لأنه الكثرة والرماح التي يعتمد عليها ذوو السؤدد، والجماعة التي تدافع عن سيدها وتحمي حماه. وقد استطاع "أبو سلمى" أن يعبر عن أهمية العوام وأصحاب الحناجر القوية من غوغاء الناس في جبل السؤدد إلى الأشخاص في هذا الرجز: لابد للسؤدد من رماحِ ... ومن عديد يتقي بالراح ومن كلاب جمة النباح4 وعلى الرعية حق الطاعة، طاعة من بيده الحكم والسلطان، وليس عليها الخروج على أوامره وأحكامه؛ لأن من حق الراعي تأديب رعيته إذا خرجت عن طاعته. فإذا خرجت الرعية على حكم الملك، حق عليه تأديب رعيته بالصورة التي يراها. ولا يتمكن من الخروج على طاعة السلطان إلا الأشراف وسادات القبائل، ففي استطاعة هؤلاء بما لهم من أتباع ورعية، تهديد الملوك، أو من ينوب عنهم في الحكم. ولهذا كانت لهذه الطبقة مكانة وكلمة عند الملوك.

_ 1 اللسان "س، و، ق"، "10/ 170". 2 اللسان "3/ 224"، "سود". 3 رسائل الجاحظ "1/ 366"، "كتاب فصل ما بين العداوة والحسد". 4 رسائل الجاحظ "1/ 366"، كتاب فصل ما بين العدواة والحسد"، "أرماح"، الحيوان "1/ 351"، "3/ 79"، "هارون".

ولم يكن من السهل على أبناء القبائل تقديم واجب الطاعة للملوك إذا كانوا من غير قبيلتهم، فالملوك الغرباء وإن كانوا عربًا مثلهم، لكنهم في نظرهم غرباء عنهم، ومن قبيلة بعيدة عنهم. والعربي بحكم طبيعة ظروفه ومحيطه القبليّ، لا يرى الخضوع إلا لمن تربطه به رابطة العصبية. ومعنى هذا أنه لا يخضع إلا لسيد قبيلته، أو لمن يخضع سيد قبيلته لحكمه أو للملك إذا كان من قبيلته. وسيد القبيلة لا يخضع هو نفسه لأحد إلا إذا أكره على ذلك إكراهًا، أو وجد في خضوعه لحكم حاكم آخر منفعة ما تأتيه من هذا الحكم. فإن زالت القوة التي أكرهته على الخضوع لغيره، أو ذهبت المنفعة التي كان يحصل عليها، أعلن انفصاله واستقلاله بشئون قبيلته أو انضمامه إلى حاكم قوي آخر ليصير حليفًا له. لذا صار تاريخ القبائل صراعًا ونزاعًا بين قبائل طامعة في حكم قبائل أصغر منها، وقبائل أخرى تريد أن تعيش وحدها مستقلة بإدارة أمورها، أو منافسة غيرها في حكم قبائل أخرى، لتكوين حكومة كبيرة منها ومن القبائل التي استسلمت لها. فالممالك التي تكونت والتي تحدثت عنها، لم تكن إذن ممالك مكونة من مواطنين آمنوا بمبدأ المواطنة واعتقدوا بعقيدة طاعة سلطان الدولة. بل كانت مملكة قبائل اتحدت طوعًا أو كرهًا، وكونت حلفًا كبيرًا ترأسه ملك. يظل قائمًا ما دامت هنالك قوة قائمة ومصلحة وفائدة، فإن انتفت المصلحة، عادت طبيعة الأنانية القبلية إلى لعب دورها في الانفصال. وهي عقلية تعرقل وتقاوم تكوّن الدول الكبرى. ولهذا قاومها الإسلام؛ لأنه جاء بمبدأ "الجماعة"، وعقيدة "الأمة" و"الملة"، فورد في الحديث: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتة جاهلية" 1. وللشعراء وأهل البيان كلام في أصول سياسة الحكم وإدارة أمور الرعية. قال "الجاحظ": "ومتى أحب السيد الجامعُ، والرئيس الكامل قومه أشد الحب وحاطهم على حسب حبه لهم، كان بغض أعدائهم له على حسب حبه قومه له. هذا إذا لم يتوثب إليه ولم يعترض عليه من بني عمه وإخوته من قد أطمعته الحال باللحاق به. وحسد الأقارب أشد، وعداوتهم على حسب حسدهم. وقد قال الأولون: رضا الناس شيء لا ينال.

_ 1 نهاية الأرب "6/ 12 وما بعدها".

وقد قيل لبعض العرب: من السيد فيكم؟ قال: الذي إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر اغتبناه. وقد قال الأُول: بغضاء السوق موصولة بالملوك والسادة وتجري في الحاشية مجرى الملوك. وليس في الأرض عمل أكدّ لأهله من سياسة العوام1. وقد دفعت الروح الفردية والنزعة القبلية سادات القبائل وقادة الجيش على الثورة بملوكهم وبحكامهم، فامتلأ تاريخ الجاهلية بها وبالمكايد والانتفاضات. وقد أثرت أثرًا خطيرًا في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وصارت في جملة عوامل تدهور الحضارة في اليمن. ونقرأ في كتابات المسند بعض الألفاظ المعبرة عن الفوضى وعدم الاستقرار بسبب حركات العصيان. منها لفظة "كيد"، وتؤدي معنى ثورة وعصيان2. و"ثبر" و"مثبر" بمعنى "ثبور"، ويراد بها ثورة أيضًا3. و"نزع" وتؤدي معنى ثورة كذلك4. و"نقم" وتؤدي معنى "نقمة" وعدم رضى عن الأوضاع. و"قسدت" و"قسد" بمعنى ثورة وثار. فالثورة هي "قسدت" في العربية الجنوبية. و"قرن" وهي في المعنى نفسه5. و"تحسبن" بمعنى عنف واستخدام العنف6. ولفظة "هرج" بمعنى الفوضى والقتل والهرج7. و"مخر" بمعنى مخالفة وقتال8. ونجد في كتابات المسند ألفاظًا أخرى، لها صلة وعلاقة بالأوضاع المذكورة. مثل لفظة "هبعل" في معنى الاعتراف بسيادة قوم على قوم. وبالتسليم بسيادة الرؤساء بعد أن ثاروا عليهم وحاولوا التخلص منهم. ولفظة "هوبل" في معنى النجاح في المطاردة والتوفيق في القضاء على العصيان، وعودة الأمر إلى ما كان عليه. ولفظة "همسر" بمعنى أحبط وكسر. و"هسحت"، بمعنى تحطيم والقضاء على شيء، كحركة عصيان. و"هضرع" بمعنى أخضع و"حلفي"

_ 1 الحيوان "2/ 94 وما بعدها"، "هارون". 2 South Arabian Inscriptions, P. 437 3 المصدر نفسه "ص441". 4 "ص442" من المصدر المذكور. 5 "ص447" من المصدر المذكور. 6 "ص450" من المصدر نفسه. 7 "ص433" من المصدر نفسه. 8 "ص439" من المصدر المذكور.

بمعنى ضغط واستعمل العنف. و"حف" بمعنى أحاط. و"خرط" بمعنى الاستيلاء على شيء. و"نحت" بمعنى ضرب. و"نكى" في معنى قاسى وكابد من الألم والعذاب. و"نقيذ" بمعنى استولى على مكان وفتحه. و"سبط" بمعنى أحبط وقضى على ثورة. و"سحت" في معنى هزيمة. و"قمع" في المعنى المعروف منها في لهجتنا. و"رتضح" بمعنى ذبح. و"توشع" في معنى هزيمة. و"تشكر" في معنى هزيمة أيضًا. فلكل هذه الكلمات ولغيرها مما في معناه صلة بالأوضاع السياسية والعسكرية التي كانت سائدة في ذلك العهد. وهي دليل على سوء الحال.

تحية الملك

تحية الملك: وكانت لملوك الحيرة وملوك الغساسنة وغيرهم من ملوك الجاهلية تحيات تختلف عن تحيات سائر الناس. لأن الملك يحيا بتحية الملك المعروفة للملوك التي يباينون فيها غيرهم. ومن تحياتهم: أبيت اللعن، وأسلم وأنعم، وأنعم صباحًا، وعش ألف سنة. "وكانت تحية ملوك العجم نحوًا من تحية ملوك العرب، كان يقال لملكهم: زه هزار سال؛ المعنى: عش سالمًا ألف عام"1. وذكر بعض علماء اللغة أن "أبيتَ اللعن: كلمة كانت العرب تحيي بها ملوكها في الجاهلية، تقول للملك: أبيت اللعن، معناه أبيت أيها الملك أن تأتي ما تلعن عليه. واللعن: الإبعاد والطرد من الخير"2. وذكروا أن أول من حييي بتحية الملوك: "أبيتَ اللعن" و"أنعم صباحًا" يعرب بن قحطان3. وقد وردت تحية "أبيت اللعن" في شعر للنابغة الذبياني، يعتذر فيه للنعمان بن المنذر: أَتاني أَبَيتَ اللَعنَ أَنَّكَ لُمتَني ... وَتِلكَ الَّتي تَستَكُّ مِنها المَسامِعُ4 وذكر أيضًا أن أول من قيل له ذلك قحطان. وقيل: أول من حيي بها يعرب بن قحطان5.

_ 1 اللسان "14/ 217"، "حيا". 2 اللسان "13/ 387"، "لعن". 3 العمدة "2/ 225". 4 الصاحبي "ص91". 5 تاج العروس "9/ 335"، "لعن".

وذكر أن تحية الناس فيما بينهم: "أنعم صباحًا" أو "أنعم مساء" أو "أنعم ظلامًا"، و"عموا صباحًا" و"عموا مساء"، وذلك حسب المناسبات. أما إذا حيوا الملك، قالوا له: "أنعم صباحًا أيها الملك"، لهيبة الملك ولتعظيمه1. وقد أبطل الإسلام تلك التحية: بأن أحل السلام محلها. فلما دنا "عمير بن وهب" من رسول الله قال: "أنعموا صباحًا"، فقال رسول الله: "قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير؛ بالسلام تحية أهل الجنة" 2. وقد صار السلام من العلامات الفارقة بين الشرك والإسلام. وذكر أن التحيّة الملك. وفي هذا المعنى قولهم: حيّاك الله وبيّاك، أي: اعتمدك بالملك. وفي هذا المعنى قول زهير بن جناب الكلبي: ولكل ما نال الفتى ... قد نلته إلى التحيّة أي: إلا الملك، وذكر أن المراد بها هنا البقاء، لأنه كان ملكًا في قومه3. والتحية في قول "عمرو بن معد يكرب": أسير به إلى النعمان حتى ... أنيخ على تحيته بجندي تعني: ملكه، فالتحية الملك4 ويظهر أن بعض الجاهلين كانوا يحيون بتحية "حيّاك وبيّاك"، أو "حياك الله"، أو "حيّاك الله وبيّاك"5. ولا أستبعد استعمالهم اسم صنم من الأصنام في موضع "الله" عند عبّاد ذلك الصنم، كأن يقولون: "حيّاك هبل"، وقد بقيت هذه التحية إلى الإسلام، ثم صارت: "حيّاك الله". وقد يخاطبون بها الملوك فيقولون: "حيا الله الملك" وذكر أن تحيات أهل الشام لملوكهم:

_ 1 الصاحبي "91". 2 الطبري "2/ 473"، "دار المعارف". 3 اللسان "14/ 216"، "صادر"، "حيا"، تاج العروس "10/ 106 وما بعدها"، "حيي". 4 المصدر نفسه، بلوغ الأرب "3/ 203". 5 تاج العروس "10/ 107"، "حيي".

"يا خير الفتيان"1. والمعروف عن العرب أنهم لم يكونوا يسجدون للملوك ولساداتهم كما كان يفعل العجم. غير أن رواية وردت في "كتاب فتوح الشام" للواقدي تذكر أن "الياس"، وهو عم ملك الحيرة وصاحب حرسه، لما أدخل "سعد بن أبي عبيد القاري"، على الملك "النعمان بن المنذر"، "صاح به الحجاب والغلمان قَبّل الأرض للملك، فلم يلتفت إليهم"2. وفي هذا الخبر دلالة على أن أهل الحيرة كانوا إذا دخلوا على الملوك سجدوا لهم: كما كان يفعل ذلك غيرهم من الغرباء ممن يدخل على الملوك ولا سيما الفرس. وتتحدث هذه الرواية المنسوبة إلى الواقدي، بأن الملك النعمان، كان له كلام وجدل في موضوع الدين ورسالة الإسلام مع "سعد بن أبي عبيد القاري" رسول "سعد بن أبي وقّاص" إليه. وأنه لما طرد الرسول، قال "سعد بن أبي وقاص": سأحمل فيهم حملة عربية ... ولا أنثي والله عنهم بعسكري فإما أرى النعمان في القيد موثقًا ... وإما طريحًا في الدماء المعفر ثم أمر سعد بن أبي وقاص جمعه بالمسير نحو النعمان، فالتقى القعقاع بن عمرو التميمي أو بشر بن ربيعة التميمي بالنعمان في كبكبة من الخيل، فحمل القعقاع أو بشر على الكبكبة أو الكتيبة فمزقها، ورمى النعمان بطعنة في صدره، فلما رأت جيوش الحيرة الملك مجندلًا، ولت الأدبار تريد القادسية نحو جيش الفرس3. والذي أجمع عليه المؤرخون وأهل الأخبار، أن المنذر كان قد ذهب إلى العالم الثاني قبل الفتح، بزمن على نحو ما تحدثت عنه في الجزء الثالث من هذا الكتاب. وقد ذكرت ما قيل في موته من شعر نظمه شعراء معاصرون له، وما وقع من اصطدام بين العرب والفرس بسبب مطالبة "كسرى" بتركته على ما يذكره أهل الأخبار. لذلك لا يمكن التصديق بهذه الرواية مع وجود ذلك الإجماع، ثم إن فيها معالم الصنعة والتزويق، ولا سيما في موضوع الحوار بين النعمان وبين رسول "سعد" إليه في موضوع الإسلام، مما يحملنا على القول بأن هذا الخبر قد أدخل فيما بعد

_ 1 أيام العرب "ص42". 2 الواقدي، فتوح الشام "2/ 185 وما بعدها". 3 فتوح الشام "2/ 187 وما بعدها".

في هذا الكتاب المنسوب إلى الواقدي، وهو لمؤلف متأخر عنه، جمع مؤلفه من روايات أخذها من "فتوح الواقدي" ومن كتب أخرى ومن روايات متأخرة، فألف منها هذا الكتاب. ومن قواعد ملوك الحيرة في مخاطبة من هم دونهم من أصحاب المنازل قولهم لهم: "يا عام"، وقولهم "إنك هابل"1. وللملوك عادات في مكالمة الناس ومحادثتهم. وهم يراعون بصورة عامة منزلة ودرجة من يتحدثون معه. فإذا كان المخاطب من ذوي المكانة كأن يكون سيد قبيلة ووجيه قوم، كلّموه بما يليق به، وإن كان من سواد الناس القادمين للحصول على صدقة وحسنة، أو على إنصافه ومساعدته كلموه بأسلوب آخر. ثم إنهم كانوا يستعملون الكلام الغليظ الشديد مع مخاطبهم، إذا أزعجهم أو إذا كانوا غاضبين عليه. وهكذا يكون لكل موقف كلام. ويظهر من شعر للأعشى هو: فَلَمّا أَتانا بُعَيدَ الكَرى ... سَجَدنا لَهُ وَرَفَعنا العَمارا أن العرب، أو بعضًا منهم، كانوا يسجدون لملوكهم. و"العمار" ريحانة كان الرجل يحيي بها الملك مع قوله: عمرك الله. وقيل: هي رفع الصوت بالتعمير، أي: بالدعاء. وقولهم: عمرك الله. وروي: ووضعنا العمارا، والعمار العمامة، أي: وضعناها من رءوسنا إعظامًا له. ومن العمار قولهم: عش ألف سنة لعمرك2. والذين فعلوا ذلك هم عرب الحاضرة، تأثروا بما فعله الأعاجم بالنسبة لملوكهم، فعملوا بهذه المراسيم.

_ 1 النوادر "ص177 وما بعدها". 2 تاج العروس "3/ 422"، "عمر".

دور الندوة

دور الندوة: وللدول العربية الجنوبية مجالس استشارية تسمى "مزودًا"1، من واجبها النظر

_ 1 الحرف الثاني لا وجود له في أبجديتنا، وهو بين الزاي والسين، وقد عبرت عنه بحرف الزاي لأنه أقرب الحروف نطقًا إليه.

في المشكلات التي تتعرض لها الدولة، والبت في القضايا المهمة وفي موضوع فرض الضرائب. وقد عرف هذا المجلس في دولة معين بـ"مزودن معن" "مزود معين"1. وكان للسبئيين مجالسهم الخاصة بهم، تنظر في المسائل التي يحتاج ملوك سبأ إلى أخذ الرأي فيها والوقوف على رأي عقلاء الأمة للاستنارة برأيهم عند اتخاذ رأي وإقرار قرار. ولا يعني وجود هذه المجالس أن النظام هناك كان نظامًا نيابيًّا انتخابيًّا، يجتمع الأحرار والوجهاء فينتخبون من يريدون أن يمثلهم أو يتكلم باسمهم انتخابًا على النحو المفهوم من الانتخاب في الزمن الحاضر. وإنما كانت عضوية المجالس بالوجاهة والمنزلة والمكانة، وتلك قضايا اعتبارية للعرف فيها الرأي والقرار، وأعضاء المجلس هم أعضاء فيه، لأنهم من رجال الدين أو سادات قبائل أو من كبار الموظفين، أو من أصحاب الأرض والمال، فهم في عرف ذلك اليوم الصفوة والخيرة، وعندهم العقل والرأي والسداد. وعلى هذا النحو من التمثيل تكون المزاود، أي: مجالس الأمة. وقد عرف أعضاء المزود بـ"أسود"، أي: "أسواد" "أسياد"، بمعنى سادة، وهم بالطبع من علية القوم وسادتهم. وفي ضمن هؤلاء الـ"منوت" "منوات"2. وكما تطلق الشعوب في الزمن الحاضر نعوت التفخيم والاحترام على مجالسهم التمثيلية، كذلك أطلقت الشعوب الماضية مثل هذه النعوت على مجالسهم. فأطلق العرب الجنوبيون لفظة "منعن" مثلًا على المزود، فورد: "مزود منعن" في بعض الكتابات، بمعنى "المزود المنيع"3. وربما أُطلقت اللفظة على العضو في هذا المجلس كذلك4. ولكننا لا نعرف ذلك في هذا اليوم معرفة أكيدة، وربما كانوا يطلقون نعوت تفخيم وتعظيم أخرى على أعضاء هذا المجلس. وحصلنا من الكتابات على اسم مجلس يسمى "طبنن"، وذلك في الكتابات

_ 1 REP. EPIG. 2771, 3458, Grohmann, S. 128 2 REP. EPIG. 3562, a. Grohmann, s. 128 3 Glaser 1150, Halevy, 192, 199 4 RHODOKANAKIS, Stud, II, S. 66. ff

القتبانية. وقد رأى بعض الباحثين أنه مجلس كبار الملاكين1. ورأى آخرون أنه بمنزلة "المزود" بالنسبة إلى القبيلة، وأنه مجلس أصحاب الأملاك، ورؤساء أفخاذ القبيلة المالكين، وأنه يأتي بعد "المزود" في الأهمية عند القتبانيين2، وأنه كان ينظر في المسائل الخاصة بالملك والأرض وفي الضرائب التي تجبى عن الزراعة وفي تأجير الأرض، وما شاكل ذلك من موضوعات تخص الأرض والزرع. ويقول علماء اللغة: إن "الطبن"، هو الرجل الفطن الحاذق العالم بكل شيء3، ولعلهم أخذوا هذا التفسير من العرب الجنوبيين. فـ"طبنن"، هو مجلس عقلاء القوم وحذاقهم والمتكلمين باسم القوم. ولم يكن لسواد الناس ولا للطبقات الوسطى منهم، رأي ولا تمثيل في "الطبنن" ذلك لأن هذا المجلس هو مجلس كبار الملاكين للأرض فقط. وكانوا يشتركون في الـ"المزود". ونجد ذكر هذا المجلس في كتابات يرى بعض الباحثين أنها من أواسط القرن الخامس قبل الميلاد4. ويقابل مجلس الملّاكين "طبنن" القتباني مجلس عرف بـ"مسخنن" "المسخن" في اللهجة السبئية. وقد أشير إليه في الكتابات السبئية القديمة وفي كتابات عهد "ملوك سبأ وذي ريدان"5. وأعضاؤه من الوجهاء وكبار الملاكين الذين ورثوا ملكهم من عقار وأرض6. وترد في الكتابات السبئية لفظة لها علاقة بمجلس يمثل طبقة خاصة في سبأ. عرف بـ"عهرو" "عهر". ونجد هذا الاسم في الكتابات التي هي من القرن الثاني قبل الميلاد فما بعده. ويظهر أنه كان مجلس الأشراف من أهل الحسب والنسب من أمثال الأشراف والنبلاء الذين عاشوا في أوروبا في القرون الوسطى. ولا يشترط في الطبقة المسماة بهذه التسمية أن تكون من كبار المالكين وأصحاب العقار. وإلى

_ 1 A. Grohmann, S. 128 2 راجع السطر الرابع من النص: Glaser 1606 3 اللسان "17/ 132"، القاموس "4/ 244". 4 A. Grohmann, S. 127, Rhodokanakis, Grundsatz, 33, Handbuch, I, S. 125. Glaser 1606 5 CIS, 60, Grohmann, Sudarabien als Wirtcshaftgebiet, I, 95, Handbuch, I, S. 122 6 Handbuch, I, S. 122

هؤلاء يضاف من يقال لهم: "ذا عذر" "ذو أعذر". وهم طبقة من أشراف لا يربط بينهم دم، ولا تجمع بينهم وبين القبيلة التي ينزلون بينها أو بين الناس الذين يعشون بينهم، صلة رحم. ولا يملكون أرضًا، وإنما هم حلفاء وجيران، نزلوا بين قوم فصاروا مثلهم، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، يؤدّون ما يؤدّيه حليفهم من القبيلة من واجب وعمل، وعلى حليفهم مراعاتهم، لأنهم في جواره وفي حلفه1. هؤلاء هم أصحاب الرأي والاستشارة في الحكومات العربية الجنوبية، والمجالس المذكورة تنظر في مصالح المنتمين إليها وكلهم كما رأينا من أصحاب الجاه والسيادة والسلطان. وإذا أقر "المزود" موضوعًا ووافق عليه، رفع القرار إلى الملك لإصدار أمره بتنفيذ ما توصل إليه، وتصدر القرارات بصورة مراسيم تشريعية ملكية تعلن للناس وتبلغ للقبائل لإقرارها وتنفيذها، وقد حفظت الكتابات جملة قرارات من هذا النوع2. وتوقع المحاضر في الغالب بلفظة "مثبت" من أصل "ثبت"، وذلك دلالة على الموافقة والتأييد بصحة صدور القرار3. وأن القرار قد ثبت وصار أمرًا إلزاميًّا واجب التنفيذ. واصطفى الملوك لهم حاشية من ذوي الرأي والعقل والتجربة، جعلوها هيئة استشارية، تقدم الرأي لهم، وقد عرفت بـ"فقضت"، وبـ"بتل"4. فنحن في اليمن إذن بإزاء نظام يمكن أن نسميه نظامًا تمثيليًّا، وإن لم يكن يمثل رأي الشعب تمثيلًا تامًّا، فلم تكن للأغلبية المكونة للأمة إرادة في اختيار ممثليهم للمجالس، كما هو المفروض والمطلوب من المجالس، فمن هنا لم يكن نظام الحكم في هذه البلاد نظامًا تمثيليًّا صحيحًا، ولكنه كان تمثيليًّا من ناحية ضمه أصحاب الرأي والجاه والسلطان في الدولة، لمجالس "المزود" وإبدائها رأيها لحاكم البلاد، ولا سيما في المسائل الكبرى التي يتوقف عليها المصير، مثل إعلان حرب، أو عقد صلح، إو إقرار ضرائب. نظام نستطيع أن نسميه نظام الأخذ بمبدأ استشارة ذوي الرأي.

_ 1 A. Grohmann, S. 125, Handbuch, I, S. 124, 133 2 Handbuch, I, S. 122 3 Rhodokanakis, Stud, II, S. 85 4 Glaser 1606, Grohmann, S. 128

والوجاهة والسلطان في المسائل الخطيرة التي تخص الدولة أو المجتمع وحدهم، فهو نظام شورويّ بالنسبة لأهل الرأي والمشورة، وهؤلاء وحدهم هم الذين يشاورون في الأمور. أما السواد، فلا رأي له. ومع ذلك، فهو أفضل من الحكم المطلق الذي يكون الملك فيه هو "الكل في الكل" يفعل ما يشاء من غير حساب. وهو بالقياس إلى نظم الحكم عند الأشوريين أو البابليين أو الفراعنة، نظام فيه "ديمقراطية" لا نجدها في قواعد حكم الشعوب المذكورة. ولكن الدنيا لا تدوم على حال واحد، فأخذ حكم المزاود يتقلص، وصار عدد من يأخذ بالرأي والمشورة من الملوك يقل حتى إذا جاءت الأيام المتأخرة من حكومة سبأ، صار الأمر للأقيال والأذواء وسادات القبائل، واضطر الملوك إلى النزول عن حقهم في الأرضين إلى أصحاب السلطان في مقابل اتفاقيات تحدد الواجبات والحقوق التي يترتب على هؤلاء الأقوياء الذين اغتصبوا الأرض اغتصابًا أداؤها للدولة، ويقوم صاحب السلطان الملاك بإيجار الأرض لأتباعه من آله أو من أهل قبيلته، مقابل أجر يدفعونه له، وهؤلاء يؤجرونها أيضًا لمن هم دونهم في المنزلة والدرجة. فتحولت الملكية بذلك إلى دولة إقطاع، أرباحها وحاصلها وناتجها وقف على طبقة ذوي الجاه والسلطان. وفقد "المزود" مكانته، إذ انتزع الأقيال "أقول" منه السلطان، حتى قدموا أسماءهم في النصوص على اسم المزاود. فنجد أقيال "سمعي" "أقول سمعي" يقدمون اسمهم على اسم المزود، دلالة على خطر شأنهم وقوتهم، وعلى أن حكم "المزود" صار في الدرجة الثانية من خطر الشأن في هذه الأيام1. وقد تضاء حكم "المزود"، بل زال من الوجود منذ القرن الثالث للميلاد فما بعده، فلا نكاد نجد له حكمًا أو ذكرًا في الكتابات، إذ انفرد الملوك والإقطاعيون الكبار بالحكم، وصار رأيهم هو الرأي الحق المقبول، وبيئة ينفرد فيها الأفراد بالحكم، وينتزع فيها من الأشخاص حق التعبير عن الرأي، هي بيئة لا يمكن أن يعمر فيها "المزود" أو أي مجلس كان من قبيلة يقوم بالتعبير عن رأي الناس، وإن كان بصورة رمزية شكلية. لذلك نستطيع أن نقول: إن العربية الجنوبية فقدت أهم نعمة كانت عندها، نعمة التعبير عن الرأي، والنظم اللامركزية

_ 1 Glaser 1210

بعد الميلاد. وزاد في تقليص حكم تلك المجالس تدخل الحبش بصورة مستمرة في شئون العربية الجنوبية، وانتزاعهم الحكم بالقوة من أصحابه الشرعيين وانفراد حكامهم وحدهم بالحكم، ثم اضطرار الملوك والأقيال والأذواء إلى مقاومة الحبش الغزاة وحشد كل الطاقات البشرية لطرد الحبش من بلادهم، وأحوال مثل هذه لا تسمح بإبداء رأي، فكان فيها موت تلك المجالس التي لم تكن كما قلت تمثل الشعب، لأنها لا تمثل السواد الأكبر، وإنما كانت تمثل أصحاب الوجاهة والسلطان ولكن وجود شيء فيه وقوف إزاء الملوك وتحد لسلطانهم إن أرادوا توسيعه، هو مهما كان نوعه خير من لا شيء ومن انفراد الملوك بالأمر دون خوف ولا رهبة من اعتراض أحد ومن نقد ناقد. هذا، ولم نعثر على نص بالمسند، ورد فيه ذكر لعدد أعضاء المزاود أو المجالس التمثيلية الأخرى. أما ما ذكره "الهمداني" من أنه كان لحمير مجلس ينظر في أمور الملك واختيار الملك إذا مات الملك ولم يترك من يرثه، وأن عدد أعضاء ذلك المجلس ثمانون قيلًا، لا ينقص ولا يزيد، وأنهم إذا انتخبوا قيلًا منهم ليكون ملكًا عند عدم وجود من يخلف الملك، أو عدم رضائهم عن الملك لسبب من الأسباب، فإنهم كانوا ينتخبون قيلًا جديدًا ليكمل العدد المقرر1، فإننا لا ندري أكان ذلك حكاية عن وضع الحكم في اليمن في قبيل الإسلام، أم كان مجرد رواية من هذه الروايات الواردة عن الجاهلية، مما يرويه أهل الأخبار. وقد نحمل روايته محمل الصدق بالنسبة إلى مجمل الخبر. أما بالنسبة إلى ثبات العدد فأمر لا نستطيع أن نأخذ به ونقطع بصحة ما ورد فيه. وظهرت في القرن الثاني قبل الميلاد فما بعده ظاهرة جديدة أخرى، قد تدل على ضعف شخصية الملوك، وتقلص سلطانهم، هي ظاهرة ذكر اسم ولي العهد مع اسم الملك، وتلقيبه بلقب ملك تمامًا كما يلقب الملوك. فجاء اسم نهفان مع ابنه "شعرم اوتر" "شعر أوتر"، دلالةً على أنهما حكما حكمًا مشتركًا، وجاء اسم ملك، وجاء مع اسمه اسم أخيه يحكم معه ويحمل لقب الملك، وجاء اسم ملك ومعه اسم ابنين أو ثلاثة أبناء، يشاركونه في اللقب

_ 1 الإكليل "2/ 114".

وفي الحكم، بل ورد اسم ملك ومعه حفدته يحملون لقب الملك1. وظاهرة أخرى نراها تظهر، فيها دلالة أيضًا على تناحر الأسر وتقاتلها على الجاه والحكم والسلطان، تتجلى في حكم أسرتين مختلفتين، إحداهما من "حاشد" وأخرى من "بكيل"، وكلتاهما من هَمْدان، وقد حمل كل واحد من رجلي الأسرتين اللقب الرسمي لملوك سبأ. فقد حكم "علهان نهفان" وابنه "شعر أوتر" وهما من "حاشد"، وحكم في الوقت نفسه "فرع ينهب"، وابنه، وهما من "بكيل"، وكان كل واحد منهما يلقب نفسه بألقاب ملوك سبأ. ثم نجد من ذيول هذه الظاهرة منافسة "ظفار" لمأرب، ومبارزة قصر ملوك "ظفار" وهو "ذو ريدان" لقصر ملوك سبأ القديم وهو "سلحن" "سلحين". وفي هذه المنافسة دلالة على تنافس أسرتين على الحكم، كل أسرة تدعي أنها حاكمة سبأ ومالكة مملكة سبأ2. وكان من نتائج هذا التطور ظهور حكم لا أود تسميته بـ"حكم لا مركزي"، ولكن أرى تسميته: حكمًا إقطاعيًّا، أو حكم "أمراء الطوائف"، أو حكم رءوس الطوائف. فقد صار الأمر والنهي للأقيال وللأذواء، وللسادات وقادة الجيش، حتى تكاثر عددهم، وحتى صارت لهم كلمة في اختيار الملوك وفي إسقاطهم. ونجد في الكتابات المتأخرة أسماء عدد كبير من هؤلاء الإقطاعيين، دلالة على مكانتها، وخطر شأنها في السياسة العامة، ولم تختف هذه الظاهرة حتى بعد احتلال الحبش لليمن، وحتى بعد طرد الحبش عنها ودخولها في حكم الفرس إلى أيام الإسلام3. وكان مما قوى سلطان الإقطاعيين الحروب التي أعلنها الملك "شمر يهرعش" على جيرانه. لقد تمكن من توسيع رقعة سبأ ومن إضافة أرضين جديدة واسعة لها، ومن إحاطتها بهالة من العظمة، ولكنه اضطر من ناحية أخرى إلى إرضاء الإقطاعيين الذين ساعدوه وخدموه في حروبه وأدوا له خدمات كبيرة، فوسع سلطانهم، وقوّى مركزهم، وصيرهم قوة ذات شأن لها سلطان في الدولة،

_ 1 Ryckmans, L'Institution, 207, Grohmann, S. 130, CIH 314, 398, 934, Ryckmans, 203 2 Ryckmans, L'Institution, P. 207, Grohmann, S. 129 3 Grohmann, S. 130

فأضعف بعمله مركز الحكومة، ووضع من جاء بعده من الملوك في "مركز حرج" أمام كبار الإقطاعيين الذين أخذوا يتدخلون في أمور الدولة، وينافسونها في سلطانها. وهكذا زالت معالم الحكم "الاستشاري" للأقيال، وحل محله حكم الملوك المستند إلى تأييد عدد من كبار رجال الإقطاع وسادات القبائل، وهو حكم راعى بالطبع مصالح هؤلاء، ولم يهتم بمصالح سواد الناس، بل حتى مصالح الإقطاعيين الذي لم يكن لهم سلطان كبير، فأصيبوا بضرر بالغ من هذا التغيير الدستوري في أصول الحكم. وقد كان ملوك العربية الغربية، مثل ملوك العربية الجنوبية، يأخذون بالرأي ويعملون بمشورة المجالس. ويعرف مجلس الشورى في الكتابات اللحيانية بـ"هجبل" "الجبل" و"جبل"1. وقد نعت المجلس بجملة "العالي الشأن" في إحدى الكتابات2، تعظيمًا له، وتقديرًا لشأنه. ومما يؤيد أخذ الملوك برأي المجلس "جبل" هو ورود لفظة "براي"، أي: "برأي" في الكتابات، دلالة على أخذ الملوك برأي المجلس3. بل ذهب بعض الباحثين إلى احتمال وجود أحزاب سياسية في مملكة لحيان4. غير أننا لم نتمكن من الحصول على كتابات لحيانية فيها شيء عن الحزبية والأحزاب في ذلك العهد. أما أصول الحكم عند "آل لخم"، فإننا لا نملك نصوصًا لها مدونة، كذلك لا نملك نصوصًا فيها شيء عن أصول الحكم عند الغساسنة. ولم يشر أهل الأخبار إلى وجود مجالس على نمط "المزود" أو دار الندوة" عند المناذرة أو الغساسنة، لذلك لا نستطيع أن نتحدث بأي حديث عن الشورى وأخذ الرأي عند اللخميين، أو عند آل غسان. بل يستنبط من بعض روايات أهل الأخبار، أن ملوك "آل نصر" و"آل غسان" و"آل آكل المرار"، كانوا ملوكًا غلب على حكمهم

_ 1 Caskel, Lihyanisch, No. 71, 77, 87, 91 2 JS41, Caskel, Lihyanisch, S. 109 3 Arabien, S. 50 4 Euting 51, Grohmann, S. 50, Caskel, Lihyanisch, 40, 42. Jaussen-Savignag, Missin, II, 731

الاستبداد بالرأي، إذ لم يعملوا برأي أحد، ولم يأخذوا بمشورة مستشار إلا إذا كانت المشورة موافقة لهواهم ومن شخص قريب منهم، وله أثر فعلي عليهم. كما يستنبط منها أيضًا أن المقربين من الملوك، لم يكونوا مخلصين لهم في تقديم النصيحة، بل كانوا يبتغون من ورائها الحصول على منفعة وفائدة، أو ضررًا يلحق بأعدائهم، وبالقبائل المعادية لقبائلهم في كثير من الأحايين. وأن بعض الملوك، ولا سيما المتأخرون منهم، كانوا قد تأثرو بآرائهم فعملوا بها، فأوجدت لهم مشكلات خطيرة، كان الملوك في غنى عنها، لو أنهم كونوا مجالس استشارية، وأخذوا برأيها في تسيير النابه من أمور المملكة. أما القرى والمدن إن جازت هذه التسمية، فقد حكمها وجهاؤها وساداتها رؤساء الشعاب والبيوتات الكبيرة. فإذا حدث حادث في شِعْب حلّه رؤساء ذلك الشعب، وإن عرض للقرية أو للمدينة عارض اجتمع سادتها للنظر فيه وحله، وإليهم يكون تسيير أمور القرية أو المدينة. يجتمعون في "نادي" القرية أو المدينة، وهو مجتمعها للنظر في الأمر والبت فيما يرون اتخاذه من قرارات. وقد ورد في القرآن الكريم: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} 1. والنادي هنا المجلس، ومجتمع القوم، وموضع اتخاذ القرارات والبت في الأمور. وكان لأهل "تدمر" "مجلس" على غرار مجلس "الشيوخ" في "رومة" مؤلف من سادات المدينة من أصحاب الجاه والسلطان له سلطة من القوانين والتشريع، وله رئيس وكاتب.

_ 1 العنكبوت، السورة رقم29، الآية29.

دار الندوة

دار الندوة: وقد تحدث أهل الأخبار عن دار قالوا: إنها كانت بمكة سموها "دار الندوة" ونسبوها إلى جد قريش ومجمعها "قصي"، قالوا: إن قريشًا كانت إذا همت بأمر أو أرادت رأيًا، أو قررت اتخاذ قرار، اجتمعت فيها، ونظرت في أمرها واتخذت فيها قرارها. فهي إذن مجلس يشبه "المجالس" التي كانت في مدن اليونان، وقد كونوها لتكون حكومة المدينة المشرفة على شئونها المدبرة لأمورها الناظرة فيما يقع فيها من خصومات وخلاف.

وذكر بعض أهل الأخبار، أنه لم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلا ابن أربعين سنة للمشورة، وكان يدخلها ولد قصي كلهم أجمعون وحلفاؤهم1 والظاهر أن هذا كان خاصًّا بالمشورة وأخذ الرأي. لما كان قد قرّ في نفوس أكثر الناس من أهمية السن في تقديم الرأي، ومن أن النضوج العقلي يبدأ في الأربعين من العمر. وإذا صحت الرواية، نكون أمام شرط مهم فيمن يحق له حضور دار الندوة لإبداء المشورة والرأي. لكننا نسمع من رواة الأخبار أيضًا، أنهم يذكرون أن قريشًا كانت تتساهل في موضوع السن أحيانًا، فكانت تتساهل في قبول دخول من هو دون الأربعين من العمر إذا كان الشخص سديد الرأي. فقد "تحاكم العرب في الجاهلية في النفورة، وفي غير ذلك من المخايرة والمشاورة، إلى أبي جهل ابن هشام في أيام حداثته وفتائه، ولذلك أدخلوه دار الندوة، ودفع مع ذوي الأسنان والحنكة من بين جميع الشبان، ومن بين جميع الفتيان. ولذلك قال قطبة بن سيّار حكم فزارة حين تنافر إليه عامر بن الطفيل وعلقمة ابن علاثة: عليكم بالحديد الذهن، الحديث السن. يعني: أبا جهل"2.

_ 1 الأزرقي "1/ 65". 2 رسائل الجاحظ "1/ 300"، "رسائل في نفي التشبيه".

الملأ

الملأ: وفي القرآن الكريم لفظة: "ملأ" بمعنى جماعة يجتمعون على رأي1. وتعبر هذه اللفظة عن الغالبية، أي: عن الرأي العام الغالب لمكان ما، أو لجماعة من الجماعات. ومعنى ذلك اتخاذ "أهل الحل والعقد" من الملأ رأيًا يكون ملزمًا للآخرين وأهل الرأي والحل والعقد، هم السادة أصحاب الجاه والعقل والسن، ولذلك كانوا يفضلون في أخذ الرأي، أخذ رأي أصحاب العقل والخبرة، وهم المتقدمون في السن في الغالب، ففي صغر السن طيش وتسرع، والبت في الأمور يحتاج إلى نضج وصبر وأناة وحلم. لهذا كان أكثر رجال "دار الندوة" من البالغين المتقدمين في السن2.

_ 1 المفردات، للأصفهاني "ص490". 2 الأزرقي "1/ 61".

وعرف علماء العربية "الملأ" أنه الرؤساء والجماعة وأشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم، "يروى أن النبي، صلى الله عله وسلم، سمع رجلًا من الأنصار وقد رجعوا من غزوة بدر، يقول: ما قتلنا إلا عجائز صلعًا، فقال عليه السلام: أولئك الملأ من قريش، لو حضرت فعالهم، لاحتقرت فعلك" أي: أشراف قريش. فالملأ إنما هم القوم ذوو الشارة والتجمع للإدارة1. وورد أن "الملأ" التشاور والعلية. ويظهر من المواضع العديد التي وردت فيها هذه الكلمة في القرآن الكريم، أن المراد بها في أكثر تلك المواضع، علية القوم من ذوي الرأي والمكانة، والأشراف من القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم. وذكر أن "الملأ": التشاور تشاور الأشراف والجماعة في أمر ما2. فرؤساء مكة إذن، هم حكومها وحكامها، وليس هناك ملك أو حاكم انفرد بالحكم والسلطان. فالحكم فيها إذن، حكم مدينة، لا حكم ملك أو فرد، وقد كان الحكم في الطائف وفي يثرب وفي نجران، وفي وادي القرى على مثل هذه الطريقة، غير أن الأخباريين لم يتحدثوا عن مجلس يشبه دار الندوة في هذه المدن. وفي القرآن الكريم: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 3، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 4. وفي هاتين الآيتين دلالة على الأخذ بمبدأ المشورة، وأن الحكم شورى. وحكم قريش في مكة، هو حكم المشاورة وأخذ الرأي، لهذا كانوا يتشاورون فيما بينهم حينما كانوا يعتزمون اتخاذ قرار تجاه الرسول. وقد بينت أن أصحاب الرأي والمشورة هم "الملأ" وعِلية القوم ومن عرف بجودة الحكم والفطنة والذكاء. وكانت القرى الأخرى تستشير ذوي الحل العقد. وكذلك فعلت القبائل. فقد كان سيد القبيلة يطلب من وجوه قبيلته إبداء رأيهم في القضايا المهمة من أمور الحرب والسلم. وكان سادات القبيلة، يجتمعون للنظر في أمر اختيار رئيس،

_ 1 اللسان "م/ ل/ أ"، "1/ 159". 2 تاج العروس "1/ 119"، "ملأ"، تفسير الطبري "2/ 373". 3 آل عمران، الرقم2، الآية159. 4 الشورى، الرقم42، الآية 38.

إذا مات رئيس وليس له وريث، أو وقع خلاف فيما بين أعضاء بيت الرئيس في الرئاسة. وقد حث العرب على الأخذ بالرأي والمشورة، حتى لا يقع المرء في الخطأ والتهلكة. والرأي: النظر والتدبير والتفكير1. وقد قدمه العرب على الشجاعة، فجعلوه قبلها، لأن الشجاعة لا تنجح ما لم يكن للشجاع رأي ونظر في كيفية التغلب على خصمه.

_ 1 تاج العروس "10/ 140"، "رأي".

المشاورة

المشاورة: وقد كرهت العرب والحكماء مشاورة من اعترته الشواغل، وألمت به النوازل، مع وفور عقله وحزمه، فقال "قس بن ساعدة الإيادي لابنه: لا تشاور مشغولًا وإن كان حازمًا، ولا جائعًا وإن كان فهمًا، ولا مذعورًا وإن كان ناصحًا، ولا مهمومًا وإن كان عاقلًا، فالهمّ يُعقِل العقلَ فلا يتولد منه رأي ولا تصدق به روية". و"قال الأحنف بن قيس: لا تشاور الجائع حتى يشبع، ولا العطشان حتى يروى، ولا الأسير حتى يطلق، ولا المقل حتى يجد، ولا الراغب حتى ينجح"1. وكانت العرب تحمد الأناة في الرأي، وإجالة الفكرة فيه وعدم التسرع. "وكان عامر بن الظرب حكيم العرب يقول: دعوا الرأي يغب حتى يختمر، وإياكم والرأي الفطير"2. واجتمع رؤساء بني سعد إلى أكثم بن صيفي يستشيرونه فيما دهمهم يوم الكلاب، فقال: إن وهن الكبر قد فشا في بدني، وليس معي من حدة الذهن ما أبتدئ به الرأي، ولكن اجتمعوا وقولوا، فإني إذا مر بي الصواب عرفته"3.

_ 1 نهاية الأرب "6/ 76". 2 نهايةالأرب "6/ 77". 3 نهاية الأرب "6/ 80".

حكم سادات القبائل

حكم سادات القبائل: وحكم سيد القبيلة حكمًا يتوقف على شخصيته ومكانته، فإذا كان السيد قويًّا

حازمًا مهيبًا رفع مكانة القبيلة، وصيّر لها منزلة بين القبائل، وقد يفرض إرادتها على القبائل الأخرى. أما إذا كان ضعيفًا فاتر الهمة باردًا بليدًا، طمع فيه الطامعون، وقد يكون سببًا في تشتت كلمة القبيلة وفي تجزئتها وهبوط مكانتها بين القبائل. فالرئيس هو الذي يخلق القبيلة ويعز مكانتها، وهذا هو سر ظهور قبائل كبيرة بصورة مفاجئة، ثم اختفاء أمرها وهبوط منزلتها بعد أمد. وسر ذلك أن الذي يرفع من شأن القبائل أو يخفض من منزلتها هو "سيد القبيلة"، فهو روحها، وهو الذي يمنحها إكسير الحياة. وليس حكم سيد القبيلة، حكمًا مطلقًا، لا مشورة فيه ولا أخذ رأي، بل الحكم في القبائل حكمًا مستمدًا من رأي وجهاء القبائل وعقلائها وفرسانها وألسنتها المتبينة، فهو حكم "ملأ القبيلة". وقد يكون بيت رئيس القبيلة، هو مجلسها وموضع حكمها. وإذا حدث حادث اجتمع عقلاء القوم في مجلس الرئيس وتباحثوا في الأمر. ويقال لمجلس القبيلة "عهرو" "ع هـ ر و" في اللهجة القتبانية1، يعقد للنظر فيما يقع للقبيلة من أمر جليل، مثل فرض ضرائب أو زيادتها، أو إعلان حرب، أو ما شاكل ذلك من أمور. ونجد مثل هذه المجالس عند جميع القبائل. فإذا حدث للقبيلة حادث، تجمع سادتها للتباحث في الأمر، ولاتخاذ ما يرون اتخاذه من رأي. ولما كانت القبيلة منتشرة لا تستقر في واحد، صارت مضارب سادات الأحياء أندية تلك الأحياء، يجتمع فيها وجوه المضرب للسمر وللبت فيما قد يقع بين الحي من خلاف. وبهذه الطريقة يفصل في الخصومات وفي كل ما يحدث للحي من أمر. ويروي أهل الأخبار شعرًا زعموا أن "لقيطًا الإيادي"، قاله في كيفية الحكم وسياسة الرعية، فيه هذه الأبيات: فَقَلِّدوا أَمرَكُمُ لِلَّهِ دَرُّكُمُ ... رَحبَ الذِراعِ بِأَمرِ الحَربِ مُضطَلِعا لا مُترِفاً إِن رَخاءُ العَيشِ ساعَدَهُ ... وَلا إِذا عَضَّ مَكروهٌ بِهِ خَشَعا ما زَالَ يَحلُبُ دَرَّ الدَهرِ أَشطُرَهُ ... يَكونُ مُتَّبِعًا طَورًا ومُتَّبَعا حَتّى اِستَمَرَّت عَلى شَزرٍ مَريرَتُهُ ... مُستَحكِمَ السِنِّ لا قَحمًا وَلا ضَرَعا2

_ 1 Katab. Texte.. I, S. 78, Anm. 3, S. 79, Handb 2 نهاية الأرب "6/ 17".

حكم الملوك

حكم الملوك: وتتلخص نظرة الجاهلية بالنسبة إلى حكم الملوك فيما يأتي: الملك مالك والتابع مملوك، واجبه تقديم حقوق الملك للملوك وحق الملك الطاعة وفي ضمن الطاعة: الإخلاص له، والعمل بما يفرضه على التابع من حقوق وواجبات. وليس للرعية الامتناع عن دفع ما في عنقها من حقوق لملوكها أو ساداتها: سادات القبائل. وليس لأحد حق مطالبة ملكه بدفع مال له، لا بصورة ثابتة معينة مقررة، ولا بصور أخرى. إنما الملوك والسادات أحرار، لهم أن يعطوا ولهم أن يمسكوا، وما يدخل خزانتهم وما يأتيهم من ربح من تجارة أو مغنم من حروب أو من عشور ومكوس وضرائب أخرى، هو من حقهم وهو من ملكهم الخاص بهم. وكل ما يعود للحكومة، هو لهم. لأنهم هم الحكومة، والحكومة الرؤساء. وفي الحديث: "ومأكول حمير من آكلها" المأكول: الرعية، الآكلون الملوك جعلوا أموال الرعية لهم مأكلة، أراد أن عوام أهل اليمن خير من ملوكهم1. و"الآكال: مآكل الملوك. وآكال الملوك: مأكلهم وطعمهم: والأكل: ما يجعله الملوك مأكلة"2. والمأكولون إذن هم الرعية، يأكلهم ملوكهم، بما يأخذونه منهم من حقوق وبما يفرضونه عليهم من واجبات، والآكلون هم الملوك، لأنهم يأكلون ولا يعطون. والحاكم ملك كان أو سيد قبيلة، هو حاصل المحيط الذي نشأ فيه، والبيئة التي عاش بين أهلها، لذلك نراه مستبدًّا إلى آخر حدّ من جهة، ونراه عطوفًا غافرًا للذنوب من جهة أخرى. وهو القانون والسلطة التنفيذية والتشريعية ولا راد لحكمه وقضائه، إلا التوسلات والوساطات وشفاعة الشفاع، فإن تأثر بالشفاعة غير رأيه وإن أصر على رأيه فلا راد لحكمه. وحكم هذا شأنه يكون خاضعًا لمزاج الحاكم ولدرجة هدوء أعصابه واتزانه، فإن كان الملك عاطفيًّا منفعلًا سريع التأثر، صار عهده عهد مشاكل ومؤامرات يكون قتل الأشخاص فيه من الأمور البسيطة. وما يومي البؤس والنعيم، إلا مثل على عقلية الحاكم في ذلك الوقت. وفي حكم كهذا تكثر فيه بالطبع الوشايات والمؤامرات، إذ يستغله الحساد وأصحاب الذكاء في

_ 1 اللسان "11/ 21"، "أكل". 2 اللسان "11/ 21"، "أكل".

الإيقاع بخصومهم، كالذي فعلوه من الإيقاع بين النعمان والشاعر النابغة صديقه والمقرب إليه، وكالذي فعلوه من الإيقاع بين "عمرو بن هند" وهو ملك متهور قلق، وبين سادات القبائل مما سبب إلى غزوهم وإلى استهتار بعض القبائل بحكمه وخروجه على طاعته. وقتل الأشخاص من أبسط الأمور بالنسبة إلى أولئك الحكام، فإذا أزعجهم شخص أو هجاهم شاعر أو انتقصهم أحد، فقد يكون القتل جزاء له في الغالب. وإذا أمر الملك بقتل إنسان، قتل، ما لم يشفع له شفيع قويّ مؤثر. وإذا كان أمر الملك بقتل الشخص في الحال، قتل دون تأخير. ولا راد لحكمه. فهو الحاكم وهو المنفذ للأحكام. ولا اعتبار لمنزلة الشخص الذي سيقتل، والشيء الذي يؤجل الموت أو يبعده عن شخص ما، هو هروبه إلى رجل منافس لهذا الحاكم كاره له، أو له دالة عليه، فينقذ لجوؤه إلى ذلك الشخص رقبته من سيف الجلاد. وللملك إحراق من يشاء إذا أراد، والتمثيل بجسم عدوه. وقد رأينا جملة ملوك من ملوك "آل لخم" و"آل غسان" وقد عرفوا "بمحرق"؛ لأنهم حرقوا أعداءهم بالنار. لم يحرقوا بيوتًا، بل بشرًا، وقد رأينا بعض الروايات، وهي تنسب إلى "المنذر بن ماء السماء" قتل راهبات وقعن في الأسر من غسان ليكنّ قرابين قربهن إلى العُزّى. ورأينا أمر "عمرو بن هند" بذبح تسعة وتسعين رجلًا من تميم على قمة "أوارة"، لأنه حلف يمينًا لينتقمن منهم بقتل مائة رجل منهم، وإحراقهم بالنار. فقيل له: المحرق. وضرب بفعله المثل في قصة يروونها عن هذا المثل: إن الشقي وافد البراجم1. وقد اشتهر "الجلندي" ملك "عمان" بظلمه، حتى ضرب به المثل. فقيل: "أظلم من الجلندي" و"ظلم الجلنديّ". وقيل: إنه هو الذي ذكره الله في كتابه، فقال: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} 2. ويذكر أهل الأخبار أن الملوك إذا أرادت قتل شخص، لبست جلود النمر وجلست تتفرج على من يراد قتله. ويعبر عن ذلك بالتنمر3.

_ 1 ثمار القلوب، للثعالبي "107 وما بعدها"، "وهو أول من عاقب بالنار"، حمزة "67". 2 سورة الكهف، الآية79، الثعالبي، ثمار القلوب "183"، الكشاف "2/ 578". 3 تاج العروس "3/ 587"، "نمر".

أصول التشريع وسن القوانين

أصول التشريع وسن القوانين: لا نملك اليوم نصوصًا في أصول التشريع وقواعده عند الجاهليين. إذ لم يعثر على نص خاص بهذا الموضوع. غير أن في بعض النصوص إشارات عابرة، يمكن أن نستنبط منها شيئًا عن قواعد التشريع عند العرب قبل الإسلام. وفي جملة هذه النصوص بعض النصوص القتبانية، ومنها النص الموسوم بـGlaser 1606. والعرب من الشعوب التي تميل إلى الأخذ بالرأي، واستشارة ذوي الرأي والخبرة والسن. فنجد سيد القبيلة يستشير سادات القبيلة ووجوهها في الأمور الخطيرة التي تقع لقبيلته. كما نجد المدن والقرى تستنير برأي أولي الأمر في المشكلات التي تقع لها، لحلها وفقًا لما يستقر عليه رأي ساداتها. وفي العربية الجنوبية نجد للقبائل مجالسها كذلك، حيث يجتمع أصحاب الرأي في القبيلة، للنظر فيما يقع لقبيلتهم من أمر نابه وقضايا خطيرة يجب أخذ الرأي فيها. وكان للملوك مستشارون يستشارون في القضايا التي يعرضها الملك عليهم، بالإضافة إلى "المزاود" والمجالس الأخرى. وقد استشار الملوك أصحاب الأرض من طبقة "طبنن" "الطبن". والمستشارين الذين عرفوا بـ"فقضت" و"بتل"1، كانوا يجمعونهم لأخذ رأيهم في أمور الأرض وفي مسائل أخرى. كما استشاروا كبار رجال المعابد من درجة "رشو" و"شوع"2. وكان لرأي هؤلاء أهمية كبيرة بالنسبة للملوك، لما كان لهم من نفوذ وكلمة في المجتمع. ولم يكتف الملوك بأخذ رأي الطبقات المذكورة عند إقرار قانون، بل كانوا يرسلون آرائها ووجهة نظرها إلى مجالس القبائل وإلى سادات ووجوه المدن والقرى والمستوطنات للوقوف عليها ولبيان رأيهم فيها، وذلك في القضايا العامة التي تشمل

_ 1 Glaser 1606, Arabien, S. 128 2 Arabien, S. 127

كل الدولة، مثل تنظيم أمور استثمار الأرض وفرض الضرائب والقوانين التجارية، لتدرس وتعالج على ضوء مصالح كل المتنفذين من ذوي الرأي والجاه في المملكة، على قدر الإمكان، وليكون في الإمكان تطبيقها وتنفيذها دون كبير اعتراض. ومتى جاء رأيهم ووقف الملك على كل الآراء وأحاط علمًا بها، عمل برأيه فيها واتخذ قرارًا باتًّا بموجبها. ويعبر عن اتخاذ قراره هذا بلفظة "جزمن" أي: "الجزم". جزم الملك برأيه وإمضائه لإصدار ذلك القانون. ويأمر عندئذ بتدوينه، ويعبر عن ذلك بجملة "سطرن ذت يدن"، أي: "وقد كتب القرار بيده"، كناية عن أنه أمر بنفسه بتدوينه ونشرهن فكأن يده ذاتها قد سطرته. وقد تدون جمل أخرى في هذا المعنى، مثل "تعلمه ذت يدن" و"تعلمه يدن" أي ووقعه بيده. بمعنى أمضاه وختمه بختمه، وذلك على ما يفعل رؤساء الدول من التوقيع تحت نص القوانين والأوامر، لإكسابها صبغة رسمية. وتذكر بعد اسم الملك أسماء بعض رجال الحاشية وكبار السادات وأعضاء المزاود، ممن يكونون قد ساهموا في إصدار القانون. ولهم قوة تنفيذية في المملكة. على نحو ما نفعل من ذكر اسم رئيس الوزراء والوزراء المختصين ممن لهم علاقة بتنفيذ القانون بعد اسم رئيس الدولة، دلالة على موافقتهم عليها، وإقرارهم لها. وبعد الانتهاء من موافقة الملك عليه بتثبيت اسمه عليه يدون وتحفظ نسخًا منه في خزائن الحكومة للرجوع إليها، ويقرأ القانون على الناس للاطلاع عليه. ثم يكتب على أحجار تثبت في جدر الساحات الكبيرة التي يتجمع فيها، لا سيما ساحات أبواب المدن والقرى التي تكون عند المداخل، وهي ساحات الإعلان1 ويكون القانون بذلك ملزمًا واجب التنفيذ، وعلى موظفي الحكومة والرعية العمل بما جاء فيه. وفي حالات سن القوانين التي تخص قبيلة واحدة أو مكانًا معينًا، يجتمع المجلس الاستشاري "المزود" لتلك القبيلة أو المكان، ثم يتداول في الأمر. وقد يحضره الملك بنفسه. وقد يحضره ممثل أو ممثلون عنه. وإذا اتخذ المجلس قرارًا في أمر ما، فله الحق بإصداره باسم الملك، كما أن له الحق بإصداره باسمه، أي: باسم المجلس الاستشاري الذي اتخذ القرار. وإذا صدر باسم الملك

_ 1 Arabien, S. 128

دلّ ذلك على أنه قانون رسمي وافقت الدولة عليه، أما في حالة إغفال الإشارة إلى اسم الملك في القرار، فإن ذلك يدلّ على أنه قانون خاص خصص بالموضع الذي أصدر المجلس قراره فيه. وتطبق أحكامه عليه وحده. ومن حق المجالس إقرار القوانين القديمة وتثبيتها، كما أن لها حق إلغائها أو تعديلها، ويصدر قرارها بقانون. ومن حقها أيضًا العفو عن المحكوم عليهم، عفوًا كليًّا أو جزئيًّا. وتنظيم حقوق الأرض بقوانين يصدرها عند الحاجة وحسب مقتضيات الأحوال1. ومن الصعب علينا في الوقت الحاضر تثبيت أسماء الهيئات المشرعة في العربية الجنوبية، أي: الهيئات التي كان من حقها سن القوانين ووضع الأنظمة. لأننا نجد في نصوص المسند أسماء مؤسسات سنّت قوانين ووضعت أنظمة في جباية الضرائب وفي تنظيم معاملات البيع والشراء والأرض. مثل "ذو عهرو" "عهرو" في قبيلة "فيشن" "فيشان" من قبائل سبأ و"مسخنن" "مسخنان" في سبأ كذلك. ومؤسسات أخرى لا نعرف الآن من أمرها شيئًا يذكر. يظهر أنها كانت مجالس ومؤسسات ذات طابع محلي تشمل صلاحيتها الموضع الذي تكون فيه وكان من حقها تشريع ما ترى ضروريًّا بالنسبة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لذلك المكان2. ويستنبط من تعدد المجالس والجمعيات ومن الأعمال التي قامت بها، أن الحكم في العربية الجنوبية قبل الميلاد كان حكمًا قريبًا من الحكم "الديمقراطي" الشعبي. وأن سلطات الملوك كانت مقيدة ببعض القيود، فلم يكن الملك يصدر أمرًا إلا بعد أخذ رأي المجالس المختصة واستشارتها وأخذ موافقتها. والمجالس المذكورة وإن كانت في الواقع مجالس كبار أصحاب الأرض وأصحاب الجاه والنفوذ، ولا رأي لسواد الناس فيها، وكان للملوك نفوذ عليها ودخل في قراراتها، ولا سيما الملوك الكبار أصحاب الشخصية، إلا أن وجودها على تلك الصورة وعلى هذا النحو من الحكم، هوخير بكثير من عدم وجودها ومن حكم لا يستند على أي مجلس ولا على أية استشارة أو رأي، كما كان الوضع عند

_ 1 Handbuch I, S. 125 2 Handbuch, I. S. 128

بعض الشعوب التي حكمها حكام مستبدون، حكموا شعوبهم حكمًا فرديًّا تعسفيًّا، لم يستند على رأي، لا رأي النخبة من الأمة، ولا رأي الشعب. ودام الحال على هذا المنوال إلى القرن الثاني للميلاد تقريبًا، ثم تبدل وتغير. فلما جاء القرن الثالث تقلص ظل حكم الأخذ بالشورى والرأي، حتى زال هذا الحكم، واختفى ذكر "المزاود"، ولم نسمع بعد ذلك لها خبرًا. ويظهر أن العربية الجنوبية قد سارت على الطريق التي سلكها ملوك اليونان وقياصرة "رومة" من التنكر للحكم "الديمقراطي" والابتعاد عنه، للأخذ بمبدأ حكم "الفرد"، وهيمنة الحاكم الأعلى على كل شيء. فلما بسط ملوك سبأ وذو ريدان وحضرموت سلطانهم على أرضين واسعة، وكونوا لهم جيشًا كثير العدد غزوا به أمارات والمخاليف، ازداد بذلك ملكهم، واتسع مالهم، وقضوا على من كان له رأي ونفوذ في المجالس حتى زالت المعارضة وصار الأمر بأيديهم، وبأيدي من يرضون عنهم ممن يأتمر بأمرهم. وبزوال قوة أصحاب المجالس، زال حكم الرأي والشورى الذي كان يحد بعض التحديد من سلطان الملوك، ويمنعهم من وضع القوانين من دون أخذ رأيهم، وصار الحكم إلى رأي الملوك وإلى رأي الأقوياء من كبار أصحاب "المخاليف". ومما ساعد على زوال حكم الأخذ بالمشورة والرأي واستبداد الملوك وكبار رجال الإقطاع بالحكم، هو تدفق الأعراب من الحجاز ونجد وسواحل الخليج إلى العربية الجنوبية وازدياد عددهم فيها، ولا سيما بعد انهيار حكم مملكة كندة وارتحالهم من منازلهم إلى العربية الجنوبية، فازداد بذلك نفوذ الأعراب واستغلهم الملوك للقضاء على نفوذ الأقيال والأذواء وذوي الإقطاع والنفوذ والجاه، حتى صار لهم نفوذ واسع في المملكة، وغدو قوة اعترف الملوك بها، فأشاروا إليها في لقبهم الرسمي الذي صار على هذا النحو: ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في الأطواد والتهائم. وقد استغل سادة الأعراب حاجة أهل الحكم والمتنافسون عليه إليهم، ببراعة ودهاء فصاروا يؤيدون من يغدق عليهم بالمال، ومن يفسح لهم المجال للغزو والسلب والنهب، ومن يزيد على غيره في إعطاء المال لهم. وأخذوا يتنقلون من جهة إلى أخرى. يعيشون بالأمن في وقت كان الأمن فيه مضطربًا قلقًا. يهاجمون المدن والقرى والحكومات. وهذا ما أقلق "بال" الحكومات والرعية، وجعل الناس

يخشون على حياتهم ومالهم، ويعشون بقلق، في ظل حكومات صغيرة عديدة، لا هَمَّ لها سوى مخاصمة بعضها بعضًا والتناحر، على عادة الحكومات المتنافسة الصغيرة في التكالب فيما بينها تكالب الكلاب. وقد امتاز هذا العهد بكثرة حروبه وبكثرة ظهور الثورات فيه. وباضطرار الملوك إلى قضاء معظم أوقات حكمهم في مكافحة تلك الثورات وفي محاربة الإقطاعيين الذين أراد الملوك تقليص نفوذهم. وهذا مما جسر الحبش على العربية الجنوبية، فدخلوا قوة فاتحة فيها. ووضع مثل هذا لا يساعد على قيام حكم "ديمقراطي" ولو بشكل هزيل. وقد أثرت هذه الحروب والاضطرابات على وضع العربية الجنوبية، فأخرتها كثيرًا، وقضت على ما كان فيها من حضارة، وجعلت البلاد بلاد حكومات: حكومات قبائل قرى ومخاليف وعشائر. ولو أن الحكم هو للملوك أو للأحباش أو للفرس. وبقي الحال على هذا المنوال حتى ظهر الإسلام، فقضى على الحكم الأجنبي في العربية الجنوبية. ولم يتمكن الحبش من حكم العربية الجنوبية كلها. ولم يكن من السهل عليهم حكمها لطبيعة أرضها ولتركز الإقطاع فيها، وهو نظام لازم تاريخها من قبل ظهور الحكم المركزي المنظم فيها، حتى صار من تراث تلك البلاد المميز لها في التاريخ. لقد اقتصر حكم الحبش في اليمن على مدن رئيسية معينة، كونت منطقة متصلة، أما خارجها فكان الحكم فيها بيد "الأقيال" الذين ركزوا حكمهم وقووه بتآزرهم وتعاونهم. وبقي الحال على هذا المنوال أيام الفرس أيضًا. بل أستطيع أن أقول: إن حكم الفرس كان حكمًا شكليًّا، مقتصرًا على بعض المواضع، أما الحكم الواقعي فكان للأقيال. ولا عبرة لما نقرأه في الموارد الإسلامية من استيلاء الفرس على اليمن، لأن هذه الموارد تناقض نفسها حين تذكر أسماء الأقيال الذين كانوا يحكمون مقاطعات واسعة في أيام حكم الفرس لليمن، وكان منهم من لقب نفسه بلقب ملك، وكان له القول والفعل في أرضه، ولا سلطان للعامل الفارسي عليه.

حكومات مدن

حكومات مدن: استعملت لفظة "حكومة" بالمعنى المجازي، فلم يكن للمدن حكومات بالمعنى

المفهوم من الحكومة في الزمن الحاضر، أي: رئيس مفروض على المدينة بحكم الوراثة أو بحكم القوة، أو رئيس منتخب ينتخبه أبناء المدينة أو ساداتها وأشرافها لأجل معلوم أو لأجل غير معلوم. ولم يكن لهذه المدن موظفون نيطت بهم أعمال معينة وواجبات محددة عليهم القيام بها، في مقابل أجور تدفع لهم. ولم يكن فيها مؤسسات ثابتة مثل المحاكم والشرطة لضبط الأمن والضرب على أيدي من يخلون بالأمن ويخرجون على أوامر المجتمع وقوانينه، ولم يكن فيها ما يشبه أعمال الحكومة المعروفة عندنا، لأن مجتمع ذلك العهد يختلف عن مجتمعنا الحديث. فمكة مثلًا، وقد كانت من أبرز مدن الحجاز في القرن السادس للميلاد، لم تكن ذات حكومة. لم يكن يحكمها ملك، ولم يحكمها رئيس، وكذلك كان أمر "يثرب" و"الطائف" وسائر قرى العربية الغربية. لم يكن فيها أي شيء من هذه المؤسسات الثانية التي تكون الحكومة، والتي تتعاون لتدبير أمور الناس. وكل ما كان في مكة، أسر، يعبر عنها بـ"آل" و"بني"، فيقال: "آل عبد المطلب" و"آل عبد شمس" و"آل هاشم"، و"بنو عبد المطلب" و"بنو عبد شمس" و"بنو هاشم"، وهكذا، تستوطن شعابًا خصصت بها. وكل "شِعب" مجتمع قائم بنفسه، له سادته وأشرافه، وهم وجوه الشعب، وأصحاب الحل والعقد في هذا المجتمع. ويقوم وجوه الشعب بفض ما يحدث بين أبناء الشعب من خلاف، وبالنظر في أمر المخالفين لأعرَاف الشِعْب وعاداته، وأحكامهم غير إلزامية ولا تسندها قوة تنفيذية، بل تنفذ بحكم الأعراف والأصول المرعية، وبحكم وجاهة هؤلاء الرؤساء ومكانتهم عند الشعب. أما إذا حدث حادث تجاوز مداه حدود "الشِعب"، فشمل شعبًا آخر أو عدة "شِعاب"، فيكون أمر النظر فيه لسادات "الشعاب" التي يعنيها الأمر، فيجتمعون عندئذ للنظر في الأمر وللبت فيه بحكمة وبأناة قدر الإمكان، مراعاة للجوار، وإقرارًا للسلم. وإذا أخفق المجتمعون في اتخاذ قرار توسط بينهم وسطاء محايدون لفض ذلك النزاع بالتي هي أحسن. وقد ينشب خلاف بين الأحياء على أمور تمس المصالح الكبيرة الخاصة بالأسر،

فتفعل هذه الأحياء عندئذ ما تفعله القبائل، تلجأ إلى حلفائها، أو تجدد أحلافها، أو تعقد حلفًا جديدًا لتدافع به عن مصالحها، كالذي كان من أمر "حلف المطيبين" وما كان من أمر "الأحلاف"، أو من "حلف الفضول". أما ما يعلق بأمر المدينة كلها، كأمر مكة مثلًا، من أمور تتعلق بأحوال السلم أو الحرب، فيترك النظر في ذلك إلى "الملإ" "ملأ مكة" مثلًا. وهم وجوه مكة وسادتها من كل الأسر، فيجتمعون في "دار الندوة" أو في دور الرؤساء للنظر في القضايا والبت فيها. فيبين الرؤساء آراءهم ويتناقشون فيها، فإذا اتفقوا على شيء ألزموا أنفسهم تنفيذه، وإن لم يتفقوا على شيء، وكان النزاع بين المجتمعين حادًّا، حاول كل فريق تأليف جبهة قوية لمقابلة الجبهة المعارضة، ولمنعها من الاعتداء عليها، وقد يعمد المتخاصمون إلى مقاطعة بعضهم بعضا، مقاطعة اقتصادية واجتماعية، كالذي حدث من مقاطعة أغلب قريش لآل هاشم وآل المطلب، بسبب تمسك أبي طالب بأن أخيه الرسول ودفاعه عنه. فما كان من بقية قريش إلا أن قررت مقاطعة "أبي طالب" ومن آزروه وانضم إليه. ونجد في مكة نوعًا من التخصص في الأمور. والظاهر أن ذلك إنما كان عن استئثار بعض الرجال البارزين بعمل من الأعمال، ثم انتقل ذلك منه إلى ورثتهم بالإرث أو بالاتفاق أو بالنص، ثم صار سنة اتفق عليها، كالذي ورد من أمر "الرفادة" وهي ما كانت تخرجه قريش من أموالها وترفد به منقطع الحاج1. وقد عرف "الرفادة" أنها شيء كانت قريش تترافد به في الجاهلية، فيخرج كل إنسان مالًَا بقدر طاقته، يجمعون من ذلك مالًا عظيمًا أيام الموسم، فيشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب للنبيذ، فلا يزالونه يطعمون الناس حتى تنقضي أيام موسم الحج. وكانت الرفادة لبني هاشم. وذكر أن أول من قام بالرفادة "هاشم بن عبد مناف" وسمي هاشمًا لهشمه الثريد2. وكالذي ورد من أمر "السقاية"، سقاية الحاج. وقد عرفت أنها مأثرة من مآثر قريش في الجاهلية. وهي ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها "العباس بن عبد المطلب" في الجاهلية والإسلام3.

_ 1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها". 2 اللسان "ث/ ر/ د"، "3/ 181"، تاج العروس "2/ 355"، "رفد". 3 اللسان "س/ ق/ ي"، "14/ 392"، تاج العروس "10/ 181"، "سقى".

وكالذي جاء من أمر "السدانة" مع "الحجابة". والسادن: خادم الكعبة بيت الأصنام. وكانت السدانة في الجاهلية لبني عبد الدار، فأقرها النبيّ لهم في الإسلام، والسدنة هم الذين يتولون فتح باب الكعبة وإغلاقها وخدمتها1. وأما "الحُجّاب" فهم سدنة البيت أيضًا. وذكر أن الفرق بين السادن والحاجب أن الحاجب يحجب وإذنه لغيره، والسادن يحجب وإذنه لنفسه2 والحجبة هم حجبة البيت. ورد في الحديث: "قالت بنو قصيّ: فينا الحجابة، يعنون حجابة الكعبة، وهي سدانتها، وتولي حفظها، وهم الذين بأيديهم مفاتيحها"3. وكالذي ذكر من أم "الندوة"، والندوة التجمع والجماعة. و"دار الندوة": دار الجماعة، سميت من النادي. وكان إذا حزبهم أمر، ندوا إليها، فاجتمعوا للتشاور4. وكالذي روي من أمر "المشورة". وذلك أن رؤساء قريش كانوا إذا أرادوا أمرًا استشاروا ذوي الرأي، والعقل والحنكة، ومن هؤلاء "يزيد بن زمعة بن الأسود"، وهو من "بني أسد". فكانوا إذا أرادوا أمرًا ذهبوا إليه، وعرضوه عليه. فإن وافقه والاهم عليه وإلا تخيرز وكانوا له أعوانا. وقد أسلم، واستشهد بالطائف5. ومن الأعمال التي كانت في مكة "الأشناق". وهي الديات والمغرب. وكانت لأبي بكر، وهو من "بني تيم" فكان إذا احتمل شيئا فسأل فيه قريشًا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه. وإن احتملها غير خذلوه6. ويدل هذا على أن تقدير الأشناق لم يكن ثابتًا، بل كان يعود إلى تقدير صاحب الأشناق. كما يدل أن غيره قد قام به. ومن أعمال مكة "السفارة، وذلك أن أهل مكة كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوا سفيرًا، وإن نافرهم حي لمفاخرة جعلوا لهم منافرًا لينافرهم.

_ 1 اللسان "س/ د/ ن"، "13/ 207". 2 اللسان "س/ د/ ن"، "13/ 207". 3 اللسان "ح/ ج/ ب"، "1/ 298"، تاج العروس "2/ 239"، "طبعة الكويت". 4 اللسان "ن/ د/ 1"، "15/ 317". 5 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها"، المحبر "ص102". 6 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها"، تاج العروس "6/ 400"، "شنق"، الاستيعاب "2/ 237".

وكانت السفارة والمنافرة في "بني عدي" عند ظهور الإسلام. وكان الذي يتولاها إذ ذاك "عمر بن الخطاب"1. وذكر أهل الأخبار أن "بني سهم" "الحارث بن قيس"، وكانت إليه الحكومة والأموال المحجرة التي سموها لآلهتهم2، والتي كانوا يخصصونها من مغانمهم في السلم وفي الحرب. ومن أعمالهم "الأيسار"، وهي "الأزلام"، وقد ذكر أهل الأخبار أنها كانت في "بني جمح"، ويتولاها منهم "صفوان بن أمية". فكان لا يُسبق بأمر عام حتى يكون هو الذي تسييره على يديه3. ومن الأعمال الأخرى التي ذكرها أهل الأخبار "العمارة". وكان الذي يتولاها عند ظهور الإسلام "العباس". وكان ينهى الناس من أن يتكلم أحدهم في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا أن يرفع صوته4. وأشار أهل الأخبار إلى ما يسمى بـ"حُلْوان النفر" وقالوا: إن العرب لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحدًا، فإن كانت حرب أقرعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه صغيرًا كان أو كبيرًا. فلما كان يوم الفجار، أقرعوا بين بني هاشم، فخرج منهم العباس، وهو صغير، فأجلسوه على المجن5. وقد كانت سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام وحلوان النفر في بني هاشم6. واهتم أهل مكة بأمر الحروب والدفاع عن مدينتهم. ويقتضي ذلك وجود أناس لهم خبرة وتجربة في الحرب، ولهم رأي في أحوالها وأصولها وحيلها وخدعها. فالحرب خدعة، ولا بد للقائد من اللجوء إلى الخدع والحيل الحربية للتغلب على خصمه. ونظرًا لضرورة التهيؤ للحرب في أيام السلم، أوجد أهل مكة بعض الأعمال وعهدوا إلى أصحابها القيام بها. منها القبة والأعنة وخزن الأسلحة وحمل اللواء والقيادة.

_ 1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها". 2 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها". 3 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها". 4 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها". 5 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها". 6 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها".

أما "القبة" فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به قريشًا. وأما "الأعنة"، فيكون صاحبها على خيل قريش في الحرب1. وكانتا إلى "خالد بن الوليد" وهو من "بني مخزوم" عند ظهور الإسلام. وذكر أن قريشًا كانوا يحفظون الأسلحة عند "عبد الله بن جدعان"، فإذا احتاجوا إلى السلاح وزعه فيهم2. فبيته مخزن قريش للأسلحة. ويذكر أن القبائل كانت إذا حضر المواسم أودعت سلاحها "عبد الله بن جدعان"، فإذا انتهى الموسم وقررت العودة استعادته منه، وذلك لأمانته ولشرفه ولوثوق الناس به. ومن الأعمال التي لها علاقة بالحرب: "اللواء". وذكر أن "عثمان بن طلحة" وهو من "بني عبد الدار" كان إليه اللواء والسدانة مع الحجابة، ويقال: والندوة أيضًا. وكانت هذه في "بني عبد الدار". وورد في خبر آخر إن راية "العقاب" وهي راية قريش، كانت عند "أبي سفيان" وهو من "بني أمية"3. و"العقاب" راية للنبي، كما ورد في الحديث. وذكر أن العقاب علم ضخم، يعقد للولاة شبه بالعقاب الطائر4. والقيادة: قيادة جيش مكة. وقد كانت إلى بني أمية في الغالب5. ولكن العادة أن يتولى سادات مكة قيادة أحيائهم في القتال. فيقود سيد كل شعب أبناء شعبه ويوجههم حيث يرى في المعركة. أما التنسيق بين خطط المقاتلين لإنجاح المعركة فيكون أمره إلى من تسلمه قريش قيادتها العامة في الحرب من الرجال المحاربين أصحاب الرأي في الحروب. وكان "حرب بن أمية" قائد قريش في الفجار وفي ذات نكيف. ويجب أن نضيف إلى ما تقدم قيادة قوافل قريش، وقد كان أمر "عير قريش" إلى "أبي سفيان" عند ظهور الإسلام6. و"عير قريش" قافلتها. وقد كانت رئاسة القوافل من الأعمال الهامة في أيام الجاهلية. وعندما تعود القافلة سالمة غانمة يستقبل قائدها استقبال الأبطال. وقد أشير في الكتابات اللحيانية والتدمرية إلى "رئيس القافلة"، على أنه من الشخصيات المهمة البارزة في تدمر وعند اللحيانيين.

_ 1 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها"، ابن الأثير، أسد الغابة "2/ 101". 2 أيام العرب "ص329". 3 العقد الفريد "3/ 313 ومابعدها". 4 تاج العروس "1/ 393"، "عقب". 5 الأزرقي "1/ 63 وما بعدها، 66". 6 الطبري "2/ 132".

وكذلك كان أمر قائد قافلة قريش ولا شك. وورد في الكتابات النبطية لقب آخر غير لقب: "زعيم القافلة" هو "زعيم السوق"، سأتحدث عنه فيما بعد1. وذكر أن من أعمال قريش في الجاهلية، عمل يقال له: "العمارة". وكان إلى "العباس بن عبد المطلب"، بالإضافة إلى السقاية2. وقد خرجت عليه القرعة يوم الفجار، فنصب رئيسًا على "بني هاشم". وكان من عادة قريش والعرب –كما يزعم أهل الأخبار- أنهم لم يكونوا يملّكون أحدًا عليهم. فإن كان حرب أقرعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرجت عليه القرعة أحضروه، صغيرًا كان أو كبيرًا. فلما خرجت القرعة على العباس، وهو صغير، جاءوا به، فأجلسوه على المجن. و"العمارة" عمارة البيت. وقد عدت من مفاخر قريش وقد أشير إليها في القرآن: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 3. وقد ورد أن ممن تولاها "العباس بن عبد المطلب"4 و"شيبة بن عثمان"5. وذكر أن "المشركين قالوا: عمارة البيت وقيام على السقاية خيرٌ ممن آمن وجاهد. وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل إنهم أهله وعماره. فذكر الله استكبارهم وإعراضهم"6. أما بخصوص نظام الحكم في يثرب، فإنه لا يختلف عن طريقة نظام الحكم في مكة، فلم يكن لأهل يثرب عند ظهور الإسلام رئيس وقد حاول بعض سادتها من الأوس والخزرج تنصيب أنفسهم ملوكًا على المدينة، غير أنهم لم يفلحوا في مسعاهم فلم ينصبوا ملوكًا عليها. والظاهر أن للمنافسة الشديدة العنيفة التي كانت بين الأوس والخزرج على الزعامة والرئاسة يدًا في عدم تمكين أي أحد من سادة يثرب من الانفراد بزعامة المدينة وبالسيادة عليها. وقد يكون لوجود اليهود بيثرب يد في تعميق الخلاف بين "أولاد قيلة"، إذ لم يكن من مصلحتهم اتفاقهم وإجماعهم على اختيار رئيس واحد قوي. فالرئيس القوي سيبسط نفوذه من غير شك على يهود يثرب أيضًا، ويستذلهم ويجعلهم أتباعًا له. أما في حالة تشتت

_ 1 Coode, North – Semitic, P. 274, 279 2 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507". 3 التوبة، الآية 19. 4 تفسير الطبري "10/ 67"، الإصابة "2/ 263". 5 تفسير الطبري "10/ 68". 6 تفسير الطبري "10/ 67".

كلمتهم وتشاحنهم فستكون لليهود إمكانية إثارة فريق على فريق، والاستفادة من سياسة فرق تسدّ. وبذلك يكون أمرهم ونهبهم في أيديهم بدلًا من أن يكون في أيدي "صاحب يثرب". وقد حاول أهل يثرب من الأوس والخزرج حل مشكلة الحكم في مدينتهم حلًّا وسطًا، على قاعدة: أن من الأوس أمير ومن الخزرج أمير. يحكمان حكمًا مشتركًا، أو على التوالي، كأن يحكم سيد الأوس سنة، ثم يترك الحكم لسيد الخزرج ليحكم السنة التالية، ثم يعود فينسحب ليتولى الحكم سيد الأوس وهكذا، غير أن الحل لم ينجح أيضًا، وبقيت المشكلة: "مشكلة الحكم" مستعصية غير محلولة حتى دخل الرسول يثرب، لحلها حلًّا أزعج بعض من كان طامعًا في الحكم وكان يرغب أن يكون سيد يثرب. هذا ولم نعثر في الأخبار الواردة إلينا عن يثرب، على خبر يفيد وجود "ناد" في هذه المدينة على شاكلة "دار الندوة" أو نواد الملأ. والظاهر أنه قد كان للنفرة الشديدة التي كانت بين الحيين: الأوس والخزرج يد في عدم ظهور مجلس حكم موحد في هذه المدينة. فبغض كل حي للحي جعل الاتفاق فيما بينهما على تكوين مجلس واحد من "ملأ" المدينة أمرًا صعبًا، على حين كان ذلك ممكنًا بالنسبة لأهل مكة، لأنهم كانوا كتلة واحدة، ومصلحتهم في حكم مشترك هي مصلحة عامة. ولم تكن المنافسات عندهم بين الأسر شديدة حادة، لذلك كان من الممكن اجتماع سادات الأسر في مجلس واحد، لا سيما وهم تجار، ومن مصلحة التاجر تمشية الأمور وتصريفها بالطرق السلمية، وحلها بغير تعنت ولا تشدد وغطرسة. وكان أمر "الطائف" في أيدي "ملأ المدينة". يديرون شئونها في أيام السلم والحرب، ولم يرد في الأخبار أن أهل الطائف توجوا رجلًا عليهم، فجعلوه ملكًا، ولم يرد فيها أيضًا أنهم رأسوا رئيسًا عليهم، بل كانت الرئاسة في عدد من الرؤساء، هم سادات البطون والأحياء. ولكل رئيس كلمته في حيّه الذي يقيم فيه.

الفصل الثالث والخمسون: حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل

الفصل الثالث والخمسون: حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل مدخل ... الفصل الثالث والخمسون: حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل وبعد أن تكلمت على أصول الحكم عند الجاهليين وعلى الأشخاص الذين كانوا يتولون إدارة الحكم وتصريفها، وجب أن أتكلم على حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل على أتباعهم، أي: الواجبات التي يجب أن يؤديها الأتباع إلى سادتهم وحكامهم من طاعة ومن مال، فأقول:

حقوق الملوك

حقوق الملوك: والملك هو السلطة العليا في المملكة وهو الموجه والمدير لأمورها. وله على أتباعه حقوق، منها: حق التسليم والخضوع والطاعة. فطاعة الملك طاعة واجبة. وله حق جباية الشعب، أي: أخذ الضرائب منه؛ ضرائب على الزراعة، وضرائب على التجارة، وحق إعلان النفير والحرب، والامتناع عن دفع حقوق الملوك المتفق عليها، والخروج على أمره هو خروج على الحق والقانون. هذا وإننا نأسف إذ نقول إننا لا نملك كتابات جاهلية تتحدث عن حقوق الملوك وعن الواجبات التي على الشعب القيام بها تجاههم، فما نتحدث به عن هذا الموضوع مستمد من بعض الأوامر والإرادات التي أصدرها ملوك من العربية الجنوبية، في تنظيم الأعمال وفي كيفية التجارة والاتجار أو في الضرائب التي على

التاجر أو المزارع أداؤها للملوك، وبعض آخر أخذ من كتب أهل الأخبار والتواريخ وكتب الشعر والنثر، وفيها نتف وردت عرضًا عن بعض حقوق الملوك وسادات القبائل في الجاهلية الملاصقة للإسلام. والملك هو قائد شعبه أيام السلم وأيام الحرب، يرأس جيشه في القتال ويختار من يشاء لقيادة الجيش. وهو القاضي الأعلى والحاكم فيما يقع بينهم من خلاف. وهو الرئيس الروحي لأمته وكاهنها في الأصل. غير أن الملوك تركوا هذه القيادة الروحية، أي: الزعامة الدينية لغيرهم، وهم رؤساء الدين، واحتفظوا بالسلطة الزمنية التي تشمل سلطة القيادة والحكم.

بيت المال

بيت المال: والملك هو صاحب أرض الدولة والقيّم عليها. وله حق منح الأرض لمن يشاء وانتزاعها عمن يشاء، أو تأجيرها لمن يرى. والأرض عند العرب الجنوبيين هي ملك الآلهة، وليس على وجه الأرض ملك لإنسان. غير أن هذا لا يعني أن الأرض ومن عليها ملك لرجال الدين باعتبار أنهم ألسنة الآلهة الناطقة على هذه الأرض والممثلون لهم في هذا العالم، فهم وحدهم إذن لهم حق إدارة الأرض واستغلالها، وذلك لأن الملوك سلبوهم هذا الحق واستبدوا به ومارسوه ونصبوا أنفسهم خلفاء على الأرض، وصاروا أوصياء الآلهة على أموالها. وهكذا فسرت قاعدة "المال مال الآلهة" تفسيرًا يجعل حق الأشراف على "مال الآلهة" في هذه الأرض للملوك ولأصحاب السلطان الفعلي الحاكمين حكمًا بقانون القوة، أما رجال الدين الذين يجب أن يكونوا هم خلفاء الآلهة على الأرض والمنفذين لأوامرها، فقد خضعوا لحكم الواقع، ورضوا بما حصلوا عليه من حقوق وامتيازات، وصاروا إلى جانب الملوك في الغالب، لتشابه المصلحتين، وحصل التراضي على إعطائهم حقوقًا وامتيازات واسعة، واستقلالًا في إدارة أموال المعابد، بحيث لا يكون للحكومة أي سلطان عليها، وهي مستثناة من دفع الضرائب التي يجب على سائر الناس دفعها إلى الحكومة، فصار المعبد من ثم سلطة ذات ثراء وسلطان تلي سلطة الحكومة ولها ضرائب يدفعها المؤمنون المتقون1

_ 1 Grohmann, Arabien, S. 125

والملوك هم من كبار أصحاب الملك في الدولة، فإلى جانب حقهم المتقدم في اعتبارهم خلفاء الآلهة على الأرض في إدارة ملكها، نجدهم يمتلكون أرضين واسعة وأملاكًا شاسعة ويتاجرون باسمهم، فيرسلون القوافل للتجارة. والأرض التي يمتلكها الملوك، هي أرضون خاضعة لهم مباشرة، لأنها ملكهم الخاص. ومعنى ذلك أن منفعتها تكون خاصة بهم. فلا يصرف منها على المصلحة العامة، إلا إذا أراد الملك أن يتبرع بذلك رضاء، وله بالطبع أن يهدي منها ما يشاء إلى من يشاء، كما يفعل أي مالك، وهو يؤجر أرضه لمن يريد، ويقال لما يدفع له في مقابل ذلك "نحلث"1. والأرضون المفتوحة عنوة هي من حق الدولة، تضاف إلى أملاكها وتسجل باسمها، وتعد من "بيت المال"، ويكون حق النظر في أمرها والإشراف عليها واستغلالها للملك؛ لأنه رئيس الدولة وحاكمها، وله الخيار في كيفية التصرف بها. له أن يعطيها للأقيال في مقابل ضريبة حربية يقدمونها له تسمى "ساولت" أو في مقابل إيجار يتفق عليه يقال له: "ثوبت"، وله أيضًا أن يبيعها متى شاء، ويعبر عن ذلك بـ"شامت" أي: بيع2. ويراد بضريبة "ساولت" أي: الضريبة الحربية، تعهد أصحاب الأرض بتقديم المحاربين إلى الدولة، ويتفق على العدد وعلى وقت التقديم، ويسجل ذلك في عقد الاتفاق. ويقوم أصحاب العقد بالإنفاق عليهم وبتقديم كل ما يحتاج المحارب إليه من عدة وسلاح. والغالب أن يقوم بذلك المحارب نفسه، لأنه رجل مسخر مأمور، فهو من أتباع صاحب الأرض، ينتزعه سيده من أرضه، ويرسله إلى الخدمة وقت الحاجة إليه. ولما فتح "كرب إيل وتر" ملك سبأ أرض أوسان ودهس، وفتح عنوة كل أرض "عبدان" ومدنها وقراها وأوديتها وحصونها ومراعيها، صارت كل هذه الأرضين وما عليها من محاربين ومن مدنيين أحرار وعبيد ملكًا لدولة سبأ وسجلت في جملة مقتنياتها. ويلاحظ أن سلطنة العوالق العليا عدت "وادي عبدان" الذي هو في جنوب "نصاب" من "أرض الدولة" أي: من أملاك السلطان، ومن

_ 1 Osiander 35, Arabien, S. 126 2 Arabien, S. 126

أرض "ربيت المال" ورقبتها بيد "سلطان العوالق"1. وبالإضافة إلى الأرضين المفتوحة عنوة، ضم ملوك سبأ إلى أملاك الدولة أرضين اشتروها شراءً، واشتروا كل ما كان عليها من ناس وحيوان وزرع. فقد كان المشتغلون بالأرض يعدون تابعين لها فيباعون معها وهم ملك لها. وهم طبقة خاصة من طبقات عبيد الأرض. ولم تتحدث الكتابات عن حقوق الملك وعن مدى صلاحياته في الحكم، ولكننا نستطيع أن نقول قولًا عامًّا إن سلطات الملك كانت كسلطات الملوك الآخرين في الأقطار الأخرى، تتوقف على شخصية الملك وسلطانه وقدرته، فهو ملك ذو سلطان واسع مطلق، أوامره قوانين، وإرادته مطاعة، يحد سلطانه المتنفذين ويخضعهم لحكمه إن كان الملك صاحب شخصية قوية وعزم، وهو مغلوب على أمره يحكم اسمًا إن كان ضعيفًا خائر العزم، وتحكم المملكة العناصر القوية صاحبة السلطان من أبناء الأسرة المالكة، أو من سادات القبائل أو رجال الدين، فعلى هذه الأحوال إذن كانت تتوقف سلطات الملك وأعماله في المملكة. وللملوك حق يسمى "حق الإحماء". فإذا أعجب الملك بأرض أو بعشب، أعلن حمايته لتلك الأرض، أو لذلك العشب، فلا يسمح عندئذ لأحد بدخول "الحمى" أي: المكان المحمي دون إذن الملك أو الشخص المخول من الملك بهذا الحق. ويدخل في هذا الحق حق حماية الحيوان أو النبات. وكان ملوك الحيرة يحمون الأرضين والحيوانات، كالإبل والخيل والكباش، فتكون لهم، لا يسمحون لغيرهم بالانتفاع منها. ولما وثب "علباء بن أرقم اليشكري" على كبش للنعمان ابن المنذر، كان من أحماه، أي جعله حمى، فذبحه، حمل إلى النعما، فاعتذر إليه وعفا عنه2. وكان "النعمان بن المنذر" يحمي مواضع عديدة قرب الحيرة وعلى مبعدة منها. ترعى فيها إبله وبهائمه، منها أرض "سحيل". أرض بين الكوفة والشأم3.

_ 1 Beitrage, S. 56 2 معجم الشعراء "304". 3 تاج العروس "7/ 373"، "سحل".

أموال الدولة

أموال الدولة: ذكرت أن الأرض هي ملك الآلهة في نظر العرب الجنوبيين، وأن "المكربين" والملوك هم خلفاء الآلهة على الأرض، وهم المسؤولون عن الأرض وعن الملك وعن تطبيق أوامر الآلهة ونواهيها بين الناس. وهم حماة الملكية. وكل أرض الدولة هي ملك الحاكم من حيث المبدأ، والحاكم هو الذي يقر الملكية ويثبتها لأتباعه ويحافظ عليها1. والملكية بصورة عامة، إما أن تكون ملكية الدولة، وإما أن تكون ملكية الملك أو الحكام، أي: أملاكهم الخاصة بهم المسجلة باسمهم، وإما أن تكون من أملاك المعابد، من أوقاف وغيرها وإما أن تكون من ملكية أشخاص وهي: أملاك ثابتة، أي: غير منقولة، مثل أرض وبئر وحدائق وبساتين، وأموال منقولة مثل: بهائم وأثاث وغير ذلك مما يمكن نقله من مكان إلى مكان. وأعني بأرض الدولة، أرض الفتوح. وهي كل أرض تفتتح عنوة، فتعد مالًا من أموال الدولة، وتسجل باسم الدولة، كأن تسجل باسم شعب مَعين أو شعب سبأ، وتقيد عند تسجيلها باسم آلهة ذلك الشعب، باعتبار أنها هي المالك الحقيقي الشرعي. وتقوم الحكومة بإدارتها وبالإشراف عليها وباستغلالها واستثمارها إما مباشرة، أي: بتعيين موظفين لإدارتها، وإما بإعطائها إقطاعًا أو كراء إلى غير ذلك من طرق الاستثمار. ويسجل وارد هذه الأملاك باسم الدولة ويدخل في خزانتها، وينفق منه على المشاريع العامة، وفي ضمنها رواتب الموظفين وأجور المشتغلين في إدارة هذه الأملاك. ويمكن تسمية أرض الدولة بأرض السلطان أو أرض "ميري" أو "أرض سَنِيّة" في المصطلح الحديث. ومن أملاك الدولة: الصوافي. وهي الأرضين التي استولي عليها، وكانت تابعة لحكومة سابقة. فتكون حقًّا من حقوق الدولة المنتصرة وغنيمة لها. وتدخل فيها الأملاك والأرض التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها. فقد كان الملوك يستصفون الأرضين التي يستولون عليها بالقوة ويجعلونها ملكًا لهم. وهي غير

_ 1 معجم الشعراء "ص304"

"الصفايا"، أي: ما يختاره الرئيس من المغنم ويصطفيه لنفسه قبل القسمة من فرس أو سيف أو غيره1. والصوافي في الإسلام: الأملاك والأرض التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها. والضياع التي يستخلصها السلطان لخاصته. وكانت "صفية" بنت "حيي" من الصفايا، اصطفاها الرسول لنفسه من غنيمة "خيبر"2.

_ 1 اللسان "14/ 462"، "صفا". 2 اللسان "14/ 463"، "صفا".

أموال الملوك

أموال الملوك: وإلى جانب أموال الدولة، توجد أموال الملوك. وهي أموالهم الخاصة بهم والمسجلة بأسمائهم لأنها ملك لهم. يتصرفون بها تصرفًا مباشرًا، أو يؤجرونها لأتباعهم في مقابل أجر يقال له "نحلت". والعادة أن الذي يستأجرها هم كبار الناس وسادات المجتمع يأخذونها منهم بشروط سهلة، ثم يؤجرونها لمن هم دونهم بشروط صعبة، للاستفادة من الفرق بين سعري الإيجارين. وقد يؤجرونها الملوك إلى قبيلة، وتكون القبيلة مسئولة كلها أمامه عن الأرض. فيذكر في العقد اسم القبيلة المستأجرة باعتبار أنها هي التي أجرت ذلك الملك. إلا أن الغالب هو أن سادات القبائل، هم الذين يتصرفون بالأرض المستأجرة، فيؤجرونها إلى أتباعهم بشروط ثقيلة. ليربحوا من الفرق. ويكونون هم المسؤولين عن تقديم الـ"نحلت" أي: بدل الإيجار إلى الملوك1. ويحدث في كثير من الأوقات أن كبار الإقطاعيين وكبار سادات القبائل، يستأثرون بأملاك الدولة وبأملاك الملوك، ويتصرفون بها تصرفًا اعتباطيًّا، ولا تتمكن الحكومة من عمل شيء تجاههم لأنهم أقوياء، لذلك تضطر الدولة إلى مداراتهم ومسايستهم، بأن تأخذ منهم "نحلت" نحلة"، أي: أجرًا رمزيًّا، يكون بمثابة اعتراف منهم بأن الأرض التي استأثروا بها هي ملك للدولة وللملوك. ويقومون هم باستغلالها وبالتصرف بها كيف يشاءون. ولا يزال هذا الوضع معروفًا حتى

_ 1 Osiander 35, SD 15, Arabien, S. 126

اليوم، فقد كان سادات القبائل قد وضعوا أيديهم على أرضين "حكومية" أي: "ميري"، وتصرفوا بها وكأنها أرض تملك "طابو" في مقابل أجر رمزي زهيد، ومنهم من استولى عليها وسجلها باسمه، فصارت ملكًا صرفًا له. بعد بذله مبلغًا زهيدًا اعتبر ثمنًا لتلك الأرض.

الأوقاف

الأوقاف: وقد كانت المعابد أوقاف حبست عليها، ولها موظفون لجباية غلتها، هي أوقاف قديمة سجلت اسم المعابد منذ كان الكهان "المكربون" يتولون أمور الحكم وأوقاف كان يحبسها الأغنياء الأتقياء في حياتهم أو بعد وفاتهم على المعابد، قربة إلى الآلهة. وهي معفوة من الضرائب، فلا تدفع للحكومة أي ضريبة؛ لأنها أملاك المعبد. ويدفع المستغلون للأوقاف حق التصرف بالأوقاف إلى المعبد، لأنه هو المالك الشرعي للوقف. كما سأتحدث عن ذلك بالقسم الخاص بالمعبد. وكان أهل الجاهلية يحبسون السوائب والبحائر والحوامي وما أشبهها، فلا يعتدي عليها ولا يستغلها أحد. فلما جاء الإسلام، نزل القرآن بإحلال ما كانوا يحرمون منها وإطلاق ما حبسوا. وعرف ذلك بـ"الحبس"1. وكانوا في الجاهلية يحبسون مال الميت ونسائه. كانوا إذا كرهوا النساء لقبح أو قلة مال حبسوهن عن الأزواج لأن أولياء الميت كانوا أولى بهن عندهم. وفي حديث ابن عباس: لما نزلت آية الفرائض قال النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا حبس بعد سورة النساء" أي: لا يوق مال ولا يزوى عن وارثه، إشارة إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من حبس مال الميت ونسائه2. وكانوا يحبسون الأرض والنخل والكروم وغير ذلك على أصنامهم، ويجعل بعضهم غلتها على أبناء السبيل. وذكر أن "الحبس" يقع على كل شيء وقفه صاحبه وقفًا محرمًا لا يورث ولا يباع من أرض ونخل وكرم ومُستغل.

_ 1 جمع حبيس. 2 اللسان "6/ 45"، "حبس".

سمات الملك

سمات الملك: وكانوا يَسِمون إبل الملوك وماشيتهم بسمة خاصة، لتكون علامة على أنها من ملك الملوك والدولة. كما كان الأشخاص يَسِمون إبلهم وماشيتهم بسمات خاصة بهم، لتكون دلالة على تبعيتها لصاحب "الميسم". والوسم أثر الكي. والميسم: هو الحديدة التي يكوى بها، واسم للآلهة التي يوسم بها. والأصل في الوسم أن يكون بكي، ثم أطلقوه على كل علامة، مثل قطع في أُذن أو قرمة تكون علامة، أو ضروب الصور. وكان الرسول يسم إبل الصدقة بميسم، أي: يعلم عليها بالكي1. ووضعوا الريش علامة وسمة لجمالهم، ليعرف من يراها أنها من إبل الملوك، فلا يقترب منها2. وكانوا إذا أرادوا تشريف أحد، حملوه على هذه الإبل أو أهدوه منها. "ومن المجاز: أعطاه، أي: النعمان النابغة مائة من عصافيره بريشها، أي: بلباسها وأحلاسها. وذلك لأن الرحال لها كالريش، أو لأن الملوك كانت إذا حبت حباء جعلوا من أسنمة الإبل ريشًا، وقيل: ريش النعامة؛ ليعرف أنه من حباء الملك"3. وذكر أن الملوك كانوا يضعون الريش في أسنمة الإبل وتغرز فيها، وكانت تجعل الريش علامة لحباء الملك؛ تحميها بذلك وتشرف صاحبها4. وقد عرفت إبل الملك "النعمان بن المنذر" بأصالتها وبجودة جنسها وبنجابتها. وذكر أن أكرم فحل كان للعرب من الإبل كان يسمى عصفورًا، وتسمى أولاده عصافير النعمان. وكان إذا وهب منها لأحد عد ذلك تقديرًا وتعظيمًا له. حتى كانوا يقولون: "حباه بكذا وكذا من عصافيره"، و"وهب له مائة من عصافيره". وذكر أن من فحول إبل "النعمان" الأخرى "داعر" و"شاغر" و"ذو الكبلين"5. ولأهمية السمات في ذلك الوقت، وضعوا لها أسماء، ذكرت في كتب اللغة

_ 1 تاج العروس "9/ 92 وما بعدها"، "وسم". 2 حياة الحيوان، للدميري "2/ 173"، الحيوان، للجاحظ "3/ 417". 3 تاج العروس "4/ 316"، "الريش". 4 الحيوان "3/ 417 وما بعدها". 5 الحيوان "5/ 233"، "ولذلك قالوا في الحديث: فرجع النابغة من عند النعمان، وقد وهب له مائة من عصافيره بريشها"، الحيوان "3/ 418".

والأخبار. منها: السطاع، والرقمة، والخباط، والكشاح، والعلاط، وقيد الفرس، والشعب، والمشيطفة، والمعفاة، والقرمة، والجرفة، والخطاف، والدلو، والمشط، والفرتاج، والثؤثور، والدماغ، والصداع، واللجام، والهلال، والخراش، والعراض، واللحاظ، والتلحيظ، والتحيين، والصقاع، والدمع1.

_ 1 تاج العروس "9/ 92 وما بعدها"، "وسم".

اتجار الملوك وسادات القبائل

اتجار الملوك وسادات القبائل: ولم تكن الموارد المذكورة لتسدّ حاجة الملوك، وسادات القبائل، لذلك عمدوا إلى موارد أخرى لاستنباط المال منها، فعمدوا إلى التجارة وتربية الأنعام وإلى إقامة بعض المصانع وتنمية أرض التاج وزراعتها لبيع حاصلها وساهموا في البيع والشراء في الأسواق، فكان لهم وكلاء ينقلون أموال الملوك إلى الأسواق لبيعها فيها، ولشراء ما يحتاج إليه الملك من تجارة أخرى يستطيع تصريفها في أسواق أخرى، تكون هذه البضائع عزيزة ثمينة فيها، ولم يكن الاتجار بالأسواق أمرًا خاصًّا بالملوك العرب، وإنما كان ذلك عرفًا متبعًا عند غيرهم من الملوك، مثل الأكاسرة والقياصرة وملوك العبرانيين. فمن ذلك ما روي من أنه كان للنعمان بن المنذر وغيره لطائم، عير تحمل الطيب والمسك وبز التجارة، تذهب إلى الأسواق لبيعها فيها، ولتأتي بتجارة جديدة. وقد ذكر أن "اللطيمة" وعاء الطيب أو سوقه، وقيل: كل سوق يجلب إليها غير ما يؤكل من حر الطيب والمتاع غير الميرة: لطيمة. والميرة لما يؤكل. واللطائم هي الأوراق التي تباع فيها العطريات. وفي جملة ما يباع فيها "بالات" المسك، أي: أوعية المسك1. ويظهر من نصوص المسند أن الملوك كانوا قد أسسوا دورًا للنسيج، يباع ما تنتجه في الأسواق. وقد اشتهرت اليمن بأنسجتها المختلفة المتعددة. فكانت دور النسيج من جملة الموارد التي تأتي بالمال إلى أولئك الملوك.

_ 1 تاج العروس "9/ 60 وما بعدها"، "لطم".

غنائم الحروب

غنائم الحروب: وللملوك مورد آخر من موارد دخلهم، هو غنائم الحروب. فإن ما يغنمه جيشهم من مال وأشياء ثمينة وأسرى يكون ملكًا للملوك، وإذا فاض عدد الأسرى عن حاجة الملوك باعوهم في أسواق النخاسة، للاستفادة من ثمن بيعهم. أما إذا قرر الملك الاحتفاظ بالأسرى، فإنهم يستخدمون في أعمال كثيرة، مثل الخدمة في الجيش، أو الاشتغال بشق الطرق وإنشاء الأبنية والعمل في الأرض، إلى غير ذلك من أعمال يشغلون بها باعتبار أنهم رقيق. وقد يهدي منهم الملوك إلى المقربين إليهم، ولا سيما بعد انتهاء الحرب أو الغزو وإحصاء الأسرى، فقد يختار الملك لنفسه أجمل الأسيرات. وقد يعطيهن هدايا إلى من يشاء من قواد جيشه ومن كبار موظفيه والمقربين إليه. وتشمل غنائم الحرب كل ما يقع في أيدي المنتصر من غنيمة، لا فرق عنده إن كانت من أموال الحكومة الخاسرة أو من أموال سيد القبيلة المغلوب، أو من أموال الأتباع والرعية. فقانونهم في الحرب أن كل ما يقع في أيدي الغالب هو ملك له، إن كانت الغنيمة من أموال الحكومة أو من أموال الرعية فالرعية ملك للملك، وملكها ملك للغالب بحق القوة، وهي نفسها ملك له يتصرف بها كيف يشاء. لذلك تكون غنائم الحروب موردًا حسنًا بالنسبة للغالب، لا سيما إذا كان المغلوب من أصحاب الثراء والمال ومن الحضر. وكان الأمير في الجاهلية يأخذ الربع من الغنيمة، وجاء الإسلام فجعله الخمس وجعل له مصارف. ومنه قول: عدي بن حاتم الطائي: ربعت في الجاهلية وخمست في الإسلام. أي: قدمت الجيش في الحالين1.

_ 1 تاج العروس "4/ 139"، "خمس".

الإقطاع والإقطاعيون

الإقطاع والإقطاعيون: والإقطاع معروف بين الجاهليين، وخاصة بين أهل العربية الجنوبية. وقد كان إقطاعًا للأرض لتستغل زراعة، وإقطاعات لاستغلال ما فيها من ماء أو معدن.

مثل الملح. وكان الملوك يقطعون أملاك الدولة لمن شاءوا، كما فعل المعبد ذلك، إذ كان يقطع الأرض المحبوسة باسمه لمن يشاء من الناس. وقد كانت العادة في اليمن جارية بإقطاع المعادن والمياه لأصحاب السلطان، كأن يقطع "الملح" لشخص ليستغله، فيشغل من يريد في استخراجه وبيعه. وقد وردت في الكتابات الجاهلية إشارات إلى استغلال معادن الملح، وإلى إقطاعها الأشخاص يستخرجون الملح منها في مقابل أجر يدفع عن ذلك الإقطاع. وقد بقيت هذه العادة إلى الإسلام، فقد ورد في كتب الحديث: أن "الأبيض بن حمال" استقطع رسول الله ملح مأرب، فأقطعه1. ولما ذكر "الأقرع بن حابس" للرسول أنه قد ورد ذلك الملح ورآه، وأنه مثل الماء العد بالأرض، من ورده أخذه، وإن إقطاعه له يمنع الناس من وروده، فاعتدَّهُ الرسول صدقة، وجعله مثل الماء العِدّ2. والإقطاع يكون تمليكًا وغير تمليك. فإذا كان تمليكًا، صار له ليس لأحد حق مزاحمته عليه ولا استثماره، ويكون عندئذ ملكه. وله حق تأجيره لغيره أو إعطائه في مقابل حق يعينه في الحاصل والناتج. وقد كان الملوك في العربية الجنوبية يقطعون أصحاب الجاه والسلطان وسادات القبائل الإقطاعات، فتولد من هذا الإقطاع كبار أصحاب الأرض، وصار لهم سلطان واسع بحكم ما حصلوا عليه من مال وقوة وجاه. حتى صاروا يتدخلون في شئون الدولة الداخلية. وأما الإقطاع الثاني، وهو إقطاع من غير تمليك فإنه إقطاع لأمد قد يحدد بزمن، وقد لا يحدد بزمن، وذلك بشروط تثبت وتحدد في عقد الاتفاق، كأن يتفق على أن يقدم من يقطع له الإقطاع ثلث الحاصل أو الغلة أو الربع أو ما شابه ذلك، أو أن يقدم مبلغًا مقطوعًا أو عينًا يذكر ويثبت مقداره، أو خدمة معينة للدولة أو للمعبد الإقطاعي صاحب الملك، مثل تقديم عدد معين من المحاربين وقت الطلب ومقدار معين من مال أو عين. وقد لا يستغل الإقطاعي إقطاعياته، وإنما يقوم بإقطاعها للإقطاعيين الصغار، أو يؤجرها لمن هم دونهم في المكانة ليقوموا هم باستغلال ما استأجروه، وقد

_ 1 الأحكام السلطانية "197"، اللسان "8/ 281". 2 الأحكام السلطانية "ص197".

يعطيها للفلاحين للاشتغال بها بشروط يتفق عليها معهم. ويكون الإقطاعي قد استفاد من إقطاعه من غير تعب أو جهد. وفي الكتابات الجاهلية أن سادات القبائل كانوا يملكون إقطاعيات واسعة يديرونها باسم قبائلهم، وقد تزيد إقطاعياتهم عن حاجات القبيلة، لذلك يؤجرونها لقبائل أخرى تكون في حاجة إلى الأرض في مقابل خدمات تؤديها للقبيلة المؤجرة صاحبة الأرض وفي مقابل حقوق عينية تثبت وتعين وتدفع عند حلول الآجال المعينة في العقد. وتعتبر القبيلة التي تستغل الأرض نفسها تابعة للقبيلة التي تملك الأرض. وللفقهاء آراء في الإقطاع في الإسلام، بأنواعه: إقطاع التمليك، وإقطاع الإرفاق، وإقطاع المَوَات1. وقد عاش الإقطاعيون على استغلالهم لخيرات الأرضين الواسعة التي امتلكوها، والتي درَّت عليهم أموالًا طائلة، خلقت لهم قوة مهابة في البلاد، صيّرت بعضهم حكومة في داخل حكومة. عاشوا في قلاع وقصور حصينة حمتها حصون متينة، لهم أتباعهم وحرسهم، وصارت لهم سطوة لا تقل عن سطوة كبار رجال الدين، بل زادت على سطوتهم فيما بعد الميلاد، حيث صاروا ينافسون الملوك ويَتَحدوَّن إرادتهم في كثير من الأحايين، مما أقلق الوضع السياسي، وهزَّ صرح الحكومات. وأوجد مجالًا لتدخل الأحباش في شئون اليمن.

_ 1 اللسان "8/ 281".

حقوق سادات القبائل وامتيازاتها

حقوق سادات القبائل وامتيازاتها: ولسادات القبائل بحكم منازلهم ومكانتهم في قومهم امتيازات وحقوق، ولهم في مقابلها واجبات عليهم أدبيًّا تبعة القيام بها لرعيتهم، وهم أفراد القبيلة. وفي جملة حقوق سيد القبيلة حق "المرباع" وهو حقه في أخذ ربع الغنائم إذا وقع الغزو1. وأخذ "المرباع" هو من أمارات الفخر والجاه والرئاسة عند العرب ولذلك كان يتباهى به من له هذا الحق، ويفتخر أهله بهذا الحق، لأنه من سيماء

_ 1 اللسان "9/ 457"، تاج العروس "5/ 332" وما بعدها، المعاني الكبير "2/ 948"، النهاية "2/ 62"، الصاحبي "ص90".

الرئاسة والشرف. وقد افتخر "الزبرقان بن بدر التميمي" أمام الرسول بأنه من حي كرام، فلا حي يعادلهم منهم الملوك وفيهم يقسم الربع، أي: أنهم كانوا يأخذون ربع الغنيمة خالصًا، وهوالمرباع1. وكان "عديّ بن حاتم" ممن يأكل "المرباع"2. ويرى أن الرسول قال له: "إنك لتأكل المرباع وهو لا يحل لك في دينك"3. وقد عرف سادات القبائل الذين يأخذون المرباع بـ"ذوي الآكال"4، ولهم مقام عندهم بالطبع، ولهذا منحوا امتيازات في الغنائم، فوقتهم على سائر الناس. وقد ذكرهم "ابن حبيب السُّكري"، فقال عنهم: "ذوو الآكال من وائل. وهم أشراف كانت الملوك تقطعهم القطائع. فأما مضر، فكانوا لقاحًا لا يدينون للملوك إلا بعض تميم ممن كان باليمامة وما صاقبها. فذوو الآكال: قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن عبد الله ذي الجدين بن عمرو بن الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان. وكان كسرى أطعمة الأبلة وثمانين قرية من قراها، ويزيد بن مسهر بن أصرم بن ثعلبة بن أسعد بن همام بن مُرّة بن ذهل بن شيبان، والحارث بن وعلة بن المجالد بن يثربي بن الزبّان بن الحارث بن مالك بن ذهل بن ثعلبة بن عكاية"5. وذوو الآكال، سادة الأحياء الآخذين للمرباع وغيره. قال الأعشى: حولي ذوو الآكال من وائل ... كالليل من باد ومن حاضر6 والمرباع حق قديم نجده عند أكثر القبائل، وظلَّ إلى مجيء الإسلام، لا ينازعها عليه منازع من القبيلة، فكان آل الحارث بن عبد الله بن بكر يشكر المعروفون بالغطاريف يأخذون ربع ما يغنم الأزد جميعًا، لأن الرئاسة في

_ 1 نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا يقسم الربع شرح ديوان حسان "ص245" "للبرقوقي"، اللسان "8/ 101"، النهاية "2/ 62". 2 معجم الشعراء "250". 3 النهاية "2/ 62"، اللسان "8/ 101" "صادر". 4 شمس العلوم "حـ1 ق1 ص89". 5 المحبر "253". 6 تاج العروس "7/ 210"، "آكل".

الأزد كانت لهم1. ومن أكل "المرباع" "عامر الضحيان"، وكان سيّد "النمر بن قاسط" في الجاهلية وصاحب مرباعهم2. ومن "المرباع" جاءت "الرباعة"، بمعنى الرئاسة. يقال: هو على رباعة قومه، أي: سيدهم. ويقال: ما في بني فلان من يضبط ربا عته غير فلان، أي: أمره وشأنه الذي عليه. ويقال: لا يقيم رباعة القوم غير فلان. و"الرباعة"3، الحال والطريقة والاستقامة. وفي كتاب الرسول للمهاجرين والأنصار: أنهم أمة واحدة على رباعتهم. أي: على استقامتهم. وأمرهم الذي كانوا عليه4. ولسيد القبيلة حق آخر مفروض على قبيلته، هو حق "الصفايا"، وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنيمة من فرس وسلاح أو جارية وغير ذلك من الأموال قبل القسمة. وكانت "صفية بنت حيي" في جملة الصفايا التي اصطفاها الرسول لنفسه يوم خيبر، ومنه قيل للضياع التي يستخلصها السلطان لخاصته "الصوافي"5. وقيل: الصفايا ما يصطفيه الرئيس لنفسه دون أصحابه مثل الفرس، وما لا يستقيم أن يقسم على الجيش لقلته وكثرة الجيش. وقيل: أيضًا الصفي أن يصطفي الرئيس لنفسه بعد الربع شيئًا كالناقة والفرس والجارية والصفى في الإسلام على تلك الحالة6. ثم له حق "النشيطة"، وهو ما أصاب من الغنيمة قبل أن يصير إلى مجتمع الحي. وقيل: النشيطة من الغنيمة، ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصير إلى بيضة القوم. وقيل: ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغهم المواضع التي قصدوها، أو ما أنشط من الغنائم ولم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب7. وأما الفضول، وهو حق آخر من حقوق الرئيس، فهو ما عجز أن يقسم

_ 1 الأغاني "12/ 48 وما بعدها". 2 الاشتاق "202". 3 بالفتح وتكسر. 4 تاج العروس "5/ 342 وما بعدها"، "بعد". 5 اللسان "9/ 457"، تاج العروس "5/ 232"، المعاني الكبير "2/ 948"، النهاية "2/ 292"، الخراج "22 وما بعدها"، الصاحبي "ص90"، النهاية "2/ 268". 6 تاج العروس "10/ 211"، صفا". 7 المعاني الكبير "2/ 949"، اللسان "7/ 414". تاج العروس "5/ 231"، الصاحبي "90".

لقلته وما فضل عن القسم فيخصص به، كالبعير والفرس ونحوهما1. وقد أشير إلى حقوق سيد القبيلة المذكورة في هذا البيت من الشعر المنسوب إلى عبد الله بن عنمة الضبيّ، أو إلى الأفوه الأودي: لك المرباع منّا والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول2

_ 1 اللسان "7/ 414"، "11/ 525 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 63"، الصاحبي "ص90". 2 المعاني الكبير "2/ 948"، الأصمعيات "ص28"، الصاحبي "ص90"، تاج العروس "10/ 210"، "صفا". قال عبد الله بن غنمة يخاطب بسطام بن قيس: لك المرباع فيها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول اللسان "14/ 462"، صفا.

الحمى

الحمى: ولسيد القبيلة حق "الحمى"، وهو من أمارات عزه وشرفه وسيادته. فكان إذا مرَّ سيد قبيلة برمضة أعجبته، أو بغدير أعجبه، أعلن حمايته عليها أو عليه إلى حد يعينه ويثبته، فلا يقترب أحد من ذلك الحد، وهو في ذلك مثل الملوك في هذا الحق. ولهذا لم يتمتع بهذا الحق إلا سادات القبائل الكبار أصحاب العز والجاه وكثرة العدد، مثل "كليب وائل" سيد ربيعة، وكانت رئاسة مضر وربيعة له في أيامه، وكان من عزه أنه إذا مر بمكان أعجبه كنع كليبًا له ثم رمى به هناك، فلا يسمع عواء ذلك الكليب أحد، فيقرب ذلك الموضع. فكان يقال: "أعز من كليب وائل"1. وقد تفرد العزيز من سادات القبائل بالحمى، وعدّوه من أمارات العز والمنعة، فلا يناله إلا كبار سادات القبائل، وذكر أن "كليب وائل" كان متغطرسًا، حتى كانت غطرسته هذه سبب قتله. وإلى ظلمه وتعسفه، وأخذه الحمى، أشار "العباس بن مرداس" بقوله: كما كان يبغيها كليب بظلمه ... من العز حتى طاح وهو قتيلها على وائلٍ إذ يترك الكلب نابحًا ... وإذ يمنع الأقناء منها حلولها2

_ 1 الفاخر "ص75 وما بعدها"، الاشتقاق "ص204". 2 الأحكام السلطانية "ص186".

والحمى الأرض التي تحمى من الناس فلا يرعى فيها إلا بموافقة من حماها. وقد جعله بعضهم: "موضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يُرعى". وذكروا أنه "كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدًا في عشيرته استعوى كلبًا فحمى لخاصته مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره، فلم يرعه معه أحد. وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله"1. ويظهر من غربلة ما ورد في الأخبار عن "الحمى"، أنه كان على نوعين: حمى دائم أو طويل الأجل، وهو الأرض المخصبة الجيدة المنبتة التي تتوفر فيها المياه، أو تكون المياه فيها قريبة من سطح الأرض، فينتقيها كبار سادات القبائل ويجعلونها حمى دائمًا لهم ولأسرتهم، وقد يحولونه إلى ملك لهم، يتوارث توارث الإرث، ويكون لمن هو من الأسرة التي حمته، أو لمن خصص الحمى باسمه. ومن هذا القبيل "حمى ضرية"، مرعى لإبل الملوك2، ومراعي الملوك الأخرى. وحمى آخر، يكون قصير الأجل بالنسبة للحمى الأول. فقد يحمى لموسم وقد يحمى لمواسم، فأجله مرتبط بأجل الغيث الذي ينزل عليه. فإذا جاد ووصل الأرض وأنبتها نباتًا حسنًا وكساها بساطًا أخضر، بقي حامي الحمى به، وإن انحبس المطر عنه، وجفَّ كل شيء به، ورفع ذلك البساط عنه، وظهرت عبوسة الرمال والتربة المتهشمة من تحته، فقد يهرب حاميه منه ليفتش عن أرض أخرى يعيش عليها، فيصير الحمى عندئذ بلا حام، إلا إذا عاد الغيث إليه، وعاد صاحبه ليجدد عهده به، وليثبت حق حمايته عليه، وإلا، فقد يصيره في حماية شخص آخر قد ينزل به قبله، ويكون لديه من القوة والمنعة ما لا يستطيع أحد من زعزعته عنه. ولا بد وأن تحدد حدود الحمى، وأن تثبت له أنصاب وعلامات، حتى يكون الناس على بينة من حدوده فلا يدخلونه. ونجد في الكتب التي دونها الرسول للوفود التي زارته، والتي حمى لها أحمية، حدودًا ومعالم دونت أسماؤها فيها، وقد تثبتت مساحتها في بعض الكتب، مما يدل على أن ما يرويه أهل الأخبار من

_ 1 اللسان "14/ 199"، "حما"، تاج العروس "10/ 99 وما بعدها" "حما"، الأم، للشافعي "3/ 270"، السمهودي، وفاء "2/ 224". 2 اللسان "14/ 199"، "حما"، تاج العروس "10/ 100"، "حما".

قصة تعيين حدود الحمى بعواء كلب أو بركضة فرس أسطورة من أساطير أهل الأخبار. ومن أشهر مواضع الحمى في جزيرة العرب: حمى ضرية. وقد عرف في أيام ملوك كندة بـ"الشرف" وهو "كبد نجد"، وكانت به منازل الملوك من بني آكل المرار. ثم عرف بـ"ضرية" في وقت لا نستطيع تحديده تمامًا، ويذكر علماء اللغة أن "ضرية" امرأة سمي الموضع بها، وهو بأرض نجد، وبه بئر. ويظهر أن اسم "ضرية" كان معروفًا في أيام ملوك كندة من بني آكل المرار، ولكنه كان اسم موضع من مواضع الشرف، ثم اشتهر، فسمي به هذا الحمى: حمى ضرية1. وذكر بعض أهل الأخبار أن "ضرية" أكبر الأحماء، وقد سمي بـ ضرية بنت ربيعة بن نزار"2. قال "ابن السكيت": "الشرف كبد نجد وكان من منازل الملوك من بني آكل المرار من كندة. وفي الشرف حمى ضرية وضربة بئر. وفي الشرف الربذة وهي الحمى الأيمن. وفي الحديث أن عمر حمى الشرف والربذة"3. ويظهر من هذا الوصف أن "الشرف" أرض واسعة بنجد. منها الربذة وهو الحمى الأيمن لمن يتجه إلى الجنوب فيوجه وجهه نحو البحر العربي ويجعل قفاه إلى العراق وبادية الشام وبلاد الشأم، ومنها حمى "ضرية" الشهير. وذكر أن أول من حمى "ضرية" في الإسلام "عمر" حماها، لإبل الصدقة وظهر الغزاة، وكان ستة أميال من كل ناحية من نواحي ضرية وضرية في وسطها4. و"ضرية" من مياه "الضباب" في الجاهلية، وكانت لذي الجوشن الضبابي، والد شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين5. وورد أنها كانت حمى "كليب بن وائل"، وأن في ناحية منه قبره، وكان الناس يقصدونه6. ومن الحمى، حمى فيد. قرب أجأ وسلمى جبل طيء، على طريق حاج العراق إلى مكة. وذكر أن فيدا فلاة في الأرض بين أسد وطيء في الجاهلية،

_ 1 اللسان "14/ 484"، "ضرا". 2 تاج العروس "10/ 219"، "ضرى". 3 تاج العروس "6/ 152"، "شرف". 4 تاج العروس "10/ 219"، "ضرى". 5 وفاء الوفاء "2/ 221"، الاشتقاق "180". 6 وفاء الوفاء "2/ 229".

فلما قدم "زيد الخيل" على رسول الله أقطعه "فيد". وبها قرية "فيد"، سميت بـ"فيد بن حام" أول من نزلها. وهي من القرى الجاهلية1. وقد أشار "ياقوت" إلى أحماء أخرى. منها حمى الربذة وحمى النير وحمى ذو الشرى وحمى النقيع2. وذكر أن بـ"النير" قبر كليب وائل3. وأن الخليفة "عمر" حمى "النقيع" لخيل المجاهدين ولنعم الفيء، فلا يرعاها غيرها4. ولا يعقل أن يكون "كليب وائل" أول من حمى الحمى في الجاهلية. والظاهر أن شطط "كليب" وتعسفه" في الإكثار من الحمى، وشدة منعه الناس الغرباء من الرعي في أحمائه، جعل أهل الأخبار ينسبون مبدأ الإحماء إليه. وقد تكون لفظة "كليب" التي صارت وكأنها اسم كليب مع أنها لقب في الأصل، هي التي أوحت إلى ذهاب أهل الأخبار، بابتكار قصة استنباح "كليب" جروًا، ليكون مدى انقطاع سماع نباحه وعوائه نهاية الحمى، أي: حدوده. ونجد بعض أهل الأخبار يجعلون حدود الحمى المواضع التي تصل إليها الخيل وهي جارية، فتقف عندها من التعب. فيكون الحمى بهذه الطريقة أكبر وأوسع من الحمى المحدد بنباح كلب. وفي أرض "بني أسد" "حزن"، كانت ترعى فيه إبل الملوك. وهو قف غليظ بعيد من المياه، فليس ترعاه الشياه ولا الحمر، وليس فيه دمن ولا روث. إليه أشير في قول الأعشى: ما روضة من رياض الحز معشبة ... خضراء جاد عليه مسيل هطل5 ويتبين من دراسة ما أورده أهل الأخبار عن الحمى، أن الأحماء لم تكن أرضين صغيرة حدودها ضيقة بحدود مدى سماع عواء الكلب، بل أنها كانت أكثر من ذلك بكثير. كانت مقاطعة كبيرة تضم آبارًا وعيونًا وقرى في بعض الأحيان. وقد حصل عليها أصحابها من الحروب والغزو في الأصل. فعندما يغزو سيد قبيلة

_ 1 تاج العروس "2/ 457"، "فاد". 2 ياقوت، البلدان "2/ 342". 3 تاج العروس "3/ 593"، "نير". 4 تاج العروس "5/ 530"، "نقع". 5 تاج العروس "9/ 174"، "حزن".

قبيلة أخرى، كان يختار لنفسه خيرة الأرضين فيجعلها في حماه. فنشأ الحمى في الأصل هو من الحروب والغزو، أي: من الغنائم التي تقع في أيدي المنتصر، ومن الهبات التي يعطيها ملك لأشراف شعبه ولقادته في السلم أو في الحروب. فتحمى لهم ولا يدخلها أحد غيرهم، إذ صار حكمها حكم الملك. وذكر أن الملوك إذا جاءتها الخرائط بالظفر، غرزت فيها قوادم ريش أسود1.

_ 1 الحيوان "3/ 418"، "هارون".

دواوين الدولة

دواوين الدولة: ولا بد وأن يكون لكل حكومة مهما كان حجمها وشأنها دواوين ودوائر لتنفيذ ما تقرره من أوامر وأحكام، والجباية ما تفرضه من حقوق على رعيتها، ولإحقاق الحق بين الرعية وللدفاع عن حدودها ولضبط الأمن في أرضها، ولا يمكن تصور وجود حكومة، بدون وجود ما ذكرته. وقد سبق لي أن ذكرت أن قصور الملوك في العربية الجنوبية كانت موضع حكمهم ومقر عملهم، ولهذا السبب ذكرت أسماؤها في القوانين، لتكنى بذلك عن صدورها بأمر من الملك وبموافقته عليها. والمفروض أن أولئك الملوك كانوا قد خصصوا جناحًا أو أجنحة فيها لجلوسهم مع مستشاريهم وكبار موظفيهم للنظر في شئون الحكم، أولاستقبال الرسل والوفود الذين يقصدونهم من الخارج أو من داخل المملكة لمقابلتهم ولعرض ما جاءوا به من رسائل أو طلبات عليهم، وأن هنالك مواضع يجلس فيها الملوك للاستماع إلى شكاوى الناس وظلاماتهم، ومواضع لجلوس الكتاب وموظفي القصر، ومواضع لخزن السجلات والوثائق. فقصور الملوك، إذن هي بهذا المعنى، دار الحكم الأولى في تلك الحكومات، والمرجع الأول للرعية في علاقتها وصلتها بصاحب المملكة. ذلك ما كان بالنسبة إلى عواصم الملوك، أما بالنسبة إلى بقية أجزاء المملكة، فإن الحكم فيها هو إلى ولاة وعمال ثم إلى من هم دونهم في المنزلة والدرجة. وبيوتهم هي دور حكمهم يجلس العامل أو الوالي أو "الكبير" في جناح من

بيته، ليأتيه من يريد مقابلته من موظفين وكتبة ليقصوا عليه ما عندهم من أخبار وطلبات، وليملي عليهم ما يراه من أحكام وأوامر. وفي هذا البيت أيضًا يستقبل الضيوف وأعيان البلد وأصحاب الشكاوى والمراجعات. وفيها يقيم مع عائلته. فبيوت الحكام إذن، هي دور إقامة ودور حكم وقضاء بين الناس في آن واحد. وأما ما ورد في روايات أهل الأخبار من أن ملوك الحيرة كانوا قد اتخذوا قصورهم مكانًا للنظر في أمور رعيتهم، ولاستقبال الرسل والوفود، وللاستماع إلى ظلامات الناس وشكاويهم، وأنهم كانوا قد أوكلوا أمر إدخال الرعية عليهم إلى حجاب معينين، لا يسمحون لأحد بالدخول على الملك إلا بعد أخذ إذن منه بذلك، فإنه يدل على أن ملوك الحيرة كانوا مثل ملوك العربية الجنوبية ومثل ملوك ذلك الوقت قد اتخذوا بيوتهم دارًا للحكم ودارًا للإقامة. وأن قصر الملك هو أيضًا دار الحكم بين الناس، والمشروع للأحكام. وإذا أخذنا بما ورد في كتب أهل الأخبار من أن "دار الندوة" كانت مرجع أهل مكة في كل أمر من أمورهم صغر أم كبر، حتى أن "الجارية إذا حاضت أدخلت دار الندوة، ثم شق عليها بعض ولد عبد مناف بن عبد الدار درعها ثم درّعها إياه وانقلب بها إلى أهلها فحجبها. وكان عامر بن هاشم بن عبد مناف عبد الدار يسمى محيضًا"1، جاز لنا القول إن تلك الدار كانت دار حكومة. إليها يرجع أهل مكة في منازعاتهم وفي خصوماتهم وفي أمور سامهم وحربهم. وأن أبناء قصي كانوا قد وزعوا أعمالها بينهم على نحو ما سطره أهل الأخبار. ولفظة "ديوان" من الألفاظ المستعملة في الجاهلية عند عرب العراق، ويذكر علماء اللغة أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية2. وقد كان للفرس دواوين في جملتها ديوان خاص للنظر في أمور العرب، واجبة النظر في صلات "كسرى" مع ملوك الحيرة وسادات القبائل. وليه "زيد" والد "عدي بن زيد العبادي"، فلما توفي "زيد" وليه ابنه من بعده، ثم وليه "زيد بن عدي بن زيد"، بعد مقتل والده على يد "النعمان بن المنذر". ولا استبعد وجود الدواوين في حكومة الحيرة. فقد كان لها كتّاب تولوا أمور ديوان المراسلة بين ملوك الحيرة

_ 1 الأزرقي "1/ 66"، "ما جاء في ولاية قصي بن كلاب البيت الحرام". 2 اللسان "13/ 166 وما بعدها"، "دون"، تاج العروس "9/ 204"، "دون"، غرائب اللغة "229".

والفرس، وأمور المراسلة فيما بين ملوك الحيرة وبين عمالهم على الأرضين التابعة لهم وبينهم وبين سادات القبائل. أما ما ورد في أخبار أهل الأخبار من أن الخليفة "عمر بن الخطاب"، هو أول من أمر بتدوين الدواوين، فإنهم قصدوا بذلك موضوع تأسيس ديوان العطاء وموضوع تدوين الدواوين في الإسلام. مما لا مجال للبحث عنه في هذا المكان. وورد اسم "الديوان" في الحديث. ذكر أن الرسول قال: "إن لله حراسًا، فحرّاسه في السماء الملائكة، وحراسه في الأرض الذين يأخذون الديوان"1.

_ 1الدينوري، عيون الأخبار "1/ 2"، "كتاب السلطان"، "1/ 50"، "إنما قيل: ديوان لموضع الكتبة والحساب، لأنه يقال: للكتاب بالفارسية ديوان، أي: شياطين لحذقهم بالأمور ولطفهم فسمي موضعهم باسمهم".

صاحب السر

صاحب السر: وذكر علماء اللغة أن الملوك كانوا يسرّون أمورهم إلى من يثقون من رجالهم المقربين إليهم. وقد عرف صاحب سر الملك بـ"الناموس"، وذكر بعضهم أن "الناموس" هو صاحب سر الخير، وأن "الجاسوس" هو صاحب سر الشر1.

_ 1 تاج العروس "4/ 264".

الموظفون

الموظفون: ودون الملك أناس يختلفون في المنزلة والمكانة، عهدت إليهم أمور إدارة الحكومة والشعب. وهم نوعان: موظفون مدنيون، واجبهم النظر في الأمور المدنية. وموظفون عسكريون، واجبهم إعداد الجيش والدفاع عن حدود الدولة والقضاء على الفتن والاضطرابات، وتوسيع رقعة أرض الدولة عند الطلب. وإني آسف إذ أقول إن من غير الممكن في الزمن الحاضر تثبيت درجات الوظائف، وتعيين سلالمها من أدنى درجة إلى أعلى درجة، لعدم وصول كتابات جاهلية إلينا فيها حصر تلك الدرجات وعدها وترتيبها، لهذا سأحاول ترتيبها على حسب ما وصل إلينا من شأنها من مختلف الكتابات، وعلى وفق ما ورد من أسماء

بعضها في المسند أو في روايات أهل الأخبار، وعلى حسب اجتهاد الباحثين الذي توصلوا إليه باستنادهم إلى المرجعين المذكورين. وإذا سألتني عن المصدر الذي استقيت منه أسماء الوظائف والدرجات التي أذكرها هنا، فإني أقول: لقد حصلت عليها من ورودها في الكتابات التي عثر عليها المنقبون في مواضع من العربية الجنوبية وفي أعالي الحجاز وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب أخذتها من هذه الكتابات، وعينت درجتها ومكانتها بالاستناد على المعنى المستنبط من النصوص. وبالقياس أحيانًا إلى المفردات الواردة في معاجم اللغة أو في اللغات السامية الأخرى حيث يرد ما يماثلها في تلك اللغات علمًا لوظائف معروفة، بقيت أساء بعض منها معروفة أو متداولة إلى يومنا هذا. ونستطيع أن نقول بالقياس إلى ما هو مألوف في قصور الملوك المعاصرين لملوك الجاهلية أن كبار متولي أمور قصور الملوك وكبار قادة الجيش، كانوا من أقرب الناس إلى الملوك، ومن أكثر الناس تأثيرًا فيهم، وذلك بحكم اتصالهم بهم والتصاقهم بالعرش. فكانت لهم كلمة مسموعة عندهم. فهم من الصنف الممتاز من أصناف الموظفين، ولهم أثر خطير في تاريخ تلك الحكومات. وتختلف درجات المشرفين على أمور القصور الملكية، فمنهم الحرس الخاص الذي يتولى حراسة القصر، ومنهم الخدم والطباخون، ومنهم من اختص بخدمة الملك وحده، كأن يقوم بتقديم الطعام إليه، ومنهم من اختص بتقديم الشراب إليه، أو يتولى أمر الحجابة له، ومنهم من كان يكتب له، أو يخدم زوجاته وذريته، إلى غير ذلك من أعمال اقتضتها طبيعة تلك القصور ودرجة الملك ومنزلته وقد عرف كل هؤلاء بـ"عبيد الملك" عند بعض الشعوب1. والطبقة المذكورة، وإن كانت من الطبقات الدنيا بالنسبة لطبقات المجتمع، وظيفتها الطبخ وتقديم الأشربة والأطعمة والسهر على راحة الملك وضيوفه، إلا أن رهطًا منها تمكن مع ذلك من لعب دور خطير في أمور المملكة، وفي مقدرات الناس، بفضل استخدام ذكائهم وقربهم من الملك ووجودهم بحضرته بصورة دائمة، من التأثير على سيدهم وتوجيهه الوجهة التي يريدونها. كما تمكنّوا من الحصول على مكانة كبيرة عند قومهم، باتصالهم بحكم مراكزهم بأعيان الناس. وبنوال

_ 1 Ancient Israel, P. 120

جوائزهم وهباتهم، ليفتحوا بذلك لهم الباب للوصول إلى الملك في كل وقت. ثم بإيصالهم أخبار المجتمع ولا سيما سادته إلى الملك وبأخبارهم هذه صار في إمكانهم إبعاد شخص أو تقريبه من الملك، وإهلاك شخص أو إسعاده برضاء ملكه عنه.

الكبراء

الكبراء: وأعلى مناصب الدولة ودرجاتها الإدارية هي درجة "كبر" أي كبير. ويجب أن أكون حذرًا جدًّا في التعبير. فكلمة "كبر" "كبير"، ليست منصبًا أو وظيفة أو درجة بالمعنى المفهوم من هذه الألفاظ الاصطلاحية في الزمن الحاضر، ولكنها لفظة عامة قد تعني ممثل ملك على مقاطعة، مثل "كبرددن" أي: "كبير" أرض "ديدان" في حكومة "معين" وتقع في أعالي الحجاز، وهي "العلا"1 وقد تعني: موظفًا كبيرًا من رجال الملك المقربين إليه، عيّنه الملك واختاره لتنفيذ أوامره وأحكامه، أو للإشراف على إدارة أملاكه وأمواله وتدبير شئون قصره2، أو لإعداد ما يلزم من إعاشة جيش وتقديم ما يحتاج إليه3. وقد تعني: درجة عليا من درجات رجال الدين، أو كبير من كبارهم تناط به شئون إدارة أملاك المعابد وأموالها. وقد تعني: سيد قبيلة، أو رجلًا كبيرًا عينه الملك مندوبًا عنه ليشرف على تصريف أمور الحكم على قبيلة. وقد تعني: "الكبير" المسئول عن تصريف أمور المدن. فقد كان الذي يسير أمور مدينة "تمنع" مثلًا مسئولًا درجته درجة "كبر" "كبير" واتضح من بعض الكتابات أن مدينة "ميفعة" "ميفعت" الحضرمية كانت تحت حكم "كبير"4. وقد أشير على وجود "كبر" "كبير" في سبأ، كان يتولى درجة دينية. إذ كان من كبار رجال الدين. وورد اسم "كبير" آخر كان عمله إدارة بساتين الملك ومزارعه والإشراف عليها5. وورد اسم "كبير" كان عمله الإشراف على أعمال الصرف والانفاق على الجيوش6. وورد اسم "كبير" آخر كان يتولى رئاسة

_ 1 Rhodokanakis, Kat. Texte, I, s. 75, Glaser 1155, Halevy 535, 578 2 Rep. EPIGR. 4054 3 Rep. EPIGR. 3951, Arabien, S. 130 4 Arabien, S. 130 5 Rep. EPIGR. 4054, Grohmann, S. 130, glaser 1571 6 Rep. EPIGR. 3591, Grohmann, S. 130

قبيلة1، فيستنتج من هذه الأمثلة أن لفظة "كبر" لا يقصد بها درجة معينة من كبار الموظفين، بل أريد بها علية قوم وأعيانهم وكبارهم، ولهذا أطلقت على من ذكرت أعيان سبأ وعلى المنازل الكبيرة التي كان على رأسها كبير من كبراء الناس؛ من رجال دين، ومن عسكريين، ومن موظفين، أو مدنيين غير موظفين. والكبراء بالطبع هم من أصحاب الجاه العريض والوجاهة والمنزلة والثراء، وهم كبار الأحرار في الأرض، ولأهميتهم ومكانتهم أرخ الناس حوادثهم وما وقع لهم بأيامهم، وقد حملت الكتابات أسماء طائفة منهم، دلالة على ما كان لهم من اسم وسلطان في ذلك العهد2. ومن أشهر الكبراء "كبر خلل"، أي: كبير خليل. وخليل عشيرة قديمة. وقد ذكر كبيرها في الكتابات السبئية القديمة، كما ذكر في الكتابات المتأخرة كذلك. وقد أرخ بهؤلاء الكبراء عدد من الكتابات السبئية. ويظهر أن "كبر خلل" "كبير خليل" كان كاهنًا، أي: رجل دين في الأصل، يشرف على معبد "عثتر ذ ذبن" "عثتر ذو ذبن". ويقدم الذبائح إلى هذا المعبد، ويدعو الآلهة لإنزال الغيث3، ودعوته آلهته لإنزال المطر، هي بمثابة صلاة الاستسقاء. وقد كان يحكم حضرموت في النصف الأول من القرن السادس للميلاد "كبير"، "كبر حضرموت"، وقد ذكر في نص "أبرهة" في جملة من وفد على أبرهة بعد إتمامه سد "مأرب"4.

_ 1 Grohmann, S. 130 2 Grohmann, S. 130, J. Ryckmans, L.htm'Ist, 25, 34, 122 3 Handbuch I, S. 130, Katab. Texte, s. 53, 67 4 راجع السطرين 86، 87، من نص أبرهة: Glaser وCIH 241، المنشور في الجزء الأول من المجلد الرابع من مجلة المجمع العلمي العراقي لسنة1956 "ص186 وما بعدها"، Glaser, Zwei Inschriften Uber Dem Dammbruch von Marib, S. 68

الأقيان

الأقيان: جمع "قين"، وتتألف طبقتهم من الأمراء ومن ممثلي الملك في المدن، ومن

الموظفين ومن رجال الدين من درجة "رشو"1. وقد ذهب "ويبر" Weber إلى أن "القين" والـ"رشو" هما شيء واحد2. أما "هارتمن" Hartmann فيرى أن القين غير الرشو، فهو وظيفة دنيوية ومركز حكومي. أما "الرشو" فإنه منزلة دينية، فهو "كاهن" إلَه ما وتعني رئاسة دينية. وقد يستعمل "قين" لأداء المعنيين. أما "رشو"، فإنه لا يستعمل إلا في الأمور الدينية وفي التعبير عن منزلة كهنوتية3. وذهب بعض الباحثين إلى أن "القين" "رشو" أيضًا، أي رجل دين، ولكنه تخصص بالأمور الإدارية والمالية للمعابد. وقد يتولى قيادة الناس في الحروب أيضًا4. وقد ورد في نص عثر عليه في "حرم بلقيس" اسم كاهن عرف بـ"تبعكرب" "تبع كرب"، كان رجل دين، أي: "رشو" و"قينا" في الوقت نفسه على "سحر". ويدل ذلك على أن رجل الدين هذا كان يجمع بين سلطتين: سلطة دينية هي درجة "رشو"، وسلطة زمنية هي درجة "قين"5. وفهم من بعض نصوص المسند أن "القين" كان يساعد الملك في إدارة بعض الأعمال، كما كان ينوب عنه في إدارة المدينة أو المعبد. وفهم من نصوص أخرى أنه كان يدير أملاك المعابد، وأنه كان يتولى قيادة الجيش أوتهيئة ما يحتاج إليه6. واستدل من تعداد هذه الأعمال المدونة في النصوص، أن عمل "القين" لم يكن عملًا معينًا محدودًا بحدود وقيود، وإنما كان يشمل كل عمل وشغل كان الملك يعهد به إلى أحد الأقيان. أي: أن القين لم يكن موظفًا يشغل وظيفة معينة محددة، بل كان من كبار رجال الدولة ومن السادات، له مواهب وكفاءات وله قرب وحظوة عند الملك، فإذا احتاج الملك إلى إنجاز عمل ما، كلف أحد أقيانه القيام به. والقين دون الكبير في الدرجة، فقد جاء في بعض الكتابات أن الأقيان كانوا يخضعون للكبراء7، كما يتبين ذلك من كتابات عثر عليها في "شبام أقيان".

_ 1 Handbuch I, S. 131 2 Weber, Studien, III, S. 43 3 Hartmann, Arab. Frage, S. 181 4 Hartmann, Arab. Frage, S. 181 5 راجع الفقرة الأولى من النص الموسوم بـ: Glaser 481 6 Grohmann, s. 130. Rhodokannakis, Stud, II, S. 15 7 Halevy 150, Handbuch, I, S. 131, Grohmann, s. 130

"شبم أقين"، ومن كتابات أخرى عثر عليها في "عمران" من "مرثد" من قبيلة "بكيل"1. وقد كان الأقيان طبقة خاصة من طبقات أهل الحظوة والنفوذ "الأرستقراطية" في الدولة وفي المجتمع، لها رأي مسموع بين الناس وكلمة نافذة عند الملك. وهم من جماعة أصحاب الأملاك والإقطاع، قد يعطون أرضهم لغيرهم لاستغلالها مقابل أجر "اثوبت"، أي: كراء. وقد يستغلون أرضهم بأنفسهم، بتشغيل فلاحيهم وخدمهم ورقيقهم بها، فيكون حاصلها لهم، لا ينازعهم فيه منازع.

_ 1 Handbuch, I, S. 132, Hartmann, Arab. Frage, S. 231. Rhodokanakis, Stud, I, S. 149, Halevy 147, Hommel, Grundriss, S. 687

الأقيال

الأقيال: والأقيال هم طبقة من كبار الإقطاعيين من أصحاب الأرضين الواسعة، ومن رؤساء القبائل كذلك والسادات الكبار. وكانوا يتمتعون بسلطان واسع، ويقال للواحد منهم: "قول" في المسند، و"قيل" في عربيتنا. والجمع "أقول"، أي: أقيال. وقد جاء في كتابات المسند ذكر أقيال عديدين، مثل أقيال "سمعي"، وأقيال "بكيل" من "آل مرثد". وقد كان على مدينة "صرواح" حاكم درجته درجة قيل. وورد ذكر "أقيال حمير" في "حصن غراب"، وذكر الأقيال في نص "أبرهة"، كما ورد في نصوص عديدة أخرى. و"القول" في الأصل المتحدث باسم قوم أو جماعة من فروع قبيلة. كأن يكون رئيس حيّ أو عشيرة أو ما شاكل ذلك من القبيلة، ثم توسع تفوذه وازداد شأنه حتى صار في منزلة "كبر" كبير، بل حل محله. وعند ظهور الإسلام، كان للأقيال النفوذ الأوسع في العربية الجنوبية، حتى حكموا المخاليف، كالذي يظهر لنا بجلاء من وصف أهل الأخبار لنظام الحكم في اليمن عند ظهور الإسلام1. وقد لقب أكثرهم نفسه بلقب "ملك"، مع أنه دون الملك في الحكم وفي امتلاك

_ 1 Grohmann, S. 130

الأرض بكثير. بل كان حكم بعضهم أقل من حكم سيد قبيلة. وذكر علماء اللغة أن "المقول": المقيل بلغة أهل اليمن، وهو دون الملك الأعلى، والجمع "أقوال" و"أقيال". وذكر بعضهم: أن القيل هو الملك النافذ القول والأمر، وقيل: الأقيال، ملوك اليمن دون الملك الأعظم، واحدهم قيل، يكون ملكًا على قومه ومخلافه ومحجره. وقد سمي قيلًا لأنه إذا قال قولًا نفذ قوله. وعرف أنه الملك من ملوك حمير يقول ما شاء. وقد كتب الرسول إلى "وائل بن حجر" ولقومه: "من محمد رسول الله إلى الأقوال العبَاهلة -وفي رواية- إلى الأقيال العباهلة"1. وذكر علماء اللغة أن العبَاهلة، هم الذين أقروا على ملكهم لا يزالون عنه، وعباهلة اليمن ملوكهم الذين أقروا على ملكهم2. ووردت في النصوص السبئية لفظة "قبت"، يظن أنها بمعنى "نائب الملك" "نائب ملك"3. وجاء في بعض النصوص المعينية ذكر منصب، عنوانه "حفيه نفس" "ح ف ي هـ ن ف س" "حفي نفس"4 "حافي نفس"، يظهر أن صاحبه كان مكلفًا أن يعمل أعمالًا خاصة، مثل النظر في شئون الماء، أي: في توزيعه، وفي الخصومات التي قد تقوض أجله، ومثل القيام بالإشراف على الأبنية والأعمال العامة وافتتاحها باسم الملك5. ويظهر من بعض النصوص المعينية أيضًا أنه كان يعاون هذا الموظف القضائي موظفان، وضعا تحت إمرته، يقال لمنصبهما: "ربقهي معن"6، ربما كان بمثابة كاتبين عنده. ويظهر أن حكومة "مَعين" كانت قد كلفت جماعة أخرى النظر في شئون الري عرفت بـ"أهل طبنتم" وبـ"اطبنو"7. وإذا علمنا ما للمياه من شأن

_ 1 اللسان "11/ 575 وما بعدها"، الاشتقاق "282". 2 اللسان "11/ 422"، تاج العروس "8/ 4" "عبهل". 3 Mahram, P. 120 4 Rep. EPIGR. 2813, 2829, 3562 5 Grohmann, S. 131 6 Rep. EPIGR. 3310, Grohmann, S. 131 7 Halby 174, 520, 521, Grohmann, s. 131, J. Ryckmans, L'Inst. 23

في بلاد العرب، عرفنا السبب الذي جعل ملوك "معين" يعتنون عناية خاصة بشئون الري حتى جعلوا لها موظفين خاصين واجبهم رعاية هذه الشئون1. ويرد في الكتابات ذكر منصب، يقال له: "مقتوي"، والجمع "مقتت"2. ويعبر عنه بـ"مقتوي ملكن"، أي: "مقتوي الملك". ويظن بعض الباحثين أن المقتوي، أو "مقتوي الملك"، هو ضابط كبير، أو هو تعبير عن قائد أو مشاور عسكري، اختصاصه تقديم الرأي إلى الملك في الأمور الحربية وقيادته للجيش3، فهو معتمد الملك في هذه الأمور. وقد تؤدي اللفظة معنى "أمير" في العرف الإسلامي في صدر الإسلام. وهو من تسند إليه قيادة الجيش وإدارة الإدارة التي توكل إليه وتحدد له حدود "جنده". وقد أظهرت نصوص المسند وجود "مقتوت" أيضًا، أي: نساء مقتويات. وقد فسرها الباحثون بـ"كاهنة"4. وعرف من يقوم بإدارة وحدة من الوحدات الإدارية بـ"سمخض" ومعناها "مدير"، فيكون المعنى: مدير أرض، ويكون واجبه الإشراف على الأرض التي وُكِلَ أمر إدارتها إليه، فواجبه إذن هو واجب سياسي وإداري، وأما وظيفته، فيقال لها: "سمخضت أرض"، أو "سمخضت" "سمخضة"، ومعناها: إدارة أرض، أو "إدارة". ويعني مصطلح "أمنهت" "أمنها" "أهل أمنهتن" المعيني، منصبًا دينيًّا مختصًّا بالإشراف على معامل المعابد، تتولاه امرأة، ويقابل "امنت ذ عثتر" "امنت ذي عثتر" في القتبانية. وقد ورد معه مصطلح "منوت" "منوات" في بعض الكتابات5. ومن الوظائف وظيفة "ملوطن ملك" "ملوطن"، وقد تعني وظيفة إدارية تنظر في شئون أملاك الملك. وقد ورد ذكرها في النصوص السبئية المتأخرة6.

_ 1 Handbuch I, S. 87, 92, 133 2 Grohmann, s. 131 3 Grohmann, S. 131, CIH 450, Rep. EPIGR. 4861, 4876, 4892 4 Nami 4, glaser A. 778, Grohmann, s. 131 5 Arabien, S. 131, rhodokanakis, Stud. I, S. 62, Rep. EPIGR. 2912 6 Philby 124, Grohmann, S. 131, Rep. EPIGR 3951

وأما مصطلح "أذن قني" الذي ورد في أحد النصوص: "أذن قني ملك حضرمت"، "أذن قنى ملك حضرموت"1 فقد يعني: المأذون بإدارة مقتنيات ملك حضرموت، أي: وظيفة الإشراف على أملاك الملك وأمواله. وأما "حشرو"، فقد تعني: جماعة واجبهم جمع الحشر للدولة2. وقد يكون لهذه اللفظة علاقة مع ما ورد في الموارد الإسلامية عن "الحشر" و"الحشور". فقد جاء في الحديث: "إن وفد ثقيف اشترطوا أن لا يعشرو ولا يحشروا"، "أي: لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم، ومنه حديث صلح أهل نجران: على أن لا يحشروا، وحديث النساء: لا يعشرون ولا يحشرون يعني: للغزاة، فإن الغزو لا يجب عليهن"3. فالحشر إذن قد يكون موظفًا خصص بجباية الضرائب، أو بجمع الحشور، أي: الناس الذين يحشرون ويجمعون للحروب أو للقيام بأعمال إجبارية، فهم مثل "السخرة" الذين يجمعون جمعًا لأداء أعمال من غير أجر. وهو "الحاشر" في لغتنا. وأما الذي يتولى جباة الضرائب والإشراف على الموظفين الذين توكل أعمال الجباية إليهم، فيقال له: "نحل" ويقال لوظيفته "نحلت"4. ويذكر علماء اللغة أن "النحلة" بمعنى العطية، وأن النحل إعطاؤك الإنسان شيئًا بلا استعاضة، وعمّ به بعضهم جميع أنواع العطاء5. ويظهر من هذا التفسير أن له بعضَ الصلة بمعنى اللفظة في المسند، وأن المراد منها في اللغات العربية الجنوبية أخذ المال من الناس. فقد كان الملوك يعطون الأرض لأتباعهم والمقربين لديهم ممن يخدمونهم لاستغلالها، وذلك في مقابل دفع تعويض عام، فيقوم هؤلاء باستغلال ما أعطي لهم بأنفسهم، أو بتأجير الأرض قطعًا إلى من هم في خدمتهم، فيأخذون الربح لهم، ويقدمون ما اتفق عليه مع الملك إلى خزانته. ويعرف الموظفون الذين يجمعون حصة الحكومة المخصصة باسم الجيش من الحبوب بـ"ساولت" "س اول ت". وهي ضريبة عسكرية يؤديها المزارعون

_ 1 Rep. EPIGR. 2693, grohmann, s. 131 2 Rep. EPIGR. 3951, Grohmann, S. 131 3 اللسان "4/ 192". 4 Rhodokanakis, Stud, II, S. 67, Jamme, South Arabian Inscriptions, P. 442 5 اللسان "11/ 650".

من الحضر والأعراب إلى الحكومة، لتموين الجيش ببعض ما يحتاج إليه من طعام. وتعرف هذه الضريبة العسكرية بتلك التسمية كذلك. فهي ضريبة من ضرائب غلات الأرض1. ويظهر من بعض الكتابات أن بعض الإقطاعات كانت في إدارة مجلس يتألف من ثمانية أشخاص عرفوا بـ"ثمنيتن" أي "الثمانية"2، فهم بمثابة مجلس مديري شركة يدير أمور تلك المقاطعة، أو بمثابة مشروع زراعي تعاوني، يتعاون فيه الأشخاص بإدارة ذلك المشروع، وقد تكون هنالك إقطاعات بإدارة أناس يزيد عددهم على هذا العدد أوينقص عنه. وقد ذهب "رودوكناكس" Rhodokanakis إلى احتمال وجود طبقة خاصة من الموظفين عرفت بـ"إبعل سير"، كانت تحكم إلى جانب الطبقة المثمنة المؤلفة من الأشخاص الثمانية3. وظهر من النصوص القتبانية وجود جماعة من الموظفين نيطت بهم مهمة الإشراف على إدارة المعابد وتمشية شئون الأوقاف المحبوسة على المعبد. يقال لها: "أربى"، والواحد هو "ربي". ومهمته أيضًا جمع الأعشار والنذور التي تقدم إلى المعابد4. فهم كهيئات "الأوقاف" في البلاد العربية والإسلامية في الوقت الحاضر. وذكر علماء اللغة "المحاجر"، وقالوا عنهم: إنهم أقيال اليمن، وهم الإحماء، كان لكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره. وأن المحجر ما حول القرية5. ويظهر أنهم قصدوا بهم أصحاب الإحماء، أي: الإقطاع، الذين استقطعوا الأرضين واستخلصوها لأنفسهم، ولم يسمحوا لأحد بالدخول إليها للرعي أو للاستفادة منها بغير إذن منهم. فهم أصحاب الإقطاع والإحماء. فحجروا بذلك على خيرة الأرضين المحيطة بالقرى، وجعلوها خاصة بهم لا يرعاها غيرهم، لما كان لهم من نفود وسلطان.

_ 1 Handbuch I, S. 128 2 راجع النص الموسوم بـ: Halevy 147 Rhodokanakis, Stud, I, S. 56, Hartmann, Arab, Frage, S. 208, 401 3 Rhodokanakis, Stud, I, S. 57, Glaser 147 4 Grohmann, S. 214 5 اللسان "4/ 171"، "حجر"، تاج العروس "3/ 126"، "حجر".

هذا ما عرفناه من أصول الحكم عند العرب الجنوبيين. أما بالنسبة إلى العرب الشماليين، فإن معارفنا بنظام الحكم عندهم نزر يسير، لعدم ورود شيء ما عن نظام الحكم في "الحيرة" أو في مملكة الغساسنة في كتابة جاهلية. أما أخبار أهل الأخبار، فإنها قليلة في هذا الموضوع، وهي لا تنص على نظم الحكم عندها نصًّا، وإنما تشير إليها إشارة، وتومئ إيماء، ولذلك لا تقدم إلينا رأيًا واضحًا صحيحًا في أصول الحكم عند العرب الشماليين. ويظهر من أخبار الأخباريين عن ملوك الحيرة أن أولئك الملوك لم يكونوا مثل ملوك اليمن من حيث استشارة المجالس وتوزيع أعمال الحكومة. وطبيعي أن يكون هنالك فرق بين أصول الحكم في العربية الجنوبية، وأصول الحكم في الحيرة، لا بين طبيعتي الحكومتين من اختلاف في نواح عديدة، تجعل وجود الاختلاف في نظم الحكم أمرًا لا بد منه. فإدارة الحكم في "الحيرة" متأثرة بالنظم السياسية الساسانية، وظروف البادية والبداوة وهي الغالب على سواد التابعين لملوك الحيرة، ولا يمكن تطبيق ما يطبق في المجتمع الحضري على المجتمع البدوي. وإذا أخذنا "الردافة" على أنها منصب أو منزلة ودرجة خاصة في حكومة "الحيرة"، فإننا نستطيع أن نقول: إنها أسمى وظائف تلك الحكومة، أو أسى درجاتها، وأنها من المنازل العليا عند ملوكهم. فقد ذكر أهل الأخبار أن الردف هو الذي يجلس على يمين الملك. فإذا شرب الملك، شرب الردف قبل الناس، وإذا غزا الملك، قعد الردف في موضعه، وكان خليفته على الناس حتى ينصرف، وإذا عادت كتيبة الملك، أخذ الردف ربع الغنيمة1. وكان للردف أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم، فينظر بين الناس بعده. وذكر: أن هناك ردافة أخرى، ولكنها دون الردافة المتقدمة، وهي أن يردف الملك الردف على دابته في صيدٍ أو غيره من مواضع الأنس، ولكن الأولى أنبل2. وقد عرف "عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب" بـ"رديف الملوك"، ومعنى هذا أنه عاش وخالط عددًا من ملوك أيامه، وذكر أنه كان رحالًا إليهم.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 184 وما بعدها"، اللسان "5/ 103"، "صادر"، "ر/ د/ ف". 2 الأغاني "14/ 63".

ولذلك عرف بـ"عروة الرحال"1. وذكر أن "ردافة الملوك: كانت من العرب في بني عتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع، فورثها بنوهم كابرًا عن كابر حتى قام الإسلام، وهي أن يثني بصاحبها في الشراب، وإن غاب الملك خلفه في المجلس، ويقال: إن أرداف الملوك في الجاهلية بمنزلة الوزراء في الإسلام، والردافة كالوزارة. قال لبيد من قصيدة: وشهدت أنجية الأفاقة عاليًا ... كعبي وأرداف الملوك شهود"2 وكان "سدوس بن شيبان" رديفًا، "فكانت له ردافة آكل المرار"3. وقد كانت الردافة معروفة عند "ملوك كندة" أيضًا. وقد رووا أن "أبا حنش عاصم بن النعمان التغلبي"، كان رديفًا للملك "شرحيل بن الحارث بن عمرو الملك المقصور بن آكل المرار الكندي"4. وقد احتفظ "بنو سدوس" بهذا الحق: حق ردافة ملوك كندة5. ولا يوجد نظام خاص في "الردافة"، ولكن نظرًا لما للردافة من مكانة ومنزلة، جرت العادة ألا تعطى إلا للرجال الذين لهم مكانة عند الناس ولهم عقل وشخصية، وقد تنتقل من الأب إلى الابن، وقد تنحصر في قبيلة واحدة، فإذا أراد الملك نقلها إلى قبيلة أخرى، ولم يأخذ رأي تلك القبيلة في نقلها نها "زعلت" القبيلة وثارت إن كانت قوية ووقع الشر بينها وبين الملك، أو بينها وبين القبيلة الأخرى التي نازعتها على الردافة. وللرديف، بحكم اتصاله بالملك وبقربه منه وبتقديمه الرأي له، أثر في توجيه الملك وفي اتخاذه القرارات، لا سيما إذا كان الملك ضعيفًا فاتر الهمة، ليس له رأي. والرديف بهذا المعنى المستشار والوزير. وقد ذكر أن الردافة بهذا المعنى عرفت في الإسلام أيضًا. روي أن "عثمان" كان يُدعى "رديفًا" في إمارة عمر6. وذكر علماء اللغة أن "الأرداف: الملوك في الجاهلية، والاسم منه الردافة".

_ 1 البيان والتبيين "1/ 132"، المحبر "254". 2 الثعالبي، ثمار القلوب "184". 3 المعارف "ص45". 4 المحبر "ص204". 5 الاشتقاق "261". 6 الطبري "3/ 480"، "ذكر ابتداء أمر القادسية".

وكانت الردافة في الجاهلية لبني يربوع1. خصصها ملوك الحيرة بهم ولم يعطوها لأحد غيرهم، حتى إن كانوا مثل بني يربوع من تميم. ولا بد وأن يكون لهذا التخصيص سبب إذ لا يعقل أن يكون جاء "بني يربوع" عفوًا. فهو فضل وتفضيل، وقضية التفضيل والتقديم، قضية حسّاسة جدًّا ويحسب لها ألف حساب عند العرب. لما لها من مسّ بالمنازل وبكرامة القبائل والسادات، وقد ذهبت أرواح بسبب تقديم ملك سيد قبيلة على سيد آخر في موضع جلوسه منه أن جعله أقرب إليه منه وفي جهته اليمنى لأن في هذا التقديم على عرفهم إيثار لمن قدم وتفضيل له على بقية الحضور. فهل يعقل إذن أن يكون ملوك الحيرة قد أعطوا "الردافة" لبني يربوع عفوًا ومن غير أسباب حملتهم على تخصيصها فيهم. لقد حاول بعض ملوكهم تحويلها من أصحابها إلى قوم آخرين، ومنهم قوم مثل "بني يربوع" من تميم. لكنهم هاجوا وماجوا وهددوا، فاضطر أولئك على إبقاء الحال على ما كان عليه. ويمكن اعتبار "الحجابة" وصاحبها "الحاجب" من الدرجات المهمة في "الحيرة". فقد كان "الحاجب" هو الذي يتولى إدخال الناس والأذن لهم بالدخول على الملوك. وكان في إمكانه التعجيل بإدخال من يريد على الملك، وتأخير من ينفر منه من الدخول عليه، وربما منعوه من الوصول إليه. لذلك كان الذين يقصدون الملوك يتقربون إليه ويتوددون له ليكون شفيعًا لهم عندهم عن وواسطة في التقرب إليهم. وطالما تعرض الحاجب لذم شاعر وهجائه إذا أخره عن الدخول على الملوك، أو حال بينه وبين الوصول إليه، أو كان سببًا في إثارة غضب الملك على الشاعر2. وقد ذكر علماء اللغة أنه لما كان الملك محجوبًا عن الناس، فلا يصلون إليه إلا بإذن من الحاجب، لذلك حصر -أي: حبس- عن رعيته، فقيل له: الحصير3. وقد كان للنعمان بن المنذر "ملك العرب" حاجب ورد اسمه في شعر للنابغة، هو "عصام بن شهر" من رجال "جرم"، ذكر أنه قد كانت له منزلة عند

_ 1 اللسان "5/ 103"، "صادر"، "ردف". 2 تاج العروس "1/ 303"، "حجب". 3 تاج العروس "3/ 144"، "حصر".

النعمان. حتى أنه إذا أراد أن يبعث بألف فارس بعث بعصام1، مما يدل على أنه كان يوكل إليه أمر قيادته جيشه أيضًا. وقد ضرب به المثل، ورد: "ما وراءك يا عصام"، يعنون به إياه. وورد: "كن عصاميًّا ولا تكن عظاميًّا يريدون به قوله: نفس عصام سودت عصامًا ... وصيرته ملكًا همامًا وعلمته الكرَّ والإقداما وقوله: ولا تكن عظاميًّا، أي: ممن يفتخر بالعظام النخرة"2. وقد ورد في أخبار الرسل الذين أوفدهم رسول الله إلى الملوك، أن "شجاع ابن وهب" رسول رسول الله إلى "الحارث بن أبي شمر الغساني" ليدعوه إلى الإسلام، اتصل بحاجبه، وانتظر حتى جاء له الإذن بمقابله فدخل عليه3. وبقيت "الحجابة" من المنازل الرفيعة في مكة وفي الأماكن المقدسة الأخرى. فبيد "الحاجب" تكون مفاتيح الكعبة ومفاتيح الخزانة الخاصة بالمعبد وهي درجة ترزق صاحبها رزقًا حسنًا وربحًا ماديًّا، فضلًا عن الربح المعنوي باعتبار أنه صاحب الصنم أو الأصنام وبيده أمر المعبد. لذلك قالت بنو قصي: فينا الحجابة4. تفتخر على غيرها. ويظهر من الحديث: "ثلاثٌ من كن فيه من الولاة اضطلع بأمانته وأمره: إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون غيره، وأقام كتاب الله في القريب والبعيد"5، ومن اشتراط "عمر" على كل من كان يعينه عاملًا، ألا يتخذ حاجبًا، ومن تحذيره لمعاوية وغيره من اتخاذ الحجاب6. أن الحجاب، أي: احتجاب الحكام في الجاهلية عن الناس وعدم دخول أحد عليهم بغير إذن منه، كان معروفًا فاشيًا، وأن أصحاب الحاجات والمراجعين من الناس كانوا يلاقون صعوبات جمة في الوصول إلى حكامهم، وقد يقفون أيامًا ثم يسمح لهم بالدخول عليهم، وقد لا يسمح لهم بذلك. ونظرًا لما في ذلك من تعسف بحق

_ 1 اشتقاق "318". 2 تاج العروس "8/ 399"، "عصم". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 261". 4 تاج العروس "1/ 303"، "حجب". 5 كتاب الحجاب من رسائل الجاحظ "2/ 30". 6 كتاب الحجاب من رسائل الجاحظ "2/ 31".

الرعية نهى الإسلام عنه، وأمر الحكام بوجوب فتح أبواب بيوتهم للناس ليستمعوا إلى ظلاماتهم وإلى ما هم عليه من حال. وفي كتب أهل الأخبار تأييد لهذا الرأي، إذ نجدها تذكر أن الشعراء وغيرهم كانوا يقفون أيامًا بأبواب ملوك الحيرة أو الغساسنة يلتمسون الإذن بالدخول على الملوك، ولا يأذن الحاجب لهم بالدخول عليهم، حتى اضطر البعض منهم إلى التعهد للحاجب بإعطائه نصيبًا مما سيعطيه الملك له إن يسر له أمر الدخول عليه1. ومنهم من كان يقدم للحاجب هدية ترضيه حتى يسمح له بالدخول دون إبطاء، مما اضطر بعض الشعراء على نظم الأشعار في هجاء الحاجب والملك الذي يراد الوصول إليه. ونجد مثل هذه الشكاوى عن حجاب ملوك اليمن. ويظهر أن ملوك الحيرة كانوا يستوزرون الوزراء ليستشيروهم في الأمور، فقد ورد أن "زرارة بن عدس" كان من عمرو بن هند كالوزير له2. وقد وردت كلمة "وزير" في القرآن الكريم3 بمعنى المؤازر الذي يشد أزر صاحبه فيحمل عنه ما حمله من الأثقال، والذي يلتجئ الأمير إلى رأيه وتدبيره، فهو ملجأ له ومفزع. وجاء في حديث "السَّقيفة": "نحن الأمراء وأنتم الوزراء"4، مما يدل على أن الوزارة كانت معروفة عند الجاهليين. وورد أن "التأمور" وزير الملك لنفوذ أمره5. ولم يذكر علماء اللغة الموضع الذي استعملت فيه هذه اللفظة. وقد كان لملوك الحيرة عمالًا يديرون بالنيابة عنهم أمور الأرضين التابعة لهم. فـ "العامل" هو نائب الملك على تلك الأرض. وقد ذكر أنه كان لملوك الحيرة "عمال" على البحرين كالذي رووه في قصة مقتل الشاعر "عبيد بن الأبرص". وقد عرف علماء اللغة العامل بأنه هو الذي يتولى أمور الرجل في ماله وملكه وعمله ومنه قيل للذي يستخرج الزكاة: "عامل"، وللساعي الذي يستخرج الصدقات من أربابها: "العامل" والعامل هو الخليفة عن الشخص6.

_ 1 الزجاجي، مجالس العلماء "259 وما بعدها". 2 العمدة "2/ 216"، "محمد محيي الدين". 3 سورة طه، الآية29، الفرقان، الآية35. 4 اللسان "5/ 283"، "صادر"، "وزر". 5 تاج العروس "3/ 20"، "أمر". 6 اللسان "11/ 474"، "عمل".

وقد استعمل المسلمون لفظة "العامل" وبقوا يستعملونها أمدًا. وعين الرسول عُمالًا على الصدقات1. واستعملت بمعنى أوسع أيضًا، شمل الضرائب والإدارة. وأطلق "الطبري" لفظة "العامل" على ملوك الحيرة، فنجد في كتابه جملة: "من عمال ... "، وورد أن "امرأ القيس" كان عاملًا للفرس، وكان يحكم الحجاز2. ويذكر علماء اللغة أن "العُمالة": رزق العامل الذي جعل له على ما قلد من العمل. والولاية بمنزلة الإمارة، والولي هو الذي يتولى إدارة شئون الولاية3. وقد استعملت في الإدارة الإسلامية. واستعملت لفظة "الأمير" في معنى من يتولى إمارة الجيش، فقيل: "أمراء الجيش" وهم كبار القادة الذين توكل إليهم مهمة تسيير الجيش وإدارته في السلم وفي الحرب. وتؤدي لفظة "الوكيل" معنى العامل أيضًا. جاء في نص "العمارة" "ووكلهن فرسولروم"، أي: "ووكل لفارس وللروم"4. ولكنني لا أستطيع أن أجزم بأن لفظة "الوكيل" كانت مستعملة اصطلاحًا مقررًا مثل لفظة "عامل" في ذلك العهد، أي: سنة "328" للميلاد، وهي سنة تدوين النص. ومن الدرجات المهمة من الوجهة العسكرية والإدارية "الخفارة"، بمعنى الحراسة والمراقبة. والخفير هو المجير والحارس والحامي والأمان5. وكان ملوك الحيرة قد عينوا "الخفراء" على المواضع الحساسة لحمايتها والدفاع عنها. وقد كان الساسانيون قد عينوا خفراء منهم ومن العرب لحماية الحدود، ولما حاصر "خالد بن الوليد" "عين التمر" وتغلب عليها قتل "هلال بن عقبة"، وكان خفيرًا بها6.

_ 1 تاج العروس، "8/ 37"، "ومنه قيل للذي يستخرج الزكاة: عامل". Die Araber, II, S. 318, 321, /56, Annali, I, 833 2 اللسان "11/ 476" "عمل"، "صادر". 3 اللسان "15/ 407"، "ولي". 4 J. Cantineau, Le Nabateen, 2, 1932, 49, Dussaud, Mission, 314, REP I, 361, NR. 483, Die Araber, II, S. 313 أشكر المكتبة القادرية ومتولي الوقف القادري السيد يوسف الكيلاني، على تفضلهما بإعارتي الجزء الثاني من كتاب: Die Araber 5 تاج العروس "3/ 186"، "خفر". 6 الأخبار الطوال "112".

وقد أشير إليها في كتب الرسول، إذ ذكر أنه أخفر "سعير بن العداء الفريعي" أحد المواضع1. ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن ملوك الحيرة، كانوا قد اتخذوا لهم أمناء، فقد لقب "هانئ بن قبيصة" بـ"أمين النعمان بن المنذر"2. و"الأمين" المؤتمن الحافظ، فلعلهم قصدوا أنه كان المؤتمن على أسراره والمستشار له، يستشيره في مسائله والحافظ لها، أو أنه كان الأمين على أمواله وما يأتيه من جباية وخراج، أو الكاتم لأسراره والمدون لرسائله، فهو كاتب الدولة في ذلك العهد. وعرف "قبيصة بن مسعود" بـ"وافد المنذر"3. ويظهر أن المنذر كان يكلفه بالوفادات، أي: بالذهاب موفدًا عنه في مهمات وأعمال يحتاج قضاؤها إلى ذهاب موفد ليتكلم عن الملك وباسمه و"الوافد" هو السابق والإرسال، ويقال: هم على أوفاد أي: على سفر. وقد يقال: إن "قبيصة" إنما عرف بـ"وافد المنذر"، لأنه كان ممن يكثر الوفادة عليه، فيجد له ترحيبًا وأبوابًا مفتوحة، فعرف بذلك. فيكون بهذا المعنى من الرجال المقربين إلى الملك. ولا علاقة له بمهمة الإيفاد إلى الملوك وسادات القبائل بمهمات سياسية، أي: بمهمة رسول وسفير. وقد استعمل عرب العراق الألفاظ الفارسية المستعملة في إدارة الحكومة الساسانية لأنها هي المصطلحات الرسمية والألقاب التي يحملها الموظفون وتشير إلى منازلهم ودرجاتهم، ومنها درجة "قهرمان" "القهرمان". والكلمة فارسية، وقد دخلت العربية وعربت. ذكر علماء اللغة أنها تعني المسيطر الحفيظ على من تحت يديه والقائم بأمور الرجل ومن أمناء الملك وخاصيته. وفي الحديث: كتب إلى قهرمانه4. وقد ورد أن "علي بن أبي طالب" قال لدهقان من أهل "عين التمر"، وكان قد أسلم: "أما جزية رأسك فسنرفعها، وأما أرضك فللمسلمين. فإن شئت فرضنا لك، وإن شئت جعلناك قهرمانًا لنا"5. و"دهقان" من الألفاظ التي عرفها عرب العراق كذلك. وذكر بعض علماء

_ 1 الإصابة "2/ 51"، "رقم3200". 2 العمدة، لابن رشيق "2/ 221"، "مفاخرة عند معاوية بين عامري وشيباني". 3 العمدة، لابن رشيق "2/ 222". 4 اللسان "12/ 496"، "صادر"، "قهرم". 5 الجزية والإسلام، تأليف دانيل دينيت تعريب الدكتور فوزي فهيم جاد الله "ص66".

اللغة أن الدهقان التاجر1. ويراد بدهقان حاكم ضيعة أو بلدة. وهي من "ده" بمعنى "ضيعة" و"قان" "خان" بمعنى رئيس قبيلة في الفارسية القديمة2. فالدهقان هو رئيس موضع. وقد كان الساسانيون قد نصبوا الدهاقين على العراق وعلى قرى غالب أهلها من العرب، فكانوا يخاطبونهم باسم منصبهم: دهقان. وأشير إلى وجود وظيفة "كاتب" عند الفرس، واجبه تولي أمور المراسلة بالعربية والفارسية فيما بين العرب والفرس. وقد ذكر "الطبري" أن "كسرى" جعل ابن "عدي بن زيد العبادي" في مكان أبيه، "فكان هو الذي يلي ما كتب به إلى أرض العرب، وخاصة الملك، وكانت له من العرب وظيفة موظفة في كل سنة: مهران أشقران والكمأة الرطبة في حينها واليابسة، والأقسط والأدم وسائر تجارات العرب، فكان زيد بن عدي بن زيد يلي ذلك، وكان هذا عمل عدي"3. وقد أشير إلى وجود كتاب عند ملوك الحيرة تولوا لهم أمر تدوين المراسلات وما يأمر به الملوك. ولا يعقل ألا يكون لهم ديوان خاص بالمراسلة على نمط ما كان عند الساسانيين، وظيفته تولي ما يكتب به ملوك الحيرة إلى الملوك الساسانيين، وترجمة ما يرد من الساسانيين إليهم من كتب. وتولي أمور المراسلة بين ملوك الحيرة وبين سادات القبائل، كما يظهر ذلك من كتب أهل الأخبار. وكان للملوك خاتم عرف بـ"خاتم الملك" يكون في أيديهم. يظهر أنهم استخدموه للتوقيع على الكتب. وقد عرف بـ"الحلق" كذلك. وعرف "الحلق" بـ"خاتم الملك الذي يكون في يده"4. وكان من شأنهم، أنهم إذا أمروا بكتابة كتاب، ختموا عليه بـ"الختام"، وهو الطين أو الشمع، حتى لا يفتح ولا يمكن لحد فتحه. وإلا كسر الخاتم، وعرف أن الكتاب قد فتح، وأن سره عرف5. والمعروف أن "الشرطة"، لم تكن معروفة عند الجاهليين، وأنها من المستحدثات.

_ 1 اللسان "د/ هـ/ ق"، "13/ 164"، "10/ 107"، "صادر". 2 غرائب اللغة "ص229". 3 الطبري "2/ 201"، "ذكر خبر يوم ذي قار". 4 وأعطى منا الحلق أبيض ماجد ... رديف ملوك ما تغب نوافله تاج العروس "6/ 321"، "حلق". 5 تاج العروس "8/ 366"، "ختم".

الإدارية التي ظهرت في الإسلام. ولكن أهل الأخبار يروون حديث نسبوه إلى الرسول هو: "الشُّرَطُ كلاب النار"1. وهو حديث لو صح أنه من قول الرسول، فإنه يدل على وقوف أهل الحجاز على "الشرطة"، ويذكر علماء اللغة أن الشرطة سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها. وذكروا أن واحد الشرط هو الشرطي، واستدلوا على ذلك بقول الدهناء امرأة العجاج. واللهِ لولا خشية الأمير ... وخشية الشرطي والترتور أعوذ بالله وبالأمير ... من عامل الشرطة والأترور2 وقد ذهبت "ابن قتيبة" إلى وجود "الشرطة" في أيام الجاهلية، إذ قال في أثناء حديثه عن المثل "علي يدي عدل": "هو: عدل بن فلان. من سعد العشيرة، وكان على شرطة تبع، فإذا غضب على رجل دفعه إليه. فقال الناس، لكل شيء يخاف هلاكه: هو على يدي عدل"3 واختلف في اسم والده، فقيل: هو جزء "جر". وقيل: لكل ما يئس منه: وضع على عدل4. وقد عرف الحراس في اليمن. منهم من كان يتولى أمر حراسة الملوك، إذا ذهبوا إلى مكان، أو خرجوا لصيد، ومنهم من كان يتولى أمر حراسة قصورهم، ومنهم من تولى أمر حراسة أبواب المدن والأسوار حتى لا يدخل المدينة عدوٌ ولا يهرب منها سارق أو مجرم، وكان لملوك الحيرة والغساسنة وسادات القبائل حراس يسيرون معهم لمنع من يريد إلحاق الأذى بهم. وإذا تجولوا استتبعهم الحراس والخَدم. وذكر أن "خشرم بن الحباب" كان من حراس الرسول5. ويقال لمن يطوف بالليل لحراسة الناس "العس" و"العسس". فهم نوع من أنواع الحرس، تخصص بالحراسة ليلًا. وأما "الدرابنة"، فهم البوّابون، أي: الذين يقفون على الباب، لمنع الغرباء ومن فيه ريبة من الدخول إلى البيوت. واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية،

_ 1 تاج العروس "5/ 167"، "شرط". 2 تاج العروس "5/ 167"، "شرط". 3 ابن قتيبة، المعارف "619". 4 تاج العروس "8/ 10"، "عدل". 5 القسطلاني، إرشاد "2/ 399"، الاشتقاق "273".

وقد ذكرت في شعر نسب إلى المثقب العبدي: فأبقى باطلي والجدّ منها ... كدكان الدرابنة المطين1 ويقال لمن يطوف بالليل لحراسة الناس "العس" و"العسس"، فهم نوع من أنواع الشرطة، أو من المحافظين على الأمن، تخصصوا بالحراسة ليلًا. وذكر علماء اللغة أن من مرادفات "الشرطي" "الجلواز". و"الجلواز": الثؤرور "التؤرور"، وقيل: هو الشرطي. وجلوزته: خفته بين يدي العامل في ذهابه وإيابه2. وذكروا أن "التؤرور: العَوْن يكون مع السلطان بلا رزق، وقيل: هو الجلواز"3. وذكر "عكرمة" في تفسير {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} . "الجلاوزة يحفظون الأمراء"4. وقد اتخذ حكام العربية الجنوبية السجون لتأديب خصومهم بسجنهم بها. واستعملت لسجن الخصوم السياسيين والأعداء في الغالب. لذلك كانوا يتشددون في حراستها وفي عزلها عن الناس حتى لا يتمكن أحد من الهروب منها. وقد يجعلونها في قلاعهم وحصونهم، زيادة في الحذر وفي مراقبة المساجين. وقد يتوفى السجين في سجنه من سوء حالة السجن ومن الجوع والعطش. ويقال لحارس السجن: "حصق" في اللغة العربية الجنوبية5. وذكر بعض علماء اللغة أن النبط تسمي "المحبوس"، "المهزرق"، و"الحبس" "الهزروقي"6. ولا يستبعد أن يكون عرب العراق قد عرفوا هذا المصطلح. إذ ذكروا أن "المهرزق: المحبوس، نبطية تكلمت بها العرب، وكذلك المحرزق". وإن "الهرزق" "الحبس". وقال بعض العلماء: "المهزرق والمهرزق يقالان معًا. كما وردا في بيت الأعشى: هنالك ما أنجاه عزة ملكه ... بساباط حتى مات وهو مهرزق"7.

_ 1 تاج العروس "1/ 249"، "9/ 199"، "الدرابنة". 2 اللسان "5/ 322"، "جلز"، تاج العروس "4/ 16"، "جلز". 3 تالله لولا خشية الأمير ... وخشية الشرطي والتؤرور. "التؤرور" و"الثؤرور"، اللسان "4/ 88". 4 الدينوري، عيون الأخبار "1/ 3". 5 راجع الصفحة "436" من كتاب: South Arabian Insciptions 6 تاج العروس "6/ 313"، "حزرق"، "7/ 96"، "هزروقي"، "هزرق". 7 تاج العروس "7/ 96"، "هرزوقي"، "هزرق".

وترد لفظة "عوق" بمعنى المحبوس في النصوص الصفوية1. وقد كان الروم يقبضون على من يغير على أرضهم من الصفويين وغيرهم ويودعونهم السجون. ومنهم من كان يفر منها، ويكتب ذكرى هروبه من سجن الروم على الحجارة. وقد كان لملوك الحيرة "سجون"، منها سجن "الصنّين" وقد أشير إليه في الشعر الجاهلي2. ولا بد أن يكون لهم موظفون أودعوا إليهم مهمة المحافظة على السجون ومراقبة المساجين حتى لا يهربوا، ووكلوا إليهم أمر تعذيبهم وقتلهم أو سمهم عند صدور أمر الملك بذلك. كما فعلوا بعدي بن زيد العبادي. ويقال للسجن: الحصير، لنه يحصر الناس ويمنعهم من الخروج3، و"الحبس"4. ويقال للذي يتولى أمر القبيلة أو الجماعة من الناس يلي أمورهم، وينقل إلى الملك أحوال الناس "العريف". وكان للملوك "عرفاء"، هم بمثابة عيونهم على القبائل. ويظهر من بعض الأخبار أن العرافة كانت نوعًا من الرئاسة والزعامة والدرجة. فقد ورد في كتب الحديث: أن شيخًا كان صاحب ماء جعل لقومه مائة من الإبل على أن يسلموا، فأسلموا، وقسم الإبل بينهم. وبدا له أن يرتجعها منهم، فأرسل ابنه إلى النبي، وأوصاه بأن يقول له: "أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده". فلما قص الخبر على الرسول، قال الرسول له: "إن بدا له أن يسلمها إليهم، فليسلمها، وإن بدا له أن يرتجعها منهم، فهو أحق بها منهم. فإن أسلموا، فلهم إسلامهم، وإن لم يسلمو، قوتلوا على الإسلام". فقال: "إن أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده". فقال الرسول: "إن العرافة حق، ولا بد للناس من عرفاء. ولكن العرفاء في النار"5. وورد أن العريف: النقيب، وهو دون الرئيس، وأن عريف القوم سيّدهم، والعريف: القيم والسيد لمعرفته بسياسة القوم، ولتدبيره أمر تابعيه. وعرفوا "النقيب" بهذا التعريف أيضًا6، فقالوا: إنه العريف، وهو شاهد القوم وضمينهم

_ 1 Littmann, Safa.. P. 42 2 تاج العروس "9/ 261"، "صن". 3 تاج العروس "3/ 144"، "حصر". 4 اللسان "6/ 44"، "حبس". 5 اللسان "9/ 238"، بلوغ الأرب "2/ 186". 6 اللسان "ع/ ر/ ف"، "9/ 238".

والمقدم عليهم الذي يتعرف أخبارهم وينقب عن أحوالهم1. و"العريف" من المصطلحات العسكرية أيضًا، المستعملة في تنظيمات الجيش. وقد أقر الرسول ما كان متبعًا من أمر تقسيم الجيش إلى وحدات. فعرف على كل عشرة رجلًا وأمر على الأعشار رجالًا من الناس لهم وسائل في الإسلام. هم العرفاء2. و"النقيب"، شاهد القوم، وهو ضمينهم وعريفهم ورأسهم، لأنه يفتش أحوالهم ويعرفها. وفي التنزيل: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} 3. ولما بايع الأنصار رسول الله، جعل عليهم اثني عشر نقيبًا، ليتولوا أمر المسلمين بيثرب وليكونوا شهوده عليهم، وليقوموا بالدعوة فيها إلى الإسلام. ويظهر أن لهذه اللفظة صلة بلفظة Nacebus التي وردت في بعض المؤلفات اليونانية في حديثها عن العرب. ونجد في العهد المنسوب إلى "خالد بن الوليد" المعطى إلى أهل الحيرة والمدون في تاريخ الطبري، جملة: "وهم نقباء أهل الحيرة"، وقصد الشارح بها رؤساء الحيرة الذين صالحوا "خالد" على أداء الجزية، وهم: عديّ وعمرو أبناء عديّ بن زيد العبادي، وعمرو بن عبد المسيح، وإياس بن قبيصة وحيريّ "جيريّ" بن آكال4. وفي ورود اللفظة في القرآن الكريم، واختيار الرسول لنقباء أمرهم على مسلمي يثرب قبل هجرته إليها، وفي ورودها في عهد "خالد" مع أهل الحيرة، دلالة على أنها كانت شائعة معروفة في الحجاز، بمعنى رئيس وسيد قوم والمسئول عن جماعة. أما "الرائد"، فهو الذي يتقدم الناس لطلب الماء والكلأ للنزول عليه5. وقد نصب "عمر" "سلمان الفارسي" رائدًا وداعية على الجيش الذي أرسله إلى العراق6.

_ 1 اللسان "ن، ق/ ب"، "1/ 769". 2 الطبري "3/ 488". 3 المائدة، سورة رقم5، الآية12، تاج العروس"1: 492"، "نقب". 4 تاريخ الطبري "3/ 363 وما بعدها"، "حديث يوم المقر وقم فرات بادقلي". 5 بلوغ الأرب "2/ 185"، تاج العروس "2/ 359"، "راد". 6 الطبري "3/ 489".

ولا بد وأن يكون للملوك خزان يتولون خزن أموال الملك والأشراف على مدخولاته ومصروفاته. وكلمة "خزانة" من الألفاظ المعروفة في العربية1. وقد كان الناس يخزنون أموالهم في خزائن. ومنها أوعية يجمعون فيها المال المخزون. وقد كان لهؤلاء الملوك جباة يجبون لهم حقوق الملك على الرعية، من أعشار التجارة، ومن غلات الأرض. وهناك طبقة من السادة كانت لهم منزلة ومكانة في أهلهم ودرجة محترمة عند الملوك، فقربوهم إليهم وأدنوهم منهم. وقد عرفوا بـ"قرابين الملك" واحدهم قربان. يجلسون مع الملك على سريره لنفاستهم وجلالتهم2. وذكر أن "القربان": جليس الملك الخاص، أي: المختص به. و"قرابين الملك" وزراؤه وجلساؤه وخاصته3. وقد عرفنا من كتابات "تدمر" أسماء بعض الوظائف التي كان يتولاها الموظفون في القيام بإدارة الأعمال العامة للمدينة. وقد أشرت إليها في حديثي عن تلك المدينة، وكانت "تدمر" قد سارت على خطة المدن اليونانية في إدارة شئونها، وهي خطة عمل بها الرومان أيضًا مع بعض التغيير الذي يناسب جو "الامبراطورية" الرومانية. ويلاحظ أن أهل "تدمر" استعملوا المصطلحات اليونانية أيضًا في تسمية الوظائف. ويمكن أن نقول إن عرب بلاد الشأم كانوا قد ساروا على وفق النظم اليونانية الرومانية في إدارة الحكم، لوجود جاليات يونانية كبيرة العدد من مدن الشأم وقراها، ولاتصال عرب هذه الديار باليونان والرومان، مما جعلهم يختارون نظم اليونان والرومان في إدارة الحكم وفي إدارة الجيش، ونجد أثر هذا التأثر حتى في لغة الحجاز، فنجد فيها ألفاظًا عديدة دخلت العربية قبل الإسلام بزمن طويل، فعربت. وذلك في الأمور التي اختص بها اليونان والرومان ولم تكن معروفة عند العرب.

_ 1 تاج العروس "9/ 191"، "خزن". 2 اللسان "5/ 103"، "صادر"، "ردف". 3 تاج العروس، "قرب".

بطانة الملك

بطانة الملك: والبطانة السريرة يسرها الرجل، والصاحب للسر الذي يشاور في الأحوال.

وقد أشير إليها في الحديث. ويقال لها الوليجة، وهو الذي يختص بالولوج والاطلاع على باطن الأمر. وذكرت "البطانة" في القرآن. بمعنى مختصين بقوم، ويستبطن بهم الأمور1. فهم النخبة الخاصة التي يركن إليها في السراء والضراء وفي أخذ الرأي. ولـ"سقاة" الملوك حظوة عند الملوك بحكم قربهم منهم واتصالهم بهم، ولا سيما وقت شرابهم، ويسمعون من أفواههم وبخاصة في أوقات الشراب أمورًا لا يبيحون بها في وقت صحوهم وشعورهم. وقد كانت "السقاية" منزلة رسمية كبيرة عند الفرس والأشوريين والعبرانيين2. وقد استعمل اللخميون والغساسنة السقاة، لإسقائهم الشراب ولإسقاء ضيوفهم أيضًا. ولا يستبعد وجود "الخصيان" في قصور الملوك والأشراف. فقد كان من عادة الناس في ذلك الوقت استخدامهم في البيوت. فكانوا يدخلون على مخدرات الملوك والسادات، ويتصلون بهن، لخدمة البيت. ولهذا لجأ الملوك إلى شراء الخصيان، أو إخصاء مماليكهم حتى يكونوا بمأمن من اتصالهم بالقصر ودخولهم على نسائهم.

_ 1 تاج العروس "9/ 141"، "بطن". 2 Hastings, P. 271, Hastings, A Dictionary of the Bible, I, p. 533

ادارة المملكة

إدارة المملكة: لا نستطيع أن نتكلم بوجه صحيح مضبوط عن كيفية إدارة المملكة عند الجاهليين وعن طرق توزيع العمال وتقسيم المملكة إلى وحدات إدارية يديرها الموظفون، وعن أسماء تلك الوحدات. إذ لم يصل أي شيء عن ذلك إلينا في كتابات المسند أو الكتابات الجاهلية الأخرى. كما لم يصل إلينا أي شيء عن النظم الإدارية الجاهلية في كتب أهل الأخبار والتواريخ. وفي كتب اللغة والأدب مصطلحات ذات معان إدارية مثل "الطسوج" و"الكور" وردت فيها عرضًا، غير أن ما أورده علماء اللغة عنها لا يبين لنا بوضوح استعمالها ولا الأزمنة التي استعملت فيها، ولا المراد منها. فهم يقولون.

عن "الطسوج"، الطسوج: الناحية وربع الدانق. وقيل: مقدار من الوزن، وقيل: معرب واحد من طساسيج السواد. فنحن إذن أمام معان ثلاثة: هي جزء من دانق أو درهم، ومقدار من الوزن وجزء من أرض1. والمعنى الثالث هو المعنى الملائم لبحثنا، لأنه يدل على وحدة إدارية، كانت مستعملة في العراق بتأثير الحكم الفارسي. وأما "الكور" فجمع "كورة". قال علماء اللغة: إنها المدينة والصقع، والمخلاف. وهي القرية من قرى اليمن2 والكلمة من أصل يوناني، هو "خورة" Khora. بمعنى ناحية من بلد، أي مصر. ولم يشر علماء اللغة إلى أنها كانت مستعملة في جزيرة العرب. ولعل العربية أخذتها من التقسيمات الإدارية لبلاد الشأم. وجاء في أثناء حديث "الطبري" عن فتح "أمغيشيا" وعن سير خالد بن الوليد إليها، أنها كانت مصرًا كالحيرة3. وورد في كتب اللغة والأخبار أن "عمر" كان قد مصر الأمصار منها البصرة والكوفة. وذكر علماء اللغة أن المصر الحد4. ويظهر من ذلك أن "أمغيشيا" كانت مصرًا، أي: من إمارات الحدود، التي أقيمت على الحدود المغربية للدولة الساسانية لحمايتها من الروم ومن غارات الأعراب وغزوهم. وكان أهلها على النصرانية. وأن لفظة "مصر" كانت تؤدي هذا المعنى عند ظهور الإسلام. ولا تظهر التقسيمات الإدارية إلّا في حكومة كبيرة تحكم مساحة واسعة نوعًا ما. لذا نستطيع أن نتحدث باطمئنان عن وجود تقسيمات إدارية في العربية الجنوبية، لأن حكوماتها كانت قد حكمت أرضين متسعة نوعًا ما، وجعلت البلاد في حكم موظفين تولوا إدارتها. وقسموها إلى وحدات إدارية. أما في الحجاز، فلما كان الغالب عليها عند ظهور الإسلام نظام حكم القرى والمدن، لذلك، فلا يمكن أن نجد فيه شيئًا من هذا التقسيم. وأما ملوك الحيرة، فقد عينوا عمالًا على الأقاليم التي حكموها. ولكن أهل الأخبار لم يذكروا شيئًا عن أنواع العمالات وعن درجات حكامها. لذلك لا نستطيع التحدث عنها بشيء.

_ 1 تاج العروس "2/ 70"، "الطسوج". 2 اللسان "5/ 156"، "كور". 3 تاريخ الطبري "3/ 358"، "حديث أمغيشيا"، "مغش" "أمغيشا"، تاج العروس 4/ 351"، "مغش". 4 تاج العروس "3/ 544"، "مصر".

ولقد سبق لي أن ذكرت أسماء بعض الوظائف والمناصب في الممالك العربية الجنوبية. فقلت: مثلًا إن درجة "كبر" أي: "كبير" هي من المناصب العالية عند العرب الجنوبيين، و"الكبر" هو في مقام "محافظ" و"متصرف" و"عامل" في مصطلحات الدول العربية في يومنا هذا. ولا أسبتعد أن تكون تلك الدول قد أطلقت لفظة "كبر" على الوحدة الإدارية التي كانت تحت حكم الكبير. و"المخلاف"، هي الكلمة التي ترد في كتب علماء اللغة والأخبار عن التقسيمات الإدارية الجغرافية لليمن، إذ يذكرون أن "المخلاف" مثل "الكورة" بالنسبة لأهل اليمن، وأن اليمن كانت مقسمة على مخاليف1. ويعبر عن القرى بالأعراض، والواحد عرض جاء في بعض كتب عبد الملك بن مروان لعماله: "وليتك المدينة وأعراضها"، أي: قراها ونواحيها2. وللقرى والمدن حدود ومعالم. خارجها ضاحيتها. وأما داخلها فجوفها، وهو من شعاب، ومن "ربعات". والربع و"الربعة" المحلة والشِعب وجماعة الناس3. وقد أشير إلى "الرباع" في الكتاب الذي أمر الرسول بتدوينه بين "قريش" وأهل يثرب. ويظهر أن الجاهليين قد عرفوا لفظة "الدسكرة"، بدليل ورودها في الحديث. وقد ذكر بعض علماء اللغة أنها بناء كالقصر حوله بيوت ومنازل للخدم والحشم. وخصصه بعضهم بالملوك. وقال قوم: القرية4. ويظهر أنهم أخذوها من الفارسية، فهي فيها مدينة وضيعة كبيرة. و"الضواحي" النواحي، وضواحي الروم ما ظهر من بلادهم. وضواحي مدينة أو قرية، ما كان خارج السور أو خارج حدود المدينة أو القرية. وضواحي قريش، النازلون بظواهر مكة، ولذلك قيل لقريش: النازلة بظواهر مكة، قريش الظواهر. وأهل الضاحية، أو أهل الضواحي، هم أهل البادية، والساكنون على سيف الحضارة وحدودها5. وكانت الحكومات تحسب لهم حسابات، وتراقب أحوالهم، خشية مهاجمتهم الحضر.

_ 1 اللسان "5/ 156"، "خلف". 2 شرح ديوان لبيد "ص92". 3 تاج العروس "5/ 338"، "ربع". 4 تاج العروس "3/ 207"، "دسكرة". 5 تاج العروس "10/ 217 وما بعدها"، "ضحى"، اللسان "14/ 481"، "ضحى".

موارد الدولة

موارد الدولة: ولا بد لكل دولة من موارد تستعين بها في إدارة أمورها وفي الإنفاق على التابعين لها المكلفين القيام بأعمالها من موظفين ومستخدمين مدنيين وعسكريين ويدخل في هذه الموارد كل ما يحصل عليه الملك أو سيد القبيلة من أرباح ودخل يرد من استغلال الأرض والأملاك الخاصة، ومن الاتجار، ومن الضرائب التي تفرض على التجار والمواطنين والزراع، ومن الغنائم، إلى غير ذلك من واردات تجمع وتقدم إلى الحكام ملوكًا كانوا أو سادات قبائل أو رؤساء مدن. أضف إلى ذلك "الجزية" التي كانت الحكومات تفرضها على من تحاربه أو تغزوه فتنتصر عليه، ثم تنسحب من أرضه على أن يدفع "جزية" يقررها المنتصر تتناسب مع حال المغلوب. ولم يكن من المعتاد في تلك الأيام التفريق بين "الخزينة الخاصة" و"الخزينة العامة"، أو بين الوارد الخاص بالملك، مما يجبى عن أملاكه وعن اتجاره وبين الوارد الذي يجب أن يصرف وينفق على الأعمال العامة التي تمس الشعب كله، مثل إنشاء الطرق والحصون وإدامة الجيش وإغاثة المحتاج وما شابه ذلك، فإن الحاكم في ذلك الزمن كان يرى أن كل ما يجبى يعود إليه، لا فرق عنده بين الخزينة الخاصة والخزينة العامة، وأن الإنفاق يتوقف على رأيه، إن شاء وهب هذا مالًا وأقطع هذا أرضًا، وإن شاء صادر مال شخص وضمه إليه، ولا حق لأحد أن يعترض عليه. فأموال الدولة هي أمواله والخزينة هي خزينته، وهو الذي يأمر بالإنفاق. وما يعطيه للشعراء ثوابًا على مدحهم له، أو ما يقدمه من أموال للمنافع العامة وللنفقات الخاصة بالجيش وبمرافق الدولة، يكون كله بأمره وبموافقته، يتصرف كما يتصرف أي مالك كان بملكه. وقد اختار الملوك لهم رجالًا وكلوا لهم أمر إدارة أملاكهم واستثمارها، كما وكلوا لآخرين أمر الاتجار بأموالهم، إذ كان الملوك يتاجرون أيضًا في الداخل وفي الخارج، كما وكلوا للموظفين أمر جباية الضرائب واستحصالها من الزرّاع ومن التجار، فكانوا يذهبون إلى المزارع لتقدير حصص الحكومة كما كانوا يقفون في الأسواق لأخذ العشر من المبيعات. وهناك موظفون يقيمون عند الحدود وعند ملتقى الطرق لأخذ حق المرور من القوافل.

وقد وجدت بعض الحكومات مثل حكومة "رومة" أن طريقة تعيين الجباة لجباية الضرائب، هي طريقة تكلف الدولة أموالًا تزيد على الأموال التي تردها من الجباية، لأن الجباة كانوا يسرقون أموال الجباية، ويسيئون الاستعمال، وأن الشدة معهم لم تنفع شيئًا، لذلك عمدت إلى وضع الجباية في "المرابذة العلنية" بأن يعلن عنها، فيتقدم من يرغب في أخذها، فيزيد على غيره ممن ينافسه، وهكذا حتى ترسو على آخر المتزايدين، فيتولى هو جمع الجباية عن طريق تعيينه موظفين يقومون بجباية الضرائب المقررة، فيقدم هو للحكومة المبلغ الذي رسا عليه، ويأخذ الفضل لنفسه. وقد تألفت في "رومة" شركات كبيرة خصصت نفسها بأمور جباية الضرائب من المقاطعات الواسعة التابعة لإمبراطورية "رومة" وكانت تتزايد فيما بينها حينما تعرض الحكومة جباية الضرائب في "المزاد". وقد فعلت هذه الشركات كل ما أمكنها فعله لجمع أكثر ما يمكن جمعه من أموال من المكلفين لتغطية مبلغ التعهد الذي أعطته للحكومة وللحصول على أرباح مفرطة لها، بأن أرهق كاهل المكلف بأخذ أضعاف ما حدد من مقدار الضريبة، ولم تنفع الرقابة الحكومية التي وضعتها الحكومة على هذه الشركات وعلى الجباة، ذلك لأن "الحكام" حكام الولايات ومن بيدهم أمر الرقابة المالية ومن كان بيده أمر النظر في عرض الجباية على المتزايدين كانوا مرتشين، فكانوا يغضون الطرف عن تعسف الجباة ولا ينصفون المشتكين من الناس منهم. وقد ضج الناس من أصحاب المكس، وأشير إلى ظلمهم في الإنجيل، وعدوا من أصحاب الإثم أهل الخطيئة Sinners فكانوا من المُبغَضين1. وقد ندد بهم وبظلمهم في كتب الحديث. وقد عين "الأباطرة" أحيانًا عمالًا Procurator على المقاطعات للإشراف على جمع الجباية، وعينوا موظفين في الموانئ والثغور لجباية الضرائب عن الأموال المصدرة التي تصدر إلى الخارج، وعن الأموال التي تستورد إلى الامبراطورية، ومن التجار الرومان، أوالتجار الأجانب. وقد وردت في النصوص العربية الجنوبية مصطلحات لها علاقة بالضرائب وبالأرباح، منها مصطلح "نعمت"، أي: "نعمة"، وتعني هنا: ما أنعم به على الإنسان، أي: ما يحصل عليه من السوق، وما يربحه من تجارته، فهي

_ 1 Hastings p. 776

بمعنى الربح. وللحكومة أو القبيلة أو لأصحاب السوق حق أخذ نصيب مقرر من هذه "النعم"، أي: الأرباح. ويعبر عن النصيب الذي تأخذه الحكومة من الأرباح "زعرتم" "زعرت" "زعرة"، من أصل "زعر". وتعني "زعر": قَلّ وتفرَّق1، فكأن العرب الجنوبيين عبروا عن نصيب الحكومة بهذه اللفظة؛ لأن ما يدفع للحكومة هو مما يقلل من المبلغ ويصغره، فالربح إذن هو "نعمتم"، "نعمة"، "نعمت"، وهو كل ربح يصيب أحدًا. وأما ما يؤخذ عن الأرباح ويدفع للحكومة: فهو "زعرتم" "زعرت" "زعرة"2، أي: ضريبة. وترد لفظة "همد" بمعنى: الضريبة في العربيات الجنوبية، أي: ما يفرز ويعطى للحكومة أو للمعبد أو للسادات سادات القبائل والأرضين التي يهيمنون عليها. و"الهميد" في عربية القرآن الكريم "المال المكتوب عليك في الديوان" و"المال المكتوب على الرجل في الديوان" فيقال: هاتوا صدقته، وقد ذهب المال و"الصدقة"3. وهذا التفسير قريب من المعنى المقصود من اللفظة في العربيات الجنوبية. وقد أخذت حكومات العربية الجنوبية بطريقة تعيين موظفين خاصين بجمع الضرائب وبالإشراف على الجباة وعلى كيفية الجباية، كما أخذت بطريقة إيداع الجباية إلى الإقطاعيين وسادات القبائل، فهم الذين يجمعون الحقوق من أتباعهم، ويقدمونها إلى الحكومة. وذلك بالالتزام. وللحكومة موظفون واجبهم التحقق من أن هؤلاء الملتزمين لا يأكلون حق الحكومة، ويأخذون من أموال الجباية النصيب الأكبر، ولا يقدمون للدولة إلا شيئًا قليلًا من استحقاقها. وفي كل الحالات المذكورة كان المكلف يرهق بدفع الضرائب إرهاقًا، ويجبر على دفع ضرائب تزيد على طاقته خاصة، وقد كانت الضرائب متنوعة عديدة. ضرائب للحكومة، وضرائب للمعبد، وضرائب للسيد صاحب الأرض أو سيد القبيلة، ثم عليه السخرة؛ أي: العمل الإجباري دون مقابل، وعليه الانخراط في سلك

_ 1 تاج العروس "3/ 237"، "ز/ ع/ ر". 2 REP. EPIGR. 4337, Jastrow, A Dictionary of the Targum, P. 407, 1886 3 تاج العروس "2/ 547"، اللسان "3/ 437"، "همد". REP. EPIGR. 4337, P. 203

المحاربين حين الطلب، فأثر كل ذلك في الوضع الاقتصادي، وفي المجتمع العام تأثيرًا كبيرًا، ونهك السواد الأعظم من الناس، مما جعلهم يتذمرون من الحكام والحكومة والسادات، ولا يؤدون ما عليهم من واجبات وخدمات عامة إلا مكرهين. ولعل هذا الإرهاق الذي نزل بالرعية في دفع الضرائب، هو الذي حملها على إطلاق "الآكل" و"الآكال" و"آكال الملوك" و"مآكل الملوك" على ما يجعله الملوك مأكلة لهم؛ لأنهم جعلوا أموال الرعية لهم مأكلة، وأما "المأكول"، فهو الرعية، لأن الملوك تأكل أموالهم1، فالملوك تأخذ ولا تعطي، والرعية تعطي ولا تأخذ ولا تستفيد مما تدفعه لملوكها من ضرائب أية فائدة. والضريبة في تعريف علماء اللغة: ما تؤخذ في الأرصاد والجزية ونحوها، مثل ما يؤديه العبد إلى سيده من الخراج المقرر عليه، ومن الضرائب: ضرائب الأرضين وهي ضرائب الخراج عليها، وضرائب الإتاوة التي تؤخذ من الناس2. وعرف علماء اللغة الإتاوة: أنها الرشوة والخراج، وقال بعضهم: كل ما أخذ بكره، أو قسم على موضع الجباية وغيرها، فهو إتاوة. وفي ذلك قال "حُنَيّ بن جابر التغلبي": ففي كل أسواق العراق إتاوةٌ ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم3 وذكر "ابن فارس" أن "الإتاوة" من الألفاظ التي زالت بزوال معانيها، فهجرت لذلك4. ويقال للإتاوة: الأريان. والأريان بمعنى: الخراج أيضًا5. وقد ذكرت اللفظة في شعر "الحيقطان"، شاعر اليمانية، وكان قد قال قصيدة يرد فيها على الشاعر "جرير"، فهجا بها قريشًا، وكان مما قال فيها: وقلتم لقاح لا نؤدي إتاوة ... فأعطاه أريان من الفرّ أيسر6

_ 1 اللسان "11/ 21"، "صادر"، "آكل" 2 اللسان "1/ 550"، "ضرب"، تاج العروس "1/ 349"، "ضرب". 3 اللسان "14/ 17"، "اتي". 4 الصاحبي "ص90". 5 اللسان "14/ 31"، "أري". 6 فخر السودان من رسائل الجاحظ "1/ 184 وما بعدها".

فقال: قلتم إنا لقاح ولسنا نؤدي الخراج والأريان، فإعطاء الخراج، أهون من الفرار وإسلام الدار للأحابيش، وأنتم مثل عدد من جاءكم المرار الكثيرة1. ويقصدون باللقاح الحي لم يدينوا للملوك ولم يملكوا ولم يصبهم في الجاهلية سبأ2. والإتاوة في الأصل الجباية عامة. أي: جباية كل شيء. وهي كلمة عامة تشمل أخذ كل عطاء، أي: كل ما يؤخذ طوعًا أو كرهًا عن شيء، فتشمل الخراج والجزية والجباية والرشوة، وما يفرض تعنتا وزوروًا، والمكوس والخراج إتاوة. يقال: أدى إتاوة أرضه، أي: خراجها، والجباية إتاوة. يقال: ضربت عليهم الإتاوة، أي: الجباية، وهي بمعنى الرشوة. يقال: شكم فاه بالإتاوة، أي: الرشوة. وتدخل فيها الرشوة على الماء. وجاء في قول الجعدي: موالي حلفٍ لا موالي قرابة ... ولكن قطينًا يسألون الإتاويا أي: هم خدم يسألون الخراج3 وقد ذكر "الجاحظ" الإتاوة في جملة ما ترك الناس في الإسلام من ألفاظ الجاهلية، إذ تركوها، وأحلوا لفظة "الخراج" محلها4. وكانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية شيئًا كانت تأخذ بعض ثيابه أو بعض بدنته التي ينحر، إتاوة. ولما خرج "ظويلم" الملقب بـ"مانع الحريم" في الجاهلية يريد الحج، فنزل على المغيرة بن عبد الله المخزومي، فأراد المغيرة أن يأخذ منه ما كانت قريش تأخذ ممن نزل عليها في الجاهلية، امتنع عليه "ظويلم" وقال: يا رب هل عند من غفيره ... إنّ مني مانعه المغيره ومانع بعد مني ثبيره ... ومانعي ربي أن أزوره وذلك سُمي "الحريم" وظويلم الذي منع "عمرو بن صرمة" الإتاوة التي كان يأخذها من غطفان5.

_ 1 المصدر نفسه "187". 2 أنشد ابن الأعرابي: أبوادين الملوك فهم لقاح ... إذا هيجوا إلى حرب أشاحوا اللسان "2/ 583"، "لقح". 3 تاج العروس "10/ 7"، "أتوا". 4 الحيوان "1/ 327"، "هارون" 5 الاشتقاق "171 وما بعدها".

ويعبر في عربية القرآن الكريم عن الشيء الذي يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم بـ"الخرج" وبـ"الخراج"، فهو إتاوة تؤخذ من أموال الناس1. و"الخرج" كما يقول علماء اللغة أعم من الخراج، وجعل الخرج بإزاء الدخل. والخراج مختص في الغالب بالضريبة على الأرض. وقيل: العبد يؤدي خرجه، أي: غلته، والرعية تؤدي إلى الأمير الخراج2. وقد خصصت لفظة "الخراج" في الإسلام بما وضع على رقاب الأرض، وخصصت الجزية بما يدفع عن الرأس. و"الخرج" بما يدفعه الرقيق إلى سيده وماله عن خراجه3. وقيل: هو الأجرة، وأن الخرج من الرقاب، والخراج من الأرض. وأرض الخراج تتميز عن أرض العشر في الملك والحكم4 ويقابل "الخراج" بالمصطلح الإسلامي لفظة Pnoros في اليونانية، فهي ضريبة الأرض عند اليونان5. وقد كان البيزنطيون قد فرضوا "الخراج" على غلة الأرض يدفعها كل من خضع لهم. وكان يدفعها عرب الشأم لهم أيضًا، لأنهم كانوا في حكمهم. وأما عرب العراق، فقد دفعوا "الخراج" إلى الفرس6. ويقال للخراج: "خرجًا" في لغة بني إرم، ووردت في "التلمود" بلفظ: "خرجه" و"خرجًا". وهي عند الساسانيين خراج الأرض، أي: الضريبة الخاصة بحاصل الأرض. ولكن الفرس القدماء لم يكونوا في القديم يفرقون بين الخراج والجزية، أي: ضريبة الرأس، بل كانوا يطلقونها على الضريبتين. وقد وردت لفظة "خرجًا" في التلمود بمعنى ضريبة الرأس7. وأطلق "التلمود" على ضريبة الأرض اسم "طسقه" "طسقا" Taska

_ 1 اللسان "2/ 251"، القاموس للفيروزآبادي "1/ 184"، تاج العروس "2/ 82"، "خرج". 2 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص145". 3 اللسان "2/ 251"، القاموس "1/ 184"، الطبرسي، مجمع "6/ 492 وما بعدها"، تفسير الطبري "16/ 17"، البيضاوي "297"، الكشاف "2/ 271/ 366، روح المعاني "16/ 37"، "18/ 48"، الأحكام السلطانية "ص142، 146 وما بعدها"، كتاب الخراج، لأبي يوسف "ص39"، النهاية، لابن الأثير "1/ 190". 4 الأحكام السلطانية "146 وما بعدها". 5 Hastings, P. 948 6 دائرة المعارف الإسلامية "8/ 280"، "الخراج". 7 J. Obermyer, Die Landschaft Babylonien, S. 221

"ط س ق". وهي بهذا المعنى عند الفرس1. وقد أخذ العبرانيون اللفظة من الفرس. وقد كتب "عمر" إلى "عثمان بن حنيف" في رجلين من أهل الذمة أسلما: "ارفع الجزية عن رءوسهما، وخذ الطسق من أرضيهما". وعرف علماء العربية "الطسق" بأنه شبه الخراج، له مقدار معلوم، وما يوضع من الوظيفة على الجريان من الخراج المقرر على الأرض. وقد ذكروا أن اللفظة فارسية معربة2. وقد وردت لفظة "الخرج" و"الخراج" في القرآن الكريم3، مما يدل على أن اللفظتين كانتا معروفتين عند أهل الحجاز قبل نزول الوحي على الرسول، وأنهما كانتا من الألفاظ المستعملة عندهم في الأمور المالية المتعلقة بدفع الضرائب إلى الحكومات وإلى ذوي السلطان. ويرى بعض المستشرقين أن الجاهليين أخذوا اللفظة من "بني إرم"، وأنهم وقفوا على "خرجه"، "خرج" و"خرجا"، وحولوهما إلى "خرج" و"خراج". ولما فتح المسلمون العراق والشأم، أبقوا النظم المالية والإدارية على ما كانت عليه في أول الأمر، لأنها نظم قديمة، لم يكن من السهل تغييرها وتبديلها، فكان "الخراج" في جملة ما أبقي من النظم المالية. وقد دفع عينًا، أي: غلة، فكان محتسب الخراج، يذهب إلى القرى عند دنو أجل دفع الخراج، فيأخذه من المزارعين عينًا، كأن يدفع برًّا أو شعيرًا، أو مالًا، أي: نقدًا بالدنانير أو الدراهم. ثم غلب الدفع نقدًا على الدفع عينًا، وصار هذا النقد موردًا مهمًّا من موارد بيت المال4. والجزية من الألفاظ المستعملة عند الجاهليين كذلك، بدليل ورودها في القرآن الكريم5. وقد خصصت في الإسلام بما يؤخذ من أهل الذمة على رقابهم6.

_ 1 J. Obermyer, Die Landschaft, S. 221-222, Baba M. 73b 2 اللسان "ط/ س/ ق"، "10/ 225"، غرائب اللغة "238". 3 سورة المؤمنون، الآية72، سورة الكهف، آية93، كتاب الخراج، لأبي يوسف "39". 4 دائرة المعارف الإسلامية "8/ 280". 5 التوبة، الآية28 وما بعدها. 6 المفردات للأصفهاني "ص91"، اللسان "14/ 146 وما بعدها"، القاموس "4/ 312" "دار المأمون"، تاج العروس "10/ 73"، دائرة المعارف الإسلامية "6/ 454"، الكشاف "2/ 35"، الطبري "10/ 21"، روح المعاني "10/ 70"، تفسير البيضاوي "193، 297، 337".

وقد كان الجاهليون يأخذون الجزية من المغلوبين، وكانت عندهم الضريبة التي تؤخذ عن رءوس المغلوبين، يدفعونها إلى الغالب. فدفعتها القبائل المغلوبة للقبائل الغالبة، على أساس الرءوس. والظاهر أن المسلمين في صدر الإسلام لم يكونوا يفرقون بين الخراج والجزية، فقد استعملوا الخراج عن الرءوس وعن الأرض كما استعملوا لفظة "الجزية" بمعنى خراج الأرض1، ورد في الحديث: "من أخذ أرضًا بجزيتها"2. وأشار الطبري إلى أن "المثنى"، وضع على أهل الحيرة بعد كفرهم وارتدادهم "أربعمائة ألف سوى الحَرَزة"3. ويذكر علماء اللغة أن "الحرزة" خيار المال؛ لأن صاحبها يحرزها ويصونها. والحرائز من الإبل التي لا تبع نفاسة بها4. وجعلها بعضهم "الخرزة".وقالوا: إنها نوع من جزية الرءوس، كانت معروفة في زمن الأكاسرة، يؤديها كل من لم يدخل في جند الحكومة5. و"المكس"، دراهم تؤخذ من بائع السلع في أسواق الجاهلية. ويقال لجابي المكس: صاحب المكس، والماكس والمكّاس6. والمكس الجباية. و"الماكس" الذي يتولى المكس. قال العبديُّ في الجارود: أيا ابن المعلى خلتنا أم حسبتنا ... صراريَّ نعطي الماكسين مكوسا7 وكان "الماكس"، ويقال له: العشّار، يشتط في كثير من الأحيان، ويظلم الناس في الجباية، إذ يزيد عليهم في المقدار، فكانوا لذلك مكروهين، حتى لقد ورد في الحديث: "لا يدخل صاحب مكس الجنة"8. وقد أشير إلى المكس وإلى الإتاوة التي تؤخذ من أسواق العراق في شعر "جابر بن حُنَي".

_ 1 "والجزية: خراج الأرض" اللسان "14/ 146 وما بعدها" "جزى"، دائرة المعارف الإسلامية "8/ 280"، تاج العروس "10/ 73"، "جزئ"، النهاية "1/ 190". 2 اللسان "14/ 146"، النهاية "1/ 190" تاج العروس "10/ 73"، "جزى". 3 الطبري "3/ 364". 4 تاج العروس "4/ 24"، "حرز". 5 الطبري "3/ 364"، ملحوظة "6"، الوثائق السياسية "422". 6 تاج العروس "4/ 249"، "مكس"، الصاحبي "ص90"، المخصص "12/ 253". 7 الحيوان "1/ 327"، "هارون". 8 اللسان "6/ 220"، "مكس"، الصحاح "1/ 477".

أفي كلّ أسواق العِراق إتاوة ... وفي كلّ ما باع امرؤٌ مكسُ درهم1 فإن ملوك العرب كانت تأخذ من التجار في البرّ والبحر، وفي أسواقهم، المكس، وكانوا يظلمونهم في ذلك. ولذلك قال جابر بن حنَيّ، وهو يشكو ذاك في الجاهلية ويتوعد، وهو قوله: ألا تستحي منّا ملوك وتتقي محارمنا ... لا يبوو الدم بالدم وفي كل أسواق العِراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم2 ولهذا زعم الأعراب أن الله لم يدع ماكسًا إلا أنزل به بلية، وأنه مسخ منهم اثنين ضبعًا وذئبًا. فلهذه القرابة تسافدا وتناجلا، وإن اختلفا في سوى ذلك. فمن ولدهما السمع والعِسبار. وفي هذا المعنى قول الشاعر: مَسَخَ الماكسين ضبعًا وذئبًا ... فلهذا تناجلا أم عمرو وضريبة "العشر" هي ضريبة معروفة بين الجاهليين، فقد كانت الحكومات تتقاضى عشر ما يحصل عليه التاجر من ربح في البيع والشراء، وكان المتولون أمور الأسواق يتقاضون العُشر كذلك. وقد أشير إليها في كتابة قتبانية، حيث كانت حكومة قتبان تتقاضى هذه الضريبة من المتعاملين في البيع والشراء، إذ كانت تأخذ عشر الأموال3، وتوسعت في ذلك حتى عمت هذه الضريبة على كل ربح أو وارد يصيبه الرجل سواء أكان ذلك من البيع والشراء أم من الإجازة والإرث4. وقد كانت هذه الضريبة مقررة في كل جزيرة العرب وفي خارجها، ففي كل سوق من الأسواق عشارون يجبون العشر ممن يبيع ويشتري، بأمر المشرف على السوق ومن في أرضه تقام، ويقدم ما يجمع إليه. ومن أخذ العشر من التاجر، قبل

_ 1 الحيوان "1/ 327"، "هارون". وفي كل أسواق العراق اتامة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم الحيوان "6/ 148"، "هارون". 2 الحيوان "6/ 148 وما بعدها"، "هارون". 3 Glser 1601, Rhodokanakis, Kat. Texte, I, s. 7 4 Glser 1601, Rhodokanakis, Kat. Texte, I, s. 7

لجابيه: العشار والمعاشر، وهو الذي يعشر الناس1. وقد كان التجار العرب الذين يقصدون بلاد الشأم للاتجار في أسواقها يدفعون العشر إلى العشارين، ففي "بُصْرى" وغزة، وهما أشهر الأسواق في تلك البلاد بالنسبة إلى العرب، كان تجار العرب يؤدون ضريبة العشر إلى الجباة الذين عيّنهم الروم، كذلك كان يعشر أصحاب الأسواق من يفد عليها من التجار. ويؤخذ العشر عينًا أو نقدًا بحسب الثمن. ولما كان النقد قليلًا إذ ذاك كان الدفع عينًا هو الغالب في أداء هذه الضريبة. وقد أبطل الإسلام هذه الضريبة، وعدّها من سيماء أهل الجاهلية، وجعل رفعها من التخفيف الذي جاء به دين الله. وقد ذكر المحدثون أحاديث في إبطالها وفي ذم من يعشر الناس. بل ورد في بعضها جواز قتل العشّار2. ويظهر أن أهل الجاهلية كانوا يشتطون في أخذها ويسرفون في ظلم التجار وأصحاب السوق في أخذها، فذموا العشار وهجوه. ودعوا عليه. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن "سهيلًا" كان عشارًا على طريق اليمن ظلومًا، فمسخه الله كوكبًا3. وكان مما يفعله العشارون وضع "المآصر" على مفترقات وملتقيات الطرق وعلى المواضع المهمة من الأنهار ليؤصروا السابلة وأصحاب السفن، ولتؤخذ منهم العشور4. وقد عرف من كان يقوم بالتقدير والخرص بـ"الحازر" و"الخارص". لأنه كان يحزر المال ويقدر ما يجب أخذه منه ومن غلة الزرع بالحدث والتقدير. وكان الحاذر يشتدل في أخذ الحزرة ويتعسف على الناس. وقد نهى النبي عن ذلك والحاذر مثل العشار والخارص من المكروهين عند الجاهليين5. و"الخارص" المقدر والمخمّن، ومنه خرص النخل والتمر، لأن الخرص، إنما هو تقدير بظن لا إحاطة. وما يدفع عن الأرض والنخل الخرص. يقال: كم خرص أرضك.

_ 1 تاج العروس "3/ 400"، اللسان "4/ 567"، النهاية "3/ 110"، القاموس "2/ 89". 2 تاج العروس "3/ 400"، "عشر"، اللسان "4/ 567"، "عشر"، النهاية "3/ 110"، القاموس "2/ 89". 3 تاج العروس "7/ 384"، "سهل". 4 اللسان "4/ 24"، "أصر". 5 تاج العروس "3/ 138"، "حزر".

وكم خرص نخلك، وفاعل ذلك الخارص. وكان النبي يبعث الخراص لخرص نخيل خيبر عند إدراك ثمرها، فيحزرونه رطبًا كذا وثمرًا كذا1. وكان أهل الحجاز وبقية جزيرة العرب، يدفعون العشر عن غلات أرضهم. فلما جاء الإسلام، أقر ذلك، وجعل أرض العرب أرض عشر. ولم يدخلها الخلفاء في أرض الخراج2. ويعبر عن الضريبة التي تقابل ضريبة "الكمارك" في مصطلحنا، بلفظة Telos، وبـ Telonion عن "الكمرك"، أي: الموضع الذي تؤخذ به الضرائب "الكمركية" من التجار3. وكان الرومان واليونان قد أقاموا "كمارك" على حدودهم مع البلاد العربية وضعوا فيها جباة لجباية العرب القادمين من جزيرة العرب للاتجار. ولما كان من الصعب على الروم جباية العشور والحقوق الأخرى من العرب، وكلوا أمر الجباية إلى سادات القبائل والأمراء في الغالب، ممن يعتمدون عليهم وممن لهم قبيلة قوية تخشاها القبائل الأخرى، وقد كان أمد هذا الإيكال يتوقف على أهمية الشخص ومكانته ومنزلة قبيلته، فإذا مات وترك خلفًا ضعيفًا، أو فقدت قبيلته سلطانها، حتى طمعت فيها قبائل أخرى أقوى منها، ووجدوا ألا أمل لهم في هذا الشخص، فإنهم ينبذونه ويعطون الجباية إلى شخص آخر. وقد كان "سلامة بن روح بن زنباع الجذامي"، أحد من أولى إليهم الروم العشور، وقد هجاه "حسان بن ثابت" فوصفه بأنه "دمية" في لوح باب، وأنه بئس الخفير، وأنه غادر خدّاع، ولا ينفك -أي: جذامي- يغدر ويخدع ما دام "ابن روح" حيًّا4. وقد أقر العشر في الإسلام، ولكن بأسلوب آخر، فأخذ من "خثعم"، كما أخذ من أهل "دومة الجندل". وأخذ أيضًا من حمير، فقد جاء في كتاب الرسول إلى رؤسائهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان، قيل: ذي رعين ومافر وهمدان: "وأعطيتم من المغانم خمس الله، وسهم الرسول وصفيه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار، عشر ما سقت العين

_ 1 تاج العروس "4/ 385"، "خرص". 2 الخراج "58"، النهاية "1/ 190". 3 Hastings, P. 948 4 البرقوقي "ص219".

وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب1 نصف العشر. وإن في الإبل الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان ... "2. وعقد مثل ذلك مع بني الحارث بن كعب3. والكلام على العشر في الإسلام، وعلى الأرضين التي كانت تدفع العشر، يخرجنا من بحثنا هذا، وللفقهاء كلام طويل مسهب في هذا الموضوع، فعلى كتب الخراج مثل كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف وكتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي، وكتب الفقه والأحكام أحيل القارئ الراغب في الوقوف على العشر في الإسلام. والعشر من الضرائب القديمة المعروفة عند الشعوب القديمة من ساميين وغيرهم، وتكاد تكون من أقدم الضرائب المعروفة في التاريخ، وهي "أشرو" Ish-ru-u في النصوص الأشورية4 و"معشير" Ma'asher في العبرانية5. وقد كان الأشوريون يتقاضون العشر من التمر والحبوب عينًا، كما كانوا يتقاضونه ذهبًا6. وقد كانت معظم الشعوب الهندوجرمانية والسامية وغيرها تعشر أموالها: تعشر الماشية، والأثمار، وكل ما تملكه وما تغنمه في الحرب، وتخصصه باسم آلهتها. فالعشر زكاة قديمة أدتها الشعوب إلى آلهتها تقربًا إليها وتطهيرًا لأموالها، فهي من أقدم الضرائب عند الإنسان7. وقد خصص العشر بـ"يهوه" إله إسرائيل وحده، يجمعها اللاويون باسمه، ولكننا نجد أن العبرانيين دفعوا العشر في بعض الأحيان إلى الملوك كذلك8. ويمكن رد الأسباب التي دعت العبرانيين إلى تخصيص العشر بالله "يهوه" إلى اعتقاد العبرانيين أن الله هو مالك كل شيء، وأن الأرض والعالم كله له، وأنه

_ 1 الغرب: الدلو 2 ابن هشام "4/ 236": "قدوم رسول ملوك حمير بكتابهم". 3 ابن هشام "4/ 240": "إسلام بني الحارث بن كعب على يدي خالد بن الوليد لما سار إليهم". 4 Shrader, Keilinschrift Bibliotheck, IV, 192, 205 5 Shrader, Keilinschrift Bibliotheck, IV, 192, 205 6 التكوين: الإصحاح الرابع عشر، الآية20، الإصحاح 28 اذية22. 7 Hastings, p. 940 8 قاموس الكتاب المقدس "2/ 103"، Hastings, P. 940

مانح الخصب والحياة، وأنه الكائن الأعلى، ولهذا خصصوا عشر ما ينتجه العبراني لله، ثم لسبب آخر نشأ فيما بعد، هو تقرب العبرانيين إلى إلههم بهذا العشر، عبادة له وتقربًا إليه. وذلك كما يفهم من الآيات الواردة عن العشر في التوراة1. وتدفع القبائل الضعيفة إتاوة إلى القبائل أو إلى الملوك، تكون بمثابة حق الحماية والاعتراف بالسيادة. ولهذا كانت القبائل التي لا تدفع إتاوة تتباهى وتفتخر؛ لأن ذلك يدل على عزتها ومنعتها، ويقال: إن الأوس والخزرج ابني قيلة، لم يؤديا إتاوة قسط في الجاهلية إلى أحد من الملوك. فلما كتب إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته ويتوعدهم، لم يجيبوه، وتحارب معهم، ثم ارتحل عنهم2. وكانت للغطاريف على دوس إتاوة يأخذونها كل سنة، حتى إن الرجل منهم كان يأتي بيت الدوسي، فيضع سهمه أو نعله على الباب ثم يدخل3. ويقال للقوم الذين قهروا على أمرهم، واضطروا إلى أداء ضريبة لمن قهرهم، "النخة"، وصاروا "نخة" له4. ولا بد لي من الإشارة هنا إلى جباية كانت الحكومات تأخذها عينًا عن الحبوب والزراعة، للإنفاق منها على إعاشة الجيش. وقد عرفت بـ"س اول ت"، "ساولت". ذكرت في النصوص السبئية والقتبانية. فهي ضريبة عينية تؤخذ من الزراعة، يجبيها موظفون يعرفون بـ"ساولت"5، فهم جمّاع هذه الضريبة. وكان ملوك الجاهلية قد وضعوا "الوضائع" على رعيتهم، من الزكوات والمغنم في الحروب، يستأثرون به. وقد أشير إليها في الحديث. ورد في حديث "طهفة بن زهير النهدي"، أن الرسول قال: "لكم يا بني نهد ودائع الشرك ووضائع الملك" أي: ما وضع عليهم في ملكهم من الزكوات. أي: لكم الوظائف التي نوظفها على المسلمين لا نزيد عليكم فيها شيئًا. وقيل: معناه ما كان من ملوك الجاهلية يوظفون على رعيتهم ويستأثرون به في الحروب وغيرها من المغنم. أي

_ 1 Hastings, P. 940 2 العقد الفريد "2/ 192 وما بعدها". 3 الأغاني "12/ 53". 4 اللسان "ن/ خ/ خ"، "3/ 60". 5 Handbuch, I, S. 128

لا نأخذ منكم ما كان ملوككم وظفوه عليكم، بل هو لكم"1. والوضائع: أثقال القوم. وأما الوضائع الذين وضعهم كسرى، فهم شبه الرهائن، كان يرتهنهم وينزلهم بعض بلاده. وقيل: الوضائع قوم كان كسرى ينقلهم من أرضهم فيسكنهم أرضًا أخرى، حتى يصيروا بها وضيعة أبدًا. وهم الشحن والمسالح2. والودائع: العهود والمواثيق. ويحتمل أن تكون كل ما يستودع من رهائن، من مال وبنين، ليكون رهينة على الوفاء بالعهد والموعد3. وذكر "الجاحظ" أن في جملة ما ترك من ألفاظ الجاهلية التي لها صلة بالجباية والمال "الحُملان" ويراد بها الرشوة وما يؤخذ للسلطان4. والحُملان ما يحمل على الشيء من أجر، و"الحمالة" الدية أو الغرامة التي يحملها قوم عن قوم5. ويظهر من شعر العبديّ: أيا ابن المعلّى خلتنا أم حسبتنا ... صراريَّ نعطي الماكسين مُكوسا أن أصحاب السفن وهم "الصراريون"، كانوا يعطون المكس عن البضائع التي تحملها سفنهم، حين وصولها إلى المواني6.

_ 1 تاج العروس "5/ 545"، "وضع"، "ومنه كتاب النبي، صلى الله عليه وسلم: "لكم يا بني نهد ودائع الشرك ووضائع المال"، تاج العروس "5/ 535"، "ودع". 2 تاج العروس "5/ 545"، "وضع". 3 تاج العروس "5/ 535"، "ودع". 4 الحيوان "1/ 327"، "هارون". 5 تاج العروس "7/ 289 وما بعدها"، "حمل". 6 الحيوان "1/ 327"، "هارون"، تاج العروس "3/ 330 وما بعدها"، "صرر".

الأشناق والأوقاص

الأشناق والأوقاص: ودفع الجاهليون ضرائب أخرى، منها: "الأشناق" و"الأوقاص". وقد خص بعض العلماء "الأشناق" بالإبل: فإذا كانت من البقر، فهي "الأوقاص"1. وقد تحدث العلماء عن حدود الأشناق والأوقاص في الإسلام. وفي كتب الفقه أبواب خاصة بهما.

_ 1تاج العروس "4/ 446"، "وقص"، "6/ 400 وما بعدها"، "شنق".

وكان منهم من تحايل في سبيل التخلص من أداء ما عليه من الأشناق والأوقاص. وقد كتب الرسول إلى "وائل بن حجر": لا خلاط، ولا وراط، ولا شناق ولا شغار. وعيّن الرسول الحدود فيهما. والوراط: الخديعة والغش1. وليس في استطاعتنا تعيين الضرائب المجباة، وتحديدها تحديدًا مضبوطًا، فقد كانت تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة. ثم إن العادة أن تؤخذ الضريبة من القبيلة أو العشيرة مجتمعة، أي: أن رئيس القبيلة أوالعشيرة هو الذي يتولى تقديم ما على القبيلة من ضرائب إلى الحكومة، ويختلف ذلك أيضًا بحسب صلة الرئيس بالحكومة، وبحسب قوته ومركزه السياسي لدى المسئولين. والرئيس هو الذي يعين نصيب أفراد القبيلة من الضرائب، وذلك بعد اتفاقه مع الحكومة على ما هو مفروض على القبيلة دفعه لها، وبعد موافقة مجلس القبيلة على ما فرض على القبيلة دفعه إلى الحكومة. هذه هي الضرائب التي كانت تدفع عن التعامل والإتجار. وهناك ضرائب أخرى أوجب دفعها إلى سادات القبائل في مقابل حماية القوافل وضمان مرور التجارة في أرضهم بأمان وسلام، وهي ضرائب حق المرور. وإلا تعرضت التجارة للنهب والسلب، وتعرض أصحاب القافلة للخطر والهلاك. ولحماية التجارة يتفق التجار عادة مع سادات القبائل التي تمر القوافل في أرضهم على دفع جعالة في مقابل تقديم الحماية لها والمحافظة على سلامتها، وبذلك تمر بأمن وسلام. وفي "قتبان" نجد نفوذ المعبد على الأهلين كبيرًا. وللمعبد أرضون واسعة تدر عليه دخلًا كبيرًا، وله ذرائب تبلغ عشر الدخل والميراث والمشتريات. بالإضافة إلى النذور والعطايا التي يتبرع بها الأغنياء له. وقد حفظت النصوص القتبانية وثائق عديدة تتعلق بما كان يتقاضاه المعبد من الناس من زكاة وأموال تزكية لأعمالهم ولأنفسهم، باسم الآلهة التي لها سلطان كبير على الناس. ولما كانت النقود قليلة إذ ذاك، كان دفع الضرائب عينًا في الغالب. ويعبر عن ذلك بـ"دعتم". أما إذا كان الدفع نقدًا. فيعبر عن ذلك بـ"ورقم". أي: "ورق". وقد كانت الحكومة تضع يدها على المحصول أحيانًا أو على البضاعة المهربة أو البضاعة التي يمتنع أصحابها عن دفع الضريبة عنها ويعبر عن ذلك بـ"رزم".

_ 1 تاج العروس "5/ 132"، "خلط"، "5/ 237"، "ورط".

تقدير الغلات الزراعية

تقدير الغلات الزراعية: وكان تقدير حصة الحكومة من الغَلات الزراعية، بواسطة خبراء الحكومة وموظفيها المسئولين عن جمع الضرائب، وذلك لأنهم كانوا يذهبون إلى المزارع والبساتين إبان إدراك النبات وقبل حصاده أو جَنْيه، ثم يخمّنونه ويقدرون مقدار ما يجب دفعه للحكومة. وطالما أدت هذه الطريقة إلى الإضرار بالفلاح، إذ يجوز أن يتعرض الزرع لآفات زراعية وللتلف والضرر، فيقل الحاصل كثيرًا، ولا يستطيع تحمل دفع ما قدر عليه، ولكن جباة الضرائب يأخذون حصة الحكومة منه كما قدروها دون نقص، فإذ امتنع المكلف، أخذ حاصله حتى يستوفى منه ما قدروه عليه. ولم يكن من حق الفلاح حصاد زرعه وحمله إلى مخزنة أو جني ثمر زرعه ونقله إلى الأسواق والتصرف به ما لم يره جباة الضرائب لأخذ حصة الحكومة العينية. وقد استتبع هذا النظام تعيين عدد كبير من جباة الضرائب، وإنشاء مخازن لنقل حصص الحكومة إليها. وتستهلك الحكومة جزءًا من هذا الحاصل، وتدفع قسمًا منه إلى موظفيها فالمدفوع لهم، هو مرتباتهم وأجر عملهم. أما الباقي فيباع في الأسواق، أو يصدر لبيعه في البلدان الخارجية، ولا سيما الحاصل المهم الثمين. ويتقاضى المعبد في "معين" جملة ضرائب من الرؤساء وسائر الناس. لكل ضريبة اسم، مثل "كبودت" و"اكرب" و"عشر" و"فرع". وبعض هذه الضرائب تجبى عن حاصل الأرض وغلتها، وبعضها عن التجارة والأعمال الأخرى مثل الصناعات. ولم يشترط دفعها كلها عينًا أو نقدًا، بل كانت تدفع عملًا أحيانًا، أي: أن المكلفين بدفع الضرائب وجمعها من أتباعهم يقدمون الفعلة والصناع وعمال البناء أحيانًا إلى الحكومة، أو إلى المعبد، للقيام بالأشغال العامة بالمجان بدلًا من تقديم الضرائب نقدًا أو عينًا. وذلك متى وافق المعبد على ذلك واعتبر الآلهة راضية عن إنشاء ذلك العمل1.

_ 1 Rhodokanakis, Stud., UU, 58, f

وكانت الحكومات العربية الجنوبية تتقاضى ضرائب عن المغازل ودور النسيج. ويظهر أن أهل الحجاز كانوا يعرفون هذه الضريبة أيضًا. وقد ورد أن الرسول فرض في كتاب لقوم من اليهود ربع المغزل، أي: ربع ما غزل1.

_ 1 تاج العروس "8/ 42"، "غزل".

الركاز

الركاز: أغلب العلماء في الإسلام أن الركاز دفين أهل الجاهلية، أي الكنز الجاهلي. وقال بعض الفقهاء: الركاز المعادن كلها. فمن استخرج منها شيئًا فلمستخرجها أربعة أخماسه ولبيت المال الخمس. وكذلك المال العادي يوجد مدفونًا، هو مثل المعدن سواء، فحكم الركاز تأدية خمسه لبيت المال1. أما بالنسبة إلى الجاهليين، فلا توجد عندنا نصوص جاهلية في بيان نصيب الحكومات منه. ويظهر من مطالبة سادات أهل مكة "عبد المطلب" بنصيبهم من الكنز الذي عثر عليه عند حفره بئر زمزم، أن حجتهم في المطالبة لم تكن تستند على قانون سابق، بل ارتكزت على أن الكنز لم يعثر عليه في أرض ملك، رقبتها لعبد المطلب، حتى يستأثر به، وإنما عثر عليه في أرض مقدسة مشاعة، تخص البيت الحرام وأهل مكة كلهم، لذلك وجب إشراك غيره به ومعنى هذا أن من يعثر على كنز في ملك له، يكون من حقه ونصيبه، لا تشاركه قريش فيه. وقد وجد "عبد الله بن جدعان" كنزًا، سبق أن أشرت إليه، فلم يعط سادة قريش منه شيئًا، وكان من عادة أهل مكة نبش المواضع العادية بحثًا عن الكنوز، ولم نجد في الأخبار المروية عن ذلك ما يفيد بمشاطرة قريش لمن يعثر على كنز، بمعنى أن من يستخرج شيئًا من الدفائن يكون ما يستخرجه من نصيبه، لا تأخذ مكة منه نصيبًا. وكيف تتمكن من ذلك، لأن من يعثر على كنز لا يظهره للناس، خشية اغتصابهم له. وأن من شاهد أحدًا يستخرج كنزًا استعمل حق القوة في الاستحواذ عليه أو على نصيب منه.

_ 1 تاج العروس "4/ 39"، "ركز"، صحيح البخاري "2/ 159 وما بعدها"، "باب الركاز"، شرح اللمعة الدمشقية، للشهيد العاملي "1/ 15 وما بعدها". اللسان "ص ق"، "10/ 196 وما بعدها".

النذور والصدقات

النذور والصدقات: وما تحدثت عنه هو الضرائب المفروضة التي يجب على من تشمله دفعها. أما النذور والصدقات، فهي هبة يقدمها المتمكن طوعًا للتقرب إلى آلهته أو شعورًا بمسئولية أدبية يقتضيه واجب المروءة تجاه الضعفاء. والصدقة: ما تصدقت به على الفقراء وقد أشير إليها في القرآن الكريم. وقد تؤدي معنى "الزكاة" ووردت في معنى "المهر" أيضًا أي: الصداق الذي يقدم إلى المرأة1. ويظهر أن الجاهليين كانوا يستعملونها في معنى التصدق على المحتاج والسائل. وأما الزكاة، فهي ما يخرج من المال لتطهيره، فهي تزكية اختيارية للمال وطهارة له. وقد جعلها الإسلام فريضة على المسلم المتمكن بحسب الأنصبة المقررة في الشرع. وهي "زكوتو" Zakutu عند البابليين. وقد نص عليها في العهد القديم2. وهي أن يقدم أصحاب الزرع من أول ثمرهم إلى الكاهن ليقدمه إلى الرب، وأن يسمح للفقراء بالتقاط ما يجدونه على الأرض مهملًَا من بقايا الزرع، وأن يعطي الكهنة واليتامى والفقراء والغرباء والأرامل والمحتاجين عشر محاصيل الأرض. وقد كثرت الإشارة إليها في العهد الجديد3. وإذا اعتددنا العشر الذي كان يقدمه العرب الجنوبيون إلى المعبد من حاصل عملهم، لصرفه على المعبد وفي الأعمال الخيرية زكاة، ففي استطاعتنا أن نقول إنها كانت مفروضة على المتمكن فرضًا، أي: على نحو ما نجده في الإسلام. غير أن من الجاهليين من كان يقدم زكاة المال من ماشية وإبل وزرع طوعًا واختيارًا تقربًا إلى الآلهة، يقدمها إلى المعابد تخصيصًا باسم الأصنام. ومن هذا القبيل السائبة والحامي الوصيلة ونحو ذلك، مما خصصه الجاهليون لآلهتهم تطوعًا، وذلك تزكية لأموالهم وأملًا في نماء أموالهم الجديدة وحدوث البركة فيها.

_ 1 اللسان "صدق"، "10/ 196 وما بعدها". 2 Reallexikon der Assyriologie, I, Band, I, Lieferung, S. 7 3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 3".

السخرة

السخرة: وكان من حق الدولة وسادات الأرض والقبائل تسخير الناس في الأعمال التي

يريدون القيام بها بلا عوض ولا أجر ولا دفع مقابل عن العمل الذي يؤمرون القيام به. ونظام السخرة شائع معروف عند جميع الأمم. وقد كان معمولًا به عند بعض الشعوب إلى عهد قريب. فكان من حق الحكومة إكراه أتباعهم وأخذهم بالقوة وسوقهم للقيام بأداء أي عمل تريده. وفي ضمن ذلك المباني العامة والقصور. وبها تم إنشاء معظم المباني الفخمة مثل الأهرام والمعابد، حيث لا يكلف العمل بهذه الطريقة الحكومة كثيرًا، فالعمال مسخرون لا يدفع لهم شيء، وعليهم أداء عملهم بسعة وحمل أكثر ما يمكن حمله، وإلا انهالت عليهم سياط المراقبين. ويدخل في هذه السخرة، السخرة العسكرية، أي: القبض على أي شخص عند الحاجة وسوقه إلى القتال، وذلك من غير مقابل أيضًا. وقد كابد سواد الناس منها عنتًا شديدًا لفقرهم ولعدم وجود شيء عندهم تعتمد أسرهم عليه في معيشتها إذا غاب المعيل أو مات، ولهذا لم يحارب المحاربون إلا قسرًا وخشية ورهبة، وكانوا يهربون من هذه "السخرة" بالرغم مما قد يتعرض له الهارب من عقوبة شديدة قد تصل إلى القتل.

واجبات الدولة

واجبات الدولة: واجبات الدولة كثيرة: فإن عليها أن تحفظ الأمن في الداخل، وتحمي الحدود من مهاجمة الأعداء لها، وتصد كل غزو يقع عليها، وعليها أن تحقق العدالة، وتقتص من الجناة وتعاقب المجرمين، وعليها أن تقيم الأبنية العامة وتفتح الطرق، على غير ذلك من الواجبات التي نعرفها عن الغاية من نشوء الحكومات. ونحن لا نستطيع أن نتحدث في الزمن الحاضر عن جهاز حفظ الأمن الداخلي، أي: جهاز "الشرطة" الذي تناط به مهمة القبض على المجرمين، وتعقب اللصوص والقتلة، وما إلى ذلك من شئون لعدم ورود شيء عن هذا الموضوع في الكتابات. ولكننا لا نستطيع نفي وجود علم للجاهليين الحضر بالشرطة. فلا بد وأن يكون لهم علم بأجهزة الأمن المخصصة بالقبض على المجرمين وتعقب آثارهم، أي: الشرطة. وقد كان لهم اتصال بالعراق وببلاد الشام. ويظهر من كتب اللغة أن لفظة "الشرطي" و"شرطة" كانت معروفة بين الناس عند ظهور الإسلام. "وفي حديث ابن مسعود: وتشرط شرطة للموت لا يرجعون إلا

غالبين. وهم أول طائفة من الجيش تشهد الوقعة، وقيل: بل صاحب الشرطة في حرب بعينها"1. وقد كان لملوك الحيرة سجون يسجنون بها من يتجاسر عليهم ومن يخالف أمرهم ويعارضهم ويخرج على العرف. ومن سجونهم "الصنّين". وفيه سجن "عديّ بن زيد العبادي". وقد ذكر أنه كان موضعًا بظاهر الكوفة2. وذكر بعضهم أنه بلد، ذكره الشاعر بقوله: ليتَ شعري متى تَخِبّ بي النا ... قة بين العُذَيْب فالصِنّين ولم يعين موضعه3. ويظهر أنه لم يكن بعيدًا عن الحيرة. ولعله كان حصنًا حصينًا منعزلًا عن الناس، به حرس كثيرون يحرسونه، لهذا اتخذ سجنًا ومحبسًا. ويظهر من شعر لعدي بن زيد العبادي، أن ملوك الحيرة، كانوا قد نظموا لهم حرسًا يحرسونهم ويحرسون مؤسسات الحكومة المهمة مثل "السجون"، والأشخاص المسئولون عن الأمن والأخبار، ليرسلوا ما قد يحدث من أمور إلى الملوك والحكام. وقد عرف "العسس" عند الجاهليين أيضًا، وهم المسئولون عن حفظ الناس من أهل الريبة والكشف عنهم. والعُس: نفض الليل عن أهل الريبة. وكان الخليفة "عمر" يعس بالمدينة، أي: يطوف بالليل يحرس الناس ويكشف أهل الريبة4.

_ 1 اللسان "4/ 330"، "صادر"، شرط". 2 الأغاني "2/ 115". 3 اللسان "صنن"، "13/ 250". 4 اللسان "6/ 139"، "عسس"، تاج العروس "4/ 190"، "عس".

البريد

البريد: وقد عرف "البريد" بين الجاهليين. ويذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها "بريده دم"، أي: محذوف الذنب، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، ثم سُمي الرسول الذي يركبه

بريدًا، والمسافة التي بين السكتين بريدًا. والسكة موضع كان يسكنه "الفُيُوج" المرتبون من بيت أو قبة أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل: أربعة1. فالبريد إذن بمعنى رسول، وموضع البريد، والشيء الذي يرسل مع البريد، أي: الرسول حامل البريد، ودابة البريد. قال الشاعر: إني أنصُّ العيس حتى كأنني ... عليها بأجواز الفلاة بريدا2 ومن أعمال صاحب البريد إرسال الأخبار إلى من عينهم في هذا المنصب، فهم موظفون مخبرون، من أعمالهم إطلاع كبار الموظفين والأمراء والملوك على الأحوال العامة للمكان الذي يقع في ضمن عملهم واختصاصهم، وأخبار الجهات المسئولة عن الأعمال المشبوهة التي قد تدبر ضد الدولة، وعن تصرفات كبار الموظفين، خشية انفرادهم في الحكم وإعلانهم العصيان على الدولة. ونسب "الجاحظ" إلى "امرئ القيس" قوله: ونادمت قيصر في ملكه ... فأوجهني وركبت البريدا إذا ما ازدحمنا على سكة ... سبقت الفرانق سبقًا بعيدا3 وقد نسب غيره إلى "امرئ القيس" أيضًا قوله: على كل مقصوص الذنابي معاودٍ ... بريد الشُرى بالليل من خيل بربرا4 ومعنى هذا -إن صح بالطبع- أن الشعر المذكور هو لامرئ القيس حقًّا، أنه عرف البريد واستعمله، وقد رأى خيل البريد. وهي تقص ذنابها ليكون ذلك علامة على أنها من خيل البريد. وقد أشير إلى البريد في الحديث: جاء "لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة

_ 1 اللسان "3/ 86 وما بعدها"، "صادر"، "برد". 2 اللسان "3/ 86"، "صادر"، "برد". 3 الشعر والشعراء "67"، ديوان امرئ القيس "262"، كتاب البغال، من رسائل الجاحظ "2/ 275، 291". 4 الكامل، للمبرد "1/ 286"، اللسان "3/ 86"، "صادر" "برد".

برد"، وهي ستة عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع. وورد في الحديث أيضًا "لا أخيس بالعهد ولا أحبس البُرد"، أي: لا أحبس الرسل الواردين عليّ1. وورد إذا أبردتم إلي بريدًا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم. وعرفت الطرق التي يسير بها رسل البريد بـ"سكك البريد". كل سكة منها اثني عشر ميلًا2. وقد أشير إلى البريد في شعر إلى "ورقة بن نوفل"، يقال: إنه قاله حينما مات "عثمان بن الحويرث" عند "ابن جفنة الغساني"، فاتهمت بنو أسد "ابن جفنة" بقتله3. وعرف "أبو قيس" بـ"راكب البريد"4. وتحدث "الجاحظ" عن "البريد" في أيام الساسانيين، فقال: "وكانت البُرد منظمة إلى كسرى، من أقصى بلاد اليمن إلى بابه، أيام وهرز، وأيام قتل مسروق عظيم الحبشة"5. "وكذلك كانت برد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان وإلى آبائه. وكذلك كانت برده إلى البحرين: إلى المكعبر مرزبان الزارة، وإلى مشكاب، وإلى المنذر بن ساوى، وكذلك كانت برده إلى عمان، وإلى الجلندي بن المستكبر. فكانت بادية العرب وحاضرتها مغمورتين ببرده، إلا ما كان من ناحية الشام؛ فإن تلك الناحية من مملكة خثعم وغسان الروم، إلا أيام غلبت فارس على الروم، ولذلك صرنا نرى النواويس بالشامات إلى القسطنطينية. وهل كانت برد كسرى إلى وهرز، وباذام، وفيروز بن الديلمي والي اليمن، وإلى المكعبر مرزبان الزارة، وإلى النعمان بالحيرة، إلا البغال؟ وهل وجدوا شيئًا لذلك أصلح منها"6. فالبغال هي وسيلة نقل البريد في ذلك الوقت. تتوقف في محطات البريد لتبدل البغال التعبة ببغال أخرى، وليبدل حملة البريد كذلك. وهكذا إلى آخر محطة. فهي سكك تمتد مسافات طويلة. ولما كان من الصعب على البغل اختراق الصحارى

_ 1 اللسان "3/ 86"، "صادر"، "برد". 2 اللسان "3/ 86". 3 ركب البريد مخاطرًا عن نفسه ... ميت المظنة للبريد المقصد نسب قريش "210". 4 نسب قريش "261". 5 من رسائل الجاحظ، كتاب البغال "2/ 290". 6 من رسائل الجاحظ، كتاب البغال "2/ 291 وما بعدها".

ذات الرمال البعيدة الغور والتي تقل فيها المياه، لزم أن تكون طريق البريد ممتدة في الأرضين التي يكثر وجود الماء فيها، وتتوفر فيها الآبار، وفي مواضع مأمونة قليلة الرمال. ويظهر أن الجاهليين قد أخذوا نظم بريدهم من الفرس، وأن ملوك الحيرة وغيرهم استخدموها في إدارتهم لدولتهم، بدليل ما يذكره علماء اللغة من أن لفظة "البريد" كلمة فارسية عربت فصارت على هذا النحو. وأصلها "بريدة دم"، أي: محذوف الذنب؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، فأعربت وخففت، ثم سُمي الرسول الذي يركبه بريدًا. والمسافة التي بين السكتين بريدًا، والسكة موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت أو قبة أو رباط، وكان يرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان، وقيل: أربعة1 ولعل ما ورد في شعر امرئ القيس من "على كل مقوص الذنابي"، إشارة إلى تفسير كلمة "بريده دم". وقد ذكر علماء اللغة أن "الفيج" رسول السلطان على رجله، فارسي معرب. وقيل: هو الذي يسعى بالكتب. والجمع "فيوج". وأشاروا إلى ورودها في شعر لعدي بن زيد، زعموا أنه قاله هو: أم كيف جزتَ فيوجًا حولهم حرسٌ ... ومريضًا بابه بالشك صُرّار قيل: الفيوج الذين يدخلون السجن ويخرجون يحرسون2. ويظهر أنهم فرقوا هنا بين "البريد"، أي: الرسول الراكب، الذي ينقل البريد إلى مسافات، وبين "الفيج" الرسول الذي يسير على رجليه، وهو لا يمكن بالطبع أن يقطع أميالًا كثيرة. فهو بريد محلي، ينقل الأخبار إلى مسافات غير بعيدة. وقد يكون مخبرًا، ينقل ما يحدث ويقع بسرعة إلى المراجع العالية. فالفيوج، لصوص الأخبار وبريد ماش ينقل الكتب إلى الجهات المختصة في الوقت نفسه. ويظهر من شعر "عدي" المذكور، أن "الفيوج" كانوا يقفون للناس بالمرصاد، يراقبون الحركات ويدرسون السكنات حولهم حرس منتبه،

_ 1 اللسان "3/ 86"، "برد"، تاج العروس "2/ 298". 2 اللسان "2/ 350"، "فيح".

يحرسونهم من احتمال محاولة أعداء الحكومة إيقاع أي أذى بهم، أو الدخول أو الخروج إلى الأماكن الحساسة التي كانوا يلازمونها، ويسترقون أخبارها وأخبار من يدخل ويخرج منها. وأما الأبنية العامة، مثل المباني الحكومية، فقد كانت الحكومات العربية الجنوبية تقوم مستقلة بإنشائها، وتنفق عليها أموالها ومن مواردها الخاصة. وتقوم بإنشائها بالاتفاق مع السلطات الدينية في أحيان أخرى. بأن تسهم تلك السلطات في تحمل نفقات البناء كلها أو جزء منها وقد يكون ذلك في مقابل نزول الحكومة عن بعض الحقوق إلى المعبد. وقد تقوم الحكومة بإنشائها بالاتفاق مع كبار المتمولين، أصحاب الأرض والثراء. وتقوم المدن والقبائل والحكومات بالاستدانة من أموال المعبد ومن الضرائب التي تدفع إليها، للإنفاق منها على إقامة الأبنية العامة والمشروعات الأخرى، على أن تعاد تلك الديون إلى المعبد. ولم ترد في الكتابات إشارات إلى موقف المعابد من هذه الديون: أكانت تتقاضى أرباحًا عليها -أي: ربًا- أم كانت تعطيها قرضًا حسنًا من غير فائض. ويعبر عن ضرائب المعبد التي تجبى من الناس بلفظة "كبودت". وأما الدين فيعبر عنه بـ"دينم" "دين" كذلك، كما جاء في هذه الجملة: "بكبودت دين عثتر"1، أي: "بالضرائب التي داينها "أقرضها" الإله عثتر".

_ 1 Glaser 1150, Halevy 192, Rhodokanakis, Stud, Lex, II, S. 54

حماية الحدود

حماية الحدود: ومن واجبات الدولة تثبيت حدودها والمحافظة عليها من كل اعتداء، وذلك بمراقبة الحدود ووضع حاميات عسكرية عليها، من "مسالح" و"مناظر" وبناء قلاع في الثغور لحمايتها من المغيرين وصدهم. وتبني هذه التحصينات في الخطوط الأمامية وعلى مبعدة من الأماكن الكبيرة المأهولة حتى يكون في وسعها صد المغيرين، أو وقفهم حتى تأتي نجدات كبيرة من الجيوش لمحاربة الغزاة، ويكون في وسع أهل القرى والمدن الهرب بأنفسهم وأموالهم إلى مواضع آمنة.

و"المسالح" مواضع المخافة. والمسلحة كالثغر والمَرْقب يكون في أقوام يرقبون العدو لئلا يطرقهم على غرة، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم ليتأهبوا له. ومسلحة الجند خطاطيف لهم بين أيديهم ينفضون لهم الطريق، ويتجسسون خبر العدو ويعلمون علمهم، لئلا يهجم عليهم، ولا يدعون واحدًا من العدو يدخل بلادهم. وذكر أنه كان أدنى مسالح فارس إلى العرب "العُذيب"1. فالمسالح إذن، هي الخطوط الأمامية من خطوط الدفاع عند بلد ما، ونقاط الأمان فيها، ومحل جمع المعلومات عن تحركات ونيّات العدو. بها حاميات مقيمة وظيفتها الأولى الاستطلاع وإخبار الجيش بقدوم عدو ما، ومشاغلته إلى وصول القوات المدافعة الكبيرة. و"المنظرة" "موضع الربيئة" وهي المرقبة، وتكون في مواضع مشرفة مثل رأس تل أو جبل يبنى عليه بناء يجعل فيه رقباء ينظرون العدو ويحرسونه، ليتوقوا غدره وشره. فإذا أراد الغارة، أرسلت "النظيرة" "النظورة" رسالة تحذير للتهيؤ لصد العدو. والظاهر أن اتخاذ المناظر في المواضع العالية المشرفة، هو الذي جعل علماء اللغة يفسرون المناظر بأنها أشراف الأرض لأنه ينظر منها2. و"المراقب" و"المرقبة" الموضع المشرف، يرتفع عليه الرقيب، و"الرقيب" الحارس الحافظ، و"رقيب القوم": حارسهم، وهو الذي يشرف على مرقبة ليحرسهم. وذكر علماء اللغة أن المرقبة هي المنظرة في رأس جبل أو حصن3، فهي في المعاني المتقدمة. و"الثغر" الموضع الذي يكون حدًّا فاصلًا بين الحكومتين. وهو موضع المخافة من أطراف البلاد. و"الثغرة": الثلمة وكل فرجة في جبل أو بطن أو طريق مسلوك4. ويظهر من هذا التعريف أن الثغور هي المواضع الخطيرة من الحدود؛ لأنها تكون بمثابة الفرجة أو الثلمة فيها يتسنى للعدو منها التسلل بسهولة إلى أرض عدوه، ولهذا تجب حراستها والعناية بها، بوضع حاميات بها لتشغل العدو ولتصده من الولوج إليها.

_ 1 اللسان "2/ 487"، "سلح"، تاج العروس "2/ 165"، "سلح"، مقدمة الصحاح "1/ 375"، محيط المحيط "1/ 977 وما بعدها". 2 اللسان "ن/ ظ/ ر"، "5/ 218". 3 اللسان "ر/ ق/ ب"، "1/ 425". 4 اللسان "ت/ غ/ ر"، "4/ 103".

وقد أقام الفرس والروم "مناظر" على حدودهم، على أبعاد لا يكون ما بينها بعيدًا حتى يكون في وسع حماة "المناظر" أن يتعاونوا، ويقدموا العون للمنظرة التي تهدد بالخطر. وأقام الروم "طرقًا" ممهدة بين هذه المناظر، ليسهل على القوات السير عليها بسرعة لنجدة المناظر وحماية الحدود. وتلجأ الحكومات إلى إقامة استحكامات أخرى لوقاية الحدود من مهاجمة عدو لها، مثل إقامة الخنادق في بعض المواضع الخطيرة المهددة من الحدود لمنع المغيرين من عبورها، كالذي يذكره أهل الأخبار عن "خندق سابور" الذي أقامه لمنع الأعراب من العبور بقصد الغزو، ومثل إقامة بعض الحواجز والأسوار في الممرات والأودية، وربايا في المواضع المشرفة، لمراقبة حركات الأعداء وصدهم من المرور من هذه الأماكن.

ضرب النقود

ضرب النقود: ذكرت فيما سلف أن ملوك العرب الجنوبين، ضربوا النقود، وأن في المتاحف وفي الخزائن الخاصة ببعض الناس نقودًا تعود إلى أولئك الملوك. أما بالنسبة إلى الأماكن الأخرى مثل مكة أو يثرب؛ فإننا لا نستطيع أن نتحدث بأي شيء عن ضرب النقود عندهم، لعدم عثور العلماء على نقد ضرب في هذه الأماكن، ولعدم ورود إشارة إلى وجود ذلك في موارد أهل الأخبار. والذي يستخلص من هذه الموارد أن أهل تلك المواضع، كانوا يتعاملون بعملة الروم والفرس. وهي الدنانير والدراهم. كما سأتحدث عن ذلك في الموضع المناسب عندما سأتحدث عن الأحوال الاقتصادية. ولم أجد في روايات أهل الأخبار ما يشير إلى تعامل أهل مكة أو يثرب بنقود حبشية أو بنقود ضربت في العربية الجنوبية، ولم أجد فيها ولا في كتب السير والتواريخ أن المسلمين ضربوا النقد في أيام الرسول. ولم أسمع بضرب ملوك الحيرة أو الغساسنة للنقود، ولم يعثر الباحثون -كما أعلم- على نقد ضرب في عهود هؤلاء الملوك. والظاهر أنهم كانوا يتعاملون بالعملات الفارسية والرومية. وربما كان الفرس والروم قد منعوا أولئك الملوك من ضرب النقود، لبواعث سياسية واقتصادية. ولكني لا أريد أن أجزم بأن "آل لخم" و"آل غسان" لم يضربوا النقد بتاتًا، استنادًا إلى عدم وصول

نقد ضرب في أيامهم إلينا حتى هذه الأيام، أو إلى عدم إشارة أهل الأخبار إلى وجوده عندهم، فقد يعثر في المستقبل على نقود تعود إلى أيامهم، هي الآن في مخابئها، مدفونة تحت الأتربة. ثم إن أهل الأخبار لم يتحدثوا عن كل شيء، حتى نتخذ سكوتهم عن ضرب ملوك الحيرة والغساسنة للنقود حجة على عدم وجود ضرب السكة عندهم. والسكة: حديدة منقوشة كتب عليها، يضرب عليها الدراهم1. والضرب الطبع، يقال: ضرب الدرهم، أي: طبعه، على سبيل المجاز. و"اضطرب، بمعنى سأل أن يضرب له. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم، اضطرب خاتمًا من حديد. أي: سأل أن يضرب له ويصاغ"2. والنقد تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها3 وأما الطبع فالسك. يقال: طبع السكاك الدرهم؛ أي: سكه4. وهناك مصطلحات أخرى لها صلة بالنقد، ترد في كتب الحديث واللغة يظهر منها، أنه قد كان للجاهليين ولأهل مكة بصورة خاصة وقوف على النقد، وأنهم كانوا يتعاملون بها، ولهم علم بكيفية صنعها.

_ 1 تاج العروس "7/ 143"، "سكك". 2 تاج العروس "1: 34"، "ضرب". 3 تاج العروس "2/ 516"، "نقد". 4 تاج العروس "5/ 438"، "طبع".

قواعد السلوك

قواعد السلوك: وللجاهليين آداب اصطلحوا عليها بالنسبة لتعاملهم مع الملوك وسادات القبائل، فمن قواعدهم المقررة: أن الملوك لا تجز نواصيها1. وذلك لأن جزّ النواصي بالنسبة للعرب تعبير عن الازدراء بالشخص الذي جزت ناصيته، ولما كان للملوك حرمة، فلا تجز نواصيهم، ولا تجز نواصي سادات القبائل كذلك. وقد حدث أن جزّت نواصي بعض الملوك، أو إخوتهم، أو أبنائهم، أو سادات القبائل، إلا أن هذا العمل هو عمل شاذ، لا يقدم عليه، إلا لأن العداوة بين الملك وبين من قبضوا عليه أو على أقربائه أو سادات القبائل، كانت عداوة شديدة عميقة، بحيث تجاوزت حد العرب فخضعت لأحكام العواطف والأهواء.

_ 1 نهاية الأرب "15/ 413".

ومن قواعد آداب السلوك التي يجب على الملوك وسادات القبائل بل على كل إنسان التأدب بها والتمسك بقواعدها، تجنب الغدر1 وإذا كان الغدر عيبًا بالنسبة للسوقة وللسواد، فكم يكون الغدر معيبًا بالنسبة للملوك ولسادات القبائل ولكرام الناس!.

_ 1 ابن الأثير "1/ 320 وما بعدها"، العقد الفريد "3/ 374".

العلاقات الخارجية

العلاقات الخارجية: لم تصل إلينا حتى الآن نصوص في أصول آداب السلوك بالنسبة للعلاقات الخارجية بين الدول، أي: علاقات ما بين حكومات الدول العربية والدول الأجنبية. ولا نعرف لذلك طرق العرف السياسي الذي كان متبعًا عندهم في استقبال "الرسل" و"الوفود" الذين كانوا يفدون على قصور الملوك بأمر من ساداتهم ملوك الحكومات الأجنبية من أعاجم وعرب. ولكننا نستطيع أن نقول قياسًا على المألوف عند العرب، أنهم كانوا يبالغون في إكرامهم وفي ضيافتهم، وفقًا للتقاليد العربية ولظروفهم وإمكانياتهم المحلية. وكانوا يستمعون بإنصات إلى كلامهم، ثم يردون عليهم ردًّا جميلًا، إن حاز كلامهم موقعًا حسنًا في نفوس الملوك، وردًّا يناسب ما جاء في خطاب الرسل من تهديد أو وعد ووعيد، إن استعملوا التهديد والوعيد في خطبهم. ومتى عادوا أكرموا إكرامًا خاصًّا، ومنحوا ألطافًا وهدايا على الطريقة المتبعة في ذلك العهد، وقد يحملون أولئك الرسل هدايا خاصة لمن أوفدهم إليهم، يرفقونها بكتب جوابية في بعض الأحيان، أو برسائل شفوية تبلغ للرسل ليبلغوها هم لسانًا أو كتابة إلى موفديهم. و"الوفد"، القوم القادمون للقاء العظماء، وجماعة مختارة للتقدم في لقاء العظماء. ويقال: وفده الأمير إلى الأمير الذي فوقه، أي: ورد رسولًا1. وقد كان سادات القبائل يرسلون وفودًا عنهم إلى الملوك أو إلى سادات قبائل أخرى في مهام مختلفة، مثل عهد حلف أو تفاوض أو تهديد بإعلان حرب أو لتهنئة أو لتعزية أو لبيعة وما شاكل ذلك من أمور. وقد أخذت الوفود تترى على الرسول بيثرب لما استحكم واشتد أمر الإسلام.

_ 1 اللسان "3/ 464 وما بعدها"، "وفد"، تاج العروس "2/ 538 وما بعدها"، "وفد".

وقد يكون الرسول المرسل إلى بلاد العرب لا يعرف العربية، فيكون من الضروري إرسال مترجم معه يتقن العربية، ليقوم بأعمال الترجمة. وقد دونت الموارد اليونانية أسماء بعض الرسل الذين أرسلهم ملوك البيزنطيين إلى اليمن أو إلى الغساسنة أو المناذرة، للقيام بمهمات خاصة، ولإجراء مفاوضات في أمور تتعلق بالمصالح اليونانية العربية، وقد نصوا أيضًا على أسماء بعض المترجمين الذين رافقوهم إلى ملوك العرب أو إلى سادات القبائل. ويظهر أنهم كانوا يختارونهم من رجال الدين النصارى الذين كانت لهم صلات وعلاقات وثيقة بالعرب، ومنهم من كان من أصل عربي. وكان من عادة سادات القبائل والملوك العرب، أنهم إذا أرادوا إرسال ممثل عنهم إلى الحكام الأجانب، لمفاوضاتهم في أمور تخصهم، اختاروا من عرف بالذكاء والشيطنة من أتباعهم للقيام بهذه المهمات التي تحتاج إلى ذكاء ولباقة وحسن تصرف. وهم في هذا الباب مثل غيرهم يراعون أن يكون رسولهم ممن يتقنون لغة من سيرسل إليه، وأن يكون من خواصهم ومن أتباعهم، حتى لا يبوح بأسرار مهمته لأعدائهم. وأما إذا تعذر هذا الشرط، فكانوا يختارون مترجمين ثقات عربًا أو عجمًا لمرافقة الرسول، وللتكلم بلسانه، ولنقل ما يقوله الأعاجم للرسول. ونجد في الموارد اليونانية أن عرب بلاد الشام، أرسلوا رجال دين عنهم إلى حكام بلاد الشام أو إلى القسطنطينية لمفاوضة الروم في المهمات التي كانوا يكلفون بها. ويظهر أنهم إنما لجأوا إلى هؤلاء، لأنهم كانوا يتقنون اليونانية ولأنهم نصارى، والروم نصارى كذلك، ولبعضهم صلات برجال الكنيسة في القسطنطينية، فيساعد الدين في تسهيل حل المشكلات. وقد يذهب ملك عربي أو سيد قبيلة لزيارة الحكام الأعاجم في مواضع حكمهم، أو في أماكن أخرى يتفقون عليها. فإذا لم يكن متقنًا ذلك الملك أو سيد القبيلة للغة الحاكم الذي سيزوره أخذ مترجمًا معه، ليكون لسانه الناطق باسمه وأذنه التي تفسر له أقوال الحكام والأجانب ويظهر من الموارد اليونانية أن من الملوك الغساسنة من كان يتقن اليونانية، فلما زار بعض منهم القسطنطينية، تكلم بها وتباحث مع رجال الدين البيزنطيين في أمور اللاهوت بهذه اللغة. والقاعدة العامة في العرف السياسي عند الجاهليين، أن الموفد لا يهان ولا يعتدى عليه ولا يقتل وكذلك كان هذا العرف ساريًا على رسل الملوك إلى سادات القبائل،

وعلى الوفود التي ترسلها القبائل إلى الملوك أو الرسل الذين يرسلهم سادات القبائل بعضهم إلى بعض. وطالما نقرأ في كتب أهل الأخبار جملًا مثل: "لولا أنك رسول لقتلناك"، تشير إلى احترام العرب لرسالة الرسل والموفدين. وقد كان بعض الرسل يسيئون الأدب أو لا يحسنون التصرف مع من أرسلوا إليه، فيثيرونهم، ومع ذلك، فإن من يهاج منهم يحاول جهد إمكانه ضبط نفسه، والتحكم في أعصابه، حتى لا يتهور على الرسول، فيتهم بسوء الأدب بإهانته ضيفًا، أو يتهم بالغدر. وإذا كان بعضهم قد غدر بالرسل، فإن هذا الغدر لا يمثل العرف العام، وإنما هو غدر، والغدر لؤم، وقد يقع اللؤم من لئيم. ولفظة "رسول" والجمع "رسل" هي من الألفاظ العربية القديمة المستعملة في عالم السياسة عند العرب. وردت في نص "أبرهة"، الذي أشار فيه إلى وفود أتت إليه من مأرب لتهنئته بمناسبة إتمامه سد "مأرب"، فكان من بينهم رسل النجاشي وملك الروم وملك الفرس وملك الحيرة "المنذر" وملك الغساسنة "الحارث بن جبلة" و"أبو كرب بن جبلة"1. وفي هذا النص ملاحظة مهمة جدًّا جديرة بالعناية إذا أطلق هذا النص على مندوب النجاشي وملك الروم لفظة "محشكت" أما رسل الملوك العرب المذكورين فقد أطلق عليهم اللفظة العربية "رسل". أي: أنه استعمل ثلاثة مصطلحات سياسية في هذا النص لمفهوم واحد، هو رسل أرسلوا من ساداتهم لحضور ذلك الاحتفال. وقد يذهب الظن إلى أن النص إنما استعمل تلك المصطلحات الثلاثة، لأنها مصطلحات للغات أولئك الموفدين، فاستعمل لفظة "محشكت" لأن الحبش كانوا يطلقونها على معنى "رسول" في لغتهم وهذا كلام معقول، ولكن ما باله أطلق تلك اللفظة على رسول ملك الروم أيضًا مع أنها كلمة غريبة عن اليونانية لم يستعملها اليونان، ولم يستعمل النص المصطلح الرسمي اليوناني المستعمل في اليونانية للسفير؟ ثم ما بال النص يطلق لفظة "تنبلت" على رسول ملك الفرس، واللفظة أيضًا غير فارسية وغير مستعملة عند الساسانيين؟ أفلا يدل ذلك على أن النص لم يأخذ بالمصطلحات السياسية المقررة عند الحبش والروم والفرس للسفير، وإنما أخذ بشيء.

_ 1 Glaser 618 CIH 541, Glaser, Zwei Inschriften, S. 390 2 كتابي: تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 197".

آخر، هو أهم من ذلك بكثير، لا صلة له بما ذهب هذا الظن إليه، بل لسبب سياسي مهم، هو أن مندوب ملك النجاشي في نظر أبرهة، أهم وأقدم في المنزلة من أي مندوب آخر من المندوبين الذين وصلوا إليه، لذلك قدّمه في الذكر على بقية المندوبين، وأطلق عليه لفظة "محشكت"، لأنها في معنى رسول ذي أهمية كبيرة، وله ميزات على الرسل الآخرين، فهو رسول ملك له صلة خاصة قوية به، ثم ثنى بذكر رسول ملك الروم؛ لأن الروم أصدقاء وحلفاء الحبش وأبرهة ولهم صلات قوية به، ثم إن ملك الروم مثل ملك الحبشة وأبرهة على النصرانية، فبينه وبين الروم رابطة الأخوة بالدين، فذكر لذلك مندوبهم بعد مندوب النجاشي واستعمل لفظة "محشكت"، لما لهذه الكلمة من معنى خاص في معجم ألفاظ السياسة. وذكر مندوب ملك الفرس بعد مندوب ملك الروم؛ لأن صلة الفرس بالحبش لم تكن على درجة صلة الروم بهم، ثم إنهم يختلفون عنهم في الدين ويعارضونهم في السياسة، لذلك أخره عن مندوب الروم، وأطلق عليه لفظة تشير إلى أنها دون لفظة "محشكت" في الدرجة والتقدير. ولكنها فوق لفظة "رسل" "رسول" "رسل" في الأهمية والدرجة والمكانة على كل حال. لأن ملوك الفرس أكبر شأنًا في عالم السياسة من المنذر ومن الحارث ومن أبي كرب لذلك استعمل هذه اللفظة لرسول ملك فارس واستعمل كلمة "رسل" لمندوبي الملوك العرب. وفي العربية لفظة أخرى تؤدي معنى "رسول"، هي لفظة "سفير". ويذكر علماء العربية أن السفير: الرسول والمصلح بين القوم1. وكان أهل مكة إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب أو خصومة، بعثوا سفيرًا. وكانت السفارة في "بني عدي"2. ويقال للرسول "اسى" في العربيات الجنوبية، تعبيرًا عن رسول يرسل بمهمة خاصة3. ولجلوس رجال الوفود عند الملوك وسادات القبائل أهمية كبيرة عند العرب، فالمقدم على الناس يكون أيمن الملك أو أيمن سيد القبيلة، وهكذا. وجلوسه هذا

_ 1 اللسان "4/ 370"، "سفر". 2 العقد الفريد "3/ 313 وما بعدها". 3 South Arabian Inscriptions, P. 427

على هذا النحو وعلى هذا العرف، هو علامة تفضيل له على غيره. ويقوم الحجاب أو من إليه أمر استقبال الوفود بتطبيق هذه القاعدة مراعاة شديدة، وقد يتولى الملك ذلك بنفسه، فيطلب من كبير القوم أو ممن يريد تشريفه وتفضيله على غيره الجلوس إلى جانبه الأيمن، ويفتخر عندئذ من ناداه الملك بالجلوس إلى أيمنه فخرًا شديدًا، ويتباهى بهذا التقديم على غيره، وتعتز قبيلته به، فتقدم الرجال عند الملوك والسادات من أمارات الشرف والعز. وقد يخلق مثل هذا التقديم للملك مشكلات خطيرة، إذ "يزعل" الباقون من هذا التفضيل، خاصة إذا كانت بينهم وبين من قدم عليهم عداوة أو منافسة، فيرون في هذا التقديم ازدراء بهم وإهانة متعمدة قد وجهت إليهم. وقد يتركون مجلس الملك، ويقع ما يقع بين الملك وبين المنزعجين، أو بين من قدم ومن قدم عليهم. ومن آيات تكريم رئيس الوفد، أن الملك كان إذا وضع الشراب، بدأ بالشرب أولًا، فإذا انتهى اسقى من كأسه من يراه أفضل القوم، وهو رئيسهم، أو أنه يأمر السقاة أو يشير إليهم إشارة واضحة أو خفية بتقديم من يراه أهلًا للتقديم، ومعنى هذا أنه أفضل الوفد. وقد أثار هذا التقديم مشكلات خطيرة للوفود المنافسة التي كانت تفد على الملوك، وإلى الملوك أنفسهم، ولا سيما الملوك الذين تحكمت أعصابهم بهم، مثل "عمرو بن هند" و"النعمان بن المنذر". وقد قتل "عمرو بن هند"، كما سبق أن تحدثت عن ذلك بسبب تهوره وانسياقه لعواطفه إذا دعا الشاعر "عمرو بن هند" وأمه لزيارته، وكان ينوي الإساءة إليه، لأنه كان فخورًا متعززًا بنفسه، فأمر الملك أمه بأن تكلف أم الشاعر بخدمتها، وهي من أعز النساء في قومها ولأنها من بيت رئاسة، فلما صرخت "وا ذلاه"، وسمع ابنها الصرخة، ثار على الملك فقتله. وكان من عادة ملوك الحيرة، أنهم يتخذون للوفود عند انصرافهم مجلسًا: يطعمون فيه ضيوفهم، ويسقونهم الخمور، وقد تغني فيه القيان1، ثم يعطي الملوك الخلع والهدايا لأعضاء الوفود، وقد يخلعون عليهم الخلع الملكية، يعطونها لخاصة من حضر دلالة على زيادة تقديرهم لهم. ويتباهى من يناله هذا الحظ السعيد بتلك الملابس ويحتفظ بها للاعتزاز.

_ 1 العمدة "2/ 220".

وقد جرت العادة بإنزال الوفود في دار الضيافة، ليعتني بالضيوف الوافدين ولينالوا حريتهم وراحتهم بها. ويظهر أن من عادة العرب إذ ذاك أن الوفد منهم إذا انتهت مهمته وقرر الرجوع إلى أهله، عملت له وليمة في آخر يومه، وقدمت له هدية، وتسلم له رسالة إن احتيج إلى ذلك. وقد اتبعت هذه العادة في يثرب حينما أخذت الوفود تترى على الرسول لمبايعته بالإسلام. فقد اتخذ الرسول دارًا خاصة بيثرب لتكون دارًا تنزل بها الوفود، عرفت بـ"دا رملة بنت الحارث" امرأة من بني النجار. ويظهر أنها كانت دارًا واسعة، بدليل ما ورد من أن الرسول حبس بها "بنو قريظة" لما نزلو إلى حكمه1. ولا يمكن إنزال عشرات من الناس بها لو لم تكن دارًا واسعة كبيرة. كما كان الرسول يأمر المكلف بأمر الوفود بإعطائهم جوائز يعينها له، فيعطى مقدار ما يأمره به الرسول، وما يكتبه لهم من إقطاع2.

_ 1 نهاية الأرب "17/ 190 وما بعدها"، "18/ 91 وما بعدها". 2 نهاية الأرب "18/ 91".

صكوك المسافرين

صكوك المسافرين: هي جواز السفر في اصطلاح هذا اليوم. كان على المسافر حمله معه لئلا يتعرض به أحد1. يمنحها الملوك وسادات القبائل، وتختم بختمها، فلا يتحرش أحد بحاملها ويؤمن على سلامته. وإذا اعتدى عليه معتد طالب صاحب الجواز بحقه من المعتدي عليه. وتعطى مثل هذه الصكوك للوفود وللنابهين من الناس من أصحاب المكانة والجاه. وقد يكون الجواز شيئًا غير مكتوب. فقد كان "جواز" أهل مكة ومن كان في حلفهم لحاء شجر الحرم، يعقدونه في أعناقهم أو في أعناق إبلهم، ليكون علامة على أنهم من "قريش" أو من قوم لهم عهد وعقد معهم فلا يتجاسر أحد على التحرش بهم. للعهود المعقودة بين قريش وبين سادات القبائل، بعدم تحرش أحد برجل من أهل مكة أو بمن يكون في جوارهم ومن له عقد معهم. وقد يكون الجواز شيئًا بسيطًا: عصًا أو سهم، أو أي شيء آخر. يعطيه شخص شخصًا آخر ليكون له جواز أمن وسلام، إذا أبرزه لم يتحرش أحد به. ويكون محرمًّا، أي: مسالمًا لا يجوز لأحد الاعتداء عليه، لأنه في حرمة صاحب

_ 1 تاج العروس "4/ 19، "جاز".

الجواز، ولا تهتك لصاحبه حرمة. ولما جاء الإسلام، جعل المسلمين محرمًا. جاء في الحديث: "كل مسلم عن مسلم محرم"، و"كل مسلم عن مسلم محرم، أخوان نصيران". معناه: أن المسلم ممسك عن مال المسلم وعرضه ودمه. وأنه معتصم بالإسلام ممتنع بحرمته ممن أرداه وأراد ماله1. فكل واحد هو في الإسلام آمن. ومن عادة ملوك الحيرة إعطاء "القطوط" للناس، وهي صكوك الجوائز، أي: كتب تخرج للناس فيها جوائز الملك، فيقبضون مقدار ما كتب فيها. وقد ذكرها الأعشى في قوله: ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفق وذكر أن القطَّ: الصَّك بالجائزة والكتاب، وقيل: هو كتاب المحاسبة، وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت: قوم لهم ساحة العِرا ... ق جميعًا والقِطّ والقلم2

_ 1 اللسان "12/ 124 وما بعدها"، "حرم". 2 اللسان "7/ 382"، "قطط"، "أراد بالقطوط: كتب الجوائز"، اللسان "10/ 6"، "أفق".

فهرس الجزء التاسع

فهرس الجزء التاسع: الفصل الخمسون البيوت 5 الفصل الواحد والخمسون فقر وغنى وأفراح وأتراح 79 الفصل الثاني والخمسون الدولة 178 الفصل الثالث والخمسون حقوق الملوك وحقوق سادات القبائل 253

المجلد العاشر

المجلد العاشر الفصل الرابع والخمسون: الغزو وأيام العرب الغزو ... الفصل الرابع والخمسون الغزو وأيام العرب الغزو: والغزو في تعريف علماء اللغة: الطلب. وهو مورد من أهم موارد الرزق عن الأعراب، لا سيما في سني انحباس السماء وانقطاع الغيث وغضب السماء على الأرض ونفورها منها، حيث تقطع غرامها بها، فتحبس عنها دموعها المعبرة عن شوق السماء إلى الأرض وعن مكانهم المنكوب إلى مكان آخر فيه ماء: بئر أو ماء جار، أو عين دائمة والاستيلاء عليه عنوةً وقهرًا، أو صلحًا بغير قتال، وذلك إذا وجد أصحاب الماء أن من غير الممكن لهم، مقاومة الغزاة، وأن خير ما يفعلونه للحفاظ على حياتهم، هو ترضية الغازين والتودد إليهم، وإرضائهم من غير حرب ولا قتال، وفي ذلك توفيق بين مصلحة الغازين والقارين. وقد يقع الغزو لأسباب أخرى لا علاقة لها بانحباس المطر، بل بسبب طمع القبائل بعضها في بعض، ولا سيما القبائل التي ترتبط بروابط حلف مع قبائل أخرى. والعادة أن القبائل القوية تطمع في القبائل الضعيفة لتأخذ منها ما عندها من مال ورزق. فتغزوها لتستولي على ما طمعت به، وقد تنجح وقد تفشل وتخسر. والقبائل الضاربة على أطراف الحضارة، تطمع في الحضر لما عندهم من رزق حرمت منه، من رزق وافر ومن ماء ومن وسائل عيش رغيدة، فتغزوهم ولهذا صار من اللازم على الحضر تعزيز أنفسهم، بناء حصون وآطام ومناظر لمراقبة

الغزاة, وبشراء سلاح لا يتوفر عند الأعراب من سيوف ماضية صلبة حادة، ومن اتخاذ حرس من الرقيق والمرتزقة ليساعدهم في الدفاع عن حاضرهم، أضف إلى ذلك شراء سادات القبائل الضاربين حولهم بالمال وبالهدايا وبالألطاف، لمنع أعرابهم من التحرش بهم، ولمنع الأعراب الغرباء الذين قد يطمعون فيهم من الدنوّ منهم. أضف إلى ما تقدم من أسباب وقوع الغزو: أثر العلاقات الشخصية بين سادات القبائل، من زواج وطلاق، ومن حسد وتنافس، ومن كلمة نابية قد تثير حربًا بين قلبي شخصين متنافرين، ومن عمل سفيه جاهل يثير غزوًا وحربًا بسبب عصبية قومه له، ودفاع الجانب الآخر عن صاحبهم حمية وغيرة. إلى غير ذلك من عوامل معقولة مفهومة وعوامل تافهة سخيفة تجد لها مع ذلك مكانة في القلوب؛ فتثير غزوًا وتسبب نكبة لأناس مساكين فقراء، لا دخل لهم في كل خصومة، وكل ما لهم أنهم من قوم غضب عليهم قوم آخرون، فزادوا في تعاسة إخوانهم المغزوين، والغازي والمغزو مع ذلك معدم محروم من النعم التي وهبتها الطبيعة لغيرهم من البشر، بأن جعلتهم في أرضين خصبة ذات ماء وخيرات وجو حسن، أما هؤلاء التعساء أبناء البادية، فلم يجدوا أمامهم من رزق متيسر سهل سوى الترزق عن طريق هذا الغزو. فالغزو إذن هو: حاصل ظروف طبيعية واقتصادية واجتماعية، ألمت بالأعراب وأجبرتهم على ركوب هذا المركب الخشن. كارهين أما مختارين فليس للأعرابي للمحافظة على حياته ولتأمين رزقه غير هذا الغزو. وقد بقي يغزو حتى في الإسلام، مع منع الإسلام له لا يجد فيه مع ذلك غصاضة ولا بأسًا. وهو إن امتنع اليوم منه وطلقه. فإنه لم يتركه عن إرادة واختيار وطيب خاطر، وإنما امتنع منه؛ لأنه يعلم أنه إن قام به, فإن هنالك حكومات أقوى منه، لها أسلحة لا يملكها ولا يستطيع التغلب عليها، وعلى رأسها الطائرات، ستفتك به فتكًا ذريعًا، وتكرهه على الخضوع لأحكامها، وعلى الاستسلام لها، وعلى تجريده مما يملكه ومما يستولي عليه لذلك خنس وسكت عن الغزو. ومن هذا الغزو، غزو وقع في الجاهلية بين قبائل صغيرة، لذلك لم ينل من أهل الأخبار حظًّا من الذكر والرعاية والعناية، ولم يجد له مكانًا بارزًا في صفحات كتب الأخبار، وغزو كبير خلد الشعر الجاهلي ذكره، فأخذ رواة الشعر يتسقطون

أخباره، ويجمعون ما وعته ذاكرة رواة الأخبار من أمره، فوجد له مكانًا فسيحًا رحبًا في شروح الشعر الجاهلي وفي كتب الأخبار والأدب, وقد عرف مثل هذا الغزو الخالد بـ"أيام العرب" وبـ"أيام القبائل". وقد ذكر صاحب كتاب "الفهرست" أسماء جماعة من علماء الأخبار ألَّفوا فيها، وشغلوا أنفسهم بجمع أخبارها, دوَّنوها في كتب وفي جملتها مدونات عن أخبار أيام وقعت بين بطون قبيلة واحدة. وقد تداول الجاهليون أخبار الغزو، وصيرت القبائل المنتصرة الأيام التي انتصرت فيها ملاحم، تعيد قصها في مجالسها وأنديتها، وقد زخرفت قصصها بأخبار الشجعان الذين برزوا فيها، وبالغت في أخبار شجاعتهم حتى طغت على أخبار الغزو نفسه، وصار البطل رمزًا للقبيلة، تستمد منه الشجاعة والإقدام في النصر وفي الهزائم والخسائر. فالنصر كما نعلم لا يدوم لأحد. وربَّ قبيلة وكر عليها طير السعد فسعدها الحظ بالنصر، ثم طار عنها؛ لأن الأيام الحلوة لا تدوم أبدًا. وقد تصاب القبيلة المنتصرة بنكسة، فتعوض عن ذكرى خسارتها، بذكرها انتصارها في الماضي، فيكون الماضي خير مسل لها عن مرارة الهزيمة، وأحسن مشجع وباعث على النصر في غزو المستقبل. وقد أمدتنا أخبار الغزو بأسماء عدد من أبطال الجاهلية عرفوا بالشجاعة، لا تزال أخبار بعضهم تروى وتقص على الناس، وتقرأ قصتهم في المجالس مثل: قصة "عنترة" التي حصلت على النصيب الأوفر من الشهرة والذكر من بين القصص المروي عن أبطال الجاهلية، وهو قصص، مهما قيل عنه، وعما ورد فيه من مبالغات، فإنه لا يصل إلى درجة القصص المروي عن أبطال الفرس القدماء أو اليونان أو الرومان أو العبرانيين في المبالغة بشجاعتهم وبقوة أجسامهم الخارقة. لقد فرضت الطبيعة على العربي أن يكون محاربًا غازيًا، فقد حرمته من خيرات هذه الدنيا ومن طيبات ما تنبت الأرض. حرمته من وجود حكومة تحميه وتدافع عنه, وحرمته حتى من وسائل الدفاع عن النفس. فجعلته لا يملك شيئًا يكنّ إليه في البوادي ليحمي به نفسه من الرياح السموم ومن أشعة الشمس القاسية ومن الحيوانات الوحشية، وجعلته يقابل المرض بمفرده، إذا ليس في البادية طبيب حاذق دارس. فلم يكن أمامه والحالة هذه إلا أن يعلم نفسه الصبر، وأن يصير محاربًا غازيًا لا يبالي بالنصر أو بالخسارة، بالحياة أو بالموت. إن خسر هذه

المرة، حاول تعويض الخسارة بجولة جديدة وهكذا؛ لأنه إن يئس وجلس واستسلم للزمان، أكله جار له يطمع في ماله مهما كان، فهو لا بد له من استعداد لغزو جديد. وفقر البادية قد حدد في الوقت نفسه من غرام الأعراب في الغزو. إذ جعل أسلحتهم محدودة وإمكانياتهم في القتال دون إمكانيات الحضر بكثير. لذا صار غزوهم للحضر كرًّا سريعًا وفرًّا بأقصى ما يكون من السرعة، للنجاة بما حصلوا عليه من سلب، أو للنجاة بأنفسهم من القتل في حالة الخسارة والهزيمة. ولهذا كانوا يحسبون ألف حساب حين يريدون غزو حدود الحكومات الكبيرة، ولا يقدمون عليه إلا بعد درس وتأمل ووقوف على مواطن الضعف والثغرات في خطوط الدفاع لتلك الحكومات. أما غزوهم بعضهم بعضًا، فإن أسلحتهم فيه متساوية متكافئة. سيوف ورماح ورمي بالسهام. والذي يكسب النصر فيه، من له عدد وافر كثير وخيل وفرسان شجعان، يأخذون الخصم بمباغتة ومفاجأة.

الخيل

الخيل: وللخيل نصيب كبير ولا شك في الغزو وفي إكثاره في جزيرة العرب إذ صارت سببًا من أسباب توسيع رقعة الغزو والحروب، فالقبيلة التي تملك عددًا كبيرًا من الخيل يكون لها النصر في الغالب؛ لأن الخيل سريعة الحركة وهي تمكن الفارس من مقارعة خصمه بسرعة، ومن ملاحقة الراجل والوصول إليه بسهولة، فلا يكون أمامه عندئذ سوى المقاومة أو القتل أو الوقوع في الأسر. وبفضل الخيل ظهر الأبطال الفرسان، الذين نقرأ أسماءهم في أخبار الأيام. والحصان مثل البطل، يجب عده من أبطال معارك تلك الأيام. فقد مكَّن القبائل الغنية من بسط نفوذها على القبائل الضعيفة، فالجمل ثقيل الحركة بطيء السير بالنسبة إلى الفرس، وفي إمكان من لديه عدد كبير من الخيل غزو القبائل التي لا تمتلك مثل هذا العدد من الخيل، حتى وإن امتلكت عددًا كبيرًا من الإبل والرجال. لما ذكرته من سرعة حركة الخيل ومن مرونتها في القتال وفي الكر وفي الفر، ثم لصبرها ولتحمل أعصابها على ضبط نفسها في القتال بالنسبة إلى الجمل الذي يهيج بسرعة فتثور أعصابه، فيولي لا يبالي إلى حيث يوجهه هياجه، ملقيًا براكبه على ظهره في بعض الأحيان،

أو يذهب طائشًا مسرعًا، لا يخضع لتوجيه راكبه له. والجمل إذا هاج صار من الصعب على صاحبه الإمساك بزمامه، وتوجيهه حيث يريد. وقد اشتهر بعض الناس بالعدو، من هؤلاء: "سليك بن السلكة" المعروف بـ"سليك المقانب". وكانت أمه سوداء. وهو أحد أغربة العرب، وأعدى الناس، لا يشق غباره، وقد أشير إليه في الشعر 1. وقد استفيد منهم في الغزو, فكان منهم المخبرون المتلصصون لأخبار الغزاة أو المغزوين. وكان منهم من يباغت ويفر، فلا يلحق به ماش. فإذا لحقه أحد أتعبه في عدوه، حتى إذا تعب انقض عليه.

_ 1 الثعالبي، ثمار "105".

الجمل

الجمل: وقد أكون مقصرًا هنا إذا أهملت الحديث عن صديق جزيرة العرب وأليفها الحبيب: الجمل. لقد تحدثت عنه في الجزء الأول من هذا الكتاب في أثناء تحدثي عن جزيرة العرب وعن ثرواتها بما فيه الكفاية. ولكنني لا زلت بحاجة إلى التحدث عنه بشيء لم أذكره في ذلك المكان 1، وسأذكره هنا لما له من صلة بهذا الموضع. والإبل هي المال عند العرب. وبها كانوا يقدرون أثمان الأشياء ويتعاملون في تجارتهم وفي أسواقهم. فالجمل عندهم هو وحدة قياسية في البيع وفي الشراء وفي تقدير الحقوق كالديات والفدية والمهور والأراشة وما شاكل ذلك. وبمقدار ما يملك الإنسان من جمال تقدر ثروته وينظر إلى غناه؛ لأنه الحيوان الوحيد الذي في إمكانه قطع البوادي بخيلاء، رافع الرأس، غير عابئ بما يكون تحت أخفاف أرجله من رمال، هازئ بالعطش إذ هو صبور عليه، لمدة لا يمكن أن يباريه في طولها حيوان آخر. ثم هو يحمل الإنسان ويحمل متاعه. وهو طعام الإنسان إن مضه الجوع، أو جاءه ضيف كبير. وهو يشرب حليب النوق ويجد فيه شفاءً وعافية وتعويضًا عن الماء والطعام. فلا عجب إذن إن اتخذ الأعرابي الجمل مقياسًا للثروة والمال.

_ 1 "ص197".

والإبل على منازل ودرجات فيها: الجمل الأصيل المقدر, وفيها الجمل الحرود المبتذل. وخير الإبل عندهم: الإبل الحمراء؛ لأنها أصبر من غيرها على الهواجر، والعرب تفتخر بعدد ما عندها من الجمال الحمر. لغلاء ثمنها بالنسبة إلى الجمال الأخرى ومن هنا ضرب العرب بها المثل حين قالوا: "ما أحب أن لي بمعاريض الكلم حمر النعم"1. فالمراد بحمر النعم: الإبل الحمراء. والإبل الصهباء من الإبل الجيدة الشريفة في نظر العرب. "قال ابن الأعرابي: تقول قريش: الإبل صهبها وأدمها، يذهبون في ذلك إلى تشريفها على سائر الإبل. وقد أوضحوا ذلك بقولهم: خير الإبل: صهبها وحمرها. فجعلوها خير الإبل"2. وقيل: الأصهب من الإبل الذي يخالط بياضه حمرة. وهو أن يحمر أعلى الوبر ويبيض أجوافه. وقد عرفت هذه الإبل بسرعتها. والصهباء الناقة الصهابية. وفي الحديث: كان يرمى الجمار على ناقة صهباء. وإبل صهابية منسوبة إلى فحل اسمه "صهاب"، أولد الإبل الصهابية3. وعدت الإبل الرمكاء، من أبهى إبل العرب. وأما النوق الحور، فهي النوق التي تمتاز عن غيرها بكثرة ألبانها، وتكون ألوانها بين الغبرة والحمرة وفي جلودها رقة، وقد عدت من الجمال الرقيقة الحسنة، قالت العرب: الحمر من الإبل أطهرها جلدًا والورق أطيبها لحمًا والحور أغزرها لبنًا. وقد قال بعض العرب: "الرمكاء بهياء والحمراء صبراء والحوارة غزراء"4. ويقسم أهل الأخبار الإبل ثلاثة أصناف: يماني، وعرابي، وبختي. فاليماني هو: النجيب وينزل بمنزلة العتيق من الخيل. والعرابي كالبرذون. والبختي كالبخل. وذكر أن في الإبل ما هو وحشي, وأنها تسكن أرض وبار، وهي غير مسكونة بالناس. وتسمى الإبل الوحشية "الحوشي". ويذكرون أنها من بقايا إبل "عاد" وثمود. والمهرية منسوبة إلى "مهرة"، وهي سريعة العدو، ويعلقونها من قديد

_ 1 تاج العروس "3/ 158". 2 تاج العروس "1/ 341"، "صهب". 3 قال طرفة: صهابية العثنون موضة القرا ... بعيدة وخد الرجل موارة اليد تاج العروس "1/ 342"، "صهب". 4 تاج العروس "3/ 192 وما بعدها"، "خور"، "7/ 137"، "رمك".

سمك يصطاد من بحر عُمان 1. وذكروا أن "الحوشى" الوحشيّ من الإبل وغيرها منسوب إلى بلاد الجن من وراء رمل "يبرين"، لا يمر بها أحد من الناس. وقيل: هم من بني الجن. وقيل: هي فحول جن، تزعم العرب أنها ضربت في نعم بني مهرة بن حيدان فنتجت النجائب المهرية من تلك الفحول الوحشية، فنسبت إليها، فهي لا يكاد يدركها التعب2. ولتحمل الإبل الجوع والعطش ولصلاحها على المشي في البوادي صارت خير أليف للعرب. وقد اشتهر بعض منها؛ لاشتراكه في الغزو والحروب. وكانوا يسابقون بين الإبل. وسابق الرسول بين الإبل، وكانت ناقته القصواء سريعة الجري فسبقت مرارًا. وتعد لحوم الإبل من اللحوم الطيبة عند الجاهليين. أما اليهود، فكانوا يحرمون عليهم أكل لحومها. وذكر "النويري" أن من الناس من قال: "إن العرب إنما اكتسبت الأحقاد لأكلها لحوم الجمال ومداومتها"3، لاتهامهم الجمل بالحقد واللؤم، وبعدم نسيانه الإساءة. والجمل من الحيوانات القانعة الصابرة. وهو الحيوان الوحيد الذي رضي بمرافقته الأعراب ومصادقتهم منذ آلاف السنين. ولولا هذا الجمل لما كان في استطاعة العرب اختراق جزيرتهم، والتنقل فيها من مكان إلى مكان. وبفضله اتصل عرب جزيرة العرب بعضهم ببعض وقامت المستوطنات في مواضع نائية منعزلة من بلاد العرب, وقهر العربي ظهر باديته. وتكونت فيها تجارة برية. وطرق برية طويلة يخترقها الجمل بغير كلل ولا ملل. صابرًا على العطش حتى يصل إلى مرحلة بعيدة فيها يكون فيها ماء, وفي استطاعة الجمل تحمل العطش مدة أربعة أو خمسة أيام في الصيف، ومدة خمسة وعشرين يومًا في الشتاء؛ لأنه يختزن الماء في جوفه ويعيش عليه. حتى صار هذا الماء المخزون في جوف البعير سندًا للأعراب وأملهم الوحيد في إنقاذ حياتهم عند اشتداد العطش بهم، وانقطاع الماء عنهم. ولما عبر خالد بن الوليد البادية لفتح بلاد الشأم اختزن الماء في أجواف الإبل، لقلة الماء في البادية، فلما اشتد العطش بجيشه، ذبح بعض الإبل وأسقى من الماء المخزون في أجوافها، وبفضله تمكن الجيش من الصمود أمام أهوال العطش ومن الوصول

_ 1 نهاية الأرب "10/ 109 وما بعدها". 2 تاج العروس "4/ 302"، "حاش". 3 نهاية الأرب "10/ 11".

إلى بلاد الشأم بسلام. وهكذا ساهم هذا الحيوان في انتصار خالد على جيش الروم. ولا زال الجمل عماد الأعراب في حياتهم. ولا يمكن أن نتصور وجود أعرابية بغير جمل وقد أناط إنسان القرن العشرين به أعمالًا جديدة لم يمكن يعرفها، فعهد إليه نقل الآلات الحديثة ومنتوجات حضارة هذا القرن في البوادي, فنجح في أدائها أحسن نجاح. ومع ذلك، فإن الزمن ضده، فالجمل بطيء لا تتناسب سرعته وسرعة عصور السرعة وطفرات التطور الحديث، ولا بد وأن يأتي عليه يوم سيحال فيه على التقاعد عن العمل، فيقل بذلك وجوده، ويصير مكانه في حدائق الحيوان. ولتمييز الإبل وتعيين أصحابها، وُسمت بسمات وعلمت بعلامات عرفت عندهم بـ"سمة" و"سمات"، توسم في الحد والعنق والفخذ، على صور شتى، مثل: المشط والدلو والخطاف، أي: على صورة هذه الأشياء 1. ويكون وسم الإبل بالميسم: حديدة تحمى فيكوى بها، فتترك أثرًا على الموضع الذي كوي. وذكر أن الوسم أثر؛ أثر كيّة, يقال: موسوم, أي: قد وسم بسمة يعرف بها, إما كيّة وإما قطع إذن، أو قرمة تكون علامة له. والوسام والسمة ما وسم به الحيوان من ضروب الصور. وفي الحديث أنه كان يسم إبل الصدقة، أي: يعلم عليها بالكي 2. وسمات الإبل: السطاع، والرقمة، والخباط، والكشاح، والعلاط، وقيد الفرس، والشعب، والمشيطفة، والمعفاة، والقرمة، والجرفة، والخطاف، والدلو، والمشط، والفرتاج، والثؤثور، والدماغ، والصداع، واللجام، والهلال، والحراش، والعراض، واللحاظ، والتلحيظ، والتحجين، والصقاع، والدمع3. ويقع الغزو في وجه الصباح في الغالب، ولذلك يقال: "صبحوا بـ ... " أي: أتوا صباحًا. وقد يقال: "صبحه بكذا"، أي: بعدد يذكر من رجال الغزو. ومن ذلك قول بجير بن زهير المزني: صبحناهم بألف من سليم ... وسبع من بني عثمان وافى أي: أتيناهم صباحًا بألف رجل من "بني سليم"2.

_ 1 تاج العروس "5/ 224"، "مشط". 2 تاج العروس "9/ 92"، "وسم". 3 تاج العروس "2/ 174 وما بعدها"، "صبح".

أيام العرب

أيام العرب: عرفت الحروب والمناوشات التي وقعت بين القبائل بعضها مع بعض، أو بين ملوك اليمن والقبائل أو بين الفرس والعرب أو بين الملوك العرب والقبائل بـ"الأيام" وبـ"أيام العرب"1. وهذه الأيام تؤلف -في الواقع- القسط الأكبر من علم الأخباريين بتأريخ الجاهلية، ومادتها القصص الذي تناقله الناس عمن شهدوها، وحفظوه في صدورهم، إلى أن كان التدوين فدوِّن. وهو مادة محبوبة تناولها الناس في الجاهلية والإسلام بلذة وشوق، فكانت هي والشعر الجاهلي من أهم المجالس. "قيل لبعض أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا"2، وأهم أخبار الجاهلية هي هذه الأيام. ومادة هذه الأيام عربية خالصة، يتخللها شعر قيل بالمناسبة في تلك الأيام في الفخر والحماسة وفي هجاء الخصم والانتقاص منه. والفضل هو لهذا الشعر في حفظ أخبار تلك الأيام، وصيانتها من النسيان، لاضطرار الراوي والسامع إلى الاطلاع على المناسبة التي قيلت فيها تلك الأشعار. وعلى هذه المادة العربية اعتماد المؤرخ في تدوين تأريخ العرب في الجاهلية، وتتبع التطورات السياسية التي حدثت قبيل الإسلام. وفي شعر المخضرمين وشعر الشعراء الإسلاميين الذين نبغوا في العهد الأموي مادة تفيدنا في الوقوف على خبر تلك الأيام، فقد حفظ تفاخر الشعراء بقبائلهم ومهاجاة بعضهم لبعض آثار تلك الأيام، فدونت في شعر الهجاء والتباهي والتفاخر، وزاد بذلك علمنا الذي أخذناه من أخبار الأيام ومن الشعر الجاهلي الذي أشير فيه إليها. وموضوع كموضوع الأيام، لا بد أن يُقبل العلماء عليه إقبالًا كبيرًا، وهذا ما وقع، فألف فيه جماعة، منهم "أبو عبيدة" المتوفى سنة "210" أو "211" للهجرة، وأدخله قوم في مؤلفاتهم، فأفردوا له بابًا أو أبوابًا، ولكنا لا نملك حتى اليوم كتابًا قديمًا قائمًا بذاته في الأيام. وكل ما نملكه هو هذه الأبواب الداخلة

_ 1 اللسان "16/ 139". 2 العقد الفريد "6/ 3 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 338". Ency. I, P.218

في بطون كتب الأدب في الغالب وفي بعض كتب التأريخ والجغرافيا، سأشير إليها في أثناء حديثي عن الشهير من هذه الأيام1. وقد أشار "ابن النديم" وغيره إلى أسماء مؤلفين ألفوا كتبًا في أيام العرب2. منهم من ألف عنها كلها، ومنهم من ألف عن بعضها. ومنهم من ألف في أيام قبائل معينة. لكنها لم تطبع، ولعل من بينها من قد يطبع في المستقبل. وقد ورد أن "أبا الفرج الأصبهاني" قد استقصى أيام العرب في كتاب أفرده لذلك، فكانت أيامه ألفًا وسبعمائة يوم3. ولكن هذه الأيام غير منسقة ويا للأسف، ولا مبوبة على حسب ترتيب الوقوع، وتسلسل الزمن. ثم إن من الصعب استخراج مستند منها يمكن الاعتماد عليه في تصنيف هذه الأيام، وتنظيمها على أساس تأريخي، مع أنها مادة المؤرخ الذي يريد كتابة تأريخ جزيرة العرب قبل الإسلام ودراسة التطور السياسي فيها. وقد حاول المستشرقون تنسيقها وترتيبها على أساس تواريخ الوقوع، فلم يفلحوا إلى الآن في الوصول إلى نتيجة مرضية. ولو كانت لدينا معارف عن أحوال من أسهم فيها وأجج نارها ومن قال شعرًا فيها4، تنير لنا السبيل لتثبيت التأريخ وضبط السنين، لصار في إمكاننا ضبطها وتعيين تواريخها استنادًا إلى هذا المروي عن أولئك. ولكن ما نعرفه عن هؤلاء الرجال، وهم أبطالها وأصحابها، ولا يقل غموضًا وإبهامًا من حيث التواريخ والسنين عن غموض تواريخ تلك الأيام وإبهامها، ولذلك فكل ما يقال عن تواريخ الأيام وترتيبها والسنين التي وقعت فيها، هو حدس وتخمين. وسيبقى الحال على ذلك، حتى تتهيأ مادة جديدة كنصوص جاهلية مدونة أو موارد أخرى قد تتعرض لتلك الأيام بتأريخها أو بتأريخ من اشترك فيها على وجه مضبوط صحيح. وعندئذ يكون في الإمكان تدوينها على نحو علمي يشرح لنا تطور الحوادث عند العرب قبيل الإسلام. ولوجود مجال واسع للعب العاطفة في أخبار الأيام، تجب دراسة الروايات على حذر، والتفتيش -على قدر الإمكان- عن روايات متعددة عن اليوم الواحد،

_ 1 الفهرست "85"، العمدة "200/ 2 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 393". 2 الفهرست "148"، "أخبار هشام الكلبي". 3 بلوغ الأرب "2/ 68". 4 العمدة "2/ 300 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 393"، الفهرست "85".

للمقارنة والمقابلة والغربلة، وليس هذا بأمر ميسور؛ لأن الروايات والأخبار محدودة، وهي ترجع بأخرةٍ إلى نفر تستطيع حصرهم. فهذه الأبواب، وإن كانت متعددة منثورة بين مؤلفات، دونها مؤلفون مختلفون، إلا أنها أخذت من ذلك النفر، فهي لم تأت لهذا السبب في ثناياها بشيء جديد. وفي هذا النفر المذكور، نفر منحاز متحزب، يشايع قومه، ويريد نسبة الغلب والتفوق لهم، والغض جهد إمكانه من خصوم قومه ومن الأطراف التي خاصمت قومه واشتبكت معها في قتال، وهو مكثر بالنسبة لجماعته، مبالغ يسند مبالغاته بكلام منثور ومنظوم، ليثبت صحة قوله. ولهذا وجب الانتباه لهذه الناحية والحذر من تصديق كل رواية وإن نسبت إلى خيرة من نثق بعلمهم من الرواة. وهذه الأيام ليست حروبًا بالمعنى المفهوم من الحرب، فإن منها ما هو مجرد مناوشات أو مهاترات وغزوات لم يسقط فيها إلا بضعة أشخاص، ومنها أيام وقعت في عدة سنين كانت تثار فيها الحرب حينما تتجدد المناسبات، وتنتهي بتسوية يتفق فيها على دفع ديات القتلى وإنهاء المشكلات التي كانت السبب في إثارة تلك الحرب، فإذا ما انتهت، بقيت القبيلة المنتصرة تفتخر بيومها وبأيامها، وبأسماء أبطالها الذين رفعوا اسمها فيها، وطالما جرَّ التباهي والتفاخر القبائل إلى حرب جديدة، بسبب جواب قد يصدر من سفيه عابث لا يرضيه سماع ذلك الفخر، أو من قبيلة مغلوبة لم يكن من السهل عليها أو على أفرادها سماع هذا الكلام. والنابه من هذه الأيام، معدود عند بعض العلماء محدود. وقد حصرها "أبو عبيدة" في الأيام الكبيرة العظيمة, التي ساهم فيها عدد كبيرمن الفرسان. وجعلها: يوم الكلاب، ويوم ربيعة، ويوم جبلة, ويوم ذي قار1. وأكثر أسباب هذه الأيام، هو عسف حكام القبائل القوية في القبائل الضعيفة الخاضعة لهم، بسبب الإتاوة التي كانوا يلحون في جبايتها غير مفكرين في الظروف والأوقات، أو بسبب نزاع على ماء ومرعى، أو أخذ بثأر. أو محاولة للتخلص من حكم القبائل على القبيلة بظهور شخصية قوية فيها، وأمثال هذه من أسباب قد يكون بينها سبب تافه سخيف، يؤدي إلى إزعاج المتخاصمين بسبب النزعات العاطفية التي تتغلب عند القبائل في غالب الأحوال على العقول.

_ 1 الأغاني "11/ 131".

والعادة أن يُعَنْون اليوم باسم الموضع الذي حدثت فيه المعركة، أو بالشيء البارز في تلك الحرب، أو باسم القبائل التي اشتركت فيه. ومن هذه الأيام ما وقع بين قبائل قحطانية، ومنها ما وقع بين قبائل عدنانية، ومنها ما وقع بين قبائل قحطانية وقبائل يرجع النسابون نسبها إلى مضر وربيعة، وإلى معد، وإلى عدنان، فهي أيام وقعت إذن بين جماعتين هما في عرف النسابين من جدَّين، هما: قحطان وعدنان. وهما جدَّا كل العرب الأحياء. ومن الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية: يوم البردان، ويوم الكُلاب الأول وعين أباغ ويوم حليمة ويوم اليحاميم، وأيام الأوس والخزرج. وأما أيام القحطانيين والعدنانيين. فمنها: يوم البيضاء، ويوم طخفة, ويوم أوارة الأول، ويوم أوارة الثاني، ويوم السلان، ويوم خزار ويوم حجر، ويوم الكلاب الثاني، ويوم فيف الريح، ويوم ظهر الدهناء 1. وأما الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية، فمنها ما وقع بين قبائل ربيعة فيما بينها، ومنها ما وقع بين ربيعة وتميم، ومنها ما وقع بين قبائل قيس فيما بينها، ومنها ما وقع بين قيس وكنانة، ومنها ما وقع بين قيس وتميم، ومنها أيام ضبة وغيرهم2. وهناك أيام وقعت بين العرب والفرس مثل يوم الصفقة ويوم ذي قار. وقد تحدثت عن الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية، وعن الأيام التي وقعت بين العرب والفرس في الأماكن المناسبة الخاصة بها. فلست أجد حاجة ها هنا إلى الكلام عليها مرة ثانية، وسأقتصر هنا على الأيام الأخرى3. والأيام بين ما يسمى بالقبائل العدنانية أكثر بكثير من الأيام التي وقعت بين القبائل القحطانية، وسبب ذلك هو أنها أكثر بداوة وأعرابية من القبائل الثانية، وأن من طبع البداوة: الفردية والخصومة والتنازع والتحاسد، بسبب ضيق العيش وقلة المال وتحول القبائل من مكان إلى مكان وراء الماء والكلأ. لذلك قل اجتماع العدنانيين تحت رئاسة رئيس واحد، وتقاتلوا وتخاصموا، وفضلوا الخضوع لحكم

_ 1 أيام العرب "ج وما بعدها". 2 أيام العرب "د وما بعدها". 3 المحبر "246".

رئيس بعيد عنهم على الخضوع لرئيس منهم؛ لأن النفسية الأعرابية ترى في خضوع أعرابي لأعرابي من جنسه استكانة ومذلة. أما خضوعها لحكم غريب عنها فليس فيه شيء من ذلك، ولهذا خضعت لملوك المناذرة أو الغساسنة أو لكندة أو للتبابعة، ونفرت من الخضوع لرئيس عدناني لعقدة التنافس والتناحر بين ذوي القربى. والقبائل العدنانية، قبائل خشنة شديدة المراس، القتال عندها طبيعة، ولو اتحدت وجمعت كلمتها ووحدت أمرها، لكانت قوة لا تغلب، ولكنها، وهي على هذه الصفة من التخاذل والتنافر، صارت خاضعة لحكم القحطانيين، وأخصهم التبابعة على ما يذكره الرواة. فكانوا يعينون عليهم حكامًا وينصبون عليهم أمراء منهم، بل يذكر أهل الأخبار أن العدنانيين كانوا يذهبون هم أنفسهم إلى أولئك التبابعة أحيانًا يطلبون منهم تنصيب شخص منهم، أو تعيين أمير عليهم من أصحاب المنزلة والمكانة؛ لأنهم سئموا من التقاتل والتشاحن، بقوا على ذلك دهرًا حتى سئموا حكم التبابعة والقحطانيين لهم، فثاروا عليهم كما يذكر أهل الأخبار. وسأقتصر في هذا الفصل على الأيام المهمة التي كان لها في شئون السياسة القبلية شأن وخطر. أما الأيام الصغيرة التي لم يكن لها شأن يذكر. فأدع الحديث عنها إلا بقدره. وأما الحامل منها، فسأترك أمره إلى كتب الأخبار والأدب، لعدم وجود مكان لها في حديثنا العام عن تأريخ العرب قبل الإسلام. ومن أمهات الأيام التي وقعت بين القحطانيين والعدنانيين: يوم طخفة، ويوم أوراة الأول، ويوم أوراة الثاني، ويوم السلان، ويوم خزاز، ويوم حجر، ويوم الكلاب الثاني، ويوم فيف الريح، ويوم ظهر الدهناء. وقد تحدثت عن بعضها في أثناء كلامي على ملوك الحيرة أو الغساسنة، وسأتحدث عما لم أتناوله من قبل. ومن الأيام التي وقعت بين قبائل قحطانية وقبائل عدنانية، يوم يسمى بـ"يوم البيضاء" "البيداء"1 وكان سببه مجيء مذحج، وهي قبيلة قحطانية من اليمن، قاصدة متسعًا من الأرض وموطنًا جديدًا صالحًا، فاصطدمت بقبائل معد النازلة بتهامة، وتهامة هي موطن معد القديم في عرف أهل الأخبار، فبرزت لها قبيلة

_ 1 المحبر "246".

عدوان ورئيسها يومئذ عامر بن الظرب العدواني. جمع عامر هذا من كان في تهامة من قبائل معد، وهاجم مذحجًا فغلبها في موضع "البيضاء" ويقول الأخباريون: إن هذا اليوم هو أول يوم اجتمعت فيه معد تحت راية واحدة، هي راية عامر بن الظرب. وقد اجتمعت بعدها مرتين تحت راية واحدة: مرة تحت راية ربيعة ابن الحارث في قضاعة، ومرة أخرى تحت راية كليب بن ربيعة1. فهذه المعركة هي من المعارك القديمة التي وقعت بين العدنانيين والقحطانيين على رأي الأخباريين. وعامر بن الظرب هذا، رجل يعده الأخباريون من قدماء حكماء العرب وأئمتهم الذين تحاكم إليهم الناس، وصارت أحكامهم سنة يتبعونها. وقد ذكر أهل الأخبار أنه أول من قرعت له العصا. ويرون في تفسير ذلك أنه كان قد كبر وهرم، وكان الناس يأتون مع ذلك إليه ليحكموه فيما يقع بينهم من خلاف. فقال له أحد أولاده: "إنك ربما أخطأت في الحكم فيحمل عنك"، فقال عامر: "فاجعلوا لي أمارة أعرفها، فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الصواب": فجعلوا قرع العصا أمارة ينبهونه بها. فكان يجلس قدام بيته ويقعد ابنه في البيت ومعه العصا. فإذا زاغ أو هفا قرع له الجفنة فيرجع إلى الصواب2. ولأهل الأخبار قصص عن عامر، فقد ذكروا أنه كان أول من جلس على منبر أو سرير وتكلم، ولجلوسه على منبر، سموه ذا الأعواد، ونسبوا إليه أحكامًا وحكمًا وأقوالًا وعمرًا طويلًا. وعدوه من الفصحاء البلغاء، وجعلوا أقواله مضربًا للأمثال 3. وأخذ رؤساء معد على عاتقهم الخروج على طاعة حكام اليمن، أو من عينه هؤلاء الحكام عليهم، وذلك بعد ما تبين لهم من ضعف الحكم في اليمن ومن تقاتل المتنفذين فيها بعضهم مع بعض، ومن تدهور الأحوال هناك. وكانت اليمن قد ولت "زهير بن جناب" زعيم كلب على قبائل معد. وكلب من قبائل قضاعة، فوافقت معد على تعيينه وخضعت لحكمه، وأخذت تؤدي الإتاوة له. وكان يخرج في حاشية لجمع الإتاوة، فأصاب معدًا ضيق شديد، وأجدبت أرضهم، فتأخروا عن الدفع، فجاءهم زهير وألحَّ في مطالبتهم، فشكوا عجزهم، وطلبوا

_ 1 ابن الأثير "1/ 295"، جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام "ص224". 2 ابن الأثير "1/ 227"، الأغاني "3/ 3 وما بعدها". 3 المحبر "237 وما بعدها".

إمهالهم والتخفيف عنهم. فما كان منه إلا أن منعهم النُّجْعَة والمرعى، فنقموا منه، وأصابهم من ذلك بلاء، فغضب عليه رجل منهم من بني "تيم الله"، اسمه زيابة، واندس إليه وهو نائم فطعنه، وظن أنه قتله، ورجع إلى قومه فأخبرهم بخبره، ولكن "زهيرًا" لم يصب بسوء، ونجا من الطعنة، وكان قد أخمد أنفاسه ولم يتحرك حتى يوهم "زيابة" أنه قتله ومات، ثم أوعز إلى حاشيته أن يعلنوا أنه مات، وشاع خبر موته بين الناس ولكنه كان قد فرَّ مع حاشيته إلى قومه، حيث جمع جمعهم، ثم هجم بهم على بكر وتغلب، وقاتلهم قتالًا شديدًا أدى إلى هزيمة بكر، ثم إلى هزيمة تغلب من بعدها، وأسر "كليبًا" و"مهلهلًا" ابني ربيعة، وجماعة من أشراف تغلب. فتأثرت قبائل ربيعة من هذه الهزيمة، وعينت "ربيعة بن مُرّة بن الحارث بن زهير التغلبي"، والد "كليب" و"مهلهل" رئيسًا عليها، فحمل ربيعة ومن انقاد إليه على زهير، واسترجع الأسرى، ولكن زهيرًا لم يلبث أن عاد إلى ما كان عليه من جمع الإتاوة من معد 1. وإذا أخذنا برأي الأخباريين القائلين: إن تعيين زهير بن جناب على بكر وتغلب ابني وائل كان بأمر أبرهة الذي غزا نجدًا، وتوسع فيها، فجاءه زهير ليتقرب إليه، وليعينه على بعض القبائل، يكون حكم زهير على هذا القول في القرن السادس للميلاد2. وفي عهد رئاسة "كليب بن ربيعة"، جددت قبائل ربيعة محاولاتها للتخلص من حكم اليمن. وكان "كليب" شخصية قوية، فاختارته قبائل معد رئيسًا عليها، واجتمعت تحت لوائه، والتقت باليمن في "يوم خزاز"، فانتصرت معد فيه، وعد من أيامها الكبرى قبل الإسلام3. ونظرت معد إلى كليب نظرة تجلة واحترام، وجعلت له قسم الملك وتاجه وطاعته؛ لأنه وحَّدهم وأنقذهم من

_ 1 المحبر "249"، ابن الأثير "1/ 238". 2 ابن الأثير، الكامل "1/ 205". 3 "خزاز" ورد أيضًا "خزازي"، العقد الفريد "6/ 97" "تحقيق العريان" ابن رشيق، العمدة "2/ 212"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، تحت "باب ذكر الوقائع والأيام".

تعسف اليمن بهم1. وقد داخل "كليب بن ربيعة" زهو شديد بعد هذا النصر، وبعد سيادته بني معد، فبغى على قومه، وصار يتعسف في إحماء الحمى، فلا يرعى حماه أحد، ولا يصاد فيه ولا تَرِدُ إبل مع إبله، ولا توقد نار مع ناره، وبقي كذلك حتى قتله "جسّاس بن مرّة الوائلي"، فتوالت الحروب بين تغلب وبكر ووائل بسبب ذلك2. وقد اختلف الأخباريون في هذا اليوم، واختلفوا في اسم قائد قبائل معد فيه، واختلفوا في اسم ملك اليمن الذي في عهده وقع، واختلفوا في زمن وقوعه، وفي سببه، فقالوا: إن رئيس معد فيه هو "كليب بن ربيعة"، وقالوا: بل هو زُرارة بن عدس، وقالوا: لا، وإنما هو ربيعة بن الأحوص بن جعفر. ويذكر بعضهم أنه وقع بعقب يوم السلان، وأنه كان لجموع ربيعة ومضر وقضاعة على مذحج وغيرهم من اليمن3. وذكر جماعة من أهل الأخبار، أن "الأحوص بن جعفر بن كلاب"، كان على نِزار كلها يوم خزاز، ثم ذكرت ربيعة أخيرًا من الدهر أن كليبًا كان على نزار. وتوسطت جماعة بين الرأيين، فقالت: كان كليب على ربيعة، وكان الأحوص على مضر4. وسبب اختلافهم في ذلك هو دور العصبيات القبلية، والنزعات العاطفية عند الرواة. ذكر أهل الأخبار أن جماعة من وجوه أهل البصرة، كانوا يتجالسون يوم الجمعة ويتفاخرون ويتنازعون في الرياسة يوم خزاز، فتعصب كل قوم لرئيس من الرؤساء الذين ذكرت. وقد تحاكموا إلى "عمر بن العلاء" وكانوا في مجلسه، فقال: ما شهدها عامر بن صعصعة ولا دارم بن مالك، ولا جُشَم بن بكر، اليوم أقدم من ذلك، ولقد سألت عنه، فما وجدت أحدًا من القوم يعلم من رئيسهم ومَن الملك5. وقد أنكر بعضهم أن يكون لكليب بن ربيعة دور

_ 1 ابن الأثير "1/ 238"، صبح الأعشى "1/ 39". 2 صبح الأعشى "1/ 391". 3 العمدة "2/ 212"، المحبر "ص249"، العقد الفريد "6/ 98" "طبعة العريان". 4 البلدان "3/ 438 وما بعدها"، العمدة "2/ 212" "محمد محيي الدين عبد الحميد". 5 العقد الفريد "6/ 97 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 420".

بارز فيه. والظاهر أن روايات الرواة عن هذا اليوم، وهي شفوية بالطبع، كانت متضاربة تضاربًا كبيرًا بسبب بعد عهد ذاكرتهم عنه، كما كانت متنافرة بسبب العواطف والنزعات القبلية، وتعصب كل راوٍ لقبيلته. فلما جاء مدوِّنو الأخبار لجميع ما في حافظة رواة القبائل عن هذا اليوم، وجدوا اختلافًا كبيرًا، حاولوا جهد إمكانهم التوفيق بينه، واستخراج قصة موحدة عنه، فجاءوا بهذا الذي جاءوا به. وترجع رواية من روايات أخبار هذا اليوم، سبب وقوعه إلى جباية أهل اليمن لقبائل معد. "كان الرجل منهم يأتي، ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها، فيأخذ من أموال نزار ما شاء، كعمال صدقاتهم اليوم، وكان أول يوم امتنعت معد عن الملوك: ملوك حمير"1. فلما ضجرت نزار وبقية قبائل معد من هذه الجباية القاسية، ومن هذا التعسف، هاجت على اليمن، وأعلنت عصيانها على القحطانيين، فوقع هذا اليوم. أوقدت نارًا على خزاز ثلاث ليال، ودخنت ثلاثة أيام. فلما أحست مذحج باجتماع "معد"، سارت على نزار ومن انضم إليها من معد، فوقع يوم خزاز. وجاء في رواية أخرى. أن سبب هذا اليوم هو احتباس ملك من ملوك اليمن أسرى من مضر وربيعة وقُضاعة، وامتناعه عن فك أسرهم، وذلك في عهد "كليب". فجاءه وفد من بني معد فيهم: سَدُوس بن شيبان بن ذُهْل، وعوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وعوف بن عمرو بن جشم بن ربيعة بن زيد مناة، وجشم بن ذهل بن هلال. فلقبهم رجل من بهراء يسمى عبيد بن قُراد. وكان في الأسر وكان شاعرًا، فسألهم أن يدخلوه في عدة من يسألون. فكلموا الملك فيه وفي الأسرى، فوهبهم لهم، وأبقى الملك بعض أفراد الوفد رهائن حتى يأتي الباقون برؤساء قومهم ليأخذ عليهم مواثيق الطاعة. فرجع الباقي إلى قومهم وأخبروهم الخبر، فاجتمعت ربيعة ومعد تحت راية "كليب بن ربيعة" "كليب وائل"، فسار ومعه "السفاح التغلبي" وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن تغلب، وقد جعله "كليب" على مقدمة معد، وأمر "كليب" أن توقد النار على خزاز، ليهتدوا

_ 1 العقد الفريد "6/ 97 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 420 وما بعدها".

بها. فلما سمعت مذحج باجتماع ربيعة، استعدت هي ومن يليها من قبائل اليمن للقتال، وساروا إليهم، فلما سمع أهل تهامة بذلك انضموا إلى ربيعة، وساروا كلهم إلى خزاز. فلما التقى الطرفان، اقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزمت مذحج شر هزيمة فيه1. ولياقوت الحموي رواية أخرى في سبب وقوع هذا اليوم، فهو يقول: إن مضر وربيعة اجتمعت على أن يجعلوا منهم ملكًا يقضي بينهم، فكلٌّ أراد أن يكون منهم، ثم تراضوا أن يكون من ربيعة ملك ومن مضر ملك، ثم أراد كل بطن من ربيعة ومن مضر أن يكون الملك منهم، ثم اتفقوا أن يتخذوا ملكًا من اليمن، فطلبوا ذلك إلى بني آكل المرار من كندة، فملكوا أولاد الحارث بن حجر الكندي عليهم، ثم ما لبثوا أن ثاروا عليهم وقتلوهم، فكان حديث يوم الكلاب. ولم يبق من ولد الحارث غير سلمة، فجمع جموع اليمن وسار ليقتل نزارًا، وبلغ ذلك نزارًا فاجتمع بنو عامر وبنو وائل، وتغلب وبكر، وبلغ الخبر كليب وائل، فجمع ربيعة، وقدم على مقدمته السفاح التغلبي، فكان يوم خزاز، وقد انتصر بنو نزار فيه على القبائل اليمانية2. وهذه الرواية قريبة جدًا من رواية "اليعقوبي" عن هذا اليوم3. وقد أشار "عمرو بن كلثوم التغلبي" إلى هذا اليوم، وافتخر به، كما افتخر بـ"كليب وائل"، وذكر أن قومه أعانوا نزارًا في محاربتهم اليمن في ذلك اليوم4. وذكر بعض أهل الأخبار أنه "لولا عمرو بن كلثوم ما عُرف يوم خزاز"5. وذلك لذكره له في شعره. وقد ذكر هذا اليوم عدد أخر من الشعراء منهم "زهير"6.

_ 1 ابن الأثير الكامل "1/ 243"، "1/ 312"، النقائض "1093" "بيفان"، العقد الفريد "5/ 245"، ابن الأثير "1/ 310" "المنيرية"، نقائض جرير والفرزدق "452"، الجمحي، الطبقات "31"، العقد الفريد "3/ 364"، أيام العرب "109". 2 البلدان "3/ 428 وما بعدها"، أيام العرب "109 وما بعدها". 3 اليعقوبي "1/ 184". 4 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص130" ابن الأثير الكامل "1/ 312". 5 البكري، معجم ما استعجم "2/ 496" "باب حرف الخاء" العقد الفريد "6/ 97 وما بعدها". 6 شهدت الوافدين على خزاز ... وبالسلان جمع ذا ثواه البكري ومعجم "2/ 496".

والسفاح التغلبي، وهو سلمة بن خالد بن الجرارين للجيوش، وقد قاد قومه يوم كاظمة، وقيل له السفاح؛ لأنه سفح المزاد أي صبَّها في ذلك اليوم حتى يقاتل قومه قتال المستميت، وكان من خطباء حرب بكر وتغلب1. وذهب بعض أهل الأخبار إلى أن يوم خزاز هو "أعظم يوم التقت فيه العرب في الجاهلية"2. وهو رأي يعبر عن وجهة نظر العدنانيين بالطبع، ففي هذا اليوم انتصرت نزاز ومن انضم إليها من قبائل مذحج ومن انضاف إليها من قبائل اليمن ولم يسبق لقبائل نزار، وهي مضر وربيعة وبقية معد أن تغلبت على القبائل الكبرى المنظمة المنتمية إلى اليمن. فكان يوم نصرها هذا من أعظم الأيام عندها، بعث فيها روح المقاومة والاعتماد على النفس في مقاومة القبائل القوية التي تنسب نفسها إلى اليمن. وإذا أخذنا برأي القائلين: إن يوم خزاز كان عقب يوم السلان، يكون هذا اليوم قد وقع أيام النعمان بن المنذر، أي في أواخر أيام المناذرة وفي النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، إذا يذكر الأخباريون أن سببب وقوع يوم السلان هو أن بني عامر بن صعصعة كانوا قومًا حمسًا، أي متشددين في دينهم، لقاحًا لا يدينون للملوك, وكان من عادة النعمان بن المنذر أن يجهز كل عام لطيمة لتباع بعكاظ، فتعرَّض لها بنو عامر، فغضب النعمان، وبعث عليهم وَبْرة الكلبي أخاه لأمه ومعه الصنائع والوضائع وجماعة من بني ضبة بن أد والرباب وتميم، وانضم إليهم ضرار بن عمرو وأولاده، وهم فرسان شجعان، وحبيش ابن دلف، وطلب منهم أن يذهبوا إلى عكاظ فإذا فرغوا من البيع، وانسلخت الأشهر الحرم، قصدوا بني عامر بنواحي السلان. فلما فرغوا من عكاظ. علمت بخطتهم قريش، وأرسل عبد الله بن جُدعان قاصدًا أخبر بني عامر بغرض القوم، فحذروا وتهيئوا للحرب. وتحرزوا ووضعوا العيون، وسلموا قيادتهم لفارس شهير معروف هو عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة، فلما التقوا تغلبوا على قوة النعمان وهزموها، وأخذوا وبرة أسيرًا. ولم يفكوه من أسره إلا بألف بعير وفرس3.

_ 1 الاشتقاق "ص203"، المحبر "ص300". 2 البلدان "3/ 428 وما بعدها". 3 البلدان "5/ 104"، "يوم السلان"، ابن الأثير، الكامل "1/ 268".

ويدخل يوم الكلاب الثاني في عداد هذه الأيام. وقد وقع عقب يوم الصفقة، وقع بين تميم وبني سعد والرباب وبين مذحج ومن التلف حولها من قبائل اليمن. فلما بلغ مذحج ما حل بتميم بالمشقر وبهجر بعد الصفقة، وما سمعته من تخوفهم من انتقام كسرى مرة ثانية منهم ومن دوران العرب عليهم، مشى رجال مذحج بعضهم إلى بعض، وقالوا: اغتنموا بني تميم، ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن وأحلافها من قضاعة، ثم سألت مذحج كاهنها المأمور "الحارثي" في أمر هذا الهجوم فنهاها، ولكنها لم تأخذ برأيه، بل سارت طامعة في تميم، وقد جمعت اثنى عشر ألف مقاتل، من مذحج وهمدان وكندة: وهو أعظم جيش أخرجه العرب كما يقول علماء الأخبار1. وكان من رجالهم يزيد بن عبد المدان، ويزيد ابن المخرم، ويزيد بن الكيشم "الكيسم" "اليكسم" بن المأمور "المأموم"، ويزيد بن هوبر. وهم كلهم حارثيون، ومعهم عبد يغوث الحارثي، وأقبلت بنو سعد والرباب. ورئيس الرباب النعمان بن جساس ورئيس سعد بن قيس بن عاصم، والتقت في أوائل الناس بجموع مذحج وهمدان وكندة، واختلطوا واقتتلوا قتالًا شديدًا انتهى في آخر النهار بمقتل "النعمان بن جساس". وقد دفع مقتله بني تميم على الثبات والوقوف للأخذ بالثأر، حتى تمكنت من الانتقام لنفسها، بأن انتصرت على اليمن. فأسر "عبد يغوث بن وقاص الحارثي"، "عبد يغوث ابن صلأة الحارثي" سيد "بني الحارث"، وقتل خمسة من أشراف اليمن، وأخذت الرباب "عبد يغوث" وقتلته بقتل "النعمان بن جساس". وهكذا انتهى هذا اليوم بفوز بن تميم. وكان رئيسها في هذا القتال: قيس بن عاصم، ويسمى الكلاب الثاني: يوم جز الدوابر2. ودعاه "ابن رشيق القيرواني" بـ"يوم الشعيبة"3. ونعت بعض أهل الأخبار اليزيديين الأربعة المذكورين وهم قادة القوم: يزيد بن هوبر، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المأموم، ويزيد بن المخرم،

_ 1 "فلا يعلم جيش في الجاهلية كان أكبر منه"، العقد الفريد "6/ 78 وما بعدها". 2 النقائض "1/ 452 وما بعدها" "بيفان" العقد الفريد "6/ 78 وما بعدها"، البكري، معجم ما استعجم "4/ 1132"، النقائض "2/ 1075"، ابن الأثير الكامل "1/ 379"، العقد الفريد "5/ 225"، نهاية الأرب "15/ 406 وما بعدها". 3 العمدة "2/ 206".

بـ"أربعة أملاك"1. ويدل ذلك على أنهم كانوا يلقبون بلقب ملك، وأن "بني الحارث" كانوا قد نصبوهم عليهم، وإن كان لقب "ملك" لا يتجاوز في الواقع لقب "شيخ" في عرف هذا اليوم. وكان من أبرز رجال تميم في هذا اليوم سبعة من رؤسائهم، هم: أكثم بن صيفي، والأحيمر "الأعيمر" بن يزيد بن مُرة المازني، وقيس بن عاصم المنقري، وأبير بن عصمة التيمي، والنعمان بن جساس "الحسحاس" التيمي، وأَبين بن عمرو السعدي، والزبرقان بن بدر السعدي2. وبرز فيه اسم "مصاد بن ربيعة بن الحارث"، و"عصمة بن أبير التيمي" وهو الذي أسر "عبد يغوث" و"قبيصة بن ضرار الضبي"، وهو الذي شد على "ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن" فطعنه وخر صريعًا، فقال له قبيصة: ألا أنبأك تابعك بمصرعك اليوم3. وأما "الكلاب الأول"، فكان لسلمة بن الحارث بن عمرو المقصور، ومعه: بنو تغلب والنمر بن قاسط، وسعد بن زيد مناة والصنائع، على أخيه "شرحبيل ابن الحارث بن عمرو"، ومعه بكر بن وائل بن حنظلة بن مالك، وبنو أسد، وطوائف من بني عمرو بن تميم، والرباب، فقتل "شرحبيل"، قتله "أبو حنش عاصم بن النعمان الجشمي" ويقال: بل قتله "ذو الثنيّة حبيب ابن عُتبة الجشمي" 4. ومن هذه الأيام يوم "فيف الريح"، وهو موضع بأعلى نجد، وقع بين مذحج وعامر, وسببه أن "بني عامر" كانوا يطلبون "بني الحارث بن كعب" بأوتار كثيرة، فجمع لهم الحصين بن يزيد الحارثي، وكان يغزو بمن تبعه من قبائل مذحج وأقبل في بني الحارث وجُعْفي، وزبيد، ومراد، وقبائل سعد العشيرة، ومراد، وصداء، ونهد، واستعانوا بقبائل خَثعم وعليهم أنس بن مدرك، فخرج شهران وناهس وأكلب عليهم أنس بن مدرك، وأقبلوا يريدون بني عامر، وهم منتجعون "فيف الريح"، ومع مذحج النساء والذراري، حتى لا يفروا، إما ظفروا وإما ماتوا جميعًا. فاجتمعت بنو عامر كلها إلى

_ 1 نهاية الأرب "15/ 408". 2 نهاية الأرب "15/ 407"، أيام العرب "124". 3 نهاية الأرب "15/ 410". 4 العمدة "2/ 206" "ط. محمد محيي الدين عبد الحميد".

عامر بن الطفيل "عامر بن مالك ملاعب الأسنة"، والتقى الجمعان في قتال لم يعط نصرًا بينًا لأحد الطرفين، إذ وقع القتل في الفريقين، ولم يستقل بعضهم عن بعض غنيمة، وكان الصبر والشرف لبني عامر. وممن قتل أو جرح فيه: الصُميل بن الأعور الكلابي، وحسيل بن عمرو الكلابي، وخليف بن عبد العزى النهدي، وكعب الفوارس بن معاوية بن عبادة بن البكاء، وعامر بن الطفيل1. ومن أيام القحطانيين مع العدنانيين "يوم ظهر الدهناء". كان أوس بن حارثة بن لأم سيدًا في قومه طيء، مطاعًا فيهم، جوادًا معروفًا، حباه النعمان ابن المنذر حلة على العادة المتبعة عند ملوك الحيرة في تكريم الرؤساء الذين يفدون عليهم، وفضله على غيره، بأن طلبه وكان غائبًا دون قوم من السادة الأشراف, فاغتاظ حساده من ذلك وأوعزوا إلى بعض الشعراء بهجائه، فهجاه بشر بن أبي خازم وهو من بني أسد، وأسرف في هجائه، فاغتاظ أوس من ذلك، وجمع قومه من طيء، وأوقع ببني أسد بظهر الدهناء، وقتل منهم قتلًا ذريعًا، فانهزمت منه، وهرب بشر، فجعل لا يأتي حيًّا يطلب جوارهم إلا امتنع من إجارته على أوس إلى أن التجأ إلى أم أوس، فأجارته، وأجاره أوس عندئذ، وعفا عنه، ومن عليه وأعطاه وحباه، فانقلب مادحًا له2. والأيام التي ذكرها الأخباريون عن حروب العدنانيين مع ملوك اليمن للحصول على استقلالهم، قليلة، ولا يعني حكم اليمن للعدنانيين أن تبابعة اليمن كانوا يحكمون تلك القبائل حكمًا مباشرًا، وإنما هو في الواقع وكما يظهر من غربلة هذه الروايات حكم كان يتسع ويتقلص تبعًا لقدرة الحكام وشخصياتهم، ولاتفاقاتهم مع سادات تلك القبائل؛ ولأن القبائل العدنانية هي قبائل بدوية في الغالب لا تستقر على حال، ومن طبع البداوة التنازع والتخاصم. ثم إن سادات القبائل كانوا كما هو شأنهم في كل وقت متنافسين متخاصمين، لذلك وجد ملوك اليمن، وهم ملوك

_ 1 الميداني "2/ 308"، الأغاني "5/ 21"، البلدان "6/ 413"، النقائض "469"، العقد الفريد "3/ 359"، ذيل الأمالي "146"، أيام العرب "132"، نهاية الأرب "15/ 414 العمدة "2/ 413". 2 راجع ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي، تحقيق الدكتور عزة حسن، دمشق 1960 ابن الأثير الكامل "1/ 262", بلوغ الأرب "1/ 84", ابن الأثير "1/ 382", الشعر والشعراء "86"، أيام العرب "137 وما بعدها".

شعب أكثريته مستقرة، من السهل عليهم التدخل في شئون تلك القبائل بتأييد هذا الرئيس على منافسه، وبتعيين رئيس من رؤساء القبائل الكبيرة على قبيلة أو جملة قبائل أخرى ضعيفة أو متخاصمة، لتهيئة الحال وإقرار الأمن. فصار من العادة بين القبائل العدنانية، بل بين القبائل القحطانية كذلك، أو بين كبار سادات القبائل، أن يلجئوا إلى التبابعة للتدخل في الخصومات وإقرار الأمن بالحكم بين المتخاصمين، أو بتعيين رجل محترم كبير من اليمن أو من غير اليمن عليهم. ونجد بين روايات الأخباريين روايات تؤيد هذا الرأي. ويدخل الأخباريون في أيام العدنانيين مع القحطانيين الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية وبين ملوك الحيرة لاعتدادهم من قحطان. وكذلك يدخل أهل الأخبار في أيام القحطانية مع العدنانية الأيام التي وقعت بين ملوك بني سليح والغساسنة من بعدهم وبين القبائل العدنانية، والأيام التي وقعت بين كندة وبين القبائل العدنانية. وإذ أسلفت الكلام على أيام تلك الحكومات مع القبائل العدنانية في المواضع المناسبة، فإني أكتفي بالإشارة إليها، على أمل الرجوع إلى تلك الأماكن لمن يريد الوقوف عليها. أما أشهر أيام القحطانيين، فالأيام التي وقعت بين المناذرة والغساسنة، والأيام التي وقعت بين هؤلاء الملوك وملوك كندة وأمرائها. ثم الأيام التي وقعت بين القبائل المنتسبة إلى اليمن، مثل الأيام التي وقعت بين الأوس والخزرج، والأيام التي وقعت بين قبائل طيء، وأمثال ذلك. ولما كنت قد تحدثت عن معظم هذه الأيام، فسأكتفي بما تحدثت عنها، وأتحدث عن النابه من بقية الأيام فقط مما لم أتحدث عنه سابقًا. وتؤلف الأيام التي وقعت بين القبائل العدنانية الجزء الأكبر من أيام العرب، وهي أهمها وأغناها بالشعر والأمثال والقصص. وكان لتميم وبكر وتغلب أثر خطير فيها. وأشهر هذه الحروب، الحرب المسماة بحرب البسوس، وقعت بين بكر وتغلب ودامت أربعين عامًا على ما يذكره الأخباريون. وتغلب وبكر هما من قبائل ربيعة، لذلك تكون حرب البسوس من الحروب التي وقعت بين قبائل ربيعة؛ لأن أيام العدنانيين هي أيام وقعت بين قبائل ربيعة وحدها، وأيام وقعت بين قبائل من ربيعة وقبائل من مضر، وأيام وقعت بين

قبائل مضر1. وذكر بعض أهل الأخبار أن أشهر أيام بكر وتغلب، خمسة أيام مشاهير. أولها يوم عنيزة وتكافئوا فيه، والثاني يوم واردات، وكان لتغلب على بكر. والثالث يوم الحنو، وكان لبكر على تغلب. والرابع يوم القصيبات، وكان لتغلب على بكر. والخامس يوم قضة، وهو آخر أيامهم، وكان لبكر. وفيه أسر مهلهل من ربيعة2. وتولد من هذه الحرب قصص وشعر. نسب إلى أبطال الأيام التي وقعت فيها، وأمثلة ذُكر أنها قيلت في المناسبات، صارت على العادة أمثلة شائعة بين الناس3. وليست حرب البسوس في الواقع حربًا واحدة، إنما هي حروب عدة وقعت في تلك المدة المذكورة, وفي أوقات متقطعة إلى أن انقطعت بوساطة المنذر بن ماء السماء وتدخله بين الفريقين. والذي أثار نيران هذه الحرب هو جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان أخو "جليلة" امرأة كليب بن ربيعة سيد قبيلة تغلب، وذلك بقتله كليبًا؛ لأنه أدمى ضرع ناقة للبسوس خالة جساس، إذ كانت ترعى في أرض حماها كليب ومنع الرعي فيها إلا لإبله. وقد أثار عمل كليب هذا غضب جساس، فقتله، وثارت بذلك الحرب بين تغلب وبكر قوم جساس. وكليب بن ربيعة، أو "كليب وائل" كما يعرف عند بعض أهل الأخبار، هو وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو

_ 1 المعارف "605 وما بعدها"، المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء "1/ 95 وما بعدها"، الشعر والشعراء "99 وما بعدها"، العقد الفريد "5/ 213 وما بعدها"، سبائك الذهب "105"، مقامات الحريري "260"، الأغاني "4/ 139 وما بعدها"، فرائد اللال في مجمع الأمثال، لإبراهيم بن السيد على الأحدب الطرابلسي، "1/ 319 وما بعدها"، "المطبعة الكاثوليكية، بيروت"، صبح الأعشى "1/ 391 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 312"، نهاية الأرب "15/ 396". 2 الشعر والشعراء "166". 3 الأغاني "4/ 140 وما بعدها"، أبو تمام، الحماسة "420 وما بعدها"، مجمع الأمثال "1/ 342"، النقائض "773"، شيخو: شعراء النصرانية "151، 160، 246، 270"، نهاية الأرب "15/ 396 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 241 وما بعدها" Ency. I, P.674

ابن غنم بن تغلب1. رجل صلب قوي، تمكن بمواهبه وبقدرته من السيطرة على قبائل ليست السيطرة عليها بأمر سهل يسير، ومن إقامة نفسه ملكًا عليها، ومن أخذ الإتاوة من القبائل، ومن الانتصار على قبائل اليمن في يوم خزاز. وبقي على ذلك دهرًا، حتى داخله: زهو شديد، فأخذ يبغي على القبائل ويشتط في أخذ الإتاوة منها وفي اتخاذ خيرة الأرضين المخصبة أحماء لا يجوز لإبل غيره الرعي فيها، ولا الاستيلاء على مواضع الماء، حتى ضجرت الناس منه، فكانت نتيجتة ما تقدم2. وأخذ المهلهل "واسمه عدي بن ربيعة"، وهو أخو كليب على نفسه عهدًا بأن يترك النساء، والغزل، والقمار، والشراب، حتى يثأر بقتل أخيه، وجمع قومه، ووقعت حروب. ومهلهل هذا هو أول من هلهل الشعر، أي أرقه على حد رواية أهل الأخبار3. وقد أقام أصحاب "كليب" قبة رفيعة على قبره، تكريمًا له4. شأن الجاهليين في ذلك الزمن من إقامة القباب على قبور الكبار. وفي جملة الأيام التي يدخلها أهل الأخبار في حرب البسوس: يوم النهي، ويوم الذنائب، ويوم واردات، ويوم عنيزة، ويوم القصيبات، ويوم تحلاق اللمم5. وكما كان كليب سيد تغلب، كذلك كان زهير بن جذيمة العبسي سيد قيس عَيْلان، وقيس عيلان قبائل كبرى عديدة. كان لها شأن بين القبائل وخطر، ترأس غطفان، وقادها كلها وساد على عبس وذبيان، ولمكانته هذه ولسؤدده تزوج إليه النعمان بن امرئ القيس ملك الحيرة، فتوسع بذلك نفوذه وعظمت منزلته عند القبائل، ولا سيما القبائل المتصلة به والقبائل الخاضعة لملوك الحيرة.

_ 1 للأخباريين أقوال في سبب تسميته بكليب، راجع عن ذلك: الكامل، لابن الأثير "1/ 214"، الاشتقاق "ص204". 2 ابن الأثير "1/ 214 وما بعدها"، العقد الفريد "راجع فصل أيام العرب"، النقائض "905 وما بعدها"، الميداني "1/ 254"، خزانة الأدب "1/ 301 وما بعدها". 3 نهاية الأرب "15/ 398 وما بعدها". 4 أيام العرب "165". 5 ابن الأثير "1/ 183"، العقد الفريد "3/ 348"، البلدان "1/ 139"، الأغاني "5/ 132" مجمع الأمثال "1/ 342"، خزانة الأدب "1/ 425"، أيام العرب "142".

واتفق أن أحد أولاد زهير -واسمه شأس- كان عائدًا من زيارته للنعمان ومعه هدايا ثمينة وألطاف فاخرة حباه بها النعمان، فطمع به رجل من غني اسمه "رياح بن الأسك الغنوي" وقتله بموضع منعج. فلما علم بذلك أبوه، أخذ بقتل كل من وقعت عليه يده من غني. وغزت بنو عبس غنيًّا ومعها الحصين بن زهير أخو شأس، فطلبت غني من رياح ترك أرضها والارتحال عنها، وصار هذا القتل سببًا لإثارة البغضاء بين عبس وغني لما أوقعه زهير بغني من القتل1. ويوم منعج ويسمى أيضًا بـ"يوم الردهة"2، من الأيام التي وقعت بين قبائل قيس. ومن هذه الأيام: يوم النفراوات "النفرات"، ويوم بطن عاقل وداحس والغبراء، والرقم، والنتاءة، وحوزة الأول، وحوزة الثاني، واللوى3. وكان زهير يأخذ الإتاوة من هوازن كرهًا، تدفعها إليه كل عام بسوق عُكاظ وهي مكرهة. وكانت هوازن تعترف بسيادته عليها وتعتبره ربًا، وهي يومئذ لا خير فيها، وإنما هي رعاة الشاء في الجبال. فإذا كانت أيام عكاظ. أتاها زهير، ويأتيها الناس من كل وجه، فتأتيه هوازن بالإتاوة التي عليهم، فيأتونه بالسمن والأقط والغنم، ثم إذا تفرق الناس نزل بالنفراوات. فلما كان الدفع، ذهب زهير على عادته لأخذ الإتاوة، انتهز "خالد بن جعفر بن كلاب" هذه الفرصة، فذهب إلى هوازن، وحرضها على زهير. فلما بلغ زهير أطراف بلاد هوازن، باغته خالد بن جعفر ومعه جمع من هوازن، فقتل زهير، ورجع به أبناؤه إلى بلادهم ليدفنوه. وقد عرف اليوم الذي قتل فيه زهير بيوم النفراوات4. وعزمت غطفان على الأخذ بثأر زهير من خالد، فخاف خالد على نفسه منها، وفرَّ إلى الحيرة ليستجير بالنعمان في رواية، أو بالأسود بن المنذر في رواية أخرى. عندئذ تعهد الحارث بن ظالم المري. وهو فاتك معروف. لبني زهير بقتل خالد إذا كفت غطفان عن هوازن. وقد برَّ بوعده، إذ اغتاله وهو في قبة كان

_ 1 الأغاني "10/ 8"، مجمع الأمثال "2/ 268"، ابن الأثير، الكامل "1/ 337"، نهاية الأرب "15/ 344 وما بعدها". 2 نهاية الأرب "15/ 344 وما بعدها". 3 أيام العرب "229". 4 "النفرات" "النفراوات"، نهاية الأرب "15/ 346"، الأغاني "11/ 84 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية"، العقد الفريد "6/ 5 وما بعدها".

النعمان قد أمر بنصبها له. وذلك ببطن عاقل، فعرف اليوم به1. فلما علم بذلك النعمان، أمر بطلبه ليقتله بجاره، وأخذت هوازن تطالب به لتقتله بسيدها خالد. ففر الحارث إلى بني دارم من تميم، واستجار بضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن، فأجاره ضمرة على النعمان وهوازن، فكان ذلك سببًا لتجهيز النعمان جيشًا على بني دارم انتقامًا منها لتجاسرها على إيواء من يطلب قتله. وورد في رواية أخرى أن لجوء "الحارث بن ظالم" كان إلى "معبد بن زرارة"، وأن بني تميم استاءت من لجوئه إليه؛ لأنه أوى هذا المشئوم الأنكد، وأغرى بهم الأسود ملك الحيرة، وخذلوه غير بني ماوية وبني عبد الله بن دارم2. وجاء في خبر أن "الحارث بن ظالم" كان عند "حاجب بن زرارة بن عدس بن عبد الله بن دارم". وقد وعده النصرة والمنعة، وبلغ الأحوص بن جعفر الكلابي أخو خالد بن جعفر، مكان الحارث بن ظالم، فسار على تميم, حتى أدركها بـ"حرحان"، فاقتتلوا اقتتالًا شديدًا، وانهزمت بنو تميم، وأسر معبد بن زرارة، أسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب. فوفد لقيط بن زرارة في فدائه، وعرض عليهما مئتى بعير في فدائه، فامتنعا قائلين: أنت سيد الناس، وأخوك معبد سيد مضر، فلا تقبل فيه إلا دية ملك. فأبى أن يزيدهم، ورحل لقيط عن القوم ومنع بنو عامر معبدًا عن الماء وضاروه حتى مات هزالًا. وورد في رواية أنه أبي أن يطعم شيئًا أو يشرب حتى مات هزالًا3. وأمر النعمان جيشه بالتوجه إلى بني دارم، وانضم إليه الأحوص بن جعفر أخو خالد، ومعه جمع بني عامر، للانتقام من الحارث قاتل خالد. فعلمت بنو دارم بمجيء الجيش, واستعدوا للقتال، فلما التقى الجمعان، قتلت بنو مالك ابن حنظلة "ابن الخمس التغلبي" رئيس جيش النعمان، وصبرت بنو دارم، وأقبل قيس بن زهير فيمن معه، فانهزمت بنو عامر، وانهزم جيش النعمان, وعادوا إلى ديارهم، وكان رئيس بني دارم زرارة بن عدس سيد بني تميم.

_ 1 نهاية الأرب "15/ 348". 2 نهاية الأرب "15/ 349". 3 العقد الفريد "3/ 360"، الأغاني "10/ 30"، ابن الأثير "1/ 341"، النقائض "1/ 214"، نهاية الأرب "15/ 349" وما بعدها.

وهناك روايات أخرى عن هذا الحادث وعن الحارث ذكرتها في الفصول السابقة1. وصارت الرئاسة إلى قيس بعد مقتل والده "زهير بن جذيمة العبسي"، ويصفة الأخباريون بجودة الرأي وبحسن التجارب، ويقولون: إنه لذلك عرف بـ"قيس الرأي"، ويذكرون له في ذلك أقوالًا وحكمًا ونصائح، ويروون طائفة من ذلك، ولا سيما مما قاله في مناسبات حرب داحس والغبراء. ويذكر أهل الأخبار أن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي، كان قد سار إلى المدينة ليتجهز لقتال عامر، والأخذ بثأر أبيه، فأتى "أحيحة بن الجُلاح" ليشتري منه درعًا موضونة، فقال له: لا أبيعها، ولولا أن تذمني بنو عامر لوهبتها منك، ولكن خذها بابن لبون. ففعل ذلك، وأخذ الدرع، ووهبه أحيحة أدراعًا، وعاد قيس إلى قومه، فاجتاز بالربيع بن زياد العبسي، فدعاه إلى مساعدته على الأخذ بثأره، فأجابه إلى ذلك. فلما أراد فراقه، نظر إلى عيبته فقال: ما في حقيبتك؟ قال: متاع عجيب، لو أبصرته لراعك، وأناخ راحلته، وأخرج الدرع، فأخذها ومنعها من قيس، ولم يعطه إياها، وترددت الرسل بينهما. فلما طالت الأيام على ذلك، سيّر قيس أهله إلى مكة، فأغار قيس على نعم الربيع، واستاق منها أربعمائة بعير، وسار بها إلى مكة وباعها إلى عبد الله بن جدعان واشترى بها خيلًا، وتبعه الربيع فلم يلحقه، فكان فيما اشترى من الخيل داحس والغبراء2. وقد اقترن اسم قيس بهذه الحرب الشهيرة التي يتناقل الناس قصصها الطريفة حتى اليوم، وهي حرب ثارت بين عبس وذبيان بسبب اختلاف على سباق خيل كان قد تراهن عليه حذيفة بن بدر بن فزارة سيد ذبيان وقيس بن زهير، اشتركت فيه خيار خيل قيس وحذيفة وفي مقدمتها داحس والغبراء والخطار والحنفاء. وقد ادعى كل واحد من المتنافسين أن فرسه كان السابق، وأنه هو الكاسب للرهان في قصص طويل يتخلله شعر وكلام وجواب. وانتهى النزاع إلى ما ينتهي إليه

_ 1 ابن الأثير "1/ 229 وما بعدها"، الأغاني "8/ 10"، مجمع الأمثال "2/ 268"، العقد الفريد "6/ 7 وما بعدها". 2 ابن الأثير، الكامل "1/ 343 وما بعدها".

كل نزاع من هذا القبيل، وهي الحرب1. وهي حرب استمرت سنتين، قتل فيها حذيفة بن بدر وعدة رؤساء، واشتركت فيها شيبان وضبّة وأسد وغطفان وقبائل أخرى، كما ساهم فيها ملك هجر، وامتدت إلى أن اتصلت بالإسلام. وللشاعر زهير بن أبي سلمى ذكر فيها. ولم تنته إلا بتوسط الرؤساء حيث سويت بدفع الديات، وبإنهاء تلك الحرب التي شغلت تلك القبائل وأقلقت الأمن لذلك السبب التافه على زعم قول الرواة2. وفي جملة حروب داحس والغبراء، يوم العذق، وهو ماء، انهزمت فيه فزارة، وقتُلوا قتلًا ذريعًا، وأسر حذيفة، فاجتمعت غطفان وسعت للصلح. فاصطلحوا على أن يهدر دم بدر بن حذيفة بدم مالك أخي قيس، وتساووا فيما بقي، فأطلق حذيفة من أسره. ثم وقعت حرب أخرى، مثل يوم "البوار"، وكان الفوز فيه لعبس على فزارة وأسد وغطفان، ويوم الهباءة، ويوم الجراجر، إلى غير ذلك من أيام3. ولامتداد هذه الحرب سنين عديدة، وانتشارها خارج نطاق حدود قبيلتي عبس وذبيان، شملت أرضين واسعة، تخللتها جملة أيام لها أسماؤها. وهي بالطبع كلها من أيام هذا الحرب: حرب داحس والغبراء. وإذا قرأت قصة داحس والغبراء، قرأت قصص شجاعة بطل مغوار أظهر

_ 1 الأغاني "11/ 86 وما بعدها" "دار الكتب" "16/ 24 وما بعدها" "17/ 123" "دار الثقافة، بيروت"، العقد الفريد "5/ 151"، البلدان "1/ 205" "بيروت" البكري معجم "3/ 1396"، المعارف "606"، ابن الأثير، الكامل "1/ 343" "الطباعة المنيرية" الأغاني "17/ 123" "دار الثقافة بيروت"، المختصر في أخبار البشر, لأبي العداء "1/ 97" "دار الكتاب اللبناني" البداية والنهاية، لابن كثير، "3/ 155" ابن خلدون المجلد الثاني "632"، العقد الفريد "5/ 150" "لجة التأليف"، اللسان "6/ 77" "بيروت 1956م"، نهاية الأرب "15/ 356 وما بعدها". 2 ديوان عنترة بن شداد "ص151"، التبريزي، شرح ديوان الحماسة "1/ 297"، المعلقات السبع، للزوزني "89"، الأمثال "2/ 51"، العقد الفريد "3/ 313"، ابن هشام "1/ 182"، ابن الأثير "1/ 343 وما بعدها" "الطباعة المنيرية"، نهاية الأرب "15/ 356"، شرح ديوان عنترة "83 وما بعدها" "عبد المنعم" شرح القصائد العشر، للتبريزي "213" "مطبعة السعادة 1964"، ديوان زهير ابن أبي سلمى، نهاية الأرب "15/ 356 وما بعدها، الأغاني "11/ 86 وما بعدها" النقائض "1/ 299". 3 ابن الأثير "1/ 258 وما بعدها".

شجاعة فائقة في هذه الحرب، وكان له فيها شعر، هو عنترة بن شداد العبسي، وقصص شجاعة عنترة معروفة حتى اليوم، مشهورة، يسمعها الناس بشوق ورغبة، وهي عندهم أشهر من قصص داحس والغبراء: هذه الحرب التي خلد اسمها هذا الشعر وأمثاله. وفي يوم الرقم، غزت بنو عامر غطفان وعليهم عامر بن الطفيل شابًا لم يرأس بعد، فخرجت إليهم بنو مرّة بن عوف، وأشجع، وناس من فزارة، وكلهم من غطفان، فقاتلوا بني عامر، وتغلبوا عليهم. وفرّ عامر بن الطفيل، وشنق الحكم بن الطفيل نفسه، ليتخلص بذلك من الأسر. ويروي الأخباريون لعروة ابن الورد وللنابغة الذبياني ولعامر بن الطفيل شعرًا ذكروا أنهم قالوه في هذا اليوم1. وقد منيت بنو عامر بهزيمة أخرى يوم النتاءة، وكانت قد خرجت إلى غطفان تريد الأخذ بثأرها من هزيمة يوم الرقم، فأغارت على نعم بني عبس وذبيان وأشجع فأخذوها، فتعقبتها عبس وأشجع وفزارة حينما عادوا بالغنائم، والتحموا بها، وأوقعوا بها هزيمة كبيرة، وقتلت كثيرًا منهم، ونجا عامر بن الطفيل بفرسه المشهور المسمى الورد2. وقد منيت بنو عامر بهزيمة أخرى يوم شواحط الذي وقع بين بني عامر وبني محارب بن خصفة، وذلك حينما أغارت جماعة من بني عامر على بلاد غسان3. ويعد عامر بن الطفيل من فرسان العرب المشاهير. وهو من المعاصرين للرسول، وقد تعرض لنفر من أصحاب رسول الله كان الرسول قد أرسلهم بناء على رغبة "أبي براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب" ملاعب الأسنة. وكان سيد بني عامر بن صعصعة، وذلك ليعلموا أهل نجد الإسلام ويفقهوهم في الدين. وقد تعهد للرسول بأن يحميهم، وأن يكونوا في جواره. فلما بلغ النفر "بئر معونة"

_ 1 خزانة الأدب "3/ 70"، المفضليات "ص30"، العقد الفريد "6/ 25 ", "يوم الرقم"، سبائك الذهب "117"، نهاية الأرب "15/ 364". 2 ابن الأثير "1/ 395"، الأغاني "10/ 313"، العقد الفريد "6/ 26"، نهاية الأرب "15/ 364". 3 العقد الفريد "6/ 27"، نهاية الأرب "15/ 365".

عدا عليهم "عامر بن الطفيل" فقتلهم، واستاء من ذلك أبو براء1. ووقعت بين سُليم وغطفان حرب بسبب مقتل معاوية بن عمرو بن الشريد السُلمي، يوم حَوْزة الأول. وكان سبب هذا اليوم تأثر معاوية من كلام امرأة من بني مُرّة كانت جميلة وسيمة دعاها لنفسه، وقد رآها بعكاظ، فامتنعت، فغزا لذلك بني مُرة. فلما علمت بنو مرة بقدومه عليهم، تجهزوا له وقتلوه2. فقرر صخر بن عمرو الشريد السُلمي الانتقام من قتلة أخيه، فأغار على بني مرة في يوم حوزة الثاني, وقتل دريد بن حرملة أخا هاشم بن حرملة رئيس بني مرة. ثم قتل رجل من بني جشم هو عمرو بن قيس الجشمي هاشم بن حرملة، فاستراحت بذلك بنو سُليم، وسرّت الخنساء بمقتل هاشم، ولها شعر كثير في رثاء أخويها معاوية وصخر3. وقد توفي صخر على أثر إصابته بجرحٍ ظل يفتك به مدة طويلة، أصيب به في غزوة غزا بها بني أسد بن خزيمة. فتعقبته بنو أسد لتخلص إبلها منه، وكان قد اكتسحها منهم في هذا الغزو، فلما كان في موضع ذات الأثل، لحقت به وجرحته فقضي هذا الجرح عليه4. ومن أيام هوازن وغطفان يوم اللوى، وقد قتل فيه عبد الله بن الصمة أخو دريد بن الصمة. وكان عبد الله قد غزا مع بني جشم وبني نصر أبناء معاوية بن بكر بن هوازن غطفان، فظفر بهم وساق أموالهم، وبينما كان عائدًا بغنائمه، فاجأته عبس وفزارة وأشجع في موضع اللوى، فقتلوه واستعادوا ما كان قد غنمه منهم، وجرح دريد أخوه، فلما شفي دريد من جرحه، أغار على غطفان لينتقم منها لمقتل أخيه، وقتل رجالًا منهم، واستاق جملة أسرى. وقد عرف هذا اليوم بيوم الغدير5.

_ 1 الطبري "2/ 245 وما بعدها"، "خبر بئر معونة"، المحبر "234، 472"، الاشتقاق "180، 215". 2 العقد الفريد "6/ 28"، الأغاني "2/ 329"، "10/ 28"، "13/ 134"، شرح الحماسة للتبريزي "3/ 110"، نهاية الأرب "15/ 365". 3 العقد الفريد "6/ 29 وما بعدها"، الأغاني "13/ 140"، المبرد "2/ 281"، نهاية الأرب "15/ 367". 4 العقد الفريد "6/ 31"، نهاية الأرب "15/ 368". 5 الأغاني "10/ 6"، شرح التبريزي على الحماسة "ص305"، جمهرة أشعار العرب "ص226"، العقد الفريد "6/ 32 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 369".

ويذكر أهل الأخبار أنه قد كان بين "دريد بن الصمة" و"ربيعة بن مكدم" يومٌ عرف بـ"يوم الظعينة"، وكان دريد قد خرج في فوارس من "بني جُشَم" حتى إذا كان في وادٍ يقال له: "الأحزم" وهم يريدون الغارة على بني كنانة، رفع له رجل في ناحية الوادي ومعه ظعينة، فأرسل فرسانًا من فرسانه ليأتوا إليه بخبره، فلم يعودوا، فذهب "دريد" بنفسه إليه ليراه، فأخذ الرجل منه رمحه وخلى، ثم انصرف دريد إلى أصحابه، ثم لم تلبث "بنو كنانة" أن أغارت على بني جُشَم، فقتلوا وأسروا "دريد بن الصمة"، وكان الرجل الذي أخذ رمح دريد يوم الظعينة، هو "ربيعة بن مكدم", فلما سأل "دريد" وهو في الأسر عنه، قيل له: "قتلته بنو سليم"، ثم أطلق، وجهز، ولحق بقومه. فلم يزل كافًا عن غزو بني فراس حتى هلك1. ولدريد يوم مع غطفان عرف بـ"يوم الصلعاء" وقد انتصرت فيه هوازن على غطفان، وقتل فيه دريدٌ ذؤاب بن زيد بن قارب2. ودريد بن الصمة من الفرسان المعروفين كذلك، وقد ترأس قومه في عدة غزوات. ويعده الأخباريون في جملة البرص الأشراف، وهو ممن أدرك الإسلام3. و"ربيعة بن مكدم" فارس مشهور، وهو فارس بني كنانة، وبنو كنانة من أنجد العرب، عرفوا بالشجاعة حتى قيل: إن الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم. وصادف أن قتلت "بنو فراس" رجلين من بني سُلَيْم، فحقدت بنو سليم عليهم، فلما كان ظعن من بني كنانة بـ"الكديد"، وفيهم ربيعة بن مكدم، تلقاهم قوم من "بني سُليم"، فاقتتلوا معهم، وقتل ربيعة في ذلك اليوم. ولما دفن عقر على قبره، وكان "يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحد غيره"4. ولما قتلت بنو سليم "ربيعة بن مكدم"، غزا "مالك بن خالد بن صخر بن الشريد" سيد "بني سُليم" "بني كنانة". وكان بنو سُليم قد توجوا

_ 1 نهاية الأرب "15/ 370 وما بعدها". 2 نهاية الأرب "15/ 373". 3 المحبر "298 وما بعدها"، الاشتقاق "177 وما بعدها". 4 الكديد، بفتح أوله وكسر ثانية بعده دال مهملة، موضع بين مكة والمدينة، وهو ماء عين جارية عليها نخل كثير، نهاية الأرب "15/ 373"، الأغاني "14/ 129"، الأمالي "2/ 271"، العقد الفريد "3/ 324".

مالكًا وأمروه عليهم، حتى عرف بـ"ذي التاج". فأغار "ذو التاج" على "بني فراس" وهم من "بني كنانة" بـ"بزرة". وكان رئيس بني فراس "عبد الله بن جدْل"، فدعا "عبد الله" "ذا التاج" إلى البراز، فشدّ عليه وقتله1. وعرف هذا اليوم بـ"يوم فزارة" وبـ"يوم بزرة"2. ثم إن بني الشريد حرّموا على أنفسهم النساء والدهن أو يدركوا ثأرهم من كنانة فأغار "عمرو بن خالد بن صخر بن الشريد" بقومه على بني فراس، فقتل منهم نفرًا، وسبى سبيًا فيهم ابنه مكدم أخت ربيعة بن مكدم3. وتميم من القبائل التي يرد اسمها في الأيام. ومن هذه الأيام عدة أيام وقعت بينها وبين قبائل ربيعة, وأيام أخرى وقعت بينها وبين قيس. ومن أيامها مع قبائل ربيعة: يوم الوقيط ويوم ثَيتل "نَبتل"، ويوم جدود، ويوم زرود، ويوم ذي طلوح، ويوم الغبيط، ويوم قشاوة، ويوم زبالة، ويوم مبايض، ويوم الزورين، ويوم عاقل. أما يوم الوقيط، فكان بين اللهازم من ربيعة وبين تميم4. وأما "ثيتل"5 "نبتل"6 فيذكر مع يوم النباج أيضًا، وهما يومان متقاربان وقعا في موضعين متقاربين. وقد وقعا بسبب خروج قيس بن عاصم المنقري رئيس مقاعس بجماعته ومعه سلامة بن ظرب رئيس الأجارب لغزو بكر بن وائل. فلما وصلا إلى النباج وثيتل، وجدا اللهازم وبني ذهل بن ثعلبة وعجل بن لجيم وعنترة بن أسد بهذين الموضعين، فأغار قيس على أهل النباج واقتتل معهم، فانهزمت بكر، فعاد قيس بغنائم عديدة فوجد سلامة، وهو في موضعه لم يغر بعد على من بثيتل من ناس، فأغار قيس

_ 1 نهاية الأرب "15/ 374". 2 "بزرة" نهاية الأرب "15/ 374"، "بزرة" "بزر"، العقد الفريد "3/ 326"، أيام العرب "319". 3 نهاية الأرب "15/ 375". 4 العقد الفريد "6/ 44" "5/ 182 وما بعدها" "لجنة"، "3/ 330"، النقائض "ص305"، نهاية الأرب "15/ 379 وما بعدها"، "دار الكتب"، أيام العرب "172" ابن الأثير، الكامل "1/ 385"، الأمالي "1/ 6"، العمدة "2/ 251"، مراصد "1/ 295". 5 البلدان "3/ 30" "مادة ثيتل"، ابن الأثير "1/ 397". 6 "نبتل" هكذا في طبعة "العريان" للعقد الفريد "6/ 47"، وصوابه "ثيتل"، وأما "نبتل"، فموضع آخر لا علاقة له بهذا المكان.

عليهم، وسلّم ما غنمه إلى سلامة1. ووقع يوم جدود بسبب عزم الحارث بن شريك على غزو بني سليط بن يربوع. جمع الحارث بني شيبان وذهلًا واللهازم ثم سار بهم إلى أرض بني يربوع راجيًا مباغتتهم. ولكنه ما كاد يصل إلى بلادهم حتى شعروا به، وهاجوا عليه. فلم يتمكن من غزوهم، فتركهم وذهب نحو بني رُبَيْع بن الحارث بجدود، فأغار عليهم، وأصاب سبيًا ونعمًا. فبعث بنو ربيع صريخًا إلى بني كليب بن يربوع يطلب العون، فلم يجيبوهم، فذهب الصريخ إلى بني منقر بن عبيد، فركبوا في الطلب، ولحقوا بكر بن وائل واصطدموا بهم وانتصروا عليهم فرجعوا بأموال وغنائم وبما كانت بكر بن وائل سلبته من بني ربيع بن الحارث. وكان رئيس بني يربوع في هذا اليوم: قيس بن عاصم المنقري2. ويعد الحارث بن شريك بن الجرارين في ربيعة، ويعرف بالحوفزان3. وفي يوم ذي طلوح وقع أسيرًا في أيدي بني يربوع. فلما غزا مع قومه بني يربوع في هذا اليوم، كانت يربوع يقظة عارفة بعزم بكر، فأخذوا بكرًا على غرة، وسقط الحوفزان أسيرًا فجزت ناصيته ودفع مئتين من الإبل حتى فدى نفسه من الأسر4. وأما قيس بن عاصم المنقري، فهو من سادات "منقر" من تميم، ويعد من سادات أهل الوبر، ومن حلماء بني تميم، وممن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية5. ولما أغار حزيمة "خزيمة" بن طارق التغلبي على بني يربوع، وهم بزرود، واستاق إبلهم، كانت نتيجة غزوته هذه أن تعقب بنو يربوع أثره وأسروه،

_ 1 النقائض "1023"، العقد الفريد "6/ 47"، ابن الأثير "1/ 397"، البلدان "3/ 30"، "8/ 243"، البكري "4/ 1291"، "طبعة السقا"، مادة "النباج" و"ثيتل"، نهاية الأرب "15/ 381 وما بعدها"، أيام العرب "175 وما بعدها". 2 النقائض "124، 336"، ابن الأثير "1/ 372"، العقد "6/ 58"، البلدان "3/ 67"، سبائك الذهب "115"، نهاية الأرب "15/ 389" شرح المفضليات، لابن الأنباري "740". 3 المحبر "250، 304". 4 النقائض "47، 73، 481"، العقد الفريد "6/ 50"، ابن الأثير "1/ 389"، البكري "3/ 893"، "مادة ذي طلوح"، نهاية الأرب "15/ 383". 5 الاشتقاق "154".

واستنقذوا ما كان قد أخذ، ثم أسروه ولم ينج إلا بعد جز ناصيته ودفع مائة من الإبل1. وكان يوم "ذي طُلوح" وهو موضع في حَزْن بني يربوع بين الكوفة وفَيْد، لبني يربوع من تميم على بكر من ربيعة. وقد أخذ "الحارث بن شريك" أسيرًا، أخذه حنظلة بن بشر، وكان نقيلًا في بني بشر، فاختصم عبد الله بن الحارث، وعبد عمرو بن سنان في الحارث، فحكم الحارث في أمر نفسه، فأعطى كل واحد منهما مائة من الإبل، وجعل ناصيته لحنظلة بن بشر2. وانتصرت بنو يربوع على بكر في يوم الإياد كذلك, وكانت بكر قد أقبلت من عند عامل عين التمر قاصدة بني يربوع، ومعها من الرؤساء بسطام بن قيس فارس بكر وهانئ بن قبيصة ومفروق بن عمرو، فأحست بنو يربوع بمجيء بكر، وقاتلهم في موضع الإياد، وقتلت جماعة من فرسان بكر، وأسرت قومًا منهم: هانئ بن قبيصة الذي فدى نفسه، فنجا3. وقد كان بسطام بن قيس مع الحارث بن شريك -الحوفزان- ومفروق بن عمرو في يوم الغبيط، وفيه غزت بنو شيبان بلاد تميم، غزوا بني ثعلبة بن يربوع وثعلبة بن سعد بن ضبّة، وثعلبة بن عدي بن فزارة، وثعلبة بن سعد بن ذبيان، وكانوا متجاورين بصحراء فَلْج. فهزمت الثعالب، وأصابوا فيهم، واستاقوا إبلًا من نعمهم. ثم ساروا في أرض بني مالك بن زيد مناة من تميم، فاكتسحوا إبلهم، فركبت عليهم بنو مالك، وعليهم عتيبة بن الحارث اليربوعي، والأحيمر بن عبد الله، وأسيد بن حباءة، وأبو مرحب، وجزء بن سعد الرياحي، وربيع والحُليس وعمارة بنو عتيبة بن الحارث، ومالك بن نويرة وغيرهم، فأدركوهم بغبيط المَدَرة، فقاتلوهم حتى هزموهم، وأخذا ما كانوا استاقوا من آبالهم، وقتلت بنو شيبان أبا مرحب ثعلبة بن الحارث وألح عتيبة بن الحارث، وأسيد بن حباءة، والأحيمر بن عبد الله على بسطام بن قيس حتى وقع بسطام في أسر

_ 1 المفضليات "3"، العقد الفريد "6/ 49"، خزانة الأدب "1/ 354"، "خزيمة"، نهاية الأرب "15/ 383". "فحكم بناصية خزيمة للأنيف، على أن لأسيد مائة من الإبل، قال: ففدى خزيمة نفسه بمائتي بعير وفرس"، نهاية الأرب "15/ 383". 2 ابن الأثير، الكامل، "1/ 389"، النقائض "47، 73، 481". العقد الفريد "3/ 433". 3 النقائض "850"، شعراء النصرانية "259 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 373".

عتيبة. وقد وافق بسطام على دفع دية هي ثلاث مائة بعير وأن تجز ناصيته وعلى أن يعاهد بعدم غزو بني شيبان، فأفرج عنه1. وغزا بسطام بن قيس رئيس بني شيبان بني يربوع في يوم قُشاوة، "يوم نعف قشاوة" وقد انتصر فيه على جماعة من بني يربوع، وعاد مع بعض الغنائم2. ويعد هذا اليوم من وقعات بسطام المعدودة. قال ابن الأنباري: "كان لبسطام أربع وقعات: أسر يوم الصحراء، وظفر يوم قشاوة، وانهزم يوم العظالى، وقتل يوم النقاء"3. وقد استحر القتل في تغلب ومن كان معهم من تميم، وذلك في يوم بارق. وكان سببه أن بني تغلب والنمر بن قاسط وأناسًا من تميم اقتتلوا حتى نزلوا ناحية بارق من أرض السواد، وأرسلوا وفدًا منهم إلى بكر بن وائل يطلبون إليهم الصلح، فاجتمعت شيبان ومن معهم، وقرروا الاستفادة من هذه الفرصة، وعزموا على مباغتة القوم، فقال: زيد بن شريك الشيباني إني أجرت أخوالي وهم النمر بن قاسط، فأمضوا جواره، وساروا وأوقعوا ببني تغلب وتميم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، لم تصب تغلب بمثلها، واقتسموا الأسرى والأموال، وكان من أعظم الأيام عليهم4. وقد اصطدمت بنو شيبان ببعض بطون تميم في يوم زبالة كذلك. وقد حضر هذا اليوم الأقرع بن حابس، وأخوه فراس، وهما من تميم، وكانت تميم هي البادئة بغزو بكر بن وائل. اصطدمت بهم في موضع زبالة، فنزلت الهزيمة بتميم، وأسر الأقرع وفراس أخو الأقرع، أسرهما بنو تيم الله وهي من بكر، ثم لقي بنو تيم الله بني شيبان وهم من بكر أيضًا ومعهم بنو رباب، فانتزع بسطام بن قيس رئيس بني شيبان الأقرع وأخاه منهم، وصاروا أسيرين لبسطام، ثم افتدى الأقرع وأخوه أنفسهما من بسطام، وعاهداه على إرسال الفداء، فأطلقهما

_ 1 النقائض "75، 1132"، ويقال لهذا اليوم: يوم الغبيط ويوم الثعالب، والثعالب أسماء قبائل اجتمعت فيه. ويقال له: يوم صحراء فلح، العقد الفريد "6/ 55"، ابن الأثير "1/ 365"، سبائك الذهب "114"، نهاية الأرب "15/ 388". 2 النقائض "ص19"، ابن الأثير "1/ 364"، البكري "3/ 1075" "طبعة السقا"، مادة "قشاوة"، البلدان "7/ 92" "مادة قشاوة" العمدة "2/ 191". 3 البكري "3/ 1075". 4 الكامل "1/ 299" "المطبعة الأزهرية".

ولكنهما لم يرسلا له الفداء1. والأقرع بن حابس، فارس مشهور من فرسان تميم. ويعد من حكام العرب. وقد اتصل حكمه في عكاظ إلى الإسلام. ويعد أيضًا من السادة الجرارين، ومن المؤلفة قلوبهم من تميم2. وكان يوم مبايض من الأيام المهمة التي وقعت بين بني شيبان من بكر، وبين بني تميم. وقد دارت الدائرة فيه على تميم. وألحقت بها خسائر فادحة. وسبب هذا اليوم أن فارسًا من فرسان تميم يدعى طريف بن تميم العنبري كان قد وافى عكاظ في الشهر الحرام، وكان قد قتل رجلًا من بني شيبان، فتعقبه ابن ذلك الرجل، ليأخذ بثأر أبيه منه. وصادف أن وقع نزاع بين بني مرة بن ذهل بن شيبان وبين بني ربيعة بن ذهل بن شيبان كاد يؤدي بينهما إلى حرب، فقرر هانئ بن مسعود رئيس بن ربيعة -حقنًا للدماء- الارتحال بقومه، والنزول على ماء مبايض. فلما سمع طريف العنبري بنزول ربيعة على هذا الماء. نادى قومه للإغارة على ربيعة، ما دامت منفردة، وليس لها في هذا الموضع نصير، لإضعاف بكر بن وائل وللانتقام منها. فعلمت ربيعة بذلك، فاستعدت للقتال. فلما هاجمت تميم ربيعة، كان بنو شيبان على استعداد، فألحقوا بتميم خسارة لم تصب بمثلها، فلم يفلت منهم إلا القليل. وانهزم طريف فتعقبه ابن الشيباني الذي قتله طريف، فقتله. فكان هذا اليوم من أهم الأيام التي وقعت بين بني شيبان وتميم3. واسم قاتل "طريف"، هو "حصيصة الشيباني"، "حصيصة بن شراحيل"4. وكان سادة تميم الذين قادوهم في هذا اليوم ثلاثة رؤساء، هم: أبو الجدعاء الطُّهَوي علي بني حنظلة، وابن فدكي المِنقري على بني سعد، وطريف بن عمرو على بني عمرو بن تميم5. وكان يوم الزورين من أيام بكر على تميم كذلك. وكانت بكر تنتجع أرض

_ 1 النقائض "680"، ابن الأثير "1/ 366"، شعراء النصرانية "298"، أيام العرب "206". 2 الاشتقاق "146"، المحبر "134، 182 وما بعدها، 247، 347". 3 ابن الأثير "1/ 368"، العقد الفريد "6/ 65"، معاهد التنصيص "1/ 71". نهاية الأرب "15/ 394"، أيام العرب "208 وما بعدها". 4 الاشتقاق "131"، أيام العرب "208". 5 أيام العرب "209".

تميم، ترعى بها إذا أجدبوا. فإذا أرادوا الرجوع، أخذوا كل ما وجدوه أمامهم واستاقوه معهم. فلما كثر اعتداء بكر على تميم، تفاقم الشر بينهما وعظم حتى صار لا يلقى بكري تميميًّا إلا قتله، ولا يلقي تميمي بكريًّا إلا قتله. ثم عزمت تميم على التخلص من أذى بكر ومنعها من الرعي في أرضها، فحشدت واستعدت لقتال بكر، واستعدت بكر لقتال تميم. فلما اصطدم الجمعان تغلبت بكر على تميم، وقتلت منهم مقتلة عظيمة1. ويذكر أهل الأخبار أن سبب تسمية يوم الزورين بهذه التسمية، هو أن بني تميم كانوا قد وضعوا بكرَيْن مجللين مقيدين، بين الصفين، وقالوا: هذان زَوْرانا، أي إلهانا، فلا نفرّ حتى يفرَّا، وجعلوا عندهما من يحفظهما. فلما أبصر البكريون الزورين هجموا على حراسهما وأخذوا البعيرين وذبحوهما، أو ذبحوا أحدهما وتركوا الآخر يضرب في شولهم. فارتبكت تميم وانهزمت شر هزيمة2. وكان المقدم على بكر "عمرو بن قيس بن مسعود الشيباني"، المشهور بـ"أبي مفروق", قدمته "بكر" عليهم, فحسده سائر ربيعة, وأرادوا إزاحته عن الرئاسة، إذ كانوا يريدون أن يجعلوا على كل حي رجلًا منهم، وأن يكون كل حي على حياله، فأصر ابنه "مفروق" عليه بمخالفتهم، وبقي رئيسًا عليهم كلهم: فلما كان القتال، برك بين الصفين، وقال أنا زَوْرُكم، فقاتلوا عني، ولا تفرُّوا حتى أفرَّ. ولم يكن الحوفزان بن شريك يومئذ في القتال، فقد كان في أناس من بني ذهل بن شيبان غازيًا في بني دارهم. وممن اشترك فيه: حنظلة بن سيّار العجلي، وحمدان بن عبد عمرو العبسي، وأبو عمرو بن ربيعة بن ذهل بن شيبان. وقتل فيه من بني تميم أبو الرئيس النهشلي، وهو من ساداتهم3. وقد أكثر الشعراء في ذكر هذا اليوم لا سيما الأغلب العجلي، وذكره الأعشى أيضًا4.

_ 1 نهاية الأرب "15/ 391 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 368 وما بعدها"، اللسان "4/ 337"، العقد الفريد "6/ 65 وما بعدها". 2 اللسان "4/ 337 وما بعدها" "صادر"، العقد الفريد "5/ 205 وما بعدها". أيام العرب "212". 3 العقد الفريد "5/ 205 وما بعدها"، الكامل "1/ 368 وما بعدها". 4 الكامل "1/ 368 وما بعدها".

وكان سبب يوم عاقل أن "الصِّمَة بن الحارث الجُشَمي" أغار على بني حنظلة بعاقل، فأسره الجعدين الشّمّاخ أحد بني عدي بن مالك بن حنظلة، وهزم جيشه، وأبطأ الصِّمة في فدائه فجزّ الجعد ناصيته وأغلظ في الكلام عليه، فضرب الصِّمة عنقه. فمكث الصمة زمانًا. ثم غزا بن حنظلة، فأسره الحارث بن بيبة المجاشعي "الحارث بن نبيه المجاشعي" وهزم جيشه ثم أجاره الحارث من إساره ذلك، وخرج الحارث بالصِّمة إلى بني يربوع من بني حنظلة ليشترى الصِّمة أسراء قومه. فلما رأى "أبو مرحب" وهو ثعلبة بن الحارث، الصمة، وكان يعرف أن غدر بالجعد، خنس عنه، وأخذ سيفه ثم جاء فضرب به بطن الصِّمة فأثقله1. وأما أشهر الأيام التي وقعت بين قيس وتميم، فيوم الرحرحان، ويوم شعب جبلة، ويوم ذي نجب، ويوم الصرائم، ويوم الرغام، ويوم جزع ظلال، ويوم المروت. أما يوم رحرحان، فقد أشرت إليه سابقًا، وهو يوم وقع في أعقاب قتل الحارث بن ظالم المُري خالد بن جعفر الكلابي، وكان سببه أن قوم الحارث بن ظالم أنكروا عليه فعله، ولاموه على عمله فتجنبهم وهرب منهم، ولحق بتميم فأجاروه، فاستاءت بنو عامر من ذلك، وطلبت من بني تميم تسليم الحارث إليهم. فلما أبوا، جاءت بنو عامر تريد مباغتة تميم، وكانت تميم قد علمت بمسيرها إليهم، فأرسلوا بما عندهم من أثقال وأهل إلى بلاد بني بغيض. ولما كانوا في موضع رحرحان، التقوا ببني عامر ورئيسهم الأحوص، فدارت الدائرة على بني تميم، وأسر منهم معبد بن زرارة: أسره عامر والطفيل ابنا مالك بن جعفر بن كلاب2. وشاركهما في أسره رجل من غنيّ يقال له: أبو عميرة عصمة بن وهب، وكان أخا طُفيل من الرضاعة، وفي أسرهم مات معبد. شدُّوا عليه القِدَّ وبعثوا به إلى الطائف خوفًا من بني تميم أن يستنقذوه3.

_ 1 النقائض "1019"، أيام العرب "217 وما بعدها"، العمدة "2/ 207". 2 العقد الفريد "6/ 8 وما بعدها"، النقائض "1/ 214"، الأغاني "10/ 30"، ابن الأثير "1/ 341". الميداني "2/ 398"، "الباب التاسع والعشرون: في أسماء أيام العرب" العمدة "2/ 198 وما بعدها". 3 العمدة "2/ 209"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".

وأخذ لقيط بن زرارة يستعد ويجمع العدة، لينتقم من بني عامر، وليأخذ منهم بثأر أخيه معبد الذي أسر في يوم رحرحان، ثم هلك لمنع بني عامر الماء عنه1. فذهب إلى النعمان بن المنذر وأطعمه في الغنائم، فأجابه. ثم ذهب إلى الجون الكلبي ملك هجر2. فأجابه أيضًا. ثم توجه إلى كل من عرف بعدائه لبني عامر وعبس، فأوغر صدره عليهم، ومنّاه بالغنيمة والنصر، فانضمت إليه بنو ذبيان لعدائها لعبس بسبب حرب داحس والغبراء، وبنو أسد للحلف الذي كان بينهم وبين بني ذبيان. فلما مضى الحول على يوم رحرحان. انهالت الجيوش على لقيط، فوصل جيش الجون الكلبي وعليه عمرو ومعاوية ابناه. ووصل جيش النعمان وعليه أخوه لأمه حَسّان بن وبرة الكلبي، وأقبل الحليفان: أسد وذبيان وعليهم حصن بن حذيفة، وأقبل شرحبيل بن أخضر بن الجون بن آكل المرار في جمع من بني كندة. وسار سادات تميم: حاجب بن زرارة، ولقيط بن زرارة، وعمرو بن عمرو، والحارث بن شهاب، ومعهم أحلافهم ومن انضم إليهم، يقصدون بني عامر، فنتج عن ذلك جمع لم يكن في الجاهلية أكثر منه. وعرفت بنو عامر بمجيء الجمع، فاستعدت له وتحصنت في شعب جبلة، أخبرها بذلك كرب بن صفوان السعدي، وكان شريفًا من أشراف قومه لم يخرج مع الجمع، فخافوا من تخلفه عنهم، وعرفوا أنه دبّر في ذلك أمرًا، وأنه يقصد إخبار بني عامر. فأخذا عليه العهد بألا يفشي من سر مسيرهم هذا لبني عامر. وقد سار كرب بن صفوان إلى بني عامر، وأظهر لهم علائم هجوم بني تميم عليهم، دون أن يقول لهم شيئًا عنه لئلا يخلف وعده. فعرفوا به. واستعدوا له. وبينما كان القوم على وشك الوصول إلى ديار بني عامر، عادت بنو أسد فغيرت رأيها من الاشتراك في هذا الهجوم، ورجعت عنهم، ولم يسر مع لقيط منهم إلا نفر يسير. ولما وصل بنو تميم وأحلافهم إلى شعب جبلة، كان بنو عامر على أتم استعداد للقاء. وقد احتموا في مواضع منيعة حصينة من الشعب. ولما دخلوه يريدون

_ 1 الاشتقاق "ص145". 2 "الكندي"، نهاية الأرب "15/ 351".

الفتك ببني عامر وعبس، باغتهم هؤلاء بهجوم مفاجئ أفسد عليهم خطط قتالهم فارتدوا مذعورين تتعقبهم سيوف بني عامر. فكانت هزيمة فادحة نزلت بتميم وممن كان معهم من الأحلاف كلفت لقيطًا حياته، وأوقعت حاجبًا في الأسر، وأوقعت غيره في الأسر كذلك1. وقد وقع هذا اليوم في عام مولد النبي على بعض الروايات، أي سنة 570 للميلاد، وبعد عام من يوم الرحرحان2. وقد أشار بعض الرواة إلى اشتراك عمرو بن الجون ومعاوية بن الجون في هذا اليوم، وإلى عقد معاوية بن الجون الألوية، فكان بنو أسد وبنو فزارة بلواء مع معاوية بن الجون، وكان بنو عمرو بن تميم مع لواء حاجب بن زرارة، وكان لواء الرباب مع حسان بن همام، وعقد لجماعة من بطون تميم مع لقيط بن زرارة، وكان عمرو بن الجون أول من قتل في هذا اليوم. وأسر أخوه معاوية بن الجون، كما أسر عمرو بن عمرو بن عدس وحاجب بن زرارة. وقد حمل عنترة على لقيط، فضربه بسيفه. ثم فدى حاجب بن زرارة بخمس مائة من الإبل، وفدى عمرو بن عمرو بمئتين3. وقد كان يوم جبلة في عام واحد مع يوم رحرحان على رواية، ويقصدون بهذا اليوم يوم رحرحان الثاني تمييزًا له عن يوم رحرحان الأول الذي غزا فيه يثربي بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن عامر بن صعصعة. وفي يوم رحرحان الثاني على هذه الرواية، كان أسر معبد بن زرارة: وقد نقل إلى الطائف خوفًا من بني تميم أن يستنقذوه4. وبعد مرور عام على يوم جَبَلَة طمعت بنو عامر في غزو بني تميم والإيقاع بها، فذهبت إلى حسان بن كبشة الكندي، وعلى رأسها ملاعب الأسنة عامر بن مالك بن جعفر وطفيل بن مالك بن جعفر وعمرو بن الأحوص بن جعفر

_ 1 الأغاني "10/ 33"، العقد الفريد "6/ 9 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 355"، النقائض "2/ 115"، الميداني "2/ 398"، "الباب التاسع والعشرون: في أسماء أيام العرب"، البكري "2/ 365" "جبلة"، سبائك الذهب "110 وما بعدها"، أيام العرب "149 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 350"، الأغاني "11/ 131، 161"، البلدان "3/ 4". 2 البكري "2/ 365 وما بعدها"، "جبلة"، العقد الفريد "6/ 9 وما بعدها". 3 ابن الأثير "1/ 243"، ولابن إسحاق رواية أخرى عن هذا اليوم. 4 العمدة "2/ 198 وما بعدها".

ويزيد بن الصعق وقدامة بن سلمة بن قشير وعامر بن كعب بن أبي بكر بن كلاب، تطمعه في الغنيمة وفي الأموال الوافرة والسبي إن انضم إليها وساعدها في الغزو، فغلبه طمعه ووافق على السير معهم إلى بني حنظلة بن مالك بن تميم. وبلغ الخبر بن حنظلة، فتركوا ديارهم برأي عمرو بن عمرو بن عدس، وكانت في أعلى ذو نجب. وأما في أسفله، فكان بنو يربوع، وهم من تميم كذلك. فلما بلغ حسان ومن معه من الجيش الموضع، اقتتلوا مع بني يربوع، فشدّ "حشيش بن نمران الرياحي" على حسان وضرب بالسيف على رأسه فقتل، وانهزم أصحابه، وأسر يزيد بن الصعق، وانهزمت بنو عامر وصنائع ابن كبشة، فكان النصر فيه لبني تميم1. وفي رواية أن بني عامر استنجدت بمعاوية بن الجون الكندي، فأنجدهم بابنيه عمرو وحسان وبجيشه، فقتل في ذلك اليوم عمرو بن معاوية الكندي، وأسر حسان بن معاوية الكندي، وقتل عامة الكنديين2. وفي رواية أخرى أن حسان بن معاوية آكل المرار، هو الذي اشترك في هذا اليوم، وقد قتل فيه: قتله حشيش بن نمران من بني رياح بن يربوع. وفي رواية أخرى أنه كان في جملة من وقع في الأسر. وأن المقتول رجل آخر هو عمرو بن معاوية. وقد قتل في هذا اليوم عمرو بن الأحوص رئيس بني عامر يومئذ. قتله خالد بن مالك النهشلي3. وفي يوم الصرائم، وهو يوم يسمى أيضًا بيوم بني جذيمة وبيوم ذات الجرف، أغارت فيه بنو عبس على ربيعة بن مالك بن حنظلة، فأتى "الصريخ" بني يربوع، فركبوا في طلب بني عبس، فأدركوهم بذات الجرف، فقتلوا منهم جملة قتلى، وأسروا بعض الرؤساء4. وكان لبني تميم يوم آخر على بني عبس وعامر، وهو يوم مأزق "ملزق" ويسمى أيضًا بيوم السوبان. وذلك بعد أن قاتلت تميم جميع من أتى بلادها من القبائل، وهم إياد وبلحارث بن كعب، وكلب، وطيء، وبكر، وتغلب

_ 1 ابن الأثير "1/ 363"، النقائض "302، 587، 932، 1079"، البكري "4/ 1297" "ذو نجب"، العمدة "2/ 201". 2 البكري "4/ 1297" "ذو نجب"، الأغاني "11/ 136". 3 العمدة "2/ 201". أيام العرب "366". 4 النقائض "248، 336"، العمدة "2/ 200".

وأسد، وآخر من أتاهم بنو عبس وبنو عامر1. ويظهر أن تميمًا حاربت هذه القبائل للتخلص منها، وكانت تنزل في ديارها للانتجاع في أرضها، وهي أرضون خصبة واسعة، فكلفها ذلك عدة حروب. وقد انتصرت تميم على عامر في يوم المروت. وكان سببه نزاع بسيط وقع بين "قعنب بن الحارث بن عمرو بن همام اليربوعي" وبين "بجير بن عبد الله العامري" بسبب نسب فرس، أدى إلى غزو بجير لبني العنبر من تميم، ثم إلى ملاحقة بني يربوع لبجير وجماعته من بني عامر، وإلى سقوط عدد من القتلى من بني عامر واسترداد، ما كان بنو عامر قد غنموه. وقد ضرب "قعنب بن عتاب" رأس "بجير" فأطاره2. وانتصرت بنو يربوع على بني كلاب من قيس في يوم الرُّغام3. وذلك أن "عتيبة بن الحارث بن شهاب" أغار في بني ثعلبة بن يربوع على طوائف من بني كلاب. وكان أنس بن عبّاس الأصم أخو بني رعْل مجاورًا في بني كلاب وكان بين بني ثعلبة بن يربوع، وبين بني رعل عهدٌ ألا يسفك دم، ولا يؤكل مال. فجاء الكلابيون إلى أنس بن عباس الأصم راجين منه أن يذهب إلى بني "ثعلبة" ليحبسهم عنهم حتى يتدبروا أمرهم ويستعدوا للقتال. فذهب أنس إليهم وقابل حنظلة بن الحارث شقيق عتيبة بن الحارث. وكلَّمه في أمر ما بينه وبين بني ثعلبة من عهد، فأجيب إلى طلبه، وتباطأ في أخذ ما سلبه منه بنو ثعلبة من إبل حتى جاءت فوارس بني كلاب، فحمل "الحوثرة بن قيس" وهو من فرسان بني كلاب على "حنظلة بن الحارث" فقتله، فحمل فرسان من بني ثعلبة بن يربوع على الحوثرة، فأسروه، ودفعوه إلى عتيبة فقتله، وهُزم الكلابيون. ومضى بنو ثعلبة بالإبل والغنائم، واتبعهم "أنس بن عباس" رجاء أن يصيب منهم غرةً، فيأخذ منهم ما يريد. ولما مرّ بالطريق، تغفله "عتيبة" وأسره، وأتى به أصحابه، وأراد أصحاب عتيبة قتله، ولكنه أبى أن يفعل بل قبل من

_ 1 العمدة "2/ 202"، "ملزق"، العمدة "2/ 212" "محمد محيي الدين عبد الحميد". 2 النقائض "70"، ابن الأثير "1/ 386". العمدة "2/ 192"، سبائك الذهب "112". أيام العرب "375". 3 النقائض "410"، العمدة "2/ 204".

أنس الفداء ففدى نفسه بمئتي بعير1. وأما يوم جِزْع ظلال "طلال"، فكان النصر فيه لفزارة، وهم من قيس كذلك على بني تميم. وكان عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري قد أغار بقومه فَزارة، ومعه مالك بن حِمار الشمخي من بني شمخ بن فزارة، على التيم وعدي وثور أطحل من بني عبد مناة، فأصاب غنائم كثيرة، ورجع بأسرى عديدين أطلقهم فيما بعد. فلما مضت مدة، بلغه أن النعمان بن جساس التيمي وعوف بن عطية وسبيع بن الخطيم، وهم سادة تميم، وابن المخيط وهو سيد بني عدي تيم، انطلقوا إلى بني سعد بن زيد مناة وضبّة يستمدونهم ويسألونهم النصر، فركب عيينة بن حصن مع قومه، وأغار على التيم، فقتلوا منهم قتلًا شديدًا وأخذوا سبيًا كثيرًا، واحتفلوا بانتصارهم هذا بشرب الخمر. وكان نساء تيم ومن كان معهن من رجالهم ينقلون زقاق الخمر إليهم. ولم يسقوا تيمًا محقرة لهم. ثم مضى زمن فردّ بنو فَزارة السبي إلى تيم، وأطلقوا الرجال بغير فداء2. ومن أيام ضبة وغيرهم: يوم النسار، ويوم الشقيقة، ويوم بزاخة، ودارة مأسل، والنقيعة. وكان سبب يوم النسار جدب حلّ بأرض مضر. وخصب أصاب بلاد بني سعد والرباب، مع غيث غامر. فلما وقع ذلك الغيث. أقبلت عامر بن صعصعة ومن معهم من هوازن إلى بني سعد، وكانوا يواصلونهم بالنسب، فسألوهم أن يُرعوهم ومن معهم من هوازن ففعلوا. فلما اجتمعت بنو سعد والرباب وهوازن ومن معها، قال بعضهم لبعض: أنه ما اجتمع مثل عدتنا قط إلا كانت بينهم أحداث، فليضمن كل حي ضامن، فكان الضامن لما كان في سعد والرباب الأهتم، وهو سنان بن سميّ بن خالد، وكان الضامن على هوازن قرة بن هبيرة بن عامر بن صعصعة. فرعوا ذلك الغيث حينًا، حتى وقع شر، سببه أن "الحتف" وهو رجل من بني ضبة قتل رجلًا من بني قشير، فوقع الشر ووقعت الحرب، واجتمع بنو سعد مع بني عامر، واستمدوا بني أسد فأمدوهم، والتقوا مع "بني ضبة" بالنسار فاقتتلوا، فصبرت

_ 1 أيام العرب "370 وما بعدها". 2 النقائض "302, 106"، "جزع طلال"، العمدة "2/ 204"، أيام العرب "373 وما بعدها".

عامر، واستحر بهم القتل، وانفضت بنو سعد وهربت، ثم هرب بنو عامر. وقتل في هذا اليوم: شريح بن مالك القشيري، رأس بني عامر، ووقع سبي منهم في أيدي خصومهم1. وقد وقع يوم النسار بعد يوم جبلة، وذلك؛ لأن الأحاليف، وهم غطفان وبنو أسد وطيء شهدوا يوم النسار بعدما تحالفت الأحاليف، وحضره حصن بن حذيفة، وكان حصن رئيس الأحاليف، كما جاء ذلك في شعر لزهير بن أبي سُلمى2. هذا ما يراه الرواة وأهل الأخبار من علماء قيس وبني أسد، ويؤيده أبو عبيدة3. أما الرباب ورواة ضبة، فترى أن يوم النسار كان قبل يوم جبلة ويفند أبو عبيدة رأي الرباب4. ويقول أبو عبيدة: كان حاجب بن زرارة على بني تميم يوم النسار ويوم الجفار. وأن "لقيطًا قتل يوم جبلة، ولو كان حيًّا ما تقدمه فيه حاجب بن زرارة. وإنما نبّه أبو عكرمة بعد أبي نهشل، وكانا قبل مبعث النبي بسبع وعشرين سنة. وكان عام جبلة مولد النبي"5. وذكر "المسعودي" أن "بني عامر بن صعصعة" كانوا يؤرخون بيوم شعب جبلة. وكان قبل الإسلام بنيف وأربعين سنة6. وقد كان يوم شعب جبلة بين بني عامر وأحلافها من عبس وبين من سار إليهم من تميم، وعليهم حاجب ولَقيط ابنا زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارِم، ومن عاضدهما من اليمن مع ابنيّ الجون الكنديين7. وما في رواية أبي عبيدة أو غيره من أن مولد النبي كان في عام جبلة، وهم. فالرجال الذين أسهموا في ذلك اليوم، كانوا قد هلكوا قبل ذلك بأمد، ولم يدركوا أيام الرسول. وقد ذكر أن يوم جبلة كان قبل الإسلام بسبع وخمسين سنة8.

_ 1 النقائض "238، 790، 1064"، العقد الفريد "6/ 99"، ابن الأثير "1/ 376"، الميداني "2/ 396"، العمدة "5/ 199"، شرح المفضليات "363"، أيام العرب "378 وما بعدها"، نهاية الأرب "15/ 421". 2 نقائض جرير والفرزدق "1/ 238 وما بعدها"، المفضليات "363 وما بعدها". 3 المفضليات "363 وما بعدها". 4 المفضليات "363 وما بعدها". 5 ديوان جرير والفرزدق "2/ 790"، العمدة "2/ 200". 6 التنبيه "175". 7 التنبيه "175". 8 بلوغ الأرب "2/ 71".

وقد غضبت بنو تميم وخجلت مما نزل ببني عامر من عار بسبب هذا اليوم، وحلف "ضمرة بن ضمرة النهشلي"، وهو من سادات بني تميم على أن يترك الخمر ويحرمه عليه حتى يأخذ بثأره من بني أسد، فهيأ نفسه وعبأ قومه لقتالهم، والتقى بهم في يوم ذات الشقوق، وانتصر فيه عليهم، وفرح بهذه النتيجة، وأباح لنفسه عندئذ شرب الخمر1. ولما كان على رأس الحول من يوم النسار اجتمع من العرب من كان شهد النسار. وكان رؤساؤهم بالجفار, الرؤساء الذين كانوا يوم النسار, إلا أن بني عامر تقول: كان ريئسهم بالجفار "عبد الله بن جعدة بن كعب بن ربيعة"، فالتقوا بالجفار، واقتتلوا، وصبرت تميم، فعظم فيها القتل وخاصة في بني عمرو بن تميم. وكان يوم الجفار يسمى "الصيلم" لكثرة من قتل به2. وفي ويم الجفار التقت بكر بتميم على رواية3، والتقى الأحاليف في ضبة وإخوتها الرباب وأسد وطيء على بني عمرو بن تميم في رواية أخرى، واستحر القتل يومئذ في بني عمرو بن تميم على هذه الرواية، فكان النصر فيها للأحاليف4. وفي يوم السِّتار، وهو يوم كان بين بكر بن وائل وبني تميم، قتل قيس بن عاصم وقتادة بن سلمة "مسلمة" الحنفي فارس بكر5، وكان قتادة من الجرارين في ربيعة6. ولضبّة نصر آخر، كان في يوم الشقيقة على بني شيبان. وقد قتل فيه بسطام بن قيس سيد بني شيبان. وكان ذلك بسبب قيام بسطام بغارة على بني ضبة وطمعه في إبل مالك بن المنتفق الضبّي. فلما رأت ضبّة بسطامًا، وهو يغير على

_ 1 البكري، معجم "4/ 1306"، ابن الأثير، الكامل "1/ 376"، ابن سلام، طبقات "179"، مراصد الاطلاع "3/ 209 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 564"، العقد الفريد "3/ 375"، المفضليات "363 وما بعدها"، البلدان "4/ 778"، العمدة، لابن رشيق "2/ 99 وما بعدها". النقائض "238 وما بعدها" "2/ 1064"، نهاية الأرب للنويري "15/ 421". اللسان "5/ 205" "صادر" تاج العروس "3/ 569". 2 ابن الأثير، الكامل "1/ 376"، العقد الفريد "3/ 375". 3 الميداني "396". 4 العمدة "2/ 208". 5 الميداني "2/ 396". 6 المحبر "250".

الإبل، هاجمته فوقع قتيلًا، فولت بنو شيبان مهزومة تاركة ما استولت عليه وعددًا من رجالها بين قتيل وأسير1. ويعرف هذا اليوم باسم آخر هو: "نقا الحسن"2. وانتصرت ضبّة على إياد في يوم يسمى بيوم بُزاخة. وقد كان بسبب إغارة مُحرق الغساني وأخوه في إياد وطوائف من العرب من تغلب وغيرهم على بني ضبّة بـ"بزاخة" فاقتتلوا قتالًا شديدًا حمل فيه "زيد الفوارس" على محرق فأسره، وأسرت بنو ضبّة أخا حُبيش بن دلف السيدي، فقتلتهما وهزم من كان معهما، وأصيب ناس منهم فيه3. وفي بعض الروايات أن يوم بزاخة هو يوم إصم. وهو يوم كان لبني عائذة بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة على الحارث بن مزيقيا الملك الغساني، وهو عمرو بن عامر، وفيه قتل ابن مزيقيا، فانهزم أصحابه هزيمة منكرة. وفي رواية أخرى أن هذا اليوم كان مع عبد الحارث من ولد مزيقيا4. وأما يوم "دارة مأسل"، فكان لضبّة على بني عامر، غزا "عتبة بن شُتير بن خالد الكلابي" بني ضبّة، فاستاق نعمهم. وقتل "زيد الفوارس" "حصن بن ضرار الضبي"، وكان يومئذ حدثًا لم يذكر. فجمع أبوه ضرار قومه، وخرج ثائرًا على بني عمرو بن كلاب، فأفلت منه "عتبة بن شُتير" وأسر أباه "شُتير بن خالد" فأمر ضرار ابنه "أدهم" أن يقتله5. وانتصرت ضبّة على بني عبس في يوم النقيعة، ويسمى أيضًا يوم أعيار. وقد كان بنو عبس قد أغاروا فيه برئاسة عمارة بن العبسي على إبل لبني ضبَّة، ومعه جيش من بني عبس، فأطردوا إبلهم، وركبت عليهم بنو ضبَّة، فأدركوهم في المرعى، فحمل "شرحاف بن المثلم بن المشخرة العائذي الضبي" على عمارة فقتله، واستنقذت بنو ضبة فيه إبلها من "بني عبس". ويعرف عمارة بـ"عمارة

_ 1 النقائض "190، 233"، ابن الأثير "1/ 376"، التبريزي، شرح ديوان الحماسة "3/ 52"، سبائك الذهب "112"، أيام العرب "382 وما بعدها". 2 العمدة "2/ 198". 3 العمدة "2/ 197"، النقائض "195"، أيام العرب "388". 4 العمدة "2/ 198". 5 العقد الفريد "6/ 43"، أيام العرب "390"، نهاية الأرب "15/ 378".

الوهاب"1. ومن الأيام التي وقعت بين "قيس" و"كنانة": يوم الكديد، ويوم برزة وحروب الفجار، أما يوم الكديد ويوم برزة، فقد تحدثت عنهما قبل قليل. وأما حروب الفجار فإليك ما جاء عنها. العادة في الجاهلية ألا قتال في الأشهر الحرم لقدسيتها ومكانتها، فهي أشهر حرم يستريح فيها الأفراد والقبائل من القتال، ويكون الإنسان فيها آمنًا على نفسه وماله، فيظهر فيها الفرسان المعروفون بسفكهم الدماء دون خوف وإن كانوا يتقنعون بقناع حين حضورهم الأسواق مثل عكاظ خوفًا من وقوف طلاب الثأر على حقيقتهم، فيتعقبون خطاهم، فيفتكون بهم بعد انتهاء الأشهر الحرم. ويذهب في هذه الأشهر الناس إلى الأسواق للامتياز. وإلى الكعبة للحج إلى الأصنام، ثم يعودون إلى منازلهم مع انتهاء الأيام الحرم خشية حلول الأشهر الأخرى فيتعرضون لطمع الطامعين وغزو الغازين. ومع ما لهذه الأشهر من الحرمة، فقد وقعت فيها حروب عرفت بحروب الفجار وبأيام الفجار؛ لأن من اشترك فيها كان قد فجر فيها بانتهاكه قدسية هذه الأشهر الحرم2. ولكنها على ما يظهر من وصف الأخباريين لها لم تكن حروبًا كبيرة واسعة، إنما كانت مناوشات ومهاترات وقعت لأسباب تافهة بسيطة. ففي الفجار الأول لم يرق فيه دم، وإنما محاورات وخصومة كلامية بين كنانة وهوازن بسبب حادث بسيط لا يستوجب في الواقع خصومة ولا اشتباكات. فقد تطاول "بدر بن معشر الغفاري" "بدر بن معسر الغفاري" على الناس، بأن جلس بعكاظ في الموسم والعرب مجتمعة فيه، ثم مدّ رجله وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف. فوثب رجل من "بني نصر بن معاوية" اسمه "الأحمر بن هوازن" فضربه بالسيف على ركبته فقطعها، فتحاور الحيّان: أهل المضروب مع أهل الضارب عند ذلك. حتى كاد أن يكون بينهما الدماء, ثم

_ 1 النقائض "193"، ابن الأثير "1/ 394"، العمدة "2/ 198"، أيام العرب "391 وما بعدها". 2 العقد الفريد "6/ 101 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 275"، اللسان "5/ 48"، "فجر"، تاج العروس "3/ 465"، "فجر".

تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير1. وفي الفجار الثانية وقعت بينهم دماء يسيرة. وكان سببه عبث شباب من قريش وكنانة بامرأة من بني عامر بن صعصعة وكانت وضيئة حسانة رأوها بسوق عكاظ، فأرادوا منها أن تكشف لهم عن برقعها، فثارت ونادت: "يا آل عامر"، ونادى الشباب قومهم، فالتحموا في قتال لم يكن هذا الحادث ليوجبه. ثم انتهى بتوسط "حرب بن أمية" "الحارث بن أمية" باحتمال دماء القوم2. أما الفجار الثالث، فكان بسبب دين كان لرجل من بني جشم بن بكر بن هوازن على رجل من كنانة، فلواه به، ولم يعطه شيئًا منه. فلما أعياه، وافاه في سوق عكاظ بقرد، وجعل ينادي: "من يبيعني مثل هذا الربّاح بمالي على فلان بن فلان الكناني، من يعطيني مثل هذا بمالي على فلان بن فلان الكناني! رافعًا صوته بذلك، فلما أكثر من ندائه، مرّ به رجل من بني كنانة، فقتل القرد، فهتف الجُشمي: "يا آل هوازن"، وهتف الكناني: "يا آل كنانة" وتجمع الحيّان حتى تحاجزوا، ولم يكن بينهم قتلى، ثم كفوا وقالوا: "أفي ربّاح تريقون دماءكم وتقتلون أنفسكم؟ " وأصلح عبد الله بن جُدعان بينهما3. ووقع الفجار الآخر بسبب رجل خليع سكير فاسق، أتعب قومه فخلعوه وتبرأوا منه فخرج منهم، وصار يتنقل من قبيلة إلى قبيلة ومن سيد إلى سيد يطلب الحماية والجوار. فلما لفظه الجميع، وتعبوا منه، ذهب إلى مكة مستجيرًا بحرب بن أمية، فحالفه، وأحسن جواره. ثم شرب بمكة، وعاد إلى سيرته الأولى، فهمّ حرب بخلعه، فخرج من مكة، وذهب عنه إلى الحيرة. فلما كان هناك،

_ 1 العقد الفريد "6/ 101"، الأغاني "3/ 368"، ابن الأثير "1/ 359"، العمدة "2/ 207"، سرح العيون "58"، أيام العرب "322"، العمدة "2/ 218" "محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "19/ 73"، "مطبعة التقدم 1932م"، تأريخ الخميس، للديار بكري "1/ 255". 2 العمدة "2/ 219"، "محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "19/ 74"، الكامل، لابن الأثير "1/ 359"، تأريخ الخميس "1/ 255"، السيرة الحلبية "1/ 141". 3 العمدة "2/ 207"، أيام العرب "325"، "كان بسبب دين بني نصر على أحد بني كنانة" العمدة "2/ 219"، "محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "19/ 74"، السيرة الحلبية "1/ 141"، الكامل في التأريخ "1/ 358 وما بعدها"، تأريخ الخميس "1/ 255".

عرض على النعمان بن المنذر أن يتولى له حماية لطيمته، ويجيزها له على أهل الحجاز. وسمع بذلك عروة الرحال، وهو يومئذ رجل هوازن، فاحتقر أمر هذا الخليع: "البراض بن قيس الكناني"، فقال للملك: أكلب خليع يجيزها لك؟ أبيت اللعن، أنا أجيزها لك على أهل الشيح والقيصوم في أهل نجد وتهامة. فدفعها النعمان إليه، وخرج عروة بها، والبراض بن قيس يتعقبه. فلما كان بأوارة غافله البراض، فقتله، واستاق اللطيمة إلى خيبر. ولما بلغ خبر مقتل عروة كنانة وهوازن، هاج الطرفان، واشتبكا في قتال وقع بموضع نخلة، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجنّ عليهم الليل فكفّوا. وجرّ عمل هذا الخليع إلى وقوع جملة أيام أخرى، أدت إلى اضطراب الأمن في مواسم أمن ما كان يحدث فيها قتال. فبعد عام من يوم نخلة، تجمعت قريش وكنانة بأسرها والأحابيش ومن لحق بهم من بني أسد بن خزيمة. لملاقاة سليم وهوازن، ووزع عبد الله بن جُدعان السلاح على الشجعان الفرسان المعروفين بالشجاعة والصبر. وسلَّح يومئذ مائة كميّ بأداة كاملة، سوى من سلَّح من قومه واجتمعوا بموضع شمطة من عكاظ في الأيام التي تواعدوا فيها على قرن الحول1. وترأس المتقاتلين المتواعدين سادات ذلك الوقت المعروفون. وعلى كنانة كلها حرب بن أمية، ومعه عبد الله بن جُدعان وهشام بن المغيرة وهما على الميمنة والميسرة، وعلى هوازن وسُليم كلها مسعود بن معتب الثقفي. وفي بني عامر ملاعب الأسنة أبو براء، وفي بني نصر وسعد وثقيف سُبيع بن ربيع، وفي بني جشم الصِّمة والد دريد وفي غطفان عوف بن أبي حارثة، وفي بني سُلَيم عباس بن زغل، وفي فهم وعدوان كدام بن عمرو. وكانت الدائرة في أول النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، وانكشفت كنانة فاستحر القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، ولم يقتل من قريش أحد يذكر، فكان هذا اليوم لهوازن على كنانة وقريش2.

_ 1 "شمظة"، نهاية الأرب "15/ 427"، الأغاني "19/ 75"، سيرة ابن هشام "1/ 196"، السيرة الحلبية "1/ 142"، العقد الفريد "5/ 252". 2 نهاية الأرب "15/ 427 وما بعدها"، العقد الفريد "6/ 106 وما بعدها"، ابن الأثير "1/ 246 وما بعدها".

وقد وقع الفجار الثاني بعد الفيل بعشرين سنة، وبعد موت عبد المطلب باثنتي عشرة سنة على رواية. ويعد من أيام العرب المشهورة، وهو أشهر من يوم جبلة الذي وقع قبله في بعض الروايات1. وعادت هوازن وكنانة إلى الحرب، والتقوا على قرن الحول في اليوم الثالث من أيام عكاظ، واقتتلوا وكانت الهزيمة على كنانة. وقد عرف هذا اليوم بيوم العبلاء2. وقد تأثرت كنانة من الهزيمة التي لحقتها في يومي شمطة والعبلاء، وأخذت تستعد للانتقام من هوازن، فتكتل رؤساؤها واشتروا الأسلحة، وحمل عبد الله بن جدعان مثري قريش وغنيها يومئذ ألف رجل من بني كنانة على ألف بعير، وتولى قيادة كل بطن رئيسه ثم سارت على رأس الحول من اليوم الرابع من أيام عكاظ قاصدة هوازن، فالتقت بها واشتبكت معها في قتال كاد يهرب فيه بنو كنانة، لولا صبر بني مخزوم وبلاؤها بلاءً حسنًا. وخشيت قريش أن يجري عليها ما جرى يوم العبلاء. فقيّد حرب وسفيان وأبو سفيان بنو أمية بن عبد شمس أنفسهم وقالوا: لا نبرح حتى نموت مكاننا أو نظفر واقتتل الناس قتالًا شديدًا، وحملت قريش وكنانة على قيس من كل وجه حتى انهزمت، وانتصرت بذلك كنانة وقريش على بني هوازن. وعرف هذا اليوم بيوم عكاظ3. ولما انهزمت قيس، دخلوا خباء "سبيعة بنت عبد شمس" امرأة "مسعود بن مُعتب الثقفي" مستجيرين بها، فأجار "حرب بن أمية" جيرانها، واستدارت قيس بخبائها حتى كثروا، فلم يبق أحد لا نجاة عنده إلا دار بخبائها، فقيل لذلك الموضع: مدار قيس، وكان يضرب به المثل، فتغضب قيس4. وقد التقت كنانة وقريش بقيس في يوم آخر يسمى يوم الحُريرة، وكان على بني بكر بن عبد مناة، رئيسهم جثامة بن قيس أخو بلعاء بن قيس وذلك لوفاة بلعاء. أما الرؤساء الآخرون، فبقوا كما كانوا في اليوم الماضي. وبعد قتال اتفقوا

_ 1 ابن الأثير "1/ 246". 2 العبلاء: علم على صخرة بيضاء إلى جنب عكاظ، العقد الفريد "6/ 107". 3 أيام العرب "334 وما بعدها". 4 أيام العرب "335".

على الصلح وتسوية الديات، وانصرف الناس من الحرب1. هذه أيام من أيام عديدة أخرى ترد أسماؤها في كتب الأخبار والتواريخ2، نرى أن أسبابها: طبيعة البداوة، وفقر البادية، وحاجة الناس إلى الماء والمرعى والاعتبارات الاجتماعية، وما شاكل ذلك من أسباب أدت إلى وقوع تلك الأيام. وقد علقت ذكراها بأذهان الرواة؛ لأنها وقعت في عهد لم يكن بعيدًا جدًّا عن الإسلام، وقد وقعت بالطبع مئات من هذه الأيام، محيت أخبارها من ذاكرة حفظة الأخبار ورواتها؛ لأنها وقعت في عهد بعيد عن الإسلام أو في أمكنة بعيدة لم يصل مداها إلى جُمّاع الأخبار في الإسلام، فلم يضبطوها في جملة هذا الذي ضبطوه. والذي نجده من قراءة أسماء الأيام المذكورة ومن أخبارها، أن معظمها مما كان قد وقع في الحجاز أو في نجد أو العراق والبادية وبلاد الشأم والبحرين. أما الأيام التي وقعت في العربية الجنوبية فقلما نجد لها ذكرًا عند الأخباريين، خاصة أيام حضرموت وعُمان، مما يدل على عدم وصول أخبار هذه الأرضين إلى علم الأخباريين. والواقع أن علم أهل الأخبار والتأريخ بهذه البلاد ضعيف جدًّا، حتى في باب علمهم عنها في الإسلام، وهو أمر يؤسف عليه. وتتخلل هذه الأيام أسماء الرجال المشهورين ممن كان لهم أثر خطير فيها، وهم قادتها ومساعير نيرانها ومكوِّنو تأريخ الجزيرة قبل الإسلام. وشأن هؤلاء الرجال من حيث بعدهم وقربهم عن الإسلام، شأن أيامهم، فأكثرهم من أهل القرن السادس للميلاد، وممن ماتوا في عهد لمن يكن بعيدًا عن الإسلام، أي في النصف الثاني من هذا القرن، لقد صنع القصاصون ومحبو المبالغات من رواة القبائل، على عادتهم، هالة من الأقاصيص والأساطير لأولئك الرجال، حملت بعض المستشرقين على الشك في حقيقة بعضهم. ولكن وجود القصص الخرافي لا يمنع من الاعتراف بوجود شخص كان قد عاش ومات، وكان له أثر ظاهر في قومه وأعمال أثرت

_ 1 أيام العرب "337"، الأغاني "19/ 79 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "/ 363"، السيرة الحلبية "1/ 143"، البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 289"، "1932م"، "مطبعة السعادة". 2 هناك أسماء أيام أخرى ذكرها أهل الأخبار، لا يمكننا التوسع فيها إذ يقتضي ذلك جملة مجلدات، راجع العمدة "2/ 200 وما بعدها".

في مواطنيه، وجعلتهم يوسعونها ويكبرونها إلى أن صنعوها بقصصهم بهذا الشكل الذي وصل إلى الأخباريين، بنقلهم الرجال من عالم الحقيقة إلى عالم الخرافة والخيال. لقد خلدت تلك الأيام أسماء رجال أثروا تأثيرًا مهمًّا في الحياة السياسية البدوية، لقد أنجز بعضهم أعمالًا لم تنجزها قبائلهم، فتمكنوا من بسط نفوذهم على كثير من القبائل ومن جمعها تحت رئاسته بفضل زعامته وشخصيته. فهذا زهير بن جناب الكلبي تجتمع عليه قضاعة وتنضوي تحت لوائه، ويفرض الإتاوة على قبائل أخرى من غير قضاعة، ويحارب غطفان وبكرًا وتغلب وبني القين بن جسر، وهي من القبائل الكبيرة المعدودة، ثم ينتصر عليها1. وهذا كليب بن وائل وهو من معاصري زهير بن جناب ومن المنافسين له، ومن رجال النصف الأول من القرن السادس للميلاد، يجمع شمل قبائل ربيعة -وهي قبائل متنافرة متخاصمة- تحت رايته، ثم يجمع شمل معد ويضمها كلها إليه، فتكون له الرئاسة على كل قبائلها، وهو بذلك أحد النفر الذين اجتمعت عليهم معد2. ومن النفر الذين اجتمعت معدّ عليهم: عامر بن الظرب بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث -وهو عدوان بن قيس عيلان- وربيعة بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن كلب، وكان قائد معدّ يوم السلان بين أهل اليمامة واليمن3. ولمع في هذه الأيام اسم حذيفة بن بدر، واسم حمل أخيه، وكان سيّدي بني فزارة. وقد عرف حذيفة بـ"رب" معد4، وقاد قومه بني فزارة في عدة أيام، هي: يوم النسار، ويوم الجفار، وحرب داحس والغبراء حيث قُتل فيها في يوم الهباءة5. وقد رأينا عدة رجال آخرين يتزعمون قومهم في هذه الأيام، مثل بسطام بن قيس رئيس بني شيبان، وهو من مشاهير الفرسان، وأحد الفرسان الثلاثة المعدودين، وهم: عامر بن الطفيل، وعتيبة بن الحارث وبسطام، وربيعة بن مُرة بن

_ 1 ابن الأثير "1/ 205 وما بعدها"، الأغاني "21/ 93 وما بعدها"، المفضليات "117"، Ency., Iv, P.1237 2 ابن الأثير "1/ 213". 3 ابن الأثير "1/ 214". 4 العمدة "2/ 192" "باب ذكر الوقائع والأيام"، المحبر "461". 5 المحبر "249".

الحارث التغلبي، والهذيل بن هبيرة الثعلبي من ثعلبة بن بكر، والحوفزان، وهو الحارث بن شريك بن عمرو بن الشيباني، والحارث بن وعلة الذُّهلي، وأبجر بن جابر العِجلي، وقيس بن حسان بن عمرو بن مرثد أخو بني قيس بن ثعلبة، وقتادة بن مسلمة الحنفي، وأثال بن حجرين النعمان بن مسلمة الحنفي، والهذيل ابن عمران التغلبي. وقد دوّنت الأيام أسماء جماعة من سادات تميم ممن ترأسوا قومهم. ولقبائل تميم مكان في هذه الأيام. ويظهر أنها كانت من القبائل البارزة في القرن السادس للميلاد. ومن هؤلاء: زرارة بن عدس من بني دارم. وقد قاد تميمًا وغيرها في يوم شويحط إلى عذرة بن سعد هذيم، ولقيط بن زرارة، وقد قاد تميمًا كلها إلا بني سعد بن زيد مناة إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبلة، والأقرع بن حابس، وقد قاد حنظلة كلها يوم الكلاب الأول، عدا أسماء آخرين تجدهم مذكورين في أخبار الأيام. وطبيعي أن يكون للفرسان وللفتّاك وللشعراء المقام الأول بين أسماء الرجال الذين ترد أسماؤهم في هذه الأيام. وإن لم يكونوا من بيوتات شهيرة معروفة، لها في الرئاسة ذكر ومقام، فأعمال المرء كافية لتخليد اسمه بين المشاهير. وإذا كان للشاعر عمل التشجيع والحث على الإقدام، وإلهاب نار الحماسة في النفوس، فإن للفارس والفاتك واجبًا مهمًّا في هذه الأيام، فإنهم يقررون في الغالب مصير الحروب ولا سيما الفرسان الفتاك الذي يختارون كباش القوم، فيقضون عليهم ويفتكون بهم، وبعملهم هذا تنتهي الحرب في الغالب بهزيمة تحل في الجبهة التي تتضعضع بسقوط الرئيس. فإن لسقوط الرئيس صريعًا شأنًا كبيرًا عند القبائل. فالرئيس هو الرمز المعنوي للقبيلة. فمتى سقط الرئيس انهارت معنوياتها وخارت قواها، ولا تستطيع عندئذ الثبات في الميدان، فيهرب أفرادها في غالب الأحوال، ويكون النصر للجانب الذي أسعده الحظ بوجود فارس عنده قتل رئيس خصمه. وإن كان للخيل أثر في حروب تلك الأيام، في الهجوم والدفاع وفي الكر والفر، فإن القبيلة التي كانت تملك فرسانًا وعددًا وافرًا من الخيل، هي القبيلة المنتصرة الرابحة التي يخشى بأسها، فلا يطمع فيها الطامعون. ولا يهاجمها مهاجم بسهولة، ولها يكون الفخر على القبائل بكثرة ما لديها من خيل ومن فرسان،

لأن للفرس والفارس شأنًا كبيرًا في سرعة كسب الحرب، وتفتيت جبهة العدو، وإحداث ثُغَر في صفوفه، تؤدي إلى تشتيت شمله وبعثرته ثم هزيمته هزيمة منكرة. وهي لقوتها هذه لم تكن تعتمد على غيرها في الحروب والغزو، إلا إذا قابلت بالطبع قوة كبيرة من القبائل لا يمكن التغلب عليها إلا بالتعاون مع القبائل الأخرى فعندئذ تضطر إلى البحث عن حليف.

الفروسية

الفروسية: والفارس فخر القبيلة؛ لأنه المدافع عنها في الحروب والمهاجم الكاسر للأعداء. وهو أهم من الراجل في القتال، لما له من أثر في كسب النصر وفي إيقاع الرعب والفوضى في صفوف العدو. ولهذا فخرت القبائل بفرسانها، وفي كثرة الفرسان في القبيلة دلالة على عظمتها وقوتها. نظرًا لغلاء ثمن الفرس، ولأهميته في تطوير الحرب وفي توجيهها، وإنهائها في صالح من له أكبر عدد من الفرسان. ومن حسن حظ القبيلة أن يكون بها عدد وافر من الفرسان، وعدد من الشعراء فالفارس فنان القبيلة في الحرب وفارسها في الطعان وحامي الذمار والعرض، والشاعر فارس الكلام، يؤجج نيران العواطف ويلهب جذوة الحماس في النفوس، ويدفع الفارس إلى الإقدام، وبذلك يساعد في كسب النصر لقبيلته، وفي الدفاع عن عرض القبيلة بسلاحه الموزون المقفى. وقد حفظت ذاكرة أهل الأخبار أسماء جماعة من فرسان الجاهلية، دوّنت في كتبهم، فوصلت بفضل تدوينهم لها إلينا. وعلى رأس من دوّنوا أسماءهم في الشهرة وبعد الصيت: "عنترة بن شداد العبسي" الذي لا يزال الناس يضربون به المثل في الشجاعة. وهو أحد "أغربة العرب" وهم ثلاثة: أولهم هو، وثانيهم "خفاف" واسم أمه "ندبة"، وثالثهم "السليك" واسم أمه "السلكة"، وأم الثلاثة إماء سود. كانت أم "عنترة" أمة سوداء، اسمها "زبيبة"، فلما كبر أغار بعض أحياء العرب على قوم من "عبس"، فأصابوا منهم. فتبعهم العبسيون، فلحقوهم فقاتلوهم وفيهم عنترة. فقال له أبوه: "كر يا عنترة"، فقال: "العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر"، وذلك أن العرب في الجاهلية كانت إذا كان لأحدهم ولد من أمة استعبده، فعدّ "عنترة" من العبيد.

فقال له: كر وأنت حر. فقاتلهم واستنقذ ما في أيدي القوم من الغنيمة، فادعاه أبوه بعد ذلك، واسمه "عمرو بن شداد". فنسب إليه. وقد برز اسمه في حرب "داحس والغبراء". وقد قتل فيها ضمضمًا المريّ، أبا الحصين بن ضمضم. وقد كان مصيره القتل كذلك. وتزعم "طيء" أن قاتله منها. ويزعمون أن الذي قتله "الأسد الرهيف"1. ومن مشاهير الفرسان "ربيعة بن مكدم" وهو من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة. وقد عرف "بنو فراس" بالشجاعة والنجدة. وقد كان يعقر على قبره تعظيمًا له وتقديرًا. مر على قبره "حسان بن ثابت"، فقال فيه شعرًا2. و"ملاعب الأسنة"، وهو "عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"، "أبو براء"، وهو ممن اشتهر بالفروسية كذلك. وكان سيدًا في قومه. ذكر أنه أخذ أربعين مرباعًا في الجاهلية. وفي ذلك دلالة على ما كان له من مقام في قومه. قيل إنه سمي "ملاعب الأسنة" بقول أوس بن حجر: ولاعب أطراف الأسنة عامر ... فراح له حظ الكتيبة أجمع3 وقد عرف بـ"ملاعب الرماح" كذلك4. وقد لقب بهذا اللقب في شعر الشاعر "لبيد"5. وذكر "السكري". "عامر َبن مالك" في جملة من اجتمعت عليه هوازن، ولم تجتمع هوازن كلها في الجاهلية إلا على أربعة نفر من "بني جعفر بن كلاب" وهم: "خالد بن جعفر بن كلاب" بعد قتله "زهير بن جذيمة بن رواحة" و"عروة الرحال بن عتيبة بن جعفر" و"الأحوص بن جعفر"

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 126 وما بعدها"، الدينوري، عيون الأخبار "1/ 125". 2 بلوغ الأرب "2/ 125". 3 بلوغ الأرب "2/ 127"، تاج العروس "3/ 423"، "عمر"، "ومن رجال بني جعفر بن كلاب: عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وابن أخيه عامر بن الطفيل"، الاشتقاق "2/ 180"، الإصابة "2/ 249"، "رقم4424". 4 الثعالبي، ثمار "101، 102". 5 الثعالبي، ثمار "101".

و "عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"1. و"عامر بن الطفيل بن مالك بن كلاب العامري"، من فرسان الجاهلية المعروفين أيضًا، وهو ابن أخي "عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وقد أدرك الإسلام فكان في جملة من وفد مع قومه في سنة تسع من الهجرة على الرسول. وكان قد أضمر الغدر برسول الله. ولكنه لم يتمكن منه. ثم قال لرسول الله: أتجعل لي نصف ثمار المدينة وتجعلني ولي الأرض بعدك فأسلم؟ فأبى عليه رسول الله. فانصرف عامر وقال: والله لأملأنها عليك خيلًا ورجالًا. وكان متعجرفًا متغطرسًا، لما ناله من مكانة عند قومه. حتى زعم أهل الأخبار أن اسمه كان قد طار إلى خارج جزيرة العرب، حتى بلغ "قيصر"، فكان "قيصر" إذا قدم عليه قادم من العرب قال: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ حتى وفد عليه "علقمة بن علاثة" فانتسب له، فقال: ابن عم عامر بن الطفيل، فغضب علقمة2. ورجع ونافر "عامر بن الطفيل" في قصص من هذا القصص المألوف وروده عن أهل الأخبار. وروى بعض أهل الأخبار، أن "عامر بن الطفيل" لما مات نصبت بنو عامر نصابًا ميلًا في حمي على قبره، لا تنشر فيه راعية ولا يرعى ولا يسلكه راكب ولا ماش. تعظيمًا لقبره واحترامًا لذكراه3. وذكر "أبو عبيدة"، أن "عامر بن الطفيل"، أحد فرسان العرب المعروفين و"فرسان العرب ثلاثة: فارس تميم: عتيبة بن الحارث بن شهاب، وكان يقال له: صياد الفوارس وسم الفوارس، وفارس ربيعة: بسطام بن قيس بن مسعود، وفارس قيس: عامر بن الطفيل ملاعب الأسنة. فأما ملاعب الرماح فأبوه براء عامر بن مالك بن جعفر4. وذكر أن "عامر بن مالك بن جعفر، "أبو براء"، بعث إلى رسول الله يسأله أن يوجه إليه قومًا يفقهونهم في الدين،

_ 1 المحبر "253 وما بعدها"، أسد الغابة "3/ 84". 2 بلوغ الأرب "2/ 129"، الاشتقاق "180، 215"، الأغاني "15/ 50، 131". 3 بلوغ الأرب "2/ 131"، العقد الفريد "1/ 172". 4 الثعالبي، ثمار "101"، "وبسطام اسم فارسي، وبسطام أحد الفرسان الثلاثة المذكورين عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وبسطام هذا"، الاشتقاق "2/ 225".

فبعث إليهم قومًا من أصحابه، فعرض لهم "عامر بن الطفيل"، فقتلهم يوم "بئر معونة" فاغتم أبو براء لذلك، وقلق لإغفار عامر بن الطفيل بقتلهم ذمته. ومات "عامر بن الطفيل، وهو منصرف من عند رسول الله، ودعا "أبو براء" قينتين له، واستدعى "لبيدًا"، وأخذ يشرب حتى أثقله الشراب، فاتكأ على سيفه حتى فاضت نفسه، فرثاه "لبيد"، ودعاه بـ"ملاعب الرماح"1. وقد عدّه أهل الأخبار في جملة "من كان يركب الفرس الجسام فتخط إبهامه في الأرض"2، وفي جملة "العوارن الأشراف"3. وقد نافر "عامر بن الطفيل" "علقمة بن علاثة" عند "هرم بن قطبة بن سنان"4. وزُعم أنه كان في جملة من أوفدهم "النعمان بن المنذر" إلى "كسرى" ليبينوا له مكارم العرب، وفي الوفد: أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، والحارث بن عبّاد البكري، وعمرو بن الشريد السلمي، وخالد بن جعفر الكلابي، وعلقمة بن علاثة. فتكلم في جملة من تكلم منهم. ودوّن أهل الأخبار كلامهم وأجوبة كسرى عليه، وكأنهم كانوا كتّاب محضر، دوّنوه بالنص5! وله منافرة مع "علقمة بن علاثة"، كان حكمها "هرم بن قطبة بن سنان" الفزاري. وقد سجل أهل الأخبار حديثها بالنص كذلك6. ويعدّ "زيد الخيل" من مشاهير فرسان العرب كذلك، واسمه "زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب الطائي". وهو من سادات "طيء" ومن الشعراء وكان بينه وبين "كعب بن زهير" هجاء؛ لأن كعبًا اتهمه بأخذ فرس له. قدم في وفد طيء، وهو سيدهم على الرسول. فلما انتهوا إليه كلموه. وعرض عليهم الإسلام فأسلموا. ثم بدل الرسول اسمه فسماه زيد الخير. وكلمه فأعجبه فلما ولى عائدًا من عنده إلى وطنه قال الرسول: "ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا ما كان من زيد الخيل، فإنه لم

_ 1 الثعالبي، ثمتر "101 وما بعدها"، المحبر "118". 2 المحبر "234". 3 المحبر "303". 4 المحبر "135". 5 البيان والتبيين "1/ 45". 6 بلوغ الأرب "1/ 288 وما بعدها".

يبلغ فيه كل ما فيه"، وقطع له "فيدًا" وأرضين معه. وكتب له بذلك. فلما عاد من المدينة وانتهى إلى ماء من مياه نجد يقال له: "قردة" أصابته الحمى، حمى يثرب الشهيرة المكناة عندهم بـ"أم ملدم"، فمات بها1. وكان كما يصفه أهل الأخبار طويلًا جسيمًا وسيمًا يركب الفرس العظيم الطويل فتخبط رجلاه في الأرض كأنه راكب حمارًا. أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته2. "قيل له زيد الخيل لطول طراده بها وقيادته لها"3. وقد عدّه "ابن حبيب" في جملة المتعممين مخافة النساء على أنفسهم لجمالهم4. ومن الفرسان "عمرو بن معديكرب"، وهو ممن وفد على رسول الله في قومه من "زبيد". فأسلم ثم ارتد بعد وفاة الرسول5. فلما سيّر الخليفة "أبو بكر" جيشًا على المرتدين انهزم "عمرو بن ودّ"، ثم أخذ أسيرًا إلى الخليفة، فأنبه فعاد إلى الإسلام واشترك في معركة "اليرموك" ثم في معركة "القادسية" وتوفى سنة "21" من الهجرة6. ويعد "فارس اليمن"7. ونعته "ابن حبيب" بـ"فارس العرب"8. ومنهم: "دريد بن الصِّمة"، وهو من "بني جشم". وله أخبار مع "بني كنانة"، وقد أسرته بنو فراس من "بني كنانة"، فلما عرفته امرأة منهم وهي امرأة "ربيعة بن مكدم"، توسلت إلى قومها بفك أسره، لمساعدته لها في وقت شدة وهو لا يعرفها وهي لا تعرفه، ثم جهزته ولحق بقومه9. وقد عده "ابن حبيب" من "أشراف العميان" و"البرص الأشراف"10.

_ 1 الطبري "3/ 145 وما بعدها"، "وكان شاعرًا، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم. فسماه زيد الخير، وقال له: يا زيد ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا كان دون الصفة ليسك. يريد غيرك، الثعالبي، ثمار "101". 2 بلوغ الأرب "2/ 138". 3 الثعالبي، ثمار "101". 4 المحبر "232 وما بعدها". 5 الطبري "3/ 132 وما بعدها". 6 بلوغ الأرب "2/ 131 وما بعدها"، الثعالبي، ثمار "439، 535، 621"، وفقئت عينه يوم اليرموك، المحبر "261، 303". 7 الثعالبي، ثمار "621 وما بعدها". 8 المحبر "2/ 245". 9 بلوغ الأرب "2/ 134 وما بعدها"، الثعالبي، ثمار "397"، "فمن بني غزية دريد بن الصمة"، الاشتقاق "177". 10 المحبر "298، 299".

وزيد الفوارس من هذا الرعيل الشهير من فرسان الجاهلية. وكان الرؤساء في قومه. وشهد يوم "القرنتين" ومعه ثمانية عشر من ولده يقاتلون معه، وهو من سادات "بكر بن سعد بن ضبة". وهو "زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي". وقد طالت رياسته1. ومنهم "عمرو بن كلثوم" الشاعر الشهير قاتل "عمرو بن هند" ملك الحيرة وصاحب المعلقة. وينتهى نسبه إلى "تغلب"، وهو أحد فتاك العرب وأخوه "مرة" هو الذي قتل "المنذر بن النعمان"، وأمه "أسماء بنت مهلهل بن ربيعة". وقد ساد قومه وهو ابن خمس عشرة سنة، ومات وهو ابن مائة وخمسين سنة2. ومن الفرسان الشجعان "أمية بن حرثان الكناني"، وكان من سادات قومه، وقد أدرك النبي وأسلم، وله ولد اسمه "كلاب بن أمية" دخل في الإسلام كذلك3. ومن الفرسان "الشنفرى الحارثي" وهو من الشعراء وأحد العدّائين. والعدّاءون من العرب: السليك، والشنفرى، والمنتشر بن وهب، وأوفى بن مطر. ولكن المثل سار من بينهم بالسليك. والعرب تضرب به المثل، وتزعم أنه والشنفرى أعدى من رئي، ويزعمون أنهما كانا يسبقان الأفراس، ويصيدان الظباء عدوًا4. وقد عرف السليك بـ"سليك المقانب" ومقانب أمه، وكانت أمه سوداء، وسليك أيضًا أسود، وهو أحد أغربة العرب5. ولمع في هذه الأيام اسم حذيفة بن بدر، واسم حمل أخيه، وكانا سيدي بن فزارة. وقد عرف حذيفة بـ"رب" معد6، وقاد قومه بني فزارة في عدة أيام هي: يوم النسار، ويوم الجفار، وحرب داحس والغبراء حيث قتل فيها

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 137 وما بعدها"، "قال الفرزدق: زيد الفوارس وابن زيد منهم ... وأبو قبيصة والرئيس الأول وزيد الفوارس بن حسين بن ضرار، واشتقاق قبيصة من قولهم قبصت قبصة، أي: أخذت بثلاث أصابعي شيئًا" والاشتقاق "120". 2 بلوغ الأرب "2/ 141 وما بعدها". 3 الاشتقاق "107"، بلوغ الأرب "2/ 138". 4 الثعالبي، ثمار "135". 5 الأغاني "18/ 133 وما بعدها"، الثعالبي، ثمار "105". 6 العمدة "2/ 193" "باب ذكر الوقائع والأيام" المحبر "461".

يوم الهباءة1. وقد دونت الأيام أسماء جماعة من سادات تميم ممن ترأسوا قومهم. ولقبائل تميم مكان خطير في هذه الأيام. ويظهر أنها كانت من القبائل البارزة في القرن السادس للميلاد. ومن هؤلاء: زرارة بن عدس من بني دارم. وقد قاد تميمًا وغيرها في يوم شويحط إلى عذرة بن سعد هذيم، ولقيط بن زرارة، وقد قاد تميمًا كلها إلا بني سعد بن زيد مناة إلى بني عامر بن صعصعة يوم جبلة، والأقرع بن حابس، وقد قاد حنظلة كلها يوم الكلاب الأول، عدا أسماء آخرين تجدهم مذكورين في أخبار الأيام.

_ 1 المحبر "249".

الخيل

الخيل: وللخيل أهمية كبيرة في جزيرة العرب، إنها سيارة ذلك اليوم، بل ربما كانت أهم منها عند العربي: يركبها ويحارب عليها بسهولة وبسرعة لا تتوفر في الجمل ويستطيع أن يسابق بها الإبل، ويفر ممن يريد اللحاق به لشرٍّ ينويه تجاهه. ولذلك كانت للخيل مكانة كبيرة عند الجاهليين في السلم وفي الحرب. حتى كان الرجل منهم يبيت طاويًا ويشبع فرسه ويؤثره على نفسه وأهله وولده، فالخيل وقاية للنفس, والمعاقل التي يأوي إليها، والخير عندهم معلق بنواصي الخيل1. ويرجع أهل الأخبار تأريخ ركوب الخيل إلى "إسماعيل بن إبراهيم"، يزعمون أنه أول من ركبها، وكانت الخيل وحوشًا لا تركب. فذهب إلى موضع "أجياد"، وهو موضع بمكة يلي الصفا، وكان موطنًا له، فركب ظهور الجياد. وركب الناس منذ ذلك العهد الخيل. فإسماعيل على زعمهم هو أول راكب للخيل2. ويلاحظ أن راوي هذا الخبر أراد إقناع السائل بصحة جوابه، فربط بين ركوب ظهور الجياد وبين موضع أجياد، ليبدو الجواب منطقيًّا مقبولًا. وقد مدحت العرب الخيل العراب, أي: الخيول العربية الأصيلة، التي لم تهجن,

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 77 وما بعدها". 2 نهاية الأرب "9/ 345 وما بعدها".

ولم يختلط في دمها دم غريب1, وقد مدحت الخيل الشقر، وذلك لسرعتها، ومدحت بعدها الحصان الأدهم الأرثم المحجل المطلق اليد اليمنى2. وقيل للخيل الكريمة الأصيلة "العتاق من الخيل" و"الخيل العتاق"3. وقد كانت الخيل من جملة وسائل كسب الحروب. والفريق الذي يملك أكبر عدد من الخيل في المعركة يكسب الحرب. وذلك لسرعتها ولما تحدثه تحركات المحارب على ظهرها من أثر في صفوف جيش العدو. ولهذا عدّ بعض الباحثين دخول الخيل إلى جزيرة العرب تطورًا خطيرًا في أسلوب القتل عند العرب, أحدث تغييرًا خطيرًا في طرق القتال وصار عاملًا مهمًّا من العوامل التي أدت إلى انتشار القتال والغزو في بلاد العرب. وصار في إمكان القبيلة التي تملك خيلًا جيدة كثيرة أن تتفوق على غيرها في الغزو، حتى إذا كانت القبيلة كبيرة؛ لأن العدد الكثير وإن كان ذا أهمية في النصر، ولكنه لا يستطيع أن يقف أمام الفرسان، إن كان المحاربون من المشاة أو كان أكثرهم منهم. إذ لا يستطيع الثبات أمام صولات وجولات الفرسان الذين يشتتون شمل الصفوف ويمزقون الجمع، ويمهدون لمن وراءهم من المشاة فرصة الانقضاض على الفارين المنهزمين. ولأهمية الخيل عند العرب ألّف كثير من العلماء كتبًا فيها، تجد ذكرهم في "الفهرست" لابن النديم. ومن هؤلاء "ابن الكلبي" صاحب كتاب "أنساب الخيل"4. و"ابن الأعرابي" صاحب كتاب "أسماء الخيل" 5. ووضعوا جرائد ومشجرات في أنساب الخيل. حرصًا منهم على المحافظة على أصالتها وبقاء جنس ما عندهم نقيًّا نظيفًا. ومنعوا الفحول الجيدة منها من الاتصال بالأفراس الرديئة أو الأفراس المجهولة التي ليس لها نسب معروف؛ حتى لا يتولد من هذا الاتصال نسل رديء هجين. بل حرص صاحب الحصان الجيد على ألا يعطيه لأحد ليتصل بفرسه حتى وإن كانت غاية في النجابة, وذلك خشية أن ينسل نسلًا فاخرًا لغيره, ولا يكون له منه شيء. ولا تزال هذه العادة معروفة

_ 1 تاج العروس "3/ 335 وما بعدها". 2 نهاية الأرب "9/ 362 وما بعدها". 3 اللسان "10/ 236". 4 طبع بمدينة "لايدن" وبالقاهرة بمطبعة بولاق. 5 طبع بمدينة "لايدن".

عند العرب حتى الآن، فهم يحفظون أنساب خيولهم حفظًا عجيبًا، من غير رجوع إلى جريدة نسب أو شجرة من شجرات النسب. كما يحافظون على النسل الجيد من الخيول العربية، ويعتنون به عناية فائقة، إذ يرون أنه زينة وبهجة للمرء، ومن ملذات الحياة في هذه الدنيا. ومن دلائل عناية الجاهليين بالخيل ما نجده في اللغة من ألفاظ وكلمات كثيرة تخص الخيل. تخص أسماءها وأسماء أعضاء جسمها وحركاتها وسكناتها وأوصافها وألوانها، حتى إنهم لم يتركوا شيئًا له علاقة بها إلا ذكروه. فلا عجب إذن إذا ما ألفوا فيها الرسائل والكتب وتحدثوا عنها حديثًا طويلًا في الجاهلية وفي الإسلام. وقد اشتهرت بعض الجياد في الجاهلية بشدة عَدوها فلا تدانيها في العدو خيول أخرى، وفي مقدمتها فرس عرف بـ"زاد الركب" "زاد الراكب"، قالوا: إن أصل فحول العرب من نتاجه. وقد زعم ابن الكلبي أنه من بقية جياد سليمان بن داود، وأن وفدًا من "الأزد"، وكانوا أصهاره، وفدوا عليه، فلما فرغوا من حوائجهم سألوه أن يعطيهم فرسًا من تلك الخيل، فأعطاهم فرسًا كانوا لا ينزلون منزلًا إلا ركبه أحدهم للقنص، فلا يفلته شيء وقعت عينه عليه من ظبي أو بقر أو حمار، إلى أن قدموا بلادهم فقالوا: ما لفرسنا هذا اسم إلا زاد الراكب، فسموه زاد الراكب، فأصل فحول العرب من نتائجه1. واشتهر فرس آخر بسرعته وبشدة عدوه اسمه "أعوج"، زعم أنه من نسل "زاد الراكب". قيل: إنه كان سريعًا جدًّا لا يدانى في العَدْو. وكان فحلًا لغني بن أعصر. وقد عرف بـ"أعوج الأكبر"2. وكان "أعوج" الأصغر أوَّلًا لكندة، ثم أخذته "سُليم" وصار لبني عامر ثم لبني هلال. وأمه "سبل" لغني، وأم "سبل" "سوادة" "البشامة"، وأم "سوادة" "القسامة"، وكانت لجعدة. وكان أعوج طويل القوائم سريع العدو. ولهم أيضًا "الفياض"3. وقد اشتهر نسله، واكتسب شهرة في العتاق من

_ 1 العقد الفريد "1/ 184"، نهاية الأرب "10/ 39"، أسماء الخيل، لابن الأعرابي "ص50"، "زاد الركب". 2 العقد الفريد "1/ 185"، نهاية الأرب "10/ 39"، بلوغ الأرب "2/ 104". 3 نهاية الأرب "10/ 40"، العمدة "2/ 234"، "وأمه سبل كانت لغني، وأم سبل البشامة، كانت لجعدة"، العمدة "2/ 234"، "القاهرة 1964" "المكتبة التجارية".

الخيل1. ومن خيل العرب المشهورة: "الغراب" و"الوجيه" و"لاحق" و"المذهب" و"مكتوم"، كانت كلها لغني2. وذكر أن "الوجيه" و"لاحق" لبني أسد3، وقيل: لبني سعد4. و"الأعنق" فحل من خيل العرب، أنجب سلالة نسبت إليه عرفت بـ"بنات أعنق"5. ومن خيل العرب الشهيرة الأخرى: "قيد" و"حلاب" لبني تغلب. و"الصريح" لبني نهشل، وزعم أنه كان لآل المنذر، و"جلوى" لبني ثعلبة بن يربوع، وذو العقال لبني رياح بن يربوع، وهو أبو "داحس". وكان "داحس" و"الغبراء" لبني زهير. والغبراء خالة داحس وأخته من أبيه. و"ذو العقال" و"قرزل" و"الخطَّار" و"الحنفاء" لحذيفة بن بدر. والحنفاء هي أخت داحس من أبيه وأمه. و"قرزل" آخر للطفيل بن مالك6. و"حذفة" لخالد بن جعفر بن كلاب، وحذفة أيضًا لصخر بن عمرو بن الشريد. و"الشقراء" لزهير بن جذيمة العبسي، و"الزعفران" لبسطام بن قيس، و"الوريعة" "الوديقة" و"نصاب" و"ذو الخمار" لمالك بن نويرة، و"الشقراء" أخرى لأسيد بن حناءة السليطي، و"الشيط" لأنيف بن جبلة الضبي، و"الوحيف" "الوجيف" لعامر بن الطفيل، و"الكلب" و"المزنوق" والورد له أيضًا، و"الخنثى" "خنثى" لعمرو بن عمرو بن عدس، و"الهداج" فرس الريب بن شريق السعدي، و"جزة" فرس يزيد بن سنان المرّي فارس غطفان، و"النعامة" للحارث بن عباد7. و"ابن النعامة" لعنترة، و"النحام" فرس "السليكة بن السليك السعدي" و"العصا" فرس جذيمة بن مالك الأزدي، و"الهراوة" لعبد القيس بن أفصى

_ 1 نجى حكيمًا يوم بدر ركضه كنجاء مهر من بنات الأعوج بلوغ الأرب "2/ 105"، شرح ديوان حسان "69"، "للبرقوقي". 2 نهاية الأرب "10/ 40". 3 نهاية الأرب "10/ 40". 4 العمدة "2/ 234". 5 تاج العروس "7/ 26"، "عنق". 6 نهاية الأرب "10/ 41"، العمدة "2/ 235". 7 نهاية الأرب "10/ 41 وما بعدها"، العمدة "2/ 235"، أنساب الخيل، "ص66 وما بعدها"، أسماء الخيل "ص64 وما بعدها".

و "اليحموم" فرس النعمان بن المنذر، و"كامل" فرس زيد الخيل، و"الزبد" "الربد" "الريد" فرس الحوفزان، وهو أبو "الزعفران" فرس بسطام، و"العرادة" "الحمالة" فرس الكلحبة اليربوعي1. و"القطيب" و"البطين" فرسان كانا للعرب، و"اللعاب" "العباية" فرسًا حريّ بن ضمرة، و"المدعاس" فرس النواس بن عامر المجاشعي، و"صهبى" فرس النمر بن تولب، و"حافل" فرس مشهور، ذكره "حرب بن ضرار" و"العسجدي" لبني أسد، و"الشموس" فرس زيد بن خذاق "حذاق" العبدي، و"الضيف" لبني تغلب، و"هرارة العزاب" فرس الريّان بن حويص العبدي، جاءت سابقة طول أربع عشرة سنة، فتصدق بها على العُزّاب يتكسبون عليها في السباق والغارات، و"الحرون" فرس تنسب إليه الخيل، وكان لمسلم بن عمرو بن أسد "أسيد الباهلي"، و"الزليف" فرس مشهور، وهو من نسل "الحرون" و"مناهب" فرس تنسب إليه الخيل أيضًا، و"العلهان" فرس أبي مليل "مليك" عبد الله بن الحارث اليربوعي2. وذكر أن أفراس العرب الشهيرة أفراس عرفت بـ"الكامل" منها: فرس لميمون بن موسى المري، وقال بعضهم: بل كان لامرئ القيس, وفرس لرفاد بن المنذر الضبي، وفرس الهلقام الكلبي، وفرس الحوفزان بن شريك الشيباني، وفرس سنان بن أبي حارثة المريّ، وفرس زيد الفوارس الضبي، وفرس شيبان النهدي، وفرس زيد الخيل الطائي3. ومن أفراس العرب: فرس عرفت بـ"الكاملة"، وهي بنت البعيث، فرس عمرو بن معديكرب. وفرس ليزيد بن قنان الحارثي4. وكان للرسول تسع عشرة فرسًا، اشترى بعضًا منها، وتقبل بعضًا منها هدية. وقد اشترى "الضرس" من أعرابي بعشر أوراق، وسماه النبي "السكب" وهو فرسه يوم أحد، ليس مع المسلمين فرس غيره5. واشترى "المرتجز"

_ 1 العمدة "2/ 235"، نهاية الأرب "10/ 43 وما بعدها". 2 العمدة "2/ 235 وما بعدها"، نهابة الأرب "10/ 46 وما بعدها"، وكذلك أنساب الخيل، وأسماء الخيل. 3 تاج العروس "8/ 104"، "كمل". 4 تاج العروس "8/ 104"، "كمل". 5 نهاية الأرب "10/ 33 وما بعدها"، العمدة "2/ 234"، المعارف "65".

و "البحر"، وقد اشتراه من تجار قدموا من اليمن، فسبق عليه مرات1. واشترى "سبحة" من أعرابي من "جهينة" بعشرة من الإبل. ومن الخيل التي أهديت للرسول: "اللحيف" "اللخيف" "النحيف"، أهداه له: "فروة بن عمرو" من أرض البلقاء. وقيل أهداه له: "ربيعة بن أبي البراء" و"الظرب"، أهداه له "فروة بن عمرو بن النافرة الجذامي"، و"الورد"، أهداه له "تميم الداري"، و"المراوح" أهداه له وفد من الرهاويين، و"اللزاز" أهداه له "المقوقس"2. ويدفعنا الكلام في تعداد أسماء خيول العرب الشهيرة في الجاهلية إلى ذكر جريدة طويلة بأسمائها. ترد في كتب الخيل وفي كتب المعجمات والأدب3، ولما كان هذا الموضوع معروفًا ومدوّنًا ولا صلة له بالعقلية وبالحياة الجاهلية لذلك اكتفيت بما أوردته عنها في هذا المكان، ولمن أراد المزيد الرجوع إلى الموارد المذكورة

_ 1 نهاية الأرب "10/ 35"، المعارف "65". 2 "ذكر أسماء خيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم"، نهاية الأرب "10/ 33 وما بعدها"، العمدة "2/ 234" "باب العتاق من الخيل ومذكوراتها"، المعارف "ص65". 3 بلوغ الأرب "2/ 104 وما بعدها"، "خيل العرب المشهورة".

الفصل الخامس والخمسون: الحروب

الفصل الخامس والخمسون: الحروب مدخل ... الفصل الخامس والخمسون: الحروب ترك المصريون والآشوريون والبابليون واليونان والرومان وغيرهم آثارًا كثيرة, فيها صور معارك وأسلحة ومعدات وجنود مقاتلين أو مستأسرين أو منتصرين، أفادت الآثاريين والعلماء في تكوين رأي في حروب تلك الأمم والآلات التي استعانت بها في قتالها. أما الجاهليون فلم يتركوا، ويا للأسف، إلا نزرًا يسيرًا من الآثار فيه صور حروب أو جنود أو معدات قتال، لهذا صار علمنا بالحروب عندهم مستمدًّا من تلك النصوص القليلة, ومن نصوص معدودة وردت في الآثار الآشورية أو البابلية وفيها إشارات إلى العرب. ومن موارد أعجمية مكتوبة تحدثت عن حروب وقعت مع العرب، ومن الموارد الإسلامية. ولفظة "الحرب"، وتجمع على حروب، هي اللفظة الشائعة المعروفة عند الجاهليين للخروج لمحاربة العدو والاصطدام به، وترادفها لفظة "ضر" وتجمع على "اضرو" في اللهجات اليمانية1. وهناك لفظة أخرى هي "غزو" وتعني الخروج لمحاربة العدو2. فهي في معنى الحرب والغزو. وترد في اللهجات العربية الجنوبية أيضًا3. ويراد بـ"غزت" غزوات في عربيتنا، أي في حالة

_ 1 تاج العروس "1/ 205"، اللسان "1/ 302"، راجع السطر الخامس من النص الموسوم. Halevy 149, Rep. Epigr. 4624, Ii, P.276, Jamme 576, 577, Mahram, P.447 2 الأصفهاني: المفردات "ص366". 3 Jamme 586, Mahram, P.445

الجمع1. وبـ"غزوي" غزوتين اثنتين2. وأما لفظة "هغرو" فتعني أغاروا على قوم، والغارة هي "هغر" في العربية الجنوبية3. وترد لفظة "حربت" "ح ر ب ت". بمعنى معركة، وحربًا واحدة في اللغة السبئية. وأما "حريب" فتعني الحروب والمعارك، أي جمع "حرب"4. وأما "حرب" فتعني المحاربة وحارب والحرب5. وتطلق لفظة "ضبا" في السبئية بمعنى الحرب، وبمعنى إعلان الحرب أيضًا. ووردت لفظة "ضبات"، بمعنى مقاتلين ومحاربين6. وترد لفظة "تادم"، بمعنى الشروع في قتال والاستعداد لحرب7. ويقال للحرب: "ضرر" في اللحيانية. أما لفظة "الحرب"، فتعني السطو والسرقة، بالإضافة إلى معنى الحرب التي تعني الخصام والقتال8. ويعبر عن لفظة قاتل بلفظتي "سبا" و"جنب" في السبئية9. وتؤدي لفظة "حرب" هذا المعنى أيضًا، إذ إنها تعني حارب10. و"جنب"، بمعنى قتال وتعارك وتحارب. ويقال للحرب: "حرب" في اللهجة الصفوية، أي على نحو ما نجده في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم. ويعبر عن الحملة أو الغزوة بلفظة "برث" في السبئية11. ويقال لها: "خرجت" أيضًا. ويراد بـ"خرجت" ثورة كذلك12. ويعبر عن الحملة والغزوة بلفظة

_ 1 Jamme 586, Mahram, P.445 2 Jamme 577, Mahram, P.445 3 Mahram, P.433 4 Jamme 575, 577, 650, 658, 665, Mahram, P.436. 5 Mahram, P.436 6 Jamme 555, 577, 579, 581, 635, 636, 658, Mahram, P.446 7 Jamme 644, Mahram, P.447 8 راجع النص 41 و84 من كتاب: W. Caskel, 97, 118 9 Jamme 597, Mahram, P.430 10 Mahram, P.436 11 Jamme 561 Bis, 578, 635, Mahram, P.430 12 Jamme 665, 712, Mahram, P.437

"منشا" في بعض الأحيان1. ويعبر عنها بلفظة "مسبا" "مسبأ" كذلك2. كما يقال: "مقرن" أيضًا3. والعرب تقول: الحرب غشوم؛ لأنها تنال غير الجاني4. وتصيب أناسًا لا علاقة لهم بها ولا صلة، فهي لا تعرف التفريق بين الجاني ومن لا ذنب له5. وقد عرف علماء اللغة الجيش بأنه الجند، أو جماعة الناس في الحرب، والجمع جيوش6. وقالوا الجيش: العسكر7. فالمراد بالجيش إذن الجماعة المقاتلة التي تخرج للقتال. وترد لفظة "جيش" في العربيات الجنوبية كذلك. وتجمع على "اجيش" "أجيش" فيها، أي: في مقابل "جيوش" و"الجيوش" في عربيتنا8. ويذكر علماء اللغة أن الجيش واحد الجيوش، ويراد به جماعة الناس في الحرب 9. وترد لفظة "خمس" خميس" في العربيات الجنوبية بمعنى الجيش10. وترد في عربية القرآن الكريم كذلك. فقد ورد أن الخميس الجيش، أو الجيش الجرار، أو الجيش الخشن. وذكر بعض علماء اللغة أن العرب سمت الجيش خميسًا؛ لأنه مكون من خمس فرق: المقدم والقلب والميمنة والميسرة والساقة11. وقالوا: بل سمي الجيش خميسًا؛ لأنه يخمس فيه الغنائم12. والظاهر أن الأصل في "الخميس" الجيش المنظم الكبير الذي يحارب بإمرة وبنظام. وتجمع لفظة "خمس" أي: "جيش".

_ 1 Jamme 643, 644, Mahram, P.440 2 Jamme 665, 750, Mahram, P.440 3 Jamme 578, 586, Mahram, P.441 4 العقد الفريد "1/ 110" "لجنة". 5 الدينوري، عيون الأخبار "1/ 127". 6 لسان العرب "6/ 277"، تاج العروس "4/ 291". 7 لسان العرب "4/ 568". 8 Jamme 616, 635, 649, 665, 577, Mahram, P.430 9 اللسان "6/ 277"، تاج العروس "4/ 291". 10 Nami 71, 72, 73, Le Museon, 1967, 3-4, P.437 11 اللسان "6/ 70"، تاج العروس "4/ 140". 12 اللسان "6/ 70"، تاج العروس "4/ 140".

في العربية الجنوبية على "اخمس" أي: جيوش1. ويعبر عن الجيش بلفظة أخرى هي: عسكر و"العسكر". وأما الموضع الذي يعسكر فيه فهو "المعسكر"2. ويطلق الجاهليون على الجيش الكثير الذي لا يسير إلا زحفًا من كثرته "الجرار" ويطلقون على الجيش العظيم "الجحفل"3. ويقولون: "جيَّش الجيش" و"جيَّش فلان الجيوش" للتعبير عن التعبئة وتحضير المحاربين لقتال العدو4. وللعرب آداب وقواعد في الحرب، يطلبون من المحاربين اتباعها لكسب الحرب. قيل لأكثم بن صيفي: صف لنا العمل في الحرب، قال: أقلوا الخلاف على أمرائكم، فلا جماعة لمن اختلف عليه. واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، فتثبتوا، فإن أحزم الفريقين الركين، ورب عجلة تعقب ريثًا، وادرعوا الليل، فإنه أخفى للويل، وتحفظوا من البيات5. وقال عتبة بن ربيعة يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أما ترونهم خرسًا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الحيات6. و"المعسكر" هو موضع تجمع العسكر وموضع نزولهم فيه. ويقال له: "حيرت" "حيرة" في السبئية7. وتقول العرب: إن الشجاعة وقاية والجبن مقتلة. واعتبر من ذلك أن من يقتل مُدبرًا أكثر ممن يقتل مقبلًا8. وتقول أيضًا: الشجاع موقّى، والجبان مُلَقّى9. فاستقبال الموت عندهم، خير من استدباره. ولم يكونوا يهتمون بالكثرة قدر اهتمامهم بالألفة بين المحاربين، وبالعمل يدًا واحدة وكأنهم بنية مرصوصة. قيل لعنترة: كم كنتم يوم الفروق؟ قال: كنا مائة، لم نكثر فنتكل، ولم

_ 1 Mahram, P.437, Jamme 576, 635 2 اللسان "4/ 568". 3 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص281، 301، 303". 4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص376 وما بعدها". 5 العقد الفريد "1/ 113"، الدينوري، عيون الأخبار "1/ 108". 6 المصدر نفسه. 7 Jamme 576, 631, Mahram, P.436 8 العقد الفريد "1/ 116". 9 المصدر نفسه.

نقل فنذلّ1. وللحرب عند الجاهليين أسباب عديدة، يدخل في ضمنها ضنك العيش في البادية مما يحمل القبائل على التناحر والتقاتل فيما بينها للحصول على الماء والكلأ، وهما عماد الحياة في البادية، أو الحصول على غنيمة2. ويعبر عن هذه الحروب بـ"الغزو". والواحدة "غزو", وهي تعتمد على مبدأ المباغتة في الغالب. أما الحروب، فإنها الحروب الكبيرة التي تقع بين دول وحكومات. كما أن الغارة، هي غزو مفاجئ يفاجئ به العدو عدوّه، ليأخذه على غرة، ولينتزع منه ما يجده عنده من مال. وقد كانت القبائل تغير بعضها على بعض، ثم تتراجع حاملة ما حصلت عليه من غنائم وأسلاب، وقد ترجع، وهي مسلوبة مهزومة، في حالة تمكن من أريد إيقاع الغارة به من الدفاع عن نفسه، ومن تغلبه على المغير ورده خائبًا على الأعقاب. وتكون الغارات في وجه الصبح في الغالب، حتى يؤخذ من يراد الإغارة عليه بغرة ويفاجأ بالغارة مفاجأة. وقد يقصد في الليل من غير أن يعلم، فيؤخذ بغتة، والاسم "البَيات". و"بيت القومَ والعدوَّ: أوقع بهم ليلًا"3. وقد أشير إلى "البيات" في الحديث. فقد كان المسلمون يصيبون في البيات من ذراري المشركين، فسألوا الرسول حكمه فيهم. فكان حكمه: "هم منهم" و"هم من آبائهم"4. والغارة دفع الخيل على من يراد الإغارة عليهم. يقال: أغار على القوم غارة وإغارة، دفع عليهم الخيل. فتكون الغارة بالخيل في الأخص. ويقال: أغار إغارة الثعلب، إذا أسرع ودفع في عدوّه5. فالغارة غير الغزو والحرب، تكون سريعة في الغالب، يعقبها رجوع سريع.

_ 1 المصدر نفسه "1/ 121". 2 كتاب الفاخر "ص49"، "ليدن 1915م". 3 اللسان "2/ 16"، "بيت"، تاج العروس "1/ 531"، "بيت". 4 صحيح مسلم "5/ 144 وما بعدها"، "باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد". 5 تاج العروس "3/ 458"، "غور".

ويعبر عن الغارة بلفظة "تادم" في العربيات الجنوبية، وتطلق على كل حملة عسكرية أيضًا1. ولا تقتصر الغارات على غارات قطعات الجيش على العصاة والثوار. بل قد تقوم بها قبيلة على قبيلة، وقد يقوم بها أفراد، لأسباب مختلفة. وقد يقوم بها اللصوص والصعاليك، يغيرون على أحياء العرب وعلى السابلة للحصول على مغنم. وكان بعض أصحاب الغارات يمعنون في الغارة فيبتعدون عن منازلهم. ويعدّون "بُعد الغارة" نوعًا من أنواع الشجاعة والفروسية، لما تكتنف المغير من أخطار ومهالك. وكان "مروان بن زنباع"، ويقال له: "مروان القرظ" من "مشهوري أهل الجاهلية في بُعد الغارة"2. وكانت الغارات والغزوات من أهم وسائل الإعاشة والحصول على مغانم بالنسبة للقبائل النازلة على حدود الحضارة أو على مقربة منها, مثل: حدود العراق أو حدود بلاد الشأم. وتكثر الغارات في سني الجدب والقحط وانحباس المطر. فلا يبقى أمام تلك القبائل للبقاء على حياتها سوى النزوح إلى أماكن أخرى مخصبة معشبة، ويؤدي ذلك إلى التقاتل مع القبائل الأخرى النازلة في تلك الأرضين، أو مع قوات الحدود التي تحاول رد تلك القبائل خشية غزوها للحضر أو لمن يقيم وراء الحدود من أعراب. لذلك استعملت حكومات العراق وبلاد الشأم جملة وسائل لكبح جماح الأعراب الغزاة في جملتها حماية الحدود بـ"مسالح" بنيت في أطراف البوادي وفي نهايات الطرق التي توصل إلى الحضر، تضع بها قوات مقاتلة نظامية وغير نظامية من الأعراب أصحاب الإبل لمقاتلة الأعراب، وتقديم الأطعمة والميرة من المستودعات المقامة في "المسالح" و"القصور" إلى سادات القبائل لسد ما عندها من نقص في الطعام، وبإقامة إمارات عربية، تودع إليها أمور تأمين الأمن في البادية وحماية الحدود من غارات الأعراب.

_ 1 South Arabian Inscriptions, P.449 2 الاشتقاق "2/ 169".

المحاربون

المحاربون: والمحاربون على نوعين: أحرار وعبيد. ولذلك نجد بعض الكتابات العربية

الجنوبية تشير إلى هذين النوعين من المقاتلين، مما يدل على كثرة عدد العبيد الذين يؤمرون بالقتال في ذلك الزمن. جاء في نص "كرب إيل وتر"الموسوم بـGlaser Ioooa" وجيش عبدان من أحرار ورقيق". وورد هذا التعبير في نصوص أخرى تعبيرًا عن وجود عدد كبير وربما أفواج من المقاتلين العبيد في جيوش ذلك الزمن. والسخرة هي الطريقة الغالبة في التجنيد، فإذا وقع خطر، طلب الملك من الأقيال والرؤساء تسخير من يتمكنون تسخيره للقتال. ويبقى المسخر في الخدمة التي تنتهي الحرب. ولما كان المسخرون قد أجبروا على القتال إجبارًا، وهم من الطبقات الدنيا في الغالب، وليس لهم ما يقتاتون به، لذلك، كثرت حوادث التهرب من الجيش، والفرار منه في أثناء القتال. ووضع مثل هذا يؤثر على مصير الحرب بالطبع. ويتولى الحرب والجيش أناس مدربون على أسلوب القتال, لهم خبرة بالحروب، أو سادات قوم عليهم واجب قيادة قومهم عند ظهور غزو أو خطر أو حرب، ويعرف مثل هؤلاء بقادة، والواحد "قائد"1. وكان بعض قادة الجيش عند العرب الجنوببين يحملون درجة "مقتوي"، وهي منزلة خاصة في درجات القيادة العسكرية, وورد "مقتوي ملكن"، أي "مقتوى الملك" بمعنى "قائد الملك"2. والظاهر أن هذه الدرجة كانت خاصة بمن يختارهم الملوك لقيادة الجيوش. فإذا اختار الملك شخصًا من الجيش أو من سادات القبائل أو من أصحاب الأرض لأمر يراه فيه، وعينه لقيادة الجيش، عبر عن مكانته هذه بـ"مقتوي" وبـ"مقتوى الملك". وقد عرف علماء اللغة هذه اللفظة، غير أنهم عبروا عنها بلفظة "مغالب". ولم يبينوا ما المراد من "مغالب"3. ويقال للضابط الذي يقود الجيش، أو قطعة منه: "أسود"، وذلك في اللغة السبئية4. وقد كان لطبقة قواد الجيش شأن كبير، وسلطان واسع، ويعرف القائد

_ 1 اللسان "3/ 370"، تاج العروس "2/ 477". 2 Rep. Epigr. 4861, 4876, 4892, Cih 405, Grohmann, 131 3 اللسان "مادة قوي" تاج العروس "10/ 307". 4 Jamme 665

بـ"ق س د ن" "قسدن"، أي: "القاسد" أيضًا1. وقد ظل هذا الاستعمال معروفًا في العهد الحبشي كذلك. لوروده في نص "أبرهة". ولكن هذا لا يعني أن "القاسد" كان عسكريًّا محترفًا، مختصًّا بقيادة الجيش، فقد كان القواد من رؤساء العشائر ومن الوجهاء والكبراء يقودون أتباعهم في أثناء الحروب. أما في أثناء السلم. فيعودون إلى أعمالهم الاعتيادية، كإدارة الأرض أو القبيلة. ولهذا ففي استطاعتنا أن نقول: إن من بين قواد الجيش أناسًا لم يكونوا من المتخصصين بالقيادة وبشئون الحرب، وإنما هم قواد متطوعون وسادات قبائل تضطرهم مراكزهم إلى قيادة أتباعهم في أمثال هذه المناسبات. وقد فهم بعض الباحثين أنها تعني المحاربين من النوعين: الأشراف والقادة من أصحاب الدرجات الرفيعة العالية، والمحاربين المحترفين للحرب، حتى صارت الجندية حرفة لهم، يعيشون منها. فهم طبقة عسكرية خاصة محترفة على نحو ما كان عند "البطالمة" بمصر وعند غير البطالمة من جيوش ودول2. ولكن أكثر الباحثين يرون أن الـ"قسد" هم الطبقة الرفيعة من الأشراف وقادة الجيوش. وعرف المكلف بإدارة موقع من المواقع العسكرية، والذي يتولى أمر إدارة حاميته بـ"امر"3. أي: "آمر" "الآمر"، وربما الأمير. وعرف الضابط الذي يتولى قيادة جماعة من الجيش بـ"اسود"4. وأما "قدم"، فإنه المقدم الذي يقود قطعة من الجيش5. وربما قصد به من يتولى أمر قيادة مقدمة الجيش. ويعبر بلفظة "قتدم" عن تأمير الـ"قدم" وتنصيبه في وظيفته6. أي: آمرًا على قطعة الجيش. ويعبر عن التقدم للهجوم على العدو، أي: على الهدف المقصود من الحملة، بلفظة "تقدم"7.

_ 1 "القسود: كقتول: الغليظ الرقبة القوي" اللسان "4/ 352"، القاموس "1/ 327". 2 Grohmann, S. 122 3 South Arabian Inscriptions, P.427 النص 576. 4 South Arabian Inscriptions, P.427 5 South Arabian Inscriptions, P.446 6 المصدر نفسه "ص447". 7 المصدر نفسه "ص450".

وقد عرف القادة الذين قادوا ألف رجل فما فوق بـ"الجرّارين". ذكر "محمد بن حبيب السكري"، أن العرب لم تكن تسمى الرجل جرارًا، حتى يرأس ألفًا. ومن هؤلاء "المطلب بن عبد مناف بن قصي" قاد "بني عبد مناف" وأحلافها من الأحابيش يوم "ذات نكيف". و"بلعاء بن قيس الكناني" قاد "بني عبد مناة" يوم "ذات نكيف" ويوم المشلل ويوم الفجار. و"أبو سفيان: صخر بن حرب" قاد قريشًا وكنانة يوم أُحد ويوم الخندق. و"عامر بن الظرب العدواني" قاد ربيعة ومضر وقضاعة كلها يوم البيداء. و"مالك بن عوف النصري"، و"عوف بن عبد الله بن عامر بن جذيمة" و"ربيعة بن حذار الأسدي" و"زرارة بن عدس" التميمي، و"لقيط بن زرارة" و"الأقرع بن حابس"، و"النعمان بن مجاشع" الدارمي، و"النمر بن حمّان" السعدي، و"الأضبط بن قريع بن عوف" السعدي، و"محلم بن سويط الضبي"، وذكر أنه الرئيس الأول: أول من سار في أرض مضر برئاسته، وغزا العراق وبه كسرى، حتى بلغ العذيب1. ومن بقية الجرارين في مضر: "قيس بن عاصم السعدي" و"زهير بن جذيمة العبسي" و"عمرو بن جؤية بن لوذان الفزاري" و"بدر بن عمرو" و"حذيفة بن بدر" و"عيينة بن حصن" و"خالد بن جعفر بن كلاب" و"الأحوص بن جعفر" العامري2. والجرارون من ربيعة: "ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير التغلبي"، وابنه "كليب وائل" و"الهذيل بن هبيرة" و"الحوفزان" وهو "الحارث بن شريك" و"بسطام بن قيس" و"الحارث بن وعلة الذهلي" و"أبجر بن جابر العجلي" و"قيس بن حسان بن عمرو بن مرثد" و"قتادة بن مسلمة الحنفي" و"أثال بن حجر بن النعمان بن مسلمة الحنفي" و"الهذيل بن عمران التغلبي"3. والجرارون من قضاعة: "ذياد بن هبولة"، "زياد بن هبولة"، و"داود اللثق بن هبالة"، و"زهير بن جناب"، و"رزاح بن ربيعة بن حرام"،

_ 1 المحبر "246-248". 3 المحبر "248-249". 3 المحبر "249-250".

وهو أخو "قصيّ بن كلاب" لأمه، و"عميرة بن أوس بن ثعلبة بن عوف بن كعب بن ذهل"، وكان يدعي الملك، و"الأشل بن عمرو"، و"الثعيل"1. والجرّارون من اليمن: "كرز بن عبد الله بن عامر" من بجيلة، و"عبد يغوث بن وقّاص بن صلاءة الحارثي" من مذحج، و"الأشعث بن قيس الكندي"، و"شراحيل بن أصهب الجعفي"، و"يزيد بن أنس بن الديان الحارثي"، و"ذو الغصة الحارثي"، و"مخرم بن حزن بن يزيد الحارثي"، و"العباب الحارثي" و"حجر بن يزيد بن سلمة الكندي" و"قيس بن سلمة الكندي" و"الزوير: علقمة بن سلمة بن مالك الكندي"، و"حسان بن عمرو بن الجون الكندي"، و"معاوية بن شرحبيل بن أخضر الكندي"، و"حُديج بن جفنة بن قتيرة السكوني" و"هبيرة بن المكشوح بن عبد يغوث المرادي" و"فروة بن مسيك المرادي"2. وسار قادة الجيوش ومتولو إدارة المعارك على قاعدة "الحرب خدعة"3. ومعناها خدع العدو وإيهامه للتغلب عليه. كأن يشيع قائد الجيش أنه سيسلك الطريق الفلاني، فيرسل بالفعل قوة صغيرة، وهو يضمر خطة أخرى، بأن يأمر القوة الكبرى بسلوك طريق آخر، فيفاجئ العدو وهو غير متأهب، أو يؤخذ على غرة وهو لا يدري باحتمال قدوم الجيش من هذا المكان. ولما كانت "المباغتة" من أهم وسائل كسب الحرب والحصول على الربح، كان من أهم أسباب نجاحها التكتم والتستر ومعرفة قوة العدو ومواضع ضعفه، عمد الجاهليون إلى استخدام العيون للتجسس على العدو، يرسلونهم في صور شتى. في صورة تجار أو مسافرين أو على هيأة سرايا صغيرة تقتص آثار العدو, وتسأل من يرون من المسافرين عن علمهم بأحوال العدو. أو تقبض ربايا العدو ليحققوا معهم وليحصلوا منهم عن معلومات تفيدهم في إعداد خطة الحرب أو الغزو. وفي ضوء هذه المعلومات يرتب القادة طريقة مباغتة العدو ومحاربته لإنزال الضربة القاصمة به.

_ 1 المحبر "250-251". 2 المحبر "251-252". 3 الدينوري، عيون "1/ 194"، "باب الحيل في الحروب وغيرها".

وإذا أحسن إنسان بوجود غارة، أو رأى قومًا يتقدمون لمفاجأة قومه بغارة، فعليه الإسراع لإبلاغ قومه بها قبل أن يفاجئهم العدو بغارته وهو على غير استعداد لها، وكان من عادتهم أن الرجل إذا رأى الغارة قد فاجأتهم وأراد إنذار قومه تجرد من ثيابه وأشار بها ليعلم أن قد فاجأهم أمر. ويقال لذلك الرجل: "النذير العريان"، ثم صار مثلًا لكل أمر يخاف من مفاجأته1. ويقال للشخص الذي ينذر قومه بدنو عدو منهم، ويزحف مغيرًا عليهم: "الصريخ"2. يسرع "الصريخ" إلى قومه قدر إمكانه ليبلغهم بخبر ذلك العدو قبل مباغتته لهم. ونظرًا إلى ما للصريخ من أهمية بالنسبة إلى نتائج الغزو، يتخذ المغيرون كل وسائل الحذر والتكتم والبحث عن النذر والصريخين لكيلا يفلتوا منهم فيذهبوا إلى قومهم وهم هدف الغزو أو إلى غيرهم ممن قصدوا بالغزو فيحذرونهم منهم، ويكونوا عندئذ في حالة تأهب واستعداد لمقابلة المغيرين، أو لمباغتتهم بهجوم معاكس عليهم، أو بنصب كمائن لهم قد تلحق أذى بهم، وقد تؤدي إلى عكس ما قصد من ذلك الغزو. ويعبر عن المباغتة والمفاجأة وأخذ العدو على حين غرة بحيث لا يشعر إلا والعدو يهاجمه بلفظة "بحض" في السبئية3. ويُقال لمن ينذر قومه بقرب وقوع غزو وبدنو عدوّ منهم: "القاصد". و"القاصد"، هو من يقصد أحدًا طلبًا لحاجة، أو تسهيلًا لأمر، أو لإجراء وساطة. وكانوا إذا أرادوا حربًا، وتوقعوا جيشًا عظيمًا، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلًا على جبل أو أي مرتفع من الأرض نارًا، ليبلغ الخبر أصحابهم. وإذا جدوا في جمع عشائرهم إليهم أوقدوا نارين. وقد عرفت هذه النار بنار الحرب4. وقد استعانت الحكومات بحماية حدودها بوضع قوات عسكرية في المواضع العسكرية الخطيرة التي تكون لها أهمية كبيرة من الوجهة "السوقية" في تعبئة الجيش للحرب وعرفت مثل هذه المواضع بـ"المناظر". وهي مواضع تقيم بها حاميات تراقب

_ 1 الفاخر "ص70"، تاج العروس "10/ 341"، "عرى". 2 اللسان "3/ 33 وما بعدها"، "صرخ"، نهاية الأرب "17/ 126". 3 Jamme 576, Mahram, P.428 4 الحيوان "4/ 474"، "هارون".

منها حركات الأعداء وتحركات الأعراب. وتكون الحاجز الأول الذي يمنع العدو من التقدم. ونحن لا نكاد نعلم شيئًا عن أسس تنظيم الجيش في الحكومات الجاهلية، لعدم ورود نصوص واضحة في ذلك. ولصلة ملوك الحيرة بالفرس ولصلة ملوك الغساسنة بالروم، لا أستبعد تدريب الفرس لجيش الحيرة وتقسيمه وإعداده وَفْقَ نظم الجيوش الفارسية وأساليبها على القتال، وتدريب الروم لجيش الغساسنة، وَفْق أنظمتهم وقوانينهم العسكرية. وقد ذكر أهل الأخبار أن النعمان بن المنذر، ملك خمس كتائب، يحارب بها، هي: "الوضائع" وقوامها قوم من الفرس كان كسرى يضعهم عنده عُدة ومددًا، فيقيمون سنة عند الملك من ملوك لخم. فإذا كان في رأس الحول ردهم إلى أهلهم، وبعث بمثلهم. وكتيبة يقال لها: "الشهباء" وهي أهل بيت الملك، وكانوا بيض الوجوه، يسمون الأشاهب، وكتيبة ثالثة، يقال لها: "الصنائع"، وهم صنائع الملك، أكثرهم من بكر بن وائل. وكتيبة رابعة، يقال لها: "الرهائن"، وهم قوم كان يأخذها من كل قبيلة، فيكونون رهنًا عنده، ثم يوضع مكانهم مثلهم. والخامسة "دوسر"، وهي كتيبة ثقيلة تجمع فرسانًا وشجعانًا من كل قبيلة1. ويظهر من بعض تفاسير علماء اللغة للفظة "الوضائع"، أن "الوضيعة" جماعة من الجند تجعل في كورة لا يغزون منها2، أي: حامية. وأما الصنائع، فطوائف من الناس يصطنعهم الملك، ويكونون عونًا له وجندًا يحارب بهم. فهم من المرتزقة. وقد تستعين القبائل بطوائف من قبائل أخرى للقتال معها3. وقد استعان "سلمة بن الحارث بن عمرو المقصور" بـ"بني تغلب" و"النمر بن قاسط" و"سعد بن زيد مناة" وبـ"الصنائع" على أخيه "شرحبيل" وذلك يوم "الكلاب" الأول4. وقد أشار "الزبيدي" إلى كتيبة دعاها "الملحاء"، قال عنها: "والملحاء": كتيبة كانت لآل المنذر من ملوك الشأم، وهما كتيبتان، إحداهما هذه والثانية

_ 1 الكامل، للمبرد "1/ 288". 2 تاج العروس "5/ 545"، "وضع". 3 العمدة "2/ 206". 4 العمدة "2/ 205".

الشهباء. قال عمرو بن شأس الأسدي: يفلقن رأس الكوكب الضخم بعدما ... تدور رحى الملحاء في الأمر ذي البزل1 وقد أخطأ "الزبيدي" في جعل "آل المنذر" من ملوك الشأم. وقصد بـ"الملحاء" "الدوسر". بدليل قوله في موضع آخر: "والدوسر: اسم كتيبة للنعمان بن المنذر ملك العرب"2. وقد تعرض في مكان آخر من كتابه إلى كتيبة الشهباء فقال: "والأشاهب بنو المنذر لجمالهم. قال الأعشى: وبنو المنذر الأشاهب بالحيـ ... ـرة يمشون غدوة بالسيوف قلت: وهم إحدى كتائب النعمان بن المنذر. وهم بنو عمه وإخوانه وأخواتهم. سموا بذلك لبياض وجوههم"3. ويظهر من شعر للمثقب العبدي، قاله يمدح عمر بن هند: ضربت دوسر فيه ضربة ... أثبتت أولاد ملك فاستقر4 إن هذه الكتيبة كانت موجودة في أيام الملك "عمرو بن هند". وذكر بعض علماء اللغة أن "دوسر: اسم كتيبة كانت للنعمان بن المنذر، وأنشد للمثقب العبدي يمدح عمرو بن هند. وكان نصرهم على كتيبة النعمان"5. ولا بد وأن يكون في هذه الكلمات خطأ أو نقص: إذ لا يعقل أن يكون "عمرو بن هند" قد حكم أيام "النعمان بن المنذر". وقد يكون قصد أحد ملوك الغساسنة، أو أن الأخباريين أقحموا اسم الملكين خطأ في هذا الشرح. والكتيبة عشر "اللجيون" عند الرومان. ولذلك كان عددها يختلف حسب اختلاف عدد اللجيون. وعلى الأغلب كانت ما بين "400" إلى "600"

_ 1 تاج العروس "2/ 230"، "ملح". 2 المصدر نفسه "3/ 206"، "دسر". 3 تاج العروس "1/ 327"، "شهب". 4 تاج العروس "3/ 206"، "دسر". 5 اللسان "4/ 285"، "دسر".

جندي1. وقد كان عدد اللجيون"6" آلاف جندي في أيام الإمبراطورية، من الفرسان وبقية الأصناف المساندة. ويقسم "اللجيون" المكوّن من الفرسان إلى عشر كتائب، عدد كل كتيبة من "600" فارس. تعرف بـCoforts وتقسم كل كتيبة Cohort إلى عشرة أقسام2. ويسير النظام العسكري عند الرومان وفقًا للطريقة العشرية في تكون الجيش. وقد يتألف "اللجيون" من "7000" جندي، "6200" منهم من المشاة و"730" من الفرسان ومن بقية التبع3. وحكومات اليمن والحيرة والغساسنة، تكاد تكون الحكومات الوحيدة التي ملكت جيوشًا مدربة نظامية، أي: جيوشًا مستعدة في كل وقت للدخول في الحروب. فلكل حكومة من هذه الحكومات كتائب مدربة في استطاعتها القتال. وهي كتائب من الفرسان وكتائب من المشاة، ولها رؤساء يشرفون على تدريبها وتسييرها وقت القتال. وهي بإشراف ضباط يتولون قيادتها بأمر من الملوك. أما أهل القرى والمدن، فكان لهم قوادهم وحملة رايتهم في الحرب، غير أننا لم نسمع بوجود جيش نظامي مدرب عندهم، ولم نسمع بوجود كتائب مقاتلة، مستعدة للقتال أو للدفاع حين صدور الأمر إليها. بل كلّ ما وجدناه في كتب أهل الأخبار أن أسرًا معروفة عهد إليها بحماية الراية، والمحافظة عليها، فإذا وقع خطر، أخرج حفظتها تلك الراية ليرفعوها في القتال فتكون عندئذ شعارًا لهم وروحًا معنوية ذات أهمية، فإذا سقط حاملها أخذها غيره وهكذا كانوا يتناوبون في حملها. وسقوط الراية له أثر كبير في معنوية المحاربين. ويظهر من دراسة ما أورده علماء اللغة والأخبار عن تشكيلات الجيش عند بقية الجاهليين، أن الجاهليين لم يكونوا يسيرون على نظام معين في تكوين الجيش وفي عدد وحداته، بل كانوا يتركون أمر ذلك إلى الظروف وإلى رأي القادة الذين توكل إليهم أمور إدارة المعارك. وذلك لأنهم لم يكونوا يملكون جيوشًا نظامية ثابتة, فقد كانت القبائل تقاتل حين تدعى إلى القتال أو حين يقع غزو عليها، فيهب كل فرد منها للدفاع عن قبيلته، أو في المساهمة في الغزو، يشترك في ذلك النساء والصغار أيضًا، ولا سيما في حالات الدفاع عن النفس. حتى المدن

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 253". 2 Hastings, P.540 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 346".

والقرى لم يكن لها جيش ثابت، ولا قادة يدربون المقاتلين على أساليب القتال، ولا وحدات ثابتة تقيم في ثكنات ومعسكرات، بل كان شأنها شأن القبائل، إذا هوجمت، هب أفرادها رجالًا ونساء كهولًا وصغارًا في الدفاع عن مدينتهم، يقوم كل واحد منهم بدوره حسب طاقته وقدرته. وكذلك كان الحال في حالات الهجوم، أي: حين تهاجم المدينة عدوًّا لها، يشترك في هجومها كل متمكن من القتال، قيامًا بواجبه الأدبي المفروض عليه. وليس لهذا الجيش المحارب تدريب عسكري سابق، ولا وحدات معينة، إنما تكون إمرة سوقه وتسيره بأيدي الشجعان الأذكياء. ومن سبق له أن برز في قتال سابق، وأبرز مكانه فيه. وحتى في أيام الرسول لم يكن للمسلمين جيش ثابت منظم، له وحدات على شكل فرق وكتائب وأفواج وسرايا، وثكنات ومعسكرات، وضباط، يعرف كل ضابط منهم وحدته وعدد جنوده. إنما كان المسلمون كلهم جنودًا، إذا دعاهم الرسول إلى القتال لبوا نداءه. وقد يكون فيهم الكهل والشاب والتاجر والمزارع ومن لا عمل له. الفارس بفرسه، والراكب على جمله، والراجل ماشيًا، كل يحارب في سبيل الله. والرسول هو القائد الأعلى، وهو الذي يعين الأهداف والخطط، وهو الذي يختار القادة ومسيري المعركة إذ لا قادة ثابتون. وكان يستشير ذوي الرأي والخبرة في المواضع التي يقصدها في إدارة الحرب مع العدو. وإذا كانت المعركة معركة مبارزة، نظر الرسول إلى من معه، واختار منهم من يصلح للمبارزة. وكان إذا أراد إرسال سراياه، اختار للسرية رجلًا من أصحابه فأمره عليها. وأرسل معه من يختارهم ليكونوا له جنودًا. ولم يكن عدد أفراد السرية ثابتًا، بل كان مختلفًا. ويتوقف العدد على حسب تقدير الرسول للموقف. ويظهر من الشعر الجاهلي أن الأعراب كانوا يهابون من الالتحام بالجيوش النظامية، لعدم قدرتهم وكفاءتهم في مقابلتها، لما لها من تنظيم وتدريب وسلاح. وقد تركت "الدوسر" و"الشهباء" أثرًا في ذاكرتهم، نجده في شعرهم، مع أن الكتيبتين لم تكونا على مستوى عال من التدريب والتسليح. وقد كانوا يخشون من الالتحام بالجيوش الآشورية والبابلية والرومية، لتفوق تلك الجيوش عليهم، فإذا تعقبتهم هربوا إلى البادية، حيث يجدون لهم عندئذ المأوى الصالح الأمين المناسب لهم، للوقوف أمام الجيش النظامي. ويكون وقوفهم أمامه على هيئة كرّ

وفرّ، وهجوم من جوانب مختلفة، فإن وجدوا جلدًا من ذلك الجيش وقوة ضاربة، هربوا إلى قلب البادية. ويظهر مما ذكره "سترابو" عن الجيوش العربية الجنوبية، أنها لم تكن مدربة على القتال، ولم تكن مجهزة بأسلحة حسنة حديثة بالنسبة إلى أسلحة الرومان في ذلك الوقت. ولم تكن منظمة ومقسمة إلى وحدات محاربة يسير أمورها ويوجهها في القتال ضباط لهم خبرة وعلم بأساليب القتال. ولهذا تقدم الجيش الروماني بكل سهولة نحو اليمن، دون أن يجد أمامه مقاومة تذكر، مع أن جيشهم لم يكن من الجيوش الحسنة التنظيم، المدربة تدريبًا حسنًا، لمقاومة الجيوش النظامية1. ونجد في تغلُّب "الحبش" ودخولهم العربية الجنوبية وتحكمهم بها مرارًا، ما يؤيد أن العربية الجنوبية لم تكن تملك جيشًا منظمًا مدربًا على مقاتلة الجيوش النظامية، وإنما كانت تملك "عساكر" تعرف قتال الأعراب وأهل القرى، بأسلحة لم تحاول الحكومات تحسينها وتجديدها وفقًا لتطور السلاح في العالم، مع العلم أن الحبش أنفسهم لم يكونوا أصحاب جيوش منظمة ولا مدربة تدريبًا حسنًا، ولا مزودة بأسلحة جيدة حديثة على طراز أسلحة اليونان والرومان والفرس. وقد تحكموا مع ذلك في اليمن حتى جاءهم الفرس، فأخرجوهم منها قبيل الإسلام، مع أن الذين أخرجوهم كانوا من قطاع الطرق ومن المتصعلكة، وقد جاءوهم بسفن قديمة، ولم يكونوا من المحاربين النظاميين المدربين على القتال. ويظهر أن حكام العربية الجنوبية، كانوا يعتنون بجمع العساكر وتكوين الجيوش للقضاء على خصومهم، ولكنهم لم يحفلوا بأمر تنظيم الجيش وتدريبه وتجديده وتحسين سلاحه. مع أن أمر التنظيم والتدريب والتسليح وكيفية استخدام الجندي لسلاحه، من أهم أمور التغلب في الحروب والانتصار على الأعداء. ولهذا كانوا يتغلبون على خصومهم في العربية الجنوبية وعلى القبائل؛ لأنهم دونهم بكثير في المستوى وفي الإمكانيات. ولما كانت حروبهم حروبًا داخلية، لم تتجاوز حدود جزيرة العرب، وإذا تجاوزتها، كان اتجاهها سواحل إفريقية، وهي بلاد غير متقدمة ولا تملك جيوشًا نظامية مدربة، لذلك لم يحفل أولئك الحكام بأمر الانفاق على الجيش لتنظيمه وتدريبه وتحسين سلاحه ومستواه ووضعه في ثكنات صحية وتجهيزه

_ 1 راجع الصفحة "42 وما بعدها" من الجزء الثاني من هذا الكتاب.

بالعربات وبالخيل، لتعطي السرعة للجيش في القتال والحماية اللازمة للمشاة. وبقوا يسيرون على الطريقة التقليدية التي أملتها طبيعة أرضهم عليهم من الاعتماد على عساكر "أسد" الملك وعلى عساكر الإقطاعيين وعلى المرتزقة وعلى الحشور الذين يجمعون جمعًا عند وقوع حرب. ولم يعتنِ العرب الجنوبيون بتحسين السفن وتجديدها وتحصينها للمحافظة بها على سواحلهم الطويلة. فلما ظهر الرومان والبيزنطيون في البحر الأحمر، ولم يتمكنوا من الوقوف أمامهم. فانتزعوا منهم السيادة على هذا البحر بسهولة، واتصلوا بالسواحل الإفريقية وبلغوا "سيلان" وسواحل الهند. وفقد العرب ما كان لهم من ممتلكات في السواحل الإفريقية المقابلة. بل صارت سواحلهم عرضة لهجمات سكان تلك السواحل، ولتدخل الحبش مرارًا في بلادهم. مع أن الحبش أنفسهم لم يكونوا أصحاب سفن جيدة كبيرة، ولا أسطول قوي، حتى إن الروم ساعدوهم بأسطولهم في نقل قواتهم لاحتلال اليمن. ولم يرد في روايات أهل الأخبار ولا في أخبار الموارد اليونانية ما يفيد بتصدي السفن العربية الجنوبية للمغيرين الأحباش، ولا بوقوع أية معركة بحرية بين العرب والحبش أو غيرهم في البحر. ويدل نزول الحبش على السواحل العربية بيسر وسهولة على عدم وجود تحصينات بحرية على السواحل، وعلى ضعف الجيش في ذلك العهد. ولطبيعة بلاد العرب أثر كبير بالطبع في ظهور هذا التخلف الملحوظ في بناء القوة العسكرية. فمعظم أرض جزيرة العرب أرضون سهلة منبسطة لا يجد فيها أصحابها مواضع طبيعية يتحصنون بها في حالتي الدفاع والهجوم. لذلك صار القتال فيها وجهًا لوجه، والتغلب فيه للمحارب الذي يملك وسائل الحرب السريعة من إبل وخيل وعدة. ثم إن الفقر العام الذي ساد جزيرة العرب آنذاك وفقرها من ناحية الموارد الطبيعية وتغلُّب الجفاف والحرارة عليها، جعلت العرب كتلًا، أي: شعوبًا وقبائل، مشتتة مبعثرة، تعيش حول ما تجده من ماء ومن مورد رزق، وكأنها أمم متباينة، لضيق أفق المعيشة فيها، ولتقاتلها فيما بينها على الماء وموارد الرزق الشحيحة. وأوضاع مثل هذه لا تساعد على التجمع وعلى تكوين دولة قوية كبيرة، تجمع جيشًا قويًّا مدربًا ذا عدة وعدد، يستطيع الصمود أمام الجيوش النظامية المدربة التي تملكها الحكومات الغنية مثل: حكومات البيزنطيين والفرس، التي غذت جيوشها بالمال وبالجنود المحترفين المدربين على القتال وبالضبط

المتخصصين بشئون الحرب وبالعدد والعدة المتطورة وبالمال. ولهذا لم تتمكن "عساكر" الجاهليين من الوقوف أمام الجيوش النظامية، لتفوُّق هذه الجيوش عليها في التنظيم وفي التدريب وفي السلاح وفي كيفية استعمال الأسلحة, واستغلال المواقف وتطبيق العلم على الأرض التي يقع فيها القتال، وفي التغذية والعناية بأحوال الجندي. ولهذا تحاشت الاشتباك مع الجيوش النظامية في خارج حدود بلادها، وجمّدت قتالها وحصرته في الغزو وفي القتال الداخلي، أي: في قتال العرب بعضهم بعضًا، وهو قتال لم يستوجب تطوير الأسلحة وتحسينها، كما يستوجبه قتال الجيوش النظامية الكبيرة، وقد اعتمد على شجاعة الفرد، وعلى الحماس وعلى ذكاء السادة في الاستفادة من المواقف ومن توجيه فرسان الحرب. أما المقاتلون فهم متطوعون، تطوعوا للقتال للدفاع عن مواطنهم، ومجبرون، عليهم الخروج للقتال؛ لأنهم تبع، وقد أمروا به أمرًا، ومن هؤلاء الرقيق. ولما كان القتال بسيطًا لذلك كان واجب المقاتل متوقفًا على قابليته العقلية والجسمية. ولا نجد في كتب أهل الأخبار ما يفيد بوجود تدريب للفريقين أثناء السلم ولا في أثناء الحرب. بل يدخل المحارب الحرب كما يدخل المتشاجرون أي شجار، وهناك يستعمل ذكاءه في اختيار الدور الذي يناسبه، فقد يظهر مهارة وحنكة وشجاعة فيرتفع اسمه بين قومه، وقد يقوم بدور المشجع بالكلام، وقد يقوم بأدوار بسيطة ساذجة. فإذا انتهى القتال عاد الناس إلى حياتهم الأولى، عادوا إلى بيوتهم وهي ثكناتهم الوحيدة التي جاءوا منها. وترد لفظة "كتيبة" والجمع "كتائب" في الشعر الجاهلي، تعبيرًا عن تنظيم وتكتل في صفوف الجيش، فقد ورد أن "حجر بن أم قطام" قاد كتيبة "فارسية" على رواية، أو أنه كان نظم كتيبة مسلحة بأسلحة من دروع وبيض من صنع الفرس1. ووردت أخبار أخرى تتحدث عن وجود كتائب عند سادات قبائل قوية, دلالة على أخذ القبائل القوية بنظام تكتيل الجيش وتصنيفه وتقسيمه إلى كتائب في القتال لتلقي الرعب في نفوس الأعداء، ولا سيما في نفوس الأعراب الذين لم تساعدهم ظروفهم على إنشاء مثل هذه التنظيمات العسكرية. ويعبر عن "الكتائب" بلفظ "المقانب" أيضًا2. وإذا كان الجيش ما بين

_ 1 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص165". 2 واحدها "مقنب".

الثلاثين إلى الأربعين أو قدر أربعين رجلًا أو خمسين، قيل له "المنسر"1. ويذكر علماء اللغة أن الكتيبة إنما سميت كتيبة، لاجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض2، فهي إذن كتلة كبيرة من الجيش. وعرفوها بأنها القطعة العظيمة من الجيش، والجمع: كتائب. وعرف بعض علماء اللغة الكتيبة بأنها جماعة الخيل إذا أغارت مكونة من المائة إلى الألف3. وعرفت الكتيبة بـ"جأواء" كذلك. وقيل: الجأواء كتيبة كثيرة الدروع. وذكر بعض علماء اللغة أن المنسر ما بين ثلاثين فارسًا إلى أربعين4. بينما جعله بعض آخر، ما زاد على خمسمائة حتى يبلغ الثمانمائة، فيكون حبشيًّا5. ويظهر من تفاسير علماء اللغة للفظة "المقنب"؛ أن المقنب تكون في الخيل خاصة. قالوا: "والمقنب من الخيل جماعة منه ومن الفرسان، وقيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين أو زهاء ثلاثمائة ... وقيل: دون المائة". وورد: المقنب جماعة من الخيل تجتمع للغارة. قال لبيد: وإذا تواكلت المقانب لم يزل ... بالثغر منا منسر معلوم6 والسرية في تعريف علماء اللغة قطعة من الجيش، تسري في خفية ليلًا، لئلا ينذر بهم العدو فيحذروا. وهي من خمس أنفس إلى ثلاثمائة. أو يبلغ أقصاها أربعمائة. وقيل: هي من مائة إلى خمسمائة. فما زاد فمنسر. فإن زاد على ثمانمائة فجيش، فإن زاد على آربعة آلاف فجيش جرّار، وإن كانت من الخيل، فتكون نحوًا من أربعمائة. وقيل: سمّوا سريّة؛ لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري، وهو النفيس7. وقد اختلف في عدد رجال "الحضيرة". فقيل: الحضيرة الأربعة والخمسة

_ 1 شرح ديوان لبيد "ص137"، تاج العروس "3/ 564"، "نسر". 2 الكامل "1/ 57"، شرح ديوان لبيد "ص134". 3 اللسان "1/ 710"، تاج العروس "1/ 445", "كتب". 4 تاج العروس "1/ 440"، "قنب". 5 تاج العروس "10/ 174"، "سرى". 6 تاج العروس "1/ 440"، "قنب". 7 تاج العروس "10/ 174"، "سرى".

يغزون. وقيل: السبعة والثمانية. وقيل: العشرة فمن دونهم1. وذكر أن "الحضيرة" مقدمة الجيش2. وأما "النفيضة"، فالجماعة يبعثون ليكشفوا هل ثمَّ عدو أو خوف. وذكر أن "النفيضة" الذين يتقدمون الخيل، وهم الطلائع3. وتؤدي لفظة "مصر" معنى القطعة من الجيش، والحملة وذلك في السبئية4. ويقال لقائد الكتيبة: "كبش الكتيبة". وكبش القوم رئيسهم وسيدهم. فهو سيد الكتيبة وقائدها5. ويعبر عن المحارب والمقاتل بلفظة "جندي" وبـ"اسد" "أسد" في العربيات الجنوبية والجمع "اسدم" أي: جنود6. وقد يكون الجندي حرًّا وقد يكون عبدًا أي: رقيقًا ومولى، وقد وردت جملة "اسد املكن" أي "أسود الملوك" بمعنى "جنود الملك" و"عسكر الملوك"7، وذلك تمييزًا لهم عن الجنود الآخرين الذين كان يجندهم الأقيال والأذواء وسادات القبائل. ويقصد بـ"اسد" أي: جندي، الجندي النظامي, أي: المحارب الذي اتخذ الجندية عملًا له. ولهذا نجد النصوص لا تستعملها إلا في هذا المعنى، وذلك للتمييز بينه وبين المحاربين الآخرين المتطوعين أو المكرهين على الدخول في القتال أو المؤجرين أو المحاربين من أهل القبائل أو من أهل المدن الذين يهبّون للقتال عند دنو خطر على أهلهم أو قراهم. وتكون إعاشة هؤلاء الجنود على من يأمرهم بالخدمة في جيشه بالطبع. من ملك أو مكرب أو مدينة أو قرية أو سيد أرض. وأما إذا كان المحارب رقيقًا كائنًا ما كان جنسه أو لونه، وأشرك في القتال، فيعبر عنه بـ"ادومت" "ادمت"، أي: "ادم" و"أوادم"، بمعنى الخدم

_ 1 اللسان "4/ 199"، "حضر". 2 تاج العروس "3/ 147"، "حضر". 3 اللسان "4/ 199"، "حضر", تاج العروس "3/ 147"، "حضر"، "5/ 92 وما بعدها"، "نفض". 4 Mahram, P.440. 5 اللسان "6/ 338". 6 راجع النص المرسوم بـ: Glaser 1571 7Kat, Texte, I, 73, Anm, 3, Rep. Epigr. 4624, J. Ryckmans, L’institution Monarchique, 147, Grohmann, S. 123

المملوكين. فلسيد القبيلة ولكبار أصحاب الأرض والملاكين والأغنياء "أدم" أي: خدم، يخدمونهم ويقاتلون عنهم في الغزو وفي الحرب وفي الدفاع عن النفس1. ولم يكن هؤلاء "الأدم" من العسكريين المحترفين2. وأما إذا كان المحارب أجيرًا يؤجر نفسه لمن هو فوقه لخدمته أو للقتال عنه، فإذا وقع قتال طلب منه الدخول فيه، للقتال في سبيل صاحبه قيل له: "اجر" أي: "أجير" والجمع "اجر" و"اجرم"، أي: أجراء3. وليس لدينا أخبار عن معامل تعمل فيها "الشكة"، أي: السلاح كله للحكومات أو للقبائل في الجاهلية4. غير أني لا أستبعد وجودها في اليمن. فقد كانت حكومات اليمن. حكومات منظمة تُعْنَى بمثل هذه الأمور التي هي من ضرورات الدولة. أما القبائل، فقد كان المحاربون فيها هم الذين يجهزون أنفسهم بالسلاح. وقد يكون ذلك السلاح عصيًّا يقاتلون بها، وقد لا يكون لدى المحارب أي شيء منه سوى الحجارة التي يجدها أمامه، فيتراشق بها مع الأعداء. أما سادات القبائل والأغنياء، فقد كانوا يشترون أسلحتهم ويخزنونها إلى وقت الحاجة. فإذا ظهرت وزعوها في أولادهم وخدامهم ومواليهم للقتال. وإذا عزمت قبيلة على غزو قبيلة أخرى وجب على كل بالغ سليم الغزو معها، كما أن على كل فرد من القبيلة المهاجمة أن يقوم بواجبه في الدفاع عنها، وهذا واجب كل رجل في القرى والمدن أيضًا. فقد كان على رجال كل قرية أو مدينة الدفاع عن أنفسهم، ورد غزوات الغازين. لاستقلال كل قرية أو مدينة في أمورها وشئونها، ووقوع كاهل الدفاع عن نفسها على عاتقها. وعلى كل مواطن لذلك، بدوي أو حضري أن يهيئ نفسه في أيام الحروب والغزوات للدفاع عن نفسه وعن مواطنيه، وأن يقوم بعمل الجندي في هذه الأيام. وقد يقعد بعض الرجال من الأغنياء، أو من المسنين عن المساهمة في الحرب أو الغزو، فيدفعون جعلًا في مقابل ذلك لرجال يحاربون عنهم، فيكون الجعل لهم، ويكون ما قد يقع في أيديهم من غنائم لهم أيضًا. وقد يتفق على ذلك

_ 1 Grohmann, S., 122, Rhodokanakis, Bodenwirtschaft, S. 183 2 Grohmann, S. 124 3 Jamme 577 4 الأغاني "20/ 132"، "الشكة: السلام"، كتاب المعاني "1/ 107".

بأن يجعل المقيم للغازي شيئًا. وقد كرهت الجعائل في الإسلام1. وفي الحديث أنها سحت. وهي ما تجعل للغازي إذا غزا عنك بجعائل. قال سليك بن شقيق الأسدي: فأعطيتُ الجِعالة مستميتًا ... خفيفَ الحاذِ من فِتْيانِ جَرْم2 وإذا قامت قبيلة بغزو قبيلة ما، قام رجالها من ذوي الرأي والمعرفة بالمعارك بإعداد خطط غزو العدو ومهاجمته ومباغتته وترؤسه, وعلى شجعانها قيادة الغازين المحاربين. أما القبيلة التي تتعرض للغزو. فيقوم ذوو الرأي والخبرة العسكرية فيها بإعداد الخطط للدفاع عن نفسها، ورد الاعتداء عنها. وفي حالة الأحلاف يعد ذوو الرأي والخبرة العسكرية في الحلف خطط الهجوم أو الدفاع، ويشترك الحلف في إعداد المحاربين وقيادتهم. والغالب أن الذي يقوم بقيادة المحاربين وتوجيههم في المعارك هم من أسر توارثت ذلك، وصارت القيادة وكأنها حق لها. فإذا وقع غزو، أو أرادت قبيلة ما غزو قبيلة أخرى، نهض رجال الرأي في الحرب بإعداد الخطة والتشاور في الرأي لكسب المعركة. وقد كانت قريش قد وكلت أمر حربها وقيادة محاربيها إلى "آل حرب". ولكن ذلك لا يعني عدم تغيير القادة وإبدالهم، وتعيين قادة جدد من أسر أخرى، فقد كانوا يفعلون ذلك أيضًا عند الضرورات. ولم تكن قوات القبائل في مستوى القوات النظامية من حيث التسليح والقابلية في القتال. فأسلحة رجال القبائل بسيطة وبدائية في الغالب لفقرها وعوزها, وهي غير منتظمة ولا مدربة على القتال تدريبًا فنيًّا، وإنما يقوم فنها على الإغارة والمباغتة، فإذا وجدت مقاومة ما فرت وولت؛ لأنها لا تتحمل المقاومة والوقوف في وجه العدو مدة طويلة، ولا تستطيع الصبر على ذلك. وهي من هذه الناحية قادرة على إلحاق الأذى بالقوات النظامية في حروب الصحارى، فتقوم بمباغتة العدو وأخذه بالمفاجأة، فإذا وجدت مقاومة منه أو أخذت ما كانت تصبو إليه من غنيمة، عادت مسرعة إلى معقلها، لتحتمي به، ولتوزع ما غنمته وفق العادة والعرف.

_ 1 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص338". 2 اللسان "11/ 111"، "جعل"، تاج العروس "7/ 257"، "جعل".

والغزو مصدر مهم من مصادر الإعاشة بالنسبة إلى الأعراب، يلجئون إليه في أيام الشدة والمحنة لغناء أهل القرى والمدن بالنسبة إلى أهل البادية، صارت هذه المواضع هدفًا مقصودًا للأعراب، ومصدرًا من مصادر الرزق عندهم، ولا سيما المواضع الواقعة على حدود الأرضين الغنية الخصبة، كالعراق وبلاد الشأم، وقد أدركت الدول الحاكمة في العراق وفي بلاد الشأم هذه الحاجة، فاستغلتها، فأخذ الروم يشترون رؤساء القبائل، يدفعون لهم رشاوى وهدايا ومنحًا ومرتبات لحماية حدودهم من تحرش رجالهم بها, ولمهاجمة حدود أعدائهم الفرس، ولمقاومة القبائل التي يرسلها الساسانيون لمهاجمة بلاد الشأم. وفعل الفرس مثل ذلك، فدفعوا المنح والمرتبات والهدايا لرؤساء قبائلهم، ودفعوهم على مهاجمة حدود بلاد الشأم. وقد اضطرت القرى والمدن في جزيرة العرب إلى مهادنة القبائل القوية النازلة بقربها، وإلى محالفتها بدفع إتاوات لها في مقابل عدم التحرش بها وحمايتها من تحرش القبائل الأخرى الطامعة بها، وفي مقابل مرور قوافلها في أرضها. وبذلك أمنت على سلامتها وعلى أموالها بعقد هذه العهود والمواثيق. ولضرورة الدفاع عن النفس، وللوقوف أمام طمع القبائل القوية في القبائل الضعيفة، اضطرت أكثر القبائل إلى التحالف والتكتل لمنع الغزو فيما بينها، وإلى مقاومة أي غزو يقع عليها، وقد أطلق العرب على كل قبيلة تحارب وحدها دون محالفة قبيلة أخرى "الجمرة". وذكر أن "الجمرة"، هي القبيلة التي لا يقل عدد فرسانها عن ثلاثمائة فارس، وهو عدد يدل على قوة القبيلة وشدة البأس. وذكر الأخباريون أن "جمرات العرب" ثلاث: بنو ضبة بن أد، وبنو نمير بن عامر، وبنو الحارث بن كعب. فطفئت جمرتان، وبقيت جمرة واحدة, طفئت بنو ضبة؛ لأنها حالفت الرباب, وطفئت بنو الحارث؛ لأنها حالفت مذحج، وبقيت نمرح لأنها لم تحالف1. والغالب على أسلوب القتال عند الجاهليين: الكرّ والفرّ، وذلك بأن يهاجم المحاربون عدوهم ثم يتراجعون بسرعة وكأنهم قد فروا خوفًا منه، ثم يعودون

_ 1 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص353"، الحصري، زهر الآداب، "1/ 20".

فيكرون عليه. يضعون مكانًا يكون مركز ثقلهم والملجأ لهم، يلتجئون إليه، ثم ينطلقون منه للكر على العدو، وقد اتبعوا أيضًا أسلوب القتال صفوفًا، بأن يقف المحاربون صفوفًا، يحاربون دون كر ولا فر1. ولا بد للمحارب من أسلحة يحارب بها ويدافع بها عن نفسه. ويستعمل العرب لفظة سلاح وعدة المحارب في مقابلArms = Armour في الإنجليزية و"ملديم" Malddim و"كليم" Kelim و"حليضه" Hallizah في العبرانية2. ويراد بها كل ما يستعمله ويحمله الجندي من وسائل الحرب من هجوم ودفاع. والسيف هو السلاح الرئيسي في القتال. استعمل في الهجوم وفي الدفاع عن النفس. ويطلق العبرانيون عليه وعلى الخنجر لفظة "خ ر ب" "خريب"3. وقد يكون السيف قصيرًا أيضًا. وهو ذو حد واحد وذو حدين. وقد يكون رأسه مدببًا حادًّا يستعمل للطعن، أما الضرب فيكون بحد السيف. والسيوف الجيدة هي السيوف المصنوعة من الفولاذ ومن الحديد النقي الجيد. وقد اشتهرت سيوف اليمن، وبعض السيوف المستوردة من الخارج. ويقال لحديدة السيف: "النصل"، وتقابل هذه اللفظة لفظة "لهب" "لهيب" في العبرانية، من أصل "لهب"، وذلك للمعان السيف الذي يشبه اللهب عند عرضه في الشمس4. وللسيف أسماء كثيرة ترد في كتب اللغة، بعضها أسماء وبعضها نعوت وصفات صارت في منزلة الأسماء للسيف. ومن أسماء السيف: "الجنثي" والجمع: "الجنثية"، يقال: إنها إنما سميت جنثية نسبة إلى الجنثي، وهو الحدّاد 5. ويعرف الحداد بالقين عند الجاهليين. أما الذي يقوم بصقل السيف، فهو "الصيقل"6. وقد اشتهرت أنواع من السيوف عند العرب، تفاخروا بها، لجودتها

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 56 وما بعدها"، اللسان "5/ 135"، تاج العروس "3/ 467، 519". 2 Hastings, Dictionary, I, P.154 3 لسان العرب "9/ 166"، تاج العروس "6/ 149"، المفضليات "ص98" "أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون"، شرح المعلقات السبع، للزوزني "70 وما بعدها" "الطبعة الثالثة". 4 Smith, Dictionary, Vol, I, P.110, The Bible Dictionary Vol. I, P.Iii. 5 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص362"، المعاني "2/ 1030". 6 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص362".

وشدة وقعها في العدو. ومن هذه السيوف المشهورة: "السيوف المشرفية". قيل: إنها سميت بذلك نسبة إلى "المشارف" جمع مشرف، ويراد بها قرى للعرب تدنو من الريف، وقيل: لأنها من مشارف الشأم. وقيل: نسبة إلى موضع من اليمن، وقيل: بل نسبة إلى "مشرف" رجل من ثقيف1. وردّ "ابن رشيق القيرواني" قول من نسب السيوف المشرقية إلى مشارف الشأم أو مشارف الريف، وذهب إلى أنها نسبة إلى "مشرف"، من قرى اليمن2. وعرفت سيوف "بصرى" بالجودة كذلك، ويقال: للسيف المنسوب إليها "بُصري"3. وقد مدحها "الحصين بن الحُمام المُرّي"، وأثنى على القيون الذين أخرجوا "صفائح بُصري"، أي: السيوف4. واشتهرت السيوف المسماة بـ"السريجية" بجودتها كذلك، ويقال: إنها نسبة إلى "سُرَيج" رجل من بني أسد. وهو أحد بني معرّض بن عمرو بن أسد بن خزيمة وكانوا قيونًا5. واشتهرت سيوف اليمن كذلك، فقيل للسيف "يمان" و"يماني"، إذا صنع باليمن. والظاهر أنها لمّاعة بيض، ولذلك قيل "بيض يمانية" يمدحون تلك السيوف. واشتهرت بعض السيوف في الجاهلية، بقيت شهرتها خالدة في الإسلام. ومن هذه السيوف، سيف عرف بـ"الصمصامة"، وهو سيف عمرو بن معديكرب6, وسيف عرب بـ"ذي الفقار" ارتبط اسمه باسم علي بن أبي طالب، وكان قد استولى عليه في معركة "بدر"، أخذه من العاصي بن منبه7.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 62 وما بعدها"، ديوان ابن مقبل "ص7"، اللسان "9/ 174". 2 العمدة "2/ 232". 3 المعاني الكبير "2/ 993". 4 المفضليات "ص19 وما بعدها"، "السندوبي". 5 بلوغ الأرب "2/ 63 وما بعدها"، العمدة "2/ 232". 6 العقد الفريد "1/ 209"، "3/ 370"، تاج العروس "8/ 370"، "صمم". 7 العقد الفريد "3/ 318"، "وذو الفقار بالفتح وبالكسر أيضًا سيف سليمان"، أهدته بلقيس مع ستة أسياف، ثم وصل إلى العاص بن منبه، تاج العروس "3/ 474"، "فقر".

وكان في أصحاب رسول الله صحابيّ اشتغل بعمل السيوف في الجاهلية هو "خباب بن الأرت", وكان من المسلمين الأولين الذين أعلنوا إسلامهم، وعذبوا فيه1. ويتبين من دراسة وتقصي مصادر السيوف عند العرب الجاهليين، أن العرب كانوا آنذاك يستوردونها من أماكن مختلفة، وأن استيرادها كان تجارة مربحة. وأن تجارها كانوا يفتشون في كل مكان من أسواق العالم المعروفة بصنع وبيع الأسلحة لشراء الأسلحة منها. فاستورد بعضهم أنواعًا من السيوف المصنوعة من الهند. وقد عرف السيف الجيد المصنوع بالهند بـ"المهند"2. واشتهر الروم بصنع السيوف الجيدة، وكذلك الفرس. وقد تفنن في تزويق السيوف وفي إكسائها بماء الذهب أو الفضة، وقد اشتهرت الروم بإكساء السيوف ماء الذهب، ويقال لذلك: "الدجال"3. والخنجر أقصر من السيف، ويستعمل في المباغتة في الغالب وفي الهجوم وفي الدفاع عن النفس. وهو مثل السيف أيضًا ذو حد وذو حدين، ويوضع في قراب يحمل في وسط الجسم. وهو لا يزال كثير الاستعمال لسهولة استعماله وإخفائه على حين قلّ استعمال السيوف، أو مات، لعدم ملاءمتها للقتال الحديث. ولرخص الخناجر، بالنسبة إلى السيوف، كانت كثيرة الاستعمال حملها معظم الناس حتى الفقراء لحماية أنفسهم من أذى الإنسان والحيوان. وقد استعملت في أثناء الالتحام بالحروب، حيث يشتبك المحاربون بعضهم ببعض، فيكون الخنجر من الأسلحة الملائمة للفتك بالعدو. والرمح: سلاح يستعمل لطعن العدو، يستعمله الفارس في الغالب. له رأس منبل حاد، يطعن به. وقد يكون له رأس آخر. يثبت به في الأرض. وهو يختلف طولًا ووزنًا. وهو من الأسلحة القديمة، ولا يزال معروفًا، تستعمله بعض القبائل والشعوب البدائية. يصنع من حديد أو من معدن آخر، كما يكون من أعواد الأشجار القوية أو القصب القوي، وأجود الرماح عند العرب، "الرماح الآزنية"، أو "الرماح اليزنية"، يقال: إنها نسبت إلى

_ 1 الإصابة "1/ 416". 2 المعاني الكبير "2/ 1103". 3 المعاني الكبير "2/ 1071".

"ذي يزن"1 الملك. وهو على رأي بعض الأخباريين أول من اتخذ أسنة الحديد، فنسبت إليه, وإنما كانت أسنة العرب قرون البقر2. وعرفت الرماح ذوات السنان بالأسنة. وهي أيضًا أنواع، منها نوع يسمى "الأسنة القعضبية" نسبة إلى رجل اسمه "قعضب" من "قُشير". ونوع يسمى "الأسنة الشرعبية"، ينسب إلى "شرعب". وإلى هذه الأسنة أشار "الأعشى" في هذا البيت: ولدن من الخطّيّ فيها أسنةُ ... ذخائر مما سَنّ أبزى وشرعب3 ويذكر أهل الأخبار أن الرماح الشرعبية، منسوبة إلى بطن من بطون حمير, يقال لهم: "شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد قيس"4. والرماح "الخطية"، من الرماح الجيدة المعروفة, وتنسب إلى "الخط"5. والخط هو خط هجر، تحمل إليه الرماح من بلاد الهند، فتقوم به. فنسبت إليه6. و"الرماح الردينية" وهي من الرماح الجيدة المشهورة أيضًا، يقال: إنها نسبة إلى "ردينة" امرأة كانت تعمل الرماح7. ويقال للرمح: "المنجل" أيضًا8. واشتهر نوع آخر من الرماح عرف بـ"الرمح السمهري" والجمع: "الرماح السمهرية". ذكروا أنها منسوبة إلى "سمهر"، وكان صانعًا يصنع الرماح، وكانت امرأته "ردينة" تبيعها9.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 64"، العقد الفريد "3/ 370"، اللسان "2/ 452"، تاج العروس "2/ 145"، الروض الأنف "1/ 9". 2 قال الشاعر: يهزهز صعدة جرداء فيها ... نقيع السم أو قرن محيق 3 بلوغ الأرب "2/ 64"، الاشتقاق "ص307"، العمدة "2/ 231". 4 العقد الفريد "3/ 369". 5 بلوغ الأرب "2/ 64". 6 "الخط: جزيرة بالبحرين تنسب إليها الرماح. قال الأصمعي: ليست تنبت الرماح لكن سفن الرماح ترفأ إلى هذا الموضع، فقيل للرماح: خطية"، العمدة "2/ 233". 7 بلوغ الأرب "2/ 64". 8 الاشتقاق "2/ 312". 9 الروض الأنف "2/ 212"، العمدة "2/ 231".

وتستعمل القنا في القتال أيضًا. ويظهر أنها نوع من أنواع القصب القوي الذي لا ينثني ولا ينكسر، يكسى رأس القناة برأس من معدن مدبب حاد ليطعن به. ويستعمل القناة الفارس والراجل. ويقال للقنا: "قانه" Kanah في العبرانية وKanna = Canna في اليونانية ويراد بها القصب، وهو ينبت في مواضع كثيرة من مصر، وفي الأرضين التي تكثر فيها الرطوبة والمياه1, وقد اشتهرت بعض أنواع القصب بالمتانة والقوة. ولهذا استخدمت سلاحًا من أسلحة الطعان. واستعملت الحراب في الطعن وفي زرق العدو بها. وقد ذكر أهل الأخبار أن الحبشة كانت تحسن الطعن بها، وأن العبيد المجلوبين منها والذين كانوا بمكة، كانوا قد اشتهروا بالطعن في الحراب. ومنهم "وحشي" قاتل حمزة. وهو عبد حبشي زرق حربته ورمى بها حمزة فأصابه. وكما تعتمد الجيوش الحديثة على أسلحة الرمي، اعتمد الجاهليون على أسلحة هي بمنزلة البنادق والرشاشات في أسلحة هذه الأيام، وهي القسي والسهام. والقوس هي الآلة التي تمسك باليد، ويشد وترها شدًّا قويًّا. ليرمي السهم إلى العدو المراد رميه. وكلما كان الشدّ قويًّا، صارت الرمية بعيدة مؤثرة. وقد يكون السهم من غصن أو من خشب. وقد يكون من معدن مثل: حديد أو نحاس2. ويتخذ الوتر من مادة قابلة للتوتر وللشدّ، حتى يكون في قدرته رمي السهم إلى مسافة بعيدة وبقوة. أما السهم، فقد يكون من شجر، وقد يكون من معدن، ويكون له رأس مدبب ليصيب به الهدف. وقد يسم رأس السهم، فينفذ السم منه إلى الجرح، فيصيب به الجريح إصابة قاتلة. وقد عدت الرماية من جملة الخصال العالية في الشخص المكملة للإنسان, وقد اشتهر في الجاهلية قوم بدقة رمايتهم، وبصحة إصابتهم الأهداف، إذا أرادوا رمي أحد أخرجو النبل، فرموه بها، وقلما يخطئون. وإذا أرادوا وصف رجل بدقة الرمي، قالوا فيه: "كان من أرمى الناس"3. وكانت الرماية دراسة

_ 1 The Bible Dictionary, Ii, P.355 2 Hastings. I.P.313 3 الأغاني "2/ 18".

يتعلمها الرامي من رماة ماهرين. فكان أهل الحيرة والفرس يعلمون أولادهم الرمي بالنشاب، ليكونوا من الرماة المهرة. يستعملون فنهم هذا في قهر أعدائهم وفي الصيد وفي الحروب1. وقد كانت الجيوش تضم فرقًا من الرماة، تكون لهم أهمية كبيرة جدًّا في تقرير نهاية الحرب؛ لأنهم عنصر فعال قوي في التأثير في المحاربين. وقد استعان الفرس والروم والرومان بالرماة الماهرين من العرب، فكوّنوا منهم فرقًا خاصة في جيوشهم، وظيفتها الهجوم على العدو ورميه بالسهام للفتك به. فكانت السهام تقوم مقام نار البنادق والرشاشات في أسلحة هذا اليوم. وقد أشار الكتبة "الكلاسيكيون" إلى كتائب الرماة العرب التي كوّنها الروم والرومان. وقد عرف بعض الرماة بدقة إصابتهم الهدف، فكانوا يصيبون بسهامهم ونبلهم أدق الأهداف. وقد اشتهر هؤلاء بـ"رماة الحدق"، أي: المهرة في الرمي، فلا يخطئون الحدق. وفي كتب الأخبار قصص عن دقة إصابة هؤلاء الرماة2. ولخطورة الرمي في القتال، ولأهمية هذا السلاح في مصير الحروب ونتائجها، أعطاه الإسلام أهمية كبيرة. وقد ورد في الحديث: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة, ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي"3. وورد أيضًا: أن الرسول كان يحث أصحابه على تعلم الرماية وإتقانها4. وقد كان في صفوف قريش والوثنيين جماعة من الرماة المهرة الذين يصيبون الأهداف. واشتهرت أنواع من القسي، منها: "القسي الماسخية"، نسبة إلى رجل من بني نصر بن الأزد اسمه "ماسخة"5، وقيل: "نبيشة بن الحارث". ذكر أنه أول من عملها. وتنسب القسي أيضًا إلى "زارة" وهي امرأة "ماسخة"6. وفي هذه القسي قال الشاعر: شرعت قسي الماسخي رجالنا ... بسهام يثرب أو سهام الوادي7

_ 1 الأغاني "2/ 19". 2 العقد الفريد "1/ 218 وما بعدها". 3 العقد الفريد "1/ 222". 4 المصدر نفسه. 5 بلوغ الأرب "2/ 65"، العمدة"2/ 233". 6 الروض الأنف "2/ 212". 7 الاشتقاق "ص288".

وذكر أهل الأخبار نوعًا من الخشب سموه "الشِريان"5، ذكروا أنه خشب تتخذ منه القسي العربية1. وأجود السهام التي وصفتها العرب، "سهام بلاد"، "سهام بلام"، و"سهام يثرب"، وهما قريتان من حجر اليمامة. وقد ذكرها الأعشى في شعره2. ومن "النبل" الجيد نبل يقال له: "رقميات"، وقد نسبت إلى "الرقم"، وهو موضع دون المدينة، ويقال سهام مرقومة3. وتريش النبال بريش الطيور، وتوضع عليها ريش نسر أحيانًا4. وتحفظ السهام والنبال في محفظة، يقال لها: "الكنانة". وأشهرها الكنائن المعروفة بـ"الكنائن الزغرية"، وهي منسوبة إلى "زغر"، موضع بالشأم، تعمل كنائن حمر مذهبة. وقد ذكرها أبو دؤاد الإيادي في شعره: ككنانة الزُغرى زينها ... من الذهب الدلامص5 ومن مشاهير الرماة عمرو بن عبد المسيح الطائي، وكان أرمى العرب. وفد إلى النبي، وفيه يقول امرؤ القيس: ربَّ رامٍ من بني ثعل ... مخرج كفيه من ستره6 واشتهر "القارة" بالرمي، فقيل: إنهم أرمى حي في العرب، ولهم يقال: "قد أنصف القارة من راماها"7. والقسي هي سلاح الصياد في الجاهلية، فهي بمثابة "البندقية" في هذا اليوم، يأخذها الصياد معه وفي كنائنه، ثم ينتظر، فإذا شاهد صيدًا رماه8. ولهذا نجد المولعين بالصيد يذكرونها في شعرهم وفي وصفهم لمطاردة الحيوانات.

_ 1 الاشتقاق "2/ 295". 2 بلوغ الأرب "2/ 65"، "بلام" العمدة "2/ 232". 3 شرح ديوان لبيد "ص195". 4 شرح ديوان لبيد "ص195". 5 بلوغ الأرب "2/ 65". 6 المعارف "ص136"، وفي بعض الأصول "قتره"، العقد الفريد "3/ 400". 7 العقد الفريد "3/ 341". 8 بلوغ الأرب "2/ 65".

ومن القسي الجيدة التي تركت أثرًا في ذاكرة الشعراء "العتل" واحدها "عتلة" وقد عرفت بأنها القسي الفارسية1. واستعمل الصعاليك واللصوص السهام سلاحًا فتاكًا في ابتزاز المال وسلب المسافرين. والرامي الجيد الرماية، متغلب على خصومه؛ لأنه يرمى وهو على بعد ممن يرميه، فلا يصيبه سيف أو رمح. وبذلك صعب على من لا يحسن الرماية التغلب على الرماة. والرمي بالحجارة والحصى، سلاح مهم مؤثر في العدو في ذلك الزمان. فقد كان المحاربون يرمون عدوهم بآلة ما زال الأطفال والفلاحون يستعملونها، يطلقون عليها لفظة "معجان" في العراق. وهي عبارة عن قطعة من جلد أو قماش تشد من طرفيها بحبلين أو خيطين. فإذا أراد الرامي الرمي، وضع حجرًا صغيرًا أو حصاة في الجلد أو القماش، وأمسك بطرفي الحبلين غير المشدودين بالقاعدة، وأخذ يحركها تحريكًا دائريًّا بشدة، ثم يطلق أحد الحبلين بسرعة لينطلق الحجر إلى الهدف المراد، فيصيبه. ويطلق على هذه لفظة "قلع" في العبرانية، وهي أبسط أنواع آلات الرمي بالحجارة. ويستعملها الفلاحون والرعاة أيضًا لطرد الطيور والحيوانات. ويسمونها في بلاد الشأم "المقلاع". وقد كان على المحارب التدرب على الرمي وعلى الطعن، ليكون محاربًا ناجحًا، ذا خبرة في القتال، فلا يتمكن منه عدو بسهولة. وفي جملة الوسائل التي كان يتدرب عليها: "الدريئة"، وهي حلقة يتعلم عليها الطعن والرمي. قال عمرو بن معديكرب: ظللت كأني للرماح دريئة ... أقاتل عن أبناء جرم وفرت3 ولا بد للمحاربين من أسلحة واقية، يتقون بها ضربات أعدائهم. وما يرمونهم به من حجارة وسهام. والترس من أقدم الأسلحة الواقية، يعلقه المحارب على ظهره أو على كتفه، فإذا احتاج إليه، أمسكه بإحدى يديه، ليتقي به ضربات

_ 1 المعاني الكبير "2/ 1053". 2 Encyclopaedia Biblica I, P.249 3 تاج العروس "1/ 223" "الكويت".

خصمه. ويصنع من الحديد في الغالب، ولارتفاع ثمنه، لم يستعمله إلا المحاربون الشجعان المعروفون والمحاربون الموسرون. واستعمل الترس المصنوع من الخشب ومن الجلود الثخينة، مثل جلود الجمال والبقر وبعض أنواع الأسماك والحيوانات الوحشية ذوات الجلود الغليظة. وبعض الأتراس دائرية على هيئة قرص، ومعظم أنواع الأتراس عند الجاهليين وعند العرب الإسلاميين هي من هذا النوع، وبعضها على هيئة مستطيل أو مستطيل ذي رأس مدور أو ثابت أو غير ذلك، وفي ظهر الترس حلقة أو موضع يدخل المحارب يده فيه ليمسك به الترس، ويتصل به حبل أو سلسلة ليعلق المحارب به أو بها الترس على جسمه. ويعرف الترس بالدرقة وبالمجن كذلك1. وقد ذكر امرؤ القيس المجن فقال: لها جبهة كسراة المِجَنِّ ... حذقه الصانع المقتدر2 ويقال له: "العنبر" كذلك3. ويقال للمجن: "ماكين" "ماجن" Magen في العبرانية. وهو قرص دائري الشكل خفيف يحمله المحارب بيده ليدافع به عن نفسه وللاتقاء به من ضربات العدو. ويقال له: "كليبوس"Clypeus عند الرمان4. والدروع هي من أسلحة الوقاية، يتدرع بها المحارب، ليقي بها نفسه من ضربات خصمه، وقد تكون للظهر وللصدر، فتحمي ظهر المحارب وصدره، وقد تكون للصدر فقط، فيقي المحارب بالدرع ضربات المحارب من رمح أو سيف. فلا ينال به صدره5. ويعرف أهل الأخبار الدرع بأنها القميص المتخذ من الزرد. وتعرف الدروع عند العبرانيين بـ"شريون" Shiryon. ويلبس الدرع كالثوب فيقي الجسم من الضربات6.

_ 1 اللسان "6/ 32"، تاج العروس "4/ 129". 2 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص58". 3 الاشتقاق "ص129". 4 Hasting, P.51, The Bible Dictionary, I, P. Iii 5 العقد الفريد "1/ 209" "لجنة"، لسان العرب "8/ 81"، تاج العروس "مادة/ درع". 6 The Bible Dictionary, I, P. III

وقيل للدروع "الخرصان" كذلك، الواحد خرص، وقد سموا الدرع خرصًا؛ لأنه حَلق، كما سموا الحلقة التي في الأذن خرصًا. وقيل للدرع سابغة أيضًا1. وقيل للرماح الخرصان كذلك2. ومن الدروع المعروفة: "الدروع الحطمية" نسبة إلى حطمة بن محارب بن عمرو بن وديعة. وقيل: نسبة إلى "حطم" أحد بني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة. و"الدروع السلوقية"، هي نوع آخر من الدروع المشهورة، يقال: إنها نسبة إلى "سلوق" وهي قرية باليمن عرفت بدروعها2. وقد ذكر النابغة الدروع السلوقية في شعره4. وأشار "ابن مقبل" إلى نوع من أنواع الدروع دعاه "المشرفية" من صنعة مشرف، ومشرف جاهلي، وهم يدعون إلى ثقيف5. كما عرف نوع آخر من الدروع اشتهر باسم "القردماني"، وذكر بأنه فارسي، وأن أصله بالفارسية "كرد ماند"6. وقد نسبت الدروع الجيدة الممتازة إلى "داود" و"سليمان" فورد في شعر للحطيئة: فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاء مبهمة من نسج سلام7 وورد في شعر للنابغة: وكل صموت نثلة تبعية ... ونسج سُليم كل قضّاء ذائل8 ويلاحظ أن البيت المنسوب إلى "الحطيئة" ينتهي بلفظة "داود" بدلا من "سلام" وهو "سليمان" في بعض الروايات. والمعروف أن "داود" هو الذي

_ 1 المعاني الكبير "2/ 1035 وما بعدها". 2 المعاني الكبير "2/ 1036". 3 بلوغ الأرب "2/ 66". 4 يقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقد في الصفاح نار الحباحب العقد الفريد "1/ 215"، بلوغ الأرب "2/ 66". 5 المعاني الكبير "2/ 1035 وما بعدها". 6 المعاني الكبير "2/ 1030". 7 المعاني الكبير "2/ 1035". 8 المعاني الكبير "2/ 1036".

اشتهر بعمل "الدروع" لا "سليمان" على حد قول أهل الأخبار1. وقد أشير إلى صنع "داود" للدروع في بيت شعر "لبشامة بن عمرو"، وقد وصف دروعه بأنها "موضونة"، أي: مضاعفة ثخينة، تسمع للقواضب فيها صليلًا 2، كما أشير إلى ذلك في بيت شعر ينسب إلى "الحصين بن الحُمام المرّي"، حيث نسب نسج الدروع إلى "داود". والغالب عن الجاهليين نسبة الدروع إلى "داود"3. وأما لفظة "سليم" الواردة في بيت "النابغة"، فتعني "سليمان" أيضًا 4. ونحن لا يهمنا في هذا المكان أمر صانع هذه الدروع، إنما الذي يهمنا هنا هو أثر القصص اليهودي والدعاية الإسرائيلية في نفوس الجاهليين، مما يدل على أن اليهود المهاجرين إلى جزيرة العرب كانوا قد غرسوا بذور الدعاية اليهودية بين الجاهليين حتى تؤثر فيهم، فكان من أثره مثل هذا القصص الذي نجده في شعر الجاهليين وفي قصصهم المدون في الإسلام. ولا يستبعد أن يكون في اتجار يهود الحجاز بالأسلحة واستيرادهم إياها من بلاد الشأم لبيعها للعرب أو للاحتفاظ بها لتهديد من يطمع فيهم ولمقاومته، أثر في ظهور مثل هذا القصص، وفي نسبة الأسلحة الجيدة إلى "داود" أو "سليمان". وعرفت الدروع المصنوعة باليمن بالجودة كذلك. وقد نسبت بعضها إلى التبابعة، فقيل: "نثلة تبعية" يريدون بلفظة "نثلة" درع. وقيل: "مسفوحة تبعية" أي: "درع تبعية" منسوبة إلى "تبع"5. و"التسبغة" هي: زرد مشبك الحلق متصل بالبيضة يطرح على الظهر ليستر العتق، فلا تؤثر فيه الضربات والطعن6. ومن الأدوات التي استخدمها المحاربون "البيضة"، وهي غطاء يوضع على

_ 1 المعاني الكبير "2/ 1035". 2 المفضليات، "إخراج حسن السندوبي"، القاهرة "1926"، "ص16". 3 المفضليات، "إخراج السندوبي" "ص20". 4 المعاني الكبير "2/ 1032". 5 المعاني الكبير "2/ 1036"، المفضليات "ص35" "حسن السندوبي"، العمدة "2/ 23 وما بعدها". 6 المفضليات "ص36" "السندوبي".

الرأس لحمايته من السيوف والحجارة والعصى وما شابه ذلك1. وهي لا بد أن تكون مصنوعة من مواد واقية تحفظ الرأس من الأخطار، كأن تكون مصنوعة، من الحديد أو المواد المعدنية الأخرى أو من الجلود الثخينة. وقد عرفت "البيضة" المستديرة بـ"تركة". وورد في شعر "مزرد بن ضرار الذبياني" "تركة حميرية"، أي: منسوبة إلى حمير، مما يشير إلى اشتهار هذا النوع من آلة وقاية الرأس2. والعمائم خوذ المحاربين عند الجاهليين. فإذا خاض المحارب معركة ما اعتم بعمامة، وقد يضع عليها ريشة، وقد يتحنك بذؤابتها، ولم تكن عمائم الحرب ذوات لون واحد، بل كانت ذوات ألوان، قد يدخل المحارب الحرب وعلى رأسه عمامة يختلف لونها عن لون العمامة التي لبسها قبلًا. وقد تحدث أهل الأخبار عن أنواع العمائم التي لبسها المحاربون في القتال. ولكن هذا لا يعني أن الجاهليين كانوا لا يستعملون الخوذ في حروبهم. لقد كان عرب العراق وعرب بلاد الشأم واليمن يستعملونها أيضًا. وإذا كانت الخوذ قليلة الاستعمال في معظم أنحاء جزيرة العرب، فإنما يعود سبب ذلك إلى غلاء ثمنها؛ لأنها من المعدن في الغالب، ولعدم وجود حاجات ملحة إليها هناك. وقد لبس الرومان واليونان خوذًًا مصنوعة من النحاس ومن البرنز. واستعملت الخوذ المعمولة من الخشب ومن الجلود والكتان واللباد وبعض المواد الأخرى. وقد تفنن صانعوها في زخرفتها وفي أشكالها، وعلى هذه الزخرفة والمواد المصنوعة منها يتوقف سعر الخوذ بالطبع. وأما "المجن" و"الترس" و"الدرقة"، فبمعنى واحد، وهي لوقاية الجسم من ضربات السيوف، ويصنعها العرب من الجلود في الغالب3. ويقال للزرد الذي ينسج على قدر الرأس ويلبس تحت القلنسوة: "المغفر"4.

_ 1 الطبري "2/ 379"، بلوغ الأرب "2/ 67"، "البيضة والبيض ما يحمي الرأس من سلاح"، المعاني "2/ 1032". 2 وتسبغة في تركة حميرية ... دلامصة ترفض منها الجنادل المفضليات "السندوبي" "ص36". 3 بلوغ الأرب "2/ 27". 4 اللسان "5/ 26"، تاج العروس "3/ 450".

وقد لبس محاربو اليونان والساسانيون ألبسة واقية خاصة لتقي جسمهم من ضربات السيوف وطعن الرماح ومن تساقط السهام عليهم، كما حموا أرجلهم وأفراسهم أيضًا بأوقية خاصة. بعضها من جلد وبعضها من أقمشة أو من معدن. وقد استخدموا ملابس خاصة صنعت من الزرد, أي: من حلقات معدنية، وتدرعوا بألواح من معدن حموا بها أجسامهم، وبألواح من الجلود الثخينة المدبوغة دبغًا خاصًّا لتقاوم الضربات، وغطوا بها أجسام خيولهم في بعض الأحيان لئلا تصاب، فيسقط بسقوطها الفارس، ويعجز عن القتال. وقد اشتهرت "ترسة الروم" بكبرها وبشدتها، وقد أشير إليها في شعر "ابن مقبل"1. ومن عادات العرب في الحروب إنذار من يريدون محاربتهم، كأن يقولون لمن يريدون محاربته: إنا ننذرك بحرب. وهم يفتخرون بذلك، إذ يرون أن الإنذار بالحرب من سيماء القوة والشجاعة، ومن علامات عدم المبالاة بالعدو. وأن المباغتة من علامات الجبن والضعف. وقد ينذرون عدوهم ويتواعدون معه على الالتقاء في زمن معين وفي مكان معين للحرب. فإذا جاء الأجل التقوا في المكان المعين وتحاربوا فيه. وتبدأ الحرب عادة بإعلان حالة النفير, أي: حالة التجمع والتهيؤ للقتال أو الذهاب إلى الحرب. ويكون ذلك بالتبويق. أي: بالنفخ ببوق من معدن أو قرن حيوان أو آلة من خشب، أو بدق الطبول والدفوف أو بضرب أعواد من خشب، أو بالصياح لإعلام الناس بدنو عدو أو ظهور خطر أو استعداد للقيام بغزو ما، فيتجمع عندئذ كل قادر على القتال متمكن منه، حاملًا معه كل ما يحتاج إليه من معدات للقتال، راكبًا أو راجلًا، لأخذ دوره فيه، والقيام بالعمل الذي يوكل به إليه. وقد يلحق النساء بالمقاتلين. فيقمن بإعداد الطعام لهم وما يحتاجونه إليه من خدمات وليس لهؤلاء المقاتلين من أجور ومرتبات غير الغنائم التي تصيبهم والأسلاب التي تقع في أيديهم، فتكون ملكًا لهم؛ لأن القتال واجب على كل مواطن متمكن محتم عليه، والامتناع منه جبن ومخالفة لقوانين المجتمع وأعرافه. وللجيوش: ألوية, ورايات يحملها أشجع المقاتلين والمعروفون بصبرهم على القتال.

_ 1 ديوان ابن مقبل "ص277" "تحقيق الدكتور عزة حسن".

وإذا قتل حامل الراية، قام آخر من الشجعان بحملها. ويستميت المقاتلون في الدفاع عن رايتهم، فسقوط الراية على الأرض أو في يد العدو، معناه هزيمة أصحابها، وعجزهم عن القتال، وخور عزيمة المقاتلين عن القتال في النهاية، وتلك أمارات الهزيمة والفرار. ولا يشترط في الأعلام والبيارق والرايات أن تكون قديمة متوارثة. فقد تعقد عند بدء الحرب، يعقدها الرؤساء، ويسلمونها إلى أشجع الناس لتكون سندًا للمحاربين ورمزًا يستمدون منه العون والقوة. وتسمى بأسماء قد يتصايحون بها عند احتدام القتال. وذلك لإثارة النفوس، وبعث الحمية فيها على القتال. أما أمر لون الراية وطولها وعرضها، فذلك من شأن الرؤساء والمشايخ وزعماء القوم. ومما يدل على أهمية الراية عند العرب وعلى مكانتها عندهم، أنهم كانوا يسمون "لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها للجيش أمًّا"1. وكانوا يجتمعون لها في النزول والرحيل وعند لقاء العدو. ولما تحدث "الحرث بن حلزة اليشكري" عن "يوم الشقيقة" وعن مجيء "معد" مع "قيس بن معديكرب"، ذكر أن أحياء "معد" التي اشتركت معه، كانت تحمل معها ألويتها، ولكل "حي" لواء2. وكانت لقريش راية يحتفظون بها ويحاربون تحتها تسمى "العقاب" وهي راية قريش، وإذا كانت عند رجل أخرجها إذا حميت الحرب، فإذا اجتمعت قريش على أحد، أعطوه العقاب، وإن لم يجتمعوا على أحد أخذها صاحبها فقدموه3. ولم تكن قريش بدعًا في ذلك، فقد كانت للقبائل وللحكومات رايات أخرى، يتوارثونها ويحافظون على تسميتها، وتحتفظ بها أسر خاصة أو سادات قبائل، تعتز بذلك، وتعدّها من أعظم درجات الفخر والتكريم. ولأهمية القائد في المعارك، كانوا يحيطونه بحرس، ويجعلون أكثر ثقلهم حوله. ويكون موضعه في القلب في الغالب، ليشرف على القتال، تحميه المؤخرة من الخلف والمقدمة من الأمام، ويوضع اللواء عنده، ويحمل بين يديه. وكان

_ 1 تفسيرالطبري "1/ 36 وما بعدها". 2 شرح المعلقات المسبح، للزوزني "ص164". 3 العقد الفريد "3/ 314".

المسلمون يحملون "العَنَزَة" بين يدي الرسول، وربما جعلوها قبلة1. وقد كان القادة يستعينون قبل الدخول في القتال بمخبرين يرسلونهم إلى العدو للحصول على معلومات عن قواتهم وعن مواقعهم وعن مدى استعدادهم للحرب. وكذلك كان للقبائل ولأهل المدن مخبرون يرسلونهم لاستطلاع الأحوال ولتحذيرهم من احتمال وقوع غزو مفاجئ عليهم، أو لتقدير مقدار الغازين أو المحاربين للاستعداد والتهيؤ. فهم "جواسيس" إذن، يذهبون للتجسس ولاستراق الأخبار حتى يكون من أرسله على حذر وبينة من أمره، ويقال للواحد منهم: "منذر" في السبئية؛ لأنه ينذر قومه وينبههم بقرب وقوع حادث عليهم2. ويقال للشخص الذي يتسقط أخبار العدو ويبحث عن مواضع ضعفه وعن حركاته وسكناته: "العين" و"الربيئ" و"الجاسوس". وقد كانوا يتنكرون ويتسترون كي يخفوا هويتهم ويحصلوا على ما يحتاجون الحصول إليه من معلومات ليرتبوا بموجبها خططهم الحربية. روي أن "عمرو بن سفيان الكلابي"، جاء بني خزاعة في زي رجل من بني هلال، وأظهر أنه جاء يريد جيرتهم، وكانوا قد غزوا قومه وساقوا إبلهم، فقبلوا إيواءه، وبقي عندهم أمدًا، حتى جمع كل ما احتاج إليه من معلومات عنهم، ثم خرج منهم وعاد إلى قومه فاستفادوا بما كان قد جمعه عن بني خزاعة، وغزوهم وانتصروا عليهم 3. وذكر أن كان لكليب وائل عينًا في تغلب، كان يتجسس له ويرسل له الأخبار عن هذه القبيلة4. وأن "عمرو بن ربيعة". أرسل سدوس بن شيبان وصليع بن عبد غنم إلى معسكر "زياد" ملك الشام، ليتجسسا عليه ويأتيا له بالأخبار5. وهناك أمثلة كثيرة من هذا النوع تتحدث عن عيون كانت القبائل ترسلهم إلى القبائل المعادية لها لتأتي لها بالأخبار عنها وبنَواياها العدوانية وعن خططها في الغزو. وقد يكون الرجل بين قوم، فيسمع بخبر عزمهم على غزو قومه، فيرسل

_ 1 البيان والتبيين "3/ 95". 2 Jamme 643, Mahram, P.440 3 الأغاني "9/ 7". 4 ابن الأثير، الكامل "1/ 302"، "3/ 313 وما بعدها". 5 الأغاني "10/ 36 وما بعدها"، الدينوري، عيون "1/ 195".

رسالة رمزية في الغالب أو شفوية ليحذر قومه منه. وقد يكون المنذر أسيرًا في أيد القوم، فلا يستطيع الهروب من آسريه ليخبر أهله بعزم آسريه على غزوهم فيعمد إلى "الشيفرة" وإلى الرموز والكنايات والتعابير التي تفهم القوم بمراده من الرسالة، فيحتاطوا للأمر ويستعدوا للقتال. وفي يوم "شعب جبلة" كان "كرب بن كعب بن زيد مناة"، وهو من بني تميم، قد علم بخطط أعداء قومه، وكانوا قد أخذوا عليه عهدًا وميثاقًا بألا يتكلم ولا يخبر قومه عن عزمهم فعمد إلى الرمز والإشارة، بأن وضع ترابًا في صرة، وشوكًا قد كسرت رؤسه، وحنظلة موضوعة ووطب معلق فيه لبن، فلما رأى القوم ذلك، علموا أنه يقول لهم: إن القوم كالتراب عددًا لكن شوكتهم قليلة، وإنهم قريبون منهم، فعليهم أن يحتاطوا للأمر، فاحتاطوا منه، واستعدوا للأمر. وكان الأعور، وهو ناشب بن بشامة العنبري أسيرًا في قيس بن ثعلبة، فلما سمع بأن اللهازم تجمعت وهم: قيس وتيم اللآت ومعها عجل بن لجيم وعنترة بن أسد، تريد غزو بني تميم، قال لآسريه: أعطوني رجلًا أرسله إلى أهلي أوصيهم ببعض حاجتي. فقالوا له: ترسله ونحن حضور. قال: نعم. فأتوه بغلام مولد. فقال اتيتموني بأحمق. فقال الغلام: والله ما أنا بأحمق. فقال: إني أراك مجنونًا. قال: والله ما أنا بمجنون. ثم صار يكلمه ويسأله، ثم أوصاه بأمور لا يفهم منها أن فيها إشارات ورموز، ووافق القوم على ذهاب الغلام إلى قوم ناشب، فلما كلمهم بما قاله ناشب للغلام لم يدروا ما أراد: فأحضروا "الحارث"، فقص عليه الغلام قصة ما جرى له مع ناشب، ففهم المراد. ثم قال للغلام: أبلغه التحية، وأبلغه أنا سنوصي بما أوصى به. ثم قال لبني العنبر: إنه يحذركم من غزو قريب فاستعدوا وارتحلوا عن ديارهم وبذلك نجوا من خطر الغزو1. وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل، حذر بها أناس من رجال ونساء قومهم من غزو سمعوا به، فخلصوا قومهم منه. أو جعلهم يستعدون له، وقد استعمل المحذرون التراب أو الرمل، للدلالة على كثرة العدو. واستعملوا الشَوْكَ للدلالة على القوة وعلى شوكة العدو، وعبّروا بالشوك الذي تكسر رءوسه، بشوكة

_ 1 ابن الأثير، الكامل "1/ 283 وما بعدها".

العدو، إلا أنه عدو لا يخشى جانبه؛ لأنه غير متحد ولا متفق، وقد استمدت القبائل هذه الرموز من محيطها الذي عاشت فيه، فاتخذتها أدوات للتحذير والإنذار. ويستعين القادة بأدلاء ليقدموا لهم المعلومات عن الطرق الموصلة إلى المواضع التي يريدون مقاتلة أصحابها بها، أو للسير في مقدمة قافلة الجيش للوصول إلى المكان المطلوب. وللدليل أهمية كبيرة في القتال ولذلك استعان بهم المحاربون. ويقال للدليل: "دلل" في العربية الجنوبية، والأغلب أنهم كانوا ينطقونها على نحو ما ننطقها بها في عربيتنا. وأما الجمع فـ"دلول", أي: أدلاء1. وكان لا بد لكل قائد من الاستعانة بدليل إذا ما أراد التفويز، فقد يهلك الجيش من العطش والجوع ويخطئ هدفه أو يصير فريسة في مخالب من يقصده، إن لم يستعن بدليل خرّيت مجرب، له علم بالبادية علمه ببيته. وكان للقبائل أدلاء عركوا المفاوز وخبروها وعرفوا معالمها ومواضع الماء فيها، وكان لهؤلاء فضل على قبائلهم، لا يقل عن فضل الفرسان عليها؛ لأنهم من أسباب النصر. ولما كتب "أبو بكر" إلى "خالد بن الوليد" يأمره بالمسير إلى بلاد الشأم، دلّ على "رافع بن عميرة الطائي" وكان دليلًا خرّيتًا، وبفضل علمه بالطريق وبنصحه القيم لخالد في كيفية عبور المفازة، وصل الجيش سالمًا إلى بلاد الشأم2. وقد فعل الجاهليون ما تفعله القوى المتحاربة في كل وقت من اللجوء إلى التأثير في خصومهم باستخدام "الحرب النفسية". أي: التأثير في نفوس الخصوم حتى يشعر أنه دون خصمه، كأن يتظاهر بأن عدده أقوى وأكثر عددًا من عدد خصمه، بتوسيع رقعة معسكره, وإيقاد النيران الكثيرة وإحداث أصوات مرتفعة، تشعر المتلصص للأخبار أن الجيش جرار، وأن عدده كبير. وبذلك يخافه خصمه وترتعب نفسه. ولما نزل المسلمون "حمراء الأسد"، "كانوا يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبتَ الله تعالى عدوهم"3. ويعمد الجيش أو القسم منه إلى التستر والتخفي لمباغتة العدو ومفاجأته، كأن

_ 1 Jamme 575, Mahram, P.430 2 الدينوري، عيون الأخبار "1/ 142"، "التفويز". 3 نهاية الأرب "17/ 127"، "ذكر حمراء الأسد".

يختفي في موضع حصين لا يرى على طرف أو طرفي وادٍ أو ممر جبل، فإذا مرَّ الجيش من ذلك الوادي انقض المختفون عليه ويعبر عن المخبأ بـ"مغون" في السبئية1. ويقال للعين الذي يذهب يربأ أهله "الربيئة" و"الطليعة". وهو الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم العدو، وذكر علماء اللغة أن الربيئة لا تكون إلا على مربأ من الأرض، أي: على جبل أو شرف ينظر منه2. ويبذل القائد كل ذكائه وفنه في خداع خصمه في الحرب، للتغلب به عليه. وفي الحديث: "الحرب خدعة"3. وذلك بأن يتظاهر القائد بعمل شيء، بينما هو ينوي شيئًا آخر. وقد كان الجاهليون يتفننون في خداع أعدائهم للتغلب عليهم. كما كانوا يستشيرون الناس في إدارة الحرب، يستشيرون الشجعان المتمرسون بالحرب، كما كانوا يستشيرون من عرف بالجبن، ثم يخلصون بين الرأيين. وذلك لما للرأيين من أهمية في إدارة الحرب4. ولقريش عادات في الحرب. فلها "القُبّة"، وكانت تضربها، وتجمع إليها ما يجهزون به الجيش. ولها "الأعنة"، ويكون صاحبها على خيل قريش في الحرب. ولها "السفارة" وذلك أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم حرب بعثوا سفيرًا عنهم ليتفاوض5. وكان "خالد بن الوليد" متولي "القبة" و"الأعنة" و"السفارة" عند ظهور الإسلام. وكان لها ما يسمى بـ"حلوان النفر"، فإن العرب لم تكن تملك عليها في الجاهلية أحدًا. فإن كانت حرب، أقرعوا بين أهل الرياسة، فمن خرجت عليه القرعة، أحضروه صغيرًا كان أو كبيرًا. فلما كان يوم الفجار، أقرعوا بين بني هاشم، فخرج سهم العباس، وهو صغير، فأجلسوه على المجن6. ويتصايح المحاربون بشعاراتهم، إذ كان لكل قبيلة شعار ينادون به، ويحافظون

_ 1 Jamme 577, Mahram, P.440. 2 اللسان "1/ 82"، تاج العروس "1/ 236 وما بعدها"، "طبعة الكويت". 3 العقد الفريد "1/ 122"، صحيح مسلم "5/ 143"، "باب جواز الخداع في الحرب". 4 العقد الفريد "1/ 95". 5 العقد الفريد "3/ 314". 6 العقد الفريد "3/ 315".

عليه. فإذا وقعت حرب، أو حدث غزو، نادوا بذلك الشعار لإيقاظ الهمم، وإذكاء النيران في القلوب. وقد كان شعار "بني عامر" في الحرب شعارًا واحدًا، هو "يا جعد الوبر"1. ويعدّ هز الراية إشارة للهجوم2. فيهجم المحاربون، ويقع الاشتباك. وأكثر ما يغزو العرب عند الصباح، ويسمون يوم الغارة يوم الصباح. وسبب ذلك أن الناس يكونون مستغرقين في هذا الوقت في نوم لذيذ، لذلك تكون الغارة فيه مفاجأة مفزعة لهم. والعرب تقول إذا نذرت بغارة من الخيل تفجؤ صباحًا: يا صباحاه! ينذرون الحي أجمع بالنداء العالي. ويقولون: صبحتهم الخيل: بمعنى جاءتهم صبحًا. وفتى الصباح، أي: فتى الغارة، تعبيرًا عن شجاعته وبطولته3. ويثير سادات القبائل وقادتها في الحرب همم المحاربين بخطب حماسية يلقونها عليهم، يحرضونهم فيها على القتال وعلى التعاون فيما بينهم وعلى إطاعة أوامر قادتهم وعدم مخالفتها بتاتًا وعلى إظهار الشجاعة؛ لأنها من سجايا الرجال وعلى عدم المبالاة بالموت والصبر؛ لأن من صبر ظفر. إلى غير ذلك من خطب في الحث على الاستماتة, نجد بعضها مدونًا في كتب أهل الأخبار4. وكانت العرب إذا تواقفت للحرب تفاخرت قبل الوقعة فترفع أيديها وتشير بها فتقول: فعل أبي كذا وكذا، وقام بأمر كذا وكذا. ويفعل الطرف الثاني مثل ذلك ويبدأ القتال5. وتبدأ المعركة في الغالب بالمبارزة، بأن يخرج من كل جانب محارب أو أكثر, يتبخترون تباهيًا بأنفسهم، وقد يتحلقون ويتعطرون، وينشدون شعرًا يفاخرون فيه بأنفسهم وبأهليهم، وبقبائلهم وبأحسابهم وأنسابهم، وقد يسأل المبارز مبارزه فإذا وجد أنه غير كفء له انتقصه ورفض مبارزته. أما إذا وجد أنه كفؤ له، بارزه وضاربه، فيكر أحدهما على الآخر، وهكذا تستمر المعركة مبارزة بين محاربين أو أكثر، حتى تنتهي بالتحام قد يؤدي إلى هزيمة أحد الطرفين، أو لا يؤدي

_ 1 شرح ديوان لبيد "ص7". 2 العقد الفريد "1/ 114" "لجنة". 3 اللسان "2/ 7 وما بعدها". 4 الأغاني "16/ 71"، الأمالي "1/ 167"، ابن الأثير، الكامل "1/ 380". 5 اللسان "11/ 625".

إلى أية هزيمة بالمعنى المفهوم، إنما ينسحب أحد الطرفين ويتراجع إلى مكانه فتنتهي بذلك تلك الحرب. وإذا برز المبارز، فيعلم على رأسه في الغالب، بأن يلبس سامة خاصة أو عصابة أو يضع ريشة يتباهى بها، وقد يستعملون الخوذ، إلا أنها كانت قليلة الاستعمال لدى الأعراب، لغلاء ثمنها عندهم. وقد كان "أبو دجانة" يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم رأسه بعصابة له حمراء، علم الناس أنه سيقاتل1. ويقسم المحاربون قواتهم إلى مجنبة وقلب: مجنبة يمنى تهاجم أو تحمي الجانب الأيمن، ومجنبة يسرى تحارب وتدافع عن الجانب الأيسر من المحاربين. أما القلب، فيكون واجبه الهجوم أو الدفاع من الوسط، أي: وسط الجيش. وقد تقوم المجنبتان بالهجوم لتطويق العدو وحصره في دائرة، تضيق عليه. وفي معركة "يوم نخلة" من أيام الفجار، كان حرب بن أمية في القلب، وعبد الله بن جدعان وهشام بن المغيرة في المجنبتين2. وتوضع أمام الجيش أو المحاربين مقدمة، تتقدم المقاتلين، يكون واجبها حماية القسم الأكبر من الجيش الذي يكون وراءها، وإرسال المعلومات عن العدو وإشغاله بالقتال إن وقع حتى يأتي المحاربون. ويقال للمقدمة: "مقدمت"، أي: "مقدمة" في السبئية3. وللذي يتولى أمرها ويقودها: "قدم"4. ويقال لطليعة الجيش، وهي التي تتقدم الجيش، للقاء العدو وللوقوف على أمره وخبره "نذيرة الجيش"5. ولما ندب رسول الله المسلمين لفتح مكة، قسم الجيش إلى مجنبتين، وهما: الميمنة والميسرة، والقلب بينهما. وكان ترتيب الجيش إذ ذاك على خمس فرق: المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة. ولهذا كان يسمى خميسًا. وجعل رسول

_ 1 الأغاني "14/ 16". 2 الأغاني "19/ 74 ومابعدها"، قال عمرو بن كلثوم: وكنا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرون بنو أبينا المعلقة 3 Jamme 576, 665, Mahram, P.440. 4 Jamme 681, 816, Mahram, P.447. 5 اللسان "5/ 201".

الله على "الحسر"، وهم الذين لا دروع عليهم "أبا عبيدة". ويقال لهم: "البياذقة"، وهم الرجالة، واللفظة فارسية معربة، سمّوا بذلك لخفة حركتهم وأنهم ليس معهم ما يثقلهم. وقد كانت اللفظة معروفة في أيام الرسول. وهم رجالة لا دروع عليهم، أي: حسرًا1. وقد استخدمت هذه التعبئة الخماسية في اللقاءات الكبيرة، أي: في الاشتباكات الضخمة, التي يمكن أن نسميها "حروبًا"، أما في الغارات وفي الغزو فكانوا يتبعون طريقة المباغتة والهجوم من كل جانب يمكن الهجوم منه. ويقال للقطعة من الجيش تمرّ قدّام الجيش الكبير "منسرت" "منسرة" في السبئية، ويراد بها "المنسر" في عربيتنا، ورد في النص Jamme 631 "ومنسرت خمسن"، أي: "ومنسرة الجيش"، أو "ومنسر الجيش" بتعبير أفصح2. ويذكر علماء اللغة أن "الكردوس" القطعة من الخيل العظيمة. والكراديس الفرق منها3. فالكردوس إذن حسب هذا التعريف القطعة من القوات الراكبة المحاربة. وقد كان النظام العشري في تنظيم الجيش، هو النظام المتبع في الأرضين التابعة للإمبراطورية اليونانية وفي الأرضين المتأثرة بثقافتها، فلا يستبعد أن يكون تأليف الجيش في اليمن في أيام احتلال الحبش لها على هذا الأساس أيضًا. وأصغر وحدة عسكرية وفق هذا التقسيم، هي الوحدة المكونة من خمسة جنود، تليها وحدة مؤلفة من عشرة ثم من مضاعفات العشرة. ويحكم كل وحدة ضابط يدير شئونها ويقوم بتدريبها وبالإشراف على سيرها وإدارتها في أثناء السلم وفي أثناء القتال. وقد يكون القتال صفوفًا، بأن يتقدم المحاربون فيحاربون صفًّا صفًّا، وذلك إذا كان المحاربون كثيرين. وإلى هذا النظام أشير في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} . وقد اتبع علي بن أبي طالب هذه الطريقة في يوم صِفّين. وأشار إليها في خطبته في أصحابه

_ 1 صحيح مسلم "5/ 170 وما بعدها"، "باب فتح مكة"، تاج العروس "6/ 284" "الباذق". 2 Jamme 631, Mahram, P.132 3 اللسان "6/ 195"، الروض الأنف "1/ 69".

يعلمهم كيفية القتال1. أما في حروب القبائل وغزو بعضها بعضًا، فتكون المباغتة هي الأساس في الحرب، وتقوم على مهاجمة العدو بغتة ومفاجأة وهو في عقر داره أو في الموضع المتجمع فيه. وتتوقف المباغتة على حساب القائد وعلى حنكته في تقديره موقف عدوه. ويكون للماء الفضل الأكبر في النصر وكسب الحرب. لما له من شأن خاص في البوادي. لذلك كان يحسب له سادات القبائل الذين يقودون قبائلهم في القتال والغزو حسابًا كبيرًا، فيحملون معهم مقادير كبيرة منه تكفيهم المدة التي يقدرونها للقتال، أو يحاولون استباق عدوهم إلى مواضع الماء للسيطرة عليها، فإذا جاء العدو حرم الماء واضطر إلى استهلاك ما يحمله منه. وقد يؤدي نفاده إلى هزيمته وفراره. ويقال للمباغتة ولأخذ العدو بصورة مفاجئة: "بحض" في لغة المسند2. ويعبر عن الحملة، أي: عن الجماعة من الجيش تزحف على عدو بـ"برث" في المسند3. وقد عرف قادة الجيوش أهمية طبيعة الأرض في كسب النصر وفي الدفاع. لذلك كانوا إذا تحاربوا تسابقوا إلى مواضع الماء لتكون في مؤخرتهم حتى يستقوا منها ويمنعوا العدو من الشرب منها، كما كانوا يضعون الشمس عند ظهورهم حتى لا تؤثر على أعينهم، ويرتقون المرتفعات حتى يصعب على العدو الارتقاء إليهم بفعل الحجارة أو النبال التي ترمى عليه. فلما كان يوم شعب جبلة صعدت بنو عامر إلى الشعب، ووضعت نساءها وما معها من الإبل والمؤن عليه. وكانت قد أعطشت إبلها وعقلتها، وصارت هي دونه. فلما وقع القتال واشتد عمدت بنو عامر إلى الحيلة وإلى تنفيذ خطة كانت قد وضعتها فأخذت تتراجع وتزحف نحو أعلى الشعب، وصار العدو يتعقبها حتى بلغوا وسط الجبل. فقال الأحوص قائد بني عامر: حلوا عقل الإبل ثم احدروها، واتبعوا آثارها، وليتبع كل رجل منكم بعيره حجرين أو ثلاثة ففعلوا، ثم صاحوا بها فلم يفجأ الناس إلا الإبل تريد الماء والرعي, وجعلوا يرمونهم بالحجارة والنبل وأقبلت الإبل تحطم كل

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 61". 2 South Arabian Inscriptions, P , 428 3 South Arabian Inscriptions, P , 430

شيء مرت به. فانحط العدو منهزمًا، فلما بلغ السهل لم يكن لأحد منه همة إلا أن يذهب على وجهه، فجعلت بنو عامر تقتلهم وتصرعهم بالسيف فانهزم عدوهم شر هزيمة1. ولتقوية معنويات المحاربين في أوقات العسر والخطر، ولبعث الحمية في نفوسهم يقيد الرؤساء أنفسهم بقيود، مجتمعين أو فرادى، ثم يعلنون أنهم لا يبرحون مكانهم هذا حتى يهلكوا أو يربحوا2. وقد كان العجم، يضعون السلاسل في أرجل المحاربين لمنعهم من الفرار، ولإجبارهم على الاستماتة في القتال. وقد كان كثير من المحاربين يأخذون زوجاتهم وذراريهم معهم في المعارك، ينقلونهم معهم وكأنهم ذاهبون إلى سفر أو رحيل إلى بلاد جديدة. وحكمتهم من ذلك أن الرجل منهم إذا رأى خلفه أهله وماله، قاتل عنهم3. ولعلهم كانوا يستعينون بهم في جمع الغنائم والأسلاب وحراسة ما يقع في يد المحارب من أسرى. وكانوا يضعون أُسَرَهم وإبلهم ومؤنهم وظعائنهم في مؤخرة الجيش، وذلك حتى تكون في مأمن من العدو بعيدة عنه، وتكون بذلك مدعاة للنصر4. وقد استعانوا بالنساء في حروبهم، وأوكلوا إليهن أعمال الإسعاف وضرب العدو ومقاتلته في أوقات الشدّة. فلما قاتلت "بكر بن وائل" "بني تغلب"، قال "الحارث بن عباد" للحارث بن همام بن مرة، وكان على "بكر بن وائل": "إن القوم مستقلون قومك، وذلك زادهم جراءة عليكم فقاتلهم بالنساء! قال له الحارث بن همام: وكيف قتال النساء؟ قال: قلد كل امرأة إداوة من ماء وأعطها هراوة واجعل جمعهن من ورائكم فإن ذلكم يزيدكم اجتهادًا وعلموا بعلامات يعرفنها، فإذا مرت امرأة على صريع منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء ونعشته وإذا مرّت على رجل من غيركم ضربته بالهراوة فقتلته وأتت عليه فأطاعوه. وحلقت بنو بكر يومئذ رءوسها استبسالًا للموت وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم، واقتتل الفرسان قتالًا شديدًا، وانهزمت بنو تغلب ولحقت بالظعن بقية

_ 1 الأغاني "10/ 37". 2 الأغاني "19/ 78 وما بعدها". 3 العقد الفريد "1/ 157". 4 مقدمة ابن خلدون "ص271 وما بعدها".

يومها وليلتها واتبعهم سرعان بكر بن وائل1. وقد أشركوا أصنامهم معهم في الحروب، أشركوها معهم لتمنّ عليهم بالنصر والتأييد. وقد سقطت أصنام القبائل العربية أسيرة بأيدي الآشورين، وكانوا قد حملوها معهم للتبرك بها ولاكتساب النصر، فأسرها الآشوريون. واضطر الأعراب على مراجعتهم لإعادتها إليهم. وفي يوم "الزورين"، وهو لبكر على تميم، أخذت تميم بعيرين مجللين، فعقلوهما، وقالوا: هذان زورانا، أي: إلهانا لن نفر حتى يفرا، وهزمت تميم ذلك اليوم، وأخذ البكران، فنحر أحدهما وترك الآخر يضرب في شولهم2. وذكر أن "الزور" كل ما يعبد من دون الله، كالزون. والزون الصنم3. والفرسان هم آلة الحرب الحاسمة للحروب، وعليهم يقع معظم ثقل المعارك. وقد كانت معظم معارك الجاهلية معارك فرسان، يكون المحاربون الآخرون فيها وكأنهم متفرجون، يساهمون في المعركة بأصوات التشجيع والحث على الاستماتة في القتال. وقد يدخل القائد نفسه المعركة ليقاتل خصمه. وللفارس بالطبع منزلة كبيرة في نفوس قومه؛ لأنه هو المدافع والمهاجم والآخذ بالثأر. وقد حفظت كتب الأخبار أسماء جماعة من فرسان الجاهلية وشجعانها ممن كان لهم شأن يذكر في الشجاعة في تلك الأيام، من هؤلاء: ربيعة بن مكدّم من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، وكان كما يقول أهل الأخبار: يعقر على قبره في الجاهلية, ولم يعقر على قبر أحد غيره4. فعلوا ذلك تكريمًا لشأنه وتعظيمًا له. وقد ذكر قبره وعقر الناس عليه في شعر بعض الشعراء5. ومن بقية فرسان العرب في الجاهلية: عنترة الفوارس، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، وزيد الخيل، وبسطام بن قيس، وأحيمر السعدي، وعامر بن الطفيل، وعمرو بن عبد ود، وعمرو

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 148". 2 تاج العروس "3/ 245"، "زاد"، "بكرين مجللين". 3 المصدر نفسه، "9/ 229"، "زون". 4 العقد الفريد "1/ 136". 5 المصدر نفسه، بلوغ الأرب "2/ 125".

ابن معديكرب1، وبسطام بن مسعود الشيباني سيد شيبان، قتله عاصم بن خليفة الضبي يوم الشقيقة2. ويقال للفارس، أي: لراكب الفرس: "فرس" في العربية الجنوبية، ولمّا كانت الكتابة العربية الجنوبية لا تشكل الحروف ولا تضبط كيفية النطق بها، لذلك فمن الجائز أن العرب الجنوبيين كانوا ينطقون بها على نحو ما تنطق بها في عربيتنا, أي: "فارس". وأما الجمع في تلك اللهجة، فهو "افرس" "أفرس"، أي: "فرسان"3. وقد كانت لسرعة الفرسان أهمية كبيرة في نتائج القتال. إذ كانوا ينقضون على المحاربين المشاة وعلى المدن أو القبائل انقضاض الصواعق، ويربكوا الخصم فيمهدوا بذلك لمشاتهم من التغلب على العدو. ويظهر من الكتابات التي يعود عهدها إلى ما قبل الميلاد أن عدد الفرسان في الجيوش العربية الجنوبية المحاربة لم يكن كبيرًا، وأن أكبر عدد منها لم يتجاوز عن بضع مئات. وسبب ذلك على ما يظهر قلة وجود الخيل إذ ذاك. ولا يستبعد أن يكون استيراد الخيل إلى هناك من عهد غير بعيد بعدًا كبيرًا عن الميلاد. أما الذين يقاتلون وهم على ظهور حيوانات أخرى، كالجمل وهو في الغالب، فيقال لهم: "ركبم" "ركب"، أي: "راكب"4. وقد عرف العرب بقتالهم وهم على ظهور الجمال، وفي الكتابات الآشورية وكتابات المسند صور عرب وهم يحاربون من على ظهور جِمالهم، وذلك لقلة وجود الخيل عندهم في ذلك الوقت. وللجاهليين آراء في كيفية الاستفادة من الخيل في القتال، فكان خالد بن الوليد لا يقاتل إلا على أُنثى؛ لأنها أقل صهيلًا من الفحل، وكانوا يستحبون إناث الخيل في الغارات وفي "البيات" أي: الإغارة على العدو ليلًا, ولما خفي من أمور الحرب. وكانوا يستحبون فحول الخيل في الصفوف والحصون والسير والعسكر ولما ظهر من أمور الحرب، وكانوا يستحبون خصيان الخيل في الكمين والطلائع؛

_ 1 العقد الفريد "1/ 137". 2 البيان "1/ 21" "لجنة". 3 "وافرسهمو" الفقرة "15" من النص: Jamme 576, Mamb 212, Mahram, P.67, 446, Jamme 577, 584, 635, 644 4 Jamme 560, 576, 644, 649, 665, Mahram, P.448

لأنها أصبر وأبقى في الجهد1. ويعبر عن الجرح بـ"زسخنت" "زخنة"، وبـ"زسخن" عن فعل يجرح، وذلك في العربية الجنوبية2.

_ 1 نهاية الأرب "9/ 365 وما بعدها". 2 Jamme 649, 687, Mahram, P.435

التحصينات

التحصينات: وتدافع بعض المستوطنات، مثل: قرى الريف والمدن، عن نفسها بإنشاء تحصينات تقيها من هجمات عدوّ ما. وتشمل هذه التحصينات حفر خندق، وإقامة أسوار، وإنشاء أبراج وحصون وآطام وأمثال ذلك. وقد كانت مدينة الطائف ذات سور حصين، تغلق أبوابه آناء الليل وأيام الخطر، وقد تحصنت به ثقيف يوم حاصرهم الرسول. وقد عثر على آثار أسوار في خرائب مدن اليمن، تدل على أن تلك المدن كانت مسورة محصنة، وقد عثر على آثار قلاع وحصون وأبراج في تلك الأسوار على مسافات وأبعاد معينة تشير إلى أنها كانت لتحصين السور وللدفاع عنه ولضرب الأعداء عند محاولتهم الدنو منه. وتعرف أبراج السور المقامة لحمايته ولتقويته ولضرب العدو منه بـ"فنوت" في العربيات الجنوبية، ويطلق العبرانيون هذه اللفظة على مثل هذا البرج أيضًا1. ويقال للحصن والبرج: "مكدل" "مجدل" في العبرانية2. وبهذا المعنى ترد اللفظة في عربيتنا كذلك. وقد ذكر علماء اللغة أن الاجتدال: البنيان، وجاء في عشر للأعشى: في مجدل سد بنيانه ... يزل عنه ظفر الطائر3 وتستعين القرى بالمجادل في الدفاع عن نفسها. وتكوّن أبراج مراقبة أيضًا، يراقب منها العدو، وتكون مواضع دفاع لأهل القرى، أو العاشر، حيث لا أسوار

_ 1 Smith, Dictionary Of The Bible. I, P.334, 615 2 Ency. Bibli., I, P.834, Hastings, I, P.358 3 في الصحاح "شيد"، اللسان "11/ 105" "صادر"، "حصون المدينة"، الطبري "2/ 573".

تحمي ولا خنادق تعيق العدو من التقدم1. ويعبر عن تحصين المواضع وتقويتها لتتمكن من الدفاع عن نفسها بلفظة "تمنع" في السبئية، أي: إكساب الموضع مناعة2. ولم يكن في وسع الحكومات أو الإمارات والمشيخات تحصين كل المستوطنات والقرى لما يتطلب ذلك من جهد ومال. ولقلة عدد سكان هذه الأماكن قلة تجعل من الصعب عليهم أن يقوموا وحدهم بإنشاء حصون, وإقامة تحصينات وبناء أسوار وحفر خنادق. ولذلك احتمى سكان أمثال هذه المستوطنات بحصون الإقطاعيين الذين أقاموها لحماية ممتلكاتهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم، وبوسائل دفاع أخرى لا تكلفهم كثيرًا لضمان سلامتهم وسلامة أموالهم ومقتنياتهم في السلم والحرب. أما المستوطنات الكبيرة، من درجة مدينة، فإنها تحاط في الغالب بأسوار لها أبواب تغلق في الليل، فلا يسمح بالدخول أو الخروج منها، ويحافظ عليها، ولا سيما في أثناء الخطر، حرّاس يسهرون عليها لمنع أي عدو طامع في المدينة من الوصول إليها. ويقال لهذه المدن "هكر" "هجر" في العربيات الجنوبية. فحيث ترد لفظة "هكر" في المسند فإنما تعني مدينة ذات أحياء وسكان كثيرين، ولها أسوار في الغالب تحميها من هجمات الأعداء. وتعبر العبرانية عن المدينة المحصنة المحاطة بسور، بلفظة "عر"، وذلك لتمييزها عن المدن المحصنة بحصون، والتي يقال لها: "عر مبصر" Ir Mibsar، وعن القرية التي يقال لها: "حصر" "حصور" و"قره" "قريت"، وتكون غير مسورة3. أما "العر" في العربية الجنوبية فبمعنى "حصن"، وموضع محصن. وتطلق اللفظة على المواضع المحصنة بعر، أي: حصن، أي: في معنى قريب من المعنى الوارد في العبرانية4. وتذكر كتب اللغة أن العرار: القتال، وأن العرة الشدة في الحرب5. فللفظة صلة بالقتال إذن. ويوجد موضع يقع في

_ 1 Smith, Dictionary. I, P.615 2 Jamme 643, Mahram, P.450 3 Roland De Vaux, Ancient Israel, London, 1961, P.229, Smith, Dictionary, I, 333. 4 South Arabian Inscription, P.445 5 اللسان "4/ 556"، "صادر".

ملتقى طرق يقع في "وادي مسيلة" يسمى "حصن العرّ بُني على مرتفع صخري بارز كان حصنًا مهمًّا لحماية الأرضين المحيطة به, ولحماية القوافل التي تمر بهذا الوادي المهم1. ولا تزال بقايا هذا الحصن باقية، وقد أقيمت جدره من حجارة صلدة نضدت بعضها فوق بعض تنضيدًا جيدًا، وقد صقلت الأحجار صقلًا يدل على مهارة, وقد تألف الحصن من غرف كثيرة، ويبلغ طوله "90" مترًا, وبه آثار معبد، وآبار لاستخراج الماء منها للشرب وللاستعمال2. ويعبر عن المانع الذي يحول بين العدو وبين الدنو من المكان الذي يريده بـ"حيل" في العبرانية3. أي: "الحائل" ويراد به الخندق4. وقد ورد في كتب اللغة أن "الحيل" الماء المستنقع في بطن وادٍ5. و"الحائل" هو المانع، أي: الحاجز الذي يحجز أهل الموضع الذي تحصن الناس به عن عدوهم، وهو سور أو خندق أو أي شيء آخر يتخذ للدفاع عن النفس. ومن بين الحوائل والموانع التي استعملها الجاهليون لصد العدو من الزحف على بلادهم أو التسلل إلى أرضهم سد الممرات الجبلية والأودية ومفارق الطرق المهمة؛ ببناء جدر وأسوار لتحول بين المرور والتسلل إلا بأمر وتخويل، ويكون المرور عندئذ من الأبواب المخصصة للعبور فقط. ومن أمثلة ذلك سد "أُبنة" "لبنة" الذي أقيم في وادي "أبنة" ليسد الطريق على القادمين أو الذاهبين من "شبوة" إلى ميناء "قنا" "قنى" "قانة" Cane المهم6. وقد بُني عند مضيق يبلغ عرضه "180"مترًا، أما ارتفاعه فجعل حوالي خمسة أمتار، فأما ثخنه فحوالي المترين. وقد بُني بحجارة مصقولة صقلًا جيدًا, ورصفت رصفًا حسنًا وربط بينها ملاط قوي شد الأحجار شدًّا. وقد جعل له باب عرضه خمسة أمتار يمكن غلقها بإحكام، ولزيادة مقاومتها توضع صفوف من الأحجار الثقيلة خلفها أيام الخطر، فتسد بها وتكون وكأنها قد سدت بجدار قوي سميك. وهناك آثار جدر أخرى

_ 1 Grohmann, S. 154. 2 V. Wissmann, Hadramout, P.152, Grohmann, S. 154 3 Ency, Bibli, I.P.615 4 Smith, Dictionary, I. P.615 5 اللسان "11/ 196". 6 "على ساحل بحر الهند مما يلي بلاد العرب قرب ميفع"، تاج العروس "10/ 305" "قنى".

أقيمت لغايات مماثلة تقع في "وادي العروس" "وادي عروس" وفي "عنصاص" ويرجع تأريخها إلى حوالي القرن الثالث قبل الميلاد1. وتختلف الأسوار من حيث المتانة والتحصينات والمواد التي تبنى بها باختلاف قدرة المدن المالية، فبعضها ذات أسوار ثخينة متينة، لها تحصينات قوية، يحتمي بها المدافعون لمقاومة المهاجمين، ولرميهم بمعدات المقاومة، لها مزاغل وفتحات ينظر منها المدافعون إلى أعدائهم، فإذا اقتربوا من السور، رموهم بالسهام وبالحجارة وبالمواد المشتعلة، وسكبوا عليهم الماء الحار أو الزيت المغلي إذا أرادوا إحداث ثغرة فيه أو قلع الأبواب وكسرها. وعند أبواب المدن أو أبواب المعابد أو المباني العامة أو الشعاب، تكون رحاب، يتخذها سكان المدن مواضع يبيعون فيها ويشترون وأماكن للتجمع. وتعرف الواحدة بـ"رحبة" وتسمى "رحبوت" و"رحب" في العبرانية2. وفيها تعقد الاجتماعات العامة، ويتجمع الناس لسماع الأخبار، وفيها تنفذ الأحكام العامة، مثل: تنفيذ أحكام الإعدام والإعلان بالمجرمين. وتكون مرابد تنعقد فيها الأسواق أيام الأسبوع. أو في أيام خاصة منه، أو في السنة. وأبواب المدة المسورة، هي المنافذ الوحيدة التي يدخل منها الناس ويخرجون. وتختلف في السعة، فلبعضها أبواب واسعة في كلٍ منها مصراعان، ولبعضها مصراع واحد. وتكون ثخينة متينة. وقد تُقوى بكسوتها بطبقة من حديد أو من معدن آخر، ليكون في إمكانها مقاومة المهاجمين، فلا تتحطم وتنهار بسرعة، ولا تأكلها النار. وتغلق بمغاليق متينة. تُقوى بحجارة وبأخشاب متينة عند حدوث خطر ما. وأما المجازات التي تلي الأبواب وتؤدي إلى الرحاب، فهي مختلفة الأشكال، ويحتمي بها المدافعون أيام الخطر، لسدها، ولشد أزر الأبواب على الوقوف صامدة أمام المهاجمين. وقد يواجه الباب، جدار متين، يجل المجاز على هيئة غرفة، يخرج الناس ويدخلون في ركن من أركانها يربط بين المجاز والرحبة المؤدية إلى الشعاب. وذلك ليكون من العسير على المهاجمين الولوج في المدينة عند تمكنهم من تحطيم الأبواب، وقد يُقوى الباب ببرج يُبنى فوقه، يكمن فيه المقاومون، لرمي العدو ولإلحاق الأذى به إذا ما حاول مهاجمة الباب.

_ 1 Grohmann, S. 155 2 Smith, Ency. Bibli., I, P.335

وتسدّ منافذ شعاب المدن بأبواب كذلك، لتقي من في الشعاب من أخطار الأشرار والمعتدين. وتغلق هذه الأبواب في الليالي. وقد تحاط الشعاب بسور يمنع الناس من الدخول إلى الشعب إلا من الباب المؤدي إليه. وفي المدن الملكية، تحاط قصور الملوك ومخازنهم ومداخرهم بأسوار قوية تحميهم من المعتدين. وقد تُبنى قلاع في مواضع مرتفعة من المدن، أو على تلال صناعية ليقاوم منها الناس عند انهيار المقاومة الخارجية، فتكون بذلك آخر وسائل المقاومة قبل الاستسلام. أما القرى، فيدافع عنها بحصون وآطام وبمجادل وذلك لفقر أهلها وعدم تمكنهم من إقامة سور قوي يحمي القرية. وقد كان يهود الحجاز الساكنون في شمال المدينة، قد حصنوا قراهم بآطام يلجئون إليها ويحتمون بها أيام الخطر. وقد عرفت هذه الحصون عندهم بـ"آطام" وواحدها "أطم". وأما القرية، فهي "قرية" في العبرانية، وتسمى بـ"قريتا Keritha في لغة بني إرم1. ويقال للحصن "الأجم" والجمع "آجام"، وقد ورد ذكر الأجم في شعر لامرئ القيس. وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ... ولا أجمًا إلا مشيدًا بجندل2 ويقال للحصن: "الأطم" كذلك، والجمع آطام. ولا تزال آثار آطام جاهلية باقية في الحجاز وفي نجد وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب وفي "وادي الحفر" بنجد، ويعرف بـ"حضر بني حسين"، آثار قصور وآطام جاهلية وآبار كثيرة3. وذكر بعض علماء اللغة أن الآطام: القصور والحصون، وخصصها بعض آخر بالدور المسطحة السقوف. وقد اشتهر "الأبلق"، وهو حصن "السموأل بن عادياء" في التأريخ، وهو في تيماء. وورد اسمه في شعر للأعشى مدح به السموأل4. وكانت الأوس والخزرج تتمنع بالآطام، وتحارب عليها، وقد أرخت بحرب وقعت فيما بينهم بها، فقالوا: "عام الآطام"، وقد أخربت في أيام

_ 1 Smith Dictionary, I, P.333, Ency. Bibli., I, P.833 2 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص58". 3 صحيح الأخبار "1/ 132". 4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص186".

عثمان1. ويقال للأطم: الأجم أيضًا2. فكانت الآطام هي وسائل الدفاع عند أهل يثرب، إذ لم يكن حولها سور يحميها من غزو الأعداء. فكانوا إذا حوصروا أو وقع غزو عليهم، لجئوا إلى آطامهم يتحصنون بها ويقذفون من أعاليها بما عندهم من وسائل دفاع لمنع العدو من الدنو منهم ولإلحاق الأذى به. وهي جملة آطام تملكها البيوتات العريقة وسادات الشعاب المكونة ليثرب والقائمة على أساس التقسيم العشائري3. والآطام بيوت السادات ورؤساء القوم، يلجأ إليها الناس للدفاع عن أنفسهم وعنها وقت الخطر. ويظهر من شعر أوس بن مغراء السعدي: بَثَّ الجنود لهم في الأرض يقتلهم ... ما بين بصرى إلى آطام نجران4 أي: نجران كانت ذات آطام كذلك. وذكر أن باليمن حصن يعرف بأطم الأضبط، وهو الأضبط بن قريع بن عوف بن سعد بن زيد مناة. كان أغار على أهل صنعاء وبنى بها أطمًا. ونسبوا له شعرًا، من هذا الشعر الذي يحمل طابع العصبية القبلية، والحقد على اليمن. يذكر فيه أنه شفى نفسه من "ذوي يمن"، بالطعن في اللبات والضرب، وأباح بلدتهم، وأقام حولًا كاملًا يسبي، وبنى أطمًا في بلادهم ليثبت تغلبه عليهم، وليكون أمارة على قهره لهم5. وقد اشتهر أطم "الضاحي" بالمدينة. وهو أطم بناه "أحيحة بن الجلاح" من سادات يثرب بـ"العصبة" في أرضه التي يقال لها: "القنانة"6. وكان دفاع أهل الحيرة عن مدينتهم وفق هذه الخطة أيضًا. فقد كانت المدينة "قصورًا" كل قصر لعائلة كبيرة، هو مسكن لها، وهو مخزن ومستودع

_ 1 التنبيه والإشراف "176". 2 الطبري "2/ 568". 3 الطبري "2/ 575"، تاج العروس "8/ 187"، "أطم". 4 اللسان "12/ 19"، "أطم". 5 اللسان "12/ 19"، "أطيم"، وفي الشعر ضعف وتكلف، وهو من الموضوعات. وضعه المتعصبون على اليمن. وفي أغلب هذا النوع من الشعر، ضعف وتكلف وطابع الصنعة ظاهر عليه. 6 تاج العروس "10/ 217"، "ضحى".

وحصن تتحصن به عند وقوع خطر على المدينة. وبه مواضع في أعلى القصر لرمي الأعداء، ويلجأ أتباع أصحاب القصور إلى هذه القصور أيضًا للمساهمة في الدفاع عنها وفي حماية أنفسهم من الأذى. ولما حاصرالمسلمون الحيرة. كان حصارهم لها هو حصار قصورها، فكانوا يحاربون القصورحتى غلب المسلمون أهلها فاستسلمت عندئذ لهم. ولحماية السور ولمنع العدو من الوصول إليه والدنو منه، يحفر خندق حوله، ليمنع الغزاة والمحاربين من الوصول إليه. يحفرعميقًا وعريضًا جهد الإمكان، فعلى عرضه ومقاومته تتوقف مقاومته للعدو. ولما حاصر المشركون المدينة، أمر الرسول بحفر خندق حولها، ليمنع المشركين من الوصول إليها. وقد ذكر أن سلمان الفارسي، هو الذي أشار على الرسول بحفر الخندق، بعد أن تباحث مع أصحابه في الوسائل التي يجب اتخاذها لحماية المدينة، وزعم أهل الأخبار أن أهل الحجاز لم يكن لهم علم بالخنادق، وأن المسلمين كانوا في قلق شديد وخوف من تغلب قريش عليهم، فذكر سلمان لهم طريقة أهل بلاده في الدفاع عن مدنهم، فأخذوا برأيه. فلما رأت قريش الخندق، عجزت عن اقتحامه، ونجت يثرب منهم به. وزعموا أيضًا أن لفظة الخندق، وهو لفظة معربة من الفارسية، وإذا أخذنا برأي هؤلاء أصحاب الأخبار، وجب اعتبار تأريخ دخولها إلى العربية منذ هذا الحادث إذن. ويطلق العبرانيون لفظة "حيل"، أي: حائل على الخندق1. وأنا أشك كثيرًا في موضوع جهل أهل مكة والمدينة بأمور الخنادق، وفي قصة أن "سلمان الفارسي" كان أول من علم المسلمين حفرالخنادق؛ وذلك لأن أهل اليمن كانوا قد أحاطوا مدنهم بالخنادق لتعوق المهاجمين عن بلوغ الأسوار، كما أن أهل فلسطين كانوا يحيطون مدنهم بالخنادق أيضًا، وقد كان لأهل الحجاز اتصال وعلاقات بالمكانين وبالعراق أيضًا، وقد زاروا مدنًا أحيطت بالخنادق، فلا يعقل أن يكونوا على غفلة من أمرها، والظاهر أن الرسول كان قد جمع أصحابه حين داهمه المشركون ليستشيرهم بصورة عاجلة في كيفية الدفاع عن "يثرب" بعد أن هددها الكفار، فبيّن كل صحابي رأيه، وكان من رأي "سلمان"

_ 1 Smith, Dictionary, I , P.6.15

حفر خندق ليحول بينهم وبين دخول المدينة، فأخذ الرسول برأيه، وحفر الخندق، وبه سميت المعركة "معركة الخندق". فصوّر "سلمان الفارسي"، وكأنه أول من علم أهل الحجاز حفر الخنادق. ويظن أن لفظة "خبزت" التي ترد في النصوص المعينية وغيرها إنما تعني "خنادق" ومنخفضات صنعت لحماية الأسوار والمتاريس والقلاع حتى تمنع العدو والمهاجمين من الدنوّ منها1. وتؤدي لفظة "صحفت" معنى خندق أيضًا2. وربما تؤدي معنى حاجز مائي يملأ بالماء حتى يمنع المهاجمين من الدنو إلى الموضع المحصن. وقد كان الأغنياء وأهل القرى والمدن يستخدمون رقيقهم في الدفاع عنهم. وقد كان أهل مكة مثلًا قد جعلوا من أحابيشهم قوة عسكرية تحارب معهم وتقاتل عنهم بأسلحتهم وبطريقة قتالهم التي ألفوها في بلادهم، مثل القتال بالحراب، أو الرمي بالنشاب، وقد عرف هؤلاء بالأحابيش. ولعلهم استخدموا الرقيق الأبيض المجلوب من بلاد الروم ومن أماكن أخرى في تنظيم أمور الدفاع وإدارة القتال لخبرتهم ودرايتهم في أساليب القتال المدنية، كالذي فعله الرسول من استشارته سلمان الفارسي في أمر الدفاع عن المدينة يوم حاصرتها قريش، فكان أن أشار عليه بحفر خندق حولها يعوق تقدم قريش من المدينة، ففعل كما يشير إلى ذلك أهل السير والأخبار. والمصانع: الأبنية, وقد وردت "مصانع" في الآية الكريمة: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} 3. بمعنى الحصون المنيعة، و"مصنعت" "مصنعة", في الحميرية بمعنى حصن. وذلك كما في هذه الجملة المقتبسة من نص "أبرهة" المدوّن على سد مأرب: "مصنعت كدر"، أي: "حصن كدر"4. ولا تزال لفظة "مصنعة" مستعملة حتى اليوم في العربية الجنوبية في معنى قلعة وحصن5. وقد اشتهرت حمير بمصانعها.

_ 1 نقوش خربة معين "ص2". 2 نقوش خربة معين "ص5". 3 الشعراء، الآية 129. 4 راجع السطر "21" من النص، والجمع "مصنع"، أي: "مصانع" في السبئية: Jamme 578, 629, Mahram, P, 440 5 Hadramaut, P.63

والمصانع: القرى1. ويظهر أنها إنما دعيت بذلك لوجود المصانع بها. واحدتها: مصنعة. أي: حصن. يدافع به عن المتجمعين حوله. و"القلعة" على ما يظهر من أقوال علماء اللغة، الحصن على الجبل، والحصن الممتنع في جبل، والحصن المشرف2. تُبنى في المواضع المرتفعة لتشرف على ما تحتها، ولتراقب العدوّ، وتكون بها حامية، وقد يتحصن بها أهل الموضع عند دنو خطر عليهم، فيصعب على العدو الوصول إليهم، لوعورة الأرض وامتناع القلعة، وتسلط من فيها على من يريد بلوغهم، بما يمطرونه به من أسلحة الدفاع. و"الحصن" ما يتحصن به، يتخذ في مواضع حصينة، مثل: المرتفعات وعلى الأنهار وعند الآجام، لزيادة حصانته، وقد يتخذ في مواضع خطرة مكشوفة ليدافع عنها، فيحصن بتحصينات قوية من سور متين وجدر سميكة ومتاريس وأبراج، لتصد من يريد مهاجمته. وتكون الحصون برية وبحرية3. ولا تزال آثار حصون جاهلية قائمة في مواضع من جزيرة العرب، صنع بعض منها من "اللبن" والطين، وذلك في البوادي وفي المواضع التي لا تتوفر بها الحجارة، والمواضع الفقيرة التي صعب على أهلها بناء حصونهم من الآجر. و"البرج": الحصن، وقيل: بروج سور المدينة والحصن: بيوت تُبنى على السور؛ وقد تسمى بيوت تُبنى على نواحي أركان القصر بروجًا4. وتكون البروج مرتفعة. وقد تُبنى منفردة، ولكن الأغلب بناؤها على الأسوار. والكلمة من الألفاظ المعربة عن اليونانية5.

_ 1 اللسان "8/ 211", "صنع". قال ابن مقبل: أصوات نسوان أنباط بمصنعة ... بجدن للنوح واجتبن التبابينا تاج العروس "5/ 422 وما بعدها"، الصحاح "3/ 124"، القاموس "3/ 53". 2 اللسان "8/ 280 وما بعدها"، "قلع"، تاج العروس "5/ 480". "قلع", الصحاح "3/ 1271". 3 تاج العروس "9/ 179"، "حصن"، اللسان "13/ 119"، "حصن"، القاموس "4/ 214"، جمهرة اللغة، للأزدي "2/ 165". 4 اللسان "2/ 212 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 7"، "برج"، القاموس "1/ 185"، الصحاح "1/ 299". 5 غرائب اللغة "254".

وكان يهود الحجاز قد ابتنوا الحصون والآطام، للدفاع عن أنفسهم وأموالهم في السلم والحرب. فكانوا يخزنون فيها أموالهم وحصادهم وثمرهم وكل غال ثمين عندهم، وكانوا يدخلون إليها عند الظلام، فينامون فيها، خشية غزو أحد لهم، واعتداء غريب عليهم. فإذا طلع الصبح، خرجوا إلى مزارعهم ومواضع عملهم للاشتغال فيها إلى وقت المغيب، وكانوا يدخلون إليها حيواناتهم كذلك خشية سلبها ونهبها. أما في الغزو وفي القتال، فكانوا يعتصمون بها ويقذفون مهاجمهم بالصخور والحجارة وبوسائل الدفاع الأخرى من أعالي الحصون ومن الأبراج المشيدة فوقها. وقد وردت في كتب السير والتأريخ أسماء عدد من حصون اليهود في خيبر وفي أماكن أخرى وذلك في غزوات الرسول ليهود1. ويعبر عن الحراس الذي يحرسون شيئًا ويدافعون عنه، مثل: حراس الحصون والقلاع وأبواب المدن أو حرس الضباط والكبار بلفظة "مسجت" "مسكت" "مسكة" في السبئية. أي: في معنى "الماسكة"، وأما المفرد فـ"مسج" "مسك"، أي: الماسك2. وقد استعمل الجاهليون آلات القذف والرمي, وآلات الهدم الثقيلة في حروبهم كما يفعل الناس لهذا العهد. وهي آلات تبدو بسيطة مضحكة بالنسبة إلى آلات الخراب والتدمير المستعملة في الزمن الحاضر. قد يخجل الإنسان من التحدث عنها لأبناء هذا الزمان، ولكننا حين نتحدث عن الماضي وعن الأناس الماضين، فإننا لا نتحدث عنهم كما نتحدث عن أناس زماننا ولا نقيس إنتاجهم على إنتاجنا، وذلك لوجود فارق دقيق هو فارق الزمن. وهذا الفارق هو التطور الكبير الذي يقع للإنسان كلما تقدم به الزمان ومرت عليه التجارب والاختبارات التي يطور الإنسان بها نفسه دومًا ويزيد في علمه علمًا جديدًا لم يكن معروفًا عند القدماء. وسيأتي زمان تكون فيه اختراعات القرن العشرين، الاختراعات التي نفخر بها اليوم، ألاعيب أطفال بالنسبة إلى اختراعات ذلك الوقت، واختراعات ذلك الزمان ألاعيب أطفال بالنسبة إلى من يأتي بعدهم، وهكذا إلى آخر الزمان. ولهذا لا نستطيع قياس الماضي على الحاضر بما أوجده من اكتشافات واختراعات على هذا

_ 1 السيرة الحلبية "2/ 41". 2 Jamme 649, Mahram, P.440

النحو. وإنما نتحدث عن الماضي على أنه مرحلة من مراحل التطور البشري، ودور مستمر لهذا التأريخ الذي لا نعرف مبدأه ولا منتهاه. وفي جملة هذه الآلات، الدبابة، وهي عبارة عن خشبة ثقيلة تعلق من وسطها ببرج من خشب مقام على عجلات ليمكن تحريكه نحو الهدف المراد هدمه أو سحبه منه أو نقله إلى أي مكان آخر. وقد غطى رأس الخشبة المتجه نحو الخارج، أي: الرأس المتخذ للهدم، بغطاء من الحديد، ليكون سريعًا فعالًا في هدم المكان الذي يوجه إليه. ويقوم أشخاص يكمنون في الدبابة بتحريك الخشبة نحو الهدف، وذلك بتحريكها نحو الأمام والخلف بقوة، لتحدث ثغرة فيه ويختفي هؤلاء تحت ستار مثل سقف من خشب أو من جلود، ليحميهم من الحجارة أو السهام أو النيران أو المواد الساخنة التي يرميها المدافعون عليهم، لمنعهم من الاقتراب من السور، ومن هدمه. وقد أشير إلى هذه الدبابات في فتح المسلمين لخيبر وفي حصار الطائف، فذكر أن اليهود كانوا قد اختزنوا في حصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبابات1. وذكر أن المسلمين لما كان يوم الشدخة عند جدار الطائف، دخل نفر منهم تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتلوا منهم رجالًا2. وقد يكتفي المحاربون بسحب خشبة ضخمة نحو السور تحمل بعد ذلك على الأكتاف، فيضرب بها السور، ثم يتراجع حاملوها قليلًا ثم يتقدمون ليضربوا بها السور، وهكذا إلى أن يتمكنوا من إحداث ثغرة فيه. و"القفع"، ضبر تتخذ من خشب يمشي بها الرجال إلى الحصون في الحرب. وقيل: هي الدبابات التي يقاتل تحتها3. واستخدم "الكبش" في القتال، استخدم في اليمن بصورة خاصة، استخدم سلاحًا من الأسلحة الثقيلة في قتال المدن والجيوش النظامية، وهو من خشب مكسو

_ 1 السيرة الحلبية "3/ 41"، نهاية الأرب "18/ 59"، تاج العروس "2/ 295"، "الكويت"، اللسان "1/ 371". 2 ابن هشام "4/ 127 وما بعدها". 3 اللسان "8/ 289"، "قفع".

بجلود البقر مدبوغة بالقرظ، أو من جلود الإبل، يحتمي به المحاربون المشاة في هجومهم على الأعداء المتحصنين. وقد وردت لفظة "كبش" في قول الشاعر "الحارث بن حلزة اليشكري": حول قيس مستلئمين بكبش ... قرظي كأنه عبلاء وفسرت لفظة "الكبش" المذكورة بـ"السيد"1, وهو تفسير أرى أن فيه تكلفًا واضحًا وبعدًا من المعنى، وأن الصواب هو أنها: الآلة الحربية المذكورة، وأن الشاعر أراد ببيته المذكور وصف جماعة "قيس بن معديكرب" الذين كانوا ملتفين حوله، مستلئمين بكبش من جلود سميكة غليظة مدبوغة بالقرظ، مرتفع عال حتى علباء، أيك هضبة من ارتفاعه. والكبش بالنسبة للأعراب من الأسلحة التي يقل استعمالها عندهم، وهي من الأسلحة المانعة المؤثرة، ولذلك ذكرها الشاعر في شعره. وقد جاء بها "قيس" من اليمن ولا شك2. ومن آلات القذف والرمي إلى مسافات، المنجنيق، ويوضع فوق الأسوار لاستخدامه في رمي العدو المتقدم نحو الحصن، أو في السفن لرمي سفن الأعداء، أو في الأبراج أو في الخطوط الأمامية لرمي الأعداء المهاجمين. فهو في مقام المدفعية لعهدنا. وقد ورد في أخبار حصار المسلمين للطائف أن الرسول رمى أهل الطائف بالمنجنيق، وكان أول من رمى في الإسلام بالمنجنيق على إحدى روايات أهل الأخبار3. وورد أن اليهود كانوا يستعملون المنجنيق في الدفاع عن حصونهم4. ويرجع بعض أهل الأخبار تأريخ استعمال المنجنيق في الجاهلية إلى "جذيمة الأبرش"، فهم يذكرون أنه أول من رمى بالمنجنيق5. والعرّادة من آلات الحرب كذلك، وهي صغيرة شبه المنجنيق6.

_ 1 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص164" "دار صادر"، تاج العروس "4/ 341"، "كبش"، اللسان "6/ 338"، "كبش"، الصحاح "3/ 1017". 2 المعاني الكبير "4/ 79". 3 ابن هشام "4/ 128"، نهاية الأرب "18/ 59". 4 السيرة الحلبية "3/ 41". 5 الروض الأنف "2/ 303". 6 اللسان "3/ 288"، نهاية الأرب "18/ 59".

وقد عرف السور بالحائط كذلك. والحائط هو ما يحيط بالشيء. وقد دعي سور الطائف بحائط الطائف في بعض كتب السير؛ وذلك لأنه يحيط بالمدينة. وقد كانت به أبواب تغلق في الليل. ولما اقترب منه المسلمون رماهم المدافعون عنه بالسهام، وكانوا يكمنون فوقه فقتل أناس من المسلمين1. ويكون أعلى الجدار الخارجي عاليًا وبه فجوات صغيرة ليكمن وراءه المدافعون ولينظروا من خلال هذه الفجوات الأعداء، وليرموهم منها، ويبنى السور سميكًا في أسفله، ثم يقل سمكه في أعلاه وذلك ليكون من الصعب على المهاجمين إحداث فتحة فيه أو هدمه. ويكون عرضه في أعلاه كافيًا لاختباء المدافعين ولمرورهم بسهولة. وتُبنى أبراج في العادة فوقه للمراقبة ولرمي الأعداء، يختلف عددها باختلاف المدن، وباختلاف استطاعة البلدة وما تتخذه من وسائل لحماية نفسها من الأعداء. ولحمل أهل المدن والقرى المحصنة على الاستسلام يتخذ المهاجمون أساليب الحيل ووسائل مختلفة للتضييق عليهم، وفي جملة ذلك قطع المياه عن المكان المحاصر إن كان الماء في خارجه. وذلك بسد المجرى وتخريب الآبار والإحاطة بالماء لمنع الناس من الدنوّ منه. وبحرق المزارع والبساتين الواقعة في خارج المكان المحاصر، أو بقطع أشجارها، وبأخذ الغلات، وبقطع كل اتصال للمكان بالخارج، وبالتشدد في ذلك حتى يضطر المحاصرون إلى الاستسلام أو عقد صلح مع المهاجمين. وقد كانت خطة حرق المزارع والبساتين من أهم العوامل المؤثرة على المحاصرين. وذلك نظرًا للخسائر المادية التي تلحقهم والتي لا يمكن تعويضها إلا بجهود وبأتعاب السنين2. ولجأ المحاربون الجاهليون إلى سياسة حبس الميرة عن القبائل أو القرى والمدن لإخضاعهم وإجبارهم على ترك المقاومة والاستسلام3. يفعلون ذلك كما تفعل الدول الحديثة في مقاطعة بعض الحكومات في الحرب وفي السلم لإجبارها على ترك سياستها أو على الاستسلام. وقد قاطعت قريش بني هاشم حينما دخلوا في الشعب لإجبارهم على ترك الرسول وخذلانه على نحو ما هو معروف.

_ 1 ابن هشام "4/ 127"، اللسان "7/ 279"، القاموس "2/ 185". 2 Smith, Dictionary, I, P.1724 3 الأغاني "16/ 76".

كما وجهوا خططهم السوقية نحو النقاط الضعيفة من مواضع الدفاع للمكان الذي يراد الاستيلاء عليه، مثل: الأبواب والثلم التي قد تكون في الأسوار أو الحصون للاستفادة منها في مهاجمته. والأبواب، هي من أهم الأهداف بالنسبة للمهاجم، لذلك، تتخذ مختلف الوسائل للتغلب عليها، برميها بالنار، أو بالحجارة، أو بضربها بالدبابات والأقفاع. أو باستخدام السلالم أو الحبال لارتقاء المواضع المنخفضة من السور، كما يركن إلى حفر الأنفاق تحت السور، للدخول منها إلى الموضع المحاصر، وقد يعمد إلى صنع تل من تراب، أو إلى تكويم أحجار بعضها فوق بعض، أو بناء مرتفع يصل إلى علوّ السور أو أعلى منه، ليرمي منه الأحجار والقذائف على المحاصرين، فيكون في إمكان المهاجمين، مهاجمة السور من الأرض بارتقائه من الموضع المقابل للمرتفع، أو بعمل ثقب فيه، يدخل المهاجمون منه إلى الداخل، وبذلك ينقل المهاجم الحرب إلى داخل الموضع المحاصر ويتمكن من التغلب عليه. أما النظم العسكرية عند أهل اليمن، فكانت على هذا النحو: الملك، هو القائد الأعلى للجيش، والرئيس الأعلى له، يعلن الحرب، ويأمر بعقد الصلح، ويعين القادة الذين يتولون إدارة القتال، لضمان النصر، وهو الذي يأمر القبائل بتقديم الجنود، على مقدار ما اتفق عليه. وقد يقوم الملك نفسه بقيادة الجيوش وإجراء العمليات الحربية، وقد يترك ذلك إلى قواده، يقومون بها ويديرونها بحسب علمهم وخبرتهم بالحروب. والقائد هو "قسد", أي: "قاسد" في لغتهم. وقد يعبر عنه بـ"اسد" في بعض الأحيان. إلا أن هذه اللفظة تعني "الجندي" و"الجنود" في الغالب. وكان على المحارب أن يهيئ له سلاحه، فإذا لم يكن لديه هذا السلاح منح مالًا لشرائه به، يتعهد بإعادته فيما بعد1. وكان على القبيلة أن تهيئ المقاتلين اللازمين للقتال، وترسلهم إلى جبهات القتال للقتال مع الجنود الآخرين. ولسنا نعلم كيف كان يقاتل العرب الجنوبيون، وكيف كانوا يضعون خططهم الحربية في التغلب على العدو، لعدم تعرض كتابات المسند لذلك، فلم يرد إلينا نص ما في هذا الموضوع.

_ 1 Handbuch I, S. 137

ويعبر عن الصلح بلفظة "سلم" وهي في معنى "سلم" في عربيتنا. فالسلم هو الصلح الذي يلي الحرب بعد الانتهاء منها، كما أنه السلم في الأوقات الأخرى, أي: الأوقات الاعتيادية1. ويعبر عن الحذر من العدو بلفظة "حذر"، وهي تؤدي معنى الدفاع كذلك، فـ"حذر" تعني دافع ضد عدو2. وإذا سار شخص ما خلف زعيم أو قائد، يقال لذلك "تبع" و"تبعو"3 بمعنى سار مع القائد وساروا في حرب مثلًا، وتقدم أو تقدموا نحو العدو. ويعبر عن التراجع والانسحاب بلفظة "ضويم" "ضوى"، وتعني الهزيمة كذلك4. وهي نقيض معنى "متسك" التي تعني التمسك بالشيء والاستيلاء عليه. و"امتسك بـ"5. ويعبر عن الهزيمة بلفظة "سحت" كذلك6. كما يعبر عنها بلفظة "تشوع"7. وقد يتبع المحاربون طريقة حرب العصابات، وذلك بأن ينقسم الجيش إلى أحزاب وفلول مستقلة تنتشر في أماكن متباعدة، وتقاتل بمفردها أو تتعاون فيما بينها عند الحاجة، وهي تحمي نفسها بالالتجاء إلى المواضع الطبيعية الحصينة, مثل: المستنقعات والأدغال والجبال وأطراف الممرات الوعرة، وذلك لكي تخفي نفسها عن العدو فلا يراها إلا وهي مباغتة له. ويقال للعصابة هذه: "حزب" في السبئية، وأما الجمع فـ"احزب"8. وتتبع الطريقة المذكورة عندما يواجه عدو عدوًّا يرى أنه لا يستطيع الوقوف أمامه ومحاربته، أو في حالة التريث والانتظار إلى ساعة مجيء مدد وعون، أو في

_ 1 راجع النص الموسوم بـ Glaser 481, Rhodokanakis, Stud., Ii, S. 15, 55, Jamme 556, 557, 576, 577, 643, 652, Mahram, P.443 2 راجع الجملة الثالثة من نص أبنة. Mahram, P.436, Jamme 649, 720 3 Mahram, P.436, Jamme 649, 720 4 Rhodokanakis, Stud., Ii, S. 53 5 Rhodokanakis, Stud., Ii, S. 52 6 Jamme 578, 643, Mahram, P.443 7 Jamme 649, Mahram, P.450 8 Jamme 574, 576, 577, 585, Mahram, P.436

حالات الهزيمة. فتشتت القوات المغلوبة قواتها إلى "أحزاب" وتشغل جيش العدو المتفوق عليها بجبهات عديدة لغاية إرباكه وإضعاف قوته، وتبقى تحارب حرب عصابات حتى ترى رأيها الأخير، فتقرر الصلح أو الاستسلام وقد تجمع فلولها ثانية وتظهر مرة أخرى في ميدان قتال جديد، ففي كتابات المسند أمثلة كثيرة من هذا القبيل. وقد وردت في النصوص المعينية لفظة "غزتس" بمعنى غزوة، كما في هذه الجملة: "غزتس عم مسبا"1، بمعنى "في غزوته مع المسبين". ويظهر أن هذا النص قد دوّن في غزاة قام بها صاحب النص، وقد أخذوا معهم جماعة من السبي. وهذا النص هو من النصوص المعينية التي عثر عليها في مدائن صالح. ويقال للحواجز التي يضعها المحاربون في شوارع المدينة أو في الطرق أو التي يقيمونها في ساحات المعارك لإعاقة حركات العدو: "حجزت"، أي: "حاجزة"2. ولا تقتصر عمل هذه الحواجز على الأغراض العسكرية وحدها بالطبع، بل تقام لأغراض عديدة أخرى، مثل: الحواجز التي تقام لحجز المواشي والحيوانات وما شابه ذلك. ولا يشترط بالطبع في الحواجز أن تكون عالية مرتفعة أو قائمة عريضة، فقد تكون منخفضة وعندئذ تكون على هيأة موانع لإعاقة الإنسان أو الحيوان من المرور. وقد تكون خندقًا يحفر حول المدينة أو حول مكان يراد حمايته ومحافظته من التطاول عليه. فيقف هذا الخندق حاجزًا مانعًا يمنع الجنود والجيوش من التقدم نحو الهدف أو المدينة أو الموضع الذي يراد الاستيلاء عليه، ويقال له عندئذ: "خبزت" وبهذا المعنى عرف في كتب اللغة، فقد ورد في القاموس المحيط "خ ب ز ": "خبز" الرهل والمكان المنخفض المطمئن من الأرض3. وقد بنى اليمانيون حصونهم في الهضاب والمرتفعات والجبال، ليكون من السهل الدفاع عنها. وحول هذه الحصون وبحمايتها بنى الناس بيوتهم، فتحولت هذه الأماكن المحماة بالقلاع والحصون إلى مواضع حصينة تدافع عن نفسها وترمي من

_ 1 Rep. Epigr. 3604 2 راجع الفقرة الثانية من النص: Glaser 1150, Halevy 192, 199 3 تاج العروس "4/ 32"، "خبز" اللسان "خ/ ب/ ز"، خليل يحيى نامي: نقوش خربة معين "الصفحة2".

يحاول الوصول إليها بالسهام وبوسائل الدفاع الأخرى، فيتكبد المهاجم خسائر، ويلاقي صعوبات كبيرة في الوصول إليها. ويقال لمثل هذه الحصون والقلاع: "محفدن" و"محفدم" والأُولى معرفة والثانية منكرة1. وتزود الحصون بكل وسائل الدفاع وما يحتاج إليه أصحابها والمدافعون عنها من ماء وزاد ووسائل دفاع. ولهذا نجد في الحصون آبارًا ومخازن للمياه، ليستفيد منها المدافعون2، ولا يتمكن المهاجمون من منع الماء عنهم. أما الزاد، فيخزن في العادة في مخازن خاصة لهذه الغاية أيضًا. وأما وسائل الدفاع فتكون بإنشاء أبراج فوق أسوار الحصن، يكمن فيها المدافعون لرمي العدو منها، وببناء فتحات صغيرة رفيعة لمراقبة العدو منها، ولرميه بالسهام. ومن وسائل الدفاع التي لجأ إليها أهل العربية الجنوبية لإعاقة المحاربين من التقدم نحو هدفهم، إنشاء حواجز على هيئة جدر تُبنى في المضايق والممرات، بحيث إذا وصل إليها العدو لم يتمكن من الاستمرار في سيره نحو عدوه، فينهال عليه حماة تلك الحواجز بالحجارة والسهام وما شاكل ذلك من أسلحة. وترى بقايا مثل هذه الجدار في مواضع عديدة من اليمن وحضرموت حتى اليوم. ومن جملة ما عثر عليه بقايا جدار أقيم في وادي "لبنا" شمال ميناء حضرموت القديم "قنا" قانه" "قني". أقامه حكّام حضرموت المكربون قبل القرن الرابع قبل الميلاد، وذلك لحماية حضرموت من غزوات الحميريين وغيرهم. وعثر على بقايا جدار في القسم الجنوبي من "وادي بيحان"، وعلى بقايا جدار آخر يقع في "وادي أنصاص" جنوب "شبوة"، وذلك لحمايتها من الغارات3. والنصر ضد الهزيمة. وترادفها لفظة "شرح" في اللهجات العربية الجنوبية، كما في هذه الجملة "يوم شرح سبا"، أي: "يوم نصر سبأ"4. وبعد انتهاء الحرب توزع الغنائم بين المحاربين المنتصرين، ويعطى الرئيس إذا

_ 1 "تعلى محفدن يهر"، أي: "تعلية حصن يهر" خربة معين، النقش4. 2 ابن المجدرر: صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز "2/ 173". 3 Beitrage, S. 44, 46 4 Rep. Epigr. Vii, Ii. P 276, Nu: 4624

غنم الجيش معه "المرباع" أي: ربع الغنيمة1. وقد رده الإسلام خمسًا، بنزول الأمر بالخمس في القرآن الكريم2. وإذا وقع أحد في أيدي عدو وأسر فيقال له عندئذ: "أسير". ويعبر عنه بـ"اخذ" في السبئية في حالة المفرد، وبـ"اخذتم" "أخذت" "اخذيت" في حالة الجمع2. وتطلق هذه اللفظة على الأسرى الذين يقعون في الأسر من دون قتال، وذلك عند اكتساح جيش أو غزاة جيش العدو أو مكان ما، فيؤخذ من فيه من ناس من غير قتال ولا مقاومة. فهم مثل الغنائم التي تقع في أيدي الغزاة والمحاربين يؤخذون دون قتال. أما الذين يؤخذون بعد مقاومة وبقتال، فيقال لهم: "سبيم", أي: "سبي"، بمعنى "مسبي". وأما الجمع فـ"اسبى", أي: سبايا. وأما الإسباء فيعبر عنه بـ"يسبيو"، وتعني "يسبي" و"يسبون"3. وكانوا يكبّلون أيدي الأسرى والسبي بـ"الكبل". القيد من أي شيء كان، وذلك لاحتباسهم حتى لا يهربوا. وقد ذكر بعض علماء العربية "أن الكبل غير عربي. وقد صرح به أقوام"4. ولفظة "كبل" هي "كبلو" Keblo و"كيبل" Kebel في لغة بني إرم وفي العبرانية، أي: "القيد"5. وقد كانوا يكتّفونهم بالحبال وبكل شيء يكون عندهم يشد به وثاق الأسير، فلا يفلت من آسره. و"الكتاف" الحبل6. و"الوثاق" ما يشد به كالحبل وغيره7. كما كانوا يكتّفون الأسرى بالقدّ. والقد السير الذي يقدّ من جلد، فتشد به أطراف الأسير شدًّا شديدًا حتى لا يتمكن من الهروب. ولما بعث رسول الله خيلًا قبل نجد، فجاءت بـ"ثمامة من أثال الحنفي" سيد أهل اليمامة مأسورًا، أمر به رسول الله، فربطوه بسارية من سواري المسجد ثم منّ عليه فأطلقوه وأسلم؛ لأنه لم يكن في زمن الرسول سجن. فكانوا يحبسون

_ 1 شرح ديوان لبيد "ص30"، العقد الفريد "3/ 342 وما بعدها"، تاج العروس "5/ 339"، "ربع". 2 Jamme 576, 578, 635, Mahram, P.427, South Arabian Inscriptions, 649, 665, 549. 3 Mahram, P.443 4 تاج العروس "8/ 93"، "كبل". 5 غرائب اللغة "203"، Hastings, A Dictionary Of The Bible, Ii, P.5 6 تاج العروس "6/ 229"، "كتف". 7 تاج العروس "7/ 73"، "وثق".

الأسير في المسجد أو في الدهليز حيث أمكن. فلما كان زمن "علي بن أبي طالب" أحدث السجن بالكوفة، وكان أول من أحدثه في الإسلام1. وذكر أن "ثمامة" كان عرض لرسول الله، فأراد قتله، فلما قبض عليه أسلم، فلما أسلم قدم مكة معتمرًا، فقال: "والذي نفسي بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة، وكانت ريف أهل مكة، حتى يأذن رسول الله". ورجع إلى اليمامة ومنع الميرة عن قريش. وقد ثبت على إسلامه، لما ارتد أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه، فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي، فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين، فلما ظفروا اشترى ثمامة حلة كانت لكبيرهم فرآها عليه ناس من "بني قيس بن ثعلبة"، فظنوا أنه هو الذي قتله وسلبه فقتلوه2. وكان له عم اسمه "عامر بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي". وقد دخل في الإسلام3. ويسبق المبشرون الجيش المنتصر بزف خبر النصر للحكام وللناس. يسرعون بأقصى ما يمكنهم من السرعة لنقل النبأ، ولنيل جوائز البشرى. وهي "البشارة" ما يعطاه المبشر4. ويعبر عن البشرى بـ"تبشرت" في العربية الجنوبية، أي: "التبشرة"، ويقوم الـ"هبشر"، أي: المبشر بإبلاغ البشرى لمن يراد إيصالها إليه. ويعبر عما يقع في أيدي المغيرين أو المحاربين أو الغزاة أو المنتصرين من أموال بـ"مهرج"، أي: غنيمة حرب، وذلك للمفرد وبـ"مهرجت" "مهرجة" في حالة الجمع، أي: غنائم5. وتطلق هذه اللفظة على الغنائم التي تؤخذ بقتال وبعد مقاومة، أما الغنائم التي يحصل عليها المحاربون بعد القتال وبعد الهزيمة التي تنزل بالمغلوب، فيقال لها: "غنم" و"غنم" وذلك في المفرد، أي: للغنيمة الواحدة، وأما في حالة التعبير عن الجمع فيقال: "غنمت"، أي: غنائم6. ونظرًا إلى ما للمنزلة الاجتماعية من أهمية كبيرة في المجتمع العربي، لذلك كان

_ 1 صحيح مسلم "5/ 158". 2 الإصابة "1/ 204"، "رقم 961". 3 الإصابة "2/ 241"، "رقم "4390". 4 تاج العروس "3/ 44"، "بشر". 5 Mahram, P.439 6 Mahram, P.445

الشريف يسأل من يريد أسره عن اسمه ونسبه، حتى إذا وجد أنه من العبيد والموالي أبى الاستسلام له؛ لأن في استسلام الرجل لمن هو دونه في المنزلة والمكانة مذلة كبرى وإهانة، ولهذا كان الرجل الذي يشعر أنه في وضع حرج وأنه مأسور لا محالة يبقى يراوغ خصمه ويحاول الإفلات منه ومن أسره جهد إمكانه حتى آخر نفس له، وقد يسأل شخصًا آخر يرى عليه إمارة الوجاهة والشرف بأن يأسره خشية الفضيحة والعار ومن وقوعه أسيرًا في يد عبد جلف، أو صعلوك لا مكانة له في المجتمع. ومن ذلك ما وقع لحاجب بن زرارة، إذا أدركه الزهدمان، فقالا له: استأسر وقد قدروا عليه، فقال: ومن أنتما؟ قالا: الزهدمان. فقال: لا أتستأسر اليوم لموليين. وبينما هم كذلك، إذ أدركهم مالك ذو الرقيبة بن سلمة من قشير، فقال لحاجب: استأسر، فقال: ومن أنت؟ قال أنا مالك ذو الرقيبة فقال: أفعل فلعمري ما أدركتني حتى كدت أكون عبدًا. فألقى إليه رمحه واعتنقه زهدم عن فرسه فصاح حاجب: وا غوثاه، ثم تخاصم مالك والزهدمان في شأن أسر حاجب، واجتمع القوم وحكموا حاجبًا في أمر من أسره, فاختار مالك، وحكم له؛ وذلك لأنه كان حرًّا شريفًا. ثم فك أسره، بأن أعطى فدية عن نفسه لمالك وفديتين أصغر منها إلى الزهدمين1. ولم تكن "المثلة" بقتيل الحرب أو بالأسير محرمة من قوانين ذلك اليوم. فقد كانوا يمثلون بقتلى الحرب وبالأسرى بتقطيع أجزاء جسمهم، وتشويه الجسم. يفعلون ذلك بالأسير حتى يموت، وهو يشاهد أعضاءه تقطع قطعًا من جسمه. وفي "يوم الرقم" انهزم الحكم بن الطفيل في نفر من أصحابه، فيهم "خوّات بن كعب" حتى انتهوا إلى ماء يقال له: المرورات، فقطع العطش أعناقهم فماتوا، وخنق الحكم بن الطفيل نفسه مخافة المثلة، فقال في ذلك عُروة بن الورد: عجبت لهم إذا يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغي كان أعذرا2 والقاعدة في الغزو والحروب والغارات، أن القاتل يأخذ سلب المقتول. يأخذ ما يجده عنده، وقد أقر ذلك في الإسلام، فجعل السلب للقاتل لا ينازعه في

_ 1 الأغاني "10/ 37". 2 نهاية الأرب "15/ 364"، "يوم الرقم".

ذلك منازع، إن ثبت أنه هو القاتل1. والحروب من أهم الموارد الممونة للرقيق عند الشعوب القديمة، وفي جملتهم الجاهليين. فقد كان المنتصر يتخذ من يقع في يده رقيقًا له، وإذا لم يمنّ عليه بالعفو، أو لم يتمكن المأسور من دفع فدية عن نفسه، صار عبدًا مملوكًا لمن وقع في يده، إن شاء باعه، وإن شاء احتفظ به رقيقًا، يخدمه ما دام عبدًا. وقد عمد المحاربون إلى إحراق المغلوبين في بعض الأحيان. فقد جمع المنذر بن امرئ القيس أسرى في الحظائر ليحرقهم، فسمي أبا حوط الحظائر2. وقد عرف بعض ملوك الحيرة بحرق من وقع في أيديهم من المغلوبين، أو بحرق مواضعهم وهم فيها؛ لذلك عرفوا بـ"محرق". وعقوبة الحرق من العقوبات المعروفة عند الأمم القديمة مثل: الرومان والعبرانيين، ينزلونها في المحاربين جزاءً لهم، وإخافة لغيرهم ودعاية لهم، حتى لا يتجاسر أحد فيعلن الثورة على المحرقين، فيحل عندئذ بهم عذاب التحريق3. وكان بعض الأشخاص يقومون بالغارات بمفردهم أو بجمع من الناس، فيفاجئون الناس الآمنين أو رجال القوافل، ومن هؤلاء. شراحيل بن الأصهب، وكان كما يقول أهل الأخبار: أبعد العرب غارةً، كان يغزو من حضرموت إلى البلقاء في مائة فارس من بني أبيه، فقتله بنو جعدة. وكان قد أزعج قبائل معد وغيرها كما يظهر ذلك من شعر نابغة بني جعدة: أرحنا معدًّا من شراحيل بعدما ... أراها مع السبح الكواكب مظهرا وعلقمة الحراب أدرك ركضنا ... بذي الرمث إذا صام النهار وهجرا4 وقد يعمد المنتصر إلى أخذ رهائن من المغلوب لتكون رهنًا لديه بالطاعة والخضوع. فإذا خاس بعهده، تعرضت الرهينة للتهلكة. وتؤخذ الرهائن في أيام السلم أيضًا. يأخذها الملوك ممن يخشونهم ومن السادات لتكون ضمانًا لديهم بالطاعة وبعدم مسهم بمصالحهم. وقد عرف "الحارث بن علقمة بن كلدة بن

_ 1 صحيح مسلم "5/ 149 وما بعدها". 2 المعارف "ص42". 3 Beeton, Dictionary Of Religion, Philosophy And Law, P.108 4 العقد الفريد "3/ 394".

عبد مناف بن عبد الدار بن قصي" بـ"الرهين"، "وإنما لقب به؛ لأنه كان رهينة قريش عند أبي يكسوم الحبشي، وولده النضر بن الحارث بن مسلمة الفتح. وأخوه النضر بن الحارث قتله عليّ، رضي الله تعالى عنه، بالصفراء بعد رجوعهم من بدر بأمر من النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وبنته قتيلة رثت أباها بالأبيات القافية، وليس فيها ما يدل على إسلامها"1. وللطيرة أثر كبير في نظر الجاهليين في كسب الحرب وخسرانها، فقد رسخ في عقولهم أن لها تأثيرًا مباشرًا في الغزو والحروب، وأن كلمة طيبة تسمع ساعة الاستعداد للغزو، أو عطسة يعطسها إنسان، أو نعيب غراب ينعب ساعة الهجوم أو ما شاكل ذلك من علامات يتفاءل أو يتشاءم منها، تؤثر في مصير الغزو وتتحدث للغازين عن مصير ما سيقومون به. لذلك فقد كانوا ربما نبذوا الغزو إذا ظهر أمامهم ما يتطير منه، وكانوا ربما أسرعوا بالهجوم إن ظهر أمامهم ما يفسرونه بأنه يمن وتفاؤل وحث على الإقدام في العمل. ولم يكن هذا الاعتقاد من عقائد العرب وحدهم، فقد كانت الشعوب الأخرى تتطير كذلك. وتحسب للطيرة حسابًا عند شروعها بحرب. ونجد في الكتب القديمة قصصًا عن الطيرة وأثرها في الحروب عند اليونان والرومان والفراعنة والفرس. ورسخ في عقول أهل الجاهلية أن في وسع الكهنة التنبؤ عن نتائج الغزو أو الحروب، لما للكهنة من اتصال بالأرباب وبالأرواح المخبرة عن المغيبات وعما سيقع في المستقبل. فكانوا لذلك يسألونهم في كثير من الأحايين عن رأيهم في غزو يريدون القيام به قبل الشروع به، حتى إذا باركه الكاهن قاموا به، وإلا تركوه2. ونجد في كتب الأدب وأهل الأخبار أخبارًا ترجع سبب هزيمة قوم أو سبب انتصارهم إلى مخالفة أولئك القوم لرأي كاهنهم، فكانت الهزيمة، وإلى العمل برأيه، فوقع من ثَمَّ لهم النصر؛ لأن للكهنة علم بالمغيبات.

_ 1 تاج العروس "9/ 222"، "رهن". 2 الدينوري، عيون الأخبار "1/ 144"، "كتاب الحرب"، "في الطيرة والفأل".

الفصل السادس والخمسون: في الفقه الجاهلي

الفصل السادس والخمسون: في الفقه الجاهلي مدخل ... الفصل السادس والخمسون: في الفقه الجاهلي عرفت "مدوّنة جوستنيان" Institutes De Justinien "الفقه" بأنه "معرفة الأمور الإلهية والأمور البشرية، والعلم بما هو حق شرعًا وبما هو غير حق"1. و"الفقه" في اصطلاح المسلمين هو: استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، أو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، أو العلم بأحكام الشريعة2، وهو اصطلاح ظهر بالطبع في الإسلام. أما بالنسبة إلى الجاهليين فإننا لا نستطيع أن نأتي بتحديد علمي ثابت له، لعدم وصول شيء منهم في هذا المعنى إلينا. وقد وردت اللفظة لغة بمعنى العلم والتبحر في الشيء والإحاطة به. ووردت في سورة التوبة كلمة ليتفقهوا {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} 3. ومن هذا المعنى جاءت لفظة "الفقه" في الإسلام. وأنا أقصد بمصطلح "الفقه" هنا الأحكام التي نظمت العلاقات بين الجاهليين، وبيّنت الحلال في عرفهم من الحرام. وأقصد بالحلال كل مباح أباحه أهل الجاهلية لأنفسهم، وبالحرام كل ما حرموه عليها. فللجاهليين شرائعهم الخاصة بهم. وأنا هنا أريد أن أبحث عن شرائعهم التي ثبتت الأحكام بحسب اجتهادهم

_ 1 مدونة جوستينان في الفقه الروماني، تعريب عبد العزيز فهمي، دار الكاتب المصري القاهرة 1946 "ص5". 2 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص391". 3 التوبة، الآية 122.

وعرفهم وسنتهم، وأريد بالأحكام "قوانينهم" التي وضعوها وساروا عليها في تثبيت المحظور أو المباح، أي: الحرام والحلال. وكلامنا في الفقه الجاهلي هو كلام لم نستنبطه من "قوانين" أو من مدونات قانونية Codex Juris أو من كتب في فقه الجاهليين، أو من تعليمات جاهلية مدونة، وإنما أخذناه في الغالب من الألفاظ الفقهية التي تعبر عن آراء قانونية وردت في كتب الفقه والحديث والتفسير، وما شاكل ذلك من موارد إسلامية، ومن أقوال وأحكام نسبها أهل الإسلام إلى رجال من أهل الجاهلية، فيها قواعد فقهية. ومن بعض أوامر وأحكام أصدرها ملوك العرب الجنوبيون قبل الإسلام في تنظيم التجارة وفي كيفية جباية الأموال. وسبب عدم أخذنا من موارد فقهية جاهلية هو عدم وصول مدوّنات قانونية إلينا حتى الآن، فليست لدينا ويا للأسف مدونات مثل: "قوانين حمورابي" أو "مدونة جوستنيان"، أو مثل ما كتبه "ديودورس" في الشريعة المصرية1. فما نكتبه في التشريع الجاهلي، مستمد مما ذكرته ومن أوامر وإرادات ملكية وأحكام وردت في المسند في نواحٍ خاصة من نواحي التشريع, مثل: كيفية جباية الضرائب عن الأرض أو التجارة، أو نواح معينة من البيوع والقتل وغير ذلك. فهي خاصة بحالة معينة من حالات التشريع، لا قوانين عامة على نحو ما نفهمه من القوانين. ولما كانت القوانين وليدة الظروف والحاجات اختلف التشريع في أيام الجاهلية باختلاف القبائل والأماكن، وطبيعة البيئة. فأهل اليمن بنظام حكمهم المستقر، وبحكوماتهم التي كانت تهيمن على مناطق واسعة كانوا يختلفون في أصول تشريعهم عن أهل مكة أو أهل يثرب. وكل من هؤلاء هم قُطّان مدن، وحكمهم هو حكم مدن قائم على أساس آراء رؤساء الأحياء والشعاب، ثم إن حكم هؤلاء، يختلف أيضًا عن حكم القبيلة والعشيرة، أعني حكم الأعراب. ولعدم وجود حكومات منظمة قوية في معظم أنحاء جزيرة العرب، لا يمكن تصور وجود هيئات قضائية ومؤسسات حكومية ذوات قوانين مدوّنة، للفصل في الخصومات، ولإنزال العقوبات الجزائية الرادعة في المخالفين، على نحو ما نراه في حكومات هذا اليوم، كما أننا في شك من وجود نصوص قانونية مدونة في

_ 1 Grohmann, Arabien, S. 132

مثل هذه الأماكن على مثال قوانين "جوستنيان" مثلًا، أو القوانين التي سنَّها الأكاسرة. فمثل هذه القوانين والأنظمة الدقيقة المنظمة المبوبة لا يمكن أن تظهر إلا في المجتمعات السياسية المنظمة المعقدة التي تهيمن عليها حكومة ذات مجتمع منظم يشعر بحاجته إلى حكم منظم يعين حقوق الحكام وحقوق المواطنين. وغير أنَّ هذا لا يعني عدم وجود أحكام لردع المخالفين والزائغين، وعدم وجود أحكام لتنظيم العلاقات في المجتمع، وتعيين حقوق الحكام والمحكومين، وعدم وجود أناس لهم علم بعرف البلاد، فلكل مجتمع مهما كانت حالته من السذاجة قوانين وأناس لهم علم بتطبيق تلك القوانين على المخالفين. والقوانين في المجتمعات الصغيرة البسيطة، هي العرف والعادة المتوارثة عن الآباء والأجداد. وإذا كانت مثل هذه المجتمعات لا تملك محاكم دائمة ذات موظفين وسجلات وقوانين ثابتة مكتوبة على نمط المحاكم لهذا العهد، فإنها تملك في الواقع محاكم، وتملك حكامًا. ففي المدن مثل: مكة ويثرب، وهي مدن تحكم نفسها بنفسها، ونستطيع أن نسمي حكوماتها بحكومات مدن، يحكم الرؤساء والأشراف المدينة، ويفضون المنازعات وفق العرف والعادة. يجتمعون في مكان معين، مثل: "دار الندوة"، أو في المعبد، أو في بيوت الوجهاء، للنظر في الخصومات وفي المشكلات التي تقع في البلد. ويتولى رؤساء الشعب، أي: الحارة والمحلة فَضَّ المنازعات التي تنشأ بين أفراد الشعب في الغالب. أما إذا وقعت الخصومات بين أبناء شعاب مختلفة، فقد يتفق رؤساء المحلات عن فَضِّ الخصومة بينهم باللجوء إلى محكمين يختارونهم من غيرهم ممن يرضى عنهم المتخاصمون ويكونون في نظرهم محايدين لا علاقة لهم بهذا النزاع. وقد يحال النزاع على رؤساء البلد أو الحي للنظر فيه. ويشترط بالطبع على المتخاصمين كلهم الإذعان لقضاء الحكام، والتسليم بما يحكمونه من حكم. ولسذاجة الحياة وعدم تعقدها في معظم أنحاء جزيرة العرب، كانت طبيعة التشريع عند الجاهليين ساذجة غير معقدة, والقوانين قليلة تتناسب مع طبيعة حياة ذلك العهد، تقتصر على المشكلات التي تحدث في مثل تلك البيئة وفي ظروف تشبه تلك الظروف، فلا نرى لذلك قوانين معقدة عديدة في معالجة مشكلات الأرض ومشكلات الصناعة والاقتصاد وتنظيمات المدن الكبيرة، وما يتكون ويتولد فيها من إجرام ومخالفات. ولما كانت الطبيعة الأعرابية، هي الطبيعة التي تغلبت على حياة أكثر سكان

جزيرة العرب، نبع مفهوم الحق عند الأعراب, ومفهوم كيفية استحصاله وأخذه من المحيط الذي عاش الأعرابي فيه. فصار الحق في نظره القدرة أو القوة. فالقوي القادر على حمل السلاح هو صاحب الحق؛ لأن في استطاعته انتزاع حقه والدفاع عن نفسه متى تعرّض للظلم. وهو بقوته لا يخشى ظلم ظالم. وعلى هذا المبدأ بنيت أكثر أحكام الجاهلية في تقويم الحق وتقديره في مثل: دفع الديات، وفي حقوق الإرث وفي مفهوم السرقة، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد, فالقدرة هي سبب من أهم أسباب تحقيق الحق، وأخذ الحق وانتزاعه من المغتصبين، ثم عامل آخر، هو العصبية بأنواعها، من أبسط درجة فيها إلى أعلاها، فإنها عامل آخر من عوامل الدفاع عن الحق وعن استحصاله، لعدم وجود حكومة نظامية تقوم بتحقيق الحق، فقامت العصبية مقامها في استحصال الحق وفي تأديب الخارج على العرف، الذي هو القانون. وأما النواحي القانونية والتشريع في العربية الجنوبية وسائر الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، فلم ترد إلينا كتابات وبحوث فيها، فلتكوين رأي فيها إذن، لا بد لنا من اللجوء إلى الكتابات التي لها علاقة بهذه النواحي، مثل: الكتابات التي تحمل طابع الأوامر والنواهي وعقود التملك من بيع وشراء، والقبوريات, أي: الكتابات التي تخص تملك القبور، فتمنع الغرباء من الدفن فيها والتجاوز عليها والتطاول عليها بإحداث تغيير وتبديل في شكل القبر وفي هيئته، ومن كتابات مماثلة أخرى. فقد وردت في هذه مصطلحات وتعابير قانونية، يمكن أن نستنتج شيئًا منها، وأن نكوّن رأيًا قانونيًّا بدراستها ومقارنتها بالتشريعات الواردة عند الشعوب الأخرى أو عند القبائل الساكنة في مختلف أنحاء بلاد العرب، وبالتشريع الإسلامي. ومن هذه المصطلحات الحقوقية لفظة "احلى" و"احل" بمعنى "أحلّ" في عربيتنا، وهي تشير إلى لفظة "الحلال" التي هي ضد الحرام المعروفة في القوانين وفي الفقه. وقد وردت في النص الموسوم بـMe 36 هذه العبارة: "هن بخطات نكرح وود احلى ذ ينقل قبرن عمر خرقن وارخن"1، ومعناها: هذا بخطيئة نكرح وود لمن يحل وينقل أي يغير القبر. عمر السنين والأزمان، وتعني لفظة "عمر" الدوام والتأييد. وأما "خطأت" "الخطيئة" فإنها بالمعنى

_ 1 Me 36. Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 66

المفهوم منها عند النصارى تقريبًا، فهي بمعنى التعدي على الشريعة. وعدم الامتثال لها، والإثم1، وبمعنى "اللعنة" في الإسلام. فيكون المعنى للجملة المتقدمة على هذه الصورة: "هذا بلعنة الإلهين نكرح وودّ لمن يحلّ، أي: يجوّز تغيير القبر، أبد السنين والأيام". وتعني لفظة "نقل" التغيير والتبديل. وهناك لفظتان تردان في الكتابات القبورية والإعلانية في بعض الأحيان، هما "مسرس"2 و"سنكرس"3. وتعني اللفظة الأولى: يبعد وينقل. أما الثانية فتعني: يغيّر ويزيل معالم الشيء، وقد ترد بعد الكلمة هذه العبارة "يومي أرضم"4, أي: أيام الأرض، بمعنى ما دامت الأرض. ووردت لفظة "خطات" في نص قتباني، وهو أمر ملكي أصدره الملك: "شهر هلل بن ذرأ كرب". وقد جاء في هذا الأمر أن الملك سينزل عقوبات بالمخالفين لهذا الأمر. واستخدمت هذه اللفظة في أداء هذا المعنى5. وفي السبئية لفظة "حجك" "حكك"، وتعني القانون6. وربما تؤدي معنى "حكّ", أي: "حق". أي: ما كان ضد الباطل. وقد فسَّر "رودوكناكس" لفظة "حلكم"، "حلك" الواردة في نص قتباني عرف بكتابة "كحلان" بـ"قانون" وبـ"نظام". وفسَّر لفظة أخرى وردت معها هي "سحر" بمعنى أمر به. وأما لفظة "حرج"، فقد فسَّرها بمعنى أصدره وأخرجه7. وقد وردت الألفاظ الثلاثة في ابتداء قانون أصدره "شهر هلال" ملك قتبان لتنظيم أمور الزراعة والملك في بلاده8.

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 413". 2 الحرف الثاني من الكلمة هو حرف لا مقابل له في أبجديتنا, وهو بين حرفي الزاي والسين. 2 راجع النص: Glaser 1089, 1660, Halevy 208. Rhodohanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 26 Glasser 1150, Halevy 192, 199 4 السطر الأخير من النص: Glaser 1150 5 راجع الفقرة التاسعة من النص: Glaser 1396, 1610, Se 83, Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 4. Mahram, P.436. 6 Mahram, P.436 7 راجع النص الموسوم بـClaser 1396, 1610, Se 83 8 Rhodokanakis, Kataba. Texte, Ii, S. 5

ووردت لفظة "نتذر" بعد لفظة "تنخيو" في بعض الكتابات1. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن لفظة "تنخيو" التي تعني الإعلان والإشهار، ليكون ذلك معلومًا لدى الناس، إنما يراد بها التنبيه على شيء قد تتولد منه نتائج غير طيبة، فهي بمثابة إنذار وتخويف وتحذير. وبهذا المعنى أيضًا لفظة "تنذر" بمعنى إنذار ونذر2. وقد اختتمت بعض الأوامر والإرادات الملكية القتبانية بهذه الجملة: "قدمن وتعلماي يد......"3، ومعناها: "أمام. وعلمته يد"، أي: ووقعته يد. ويراد بها أن الإرادة الملكية قد كتبت أمامه، وأن يد الملك قد وقعته، فهو أمر صدر بإرادته وأمره. فنحن هنا أمام نص قانوني، صدر باسم ملك من الملوك, أمر هو بإصداره، ودوّن أمامه، وشهد هو بنفسه عليه، ووقعته يده، دلالة على شهادته بصحته وبأنه نص شرعي ملكي معترف به. فعلى أتباعه السير وفقًا لأحكامه ولما جاء فيه. وفي كتابة مثل هذه العبارات القانونية دلالة على وجود فهم للقانون وإدراك له عند العرب الجنوبيين. وتطلق لفظة "بل" على المباح بلغة حمير4. وأما "البسل"، فهي من الألفاظ التي تدخل في باب الأضداد، فهي تعني الحرام كما تعني الحلال5. وفي شريعة أهل الجاهلية حلال وحرام، مباح ومحظور، ويراد بالحلال كل ما أباحه العرف، مما لم يتعارض مع تقاليدهم ومألوفهم. أما ما تعارض منه معه، فهو حرام محظور، ويعاقب المخالف المرتكب للمحرمات ولما حرمته شريعتهم. ومعنى الحلال والحرام الاصطلاحي هو المعنى الوارد في القرآن الكريم نفسه. غير أن الإسلام حدد الحرام والحلال وفق قواعد الشرع، أي: إن الإسلام ندب المصطلحين وحددهما وفق قواعده. أما الجاهلية، فحددتهما وفق عرفها.

_ 1 راجع السطر الأول من النص: Halevy 149 2 Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 59 3 الفقرة الأخيرة من النص: Glaser 1396, 1610, Se 83 4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص120". 5 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص158".

ومن المصطلحات التي لها علاقة بالحياة الاجتماعية لفظة "ثوب", أي: "ثواب"، و"أجر". ترد بهذا المعنى في الكتابات ذات الصبغة الدينية. ولفظة "تعمن" وتعني "النعم" و"نعمة"1. وعثر في الكتابات الثمودية وفي اللحيانية على نصوص تتعلق بحق الملكية، فعثر على نص ثمودي يشير إلى ملكية بئر2. وعثر في اللحيانية على وثائق تتعلق بملكية أرض وعقار كما عثر على وثيقة، وجد أنها وصل, أي: اعتراف بتسلم مال. كما عثر على وثائق تتعلق بالقانون الجنائي. منها وثائق تتعلق بقتل، ووثائق تتعلق بعقوبات القتل وبالدية، ووثائق تتحدث عن ازدياد الجرائم والخروج على القوانين في "ديدان"3. وتدل هذه الوثائق على وجود أصول القانون والمحافظة على الحقوق عند عرب أعالي الحجاز. وإن كُنَّا لا نستطيع في الوقت الحاضر تقديم أي رأي عن أصول التشريع عندهم أو التحدث عن وجود قوانين مثبتة مدوّنة في معالجة الحق العام والحق الخاص أو الجرائم أو أصول المرافعات على نحو ما نجده عند الأمم المعاصرة لهم، أو الشعوب التي عاشت قبلهم، فوضعت شرائع وصلت نصوص بعضها إلينا, مثل: شريعة حمورابي المعروفة. وقد عثر الباحثون على نصوص تشريعية، أصدرها ملوك العربية الجنوبية, وأمروا بإعلانها على الملأ، للعمل بموجبها وهي حتى الآن قليلة العدد. ومع ذلك، فقد أعطتنا فكرة مجملة عن أصول التشريع عند العرب الجنوبيين. وقد صدرت هذه التشريعات باسم الملوك. فهم الذين أمروا بسنها وبتشريعها وبتنفيذ ما جاء فيها. ويعبر عن القانون، أو سن القوانين بلفظة "سن" وتقابل كلمة Law أي: قانون في الإنكليزية4. و"السنة" في عربيتنا: الطريقة. وهي من القواعد الأساسية الأربع في الفقه الإسلامي5. فللفظة صلة إذن بلفظة "سن" في العربية الجنوبية.

_ 1 راجع النص الموسوم بـ: Halevy 147, Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 57 2 Jaussen-Savignac, Mission, Ii, 427, 587, W. Caskel, 61, Arabien, S. 50 3 Arabien, S. 50 4 Jamme, Southern Arab. Inscriptions, P.449 5 اللسان "13/ 225 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 244"، "سنن".

ويظهر من الأوامر والأحكام الملكية المدونة بالمسند، أن الحكومات العربية الجنوبية كانت حكومات مشرِّعة، نظمت أعمالها وأعمال مواطنيها بتشريعات عيّنت بموجبها حقوق الحكومة على الناس وحقوق الناس مع بعضهم وواجباتهم تجاه حكومتهم، وذلك بحسب إمكانية المجتمع لذلك العهد1، وقد أدركت شأن نشر القوانين والأحكام ووجوب إبلاغها للناس، فأمرت بتدوينها على الحجر، أي: بحفرها فيها، ووضع الأحجار المدونة في مواضع بارزة ليقف عليها الناس ويفقهوا ما ورد فيها من أحكام وأوامر، فلا يقبل عندئذ عذر لمعتذر إذا خالفها، كذلك نجد الناس يعبرون عن حقهم في الشيء بتدوين ذلك الحق وإعلانه، فعند شراء رجل بيتًا أو أرضًا، أو عند بنائه بيتًا، كان يكتب ذلك على الحجر ويضع الحجر في محل بارز من جدار البيت الخارجي ليطلع الناس على تملك صاحب الملك له. ويدل هذا الإعلان على وجود فكرة التقنين والتشريع وإدراك الحق عند العرب الجنوبيين. وإذا أبرمت الحكومات العربية الجنوبية قانونًا، وإذا أصدرت أمرًا أو نظامًا، أمرت بتدوين نسخ من القانون أو الأمر أو النظام، لحفظها في ديوان الوثائق، لتكون مرجعًا يرجع إليه. وتُعلَن نسخٌ منها على الناس. ليقف الجمهور على ما جاء فيها2. وتعد الساحات المنشأة أمام أبواب المدن المكان المختار لنشر الأوامر والقوانين على الناس، نظرًا إلى كونها محلات عامة يتجمع فيها أهل المدينة في الغالب، وقد تعقد فيها المحاكمات والاجتماعات العامة. فإذا صدر أمر حكومي أو قانوني كتب على الحجر، ثم يبنى على جدار المدينة عند الباب ليقف عليه الناس. وقد عثر المنقبون على قانونين قتبانيين في تحديد عقوبة القتل، وقد بنيا في الجهة اليسرى من باب مدينة "تمنع" العاصمة ليقف عليها من يحضر هذا المكان من سكان العاصمة أو القادمين إليها3، كما عثر المنقبون على أسماء جماعة من رجال مدينة "مريمت" "مريمة" وقد دوّنت على حجر بني على جدار باب المدينة ليقف عليها الناس4؛

_ 1 Grohmann, Arabien, S. 132, Rhodokanakis, Etud. Lexi., I, S. 67 2 Grohmann, Arabien, S. 137 3 Grohmann, Arabien, S. 132 4 المصدر نفسه.

لأنهم قاموا بغزو رجعوا منه بغنائم كثيرة، أعطوا منها نصيبًا كبيرًا، فلكي يقف أهل المدينة على كيفية توزيع الغنائم، وكمياتها دوّنت تلك الكتابة. وتلعب أبواب المدن دورًا خطيرًا في أصول التشريع عند الساميين. فقد كانت موضع إعلان القوانين، ومحل إبلاغها للناس، فهي بمثابة "الجرائد الرسمية" المخصصة بنشر القوانين في عرف هذا اليوم. وهي مواضع المحاكمة أيضًا، حيث يجلس الحكام للنظر في خصومات المتخاصمين. وهي مواضع عقد العقود أيضًا، من بيع وشراء. ويصف الإصحاح الرابع من سفر "راعوت" لنا، كيف أن "بوعز" جلس عند باب المدينة وأمر عشرة من شيوخ المدينة ليكونوا شهودًا لإجراء عملية بيع وشراء1. ومما يلاحظ على القانوني القتباني أنه أخذ بمبدأ أن تنفيذ القوانين هو حق من حقوق "الملك"، أو من يخوله حق التنفيذ. ويراد بـ"الملك" الدولة، أو ما يسمى بـ"السلطان" في الفقه الإسلامي، فلا يجوز لأي أحد غير مخوّل تخويلًا قانونيًّا من الملك, أي: الدولة تنفيذ قانون أو أخذ أي حق مدعٍ بدون إذن رسمي من مرجع قضائي وسلطة مخولة، فالدولة وحدها هي التي تنظر في أمر الخصومات وفيما يقع بين الناس من خلاف. وهي وجهة نظر كل حكومة متحضرة، تريد إشاعة العدل والأمن في حدودها والقضاء على الفوضى والفتن التي قد تقع فيما لو قام كل إنسان بأخذ ما يدعيه من حق لنفسه بنفسه، وبدون مراجعة حكومة وسلطان. وأنا إذ أستعمل لفظة الفقه الجاهلي، فلا أعني أن الجاهليين عامة، كانوا كلهم يسيرون وفق فقه واحد وأحكام واحدة تطبق على جميعهم، تطبيق الأحكام العامة في الدولة الواحدة. فكلام مثل هذا لا يمكن أن يقال بالنسبة إلى الجاهلية. فقد كان الجاهليون قبائل في الغالب، وهم أهل الوبر. وللقبائل أعراف وأحكام تتباين بتباين الأمكنة، من انعزال في البادية أو قرب من الحضر أو اتصال بالأعاجم. وأما أهل المدر. فمنهم من كان يعيش في قرية والحكم فيها لا يتجاوز حدود القرية، ومنهم من عاش في ممالك أو إمارات، والحكم فيها لم يبلغ كل جزيرة العرب بأي حال من الأحوال. وقد انحصرت أحكامها لذلك في الحدود

_ 1 راعوت، الإصحاح الرابع، الآية الأولى وما بعدها.

التي بلغتها قوتهم ووصل إليها سلطانهم الفعلي لا غير. وإذا أردنا أن نتحدث بلغة هذا العصر عن أصول التشريع الجاهلي، أي: عن المنابع التي أمدت فقه الجاهلية بالأحكام، فإننا نرى أنها استمدت من العرف، ومن الدين، ومن أوامر أولي الأمر ومن أحكام ذوي الرأي. أما "العرف"، فهو ما استقر في النفوس وتلقاه المحيط بالرضى والقبول، وسلم به وسار عليه في بعض الأحيان1. وذلك لأخذه طابع القانون من حيث لزوم التنفيذ والإطاعة. وهو معروف عند أكثر الشعوب، وقد اكتسبت بعض الأعراف درجة القوانين عند كثير من الأمم لمرور زمن طويل على استعمالها، ولتعارف الناس عليها، ولكونها معقولة منطقية لا تتعارض مع روح الزمن وعدالة التشريع. وقد أشير إلى العرف في القرآن الكريم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 2. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد من "العرف" هنا: الإحسان3. وقد ألغى الإسلام بعض العرف الجاهلي، وأقرّ بعضًا منه، لعدم تعارضه مع قواعد الدين. ولا تزال القبائل تطبق "العرف العشائري" حتى اليوم في فَضِّ ما يقع بين أفرادها وبينها من خلاف وخصومات. وهي تتجنب جهد إمكانها مراجعة الحكومات؛ لأنها تنفر من تطبيق القوانين عليها، بالرغم من إلغاء "العرف العشائري" أو "القضاء العشائري" كما يعرف في بعض البلاد العربية، وعدم اعتراف تلك الحكومات به. وذلك لرسوخ هذا العرف في نفوسها، وظهوره من تربتها، ولكونه موروثًا من الآباء والأجداد، فهو أقرب إليهم وإلى نفوسهم من القوانين الحديثة، وإن كانت أقرب إلى الحق والعقل من العرف. ولا تزال بعض مصطلحات العرف الجاهلي باقية حيَّة تستعملها القبائل حتى اليوم في الأغراض والمعاني التي كانت عند الجاهليين. وحبذا لو عني علماء القانون عندنا بضبط العرف المستعمل في بلاد العرب في الزمن الحاضر ودراسته دراسة

_ 1 التعريفات، للجرجاني "ص154" "طبعة فلوكل". 2 سورة الأعراف، الآية 199. 3 المفردات، الراغب الأصفهاني "ص425" "طبعة البابي".

علمية تحليلية، فإن لهذه الدراسة شأنًا كبيرًا في دراسة التشريع العربي في الجاهلية. وللسنة أهمية كبيرة في الفقه الجاهلي. والمراد بها: الطريقة، وترد في القرآن {سُنَّةُ الْأَوَّلِين} 1 و {سُنَّةَ اللَّه} 2. وترد لفظة "السنن" في الموارد الإسلامية. وكذلك "السنة" التي هي المورد الثاني في الفقه الإسلامي تستنبط منه الأحكام بعد القرآن. ولا بد أن تكون لها نفس المكانة عند الجاهليين3. وقد ورد في القرآن الكريم: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} 4، دلالة على مكانة سنة الآباء في عقلية الجاهليين. فما ورد في سنتهم هو قانون يعمل به. وورودها بهذا المعنى يدل على أنها كانت تؤدي معنًا خاصًّا عند الجاهليين. ولعلها كانت مصطلحًا من مصطلحات الفقه عندهم. وسنة الجاهليين هي طريقتهم في الحياة وما ورثوه عن آبائهم من عرف وأحكام، وما قرروا السير عليه من قوانين القبيلة في تنظيم حقوق القبيلة والأفراد، وما يقرره عقلاؤهم من قرارات لا تغير ولا تبدل إلا للضرورة وبقرار يصدره أصحاب العقل والبصيرة والرأي والسَّنِّ فيها. ولا يزال العمل بها حتى اليوم. ويقال لها: "السانية" في اصطلاح قبائل العراق. وأقصد بـ"الدين" ما كان يدين به أكثر الجاهليين من شريعة التعبد للأوثان والتقرب للأصنام، فقد وضع سدنة المعابد والكهان أحكامًا لأتباعهم على أنها أحكام ملزمة يكون مخالفها في حكم المخالف للعرف. وهي بالطبع أقوى وأظهر عند أهل الحضر، لمساعدة محيطهم على ظهور الشعور الديني الجماعي فيه، عكس محيط البداوة الذي تباعد فيه أهله، وتبعثرت بيوته، فلم يساعد على ظهور هذا الشعور الديني الجماعي فيه. وبين الجاهليين يهود ونصارى، مهما قيل في يهوديتهم أو نصرانيتهم من العمق أو الضحالة، فإنه لا بد أن يكون لدياناتهم دخل في تنظيم حياتهم وفي أحكام مجتمعاتهم ولا سيما فيما يخص قوانين الأحوال الشخصية المقررة في الديانتين.

_ 1 الأنفال 38، الحجر 12، فاطر 43، الكهف 55. 2 الأحزاب، 38، 62، فاطر 43. 3 Law In The Middle East, P.35. 4 الكهف 55.

وأقصد بأوامر أولي الأمر، أوامر أصحاب الحلّ والعقد من ملوك وسادات قبائل ورؤساء "الملأ" و"الندوة". فقد كانت أوامرهم أحكامًا تتبع في زمني السلم والحرب. وهم مشرعون ومنفذون، وقد صارت قوانين متبعة، وأشير إلى بعض منها في الموارد الإسلامية. وقد وصلت إلينا أوامر ملكية قتبانية في تنظيم الجباية والتجارة، كما وصلت كتابات فيها تشريعات تخص النواحي القانونية سأتحدث عنها في المواضع المناسبة. وأما أحكام ذوي الرأي فأريد بها أحكام فقهاء الجاهلية الذين عرفوا بالأصالة في الرأي وبالمقدرة في استنباط الأحكام المناسبة في فضِّ المنازعات والخصومات. ولا أريد بتعبير "فقهاء الجاهلية"، طبقة خاصة من علماء الفقه, أي: القانون، على نمط علماء الفقه عند الرومان أو اليونان أو فقهاء الإسلام، تخصصت بالفقه وبشرائع الجاهليين، وإنما أقصد بهم أولئك الذين طلب إليهم أن يكونوا حكمًا بين الناس، لوجود صفات خاصة بهم جعلتهم أهلًا للقضاء والحكم فيما يشجر بينهم من خلاف وهم سادات القبائل وأشرافها والكهّان. وفي فقه الجاهلية أحكام كثيرة، وضعها مشرعون محترمون عند قومهم، وجرت عندهم مجرى القوانين. وقد نص أهل الأخبار عليها، كما نصوا على أسماء قائليها. وقد ذكروا بين تلك الأحكام أحكامًا أقرها وثبتها الإسلام. من ذلك حكمهم في "الخنثى"، وهو حكم حكم به "عامر بن الظرب العدواني" و"ذرب بن حوط بن عبد الله بن أبي حارثة بن حي الطائي", وقد أقر الإسلام حكمهما1، ومثل حكم "ذي المجاسد" وهو "عامر بن جشم بن غنم بن حبيب" في توريث البنات. فقد كانت العرب مصفقة على توريث البنين دون البنات، فورث ذو المجاسد، وهو الذي قرر أن للذكر مثل حظ الأنثيين. وقد وافق حكمه حكم الإسلام2. إننا لم نسمع حتى الآن بوجود مفتين، أي: فقهاء كلفوا إبداء آراء في معضلات تفع فتعرض عليهم لإيجاد حلول ومخارج قانونية لها. ولم نسمع أيضًا بوجود حكام كلفوا رسميًّا من الدولة القضاء بين الناس، ولا أستبعد العثور في المستقبل على

_ 1 المحبر "ص236". 2 المحبر "ص236".

كتابات في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية قد تكشف النقاب عن وجود مثل هذه الوظائف هناك؛ وذلك لأن الحكومات التي ظهرت فيها كانت حكومات منظمة, لها شرائع، ولها صلات مع العالم الخارجي، فلا يستبعد تعيينها أناسًا عرفوا بالكياسة وبالرأي السديد وبالعلم في الفقه للحكم بين الناس ولوضع القوانين التي تحتاج إليها الحكومة. إن عدم تدوين الجاهليين لفقههم، أو عدم وصول شيء مدون منه إلينا، لا يكون دليلًا على عدم وجود فقه لديهم أو على عدم وجود منطق فقهي لديهم أو يكون دليلًا على سذاجة فقههم وبداءته، فإن انعدام التدوين لا يكون دليلًا على عدم وجود رأي فقهي عند قوم، فقد كان أهل "لقدمونيا" مثلًا وهم من اليونان "يميلون إلى الاعتماد على ذاكرتهم يستحفظونها من الأنظمة ما يعتدونه قوانين واجبة المراعاة"1، عكس أهل "أثينة" الذين كانوا ضدهم، فإنهم كانوا يدوّنون القوانين ويكتبونها للرجوع إليها2. وقد أخذت أحكام "لقدمونيا" الشفوية في التشريع بنظر الاعتبار واعتبرت في المدونات القانونية. ولا بد أن يكون بين الجاهليين "تعامل" و"عرف" متبع في أمور عديدة من أمور الحياة التي عاشوا فيها في مثل حقوق مرور القوافل من مناطق نفوذ القبائل، وحقوق الجباية عن الأموال المستوردة أو المصدرة وفي موضع العقوبات وما شاكل ذلك. وقد ذكرت بأن العلماء قد عثروا على بعض كتابات هي أوامر ملكية في الجباية، فلا يستبعد عثورهم في المستقبل على ألواح ومدونات في الفقه. ومكان مثل مكة اشتهر أهله بالحذق في التجارة وبثراء بعضهم ثراء كبيرًا، وبتعاملهم مع الشرق والغرب، ومع الساسانيين ومع البيزنطيين ومع اليمن، وباكتنازهم الذهب والفضة، وبعقدهم العقود وبوجود الكتّاب بينهم، وبوجود الرقيق الأبيض عندهم، من ذلك النوع الذي يقرأ ويكتب والذي له وقوف على كتب الأولين، إن مكانًا مثل هذا لا يمكن أن يكون بلا فقه وبلا قوانين ومحاكم يتحاكمون بها. وكيف يكون ذلك وقد خاطب الله رسوله بقوله:

_ 1 مدونة جوستنيان "ص10". 2 المصدر نفسه.

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} 1، و {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} 2، و {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} 3، وغير ذلك في مواضع فيها معنى الإفتاء. وقد ذكر العلماء أن "الكلالة" اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة، وأن رسول الله سئل عن الكلالة فقال: من مات وليس له ولد ولا والد. وأن بعض العلماء فسَّر الكلالة بأنها مصدر يجمع الوارث والموروث جميعًا4. وقوم يستفتون في المواريث ويستفتون في النساء هل يعقل ألا يكون لهم فقه وقوانين؟ وفي القرآن آيات مثل: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 5، و {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 6، و {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} 7، و {فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 8، وآيات أخرى تشير إلى وجود فكرة القضاء بين الناس، وإلى الحكم بينهم بالقسط، فهل كان الله يخاطب قومًا بهذه الآيات لو كان المخاطبون قومًا يجهلون العدل، ولا يفقهون شيئًا عن القضاء؟ اللهم لا. وفي القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ

_ 1 النساء، الآية 127. 2 النساء، الآية 176. 3 الكهف، الآية 22. 4 المفردات "ص452". 5 الزمر، الآية 69. 6 طه، الآية، 72. 7 الشورى، الآية 21. 8 يونس، الآية 47.

تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} 1. وهي في تنظيم الدين والتداين وفي الشهادة على الدَّين وفي شهادات الشهود. في الرهان وهي كلها من صميم عمل قريش. ولا بد وأن يكون لقريش أحكام في تنظيم الأعمال التجارية من بيوع وشراء وعقود مشاركات وأمثال ذلك ولو بمقياس يناسب تجارة مكة في ذلك العهد. ولا أستبعد أن تكون لأهل يثرب أحكام وقوانين في تنظيم الزراعة وفي كيفية التعامل فيما بينهم وفي الربا وبينهم قوم من يهود. وقد كانوا يتاجرون ويشتغلون بالحرف وبالربا؛ لأن مجتمعها مجتمع منظم لا بد أن تكون له قوانين وفقه ضابط للمعاملات. وقد ذهب المستشرق "كولدتزيهر" إلى أن الإسلام قد أقرّ بعض فقه الجاهليين وأحكامهم، مما لم يتعارض مع مبادئ الإسلام. فأخذ -على رأيه- من قوانين أهل مكة أحكامها وأخذ من فقه أهل المدينة، وهو في نظره أقل تطورًا من فقه أهل مكة، ولذلك فإن فقه أهل الحجاز كان من جملة المنابع التي عرف منها الفقه الإسلامي. وأنا لا أتوقع احتمال عثور العلماء على شريعة أو شرائع في القانون عمَّ تطبيقها بلاد العرب كلها، ولا أؤمل عثورهم على مدوّنة تشبه "مدونة جوستنيان" في القوانين، وضعت لتطبق على كل الجاهليين؛ وذلك لأن ظهور قوانين عامة منظمة ومركزة ومبوبة، يستدعي وجود حكومة منظمة ذات سلطان مطاع، يشمل سلطانها كل بلاد العرب، ووجود شعب واحد يشعر بتبعيته تجاه حكومته، أو وجود شعور بخوف تجاه تلك السلطة يضطر الناس إلى العمل وفق أحكامها وما تصدره من أوامر، وذلك على نحو ما نراه في الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البيزنطية ونحوهما. وإذ كان ما تحدثنا عنه غير موجود ولا معروف في بلاد العرب، لم تظهر قوانين عامة تشمل أحكامها كل العرب، وكل ما ظهر إنما هو قوانين خاصة طبقت في حدود مناطق الدولة أو القبيلة أو القرية أو الحلف.

_ 1 البقرة، الآية 282 وما بعدها.

ولما كانت القوانين والشرائع من نبات المحيط، ومحيط جزيرة العرب محيط قبائلي, مجتمعاته صغيرة متناثرة متباعدة ومشكلاته محصورة في ضمن إطار حياتهم، فإن المعضلات القانونية عندهم تكاد تكون محدودة نابعة من ظروف جزيرة العرب في الغالب، ومعالجاتها وأحكامها نابعة أيضًا من هذه الظروف نفسها، فهي وفق معيشة الجاهليين وأحوالهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والزراعية، ولا يمكن أن نجد فيها ما نراه من قوانين اليونان والرومان من تصنيف وتبويب وتعقيد لاختلاف الحياة وتباين المحيط ونوع الحكم.

العدل

العدل: الغاية من وضع الأحكام وأمر المجتمع بتطبيق ما جاء فيها، هي ضبط ذلك المجتمع ومنع أفراده من تجاوز بعضهم على حقوق بعض آخر, وسلبهم ما يملكون، وذلك لإشاعة "العدل" ورفع الاعتداء الذي هو "الظلم" وهو نقيض العدل. فمن أجل تحقيق "العدالة" سنّت الشرائع والأحكام. والعدالة هي المساواة وعدم الانحياز. وقد نصت شرائع الجاهليين على وجوب تحقيق العدالة بإعطاء كل ذي حق حقه وإنصافه. غير أن فكرة "العدالة" تختلف بين البشر باختلاف الأوضاع والأزمنة. فقد يكون حكمٌ عدلًا عند قوم، ويكون باطلًا, أي: ظالمًا عند قوم آخرين. وقد يكون عدلًا في زمان ويكون باطلًا في زمان آخر؛ لأن الظروف التي استوجبت اعتبار الحق حقًّا والعدل عدلًا، تغيرت فتبدلت، فأبطلته أو صار ظلمًا في نظر الناس. ومن هنا أبطل الإسلام بعض أحكام الجاهلية، وهذّب بعضًا منها، وأقر بعضًا آخر، وذلك لتغير الظروف بمجيء الإسلام وتغير النظر إلى أصول العدالة. لقد صيرت المعيشة القبلية التي عاش فيها أكثر العرب في الجاهلية مفهوم "العدل" أو "الحق" عندهم بصورة تختلف عن مفهومنا نحن للحق والعدل، فالعدالة عندهم لم تكن تتحقق وتؤخذ إلا بالقوة، لذلك أثرت "القوة" تأثيرًا كبيرًا في تحديد مفهوم "العدل" و"الحق" فلكي ينال الإنسان حقه كان عليه أن يجاهد بنفسه وبذوي قرابته وعشيرته للحصول على ما يدعيه من حق

ويثبته. وهو لا يحصل عليه في الغالب إلا بتهديد ووعيد وبوساطة أو باستعمال القوة. وضخامة البيت أو العشيرة أو القبيلة، هي من جملة مسببات الحصول على الحق بفرضه فرضًا، لذلك صارت القوة هي معيار الحق والعدل، وصار القوي المنيع هو صاحب الحق في الغالب. ولما كان الرجل أقوى من المرأة، وقد منح نفسه حقَّ سن الأحكام، صار الحق في الجاهلية في جانبه، فرفع نفسه عنها في أكثر الأحكام، وحرمها الميراث حتى لا يذهب الإرث إلى غريب، وقايضها بديونه أو بجناية تقع منه كما في "فصل الدم" وفي زواج البدل وفي منع المرأة من الزواج إلا من قريبها لوجود حق الدم عليها، وفي منع زواج زوجات الآباء إلا برضى أبناء الأب وذوي قرابته؛ لأنهم أحق بالزواج منها، وغير ذلك من أمور، جعل المرأة عرضًا وملكًا، حتى حرم الإسلام كثيرًا من هذه السنن الجاهلية التي لم يكن الجاهليون يرون أنها تنافي مبدأ العدالة؛ لأن ظروفهم الاجتماعية لم تكن توحي إليهم أن اعتبار المرأة دون الرجل في الحقوق شيئًا منافيًا للحق والعدل، فقد وجدوا أن الطبيعة خلقتها دونهم في القوة، فجعلوها من ثم دونهم في الحقوق، ولم يكن أمامها بالطبع غير الاستسلام. فالحق هو القوة، والعدل هو القوة، ولن ينال امرؤ حقه إلا إذا كان مالكًا لذلك الحق، وهو القوة على تحصيل الحق. وبهذا الحكم للحق، حرم المرأة من ميراثها كما ذكرت، كما حرم من هو دون سن البلوغ، ومن لا يستطيع القتال من هذا الحق أيضًا. فلم يحرم القانون الجاهلي المرأة وحدها ودون غيرها من الإرث، لمجرد أنها امرأة، بل حرم الأولاد منه أيضًا ما داموا دون سن القتال. فقد وجد المشرع الجاهلي أن من الحيف إعطاء الطفل إرثًا، وهو طفل لا يستطيع الطعن بالرمح ولا الضرب بالسيف، لذلك حرمه منه ما دام طفلًا، وحرم الكبار منه ما داموا لا يستطيعون الطعن ولا الضرب بالسيف والذب عن الحق. ولا سيما عن حق الأهل والقبيلة، الذي هو الحق العام. لذلك حرم المعتوه أيضًا من حق الإرث؛ لأنه معتوه لا يستطيع حمل السيف والدفاع عن الحق. ومن هذه النظرة أخذوا بمبدأ تفاوت الحقوق، بأن جعلوا تقدير الحق على أساس درجات الإنسان ومكانته، ومنزلة القبيلة ومكانتها، فدية الملك مثلًا أعلى من دية سيد القبيلة، ودية سيد القبيلة فوق ديات الآخرين، وهكذا على حسب

الدرجات. ودية سيد قبيلة قوية هي أكثر من دية سيد قبيلة ضعيفة، ودية رجل من سواد قبيلة قوية هي ضعف دية رجل من درجته ومنزلته في قبيلة ضعيفة. وسبب هذا التباين في الحق هو أن مفهوم الحق عند الجاهليين كان يقوم على أساس الاعتبارين المذكورين: مكانة المرء ودرجة القبيلة. ولا يقتصر أصل تفاوت الحق هذا على "الديات", أي: على التعويض عن الضرر فقط، بل أقر التشريع الجاهلي رأي "التفاوت في الحق" في كل الحقوق الأخرى، مثل: حقوق الغنائم التي يحصل عليها المنتصرون من الغزو أو الحرب. فأعطت الملك حقوقًا خاصة في الغنائم، ووضعت لسادات القبائل أنصبة معينة فيما يقع في أيدي أفراد القبيلة من غنائم، بأن جعلت لهم: النشيطة, وهي ما أصيب من الغنيمة قبل أن يصير إلى مجتمع الحي، والصفايا, وهي ما يصطفيه الرئيس، والفضول, وهو ما عجز أن يقسم لقلته فيخصص بسيد القبيلة، والمرباع, وهو حق سيد القبيلة في أخذ ربع الغنائم. وقد جمعت هذه الحقوق في هذا البيت: لك المرباع منا والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول1 وأعطى التشريع الجاهلي الملوك وسادات القبائل والأشراف حق "الحمى"، لا يشاركهم فيه مشارك ولا يرعاه أحد غيرهم. بل يكون صاحب الحمى شريك القوم في سائر المراتع حوله2. وأخذت شرائع الجاهليين بمبدأ أن الإنسان: إما حر وإما عبد, أي: رقيق مملوك، والرقيق هو ملك سيده، ولذلك، فإن ما يكون له أو ما يكون عليه يختلف في القوانين عما يكون للأحرار من حقوق وأحكام. وهو مبدأ لم يكن خاصًّا بالجاهليين وحدهم، ولكن كان عامًّا في ذلك الزمن أخذت به جميع الأمم. وقد نُصَّ عليه في القوانين الرومانية واليونانية وفي الشريعة اليهودية. والعبد، هو كما قلت ملك صاحبه، وهو "ملك يمين"، إلا أن يمنّ عليه بالحرية, فيكون حرًّا. أما إذا بقي عبدًا في ملك صاحبه, فإن نسله يكونون عبيدًا بالولادة أيضًا. والعبدة، أي: المملوكة تكون ملكًا لسيدها، يتصرف

_ 1 لسان العرب "9/ 457"، تاج العروس "5/ 232". 2 تاج العروس "10/ 99".

بها كما يشاء. ومن حقه الاتصال بها دون حاجة إلى عقد زواج؛ لأنها ملك، والمالك يتصرف بملكه على نحو ما يحب. ويعبر عن "الحر" بـ"حرم", أي: "حرٌّ" في اللهجات العربية الجنوبية، أما الرقيق، فقد عبر عنهم بـ"ادم"، أو "اوادم" بالمصطلح العراقي، وبـ"عبدم"، أي: "عبد". ويقال للعبدة "امت"، أي: "أمة". فالأمة هي الأنثى المملوكة في تلك اللهجات1. وقد أشير إلى هذا التقسيم الطبقي في النصوص التشريعية التي أصدرها حكام العربية الجنوبية، وذلك بأن نص فيها على أن تلك الأحكام تطبق على الأحرار وعلى العبيد، أو على الأحرار دون العبيد، أو على العبيد دون الأحرار، والنص على ذلك فيها أمر ضروري لتوضيح الحقوق والالتزامات بالنسبة إلى مجتمع ذلك الوقت، ولتعرف بذلك الواجبات المفروضة على كل فرد من أفراده. والعبودية حسب القوانين وراثية، فابن العبد عبد، وابنة العبدة عبدة، وهكذا تنتقل العبودية بالوراثة في الأجيال دون انقطاع، ولن يقطعها ويقضي عليها إلا تنازل مالك العبد عن عبده وعمن يتبعه من نسله تنازلًا شرعيًّا بإعلان يعلن عن ذلك, وبكتاب يكتب في بعض الأحيان. وسبب ذلك أن العبد ملك يمين، وملك اليمين مثل كل ملك. والملك حق مقدس للفرد لا يجوز الاعتداء عليه. والحر قد يصير عبدًا، ولو ولد حر الرقبة. فإذا أفلس رجل، ولم يتمكن من الوفاء بما عليه من دين عليه تأديته لدائنيه، وإذا وقع في سباء أو أسر، صار عبدًا. إلا إذا قبل الدائن إعفاءه من ديونه، أو منَّ آسره عليه، فردّه إلى أهله أو دفع فدية عن نفسه، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. وأخذ التشريع الجاهلي بمبدأ أن ما يطبق على أفراد القبيلة من قوانين وأحكام يكون خاصًّا بالقبيلة. أما ما يطبق على الأشخاص الذين يكونون من قبيلتين مختلفتين أو من قبائل عديدة فإنه يكون خاضعًا للعرف المقرر بين القبائل، فهو قريب مما يسمى بالقوانين الدولية في الزمن الحاضر. أما القوانين التي تطبق في القبيلة، فإنها تشبه قوانين الدولة الواحدة. فالشخص إذا ما ارتكب عملًا مخالفًا داخل حدود قبيلته, أي: مع أفراد القبيلة، عومل وفق أحكام القبيلة. أما إذا ارتكبها مع شخص من قبيلة أخرى، عومل وفق العرف القبلي، لا وفق عرف القبيلة.

_ 1 Jamme, Southern. P.427

المسئولية "التبعة": الأصل في المسئولية وفي الحق هو: كل امرئ وما عمله، أي: إن الفاعل الذي يقع منه فعل يكون هو المسئول عن فعله. هذا هو الأصل في المسئولية, إلا أن التشريع الجاهلي أخذ أيضًا بمبدأ انتقال المسئولية من الفاعل إلى ذوي قرابته الأدنين، ثم الأبعدين، فالعشيرة أو القبيلة في حالة عدم التمكن من القصاص، أي: من أخذ الحق من الفاعل. وذلك بقانون العصبية. فالجماعة التي هي "القبيلة" تكون مسئولة بعرف العصبية في النهاية عن كل عمل يقوم به أحد أفرادها لارتباطها بـ"العصبية" وعلى كل أفرادها تحمل مسئولية أي فرد من أفرادها وضمان أداء ما يقع عليه من حق في حالة امتناعه، أو عدم تمكنه هو أو ذوي قرابته من تنفيذ أداء الحق. فالقائل مثلًا إذا لم يسلم للاقتصاص منه بقتله، أو لم يتمكن أهل القتيل من قتله، انتقل حق أهل القتيل إلى قتل أقرب الناس إليه ثم الأبعد وهكذا، أخذًا بثأر القتيل. ويؤدي ذلك إلى التوسع في القتل في الغالب، مع عدم سقوط حق ذوي القتيل في البحث عن القاتل لقتله؛ لأن الأصل في كل جريمة هو الفاعل الأصل. وفي الديات، تؤخذ من أهل القاتل في الأصل، فإن لم يتمكنوا فمن ذوي قرابتهم الأدنين ثم الأقرباء الأبعدين على العصبات حتى تصل إلى حدود العشيرة أو القبيلة بقانون العصبية، فيوزع مقدار الدية على أفراد القبيلة كلٌ على حسب مركزه، وهي تعقل بذلك عن أبنائها، ويحمل أفرادها بقدر ما يطيقون. ويقال لذلك: "المعاقلة"1. وقد ذكر أن العقل: الدية، سميت عقلًا؛ لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلًا؛ لأنها كانت أموالهم، فسميت الدية عقلًا، لأن القاتل كان يكلف أن يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول، فيعقلها بالعقل، ويسلمها إلى أوليائه. وقد جرت عادة الجاهليين أن أهل القرية لا يعقلون عن أهل البادية ولا أهل البادية عن أهل القرية، فكل طبقة ملزمة بالعقل عن طبقتها2. وقد ورد في نص قانوني مدون بالمسند أن الجماعة تكون مسئولة عن أية جريمة تقع في حماها إذا لم يعرف الجاني، أو إذا لم يسلم إلى الحاكم، ومعنى هذا لزوم

_ 1 لسان العرب "11/ 460"، "عقل". 2 لسان العرب "11/ 461 وما بعدها".

إسهام "الجماعة" في البحث عن المجرمين للاقتصاص منهم، وإلا اعتبرت مسئولة عن الضرر الذي وقع بفعل الجاني، فإذا وقع قتل في مكان ما ولم يعرف القاتل أو لم يسلم إلى الحاكم، أمهله أهله أربعة أيام للبحث عنه ولتسليمه، فإن لم يسلم يصادر حصاد الجماعة أو يصادر ما عندهم من مال، ويودع في خزانة الحكومة أو المعبد رهنًا، إلى صدور حكم الملك أو الحاكم بالقضية1. وغاية المشرع من وضع هذا القانون هو إشراك الجماعة مع الحكومة في تعقب المجرمين والقبض عليهم، ثم التعويض على أهل القتيل بدفع الدية، أي: ثمن الضرر الذي لحق بهم في حالة عدم التمكن من الوصول إلى القاتل لأخذ حق الدم منه. وتكون الطوائف مسئولة كذلك عما يلحق أفرادها من أضرار، فإذا مات شخص في أثناء قيامه بعمل كلف إياه أو أصيب بضرر في أثناء أدائه ذلك العمل، وكان ذلك الرجل معدمًا، فعلى طائفته دفع تعويض عما أصابه يوضع في خزانة المعبد2.

_ 1 Grohmann, Arabien, S. 143 2 Glaser 1210, Rhodokanakis, Alt Sab. Texte, Ii, Wzkm, 1932, S. 186, Grohmann, Arabien, S. 134

سقوط المسؤولية

سقوط المسؤولية ... سقوط المسئولية: ولا تسقط مسئولية الأهل عن جرائم أبنائهم، ولا مسئولية القبيلة عن أفعال أفرادها إلا إذا أسقطت "العصبية" عنهم. على أن يعلن عن إسقاطها في الأماكن العامة وبصورة صحيحة شرعية. ليكون ذلك معروفًا بين الناس. وإلا بقيت المسئولية قائمة في رقبة من تقع عليهم. ومتى "خلع" الخليع وأشهد الشهود على خلعه صار أقرباؤه وأهل قبيلته في حل منه، ليس لهم تلبية ندائه واستغاثته وإلا تحملوا وزره من جديد. ومتى خلع الإنسان سقطت عندئذ مسئوليات عمله عن أهله وأقربائه، وحصرت به وحده، وعليه أن يحمي نفسه بنفسه، وأن يدافع عن جرائره بيده. ويقال لهذا الإنسان: "الخليع". فإذا قَتَلَ لا يسأل أي أحد من قومه عن عمله. وإذا

قُتِلَ ذهب دمه هدرًا. ولهذا قاسى الخليع حياة قاسية شديدة تنتهي بهلاكه في الغالب نتيجة خروجه على أنظمة قومه وقوانينهم. اللهم إلَّا إذا تاب ورجع عن غيّه ووجد من يؤويه ويحميه. من أهله أو غيرهم، يحتمل ما قد يقع في المستقبل منه، ويدفع فداء ما وقع منه وإصلاح ما أحدثه من أضرار. وإذا وجد "الخليع" من يكفله وينعم عليه بحق الجوار انتقلت مسئولية عمله إلى مَنْ مَنَّ عليه بجواره، وعلى المجير عندئذ تحمل كل تبعة تصدر من ذلك الخليع، ما دام يتحمل حق الدفاع عنه وحمايته.

إزالة الضرر

إزالة الضرر: إزالة الضرر، حقل عام من حقول الحقوق في القانون يشمل إزالة كل ضرر يلحق بشخص من تعدّ يقع على ملكه أو ظلم يلحق به، أو من اعتداء حيوان يصير عليه أو على ملكه. إلى غير ذلك من أضرار متعمدة أو غير متعمدة تلحق بمضرور، وقد قررت سنة الجاهليين إزالة الضرر وتعويض المتضرر. كما قررت ذلك كل القوانين والأديان للشعوب الأخرى؛ لأن الضرر ظلم، والظلم يجب أن يزال. والضرر المتعمد، هو الضرر الذي يقع من شخص مسئول عن تصرفاته، أي: من إنسان عاقل مالك لزمام نفسه، تعمّد إلحاق ضرر بشخص آخر، أما الضرر الغير المتعمد، فهو الضرر الذي يقع من مثل هذا الشخص من دون تعمد ولا قصد أو غاية. فضرره أخف من الضرر الأول؛ لأن عنصر الجريمة غير موجودة فيه. ويدخل في الضرر العمد، كل ضرر يأمر به إنسان حر أتباعه من أمثال النساء والأطفال والرقيق والحيوان إلحاقه عمدًا بشخص آخر، فعنصر الجريمة متوفر في أفعال هؤلاء. ولما كان هؤلاء تبع، فتقع مسئولية فعلهم على سيدهم بالدرجة الأولى؛ لأنه هو المسئول شرعًا عنهم، بحكم ولايته لهم، وتبعيتهم له. كما يكون مسئولًا أيضًا عن كل ضرر يقع عنهم من غير عمد للسبب المذكور. ولا تسقط العقوبة عن التبع أيضًا، فقد فرضت شرائع الجاهليين عقوبات على التبع لما يقع منه من ضرر متعمد أو عن خطًا.

ومن قبيل الضرر الخطأ، إهمال السيطرة على الماء كإغفال أمر السدود، فإذا سال الماء إلى أرض أخرى فألحق ضررًا بها وجب على صاحبه دفع تعويض عن الضرر الذي ألحقه الماء بالمالك صاحب الأرض المتضررة. ومن هذا القبيل أيضًا سقوط بناء أو حائط على شخص، وسقوط عامل يشتغل أجيرًا لصاحب بناء، فيجب في مثل هذه الأحوال إزالة الأضرار التي تقع بدفع تعويض لمن وقع الضرر عليه أو لمن يعيله أو يرثه في حالة الوفاة. ويزال الضرر الذي قد يقع في البيوع وفي الشراء بسبب غش وخداع أو مخالفة لوصف. فإذا باع بائع شيئًا ثم تبين أن في المباع عيبًا لم ينبه البائع المشتري عليه ولم يخبره به مع علمه به، فمن حق المشتري إرجاع المباع إن أراد، لوجود ذلك العيب فيه، وللمشتري حق المطالبة بإزالة الضرر عنه بتعويضه عن ضرره إن شاء ذلك. ومن هذا القبيل إزالة الضرر عن الجار إذا وقع تعدّ عليه بالتجاوز على أرضه أو بإيذائه أو بالانتفاع بملكه بصورة تؤذي ملك جاره أو تقلق راحته. فيجب في مثل هذه الأحوال إزالة الضرر وتعويضه عن الخسائر التي نجمت عنه.

الولاية

الولاية: والولي هو من يتولى أمر غيره، ويكون وليًّا شرعيًّا عليه. فالأب هو ولي أمر أبنائه؛ لأنه هو المسئول الطبيعي عنهم. والجدّ هو ولي أمر أحفاده في حالة وفاة ابنه أو غيابه، والأعمام أولياء أمور أولاد الأخوة في حالة غيابهم أو وفاتهم، والأخذ الأكبر البالغ هو ولي أمر أخوته القصر. وهكذا حسب العصبات. وتعطي الولاية للولي حق الإشراف على شئون المُولَّى عليهم. وللأب حق مطلق في الولاية على أبنائه. له أن يتصرف بهم كيف يشاء. حتى في حق الحياة، فيقدم ابنه قربانًا للآلهة إن نذر ذلك. والوأد مثل على ذلك. وكان من حق الأب رهن أولاده في مقابل دين له أو تنفيذ عهد عليه. ومن حقه تأديب أولاده على النحو الذي يريده. ويدخل في ضمن ذلك الضرب والطرد والخلع والحرمان من الإرث، وحق اختيار الزوج للبنت وأخذ مهر ابنته. وتلك حقوق أقرتها شرائع أكثر الأمم في ذلك العهد. الملك: والملك حق مقدس معترف به في الجاهلية. فمن يملك شيئًا، امتنع

الفصل السابع والخمسون: الاحوال الشخصية

الفصل السابع والخمسون: الاحوال الشخصية مدخل ... الفصل السابع والخمسون: الأحوال الشخصية وأقصد بها الحقوق التي تتعلق بالشخص وبعلاقته بأسرته. مثل: الزواج والطلاق والوفاة والميراث وحقوق الزوجة أو الزوج وحقوق الوالد على ولده وحقوق الولد، وأمثال ذلك مما يدخل في الفقه الإسلام في "باب المناكحات"، وهو باب من أبواب قسم "المعاملات". وبفضل إقرار الإسلام بعض أحكام الجاهليين في الزواج وفي الطلاق وفي الوفاة وفي الميراث وتحريم أحكام أخرى مع الإشارة إليها، جمع أهل التفسير والحديث والأخبار طائفة من أحكام الجاهليين القريبين للإسلام والمعاصرين له، خاصة أحكام أهل المدينتين: مكة ويثرب، ومن سكن في جوارهما من أهل المدر والوبر. وعلى كل ما ذكرنا اعتمادنا. غير أن تلك المادة لا تزال خامًا بكرًا، وبها حاجة شديدة إلى الغربلة والنقد والتنسيق. وما سنذكره في هذه الصفحات، لا يعني شمول هذا الوصف عموم الجاهليين في كل الأوقات وفي كل أنحاء الجزيرة، إنما هو قول خاص بالجاهليين القريبين من الإسلام والمعاصرين له والساكنين في الحجاز، ولا سيما في المدينتين المذكورتين. أما قدماء الجاهليين ممن عاشوا قبل الميلاد والجاهليين الذين عاشوا في جنوب جزيرة العرب أو في شرقيها، فلا نستطيع أن نقول: إن ما نذكره هنا منتزع من صميم حياتهم، فهو يمثل ما كان عندهم كل التمثيل؛ لأن المواد التي أشرت إليها لا تصل إلى حدودهم، وليس لها قدرة الوصول إليهم، فليس من حقنا إذن تعميم ما سنقوله على جميع الجاهليين.

النكاح

النكاح: ويعبر عن الزواج بـ"النكاح" في الفقه الإسلامي. والنكاح هو: العقد في الأصل، ثم استعير للجماع1. وقد عبر في القرآن الكريم عن الزواج في المعنى الشائع عندنا من "الزوج" والزوجية. أما في حالة التزوج وعقد العقد لغرض الدخول على المرأة، فقد عبر عن ذلك بـ"النكاح" وبـ"نكح" وبأمثال ذلك، ومن هنا أطلق الفقهاء في الفقه على الزواج "النكاح" وعلى الباب المختص بذلك "المناكحات"، وعبر عنه بـ"العقد" وبـ"الوطء" كذلك2. أما إذا كان الاتصال بين الرجل والمرأة اتصالًا جنسيًّا بغير عقد ولا خطبة، فهو زنا، ويقال للمرأة عندئذ "زانية" و"بغي" و"فاجرة" و"عاهرة" و"معاهرة" و"مسافحة"3. ولا بد للزواج من أن يكون برضى الطرفين وبموافقتهما، وبموافقة الوالدين أو المتولي للأمر. وإذا كان أحد الطرفين أو كلاهما قاصرًا فلا بد من أخذ موافقة القيّم على أمره، وإلا تعرض الرجل والمرأة أو أحدهما للمسئولية. هذا هو الأصل في الزواج عند الجاهليين أيضًا، غير أن الرجل قد ينهب المرأة باتفاق مع البنت أو غصبًا فيأخذها. وهذا ما يسيء إلى أهل البنت ويلحق بهم الأذى، إلا أن الطرفين قد يتفقان فيما بعد على الزواج. ولولي الأمر إجبار البنت على الزواج بمن يريده أو يوافق عليه؛ لأن يكون بعلًا لها، وليس لها مخالفته. وقد يسمح لها بإبداء رأيها في الزوج وفي الزواج، ويكون ذلك في الأسر المحترمة في الأكثر، وعند أولياء الأمور الذين ليس لهم من البنات غير واحدة أو اثنين، وعند وجود دالة للبنت على ولي أمرها.

_ 1 المفردات "ص535". 2 عمدة القارئ "30/ 64"، المبسوط للسرخسي "4/ 192". 3 النهاية "1/ 150"، اللسان "6/ 290" "18/ 83". 4 بلوغ الأرب "2/ 3، 33"، الميداني "1/ 10" 124، 4402.

والرجال قوامون على النساء. أما المرأة، فهي للبيت، والرجل هو "رب البيت" وسيده والمسئول عنه، وله الكلمة على شئونه. وهو القيم الطبيعي المسئول عن تربية أولاده. وهو المسئول عن إعالة زوجه وأولاده. والزوج تبع لبعلها، وعليها إطاعة أوامره، ما دامت أوامره لا تنافي الخلق والمألوف. وبيتها هو "بيت الزوجية". ولسيادة الرجل على بيته وزوجه، قيل له في كثير من اللغات السامية، وفي جملتها اللغة العربية: "بعل". فالرجل هو بعل المرأة. ومن تلده الزوج يكون للبعل، فهو في ولايته، وله رعايته، وعليه تربيته حتى يبلغ أشده. وهو مسئول أيضًا عن رعاية أحفاده بعد ابنه. أما أولاد ابنته فإنهم في رعاية أبيهم الذي يكون وحده المسئول عنهم؛ لأنه بعل زوجه، وهو رب بيته. وللحق المتقدم لم تمانع شرائع الجاهليين في وأد البنات أو قتل الأولاد، ولم تَعُدَّ من يئد البنت أو يقتل ابنه قاتلًا، ولم تؤاخذه على فعله، حتى الأمهات لم يكن من حقهن منع الآباء من وأد بناتهن، أو قتل أولادهن؛ لأن الزوج هو وحده صاحب الحق والقول الفصل فيمن يولد له، وليس لامرأته حق الاعتراض عليه ومنعه. ولهذا الحق لم يكن للولد الاعتراض على ما يفرضه أبوهم عليهم من حقوق، ولا مخالفة أوامره ونواهيه. فبوسع والدهم فرض ما يراه عليهم من عقوبات، فلا يمنعه منها إلا قوة الولد وتوسط الناس. فإذا اشتد عود الولد، وقوي ساعده صار الحق إلى جانبه، وصار في وسعه معارضة والده. ولن يكون في إمكان الوالد فعل شيء بعد بلوغ ابنه سوى خلعه والتنصل منه على رءوس الأشهاد.

القاعدة العامة في الازدواج

القاعدة العامة في الازدواج: والقاعدة العامة في الازدواج مراعاة علاقة الأصل بالفرع، فلا يجوز نكاح الأب لابنته، ولا الجد لحفيدته، ولا يجوز للأم أن تتزوج ابنها، ولا للجدة أن تتزوج حفيدها، ولا للأخ أن يتزوج أخته، مراعاة لعلاقة الأصل بالفرع، أي: لعلاقة الدم. ومن يفعل ذلك يكون آثمًا مؤاخذًا على فعله.

ويراعى هذا التحريم حتى في حالات التبني، لاكتساب التبني الصفة المقررة للابن الطبيعي، فلا يجوز للمتبني أن يتزوج ابنة المُتبنَّى؛ لأنه اتخذه ابنًا له. ويحرم على الرجل أن يتزوج ابنة أخيه، أو ابنة أخته. أما ولد الأخوين أو ولد الأختين أو ولد الأخ والأخت، فالزواج بينهم مباح. ويحرم نكاح العمة كما يحرم نكاح الخالة؛ وذلك لأنهما في درجة الأصول. ويحرم بصورة عامة كل نكاح يقع بين المحارم. ومن القبيح عندهم الجمع بين الأختين، وأن يخلف الرجل على امرأة أبيه، ويسمون هذا الفعل من فعول "الضيزن". وقد عرف هذا الزواج بنكاح المقت1. وقد حرم هذا النكاح في الإسلام2. فقد ورد أن "كبيشة بنت معن بن عاصم" امرأة "أبي قيس بن الأسلت" انطلقت إلى الرسول فقالت: "إن أبا قيس قد هلك، وإن ابنه من خيار الحي قد خطبني". فسكت الرسول، ثم نزلت الآية: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فهي أول امرأة حرمت على ابن زوجها3. وذكر "السهيلي" أن ذلك الزواج كان مباحًا في الجاهلية بشرع متقدم، ولم يكن من الحرمات التي انتهكوها ولا من العظائم التي ابتدعوها؛ لأنه أمر كان في عمود نسب رسول الله، فكنانة تزوج امرأة أبيه خزيمة، وهي برة بنت مر. فولدت له النصر بن كنانة. وهاشم أيضًا قد تزوج امرأة أبيه واقدة. "وقد قال عليه السلام: أنا من نكاح لا من سفاح. ولذلك قال سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} , أي: إلا ما سلف من تحليل ذلك قبل الإسلام. وفائدة هذا الاستثناء ألا يعاب نسب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليعلم أنه لم يكن في أجداده من كان لغية ولا من سفاح"4. وذكر علماء التفسير: أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين5. وأسلم "فيروز الديلمي"، وتحته أختان، فقال له النبي:

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 52 وما بعدها"، الجصاص "1/ 106، 212". 2 الأغاني "1/ 9" "3/ 15"، "طبعة ساسي". 3 الإصابة "4/ 162"، "رقم 945"، تفسير الطبري "4/ 217 وما بعدها". 4 الروض الأنف "1/ 145 وما بعدها". 5 تفسير الطبري "4/ 217".

"اختر أيهما شئت" 1، وجمع "أبو أحيحة" سعيد بن العاص بن أمية، بين صفية وهند بنتي المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وجمع "قسي"، وهو ثقيف بن منبه، آمنة وزينب بنتي عامر بن الظرب في نكاح واحد. وجمع "هنام بن سلمة" العائشي، أخو بني تيم اللات بن ثعلبة بن عكابة بين أختين2. ويقدم "ابن العم" على غيره في زواج ابنة عمه، ولا يزال مقدمًا على غيره3. وقد تجبر البنت على الزواج به في حالة عدم رغبتها من الزواج، وقد لا يتركها تتزوج من غيره إلا بإرضائه، وقد يكون هذا الإرضاء بدفع ترضية له.

_ 1 زاد المعاد "4/ 7". 2 المحبر "327". 3 عمدة القارئ "4/ 199".

الصداق

الصداق: والزواج المألوف المتعارف عليه عند غالبية الجاهليين، هو نكاح الناس اليوم. وهو أن يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها، أي: يعين صداقها ويسمي مقداره ثم يعقد عليها. وكانت قريش وكثير من قبائل العرب على هذا المذهب في النكاح1. وما يدفع يسمى "الصداق" أو "المهر". ويعد الصداق, أي: المهر فريضة لازمة عند الجاهليين لصحة عقد الزواج، إذ هو علامة من علاماته، ودلالة على شرعيته. وكانوا لا يقرون زواجًا ولا يعترفون بشرعيته إلا إذا كان بمهر. فإذا لم يكن هناك مهر، عدّ بغيًا وسفاحًا وزنًا، فالمهر هو أيضًا علامة شرف، وكون المرأة حرة محصنة لها كامل الحقوق2. ولا يشترط دفع المهر إذا كانت المرأة قد وقعت في أسر آسر فتزوجها؛ لأنها أسيرته، فهي ملكه، وله حق الدخول بها بغير مهر، ولو كانت في عصمة رجل آخر؛ لأن الأسر يبطل عصمة الزواج.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 3 وما بعدها"، شرح العيني "20/ 121". 2 "أما النكاح فإنما يكون بمهر، وأما السفاح فإنما يكون بلا مهر"، نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "118". Ency, Iii, P.137

"وكانوا يخطبون المرأة إلى أبيها أو أخيها أو عمها، أو بعض بني عمها. وكان يخطب الكفي إلى الكفي. فإن كان أحدهما أشف من الآخر في الحسب، أرغب له في المهر. وإن كان هجينًا خطب إلى هجين. فزوجه هجينة مثله. فيقول الخاطب إذا أتاهم: أنعموا صباحًا. ثم يقول: نحن أكفاؤكم ونظراؤكم. فإن زوجتمونا فقد أصبنا رغبة وأصبتموها. وكنا لصهركم حامدين. وإن رددتمونا لعلة نعرفها، رجعنا عاذرين. وإن كان قريب القرابة منه أو من قومه، قال لها أبوها أو أخوها، إذا حملت إليه: أيسرت وأذكرت ولا آنثت! جعل الله منك عددًا وعزًّا وجلدًا. أحسني خلقك وأكرمي زوجك. وليكن طيبك الماء. وإذا تزوجت في غربة قال لها: لا أيسرت ولا أذكرت، فإنك تدنين البعداء، وتلدين الأعداء. أحسني خلقك وتحببي إلى أحمائك. فإن لهم عليك عينًا ناظرة، وآذانًا سامعة. وليكن طيبك الماء"1. والأصل في المهر عند الجاهليين دفعه للمرأة، غير أن ولي أمرها هو الذي يأخذه لينفق منه على ما يشتري لتأخذه المرأة معها إلى بيت الزوجية. وقد يأخذ ولي أمرها "المهر" لنفسه. ولا يعطي المرأة منه شيئًا، لاعتقاده أن ذلك حق يعود إليه. ولذلك نُهي عنه في الإسلام2. وللمرأة حق استرداد مهرها إذا فسح الزوج عقد الزواج، أو إذا طلقها، إلا إذا كان ذلك بسبب الزنا فيسقط. وإذا كان المهر مؤجلًا كلًّّّّّّّا أو بعضًا، فيكون دينًا في عنق الزوج، وإذا توفي وجب دفعه لامرأته من تركته. وليس للمهر حدّ معلوم، لا حدّ أعلى ولا حدّ أدنى، بل يتوقف ذلك على الاتفاق. وتُراعى في ذلك الحالة المالية للرجل في الغالب. ولما كانت النقود قليلة في ذلك العهد، كان المهر عينًا في الأكثر، وتدخل فيه الأرض. وقد بلغ المهر مائة من الإبل أو خمسين ومائة بعض الأحيان3. وقد كان بوزن من ذهب أو فضة في بعض الأحيان. ويجوز للرجل استرداد مهره من تركة زوجه. إن ماتت في حياته، وله حق مطالبة أهلها بردّ مهرها إليه في حالة عدم وجود تركة لها.

_ 1 المحبر "310 وما بعدها". 2 {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} ، سورة النساء، الآية4، الجصاص "2/ 57". 3 الأغاني "8/ 78، 185"، الأمثال، للميداني "1/ 110، 124".

وليس في زواج الشغار، مهر حقيقي؛ لأنه زواج مقايضة. وهو أن يزوّج الرجلُ وليّته في مقابل تزويجه وليّة من سيتزوج وليّته. فليس في هذا الزواج مهر بالمعنى المعروف. وذكر أن أهل الجاهلية كانوا لا يعطون النساء من مهورهن شيئًا، وأن الرجل إذا زوّج ابنته استجعل لنفسه جعلًا يسمى "الحلوان"، وكانوا يسمون ذلك الشيء الذي يأخذه "النافجة" ويقولون للرجل: "بارك الله لك في النافجة"1. وروي أن العرب كانت تقول في الجاهلية "للرجل إذا ولدت له بنت: هنيئًا لك النافجة، أي: المعظمة لمالك، وذلك أنه يزوجها فيأخذ مهرها من الإبل، فيضمها إلى إبله، فينفجها, أي: يرفعها ويكثرها"2. والحلوان أن يزوج الرجل ابنته أو أخته أو امرأة ما بمهر مسمى، على أن يُجعل له من المهر شيء مسمى، وكانت العرب تعير به. وقيل إن حلوان المرأة: مهرها 3. والصداق المهر، و"الصدقة" مهر المرأة، وقد ورد النهي في الحديث عن الغلو في صدق النساء4، مما يدل على أن من الجاهليين من كان يبالغ في الصداق. ويستخلص مما جاء في أخبار أهل الأخبار عن المهر أن أهل الجاهلية لم يكونوا على عرف واحد بالنسبة إلى حق الانتفاع من المهر، فمنهم من كان يعطيه كله للمرأة، ومنهم من كان يعطيه كله ويزيد عليه إكرامًا لابنته أو من ولي أمرها، ومنهم من كان يأكله كله أو بعضًا منه. ويظهر من وثيقة معينية أن ملوك معين كانوا يصدرون أوامرهم بالموافقة على عقود الزواج على نحو ما تفعل الحكومات من إصدار وثائق عقود الزواج. ولكننا لا نملك وثيقة تثبت أن المرأة كانت تُكره على الزواج من شخص لا تريد التزوج منه. بل ليظهر أن المرأة كانت مثل الرجل عند المعينيين لها حق النظر في أمر اختيار الزوج5.

_ 1 اللسان "11/ 650"، "نحل". 2 اللسان "2/ 382"، "نفج". 3 اللسان "14/ 193". 4 اللسان "10/ 197". 5 Arabien, S. 132

أنواع الزواج

أنواع الزواج: والزواج المألوف بين الجاهليين، هو زواج هذا اليوم, أي: الزواج القائم على الخطبة والمهر، وعلى الإيجاب والقبول. وهو ما يسمى بزواج البعولة، وهو زواج منظم، رتَّب الحياة العائلية وعيَّن واجبات الوالدين والبنوة. وهو الذي أقره الإسلام يكون الرجل بموجبه بعلًا للمرأة فهي في حمايته وفي رعايته، وللزوج في هذا الزواج أن يتزوج من النساء ما أحب من غير حصر، وله أن يكتفي بزوج واحدة، وأمر عدد الأزواج راجع إليه وإلى هواه بالنساء. وزواج البعولة هو الزواج الذي كان شائعًا بين الجاهليين في كل أنحاء جزيرة العرب، خاصة عند ظهور الإسلام، وبين أهل الحضر وأهل الوبر، ويرجع "روبرتسن سمث" W.R. Smith أسباب شيوع هذا الزواج وظهوره إلى الحروب وإلى وقوع النساء في الأسر، ويكون الأولاد بحسب هذا النوع من الزواج تابعين للأب، يلتحقون به، ويأخذون نسبه. وهو على نوعين: نوع يكتفي فيه الرجل بالتزوج بامرأة واحدة وهو ما يسمى بـMonogamy، ونوع آخر يتزوج بموجبه الرجل عددًا غير محدود من النساء، أي: أكثر من زوجة واحدة في آن واحد وهو ما يسمى بـpolygamy، أي: زواج تعدد الزوجات1. ويحصل الرجل في هذا الزواج على زوجة بالتراضي مع أهلها، حيث يتم ذلك بخطبة ومهر، أو بالحرب حيث يحصل المنتصرون على أسرى فيختار الرجل له واحدة من بينهن متى ولدت له أولادًا صارت زوجًا له. وصار هو بعلًا لها. ويلاحظ أن النصوص العربية الجنوبية دعت الزوج بعلًا. أما الزوجة فدعتها "بعلت" "بعلة"، ومعناها أن المرأة في حيازة الزوج وملكه. ولذلك عوملت الزوجة بعد وفاة زوجها معاملة "التركة", أي: ما يتركه الإنسان بعد وفاته؛ لأنها كانت في ملك زوجها وفي يمينه. ومن هنا كان للأخ أن يأخذ زوجة أخيه إذا مات ولم يكن له ولد؛ لأن الأخ هو الوارث الشرعي لأخيه، فهو يرث لذلك زوجة أخيه التي هي في بعولته، ويرث ابن الأخ هذا الحق عن أبيه2.

_ 1 Ency, Relig, 8, P.468 2 تفسير الطبري "4/ 208".

نكاح الضيزن

نكاح الضيزن: وهذه النظرة المتقدمة بالنسبة إلى الزوجة، دفعت إلى نكاح أطلق عليه المسلمون "نكاح المقت"، وعرف بـ"نكاح الضيزن" كذلك. وهو نكاح معروف من أنكحة الجاهليين. "وذلك أنهن في الجاهلية كانت إحداهن إذا مات زوجها كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها، إن شاء نكحها، وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت"1. وظل هذا شأنهم إلى أن نزل الوحي بتحريم ذلك2. وقد تناوب ثلاثة من "بني قيس بن ثعلبة" امرأة أبيهم، فعيّرهم بذلك "أوس بن حجر التميمي"، إذ قال: والفارسية فيهم غير منكرة ... فكلهم لأبيه ضيزن سلف3 وهذا الزواج على أنه كان معروفًا وقد مارسه أناس معروفون كان ممقوتًا من الأكثرية، ولذلك عرف بـ"زواج المقت"، وأطلقوا على الرجل الذي يخلف امرأة أبيه إذا طلّقها أو مات عنها وقيل من يزاحم أباه في امرأته "الضيزن". وقالوا للولد الذي يولد من هذا الزواج مقتي ومقيت4. وطريقة أهل "يثرب" في إعلان دخول زوجات المتوفى في ملك الابن أو الأخ أو بقية الأقرباء من ذي الرحم إذا لم يكن للمتوفى أبناء أو أخوة، وهو بإلقاء الوارث ثوبه على المرأة، فتكون عندئذ في ملكه، إن شاء تزوجها، وإن شاء عضلها، أي: منعها من الزواج من غيره حتى تموت، فيرث ميراثها، وإلا

_ 1 تفسير الطبري "4/ 207"، روح المعاني "4/ 245 وما بعدها"، سنن أبي داود "2/ 230"، تفسير المنار "4/ 452 وما بعدها"، السنن الكبرى "7/ 161 وما بعدها"، الطبرسي "4/ 207 وما بعدها"، النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير "1/ 104". 2 سورة النساء، الآية 22، {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} ، الزبيري، نسب قريش "99 وما بعدها". 3 تاج العروس "9/ 264"، "ضزن"، بلوغ الأرب "2/ 52"، المحبر "325". 4 "ولد المقت"، المبسوط للسرخسي "4/ 198"، تاج العروس "1/ 585"، "مقت"، النهاية "4/ 108"، تفسير المنار "4/ 464 وما بعدها"، اللسان "2/ 90"، "مقت".

أن تفتدي نفسها منه بفدية ترضيه1. وقال "الطبري" في تفسير: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} : "كانت الوراثة في أهل يثرب بالمدينة ههنا، فكان الرجل يموت فيرث ابنه امرأة أبيه كما يرث أمه لا يستطيع أن يمنع. فإن أحب أن يتخذها اتخذها كما كان أبوه يتخذها. وإن كره فارقها. وإن كان صغيرًا حبست عليه حتى يكبر فإن شاء أصابها وإن شاء فارقها، فذلك قول الله تبارك وتعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} 2 وذكر "أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها"، وورد عن "السدي" قوله: "إن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الميت، فألقى عليها ثوبه، فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه أو ينكحها فيأخذ مهرها، وإن سبقت فذهبت إلى أهلها فهم أحق بنفسها"3. وقال "الضحاك": "كانوا بالمدينة إذا مات حميم الرجل وترك امرأة ألقى الرجل عليها ثوبه فورث نكاحها وكان أحق بها، وكان ذلك عندهم نكاحًا، فإن شاء أمسكها حتى تفتدي منه. وكان هذا في الشرك"4. وروي عن "ابن عباس" أنه قال: "كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت قبيحة حبسها حتى تموت فيرثها"5. فلهذا الظلم الفادح الذي كان ينزل بالمرأة بسبب ضعفها وبسبب عرف الجاهلية في الحق، منع ذلك في الإسلام. قال "محمد بن حبيب": "وكان الرجل إذا مات، قام أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه. فورث نكاحها. فإن لم يكن له حاجة فيها، تزوجها بعض إخوته بمهر جديد"6. ولكن أهل الأخبار لا يذكرون أن الإخوة يدفعون لها مهرًا جديدًا، فقد يكون هذا المهر الجديد الذي أشار "محمد بن حبيب" إليه، هو ترضية للابن الأكبر بسبب تنازله عن حقه الشرعي في امرأة أبيه إلى من له

_ 1 تفسير الطبري "4/ 208 وما بعدها"، "4/ 217". 2 تفسير الطبري "4/ 208 وما بعدها". 3 تفسير الطبري "4/ 208" 4 تفسير الطبري "4/ 208" 5 تفسير الطبري "4/ 209" 6 المحبر "325 وما بعدها".

رغبة فيها من إخوته الباقين، على ألا يكون من أبنائها بالطبع، وإنما هم من زوجات أخرى، وقد فرّق الإسلام بين رجال ونساء آبائهم، وهم كثير"1. وذكر أن آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} ، نزلت في "كبيشة بنت معن بن عاصم" من الأوس، توفي عنها "أبو قيس بن الأسلت"، فجنح عليها ابنه، فجاءت النبي، فقالت: يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت فأنكح فنزلت هذه الآية في منع ذلك2. وحرم هذا الزواج في الإسلام، ومن تزوج امرأة أبيه وهو مسلم قتل وأدخل ماله في بيت المال3. وقد كان العبرانيون يتزوجون زوجات آبائهم كذلك، استمروا على ذلك حتى بعد السبي. كذلك عرفت هذه العادة بين الرومان والسريان4.

_ 1 المحبر "326". 2 تفسير الطبري "4/ 208"، الإصابة "4/ 383"، "رقم 920"، أسباب النزول "108 وما بعدها". 3 زاد المعاد، لابن قيم الجوزية "3/ 202"، "فصل في حكمه -صلى الله عليه وسلم- فيمن تزوج امرأة أبيه". 4 Kinship. P.90

نكاح المتعة

نكاح المتعة: وأشار أهل الأخبار إلى وجود أنواع أخرى من الزواج، الغالب عليها سقوط الصداق والخطبة منها، وهي: نكاح المتعة، وهو نكاح إلى أجل، فإذا انقضى وقعت الفرقة. وقد كان هذا النوع من الزواج معروفًا عند ظهور الإسلام. وقد أشير إليه في القرآن الكريم: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 1.

_ 1 النساء، الآية 24.

وللفقهاء آراء في المتعة، ولا تزال معروفة في بعض المذاهب1. ومن دوافع حدوث هذا الزواج التنقل والأسفار والحروب، حيث يضطر المرء إلى الاقتران بامرأة لأجل معين على صداق. فإذا انتهى الأجل، انفسخ العقد. وعلى المرأة أن تعتدّ كما في أنواع الزواج الأخرى قبل أن يسمح لها بالاقتران بزوج آخر. فهو كزواج البعولة. فيما سوى الاتفاق على أجل معين يحدد مدة الزواج. وينسب أولاد المتعة إلى أمهاتهم في الغالب، وذلك بسبب اتصالهم المباشر بالأم ولارتحال الأب عن الأم في الغالب إلى أماكن أخرى قد تكون نائية، فتنقطع الصلات بين الأب والأم ولهذا يأخذ الأولاد نسب الأم ونسب عشيرتها.

_ 1 صحيح مسلم "4/ 130"، المبسوط، للسرخسي، "5/ 152"، "6/ 61"، السنن الكبرى "7/ 200"، تفسير الطبري "4/ 8 وما بعدها"، الطبرسي "3/ 32"، روح المعاني "5/ 5 وما بعدها"، النهاية "4/ 81"، المحبر "ص289"، تفسير المنار "5/ 13 وما بعدها"، سنن أبي داود "2/ 226 وما بعدها"، عمدة القارئ "18/ 208" "20/ 111"، الأمومة عند العرب تأليف "ولكن "G. A. Wilken"، تعريب بندلي صليبا الجوزي "فازان 1902". ص15 وما بعدها"، اللسان "8/ 329"، "متع"، الكشاف للزمخشري "1/ 360". بلوغ الأرب "2/ 5"، عمدة القارئ "20/ 122"، "كتاب النكاح"، الحديث رقم "60".

نكاح البدل

نكاح البدل: ونكاح البدل: وهو أن يقول الرجل للرجل: "انزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي"2. فهو زواج بطريق المبادلة بغير مهر.

نكاح الشغار

نكاح الشغار: ونكاح الشغار: وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق. وذلك كأن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك، وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي. وعرفه بعض العلماء على هذا النحو:

"الشغار، بكسر الشين: نكاح كان في الجاهلية، وهو أن تزوج الرجل امرأة ما كانت على أن يزوجك أخرى بغير مهر1. وخص بعضهم به القرائب، فقال: لا يكون الشغار إلا أن تنكحه وليتك على أن ينكحك وليته"2. فكان الرجل يقول للرجل: شاغرني، أي: زوجني أختك أو بنتك أو من تلي أمرها حتى أزوجك أختي أو بنتي أو من إلىَّ أمرها ولا يكون بينهما مهر3. وقد نهى عنه الإسلام4. وورد "أن أناسًا كان فيهم: يعطي هذا الرجل أخته، ويأخذ أخت الرجل، ولا يأخذون كثير مهر"5. "وكان ذلك من أولياء النساء، بأن يعطي الرجل أخته الرجل على أن يعطيه الآخر أخته، على أن لا كثير مهر بينهما، فنهوا عن ذلك"6. والغالب أنه مثل "البدل" بدون مهر. وهو معروف حتى اليوم مع ورود النهي عنه، ولا سيما بين الطبقات الفقيرة والأعراب، وللوضع الاقتصادي والاجتماعي دخل كبير في هذا الزواج، لعدم وجود المهر فيه، إذ حل التقايض فيه محل المهر. ولهذا لم ينظر إليه نظرة استهجان لوجود هذا التقايض فيه الذي يقوم مقام المهر.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 5"، "باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه", شرح الإمام النووي على صحيح مسلم، حاشية على القسطلاني "6/ 141"، سنن أبي داود "2/ 227"، عمدة القارئ "20/ 108 وما بعدها"، "كتاب النكاح: باب الشغار حديث رقم 48"، السنن الكبرى "7/ 199 وما بعدها"، إرشاد الساري "6/ 141 وما بعدها". 2 اللسان "6/ 85 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 306 وما بعدها"، "شغر". 3 النهاية "2/ 245". 4 "لا شغار في الإسلام"، صحيح مسلم "4/ 139"، المبسوط، للسرخسي "5/ 105"، إرشاد الساري "6/ 141"، الكافي، للرازي "5/ 361"، "طهران 1378هـ"، مجمع البيان "4/ 162". 5 تفسير الطبري "4/ 162". 6 تفسير الطبري "4/ 162".

نكاح الاستبضاع

نكاح الاستبضاع: وأشار أهل الأخبار إلى نوع غريب من الزواج، سموه "نكاح الاستبضاع". وهو -على ما يزعمون- أن يقول رجل لامرأته إذا طهرت من طمثها: ارسلي

إلى فلان فاستبضعي منه، لتحملي منه، ويعتزلها زوجها، ولا يمسها أبدًا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد؛ لأنهم كانوا يطلبون ذلك من أكابرهم ورؤسائهم في الشجاعة أو الكرم أو غير ذلك فكان هذا النكاح الاستبضاع1. كذلك كان بعض أصحاب الجواري على ما يرويه أصحاب الأخبار أيضًا، يكلفون جواريهم الاتصال برجل معين من أهل الشدة والقوة والنجابة، ليلدن ولدًا منه يكون في يمينه وملكه2. والغاية من هذا النوع من التكليف الحصول على أولاد أقوياء يقومون بخدمة الرجل المالك، إن شاء استخدمهم في بيته وفي ملكه، وإن شاء باعهم وربح منهم، فهي تجارة كان يمارسها المتاجرون بالرقيق للربح والكسب. وأما ما أشار إليه أهل الأخبار من وجود زواج دعوه زواج الرهط، وزواج آخر قالوا له: "زواج صَوَاحِبات الرايات"3. فلا يمكن عدّهما زواجًا بالمعنى المفهوم من الزواج؛ لأنهما في الواقع نوع من أنواع البغاء، وخاصة "زواج صواحبات الرايات". وقد عرفوا الزواج الأول بأنه زواج يجتمع فيه الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، وذلك برضاء منها وتواطؤ بينهم وبينها، فإذا حملت ووضعت، أرسلت إليهم فلم يستطيع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي من أمركم، وقد ولدت، ثم تسمي أحدهم وتقول له: فهو ابنك يا فلان، فيلحق بها ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل. وقد قيل إن هذا يكون إن كان المولود ذكرًا، وإلا فلا تفعل لما عرف من كراهتهم للبنت وخوفًا من قتلهم للمولودة4. ويقال لهذا النوع من الزواج زواج "تعدد الأزواج" Polyandry، في

_ 1 النهاية في غريب الحديث "1/ 98"، شرح العيني "17/ 246"، "20/ 121"، صحيح البخاري "3/ 162"، بلوغ الأرب "2/ 4". 2 تاج العروس "5/ 279"، اللسان "9/ 361". 3 بلوغ الأرب "2/ 4 وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "2/ 4"، عمدة القارئ "20/ 121 وما بعدها"، القسطلاني، إرشاد الساري "8/ 45"، الأمومة عند العرب "24 وما بعدها"، الملل والنحل "2/ 442"، "لندن".

الإنكليزية، وذلك لوجود امرأة واحدة فيه وعدد من الرجال تختارهم المرأة، التي تكون زوجة مشتركة بينهم، وهو عكس زواج الـPolygamy، أي: زواج تعدد النساء للرجل الواحد، حيث يتزوج الرجل الواحد بموجبه عددًا من النساء، بعلًا لهن1. وعَرَّفوا "زواج صَواحِبات الرايات" بأن نكاح يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها، وهي البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علمًا، فمن أرادهن دخل عليهن. فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها، ودعوا لهم "القافة"، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فاستلحقه به، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك2. وذكر أن تلك الرايات كانت رايات حمرًا. فالنكاحين المتقدمين ليسا في الواقع زواجًا بالعرف الشائع عند غالبية الجاهليين وإنما هو سفاح، وقد عُدّ في القرآن الكريم "زنا"، ولو كان فيه استحقاق الولد بوالد. فليس في هذا الزواج صداق ولا خطبة على عادة العرب، ومن يفعله من الرجال، لم يكن يقصد به زواجًا بمعنى الأزواج وبالدرجة الأولى، وإنما التسلية وتحقيق شهوة بثمن، ولهذا فهما من أبواب الزنا والسفاح. وقد تعرض "السكري" لموضوع "صواحبات الرايات"، فقال: "ومن سنتهم أنهم كانوا يكسبون بفروج إمائهم. وكان لبعضهم راية منصوبة في أسواق العرب، فيأتيها الناس فيفجرون بها. فأذهب الإسلام ذلك وأسقطه فيما أسقط، ولهن أولاد ونسل كثير معروف"4. وممن أشار إلى وجود إباحة تعدد الأزواج للزوج الواحدة في شرائع الجاهليين، "سترابو" ذكر أن الأخوة كانوا يشتركون في كل شيء، في المال وفي الزوج، فللإخوة جميعهم زوج واحدة تكون مشتركة بينهم. ولكن الرئاسة تكون للأخ الأكبر. وإذا أراد أحد الأخوة الاتصال بالزوجة، وضع عصاه على باب الخيمة، لتكون علامة تفهم الآخرين أن أحدهم في داخلها، فلا يدخلها، وهم

_ 1 Ency, Relig, Vol, 8, P.468 2 بلوغ الأرب "2/ 4 وما بعدها". 3 تفسير المنار "5/ 22". 4 المحبر "340".

جميعًا يحملون العصي معهم. أما في الليل فتكون الزوجة من نصيب الولد الأكبر. وهم يعاشرون أمهاتهم معاشرة جنسية. وذكر أنهم يعاقبون الزاني عقابًا شديدًا: يعاقبونه بالموت. والزاني في عرفهم هو الشخص الغريب، يعاشر امرأة من أصل غريب عنه1. وذهب بعض العلماء إلى أن اشتراك الأخوة في زوج واحدة، وهو ما يعبر عنه بـFraternal Polyandry عند علماء الاجتماع، على نحو ما أشار "سترابون" إليه، هو زواج يعدّ مرحلة وسطى بين تعدد الأزواج Polyandry، البدائي الذي لم يكن مقيدًا بقيود وبين الزواج المقيد المعروف، زواج البعولة، وهو اختصاص المرأة بزوج واحد، أي: الزواج الذي أباحته الأديان السماوية. وكان شائعًا بين غالبية الجاهليين القريبين من الإسلام وعند ظهور الإسلام. وليس بمستبعد أن يكون "سترابون" قد قصد بـ"زواج الأخوة" الزواج المعروف بـLe Virate Marriage عند علماء الاجتماع. وهو زواج الأخ زوجة أخيه بعد وفاته، وهو زواج نشأ على رأي علماء الاجتماع من زواج الـPolyandry. وهو معروف عند العرب وعند العبرانيين والحبش وغيرهم2. وحينما يتوفى الزوج عند العبرانيين، تاركًا له زوجًا دون ولد، يأخذ الأخ أرملة أخيه، فإذا ولدت له ولدًا عدّ المولود للأخ المتوفى. وللباحثين آراء عن أصل هذا الزواج وفي الأسباب التي أدت إلى وقوعه4. وهو في رأي "جيمس فريزر" صفحة من صفحات اشتراك الأخوة في زوج واحدة، واشتراك الأخوة في تزوج الأخوات، وهو متمم لما سماه بـSororate5. والجمع بين الأختين زوجين لرجل واحد، زواج معروف عند الجاهليين6. وهذا الزواج هو صورة معكوسة لزواج الأخوة مشتركًا في زوج واحدة، فلم

_ 1 Strabo, Xvi, 4, Ency. Relig., Vol., 8, P.467 2 Ency. Relig., Vol., 8, P.467, Die Socalen Verhaltnisse Der Israeliten, S. 28 3 Ency. Breta., Vol., 13, P.979 4 Westermark, History Of Human Marriage, Vol., Iii, “1921” 5 Ency, Brita, Vol, 21, P.2, “Sororate”, Sir Jamme Frazer, Folklore Of The Old Testement. Vol., Ii, P.317. 6 تفسير الطبري "4/ 217 وما بعدها"، روح المعاني "4/ 260".

يكن هناك رادع قانوني يمنع الرجل من التزوج من الأخوات في زمن واحد ومن الجمع بينهن في صعيد الزوجية، وفي بعولة رجل واحد، وهو في جملة أنواع الزواج الذي نهى عنه الإسلام1. وتعدد الأزواج للزوجة الواحدة يسبب مشكلة خطيرة في قضية تعيين أبوة الأولاد, إذ يكون من الصعب في أكثر الحالات إثبات ذلك، ولهذا نسبوا إلى الأمهات في الغالب. وهذا ما يعرف بالأمومة. وزواج مثل هذا يكون داخليًّا، أي: في أفراد العشيرة الواحدة، ويعاقب مرتكبه عقابًا صارمًا إذا كان من عشيرة غريبة، إذ يعد ذلك نوعًا من الزنا، ويكون هذا الزواج مؤقتًا في الغالب، ينتهي أجله بارتحال أهل المرأة وانتقالهم من مكان إلى آخر. وقد أشار "أميانوس مارسيلينوس" Ammianus Marcelinus إلى زواج قال: إنه موجود عند العرب، تزف العروس إلى زوجها ومعها حربة وخيمة، وقال: إنها تستطيع أن تعود إلى بيتها بعد مدة إذا رغبت في ذلك. وقد ذهب "جورج برتن" George Barton إلى أن هذا الزواج الذي يذكره هذا المؤرخ القديم هو نوع من الزواج المتقدم2. إن هذا الزواج يجعل المرأة تعيش مع أهلها وبين أبويها وإخوتها ومعها أولادها، ولهذا يكون نسب الأطفال هو نسب الأم، ولهذا صار الخال أقرب إليهم من العم. ومن هنا نرى أن للخال شأنًا كبيرًا بالقياس إلى الأطفال عند الساميين3. ويظن بعض علماء الاجتماع المحدثين أنه من الأسباب التي دعت إلى شيوع تعدد الأزواج للزوج الواحدة، هو قلة عدد النساء بالقياس إلى الرجال. وذلك بسبب الوأد4. ولكن كيف نتمكن من إثبات انتشار عادة الوأد بين جميع العرب وفي كل العهود؟ ثم من الذي يثبت لنا أنه كان من سعة الانتشار بحيث أحدث مشكلة خطيرة في عدد النساء بالقياس إلى الرجال؟ ثم إن هذا النوع من الزواج كان معروفًا عند غير العرب من الأمم، ولا زال معروفًا عند بعض القبائل الإفريقية، وهو في نظرهم نوع من أنواع الزواج، وهم لا يمارسون مع ذلك الوأد!

_ 1 سورة النساء، الآية 23 2 Ency, Relig, Vol, 8, P.467 3 Ency, Relig, Vol, 8, P.467 4 Ency, Relig, Vol, 8, P.467

وقد نص في الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 1 ونص في الآية: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} 2، وذلك بسبب النسب والصهر والرضاع2. ونزول الوحي بتحريم الزواج بالمذكورات، يبعث على الظن أن من الجاهليين من كان يتصل اتصالًا جنسيًّا بهن. غير أن من العلماء من يقول إن الجملة "إنشائية، وليس المقصود منها الإخبار عن التحريم في الزمان الماضي"4، بمعنى أنها ليست حكاية عن تجويز الجاهليين الاقتران بالنساء المذكورات، وتحريم الإسلام له، وإنما الآية تقرير وتوضيح للتحريم والمحرمات على سبيل العدّ والحصر، لا الحكاية والإبطال لأحكام سابقة لظهور الإسلام5. وللآيتين شأن خاص بالقياس إلى بحثنا في زواج الجاهليين، ولهذا كان لشرح أسباب نزولهما والعوامل التي دعت إلى نزول الوحي بهما، والغاية من نزول الحكم بالتحريم، شأن كبير عند الباحث في هذا الموضوع، غير أن غالبية المفسرين لم تتعرض للبحث في هذه المسألة، ويا للأسف، وإنما تبسطت في أمور لغوية وفقهية لا تزيل الغموض عن الأسباب التي دعت إلى النص على التحريم، وعن آراء الجاهليين في الزواج بالمذكورات في الآية، إذ إن التحريم يعني وقوع الإباحة عند من حرم ذلك عليهم إلى حين نزول الوحي: ولا سيما أن المفسرين قد ذكروا أمثلة تشير إلى أن بعضهم قد تزوج ممن ورد ذكره في تلك الآية. ثم إن بعضه من النوع المعروف المألوف عند بعض الأمم، وما زال معروفًا حتى

_ 1 النساء، الآية 22 وما بعدها، تفسير الطبري "4/ 219"، تفسير الألوسي "4/ 223". 2 النساء، الآية 22. 3 تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "5/ 105 وما بعدها". 4 روح المعاني "4/ 249 وما بعدها". 5 عمدة القارئ "20/ 100".

الآن، وأن بعض ما حرم في الإسلام جائز في ديانات أخرى، ومنها اليهودية والنصرانية، فليس بغريب ولا بمعيب إذا كان موجودًا بعضه عند الجاهليين. والاتصال الجنسي بين الأولاد والأمهات شيء قليل الوقوع عند البشر1. ولم تبحه ديانة من الديانات، وهو غير معروف في العرب، ولم يشر إليه أهل الأخبار. أما ما ذكره "سترابون" فلعلّ المراد منه الزواج بزوجات الآباء بعد موتهم، أي: إنه ذكر الأمهات على سبيل التجوز، وهو زواج المقت الذي كان معروفًا في الجاهلية وعند غير الجاهليين، إلى أن نهى عنه الإسلام2. وأما زواج الأخوة بالأخوات، فهو معروف وثابت وما زال معروفًا حتى الآن في "سِيام" وفي بورما وسيلان وأوغندا وأماكن أخرى. وقد كان عند الفرس والمصريين3، وخاصة بين أفراد الأسر المالكة والأشراف. والظاهر أن ذلك لاعتقادهم ضرورة المحافظة على نقاوة الدم وخصائص الأسرة. خاصة وقد كانت عقيدة القدماء أن تلك الطبقات مقدسة مؤلهة، فلا يجوز إهراق دمها في دم أوطأ منه. وقد ذهب "موركن" "Morgan" وآخرون إلى أن زواج الأخ بأخته، هو الزواج المألوف العام الذي كان شائعًا بين البشر، وأنه المرحلة السابقة للزواج المألوف4. أما زواج الآباء ببناتهم، فهو معروف ومذكور ولكنه قليل، وقد أشير إلى وجوده عند بعض الشعوب ومنهم المجوس والمصريون، ذكر ذلك اليونان والرومان، وأشار الأخباريون إلى تزوج "حاجب بن زُرارة" ابنته "دختنوس" لمجوسيته، وذكروا أنه أولدها، وأوردوا في ذلك شعرًا وقصصًا. ثم ذكروا أنه ندم بعد ذلك على عمله، وأنه فعل ذلك بتأثير المجوسية التي دان بها، وحاجب بن زرارة هو من تميم، فالمجوسية على زعم أهل الأخبار هي التي أباحت لحاجب الاقتران بابنته5.

_ 1 Ency, Relig, Vol, 8, P.425, 467 2 المصدر نفسه. 3 كذلك. 4 Ency, Relig, Vol, 8, P.467 5 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي "5/ 104"، الأغاني "10/ 38"، بلوغ الأرب "2/ 52، 235".

ودعوى الأخباريين هذه فيها نظر، والشعر المذكور والقصص الذي يورده أهل الأخبار يحتاج إلى إثبات. وقد رأينا كثيرًا منه تعمله معامل الوضع، وقد ثبت وضعه، وليس بمستبعد أن يكون ما ذكره هؤلاء هو من هذا القبيل. وضعه خصوم تميم للطعن فيها، وإلحاق مثلبة بها، ثم رَوَّجه وأشاعه الطالبون لمثالب القبائل من العرب، وقد كانوا يبحثون عن أمثال هذه السقطات، وهم جماعة لهم رأي في الدين وفي السياسة معروف مشهور. وفي بعض الأخبار أن "دختنوس" كانت ابنة "لقيط بن زرارة التميمي"، وأنها كانت تحت "عمرو بن عدس" سماها أبوها "دختنوس" باسم ابنة كسرى, وأن البيتين اللذين ينسبهما أهل الأخبار إلى "حاجب" ويزعمون أنه قالهما حين نكح ابنته وهما: يا ليت شعري عنك دختنوس ... إذا أتاها الخبر المرموس أتسحب الذيلين, أم تميس؟ ... لا بل تميس، إنها عروس لم يكونا لحاجب، بل كانا من رجز "لقيط" وقد قالهما يوم شعب جبلة عند موته، وجعلت بنو عامر يضربونه، وهو ميت، وقد رووهما على هذه الصورة: يا ليت شعري اليوم دختنوس ... إذا أتاها الخبر المرموس أتحلق القرون، أم تميس؟ ... لا بل تميس إنها عروس. وذكروا أن "دختنوس" أخذت ترثي أباها بأبيات ذكروها. وليس في كل هذه القصة أية إشارة إلى تزوج لقيط بابنته، بل هي تنص على أن زوجها كان "عمرو بن عدس". وأن قصة زواج "حاجب" بابنته قصة مصنوعة. وقد أشار أهل الأخبار إلى نوع آخر من الزواج قالوا له: "نكاح الخِدْن" وقد أشير إليه في القرآن الكريم {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} ، ومعناها اتخاذ أخلاء في السر، وذلك باتخاذ الرجل

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 235". 2 الأغاني "10/ 38"، تاج العروس "4/ 147"، "دختنوس". 3 الأغاني "10/ 38"، بلوغ الأرب "2/ 235 وما بعدها". 4 النساء، الآية 25، المائدة، الآية 5، الأنعام، الآية 151.

صديقة له، أو اتخاذ المرأة صديقًا1. ويكون ذلك بالطبع بتراضٍ واتفاق. و"ذات الخدن" هي من اتخذت لها صديقًا واحدًا، وقد نُهي عن اتخاذ الأخدان في جملة ما نُهي عنه في الإسلام2. وكان الرجل في الجاهلية يتخذ خدنًا لجواريه، ليحدث الجارية ويصاحبها ويؤانسها لكي لا تستوحش، وقد يتصل بها، وقد نُهي عن هذا النوع من المخادنة أيضًا في الإسلام3. و"نكاح الخدن" لا يمكن عدّه نكاحًا وإن أطلق أهل الأخبار عليه صفة النكاح؛ لأنه لم يكن بعقد وخطبة، وإنما كان صداقة، وآية ذلك ورود "ولا متخذات أخدان" بعد جملة "غير مسافحات" في القرآن الكريم، والنهي عن الاقتران بصاحبات الأخدان والمسافحات؛ لأنهن غير محصنات. فحكم صاحبة الخدن هو حكم المسافحة في الجاهلية على السواء. وقد ذكر علماء التفسير أن "أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي. يقولون: أما ما ظهر منه فهو لؤم، وأما ما خفي فلا بأس بذلك"4. فالزنا عند أهل الجاهلية، الزنا العلني، فهو عيب عندهم، أما اتخاذ الخدن، فلا يعدّ عيبًا؛ لأن المرأة تصادق الرجل، والرجل يصادق المرأة، وقد وقع عن قبول ورضًى، فهو عمل حلال، ولا بأس به5.

_ 1 مجمع البيان، للطبرسي "3/ 34". 2 تفسير الطبري "5/ 14"، تفسير المنار "5/ 22 وما بعدها". 3 اللسان "16/ 296"، تاج العروس "5/ 22 وما بعدها". 4 تفسير الطبري "5/ 13 وما بعدها". 5 تفسير الطبري "5/ 13 وما بعدها", روح المعاني "2/ 10".

نكاح الظعينة

نكاح الظعينة: وإذا سبى رجل امرأة، فله أن يتزوجها إن شاء، وليس لها أن تأبى عليه ذلك؛ لأنها في سبائه، وهي في ملك سابيها. ويكون هذا الزواج بغير خطبة ولا مهر؛ لأنها مملوكة وليس لها خيار.

أمر الجاهلية في نكاح النساء

أمر الجاهلية في نكاح النساء: وقد لخص "السكري" أمر النكاح في الجاهلية بقوله: "وكان أمر الجاهلية في نكاح النساء على أربع: امرأة تخطب فتزوج. وامرأة يكون لها خليل يختلف إليها، فإن ولدت قالت: هو لفلان، فيتزوجها بعد هذا. وامرأة ذات راية يختلف إليها، فإن جاء اثنان فوافياها في طهر واحد ألزمت الولد واحدًا منهما، فهذه تدعي المقسمة. والرجل يقع على أمة قوم، فيبتاع ولدها فيرغب فيدعيه ويشتريها فيتخذها امرأة"1.

_ 1 المحبر "340".

تعدد الزوجات

تعدد الزوجات: وقد أباح الجاهليون للرجل تعدد الزوجات، والجمع بين أي عدد شاء من الأزواج دون تحديد. أما الاكتفاء بامرأة واحدة أو باثنتين أو أكثر. فذلك أمر خاص يعود إليه. كما أباح التشريع الجاهلي للرجل امتلاك أي عدد يشاء من الإماء. وتكون الأمة ملكًا للرجل؛ لأنه اشتراها بذات يمينه, وهي ملكه ما دامت أمة في ملك سيّدها، فليس لها حقوق الزوجة، ولا تعدّ الأمة زوجة، إلا إذا أعتقها مالك رقبتها وتزوجها، فعندئذ تكون له زوجة له بمحض قرار الرجل وإرادته. وقد روى علماء التفسير: "أن قريشًا كان الرجل منهم يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل"1. ورووا أن "الرجل في الجاهلية يتزوج العشرة فما دون ذلك"2، وأنهم "كانوا في الجاهلية ينكحون عشرًا من النساء الأيامى"3، وأنهم "كانوا في جاهليتهم لا يرزءون من مال اليتيم شيئًا. وهم ينكحون عشرًا من النساء، وينكحون نساء آبائهم"4، ولم يكونوا يعدلون بين نسائهم، بل يفضلون بعضًا على بعض، فجاء النهي عن ذلك في القرآن5.

_ 1 تفسير الطبري "4/ 156". 2 تفسير الطبري "4/ 157". 3 تفسير الطبري "4/ 157". 4 تفسير الطبري "4/ 157". 5 سورة النساء، الآية 3.

وكان مما حدده الإسلام من مبدأ تعدد الزوجات، أن قيد العدد بأربع، وهو تبديل لسنة الجاهليين. فلما نزل الأمر بالتحديد، اضطر من كان قد تزوج بأكثر منه على تطليق الزائد والاكتفاء بالحد القانوني الذي أقره الإسلام وهو أربعة. روي أن "غيلان بن سلمة الثقفي"، كان قد تزوج في الجاهلية بعشر نساء، فلما أسلم، أمره رسول الله بتطليق الزائد وبالتقيد بما جاء في حكم القرآن1. وقد أمر الرسول "الحارث بن قيس" أن يختار من نسائه أربعًا، ويطلق بقيتهن، وكانت عنده ثماني نسوة2. وكان "مسعود بن معتب" و"معتب بن عمرو بن عمير", و"عروة بن مسعود"، و"سفيان بن عبد الله", و"أبو عقيل مسعود بن عامر بن معتب". وكلهم من ثقيف، وقد تزوجوا عشر نسوة، فنزل غيلان وسفيان وأبو عقيل للإسلام عن ستٍّ ستٍّ، وأمسكوا أربعًا أربعًا. ومات عروة مسلمًا، ولم يكن أمر بالنزول عن نسائه3.

_ 1 النساء، الآية 3, الشوكاني، نيل الأوطار "5/ 160"، زاد المعاد "4/ 7". 2 تفسير القرطبي "5/ 17". 3 المحبر "357".

الطلاق

الطلاق: وكما كان الزواج. كذلك كان الطلاق عند الجاهليين، ولا بد أن تكون له قواعد وعرف وأسباب. وقد ذكر أن عادة أهل الجاهلية أن يقول الرجل لزوجته إذا طلقها "حبلك على غاربك", أي: خليت سبيلك، فاذهبي حيث شئت1، ويقول: "أنتِ مُخلَّى كهذا البعير"2، و"الحقي بأهلك", و"اذهبي فلا أنده سربك"، و"اخترت الظباء على البقر"3، و"فارقتك"، أو "سرحتك"، أو الخلية، أو البرية، وما شاكل ذلك من عبارات4. ومصطلحات الطلاق هذه مصطلحات نابعة من صميم محيط جزيرة العرب، آثار

_ 1 تاج العروس "1/ 411"، "غرب". 2 اللسان "1/ 644"، "غرب"، "صادر"، "21/ 136"، تاج العروس "1/ 411"، "غرب". 3 اللسان "1/ 644"، "غرب"، الميداني، الأمثال "1/ 179، 253، 408". 4 عمدة القارئ "20/ 238".

البداوة عليها واضحة جلية، والروح الأعرابية ظاهرة فيها بارزة، وما الأمثلة المتقدمة إلا نماذج من تلك المصطلحات. وورد أن الجاهليين كانوا يقولون للمرأة: أنت خلية، كناية عن الطلاق، فكانت تطلق منه، وكانوا يقولون: أنتِ برية أنت خلية، فتطلق بها المرأة1. والطلاق من المصطلحات الجاهلية القديمة، وهو يعني عندهم تنازل الرجل من كل حقوقه التي كانت على زوجه ومفارقته لها2. والطلاق الشائع بين أهل مكة عند ظهور الإسلام، هو طلاق المرأة ثلاثًا على التفرقة: وينسب أهل الأخبار سَنَّةُ إلى إسماعيل بن إبراهيم، فكان أحدهم يطلق زوجته واحدة، وهو أحق الناس بها، ثم يعود إليها إن شاء، ثم يطلقها ثانية، وله أن يعود إليها إن رغب، حتى إذا استوفى الثلاث انقطع السبيل عنها، فتصبح طالقة طلاقًا بائنًا3, ومعنى هذا عدم إمكان الرجوع إلى الزوجة بعد وقوع الطلاق الثالث مهما أوجد المطلق له من أعذار4. ويذكر أهل الأخبار قصة وقعت للأعشى حينما أتاه قوم زوجه وطلبوا منه تطليقها، ولم يقبلوا منه طلاقها إلا بعد ثلاث تطليقات، أعادها ثلاث مرات. فعد طلاقه لها طلاقًا بائنًا5. ويظهر أن الجاهليين كانوا قد أوجدوا حلًّا لهذا الطلاق الشاذ، فأباحوا للزوج

_ 1 تاج العروس "10/ 119"، "خلو". 2 Ency., Vi, P.363, Kinship, P.112, Welhausen, “I” Die Ehe Bei Den Araber, In Nachrichten D. Konig. Gess. Der Wiss., Gottingen, 1893, S. 452 3 الأغاني "8/ 80 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 49". 4 المحبر "309 وما بعدها". 5 بلوغ الأرب "2/ 49"، قال الأعشى: أيا جارتي بيني فاتك طالقة ... كذاك أمور الناس غاد وطارقه قالوا: ثانية، فقال: وبيني فإن البين خير من العصا ... وألا تري لي فوق رأسك بارقه قالوا: ثالثة، فقال: وبيني حصان الفرج غير ذميمة ... وموموقة قد كنت فينا ووامقة "أيا جارتا" وهناك بعض الاختلاف في الألفاظ، المحبر "309 وما بعدها".

أن يرجع زوجه إليه بعد الطلاق الثالث، ولكن بشرط أن تتزوج بعد وقوع الطلاق الثالث من رجل غريب، على أن يطلقها بعد اقترانها به، وعندئذ يجوز للزوج الأول أن يعود إليها بزوج جديد. ولذلك عرف الطلاق البائن: أنه الذي لا يملك الزوج فيه استرجاع المرأة إلا بعقد جديد. وقد ذكر في كتب الحديث ويقال في الإسلام للرجل الذي يتزوج المطلقة بهذا الطلاق ليحلها لزوجها القديم: "المحلل" ويقال لفاعله: "التيس المستعار" و"المجحش". وهو حل مذموم عند الجاهليين ومحرم في الإسلام1. لم يعمل به إلا بعض الجهلاء من الناس، ممن ليست لهم سيطرة على أنفسهم، بل يعملون أعمالًا ثم يندمون على ما فعلوه. وهناك نوع آخر من الطلاق يسميه أهل الأخبار بـ"الظهار". ذكروا أنه إنما دعي ظهارًا من تشبيه الرجل زوجته أو ما يعبر به عنها أو جزء شائع بمحرم عليه تأييدًا، كأن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي أو كبطنها، أو كفخذها أو كفرجها، أو كظهر أختي أو عمتي، وما شابه ذلك2، فيقع بذلك الظهار. وقد أشير إليه في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} 3. وهو طلاق يظهر أنه كان شائعًا فاشيًا بين الجاهليين، سبب انتشاره التسرع، والتهور، وعدم ضبط النفس، والانفعالات العاطفية.

_ 1 "لعن الله المحلل والمحلل له"، النهاية "1/ 288"، عمدة القارئ "20/ 236"، المبسوط، للسرخسي "5/ 2 وما بعدها"، السنن الكبرى "7/ 207 وما بعدها"، "إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ هو المحلل. ثم قال: لعن الله المحلل والمحلل له، والحديث المذكور رواه الدارقطني. قيل: إنما لعنه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع حصول التحليل؛ لأن التماس ذلك هتك للمروءة والملتمس ذلك، هو المحلل له. وإعادة التيس للوطء لغرض الغير أيضًا رذيلة. ولذلك شبه بالتيس المستعار"، الدميري، حياة الحيوان "1/ 166"، "التيس" عمدة القارئ "2/ 236"، وفي حديث ابن مسعود فيمن طلق امرأته ثماني تطليقات، اللسان "13/ 64"، "بين". 2 المفردات "220"، الإصابة "1/ 85"، الجصاص "3/ 417"، عمدة القارئ "2/ 280"، المبسوط، للسرخسي "6/ 223"، تفسير الطبري "21/ 121"، "الطبعة الثانية 1951"، تفسير الطبرسي "21/ 96"، بيروت". 3 المجادلة، الآية 2 وما بعدها، الكشاف، للزمخشري "4/ 423".

وكان الظهار من أشد طلاق أهل الجاهلية، وكان في غاية التحريم عندهم1. فكان الرجل إذا ظاهر امرأته، بأن قال لها: أنت عليّ كظهر أمي، حرمت عليه، وصارت طالقًا، فلما كان الإسلام، ظاهر "أوس بن الصامت" أخو عبادة بن الصامت امرأته "خولة بنت ثعلبة بن مالك"، فنزل الأمر بجعل كفّارة فيه، ولم يجعله طلاقًا، كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم2. فإن تخاصموا مع نسائهم أو مع أقربائها، أقسموا يمين الظهار3. وقد كان هذا اليمين من أيمان أهل الجاهلية خاصة4. ولهذا الطلاق باب في كتب الحديث والفقه في أحكام الطلاق، وقد نهى عنه الإسلام وأوجب الكفّارة على من ظاهر من امرأته5. وأشار أهل الأخبار إلى نوع آخر من أنواع الطلاق ذكروا أنه كان من طلاق أهل الجاهلية سمّوه "الإيلاء"، وهو القسم على ترك المرأة مدة، مثل شهور أو سنة أو سنتين، أو أكثر، لا يقترب في خلالها منها، وقد أشير إليه في رواية تنسب إلى ابن عباس6. وفي كتب الحديث وكتب الفقه باب خاص في هذا الطلاق7. وقد منع

_ 1 تفسير النيسابوري "28/ 7"، "حاشية على تفسير الطبري". 2 المجادلة، رقم 58، الآية 2، تفسير الطبري "28/ 7"، تفسير ابن كثير "4/ 320 وما بعدها". 3 تنوير الحوالك، شرح موطأ الإمام مالك "2/ 20 وما بعدها"، زاد المعاد "4/ 81". 4 عمدة القارئ "20/ 281". 5 تاج العروس "3/ 373"، "ظهر" اللسان "6/ 201"، "ظهر" سنن أبي داود "2/ 265 وما بعدها"، عمدة القارئ "20/ 281"، البخاري، كتاب الطلاق، الباب 23، ابن حنبل "4/ 37"، "6/ 410". 6 تفسير الطبري "2/ 256 وما بعدها"، البخاري، كتاب الطلاق، الباب 23، بلوغ الأرب "2/ 50"، اللسان "18/ 43"، "بولاق"، الفروع في الكافي، لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق "6/ 130"، "طهران 1379هـ"، تفسير ابن كثير "1/ 268". 7 تنوير الحوالك، "2/ 18 وما بعدها" عمدة القارئ "20/ 281"، المبسوط للسرخسي "7/ 19 وما بعدها"، البخاري، كتاب الطلاق، الباب 23، السنن الكبرى، للبيهقي "7/ 381"، عمدة القارئ "2/ 474".

الإسلام التربُّص مدة تزيد على أربعة أشهر1. وقد جعله طلاقًا مؤجلًا2. والطلاق حق من حقوق الرجل، يستعمله متى شاء. أما الزوجة، فليس لها حق الطلاق، ولكنها تستطيع خلع نفسها من زوجها بالاتفاق معه على ترضية تقدمها إليه، كأن يتفاوض أهلها أو ولي أمرها أو من توسطه للتفاوض مع الزوج في تطليقها منه في مقابل مال أو جُعْل يقدم إليه. فإذا وافق عليه وطلقها، يقال عندئذ لهذا النوع من الطلاق: "الخلع". وقد ذكر أهل الأخبار أن أول خلع كان هو خلع عامر بن الظرب، وذلك أنه زوّج ابنته من ابن أخيه عامر بن الحارث بن الظرب، فلما دخلت عليه، نفرت منه3. فالخلع إذن، هو طلاق يقع بدفع مالٍ، تدفعه المرأة أو أقرباؤها للرجل في مقابل تخلية سبيلها وافتداء نفسها به4. ويدخل في هذا الباب ما تدفعه زوج الأب المتوفى إلى ابنه الذي يتزوجها بعد وفاة أبيه من مال مقابل فراقه لها، وتطليقه إياها5. وكان من الجاهليين من يطلق زوجته، ويفارقها، غير أنه لم يكن يسمح لها بالتزوج من غيره حمية وغيرة، ويهددها ويهدد أهلها إن حاولت الزواج، أو يرضي أهلها وأولياءها بالمال. فلا يجيزوا لها الزواج وقد نهى عن ذلك الإسلام6. وقد يهمل الرجل زوجته، فلا يراجعها ولا يطلقها. ويظل مفارقًا لها، إلى أن ترضيه بدفع شيء له، فيسمح لها عندئذ بالطلاق وبالزواج من غيره, ويقال لذلك "العَضْل". و"كان العضل في قريش بمكة، ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلّها لا توافقه فيفارقها، على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها، ويشهد، فإذا خَطَبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا

_ 1 البقرة، الآية 226، ابن قدامة، المغني "8/ 502"، الجصاص "1/ 357"، الشوكاني، نيل الأوطار "6/ 257 وما بعدها". 2 المبسوط، للسرخسي "7/ 19 وما بعدها". 3 عمدة القارئ "20/ 260"، المبسوط "6/ 176 وما بعدها" السنن الكبرى "7/ 316"، اللسان "9/ 429"، تاج العروس "5/ 321"، "خلع"، تفسير المنار "4/ 461"، تفسير الطبري "2/ 461"، فتح الباري "9/ 318". 4 جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام "5/ 271". 5 Kinship. P.92 6 عمدة القارئ "20/ 121، 124"، روح المعاني "2/ 144".

عضلها"1. وقد حرم العضل في جملة ما حرم من أحكام الجاهليين في الإسلام2. ومن العضل الذي هو منع المرأة من الزواج، أنهم كانوا في الجاهلية إذا مات زوج إحداهن، كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره. ومنها بنفسه. إن شاء نكحها وإن شاء عضلها. فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت3. و"الحميم" الذي كان يرث الرجل إذا كان في الجاهلية، هو الصديق والقريب4، والقريب المشفق الذي يهتم لأمر حميمه5. ولم يذكر العلماء كيف كان يرث الحميم حميمه، هل كان ذلك عن وصية، أو عن عدم وجود قريب نسب، أو أنه حق من حقوق أهل الجاهلية فرضوها بالنسبة إلى الحميم؟ وكان الرجل من أهل الجاهلية يطلق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك، ثم يراجع ما كانت في العدة. لا حدّ في ذلك، فتكون امرأته. ذكر أن رجلًا من الأنصار غضب "على امرأته، فقال لها: لا أقربك ولا تحلّين مني، قالت: كيف؟ قال: أطلقك حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا راجعتك". "وطلق رجل امرأته حتى إذا كادت أن تحلّ ارتجعها، ثم استأنف بها طلاقًا بعد ذلك ليضارها بتركها, حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها، وصنع ذلك مرارًا. فلما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثًا. مرتين، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان" وذكر "كان الطلاق قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاثًا، ليس له أمد. يطلق الرجل امرأته مائة، ثم إن أراد أن يراجعها قبل أن تحل كان ذلك له"6. وقد حرم الإسلام هذا الضرر، في الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 7. والطلاق هو بأيدي الرجال، كما سبق أن ذكرت، بيدهم حلّه وعقده،

_ 1 سنن أبي داود "2/ 230"، تفسير الطبري "4/ 208 وما بعدها"، المفردات "342"، تفسير المنار "4/ 454"، تاج العروس "8/ 21"، "عضل". 2 البقرة، الآية 230 وما بعدها، النساء، الآية 19. 3 تفسير الطبري "4/ 208 وما بعدها". 4 تفسير ابن كثير "4/ 101"، تفسير الطبري "24/ 76"، روح المعاني "24/ 109". 5 تاج العروس "8/ 259"، "حمم". 6 تفسير الطبري "2/ 276 وما بعدها". 7 البقرة، الرقم 2، الآية 229، الكشاف "1/ 268".

أما النساء فلهن العدة، ولذلك كان بعض النسوة يشترطن على أزواجهن أن يكون أمرهن بأيديهن، إن شئن أقمن، وإن شئن تركن معاشرتهم وأوقعن الطلاق، وذلك لشرفهن وقدرهن. ومن هؤلاء النسوة: سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش الخزرجية، وفاطمة بنت الخرشب الأنمارية، وأم خارجة صاحبة المثل: أسرع من نكاح أم خارجة، ومارية بنت الجعيد، وعاتكة بنت مرّة، والسوا بنت الأعبس. وقد عرفن بكثرة ما أنجبن من ذرية في العرب، وقد تزوجن جملة رجال1. وطريقة طلاق المرأة للرجل في الجاهلية، طريقة طريفة لا كلام فيها ولا خطاب. "كان طلاقهن أنهن إن كن في بيت من شعر حوَّلن الخباء، إن كان بابه قبل المشرق حولنه قبل المغرب. وإن كان قبل اليمن حولنه قبل الشأم، فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته، فلم يأتها"2. وهذه الطريقة هي طريقة أهل الوبر في الطلاق. ومتى طلقت المرأة زوجها. تركت داره والحي الذي يسكنه، لتعود إلى بيتها والحي الذي تنتمي إليه. ولما كان الطلاق بيد الرجل في الغالب، لذلك كان أهل الزوجة يكرهون زوجها أحيانًا على تطليقها، إذا أرادوا تطليقها منه، بتخويفه أو بضربه أو بما شاكل ذلك من طرق حتى يرضخ لأمرهم، ويعدّ ذلك طلاقًا مشروعًا عندهم، وإن كان قد وقع كرهًا ومن غير رضى الزوج، وعدّ طلاق الغاضب والسكران والهازل طلاقًا عند بعض الجاهليين لصدور صيغة الطلاق من الرجل وتفوهه به. هذا وللظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في ذلك الوقت دخل كبير في الطلاق. فالطلاق كان سهلًا على ما يظهر، وكان عقوبة أحيانًا يوقعها الرجل بامرأته لمسائل بسيطة تافهة، انتقامًا منها أو من ذوي قرابتها لأسباب لا علاقة لها بالزوجية وبالحياة العائلية في أكثر الأحيان، كما أن الفقر والجهل كان عاملين مهمين في وقوع الطلاق. وإلا فما ذنب امرأة تطلق مثلًا؛ لأنها منجبة للبنات، لا تلد إلا البنات؛ أو لأنها تلد البنات أكثر من الأولاد، وطالما يكون الطلاق من عصبية وهياج ومن سلطان غضب، وحين يهدأ روع المرء يندم على ما فرط منه، ولذلك شدد الإسلام فيه مع إباحته له لضرورته بأن جعله أبغض الحلال إلى الله.

_ 1 المحبر "ص398، 435"، النهاية "3/ 47 وما بعدها". 2 الأغاني "16/ 102"، "أخبار حاتم ونسبه"، "17/ 291 وما بعدها"، "بيروت 1957".

الرجعة

الرجعة: وإذا طلق فلان فلانة طلاقًا يملك فيه الرجعة، يقال: ارتجع المرأة وراجعها مراجعة ورِجاعًا: رجعها إلى نفسه بعد الطلاق. والاسم: الرجعة1.

_ 1 اللسان "8/ 115"، "رجع".

الحيض

الحيض: وقد كان "أهل الجاهلية لا تساكنهم حائض في بيت ولا تؤاكلهم في إناء"، "وكانوا في أيام حيضهن يجتنبون إتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهن في أدبارهن" وكانوا يتجنبون أن تصبغ المرأة رأس زوجها، أو أن تؤاكله طعامه، أو أن تضاجعه في فراشه، ولا يسمح للحائض بدخول الكعبة أو بالطواف بها أو بمس الأصنام؛ لأنها غير طاهره1. بل كان منهم من يعتزل زوجه في بيته، فلا يقترب أو يدنو منها2. فهم في ذلك على أمر شديد، وذكر بعض علماء التفسير "أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب الحائض ومساكنتها"3. فلما سألوا الرسول عن الحيض أنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} 4. "فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه"5. ونلاحظ وجود بعض التناقض في روايات أهل الأخبار في موضوع الحيض،

_ 1 تفسير الطبري "2/ 224 وما بعدها"، روح المعاني "2/ 104"، تفسير القرطبي "3/ 80". 2 تفسير ابن كثير "1/ 258 وما بعدها". 3 تفسير القرطبي "3/ 81". 4 سورة البقرة، رقم 2، الآية 222. 5 تفسير القرطبي "3/ 81".

واقتراب الرجل من المحيضة. فبينما هم يذكرون أن الرجل كان لا يؤاكل زوجته ولا يقترب منها، ولا يسمح لها أن تصبغ رأسه أو أن تضاجعه، نراهم يذكرون أنهم كانوا يجتنبون إتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهن في أدبارهن. وهذا ما يتفق مع ذلك التشدد المنسوب إليهم، إلا أن يكونوا قد قصدوا به قومًا آخرين غير أهل يثرب, كأهل مكة، فنقول عندئذ: إنهم لم يكونوا على تشدد أهل المدينة في موضوع الحيض، وإنما امتنعوا فيه من إتيان أزواجهم من حيث أمر الله إلى إتيانهن في أدبارهن لعلة الدم. أما بالنسبة إلى بقية العرب, ولا سيما الأعراب، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن ذلك بشيء لعدم وجود موارد لدينا فيها أي شيء عنده.

العدة

العدة: وعلى المرأة في الإسلام اتخاذ "العدة" عند طلاقها وعند موت زوجها، والغاية من ذلك المحافظة على النسب، وعلى الدماء كراهة أن تختلط بالزواج العاجل بعد الطلاق أو الموت، فوضعوا لذلك مدة لا يسمح فيها للمرأة خلالها بالزواج تسمى "العدة"1. "وعدة المرأة أيام قروئها، وعدتها أيضًا أيام إحدادها على بعلها, وإمساكها عن الزينة شهورًا كان أو اقراء أو وضع حمل حملته من زوجها"2. وقد ذكر في الحديث أن المطلقة لم تكن لها عدة، فأنزل الله تعالى العدة، للطلاق والمتوفى زوجها، أي: إن عدة المطلقة لم تكن معروفة في الجاهلية، وإنما فرضت في الإسلام3. فكانت المرأة المطلقة تتزوج في الجاهلية دون مراعاة للعدة. وإذا كانت حاملًا، عد حملها مولودًا من زوجها الجديد. ويكون الزوج عندئذ والدًا شرعيًّا لذلك المولود، وإن كانت الأم تعرف أن حملها هو من بعلها الأول4. "وقد ولد منهن عدة على فرش أزواجهن من أزواجهن الأولين. فمن أولئك، أن سعد بن زيد مناة بن تميم، تزوج الناقمية وهي حامل من معاوية بن بكر

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 50". 2 اللسان "4/ 275". 3 اللسان "4/ 275"، تاج العروس "2/ 417"، المحبر "338". 4 Ency, P.157

ابن هوازن، فولدت على فراش سعد، صعصعة. فلما مات سعد، منعه بنوه ميراثه، فلحق بأصله". "ومنهم ربيعة بن عاصم بن جزء بن عبد الله بن عامر بن عوف بن عقيل. كانت أمه من جُعْفى، فكانت تحت "الفُغار" الجفعي، وهو هُبيرة بن النعمان، فطلقها وهي حامل بربيعة. فتزوجها عاصم. فولدت بعد ثلاثة أشهر على فراشه. فخاصمه فيه الفغار إلى عمر بن الخطاب، رحمه الله، فقضي بربيعة للفغار، بقول أمه: إنه من جُعْفى، وقضى فيه على أنه للعقيلي؛ لأنه ولد على فراشه"، "ومنهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة، وكان عمير سبى أم محمد هذا في أول الإسلام، وهي حامل من مالك بن عوف النصري، فولدت محمدًا على فراش عمير، فلحق به". وقد تعرّض "السكري" لهذا الموضوع، فقال: "وهذا في قريش والعرب كثير. ولو أردنا استقصاءه لكثر"1. وأما "عدة" المتوفى عنها زوجها عند الجاهليين، فهي مدة حدادها حولًا كاملًا. وقد أبطلها الإسلام. إذ جعل العدة للطلاق والوفاة، كما نص عليها في كتب الفقه. وقد ذكر أن المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشًا ولبست شرّ ثيابها ولم تمس طيبًا حتى تمرّ بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو طائر فتفتض به، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره. وذكر أن المعتدة كانت لا تمس ماء ولا تقلم ظفرًا ولا تزيل شعرًا، ولا تستعمل طيبًا، ولا كحلًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر2. وكانت إذا رمدت، أو اشتكت عينها، فلا يجوز لها أن تكتحل أو أن تعالجها3. وفي ذلك يقول لَبِيد: وهُمُ ربيع للمجاور فيهمُ ... والمرملات إذا تطاول عامها4 وإذا طلقت المرأة وهي عالقة من زوجها، وتزوجها زوج آخر، فولدت له مولودًا في وقت لا يمكن أن يعدّ المولود فيه من زوجها الثاني، عدّ المولود ولدًا للزوج الجديد. أما الإسلام، فقد اعتبره ولدًا للزوج المطلق5.

_ 1 المحبر "328 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "2/ 50 وما بعدها"، صحيح مسلم "4/ 202 وما بعدها". 3 صحيح مسلم "4/ 202 وما بعدها". 4 الفاخر "153 وما بعدها". 5 Shorter Ency., P.137, “Idda”, J. Wellhausen, Die Ehe Bei Den Araber, In Nachrichten Der Konig. Gesellscha. Der Wissench. Zu Gottingen, 1873, S. 454

النفقة

النفقة: ويظهر من كتب الحديث أن الجاهليين لم يكونوا يؤدون نفقة للمطلقة، ولم يكونوا يجعلون شيئًا لها للسكن ولا للنفقة في الطلاق البائن1.

_ 1 صحيح مسلم "4/ 195"، "باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها".

النسب

النسب: وينسب الولد في العرف الجاهلي إلى الأب. وعرفهم في ذلك "الولد للفراش" وهو يرث والده. ولهذا ألحق أولاد الزنا بآبائهم، فنسبوا إليهم. أما إذا كثر أزواج المرأة، فيلحق المولود بالوالد حسب قول المرأة أو حسب الشبه إن وقع خلاف في ذلك1. والاستلحاق معروف في الجاهلية، وهو أن يعترف رجل بأبوته الحقيقية لولد، ويدعيه ابنًا له، فيلحق هذا الابن به. ورد في الحديث: "أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قضى أن كل مستلحق استلحق بعد أبيه الذي يدعى له، فقد لحق بمن استلحقه"، "وذلك أنه كان لأهل الجاهلية إما بغايا، وكان سادتهن يلمون بهن، فإذا جاءت إحداهن بولد ربما ادعاه السيد والزاني، فألحقه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسيد؛ لأن الأمة فراش كالحرة، فإن مات السيد ولم يستلحقه ثم استلحقه ورثته بعده، لحق بأبيه، وفي ميراثه خلاف"2.

_ 1 زاد المسلم "4/ 132" "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، إرشاد الساري "10/ 11". 2 اللسان "10/ 328"، "6/ 290".

وإذا استلحق الرجل ولد أمته به، صار ولده؛ لأن سادات الإماء كانوا يتصلون بإمائهم في الجاهلية من غير عقد زواج، باعتبار أن الأمة ملك مالكها وسيدها، فله حق إلحاق أنبائها به إن شاء.

التبني

التبني: وقد اعترفت شريعة الجاهليين بـ"التبني"، فيجوز لأي شخص كان أن يتبنى، ويكون للمُتبنى الحقوق الطبيعية الموروثة المعترف بها للأبناء. ويكون بهذا التبني فردًا في العائلة التي تبنته، له حق الانتماء والانتساب إليها. وهو يتم بالاتفاق والتراضي مع والد الطفل أو ولي أمره أو صاحبه، ومالكه، وذلك بالنزول عن كل حق له فيه، ومتى تمّ ذلك وحصل التراضي، يعلن المتبني عن تبنيه للطفل وإلحاقه به، فيكون عندئذ في منزلة ولده الصحيح في كل الحقوق. والعادة إشهاد جماعة من الناس على التبني حتى لا يحدث نزاع على المتبنى فيما بعد. ولم يرد في روايات أهل الأخبار ذكر عدد الشهود الواجب إشهادهم على صحة التبني. فقد كانوا يعلنون عنه في الأماكن العامة وفي المناسبات وفي بيوتهم الخاصة كما ذكرت. والتبني معروف عند جميع الأمم. وقد وضعت شرائعهم له قواعد وقوانين كي تحفظ حقوق أصحاب المولود وحقوق المتبني وحقوق المتُبنى، فلا يضيع حق من حقوق هؤلاء. وقع التبني مع وجود أولاد للمتبني، وليست له حدود من جهة العمر.

الزنا

الزنا: والخيانة الزوجية تستوجب عقوبة صارمة؛ لأنها زنا، وعقوبتها الموت عند العرب، كما أشار إلى ذلك "سترابون" في أثناء كلامه على العرب. والزاني هو من يتصل بامرأة محصنة غريبة عنه. وقد كان العبرانيون يعاقبون الزاني والزانية بالرجم بالحجارة حتى الموت1. وهما يعاقبان هذه العقوبة في الإسلام، ولا أستبعد.

_ 1 التثنية، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية 22 وما بعدها، البخاري: "كتاب الجنائز" الحديث 83، "رجم المحصن" في باب المحاربين "17" و"33" المفردات "214".

أن تكون هذه العقوبة عقوبة جاهلية، أقرها الإسلام في جملة ما أقر من أحكام كان يسير عليها الجاهليون. وقد كان الزنا معروفًا في الجاهلية يفعله الرجال علنًا، إذ لم يكن هذا النوع من الزنا محرمًا عندهم. وإذا ولد مولود من الزنا وألحقه الزاني بنفسه، عدّ ابنًا شرعيًّا له، له الحقوق التي تكون للأبناء من الزواج المعقود بعقد، ولا يعد الزنا نقصًا بالنسبة للرجل ولا يعاب عليه؛ لأن الرجل رجل، ومن حق الرجال الاتصال بالنساء، وقد كانوا يفتخرون به. وذكر أن أول من حكم أن الولد للفراش في الجاهلية أكثم بن صيفي حكيم العرب، ثم جاء الإسلام بتقريره. فقد ورد في الحديث: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"1. ويذكر أهل الأخبار أن الرجم لم يكن معروفًا بين الجاهليين، وأن أول من رجم "ربيع بن حدان" ثم جاء الإسلام بتقريره في المحصن2. ولا يوجد لدينا رأي واضح عن قذف الرجل زوجته واتهامه إياها بالزنا. أما في الإسلام فقد شرع "الملاعنة" والإمام يلاعن بينهما، ويبدأ بالرجل، ثم يثني بالمرأة. فإذا تمّ التلاعن بانت منه ولم تحل له أبدًا، وإن كانت حاملًا فجاءت بولد، فهو ولدها ولا يلحق بالزوج3. والزنا الذي يعاقب عليه الجاهليون، هو زنا المرأة المحصنة من رجل غريب بغير علم زوجها، وهو خيانة وغدر. أما زنا الإماء. فلا يعدّ عيبًا إذا كان بعلم مالكهن وبأمره. وقد مر الكلام عليه في مواضع من هذا الفصل، كما مرّ الكلام على بنوة المولود من الزنا. لذلك عيّرت المرأة الحرة المحصنة، إن زنت ومست به. وورد في كتب الحديث والسير، أن "طفيل بن عمرو بن طريف" الدوسي: لما جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأسلم، قال: "إن دوسًا غلب عليها الزنا والربا،

_ 1 صبح الأعشى "1/ 435"، المفردات، للراغب الأصبهاني "214"، البخاري "الحديث رقم 83"، كتاب الجنائز، رجم المحصن، إرشاد الساري، للقسطلاني "10/ 11"، اللسان "6/ 290"، صحيح مسلم "4/ 171 وما بعدها". 2 صبح الأعشى "1/ 435". 3 تاج العروس "9/ 335"، "لعن".

فادع الله عليهم. فقال: اللهم اهد دوسًا" 1. أما الرجل، فلا يلحقه أذًى إن زنى بامرأة، بل كان كما قلت يفتخر باتصاله بالنساء، ويعد ذلك من الرجولة. وليس لامرأته ملاحقته شرعًا على زناه. وقد يلحقه أذًى من ذوي امرأة محصنة إن زنى بها، انتقامًا منه، لهدره شرفهم وإلحاقه الضرر بهم.

_ 1 الروض الأنف "1/ 235 وما بعدها"، الاستيعاب "2/ 222"، "حاشية على الإصابة"، "يا رسول الله! إن دوسًا قد غلب عليهم الزنا، فادع الله عليهم"، ابن هشام "1/ 235"، حاشية على الروض الأنف.

كسب الزانية

كسب الزانية: يعود كسب الزانية إلى مولاها ومن يملك رقبتها؛ لأنها مملوكة، والمملوك وما يملك ملك سيده. وكانوا يكرهون إمائهم -كما ذكرت- على البغاء، فأنزل الله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1 والعرض هو كسب البغي، فحرم ذلك في الإسلام2. وكان المالك يفرض على الأمة ضريبة تؤديها بالزنا. وقيل: لا تكون المساعاة إلا في الإماء. وقد أبطل الإسلام ذلك، ولم يلحق النسب بها، وعفا عمّا كان منها في الجاهلية ممن ألحق بها. ومن ساعى في الجاهلية، فقد لحق بعصبته. وأتى في نساء أو إماء ساعين في الجاهلية فأمر بأولادهن أن يقوموا على آبائهم ولا يسترقوا، أي: أن تكون قيمتهم على الزانين لموالي الإماء، ويكونوا أحرارًا لاحقي الأنساب بآبائهم الزناة3.

_ 1 النور، الآية 33. 2 آمالي المرتضى "1/ 454". 3 اللسان "14/ 387"، "سعا".

الوصية

الوصية: والوصية: ما أوصيت به، وسميت وصية لاتصالها بأمر الميت، وذلك بأن يكتب الرجل ما يراه بشأن ما يتركه بعد وفاته. ويكون من يعهد إليه أمر تنفيذ

ما جاء في الوصية وصيًّا. ولم يكن صاحب الوصية مقيدًا بقيود بالنسبة لكيفية توزيع ثروته؛ لأن المال ملك صاحبه وله أن يتصرف به كيف يشاء. ويجوز للموصي إن شاء حرمان من يشاء من الورثة الشرعيين من إرثهم، وإشراك من يشاء في الإرث. وله أن يوصي بإعطاء كل إرثه إلى شخص واحد، وأن يحرم من الإرث كل المستحقين الشرعيين. ويكون الابن الأكبر هو المقدم على سائر أولاد المتوفى، والمشرف على تقسيم الميراث وإدارة التركة وحمل اسم الميت وتمثيله؛ ولذلك تنتقل الإمارة أو الرئاسة أو الزعامة إلى الابن الأكبر في العادة إن كان المتوفى أميرًا أو رئيسًا. وتقديم الابن الأكبر على سائر الأبناء، عادة سامية قديمة حتى إنها تمنحه زيادة في الميراث عن بقية أخوته1.

_ 1 التثنية: الإصحاح 31، الآية 17، قاموس الكتاب المقدس "1/ 243".

الإرث

الإرث: وأسباب الميراث: النسب والتبني والموالاة. ويراعى في الوراثة من النسب، درجة القرابة. أي: صلة الرحم حسب درجاتها ومقدار التحامها بالشخص المتوفى، فتأتي البنوة أولًا، فالأبوة، فالأخوة، ثم العمومة. وقد قدمت البنوة أولًا؛ لأنها ألصق القرابات بالمتوفى، لذلك تقدم على كل قرابة أخرى. والقاعدة العامة في الميراث عند الجاهليين هو أن يكون الإرث خاصًّا بالذكور الكبار دون الإناث، على أن يكونوا ممن يركب الفرس ويحمل السيف، أي: المحارب. "كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الصغار من الغلمان. لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال"؛ "لأن أهل الجاهلية، كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده، ممن كان لا يلاقي العدو ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده ولا النساء منهم، وكانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية"1.

_ 1 تفسير الطبري "4/ 185"، "وكانوا لا يورثون البنات ولا النساء ولا الصبيان شيئًا من المير. ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل", المحبر "324".

وقد جاء في الأخبار ما يجعل المرأة في ضمن تركة المتوفى، وذلك إذا لم تكن أم ولد. ويكون من حق الابن البكر التزوج بها، وإذا لم تكن له نفس بها، انتقل حقه فيها إلى الولد الثاني، وإذا لم يرغب فيها انتقل حقه إلى بقية الورثة بحسب قربهم من الميت وحقهم في الميراث. ومن حق الولد البكر أيضًا مع المرأة من التزوج إلا بعد إرضائه، وكذلك من حق بقية الورثة المطالبة بهذا الحق إذا صارت زوج المتوفى المذكور من حقهم؛ لأنها من تركة ميتهم، والتركة هي تركتهم وملكهم، ولا يجوز لأحد مجادلتهم في هذا الحق. والأخبار متضاربة في موضوع إرث المرأة والزوجة في الجاهلية، وأكثرها أنها لا ترث أصلًا. غير أن هناك روايات يفهم منها أن من الجاهليات من ورثن أزواجهن وذوي قرباهن، وأن عادة حرمان النساء الإرث لم تكن سنة عامة عند جميع القبائل1. ولكن كانت عند قبائل دون قبائل. وما ورد في الأخبار يخص على الأكثر أهل الحجاز.

_ 1 الأمومة عند العرب "ص65 وما بعدها".

العصبة

العصبة: ويرث العصبة. وهم أقرباء الميت من الرجال، وهم مقدمون على الأخوات في الإرث. فإذا توفي الرجل، ولم يكن له من الذكور من يرثه ولا أب، يصرف إرثه إلى إخوته أو عصبته، إن لم يكن له إخوة، ولا يدفع إلى الأخوات. فلما جاء الإسلام، جعل للبنات والنساء حقًّا في الميراث، ويسمى هذا الإرث "إرث الكلالة"1. وقيل: العصبة: هم الذين يرثون الرجل عن كلالة من غير والد ولا ولد. وهم الأقارب من جهة الأب، وعصبة الرجل: أولياؤه الذكور من ورثته. فالأب طرف والابن طرف، والعم جانب والأخ جانب. والجمع العصبات2. وقد قال "ابن الأثير" في تعريف "الكلالة": الأب والابن طرفان للرجل

_ 1 تفسير الطبري "4/ 191 وما بعدها"، عمدة القارئ "23/ 245". 2 تاج العروس "3/ 382" "الكويت".

فإذا مات ولم يخلفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين: كلالة. وقيل: ما لم يكن من النسب لحًّا فهو "كلالة". والعرب تقول: لم يرثه كلالة، أي لم يرثه عن عرض بل عن قرب واستحقاق. وهم يفتخرون بوراثة قرب؛ لأنها إنما جاءت عن نسب قريب وعن أب، وفي ذلك يقول عامر بن الطفيل: وما سودتني عامر من كلالةٍ ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب وكانوا إذا قالوا: "هو ابن عم كلالة"، قصدوا بعيد النسب، وإن أرادوا القرب قالوا: هو ابن عم دنية1. فالكلالة معروفة في الجاهلية فهذّبها الإسلام ونزل النص عليها وفي تعيينها في القرآن2. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن "الكلالة" من لا ولد له ولا والد. وقيل ما لم يكن من النسب لحًّا فهو كلالة. وقالوا: هو ابن عم الكلالة وابن عم كلالة. وقال بعضهم: إذا لم يكن ابن العم لحًّا، وكان رجلًا من العشيرة قالوا: هو ابن عمي الكلالة، وابن عم كلالة. وهذا يدل على أن العصبة وإن بعدوا كلالة. أو الكلالة من تكلل نسبه بنسبك كابن العم وشبهه. ويقال: هو مصدر من تكلله النسب، أي: تطرفه كأنه أخذ أحد طرفيه من جهة الولد والوالد، وليس له منهما أحد، فسمي بالمصدر، أو هي الأخوة للأم. تقول: لم يرثه كلالة, أي: لم يرثه عن عرض بل عن قرب. وقد ذكرت الكلالة في موضعين من القرآن الكريم: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} 3. و {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 4. فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم والأخوة للأب والأم. فجعل للأخت الواحدة نصف ما ترك الميت وللأختين الثلثين وللإخوة والأخوات جميع المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وجعل للأخ والأخت من الأم في الآية الأولى

_ 1 اللسان "11/ 592 وما بعدها". 2 النساء، الآية 12، 176. 3 النساء، الآية 12، الطبري، تفسير "4/ 191"، روح المعاني "4/ 206". 4 النساء، الآية 176، تفسير الطبري "6/ 28"، روح المعاني "6/ 39".

الثلث لكل واحد منهما السدس. فبين بسياق الآيتين أن الكلالة تشتمل على الإخوة للأم مرة، ومرة على الإخوة والأخوات للأم والأب. ودلّ قول الشاعر: أن الأب ليس بكلالة، وأن سائر الأولياء من العصبة بعد الولد كلالة: وهو قوله: فإن أبا المرء أحمى له ... ومولى الكلالة لا يغضب أراد أن أبا المرء أغضب له إذا ظلم. وموالي الكلالة وهم الأخوة والأعمام وبنو الأعمام وسائر القرابات لا يغضبون للمرء غضب الأب، أو الكلالة بنو العم الأباعد، أو الكلالة من القرابة ما خلا الوالد والولد. أو هي من العصبة من ورث منه الإخوة للأم. وقد لخص بعضهم آراء العلماء في الكلالة في أقوال سبعة1.

_ 1 تاج العروس "8/ 101 وما بعدها"، "كلل"، "قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، ما قاله هؤلاء، وهو أن الكلالة الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده"، تفسير الطبري "4/ 191"، "عن جابر بن عبد الله، قال: مرضت فأتاني النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم صب عليّ من وضوئه، فأفقت. فقلت: يا رسول الله؟ كيف أقضي في مالي أو كيف أصنع في مالي؟ وكان له تسع أخوات ولم يكن له والد ولا ولد. قال: فلم يجبني شيئًا، حتى نزلت آية الميراث"، تفسير الطبري "6/ 28".

إرث النساء

إرث النساء: وهناك رواية تذكر أن أول من جعل للبنات نصيبًا في الإرث من الجاهليين هو "ذو المجاسد" عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر، ورّث ماله لولده في الجاهلية، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، فوافق حكمه حكم الإسلام1. ويذكر علماء الأخبار أن رجلًا من الأنصار مات قبل نزول آية المواريث، وترك أربع بنات، فأخذ بنو عمه ماله كله. فجاءت امرأته إلى النبي تشتكي مما فعله بنو عم المتوفى ومن سوء حالها وعدم تمكنها من إعالة بناتها، فنزل الوحي {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} 1.

_ 1 المحبر "ص236، 324". 2 النساء، السورة رقم 4 الآية 6 وما بعدها، تفسير الطبري "4/ 176"، روح المعاني "4/ 187"، المحبر "324".

ثم نزلت آية الميراث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 1. وبذلك انتفت سنة الجاهليين في عدم توريث البنات. وقد نزلت الآيتان من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث. فكان "النساء لا يرثن في الجاهلية من الآباء، وكان الكبير يرث ولا يرث الصغير، وإن كان ذكرًا". وقد ذكر بعض العلماء أن آية: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ، "نزلت في أم كحة وابنة كحة وثعلبة وأوس بن سويد، وهم من الأنصار. كان أحدهم زوجها والآخر عم ولدها. فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته، فلم نورث! فقال عم ولدها: يا رسول الله لا تركب فرسًا، ولا تحمل كلًّا ولا تنكأ عدوًّا يكسب عليها، ولا تكتسب. فنزلت للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون. وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، مما قل منه أو كثر، نصيبًا مفروضًا"2. وذكروا أن نزول الآية: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، إنما كان "لأن أهل الجاهلية كانوا لا يقسمون من ميراث الميت لأحد من ورثته بعده ممن كان لا يلاقي العدو ولا يقاتل في الحروب من صغار ولده ولا للنساء منهم. وكانوا يخصون بذلك المقاتلة دون الذرية، فأخبر الله جل ثناؤه أن ما خلّفه الميت بين من سُمي وفرض له ميراثًا في هذه الآية. وفي آخر هذه السورة فقال: في صغار ولد الميت وكبارهم وإناثهم لهم ميراث أبيهم، إذا لم يكن له وارث غيرهم للذكر مثل حظ الانثيين"3. وذكر أنه "لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها مما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم، وقالوا: تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة، اسكتوا عن هذا الحديث، لعلّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينساه أو نقول له فيغيره, فقال بعضهم: يا رسول الله أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس ولا

_ 1 النساء، الآية 11، تفسير الطبري "4/ 185"، روح المعاني "4/ 193". 2 تفسير الطبري "4/ 176". 3 تفسير الطبري "5/ 185".

ميراث السائبة

ميراث السائبة: والسائبة العبد الذي يقول له سيده: لا ولاء لأحد عليك، أو أنت سائبة.

يريد بذلك عتقه, وأن لا ولاء لأحد عليه. وقد يقول له: أعتقتك سائبة، أو أنت حر سائبة، فإذا مات فترك مالًا، ولم يدع وارثًا، فإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون، وأن أهل الإسلام لا يسيبون1. وحرم الهجين من حق الإرث في الغالب2. كذلك "السائبة"، وهم الرقيق الذي اعتق بغير ولاء3.

_ 1 إرشاد الساري "9/ 440". 2 تفسير الزمخشري "1/ 249"، المحلى، لابن حزم "9 رقم1724". العقد الفريد "4/ 192". 3 عمدة القاري "3-2/ 253".

الفصل الثامن والخمسون: الملك والاعتداء عليه

الفصل الثامن والخمسون: الملك والاعتداء عليه الملكية: والملكية حق محترم عند الجاهليين، ولصاحب الملكية حق المحافظة على ما يملك والدفاع عنه. وتدخل في ملكية الإنسان كل ما ملكه أو استولى عليه ولم ينتزعه منه أحد، مثل: الغنائم والسلب والأسر وما شابه ذلك. وعلى المالك الدفاع عن حقه في ملكه وإثباته. ومن أنواع الملكية: تملك العقار, وبقية الأشياء الثابتة, والأموال المنقولة. ويعبر عن تملك الإنسان لشيء ما، وعن اقتنائه لملك بلفظة "اقنى" "أقنى"، أي أملاك وممتلكات. وعن لفظة "اقنيس"، بمعنى ممتلكاته وأملاكه, وذلك في اللهجة المعينية، ويعبر عنها بلفظة "اقنيم" في اللهجة السبئية. وأما لفظة "ذقنى"1 فتعني ما امتلكه وما يمتلكه. فذي بمعنى الذي، وما هي ما الموصولة في عربيتنا. و"قني" بمعنى مقتنيات2. والملكية نوعان: ملكية ثابتة وملكية متنقلة. ومن النوع الأول العقار، مثل: الدور والأرض. ومن النوع الثاني المال، وهو الإبل عند الجاهليين بصورة خاصة والمواشي بالنسبة للمزارعين. والرعاة وأهل المدن، وأثاث البيت، سواء كان البيت مستقرًّا مثل بيوت أهل المدر أو متنقلًا مثل بيوت أهل الوبر. وأغلب ملك الأعراب هو ملك متنقل؛ وذلك لأن الحياة التي يحيونها هي حياة تنقل، أما الملك الثابت، أي: الأرض، فإنه ملك لهم ما داموا فيه، فإذا ارتحلوا عنه،

_ 1 راجع النص المرقم بـ"5" المنشور في كتاب: نقوش خربة معين "ص5". 2 "وكل قنيهن"، أي: "وكل المقتنيات". Rep. Eplgr, Vii, Ii. P.276, 4624

انتقلت ملكيتهم إلى الأرض الجديدة التي ينزلون بها فيمتلكونها طوعًا، أي: من غير مقاومة، أو بحق السيف. ويدخل في باب الملك كل شيء وضع ليستفاد منه أو ليدل على حماية ملك، أو يفهم من وضعه أنه ذو فائدة وأن له صاحبًا، كجدران الأملاك وحيطان البستان أو سور القرى أو الرجمات، وهي أحجار القبور. وقد عثر المنقبون على رجام في مواضع مختلفة من جزيرة العرب، كتب عليها: إن لعنة الآلهة على من يرفع هذا الحجر عن موضعه وعلى من يغيره أو يأخذه أو يتصرف به. كما سألوا الآلهة بأن تنزل الأمراض ومنها العمى والبرص وأنواع الأذى، والشر بكل من يتطاول على هذه الرجام، أو على معالم القبور أو القبور وذلك لأنها ملك. ولا يجوز لأحد التصرف بملك غيره بأي وجه من الوجوه.

الشفعة

الشفعة: وقد أخذ الجاهليون بحق الشفعة في شراء الملك، كالدور والأرض. وقد أقرها الإسلام أيضًا1.

_ 1 صحيح مسلم "5/ 57".

الرق

الرق: الأصل في الإنسان1 أن يولد حرًّا، إلا أن يكون من رقيق، فيولد عندئذ رقيقًا، ويكون ملكًا لمالك والديه، والإنسان الحر، هو حر في تصرفاته وفي أمواله، وفي كل شيء. أما الرقيق، أي: العبد، فإنه يكون ملكًا لمالكه، ليس له حق التصرف بنفسه إلا بإذن مالكه؛ لأنه ملك سيده، فإذا تصرف بنفسه، أضر بحق سيده في تملكه له. وفي ذلك تجاوز على حقوق الملكية، وإن كان الرقيق إنسانًا مثل سيده له حس وشعور، إلا أنه فقد حريته بسقوطه في الرق، وصار ملكًا لمالكه، وحكمه حكم الأشياء المملكة، وليس له أن يتصرف بأي شيء يعود إليه ولا أن يتصرف بنفسه، أي: بجسمه إلا بموافقة سيده وإقراره, لأنه سيده ومالك رقبته.

_ 1 صحيح مسلم "5/ 57".

ولما كان الرقيق ملكًا ومن حق المالك أن يتصرف بملكه كيف يشاء، صار من حق المالك بيع رقيقه أو إهدائه، أي: إعطاءه هبة إلى من يشاء دون حاجة إلى أخذ ذلك الرقيق، كما كان من حقه عتق رقبته. كما كان له حق الاستمتاع بالإماء وإكراههن على البغاء للإتيان بالمال أو لإنجاب الأولاد. ولم يكن للرقيق أن يملك شيئًا؛ لأن الرقيق وما يملكه ملك للمالك. ولم يكن للرقيق حق التوريث إذ لا مال له؛ لأنه وما يملكه ملك مالكه. فإرثه لسيده وحده. وقد حرم الإسلام على مالك الرقيق دفع إمائه على البغاء. وقد نزلت الحرمة في القرآن: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} 1. وكان سبب نزول هذه الآية أنهم "كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهن. فقال الله لا تكرهوهن على الزنا من أجل المنالة في الدنيا". "وذكر أن هذه الآية أنزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين أكره أمته مسيكة على الزنا" وكانت تكره ذلك وحلفت أن لا تفعله فأكرهها لتأتيه بمزيد من المال. فنزلت الآية في تحريم ذلك2. ومن معاني "الرق"، "العبودية" Slavery، وتقابلها لفظة "عبوداه"Abodah في العبرانية، والمفرد "عبد" Abed، في العبرانية أيضًا. والذكر "مملوك" أما الأنثى، فإنها "أمة"3. والرق ملك العبيد والرقيق المملوك منهم وجمعه أرقاء4. والمملوك هو الرقيق، فيقال عبد مملوك، و"المِلْكة" تختص بملك العبيد5. ويعبر عن العبد بلفظة "المَدِين" أيضًا. أما "الأمة" فيقال لها: "المدينة"6. ويعبر عن المملوك بلفظة "ادم" في العربيات الجنوبية، إذا كان المملوك ذكرًا وبـ"أمت" إذا كان أنثى. وتقابل لفظة "ادم" لفظة "أو ادم" و"أوادمنا"، في لهجة أهل العراق، التي تعني "الخدم" و"خدمنا". وأما لفظة "أمت"،

_ 1 النور، الآية 23. 2 تفسير الطبري "18/ 103 وما بعدها"، روح المعاني "18/ 141 وما بعدها". 3 Dictionary Of Islam. P.596 4 المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني "ص200". 5 المصدر نفسه. 6 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص175".

فإنها "أمة" في عربيتنا أيضًا، وهي المملوكة1. ويعبر عن الرقيق بلفظة "عبد" في اللحيانية، أي: بالتعبير المستعمل في عربيتنا2, وترد اللفظة في لغة بني إرم وفي لغة النبط كذلك3. واستعملت اللحيانية لفظة "هغلم" "ها-غلام" "ها-غلم"، أي: "الغلام" تعبيرًا عن "مملوك"، أي: إنسان غير حر. وقد قدم أحد اللحيانيين ثلاثة غلمان ليكونوا في خدمة الإله "ذو غابت"4 "ذو غابة", وليس لصاحب هؤلاء الغلمان أية حاجة لأن يأخذ رأيهم في تقرير مصيرهم، وفي تحويل رقبتهم من ملكه إلى ملك معبد ذلك الإله؛ لأنه مالكهم، وللمالك أن يفعل بمكله ما يشاء. وللمالك الأسير، حق التصرف بأسيره، كما يشاء، يجوز له بيعه لقبض ثمنه في أي مكان وفي أي زمان يشاء ويختار، ليس لرقيقه حق الاعتراض على مالكه؛ لأنه "ملك يمين"، ويجوز له إبقاؤه عنده وفي ملكه ليعهد إليه القيام بأي عمل يكلفه إياه، مهما كان شأنه، سواء أكان عملًا محترمًا أم عملًا وضيعًا؛ لأنه مملوك، وليس لمملوك حق الاعتراض على مالكه. ويجوز أن يتفضل عليه بمنحه الحرية، فيكون إنسانًا حرًّا. ويجوز له أن يقاضي أهل الأسير ثمن أسيرهم، ومتى قبض ثمنه أعاده إلى أهله، وصار حرًّا. ويقال لأخذ عوض عن الأسير لفك أسره "الفداء"5. ولا يشترط في الأسر أن يكون في حالة الحرب فقط، فقد يقع في سلم أيضًا. فإذا أدرك إنسان إنسانًا آخر من قبيلة معادية وتمكن منه صار أسيره، كما أن ما يقع في أيدي المغيرين في الغارات والغزوات من أشخاص يكونون في حكم المأسورين. أما "السبي"، فإنه ما يسبى بعد الحرب. وحكمه حكم الأسر. والغالب عند الجاهليين هو فداء أسراهم، أي: دفع فدية عن الأسرى أو مقايضتهم أسيرًا بأسير، أو بحسب الاتفاق إن كان هناك أسرى عند الطرفين. ولا يقع الرق في الغالب إلا في حالات الأشخاص الضعاف الذين لا أهل لهم،

_ 1 راجع النص الموسوم بـ: Glaser 509. 2 W. Caskel, S. 136 3 W. Caskel, S. 82 4 النص 9 من كتاب: W. Caskel. 5 المعاني الكبير "1/ 1025".

أو الذين هم من عشائر مستضعفة أو بعيدة، أو في حالات الذين وقعوا أسرى في غارات مفاجئة من أناس يقيمون في أماكن بعيدة أو نهبوا وهم صغار، فلم يكن بالمستطاع ملاحقتهم، فيكونون بذلك رقيقًا، وهو في القليل، كالذي حدث لـ"زيد بن حارثة الكلبي"، الذي تبناه الرسول. وقد كان مولى لخديجة زوج الرسول. وليست في الأفدية قواعد معينة في فداء النفس، وإنما سارت على التعامل وعلى التشدد والتساهل وفق منزلة الشخص الأسير. ويكون ما للأسير مما عنده ملكًا لآسره. وقد وقع "قيس بن عيزارة" أسيرًا في أيدي "فهم" فأخذ سلاحه "تأبط شرًّا"1. ووقع "ثابت بن المنذر" والد "حسان بن ثابت" شاعر الرسول في أسر "مُزَيْنة"، فعرض عليهم الفداء، "فقالوا: لا نفاديك إلا بتيس، ومزينة تسب بالتيوس، فأبى وأبوا. فلما طال مكثه، أرسل إلى قومه أن أعطوهم أخاهم، وخذوا أخاكم"2. وقصده بذلك التعريض بمزينة. وقد بقي السباء معروفًا حتى أيام "عمر" فمنعه بقوله: "لا سباء على عربي". ويذكر أنا "أبا وجزة يزيد بن عبيد" من "سُلَيم" وقع أبوه في سباء في الجاهلية, في سوق ذي المجاز. فلما كبر، استعدى عمر، فأصدر أمره المذكور3. والمنبع الأول للرقيق الحروب والغزوات. فبعد الحرب والغزوات يؤخذ من يقع في أيدي المحاربين من الرجال والنساء والأطفال "أسرى"، ويكونون غنائم لآسريهم. أما العدد الضخم منهم الذي يقع في أيدي الجيش ولا يكون في استطاعة المحارب أن يفرض ملكيته عليه. وذلك بوضعه تحت حيازته، فيكون ملكًا للحكومة أو للقبيلة، تتصرف به على وفق قوانينها وقواعد أحكامها ورأيها. والمنبع الثاني من منابع الرقيق، أسواق النخاسة، ومنها أسواق تقع في بلاد العرب نفسها، يؤتى بالرقيق إليها لبيعه فيها، وأسواق تقع في خارج بلاد العرب، يذهب إليها النخاسون لشراء ما فيها من هذه البضاعة البشرية. ولما كان الرقيق

_ 1 المعاني الكبير "2/ 1037". 2 طبقات الشعراء، لابن سلام "ص53" "طبعة ليدن". 3 "أصابني سباء في الجاهلية كما يصيب العرب بعضها مع بعض"، الأغاني "11/ 75 وما بعدها".

المشترى هو من أماكن بعيدة ومن غير العرب، كان مضطرًّا إلى استرضاء سيده وخدمته على النحو الذي يرضيه إبقاء على حياته. وحكم هذا الرقيق هو حكم أي شيء يشتريه إنسان بماله, أي: إنه ملك صاحبه، ولصاحبه حق التصرف به كيف يشاء، إن شاء باعه وإن شاء جعله في خدمته، وليس للرقيق أي حق في الاعتراض وإن كان بشرًا ذلك لأنه رقيق. وقوانين الرق في ذلك الزمن وفي سائر أنحاء العالم تعد الرقيق ملكًا لا يختلف في طبيعته عن أي نوع من أنواع الملكية. ونوع آخر من أنواع الرقيق، تكوّن من بيع الآباء لأبنائهم عن حاجة, كأن تكون الأسرة في عسر وضيق، فلا يكون أمامها غير بيع أبنائها لسد حاجتهم ولضمان معيشة الأبناء، ولا يكون ذلك بالطبع إلا عند الطبقات الضعيفة. ومنبع آخر من منابع تكوّن الرقيق في الجاهلية هو الديْن. فقد كان من حق الدائن بيع مدينه إن لم يتمكن من الإيفاء بدينه، فيكون رقيقًا. والولادة من المنابع التي مونت الجاهليين بالرقيق كذلك. فما ينسله الرقيق يصير رقيقًا أيضًا، وملكًا لمالك الرقيق. إذ لا يقتصر الرق على رقبة الرقيق الأصل، بل يشمل كل ما ينجبه وما ينجبه أحفاده وأحفاد أحفادهم وهكذا فالرق عبودية أبدية، ما لم يمنّ مالك الرقيق على رقيقه بالعتق، فتنقطع العبودية عندئذ عنه وعن نسله. وإذا استولد المالك أمته فولدت له مولودًا، أعجبه واعترف به ولدًا عدّ ابنًا شرعيًّا له، فيكون هذا الاعتراف عتقًا لرقبة ابنه، واستلحاقًا للولد بنسب المالك1.

_ 1 عمدة القارئ "12/ 100".

زوال الرق

زوال الرق: تفك رقبة الرقيق عند فك أسره عنوة، كأن تغزو قبيلة المأسور قبيلة الآسر، فتأخذ أسراها عنوة، فيتخلص الأسير بذلك من الأسر، أي: من الرق ويصير حرًّا، وتسقط عنه كل ما كان لسيده من حقوق عليه. وكان أهل الأسير يتحايلون بمختلف الطرق لتخليص أسيرهم من أسره، فإن نجحوا في تخليصه، صار أسيرهم حرًّا، وإن فرَّ الأسير من آسره، ولم يتمكن آسره من القبض عليه، صار فراره حرية له. وتفك الرقبة بدفع فدية ترضي الآسر، إذا قبضها، صار الأسير حرًّا.

الاباق

الإباق: الإباق: هرب العبد من سيده1. ويراد بالعبد المملوك من غير أسر ولا سبي. ويعد إباقه هذا خروجًا على القانون والحق، ولصاحبه حق القبض عليه وإنزال ما يراه به من عقوبة. وفي جملتها حق قتله. وإذا اشتراه شخص آخر، أو وقع في أسره، فلمالكه الأول حق استرداده؛ لأنه عبد أبق، وهو في ملكه، وحيازته من غير إذن منه سرقة.

_ 1 اللسان "10/ 3"، "ابق".

الكتابة

الكتابة: والكتابة والمكاتبة أن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مال ينجمه عليه، ويكتب عليه أنه إذا أدى نجومه، في كل نجم كذا وكذا، فهو حر، فإذا أدى جميع ما كاتبه عليه، فقد عتق. وولاؤه لمولاه الذي كاتبه1.

_ 1 اللسان "1/ 700"، "صادر"، شرح العيني "13/ 116"، نيل الأوطار "6/ 79".

العتق

العتق: العتق خلاف الرق، وهو الحرية. وهو أن يمنّ السيد المالك على مملوكه بفك رقبته. فإذا عتق ارتبط بسيده برابط الولاء، ويقال عندئذ "مولى عتاقة" و"مولى عتيق" و"مولاة عتيقة"، و"موال عتقاء" و"نساء عتائق"1. ويبقى العتيق منسوبًا إلى معتقه، الذي يعقل عنه ويرثه. أما إذا أعتقه من دون وضع حدٍّ للولاء عليه، فيسقط عنه شرط الولاء، فلا يعقل مولاه عنه، وتسقط كل حقوق الولاء عن العتيق وعن معتقه2.

_ 1 اللسان "10/ 234"، "صادر". 2 عمدة القارئ "23/ 253".

الأموال الثابتة

الأموال الثابتة: وفي ضمنها البيوت، وهي تباع وتشترى وتؤجر أو ترهن بحسب رغبة صاحبها. ولأجل إثبات حق تملك الأفراد للبيوت، كانوا يثبتون أحجارًا مكتوبة على واجهة البيت في بعض الأحيان، يدون عليها اسم مالك البيت، والمعمار الذي بنى البيت والزمان الذي بني فيه. أو الزمان الذي أجريت به ترميمات عليه والحجر عندهم في مقام سند التملك في أيامنا هذه. وتوضع على حدود الملك، ولا سيما حدود الحقول والبساتين علامات، يقال لها: "أرف" في اللحيانية1، وذلك منعًا لكل تجاوز قد يقع على الملك أو فضول قد يقع من الغرباء. والأُرفة في لغتنا الحد بين الأرضين وفصل ما بين الدور والضياع. وكان أهل الحجاز لا يرون الشفعة للجار. و"الأرفي"، الماسح الذي يمسح الأرض ويعلمها بحدود2. وتعد المقابر ملكًا خاصًّا بصاحب القبر، وبأهله، لذلك لا يجوز دفن غريب فيها، إلا بإذن من أهل الميت وذوي قرابته ومن أصحاب المقبرة. وكثيرًا ما تقرأ في الكتابات جملًا، مثل: "بني هكفر، له ول ورثه"3، ومعناها "بني هذا القبر، أو هذه المقبرة له، ولورثته". ومثل: "اخذو هقبر ذه هم وأخوهم"4، ومعناها "أخذوا هذا القبر لهم ولأخيهم". وكثيرًا ما نجد الكتابات تلعن من يتجاوز على ملكية القبر وعلى حق المقبور فيه، وتتوعده بالويلات والثبور، وترجو من الآلهة أن تنزل بمن "يعور" يزيل أحجار القبور عن أماكنها عذابها وغضبها عليهم. وتعدّ شواخص القبور شهادة لقبر المتوفى وسند تملك للقبر أو للمقبرة، فلا يجوز الاعتداء على القبر؛ لأنه ملك خاص. العقوبات: والأصل في العقوبات، هو "القصاص" Retaliation أي العقوبة بالمثل، وهو أصل نجده عند سائر الشعوب السامية، وتجده مدوَّنًا في "شريعة

_ 1 النص رقم 46 من كتاب W. Caskel, S. 99 2 تاج العروس "6/ 39"، "ارف". 3 W. Caskel, S. Iii 4 المصدر نفسه "ص113"، النص رقم 76.

حمورابي"، بل نجده في قوانين الرومان كذلك1. وقد أشير إليه في القرآن الكريم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2 {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} 3 وفي الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 4. فالجزاء يجب أن يكون من جنس العمل. ويعمل بالقصاص في الجروح كذلك، وقد أشير إلى ذلك في الآية المتقدمة كما ترى. وتكون العقوبات في يد الملك أو المعبد أو الكبراء ورؤساء العشائر، فهؤلاء هم الذين يفرضون العقوبات على المخالفين ويصدرون أوامرهم بعقاب المستحقين، فلم تكن هناك إذن سلطة مركزية واحدة تقوم بتنفيذ الأحكام والحكم بين الناس. ويمكن أن نقول: إن كل سلطة من السلطات كانت تقوم بتطبيق ما تراه بحق المخالفين لقوانينها وأنظمتها وأوامرها، فللمعبد ويمثله رجال الدين بالطبع حق الحكم بين الناس في المخالفات التي لها صلة بأمور الدين وبالمعبد وبالعقود التي تعقد مع المستأجرين والمتعاقدين، ويتوقف تنفيذ ذلك بالطبع على مركز رجال الدين ومدى نفوذهم في ذلك العهد، ويقوم رئيس القبيلة بالحكم بين أفراد قبيلته بموجب الأنظمة والقوانين العرفية والعشائرية، ويجمع الضرائب من قبيلته، ويتوقف سلطانه على شخصيته ومركزه وعلى مراكز الحكومة وما لها من هيبة في نفوس الناس والقبائل. ولضمان تنفيذ القوانين والأوامر والعقود، حتّمت السلطات الدينية والسلطات الحكومية على المؤمنين والمواطنين الالتزام والوفاء بالعهود وإطاعة قوانين الدولة وهددت السلطات الدينية بإنزال العقوبات الإلهية على المخالفين. وتكون هذه العقوبات عقوبات دنيوية تنزلها السلطات الدينية الممثلة والمتكلمة باسم الآلهة على سطح الأرض. وهي متنوعة متعددة قد تكون جسيمة، وقد تكون مادية، وقد تكون معنوية، وذلك بحرمان المخالف من زيارة المعابد، وبامتناع رجال الدين من إقامة الشعائر الدينية له ومقاطعته وإيصاء المجتمع المؤمن بمقاطعته كذلك، وبذلك تهبط منزلته

_ 1 Hastings, P.167 2 البقرة، 179. 3 المائدة، 45. 4 النحل، 126.

الاجتماعية، ويصبح مزدري في نظر المجموع. وفي هذا الازدراء عقوبة كافية بالطبع. يضاف إلى ذلك العقوبات التي تنزلها الآلهة عليه، وقد تكون أهم في نظره وأخطر من تلك العقوبات المذكورة، مثل إنزال أمراض أو مهالك به وبأمواله وما يملكه، وهو ما يخشاه الإنسان ويبتعد عنه طبعًا، ولهذا نجده يحاول جهد إمكانه ترضية آلهته. والتقرب إليها بمختلف الوسائل لإرضائها ولكسب عطفها ورضائها عنه. وأما العقوبات الحكومية، فهي متنوعة كذلك تتنوع بحسب درجة المخالفة ومقدار الضرر الذي يتولد منها. وتقابل لفظة "عقوبة" لفظة "تنكرم" "تنكر" في بعض لهجات العرب الجنوبية، ويراد بها إنزال ما يستحق من عقوبة بشخص ارتكب عملًا مخالفًا. أما الغرامات، أي: العقوبات المالية التي تفرض على شخص من الأشخاص، فيقال لها: "ظلعم" "ظلع"، في بعض تلك اللهجات1. ووردت لفظة أخرى، هي "من"، ولفظة ثانية هي "ذمنت" "ذ م ن ت"، يرى علماء العربيات الجنوبية أنهما في معنى "عقوبة" و"جزاء"2. ويعبر عن الجزاء الذي يحكم الحاكم بأدائه إلى من حكم له بلفظة "خطا" و"خطات" "خطئة" "خطيئة". ويراد بها ما يجب على المحكوم عليه دفعه من غرامات وتعويض. وقد وردت هذه اللفظة في نصوص المسند3. والقصاص عند الجاهليين عقوبة قلما طبقت، للأعراف القبلية التي كانت تعتبر تسليم القاتل الحر إلى أهل القتيل لقتله مثلبة، وتسليم مرتكب عمل ما إلى من وقع الفعل عليه، نقيصة وضعفًا وسبّة، تلحق آل مرتكب الفعل. لذلك، كان الثأر، وهو الرادع لارتكاب الجرائم عند الجاهليين. وإذا قتل حر عبدًا، أو جرحه أو آذاه، فليس لأهل العبد طلب القصاص، وليس لمالكه أن يطلب قتل القاتل به؛ لأنه عبد والقاتل حر. وقد كان من الصعب عليهم، تصور مقاضاة عبد لحر على أساس القصاص، وإنما ينصف على

_ 1 راجع النص الموسوم بـ: Halevy 147 Rhodokanakis, Stud. Lexi, I, S. 58 2 Rhodokanakis, Stud. Lexi, I, S. 58 3 Mahram, P.437

أساس الدية والتعويض عن الخسارة بدفع مال، لقد استصعبوا ذلك حق في الإسلام. فلما لطمت ابنة النضر أخت الربيع جارية، فكسرت سنّها، فأمر الرسول بالقصاص. قالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة! لا واللهِ لا يقتص منها. فقال النبي: "سبحان الله يا أم الربيع، كتاب الله القصاص ". فقالت: لا والله، لا يقتص منها أبدًا. فعفا القوم وقبلوا الدية1.

_ 1 زاد المعاد "3/ 204".

الجرائم

الجرائم: وقد وضعت كل المجتمعات على اختلاف درجاتها، بدائية كانت أو متقدمة عقوبات لردع المجرمين وزجرهم وتأديبهم لكيلا يجرموا بحق أنفسهم وبحق مجتمعهم وهي تتلاءم بالطبع مع واقع المجتمع والظروف الملمة به. كما أن الجرائم تكون منبثقة من واقع المحيط الذي يعيش المجرم فيه. ويمكن حصر هذه الجرائم في الجرائم التي ترتكب ضد الدين، أي: دين القوم وعقيدتهم، وفي الجرائم التي ترتكب ضد المجتمع، أي: ضد العرف والعادات، في مثل: الزواج والطلاق والأحوال الشخصية وفي القضايا التي تخص الآداب وفي الجرائم التي تخص الاعتداء على الجسد كالقتل والجروح والضرب. وفي الجرائم المتعلقة بالاعتداء على حقوق الغير مثل: الخيانة والغدر وعدم الوفاء بالأمانات والسلب والنهب والسرقات، ونشل الناس، وفي الجرائم المتعلقة بالملك. وتعاقب شريعة الجاهليين كما تعاقب أية شريعة مدنية ودينية المخالف بعقوبات رادعة تكون متناسبة مع جرمه وعمله، وتكون العقوبات بالطبع متناسبة مع مستوى المجتمع وتفكير رجاله. والظاهر أن المعاقبين كانوا أحيانًا يقسون على المخالفين في فرض عقوباتهم، فيظلمونهم، ويعذبونهم عذابًا لا يتناسب مع ما قاموا به من جرم، بدليل ورود آيات في القرآن الكريم تحث من بيدهم الأمر على ألا يعاقبوا عقابًا يتجاوز حدود المخالفة: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 1، {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} 2. وقد ذكر علماء التفسير أن الآية الأولى تأمر

_ 1 النحل، رقم 16، الآية 126. 2 الحج، رقم 22، الآية 60.

"إن من ظلم بظلامة، فلا يحل له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منه"1. وأن الله يقول للمؤمنين: "وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم, فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظلمكم من العقوبة ". وقد نزلت بعد أُحد حيث قُتل حمزة ومُثِّل به، فلما "رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد من تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة, قالوا: لئن أظفرنا الله بهم لنفعلن ولنفعلن، فأنزل الله فيهم: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} 2. ونزلت الآية الأخرى في "قوم من المشركين لقوا قومًا من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، وكان المسلمون يكرهون القتال يومئذ في الأشهر الحرم، فسأل المسلمون المشركين أن يكفوا عن قتالهم من أجل حرمة الشهر، فأبى المشركون ذلك وقاتلوهم، فبغوا عليهم وثبت المسلمون لهم، فنصروا عليهم، فأنزل الله هذه الآية"3. ومن العقوبات التي جاءت بها الشريعة الجاهلية عقوبة: إقامة الحدود على الجناة، وذلك بالتعزير، وهو الجلد، جلد المخالف الذي لا تكون مخالفته جناية، بل مخالفة بسيطة في مثل مخالفة أوامر الوالدين أو الولي الشرعي وفي الاعتداء على الغير بالشتم والسباب والتحرش بالناس، وما شاكل ذلك من أمور. وعقوبة دفع الغرامات وتعويض الضرر. وعقوبة السجن على الجنايات المهمة، وعقوبة الطرد من البيت أو من المدينة أو من أرض القبيلة والخلع والتبري من الشخص، والحبس في البيت، وعقوبات القصاص. والقصاص هو القود. والقَوَد قتل النفس بالنفس4. وقد عبر الفقهاء عن القصاص في القتل بـ"قصاص في النفس"، وعبّروا عن القصاص فيما هو دون القتل بـ"قصاص فيما دون النفس".

_ 1 تفسير الطبري "14/ 131"، روح المعاني "14/ 134". 2 تفسير الطبري "14/ 131 وما بعدها". 3 تفسير الطبري "17/ 136"، روح المعاني "17/ 172". 4 تاج العروس "2/ 478"، "قود".

القتل

القتل: القتل نوعان: القتل العمد، والقتل الخطأ. وقد فرق الجاهليون بين النوعين

فالقتل الخطأ لا يمكن أن يكون في درجة القتل العمد. وقد قسم الفقهاء في الإسلام القتل إلى خمسة أقسام: قتل العمد، وقتل شبيه العمد، وقتل الخطأ، وقتل قائم مقام الخطأ، وقتل بسبب1. وقد نص على القصاص، أي: على وجوب قتل القاتل ومعاقبة الجاني بنوع جنايته، بمعاقبته بنفس الفعل الذي فعله بالمجني عليه في بعض الكتابات الجاهلية, ومن هذا القبيل وجوب قتل القاتل؛ لأنه أزهق نفسًا بشرية، وعقوبة من يزهق الناس ويقضي على حياة إنسان إزهاق روحه، أي: قتله قصاصًا لما جنته يده بحق إنسان مثله. والقتل العمد، يقاص بالقتل، وهو أن يطلب أهل القتيل من أهل القاتل تسليمه إليهم لقتله: ويقال لذلك "القَوَد" وبذلك يغسل دم القتيل. والقاعدة القانونية عند الجاهليين أن "الدم لا يغسل إلا بالدم". فهو تطبيق قاعدة القصاص. وإذا كان القاتل من بيت دون بيت القتيل، فإن أهل القتيل لا يكتفون في كثير من الأحايين بالقَوَد، أي: بقتل القاتل، ولكن يطلبون قتل شخص آخر مع القاتل، أي: قتل شخصين في مكان القتيل وقد لا يقبلون بهذا الحل أيضًا لاعتقادهم بأن الرجلين مع ذلك دون القتيل في المنزلة وفي الكفاءة، فيعمدون هم أنفسهم إلى الأخذ بثأر القتيل، وذلك باستعراضهم فيما بينهم رجال قبيلة القاتل، لاختيار رجل يقتلونه يرون أنه في منزلة القتيل، فإن اختاروه ووجدوه، والغالب أنهم يختارون جملة رجال، أرسلوا من يغتال ذلك الشخص المسكين الذي وقع اختيارهم عليه لقتله فيغتالونه ليكون كبش الفداء عن القتيل. ويقال للقتيل "هرج" "هرك" في اللهجة القتبانية، وقد وردت في القوانين القتبانية بصورة تعبر عن "القتل" عامة دون تعيين نوعه، كما في اللغة العبرانية, حيث تؤدي لفظة "هرك" "هرج" فيها هذا المعنى2. والظاهر أن المشرع وضع تقدير "القتل" إذا كان قتلًا عمدًا أو قتلًا خطأ إلى اجتهاد "الملك" الذي هو "الحاكم" الأعلى وإلى من وُكِّل إليهم أمر القضاء بين الناس.

_ 1 راجع كتب الحديث والفقه في باب القتل. 2 A. Grohmann, Arabien, S. 132

ولكن هذا لا يعني أن القتبانيين أو غيرهم من العرب الجنوبيين، لم يكونوا يفرقون بين القتل العمد والقتل الخطأ، أي: القتل الذي يقع دون عمد ولا تحضير سابق ولا تفكير فيه. فقد كانوا يفرقون بين أنواع القتل ويحاسبون القاتل على هذا الأساس. وقد كانت كل القوانين في ذلك العهد تفرق أيضًا في أنواع القتل، فتجعل القتل الخطأ دون القتل العمد في الدرجة وفي الحكم المترتب عليه. ويعبر عن القتل في اللحيانية بلفظة "خلس" "خليس" أيضًا. وقد ورد في بعض الكتابات اللحيانية أن فلانًا قتل فلان، وقد حددت بضع الكتابات الوقت الذي تم فيه القتل1. ويعبر عن القتل بلفظة "قتل" كذلك، وعن المقتول بلفظة "همقتل"، أي: القتيل2. وعثر على نص قتباني, هو قانون في تحديد عقوبة القتل والقاتل جاء فيه: أي شخص يقتل شخصًا وكان من شعب قتبان أو من قبائل تابعة أو محالفة لها يعاقب بعقوبة القتل، إلا إذا قرر الملك عقوبة أخرى مستمدة من شريعة "تمنع، وعلان، وصيرم"3. ويقصد بشريعة "تمنع، وعلان، وصيرم" العرف المتبع عند أهل "تمنع", أي: العاصمة, وعند جماعة "وعلان" وعند أهل "صيرم". فللملك أن يعاقب بالعقوبات المقررة عند هؤلاء، إذا لم يقرر الأخذ بمبدأ القصاص. وقد استثنى القانون المذكور قتلة القتلة الفارين من تطبيق عقوبة القتل أو العقوبات التبعية الأخرى عليهم، إذا كان قتلهم في أثناء فرارهم وعصيانهم حكم الملك، أو حكم من خوله "الملك" تطبيق "العدالة" بين الناس. فإذا فرَّ قاتل، وأبى تطبيق ما صدر من حكم عليه، وقتل وهو في هذه الحالة، لم يحاسب القاتل على قتله له، ولا يعاقب بأية عقوبة من أجل ما قام به من قتله إنسانًا آخر. والظاهر أن المشرع القتباني قد أخذ بالظروف المحلية التي كانت سائدة إذ ذاك، من سهولة هرب القتلة وتهديدهم الأمن والنظام، فلم يعاقب قتلتهم بأية عقوبة، وذلك ليقضي على القتلة العصاة وليخيفهم وليخيف الطائشين من الإقدام

_ 1 راجع النصوص رقم: 79 و80، و86 في كتاب: W. Caskel 2 راجع النص رقم 31 في كتاب: W. Caskel, S. 92 3 Glaser 1397, Se 80, Arabien, S. 132, Rep. Epigr, 3878, Iv, Ii, P.330, Rhodokanakis, Die Inschriften Kohlan, S. 14, Glaser 1394, 1401, 1416, 1400, 1606, 1607, 1608, Wzkm, 31, 1924, 22, Glaser 1397

على جرائم القتل. ولعله نظر إلى القاتل نظرته إلى إنسان مجرم لا قيمة له في الحياة؛ لأنه شرير مؤذ، لذلك لم يفكر في مؤاخذة قاتل شخص على هذا النحو على عقوبته هذه. وجاء في القانون المذكور أن من يرتكب جرمًا أو يعمل عملًا مخلًّا بالأمن، أو يعرقل تنفيذ أوامر الملك لتعطيلها وإيقافها، سواء كانت معلنة أو غير معلنة، ثم فرَّ وقتل فلا يؤاخذ قاتله على قتله، ولا تؤخذ دية دمه منه1. وقد افتتح النص ونشر باسم الملك الذي أصدره، وهو الملك "يدع أب ذبيان بن شهر" ملك قتبان. وباسم "مزود" قتبان، أي: ملأ قتبان، أصحاب الرأي والمشورة، وباسم "فقضت" و"بتل" قتبان وباسم "ردمان" و"املك" "أملوك" "الأملوك"، و"مضحيم" "مضحي" و"يحر" و"بكلم" "بكيل"، وباسم القبائل الأخرى الخاضعة لحكم الملك2. واختتم بجملة: "وتعلماي وشهد وتعلماي أيدي". وهي جملة تعني: ووقع الملك على الوثيقة بيده وأمر بإعلانها، وشهد على ذلك ووقع عليها المذكورون من الملأ أعضاء المزود، ومن السادات أصحاب المشورة والرأي وقد ذكرت أسماؤهم بعد اسم الملك؛ لأنهم وافقوا عليها وصادقوا على تشريعها، وبتصديق الملك وأشراف مملكته وأعضاء "المزود" على القوانين تكتسب صفة قانونية, ويجب تطبيقها عندئذ3. وتدخل جريمة الانتفاضة على السلطان، أي: الثورة في جملة الجرائم التي يعاقب القائم بها بعقوبة القتل. إلا إذا عفا السلطان عن فاعلها. وقد جاء في نص سبئي أن أحد سادات القبائل ثار على الملك، ثم عفا الملك عنه. فذهب إلى المعبد وتوسل إلى إله "سبأ" أن يغفر له ذنبه. فأمر عندئذ بتقديم جارية إلى معبد "المقه" إله سبأ، تكفيرًا عما قام به من ذنب تجاه سيده، وأن يتوب عما فعل من إثم4. وهناك أمثلة أخرى من هذا القبيل5

_ 1 الفقرة السادسة وما بعدها من النص. 2 راجع الفقرة الأولى وما بعدها من النص. 3 راجع الفقرة "13 وما بعدها" من النص. 4 G. Ryckmans, Inscriptions Sud-Arabes, Iii, Le Museon, 48, 1935, 164, Ff 5 Glaser 891, Cih 398, Arabien, S. 134

وقد أخذت أعراف وعادات الأعراب بمبدأ حق "ولي الدم" في أخذ حق "الدم", وذلك بالقود أو بأخذ الثأر أو بأخذ الدية. وبهذا المبدأ عمل أهل المدر أيضًا. ولكن نظرًا لوجود اختلاف في طبيعة الحياة الاجتماعية عند العرب المستقرين، فقد تساهل هؤلاء بعض التساهل في موضوع حق "الأخذ بالثأر"، بينما تشدد الأعراب فيه، واعتبروا القعود عنه ضعة وخسة، وقبول الدية سبّة تنتقل من جيل إلى الجيل الذي يليه، وهي لا تمحى إلا بغسلها بالأخذ بالثأر، فإن الدم لا يغسل إلا بالدم. وبذلك نجد مبدأ حق معاقبة القاتل في أيدي أصحاب القتيل في قانون الأعراب، أي: أهل الوبر. أما بالنسبة إلى العرب الجنوبيين، فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن آرائهم القانونية عن "حق ولي الدم"، وعن الأخذ بـ"حق الدم" بصورة عامة شاملة، وذلك لعدم ورود نصوص فقهية عديدة في هذا الموضوع. ولكننا إذا أخذنا بنظرية القياس، وقسنا حكم المعينيين والسبئيين والحضارمة على حكم القتبانيين بالنسبة إلى "حق ولي الدم"، فإننا لا نستطيع أن نقول إن وجهة نظر العرب الجنوبيين بالنسبة إلى هذا الحق تختلف عن وجهة نظر العرب الشماليين بالنسبة إليه. فقد أخذ القانون القتباني بمبدأ حصر هذا الحق بالملك إذ جعله هو وحده الذي يقرر نوع العقوبة التي يمكن إنزالها في القاتل. فهو الذي يأمر بالقصاص، أي: بقتل القاتل، أو بفرض الدية. ويقابل "الملك" ما يقال له: "السلطان" في الفقه الإسلامي, أي: الرئيس الأعلى للدولة أو من يقوم مقامه من المخولين بالنظر في تنفيذ القوانين والأحكام. فالدولة إذن هي المسئولة وحدها عن أخذ حق القتيل من القاتل، لا "ولي الدم". وليس لولي أمر القتيل أن يتصرف من عنده لأخذ حق الدم من سافكه. وتتفق وجهة نظر الحكومة القتبانية هذه مع وجهة نظر "القوانين الرومانية" التي دونت في أوائل القرن السادس للميلاد، ومع التشريع المدني الحديث الذي يجعل أمر تنفيذ القوانين وتطبيقها وتشريعها حق من حقوق الدولة ومن الأمور التي تخص سيادتها وكيانها1.

_ 1 A. Grohmann, Arabien, S. 133

قتل القاتل

قتل القاتل: ويكون قتل القاتل عند الجاهليين بحدّ السيف. أما طرق القتل الأخرى في مثل الشنق أو الصلب على خشبة، فإنها من العقوبات التي لم تكن مألوفة بين العرب. والصلب على الخشبة، أي: الصليب من طرق القتل المألوفة عند الرومان. وأما "الرجم"، أي: إماتة الشخص برجمه بالحجارة، فإنه من العقوبات المعروفة عند العبرانيين، وقد نص على العقوبات التي يعاقب الإنسان عليها في الرجم في التوراة1. وقد ورد أن من الجاهليين من عاقب بالصلب. فقد قتل المشركون "خبيب بن عدي" الأنصاري بصلبه على خشبة، وبطعنه بالرماح حتى مات2. وصلب "هلال بن عقة"3، وصلب غيرهما، ويكون الصلب بتعليق الشخص وربطه على خشبة، وطعنه بالحربة حتى يموت مصلوبًا4. وورد أن رسول الله قتل "عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس"، بعرق الظبية منصرفة من بدر. فأمر بصلبه. فهو أول مصلوب في الإسلام5. وقد عرف الصلب في الإسلام. وهو كناية عن تعليق الإنسان بعد قتله على خشبة، أو شجرة أو محل مرتفع ليراه الناس. وقد صلب خالد بن الوليد "عقة بن جشم بن هلال النمري" بعين التمر6. وورد أن الصلب كان في الجاهلية عقوبة قاطع الطريق7. وقد ورد في القرآن الكريم ما يفيد وجود "الصلب" وتقطيع الأيدي والأرجل عند الجاهليين. فقد ورد في سورة المائدة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} 8.

_ 1 Hastings, Dictionary Of The Bible, Vol., I, P.521, The Bible Dictionary, Vol. Ii, P.233, W. Croswant, A Dictionary Of The Life In Bible Times, P.222 2 إمتاع الأسماع "1/ 177"، "غزوة الرجيع"، الإصابة "1/ 418"، "رقم 2222"، نهاية الأرب "17/ 133 وما بعدها"، المحبر "479". 3 الأخبار الطوال "112". 4 تفسير القرطبي "6/ 151". 5 المحبر "479". 6 المحبر "479". 7 المحبر "327". 8 الآية رقم 33.

وقد ذكر علماء التفسير أن هذه الآية نزلت في "العُرنيين" أو قوم من "عكل" قدموا على رسول الله، فاجتووا المدينة، فأمر لهم رسول الله بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلوا، فلما صحوا، قتلوا راعي رسول الله واستاقوا النعم، وكفروا بعد إسلامهم فبلغ النبي خبرهم، فأرسل في آثارهم، فأتى بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. وكانوا قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتًا. وكان هذا الفعل سنة ست من الهجرة1. كذلك كان القتل بإزهاق الروح بالرجم من العقوبات المعروفة عند الجاهليين، فقد قتل المشركون "عبد الله بن طارق"، رجمًا بالحجارة، أوثقوا أطرافه، فلما نزع يده من رباطه، قتلوه رجمًا بالحجارة2. ولكن هذه العقوبة من العقوبات القليلة التي لجأ إليها أهل الجاهلية، فلا نستطيع اعتبارها من نوع القتل المألوف عند العرب. والخنق معروف عند الجاهليين، لكنه قليل الاستعمال في العقوبات. وقد ذكر أن "النعمان بن المنذر"، أمر بخنق عدي بن زيد العبادي حتى مات3. ويكون بخنق الشخص بحبل يضيق على رقبته ويشد حتى يموت أو بقماش أو بجلد أو باليد وبأمور أخرى عديدة. وقد خنقت بعض النساء رجالًا، انتقامًا منهم. ويستعمل عند وجود فرصة سانحة كأن يكون الشخص نائمًا أو عند عثور شخص لا سلاح عنده على عدو له. فوجد أن الفرصة الوحيدة المواتية له للقضاء عليه هي بإخناقه، وقد يستعمل في حالة الدفاع عن النفس. وقد عرفت "المثلة" عند الجاهليين. يقال مثل بفلان، نكل به تنكيلًا، بقطع أطرافه والتشويه به. ومثّل بالقتيل جدع أنفه وأذنه أو مذاكيره أو شيئًا من أطرافه. وقد مثِّل بـ"حمزة" عم النبي، لما قتله "وحشي". وقد نهى الإسلام عن المثلة بالإنسان وبالحيوان4.

_ 1 تفسير الطبري "6/ 132 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 106 وما بعدها"، تفسير القرطبي "6/ 148 وما بعدها". 2 إمتاع الأسماع "1/ 175"، الاستيعاب "2/ 306"، "حاشية على الإصابة". 3 تاج العروس "6/ 339"، "خنق". 4 تاج العروس "8/ 111"، "مثل"، تفسير الطبري "6/ 133".

القتل الخطأ

القتل الخطأ: ومن أنواع القتل الخطأ: القتل الذي يقع نتيجة وقوع اضطراب وثورات أو هجوم بحيث يصعب تشخيص القاتل، وكذلك القتل بسبب هجوم حيوان على شخص، فيكون صاحبه مسؤولًا عن القتل؛ لأنه مالكه. أو بسبب ضرب شخص شخصًا بحجر أو بشيء آخر، ولم يكن متعمدًا قتله أو رميه به أو بذلك الشيء، وإنما أصابه خطأ فقتله. وقد عينت القوانين حدود هذه الأنواع من القتل، وتركت تقدير مقدار العقوبة والتعويض إلى "الملك" وذلك في العربية الجنوبية، ويقوم الحكام مقام الملك في النظر في هذه الأمور. أما أمره عند العرب الشماليين فإلى العرف والعادة والحكام.

السجن

السجن: ولما كان من الصعب بل من غير الممكن للقبائل الحكم بالسجن على المجرمين؛ لعدم توفر السجون عندها لجأت إلى عقوبة الطرد، أي: طرد المجرم إلى مكان ما يقرر لمدة معينة بحيث لا يسمح للمجرم بالمجيء إلى منازل القبيلة خلال مدة الطرد. وهي عقوبة معروفة عند العبرانيين وعند غيرهم من الساميين وغير الساميين مثل الرومان، ولا تزال عقوبة الإبعاد والإجلاء معروفة ومستعملة عند القبائل. وتسمى اليوم بـ"الجلوة" الجلو" "الجلي" عند بعض عشائر العراق. وأما في المدن، فإن الأخبار تتحدث عن وجود السجون فيها. فإذا حكم على أحد بالسجن أودع فيه. وقد عرف السجانون بالحدادين كذلك؛ وذلك لأنهم كانوا يمنعون الناس من حرياتهم، وكانوا يضعون القيود في أيديهم وأرجلهم، والقيود هي من صنع الحدادين1

_ 1 الفاخر "ص91".

وقد أشير إلى السجن، أي: "المحبس" و"الحبس" في القرآن الكريم1، مما يدل على وجود السجن في مكة وعلى وجود السجون في الحجاز. وتوضع السلاسل في أيدي اللصوص والأشرار والمساجين وفي أرجلهم لمنعهم من الهرب. وقد تربط السلسلة برجل السجين من جهة وبجدار السجن أو الباب من جهة أخرى كي لا يتمكن من الهروب. وتتصل نهاية السلسلة بطوق، تطوق به يدا السجين أو رجلاه. واستعملت أطواق النحاس كذلك2. ويعبر عن وضع السلسلة في يدي السجين أو رجله بكلمة "كبل". وهو تعبير مستعمل في الإرمية وفي العبرانية كذلك3. وقد عاقب سادات الأسر المخالفين والخارجين على الطاعة بحبسهم في بيوتهم، وذلك بربط المحبوس بالسلاسل فلا يخرج ولا يغادر مكانه. وقد كان أهل مكة يحبسون من يستحق الحبس في بيوتهم، بربطه بسلسلة، حتى لا يتمكن من مغادرة محبسه. وقد حبسوا بعض من أسلم من الشبان، عقوبة لهم. ونظرًا إلى صعوبة تطبيق الحبس في البادية لا أستطيع أن أتحدث عن عقوبة الحبس عند الأعراب. وفي السبئية لفظة "خصق"، وتعني السجان ومحافظ السجن4. ومعنى هذا وجود السجون عند العرب الجنوبيين. وقد كانت لملوك الحيرة سجون يسجنون بها من يغضبون عليهم من الناس. وقد تحدثت عن ذلك في أثناء كلامي عن "الدولة" وفي مناسبة الكلام على سجن "عدي بن زيد العبادي" بـ"الصنين"5، ولا أستبعد أن يكون للغساسنة سجون أيضًا، يرمون بها المخالفين لهم. وقد كانت سجون العربية الجنوبية في قلاع الملوك والأقيال والأذواء، وفي المباني العامة المحصنة، حيث يودع السجين في أماكن منيعة حتى لا يتمكن من الهروب

_ 1 سورة يوسف "الآية 33، 36، 39، 41 وما بعدها، 100"، المفردات، للراغب "ص223". 2 Hastings, Vol. I, P.268, “1910” 3 Hantings, Vol. Ii, P.5 4 Mahram, P.436 5 "فمضوا به إلى الصنين فحبسه هناك، فقال عدي بن فريد شعره كله أو أكثره في الحبس.... فوجه كسرى رجلًا يخرجه من السجن، فلما أتاه الرجل بدأ بالسجن فدخله"، نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "ص141".

منها، يحرسها سجانون، وبين من يسجن عدد من المعارضين للحكام والثوار والمشاغبين على السلطة القائمة، أي: مجرمين سياسيين، يبقون في سجونهم ما دام الحكام غير راضين عنه. وقد يموت بعض منهم وهم في سجونهم. وورد في الأخبار أن السجن لم يكن في زمن الرسول بيثرب، ولا في أزمان أبي بكر وعمر وعثمان، وكان يحبس في المسجد أو في الدهليز، حيث أمكن. فلما كان زمن "علي بن أبي طالب"، أحدث السجن بالكوفة. وكان أول من أحدثه في الإسلام، وسماه "نافعًا" ولم يكن حصينًا، فنقبه اللصوص وانفلتوا، فبنى آخر وسمّاه "مخيسًا" من التخييس وهو التذليل. وقد ورد في أخبار أخرى، أن "نافع بن عبد الحارث الخزاعي" من عمال "عمر" اشترى دارًا من "صفوان بن أميّة" للسجن بمكة1. ومعنى هذا أن السجن كان معروفًا قبل أيام "عثمان" و"علي". وقد ورد في بعض الأخبار أن "عمر" أول من حبس في السجون. "وقال أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم"2؛ وذلك لأن العرب كانت تستعمل "التغريب", أي: النفي في موضع السجن، لسهولة النفي، وصعوبة الحبس.

_ 1 صحيح مسلم "5/ 158"، "باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه"، "وأمره عمر على مكة. قال البخاري في صحيحه: اشترى نافع بن عبد الحارث لعمر من صفوان بن أمية دار السجن بمكة"، الإصابة "3/ 516"، "رقم 8659"، صحيح البخاري، "4/ 238"، "في الخصومات: باب الربط والحبس". 2 تفسير القرطبي "6/ 153".

الجلد

الجلد: وعرفت عقوبة الجلد عند الجاهليين، ولا سيما عند الحضر، فقد عاقبوا بالجلد. وقد أشير إليها في الكتابات العربية الجنوبية، إذ ورد في اتفاقية من الاتفاقيات المتعلقة بـ"الوقف" أن الطرف الثاني، وهو الشخص المتعاقد مع الحكومة أو المعد، إذا تماهل أو امتنع عن دفع ما عليه من حقوق نص عليها، عوقب بغرامة مقدارها "خمسة رضى"، أو بجلده خمسين جلدة بالعصا1.

_ 1 Cih, 380, Sab. Denkm., S. 21

"وذ يخدلن فلن غل ينكرون خمس رضيم فاو خمس سبطم لا حد انسم"1، ومعناها "والذي يتخاذل أو يقصر في العمل يعاقب بخمس رضى، أو بخمسين جلدة عصا لكل إنسان". وقد كان من حق الولد جلد ولده عقابًا لهم لما يفعلونه من مخالفات. ويستعمل السوط في الجلد في الغالب، كما عاقب سادات القبائل أتباعهم بجلدهم. والسوط هو المقرعة أيضًا2.

_ 1 Rhodokanakis, Stud. Ii, S. 141. F 2 تاج العروس "5/ 163"، "سوط".

الخلع والطرد

الخلع والطرد: وإذا أسرف الإنسان في ارتكاب الجرائم وبقي مستهترًا بارتكاب الموبقات لا يبالي ولا يحاسب نفسه على أفعاله وأعماله، ولا يتبع نصائح أهله وعشيرته وأوامرهم، فقد يؤدي ذلك به إلى خلعه وطرده من أهله، معاقبة له وتخلصًا من جرائره ومن المسئولية التي قد تتولد لأهله من أعماله هذه. ويكون ذلك بإعلانه للناس في المحلات العامة وفي المواسم وبإشهاد شهود على ذلك حتى يعرف الناس, فتسقط المسئولية عن أهل الطريد. ويعبر أهل العربية الجنوبية عن ذلك بلفظة "طردن," أي: الطريد، كما يعبرون عنه أحيانًا بلفظة "ثبرن"، أي: "المثبر"، وهو الذي يثبر الناس ويقوم بأعمال مثبرة فيزعجهم ويتعدى عليهم بذلك1. وهم يطردون مثل هؤلاء الأشخاص ويثبرون منهم. ويعلنون عن الطرد، ليقف الناس على اسم الطريد، فيتجنبونه أو ينزلون به ما يستحق من عقاب، إذا ارتكب عملًا مؤذيًا لهم. وقد نفى أهل الحجاز خلعاءهم إلى "حضوضي"، وهو جبل عرف بنفي الخلعاء إليه2. وربما كانت هنالك أمكنة أخرى في جزيرة العرب اتخذت منفى ينفى إليه الخلعاء عقابًا لهم. والطرد أو الخلع أو اللعن، معناه رفع كل أنواع المسئولية القانونية المترتبة

_ 1 Rhodokanaki, Stud., Ii, S. 32 2 البلدان "3/ 296".

على آل الخليع والطريد والملعون وكذلك عن قبيلته إن خلعته أيضًا. فإذا ارتكب جناية صار وحده المسئول عنها، فلا يحميه أو يدافع عنه أحد. إذ أسقط أهله عنهم كل ما كان عليهم من حقوق "العصبية" تجاهه. فإذا قتل أو اعتدي عليه فلا أحد يسأل عن أهله، أو يأخذ عندئذ بحقه، لسقوط العصبية عنه. ويكون عندئذ معرضًا للقتل في أية لحظة، مطاردًا من الناس لفرط جرائره، فهو كالمجرم الفار من العدالة، الذي أسقطت عنه الجنسية، لا يجد أحدًا يؤويه، ولا مكانًا يقبله، خشية إلحاق الأذى به. ويكون الخلع والطرد علنًا وبإشهاد شهود. والأغلب أن يعلن عنه في المواسم بأن يقف الأب الذي يريد خلع ابنه وسط الناس، ثم يقول: "خلعت ابني.. فإن جر لم أضمن، وإن جر عليه لم أطلبه"1. ويعرف الخلعاء بأسماء أخرى تدل على الصعلكة والازدراء. مثل الصعاليك. وذكر أن "صعاليك العرب" ذؤبانها ويقال الذؤبان والضليلين2.

_ 1 المحلى "10/ 522"، "11/ 65"، الأغاني "8/ 50"، تاج العروس "5/ 321"، "خلع". 2 اللسان "10/ 455 وما بعدها".

التغريب

التغريب: والتغريب: النفي عن البلد أو الأرض1. وكانوا يستعملون هذه العقوبة في حق من يستهتر بعرف القبيلة ويقوم بأعمال منكرة ولا يصلح نفسه، فكانوا يحكمون عليه بالجلاء عن أرض القبيلة والابتعاد عنها مدة تحدد وتعين، وقد لا تحدد فهو نفي وإجلاء. وقد بقيت هذه العقوبة في الإسلام فأمر الرسول بالتغريب وأمر الخلفاء به كذلك2. وقد عرف التغريب الجماعي عند الجاهليين وفي الإسلام. وهو إجلاء جماعة من موضع سكنهم. فقد كان الفرس يجلون القبائل المعادية لهم عن مواضعها ويرسلونهم إلى أماكن أخرى. وفعل الروم ذلك بالعرب أيضًا. كما فعلت حكومات

_ 1 تاج العروس "3/ 476" "الكويت"، اللسان "1/ 639" "صادر"، "غرب". 2 القسطلاني "10/ 25 وما بعدها".

اليمن ذلك بالقبائل الثائرة. وقد أجلى "عمر" أهل الذمة عن جزيرة العرب، فسموا "جالية"، وعرفوا بـ"الجالية"، ولزمهم هذا الاسم أينما حلوا، ثم لزم كل من لزمته الجزية من أهل الكتاب بكل بلد وإن لم يجلوا عن أوطانهم1.

_ 1 تاج العروس "10/ 76"، "جلو".

الدية

الدية: وأخذ الفقه الجاهلي بأصل تعويض الضرر وإزالته عمّن وقع الضرر عليه، وذلك بدفع تعويض عادل يرضى عنه، أو ترضى عنه ورثته في حالة وفاة من وقع الاعتداء عليه، ويقال لذلك: "الدية". أما في اللحيانية، فيقال لها: "ودي", وعن أداء الدية لأهل القتيل "ودي"، و"وديو" بصيغة الفعل الماضي1. وتعني لفظة "ودي"، دفع الدية وأعطاها في عربيتنا2. والأصل في الدية أخذها من القاتل إن كان قادرًا، فإن لم يكن قادرًا على حملها، وقع حملها على ذوي "العصبة"، أي: على أقربائه وذوي رحمه حسب رابطة الدم. لذلك تكون "العصبة" في الديات، كما تكون في الإرث3. وتختلف الدية باختلاف درجات القبائل ومنازل الناس، فقد تكون عشرة من الإبل، وقد تبلغ ألفًا. فإذا كان القتيل من سواد الناس ومن القبائل الصغيرة الضعيفة. كانت ديته قليلة. أما إذا كان من أشراف القبيلة زادت ديته عن ذلك تبعًا لمنزلة القتيل ولمكانته. وإذا كان القتيل ملكًا، كانت ديته ألفًا من الإبل، وتسمى هذه الدية "دية الملوك"4. وتكون دية "الصريح" دية كاملة، وهي عشرة من الإبل كما ذكرت إذا كان القتيل من سواد الناس. أما إذا كان القتيل "حليفًا"، فتكون ديته عندئذ نصف دية الصريح, أي: خمسًا من الإبل5. وأما إذا كان القتيل "هجينًا"، فتكون

_ 1 راجع النص "31، والنص 82 في كتاب:. Caskel, S. 117 2 تاج العروس "11/ 386". 3 من الطبعة الجديدة Ency, Vol, I, P.337. 4 بلوغ الأرب "2/ 22"، "فإن تدوه دية الملوك نقبل، وإن تأبوا نقتل! فودوه دية الملوك: ألف بعير، نوادر المخطوطات "124". 5 الأغاني "2/ 170"، "ساسي".

ديته نصف دية الصريح. وتكون دية المرأة نصف دية الرجل. وكانت بعض القبائل قد حددت هي دية قتلاها، وفرضتها فرضًا، فكانت تأخذ عن دية قتيلها ديتين أو أكثر أحيانًا، وتدفع دية واحدة لغيرها، وذلك بسبب قوتها وبطشها. روي أن "الغطاريف"، وهم قوم "الحارث بن عبد الله بن بكر بن يشكر" كانوا يأخذون للمقتول منهم ديتين، ويعطون غيرهم دية واحدة إذا وجبت عليهم1. وكان لبني "عامر بن بكر بن يشكر" وهم من "الغطاريف" أيضًا، وقد عرف "عامر" المذكور بـ"الغطريف" ديتان، ولسائر قومه دية2. وورد أن "بني الأسود بن رزن" كانوا يؤدون في الجاهلية ديتين ديتين، ويؤدي غيرهم من "بني الدليل" دية دية، وذلك لفضلهم3. فـ"بنو الأسود" هم الذين حددوا ذلك المقدار وثبتوه، ولم يكن هذا التحديد عن ضعف، وإنما هو رغبة منهم في الأفضال على ذوي القتيل الذين يكونون من غيرهم تلطفًا لهم، وترفعًا منهم عن المساومة في دماء القتلى. وذكر أن بعض حكام العرب كانوا يحكمون في الديات بمائة من الإبل. وقد نسب بعضهم هذا الحكم إلى "أبي سيّارة العدواني", الذي كان يفيض بالناس من المزدلفة، قيل: إنه أول من جعل الدية مائة من الإبل4. ونسب بعض آخر هذا الحكم إلى "عبد المطلب". فقالوا إنه أول من سن الدية مائة من الإبل، فأخذت به قريش والعرب، وأقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الإسلام5. وكانت "قريظة" و"النضير" في الجاهلية إذا قتل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة، قتلوا به منهم، فإذا قتل الرجل من بني قريظة قتلته النضير أعطوا ديته ستين وسقًا من تمر6. وذلك بسبب الفرق في المنزلة والمكانة.

_ 1 الأغاني "12/ 48". 2 الأغاني "12/ 53". 3 ابن هشام "3/ 22" بلوغ الأرب "3/ 22". 4 الروض الأنف "1/ 86". 5 المعارف "ص240"، صبح الأعشى "1/ 435"، ابن سعد، طبقات "1/ 89"، "ذكر نذر عبد المطلب أن ينحر ابنه"، ابن رسته، الأعلاق "191". 6 تفسير الطبري "5/ 97".

وقد ورد في بعض الكتابات اللحيانية أن القتلة دفعوا دية القتلى لأهلهم الشرعيين الذين لهم حق المطالبة بالدم، وقدموا قرابين و"خرجا" خراجًا, أي: مبلغًا إجباريًّا من مواد عينية إلى الآلهة عن ذلك الدم، وقدموا قرابين وضعوها على قبر القتيل. وبهذه الطريقة حسموا دم القتيل1. ويلاحظ أن اللحيانيين استعملوا مصطلح "خرج", أي: "الخراج" للتعبير عن الجزاء الذي يجب أن يفرض على القاتل ليقدمه جزاء قتله إنسانًا2. وقد عرفت "الدية" عند العرب الجنوبيين كذلك، ولم تحدد في القوانين، وإنما ترك أمر مقدارها إلى "الملك" أو إلى الحكام المفوضين، ويضمنهم سادات القبائل والأقيال والأذواء، يأخذونها بحسب العرف المقرر عند القبائل التي يعنيها الأمر وتعطى لأصحاب القتيل الشرعيين. وورد في نص سبئي قديم يعود عهده إلى أيام "المكربين"، حكم بدفع دية مقدارها "200" إلى المعبد، تعويضًا عن دم شخص فقير، لم يعرف قاتله، يدفعها آل القتيل في عشر سنوات. ولم يحدد النص نوع الدية، مع أنه عيّن مقدارها3. ويعبر عن الدية بلفظة أخرى هي "الملة"4 وبـ"العقل"، يقال: "عقل القتيلَ يعقله عقلًا: وداه، وعقل عنه: أدى جنايته، وذلك إذا لزمته دية فأعطاها عنه"5. سميت الدية عقلًا "لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلًا؛ لأنها كانت أموالهم، فسميت الدية عقلًا؛ لأن القاتل كان يكلف أن يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول فيعقلها بالعقل ويسلمها إلى أوليائه"6، ويقال للذين يتعاقلون على دفع الدية: "العاقلة". وكان مما جاء في كتب الرسول إلى القبائل: هم على معاقلهم الأولى، أي: الديات التي كانت في الجاهلية يؤدونها كما كانوا

_ 1 W. Caskel, S. 51, 117, 119, Jaussen-Savignag, Mission, Ii, 389, 409, 411, 419, 441, Arabien, S. 50 2 راجع السطر 3 من النص "82" في كتاب: W. Caskel, S. 117 3 Glaser 1210, Rhodokanakis, Alt. Sabaische Texte, Ii, Wzkm, 39, 1932, 186, Arabien, S. 134 4 اللسان "11/ 632". 5 اللسان "11/ 460". 6 اللسان "11/ 461".

يؤدونها في الجاهلية على مراتب آبائهم. وفي الحديث: كتب بين قريش والأنصار كتابًا فيه المهاجرون من قريش على رباعيتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى. أي: يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها1.

_ 1 تاج العروس "8/ 27"، "عقل" مناقب الترك، من رسائل الجاحظ "1/ 12"، اللسان "11/ 460"، "عقل"، القسطلاني "10/ 68".

العاقلة

العاقلة: والعاقلة: هم العصبة، وهم القرابة من قبل الأب الذين يتحملون الديات. وقيل: القبيلة، إلا أنهم يحملون بقدر ما يطيقون. ولا يعقل حاضر على باد. وورد أن "عمر" قال: "إنا لا نتعاقل المضغ بيننا، معناه: أن أهل القرى لا يعقلون عن أهل البادية، ولا أهل البادية عن أهل القرى"1. ويظهر أن هذا كان حكم الجاهليين أيضًا، أو حكم بعض منهم في أصول دفع الديات. وليس في إسقاط الجنين دية عند بعض الجاهليين. ورد أن امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها، وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى الرسول، فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة. فقال ولي المرأة التي غرمت: "كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل"2. وورد في الحديث: "من لا أكل ولا شرب ولا استهل، ومثل ذلك يطل3 والطل: هدر الدم، وقيل: هو أن لا يثأر به أو تقبل ديته، وفي الحديث أيضًا أن رجلًا عض يد رجل فانتزع يده من فيه فسقطت ثناياه فطلّها رسول الله"، أي: أهدرها وأبطلها4. وإذا تنوزل عن الجراحة والدم بدفع الدية، قيل لذلك: أرش الجراحة، أي:

_ 1 اللسان "11/ 461 وما بعدها". 2 صحيح مسلم "5/ 110 وما بعدها"، إرشاد الساري "8/ 399"، اللسان "5/ 19". 3 اللسان "11/ 406". 4 اللسان "11/ 405 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 27"، "عقل".

ديتها1. ومتى تم الاتفاق وحصل التراضي بدفع الدية، انتهى الدم، ويعبر عن ذلك بـ"الفصل" وما زال هذا التعبير مستعملًا بين عشائر العراق2. فالأرش إذن دية ما دون النفس، أي: القتل، كدية الجروح. فهو تعويض عن الضرر الذي يلحق بالعضو المصاب، ويختلف الأرش عند الجاهليين باختلاف التلف الذي أصاب عضو الإنسان، وباختلاف منازل الناس والقبائل. وهو على العموم دون الدية؛ لأن الدية تعويض عن قتل، أي: هلاك أصاب جسم الإنسان كله، بينما الأرش تعويض عن جزء من جسم. وفي الحديث: في أرش الجراحات الحكومة. ومعنى الحكومة في أرش الجراحات التي ليس فيها دية معلومة: أن يجرح الإنسان في موضع في بدنه مما يبقي شَيْنه ولا يبطل العضو، فيقتاس الحاكم أرشه بأن يقول: "هذا المجروح لو كان عبدًا غير مشين هذا الشين بهذه الجراحة كانت قيمته ألف درهم، وهو مع هذا الشين قيمته تسعمائة درهم، فقد نقصه الشين عُشر قيمته، فيجب على الجارح عشر ديته في الحر؛ لأن المجروح حر، وهذا وما أشبهه بمعنى الحكومة"، التي تستعمل في أرش الجراحات3. وتؤدي لفظة "أرش" في اللحيانية معنى "عوض"، ودَفَع بدلًا. وهي من المصطلحات القانونية الواردة في الكتابات. فإذا بدل إنسان شيئًا بشيء عبر عن ذلك بلفظة "أرش"4. ولا أستبعد أن يكون اللحيانيون قد استعملوها في التعبير عن التنازل عن الجراحة والدم بعد دفع الدية. ويعوض عن الضرر الذي يلحقه إنسان بإنسان آخر مثل قطع عضو من أعضاء جسمه أو إلحاق عجز به أو جراحة مؤذية بدفع "دية" من الضرر. أما الجراحة التي لا تكون مؤذية، ولا تلحق ضررًا، فلا يدفع عنها دية، ويعبر عن ذلك

_ 1 تاج العروس "4/ 279"، "أرش"، شمس العلوم، "الجزء الأول، القسم الأول، ص69". 2 "وفي حديث عمر -رضي الله عنه- أنه قال: ليس على عربي ملك.. ولكنا نقومهم كما نقوم أرش الديات ونذر الجراح " , اللسان "11/ 632"، "ملل". 3 اللسان "12/ 145"، "حكم". 4 راجع النص 4 في كتاب: W. Caskel, S. 79

بـ"الخماشة"1. و"الخمُاشة" ما ليس له أرش معلوم من الجراحات، أو هو دون الدية، كقطع يد أو أذن أو نحوه. أي: جرح أو ضرب أو نهب، أو نحو ذلك من أنواع الأذى. والخماشات: الجراحات والجنايات. وهي كل ما كان دون القتل والدية2. ويقال لما يدفع عن الجراحات "نذرًا". وذكر أن النذر لا يكون إلا في الجراح صغارها وكبارها وهي معاقل تلك الجراح3. وقد نص في القوانين العربية الجنوبية على تعويض الجروح والأضرار التي تلحق بالجسم كذلك، فورد فيها: "ثوب بقبتن"، أي: "ثياب بمقتينات، ويراد بذلك أن يعوض بمال4. ويقدر ما يدفع من المال إلى ما نزل به الضرر بحسب شأن الجرح ومقدار الضرر؛ يقدره الحكام وعرّاف القبيلة. وقد سادت شريعة الجاهليين في معاقبة المجرمين في الجرائم الأخرى التي ليست قتلًا على أساس التعويض وإصلاح الضرر والسجن والخلع والنفي ومعاقبة الفاعل عقابًا يناسب عمله وما صدر منه. وإذا عجزت عصبة القاتل عن دفع دية القتيل، وقد حملها على أقرباء العصبة, فإن نأوا بها وجب على القبيلة تحملها. ويدخل فيها سيد القبيلة. فالقبيلة وحدة اجتماعية قائمة بذاتها وعليها لذلك تحمل مسئوليات أفرادها. ولهذا توزع الديات على أفرادها إن ثبت عدم تمكن أقرباء القاتل من دفعها. وتدفع الدية إلى "ولي القتيل" أو إلى أوليائه الشرعيين، أي: الذين لهم حق المطالبة بدم القتيل. وهم وحدهم لهم حق الفصل في موضوع الدم. ولا تقع جناية العبد على مولاه، وإنما تقع جنايته في رقبته، فلا يعقل سيده عنه، ولا تتحمل عصبة سيده عنه أي شيء في حالة عدم تمكن سيده من أداء "العقل"، أي: الدية، إنْ قتل العبد شخصًا. وللفقهاء في الإسلام في استيفائها منه خلاف5.

_ 1 المعاني الكبير "2/ 1016". 2 تاج العروس "4/ 308 وما بعدها"، "خمش". 3 اللسان "5/ 200"، "صادر". 4 M. Hofner, Zur Interpretation Altsudarabischer Inschriften, Ii, Wzkm, 43, 1936, S. 107. F., Arabien, S. 134 5 اللسان "11/ 461"، "15/ 137".

وعند اعتصام القاتل وامتناع أهله أو عشيرته عن تسليمه إلى أهل القتيل للاقتصاص منه بقتله, وعدم رضاء أهل القتيل بأخذ "الدية" منه أو من أهله غسلًا للدم، يلجأ أهل القتيل إلى "الأخذ بالثأر"، وهو مبدأ معروف عند الشعوب السامية، وذلك بأن يتربص أهل القتيل بالقاتل، حتى يجدوه فيقتلوه، أو يتربصوا بأقرب الناس إليه إن لم يجدوا القاتل فيقتلونه ويؤدي هذا الثأر إلى وقوع عدد من القتلى في الغالب من الجانبين، وقد يؤدي إلى وقوع قتال بين العشائر والقبائل. ويدفع أهل القتيل على إصرارهم على الأخذ بالثأر عقيدة قديمة متوارثة، هي أن الروح منفصلة عن الجسم، فإذا قتل القتيل، خرجت روحه وصارت هامة، تحوم حول قبره، تقول؛ اسْقُوني، ولن تستقر حتى يؤخذ بثأره، وإلا بقيت تحوم حوله، ويلحق الأذى عندئذ بأهل القتيل. فخوف أهل القتيل من هذه العاقبة السيئة، يدفعهم على الإصرار على الأخذ بالثأر. وقد روى أهل الأخبار قصصًا عن الأخذ بالثأر. وكيف كان الجاهليون لا يرتاحون ولا يهجعون إلا بعد أخذهم بحق "الثأر المنيم" وقد ذكروا أن العرب ضربت المثل برجل اسمه "بيهس" في الأخذ بالثأر1.

_ 1 تاج العروس "4/ 113"، "بهس".

الذحل

الذحل: والذحل الثأر أو طلب مكافأة بجناية جُنيت عليك أو عداوة أُتيت إليك، أو العداوة والحقد1.

_ 1 تاج العروس "7/ 329"، "ذحل".

الشدخ

الشدخ: وقد يبطل الحاكم الدماء ويقال لذلك: "الشدخ". وأصل الشدخ الكسر والفضح. وقد عرف "يغمر بن عوف" بـ"الشداخ"، سمي بذلك لما شدخ من دماء خزاعة حين حكّموه1.

_ 1 الروض الأنف "1/ 87".

ومن الأحكام الطريفة المتعلقة بجرائم القتل، حكم المسئولية التي تقع على الجماعة, أي: جماعة أرض يقع فيها قتل، يختفي فيها أثر القاتل، وينكل أهلها عن تسليمه في خلال مدة حددها القانون بأربعة أيام. فإذا مضت المدة ولم يعثر فيها على القاتل أو لم يسلم إلى الحكومة، صودرت غلات الجماعة وأخذ حصادهم، حتى بيت الملك، أو الجهات المسئولة، أي: الحكام في الأمر، وفي تعيين نوع العقوبة والدية التي ستفرض على الجماعة. وتودع الأموال المصادرة في مخازن الدولة أو مخازن المعبد، أو تباع إن لم يكن في الإمكان حفظها، ويحفظ ثمنها، إلى أن يبت الملك أو الحكام في الأمر. ويظهر أن الغاية التي توخاها المشرع من إصداره هذا القانون، هو قطع دابر احتماء القتلة، بعشائرهم أو من يلجئون إليهم، وفرارهم من تنفيذ عقوبة القانون عليهم. ثم لإكراه الجماعات على مساعدة السلطة في البحث عن المجرمين1.

_ 1 Arabien, S. 134

التعقبة

التعقبة ... التعقية: الأصل في القتل القصاص، وذلك كما ذكرت. أما الدية، فلا يقبلها إلا الضعفاء، وكانوا يعيرون من يأخذها بأنهم باعوا دم قتيلهم بمال. ولهذا كان يأبى أولياء المقتول من قبول الدية إذا كانوا أقوياء. أما الضعفاء. فقد وجدوا لهم حيلة شرعية ومخرجًا من المخارج في دفع ذم الناس لهم بقبولهم الديات، وذلك بلجوئهم إلى ما يقال له: التعقية في تبرير أخذهم دية قتيلهم. "والتعقية هي أن يقول آل القتيل لآل القاتل: بيننا وبينكم علامة، فيقول الآخرون: ما علامتكم؟ فيقولون: أن نأخذ سهمًا فنرمي به نحو السماء، فإن رجع إلينا مضرجًا بالدم، فقد نهينا عن أخذ الدية، وإن رجع كما صعد، فقد أمرنا بأخذها، وحينئذ يقبلون الدية، وهم يعلمون أن السهم سيرجع كما صعد من غير دم. ولكنهم يريدون عذرًا في قبول الدية: يعتذرون به أمام الناس من تعييرهم لهم، وكانت علامة قبولهم بأخذ الدية، مسح اللحية، فإن مسح اللحية علامة الصلح. قال ابن الأعرابي: ما رجع ذلك السهم قط إلا نقيًّا، ولكنهم يعتذرون به عند

الجهال"1 قال المتنخل الهذلي: عقوا بسهمٍ فلم يشعر به أحد ... ثم استفاءوا وقالوا: حبذا الوضحُ يقول: "رموا بسهم نحو الهواء إشعارًا أنهم قد قبلوا الدية ورضوا بها عوضًا عن الدم، والوضح اللبن، أي قالوا: حبذا الإبل التي نأخذها بدلًا من دم قتيلنا فنشرب ألبانها"2.

_ 1 قال الأسعر "الأشعر" الجعفي: عفوا بمسهم ثم قالوا: سالموا ... يا ليتني في القوم إذ مسحوا اللحى بلوغ الأرب "3/ 18 وما بعدها"، اللسان "15/ 79 وما بعدها"، "عقا". 2 اللسان "15/ 80"، "عقا".

الاشناق

الأشناق: وقد يحمل أحد الأجواد دفع الدية عن أهل القاتل، وقد يطلب المساعدة من قبيلته كي يكملوا عدة الدية أو الغرم. ويقال لهذا الفعل: الأشناق. ويعد دفع الأشناق من مكرمات الرجال، وكانوا يفتخرون بذلك على سائر الناس1. وقد كانت قريش قد اختارت قومًا عهدت إليهم "الأشناق". يجمعون من أهل مكة المال، ليدفع في مساعدة من لا يتمكن من دفع الدية.

_ 1 اللسان "10/ 188 وما بعدها"، "شنق".

الحمالة

الحمالة: ويقال لمن يحمل الدية أو الغرامة عن قوم ليصلح بينهم "الحمالة". "ومنه الحديث: لا تحل المسألة إلا لثلاثة. ورجل تحمل حمالة بين قوم. وهو أن تقع حرب بين قوم وتسفك دماء فيتحمل رجل الديات ليصلح بينهم"1. والحميل الكفيل الضامن دفع الديات. وعليه دفعها؛ لأن الحمالة التزام، ولا يمكن التخلص من عقد بغير وفاء.

_ 1 تاج العروس "7/ 289 وما بعدها"، "حمل"، اللسان "11/ 180"، "حمل"، بلوغ الأرب "1/ 337".

السعاة

السعاة: وكانت العرب تسمي أصحاب الحمالات لحقن الدماء وإطفاء النائرة سعاة، لسعيهم في صلاح ذات البين، ومنه قول زهير: سعى ساعيًا غيظ بن مرة، بعدما ... تَبَزَّلَ ما بين العشيرة بالدم والعرب تسمي مآثر أهل الشرف والفضل مساعي1.

_ 1 اللسان "14/ 385 وما بعدها"، "سعا".

القسامة

القسامة: لا حكم بغير بينة تثبت بالدليل القاطع أن القاتل قتل القتيل. ولا يطالب بالقود إن لم يثبت أن القاتل قد قتل القتيل وأنه مسئول عن دمه. أما إذا قُتل رجل في موضع أو بين قوم ولم يعرف قاتله، ويرى أولياء المقتول أن دم صاحبهم في أصحاب هذا الموضع أو القوم وأن القاتل بينهم، ولا تشهد على قتل القاتل إيّاه بينة عادلة كاملة، فيجيء أولياء المقتول فيدعون قِبل رجل أنه قتله ويدلون بلوث من البينة غير كاملة، وذلك أن يوجد المدعى عليه متلطخًا بدم القتيل في الحال التي وجد فيها ولم يشهد رجل عدل أو امرأة ثقة أن فلانًا قتله، أو يوجد القتيل في دار القاتل وقد كان بينهما عداوة ظاهرة قبل ذلك، فإذا قامت دلالة من هذه الدلالات سبق إلى قلب من سمعه أن دعوى الأولياء صحيحة، فيستحلف أولياء القتيل خمسين يمينًا، أن فلانًا الذي ادعوا قتله انفرد بقتل صاحبهم ما شركه في دمه أحد، فإذا حلفوا خمسين يمينًا استحقوا دية قتيلهم، فإن أبوا أن يحلفوا مع اللوث الذي أدلوا به حلف المدعى عليه وبريء. وإن نكل المدعى عليه عن اليمين خير ورثة القتيل بين قتله أو أخذ الدية من مال المدعى عليه. وورد أن القسامة: "أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرًا على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلًا بين قوم ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين

أقسم الموجودون خمسين يمينًا، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة ولا مجنون ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدعون استحقوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية"1. وورد: في "حديث عمر، رضي الله عنه: القسامة توجب العقل، أي: توجب الدية لا القود، وفي حديث الحسن: القسامة جاهلية، أي: كان أهل الجاهلية يدينون بها، وقد قررها الإسلام. وفي رواية: القتل بالقسامة جاهلية، أي: إن أهل الجاهلية كانوا يقتلون بها أو أن القتل بها أعمال الجاهلية"2. وورد أن رسول الله "أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية"3. وقد يحلف بعض الناس يمينًا، أي: يمين القسامة، ويدفع البعض الآخر ما يصيبه من الدية، بدلًا من القسم، بأن يؤدي الدية عوضًا عن اليمين لاعتقادهم أن من يحلف كاذبًا أصابه مكروه وشر4. ومن أمثلة ما ذكره أهل الأخبار عن القسامة والعقوبة المعجلة التي تلحق بصاحب اليمين الكاذبة، ما ذكروه عن استئجار رجل من قريش، اسمه خداش بن عبد الله بن أبي قيس العامري في رواية، رجلًا من بني هاشم، فانطلق الأجير معه في إبله إلى الشام. فمر رجل به من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال للأجير: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي، فأعطاه عقالًا، فشد به جوالقه. فلما نزلوا، عقلت الإبل، إلا بعيرًا واحدًا. فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال الأجير: ليس له عقال. قال المستأجر له: فأين عقاله؟ فحذفه بعصا، كان فيها أجله. فمرّ به رجل من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهد، وربما شهدته. قال. هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم. قال: فكنت إذا شهدت الموسم فناد: يا آل قريش؟ فإذا أجابوك، فنادِ: يا آل بني هاشم؟ فإن أجابوك، فاسأل

_ 1 اللسان "12/ 481" "قسم" نيل الأوطار"7/ 36 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 26 فما بعدها" "قسم" المفردات "413"، القسطلاني "10/ 61". 2 اللسان "12/ 481". 3 صحيح مسلم "5/ 101". 4 صحيح مسلم "5/ 68 وما بعدها"، عمدة القارئ "16/ 266"، ابن حزم، المحلى "11/ 66 وما بعدها".

عن أبي طالب، فأخبره أن فلانًا قتلني في عقال. ومات المستأجر. فلما قدم الذي استأجره، أتاه أبو طالب، فقال له: ما فعل صاحبنا؟ قال: مرض، فأحسنت القيام عليه، وتوفي، فوليت دفنه، قال أبو طالب: قد كان أهل ذاك منك، فمكث حينًا. ثم إن الرجل اليماني الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه، وافى الموسم، فقال: يا آل قريش؟ قالوا له: هذه قريش. قال: يا آل بني هاشم؟ قالوا: هذه بنو هاشم. قال: أين أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب. قال له: أمرني فلان أن أبلغك رسالة: أن فلانًا قتله في عقال. فأخبره بالقصة، وخداش يطوف بالبيت، لا يعلم بما كان. فقام رجال من بني هاشم إلى خداش، فضربوه، وقالوا: قتلت صاحبنا، فجمد, وأتاه أبو طالب، فقال له: اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل؛ فإنك قتلت صاحبنا، وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به. فأتى قومه، فقالوا: نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم، قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب أن تجيز ابني هذا من اليمين وتعفو عنه برجل من الخمسين، ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان. ففعل. فأتاه رجل منهم، فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلًا أن يحلفوا مكان مئة من الإبل يصيب كل رجل بعيران. هذان بعيران، فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان، فقبلهما. وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا. ويذكر رواة هذا الخبر أنهم كذبوا في يمينهم، فما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف1. وقد ذكر "السكري" القصة المذكورة، لكنه نسب القسامة فيها إلى "الوليد بن المغيرة". فذكر أنه لما أقبل أولئك الحي الذين كان "عامر" عهد إليهم بما عهد، وأخبروا "بني عبد مناف" خبر عامر. عمدوا إلى "خداش" فضربوه، وصاح الناس: الله الله يا بني عبد مناف. ثم تناهوا وتناصفوا، وصاروا في أمره إلى "الوليد بن المغيرة"، وهو يومئذ أسن قريش، فحكم بالقسامة. وذكر في ذلك أبيات شعر نسبها إلى "أبي طالب". وذكر أن

_ 1 القسطلاني "6/ 181".

بعض أهل الأخبار قال إنهم رضوا بحكم "أبي سفيان"، وروى في ذلك بيت أبي طالب: هلم إلى حكم ابن حرب فإنه ... سيحكم فيما بيننا ثم يفعل1

_ 1 المحبر "328".

الحيوان المؤذي

الحيوان المؤذي: لا يقتل صاحب حيوان إذا قتل حيوانه إنسانًا آخر، إذ لا دخل لصاحبه في فعله، فتسقط عنه مسئولية العقوبة المثلية، وعليه دفع تعويض عن فعل حيوانه، وترضية أصحاب القتيل إذا كان صاحبه معه، كأن يكون راكبًا له أو مصطحبًا له، إذ كان من الواجب عليه الانتباه إلى حيوانه ووجوب سيطرته عليه حتى لا يحدث أذى بالناس. وقد أقر الإسلام هذا المبدأ. فجاء في الحديث: "العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس"1. أي: جرح البهيمة وإتلافها شيئًا هدر، لا ضمان على صاحبها إذا لم يوجد منه تفريط، أما إذا وجد كما في صورة كونه راكبًا عليها أو قائدًا لها أو سائقًا ففيه ضمان.

_ 1 صحيح مسلم "5/ 128".

السرقة

السرقة: عرف علماء اللغة السرقة Larceny بأنها أخذ إنسان ما ليس له أخذه في خفاء1. وعرفت "مدونة جوستنيان" السارق بأنه "من انتزع بالقوة مالًا مملوكًا للغير"42. وقد عاقبت شرائع الشرق الأدنى السارق بعقوبات صارمة في الغالب. وقد فرضت الشريعة الموسوية على السارق أن يرد خمس أضعاف من البقر وأربعة من الغنم عوضًا عن كل رأس مسروق. وإذا لم يكن لدى السارق ما يكفيه لإعطاء هذا الجزاء،

_ 1 المفردات "ص230"، اللسان "10/ 155". 2 مدونة جوستنيان، "ص253".

يباع فترد القيمة من ثمنه. وكان على السارق أن يدفع أحيانًا سبعة أضعاف ما سرق. وقد أمرت برد الأشياء المأخوذة عن طريق الخيانة والغش أو اللقطة أو المغتصبة مع زيادة الخمس على قيمتها1. ويدخل في باب السرقة في الشريعة الموسوية السطو ليلًا على البيوت، وإزالة علامات الحدود لاغتصاب ملك مجاور لزيادة ملك المغتصب، والتلاعب في الكيل وفي الميزان والأبعاد أي: القياسات والدخول عنوة في ملك شخص لا يملك حق دخول ملكه وإحراق ملك الغير، وقد قررت الشريعة المذكورة معاقبة المعتدي في هذه الحالات بإصلاح الضرر وبدفع تعويض مناسب2. والسارق عند العرب من جاء مستترًا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس، فإن مَنَع مما في يديه فهو غاصب3. والسرقة عيب عند الجاهليين، أما الاستيلاء على مال الغير عنوة، أي: باستعمال القوة، فلا يعد سرقة، بل هو اغتصاب وانتهاب إذا كان في داخل القبيلة، أما إذا كان اغتصاب مال شخص من قبيلة أخرى ليس لها حلف ولا جوار ولا عقد مع قبيلة المغتصب، فيعد مغنمًا ومالًا حلالًا. ولا يرى المغتصب فيه أي دناءة، بل قد يعدّ ذلك شجاعة وفخرًا؛ لأنه أخذه عن قوة وجدارة, وعلى صاحب الحق أخذ حقه بنفسه، أو بمساعدة أهله أو أبناء عشيرته. أما بالنسبة إلى شريعة الجاهليين في معاقبة السارق، فليست لدينا فكرة واضحة عنها وبالنسبة إلى عقوبته عند جميع الجاهليين. أما أهل مكة، وهم من قريش, فقد كانوا يعاقبون السارق بقطع يده. ويظهر من روايات الأخباريين أن هذه العقوبة سنت في وقت لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، إذ يذكرون أن أول من سنها هو "عبد المطلب"4. ومنهم من يرجع سنها إلى "الوليد بن المغيرة"، فيقولون: إنه أول من قطع يد السارق، فصار عمله هذا سنة في معاقبة السرقة، وقطع رسول الله في الإسلام5. وروي أن أول سارق قطعه رسول الله في الإسلام

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 556". 2 Hastings, P.167 3 اللسان "10/ 156" "صادر". 4 ابن رسته، الأعلاق "191". 5 تفسير الطبري "6/ 148 وما بعدها"، تفسير القرطبي "6/ 160"، المعارف "240"، صبح الأعشى "1/ 435".

من الرجال: "الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف"، ومن النساء "مرة بنت سفيان بن عبد الأسد" من "بني مخزوم"1. وذكر "محمد بن حبيب"، أن العرب "كانوا يقطعون يد السارق اليمنى"، "وقطعت قريش رجالًا في الجاهلية في السرق" منهم "وابصة بن خالد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، و"عوف بن عبيد بن عمر بن مخزوم"، و"مرار"، ثم سرق فرجم حتى مات، و"الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف"، وعبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب، قطع في سرقة إبل، ومدرك بن عوف بن عبيد بن عمر بن مخزوم، ومليح بن شريح بن الحارث بن أسد، ومقيس بن قيس بن عدي السهمي، وكانا سرقا حلي الكعبة في الجاهلية، فقطعا2. ويلاحظ أن ثلاثة من السراق المذكورين كانوا من عائلة واحدة هي عائلة "عمر بن مخزوم". وأن سارقين من هؤلاء السراق الثلاثة كانا أبا وابنًا. فالأب هو "عوف بن عبيد بن عمر بن مخزوم"، والابن هو "مدرك بن عوف بن عبيد بن عمر بن مخزوم". وذكر أهل الأخبار أن أشهر سارق عرف عند الجاهليين، هو سارق اسمه "شظاظ". فقالوا: شظاظ أسرق رجل عند العرب3. ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن موقف بقية العرب من عقوبة قطع يد السارق؛ لأننا لا نملك موارد تتحدث عن ذلك. ويعاقب العبرانيون السارق بدفع خمسة أمثال المسروق إذا كان ثورًا، ويدفع أربعة أمثاله إذا كان المسروق خروفًا أو نعجة، وذلك إذا كان السارق قد باع الحيوان أو قتله. أما إذا كان ذلك الحيوان لا يزال في أيدي السارق، فيعاقب عندئذ بدفع مثلي المسروق4. وفكرة معاقبة السارق بدفع مثلي المسروق أو جملة أمثاله فكرة موجودة عند

_ 1 تفسير القرطبي "6/ 160". 2 المحبر "327 وما بعدها". 3 تاج العروس "5/ 253"، "شظظ". 4 Hastings, P.165

الجاهليين أيضًا، ولا تزال معروفة في العرف القبلي. فيدفع السارق أربعة أمثال المسروق عند أكثر العشائر العراقية في الزمن الحاضر، ويسمون ذلك "المربعة". وهي في الواقع من بقايا العرف الجاهلي في السرقة. وقد جعل القانون الروماني عقوبة السرقة المكشوفة، أي: السرقة التي يمسك فيها صاحبها وهو في حال السرقة أربعة أمثال المسروق، رقيقًا كان السارق أو حرًّا، أما السرقة المستورة، وهي السرقة التي يعثر عليها عند السارق، فجزاؤها المثلان1. وإذا أنكر السارق السرقة وأصر على إنكاره، ولم يتمكن المسروق من إثبات وقوع السرقة منه، ولكنه يرى مع ذلك أنه هو السارق، فعلى المسروق أن يطالب السارق بأداء يمين يقسم فيه أنه لم يسرقه وأنه لا يعرف بها، فإذا أنكر ولم يرض بالقسم، فعليه دفع المسروق أو قيمته على وفق العرف. والعرب يخشون من اليمين كثيرًا، حتى إنهم إذا جوبهوا به، فإنهم يفضلون الاعتراف بالسرقة والإقرار بها على أداء اليمين. ويعبر عن السارق بلفظة أخرى، هي "اللص" والمصدر اللصوصية. وزعم بعض علماء اللغة أن كلمة "لص" هي بلغة طيء وبعض الأنصار2. ويرى بعض المستشرقين أنها من الألفاظ المعربة عن اليونانية، من أصل Liatis، أي: "لص" في لغة الإغريق. وقد أخذها الجاهليون عن طريق اتصالهم بالروم في بلاد الشأم، حيث كانوا يقبضون على من كان يغير على الحدود وعلى القوافل بقصد السرقة والسلب، فيسمونهم Liatis ويعاقبونهم عقوبة صارمة، فأخذ الجاهليون هذا المصطلح منهم3. ويعبر عن أخذ المال المسروق والحصول عليه وديعة أو شراء مع علم المستلم له أنه مسروق بـ"دشش" في لغة المسند4. وأما النهب، فأخذ مال الغير، وذلك بالغارات، أو باعتراض الناس في السبل والطرق5. وأما السلب، فهو ما يستلبه الإنسان من إنسان آخر، في مثل

_ 1 مدونة جوستنيان "ص246 وما بعدها". 2 اللسان "7/ 87". 3 غرائب اللغة "ص268". 4 Mahram, P.431 5 اللسان "1/ 773".

الحرب أو القتل1. ولهما أحكام تختلف باختلاف الظروف التي يقع فيها السلب والنهب. ففي أثناء الحروب، يكون النهب والسلب من الأعمال المألوفة التي تبيحها القوانين، وقد يبيح القادة ذلك لجنودهم، وقد يعينون مدة يبيحون فيها سلب العدو ونهب ما في مكانه. ومن حق القاتل في الحرب سلب ما على القتيل من سلاح ولباس، وما يحمله من كل شيء.

_ 1 اللسان "1/ 471".

قاطع الطريق

قاطع الطريق: ذكر "محمد بن حبيب" أن العرب يصلبون قاطع الطريق، وقد صلب "النعمان بن المنذر" رجلًا من "بني عبد مناف بن دارم"، من تميم كان يقطع الطريق1.

_ 1المحبر "127 وما بعدها".

الصلح

الصلح: ويحاول الحكام جهدهم تسوية الخلافات بالتي هي أحسن، وذلك بفطنتهم وبذكائهم بالتوفيق بين المتخاصمين وبعقد الصلح بينهم، لدفن ما وقع بين الطرفين من خلاف. وقد ورد: "الصلح سيد الأحكام". وبهذه الطريقة المسالمة يُنهى الخلاف وتُدفن الأحقاد. ومن طرقهم في ذلك: الدفن. "وطريقتهم فيه أن تجتمع أكابر قبيلة الذي يَدفن بحضور رجال يثق بهم المدفون له، ويقوم منهم رجل، فيقول للمجني عليه: نريد منك الدفن لفلان, وهو مقر بما أهاجك عليه, ويعدد ذنوبه التي أخذ بها ولا يبقى منها بقية، ويقر الذي يدفن ذلك القاتل على أن هذا جملة ما نقمه على المدفون له، ثم يحفر بيده حفيرة في الأرض، ويقول: قد ألقيت في هذه الحفرة ذنوب فلان التي نقمتها عليه، ودفنتها له دفني لهذه الحفيرة، ثم يردّ تراب الحفيرة إليها حتى يدفنها بيده. وهو كثيرًا متداول بين العرب، ولا يطمئن خاطر المذنب منهم إلا به، إلا أنه لم تجرِ للعرب فيه عادة بكتابة

بل يكتفي بذلك الفعل بمحضر كبار الفريقين، ثم لو كانت دماء أو قتلى عفيت وعفت بها آثار الطلائب"1.

_ 1 صبح الأعشى "13/ 352".

المال

المال: مال أهل البادية: النعم. والمال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة ثم أطلق على كل ما يُقتنى ويُملك من الأعيان، وأكثر ما يُطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم1. وبها قدرت الديات والفديات والمهر، وبعددها قدرت ثروة الأغنياء. أما النقود: من ذهب وفضة, فقد كانت معروفة عند الجاهليين، ولا سيما فيما بعد الميلاد، إلا أنها لم تكن كثيرة في الأسواق, ولهاذ كانت طريقة المقايضة هي الطريقة الغالبة في معاملات البيع والشراء.

_ 1 اللسان "11/ 636".

التمليك

التمليك: التمليك بعوض، والتمليك بغير عوض. وكلا النوعين معروفان عند أهل الجاهلية. فالتمليك بعوض، كأن يعوض عن حق الملك بثمن نقدًا، أو عوضًا, أي: بمال آخر مقايضة عن الملك وهو في الغالب, فيتنازل صاحب الملك عن ملكه إلى من عوضه. وأما التمليك بغير عوض، فيكون بتنازل الملك عن ملكه لغيره, أي: لمن يشاء طوعًا واختيارًا بغير ثمن لا عوض، ويسلم إلى من تُنوزل له عن حق التملك فيكون ملكًا صحيحًا له.

العمري

العمري: العمري ما يجعل لك طول عمرك أو عمره، كأن يدفع الرجل إلى أخيه دارًا فيقول له هذه لك عمرك أو عمري أينا مات دفعت الدار إلى أهله. وكان ذلك فعلهم في الجاهلية. فأبطل ذلك النبي، وأعلمهم أن من أعمر شيئًا أو رقبة في حياته، فهو لورثته من بعده، وللفقهاء كلام في هذا الموضوع1.

_ 1 تاج العروس "3/ 421"، "عمر".

حرمة الأماكن المقدسة

حرمة الأماكن المقدسة: وللأماكن المقدسة كبيوت العبادة والقبور حرمة عند أهل الجاهلية، ويعتبر المستهتر بها مخالفًا للعرف والسنة، فيؤدب. ومن سننهم أن الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثًا فلجأ إلى الحرم لم يحج. وكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم قيل: هو صرورة فلا تهجه. وإذا اعتدى عليه، يكون المعتدي قد ارتكب جرمًا1.

_ 1 الصاحبي "ص91 وما بعدها".

الحبوس

الحبوس: والحبس كل شيء وقفه صاحبه وقفًا محرمًا لا يباع ولا يورث من نخل أو كرم أو أرض أو مستغل أو حيوان، يحبس أصله وتصرف غلته وما يأتيه من نماء ومال على ما حبس عليه. وقد كان أهل الجاهلية يحبسون السوائم والبحائر والحوامي وغيرها على الأصنام وعلى بيوت عبادتهم. فلما جاء الإسلام، قيد الحبس بما يكون في سبيل الله وانتفاع المسلمين، وحرم عبوس الجاهلية1. وقد حبس الجاهليون أرضين لمعابدهم وأصنامهم جعلوها "حمى" لآلهتهم، ولا يجوز لأحد ارتيادها للرعي فيها ولاستثمارها؛ لأنها حبس على الصنم أو على المعبد. ترعى فيها السائمة التي حبست على الصنم أو المعبد. فلما جاء الإسلام حرم هذا الحبس؛ لأنه لغير الله. وأحل محله "الوقف" الذي هو لله. وحبسوا النخل للمحتاج ولأبناء السبيل، يلتقط تمره بغير إذن، ولا يجوز منع أحد منه. كذلك حبسوا الماء لمن يحتاج إليه، يأخذ منه دون بدل، لشدة حاجة الناس إليه، فالحبوس بمنزلة الأوقاف في الإسلام.

_ 1 تاج العروس "4/ 125"، "حبس".

اللقطة

اللقطة: اللقطة الذي تجده ملقى فتأخذه. وتكون اللقطة لواجدها ما لم يأت شخص ببينة واضحة على أنها له. فعلى لاقطها إعادتها إلى صاحبها أي: مالكها. وقد يقع

نزاع على لقطة كأن يدعي شخص بأن اللقطة هي حلاله وملكه، وقد التقطها شخص وادعى أنها له، أو أنه وجدها لقطة فهي له. أو أن يتنازع متنازعون على اللقطة بأن يدعي كل واحد أنها له؛ لأنه هو الذي وجدها. فتكون البينة حجة في هذه الخصومات، حتى يفض محكم ذلك النزاع.

الركاز

الركاز: وللجاهليين رأي في الركاز، وهو دفين أهل الجاهلية، فمن وجده صار من حقه. ولهم رأي في المعادن. وسأتحدث عنهما في أثناء حديثي عن الحياة الاقتصادية قبل الإسلام.

الفصل التاسع والخمسون: العقود والالتزامات

الفصل التاسع والخمسون: العقود والالتزامات مدخل ... الفصل التاسع والخمسون: العقود والالتزامات يجب على الإنسان الوفاء بالعقود وبالالتزامات، مهما كانت، ما دامت قد تمت برضاء الطرفين وباختيارها. ومن هذه العقود عقود الزواج والديون والشركات والمزارعة. وغير ذلك. وقد تعقد العقود بغير كتاب، أي: باتفاق لساني، وقد تتم بكتاب يدون عليه ما اتفق عليه، وقد يشهد على العقد شهود. ويكتب العقد، أي: الاتفاق إذا أريد أن يكون كتابة، على كتاب قد يكون صحيفة. يدوّن فيه كل ما اتفق عليه. ويعبر عن صحيفة العقود بلفظة "ص ل ت" "صلت" و"ص ل وت" في بعض اللهجات العربية الجنوبية. ومن معانيها "سمع"، وتؤدي معنى أن موقعي العقد قد سمعوا شروط العقد وعرفوها، فهم على علم بها وشهادة1. وإذا تم التكاتب ودوّنت كل الشروط التي اتفق عليها، ختم عليها المتعاقدون. وقد فعلوا ذلك في المعاهدات وفي الاتفاقيات وفي عقود التجارة والمعاملات الأخرى. وقد يكتب العقد كاتب قد يذكر اسمه دلالة على أنه شاهد عدل على صحة العقد. ويقوم الخاتم مقام الإمضاء المستعمل في هذا اليوم. وقد يكتب اسم الرجل، ثم توضع صورة الخاتم تحته.

_ 1 Rhodokanakis, Stud, Lexi, Ii, S. 44

وربما لا يكون الخاتم مكتوبًا، بل يكون محفورًا، حفرت عليه صور. فقد ورد أن في خاتم أنس بن مالك نقش ذئب أو "ثعلب"، وكان خاتم عمران بن الحصين نقشه تمثال رجال متقلد سيفًا. ويختم به على الطين، وقد ورد: أن عمر بن الخطاب نهى أن يكتب في الخواتيم شيء من العربية1. وفي العربيات الجنوبية لفظة "جزم"، وترد في كتب العقود والالتزامات، وتعني القطع، وقطع إنسان عهدًا على نفسه وإمضاءً له، كما نقول: "جزم اليمين: أمضاه"2 وأما لفظة "تجزم" فمعناها عقد عقدًا، أو أمضى يمينًا واتفاقًا3. وتختم نصوص الاتفاقيات والعهود في بعض كتابات العربية الجنوبية بلفظة "صدق" أحيانًا4، دلالة على اكتسابها الصفة الشرعية وموافقة المتعاقدين التامة، وهي في معنى "صودق" التي تدون في نهاية المعاهدات والاتفاقيات في بعض الأحيان. وتحتفظ صكوك العقود عند الطرفين، وقد تودع في الأماكن المقدسة ودور العبادة، وذلك في الأمور المهمة، مثل: الأحلاف وما يتعلق بالمجموع. وقد أودعت قريش الوثيقة التي كتبتها بمقاطعة "بني هاشم" في جوف الكعبة كما ورد ذلك في كتب السير. وقد عيّر "الحارث بن حِلِّزة اليشكري"، قومًا غدروا ونقضوا العهد بقوله: حذر الجور والتعدي وهل ينقـ ... ـض ما في المهارق الأهواء أي: إن كانت أهواؤكم زينت لكم الغدر بعد ما تحالفنا وتوافقنا، فكيف تصنعون بما في الصحف مكتوبًا عليكم5. وأشار شاعر آخر، وهو "قيس بن الخطيم" إلى كتب دوّن فيها حلف6.

_ 1 الطبقات الكبرى، لابن سعد "7/ 10 وما بعدها". 2 راجع الفقرة الأولى من النص: Glaser 1064, Chi 435, Hofmus, 17 3 Rhodohanakis, Stud, Lexi, Ii, S. 154 4 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 92, J. Pedersen, Der Eid Bei Den Semiten. S. 131. 5 المعاني الكبير "2/ 1117". 6 المعاني الكبير "2/ 1117".

البيوع

البيوع: ولدينا نص مهم من أيام الملك "شمر يهرعش" موجه إلى أهل سبأ وإلى أهل مأرب وما والاها في تنظيم البيوع. وهو قانون مهم جدًّا، حددت فيه واجبات البائع والمشتري وحكم البضاعة في أثناء التعامل، أي: قبل إتمام صفقة البيع. وقد حدد القانون المدة التي يعد فيها البيع تامًّا ناجزًا، بمدة شهر واحد، لا يجوز بعدها التراجع عن البيع أبدًا. وبيّن القانون حكم الحيوان الهالك في أثناء المدة التي يحق للمشتري فيها إرجاع ما اشتراه إلى البائع فحددها بمدة سبعة أيام، فإن مضت هذه الأيام وهلك الحيوان في حوزة المشتري فعليه دفع الثمن كاملًا إلى البائع، ولا يحق له الاعتراض عليه والاحتجاج بأن الحيوان قد هلك في أثناء مدة أجاز له القانون فسخ عقد الشراء فيها. ويطبق حكم هذا القانون على الإنسان أيضًا، فإذا اشترى شخص عبدًا أو عبدة، روعي في بيعها وفي شرائهما أحكام هذه المواد1. وتعرّض القانون لحالة إرجاع المشتري ما اشتراه إلى بائعه، ورده عليه في خلال المدة التي سمح بها القانون وهي الشهر فما دون، مثل عشرين يومًا أو عشرة أيام، فجوّز ذلك، بشرط أن يقوم المشتري بدفع تعويض للبائع يعادل قيمة إجازة الحيوان أو الرقيق في خلال تلك المدة التي بقي فيها في حوزة المشتري. فالقانون السبئي إذن قد أخذ بقاعدة "الخيار" في البيع، في بيع الأجسام الحية: الإنسان، والإبل، والغنم، والبقر. وحدد مدة "الخيار" هذه بشهر واحد، إذا تم الشهر، ولم يُرجِع المشتري ما اشتراه إلى البائع، عدّ البيع تامًّا ناجزًا، وفي مدة الخيار هذه يكون المبيع ملكًا للبائع، وعلى المشتري دفع تعويض مناسب للبائع في حالة إرجاع المبيع إلى صاحبه تعويضًا يقدر بقدر العرف المتبع في حالة إيجار ذلك الرقيق أو الحيوان، كما أن على المشتري أن يدفع بدل العبد أو الحيوان المتوفى إذا كانت الوفاة قد وقعت في أثناء وجود العبد أو الحيوان في حيازة المشتري. وغاية المشرع من هذا الخيار هو التأكد من أن المبيع خال من العيب سالم من

_ 1 Glaser 542, Rep. Epigr., 3910, British Mus., 104396, G. Ryckmans, Le Museon, 40, 1927, P.165, Rhodokanakia, In Wzkm, 38, 1932, 172, Arabien, S. 135

الفصل الستون: حكم العرب

الفصل الستون: حكم العرب مدخل ... الفصل الستون: حكام العرب الحاكم منفذ الحكم بين الناس، والذي يمنع الظالم من الظلم1. وهو في معنى "القاضي"، الذي هو القاطع للأمور المحكم لها2. وحكام العرب، هم الذين حكموا بينهم فيما حدث من خلاف، وما وقع لهم من خصومات. وقد كان لكل قبيلة حكام، عرفوا برجاحة عقولهم وبسعة مداركهم وبوقوفهم على أعراف قومهم، وبعدلهم وإنصافهم، وبترفعهم عن الظلم والدنايا، فتحاكموا إليهم. ومنهم من طار اسمه إلى خارج مواطن قبيلته، فتحاكم إليه أبناء القبائل الأخرى، لما وجدوا فيه من صفات الحكم العادل والنزاهة والسلامة والصدق في إعطاء الحكم. ولم يكن الحكم بين الناس والقضاء بينهم، عملًا رسميًّا من أعمال الحكومة, بمعنى أن الحاكم موظف من موظفي الدولة، كما هو في الوقت الحاضر، وكما وقع في الإسلام، وإنما كان القضاء أمرًا يعود إلى الناس، إن شاءوا رجعوا إلى عقلاء الحي لفض ما قد يقع بين أهل الحي من خلاف، وإن شاءوا اختاروا حكمًا يرتضونه لكي يقضي بينهم في الخصومة، فيقضي فيما بينهم برأيه وبرجاحة عقله، ثم ينتهي واجبه، وهم لا يختارون حكمًا، إلا لوجود خلال حميدة فيه تؤهله للحكم، مثل العدل والفهم والحنكة، والفطنة، وسرعة إدراك أسباب الحق.

_ 1 تاج العروس "8/ 252"، "حكم". 2 تاج العروس "10/ 297"، "قضم".

ولهذا صار الرجل الذي تتوفر فيه الصفات التي يجب أن تكون في الحاكم، مرجعًا لأصحاب الخصومات، يرجعون إليه لعمق تفكيره ولرجاحة عقله في استنباط الحكم الذي يرضي ويقنع الطرفين، ولم يكن هذا الحاكم من رؤساء القبيلة بالضرورة، وإنما قد يكون من الذين برزوا في مجتمعهم وأظهروا مقدرة في فهم طبائع قومهم وأعرافهم وأنسابهم وامتازوا عن غيرهم بسعة الفهم والإدراك. وحكام العرب إما حكام منحوا مواهب ومزايا، جعلت الناس يركنون إليهم في حل المشكلات، وإما كهان، لجأ الناس إليهم يستفتونهم في الحكم فيما يقع بينهم من شجار، لاعتقادهم بصحة أحكامهم، وإما "عراف"، وإما فقهاء ومفتون، أي: رجال دين، كالقلامسة، يفتون في أمور الدين. ويلاحظ أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الذي ينظر في الخصومات "الحكم" و"الحاكم". أما في الإسلام قد تغلبت لفظة "القاضي" عليه. وصار القاضي هو الذي يقضي بين الناس في جميع الأمور القضائية من مدنية وجزائية، ثم عاد الناس في هذه الأيام فخصصوا "الحاكم" بمن يحكم في القوانين الجزائية والمدنية، و"القاضي" بمن يقضي في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية التي لها علاقة بأمور الدفن كالزواج والطلاق والإرث. وذكر علماء اللغة أن "الفِتاحة"1، الحكومة والقضاء، قال الأشعر الجعفي: ألا من مبلغٍ عمرًا رسولًا ... فإنّي عن فتاحتكم غني2 وأن الفتح، الحكم بين الخصمين في لغة حمير. يقال: فتح الحاكم بينهم، إذا حكم3. وإذا تجاوز الحاكم العدل وتباعد عن الحق، يقال: شط عليه في حكمه. و"الشطط" مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام4. و"الجور" الظلم والتعدي على الغير، وإذا شط الحاكم على شخص، يكون قد جار عليه وظلمه، وما أنصفه في حكمه.

_ 1 بالكسر والضم. 2 تاج العروس "2/ 194". 3 تاج العروس "2/ 194". 4 تاج العروس "5/ 167".

ويجب على الحاكم أن يحكم بين الناس بالقسط، حكم "الميزان"، فلا يجوز في العدالة، أن يرجح كفة على أخرى. ولهذا قيل: الميزان العدل، وجعل رمزًا للعدالة. قال تعالى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} 1. والقسطاس الميزان، وقيل: هو أقوم الموازين وأعدلها2. وكانت العادة أن يلجأ اليتيم والضعيف إلى ذوي رحمه، أو إلى أبناء حيه، للحصول على ظلامته. فيتدخل أهل المروءة والإنصاف في الأمر، لإكراه الظالم على إنصاف المظلوم. ورد أنه "كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة. ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم"3. ومنهم من كان يأكل مال اليتيم والضعيف، ويجبر اليتيمة على الزواج به، للحصول على مالها، وقد منع ذلك في الإسلام4. وحكام العرب في الجاهلية: أكثم بن صيفي بن رياح، وحاجب بن زرارة بن عدس، والأقرع بن حابس، وأبو عيينة، وربيعة بن مخاشن، وضمرة بن ضمرة "ضمرة بن أبي ضمرة" التميمي، هؤلاء كانوا حكام تميم5. و"الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي"، و"عيينة بن حصن بن حذيفة"، و"حرملة بن الأشعر المري"، وهرم بن قطبة بن سنان بن عمرو الفزاري، وبشر بن عبد الله بن حبان، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، وأبو جهل بن هشام، وأنس بن مدرك، و"عامر بن الظرب" العدواني، وغيلان بن سلمة بن معتب الثقفي وهما حكمان لقيس، وهاشم بن عبد مناف، وعبد المطلب، وأبو طالب، والعاصي بن وائل القرشي، "العاصي"، والعلاء بن حارثة بن نضلة بن عبد العزى القرشي، هؤلاء كانوا حكّامًا لقريش. وربيعة بن حذار الأسدي، ويعمر بن الشداخ "يعمر الشداخ" الكناني، هؤلاء كانوا حكّامًا لكنانة6. وكان من حكامهم أيضًا:

_ 1 الشعراء، الرقم 26، الآية 182. 2 تاج العروس "4/ 218"، "القسطاس"، "9/ 360 وما بعدها"، "وزن". 3 تفسير الطبري "4/ 153". 4 سورة النساء، الآية 2 وما بعدها. 5 تاج العروس "8/ 252"، "حكم"، "5/ 461"، "قرع". 6 تاج العروس "8/ 252"، "حكم"، "5/ 461"، "قرع".

صفوان بن أمية، وسلمة بن نوفل الكناني، ومالك بن جبر العامري، وعمرو بن حُممة الدوسي، والحارث بن عبّاد الربيعي، والقلمس الكناني، وذو الأصبع العدواني1. وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع حكام العرب، فقال: "وكان للعرب حكام ترجع إليها في أمورها وتتحاكم في منافراتها ومواريثها ومياهها ودمائها؛ لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه، فكانوا يحكمون أهل الشرف والصدق والأمانة والرئاسة والسن والمجد والتجربة. وكان أول من استقضي فحكم: الأفعى بن الأفعى الجرهمي، وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم، ثم سليمان بن نوفل ثم معاوية بن عروة، ثم صخر بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل، ثم الشداخ، وهو يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وسويد بن ربيعة بن حذار بن مرة بن الحارث بن سعد، ومخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، وكان يجلس على سرير من خشب فسمّي ذا الأعواد، وأكثم بن صيفي بن رياح بن الحارث بن مخاشن، وعامر بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن قيس، وهرم بن قطبة بن سيار الفزاري، وغيلان بن سلمة بن معتب الثقفي، وسنان بن أبي حارثة المري، والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وعامر بن الضحيان بن الضحاك بن النمر بن قاسط، والجعد بن صبرة الشيباني، ووكيع بن سلمة بن زهير الإيادي، وهو صاحب الصرح بالحزورة، وقس بن ساعدة الإيادي، وحنظلة بن نهد القضاعي، وعمرو بن حممة الدوسي. وكان في قريش حكام، منهم: عبد المطلب، وحرب بن أمية، والزبير بن عبد المطلب، وعبد الله بن جدعان، والوليد بن المغيرة المخزومي"2. وكان في نساء العرب أيام الجاهلية حاكمات اشتهرن بإصابة الحكم وفصل الخصومات وحسن الرأي في الحكومة. منهن: صحر بن لقمان، وابنة الخس، وجمعة بنت حابس الإيادي، وخصيلة بنت عامر بن الظرب العدواني، وحذام بنت

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 330 وما بعدها"، المحبر "132"، البيان "1/ 109"، الاشتقاق "172"، الأغاني "3/ 2 وما بعدها". 2 اليعقوبي "1/ 227 وما بعدها".

الريّان1. ويذكر أهل الأخبار أن "ابنة الخس"، هي "هند بنت الخس الإيادية"، وهي جاهلية قديمة، وقد أدركت "القلمس" الكناني، ونسبوا لها أسجاعًا كثيرة, وقالوا: إنها كانت تحاجي الرجال. ورووا لها شعرًا قليلًا2. و"الخس"، والد هذه الحكيمة، هو الخس بن حابس بن قريط الإيادي. وذكر بعضهم أنه من العماليق. وقد اختلف في اسمها فقيل: هند وقيل جمعة. وقد جاء عنها الأمثال. وكانت معروفة بالفصاحة3. وقد نسبوا لها حديثًا في وصف المرأة وفي وصف الرجل، كما ذكروا لها كلامًا مع والدها، حين سألها عن أسئلة4. وذكر بعض أهل الأخبار أن "جمعة بنت حابس الإيادي"، هي أخت "ابنة الخس"5. والدها "حابس" رجل من إياد، أو هو "الخس بن حابس". وذكر بعض آخر، أن "جمعة" ليست أخت "هند" وإنما هناك حاكمة أخرى6, وزعموا أن "صحر بنت لقمان"، كانت عاقلة اشتهرت بالعقل والكمال والفصاحة، وكانت العرب تتحاكم عندها فيما يقع بينهم من خلاف في الأنساب وغيرها. وكان والدها "لقمان". وبعضهم يقول غير ذلك. وأخوها "القيم". ويذكر بعضهم أن لقمان قتلها7. أما "الأفعى الجرهمي"، فقد جعله بعض أهل الأخبار من أول الحكام، وهو الذي حكم بين "بني نزار بن معد" في ميراثهم على حد زعم أهل الأخبار، وهو مضر وربيعة وإياد وأنمار. وكان منزله نجران من اليمن. ومن ولده السيد والعاقب أسقفا نجران في أيام الرسول8. وجعله "اليعقوبي" من أقدم من حكم عند العرب في خلاف، إذ قال عنه: "وكان أول من استقضي إليه فحكم:

_ 1 تاج العروس "8/ 252 وما بعدها"، "حكم"، بلوغ الأرب "1/ 338 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "1/ 339 وما بعدها". 3 تاج العروس "4/ 137"، "خس"، "8/ 253"، "حكم". 4 الأمالي، للقالي "2/ 256 وما بعدها"، ذيل الأمالي "107، 119". 5 بلوغ الأرب "1/ 342". 6 تاج العروس "4/ 137", "خس". 7 تاج العروس "4/ 327"، "صحر"، "8/ 253"، "حكم". 8 المحبر "ص132"، الاشتقاق "ص218".

الأفعى بن الأفعى الجرهمي. وهو الذي حكم بين بني نزار في ميراثهم"1. وجعله "المسعودي" ملكًا من ملوك نجران1. وكان أكثم بن صيفي من حكام تميم، ذكر أنه أدرك الإسلام، ولما سمع بأمر النبي، وكان إذ ذاك شيخًا، بعث ابنه "حُبيشًا" إلى النبي ليأتي بخبره، فلما جاء به، جمع قومه وخطب فيهم، ودعاهم إلى الإسلام. ونسبوا له أمثلة، منها: مقتل الرجل بين فكيه، وجمعوا له تسعة وعشرين مثلًا أو أكثر من ذلك. ونسبوا له كلامًا مع "كسرى"3. ونسب له "الجاحظ" بيتًا في الزهد، هو: نُربّي ويهلك آباؤنا ... وبينا نربّي بنينا فنينا4 وزعم أهل الأخبار أنه عاش تسعين ومائة سنة، ومنهم من استقل هذا العمر واستصغره، فجعله ثلاثمائة وثلاثين سنة5. ولأكثم صلات وعلاقات بالنعمان بن المنذر ملك الحيرة. وكان الملك قد اختاره في جملة من اختارهم لمحادثة "كسرى" في أمر العرب على ما يذكره أهل الأخبار. ونسب أهل الأخبار إليه حكمًا زعموا أنه قالها للملك "النعمان" في أصول الحكم, وفي كيفية إدارة شئون الرعية في حقوق الراعي. وزعم أن "الحارث بن أبي شمر الغساني"، طلبه ليكون في الألسنة الموهوبة التي تكلم "هرقل" عظيم الروم عند زيارته له6. وذكر أنه كان يحث على التآلف والوحدة وجمع الشمل، ونبذ التخالف والتنافر. ونسبوا له أقوالًا في ذلك. وفي أصول الحروب والقيادة وأمثال

_ 1 اليعقوبي "1/ 227". 2 مروج "2/ 89 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "1/ 308 وما بعدها"، البخلاء "146، 208"، رسائل الجاحظ "1/ 66". 4 الحيوان "3/ 51". 5 المحبر "134"، الاشتقاق "127"، المعمرون، للسجستاني "10"، الإصابة "1/ 118 وما بعدها"، "رقم 485"، اليعقوبي "1/ 227"، أسد الغابة "1/ 113"، المعارف "299"، مروج الذهب "2/ 116"، عيون الأثر "1/ 70"، الأمالي، للقالي "1/ 309". 6 المعمرون "19".

ذلك، مما يحتاج إليه المجتمع في ذلك العهد1. وذكر أن سادة نجران كانوا يتصلون به، وكذلك ملك "هجر"2. وأن سادات جهينة ومزينة وأسلم وخزاعة، كانوا يسألونه الرأي والاستشارة3. وحاجب بن زرارة بن عدس من حكام تميم، ومن البلغاء الفصحاء في زمانه, وممن وفد على "كسرى" من سادات تميم، وكان له كلام معه. وكان في جملة من توسط عنده ليسمح لقومه أن يدخلوا الريف. فسمح لهم بذلك. وقد هلك قبل الإسلام. فصار ابنه "عطارد" سيد تميم. وقد أدرك عطارد الإسلام, وذهب إلى الرسول، فأسلم4. وكان حاجب بن زرارة يقال له: ذو القوس، وذلك أن تميمًا أقحطوا، فارتحل حاجب إلى كسرى، فسأله أن يأذن له، أن ينزل حول بلاده. فقال: إنكم أهل غدر! فقال: أنا ضامن. فقال: ومن لي بأن تفي؟ قال: أرهنك قوسي، فأذن لهم دخول الريف. فلما مات حاجب، رحل عطارد بن حاجب إلى كسرى، يطلب قوس أبيه، فردها عليه وكساه حلة. فلما وفد إلى النبي عطارد، وأسلم على يديه أهداها للنبي، فلم يقبلها، فباعها. وقال عمر: يا رسول الله لو اشتريتها فلبستها لوفود العرب وللعيد، فقال: إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة. وقد ارتد عطارد مع من ارتد من بني تميم بعد النبي وتبع سجاح، ثم عاد إلى الإسلام5. وكان "الأقرع بن حابس بن عقال بن محرر بن سفيان" التميمي المجاشعي الدارمي من حكام تميم، اسمه "فراس"، وإنما قيل له: الأقرع لقرع كان برأسه. وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام. وفد على النبي، وهو من المؤلفة قلوبهم وقد حسن إسلامه. وقد نادى النبي، من وراء الحجرات: يا محمد، فلم

_ 1 عيون الأخبار "1/ 108"، "كتاب السلطان"، "1/ 246"، "باب ذي الغنى ومدح الفقر"، البخلاء للجاحظ "208"، "الحاجري"، المزهر، للسيوطي "1/ 501"، البلدان "4/ 374"، العقد الفريد "1/ 170"، البخلاء "208". 2 المعمرون، للسجستاني "18". 3 المعمرون "15". 4 بلوغ الأرب "1/ 311 وما بعدها"، السيرة الحلبية "1/ 10"، الاشتقاق "1/ 144"، الأمالي، للقالي "2/ 299 وما بعدها". 5 الإصابة "2/ 476"، "رقم 5568"، بلوغ الأرب "1/ 311 وما بعدها"، الاشتقاق "145"، الطبري "3/ 115 وما بعدها"، "قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات".

يحبه. فقال: والله يا محمد إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين. فقال رسول الله: ذلكم الله. وفي هذا الحادث نزلت الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 1. وذكر أنه كان مجوسيًّا قبل أن يسلم. وأن "عيينة" والأقرع استقطعا أبا بكر أرضًا. فقال لهما عمر: إنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتألفكما على الإسلام. فأما الآن فاجهدا جهدكما، وقطع الكتاب. وقد عاش إلى زمن عثمان2. وإليه تحاكم "الفرافصة" الكلبي، وجرير بن عبد الله، وقد نفر "الأقرع" جرير على الفرافصة بن الأحوص الكلبي3. وكان ربيعة بن مخاشن من حكام تميم البارزين في أنساب قومه، كما كان من خطبائهم وفصحائهم. وهو من "بني أسيد بن عمرو بن تميم"4، وكان يجلس على سرير من خشب في قبة من خشب، فسمي: ذا الأعواد. وإليه أشار الأسود بن يعفر بقوله: ولقد علمتُ سوى الذين نبأتني ... أن السبيل سبيل ذا الأعواد5 وذكر أنه كان مرجع قومه، وعالمهم بالأنساب، وزعم قومه أنه أول من قرعت له العصا6. وكان أبوه "مخاشن": حكمًا أيضًا7. وكان ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم التميمي من حكام تميم المعروفين. وكان قومه يلجئون إليه فيمن كانوا يلجئون إليهم عند أخذ الرأي. ذكر أنه حكم فأخذ رشوة فغدر8. وأنه كان من رجال بني تميم لسانًا

_ 1 الحجرات، رقم 49، الآية 4، تفسير الطبري "26/ 76 وما بعدها"، روح المعاني "26/ 126"، الاشتقاق "146"، المحبر "134". 2 الإصابة "1/ 72 وما بعدها"، "رقم 231"، بلوغ الأرب "1/ 315 وما بعدها". 3 كتاب نسب قريش "7"، الروض الأنف "1/ 60". 4 بلوغ الأرب "1/ 316". 5 المحبر "134". 6 بلوغ الأرب "1/ 316". 7 المحبر "134". 8 بلوغ الأرب "1/ 316"، وكان اسمه: "شق بن ضمرة"، المحبر "134"، الأمالي، للقالي "2/ 279".

وبيانًا. وكان اسمه: شق بن ضمرة، فسماه بعض ملوك الحيرة ضمرة1. والرشوة ما يعطيه الشخص الحاكم أو غيره ليحكم له، أو يحمله على ما يريد2. وقد عرف بـ"شقة"3. ومن حكام "تميم" الأحنف بن قيس السعدي التميمي". واسمه "الضحاك بن قيس" وقيل: "صخر بن قيس"، ويكنى "أبا بحر" وهو ممن أدرك النبي. وكان من الحلماء الدهاة الحكماء العقلاء. وقد ضرب بحلمه المثل. "قال رجل للأحنف بن قيس: بم سدت قومك وأنت أحنف أعور؟ قال: بتركي ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك"4. وذكر أنه هو القائل: "لا تزال العرب بخير ما لبست العمائم. وتقلدت السيوف وركبت الخيل، ولم تأخذها حمية الأوغاد. وقيل: وما حمية الأوغاد؟ قال: أن يروا الحلم ذلًا، والتواهب ضيمًا"5. وكان عامر بن الظرب العدواني من حكام قيس. وذكر أنه كان أول من قرعت له العصا. ونسبوا له حكمًا وأمثالًا منها: رب أكلة تمنع أكلات. ورب زارع لنفسه حاصد سواه، ومن طلب شيئًا وجده. إلى أمثلة أخرى من أمثلة في الحكم والمواعظ وفي كيفية السير في هذه الحياة6. وذكر أنه هو الذي جعل الدية مائة من الإبل، وجعله "محمد بن حبيب" في طليعة "أئمة العرب"7. وذكر أنه التقى بـ"حممة بن رافع الدوسي" عند ملك من ملوك حمير،

_ 1 الاشتقاق "149"، نوادر المخطوطات "305"، "كتاب ألقاب الشعراء ومن يعرف منهم بأمه". 2 تاج العروس "10/ 150"، "رشا". 3 نواد المخطوطات، ألقاب الشعراء، "ص305". 4 الإصابة "1/ 110"، "رقم "429"، الاستيعاب "1/ 135"، "حاشية على الإصابة"، الأمالي، للقالي "1/ 59 وما بعدها، 231 وما بعدها، 241، 269"، "2/ 20، 41، 167، 227 وما بعدها، 306"، ذيل الأمالي "14، 27، 118، 186، 212، 215"، نوادر المخطوطات "أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام"، "ص158"، رسائل الجاحظ "1/ 344". 5 رسائل الجاحظ "1/ 362"، البيان والتبيين "2/ 88"، "/ 98". 6 بلوغ الأرب "1/ 316"، الاشتقاق "1/ 164"، تاج العروس "5/ 461"، "قرع". 7 المحبر "181".

"فقال: تساءلا حتى أسمع ما تقولان"، فجرى بينهما كلام في الحكم وفي أمور الحياة1. وقد اختلف أهل الأخبار في أول من قرعت له العصا. فقال بعض منهم: هو "عامر بن الظرب العدواني"، وقال بعض أخر: هو "قيس بن خالد بن ذي الجدين". وهو قول ربيعة، أو "عمرو بن حممة" الدوسي، وهو قول تميم، أو "عمرو بن مالك". وذكر أن قيسًا كانوا لا يعدلون بفهم عامر بن الظرب فهمًا ولا بحكمه حكمًا. فلما طعن في السن، أو بلغ ثلاثمائة سنة، أنكر من عقله شيئًا، فقال لبنيه: أنه كبرت سني وعرض لي سهو، فإذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره، فأقرعوا لي المجن بالعصا. وقيل: كانت له ابنة يقال لها: خصيلة، فقال لها: إذا أنا خولطت، فاقرعي لي العصا. فأتى عامر بخنثى ليحكم فيه، فلم يدر ما الحكم، فجعل ينحر لهم ويطعمهم ويدافعهم بالقضاء. فقالت خصيلة ما شأنك قد أتلفت مالك؟ فخبرها أنه لا يدري ما حكم الخنثى، فقالت اتبعه مباله2. وذكر "محمد بن حبيب"، أنه حكم في الخنثى حكمًا جرى الإسلام به3. وذكر بعض آخر أن "العرب لا يكون بينها نائرة ولا عضلة في قضاء، إلا أسندوا ذلك إليه، ثم رضوا بما قضى فيه. فاختصم إليه في بعض ما كانوا يختلفون فيه في رجل خنثى له ما للرجل، وله ما للمرأة. فقالوا: أنجعله رجلًا أو امرأة، ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه. فقال: حتى أنظر في أمركم، فوالله ما نزل بي مثل هذه منكم يا معشر العرب، فاستأخروا عنه، فبات ليلته ساهرًا يقلب أمره وينظر في شأنه، لا يتوجه له منه وجه. وكانت له جارية يقال لها: سخيلة ترعى عليه غنمه"، فلما رأت سهره وقلقه وقلة قراره على فراشه، سألته عن حاله، فقال: ويحك اختصم إليّ في ميراث خنثى أأجعله رجلًا أو امرأة. فقالت: سبحان الله! لا أبالك اتبع القضاء المبال. أقعده، فإن بال من حيث يبول الرجل، فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة، فهو امرأة. فسرَّ بهذا الجواب4

_ 1 الأمالي "2/ 276 وما بعدها". 2 تاج العروس "5/ 461"، "قرع". 3 المحبر "236". 4 الروض الأنف "1/ 86 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 86".

ومن حكّام قيس: "هَرِم بن قطبة بن سيّار بن عمرو". وهو العشراء بن جابر بن عقيل. وإليه تنافر "عامر بن الطفيل"، وعلقمة بن علاثة. وسنان بن أبي حارثة بن مرة1. ويذكر أهل الأخبار أيضًا أن "ذرب بن حوط بن عبد الله بن أبي حارثة الطائي"، كان حاكمًا شهيرًا في الجاهلية، وقد حكم "عامر بن الظرب" في الخنثى. وذكروا أن الشاعر "أدهم بن أبي الزهراء" الطائي، وهو من الشعراء في الإسلام، ذكره في شعر له، حيث قال: منّا الذي حكم الحكوم فوافقت ... في الجاهلية سنة الإسلام2 وقد أدخل "ذرب" واسمه "سويد بن مسعود بن جعفر بن عبد الله بن طريف بن حيي" الشاعر، في جملة من حكم في الجاهلية بحكم، فوافق حكمه السُّنة3. ومن حكّام العرب المعروفين وأحد المعمرين "عمرو بن حممة بن رافع الدوسي" من الأزد. ذكروا أنه عمَّر طويلًا، وأنه ذو الحلم الذي ضرب به العرب المثل، وأنه هو الذي قرعت له العصا4. وذكر "ابن دريد" أنه وفد إلى النبي5. ولم يذكر أحد غيره أنه وفد عليه. بل الذي عليه الآخرون أنه مات في الجاهلية بعد عمر طويل، إذ ذكروا أنه كان أحد المعمّرين، حتى أوصل بعضهم عمره إلى حوالي الأربعمائة سنة، فذكر أنه عاش ثلاثمائة وتسعين سنة6. وذكروا أنه عُرف بـ"ذي الحلم" وأنه هو الذي ضربت به العرب المثل في قرع العصا؛ لأنه بعد أن كبر صار يذهل فاتخذوا له من يوقظه فيقرع العصا، فيرجع إليه فهمه. وأنه هو الذي أشار إليه "الحارث بن وعلة" بقوله: وزعمتم أن لا حُلوم لنا ... إن العصا قرعت لذي الحلم7

_ 1 المحبر "135". 2 المحبر "236". 3 الاشتقاق "2/ 232". 4 معجم الشعراء "ص209". 5 الاشتقاق "296". 6 بلوغ الأرب "1/ 331". 7 بلوغ الأرب "1/ 331 وما بعدها".

ويذكر أهل الأخبار أن الذين يزعمون أن "عمرو بن حممة" هو الذي كان يقال له: "ذو الحلم"، وأنه هو أول من قرعت له العصا، إنما هم أهل اليمن، وذلك تعصبًا منهم إليه1. ويظهر من ذلك أن العصبية القبلية قد لعبت دورًا في هذه القصة: قصة أول من قرعت له العصا، فزعم القيسيون أن أول من قرعت له العصا، هو "عامر بن الظرب العدواني"، وزعم أهل اليمن، أنه "عمرو بن حممة". وقد كان له قبر معروف، تزوره المارة، ذكر أن "الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد، أبو كلثوم بن الهدم" الذي نزل عليه النبي، و"عتيك بن قيس بن هيشة بن أمية بن معاوية"، و"حاطب بن قيس بن هيشة" الذي كانت بسببه حرب حاطب، مرّوا بقبره قادمين من الشأم، فعقروا رواحلهم على قبره. وقال كل واحد منهم شعرًا في رثائه2. ونعرف حكمًا آخر من حكام "عدوان"، عرف بـ"ذي الأصبع العدواني" وهو "حرثان بن محرث"، أو "حرثان بن عمرو"، أو "حرثان بن الحارث"، أو "حرثان بن السموأل بن محرث بن شبابة"، إلى غير ذلك من أقوال3. وقد عدّه أهل الأخبار من الشعراء المعمرين، وأعطاه "أبو حاتم السجستاني" عمرًا، جعله ثلاثمائة سنة بالتمام والكمال4. وغيلان بن سلمة الثقفي، أحد حكام قيس في الجاهلية، وهو شريف شاعر. قالوا: إنه كانت له ثلاثة أيام: يوم يحكم بين الناس، ويوم ينشد فيه شعره، ويوم ينظر فيه إلى جماله، وجاء الإسلام وعنده عشر نسوة فخيره النبي فاختار أربعًا، وكان ممن أسلم. وذكر أنه وفد على كسرى، فكان بينه وبين غيلان كلام أعجبه، فأكرمه وقدمه وسهل تجارته وتجارة من كان معه، وكان فيهم

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 332". 2 الأمالي، للقالي "2/ 143". 3 بلوغ الأرب "1/ 335 وما بعدها" الاشتقاق "2/ 163"، "حرثان بن محرث بن الحارث بن شباة"، نوادر المخطوطات، ألقاب الشعراء "307"، "شباب"، شرح المفضليات "312"، الخزانة "1/ 408". 4 بلوغ الأرب "1/ 335"، الأمالي، للقالي، "1/ 129، 255"، "2/ 220"، الأغاني "3/ 9".

أبو سفيان في بعض الروايات، وأرسل معه من بنى له أطمًا بالطائف1. وكان غنيًّا صاحب تجارة. وقيل: إنه أحد من نزل فيه: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . وذكر عنه أن "بني عامر" أغاروا على ثقيف بالطائف، فاستنجدت ثقيف ببني نصر بن معاوية، وكانوا حلفاءهم، فلم ينجدوهم، فخرجت ثقيف إلى بني عامر وعليها "غيلان"، فقاتلت "بني عامر"، وانتصرت عليهم وخلد "غيلان" هذا القتال في شعر رووه له2. وأشير إلى اسم قاض آخر عرف واشتهر في الجاهلية، اسمه "حذار"، وهو "ربيعة بن حذار" الأسدي من "بني أسد بن خزيمة". وقد نعت بـ"قاضي العرب"3. وكان حكمًا من حكام "بني أسد"، وإليه مرجعهم في أمورهم ومشورتهم. وإليه نافر "خالد بن مالك بن تميم النهشلي" "القعقاع بن معبد التميمي"، فنفر القعقاع4. وله ولد اسمه: "سويد بن ربيعة بن حذار". كان حاكمًا كذلك5. ومن حكام "طيء" "ابن صعترة الطائي". وكان من الحكام الكهان6. وممن اشتهر بالقضاء بين الناس من "إياد": "وكيع بن سلمة بن زهر بن إياد"، وهو صاحب الصرح بحزورة مكة وقد أكثروا فيه فقالوا: كان كاهنًا, وقالوا: كان صديقًا من الصديقين. وذكروا له أقوالًا ووصية لقومه من إياد، جاء فيها: "اسمعوا وصيتي: الكلام كلمتان. والأمر بعد البيان، من رشد فاتبعوه ومن غوى فارفضوه، وكل شاة معلقة برجلها"، فكان أول من قال هذه الكلمة فذهبت مثلًا7. وقد ذكر عنه، أنه كان ولي أمر البيت بعد جرهم، فبنى صرحًا بأسفل

_ 1 الإصابة "3/ 186 وما بعدها"، "رقم 6926"، الاستيعاب "3/ 186"، "حاشية على الإصابة"، بلوغ الأرب "1/ 319"، المحبر "135"، البخلاء "186، 393"، ابن سعد "5/ 371"، الأغاني "12/ 48 وما بعدها"، اللآلي "478". 2 بلوغ الأرب "1/ 321". 3 اللسان "4/ 177". 4 بلوغ الأرب "1/ 329"، الاشتقاق "145". 5 المحبر "134". 6 تاج العروس "6/ 226"، "قلطف". 7 المحبر "136"، بلوغ الأرب "2/ 260 وما بعدها".

مكة وجعل فيه أمة يقال لها: "حزورة" وبها سمّيت حزورة مكة وجعل في الصرح سلمًا، فكان يرقاه، ويزعم أنه يناجي ربه، ونسبوا له أمورًا كثيرة. ومن كلامه على ما يزعمه أهل الأخبار "مرضعة وفاطمة، ووادعة وقاصمة، والقطيعة والفجيعة، وصلة الرحم وحسن الكلم"، وقوله: "زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابًا، وبالشر عقابًا، إن من في الأرض عبيد لمن في السماء. هلكت جرهم وربلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد" وذكر أنه لما مات، نعي على الجبال1. ومن حكام إياد: قس بن ساعدة الإيادي الشهير2. وذكر أنه أول من قال: "أما بعد"3، وسأتكلم عنه في أثناء كلامي على الخطباء البلغاء. ومن حكام "كنانة" "صفوان بن أمية"، و"سلمى بن نوفل الكناني"، وكان من المعاصرين لـ"عامر بن الظرب العدواني"4. وجعل "صفوان بن أمية بن محرث الكناني" في عداد من حرّم الخمر في الجاهلية تكرمًا وصيانة لأنفسهم. ونسبوا له شعرًا في سبب تركه لها5. ومن حكام "كنانة": "يعمر بن عوف الشدّاخ الكناني"، وكان خبيرًا بالأنساب وبالأحساب والأخبار, وحكمًا من حكام كنانة. وهو الذي شدخ دماء خزاعة6. وكانت قريش قاتلت خزاعة وأرادت إخراج خزاعة من مكة، فتراضى الفريقان بيعمر، فحكم بينهم بشدخ الدماء بين قريش وخزاعة، وعلى ألا يخرج خزاعة من مكة7. وورد في رواية أخرى، أنه حكم أن كل دم أصاب قريش من خزاعة موضوع، وكل ما أصاب خزاعة من قريش ففيه الدية، وأن قصيًّا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة8. ومن حكام "كنانة" "القلمس الكناني". وكان من نسأة الشهور، كان يقف عند "جمرة العقبة"، ثم يعلن حكمه بنسيء الشهور، كأن يحلّ أحد الصفرين ويحرم صفر المؤخرة، وكذلك في الرجبين، يعني رجبًا وشعبان. فهو

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 260 وما بعدها". 2 المحبر "136". 3 صبح الأعشى "1/ 433". 4 بلوغ الأرب "1/ 330"، "سلمى بن نوفل بن معاوية"، المحبر "133". 5 الأمالي للقالي "1/ 204"، المحبر "133، 237". 6 بلوغ الأرب "1/ 330". 7 المحبر "133 وما بعدها". 8 ابن هشام "79 وما بعدها"، المحبر "134 حاشية".

من الحكام ومن النسأة1. قال "محمد بن حبيب": "نسأة الشهور من كنانة, وهم القلامسة، وأحدهم قلمس، وكان فقهاء العرب والمفتن لهم في دينهم"2. وكان عبد المطلب من حكام قريش، وكان يقال له: "الفيّاض" لجوده، و"مطعم طير السماء"؛ لأنه كان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رءوس الجبال، وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وكان يأمر بترك الظلم والبغي، ويحث قومه على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن دنيئات الأمور، وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها وجاءت السنة بها، منها: الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، وتحريم الخمر والزنا وأن لا يطوف بالبيت عريان3. وقد روت كتب الأدب والأخبار بعض الأحكام التي حكم بها حكام العرب، فصارت سنة للناس نهجوا عليها، منها: قطع يد السارق، وقد زعموا أن أول من سنَّ ذلك هو "الوليد بن المغيرة" أو "عبد المطلب"، فقطع رسول الله في الإسلام4. والقسامة وقد حكم بها "الوليد بن المغيرة" كذلك و"تحريم الخمر" وقد حكم بهذا التحريم جملة حكام، منهم "الوليد بن المغيرة" وعبد المطلب5، و"المنع من نكاح المحارم"، و"النهي عن قتل الموءودة" وتحريم الزنا، وأن لا يطوف إنسان بالبيت عريان، وتنسب هذه الأحكام إلى عبد المطلب6. ولا بد أن يكون الوليد بن المغيرة من الرجال المبجلين المشهورين في أيامه بسداد الرأي، ولهذا اكتسب إجلال الجميع له ونال تقدير الناس، حتى قيل: إن الناس كانوا يقولون في الجاهلية: لا وثوبي الوليد الخلق منهما والجديد7. وإليه تحاكم "بنو عبد مناف" في مقتل "عمرو بن علقمة بن عبد المطلب"، حيث اتهموا "خداش بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل"

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 335"، تاج العروس "4/ 222"، "القلمس". 2 المحبر "156 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "1/ 323 وما بعدها". 4 المعارف "ص240"،Ency, Iv, P.173. 5 المعارف "ص240"، بلوغ الأرب "1/ 323 وما بعدها". 6 بلوغ الأرب "1/ 323 وما بعدها". 7 المعارف "ص240".

بقتله. وكان "عمرو بن علقمة" أجيرًا لخداش بن عبد الله، خرج معه إلى الشأم، ففقد خداش حبلًا، فضرب عمرًا بعصا، فقضى عليه، فتحاكم "بنو عبد مناف" فيه إلى الوليد بن المغيرة، فقضى أن يحلف خمسون رجلًا من بني عامر بن لؤي عند البيت: ما قتله خداش، فحلفوا، إلا حويطب بن عبد العزى. فإن أمه افتدت يمينه، فيقال: إن من حلف هلك، قبل أن يحول عليه الحول1. وقد تحدثت عن هذه القصة في أثناء كلامي على "القسامة". وذكر أنه عرف بين قومه بـ"العدل"2. وذكر أن "عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن النمر بن قاسط"، كان يجلس للناس في الضحى، فيقضي بين المتخاصمين، فسمي الضحيان3. وكان سيد قومه في الجاهلية وصاحب مرباعهم4. وكانت ربيعة تغزو المغازي وهو في منزله، فتبعث له نصيبه مما تصيبه ولنسائه حصة، إعظامًا له5. ومن حكم "مالك بن جبير العامري" قوله: "على الخبير سقطت"6. وهو مَثل اشتهر وعرف بين العرب، ولا زال الناس يتمثلون به. وكان "نفيل بن عبد العزيز" من حكام قريش7. وإليه تنافر "عبد المطلب" و"حرب بن أمية"، فنفر عبد المطلب على حرب8. وأمه حبشية9. وقد ذكر "أبو حنيفة الدينوري" اسم رجل من أهل الجاهلية، قال عنه: إنه كان فقيه العرب في الجاهلية، وإنه كان من عدوان أو من إياد. قدم في قوم معتمرًا أو حاجًّا، فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في نحر الظهيرة: من أتى إلى مكة غدًا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين فصكّوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغد في ذلك الوقت10.

_ 1 الزبيري، نسب قريش "424 وما بعدها". 2 المحبر "132". 3 المحبر "135"، الاشتقاق "2/ 202". 4 الاشتقاق "2/ 202". 5 نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "122". 6 اللسان "7/ 316"، "سقط"، بلوغ الأرب "1/ 331". 7 الزبيري، كتاب نسب قريش "347". 8 المحبر "173 وما بعدها". 9 المحبر "306". 10 الروض الأنف "1/ 92".

فالرجل المذكور أن صحت رواية "الدينوري" عنه، فقيه من الفقهاء وحاكم كان بين الناس. ومعنى هذا وجود الفقه عند الجاهليين بالمعنى المفهوم من الكلمة في الإسلام. وأكثر من ذكرت، هم ممن أدركوا الإسلام، وسمعوا بخبر الرسول. وقد زعم أن بعضهم عُمّر عدة مئات من السنين. ويظهر أن ذاكرة أهل الأخبار لم تعِ من أخبار الحكام الذين عاشوا قبل الإسلام بزمن طويل، فاقتصر علمها على هؤلاء وأمثالهم ممن عاش في الفترة الملاصقة للإسلام. وقد نسب أهل الأخبار إلى الحكام المذكورين علم بأنساب الناس وأحسابهم، كما نسبوا لهم الفصاحة والبلاغة والبيان. وكلها من مستلزمات ومن ضروريات الحاكم في ذلك الوقت. وكان من واجبه العلم بأنساب الناس وأحسابهم؛ لأن المنافرات والمفاخرات، هي من أهم المحاكمات في ذلك الوقت. ولكي يكون حكم الحاكم فيها صحيحًا دقيقًا كان لا بد له من الوقوف على أحوال الناس وعلى مآثرهم ومفاخرهم في ذلك الوقت. وكان عليه أن يكون فصيحًا بليغًا؛ لأن الناس كانوا يقيمون وزنًا للكلام آنذاك، ومن يحسن الاختيار في الكلام، ويحسن صياغة الكلم، يكون ذا أثر فعال في نفوس المستمعين وفي إصدار الأحكام. ويتبين من دراسة ما ينسب إلى أولئك الحكام من حكام "قريش", أي: "مكة", وكذلك حكام أهل المدن. كانوا حكامًا بالمعنى المفهوم من "الحاكم"، فأحكامهم هي أحكام قانونية، مقتبسة من منطق العدالة والحق. وهي تشريع مدني ينسجم مع التشريع المدني للأمم المختصرة. وسبب ذلك على ما يظهر هو أن البيئة التي عاش فيها هؤلاء الحكام، هي بيئة حضرية، وقد كانوا أنفسهم من الحضر، ولكثير منهم وقوف على أحوال الأمم الأخرى، ولهم علم بالكتب وببعض اللغات الأعجمية وبالديانات وبالآراء، وفي جملتها القوانين، فتأثروا أو تأثر بعضهم بتلك المؤثرات. وقد روت كتب الأدب والأخبار بعض الأحكام التي حكم بها حكام العرب، فصارت سُنة للناس نهجوا عليها، منها: قطع يد السارق، وقد زعموا أن أول من سنَّ ذلك هو "الوليد بن المغيرة" أو "عبد المطلب"، فقطع رسول الله

في الإسلام1. والقسامة وقد حكم بها "الوليد بن المغيرة" كذلك2، و"تحريم الخمر" وقد حكم بهذا التحريم جملة حكام، منهم: "الوليد بن المغيرة" و"عبد المطلب"، و"المنع من نكاح المحارم"، و"النهي عن قتل الموءودة"، وتحريم الزنا، وأن لا يطوف إنسان بالبيت عريان، وتنسب هذه الأحكام إلى عبد المطلب3. وذكر أهل الأخبار أن أول من ورَّث البنات في الجاهلية، فأعطى البنت سهمًا والابن سهمين "ذو المجاسد اليشكري"4. وأنا إذ أذكر الأحكام التي حكمها حكام الجاهلية، فاتبعت عندهم، لا أقصد أنها صارت أحكامًا عامة، مشت بين جميع العرب، فكلام مثل هذا، هو كلام مغلوط، لا يمكن أن يقال، على الرغم من التعميم الذي يذكره أهل الأخبار، مثل قولهم: "وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى ويصلبون قاطع الطريق5". وقولهم: "وكانوا يغتسلون من الجنابة"6، وأمثال ذلك. فقد عودنا أهل الأخبار على هذا التعميم، الذي أخذوه من أفواه الرواة دون نقد ولا تمحيص. وآية ذلك أنهم يعودون فيناقضون أنفسهم وما قالوه في مواضع أخرى، مما يدل على أنهم نسوا ما قالوه سابقًا، ولم يفطنوا إلى هذا التناقض، ولم يحاولوا نقد الروايات. ولهذا فحكمنا في هذه الأمور، هو أن الأحكام المذكورة هي رأي واجتهاد، قد يتبعه بعض وقد يخالفه بعض آخر، يكون أتباعه في الموضع الذي عاش فيه الحاكم فأحكامهم لهذا أحكام محلية، قد تصير عرفًا، إذا انتزعت من صميم الواقع ومن عقلية المحيط.

_ 1 المعارف "ص240". 2 المعارف "ص240"، بلوغ الأرب "1/ 323 وما بعدها"، المحبر "327". 3 بلوغ الأرب "1/ 323 وما بعدها". 4 المحبر "324". 5 المحبر "327". 6 المحبر "319".

القضاء بعكاظ

القضاء بعكاظ: وكانت سوق عكاظ مجتمعًا للتقاضي في الأمور المهمة عند الجاهليين. حتى الشعر كانوا يتقاضون فيه، يعرض شاعر شعره على الحكم، ويعرض شاعر آخر

منافس له شعره عليه. ثم يسمعان رأي الحكم في أيهما أشعر. وذكر أن القضاء بعكاظ كان لبني تميم. وقد جمعت تميم الموسم إلى ذلك. وكان ذلك يكون في أفخاذها كلها. ويكون الرجلان يليان هذا من الأمرين جميعًا، عكاظ على حدة والموسم على حدة. فكان من اجتمع له الموسم والقضاء "سعد بن زيد مناة بن تميم"، ثم تولى ذلك "حنظلة بن زيد بن مناة"، ثم تولاه "ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم"، ثم "مازن بن مالك بن عمرو بن تميم"، ثم "ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة"، ثم "معاوية بن شريف بن جُروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، ثم "الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة"، ثم "صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد"، ثم "سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة". فكان سفيان آخر تميمي اجتمع له الموسم والقضاء بعكاظ. فمات سفيان، فافترق الأمر, فلم يجتمع الموسم والقضاء لأحد منهم حتى جاء الإسلام, فكان "محمد بن سفيان بن مجاشع" يقضي بعكاظ. فصار ميراثًا لهم. فكان آخر من قضي بينهم الذي وصل إلى الإسلام "الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان". وأجاز بالموسم بعد "صلصل بن أوس"، "العلاق بن شهاب بن لأي" من بني "عُوافة بن سعد بن زيد مناة". فكان آخر من أفاض بهم "كرب بن صفوان بن جناب بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة"1. وله يقول أوس بن مغراء القريعي: ولا يريمون في التعريف موقفهم ... حتى يقال: أجيزوا آل صفوانا2 ويتبين مما تقدم، أن القضاء بعكاظ كان حقًّا من حقوق "تميم" لا ينازعهم في ذلك منازع. إذا هلك قاض أخذ مكانه ابنه أو رجل آخر من الأسرة التي اختصت بالقضاء بين الناس، والتي كان لها أمر "الحكومة"، فنحن هنا إذن أمام أناس تخصصوا بأمور القضاء بين الوافدين إلى عكاظ، ممن كان عندهم أمر معضل، ثم يريدون حله وفضه. ولا بد لمثل هذا الحاكم من أن يكون محترم الجانب، مهاب المكانة، واقفًا على الأحساب والأنساب وأحوال الناس وعلى الأعراف حتى يحترم قراره ويطاع.

_ 1 وقيل: "صفوان بن الحارث"، ابن هشام "77". 2 المحبر "181 وما بعدها".

ولا بد وأن يكون لتميم نفوذ في هذه الأرضين، أكسبها حق الحكومة بعكاظ، ولا بد أن يكون نفوذ بمكة وعند قريش، جعل لها الموسم. فرئاسه الموسم، من الرئاسات الكبيرة ذات الشأن عند قريش ومن هم في جوارهم، ولا يعقل تسليمها لتميم لو لم يكن لها نفوذ سابق بمكة وصلات شديدة بقريش. صلات تتجلى بالتصاهر الموجود بين قريش وتميم. ومن يدري فلعل تميمًا كانوا بمكة، ثم ارتحلوا عنها إلى مواضع أخرى؟ ولا أستبعد احتمال جلوس الحكام في الأسواق الأخرى للحكم بين الناس فيما يقع بينهم من خلاف. في أمور السوق من بيع وشراء واختلاف على سلع، أو من تنافر أو من تخاصم وتنازع. فهذه الأسواق هي مواسم يلتقي فيها من يتعامل بها من الناس، فيجدون فيها فرصة لحلّ ما بينهم من خلاف، فيلجئون إلى من يكون في السوق من الحكام، للحكم بينهم. وقد يتولى الفصل في الخصومات الناشئة عن التعامل والتبايع حكّامُ السوق, وهم الذين يتحكمون في السوق, ويشرفون عليها ويتقولون جبايتها والمحافظة على أرواح من يحضرها من الناس. وقد تقع مظالم في هذه الأسواق وفي غيرها، فعلى الحكام أخذها من الظالم وإرجاع الظلامة إلى من وقعت عليه. والظلامة ما تطلبه عند الظالم1. ويطالب المظلوم بظلامته مطالبة أهل الثأر بثأرهم، ويعدون الظلم نقصًا يلحق بمن وقع الظلم عليه. وإذا لم ينصف لجأ إلى أهله وأبناء عشيرته لنصرته ومعاونته على أخذ حقه من المظالم، فكانت الأسواق من المجتمعات المناسبة للنظر في المظالم.

_ 1 تاج العروس "8/ 384".

فهرس الجزء العاشر

فهرس: الجزء العاشر الفصل الرابع والخمسون الغزو أيام العرب 5 الفصل الخامس والخمسون الحروب 71 الفصل السادس والخمسون في الفقه الجاهلي 141 الفصل السابع والخمسون الأحوال الشخصية 199 الفصل الثامن والخمسون الملك والاعتداء عليه 241 الفصل التاسع والخمسون العقود والالتزامات 284 الفصل الستّون حكّام العرب 307 الفهرست 327

المجلد الحادي عشر

المجلد الحادي عشر الفصل الحادي والستون: أديان العرب ... الفصل الحادي والستون: أديان العرب والعرب قبل الإسلام مثل سائر الشعوب الأخرى تعبدوا لآلهة، وفكروا في وجود قوى عليا لها عليهم حكم وسلطان، فحاولوا كما حاول غيرهم التقرب منها واسترضاءها بمختلف الوسائل والطرق، ووضعوا لها أسماء وصفات، وخاطبوها بألسنتهم وبقلوبهم، سلكوا في ذلك جملة مسالك، هي ما نسميها في لغاتنا بالأديان. وتقابل كلمة "دين" العربية لفظة Religion في الإنكليزية من أصل "لاتيني" هو Religere أو Religare. وآراء العلماء المعنيين بتأريخ الأديان وفلسفتها على اختلاف كبير جدًّا في وضع حد علمي مقبول بين الجميع لموضوع الدين، وربما لا يوجد موضوع في العالم اختلفت في تحديده الآراء كهذا الموضوع: موضوع ماهية الدين وتعريفه، حتى صار من المستحيل وضع إطار يتفق عليه لصورة يجمع على أنها تمثل الدين. والشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله كاتب، هو أن يكتب رأيه بوضوح فيما يعنيه من "الدين"، فإذا فعل ذلك، صار من المعروف ما قصد صاحبه منه1. وقد عرف بعض العلماء الدين أنه إيمان بكائنات روحية تكون فوق الطبيعة والبشر، يكون لها أثر في حياة هذا الكون2. وعرفه آخرون أنه استمالة واسترضاء.

_ 1 Sir James G. Frazer The Golden Bough, A Study in Magig and Religin, vol, I, p. 50, Abridged Edition, London, 1947. 2 E.B. Tylor, Primitive Culture, I, P. 424, Ency. Brita. Vol 19, p. 103.

لقوى هي فوق البشر، يؤمن أنها تدير وتدبر سير الطبيعة وسير حياة الإنسان1 وهو عند بعض آخر شعور وتفكير عند فرد أو جماعة بوجود كائن أو كائنات إلهيه، والصلة التي تكون بين هذا الفرد أو تلك الجماعة وبين الكائن أو الكائنات الإلهية2. وهو يطلق بهذا الاعتبار على الإسلام كما يطلق على اليهودية والنصرانية وعلى المجوسية وعلى غيرها من أديان سواء أكانت سماوية أم غير سماوية كما يصطلح على ذلك بعض العلماء. وهناك تعريفات وحدود كثيرة أخرى للدين، نشأت من اختلاف أنظار الباحثين بالقياس إلى مفهوم الدين. فهناك مسائل كثيرة مختلف فيها: هل تدخل في نطاق حدود الدين أو لا كما أن مفهومه قد تغير عند الغربيين باختلاف العصور3. وليس من السهل وضع حدود معينة لمعنى الدين، فإن وجهات نظر الأديان نفسها تختلف في هذا الباب. وللدين في نظر الشعوب البدائية مفهوم يختلف كل الاختلاف عن مفهوم الدين عند غيرهم، ومفهومه في نظر الأقوام المتقدمة يختلف باختلاف دينها وباختلاف وجهة نظرها إلى الحياة. وهناك أمور تدخل في حدود الدين عند بعض أهل الأديان، على حين أنها من الأمور الأخلاقية أو من أمور الدولة في نظر بعض آخر، ومن هنا تظهر الصعوبات في تعيين المسائل التي تعد من صلب الدين في نظر الجميع4. وللدين مهما قيل في تعريفه، شعائر تظهر على أهله، فتميزهم عن أتباع الديانات الأخرى، كما في العبادات والمأكولات والمعابد واللغات وما شاكل ذلك5، ولهذه الأمور أثر بالطبع في النواحي الاجتماعية والثقافية؛ إذ تطبع أتباع الدين بطابع مميز خاص. وقد زعم بعض المستشرقين أن لفظة "الدين" من أصل أعجمي، وأنها من

_ 1 The Golden Bough, vol, I, p. 222, Abridged Edition, p. 50. 2 H. Schmidt, Philosophische Worterbuch, S. 551. 3 Hastings, Encyclopaedia of Religion And Ethics, vol. 10, p. 662, Art. Religion, Encyclopaedia of Social Sciences, vol. 13-14, p. 228, Ency, Brita, vol, 19, p. 103, Friess and Schneider, Religion in Various Cultures, New york, 1932. 4 Ency. Relig, vol. 10, p. 263, Ency. Of Social, vol. 13-14, p. 228. 5 Ency. Relig, vol, 10, p. 663.

الألفاظ المعربة، أصلها فارسي هو "دَيْنا" Daena1. وقد دخلت في العربية قبل الإسلام بمدة طويلة. وترد لفظة "دين" بمعنى الحشر في الإرمية والعبرانية كذلك. وهي "دينو" في الإرمية. وتقابل لفظة Daino الإرمية لفظة الديان في العربية. وهي بمعنى القاضي في هذه اللغة. وتعني لفظة "دين" القضاء في اللغة البابلية. و"ديان" "ديو نو" Dayono، الحاكم والمجازي والقاضي لغة بني إرم2. وهي بهذا المعنى في العربية أيضًا3. والدين في تعريف علماء اللغة: العادة والشأن. تقول العرب: ما زال ذلك ديني وديدني، أي عادتي. والدين بمعنى الطاعة والتعبد. وقد ورد في الحديث: "كان على دين قومه"، أي كان على ما بقي فيهم من إرث إبراهيم، من الحج والنكاح والميراث، وغير ذلك من أحكام الإيمان. وجاء: "كانت قريش ومن دان بدينهم، أي اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه، واتخذ دينهم له دينًا وعبادة"4 ومن "دين" الديَّان بمعنى الحاكم القاضي والقهار. ومن ذلك مخاطبة "الأعشى الحرمازي" الرسول بقوله: يا سيدَ الناسِ وديَّان العربِ والديَّان: الله، ومِنْ أسماءِ الله5 وقد وردت هذه اللفظة في المعنى المفهوم منها في الإسلام في بيت شعر ينسب إلى أمية بن أبي الصلت، هو: كُلُ دينٍَ يَومَ القيامَةَ عِندَ اللـ ... ـَهِ إِلاّ دينٍ الحَنيفَةِ زورُ6

_ 1Handworterbuch des Islams, S. 98, Gr mdrjss, der Iran. Philoso. I, I, S. 107, 270, I, 2, S. 26, 170, II, S. 644. Jmynboll, Handbuch des Islamischen Gesetzes, S. 40, 58. Schorter Ency. Of Islam, p. 78, Ency. I, p. 975, Zeltscher. Fur Assyr., Bd., XIV, S. 351 2 برصوم "ص60" غرائب اللغة "182". 3 اللسان "13/ 166 وما بعدها"، "دين". 4 اللسان "13/ 166 وما بعدها"، "دين" تاج العروس "9/ 208 وما بعدها"، "دين". 5 اللسان "13/ 166 وما بعدها"، "دين" تاج العروس "9/ 208" وما بعدها"، "دين". 6 الأغاني "4/ 122"، "دار الكتب المصرية".

غير أننا لا نستطيع أن نحكم بورودها في شعر أمية ما لم نثبت أن ذلك الشعر هو من شعره حقًّا، وأنه ليس بشعر إسلامي صنع ووضع على لسانه، فقد وضعت أشعار وقصائد على لسانه وعلى لسان غيره من الشعراء. ووردت بهذا المعنى أيضًا في النصوص الثمودية. وردت في نص سجله رجل من قوم ثمود، توسل فيه إلى الإله "ود"، أن يحفظ له دينه، "أل هـ د ي ق. ي د"1، ووردت في نص آخر جاء فيه: "بدين ود أمت"2، أي "بدين ود أموت"، أو "على دين ود أموت". فاللفظة إذن من الألفاظ العربية الواردة في النصوص الثمودية، وقد يعثر عليها في نصوص جاهلية مدونة بلهجات عربية أخرى. ويصنف بعض العلماء الأديان إلى صنفين: أديان بدائية Primitive Religions، وأديان عليا The Higher Religions، غير أن هذا التقسيم لا يستند إلى التسلسل الزماني، وإنما يقوم على أساس دراسة أحكام الدين وعقائده وعمق أفكاره. فالأديان التي تقوم على أفكار بدائية وعلى السحر Magic وعلى المبالغة في التقديس وتقديم القرابين Sacred، والتي تنحصر عبادتها بأفراد قرية أو قبيلة واحدة، وأمثال ذلك مما يشرحه علماء تأريخ الأديان وعلماء فلسفة الأديان، هي من أديان الصنف الأول. فإذا توسع مجال الدين وشمل قبائل عديدة، وتعمق في أحكامه وفي تشريعه وفلسفته، وصار الإله أو الآلهة إلهًا ذا سلطان واسع أو آلهة ذات سلطان واسع عد الدين من الأديان العليا3. وأما تقسيم الأديان إلى أديان قبيلية Tribal Religions، و"أديان قومية" National Religions، وأديان مطلقة عامة "Absolute Religions" "Universal Religions" فإنه، وإن كان تقسيمًا واضحًا ظاهرًا بالقياس إلى الطرق الأخرى لتقسيم الأديان، يرد عليه أنه تقسيم بني على أسس وحدود ليست لها أرض صلبة في جوهر الدين وأركانه، فهو بعيد عن المبادئ الأساسية التي تجب مراعاتها في تقسيم كل علم أو موضوع4. كذلك تجابه التقسيم الثلاثي إلى "أديان.

_ 1 Grimme, S. 34, 40. 2 Mu 646/17, Grimme, 40. 3 Ency. BRITA, vol. 19. p. 107. 4 Ency. Brita. Vol. 19, p. 111.

الطبيعة" Nature Religion و"ديانة الشريعة" Geztzes Religion و"ديانة الخلاص" Erlosungs Religion عند بعض العلماء الألمان صعوبات كبيرة تجعل السير على أساسه في دراسة تطور الدين أمرًا عسيرًا شاقًّا1. وتستند دراسات علماء تأريخ الأديان لتطور الأديان والأدوار التي مرت بها إلى دراسة أمور كثيرة، تأريخية ونفسية واجتماعية واقتصادية، ولهم في ذلك جملة طرق، منها طريقة الدراسات المقارنة The comparative Method، وهي تعتمد كما يتبين من اسمها على المقارنات بين الأديان، فتتناول جميع النواحي بالبحث، لتجد ما بينها من مطابقات ومفارقات. ومنها طرق البحث التأريخي والاجتماعي Historical and Sociological Methods وتستند إلى الدراسات التأريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية والعوامل الأخرى، للناس وللمنطقة التي عاشوا فيها، وأثر كل هذه العوامل في نمو الأفكار الدينية وظهورها. وطرق عديدة أخرى تذكر في كتب تواريخ الأديان2. وقد تقدمت دراسة تأريخ الأديان تقدمًا كبيرًا، ولا سيما بعد اتباع أساليب الطرق التجريبية والبحوث المقارنة والتحليل النفسي في هذه الدراسة. وظهر بحث جديد شائق طريف، هو "فلسفة الدين" The Philosophy of Religion أفاد كثيرًا في معرفة دراسة تطور الأديان ومبادئها الأساسية، كما ظهرت فروع أخرى كهذا الفرع لها صلة بدراسة الدين وتقدمه، كالفرع النفسي الذي يعتمد على الدراسات النفسية للدين، وهو فرع نستطيع أن نسميه بـ"علم النفس الديني" The psychology of Religion في الإنكليزية و Religionspsychologic في الألمانية3. وكالفرع الذي يعتمد على أساليب بحث الاجتماع وطرقه لدراسة الدين باعتبار أن الدين نفسه ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية4. وهناك عوامل عديدة لها أثرها في تطور الأديان، وفي "تكييفها"، منها أثر "العوامل الطبغرافية" Topographic Factors. وأثر "المحيط" Climatic Factors

_ 1 Philosophische Worterbuch, S. 552. 2 Ency. Relig, 10, P. 946. 3 Strattons, Psychology of he Religious Life, 1911, Ency. Brita, 19, p. 111 Schmidt, S. 554.. 4 Schmidt, S. 554, J. Wach, Einfuhrung in die Religion, 1941.

وأثر الحالات النفسية في تكييف الدين، وفي تصور الناس لآلهتهم. ولهذا تصور اليونان مثلًا آلهتهم على شاكلتهم، تصوروها ذات أخلاق وصفات تشبه أخلاق البشر وصفاتهم، تتخاصم وتتصادق وتتباغض ويحسد بعضها بعضًا، تشرب الخمر وتحزن وتفرح، وتسرق أيضًا. ونجد في الـ"إيدا" Edda نفسية الشعوب الشمالية الأوروبية ممثلة في الأساطير التي تتحدث عن الآلهة والأبطال1. ويظهر أثر العوامل المذكورة في الديانة الهندية القديمة، وهي من الديانات الآرية، وفي الديانة المجوسية، وهي من أهل السهول وديانات أهل الجبال، وبين ديانات الساميين الشماليين وديانات الساميين الجنوبيين، يظهر في الأساطير "Mythlogy" وفي تصور الآلهة وتقديمها وتأخيرها وما شابه ذلك من أمور2. ولشكل المجتمع أثره كذلك في تطوير الدين وفي أحكامه. فمجتمع يقوم على الزراعة يختلف في تفكيره عن مجتمع يعيش على الصناعة أو على الرعي في بوادٍ واسعة، كذلك للسياسة ولأشكال المجتمعات السياسية دخل في تطور الأديان. وقد كان التعاون وثيقًا جدًّا في الأيام الماضية خاصة بين السلطات الزمنية وبين السلطان الدينية حتى كان الحكام الزمنيون كهانًا في كثير من الأوقات، كما حدث أن وقع اختلاف بين السلطتين أدى إلى حدوث تغيير في عقيدة الحكومة أو أكثرية الشعب. وطالما أدى قهر مدينة أو قبيلة أو شعب إلى قهر آلهتها معها وموتها، وإلى عبادة آلهة القاهرين المتغلبين باعتبار أنها أقوى وأعظم شأنًا من آلهة المغلوبين التي لم تتمكن من حمايتهم من تعديات الغالبين. وقد تبقى تلك الآلهة فتندمج في آلهة المغيرين، فيزداد بذلك العدد، وتتعدد الآلهة، وتختلط الأساطير بعضها ببعض وتتداخل. ولهذه الناحية أهمية كبيرة في تحليل عناصر هذه الأساطير، ورَجْعها إلى منابعها الأولى. كذلك يكون للجوار وللصلات التأريخية والروابط الثقافية أثر في ديانات الشعوب وفي "تكييفها" للثقافة خاصة أثر بارز في هذا التوجيه. غير أن للأديان كذلك أثرها في توجيه الأفراد والقبائل والشعوب، وفيما ينتج عن عمل الإنسان من مجتمعات وسياسة وثقافة واقتصاد3. فهذه نواحٍ يجب أن

_ 1 Ency. Solial, 13-14, p. 232. 2 Ency. Solial, 13-14, p. 232. 3 Ency. Solial, 13-15, p. 234.

تلاحظ كلها في دراستنا لتأريخ الأديان. هذا ويجب ألا نتصور أن أديان العرب قبل الإسلام لم تتأثر بمؤثرات خارجية، فلم تأخذ من الأمم والشعوب التي اتصلت بها شيئًا جريًا على نظرية القائلين بعزلة العرب وبعدم اتصالهم بالخارج، وبأنهم بدو، لا علم لهم ولا رأي ولا دين. وهي نظرية نشأت عن عدم وقوف القائلين بها بأحوال العرب قبل الإسلام. وإذا وافق أولئك على أن اليهودية والنصرانية كانتا في جزيرة العرب قبل الإسلام كما نص على ذلك القرآن الكريم، وأن من العرب من كان على دين يهود، وأن منهم من كان على دين النصارى، فلن يستطيعوا إنكار ورود اليهودية والنصرانية إلى العرب من الخارج بعمل الهجرة والتبشير والاتصال بفلسطين والعراق. وسيوافقون أيضًا على أن الوثنيين قد تأثروا كذلك بوثنية غيرهم، كما نص على ذلك الأخباريون وأنهم أثروا في غيرهم أيضًا. إن معارفنا عن أديان العرب قبل الإسلام مستمدة في الدرجة الأولى من النصوص الجاهلية بلهجاتها المتعددة من معينية وسبئية وحضرمية وأوسانية وقتبانية وثمودية ولحيانية وصفوية، وهي نصوص ليس من بينها نص واحد ويا للأسف في أمور دينية مباشرة، مثل نصوص صلوات أو أدعية دينية أو بحوث في العقائد وما شبه ذلك. غير أن هذه النصوص المذكورة، ومعظمها كما قلت سابقًا في أمور شخصية، حوت مع ذلك أسماء آلهة ذكرت بالمناسبة، وبفضلها عرفنا أسماء آلهة لم يصل خبرها إلى علم الأخباريين؛ لأن ذكرها كان قد انطمس وزال قبل الإسلام. ومن هذه النصوص استطعنا أن نستخرج آلهة القبائل العربية القديمة، وأن نرجعها إلى المواضع التي كانت تتعبد بها لها، وأن نعين العصور التي كان الناس فيها يتعبدون لها على وجه التقريب. كذلك تعد الكتابات والنقوش المدونة ببعض اللغات الأعجمية كالآشورية والعبرانية واليونانية واللاتينية ولغة بنى إرم موردًا مفيدًا لمعرفة أديان العرب قبل الإسلام بعد النصوص العربية. فقد وعت أسماء أصنام قديمة نصت عليها، وبذلك ساعدتنا في الوقوف على عبادتها وعلى من تعبد لها من قبائل. وأما أديان العرب قبيل الإسلام وعند ظهوره، فالقرآن الكريم هو مرجعنا في هذا الباب. ففيه ذكر لما كان عليه الناس ولا سيما أهل مكة ويثرب والحجاز من عبادات وآراء، وفيه أسماء بعض الأصنام الكبرى التي كانت تتعبد لها القبائل.

وفي تفسير القرآن الكريم تفصيل وشرح لما جاء موجزًا في الآيات البينات، ويضاف إلى ذلك ما ورد عن هذا الباب في الحديث. وفي الشعر المنسوب إلى الشعراء الجاهليين إشارات إلى بعض عقائد الجاهليين، وإلى بعض الأصنام، تعرض لها شراح الدواوين بالمناسبات، وترد هذه الإشارات في القصص المروي عن أخبار الجاهلية وعن أنساب قبائلها وأيامها وأمثال ذلك وفي كتب الأدب واللغة والمعجمات، وهي تعيننا بالطبع على زيادة مادتنا في هذا الموضوع. ويضاف إلى ذلك ما ورد في كتب السير والمغازي وفي كتب التواريخ من كتب خاصة مثل تأريخ مكة، ومن كتب عامة عن عبادات القوم قبل الوحي وفي أثناء الوحي وعن أمر الرسول بتحطيم الأصنام والأوثان. وقد ورد بهذه المناسبة أوصاف بعضها، وذكرت بعض المواضع التي كانت قائمة فيها، والقبائل التي كانت تتعبد لها، وما أُدير حول بعضها من قصص، أو ما قيل عنها في الجاهلية وفي تحطيمها من أقوال. ومما يجب علينا ملاحظة، أن الشعر الجاهلي الذي أمدنا بفيض من معارف قيمة عن الجاهلية القريبة من الإسلام، لم يمدنا بشيء مهم عن الحياة الدينية عند الجاهليين، فكأنه أراد مجاراة من دخل في الإسلام في التنصل من أيام الجاهلية ومن التبرؤ منها، ومن غض النظر عن ذكر أصنام حرمها الإسلام. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن رواة الشعر في الإسلام، قد أغفلوا أمر الشعر الجاهلي الذي مجد الأصنام والوثنية، وأهملوه، فلم يرووه، فمات، وأن بعضًا منهم قد هذب ذلك الشعر وشذبه، فحذف منه كل ما له علاقة بالأصنام والوثنية، ورفع منه أسماء الأصنام، وأحل محلها اسم الله، حيث يرد اسم الصنم. فما فيه اسم الله في الشعر الجاهلي، كان اسم صنم في الأصل. وقد ألف بعض العلماء مؤلفات خاصة في الأصنام، وصل إلينا منها كتاب "الأصنام" لابن الكلبي1 أما المؤلفات الأخرى، فلم يصل إلينا منها إلا الاسم.

_ 1 "كتاب الأصنام" بتحقيق المرحوم أحمد زكي باشا. القاهرة 1925م الطبعة الثانية، "مطبعة دار الكتب المصرية" وسيكون رمزه: الأصنام. وقد طبع الكتاب مرارًا، وترجم إلى الإنكليزية والألمانية وإلى لغات أخرى.

وممن ألف في هذا الموضوع أبو الحسن علي بن الحسين بن فضيل بن مروان1، والجاحظ2. وقد استفاد ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" من كتاب "الأصنام" لابن الكلبي، وأورد ما أخذه منه في الكتاب. أما النسخة التي اعتمد الحموي عليها، فكانت بخط عالم مشهور وبروايته هو الجوالقي3. وقد تعرض ابن الكلبي لذكر الوثنية والأصنام في مؤلفاته الأخرى عرضًا، وأشار "ياقوت الحموي" في بعض المواضع إلى روايات أخرى لابن الكلبي عن الأصنام، ذاكرًا أنها ليست من كتاب "الأصنام". كما استقى من منبع آخر، هو محمد بن حبيب4. وقد ألف أبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع كتابًا في أديان العرب وآرائهم، اسمه "آراء العرب وأديانها" وقف عليه ابن أبي الحديد، وأشار إلى بعض هفوات رآها فيه5. وللجاحظ مؤلف اسمه "أديان العرب" استفاد منه أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني6. وبالرغم من فضل من تقدم ممن ذكرت وممن لم أذكر، على دارس التأريخ الديني للجاهليين فإنهم عفا الله عنهم، لم يتعمقوا تعمقًا كافيًا في بحوثهم عن الوثنية، ولم يتحرشوا بها في الغالب، إلا بسبب اتصالهم بالإسلام، ثم إن في كثير مما ذكروه عن الوثنية طابع السذاجة وأسلوب الصنعة. وهو في أحوال الوثنية في الحجاز وعند القبائل التي ورد لها ذكر في حوادث الإسلام في أيام الرسول، في مثل قدوم وفود سادات القبائل على النبي، وأمر الرسول بتحطيم الأصنام ولهذا لا نجد للوثنية في بقية جزيرة العرب، مكانًا فيما كتبه أولئك العلماء.

_ 1 "كتاب الأصنام وما كانت العرب والعجم تعبد من دون الله تبارك اسمه"، الفهرست "ص125" "23"، "الرد على عبدة الأوثان" معجم الأدباء "1/ 132". 2 الأصنام "23"، وقد نقل منه "النويري" في كتابه نهاية الأرب "16/ 15"، "فهو ما نقله أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ -رحمه الله- في كتاب له سماه: كتاب الأصنام، قال فيه....". 3 الأصنام 24. 4 J. Wellhausen, Reste Arabischen Heidentums, Berlin, 1927, S. 12. 5 بلوغ الأرب "2/ 308". 6 Brockeimann, Suppl. I, S. 946.

عن الأصنام والأوثان أو الزندقة. ثم إن في الذي ذكروه وكتبوه تناقض محير، وتنافر عجيب، يجعلك تشعر، أن رواة تلك الأخبار، لم يكونوا يملكون يومئذ أدوات النقد لصقل ما سمعوه من أفواه الرواة، وما نقلوه عمن أدرك الجاهلية من أقوال، أو أنهم كانوا يعمدون إلى الوضع أحيانًا. لصنع أجوبة عن أسئلة وجهت إليهم في أمور لم يأتهم علم بها من قبل. خذ ما ذكره "الطبري" في تفسيره عن اللات والعزى ومناة، تجده يروي أقوالًا ذكر سندها تتناقض فيما بينها بشأن هذه الأصنام، وبشأن بيوتها ومواضعها، مما يدل على أن رواة تلك الأخبار لم يكونوا على علم بأخبارها ولا وقوف على حقيقتها، بدليل أن كل واحد منهم ناقض غيره فيما قاله، وأن أحدهم يذكر خبًرا ثم يعود فيذكر ما يناقضه1. حدث كل ذلك في أمور كانت باقية إلى ما بعد فتح مكة، فكيف حالهم إذن في الأمور البعيدة نوعًا ما عن الإسلام. ولا تتناول الموارد الإسلامية بعد، إلا الوثنية القريبة من الإسلام والوثنية التي كانت متفشية بين قبائل الحجاز في الغالب، وبين القبائل التي اعتمد عيها رواة الأخبار في جمع اللغة والأخبار لذلك لا نجد فيها ذكرًا للوثنية البعيدة عن الاسلام، فلم يرد فيها مثلًا أي شيء عن "المقه" إله سبأ الأكبر ولا عن بقية الآلهة العربية الجنوبية الكبيرة مثل "عثتر"، وعن دين العرب الجنوبيين وشعائرهم، ولا عن معبودات قبائل العربية الشرقية. أو قبائل العراق أو بلاد الشأم في الأزمنة البعيدة أو القريبة من الإسلام. وأما أخبارها عن اليهودية والنصرانية، فقليلة جدًّا، قصتها وروتها لما لها من تماس وصلة بما جاء في القرآن الكريم، أو لما لها من علاقة بأيام الرسول. ولهذا صارت خرساء صامتة بالنسبة إلى أحوال أهل الكتاب في بقية أنحاء جزيرة العرب أو في العراق وفي بلاد الشأم. فلم تتحرش بهم إلا بقدر. وبسبب ذلك صارت معارفنا عنهم قليلة جدًّا. وقد كان في إمكان أهل الأخبار جمع معلومات واسعة عن النصرانية في العراق قبل الإسلام برجوعهم إلى رجال الدين النصاري الذين كانوا في الحيرة وفي مواضع أخرى من العراق، وهم رجال لهم علم واسع بهذه الأمور، لكن اختلافهم عنهم في الدين على ما يظهر، وانصرافهم إذ ذاك

_ 1 تفسير الطبري "27/ 35 وما بعدها" تاج العروس "4/ 55" "عزز".

عن رواية كل ما يتعلق بالأمور الجاهلية خلا ما يتعلق بالنواحي القبلية وبالنواحي الأدبية واللغوية، كانا من العوامل التي أدت إلى غض نظرهم عن البحث في هذه الأمور. وبفضل إقرار الإسلام لبعض أحكام وشعائر الجاهليين، استطعنا الوقوف على جانب من أحكامهم وشرائعهم. فعرفنا بذلك بعض شعائر الحج من حج مكة، وبعض أحكامهم وآرائهم في الدين ووجهة نظرهم إلى الحلال والحرام، والتقرب إلى بيوت الأرباب وغير ذلك. وما كان في وسعنا الوقوف عليها لولا تعرض الإسلام لها بالإقرار والتثبيت، أو بالتحريم والنهي، فأشير إلى كل ذلك في القرآن الكريم وفي كتب التفسير وأسباب النزول والحديث. وقد عُني المستشرقون بهذا الموضوع، فكتبوا بحوثًا فيه. ومن هؤلاء "ولهوزن" Wellhausen j. صاحب كتاب "بقايا الوثنية العربية" Arabischen Heidentums1 و"دتلف نيلسن" Ditlef Nielsen2 و"لودولف كريل" Ludolf Krehl وغيرهم3. وقد اعتمد "ولهوزن" على ما نقله "ياقوت الحموي" من كتاب الأصنام ومن غيرهم، ذلك لأن كتاب الأصنام لم يكن مطبوعًا ولا معروفًا أيام ألف "ولهوزن" كتابه عن الوثنية العربية. ويعد كتاب "ولهوزن" أوسع مؤلف في موضوعه كتبه المستشرقون عن الوثنية العربية. وقد كتب المستشرقون حديثًا جملة بحوث عن الأصنام العربية التي عثر عليها في الكتابات فات ذكرها في كتاب "ولهوزن" لأن أكثر النصوص الجاهلية لم تكن قد نشرت يومئذ، ولأن كثيرًا منها قد نشر حديثًا، فلم يكن في استطاعة "ولهوزن" بالطبع أن يبحث في شيء من التفصيل في الوثنية ببلاد العرب الجنوبية. لذلك كان أكثر ما جاء في كتاب "ولهوزن" مستمدًا من روايات

_ 1 استعملت الطبعة الثانية، وقد طبعت ببرلين سنة 1927م. 2 Ditlef Nielsen, Die Altorabische Mondreligeon und die Mosaische Meberlieferung, Strassburg, 1904. 3 Ludolf Krehl, uber die Religion der Varislamishen Araber, Leipzig, 1863. إذا أردت أسماء بعض المراجع عن هذا الموضوع، فارجع إلى: D. G. Pfannmuller, Handbuch der Islam-Literatur, 1923.

الأخباريين. فمن الضروري إضافة هذه البحوث الجديدة إلى ما كتبه هو وأمثاله، لنحصل على صورة شاملة عن أديان العرب قبل الإسلام. وتفيد الأعلام الجاهلية المركبة Theophorus Names المدونة في النصوص الجاهلية وفي الموارد الإسلامية فائدة كبيرة في معرفة الأصنام، وفي تكوين فكرة عنها. ففيها أسماء آلهة، وفيها بعض الصفات الإلهية التي كان يطلقها الناس على آلهتهم. ونجد هذه الأسماء المركبة عند بقية الشعوب السامية كذلك. ومن مقارنة هذه الأسماء بعضها ببعض، استخرج العلماء آلهة اشترك في عبادتها جمع الساميين1. ونعني بـ Theophorus Names الأعلام المركبة من أسماء آلهة ومن كلمات أخرى مثل "عبد" و"عطية" و"امرئ" و"أوس" و"عائذ" و"جار" و"عوذ" و"وهب". ترد قبل اسم الإله أو بعده، فيتألف منها ومن أسماء الآلهة أسماء أعلام، مثل عبد الأسد، وعبد الله، وعبد سعد، وعبد العزى، وعبد محرق، وعبد ذي الشرى، وعبد يغوث، وعبد ود، وعبد قيس، وعبد شمس، وامرئ القيس، وأمثال ذلك من أعلام. ومعظم هذه الأعلام المدونة في مؤلفات الإسلامين، أسماء أشخاص عاشوا في الجاهلية القريبة من الإسلام، حفظتها ووعتها ذاكرة الرواة، ومنها تناقلها أهل الأخبار. والغالب عليها الابتداء بكلمة "عبد" للرجال و"أمت" أي أمة للسناء، ترد قبل اسم الصنم. أما الأسماء المبتدأة بكلمات أخرى غير "عبد"، فمثل "أحمس الله" و"امرئ مناة"، و"امرئ القيس"، و"أنس الله" و"أوس الله"، و"تيم اللات"، و"خيليل"، و"زيد اللات"، و"زيد مناة" و"سعد اللات"، و"سعد مناة"، و"سعد ود" و"سعد العشيرة"، و"سكن اللات" و"سلم اللات" و"شراحيل" و"شرحيل" و"شرحبيل"، و"شكم اللات" و"شهميل"، و"شيع القوم"، و"عائذ الله" و"عمرو اللات" و"عوذ مناة" و"عينيل"، و"قسميل" و"مطرويل"، و"وهب اللات". وهي قليلة من حيث الاستعمال بالقياس إلى الأعلام المبتدأة بـ"عبد"2.

_ 1 Dr. H. Brau, Die Altnordarabischen Kultischen Personennamen, in WZKM, Bd. 32, 1925, s. 31. ff. 85. ff. Reste, I, FF. Ency, Religi. I. p: 659. 2 Reste, S. I

ويلاحظ على بعض الأعلام المركبة، مثل عمرو اللات، وعوف إيل، وجد اللات، وسعد مناة، وود إيل، أن الكلمات الأولى من هذه الأسماء تتأخر في أعلام أخرى؛ فتسبق بكلمة توضع قبلها فيتكون منها علم مركب جديد كما في الأسماء الآتية: عبد عمرو، وعبد عوف، وعبد جد، وعبد سعد، وعبد ود، وقد كانت متقدمة في الأعلام الأولى. أما في هذه الأعلام فصارت في المنزلة الثانية. وهذه الأسماء التي حفظتها ذاكرة أهل الأخبار، تخالف أكثر الأعلام العربية والسامية القديمة المدونة في النصوص وفي مؤلفات اليونان والرومان والسريان وغيرهم من حيث الصيغ والتراكيب. فقد ابتدأت هذه الأعلام كما رأينا بكلمات تلتها أسماء الآلهة. أما الأعلام القديمة، فقد كانت على العكس تبدأ باسم الصنم، وبعده الألفاظ الأخرى، مثل: "الشرح" "إيل شرح" و"اليفع" "إيل يفع" و"الذرح" "إيل ذرح" و"الكرب" "إيل كرب" و"السمع" "إيل سمع" و"اليثع" "إيل يثع" وأمثال ذلك. أو تبدأ بكلمات ثم تليها أسماء الأصنام، إلا أنها ليست في حالة الإضافة، بل على صورة الإخبار والفاعلية، مثل "يذكر إيل" و"يثع إيل" و"يدع إيل" و"يشرح إيل" و"يسمع إيل" و"إيل" "إل" هنا هو اسم الإله "إل" "إيلو" المعروف عند جميع الساميين1. وقد يوضع حرف الجر، وهو "اللام" "لامد" في الاسم، ليدل على تعلق الاسم بالإله، مثل "لحي عثت" في النصوص العربية الجنوبية، وقد عثر على طائفة من هذه الأعلام في الكتابات الفينيقية والعبرانية2. وقد تهمل الكلمة الثانية من الاسم المركب، ويقتصر على اللفظة الأولى، كما في: "أوس"، وزيد، ووهب، وتيم، وسعد، ونصر، وعائذ، وعبد، وأمثال ذلك من أعلام. فإنها اختصار لـ"أوس الله" و"زيد اللات" و"زيد مناة" و"وهب اللات" و"تيم اللات" و"سعد مناة".

_ 1 Reste, S. I, Noldeke, uber den Gottesnamen El, in Monatsberichte der Koni Akademie der wissenschaft zu Berlin, 1880, S. 761, 1887, S. 1175. 2 Reste, S. 7, Noldeke, in Wiener Zeitshrift fur die Kunde des Morgenlandes, Bd. VI, S. 313.

و"سعد ود" و"سعد اللات" و"نصر اللات" و"عائذ الله" و"عبد ود"، وغير ذلك، وقد يحدث العكس، فتسقط الكلمة الأولى، وتبقى الكلمة الثانية التي هي اسم الإله ويصير هذا الاسم اسمًا لشخص أو لأسرة أو لقبيلة، مثل: مناف، وغنم، وشمس، وإساف، ونائلة، وزهرة، وقيس، وعطارد، وهبل، وجد، وأمثال ذلك. فإن هذه هي أسماء آلهة في الأصل، سبقت بكلمات مثل "عبد"، ثم أهملت هذه الكلمات الأولى، وبقيت أسماء الآلهة حية، ولكنها صارت أسماء لأشخاص وأسر وقبائل، تسبقها لفظة "بنو" في بعض الأحيان، لتدل على الانتماء إلى ذلك الاسم1. ولهذا الانتماء أهمية كبيرة في نظر الباحثين في فلسفة الأديان وتأريخها. ويلاحظ أن بعض الأعلام المركبة المبتدأة بـ"عبد" مثلًا، لا تتكون كلمتها الثانية من اسم إله، إنما تكون اسم موضع أو اسم شخص أو اسم جماد، مثل: عبد حارثة، وعبد المطلب، وعبد أمية، وعبد الدار، وعبد الحارث، وعبد الحجر، وما شاكل ذلك. ولبعض العلماء تفاسير وتعليلات في العوامل التي أدت إلى هذه التسميات. منها أن بعض هذه الأسماء هو لآلهة قديمة، نسيت فظن أنها أسماء أشخاص: وأن بعضًا آخر منها هو أسماء أشخاص كانت لهم قدسية أو منزلة خاصة، فتبرك الناس بتسمية أولادهم عبيدًا لهم، وهو شيء يحدث حتى الآن؛ إذ نقول عبد المسيح، وعبد الرسول، وعبد علي، وعبد الأمير، وعبد الزهرة، وعبد محمد، وأن بعضًا آخر هو مسميات لمجتمعات، مثل: عبد أهله، وعبد العشيرة، وسعد العشيرة، أو أنه نسبة إلى طوطم أو جماد مقدس في نظر الناس2. وقد قضى الاسلام على الأسماء الوثنية، كما قضى على كثير من معالم الجاهلية، فاستبدل من أسلم اسمه الجاهلي الذي له صلة بصنم أو بشرك باسم إسلامي، وبذلك زالت تلك التسميات. كما زالت أكثر التسميات اليهودية والنصرانية بدخول أصحابها في الإسلام. وهذا شيء مألوف في تأريخ الإنسان. فقد قضت اليهودية على الأسماء الوثنية القديمة، وعوضت عنها بأسماء يهودية ذات صلة بالتوراة. وقضت النصرانية على الأعلام الوثنية. أو طورتها لتكون ملائمة مع النصرانية، وهكذا

_ 1 Reste, S. 7. ff. 2 Robertson, p. 42, Reste, S. 4.

حدث في الأديان الأخرى، بل وهذا ما يحدث اليوم في كثير من أنحاء العالم القلقة عند وقوع انقلابات سياسية، حيث تتناول الأسماء أيضًا بالتغيير والتبديل؛ لتناسب الوضع الجديد. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من الصحابة، كانت أسماؤهم ذات صلة بالأصنام. فلما أسلموا أبدلها الرسول بأسماء إسلامية. فقد كان اسم كاتب النبي "عبد الله بن أبي الأرقم بن أبي الأرقم" "عبد يغوث" فلما أسلم، دعي "عبد الله"1 وكان اسم "عبد الله بن أصرم بن عمرو بن شعيثة" الهلالي، "عبد عوف بن أصرم"، فلما قدم على النبي، فقال من أنت؟ قال عبد عوف، قال النبي: أنت عبد الله، فأسلم2. ونجد غيرهما وقد أبدل الرسول أسماءهم، حتى صار من يسلم يبدل اسمه إن كان له صلة بصنم، حتى ماتت الأسماء الجاهلية التي هي من هذا القبيل. والأساطير MYTHOS = Myth ونعني بها هنا الخرافات والأقاصيص المتعلقة بالآلهة Legend، هي مصدر مهم لمعرفة تطور الأديان وتطور فكرة الألوهية عند الشعوب. وهي قد تكون شعرًا، وقد تكون نثرًا، وفي كلتا الحالتين تكون مادة خصبة للباحثين. ومعارفنا عن الأساطير العربية الدينية قليلة جدًّا. وهذا مما حمل بعض المستشرقين على القول بأن العرب لم تكن لهم أساطير دينية عن آلهتهم، كما كان عند غيرهم من الأمم كاليونان والرومان والفرس وعند بقية الآريين، بل حتى عند بعض الشعوب السامية الأخرى مثل البابليين3. وفي رأيي أننا لا نستطيع أن نجزم في مثل هذه الأمور؛ لأن أحكامنا عن اليونان والرومان والبابليين إنما استنبطناها من نصوص ومؤلفات وصلت إلينا. أما العرب الجاهليون، فلم يصل إلينا منهم حتى الآن نص ما في هذا الموضوع، يمكننا من الحكم بعدم وجود الأساطير الدينية عند العرب الوثنيين. ومشكلتنا أننا لا نملك كما قلت نصوصًا دينية جاهلية، ولا كتبًا كتبها يونان أو لاتين أو سريان أو غيرهم عن أساطير العرب في الجاهلية نستطيع استخراج.

_ 1 الإصابة "2/ 265" "رقم 4525". 2 الإصابة "2/ 267"، "رقم 4534". 3 Ency, Religi I,p 660.

حكم منها عن أساطير العرب. ولكن هذا الوضع لا يخولنا نفي وجود الأساطير عند العرب، بحجة بداوتهم وضيق أفقهم وبساطة تفكيرهم، كما أنه لا يخولنا أيضًا الحكم بوجود أساطير عندهم من طراز عالٍ كما نجده عند اليونان مثلًا. ويتبين من بعض روايات الأخباريين، وهي قليلة، أن العرب كانت لهم أساطير كالذي رووه من أن العيوق" عاق "الدبران" لما ساق إلى الثريا مهرًا، وهي نجوم صغار نحو عشرين نجمًا، فهو يتبعها أبدًا خاطبًا لها، ولذلك سموا هذه النجوم القلاص1 وكالذي رووه عند "العَبُور" و"الغُمَيصاء" و"سُهَيْل". وقد كانت هذه النجوم مجتمعة، فانحدر سُهَيْل فصار يمانيًّا، وتبعته العَبُور فعبرت المجرة، وأقامت الغُمَيْصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت2. وكالذي رووه من أن "الزُّهرة" كانت امرأة حسناء، فصعدت إلى السماء ومسخت نجمًا، وأمثال ذلك من قصص يظهر أنه من بقايا قصص أطول قديم3. وإذ لم تصل إلينا نصوص دينية جاهلية، صعب علينا تكوين فكرة صحيحة عن مفهوم الدين عند العرب، وعن كيفية عبادتهم لآلهتهم، وعن كيفية تصورهم للآلهة، خاصة عند العرب الذين عاشوا قبل الميلاد. وقد تعنينا أسماء الآلهة والأعلام المركبة في تكوين وجهة نظر عن صفات آلهة الجاهليين. فكلمات مثل "ود" و"شرح" و"سعد" و"سمع"، أو تعابير مثل "ذت حمم" "ذات حميم" و"ذت صنتم" "ذات صنتم" و"ذت رحبن" "ذات رحبن" و"ذت بعدن" ذات بعدن" "وذ قبضم" "ذو قبضم" وما شابه ذلك، لا بد أن تكون لها معانٍ خاصة تشير إلى صفات الآلهة التي قيلت لها، فتفيدنا في فهم عبادة الجاهليين وتفكيرهم في تلك الآلهة. وإذا كانت بعض أسماء الآلهة أو صفاتها واضحة مفهومة تمكن الاستفادة منها في تكوين فكرة عن الآلهة، فإن هناك بعضًا آخر يحيط بمعناه الغموض، فلا نستطيع شرح معناه أو ترجمته إلى اللغات الأخرى. وليس من المعقول بالطبع عدم وجود مدلول أو مراد لأسماء هذه الآلهة عند من وضعها لها، ونسبها إليها، وإنما المعقول هو أن هذه المسميات نسيت بتقادم الزمن وبزوال دولتها وعظمتها

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 239". 2 بلوغ الأرب "2/ 239". 3 البلخي: البدء والتأريخ "3/ 14".

من الوجود، وضاعت معالمها، فلم يبق منها إلا الأسماء المجردة1. ولعل معانيها كانت غامضة حتى على من كان يتعبد لها، لاختفائها منذ زمن طويل، وعدم ورود نصوص مدونة على المتعبدين لها في هذه المعاني، وهذا شيء مألوف معروف. وتختلف نظرة الإنسان إلى الخالق والخلق باختلاف تطوره ونمو عقله، ولهذا نجد فكرة "الله" "الإله" التي تقابل كلمة Deus في اللاتينية وكلمة Theos في اليونانية وكلمة God في الإنكليزية، تختلف باختلاف مفاهيم الشعوب ودرجات تقدمها. فهي عند الشعوب البدائية القديمة والحديثة في شكل يختلف عن مفهومها عند الشعوب المتحضرة. كذلك اختلفت عند سكنة البوادي عند سكنة الجبال والهضاب، ويختلف مفهوم فكرة الله عند الشعوب السامية عنها عند الشعوب الآرية؛ لأسباب عديدة يذكرها علماء تأريخ الأديان2. بل يختلف هذا المفهوم في داخل الشعب الواحد، يختلف فيه باختلاف ثقافة الإنسان وتقدم مداركه العقلية، فتصور كل إنسان خالقه على قدر عقله ودرجة ثقافته، صوَّره وكأنه مرآة صافية لنفسه ولدرجة نمو عقله، ومن هنا قيل: إن الإنسان يصنع إلهه بنفسه، أي يصوره على نحو صورته ومبلغ تفكيره. يقول "أكسينوفان" Xenophanes: "تصور الأحباش آلهتهم فطس الأنوف، سودًا. وتصور أهل "تراقية" Thracians آلهتم ذوي عيون زرق وشعر أحمر. وزعم اليونان أن تصورهم للآلهة هو التصور الصحيح. أما تصور الزنوج وأهل تراقية عن آلهتهم، فهو تصور فاسد باطل! ولو كان للماشية والخيل والسباع أيد تتمكن من الرسو والنحت، لرسمت الخيل آلهتها على صورة خيل، ولنحتت تماثيلها على صورتها، ولرسمت الماشية ونحتت آلهتها على صورتها وهيئتها، تمامًا كما يصور الإنسان وينحت آلهته على صورته وقدر إدراكه. كل صنف يتصور ويرى آلهته على صورته"3. وقد نسب اليونان إلى آلهتهم كل الصفات والأعمال الإنسانية المعروفة بين اليونانيين، فتصوروهم على هيئة بشر، لهم الفضائل، ولهم الرذائل، يتزوجون وينسلون ويحبون ويعشقون ويسرقون ويكرهون ويتخاصمون بينهم ويتاحسدون.

_ 1 Handbuch, S. 189. 2 Ency. Religi, vol. 6, p. 243, W. Robertson Smith, Lectures on the Religion of the Semites, London, 1894, p. 5, Ency. Britd, 10, p. 480, Lyod. 3 Ency. Religi, 10, p. 113.

ويقومون بأقبح الأعمال كما يفعل الإنسان1 وهناك أشكال عديدة للعبادة، تمثل تعدد وجهات نظر الإنسان بالقياس إلى مفهوم الألوهية لديه. فهناك عبادة تسمى عبادة آباء القبائل، حيث أسبغ على أجداد القبائل ما يسبغ عادة على الآلهة من نعوت وصفات. وتجد هذه العبادة عند القبائل البدائية. وقد يكون هؤلاء الأجداد أجدادًا حقيقيين، وقد يكونون أشخاصًا خلفتهم الأساطير. ومهما يكن من شيء، فقد أُعطي هؤلاء صفات الربوبية ونعوتها، ونظر إليهم نظرة من فيه قوى خارقة ذات هيمنة على العالم والخلق. وقد اصطلح على تسمية هذه العبادة بـ All Fathers في الإنكليزية وبـ Verehrung des Stammesvaters وبـ Urvaters في الألمانية؛ لأنها تقوم على أساس عبادة الأجداد2. وأله بعض الناس الظواهر الطبيعية؛ لتوهمهم أن فيها قوى Spirit روحية كامنة مؤثرة في العالم وفي حياة الإنسان مثل الشمس والقمر وبعض النجوم الظاهرة وقد كانت الشمس والقمر أول الأجرام السماوية التي لفتت أنظار البشر إليها، لما في الشمس من أثر بارز في الزرع والأرض وفي حياة الإنسان بصورة مطلقة كذلك للقمر أثره في نفس الإنسان بما يبعثه من نور يهدي الناس في الليل، ومن أثر كبير يؤثر في حس البشر فكانا في مقدمة الأجرام السماوية التي ألهها الإنسان، عبدهما مجردين في بادئ الأمر، أي دون أن يتصور فيهما ما يتصور من صفات ومن أمور غير محسوسة هي من وراء الطبيعة. فلما تقدم وزادت مداركه في أمور ما وراء الطبيعة، تصور لهما قوى غير مدركة، وروحًا، وقدرة، وصفات من الصفات التي تطلق على الآلهة. فخرجتا من صفتهما المادية البحتة ومن طبيعتهما المفهومة، وصارتا مظهرًا لقوى روحية لا يمكن ادراكها، إنما تدرك من أفعالها ومن أثرهما في هذا الكون. وإذا كانت هذه العبادة قد اقتصرت على الظواهر الطبيعية البارزة المؤثرة،

_ 1 Ency. Religi, 10, p. 113. 2 في الأصل Father ours وقد أطلق هويت howitt الاصطلاح All Father عليه، Howitt, Native Tribes of S.E. Australia, London, 1904, Making of Religion London, 1898, Ency. Religi, vol 6, p. 243.

فإن هناك توسعًا في هذه العبادة تراه عند بعض الأقوام البدائية، يصل إلى حد تقديس الأحجار والأشجار والآبار والمياه وأمثال ذلك؛ إذ تصوروا وجود قوى روحية كامنة فيها، فعبدوها على أن لها أثرًا خطيرًا في حياتهم. ونجد في أساطير الشعوب البدائية أن الإنسان من نسل الحيوان ومن الأشجار أيضًا، كذلك تجد أمثلة عديدة من هذا القبيل في أساطير اليونان والرومان والساميين. وهناك الشرك، وهو عبادة آلهة عديدة، كما أن هناك عقيدة التوحيد التي تدين بوجود إله واحد خالق لهذا الكون. وليس للشرك بالطبع عدد معين من الآلهة، فقد يكون بضعة آلهة، وقد يكون عشرات. والشرك هو الدين المعاكس لدين التوحيد، ويعرف باسم: Polytheism في الإنكليزية من كلمة Polys اليونانية ومعناها "كثير" و"تعدد"، ومن كلمة يونانية ثانية هي theos وتعني "الإله" "الآلهة". ويختلف الشرك عن عقيدة الـ polydaemonism القائلة بوجود الأرواح والجن من حيث الطبيعة Nature، كما يختلف عن أديان التوحيد Monotheism من حيث القول بتعدد الآلهة، وعن القائلين بمبدإ "الحلول" "Pantheism" من حيث حلول الإله في الخلق والخلق في الإله1. وتطلق في العربية كلمة "إله" على الإله الواحد، وكلمة "آلهة" في حالة الجمع، أي في حالة القول بوجود آلهة عديدة. وتقابل كلمة "إله" كلمة "إيلوه" Eloh = Eloah في العبرانية الواردة في سفر "أيوب". ومنها كلمة "إيلوهيم" Elohim في حالة الجمع، أي آلهة المستعملة في العهد القديم بالقياس إلى آلهة الوثنيين2. وكلمة "إله" لا تعني على كل حال إلهًا معينًا على نحو ما تعنيه لفظة "الله" في العربية التي يراد بها الله الواحد الأحد ليس غير. أما "الله"، وهي كلمة الجلالة، فهي "اسم علم" خاص به على رأي، وهي "علم مرتجل" في رأي آخر. وقد ذهب الرازي إلى أنه من أصل سرياني أو عبراني. أما أهل الكوفة فرأوا أنه من "ال إله"، أي من أداة التعريف.

_ 1 Ency. Religi, vol. 10, p. 112. 2 Hastings, p. 299, Ency Religi, vol. 6. p. 248, Ency. Bibli, III, col. 33239 Hebrew Lexicon, 42, Ency, II, p. 464.

"أل" ومن كلمة "إله". وهناك آراء لغوية أخرى في أصل هذه اللفظة1. ولم يعثر على لفظة "الله" في نصوص المسند، وإنما عثر في النصوص الصفوية على هذه الجملة: "ف هـ ل هـ" وتعني "فالله" أو "فيا الله" و"الهاء" الأولى هي أداة التعريف في اللهجة الصفوية. وقد وردت الجملة على صورة أخرى في بعض الكتابات الصفوية. وردت على هذا الشكل: "ف هـ ل ت"، أي "فالات" "فيا الآت" أي في حالة التأنيث. وتقابل "اللات"، وهي صنم مؤنث معروف ذكر كذلك في القرآن الكريم2. ويظن بعض المستشرقين أن "الله" هو اسم صنم كان بمكة، أو أنه "إله" أهل مكة، بدليل ما يفهم من القرآن الكريم في مخاطبته ومجادلته أهل مكة من إقرارهم بأن الله هو خالق هذا الكون3. وترد في العربية كلمة أخرى من الكلمات المختصة بالخالق، "هي "رب" وجمعها "أرباب" وهي من الكلمات الجاهلية المذكورة بكثرة في القرآن الكريم، ولها معنى خاص في اللاهوت وفي الأدب العربي النصراني. وتقابل كلمة LORD في الإنكليزية. وكلمة "بعل"، و"أدون" في اللغات السامية الأخرى4. ويذكر علماء اللغة أن "الرب" هو الله، هو رب كل شيء، أي مالكه. وله الربوبية على جميع الخلق، لا شريك له، وهو رب الأرباب، ومالك الملوك والأملاك، ولا يقال الرب في غير الله، إلا بالإضافة. وقد قال الجاهليون: "الرب" للملك. قال الحارث بن حلزة: وَهُوَ الرَبُّ وَالشَهيدُ عَلى يَو ... مِ الحَيارَينِ وَالبَلاءُ بَلاءُ5 ويظهر أن لفظة "الرب" و"رب" كانت بمعنى "سيد" ومالك عند

_ 1 الطبري: تفسير "1/ 40"، اللسان "17/ 358"، الكشاف "ص8" تفسير الرازي "1/ 84 وما بعدها، البيضاوي "1/ 4" طبعة "Fleisher" المفردات، للأصفهاني "ص19 وما بعدها". Ency, II, p 464 2 Ency, Religi vol. 6. p 248 3 Ency. Religi, Vol. 6p 248 4 Ency, Religi. Vol. 6, p 248, Ency, III p 1088 5 اللسان "1/ 399"، "ديب".

الجاهليين، ولم تكن تعني العلمية عندهم. أي ألوهية خاصة بالله، وهي تؤدي معنى "بعل" عندهم أيضًا. فكانوا يطلقونها على الإله والآلهة وعلى الإنسان باعتباره سيدًا ومالكًا. أما هذا التخصص الذي يذكره علماء اللغة، فقد حدث في الإسلام من الاستعمال الوارد في القرآن الكريم. و"رب" البيت"، الله، وكذلك: "رب هذا البيت"1. و"رب الدار"، أي مالكها، وكل من ملك شيئًا، فهو ربه. وبهذا المعنى "هو رب الأرباب" أما الربة" فعنوا بها الصخرة التي كانت تعبدها ثقيف بالطائف. وكان لهم بيت يسمونه "الربة" و"بيت الربة"، يضاهي "بيت الله" بمكة. فلما أسلموا هدمه المغيره". و"الربة": كعبة كانت بنجران، لمذحج وبني الحارث بن كعب يعظمها الناس2. وأما "بعل" فمعناها مالك وصاحب ورب في اللهجات السامية. فترد بعل الموضع الفلاني، أي صاحب ذلك الموضع وربه. ومؤنث الكلمة هو "بعلت". وترد كلمة "بعل" بمعنى زوج في العربية، وقد وردت بهذا المعنى في مواضع من القرآن الكريم3، وأما الزوجة، فهي "بعلت" "بعلة" أي في حالة التأنيث4. ولما كانت لفظة بعل تعني الرب والصاحب، صار اسم الموضع يرد بعد "بعل"، فيقال: "بعل صور"، و"بعل لبنان"، و"بعل غمدان"، أي رب المواضع المذكورة وصاحبها وسيدها. أما إذا وردت اللفظة مستقلة دون ذكر اسم الموضع المنسوب إليها بعدها، فتعني عندئذ رب وإله، أي رب الجماعة المتعبدة المؤمنة به5. وقد ورد في القرآن الكريم في صدد الكلام عن إلياس Elijah {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} 6. وقد ذهب الطبري في تفسير "بعل" في هذه الآية إلى أن بعلًا.

_ 1 {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} قريش، الآية 3. 2 اللسان "1/ 399 وما بعدها" "ريب". 3 البقرة: الآية 228، هود: الآية 75، النور، الآية 31. 4 Ency, I, P, 610 Robertson, p 94. 5 Robertson p. 94. 6 الصافات، الآية 122 وما بعدها

تعني ربًّا في لغة أهل اليمن، أو أن المراد ببعل صنم1. ومن رأي "روبرتسن سمث" Robertson Smith أن العرب اقتبسوا المعنى الديني لبعل من الأقوام السامية المجاورة لهم مثل سكان "طور سيناء" أو موضع آخر، أخذوه من تلك الأقوام التي عرفت باشتغالها بالزراعة، ولا سيما زراعة النخيل، وأن هذا المعنى دخل إليهم بدخول زراعة النخيل إلى بلاد العرب، وأنه استعمل عند العرب المزارعين. أما البدو والرعاة، فإنهم لم يستخدموا تلك اللفظة بالمعنى المذكور2. وهو رأي يخالف رأي بعض المستشرقين من أمثال "نولدكه" Noldeke و"ولهوزن" Wellhousen الذين يرون أن عبادة "بعل" هي عبادة سامية قديمة كانت معروفة عند قدماء العرب منذ أقدم العهود3. ويرى بعض المستشرقين أن لفظة "بعل" أطلقت خاصة على الأرض التي لا تعتمد في زراعتها على الأمطار أو على وسائل الري الفنية، بل على المياه الجوفية وعلى الرطوبة في التربة، فينبت فيها خير أنواع النخيل والأثمار، فهي تمثل الخصب والنماء، والظاهر أن الساميين كانوا يخصصون أرضهم بالآلهة، لتمن عليهم بالبركة واليمن، فتكون في حمى ذلك الإله "بعل الموضع الفلاني" صارت جملة "بعل سميم" "بعل سمن" "بعل سمين" تعني "رب السماء"، ويعني بذلك المطر الذي هو أهم واسطة من وسائط الإسقاء والخصب والنماء في جزيرة العرب وفي البلاد التي يسكنها الساميون4. ورأى مستشرقون آخرون أن جملة "أرض بعل" تعني الأرض التي تُسقى بالأمطار5. وذكر العلماء أن لفظة "الآل" بمعنى الربوبية، واسم الله تعالى. وأن كل اسم آخره "أل" أو "إيل" فمضاف إلى الله تعالى، ومنه "جبرائيل" و"ميكائيل" وذكر أن "أبا بكر" "لما سمع سجع "مسيلمة"، قال: هذا كلام لم يخرج من آل ولا بر، أي لم يصدر عن ربوبيه6. وقد ذهب

_ 1 تفسير الطبري "23/ 53"، Ency, I, p. 610. 2 Robertson, p. 97. 3 Noldeke, in ZDMG. BD. 40, 1886, S 174, Reste, s, 146, Handbuch, I, s, 240. 4 Robertson, p. 97. Ency, Religi, I, p, 664. 5 Reste, s 146. 6 تاج العروس "7/ 211 وما بعدها"، "أل".

بعض علماء اللغة إلى أن اللفظة "إيل" من المعربات. عربت عن العبرانية، وهي فيها اسم الله1. وهي من الألفاظ التي ترد في اللغات السامية، ولا يعرف معناها على وجه مضبوط، ويظن أنها بمعنى "القادر" و"العزيز" والقهار، والقوي، والحاكم. وترد في الشعر وفي أسماء الأعلام في الغالب. وقلما نجدها ترد في النثر2. وقد وردت في نصوص المسند وفي نصوص أخرى ألفاظ كثيرة مثل "ود" و"سمع" أي "سميع" و"حكم" أي "حكيم"، و"حلم" أي حليم" و"علم" أي "عالم" و"عليم"، و"رحم" أي "رحيم"، و"رحمنن" أي "الرحمن"، وأمثال ذلك. ذكرت على صورة أسماء آلهة. لكنها في الواقع صفاتها لا أسماؤها. ذكرت في مقام ذكر أسماء الآلهة، كما يقول المسلم في دعائه ربه يا سميع ويا حكيم ويا رحيم. وهي صفات وردت في القرآن الكريم. وعلى من يريد الوقوف على رأي الجاهليين في طبائع آلهتهم وفي تعيين صفاتها، حصر هذه الصفات وضبطها، وتعيين مدلولها، وهي صفات تدل على معانٍ خلقية مجردة. وسنتمكن بذلك من الوقوف على نظرة الجاهليين إلى آلهتهم، ومن تعيين وتثبيت عددها إذ سيظهر لنا من هذه الدراسة أن أكثر تلك الأسماء ليست أسماء آلهة، وإنما هي صفات لها، وأن الكلمات التي لا يشك في كونها أسماء صحيحة قليلة جدًّا، ربما لا يتجاوز عددها الثلاثة، هي الثالوث. ومن يدري؟ فقد تكون في النتيجة اسمًا لإله واحد، وعندئذ يمكن أن نتوصل إلى نتيجة علمية بالقياس إلى عقيدة الشرك أو التوحيد عند العرب الجاهليين. ويجد الإنسان اليوم سذاجة مضحكة في بعض العقائد الدينية التي كانت عند الشعوب القديمة، ويستصعب تصور اعتقاد الناس بها، وهو ينسى أن هذه العقائد أو بعضها على الأقل، لا تزال معروفة بين بعض قبائل إفريقية وأستراليا وأماكن أخرى في العالم، وأن العقل الإنساني في تطور مستمر، وأن هناك بشرًا يؤمنون بعقائد ورثوها عن آبائهم لا تقل غرابة عن غرابة بعض المعتقدات التي نؤاخذ.

_ 1 تاج العروس "7/ 218"، "إيل". 2 "Hastings p. 299 "God.

بها قدماء البشر، مع أنهم من الشعوب المتقدمة في الحضارة وفي المدينة، ومن القرن الذي نفتخر بتسميته بقرن العقوق على الأمم، والهروب منها إلى بيوت أخرى، تكون بعيدة عنها، سانحة في هذا الفضاء. وقد يصعب على الإنسان اليوم تصور وجود فائدة أو ضرر من أشياء جامدة لا يمكن قطعًا أن تضر أو تنفع، ولكن القدماء تصوروه مع ذلك واعتقدوه. فقدسوا الأحجار والأشجار والحيوانات، وقدسوا الأرواح والأموات من الآباء والأجداد والقديسين، وتعبدوا لها. ولهذه العبادات أسماء علمية خاصة اصطلح على تسميتها العلماء. والدين هو إيمان وعمل: إيمان بوجود قوى هي فوق طاقة البشر، لها تأثير في حياته وفي مقدراته، وعمل في أداء طقوس معينة تعين شكلها الأديان للتقرب إلى الآلهة ولاسترضائها. والإيمان هو قبل العمل بالطبع، فلا بد للقيام بالشعائر، أو بأداء العمل، من وجود إيمان عند الشخص أو الأشخاص بوجود إله أو آلهة. حتى يقوم بعمل ديني1 فالعمل تابع للإيمان، ونتيجة من نتائجه، وهو شعاره ومظهره. وهو أبرز عند الأقوام البدائية من الإيمان لدرجة عقليتها ومجال تفكيرها الضيق. ومن العمل: الرقص، والأفراح الدينية، والسحر، والقرابين، والحج، والصلوات2. وقد أقر الإسلام أشياء من أمور الدين كان يمارسها الجاهليون في جاهليتهم؛ لأنها لا تتعارض مع مبادئ الإسلام. ودراسة أمثال هذه الأشياء توضح لنا نواحي خافية علينا في الزمن الحاضر من الحياة الدينية عند الجاهليين، لذلك أرى من الضروري تتبع هذه الأشياء لتدوين تأريخ صحيح للدين عند الجاهليين. وأرى من الضروري كذلك تتبع الأساطير والعادات الموروثة التي لها صلة وعلاقة بالدين الجاهلي بين الأعراب والحضر في كل أصقاع جزيرة العرب، ولا سيما القرى العربية النائية عن العمران المنعزلة عن الأعاجم، فإن معظم هذه الأساطير والتقاليد هي من بقايا الوثنية العربية القديمة، بقيت جذورها ثابتة راسخة في الأفئدة حتى اليوم.

_ 1 The Golen Bough, p. 50, Abridged Edition. 2 Ency. Brita, vol. 19, p. 108.

ولا بد أيضًا لدراسة الدين عند الجاهليين دراسة صحيحة من الرجوع إلى أصول الأشياء، وأعني بأصول الأشياء هنا ديانة الساميين الأولى بشكلها البدائي القديم. فمن تلك الشجرة تفرعت أديان الشعوب السامية، وفي ذلك الدين نجد الأصول والأسس التي بنيت عليها الديانات الفروع. أما كيف نتمكن من الرجوع إلى الأصل ومن معرفة ديانة الساميين القديمة، فموضوع ليس بالسهل اليسير، ونحن وإن كنا نملك بعض المؤلفات والبحوث عن أديان الساميين لا نستطيع أن نجرؤ فنقول إن البحث قد نضج فيه، وإن القوم قد استوفوه من أطرافه وأكملوه، بل إن كثيًرا مما تطرق إليه العلماء هو موضع جدل واختلاف، ولن يمكن التوصل إلى نتائج مقبولة معقولة إلا إذا تمكن الباحثون من الحصول على وثائق جديدة تكشف النقاب عن أديان قدماء الساميين. وللتوصل إلى تكوين رأي عن أديان الساميين القديمة لا بد من دراسة النصوص الدينية السامية كلها، ودراسة كل ما له صلة بالدين عند الساميين، ومقارنة الأديان السامية بعضها ببعض ومراجعة الأصول اللغوية للمصطلحات الدينية عند جميع الشعوب السامية للتوصل منها إلى الأسس العميقة المدفونة التي أقيم عليها بنيان ديانة الساميين. ثم لا بد أيضًا من دراسة المؤثرات الخارجية التي أثرت في الساميين من عوامل طبيعية ومن عوامل أخرى غير طبيعية ومن الأثر الثقافي الذي كان لغير الساميين في الساميين. ويتبين من دراسة الأساطير السامية وجود شكل من أشكال التوحيد Henoteism عند القبائل السامية البدائية، يمثل في اعتقاد القبيلة بوجود إله لها واحد أعلى، غير أن هذا لا يعني نفي اعتقادها بتعدد الآلهة. فإننا نرى أن تلك القبائل كانت تعتقد، في الوقت نفسه، بالأرواح كأنها كائنات حية ذات أثر وسلطان في مصير هذا الكون. وفي ضمنه الإنسان، وبآلهة مساعدة للإله الكبير1. والديانات السامية، وإن كانت في الأصل من ديانة قديمة، قد تطورت وتغيرت بعوامل عديدة من العوامل التي تؤثر في كل المجتمعات البشرية فتحدث فيها انقلابًا في التفكير وفي طراز الحياة. ومن هذه العوامل المؤثرات الخارجية والمحيط الجديد. وسنجد أن ديانة العرب الجنوبيين، وإن كانت في الأصل من تلك الديانة السامية

_ 1 Ency, Religi, II, p. 283.

الأصلية فيها مثل "أل" "إيل" وأمثال ذلك، قد غيرت في ديانتها، وبدلت في تصوراتها للآلهة، حتى صارت في بعض معتقداتها على نقيض مع معتقدات الساميين الشماليين. وفي الدين معبود يعبد هو الله، أو جملة آلهة، أو قوى خارقة تلعب في مقدرات الإنسان وعبدة يتعبدون له أو لها فهم عباده او عبادها و"العبادة" الطاعة، وأداء الواجبات المفروضة على الإنسان تجاه الله1، أو الآلهة. والرأي المعروف بين الناس حتى الطبقة المتعلمة منهم، أن العرب الجاهليين كانوا على جانب عظيم من الانحطاط الديني قبل الإسلام، وأن تفكيرهم في ذلك تفكير منحط لا يتجاوز تفكير القبائل البدائية وهو رأي خاطئ، يفنده القرآن الكريم، وإذا كان ما يقوله صحيحًا بالقياس إلى السواد والأعراب، فإنه لا يصح أن يكون حكمًا عامًّا على الكل، ولا سيما على المتحضرين وعلى من كان لهم اتصال بالعالم الخارجي. وتأريخ أديان العرب قبل الإسلام، فصل مهم جدًّا من فصول تأريخ العرب عامة قبل الإسلام وبعدها، بدونه لا يمكن فهم عقلية القوم الذين نزل الوحي بينهم وطريقة معرفة تفكيرهم ووجهة نظرهم إلى الخالق والكون ثم الأسباب التي دعت إلى نزول الوحي وظهور الإسلام، وبدون دراسة أديان الجاهليين ومقالاتهم في الخالق والخلق، لا نتمكن أبدًا من فهم رسالة الإسلام فهمًا صحيحًا. بل إن هذا الدراسة أيضًا فصل مهم جدًّا لفهم كثير من الأمور الواردة في التوراة والإنجيل إذ كان العرب قومًا من هذه الأقوام التي كانت لها صلات قديمة بأرض الوحي التي نزل بها الكتاب المقدس بعهديه، وعضو فعال في هذه المجموعة المسماة بالشعوب السامية. ما نعثر عليه من جديد في الناحية الدينية يكشف عن غوامض عديدة من غوامض العهدين، فجدير بالعلماء وبنا إذن الانصراف إلى البحث والاستقصاء للعثور على المصطلحات المفقودة من هذا الفعل. وسنرى في الفصول القادمة أسماء رجال كان لهم شأن وخطر في الحياة الدينية للجاهليين، وقد زعم أهل الأخبار أن بعضًا منهم كان من الأنبياء الذين جاءوا إلى قومهم برسالة. وأن بعضًا آخر. كان من المصلحين الهادين، من أصحاب

_ 1 تاج العروس "2/ 410 وما بعدها ".

العقول النيرة التي هزأت بالأوثان وبديانات قومهم. وإن رجالًا منهم كانوا على الحنيفة، يريدون بها ديانة التوحيد، وإن آخرين بشروا بالوثنية، وأشاعوها بين العرب، لما كان لهم من مكانة ونفوذ. وإن رجالًا من الجاهليين كانوا على ملة اليهودية ودين المسيح. وإن قومًا من أهل الجاهلية كانوا على عبادة "الله" و"الرحمن"، وكل المذكورين كانوا ممن مهد الجادة إذن لظهور الإسلام. وقد أدى ظهور الإسلام إلى ظهور مصطلحات جديدة وموت مصطلحات قديمة، وصارت هذه المصطلحات من علائم الوثنية. ولا بد لنا للوقوف على صورة أوضح للحياة الدينية عند الجاهليين من وجوب دراسة الألفاظ الجاهلية ذات المعاني الدينية بجمعها وتبويبها وتثبيت معانيها، فبهذه الدراسة نستطيع الوقوف على مبلغ تغلغل الحياة الدينية في نفوس الجاهليين، ومعرفة مدى تعمقهم في الدين وفهمهم له. ومن الدراسات التي يجب أن تنال منا الرعاية والعناية لمعرفة الحياة الدينية وتطورها عند الجاهليين معرفة صحيحة، دراسة المصطلحات الدينية بحسب اللهجات العربية، وأماكن تلك اللهجات، وأسماء الأصنام أو الأوثان، ومعتقدات سكان تلك الأرضين في هذه الأيام، فإن دراسة مثل هذه تفيدنا فائدة كبيرة في معرفة أسس الحياة الدينية عند الجاهليين، وفي معرفة اختلاف العرب أو اتفاقهم في العقائد وفي الأمور الدينية، ومعرفة العوامل والأسباب التي أدت إلى ذلك، ثم معرفة المؤثرات الخارجية في الحياة الدينية للجاهليين. وبتثبيت هذه وأمثالها وبمقارنتها بأسماء أصنام الأقوام المجاورة وآلهتهم ومصطلحاتهم، نستطيع فهم كثير من الأمور الغامضة من الحياة الدينية عند العرب وعند تلك الأقوام، وفهم الاحتكاك العقلي والصلات الروحية التي كانت بين تلك الشعوب قبل الإسلام. إن الأخباريين عفا الله عنهم، لم يعنوا بتنسيق هذا الذي توصلوا إليه ورووه لنا من آراء الجاهليين في الدين. فرووا روايات مختلفة متناقضة أو مقتضبة اقتضابًا مخلًّا وجاءوا بأمور تثبت أن أولئك الأخباريين لم يكونوا على مستوًى عالٍ من النقد والتعمق في دراسة الأخبار، وأنهم كانوا يروون أخبارهم بالمعنى المفهوم من الأخبار، يأخذون ما يقال لهم فيروونه على نحو ما سمعوه وإن كان فيما يروونه ما يخالف المنطق والفهم السليم. والاستسلام للروايات داء يذهب بالفائدة منها، ويعود على المؤرخ بأفدح الأضرار. ولهذا نجد أنفسنا في موضوع أديان العرب.

قبل الإسلام في زوبعة عاتية وعاصفة مليئة بالرمال نتخبط فيها للحصول على مخرج نخرج منه، وليس لنا إلا الأمل بالخروج من هذه العاصفة العاتية المتعبة في وقت ما. وهذا الذي أورده أهل الأخبار عن أهل الجاهلية على ما فيه من تناقض وتضارب واقتضاب، هو كما رأينا مادتنا الوحيدة عن الحياة الدينية عند عرب الجاهلية قبيل الاسلام وعند ظهوره، ولا سيما بالنسبة إلى عرب الحجاز وعرب الشأم والعراق وهناك روايات لم نستفد منها حتى الآن؛ لصعوبة التوصل إليها، لا لكونها في بطون المخطوطات، ولهذا يصعب الحصول عليها. فإن الكثير منها قد طبع، وهو في متناول الأيدي، إنما صعوبتها في كونها في كتب مطبوعة طبعًا على الطريقة القديمة بلا نظام ولا ترتيب ولا تبويب فني ولا فهرست لما في الكتاب المطبوع من مواد ومن أسماء أشخاص أو أصنام أو أوثان أو ما شابه ذلك. وليس أمام المؤرخ في هذه الحالة إلا أن يقرأ تلك الكتب من بسملتها حتى منتهاها؛ ليحصل منها في النهاية على كلمة أو كلمتين أو خبر أو أخبار، ولكن كيف يتمكن المؤرخ من قراءة كتب ضخمة كتفسير الطبري وكتب التفاسير الأخرى وشروح الحديث وكتب التواريخ والطبقات وبقية الكتب إذا كان الكتاب يتألف من أكثر من عشرة أجزاء، وهي كلها بلا فهرست للأعلام ولا لما في الكتاب من فوائد ومواد. لا يتمكن المؤرخ بالطبع من قراءة كل هذه الموارد المذكورة مع تساوي عمره بسائر أعمار الناس، ولو مد الله في عمره وصيره إنسانًا آخر ذا عمر طويل من أعمار الأناس الذين أرخهم "السجستاني" في كتاب المعمرين، لتمكن من الإحاطة ببعض تلك الموارد على الأقل. غير أن عمر المؤرخ ويا للأسف مثل أعمار سائر الناس، قصير محدود، فليس في إمكانه الإحاطة بما ورد في هذه الكتب الواسعة المجهولة، على ظهورها في عالم الوجود ووجودها في خزانة كتب المؤرخ وفي يد أي شخص يريد الحصول عليها؛ لأن الموضوع ليس موضوع وجود كتاب مطبوع أو مخطوط، إنما هو اكتشاف ما في المطبوع أو المخطوط من آراء وأخبار وأعلام. ما دام الوضع على هذا الحال وما دامت أكثر كتبنا غير مفهرسة ولا منسقة، فليس في استطاعة المؤرخ أن يأتي بشيء كثير يشفي غليل من يريد المزيد من

المعرفة عن الحالة الدينية عند العرب قبل الإسلام. هذا أمر يؤسف له بالطبع كثيرًا وسيأتي بعدنا من يضيفون إلى هذا العلم البسيط الذي توصلنا إليه علمًا كثيًرا ثم يتوصل من بعدهم إلى أكثر من ذلك ولا شك. ومن يدري؟ فلعلهم يتوصلون إلى كتابات جاهلية تغنيهم عن كل هذا الذي أخذناه من موارد إسلامية كتبت بعد الجاهلية بعشرات السنين. وليس لنا، وسنكون بالطبع من الماضين، إلا أن ندعو لمن يأتي بعدنا بالتوفيق والنجاح التام.

الفصل الثاني والستون: التوحيد والشرك

الفصل الثاني والستون: التوحيد والشرك مدخل ... الفصل الثاني والستون: التوحيد والشرك كانت العرب في الجاهلية على أديان ومذاهب: كان منهم من آمن بالله، وآمن بالتوحيد، وكان منهم من آمن بالله، وتعبد الأصنام؛ إذ زعموا أنها تقربهم إليه. وكان منهم من تعبد للأصنام، زاعمين أنها تنفع وتضر، وأنها هي الضارة النافعة1. وكان منهم من دان باليهودية والنصرانية، ومنهم من دان بالمجوسية، ومنهم من توقف، فلم يعتقد بشيء، ومنهم من تزندق، ومنهم من آمن بتحكم الآلهة في الإنسان في هذه الحياة، وببطلان كل شيء بعد الموت، فلا حساب ولا نشر ولا كتاب، ولا كل شيء مما جاء في الإسلام عن يوم الدين. ومذهب أهل الأخبار، أن العرب كانوا على دين واحد، هو دين إبراهيم، دين الحنيفية ودين التوحيد. الدين الذي بعث بأمر الله من جديد، فتجسد وتمثل في الإسلام. وكان العرب مثل غيرهم، قد ضلوا الطريق، وعموا عن الحق، وغووا بعبادتهم الأصنام. حببها لهم الشيطان، ومن اتبع هواه من العرب، وعلى رأسهم ناشر عبادة الأصنام في جزيرة العرب: "عمرو بن لحي". وذهب "رينان" Renan إلى أن العرب هم مثل سائر الساميين الآخرين

_ 1 أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله النجيرمي الكاتب، أيمان العرب في الجاهلية، "تحقيق محب الدين الخطيب"، "القاهرة 1382" "ص12 وما بعدها".

موحدون بطبعهم، وأن ديانتهم هي من ديانات التوحيد. وهو رأي يخالفه فيه نفر من المستشرقين1. وقد أقام "رينان" نظريته هذه في ظهور عقيدة التوحيد عند الساميين من دراسته للآلهة التي تعبد لها الساميون، ومن وجود أصل كلمة "أل" "إيل" في لهجاتهم، فادعى أن الشعوب السامية كانت تتعبد لإله واحد هو "أل" "إيل" الذي تحرف اسمه بين هذه اللهجات، فدعي بأسماء أبعدته عن الأصل، غير أن أصلها كلها هو إله واحد، هو الإله "أل" "إيل"2. و"التوحيد" الإيمان بإله واحد أحد لا شريك له، منفرد بذاته في عدم المثل والنظير. لا يتجزأ ولا يثنى ولا يقبل الانقسام3. ويقال للديانة التي تدين بالتوحيد: Monotheism في اللغات الأوروبية، من أصل يوناني هو Monos بمعنى "واحد"، و Theos بمعنى "إله"، لأنها تقول بوجود إله واحد4. ويتمثل القول في التوحيد في اليهودية وفي الإسلام. والشرك في تفسير العلماء الإسلاميين، أن يجعل لله شريكًا في ربوبيته، غير الله مع عبادته، والإيمان بالله وبغيره، فصاروا بذلك مشركين5. ومن الشرك أن تعدل بالله غيره، فتجعله شريكًا له. ومن عدل به شيئًا من خلقه فهو مشرك؛ لأن الله وحده لا شريك له ولا ند له ولا نديد6. ويقال له Polytheismus = Polytheism في اللغات الأوروبية. من أصل يوناني هو Polys، ومعناها كثرة وتعداد، و Theos بمعنى "إله" فيكون المعنى: القول بتعدد الآلهة، أي الشرك نقيض القول بالتوحيد Monotheismus. فالشرك هو الدين المعاكس لدين التوحيد. ويختلف عن عقيدة الـ POIYDOEMONISM القائلة بوجود الأرواح والجن من حيث الطبيعة Nature، وبوجود أثر لها في حياة الإنسان، كما يختلف.

_ 1 Ency. Religi, vol. II, p. 383. 2 E. Renan, Histoire Generale et Systeme Compare des Langues Semitiques, Paris, 1855, vol. I, Chapt. I, P. 1. ff. 3 تاج العروس "2/ 526"، "وحد". 4 Ency. Religi. 10, p. 112. 5 تاج العروس "7/ 148"، "شرك". 6 اللسان "10/ 449" وما بعدها"، "شرك".

عن القائلين بمبدإ "الحلول" Pantheism من حيث حلول الإله في الخلق والخلق في الإله1. وقد ذهب أهل الأخبار إلى أن العرب الأولى كانت على ملة إبراهيم، من الإيمان بإله واحد أحد، اعتقدت به، وحجت إلى بيته، وعظمت حرمه، وحرمة الأشهر الحر، بقيت على ذلك، ثم سلخ بهم على أن عبدوه ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وابتعدوا عن دين آبائهم وأجدادهم، حتى أعادهم الإسلام إليه2. ونظرية أن العرب جميعًا كانوا في الأصل موحدين، ثم حادوا بعد ذلك عن التوحيد فعبدوا الأوثان وأشركوا، نظرية يقول بها اليوم بعض العلماء مثل "ويليم شميد" Wilhelm Schmidt الذي درس أحوال القبائل البدائية وأنواع معتقداتها، فرأى أن عقائد هذه القبائل البدائية الوثنية ترجع بعد تحليلها وتشريحها ودرسها إلى عقيدة أساسية قائمة على الاعتقاد بوجود "القديم الكل" أو "الأب الأكبر". الذي هو في نظرها العلة والأساس. فهو إله واحد. وتوصل إلى أن هذه العقيدة هي عقيدة سبقت التوحيد، ثم ظهر من بعدها الشرك. وقد أطلق عليها في الألمانية مصطلح Urmonotheismus أي التوحيد القديم3. ويأخذ بهذه النظرية علماء اللاهوت وبعض الفلاسفة، وفي الكتب السماوية تأييد لها أيضًا. فالشرك وعبادة الأصنام بحسب هذه النظرية، نكوص عن التوحيد، ساق إليه الانحطاط الذي طرأ على عقائد الإنسان فأبعده عن عبادة الله4. إننا لا نستطيع أن نتحدث عن عقيدة التوحيد عند العرب قبل الإسلام استنادًا إلى ما لدينا من كتابات جاهلية؛ لعدم ورود شيء عن ذلك. فالنصوص التي وصلت إلينا، هي نصوص فيها أسماء أصنام، وليس فيها ما يفهم منه شيء عن التوحيد عند العرب قبل الميلاد وبعده، إلا ما ورد في النصوص العربية الجنوبية المتأخرة من عبادة الإله "ذ سموى" "ذو سموى"، أي صاحب السماء، بمعنى إله السماء. وهي عبادة ظهرت متأخرة في اليمن بتأثير اليهودية والنصرانية.

_ 1 Ency. Religi, Vol. 10. p 112. 2 النجيرمي، أيمان العرب "12 وما بعدها" الأصنام "ص6". 3 Schmidt, S 637. W. Schmidt, Der Ursprung der Gottesidee, 4, ed 1912 4 Ency. Religi, Vol. 7. p 113.

اللتين دخلتا اليمن ووجدتا لها أتباعًا هناك، بل حتى هذه العبادة لا نستطيع أن نتحدث عنها حديثًا يقينيًّا، فنقول إنها عبادة توحيد خالص تعتقد بوجود إله واحد على نحو ما يفهمه أهل القول بالتوحيد. وقد ذكرت جملة "ذ سموى" في نص مع الإله "تالب ريمم" "تالب ريام"، رب قبيلة "همدان" ويدل ذكر اسم هذا الإله مع اسم إله آخر على أن عقيدة التوحيد لم تكن قد تركزت بعد، وأنها كانت في بدء تكوينها، فلما اختمرت في رءوس القوم، ذكرت وحدها في النصوص المتأخرة، دون ذكر أسماء الأصنام الأخرى، مما يشير إلى حدوث هذا التطور في العقائد، وإلى ظهور عقيدة التوحيد والإيمان بإله السماء عند جماعة من العرب الجنوبيين، وقد أكملت هذه العقيدة بأن صار إله السماء رب السماء والأرض1. ولم يكن "ذ سموي"، "ذ سمى إله "، "ذو السماء إله" أي "صاحب السماء" أو "إله السماء" أو "رب السماء" إله جماعة معينة أو إله قبيلة مخصوصة، بل هو إله ولدته عقيدة جديدة ظهرت في اليمن بعد الميلاد على ما يظن تدعو إلى عبادة إله واحد هو "رب السماء"، فهو إله واحد مقره السماء. ويرى بعض المستشرقين أن هذه العقيدة وهي نتيجة اتصال أهل اليمن باليهودية والنصرانية على أثر دخولهما العربية الجنوبية، فظهرت جماعة تأثرت بالديانتين تدعو إلى عبادة إله واحد هو "رب السماء"2. وأما عبادة الرحمن" "رحمنن" فهي عبادة توحيد، ظهرت من جزيرة العرب فيما بعد الميلاد. وقد وردت كلمة "رحمنن"، أي "الرحمن"، في نص يهودي كذلك وفي كتابات "إبرهة"، وردت في نصوص عربية جنوبية أخرى وفي نصوص عثر عليها في أعالي الحجاز 3. وقد كان أهل مكة على علم بالرحمن، ولا شك، باتصالهم باليمن وباليهود. ولعلهم استخدموا الكلمة في

_ 1 Handbuch, I, S. 102. 2 Handbuch, I, S. 104, Rivista, 1955, Fax. I, II, p. 109. Le Museon, 1954, tome LXVII, p. 118. 3 Glaser 554, 406 = 410, Halevy 63, CIH, Pars 4, Tomus, I, Capt. I, 1ft. 6. p. 15 - 9, n, 537 - 543, p. 257 - 300, CIH, 6, 45, 537, 538, 539, 541, 542, 543, MM, Attsud., 19, Rep. Epig., 3904, 4069, 4109, Stambul, 7608, Asmara, I, Le Museon, Ltl, p. 51.

معنى الله. وإن ذكر علماء اللغة أو علماء التفسير أن اللفظة لم تكن معروفة عند أهل مكة في الجاهلية1. وقد جاء في النص اليهودي المذكور: "الرحمن الذي في السماء وإسرائيل وإله إسرائيل رب يهود". وقد حمل هذا النص بعض الباحثين على القول بأن العرب الجنوبيين قد أخذوا هذه الكلمة وفكرتهم عن الله من اليهودية، وأن فكرت التوحيد هذه إنما ظهرت بتأثير اليهودية التي دخلت إلى اليمن. غير أن من الباحثين من رأى خلاف هذا الرأي. رأى أن افتتاح النص بذكر الرحمن، ثم إشارته بعد ذلك إلى إله يهود، ورود كلمة الرحمن" في نص آخر يعود إلى سنة "468" للميلاد2. كتبه صاحبه شكرًا للرحمن الذي ساعده في بناء بيته: كل هذه وأسباب أخرى، تناقض رأي القائلين بأن عقيدة الرحمن عقيدة اقتبست من اليهود3. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن "الرحمن" اسم من أسماء الله مذكور في الكتب الأول، وأن اللفظة عبرانية الأصل، وأما الرحيم" فعربية. وذكروا أن "الرحمن" اسم مخصص بالله، لا يجوز أن يسمى به غيره4. وقد أنشدوا للشنفرى أو لبعض الجاهلية الجهلاء. ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ... ألا قضب الرحمن ربي يمينها فيظهر من هذا البيت أن الشاعر كان يدين بعبادة الرحمن. ونجد مثل هذه العقيدة في قول سلامة بن جندل الطهوي:

_ 1 Handbuch, I, S. 248, Halevy, Revue des Etudes Juives, 1891, Vol. 22, PP. 125-129, 281, 23, p. 304, Margoliouth, the Relations. P. 67. 2 CIS. 7. 3 Margoliouth, The Relation Between Arabs and Israelttes Prior to The Rise of Islam, P. 67. 4 تاج العروس "8/ 307"، "رحم"، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "1/ 106". تفسير الطبري "1/ 44"، تفسير ابن كثير "1/ 21". 5 تفسير الطبري "1/ 44"، وورد: لقد لطمت تلك الفتاة هجينها ... ألا بتر الرحمن ربي يمينها الاشتقاق "ص37".

عجلتم علينا عجلتينا عليكم ... وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق1 فإن ذلك يعني أن قومًا من الجاهليين كانوا يدينون بعبادة "الرحمن". ومما يؤيد هذا الرأي ما ورد من أن بعض أهل الجاهلية سموا أبناءهم عبد الرحمن، وذكروا أن "عامر بن عتوارة" سمى ابنه "عبد الرحمن"2. وقد وردت لفظة "الرحمن" في شعر ينسب إلى "حاتم الطائي" هو: كلوا اليوم من رزق الإله وأيسروا ... وإن على الرحمن رزقكم غدًا وحاتم من المتألهة، ويعده البعض من النصارى و"الرحمن" نعت من نعوت الله في النصرانية، من أصل "رحمونو" Rahmono3، فهل عبر شاعرنا بهذه اللفظة عن هذا المعنى النصراني؟ "وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم ذلك بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} . ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعلي: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري. وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة"4. وذكر أن المشركين سمعوا النبي يدعو ربه، يا ربنا الله ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحدًا، وهو يدعو مثنى مثنى. وأن أحدهم سمع الرسول يقول في سجوده، يا رحمن يا رحيم فقال لأصحابه: انظروا ما قال ابن أبي كبشة دعا الرحمن الذي باليمامة. وكان باليمامة رجل يقال له الرحمن5.

_ 1 تفسير الطبري "1/ 44"، "سلامة بن جندب الطهوي"، عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم ... وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق. تفسير ابن كثير "1/ 21"، 2 الاشتقاق "ص37". 3 غرائب اللغة "182". 4 تفسير ابن كثير "1/ 21". 5 تفسير الطبري "15/ 121"، سورة الإسراء، الآية 110، روح المعاني "15/ 176".

ولم يذكر أهل الأخبار شيئًا عن ذلك الشخص الذي زعموا أنه كان يُعرف بـ"رحمان اليمامة" لكنهم ذكروا أن "مسيلمة الكذاب"، كان يقال له رحمان اليمامة1. فهل عنوا بـ"رحمان اليمامة" مسيلمة نفسه، أم شخصًا آخر كان يدعو لعبادة "الرحمن" قبله؟ وورد أن قريشًا قالوا للرسول: "إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة، يقال له الرحمن ولن نؤمن به أبدًا" فنزل فيهم قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 2. وذكر بعض أهل الأخبار: كان مسيلمة بن حبيب الحنفي، قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين، وذلك قبل أن يولد عبد الله أبو رسول الله3. وورد في بعض أقوال علماء التفسير أن اليهود قالوا: "ما لنا لا نسمع في القرآن اسمًا هو في التوراة كثير. يعنون الرحمن، فنزلت الآية" 4. ويرى المستشرقون أن عبادة "الرحمن" "رحمنن"، إنما ظهرت بين الجاهليين بتأثير دخول اليهودية والنصرانية بينهم5. وقد ذكر "اليعقوبي" أن تلبية "قيس عيلان" كانت على هذا النحو: "لبيك اللهم لبيك، لبيك أنت الرحمن، أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان"6 وأن تلبية عك والأشعرين، كانت: نحج للرحمان بيتًا عجبًا ... مستترًا مغببًا محجبًا7 وفي التلبيتين المذكورتين دلالة على اعتقاد القوم بإله واحد، هو الرحمن.

_ 1 اللسان "12/ 231"، "رحم" تاج العروس "8/ 307"، "رحم". 2 سورة الرعد، الآية30، الروض الأنف "1/ 200" سيرة ابن هشام "1/ 200" "حاشية على الروض" تفسير الطبري "13/ 101". 3 الروض الأنف "1/ 200". 4 القرطبي، الجامع "10/ 343". 5 G. Ryckmans, Inscriptions Sudarabes, I, No. 515, Le Museon, 66, 1953, p. 314, ryckmans 330, b, CIH 541, G. Ryckmans, in Le Museon, 59, 1946, p. 165, A. Jamme, La Religion Sud-arabe, Preislamiqeue, 275. 6 اليعقوبي "1/ 225". 7 اليعقوبي "1/ 226".

ولم ترد لفظة "الرحمن" إلا مفرده، فليس لها جمع؛ لأنها تعبير عن توحيد، وليس في التوحيد تعدد، فالتعدد شرك. على عكس لفظة "رب"، التي تؤدي معنى "إله"، وهي تعبير عن اعتقاد، لا اسم علم لإله، ولذلك وردت لفظة "أرباب" بمعنى آلهة تعبيرًا عن تعدد الآلهة، وهو الشرك. وقد كان الجاهليون يقولون: ربي وربك وربنا وأربابنا، كما يقولون إلهي وإلاهك وآلهتنا1. وقد تكون كلمة "هـ رحم" "هارحيم"، أي "الرحيم" الواردة في النصوص الصفوية2 وفي النصوص السبئية اسم إله3، وقد تكون صفة من صفات الآلهة على نحو ما تؤديه كلمة "الرحيم" من معنى في الإسلام. وللعلماء آراء في ظهور عبادة الشرك. ورأي رجال الدين منهم، أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين، كانوا على التوحيد جميعًا، ثم ضلوا فعبدوا جملة آلهة وصاروا مشركين4. أما غيرهم من العلماء الذين يستندون إلى الملاحظات ودراسة أحوال القبائل البدائية وعلى فروع العلوم الأخرى المساعدة مثل علم النفس وعلم الاجتماع، فيرون أن عقيدة التوحيد ظهرت متأخرة بالنسبة إلى ظهور الوثنية والشرك ظهرت بعد أن توسعت مدارك الإنسان، فشعر أن ما كان يتصوره من وجود قوى روحانية عليا في الأشياء التي عبدها لم يكن سوى وهم وخداع، وصار يقتصد في الشرك، إلى أن اهتدى إلى عبادة إله واحد.

_ 1 هناك ربك ما أعطاك من حسن ... وحيثما يك أمر صالح فكن شرح ديوان زهير "123". 2 Handbuch, I, S. 248, Vogue, Syrie Centrale, Inscriptions Semitlqyes, Paris, 1868-1877, p. 142, No. 402, Dussuad, Voyage Archeologique au Safa, Pareis, 1901, No. 258, Mission, p. 88, Les Arabes en Syrie, p. 152. 3 CIS, 4, 2, No. 40. p. 63, Grahmann, S. 246. 4 Ency. Religi, 10, p. 112.

ظهور الشرك

ظهور الشرك: هناك عدة عوامل دعت إلى ظهور الشرك، أي تعدد الآلهة، وأثرت في تعدد الآلهة. هناك عوامل طبيعية وعوامل رسية Characteristics، وعوامل

سياسة وعوامل تأريخية واجتماعية واقتصادية وعوامل أخرى، كل هذه أثرت في شكل الشرك وفي تعدد الآلهة وفي كيفية تصور الناس لآلهتهم. ولا يعني هذا أنها أثرت كلها مجتمعة وفي آن واحد، إنما يعني أن ظهور الشرك وشكله هو نتيجة عوامل متعددة وأسباب مختلفة أثرت في ظهوره وفي تكوين صورة الآلهة في نظر المؤمنين بها المتعبدين لها. وإنا لنجد وجهة نظر الشعوب عن الآلهة أو الإله تختلف باختلاف ثقافتها ومستواها الاجتماعي، وللوضع السياسي دخل كبير في الشرك وفي عدد الآلهة وفي شكل الدين. لقد كان لكل قبيلة إله خاص بتلك القبيلة يحميها من الأعداء ومن المكاره، ويدافع عنها في الحروب والملمات، ويعطيها النصر. كما كان للقرى والمدن آلهتها الخاصة بها. فإذا تحالفت القبائل أو القرى أو المدن تحالفت آلهتها معها، وكونت حلفًا وصداقة متينة بينها. أما إذا تحاربت هذه القبائل أو القرى أو المدن، فيكون لهذه الحرب أثر كبير في مستقبل الآلهة وفي عددها. فقد ينصرف المغلوبون عن آلهتهم إلى عبادة آلهة أخرى؛ لأنها أصبحت ضعيفة لا قدرة لها على الدفاع عن عبدتها. وقد يتأثر الغالبون بعبادة المغلوبين الذين خضعوا لهم، فيضيفون آلهة المغلوبين إلى آلهتهم، فيزيد بذلك عدد الآلهة، ولا سيما إذا كان المغلوبون أصحاب ثقافة عالية، وكان لهم أدب وفن. والعادة أن آلهة القبائل أو المدن الرئيسية تكون هي الآلهة الرئيسية للحلف أو في المملكة. ويكون إله القبيلة ذات النفوذ أو العاصمة عندئذ، هو إله الحكومة الكبير. أما الآلهة الأخرى، فتكون دونه في المنزلة، ولهذا يرد اسمها في الغالب بعد اسم الإله الكبير. كذلك يجب ألا ننسى عامل الجوار والاتصال الثقافي في ظهور الشرك، فكثيرًا ما يؤدي هذا الاتصال إلى اقتباس آلهة المجاورين وإضافتها إلى مجموعة الآلهة عند ذلك الشعب، فيزيد بذلك عدد الآلهة أو ينقص فقد تطغى الآلهة الجديدة المقتبسة على الآلهة القديمة، ويقل شأن بعضها فيهمل، ثم يموت اسمها. وقد يحدث ذلك بطريق الحرب أيضًا، كما ذكرت، فيتغير العدد بذلك. ولرجال الدين ولسادات القبائل وللأمراء وللملوك أثر في ظهور الشرك. كان في إمكانهم إقرار مستقبل الآلهة بإضافة آلهة جديدة على الآلهة القديمة، أو بإبعاد

إله أو آلهة عند عبادة قومهم، فيزيد أو ينقص بذلك عدد الآلهة. وقد كان سادات القبائل والوجوه يغيرون عبادة أتباعهم بإدخال عبادة إله جديد، يأخذونه من زيارتهم لبلد غريب، كأن يكون أحدهم قد أصيب بمرض وهو في ذلك البلد، فيشار عليه بالتعبد وبالتقرب لإله ذلك البلد أو لأحد آلهته، فيصادف أن يشفى، فيظن أنه شفي ببركة ذلك الإله وبقدرته وقوته، فيتقرب له ويتعبد له، فإذا أعاد حمل عبادته إلى أتباعه، فيعبد عندهم. ويضاف على آلهتهم، ويصير أحدهم وقد يطغى اسمه عليها، وذلك حسب درجة تعلق سيد القبيلة به، وحسب درجة ومكانة سيد القبيلة بين الناس. وتأريخ الجاهلية مليء بحوادث تبديل آلهة بسبب تبديل سادات القبائل ووجوه الناس لعقائدهم ولآلهتهم، فتدخل القبيلة كلها في العبادة الجديدة. وقد كان إسلام قبائل برمتها، بسبب دخول سيدها في الإسلام، فالناس تبع لساداتهم ولقادتهم، و"الناس على دين ملوكهم" كما هو معروف ومشهور في أقوال العرب. ومعظم أسماء الآلهة صفات للآلهة لا اسم علم لها، فود ورضى والمقه وذات حميم وأمثالها، هي صفات في الأصل، مضى عليها الزمن، فاستعملت استعمال الأسماء الأعلام. وظن أنها آلهة قائمة بذاتها فلما جاء الباحثون وجمعوها حسبوها أسماء آلهة، فزاد بذلك عدد الآلهة، واعتبرت الأسماء الكثيرة من سيماء الإفراط في الشرك. بينما هي صفات لإله، أو آلهة لا يزيد عددها على ثلاثة، هي الثالوث الكواكبي المقدس الذي تعبدوا له. ولا بد لنا من الإشارة إلى اصطلاح أطلقه "ماكس مولر" Max Miiler على مرحلة من العبادة هي بين بين، لا هي توحيدMonotheism ولا هي شرك Polytheism، بل هي مرحلة تعبد فيها الإنسان على رأي هذا الباحث إلى إله واحد هو إله القبيلة، مع الاعتقاد بوجود آلهة أخرى1. وهذا الاصطلاح هو henotheismus. وقد رأى "فلايدلر" Pfleidler أن الساميين لم يكونوا موحدين بطبعهم كما ذهب "رينان" إلى ذلك، بل كانوا يدينون بإله قومي، ومن هذه العقيدة ظهر التوحيد الخالص كما حدث عند الإسرائيليين2.

_ 1 Max Muller, Varlesungen uber den Ursprung und die entwickiung der Religion, 1880, Schmidt, S. 261. 2 Ency. Religi, 10, p. 811, Pfleiler, Phflosophy of Religion, London, 1885-1888, III, p. 19.

وفي القرآن الكريم إشارات إلى أنواع من الشرك كان عليه الجاهليون، وفيه تعريف لمعنى الشرك، فالشرك في قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 1 عبادة الأصنام المصنوعة من الحجارة أو الخشب أو المعادن، أي مما لا روح له وقابل للكسر2. وفي بعض الآيات أن من أنواع الشرك القول بأن الجن هم شركاء لله3. ومن أنواعه أيضًا القول بأن الملائكة هم شركاء لله وبناته4. وفي آيات أخرى أن من الشرك اتخاذ آلهة أخرى مع الله5. والآلهة هنا شيء عام. فيه تأليه الكواكب وعبادة الأشياء غير المنظورة، أي غير المادية وعبادة الأصنام. وفي القرآن الكريم جواب على فلسفة القوم وتعليلهم لعبادة الأصنام واتخاذهم "أولياء" من دون الله؛ إذ يقولون جوابًا عن الاعتراض الموجه إليهم في عبادة غير الله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 6 ويتبين من هذه الآية ومن آيات أخرى أن فريقًا من العرب كانوا يعتقدون بوجود الله، وأنه هو الذي خلق الخلق، وأن له السيطرة على تصرفات عباده وحركاتهم، ولكنهم عبدوا الأصنام وغيرها، واتخذوا الأولياء والشفعاء لتقربهم إلى الله زلفى7. وفي كتاب الله مصطلحات لها علاقة بعبادة الشرك، منها "شركاء" جمع "شريك" وهو من اتخذه المشركون شريكًا مع الله8. و"أنداد" {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} 9 {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} 10. و"أولياء".

_ 1 الأعراف، الآية 191 وما بعدها، يونس، الآية 189. 2 تفسير الجلالين "1/ 139" "طبعة المطبعة المليجية. 3 الأنعام، الآية 100، الجلالين "1/ 116". 4 سبأ، الآية 40 وما بعدها. 5 الأنبياء، الآية 24. 6 الزمر، الآية 3، الجلالين "2/ 133". 7 الزمر، الآية 3، الأنعام، الآية 148، النحل، الآية 35. 8 الأنعام، الآية 100، راجع "فتح الرحمن لطالب آيات القرآن" "ص238". حيث تجد المواضع الواردة في القرآن الكريم. 9 البقرة، الآية 165 10 إبراهيم، الآية 30.

و"ولي" و"وليًّا"1 و"شفعاء" و"شهداء"2. فهذه الكلمات وأمثالها تعبر عن عقائد الجاهليين قبيل الاسلام. وعن اعتقادهم في عبادة أشياء أخرى مع الله كانوا يرون أنها تستحق العبادة وأنها في مقابل الله في العرف الإسلامي، أو أنها شركاء في إدارة الكون أو أنها مساعدة لله. والشرك في تفسير العلماء المسلمين، أن تعدل بالله غيره، فتجعله شريكًا له، فهو يشمل أشياء عديدة. منها عبادة الكواكب، أي عبادة القوى الطبيعية، وعبادة الجن والملائكة والأمور الخفية، وبمعنى آخر عبادة القوى الخفية، أو القوى الروحية، وعبادة الأمور المادية كالأصنام والأحجار، باعتبار أنها تشفع للإنسان عند الآلهة، وعبادة الإنسان والحيوان، إلى غير ذلك من عبادات. ومن العبادات التي يجب أن يشار إليها عبادات اصطلح علماء الأديان على تسميتها بمسميات حديثة، تمثل عقائد قديمة، ولبعضها أتباع أحياء يرزقون. ولبعض منها آثار ومظاهر، دخلت في الأديان الباقية، وصبغت بصبغتها، وهي من بقايا العقائد الدينية البدائية التي رسخت في النفوس وفي القلوب حتى صار من الصعب على الإنسان أن يتخلص منها، فبقيت راسخة تحت مسميات جديدة. ومن تلك العقائد: الـ Shamanism و Tstemism، و Fetishism و Ancestor – worship و Animism وغيرها من مسميات سيرد الحديث عنها في هذا الكتاب3. أما الـ"شمانية"، فقد أخذت من كلمة "شمن" ِShaman ومعناها كاهن أو طبيب "شمان"، أو من كلمة Shemen التي معناها صنم أو معبد، أو من أصل آخر. ويراد بها اليوم ديانة تعتقد بالشرك، أي تعدد الآلهة Polytheism أو بعبادة الأرواح Polydomonism مع عبادة الطبيعة Nature – worship لاعتقادها بوجود أرواح كامنة فيها. ويعتقد في هذا الدين أيضًا بوجود إله أعلى هو فوق جميع هذه الأرواح والقوى المؤلهة، وبتأثير السحر4.

_ 1 راجع فهارس القرآن الكريم، مثل فتح الرحمن "ص480". 2 فتح الرحمن "ص240"." 3 A.A. Bowman, Studies in the Philosophy of Religion, London, 1938, p. 67. 4 Ency. Religi, II, p. 441.

ويستعين الـ"شمن"، وهو الكاهن أي رجل الدين، بالقوى الخارقة التي لديه والتي لا يملكها الرجل الاعتيادي في اعتقاد أبناء هذه العقيدة في الاتصال بالأرواح وبما وراء الطبيعة للتأثير فيها. ولدى هذا الكاهن أرواح مأمورة بين يديه للقيام بما يطلب منها القيام به. وهو يمارس أعمالًا سحرية للتأثير في الأرواح فللسحر في هذا الدين أهمية ومقام. ويقوم الـ"شمن" عند أكثر المتدينين بهذا الدين بأعمال الطبيب1. وأما "الطوطمية"، فقد تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب2. وقد بينت عقيدتها في "الطوطم"، ورأي العلماء في كيفية ظهور المجتمع "الطوطمي"، وهو مجتمع يقوم على أساس الجماعة أو القبيلة، يرتبط أفراده برباط ديني مقدس، هو رباط "الطوطم"، رمز الجماعة. وأما الـ Fetishism من أصل Factitus اللاتيني، بمعنى السحر، أي القوة المؤثرة الخفية Magic فللباحثين في تأريخ الأديان آراء متعددة في تعريفها وفي تثبيت حدودها3. والرأي الغالب الشائع بينهم أنها عبادة أو تقديس للأشياء المادية الجامدة التي لا حياة فيها لاعتقاد أصحابها بوجود قوة سحرية فيها، وقوى غير منظورة في تلك الأشياء تلازمها ملازمة مؤقتة أو دائمة ويحمل الـ Fetish "اليد" لجلب السعد إلى صاحبه. وهو في نظر "تيلور" Dr. Tylor بمثابة "إله البيت" وقوة فاعلة خفية تطرد الخبائث عن صاحبه، وتجلب الخير له. ولحدوث الأحلام ونشوئها في نظر الأقوام البدائية دخل كبير في رأي العلماء في ظهور هذه العقيدة4. وأصحاب هذه العقيدة لا ينظرون على تلك الأشياء المادية على أنها نفسها ذات قوة فعالة خفية، وأنها الرمز أو الصورة للإله المنسوب ذلك الشيء اليه، بل هم يرون أن تلك الأشياء ليست سوى منازل أو مواضع لاستقرار تلك القوى المؤثرة التي يكون لها دخل في إسعاد الإنسان وهو يقدس الأشياء المادية كالحجارة

_ 1 Ency. Religi, vol. 11, p. 441. 2 "ص518 وما بعدها". 3 Ency. Religi, vol. V, p. 894. 4 Ency. Brita, vol. 9. p. 202, Taylor, Primitive Culture, II, p. 143. Waitny, Anthropologie er naturvolker, II, S. 174.

مهما كانت صغيرة أو كبيرة، مهندمة ومصقولة صقلتها يد الإنسان، ومستها أو لم تمسها يد، بل كانت على نحو ما وجدها في شكلها الطبيعي؛ لأنه حينما يتقرب إلى تلك الحجارة، لا يتقرب إليها نفسها، بل يتقرب إلى الروح التي تحل فيها. فالروح هي المعبودة، لا الحجر الذي تحل الروح فيه، وليس الحجر أو المواد الأخرى إلا بيتًا أو فندقًا تنزل الروح فيه. أما عبادة الأسلاف Ancestor Worship فهي فرع من أهم فروع الدين في نظر بعض العلماء، بل هي الأساس الذي قام عليه الدين في نظر آخرين، ولا سيما عند "سبنسر" H. Spencer1. وأما الأسباب التي دعت البشر إلى هذه العبادة، فهي الحب والتقدير للأبطال والرؤساء والأمل في استمرار دفاعهم عنهم وحمايتهم للجماعة التي تنتمي إليها كما كانت تفعل في حياتهم ورد أذى الأعداء الأموات منهم والأحياء. فتمجيد الأبطال والخوف منهم، هو الذي حمل البشر على عبادة الأسلاف على رأي. وهناك من رأى أن تمجيد الأبطال والإشادة بذكرهم، هو الذي أوجد هذه العبادة، ومنهم من نسبها إلى الخوف منهم حسب2. وسواء أكان منشأ هذه العبادة الحب والتقدير أو الخوف أو كلاهما، فإن أساس هذه العقيدة هو الإيمان ببقاء الروح، روح الميت، وإن بإمكان هذه الروح نفع الأحياء أو إلحاق الأذى بهم. ورؤية الأحياء وسماع توسلاتهم ودعواتهم لها فالميت وإن كان قد دفن في قبره وغيب بين التراب، إلا أنه يسمع ويعي فروحه حية وبإمكانه النفع والضر. وهذه العقيدة هي التي حملت بعض الشعوب على مخاطبة الأرواح من فجوات مخصوصة في الأرض ومن مواضع أخرى لاستشارتها في بعض الأمور التي تهمها، وللتحدث معها في مسائل خطيرة كتقديم مشورة أو أخذ رأي أو استفسار عن اسم قاتل أو سارق ولهذه الغاية اتخذت مواضع مقدسة oracle يتقرب فيها إلى الأرواح وللاستفسار منها فكان في اليونان مثلًا موضع شهير عرف باسم Thesprotia، وموضع آخر عرف باسم Phigalia في "أركاديا" Arcadia3. وكان في إيطاليا موضع للتنبوء يقع على بحيرة.

_ 1 Ency. Relig, I, pp. 425, 427. 2 Jovons, Intrudction to History of Religion. P. 54. 3 Herodothus, V, 92, Pausanus, III, 17, 8, 9.

"أفيرنوس" Avernus1 وكانت العادة في هذا الموضع أن يتقرب الراغبون في استشارة الأرواح إلى الموضع المقدس بتقديم ضحية، وعندئذ ينام السائل في الموضع المقدس، فتظهر له الروح في المنام، فتحدثه بما يحتاج إليه2. ولعبادة السلف علاقة بعبادة الأصنام Idolatry ويلاحظ أن عبادة السلف تقود أتباعها في بعض الأحيان إلى الاعتقاد بأن قبيلتهم تنتمي إلى صلب جد واحد، أصله حيوان في رأي الأكثرين، أو من النجوم في بعض الأحيان. وهذا ما يجعل هذه العقيدة قريبة من "الطوطمية"3. ولهذا العبادة أثر كبير في نظام أصحابها الاجتماعي؛ إذ هي تربط الأجيال الحاضرة بالأجيال الماضية بروابط متينة، وتؤلف من أصحاب هذا المذهب وحدة قوية، كما أن لها أثرًا مهمًّا في الأسرة، فهي في الواقع عبادة تخص الأسرة قبل كل شيء4. ومعارفنا عن عبادة السلف عند الجاهليين قليلة، ويمكن أن نستنتج من أمر النبي بتسوية القبور ونهيه عن اتخاذها مساجد ومواضع للصلاة أن الجاهليين كانوا يعبدون أرواح أصحاب هذه القبور ويتقربون إليها. ولعل في عبارة "قبر ونفس" أو "نفس وقبر" الواردة في بعض النصوص الجاهلية ما يؤيد هذا الرأي، فإن النفس هي الروح. ومن آثار عبادة السلف عند العلماء حلق الرأس وإحداث جروح في الجسد واحتفالات دفن الموتى ولبس المسوح والعناية بالقبور والصلاة عليها أو إقامة شعائر دينية فوقها أو علامات خاصة بالميت أو الموتى للتقديس5. ونحن إذا استعرضنا روايات الأخباريين نجد آثار هذه العبادة معروفة بين الجاهليين. وقد أشار أهل الأخبار إلى قبور اتخذت مزارات، كانت لرجال دين ولسادات قبائل يقسم الناس بها، ويلوذون بصاحب القبر ويحتمون به، كالذي كان من

_ 1 Ency. Religi, I, p. 428. 2 Ency. Religi, vo. I, p. 430, Crooke, Popular Religion, I, 179, Wilken, Het Animisme vj de Volken Indischen Archipel, 1884-1885, I, 74 ff. 3 Ency. Religi, I, p. 536. Taylor, Primitive Cultures, II, p. 193. 4 Ency. Religi, I, p. 432. 5 Hastings, p. 300, Ency. Religi, 7, p. 325, Ancestor-Worship.

أمر ضريح "تميم بن مر"، جد "تميم"، وكالذي ذكروه من أمر اللات" من أنه كان رجلًا في الأصل، اتخذ قبره معبدًا ثم تحول الرجل إلى صنم, ونجد في كتب الحديث نهيًا عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها. وقد أشارت إلى اتخاذ اليهود والنصارى قبور سادتهم وأوليائهم مساجد، تقربوا اليها، لذلك نُهي أهل الإسلام من التشبه بهم في تعظيم القبور1، كما نهي عن تكليل القبور وتجصيصها، والتكليل رفع القبر وجعله كالكلة، وهي الصوامع والقباب التي تُبنى على القبور2. وأما الـ Animusm فهو اعتقاد بوجود أرواح مؤثرة في الطبيعة كلها Nature ولذلك يؤله كثيرًا من المظاهر الطبيعية المرئية وغير المرئية منها، لاعتقاده بوجود قوى هي فوق الطبيعة، منها ما يكون في جسم، وهو "النفس" Saul، ومنها ما لا يكون في الأجسام وهو "الروح" Spirit3. ويمكن تقسيم هذه العبادة إلى ثلاث أصناف: عبادة النفس، نفس الإنسان أو الحيوان وخاصة منها عبادة الأموات Nacrolatry، وعبادة الأرواح spiritism وعبادة الأرواح التي تحل في المظاهر الطبيعية، إما بصورة مؤقتة وإما بصورة دائمة naturism4. والآراء في هذه المعتقدات لا تزال في مراحلها الأولى، وهي موضع جدل بين العلماء؛ لأنها قائمة على أساس الملاحظات والتجارب التي حصلوا عليها من دراساتهم لأحوال المجتمعات البدائية لهنود أمريكا ولقبائل إفريقية وأسترالية، ولا يمكن بالطبع حدوث اتفاق في الدراسات الاستقصائية المبنية على المشاهدات والملاحظات، وإذا كانت هذه الدرسات غير مستقرة وغير نهائية حتى الآن، فقد صعب بالطبع تطبيقها على معتقدات العرب قل الإسلام، وزاد في هذه الصعوبة قلة معلوماتنا في هذه الأمور. وليس من الممكن في نظري أن نتوصل إلى نتائج علمية غير قابلة للأخذ والرد في هذه الموضوعات في الزمن الحاضر، بل ولا في المستقبل.

_ 1 صحيح مسلم "2/ 66"، "باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيهان والنهي عن اتخاذ القبور مساجد". 2 اللسان "11/ 595"، "كلل". 3 Schmidt, s. 24. 4 Ency religi, I, p, 535.

القريب، ما لم يحدث ما ليس في الحسبان، من العثور على نصوص دينية تكشف لنا عن عقائد الجاهليين. ونستطيع أن نقول إجمالًا إن من الجاهليين من كان يدين بعبادة الأرواح على اختلاف طرقها، ويؤمن بأثرها. وللعلماء من مفسرين ولغويين وغيرهم تفاسير عديدة للروح، تفيدنا كثيرًا في معرفة آراء الجاهليين عنها، كما أن للأخباريين قصصًا عنها وعن استقلالها وانفصالها عن الجسد بعد الموت واتصالها بالقبر وغير ذلك، يمكن أن تكون موضوع دراسة قيمة لمن يريد التبسط في دراسة هذه الأمور.

عبادة الكواكب

عبادة الكواكب: وقد رأى بعض العلماء أن عبادة أهل الجاهلية هي عبادة كواكب في الأصل. وأن أسماء الأصنام والآلهة، وإن تعددت وكثرت، إلا أنها ترجع كلها إلى ثالوث سماوي، هو: الشمس والقمر والزهرة. وهو رمز لعائلة صغيرة، تتألف من أب هو القمر، ومن أم هي الشمس، ومن ابن هو الزهرة. وذهبوا إلى أن أكثر أسماء الآلهة، هي في الواقع نعوت لها، وهي من قبيل ما يقال له الأسماء الحسنى لله في الإسلام. وقد لفت الجرمان السماويان: الشمس والقمر، نظر الإنسان إليهما بصورة خاصة، لما أدرك فيهما من أثر في الإنسان وفي طباعه وسحنه وعمله، وفي الجو الذي يعيش فيه، وفي حياة زرعه وحيوانه، وفي تكوين ليله ونهاره والفصول التي تمر عليه. فتوصل بعقله يوم ذاك إلى أنه نفسه، وكل ما يحيط به، من فعل هذين الجرمين ومن أثر أجرام أخرى أقل شأنًا منهما عليه. فنسب إليهما نموه وتكوينه وبرأه وسقمه، وحياة زرعه وماشيته، ورسخ في عقله أنه إن تقرب وتعبد لهما، ولبقية الأجرام، فإنه سيرضيها، وستغدق عليه بالنعم والسعادة والمال والبركة في البنين، فصار من ثم عابد كوكب. ونجد في حكاية كيفية اهتداء "إبراهيم" إلى عبادة إله واحد، الواردة في سورة الأنعام، تفسيرًا لسبب تعبد الإنسان للأجرام السماوية. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، وَكَذَلِكَ نُرِي

إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. فقد لفت ذلك ذلك الكوكب نظر إبراهيم، وبهره بحسن منظره وبلونه الزاهي الحالب، فتعبد له، واتخذه ربًّا، فلما أفل، ورأى كوكبًا آخر أكبر حجمًا وأجمل منظرًا منه، تركه، وتعبد للكوكب الآخر، وهو القمر. فلما أفل، ورأى الشمس بازغة، وهي أكبر حجمًا وأظهر أثرًا وأبين عملًا في حياة الإنسان وفي حياة زرعه وحيوانه وجوه ومحيطه، ترك القمر وتعبد للشمس، فيكون قد تعبد لثلاثة كواكب، قبل أن يهتدي إلى التوحيد، هي القمر والشمس، والمشترى أو الزهرة على ما جاء في أقوال المفسرين2. ويشير القرآن الكريم في موضع آخر إلى عبادة الجاهليين للأجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر، ففيه " {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 3. وهذه الأجرام السماوية الثلاثة هي الأجرام البارزة الظاهرة التي بهرت نظر الإنسان، ولا سيما الشمس والقمر. والزهرة، وإن كانت غير بارزة بروز الشمس والقمر، غير أنها ظاهرة واضحة مؤثرة بالقياس إلى بقية الأجرام ذات مظهر جذاب، ولون باهر خلاب، وقد يكون هذا المظهر الجميل الأخاذ هو الذي جعلها ابنًا للشمس والقمر في أساطير العرب الجنوبيين. واعتبر الجاهليون القمر أبًا في هذا الثالوث، وصار هو الإله المقدم فيه، وكبير الآلهة. وصارت له منزلة خاصة في ديانة العرب الجنوبيين. وهذا ما حدا ببعض المستشرقين إلى إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل

_ 1 الأنعام، الآية 75 وما بعدها. 2 تفسير الطبري "7/ 158 وما بعدها" تفسير القرطبي، الجامع "7/ 25". 3 فصلت، الآية 37.

التغليب1، وعلى الذهاب إلى أن هذا المركز الذي يحتله القمر في ديانة العربية الجنوبية لا نجده في أديان الساميين الشماليين، مما يصح أن نجعله من الفروق المهمة التي تميز الساميين الجنوبيين عن الساميين الشماليين2. ويرجع أولئك المستشرقون هذا التباين الظاهر بين عبادة الساميين الجنوبيين وعبادة الساميين الشماليين وتقديم القمر على الشمس عند العرب الجنوبيين إلى الاختلاف في طبيعة الأقاليم وإلى التباين في الثقافة، ففي العربية الجنوبية يكون القمر هاديًا للناس ومهدئًا للأعصاب، وسميرًا لرجال القوافل من التجار وأصحاب الأعمال في الليالي اللطيفة المقمرة، بعد حر شديد تبعثه أشعة الشمس المحرقة، فتشل الحركة في النهار، وتجعل من الصعب على الناس الاشتغال فيه، وتميت من يتعرض لأشعتها الوهاجة في عز الصيف القايظ. إنها ذات حميم حقًّا، فلا عجب إذا ما دعيت بـ"ذت حمم"، "ذات حميم"، "ذات الحميم" عند العرب الجنوبيين، ولذلك لا يستغرب إذا قدمه العرب الجنوبيون في عبادتهم على الشمس، وفضلوه عليها. وإذا كانت الشمس مصدرًا لنمو النباتات نموًّا سريعًا في شمال جزيرة العرب، فإن أشعة الشمس الوهاجة المحرقة تقف نمو أكثر المزروعات في صيف العربية الجنوبية، وتسبب جفافها واختفاء الورد والزهر في هذا الموسم، فلا بد أن يكون لهذه الظاهرة أثر في العقلية التي كونت تلك الأساطير3. ويرى "هومل" أن ديانات جميع الساميين الغربيين والعرب الجنوبيين هي ديانة عبادة القمر أي أن القمر فيها مقدم على الشمس، وهو عكس ما نجده في ديانة البابليين. ويعلل ذلك ببقاء الساميين الغربيين بدوًا مدة طويلة بالقياس إلى البابليين. ويلاحظ أيضًا أن الشمس هي أنثى، وأما القمر فهو ذكر عند الساميين الغربيين، وهو بعكس ما نجده عند البابليين4. والاسم الشائع للقمر بين الساميين، هو: ورخ، و"سن" "سين"، وشهر. وشهر خاصة هو الاسم الشائع المستعمل للقمر في الكتابات الجاهلية التي

_ 1 D. Nielsen, Die Altarabische Mondreligion. 2 Handbuch I, S. 213. 3 Handbuch. I, S. 213, Die Altarbische Mondreligion, s. 49, Die Sabatsche Gott Ilmukah, S. I. 4 Hommel, Grundriss, I, S. 85.

عثر عليها في العربية الجنوبية وفي النصوص التي عثر عليها في الحبشة، وفي الأقسام الشمالية الغربية من جزيرة العرب. ويلاحظ أن الصور التي ترمز إلى القمر مما عثر عليه في تلك النصوص هي متشابهة تقريبًا، ومتقاربة في الشكل، مما يدل على أن الأسطورة الدينية التي كانت في مخيل عبدة القمر عنه كانت متشابهة ومتقاربة ومن أصل واحد. أما كلمة "قمر"، فلم ترد حتى الآن في النصوص الجاهلية التي وصلت إلينا، وهذا مما حمل بعض المستشرقين على القول بأن هذه التسمية متأخرة1. ويلاحظ أن النصوص العربية الجنوبية لا تسمى القمر باسمه دائمًا في النصوص، وإنما نشير إليه بكناه وصفاته في الغالب. ويظهر أن ذلك من باب التأدب والتجمل أمام رب الأرباب. ونجد هذا التأدب في مقام الأرباب عند جميع البشر، فلا يخاطب الإنسان ربه كما يخاطب غيره من الإنس، أي باسمه المعتاد؛ لأنه الرب والإله، وهو فوق الإنسان. وهو إذا خاطبه باسمه، فإنما يفعل ذلك على سبيل التودد والتقرب والتحبب إلى الرب، فهو نوع من أدب التقرب إلى الآلهة ... ولما كان القمر هو الأب، خاطبه المؤمنون به بـ"ودم أبم"، وبـ"أبم ودم"، أي "ود أب"، و"أب ود"، ولا غرابة في ذلك. فإذا كان القمر أبًا للآلهة، فلِمَ لا يكون إذن أبًا للإنسان عبده، وهو في حاجة شديدة إليه، حاجة العبد إلى سيده والولد إلى والده؟ ودعوه أيضًا بـ"عم"، ولِمَ لا؟ أليس العم في مقام الأب؟ ثم إن العرب لا تزال تخاطب الكبير بـ"عم" دلالة على تقديره واحترامه، فليس بغريب إن نادى المؤمنون إلههم القمر: يا عم! ليرحمهم وليبارك فيهم، إن في هذا النداء تقربًا وتواضعًا وإشعارًا بضعف السائل تجاه المخاطب2. والأب عند العرب كل من كان سببًا في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره. ويقوم العم عندهم مقام الأب، ولذلك سمي مع الأب الأبوين3 وقد عثر على أخشاب وأحجار حفرت عليها أسماء ود، أو جمل "ودم

_ 1 Handbuch, I, S. 214 2 Handbuch, I, S, 214. 3 المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني "ص4 وما بعدها" مادة أبا في كتاب الألف.

أبم"، أو "أبم ودم"، وذلك فوق أبواب المباني؛ لتكون في حمايته وللتبرك باسمه وللتيمن به، كما وجدت كلمة "ود" محفورة على أشياء ذات ثقوب، تعلق على عنق الأطفال لتكون تميمة وتعويذة يتبرك بها. فعلوا ذلك كما يفعل الناس في الزمن الحاضر في التبرك بأسماء الآلهة والتيمن بها لمنحها الحب والبركة والخيرات. ونعت القمر بـ"كهلن"، أي "الكهل" في نصوص المسند، وفي نصوص عثر عليها في الأقسام الشمالية من العربية الغربية. وتعني لفظة "كهلن"، القدير والمقتدر والعزيز1. وهي من نعوت هذا الإله. ونعت بنعوت أخرى، مثل "حكم"، أي "حكيم" و"حاكم" و"صدق" أي "صديق" و"صادق" و"علم"، أي "عليم" و"عالم" و"علام"، وبنعوت أخرى عديدة من هذا القبيل، وهي من نوع "الأسماء الحسنى" لله عند المسلمين. ترينا الإله إلهًا قديرًا قويًّا عالمًا حاميًا مساعدًا لأبنائه المؤمنين به. يحبهم حب الأب الشفيق لأبنائه الأعزاء. والإله "القمر"، هو الإله "المقه" عند السبئيين. وهو إله سبأ الكبير. وهو "عم" عند القتبانيين. كما سأتحدث عن ذلك في أصنام الكتابات، وهو ود عند المعينين و"سن" "سين"، عند الحضارمة. واتخذ الثور من الحيوانات رمزًا للقمر، ولذلك عد الثور من الحيوانات المقدسة التي ترمز إلى الآلهة. ونجد هذه الصورة مرسومة في النصوص اللحيانية والثمودية وعند غير العرب من الشعوب السامية. وقد نص على اسمه في الكتابات؛ إذ قيل له "ثور"2. وقد ذكر "الآلوسي"، أن عبدة "القمر" "اتخذوا له صنمًا على شكل عجل، وبيد الصنم جوهرة يعبدونه ويسجدون له ويصومون له أيامًا معلومة في كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور. فإذا فرغوا من الأكل أخذوا في الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه"3 ولم يشر إلى اسم الجاهليين الذي فعلوا ذلك. فلعله قصد عبدة القمر بصورة عامة من العرب وغيرهم

_ 1 Halevy 237, Chrestoma. 91, 97, Grundriss, I, S. 136, Giaser, 284. 2 Glaser 1546, Wiener Museum 5. Handbuch, I, S. 214. 3 بلوغ الأرب "2/ 216".

وذهب بعض الباحثين إلى احتمال كون "الحية" تمثل الإله القمر، وهي تمثل الروح أيضًا عند بعض آخر1. والشمس، هي من أول الأجرام السماوية التي لفتت إليها أنظار البشر بتأثيرها في الإنسان وفي الزرع والنماء. وهذا التأثير البارز جعل البشر يتصور في الشمس قدرة خارقة وقوة غير منظورة كامنة فيها، فعبدها وألهها، وشاد لها المعابد، وقدم لها القرابين. وهي عبادة فيها تطور كبير ورقي في التفكير إذا قيست بالعبادات البدائية التي كان يؤديها الإنسان للأحجار والنباتات والأرواح. وقد تعبد العرب للشمس في مواضع مختلفة في جزيرة العرب. وترجع عبادتها إلى ما قبل الميلاد، في زمن لا نستطيع تحديده، لعدم وجود نصوص لدينا يمكن أن تكشف لنا عن وقت ظهور عبادة الشمس عند العرب. وعبدها أقوام آخرون من غير العرب من الساميين، مثل البابليين والكنعانيين والعبرانيين. وقد أشير في مواضع عديدة من العهد القديم إلى عبادة الشمس بين العبرانيين. وجعل الموت عقوبة لمن يعبد الشمس. ومع ذلك، عبدت في مدن يهوذا. وقد اتخذت جملة مواضع لعبادة الشمس فيها عرفت بـ"بيت شمس" Beth Shemesh2. والشمس، أنثى في العربية، فهي إلهة، أما في كتابات تذمر فهي مذكرة، ولذلك فهي إله ذكر عند التدمريين. ويرى "ولهوزن" Wellhousen أن ذلك حدث بمؤثرات خارجية3. وكانت عبادة الشمس شائعة بين التدمريين وورد في الكتابات التي عثر عليها في "حوران" أسماء أشخاص مركبة من شمس وكلمة أخرى، ويدل على ذلك شيوع عبادتها عند أهل تلك المنطقة. وذكر "سترابو" أن Helios أي الشمس، هي الإله الأكبر عند النبط. ولكن الكتابات النبطية لا تؤيد هذا الرأي. والإله الأكبر فيها هو "اللات" فلعل "سترابو" قصد بـHelios اللات. وإذا كان هذا صحيحًا، فتكون اللات هي الشمس. والشمس من الأصنام التي تسمى بها عدد من الأشخاص، فعرفوا بـ"عبد شمس" وقد ذكر الأخباريون أن أول من تسمى به سبأ الأكبر؛ لأنه أول من عبد

_ 1 Arabien, S. 269. 2 Hastings, p. 880, Die Araber, III, S. 125, ff. 3 Reste, S. 60 Waddington 2569, 2587, Vogue, Paly, 2, 8, 19, 75, 116, 125, Reste, s. 60.

الشمس، فدعي بـ"عبد شمس"1. وقد ذكر أن بني تميم تعبدت له. وكان له بيت، وكانت تعبده بنو أد كلها: ضبة، وتميم، وعدي، وعطل، وثور، وكان سدلته من بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن حروة بن أسيد بن عمرو بن تميم، فكسره هند بن أبي أهالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن2. وذكر أن "عبد شمس"، اسم أُضيف إلى شمس السماء؛ لأنهم كانوا يعبدونها. والنسبة "عبشمي"3. وكانت العرب تسمي الشمس "الإلهة" تعظيمًا لها، كما يظهر ذلك من هذا الشعر: تروحنا من اللعباء قسرًا ... فأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا على مثل ابن مية فانعياه ... تشق نواعم البشر الجيوبا4 ويقال لها "لاهة" بغير ألف ولام. وعرفت الشمس بـ"ذُكاء"5 عند الجاهليين. وقد تصور أهل الجاهلية الصبح ابنًا للشمس تارة، وتصوروه تارة حاجبًا لها. فقيل حاجب الشمس. وقيل يقال للصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها6. وكانوا يستقبلون الشمس ضحى. ذكر "الأسقع" الليثي أنه خرج إلى والده، فوجده جالسًا مستقبل الشمس ضحى7. وإذا تذكرنا ما أورده أهل الأخبار عن

_ 1 منتخبات "ص57". 2 المحبر "316". 3 تاج العروس "4/ 172"، "شمس". 4 ينسب هذا الشعر لمية بنت أم عتبة بن الحارث، وقيل لبنت عبد الحارث اليربوعي وقيل: لنائحة عتيبة بن الحارث، وقيل لأم البنين بنت عتيبة بن الحارث، تاج العروس "9/ 374"، اللسان "17/ 630"، تاج العروس "9/ 510"، "لاه" "تروحنا من اللعباء قصرا"، ابن الأجدابي الأزمنة والأنواء "79". 5 بالضم. 6 تاج العروس "10/ 137"، "ذكو". 7 الإصابة "1/ 51" رقم "121".

صلاة الضحى، وهي صلاة كانت تعرفها قريش، ولم تنكرها، أمكننا الربط بين استقبال الشمس ضحى وبين هذه الصلاة. وقد لاحظ بعض السياح أن آثار عبادة الشمس والقمر لا تزال كامنة في نفوس بعض الناس والقبائل، حيث تتجلى في تقدير هذين الكوكبين وفي تأنيب من يتطاول عليهما بالشتم أو بكلام مسيء وفي تعظيمها من بين سائر الكواكب تعظيمًا يشير إلى أنه من بقايا الوثنية القديمة على الرغم من إسلام أولئك المعظمين1. ويلي الشمس والقمر "الزهرة"، وهي ذكر في النصوص العربية الجنوبية، ويسمى "عثتر". وهو بمثابة "الابن" للشمس والقمر، وهذا الثالوث الكوكبي يدل، في رأي الباحثين في أديان العرب الجنوبيين، على أن عبادة العربية الجنوبية هي عبادة نجوم. وهو يمثل في نظرهم عائلة إلهية مكونة من ثلاثة أرباب، هي: الأب وهو القمر، والابن وهو الزُّهرة، والأم وهي الشمس. وإذ كان القمر هو الأب وكبير الآلهة الثلاثة، صار اسمه في طليعة من يذكر اسمه من الآلهة في النصوص، وصارت له كنى ونعوت كثيرة لا تجاريها في الكثرة نعوت الآلهة الأخرى، وبه تسمى أشخاص كثيرون. وهذا ما حدا ببعض المستشرقين على إطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين على سبيل التغليب. وهذا المركز الذي يحتله القمر في ديانة العرب الجنوبية، لا نجده في أديان الساميين الشماليين عن الساميين الجنوبيين2. كما يصح اعتبار تذكير "الزهرة" "عثتر" عند العرب الجنوبيين، من جملة الفروق التي نراها بين ديانة سكان العربية الجنوبية وديانات الساكنين في شمال العرب الجنوبية، فإن "الزهرة" هي أنثى عندهم. وعبد بعض أهل الجاهلية أجرامًا سماوية أخرى، وتقربوا إليها بالنذور والصلوات. ففي كتب الأخباريين أن طائفة من تميم عبدت "الدبران"، وأن "العيوق" في زعمهم "عانق الدبران لما ساق إلى الثريا مهرًا، وهي نجوم صغار نحو عشرين نجمًا، فهو يتبعها أبدًا خاطبًا لها، ولذلك سموا هذه النجوم القلاص"3.

_ 1 Handbuch, I, S. 199, 201, W. Gifford Palgrave, Narrative of A Year's Jorney through Central and Eastern Arabia, London, 1866, 250, A. Grahmann, Arabien, S. 81. 2 Handbusch, I, s. 213. 3 بلوغ الأرب "2/ 239"، ابن الأجدابي، الأزمنة والأنواء "71".

وفي كتبهم أيضًا أن بعض قبائل لخم وخزاعة وحمير وقريش عبدوا "الشعرى العبور" وأن أول من سن ذلك لهم، وأدخل تلك العبادة إليهم "أبو كبشة". وهو "جزء بن غالب بن عامر بن الحارث بن غبشان الخزاعي"، أو "وجز بن غالب"، وهو من خزاعة ثم من بني غبشان، أحد أجداد النبي من قبل أمهاته. خالف قريشًا في عبادة الأصنام وعبد الشعرى العبور. وكان "وجز" يقول: إن الشعرى تقطع السماء عرضًا، فلا أرى في السماء شيئًا، شمسًا ولا قمرًا ولا نجمًا، يقطع السماء عرضًا. والعرب تسمي الشعرى العبور؛ لأنها تعبر السماء عرضًا، ووجز هو أبو كبشة الذي كانت قريش تنسب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إليه، والعرب تظن أن أحدًا لا يعمل شيئًا إلا بعرق ينزعه شبهه، فلما خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، دين قريش، قالت قريش: نزعه أبو كبشة؛ لأن أبا كبشة خالف الناس في عبادة الشعرى. وكانوا ينسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه. وكان أبو كبشة سيدًا في خزاعة، لم يعيروا رسول الله صلى الله عليه وسلم به من تقصير كان فيه، ولكنهم أرادوا أن يشبهوه بخلاف أبي كبشة، فيقولون: "خالف كما خالف أبو كبشة"1. وذكر "القرطبي" أن أول من عبد الشعرى" أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي، صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة، حين دعا إلى الله وخالف أديانهم، وقالوا: ما لقينا من ابن أبي كبشة! وقال أبو سفيان يوم الفتح، وقد وقف في بعض المضايق وعساكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تمر عليه: لقد أمِرَ أمر ابن أبي كبشة"2. وكان "الحارث"، وهو "غبشان بن عمرو بن بؤي بن ملكان"، ويكنى أبا كبشة، ممن يعبد الشعرى2. و"الشعرى" Sirius هي المقصودة في الآية: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 4. كان ناس في الجاهلية يعبدون هذا النجم الذي يقال له الشعرى. وهو النجم

_ 1 الزبيري: كتاب نسب قريش "261 وما بعدها" تاج العروس "4/ 342"، "كبش". 2 تفسير القرطبي "17/ 119" تفسير الطبرسي "27/ 183"، "9/ 183" "طبعة طهران" المحبر "129" ابن سعد طبقات "1/ 1/ ص31". 3 المحبر "129". 4 النجم، الآية 49.

الوقاد الذي يتبع الجوزاء، ويقال له المرزم1. وقد كان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم2. وذكر بعض العلماء أن "الشعرى" كوكب نير يقال له المرزم، وطلوعه في شدة الحر. وتقول العرب إذا طلعت الشعرى، جعل صاحب النحل يرى. وهما: "الشعريان": العبور، والشعرى الغميصاء. تزعم العرب أنهما أختا سهيل وعبدت طائفة من العرب الشعرى العبور. ويقال: إنها عبرت السماء عرضًا، ولم يعبرها عرضًا غيرها. وسميت الأخرى الغميصاء؛ لأن العرب قالت في حديثها: إنها بكت على أثر العبور حتى غمضت3. والعرب تقول في خرافاتها: إن سهيلًا والشعرى كانا زوجين، فانحدر سهيل فصار يمانيًّا، فاتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت عيناه، فسميت غمصاء لأنها أخفى من الأخرى4. ويذكرون أن بعض طيء عبدوا "الثريا"، وبعض قبائل ربيعة عبدوا "المرزم"، وأن "كنانة" عبدت القمر5 ويتبين من بعض الأعلام المركبة، مثل: عبد الثريا، وعبد نجم، أن الثريا ونجمًا، كانا صنمين معبودين في الجاهلية6. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن "النجم" المذكور في سورة "النجم": {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} : الثريا8 "والعرب تسمى الثريا نجمًا"9. وقال بعض آخر: "إن النجم ههنا الزهرة؛ لأن قومًا من العرب كانوا يعبدونها"10.

_ 1 تفسير الطبري "27/ 45 وما بعدها" تاج العروس "4/ 341"، "جوز"، القرطبي، الجامع "17/ 119 وما بعدها". 2 تفسير القرطبي "17/ 119". 3 تاج العروس "3/ 305"، "شعر". 4 تفسير القرطبي "17/ 119 وما بعدها". 5 بلوغ الأرب "2/ 240"، تاج العروس "8/ 311"، "رزم". 6 Ency. Religi, I, P, 66. 7 سورة النجم، الآية 1. 8 تفسير الطبري "27/ 24". 9 تفسير القرطبي "17/ 82 وما بعدها". 10 المصدر نفسه.

وعبَدَ بعض الجاهليين "المريخ"، واتخذوه إلهًا، كما عبد غيرهم "سهيلًا" Canapus و"عطار" Markur و"الأسد" Lion و"زحل". وقد ذكر أهل الأخبار، أن أهل الجاهلية يجعلون فعلًا للكواكب حادثًا عنه، فكانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وكانوا يجعلون لها أثرًا في الزرع وفي الإنسان فأبطل ذلك الإسلام، وجعله من أمور الجاهلية. جاء في الحديث: "ثلاث من أمور الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالأنواء"1. ومن مظاهر الشرك المتجلي في التعبد للأمور الطبيعية الملموسة، عبادة الشجر، وهي عبادة شائعة معروفة عند الساميين. وقد أشار "ابن الكلبي" إلى نخلة "نجران" وهي نخلة عظيمة كان أهل البلد يتعبدون لها، "لها عيد في كل سنة. فإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلي للنساء، فخرجوا إليها يومًا وعكفوا عليها يومًا". ومنها العزى وذات أنواط. يحدثنا أهل الأخبار عن ذات أنواط، فيقولون: "ذات أنواط: شجرة خضراء عظيمة، كانت الجاهلية تأتيها كل سنة تعظيمًا لها، فتعلق عليها أسلحتها وتذبح عندها، وكانت قريبة من مكة. وذكر أنهم كانوا إذا حجوا، يعبقون أرديتهم عليها، ويدخلون الحرم بغير أردية، تعظيمًا للبيت، ولذلك سميت "ذات أنواط"3. "وقد روي أن بعض الناس قال: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط"4. ونستطيع أن نقول إن آثار عبادة الشجر لا تزال باقية عند الناس. تظهر في امتناع بعضهم وفي تهيبهم من قطع الشجر؛ لاعتقادهم أنهم إن فعلوا ذلك أصيبوا بنازلة تنزل بهم وبمكروه سيحيق بهم. ولذلك تركوا بعض الشجر كالسدر فلم يتعرضوا له بسوء5. وتعبد بعض أهل الجاهلية لبعض الحيوانات. فقد ورد أن جماعة الشاعر "زيد الخيل"، وهم من طيء، كانوا يتعبدون لجمل أسود. فلما وفد وفدهم على

_ 1 ابن الأجدابي، الأزمنة والأنواء "136". 2 البلدان "8/ 260"، "نجران". 3 البلدان "1/ 363"، "أنواط"، تاج العروس "5/ 236"، "فوط" الأزرقي "74 وما بعدها". 4 رسالة الغفران "140 وما بعدها". 5 Grahmann, s. 82.

الرسول، قال لهم: "ومن الجمل الأسود الذي تعبدونه من دون الله عز وجل"1. وورد أن قومًا كانوا بالبحرين عرفوا بـ"الأسبذيين"، كانوا يعبدون الخيل2. ذكر أنهم قوم من المجوس، كانوا مسلحة لحصن المشقر من أرض البحرين3. فهم فرس. وأن بعض القبائل مثل "إياد"، كانت تتبرك بالناقة4.

_ 1 الأغاني "16/ 47"، الإصابة "1/ 555"، "ورقم 2941". 2 البلاذري، فتوح "89"، "البحرين". 3 اللسان "3/ 493"، "سبذ". 4 الأغاني "15/ 93"، "في أخبار أبي داود الإيادي".

الشفاعة

الشفاعة: والشفاعة من أهم مظاهر الشرك عند الجاهليين. وأقصد بالشفاعة هنا، ما ورد في القرآن الكريم من تبرير أهل الجاهلية لتقربهم إلى الأصنام بأنهم ما يتعبدون لها إلا لتقربهم إلى الله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2. فهم يحاجون الرسول، ويدافعون عن التقرب إلى الأصنام، بقولهم: إنها تشفع عند الله، فهي شفيعة، فهم لا يعبدون الأصنام إذن، ولا يشركون بالخالق، وإنما هم يتقربون إليه بها. فهي الواسطة بينهم وبين الله3.

_ 1 سورة يونس، الرقم 10، الآية 18. 2 الزمر، الآية 3 3 المفردات، للأصفهاني "264".

الأصنام

الأصنام: ومن جملة ما كان يتوسط به الجاهليون لآلهتهم ليكونوا شفعاء لهم عندها، التماثيل المصنوعة من الفضة أو الذهب أو الحجارة الثمينة والخشب. ومن عادتهم أنهم كانوا يدونون ذلك على الحجارة، فيكتبون عدد التماثيل وأنواعها وأسماء الآلهة أو اسم الإله الذي قدمت له تلك الأشياء واسم الناذر، ويشار إلى السبب الداعي.

إلى ذلك، كأن يذكر بأن أصحابها توسلوا إلى الإله أو الآلهة المذكورة برجائهم الذي طلبوه، فأجيبت مطالبهم، ولذلك قدموا هذه النذور، فهي وفاء لدين استحق عليهم بسبب ذلك النذر وتلك الشفاعة. ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن الأصنام كانت تدافع عن قبائلها وتذب عنها وتحامي عنها في الحرب، كما يدافع سيد القبيلة عن قبيلته، وأن أبناء القبيلة أبناؤها وأولادها، ولذلك كانوا يقولون عنها "آب" "أب" في كتاباتهم، ويكتبون عن أنفسهم "أبناء الصنم...." وفي الشعر الجاهلي أمثلة عديدة تشير إلى اعتقاد القوم باشتراك آلهتهم معهم في الحرب وفي انتصارهم لهم. ففي الحرب التي وقعت بين "بني أنعم" و"بني غطيف" بشأن الصنم "يغوث" يقول الشاعر: وسار بنا يغوث إلى مراد ... فناجزناهم قبل الصباح1 وطبيعي أن بعد أعداء القبيلة أعداء لصنم القبيلة، وأعداء الصنم أعداء للقبيلة، فأعداء الآلهة وأعداء القبيلة هم خصوم لا يمكن التفريق بينهم. وفي معركة أُحد، وهي من المعارك الحربية المهمة التي جرت بين الإسلام والوثنية على مستقبل العرب الديني، نادى أبو سفيان بأعلى صوته: "اعل هبل! اعل هبل! "؛ ليبعث الحماسة في نفوس الوثنيين وليستغيث بصنمه في الدفاع عن أتباعه المؤمنين به. أما المسلمون، فاستنجدوا بالله، إذ ردوا عليه ردة قوية عالية: "الله أعلى وأجل" فقال أبو سفيان: "ألا لنا العزى ولا عزى لكم" فأجابه المسلمون: "الله مولانا ولا مولى لكم"2. وفي الحروب يحارب كل إله عن قبيلته، ويجهد نفسه في الدفاع عنها في سبيل حصولها على النصر. ولهذا السبب كانت القبائل والجيوش تحمل أوثانها أو صور آلهتها أو رموزها الدينية المقدسة معها في الحروب. تتبرك بها وتستمد منها العون والنصر. ولما حارب الأعراب الملك "سنحاريب" ملك آشور، حملوا أصنامهم: "دبلت" "دبلات" Diblat، و"دية" Daia = Daja

_ 1 البلدان "8/ 511". 2 الطبري "2/ 526 ". "معركة أحد".

و"نوخيا" Nuhaia و"إبيريلو" Ebirillu و"عثر قرمية" Atar Kurumaia معهم لتدافع عنهم، ولتحارب معهم الآشوريين. ولكن الآشوريين غلبوهم وانتصروا عليهم وأخذوا غنائم وأسرى منهم، كان في جملتها هذه الأصنام المسكينة، التي وقعت في الأسر وبقيت في أسرها إلى أن توفي "سنحاريب" وتولى ابنه "أسرحدون" الحكم، فاسترضى الأعراب هذا الملك وجاءوا بهدايا كثيرة؛ رجاء استرضائه لإعادة أصنامهم إليهم، فرقَّ على حالهم وأعاد إليهم تلك الأصنام السيئة الحظ، التي كتب عليها أن تسجن، وتمكنت من استنشاق ريح الحرية من جديد1. وسقطت أصنام الأعراب مرة أخرى في أسر الآشوريين، وذلك في أيام "أسرحدون"، فلما انضم "لبلي" "ليل" Laili ملك "يادي" "يادع" "يدي" "يدع" Jadi' = Jadi' إلى الثائرين على حكم هذا الملك، لحقت بهم الهزيمة، وسقطت أصنامه أسيرة في أيدي الآشوريين، وأخذت إلى "نينوى"، فلم يجد الملك "ليل" "ليلي" أمامه من سبيل سوى الذهاب إلى عاصمة الملك لاسترضائه، حيث طلب العفو والصفح عما بدر منه، فقبل "أسرحدون" منه ذلك، وتآخى معه، وأعاد إليه أصنامه2. وكان في جملة الأصنام التي شاء سوء طالعها الوقوع في أسر الآشوريين الصنم "أترسمين" "أترسمائين" "A – tar- sa- ma- a – a – in" "Atarsamin". و"أتر" هو "عثتر"، فيكون المراد به "عثتر السماء" عثتر السماوات، ويدل ذلك على أنه إله السماء. وكان قد وقع أسيرًا في أيديهم أيام الملك "أسرحدون"، فلما توفي الملك وانتقل عرشه إلى ابنه "أشور بانبال"، جاء Uaite العربي إليه، وهو أحد سادات القبائل إلى الملك، وصالحه وأرضاه، فأعاد إليه أصنامه ومنها الصنم المذكور3. وطالما كان يعرض حمل المحاربين أصنامهم معهم في الحروب إلى وقوع تلك الأصنام في الأسر، تقع كما يقع الإنسان في الأسر. بل يكون أسر الأصنام في نظرهم أشد وقعًا في نفوسهم من أسر الإنسان. إنها آلهة تدافع وتحامي، إنها

_ 1 Musil, Deserta, p. 481, Reall, II, s. 265, Thompson, Prisms of Esarhaddon and of Ashurbanipal, p. 20. 2 Musil, deserta, p. 483, realb, I, S. 440. Rawlinson, the Five Great Monarchies of the Ancient Eastern World, vol II, p. 470-471. 3 Reall, I, 310, Schrader, KAT, S. 434, Streck, Vorderasiatische Bibliotheck, VIII S. 72.

آلهة القبيلة كلها، فأسرها معناه في عرفهم أسر القبيلة كلها، فأسر الآلهة شيء كبير بالنسبة إلى القبيلة. وقد أشرت إلى استيلاء الآشوريين على أصنام قبائل "عربي" التي حاربتهم، وإلى أخذها أسيرة إلى أرض آشور، وإلى مفاوضة الأعراب معهم على الصلح في مقابل إعادة تلك الأصنام إليهم. فلما أعيدت الأصنام إلى أصحابها، كتب الآشوريون عليها كتابة تخبر بوقوعها في الأسر، وبانتصار آلهة آشور عليها؛ لتكون نذيرًا للمؤمنين بها، يحذرهم من حرب ثانية توقع هذه الأصنام في أسد جديد. وقد أشير إلى "خيل اللات" في مقابل "خيل محمد"، في شعر لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، إذ قال: لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل الله خيل محمد1 ومن أمثلة العرب: "لا تفر حتى تفر القبة"، أو" لا نفر حتى تفر القبة"2. ويراد بالقبة: قبة الصنم، أي خيمة الصنم التي تحمل مع المحاربين وتضرب في ساحة القتال؛ ليطوف حولها المحاربون يستمدون منها العون والنصر. كما كانوا يستشيرون الأصنام عند القتال، ويأخذون برأيها فيما تأمر به. وحمل الأصنام مع القبيلة في ترحالها وفي حروبها وغزواتها يستلزم بذل عناية خاصة بها للمحافظة عليها من الكسر ومن تعرضها لأي سوء كان. وعند نزول القبيلة في موضع ما توضع الأصنام في سمتها، وهي خيمة تقوم مقام المعبد الثابت عند أهل المدر. وتكون للخيمة بسبب ذلك قدسية خاصة، وللموضع الذي تثبت عليه حرمة ما دامت الخيمة فوقه، وقد كانت معابد القبائل المتنقلة كلها في الأصل على هذا الطراز. ولم يكن من السهل على أهل الوبر تغيير طراز هذا المعبد، واتخاذ معبد ثابت؛ لخروج ذلك على سنن الآباء والأجداد. ولذلك لم يرض العبرانيون عن المعبد الثابت الذي أقامه سليمان، لما فيه من نبذ للخيمة المقدسة التي كانت المعبد القديم لهم وهم في حالة تنقل من مكان إلى مكان. واعتقاد القبائل أن أصنامها هي التي تجلب لها النصر والخسارة، كان يؤدي في بعض الأحيان إلى الإعراض عن الصنم المحبوب ونبذه، نتيجة لانهزام القبيلة،

_ 1 الإصابة "4/ 90"، "رقم 538". 2 المشرق، السنة 1938م، "الجزء الأول"، ص11.

إذ يتبادر إلى ذهن تلك القبيلة أن تلك الهزيمة التي نزلت بها إنما كانت بسبب ضعف ربها واستكانته وعدم اقتداره في الدفاع عنها، ولذلك تقرر الاستغناء عنه والتوجه إلى رب قوي جديد. وقد يكون ذلك الرب هو رب القوية المنتصرة، أو رب قبيلة من القبائل التي عرفت بتفوقها في الحروب، فيكون التوفيق حليف ذلك الرب. وهكذا الأرباب في نظر قبائل تلك الأيام كالناس لها حظوظ، والحظ هو دائمًا في جانب القوي. وكان على كهان صنم القبيلة المغلوبة إيجاد تفسير لعلة الهزيمة التي لحقت بعبدة ذلك الصنم، والبحث عن عذر يدافعون به عن الصنم، ويلقون اللوم فيه على أتباعه؛ لتبرئة ذمته وإبعاد المؤمنين به عن الشك في قدرته وعظمته. فكان من أعذارهم، أن الهزيمة عقاب من الإله أرسله إلى أتباعه لابتعادهم عن أوامره ونواهيه، ولعدم إطاعتهم أحكام دينه، ولمخالفتهم آراء رجال دينهم وكهانه. ولن تنقشع عنهم النكبة، ويكتب لهم النصر، إلا إذا تابوا وعملوا بأوامر الكهان وأرضوا الآلهة، وعملوا بها أوجبته شريعتهم عليهم. وهكذا يلوم الكهان الناس، دفاعًا عن آلهتهم التي خلقوها بأنفسهم، وحماية لمصالحهم القائمة على استغلال تلك المخترعات، التي نعتوها آلهة وأصنامًا. ولما كانت الآلهة آلهة قبائل، كان نبذ الفرد لإلهه معناه نبذه لقبيلته وخروجه على إجماعها، فلا يسع شخصًا أن يغير عبادة إله القبيلة إلا إذا خرج على قبيلته وتعبد لإله آخر. فإن تغيير عبادة الأفراد لأصنامهم في نظر قدماء الساميين أمر إد، هو بمثابة تبديل الجنسية في العصر الحاضر. إن عبادة الأصنام عبادة موروثة يرثها الأبناء عن الآباء، وليست بشيء اختياري، فليس للرجل أن يختار الصنم الذي يريده بمحض مشيئته. إن الصنم دين وهو رمز للقبيلة، والمحامي المدافع عن شعبه، والرابطة التي تربط بين الأفراد، فالخروج عليه معناه خروج على إرادة الشعب وتفكيك لوحدته، وهو مما لا يسمح به وإلا تعرض الثائر للعقاب1. نعم، كان في إمكان أصحاب الكلمة والسيادة والرئاسة تغيير أصنام القبيلة، أو تبديل دينها، كما سنرى فيما بعد. فهؤلاء هم سادة، والناس تبع لسادتهم،

_ 1 Robertson, p. 37.f

وفي المثل: "الناس على دين ملوكهم" لقد أضاف سادة أصنامًا إلى قبائلهم، فعبدت وتمسك أتباعهم بعبادتها، وكأنهم قد تلقوا أوامرهم من السماء، ونبذت قبائل بعض أصنامها، بأمر من سادتها. ودخلت قبائل في الإسلام؛ لدخول سيدها فيه، ودخلت أخرى قبل ذلك في النصرانية، بتنصر سادتها، بكلمة أقنعت الرئيس، أو بعد محاورة، أو بإبلال من مرض قيل له إنه كان ببركة ذلك الدين، فدخل أتباعه في ذلك الدين من غير سؤال ولا جواب.

عبادة الأصنام

عبادة الأصنام: ويتبين من غربلة روايات الأخباريين أن عبادة الأصنام كانت منتشرة انتشارًا واسعًا قبيل الإسلام، حتى كان أهل كل دار قد اتخذوا صنمًا في دارهم يعبدونه "فإذا أراد الرجل منهم سفرًا، تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به، فكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله"1 وقد كان أشق شيء في نظر قريش نبذ تلك الأصنام وتركها وعبادة إله واحد {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ، وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ، مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 2. يقول ابن الكلبي: "واشتهرت العرب في عبادة الأصنام فمنهم من اتخذ بيتًا، ومنهم من اتخذ صنمًا. ومن لم يقدر عليه ولا على بناء البيت، نصب حجرًا أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت.... فكان الرجل إذا سافر فنزلا منزلًا، أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربًّا، وجعل ثلاث أثافي لقدره. فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلًا آخر، فعل مثل ذلك. فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها"3. وروي أنه لم يكن حي.

_ 1 ابن هشام "1/ 64" "هامش الروض"، ابن هشام "1/ 84" الأصنام "32" خزانة الأدب "3/ 245". 2 سورة ص، الآية 4 وما بعدها. 3 الأصنام "33".

من أحياء العرب إلا وله صنم يعبده يسمونه: "أنثى بني فلان. ومنه قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} 1. والإناث كل شيء ليس فيه روح مثل الخشبة والحجارة"2. وقد كان المشركون يعبدون الأصنام "ويسمونها بالإناث من الأسماء كاللات والعزى ونائلة ومناة وما أشبه ذلك"3. ولم يذكر "ابن الكلبي" العوامل التي دفعت بعبدة الأحجار إلى اختيار أربعة أحجار من بين عدد عديد من الأحجار، ثم اختيار حجر واحد من بين هذه الأحجار الأربعة المختارة. فهل أخذ هذا العدد من نظرية العناصر الأربعة التي وضعها الفيلسوف "إمبدوكلس" "Empedokles" "490-430 قبل الميلاد" نظرية أن الكون قد تكون من عناصر أربعة هي: النار، والماء، والهواء، والتراب، فكانوا يختارون لذلك أربعة أحجار، تمثل هذه القوى الأربع المكونة على رأي الناس في ذلك الوقت لأساس الكون، ثم يختارون حجرًا واحدًا من بينها يكون أحسنها وأجملها؛ ليكون رمزًا لها، وممثلًا للإله. وقد كان من الجاهليين من يختار الأحجار الغربية فيتعبد لها. فإذا رأوا حجرًا أحسن وأعجب تركوا الحجارة القديمة وأخذوا الحجارة الجديدة. قال "ابن دريد": "الحارث بن قيس: وهو الذي كان إذا وجد حجرًا أحسن من حجر أخذه فعبده. وفيه نزلت: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 4. فهذه هي عبادة الأحجار عند الجاهليين. ولدينا أمثلة عديدة تفيد أن كثيرًا من الجاهليين كانوا يحتفظون في بيوتهم بأصنام يتقربون إليها كل يوم، ولا يعني ذلك بالطبع أن تلك الأصنام كانت أصنامًا كبيرة منحوتة نحتًا فنيًّا، بل كان أكثرها تماثيل صغيرة، وبعضها أحجارًا غير منسقة ولا منحوتة نحتًا جيدًا، وإنما هي أحجار تمثل الصنم الذي يتقرب إليه المرء. روي أن "أحمر بن سواء بن عدي السدوسي"، كان له صنم يعبده، فعمد إليه فألقاه في بئر، ثم جاء إلى الرسول فأسلم5.

_ 1 النساء، الآية 117. 2 اللسان "122/ 349"، "صنم". 3 تفسير الطبري "5/ 179 وما بعدها"، روح المعاني "5/ 134". 4 الاشتقاق "76". 5 الإصابة "1/ 22".

وكان بين الجاهليين قوم كرهوا الأصنام وتأففوا منها، رأوا أنها لا تنفع ولا تضر ولا تشفع، فلم يتقربوا إليها، وقالوا بالتوحيد، ومن هؤلاء "مالك بن التيهان"، وهو من الأنصار ومن المسلمين الأولين الذين دخلوا في الإسلام من أهل "يثرب" و"أسعد بن زرارة". وقد شك بعض المستشرقين في وجود أصنام عند العرب الجنوبيين2، ويظهر أن الذي حملهم على قول هذا القول، هو ما رأوه من تعبد العرب الجنوبيين لآلهة منظورة في السماء هي الكواكب الثلاثة المعروفة، فذهبوا إلى انتفاء الحاجة لذلك إلى عبادة أصنام ترمز إلى تلك الآلهة. وعندي أن في إصدار رأي في هذا الموضوع نوع من التسرع؛ لأننا لم نقم حتى اليوم بحفريات علمية عميقة في مواضع الآثار في العربية الجنوبية حتى نحكم حكمًا مثل هذا لا يمكن إصداره إلا بعد دراسات علمية عميقة لمواضع الآثار، فلربما تكشف دراسات المستقبل عن حل مثل هذه المشكلات. إن الإسلام قد هدم الأصنام وأمر بتحطيمها، فذهبت معالمها، إلا أنه من الممكن احتمال العثور على عدد منها، لا زال راقدًا تحت التربة؛ لأنه من الأصنام القديمة التي دفنت في التربة قبل الإسلام بسبب دمار حل بالموضع الذي عبد فيه، أو من الأصنام التي وصلت إليها أيدي الهدم، فطمرت في الأتربة، وعلى كلٍّ فالحكم في هذا الرأي هو كما ذكرت للمستقبل وحده، وعليه الاعتماد. والرأي الذائع بين الأخباريين عن كيفية نشوء عبادة الأصنام قريب من رأي بعض العلماء المحدثين في هذا الموضوع. عندهم أن الناس لم يتعبدوا في القديم وفي بادئ بدء الأصنام، ولم يكونوا ينظرون إليها على أنها أصنام تعبد، إنما صوروها أو نحتوها لتكون صورة أو رمزًا تذكرهم أو يذكرهم بالإله أو الآلهة أو الأشخاص الصالحين. فلما مضى عهد طويل عليها، نسي الناس أصلها، ولم يعرفوا أمرها، فاتخذوها أصنامًا وعبدوها من دون الله. وتحملنا رواياتهم في بعض الأحيان على الاعتقاد أنهم كانوا يعتقدون بعقيدة المسخ، كالذي رووه عن الصنمين إساف ونائلة من أنهما "رجل وامرأة من جرهم، وأن إسافًا وقع عليها في الكعبة فمسخا"3، وبعقيدة التقمص كالذي رووه عن الصنم اللات من أنه كان إنسانًا

_ 1 طبقات ابن سعد "3/ 448" "صادر". 2 Arabien, s. 247. 3 الروض الأنف "1/ 64".

من ثقيف، فلما مات قال لهم عمرو بن لحي: "لم يمت، ولكن دخل في الصخرة ثم أمرهم بعبادتها وأن يبنوا عليها بنيانًا يسمى اللات"1 أو كالذي رووه عن الأصنام ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، من أن هؤلاء كانوا نفرًا من بني آدم صالحين، "وكان لهم أتباع يقتدون بهم. فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا ودب إليهم إبليس، فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم"2. وهذه العقيدة هي التي خلقت للأخباريين جملة قصص عن وجود أرواح كامنة في تلك الأصنام، كانت تتحدث إلى الناس، وهي التي أوحت إليهم بذلك القصص الذي رووه بمناسبة أمر النبي بهدم الأصنام، من خروج جن من أجوافها حينما قام بهدمها المسلمون. وقد كان أولئك الجنة على وصفهم إناثًا، والغالب أنهن على هيأة زنجيات شمطاوات عجائز، وقد نثرن شعورهن3. وهي صور مرعبة ولا شك في نظر الناس، ومن عادة الناس منذ القديم أن يمثلوا الجنة على هيأة نساء طاعنات في السن مرعبات. والخوف من هذه الأرواح أو الجنة التي كانت تقيم في أجواف الأصنام على رأي الجاهليين، حمل بعض من عهد إليهم تحطيم تلك الأصنام على التهيب من الإقدام على مثل ذلك العمل خشية ظهورها وفتكها بمن تجاسر عليها. وهذا الخوف هو الذي أوحى إليهم ولا شك برواية القصص المذكور. ويمثل الصنم قوة عليا هي فوق الطبيعة، وقد يظن أنها كامنة فيه4. وتكون الأصنام على أشكال مختلفة، قد تكون على هيئة بشر، وقد تكون على هيئة حيوان أو أحجار أو أشكال أخرى. ولهذه الأصنام عند عابديها مدلولات وأساطير. وهي تصنع من مواد مختلفة، من الحجارة ومن الخشب ومن المعادن ومن أشياء أخرى بحسب درجة تفكير عبدتها وتأثرهم بالظواهر الطبيعية والمؤثرات التي تحيط

_ 1 البلدان "7/ 310" "اللات". 2 تفسير الطبري" 29/ 62". 3 البلدان "7/ 310" "اللات". 4 Ency, Rellgi, 7p.112.

بهم. وقد تستخدم خُشُبٌ خاصة تؤخذ من أشجار ينظر إليها نظرة تقديس واحترام في عمل الأصنام منها. ويتوقف صنعها على المهارة التي يبديها الفنان في الصنع. ويحاول الفنان في العادة أن يعطيها شكلًا مؤثرًا علاقة بالأساطير القديمة وبالكائن الذي سيمثله الصنم. وقد يكون الصنم من حجارة طبيعية عبدها عن أجداده كأن يكون من حجارة البراكين، وقد يكون من النيازك عبدها لظنه بوجود قوة خارقة فيها. ولعبادة الأصنام صلة وثيقة بتقديس الصور Images وكذلك بصور السحر Magical Images فكل هذه الأشكال الثلاثة هي في الواقع عبادة. ونعني هنا بتقديس الصور، الصور المقدسة التي تمثل أسطورة دينية أو رجالًا مقدسين كان لهم شأن في تطور العبادة، أو جاءوا بديانة، وأمثال ذلك فأحب المؤمنون بهم حفظ ذكراهم وعدم نسيانهم أو الابتعاد عنهم. وذلك بحفظ شيء يشير إليهم ويذكرهم بهم، وهذا الشيء قد يكون صورة مرسومة، وقد يكون صورة محفورة أو منحوتة أو مصنوعة على هيئة تمثال أو رمز يشير إلى ذلك المقدس1. فالصور المرسومة إذن، هي نوع من العبادة أيضًا، ينظر إليها نظرة تقديس وإجلال. ونجد في روايات أهل الأخبار عن منشإ عبادة الأصنام عند العرب ما يؤيد هذا الرأي فهناك رواية طريفة عن الصنم "سواع" تزعم أن سواعًا كان ابنًا لشيث، وأن يغوث كان ابنًا لسواع، وكذلك كان يعوق ونسر، كلما هلك الأول صورت صورته وعظمت لموضعه من الدين ولما عهدوا في دعائه من الإجابة فلم يزالوا هكذا حتى خلف الخلوف، وقالوا: ما عظم هؤلاء آباءنا إلا لأنها ترزق وتنفع وتضر، واتخذوها آلهة. وهناك رواية أخرى تزعم أن الأوثان التي كانت في قوم نوح، كانت في الأصل أشخاصًا صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها أنصابًا، وسموها بأسمائها، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنوسخ العلم بها عبدت2.

_ 1 Ency. Religi. Vol. 7, p. 110. 2 الروض الأنف "1/ 62"، تفسير الطبرسي "5/ 364".

وهناك روايات عن أصنام جعلتها أشخاصًا مسخوا حجرًا، فعبدوا أصنامًا، وصاروا شركاء لله، تعبد لها؛ لأنها في نظرهم تنفع وتضر. ونجد في أخبار فتح مكة أن الرسول حينما دخل الكعبة رأى فيها صور الأنبياء والملائكة، فأمر بها فمحيت ورأى فيها ستين وثلاثمائة صنم مرصعة بالرصاص، وهبل أعظمها، وهو وجاه الكعبة على بابها، وإساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون، فامر بها فكسرت1. أما هذه الصور، فقيل إنها صور الرسل والأنبياء، وبينها صورة "إبراهيم" وفي يده الأزلام يستقسم بها2.

_ 1 ابن الأثير "2/ 105" "فتح مكة" امتاع الأسماع "1/ 383 وما بعدها". 2 فترك عمر صورة إبراهيم عليه السلام، حتى محاها عليه السلام"، امتاع الأسماع "1/ 383" الروض الأنف "2/ 275 وما بعدها".

الأصنام

الأصنام: والصنم في تعريف علماء اللغة هو ما اتخذ إلهًا من دون الله، وما كان له صورة كالتمثال "مثال"، وعمل من خشب، أو ذهب، أو فضة، أو نحاس، أو حديد، أو غيرها من جواهر الأرض. وقال بعضهم: الصنم جثة متخذة من فضة، أو نحاس، أو ذهب، أو خشب، أو حجارة، متقربين به إلى الله، فالشرط فيه أن يكون جثة: جثة إنسان أو حيوان. وقيل: الصنم الصورة بلا جثة1. وذكر أن الصنم ما كان من حجر أو غيره2. وعرف بعضهم الصنم بأنه ما كان له جسم أو صورة فإن لم يكن له جسم أو صورة، فهو وثن3. و"الصنمة"، الصورة التي تعبد4. وقد كان "المنطبق" صنمًا من نحاس أجوف يكلمون من جوفه5.

_ 1 اللسان "15/ 241" "17/ 333"، تاج العروس "8/ 371"، "9/ 358"، "صنم" القاموس "4/ 141، 274"، الاشتقاق "302"، الأصنام "53"، المفردات "289". 2 الروض الأنف "1/ 62". 3 اللسان "12/ 349"، "صنم"، "صادر". 4 اللسان "12/ 349". "صنم". 5 المحبر "318".

ووردت لفظة "صلم" في كتابات عثر عليها في أعالي الحجاز، اسم علم لإله ازدهرت عبادته بصورة خاصة بمدينة "تيماء" ويرجع بعض المستشرقين تأريخ ازدهار عبادة هذا الصنم إلى حوالي سنة "600" قبل الميلاد. وقد ورد اسمه علمًا لأشخاص في الكتابات اللحيانية. ورمز عنه برأس ثور في كتابات قوم ثمود1. وقد وردت كلمة "أصنام"2 و"أصنامًا"3 و"الأصنام"4 و"أصنامكم"5 في القرآن الكريم، بحسب مواقع الكلمة في الجملة. وذكر علماء اللغة أن كلمة "صنم" ليست عربية أصيلة، وإنما هي معربة وأصلها "شمن" "شنم" ولكنهم لم يذكروا اسم اللغة التي عربت منها6. وترد اللفظة في اللهجات العربية الجنوبية وردت "صلمن" في نصوص المسند بمعنى "صنم" و"تمثال" و"مثال"7. ووردت في لهجات عربية أخرى. وهي "صلمو" Salmo في لغة بني أرم، ومعناها "صورة". من أصل "صلم" بمعنى "صور" وتقابل "صلم" في العبرانية8. وقد ورد في قصص أهل الأخبار أن "بني حنيفة" تعبدوا لصنم من حيس، فعبدوه دهرًا طويلًا، ثم جاعوا فأكلوه، فقال الشعراء في ذلك شعرًا يعيرون به "بني حنيفة" لأكلهم ربهم زمن المجاعة9. وهو في رأيي من القصص الذي يضعه الخصوم في خصومهم للاستهزاء بهم.

_ 1 Grimme, 23.. 2 الأعراف، الآية 137. 3 الأنعام، الآية 74، الشعراء الآية 72 4 إبراهيم الآية 35 5 الأنبياء الآية 57. 6 القاموس "4/ 141"، اللسان "15/ 241" تاج العروس، "8/ 371" روح المعاني "13/ 210"، خزانة الأدب 3/ 244 وما بعدها". 7 "صلمن ذ صرفن وصلمنن ذ ذهبن" أي "تمثال من فضة، وتمثالان من ذهب"، راجع المختصر في علم اللغة العربية الجنوبية القديمة، لغويدي "19". 8 غرائب اللغة "193". 9 الأعلاق النفيسة "217".

الوثن

الوثن: وأما كلمة "وثن" فهي من الكلمات العربية القديمة الواردة في نصوص المسند. ويظهر من استعمال هذه الكلمة في النصوص مثل: "وليذبحن وثنن درا بخرفم ذبصم صححم أنثيم وذكرم"، أي "وليذبح للوثن مرة في السنة ذبحًا صحيحًا، أنثى أو ذكرًا"1. إن الوثن هو الذي يرمز إلى الإله، أي بمعنى الصنم في القرآن الكريم.

_ 1 المختصر لغويدي "18".

الصلم

الصلم: ويظهر من استعمال كلمتي "صلمن" "الصلم" "صلم" و"وثنن" "الوثن" أن هناك فرقًا بين الكلمتين في نصوص المسند، فإن كلمة "صلمن" تعني في الغالب تمثالًا يصنع من فضة، أو من ذهب، أو من نحاس، أو من حجر، أو من خشب، أو من أية مادة أخرى ويقدم إلى الآلهة لتوضع في معابدها تقربًا إليها؛ لاجابتها دعاء الداعين بشفائهم من مرض أو قضاء حاجة، أي أنها تقدم نذورًا. أما الوثن، فإنه الصنم في لهجتنا، أي الرمز الذي يرمز به إلى الإله، والذي يتقرب له الناس. والوثن في رأي بعض العلماء لفظة مرادفة لصنم. وقال بعض آخر: "المعمول من الخشب أو الذهب والفضة أو غيرها من جواهر الأرض صنم، وإذا كان من حجارة، فهو وثن"1. وذكر بعض آخر أن الصنم ما كان له صورة جعلت تمثالًا، والوثن ما لا صورة له. "وقيل إن الوثن ما كان له جثة من خشب أو حجر أو فضة ينحت ويعبد، والصنم صورة بلا جثة. وقيل: الصنم ما كان على صورة خلقة البشر، والوثن ما كان على غيرها". "وقال آخرون: ما كان له جسم أو صورة، فصنم، فإن لم يكن له جسم أو صورة، فهو وثن. وقيل: الصنم من حجارة أو غيرها، والوثن ما كان صورة مجسمة.

_ 1 الأصنام "33" "روزا"، تاج العروس "8/ 371" "صنم"، "9/ 358"، "وثن" القاموس "4/ 141، 274"، اللسان "17/ 333" خزانة الأدب "3/ 244" وما بعدها، سبائك الذهب "101".

وقد يطلق الوثن على الصليب وعلى كل ما يشغل عن الله" وقال بعض آخر: "يقال لكل جسم من حجر أو غيره صنم، ولا يقال وثن إلا لما كان من غير صخرة كالنحاس ونحوه"1. وذكر بعض آخر: "أصل الأوثان عند العرب، كل تمثال من خشب أو حجارة أو ذهب أو فضة أو نحاس أو نحوها، وكانت العرب تنصبها وتعبدها"2. وذكر علماء اللغة أن "الودع" وثن3. ولم يذكروا شيئًا عنه غير ذلك. وقد أطلق "الأعشى" على الصليب "الوثن"؛ إذ قال: تطوف العفاة بأبوابه ... كطوف النصارى ببيت الوثن "أراد بالوثن الصليب" "قال عدي بن حاتم: قدمت على النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال لي: القِ هذا الوثن عنك، أراد به الصليب، كما سماه الأعشى وثنا"4. فنحن إذن أمام آراء متباينة في معنى الصنم و"الوثن". منهم من جعل الصنم مرادفًا للوثن، أي في معنى واحد، ومنهم من فرق بينهما، ومنهم من جعل الصنم وثنًا والوثن صنمًا. والظاهر أن مرد هذا الاختلاف، هو اختلاف استعمال القبائل للكلمتين، فلما جمع علماء اللغة معانيهما، وقع لهم هذا التباين وحدث عندهم هذا الاختلاف في الرأي. وترد في كتب الأدب واللغة لفظة "البعيم"5. اسم صنم، والتمثال من الخشب، وقيل الدمية من الصمغ6. والمثال الشبه، وما جعل مثالًا لغيره، والتمثال. وهو الشيء المصنوع مشبهًا بخلق وإذا قدرته على قدره. وذكر أنها الأصنام. وفي هذا المعنى وردت في القرآن الكريم: "ما هذه التماثيل؟ أي

_ 1 الروض الأنف "1/ 62 2 اللسان "13/ 443" "وثن"، "صادر". 3 اللسان "8/ 387"، "ودع". 4 اللسان "13/ 443"، "وثن". 5 البعيم، كأمير. 6 تاج العروس "8/ 203"، "البعيم"، الأصنام "108"، "تكملة" "روزا".

الأصنام. وقوله تعالى: {مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} ، هي صور للأنبياء"1. وذكر التماثيل للأصنام، والصورة، والشيء المصنوع مشبهًا بخلق من خلق الله. أي إنسان أو حيوان أو نبات2. ويعبر عن التمثال والمثال بلفظة "أمثلن" في العربيات الجنوبية. وردت في النصوص لمناسبة تقديم أصحابها تماثيل على الآلهة لتوضع في معابدها وفاء لنذور نذروها لها3. و"الدمية" الصورة المنقشة من الرخام، أو عام من كل شيء، أو الصورة عامة. والصنم، والأصنام دمى. ومن أيمان الجاهلية: لا والدمى، يريدون الأصنام4. وذكر أن "الدمية" ما كان من الصمغ5. و"البد" الصنم الذي يعبد، فارسي معرب. عرب من "بت" بمعنى "صنم"6. وذكر أن "البد" بيت الصنم والتصاوير أيضًا7. وقد اشتغل بعض أهالي مكة بصنع الأصنام فكان "عكرمة بن أبي جهل" ممن يعملها بمكة8. وكان الأعراب إذا جاءوا مكة أو المواضع الحضرية الأخرى اشتروا الأصنام منها للتعبد لها9.

_ 1 تاج العروس "8/ 111"، "مثل" 2 تاج العروس "8/ 111"، "مثل". 3 Jamme 558 Mamb 201. Mahram p 24. 4 تاجر العروس "10/ 131"، "دمي". 5 الأصنام "108" "تكملة". 6 تاج العروس "2/ 295" "بدد" غرائب اللغة "218" 7 تاج العروس "2/ 295" "بدد". 8 الأزرقي "1/ 77 وما بعدها". 9 الأزرقي "1/ 78".

هيأة الأصنام

هيأة الأصنام: وقد وصف "ابن الكلبي"، وهو الراوية الرئيس والعالم الكبير بالأصنام هيئه بعض الأصنام، فذكر مثلًا أن الصنم "هبل" كان على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش فجعلت له يدًا من ذهب1. فهو تمثال إنسان إذن نحت من حجر أحمر أو وردي، لا يستبعد أن يكون من عمل بلاد

_ 1 الأصنام "27 وما بعدها" الأزرقي "1/ 68".

الشأم أو من عمل الفنانين اليونان، واستورد من هنا: فنصب في جوف الكعبة. استورده أحد سادة "مكة" وهو "عمرو بن لحي" على رواية أهل الأخبار، أو غيره، لما رأى فيه من حسن الصنعة ودقة النحت. فوضعه في موضعه. ولم يذكر أهل الأخبار سبب كسر اليد اليمنى للصنم، هل كان ذلك بسبب حادث، أو بسبب أسطوري. وأما "اللات" فصخرة بيضاء منقوشة1، في رواية أكثر الأخبار. وتمثال من حجر على رواية2. وأما العزى، فهناك رواية تذكر أنها كانت صنمًا، أي تمثالًا، ولكنها لم تعين صورته على نحو ما تحدثت عنها في الفصل الخاص بالأصنام. وأما "ود" فقد كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء، ووفضة فيها نبل3. وأما سواع، فكان صنمًا على صورة امرأة ولا يستبعد أن يكون من بين الأصنام الباقية ما كان على صورة حيوان. فقد كان الصنم "نسر" يمثل النسر. وأقصد بالأصنام في هذا المكان أصنام المعابد، أي الأصنام التي كان الناس يتقربون إليها بالتعبد والنذور. وأما الأصنام الصغيرة، وهي التماثيل التي كان يتعبد لها الناس في بيوتهم أو يحملونها معهم في أسفارهم أو يحملونها معهم حيث ذهبوا تبركًا بها فقد كانت كثيرة لا يخلو منها إنسان، وكانوا يتقربون بها إلى الأصنام الكبيرة. وقد عثر المنقبون على عدد كبير منها وهي متفاوتة في الحجم وفي الروعة ودقة الصنع والإتقان.

_ 1 تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها". 2 تفسير أبي السعود "5/ 112". 3 الأصنام "56"، "35" "روزا".

عبادة الأصنام

عبادة الأصنام: ونظرية "ابن الكلبي" ومن لف لفه من الأخباريين أن نسل إسماعيل بن إبراهيم لما تكاثر بمكة حتى ضاقت بهم. وقعت بينهم الحروب والعداوات، فأخرج بعضهم بعضًا، فتفسحوا في البلاد التماسًا للمعاش وكان كلما ظعن من مكة ظاعن حمل معه حجرًا من حجارة الحرم؛ تعظيمًا للحرم وصبابة بمكة.

فحيثما حلّوا، وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمنًا منهم بها وصبابة بالحرم وحبًّا له. وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل. "ثم سلخ بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، وانتجثوا ما كان يعبد قوم نوح منها، على إرث ما بقي فيهم من ذكرها، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البدن، والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه"1. فكان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وبحر البحيرة، وحمى الحامية، عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي، وهو أبو خزاعة. وكانت أم عمرو بن لحي، فهيرة بنت عامر عمرو بن الحارث بن عمرو الجرهمي، ويقال: قمعة بنت مضاض الجرهمي2. وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة. فلما بلغ عمرو بن لحي، نازعه في الولاية، وقاتل جرهمًا ببني إسماعيل، فظفر بهم، وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم عن بلاد مكة، وتولى حجابة البيت بعدهم. ثم إنه مرض مرضًا شديدًا، فقيل له: إن بالبلقاء من الشأم حمة إن أتيتها، برأت. فأتاها، فاستحم بها، فبرأ. ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو. فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا. فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة. ثم أخذ عمرو بن لحي في توزيع الأصنام على القبائل. وبذلك شاعت عبادة الأصنام بين الناس3.

_ 1 الأصنام "ص6 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 82"، الروض الأنف "1/ 61". 2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 46". 3 الأصنام "ص6 وما بعدها"، الاشتقاق "276"، البلدان "8/ 408 وما بعدها"، "ود"، مروج الذهب "2/ 227" "ذكر البيوت المعظمة، والهياكل المشرفة"، سبائك الذهب "101"، الروض الأنف "1/ 64"، البلدان "4/ 652 وما بعدها" "طهران 1935".

هذه رواية شهيرة معروفة بين الأخباريين عن منشإ عبادة الأصنام وانتشارها عند العرب. وفي رواية أخرى: "كان أول من اتخذ تلك الأصنام، من ولد إسماعيل وغيرهم من الناس، وسموها بأسمائها على ما بقي فيهم من ذكرها حين فارقوا دين إسماعيل، هذيل بن مدركة"1. فنسبت هذه الرواية اتخاذ الأصنام إلى هذيل. وهناك روايات أخرى في هذا المعنى تتفق مع الرواية الأولى من حيث الجوهر ولا تختلف معها إلا في بعض التفاصيل، ففي رواية أن "عمرو بن لحي" حينما قدم "مآبًا" من أعمال البلقاء، وهي يومئذ بأيدي العماليق، ووجدهم يتعبدون للأصنام، سألهم أن يعطوه صنمًا منها ليسير به إلى أرض العرب ليعبدوه، فأعطوه الصنم هبل، فأخذه، وقدم به إلى مكة فنصبه. وأمر الناس بعبادته2. فعينت هذه الرواية القوم الذين ذهب إليهم "عمرو بن لحي"، والموضع الذي نزل به، وثبتت اسم الصنم الذي أخذه منهم. وهي زيادات لم نجدها في كتاب الأصنام غير أن تشابه عبارات هذه الرواية التي ذكرها "ابن هشام" مع رواية "ابن الكلبي" يدل على أن المنبع واحد، وإنما الخلاف هو في ذكر بعض الفروع، وفي اختصار بعض المواضع، والإطناب في مواضع أخرى. وفي رواية أخرى عن "ابن الكلبي" كذلك، وهي في كتابه الأصنام، ترجع أيضًا عبادة الأصنام إلى عمرو بن لحي، غير أنها تروي الخبر في صيغة أخرى، فتقول: "وكان عمرو بن لحي، وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد، وهو أبو خزاعة. وأمه فهيرة بنت الحارث، ويقال إنها كانت بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، وكان كاهنًا. وكان قد غلب على مكة وأخرج منها جرهمًا، وتولى سدانتها.

_ 1 الأصنام "ص9"، نسب عدنان وقحطان، للمبرد "22 وما بعدها" المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء "1/ 94" ابن هشام "1/ 78"، "البابي"، البلدان "4/ 652" "طهران" ابن خلدون "2/ 686"، مروج الذهب "2/ 56 وما بعدها" "محمد محيي الدين عبد الحميد"، أبو الفداء "1/ 76". 2 ابن هشام "ص62"، حاشية على الروض الأنف، ابن هشام "1/ 82"، ديوان حسان "11.P"، "هرشفلد" ابن هشام "1/ 78 وما بعدها، 120".

وكان له رئي من الجن، وكان يكنى أبا ثمامة، فقال له: عجل بالمسير والظعن من ثمامة، بالسعد والسلام! قال: جير، ولا إقامة. قال: ايت ضف جدة، تجد فيها أصنامًا معدة، فأوردها تهامة ولا تهاب، ثم ادع عبادتها قاطبة. فأتى شط دجلة، فاستشارها، ثم حملها حتى ورد تهامة، وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة. فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللآت بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلون بن عمران بن الحاف بن قضاعة، فدفع إليه ودًّا. فحمله إلى وادي القرى، فأقره بدومة الجندل. وسمى ابنه عبد ود. فهو أول من سُمي به، وهو أول من سُمي عبد ود، ثم سمعة العرب به بعد1. فهذه الرواية هي على شاكلة الرواية الأولى في منشإ عبادة الأصنام بين العرب قبل الإسلام بحسب رأي الأخباريين بالطبع، سوى اختلافها عنها في المكان الذي أخذت الأصنام منه. فهنا "جدة" على ساحل البحر الأحمر، وهناك البلقاء من أعمال الشأم. والموضعان، وإن كان يختلفان موقعًا، يتفقان في شيء واحد هو وقوعهما على حد مقصود، يرده الأجانب منذ القديم للإتجار. فهل يعني هذا استيراد تلك الأصنام من الخارج، من بلاد الشأم أو من مصر، وأنها كانت من عمل أهل الشأم أو أهل مصر أو من عمل الروم أو الرومان؟ وتذكر رواية أخرى أن "عمرو بن لحي" إنما جاء بالصنم "هبل"، من "هيت" بالعراق حتى وضعه في الكعبة2. وعمرو بن لحي هو على اختلاف الروايات أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة وحمى الحامي. فقأ عين عشرين بعيًرا، فصارت العادة أن يفقأ عين الفحل من الإبل إذا بلغت الإبل ألفًا. فإذا بلغت ألفين، فقئت العين الأخرى. وقد نسب إليه كلام طويل. وزُعم له عمر مديد، وقصص أخرجه من عالم الواقع إلى عالم القصص والأساطير، ورجع عصره إلى أيام "العماليق" وإلى أيام "سابور ذي الأكتاف". وذكر أن العرب.

_ 1 الأصنام "ص54 وما بعدها". 2 الأزرقي "1/ 73 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 65".

جعلته "ربًّا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة؛ لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم، فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة"1، وذكروا أنه كان ملكًا على الحجاز، وكان كبير الذكر في أيامه، إلى غير ذلك من قصص يروونه عنه2. وذكر "المسعودي" أن "عمرو بن لحي" حين خرج إلى الشأم ورأى قومًا يعبدون الأصنام، فأعطوه منها صنمًا فنصبه على الكعبة، وأكثر من الأصنام، وغلب على العرب عبادتها، انمحت الحنيفية منهم إلا لمامًا، ضج العقلاء في ذلك، فقال "شحنة بن خلف" "سحنة بن خلف الجرهمي": يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة ... شتى بمكة حول البيت أنصابا وكان للبيت رب واحد أبدًا ... فقد جعلت له في الناس أربابا لتعرفن بأن الله في مهلٍ ... سيصطفي دونكم للبيت حجابا3 وكان "عمرو بن لحي" كاهنًا على ما يذكره أهل الأخبار4، وهو من "خزاعة"، التي انخزعت من اليمن. ثبت حكمه على مكة، بعد أن انتزع الحكم من جرهم، وغلب قومه عليها، فصاروا يطيعونه ويتبعون ما يضعه لهم. وقد نسبوا إليه وضع بقية الأصنام، مثل اللات وإساف ونائلة، فهو على رأي أهل الأخبار مؤسس هذه الأصنام التي بقيت إلى أيام النبي، والتي حطمت بأمره عام الفتح، وباستيلاء المسلمين على المواضع الأخرى. وذكر أهل الأخبار أن "عمرو بن لحي" كان أول من غير تلبية "إبراهيم". وكانت: "لبيك لا شريك لك. لبيك"، فجعلها: "لبيك اللهم لبيك، إلا شريك هو لك، تملكه وما لك"، وقد كان "إبليس" قد ظهر له في صورة شيخ نجدي على بعير أصهب، فسايره ساعة، ثم لبى إبليس، فلبى "عمرو" تلبيته حتى خدعه. فلباها الناس على ذلك5.

_ 1 الروض الأنف "1/ 62" البداية والنهاية "2/ 188". 2 المختصر في أخبار البشر، لأبي الفداء "1/ 94". 3 مروج الذهب "2/ 29 وما بعدها". 4 مروج الذهب "2/ 303". 5 الأزرقي "1/ 126 وما بعدها"، "1/ 26 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 79 وما بعدها".

وقد قيل إنه بلغ بمكة وفي العرب من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية مبلغه1. ويظهر أنه كان من أصحاب الحول والسلطان والجاه، ولذلك ترك هذا الأثر في روايات أهل الأخبار. وإني أرى أنه لم يكن بعيد عهد عن الإسلام، وإلا لم حفظت ذاكرة أهل الأخبار أخبارها عنه. والظاهر أنه كان كاهنًا من الكهان، ورجلًا كبيًرا من رجال الدين. وروي أن الرسول ذكر أن" عمر بن لحي بن قمعة" كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة2. ولست أظن أن الرواة قد أقحموا اسم "عمرو بن لحي" في قصة انتشار الأصنام في جزيرة العرب إقحامًا من غير أصل ولا أساس، فلا بد من أن تكون للرجل صلة ما بعبادة الأصنام عند الجاهليين، ولا بد أن يكون من الرجال الذين عاشوا في عهد غير بعيد عن الإسلام، لا قبل ذلك بكثير كما يدعي الأخباريون، فما كان خبره ليصل إليهم على هذا النحو لو كان زمانه بعيدًا عنهم البعد الذي تصوروه. وأنا لا أستبعد احتمال شراء "عمرو بن لحي" للأصنام من بلاد الشأم ومجيئه بها إلى الحجاز، ونصبه لها في الكعبة وفي مواضع أخرى، لما وجده من حسن صنعة التماثيل في تلك البلاد ومن جودة حجارتها، فاشترى عددًا منها؛ لتنصب في المحجات، فنسبت عبادة الأصنام إليه. وزعموا أن "ابن أبي كبشة": "جزء بن غالب بن عامر بن الحارث بن غبشان الخزاعي"، كان ممن أدخل الشرك إلى العرب، وخالف دين التوحيد. لقد ذكروا أنه دعا إلى عبادة "الشعرى العبور"3. وليست عبادة الأصنام والأوثان عبادة خاصة بالعرب، بل هي عبادة كانت معروفة عند غيرهم من الشعوب السامية، وعند غير الساميين، كما أنها لا تزال موجودة قائمة حتى الآن. وكانت قريش تتعبد وتتقرب إلى أصنام قبائل أخرى. على شرط المثل، أي أن تتقرب تلك القبائل وتتعبد لأصنام قريش. فقد ذكر "السكري" أن قريشًا.

_ 1 أخبار مكة "54". 2 الاستيعاب "1/ 120". 3 تاج العروس "4/ 341".

كانت تعبد صاحب كنانة، وبنو كنانة يعبدون صاحب قريش1. وقد تمكنت قريش بفضل هذه السياسة الحكيمة من جمع أصنام العرب وضمها في الكعبة، وهذا ما جعل القبائل تعظم هذا المجمع، وتحج إليه كل سنة مرة، في موسم الحج، بالإضافة إلى الأيام الأخرى من أيام السنة، حيث تقع فيها العمرة. فربحت من ذلك ربحًا معنويًّا وماديًّا، وصارت مكة سوقًا مستقرة ثابتة، يقصدها الناس في كل وقت.

_ 1 المحبر "318".

الحلف بالأصنام والطواغيت

الحلف بالأصنام والطواغيت: ولعقيدتهم المذكورة في الأصنام، كانوا يحلفون بها وبالطواغيت. والظاهر أن هذه العادة بقيت في نفوسهم حتى في الإسلام. فقد ورد في الحديث: "أنه قال من حلف بغير الله، فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله"1، و"من حلف فقال في حلفه واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله"، ومن قاله لصاحبه: تعالى أقامرك فليتصدق"2. وكانت ألسنتهم تسبقهم، لما اعتادته من زمن الجاهلية من الحلف بالأصنام3.

_ 1 إرشاد الساري "9/ 377". 2 تفسير ابن كثير "4/ 253". 3 نفسير ابن كثير "4/ 253".

الفصل الثالث والستون: أنبياء جاهليون

الفصل الثالث والستون: أنبياء جاهليون ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن الجاهليين لم يعدموا من الأنبياء، فقد ذكروا لهم أنبياء قالوا إنهم بشروا بالله وبدينه بين العرب الأولى، ومنهم "هود" نبي "عاد"، و"صالح" نبي قوم ثمود. وقد أشير إليهما في القرآن الكريم1. وزعموا أن رجلًا من بني "قطيعة بن عبس" كان نبيًّا كذلك، ولم يكن في بني إسماعيل نبي قبله. وهو الذي أطفأ الله به "نار الحرتين" وكانت ببلاد عبس. فإذا كان الليل فهي نار تسطع في السماء، وكانت طيء تنفش بها إبلها، وربما ندرت منها "العنق" أي قطعة فتأتي على كل شيء فتحرقه. وإذا كان النهار فإنما هي دخان يغور. فاحتفر "خالد" لها بئرًا، ثم أدخلها فيها، والناس ينظرون، ثم اقتحم فيها حتى غيبها. وذكروا أنه نجح في إخمادها، وكان الناس يقولون: هلك الرجل، فكذبهم، وخرج سالمًا. فلما حضرته الوفاة قال لقومه: إذ أنا مت ثم دفنتموني، فاحضروني بعد ثلاث، فإنكم ترون عيرًا أبتر يطوف بقبري، فإذا رأيتم ذلك فانبشوني، فإني أخبركم بما هو كائن إلى يوم القيامة. فاجتمعوا لذلك في اليوم الثالث، فلما رأوا العير وذهبوا ينبشونه، اختلفوا، فصاروا فرقتين، وابنه عبد الله في الفرقة التي أبت أن تنبشه، وهو يقول: "لا أفعل! إني إذًا ادعى ابن المنبوش! فتركوه.

_ 1 سورة هود، الآية 53، 60، 89، الشعراء، الآية 124، صالح، سورة الأعراف الآية 77، هود، الآية 62، 89، الشعراء، الآية 142.

قال "الحاحظ" "والمتكلمون لا يؤمنون بهذا، ويزعمون أن خالدًا هذا كان أعرابيًّا وبريًّا، من أهل "شرج" و"ناظرة". ولم يبعث الله نبيًّا من الأعراب ولا من الفدادين أهل الوبر، وهم أهل البادية. إنما يبعثهم من أهل القرى، وسكان المدن1. ويظهر أنه عاش قبيل الإسلام، فقد ذكر أهل الأخبار أن ابنة له قدمت على النبي، فبسط لها رداءه وقال: هذه ابنة نبي ضيعه قومه، وذكروا أنها لما سمعت سورة: "قل هو الله أحد"، قالت: قد كان أبي يتلو هذه السورة2 وزعموا أنه هو الذي دعا على العنقاء، فذهبت وانقطع نسلها3. ثم نبي آخر اسمه "حنظلة بن صفوان"، كان نبيًّا بعثه الله إلى "أهل الرس"، فكذبوه وقتلوه، عاش في أيام "بختنصر" وقد نسب إلى حمير، وقيل إنه كان من أنبياء الفترة كذلك، وإنه هو الذي دعا على العنقاء، فانقطع نسلها4. وذكر بعض أهل الأخبار أن الله أرسل "حنظلة" إلى أهل عدن، فقتلوه5. وذكر أهل الأخبار اسم نبي أرسل إلى أهل "حضور" اسمه "شعيب بن ذي مهدم" فقتلوه. فاستأصلهم "بخت نصر"، وقبره بـ"صنين" جبل باليمن6. وذكر أهل الأخبار أن "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، كان ممن ادعى النبوة بمكة قبل الهجرة، وصنع أسجاعًا7. وكان قد طاف قبل التنبي، في الأسواق التي كانت بين دور العجم والعرب، يلتقون فيها للتسوق والبياعات، كنحو سوق الأبلة، وسوق لقه، وسوق الأنبار، وسوق الحيرة وكان يلتمس تعلم الحيل والنيرجات، واختيارات النجوم والمتنبئين. وقد كان أحكم حيل السدنة.

_ 1 الحيوان "4/ 476 وما بعدها". 2 الحيوان "4/ 477". 3 "ذاك نبي أضاعه قومه" بلوغ الأرب "2/ 278 وما بعدها" 4 اللسان "12/ 149" "عنق" تاج العروس "1/ 410" "عنق" 5 الروض الأنف "1/ 9. 6 الروض الأنف "1/ 9". 7 الحيوان "4/ 89" "مسيلمة بن عثامة بن كبير بن حبيب بن الحرث، من بني حنيفة"، إرشاد الساري "6/ 434".

والحُواء وأصحاب الزجر والخط، ومذهب الكاهن والعياف والساحر، وصاحب الجن الذي يزعم أن معه تابعه1. وقد أحكم من ذلك أمورًا. فمن ذلك، أنه صب على بيضة من خل قاطع، حتى لان قشرها، فأدخلها في قارورة ضيقة الرأس وتركها حتى جفت ويبست، وعادت إلى هيئتها الأولى، فأخرجها إلى "مجاعة بن مرارة بن سلمى الحنفي" اليمامي، وأهل بيته، وهم أعراب، وادعى بها أعجوبة وأنها جعلت له آية، فآمن به من في ذلك المجلس: مجاعة وغيره. ومن ذلك أنه كان قد حمل معه ريشًا في لون ريش أزواج حمام، وقد كان يراهن في منزل مجاعة مقاصيص. فالتفت، بعد أن أراهم الآية في البيض، إلى الحمام فقال لمجاعة: إلى كم تعذب خلق الله بالقص؟! ولو أراد الله للطير خلاف الطيران لما خلق لها أجنحة، وقد حرمت عليكم قص أجنحة الحمام! فقال له مجاعة كالمتعنت: فسل الذي أعطاك في البيض هذه الآية أن ينبت لك جناح هذا الطير الذكر ساعة؟ قال مسيلمة: فإن أنا سألت الله ذلك، فانتبه له حتى يطير وأنتم ترونه، أتعلمون أني رسول الله إليكم؟ قالوا: نعم. قال: فإني أريد أن أناجي ربي، وللمناجاة خلوة، فانهضوا عني، وإن شئتم فادخلوني هذا البيت وادخلوه معى، حتى أخرجه إليكم الساعة وافي الجناحين يطير. وأنتم ترونه ولم يكن القوم سمعوا بتغريز الحمام، وكانوا بسطاء لا يعرفون حيل المحتالين، فلما خلا بالطائر أخرج الريش الذي قد هيأه فأدخل طرف كل ريشة مما كان معه في جوف ريش الحمام المقصوص، من عند المقطع والقص. فلما غرز ريشه أخرجه، وأرسله أمامهم من يده فطار، واعتبروا عمله آية. ثم إنه قال لهم: إن الملك ينزل إلي، والملائكة تطير وهي ذوات أجنحة، ولمجيء الملك زجل وخشخشة وقعقعة، فمن كان منكم ظاهرًا فليدخل منزله، فإن من تأمل اختطف بصره! ثم صنع راية من رايات الصبيان التي تعمل من الورق الصيني، ومن الكاغد، وتجعل لها الأذناب والأجنحة، وتعلق في صدورها الجلاجل، وترسل يوم الريح بالخيوط الطوال الصلاب. ثم أرسلها مع الريح، وهم لا يرون الخيوط، والليل لا يبين عن صورة الرق، وعن دقة الكاغد،

_ 1 الحيوان "4/ 369 وما بعدها"، المعارف "405".

فتوهموا أن ذلك الملائكة: وتصارخوا، وصاح: من صرف بصره ودخل بيته فهو آمن! فأصبح القوم وقد أطبقوا على نصرته والدفع عنه: فهو قوله: ببيضة قارور وراية شادن ... وتوصيل مقصوص من الطير جادف1 ونسب بعض أهل الأخبار "مسيلمة" على هذا النحو: "مسيلمة بن ثُمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هفان بن ذهل بن الدول بن حنيفة"2 و"مسيلمة الكذاب بن حبيب" ثمامة بن كبير، وجعله بعضهم "مسيلمة بن حبيب" وجعلوا كنيته "أبا ثمامة" وقيل "أبا هارون" و"أبو ثمالة"3 وذكروا أنه كان يسمى بـ"الرحمن" قبل مولد "عبد الله" والد رسول الله، "وكانت قريش حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلهم: دق فوك، إنما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة"4. وذكروا أنه دعا إلى الرحمن، أي إلى عبادة الرحمن. بينما عرف نفسه بـ"الرحمن"، فقيل له: "رحمان اليمامة"5. وأنه دعا إلى عبادته هذه قبل النبوة، وقد عرف أمره بمكة، فلما نزل الوحي على الرسول، قال أهل مكة إنما أخذ علمه من "رحمان" اليمامة6. وقالوا له: "إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن، ولن نؤمن به أبدًا" "فأنزل الله سبحانه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي} . كان مسيلمة بن حبيب الحنفين ثم أحد بني الدول قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين. ذكر وثيمة بن موسى أن مسيلمة تسمى بالرحمن قبل أن يولد عبد الله أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم"7. قال "الواحدي" في أسباب نزول الآية: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ

_ 1 الحيوان "4/ 371 وما بعدها" المعارف "405". 2 الروض الأنف "2/ 340"، "وفد بني حنيفة"، امتاع الأسماع "1/ 506". البلاذري، فتوح "97"، "اليمامة" 3 الاشتقاق "209" البلاذري: فتوح "100". 4 الروض الأنف "2/ 340"، اليعقوبي "1/ 120". 5 Shorter Ency, p. 416. 6 Shorter Ency, p. 416 7 الروض الأنف "1/ 200".

هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 1: "قال أهل التفسير: نزلت في صلح الحديبية، حين أرادوا كتاب الصلح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل بن عمرو والمشركون: ما نعرف الرحمن، إلا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب. اكتب باسمك اللهم. وهكذا كانت الجاهلية يكتبون، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية"2 وذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} 3، "أن مسيلمة كان يدعى الرحمن. فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم، "اسجدوا للرحمن" قالوا: أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة بالسجود له"4. أو أنهم قالوا: "ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. يعنون مسيلمة الكذاب"5. ولا يعقل قول من قال إن مسيلمة كان يعرف بـ"الرحمن" قبل ولادة "عبد الله" والد الرسول. أما أنه كان أسن من الرسول فلا غرابة في ذلك، ولكني لا أرى أنه كان أكبر من الرسول بعشرات السنين. ومن الجائز أن يكون قد دعا إلى عبادة "الرحمن"، وهي عبادة كانت شائعة معروفة إذ ذاك، في اليمامة وفي غير اليمامة، فعرف بين قومه بـ"رحمن اليمامة"، وذلك قبل نزول الوحي على الرسول، فسمع أهل مكة بدعوته. وورد في رواية أن "أبا جهل" سمع "رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الحجر ويقول: "يا الله يا رحمن". فقال: كان محمد ينهانا عن عبادة الآلهة، وهو يدعو إلهين. فنزلت هذه الآية،: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} 6. وفي هذا الخبر إن صح، دلالة على أن أهل مكة كانوا قد سمعوا بعبادة "الرحمن" وأنهم سمعوا أن قومًا من الجاهليين دعوا إلى عبادته، وأن "أبا جهل" كان قد سمع قولهم، ولهذا أخذ على النبي قوله: يا الله يا رحمن. ولا يعقل ألا يكون لأهل مكة علم بعبادة "الرحمن" التي تحدثت عنها في موضع آخر، وقد كان

_ 1 الرعد، الرقم 13، الآية 30. 2 أسباب النزول "205 وما بعدها" تفسير القرطبي "9/ 317 وما بعدها". 3 الفرقان، الآية 60. 4 تفسير الطبري "19/ 19" روح المعاني "19/ 36". 5 تفسير القرطبي "13/ 64". 6 تفسير القرطبي "9/ 318".

لهم اتصال باليمن وباليمامة وبمعظم أنحاء جزيرة العرب. وأرى أن "مسيلمة" كان قد دعا إلى عبادة الرحمن متاثرًا بدعوة المتعبدين له ممن كان قبله على ما يظهر، وهي عبادة إله اسمه "الرحمن" فعرف مسيلمة بـ"الرحمن" وبـ"رحمن اليمامة" وعبادة الرحمن ديانة متأثرة بفكرة التوحيد، وبوجود إله واحد هو "الرحمن" رب العالمين. وقد أشير إلى موضع اسمه "وادي الرحمن" في الكتاب الذي أعطاه رسول الله لي "يزيد بن المحجل" الحارثي، ورد فيه: "إن لهم غرة ومساقيها ووادي الرحمن من بين غايتها"1. ولا أستبعد احتمال وجود صلة بين هذه التسمية وبين الرحمن الإله. وقد وصف الرواة "مسيلمة" بأنه "كان قصيًرا شديد الصفرة أخنس الأنف أفطس"2. ويظهر من غربلة ما ذكره أهل الأخبار عن "مسيلمة أنه كان أكبر عمرًا من الرسول. وأنه كان قد تكهن وتنبأ باليمامة ووجد له أتباعًا قبل نزول الوحي على النبي. وأن أهل مكة كانوا على علم برسالته. ويذكر أهل الأخبار أن "مسيلمة" كان ابن مائة وخمسين سنة حين قتل3. وهو عمر قد بولغ فيه ولا شك؛ إذ لا يعقل أن يكون في هذه السن يوم قتل فقد كان فعالًا نشيطًا، نشاطًا لا يمكن أن يظهر إلا من رجل قوي فعال، هو دون المائة. وكان "مسيلمة" يدعي أن معه رئيًّا في أول زمانه، ولذلك قال الشاعر حين وصفه. ببيضة قارور وراية شادن ... وخلة جني وتوصيل طائر4 وكان "مسيلمة" في جملة رجال "وفد حنيفة" الذي قصد الرسول، وفيهم "رحال بن عنفوة" لكنه -كما يقول الرواة- لم يذهب مع الوفد.

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 268" "ذكر بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسل يكتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام". 2 البلاذري، فتوح "100". 3 الروض الأنف "2/ 340" اليعقوبي "1/ 120". 4 الحيوان "6/ 205 وما بعدها".

إلى الرسول، بل بقي مع رحال الوفد يبصرها لهم. فلما قرروا العودة، بعد أن أسلموا وأعطاهم جوائزهم، قالوا: "يا رسول الله إنا خلفنا صاحبًا لنا في رحالنا يبصرها لنا، وفي ركابنا يحفظها علينا، فأمر له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمثل ما أمر به لأصحابه وقال: ليس بشركم مكانًا لحفظه ركابكم ورحالكم، فقيل ذلك لمسيلمة، فقال: عرف أن الأمر إلي من بعده فلما عادوا إلى ديارهم، ادعى مسيلمة النبوة، وشهد "رحال بن عنفوة" "الرحال بن عنفوة"، أن رسول الله، أشركه في الأمر، فتبعه الناس1. وكان "الرحال" قد تعلم سورًا من القرآن، فنسب إلى "مسيلمة" بعض ما تعلم من القرآن، فكان من أقوى أسباب الفتنة على "بني حنيفة" قتله "زيد بن الخطاب"، يوم اليمامة2. وذكر "الطبري"، أن "مسيلمة" كان يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح، "وكان معه نهار الرجال بن عنفوة" وكان قد هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، فبعثه معلمًا لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، وليشدد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد له أنه سمع محمدًا، صلى الله عليه وسلم، يقول: إنه قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وأمروه بمكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه، فكان نهار الرجال بن عنفوة لا يقول شيئًا إلا تابعه عليه، وكان ينتهي إلى أمره3. وكان الذي يؤذن له: عبد الله بن النواحة، وكان الذي يُقيم له "حجير بن عمير"، ويشهد له، وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قال: صرح حجير، فيزيد في صوته، ويبالغ لتصديق نفسه، وتصديق نهار وتضليل من كان قد أسلم، فعظم وقاره في أنفسهم4 فجعل "الطبري" اسم مساعد" "مسيلمة" "نهار الرجال بن عنفوة" لا "الرحال بن عنفوة" "رحال بن عنفوة".

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 316 وما بعدها" "وفد حنيفة" الطبري "3/ 137 وما بعدها" "قدوم وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة". 2 الروض الأنف "2/ 340". 3 الطبري "3/ 282 وما بعدها". 4 الطبري "3/ 283".

كما في الموارد الأخرى. لكنه عاد فدعاه "الرجال"1 تارة و"رحال بن عنفوة" تارة أخرى، حينما تكلم عنه وعن نهايته. وذلك في أيام "أبي بكر" أي في حوادث السنة الحادية عشرة2. وأظن أن مرد هذا الاختلاف لا يعود إلى "الطبري" نفسه، بل إلى النساخ وإلى الطبع. وقد أورد "الطبري" رواية أخرى في كيفية قدوم "مسيلمة بن حبيب" على رسول الله. فذكر "أن بني حنيفة أتت بمسيلمة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تستره بالثياب، ورسول الله جالس في أصحابه، ومعه عسيب من سعف النخل، في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله: لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك! ". ولم يشر "الطبري" إلى أسماء من جاء معه من وفد "بني حنيفة" وقد ذكر بعد هذه الرواية الرواية السابقة التي ذكرتها، دون أن يشير إلى أسماء رجال الوفد3. ثم قال بعد ذلك: "ثم انصرفوا عن رسول الله وجاءوا مسيلمة بما أعطاه رسول الله، فلما انتهى إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم، وقال: إني قد أشركت في الأمر معه، وقال لوفده: ألم يقل لكم رسول الله حيث ذكرتموني: أما أنه ليس بشركم مكانًا! ما ذلك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت معه، ثم جعل يسجع السجعات، ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحُبلي، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشي. ووضع عنهم الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا، ونحو ذلك"4. ولا يتفق ما ذكره "الطبري" من وضع "مسيلمة" الصلاة عن أتباعه، مع ما أورده هو من اتخاذه مؤذنًا يؤذن بين الناس، ومن اتخاذه "مقيمًا" يقيم له الصلاة ثم مع ما ذكره غيره من أنه قلص الصلوات الخمسة فجعلها ثلاثة صلوات في اليوم5. ولا يوجد دليل على تحليله الزنا والخمر. وذكر أن "مسيلمة"، بعد أن عاد إلى قومه كتب كتابًا إلى الرسول فيه:

_ 1 الطبري "3/ 287". 2 الطبري "3/ 281–301"، "ذكر بقية خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة". 3 الطبري "3/ 137" زاد المعاد "3/ 31 وما بعدها". 4 الطبري "3/ 138"، زاد المعاد "3/ 31". 5 Shorter Ency, p. 416.

"من مسيلمة رسول الله على محمد رسول الله، أما بعد، فإني قد أشركت معك في الأمر، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا قومًا يعتدون" فكتب إليه رسول الله: "بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فالسلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء والعاقبة للمتقين" وقدم بكتاب مسيلمة رجلان فسألهما رسول الله عنه فصدقاه، فقال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما1. وتذكر رواية أخرى أن مسيلمة قال للرسول يوم وفد عليه مع من وفد من رجال "حنيفة" "إن شئت خلينا لك الأمر وبايعناك على أنه لنا بعدك. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا ولا نعمة عين ولكن الله قاتلك". وتذكر رواية أخرى أن "هوذة بن علي الحنفي" صاحب اليمامة، قد كتب إلى النبي، أن يجعل له الأمر من بعده على أن يسلم ويصير إليه فينصره، فقال رسول الله: لا ولا كرامة الله اكفنيه، فمات بعد قليل2. وروي أن رسول الله، بعث "حبيب بن زيد بن عاصم" أحد "بني النجار" و"عبد الله بن وهب الأسلمي" إلى مسيلمة، فلم يعرض لعبد الله، وقطع يدي حبيب ورجليه3. وذكر أن رسولي مسيلمة اللذين حملا كتابه إلى الرسول، كانا "ابن الفواحة" و"ابن أثال"، وأنهما قالا لرسول الله: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال الرسول: لو كنت قاتلًا رسولًا لقتلتكما. فعادا إلى صاحبهما4. وذكر "الطبري" أن مسيلمة" "ضرب حرمًا باليمامة، فنهى عنه، وأخذ الناس به، فكان محرمًا، فوقع في ذلك الحرم قُرى الأحاليف، أفخاذ من بني أسيد، كانت دارهم باليمامة فصار مكان دارهم في الحرم". فصاروا يغيرون على ثمار أهل اليمامة، ويتخذون الحرم دغلًا، فإن نذروا بهم فدخلوه أحجموا عنهم، وإن لم ينذورا بهم فذلك ما يريدون. "فكثر ذلك منهم حتى استعدوا عليهم، فقال: أنتظر الذي يأتي من السماء فيكم وفيهم، ثم قال لهم:

_ 1 امتاع الأسماع "1/ 508 وما بعدها" اليعقوبي"1/ 120". 2 البلاذري، فتوح "97" "اليمامة". 3 البلاذري، فتوح "102". 4 زاد المعاد "3/ 32".

والليل الأطحم، والذئب الأدلم، والجذع الأزلم، ما انتهكت أسيد من محرم فقالوا: أما محرم استحلال الحرم وفساد الأموال! ثم عادوا للغارة، وعادوا للعدوى. فقال: أنتظر الذي يأتيني، فقال: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس: فقالوا: أما النخل مرطبة فقد جدوها، وأما الجدران يابسة فقد هدموها، فقال اذهبوا وارجعوا فلا حق لكم"1. وقد أورد أهل الأخبار كلامًا زعموا أن "مسيلمة" نظمه مضاهاة للقرآن. من ذلك قوله: "يا ضفدع نقي كما تنقين! نصفك في الماء ونصفك في الطين! لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين"2. "وكان فيما يقرأ لهم فيهم: إن بني تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كل إنسان، فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن"3. "وكان يقول: والشاة وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المذق، فما لكم لا تمجعون". "وكان يقول: يا ضفدع ابنة ضفدع، نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين". "وكان يقول: والمبذرات زرعًا، والحاصدات حصدًا، والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا، إهالة وسمنًا، لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه، والمعتر فآووه، والباغي فناوئوه"4. وذكر بعض أهل الأخبار أن "أبا بكر" لما سأل وفدًا من "بني حنيفة" أرسله "خالد" إليه عما كان يقوله لهم: "قالوا: كان يقول يا ضفدع نقي نقي، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون"5. ويظهر من أسلوب هذه الآيات المنسوبة إلى "مسيلمة" أنها محاكاة ومضاهاة للآيات الأولى من القرآن الكريم، الآيات التي نزلت بمكة في عهد الرسالة الأولى.

_ 1 الطبري "3/ 283". 2 الحيوان "5/ 530. 2 الطبري "3/ 283" وما بعدها". 4 الطبري "3/ 283 وما بعدها". 5 الطبري "3/ 300".

وهي بذلك تختلف عن أسلوب الوحي المنزل بعد الهجرة بالمدينة1. ولم نجد فيما بقي من كتب أهل الأخبار ما يشير بشيء إلى "قرآن مسيلمة" أو إلى بقية أخرى منه. هذا ولا بد لي من التنبيه إلى أننا لا نستطيع التأكيد بأن ما نسب إلى مسيلمة من كلام هو حق وصحيح. فمن الجائز أن يكون قد وضع عليه وضعًا. وقد رأينا كيف أنهم اختلفوا في رواية "يا ضفدع" اختلافًا بينًا في ضبط العبارات وكان الناس يقصدون "مسيلمة" ليسمعوا منه، بعد أن اشتهر أمره. وقد تمكن من التأثير في بعضهم. وكان ممن قصده "المتشمس بن معاوية"، عم "الأحنف بن قيس" الشهير. فلما خرج من عنده قال عنه إنه كذاب2. وقال عنه "الأحنف" وقد رآه أيضًا، وقد سئل كيف هو؟ ما هو بنبي صادق، ولا بمتنبئ حاذق3. وذكر أهل الأخبار أن مسيلمة كان صاحب "نيرجات" وتمويه واحتيال يدعي المعجزات والآيات، وأنه أول من أدخل البيضة في القارورة، وأول من وصل جناح الطائر المقصوص، وكان يدعي أن ظبية تأتيه من الجبل فيحلب لبنها. وقد جربه قوم، فوجدوا آياته "منكوسة. تفل في بئر قوم سألوه ذلك تبركًا، فملح ماؤها. ومسح رأس صبي فقرع قرعًا فاحشًا، ودعا لرجل في ابنين له بالبركة، فرجع إلى منزله، فوجد أحدهما قد سقط في البئر والآخر قد أكله الذئب. ومسح على عيني رجل استشفى بمسحه فابيضت عيناه"4، ومسح وجه "أبا بصير"، وهو صبي من "بني يشكر بن وائل" وكانوا أتوا به "مسيلمة" فعمي، فكني "أبا بصير"، وكان يروى عنه5. وأتته امرأة من بني حنيفة، تكنى بأم الهيثم، "فقالت: إن نخلنا لسحق وإن آبارنا لجرز، فادع الله لمائنا ولنخلنا، كما دعا محمد لأهل هزمان"، فدعا بسجل، ودعا لهم فيه، ثم تمضمض بفمه منه، ثم مجه فيه، فانطلقوا به حتى فرغوه في تلك.

_ 1 Shorter Ency, p. 416. 2 المعارف "424". 3 أمالي المرتضى "1/ 292". 4 الروض الأنف "2/ 340". 5 المعارف "454".

الآبار، ثم سقوه نخلهم، فغارت مياه تلك الآبار، وخوى نخلهم، وقد ذكر "الطبري" هذه الملاحظة: "وإنما استبان ذلك بعد مهلكه"1. وروى الطبري"، أخبارًا أخرى من هذا النوع، ذكر أن "نهارًا" قال له: برك على مولودي بني حنيفة، فقال له: وما التبريك؟ قال: كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتوا به محمدًا فحنكه ومسح رأسه، فلم يؤت مسيلمة بصبي فحنكه ومسح راسه إلا قرع ولثغ. وذكر أن "نهارًا" قال له: توضأ واعطِ وضوءك إلى أصحاب الحيطان، أي البساتين كما يفعل محمد، فأعطى أحدهم وضوءه، فسقى به حائطه، فيبست أشجاره، وصارت الأرض يبابًا لا ينبت مرعاها. وأعطى "مسيلمة" رجلًا سجلًا من ماء، وكانت أرضه سبخة، فأفرغه في بئره فغرقت أرضه، فما جف ثراها، ولا أدرك ثمرها. وأتته امرأة فاستجلبته إلى نخل لها يدعو لها فيها فجزت كبائسها يوم عقرباء كلها2. وقد عرف "مسيلمة" بين أتباعه بـ"رسول الله" وكانوا يتعصبون له، ويؤمنون به إيمانًا شديدًا. وذكر أن "طلحة النميري" جاء إلى اليمامة، فقال "أين مسيلمة"قالوا: إنه رسول الله! فقال: لا، حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنك لكذاب وأن محمدًا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر" أو "أنه قال كذاب ربيعة أحب إلي من كذاب مضر" فقتل معه "يوم عقرباء"3. ويظهر من بعض ملاحظات "الطبري" عن هذه الأخبار، أنها إنما ظهرت وقيلت بعد هلاك "مسيلمة" فقد قال في موضع: "وكانوا قد علموا واستبان لهم، ولكن الشقاء غلب عليهم"4، وقال في موضع آخر: "وإنما استبان ذلك بعد مهلكه"، و"استبان ذلك بعد مهلكه"5. ولهذه الملاحظات أهمية كبيرة بالطبع في تقييم صدق هذه الروايات وصحتها، فالعادة أن من يفشل ويهلك.

_ 1 الطبري "3/ 284 وما بعدها". 2 الطبري "3/ 285 وما بعدها". 3 الطبري "3/ 286". 4 الطبري "3/ 286". 5 الطبري "3/ 285".

لا سيما إذا كان قد نال حظًّا من المكانة والجاه والاسم، يحمل عليه كثيرًا، ولا يتورع حتى أصحابه ومن كان يؤمن به من الدس عليه. واتخذ "مسيلمة" مؤذنًا يؤذن له في أتباعه اسمه "حجير". "وكان أول ما أمر أن يذكر مسيلمة في الأذان، توقف. فقال له محكم بن الطفيل: صرح حجير، فذهبت مثلًا". وكان "محكم بن طفيل الحنفي" صاحب حربه ومدبر أمره، وكان أشرف منه في حنيفة"1. وذكر "الطبري" أن الذي كان يؤذن له "عبد الله بن النواحة"، وكان الذي يقيم له حُجير بن عمير، ويشهد له. وكان مسيلمة إذا دنا حجير من الشهادة، قال صرح حجير، فيزيد في صوته ويبالغ لتصديق نفسه2. وذكر أن مؤذنه "حجير"، كان إذا أذن يقول أشهد أن مسيلمة يزعم أنه رسول الله، فيقول مسيلمة له: أفصح حجير، فذهبت مثلًا3. ورووا أنه تزوج "سجاح" التي تنبأت، وهي تميمة من" بني يربوع"، وكان يقال لها "صادر" وكان لها مؤذن، يقال له "زهير بن عمرو"، من "بني سليط بن يربوع"، ويقال إن "شبث بن ربعي" أذَّن لها4. وذكروا أنها كانت كاهنة زمانها، تزعم أن رئيها ورئى سطيح واحد، ثم جعلت ذلك الرئي ملكًا حتى ادعت النبوة، فاختلفت مع "مسيلمة" وكذبته وجحدت نبوته، فلما اتصلت به وتزوجته، وهبت نفسها له. فقال لها فيما زعموا: ألا قومي إلى المخدع ... فقد هيى لك المضجع فإن شئت سلقناك ... وإن شئت على أربع وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع فقالت بل به أجمع. فجرى المثل بلغمتها حتى قيل أغلم من سجاح5.

_ 1 الروض الأنف "2/ 340 وما بعدها". 2 الطبري "3/ 283". 3 البلاذري، فتوح "100". 4 المعارف "405". 5 ثمار القلوب "315" وما بعدها".

وفيها قال قيس بن عاصم، وقيل عطارد بن حاجب بن زرارة: أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الله ذكرانا يا لعنة الله والأقوام كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغرانا أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه ماء مزن حيثما كانا1 ولما قتل "مسيلمة" رثاه بعض شعراء بني حنيفة بقوله: لهفي عليك أبا ثمامة ... لهفي على ركني تهامة كم آية لك فيهم كالشمس تطلع من غمامة2 ... قتله "وحشي" قاتل حمزة3 وذكر أهل الأخبار أن "مسيلمة" كان قد تزوج "كبشة بنت الحارث بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس"4 كيسة بنت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"5، ثم تركها فخلف عليها" "عبد الله بن عامر بن كريز"، فولدت له. ويظهر أنها لم تلد من "مسيلمة". والذي يقرأ ما ذكره "الطبري" عن "مسيلمة" وعن صلة "نهار" به، يخرج بصورة تظهره شخصًا جاهلًا بليدًا، يحركه ويوجهه "نهار" حيث يريد، لا يفهم ولا يعقل، ولا يعرف كيف يتصرف، ولا يتخذ رأيًا حتى يشير عليه "نهار" به "فكان نهار الرجال بن عنفوة لا يقول شيئًا إلا تابعه عليه"6. وهي صورة تخالف ما نقرؤه عنه في الموارد الأخرى. ولو كان "مسيلمة" على نحو ما صوره الطبري، لما التفت حوله "بنو حنيفة" ولما استماتوا في الدفاع عنه. ولما ضحى "الرحال بن عنفوة" و"محكم بن الطفيل" وغيرهما بأنفسهم

_ 1 ثمار القلوب "315"، المعارف "405". 2 المعارف "405" "كم آية لأبيهم" الحيوان 4/ 378". 3 رسائل الجاحظ "1/ 180" الطبري "3 / 294 وما بعدها" 4 كتاب نسب قريش "20". 5 الروض الأنف "2/ 198، 341"، "كيسة بنت الحارث بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس"، المحبر "440" امتاع الأسماع "247" كتاب نسب قريش "147". 6 الطبري "3/ 283".

في الدفاع عنه. حتى إن منهم من بقي مؤمنًا به حتى بعد مقتله، وتغلب المسلمين على اليمامة. وقد كتب الجاحظ قصة مسيلمة وقصة "ابن النواحة" ولعله قصد به "عبد الله بن النواحة" مؤذنه، في كتابه المفقود حتى اليوم "فصل ما بين النبي والمتنبي" حيث ذكر جميع المتنبين1. وذكر "البلاذري" أن "مسيلمة"، كان قد أرسل كتابه الذي كان وجهه إلى الرسول والذي فيه "من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله، أما بعد: فإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا لا ينصفون، والسلام عليك. وكتب "عمرو بن الجارود الحنفي"، مع "عبادة بن الحارث" أحد بني عامر بن حنيفة، وهو "ابن النواحة" الذي قتله عبد الله بن مسعود بالكوفة2. وكان "مسيلمة" قد أمر "عمرو بن الجارود الحنفي" بتدوين كتابه الذي وجهه إلى الرسول، فأمر الرسول كاتبه "أبي بن كعب" بالرد عليه. ومعنى هذا أن مسيلمة كان قد اتخذ له كتبه يكتبون له رسائله، على نحو ما كان لرسول الله. وأنا لا أستبعد احتمال علم "مسيلمة" بالكتابة والقراءة. وإن لم ينص أهل الأخبار على ذلك. كما لا أستبعد احتمال التقائه باليهود وبالنصارى وأخذه منهم، فقد كان في اليمامة قوم من أهل الكتاب، ودعوته إلى عبادة إله هو "الرحمن"، تدل على تأثره بأتباع هذه الديانة وبأهل الكتاب. هذا ولم أجد في الأخبار المتعلقة بمسيلمة خبرًا يفيد صراحة أن مسيلمة كان قد اعتنق الإسلام ودخل فيه. فالأخبار التي تتحدث عن مجيئه إلى يثرب لا تشير إلى ذلك، والأخبار الأخرى التي تتحدث عنه وهو في اليمامة لا تشير على قبوله الإسلام كذلك، بل نجد فيها كلها أنه ظل يرى نفسه نبيًّا مرسلًا من "الرحمن" وصاحب رسالة، لذلك فليس من الصواب أن نقول: "ردة مسيلمة"، أو "ارتداد مسيلمة"، أو نحو ذلك؛ لأنه لم يعتنق الإسلام ثم ارتد عنه، حتى ننعته بالمرتد.

_ 1 الحيوان "4/ 378". 2 البلاذري، فتوح "97".

وكان "مجاعة بن مرارة" الذي نزل عليه مسيلمة" من رؤساء "بني حنيفة" وممن وفد على الرسول، فأعطاه النبي أرضًا باليمامة يقال لها "الغورة" وكتب له بذلك كتابًا. وذكر بعض أهل الأخبار أنه كان بليغًا حكيمًا وقد أسر "يوم اليمامة" فتوسط له بعض وجوه "بني حنيفة" لدى خالد أن يبقيه، فأرسله إلى "أبي بكر" فصفح عنه. وقد كان قد انجرف مع من انجرف فمال إلى "مسيلمة" وأيده، وحارب معه. وله شعر أشار فيه إلى مسيلمة1، ونعته فيه بـ"الكذاب". ولما وفد على "أبي بكر" أقطعه "الخضرمة"، ثم قدم على عمر، فأقطعه الرياء، ثم قدم على عثمان، فأقطعه قطيعة أخرى2. وأما "الرحال بن عنفوة" "رحال بن عنفوة" فهو "نهار الرجال بن عنفوة" الرجال بن عنفوة" في تأريخ الطبري3. وهو من وجوه "بني حنيفة" واسمه "نهار"، وكان في الوفد الذي جاء إلى الرسول، وقد اختلف إلى "أبي بن كعب" ليتعلم منه القرآن. وكان رئيس وفد "حنيفة" "سلمى بن حنظلة"4 وقد تعلم سورة البقرة وسورًا من القرآن5. وذكر أنه كان على غاية من الخشوع واللزوم لقراءة القرآن والخير، ثم انقلب على عقبيه وصار من أشد أعوان مسيلمة المقربين له، فشهد له أن الرسول أشركه معه في الأمر. وكان أحد وفد "بني حنيفة" إلى رسول الله، وفيهم "فرات بن حيان"6. وأما "محكم بن طفيل بن سبيع" الحنفي، فقد كان من أشراف وسادات

_ 1 قال مجاعة: أترى خالدا يقتلنا اليو ... م بذنب الأصيفر الكذاب لم ندع ملة النبي ولا نحـ ... ـن رجعنا فيها على الأعقاب "الأصغر" الإصابة "3/ 342" "رقم 7724" الحيوان "4/ 371" "حاشية" المرزباني، معجم "472" الجاحظ، البيان "3/ 263" "مجاعة بن مرارة بن سلمى بن زيد بن عبد بن ثعلبة بن يربوع بن الدول بن حنيفة"، كتاب الطبقات، لخليفة بن خياط "66، 289". 2 البلاذري، فتوح "103". 3 طبعة "دار المعارف" بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. 4 ابن سعد، طبقات "1/ 316"، "وفد حنيفة" الروض الأنف "2/ 340". 5 البلاذري، فتوح "97". 6 الإصابة "10/ 521"، "رقم 2761".

"بني حنيفة". وهو أشرف من مسيلمة في حنيفة1. وكان من المقدمين عند مسيلمة. وقد عهد "مسيلمة" إليه قيادة إحدى المجنبتين في قتاله مع "خالد بن الوليد". وقد عرف بـ"محكم اليمامة" وقد قتل وهو يحارب المسلمين2. "قتله خالد بن الوليد يوم مسيلمة"3. وأما فرات بن حيان بن ثعلبة بن عبد العزى بن حبيب" العجلي، فكان عينًا لأبي سفيان في حروبه، وكان ممن هجا الرسول، ثم أسلم ومدحه، وأقطعه الرسول أرضًا باليمامة، ثم سكن الكوفة وأقام بها. وكان في حرب الخندق عينًا للمشركين4. وأما أثال بن النعمان الحنفي، فكان مع "فرات بن حيان" حين قدم المدينة وقد كلم الرسول. وذكر في رواية أنه كان مع ثمامة بن أثال في قتال مسيلمة في الردة5. وكان "ثمامة بن أثال بن النعمان بن سلمة الحنفي"، من قدماء من أسلم من أهل اليمامة. فقد أرسل رسول الله خيلًا قبل نجد، فجاءت به، فربطوه بسارية من سواري المسجد بيثرب، فكلمه الرسول، ثم أمر فأطرق من رباطه، فدخل في الإسلام، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت! قال: لا والله ولكن أسلمت مع محمد رسول الله ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها النبي. ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئًا. فكتبوا إلى النبي: إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل إليهم6. وكانت ميرة قريش من اليمامة ومنافعهم منها، وكانت ريف مكة. ولما ارتد أهل اليمامة، وصاروا مع مسيلمة، ثبت أثال على الإسلام فكان مقيمًا باليمامة ينهاهم عن اتباع مسيلمة وتصديقه، فلما عصوه وأصفقوا على اتباع مسيلمة، عزم على مفارقتهم، ففارقهم ولحق بالعلاء بن الحضرمي في مقاتلة.

_ 1 الروض الأنف "2/ 341". 2 الطبري "3/ 290"، الاشتقاق "210" تاج العروس "8/ 254"، "حكم". 3 اللسان "12/ 142" "حكم" تاج العروس "8/ 254"، "حكم". 4 الإصابة "3/ 195" "رقم 6966". 5 الإصابة "1/ 33"، "رقم 35". 6 إرشاد الساري "6/ 432 وما بعدها".

المرتدين من أهل البحرين، فلما ظفروا اشترى ثمامة حلة كانت لكبيرهم: "الحطم" فرآها عليه ناس من "بني قيس بن ثعلبة" فظنوا أنه هو الذي قتله وسلبه فقتلوه. وقد رووا له شعرًا في الرسول وفي الردة1. وكان له عم اسمه" عامر بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي" وقد كان مسلمًا2. وجاء في رواية أن رسول الله لما بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي في رجب سنة تسع، فأسلم المنذر ورجع العلاء، فمر باليمامة، قال له ثمامة بن أثال: أنت رسول محمد؟ قال: نعم. قال: لا تصل إليه أبدًا، فقال له عمه: عامر بن سلمة بن عبيد بن ثعلبة الحنفي: ما لك وللرجل، فأسلم عامر، ووقع ثمامة بعد ذلك في الأسر3. وكان "معمر بن كلاب الرماني"، جارًا لثمامة بن أثال، وهو ممن وعظ مسيلمة وبني حنيفة ونهاهم عن الردة، فلما عصوه تحول إلى المدينة فمنعه ثمامة حتى رده وشهد قتال اليمامة مع خالد4. و"الحطم" المذكور، هو "الحطم بن هند" البكري، أحد "بني قيس بن ثعلبة"، قدم المدينة في رواية في عير له يحمل طعامًا فباعه، ثم دخل على النبي، فبايعه وأسلم، فلما قدم اليمامة، ارتد عن الاسلام، وخرج في عبر له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة، وكان عظيم التجارة، وأراد المسلمون أن يتلقوه ويأخذوا ما معه، فمنعهم الرسول من ذلك لحرمة الشهر. وذكر أنه بعد أن قابل الرسول، وسمع منه مبادئ الإسلام. قال الحطم: في أمرك هذا غلظة، أرجع إلى قومي، فأذكر لهم ما ذكرت، فإن قبلوه أقبلت معهم، وإن أدبروا أدبرت معهم. قال له: ارجع. فلما رجع مر بسرح من سرح المدينة، فساقه فانطلق به5. وذكر أن "الحطم" قتل في الجيار، من نواحي البحرين لما ارتدت بكر بن وائل6.

_ 1 الإصابة "1/ 204"، "رقم 961"، الاستيعاب "1/ 205 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة" تاج العروس "7/ 203"، "أثل". 2 الإصابة "2/ 241"، "رقم 4390". 3 الإصابة "2/ 241" "رقم 4390". 4 الإصابة "3/ 475"، "8452". 5 تفسير الطبري" 6/ 38". 6 تاج العروس "3/ 116"، "جير".

هذا هو كل ما ورد إلى علمنا عن الأنبياء العرب في الجاهلية. وقد حصلنا عليه من المؤلفات الإسلامية. أما نصوص جاهلية، فيها شيء عن النبوة والأنبياء، فلم يصل إلينا منها أي شيء. يقول "أبو العلاء المعري" عن ادعاء بعض الناس بالأمامة والنبوة في الإسلام: "ولم تكن العرب في الجاهلية تقدم على هذه العظائم، والأمور غير النظائم، بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء، وما سلف من كتب القدماء. إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبي، وينظرون إلى من زعم ذلك بعين الغبي"1. فهو ينكر وجود نبوة وأنبياء عند الجاهليين للسبب المذكور. وهو يقصد ولا شك بها، النبوة على وفق المعنى المفهوم منها في الإسلام. أي أن تكون بوحي ينزل على النبي من الإسلام، وبكلام منزل يتلوه على الناس، يكون كلام الله لا كلام النبي.

_ 1 رسالة الغفران "440"، "بنت الشاطئ".

الفصل الرابع والستون: الله ومصير الإنسان

الفصل الرابع والستون: الله ومصير الإنسان مدخل ... الفصل الرابع والستون: الله ومصير الإنسان لا نعرف رأي الجاهليين في الخلق، وفي كيفية نشوء هذا الكون؛ إذ لم تصل إلينا نصوص جاهلية في هذا المعنى. ولا بد أن يكون لهم كما كان لغيرهم رأي في الخلق وفي نشوء الكون. فموضوع نشوء الكون وظهوره، من الموضوعات التي تثير رأي كل إنسان مهما كانت ثقافته وكان تفكيره. وفي القرآن الكريم كلمات مثل "البارئ" و"المصور" و"الخلاق" و"خلقنا" و"خلقت" و"خلقناكم" و"خالق" وغيرها مما له علاقة بخلق الكون والإنسان وبقية المخلوقات، وفيه كيفية خلق الله للكون ومن فيه وكيفية خلق الإنسان ومن أي شيء خلق. ولكن هل كان يعرف جميع الجاهليين هذا المعنى المنزل في كلام الله، وهل نزلت هذه الآيات لإرشاد الناس إلى ذلك، أو أنها نزلت لتذكير القوم ولفت نظرهم إلى شيء يعلمونه ولكنهم كانوا ينسبونه لغير الله أو يتجاهلونه، إن كان ذلك على سبيل التذكير، فمعنى هذا أن لأهل الجاهلية رأيًا في كيفية الخلق، وإن كان ذلك على سبيل التعليم والإرشاد، فإنه يدل على أن من خوطب بتلك الآيات لم يكن له فقه وعلم بما خوطب به. وفي القرآن الكريم آيات فيها خطاب للمشركين في بيان فساد رأيهم واعتقاداتهم، وفيها رد عليهم، منها نستطيع أن نحيط بعض الإحاطة بآرائهم في الوجود وفي البعث والحشر والحساب وغير ذلك من أمور تتعلق بدياناتهم. وهذه الآيات هي

الشواهد الوحيدة التي نملكها من آراء في ذلك العهد أما ما جاء في روايات الأخباريين وفي كتب التفسير والحديث والملل والنحل، ففيه بعض الشيء عن آراء الجاهليين القريبين من الإسلام، ولا سيما عرب مكة ويثرب عن تلك الأمور. ويفهم من القرآن الكريم أن من الجاهليين من كان يعتقد أن للعالم خالقًا خلق الكون وسواه، وأن منهم من كان يعتقد بوجود إله واحد فهم موحدون، وأن منهم من أقر بوجود إله واحد غير أنه تعذر الوصول إليه بغير وسطاء وشفعاء فاعتقد بالأرواح وبالجن وعبد الأصنام لتكون واسطة تقربه إلى الله1. أما كيف خلق الله الأرض والسماوات وكيف نشأ الكون، فذلك ما لم يتعرض له القرآن الكريم حكاية على لسان الجاهليين. ولذلك لا نعرف رأي أولئك القوم الذين عاصروا الرسول وعاشوا قبيل الإسلام في كيفية ظهور الوجود وخلق الكون. ويفهم من بعض الأخباريين أن من الجاهليين من كان يرى أن خالقًا خلق الأفلاك، غير أنها تحركت أعظم حركة فدارت عليه وأحرقته؛ لأنه لم يقدر على ضبطها وإمساك حركتها، وأن منهم من كان يقول: "إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل. فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل، تكونت الأشياء مركباتها وبسائطها من ذاتها لا من شيء آخر. وقالوا إن العالم لم يزل ولا يزال ولا يتغير ولا يضمحل مع فعله. وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التي فيه"2. وهذا كلام إن صح أنه من كلام الجاهليين ومن مقالاتهم، فإنه يدل على تعمق القوم في المقالات، وعلى أن لهم رأيًا وفلسفة في الدين، وأنهم لم يكونوا على الصورة التي يتخيلها معظمنا عنهم، وهي الصورة التي رسمها لهم أهل الأخبار في أثناء كلامهم العام عن الجاهليين.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 194 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "2/ 220 وما بعدها".

الله الخالق

الله الخالق: ويظهر من القرآن الكريم، أن قريشًا كانوا يؤمنون بإله واحد خلق الكون، وهو رب السماوات والأرض. ففي سورة العنكبوت: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1. وفي هذه السورة نفسها سؤال آخر موجه إلى المشركين {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 2. وفي سورة لقمان سؤال آخر موجه إلى أولئك المشركين، وجواب صادر منهم، هو هذا الجواب نفسه: إقرار بوجود خالق واحد خلق السماوات والأرض: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 3. وفي سورة الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 4. وفي سورة الزمر: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} 5، وفي سورة الزخرف أيضًا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 6، وفي سورة العنكبوت {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 7. وهناك آيات أخرى على هذا النحو، فيها أسئلة موجهة إلى المشركين عن خلق السماوات والأرض، وأجوبة على ألسنتهم فيها اعتراف بأن خالقها وصانعها هو الله. وفي القرآن الكريم أيضًا أن قريشًا كانت تعتقد أن الله هو الذي ينزل المطر ويحيي الأرض بعد موتها8، وفيه أنهم كانوا يقسمون به9، وأنهم كانوا قد جعلوا له نصيبًا مما ذرأ من الحرث والأنعام10، وأنهم كانوا يقولون إن الله هو الذي شاء فجعلهم وآباءهم مشركين، وأنه لو لم يشأ لما أشركوا بعبادته أحدًا11، وأنهم كانوا يتضرعون إليه ويستغيثون به في الكوارث والملمات، وأنهم جعلوا له

_ 1 سورة العنكبوت، الرقم 29، الآية 61. 2 العنكبوت، الآية 63. 3 سورة لقمان، الرقم 31، الآية 25. 4 الزخرف، الرقم 43، الآية 9. 5 الزمر، الرقم 39، الآية 38. 6 الزخرف، الرقم 43، الآية 87. 7 العنكبوت، الرقم 29، الآية 63. 8 العنكبوت، الآية 63. 9 الأنعام، الآية 109، النحل، الآية 38. 10 الأنعام، الآية 136. 11 الأنعام، الآية 148.

بناتًا وبنين وشركاء الجن1. فقريش إذن وفق هذه الآيات قوم، كانوا يؤمنون بإله عزيز عليهم، ومن آيات ذلك أنهم جعلوا له نصيبًا في أموالهم، مع أن المال من أعز الأشياء على الإنسان، لا سيما بالنسبة لتلك الأيام. وفي تلبية الجاهليين المنصوص عليها في كتب أهل الأخبار اعتراف صريح واضح بوجود إله. كانوا يلبون بقولهم: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريك هو لك. تملكه وما ملك، يعنون بالشريك الصنم، يريدون أن الصنم وما يملكه ويختص به من الآلات التي تكون عنده وحوله والنذور التي كانوا يتقربون بها إليه كلها ملك لله عز وجل"2 فذلك معنى قولهم: تملكه وما ملك. فهم يعترفون ويقرون بوجود الله، لكنهم يتقربون إليه بالأصنام. وهذا هو الشرك. وفي دعاء العرب اعتراف بوجود "الله"، فقولهم: "رماه الله بما يقبض عصبه"، و"قمقم الله عصبه"، و"لا ترك الله له هاربًا ولا قاربًا"، و"شتت الله شعبه"، و"مسح الله فاه"، و"رماه الله بالذبحة"، و"رماه الله بالطسأة"، و"سقاه الله الذيغان"، و"جعل الله رزقه فوت فمه"، و"رماه في نيطه"، و"قطع الله به السبب"، و"قطع الله لهجته"، و"مد الله أثره"، و"جعل الله عليها راكبًا قليل الحداجة"، و"لا أهدى الله له عافية"، و"أثل الله ثلله"، و"حته الله حت البرمة"، و"رماه الله بالطلاطلة"، و"رماه الله بالقصمل"، و"ألزق الله به الحوبة"، و"لحاه الله كما يُلحى العود"، و"اقتثمه الله إليه"، و"ابتاضه الله"، إلى آخر ذلك من دعاء يدل على وجود إيمان بخالق هو الله3. وفي الشعر المنسوب إلى الجاهليين اعتقاد بوجود الله، واتقاء منه، وتقرب إليه باحترام الجوار وقرى الضيف. هذا عمرو بن شأس يقول في شعره:

_ 1 الأنعام، الآية 100. 2 اللسان "10/ 450"، "شرك". 3 راجع بقيته في ذيل الأمالي والنوادر "ص57 وما بعدها"، "عود إلى بحث دعاء العرب".

وَلَولا اِتقاءُ اللَهِ وَالعَهدُ قَد رَأى ... مَنِيَّتَهُ مِنّي أَبوكِ اللَيالِيا1 فلولا اتقاء شأس الله، لفتك بخصمه، وجعله من الهالكين. وفي بعضه اعتراف بأن هذه الأرض الواسعة هي "بلاد الله"، أينما حللت فيها فهي أرضه وبلاده2. وهذه نظرة مهمة جدًّا عن رأي الجاهليين في الله وفي الأرض، إن صح أن هذا الشعر الوارد فيه حقًّا من شعر أهل الجاهلية. و"الله" كما جاء في شعر زهير بن أبي سُلمى، عالم بكل شيء، عارف بالخفايا وبالأسرار، وبما ظهر من الأعمال وما بطن1. فَلا تَكتُمُنَّ اللَهَ ما في نُفوسِكُم ... لِيَخفى وَمَهما يُكتَمِ اللَهُ يَعلَم3 وهو عدو للأشقياء شديد عليهم، لا يرحم ظالمًا، وأمره بُلْغٌ به تشقى به الأشقياء4 وهو يثيب على الإحسان، ويجزي المحسن على جميل إحسانه5. وهو الذي يعصم من السيئات والعثرات6. وهو مقر بوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له7.

_ 1 الأغاني "10/ 62"، نسب عمرو بن شأس وأخباره في هذا الشعر وغيره. بدا لي أن الله حق فزادني ... إلى الحق تقوى الله ما قد بدا ليا شرح ديوان زهير "287". 2 فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا ديوان عروة "51". 3 شرح ديوان زهير "18". 4 فهداهم بالأسودين وأمر ... الله بلغ يشقى به الأشقياء اللسان "10/ 302"، "بلغ". فهداهم بالأسودين وأمر ... الله بلغ تشقى به الاشقياء تاج العروس "6/ 4"، "بلغ". 5 رأى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... فأبلاهما خير البلاد الذي يبلو شرح ديوان زهير "109". 6 ومن ضريبته التقوى ويعصمه ... من سيئ العثرات الله والمرحم شرح ديوان زهير "ص162". 7 فلا تكتمن الله ما في صدوركم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيودع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم شرح ديوان زهير، لثعلب "ص12" بلوغ الأرب "2/ 277 وما بعدها" شعراء النصرانية "القسم الرابع ص518"، جمهرة أشعار العرب "71".

والله "كريم" لا يكدر نعمة، إذا دُعي أجاب. وهذا هو رأي الأعشى في الرب، إذ يقول: رَبّي كَريمٌ لا يُكَدِّرُ نِعمَةً ... وَإِذا يُناشَدُ بِالمَهارِقِ أَنشَدا1 وقد ورد اسم الجلالة في أشعار كثير من الشعراء الجاهليين: ورد في شعر امرئ القيس وغيره، فامرؤ القيس يقول: "من الله" و"لله"2، و"تالله"3، و"قبح الله"4، و"والله"5، و"يمين الله" و"يمين الإله"6، و"الإله" هي "الله"، و"الحمد لله"7. ونرى العرب عامة تستعمل في كلامها: "لله دره"8، و"لا يبعد الله"9، و"لحى الله"10،

_ 1 ديوان الأعشى، قصيدة 34 "ص151"، "تحقيق كاير". 2 فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثمًا من الله ولا واغل لله زبدان أمسى قرقرا جلدا ... وكان من جندك أصم منضودا شرح ديوان امرئ القيس للسندوبي "ص63، 152"، وسيكون رمزه: سندوبي. 3 تالله قد علمت قيس إذا قذفت ... ريح الشتاء بيوت الحي بالعنن شرح ديوان زهير "121". يا لهف هند إذ خطئن كاهلا ... تا لله لا يذهب شيخي باطلا سندوبي "154". 4 ألا قبح الله البراجم كلها ... وجدع يربوعا وعفر دارها سندوبي "180". 5 فقد أصبحوا والله أصفاهم به ... أبر بميثاق وأوفى بجيران والله لا يذهب شيخي باطلا ... حتى أبير مالكًا وكاهنا سندوبي "15، 189"، شرح ديوان زهير "24". 6 كلا يمين الإله يجمعنا ... شيء وأخوالنا بنو جشما سندوبي "181". 7 أري إبلي والحمد لله أصبحت ... ثقالًا إذا ما استقبلتها صعودها سندوبي "64". 8 كم شامت بي إن هلكـ ... ـت وقائل: لله دره! ديوان لبيد "ص2"، "تحقيق كارل بروكلمن". 9 وقولي ألا لا يعبد الله أربدا ... وهدى به صدع الفؤاد المفجعا ديوان لبيد "ص6". 10 لحى الله صعلوكًا إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفا كل مجزر ولله صعلوك صفيحة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور ديوان عروة بن الورد "26، 53".

و"جزى الله"1، و"عمر الله"2، وأمثال ذلك مما يرد في أشعار الشعراء الجاهليين، يخرجنا تدوينه وحصره في هذا المكان عن حدود الموضوع. وقد جاءت لفظة الجلالة في أيمان أخرى، في مثل: "لعمر الله"، و"ها لعمر الله" كالذي ورد في شعر زهير: تَعَلَّمَن ها لَعَمرُ اللَهِ ذا قَسَمًا ... فَاِقدِر بِذَرعِكَ وَاِنظُر أَينَ تَنسَلِكُ3 وورد "ها الله" و"والله" و"الله" و"نعم الله" و"أي والله لأفعلن"، و"ايم الله" و"ايمن الله" و"يعلم الله" و"علم الله" وأمثال ذلك4. ومن أيمانهم الدالة على الاعتقاد بوجود خالق، قولهم: "لا وبارئ الخلق"، و"لا والذي يراني من حيث ما نظر" و"لا والذي نادى الحجيج له"، و"لا والذي يراني ولا أراه"، و"لا والذي كل الشعوب تدينه"، و"حرام الله لا آتيك"، و"يمين الله لا آتيك"، و"لا والذي جلد الإبل جلودها"، و"والذي وجهي زمم بيته"، و"لا والذي هو أقرب إليَّ من حبل الوريد"، و"لا ومقطع القطر"، و"لا وفالق الإصباح"، و" لا ومهب الرياح" و"لا ومنشر الأرواح"5، على غير ذلك من أيمان حلفوا بها، تدل على إيمان وعقيدة بوجود خالق، فحلفوا به. ونجد في معلقة امرئ القيس قسمًا بالله حكي على لسان صاحبة صاحب المعلقة: فَقالَت يَمينَ اللَهِ ما لَكَ حيلَةٌ ... وَما إِن أَرى عَنكَ الغِوايَةَ تَنجَلي6 وترى في بيت لامرئ القيس وهو يذكر إقدامه على الشرب: فَاليَومَ أُسقى غَيرَ مُستَحقِبٍ ... إِثمًا مِنَ اللَهِ وَلا واغِلِ7

_ 1 جزى الله خيرًا كما ذكر اسمه ... أبا مالك إن ذلك الحي اصعدوا ديوان عروة "ص50". 2 قعيدك عمر الله، هل تعلمينني ... كريمًا إذا اسوَدَّ الأنامل أزهرا ديوان عروة بن الورد "22"، Reste, s. 224 3 السنن الكبرى "10/ 26 وما بعدها"، المخصص "13/ 113". 4 المخصص "13/ 114 وما بعدها" 5 ذيل الأمالي "ص50 وما بعدها". 6 المعلقات العشر وأخبار شعرائها "62". 7 شعراء النصرانية "19".

فالرجل مؤمن بالله، وقد وفى بما عاهد الله عليه، وهو لا يخشى بعد ذلك إثمًا إذا شرب؛ لأنه وفى بنذره. ونراه يذكر الله أيضًا في هذا البيت: لله زبدان أمسى قرقرًا جلدًا ... وكان من جندل أصم منضودا1 ثم نراه يشكر الله بجملة: "والحمد لله" في هذا البيت: أرى إبلي والحمد لله أصبحت ... ثقالًا إذا ما استقبلتها صعودها ونراه يحث الناس على التمسك بحبل الله، فبالله يكون النجاح، ويحث الناس على عمل البر، والبر خير حقيبة الرجل: وَاللَه أَنجَحُ ما طَلَبتُ بِهِ ... وَالبِرُّ خَيرُ حَقيبَةِ الرَحلِ ونفهم من هذه الأبيات ومن أبيات أخرى، أن امرأ القيس رجل مؤمن يعتقد بالله الواحد، مؤمن بالله الواحد، مؤمن بالثواب وبالعقاب، وأنه كان يخاف الله ويخشى الإثم والفسوق، ولا أدرى أينطبق هذا الذي نقوله على امرئ القيس الذي يتحدث عنه أهل الأخبار ويصفونه بأنه رجل عابس ميال إلى اللهو والشهوات رمى صنمه بسهم وأنبه لما جاء الجواب بخلاف ما كان يرغب فيه ويشتهيه. ثم لا أدرى إذا كان أسلوب هذا الشعر من أسلوب الشعر الجاهلي وطرازه؟ وإذا كان هذا الشعر صحيحًا، فلم أدخل رواته شاعره في الجاهليين الوثنيين ولم يدخلوه في عداد المؤمنين بالله من الأحناف؟ وإذا اعتقدنا بصحة الأبيات المنسوبة إلى عبيد بن الأبرص: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيب والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب وقلنا مع القائلين إنها من شعر ذلك الشاعر حقًّا، وجب عده إذن في جملة

_ 1 شعراء النصرانية "40".

الموحدين المؤمنين المسلمين، وإن عاش قبل الإسلام. فرجل يقول هذا القول، لا يمكن إلا أن يكون مسلمًا مؤمنًا بالله الواحد الأحد علام الغيوب والعارف بما في القلوب، ومن الممهدين للتوحيد بين العرب قبل الإسلام. وقد أهمل بعض رواة هذه المعلقة البيت الآتي: والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب وكأنهم فطنوا إلى أن من غير المعقول نسبته إلى رجل وثني، مهما كان رأيه في الأوثان والتوحيد، لا يمكن أن يستعمل هذه الألفاظ التي لم يستعملها العرب بهذا الشكل إلا في الإسلام. وإلى عبيد نفسه ينسب الأخباريون قول هذا البيت: حلفت بالله إن الله ذو نعم ... لمن يشاء ذو عفو وتصفاح ورجل يقول هذه الأبيات وأبياتًا أخرى من لونها، لا يمكن إلا أن يكون موحدًا مؤمنًا، من فصيلة المؤمنين بالله من الأحناف. وقد أراح "شيخو" نفسه وأراح الناس حين ذهب إلى أن عبيدًا وأمثاله من الشعراء الجاهليين كانوا نصارى وأن هذا التوحيد هو توحيد نصراني محض، وقف عليه عبيد في زيارته للحيرة مهد النصرانية في ذلك العهد، فاعتنقه، فهو على رأيه إذن شاعر نصراني، وشعره شعر نصراني لا يرد ولا يرفض. ونجد "طفيل بن عوف" الغنوي يقسم بـ"الإله" في شعره. غير أن هناك رواية تضع "رضى" موضع "الإله" فيكون القسم به، ورضى اسم صنم كان لطيء1. وقد ذكر "الله"في مواضع أخرى من شعره، وقال إنه هو الذي يصلح الأمور، ويسد العجز والثُغر التي ليس في وسع الإنسان سدها2.

_ 1 "فقال بصير يستبين رعالها ... هم والإله من تخافين، فاذهبي ويُروى، ولعلها رواية أبي عبيدة: وقال بصير قد أبان رعالها ... فهي ورضى من تخافين، فاذهبي ورضى اسم صنم كان لطيء، ديوان طفيل بن عوف الغنوي "تحقيق ف. كرنكو" "لندن 1927"، "ص12". 2 لعمري لقد خلى ابن جيدع ثلمة ... فمن أين إن لم يرأب الله ترأب ديوانه "ص19".

وإنه يجزي الناس على أعمالهم1 وفي معلقة "الحارث بن حلزة" اليشكري: "أمر الله بلغ تشقى به الأشقياء"2، وأن الله عالم بالأمور3. ونجد "المتلمس"، يُقسم بالله في شعره، ويذكر الله في مثل جملة "أبي الله"4 للتعبير عن مشيئة الله وإرادته، وجملة "لله دري" في التعجب5 وجملة "تقوى الله"6، و"عاداك الله"7 وغيرها مما يدل على أنه كان يعتقد أن الله يعادي الأعداء ويحب المحبين. ولكننا نجده في مواضع أخرى يقسم باللات وبالأنصاب، والمقصود بالأنصاب الأوثان مما يشعر أنه كان يؤمن بها، فكيف نوفق بين اعتقاده بالله واعتقاده باللات.

_ 1 جزى الله عوفًا من موالي جنابة ... ونكراء خيرًا كل جاد مودع ديوانه "ص50". جزى الله عنا جعفرًا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت ديوانه "ص57". 2 فهداهم بالأسودين، وأمر الله ... بلغ تشقى به الأشقياء شرح القصائد العشر "468"، "البيت رقم 62" من المعلقة. 3 وفعلنا بهم كما علم الله ... وما أن للخائنين دماء البيت "رقم 75" من المعلقة، "ص475" من شرح القصائد العشر للتبريزي "محمد محيي الدين عبد الحميد". 4 يا آل بكر ألا لله احكموا ... طال الله الثواء وثوب العجز ملبوس ديوان المتلمس "ص169" "طبعة فولرس"، جمهرة أشعار العرب "ص44، 206"، شعراء النصرانية" 332". وقال: وهل لي أم غيرها إن تركتها ... أبى الله ألا أن أكون لها ابنا شعراء النصرانية "338". وقال: أطردتني حذر الهجاء ولا ... والله والأنصاب لا نثل وذلك في رواية. وفي الروايات الشائعة "واللات" بدلًا من والله، ديوان المتلمس "171". 5 تفرق أهلي من مقيم وظاعن ... فلله دري أي أهلي أتبع ديوان المتلمس "ص187". 6 وأعلم علم حق غير ظن ... وتقوى الله من خير العقاد ديوان المتلمس "ص195"، شعراء النصرانية "343". 7 لا خاب من نفعك من رجالها ... بلا وعادى الله من عاداكا ديوان المتلمس "ص206"، شعراء النصرانية "348".

والأنصاب؟ وهل نعد هذا الشعر صادرًا من شاعر واحد؟ نعم، يجوز أن يكون قاله هو. قاله لأنه كان يعتقد بوجود إله، فهو يؤمن به ويقر بوجوده، غير أن قسمه باللات والأنصاب، هو من باب عقيدة الجاهليين المؤمنين بوجود إله، ولكنهم كانوا يتقربون إليه بالأصنام والأوثان والأنصاب. ويتوقف هذا التفسير بالطبع على إثبات أن هذا الشعر له حقًّا، وليس مفتعلًا، ولا مما أدخل الرواة عليه تغييرًا أو تبديلًا. ونجد في شعر النابغة الجعدي، أبو ليلى عبد الله بن قيس، الشاعر المخضرم المتوفى سنة "65" للهجرة، قصيدة مطلعها: والحمدُ للهِ لا شريك له ... من لَم يَقُلها فنفسه ظلما يلي هذا المطلع قصة نوح والسفينة، وهي سفينة مصنوعة من خشب الجوز والقار. وفي هذه القصيدة اعتراف بالتوحيد، وبوجود إله واحد لا شريك له، لا يحمد إلا هو، وهو شعر لا يمكن أن يكون إلا من شعر شاعر مسلم، إن صح أنه من شعره، فيجب أن يكون مما نظمه في الإسلام. وينسب إلى "لبيد" اعتقاده أن الله يبسط الخير والشر على عباده، وأنه منتقم ممن يخالفه، معاقب له، كما عاقب "إرما" و"تبعا"، وقوم "لقمان بن عاد"، و"أبرهة" وذلك في أبيات أولها: مَن يَبسُطِ اللَهُ عَلَيهِ إِصبَعا ... بِالخَيرِ وَالشَرِّ بِأَيٍّ أولِعا وهي رجز، يرى بعض العلماء أنها ليس من رجزه1. ونجد معود الحكماء، وهو معاوية بن مالك بن جعفر، يذكر الله ويحمده، فيقول: "بحمد الله"، ويقول "عامر": أردت لكيما يعلم الله أنني"، ويقول: "خداش بن زهير": "وذكرته بالله بيني وبينه"2.

_ 1 ديوان لبيد "337 وما بعدها". 2 شرح ديوان لبيد، "ص21"، "المقدمة"، "تحقيق الدكتور إحسان عباس"، قيل له معود الحكماء لقوله: أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الحق في الأشياع نابا تاج العروس "2/ 440"، "عود".

وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين الوثنيين كانوا يفتتحون كتبهم بجملة "باسمك اللهم". ساروا في ذلك على هدى "أمية بن أبي الصلت" مبتدعها وموجدها، كما في رواية تنسب إلى ابن الكلبي. وذكر بعض آخر أن قريشًا كانت تستعمل هذه الجملة منذ عهد قبل الإسلام، وأنها بقيت تستعملها إلى ظهور الإسلام. وقد استعملها الرسول، ثم تركها، وذلك بنزول الوحي باستعمال "بسم الله الرحمن الرحيم"1. ونحن لا يهمنا هنا اسم مبتدع هذه الجملة، وإنما الذي يهمنا منها ما فيها من عبارة تدل أيضًا على التوحيد. فإذا صح أن الجاهليين كانوا يستعملون هذه الجملة، فإن استعمالها هذا يدل على اعتقاد القوم بإله واحد، أي بعقيدة التوحيد، ولا يعقل بالطبع استعمال شخص لهذه الجملة في رسائله، يفتتح بها كتبه، لو لم يكن من أصحاب عقيدة التوحيد، وقد جاء في بعض الأخبار أن هذا الاستعمال متأخر، وأنه حدث بعد أن تغيرت عوائد القوم في افتتاح كتبهم، فقد كانت عوائدهم القديمة افتتاح رسائلهم بأسماء آلهتهم كاللات والعزى، فرفعوا تلك الافتتاحيات القديمة واستبدلوا بها هذه الجملة الجديدة، جملة "باسمك اللهم". وعلى كل، فإن جملة "باسمك اللهم" وأمثالها إن صح أنها من ذلك العهد حقًّا فإنها تدل على حدوث تطور في الحياة الدينية عند الجاهليين. وإلا، فكيف يتصور استعمال هذه الجملة الموحدة مع وجود الشرك لو لم يكن قد حدث تطور فكري كبير في هذا العهد حملهم على استعمال هذه الجملة وأمثالها من الجمل والألفاظ الدالة على التوحيد2؟ وقد درس بعض المستشرقين هذا الموضوع، ولا سيما موضوع ورود اسم الجلالة في الشعر الجاهلي، فذهبوا في ذلك مذاهب. منهم من أيد صحة وروده في ذلك الشعر، وآمن أن الشعر الذي ورد فيه هو شعر جاهلي حقًّا، ومنهم من أنكر ذلك، وأظهر أنه شعر منحول مصنوع، صنع على الجاهليين فيما بعد، ومنهم من ذهب إلى أنه شعر صحيح، غير أن رواة الشعر أدخلوا اسم الجلالة فيه، ولم يكن هو فيه في الجاهلية، بأن رفعوا أسماء الأصنام وأحلوا اسم الله محلها.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 375، تاج العروس "9/ 411"، "لاه". 2 "دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم"، الطبري "2/ 634". "صلح الحديبية

وبينما نجد أهل الأخبار ينسبون إلى هؤلاء الشعراء وأمثالهم الاعتقاد بالله، نجدهم ينسبون إليهم، الحلف بالأصنام، والاعتقاد بها. فقد نسبوا إلى "خداش بن زهير" شعرًا آمن به بالله، ثم نسبوا له قوله: وَبِالمَروَةِ البَيضاءِ يَومَ تَبالَةٍ ... وَمَحبَسَةِ النُعمانِ حَيثُ تَنَصَّرا والمروة البيضاء هي ذو الخلصة، ثم هو يقسم بمحبسة النعمان، وهو نصراني1. أفلا يدل هذا على وجود تنافر أو تناقض في عقيدة أمثال هؤلاء الشعراء؟ والذي لا وقوف له على طبائع أهل الجاهلية، يرى هذا الرأي، أو يذهب إلى أن هذا الشعر مصنوع مفتعل. أما الذي يعرف عادة العرب في القسم، فلا يستغرب منه ولا يرى فيه تنافرًا، فقد كان الجاهليون يقسمون بكل شيء، يقسمون بالشجر وبالحجر وبالكواكب، وبالليل وبالنهار، وبالأصنام، وبعمر الإنسان وبحباتهم وبلحى الرجال، وبالأصنام وبالمعابد، وبالله، وبالخبر والملح، لا يرون في ذلك بأسًا ولا تناقضًا مع عقيدتهم. هذا "عدي بن زيد" العبادي، يقسم بمكة، وهو نصراني، لا يرى للكعبة في دينه حرمة ولا مكانة. أقسم بها على قاعدة العرب في القسم، وقد أقسم بأمور أخرى من أمور أهل الجاهلية الوثنيين، ولم يذكر أحد أنه بذل دينه، وصار وثنيًّا. وكذلك الأمر مع غيره من شعراء نصارى ويهود وعبَّاد أصنام، أقسموا برهبان النصارى وبأمور نصرانية، مع أنهم كانوا عبَّاد أوثان. ومن القائلين بالرأي الأخير، "نولدكه" فقد ذهب إلى أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك بأن حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله. فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم "الله"2. وقد ذهب أيضًا إلى أن رواة الشعر في الإسلام حذفوا من شعر الجاهليين ما لم يتفق مع عقيدتهم، وما وردت فيه أسماء الأصنام. ومن جملة ما استدل به على أثر التغيير والتحريف في الشعر الجاهلي ورود كلمة "الرحمن" في شعر شاعر جاهلي من هذيل، زعم أن ورود هذه الكلمة في هذا الشعر دليل.

_ 1 شرح ديوان لبيد "21". 2 Noldeke, Beltrage s, IX, ff,

كاف لإثبات أثر التلاعب فيه؛ لأن هذه اللفظة إسلامية استحدثت في الإسلام، ولا يمكن أن ترد في شعر شاعر جاهلي1. وقد فات "نولدكه" صاحب هذا الرأي أن الكلمة بهذا المعنى كلمة جاهلية، وردت في نصوص المسند وفي نصوص جاهلية أخرى. وأن من جملة من استعملها "أبرهة" الحبشي في نصه الشهير المعروف بنص سد مأرب، وأن قومًا من الجاهليين تعبدوا للرحمن، على نحو ما تحدثت عن هذه العبادة في موضع آخر من هذا الكتاب. وادعاء أن لفظة "الله" لم تكن موجودة في الأصل، وإنما أقحمت فيه من بعد، وذلك بإزالة رواة الشعر لأسماء الأصنام التي ذكرها أولئك الشعراء، وإحلالهم اسم الله في محلها، حتى ظهر ذلك الشعر وكأنه شعر شعراء موحدين يعتقدون بوجود إله واحد2. هو تعليل فيه شيء من التكلف، فليس كل شعر فيه اسم الأصنام بصالح لقبول الجلالة، فقد لا يستقيم من حيث الوزن أو المعنى بإدخال تلك اللفظة في موضع اسم الصنم. ثم إن من الشعر الجاهلي المروي في الإسلام ما بقي محافظًا على اسم الصنم دون أن يمس ذلك الاسم بسوء. ولو كان من عادة الرواة حذف اسم الأصنام عامة لما تركوا لها بقية في الشعر. ثم ما هي الفائدة التي يجنيها الرواة من طمس أسماء الأصنام، وهم يعلمون أن أهل الجاهلية كانوا وثنيين، يدينون بالأصنام، وكانوا يقسمون بها، وقد رووا أمثلة من ذلك القسم! أما "ولهوزن" فيرى أن عدم ورود أسماء الأصنام في الشعر الجاهلي إلا في النادر وإلا في حالة القسم أو في أثناء الإشارة إلى صنم. أو موضع عبادة، ليس بسبب تغيير الرواة الإسلاميين وتبديلهم لأسماء الأصنام. وإنما سببه هو أدب الجاهليين وعادتهم في عدم الإسراف والإسفاف في ذكر أسماء الآلهة الخاصة، وذلك على سبيل التأدب تجاه الأرباب، فاستعاضوا عن الصنم بلفظة "الله" التي لم تكن تعني إلهًا معينًا، وإنما تعني ما تعنيه كلمة رب وإله. ومن هنا كثر استعمالها في القسم وفي التمني أو التشفي وأمثال ذلك من حالات3.

_ 1 Noldeke, Beltrage, S. X. 2 Werner Caskel, Das Schlksal im der Altarabische Poesie, Leipzig, 1926, S. 8, Goldziher, Abhandlungen, II, S. IX-XXVI, Ahiwardt, Bemerkungen uber die Achtheit der Aletn Arabischen Gedischte. 3 Reste. S. 217. ff.

ويرى "ولهوزن" أن لفظة "الله" كانت بهذا المعنى في الأصل. كانت تعني إلهًا على وجه التعميم، دون التخصيص، أي أنها لا تشير إلى إله معين. استعملتها كل القبائل بهذا المعنى، فهي صفة تشير إلى الألوهية المجردة، وإن كان أفراد كل قبيلة يقصدون بها صنمهم الخاص بهم. استعاضوا بها عن ذكر اسم الصنم. وإن استعمالها جملًا مثل: "حاشا لله" و"لله درك" و"لاها الله"، و"تا لله"، و"ايم الله"، و"لحا الله"، و"جزى الله"، و"جعلني الله فداك"، و"لك الله"، و"أرض الله"، وأمثالها، هو من هذا القبيل، الله فيها بمعنى الرب والإله. ولما كانت أداة التعريف تفيد التخصيص، فدخولها في اسم الجلالة أفاد التخصيص والعلمية. وهذا ما حدث؛ إذ فقدت الكلمة معناها العام، واتجهت نحو التخصص حتى صارت بهذا المعنى الذي صارت عليه في الإسلام1. وقد ذهب مستشرقون آخرون إلى صحة ورود لفظة الجلالة في الشعر الجاهلي. كما ذهبوا إلى أن ورودها في القرآن الكريم أو في الحديث، لا يمنع من ورودها في الشعر الجاهلي، ولا يكون سببًا للطعن في ذلك الشعر؛ لأن من الجاهليين من كان يؤمن بوجود إله هو فوق الآلهة عندهم، فورود اسمه في شعرهم، ليس بأمر غريب. وورود اسم الجلالة في أشعار الجاهليين يحملنا على البحث في أصله: هل هو إسلامي محدث: أو هو اسم جاهلي قديم؟ وبحث مثل هذا يجب أن يستند إلى النصوص. غير أننا ويا للأسف لا نملك نصًّا جاهليًّا يمكن أن يفيدنا في هذا الباب، فكل النصوص الجاهلية التي وصلت إلينا خُرس لم تنطق بشيء عن اسم الجلالة، فليس أمامنا إلا اللجوء إلى الطريقة المألوفة في مثل هذه الأحوال، وهي الرجوع إلى آراء علماء اللغة، وإلى المقابلة بين العربية واللهجات السامية الأخرى. أما آراء علماء اللغة، فإنها مثل آرائهم الأخرى في أصول الكلمات الصعبة التي على شاكلتها، كلها حدس وتخمين. ولا يمكن أن يُستنبط منها شيء تأريخين يرجعك إلى أول عهد ظهرت فيه هذه اللفظة، وإلى المراد منها. وأما المستشرقون، فمنهم من يرى أن اللفظة عربية أصيلة، ومنهم من يرى أنها من "ألاها" Alaha

_ 1.Reste, s 218.

ومعناها "الإله" بلغة "بني إرم". أما الذين قالوا بعربيتها، فيرون أنها من "اللات"، اسم الصنم المعروف، تحرف وتولد منه هذا الاسم1. واللفظة "الله" من أصل "إلاه"، أي "رب"، و"بعل"، وهي من الألفاظ السامية القديمة. ويقال "إلهة" "إلاهة" للأنثى. لأن من الجاهليين من تعبد للآلهة الأناث. وتقابل "هـ - إله" "ها إلاه" "هـ إلاه" في النصوص الثمودية، أي "الله"2. كما ترد هذه اللفظة في نصوص عربية أخرى مثل النصوص اللحيانية. ويلاحظ أن لفظة "الله" هي من التسميات التي وردت في النصوص الشمالية، ويدل ورودها في هذه النصوص على تأثر العرب الشماليين بمن اختلطوا بهم من الشعوب التي كانت تقيم في شمال جزيرة العرب، وأخذهم عبادة هذا الإله منهم. ولم تكن هذه اللفظة اسم علم في الأصل، ثم تخصصت على ما يظهر من النصوص المتأخرة، فصارت تدل على إله معين ثم على إله واحد أحد هو إله الكون في الإسلام. ويذكر علماء اللغة أن "لاه" الله الخلق يلوههم خلقهم، واللآهة الحية، منها سمي الصنم اللات بها، وجوز "سيبويه" اشتقاق اسم الجلالة منها. قال الأعشى: كَدعوةٍ مِن أَبي كبارٍ ... يَسمَعُها لاهُهُ الكُبارُ ولاه: علا وارتفع. وسميت الشمس إلاهة لارتفاعها في السماء3. وذكروا أن "أل" اسم الله، وكل اسم آخره أل أو إيل، فمضاف إلى الله، ومنه جبرائيل وميكائيل 4، فهو "إيل" إذن، إله جميع الساميين القديم. وتعداد المواضع التي وردت فيها لفظة الجلالة أو لفظة إله والإله في الشعر الجاهلي، يخرجنا عن صلب الموضوع، ويجعل البحث جافًّا مملًّا. غير أن في استطاعتنا أن نقول إنها وردت في أكثر ذلك الشعر إن لم نقل فيه كله. وإن ورودها فيه يشير إلى اعتقاد أصحاب ذلك الشعر بإله واحد قهار هو إله العالمين. غير أن هذا القول يتوقف بالطبع على إثبات أن ذلك الشعر هو شعر جاهلي حقًّا، وأن من نسب إليهم قالوه من غير شك، وأنه لم يوضع على ألسنة أولئك الجاهليين.

_ 1 Ency. Religi, I, p. 661, Ency, I. p. 302. 2 Rese, S. 209, Mission, II, p. 557, 559, 564, Grohmann, s. 87. ff. 3 تاج العروس "9/ 410"، "لاه"، "9/ 374"، "إله". 4 تاج العروس "7/ 211 وما بعدها". "أل".

الاعتقاد بإله واحد

الاعتقاد بإله واحد: والذي يفهم -وذلك كما سبق أن قلت- من القرآن الكريم ومن الحديث أن قريشًا ومن كان على اتصال بهم، أو غيرهم من قبائل أخرى، لم يكونوا ينكرون عبادة الله، ولم يكونوا يجحدون الله، بل كانوا يقرون بوجوده، ويدينون له، وإنما الذي أنكره الإسلام عليهم وحاربهم من أجله وسفه أحلامهم عليه، هو تقربهم على الأصنام والأوثان، وتقديسهم لها تقديسًا جعلها في حكم الشركاء والشفعاء ومرتبة الألوهية. والإسلام لا يعترف بهذه الأشياء، وهو ينكرها، ومن هنا حاربته قريش ومن كان على هذه العقيدة من حلفائها ومن القبائل التي كانت ترى رأيها. فهنا كان موطن الخلاف، لا عقيدة الإيمان بالله1. وإذا أخذنا بهذا الرأي، رأي اعتقاد الجاهليين أو بعضهم بإله واحد، نكون بذلك قد حللنا عقدة الازدواجية، أي العقيدة الثنائية عند الجاهليين ووجودها في شعرهم، فلا نجد عندئذ غرابة إذا وجدنا شاعرًا يذكر الله في شعره ويحلف به، ثم نجده يذكر الأصنام في الشعر نفسه، ويقسم بها قسمه بالله. ويكاد يكون الإجماع على ما تقدم. قال ابن قيم الجوزية في معرض مقارنته بين آراء المجوس وعبدة الأوثان من العرب: "بل كفر المجوس أغلظ. وعبَّاد الأوثان كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأنه لا خالق إلا الله، وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يكونوا يقرون بصانعين للعالم أحدهما خالق للخير والآخر للشر كما تقول المجوس"2 فالوثنية على هذا الرأي ليست نكرانًا لوجود إله، وإنما هي اعتقاد بوجوده، واعتقاد بفائدة التقرب إليه، بتقربهم إلى الأصنام والأوثان، أي الشفعاء، بما في ذلك المبالغة في تقديس الأشخاص والقبور.

_ 1 Reste, S. 217, Lyall, Ancient Arabian Poetry, p. XXIX 2 زاد المعاد "3/ 224"، "فصل في حكمه في الجزية ومقدارها وممن تقبل".

ولا نجد للعرب إلهًا قوميًّا خاصًّا بهم كالذي نجده عند العبرانيين من تعلقهم بـ"يهوه"، وعدهم إياه إلهًا خاصًّا بإسرائيل. فقد صار هذا الإله إله جميع قبائل إسرائيل ويهوذا. أما العرب فقد كانوا يعبدون جملة آلهة: كل قبيلة لها إله خاص بها وآلهة أخرى، ولم يكن لها إله واحد له اسم واحد يعبده جميع العرب. والظاهر أن القبائل الساكنة في الحجاز ونجد العراق والشأم، صارت قبيل الإسلام تتنكر لأصنامها العديدة، وتأخذ بالتوحيد وبالاعتقاد بإله واحد هو الله، وهو الذي نجده في هذا الشعر الجاهلي الذي هو حاصل تغريد شعراء قبائل عديدة مما يدل على أن قبائل أولئك الشعراء دانوا بالاعتقاد بوجود ذلك الإله فوق الأصنام والأوثان، وقد توجت هذه العقيدة بتاج النصر في الإسلام. غير أن "الله" في الإسلام يختلف عن الله الجاهليين. فالله هو إله العالمين، إله جميع البشر على اختلافهم. ليس له شريك من أصنام وأوثان. أما الله الجاهليين، فهو رب الأرباب، وإله الآلهة، يسمو فوق آلهة القبائل أي آلهة القبيلة الواحدة. ولهذا ذكر في شعر شعراء مختلف القبائل؛ لأنه لا يختص بقبيلة واحدة. ويقال لما يعبد من دون الله: الأنداد. وفي كتاب النبي لأكيدر: وخلع الأنداد والأصنام. والند: مثل الشيء والنظير. وفي التنزيل: واتخذوا من دون الله أندادًا، أي ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله1. والله إله ذكر. وكيف لا يتصور الإنسان إلهه ذكرًا، والذكر هو قوي مقتدر بخلاف الأنثى! وحيث إن الله هو قوي ومصدر القوة والخلق، فلا بد وأن يكون ذكرًا في عقلية تلك الأيام، ولا بد من التعبير عنه بصيغ التذكير. كما يلاحظ أن الجاهليين قد تصوروه واحدًا، فلم يخاطبوه بصيغة الجمع، مما يفهم منه التعدد. ولم يتطرق الشعر الجاهلي إلى موضوع وجود إلهة أي أنثى تكون زوجًا له. ولم يشر القرآن الكريم إلى اعتقاد الجاهليين بوجود زوجة له. فهو في نظرهم إذن إله واحد متفرد لا يشاركه مشارك في حياته. وإذ كان الله واحدًا أحدًا أعزب، فلا يمكن أن يكون له ولد. ولكن القرآن الكريم يشير إلى اعتقاد الجاهليين بوجود

_ 1 اللسان "3/ 420"، "ندد".

بنين وبنات لله. ففي سورة الأنعام: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 1. وقد ذهب المفسرون إلى أن العرب قالت الملائكة بنات الله، وقالت اليهود والنصارى عزير والمسيح ابنا الله، وأن النصارى قالت المسيح ابن الله، وقال المشركون الملائكة بنات الله2. وفي سورة النحل: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 3، وفي سورة الصافات: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} 4، {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 5. وفي سورة الزخرف {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} 6 وفي سورة الطور {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} 7. وأجمعوا على أن قريشًا وأضرابهم كانوا يزعمون أن الله اصطفى الملائكة بناتًا له. ولم يذكروا كيف صاروا له بناتًا. وقد ورد في بعض الروايات أن كفار قريش قالوا: "الملائكة بنات الله. فسأل أبوبكر من أمهاتهن؟ فقالوا: بنات سروات الجن"8. وورد في بعض أقوال علماء التفسير، أن "أعداء الله" زعموا: أن الله وإبليس أخوان9. ولم يذكروا من هم "أعداء الله" أهم من العرب أم من غيرهم!. ويظهر أن الذين آمنوا بوجود إله، تصوروا مكانه فوق الإنسان، أي فوق الأرض، في السماء. لذلك كانوا إذا توجهوا إليه بالدعاء رفعوا أيديهم إلى السماء. والسماء، المكان المرتفع اللائق بأن يكون مقر الرب أو الأرباب. وهو اعتقاد نجده عند غير الجاهليين أيضًا. ومن هذه النظرة ظهر "بعل سمين" "بعل سمن"، أي "رب السماء" و"إله السماء" المذكور في بعض نصوص المسند. وهو إله قبيلة "أمر" "أمر" من القبائل العربية الجنوبية. الإله المرسل للسحاب.

_ 1 الأنعام، الرقم 6، الآية 100. 2 تفسير الطبري "7/ 197 وما بعدها" روح المعاني "7/ 209". 3 النحل، الرقم 16، الآية 57. 4 الصافات، الرقم 37، الآية 149. 5 الصافات، الرقم 37، الآية 151 وما بعدها. 6 الزخرف، الرقم 43، الآية 16. 7 الطور، الرقم 52، الآية 39. 8 تفسير الطبري "23/ 69". 9 تفسير الطبري "23/ 69".

ومنزل الغيث وباعث الحركة والخصب والخير للناس1. وقد تعبد له الصفويون كذلك، وذكر في نصوصهم. وعرف عندهم بـ"هـ - بعل سمن"2. ولهذه النظرة اتخذ زهادهم لهم معابد خلوية على قمم الجبال وعلى الهضاب والمرتفعات وابتنوا الصروح للتعبد فيها ومناجاة الرب، واتخذوا من الكهوف المنقورة في الجبال مآوي يتعبدون فيها ويعتكفون الأيام والشهور والسنين. وكانوا إذا أمسكت السماء قطرها، وأرادوا الاستمطار، أصعدوا البقر في جبل وعر، وقد أضرموا النار في السلع والعشر المعقودين في أذنابها، وهم يتبعون آثارها، يدعون الله ويستسقونه3. ولولا اعتقادهم أن الجبل أقرب إلى الله من الأرض، لما أتعبوا أنفسهم، فصعدوا الجبل المرتفع مع بقرهم، فكان استسقاؤهم من الأرض.

_ 1.Rep, Epligr, 4142, Grohmann, s. 245. 2 F. V. Winnett, Safaitic Inscriptions from Jordan, p. 18, 23 3 ابن فارس، رسالة النيروز "ص18 وما بعدها".

الجبر والاختيار

الجبر والاختيار: هذا وأود أن أبين أن أكثر الذين كانوا يدينون بالتوحيد، ويعتقدون بوجود إله واحد خلاق لهذا الكون، كانوا يؤمنون بما نسميه: "القضاء والقدر" أو "الجبر" بتعبير أصح. فالخير والشر من الله، وكل شيء في هذا الكون محتوم مكتوب. وما يصيب الإنسان، لا بد أن يكون قد كتب عليه، ولا راد لما هو مكتوب، بل نجد هذه النظرة حتى عند من لم يأت اسم الله في شعره، فلا ندري أكان من المؤمنين بالله أم لا. وفكرة أن كل شيء في هذا الكون مقدر محتوم، فكرة قديمة غلبت على عقلية الشرقيين؛ بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية التي كانت سائدة إذ ذاك، أوضاع جعلت الغالبية من الناس تشعر أنها مسخرة، وأنها تدفع في حياتها دفعًا وفي سبيل خدمة النخبة المتحكمة، المسيرة للأمور، أضف إلى ذلك تأثير عامل الجو في الإنسان. وقضية الجبر والاختيار، قضية لا نجدها عند المؤمنين بوجود إله هو "الله"، أو آلهة أخرى من الجاهليين فقط، بل نجدها عند غيرهم أيضًا ممن لم يكن يقر بعبادة "الله"، وينكر وجود خالق، نجدها عند من كان يتعبد للأصنام.

أو للقوى الخفية، أو لا يدري أي شيء عن الآلهة والخلق، أو من الدهرية، القائلين بالدهر. فهؤلاء أيضًا كانوا يعتقدون أن الإنسان، مسير ولا اختيار له في هذه الدنيا، فكل شيء مكتوب عليه. كتب عليه منذ ولد. والسبب، هو ما قلته: وجود عوامل عديدة سيرت الإنسان واستعبدته من أوضاع سياسية واجتماعية وعسكرية واقتصادية ومناخية تحكمت فيه، حتى رسخ في عقل الجاهلي، أن كل شيء في هذه الدنيا مقدر مكتوب، وأن ما كتب على الجبين، لا يمكن تغييره ولا تبديل له، ولا اعتراض على ما هو مكتوب، ولا راد لأمر كتب في السماء.

الموت

الموت: وفي مطلع قائمة الموضوعات التي أثارت البشرية ولا تزال تثيرها قضية الموت الذي هو ضد الحياة والعالم الثاني الذي يصير إليه الإنسان بعد الموت1. إن الموت أمر مخيف راعب يثير مشاعر كل إنسان. فما الذي سيكون مصيره بعد الحياة، وإلى أي مكان سيتجه بعد هذه الحياة، وهل الموت انطفاء لشعلة الحياة وانحلال للجسد إلى الأبد؟ أو هو مرحلة من حياة إلى حياة أخرى يحيا فيها الإنسان حياة جديدة، ويبعث بعثًا جديدًا يبعثه من خلقه؟ ثم ما الذي سيكون عليه في العالم الثاني؟ هل يعيش عيشة راضية مطمئنة، عيشة تفوق معيشته في عالمه الأول؟ أم سيعيش عيشة أخرى؟ إما راضية ناعمة، وإما شقية تعسة بحسب عمل الإنسان وما قدمه لنفسه من عمل في العالم الأول؟ هذه الأسئلة وعشرات من أمثالها شغلت بال الإنسان البدائي والراقي ولا تزال تشغله. كل وجد لها أجوبة، وكل قنع بما أجاب به عنها، ورضي بها. وكانت للجاهليين على اختلافهم آراء في هذه المشكلات لا شك في ذلك. والموت في كلام العرب: السكون. يقال مات بمعنى سكن2. وهذا هو المعنى المفهوم للموت عند الجاهليين. فالمراد من الموت هو سكون الجسد بعد مفارقة الروح له. وقد حار الجاهليون كما حار غيرهم في تفسير ظاهرة الموت،

_ 1 المخصص "2/ 64". 2 تاج العروس "1/ 586"، "موت".

وكيفية وقوع الموت وحدوثه. وقد اعتبره بعضهم حدثًا طبيعيًّا، يحدث للإنسان كما يحدث لأي شيء آخر في هذا الكون من التعرض للهلاك والدمار. واعتبره بعض آخر، مفارقة الروح للجسد. وهم الذين اعتقدوا بالثنائية وبالازدواجية في حياة الإنسان، أي بوجود جسد وروح. واعتبره آخرون موت للنفس، وبوفاة النفس يتوفى الجسد ويصيبه السكون. فالموت عندهم مفارقة الروح للجسد، فإذا مات الإنسان خرجت روحه من أنفه، أو من فمه، فينفض الإنسان نفسه. وإذا مات ميتة طبيعية، يقال عن الميت: مات حتف أنفه، ومات حتف فيه، أي أن روحه خرجت من أنفه أو من فمه، وهو قليل؛ لأن النفس في نظر أهل الجاهلية تخرج بتنفسه، كما يتنفس من أنفه. ويقال أيضًا حتف أنفيه. وكانوا يعتقدون أن المريض تخرج روحه من أنفه، وأما القتيل، والجريح، فتخرج روحه من موضع جرحه1. ويقال: "زهقت نفس فلان"، أي خرجت روجه. فهم يتصورون إذن أن روح الإنسان كائن مستقل إذا فارق الجسد مات. "وفي الحديث: إن النحر في الحلق واللبة، وأقروا الأنفس حتى تزهق، أي حتى تخرج الروح من الذبيحة ولا يبقى فيها حركة"2. و"الرمق" بقية الحياة، أو بقية الروح، وآخر النفس3. فكأنهم تصوروا أن الشخص المريض أو الجريح. قد ودع معظم نفسه، ولم تبق من روحه إلا بقية لا تزال في جسده، هي الرمق.

_ 1 تاج العروس "6/ 64 وما بعدها"، "حتف". 2 اللسان "10/ 147"، "زهق". 3 اللسان "10/ 125"، "رمق".

البعث

البعث: لم يكن كثير من الجاهليين يؤمنون بالبعث كما يتبين ذلك من القرآن الكريم. لقد كانوا يرون أن الموت نهاية، وأنهم غير مبعوثين، وأن البعث بعد الموت شيء غير معقول، لذا تعجبوا من قول النبي بوجود البعث والحساب. {وَقَالُوا

إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} 1، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2، {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا، قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا، أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} 3. و {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 4، و {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} 5، و {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 6، و {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، َقَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 7، و {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 8، و {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} 9. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ، لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} 10، {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ

_ 1 الأنعام، الآية 29. 2 النحل، الآية 38، تفسير الطبري "8/ 104 وما بعدها". 3 الإسراء، الآية 49 وما بعدها، تفسير الطبري "14/ 104 وما بعدها" روح المعاني: "14/ 128". 4 التغابن، رقم 64، الآية 7. 5 الحج، رقم 22، الآية 5. 6 هود، رقم 11، الآية 7. 7 المؤمنون، الآية 82، الصافات، الآية 16. 8 الوعد، الآية 5. 9 المؤمنون، الآية 35 وما بعدها. 10 سورة النمل، رقم السورة 27، الآية 67 وما بعدها.

مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} 1. {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ، فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2 والآيات المتقدمة وأمثالها3 كلها حكاية عن رأي كثير من الجاهليين في نفي البعث وفي عدم إمكان العودة إلى حياة أخرى بعد موت يهلك الجسم ويفني العظام فيجعلها رميمًا ويمحو كل أثر للجسم، لذا كان البعث من أهم ما عارض فيه الجاهليون معارضة قاسية شديدة، وكان من الموضوعات التي تندروا بها وسخروا وآخذوا عليها الرسول4. وكانوا يقولون: "إن هي إلا موتتنا الأولى التي نموتها. وهي الموتة الأولى، وما نحن بمنشرين بعد مماتنا ولا بمبعوثين تكذيبًا منهم بالبعث والثواب والعقاب". وقالوا للرسول: "فأتوا بآبائنا الذين قد ماتوا إن كنتم صادقين إن الله باعثنا من بعد بلانا في قبورنا، ومحيينا من بعد مماتنا"5 وقالوا: "أئذا متنا وكنا ترابًا وعظامًا أئنا لمبعوثين؟ يقولون منكرين بعث الله إياهم بعد بلائهم. أئنا لمبعوثون أحياء من قبورنا بعد مماتنا ومصيرنا ترابًا وعظامًا قد ذهب عنها اللحوم. أو آباؤنا الأولون الذين مضوا من قبلنا فبادوا وهلكوا؟ "6. وكان من محاججة قريش للرسول ومحاولتهم إفحامه وتعجيزه قولهم له يوم اجتمعوا به: "يا محمد؟ فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدًا ولا أقل ماءً ولا أشد عيشًا منا. فسل5 لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليفجر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشأم والعراق. وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولًا كما

_ 1 السجدة، رقم السورة 32، الآية 10 وما بعدها، تفسير الطبري "21/ 96"، روح المعاني "21/ 112 وما بعدها". 2 الدخان، رقم السورة 44، الآية 34 وما بعدها، تفسير الطبري "25/ 76 وما بعدها". 3 هود 7، المؤمنون 82 وما بعدها، سبأ 3 وما بعدها، الجاثية 24 وما بعدها. 4 الكشاف "1/ 448"، "2/ 74، 189، 195 وما بعدها"، الطبرسي "7/ 39"، "14/ 75"، "15/ 58". 5 تفسير الطبري "25/ 76"، "1/ 78 وما بعدها". 6 تفسير الطبري "23/ 30".

تقول! "1. وسألوه أسئلة أخرى من هذا القبيل؛ لتعجيزه في إثبات البعث. "جاء عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بعظم حائل فكسره بيده، ثم قال: يا محمد، كيف يبعث الله هذا وهو رميم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبعث الله هذا ويميتك ثم يدخلك جهنم"2 وأتى "أبي بن خلف" رسول الله "بعظم حائل ففته ثم ذراه في الريح. ثم قال: يا محمد من يحيي هذا وهو رميم؟ قال الله يحييه ثم يميته ثم يدخلك النار"3 و"جاء العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعظم حائل ففته بين يديه. فقال يا محمد أيبعث الله هذا حيًّا بعدما أرم؟ قال: نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم"4. وممن أنكر البعث على ما ذكره الأخباريون قوم من قريش كانوا زنادقة أنكروا الآخرة والربوبية، أخذوا زندقتهم هذه من الحيرة5. وإذا كان من هؤلاء من كان يقدم القرابين والهدايا لأصنامه، فإن ذلك لا يعني أنه كان يفعل ذلك لترضى عنه في العالم التالي، بل كان يفعل ذلك لترضى عنه في هذه الحياة الدنيا، لتمن عليه بالنعم والخيرات. أما العالم الثاني، فهو عالم لا يهتم به؛ لأنه لم يكن يتصور وجوده ولا حدوثه بعد الموت 6. ويتجلى هذا الإنكار للحشر والبعث في أبيات تنسب إلى "شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك" يرثي بها قتلى قريش يوم بدر، وهم الذين قتلوا في تلك المعركة وألقوا في القليب: أيوعدُني ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياةُ أصداءٍ وهامِ؟ أيعجزُ أن يردَّ الموت عني ... وينشرني إذا بليت عِظامي أراد الشاعر إنكار البعث، وأن يصير الإنسان مرة أخرى إنسانًا بعد أن تتحول

_ 1 ابن هشام "1/ 186"، "حاشية على الروض". 2 تفسير الطبري "23/ 21"، روح المعاني "23/ 50". 3 تفسير الطبري "23/ 21"، الاشتقاق "80". 4 تفسير الطبري "23/ 21". 5 المحبر "ص161"، بلوغ الأرب "1/ 345"، المعارف "621". 6 Reste. S. 185.

روح الإنسان إلى طير1. وذكر أن "الحارث بن عبد العزى" أبو رسول الله من الرضاعة، لما قدم مكة، قالت له قريش: "ألا تسمع يا حار ما يقول ابنك هذا؟ فقال: وما يقول: قالوا: يزعم أن الله يبعث بعد الموت، وأن لله دارين يعذب فيها من عصاه، ويكرم فيها من أطاعه. فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا"2. فهم ينكرون البعث والحساب، ولا يريدون سماع شيء عنهما، ولا يصدقون عودة الروح إلى الجسد بعد أن فارقته، فذلك عندهم من المستحيلات، ولذلك سخروا من البعث لما سمعوا به. وكيف يكون بعثًا وقد فنيت الأجساد، فلم تبق منها بقية! فرأي من أنكر الحشر والبعث من أهل الجاهلية، أن الحياة حياة واحدة، هي حياتنا التي نحن فيها في دار الدنيا، ولا يكون بعد الموت بعث ولا حساب نحيا ونموت، يموت بعضنا ويحيا بعضنا، وما يميتنا إلا الأيام والليالي، أي مرور الزمان وطول العمر3. فالحياة إذن حياة وموت في هذه الدنيا. وهي استمرار للاثنين على مدى الدهر، يولد إنسان ثم يموت ليحل محله إنسان آخر، وهكذا بلا انتهاء. ونجد رأي الناكرين للبعث في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 4. فهم يقولون: ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت نحن ويحيا أبناؤنا بعدنا، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم؛ لأنهم منهم وبعضهم، فكأنهم بحياتهم أحياء. والدهر الزمان، وهو الذي يهلك ويفني5. فالحياة بهذا المعنى، فعل مستمر، وتطور لا ينتهي، يهلك جيل،

_ 1 وهي من أبيات رويت بصور مختلفة، وفي بعضها زيادات، راجع ابن هشام "1/ 113"، هامش على الروض الأنف، كتاب الصبح المنير في شعر أبي بصير "ص308"، "طبعة أوروبة 1927"، بلوغ الأرب "2/ 198". يحدثنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام؟ بلوغ الأرب "2/ 192". 2 الروض الأنف "1/ 107". 3 تفسير الطبرسي "25/ 136"، "بيروت"، "25/ 78"، "طهران". 4 الجاثية، الآية 24، تفسير الطبري "25/ 91"، روح المعاني "25/ 139". 5 تفسير الطبري "25/ 91 وما بعدها"، "بولاق"، "25/ 151 وما بعدها". "القاهرة 1954".

ليأخذ محله الجبل الذي نبت منه. وكل يأخذ دوره في هذه الحياة، فإذا انتهى دور إنسان، قام بدوره نسله، وهكذا، وبهذا المعنى تفسر الحياة، ويفسر الموت. وقد يسأل سائل إذا كان أغلب أهل الجاهلية لا يؤمنون بثواب ولا بحساب وبعث ونشر، فلمَ تعبدوا إذن لإله، وتقربوا إلى الأصنام، وقدموا القرابين والنذور؟ وجوابي على هذا السؤال، هو ما ذكره المتقدمون عنه. قالوا: "كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة؛ إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها"1. فعبادتهم الله وتقربهم إلى الآلهة، هي لمصلحة دنيوية، لنفع ولزيادة في مال، ولدفع شر الأذى والأمراض وعيون الحساد، ومن كل ما هو شر، أما الآخرة، فلا علم لهم بها. وما خوفهم من الآلهة إلا لاعتقادهم أنها تضرهم وتهلكهم وتنزل بهم الشر في هذه الدنيا. فإذا أقسم أحدهم كذبًا، انتقمت الآلهة منه وأنزلت به نازلة، لذلك تجنبوا الإيمان الكاذبة، وامتنعوا من الحلف جهد إمكانهم؛ لخوفهم من عاقبة الحلف الكذب. والعاقبة السيئة تكون في هذه الدنيا. وهي عواقب مادية؛ لأن عقلية أكثر أهل الجاهلية لا تدرك إلا القيم المادية للأشياء. فتصوروا العاقبة السيئة تصورًا ماديًّا، كنزول مرض بإنسان أو نزول كارثة بماله أو بإبله أو بزرعه أو بأهله، وهي أمور يخشاها الجاهلي، تكون معجلة في نظره، أي في هذه الدنيا؛ لأنهم لا يعرفون أن في الحياة دارًا غير هذه الدار، ولا يؤمنون بحشر وبعث. جاء في الأخبار أن "ضمام بن ثعلبة" السعدي، ويقال التميمي، لما قدم على الرسول أقبل حتى وقف على رسول الله، وهو في أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله: أنا ابن عبد المطلب. قال: أمحمد؟ قال: نعم. قال: يابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك قال: لا أجد في نفسي سل عما بدا لك. قال: أنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نعبده وحده.

_ 1 تفسير القرطبي "2/ 432".

لا نشرك به شيئًا، وإن نخلع هذه الأوثان التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: اللهم نعم. ثم سأله عن الفرائض، فأسلم. فلما قدم على قومه، فاجتمعوا إليه "فكان أول ما تكلم به، أن قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم أنهما والله ما يضران وما ينفعان"1 فالعقاب عقاب مادي في هذه الدنيا، ترسله الآلهة على الإنسان. غير أن فريقًا من الجاهليين كما يقول أهل الأخبار كان يؤمن بالبعث وبالحشر بالأجساد بعد الموت، ويستشهدون على ذلك بـ"العقيرة" وتسمى البلية" أيضًا. والبلية الناقة التي كانت تعقل عند قبر صاحبها إذا مات حتى تموت جوعًا وعطشًا. ويقولون إنه يحشر راكبًا عليها، ومن لم يفعل معه هذا حشر راجلًا، وهذا مذهب من كان يقول منهم بالبعث، وهم الأقل. ومنهم زهير فإنه قال: يُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر ... لِيَومِ الحِسابِ أَو يُعَجَّل فَيُنقَمِ2 ويذكر أيضًا أنهم كانوا يعكسون رأس الناقة أو الجمل أي يشدونه إلى خلف بعد عقر إحدى القوائم أو كلها لكيلا تهرب، ثم يترك الحيوان لا يعلف ولا يسقى حتى يموت عطشًا وجوعًا، ذلك لأنهم كانوا يرون أن الناس يحشرون ركبانًا على البلايا ومشاة إذا لم تعكس مطاياهم عند قبورهم3، وفي هذا المعنى قال الشاعر في البلية: كَالبَلايا رُءوسُها في الوَلايا ... مانِحاتِ السَموم حَرَّ الخُدودِ والولايا هي البراذع، وكانوا يثقبون البرذعة فيجعلونها في عنق البلية وهي معقولة. وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذه الوصية: يا سعدُ إما أهلكن فإنني ... أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب

_ 1 الاستيعاب "2/ 207 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 2 الروض الأنف "1/ 96" الشعر والشعراء "1/ 76" "بيروت 1964م". 3 تاج العروس "10/ 43"، اللسان "18/ 92" النهاية "1/ 115" رسالة الغفران "333 وما بعدها"، "بنت الشاطئ".

لا تتركن أباك يمشي خلفهم ... تعبًا يخر على اليدين وينكب احمل أباك على بعير صالح ... وابق الخطيئة إنه هو أصوب ولعل مالي ما تركت مطية ... في اليم أركبها إذا قيل اركبوا1 وذكر أنهم كانوا يحفرون للبلية حفرة وتشد رأسها إلى خلفها وتبلى، أي تترك هناك لا تعلف ولا تسقى حتى تموف جوعًا وعطشًا. وكانت النساء، يقمن حول راحلة الميت فينحن إذا مات أو قتل، وقد عرفن بـ"مبكيات"2. وفي رواية أن بعض المشركين كان يضرب راحلة الميت بالنار وهي حية حتى تموت3، يعتقدون أنهم إنما يفعلون ذلك؛ ليستفيد منها الميت بعد الحشر4. وإذا كانت عقيدة الجاهليين في عقر الحيوانات المسكينة وإهلاكها قد ماتت وزالت؛ بسبب تحريم الإسلام لها، فإن فكرة حشر الناس ركبانًا لا تزال باقية حية عند بعض الناس. فالذين يقدمون "العقيقة" في الحياة أو يقدمونها حين الوفاة ومع نقل الجنازة أو على القبر، يختارون أحسن الحيوانات وأقواها لتتمكن من حملهم يوم الحشر، وتنهض بهم، فيسير راكبًا، ولا يحشر وهو مترجل يسير في تلك الساعات الرهيبة ماشيًّا على قدميه. ويقال للموت وللحساب "اللزام"5. ولا أعتقد أن نحر الإبل على القبر وتبليله بدم الإبل المذبوحة6، مجرد عادة يراد بها إظهار تقدير أهل الميت له، أو تمثيل كرم الراحل حتى بعد وفاته، بل لا بد أن يكون هذا النحر من الشعائر الدينية والعقائد الجاهلية التي لها علاقة بالموت وباعتقادهم أن موت الإنسان لا يمثل فناء تامًّا وإنما هو انتقال من حال إلى حال.

_ 1 الشعر لـ"جريبة بن الأشم الفقعسي" يوصي ابنه به وقد ورد بصور أخرى، راجع الروض الأنف "1/ 96" النهاية لابن الأثير "1/ 115"، اللسان "14/ 85 وما بعدها" تاج العروس "10/ 43"، طبقات الأمم "49". 2 اللسان "14/ 85 وما بعدها" 3 المخصص "6/ 122" اللسان "16/ 15" الأغاني "6/ 122". 4 الأغاني "16/ 48"، "أخبار زيد الخيل"، "17/ 176"، "بيروت 1955"، Reste, s. 180 5 تاج العروس "9/ 59"، "لزم، المخصص "6/ 122". 6 الأغاني "19/ 88".

وذكر "السكري" أن أكثر العرب كانوا يؤمنون بالبعث. واستشهد على ذلك بشعر للأعشى، ذكر فيه الحساب. كما ذكر أنهم كانوا يؤمنون بالحساب، واستشهد على رأيه هذا بشعر للأخنس بن شهاب التميمي1. وقول "السكري" هذا مردود بما رد في القرآن الكريم من إنكار أغلبهم للحساب والبعث والكتاب، وأما الذين قالوا بالبعث، فهم طائفة لا تصل إلى مستوى الكثرة أو الكل حتى نستعمل صيغة التعميم. وإذا كان ما تصوره أهل الجاهلية عن البعث والحشر صحيحًا على نحو ما ذكره أهل الأخبار فلا يستبعد أن يكون القائلون به أو بعضهم قد تصوروا الحساب على نحو ما يحاسب الإنسان على عمله في دنياه. ويلاحظ أن القيامة والبعث والحشر والجنة والنار هي من الكلمات العربية التي لا يستبعد أن يكون لها مفهوم قريب من مفهومها الإسلامي عند الجاهليين. أما كيف تصور أولئك الجاهليون حدوث البعث والحشر، هل هو قصاص وثواب وعقاب وحساب وجنة ونار، أو هو بعث وحشر لا غير، فأهل الأخبار لم يأتوا عنه بجواب، ولم يذكروا رأي تلك الفئة المقرة بالبعث والحشر في ذلك. ولهذا فليس في استطاعتنا إعطاء صورة واضحة عن الحشر وعما يحدث بعده من تطورات وأمور. ولم تتحدث الكتابات الجاهلية عما سيحدث للإنسان بعد موته. وكل ما ورد فيها هو توسل إلى الآلهة بأن تنزل غضبها على كل من يحاول تغيير قبر، أو إزالة معالمه، أو دفن ميت غريب فيه، وأن تنزل به الأمراض والآفات والهلاك. ولم تذكر تلك النصوص السبب الذي حمل أهل القبور على التشدد في المحافظة على القبر وعلى ضرورة بقائه ودوامه. فلا ندري إذا كان ذلك عن تفكير بوجود بعث، ويتصور قيام الميت من قبره مرة أخرى، ورجوعه ثانية إلى الحياة، أو إلى عالم ثانٍ، هو عالم ما بعد الموت، ولهذا حرصوا حرصًا شديدًا على عدم السماح بدفن أحد في قبر، إلا إذا كان من أهل صاحب القبر ومن ذوي رحمه، حتى لا يتأذى الميت من وجود الغرباء، وليستأنس بأهله وبذوي قرابته مرة أخرى بعد عودة الحياة إليه، فيرى نفسه محشورًا معهم، ومع من أحبه في حياته، عائشًا.

_ 1 المحبر "322".

معهم، كما كان قد عاش معهم، أو أن حرصهم على حرمة القبر، إنما كان عن مراعاتهم لحرمة القبر، وعلى منزلة الموتى، فالمس بحرمة القبر، مس بحرمة الميت، وانتهاك لمقامه ولمكانته، ولما كان عليه في هذه الحياة! وهناك من كان يعتقد أن الميت وإن غيب في قبره وانقطعت علاقته بآله وذويه إلا أن روحه لن تموت، وأنه يظل وهو في قبره يقظًا، متتبعًا لأخبار أهله. تخبره بها هامته التي تكون عند ولد الميت في محلته بفنائهم؛ لتعلم ما يكون بعده فتخبره به، حتى قال الصلت بن أمية لبنيه: هامي تخبرني بما تستشعروا ... فتجنبوا الشنعاء والمكروها1 وأما ما ورد في الشعر الجاهلي من أمر الحشر والنشر والحساب والكتاب والعالم الثاني، فهو مما ورد ودوِّن في الإسلام، ولم أجد في رواية من روايات أهل الأخبار أن أحدًا من رواة الشعر الجاهلي، ذكر أنه نقل ما نقل من هذا الشعر من ديوان جاهلي، أو من كتاب كتب قبل الإسلام، ومع ذلك، فإن هذا المروي عن العالم الثاني قليل، لذلك لا نتمكن لقلته من تكوين صورة واضحة عن ذلك العالم ومن التحدث بطلاقة عن رأي أصحاب هذا الشعر في الحشر والنشر والبعث. وأما ما ورد في شعر "أمية بن أبي الصلت" عن الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار، فهو أوسع ما ورد في الشعر الجاهلي في هذا الموضوع. وأمية، هو الشاعر الجاهلي الوحيد الذي جاء أكثر شعره في نزعات دينية وفكرية، ذلك لأنه كان في شك من عبادة قومه، وكان على شاكلة غيره ممن سئم تلك العبادة، ينهى قومه عنها، ويسفه أحلامها، وقد تأثر باليهودية وبالنصرانية. وفي شعره اعتقاد بالجنة والنار والبعث. وبصحة المعاد الجسماني، وبوجود الجنة والنار بالمعنى الحقيقي، لا المجازي، وهو يتفق في ذلك مع الإسلام. كما تحدثت عن ذلك في الفصل الخاص بالأحناف. وكان "الأعشى" ممن يؤمن بالله وبالحساب، وقد استشهد من قال ذلك عنه

_ 1 مروج "2/ 133".

بأبيات شعر تشعر أنه كان يؤمن بالحساب وبقيام الإنسان بعد الموت لمحاسبته على عمله. من ذلك قوله: يُراوِحُ مِن صَلَواتِ المَليكِ ... طَورًا سُجودًا وَطَورًا جُوَارا بِأَعظَمَ مِنهُ تُقى في الحِسابِ ... إِذا النَسَماتُ نَفَضنَ الغُبارا1 وكان "زهير بن أبي سلمى" على مذهب من كان منهم يقول بالبعث: وهم الأقل2 قال: يُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر ... لِيَومِ الحِسابِ أَن يُعَجَّل فَيُنقَم3 وكان "حاتم" طيء من المتألهين، ومن المعتقدين بالحساب. وقد أورد أهل الأخبار له شعرًا في ذلك4.

_ 1 رسالة الغفران "180". 2 الروض الأنف "1/ 96". 3 الروض الأنف "1/ 96". 4 رسالة الغفران "488".

البلية والحشر

البلية والحشر: ولم يذكر أهل الأخبار كيف تصور القائلون بالقيامة والحشر من أهل الجاهلية قيام الموتى ومشيهم إلى المحشر. فقد ذكروا أن قومًا من الجاهليين كانوا إذا مات أحدهم عقلوا ناقة على قبره وتركوها حتى تبلى، وتسمى لذلك "البلية". وقالوا: "البلية كغنية الناقة التي يموت ربها، فتشد عند قبره، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت جوعًا وعطشًا أو يحفر لها وتترك فيها إلى أن تموت؛ لأنهم كانوا يقولون صاحبها يحشر عليها، و"كانوا يزعمون أن الناس يحشرون ركبانًا على البلايا ومشاة إذا لم تعكس مطاياهم عند قبورهم". وذكر أنهم" كانوا في الجاهلية يعقرون عند القبر بقرة أو ناقة أو شاة، ويسمون العقيرة البلية". "وفي فعلهم هذا دليل على أنهم كانوا يرون في الجاهلية البعث والحشر بالأجساد وهم الأقل: ومنهم زهير"5. وفي هذا المعنى يقول جريبة بن أشيم6:

_ 1 تاج العروس "10/ 43 وما بعدها"، "بلي"، القاموس "4/ 350 وما بعدها". 2 اللسان "12/ 625"، "هوم"، تاج العروس "9/ 112" "هيم" "جريبة بن الأشيم الفقعسي"، بلوغ الأرب "2/ 307".

يا سعد إما أهلكن فإنني ... أوصيك إن أخا الوصاة الأقرب لا أعرفن أباك يحشر خلفكم ... تعبًا يخر على اليدين وينكب واحمل أباك على بعير صالح ... وتقي الخطيئة أنه هو أصوب ولقل لي مما جمعت مطية ... في الحشر أركبها إذا قيل اركبوا1 ومن ذلك قول عمرو بن زيد المتمني يوصي ابنه عند موته في البلية: أَبُنَيَّ زَوِّدْني إذا فارقْتني ... في القبرِ راحلَةً بِرَحْلٍ قاترِ للبعْثِ أركبُها إذا قيلَ اظْعنوا ... مُسْتَوْسِقينَ معًا لحشْرِ الحاشرِ منْ لا يوافيهِ على عَيْرانةٍ ... والخلقُ بين مُدَفَّعٍ أو عاثِرِ2 وقال عويمر النبهاني: أبني لا تنس البلية إنها ... لأبيك يوم نشوره مركوب3 وأوصى رجل ابنه عند الموت بهذا: لا تتركن أباك يحشر مرة ... عدوًّا يخر على اليدين وينكب4 وطريقتهم في ذلك أن أحدهم إذا مات، بلوا ناقته، فعكسوا عنقها إلى مؤخرتها مما يلي ظهرها، أو مما يلي كلكلها أو بطنها، ويأخذون ولية فيشدون وسطها، ويقلدونها عنق الناقة، ويتركون الناقة في حفيرة لا تطعم ولا تسقى حتى تموت، وربما أحرقت بعد موتها، وربما سلخت وملئ جلدها ثمامًا5. قال شا عر في البلية: والبلايا رؤوسها في الولايا ... ما نحات السموم حر الخدود

_ 1 اللسان "12/ 624"، "هوم"، تاج العروس "9/ 112"، "هيم"، بلوغ الأرب "2/ 307 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "2/ 309". 3 بلوغ الأرب "2/ 309". 4 الروض الأنف "1/ 96". 5 بلوغ الأرب "2/ 307"، اللسان "14/ 85 وما بعدها"، "بلا".

والولايا هي البراذع. وكانوا يثقبون البرذعة، فيجعلونها في عنق البلية وهي معقولة حتى تموت1. أما كلمة "جهنم"، فيرى العلماء أنها من الكلمت المعربة. ويظن المستشرقون أنها من أصل عبراني2. ومن أسماء جهنم على رأي علماء اللغة "الهاوية"3. و"أم الهاوية"4.

_ 1 الروض الأنف "1/ 96". 2 المعرب، للجواليقي "ص107" "طبعة دار الكتب المصرية" Ency, I, p 998. 3 اللسان "20/ 250". 4 المخصص "11/ 38".

الفصل الخامس والستون: الروح والنفس والقول بالدهر

الفصل الخامس والستون: الروح والنفس والقول بالدهر مدخل ... الفصل الخامس والستون الروح والنفس والقول بالدهر ويحملنا قول بعض الجاهليين بوجود البعث، وبالصدى والهامة، على التحرش بموضوع الروح وماهيتها عند أهل الجاهلية، وعن كيفية تصورهم لها. وقد سأل أهل مكة الرسول عن ماهية الروح، فنزلت الآية: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} 1. ويذكر المفسرون أن اليهود حرضوهم على توجيه هذا السؤال إلى الرسول، امتحانًا وإحراجًا له2. وفي سؤالهم له عن الروح معنى اهتمام القوم بالموضوع، ومحاولة إثارة مشكلة للرسول كانت مهمة في أعين الناس يومئذ، مما يدل على أهمية هذه القضية في ذلك العهد. وورد أن يهود يثرب هم الذين سألوه عن أمر الروح ما هي؟ وكيف تعذب الروح التي في الجسد؟ فنزل الوحي عليه بالآية المذكورة3. و"الروح" في تعريف علماء اللغة ما به حياة الأنفس، والذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة. وذهب بعضهم إلى أن الروح والنفس واحد، غير أن

_ 1 الإسراء، الآية 85. 2 القرطبي، الجامع "10/ 325". 3 تفسير الطبري "15/ 104 وما بعدها"، القرطبي، الجامع "10/ 323 وما بعدها" تفسير الطبرسي "15/ 93"، "بيروت 1956"، تفسير ابن كثير "3/ 61"، تفسير البيضاوي "15/ 382"، تفسير أبو السعود "2/ 230"، تفسير السيوطي "4/ 199 وما بعدها"، تفسير الكشاف "2/ 197"، إرشاد الساري "7/ 212".

الروح مذكر والنفس مؤنثة1 وقال بعض آخر الروح هو الذي به الحياة، والنفس هي التي بها العقل، فإذا نام النائم قبضت نفسه، ولم يقبض روحه، ولا يقبض الروح إلا عند الموت. وذكر بعض العلماء: لكل إنسان نفسان: إحداهما نفس التمييز، وهي التي تفارقه إذا نام، فلا يعقل بها، والأخرى نفس الحياة، وإذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. وقد يراد بالنفس الدم، وفي الحديث: ما ليس له نفس سائله، فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه فعبر عن الدم بالنفس السائلة، وكما ورد في قول السموءل: تَسيلُ عَلى حَدِّ الظُباتِ نُفوسُنا ... وَلَيسَت عَلى غَيرِ الظُباتِ تَسيلُ وإنما سمي الدم نفسًا لأن النفس تخرج بخروجه2. وقد يعبر بها عن الإنسان جميعه، وعن الجسد2. وهناك كلمة أخرى ترد في معنى "الروح"، هي "النسيم". و"النسم" نفس الروح كالنسمة، يقال ما بها نسمة، أي نفس، وما بها ذو نسيم، أي ذو روح. والنسم نفس الريح إذا كان ضعيفًا كالنسيم4. وقد ربطوا بين النسيم الروح، لما كان قد علق في أذهانهم إذ ذاك من أن الروح نوع من أنواع النسيم، وهو النفس الذي يتنفسه الإنسان، ومن أن النفس من النسيم كذلك، وأن بين التنفس والنفس صلة، والتنفس يكون بالنسيم، ولهذا قالوا لمن يموت موتًا طبيعيًّا: "مات حتف أنفه" و"مات حتف فيه" والحتف الموت؛ لأن نفسه يخرج بتنفسه من أنفه أو فيه. ولأنهما نهاية الرمق، ومنهما يكون التنفس5. ويظهر من دراسة معاني الكلمات المذكورة، أن لفظة "نفس" هي بمعنى الإنسان والجسد في الشعر الجاهلي القديم، أما الروح" فبمعنى النفس،

_ 1 تاج العروس "2/ 147"، "روح". 2 اللسان "6/ 233 وما بعدها"، نفس". 3 اللسان "6/ 234 وما بعدها"، "نفس". 4 تاج العروس "9/ 74 وما بعدها"، "نسم"، اللسان "2/ 462"، تاج العروس "2/ 147". 5 تاج العروس "6/ حتف".

أي التنفس واستنشاق الهواء والريح1. وتقابل لفظة "نفس" لفظة "نيفش" Nephesh في العبرانية، وتطلق على نفس كل كائن حي، من إنسان أو حيوان، وبهذا المعنى وردت في العهد القديم2. وتقابل لفظة Soul في الإنكليزية و Seele في الألمانية. وقد استعملت لفظة psyche اليونانية بمعنى نفس في العهد الجديد3. ومن هذه اللفظة اليونانية أخذ العلماء مصطلحهم Psychology Psychologie أي علم النفس، ثم مصطلحات العلوم الأخرى المتعلقة بموضوع النفس. وهي في الوقت الحاضر علوم عديدة. أما لفظة "الروح"، فتقابل كلمة "روح" Ruach في العبرانية ولفظة Spirit في الإنكليزية، و Geist في الألمانية، وتكون في مقابل النفس في علم النفس، وتقابل لفظة Pneuma في اليونانية، ومعناها الهواء والريح والنفس. ونجد بين المعاني التي ذكرها علماء العربية للألفاظ المذكورة، وهي: النفس، والريح، والهواء، والنسيم وبين المعاني الواردة في اللغات الأعجمية عنها شبهًا كبيرًا، يرجع على وجهة نظر الإنسان في تفسير مظاهر الحياة، وشعوره بوجود شيء في نفسه خارج عن حدود المادة، أي عن الجسم أو الجسد، لا يمكن أن يمسكه ولا أن يلمسه، فسماه "نفسًا" تارة وسماه "روحًا" تارة أخرى، وفرق بين الاثنين تارة ثالثة. وقد تصور أن النفس والروح، شيئان لهما علاقة بالحياة. فنسب الحياة إليهما أو إلى أحدهما. ونظرا إلى أنهما غير محسوسين، ولا يمكن الإمساك بهما أو لمسهما، تصورهما الإنسان تصورًا يختلف باختلاف درجة مداركه ومقدار ثقافته ودرجة ما توصل إليه من علم في ذلك الوقت. وقد تصور اليونان النفس، على أنها هواء ونسيم، وتصوروها على هيئة طائر صغير في شكل الإنسان، أو على شكل طير، أو فراشة4. وهو تصور عرف عند غيرهم أيضًا، بل يكاد يكون الغالب على الناس. ولا زال الناس يصورون الروح على هيئة طائر، يسبح في الفضاء، فإذا مات الإنسان صعدت روحه إلى خالقها، أو إلى السماء فالأرواح طيور تكون في الإنسان، إذا انفصلت عن

_ 1 Shorter Ency, p. 433. 2 التكوين، الإصحاح الأول، الآية 200. 3 إنجيل متى، الإصحاح السادس عشر، الآية 26. Hastings, p. 872 4 H. Schmidt, Philosophisches Worterbuch, s. 518

الجسد مات وأخذت هي تطير مزفرفة في الأعالي. وبهذا الرأي أخذ بعض الجاهليين تفسير النفس. تصوروا "النفس طائرًا ينبسط في الجسم، فإذا مات الإنسان أو قتل لم يزل يطيف به مستوشحًا يصدح على قبره". "وكانوا يزعمون أن هذا الطائر يكون صغيرًا ثم يكبر حتى يكون كضرب من البوم وهو أبدًا مستوحش ويوجد في الديار المعطلة ومصارع القتلى والقبور، وأنها -أي النفس- لم تزل عند ولد الميت ومخلفه لتعلم ما يكون من بعده فتخبره"1 وزعموا أنه إذا قتل قتيل فلم يدرك به الثأر خرج من رأسه طائر كالبومة. وهي الهامة، والذكر الصدى، فيصيح على قبره اسقوني اسقوني، فإن قتل قاتله كف عن صياحه. وكان بعضهم يقول إن عظام الموتى تصير هامة وتطير. وذكر أن الصدى حشو الرأس، ويقال لها الهامة أيضًا، أو الدماغ نفسه2. وكان من زعم بعض الجاهليين، أن الإنسان إذا مات أو قتل اجتمع دم الدماغ أو أجزاء منه، فانتصب طيرًا هامة، ترجع إلى رأس القبر كل مائة سنة3. ويرجع هذا الرأي إلى عقيدة قديمة تعتبر الدم مقرًّا للنفس، بل تجعل الدم في معنى النفس، والنفس في معنى الدم، وذلك للصلة الوثيقة الكائنة بين الدم والنفس، ولأن الإنسان إذا قتل سال دمه. فتخرج روحه بخروج الدم من الجسم، أي خروج النفس من الدم، بعد أن كانت كامنة فيه. ويمثل هذا الرأي رأي العبرانيين أيضًا في النفس وفي صلتها بالدم، ورأي غيرهم من الشعوب4. وكان اعتقادهم أن مقر الدم ومركز تجمعه في الدماغ. ومن هنا قيل بنات الهام: مخ الدماغ5، فلا غرابة إذا تصوروا أن الروح تنتصب فيه، فتكون هامة تخرج من الرأس، وتطير. ويكون خروجها من الأنف أو الفم؛ لأن النفس يكون منهما. فتتجمع الأرواح حول القبور، ويكون في وسعها مراقبة أهل الميت وأصدقائه ونقل أخبارهم إليه. ولهذا السبب، تصوروا المقابر مجتمع.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 311". 2 تاج العروس "10/ 207"، "صدى"، "9/ 112"، اللسان "16/ 108". المعاني الكبير "2/ 951، 1008 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "2/ 199، 311، الروض الأنف "2/ 109". 4 Hastings, p. 101. 5 اللسان "12/ 625"، "هوم".

الأرواح، تطير فيها مرفرفة حول القبور. وإلى هذه العقيدة أشير في شعر أبي دُواد: سُلِّطَ الموتُ وَالمَنونُ عَلَيهِم ... فَلَهُم في صَدى المَقابِرِ هامُ وكذلك في شعر للشاعر لبيد: وَلَيسَ الناسُ بَعدَكَ في نَقيرٍ ... وَلا هُم غَيرُ أَصداءٍ وَهامِ1 ولهذا سموا الدماغ "الطائر" لأنهم تصوروه على صورة طير. قال الشاعر: هم أنشبوا صم القنا في نحورهم وبيضًا تقيض البيض من حيث طائر عنى بالطائر الدماغ. وعبر عنه للسبب المذكور بـ"الفرخ"2. وورد أن "الصدى" ما يبقى من الميت في قبره، وهو جثته3، وقيل: حشوة الرأس، أي دماغ الإنسان الهامة والصدى. وكانت العرب تقول إن عظام الموتى تصير هامة فتطير. وقال بعض الأخباريين: إن العرب تسمي ذلك الطائر الذي يخرج من هامة الميت إذا بلي، الصدى4. وقد نهى الإسلام عن الاعتقاد بالصدى والهامة. ورد في الحديث: "لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر"5. وذكر بعض العلماء أن المراد من "صفر" في الحديث النبوي المذكور دابة يقال إنها أعدى من الجرب عند العرب، فأبطل النبي أنها تعدي. وقال بعض آخر أراد به النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخيرهم المحرم إلى صفر في تحريمه وجعل صفر هو الشهر الحرام، فأبطله الرسول6.

_ 1 اللسان "12/ 624 وما بعدها"، "هوم"، وتاج العروس "9/ 112" "هيم" 2 تاج العروس "2/ 272" فرخ"، "3/ 364"، "طير". 3 قال النمر بن ثولب، وهو من المخضرمين: أعاذل أن يصبح صداي بقفرة ... بعيدا نآني ناصري وقريبي البرقوقي "ص75". 4 أضربك حيث تقول الهامة اسقوني البرقوقي "ص76". 5 اللسان "12/ 642"، "هوم"، تاج العروس "9/ 112"، "هيم". 6 اللسان "6/ 133"، "4/ 463"، "صفر"، "صادر".

وقد لخص "المسعودي آراء أهل الجاهلية في النفس والروح، فقال: "كانت للعرب مذاهب في الجاهلية في النفوس، وآراء ينازعون في كيفياتها، فمنهم من زعم أن النفس هي الدم لا غير، وأن الروح الهواء الذي في باطن جسم المرء من نفسه، ولذلك سموا المرأة منه نفساء، لما يخرج منها من الدم، ومن أجل ذلك تنازع فقهاء الأمصار فيما له نفس سائلة إذا سقط في الماء: هل ينجسه أم لا؟ قال تأبط شرًّا لخاله الشنفرى الأكبر وقد سألة عن قتيل قتله، كيف كانت قصته؟ فقال: ألجمته عضبًا، فسالت نفسه سكبًا. وقالوا إن الميت لا ينبعث منه الدم، ولا يوجد فيه، بدأ في حال الحياة، وطبيعته طبيعة الحياة والنماء مع الحرارة والرطوبة؛ لأن كل حي فيه حرارة ورطوبة، فإذا مات بقي اليبس والبرد، ونفيت الحرارة"1. ثم تطرق "المسعودي" إلى رأي من قال إن النفس طائر ينبسط في جسم الإنسان، فإذا مات أو قتل لم يزل مطيفًا به متصورًا إليه في صورة طائر يصرخ على قبره مستوحشًا، يسمونه الهام، والواحدة هامة2. ونظرًا إلى قلة ما لدينا من موارد عن الروح والنفس وعلاقتهما بالجسد، عند الجاهليين، فإننا لسنا في وضع نستطيع فيه أن نتحدث عن رأي عموم الجاهليين في تركيب الإنسان. هل هو من "جسد" و"روح"، أو "جسد" و"نفس" أي ثنائي التركيب، أو أنه من "جسد" و"روح" و"نفس"، أي ثلاثي التركيب. فقد رأينا أنهم يجعلون الروح والجسد شيئًا واحدًا أحيانًا، ويفرقون بينهما أحيانًا، ويفرقون بينهما أحيانًا أخرى. ولكننا نستطيع أن نقول إن غالبيتهم كانت ترى أن الإنسان من جسد، هو الجسم، أي مادة، ومن شيء لطيف ليس بمادة هو الروح أو النفس، وهما مصدرا القوى المدركة في الإنسان ومصدرا الحياة. وأن بانفصالهما عن الجسد، أو بانفصال الجسد عنهما يقع الموت. ويظهر من مخاطبات الوثنيين للأصنام، كأنهم كانوا يتصورون أن لها روحًا وأنها تسمع وتجيب. ومن الجائز حلول الروح في الجماد. وقد ورد عن "ابن الكلبي" عن "مالك بن حارثة" أن والد مالك هذا كان يعطيه اللبن، ويكلفه

_ 1 مروج "2/ 132". 2 مروج "2/ 133".

بأن يذهب به إلى الصنم ود ليسقيه، فكان مالك يشربه سرًّا ويبخل به على صنمه1. وإذا صح خبر ابن الكلبي هذا، فإنه يدل على "حارثة"، وربما غيره أيضًا من عبدة الأصنام، كان يرى أن الصنم يعقل ويدرك، يسمع ويرى، وأنه وإن كان من حجر، إلا أنه ذو روح. كما ورد أن من المشركين من كان يرى أن الشمس ملك من الملائكة ذات نفس وعقل2. ويتبين من تشديد النبي في تسوية القبور مع الأرض، ومن لعن المتخذين على القبور المساجد والسُرُج، ومن النهي عن الصلاة إلى القبور، ومن حديث: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"3، إن المشركين كانوا يقدسون قبور اسلافهم، ويتقربون إليها، لزعمهم أنهم أحياء، لهم أرواح، تعي وتسمع وتدرك، وتفرح تغضب وتجيب، وتنفع وتضر، ولهذا حاربها الرسول، وأمر بتسوية القبور، إبعادًّا عن أمر الجاهلية في ذلك، وخشية العودة إلى ما كانت عليه: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4، تعبير عن معنى هذه المشاركة وعن رأيهم في عبادة الأصنام.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 214". 2 بلوغ الأرب "2/ 215". 3 بلوغ الأرب "2/ 214". 4 الزمر، الرقم 29، الآية 3.

الرجعة

الرجعة: واعتقد قوم من العرب في الجاهلية بالرجعة: أي الرجوع إلى الدنيا بعد الموت فيقولون أن الميت يرجع إلى الدنيا كرة أخرى ويكون فيها حيًّا كما كان1. ولعل هذه العقيدة هي التي حملت بعض الجاهليين على دفن الطعام وما يحتاج الإنسان في حياته إليه مع الميت في قبره، ظنًّا منهم، أنه سيرجع ثانية إلى هذه الدنيا، فيستفيد منها، فلا يكون معدمًا فقيرًا. ويفهم من كتب الحديث أن من الناس.

_ 1 تاج العروس "5/ 348 وما بعدها"، "رجع"، "والرجعة: مذهب قوم من العرب في الجاهلية معروف عندهم. ومذهب طائفة من فرق المسلمين من أولي البدع والأهواء، يقولون إن الميت يرجع إلى الدنيا ويكون فيها حيًّا كما كان"، اللسان "8/ 114"، "رجع".

من سأل الرسول عن الرجوع إلى هذه الدنيا1، مما يشير على معرفة القوم عند ظهور الإسلام بهذا الرأي. و"لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالًا من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي، وأن رسول الله والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله مات". ثم جاء "أبو بكر" "وعمر يكلم الناس، فقال: على رسلك يا عمر فأنصت، فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه، وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 2 ... إلى آخر الآية". "وقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض، ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات". وقد اعتقد بعض الجاهليين بـ"المسخ", وهو تحول صورة إلى صورة أخرى أقبح، وتحول إنسان إلى صورة أخرى أقبح، أو إلى حيوان. كأن يصير إنسان قردًا أو حيوانًا آخر3، أو إلى شيء جماد. من ذلك ما يراه بعض أهل الأخبار عن "اللات" من أنه كان رجلًا يلت السويق عند صخرة بالطائف، فلما مات قال لهم "عمرو بن لحي" إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها وبنى بيتًا عليها يسمى اللات4. وما رووه أيضًا عن إساف" و"نائلة" من أنهما كان رجلًا وامرأة، عملا عملًا قبيحًا في الكعبة فمسخا حجرين5. وما رووه من أن "سهيلًا" كان عشارًا على طريق اليمن ظلومًا.

_ 1 النهاية "2/ 72" رجع. 2 سورة آل عمران الآية 144 الطبري" 3/ 200 وما بعدها". 3 تاج العروس "2/ 279"، "مسخ". 4 تاج العروس "1/ 580"، "لت". 5 تاج العروس "6/ 40 وما بعدها" "أسف" اللسان "10/ 348"، الأصنام "9، 29، الروض الأنف "1/ 64"، المحبر "318".

فمسخه الله كوكبًا1 وورد أن بعض الملائكة عصى الله فأهبط إلى الأرض في صورة رجل تزوج أم جرهم فولدت له جرهمًا وأن ما تولد بين الملك والآدمي يقال له: "العلبان"2 وأن "النسناس" جنس من الخلق يثب أحدهم على رجل واحدة، أصلهم حي من عاد عصوا رسولهم فمسخوا نسناسًا، لكل إنسان منهم يد ورجل من شق واحد، ينقزون كما ينقز الطائر ويرعون كما ترعى البهائم3. وقد ذكر "الجاحظ" أمثلة من أمثلة المسخ التي وقعت للحيوان على اعتقاد الناس، من ذلك: اعتقادهم أن السمك "الجري" والضباب كانتا أمتين من الأمم مسختا واعتقادهم أن "الإربيانة" كانت خياطة تسرق السلوك، وأنها مسخت وترك عليها بعض خيوطها لتكون علامة لها ودليلًا على جنس سرقتها، ومن أن "الفأرة" كانت طحانة" والحية كانت في صورة جمل، وأن الله عاقبها حتى لاطها بالأرض، وقسم عقابها على عشرة أقسام، حين احتملت دخول إبليس في جوفها حتى وسوس إلى آدم من فيها. ومن أن الإبل خلقت من أعناق الشياطين، وأن الكلاب أمة من الجن مسخت، وأن الوزغة والحكأة من ممسوخ الحيوان4. ومن أمثلة المسخ: جرهم، فقد زعم أن جرهمًا كان من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم. وكان بعض الملائكة قد عصى الله، فأهبط إلى الأرض في صورة رجل، تزوج أم جرهم فولدت له جرهمًا5. وزعموا أن سهيلًا كان عشارًا باليمن، فلما ظلم مسخه الله نجمًا6. و"الزهرة" وقد زعموا أنها كانت بغيًّا عرجت إلى السماء فمسخها الله شهابًا7. و"البسوس"، وقد زعموا أنها كانت امرأة مشئومة اسمها: البسوس، أعطي زوجها ثلاث دعوات مستجابات، وكان له منها ولد، فكانت محبة له. فقالت اجعل لي منها دعوة واحدة. قال: فلكِ واحدة. فماذا تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة

_ 1 تاج العروس "7/ 384"، "سهل"، الحيوان "1/ 297". 2 الحيوان "1/ 187"، "4/ 70" حاشية "6". 3 تاج العروس "4/ 257"، "نس". 4 الحيوان: "1/ 152، 297"، "6/ 86، 155"، "4/ 68". 5 الحيوان "1/ 187"، "4/ 69"، الروض الأنف "1/ 97". 6 الحيوان "1/ 297"، "4/ 69". 7 الحيوان "4/ 69".

في بني إسرائيل: ففعل فرغبت عنه، لما علمت أن ليس فيهم مثلها، فأرادت سيئًا. فدعا الله تعالى عليها أن يجعلها كلبة نباحة، فذهبت فيها دعوتان. فجاء بنوها، فقالوا: ليس لنا على هذا قرار، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا بها الناس. فادع الله تعالى: أن يردها إلى حالها التي كانت عليها، ففعل. فعادت كما كانت: فذهبت الدعوات الثلاث بشؤمها، وبها يضرب المثل1. ونجد عقيدة "المسخ" عند غير العرب أيضًا. ففي التوراة أن الله مسخ امرأة لوط، فصارت عمود ملح2. ونجدها عند الهنود وعند غيرهم من الأمم القديمة. وقد تسرب من اليهودية إلى العرب المسلمين كثير من القصص الوارد في المسخ. وقد أنكر بعض المتكلمين "المسخ" وأنكره قوم آخرون، لكنهم جوزوا "القلب" وهو أن يُقلب ابن آدم قردًا من غير أن ينقص من جمسه طولًا أو عرضًا3.

_ 1 تاج العروس "4/ 109"، "بس". 2 التكوين، الإصحاح 19، الآية 24 وما بعدها. 3 الحيوان "4/ 73".

الزندقة

الزندقة: وقد أشار بعض الأخباريين إلى اعتقاد بعض قريش بالنور والظلمة زاعمين أنهم أخذوه من الحيرة. ويسمي الأخباريون أصحاب هذا الرأي "الثنوية"، وأطلقوا علي تلك الفئة المذكورة من قريش: "الزنادقة"1. ولم يذكروا شيئًا عن زندقة تلك الجماعة من قريش ولا عن رجالها. وأشار بعض أهل الأخبار إلى وجود الزندقة والتعطيل في قريش: "وكانت الزندقة والتعطيل في قريش"2. وقد وصفوا الزنديق بأنه القائل بدوام بقاء الدهر3، ولا يؤمن بالآخرة وبوحدانية الخالق. فهو دهري ملحد لا يؤمن بوجود إله واحد، وهو من الثنوية" على

_ 1 اللسان "12/ 12" "زندق"، "10/ 147"، "بيروت 1956"، تاج العروس "6/ 273" وكانت الزندقة في قريش أخذوها من الحيرة" المعارف "621" المعرب، للجواليقي "166". 2 البدء والتأريخ، "4/ 31" بلوغ الأرب "2/ 228". 3 اللسان "10/ 147" "بيروت 1956"، واللسان "12/ 12"، "زندق" "بولاق".

رأي بعض العلماء1. وإلى هذا المعنى في تفسير زندقة قريش، ذهب أكثر أهل الأخبار. وقد عد "أبو العلاء" المعري "شداد بن الأسود الليثي" المعروف أيضًا بـ"ابن شعوب" وهي أمه، شاعر زنادقة قريش. وذلك لشعره الذي فيه: ألا من مبلغ الرحمن عنى ... بأني تارك شهر الصيام إذا ما الرأس زايل منكبيه ... فقد شبع الأنيس من الطعام أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا؟ ... وكيف حياة أصداء وهام أتترك أن ترد الموت عني ... وتحييني إذا بليت عظامي2 والزندقة كلمة معربة، ذكر علماء اللغة أنها أخذت من الفارسية، أريد بها في الأصل الخارجون والمنشقون على تعاليم دينهم، فهي في معنى "هرطقة". وقد صار لها في العهدين: الأموي والعباسي مدلول خاص، حيث قصد بها "الموالي الحمر"، الذين تجمعوا في الكوفة، وكانوا يظهرون الإسلام ويبطنون تعاليم المجوسية والإلحاد3. وفي كلام أهل الأخبار عن الزندقة ووصفهم لزندقة قريش إبهام وغموض وخلط. وإذا كان الزنديق هو القائل ببقاء الدهر، وبعدم وجود عالم ثانٍ بعد المون، فتكون الزندقة "الدهرية" ويكون الزنديق هو الدهري لقوله بالدهر وبأبدية الكون والمادة4. أما القول بالثنوية: بالنور والظلمة، وبالكفر والإلحاد فشيء آخر، يختلف عن القول بالدهر. والظاهر أن الجمع بين القول بالدهر وبالقول بالنور والظلمة وبالكفر والإلحاد، إنما وقع في الإسلام، بسبب الخلط الذي وقع بين المعنى المفهوم للفظة في الفارسية القديمة وفي الفارسية الحديثة، وبالمعنى الذي ظهر للكلمة في الإسلام. والذي تحول إلى زندقة بغيضة تحوي العناصر المذكورة، والتي كانت تؤدي بمن يتهم بها إلى القتل.

_ 1 اللسان "10/ 147"، "زندق" الغزالي، فيصل المتفرقة بين الإسلام والزندقة "173"، "1961". 2 رسالة الغفران "421 وما بعدها". 3 "والحمراء العجم، لبياضهم، ولأن الشقرة أغلب الألوان عليهم"، اللسان "5/ 288" "حمر"، Shorter Ency. Of Islam, p. 659, Muh Stud, I, S. 150. 4 المعرب "ص166 وما بعدها"، اللسان "12/ 12"، "10/ 147"، طبعة دار بيروت "1956م".

وقد أشير في القرآن الكريم إلى وجود القائلين بالدهر: "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر"1. وهو على حد قول المفسرين والأخباريين، من لا يؤمن بالآخرة وبوحدانية الله. وهو مذهب ودين كان عليه كثير من أهل الجاهلية، يسخر من البعث بعد الموت، ويرى استحالة ذلك. ولم يذكر المفسرون أن من عقيدة هؤلاء القول بالثنوية، أي بالنور والظلمة، وبوجود إلهين: إله الخير وإله الشر. وقد ذكر "محمد بن حبيب" أسماء "زنادقة قريش"، فجعلهم "أبو سفيان بن حرب"، و"عقبة بن أبي معيط"، و"أبي بن خلف الجمحي"، و"النضر بن الحارث بن كلدة"، و"منبه" و"نبيه" ابنا "الحجاج" الهميان، و"العاص بن وائل" السهمي، و"الوليد بن المغيرة" المخزومي. وذكر أنهم "تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة"2. فربط هنا بين الزندقة وبين "نصارى الحيرة". وقد هذب "ابن قتيبة" أيضًا، إلى أخذ قريش الزندقة من الحيرة3. والذي نعرفه عن المذكورين أنهم كانوا من المتمسكين الأشداء بعبادة الأصنام: وقد كان "أبو سفيان" يستصرخ "هبل" على المسلمين يوم أحد. ويناديه: "اعل هبل، اعل هبل"، وقد نص على أنه كان من أشد المتحمسين لعبادة الأصنام4. ولم يذكر أحد من أهل الأخبار، أنهم كانوا ثنويين على رأي المجوس، يقولون بإلهين، بالنور والظلمة، وأنهم تعبدوا للنار، أو تأثروا برأي مزدك أو ماني الذي أضيف إليه الزندقة، ولا نجد في آرائهم المنسوبة إليهم وفي حججهم في معارضه الرسول ما يشير إلى "زندقة" بمعنى "ثنوية"، لذلك فزندقة من ذكرت لا يمكن أن تكون بهذا المعنى ولا على هذه العقيدة5. وللوقوف على زندقة من ذكرت من رجال قريش، ولتحديد معنى زندقتهم، يجب الرجوع إلى ما نسب إليهم من آراء وإلى ما عارضوا به الرسول وحاربوه.

_ 1 الجاثية، الآية 23. 2 المحبر "161"، "زنادقة قريش". 3 المعارف "621" الأعلاق النفسية "217". 4 اللسان "14/ 212"، تاج العروس "8/ 162"، "هبل"، الأصنام "28". 5 راجع معنى الزندقة في مروج الذهب "1/ 275"، "أثناء حديثه على بهرام".

من أجله. ويمكن حصر ذلك في أمرين: التقرب إلى الأصنام والتعبد لها، والدفاع عنها بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1، ولا علاقة لهذه العقيدة بالزندقة. والأمر الثاني، هو القول بالدهر وبالتعطيل، أي بنكران البعث والحشر والنشر. ويتجلى ذلك في قولهم لرسول الله: إن كنت صادقًا فيما تقول: فابعث لنا جدك: "قصي بن كلاب"، حتى نسأله عما كان ويحدث بعد الموت، وأمثال ذلك مما له علاقة بنفي وقوع البعث. وهو الذي له صلة بالزندقة. فالزندقة بهذا المعنى قول الدهر وبدوامه ونكران للبعث، لا الثنوية بمعنى القول: بالنور والظلمة. وأما ما يرويه أهل الأخبار من أخذ زنادقة قريش زندقتهم من الحيرة2، أو من نصارى الحيرة3، فإن فيه تأييدًا لما قلته من أن الزندقة لا تعني المجوسية والثنوية، وإنما القول بالدهر، وإنكار المعاد الجسماني4. وهو قول قريب من قول من أنكر بعث الأجسام، وآمن ببعث الروح فقط من النصارى ومن غيرهم من أهل الأديان. والزندقة بهذا المعنى قريبة من رأي القائلين بالدهر، وهم "الدهرية" الذين أشير إليهم في القرآن الكريم، في الآية: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 5. وهم من يقول ببقاء الدهر، وبنكران البعث والآخرة، والخالق والرسل والخلق على بعض الآراء، وينسبون كل شيء إلى فعل الدهر، أي الأبدية مع التأثير في حياة الإنسان وفي العالم. ولهذا أضافوا إليه بعض الألفاظ والنعوت التي تشير إلى وجود هذا التأثير في الحياة فقالوا: يد الدهر، وريب الدهر، وعدواء الدهر، و"الدهر لا يبقى على حدثانه"، و"الدهر يحصد رببه ما يزرع"، وأمثال ذلك من تعابير، فنسبوا إليه الفعل في الكون وفي كل ما فيه6.

_ 1 الزمر، سورة رقم 39، الآية 3. 2 المعارف "621". 3 المحبر "621". 4 مروج "2/ 102"، "ذكر ديانات العرب وآرائها في الجاهلية". 5 الجاثية، سورة رقم 45، الآية 24، تفسير الطبري "25/ 151"، القاهرة 1954". 6 ألم أخبرك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتهم الرجالا ألا إنما الدهر ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر السندوبي "83، 171".

ونسبوا الإماتة إلى الدهر، فقالوا: "وما يهلكنا إلا الدهر" أي وما يميتنا إلا الأيام والليالي، أي مرور الزمان وطول العمر، إنكارًا منهم للصانع. قال أحدهم: فاستاثر الدهر الغداة بهم ... والدهر يرميني وما أرمي يا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت في العظم1 فكانوا في الجاهلية يضيفون النوازل إلى الدهر، والنوازل تنزل بهم من موت أو هرم، فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، وأبادهم الدهر، فيجعلون الدهر الذي يفعله، فيذمونه ويسبونه. وقد ذكروا ذلك في أشعارهم2. ومن الجمل التي تنسب الفعل إلى الدهر، قولهم: "أصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، وأبادهم الدهر"، والدهر يجلب الحوادث، ففي هذه الجمل وأمثالها معنى أن ما ينزل بالإنسان من قوارع، وما يحل به من إبادة هو بفعل الدهر، فهو إذن المهيمن على العالم والمسخر له3. وقد كان هذا الاعتقاد راسخًا في نفوس كثير من الجاهليين، وفي نفوس كثير ممن أدرك الإسلام فأسلم، فكانوا إذا أصيبوا بمكروه وبحادث مزعج نسبوا حدوثه إلى الدهر. فسبوه كما يتضح من حديث: "لا تسبوا الدهر، فإن

_ 1 تفسير الطبرسي "25/ 136"، "بيروت 1955"، "25/ 78" وما بعدها"، "طبعة طهران". 2 تاج العروس "2/ 218"، "دهر". 3 ديار بني سعد بن ثعلبة الألى ... أذاع بهم دهر على الناس دائب فأذهبهم ما أذهب الناس قبلهم ... ضراس الحروب والمنايا العواقب Caskel, S. 45.. ولست إذا ما الدهر أحدث نكبة ... ورزاء بزوار القرائب أخضعا Caskel, S. 50. وإلا تعاديني المنية أغشكم ... على عدواء الدهر جيشا لهاما Caskel, S. 51. ابن قتيبية: الشعراء "229". غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... كما الدهر في أيامه العسر واليسر Caskel, S. 51.. قال زهير بن أبي سلمى: واستأثر الدهر الغداة بهم ... والدهر يرميني ولا أرمي ديوان زهير "385".

الله الدهر"، أو "فإن الدهر هو الله" ومن حديث: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وإنما أنا الدهر: أقلب الليل والنهار"1. وأحاديث أخرى من هذا القبيل. وقد ذكر "الجاحظ"، أن من الصحابة والتابعين والفقهاء من نهى الناس من قول: طلع سهيل وبرد سهيل، وقوس قزح، كأنهم كرهوا ما كانوا عليه من عادات الجاهلية، ومن العود في شيء من أمر تلك الجاهلية، فاحتالوا في أمورهم، ومنعوهم من الكلام الذي فيه أدنى متعلق2. وفي هذين الحديثين توفيق فكرة الجاهليين في الدهر، وللعقيدة الإسلامية في التوحيد بأن صير الدهر الله، وصيره بعض العلماء من أسماء الله الحسنى. والذي حملهم على ذلك، على ما أرى، صعوبة إزالة تلك الفكرة التي رسخت في النفوس منذ القدم عن فعل الدهر، وعن أثره في الكون، فرأى القائلون بذلك إزالتها بجعل الدهر اسمًا من أسماء الله، أو هو الله تعالى: وهو واحد أحد، والدهر واحد أبدي أزلي كذلك، فلا تصادم في هذا التوفيق بين الرأيين. وقد وقع هذا التوفيق على ما أعتقد بعد وفاة الرسول في أمور عديدة نسبت إلى الرسول، وقد ثبت عدم إمكان صدورها منه. وللحكم على صحة نسبة الحديثين إلى الرسول أحيل القارئ على الطرق التي وردا بها، وإلى آراء العلماء فيهما، وأعتقد أنه إن فعل ذلك فسيجد في نسبتها إلى الرسول بعض الشك، إن لم أقل كل الشك. وتعبر لفظة "الزمان" عن معنى "الدهر" كذلك. وقد ذهب علماء اللغة إلى أن الزمان، أقصر من الدهر؛ إذ يقع على الزمان القصير، أما الدهر، فالزمان الدائم، أي الزمان الذي لا ينتهي بنهاية. وأنا لا يهمني في هذا المكان تفريق العلماء بينهما في الطول والقصر، إنما المهم عندي هو أن الجاهليين استعملوا الزمان استعمالهم للدهر، ونسبوا إليه ما نسبوه للدهر من فعل في الإنسان وفي الحياة والعالم. هذا "زهير بن أبي سلمى" يتشكى منه في قصيدته التي يمدح بها "هرم بن سنان"، فيقول في مطلعها:

_ 1 اللسان "5/ 378"، "دهر"، تاج العروس "3/ 218"، "دهر"، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، تفسير الطبرسي "25/ 136"، "بيروت 1955"، صحيح مسلم "15/ 2 وما بعدها". 2 الحيوان "1/ 340 وما بعدها".

لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حجج ومن دهر لعب الزمان بها وغيرها ... بعدي سوافي المور والقطر1 وتجد اللفظة في أشعار غيره من الشعراء الجاهليين والإسلاميين تعبر عن "غدر الزمان" وعن "كذبه"2 وتلونه وتلاعبه بمقدرات الإنسان3. وفي كل هذه المواضع التي استعملت فيها تعبير عن تلك العقيدة التي لا تزال راسخة في نفوس كثير من الناس، وهي أن الحياة قسمة ونصيب وحظ وبخت، وأنه ليس لمخلوق على ما يقدره له القدر من سلطان. وأن الزمان يلعب بالإنسان وبالكون كيف يشاء، مع أن الإنسان لو فكر في نفسه وتأمل في عقله، لوجد أنه هو الذي خلق الزمان أي الدهر فأوجده على صورته هذه، بأن حدده وعينه بسنين وبقرون، وليس الزمان إلا دوام وبقاء لهذا الكون، وليس له أي فعل حقيقي في هذا الكون، والإنسان هو الذي أوجد السنين ليقيس بها طول الزمان، لحاجته إلى معرفته، وأن حسابه بالسنين مهما سيطول، فإنه لن يبلغ ولن يكون في مقدوره بلوغ نهاية الكون. والمعنى الذي نفهمه من "الدهر" في الشعر الجاهلي، هو الأبدية مع التاثير في حياة الإنسان وفي العالم. ولهذا أضافوا إليه بعض الألفاظ التي تشير إلى وجود هذا التأثير في الحياة، فقالوا: يد الدهر، وريب الدهر، وعدواء الدهر، وأمثال ذلك من تعابير. فنسبوا إليه الفعل في الكون وفي كل ما هو فيه4.

_ 1 وفي بعض الروايات "لعب الرياح" شرح ديوان زهير "ص87"، Caskel, S. 44. 2 أفرحت أن غدر الزمان بفارس ... قلح الكلاب وكنت غير مغلب يا مر كذب الزمان عليكم ... ونكأت قرحتكم ولما أنكب Caskel, S. 51.. 3 ولو سألت سراة الحي عني ... على أني تلون بي زماني .Caskel, S. 52. 4 "والدهر لا يبقى على حدثانه"، "والدهر يحصد ريبه ما يزرع". ألم أخبرك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتهم الرجالا ألا إنما الدهر ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر Caskel, Die Schiksal in der altarabischen Poesie, Leipzig. 1926, s. 48, w. L. Schramaier, uber den Fatalismus der Barislamischen Araber, S. 12, Bnn. 1881.

ومن نسب إليه القول بالدهر، الحارث بن قيس، المعروف بابن الغيطلة1. وتؤدي لفظة "الأيام" هذا المعنى كذلك، بل استعملت أجزاء اليوم مثل "الليالي" للتعبير عن تلك الفكرة أيضًا. فالليالي هي كالأيام، لا يمكن أن يطمأن إليها، ولا أن يوثق بها، إنها تتلون وتتبدل ولا تخلص لأحد. وحيث إن الليالي هي أوقات الراحة والاستقرار والهدوء، وأوقات الأنس والطرب والانفراد بالأحبة، وهي أوقات الغدر والاغتيال والغارات والغزو في الوقت نفسه، فيكون ذكرها في الشعر وتفضيلها على النهار وتقديمها عليه، ونسبة الخير أو الشر إليها أكثر من نسبتها إلى النهار شيئًا طبيعيًّا. لذلك يجب ألا يستغرب ما نقرؤه في الشعر وما نسمعه من أفواه الناس من نسبة تبدل الحال والتلون إلى الليالي أكثر من النهار2. وقد استعملت لفظة "عَوْض" في معنى الدهر والزمان. وردت في شعر شاعر من شعراء بكر بن وائل، فعبر بهذه اللفظة عن زمانه. واستخدام بكري لهذه الكلمة. يشير إلى الصنم "عوض" الذي كانت بكر قبيلة هذا الشاعر تتعبد له3. وقد أقسموا بها. فقالوا: "عوض لا يكون ذلك أبدًا"4، ولا أستبعد وجود صلة بينها وبين الصنم "عوض". وأما "الحمام" فإنه قضاء الموت وقدره، يقال: "حُمَّ طه" أي قضى وقدر5. وقد وردت لفظة "حم" ومتعلقاتها في أشعار عديدة بهذا المعنى. أي القضاء والتقدير. فورد "ما حم واقع" وورد "أحم الله...." و"حمه الله"، و"حمت لميقاتي"، و"حمتي"، و"حمام الموت"، و"حمام

_ 1 أنساب "1/ 132". 2 فأن تك غبراء الخبيبة أصبحت ... خلت منهم واستبدلت غير إبدال بما قد رأى الحي الجميع بغبطة ... بها والليالي لا تدوم على حال Caskel, S. 45.. 3 "وعوض معناه أبدًا أو الدهر. سمي به لأنه كلما مضى جزء عوضه جزء أو قسم أو اسم صنم لبكر بن وائل"، والقاموس "2/ 337"، قال الأعشى: حلفت بمائرات حول عوض ... وأنصاب تركن لدى السعير وقيل إن هذا الشعر لرشيد بن رميض العنزي. والسعير اسم صنم كذلك. تاج العروس "5/ 58 وما بعدها"، "عوض". 4 تاج العروس "5/ 58"، "عوض". 5 تاج العروس "8/ 258".

النفس"، و"حمام المنون"، و"حمام"1. وهي من حيث هذا المعنى كالحتف والأجل والآجال والحتوف والمنون.

_ 1 قال البعيث: ألا يا لقوم كل ما حم واقع ... وللطير مجرى والجنوب مصارع وقال الأعشى: تؤم سلامة ذا فائش ... هو اليوم حم لميعادها وقال خباب بن غزي: وأرمي بنفسي في فروج كثيرة ... وليس الأمر حمه الله صارف تاج العروس "8/ 258".

القضاء والقدر

القضاء والقدر: ويسوقنا هذا الموضوع إلى البحث عن فكرة القضاء والقدر عند الجاهليين. فقد كان بين أهل الجاهلية من كان يقول بالجبر، وبأن الإنسان مسير لا مخير. وأن كل ما يقع له مكتوب عليه، ليس له دخل في حدوثه. ومن هؤلاء القائلون بالدهر والمنون والحمام وما شاكل ذلك من مصطلحات تشير إلى وجود هذا الرأي عندهم. ولا يعني القول بالجبر، أن قائله من المتألهين القائلين بوجود خالق أوجد الكون، فقد كان من المجبرة من كان ملحدًا، لا يقول بخالق، وكان منهم من كان مشركًا. كما أن بينهم من كان يؤمن بوجود خالق أو جملة آلهة فليس لمذهب الجبر علاقة بالخالق، وإنما هو مذهب يري أن الإنسان مسير، وأنه يسير وفق ما كتب له، ومنهم من ينسبه إلى علة، هي الله أو الدهر، ومنهم من لا ينسبه إلى أحد وهو مذهب موجود في اليهودية وفي النصرانية وفي الإسلام. ونجد هذه العقيدة في شعر الشاعر النصراني "عدي بن زيد العبادي"، وربما نجدها أيضًا عند سائر إخوانه النصارى ومن كان على هذا الدين من غيرهم من العرب. والواقع أن الاعتقاد بوجود إله خلق الكون منفردًا، أو آلهة خلقوا الكون مشتركين، يحمل الإنسان على أن يتصور نفسه أنه لا شيء تجاه خالقه أو آلهته وأنه من صنعهم، فما يقوم به، هو من صنع الله أو من صنع الآلهة.

وهي عقيدة لا بد أن يكون للأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إذ ذاك دخل في شيوعها بينهم. ونكاد نجد أكثر الشعوب الشرقية على هذا الرأي. وأما ما ظهر من نظرية حرية الإرادة وقدرة الإنسان على خلق أفعاله واختياره، فإنه من تأثير الفلسفة الإغريقية التي دخلت النصرانية. ونرى "حاتم الطائي" وهو من النصارى على رأي، مؤمنًا بالقضاء وبالقدر وبما يأمر به الله، إذ يقول: أتيح له من أرضه وسمائه ... حمام، وما يأمر به الله يفعل فأسند الأمر والنهي في هذا البيت إلى الله، وأما الإنسان فإنه مأمور مسير. ونجده يكل أمره إلى الله، ويدعو على تسليم أمرهم للإله الذي يرزقهم اليوم ويرزقهم غدًا: كلوا اليوم من رزق الإله وأيسروا ... وإن على الرحمن رزقكم غدا ونجد "المثقب العبدي" مؤمنًا بالله، وبالقدر. فما يقع للإنسان يكون بمشيئة الإله وقدره: وأيقنت إن شاء الإله بأنه ... سيبلغني أجلادها وقصيدها1 و"القدر" و"المقدر" و"المقدور" و"الأقدار" و"القضاء"، من الألفاظ القديمة التي كانت تؤدي هذا المعنى الذي نبحث فيه قبل الإسلام واستعمال المتكلمين للقضاء والقدر وللقدرية، لا يعني أن تلك الكلمات من الألفاظ التي نبعت في الإسلام. بل إن ظهورها في هذا العهد واشتهارها فيه، هو لاستخدامها العلماء لها في مدولات معينة وفي مصطلحات وأفكار توسعت واستقرت في هذا العهد. ونجد الإشارة إلى القدر في شعر الجاهليين والمخضرمين بالمعنى الذي نقصده هنا، أي شيء مفروض على كل إنسان. هذا لبيد الشاعر المخضرم يذكر أن ما يرزقه هو من فضل الله عليه، وما يحرمه فإنه مما يجري به.

_ 1 تاج العروس "2/ 468"، "قصد".

القدر1. ونجد فكرة القدر مركزة قوية صريحة في شعره، فهو يعتقد أن القدر خيره وشره من الله، وأن ما يصيب الإنسان مكتوب عليه، ولا راد لما هو مكتوب ولا دخل لامرئ في عمله، فليحمد اله على خيره، وليشكره على شره أيضًا، فهو العالم وحده بما هو صالح وضار2. وشعره هذا لا بد أن يكون مما نظمه في الإسلام؛ إذ لا يعقل أن يكون من نظم عصر وثني، لما يتجلى عليه من الطابع الإسلامي في الفكر وفي الأسلوب والعرض. كذلك نجد هذه العقيدة عقيدة القدر في شعر "زهير بن أبي سلمى" وفي شعر غيره من الشعراء. هذا زهير يقول: إن المنايا أمر لا مفر منه، وإن من جاءت منيته لا بد أن يموت، ولو حاول الارتقاء إلى السماوات فرارًا منه3. ثم نجده يقول: رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب ... تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ4 فليس للإنسان دخل في عمله، وإنما كل شيء يقع له في حياته هو مكتوب عليه. مكتوب عليه أن يموت في أجله. وأن يعيش إلى أجله، وأن يكون غنيًّا وأن يكون فقيرًا، وليس للإنسان عمل على سلطان الحظ. ومن القائلين بالقدر، "عبيد بن الأبرص"، الشاعر الجاهلي الشهير، المقتول في قصة معروفة مشهورة. نجد في الشعر المنسوب إليه اسم "الله" يتردد في كثير من المواضع، ونراه من المتشائمين المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوب، وتراه يتوكل على الله، ويدعو الناس إلى الاعتماد عليه، فيقول:

_ 1 فما رزقت فإن الله جالبه ... وما حرمت فما يجري به القدر ديوان لبيد "ص54"، "طبعة ليدن 1891". ولا أقول إذا ما أزمة أزمت ... يا ويح نفسي مما أحدث القدر Caskel, S. 20. 2 من يبسط الله عليه أصبعا ... بالخير والشر بأي أولعا ديوان لبيد "8، 11، 28، 33، 53، 54، 55،"، "طبعة بروكلمن" Ency, III, P. I.. 3 ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلم شرح ديان زهير لثعلب "ص30"، "وطر بالذي قد حم"، Caskel, S. 54. 4 الحيوان "2/ 103".

من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيب والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب1 ونراه يقول في المنايا: فأبلغ بني وأعمالهم ... بأن المنايا هي الوارده لها مدة فنفوس العباد ... إليها وإن كرهت قاصده فلا تجزعوا الحمام دنا ... فللموت ما تلد الوالده2 وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر أنه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج ذي نفس ميالة إلى التقشف والتصوف، مؤمن بالعدل، كاره للظلم، فهل كان عبيد على هذه الشاكلة؟ وهل هذا الشعر وخاصة ما جاء منه في البائية هو نظم من منظومه؟ أو هو من نظم من عاش بعده في الإسلام؟ ونجد "عمرو بن كلثوم" في جملة من آمن بالقضاء والقدر، وبأن الموت مقدر لنا، ونحن مقدرون له، وذلك في قوله: وَإِنّا سَوفَ تُدرِكُنا المَنايا ... مُقَدَّرَةً لَنا وَمُقَدَّرينا3 وهو من المؤمنين بالله، الحالفين به. وذلك كما جاء في بيت شعر نسبوه إليه: مَعَاذَ اللَهِ يَدعوني لِحِنثٍ ... وَلَو أَقفَرتُ أَيّاماً قُتارُ4 وكما ورد في أشعار أخرى تنسب إليه. والشاعر "لبيد" من هذه الطبقة التي اعتقدت أن الله خالق كل شيء،

_ 1 البيان والتبيين "1/ 226"، شعراء النصرانية، القسم الرابع "ص607". 2 شعراء النصرانية، القسم الرابع "604 وما بعدها". 3 التبريزي، شرح القصائد العشر "384"، "البيت رقم 7 من المعلقة"، شرح القصائد السبع للزوزني "146 وما بعدها"، جمهرة أشعار العرب "120". 4 المحبر "471".

يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فلا دخل للإنسان في عمله، تراه يقول: من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل1 وتؤدي لفظة "منا" معنى القدر، ومنها "الماني" بمعنى القادر، و"المنية" بمعنى الموت؛ لأن الموت مقدر بوقت مخصوص2. وهي من الكلمات السامية المشتركة الواردة في مختلف لهجات هذه المجموعة. ولهذه الكلمة صلة باسم الإله الكنعاني "منى"، وهو إله القدر. ولها أيضًا صلة بالصنم "منوات" "منوت" من أصنام ثمود، وبـ"مناة" من أصنام الجاهليين3. ومن أصل "منا" "المنايا" الواردة في أشعار الجاهليين4. و"الماني الواردة في شعر منسوب إلى سويد بن عامر المصطلقي، هو: لا تأمن الموت في حل ولا حرم ... إن المنايا توافي كل إنسان واسلك طريقك فيها غير محتشم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني في رواية. و: لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني فالخير والشر مقرونان في فرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان

_ 1 الأغاني "9/ 112"، "21/ 126". 2 تاج العروس "10/ 347 وما بعدها". إن المنية منهل ... ولا بد أن أُسقى بكأس المنهل الأغاني "15/ 79". وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع ولو كنت في بيت تسد خصاصه ... حوالي من أبناء نكرة مجلس ولو كان عندي حازيان وكاهن ... وعلق أنجاسا على المنجس إذا لاتتني حيث كنت منيتي ... يخب بها هاد إلى معرس Caskel, s. 29. 3 Caskel, s. 22, Ency, Religi, I, P. 661. 4 وأن المنايا ثغر كل ثنية ... فهل ذاك عما يبتغي القوم محضر وغبراء مخشي رداها مخوفة ... أخوها بأسباب المنايا مغرر ديوان عروة بن الورد "38"، "تحقيق نولدكه"، كوتنكن 1863".

على رواية أخرى. وفي هذا البيت الذي ينسبه بعض الرواة إلى أبي قلابة الهذلي: وَلا تَقولَنْ لِشَيءٍ سَوفَ أَفعَلُهُ ... حَتّى تُلاقِي ما يمني لَكَ الماني1 وتؤدي كلمة "المنون" معنى الدهر والموت2، وقد تسبق بكلمة "ريب" في بعض الأحيان، فيقال: "ريب المنون" كما يقال "ريب الدهر"3. ويرى "نولدكه" إن هذه الكلمات هي أسماء آلهة، وليست أسماء أعلام، هي أسماء تعبر عن معانٍ مجردة للألوهية، وهي مما استخدام في لغة الشعر للتعبير عن هذه العقائد الدينية. فالزمان مثلًا أو الدهر، لا يعنيان على رأيه هذا إلهًا معينًا، ولا صنمًا خاصًّا، إنما هي تعبير عن فعل الآلهة في الإنسان4. وبعض هذه الكلمات -في رأي "ولهوزن"- مثل قضاء ومنية، هي بقايا جمل اختصرت، ولم يبق منها غير بقايا هي هذه الكلمات. فكلمة قضاء هي بقية جملة أصلها "قضاء الله" سقطت منها الكلمة الأخيرة، وبقيت الأولى. وكذلك الحال في منية، فإنها بقية جملة هي: "منية الله، سقط عجزها، وبقي صدرها. وهي تعني أن المنية هي منية الله تصيب الإنسان5. يبدو أن من الغريب ذكر الدهر والزمان والحمام والمنايا وأمثالها في الشعر ونسبة الفعل إليها، بينما يهمل ذكر الأصنام فيه أو نسبة الفعل إلى الله. فهل يعني هذا أن الجاهليين لم يكونوا يعلمون أن لله سلطانًا وحولًا، وأن المنايا والحتوف وكل خير أو مكروه هو من فعل الله؟ الواقع أن هذا الذي نذكره يذهب إليه أهل

_ 1 تاج العروس "10/ 347"، اللسان "15/ 292"، "منى". 2 تاج العروس "9/ 350 وما بعدها". 3 "أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون"، الطور، الآية 30. أئن رأت رجلًا أعشى أضر به ... ريب المنون ودهر مفند خبل تخوفني ريب المنون وقد مضى ... لنا سلف قيس معًا وربيع ديوان عروة بن الورد "ص43" نولدكه". أمن المنون وديبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع Caskel, S. 41. 4 Ency, Religi, I, P. 661. 5 Reste, S. 222.

الجاهلية ولم يقصدوه. وما ذكر الدهر في الشعر، إلا كتشكي الناس من الزمان أو من الحظ أو النصيب في هذه الأيام، وشكواهم من ذلك لا يعني تجديد سلطان الله، أو نكرانه، وإنما هو بقية من تصور إنساني قديم بنسبة كل فعل وعمل إلى قوة خفية هي القوة العاملة، وهي ما عبرت عنها بالدهر وبالزمان. وذلك لما يتصورونه من مرور الأيام والسنين وبلاء الإنسان فيه، وبقاء الأرض والكون، ومثل هذه النسبة والشكوى عامة عند جميع الشعوب البدائية والمتطورة المتقدمة، فنراها عند القبائل البدائية ونراها عند الغربيين ولا يقتصر هذا الاستعمال على الشعر وحده، بل نجد ذلك في النثر وفي كلام الناس الاعتيادي. لذلك لا أرى صحيحًا ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن نسبة الفعل إلى الدهر هو من الاستعمالات الخاصة بالشعر1. وهناك كلمات أخرى تشير معانيها إلى هذه الفكرة فكرة القدر، وأن الخير والشر وكل ما يصيب الإنسان هو مقدر مكتوب. وهي نظرة لا بد أن تكون قد انبعثت من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن أثر المحيط في الإنسان. ومن شعور الإنسان بأن قوى خفية تلعب به وتوجهه حيث يشاء2. فنسب كل ذلك إلى غيره، وصير نفسه مسخرًا موجهًا كالريشة في مهب الريح. وتؤدي عقيدة القدر بصاحبها إلى التشاؤم، وإلى القنوط والاستسلام. والتوجع والتألم، والتشكي من عبث الدهر بالإنسان، وهو ليس له دخل في رده وصده وقد تؤدي بمعتنقها إلى الخمول والكسل، وإلى العجز في هذه الحياة، وإلى رد كل ما يصيبه بسبب كسله وعدم استخدام قابلياته ومواهبه إلى غدر الدهر به وحنق الزمان عليه، وتلاعب الحدثان بأموره. ونجد أكثر شعراء أهل الجاهلية، هم على هذه الشاكلة، يبكون أيامهم، ويتذكرون الماضي، ويتوجعون لأنهم سائرون نحو مستقبل مؤلم موجع، لا حول فيه لإنسان ولا قوة. إنه عالم الشيخوخة أو عالم الموت أو عالم الفقر. وأمثال ذلك من العوالم المفزعة. يستوي في ذلك امرؤ القيس والشعراء المخضرمون. فأنت إذا تصفحت دواوينهم قلما تجد فيهم شاعرًا متفائلًا، أو شاعرًا غير مبال بالأيام، لا يهمه ما يأتي به الدهر، حتى

_ 1 Kaske, S. 54. 2 والمال ما خول الإله فلا ... بد له أن يحوزه قدر شرح ديوان زهير "ص314".

ليخيل إلينا أن هذا طبع. والواقع أننا نجد الشعراء في الجاهلية والإسلام وأكثر الكتاب والخطباء على هذا المنوال، مما يحمل المرء على القول بوجود التشاؤم في طبع العرب. وموضوع "القدر" من المواضيع التي حيرت المسلمين أيضًا. فانقسموا في ذلك إلى مذاهب. وقد مر الرسول بناس كانوا يتذاكرون في القدر، فقال: إنكم قد أخذتم في شعبين بعيدي الغور. أي يبعد أن تدركوا حقيقة علمه، كالماء الغائر الذي لا يقدر عليه1. وقد ذكر علماء التفسير أن قريشًا خاصموا الرسول في القدر، وأن رجلًا جاء إلى الرسول فقال: يا رسول الله ففيم العمل؟ أفي شيء تستأنفه، أو في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، سنيسره لليسرى، وسنيسره للعسرى2. ويظهر من ذلك أن قريشًا أو جمعًا منهم، لم يكونوا يؤمنون بالقدر، بل كانوا يؤمنون بأن فعل الإنسان منه، وأن لا لأحد من سلطان في تصرفه وفعله.

_ 1 تاج العروس "3/ 457"، "غور". 2 تفسير الطبري "27/ 64 وما بعدها".

القدرية

القدرية: وذكر أن الشاعر "الأعشى" كان قدريًّا، يرى أن للإنسان دخلًا في فعله، وأن له سلطانًا على نفسه، حيث يقول: اِستَأثَرَ اللَهُ بِالوَفاءِ وَبِالـ ... ـعَدلِ وَوَلّى المَلامَةَ الرَجُلا1 فالإنسان مسئول عن فعله، ملام على ما يرتكبه من قبيح. فالله عادل، لا يجازي الإنسان إلا على فعله، ولو كان قد قدر كل شيء له، وحتمه عليه كان ظالمًا. وقد أخذ الأعشى رأيه هذا "من قبل العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك". فنحن أمام عقيدتين. عقيدة تقول: إن الله خالق كل شيء، وإن فعل الإنسان من تقدير الله وأمره، فهو يفعل بفعله وبحسب ما قدره له، ورأي يقول إن الإنسان خالق فعله، فهو حر مختار، ولهذا فهو وحده مسئول عن عمله، من خير أو شر. والرأي الأول أظهر عندهم وأقوى من الرأي الثاني.

_ 1 الأغاني "9/ 112"، "21/ 126".

الحظ

الحظ: وحظ الإنسان، أي ما يصيبه في حياته، هو جزء من هذا الموضوع أيضًا. مشتبك به، متصل بأجزائه. والحظ في اللغة النصيب والجد. أو خاص بالنصيب من الخير والفضل1. والنصيب، هو ما قدر وما قسم لك، أي حظك والحظ2 وهو "البخت". وقيل: "البخت من المعربات، وقيل من الألفاظ التي تكلمت العرب بها قديمًا3. وذكر علماء اللغة أن الجد البخت والحظ في الدنيا. ويفهم من الأمثلة الواردة في شرح معنى اللفظة، أنها في معنى الحظوة والرزق4. أي في معنى الشيء الحسن المفرح مما يصيب الإنسان. قالوا: والحظ موجود في المرزوق والمحروم، وفي المحارف، وفي القبائل، فربما سعدت بالحظ، وربما حظيت بالجد. وهو كذلك في الشعر وفي النباهة، ورب عاقل فاهم أديب، لا يكون إلا دائم الصبر على الشدة، لسلطان الحظ على الإنسان5. ونظرية "القسمة والنصيب"، معروفة في الإسلام، وقد بحث فيها علماء الكلام. فهي من الموضوعات التي بحثت في الجاهلية والإسلام. ونجد أحد الشعراء يقول: وليس الغنى والفقرُ من حيلةِ الفتى ... ولكن أحاظٍ قُسِّمت وجدود وهو بيت ينسب لسويد بن حذاق العبدي، ويروى للمعلوط بن بدل القريعي، وصدره:

_ 1 تاج العروس "5/ 249"، "حظ". 2 تاج العروس "1/ 486"، "نصب". 3 تاج العروس "1/ 525"، "بخت". 4 تاج العروس "2/ 313"، "جدد". 5 الحيوان "2/ 102 وما بعدها".

متى ما يرى الناسُ الغنيّ وجارُه ... فقير يقولوا عاجز وجَليد أي "إنما أتاه الغنى لجلادته، وحرم الفقير لعجزه وقلة معرفته، وليس كما ظنوا، بل ذلك من فعل القسام وهو الله سبحانه وتعالى، لقوله {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} 1. وفي هذا المعنى قول الشهاب المقري: سبحان من قسم الحظو ... ظ فلا عتاب ولا ملامه2 وأهل الجاهلية يرجعون القسمة إلى الدهر والزمان والحظ. فأبطل الإسلام ذلك؛ إذ جعلها بأمر الله وقدره. فالله هو مقدر الأقدار، ومقسم القسم، وموزع الحظوظ والأرزاق.

_ 1 تاج العروس "5/ 249"، "حظ". 2 المصدر نفسه.

الطبع والطبيعة

الطبع والطبيعة: ومن الموضوعات التي لها صلة بالقضاء والقدر. موضوع الطبع، أي الخليقة والسجية التي جبل عليها الإنسان. فرأي كثير من الجاهليين، أن الإنسان مجبول على طبيعته التي ولد فيها، وكل إنسان على طبيعته، ولن يستطيع تبديل طبعه، ولا تغيير السجايا؛ لأنها مكتوبة على الإنسان مسنونة، ولا تبديل لما طبع المرء عليه1. وطبائع الإنسان لا يغيرها إلا الموت. جاء في شعر لبيد: فَاِقنَع بِما قَسَمَ المَليكُ فَإِنَّما ... قَسَمَ الخَلائِقَ بَينَنا عَلّامُها2 وهو شعر قد يكون مما قاله في الإسلام. و"زهير بن أبي سلمى"، ممن يعتقدون بهذه العقيدة، ويأخذون بهذا الرأي. فهو القائل: وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ ... وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ3

_ 1 اللسان "8/ 232"، "طبع". 2 اللسان "10/ 86"، "خلق". 3 التبريزي، شرح القصائد العشر "240"، "البيت 58 من المعلقة"، "القاهرة 1964".

الفصل السادس والستون: الألهة والتقرب إليها

الفصل السادس والستون: الألهة والتقرب إليها مدخل ... الفصل السادس والستون: الآلهة والتقرب إليها لا نملك -ويا للأسف- نصوصًا جاهلية فيها وصف لطبائع الآلهة، ولا أساطير فيها شيء على رأي أهل الجاهلية في أخلاق أربابهم. ولهذا صار مرجعنا وسندنا في تكوين صورة عن طبائع الآلهة وأخلاقها، دراسة وتفسير أسماء الآلهة ونعوتها التي نعتت بها لاستخراج شيء منها يعيننا على تكوين هذه الصورة. وتفسير أسماء الآلهة ومعرفة أصولها وجذورها، عملية ليست سهلة يسيرة؛ بسبب جهلنا بمعاني بعض تلك الأسماء، وعدم وقوفنا على أصولها التي اشتقت منها؛ لأنه اللهجات التي دونت بها، لا تزال بعيدة عن مداركنا، ولأن قواعد نحوها وصرفها تختلف بعض الاختلاف عن قواعد وصرف عربيتنا، ونحن لا نملك اليوم المؤهلات الكافية، للحكم في تلك اللهجات حكمنا في عربيتنا. واسم الإله هو صفة في الغالب، ألبسها الزمن بمضي الوقت لباس العلمية، فعدت اسمًا علمًا، فإذا استطعنا الرجوع إلى أصول وجذور هذه الأسماء الصفات، نكون قد استنبطنا شيئًا عن طبائع تلك الآلهة من صفاتها المذكورة ونجحنا بعض النجاح من تكوين رأي عن تلك الديانات الجاهلية. هنالك أسماء مثل "أل" "إيل" يجد الباحثون صعوبة في الاتفاق على تعيين أصولها وضبط معانيها وهناك أسماء واضحة جلية ظاهرة، تدل على أشياء معروفة محسوسة، مثل "شمس" و"ورخ" بمعنى قمر، و"عثتر"، و"الشعرى العبور" و"نجم"، و"ثريا" وأمثال ذلك من أسماء تشير إلى

أشياء مادية، هي كواكب ونجوم، يستدل منها على وجود عبادة الأجرام السماوية عند الجاهليين. وهناك أسماء، هي نعوت في الواقع، لا تدل على ظواهر حسية وإنما تعبر عن أمور معنوية، مثل "ود" بمعنى "حب" و"رضى" و"سعد"، و"حكم"، و"نهي" و"صدق"، و"رحمن"، و"رحم" "ها - رحم" "الرحيم"، و"سمع"، "سميع"، و"محرمم" "محرم"، وأمثال ذلك من ألفاظ، هي نعوت، جرت بين الناس مجرى الأسماء. وعلى هذه الصفات الأسماء سيكون جل اعتمادنا في استنباط الصورة التي نريد تكوينها عن طبيعة آلهة العرب الجنوبيين. وعلينا أن نضيف على ما تقدم الأعلام المركبة المضافة للأشخاص، مثل "عبد ود"، و"عبد مناف"، و"عبد شمس"، و"عبد يغوث"، و"أمت العزى" "أمة العزى"، فالكلمات الثانية من الاسم، أسماء أصنام. وفي تركيب الاسم على هذا النحو، دلالة على تذلل الإنسان تجاه ربه، واعتبار نفسه عبدًا له، وفيه تعبير عن صلة الأشخاص بربهم، أضف إليها الأعلام المركبة تركيبًا إخباريًّا، مثل "ودم أبم"، أي "ود أب" أو "أب ود"، ففي هذا التركيب دلالة على حنو الإله على المؤمنين به، وإشفاقه عليهم، إشفاق الأب على أولاده. ودراسة الأمور المذكورة، هي مصدر مهم، بل هي تكاد في هذا اليوم أن تكون المصدر الوحيد لفهم ذات الآلهة وإدراك شخصيتها، ولفهم تطور الدين على مر العصور والأجيال، وكيف تطور الدين عند الجاهليين إلى يوم ظهور الإسلام. هذا؛ ونجد في النصوص العربية الجنوبية المتأخرة، أسماء آلهة لا نجد لها موضعًا في النصوص العربية الجنوبية المتقدمة، واختفاء لأسماء الآلهة القديمة التي كانت لامعة ساطعة في سماء الألوهية عند العرب الجنوبيين قبل الميلاد. ونجد أسماء آلهة قبائل تعبد عند قبائل أخرى مع معبوداتها القديمة، وأسماء آلهة كانت لامعة شهيرة، تحولت إلى آلهة صغيرة. وفي كل هذه الملاحظات دلالة على حدوث تطور في الحياة الدينية عند الجاهليين، وعلى تأثر العقائد بمؤثرات داخلية وخارجية، فأحدثت هذا التطور الذي نبحث عنه.

ومن بين أسماء الآلهة، أسماء مركبة، استهلت بـ"ذ"، أو بـ"ذت". و"ذ"، بمعنى "ذو" في عربيتنا، و"ذت" بمعنى "ذات" و"ذ" للمذكر" و"ذت" للمؤنث، أما الكلمات التالية، فهي صفات. فجملة "عثتر ذ قبضم"، تدل على إله ذكر، اسمه "عثتر ذو القبض" "عثتر ذو قبض" أو "عثتر القابض" بتعبير أصح. وجملة "ذ شقرن"، و"ذ صهرم"1، و"ذ عذبتم"، و"ذ يسرم"2، و"ذامر وشمر"، أي الآمر الناهي3، و"ذ أنبى"، هي جمل تشير إلى إله ذكر، لوجود "ذ" علامة التذكير فيه. وجملة "ذت حمم"، و"ذت بعدن"، و"ذت برن"، و"ذت غضرن"، و"ذت رحبن"، و"ذت صهرن"، و"ذت صنتم"، و"ذت ظهرن"، تشير إلى آلهة إناث، لوجود "ذت" "ذات" في الاسم. ومعنى هذا أن العرب الجنوبيين كانوا قد جعلوا الآلهة كالإنسان إناثًا وذكورًا. وهو ما ورد في القرآن الكريم عن أهل مكة وبعض قبائل الحجاز، من قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} 4، ومن قوله: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} 5، وقوله تعالى {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} 6، و {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} 7، و {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} 8. وقد ذكر علماء التفسير أنه "لا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر ولا أنثى. سبحانه نزه جل جلاله بذلك نفسه عما أضافوا إليه ونسبوه من البنات، فلم يرضوا بجهلهم إذ أضافوا إليه ما لا ينبغي إضافته إليه، ولا ينبغي أن يكون له من الولد أن يضيفوا إليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها إذا كانت لهم"9. وذكروا "أن مشركي قريش كانوا يقولون: الملائكة بنات الله،

_ 1 Rep Eplgr. 504. 2 Rep Epigr, 2831, 4688. 3 Handbuch, I, s. 244 4 النحل، الرقم 16، الآية 57. 5 الصافات، الرقم 37، الآية 149. 6 الصافات، الرقم 37، الآية 153 7 الزخرف، الرقم 43، الآية 16. 8 الطور، الرقم 52، الآية 39. 9 تفسير الطبري "14/ 83" روح المعاني "14/ 156".

وكانوا يعبدونها"1. وقد وبخهم القرآن الكريم على قولهم هذا، واستخف بأحلامهم وبما قالوه جهلًا وحماقة. وذكر علماء التفسير أن كفار قريش قالوا: "الملائكة بنات الله. فسأل أبو بكر من أمهاتهن؟ فقالوا سروات الجن. يحسبون أنهم خلقوا مما خلق منه إبليس"2. وأنهم قالوا: "إن الله وإبليس أخوان"، وأن بين الله وبين الجنة نسبًا3. ولم يذكر علماء التفسير من قال هذا القول من كفار قريش. ولا كيف صارت الملائكة بناتًا لله، أو كيف اصطفى الله له البنات ولِمَ فضلهن على البنين؛ إذ لم يذكروا أن أهل الجاهلية نسبوا له ولدًا ذكرًا، ولم يذكروا هل اختار الله البنات اختيارًا من خلقه، أو من زواج؟ وقد رأيت أن رواية نسبت على قريش قولهم إن أمهات الملائكة سروات الجن، وذلك حين سألهم أبو بكر من أمهاتن4. ولا نجد في نصوص المسند إشارة إلى زواج الآلهة، وإلى وجود بنات لها وما قلناه من وجود آلهة ذكور، وآلهة أناث هو استنباط من وجود علامة التذكير "ذ" وعلامة التأنيث "ذت" في أسماء الآلهة. أما موضوع زواج القمر بالشمس، وظهور ولد ذكر منه هو عثتر" فهو من استنباط علماء العربيات الجنوبية ومن آرائهم التي استخلصوها من دراستهم للنصوص. فليس في المسند أي شيء عنه. وليس في المسند، أي شيء عن دين العرب الجنوبيين، وعن أساطيرهم في الآلهة وفي الخلق، ولا عن صلواتهم وأدعيتهم وكل ما يتعلق بالدين من أمور. وكل اسم ورد في المسند استهل بلفظة "ذت"، "ذات" فيراد به الشمس، وهي إلهة، وكل لفظة بدأت بـ"ذ"، "ذي" فإنها تعني إلهًا، هو القمر أو عثتر. فنحن أمام ثالوث سماوي، يمثل عقيدة الجاهليين في الألوهية، كما يمثل عقيدة الساميين عمومًا. والثالوث السماوي هو نواة الألوهية عند جميع الساميين، ومنه أنبثقت عقيدة التوحيد فيما بعد.

_ 1 تفسير الطبري "23/ 67 وما بعدها"، روح المعاني "23/ 135". 2 تفسير الطبري "23/ 69". 3 المصدر نفسه. 4 تفسير الطبري "23/ 69".

وعثتر، هو "النجم الثاقب" المذكور في القرآن الكريم1. وقد ذهب المفسرون إلى أن العرب كانت تسمي الثريا النجم. وذكر بعض منهم أن النجم الثاقب هو زحل. والثاقب الذي قد ارتفع على النجوم2. وذكر بعض آخر أن النجم الثاقب هو الجدي3. وأقسم في موضع آخر من القرآن الكريم بـ"النجم"4. وقد ذهب المفسرون إلى أن النجم الثريا5، ونحن لا يهمنا هنا اختلاف علماء التفسير في تثبيت المراد من النجم، إنما يهمنا أن المراد به نجم من النجوم. فنكون أمام ثالوث معبود: هو الشمس والقمر والنجم الثاقب، الذي هو "عثتر" في نصوص العرب الجنوبيين. وقد ذكر أن العرب تعبدت للشمس وللقمر، وأن طائفة منها، تعبدت لكواكب أخرى مثل الشعرى، حيث تعبدت لها خزاعة وقيس، ومثل "سهيل" حيث تعبدت لها طيء" و"عطارد" وقد تعبد له "بنو أسد" و"الأسد"، وقد تعبد له بعض قريش. و"الدبران" وقد تعبدت له "طسم" و"الزهرة"، وقد تعبد لها أكثر العرب. و"زحل"، وقد تعبد له بعض أهل مكة. حتى إن من الباحثين من زعم أن "الكعبة" كانت معبدًا لزحل في بادئ الأمر. وتعبد للمشترى قوم من لحم وجذام6. ونجد في الكتابات العربية الجنوبية جملة: "ودم أبم"، أي "ود أب" و"أبم ودم"، أي "أب ود". كما نجد جملة: "ولد ود" و"أولد ود" "أولد هو ود"، أي "أولاد ود" بمعنى "شعب معين" وتعبر الجمل الأولى عن معنى أن الإله "ود"، هو إله شفيق رحيم عطوف على الإنسان، هو بالنسبة له بمنزلة الأب من الابن فهو "أب" للإنسان لا بالمعنى الحقيقي بالطبع، أي بمعنى أن الإنسان انحدر من صلبه، بل بالمعنى المجازي الذي أشرت إليه. وبهذا المعنى نفسر جملة: "أولاد ود" تعبيرًا عن معنى "شعب

_ 1 سورة الطارق، رقم 86، الآية 3. 2 تفسير الطبري "30/ 91". 3 تفسير القرطبي، الجامع "20/ 1". 4 سورة النجم، الرقم 53، الآية 1. 5 تفسير الطبري "27/ 24". 6 Johann Ernest Osiander. Studien uber die Varisilamische Religion der Araber. In ZDMG. 1853. S. 463-505, Grohmann, s. 81.

معين"، فالإله "ود" هو أب هذا الشعب يحميه ويدافع عنه ويعطف عليه. وبهذا المعنى وردت أيضًا جملة "ولد عم" عند القتبانيين و"ولد المقه" عند السبئيين. فـ"عم" الذي هو "القمر" في لغة القتبانيين، هو بمنزلة الأب لشعبه، وكذلك "المقه" الذي هو "القمر" في لهجة سبأ1. وقد عبر عن الشمس بلفظة "هـ إلت"، أي "الإلهة" في النصوص العربية الشمالية2. وقيل لها "نكرح" في النصوص المعينية، و"ذت حمم" ذات حمم" "ذات حميم" في النصوص السبئية، كما قيل لها "ذت بعدن" و"ذت غضرن"، و"ذت برن"، و"ذت ظهرن"، في هذه النصوص كذلك. وقيل لها "ذت صنتم" و"ذت صهرن" و"ذت رحبن" في النصوص القتبانية3. ومن الممكن التعرف على بعض هذا الأسماء التي أريد بها الشمس. فـ"ذت حمم"، بمعنى "ذات حمم"، و"ذات حميم". وقد وردت لفظة "حميم" و"يحموم" في القرآن الكريم4. والحميم الحار الشديد الحرارة، المتقد من شدة الحر الساخن الشديد السخونة5. وقد ذكر علماء التفسير أن "اليحموم"، دخان حميم، ودخان شديد السواد يخرج من نار جهنم6. فمعنى "ذت حمم" إذن، الإلهة ذات الحرارة الشديدة المتقدة المهلكة، التي تلفح وتحرق. والشمش، نفسها حارة، ملتهبة متقدة. لذلك يكون الناس قد أخذوا صفتها هذه منها. فأطلقوها عليها، وصاروا ينعتونها بها، ويخيفون الناس منها، بانتقامها منهم إن خالفوا أمرها وعملوا عملًا يثير غضبها عليهم. ويقابل هذه الإلهة ذات الحميم، الإله "الـ حمون" "حمون" و"بعل حمون" عند الساميين الشماليين. فهذا الإله الذكر عند الساميين الشماليين، بسبب أن لفظة "الشمس" نفسها مذكرة عندهم، هو ذو حميم وحما. أي ذو سخونة وحماوة وشدة حرارة7. وقد نعت عندهم بالنعت الذي نعت به عند العرب.

_ 1 Handbuch, I, S. 217, D. Nielse. Der Sabalsche Gott Ilmaukag, S. 61. 2 Handbuch, I, S. 224. 3 Handbuch, I, S. 224, 260. 4 الواقعة، الرقم 56، الآية 43. 5 تاج العروس "7/ 259 وما بعدها"، "حمم". 6 تفسير الطبري "27/ 110 وما بعدها". 7 Handbuch, I, S. 225.

الجنوبيين. فهو إله ذو حرارة مفزعة، وحميم لا يوصف. وقد استمد هذا الوصف من الطبيعة بالطبع. فالشمس مبعث الحرارة على هذه الأرض، يدرك الإنسان حرارتها في كل مكان فهي إذن "ذت حمم" حقًّا. وعرفت الشمس بـ"أثرت" في كتابات قتبانية، ومعناها: "اللامعة"، أو الشديدة اللمعان بعبارة أصح والمتوهجة. فهي في معنى "ذت حمم". وعرفت أيضًا بـ"ذت أثر"، "ذات أثر"، وبـ"ربت أثر"، "ربة أثر"1. ونجد في النصوص النبطية الإلهة الشمس وقد عرفت بـ"ربت الأثر" بمعنى ربة التوهج، مما يدل على أن "أثرت"، و"ذت أثر"، و"ربت أثر"، في القتبانية هذه الإلهة الشمس2. وقد يعبر عن "الشمس" بـ"الفرس". والفرس من الحيوانات التي قدسها قدماء الساميين. وقد كان العرب الجنوبيون يتقدمون بتماثيل الخيل؛ تقربًا إلى الآلهة. ومنها الإلهة "ذت بعدن" ذات البعد"، أي البعيدة، وهي الشمس3. وأما "عثتر"، الذي هو "الزهرة"، فيرد اسمه في نصوص عربية جنوبية كثيرة. ولاسمه هذا صلة بأسماء بعض الجاهليين الواردة إلينا، مثل: "أوس عثت" بمعنى "عطية عثتر" و"لحيعثت" "لحى عثت"4. وفي الكتابات العربية الجنوبية أسماء يظن أنها تخص الإله "عثتر". منها: "ذ قبضم"، و"ذ يهرق"، و"ذ جفت"، و"ذ جرب"، و"جرب"، و"متب نطين"، و"متب قبت"، و"متب مضجب"، و"يهر"، و"بر" وغيرها5. وقد عرف "عثتر" بـ"الشارق" في الكتابات، فورد "عثتر شرقن" أي "عثتر الشارق" وعرف بـ"شرقن" فقط. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المراد من "شرقن" بمعنى الطالع من الشرق، أو "عثتر المشرق". وهو تفسير رده بعض آخر من الباحثين؛ إذ رأوا أن "شرقن"، بمعنى

_ 1 Handbuch I, S. 226. 2 Handbuch I, S. 226 3 Handbuch I, S. 227. 4 Handbuch I, S. 228 5 Handbuch I, S. 228.

"الشارق" وهي لفظة ترد في اللهجات العربية الشمالية1. وقد سبق لي أن بينت رأي المفسرين في "النجم الثاقب" المذكور في القرآن الكريم، وقلت باحتمال المراد به هذا الكوكب، وإن ذهبوا إلى أنه الثريا أو زحل أو الجدي. و"الشارق" صنم من أصنام الجاهليين تسمى به عدد من أهل الجاهلية، سموا بـ"عبد الشارق"2 قد يكون رمزًا لهذا الإله. وورد في بعض كتابات المسند: "ذ غريم"، و"عثتر ذ غريم" أي "الغارب" و"عثتر الغارب" ومعنى ذلك "نجمة الغروب"، أو "نجمة المساء"، و"كوكب المساء"، في مقابل "نجمة الصباح" و"كوكب الصباح"3. وورد "عثتر نورو"، و"نورو"، أي "عثتر نور"، "نور"4. ونور صفة من صفات الله في الإسلام. {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} . ولفظة "نورو" هي نعت من نعوت "عثتر" وورد "سحرن" بمعنى السحر. والسحر، قبيل الصبح وآخر الليل، فيراد بذلك "كوكب السحر"، أي الكوكب الذي يطلع عند طلوع السحر. كما ورد "متب نطين"، أي "الحامل للرطوبة"، وورد "عثتر قهحم"، أي "عثتر القدير" و"عثتر القادر" و"القاهر" و"سمعم"، أي "السميع"، و"نوبم" و"نبعن"5. و"يغل" "يغلن" بمعنى المدمر، والمنتقم. وقد ورد هذا النعت في أحجار القبور بصورة خاصة. وذلك لتذكير من يحاول تغيير الحجر أو أخذه من موضعه أو تدميره أو إلحاق أذى به، أو الاستفادة منه في أغراض أخرى، بأنه في حماية إله قدير منتقم6. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الإله "رضى" "رضو" الذي يرد في النصوص الثمودية والصفوية، هو الإله "عثتر" وهو صنم ذكره أهل الأخبار، لكنهم لم يذكروا شيئًا عن صلته بالكواكب ولا عن المعبود الذي يمثله7.

_ 1 Handbuch, I, S. 228, Fell, in ZDMG, 54, 1900, S. 231-259. 2 تاج العروس "6/ 393"، "شرق". 3 Arabien, S. 245. 4 سورة النور، الآية 35، تفسير الطبري "18/ 104"، "18/ 144". 5 Rep. Epigr. 4194. 6 Arabien, S. 245. 7 Handbuch, I, S. 229.

وقد ورد في الأخبار المتعلقة بـ"الرها" أن أهل هذه المدينة، كانوا يعبدون الشمس ويعتقدون بوجود إله يطلع قبلها اسمه "أزيزوس" Azizos، وإله يظهر بعدها، يسمى "مونيموس" Monimos. وذهب الباحثون إلى أن "أزيزوس"، هو "عزيز" وهو نجم الصباح. ويطلع قبل طلوع الشمس. ويمثل "رضى" "رضو"، و"عثتر". ويرد اسم "رضى" في الكتابات التدمرية كذلك1. و"عزيز" "العزيز" من صفات الله في الإسلام. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الصنم المنحوت على شكل طفل هو رمز لـ"عثتر"، أي "رضى" "رضو"، و"عزيز" وقد حفر على شكل طفل عاري الجسم في الكتابات التدمرية. أما الشمس والقمر، فقد مثلا إنسانين كاملين. ونجد هذا التصور للآلهة في الديانات الفطرية، التي استمدت إدراكها لِكُنه الآلهة عن مظاهر الطبيعة2. ولعل تصور الجاهليين الإله "رضو" على هيئة طفل، هو الذي يحل لنا المشكلة الواردة في أخبار "نيلوس" Nilus" عن تقديم العرب Saracens قرابين أطفالًا لكوكب الصباح. ذكر "نيلوس" أن العرب سرقوا ابنه الجميل الصغير "ثيودولس" Theodulus، وقرروا تقديمه قربانًا لكوكب الصباح. وقد قضى الطفل ليلة تعسة صعبة، فلما طلع الكوكب، وحان وقت تقريب الطفل قربانًا له، نام مختطفوه، ولم يستيقظوا إلا وقد طلعت الشمس، وفات وقت القربان، وبذلك نجا الطفل من الهلاك3. وقد تفسر جملة "إننا نقدم لك قربًا يشبهك" الواردة في دعاء عثر على نصه في "حران" قصة تقديم الأطفال الجميلة قرابين إلى هذا الإله4. وقد أشار كتاب يونان إلى تعبد العرب إلى الشمس والقمر وكوكب الصباح، وهي أجرام سماوية تراها العين. ذاكرين أن العرب لا يتعبدون لآلهة روحية لا يبصرونها بأعينهم. ولهذا تعبدوا لهذه الأجرام المادية وللأحجار5.

_ 1 Handbuch, I, S. 229. 2 Handbuch, I, S. 231. 3 Handbuch, I, S. 203, Nili Opera, Tomus, 79, 1865, in Migne, Patrologia, Series Graeaca. 4 Handbuch, I, S. 231. 5 المصدر نفسه.

وأما "مونيموس" Monimos، فإنه "منعم". و"منعم" من صفات الله في الإسلام. فالله هو "المنعم" المتفضل على عباده العزيز المقتدر. وذهب بعض الباحثين إلى أن الصنم "ذو الخلصة" المذكور في كتب أهل الأخبار، والذي كان له بيت يدعى: "الكعبة اليمانية" ويقال له: "الكعبة الشامية" أيضًا، والذي هدم في الإسلام، هو تعبير آخر عن الصنم "عثتر"، أي الإله المكون مع القمر والشمس للثالوث1. ويظن أن "ملك" اسم آخر من أسماء "عثتر" وقد تسمى به رجل عرف بـ"عبد ملك" كما ورد اسم "عبد ملكا" في النصوص النبطية والإرمية، بمعنى "عبد الملك"2. ويرد اسم "ملك أل" "ملك إيل" كثيرًا في الكتابات الثمودية. كما ورد في كتابة من الكتابات القتبانية "مختن ملكن"3. وقد ظن أن لفظة "ملك" تعني ملكًا، أي رئيس حكومة ملكية، فترجمت جملة "مختن ملكن" بـ"مختن الملك" أي ملك قتبان. غير أن هذه الترجمة وإن كانت ترجمة مقبولة. إلا أنها غير دقيقة. ولو ترجمت لفظة "ملكن" بمعنى "الملك" على أنه اسم إله لكانت الترجمة أدق وأصح فنحن نجد النص القتباني الذي وردت فيه جملة" مختن ملكن" يقول: "بنى الملك ورم مبعد ود وأثرن ومختن ملكن"، أي "بنى الملك ورم معبد ود وأثرت ومختن الملك"، ولو ترجمناها على هذه الصورة: "بنى الملك ورم معبد ود وأثرت ومعبد الإله الملك"، كانت الترجمة أنسب وأقبل. ويجب أن نتذكر أن الله هو: الملك، في الإسلام، وأن "عبد الملك" وهو من أسماء المسلمين كذلك يعني: عبد الله. وإن "الملكوت" من الملك مختصة بملك الله. ورد في القرآن: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 4. ومن الممكن فهم الصلة بين لفظة "ملك" التي تعني إله، وبين لفظة "ملك" المالك على الأرض، أي الملك الدنيوي. فالإله مالك، والملك مالك أيضًا، مالك شعبه. ومن هنا فلا غرابة إذا ما رأينا عقيدة تقديس الملوك عند الشعوب.

_ 1 Handbuch, I, S. 232. 2.Handbuch, I, S. 232 3 HOMMEL, AUFS, 206. 4 تاج العروس "7/ 181"، "مالك".

القديمة، واعتبار بعضها ملوكها من نسل الآلهة. فالآلهة قوة خارقة، والملوك قوة مسيطرة مهيمنة، تفعل في القديم ما تشاء بغير حساب، وهي ألسنة الآلهة الناطقة على الأرض، فلا بد وأن تكون للآلهة إذن صلة بالملوك، ولا بد وأن يكون لملوك الأرض نسب وأن تكون لهم قرابة بالآلهة. وقد فسر بعض الباحثين جملة: "ولد ود"، التي نعت بها أحد ملوك قتبان، تفسيرًا بهذا المعنى، تفسيرًا يعبر عن اعتقاد القوم بأن ملوكهم هم من نسل الإله "ود"1. ولكني أرى أننا لو فسرنا لفظة "ولد" بالمعنى المجازي، أي ولد الإله ود على سبيل المجاز، بمعنى أن الإله منه بمنزلة الوالد من الولد، في العطف والود، فإن هذا التفسير يكون مقبولًا أكثر من تفسير المتسلسل من صلب الإله ود.

_ 1 Handbuch, I, S. 233.

الألهة

الآلهة: توصلنا من دراساتنا المتقدمة، إلى أن الآلهة كالبشر ذكورًا وأناثًا. وتوصلنا منها إلى أن القمر. هو مذكر عند جميع العرب على اختلاف لهجاتهم، وأما "الشمس" فهي أنثى عندهم. وأما "النجم" الذي هو "عثتر" فهو ولد عند العرب الجنوبيين. وعلى ذلك فنحن أمام ثالوث سماوي يتألف من إلاهين ذكرين ومن إلاهة أنثى. وقد عجزنا عن الاهتداء إلى كيفية ظهور هذا الثالوث. أو العائلة الصغيرة المختارة المكونة من ذكرين وأنثى؛ لأننا لم نعثر على نص جاهلي أو غير جاهلي يتحدث عن كيفية ظهوره. وعجزنا عن التوصل إلى علاقة أعضاء هذا الثالوث بعضهم ببعض، وذلك لسبب مماثل، هو عدم وجود نص لدينا يشرح لنا هذه العلاقة! ولم نتمكن من العثور على أي مورد يشرح لنا كيفية ظهور هذه الآلهة، ولا سيما الإله "عثتر" الذي يعد ابنًا للقمر وللشمس. ولم نعثر ويا للأسف على نصوص جاهلية فيها بعض الشيء عن كيفية التقاء القمر بالشمس، وفي كيفية طلوع "النجم" "عثتر" فبينما نجد في اللغات اليونانية والهندية واللاتينية تعابير عن التقاء الشمس بالقمر، فيها معنى النكاح.

نجد أنفسنا قد عجزنا عن الحصول على مثل هذه المصطلحات في النصوص الجاهلية، ولهذا لم نتمكن من تكوين رأي عن تصور الصلة التي كان يراها الجاهليون بين الشمس والقمر. وفي اليونانية والهندية وأساطير الشعوب الأخرى، أن القمر اقترن بالشمس، وتزوج بها، وتغنت بذلك الزواج1. وبالنظر لوجود الإله الذكر والإلهة الأنثى في نصوص المسند، وفي مؤلفات أهل الأخبار، فلا يستبعد احتمال مجيء يوم قد نعثر فيه على نصوص قد تتعرض إلى أسطورة زواج القمر بالشمس. وفي عربيتنا لفظة "اقتران" نطلقها على اقتران الشمس بالقمر وعلى اقتران الكواكب بعضها ببعض، وترد في كتب النجوم والأنواء. وفي هذه اللفظة معنى الازدواج. إن هذه الأسطورة التي جعلت من الأجرام السماوية آلهة، وحصرت الألوهية في ثلاثة أجرام منها في الغالب ثم زوجتها وأولدتها، حولت هذا الزواج إلى زواج حقيقي سماوي يشبه زواج الإنسان على سطح الأرض. زواج تكون من ذكر وأنثى، من أب وأم، أنتج ولدًا عند العرب الجنوبيين، وولدين عند شعوب أخرى غير عربية هما كوكبا الصباح والمساء، أو بناتًا هي الملائكة أو الجن عند فريق من الجاهليين. ونجد الإله "القمر" يلعب دورًا كبيرًا في الأساطير الدينية عند الجاهليين. دورًا يتناسب مع مقامه باعتباره رجلًا بعلًا أي زوجًا، والزوج هو "البعل"، والرب والسيد وصاحب الكلمة على زوجه وأهله عند العرب. وهو القوي ذو الحق، وعلى الزوجة حق الطاعة والخضوع له. وبناء على هذه النظرية جعل الإله القمر صاحب الحول والصول والقوة في عقيدة أهل الجاهلية في الأرباب. ومن هذا الإله القوي الجبار، جاء "الله" بعد أن تحول الثالوث عند بعض الجاهليين إلى "واحد"، واستخلصوا منه عبادة "الله". وقد عرف القمر بـ"ثور". ولعل ذلك بسبب قرنيه اللذين يذكران بالهلال. دُعي بهذه التسمية، أي "ثور" في الكتابات2. وقد رمز إلى الإله القمر بـ"ثور". عند شعوب سامية قديمة أخرى3.

_ 1 Handbuch, I, s. 206, ff. 2 Glaser 1546, Wiever Museum 5. 3 Handbuch, I, S. 214, D. Nielsen, altarabische Mondreliglon, s. 110.

ونظرًا لأن القمر هو الإله الذكر، صار بمنزلة الأب. فدعي بـ"أبم"، أي "أب". ونعت بمحب" فقيل له "ودم" "ود"؛ لأنه يحب عبيده ويشفق عليهم. وهو "كهلن"، أي القادر والقدير، وهو "حكم"، أي الحاكم والحكيم، وهو "سمعم"، أي السامع والسميع، وهو "علم"، أي العالم والعليم، والبصير المبصر، وهو "نهى"، أي الناهي1، وهو "صدق" الصادق الصديق المتعالي المنعم الكريم إلى غير ذلك من نعوت عرف بها ورمز بها إليه في النصوص. ويجب أن ننتبه إلى أن الكتابات الجاهلية وكذلك أخبار أهل الأخبار، قد نصَّا على اسم الإلهة الشمس، فدعوها باسمها، أي الشمس. أما القمر، فلا نجد لاسمه الخاص ذكرًا يتناسب مع مقامه. نعم ذكر بـ"شهر" و"سين" في النصوص العربية الجنوبية. و"شهر" القمر في العربيات الجنوبية، ولا زال الناس يسمونه بهذه التسمية في جنوبي جزيرة العرب. لكننا نجد أسماءه المأخوذة من النعوت، أي من صفاته تطغى عليه. فهو "ود" في الغالب في النصوص المعينية. ويظن من لا علم عميق له بالعربيات الجنوبية، أنه اسم إله خاص، بينما هو اسم من أسماء عديدة للإله القمر عند شعب معين، وهو "المقه" أي المنير والنور عند السبئيين، أي صفة للقمر. وهكذا قل عن باقي أسمائه، فهي صفات له في الغالب لا اسم علم خاص به كما في حالة الشمس. ونحن نجد هذه الظاهرة في روايات أهل الأخبار أيضًا. فبينما تنص أخبار أهل الأخبار على تعبد بعض العرب للشمس وعلى مخاطبتهم لها بـ" الإلاهة" وبـ"لاهة"2. وعلى تعبد بعضهم لزحل أو للمشترى أو لغيرهما من الأجرام السماوية كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، لا نجد للقمر ذكرًا في أخبار أهل الأخبار. فلم يشيروا إلى اسمه ولا إلى تعبد الجاهليين له، حتى ليذهب الظن بعد تتبع جميع ما ورد في تلك الأخبار واستقصائها استقصاء تامًّا أن الجاهليين لم يعرفوا عبادة القمر. والظاهر أن أهل الأخبار كانوا في جهل من عبادة الجاهليين للقمر؛ بسبب ما شاهدوه من تعبد أهل مكة وغيرهم وكذلك القبائل إلى الأصنام وتقربهم

_ 1 Handbuch, I. S. 215, D. Nielsen, Neue Katabanische Inschriften, s. 15. 2 ابن الأجدابي "79".

إليها، وقولهم إنها تقربهم إلى الله، وبسبب نص القرآن الكريم على تعبد الجاهليين وتقربهم للأصنام والأوثان. فذهبوا إلى أنهم كانوا مجرد عبدة أوثان ولم يفطنوا إلى أنهم اتخذوا الأصنام واسطة وشفيعة للآلهة التي هي أجرام سماوية في الأصل. أو لأن أهل الجاهلية القريبين من الإسلام، كانوا قد ابتعدوا عن عبادة الكواكب ولم يعودوا يذكرونها ذكر أجدادهم لها، واختصروا عبادتها، بأن جعلوا من الثالوث إلهًا واحدًا، هو "الله" فتقربوا إليه، وعكفوا يتقربون إليه بالتقرب إلى الأصنام والأوثان. وذلك باتخاذهم إياها رموزًا مشخصة وممثلة للإله على الأرض. فكان لكل قبيلة صنم يقربهم في زعمهم إلى الله. وإذا أردنا تلخيص ما توصلنا إليه عن آلهة العرب الجنوبيين، قلنا إنهم تعبدوا كما ذكرنا لثالوث سماوي تألف من القمر والشمس ومن عثتر، وهو الزهرة في رأي معظم الباحثين. وقد عرف القمر بـ"ود" عند المعينيين، وبـ"المقه" عند السبئيين، وبـ"عم" عند قتبان، وبـ"سن" "سين" عند حضرموت، وبـ"ود" عند أوسان. وعرفت الشمس بـ"نكرح" عند المعينيين، وبـ"شمس" عند السبئيين، وبـ"أثرت" "أثيرت" عند القتبانيين، وبـ"شمس" عند أهل حضرموت وأوسان. وعرف "عثتر" بـ"عثتر" عند المعينيين والسبئيين وعند قتبان وأهل حضرموت والأوسانيين1. وقد رمز الفن العربي الجنوبي إلى هذا الثالوث السماوي المقدس برموز. فرمز إلى القمر بهلال نحت أو نقش على الأحجار والأخشاب والمعادن. والهلال، يشير بالطبع إلى مطلع القمر في أول الشهر القمري. كما أشير إليه برأس ثور ذي قرنين أما الشمس فقد صورت قرصًا أو دائرة، أو كتلة أو هالة، والقرص، صورة طبيعية لقرص الشمس، التي تظهر في السماء قرصًا وهاجًا يبعث الحرارة والنور. وأما الزهرة، فرمز إليها بصورة نجمة في النقوش العربية الجنوبية وبثمانية خيوط إشعاعية في النصوص البابلية2. وهي ذكر وولد عند العرب الجنوبيين.

_ 1 A. Jamme, La Religion Sudarabe Preislamique, in M. Brlllant et R. Algrain Histoire des Religions. IV, Paris, 1956, 239-307, G. Ryckmans, Les Religions Arabes Preislamiques. Bibliotheque de Museon, 26, Louvian 1951, 25-64, G. Ryckmans, De Maangod in de boorislami. 2 Handbuch, I. S. 201, Grohmann, Gottersymbole. S 37-44, H. Primy, Altorientalische Symbolik, berlin, 1915, S. 75, 76, 142..

وقد هدم الإسلام عبادة الكواكب، وحرم السجود للشمس وللقمر، والصلاة لهما، وحاول اجتثاث كل ما له صلة بتلك العبادة، فلم يبق اليوم من العرب من يتعبد للثالوث السماوي المقدس. ولكننا لا نزال نرى بعض العوام يغضبون إذا سب أحدهم الشمس أو القمر، ويتقرب الأطفال إلى الشمس بأسنانهم التي يخلعونها؛ لتعطيهم أسنان غزال، أي أسنانًا جميلة بيضاء، إلى غير ذلك من أوابد يعرفها الأعراب. وفي القرآن الكريم: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 1. "فله فاسجدوا وإياه فاعبدوا دونهما، فإنه إن شاء طمس ضوءهما فترككم حيارى في ظلمة لا تهتدون سبيلًا ولا تبصرون شيئًا"2. وقد خاطب الله قريشًا وغيرهم بذلك، مما يدل على أنهم كانوا يسجدون للشمس والقمر. ولعلهم كانوا يفعلون ذلك عند الشروق وعند الغروب. وقد ذكر "ابن كثير" في تفسيره الآية المذكورة، ما يأتي: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي "ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به"3. والسجود الخضوع، ومنه سجود الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض، والانحناء، وسجد طأطأ رأسه. وكان النصارى يسجدون لأحبارهم، أي سادتهم من رجال دينهم. و"المسجد" من الألفاظ المعروفة عند الجاهليين. وهو البيت الذي يسجد فيه، وكل موضع يتعبد فيه، فهو مسجد4.

_ 1 فصلت، رقم 41، الآية 37. 2 تفسير الطبري "24/ 77". 3 تفسير ابن كثير "4/ 102". 4 قال حميد بن ثور: فضول أزمتها أسجدت ... سجود النصارى لأحبارها تاج العروس "2/ 371" "سجد".

صفات الآلهة

صفات الآلهة: ومعظم أسماء الآلهة هو كما سبق أن ذكرت صفات في الأصل، استعملت

استعمال الأسماء الأعلام. وهي كثيرة يتبين من دراستها أن الآلهة كالإنسان، تغضب وترضى، تحب وتبغض، قوية شديدة، رءوفة رحيمة شفيقة، إذا رضيت عن إنسان أسعدته في هذه الدنيا، وإن غضبت عليه أهلكته، سميعة بصيرة حكيمة حليمة. باقية خالدة خلود الدهر، بينما الإنسان هالك. ومن النعوت الواردة في نصوص المسند: "رحم"، أي "رحيم" فالآلهة رحيمة بعبادها، تغفر ذنوبهم وتصفح عن سيئاتهم، وهي "حليمة" "حلم"، سميعة "سمع"، قديمة "كهلن"، تحمي عبادها حماية الأب لأبنائه "أبحمي"، ترضى عنهم رضاء الأب عن أولاده "أب رضو". شفيقة بهم شفقة الأب بأبنائه "أب شفق" وتهتم بهم "أب شعر"، وهي فخورة "إيل فخر" "الفخر" عالية سيدة العالم "أل تعلى" "إيل تعلي"، "إيل تعالى"، و"بعل" "بعلت"1. ومن الصفات والنعوت التي أطلقتها النصوص الثمودية على الآلهة: "عم" بمعنى رحيم ورءوف. و"سمع" بمعنى "سميع"، و"رم" بمعنى العظيم، و"الرامي"، والكبير. و"إبتر" "أبتر" بالمعنى المفهوم من اللفظة في عربيتنا، أي، ليس له ولد2. ولهذه الصفة أهمية كبيرة بالنسبة لدارس الحياة الدينية وتطور فكرة الألوهية عند الجاهليين؛ لأنها تشير إلى أن صاحب النص الذي خاطب إلهه بقوله: "هـ أل هـ أبتر"، "ها إله أبتر" بمعنى "فيا الله الأبتر"، أي الإله الذي لم يلد ولا ولد له، كان يعتقد أن إلهه لم يلد أحدًا، فهو فرد واحد أحد. وقد وردت لفظة "أبتر" في نص ختم بهذه الجملة: "هـ أل هـ أبتر بك سر لن"3، أي: "فيا إلاه أبتر بك سرور لنا". أو بتعبير أوضح: "فيا إلهي أو إلاهنا الذي ليس له ولد. بك نسر"، أو "فيا إلهنا أبتر بك سرور لنا"، أو "أنت سرور لنا". والآلهة تساعد الناس وتعاونهم وتغيثهم. هذا نص ثمودي كتبه رجل من قوم ثمود. توسل فيه إلى إلهه أن يرسل المسرات "ميسر" إلى من نزلت بهم

_ 1 Arabien, 246. 2 Hu, 475, JSA 302, 305, 306, H. Grimme, s 66. 3 السطر الرابع من النص المذكور.

الدواهي من الناس. وأن يعاون العاملين. "ذا أتا يعمل"1. وهذا نص آخر، كتبه شخص آخر، وجهه إلى الإله "رضو" يقول فيه: "هـ رضو أت عون عمل"2، أي "يا رضو امنح العون لمن يعمل"، أو "يا إلهي رضو العون للعامل". والآلهة ضياء للناس، تضيء لهم سواء السبيل تمنحهم نعمة الرؤية وترشدهم إلى النور. هذا نص يقول: "إلى ن أم ت ض ي ل ن "3. فهو يطلب من الإله أو من المعبد، أن يضيء لكاتبي النص السبيل، وأن ينقذهم من الغفوة التي أصيبوا بها؛ ليتجلى لهم الحق. وفي نص آخر: "بك ري نور تمت حيت"4، ومعناه "بك رأينا النور. وتمت الحياة"، أو "بك نور. ضياء.... حياة"، أو ما شابه ذلك. فالإله هو نور لهذه الحياة، وضياء للناس. والله عالم بكل شيء، ذو المعرفة والعلم. وقد وردت صفة "هـ ع ر ف" "ها عارف" "ها عرف" أي العارف في نص وسم بـ JSA 568 5. وفي نص آخر، وسم بـ Hu 626 6. وهو العالم المحيط بكل شيء، وقد عبر عن هذه الصفة بلفظة "حصى" و"أحصى" بمعنى أحاط وأحصى كل شيء عددًا7، فالله محيط بكل شيء عالم لا يخفى على علمه شيء. ووصفت الآلهة في النصوص الثمودية بأوصاف أخرى، مثل "عبر" بمعنى "القدير" والقوي والمعتبر، و"ذ عبر"، "ذو عبر" بمعنى ذو الحول والطول، وذو القوة والقدرة. و"ذبر"، وهي بهذا المعنى أيضًا8. وهو "العوذ"، عوذ"، والملجأ لكل إنسان9. وهو "العلي"، وقد وردت جملة "عل رضو" بمعنى "أعل رضو"، وهي جملة تذكرنا بقول "أبو سفيان".

_ 1 Hu 643/6, JSA 409, 504. Grimme, s 33-34. 2 Hu 643/6 Grimme 33. 3 Grimme, s. 35. 41. 4.Grimme, s. 41 5 Grimme, s. 37. 6.Grimme, s. 42 7 تاج العروس "10/ 91". 8 Grimme, s. 44. 9 Grimme, s. 44.

يوم معركة "أحد": "اعل هبل، اعل هبل"1. وإني أرجح أن لفظة "عل" في هذا النص، تعني "على" أي حرف جر، فيكون المعنى "على رضو الملجأ"، و"على رضو المعول". ولم أعثر في النصوص الجاهلية على نعت يشير إلى استخفاف أو حطة بالآلهة. فلم أجد إلهًا نعت فيها باللؤم أو بالسرقة، أو بالاعتداء على الأعراض، أو رمي بالحسد، حسد الناس أو حسد أمثاله من الأرباب. كما لم أجد ما نجده في الأساطير اليونانية من وجود فروق بين الآلهة وتباين بينها في المنزلة والمكانة، بحيث نجد آلهة كبيرة غنية، وآلهة ضعيفة فقيرة تحسد الأولى وتنقم عليها، وآلهة تسرق وتنهب لحاجتها إلى المال ولفقرها، ولم أجد فيها التخصص الذي نجده في الآلهة اليونانية، من وجود آلهة للبحار، وآلهة للهواء، وآلهة للحب، وآلهة للخمر، ونحو ذلك. وكل ما نجده عندهم، هو وجود آلهة شعوب وقبائل، مثل ود إله شعب معين، والمقه إله شعب سبأ، وهبل إله قريش، وهكذا نشأت من الظروف المحلية التي عاش فيها الجاهليون. ولا أستبعد وجود "ميثولوجيا" أي أساطير عند الجاهليين، تدور حول آلهتهم، فقد تحدثت عن رأي بعضهم في "الشعرى"، ولكني أستبعد وجود أساطير دينية معقدة عندهم على شاكلة الأساطير اليونانية، أو الأساطير المصرية أو الهندية، لما بين الظروف المحيطة بالجاهليين وبين الشعوب المذكورة من فروق. والأساطير هي من حاصل المجتمع والظروف المتحكمة في الإنسان. وإذا وجدنا آلهة أهل الجاهلية على هذا النحو من الصفات المذكورة، حساسة ذات حس مرهف، تنفعل بسرعة، تغضب وترضى، فيجب أن نعرف أن هذه الصفات، تمثل خلق من أطلقها على أربابه، فأرباب الناس من صنعهم، هو الذي أوجد تلك الأصنام وسواها، فما دام هو موجدها، فلن تكون آلهته إلا على شاكلته، إنها صورة صادقة له.

_ 1 Grimme, s. 44.

الثواب والعقاب

الثواب والعقاب: وما يفعله الإنسان من خير أو شر، سيكون ثوابه وجزاؤه في هذه الدنيا.

والآلهة، هي التي تثيب وتعاقب. تثيب المتقي المتعبد لها المتقرب إليها بالنذور وبالبر بمعابدها، فتعطيه مالًا وتبارك له في نفسه وفي أهله، وتعطيه ذرية صالحة ذكورًا. وتنجيه من البلايا والآفات ومن الأوبئة والأمراض، وترجعه سالمًا معافًى من الحروب، تشفي جروحه إذا جرح، وتغدق عليه بالنعم من غنائم الحرب فهذا هو الثواب. ثواب في الدنيا وكفى. أما العقوبة ففي الدنيا وحدها أيضًا، وتكون بإنزال البلاء بمن يستحقه من الخارجين على أوامر الآلهة، المتجاسرين على حرمة المعابد، المارقين على النظام، المخالفين لسلوك المجتمع، المجاوزين على حقوق غيرهم. ومن البلاء الأمراض من عمى وعور، وإصابة عضو من أعضاء الجسم بعطب، والأوبئة. ونجد في النصوص توسلات إلى الآلهة بأن تصيب من يغير النصوص المدونة الموضوعة شواخص على القبور، ومن يتطاول على حرمة المقابر، أو يدفن غريبًا فيها بغير إذن، بالعمى والعور؛ لتجاوزه على حرمة القبور. وكان في روع أهل مكة وما حولها أن من يعرض للسائبة، أو لحرمات الله، أصابته عقوبة في الدنيا1. وعقوبات الدنيا أشد تخويفًا للأعرابي، وأكثر وقعًا في نفسه من العقوبات المؤجلة في العالم الثاني، ثم إن معظم أهل الجاهلية لا يؤمنون باليوم الثاني، ولا بحشر وبعث ونشر. ولولا الثواب والخوف من العقاب في هذه الدنيا، لما تقدم إنسان وهو فقير بائس، بأعز ما عنده إلى آلهته، على فقره وجوعه؛ ليقدمه قربة إليه، وهو في أشد الحاجة له، ولما بنى الناس المعابد، وتقدموا إليها بالهدايا والنذور، ولما ذكر رجل آلهته وتبرك باسمها، ووضع ملكه في حمايتها ورعايتها، ولعمت الفوضى المجتمع، وأكل بعضهم بعضًا، ونهبوا المال. والخوف من العقوبة في هذه الدينا، ساعد بالطبع كثيرًا في ردع الأشرار عن غيهم، وفي منعهم من الاعتداء على الحرمات، كما أن الإثابة في هذه الدنيا حملتهم على عمل الخير. وعلى التقرب إلى المعابد والعمل بأوامر رجال الدين؛ لتحقيق رضى الآلهة، وفي نيل رضاها كسب مادي وربح ملموس أكيد في هذه الحياة. ولولا الأمل في الرضى والثواب، والخوف من الآلهة، لما جعل الناس أنفسهم عبيدًا إلى الآلهة. فسموا أنفسهم "عبد ود" و"أمت العزى" "أمة العزى"،

_ 1 تفسير الطبري "7/ 59"، تفسير القرطبي "6/ 336".

و"عبد يغوث"، و"عبد مناة" وما شابه ذلك من أسماء دُعي أصحابها بها؛ أملًا في العمر الطويل، وفي التهرب من الموت. فقد كان الآباء والأمهات ينذرون نذرًا، أنه أن ولد لهم مولود، أخدموه إلهًا من الآلهة، ودعوه عبدًا له حتى يعيش. يفعل هذا الفعل من لا يعيش له مولود، ومن يولد له مولود لكنه لا يعمر طويلًا، بل يموت طفلًا أو في مقتبل العمر. فأمل الإنسان في أن يضع الإله حمايته ورعايته للمولود، دفعه على ركوب هذا المركب؛ لإقناع الآلهة بدفع الموت عن أبنائهم وحمايتهم منه. ولدينا نصوص جاهلية عديدة، تخبر عن تلبية الآلهة توسلات المتعبدين لها، ووفائها لهم بما طلبوه منها. ففي نص ثمودي يخاطب إنسان ربه "منف" "مناف" بقوله: "سمعت منف"، أي "سمعت ندائي يا مناف" أي استجبت لندائي، فوفيت لي يا إلهي مناف. وقد دونه حمدًا له وشكرًا واعترافًا بفضله عليه. وفي نص آخر يخبر صاحبه أنه بريء وأن ربه شفاه مما ألم به من مرض، فيقول: "برات"، أي "برأت"، و"برتن"3، و"برتتن"4. وفي نص آخر يشكر إنسان ربه "صلم"5. ولم يرد في النص السبب الذي حمل صاحب النص على شكر إلهه "صلما" لكننا نستطيع أن نحزر، فنقول إنه طلب منه شيئًا، فصار على نحو ما أراد فشكر إلهه لذلك. وفي نص آخر، توسل من شخص إلى إلهه" صلم" لكي يعينه في الفاجعة التي فجع بها6. وفي نص آخر، توسل إلى إلهه لأن يمنحه: "خلود"، أي الخلود، بمعنى طول العمر7. ومن التوسلات الجميلة التي وجهها الثموديون إلى آلهتهم، قول أحدهم: "بإلهى أمت"، "بـ إلهى أموت"8، "بإلهي أموت"، أو "في حب إلهي أموت"، أو "في إلهي أفنى". فهو يخاطب ربه. وقد ملأ قلبه العشق نحوه، العشق الإلهي الذي نقرؤه في كتب المتصوفة، ونسمعه في تغاريدهم يخاطبون.

_ 1 Hu. 421, Eu, 775, Hu 505/37, H. Grimme, s. 58. 2 Hu. 504/34. 3 Hu. 497. 4 Jsa 503 5 "صلم شكر" JSA 17. 6 Grimme, S. 34, 40. 7 Grimme, S. 35, 41. 8 Hu 255/20. Eu 250, Grimme, s. 66.

بها الله. ونجد هذا الحب الإلهي والهروب إلى الله في نص ثمودي آخر، هذا نصه "بم مرر. ب ل هـ ي جرت. ب ل هـ ي أم ت لبب ذ هـ غ ث ت "1. أي "من مر. بإلهي استجرت. بإلهي أموت. أعطني لبك. يا مغيث"، وبعبارة أوضح: "من مر" و"مر" اسم صاحب النص، فهو يوجه نداءه إلى ربه "استجرت بإلهي. وبإلهي أموت. اسمع ندائي يا من يغيث"، أو "يا مغيث" ففي هذه التوسلات وأمثالها رقة الشعور الديني، والحس المرهف الذي يكون عند كبار المتصوفة في مناجاتهم الله.

_ 1 Hu 518/27, Grimme, s. 67.

التطاول على الأرباب

التطاول على الأرباب: وفي روع أهل الجاهلية أن من سب الأرباب أو تطاول في كلامه عليها نزلت به قارعة، فلما أسلم "ضمام بن ثعلبة" السعدي أو التميمي، وقدم على قومه، "فكان أول ما تكلم به، أن قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، قال: إنهما والله ما يضران ولا ينفعنان"1. ولما تحرش الرسول بالأصنام خوفه المشركون من أن يصاب بسوء، وإلى تخويفهم هذا أشير في القرآن الكريم: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 2 يعني: "ويخوفونك "هؤلاء المشركون" يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والآلهة أن تصيبك بسوء، ببراءتك منها وعيبك لها، والله كافيك ذلك"3. و"كانت زنبرة رومية، فأسلمت فذهب بصرها، فقال المشركون: أعمتها اللات والعزى"، "وقالت قريش ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى"4.

_ 1 الاستيعاب "2/ 208" "حاشية على الإصابة". 2 الزمر 29، الآية 36. 3 تفسير الطبري "24/ 5"، تفسير القرطبي "15/ 258". 4 الإصابة "4/ 305"، "رقم 465".

الفصل السابع والستون: التقرب إلى الآلهة

الفصل السابع والستون: التقرب إلى الآلهة مدخل ... الفصل السابع والستون التقرب إلى الإلهة: وكما تقوم الصداقة بين الناس على أساس الود والتقرب والاتصال والتذكر بتقديم الهدايا والألطاف ونفائس الأشياء، كذلك تقوم الصلة بين الإنسان وآلهته على أساس من الود والصداقة أيضًا. وإذ كانت الآلهة أقدر من الإنسان، كان من اللازم على البشر التودد إليها بشتى الطرق المعبرة عن معانى التقرب والتحبب والتعظيم لتتذكره، فتمنُّ عليه بالبركة والسعد وبخير ما يشتهيه ويرغب فيه. والبشر عبيد لآلهتهم، فعليهم أن يؤدوا لها ما يجب أن يؤديه العبد لسيده. إن على العبد واجبات وفروضًا يجب أن يؤديها لصاحبه ومالكه، وعلى الإنسان كائنًا ما كان أن يقوم بأداء ما فرض عليه لآلهته وأربابه في أوقات مكتوبة وفي المناسبات. ولما كانت عقلية الإنسان القديم وعقلية كل بدائي تقوم على فهم الإدراك الحسي في الدرجة الأولى، كان للهدايا وللنذور والقرابين والشعائر العملية المقام الأول في دياناته؛ لأنها ناحية ملموسة تراها الأعين وتدركها الأبصار، وفيها تضحية تقنع المتدين التقي المتقرب بها إلى آلهته بأنه قد قدم شيئًا ثمينًا لها، وأنها لذلك سترضى عنه حتمًا؛ لأنه قد آثرها على نفسه فقدم إليها أعز الأشياء وأغلاها. إنها سترضى عنه؛ لأنه لم ينسها، ولم يغفل عنها، ولم يفتر حبه لها. وسترضى عنه كلما تذكرها وقام بأداء هذه الواجبات المفروضة أو المستحبة لها، كما يرضى الصديق عن صديقه أو السيد عن عبده بإظهار الإخلاص وبالحرص على أداء الأعمال المرضية.

والدين عقيدة، أي "إيمان" Belief وعمل. والعمل أبين وأظهر وأقوى في الديانات القديمة من الإيمان؛ بسبب أن الإيمان بالقلب، وهو لا يكون إلا بين المرء وربه، ولا يمكن لأحد الاطلاع على كنهه. أما العمل فهو تجسيد للإيمان وتعبير عنه بصور عملية واقعية. وهو الناحية المحسوسة الظاهرة للتدين. ولا يفهم البدائي من الدين إلا مظاهره، التي ترتكز على تضحية وبذل مادي لإرضاء الآلهة فعنده أنه متى بذل أعز ما يملكه في سبيل آلهته عد مؤمنًا تقيًّا، ترضى عنه الآلهة وألسنتها الناطقة بلسانها على الأرض: طبقة رجال الدين. ولهذا رأى بعض العلماء، أنه لدراسة دين من الأديان القديمة يجب الاهتمام بشعائره وبالأحكام التي فرضها على أتباعه؛ لأنها هي أساس ذلك الدين وجوهره1. لقد كانت ديانات الجاهليين ذات حدود ضيقة، آلهتها آلهة محلية، فالإله إما إله قبيلة وإما إله موضع. وطبيعي أن تكون صلة الإنسان بإلهه متأثرة بدرجة تفكير ذلك الإنسان وبالشكل العام للمجتمع. والإله في نظرهم هو حامي القبيلة وحامي الموضع، وهو المدافع عنها وعنه في أيام السلم وفي أيام الحرب، ما دام الشعب مطيعًا له منفذًا لأوامره وأحكامه وللشعائر المرسومة التي يعرفها ويقررها ويقوم بتنفيذها رجال الدين. ويكون إرضاء الآلهة بالتقرب إليها وبتنفيذ أوامرها التي تعينها وتثبتها خاصتها المختصة بين القبيلة أو الشعب، أعني كهانها ورجال الدين الذين يعرفون أوامرها وأحكامها خير معرفة، وهم الذين يفسرونها ويأمرون بتنفيذها بين الناس. وقد يكون هذا التنفيذ في أيام أو أشهر ثابتة معينة تكون لها قدسية وحرمة خاصة، وقد يكون في مواسم يرى الناس أن آلهتهم تكون في تلك الأوقات حاضرة متهيئة قرينة منهم تسمع شكاواهم وما عندهم من مطالب. ويكون هذا التنفيذ بصور مختلفة أهمها زيارة المعابد والتبرك بأصنامها، وتقديم النذور لها، وإيقاف الحبوس عليها. والحج إليها في الأوقات المفروضة وفي كل وقت آخر ممكن، وأداء الصدقات والزكاة، تزكية للمال، وتطهيرًا للنفس من الذنوب. ومن أهم ما تقرب به الإنسان إلى آلهته "النذور" و"القرابين" و"المنح"، أي الصدقات والعطايا. وتدخل "الذبائح" في باب النذور والقرابين كذلك.

_ 1 Robertson, p. 16.

ويجب أن أضيف "القرى" أي الضيافة عليها أيضًا، لما لها من صبغة أخلاقية دينية، حتى صارت الضيافة من الواجبات المثبتة في نظام "مكة". وهي "الرفادة" أي تقديم الطعام لمن يحتاج إليه. والمنحة عند العرب أن يعطي الرجل صاحبه المال هبة أو صلة فيكون له، أو أن يمنح الرجل أخاه ناقة أو شاة يحلبها زمانًا وأيامًا ثم يردها. وقد تقع على الأرض، وهي أن يعطي الرجل غيره أرضًا ليزرعها ويستفيد منها، هبة أو عارية1. ويظهر من الإشارة إليها في الحديث، أنها كانت من أعمال البر المعروفة عند أهل الجاهلية، وكانون يتقربون بها إلى آلهتهم. ولم تحدد الوثنية الأشياء التي كان على الإنسان أن يتقدم بها إلى آلهته قربة إليها أو وفاء لنذر، بل تركت له الأبواب مفتوحة، فله أن يتقرب إلى أربابه بكل ما يختار ويشاء، من أمور بسيطة رخيصة إلى أشياء ثمينة غالية، كل حسب مقدوره وقابلياته. فنجد بين النذور مباخر وتماثيل ومصابيح، وأشياء نفسية من ذهب أو من جواهر. كما كانوا يتبركون بوضع حصونهم وبيوتهم وبساتينهم ومزارعهم في حرساة الآلهة ورعايتها؛ لتحفظها ولتحفظ أصحابها. ويمكن تقسيم ما تقدم به الجاهليون إلى أربابهم إلى قسمين: قسم إجباري، يجب الوفاء به بسبب "نذر" مثلًا، وقسم تطوعي، أي اختياري مثل "المنح" والذبائح التي تقدم في المواسم وفي سائر الأيام، ويقال لها "ندب" و"ندبت" "ندبة". و"المندوب" في عربيتنا المستحب2. وأدخل في القسم الأول ما يقال له "خطت" "خطات" "خطأه" أي "الخطيئة"3. ويراد بها تقديم "فدية" عن عمل مخالف قام به إنسان، مثل تقديم ذبيحة بسبب دخول إنسان نجس في المعبد. وإذا كنا في شيء من الجهل بالنسبة إلى الزكاة التي كان الناس يدفعونها في نجد أو العربية الشرقية أو في الحجاز إلى المعابد وإلى رجال الدين؛ لعدم وجود نصوص جاهلية تكشف النقاب عنها، فإن لنا بعض المعرفة عن الزكاة التي كان

_ 1 تاج العروس "2/ 232"، "منح". 2 تاج العروس "1/ 481"، "ندب". 3 Ancient Israel 418-421, 425, 429.

يقدمها أهل العربية الجنوبية إلى معابدهم، ظفرنا بها في الكتابات التي عثر عليها هناك، وقد وردت فيها إشارات إليها في نصوص تعرضت لها بالمناسبات. وهذه الزكاة حصص عينية مقررة تدفع إلى المعبد على شاكلة الحصص التي تدفع إلى أصحاب الأرض والحكومة، تخزن في مخازن المعابد؛ لتصدر إلى الخارج، أو لتباع في الأسواق، أو ليصرف منها على المعابد ورجال الدين والمحتاجين. فكان القتبانيون مثلًا يدفعون عشر حاصلهم إلى المعبد، ويعرف ذلك عندهم بـ"عصم"1، تدفع هذه الضريبة عن حاصلات الأرض، وذلك في كل سنة. وقد عرفت هذه الضريبة بـ"عشر" عند المعينيين. وهي ضريبة تدفع أيضًا عن الحيوان إلى المعبد. وهذه الضريبة هي في الواقع من الضرائب العامة التي كانت تدفعها أمم أخرى عديدة إلى المعابد، وتستند إلى تقاليد تأريخية قديمة وإلى نظرية أن الأرض هي ملك للآلهة، فهي التي تنعم على الإنسان بالحاصل وبالخير وبالبركات، فعلى الإنسان تخصيص جزء من حاصله لتلك الآلهة. فإذا قصر إنسان في أداء ما عليه إلى الآلهة، تعرض للعقاب ولحرمان الآلهة إياه من البركة والخصب2. ويتبين من نصوص المسند أنه كانت في العربية الجنوبية أرضون واسعة مسماة بأسماء الألهة، أجرتها المعابد للرؤساء أو سلمتها إلى أيدي "الكبراء" لاستغلالها في مقابل أجر يدفعونه إلى المعبد يتفق عليه. وهذه الأرضون هي أوقاف حبست على الآلهة تعرف بـ"وتفم" "وتف"3. ومن غلات هذه الأوقاف ومن "العصم" والنذور والهبات الأخرى ينفق على المعابد وعلى رجال الدين. وقد ظهر في العربية الجنوبية نظام إقطاعي "كهنوتي"، أسياده رجال الدين، تولوا الإشراف على إدارة أملاك المعبد الواسعة وعلى استغلالها وإدارة شئونها، وجباية الأرضين التي يوقفها المؤمنون أصحابها على الآلهة، وعلى استحصال حقوق المعبد من المتمكنين. وقد أشير في كتابات المسند إلى أرضين واسعة كانت أوقافًا للمعابد، أجرت إلى سادات القبائل لاستغلالها في مقابل أجر اتفق عليه. ويظهر أن بعض أولئك السادات كانوا أقوياء وأصحاب نفوذ فاستولوا على "الحبوس".

_ 1 السطر الثالث من النص الموسوم بـ: Kataba Texte, I, Glaser 1601 2.Hastings, p. 940 3 Katab. Texte, II, s. 30.

استيلاء في مقابل أجور زهيدة كانوا يدفعونها للمعبد، ولما لم يكن في وسع المعبد فعل شيء تجاههم، اضطر إلى قبول الأجر الزهيد الرمزي الدال على تملك المعبد للأرض. أما السادات فكانوا يؤجرون الأرض لأتباعهم بأجور عالية، ويربحون من ذلك أرباحًا كبيرة. وعثر المنقبون على وثائق في خرائب بعض المعابد، تبين منها أنها كانت نصوص عقود إيجار واستئجار لأملاك المعبد، أي للأوقاف المحبوسة على أرباب المعبد. وقد ذكر المستأجرون فيها الشروط التي اتفقوا عليها مع المعبد في مقابل استغلال الوقف. وإذا كان المستأجر غير متمكن من أداء ما عليه للمعبد في مقابل استغلال الأرض، فإن من حقه الاستدانة من غيره أو الاتفاق معه على المساهمة معه في الاستغلال والاستثمار على شرط أخذ موافقة رجال المعبد على ذلك، وإدخال اسم الشخص الثاني في العقد، كي يكون مسئولًا شرعًا عن تنفيذ شروط العقد في حالة عدم تمكن زميله من ذلك1. وقد اقتضى تضخم أملاك المعابد خلق جهاز خاص لإدارة الأملاك والأوقاف والإشراف على استحصال "الأعشار" عن الدخل وتركات الإرث والمشتريات إلى جانب النذور والقرابين وتوقيع العقد. جهاز رأسه كبار رجال الدين، الذين يمثلون الآلهة على الأرض، وقاعدته صغار رجال الدين ومن عهد إليهم أمر الإدارة من غير رجال الدين. فصار للمعبد بذلك نفوذ كبير في اقتصاد العربية الجنوبية في ذلك الوقت. وفي المعابد مواضع يرمي الزوار فيها ما يجودون به على المعبد، تكون أمام الأصنام في الغالب. وهي خزائن تتجمع فيها النذور والهبات، فيأخذها السدنة، وأغلب ما يُرمى فيها الحلي والمصوغات المصاغة من الذهب والفضة، والأشياء النفيسة الأخرى. كما كانوا يعلقون السيوف والألبسة الثمينة على الأصنام وعلى الأشجار المقدسة تقربًا إليها، ووفاء بنذور نذروها لها. ولم يبخل الجاهليون على أصنامهم، فقدموا لها حتى المأكل والمشرب؛ لاعتقادهم أنها تسر بذلك وتفرح. فقد عقلوا على "ذي الخلصة"، وهو صنم نصبه.

_ 1 Die Bodenwirtschaft, S. 22, A. Steinwenter, Beltrage Zum Offentlichen, 1915.

"عمرو بن لحي"، القلائد وبيض النعام، والبرد النفيسة، وقدموا له الحنطة والشعير، بل واللبن أيضًا؛ ليشرب منه، وذبحوا له1. فهم يعتقدون أن في الصنم روحًا. وأن في مقدوره التلذذ بهذه النذور. وكان في روعهم أنه يشرب من ذلك اللبن. وقد أشير إلى الهبات التي تقدم إلى المعابد والآلهة بكلمة "وهبم" في النصوص القتبانية. بمعنى "وهب" و"هبات". ووردت كلمات أخرى تؤدي هذا المعنى أيضًا. منها: "ودم"، و"شفتم"، و"بنتم"2. وتقابل هذه ما يقال له: "منحة" و"المنحة" عند العرب الشماليين. وفي جملة ما يدخل في هذا الباب "بكرت"، أو "الباكورة" أول كل شيء. مثل الثمر وأول مولود بالنسبة للحيوان، حيث يُهدي للآلهة. وقد كان معروفًا عند العبرانيين وعند غيرهم من الساميين. وذلك أن يجعل صاحب المال ثمرة أول زرعه أو حيوانه نذرًا لآلهته3. وقد أشير إلى هذا النذر أو الهبة في نصوص المسند. ومن "الباكورة" العقيقة التي تحدثت عنها في موضع آخر من هذا الكتاب. وتلعب النذور دورًا خطيرًا في الحياة الدينية عند الجاهليين، حتى صارت عندهم بمثابة المظهر الأول والوحيد للدين. فالعامة لا تكاد تفهم من الدين إلا تقديم النذور للآلهة؛ لتجيب لها طلباتها وتنعم عليها بنعمائها. والنذور هي وعد على شرط. يتوسل الناذر إلى آلهته بأنها إن أجابت طلبًا عَيَّنَهُ، وحققت مطلبًا نواه، فعليه كذا نذر، يعينه ويذكره. فهنا عقد ووعد بين طرفين في مقابل تنفيذ شرط أو شروط، أحد طرفيه السائل صاحب النذر، أما الطرف الثاني فهو الإله أو الآلهة. وأما الشرط، فهو تنفيذ المطالب التي يريدها الناذر. وأما النذر، فهو أشياء مختلفة، قد تكون ذبيحة، وقد تكون جملة ذبائح، وقد تكون نقودًا، وقد تكون فاكهة أو زرعًا، وقد تكون أرضًا، وقد تكون تمثالًا، وقد تكون حبسًا لإنسان يهب نفسه أو مملوكه أو ابنه لإلهه أو لآلهته، وقد يوهب

_ 1 الأزرقي، أخبار مكة "78"، "لا يبزك". 2 N. Rhodokankis, Katab Texte, I, S. 18, 26. 3 في العبرانية "بكوريم"، Ancient Israel 380, 404, 493.

ما في بطن المرأة أو ما في بطن الحيوان، وقد يكون النذر حيوانات حية. وهكذا نجد مادة النذر كثيرة مختلفة متباينة بتباين النذر والأشخاص1. ولا يشترط في وفاء النذر أن يكون عينًا أي مادة؛ إذ يجوز أن يكون أمرًا معنويًّا، كأن يذكر الناذر في نذره أنه إن أجاب الإله الفلاني طلبه وبارك له ومنحه طفلًا، يخدمه له أو يسميه عبده، أي عبد ذلك الإله الذي نذر له. وكثير من الأسماء المبتدأة بـ"عبد" يليها اسم "صنم"، هي من هذا القبيل، دُعي أصحابها بها ليحمي من سمي به صاحب ذلك الاسم في مقابل تلك التسمية، ومن هذا القبيل عبد مناف وعبد مناة2. ومن هذا القبيل أيضًا نذر المواهب، كأن ينذر شخص مواهبه لصنم أو لمعبد، بأن يتعهد أن يقوم بترنيم التراتيل الدينية في الأعياد أو في أوقات الصلوات والمناسبات في ذلك المعبد، أو يقوم فيه بأعمال فنية مثل رسم منظر ديني أو تزيين معبد الإله، والنذر بالصيام وبغير ذلك3. ويعبر عن الابن الذي ينذره أبوه أو أمه بأن يجعله خادمًا للمعبد أو للصنم أو للكنيسة ذكرًا كان أم أنثى "النذيرة"، وذلك لأنه حبس على خدمة الإله أو الصنم أو المعبد وتفرغ، فلا يخدم أحدًا سواها4. وفي التنزيل: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} 5. ويقال للنذر "النحب"، وهو ما ينذره الإنسان على نفسه فيجعله نحبًا واجبًا. وقيل: إنما قيل للنذر نذرًا؛ لأنه ينذر فيه، أي أوجب على النفس6. ووردت لفظة "نذر" "نذرم" "نذرن" في نصوص المسند، بمعنى "نذر" و"نذور".

_ 1 تفسير الطبري "3/ 91 وما بعدها"، "القاهرة 1954" القاموس "2/ 120"، Encv. Brita, Vol, 25, p. 200, Reste, S. 112, Ency, Religi, 12, p. 644.. 2 الروض الأنف "1/ 6". 3 تفسير الطبري "5/ 580 وما بعدها"، "دار المعارف"، تفسير البيضاوي "6/ 154"، القرطبي، الجامع "11/ 97 وما بعدها"، الطبرسي "2/ 345". 4 اللسان "5/ 200"، "نذر"، تاج العروس "3/ 561"، "نذر". 5 آل عمران، الآية 35، تفسير الطبري "3/ 157 وما بعدها"، القرطبي "4/ 65 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "3/ 20 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "1/ 358 وما بعدها" روح المعاني "1/ 561". 6 اللسان "5/ 200"، تاج العروس "3/ 561".

ومن هذه النذور "الربيط". فقد كان الجاهليون ينذرون أنهم إذا عاش لهم مولود جعلوه خادمًا للبيت، أي لبيت الصنم. ومن هنا لقب "الغوث بن مر" بالربيط "لأن أمه كانت لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش هذا لتربطن برأسه صوفة، ولتجعلنه ربيط الكعبة، فعاش ففعلت وجعلته خادمًا للبيت حتى بلغ الحلم، فنزعته فلقب الربيط"1. ويظهر من بعض الروايات أنهم كانوا يربطون الربيط بالبيت. فقد ذكروا أن أم "الغوث" لما "ربطته عند البيت أصابه الحر، فمرت به، وقد سقط وذوى واسترخى"2، فيظهر أنهم كانوا يربطونه برباط بالموضع المقدس؛ ليكون على اتصال تام به، كما يفعل الناس اليوم من ربط مرضاهم ومن لا يعيش طويلًا من الأولاد بقبور الأولياء بخيط أو حبل، رجاء الشفاء وطول العمر. وقد يعقدون خيطًا أو شريطًا بالقبر، لهذا الغرض. وقد كان أصحاب النذور يتنسكون ويكثرون من تعبدهم ومن تقربهم للصنم الذي نذروا له؛ ليمنَّ عليهم ويحقق لهم ما طلبوه. وقد أشار "لبيد" إلى الناسكات ينتظرن النذر بقوله: توجس النبوح شُعثًا غبرًا ... كالناسكات ينتظرن النذرا3 ومن نذورهم في الجاهلية، أنهم كانوا ينذرون بألا تهب الصبا حتى يذبحوا أو ينحروا4. ويظهر أن هذه عادة كانت لها صلة بطقوس دينية جاهلية قديمة، نجدها عند أهل مكة وعند الأعراب. وتكون النذور في حالات الشدة والضيق في الغالب. فإذا أصيب إنسان بمكروه أو أصيب عزيز له بذلك، نذر إلى آلهته نذرًا، يقدمه لها حالة تحقق الشرط، فإن صادف أن تحقق ما طلبه، وجب على الناذر الوفاء بنذوره. ونظرًا لظروف ذلك الوقت، فقد كانت النذور كثيرة ومتنوعة. منها نذور مادية، ومنها نذور

_ 1 تاج العروس "5/ 142"، "ربط". 2 الروط الأنف "1/ 85". 3 ديوان لبيد "336". 4 الكامل "2/ 52 وما بعدها".

معنوية، مثل التعبد والتبتل وخدمة بيوت الأصنام وما شاكل ذلك من نذور1. وقد كانوا لا يحلون لأنفسهم التملص والتخلص من الوفاء بالنذور؛ لاعتقادهم أنهم إن أكلوها ولم يوفوا بها، غضبت عليهم الآلهة، ولا سيما الإله الذي جعلوا نذرهم له، فيصابون بغضب منها، وينالهم مكروه، فهم لذلك يوفون نذورهم ولا يقصرون في الأداء، إلا لحاجة أو لاستهتار أو لتغلب الشح على النفس، ومع ذلك، فقد كانوا يلجئون إلى الحيل الشرعية في هذا التهرب، بإيجاد الحلول والأعذار. ونجد في نصوص المسند عددًا كبيرًا من الكتابات تفيد أن صاحب الكتابة قد قدم إلى الإله الفلاني كذا وكذا؛ لأنه أجاب طلبه وأعطاه ما أراد ووفاه بحسب طلبه، فقدم إليه كذا وكذا وفاء لنذره. وتذكر في النص أحيانًا جملة لتنزل اللعنة أو لينزل الهلاك والدمار أو ما شابه ذلك على من يحاول إزالة النذر والأثر عن موضعه أو إلحاق الأذى به أو ما شابه ذلك من عبارات. وقد ورد مثل ذلك في النصوص الثمودية والليانية والنصوص الأخرى. وتفهم فكرة النذر والغاية منه صراحة من هذه الكتابات، فالناذر قدم نذره؛ لأن الإله المذكور أو الآلهة المذكورة أجابت طلبه ووفت له ما أراد، فوفى هو له أو لها ما اشترط على نفسه تقديمه عند عقده صيغة النذر، فالإله أو الآلهة طرف يسمع ويتعاقد ويجيب ويفعل أو تفعل تمامًا كما يفعل الإنسان، وهي تشترط على الطرف الثاني أي على السائل الوفاء بالنذر؛ لأنه دين يجب عليه دفعه في مقابل تنفيذ الآلهة الشروط المذكورة، وإلا فإن الآلهة تغضب عليه وتوقع القصاص عليه، وقد تسحب ما قدمت له حينما عقدت النذر معه. وكانت القرابين البشرية في جملة الأشياء التي قدمها الإنسان نذرًا إلى آلهته. وكان "عبد المطلب" كما يذكر أهل الأخبار قد نذر إن توافى له عشرة رهط أن ينحر أحدهم. فلما اكتمل العدد، قرر الوفاء بنذره، وذلك بذبح أحدهم. وإذ لم يكن قد عين الولد الذي سيذبحه، ذهب كعادة أهل مكة إلى هبل يستقسم عنده. فلما أصاب النصيب "عبد الله"، ذهب إلى "إساف" ونائلة.

_ 1 طبري "3/ 144 وما بعدها"، روح المعاني "1/ 561 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 561"، "نذر"، تفسير البيضاوي "3/ 20 وما بعدها".

وثني قريش اللذين تنحر عندهما، ليذبحه، "فقامت إليه قريش من أنديتها: فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه. فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدًا حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه. فما بقاء الناس على هذا؟ ". ثم سألوه أن يذهب إلى عرافة كانت بالمدينة لها "تابع"؛ لترى رأيها في الموضوع وتفتي فيه، فلما ذهب إليها، وجدها بخيبر، فأشارت عليه أن يعود إلى مكة، ثم يضرب بالقداح على ابنه وعلى عشر من الإبل وهو مقدار الدية عندهم، فإن خرجت القداح على عبد الله ضربوا القداح مرة أخرى، فإن خرجت القداح على عبد الله مرة أخرى، أعادوا الضرب حتى يقع على الإبل، فيكون الرب قد رضي عنه، فتنحر الإبل عندئذ. فسمع نصيحتها وفعل، ونحرت الإبل فدية عن ابنه "عبد الله"1. والظاهر أن عادة نحر الأبناء عند الكعبة قد بقيت حتى بعد دخول العرب في الإسلام، بدليل ما ورد عن نذر امرأة أن تنحر ابنها عند الكعبة في أمر إن فعلته، ففعلت ذلك الأمر، فجاءت إلى المدينة تستفتي علماءها في الأمر. فأشار عليها من استفتتهم بوجوب الوفاء بالنذر، ولكنهم ذكروا لها أن الله قد نهى عن قتل أنفسكم، وذكروا لها قصة عبد المطلب المذكورة، ومعنى ذلك تقديم الفداء2. كذلك كان من عادة الجاهليين النذر في ساعات الشدة والخطر، فكان بعض النساء ينذرون أن يجعلن ولدهن "حمسًا" إن شفى الرب ابنها من مرض ألم به، كما كانوا ينذرون بحلق شعر الرأس أو جز شعر الناصية أو الاعتكاف والانزواء بعيدًا عن الناس3، وهي عادات نجدها عند غير العرب أيضًا4. وقد أشار المفسرون وأصحاب الحديث والأخبار إلى نذور كانت معروفة في الجاهلية، فمنعها الإسلام، وفي بعضها نوع من التحايل والتلاعب، حيث كانوا يتصرفون بحسب أهوائهم وشهواتهم ومنافعهم وقت استحقاق النذر. ومن ذلك ما أشير إليه في القرآن الكريم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى}

_ 1 الطبري "2/ 172 وما بعدها" ابن الاثير الكامل "2/2". 2 الطبري "2/ 172". 3 الأزرقي "1/ 123". 4 Shorter, Ency, p. 429.

اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1. وقد ذكر المفسرون أن من الجاهليين من كان يزرع لله زرعًا وللأصنام زرعًا، فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه لله ولم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام، جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه عليها، ويقولون إن الله غني والأصنام أحوج، وإن زكا الزرع الذي زرعوه للأصنام، ولم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئًا لله. وقالوا هو غني. وكانوا يقسمون الغنم، فيجعلون بعضه لله، وبعضه للأصنام، فما كان لله أطعموه الضيفان، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم. وكانوا إذا اختلط ما جعل للأصنام مما جعل لله تعالى ردوه، وإذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه. وقالوا الله أغنى. وإذا هلك ما جعل للأصنام، بدلوه مما جعل لله، وإذا هلك ما جعل لله لم يبدلوه بما جعل للأصنام2. فهم يتطاولون على ما خصصوه لله من نصيب، ويتصرفون به كما يشاءون، ويحافظون على ما خصصوه للأصنام، بزعمهم أنها شركاء لله، ويقدمونه لها. ولعل ذلك بسبب أن ما كان يخصصونه للأصنام كان يجد له معقبًا وسائلًا، يراجع أصحاب الحرث أي الزرع وأصحاب الأنعام لاستحصال حق الأصنام منهم. وهو حق مفروض، وهم السدنة ورجال الأصنام، فكانوا يستحصلون حقوق الأصنام منهم، على حين كان ما يخصصونه لله نذرًا لا يعرف به غير الناذر، فكان يتلاعب به، ويعطيه أو يعطي جزءًا منه إلى جامعي حق الأصنام، على اعتبار أنها شريكة لله، وبذلك يتهرب من أداء النذر كاملًا بهذه الحيلة الشرعية، فلا يستخرج من ماله الذي خصصه لنفسه شيئًا عن الوفاء بالنذر وفاء تامًّا، أو لاعتقادهم أن الله بعيد عنهم، وهو غفور رحيم، أما الأصنام، فقريبة منهم، وهي منتقمة أشد الانتقام. ويتبين من دراسات النذور عند الشعوب القديمة أنها كانت نتيجة حاجة، وتصور الإنسان أن بإمكانه التأثير على آلهته بهذه النذور، فيجعلها تميل إلى إجابة طلبه

_ 1 الأنعام، الأية 136. 2 تفسير الطبرسي "8/ 369 وما بعدها"، تفسير الطبري "8/ 30 وما بعدها"، روح المعاني "8/ 28"، تفسير التبيان، للطوسي "النجف 1960"، "4/ 307 وما بعدها"، القرطبي، الجامع "7/ 89"، الكشاف "1/ 471".

وحل مشكلاته، وذلك بتقديم مطالب مغرية تطمعها، وهدايا سارة تفرح بها، كما يفرح الإنسان عند تقديم أمثالها إليه، فيهش لصاحب الهدية ويرتاح له ويتقرب إليه، ويعد الهدية نوعًا من التقرب والتودد والتحبب، فمن واجب من أهديت إليه الهدية مقابلة المتودد بالمثل. وأما الحاجات التي كان يرجو الناذرون تحقيقها، فهي في الغالب الحصول على ثروة، أو صحة وعافية أو ذرية أو نصر وتوفيق. والناذر على يقين بالطبع من أن الإله الذي نذر له النذر قادر على تحقيق ذلك، وإلا لم يتقدم إليه بهذا النذر1. ويدخل في باب النذور ما يأخذه المرء عهدًا على نفسه بتجنب الطيبات واللذيذ من العيش، أو بالابتعاد عن الناس واعتزالهم على نحو ما يفعله الرهبان والناسكون لأمد معين أو لأجل غير معلوم. ونجد أمثلة عديدة من هذا العهد في أخبار الجاهليين، كالذي ذكروه عن "امرئ القيس" من أنه قال حينما بلغه مصرع والده: "الخمر علي والنساء حرام حتى أقتل من بني أسد مائة وأجز نواصي مائة"2، وكالذي رووه عن غيره من الجاهليين. وهي كلها من هذا الطراز. أخذ الشخص عهدًا على نفسه بألا يقرب امرأة أو يشرب خمرًا أو يضع طيبًا أو يقرب اللذائذ حتى يأخذ بثأره أو يتحقق ما نوى عليه، وقد يحدد ذلك بوقت بأن يعين أجل العهد3. وإذا كان النذر عهدًا، كان من اللازم تنفيذ العهد؟ فإذا مات من أخذ عهدًا على نفسه بأن يفعل شيئًا لم يفعله، فعلى ورثته وقبيلته الوفاء بعهده. فإذا مات شخص كان قد نذر على نفسه الأخذ بثأر قتيل ولم يوفِ بعهده، بسبب موته، فعلى أهله وذوي قرابته وأفراد قبيلته الأخذ بالثأر. ولذلك كانت أحقاد الثأر تنتقل من الآباء إلى الأبناء فالأحفاد، وتستغرق أحيانًا زمنًا طويلًا حتى يؤخذ بالثأر. وقد نشأت عن هذه العهود مشكلات خطيرة في المجتمع الإسلامي في موضوع العهود التي يمكن تنفيذها والعهود التي لا يجوز تنفيذها، أو التي يسمح بعدم تنفيذها وفي مبلغ التبعة التي تترتب على الورثة في تنفيذ العهود4.

_ 1 Ency. Religi. 12, p. 656. 2 الأغاني "8/ 65"، "ذكر امرئ القيس ونسبه وأخباره". 3 ابن هشام "543"، 428.Shorter Ency. P 4 Shorter Ency. P. 429.

القرابين

القرابين: وتؤلف القرابين جزءًا مهمًّا من عبادة الأمم القديمة، بل تكاد تكون العلامة الفارقة عندهم للدين. والرجل المتدين في عرفهم هو الرجل الذي يتذكر آلهته ويضعها دائمًا نصب عينيه، وذلك بتقديم القرابين لها، ولست أخطئ إذا قلت إنها كانت عندهم أبرز من العبادات العملية كالصلوات؛ لأن الإنسان القديم لم يكن يفهم آنئذ من الحياة إلا مفهومها المادي. وهو يرى بعينيه ويدرك أن ما يقدم إليه من هدايا يؤثر في نفسه كثيرًا، ولذلك كان من الطبيعي أن يتصور بعقله أن القرابين هي أوقع في نفوس آلهته من أي شيء كان، فقدمها على كل شيء، وجعلها عبادة يتقرب بها إلى الآلهة كما يتقرب أهل الأديان السماوية إلى الإله بالدعاء والصلوات، فهي في نظره عبادة تقربه إلى الأرباب. وقد كان الجاهليون، يعظمون البيت بالدم، ويتقربون إلى أصنامهم بالذبائح، يرون أن تعظيم البيت أو الصنم لا يكون إلا بالذبح، وأن الذبائح من تقوى القلوب. والذبح هو الشعار الدال على الإخلاص في الدين عندهم، وعلامة التعظيم "قال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه"1. ويظهر من قول أحد الشعراء الجاهليين: فلا لعمر مسحت كعبته ... وما هريق على الأنصاب من جسد أن الجاهليين كانوا يريقون دم الضحية على الأنصاب، وهي موضوعة في الكعبة، ويمسحون الكعبة2. وكلمة "قربان" وجمعها "قرابين" هي من أصل "ق ر ب"، وقد استعملت وخصصت بهذا المعنى لأنها تقرب إلى الآلهة. والقربان هو كل ما يتقرب به إلى الله. فليس القربان خاصًّا بالذبائح، وإن صار ذلك مدلوله في الغالب3.

_ 1 تفسير الطبري "6/ 48" 2 الاشتقاق "ص206". 3 تاج العروس "1/ 422"، "قرب" اللسان "2/ 158"، قرب".

ومن القرابين ما يقدم في أوقات معينة موقوتة، ومنها ما ليس له وقت محدد ثابت بل يقدم في كل وقت. ومن أمثلة النوع الأول ما يقدم في الأعياد أو في المواسم أو في الأشهر أو في أوقات معينة من اليوم وفي ساعات العبادات، ومن أمثلة النوع الثاني ما يقدم عند ميلاد مولود، أو إنشاء بناء أو القيام بحملة عسكرية أو لنصر وما شابه ذلك من أحوال. ويدخل في النوع الأول الاحتفاء بأعياد الآلهة، حيث تُكسى أصنامها أحسن الحلل، وتزين بأجمل زينة، ثم يوضع أمامها ما لنَّ من الطعام وما حسن من الهدايا، وتذبح لها الذبائح، تذبح على الأنصاب، ويأتي الكهان ليقوموا بتأدية الشعائر الدينية المقررة في هذه الأحوال. ومعظم نصوص المسند كتابات دونت عند تقديم قربان أو نذر إلى الآلهة في ميلاد مولود، أو شفاء مريض، أو بناء معبد أو بيت، أو حفر خندق أو تشييد برج أو سور، أو حفر بئر أو زواج وما شاكل ذلك. ويظهر منها أن الناس في ذلك العهد كانوا يقدمون القرابين إلى آلهتهم في مناسبات كثيرة؛ تقربًا إليها وإرضاء لها، ولكي تمن على أصحابها بالخير والبركة. وقد استعملت نصوص المسند لفظة "ذبح"، و"ذبحم" بمعنى "ذبحوا" و"ذبح" و"ذبيحة" و"ذبائح". وقد تسبق بكلمة "يوم"، فتكون "يوم ذبح"، أي "يوم ذبحوا"، ثم يذكر بعدها عدد ما ذبح ونوعه، ثم كلمة "أذبح" بمعنى "ذبائح" في بعض الأحيان. والذبائح التي تقدم إلى الآلهة هي الإبل والبقر والثيران والغنم والمعز، وهي أكثر الحيوانات شيوعًا في الذبح عند الشعوب السامية الأخرى. ولم نجد في نصوص المسند ذكرًا لحيوانات أخرى كالأسماك أو الدجاج مثلًا، ولعل ذلك بسبب ضآلة قيمتها وتفاهتها بالقياس إلى أثمان الحيوانات الأخرى، مما جعل الناس يأنفون من الإشارة إليها في النصوص. وفي بعض الأديان حرق الذبائح وسكب دمائها على الناس كما يفعل العبرانيون؛ إذ اتخذوا مذبحًا للمحروقات. ويسمى أيضًا بمذبح النحاس. وكانت ناره لا تطفأ، وتقدم إليه الذبائح على الدوام، ويعرف ذلك عندهم بـ"عولاه" Olah، وتفسير الكلمة الشيء الذي يعلو1. وينفي "ولهوزن" وجود المحارق عند الجاهليين، وعنده أن العرب لم يكونوا

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 458"، Hestings, p. 111.

يحرقون الذبائح للأرباب، بل كانوا يكتفون بالذبح وبسكب دم الذبيحة على النصب كله أو بعضه، أو أنهم يتركونه يسيل إلى "الغبغب"، وليس في الذي بين أيدينا من نصوص ما يدل على أن الجاهليين كانوا يحرقون ذبائحهم لأربابهم على نحو ما كان يفعله العبرانيون، غير أن ذلك لا يمكن أن يكون مع ذلك دليلًا قاطعًا وحجة كافية في إثبات أن هذه العادة لم تكن عند جميع الجاهليين. وهناك ذبائح من نوع آخر قدمها الإنسان إلى آلهته. من نوع لا تشمله كلمة خروف أو شاة أو بقرة أو ثور أو جمل، من نوع آخر لا تشمله أية تسمية من هذه التسميات التي تطلق على هذه الحيوانات التي يأكلها الإنسان في العادة هي ذبائح يعاقب القانون كل من يمارسها في الوقت الحاضر بأشد العقوبات، هي ذبائح بشرية قدمها الإنسان إلى آلهته لاعتقاده أنها زلفى محببة إلى نفوسها، وأنها ستفيا المجموع وتنقذه من كثير من الأوبئة والأمراض وأنواع الشر والضر، إن كان الإنسان الحديث يتبرأ منها في الزمن الحاضر ويتنكر لها ويحاول تبرئة أجداد أجداده من ممارستها قبل مئات من السنين، فالتأريخ لا يستطيع أن يجد دليلًا يثبت تبرئة أكثر أديان شعوب العالم القديمة من تقديم هذا النوع من القرابين، وفي التوراة أمثلة عديدة تتحدث عن تقديم العبرانيين لهذا النوع من القرابين إلى "يهوه" ليرضى عن شعبه، ويعفو عنه، ويتقرب منه1. كذلك نجد هذه العادة عند اليونان والرومان والهنود والفراعنة والصينيين واليابانيين وغيرهم. أما عند الجاهليين، فذكر "فورفيريوس" Forphyrius أن أهل "دومة" Duma كانوا يذبحون في كل سنة إنسانًا عند قدم الصنم تقربًا إليه2. وذكر "نيلوس" Nilus من عادة بعض القبائل تقديم أجمل من يقع أسيرًا في أيديهم إلى الزهرة، ضحية لها تذبح وقت طلوعها، وقد وقع ابنه "تيودولس" Theodolus أسيرًا حوالي سنة 400م في أيدي الأعراب Saracens، وهُيِّئ ليُذبح قربانًا إلى الزُّهرة غير أن أحوالًا وقعت أفاتت عليهم الوقت المخصص لتقديم

_ 1 الملوك الأول، الإصحاح السادس عشر، الآية 34، الملوك الثاني، الإصحاح السادس عشر، الآية 3، الإصحاح السابع عشر، الآية 17 الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 6، صموئيل الأول، الإصحاح الخامس عشر، الآية 32، الملوك الثاني، الإصحاح الثالث، الآية 21، القضاة، الإصحاح الحادي عشر، الآية 30 وما بعدها، ومواضع أخرى، Hastings, p. 813, Ency, Religi, p. 864. 2 Reste, s. 115.

الذبائح، أنقذته من الذبح، فاكتفى آسروه ببيعه في أسواق الرقيق بـ"ألوسة" Elusa، فاستقر هناك إلى أن صار أسقفًا على المدينة1. وذكر أيضًا أن الملك "المنذر" ملك الحيرة قدم أحد أبناء الحارث الذي وقع أسيرًا في يديه ونحو من أربع مائة راهبة قرابين إلى العزى2. غير أننا يجب أن نكون في حذر شديد من قراءة أمثال هذه الروايات؛ لأن مصدرها في الغالب هو الخيال. كذلك يجب أن نمر برواية الأخباريين عن قصة عبد المطلب وعبد الله بشيء من الاحتراس والحذر، بل والشك والريبة، ويخيل إلي أن الأخباريين استفادوا في هذه القصة من حكاية إبراهيم وإسحاق. وليس في الذي بين أيدينا من نصوص المسند نص ما فيه خبر يشير إلى تقديم شخص ما ملك أو كاهن أو أي إنسان آخر ذبيحة بشرية إلى الآلهة، كذلك لا نجد في النصوص الأخرى مثل النصوص الثمودية أو اللحيانية أو الصفوية مثل هذه الإشارات. وتلعب "المذابح" التي سبق أن تحدثت عنها، دورًا خطيرًا في العبادة عند الساميين، بل تكاد تكون المظهر الأساسي للدين والتعبد عندهم في ذلك العهد. ولهذا كان المتدين يكثر من ذبح الذبائح لأنها تقربه إلى الآلهة في نظره.

_ 1 Ency. Religi, 6, p. 853. 2 Hastings, A Dictionary, Vol, I, p. 75.

الترجيب

الترجيب: وقد عرف شهر "رجب" بكثرة ما كان ينحر فيه من عتائر للأصنام، فلا بد أن يكون لذلك أصل وسبب، كأن يكون هذا الشهر من الأشهر التي كان لها حرمة خاصة في الجاهلية القديمة. وشهر رجب هو من الأشهر الحرم المعظمة التي لم يكن يحل فيها القتال1. وقد سمي الذبح في هذا الشهر بـ"الترحيب"، وقيل للذبائح التي تقدم فيه "العتائر" جمع "عتيرة". وقد عدت العتائر من شعائر الجاهلية. وأطلق بعض علماء اللغة كلمة "العتائر" على ذبح الحيوانات.

_ 1 تاج العروس "1/ 266"، "رجب".

الأليفة، وأطلق لفظة "النافرة" على ذبح الحيوانات الوحشية1. "وفي الحديث: هل تدرون ما العتيرة، وهي التي يسمونها الرجبية؟ كانوا يذبحون في شهر رجب ذبيحة، وينسبونها إليه. يقال هذه أيام ترجيب وتعتار. وكانت العرب ترجب، وكان ذلك لهم نسكًا2". وذكر بعض أهل الأخبار أن أول من عتر العتائر وسن العتيرة للعرب، هو "بورا"، وهو "بوز"، وهو ابن شوحا، وهو سعد رجب، وهو أول من سن الرجبية للعرب. وهو ابن يعمانا، وهو قموال، وكان في عصر سليمان بن داود3. والظاهر أن أحد أهل الكتاب قصَّ على الأخباريين هذه القصة، فنسبوا هذه السنة الجاهلية إلى هؤلاء الأشخاص. وكان بعض السادة ينجرون إذا أهلَّ "الشهر الأصم"، أي "شهر رجب". رُوي: أن "حاتمًا الطائي" كان ينحر إذا أهلَّ الشهر، ينحر عشرًا من الإبل ويطعم الناس لحومها، وذلك لحرمته ومنزلته عنده، ولتعظيم "مضر" فهو من شهود مضر الخاصة4. وعرفت "العتيرة" بـ"الرجبية" عند الجاهليين كذلك؛ لأنها كانت تذبح في شهر رجب، فنسبوها إليها. وعرفت أيام رجب بـ"أيام الترجيب". وورد "أيام ترجيب وتعتار" وقيل للذبائح التي تقدم فيه "النسائل" كذلك5. وأصل "النُّسك": الدم، وبهذا المعنى ورد من فعل كذا وكذا فعليه نسك، أي دم يهريقه. و"النسيكة": الذبيحة. و"مَنْسك": الموضع الذي تذبح فيه النسيكة، وهذا هو المعنى القديم الأصلي للكلمة. وقد صار من معانيها في العربية الشمالية العبادة والطاعة، وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى، لما كان للذبح من شأن في الديانات القديمة بحيث كان يعد عبادة أساسية عندها،

_ 1 Reste, s. 118. 2 تاج العروس "1/ 226 وما بعدها"، "رجب"، مسند أحمد بن حنبل "2/ 173". 3 الطبري "2/ 274". 4 الأغاني "16/ 94". 5 تاج العروس "1/ 266 وما بعدها"، اللسان "1/ 396"، المعاني الكبير "3/ 1171"، المخصص "13/ 98"، مجمع البيان للطبرسي "2/ 150".

ولذلك قيل لمن انصرف إلى التعبد: الناسك1. وقد فسر علماء التفسير لفظة "نسك" الواردة في الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} 2، بذبح ذبيحة شاة أو ما فوق ذلك3. والعرف في الذبح عندهم، أنهم كانوا يسوقون ما يريدون تعتاره أي ذبحه إلى النصب الخاص بالصنم أو إلى الصنم نفسه، ثم يذبحونه بعد التسمية باسم ذلك الصنم، وبيان السبب في ذبح هذه العتيرة، ثم يلطخ رأس الصنم بشيء من دم تلك العتيرة4. وقد منع المسلمون من أكل ذبائح المشركين؛ لأنها مما أُهلَّ لغير الله، ولأن المشركين لم يكونوا يذكرون اسم الله عليها، بل كانوا يذكرون اسم الصنم الذي يذبحون له عليها. فحرم ذبائح المشركين لذلك على المسلمين5. وقد أبطل الإسلام "الرجبية" وهي العتيرة، كما أبطل "الفرع"، وهو ذبح أول نتائج الإبل والغنم لأصنامها، فكانوا يأكلونه ويلقون جلده على الشجر. ويذكر أنهم كانوا إذا أرادوا ذبح الفرع زينوه وألبسوه6؛ ليكون ذلك أوكد في نفوس الآلهة، وتعريفًا للناس. وكانوا يفعلون ذلك تبركًا. وفي الحديث: لا فرع ولا عتيرة7. وذكر أنهم كانوا إذا بلغت الإبل ما يتمناه صاحبها ذبحوا، أو إذا تمت إبل أحدهم مائة عتر عنها بعيرًا كل عام فأطعمه الناس ولا يذوقه هو ولا أهله، قيل بل قدم بكره فنحره لصنمه. وقد كان المسلمون يفعلون في صدر الإسلام ثم نخ8. وذكروا أن العتيرة الذبيحة التي كانت تذبح للأصنام ويصب دمها على رأسها9. و"العتر" الصنم الذي يصاب رأسه من دم العتر. قال زهير: فزل عنها وأوفى رأس مرقبة ... كناصب العتر دمى رأسه النسك10

_ 1 تاج العروس "7/ 186 وما بعدها"، "نسك"، اللسان "12/ 389"، "نسك" 2 البقرة، الآية 196. 3 تفسير الطبري "2/ 134 وما بعدها". 4 ديوان زهير، للأعلم الشمنتري "46". 5 تفسير الطبري "8/ 12" وما بعدها" سورة الأنعام، الرقم 6، الآية 118 وما بعدها. 6 بلوغ الأرب "3/ 40 وما بعدها". 7 تاج العروس "5/ 449". 8 تاج العروس "5/ 449". 9 اللسان "4/ 537"، "عتر"، المرزوقي، الأزمنة والأمكنة "1/ 278". 10 اللسان "4/ 537"، "عتر".

وكانوا يؤكدون على تلطيخ الصنم الذي يعتر له، أو "النصب" بشيء من دم العتيرة. يفعلون ذلك على ما يظهر؛ ليحس الصنم بالدم فوقه. فيتقبله ويرضى به عنهم، ويتقبل عتيرتهم. ويظهر من غربلة ما جاء في روايات علماء اللغة والأخبار عن العتيرة والرجبية، أن العتيرة بمعنى الذبيحة، وأن "العتر" الذبح عامة، في رجب وفي غير رجب، و"العتائر" الذبائح التي كانوا يذبحونها عند أصنامهم وأنصابهم في رجب وفي غير رجب، والتي كانوا يلطخون بدمائها الصنم الذي كانوا يعترون له. وأما "الرجبية" فهي العتائر التي تعتر في رجب خاصة، وقد كانت كثيرة. ولذلك نسبت إلى هذا الشهر. ونظرًا إلى كون الرجبية عتيرة، ذهب البعض إلى أن العتيرة الرجبية1. فظن أنهم قصدوا بذلك أن العتيرة هي الرجبية، مع أن الرجبية من العتائر، أي بعض من كل، وليست مساوية لها. وقد كان بعض أهل الجاهلية إذا طلب أحدهم أمرًا نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا، أو أن يقول: إن بلغت إبلي مائة عثرت عنها عتيرة، فإذا ظفر به، أو بلغت مائة، فربما ضاقت نفسه عن ذلك، وضن بغنمه، فصاد ظبيًا فذبحه، أو يأخذ عددها ظباء، فيذبحها مكان تلك الغنم، وهي "الربيض" وإلى ذلك أشير في شعر للحارث بن حلزة اليشكري: عننًا باطلًا وظلمًا كما تعـ ... ـتر عن حجرة الربيض الظباء2 فذلك نوع من أنواع التحايل للتخلص من الوفاء بالنذور وكان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم3، وإنما يأكل لحومها غيرهم. كما كانوا يضرجون البيت بدماء البدن4، ويضرجون أصنامهم بها. وورد في رواية

_ 1 اللسان "4/ 537"، "عنتر"، الأصنام "32"، "مطبعة دار الكتب المصرية"، 1924م"، تاج العروس "3/ 380"، "عنتر"، المخصص "98 وما بعدها". 2 "عننا" اللسان "4/ 537"، "عتر"، "عنتا" تاج العروس "3/ 380"، "عتر"، البيت رقم "51" من المعلقة شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص463 وما بعدها". 3 تفسير القرطبي "12/ 64". 4 تفسير القرطبي "12/ 65".

أخرى، أنهم ينحرون هديهم عند الأصنام، فإذا نحروا هديًا قسموه فيمن حضرهم1. ومن ذبائح أهل الجاهلية "الشريطة" كانوا يقطعون يسيرًا من حلق الشاة ويتركونها حتى تموت ويجعلونه ذكاة لها. وقد نُهي عن ذلك في الإسلام. وقيل ذبيحة الشريطة، هي أنهم كانوا يشرطونها من العلة، فإذا ماتت قالوا قد ذبحناها2. ومما يلاحظ في تقديم الذبائح، أن الناذر يراعي الجنس في اختيار الذبيحة، فإذا كان مقرب القربان ذكرًا، اختار قربانه حيوانًا ذكرًا، وإن كان المقرب أنثى، اختيرت الذبيحة أنثى. ولا زال الناس يراعون ذلك حتى اليوم. ونجد هذه العادة عند غير العرب أيضًا، فقد كان أهل العراق يقدمون كتف حيوان، في مقابل شفاء كتف إنسان، ورأس ذبيحة في مقابل رأس ناذر، وهكذا وكانوا يجعلون الرأس رمزًا أحيانًا، فينذرون تقديم رأس المريض أو الصبي إلى الإله، إن مَنَّ عليه بالعافية وبالصحة. ويقصدون بذلك بدلًا، رأس حيوان أو رمزًا برمز إليه من ذهب أو فضة3.

_ 1 ابن هشام "1/ 65"، هامش على الروض الأنف. 2 تاج العروس "5/ 167"، "شرط". 3 Ancien Israel, p. 434.

البحيرة والسائبة والوصيلة والحام

البحيرة والسائبة والوصيلة والحام: ومن النذور والقرابين ما يكون حيوانات حية، تسمى كلها أو بعضها باسم الأرباب، فتحبس عليها، وتكون حرة طليقة لا يجوز مسها بسوء. وقد أشير في القرآن الكريم إلى "البحيرة"، و"السائبة"، و"الوصيلة"، و"الحام"1، وللعلماء في هذه المصطلحات كلام، مهما تضارب واختلف، فإنه يوصلنا إلى نتيجة هي أن الجاهليين كانوا يراعون هذه الأمور مراعاة شديدة، ولهم فيها قواعد وأحكام ترجع إلى تقاليد موروثة قديمة، حافظوا عليها، وظلوا يحافظون عليها إلى أن منعها الإسلام.

_ 1 المائدة، الآية 103.

فأما البحيرة، فالناقة أو الشاة تترك فلا ينتفع من لبنها ولا تحمل ولا تركب، وترعى وترد الماء فلا ترد، فإذا ماتت حرموا لحمها على النساء وأباحوه على الرجال، ذلك بعد أن تنتج خمسة أبطن أو عشرة أو ما بين ذلك1. وقيل أيضًا الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكرًا نحروه، فأكله الرجال والنساء جميعًا، وإن كانت أنثى شقوا أذنها، فتلك البحيرة، فلا يجز وبرها ولا يحمل عليها، وحرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئًا وأن ينتفعن بها، وكان منافعها للرجال دون النساء2. وقيل الشاة التي تشق أذنها، وذلك شيء كان لأهل الجاهلية. تشق أذنها أو أذن الناقة بنصفين، وقيل بنصفين طولًا؛ ليكون التبحير علامة لها3. وقيل: البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس4. قيل لها البحيرة؛ لأنهم بحروا أذنها، أي شقوها، وكان البحر علامة التخلية. وقال بعض العلماء: البحيرة هي ابنة السائبة5. وقال بعض آخر: البحيرة من الإبل يحرم أهل الجاهلية وبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال فما ولدت من ذكر وأنثى، فهو على هيئتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها6. وورد أن البحيرة من الإبل، كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نحروا الخامس إن كان سقبًا، وإن كان ربعة شقوا أذنها واستحيوها وهي بحيرة. وأما السقب فلا يأكل نساؤهم منه، وهو خالص لرجالهم، فإن ماتت الناقة أو نتجوها ميتًا فرجالهم ونساؤهم فيه سواء يأكلون منه7. والمرار من "السقب" الذكر من ولد الناقة8. وورد في الأخبار أن أول من بحر البحائر رجل من "بني مدلج"، كانت لها ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورها، وقال هاتان لله، ثم احتاج

_ 1 تاج العروس "3/ 28"، "بحر"، "اللسان "5/ 106". 2 مجمع البيان، للطبرسي "2/ 251"، شمس العلوم "حـ1، ق1، ص133"، المفردات "26". 3 الاشتقاق "118"، اللسان "4/ 16 وما بعدها". 4 الطبري "7/ 59"، القرطبي، الجامع "6/ 335". 5 القرطبي "6/ 363". 6 تفسير الطبري "7/ 58". 7 تفسير الطبري "7/ 59 وما بعدها". 8 اللسان "1/ 468"، "شعب".

إليهما، فشرب ألبانهما، وركب ظهورهما1. كما نسب التبحير إلى "عمرو بن لحي"؛ إذ قيل إنه كان أول من بحر البحيرة وسيب السائبة2. وأما السائبة، فهي الناقة أو البعير أو الدابة تترك لنذر، أو بعد بلوغ نتائجها حدًّا معلومًا، فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تمنع من ماء وكلإ، وتترك سائبة لا يحل لأحد كائنًا من كان مخالفة ذلك3. "وكان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نجته دابة من مشقة أو حرب، قال ناقتي سائبة، أي تسيب، فلا ينتفع بظهرها، ولا تحلأ عن ماء، ولا تمنع من كلإ، ولا تركب، وقيل: بل كان ينزع من ظهرها فقارة، أو عظمًا، فتعرف بذلك فأغير على رجل من العرب، فلم يجد دابة يركبها، فركب سائبة، فقيل: أتركب حرامًا؟ فقال: يركب الحرام من لا حلال له، فذهبت مثلًا"4. و"قيل: هي أم البحيرة، كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن، كلهن أناث سيبت فلم تركب، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت. فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعًا. وبحرت أذن بنتها الأخيرة، فتسمى البحيرة، وهي بمنزلة أمها في أنها سائبة"5. وقيل السائبة: كان الرجل من أهل الجاهلية يسيب من ماله من الأنعام، فلا يمنع حوضًا أن يشرع فيه، ولا مرعى أن يرتع فيه فيهمل في الحمى، فلا ينتفع بظهره، ولا بولده ولا بلبنه ولا بشعره ولا بصوفه، فهو مخلاة لا قيد عليه، ولا راعي له. وكان في روعهم أن من تعرض للسوائب أصابته عقوبة في الدنيا6. ويذكر أهل الأخبار أن أول من سيب السوائب "عمرو بن عامر الخزاعي"، أي "عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف" أخا بني كعب، وهو أول من غير دين إبراهيم. وقد رجعوا خبرهم هذا إلى رسول الله7. وقيل إن أول من

_ 1 تفسير الطبري "7 / 56". 2 اللسان "4/ 16 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 78"، "البابي". 3 الكشاف "1/ 368"، الطبرسي "2/ 251 وما بعدها" تاج العروس "1/ 305". 4 الاشتقاق "76 وما بعدها". 5 اللسان "1/ 478". 6 تفسير الطبري "7/ 59 وما بعدها" تفسير القرطبي "6/ 336". 7 تفسير الطبري "7/ 56 وما بعدها" القرطبي، الجامع "6/ 337 وما بعدها".

ابتدع ذلك "جنادة بن عوف"1 وهو من النسأة، كما سيأتي الكلام عنه فيما بعد. وأما الوصيلة، فالناقة التي وصلت بين عشرة أبطن، أو الشاة التي وصلت سبعة أبطن. وفي رواية: أن الشاة إذا ولدت ستة أبطن نظروها، فإن كان السابع ذكرًا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، ولم يذبح، وكان لحمه حرامًا على النساء. وفي رواية: أن لبن أم الوصيلة حلال على الرجال دون النساء2. وقالوا: الوصيلة الشاة إذا أتامت عشر إناث متتابعات في خمس أبطن، ليس بينهن ذكر. فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإناث، إلا أن يموت شيء منها فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم3. وأما الحام، فالبعير إذا نتج عشرة أبطن من صلبه، قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى4 وقالوا: الحام من الإبل، كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه5. وقالوا بل الحام أن الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره ولم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها لا ينتفع بها بغير ذلك وذكر أن الحام، الفحل يضرب في الإبل عشر سنين، ويقال: إذا ضرب ولد ولده قيل قد حمى ظهره، فيتركونه لا يمس ولا ينحر أبدًا ولا يمنع من كلإ يريده، وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها6. وذكروا أن أول من حمى الحامي هو "عمرو بن لحي" وذلك في سنن أخرى سنها لأهل الجاهلية7. وقد أشير في سورة "الأنعام" إلى أشياء كان يفعلها أهل الجاهلية، يتقربون بها إلى آلهتهم، كانوا يحرمون من أنعامهم أشياء لا يأكلونها ويعزلون من حرثهم

_ 1 القرطبي، الجامع "6/ 337". 2 تاج العروس "8/ 155"، الكشاف "1/ 368". 3 القرطبي، الجامع "6/ 337". 4 الكشاف "1/ 368"، تاج العروس "10/ 100"، اللسان "18/ 220". 5 القرطبي، الجامع "6/ 336". 6 تفسير الطبري "7/ 57 وما بعدها". 7 تفسير الطبري "7/ 56 وما بعدها.

شيئًا معلومًا لآلهتهم ويقولون لا يحل لنا ما سمينا لآلهتها1. فورد: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا. فقالوا: هذا لله بزعمهم، وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون" وورد: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 2. وذكر المفسرون أن من المشركين من حرم ظهور بعض أنعامهم، فلا يربكون ظهورها، وهم ينتفعون برسلها ونتاجها وسائر الأشياء منها غير ظهورها للركوب وحرموا من أنعامهم أنعامًا أخر فلا يحجون عليها. وقد ذكروا أن المراد بذلك البحيرة والسائبة والحام. وأنهم كانوا قد جعلوا ألبان البحائر للذكور دون الإناث. وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى تترك فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء3. فالمراد بهذه الآيات ما ذكرته عن الأمور المتقدمة. وقد كان بعض أصحاب النذور ينذر، فإذا تم النذر وصار وبلغت إبلهم أو غنمهم ذلك العدد، بخل بإبله أو شائه وضاقت نفسه عن الوفاء وضن بإبله وبغنمه فاستعمل التأويل، وقال: إنما قلت إني أذبح كذا وكذا شاة، والظباء شاء، كما أن الغنم شاء، فيجعل ذلك القربان شاء كله مما يصيده من الظباء فلذلك يقول الحارث بن حلزة اليشكري: عننًا باطلًا وظلمًا كلما تعـ ... ـتر عن حجرة الربيض الظباء4 وكان الرجل من العرب في الجاهلية إذا بلغ إبله ألفًا عار عين بعير منها،

_ 1 تفسير الطبري "8/ 35". 2 الأنعام، الآية 136 وما بعدها. 3 تفسير الطبري "8/ 37 وما بعد". 4 الأصنام "13"، شرح المعلقات للزوزني "ص167"، المعاني الكبير "2/ 1012".

وسرحه لا ينتفع به1. وكان من عاداتهم إذا بلغ إبلهم المائة، ترك ركوب ظهر بعير منها، فلا يركب ولا ينتفع به، ويقولون لذلك: الأخلاق2. وكانوا يتصدقون بمائة من الإبل على الفقراء والمحتاجين والمعابد، وما شاكل ذلك. روي أن "حنيفة" النعم، وهو من أثرياء الجاهلية، لما شعر بدنو أجله، جمع بنيه، ثم أوصى بمائة من إبله على يتيمه صدقة. وكانوا يسمونها "المطيبة"3. وقد عرف ما كان يحبسه أهل الجاهلية على أصنامهم من السوائب والبحائر والحوامي وغيرها بـ"الحبس" وقد أطلق الإسلام ما حبسوا وحلل ما حرموا، وهو جمع حبيس4. وكانت لهم مكرمات. فعلوها في الجاهلية عن خلق ودين ورغبة في شهرة وسمعة. منها أنهم كانوا يتصدقون بأموالهم على أبناء السبيل وعلى الفقراء والمحتاجين ذكر أن "الأسود بن ربيعة بن أبي الأسود" اليشكري، قال لرسول الله: "يا رسول الله إن أبي كان تصدق بمالٍ من ماله على ابن السبيل في الجاهلية، فإن تكن لي مكرمة تركتها، وإن لا تكن لي مكرمة، فأنا أحق بها: فقال: بل هي لك مكرمة فتقبلها". وذكر أن رسول الله قال: "ألا إن كل مكرمة كانت في الجاهلية، فقد جعلتها تحت قدمي، إلا السقاية والسدانة"5. وهذه المكرمات هي من مآثر العرب في الجاهلية، مكارمها وتفاخرها التي تؤثر عنها6. وتحريم أكل لحوم الحيوانات في مثل هذه الحالات على النساء وتخصيصه بالرجال، وجوازه في حالات أخرى، ثم تحريم الانتفاع من لبنها على النساء في بعض الحالات وعلى الرجال والنساء في حالات أخرى إلا الضيوف وعلى جواز ركوبها: كل هذه تشير إلى أنها من شريعة قديمة. وقد رجع بعض العلماء ذلك إلى الطوطمية، غير أن من العسير قبول هذا التفسير: وقد كان الجزارون المجازون شرعًا يقومون بذبح الذبائح عند العبرانيين، وهم

_ 1 تاج العروس "1/ 97"، "فقأ"، "3/ 428"، "عور". 2 Reste, s. 114. 3 الاستيعاب "1/ 395 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 4 تاج العروس "4/ 125"، "حبس". 5 الإصابة "1/ 59"، "رقم 158". 6 تاج العروس "3/ 5"، "أثر".

الذين يقررون صلاح الذبيحة أو عدم موافقتها لأحكام الشرع. أما عند الجاهليين فلا نعرف شيئًا عمن كان يقوم بذبح الضحايا التي تقدم إلى الأصنام، كما أننا لا نستطيع أن نتحدث عن الشروط التي كانوا يشترطونها في الذبيحة ليكون لحمها صالحًا للأكل. والطيب والبخور من أهم المواد التي كان يتقرب الجاهليون إلى آلهتهم بإهدائها إلى المعابد. ولم تكن هذه عادة خاصة بالجاهليين وحدهم، بل هي عادة معروفة في جميع الأديان، ولا تزال باقية مستعملة. يحرق البخور في المباخر والمجامر؛ لتنبعث روائحه الزكية في أبهاء المعبد. أما الخلوق وأنواع الطيب، فتلطخ بها الأصنام وجدران المعبد، وطالما تقدم المؤمنون إلى آلهتهم بمبخره ليحرق البخور فيها. ومن بين نصوص المسند، نص كتبه مؤمن اسمه "عبد أصدق" وأبناؤه إلى الإله "ود" ذكروا فيه أنهم قدموا إليه مبخرة تعويضًا عن المبخرة التي سرقها اللصوص من معبده1. وقد عثر في اليمن على مباخر كبيرة نحتت من الصخر، أهديت على المعابد؛ ليحرق فيها البخور2. وبين ما قدم إلى الآلهة، الملابس والأقمشة وأنواع الأطعمة، حتى اللبن قدم إلى الصنم "ود" على رواية الأخباريين. ووردت لفظة "الهدْي" في القرآن الكريم3. ويراد بها ما أهدي إلى مكة من النعم وغيره من مال أو متاع. والعرب تسمى الإبل هَدْيًا؛ لأنها تُهدى إلى البيت لتنحر، فأطلقت على جميع الإبل، وإن لم تكن هديًا تسمية للشيء ببعضه4. وذكر أن الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة أو ثياب وكل ما يُهدى فهو عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات. إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه5. وقد ذكر "الهدي" في شعر لزهير بن أبي سلمى: فلم أر معشرًا أسروا هديًا ... ولم أر جار بيت يستباء

_ 1 Glaser 324, Handbuch, I, S. 216. 2 Ency. Religi, I, P. 352. 3 البقرة، الآية 196، المائدة، الآية 2، 97، الفتح، الآية 25، تفسير الطبري "6/ 37". 4 اللسان "15/ 358" وما بعدها". 5 القرطبي، الجامع "6/ 39".

يذكر رجلًا أسر يشبهه في حرمته بالبدنة التي تهدى1. وعرف الهدى المقلد بقلائد، تشعر أنه مما أهدي إلى بيت الله بـ"القلائد". فلا يجوز لأحد أن يتحرش به، أو أن يفك قلائده؛ لأن ذلك تجاوز على مال الله، وهو مال معلم عليه معروف بقلادته أنه من الهدي المخصص بالبيت. فإذا فكت قلادته سرق وحسب من أموال الناس الخاصة2. والظاهر أن من الجاهليين من كان يتطاول على أموال البيت، فيستولي على الهدى، ويفك القلائد، ويسطو بذلك على الإبل المقلدة والبقر المقلد، وذلك كما يظهر من الآية {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} 3. ومنهم من كان يسطو على الهدي قبل وصوله موضعه من البيت. وكانوا يهدون الإبل والبقر إلى بيوت أصنامهم. وقيل للناقة أو البقرة أو البعير تُهدى إلى مكة "البدنة". وقد أشير إلى البدن في القرآن، فورد: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} 4. تُهدى إلى بيت الله فلا تركب5. وذكر أن البدن السمان من الإبل والبقر6. ويظهر من غربلة ما ورد في روايات علماء التفسير عن البدن أنها الهدايا التي تقدم إلى الكعبة، تحبس فتبقى حية، لا يجوز لأحد التطال عليها، وكانوا ينحرونها أيضًا والإبل تنحر قيامًا معقولة فكانوا إذا أرادوا نحر البعير، عقلوا إحدى يديه، فيقوم على ثلاث قوائم7، ولم يكونوا يركبون البدن إلا عن ضرورة8. فالبدن إذن ما يُهدى إلى مكة؛ ليحبس على اسمها، أو ليذبح تقربًا إلى رب البيت.

_ 1 تفسير الطبري "2/ 128". 2 تفسير الطبري "6/ 37". 3 المائدة، الرقم 5، الآية 2. 4 الحج، الآية 36، تفسير الطبري "17/ 117". 5 اللسان "13/ 48 وما بعدها"، "بدن". 6 تفسير الطبري "17/ 117" القرطبي الجامع "12/ 60". 7 القرطبي، الجامع "12/ 60"، تفسير الطبري "17/ 117" وما بعدها". 8 اللسان "13/ 48 وما بعدها"، "بدن".

حمى الآلهة

حمى الآلهة: ولحماية الحبوس من أرض ومن حيوان، شددت شرائع الجاهليين في وجوب

المحافظة على حرمتها وعدم الاعتداء عليها. وهددت من يتجاسر على مال الأرباب بعقوبة تنزل عليه منها وبغضب الآلهة عليه، وبمصير سيئ يلحق به، فضلًا عن العقوبة التي تنزلها المعابد به، قد تصل حد القتل. فصار من المحظور اعتضاد نبات الحرم وصيد الحيوان فيه، ومن يفعل ذلك يكون آثمًا، وقد يعرض نفسه لغضب الناس عليه. فصار الحرم مرتعًا آمنًا للطيور، ولا زال الناس لا يتحرشون بطيور المعابد ولا يمسونها بأي سوء، بل يقدمون لها من تحبه من المأكول؛ لتعيش عليه. وجعلت المعابد لحيواناتها وللهدي وللقلائد مواضع خاصة، اختارتها لترعى فيها جعلت "حمى" للأرباب. لا يجوز لأحد رعي سوائهه بها ولا التطاول على دواب تلك الأحمية؛ لأنها مما حبس للأصنام. وتكون هذه المواضع مخصبة معشبة ذات حياة، وقد تزرع. وتكون غلتها للمعبد.

الفصل الثامن والستون: رجال الدين

الفصل الثامن والستون: رجال الدين مدخل ... الفصل الثامن والستون: رجال الدين أقصد برجال الدين، أولئك الذين خدموا الأصنام، أو زعموا أنهم ألسنة الأرباب الناطقة على سطح الأرض، والذين كانوا يوجهون الناس توجيهًا روحيًّا دينيًّا، ويرعون حرمة المعابد والأماكن المقدسة وشعائر الدين ويحافظون عليها، ويضعون قواعدها للناس. ومعارفنا عن هذا الموضوع قليلة ضئيلة؛ لعدم وجود نصوص جاهلية تتحدث عن ذلك، ولعدم ورود شيء مهم عنه في روايات أهل الأخبار. وليس لنا من أمل في زيادة علمنا بهذه الناحية، إلا في المستقبل، فلعله يكشف عن نصوص جاهلية جديدة، قد يرد فيها شيء جديد عن رجال الدين عند الجاهليين، أو في موارد أخرى عربية أو غير عربية قديمة، قد تكون مختبئة مطمورة، يأمر الزمن بإخراجها؛ ليقف عليها الباحث عن هذا الموضوع. ومن الألفاظ الخاصة برجال الدين، لفظة "رشو"، الواردة في النصوص المعينية والقتبانية، أطلقت على من كان يقوم بخدمة الإله "ود" إله معين الرئيس و"عم" إله شعب قتبان الرئيس1. فهي في معنى سادن في لغة أهل الحجاز ووردت لفظة "شوع" في المعينية أيضًا في المعنى نفسه. و"رشوت" "رشوة"

_ 1 Handbuch, I, S. 131. 218. Katab. Texte, II, s. 80

بمعنى سادنة وكاهنة. مما يدل على وجود سادنات وكاهنات بين رجال الدين الجاهليين1. ووردت في المعينية وفي اللحيانية لفظة "إفكل" "أفكل" بمعنى رشو" وسادن، أي القائم بأمر الصنم، والسادن له. فورد: "أفكل ود"، أي سادن ود2. وتقابل هذه اللفظة لفظة "أبكلو" APkalu في الأكادية3. وعرفت السادنة والكاهنة بـ"أفكلت" "أفكلة"4. والسدنة، قومة الأصنام ومتولو أمرها. وكان أمر فتح البيت بمكة وغلقه وتولي أمره إلى السادن. وهو من "بني عبد الدار"، وقد أقر الرسول السدانة فيهم عام الفتح5. ويعرف السادن بـ"الحاجب" كذلك. فالسدانة والحجابة هما بمعنى واحد6. غير أن الحجابة تخصصت بحجابة الملوك والأحكام، فصارت وظيفة إدارية ذات مدلول خاص. فالحاجب هو الذي يتولى تقديم الناس إلى الملوك أو منعهم من الوصول إليهم، وذلك في الجاهلية وفي الإسلام أما السدانة، فإنها ظلت محافظة على معناها هذا الخاص بالمعابد والمواضع المقدسة ولهذه المنزلة ولصلتها بالآلهة وبالأصنام عدت السدانة من درجات الشرف والجاه. وكانت لأصحابها حرمة ومكانة في النفوس. والسدانة، تنتقل بالإرث من الآباء إلى أكابر الأبناء وتنحصر في الأسرة فتكون من حقها ومن نصيبها، لا يمكن انتزاعها منها إلا بقوة لا يمكن التغلب عليها ومن واجب العشيرة التي تنتمى هذه الأسرة إليها الدفاع عنها إن حاول غريب انتزاع هذا الشرف منها. ولقد كانت سدانة الكعبة في "بني عبد الدار"، وكانت حجابة "ود" في "دومة" الجندل إلى "بني عامر الأجدار"، "بنو الفرافصة بين الأحوص" من كلب7. وكانت سدنة العزى "من بني

_ 1 Arabien, s. 249. 2 Grahmann, s. 87 Jaussen – Savignac, II, 380. 3 Grohmann. S. 249. 4 راجع النصوص رقم 9، 12، 21، 104، وكتاب W. Caskel. s. 132 5 تاج العروس "9/ 233"، "سدن". 6 Reste, s. 130. 7 المحبر "316" Reste. S. 130.

صرمة بن مرة" وكان سدنة "جهار" من "آل عوف" من "بني نصر"1، وكان سدنة "سواع" "بنو صاهلة" من هذيل2، وكان سدنة بيت "الربة" أي الشمس، من "بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، وكان سدنة "الفلس"، "بنو بولان" وكان سدنة "مناة" "الغطاريف" من الأزد. وسدنة "السعيدة" "بنو العجلان"، وسدنة "ذو الخلصة"، "بنو هلال بن عامر"، وكان سدنة "ذو اللبا"، "بنو عامر"، وسدنة "المحرق"، "آل الأسود" العجليون. وسدنة "مرحب" "ذو مرحب" أي من يتولى أمر الصنم3. وكان "مسعود" الثقفي، زوج "سبيعة"، وقائد ثقيف في الفجار، من من سدنة اللات4. وهو من سادات ثقيف. ومن أبنائه "عروة بن مسعود، وأمه "سبيعة" بنت "عبد شمس". وذكر أنه الذي ذكر الله عز وجل في التنزيل من القريتين عظيم. وأحد أربعة اتصل سؤددهم في الجاهلية والإسلام5. وكان لهذه الأسر التي تولت السدانة، مكانة كبيرة في قومها، فعدت من الأسر الشريفة ذات النفوذ عند الجاهليين، وقد استفادت من النذور والقرابين التي تقدم إلى بيوت الأصنام؛ إذ تكون من حقها ونصيبها، وقد ظهر من "بني مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم"، حكام حكموا بعكاظ6. والحكومة من أمارات الشرف والجاه والتقدير، كما ظهر منها أئمة تولوا الإجازة بالمواسم، وهي من علائم التعظيم والتفخيم عندهم. غير أن هذا الحق لا يستوجب ولا يشترط أن تكون السدانة في أسرة من القبيلة أو الموضع الذي فيه بيت الصنم أو الأصنام، فقد كان كثير من سدنة الأصنام من قبيلة لا تنتمي إليها من يقع بيت الصنم في أرضها. فكانت السدانة مثلًا لبني أنعم في جرش، ولبني الغطريف في قديد، ولبني شيبان في نخلة،

_ 1 المحبر "315". 2 المحبر "316". 3 المحبر "316 وما بعدها". 4 المشرق، السنة 1938م، "الجزء الأول"، "ص7 وما بعدها". 5 الاشتقاق "2/ 186". 6 المحبر "134".

ولآل أمامة في تبالة وهكذا1. ويظهر أن هؤلاء توارثوا هذا الحق من عهد سابق، إما لأنهم استوردوا الصنم أو تلك الأصنام إلى هذه المواضع فأقاموا فيها، وإما لأنهم كانوا يسكنون مع قبيلتهم في تلك الأماكن، ثم حدث لسبب من الأسباب أن جلت قبيلتهم عن المواضع. أما السدنة ففضلوا البقاء في الموضع الذي كانوا فيه حيث أصنامهم والبيت. ونجد مثل ذلك أيضًا عند العبرانيين2. ويظهر من تفسير لفظة "صوفة" و"صوفان"، على رأي بعض العلماء، أن هذه الكلمة كانت تقال لكل من ولي البيت شيئًا من غير أهله، أو قام بشيء من خدمة البيت أو بشيء من أمر المناسك3. ومعنى هذا أن خدمة البيت: بيت مكة أو غيره، لم تكن خاصة بأهل الموضع الذي يكون فيه هذا البيت، بل كان من الجائز أن يتولاها أناس من أهل ذلك الموضع، وأناس من غيرهم أيضًا كأن يقيم أشخاص في ذلك المكان، فتطول إقامتهم به، وتظهر منهم زعامة أو من أولادهم تؤدي بهم إلى الاستحواذ على رئاسة البيت ورئاسة ذلك المكان، كالذي كان من أمر "قصي" مثلًا. ولا بد من إدخال "النسأة". في رجال الدين فقد كان الناسيء هو الذي ينسئ النسيء يعين موسم الحج ويثبته للناس. فهو إذن فقيه القوم وعالمهم ومفتيهم في أمر الحج4. وقد كان من أهم واجبات "النسأة"، تثبيت وتعيين الأشهر. فقد كانت لدى الجاهليين أشهر حرم. لها حرمة ومنزلة خاصة في نفوسهم، لما كان لها من علاقة بآلهتهم وبتعبدهم لها. وبالحج فيها إلى معابد الآلهة. مثل شهر "ذ الألت" "ورخن ذ الألت"، وهو شهر خصص بالآلهة، كما يظهر من تسميته بها. يظهر أنه كان شهر تقرب وعبادة للأرباب. ومثل شهر "ذ عم"، "ذو عم"، و"عم" هو إله قتبان الرتيس، فيظهر أنه شهر مقدس خصص بعبادة هذا الإله، أو أن يومًا أو عيدًا خاصًّا به، كان يقع فيه، فدعي لذلك باسمه. ومثل شهر "ذ حجتن"، أي شهر "ذو الحجة"، وهو شهر خصص

_ 1 Reste, S. 130. 2.Reste, S. 31 3 الروض الانف "1/ 85". 4 المحبر "156 وما بعدها" المعاني الكبير "3/ 1171".

بالحج. ومثل الأشهر الأربعة الحرم التي تتحدث عنها الموارد الإسلامية. والإجازة بعرفة من الأعمال التي لها تماس بالدين، فهي من شعائر الحج ومناسكه. ولا بد وأن نعد "المجيز" وهو الذي يجيز الناس من المزدلفة إلى منى من رجال الدين. وممن كانت له منزلة وحرمة في قومه؛ لما لمركزه من أهمية في الحج. وقد أشار "السكري" إلى "أئمة العرب"، فذكر أنهم الذين تولوا أمر المواسم، وأمر القضاء بعكاظ، والذين كانوا سدنتهم على دينهم وأمناءهم على قبلتهم، وكانوا من قريش، والذين تولوا الإفتاء في دينهم. وهم من "بني مالك بن كنانة"1. ولما تحدث عن "النسأة"، قال: "نسأة الشهور من كنانة وهم القلامسة، وأحدهم قلمس، وكانوا فقهاء العرب والمفتين لهم في دينهم"2. والفقيه العالم "وفقيه العرب عالمهم"3. والفقه العلم، "وقد جعلته العرب خاصًّا بعلم الشرعية" وفقهه تفقيهًا علمه. "ومنه الحديث: اللهم علمه الدين وفقهه في التأويل، أي علمه تأويله"4. وفي القرآن الكريم: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} 5. والفقه العلم بالشيء والفهم له والفطنة6. وقد خصصت اللفظة بعلم الفقه في الإسلام مما يدل على أن لها صلة منذ أيام الجاهلية بالعلم والدين. وأن "الفقهاء" العلماء بأمور الدين عند الجاهليين كذلك. وفيه ألفاظ يستدل منها على وجود مفهوم العلم والعلماء والتعلم والدين وفهمه والشريعة والأحكام عند الجاهلين، ولا تكون هذه عند قوم ليس لهم علماء ورجال دين يعلمون من هم دونهم أحكام الدين؛ ليتفقهوا فيه وليتعلموا ما هو واجب عليهم وما هو غير واجب ومفروض عليهم. والإفتاء الإجابة عن مسألة: ومن قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} و"الفتيا" و"الفتوى" ما أفتى به الفقيه في مسألة7. وقد استفتى أصحاب

_ 1 المحبر "181 وما بعدها". 2 المحبر "156". 3 تاج العروس "9/ 402"، "فقه". 4 تاج العروس "9/ 402"، "فقه". 5 التوبة، الرقم 9، الآية 122، تفسير الطبري "11/ 48"، روح المعاني "11/ 43". 6 تاج العروس "9/ 402"، "فقه". 7 تاج العروس "10/ 2375"، "فتى".

رسول الله الرسولَ في أمر النساء وإرثهن فنزل الوحي: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} 1. فقد كان أهل الجاهلية يستفتون فقهاءهم وأهل الفتيا منهم فيما يشكل عليهم من أمور الدين، فيفتون لهم ما يرونه من رأي واجتهاد. فنحن إذن أمام فقه في الدين واجتهاد فيه عند أهل الجاهلية. والإمام ما ائتم به قوم من رئيس أو غيره، كانوا على دين أو كانوا مشركين فهو الذي يقتدى به2. وقد وردت الكلمة في سبعة مواضع من القرآن الكريم في حالة الإفراد، ووردت خمس مرات في حالة الجمع، أي "أئمة"، أطلقت على أئمة الكفر وعلى الغواة كما أطلقت فيه على المؤمنين الهادين إلى الحق. وأئمة الكفر في قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ، أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان، وهم الذين كانوا يؤذون الرسول، وهمُّوا بإخراجه وعادوه3. فالإمام إمام دين وإمام دنيا: رجل دين يقتدى به، ورئيس قبيلة وشريف قوم وسيدهم. ونظرًا لقلة استعمال اللفظة في الرئاسة الدينية ولاستعمالها في معنى الرئاسة الدينية في الغالب، ولا سيما في الإسلام حيث خصصت برئاسة دينية، من إمامة للمسلمين، وإمامة في الفقه، وإمامة في الصلاة، ولعدم إطلاق الجاهلين لها على سادات القبيلة أو سادة القوم، إلا في القليل. فإن في استطاعتنا القول أنها كانت عندهم في معنى الرئاسة الدينية كما هو الحال في الإسلام. ونجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود رجال دين كان لهم رأي في الخلق وفي الخالق وفي الحياة، منهم من بشر برأيه وحاول نشره: ومنهم من تبتل واعتكف وقنع بإيمانه برأيه وبصحة عقيدته. حتى إن منهم من كان قد تبتل وتنسك وسلك طريق الزهاد في اجتناب الطيبات ولذات الحياة، ومن ذلك أكل اللحم. فقد عرف "عبد الله بن عبد الملك بن عبد الله"4 الغفاري، بـ"أبي اللحم" "آبي اللحم"؛ لأنه كان يأبى أن يأكل اللحم. وكان شريفًا شاعرًا، ينزل "الصفراء"، وشهد "حنينًا" وقتل بها5.

_ 1 النساء، الآية 127، تفسير الطبري "5/ 191"، روح المعاني "5/ 143". 2 تاج العروس "8/ 193"، "أمم". 3 التوبة، الرقم 9، الآية 12، تفسير الطبري "10/ 62". 4 ذكر "ابن الكلبي" أن اسمه "خلف بن عبد الملك"، وقيل اسمه الحويرث، 5 الإصابة "1/ 23"، "رقم 1".

وعرف "عثمان بن مظعون" بتبتله، حتى إنه ابتعد عن زوجه، فلم يقربها، وكاد أن يختصى، حتى نهاه عن ذلك رسول الله، وكان على هذا الرأي في جاهليته من شدة التمسك بالزهد عن الدنيا والابتعاد عن ملذاتها، وقد كان نصرانيًّا متأثرًا بالرهبانية، أخذ آراءه هذه من زهاد النصارى، الذين غلب التصوف عليهم، وابتعدوا عن الدنيا، ورأوا أن الخلاص من الخطيئة والإثم، هو بالتقشف والابتعاد عن كل حلو محبوب في هذه الدنيا1. وقد عرفت الجاهلية رجالًا آخرين كانوا مثل عثمان بن مظعون والرهبان في التأمل والتفكر والابتعاد عن الناس. وهي رهبانية حاربها الإسلام؛ إذ نهى عن الرهبنة. رأى "عمر" رجلًا مطأطئًا رأسه، فقال: ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض. ورأى رجلًا متماوتًا، فقال: لا تمت علينا ديننا، أماتك الله. ونظرت عائشة إلى رجل كاد يموت تخافتًا، فقالت: ما لهذا؟ قيل: إنه من القراء، فقالت: كان عمر سيد القراء، وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع2. وذكر أن عشرة من الصحابة اجتمعوا في بيت "عثمان بن مظعون"، واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش، ولا يأكلون اللحم والودك. ويلبسوا المسوح، فسمع رسول الله بهم فنهاهم عن ذلك3. و"الصارورة" والصرار الذين تبتلوا وتركوا النكاح. وهذا من فعل الرهبان. وهو معروف عند العرب. والصرورة الرجل في الجاهلية يحدث حدثًا فيلجأ إلى الكعبة. فلا يهج فكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم، قيل له هو صرورة ولا تهجه، تعظيمًا للبيت واحترامًا له4. ومثل "صرمة" المعروف بـ"أبي قيس"، وكان ترهب في الجاهلية واغتسل من الجنابة، وهمَّ بالنصرانية ثم أمسك. وكان قوالًا بالحق لا يدخل بيتًا فيه جنب ولا حائص إلى أن أدرك الإسلام، فأسلم5. ويظهر من ذلك،

_ 1 إرشاد الساري "8/ 10 وما بعدها". 2 اللسان "2/ 94"، "موت". 3 الطبرسي، مجمع البيان "3/ 236". 4 اللسان "4/ 453"، "صرر"، تاج العروس "3/ 331"، صرر". 5 الإصابة "2/ 176"، "رقم 4061".

أن الاغتسال من الجنابة والابتعاد عن الحائض من الشعائر التي راعاها المتدينون من أهل الجاهلية، من الموحدين الذين تأثروا باليهودية، لكنهم لم يدخلوا فيها ولا في النصرانية، بل أمسكوا عن الديانتين، ودعوا إلى عبادة واحد أحد، وماتوا على هذا الدين. ومثل "وكيع بن سلمة" الإيادي، صاحب الصرح بحزورة مكة، فقد كان كاهنًا ورجل دين، وقالوا كان صديقًا من الصديقين. اتخذ صرحًا يصعد إليه بسلالم، فكان يدعي أنه يناجي ربه من ذلك الموضع1. وكان يعظ الناس وينصحهم بالتدين بدينه وبالابتعاد عن عبادة الأوثان، على شاكلة الأحناف، وهو في الواقع واحد منهم، ويجب اعتباره أحدهم؛ لأن ما ينسب إليه ينسب أيضًا إلى الحنفاء. والصديق الكثير الصدق، ومن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله، "قال الله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} . وقال تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} ، أي مبالغة في الصدق والتصديق"2. وهم من آمن بالله وصدق به وبشر بعبادته بين الناس، وكان بارًّا بنفسه وبغيره. وهي بمعنى "بار" في لغة بني إرم3. وقد نسب أهل الأخبار إلى رجال من الجاهليين فتاوى وأحكام صارت سننًا في قومهم. من ذلك ما نسبوه إلى "قصي" من أمور، زعموا أنها صارت سنة احتذت بها قريش، وأن بعضًا من أحكامه بقيت إلى الإسلام فأقرها4، وما نسبوه إلى "عامر بن الظرب" العدواني من حكم في "الخنثى" جرى حكم الإسلام به5. وما ذكروه من إفتاء "عامر بن جشم بن غنم" المعروف بـ"ذي المجاسد". في التوريث على قاعدة: "أن للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو حُكم حَكَمَ به الإسلام. ومن أمور أخرى، يرد ذكرها في المواضع المناسبة من هذا الكتاب6، مما يدل على أن الحياة الدينية عند الجاهليين، هي آراء وفتاوى، أفتى بها رجال من أهل الدين والمروءة والعقل والعلم من أهل الجاهلية، فأخذ بها قوم من

_ 1 المحبر "136". 2 تاج العروس "6/ 405 وما بعدها". "صدق" تفسير الطبري "16/ 67". 3 غرائب اللغة "192". 4 المحبر "236". 5 المحبر "236". 6 المحبر "236 وما بعدها".

أتباعهم، وساروا بموجبها وبقي بعض منها إلى الإسلام. غير أن تلك الفتاوى لم تكن عامة، شملت كل العرب، بل حتى كل قوم ذلك المفتي أو الإمام؛ إذ لم تكن عند العرب سنة واحدة ملزمة لسبب أنهم كانوا شيعًا وقبائل ولكراهتهم الخضوع للقيود العامة إلا كرهًا، وذلك في الأمور التي لا بد لهم من الخضوع لحكمها لأنها من أصول الأعراف التي يقوم عليها وجودهم مثل عرف الأخذ بالثأر. ومن الصعب تصور وجود طبقة خاصة كبيرة لرجال الدين على نحو ما كان عند المصريين مثلًا أو الآشوريين أو البابليين أو اليونان أو الرومان أو في الكنيسة، بسبب النظام القبلي الذي كان غالبًا على جزيرة العرب. وصغر المجتمعات الحضرية. فالأصنام هي أصنام محلية، أصنام قبلية، لذلك كان عبدتها هم عبدة القبيلة أو القبائل المتعبدة لها. وفي محيط اجتماعي ضيق مثل هذا المحيط، لا يمكن ظهور طبقة خاصة برجال الدين ذات نفوذ واسع، إنما تكون قدرتها بقدرة المحيط الذي تعيش فيه. ولما كانت حياة البداوة حياة بسيطة غير معقدة، تعذر علينا أن نتصور حياة دينية معقدة عند أبناء البادية. وكل ما يمكن وجوده عندهم، هو ما كان له علاقة بمحيطهم وبمعيشتهم البسيطة، مثل السدانة والكهانة وأمثال ذلك مما يحتاج إليه البدوي لحل مشكلات حياته ولجلب السعادة له. ولم أجد في نصوص الجاهليين ولا في أخبار أهل الأخبار، ما يفيد قيام رجال الدين من أهل الجاهلية. بتلقين الناس أصول الدين وتعاليمه، أو شرح نصوص دينية لهم أو تعليمهم الناس مبادئ القراءة والكتابة في المعابد على نحو ما كان يفعله اليهود والنصارى في ذلك الوقت. ولكن هذا لا يكون دليلًا على نفي وجود شيء من ذلك عندهم. فقد يجوز أن يعثر في المستقبل على نصوص تفيد بوجود ذلك عندهم. ذكر أن رجلًا من "خثعم" قال: "كانت العرب لا تحرم حلالًا ولا تحلل حرامًا. وكانوا يعبدون الأوثان ويتحاكمون إليها"1. وفي القرآن الكريم آيات مثل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}

_ 1 ابن عساكر، التأريخ الكبير "1/ 317".

{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 1، وآيات أخرى وكلمات تفيد وجود تشريع ومشرعين لدى الجاهليين، أي رجال دين يبينون لهم الحلال والحرام وأوامر الأصنام، ويشرعون لهم من تشريع كالذي نراه في هذه الآيات وغيرها من أحكام وضعوها للناس باسم آلهتهم، فوبخهم الله في القرآن على افترائهم هذا على الله وعلى الأصنام التي لا تنطق ولا تعقل. وكان من أهم واجبات رجال الدين والزهاد والمتنسكين، الأشراف على المعابد وصيانة أموالها، وخدمة الأصنام وتنفيذ الأحكام، وتلبية طلبات الناس في التوسط لدى الآلهة برفع الضر والكرب عنهم، أيام الشدة وساعات العسر. من ذلك التوسل إلى الآلهة. بحفظ القوافل، وإنزال الرحمة بالناس سني القحط. ومن ذلك ما يسمونه بالاستسقاء. فقد كانوا يستسقون إذا أجدبوا، فإذا أرادوا ذلك أخذوا من ثلاثة أشجار وهي: سلع وعشر وشبرق، من كل شجرة شيئًا من عيدانها وجعلوا ذلك حزمة، وربطوا بها ظهر ثور وأضرموا فيها الناس، ويرسلون ذلك الثور، فإذا أحس بالنار عدا حتى يحترق ما على ظهره ويتساقط. وقد يهلك ذلك الثور فيسقون2. وذكر أنهم كانوا إذا أرادوا الاستمطار في الجاهلية اجتمعوا وجمعوا ما قدروا عليه من البقر ثم عقدوا في أذنابها وبين عراقيبها السلع والعشر، ثم صعدوا بها في جبل وعر، وأشعلوا فيها النيران، وضجوا بالدعاء والتضرع. فكانوا يرون أن ذلك من أسباب السقيا. ولأمية بن أبي الصلت شعر في ذلك3. وكان من عادة أهل مكة في الاستسقاء، أنهم كانوا إذا أجدبوا وقحطوا، واشتدت بهم الحاجة، خرج من كل بطن منهم رجل، ثم يغتسلون بالماء، ويتطيبون، ثم يلتمسون الركن ويطوفون بالبيت العتق سبعًا، ثم يرقون أبا قبيس، فيتقدم رجل منهم، يكون من خيارهم، ومن رجال الدين فيهم، ممن يتبركون به، فيدعو الله ويستغيث طالبًا الرحمة والغوث بالمتوسلين إليه. ويذكرون أن "عبد المطلب"، كان ممن استسقى لأهل مكة ولغيرهم مرارًا4.

_ 1 الأنعام، الرقم 6، الآية 137 وما بعدها. 2 السيرة الحلبية "1/ 132". 3 الحيوان "4/ 466 وما بعدها". 4 السيرة الحلبية "1/ 132 وما بعدها".

التبرك برجال الدين

التبرك برجال الدين: ويظهر من أخبار أهل الأخبار، أن رجال الدين من أهل الجاهلية كانوا يباركون أتباعهم ويقدسونهم ويلمسون رءوسهم لمنحهم البركة والشفاء من الأمراض فكان أحدهم يضع يده على رأس مريض، أو يلمس جبهته؛ ليمنحه بركة تشفيه، أو عافية تصيبه، أو تبركًا وتقربًا بذلك إلى الآلهة. وكانوا يتفلون في فم الصبيان؛ لتكون التفلة بركة لهم، وعافية، وشفاء من مرض، أو علمًا يصيب الصبي، حينما يكون رجلًا. ويظهر من القرآن ومن الحديث النبوي، أن أهل الكتاب من الجاهليين كانوا يبالغون في التقرب من رجال دينهم وفي التبرك بهم، حتى إنهم كانوا يتسابقون في الحصول على قطعة من ملابس أوليائهم ورجال دينهم ورهبانهم ونساكهم للتبرك بها، وفي شعر امرئ القيس، وشعر غيره إشارة إلى هذا التبجيل والتعظيم.

تنفيذ الأحكام

تنفيذ الأحكام: ولم يكن تنفيذ الأحكام الدينية إلزاميًّا، إنما كان عن طاعة وموافقة. ثم إن العرب لم يكونوا على دين واحد يرجع إلى شرائعه، حتى يلزم المرء بتنفيذ ما جاء في حكمه1. فكان أمر إطاعة أحكام. رجال الدين رهنًا بمكانة رجل الدين وبما له من هيبة ونفوذ بين قومه. وقد رأينا أن من الناس من كان يثور حتى على آلهته إذا وجد أنها لم تلب طلباته، وأنه كان يتوسل إليها ويلوذ بها لمساعدته عند الشدة، ثم يهددها ويتوعدها.

_ 1 اليعقوبي "1/ 227"، "حكام العرب".

بالابتعاد عنها وبترك زيارتها وبنبذها إن هي صمت آذانها عنه، ولم تجب ما طلبه منها. وقد قصصنا حكاية امرئ القيس مع صنمه، إذ رمى السهام في وجهه وعنفه وشتمه؛ لأن جواب الاستقسام لم يكن على نحو ما كان يريد. ولم يكن ذلك من عمل أهل الجاهلية وحدهم، بل نجد وقوع مثل هذه الحوادث في الإسلام أيضًا. وقد رأينا أن في الجاهليين -كما في كل قوم- أناس كانوا لا يقيمون وزنًا لحلال أو حرام، فكانوا يستحلون المظالم، ولا يجعلون للحرمات حرمة، ويعتدون في الأشهر الحرم. كانوا إذا حضروا الأسوق، أباحوا لأنفسهم الاعتداء فيها على أموال الناس فسموا: "المحللون". ومنهم قبائل من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة، وقوم من بني عامر بن صعصعة1. فهؤلاء لا يعرفون الحلال ولا الحرام، والشهور والأيام عندهم سواء بسواء، يغزون فيها متى شاءوا، حتى في الأشهر الحرم؛ إذ لا حرمة عندهم لشهر. وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر، فيسمون الذادة المحرمون2. وهم من بني عمرو بن تميم، وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان، وقوم من بني كلب بن وبرة، فكانوا يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس. وكان العرب جميعًا بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم. ولم تكن للجاهليين أحكام في الحلال والحرام بالنسبة إلى المأكول على ما يظهر، بل كان مرجع الحرمة والإباحة عندهم إلى عرف القبائل. فلما نزل الأمر في الإسلام بتحريم أكل الميتة، أي الحيوان الميت، عجبت قريش من ذلك، واحتجوا قائلين: كيف تعبدون شيئًا لا تأكلون مما قتل، وتأكلون أنتم مما قتلتم؟ وكانوا يقولون ما الذي يموت، وما الذي تذبحون إلا سواء. وذكر "أن ناسًا من المشركين دخلوا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال الله قتلها. قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت

_ 1 اليعقوبي "1/ 240"، "أسواق العرب". 2 اليعقوبي "1/ 240"، "أسواق العرب".

وأصحابك حلال، وما قتله الله حرام! "1. وذكر "أن فارس أوحت إلى أوليائها من مشركي قريش أن خاصموا محمدًا وقولوا له: إن ما ذبحت فهو حلال وما ذبح الله بشمشار من ذهب، فهو حرام. فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء"2. فقد كانت قريش تأكل كل شيء، من ميتة ومختنقة ومن نطيحة وما أكل السبع وما أهل للصنم، فنزل تحريم ذلك في الإسلام. وذكر أنهم كانوا يقطعون يسيرًا من حلق الشاة ويتركونها حتى تموت، يجعلون عملهم هذا ذكاة لها، وقيل: ذبيحة الشريطة، هي أنهم كانوا يشرطونها من العلة، فإذا ماتت، قالوا: قد ذبحنانها. وذكر أن الشريطة الشاة أثر في حلقها أثر يسير كشرط المحاجم، لا يستقصى في ذبحها، والشريطة أيضًا المشقوقة الأذن من الإبل؛ لأنها شرطت أذانها، وإذا كان التعريف الأول صحيحًا، فإن معنى هذا أنهم كانوا يراعون بعض الأحكام في الذبح، أي أن لهم أحكامًا دينية في كيفية الذبح، وقد نهى الإسلام عن أكل الشريطة3. واستباح الجاهليون أكل "النطيحة"، وهي المنطوحة التي ماتت من النطح واستباحوا أيضًا أكل الفريسة والأكيلة والرمية4. وقد كان رجال الدين وسادات القبائل، يحرمون بعض الأشياء على أنفسهم، إذا شعروا بوجود ضرر بها، وبأن في فعلها إلحاق أذى في الإنسان وخدشًا في الاسم. فحرم بعض رجال الجاهلية الخمر على أنفسهم تكرمًا وصيانة لأنفسهم منهم عامر بن الظرب العدواني، وقيس بن عاصم، وصفوان بن أمية بن محرث الكناني، وعفيف بن معديكرب، وسويد بن عدي بن عمرو بن سلسلة الطائي وغيرهم. لما وجدوا فيها من ضرر على الأبدان، وأثر في العقل. وإضاعة للمال5. وورد في بعض الموارد أن أول من حرم الخمر في الجاهلية "الوليد بن المغيرة"، وقيل: "قيس بن عاصم"، ثم جاء الإسلام بتقريره6.

_ 1 تفسير الطبري "8/ 12 وما بعدها". 2 تفسير الطبري "8/ 13". 3 تاج العروس "5/ 167"، "شرط". 4 تاج العروس "2/ 240"، "نطح". 5 الأمالي، للقالي "1/ 204 وما بعدها". 6 صبح الأعشى "1/ 435".

وذكروا أن أول من حرم القمار في الجاهلية "الأقرع بن حابس" التميمي، ثم جاء الإسلام بتقريره. وأن أول من رجم في الزنا في الجاهلية "ربيعة بن جدان"، ثم جاء الإسلام بتقريره في المحصن. وأول من حكم أن الولد للفراش أكثم بن صيفي، حكيم العرب، ثم جاء الإسلام بتقريره. وأن أول من قطع في السرقة في الجاهلية: "الوليد بن المغيرة"، ثم جاء الإسلام بتقريره. وأن أول من سن الدية مائة من الإبل "عبد المطلب" جد النبي، ثم جاء الإسلام بتقريرها. وأن أول من أوقد النار بالمزدلفة، قصي بن كلاب، وأن أول من أظهر التوحيد بمكة "قس بن ساعدة الإيادي"1. ولكننا نجدهم يتقيدون بعرفهم وعاداتهم تقيدًا شديدًا، والعرف عندهم هو ما استقر في نفوسهم وثبت في ذهنهم، حتى صار في حكم الدين عندهم، فلا يجوز لأحد الخروج عليه وكسر حكمه. وعرف القبيلة، الذي هو دينها، هو الذي يعين لها الحرام والحلال، والمباح والمحرم. وأحكام رجال القبيلة من رؤساء وسادة وحكام، هي منبع التشريع والإفتاء في أمور الدين والحق في القبيلة. وما يلائم طبيعة القبائل، ويناسب عقليتها وينبع من محيطها. يكون دينًا على القبائل إطاعته؛ لأنه في صالحها جميعًا، ولأن في مخالفته ضررًا بالغًا، فصار من ثم في درجة أحكام الشرع عندها. ومن قبيل الأعراف التي صارت ملزمة عندهم لكل أحد. وفي حكم الأحكام اللزومية، وجوب احترام العقود والعهود وما اتفق عليه من عهود. مثل مراعاة الأشهر الحرم بالنسبة للمحرمين فلا يجوز لأحد القتال فيها ولا الاعتداء على أحد، ولو كان قاتلًا مطلوبًا بدم. ومثل مراعاة حرمة الأماكن المقدس، كالمسجد الحرام، فلا يجوز لأحد التعرض لحيوان لجأ إليه، أو لإنسان لاذ به، ولو كان قاتلًا. وهذا ما حمل البعض على ملازمة "البيت الحرام" وعدم الخروج منه؛ لأنه غير آمن على نفسه، ولأنه مطلوب بدم. ومثل ما كان يفعله الناس من التمسك بالعهود والمواثيق والأحلاف. وقد عيب رجلان قتلا رجلين كانا تقلدا لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلدونه؛

_ 1 صبح الأعشى "1/ 435 وما بعدها".

ليأمنوا به على أنفسهم، لأنهما قد خالفا بذلك العهود وما اتفق عليه من وجوب مراعاة الحرمات1. وقد كان من عرفهم: أنهم كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة، فيقيم الرجل بمكانة، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم فأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله. وكان من عرفهم في رواية من روايات أهل الأخبار، أنهم إذا خرجوا من بيوتهم يريدون الحج، تقلدوا من لحاء السمر، وإذا أرادوا العودة إلى ديارهم تقلدوا قلادة شعر، فلم يعرض لهم أحد بسوء2، وذكر أيضًا أن الرجل منهم كان يتقلد قلادة من لحاء شجرة من شجر الحرم، ثم يذهب حيث يشاء، فيأمن بذلك3. وأن أهل مكة كانوا يفعلون ذلك في تجارتهم، فيضعون القلائد في أعناقهم وفي أعناق بهائمهم، فلا يعرض لهم أحد بسوء؛ إذ كانوا يرون الوفاء بالميثاق عهدًا في أعناقهم ودينًا يلزمهم بالوفاء في أحكامه.

_ 1 ألم تقتلا الحرجين إذا أعودا كما ... يمران بالأيدي اللحاء المضفرا تفسير الطبري "6/ 38". 2 تفسير الطبري "6/ 37 وما بعدها". 3 المصدر نفسه.

كسور رجال الدين

كسور رجال الدين ... كسوة رجال الدين: يقول أهل الأخبار في معرض كلامهم على كسوة العرب: "وما أهل الحضر وسكنة المدر منهم، فكانوا يتفننون في لبوسهم، ويختلفون في كسوتهم، فكان الكاهن لا يلبس المصبغ والعراف لا يدع تبذييل قميصه وسحب ردائه، والحكم لا يفارق الوبر، والشاعر منهم كان إذا أراد الهجاء دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلًا واحدة، وكان لحرائر النساء زي. ولكل مملوك زي، ولذوات الرايات زي ... "1. فيظهر من قولهم هذا أنه قد كان لرجال الدين أو لبعض منهم زي يميزون أنفسهم به عن بقية الناس، وهو شيء معروف عند البشر من قديم الأيام إلى اليوم فلا نستبعد وجود زي خاص لرجال الدين عند الوثنيين الجاهليين. أما رجال الدين من أهل الكتاب، فقد كانوا يتزيون بزي خاص يميزهم عن بقية أتباعهم. وقد نص على ذلك أهل الأخبار.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 407".

الفصل التاسع والستون: الأصنام

الفصل التاسع والستون: الأصنام مدخل ... الفصل التاسع والستون: الأصنام نجد في كتاب الأصنام لابن الكلبي وفي المؤلفات الإسلامية الأخرى، أسماء عدد من الأصنام كان الجاهليون يعبدونها، وهي على الأكثر أصنام كان يتعبد لها أهل الحجاز ونجد والعربية الشمالية. وذلك قبيل الإسلام. ومن هذه الموارد الإسلامية استقينا علمنا عن هذه الأصنام1. وقد ذكر أهل الأخبار أن بعض هذه الأصنام إناث. وهن اللات، والعزى، مناة. وهي أصنام ذكرت في القرآن الكريم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 2. ويجب أن نضيف إليها الشمس.

_ 1 كتاب الأصنام، لابن الكلبي، بتحقيق المرحوم، أحمد زكي باشا، القاهرة 1925م "مطبعة دار الكتب المصرية"، "كتاب الأصنام وما كانت العرب والعجم تعبد من دون الله تبارك اسمه"، الفهرست "125"، "الرد على عبدة الأوثان"، معجم الأدباء "1/ 132"، "كتاب الأصنام"، للجاحظ، وقد نقل منه النويري، نهاية الأرب "16/ 15". 2 سورة النجم، الآية 20.

اللات

اللات: واللات من الأصنام القديمة المشهورة عند العرب. ذكر ابن الكلبي أنه كان صخرة مربعة بيضاء، بنت ثقيف عليها بيتًا صاروا يسيرون إليه، يضاهون به

الكعبة، وله حجة وكسوة، ويحرمون واديه، وكانت سدانته لآل أبي العاص بن أبي يسار بن مالك من ثقيف، أو لنبي عتاب بن مالك، وكانت قريش وجميع العرب يعظمونه أيضًا، ويتقربون إليه، حتى إن ثقيفًا كانوا إذا ما قدمون من سفر، توجهوا على بيت اللات أولًا للتقرب إليه وشكره على السلامة، ثم يذهبون بعد ذلك إلى بيوتهم1. فيتبين من ذلك أن معبد اللات الشهير كان في مدينة الطائف، مركز قبيلة ثقيف، يقصده الناس للتبرك به. وقد كانت له معابد كثيرة منتشرة في مواضع عديدة من الحجاز. وذكر ابن كثير أن اللات "صخرة بيضاء منقوشة، عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش"2. فلم تكن صخرة اللات صخرة ملساء حسب، بل كانت إلى ذلك منقوشة، وكانت في داخل بيت له أستار على شاكلة الكعبة والفناء هو حرم معظم عند أهل الطائف، تعظيم قريش لحرم البيت. حرم على الناس قطع شجره، وصيد حيوانه، ومن دخله صار آمنًا3. وكانت تحب صخرة اللات حفرة يقال لها "غبغب"، حفظت فيها الهدايا والنذور والأموال التي كانت تقدم إلى الصنم. فلما هدم المغيرة الصنم أخذ تلك الأموال وسلمها على أبي سفيان امتثالًا لأمر الرسول4. ويظهر من وصف أهل الأخبار لبيت اللات أنه كان على طراز البيت بمكة من حيث المنزلة والاحترام والكسوة. فقد كان يكسى في كل عام كسوة. ويظهر أن ثقيفًا اتخذت له سدنة وخدمًا يقومون بحراسة البيت وخدمته وتنظيفه على نحو

_ 1 البلدان "7/ 310" "اللات"، الأصنام "16"، اللسان "2/ 388"، تاج العروس "1/ 580" المحبر "315"، الواقدي "384 وما بعدها" سبائك الذهب "104"، بلوغ الأرب "2/ 203"، قاموس المحيط "1/ 156" تفسير البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي "8/ 160 وما بعدها"، "الطبعة الأولى 1328هـ" تفسير الطبري "27/ 58 وما بعدها" فتح الباري "10/ 235، 253"، "تفسير ابن كثير "4/ 253". 2 تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها". 3 العرب في سوريا قبل الإسلام "111 وما بعدها". 4 الطبري "3/ 99 وما بعدها" "دار المعارف"، Reste, s. 31.

ما كان في مكة وفي بيوت الآلهة الأخرى1. ويرى ابن الكلبي أن الصنم "اللات" هو أحدث عهدًا من مناة2. أما نحن فلا نستطيع أن نجرؤ فنقول بهذا القول؛ لأن الصنمين هما من الأصنام القديمة التي ورد ذكرها في كتابات النبط والصفويين. ثم إن "هيرودوتس" أشار إلى "اللات"، كما سأذكر ذلك. وليس من السهل حتى بالنسبة إلى ابن الكلبي أو غيره، ممن تقدم عليه بالزمن الحكم على زمن دخول عبادة الصنمين إلى جزيرة العرب؛ لأن ذلك يعود إلى زمن سابق لا تصل ذاكرة الرواة إليه. ومكان بيت اللات في موضع مسجد الطائف، أو تحت منارة مسجد الطائف. وقد عرف البيت الذي بني على اللات بيت الربة. ويقصدون بالربة اللات؛ لأنه أنثى في نظر عابديه3. ولا ندري أكان إنشاء مسجد الطائف على موضع معبد اللات رمزًا لحلول بيت الله محل بيت الربة، وبيت الأصنام، وتعبيرًا عن حلول الإسلام محل عبادة اللات والأصنام، أم كان ذلك لسبب آخر، هو وجود أسس سابقة وحجارة قديمة موجودة فاستسهل لذلك إقامة بناء المسجد في هذا المكان؟ وقد فسر بعض المستشرقين إقامة المسجد في هذا المكان، بأنه تخليد لذكرى الوثنية في نفوس بعض من أسلم لسانه وكفر قلبه، فسرهم قيام المسجد في هذا المكان ليبقى أثرًا يذكرهم بذكرى صنمهم القديم اللات4. وللأخباريين روايات عن صخرة اللات، منها أنها في الأصل صخرة كان يجلس عليها رجل، يبيع السمن واللبن للحجاج في الزمن الأول، وقالوا: إنها سميت باللات لأن عمرو بن لحي كان يلت عندها السويق للحجاج على تلك الصخرة، وقالوا: بل كانت اللات في الأصل "رجلًا من ثقيف. فلما مات، قال لهم عمرو بن لحي: لم يمت، ولكن دخل في الصخرة، ثم أمر بعبادتها، وأن يبنوا بنيانًا يسمى اللات"، وقالوا: "قام عمرو بن لحي، فقال لهم: إن ربكم كان قد دخل في هذا الحجر، يعني تلك الصخرة نصبها لهم صنمًا يعبدونها. وكان فيه وفي العزى شيطانان يكلمان الناس، فاتخذتها ثقيف طاغوتًا، وبنت لها.

_ 1 Das Gotzenbuch, s. 93. 2 الأصنام "16". 3 العرب في سوريا قبل الإسلام "112". 4 العرب في سوريا قبل الإسلام "112".

بيتًا. وجعلت لها سدنة، وعظمته، وطافت به". وقيل: "كانت صخرة مربعة. وكان يهودي يلت عندها السويق"1. وذكر المفسر "أبو السعود" أن هناك رواية تزعم أن حجر اللات كان على صورة ذلك الرجل الذي قبر تحته، وهو الذي كان يلت السويق، فلما مات، عكفوا على قبره فعبدوه2. وقيل إن اللات: الذي كان يقوم على آلهتهم، ويلت لهم السويق3. فنحن أمام راي يزعم أن "اللات" إنسان في الأصل مات، وكان يخدم الأصنام، فيتقدم إليها يلت السويق ويعطيه للناس، فلما توفي، دفن في موضعه الذي كان يلت السويق عنده ثم اتخذ قبره مزارًا، كما اتخذت قبور أخرى مزارات ينحر عندها ويتبرك بها الناس، ولهذا نهى الإسلام عن اتخاذ القبور مزارات، حتى لا تعظم من دون الله، كالذي حدث عند الجاهليين4. وذكر بعض أهل الأخبار أن صنم اللات إنما سمي لاتًا، من "لوى؛ لأنهم كانوا يلون عليها، أي يطوفون"5، ويعتكفون للعبادة عنده6. معنى هذا أن عباد هذا الصنم لم يكونوا يكتفون بالذبح عنده، بل كانوا يطوفون حوله طوافهم حول أصنام أخرى. وذكر أنه سمي لاتًا، ومن اللتات، وكل شيء يلت به سويق أو غيره نحو السمن7. ولدينا رأي آخر في سبب تسمية اللات لاتًا، خلاصته: "أن الناس اشتقوا اللات من اسم "الله" فقالوا "اللات"، يعنون مؤنثه منه"8. وذكر

_ 1 الأصنام "16 وما بعدها" البلدان "7/ 310" "اللات"، النقائص "141"، تاج العروس "1/ 580 وما بعدها"، اللسان "2/ 388"، روح المعاني "27/ 47 وما بعدها" الأزرقي، أخبار مكة "79 وما بعدها" "طبعة لا يبزك"، تفسير الخازن "4/ 194 وما بعدها". 2 تفسير أبي السعود "5/ 112". 3 تفسير الطبري "27/ 35". 4 كان النهي عن ذلك في أول ظهور الإسلام، ثم أذن به، بدلالة الحديث: "كنت نهيتكم عن زياة القبور. ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم بالآخرة". 5 تفسير البيضاوي "1/ 199" "سورة النجم". 6 روح المعاني "27/ 37وما بعدها". 7 اللسان "2/ 83" "بيروت 1955". 8 تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها".

الطبري أن "اللات هي من الله، ألحقت فيه التاء، فأنثت، كما قيل عمرو للذكر وللأنثى عمرة، وكما قيل للذكر عباس ثم قيل للأنثى عباسة"1. وورد في بعض روايات أهل الأخبار أن الثقفي الذي كان يلت السويق بالزيت ويقدمه للناس، لما توفي قبر في موضع اللات، فعكفوا على قبره، فعبدوه وجعلوه وثنًا، وزعم بعض آخر أنه قبر عامر بن الظرب العدواني2. فترى هذه الروايات أن "بيت الربة"، هو قبر رجل، دفن فيه، فعبد وصير إلهًا. وزعم قوم أنه كان رجلًا من ثقيف، يقال له "صرمة بن غنم"، وكان يسلأ السمن، فيضعه على صخرة، فتأتيه العرب، فلما مات، عبدته ثقيف3. وتفسير أهل الأخبار لاسم "اللات" هو بالطبع من تفسيراتهم المألوفة الكثيرة التي لا يمكن أن نثق بها، ولا يمكن أن نحملها على محمل الصدق والعلم. فالاسم هو من الأسماء القديمة التي عرفت قبل الميلاد ويرى بعض المستشرقين أنه إدغام وسط بين "الإلاهت" "أل سال هت" Al Alahat والإدغام التام "اللات" "أل لت" Allat، على نحو ما حدث للفظ الجلالة: "الإلاه" "أل- إل هـ" الذي صار "الله"4. وفي قول أهل الأخبار أن صخرة اللات كانت ليهودي، يلت عندها السويق أو لرجل من ثقيف، غمز وطعن في ثقيف، وقد غمز بها في أمور أخرى أشرت إليها في مواضع أخرى. ويعود سبب هذا الغمز إلى المنافسة التي كانت بين أهل الطائف وأهل مكة، ثم على الكراهية الشديدة التي حملها أهل العراق وأهل الحجاز وغيرهم للحجاج لأعماله القاسية، وعدم مبالاته ومراعاته للحرمات حتى بالنسبة إلى الكعبة، مما حمل الناس على كرهه وكره قومه ثقيف، وعلى وضع قصص عن ثقيف. ولا يستبعد أن تكون صخرة اللات صخرة من هذه الصخور المقدسة التي كان يقدسها الجاهليون ومن بينها "الحجر الأسود" الذي كان يقدسه أهل مكة ومن

_ 1 تفسير الطبري "27/ 34" تفسير الطبرسي "27/ 48 وما بعدها". 2 روح المعاني "27/ 47 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها". تفسير أبي السعود "5/ 112" "سورة النجم". 3 الخازن "4/ 194 وما بعدها". 4 رينه ديسو: العرب في سوريا قبل الإسلام "114".

كان يأتي إلى مكة للحج وفي غير موسم الحج، لذلك كانوا يلمسونه ويتبركون به. وإذا أخذنا برأي ابن الكلبي من أن عمرو بن لحي قال للناس: "إن ربكم كان قد دخل في هذا الحجر"، أو أن الرجل الذي كان عند الصخرة لم يمت، ولكن دخل فيها أو أن روح ميت حلت فيها ونظرنا إلى رأيه هذا بشيء من الجد، فلا يستبعد أن يشير هذا الرأي إلى ما يسمى بـ"الفتيشزم" fetichism أي عبادة الأحجار في اصطلاح علماء الأديان. ويعنون بها عبادة الأرواح التي يزعم المتعبدون لها أنها حالة في تلك الأحجار، وخاصة الأحجار الغريبة التي لم تصقلها الأيدي، بل عبدت على هيئتها وخلقتها في الطبيعة، وهي من العبادات المنحطة بالنسبة إلى عبادة الصور والتماثيل والأصنام1. وذكر أن قريشًا تعبدت للصنم اللات بموضع نجلة عند سوق عكاظ، وقيل إنه كان بالكعبة2. وذكر أن "اللات بيت كان بنخلة تعبده قريش"3. ويلاحظ أن من أهل الأخبار من جعل العزى بيتًا كان بنخلة4 أي هذا البيت المذكور. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن منهم من رأى أن اللات بيت للصنم، الذي كان بالطائف، وأن منهم من رأى أنه كان بنخلة تعبده قريش. وأما عباد البيت الأول، فهم ثقيف. ولا أستبعد وجود بيوت عبادة أخرى في غير هذين المكانين في الحجاز وفي غير الحجاز. واللات من الآلهة المعبودة عند النبط أيضًا، وقد ورد اسمها في نصوص "الحجر" و"صلخد" و"تدمر" وهي من مواضع النبط5. وهو "هـ ل ت" "هـ - لت" "ها - لت" في النصوص الصفوية6، ومعناها "اللات"؛ لأن "الهاء" حرف تعريف في اللهجة الصفوية. وقد ذكر أكثر من ستين مرة في الكتابات الصفوية. وهو أكثر آلهة الصفويين ورودًا في نصوصهم، ويدل ذلك على شيوع عبادته بينهم7.

_ 1.Robertson, p. 209 2 الخازن "4/ 194 وما بعدها"، البيضاوي، سورة النجم "1/ 199"، روح المعاني "27/ 47 وما بعدها". 3 تفسير الطبري "27/ 35". 4 تفسير الطبري "27/ 35". 5 Reste, S. 32, Vogue 6, 8, Enting 3, woddington 2203, dussaud – macler, Mission, p. 55. 6 Ency. Religi, I, p. 661. 7 العرب في سوريا قبل الإسلام، "111".

ويذكر الباحثون أن النبط عدوا اللات أمًّا للآلهة، وهي في نظر "روبرتسن سمث" الإلهة الأم لمدينة "بطر" وتقابل الإلهة Artemis عند أهل قرطاجة1. وقد عبدت اللات في تدمر، وفي أرض "مدين" عند اللحيانيين2. وقد وصف "أفيفانيوس" Epiphanius معبد الإلهة اللات في مدينة "بطرا"، فذكر أنه معبد الأم العذراء Virggin mother كما أنها كانت معبودة عند أهل "الوسة" "الوس" Elusa كذلك. ويظهر أن عبادتها كانت قد انتقلت من النبط ومن القبائل العربية الشمالية إلى أهل الحجاز3. وصنم اللات، هو "أليلات" "أللات" Alilat = Alelat المذكور في تأريخ "هيرودوتس" ذكر أنه من آلهة العرب الشهيرة4 والتسمية عربية النجار، وقد غيرت تغييرًا طفيفًا، اقتضته طبيعة اللغة اليونانية، فذكره "هيرودوتس" على النحور المذكور. فهذا الصنم إذن هو أول صنم عربي يرد اسمه في نص مؤرخ يوناني. وهو يقابل الإله Minerva أي "أثينة" Athene عند اليونان5. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن "اللات" تمثل "الشمس"، وهي أنثى أي إلهة6 أما "رينه ديسو" فيرى أنها لا تمثل الشمس، وإنما تمثل كوكب الزهرة، وخطأ رأي من يقول إن اللات الشمس7. وقد انتهت إلينا أسماء رجال أضيفت إلى اللات، مثل: "تيم اللات"، و"زيد اللات"، و"عائذ اللات، و"شيع اللات". و"شكم اللات"، و"وهب اللات" وما شاكل ذلك من أسماء. ومما يلفت النظر أننا لم نلاحظ ورود اسم "عبد اللات" بين أسماء الجاهليين8. وقد أقسموا باللات، كما أقسموا بالأصنام الأخرى، ونسب إلى أوس بن حجر قوله9:

_ 1 Smith, p. 56, reste, s. 33. 2.Arabien, s. 82 3 Smith, p. 56, das Gotzenbuch s. 91. 4 Herodotes, I, 181, III, 8, Arabien, s. 82.. 5.Arabien, s. 82 6.Ency, Religi, I, p. 661. 7 العرب في سوريا قبل الإسلام "115". 8 الأصنام "18"، المحبر "213، 327، 350، 453". 9 الأصنام "11"، روزا".

وباللات والعزى ومن دان دينها ... وبالله، إن الله منهن أكبر وهدم اللات في جملة ما هدم من الأصنام، وأحرق البيت وقوضت حجارته، هدمه بأمر الرسول المغيرة بن شعبة في أغلب الروايات: وكان الناس ينظرون إلى هدمه في خوف وفزع وهلع خشية أن ينالهم شيء من أذى انتقامًا منهم؛ لأنهم لم يدافعوا عن بيت ربتهم، وكانت نساء ثقيف حسرًا يبكين عليه. فلما انتهى الهدم، ولم يحدث لهن شيء، أخذ المغيرة مالها وحليها من الذهب والجزع وأعطاه أبا سفيان، وكان الرسول قد أرسله مع المغيرة في وفد ثقيف الذي جاء إليه عارضًا عليه الإسلام، فأخذه منه أبو سفيان، ليقضي من مال اللات دين عروة والأسود ابني مسعود1. ولما أصيبت ثقيف بهزيمة، واحتمت بالطائف قال الشاعر: وفرت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر2 ويظهر من هذا الشعر الذي ينسب على "شداد بن عارض الجشمي"، وقد قاله حين هدمت وحرقت اللات: لا تنصروا اللات إن الله مهكلها ... وكيف نصركم من ليس ينتصر؟ إن التي حرقت بالنار فاشتعلت ... ولم تقاتل لدى أحجارها هدر إن الرسول متى ينزل بساحتكم ... يظعن، وليس بها من أهلها بشر إن ثقيفًا بقيت مخلصة لصنمها مؤمنة به، حتى بعد هدمه وتحريقه، فقال الشاعر شعره، ينهى ثقيفًا عن العود إليها والغضب لها3. ويظهر من بيت ينسب إلى كعب بن مالك الأنصاري، هو قوله: وننسى اللات والعزى وودًا ... ونسلبها القلائد والسيوفا4

_ 1 الطبري "3/ 99 وما بعدها" البلدان "7/ 310" البداية والنهاية "1/ 149" نهاية الأرب "18/ 59 وما بعدها"، ابن سيد الناس، عيون الأثر "2/ 229 وما بعدها" ابن هشام "2/ 326"، الروض الأنف "2/ 326". 2 الأغاني "19/ 80"، المشرق، السنة 1938م "حـ1" "ص4". 3 الأصنام "11" روزا" الإصابة "2/ 139" رقم 3852". 4 ابن هشام "1/ 63" "هامش روض الأنف.

إن الناس كانوا يعلقون القلائد والسيوف على تلك الأصنام. وروايات الأخباريين تؤيد هذه الدعوى؛ إذ نذكر أن الجاهليين كانوا يقدمون الحلي والثياب والنفائس وما حسن وطاب في أعين الناس هدية ونذورًا إلى الأصنام، فكانوا يعلقون ما يمكن تعليقه عليها، ويسلمون الأشياء الأخرى إلى سدنة الأصنام. وقد ذكر الرحالة الإنكليزي "جيمس هاملتون" أن صخرة اللات كانت لا تزال في أيامه بالطائف. وقد شاهدها فوصفها بأنها صخرة من الغرانيت ذات شكل خماسي، وإن طولها زهاء اثنتي عشرة قدمًا1. ويظهر أنه كان للات بيت وقبة يحملها الناس معهم حين يخرجون إلى قتال، فينصبان في ساحة الجيش؛ ليشجع المحاربون فيستميتوا في القتال، وينادي المنادون بنداء تلك الأصنام مثل: يا للات، وقد كانت لبقية الأصنام بيوت وقباب أيضًا2، وعادة حمل الأصنام إلى المعارك والحروب وإشراكها مع الناس في القتال بإحضارها ساحة المعارك عادة قديمة، معروفة عند العرب وعند غيرهم. وقد سبق أن قلت إن الآشوريين ذكروا أنهم أسروا أصنام "أريبي" العرب في أثناء قتالهم معهم، أسروها مرارًا، وكانوا يثبتون عليها خبر الأسر. كما أن الفلسطينيين والعبرانيين وغيرهم كانوا يحملون معهم أصنامهم في القتال3.

_ 1 James Hamilton sinai, the Hegaz and Soudan, London, p. 150,"1857"". 2 Das Gotzenbuch, s. 83. 3 صموئيل الأول، الإصحاج الرابع، الآية 5 وما بعدها، صموئيل الثاني، الإصحاح الخامس، الآية 21، الإصحاح 11، الآية 11.

العزى

العزى: والعزى صنم أنثى كذلك، وهي أحدث عهدًا في نظر ابن الكلبي من اللات ومناة. وأما الذي اتخذ العزى على رواية ابن الكلبي، فهو ظالم بن أسعد. وضعت "بواد من نخلة الشامية، يقال له حراض، بأزاء الغمير، عن يمين المصعد إلى العراق من مكة، وذلك فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، فبنى عليها بسًا "يريد بيتًا"، وكانوا يسمعون فيه الصوت"1 وينسب إليه بيت العزى كذلك.

_ 1 الأصنام "17 وما بعدها"، البلدان "6/ 165" "العزى" سبائك الذهب "104" بلوغ الأرب "2/ 203 وما بعدها" تفسير الطبري "27/ 35"، المحبر "124، 311، 315"، تفسير الطبرسي "27/ 175" "طهران".

وقد زعم بعض أهل الأخبار أن "العزى" كان بيتًا بالطائف تعبده ثقيف. ويظهر أن هذا اشتباه قد وقع لهم، وأنهم خلطوا بين اللات والعزى، فتوهموا أن بيت اللات هو العزى فقالوا ما قالوه. ونجد في تفسير الطبري تأييدًا لهذا الرأي1. وورد في بيت شعر ينسب إلى "حسان بن ثابت" أن بيت العزى كان "بالجزع من بطن نخلة"2. ويظهر أن العزى كانت "سمرات"، لها حمى، وكان الناس يتقربون إليها بالنذور. وهي بالطبع عبادة من العبادات المعروفة للشجر3. وقد ذكر الطبري روايات عديدة تفيد أن "العزى" شجيرات، ولكنه أورد روايات أخرى تفيد أنها حجر أبيض4، فنحن إذن أمام رأيين: رأي يقول إن العزى شجيرات، ورأي يرى أنها حجر. وذكر "ابن حبيب" أن العزى شجرة بنخلة عندها وثن تعبدها غطفان، سدنتها من بني صرمة بن مرة5. وذكر غيره أنها سمرة لغطفان6. وقد تسمى العرب وقريش بالعزى، فقالوا: "عبد العزى"7 وقد أقسموا بها، ولها يقول درهم بن زيد الأوسي: إني ورب العزى السعيدة ... والله الذي دونه بيته سرف8 وأقدم من سمي باسم "عبد العزى" في رأي ابن الكلبي هو عبد العزى بن كعب9. وقد ذكر ابن دريد أسماء عدد من أهل مكة عرفوا بـ"عبد العزى".

_ 1 تفسير الطبري "27/ 35"، "العزى بيت بالطائف تعبده ثقيف". 2 الأزرقي، "ص78 وما بعدها". 3 أخبار مكة، للأزرقي "2/ 74"، اللسان "5/ 378"، "عز" تاج العروس "4/ 55"، تفسير الخازن "6/ 217 وما بعدها" الشوكاني، فتح "5/ 105"، تفسير البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي "8/ 160 وما بعدها" تفسير ابن كثير "4/ 253". 4 تفسير الطبري "27/ 35". 5 المحبر "315" تفسير الطبرسي "27/ 48 وما بعدها، تفسير البيضاوي "1/ 199". 6 مراصد الاطلاع "937". 7 الأصنام "16 وما بعدها". 8 الأصنام "13" "روزا"، مراصد الاطلاع "937". 9 الأصنام "18".

منهم بـ"عبد العزى بن قصي"، و"عبد العزى بن عبد مناف"، و"عبد العزى بن عبد المطلب"1. ويظهر من هذا الشعر المنسوب إلى "زيد بن عمرو بن نفيل": تركت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني غنم أزور2 إن عباد العزى كانوا يتصورونها أمًّا، ولها ابنتان، ولعله أراد بـ"ابنتيها" اللات ومناة. وقد نسب بعض أهل الأخبار عبادة العزى إلى عمرو بن لحي جريًا على عادتهم في نسبة عبادة الأوثان إليه، فقالوا إنه قال لعمرو بن ربيعة والحارث بن كعب عن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعزى لحر تهامة3. وفي رواية لابن إسحاق: إن عمرو بن لحي اتخذ العزى بنخلة، فكانوا إذا فرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة، لم يحلوا حتى يأتوا العزى، فيطوفون بها، ويحلون عندها، ويعكفون عندها يومًا، وكانت لخزاعة وكانت قريشًا وبنو كنانة كلها تعظم العزى مع خزاعة وجميع مضر. وكان سدنتها الذين يحجبونها بنو شيبان من بني سليم، حلفاء بني هاشم4. وتشير رواية من زعم أن عمرو بن لحي قال لقومه: "إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعزى لحر تهامة"، صحت أو لم تصح، إلى وجود صلة بين اللات والعزى، وقد ذكرى العزى بعد اللات في القرآن الكريم. وكذلك ترد بعد اللات في جميع روايات الأخباريين مما يشير إلى وجود صلة بين اللات والعزى. ولا يستبعد أن تكون هذه الصلة بين الصنمين قد جاءت إلى أهل الحجاز من بلاد الشأم من أهل تدمر وبادية الشام والصفويين، إذ وردا وكأنهما إلهان متقابلان، فحمل ذلك بعض المستشرقين على تصور أنهما يمثلان كوكبين: كوكب الصباح وكوب المساء5.

_ 1 الاشتقاق "348" "الفهرست". 2 الأصنام "14" "روزا". 3 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 74" "باب ما جاء في اللات والعزى". 4 الأزرقي "1/ 74 وما بعدها". 5 العرب في سوريا قبل الإسلام "125".

والعزى مثل اللات ومناة من الآلهة المعبودة عند عرب العراق وعرب بلاد الشأم، وعد النبط والصفويين. وقد ذكر اسم العزى مرتين في المصادر المؤلفة بعد الميلاد، وأشار إسحاق الأنطاكي Isaac of Antioch من رجال القرن الخامس للميلاد، إلى اسم العزى في حديثه عن مدينة "بيت حور" Beth – Hur ودعاها بـ Beltis، وسماها "كوكبتا". ويظن أن "كوكبتا" Kawkabta، أي "كوكبة" المذكورة في المصادر السريانية، هي أنثى كوكب، تعني الكوكب الذي يظهر عند الصباح، وهو العزى عند الجاهليين ويراد بها "الزهرة" Venus عند النبط2. حيث اتخذوا لها معبدًا في مدينة "بصرى" في منطقة "رم" عرف بـ"بيت إيل". وقد نص "بروكوبيوس"، Procopius على أنها "أفروديت"3. وهي كناية عن القمر على رأي بعض المستشرقين4. ولعل العزى هي "ملكة السماء Melekheth Hash – Shama المذكورة في سفر "أرميا"5، وقد جاء فيه: أن أهل "أورشليم" كانوا يصنعون كعكًا، يتقربون به إلى تلك الإلهة: إلهة السماء. وقد كان الجاهليون يتقربون بالخبز والكعك إلى "كوكب السماء"6 ويظهر من ورود اسم امرأة هو: "أمت عزى"، أمة العزى"، في نص عربي جنوبي، أن عبادة العزى كانت معروفة هناك وقد قدم أحد العرب تمثالًا من ذهب إلى هذه الإلهة7. وقد كان آل لخم، ملوك الحيرة، ينحرون الأسرى قربانًا للعزى. وقد زعم بعض المؤرخين السريان أن "المنذر بن ماء السماء" ضحى بأربع مائة راهبة للعزى8.

_ 1 Reste, s. 40, Ency. Vol. IV, p. 1059, Rothstein, s. 81, 141. Shorter Ency. Of Islam. P. 617. 2 Arabien, s. 82. 3 Procopius, De Bello Persi, II, 28, Arabien, s. 28, 82. Arabien, S. 82, Reste, S. 40, Ryckmans, 15. 4 Arabien, s. 82, Reste, s. 40, Ryckmans, 15. 5 أرميا، الإصحاح السابع، الآية 18 وما بعدها". 6 Hastings, p. 778, Das Gotzenbuch, s. 95. 7 Das Gotzenbuch, S. 94. 8 Malalas, II, 166, Noleke, Sassaniden, s. 171, Ghass, II, Anm. 3. Theophanes, 273, Land. Anecd. Syr, III, 247, Rothstein, s. 81. Paulys-Wissowa, Erster Halband. 1893, S. 12841.

وذكر "إسحاق الأنطاكي" أن العرب كانوا يقدمون الأولاد والبنات قرابين للكوكبة "كوكبتا" فينحرونهم لها، ويقصد بـ"كوكبتا" العزى1. وكانت قريش تتعبد للعزى، وتزورها وتهدي إليها، وتتقرب إليها بالذبائح. وذكر ابن الكلبي أنها كانت أعظم الأصنام عند قريش، وأن قريشًا كانت تطوف بالكعبة وتقول: "واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى. فإنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى". وكانوا يقولون: هن بنات الله، وهن يشفعن إليه. وكانت قريش قد حمت لها شعبًا من وادي حراض، يقال له سقام يضاهون به حرم الكعبة، وكان لها منحر ينحرون فيه هداياهم، يقال له الغبغب، فكانوا يقسمون لحوم هداياهم فيمن حضرها وكان عندها2. وكانت قريش تستعين بأصنامها حين تحارب، تستجير بها وتستمد منها العون في الحرب3؛ لتبعث الهمة والنشاط في النفوس بذكرها. فلما كان يوم أحد نادى "أبو سفيان" "اعل هبل، اعل هبل" فقال المسلمون: "الله أعلى وأجل". فقال "أبو سفيان": "لنا العزى ولا عزى لكم" فقال المسلمون: "الله مولانا ولا مولى لكم"4. ويقول ابن الكلبي أيضًا: ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئًا من الأصنام إعظامهم العزى، ثم اللات، ثم مناة. فأما العزى، فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية. وكانت ثقيف تخص اللات كخاصة قريش للعزى وكانت الأوس والخزرج تخص مناة كخاصة هؤلاء الآخرين، وكلهم كان معظمًا لها"، أي للعزى5. ولابن الكلبي رأي في إقبال قريش على العزى. إذ يقول: "فأما العزى، فكانت قريش تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية. وذلك فيما أظن لقربها منها"6. فجعل قرب بيت العزى من قريش هو السبب في إقبال قريش عليها.

_ 1 Isaak von Antiochia, Opera, I, 220. "ed, Bickell" reste, s. 40.. Das Gotzenbuch, s. 96. 2 الأصنام "18" وما بعدها، "12" "طبعة روزا كلينكه روزنبركر" بمدينة "لايبزك 1941م". 3 Arabien, s. 83. 4 تفسير ابن كثير "4/ 253"، الطبري "2/ 526"، "معركة أحد". 5 الأصنام "27". 6 الأصنام "16" "روزا".

وهو يرى هذا الرأي نفسه حين تكلم على الأصنام: ود، وسواع، ويعوق، ونسر، وقارن بينها وبين الأصنام اللات والعزى ومناة؛ إذ قال: "ولم يكونوا يرون في الخمسة الأصنام التي دفعها عمرو بن لحي.... كرأيهم في هذه ولا قريبًا من ذلك. فظننت أن ذلك كان لبعدهم منهم"1. وقال ابن الكلبي في كتابه الأصنام "وقد بلغنا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذكرها يومًا. فقال: لقد أهديت للعزى شاة عفراء، وأنا على دين قومي"2. وكان فيمن يتقدم إلى العزى بالنذور والهدايا، والد خالد بن الوليد، ذكر خالد أن والده كان يأتي العزى بخير ما له من الإبل والغنم، فيذبحها للعزى، ويقيم عندها ثلاثة أيام3. وممن تعبد للعزى بنو سليم وغطفان وجشم ونصر وسعد بن بكر4. وغني وباهلة وخزاعة وجميع مضر وبنو كنانة. وقد ارتبطت قبائل غطفان بعبادة العزى وتقديسها بصورة خاصة، حتى لقد ذكر "ياقوت الحموي" أن "العزى سمرة كانت لغطفان يعبدونها، وكانوا بنوا عليها بيتًا، وأقاموا لها سدنة"5. وقد عرف البيت بـ"كعبة غطفان"6. وذكر "الطبري" أن العزى "صنم لبنى شيبان"، بطن بن سليم حلفاء بن هاشم، وبنو أسد بن عبد العزى، يقولون: هذا صنمنا، وأنها "كانت بيتًا يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها"7. وقد تعبدت لها ثقيف، بأن اتخذت لها صنمًا8. والظاهر أن قريشًا كانت تعد العزى حامية وشفيعة لها9. وكان لحرم العزى شعب حمته قريش للصنم، يقال له سقام في وادي حراض

_ 1 الأصنام "17" "روزا". 2 الأصنام "18" وما بعدها" "12" "طبعة روزا روزنبركر". 3 الأزرقي، أخبار مكة "78 وما بعدها". 4 تفسير الطبرسي، مجمع البيان "5/ 364"، اليعقوبي "1/ 225". 5 البلدان "6/ 166"، "4/ 116" "صادر". 6 Shorter Ency, p. 617, Arabien s. 83. 7 الطبري "3/ 65"، "دار المعارف". 8 Arabien, s. 83, Doughty, Documents Epigraphiques, 35, Traveis in Arabia Deserta, II, P. 511, 515., 9 Arabien, s. 83.

على طريقة قريش في اتخاذ حرم للكعبة. وقد صار هذا الحمى موضعًا آمنًا لا يجوز التعدي فيه على أحد، ولا قطع شجره، ولا القيام بعمل يخل بحرمة المكان1. فذاك قول أبي جندب الهذلي تم القردي في امرأة كان يهواها، فذكر حلفها له بها: لقد حلفت جهدًا يمينًا غليظة ... بفرع التي أحمت فروع سقام2 وينسب "ابن الكلبي" بناء "بيت العزى" إلى "ظالم بن أسعد"؛ إذ يقول: "بس: بيت لغطفان بن سعد بن قيس عيلان كانت تعبده. بناه ظالم بن أسعد بن ربيعة بن مالك بن مرة بن عوف، لما رأي قريشًا يطوفون بالكعبة ويسعون بين الصفا والمروة، فذرع البيت. ونص العباب: وأخذ حجرًا من الصفا وحجرًا من المروة، فرجع إلى قومه، وقال: يا معشر غطفان، لقريش بيت يطوفون حوله والصفا والمروة، وليس لكم شيء، فبنى بيتًا على قدر البيت، ووضع الحجرين فقال: هذان الصفان والمروة فاجتزئوا به عن الحج فأغار زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة الكلبي، فقتل ظالمًا، وهدم بناءه"3. وجاء في رواية أخرى أن "بني صداء" قالوا: أما والله لنتخذن حرمًا مثل حرم مكة، لا يقتل صيده، ولا يعضد شجره، ولا يهاج عائذه، فوليت ذلك بنو مرة بن عوف. ثم كان القائم على أمر الحرم وبناء حائطه رباح بن ظالم ففعلوا ذلك، وهم على ماء لهم يقال له بس، فلما بلغ فعلهم هذا وما أجمعوا عليه زهير بن جناب، قال: والله لا يكون ذلك وأنا حي، ولا أخلي غطفان تتخذ حرمًا أبدًا، ثم سار في قومه حتى غزا غطفان، وتمكن منها، واستولى على الحرم، وقطع رقبة أسير من غطفان به، وعطل الحرم وهدمه4. وذكر بعض أهل الأخبار، أن العزى صنم كان لقريش وبني كنانة، أو سمرة عبدتها غطفان بن سعد بن قيس عيلان. أول من اتخذها منهم "ظالم بن أسعد".

_ 1 البلدان "5/ 91"، "6/ 166". 2 الأصنام "12" "روزا". 3 الأغاني "21/ 63"، تاج العروس "4/ 109"، البلدان "2/ 179"، اللسان "7/ 327"، "بس". 4 الأغاني "21/ 63".

فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، بالنخلة الشامية بقرب مكة، وقيل بالطائف، بنى عليها بيتًا وسماه بُسًا، وقيل بساء، وأقاموا لها سدنة مضاهاة للكعبة، وكانوا يسمعون فيها الصوت، فبعث إليها رسول الله خالد بن الوليد، عام الفتح، فهدم البيت وقتل السادان وأحرق السمرة1. ويظهر مما تقدم أن البيت هدم مرتين: مرة في الجاهلية، على يد زهير بن جناب، وقتل إذ ذاك بانيه ظالم، والمرة الثانية عام الفتح على يد خالد بن الوليد2. وأما سدنة العزى، فكانوا من بني صرمة بن مرة، أو من بني شيبان بن جابر بن مرة بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن عتبة بن سليم بن منصور. فهم من بني شيبان، من بني سليم حلفاء بني هاشم3. وكان آخر سادن للعزى "دبية بن حرمي السلمى ثم الشيباني"، قتله خالد بن الوليد بعد هدمه الوثن والبيت وقطعة الشجرة أو الشجرات الثلاث4. وفي رواية: أن هدم العزى كان لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان، وكان سادنها أفلح بن النضر السلمي من بني سليم. فلما حضرته الوفاة دخل عليه أبو لهب يعوده وهو حزين، فقال له: مالي أراك حزينًا؟ قال: أخاف أن تضيع العزى من بعدي. قال أبو لهب: فلا تحزن، فأنا أقوم عليها بعدك فجعل أبو لهب يقول لكل من لقي: إن تظهر العزى، كنت قد اتخذت عندها يدًا بقيامي عليها، وإن يظهر محمد على العزى، وما أراه يظهر، فابن أخي فأنزل الله تبارك وتعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 5 وتدل هذه الرواية إن صحت على أن أفلح بن النضر لم يكن آخر سادن للعزى وأن الهدم لم يكن في حياته، وإنما كان بعد وفاته. وتشبه هذه القصة قصة أخرى وردت في الموضوع نفسه، عن أبي أحيحة.

_ 1 تاج العروس "4/ 55"، "عزز". 2 تاج العروس "4/ 109"، "بس". 3 الطبري "3/ 65"، "دار المعارف"، تاج العروس "4/ 56"، "عزز". 4 البلدان "6/ 167 وما بعدها" بلوع الأرب "2/ 205"، ابن هشام "1/ 65" "هامش الروض الأنف"، الطبري "3/ 123"، "3/ 65"، "دار المعارف"، الأصنام "15" "روزا"، "ودبية بن حرمس السلمي سادن العزى"، تاج العروس "10/ 124"، "دبي". 5 أخبار مكة، للأزرقي "1/76"، البلاذري، أنساب "1/ 121".

وأبي لهب. فلما مرض أبو أحيحة، وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، مرضه الذي مات فيه، كان أهم ما شغل باله عبادة العزى وخشيته أن لا تعبد من بعده، فلما أجابه أبو لهب مهونًا عليه الأمر: رد والله ما عبدت حياتك "لأجلك"، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك! سره هذا الجواب، وأفرج عنه. فقال: "الآن علمت أن لي خليفة"1. ويروي ابن الكلبي أن الرسول أمر بالقضاء على العزى، وذلك عام الفتح، فلما افتتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال له: ائت بطن نخلة، فإنك تجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى. فأتاها فعضدها، فلما جاء إليه عليه السلام: هل رأيت شيئًا؟ فقال: لا، قال: فاعضد الثانية؟ فأتاها فعضدها. ثم أتى النبي عليه السلام، فقال: هل رأيت شيئًا؟ قال: لا. قال: فاعضد الثالثة. فأتاها. فإذا هو بحبشية نافشة شعرها، واضعة يديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، وخلفها دبية بن حرمي الشيباني ثم السلمي، وكان سادتها. فلما نظر إلى خالد، قال: أعز شدي لا تكذبي ... على خالد ألقي الخمار وشمري فإنك إلا تقتلي اليوم خالدًا ... تبوئي بذل عاجلًا وتنصري فقال خالد: يا عز كفرانك، لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة. ثم عضد الشجرة، وقتل دبية السادن ثم أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب. أما أنها لن تعبد بعد اليوم2.

_ 1 الأصنام "23". 2 الأصنام "15 وما بعدها" "روزا" ويختلف نص الشعر المذكور المنسوب إلى "دبية" في كتاب الأصنام بعض الاختلاف عن نص تأريخ الطبري "3/ 65". إمتاع الأسماع "1/ 398"، تفسير الطبرسي "27/ 48 وما بعدها" روح المعاني "27/ 47 وما بعدها". الأزرقي "78 وما بعدها".

ويظهر من شعر لـ"أبي خراش الهذلي" أن "دبية" كان كريمًا، يطعم الناس، عظيم القدر، له جفنة حين الشتاء، وقد مدحه؛ إذ حذاه نعلين جيدين، كما رثاه يوم قتل بأبيات ذكرها "ابن الكلبي" في كتابه الأصنام1. وذكر بعض أهل الأخبار أن "خالد بن الوليد" هدم بيت العزى عام الفتح، وقتل إذ ذاك سادنه "ربيعة بن جرير السلمي"2. وروايات الأخباريين عن العزى يكتنفها شيء من الغموض واللبس، ويدل ذلك على أنهم لم يكونوا على علم تام بالعزى فبينما هم يذكرون أن العزى شجرة أو سمرة3. تراهم يذكرون في روايات أخرى أنها شيطانة تأتي ثلاث سمرات، أي أن العزى هي تلك الشيطانة، لا السمرة أو السمرات الثلاث4، ثم تراهم يذكرون في روايات أخرى أن العزى صنم، وأن الرسول حينما أمر خالد بن الوليد بهدمه، قال له لما هدم العزى، وعاد: "أرأيت شيئًا؟ قال: لا، قال: فارجع فاهدمه، فرجع خالد إلى الصنم فهدم بيته، وكسر الصنم، فجعل السادن يقول: أعزى اغضبي بعض غضباتك. فخرجت عليه امرأة حبشية عريانة مولولة، فقتلها وأخذ ما فيها من حلية، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فقال: تلك العزى، ولا تعبد العزى أبدًا"5. ومعنى هذا أن العزى صنم، كان في داخل بيت العزى، وأن خالد بن الوليد كسره، وهدم بيته ولم يكن شجرة. أما تلك السمرة أو السمرات الثلاث، فلم تكن إلا أشجارًا نبتت في حرم البيت. لذلك صارت محرمة لا يجوز مسها بأي سوء كان. وقد سمى بعض أهل الأخبار اسم آخر سدنة العزى "دبية" و"دبية بن

_ 1 الأصنام "14 وما بعدها" "روزا". 2 تاج العروس "4/ 109"، "بس"، ابن سعد، حلقات "2/ 146". 3 السمر: شجر صغار الورق قصار الشوك وله برمة صفراء يأكلها الناس، وليس في العضاه شيء أجود خشبًا من السمر، بلوغ الأرب "2/ 304"، تاج العروس "4/ 109"، "بس". 4 البلدان "6/ 167 وما بعدها"، المحبر "315" بلوغ الأرب "2/ 204"، الأصنام "15 وما بعدها" "روزا". 5 الطبري "3/ 65" "دار المعارف"، روح المعاني "27/ 47 وما بعدها".

حرمس السلمي"1، وسماه بعض آخر "ربية السلمي"، و"ربية بن جرمي"2، و"ربيعة بن جرير السلمي"3. والرأي المعقول المقبول، هو أن العزى صنم، له بيت وأمامه غبغب، أي خزانة يضع فيها العباد المؤمنون بالعزى هداياهم ونذورهم لها. كما كانوا ينحرون لها؛ إذ لا يعقل أن يقال إن خالد كسر الصنم وهدم بيته4. ثم لا يكون العزى صنمًا بل يكون شجرة أو شجرات. وأما الشجيرات، فإنها شجيرات مقدسة أيضًا؛ لأنها في حرم العزى، وشجر الحرم هو شجر مقدس لا يجوز قطعه، ولذلك كان أهل مكة يتجنبون مس شجر الحرم بسوء، فلما أراد "قصي" اعتضاده، هابت قريش عمله وخافت سوء العاقبة، ونهته عن مسه بسوء، ولكنه أقدم على قطعه، لم يبال برأيهم، ولم يحفل بنصائحهم، فقطعه. وكان بيت العزى يسمع فيه الصوت. وقد ذكر الأخباريون أنه كان في كل من اللات والعزى ومناة شيطانة، تكلمهم، وتظهر للسدنة وقد نسبوا ذلك إلى صنع إبليس5. والظاهر أن الحبشية المذكورة التى قتلها خالد، وزعم أنها شيطانة إن صح ما ذكره الرواة عن وجودها، كانت امرأة كان السادن يخفيها في موضع سري، وهي التي تجيب عن أسئلة السائلين فينسب السادن كلامها إلى العزى. ومما يؤيد رأيي في أن "العزى" صنم، ما ورد في تفسير "الطبري" من قوله: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم" خالد بن الوليد إلى شعب بسقام ليكسر العزى، فقال سادنها، وهو قيمها: يا خالد أنا أحذركها إن لها شدة لا يقوم إليها شيء. فمشى إليها خالد بالفأس فهشم أنفها6. مما يدل على أنها كانت صنمًا أنثى، أي تمثالًا لامرأة؛ لأنها أنثى. ويظهر من هذا البيت: أما ودماء مائرات تخالها ... على قنة العزى وبالنسر، عندما7 إن عبَّاد العزى كانوا قد لطخوا قنة الصنم، أي أعلاه ورأسه بدم الأضاحي. وكذلك فعل عبَّاد الصنم نسر بقنة صنمهم.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 204". 2 تاج العروس "4/ 55 وما بعدها"، "عزز". 3 تاج العروس "4/ 109"، "بس". 4 المحبر "123". 5 الأزرقي "1/ 75"، "باب ما جاء في اللات والعزى". 6 تفسير الطبري "24/ 5"، تفسير القرطبي "15/ 258". 7 اللسان "13/ 349"، "قنن".

مناة

مناة: ويعد الصنم مناة أقدام الأصنام عند الأخباريين. وهو من الأصنام المذكورة في القرآن الكريم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 1. وهذه الأصنام الثلاثة هي إناث في نظر الجاهليين. وموضع مناة بالمشلل على سبعة أميال من المدينة2، وبقديد بين مكة والمدينة3، وقيل أيضًا إنه بموضع "ودان" أو في موضع قريب منه4. وذكر اليعقوبي أن مناة كان منصوبًا بفدك مما يلي ساحل البحر5. والرأي الغالب بين أهل الأخبار أنه كان على ساحل البحر من ناحية المشل بقديد6. وذكر "محمد بن حبيب" أنه كان بسيف البحر وكانت الأنصار وأزد شنوءة وغيرهم من الأزد تتعبد له. وأما سدنته، فهم "الغطاريف" من الأزد7. وذكر أن تلبيته كانت على هذه الصورة: "لبيك اللهم لبيك، لولا أن بكرًا دونك، يبرك الناس ويهجرونك، وما زال حج عثج يأتونك. أنا على عدوائهم من دونك"8. وتسكت أكثر روايات أهل الأخبار عن معبد "مناة" فلم تذكر شيئًا عنه،

_ 1 النجم، الآية 19 وما بعدها. 2 تاج العروس "10/ 351"، تفسير الطبري "27/ 32 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها"، تفسير الخازن "4/ 194 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "5/ 112"، اللسان "20/ 167"، تفسير الطبرسي "27/ 48". 3 مجمع البيان "9/ 176"، البلدان "2/ 944" عمدة القاري "9/ 287". 4 البلدان "8/ 167 وما بعدها". 5 اليعقوبي "1/ 312"، "1/ 225". 6 ابن هشام "1/ 87"، الأصنام "13 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 65"، أخبار مكة "1/ 73 وما بعدها"، البداية والنهاية "2/ 192"، عمدة القاري "9/ 287". 7 المحبر "316". 8 المحبر "313".

ولكن "الطبري" يشير في تفسيره إلى أنه كان بيتًا بالمشلل1، وهو كلام منطقي معقول؛ إذ لا يعقل أن يكون هذا الصنم، مجرد صخرة أو صنم قائم في العراء تعبث به الرياح والشمس، ثم إن له سدنة، ولا يعقل أن تكون لصنم سدنة، ثم لا يكون له بيت يؤويه. ولست أستبعد أن يكون له، "جب" يلقي المؤمنون فيه هداياهم ونذورهم. وذكر "الطبري" أيضًا أن معبده كان بـ"قديد". وأما عبدته، فخزاعة، وبنو كعب2. والأخباريون على خلاف فيما بينهم على هيئة "مناة" وشكله، منهم من يقول إن مناة صخرة، سميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها، أي تراق3. ومنهم من يقول إنه صنم كان منصوبًا على ساحل البحر، فهو على هيئة ومثال، وقد نحت من حجارة4، وجعله بعض الرواة في الكعبة مع بقية الأصنام5. والذين يذكرون أن مناة صخرة، يرون أن الناس كانوا يذبحون عندها فتمنى دماء النساء عندها، أي تراق، فهي إذن، وبهذا الوصف مذبح تراق عنده الذبائح التي تقدم نسيكة للإلهة. ويذكرون أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك "كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركًا بها"6. ويتبين من ذلك أن هذا الموضع كان مكانًا مقدسًا، وقد خصص بإله ينشر السحب ويرسل الرياح فتأتي بالأمطار لتغيث الناس، وأن لهذا الإله صلة بالبحر وبالماء، ولذلك أقيم معبده على ساحل البحر7. وقد تكون هذه الصخرة مذبحًا أقيم عند الصنم، أو عند معبده لتذبح عليه ما يهل للصنم، فسمي باسمه، ولذلك يمكن التوفيق بين الرأيين: كونه صخرة، وكونه صنمًا. ويظهر من أقوال ابن الكلبي أن هذا الصنم كان معظمًا، خاصة عند الأوس

_ 1 تفسير الطبري "27/ 35". 2 تفسير الطبري "27/ 35". 3 تفسير الطبري "27/ 32 وما بعدها". 4 تفسير الطبرسي، مجمع البيان "9/ 176"، البلدان "8/ 167 وما بعدها". 5 مجمع البيان "8/ 167 وما بعدها". 6 تفسير الطبري "27/ 32 وما بعدها"، الكشاف "3/ 144 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "1/ 199". 7 وكان منصوبًا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، بين المدينة ومكة وما قارب ذلك من المواضيع، البلدان "8/ 167 وما بعدها".

والخزرج، أي أهل يثرب ومن كان يأخذ مأخذهم من عرب المدينة والأزد وغسان "فكانوا يحجون ويقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رءوسهم، فإذا نفروا أتوا مناة وحلقوا رءوسهم عنده وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تمامًا إلا بذلك1. ولكن القبائل العربية الأخرى كانت تعظمه كذلك، وفي جملتها قريش2 وهذيل وخزاعة3. وأزد شنوءة، وغيرهم من الأزد. وقيل ثقيف أيضًا، وذكرت رواية أخرى أن العرب جميعًا كانت تعظمه وتذبح حوله4. أما سدنته، فالغطاريف من الأزد5. وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمون مناة، ويهلون منها للحج إلى الكعبة6. فمناة إذن من الأصنام المعظمة المقدسة عند الخزرج. وكانوا يحلفون بها ويقفون عندها. وفي ذلك ورد شعر ينسب إلى عبد العزى بن وديعة المزني أو غيره من العرب: إني حلفت يمين صدق برة ... بمناة عند محل آل الخزرج فالمحل الذي يقف فيه "آل الخزرج"، هو المحل الذي يحلف به أمام مناة. وكان العرب في الجاهلية يسمون الأوس والخزرج جميعًا: الخزرج، ولذلك يقول الشاعر في بيته: "عند محل آل الخزرج"7. وترجع بعض الروايات تأريخ مناة إلى "عمرو بن لحي" فتزعم أنه هو الذي نصبه على ساحل البحر مما يلي قديدًا8. وقد أخذت من الرواية التي ترجع أساس عبادة الأصنام وانتشارها بين العرب إلى ذلك الرجل.

_ 1 الأصنام "14"، البلدان" "8/ 169" "مناة" الأزرقي "1/ 73 وما بعدها". 2 الأصنام "13، 15"، البلدان "8/ 169". 3 البلدان "8/ 169"، اللسان "20/ 167". 4 الكشاف "3/ 144 وما بعدها". 5 المحبر "316، البلدان "8/ 167 وما بعدها". 6 تفسير ابن كثير "4/ 253"، اللسان "20/ 167". 7 الأصنام "13 وما بعدها". 8 أخبار مكة "1/ 73 وما بعدها"، البلدان "4/ 653".

وكان المتعبدون لهذا الصنم يقصدونه، فيذبحون حوله، ويهدون له. ويظهر من روايات ابن الكلبي عن هذا الصنم، أنه كان من الأصنام المعظمة المحترمة عند جميع العرب. وقد قصد ابن الكلبي بعبارة: "وكانت العرب جميعًا تعظمه وتذبح حوله"1 عرب الحجاز على ما أعتقد. وكان سدنته يجنون من سدانتهم له أرباحًا حسنة من هذه الهدايا التي تقدم إلى معبده باسمه. وقد بقي سدنة هذا الصنم يرتزقون باسمه، إلى أن كان عام الفتح، فانقطع رزقهم بهدمه وبانقطاع سدانته. فلما سار الرسول في سنة ثمان للهجرة، وهي عام الفتح أربع أو خمس ليال من المدينة، بعث عليًّا إليه، فهدمه وأخذ ما كان له، فأقبل به إلى النبي، "فكان فيما أخذ سيفان كان الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان أهداهما له، أحدهما: يسمى مخذمًا، والآخر رسوبًا. وهما سيفا الحارث اللذان ذكرهما علقمة في بيته: مظاهر سربالي حديد عليهما ... عقيلًا سيوف: مخذم ورسوب فوهبهما النبي لعلي، فيقال: إن ذا الفقار، سيف علي أحدهما. ويقال: إن عليًّا وجد هذين السيفين في الفلس، وهو صنم طيء، حيث بعثه النبي فهدمه2. وفي رواية للواقدي أن الذي هدم الصنم هو سعد بن زيد الأشهلي، هدمه سنة ثمان للهجرة3. وفي رواية أخرى أن الذي هدم الصنم هو أبو سفيان4. وقد كانت القبائل تتجنب أن تجعل ظهورها على "مناة" إعظامًا للصنم، ولذلك كانت تنحرف في سيرها، حيث لا يكون الصنم إلى ظهرها5. وفي ذلك قال الكميت بن زيد الشاعر، أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة: وقد آلت قبائل لا تولي ... مناة ظهورها متحرفيا

_ 1 الأصنام "15"، الأصنام "49"، "القاهرة 1914". 2 الأصنام "15"، البلدان "8/ 168". 3 الطبري "3/ 123"، روح البيان، لاسماعيل حقي أفندي، "4/ 551"، تأريخ الخميس، للديار بكري "2/ 107 وما بعدها" إمتاع الأسماع "1/ 398"، البخاري "5/ 18". 4 البداية والنهاية "2/ 192"، الروض الأنف "1/ 65"، ابن هشام "1/ 87". 5 ابن هشام "1/ 90".

ويظهر من ورود اسم هذا الصنم في القرآن الكريم، ومن انتشار التسمية به في مثل "عبد مناة" و"عبدة مناة" و"زيد مناة" و"عوذ مناة" و"سعد مناة" و"أوس مناة" بين عدد من القبائل المختلفة، مثل تميم وطيء وكنانة، إن عبادة "مناة" كانت منتشرة انتشارًا واسعًا بين القبائل1. ولهذه الكلمات المتقدمة على كلمة "مناة" شأن كبير في وصف الصورة التي كانت في مخيلة عبدة مناة عنه؛ إذ تمثله إلهًا كريمًا يسعد عباده ويساعدهم في المكاره والملمات ويعطيهم ما يحتاجون إليه. والصنم مناة هو "منوتن" "منوت" Manavat عند النبط، ويظن أن لاسمه صلة بـ"مناتا" Menata في لهجة بني إرم، و"منا" Mena في العبرانية، وجميعها "مانوت" "منوت" Manot، وباسم الإله "منى" Meni، وبكلمة "منية"، وجمعها "منايا" في عربية القرآن الكريم. وهي لذلك تمثل الحظوظ والأماني، وخاصة الموت2. ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الإلهة هي إلهة المنية والمنايا عند الجاهليين3. وقد ذكر "مني" Meni مع "جد" Ged في العهد القديم. والظاهر أن كلمة "جد" كانت مصدرًا، ثم صارت اسم علم لصنم. وذكر "منى" مع "جد" له شأن كبير من حيث معرفة الصنمين. فالأول هو لمعرفة المستقبل وما يكتبه القدر للإنسان من منايا ومخبآت لا تكون في مصلحة الإنسان. والثاني، وهو "جد"، لمعرفة المستقبل الطيب والحظ السعيد "fortune" "tyche" في اليونانية، فهما يمثلان إذن جهتين متضادتين4.

_ 1 تاج العروس "10/ 351" Reste, s. 29. 2 Reste, s. 28, Ency. Religi, I, pp. 231, 661. 3 Das Gotzenbuch, S. 87. 4.Hastings, pp. 275, 604

هبل

هبل: يقول ابن الكلبي: "وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، وكان أعظمها هبل. وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة إنسان، مكسور اليد.

اليمنى. أدركته قريش فجعلت له يدًا من ذهب. وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. وكان يقال له هبل خزيمة. وكان في جوف الكعبة قدامه سبعة أقداح، مكتوب في أولها: صريح والآخر ملصق. فإذا شكوا في مولود أهدوا إليه هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج صريح ألحقوه، وإن خرج ملصق دفعوه. وقدح على الميت وقدح على النكاح، وثلاثة لم تفسر لي على ما كانت. فإذا اختصموا في أمر. أو أرادوا سفرًا أو عملًا، أتوه فاستسقوا بالأزلام عنده فما خرج، عملوا به وانتهوا إليه. وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله1. وتذكر رواية أخرى أن خزيمة بن مدركة كان أول من نزل مكة من مضر، فوضع هبل في موضعه، فكان يقال له صنم خزيمة، وهبل خزيمة. وورث أولاده سدانته من بعده2. وقد ذهب "ابن الكلبي" هذا المذهب أيضًا، إذ قال: "وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة"3. ولا خلاف بين أهل الأخبار في أن "هبل" كان على هيئة إنسان رجل4. وهناك روايات تنسب هبل إلى عمرو بن لحي، تقول إنه جاء به إلى مكة من العراق من موضع هيت، فنصبه على البئر وهو الأخسف والجب الذي حفره إبراهيم في بطن الكعبة، ليكون خزانة للبيت، يُلقى فيه ما يُهدى إلى الكعبة، وأنه هو الذي أمر الناس بعبادته، فكان الرجل إذا قدم من سفر بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت، وحلق رأسه عنده، وكان على هذه الروايات من خرز العقيق على صورة إنسان، وكانت يده اليمنى مكسورة، فأدركته قريش فجعلت له يدًا من ذهب. وكانت له خزانة للقربان وكان قربانه مائة بعير. وله حاجب يقوم بخدمته5.

_ 1 الأصنام "27 وما بعدها" "تحقيق أحمد زكي باشا"، سبائك الذهب "104". الأزرقي "1/ 68 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 64"، الطبري "2/ 202"، "الاستقامة"، "2/ 240" "المعارف" خزانة الأدب "3/ 244"، سبائك الذهب "101"، ابن الأثير، الكامل "2/ 18" مروج الذهب "1/ 238" محمد محيي الدين عبد الحميد" البداية والنهاية "2/ 187". 2 طبقات ابن سعد "1/ 39". 3 الأصنام "روزا" نهاية الأرب "16/ 12". 4 الطبرسي، مجمع البيان "29/ 68 وما بعدها". "بيوت 1954م". 5 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 27، 68 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 65".

وجاء في رواية أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشأم في بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق، ويقال عمليق، وجدهم يتعبدون للأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له: هذه الأصنام نعبدها، فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطونني منها صنمًا، فأسير به إلى الأرض العرب، فيعبدوه؟ فأعطوه صنمًا يقال له هبل، وأخذه، فتقدم به إلى مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته1. ولسنا نجد في كتب أهل اللغة أو الأخبار تفسيرًا مقبولًا لمعنى "هبل". وقد ذهب بعضهم إلى أنه من "الهبلة"، ومعناها القبلة. وذكر بعض آخر أنه من "الهبيلي"، بمعنى الراهب، وذكر أن "بني هبل" كانت تتعبد له2. وذكر أنه من "هبل" بوزن "زفر" ومعناها كثرة اللحم والشحم، أو من "هبل" بمعنى غنم، وما شاكل ذلك من آراء3. ويكمن سبب اضطراب العلماء في تسميته في أنه من الأصنام المستوردة من الخارج التي حافظت على تسميتها الأصلية، فوقع لديهم من ثم هذا الاضطراب. وكانت تلبية من نسك هبل: "لبيك اللهم لبيك". إننا لقاح، حرمتنا على أسنة الرماح، يحسدنا الناس على النجاح"4. ويذكر أهل الأخبار أن "هبل" كان أعظم أصنام قريش، وكانت تلوذ به وتتوسل إليه؛ ليمنَّ عليها بالخير والبركة، وليدفع عنها الأذى وكل شر. وكانت لقريش أصنام أخرى في جوف الكعبة وحولها. ولكن هبل هو المقدم والمعظم عندها على الجميع. وقد نصب على الجب الذي يقال له "الأخسف"، وهو بئر، وكانت العرب تسميها "الأخشف"5. وذهب بعض المستشرقين إلى أن "هبل"، هو رمز إلى الإله القمر، وهو

_ 1 سيرة ابن هشام "1/ 62"، "وقد طبعت في هامش كتاب الروض الأنف للسهيلي"، ديوان حسان "تحقيق هرشفلد"، سيرة ابن هشام "1/ 82"، البداية والنهاية "1/ 187 وما بعدها" اليعقوبي "1/ 211"، مروج "2/ 238". 2 اللسان "11/ 686"، تاج العروس "8/ 168"، "هبل". 3 البلدان "8/ 416". 4 المحبر "ص315". 5 أخبار مكة "1/ 66 وما بعدها".

إله الكعبة، وهو الله عند الجاهليين1. وكان من شدة تعظيم قريش له أنهم وضعوه في جوف الكعبة. وأنه كان الصنم الأكبر في البيت. ويرى بعض الباحثين أن صورة الحية أو تمثالها يشيران إلى هبل، أو إلى هبل وود. وقد عثر على صورة لحية في "رم" يظهر أنها رمز إلى "هبل" أو ود2. وذكر "ياقوت الحموي" أن هبل "صنم" لنبي كنانة: بكر ومالك وملكان، وكانت كنانة تعبد ما تعبد قريش، وهو اللات والعزى. وكانت العرب تعظم هذا المجمع عليه. فتجتمع عليه كل عام مرة3. وقال غيره: "وكان هبل لبني بكر ومالك وملكان وسائر بني كنانة، وكانت قريش تعبد صاحب بني كنانة، وبنو كنانة يعبدون صاحب قريش"4. وقد ورد اسم هبل في الكتابات النبطية التي عثر عليها في الحجر، ورد مع اسم الصنمين: دوشرا "ذي الشرى" و"ومنوتو" "مناة"5. وقد تسمى به أشخاص وبطون من قبيلة كلب، مما يدل على أن هذه القبيلة كانت تتعبد له، وأنه كان من معبودات العرب الشماليين6. وباسم هذا الصنم سمي "هبل بن عبد الله بن كنانة الكلبي جد زهير بن جناب"7. ولما أراد النبي الانصراف عن أحد، علا صوت أبي سفيان: أعل هبل، أعل هبل. فقال النبي لعمر: أجبه. قال: ما أقول له؟ قال: الله أعلى وأجل. فقال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي لعمر قل: الله مولانا ولا مولى لكم8.

_ 1 Reste, s. 73, 221, Grohmann, s. 87. 2 Grohmann, s. 87, Jaussen – savignac Mission, I 169. 3 البلدان "7/ 442 وما بعدها". 4 المحبر "318". 5 Ency, II, 327, CIS, I, NR: 189, Jaussen et Savignac, Mission, I, p. 169, Reste, S. 75, 221, L. Krehl, Uber die Religion der Vorislamischen Araber, S. 90, Olsiander, in ZDMG, VII, S. 493. 6 Ency, Religi, I, P. 664. 7 كتاب المعمرين "ص29" "هبل". 8 الأصنام "ص28"، اللسان "11/ 686"، "14/ 212"، تاج العروس "8/ 162"، الاشتقاق "3/ 316".

أصنام قوم نوح

أصنام قوم نوح: وزعم ابن الكلبي أن خمسة أصنام من أصنام العرب، من زمن نوح، وهي: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر1. وقد ذكرت في القرآن الكريم: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً، وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} 2. ويظهر أن ورود اسمها على هذا النحو في القرآن، هو الذي حمله على رجع هذه الأصنام إلى أيام نوح. وزعم "ابن الكلبي" أن الأصنام المذكورة كانت في الأصل قومًا صالحين، ماتوا، في شهر، وذلك في أيام "قابيل"، فجزع عليهم بنو قابيل، وذوو أقاربهم، وقام رجل من قومهم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم، فصار الناس يعظمونها ويسعون حولها، ثم جاء من بعدهم من عبدها وعظم أمرها، ولم يزل أمرها يشتد، حتى أدرك "نوح" فدعاهم على الله وإلى نبذ هذه الأصنام، فكذبوه، فكان الطوفان، فأهبط ماء الطوفان هذه الأصنام من جبل "نوذ" إلى الأرض، وجعل الماء يشتد جريه وعبابه من أرض إلى أرض حتى قدفها إلى أرض جدة، ثم نضب الماء وبقيت على الشط، فسفت الريح عليها حتى وارتها. وبقيت مطمورة هناك أمدًا، حتى جاء "رئي" عمرو بن لحي" وكان يكنى أبا ثمامة، فقال له: عجل بالمسير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة قال عمرو: جير ولا إقامة فقال الرئي: ائت ضف جدة تجد فيها أصنامًا معدة، فأوردها ولا تهاب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجاب. فأتى شط جدة فاستثارها، ثم حملها حتى ورد تهامة. وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة. فأجابه سادات القبائل، ووزع تلك الأصنام عليهم، وأشاعوا عبادتها بين الناس3، ومن ثم عبد العرب هذه الأصنام. وذكر أيضًا أن الأصنام المذكورة هي أصنام نحتها الشيطان على صورة خمسة بنين من أبناء "أدم"، ماتوا فجزع الناس عليهم؛ لأنهم كانوا عبَّادًا صالحين. فسول لهم الشيطان أن يصنع لهم تماثيل على هيئتهم وصورهم؛ لتذكرهم بهم فسروا برأيه، وصنعها لهم، فما لبث الناس أن عبدوها، حتى تركوا عبادة الله، وكان "ود" أكبرهم وأبرهم، فصار أول معبود عبد من دون الله4.

_ 1 الأصنام "8" "روزا". 2 سورة نوح، الآية 21 وما بعدها. 3 الأصنام "33 وما بعدها" "روزا". 4 روح المعاني "29/ 77 وما بعدها".

ود

ود: وكان الصنم ود من نصيب "عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحلف بن قضاعة"، أعطاه إياه "عمرو بن لحي" فحمله على وادي القرى، فأقره بدومة الجندل. وسمى ابنه عبد ود، فهو أول من سمي به، وهو أول من سمي عبد ود، ثم سمت العرب به بعد1. وقد تعبد له بنو كلب2. ومنهم من يهمز فيقول أذ. ومنه سمي "عبد ود" و"أد بن طابخة"، و"أدد" جد معد بن عدنان3. وجعل عوف ابنه عامرًا الذي يقال له عامر الأجدار سادنًا له، فلم يزل بنوه يسندونه حتى جاء الله بالإسلام. وقد استنتج "ياقوت الحموي" من هذه الرواية التي يرويها "ابن الكلبي" أن الصنم اللات أقدم عهدًا من ود؟ لأن ودًّا على هذه الرواية قد سلم إلى عوف وعوف هو حفيد زيد اللات الذي سمي بـ"زيد اللات" نسبة إلى الصنم اللات، فود على هذا أحدث عهدًا من اللات4. وفي رواية لمحمد بن حبيب أن ودًّا كان لبني وبرة، وكانت سدنته من بني القرافصة بن الأحوص من كلب5. ويشك "ولهوزن" Wellhausen في

_ 1 الأصنام "34" "روزا "اللسان "4/ 468" "بولاق" روح المعاني "29/ 77 وما بعدها". 2 اللسان "4/ 468" تفسير أبي السعود "5/ 198"، تفسير الخازن "4/ 314"، تفسير ابن كثير "4/ 426" وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 63"، ابن هشام "1/ 63" "هامش على الروض". 3 اللسان "4/ 455"، "ودد". 4 البلدان "8/ 410" "نهاية مادة ود". 5 المحبر "316"، البلدان "8/ 407" "ود".

صحة هذا الرواية، فقد كان الفرافصة بن الأحوص على رأيه نصرانيًّا، وهو الد نائلة زوج الخليفة عثمان. ثم إن "الفرافصة" لم يكن من بني عمرو بن ود، ولا من بني عوف بن عذرة، فلا يعقل أن تكون السدانة إليه وفي نسله1. وود على وصف "ابن الكلبي" له في كتابه الأصنام "تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال قد ذبر عليه حلتان، متزر بحلة، مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة فيها لواء، ووفضة فيها نبل"2. وقد أخذ ابن الكلبي وصفه هذا لود من أبيه عن مالك بن حارثة الأجداري. ومالك بن حارثة الأجداري، هو من بني عامر الأجدار، وهو سدنة ود. وزعم ابن الكلبي أن أباه محمد بن السائب الكلبي حدثه عن مالك بن حارثة أنه قال له: إنه رأى ودًّا، وأن أباه كان يبعثه، وهو صغير. باللبن إليه، فيقول: اسقه إلهك، فيشربه مالك، فيعود وقد شرب اللبن. أما أبوه فيظن أنه قد أعطى ودًّا إياه3. وذكر "جارية بن أصرم الأجداري"، من بني عامر بن عوف، المعروف بعامر الأجدار، أنه رأى ودًّا بدومة الجندل في صورة رجل4. وورد أن من عبدة "ود" بعض تميم، وطيء، والخزرج، وهذيل، ولخم5. ويظهر أنه "أدد" عند ثمود. وأدد من الأسماء المعروفة. وقبيلة "مرة"، نسبة إلى "مرة بن أدد" وقد عرف بـ"كهلن"، أي "الكاهل"، "هكهل" "ها - كهل". ويظن أن الإله "قوس" "قيسو" "قوسو"، هو "ود" أي اسم نعت له. وذهب بعض الباحثين على أن "نسرًا" و"ذا غابة "ذ غبت" يرمزان إليه6.

_ 1 Reste s. 17, Ency, Religi, I, p. 662. 2 الأصنام "56"، "35" "روزا" سبائك الذهب "104" البلدان "8/ 904" "ود". 3 الأصنام "55". 4 الإصابة "1/ 219"، "رقم 1044". 5 Reste, 14-18. Ryckmans 16, Grohmann, s. 87. 6 Jaussen – savignac Mission II, 395, 581, Grohmann, s. 87.

وقد بقي ود قائمًا في موضعه إلى أن بعث رسول الله خالدَ بن الوليد من غزوة تبوك لهدمه. فلما أراد خالد هدمه، اعترضه بنو عبد ود وبنو عامر الأجدار، وأرادوا الحيلولة بينه وبين هدمه، فقاتلهم وأوجعهم، وقتل منهم، فهدمه وكسره. وذكر ابن الكلبي أنه كان فيمن قتل رجل من بني عبد ود يقال له قطن بن شريح، ورجل آخر هو حسان بن مصاد ابن عم الأكيدر صاحب دومة الجندل1. ويرى بعض المستشرقين استنادًا إلى معنى كلمة "ود" بأن هذا الصنم يرمز إلى الود، أي الحب، وأنه صنم للإلهين "جيل" Gil , و"بحد" Pahad عند الساميين. ويستندون في رأيهم هذا إلى بيت للنابغة مطلعه: "حياك ود"2، غير أن من العسير علينا تكوين رأي صحيح عن هذا الصنم. ولا أستبعد أن تكون كلمة "ود" صفة من صفات الله لا اسم علم له. وهناك من يرى وجود صلة بين "ود" و"إيروس" Eros الصنم اليوناني، ويرى أنه صنم يوناني في الأصل استورد من هناك، وعبدته العرب. وهو رأي يعارضه "نولدكه"؛ لانتفاء التشابه في الهيئة بين الصنمين3. و"ود" هو الإله الأكبر لأهل معين. وسوف أتحدث عنه فيما بعد.

_ 1 الأصنام "55". 2 Reste, s. 17, ency, Religi, VIII, p. 180. 3 Ency, Religi, , I, P. 662.

سواع

سواع: أما سواع فكان موضعه برهاط، من أرض ينبع. وذكر أنه كان صنمًا على صورة امرأة، وهو صنم هذيل وينسب ابن الكلبي انتشار عبادته -كعادته- إلى عمرو بن لحي، فذكر أن مضر بن نزار أجابت عمرو بن لحي، فدفع إلى رجل من هذيل "يقال له الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر" سواعًا، فكان بأرض يقال لها رهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر1. وذكر "ابن حبيب" أنه كان بـ"نعمان"، وأن

_ 1 الأصنام "57"، البكري "2/ 697" "رهاط"، اللسان "10/ 34" "بولاق".

عبدته: بنو كنانة، وهذيل، ومزينة، وعمرو بن قيس بن عيلان. وكان سدنته بنو صاهلة من هذيل. وفي رواية أن عبدة سواع هم آل ذي الكلاع1. وذكر "اليعقوبي" أنه كان لكنانة2. وفي رواية أخرى يرجع سندها إلى "ابن الكلبي" كذلك، تزعم أن سوعًا صنم كان برهاط من أرض ينبع، وينبع عرض من أعراض المدينة. وكانت سدنته بنو لحيان. ثم تقول إنه لم يسمع بورود اسم هذا الصنم في شعر هذيل، إنما بورود اسمه في شعر رجل من اليمن3. وورد في رواية أخرى أن "سواعًا" صنم من أصنام همدان4. ويرى "نولدكه" أن سواعًا لم يكن من الأصنام الكبرى عند ظهور الإسلام، وهو في نظره من الأصنام التي لم ترد أسماؤها في الأعلام المركبة، ويدل عدم ورود اسمه في هذه الأعلام على خمول عبادته بين الجاهليين5. وفي السنة الثامنة من الهجرة هدم سوع، وكان الذي هدمه عمرو بن العاص، فلما انتهى إلى الصنم، قال له السادن: ما تريد: قال: هدم سواع، قال: لا تطيق تهدمه، قال له عمرو بن العاص: أنت على الباطل بعد. فهدمه عمرو، ولم يجد في خزانته شيئًا، ثم قال للسادن: كيف رأيت، قال: أسلمت والله6. و"سواع" من الأصنام التي ورد اسمها في القرآن الكريم: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا} 7. وقد ذكر بعض العلماء، أنه صنم عبد في زمن نوح، فدفنه الطوفان فأشار "إبليس".

_ 1 المحبر "316"، البكري "2/ 679". 2 اليعقوبي "1/ 225". 3 الأصنام "6" "روزا" البلدان "3/ 341"، "رهاط" تاج العروس "5/ 290". اللسان "10/ 24"، القاموس "3/ 42" "سوع". 4 الأصنام "57" الطبرسي، مجمع البيان "5/ 364" الكشاف "4/ 143"، تفسير البيضاوي "1/ 239"، روح المعاني "29/ 77 وما بعدها" تفسير ابن كثير "4/ 426 وما بعدها" تفسير أبي السعود "5/ 198". 5.Ency. Religi, I, P. 663 6 الطبري "3/ 66" "دار المعارف" "حوادث السنة الثامنة"، إمتاع الأسماع "1/ 398". 7 نوح، 71، "الآية 22 وما بعدها" تفسير الطبري "29/ 62"، روح المعاني "29/ 77".

على الجاهليين بالتعبد له، فعبدته همدان، ثم صار لهذيل، وكان برهاط وحج إليه. وقال "ابن الكلبي" أنه لم يسمع بذكره في أشعار هذيل. وقد قال رجل من العرب: تراهم حول قيلهم عكوفًا ... كم عكفت هذيل على سواع يظل جنابه برهاط صرعى ... عتائر من ذخائر كل راع1 وذكر بعض أهل الأخبار أن سواعًا وبقية الأصنام التي ذكرت معه سورة نوح، "كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم. فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم"2. ورهاط من بلاد بني هذيل، ويقال وادي رهاط ببلاد هذيل، ذكر أنه على ثلاثة أميال أو ثلاث ليال من مكة3. ونسب بعض أهل الأخبار هدم الصنم "سواع" إلى "غاوي بن ظالم السلمي" "غاوي بن عبد العزى" ذكروا أن هذا الصنم كان "لبني سليم بن منصور"، فبينما هو عند الصنم، إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى تسنماه، فبالا عليه فقال: أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب ثم قال: يا معشر سليم؟ لا والله هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع! فكسره ولحق بالنبي عام الفتح. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ما اسمك؟ فقال: غاوي بن عبد العزى. فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه. وعقد له على قومه. وقيل إن هذه الحادثة إنما وقعت لعباس بن مرادس السلمى، وقيل لأبي ذر الغفاري4.

_ 1 تاج العروس "5/ 390"، "ساع". 2 تفسير الطبري "29/ 62". 3 تاج العروس "5/ 145"، "رهط" نوادر المخطوطات، أسماء جبال تهامة وسكانها "409". 4 اللسان "1/ 237"، "ثعلب"، "صادر"، "كان الصنم الذي يقال له سواع بالمعلاة، فذكر قصة إسلامه وكسره إياه"، الإصابة "1/ 482 وما بعدها". "رقم 2517".

يغوث

يغوث: وأما يغوث، فكان أيضًا على رواية ابن الكلبي، في جملة الأصنام التي فرقها عمرو بن لحي على من استجاب إلى دعوته من القبائل، دفعه إلى أنعم بن عمرو المرادي، فوضعه بأكمة مذحج باليمن، فعبدته مذحج ومن والاها وأهل جرش1. وقد بقي في أنعم إلى أن قاتلتهم عليه بنو غطيف من مراد، فهربوا به إلى نجران، فأقروه عند بني النار من الضباب، من بني الحارث بن كعب واجتمعوا عليه جميعًا2. وفي رواية أن عبدة يغوث هم بئر غطيف من مراد3. وفي رواية أن يغوث بقي في أنعم وأعلى من مراد. إلى أن اجتمع أشراف مراد وتشاوروا بينهم في أمر الصنم، فقر رأيهم أن يكون فيهم، لما فيهم من العدد والشرف. فبلغ ذلك من أمرهم إلى أعلى وأنعم، فحملوا يغوث وهربوا به حتى وضعوه في بني الحارث بن كعب، في وقت كان النزاع فيه قائمًا بين مراد وبني الحارث بن كعب. فلما أبت بنو الحارث تسليم الصنم إلى مراد، وتسوية أمر الديات، أرسلت عليها مراد جيشًا فاستنجدت بنو الحارث بهمدان، فنشبت بينهما معركة عرفت بيوم الرزم، انهزمت فيها مراد ومنيت بخسارة كبيرة قبيحة، وبقي الصنم في بني الحارث. وقد وافق يوم الرزم يوم بدر4. وذكر "الطبرسي" أن بطنين من طيء أخذا يغوث، فذهبا به إلى مراد،

_ 1 الأصنام "10/ 57"، اللسان "2/ 480" "غوث" تاج العروس "1/ 337" "غوث" قال الشاعر: وسار بنا يغوث إلى مرد ... فناجزناهم قبل الصباح البلدان "8/ 511" "يغوث" الروض الأنف "1/ 63" سبائك الذهب "104"، بلوغ الأرب "2/ 201" القاموس "1/ 171"، روح المعاني "29/ 77 وما بعدها"، تفسير البيضاوي "1/ 239". 2 المحبر "317". 3 الطبرسي "5/ 364"، الكشاف "4/ 143"، تفسير أبي السعود "5/ 198"، تفسير الخازن "314"، تفسير ابن كثير "4/ 426". 4 البلدان "8/ 511"، يغوث". Reste, s. 20, Ency. Religi, I, p. 663, A. Fischer, In ZDMG, 58, 869, Noldeke, in ZDMG, 40, 161, 168, Das Gotzenbuch, s. 28.

فعبدوه زمانًا، ثم إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم، ففروا به إلى بني الحارث بن كعب1. ويظهر من غربلة هذه الروايات أن الصنم يغوث كان في جرش أو على مرتفع قريب من هذه المدينة. أما سدنته، فكانوا من بني أنعم بن أعلى من طيء، وكانوا في جرش. وفي حوالى سنة 623، أي السنة التي وقعت فيها معركة بدر، حدث نزاع على الصنم: أراد بنو مراد أن يكون الصنم فيهم وسدنته لهم، وأراد بنو أنعم الاحتفاظ بحقهم فيه. فهرب بنو أنعم بصنمهم إلى بني الحارث، واحتفظوا به بعد أن وقعت الهزيمة في مراد2. وفي الحرب التي وقعت بين "بني أنعم" و"غطيف" حمل عبدة "يعوث" صنمهم معهم وحاربوا، مستمدين منه العون والمدد. وفي ذلك يقول الشعر: وسار بنا يغوث إلى مراد ... فناجوناهم قبل الصباح3 ويظهر أن "بني أنعم"، وسائر عبدة هذا الصنم، كانوا يحملون صنمهم معهم في غالب الأحوال عند قتالهم القبائل الأخرى4. ولا يستبعد أن تكون لاسم هذا الصنم علاقة بفكرة المتعبدين له عنه، بمعنى أن المتعبدين له كانوا يرون أنه يغيثهم ويساعدهم. وقد ظن بعض الباحثين أنه يمثل الإله الأسد. وأنه كان "طوطم" قبيلة مذحج، يدافع عنها ويذب عن القبيلة التي تستغيث به، على نحو ما فعله الإسرائيليون من استغاثتهم بـ"حية النحاس" المسماة "نحشتان" Nehushtan 5، التي كانت "طوطمًا" في الأصل على رأي "سمث"6. ونجد بين أسماء الجاهليين عددًا من الرجال سموا بـ"عبد يغوث"، منهم

_ 1 الطبرسي "5/ 364". 2 Reste, s. 21, A Fischer Der Gotze Jaguth, In ZDMG, BD, 58, s. 869, Leipzig, 1904. 3 البلدان "8/ 511". 4 Reste, s 20, Das Botzenbuch, s, 83. 5 الملوك الثاني، الإصحاح الثامن عشر الآية 4. 6 Das Gotzenbuch, S. 82, Smith, The Religion of the Seltes, London 1927, p. 227, Journal of Philo, IX, 99.

من كان في مذحج، ومنهم من كان في قريش، ومنهم من كان في هوازن. وقد كان قائد بني الحارث بن كعب على تميم في معركة "الكلاب" عبد يغوث، كما كان لدريد بن الصمة أخ اسمه "عبد يغوث". ومن مذحج: "عبد يغوث" ابن وقاص بن صلاءة الحارثي، الذي قتلته "التيم" يوم الكلاب الثاني1. ومن بني زهرة: عبد يغوث بن وهب، وعبيد يغوث، وأمهما صفية بنت هشام بن عبد مناف2. ويدل ذلك على أن عبادته كانت معروفة بين مذحج وأهل جرش وقربش وهوازن، وقبائل أخرى مثل تغلب3. ولم يرد اسم هذا الصنم في الكتابات4. وقد ذهب "روبرتسن سمث" إلى أنه "يعوش" ye.htm'ush المذكور في سفر التكوين، وهو أحد أجداد أدوم5. ويمثله الأسد في نظر "روبرتسن سمث"6.

_ 1 المحبر "251"، "عبد يغوث بن الحارث بن وقاص، قتل يوم الكلاب وكان على مذحج يومئذ"، الاشتقاق "239". 2 الاشتقاق "95". 3 Ency, Religi, I, P. 663. 4 Ency, Religi, I, P. 663. 5 التكوين الإصحاح 36، الآية 5، 14، 18، وأخبار اليوم الأول، الإصحاح الأول، الآية 25. 6 Robertson, p. 226.

يعوق

يعوق: ويعوق أيضًا في جملة هذه الأصنام التي فرقها عمرو بن لحي على القبائل. لقد سلمه عمرو إلى مالك بن مرثد بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان فوضعه في موضع خيوان، حيث عبدته همدان وخولان ومن والاها من قبائل، وكان في أرحب1. وذكر "ياقوت الحموي" أن ابن الكلبي قال: "واتخذت خيوان يعوق، وكان بقرية لهم يقال لها خيوان من صنعاء على ليلتين مما يلي مكة، ولم أسمع لها

_ 1 الأصنام "57" القاموس "3/ 270"، الطبرسي "5/ 364"، سبائك الذهب "104" الإكليل "10/ 56"، الكشاف "4/ 134"، الاشتقاق "253"، البلدان "5/ 438"، روح المعاني "29/ 27 وما بعدها" تفسير ابن كثير "4/ 426 وما بعدها" تفسير الخازن "4/ 314" تفسير أبي السعود "5/ 198".

ولا لغيرها شعرًا فيه. وأظن ذلك لأنهم قربوا من صنعاء واختلطوا بحمير، فدانوا معهم باليهودية أيام تهود ذي نواس، فتهودوا معه"1. ونسب "الطبرسي" عبادة يعوق إلى كهلان، وذكر أنهم توارثوه كابرًا عن كابر، حتى صار إلى همدان2. وذكر في رواية أخرى أن يعوق اسم صنم كان لكنانة3. وذكر بعض أهل الأخبار: "يعوق" صنم كان لكنانة، "وقيل كان لقوم نوح عليه السلام، كما في الصحاح. أو كان رجلًا من صالحي أهل زمانه. فلما مات جزعوا عليه فأتاهم الشيطان في صورة إنسان. فقال: أمثله لكم في محرابكم حتى تروه كلما صليتم، ففعلوا ذلك به وبسبعة من بعده من صالحيهم، ثم تمادى بهم الأمر إلى أن اتخذوا تلك الأمثلة أصنامًا يعبدونها"4. وتشير ملاحظة "ابن الكلبي" من أنه لم يسمع بأن همدان أو غير همدان سمت "عبد يعوق"5 إلى أن يعوق لم يكن من الأصنام المهمة بين العرب عند ظهور الإسلام، وأن عبادته كانت قد تضاءلت، وانحصرت في قبائل معينة. وهناك بيت ينسب إلى مالك بن نبط الهمداني الملقب بذي المعشار، وهو من بني خارف أو من يام بن أصي، هذا نصه: يريش الله في الدنيا ويبري ... ولا يبري يعوق ولا يريش6

_ 1 البلدان "8/ 510" "يعوق"، Reste, s. 22, Ency, Religi, I, P, 663. 2 الطبرسي "5/ 365". 3 اللسان "10/ 281" "صادر" تاج العروس "7/ 29"، اللسان "12/ 154"، "بولاق". 4 تاج العروس "7/ 29"، "عوق". 5 الأصنام "7"، "روزا"، البلدان "4/ 102". 6 الروض الأنف "1/ 63"، ابن هشام "1/ 63"، "هامش الروض".

نسر

نسر: وأما نسر فكان من نصيب حمير، أعطاه عمرو بن لحي قيل ذي رعين المسمى "معديكرب" فوضعه في موضع بلخع من أرض سبأ، فتعبدت له حمير إلى أيام

ذي نواس، فتهودت معه، وتركت هذا الصنم1. وكان عباد نسر آل ذي الكلاح من حمير على رواية من الروايات2. وذكر "محمد بن حبيب"، أن حمير تنسكت لنسر، وعظمته ودانت له، وكان في غمدان قصر ملك اليمن3. وذكر اليعقوبي أنه كان لحمير وهمدان منصوبًا بصنعاء4. ونسر هو "نشر" Nasher في العبرانية5. وهو صنم من أصنام اللحيانيين كذلك، ويجب أن يكون من أصنام العرب الشماليين لورود اسمه في الموارد العبرانية والسريانية على أنه اسم إله عربي6. وأشير في التلمود إلى صنم ذكر أن العرب كانوا يعبدونه اسمه "نشرا" Neshra و"نشرا" هو "نسر" وقد ورد اسم الصنم "نسر" عند السبئيين كذلك، وكان من الآلهة المعبودة عند كثير من الساميين وقد عبد خاصة في جزيرة العرب7. ولم يشر ابن الكلبي إلى صورة الصنم نسر، ولكننا نستطيع أن نقول استنادًا إلى هذه التسمية أنه كان على هيئة الطائر المسمى باسمه، وقد وجدت أصنام على صورة نسر منحوتة على الصخور خاصة في أعالي الحجاز8. ويؤيد هذا الرأي رواية ذكرها الطبرسي في أشكال الأصنام، أسندها إلى الواقدي، قال فيها: "كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير"9.

_ 1 الأصنام "57 وما بعدها"، البلدان "8/ 286" "نسر" ابن هشام "1/ 63"، "هامش الروض"، سبائك الذهب "104"، الكشاف "4/ 143" بلوغ الأرب "2/ 201"، القاموس "2/ 141". 2 الطبرسي "5/ 364" تاج العروس "3/ 563"، اللسان "7/ 60 وما بعدها" "نسر". 3 المحبر "317". 4 اليعقوبي "1/ 225". 5.Hastings, p. 200 6 Handbuch, I, s. 44. 7.Ency. Religi,, I, p. 663. 8 XXIX, S. 600. Robettson, p. 226, Noldeke, In ZDMG, 1886, 186. 9 الطبرسي "5/ 364".

عميأنس

عميأنس: وعميأنس "عم أنس"، هو صنم خولان، وموضعه في أرض خولان. وكان يقدم له في كل عام نصيبه المقرر من الأنعام والحروث1. وذكر ابن الكلبي أن الذين تعبدوا له من خولان هم بطن منهم يقال لهم" الأدوم" وهم الأسوم وفيهم نزلت الآية: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 2. وكانوا "يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسمًا بينه وبين الله بزعمهم. فما دخل في حق الله من حق عميأنس، ردوه عليه، وما دخل في حق الصنم من حق الله الذي سموه له، تركوه له"3. وقد ورد ذكر هذا الصنم في خبر "وفد خولان" الذي قدم على رسول الله في شعبان سنة عشر؛ إذ ذكر أن رسول الله قال لهم: "ما فعل عم أنس"، فقالوا: بشر وعر، أبدلنا الله به، ولو قد رجعنا إليه هدمناه4. "وقد بقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به"5. وقد كانوا يقدمون له القرابين حتى في أيام الضيق وأوقات المحنة؛ تقربًا إليه. لقد قالوا للرسول حين سألهم: "ما أعظم ما رأيتم من فتنته" "لقد رأيتنا وأسنتنا حتى أكلنا الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه، وابتعنا مائة ثور، ونحرناها لعم أنس قربانًا في غداة واحدة، وتركناها تردها السباع، ونحن أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا، لقد رأينا العشب يواري الرجال، ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس"6 وذكروا له أنهم يقتسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم. وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءًا له7.

_ 1 سبائك الذهب "101"، خزانة الأدب "3/ 245"، سيرة محمد "1/ 53"، "طبعة فرانكفورت"، ابن خلدون "2/ 169"، الأغاني "30/ 124". 2 الأنعام، الآية 137. 3 الأصنام "44". 4 نهاية الأرب "18/ 82"، ابن سعد "1/ 324" "صادر". 5 عيون الأثر "2/ 253". 6 عيون الأثر "2/ 253 وما بعدها". 7 المصدر نفسه.

أساف ونائلة

إساف ونائلة: وللأخباريين قصص في إساف ونائلة، وهما في زعم بعضهم إنسانان عملا عملًا قبيحًا في الكعبة، فمسخا حجرين، ووضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما. فلما طال مكثهما، وعبدت الأصنام، عبدا معها. وكان أحدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم. فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر، فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما1. وفي رواية أن إسافًا كان حيال الحجر الأسود. وأما نائلة، فكان حيال الركن اليماني2. وفي أخرى أنهما "أخرجا إلى الصفا والمروة فنصبا عليهما ليكونا عبرة وموعظة، فلما كان عمرو بن لحي، نقلهما إلى الكعبة ونصبهما على زمزم: فطاف الناس بالكعبة وبهما حتى عبدا من دون الله"3. وذكر "اليعقوبي"، أن "عمرو بن لحي" وضع "هبل" عند الكعبة، فكان أول صنم وضع بمكة ثم وضعوا به إساف ونائلة كل واحد منهما على ركن من أركان البيت. فكان الطائف إذا طاف بدأ بإساف فقبله وختم به. ونصبوا على الصفا صنمًا يقال له مجاور الريح وعلى المروة صنمًا. يقال له مطعم الطير4. فاليعقوبي ممن يرون إن إسافا ونائلة كانا عند الكعبة، لا على الصفا والمروة. وتذكر رواية أخرى أن إساف صنم وضعه عمرو بن لحي الخزاعي على الصفا، ونائلة على المروة وكانا لقريش وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة أو هما رجلان من جرهم، إساف بن عمرو ونائلة بنت سهل فجرا في الكعبة، وقيل أحدثا فيها، فمسخا حجرين، فعبدتهما قريش5. وورد أن موضع إساف ونائلة عند الحطيم6. وورد أن إسافًا رجل من جرهم، يقال له إساف بن يعلى، ونائلة

_ 1 الأصنام "18" "روزا" الروض الأنف "1/ 64"، سبائك الذهب "104"، ابن هشام "1/ 86" الطبري "2/ 284"، المحبر "311، 318"، اليعقوبي "1/ 224"، الطبري "2/ 241"، "المعارف". 2 الطبرسي "5/ 364" روح المعاني "2/ 41". 3 الروض الأنف "1/ 56"، ابن هشام، تاج العروس "6/ 40"، اللسان "9/ 6" "أسف" البلدان "1/ 170". 4 اليعقوبي "1/ 224". 5 تاج العروس "6/ 40 وما بعدها" اللسان "10/ 348"، الروض الأنف "1/ 64"، بلوغ الارب "2/ 205"، ابن هشام "1/ 64"، اللسان "9/ 6"، "أسف"، "صادر". 6 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 70".

امرأة من جرهم يقال لها نائلة بنت زيد، وكان إساف يتعشقها في أرض اليمن، فأقبلا حجاجًا، فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت، ففجر بها في الكعبة، فمسخا حجرين، فأصبحوا فوجدوهما ممسوخين، فوضعوهما موضعهما فعبدتهما خزاعة وقريش، ومن حج البيت بعد من العرب1. وذكر "محمد بن حبيب" أن إسافًا كان على الصفا. وأما نائلة، فكان على المروة. "وهما صنمان وكانا من جرهم. ففجر إساف بنائلة في الكعبة، فمسخا حجرين، فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما، ثم عبدا بعد"2. وكان نسك قريش لإساف: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"3. وورد اسم إساف في بيت شعر ينسب إلى بشر بن أبي خازم الأسدي، هو: عليه الطير ما يدنون منه ... مقامات العوارك من إساف4 وورد أن نائلة حين كسرها الرسول عام الفتح، خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها وتنادي بالويل والثبور5. ويظهر أن مرد هذا القصص الذي يقصه علينا أهل الأخبار عن الصنمين، إنما هو إلى شكل الصنمين. كان "إساف" تمثال رجل على ما يظهر من روايات الأخباريين، وكان "نائلة" تمثال امرأة. يظهر أنهما استوردا من بلاد الشأم، فنصبا في مكة. فتولد من كونهما صنمين لرجل وامرأة، هذا القصص المذكور ولعله من صنع القبائل الكارهة لقريش، التي لم تكن ترى حرمة للصنمين. وكانت قريش خاصة تعظم ذينك الصنمين وتتقرب إليهما، وتذبح عندهما وتسعى بينهما. أما القبائل الأخرى، فلم تكن تقدسهما، لهذا لم تكن تتقرب إليهما، ومن هنا لم يكن الطواف بهما من مناسك حج تلك القبائل.

_ 1 الأصنام "6" "روزا"، "9" القاهرة 1914". 2 المحبر "311". 3 المحبر "311". صبح الأعشى "4/ 462" أخبار مكة، للأزرقي "72"، "طبعة لايبزك"، "نائلة بنت وهب" "إساف بن عمر، ونائلة بنت سهل"، تفسير الطبري "2/ 43"، "1954م". 4 ديوان بشر بن أبي خازم، ملحق الديوان رقم 11،"صفحة 233". 5 الروض الأنف "1/ 65".

وكانت قريش تحلف عند هذين الصنمين. ولهما يقول "أبو طالب" وهو يحلف بهما حين تحالفت قريش على بني هاشم: أحضرت عند البيت رهطي ومعشري ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل وحيث ينخ الأشعرون ركابهم ... بمغضي السيول من إساف ونائل فكانا على ذلك إلى أن كسرهما الرسول يوم الفتح فيما كسر من الأصنام1. ويظهر من الشعر المتقدم، أن إسافًا ونائلة كانا في موضعين مكشوفين، وعندهما كان ينيخ الأشعرون. ويؤيد ذلك هذا الشعر المنسوب إلى بشر بن أبي خازم الأسدي: عليه الطير ما يدنون منه ... مقامات العوارك من إساف2 حيث يظهر أن الطير كانت تقف مكتظة عليه، لا تخاف من أحد، ولا تفزع من قادم؛ لأنها في حرمة صنم.

_ 1 تاج العروس "6/ 40"، "أسف". 2 ابن الكلبي "29 وما بعدها" ديوان بشر بن أبي خازم، ملحق الديوان، رقم 11، "ص233".

رضى

رضى: ورضى، ويكتب رضاء في بعض الأحيان، هو صنم آخر. وذكر ابن الكلبي أنه كان لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهدمه المستوغر، وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم هدمه في الإسلام1. وتعبدت لهذا الصنم قبيلة تميم وقد ورد اسم "عبد رضى" بين أسماء الجاهليين ويظهر أن قبيلة طيء كانت قد تعبدت له كذلك2. و"رضى" من الأصنام المعروفة عند قوم ثمود. وقد ورد اسمه في كتابات

_ 1 الأصنام "30"، "19"، "روزا"، الروض الأنف "1/ 67"، تاج العروس "10/ 151"، "رضو". 2 الأغاني "7/ 147"، "9/ 16، 47".

ثمودية عديدة1. وكانت عبادته منتشرة بين العرب الشماليين. وورد في نصوص تدمر وبين أسماء بني إرم2، كما ورد في كتابات الصفويين. وورد على هذا الشكل: "رضو" و"رضى"3، و"هرضو" "ها – رضو". ويظن أنه يرمز إلى كوكب. ويظهر من بيت شعر ينسب إلى المستوغر في كسره رضى في الإسلام، هو: ولقد شددت على رضاء شدة ... فتركتها تلا تنازع أسحما4 إن الصنم "رضى" "رضاء" هو أنثى، بدليل استعمال ضمير التأنيث في لفظة "فتركتها" فهو إلهة. ويرى بعض الباحثين، أنه إلهة أيضًا عند العرب الصفويين.

_ 1 Reste, S. 58, Ency, Religi, I, p. 662, Hubert Grimme, Die Losung des Sinai, s. 43, 44. 2 Vogue, 6, 84, Reste, S. 59. 3 العرب في سوريا قبل الإسلام "135 وما بعدها". 4 الأصنام "19"، "روزا"، "30" "أحمد زكي"، الروض الأنف "1/ 67". "فتركتها قفرًا بقاع أسحما"، سبائك الذهب "104"، ابن هشام "1/ 66". "حاشية على الروض"، تاج العروس "10/ 151" ابن كثير، البداية "1/ 192".

مناف

مناف: و"مناف" صنم من أصنام الجاهلية، قال عنه ابن الكلبي: "وكان لهم مناف، فيه كانت تسمي قريش "عبد مناف" ولا أدري أين كان، ولا من نصبه؟ "1. وسُمي به أيضًا رجال من هذيل2. و"به سمي عبد مناف. وكانت أمه أخدمته هذا الصنم"3. وفيه يقول بلعاء بن قيس: وقرن وقد تركت الطير منه ... كمعتبر العوارك من مناف4

_ 1 الأصنام "32"، "20"، "روزا"، تاج العروس "6/ 263". "ناف". 2 Reste, S. 57. 3 تاج العروس "6/ 263"، "ناف"، الأصنام "322"، البلدان "8/ 166"، النقائض "141"، بيفان، بلوغ الأرب "2/ 206". 4 تاج العروس "6/ 263"، "ناف".

ويتبين من ورود اسم "مناف" بين عرب الشأم أنه كان إلهًا معبودًا عندهم كذلك. وقد عثر على اسمه في كتابة دَوَّنها شخص اسمه: "أبو معن" على حجر توجه بها إلى الإلهة مناف، ليمن عليه بالسعد والبركة، وحفرت على الحجر صورة الإله "مناف" على هيئة "رجل لا لحية له" يتحدر على عارضيه شعر رأسه الصناعي المرموز به على الإلهة الشمس، وحول جفنيه وحدقتيه خطان ناعمان، ويزين جيده قلادة، كما ترى غالبًا في تصاوير الآلهة السوريين، وعلى صدره طيات ردائه، ويرى طرف طيلسانه الإلهي الذي ينعطف من كتفه الأيسر فيتصل إلى الأيمن ويعقد به1. وقد ذهب المتخصصون الذين فحصوا هذه الكتابة إلى أنها من حوران. وقد عثر على كتابة وجدت في حوران، ورد فيها اسم "مناف" مع إله آخر، ورد اسم مناف فيها على هذا الشكل "MN, PHA". وقد عثر على كتابة أخرى وجد فيها الاسم على هذه الصورة: "منافيوس" Manaphius، مما يدل على أن المراد بالاسمين شيء واحد، هو الإله مناف2.

_ 1 المشرق، السنة الرابعة والعشرون، العدد3، أذار 1923م "ص198 وما بعدها". 2 المشرق، السنة 24، أذار 1933، العدد 3، "ص198 وما بعدها". Ency Religi, I,P. 662, Ephem Epigr, II, 390. No 22, Mordtmann, In ZDMG, XXIX, 1875, s. 106.

ذو الخلصة

ذو الخلصة: أما ذو الخلصة، فكان صنم خثعم وبجيلة ودوس وأزد السرة ومن قاربهم من بطون العرب من هوزن، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة1، والحارث بن كعب وجرم وزبيد والغوث بن مر بن أد وبنو هلال بن عامر، وكانوا سدنته2. وذكر ابن الكلبي أن سدنته بنو أمامة من باهلة بن أعصر3.

_ 1 الأصنام "35، 47، "22" "روزا"، ابن هشام "1/ 30"، الأزرقي "1/ 256"، الروض الأنف "1/ 66" بلوغ الأرب "2/ 207"، اليعقوبي "1/ 225". 2 المحبر "317". 3 الأصنام "22" "روزا".

وصفته أنه "كان مروة بيضاء منقوشة، عليها كهيئة التاج" وكان بتبالة بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة1. وله بيت يحج إليه. وجعل "ابن حبيب" موضع البيت في العبلاء على أربع مراحل من مكة2. وفي رواية لابن إسحاق أن عمرو بن لحي نصب ذا الخلصة بأسفل مكة، فكانوا يلبسونه القلائد، ويهدون إليه الشعير والحنطة، ويصبون عليه اللبن، ويذبحون له، ويعلقون عليه بيض النعام3. وهناك رويات جعلت ذا الخلصة "الكعبة اليمانية" لخثعم، ومنهم من سماه كعبة اليمامة. وأظن أن هاتين الروايتين هما رواية واحدة في الأصل، صارت روايتين من تحريف النساخ. ومنهم من جعل ذا الخلصة بيتًا في ديار دوس4. ويستنتج من كل هذه الروايات أن ذا الخلصة بيت كان يدعى كعبة أيضًا، وكان فيه صنم يدعى الخلصة، لدوس وخثعم وبجيلة وغيرهم5. ويظهر من حديث: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة، والمعنى أنهم يرتدون ويعودون إلى جاهليتهم في عبادة الأوثان، فتسعى نساء بني دوس طائفات حول ذي الخلصة، فترتج أعجازهن"6. ويستنتج من ذلك أن بني دوس وغيرهم كانوا يطوفون حول كعبة ذي الخلصة التي في جوفها صنم الخلصة. وكان "بيت ذي الخلصة" من البيوت التي يقصدها الناس للاستقسام عندها.

_ 1 الأصنام "22" "روزا" "34" "أحمد زكي"، الأزرقي "1/ 73". 2 المحبر "317" بلوغ الأرب "2/ 207"، صفة جزيرة العرب "127". 3 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 73" "باب ما جاء في الأصنام التي كانت على الصفا والمروة"، تاج العروس "4/ 389" "خلص" البلدان "8/ 434". 4 ابن هشام "1/ 30"، الأغاني "9/ 7" الإكليل "8/ 84"، بلوغ الأرب "2/ 329"، وقد أجمل السيد رشدي الصالح ملحس الروايات الواردة عن ذي الخلصة في نهاية الأول من تأريخ مكة للأزرقي. وهو يرى أن البجلي لم يهدم بنيان بيت ذي الخلصة تهديمًا تامًّا، وأنه بقي إلى أيام الملك عبد العزيز آل سعود، فأزاله، وأحرقت الشجرة التي كانت بجانب البيت وهي شجرة العبلاء. وذهب أيضًا أن ذلك البيت لم يكن بتبالة، إنما كان في تروق وقد عرف البيت بالولية كذلك. الأزرقي "1/ 256 وما بعدها" ابن هشام "1/ 64" "حاشية على الروض الأنف، تاج العروس "2/ 378"، الروض الأنف "1/ 65 وما بعدها". 5 اللسان "7/ 29" "خلص" "صادر". 6 اللسان "7/ 29" "خلص".

بالأزلام. وكانت له ثلاثة أقدح: الآمر: والناهي، والمتربص1. وفي ذي الخلصة قال أحد الرجاز: لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا وكان سبب قوله إنه قتل أبوه، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلصة فاستقسم عنه بالأزلام، فخرج السهم ينهاه عن ذلك، فقال تلك الأبيات. ومن الناس من ينحلها امرأ القيس2. وذكر "ابن الكلبي" أيضًا أنه لما أقبل امرؤ القيس بن حجر يريد الغارة على بني أسد، مر بذي الخلصة، فاستقسم عنده ثلاث مرات. فخرج الناهي. فكسر القداح وضرب بها وجه الصنم، ثم غزا بني أسد، فظفر بهم3. وقد هدم البيت في الإسلام، "فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وأسلمت العرب ووفدت عليه وفودها، قدم عليه جرير بن عبد الله مسلمًا. فقال له: يا جرير: ألا تكفيني ذا الخلصة؟ فقال: بلى.... فوجهه إليه فخرج حتى أتى بني أحمس من بجيلة، فسار بهم إليه. فقاتلته خثعم وباهلة دونه. فقتل من سدنته من باهلة يومئذ مائة رجل، وأكثر في خثعم، وقتل مائتين من بني قحافة بن عامر بن خثعم. فظفر بهم وهزمهم، وهدم بنيان ذي الخلصة، وأضرم فيه النار فاحترق4. وورد في رواية أن هدمه كان قبل وفاة الرسول بشهرين أو نحوهما5. ويذكر "ابن الكلبي" أن موضع بيت ذي الخلصة عند عتبة باب مسجد تبالة6 أما "ابن حبيب" فذكر أنه صار بيت قصار في العبلاء7. وذكر أن موضعه

_ 1 الأصنام "22/ 29" "روزا". 2 الأصنام "35" "22" "روزا" الروض الأنف "1/ 65"، ابن هشام "1/ 65" "هامش على الروض الأنف" بلوغ الأرب "2/ 207". 3 الأصنام "29" "روزا". 4 الأصنام "23" "روزا" الطبري "3/ 158" دار المعارف". 5 الروض الأنف "1/ 66". 6 الأصنام "23" "روزا". 7 المحبر "317".

مسجد جامع لبلدة يقال لها العبلات من أرض خثعم1. ويظهر من رثاء امرأة من خثعم لذي الخلصة حين هدمه جرير بن عبد الله، وأحرق بيته، وهو قولها: وبنو أمامة بالولية صرعوا ... ثملا يعالج كلهم أنبوبا2 إن "الخلصة" كان صنمًا أنثى، أي إلهة، ولذلك قيل له" الولية"، كما ترى ذلك في البيت المذكور، ونجد في مواضع أخرى من روايات أهل الأخبار ما يؤيد هذا الرأي، فقد استعملوا ضمير التأنيث للتعبير عنها3، كما قالوا فيه "المروة البيضاء" وأما تعبيرهم عنه بضمير التذكير، مثل قولهم "وكان" فإنهم أرادوا بذلك لفظ "صنم" فذكروه".

_ 1 الروض الأنف" 1/ 65". 2 الأصنام "23" "روزا". 3 الأزرقي "1/ 73"، تاج العروس "4/ 389". 4 قال خداش بن زهير العامري: وبالمروة البيضاء يوم تبالة ... ومحبة النعمان حيث تنصرا الأصنام "22" "روزا".

سعد

سعد: وكان لمالك وملكان، ابني كنانة، بساحل جدة وتلك الناحية صنم يقال له سعد. كان صخرة طويلة1. وذكر "اليعقوبي" أنه كان لبني بكر بن كنانة2. وذهب "ابن إسحاق" إلى أنه في موضع قفر، وقيل إنه قرب اليمامة. وقد أورد الأخباريون عنه هذه القصة: "أقبل رجل منهم بإبل له ليقفها عليه، يتبرك بذلك فيها. فلما أدناهامنه نفرت منه، وكان يهراق عليه الدماء، فذهبت في كل وجه وتفرقت عليه، وأسف فتناول حجرًا فرماه به، وقال: لا بارك الله فيك إلهًا. أنفرت علي إبلي". ثم خرج في طلبها حتى جمعها، وانصرف عنه، وهو يقول:

_ 1 الأصنام "36 وما بعدها" "23" "روزا" ابن هشام "1/ 64" "حاشية على الروض" تاج العروس "2/ 378". 2 اليعقوبي "1/ 225".

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد، فلا نحن من سعد وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يدعي لغي ولا رشد1 وذكر "ابن قتيبة" أن سعدًا صنم على ساحل البحر بتهامة، تعبده عك ومن يليها، ويقال كانت تعبده هذيل2. وقد ورد اسم "سعد" في أسماء الأشخاص المركبة المضافة، مثل "عبد سعد"، وهو مما يدل على أن الناس كانوا يتبركون به بتسمية أبنائهم باسمه3. وقد ورد اسم هذا الصنم في كتابات النبط، فدعي بـ"سعدو"4. كما ورد في كتابات الصفويين مما يدل على أنه كان بين الأصنام التي تعبد لها أولئك القوم5. ويظن أنه يرمز إلى كوكب.

_ 1 الأصنام "37"، "23" "روزا" ابن هشام "1/ 64" "حاشية على الروض الأنف" الروض الأنف "1/ 64" تاج العروس "2/ 378" اللسان "3/ 202" "سعد" بلوغ الأرب "2/ 208"، اللسان "3/ 218" "صادر". 2 الاشتقاق "25" تاج العروس "3/ 378"، "سعد". 3 الأغاني "11/ 171".Reste, s. 60. 4 O. Eissfeldt, 150, Arabien , s. 85. Handbuch, I,S. 234. 5 Ency. Religi, , I, P. 662.

ذو الكفين

ذو الكفين: وهناك صنم عرف عند الأخباريين بـ"ذي الكفين" وكان لدوس، ثم لبني منهب بن دوس. فلما أسلموا بعث النبي صلى الله عليه وسلم، الطفيل بن عمرو الدوسي، فحرقه وهو يقول: يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أكبر من ميلادكا إني حشوت النار في فؤادكا6 ويظهر من هذا الرجز أنه أحرقه بالنار. ومعنى هذا أنه لم يكن صنمًا من حجر، وإنما كان من خشب، أو أنه أراد بيت الصنم. وذكر أن هذا الصنم كان صنم "عمرو بن حممة الدوسي" أحد حكام العرب2.

_ 1 الأصنام "37"، "22" "روزا" الأزرقي "1/ 78، 269"، تأريخ الخميس "2/ 109" تاج العروس "6/ 235"، "كف"، اليعقوبي "1/ 225"، "أقدم" الروض الأنف "1/ 235". 2 إمتاع الأسماع "1/ 398".

ذو الشرى

ذو الشرى: وكان لبني الحارث بن يشكر بن مبشر من الأزد، صنم يقال له ذو الشرى1. وورد في رواية للأخباريين أن "ذا الشرى" صنم لدوس كان بالسراة"2. وقد ورد اسم هذا الصنم في الحديث النبوي، وورد بين أسماء الجاهليين اسم "عبد ذي الشرى"3. ويرى بعض اللغويين أن الشرى ما كان حول الحرم، وهو أشراء الحرم4، فإذا كان هذا التعريف صحيحًا، فإنه يكون في معنى "ذات حمى" عند السبئيين5. وكان له حمى، به ماء يهبط من جبل، حمته دوس له6. و"ذو الشرى" إله ورد اسمه في كتابات "بطرا" و"بصرى"، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد.

_ 1 الأصنام "38"، "24" "روزا" بلوغ الأرب "2/ 209". 2 تاج العروس "10/ 197". 3 Ency, Religi, I, P. 663, Reste, S. 48. 4 "وأشراء الحرم: نواحيه، والواحد شرى" اللسان "14/ 428" "صادر". 5 Reste, s. 51. 6 نهاية الأرب "18/ 14 وما بعدها".

الأقيصر

الأقيصر: أما الأقيصر: فكان صنم قضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان، وكان في مشارف الشأم. وقد ذكر اسمه في شعر لزهير بن أبي سلمى، ولربيع بن ضبع الفزاري، وللشنفرى الأزدي1. وكانوا يحجون إليه ويحلقون رءوسهم عنده، ويلقون مع الشعر قرة من دقيق2. وهي عادة كانت متبعة عند بعض قبائل اليمن كذلك.

_ 1 الأصنام "38 وما بعدها"، "24" "روزا" تاج العروس "3/ 497"، اللسان "6/ 416" الأغاني "21 / 141". 2 البلدان "1/ 341 وما بعدها" "الأقيصر" الأصنام "18".

ويذكر "ابن الكلبي" أن هوازن كانت تنتاب حجاج الأقيصر، فإن أدركت الموسم، قبل أن يلقي القرة، أي قبضات من دقيق، قال أحدهم لمن يلقي: "أعطنيه. فإني من هوازن ضارع"، وإن فاته، أخذ ذلك الشعر بما فيه من القمل والدقيق، فخبزه وأكله. وقد عبرت هوازن في ذلك، فقال معاوية بن عبد العزى بن ذراع الجرمي، في "بني جعدة" وكانوا قد اختصموا مع بني جرم في ماء لهم إلى النبي يقال له العقيق، فقضى به رسول الله لجرم، شعرًا منه: ألم تر جرمًا أبحدت وأبوكم ... مع القمل في جفر الأقيصر شارع؟ إذا قرة جاءت بقول: أصب بها ... سوى القمل؟ إني من هوازن ضارع1 ويظهر من بيت شعر رواه "ابن الأعرابي"، هو: وأنصاب الأقيصر حين أضحت ... تسيل على مناكبها الدماء ومن بيت لزهير بن أبي سلمى، هو: حلفت بأنصاب الأقيصر جاهدًا ... وما سحقت فيه المقاديم والقمل2 إنه كان عند الصنم الأقيصر أنصاب ينحر الناس عليهم ذبائحهم التي يتقربون بها إلى هذا الإله. وكانت أكثر من نصب واحد، وقد تلطخت بالدماء من كثرة ما ذبح عليها. وأشير إلى "أثواب الأقيصر" في بيت للشنفرى الأزدي3. ويظهر أن عباده كانوا يطوفون حوله، وهم يلبون ويغنون4.

_ 1 الأصنام "30" "روزا". 2 الأصنام "30" "روزا" تاج العروس "3/ 497"، اللسان "6/ 416" الأغاني "21/ 141". 3 وأن امرءا أجار عمرا ورهطه ... علي، وأثواب الأقيصر يعنف الأصنام "25" "روزا". 4 البلدان "1/ 340.

نهم

نهم: وكان لمزينة صنم يقال له: نهم، كسره سادنه خزاعي بن عبد نهم، وهو من مزينة من بني عداء، وأعلن إسلامه1. ويظهر من أبيات لأمية بن الأسكر أن أتباع الصنم كانوا يقدمون الذبائح له، ويقسمون به. وقد سمى منهم جملة رجال عرفوا بـ"عبد نهم" من بني هوازن وبجيلة وخزاعة2. وهذا مما يدل على انتشار عبادة هذا الصنم بين هذه القبائل أيضًا.

_ 1 "وكان سادن نهم يسمى خزاعي بن عبد نهم، من مزينة ثم من بني عداء. فلما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثار إلى الصنم فكسره. وأنشأ يقول: ذهبت إلى نهم لأذبح عنده ... عتيرة نسك كالتي كنت أفعل فقلت لنفسي حين راجعت عقلها ... أهذا إله أبكم ليس يعقل؟ أبيت فديني اليوم دين محمد ... إله السماء الماجد المتفضل الأصنام "39 وما بعدها" "25" "روزا" معجم الشعراء "328"، بلوغ الأرب "2/ 210 ". 2 Reste, s. 58.

عائم

عائم: وكان لأزد السراة صنم يقال له عائم. ورد اسمه في شعر لزيد الخير، المعروف أيضًا بزيد الخيل1.

_ 1 الأصنام "4" و"25" "روزا" الأغاني "16/ 57"، بلوغ الأرب "2/ 210".

سعير

سعير: ما سعير، فهو صنم عنزة1. وكان الناس يحجون إليه ويطوفون حوله، ويعترون العتائر له، وقد ورد في شعر لجعفر بن خلاس الكلبي، وكان راكبًا ناقة له، فمرت به، وقد عترت عنزة عنده، فنفرت ناقته منه، فأنشأ يقول: نفرت قلوصي من عتائر صرعت ... حول السعير تزوره ابنا يقدم وجموع يذكر مهطعين جنابه ... ما إن يحير إليهم بتكلم2 وبين أسماء الرجال أناس عرفوا بـ"سعير"3. والسعير النار واللهب، ولا أستبعد وجود صلة بين هذا المعنى وبين هذا الصنم. بأن يكون هذا الصنم ممثلًا للشمس4.

_ 1 الأصنام "41"، "25" "روزا" بلوغ الأرب "2/ 210". 2 الأصنام "25" "روزا" "41" "أحمد زكي باشا". 3 Reste, s. 61. 4 تاج العروس "3/ 268"، "سعر".

الفلس

الفلس: وكان لطيء صنم يقال له الفلس، وكان أنفًا أحمر في وسط جبلهم الذي يقال له أجأ، أسود، كأنه تمثال إنسان. وكانوا يعبدونه، ويهدون إليه، ويعترون عنده عتائرهم، ولا يأتيه خائف إلا أمن عنده، ولا يطرد أحد طريدة فيلجأ بها إليه إلا تركت له ولم تخفر حويته أي حوزته وحرمه1. ذكر "ابن حبيب" أنه كان بنجد، وكان قريبًا من فيد وسدنته بنو بولان2. وبولان جد بني بولان هو الذي بدأ بعبادته على رواية ابن الكلبي. وكان آخر من سدنه منهم رجل يقال له صيفي" فأطرد ناقة خلية لامرأة من كلب من بني عليم، كانت جارة لمالك بن كلثوم الشمجي، وكان شريفًا، فانطلق بها حتى وقفها بفناء الفلس. وخرجت جارة مالك، فأخبرته بذهابه بناقتها، فركب فرسًا عريًا وأخذ رحمه، وخرج في أثره، فأدركه وهو عند الفلس، والناقة موقوفة عند الفلس، فقال له: خل سبيل ناقة جارتي. فقال: إنها لربك. قال: خل سبيلها. قال: أتخفر إلهك؟ فبوأ له الرمح. فحل عقالها، وانصرف بها مالك، وأقبل السادن على الفلس، ونظر إلى مالك ورفع يده وقال، وهو يشير بيده إليه: يا رب إن مالك بن كلثوم ... أخفرك اليوم بناب علكوم وكنت قبل اليوم غير مغشوم

_ 1 الأصنام "59 وما بعدها"، "37" "روزا" الروض الأنف "1/ 65" نهاية الأرب "18/ 77"، البلدان "3/ 911"، جمهرة "3/ 38". 2 المحبر "316"، اليعقوبي "1/ 225".

يحرضه عليه. وعدي بن حاتم يومئذ قد عثر عنده وجلس هو ونفر معه يتحدثون بما صنع مالك. وفزع لذلك عدي بن حاتم وقال انظروا ما يصيبه في يومه هذا. فمضت له أيام لم يصبه شيء فرفض عدي عبادته وعبادة الأصنام وتنصر فلم يزل متنصرًا حتى جاء الله بالإسلام، فأسلم. فكان مالك أول من أخفره. فكان بعد ذلك السادن إذا أطرد طريدة، أخذت منه. فلم يزل الفلس يعبد حتى ظهرت دعوة النبي عليه السلام، فبعث إليه علي بن أبي طالب، فهدمه، وأخذ سيفين كان الحارث بن أبي شمر الغساني، ملك غسان قلدة إياهما، يقال لهما مخذم ورسوب، فقدم بهما علي بن أبي طالب على النبي، فتقلد أحدهما، ثم دفعه إلى علي بن أبي طالب، فهو سيفه الذي كان يتقلده"1. وجاء في بعض الروايات ذكر ثلاثة سيوف، هي: مخذم، ورسوب، واليماني2. وقد عرف "مالك بن كلثوم بن ربيعة" الشمجي المذكور، بـ"مخفر الفلس"؛ لأنه أخفر ذمته، وكان لا تخفر ذمته3. و"الفلس" هو "هفلس" "ها – فلس"، عند لحيان. وقد تعبدوا له مع أصنام أخرى، وردت أسماؤها في نصوصهم4. ويلاحظ أن "ابن الكلبي" الذي يروي هذا الخبر، كان نفسه قد روى قبل ذلك أن السيفين مخذمًا ورسوبًا، كان على الصنم مناة، صنم الأوس والخزرج، وأن الذي أهداهما له هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وأن علي بن أبي طالب لما هدم مناة، أخذ السيفين معه، فجاء بهما إلى الرسول. فيظهر من ذكره للخبر مع صنمين أنه وقع في هفوة أو نسي، فجعل من القصة الواحدة قصتين

_ 1 الأصنام "37 وما بعدها" "روزا"، نهاية الأرب "18/ 77"، تاج العروس "4/ 210"، "الفلس". 2 Das Gotzenbuch, s. 140. 3 الاشتقاق "2/ 235". 4 Jaussen – Savignac, Mission, II 484, Grohmann, s. 948.

أصنام أخرى

أصنام أخرى: وكانت لطيء أصنام أخرى، منها اليعبوب، وهو صنم لجديلة طيء، وكان

لهم صنم أخذته منه بنو أسد، فتبدلوا اليعبوب بعده. وقد ورد ذكره في شعر لعبيد: فتبدلوا اليعبوب بعد إلههم ... صنمًا، فقروا، يا جديل، وأعذبوا أي: لا تأكلوا على ذلك، ولا تشربوا1. وأما باجر، فكان صنمًا للأزد ومن جاورهم من طيء وقضاعة2. ولم يذكر ابن الكلبي في كتابه الأصنام اسم الصنم الجلسد. وهو صنم كانت كندة تتعبد له، وكذلك تعبد له أهل حضرموت. وكان سدنته بنو شكامة من السكون، وهم من كندة. وكان للصنم حمى، ترعاه سوامه وغنمه، فإذا دخلته هوافي الغنم، حرمت على أربابها، وصارت ملكًا للصنم3. وقد وصف بأنه كان كجثة الرجل العظيم، من صخرة بيضاء، لها كالرأس أسود، إذا تأمله الناظر رأى فيه كصورة وجه الإنسان، وكانوا يكلمون منه، وتخرج منه همهمة، ويقربون القرابين إليه، ويلطخون بدمه، ويكترون ثياب السدنة يلبسونها حينما يقربون قربانًا إليه ويريدون مكالمته4. ويلاحظ أن تغيير الملابس وإبدالها للتطهر، له مثيل عند العبرانيين5.

_ 1 الأصنام "39" "روزا"، "63" "أحمد زكي باشا"، المشرق، السنة 1938"م. الجزء الأول "ص5". 2 الأصنام "63" "39" "روزا". 3 البلدان "3/ 122" قال المثقب العبدي، وقيل عدي بن وداع: فبات يجتاب شقارى كما ... يبقر من يمشي إلى الجلسد تاج العروس "2/ 324" "جلسد". 4 البلدان "3/ 122" وما بعدها". 5 التكوين، الإصحاح الخامس والثلاثون، الآية2.

المحرق

المحرق: وكان المحرق "محرق" صنمًا لبكر بن وائل وبقية ربيعة في موضع سلمان. وأما سدنته، فكانوا أولاد الأسود العجلي. وقد نسب إليه بعض الرجال فورد.

"عبد محرق"1. ويطن بعض المستشرقين أنه عرف بـ"محرق" لأن عبدته كانوا يقدمون إليه بعض القرابين البشرية محروقة2. وكان بنو بكر بن وائل وسائر ربيعة، قد جعلوا في كل حي من ربيعة له ولدًا. "وكان في عنزة بلج بن المحرق. فكان في عميرة وغفيلة عمرو بن المحرق وكان سدنته آل الأسود العجليون"3.

_ 1 الأصنام "111" تكملة الأصنام "البلدان "7/ 393" "المحرق" تاج العروس "6/ 133" "حرق". 2 Reste, s. 57, Ency, Religi, I,p. 660. 3 المحبر "317".

الشمس

الشمس: والشمس صنم كان لبني تميم وله بيت. وكانت تعبده بنو أد كلها ضبة وتميم، وعدي، وعكل، وثور. وأما سدنته فكانوا من بني أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم فكسره هند بن أبي هالة وصفوان بن أسيد بن الحلاحل بن أوس بن مخاشن1. وقد قيل لها: الإلاهة2. وذكر "اليعقوبي" أن قومًا من "عذرة" تعبدوا لصنم يقال له: شمس3. وقد ذكر بعض أهل الأخبار، أن الشمس صنم قديم. وأول من تسمى به سبأ بن يشجب4. وذكر "اليعقوبي" أنه صنم قوم من عذرة"5. وقد وردت جملة أسماء منسوبة إلى الشمس، عرف أصحابها بعبد شمس، منهم من قبائل أخرى من غير تميم. ويدل ذلك على أن عبادتها كانت معروفة في مواضع مختلفة من جزيرة العرب. وعرف بعض الأشخاص بـ"عمرو شمس" عند العرب الشماليين6.

_ 1 المحبر "316"، البلدان "6/ 293" "شمس". 2 شمس العلوم "حـ1 ق ص93". 3 اليعقوبي "1/ 225". 4 تاج العروس "4/ 172"، "شمس" 5 اليعقوبي "1/ 225". 6 Ency. Religi, I, 660.

وفي جملة أصنام تميم الأخرى، الصنم تيم وبه سمي رجال من تميم ومن غيرهم، مثل "عبد تيم" و"تيم الله"1. وهناك أسماء أصنام أخرى لم ترد في كتاب الأصنام، إنما وردت في كتب أخرى. وقد ذكرها "ابن الكلبي" نفسه في بعض مؤلفاته. ومن هذه الأصنام: الأسحم، والأشهل، وأوال، والبجة، وبلج، والجبهة، وجريش، وجهار، والدار، وذو الرجل، والشارق، وصدا، وصمودا، والضمار، والضيزن، والعبعب، وعوض، وعوف، وكثرى، والكسعة، والمدان، ومرحب، ومنهب، والهبا، وذات الودع، وياليل2، وذريح3، وباجر، والجد، وحلال، والحمام، وذو اللبا، والسعيدة، وغنم، وفراض، وقزح، وقيس، والمنطبق، ونهيك4. أما أوال، فإنه إيال، وهو صنم بكر وتغلب5. وأما جهار، فقد كان من أصنام هوازن وموضعه بعكاظ، وسدنته آل عوف النصريون، ومعهم محارب فيه. وكان في أسفل أفطح6. وكانت تلبية من نسك لجهار: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك، اجعل ذنوبنا جبار. وأهدنا لأوضح المنار. ومتعنا وملنا بجهار"7. وأما الدار، فصنم سمي به عبد الدار بن قصي بن كلاب8. وأما الدوار، فصنم كانت العرب تنصبه يجعلون موضعًا حوله، يدورون به واسم ذلك الصنم والموضع الدوار، ومنه قول امرئ القيس. فعن لنا سر كأن نعاجه ... عذارى دوار في ملاء مذيل9 وقد ذكر "ابن الكلبي" أن العرب تسمي الطواف حول الأصنام والأوثان.

_ 1 الأغاني "18/ 168" كتاب المعمرين "31". 2 الأصنام "107 وما بعدها" "تكملة". 3 المجبر "314، 318". 4 Reste, s. 64. 5 الأصنام "107". 6 المحبر "315". 7 المحبر "312" 8 الأصنام "108" تاج العروس "3/ 216" الاشتقاق "56، 97". 9 اللسان "5/ 384".

الدوار1. وعرف بعض أهل الأخبار الدوار أنه "نسك للجاهلية يدورون فيه لصنم أو غيره"2. ويظهر من دراسة ما ورد في كتب أهل الأخبار وفي كتب اللغة عن "الدوار" أن الدوار لم يكن صنمًا، وإنما هو طواف حول صنم من الأصنام، أي عبادة من العبادات لا تختص بصنم معين. وقد كان من عادة الجاهليين الطواف حول الأصنام. فظن بعض أهل الأخبار أن الدوار صنم معين، أو أنه صنم ينصب، فيدور الناس حوله. وأما ذو الرجل، فهو صنم من أصنام أهل الحجاز3. ويظهر أن هذا الصنم، وكذلك الصنم "ذو الكفين"، هما من الأصنام التي تغلبت صفاتها على أسمائها، فنعتت بهذه النعوت، كأن تكون لرجل أحد الصنمين، ولكفى الصنم الآخر ميزة خاصة وعلامة فارقة مثل كسر أو دقة صنعة، جعلت الناس يدعون الصنمين بالنعتين البارزين. ويرى "نولدكة" احتمال كون هذين الصنمين حجرين في الأصل من الأحجار المقدسة Fetish التي كان يعبدها الناس في القديم، ثم تحولت إلى صنمين بعد أن رسمت عليها بعض التصاوير صيرتهما على شكل إنسانين4. وسمي بالصنم "الشارق" جملة رجال عرفوا بعبد الشارق5. ولكلمة الشارق علاقة بالشروق. وقد ذهب "ولهوزن" إلى أن المراد به الشمس لشروقها6. و"الشريق" اسم صنم أيضًا7. وعندي أن الشارق وشريقًا نعتان للآلهة، وليسا اسمين لصنمين، وأنهما في معنى "شرقن" الواردة في نصوص المسند، وتعني "الشارق" أي اللفظة المذكورة تمامًا. وقد وردت نعتًا في نصوص عربية جنوبية كثيرة، مثل جملة: "عثتر شرقن"، أي "عثتر الشارق". فالشارق إذن نعت من نعوت الآلهة، أو اسم من أسماء الله الحسنى، بالتعبير.

_ 1 الأصنام "21" "روزا". 2 تركت الطير عاكفة عليه ... كما عكف النساء على دوار شرح ديوان لبيد "ص44"، المعاني الكبير "1/ 105". 3 الأصنام "109". 4 Ency. Religi,I, 663. 5 الأصنام "109"، تاج العروس "6/ 392"، القاموس "3/ 248". 6 Reste, S. 65. 7 اللسان "11/ 46".

الإسلامي، وقد يقابل لفظة "نور" الذي هو نعت من نعوت الله في الإسلام، كما ورد في القرآن الكريم: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1. وأما صدا وصمودا والهبا، فإنها من أصنام قوم عاد على رواية الأخباريين2. وأما الضمار، فكان صنمًا عبده العباس بن مرداس السلمي3، وبنو سليم4. ولما حضرت مرداس الوفاة، أوصى به إلى ابنه العباس، وطلب منه العناية به؛ لأنه يضر وينفع. فلما ظهر الإسلام، أحرق العباس ضمارًا، وأتى النبي فأسلم5. والعبعب، هو صنم لقضاعة ومن داناهم. وقد يقال بالغين المعجمة، فيخلط بينه وبين الغبغب6. ورأيي أن الكلمتين أصلهما كلمة واحدة، حرفها النساخ فصارت كلمتين. وأما "عوض" فهو صنم كان من أصنام بكر بن وائل. وقد ذكر مع الصنم سعير في بيت شعر نسب إلى الأعشى، أو إلى رشيد بن رميض العزى7. وكان "جد "الجد" صنمًا معروفًا عند عدد من الشعوب السامية، وليس من المستبعد أن يكون لاسم القبيلة الإسرائيلية "جد" "جاد" علاقة باسم هذا الصنم8. وقد ورد في النبطية "جدا". وورد في الأسماء العربية "عبد جد".

_ 1 سورة النور، السورة رقم 24، الآية 35. 2 الأصنام "110"، "وصمود كزبور: اسم صنم كان لعاد يعبدونه. قال يزيد بن سعد، وكان آمن بهود عليه السلام: عصمت عاد رسولهم فأمسوا ... عطاشا لا تمسهم السماء لهم صنم يقال له صمود ... يقابله صداء والهباء وأن إله هود هو إلهي ... على الله التوكل والرجاء وهو مذكور في كتب السير، تاج العروس "2/ 402". 3 الأصنام "110"، "وضمار: صنم عبده العباس بن مرداس ورهطه"، تاج العروس "3/ 353"، "ضمر"، الروض الأنف "2/ 283". 4 البكري "881" "ضمار". 5 البلدان "5/ 440"، ابن هشام "832"، "ضماد" الأغاني "13/ 62"، "أخبار العباس بن مرداس". 6 الأصنام "110"، تاج العروس "1/ 363"، اللسان "2/ 64"، "عب". 7 الأصنام "110" "وبه فسر ابن الكلبي قول الأعشى: حلفت بمائرات حول عوض ... وأنصاب تركن لدى السعير قال: "والسعير: اسم صنم كان لعنزة خاصة، كما في الصحا"، قال الصاغاني: "ليس البيت للأعشى، وإنما هو لرشيد بن رميض العنزي"، تاج العروس "5/ 5". اللسان "9/ 56"، Reste, s. 66 Robertson smith, Marr, p. 43, Kinship, p. 261, Noldeke in ZDMG, XXXI, 86, CIS, IV, P. 20, Ency, Religi, I,P. 661.

و"عبد الجد"1. و"كثرى" من الأصنام المنسوبة إلى طسم وجديس، ظل باقيًا معروفًا إلى أيام الرسول، فكسره نهشل بن عرعرة ولحق بالنبي2. وقد ورد بين أسماء الجاهليين من دُعي بـ"عبد كثرى". ويرى "نولدكه" في عدم ورود أداة التعريف "أل" مع "كثرى" في "عبد كثرى"، دلالة على أن هذا الصنم هو من الأصنام القديمة. ويرى أيضًا أن كلمة "كثرى" هي مجرد لقب من ألقاب "العزى"، نسي فظن أنه اسم صنم مستقل3. وأما المدان، فصنم يظهر أنه كان من أصنام أهل الحجاز. وقد سمي به جملة رجال عرفوا بـ"عبد المدان"، وكان له بيت4. وأما "مرحب"، فصنم من أصنام حضرموت، وبه سمي "ذو مرحب" سادن هذا الصنم5. وكانت تلبية من نسك له: "لبيك. لبيك، إننا لديك. لبيك، حببنا إليك"6. وللأخباريين جملة آراء في معنى ذات الودع، وهي أنثى. وقد ورد اسمها في الشعر، وكانت العرب تقسم بها. قيل إنها وثن بعينه، وقيل هي مكة لأنه كان يعلق الودع في ستورها، وقيل سفينة نوح، كانت العرب تقسم بها، فتقول بذات الودع، قال عدي بن زيد العبادي: كلا يمينًا بذات الودع لو حدثت ... فيكم وقابل قبر الماجد الزارا7

_ 1.Ency, Religi, I, p. 662 2 الأصنام "110"، "وكثرى كسكري: صنم كان لجديس وطسم، كسره نهشل بن الربيس بن عرعرة ولحق بالنبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وكتب له كتابًا. قال عمرو بن صخرة بن أشنع: حلفت بكثرى حلفة غير برة ... لتستلبن أثواب قيس بن عازب تاج العروس "3/ 513". 3 الاشتقاق "235"، Reste, s. 67. Ency, Religi, I, P. 660. 4 الأصنام "111"، تاج العروس "9/ 342 وما بعدها"، اللسان "17/ 289"، الاشتقاق "2/ 237". 5 الأصنام "111"، تاج العروس "1/ 269"، "رحب"، المحبر "318". 6 المحبر "314". 7 الأصنام "111"، اللسان "10/ 267" "ودع" تاج العروس "5/ 535".

وياليل، اسم صنم كذلك، أضيف إليه فقيل "عبد ياليل"، كما قيل "عبد يغوث" و"عبد مناة" و"عبد ود"1. وأما "ذريح" "ذرح" فكان لكندة بالنجير من اليمن ناحية حضرموت، يظهر أنها كانت تحج إليه، وأن له بيتًا يقصد، بدليل ورود تلبية من نسك إليه، وهي: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، كلنا كنود، وكلنا لنعمة جحود. فاكفنا كل حية رصود" ويظن "ولهوزن" أنه يمثل الشمس. "وذرح" اسم من الأسماء، ويرد في الأعلام العربية الجنوبية المركبة، مثل "ذرح إيل". وذهب "نولدكه" إلى أن "ذرح" هو مثل الشارق، و"محرق" صنم يمثل الشمس. والظاهر أن عبادة هذا الصنم لم تكن منتشرة خارج حدود العربية الجنوبية2. وأما باجر، فإنه من أصنام الأزد ومن داناهم من طيء. وقد سمي به رجال عرفوا بـ"عيد باجر"3. وحلال، هو صنم فزارة. أما الحمام، فإنه صنم بنو هند من بني عذرة. وكان في المشقر صنم لبني عبد القيس يسمى ذا اللبا، سدنته بنو عمرو4. وكانت تلبية من نسك له: "لبيك اللهم لبيك. لبيك رب فاصرفن عنا مضر. وسلمن لنا هذا السفر. إن عما فيهم لمزدجر. واكفنا اللهم أرباب حجر"5. وكان المنطبق صنمًا، للسلف وعك والأشعريين، وهو من نحاس، يكلمون من جوفه كلامًا لم يسمع بمثله. فلما كسرت الأصنام، وجدوا فيه سيفًا، فاصطفاه الرسول. وسماه "مخدمًا"6. وذكر "ابن حبيب" أن تلبية من نسك لمنطبق: "لبيك اللهم لبيك، لبيك". ويلاحظ أن الأخباريين ذكروا أن السيف "مخدم" "مخذم" كان سيفًا على الصنم مناة أو "الفلس" صنم طيء، كما ذكروا أن السيف "رسوب" كان على الصنم "مناة. أو الفلس كذلك. وأما الصنم نهيك، فقد كان من الأصنام الموضوعة في مكة. وذكر "الأزرقي أن عمرو بن لحي نصب هذا الصنم عند الصفا، وأنه كان يعرف بـ"مجاود

_ 1 الأصنام "111". 2 Reste, S. 65, Ency. Religi, I, P. 660. 3 Reste, S. 64. 4.Resdte, S. 65 5 المحبر "314". 6 البلدان "8/ 179" "المنطبق" المحبر "318".

الريح" "مجاور الريح"، وأنه نصب الصنم: مطعم الطير عند المروة1، فكان الناس في موسم الحج يحجون إلى الصنمين. ولعل هذين الصنمين كانا من الأصنام التي خصصت بالسماء، وأن الناس كانوا يضعون الحبوب عندها لتأكلها الطيور. ولذلك قيل لنهيك "مجاود الريح"، ولصنم المروة "مطعم الطير". وغنم، ذكر أنه كان في جملة الأصنام الموضوعة بمكة. وقد ورد اسم رجال، واسم أسر2. وفراض، صنم كان بأرض سعد العشيرة3. وقد حطمه رجل منهم اسمه "ذباب"، وهو من "بني أنس الله بن سعد العشيرة". حطمه. ثم وفد إلى النبي فأسلم، وقال شعرًا في ذلك، أشار فيه على هدمه ذلك الصنم4. وكانوا يذبحون له ويلطخونه بالدم5. أما قزح "قزاح"، فالظاهر أنه صنم، كان الناس يتصورون أنه يبعث الرعد والعواصف. وقد نسي على ما يظن. ولا بد أن يكون لقوس قزح علاقة ما بهذا الصنم القديم. وقد يكون لاسم قزح. وهو من مواضع الحرم بمكة، علاقة باسم هذا الوثن العتيق. وقد تعبد بنو أدوم لصنم اسمه "قزح" Koze مما يدل على أنه هو الصنم العربي الذي نتحدث عنه. والظاهر أنه كان من الأصنام القديمة المعروفة، غير أنه فقد منزلته وقلت أهميته، فلم يكن من الأصنام الكبرى عند ظهور الإسلام6. ويخالف "نولدكه" رأي بعض المستشرقين الذين ذهبوا إلى أن المراد بقزح الشيطان، لا صنم من الأصنام. و"قيس" اسم صنم قديم. نسيت عبادته، وصار اسم أشخاص. ودليل كونه صنم قديم وروده في الأعلام المركبة، مثل "عبد القيس"، فإن في هذه

_ 1 المحبر "313"، الأزرقي "1/ 73". 2 ابن هشام "145"، "بنو غنم"، المحبر "288". 3 في نهاية الأرب "فراص"، نهاية الأرب "18/ 18". 4 تبعت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وخلفت فراضا بدار هوان شددت عليه وشدة فتركته ... كأن لم يكن والدهر ذو حدثان نهاية الأرب "18/ 18". 5 نهاية الأرب "18/ 151". 6 Josephus, Antiq, XV, 253. 7 Ency, Religi, I, P. 661.

التسمية دلالة على أن قيسًا اسم إله. ولقيس علاقة بـ"قوس" Quas، وهو إله من آلهة أدوم1. وقد ورد اسم "قيس" "قس" و"قوس" في الكتابات. وهما اسم إله واحد. عثر على معبد له في مدائن صالح2. وأما "عوف"، فقد استدل من التسمية بـ"عبد عوف" على أنه اسم صنم، غير أننا لا نعرف من أمر عبادته شيئًا، فلعله من الأصنام التي ذهب ذكرها قبل الإسلام بزمن طويل. وقد ذكر أهل الأخبار أنه "صنم"، ولم يذكروا اسم عبدته3. وذكر "اليعقوبي" أن للأزد صنم، يقال له "رئام"4. والسعيدة، صنم أنثى وعلامة تأنيثه وجود تاء التأنيث بآخره. وكان لسعد هذيم وسائر قضاعة إلا "بني وبرة"، وعبدته الأزد أيضًا. وكان سدنته "بنو عجلان". وموضعه بأحد5 "وورود أن "السعيدة" بيت كان يحجه ربيعة في الجاهلية"6. وورد في جملة أسماء أهل الجاهلية اسم "سعد العشيرة". وقد ذهب أهل الأخبار إلى أن "مذحجًا" كان يعرف بذلك الاسم7. و"العشيرة" اسم صنم من الأصنام القديمة، وله علاقة بعبادة الساميين فقد كان الكنعانيون يضعون وثنًا في محلات العبادة يسمونه العشيرة"، كما كانوا يتعبدون له لأنه من آلهتهم القديمة وهو إلهه. أي أنثى عند الكنعانيين. ويظهر أن "العشيرة" من الآلهة السامية القديمة التي كانت تعبد بصورة خاصة عند الساميين الغربيين، كما عبر بلفظة "العشيرة" عن "المذبح" "المزبح"8. واسم عبد عشيرة" مرتبط بالطبع باسم هذا الإله.

_ 1 Reste, s. 67. 2 "بت قسو"، "بيت قيسو"، Reste, 67, Ryckmans 18, Grohmann. S. 85, Jaussen –Sabignae. Mission, I, 501, 520, I 528, I, 169, 200, CIS. II, 209, Doughty, Documents Epigraphiques, 38, CIS, II, 198. J. Euting, Tagebuch, II, 262. 3 تاج العروس "6/ 206"، عوف". 4 اليعقوبي "1/ 225". 5 المحبر "316 وما بعدها". 6 اللسان "3/ 215" "صادرة"، تاج العروس "2/ 378"، "سعد". 7 الاشتقاق "2/ 237". 8 Encyclopaedia Biblica, By, Cheyne, Vol, I, 3330.

ومن دلائل عبادة "الأشهل"، ورود الأشهل في الأعلام المركبة، مثل "عبد الأشهل". وقد ذكر "ابن دريد" أن الأشهل صنم1. وأشار "محمد بن حبيب" إلى صنم قال له: "زائدة"، لم يذكر من كان يتعبد له2. وذكر علماء اللغة اسم صنم قالوا له: "الضيزن". وقال بعضهم: "والضيزنان صنمان للمنذر الأكبر، كان اتخذهما بباب الحيرة ليسجد لهما من دخل الحيرة امتحانًا للطاعة"3. وأدخل بعض علماء اللغة "الغري" في عداد الأصنام. فقال: "والغري: صنم كان طلي بدم". وذكر بعض آخر أن الغري: نصب كان يذبح عليه النسك. وذكروا أن الغريين بناءان طويلان، يقال هما قبر مالك وعقيل نديمي جذيمة الأبرش، وسميا الغريين لأن النعمان بن المنذر كان يغريهما بدم من يقتله في يوم بؤسه4. ومن الأصنام صنم اسمه "عير" قيل إنه كان لعبد عمرو المعروف بـ"بكر بن جبلة الكلبي"، كان قومه يعظمونه5. وصنم اسمه "جريش"، إليه نسب: "عبد جريش"6. وذكر بعض أهل الأخبار أن "كعبًا" و"كعيبًا" المذكورين في قصة "القليس" التي أقامها "أبرهة" بصنعاء، هما صنمان7.

_ 1 الاشتقاق "263"، تاج العروس "7/ 402"، "شهل". 2 الاشتقاق "ص13". 3 اللسان "13/ 254"، "ضزن"، تاج العروس "9/ 264"، "ضزن". 4 اللسان "15/ 122"، "غرا" تاج العروس "10/ 264"، الجوهري، تاج اللغة "2/ 526"، 5 الإصابة "1/ 166". 6 تاج العروس "4/ 288". "جرش". 7 البداية، لابن كثير، "2/ 170 وما بعدها".

الفصل السبعون: أصنام الكتابات أقصد بـ"أصنام الكتابات" الأصنام التي عرفنا خبرها وأمرها من الكتابات الجاهلية ومن الكتابات الآشورية ومن كتب الكتبة "الكلاسيكيين"، وذلك تمييزًا لها عن الأصنام التي أخذنا علمنا بها من روايات الأخباريين في الغالب. وقد سبق لنا أن وقفنا على أسماء بعض آلهة الأعراب، وذلك أثناء حديثنا عن الآشوريين والعرب. وقد ذكرت تلك الأسماء في الكتابات الآشورية لمناسبة سقوط أصنامها أسيرة في أيدي الآشوريين. وكان الأعراب الذين حاربوا الآشوريين قد حملوها معهم، إما تبركًا وتيمنًا بها، وتفاؤلًا من وجودها معها بالنصر والغنائم، وإما لأنها كانت معهم في خيمتها المتخذة معبدًا لها فسقطت في أيدي الآشوريين باكتساح الآشوريين لمنازل أولئك الأعراب. فأخذها الآشوريون معهم وحملوها إلى عاصمتهم أسيرة كما يؤسر البشر، وسجنوها عندهم؛ إذلالًا لعبادها وإهانة لهم، وازدراء بشأن تلك الآلهة المغلوبة السيئة الحظ التي لم تتمكن من مساعدة عبادها في القتال والتي لم تتمكن حتى من تخليص نفسها من الأسر، فوقعت هي نفسها أسيرة ذليلة في أيدي عبدة آلهة أخرى، وبقيت في أسرها هذا، حتى وجد الأعراب إلا مناص لهم من استردادها من الآشوريين إلا باسترضائهم وبإعلان خضوعهم لهم. فذهبوا إلى نينوى، وقدموا طاعتهم لملك آشور، وأمر عندئذ بإعادة أصنامهم إليهم، وكتب الآشوريون فوقها كتابة تشير إلى سقوطها في أسرهم، وإلى تغلب آلهة الآشوريين على آلهة الأعراب وتفوق إله آشور على

تلك الأصنام، وبعد أن نقش عليها اسم الملك. ثم أعيدت وهي على هذه الصورة إليهم1. ومن هذه الأصنام دلبت "دلبات" Dilbat2، و"عتر سماين" "عشتر السماء" "Atarsamain "A- tar- sa- ma- a- in و"عتر قرمية" "عتر قرمي "Atar Kurmiaa"، و"ديه" "دايا" "Dija" = Diya"، و"نوهيا" "نخيا" "نهيا" "نهى" Nuhaia"، و"إبيريلو" "Ebirillu". وهي الأصنام التي كتب عليها أن تسجن فأعيدت إلى أصحابها، ووضعت في أماكنها وسر أتباعها ولا شك بهذه العودة3. وقد حرفت أسماء هذه الأصنام، حتى صار من الصعب علينا تشخيصها. ولعل اسم الصنم "دلبت" هو تحريف "ذات بعل"، أي الشمس" والشمس إلهة عند العرب، تعبدت لها قبائل عديدة، كما تكلمت عنها في موضع آخر، وقد عرفت به الإلهة عندها. أما "عتر سمين"، فهو "عثتر السماء"، و"عثتر" من الآلهة المعبودة عند العرب، وقد ورد اسمه في نصوص المسند، ويرى بعض الباحثين أنه إلهة، أي أنثى4. ويرمز إلى "الزهرة" في رأي غالب العلماء5. وقد أشير في النصوص القتبانية إلى قبيلة عرفت بـ"عتر سمين"، أي باسم هذا الصنم6، لعلها من عبدته، فنسبوا إليه. وأما "نوهيا" "نخيا" "نهى" "نهيا"، فهو الإله "نهى". وقد ورد في الكتابات الثمودية، اسم صنم بهذا الاسم7. فلعل له صلة بالصنم المذكور.

_ 1 جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام "2/ 320"، المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 591"، "1/ 600"، Pritchard, p. 291. 2 Reallexi, I, s. 125, Winckier, AOF, I, S. 526, Schell, Le Prism D'Assaraddon, 1914, p. 18, British Museum Tablests, K 3087, Smith, History of Sennacherib, 1878, p. 138. 3 Pritchard, P. 291, D.J. Wixman, The Vassal-Treaties of Esarhaddon, p. 4. 4 Schrader, KAT, s. 434. 5 Handbuch, I, S. 228. 6 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "2/ 332". 7 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "5/ 151".

وحدثنا "هيرودوتس" -في أثناء كلامه على حملة "قمبيز" على مصر- عن إلهين من آلهة العرب، هما "باخوس" Bacchus و"أوزانيا" "Urania". وذكرت أن العرب تسمي "باغوس" "أوراتل" Oratal، وتسمي "أورانيا" "أليلات" Alilat1. و"إليلات"، هو الصنم "اللات"، الذي يرمز إلى الشمس، فهو إلهة، أي أنثى. ويقابل "أثينة" Athene التي ظهرت عبادتها متأخرة بعض التأخر بالنسبة على الآلهة الأخرى2. و"اللات" من الأصنام العربية المعروفة التي ذكرت في القرآن، وفي النصوص النبطية والصفوية، كما سأتحدث عن ذلك في المواصع المناسبة. وأما Oratal، فهو تحريف على ما يظهر لاسم صنم من الأصنام العربية، صار من الصعب، إرجاعه إلى صنم من الأصنام التي نعرفها الآن3. وقد حفظت النصوص الجاهلية أسماء عدد لا بأس به من الأصنام، كان الناس يقضون الليالي سهرًا في عبادتها والتودد إليها؛ لتنفعهم ولتدفع الأذى وكل سوء عنهم، وكانوا يتقربون إليها بالنذور والقرابين. ثم ذهب الناس وذهبت آلهتهم معهم. وبقيت أسماء بعض منها مكتوبة في هذه النصوص، وبفضل هذه الكتابات عرفنا أسماءها، ولولاها لكانت أسماؤها في عداد المنسيات، كأسماء الآلهة التي نسيت لعدم ورود أسمائها في النصوص. وبين هذه الأسماء أسماء يجب اعتبارها من "الأسماء الحسنى"، أي "أسماء الله الحسنى" في المصطلح الإسلامي لأنها نعوت وصفات للآلهة التصقت بها حتى صارت في منزلة الأسماء العلمية. وهي تفيد المؤرخ كثيرًا؛ إذ إنها تعينه في فهم طبيعة تلك الآلهة، وفي فهم رأي المؤمنين بها، في ذلك الوقت. وفي طليعة أسماء الآلهة المدونة في نصوص المسند، اسم الإله "ود"، إله معين الكبير، وإله قبائل عربية أخرى، منها "ثمود"، حيث ورد اسمه في كتاباتهم، و"لحيان"، حيث ذكر في كتاباتهم أيضًا. كما كان من الأصنام الكبرى في الحجاز عند ظهور الإسلام. وقد ذكر في القرآن الكريم مع أسماء.

_ 1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "2/ 343" و Herodotus, I, P. 213. 2 Ency, Religi,, I, p. 661. 3 المصدر نفسه.

أصنام أخرى عبدت في عهد نوح1. وقد ظن بعض المستشرقين أن هذا الصنم لم يكن معبودًا في الجاهلية القريبة من الإسلام وعند ظهور الإسلام، وهو رأي غير صحيح؛ إذ ورد ذكره في شعر للنابغة، وكان له معبد في دومة الجندل، وسدنة وأتباع، ولدينا أسماء جملة رجال جاهليين عرفوا بـ"عبد ود". وقد ذكر أن قريشًا كانت تتعبد لصنم اسمه ود، ويقولون له أد أيضًا2. ونعت "ود" بالإله "أل هن" "الهن" في بعض الكتابات جاء في أحد النصوص "ودم الهن"، أي "ود الإله"، و"كهلن"، أي "الكاهل" بمعنى القدير والمقتدر3. وهما من صفات هذا الإله التي كان يراها المعينيون فيه. ويرمز "ود" إلى القمر، عند المعينيين، وهو الإله الرئيس عندهم. وقد وردت لفظة "شهرن"، أي "الشهر" بعد كلمة "ود" في بعض الكتابات فورد: "ودم شهرن"، أي "ود الشهر". وتعني لفظة "شهر" القمر في عربية القرآن الكريم4. و"ود" هو الإله "القمر" عند بقية العرب الجنوبيين. ومتى ورد اسمه في نص، قصد به القمر. وقد نعت "ود" بـ"الأب"، تعبيرًا عن عطفه على المتعبدين له وعن رحمته بهم. فورد في النصوص المعينية: "ودم أبم"، و"أبم ودم" أي "ود أب"، و"أب ود"، فهو بمثابة الأب للإنسان. والأب من كان سببًا في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره. وقد عثر على أخشاب وأحجار حفرت عليها أسماء ود أو جمل "ودم أبم" أو "أبم ودم"، وذلك فوق أبواب المباني؛ لتكون في حمايته ورعايته، وللتبرك باسمه وللتيمن به، كما وجدت كلمة "ود" محفورة على أشياء ذات ثقوب، تعلق على عنق الأطفال لتكون تميمة وتعويذة يتبرك بها5. فعلوا ذلك كما يفعل الناس في الزمن الحاضر في التبرك بأسماء الآلهة والتيمن بها لمنحها الحب والبركة والخيرات. ويظن أن لفظة "ود" ليست اسم على القمر، بل هي صفة من صفاته، تعبر عن الود والمودة. فهي من الأسماء الحسنى للقمر إذن.

_ 1 سورة، نوح، الآية 23. 2 البلدان "8/ 407"، "ود" 3 Hommel, Grundriss, I, S. 136, Glaser 284, Halevy 237, ChRestom, 91, 97. 4 Galser 324, Handbuch I, s. 37. 5 Halevy 534, 535, 586, 578, 591, 685, Glaser 80, 84.

وقد ورد اسم "ود" في كتابة ثمودية دَوَّنها أحد المؤمنين الفانين في حب "ود"، جاء فيها: "أموت على دين ود"، "بدين ود أمت"، وجاء في كتابة أخرى: "يا إلهي احفظ لي ديني، يا ود أيده"1. وورد اسم "ود" في النصوص اللحيانية2. فتكون عبادة هذه الإله قد انتشرت في العربية الغربية من أعالي الحجاز إلى العربية الجنوبية وذلك منذ ما قبل الميلاد إلى ظهور الإسلام. وقد اقترن اسم "ود مع "أل" "إيل" في بعض الكتابات العربية الجنوبية و"إيل" هو الإله السامي القديم. ولعل في "ود أل" "ود إيل" معنى "حب إيل"، فتكون "ود" هنا صفة من صفات الإله. وأما "إيل"، فإنها قد تعني ما تعنيه كلمة "إله" في عربيتنا، وقد تعني إلهًا خاصًّا في الأصل هو إله الساميين المشترك القديم3. وقد وردت في نص قتباني جملة: "بت ودم" أي "بيت ود"4. ومعناها معبد خصص بعبادة الإله "ود". ولا بد أن تكون هناك جملة معابد خصصت بعبادة هذا الإله. ويرى بعض المستشرقين استنادًا إلى معنى كلمة "ود" أن هذا الصنم يرمز إلى الود، أي الحب وأنه صنو للإلهين "جيل" Gil و"بحد" Pahad عند الساميين. ويستندون في رأيهم هذا إلى بيت للنابغة هو: حياك ود فأنا لا يحل له لهو النساء وأن الدين قد عزما5

_ 1 Herbert Grimme, Die Losung des Sinatinschrirten, Die Altthamudische Schrift, Munster, 1926, S. 40. 2 Handbuch, I, s. 616. 3 Handbuch, I, s. 217, H. Bauer, in ZDMG, Bd, 69, 1915, S. 561. 4 Hommel, Die Sudarabische Alterthumer, S. 2. 5 البلدان "408"، "ود" قالت أراك أخا رحل وراحلة ... تغشى متالف لن ينظرنك الهرما حياك ود فأنا لا يحل لنا ... لهو النساء وأن الدين قد عزما مشمرين على خوض مزممة ... نرجو الإله ونرجو البر والطعما شعراء النصرانية "ص705". Reste, S. 17, 31, 42, 53, Ency, Religi, VIII, p 180.

وهناك من يرى وجود صلة بين "ود" و Eros الصنم اليوناني، ويرى أنه صنم يوناني في الأصل استورد من هناك، وعبد عند العرب، وهو رأي يعارضه "نولدكه" لعدم وجود تشابه في الهيئة بين الصنمين1. ومن آلهة المعينيين الإله: "كهلن"، أي "الكهل" و"الكاهل". وقد ورد اسمه في النصوص التي عثر عليها في الأقسام الشمالية من العربية الغربية كذلك2. وهو يرمز مثل "ود" إلى "القمر". وعرف "ود" بـ"نحس طب" "نحسطب". "ونحس" بمعنى "نحش"، أي الحية، و"طب" بمعنى طيب، فيكون المعنى "الحية الطيبة". والحية رمز لود. فيكون المراد من "نحس طب" الإله ود3. ومن بين أسماء الآلهة التي ورد اسمها في النصوص المعينية، اسم الإله "نكرح"، ويرى بعض الباحثين أنه إله البغض والحرب. وأن "نكرح" في معنى "كره" في عربيتنا. وأنه "نكرو" أو "مكرو" Makru- Nakru عن البابليين. وهو "العدو" فهو على طرفي نقيض مع الإله "ود"4. ويرون أنه يرمز إلى الشمس، وأنه في منزلة "ذت حمم" "ذات الحميم" عند السبئيين5. وقد وجد من دراسة الكتابات المعينية أن آلهة المعينيين ترد مرتبة على هذه الصورة في بعض الأحيان: "عثتر" يليه "ود" ثم "نكرح"، وتذكر بعدها جملة "أل ل أت معن"، بمعنى "آلهة معين"6. وهناك آلهة أخرى وردت أسماؤها في كتابات المعينيين، لا نعرف من أمرها شيئًا يذكر. منها: "بلو" إله البلاء والنوازل والموت، و"حلفن" "حلفان"، وهو خاص بالقسم، و"ورفو"، وهو حارس الحدود، و"منضح" "منضحت" "منفحة"، إله الماء والري والحدود، و"متبقبط" إله الحصاد7. غير أن من الجائز في رأيي ألا تكون هذا الأسماء أسماء آلهة، وإنما.

_ 1 Ency. Religi, I, p. 662. 2 Handbuch, I, s. 215. 3 Grohmann, Gottersymbole, S. 71. 4 Ency, Religi, 10, P. 882, Handbuch, I, S. 20, 40, 5 Ilmukah. S. 55, Glaser 1089, 1660, Halevy 208, N Rhodokanakts. 6 Stud. Lexi, II, S. 26, Glaser 1144, Halevy 353. 7 Arabien, S. 246.

هي مجرد مصطلحات يراد بها أمور أخرى. وتعبد السبئيون للإله "المقه"، إلههم الكبير. ويعد في منزلة "ود" عند المعينيين، ويرمز إلى "القمر". وهو المقدم عندهم على سائر الآلهة. إليه تقرب "المكربون" والملوك بالأدعية والهدايا، وإليه توسل الشعب في كل ملمة تنزل به وتجد اسمه مدونًا في كثير من النصوص السبئية. بل تعبد له أهل الحبشة كذلك، فنجد له معبدًا عند، نجا" "يها". انتقلت عبادته إليهم من السبئيين الذين كان لهم نفوذ سياسي وثقافي على الساحل الإفريقي المقابل لليمن، ويظهر أثر ذلك في الخط الحبشي حتى اليوم. وليس للعلماء رأي واضح صحيح في معنى "المقه"، ويرى "إيوالد" Ewald أن الكلمة من أصل "لمق"، وهي بمعنى "لمع"، فيكون للاسم -على ذلك- معنى اللمعان1، ويمكن أن تكون كلمة "المقه" إذن، بمعنى "الثاقب" و"اللامع" وقد كان الجاهليون يقسمون بالنجوم الثاقبة، أي النجوم التي يتوقد ضياؤها ويتوهج ورد في القرآن الكريم: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ} وقال المفسرون: "النجم الثاقب، يعني يتوقد ضياؤه ويتوهج". وذكروا أن العرب كانت "تسمي الثريا: النجم. ويقال إن الثاقب: النجم الذي يقال له زحل. والثاقب أيضًا الذي قد ارتفع على النجوم"2. وقد ذهب "هومل" إلى أن "المقه"، إنما تعني "سيده"3. وذهب بعض الباحثين إلى أن اللفظة من "أل" "إيل"، اسم الإله "إيل" الشهير، المعروف عند جميع الساميين. ومن "مقهو" بمعنى قوي. فيكون الاسم "إيل قوي"، "أل مقهو"4 وتدل روايات الأخباريين عن "المقه" على عدم وقوفهم على حقيقة هذه التسمية، فقد حاروا فيها. واضطربوا في أمرها, ولم يظهر أحد من بينهم من عرف حقيقتها. فصيرها بعضهم اسمًا من أسماء الملكة "بلقيس" وصيرها بعض آخر مصنعة من مصانع الجن التي بنتها على عهد "سليمان"، وجعلها

_ 1 سورة الطارق، رقم 86. 2 تفسير الطبري "30/ 90 وما بعدها". 3 Handbuch, I, s. 40. 4.Arabien, s. 244

"الهمداني" الزهرة؛ "لأن اسم الزهرة في لغة حمير: يلمقه والمق" ذكروا أن بناء "يلمقه" ظل قائمًا باقيًا إلى أيام غزو الحبشة لليمن، فهدموه1. وإذا صحت رواية الهدم هذه، فلا يستبعد حينئذ أن يكون ذلك بسبب كونه معبدًا وثنيًّا خصص بعبادة الأوثان، والأحباش نصارى سعوا لطمس الوثنية ونشر النصرانية في البلاد. ولعله أراد به معبد "المقه" بمأرب، فهدمه الحبش للاستفادة من أحجاره لبناء كنيستهم التي بنوها بهذه المدينة. وقد كان ذلك المعبد قد خصص بعبادة "المقه" إله سبأ الكبير، فعرف بـ"المقه"، و"يلمقه" عند سواد الناس. وقد حفظت لنا نصوص المسند أسماء جملة معابد خصصت بعبادة المقه، وللتمييز بينها ذكرت أسماء المواضع التي شيدت عليها تلك المعابد. ومن أشهرها معبد "المقه" الكبير بمدينة "مأرب"، المعروف بمعبد "المقه بعل أوم" "المقه بعل أوام" وهو معبد لا تزال آثاره باقية، زارته ونقبت فيه بعثة "وندل فيلبس" الأمريكية إلى اليمن2. وتعرف بقايا هذا المعبد عند أهل اليمن باسم "حرم بلقيس" و"محرم بلقيس" فأحل الدهر اسم امرأة محل اسم إلة قديم كبير. ووردت في بعض النصوص هذه الجملة: "المقه ثور بعل ... "، ومعناها: "المقه ثور رب"3. أي "المقه الثور هو رب....." كما وردت جمل مثل: "المقه ثهون"، بمعنى: "المقه المتكلم". ومثل "المقه ثهون بعل أوم"، أي "المقه المتكلم رب أوم"، "أوام". ويظن أن المراد بذلك الكاهن المتكلم باسم الرب "المقه". فقد كان لبعض المعابد كهنة، يزعمون أن الآلهة تتكلم فيها، ويقومون أنفسهم بدور الوساطة والترجمة. فإذا أراد شخص سؤال إلهه عن مشكلة يريد حلًّا لها، أو عن قضية عويصة، أو عن سرقة وما شاكل ذلك، يذهب إلى المعابد المختصة التي يزعم أن الآلهة تجيب فيها، فيتقدم على الكاهن بنذر وبهدايا مناسبة، ثم يلقي سؤاله، فيظهر عندئذ صوت مسموع، يزعم أنه

_ 1 البكري "1398". 2 D. H. Muller, Burgen, II, S. 972, Nlelsen, Der Sabaische Gott Ilmukah, S. I. Wendall Philips, Qataban and Sheba, 1955. 3 D. Nielsl Die Altarabische Mondreligion, s. 107.

صوت الإله الذي لا يرى، يجيب على السؤال أو على الأسئلة، بما يناسب السؤال، وقد كُفي عن "المقه" بـ"ثور" في بعض الكتابات. ومما يؤيد أن المراد "بثور" هذا الإله، هو صورة رأس الثور في كثير من الكتابات، وهي ترمز إليه، كذلك رمز إليه بنسر وبصور الحيات. وهذه الصور من الرموز الدالة على الإله القمر عند قدماء الساميين1. وقد صور العبرانيون "يهوه" على هيئة عجل2. ويلاحظ أن أكثر الأوثان والصور "صلمن" التي كان الناس يقدمونها إلى معابد "المقه" وفاء لنذور نذورها لها، اشتملت على صور ثيران، ويلاحظ كذلك أن الثيران، كانت من أكثر الحيوانات التي كان المتعبدون يقدمونها ذبائح لهذا الإله. وقد استنتج "دتلف نلسن" من هاتين الملاحظتين ومن تسمِّي أشخاص وأسر وعشائر وقبائل باسم "ثور"، أن الثور رمز يراد به هذا الإله "المقه"، أي القمر3. وورد في النصوص السبئية اسم إله هو "هوبس" "هبس"، ورد منفردًا، وورد مع الإله "المقه"4. وقد قصد به الإله القمر. ومعنى "هوبس" على رأي "فرسنل" Fresnel اليابس والجاف، وهو وصف للقمر5. ويعلل ذلك بفعل القمر البارز في إحداث الجزر حيث تنسحب المياه من الساحل مسافة إلى البحر. وقد أشار الهمداني إلى أن اسم القمر "هيبس"، والظاهر أن هذه التسمية للقمر ظلت معروفة في اليمن بعد الإسلام6. ووردت جملة "المقه ذ قِلم" في بعض النصوص ووردت "هوبس"، و"المقه ذ هوبس"7. بمعنى اليابس. وذكر بعض العلماء أن معنى ذلك "المقه" الذي يؤثر في المد والجزر، وذلك لما لاحظه المتعبدون له من وجود أثر له في إحداث المد والجزر.

_ 1 Ilmukah, s. 51. 2 الملوك الأول، الإصحاح الثاني عشر، الآية 28، الخروج، الإصحاح 32، الآية4. 3 Ilmukahi, s. 52. 4 Hommel, Grundriss, I, S. 85. Altertumer, 1899, S. 28. 5 Handbuch, I, S. 40. 6 Burgen dun Schlosser, II, S. 20-22 Hommel, Sudarabische Altertumer, S. 30. 7 Rep. Epigr. 4921, 4963. 8 Arabien, s. 244.

وقد أشير إليه بـ"هلل" بمعنى هلال، وبـ"ربع"، أي الربع الأول من الشهر، وبـ"حول"، بمعنى تمام الشهر، أي القمر كاملًا. ومن صفاته "سمع"، أي سميع1. و"عم" هو إله شعب قتبان الرئيس. وقد ورد اسمه مقرونًا مع الإله "أنبي" في نصوص قتبانية عديدة. وهو يقابل الإله ود عند المعينيين، والإله "المقه" عند السبئيين، والإله "سن" "سين" عند أهل حضرموت. فهو الإله القمر إذن عند القتبانيين. وكلمة "عم" من الكلمات السامية القديمة الواسعة الانتشار عند الساميين. وقد ذكرت في نص يقدر أنه كتب حوالي سنة "4500" قبل الميلاد، وهي من كلمات عهد الأمومة، ثم صارت من المصطلحات الدينية مثل "أل" "إيل" EL، و"بعل" Baal، و"أدون" Adon، و"ملك" Malke وما شابهها من أسماء الألوهية: كانت نعتًا في الأصل من جملة النعوت التي كان يطلقها الساميون على آلهتهم، ثم جعلت علمًا لإله2. وترد لفظة "أنبي" في الكتابات القتبانية علمًا على إله ذكر هو القمر. وقد وردت بعد اسمه كلمة "شيمن"، ومعناها "الحامي" والحافظ، فورد "أنبي شيمن"، أي "أنبي المحامي" و"أنبي الحافظ"، والمدافع عن المؤمنين به. فهو إذن في معنى "عم"3. ولا بد أن يكون لهذا النعت صفات بصفات هذا الإله، أي أنه اسم من أسماء الله الحسنى. ومن آلهة قتبان التي ذكرت مع "عم" الإله "حوكم" و"آثرت" و"نسور" و"أل فخر". ويرى "هومل" أن الإله "آثرت" هو إلهة أنثى. هي في نظره زوج الإله "عم"4. ويظن أن "آثرت" هي الشمس، ويظن أيضًا أن هذه الكلمة قريبة في المعنى من كلمة "عشيرة" "عشيرات" العبرانية، و"عشرتو" الآشوية البابلية، وأنها تعني في القتبانية الشروق أو الشارقة والشرقة الشديدة.

_ 1 REP. EPIGR. 3945, 4067, 4225, 4991, 4992, 4993, CIH 282, ARabie s. 244. 2 Ency. Religi, I, p. 387, Glaser, Mitteilungen, II, S. 21. 3 Glaser 1902, SE 84, Iimukad, S. 56, D. Nielsen. Neue Katabanissche Inschriftten, S. 14. 4 Sudar. S. 22, Glaser 160. "شفتم لعم وآثرت".

من "عثر" بمعنى" شرق وإشراق. أضيف إلى نهاية الكلمة حرف التأنيث؛ لأن الشمس مؤنثة، كما فعل في عثتر إذ عد مؤنثًا عند الساميين الشماليين، فصار "عثترت" "عشترت" "عشتروت" أي أنثى. وكما فعل في "كوكب" و"ملك"، و"ذي الخلصي"، و"ذي الشرى"، حيث أضيفت إليها التاء. فصارت "كوكبت" "كوكبة"، و"ملكت" "ملكة"، و"الخلصت" و"شربت"1. ويحتمل على رأي "هومل"، أن يكون "حوكم" "حوك" إله السماء، ويظهر أنه من الآلهة الخاصة بشعب قتبان2. أما "دتلف نلسن"، فيرى احتمال كون الكلمة من "حكم"3. وقد عبر عن الإلهة "الشمس" بـ"ذت حمم"، أي "ذات حميم"، "ذات حمم"، "ذات الحميم" أي ذات الحرارة الشديدة والأشعة المتوهجة التي تشبه الحميم من شدة الحر. وهذا المعنى قريب من "أل حمون" El – Hamon و"بعل حمون" Ba'al Hammon في العبرانية، ويراد بها الشمس. و"حمت" "حمه" Hamma في العبرانية هي الشمس. وورد في بعض النصوص التدمرية اسم الإله "حمن" Hamman، وورد هذا الاسم في بعض النصوص النبطية التي عثر عليها في حوران. وهذا الإله هو الشمس. وقد كني عنها بالأشعة الحارة المحرقة التي ترسلها خاصة في أيام الصيف4. وهناك من فسر "ذت حمم" بـ"ذات حمى" "ذات الحمى"، والحمى الموضع الذي يحمي، ويخصص بالإله أو المعبد أو الملك أو سيد قبيلة، والمكان الذي يحيط بالمعبد. فيكون حرمًا آمنًا لا يجوز لأحد انتهاك حرمته5. وفي جزيرة العرب جملة مواضع يقال لها "حمى" ذكر أسماءها الأخباريون.

_ 1 Handbuch, I, S. 237, Glaser 1335, 1604, SE 84, Rhodokanakis, Katabanlsche Inschriftten, II, 8. 121. 2 Hommel, Grundrtss, I, S. 140. 3 D. Nielsen. Neue Katabanische Inschriftten, S. 15. 4 Handbuch, I, 8. 225, Hommel, Aufsatze und Abhandlungen, II, S. 177, Ilmukah, S. 53, Oslander, In ZDMG., Bd., 20, S. 282. 5 Handbuch, I, S. 225, Oslander, in ZDMG., Bd., 20, 1866, S. 282, Hommel, Aufsatze, II, S. 177, Mordtmann, Himjarlsche Inschriftten, S. 27, ZDMG., Bd.., 31, S. 88, Saba, Denkmaler, S. 258, Fell, in ZDMG., Bd., 54, S. 250.

وعبر عن الشمس بـ"ذت بعدن" "ذات بعدان" كذلك، أي ذات البعد. وهي كنية قصد بها الشمس حينما تكون بعيدة عن الأرض أي في أيام الشتاء. وقد استدل على ذلك بجملة وردت في نصوص المسند، هي: "بعلمن بعدن وقرين"، أي "بالعالم البعيد والقريب"، بمعنى في الماضي والحاضر1. وقصد بذلك الشمس في هذا الوقت من السنة حيث تكون أشعتها غير محرقة ولا شديدة مؤذية للناس2. وأنا لا أستبعد أن يكون المراد من ذات البعد، الآلهة التي تشمل برحمتها وبركتها الأبعاد، أي المسافات الواسعة والأماكن البعيدة فضلًا عن القريبة أو الآلهة البعيدة عن الناس التي لا يمكن أن يصل إليها أحد. وكني عن الشمس في النصوص القتبانية بكنى أخرى، منها: "ذت صنتم"، "ذات صنتم"، "ذات صنت"، و"ذت رحبن"، "ذات رحبان" "ذات الرحاب"، و"ذت صهرن" "ذات الصهر"3. و"ذت غدرن" أي "ذات الغدر" و"ذات الغدران"، و"ذت برن"، "ذات بران"، "ذات البر"، و"ذت ضهرن"، "ذات ضهران"، و"ذ محرضو ومشرقتن"، أي ذات اللون الذهبي المشرق، و"مشرقتن"، بمعنى الغروب والشروق، و"تدن" "تدان" "تدون"، و"تنف" وذلك في الكتابات السبئية، و"ذت حسولم" "ذات حسول" أي شمس الشتاء، وذلك في النصوص المعينية4. وقد عرف إله حضرموت الرئيس بـ"سن" "سين"، وهو القمر. وهو إله شعب حضرموت الخاص. وقد نعت بنعوت، مثل "ذ علم"، أي "ذو العلم"، بمعنى العالم، وبنعوت أخرى. وورد اسمه في كتابات عثر عليها في "يحا" بالحبشة5. و"عثر" من الآلهة التي ورد اسمها في نصوص كثيرة من نصوص المسند.

_ 1 Glaser 618, CIS, 541. 2 Handbuch, I, S. 226. 3 W. Fell, SUdarabische Studien, in ZDMG.. Bd.. 54, S. 238, 1900, Neue Katabanische Inschriftten, S. 15. 4 Arablen, S. 245. 5 Rep. Eplgr., 3616, Grohmann, S. 245.

ورد في نصوص معينية وسبئية وحضرمية وقتبانية. ويقابله Atargatis المدون اسمه في كتب "الكلاسيكيين"، و"عتر" Atar عند السريان، و"عشتر" "عشتار". وقد ذكر في نصوص الآشوريين والبابليين والكنعانيين والعبرانيين والحبش وغيرهم، مما يدل على أنه كان من الآلهة التي كانت عبادتها شائعة في منطقة واسعة، وأنه كان من الآلهة الكبرى قبل الميلاد1. وقد ورد "أم عثتر"، و"أبم عثتر" في بعض النصوص. وقصد بالجملة الأولى: "أم عثتر"، وبالجملة الثانية "أب عثتر" "عثتر أب". وقد استنتج "دتلف نلسن" من ذلك أن "عثتر" هنا هو بمثابة الإله الرئيس، فهو أب وأم للآلهة يليه القمر في الترتيب ثم الشمس2. وذهب في بحث آخر له عن ديانة العرب إلى أن المراد بـ "أم عثتر" الشمس، باعتدادها أنثى إلهة أمًّا. أما ولدها فهو "عثتر"3. وليس بمستبعد أن يكون المراد من "أم عثتر" أن "عثتر" بمنزلة الأم للمتعبدين لها، تريد لهم الخير والبركة وتعطف عليهم وتحبهم عطف الأم على ولدها. وأن المراد من "عثتر أبم" "عثتر أب"، أن "عثتر" هو بمنزلة الأب للمتعبدين له، يشفق عليهم ويحبهم، ويمنحهم الخير والصحة والبركة. وذهب بعض الباحثين إلى أن المراد من عبارة "أم عثتر"، الإلهة الشمس؛ لأنها أم "عثتر"، وأن المقصود من "أبم عثتر" "أب عثتر" لإله القمر، الذي هو زوج الشمس، ومن زواجهما ولد الابن "عثتر". وقد جاء في نص سبئي وجد في مدينة "صرواح" أن صاحبة النص قدمت إلى الإلهة "أم عثتر" "أم عثتر" أربعة تماثيل من ذهب؛ لأنها وهبت لها أربعة أطفال، هم ولد واحد وثلاث بنات، كلهم أحياء يرزقون. ولأنها سرت قلبها بهذه الذرية. وهي لذلك قدمت هذه التماثيل، ولترجو منها أن تستمر في الإنعام عليها، وعلى ابنها وبناتها بالصحة والعافية4. وقد قصد بـ"أم عثتر" هنا

_ 1 Wlnckler, Altorlent. Forschungen, I, S. 528, Hilprecht, Baby., Exped., IX, 51, 76. Ency. Religi., Vol., II, p. 165. 2 D. Nielsen, Mondreligion. 8. 42. 3 Handbuch, I, S. 228. 4 Handbuch, I, 8. 228, Derenbourg, Etudes Sur L'Epigraphic du Jemen, Paris, 1884, NO: II.

الإلهة الشمس. ويتبين من هذا النص أن السبئيين كانوا ينظرون على "أم عثتر"، نظرة البابليين إلى عشتار على أنها إلهة الخصب1. وقد عثر في النصوص النبطية، على اسم إلهة هي "ربة العثر" "ربت عثر"، أي الشمس2. وورد اسم "عثتر" في عدد كبير من نصوص المسند على هذا النحو: "عثتر شرقن"، و"عثتر ذ قبضم"، و"عثتر ذ يهرق"، و"عثتر ذ يهر" وهكذا. وتعني جملة "عثتر شرقن"، عثتر الشارق. وقد ذكر أهل الأخبار أن "الشارق" صنم كان في الجاهلية وبه سموا عبد الشارق. مثل "عبد الشارق بن عبد العزى" الجهني شاعر من شعراء الحماسة2. فلفظة "شرقن". إذن، نعت لـ"عثتر"، معناه "الشارق". ويرى بعض الباحثين أن "عثتر شرقن"، هو الإله الحارس للمعابد والمقابر إليه يُصلى ويُدعى أن تصل الهبات إلى المعابد4. وإليه توسل المتوسلون لحفظ قبورهم من عبث العابثين بها المعيرين لأحجارها الطامعين في كنوزها، ولهذا نعت بـ"عثتر يغل"، أي "عثتر المنتقم"5. وأما جملة "عثتر ذ قبضم"، فقصد بـ"قبضم" معنى "القابض" أو "الجالس"، أو اسم موضع يقال له "قبض" فيكون المعنى. "عثتر رب موضع قبض"6. وأما "يهرق" و"يهرق" "يهريق" فهو اسم مدينة من مدن معين. كان بها معبد لعبادة "عثتر"7. وورد أيضًا "عثتر غربن"، أي "عثتر الغارب"، كناية عن غروبه، أو عن طلوعه عند الغروب، فهو إذن نجم الشروق ونجم الغروب، أو النجم الشارق والنجم الغارب. كما ورد "عثتر نورو" "عثتر نورن"، أي "عثتر

_ 1 D. Nielslen, AJtarabische Mondreiigion, S. 41. 2 Littmann, NO: 24, LidzbarsUl. Ephem.. Bd., 3. S. 292. Handbuch, I. S. 227. 3 تاج العروس "6/ 392"، "شرق". 4 Ency. Religi., 10, p. 883. 5 Arabien, S. 245. 6 Rhodokanakis, Stud. Lexi., II. S. 27. Ency. ReligL, 10. p. 882, Glaser 1089,1660, Halevy 208. 7 Handbuch, I, S. 228, Hommel, Grundriss, I, S. 85, W. Fell, in ZDMG. Bd., 54, S. 231-259.

نور" و"عثتر المنير"، تعبيرًا عن لمعانه وعن النور الظاهر عليه، وجاء "عثتر سحرن"، أي "عثتر السحر"، بمعنى عثتر الذي يظهر عند السحر، وعبر عنه بـ"متب نطين"، أي الحامل للرطوبة، تعبيرًا عن الرطوبة التي تكون عند ظهوره، فنسبوها إليه1. وقد تكرر ذكر اسم "عثتر" في بعض النصوص، على سبيل التوكيد والتشديد في القسم وفي الدعاء، كما نفعل نحن أحيانًا من إعادة اسم الله في الإيمان المغلظة وفي التوسلات عند ساعات المحنة والشدة. ورد: "بعثتر شرقن، وبعثتر ذ قبضن، وود ونكرحم، وبعثتر ذ يهرق، وبكل أل ل أت معن"2. أي: "بعثتر الشارق وبعثتر ذو قبضن وبود، ونكرح، وبعثتر ذو يهرق، وبكل آلهة معين"، أو "وبحق عثتر الشارق، وبحق عثتر القابض أو رب موضع قبض، وبحق ود، ونكرح وعثتر رب يهرق، وبحق كل آلهة معين". ولدينا جملة أسماء مركبة ورد فيها اسم "عثتر"، مثل "أوس عثتر" "أو سعثت" و"هوف عثت" "هو فعثت"، و"لحي عثت" "لحيعثت" و"عثت" هنا هو اختصار "عثتر"3. ومن آلهة العرب الجنوبيين الإله "قينن" "قينان" وهو إله قبيلة "سخيم". النازلة بـ"شبام"، "شبام سخيم"4. ومن بين أسماء آلهة العرب الجنوبيين اسم الإله: "أل" "إيل" ذكر اسمه مستقلًّا كما ورد مقرونًا باسم الإله "عثتر" كما في الكتابتين الموسومتين بـHalevy 144، وبـ Halevy 150 وقد قدم ذكره فيها على اسم الإله "عثتر"5. وقد ورد بكثرة في الأعلام المركبة. ومن بين أسماء الآلهة التي ورد اسمها في النصوص العربية الجنوبية، اسم الإله "تلب ريم" "تالب ريام" وهو إله خاص بقبيلة "همدان". كما أن "المقه" هو إله "سبأ" و"سين" "سن" إله حضرموت، و"عم" إله قتبان.

_ 1 Arabien, S. 245. 2 الفقرة الخامسة من النص: Glaser 1150, Halevy 192. 3 Handbuch, I, s. 228. 4 Arabien, S, 245. 5 Handbuch. I, s. 218, Halevy, in Journal Asiatique, 1872, Tmoe 19, p. 152.

و"ود" إله معين. وقد ظهر بظهور نجم "بني بتع" واشتهر بهم. وكان ظهوره حوالي الميلاد بصورة خاصة. ففي ذلك العهد اشتد أمر أقيال همدان، فاستأثروا بالحكم، ودعوا أنفسهم ملوكًا، ورفعوا إله قبيلتهم فوق الآلهة الأخرى، فنحروا له الذبائح، وقدموا له النذور، وتنافسوا في بناء معبده. ودام عزيزًا مكرمًا ما دام نقوذ ملوك همدان1. وقد كانت لهذا الإله مثل سائر الآلهة الأخرى جملة معابد، غير أن معبده الأكبر هو المعبد المعروف بمعبد "تلب ريم بعل ترعت" أي: "تألب ريام رب ترعت"2. ويظهر أن كلمة "ترعت" هي اسم موضع، أقيم المعبد عليه. وهو معبد كانت تقدم إليه أقيال "سمعى" وقبائل همدان الأخرى النذور والقرابين والهدايا، وتحبس له الأرضين. ومن الآلهة التي ورد اسمها في الكتابات العربية الجنوبية، الإله "حول" "حويل"، والإله "جلسد" "الجلسد". وتدل لفظة "حول" على الحول والقوة. فلعل معنى اسم هذا الإله هو "الحويل"، أي صاحب الحول والقوة. بمعنى القوي. وهو من آلهة حضرموت3. وورد اسم الإله "حلفن" في جملة أسماء الآلهة المذكورة في الكتابات العربية الجنوبية. وقد ورد في جملة نصوص تتعلق بحبس أموال وبعقد عقود. ويلاحظ أن أصحابها استعانوا بهذا الإله لإنزال النقمة والعذاب وأشد الجزاء بكل من يحاول أن يغير أو يبدل تلك العقود والنصوص، أو يتجرأ فيستولي على الأموال والحبوس المقررة، كما رجوا منه أن يشملهم هم وجماعتهم برحمته وبلطفه وكرمه لإخلاصهم له ولفنائهم في حبه4. ومن بين الآلهة إله عرف بـ"ذ سموي"، أي "رب السماء"، وهو إله ظهر اسمه قبل الميلاد بقليل5. وقد بقي اسمه متألقًا في سماء اليمن، يقدم إليه الناس النذور والقرابين إلى ما بعد الميلاد. ويرى بعض الباحثين، أن عبادته تدل

_ 1 Ilmukah, S. 68. 2 Hommel, grundriss, I, s. 143. 3 Handbuch, I. S. 188 4 Halevy, 147, 148. Rhodokanais rlddoka S. 22. 5 Handbuch, I, 88.

على ظهور عقيدة التوحيد عند العرب الجنوبيين؛ إذ تدعو إلى عبادة إله واحد، هو "رب السماء"1. ولدينا كتابة مخرومة أسطرًا، لكنها لا تزال مع ذلك مفهومة، تفيد أن جماعة من الأشرار المارقين تطاولوا على حرم "أوثن ذ سموي" أي "الوثن رب السماء"، فسرقوه، ونهبوا ما كان فيه، واستولوا على ما كان حبس له. ولكن عبدته عادوا، فجمعوا ما سرق، وأصلحوا ما أفسد، وتقربوا إلى الإله "رب السماء" بطلب التوبة والغفران، وختموا نصهم بهذه الجملة: "وذ سموي ليزامتعن شعبهو"، أي "وليمتع رب السماء شعبه"2. ويقصد النص بشعبه أتباع هذا الإله وعبدته. وإلى هذا الإله، الإله: "ذ سمي" "ذ سموي"، إله السماء تعبدت قبيلة "أمر" "أمر". ويعد "بعل سمن" "بعل سمين" "بعل السماوات" إلهًا للبركة والخصب؛ إذ يرسل المطر فينشر الخير للناس3. ونقرأ في النصوص العربية الجنوبية اسم إله جديد، هو الإله "رحمنن"، أي "الرحمن". وهو إله يرجع بعض المستشرقين أصله إلى دخول اليهودية إلى اليمن وانتشارها هناك. وهذا الإله هو الإله "رحمنه" Rahman-a "رحمنا" في نصوص تدمر4. وورد في نص: "رحمنن بعل سمين" "رحمنن بعل سمن"، أي "الرحمن رب السماء"، أي أنه إله السماء. فصار في منزلة الإله "ذ سموي". ثم لقب بـ"رحمنن بعل سمين وأرضن"، أي "الرحمن رب السماء والأرض" في نصوص أخرى5. فصار إله السماوات والأرضين. وقد نشر نص بالمسند، وردت فيه جملة: "الرحمن الذي في السماء وإسرائيل رب يهود"6. وهو نص، إن صح نقله عن الأصل بدقة وعناية، وإن صح

_ 1Handbuch, I, 8 104, Rivsta, 1955. Fasc, I, II. p. 109, Le Museon, 1954, Tome, LXVn, p. 118. 2REP. EPIGR. 850, Rhodokanakls, Stud., S. 162, Mordtmann, Beitrage, S. 188. 3 REP. EPIGR., 4142. Aratrien, S. 245. 4 Handbuch, I, S. 104, 248. 5 Le Museon, 1954, Tome, LXVII, p, 103. 6 Margoliouth, Relations, p. 68.

أنه نص صحيح غير مزيف، يشير إلى تأثر صاحبه باليهودية وبعبارة الرحمن. وقد استشهد به من قرأه على تهود صاحبه. ويرد اسم الإله "بعل سمن" "بعل السماء" "بعل السماوات" في الكتابات الصفوية، وفي كتابات تدمر، حيث ورد "بعل شمن" "بعل شمين"، وفي كتابات بعلبك، وفي كتابات اللحيانيين. وقد ظهرت عبادته قبل الميلاد1. ويظهر لذلك أنه من الآلهة المعروفة عند الساميين وعند العرب الشماليين قبل الميلاد، ومن الجائز أن يكون قد انتقل إلى العرب الجنوبيين من العرب الشماليين. ووردت في الكتابة الموسومة بـ Se 48 أسماء آلهة هي: "م ح ر ض و" "محرضو"، و"م ش ر ق ي ت ن" "مشرقيتن" و"نسور" و"أل فخر"2. وقد ذهب "رودو كناكس" إلى أن المراد من محرضو ومشرقيتن الشمس. وذهب آخرون إلى أن المراد بهما القمر والزهرة. وذهب فريق آخر إلى أن المراد بذلك غروب الشمس وشروقها3. أما "نسور"، فاسم إله لعل له صلة بـ"نسر". وقد وردت في نص سبئي هذه الجملة: "بت نسور وبت أل" "بيت نسور وبيت أل" ويقصد بـ"بت" "بيت" معبد لعبادة هذين الإلهين: "نسور" و"أل" و"أل" هو "إيل" "إيلو" إله الساميين القديم4. وورد في أحد النصوص السبئية هذا التعبير: "أهل نسور" مؤديًا معنى "قوم نسور" و"ملة نسور"، وبراد بهم جماعة هذا الإله التي كانت تتعبد له. وعرف أحد أشهر السنة في النصوص السبئية المتأخرة بـ"ذ نسور"، ولعله أريد بذلك نسبة الشهر المذكور على هذا الإله5. و"نسور" هو "نسر" على رأي بعض الباحثين. ويرمز إلى القمر"6. وقد حصل المنقبون على أحجار حفرت عليها صورة النسر، فعلوا ذلك على سبيل التيمن والتبرك بهذا الإله.

_ 1 Arabien, S. 86, Ryckmans 20. 2 الجملة الخامسة والسادسة من النص Rhodokanakis, Katabanische, II, S. 28. 3 Katabanische, II. S. 38, Homel. Grundriss, S. 689, 719, Sab. Denkm, S. 80, Sudarabisch, S. 22. 4 Glaser 418, 419. 5 Glase 418, 419, 1549, Katabanische, II, S. 36. 6 D. Nielsen, Neue Katabanische Inschriftten, S. 14.

وورد اسم إله دعي بـ"نسر"، يظن أنه إله "ذ قلع"، "ذو قلاع"، اسم موضع أو قبيلة. ويرى الباحثون أنه الإله "نسور" الذي نتحدث عنه1. و"نسر" هو اسم صنم من الأصنام التي عرفها أهل الأخبار. فقد زعموا أنه أحد أصنام نوح الخمسة، وأن "عمرو بن لحي" جاء به إلى حمير، فأشاع عبادته بينهم2. وأما اسم الإله "أل فخر"، فيظهر أنه مؤلف من كلمتين، هما: "أل" اسم الإله "إيل" المعروف عند الساميين، و"فخر"، وهي نعت من نعوت الآلهة. كما في كلمة "أل تعلي" في النصوص القتبانية، وهي بمعنى "الله تعالى" في لهجتنا. و"فخر" العربية، هي مثل "بخرو" في الآشورية، ومنها العلم المركب: "نبخر بلو"3. وورد اسم الإله: "يعوق" أي الصنم يعوق المعروف، في نص متأخر، يعود عهد إلى ما بعد الميلاد، وورد معه اسم: "رحمنن بعل سمن"، أي "الرحمن رب السماء". وقد أرخ النص بشهر "ذ دون" "ذ داون" "ذي دوأن" لسنة "574" من التأريخ الحميري. المقابلة لسنة "459" للميلاد4. وهناك أسماء آلهة لا نعرف من أمرها في الوقت الحاضر شيئًا كثيرًا، من بينها الإله "بلو" وقد عبر عنه بأنه إله البلاء والموت والمنون. وإله يقال له "حلفن" "حلفان"، ويقال إنه إله القسم والحلف واليمين، والإله "ورفو"، وهو إله الحدود، أي الإله المختص بالمحافظة على الحدود، و"منضح" "منضحت"، وهو إله الماء والري، و"متبقبط"، وهو إله الحصاد عند المعينيين ثم الإله "يهرهم"، وهو إله المطر5. ولا بد من الإشارة إلى اسم إله ورد في كتابات عثر عليها في "شبام سخيم".

_ 1 راجع النص Rep. Epigr, 4725, Arabien. S. 246. 2 Reste, s. 23. Ryckmans 16. winckler. Arabisch-Semitisch Orientalisch. 3 Katabanische, II, S. 38. 4 Ryckmans, in Le Museon, 1954, Tmoe, LXVII, pp. 100. A. Fakhry, An Archaelohy, Journey To Yemen. III, p. 195, PL: XXLX, XXX. 5 Arabien. S. 246.

وهو الإله "قينن" "قينان"، وهو إله "بني سخيم"1. لقد تجمع لدى علماء العربية الجنوبية من أسماء آلهة العرب الجنوبيين ما ينيف على مائة اسم إله، غير أن أكثر هذه الأسماء ليست في الواقع أعلامًا. وإنما هي صفات ونعوت للآلهة ذكرت بدلًا من ذكر اسم الإله الخاص. أو كناية تشير إلى أسماء المواضع التي كانت فيها معابد تلك الآلهة، فقد كان لبعض المدن معابد خصصت بعبادة إله، ربما كان إله المدينة أوجملة آلهة لها بالطبع صلة بالمدينة وبالشعب الذي تنتمي المدينه إليه. غير أن هذه الآلهة جميعها يمكن رجعها إلى ثلاثة، هي القمر والشمس والزهرة، أي إلى ثالوث يرمز إلى هذه الكواكب الثلاثة2. وهناك أسماء مثل "يثعم" في السبئية، و"ككون" في المعينية، و"أرن يدع"3. و"سميهت"، و"ذ أينت"، و"نقين" و"نوشو" و"هروم"، يظن أن لها صلة بالآلهة. وكما حفظت نصوص المسند أسماء بعض آلهة العرب الجنوبيين حفظت النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية كذلك أسماء بعض آلهة تلك الشعوب. وهي كما يظهر من دراستها وتحليلها خليط من آلهة ترد أسماؤها في روايات الأخباريين، ومن آلهة ترد أسماؤها في النصوص العربية الجنوبية. كما أن بينها أسماء آلهة لم ترد لا في أخبار الأخباريين ولا في نصوص المسند. ولاتصال مواطن هذه الشعوب بمواطن الساميين الغربيين بمواطن الساميين الشرقيين ومتاخمتها لعرب العراق ونجد والقبائل العربية في الحجاز ولصلاتها التأريخية القديمة بالعرب الجنوبيين، كان لدراسة الناحية الدينية عند هذه الأقوام أهمية كبيرة في معرفة التطورات الدينية قبل الإسلام، وهذا الخليط الذي أشرت إليه هو في حد ذاته دراسة قيمة تشير إلى التقاء التيارات الدينية واتصالها بهذه البقاع. وحفظت النصوص الثمودية أسماء جملة آلهة، تعبدوا لها وتقربوا إليها بالقرابين والنذور. منها الإله: "ود" و"جد هدد" و"شمس" و"عزيز".

_ 1 Arabien, s. 245. 2 Ency Britani, Vol, 19, p. 486. 3 Arabien, s. 246.

و"نعرجد" و"عمى شجا" و"رضو" و"منت" و"كهل" و"نهي" و"إيل" "أل" و"لت" "اللات" و"عتر سم" "عتر سمن" و"صلم" و"منف" "مناف". و"جد" هو إله عرف عند بني إرم وعند العرب الشماليين وفي المقاطعات السورية، وهو إله "السعد" في اليونانية، يسعد الأشخاص والبيوت. وقد سمي به موضع "بعل جد" وموضع "مجدل جد"، وأسماء مواضع أخرى فيها كلمة "جد"1. وقد وجدت جملة "الإله أزيزوس الفتي الطيب" مدونة على جدران أحد المعابد باللغة اللاتينية، ووجدت جملة أخرى فيها: "الإله الطيب الفتي فوسفورس"2، وفي وصف الإلهين بـ"الفتى" وبـ"الطيب" دلالة على أن المتعبدين لهما كانا يتصوران أنهما كانا فتيين طيبين خيرين يمثلان الطيب والمودة. ونجد في نص تدمري وصفًا للإلهين: "أرصو" و"أزيزو" أي "رصو" و"عزيز"، يشبه الوصف المتقدم؛ إذ ورد: "لأرصو ولأزيزو": الإلهان الخيران المجزيان"، و"أزيزو: الإله الطيب والرحيم". فوصف الإلهان بأنهما خيران، ويجزيان الناس خيرًا. وهي نعوت تمثل وجهة نظر القوم إلى هذين الإلهين. وقد عثر في "تدمر "على نص ورد فيه: "لأرصو ولأزيزو" الإلهان الخيران المجزيان. قد عمله بعكي "بعلي؟ " بن ير حيبولا أفكل أزيزو الإله الطيب والرحيم. لسلامته ولسلامة إخوته. في شهر أكتوبر من سنة 25. فليذكر الناس يرحى النحاس"3. فنحن أمام إلهين: "أرصو" و"أزيزو"، من آلهة تدمر. وورد اسم الإله "أزيزوس" والإله "مونيموس" في كتابات عثر عليها في "الرها" وفي حوران وتدمر. وقد ظهر الإلهان في نقش، حفر عليه موكب عربة الشمس. نقش "أزيزوس"، وهو يتقدم العربة، و"مونيموس"، وهو يتبعها4.

_ 1 Hastings, p. 276. 2 رينه ديسو: العرب في سوريا قبل الإسلام "140". 3 رينه ديسو "135 وما بعدها". 4 رينه ديسو "134 وما بعدها".

و"إرصو" "أرصو"، هو الإله "رضو" على ما يظن. وأما "أزيزوس" "أزيزو"، فهو اسم إله لعله "عزيز"، تحرف فصار على النحو المذكور في الكتابات اللاتينية: والإرمية. وأما مونيموس"، فهو "منعم" وأرى أن عزيزًا ورضيًّا ومنعمًا هي من الأسماء الحسنى، أي نعوت من نعوت الآلهة لا أسماء علم. وذلك على نحو ما نسمي اليوم بـ: "عبد الرضا"، وبـ"عبد العزيز"، وبـ"عبد المنعم". و"هدد" هو اسم إله تعبدت له شعوب عديدة من شعوب الساميين، منهم بنو إرم والعرب الجنوبيون والشماليون، كما تعبد له الآشوريون. وقد اقترن اسمه عند الآشوريين والبالبيين بـ"رمان"، ودخلت عبادته إليهم من بني إرم الغربيين ويمثل "هدد" مثل "رمان" "رمون" Rimmon = Rammon = Ramman إله الهواء والرعد والعواصف، ويظهر أنه من أصل عربي هو "هد". ومن اسم هذا الصنم الاسم "بنهدد" "بن هدد" "بنحدد" المذكور في التوراة1. ولا بد أن تكون لهذا الإله صلة بالإله "جد" ومن هذا الاقتران ظهر "جد هدد" في كتابات قوم ثمود. و"رضو" هو الصنم "رضى" عند الأخباريين، وهو صنم بقي حيًّا تتعبد له القبائل العربية حتى الإسلام، فكسر2. ويرى "دتلف نيلسن"، أنه يمثل الزهرة عند قوم ثمود والصفويين، وأنه في منزلة "عثتر" عند العرب الجنوبيين3. وقد تعبدت له "بنو ربيعة بن كعب"، كما تعبد له أهل تدمر والنبط وأهل الصفاة، وعرف بـ"هـ - رضو" "هارضو"، أي بإدخال "هـ" "ها" أداة التعريف على الاسم. وقد انتشرت عبادته بين قبائل نجد والحجاز4. ويرى "رينه ديسو" أن "رضى" إلهة عند الصفويين، وأنها كانت إلهة كذلك عند بقية العرب. أما "أرضو"، فإنه مذكر عند أهل تدمر5.

_ 1 Hastings, p. 323. 2 الأصنام "ص30". 3 Handbuch, I, S. 229. 4 E. Osiander, 499, Reste. S. 58. Ryckmans 18. Jaussen-Savignac, Mission, II, 565, 583, 598, Arabien, S. 84. 5 رينه ديسو "136".

أما "عزيز"، فإنه الإله "عزيزو" Azizo المعروف عند أهل "الرها"، الذي تحدثت عنه. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه يمثل كوكب الصباح، أي الزهرة، وقد وصف في كتابة مدونة باليونانية أنه Deus Bonus Puer Phosphorus أي الإله الجميل اللماع ذو الأشعة البراقة التي تشبه في لمعانها لمعان الفوسفور1. و"كهل" أو "كاهل"، هو "كهلن" المذكور في كتابة معينية. وقد ورد الاسم مقرونًا في نص ثمودي بأداة التعريف "هـ" "ها"، أي "هـ ك هـ ل" "ها – كهل" "هكهل". وتعني لفظة "كهل" المعنى المفهوم منها في عربيتنا، كما تعني "القدير"2. وتعني كلمة "نهي" في الثمودية ما تعنيه لفظة "حكم" في العربية الجنوبية، أي "حاكم" وحاكم و"حكيم" في بعض الآراء، ولعلها تعني "الناهي" وتكون بذلك صفة للإله. وقد ورد اسم هذا الإله في مواضع عديدة من الكتابات الثمودية3. وأما "منف"، فإنه الصنم "مناف" المذكور عند أهل الأخبار4. وقد تعبدت له قريش ولحيان، كما تحدثت عنه في موضعه. وقد ورد اسم "صلم" في عدد من الكتابات الثمودية. ويظهر أن الثموديين كانوا قد أخذوا عبادة هذا الإله من أهل "تيماء". فقد كانت تيماء من أهم الأماكن المتعلقة بعبادة هذا الصنم في حوالي السنة "600" قبل الميلاد". وقد جاءت عبادته إليهم من "بني إرم" ومنهم انتقلت عبادته إلى العرب. وتدل بعض الأسماء المركبة الواردة في الكتابات اللحيانية مثل اسم "صلم يهب" "صلميهب" على أنه كان معبودًا عند اللحيانيين كذلك5. ومن لفظة "صلم" جاءت كلمة "صنم" على رأي بعض المستشرقين. وقد ورد اسم "عترسم" "هـ - عترسم" في عدد من الكتابات الثمودية.

_ 1 Handbuch, I, S. 220. 2 Handbuch, I, S. 215. Glaser 299, Halevy 237, Hommel, Grundriss, s. 163, E. Littmann, Zur Entzifferung der Thamudischen Inschriftten, 1904, S. 75. 3 Handbuch, I, S. 215. 4 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 78" Ryckmans 16, Reste, S. 18, Arabien, S. 84. 5 Hubert Grimme, Die Losung des Sinaischriftproblems. Die Altthamudische Schrift, Munster, 1926, S. 23, Arabien, S. 86.

وقد توسل فيها أصحابها منه أن يمن عليهم بالبركة والخير والصحة والسلامة1. وقد جاء اسم هذا الصنم من "عثتر سمن" "عتر سماء"، أي "عثتر السماء". والإله "ود" هو إله معروف عند الثموديين كما سبق أن ذكرت. وقد تودد إليه عباده والمؤمنون به، فذكروه في كتاباتهم، ورمزوا إليه بصورة حية، كما رمز إليه العرب الجنوبيون بصورة رأس ثور، وقد تعبر صورة الحية عن الروح التي في بدن الإنسان2. وذهب "دتلف نلسن" إلى أن من بين آلهة ثمود إله اسمه "ملك"، وهو يرى أن الاسم المركب "عبد ملكن"، أي "عبد الملك"، لا تعني كلمة "ملك" الواردة فيه بالمعنى السياسي الذي نفهمه منها، وإنما المراد بها اسم إله. وذهب أيضًا إلى أن لفظة "ملكن" الواردة في النص القتباني الموسوم بـ Glaser 1600 لم يقصد بها ملكًا من ملوك قتبان، بل أريد بها إله اسمه ملكن، أي "الملك". وذكر أيضًا أن اسم "عبد الملك" من الأسماء المعروفة في الجاهلية. ورد في نصوص الثموديين والصفويين3. وفي الكتابات الثمودية أسماء مركبة مثل "يعذر أل" "يعذر إيل"، و"صلم أل" "صلم إيل"، و"عزر أل" "عزر إيل"، و"سعد أل" "سعد إيل"، و"ود أل" "ود إيل". اختتمت باسم الإله "أل" "إيل" مما يدل على أن "أل" إيل كان من الآلهة التي تعبد لها قوم ثمود. ومن الأسماء الثمودية المركبة الأخرى "بعثتر" وفيه اسم الإله "عثتر" الذي عرفناها في المسند، و"يثع إمر" "يثع أمر" وفيه اسم الإله "يثع" وهو من الأسماء المستعملة بكثرة في العربية الجنوبية. و"صلم دع" و"صلمن دعم"، فـ"صلمن" اسم الإله "صلم" من آلهة قوم ثمود المعروفة. و"تيم يغث" "تيم يغوث"، وهو اسم مركب من اسمي إلهين هما: "تيم" و"يغوث"4.

_ 1 Hubert Grimme, S. 43. 2 Arabien, s. 269. 3 Handbuch, I, S. 232, D. Nielsen Studier Over Oldarabiske Indskrifter, Kobenhava. 1906, p. 136. O. Weber Studien zur Sudarabischen Altertumskunde, in MVAG. 1917, S. 26-31. 4 Grimme, s. 33.

ووردت في الكتابات اللحيانية، أسماء جملة آلهة. منها: "ذ غابت" "ذو غابة" و"عوض"، و"ود"، و"بعل سمن"، و"سلمان" "سلمن"، و"العزي"، و"منف" "مناف"، و"جدت"، و"أل" "إيل"، و"إله"، و"لت" ألت" و"سمع"، و"نصر"، و"منت"، و"هفلس"، و"عجلبون" "عجلبن"، وأكثر هذه الآلهة كما نرى معروفة، وردت أسماؤها في الكتابات وفي مؤلفات أهل الأخبار. والإله "ذ غبت" "ذو غابة"، هو من أشهر آلهة اللحيانيين. ولعله إلههم الأول والأكبر. ومع ذلك، فإننا لا نعرف عنه شيئًا كثيرًا. وقد كان له معبد في "الديدان"1. وخوطب بكلمة "قدست"، أي القدس أو المقدس في كتابة من كتاباتهم، وقيل إنه في جملة ما قدم إليه من قرابين، قرابين من البشر2. وليست كلمة "ذ غبت" "ذو غابة"، اسم علم للإله. بل هي صفة له، تعني: "صاحب الغابة"، أو "صاحب غابة". وقد وردت لفظة "ذ غبت" في الأعلام المركبة، مثل "عبد ذ غبت" "عبد ذو غابة" و"فلح ذ غبت" "فالح ذو غابة"، و"خرج ذغبت" "خرج ذو غابة". و"مر ذغبت"، أي "مرأ ذو غابة"، و"زيد ذ غبت" أي "زيد ذو غابة". وورد "عرر ذ غبت" أي "عرر ذو غابة" والعرو والعر، الجرب، وهو مرض جلدي معروف. فكأن صاحب الكتابة أراد بها أن الإله "ذو غابة" يرسل هذا المرض إلى مخالفيه ومن يعارض أحكامه أو يعتدي على غيره3. وأما "عوض"، فقد ورد اسمه في الأعلام المركبة مثل: "عبد عوض"، و"جد عوض"، وقد تعبد له الصفويون كذلك4. وأما ود، فهو إله عام له شهرة عند العرب، وقد عمت عبادته كل جزيرة.

_ 1 Ryckmans 19, Jausseu-Savignac. Mission. II. 368, 371, 375, W. Caskel, Lihyan, S. 45, Arabien, S. 85. 2 Histoire Generale des Religins Tome IV. P. 312, Preislamiq, p. 19. 3 W. Caskel, Lihyan, S. 44. 4 Hisroire, IV p. 312.Preislamiq, p. 19. Handbuch, I, s. 193.

العرب، والظاهر أنه كان من الآلهة العربية القديمة، وقد بقي معبودًا حتى الإسلام: وهو من الأصنام المذكورة في القرآن1. وقد نعت بـ"أفكل" وورد اسمه في الأعلام اللحيانية المركبة2. وتعبد له تميم، وطيء، والخزرج، وهذيل ولخم، وقريش، وأقيم له صنم في دومة الجندل، صنع على هيئة إنسان. ويرى البعض أنه الإله "أدد" عند ثمود. ويظن أن الصنم "قوس" يرمز إليه، ويرى بعض الباحثين أن "نسرًا" والصنم "ذو غابت" يرمزان إليه كذلك3. وقد نعت "ود" في بعض النصوص العربية بـ"نحسطب" "نحس طب"، ومعناه "الحية الطيب" "الحية الطيبة"؛ لأن الحية رمز للإله "ود"4. ويظن أن اللحيانيين كانوا يتعبدون لهذا الإله منذ كانوا في مواطنهم الأولى، فلما هاجروا إلى "ديدان" لم ينسوه، ولكنهم بقوا يتعبدون له ويتقربون إليه؛ لأنه إله الآباء والأجداد وإله لحيان الأكبر، كما تفعل بقية القبائل في اتخاذ إله الآباء والأجداء الإله الأول للقبيلة، والصنم الأكبر بين الأصنام5. وأما "بعل سمن" أي "رب السماء"، فقد تحدثت عنه، ووجدنا أنه كان معبودًا عند العرب الجنوبيين، والغالب أنهم أخذوا عبادته من العرب الشماليين. وقد كان له معبد في "ديدان" وقد نعت معبده بـ"أحرم" "أحرام" بمعنى "الحرم" أي حرم الإله "بعل سمين" "رب السماء"6 وتعبد له "النبط" وكانوا قد أقاموا له مبعدًا في "سيع"، وذلك فيما بين السنة 33/ 32-12/ 12 قبل الميلاد7. والظاهر أن اللحيانيين قد أخذوا هذا الإله من النبط، وقد تشرف أحدهم بتسمية نفسه بـ"عبد سمن" أي "عبد السماء"8. وقصد بـ"سمن" الإله.

_ 1 سورة نوح، رقم 71، الآية 23. 2 Histoire, IV, p. 312. 3 Arabien. S. 87, Reste, S. 14, Ryckmans, 16, Jaussen-Savignac, Mission, II, p. 395, 581. 4 Grohmann, Gottersymbole, s. 71. 5 Lihyanish, S. 44. 6 Hisroire, IV. P. 312, Preislamiq, p. 20. 7 W. Caskel, Lihyan, S. 45. 8 W. Caskel, Lihyan, S. 124.

"بعل سمن"، أي "رب السماء". وقد اختصر الاسم، فصار "سمن" "سمين". والعزى من الأصنام المعروفة عند أهل الأخبار. وقد بقيت عبادته معروفة إلى الإسلام. وقد أشير إليه في القرآن. وقد ذكر اسمه في كتابات عثر عليها في "العلا"1. وتعبد له النبط كذلك، وصنعت له معبدًا في "بصرى" دعي "بيت إيل"، وعبر عنه بـ"كوكبتا"، أي "الكواكب"، وهو أنثى، أي إلهة2. وقد ورد اسم "العزى" على هذه الصورة: "هنعزى" في كتابة لحيانية، دوَّنها رجل اسمه "أوس بن حجر"3" ويظن بعض الباحثين، أن العزى تمثل كوكب الصباح. ويظهر أن اللحيانيين قد أخذوا عبادتها من نبط بلاد الشام4. وأنها لم تكن من آلهة اللحيانيين في الأصل، بدليل عدم ورود اسمها كورود "ذو غابة" أو الآلهة اللحيانية الأخرى في النصوص اللحيانية5. وورد اسم العزى في الأعلام المركبة، مثل: "بل عزيني" "بال عزيني" وبـ" إيل عزيني"، أي بـ "العزيني"، وذلك في الكتابات الثمودية. و"تيم العزي" و"عبد العزى" و"أمت العزى"، وفي كتابات أخرى تعود إلى ما بين القرن الخامس قبل الميلاد، والقرن الرابع بعد الميلاد6. ويظهر من بعض الأعلام اللحيانية المركبة، مثل "أوس يه" "أوس يهو"، و"عزريه" "عزر يهو"، أن القسم الثاني من الاسم، وهو "يه" "يهو"، قريب من "يهوه"، وهو الإله الكبير المعروف عند العبرانيين. فـ"يه" "يهو" هو اسم إله من آلهة اللحيانيين. وأما الإله "جدت"، فالغالب أنه إلهة، أي إلهًا أنثى بدليل وجود تاء التأنيث في آخر الاسم. والأصل هو جدن وهو اسم إله تكلمت عنه7.

_ 1 Histoire. IV, p. 312, Prelslamiq., p. 20. 2 Doughty, ravels In Arabia Deserta, II, p. 511, 515. 3 W. Caskel, Llhyan., S. 82. 4 Llhyan., S. 262. 5 Llhyan., S. 45. 6 Littmann, Thamud und Safa, S. 29. 7 Ryckmans, Prel^amiques, p. 19, Histoire, IV, p. 312.

وأما "هفلس" "ها - فلس"، فإنه "الفلس"، عند أهل الأخبار. وقد ذكروا أنه كان على هيئة حجر أسود تعبدت له "سليم"، أو على صورة إنسان قد من حجر عند طيء1. و"قيس" و"قيسو" من أسماء الآلهة المذكورة في الكتابات اللحيانية. وقد كان له معبد عرف بـ"بت قس" "بيت قيس" في مدائن صالح2. ويدل وجود اسمه في الأعلام العربية المركبة. مثل "عبد قيس" و"عبد القيس"، أنه كان من الأصنام المعروفة المعبودة عند بقية العرب في مختلف أنحاء جزيرة العرب. وورد في كتابة لحيانية اسم إله هو: "محر" "هـ - محر" "همحر" وبعده اسم إله آخر، هو "هنا كتب" ويظهر أنه من الآلهة التي كانت تعبد في العربية الجنوبية وعند المعينيين الشماليين، وتعني لفظة "محر" شريعة، أو قانون أو أمر، أو سُنة. وهو من الآلهة التي اختفى اسمها في الكتابات اللحيانية المتأخرة3. وأما "هنا كتب" "هانئ كاتب" "هني" "هاني"، و"هنى كتب" "هاني كتب" المذكور مع "هـ - محر" "همحر" "هامحر"، فيرى "كاسكل" W. Caskel أنه الإله "توت" thot4 و"توت" هو إله مصري، ويرمز إليه بصورة قرد. ويمثله الإله "نبو" عند البابليين. ويمثل "توت" "هرمس" و"المريخ" Markur فهو الإله الكاتب. ولعل اللحيانيين أخذوا إلههم هذا من المصريين5. ولكننا لا نستطيع أن نجزم أن اللحيانيين قد تصوروا إلههم هذا على صورة "قرد" محاكاة للمصريين لأنهم أخذوه منهم؛ إذ لا دليل لدينا نستدل به على أنهم تصوروا ذلك الإله بصورة قرد6.

_ 1 E. Osiander, 501, Reste, S. 51. Preislamirjues, p. 17 AraWen, 84, Jaussen- Savlgnac, Mission, II, p. 84. 2 Reste, S. 67. Preislamiques, p. 48, Arabien, 85. Jaussen-Savignac. Mission, II. 501, 520, 528, I, 169, 200. CIS, II. 209, Daughty. Documents EpfgrapWques.p. 38. CIS. II, 19S. J. Euting. Tagebuch., II, S. 262. 3 Llhyan, S. 45. 4 Preislamiques, p. 20, Arabien, S. 86. 5 Lihyan, S. 45. 6 Lihyan. S. 45.

ووردت في بعض الكتابات اللحيانية أعلام مركبة، جاء فيها اسم هذا الإله، مثل "جرم هنا كتب"، و"زيد هنا كتب". ومعنى "جرم" و"زيد" خادم أو عبد. فيكون الاسم "عبد هنا كتب" "عبد هنا كاتب"1. وما "سلمن" "سلمان"، فإنه من الآلهة التي ظهرت عبادتها عند اللحيانيين المتأخرين. ويرى بعض الباحثين أنه والإله "أب ألف" "أبو أيلاف" من الآلهة التي كان واجبها حماية القبور. وقد رمز عن "أبي أيلاف" بصورة أسد يوضع عند جانب القبر ليحميه2. وقد ورد اسم الإله "أبا لف" "أبو أيلاف" اسم علم لشخص كان كبيرًا على قومه، وذلك في أيام الملك "عبدان بن هانواس"3. وورد اسم إله هو "شمس"، وقد عبد عند أهل تدمر أيضًا، كما تعبدت له تميم. ونجد بين أسماء رجال قريش وقبائل أخرى أسماء تدل على تعبد الناس للشمس، ومن هذه الأسماء: "عبد شمس"4. وأما الإله "عجلبن" "عجلبون" "عجل بن"، فإنه من الآلهة اللحيانية المتأخرة. ويظهر أن اسمه الأصلي هو "عجل بل" "عجل بول" "عجلي بل" أي "عجل" و"بول" ونجد اسمه مع "يرحى بول" "يرح بل" "يرحبل"، و"بل" في الكتابات التدمرية. ويظهر أن تاجرًا جاء به إلى اللحيانيين، وأدخل عبادته عندهم. ويظهر أنه جاء به من العراق5. ولدينا أسماء ونعوت آلهة تعبد لها اللحيانيون من غير شك، وإن لم نعثر عليها في كتاباتهم، توصلنا إلى معرفتها والوقوف عليها من دراستنا للأسماء اللحيانية المركبة، مثل "كبر أل" "كبر إيل"، و"متع أل" "متع إيل"، و"ذرح أل" "ذرح إيل" "ذر حال"، و"عذر أل" "عذر إيل"، وأمثال ذلك، فإن اللفظة الثانية وهي "أل" "إيل"، هي الإله "إيل".

_ 1Llhyan, 8. 45. 2Uhyan, S. 45. 3Llhyan., S. 113. 4 PalmjTe, 37, 80, O. Eissfeldt, 95, 101, Arabien, S. 87. 5 Lihyan, S. 45.

"إيلو"، وهو من الآلهة السامية القديمة1. وبين الأسماء التي وصلت إلينا اسم رجل عرف بـ"عبد قني" "عبد قاني"2، مما يدل على أن لفظة "قني"، هي اسم إله أو نعت من نعوت الآلهة. وورد في الكتابات اللحيانية المتأخرة اسم رجل عرف بـ"عبد غث بن زد له سمم"3، أي "عبد غوث بن زيد لاه بن سمم" "سموم"، كما ورد "زد غث"، أي "زيد غوث"4، وذلك يدل على أن لفظة "غوث" اسم إله. وعندي أن "غوثًا" نعت من نعوت الآلهة، أي اسم من أسماء الله الحسنى لا اسم علم لإله خاص. و"خرج" من الآلهة التي تعبد لها اللحيانيون، بدليل ورود اسمه في أسماء الأعلام المركبة مثل: "زيد خرج" و"عبد خرج"5. ويعد "رعن" من آلهة اللحيانيين كذلك؛ إذ ورد في الأعلام المركبة، مثل: "رعنا مر"، أي "رعن أمر"، وهو اسم رجل من "ديدان". فـ"رعن" من آلهة الديدانيين أيضًا، ومثل: "رعنا مد" "رعن أمد"، ومعنى "أمد" أغضب، و"رعنلثع"، "رعن لثع"، أي "رعن أحاط" و"رعن أدرك". فـ"رعن" إذن اسم إله من آلهة اللحيانيين والديدانيين6. والإله "يثع" و"يثعن"، من الآلهة التي تعبد لها اللحيانيون، فقد ورد في النص الذي وسمه الباحثون برقم "73" وبـ 73 J S و M 26، اسم امرأة عرفت بـ"أمتيثعن بنت دد"، أي "أمة يثعن بنت داد"، "أمة اليثع بنت داد"، وورد في الكتابات اسم رجل عرف بـ"يثع حيو"7، واسم رجل آخر هو

_ 1 "جرم أل" "جرم إيل" "عز أل، "عز إيل" "عم أل"، "عم إيل"، "أيس أل" "أيس إيل"، "سعد أل" "سعد إيل"، "يمسك أل" "يمسك إيل"، Lihyan, s 46. 2Lihyan, S. 47, 143, JS 214. 3JS 41, Lihyan. S. 109. 4JS 298. Lihyan, g. 47, 154. 5Lihyan, S. 47. 6hyan, S. 47, JS 108, JS 116, JS 142. 7hyan, S. 100.

"يثعحن"، مما يدل على أن "يثع" كان إلهًا معبودًا ومعروفًا عند بني لحيان". وقد ورد في كتابة من كتابات "ديدان" اسم رجل عرف بـ"يثع أمر" "يثع أمر"، فقد ورد في النص الموسوم بـ"2" من الكتابات القبورية: "كهف: يثعامر"، أي "قبر: يثعامر" "قبر يثع أمر"1. واسم "يثع أمر" هو من الأسماء الشائعة المعروفة عند العرب الجنوبيين، وقد تسمى به ملوك من ملوك "سبأ فالظاهر أنه من الأسماء التي أخذها الديدانيون واللحيانيون عن العرب الجنوبيين، ومن الجاليات العربية الجنوبية التي كانت قد استقرت في أيام عز الحكومات العربية الجنوبية في هذه الأماكن. فـ"يثع" إذن، هو إله من آلهة العرب الجنوبيين في الأصل، انتقلت عبادته منهم إلى أهل ديدان واللحيانيين. ومن الآلهة التي نجد لها أثرًا في عبادة اللحيانيين من دراستنا لأسمائهم، الإله: "حمد" "حميد" فقد ورد في اسم امرأة عرفت بـ"أمتحمد بنت عصم"2. وأرى أن "حمد" أو "حميد ليس اسم إله، أي اسم علم، وإنما هو نعت من نعوت الآلهة، أي اسم من الأسماء الحسنى، التي يسم الإنسان بها آلهته، على سبيل التأدب والاحترام. ونرى أثر عبادة الإله "مناة عند اللحيانيين من دراستنا للأعلام المركبة أيضًا. مثل: "عبد مناة" "عبد منت"3، و"أسمنت" "أوس منت"، أي "أوس مناة"4، و"عبمنت" اختصار "عبد مناة" و"عبدة مناة"، و"عذ منت"، أي "عوذ مناة"، و"عابذ مناة"، و"هون منت" "هون مناة"، و"نعم منت" "نعمت" أي "نعم مناة"، و"نسمنت" "نسأ مناة"، و"قن منت" "قنمنت"، أي "قين مناة"، و"سنفمنت" "سنف مناة"، و"تهنمنت" "تهنأ مناة"، إلى غير ذلك من أعلام مركبة، ورد فيها اسم ذلك الإله5 الذي هو إلهه، أي أثنى عند العرب. وقد ذكرت.

_ 1.Lihyan s. 78 2 راجع السطر الأول من النص المرقم بـ: 78، المنشور في كتاب: Lihyan s 115. 3 Lihyan s. 103. 4 JS 10, Lihyan, s. 143, 5 Dihyan, s. 46.

في القرآن الكريم. ولا أستبعد أن يكون أنثى عند اللحيانيين أيضًا. ولعل لأصل الكلمة التي أخذ اسم هذه الإلهة منه، وهو "منوتو" Manotu في النبطية، وتعني "منية" في عربيتنا صلة، بجعل الإله إلهة، أي تحويلها إلهة أنثى. والصنم "اللات" من الأصنام النبطية، المعبودة عند النبط، والمعبودة عند ثمود كذلك، والظاهر أن عبادته انتقلت إلى عرب الحجاز ونجد من العرب الشماليين، الذين تأثروا بعبادة النبط1. ووردت لفظة "هتهم "في كتابة لحيانية، وردت بمعنى "إلاهتهم" أي تعبيرًا عن إلهة أنثى2. ويظن "كاسكل" أنها تصغير "لات" "لث". و"اللات"، من الآلهة المعروفة المعبودة عند النبط، وكذلك عند العرب الشماليين، وعند عرب الحجاز. وقد ذكرت في القرآن الكريم، وهي إلهة، أي أنثى. وترد اللفظة عندهم في الأعلام المركبة مثل: "تيم اللات" "تيم لات"3. وقد وردت لفظة "هله" "هـ - لاه" في كتابة لحيانية، وردت بصيغة التوسل والنداء والخطاب، أي بمعنى: "اللهم" و"يا الله"4. ووردت لفظة "لله"، أي "إلى الإله" أو "لله"، في كتابة أخرى5. وهي لا تعني في كلتا الحالتين إلهًا خاصًّا معينًا، وإنما تؤدي المعنى الذي تؤديه لفظة "إله" و"الإله" في عربيتنا، و God في الإنكليزية، وربما قصد بها إله لحيان الأكبر "ذو غابة"، كما يقصد المسلمون بإطلاقها لفظة "الله"، وذلك للتعبير عن اسم الله بأسلوب مؤدب مهذب6. ومثل: "هنا له" "هنا لاه" "هني لاه"، و"نساله" "نسألاه" "نسي لاه"، و"ودع لاه" "ودع له"، و"مرا له" "مرأ لاه"، و"تيم له" "تيم لاه"، و"وهب له" "وهب لاه"، و"زيد له" "زيد لاه"، و"جرم له" "جرم لاه"، و"سعد له" "سعد لاه"7.

_ 1 Lihyan s. 46. 2 Lihyan s.89 3 Lihyan s. 46 4 103 Lihyan s. 5 Lihyan s.104 6 Lihyan s.46 7 Lihyan s. 46

فإن الجزء الأخير من الاسم وهو "له" "لاه"، هو "إله". وإله من الألفاظ الدالة على الله، وترد في أكثر اللغات السامية. ويلاحظ أن أكثر استعمال "أل" "إيل" في العبرانية في الشعر وفي أسماء الأعلام المركبة، ولم يستعمل في النثر إلا قليلًا1. أما في اللهجات العربية وفي اللغات السامية الأخرى، فقد استعملت اللفظة في الأعلام المركبة في الغالب، وفي اللغات السامية الأخرى، فقد استعملت اللفظة في الأعلام المركبة في الغالب، وفي معنى "إله" مثل "أل تعلى" أي "الإله تعالى"، وما شاكل ذلك، أي بمعنى اسم من أسماء الله الحسنى وإله. وعلى الرغم من ورود "أل" "إيل" El بصورة يستنبط منها أنها قصدت إلهًا معينًا خاصًّا، أي اسم علم، لا نستطيع أن نقول إن "أل" اسم علم لإله معين مخصوص، مثل الآلهة الأخرى التي ترد أسماؤها في الكتابات، ذلك لأن الذين ذكروا "أل" "إيل" في الأعلام المركبة، أو في مواضع أخرى من كتاباتهم لم يقصدوا كما يتبين من الاستعمال إلهًا معينًا اسمه "أل" "إيل"، وإنما أرادوا ما نعبر عنه بقولنا "إله" والجمع آلهة. فلفظة "إله" عندنا ليست اسم علم، وإنما تعبر عن اسم الجلالة دون ذكر اسمه. وهي كذلك عندهم وعند بقية الساميين بمعنى "رب"، وإله و"بعل" عند الأقدمين. ولا يعرف العلماء معنى لفظة "أل" "إيل" على وجه علمي دقيق. ولكنهم يفسرونها عادة بمعنى "القدير" و"الحاكم" ومعنى ذلك أن "أل" نعت من نعوت الآلهة، أو اسم من أسماء الله الحسنى بحسب التعبير الإسلامي" ويرى بعض العلماء احتمال عدم وجود صلة له بـ"إلوهيم" Elohim الكلمة العبرانية التي تطلق على الإله2. وأما آلهة الصفويين، فهي "اللت" "لت" "هلت"، و"دين" "ديان"، و"هله" "هـ ل هـ"، و"جد عوذ"، و"بعل سمن"، و"شيع هـ - قوم" "شيع القوم"، و"أثع"، و"صالح"، و"ذا الشرا" "ذو الشرى"، و "رضا" "رضى"، و"جد ضيف"، و"رحم" "رحيم"3.

_ 1 Hastings, p. 299, Lihyan, s. 46, Le Museon 1954. Tome , LXVII, p. 106. 2 Hastings, p. 299. 3 Ryckmans, p. 21.

و"الت"، أي "اللات" إلهة أي أنثى، ويراد بها الشمس، وقد مثلت في بعض النصوص الصفوية بقطعة من الشمس رسمت بصوة بدائية، ورسمت في بعض النصوص السامية الشمالية بشكل امرأة عارية1، رمز إليها بصورة فرس في النصوص العربية الجنوبية، والفرس من الحيوانات المقدسة التي ترمز إلى الشمس عند قدماء الساميين وعند غيرهم من الشعوب، ولذلك كان الناذرون لها يقدمون لها تماثيل مصنوعة على هيئة فرس2. ولفظة "ديان" "ديان"، ليست اسم صنم على ما يظهر، وإنما هي صفة من صفات الآلهة. وهي معروفة في عربيتنا وعند المسلمين، تطلق على الله. وقد استعمل الصفويون "جد عوض" اسمًا لإله، كما استعملوا اسمًا آخر قريبًا منه هو "جد ضيف". وقد ورد اسم الإله: "جد عوض" "هجد عوض" في نص محفوظ في متحف دمشق، وسم بـ Damas 1312 وورد بعده اسم الإلهين: "شع هقوم" "شيع هقوم"، و"هلت" "اللات"3. وتقابل لفظة "جد" معنى الحظ في اللغة اليونانية، وقد صار في الأقاليم السورية المتحضرة الإله الحارس للمدينة. و"جد عوذ" هو إله معروف مشهور عند الصفويين، وورد اسمه في كتاباتهم. وقد ذهب "رينه ديسو" إلى أن لفظة "عوذ" "عويذ" هي اسم عشيرة أو قبيلة كانت تتعبد للإله "جد"، وكانت سدنته منهم، فنسب إليهم وعرف بـ"جد عوذ" "جد عويذ" على طريقة العرب في ذلك العهد من نسبة الأرباب إلى القبائل أو العشائر أو السدنة التي يخدمونها أو على الأشخاص الكبار4. وقد ورد اسم الإله "جد ضيف" "جد ضف" في عدد من الكتابات الصفوية التي عثر عليها في المملكة الأردنية الهاشمية. كما ورد فيها اسم إله آخر هو الإله: "هجد عوذ" "ها – جد عوذ"5.

_ 1 ndbuch, I, S. 214. 2 Handbuch, I, 8. 227. Grohmann, Gottersymbole und Symboltiere auf Sud- arabischen Denkmaler, Wlen, S. 70. 3 Ryckmans, Inscriptions Bafaitlques, Louvain, 1951, p. 87. 4 رينه ديسو "137". 5 Annual of the Department of Antiquities ol Jordan, 1951, Vol.. I, p. 27.

أما الإله "شيع القوم"، فقد ورد اسمه في النصوص النبطية في "بطرا" وفي "تدمر"، وهو إله القوافل في نظر بعض المستشرقين1. وهو إله يحمي قومه. ولد احتمى به أهل القوافل خاصة من الأعراب، وقطاع الطرق. ولذلك كان النجار وأصحاب القوافل يذكرون اسمه وربما يحملون وثنه معهم لحمايته لهم في أثناء السفر حتى بلوغهم ديارهم سالمين. وقد نعت في كتابة نبطية دوَّنها أحد نبط "تدمر". بأنه "الذي لا يشرب خمرًا"2 وهذا يعني أن هذا الإله كان يكره الخمور. ويكره شاربيها. ولعل في ذلك فكرة تحريم الخمر عند جماعته. وقد كان في الجاهليين من حرموا الخمر على أنفسهم. كما نعت بـ"الإله الطيب المجازي"3. وهو نَعْت نُعِت به وبمثله آلهة أخرى. وقد ذهب بعض الباحثين إلى احتمال وجود جماعة من النبط ومن غير النبط كانت تحرم شرب الخمر، بدليل ما جاء في النص النبطي من نعته بأنه "الإله الطيب المجازي الذي لا يشرب الخمر"4. و"يثع" هو في جملة الآلهة التي تعبد لها الصفويون، كما تعبد لهم غيرهم أيضًا. وقد قلت سابقًا باحتمال انتقال عبادته إلى هذه الأرضين من العرب الجنوبيين الذين كانوا قد نزحوا إليها واستولوا عليها وذلك قبل الميلاد. وتعني لفظة "يثع" الحامي والناصر والمساعد، وقد حرف في اليونانية إلى "أيثاؤس" و"يشع". وقد ورد "يثع" في نص توسل فيه صاحبه إلى هذا الإله أن يعينه على المكاره، وتوسل آخر إليه أن يثأر ممن يتبعه، وطلب إليه آخر أن يشفيه من المرض5. و"رحم" "رحيم" مثل "رحمن"، أي "الرحمن"، لعلهما اسمان من أسماء الله الحسنى في الأصل، ثم صارا اسمين علمين. وينطبق هذا القول على لفظة "صالح" الواردة في نصوص الصفويين6.

_ 1 Histoire, IV, P. 14. 2 Littmann, Semitic Inscriptions, 1904, p. 70. Montgomery, p. II, Cooke, North Semetic Inscriptions, p. 304. 3 رينه ديسو "145". 4 رينه ديسو "145". 5 رينه ديسو "143 وما بعدها". 6 Preisiamiques,p. 23.

وقد قرأ بعض "الباحثين لفظة "حم": "رحام". أما "نولدكه"، فقد قرأها بتشديد حرف الحاء1. ولعدم وجود علامات لحركات الحروف، يجوز أن تقرأ الكلمة "رحيم"، كما ذكرت آنفًا. وقد ورد اسم هذا الإله في نص تدمري أيضًا؛ لأنه كان معبودًا عندهم أيضًا2. وقد ذكرت "الشمس" في نص أو نصين أو أكثر من ذلك بقليل من النصوص الصفوية. وعبادة الشمس، هي عبادة قليلة الانتشار بين الأعراب، على عكس الحضر الذين كانوا يتعبدون لها. ولهذا كان أكثر الذين عبدوها من الحضر، أو من الأعراب الذين تطوروا بأن ركنوا إلى حياة الحضر، أو توسطوا بين الحياتين3. وفي جملة النصوص الصفوية التي ورد فيها اسم "الشمس"، نص سجله رجل اسمه "خالص بن شهم4 بن عمرة بن عم"5. وقد توسل إلى "شمس وجد عوذ واللات" أن تنزل العمى بمن يتطاول على الكتابة فيمحوها ويطمس معالمها6. و"شمس" من هذه الآلهة التي ذكرت في الأعلام المركبة؛ إذ ورد "عمشمس" "عم شمس"7. وهي إلهة معروفة. تعبد لها العرب الجنوبيون وغيرهم من العرب، كما أنها من الآلهة المعبودة عند بقية الساميين. ويرى "كاسكل" أن الشمس كانت تعد إلهًا ذكرًا عند أكثر العرب الشماليين في هذا العهد، أي في القرن الأول قبل الميلاد، والقرن الأول للميلاد8. ونجد اسم الإله "بعل سمن" في الكتابات الصفوية كذلك9. والصفويون.

_ 1 رينه ديسو "144". 2 رينه ديسو "144". 3 رينه ديسو "144 وما بعدها". 4 "شهم" "شهيم" على هذه الصورة: "شوهيم" دونها مترجم: رينه ديسو، أما الأصل الصفوي، فهو "شهم" راجع رينه ديسو "142". 5 في الأصل "عمرت"، "عمرة" في الترجمة "عميرت" رينه ديسو "142". و"عم" في الأصل، في الترجمة "عوم" رينه ديسو "142". ربما "عوام". 6 رينه ديسو "142". 7 Lihyan, s. 47, 144. 8 Lihyan, s. 48. 9 Littmann, Safa, s. 58.

هم كما ذكرت قبائل عديدة طافت في هذه الأرضين التي عثر على الكتابات الصفوية بها، وهم من مواضع متعددة، ولم يكونوا من موطن ثابت، لذلك كانوا يعبدون آلهة مختلفة، آلهة قبائلهم، وآلهة قبائل سبقتهم، وآلهة قبائل اختلطوا بها فأخذوا عنها معبوداتهم، مثل هذا الإله "بعل سمين"، أي بعل السماء، أو رب السماء. وتعد اللات من أهم الآلهة عن الصفويين، بدليل كثرة ورود اسمها في كتاباتهم. فقد ورد اسمها في أكثر من ستين مرة في الكتابات1. و"هـ ل هـ"، "هله" هي بمعنى" "اللهم". فلفظة "له" هي بمعنى "إله" و"لاه" وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أنها تعني "الله". وإذا صح هذا الرأي، دل على أن لفظة الجلالة "الله" كانت معروفة عند العرب الجاهليين قبل الإسلام بقرون. وقد وردت في عدد من النصوص الصفوية مسبوقة بحرف "الهاء" في الغالب، وهو حرف النداء، كالذي ورد في نص صفوي سجله شخص اسمه "سني بن سني بن محنن"، ذكر فيه أنه عثر على أثر عمه، ثم توسل إلى "له" إذ خاطبه بقوله: "فهله سلم لذ ساد وغيرت"، أي: "فيا الله امنح السلامة لمن سار بمعنى سافر وساعده"2. و"رضى" "رضا" هو من الآلهة التي تعبد لها الصفويين كذلك، وقد تحدثت عنه في مواضع عدة، إذ كان معبودًا عند غيرهم أيضًا. وهو "أرصو" "أرضو" في الغالب، الذي يرد في نصوص تدمر. وقد ورد اسم "رضى" في عدد من الكتابات الصفوية، يتوسل فيها أصحابه إليه أن يمنَّ عليهم بالسلامة والنعم، وأن يبعد عنهم شر الأعداء وكيدهم، وأن ينزل النقمة وغضبه على أعدائهم، إلى أمثال ذلك من توسلات وأدعية3. وورود "عبد حت"، أي "عبد حوت"، في الكتابات المتأخرة4، يدل على أن "حوتًا" من أسماء الآلهة التي تعبد لها اللحيانيون.

_ 1 العرب في سورية قبل الإسلام "111". 2 رينه ديسو "134". 3 رينه ديسو "134". 4 Lihyan, s. 47, 143, Js 89.

و"حمل" اسم إله أيضًا، لورود اسمه في الأعلام المركبة مثل: "عبد حمل"1، وهو من الأسماء التي وردت في الكتابات اللحيانية المتقدمة2. وكثيًرا ما نجد أناسًا يتوسلون إلى هذه الآلهة بأن تمنحهم السلام والرحمة، وأن تنكل بأعدائهم، بل نجد شواخص القبور، ترجوها أن تصيب بالعمى من يطمس كتابة الشاخص، الذي يحمل اسم صاحب القبر المدفون فيه وأن تنزل به الأمراض والآفات3. ومعنى هذا أن المؤمنين بها كانوا يعتقدون أنها تثيب وتعاقب، تمنح السلام والخير، وتنفع وتضر وتنزل الأذى بمن تريد وتشاء، ولهذا التوسل الناس إليها وخاطبوها، إما لرجاء وإما لإيذاء. أما آلهة النبط، نبط "بطرا"، فهي: "ذو الشرى" Dushara، و"اللات"، وهو إلهة، "أم الآلهة"4، و"منوتو"، أي "مناة"5، و"قشح"، و"هبلو"، أي "هبل"، و"شيع القوم" حامي القوم، وإله القوافل6. وأما "ذو شرا" Dausarys = Dousares "دوسرا"، فإنه "ذو الشرى" الذي يرد اسمه عند أهل الأخبار. وهو من آلهة "بطرا"، وقد زعم أنه في منزلة "ديونيسوس" Dionysos. وعرف بـ Deos Arabikos = Dieu Arabiques في بعض الكتابات اليونانية التي عثر عليها في الأردن، والتي يعود عهدها إلى سنة "116-117" أو "126-127" للميلاد، مما يدل على أنه كان من الآلهة المعروفة بين العرب، وأنه إلههم الخاص بهم7. وذكر أن Dusares هو في منزلة Dionysus، وقد عرف عند اليونان بأنه إله العرب، كما ذكرت. وأنه الإله Pakades عند النبط، وله مبعد في "جرش" Gerash8.

_ 1 Lihyan, s. 47. 2 Lihyan , s. 143. 3 راجع النصوص في رينه ديسو "ص126" فما بعدها". 4 CIS, II, 85, 98, NSI, 80, Ency. Religl., 9, p. 112. 5 CIS. II, 97, 98, NSI. 79. Ency. Religl., 9, p. 22. 6 Ency. Religl., 9, p. 22. 7 R. De Vaux, Une Nouvelle Inscription au dien Arabikue, ADAJ, I, 1951, p. 23. Arabien, S. 86. 8 BASOR, NUM: 83, 1941. p. 8.

وورد اسم "دشر" "دوشرا" Dushares, في عدد من النصوص الصفوية. ورد في هذه الجملة مثلًا: "فهلت وهدشر ثار لمن حولت"1. أي "فيا اللات ويا ذو الشرى، إثأرا ممن يحول" ويقصد بـ"يحول"، يحول شاهد القبر الذي كتبت عليه هذه الكتابة كما ورد في عدد من الكتابات يرجو فيها أصحابها من هذا الإله أن ينعم عليهم بالسلامة وأن يتقبل منهم أعمالهم. وقد ورد مع اسم "ذي الشرى" في بعض الكتابات النبطية، اسم الإله "هبل" واسم "مناة". و"هبل" هو صنم قريش الرئيس. وهو إله الكعبة ويرمز إلى القمر. وقد وضع في الكعبة على هيئة إنسان وأمامه حفرة عبر عنها بلفظة "بغبغ"، وكانت يده اليمنى مكسورة، فعوضته قريش بيد من ذهب، والظاهر أن الحية ترمز إليه، أو إلى ود، وأن الحية التي قيل إنها كانت في بئر زمزم، هي رمز هبل2. وورد اسم "اللات" مدونًا في نصوص نبطية عديدة، فقد عثر بـ"صلخد" على كتابات من سنة "40" قبل الميلاد، وسنة "50" بعد الميلاد، وسنة "95" للميلاد، وعلى نصوص أخرى، وقد ذكر فيها اسم هذه الإلهة، وأشير فيها إلى تشييد معبد خصص بعبادتها، وإلى سدنة كانوا يقومون بخدمتها. ووجدت كتابات في مواضع نبطية أخرى. ورد فيها اسم "اللات" ويدل كل ذلك على أن اللات كانت من المعبودات المقدرة عند نبط هذه الديار3. أما الكتابات النبطية المدونة في أماكن أخرى من بلاد الشأم وفي أعالي الحجاز، فقد ورد فيها اسم "اللات". ورد فيها على أنه من الآلهة الكبيرة، التي يخدمها سدنة، ولها معابد خصصت بعبادتها فقد جاء في نص مؤرخ بسنة "47" للميلاد أن شخصًا اسمه "ملكو بن قصيو" "مالك بن قصي" أو "مليك بن قصي"، كان كاهنًا "للات" في موضع "حبرن" "حبران"، وهو من جبل حوران4.

_ 1 Annual of the Department of Antiquities of Jordan Vol, II, P. 28, 1935. 2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 68 وما بعدها". 3 رينة ديسو "ص116 وما بعدها". 4 رينه ديسو "115" Jaussen – Savignac, Mission, II, p. 506.

وأما آهلة "تدمر" فهي "بل"، "أي "بعل" و"عزيزو"، و"أرصو" "أرضو"، و"شيع القوم"، و"شمش" "شمس" و"اللات"، و"إيل"، و"بعل شمين"، و"سعدو" ويلاحظ أن الكتابات التدمرية تستعمل في الغالب الكنايات والنعوت الإلهية بدلًا من أسماء الآلهة، فاستعملت "تبارك اسمه"، و"رب العالم"، و"الله المحسن"، و"رب العالمين"، وأمثال ذلك كناية عن آلهة تدمر. وهي تشير إلى وجود فكرة التوحيد عند التدمريين، وإلى أغرب أهل تدمر عن التصريح بأسماء الآلهة، والاكتفاء بذكر نعوتها وأسمائها الحسنى، على طريقة العبرانيين في تجنب ذكر اسم الإله، والتكنية عنه بنعوته. وقد يكون لآراء الفلاسفة اليونان أثر في معتقدات أهل تدمر في آلهتهم1. ويرى "ليدزبارسكي" Lidzbarski أن "بل" هو إله تدمر الأكبر. وهو "بعل". ولمركزه الخطير عند أهل تدمر، دعاة اليونان "زيوس" zeus أما "ملك بل"، فإنه الشمس، وأما "عجلى بل"، فهو القمر. ويقدم عادة على "ملك بل" في الكتابات. وتقدم القمر على الشمس عادة قديمة عند أهل تدمر لا بد أن يكون لها سبب بالطبع2. أما الإله "عزيزو" فهو العزى. ويؤيد ذلك ما ذكره أحد الكتبة اليونان من أنه كان كوكب الصباح عند العرب، وأنه الإله الرءوف الرحيم الذي عبدته العرب قبل الإسلام. ويلاحظ أن هذا النعت وارد في نص تدمري، مما يثبت كون "عزيزو" هو "العزى" الإله الشهير3. وأما "أرصو" "أرضو"، فيظن "ليدزبارسكي" أنه Oratal الذي ذكر المؤرخ "هيرودوتس"، أنه أحد آلهة العرب الكبرى مع الإله "اللات" ويظن أن "أرصو" هو "رضا" "رضى" الإله الذي أشار إليه الأخباريون. وأما اللات، فقليل الورود في النصوص التدمرية مع شيوع الأسماء المركبة

_ 1 Ency, Religi, 9, p. 592. 2 Ency, Religi, 9, p. 593. 3 Ency, Religi, 9, p. 594.

المؤلفة منها ومن كلمات أخرى عندهم1. وأما "منوتو" فإنه "مناة" المذكور في القرآن2. وكان له معبد في "فديد" بين مكة والمدينة، وقد صنع من حجر، وتعبدت له الأوس والخزرج، وهذيل، وخزاعة. وتعبد له النبط كذلك، وأقاموا له معبدًا أشير إليه في كتابات "مدائن صالح"، كما تعبدت له ثمود ولحيان ونبط تدمر4. وهو أنثى في نظر أهل الأخبار، والظاهر أن بينه وبين المنية صلة، كما بينت ذلك قبلًا. وقد عبد الإله "بعل شمن" "بعل شمين" في تدمر. وقد رأينا أنه عبد عند اللحيانيين والصفويين، وعند غيرهم أيضًا. وقد وجد اسمه في كتابة تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، تبين منها أنه كان معبودًا في "بعلبك" وهو كما قلت الإله "بعل سمن"4. وأما "سعدو" فقد رأى بعض المستشرقين أنه الإله "القمر" وأنه الصنم "سعد" وهو من الأصنام التي ذكرها أهل الأخبار. وقد تعبد له بعض كنانة، ويقال هذيل، كما تحدثت عنه5. وورد في بعض كتابات "حوران" اسم إله دعي بـ"قصي" وإليه تنسب بعض الأعلام المركبة التي ورد فيها اسمه، مثل "عبد قصي" ويظن أنه الإله المسمى بـ"زيوس كاسيوس" Jupiter Casius وبـ Zeus Kasio = Jupiter casiu , في الكتابات اليونانية6. وفي جملة هذه الأسماء المركبة المعروفة التي وردت إلينا، اسم "وهب لث"، أي "وهب اللات"، وهو اسم ابن الملك "أذينة" من زوجه "زنوبيا"، أي "الزباء"7.

_ 1 Ency. Rellgi., 9, p. 594. 2 سورة 53، الآية 20. 3 Jaussen-Savignac, Mission, I, p. 169, 192, CIS, II, No: 224, J. Starcky, Palmyre, 85, Arablen, S. 84. 4 Arablen, S. 86, Ryckmans, JO. 5 O. Elssfeldt, 150, Arabien, S. 85, Handbuch, I, B. 234. 6 Arablen, S. 86. 7 رينه ديسو "122".

وقد ذهب "رينه ديسو"، إلى أن العنصر العربي كان مهمًّا في تدمر، وله أثر في حياة المدينة، وأنه هو الذي أدخل عبادة اللات إلى تدمر، وقد عبر عنها بـ"أثنيا" ولهذا ترجموا اسم ابن الزباء أي "وهب اللات"، بـ"أثينودور" Athenodore1. وجاء في كتابات نبط "مدائن صالح" اسم إله عرف بـ"شيع هقوم" "شع هقم" "هشع هقم" "شيع هاقوم" "شيع القوم"، وهو إله القوافل والمحاربين يدافع عن القوافل وعن رجالها ويصد عنها لصوص الطرق وقطاعها، ولهذا كان يتقرب إليه التجار بالنذور وبالدعوات لينزل بمن يتحرش بتجارتهم العذاب الأليم2. وهو أيضًا من آلهة قوم ثمود والصفويين3، كما تحدثت عن ذلك. وقد بني للعزى معبد في "بصرى"، عرف بـ"بت أل"، أي "بيت إيل"4. وأما آلهة "ديدان"، فلا نستطيع التحدث بإفاضة عنها؛ لعدم وصول كتابات ديدانية إلينا، فيها ذكر لتلك الآلهة، وفي الأسماء الديدانية المركبة أسماء آلهة، على رأسها "أل" "إيل" الذي ورد في "كبر - أل" "كبر إيل"، و"منع أل" "متعال" "متع إيل"، و"ذرحال" "ذرح إيل"، و"وسقال" "وسق إيل"، و"أل - بر" "إيل - بر" و"العم" "إيل - عم" و"شيمال" "شيم - إيل"، و"الأب" "أل أب"، "إيل أب"، فإن "إيل" "أل" في هذه الأسماء هو الإله "إيل"5. ثم" إله"، و"يثع"، و"خرج"، و"رعن"، و"دد" "داد"، و"نعر"، و"قس" "قوس" "قيس". وبعض هذه الألفاظ نعوت للآلهة، لا أسماء أعلام، وبعضها من أصل عربي جنوبي، مثل "يثع" فإنها نعت من نعوت الآلهة، معناه: "المساعد" "الناصر" "المؤيد".

_ 1 رينه ديسو "122" 2 Arabien, S. 86. 3 F. V. Wineth, Safaitic Inscriptions from Jordan. University of Toronto Press, 1957, p. 20. 4 Arbien, S. 82. 5 Lihyan, s. 37.

وقد عرف عند السبئيين. وبعض آخر من أصل شمالي مثل "دد" "داد"، فإنه من معبودات الكنعانيين والنبط1. ويرى "كاسكل" أن "خرجا" هو إله، والخرج في العربية أول ما ينشأ من السحاب، وبه سمي "الخرج". وقد ورد في الأعلام المعينية المركبة: "عبد خرج"، و"زيد خرج"2. ويحتمل أن يكون قد جاء إلى الديدانيين من المعينيين الذين كانوا أصحاب ديدان قبل الديدانيين. ويرد "دد" "داود" في الأسماء المركبة كذلك، وكذلك بصيغة التأنيث أي "ددت" "دادت"، أي إلهة ويعني "دد" عم2" فقد ورد "حي- دد" "حي داد" وورد "عبد ددت" أي "عبد دادت"، يدل على أن "داد" إله من الآلهة المعبودة. وأن ددت إلهة". و"قس" أي "قوس" هو أيضًا من أسماء الآلهة، إذ ورد مكونًا لاسم رجل، عرف بـ"جلتقس"، أي "جلت قوس"4. وورد اسم آخر في الأعلام المركبة كذلك، هو "قس" في اسم "عبد قس" ويمكن أن يقرأ "قوسًا" كما يمكن أن يقرأ "قيسًا" أي "عبد قيس"، و"عبد قيس" و"عبد القيس" من الأسماء المعروفة عند العرب. فـ"قوس" و"قيس" من الآلهة المعروفة عند العرب. و"قوس" هو من آلهة بني أدوم" أي الأدوميين إذ كان يعبد عندهم. وقد ذهب "بروي" Braeu إلى أن الإله "قيس" هو إله واجبه حماية الحدود5. ووردت لفظة "صلم" في الأعلام المركبة كذلك، مثل "صلمجد" أي "صلم جد" ومثل "صلميحب" "صلم يحب"6. ومعنى ذلك أن "صلما" هو اسم إله. يلاحظ أن بين الآلهة المذكورة أسماء هي في الواقع ليست أسماء. وإنما هي

_ 1 Lihyan, S. 38. 2 Lihyan, S. 38. 3 Lihyan, S. 38. Lihyan, s. 47. 145. 4 Lihyan, s. 47. 146. 5 Lihyan, S. 47. Brau, In WZKM, XXXII, 56. 6 Lihyan. S. 47. 152, JS 314, 382.

صفات، أو ما يقال له "أسماء الله الحسنى" في الإسلام، استعملت وأطلقت على الآلهة حتى صارت في منزلة الأسماء. كما نجد صفات وضعت قبلها لفظة "ذ" أي "ذو" أو "ذت"، أي "ذات"، وأطلقت على الآلهة إطلاق الأسماء على المسميات. ومن هذا القبيل "ذ عقل" أي "ذو عقل"، و"ذ شرى"، أي "ذو الشرى"، و"ذ قبض"، أي "ذو قبض"، و"ذت أنوط"، أي "ذات أنواط"، و"ذت حمم"، أي "ذات حميم"، و"ذت بعدن"، أي "ذات البعد"، فليست هذه أسماء في الأصل، وإنما هي على ما ذكرت، وقد عبر بها عن آلهة معينة، حتى صارت عندهم في منزلة الأسماء.

الفصل السبعون: أصنام الكتابات

الفصل السبعون: أصنام الكتابات مدخل ...

الآلهة التي ورد ذكرها في النصوص

الآلهة التي ورد ذكرها في النصوص: وأود أن أدون هنا أسماء ونعوت الآلهة التي أشير إليها في نصوص المسند، وفي النصوص الأخرى باختصار؛ ليحيط بها القارئ، وهي: "ود" إله معين الكبير. وقد ورد في نصوص أخرى عثر عليها في أعالي الحجاز. و"المقه" إله سبأ الكبير، و"سن" "سين" إله حضرموت الكبير، و"روخ" و"شهر"، و"عم" إله شعب قتبان. وهي كلها في معنى واحد؛ إذ قصد بها الإله القمر. ومن الأسماء الأخرى: "إنبي" "أنبي"، و"شرقن" "الشارق"، و"رحم" "الرحيم" "رحيم"، و"رحمنن" "الرحمن"، و"عثتر"، و"آثرت" "آثيرت"، و"بعل"، و"بعلت"، و"ذات أنوت" "ذات أنوات"، و"ربت أثر"، و"بعدن"، و"ذت بعدن"، و"برن"، و"ذت برن"، و"غضرن"، و"ذت غضرن"، و"حمم" "حميم"، و"ذت حمم" "ذات حميم" "ذات حمم"، و"نشقم" "نشق"، و"رحبن" "رحاب" "الرحاب"، و"ذت رحبن"، "ذات الرحاب"، و"صهرن" "الصهر"، و"ذت صهرن" "ذات الصهر"، و"صنم"، و"ذت صنتم"، و"ضهرن"، و"عم ذ دون"، أي "عم رب دأون" "عم صاحب داوان"، و"أل" "إيل"، و"كهلن" "الكاهل"، و"حرمن" "الحرم"، بمعنى الإله، و"حرمت" "حرمة"،

بمعنى الإلهة. و"هوس"، و"حلم" "حليم"، و"حكم" "حوكم"، و"مت قبط"، و"متب نطين"، و"نهي"، و"نكرح"، و"نسر"، و"نسور"، و"رب شهر"، و"رب ثون"، و"صدق" "صديق" "صادق"، و"شمس"، و"سموي"، و"شرقن"، و"سمع" "سميع" "سامع"، و"تالب" "تلب"، و"تلب ريمم" "تالب ريام"، أي الإله "تالب" رب موضع "ريام" لوجود معبد كبير له به. و"عثرت"، "عزي"، و"تلب سمعى" "تالب سمعى"1، و"حول" "حويل"، و"ذ جريم" "ذو جرب"، و"ذ قبضم" "ذو قبض" "ذو القبض" "القابض"، و"سمعى"، و"شريت" "شرى"، و"عثتر شرقن"، و"عزين"، و"قزح"، و"متب مذجب"، و"نرو"2. ومن أسماء آلهة ثمود: "ود"، و"جد هدد"، و"شمس"، و"عزيز"، و"نعرجد"، و"عمى شجا"، و"رضو" و"منت"، و"كهل"، و"نهي"، و"إيل" "أل"، و"لت" "لات"، و"عثرسم" "عثر سمن"، و"صلم"، و"منف"، و"عثتر"، و"يثع"، و"يغث"، "يغوث"، و"بعلت"، و"يهو"، و"فلس"، و"عوذ". وتمكن الباحثون من الحصول على أسماء عدد من آلهة لحيان، منها: "أبلف" "أب ألف" "أبالف"، بمعنى "أبو أيلاف"، و"عجلبن"، و"بدع سمع" "بدعسمع"، و"بعلسمن"، "بعل السماء"، و"ذ عبت" "ذو غابة"، و"هنا كتب" "هانئ كتب"، و"له" "لاه"، و"لهت" "إلهات"، و"لت" "لات"، و"همحر" "هامحر"، و"سلمن" "سلمان"، و"هنعزي" "هانعزي"، و"ود"3.

_ 1 Handbuch, I, S. 260–261. 2.Handbuch, I, S. 260 3 W. Caskel, Lihjan S. 141.

وحصلنا من الكتابات الصفوية على أسماء بعض الآلهة، مثل: اللات" "لت"، و"العزى"، و"مناة" "منات"، و"رصا" "رضو" و "هـ له" "هالاه" "الله"، و"جد عوذ"، و"شمس"، و"رحم"، و"شيع هقوم" "شيع القوم"، و"أثع" "أثاع"، و"بعل سمين" "بعل سمن"، و"دو شر" "ذو الشرى" "د شر"، و"جد ضف"، "جد ضيف"1.

_ 1 Annual of the Department of Antiquities of Jordan, Vol, I, 1951, p. 27. والعدد الثاني الصادر سنة 1953 ص23، 24، 31، 36، 39، 41، 42، 43.

الفصل الحادي والسبعون: شعائر الدين

الفصل الحادي والسبعون: شعائر الدين مدخل ... الفصل الحادي والسبعون: شعائر الدين ولكن دين شعائر تكون له سمة وعلامة تميزه عن غيره من الأديان. ولما كنا قد ذكرنا أن الجاهليين كانوا شعوبًا وقبائل، لم تجمع بينهم وحدة فكر ولم تضمهم دولة واحدة، أو عقيدة مشتركة، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن شعائر واحدة لجميع عرب الجاهلية. وما سأذكره عن ديانات أهل الجاهلية، مستمد إما من نصوص جاهلية، وذلك فيما يخص العربية الغربية والعربية الجنوبية، وإما من موارد إسلامية، وهو ما يتناول أهل الحجاز، قبيل ظهور الإسلام، وبعض أنحاء نجد. وهو مما جاء عنهم في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي وفي كتب التفسير والسير والأخبار مما له صلة بأيام الجاهلية المتصلة بالإسلام وبظهور الإسلام. وفي مقدمة شعائر الدين عند أهل الجاهلية: الأصنام وبيوتها والتقرب إليها بالصلاة وبالسجود وبالطواف حولها، وبالنذور، وبالحبوس وبالقسم بها، وذلك لتمنَّ على عبدها الإنسان فتمنحه ما يرجوه في هذه الحياة من صحة وعافية ومال ونسل وذكور، وتكاد تنحصر الكتابات الجاهلية1 التي عثر عليها حتى الآن بهذه الأمور؛ إذ لا تكاد نجد فيها شيئًا له علاقة بالآلهة يخرج عن حدود ما ذكرت ويكاد يقتصر ما جاء في روايات أهل الأخبار عن ديانة أهل الجاهلية بهذه الأمور

_ 1 Grohmann, s. 89, Jaussen-Savignac, Mission, II, 379, 401, 452.

أيضًا، فلا تتجاوز ما ذكرته من تقرب إلى صنم أو توسل إليه وطواف به، لنيل شيء منه يتمناه ويرجوه في هذه الحياة الدنيا. أما الصلاة إلى الآلهة على نحو ما يفهم من الصلاة في الإسلام فلا نجد لها ذكرًا في النصوص الجاهلية، ولا نكاد نجد لها صورة واضحة صحيحة في روايات أهل الأخبار، اللهم إلا فيما يخص صلوات اليهود والنصارى والعرب فقد كان هؤلاء يصلون في كنائسهم في أوقات معينة، وقف بعض أهل الجاهلية عليها، فأشاروا إليها في أشعارهم وفي حديثهم عن أهل الكتاب. وقد ذُكر أن عبدة "الشمش" كانوا قد "اتخذوا لها صنمًا بيده جوهر على لون النار، وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة من القرى والضياع وله سدنة وقوام وحجبة يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث مرات في اليوم، ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعونه ويستشفعون به. وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها، وإذا غربت وإذا توسطت الفلك. ولهذا يقارنها الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة؛ لتقع عبادتهم وسجودهم له. ولهذا نهى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن تحري الصلاة في هذه الأوقات قطعًا لمشابهة الكفار ظاهرًا، وسدًّا لذريعة الشرك وعبادة الأصنام"1. وذكر "اليعقوبي" أن العرب كانت "إذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها وصلوا عنده ثم تلبوا"2. وفي هذين الخبرين دلالة على وجود الصلاة عند الجاهليين، ولا سيما في خبر عبدة الشمس، حيث كانوا يصلون ثلاث كرات لها في اليوم. وذكر أن التسبيح" بمعنى الصلاة والذكر، روي أن "عمر" جلد رجلين سبحا بعد العصر، أي صليا. وأن قول الأعشى: وسبح على حين العشيات والضحى ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا يعني الصلاة بالصباح والمساء. وعليه فسر قوله: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، يأمرهم بالصلاة في هذين الوقتين3.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 215 وما بعدها". 2 اليعقوبي "1/ 225". 3 اللسان "2/ 473"، "سبح".

وذكر أنهم كانوا يصلون على موتاهم، وكانت صلاتهم أن يحمل الميت على سرير، ثم يقوم وليه، فيذكر محاسنه كلها ويثني عليه. ثم يقول: عليك رحمة الله. ثم يدفن1. وقد أشير إلى سجود الناس للشمس والقمر في القرآن الكريم: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} 2. "يقول تعالى ذكره: فإن استكبر يا محمد هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم من مشركي قريش وتعظموا عن أن يسجدوا لله الذي خلقهم وخلق الشمس والقمر، فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك ولا يتعظمون عنه"3. كما أشير إلى سجود أهل "سبأ" إلى "الشمس" في الآية: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} 4. وفي هذه الآية وصف لتعبد أهل سبأ للشمس وسجودهم لها. وقد ذكر المفسرون أن ملكة سبأ "كانت لها كوة مستقبلة الشمس، ساعة تطلع الشمس تطلع فيها، فتسجد لها"5. فسجودهم للشمس، هو عبادة لها وتعظيمًا لشأنها.

_ 1 المحبر "320 وما بعدها". 2 سورة فصلت، الرقم 41، الآية 37 وما بعدها. 3 تفسير الطبري "24/ 77". 4 النمل، الرقم 27، الآية 24. 5 تفسير الطبري "19/ 94 وما بعدها"، تفسير القرطبي "13/ 190 وما بعدها".

الصوم

الصوم: وأما "الصوم"، فنحن لا نجد له ذكرًا في الكتابات الجاهلية بالمعنى المفهوم منه عند أهل الكتاب أو المسلمين. وهو في اللغة الإمساك عن الشيء والترك له. وقيل للصائم صائم لإمساكه عن المطعم والمشرب والمنكح، وقيل للصامت صائم لإمساكه عن الكلام. "وقوله عز وجل: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} . قيل:

معناه صمتًا، ويقويه قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} 1. والصوم: الصبر كذلك. وقد ذكر "الصوم" في السورة المدنية، أما في السور المكية، فقد ذكر مرة واحدة، في "سورة مريم": {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} 2. وقد حددت السور المدنية أصول الصيام في الإسلام. والصوم المعروف عند اليهود والنصارى معروف عند أهل الجاهلية الذين كان لهم اتصال واحتكاك بأهل الكتاب. فقد كان أهل يثرب مثلًا على علم بصوم اليهود؛ بسبب وجودهم بينهم. وكان عرب العراق وبلاد الشأم على علم بصوم النصارى؛ بسبب وجود قبائل عربية متنصرة بينهم. وكان أهل مكة، ولا سيما الأحناف منهم والتجار على معرفة بصيام أهل الكتاب. وبصيام الرهبان، المتمثل في السكوت والتأمل والجلوس في خلوة؛ للتفكير في ملكوت السماوات والأرض. ويظهر من أخبار أهل الأخبار أن من الجاهليين من اقتدى بهم، وسلك مسلكهم. فكان يصوم، صوم السكوت والتأمل والامتناع عن الكلام والانزواء في غار حراء وفي شعاب جبال مكة. ويذكر أهل الأخبار أن قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء. وفي هذا اليوم كانوا يحتفلون، ويعيدون، ويكسون الكعبة، وعللوا ذلك بأن قريشًا أذنبت ذنبًا في الجاهلية، فعظم في صدورهم، وأرادوا التكفير عن ذنبهم، فقرروا صيام يوم عاشوراء، فصاموه شكرًا لله على رفعه الذنب عنهم3. وذكر أن رسول الله كان يصوم عاشوراء في الجاهلية، ولما قدم المدينة واظب عليه وأمر الناس بصيامه حتى نزل الأمر بصيام رمضان. وقد ذكر العلماء أنه يحتمل أن قريشًا اقتدت بصيامه في الجاهلية، بشرع سالف، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة البيت الحرام فيه4. وذكر بعضهم: كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية؛ اقتداء بشرع سابق، وكان النبي يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه على عادته وأمر أصحابه بصيامه في أول السنة الثانية، فلما نزل رمضان، كان من

_ 1 اللسان "/ 350"، "صوم". 2 سورة مريم، رقم 19، الآية 26. 3 بلوغ الأرب "2/ 288". 4 إرشاد الساري "3/ 421"، "باب حكم صيام عاشوراء".

شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء لا يصومه. وعللوا سبب صيام "قريش" هذا اليوم، أنه كان أصابهم قحط ثم رفع عنهم، فصاموه شكرًا1. وورد "أن قريشًا كانت تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه". وذكر أن رسول الله، كان يتحرى صوم يوم عاشوراء على سائر الأيام، وكان يصومه قبل فرض رمضان. فلما فرض رمضان، قال: من شاء صامه، ومن شاء تركه. وبقي هو يصومه تطوعًا، فقيل له: "يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله"2. وذكر أيضًا أن قريشًا كانوا إذا أصابهم قحط ثم رفع عنهم صاموا شكرًا لله وحمدًا له على إجابة دعوتهم3. وقد أشار أهل الحديث إلى صيام "يوم عاشوراء"، فجعله بعضهم الصيام الذي كان في الإسلام قبل فرض صيام شهر رمضان، وذكر بعضهم أنه كان مفروضًا إلى السنة الثانية من الهجرة، ثم نسخ بصوم رمضان4. وقد أشير إلى الصيام في السور المكية من القرآن الكريم كما أشير إليه في السور المدنية، ويدل نزول الوحي به في مكة وفي المدينة أنه كان من الشعائر الدينية القديمة، وأن قريشًا كان لها علم به. ويظهر من بعض الآيات أن المراد من الصوم لم يكن الامتناع من الأكل والشرب حسب، بل كان يعني في أول عهد النبوة الامتناع عن الكلام كذلك5. ورواية أن قريشًا كانت تصوم في يوم "عاشوراء"، لا تتفق مع الروايات الأخرى في كيفية فرض صيام شهر رمضان. ففي هذه الروايات أن النبي "حين قدم المدينة رأى يهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم: فأخبروه أنه اليوم الذي غرق الله فيه آل فرعون، ونجى موسى ومن معه منهم. فقال: نحن أحق بموسى منهم، فصام، وأمر الناس بصومه. فلما فرض صوم شهر رمضان.

_ 1 إرشاد الساري "6/ 174"، "باب أيام الجاهلية". 2 زاد المعاد "1/ 164 وما بعدها". 3 إرشاد الساري "6/ 174". 4 راجع كتب الحديث: باب الصوم. 5 سورة مريم "الآية 26. وهي سورة مكية، رقمها 58 حسب نزول السور بمكة.

لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه"1. وورد أن يهود خيبر والمدينة كانوا يعظمون صيام عاشوراء ويتخذونه عيدًا"2. ويقصدون بصوم اليهود يوم عاشوراء، ما يقال له "يوم الكفارة"، وهو يوم صوم وانقطاع، ويقع قبل عيد المظال بخمسة أيام، أي في يوم "10 تشرى" وهو يوم "الكبور" Kipur. ويكون الصوم فيه من غروب الشمس إلى غروبها في اليوم التالي، وله حرمة كحرمة السبت، وفيه يدخل الكاهن الأعظم قدس الأقداس لأداء الفروض الدينية المفروضة في ذلك اليوم3. ومما يلاحظ أن علماء التفسير والحديث، قد اختلفوا اختلافًا كبيرًا في موضوع الصيام قبل نزول الأمر به وفرضه. فقال بعضهم كان المسلمون يصنعون كما تصنع من صيامهم خمسين يومًا "حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب ما كان، فأحل لهم الأكل والشرب والجماع إلى طلوع الفجر"4. وقال بعض آخر، كان صيام الناس قبل فرض رمضان صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وذكر أن ذلك كان تطوعًا لا فرضًا، ولم يأت خبر تقوم به حجة بأن صومًا فرض على أهل الإسلام غير صوم شهر رمضان5. ولم أتمكن من العثور على خبر قاطع يفيد بأن المسلمين كانوا يصومون بمكة قبل الهجرة إلى المدينة. ولا صلة لقصة "أبي قيس بن صرمة الأنصاري" "أبو صرمة الأنصاري" و"عمر بن الخطاب" بصيام عاشوراء ولا بعدد أيام الصوم. وكل ما ورد فيها أن المسلمين كانوا في أول ما افترض عليهم في رمضان إذ أفطروا وكان الطعام والشراب وغشيان النساء لهم حلالًا ما لم يرقدوا، فإذا رقدوا حرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة، فلم يزل المسلمون على ذلك، حتى نام "أبو قيس بن صرمة" بعد إفطاره وكان يعمل في حيطان المدينة بالأجر، فلما أفاق أبى أن يأكل شيئًا وأصبح صائمًا، وكان "عمر" قد وقع على جارية له، فنزل الوحي

_ 1 الطبري "2/ 265"، "ذكر بقية ما كان في السنة الثانية من الهجرة"، إرشاد الساري "3/ 421". 2 إرشاد الساري "3/ 423". 3 قاموس الكتاب المقدس "2/ 260". 4 تفسير الطبري "2/ 75 وما بعدها". 5 تفسير الطبري "3/ 76 وما بعدها".

بنسخ ذلك عنهم في آية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} 1. فلا صلة لقصتيهما بموضوع الصوم. ويظهر أنه خبر صيام قريش يوم "عاشوراء"، هو خبر متأخر، ولا يوجد له سند يؤيده. ولا يعقل صيام قريش فيه، وهم قوم مشركون. وصوم "عاشوراء"، هو من صيام يهود. وهو صيام كفارة واستغفار عندهم، فلمَ يستغفر قريش ويصومون هذا اليوم؟ وماذا فعلوا من ذنب، ليطلبوا من آلهتهم العفو والغفران؟ وإذا كان هناك صوم عند الجاهليين، فقد كان بالأحرى أن يصومه الأحناف، ولم يرد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد صيامهم في "عاشوراء" ولا في غير عاشوراء. ثم إن علماء التفسير والحديث والأخبار، يذكرون أن الرسول صام "عاشوراء" مقدمه المدينة على نحو ما ذكرت قبل قليل. وأنه بقي عليه حتى نزل الأمر بفرض رمضان. ويظهر أن الرواة أقحموا اسم قريش في صيام "عاشوراء"؛ لإثبات أنه كان من السنن العربية القديمة، التي ترجع إلى ما قبل الإسلام وأن قريشًا، كانت تصوم قبل الإسلام2. ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن صوم أهل الجاهلية: صوم امتناع عن الأكل والشرب وإتيان النساء. وهو صوم الإسلام، وصوم امتناع عن الكلام وحبس اللسان، إما لأمد معين قصير، مثل يوم أو أسبوع، وإما لأمد طويل. وقد أشير في القرآن الكريم أن هذا الصوم في قوله تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} 3. وروي أن رجالًا من زهاد أهل الجاهلية كانوا يصومون هذا الصوم. وقد اتخذ الصوم نذرًا، روي أن "أبا بكر" دخل على امرأة من "أحمس" يقال لها "زينب" فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجت مصمتة، قال لها: تكلمي. فإن هذا لا يحل. هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت.

_ 1 البقرة، الآية 187 تفسير الطبري "2/ 94 وما بعدها". 2 Sprenger, Leben, III, S. 54. 3 سورة مريم، الرقم 19، الآية 26، تفسير الطبري "16/ 56"، روح المعاني "16/ 79".

فقالت له: من أنت: قال امرؤ من المهاجرين: قالت: أي المهاجرين؟ قال لها: من قريش: قالت له: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسئول. أنا أبو بكر. قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال لها: كان لقومك رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى. قال: فهم أولئك على الناس1. فالتصميت، وهو الصوم عن الكلام، من فعل أهل الجاهلية. وهو معروف عندهم، ولعله وقع لهم بتأثرهم بأهل الكتاب.

_ 1 إرشاد الساري "6/ 175 وما بعدها"، "إنها مصمتة، إنها نذرت أن لا تتكلم. فقال: تكلمي إنما هذا من فعل الجاهلية"، الإصابة "4/ 315 وما بعدها"، "رقم 513، 515"، اللسان "2/ 55".

التحنث

التحنث: ومن طرق عبادة أهل الجاهلية: التحنث، أي التعبد والتقرب إلى الآلهة، ومن ذلك حديث "حكيم بن حزام": "أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صلة رحم وصدقة، أي أتقرب إلى الله تعالى بأفعال في الجاهلية"1. وكان رسول الله "يجاور في حراء من كل سنة شهرًا، وكان مما تحنث به قريش في الجاهلية. والتحنث: التبرر". "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به -إذا انصرف من جواره- الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعًا"، ثم يرجع إلى بيته. وذكر أن ذلك الشهر هو شهر رمضان2.

_ 1 تاج العروس "1/ 616"، حنث". 2 الطبري "2/ 300".

الاختتان

الاختتان: ومن شعائر الدين عند الجاهليين الاختتان، وهو من الشعائر الفاشية بينهم،

حتى إنهم كانوا يعيرون "الأغرل"، وهو الشخص الذي لم يختتن. وكان منهم ولا سيما أهل مكة من يختن البنات أيضًا، بقطع "بظورهن" وتقوم بذلك "الختانة" "الخاتنة" وقد كانوا يعيرون من تكون أمه "ختانة" نساء، فإذا أرادوا ذم أحد قالوا له: يابن مقطعة البظور، وإن لم تكن أم من يقال له: خاتنة1. وأما الاغتسال من الجنابة وتغسيل الموتى، فمن السنن التي أقرت في الإسلام، وقد أشير إلى غسل الميت في شعر للأفوه الأودي. وأشير إلى تكفين الموتى والصلاة عليهم في أشعار منسوبة إلى الأعشى وإلى بعض الجاهليين2. وورد أن قريشًا كانت تغسل موتاها وتحنطهم، ولكننا لا نستطيع تعميم هذه الأمور على كل العرب، ولا الإدعاء بأنها كانت من شعائر الدين عندهم، لما ذكرته مرارًا من اختلاف العرب بأمور دينهم، وعدم خضوعهم لدين واحد. بل ورد أن المشركين لم يكونوا يغتسلون من الجنابة، وقد ذهب المفسرون إلى أن لفظة "نجس" الواردة في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 3. فإنما قصد بها أجناب، "سماهم بذلك لأنهم يجنبون فلا يغتسلون. فقال: هم نجس ولا يقربوا المسجد الحرام؛ لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد"4. ولما نزل الأمر بمنع المشركين من دخول مكة، "شق ذلك على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: من يأتينا بطعامنا ومن يأتينا بالمتاع؟ فنزلت {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاء} . و"كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام ويتجرون فيه. فلما نهوا أن يأتوا البيت قال المسلمون من أين لنا طعام؟ فأنزل الله {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاء} 5. والقرابين والنذور وزيارات المعابد والحج، هي من أبرز الشعائر الدينية عند

_ 1 تاج العروس "3/ 52"، "بظر"، نهاية الأرب "17/ 100". 2 المحبر "319 وما بعدها". 3 سورة التوبة: الآية 28. 4 تفسير الطبري "10/ 74". 5 تفسير الطبري 10/ 75".

سواد الناس. وتكاد تكون مفهوم الدين عندهم، وذلك لما فيها من تماس مباشر بأمور حياتهم ومصالحهم. فهم يفعلون ذلك لغايات استرضاء الآلهة والتوسل إليها بأن تعطيها غلة وافرة ومالًا، فكانوا إذا تقربوا إلى صنم أو دعوا ربهم أو أدوا مناسك حجهم "فلا يسألون ربهم" إلا متاع الدنيا "فمن الناس من يقول: ربنا آتنا في الدنيا. هب لنا غنمًا، هب لنا إبلًا"، "وكانوا -يعني في الجاهلية- يقفون -يعني بعد قضاء مناسكهم- فيقولون: اللهم ارزقنا إبلًا، اللهم ارزقنا غنمًا"، وفي هؤلاء نزلت الآية: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 1. والفقر هو الذي حمل هؤلاء على أن يتقربوا إلى آلهتهم بالنذور والقرابين وبالحج على فقرهم وجوعهم، على أمل أن تعطف الآلهة عليهم. فتمن عليهم بالمال واليسر والبركة والصحة، تمامًا كما يفعل شراء أوراق "النصيب" أو أوراق سباق الخيل من الفقراء والمحتاجين على أمل الربح والكسب. وهذه النظرة المادية الساذجة، هي التي حملت عوامهم على تهديد آلهتهم وإخبارها أنهم سيمتنعون عن تقديم أي نذر أو أداء أية زيارة لها، إن لم تمن عليهم وتستجيب لأدعيتهم، فتنفذ طلباتهم وما طلبوه منها. وهي التي تحملهم بعد ذلك على التراجع عن تهديداتهم هذه وعلى الاستغفار وإظهار الندم لها، لما بدر منهم من سوء أدب، على أمل استرضائها من جديد، بعد أن فشلت وسائل التهديد من تخويف تلك الآلهة.

_ 1 البقرة، الآية 200، تفسير الطبري "2/ 174 وما بعدها".

الحلال والحرام

الحلال والحرام: يقول "ابن عساكر" في رواية تنسب إلى رجل من خثعم: "كانت العرب لا تحرم حلالًا ولا تحل حرامًا. وكانوا يعبدون الأوثان ويتحاكمون إليها"1. ومعنى هذا أنهم كانوا يحللون ويحرمون. وأن أمر الحلال والحرام إلى رجال الدين منهم، وهم سدنة الأوثان. وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع "أديان العرب" وشعائرها، فقال:

_ 1 التاريخ الكبير، لابن عساكر "1/ 317".

"وكانت أديان العرب مختلفة بالمجاورات لأهل الملل، والانتقال إلى البلدان، والانتجاعات. فكانت قريش وعامة ولد "معد" بن عدنان على بعض دين إبراهيم، يحجون البيت ويقيمون المناسك، ويقرون الضيف ويعظمون الأشهر الحرم، وينكرون الفواحش والتقاطع والتظالم، ويعاقبون على الجرائم"1. فأدخل في الدين أمورًا نعدها اليوم من الأعراف وقواعد الأخلاق والسلوك، وجعلها من سنة إبراهيم، أي دين العرب القديم قبل إفساده بالتعبد للأصنام. وذكر "السكري"، أن العرب كانت "دون من سواها من الأمم. تصنع عشرة أشياء منها: في الرأس خمسة. وهي المضمصة والاستنشاق والسواك والفرق وقص الشارب. وفي الجسد خمسة. هي: الختانة وحلق العانة ونتف الأبطين، وتقليم الأظفار والاستنجاء، خصت بهذا العرب، دون الأمم"2. فهذه الأمور العشرة هي من شعائر العرب في نظر "السكري". وهي شعائر، لا يمكن أن نجارية في رأيه، فنقول إنها كانت في جميع العرب، وإنها كانت فيهم خاصة، دون غيرهم من الأمم وفي كلام "السكري" أمور كثيرة لا يمكن التسليم بصحتها بل نجده هو يناقض نفسه في مواضع أخرى من كتابه. من ذلك قوله: "وكانوا يؤمنون بالحساب"3 "ولا يأكلون الميتة"4، فعمم رأيه، وجعله شاملًا كل العرب، بينما هو رأي طائفة من الجاهليين، وليس جميع أهل الجاهلية وللقرآن الكريم دليل ذلك، فقد حمل عليهم لنكرانهم البعث والحساب، وحرم على المسلمين أكل لحم الميتة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 5. وكانوا يأكلونها في الجاهلية. وورد أن ممن حرم أكل الميتة على نفسه "حارثة بن أوس" الكلبي، وهو جاهلي، يقول: لا آكل الميتة ما عمرت ... نفسي وإن أبرح إملاقي والعقد لا أنقض منه القوي ... حتى يواري القبر أطباقي6

_ 1 اليعقوبي "1/ 224"، "أديان العرب". 2 المحبر "329". 3 المحبر "322". 4 المحبر "329". 5 المائدة، الآية رقم 3، تفسير الطبري "6/ 44"، روح المعاني "6/ 51". 6 المحبر "329".

الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة

الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة مدخل ... الفصل الثاني والسبعون: الحج والعمرة والحج الذهاب إلى الأماكن المقدسة في أزمنة موقوتة؛ للتقرب إلى الآلهة، وإلى صاحب ذلك الموضع المقدس. وتقابل هذه الكلمة Pilgrinage في الإنكليزية1. والحج بهذا المعنى معروف في جميع الأديان تقريبًا، وهو من الشعائر الدينية القديمة عند الساميين. وكلمة "حج" من الكلمات السامية الأصيلة العتيقة، وقد وردت في كتابات مختلف الشعوب المنسوبة إلى بني سام2. كما وردت في مواضع من أسفار التوراة3. وهي تعني قصد مكان مقدس وزيارته. وفي روع الشعوب السامية القديمة وغيرها أن الأرباب لها بيوت تستقر فيها، قيل لها في الأزمنة القديمة "بيوت الآلهة"، ولذلك يرى المتعبدون والمتقون شد الرحال إليها؛ للتبرك بها وللتقرب إليها، وذلك في أوقات تحدد وتثبت، وفي أيام تعين تكون أيامًا حرمًا لكونها أيامًا دينية ينصرف فيها الإنسان إلى آلهته، ولذلك تعد أعيادًا، يعمد فيها الناس، بعد إقامتهم الشعائر الدينية المفروضة.

_ 1 تفسير الطبري "2/ 44"، "البابي"، اللسان "2/ 226"، الإقناع "1/ 334"، الكشاف، للزمخشري "1/ 389 وما بعدها". Ency. Brita, Vol, 17, p. 925, Ency, Religi, Vol, 10, p. 10. 2 تاج العروس "1/ 16 وما بعدها"، اللسان "3/ 48 وما بعدها". Ency. Religi, 10, p. 23. 3.Shorter Ency of Islam p. 123

وبعد أدائهم القواعد المرسومة، إلى الفرح والسرور والرقص؛ ليدخلوا السرور إلى قلوب الأرباب. ففي الحج إذن مناسك وشعائر دينية وعبادة تؤدى، واجتماع وسرور وحبور. ويكون الحج بأدعية وبمخاطبة إلى الآلهة وبتوسلات لتتقبل حج ذلك الشخص الذي قصدها تقربًا إليها. وهذا هو الشائع والمعروف عن الحج، غير أن من الجاهليين من كان يحج حجًّا مصمتًا، أي دون كلام، فلا يتكلم الحاج طيلة أيام حجه. وقد كان ذلك من عمل الجاهلية1. وقد ميز الشهر الذي يقع فيه الحج عن الأشهر الأخرى بتسميته بـ"شهر ذي الحجة" وبـ"شهر الحج". وذلك لوقوع الحج فيه. وهذه التسمية المعروفة حتى الآن في التقويم الهجري، هي تسمية قديمة، كانت معروفة في الجاهلية، وردت في نصوص الجاهلية. فبين أسماء الأشهر الواردة في نصوص المسند اسم شهر يعرف بـ"ذ حجتن" أي "ذي الحجة"، ويدل ذلك على أنه الشهر الذي يحج فيه. وقد وردت كلمة "حج" في نصوص المسند كذلك2. وقد ذكر "أفيفانيوس" Epiphanius أن من أسماء الأشهر عند العرب شهرًا اسمه Aggathalbaeith، "حج البيت" 3، أراد به شهر "ذي الحجة" والعرب الذين قصده هذا الكاتب هم عرب "الكورة العربية"، ومعنى هذا أن العرب الشماليين كان لهم شهر يسمى بـ"ذي الحجة" كذلك 4. ولفظة Aggathalbaeith، هي لفظة عربية النجار حرفت على لسان "أفيفانيوس" وقومه؛ لتناسب منطقهم، فصارت على هذا النحو، وهي من كلمتين عربيتين في الأصل، هما "حجة البيت"، أو "حج البيت" ويكون نص "أفيفانوس" هذا من النصوص المهمة بالنسبة لنا، التي تساعدنا في الرجوع بتأريخ استعمال هذا المصطلح إلى أيامه، ولا بد أن يكون ذلك المصطلح قد استعمل قبل أيام ذلك الكاتب ولا شك. ويقع شهر الحج "ذي الحجة" -على رواية "أفيفانيوس"– في "تشرين"

_ 1 إرشاد الساري "6/ 175". 2 D. Nielsen, Mondreligion, S. 86, Glaser 1054, Wiener Mus. No. 7. 3 Shorter Ency. Of Islam, p. 124. 4 Reste, s. 85, Ency. Religi, 10, p. 10.

الثاني"1، وأشار "بروكوبيوس" إلى أن العرب كانوا قد جعلوا شهرين من السنة حرمًا لآلهتهم لا يغزون ولا يهاجم بعضهم بعضًا2، كما أشار "فوتيوس" إلى الأشهر الحرم عند العرب3. والشهران اللذان أشار إليهما "بروكوبيوس"، هما شهرا ذو القعدة وذو الحجة في نظر "ونكلر"، وهما يمثلان -في رأيه- "جولاي" و"أغسطس" أي تموز وآب4" إننا لا نستطيع في الوقت الحاضر أن نقول إن شهر "ذ حجتن" المذكور في المسند، أو Aggathalbaeith الذي ذكره "أفيفانيوس"، هو شهر "ذو الحجة" الشهر المعروف الذي كان من شهور أهل مكة. فمن الجائز أن يكون حج العرب الشماليين أو حج العرب الجنوبيين في وقت آخر يختلف عن وقت حج أهل مكة، فيكون شهرهم المذكور شهر آخر يقع في موسم آخر من السنة، ولا ينطبق مع شهر "ذي الحجة". ويرى "ونكلر" أن ما ذكره "فوتيوس" من احتفال العرب مرتين في السنة بالحج إلى معبدهم المقدس: مرة في وسط الزبيع عند اقتران الشمس ببرج الثور، وذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف وذلك لمدة شهرين، إنما يراد بذلك شهر رمضان لاقتران الشمس فيه ببرج الثور، وأما الشهران الآخران فهما ذو القعدة وذو الحجة5. ويظهر من غربلة ما أورده أهل الأخبار من روايات عن موسم الحج في الجاهلية، أن الحج إلى مكة كان في موسم ثابت، هو الربيع على رأي كثير من المستشرقين، أو الخريف على رأي "ولهوزن"6. وذلك بسبب ما ذكر عن النسيء ومن رغبة قريش وغيرها من أن يكون في وقت واحد، كما تحدثت عن ذلك في باب النسيء. وقد ذهب "ولهوزن" إلى أن "الشهر الحرام" المذكور في القرآن الكريم، هو "شهر الحج"، وهو الشهر الأول من السنة،

_ 1 Reste, s. 100, Epiphantus, Haer, 51. 24. 2 Procopius, II, 16. 3 Reste, 101. 4 Winekler, ALF. II, Reihe, Ib, S. 336. 5 Winckler, ALF, II, Reihe. Ibd, S. 336. 6 Shorter, p. 124.

أي شهر محرم، بينما يرى المفسرون أن رجب أو ذو القعدة أو ذو الحجة1. والأصح أنه أي شهر من الأشهر الحرم. وقد ورد في القرآن الكريم "الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج"2. وقد قال "الطبري" "اختلف أهل التأويل في قوله: الحج أشهر معلومات. فقال بعضهم: يعني بالأشهر المعلومات: شوالًا وذو القعدة، وعشرًا من ذي الحجة"، "جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج. والعمرة يحرم بها في كل شهر"3، وذكر أن الله لم يسم أشهر الحج في كتابه؛ لأنها كانت معلومة عندهم4، وأن المراد بذلك أنه لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج5. وبناء على ذلك، فلا يكون المراد من الآية أن الحج يقع في كل وقت من أوقات هذه الأشهر، وإنما هو في وقت معين، ولكن الإحرام للحج، أي العزم عليه يكون في أي وقت من هذه الأشهر المذكورة، وليس في الأشهر الأخرى. وذكر "المسعودي" أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة6. ومعنى ما تقدم أن الجاهليين كانوا يتهيئون للحج من دخول شهر شوال، فيصلحون أمورهم، ويحضرون ما يحتاجون إليه من لوازم السفر، فإذا أراد أحدهم تجارة وكسبًا ذهب إلى الأسواق، حتى يهل شهر ذو الحجة، وإن لم يرد تجارة، ذهب في أي وقت يراه مناسبًا له. فبدء موسم الحج إذن والتهيؤ له يكون من شهر شوال. ويظهر من شعر نسب إلى "عوف بن الأحوص" أنه سمى شهر "ذي الحجة" "شهر بني أمية" إذ يقول: وإني والذي حجت قريش ... محارمه وما جمعت حراء وشهر بني أمية والهدايا ... إذا حبست مضرجها الدماء7

_ 1 Shorter, P. 409. 2 البقرة، الآية 197. 3 تفسير الطبري "2/ 105. 4 القرطبي "الجامع "2/ 405". 5 تفسير الطبرسي "الجزء الثاني" "ص292 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "1/ 235". 6 مروج "2/ 189"، الكشاف "1/ 245". 6 مروج "2/ 189"، الكشاف "1/ 254". 7 شرح ديوان لبيد "21".

وقد ذهب "ولهوزن" وجماعة آخرون من المستشرقين إلى تعدد بيوت الأرباب التي كان يحج إليها الجاهليون في شهر "ذي الحجة" وإلى عدم حصر الحج عند الجاهليين بموضع واحد1. ومعنى هذا أن حج أهل الجاهلية لم يكن إلى "مكة" وحدها، بل كان إلى محجات عديدة أخرى. بحيث حج كل قوم إلى "البيت" الذي قدسوه وكانوا يتقربون إليه ووضعوا أصنامهم فيه. ويتفق هذا الرأي مع ما يراه أهل الأخبار من وجود بيوت للأصنام، وكان الناس يزورونها ويتقربون إليها ويذبحون عند أصنامها ويطوفون حولها ويلبون تلبية الصنم الذي يطوفون حوله. والحج إلى مكة وإلى البيوت المقدسة الأخرى، مثل بيت اللات في الطائف وبيت العزى على مقربة من عرفات وبيت مناة وبيت ذي الخلصة وبيت نجران وبقية البيوت الجاهلية المعظمة، إنما هو أعياد يجتمع الناس فيها للاحتفال معًا بتلك الأيام وهم بذلك يدخلون السرور على أنفسهم وعلى أنفس آلهتهم بحسب اعتقادهم وتقترن هذه الاحتفالات بذبح الحيوانات، كل يذبح على قدر طاقته ومكانته، فيأكل منها في ذلك اليوم من لم يتمكن من الحصول على اللحم في أثناء السنة لفقره، فهي أيام يجد فيها الفقراء لذة ومتعة وعبادة. ويذكر أهل الأخبار أن الحج إلى مكة كان في الجاهلية كذلك، وأن الجاهليين كانوا يحجون إلى البيت منذ يوم تأسيسه، وأنهم كانوا يقصدون مكة أفواجًا من كل مكان. وأن ملوكهم كانوا يتقربون إلى "بيت الله" بالهدايا والنذور، وأن منهم من حج إليه. وأن الناس كانوا يقسمون بالبيت الحرام لما له من مكانة في نفوس جميع الجاهليين. غير أننا نجد في روايات بعض أهل الأخبار ما ينافي تعظيم كل العرب للبيت وحجهم إليه واحترامهم للحرم وللأشهر الحرم. فقد ورد أن من العرب من "كان لا يرعى للحرم ولا للأشهر الحرام حرمة"، ومنهم "خثعم" و"طيء"2، وأحياء من قضاعة ويشكر والحارث بن كعب3. وورد أن ذؤبان العرب وصعاليكها.

_ 1 Reste, s. 84. 2 تاج العروس "8/ 241"، "حرم". 3 الجاحظ، الحيوان "7/ 216 وما بعدها"، النجيرمي، أيمان العرب "12"، المحبر "319".

وأصحاب التطاول، كانوا لا يؤمنون على الحرم، ولا يرون للحرم حرمة، ولا للشهر الحرام قدرًا. وقد كانوا خطرًا يهدد البيت وأهله لذلك، ألف "هاشم بن قريش وسادات القبائل ألفة ليحمي بهم البيت. قال "الجاحظ" في تفسيره للإيلاف: "وقد فسره قوم بغير ذلك. قالوا: إن هاشمًا جعل على رءوس القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة. فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب التطاول. كانوا لا يؤمنون على الحرم. لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرًا، مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بلحارث بن كعب"1. ورءوس القبائل الذين جعل هاشم عليهم ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة، هم رؤساء مكة ولا شك، ومن كانت له مصلحة تجارية مباشرة بمكة، فكان يأخذ من هؤلاء ما يأخذه ثم يجمعه ويعطيه إلى "المؤلفة قلوبهم" من سادات القبائل النازلين حول مكة وعلى مقربة منها، كما ألف بين مكة وبين سادات القبائل الذين تمر قوافل مكة بأرضهم في طريقها إلى الشأم أو العراق أو اليمن. بروابط "الإيلاف"، أي العقود التي عقدها معهم، بإعطائهم جعلًا معينًا، أو حقوقًا تبين وتكتب، أو ربحًا يدفع مع رءوس المال عن البضائع التي تدفع لقريش لتقوم قوافلها ببيعها في الأسواق. وبذلك أمنت مكة وسلمت تجارتها. ودانت بعض القبائل بدين قريش في الأشهر الحرم، لما فيها من فائدة ومنفعة مادية بينة ظاهرة، فاحترمتها، وبهذا أمن الحج واستراح التجار من قريش ومن غيرهم في ذهابهم بحرية وبأمان في هذه الشهور إلى الأسواق. وليست لدينا ويا للأسف أخبار مدونة عن مناسك الحج وشعائره عند الجاهليين. لعدم ورود شيء من ذلك في النصوص الواردة إلينا، ما خلا الحج إلى "بيت الله الحرام" بمكة، حيث حفظت الموارد الإسلامية لنا شيئًا من ذلك؛ بسبب فرض الحج في الإسلام، وإقرار الإسلام لبعض شعائره التي لم تتعارض مع مبادئه ولولا ذلك لما عرفنا شيئًا عن الحج إلى مكة عند الجاهليين. ولهذا فسأقتصر في كلامي هنا على الحج إلى مكة فقط. إلا إذا وجدت خبرًا أو نصًّا عن حج غير

_ 1 رسائل الجاحظ "70"، Kister, p. 119. 143. طبقات الشعراء، لابن سلام "61"، الثعالبي، المضاف والمنسوب "89" النقائض "2/ 671"، ابن هشام "1/ 603"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 166"، الأغاني "21/ 42".

أهل مكة من الجاهليين إلى مكة أو إلى بيوت أخرى فسأتكلم عنه حينئذ. ويظهر من غربلة ما جاء في روايات أهل الأخبار عن "حج البيت"، أن مناسك الحج لم تكن واحدة بالنسبة للحجاج، بل كانت تختلف باختلاف القبائل. فقد انفردت "قريش" بأمور من أمور الحج، واعتبرتها من مناسك حجها، وانفردت قبائل أخرى بمناسك لم تعتبرها "قريش" موجبة لها، ولم تعمل بها ووقفت قريش في مواقف، اعتبرتها مواقف خاصة بها. وأوجبت على من يفد إلى مكة للحج، مناسك معينة سنتحدث عنها. فلما ظهر الإسلام وجد مناسك الحج وثبتها وأوجب على كل مسلم اتباعها. ويبدأ الحج الحج في الإسلام بلبس "الإحرام" حين بلوغه "الميقات" المخصص للجهة التي جاء منها. و"ميقات" الحج موضع إحرامهم1. وقد عين الرسول أكثر "المواقيت" وثبتها، فجعل "ذا الحليفة" ميقاتًا لأهل "يثرب"، و"الجحفة" ميقاتًا لأهل الشأم، و"يلملم" ميقاتًا لأهل اليمن، و"قرن المنازل" لأهل نجد ومن يأتي من الشرق نحو الحجاز. وأما "ذات عرق"، فميقات أهل العراق، قيل إن الرسول ثبته، وقيل إنه ثبت بعد فتح العراق، أما أهل مكة، فكانوا يحرمون من بيوتهم2. ويجوز أن تكون هذه المواقيت من مواقيت أهل الجاهلية كذلك، وقد ثبتها الإسلام. ويستعد الجاهليون للحج عند حضورهم موسم "سوق عكاظ" فإذا انتهت أيام السوق، وأراد منهم من أراد الحج، ذهب إلى "مجنة"، فأقام بها إلى هلال ذي الحجة، ثم ارتحل عنها إلى "ذي المجاز"، ومنه إلى "عرفة"، فإن كان يوم التروية، تزودوا بالماء وارتفعوا إلى عرفة. هذا بالنسبة إلى التجار، الذين كانوا يأتون هذه المواضع للتجارة، أما بالنسبة إلى غيرهم، فقد كانوا يقصدون الحج في أي وقت شاءوا، ثم يذهبون إلى "عرفة" للوقوف موقف عرفة، يقصدها "الحلة"، أما الحمس" فيقفون بـ"نمرة"، ثم يلتقون جميعًا بمزدلفة للإفاضة3.

_ 1 تاج العروس "1/ 594"، "وقت". 2 شرح النووي على صحيح مسلم "5/ 190 وما بعدها"، حاشية على إرشاد الساري"، إرشاد الساري "3/ 97 وما بعدها". 3 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 121 وما بعدها".

ويبدأ حج أهل الجاهلية بالإهلال، فكانوا يهلون عند أصنامهم، ويلبون إليها، فإذا انتهوا من ذلك قدموا مكة، فكان الأنصار مثلًا يهلون لمناة في معبده، أي أنهم كانوا يغادرون "يثرب" على معبد الصنم، فيكونون فيه لمراقبة هلال ذي الحجة فإذا أهلوا لبوا، ثم يسير من يسير منهم إلى مكة، لحج البيت1. والطواف بالبيوت وبالأصنام، ركن من أركان الحج، ومنسك من مناسكه. وكانوا يفعلونه كما دخلوا البيت الحرام، فإذا دخل أحدهم الحرم، وإذا سافر أو عاد من سفر، فأول ما كان يفعله الطواف بالبيت. وقد فعل غيرهم فعل قريش ببيوت أصنامهم، إذ كانوا يطوفون حولها كالذي كان يفعله أهل يثرب من طوافهم بـ"مناة"2. وقد ذكر الأخباريون أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون حول الرجمات، وهي حجارة تجمع فتكون على شبه بيت مرتفع كالمنارة، ويقال لها الرجمة3. وكان الجاهليون يطوفون حول الأصنام والأنصاب كذلك. وذكر "نيلوس" Nilus أن الأعراب كانوا يطوفون حول الذبيحة التي يقدمونها قربانًا للآلهة4. وكانوا يطوفون حول القبور أيضًا: قبور السادات والأشراف من الناس. وطافوا حول "الأنصاب" ويسمون طوافهم بها "الدوار". فكانوا يطوفون حول حجر ينصبونه طوافهم بالبيت، وسموا تلك الأحجاب الأنصاب5. وللطواف كلمة أخرى هي "الدوار" من "دار" حول موضع من المواضع، وطاف حوله الشيء، وإذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه. ونجد هذا المعنى في شعر الشاعرين الجاهليين: امرئ القيس، وعنترة بن شداد العبسي6. وقد ذكر علماء اللغة أن "الدوار" صنم كانت العرب تنصبه، يجعلون موضعًا حوله يدورون به، واسم ذلك الصنم والموضع الدوار. ومنه قول امرئ القيس: فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار، في ملاء مذيل7

_ 1 صحيح مسلم "4/ 68 وما بعدها". 2 شرح صحيح مسلم، للنووي "8/ 21 وما بعدها". 3 تاج العروس "3/ 422 وما بعدها"، "عمر" اللسان "6/ 282". 4 Reste, s. 108. 5 الأصنام "33، 42". 6 اللسان "4/ 296 وما بعدها". Shorter Ency, of Islam , p 585. 7 اللسان "4/ 297 وما بعدها".

وقيل إنهم كانوا يدورون حوله أسابيع كما يطاف بالكعبة. وقيل حجارة كانوا يطوفون حولها تشبهًا بالكعبة1 وتلعب عبادة الحجر دورًا بارزًا في "الدوار" فقد كان قوم من أهل الجاهلية يقيمون الأحجار، ثم يطوفون حولها، يتخذون الدوار عبادة لهم. وقد تكون الأحجار أصنامًا، وقد تكون حجارة تنتقى فيطاف حولها، و"عن أبي رجاء العطاردي، قال: لما بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب، فلحقنا بالنار، وكنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجرًا هو أحسن منه، ألقينا ذلك وأخذناه، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به، وكنا إذا دخل رجب قلنا جاء منصل الأسنة، فلا ندع سهمًا فيه حديدة، ولا حديدة في رمح إلا نزعناها وألقيناها"2. ويلاحظ أن الجاهليين كانوا يقيمون وزنًا للحليب في أمور العبادة فقد كانوا يسكبونه على الأصنام، كما رأينا في باب الأصنام وفي القصة المتقدمة. ويلاحظ أن الرواية قد خصصت حليب الغنم، ولم تشر إلى حليب الإبل، أو حليب أية ماشية أخرى، مما قد يدل على وجود رابطة بين هذا الحليب وبين "الدوار" وأن له علاقة بالأساطير، وذلك في حالة صدق الخبر بالطبع. والطواف من أهم طرق التعبد والتقرب إلى الآلهة. يؤدونه كما يؤدون الشعائر الدينية المهمة مثل الصلاة، وليس له وقت معلوم، ولا يختص ذلك بمعبد معين ولا بموسم خاص مثل موسل الحج، بل يؤدونه كلما دخلوا معبدًا فيه صنم، أو كعبة أو ضريح، فهم يطوفون سبعة أشواط حول الأضرحة أيضًا: كما يطوفون حول الذبائح المقدمة إلى الآلهة. فالطواف إذن من الشعائر الدينية التي كان لها شأن بارز عند الجاهليين. وكانوا يطوفون بالبيت في نعالهم، لا يطئون أرض المسجد تعظيمًا له3. إلا أن يكون الحاج فقيرًا حافيًا. فقد كان منهم من لا يملك نعالًا ولا خفًّا ولا

_ 1 تاج العروس "3/ 216" "دار". 2 زاد المعاد" 3/ 32"، "فصل في قدوم وفد بني حنيفة"، إرشاد الساري "6/ 435"، "باب وفد بني حنيفة". 3 اليعقوبي "1/ 226"، "أديان العرب".

سائر ما يلبس بالرجل لفقره. وذكر أن رسول الله قال: "من لم يجد نعلين، فليلبس خفين" 1. وقد ذكر "السكري"، أن "الحمس" كانوا "لا يطوفون بالبيت إلا في حذائهم وثيابهم ولا يمسون المسد بأقدامهم تعظيمًا لبقعته"2. وذكر أن "الحلة" كانوا على العكس منهم. "فإذا دخلوا مكة بعد فراغهم تصدقوا بكل حذاء وكل ثوب لهم، ثم استنكروا من ثياب الحمس تنزيهًا للكعبة أن يطوفوا حولها إلا في ثياب جدد. ولا يجعلون بينهم وبين الكعبة حذاء يباشرونها بأقدامهم"3. وكانوا يدخلون جوف الكعبة بنعالهم، لا يتأثمون من ذلك. وذكر أن "الوليد بن المغيرة" كان أول من خلع نعليه لدخول الكعبة، تعظيمًا لها، فخلع الناس نعالهم4. وعدة الطواف حول الكعبة عند الجاهليين سبعة أشواط، ولا أستبعد أن يكون هذا العدد ثابتًا بالنسبة إلى الطواف حول البيوت الأخرى أو حول الرجمات والأنصاب والقبور أيضًا. فقد كان الطواف سبعة أشواط مقررًا عند غير العرب أيضًا، وقد ذكر في "التوراة"؛ إذ كان العبرانيون يمارسونه5. والعدد سبعة هو من الأعداد المقدسة المهمة عند الشعوب القديمة. ولهذا أرى أن غير قريش من العرب كانوا يطوفون هذا الطواف أيضًا حول محجاتهم في ذاك الوقت. وقد ورد أن من الجاهليين من كان يطوف ويده مربوطة بيد إنسان آخر، بحبل أو بسير، أو بزمام أو منديل، أو خيط أو أي شيء آخر، يفعلونه نذرًا أو حتى لا يفترقا. وقد نُهي عن ذلك في الإسلام. فقد روي أن الرسول رأى أحدهما وقد فعل ذلك، فقطع بيده ذلك الرباط6.

_ 1 صحيح مسلم "4/ 2 وما بعدها"، "كتاب الحج"، إرشاد الساري "3/ 313 وما بعدها"، "باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين". 2 المحبر "180". 3 المحبر "180 وما بعدها". 4 ابن رستة، الأعلاق "191". 5 Shorter Ency, of Islam , p. 585. 6 صحيح البخاري "2/ 179" إرشاد الساري "3/ 173 وما بعدها"، "باب الكلام في الطواف".

الحمس والطلس والحلة

الحمس والطلس والحلة: والأخباريون يذكرون أن الطائفين بالبيت كانوا على صنفين: صنف يطوف عريانًا، وصنف يطوف في ثيابه. ويعرف من يطوف بالبيت عريانًا بـ"الحِلة". أما الذين يطوف بثيابهم، فيعرفون بـ"الحمس"1. وأضاف بعض أهل الأخبار إلى هذين الصنفين، صنفًا ثالثًا قالوا له: "الطلس"2. وقبائل الحلة من العرب: تميم بن مر كلها غير يربوع، ومازن، وضبة، وحميس، وظاعنة، والغوث بن مر، وقيس عيلان بأسرها ما خلا ثقيفًا وعدوان، وعامر بن صعصعة، وربيعة بن نزار كلها. وقضعة كلها ما خلا علافًا وجنابًا. والأنصار وخثعم، وبجيلة، وبكر بن عبد مناة بن كنانة، وهذيل بن مدركة، وأسد وطيء، وبارق. وقد ذكر هذه الأسماء "محمد بن حبيب"3. وذكرها "اليعقوبي" على هذا النحو: تميم وضبة ومزينة والرباب وعكل وثور وقيس عيلان كلها ما خلا عدوان وثقيف وعامر بن صعصعة وربيعة بن نزار كلها، وقضاعة وحضرموت وعك وقبائل من الأزد4. وهم يذكرون أن "الحلة" ما عدا الحمس وأنهم كانوا يطوفون عراة إن لم يجدوا ثياب أحمس، وكانوا يقصدون من طرحهم ثيابهم طرحهم ذنوبهم معها5. ويذكرون أنهم كانوا يقولون: "لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب"، "ولا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها"، "ولا نطوف في ثياب عصينا الله فيها"، وذكر أنهم "كانوا إذا طافوا خلعوا ثيابهم وقالوا لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فيلقونها عنهم، ويسمون ذلك الثوب اللقى"6. وفي رواية أن من يطوف

_ 1 تفسير الطبري "2/ 170"، البخاري، "كتاب الحج، الباب 91"، "كتاب التفسير، الباب 35"، البلدان "4/ 620 وما بعدها"، الأزرقي "1/ 113" اليعقوبي "1/ 226"، "النجف 1964م"، المحبر "178"، ابن هشام "1/ 212"، الكشاف "1/ 256"، شرح حماسة أبي تمام، للتبريزي "1/ 7"، شرح المفضليات، للأنباري "259"، ابن رشيق، العمدة "2/ 188"، ابن الفقيه، مختصر كتاب البلدان "18". 2 المحبر "178 وما بعدها". 3 المحبر "179". 4 اليعقوبي "1/ 226"، "النجف 1964م". 5 الروض الأنف "1/ 133". 6 الأزرقي "1/ 117"، اللسان "20/ 122"، الكشاف "2/ 60".

من "الحلة" بثيابه يضرب وتنتزع منه ثيابه1. فجعلت هذه الرواية خلع الثياب واجب على الحلة محتم عليهم، لا يجوز مخالفته، وإلا تعرض المخالف للعقاب. وتخضع النساء لهذه القاعدة أيضًا إذا كن من الحلة، فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة2. وقيل تضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعًا مفرجًا عليها ثم تطوف فيه3. وقيل كانت تقف على باب المسجد، فتقول: من يعير مصونًا؟ من يعير ثوبًا؟ من يعيرني تطوافًا؟ فإن أعارها أحد ثوبًا أو كراه لها طافت به وإلا طافت عريانة كما يطوف الرجال على حد زعم الروايات. لا يستر عورتها لباس أو قماس، بل كانت تضع إحدى يديها على قبلها واليد الأخرى على دبرها وتطوف حول البيت على هذا النحو. وهم يروون في ذلك بيتًا ينسبونه لامرأة جميلة، قيل هي: ضباعة بنت عامر بن صعصعة بالبيت عريانة وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله4 وشاءت بعض الروايات أن تخفف من وقع طواف النساء على هذه الصورة في النفوس، فذكرت أن بعض النساء كانت تتخذ سيورًا فتعلقها في حقوتها تستتر بها5، وذكرت روايات أخرى أنهن كن يطفن ليلًا، وبذلك يتخلصن من وقوع سترهن في أعين الرجال؛ لأن طواف الرجال في النهار6. وقد وصفت بعض الروايات طواف العريان فقالت: "يبدأ بإساف فيستلمه، ثم يستلم الركن الأسود، ثم يأخذ عن يمينه ويطوف ويجعل الكعبة عن يمينه، فإذا ختم طوافه سبعًا، استلم الركن ثم استلم نائلة فيختم بها طوافه، ثم يخرج فيجد ثيابه كما تركها لم تمس، فيأخذها فيلبسها ولا يعود إلى الطواف بعد ذلك.

_ 1 الكشاف "2/ 60"، الأزرقي "1/ 112 وما بعدها". 2 صحيح مسلم "18/ 162". 3 سيرة ابن هشام "1/ 133" "حاشية على الروض" 4 الأزرقي "1/ 115، 117"، اللسان "11/ 129"، "طوف" الروض "1/ 133"، صحيح مسلم "18/ 162"، تفسير الطبري "8/ 118"، تفسير القرطبي، الجامع "7/ 189". 5 الأزرقي "1/ 117". 6 الأزرقي "1/ 117"، الطبرسي "3/ 414".

عريانا"1. هذا هو طواف أهل الجاهلية قبل الإسلام على رواية أهل الأخبار. وجاء في بعض الروايات: "كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة، إلا أن تعطيهم الحمس ثيابًا، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء"، "فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوبًا ولا يسار يستأجر به، كان بين أحد أمرين: إما أن يطوف بالبيت عريانًا، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرع من طوافه ألقى ثوبه عنه، فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى"2. وجاء أيضًا أن "الحمس" كانوا "يقولون نحن أهل الحرم، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا"3. وورد أنهم "كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون"4. ويذكر بعض أهل الأخبار أن طواف الطائف عريانًا إنما يكون للمرة الأولى، فإذا عاد فطاف بعد ذلك، لبس ملابسه، وطاف بملابسه كالحمس لا يلقيها خارج حدود الحرم. والتفسير الذي ذكره الأخباريون لطواف العري، هو رغبة الطائف حول البيت أن يكون نقيًّا متحررًا عن ذنوبه وآثامه بعيدًا عن الأدران. واعتقاده أن طوافه بملابسه طواف غير صحيح؛ لأن ملابسه شاركته في آثامه، فهي ملوثة نجسة، ولذلك هاب من لبسها، فإذا أتم طوافه تركها في موضعها، ولبس ملابس أخرى جديدة5. ويذكر الأخباريون أن تلك الملابس التي يلقيها المحرم تبقى في مكانها، لا يمسها أحد، ولا يحركها حتى تبلى من وطء الأقدام ومن الشمس والرياح. ويقال لهذه الثياب التي تطرح بعد الطواف "اللقى" وقد أشير إليها في شعر

_ 1 الأزرقي "1/ 114". 2 تفسير القرطبي "7/ 189". 3 المصدر نفسه". 4 تفسير النيسابوري "9/ 157"، "حاشية على تفسير الطبري" تفسير الطبري "9/ 157 وما بعدها". 5 الأزرقي "1/ 117"، اللسان "20/ 122"، الكشاف "2/ 60".

لـ"ورقة بن نوفل"1. ولعل اعتقاد القوم بأن تلك الملابس ملوثة بالأدران، هو الذي منع الناس الآخرين من لمس تلك الملابس والاستفادة منها، فتركوها لذلك للأرض وللشمس والرياح تعبث بها إلى أن تتمزق وتهرى2. ولكننا نجد الأخباريين يعودون فيروون روايات تناقض ما ذكروه عن "اللقى". إذ يقولون: كان الحلة إذا ختموا طوافهم وأتموه بنائلة، خرجوا إلى ثيابهم التي ألقوها خارج باب المسجد، فلبسوها، فإذا أرادوا الطواف مرة أخرى طافوا بملابسهم3. فهم يقرون في هذه الرواية طواف العري، ولكنهم ينكرون ترك "اللقى" على الأرض لتدوس عليها الأقدام ولتلعب بها الرياح وتعبث بها الأهوية والأتربة، ويجعلون أصحابها يعودون إليها فيلبسونها تارة أخرى. ونقرأ في كتبهم رواية أخرى تذكر أن أحدًا من الحلة إذا لم يجد ثياب أحمسي يطوف فيها ومعه فضل ثياب يلبسها، غير ثيابه التي عليه فطاف في ثيابه ثم جعلها لقى يطرحها بين إساف ونائلة فلا يمسها أحد ولا ينتفع بها منتفع حتى تبلى من وطء الأقدام والشمس والرياح والأمطار4. وقد ذكر "محمد بن حبيب" أن "الحلة" كانوا إذا دخلوا مكة "تصدقوا بكل حذاء وكل ثوب لهم ثم استكروا لهم من ثياب الحمس تنزيهًا للكعبة أن يطوفوا حولها إلا في ثياب جدد. ولا يجعلون بينهم وبين الكعبة حذاء يباشرونها بأقدامهم. فإن لم يجدوا ثيابًا طافوا عراة. وكان لكل رجل من الحلة حرمي من الحمس يأخذ ثيابه. فمن لم يجد ثوبًا طاف عريانًا. وإنما كانت الحلة تستكري الثياب للطواف في رجوعهم إلى البيت لأنهم كانوا إذا خرجوا حجاجًا لم يستحلوا أن يشتروا شيئًا ولا يبيعوه حتى يأتوا منازلهم إلا اللحم. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حرمي عياض بن حمار المجاشعي: كان إذا قدم مكة طاف في ثياب رسول الله"5.

_ 1 كفى حزنا كري عليه، كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حريم الأزرقي "1/ 112، 114" اللسان "20/ 122"، النهاية في غريب الحديث "4/ 29"، تفسير القرطبي، الجامع "7/ 189". 2 Robertson smith, p. 751. 3 الأزرقي "1/ 114". 4 الأزرقي "1/ 114". 5 المحبر "ص180 وما بعدها".

فالذي يطوف بالبيت عريانًا، هو ضعيف "الحلة"، ممن لا قبل له على استكراء ثياب له من أحمسي، وممن لا صاحب له من الحمس، يعطيه ثيابًا ليلبسها. أما المتمكن من "الحلة" ومن له صديق من الحمس، فلا يطوف عريانًا، وإنما يطوف بثياب أحمسي. ويرى "روبرتسن سمث" أن الذي أوحى إلى الجاهليين وجوب طرح ملابس الحلة إذا أحرم فيها. واعتقادهم بتقدس تلك الملابس في أثناء الإحرام مما يجعلها في حاكم الـ"تابو" Tabu عند الأقوام البدائية، ولذلك لا يجوز استعمالها مرة أخرى، وهم أنفسهم قوم غير مقدسين1. وقد منع الإسلام طواف "العري" في أي وقت كان، وحتم على الجميع قريش وغيرهم لبس "الإحرام"2. وقد ذكر علماء التفسير في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. أن هذه الآية نزلت في حق المتعرين الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، "فإذا قيل لهم: لِمَ تفعلون ذلك؟ قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها"، "فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون، ونقتدي بهديهم ونستن بسنتهم. والله أمرنا به فنحن نتبع أمره فيه"4. فنحن إذن أمام سنة جاهلية قديمة، ترجع طواف العري إلى أمر سابق وشريعة سابقة. وأما "الحمس"، فهم الذين كانوا يطوفون بثيابهم، ثم يحتفظون بها فلا يلقونها، فلهم من هذه الناحية ميزة امتازوا بها على الحلة، ولهم على الحلة ميزة أخرى، هي أنهم كانوا يقفون الموقف في طرف الحرم من "غرة": يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة، ويفيضون منه إلى المزدلفة5. ولا يقفون موقف غيرهم بعرفة، فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل. وحجتهم أنهم أهل الحرم فلا يخرجون منه مثل سائر.

_ 1 R. Smith, p. 751. 2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 111". 3 الأعراف، الرقم 27 الآية 28". 4 تفسير الطبري "8/ 114"، تفسير القرطبي، الجامع "7/ 187". 5 الأزرقي "1/ 116 وما بعدها" "2/ 158 وما بعدها"، النهاية "1/ 233"، شرح النووي، "8/ 180" وما بعدها"، Enci, II, p. 335.

الناس. ويقولون: "نحن أهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة وساكنها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا ولا تعرف له العرب مثل ما نعرف"1. وتفسير كلمة "الحمس" في رأي علماء اللغة التشدد في الذين، سموا حمسًا لأنهم كانوا يتشددون في دينهم، فكانوا إذا زوجوا امرأة منهم لغريب عنهم، أي لمن كان من الحلة اشترطوا عليه أن كل من ولدت له، فهو أحمسي على دينهم. وكانوا إذا أحرموا لا يأتقطون الأقط، ولا يأكلون السمن ولا يسلئونه ولا يمخضون اللبن، ولا يأكلون الزبد، ولا يلبسون الوبر ولا الشعر ولا يستظلون به ما داموا حرمًا، ولا يغزلون الوبر ولا الشعر ولا ينسجونه، وإنما يستظلون بالأدم، ولا يأكلون شيئًا من نبات الحرم. وكان يعظمون الأشهر الحرم ولا يخفرون فيها الذمة ولا يظلمون فيها، ويطوفون بالبيت وعليهم ثيابهم. وكانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية وأول الإسلام، فإن كان من أهل المدر نقب نقبًا في ظهر بيته فمنه يدخل ومن يخرج ولا يدخل من بابه. وكانوا يقولون: لا تعظموا شيئًا من الحل، ولا تجاوزوا الحرم في الحج فلا يهاب الناس حرمكم، ويرون ما تعظمون من الحل كالحرم، فقصروا عن مناسك الحج والموقف من عرفة وهو من الحل، فلم يكونوا يقفون به ولا يفيضون منه، وجعلوا موقفهم في طرف الحرم من نمرة: يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك من نمرة، ويفيضون منه إلى المزدلفة. فإذا عممت الشمس رءوس الجبال دفعوا. وكانوا يقولون: نحن أهل الحرم، لا نخرج من الحرم، ونحن الحمس. وكانوا إذا أرادوا بعض أطعمتهم ومتاعهم، تسوروا من ظهر بيوتهم وأدبارها حتى يظهروا على السطوح، ثم ينزلون في حجرتهم، ويحرمون أن يمروا تحت عتبة الباب2. فهم يحرمون إذن أشياء لم تكن العرب تحرمها3.

_ 1 ابن هشام "1/ 132" "هامش على الروض". 2 الأزرقي "1/ 116 وما بعدها"، النهاية "1/ 233، 293" الاشتقاق "153"، ابن هشام "1/ 211"، الكامل، لابن الأثير "1/ 391"، الطبرسي "2/ 411". Caetani, Annali, I, s, 121, Ency, II, p. 335, Snouck Hurgounje, Het, Mek-kaanische, feest, p. 21. 77, 111, 130. 3 المعاني "2/ 998".

والحمس: قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة على رواية1. تضاف إليهم خزاعة والأوس والخزرج وجشم وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة وأزد شنوءة وجذم زبيد وبنو ذكوان من بني سليم وعمرو اللات وثقيف وغطفان والغوث وعدوان وعلاف وقضاعة على رواية للأزرقي2. وهم: "قريش" وكنانة وجديلة قيس، وفهم، وعدوان، وثقيف، وعامر بن صعصعة على رواية أخرى3. وقد ذكر "ابن سعد"، أن الحمس هم: قريش وكنانة وخزاعة ومن ولدته قريش من سائر العرب. أو حليف قريش. وذكر بعض الرواة أنهم قريش وعامر بن صعصعة، والحارث بن كعب4. وذكرهم بعض آخر على هذا النحو: قريش، وكنانة، وخزاعة، وثقيف، وخثعم، وعامر بن صعصعة، ونصر بن معاوية. وأضاف "القرطبي" جشمًا إليهم5. وورد أن "الحمس لقب قريش ومن ولدت قريش، وكنانة وجديلة قيس. وهم: فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس عيلان، وبنو عامر بن صعصعة، ومن تابعهم في الجاهلية. هؤلاء الحمس. وإنما سموا لتحمسهم في دينهم أي تشددهم فيه، وكذا في الشجاعة فلا يطاقون، أو لالتجائهم بالحمساء وهي الكعبة"6. وأورد "ابن حبيب" أسماء الحمس من العرب، فقال: "قبائل الحمس من العرب: قريش كلها. وخزاعة لنزولها مكة، ومجاورتها قريشًا. وكل من ولدت قريش من العرب وكل من نزل مكة من قبائل العرب. فممن ولدت قريش: كلاب، وكعب، وعامر، وكلب بنو ربيعة بن عامر بن صعصعة، وأمهم مجد بنت تيم بن غالب بن فهر. وإياها عنى لبيد بن ربيعة بقوله: سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرًا والقبائل من هلال

_ 1 النهاية في غريب الحديث "1/ 293"، تاج العروس "4/ 132 وما بعدها"، "حمس"، اللسان "7/ 257 وما بعدها"، حمس، إرشاد الساري "3/ 200"، البلخي، البدء والتأريخ "4/ 32 وما بعدها". 2 البلدان، "مكة"، Kister, p. 138. 3 الطبقات "1/ 72"، "صادر". 4 ابن هشام "1/ 212"، ابن قتيبة، المعارف "269" المعاني "989"، المرزوقي، شرح الحماسة "31"، Kister, p 132. 5 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "2/ 345"، أبو حيان، البحر المحيط "2/ 63"، kister, p. 132. 6 تاج العروس "4/ 132"، حمس".

والحارث بن عبد مناة بن كنانة. ومدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة، بنزولهم حول مكة وعامر بن عبد مناة بن كنانة. ومالك، وملكان، ابنا كنانة، وثقيف، وعدوان، ويربوع بن حنظلة. ومازن بن مالك بن عمرو بن تميم. وأمهما جندلة بن فهر بن مالك بن النضر. ويقال: إن بني عامر كلهم حمس لتحمس أخوتهم من بني ربيعة بن عامر، وعلاف، وهو ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وجناب بن هبل بن عبد الله من كلب. وأمه آمنة بنت ربيعة بن عامر بن صعصعة. وأمها مجد بنت تيم الأدرم بن غالب بن فهر"1. ويتبين مما تقدم أن "الحمس"، لم يكونوا قريشًا وحدهم وسكان الحرم، وأنهم لم يكونوا جماعة قامت وظهرت على رابطة الدم والنسب، كما هو الحال بالنسبة إلى القبيلة. بل هم قريش وكل من نزل الحرم وسكن مكة، وطوائف من العرب شاركت قريشًا في مناسك حجها، وسارت على نهجها في الحج، وشاطرتها الرأي في دينها. قد ذكر "الجاحظ" أن "عامربن صعصعة"، و"خزاعة"، و"ثقيفًا"، والحارث بن كعب، كانوا ديانين، أي على رأي ودين2. وكانوا على دين قريش. وقال غيره: "وصارت بنو عامر من الحمس وليسوا من ساكني الحرم لأن أمهم قرشية. وهي مجد بنت تيم بن مرة. وخزاعة إنما سميت خزاعة؛ لأنهم كانوا من سكان الحرم فخزعوا عنه، أي خرجوا. ويقال إنهم من قريش انتقلوا ببنيهم إلى اليمن. وهم من الحمس"3. وقد ميز بعض العلماء بين "الحمس" وهم نزلاء الحرم وبين المتحمسين الذين دخلوا في الحمس؛ لأن أمهاتهم من قريش، بأن أطلقوا عليهم لفظة "الأحامس". فقالو: "والأحماس من العرب الذين أمهاتهم من قريش"4. وجاء في بعض الأخبار أن "غطفان"، لما اتخذت لها بيتًا أرادت به مضاهاة الكعبة، وجعلت له حرمًا كحرمة مكة. أغار "زهير بن جناب الكلبي" عليه.

_ 1 المحبر "178 وما بعدها"، ابن دريد، الاشتقاق "540"، ابن عبد البر، إنباه "87" المفضليات، شرح الأنباري "259". 2 Kister, p. 136. 3 تاج العروس "4/ 132"، "حمس". 4 تاج العروس "4/ 133"، "حمس".

وهدامه1. وكان زهير من الحمس. وقد وصف "ابن سعد" "التحمس" بقوله: "والتحمس أشياء أحدثوها في دينهم تحمسوا فيها، أي شددوا على أنفسهم فيها، فكانوا لا يخرجون من الحرم إذا حجوا، فقصروا عن بلوغ الحق، والذي شرع الله، تبارك وتعالى، لإبراهيم وهو موقف عرفة، وهو من الحل، وكانوا لا يسلئون السمن ولا ينسجون مظال الشعر، وكانوا أهل القباب الحمر من الأدم، وشرعوا لمن قدم من الحاج أن يطوف بالبيت وعليه ثيابه ما لم يذهبوا إلى عرفة، فإذا رجعوا من عرفة لم يطوفوا طواف الإفاضة بالبيت إلا عراة أو في ثوبي أحمسي، وإن طاف في ثوبيه لم يحل له أن يلبسهما"2. وللجاحظ ملاحظات قيمة عن قريش لها صلة بالتحمس، وقد تفسر لنا معنى التحمس وسبب شموله أناسًا هم من غير قريش. ذكر أن الإسلام لما ظهر، لم تكن هنالك أية امرأة قرشية، كانت مسبية عند غير قريش، ولم تكن هنالك أية امرأة مسبية في أيدي القبائل وأمها من قريش. ويذكر أيضًا أن قريشًا لم تكن تزوج بناتها من أبناء أشراف القبائل حتى تشترط عليهم أن من تلد منهن، فيكون من يلدن من الحمس. أما هم، فكانوا إذا تزوجوا من بنات قبائل أخرى، فإنهم لم يشترطوا على أنفسهم أي شرط، وكان من هذه القبائل عامر بن صعصعة وثقيف وخزاعة والحارث بن كعب، "وكانوا ديانين" وكانوا على دين قريش في أمورها. وكانت قريش كريمة، ولم ترض بالغارات والغزو ولا بالظلم ولم تقبل بالوأد ولا بالدخول بمن يقع في أيديهم أسرى من النساء. وكان من فضائلهم أن منَّ الله عليهم بالإيلاف. فأغناهم وجعلهم "لقاحًا". فلم يخضعوا لملك ولم يستعبدهم سلطان أجنبي3. ولم يدفعوا أي شيء عنهم الملك من الملوك. بل كانت الملوك تأتي إلى مكة وتعظم البيت وتحترم سكانه. وهم قريش الحمس4.

_ 1 الأغاني "12/ 121"، "21/ 63". 2 ابن سعد، الطبقات"1/ 72"، "صادر". 3 أخذت هذه الملاحظات من "كستر" KISTER لعدم وجود مخطوطة الجاحظ التي نقل منها عندي. وهي: مختارات فصول الجاحظ، الموجودة في المتحف البريطاني برقم 3183. 4 ابن الفقيه، كتاب البلدان "18".

ويظهر من ملاحظات الجاحظ المذكورة، أن من أهم مبادئ الحمس، نبذ الغارات أي الغزو، حتى جعلته قريش ركنًا من أركان دينها. كما تمسكت بركن آخر، هو عدم الدخول بمن يقع في أيدهم من النساء السبايا في حالة ما إذا أغارت قبيلة عليهم، واعتدت عليهم، فانتصرت قريش عليهم، وأخذت منها سبايا. أما الحمس الآخرون، مثل عامر بن صعصعة وثقيف والحارث بن كعب، وأمثالهم ممن تحمسوا، فلم يتمسكوا بهذه الأصول. وذكر "ابن الفقيه" أن القبائل المذكورة لم تكن في الأصل حمسًا، على دين قريش، وإنما تحمست وصارت من الخمس بتأثير قريش عليها1. وقريش تمسكوا وحدهم بالحمس، "وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"2. وقد عرفت مكة بـ"دار الحمس"، كما جاء ذلك في شعر ينسب إلى "الكاهن اللهبي"3. وعرفت قريش بـ "أهل الله"4. ونجد بين "الحمس" والحرم صلة متينة، تشير إلى الأصل الديني للحمس وإلى ارتباطهم بالكعبة. فذهب "الزمخشري" إلى أن "حمس" من "حرم"5، ومن دلائل هذه الصلة أيضًا ما ورد في كتب أهل الأخبار من أن الكعبة كان قد عرفت بـ"الحمساء" سميت بذلك "لأن حجرها أبيض إلى السواد"6. ومن أن الحمس هم نزلاء الحرم7. فبين الحمس والحرم، صلة متينة إذن حتى قيل أن المنسوب إلى الحرم من الناس "حرمي"8. و"أن عياض بن حمار المجاشعي، كان حرمي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان إذا حج طاف في ثيابه. وكان أشراف العرب الذين يتحمسون على دينهم، أي يتشددون إذا حج أحدهم لم يأكل إلا طعام رجل من الحرم: ولم يطف إلا في ثيابه.

_ 1 Kister, p. 137. 2 الثعالبي، ثمار القلوب "8"، أهل الله" Kister, p. 137. 3 الروض الأنف "1/ 118". ابن دريد. الاشتقاق "491". Wellhausen, Reste, s. 134. Kister, 138. 4 Kister, p. 139. 5 الزمخشري، الفائق، "حمس"، kister, p. 138. 6 تاج العروس "4/ 132"، "حمس". 7 تاج العروس "4/ 132"، حمس". 8 بالكسر.

فكان لكل رجل من أشرافهم رجل من قريش. فيكون كل واحد منهما حرمي صاحبه"1. ويفسر لنا هذا المعنى أيضًا قولهم: "رجل حرام: داخل في الحرم"، و"الحرم بالكسر الرجل المحرم. يقال: أنت حل وأنت حرام"2. وقد أنجب الزواج المشروط بين قريش وبين من يتزوج منها حمسًا جددًا، انتقل الحمس إليهم عن طريق "شرط عقد الزواج" من جهة الأمهات. أما نسل هؤلاء الحمس الجدد، الذين هم في الواقع أنصاف أحماس، فقد صار حمسًا مثل قريش؛ لأنهم ولدوا من والد حسب من الحمس ومن والدة أحمسية. وبذلك لم يعد الحمس أهل مكة وحدهم، بل شمل أهل مكة ومن تزوج مكيات فأنجبن ولدًا، عدوا حمسًا بشرط العقد. وتذكر بعض الروايات أن عقيدة "الحمس" لم تكن قديمة، بل ظهرت قبيل الإسلام: "قال ابن إسحاق" كانت قريش لا أدري قبل الفيل أو بعده، ابتدعت أمر الحمس رأيًا. فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم. ونحن الحمس. والحمس أهل الحرم. قالوا: ولا ينبغي للحمس أن يتأقطوا الأقط ولا يسلئوا السمن، وهم حرم، ولا يدخلوا بيتًا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا، ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به من الحل إلى الحرم إذا جاءوا حجاجًا أو عمَّارًا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس"3. ولم تذكر هذه الرواية سبب ظهورها، ولا من أوجدها من رجال قريش. ويتبين من غربلة ما ذكره أهل الأخبار عن الحمس، أن الحمس هم أهل مكة الأحرار في الأصل، ثم من دان بدينهم. وجدوا أنفسهم في ضنك شديد، في واد غير ذي زرع، لا شيء عندهم غير "البيت"، فتحمسوا في دينهم وتشددوا وتعاونوا فيما بينهم على العمل معًا، وعلى الدعوة إلى عبادة رب البيت وإقراء الضيف والامتناع عن غزو غيرهم. وعن التحرش بأحد، إلا إذا تحرش بهم، وعلى إغاثة الملهوف ومساعدة من يأت البيت حاجًّا أو معتمرًا أو قاصدًا.

_ 1 تاج العروس "8/ 243"، "حرم". 2 تاج العروس "8/ 243"، حرم". 3 إرشاد الساري "3/ 200".

تجارة، وتقديم الرفادة له. ونصرة الغريب. وحافظوا على الحرمات: حرمة البيت وحرمة الحج وحرمة الأشهر الحرم، ووضعوا لأنفسهم قواعد صارمة في آداب السلوك في موسم الحج وفي غيره، تشعر أنهم كانوا ينظروا إلى أنفسهم كأنهم "جنس" فضله الله على بقية أجناس العرب، لهم مناسكهم، ولبقية العرب مناسكهم، ولهم قباب خاصة يضربونها لأنفسهم في سوق عكاظ وفي المواضع الأخرى تميزهم عن سائر من يفد إلى هذه المواضع، وترفعوا عن مصاهرة سائر الناس إلا إذا وجدوا أنهم أكفاء لهم، والكفاءة: القوة والمال. وأقاموا مجتمعهم الخاص هذا على قواعد دينية تعاونية اقتصادية "صاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"1. شعارهم أنهم "أهل الله"2، دينهم "التحمس والتشدد في الدين، فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال، فلما زهدوا في الغصوب لم يبق مكسبة سوى التجارة: فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم، والنجاشي بالحبشة، والمقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"3. وكان أن تفردوا بالإيلاف، وللإيلاف ارتباط بالحمس، وتوجهوا إلى التجارة والاتجار، وجمعوا بين الدين والمال، وأفسحوا المجال لمن به نشاط وهمة أن يجمع مالًا وأن يكون غنيًّا على أن يساهم بنصيبه في تحمل أعباء مجتمعهم، للدفاع عن "بيت الله" ولكسب المتحالفين معهم وتوزيع العدل فيما بينهم توزيعًا يخفف من حدة التفاوت فيما بين الغني والفقير، حتى لا يقع اختلال في التوازن بين طبقات المجتمع، يحمل الفقراء على انتزاع المال من الأغنياء كرهًا وقسرًا. وجعلوا ذلك واجبًا من واجباتهم، فحثوا على رفع الظلم، واتخذوا السقاية والرفادة، وعقدوا "حلف الفضول" للدفاع عن المحتاج، وجعلوا "الإيلاف" الذي سأتكلم عنه في الجزء الخاص بالحياة الاقتصادية، سببًا من أسباب إشاعة الرحمة ومساعدة الفقراء وتخفيف وطأة الفقر في هذه القرية: "أم القرى"، وفي ذلك يقول "مطرود بن كعب الخزاعي". في رثائة عبد المطلب.

_ 1 الثعالبي، ثمار القلوب "18"، "أهل الله"، "ص11"، "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم". 2 ثمار "ص10". 3 ثمار "ص11 وما بعدها"، سيرة ابن دحلان "1/ 140" حاشية على السيرة الحلبية".

يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف هبلتك أمك لو نزلت عليهم ... ضمنوك من جوع ومن إقراف الآخذون العهد من آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف والمطعمون إذا الرياح تناوحت ... ورجال مكة مسنتون عجاف والمفضلون إذا المحول ترادفت ... والقائلون هلم للأضياف والخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتي يكون فقيرهم كالكافي كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصة لعبد مناف1 قام رجال من رجال مكة بالإنفاق على المحتاجين فعدوا ذلك دينًا ومروءة وشهامة فكان "نعيم بن عبد الله" العدوي، ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم2. وكان "حكيم بن حزام" ينفق من أرباحه على المحتاجين من آله وذويه3. وكان صديق النبي قبل المبعث4. وتذكر كتب السير والتراجم أسماء رجال آخرين عرفوا بتصدقهم على الفقراء والمحتاجين، اعتبروها منقبة وقربة لهم في الجاهلية، وقد أقرهم الرسول عليها. فالحمس "أهل الله"، وأمته، تجمعهم عبادة الله والأصنام، والمناسك والشعائر التي وضعوها لهم، والتجارة التي جعلوها مثل شعائر دينهم، ينفقون من أرباحهم منها في سبيل "الله". أي بيت الله وأهله المستضعفون، حتى جعلوا الصدقة وإطعام المحتاج من أمور الدين. فمجتمعهم مجتمع جمع بين الدين والتجارة، وبين الدين والمال. حثهم على التعاون بخلط رءوس أموالهم والاتجار معًا بقوافل، وفيه ربح كبير مضمون، وحثهم على إنصاف من ليس له شيء حتى يصير.

_ 1 أخذت هذه الأبيات من أمالي المرتضى "2/ 268" وتختلف بعض الاختلاف عن أمالي القالي "1/ 241 وما بعدها"، التي فيها: منهم علي والنبي محمد ... القائلان هلم للأضياف وعن سيرة ابن هشام "1/ 117"، "حاشية على الروض الأنف"، وعن معجم الشعراء "375" وشرح ابن أبي الحديد "3/ 453"، والعيني "4/ 140" والبكري، سمط "547 وما بعدها" وعن تفسير الطبرسي "حـ30 ص545"، "طبعة طهران"، تفسير سورة لإيلاف قريش، وعن ابن العربي، محاضرات الأبرار "2/ 119"، والبلاذري، أنساب "1/ 58"، والدياربكري، تأريخ الخميس "1/ 156". 2 الإصابة "3/ 527"، "رقم 8778". 3 نسب قريش "1/ 367" "رقم 644"، Kister, p. 125. 4 الإصابة "1/ 348 وما بعدها" "رقم 1800".

مكتفيًا غير محتاج لا يوجه عينه نحو غيره حسدًا وحقدًا. شعار هذا المجتمع الله والأصنام والحج والتجارة، مجتمع لم يكن يخلو بالطبع من أحامس بخلاء شذوا عن الطريق، واغتصبوا أموال الفقراء، كما هو الحال في كل مجتمع بشري. وقد اقتصرت "قريش" وهم من الحمس، على استعمال القباب المصنوعة من الأدم لا يضربها غيرها بـ"منى"1. لأنهم "كانوا لا ينسجون مظال الشعر، وكانوا أهل القباب الحمر من الأدم"2. وقد استعمل الرسول في حجة هذا النوع من القباب3. ولا بد أن يكون لاقتصار قريش على استعمال هذا النوع من القباب دون غيرها في هذا الموضع، سبب ما، الأرجح أنه عامل ديني واجتماعي4. ويلاحظ أنه كان للقباب الحمر ذكر خطير، وجاه عظيم في نظر الجاهليين، فكان أصحابها يفتخرون على غيرهم بأنهم "أهل القباب الحمر"5، وقد كان الملوك والسادة يضربون لأنفسهم القباب الحمر. فهي من إمارات الجاه والمكانة والنفوذ. ويظهر من بعض الأسماء أو الجمل التي وردت فيها كلمة "أحمس" و"حمس" أن هذه الكلمة هي نعت أو اسم من أسماء الآلهة عند الجاهليين في الأصل، ثم تغير معناها بعد ذلك فصارت على النحو الذي ذكره علماء اللغة نقلًا عن الروايات التي ترجع ذلك المعنى إلى الجاهلية المتصلة بالإسلام. ففي الأسماء الواردة إلينا: "أحمس الله"، و"بنو أحمس"، و"أبو أحمس"، و"الأحامس"6، ما يفيد أن الأصل بعيد جدًّا عن المعنى فهمه وذهب إليه أهل الأخبار، وأن للكلمة معنى دينيًّا خاصًّا قديمًا، هو التشدد في الدين والتمسك به، وبعبادة الصنم، والمحافظة على سنة الآباء والأجداد مع تصلب وتقشف.

_ 1 "كانت قباب قريش من الأدم. لا يضربها غيرهم بمنى" المشرق، السنة السابعة والثلاثون كانون الثاني - آذار 1939 "ص95". 2 ابن سعد، الطبقات "1/ 41". 3 ابن سعد، الطبقات "2/ 88"، أسد الغاية "1/ 251". 4 المشرق، السنة السابعة والثلاثون، كانون الثاني - آذار، 1939 "ص95". 5 أهل القباب الحمر ... والنعم المؤبل والمدامه ديوان عبيد الأبرص "29"، "طبعة لايل". 6 الأغاني "2/ 46"، الاشتقاق "153"، تاج العروس "4/ 132 وما بعدها"، "حمس".

والأحماس من العرب الذين أمهاتهم من قريش1، صاروا من الحمس بسبب أمهاتهم. هذا وقد نزل الوحي بتنظيم الحج وفق مبادئ الإسلام، فأباح للحجاج ما كانت الحمس حرمته على نفسها من طعام الحج إلا طعام أحمسي" على نحو ما ذكرت قبل قليل. وما ذكر من أن قومًا كانوا قد حرموا على أنفسهم ما يخرج من الشاة لبنها وسمنها ولحمها، إذا حجوا أو اعتمروا2. كما نزل بوجوب ستر العورة ولبس الإحرام في الحج، وذلك بالنسبة إلى المحلين، وأغلبهم من الأعراب ومن الفقراء، حيث كانوا يطوفون عراة، وفي ضمنهم النساء3. فنزل الوحي بـ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 4. ونهوا عن ذلك5. وذكر عن أبي هريرة أنه قال: "بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر، لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان"6. كما نزل الوحي بجواز دخول الحجاج بيوتهم وخيامهم وما يأوون إليه من بيوتها، من أبوابها، لا كما كان يفعل بعضهم في الجاهلية وفي أول الإسلام، من أنه إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطًا ولا بيتًا ولا دارًا من بابه، فإنه كان من أهل المدن نقب نقبًا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج أو يتخذ سلمًا فيصعد فيه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك ذمًّا، إلا أن يكون من الحمس. وهم: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخثعم وبنو عامر بن صعصعة، وبنو النضر بن معاوية. نزل الوحي بذلك في الآية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَْ} 7.

_ 1 تاج العروس "4/ 133"، "حمس" 2 تفسيير الطبري "8/ 121". 3 تفسير الطبري "8/ 118". 4 الأعراف، الآية 31. 5 تفسير الطبري "8/ 118 وما بعدها"، أسباب نزول "168 وما بعدها". 6 صحيح مسلم "4/ 107"، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وبيان الحج الأكبر". 7 البقرة، الآية 189.

وقد ذهب بعض أهل الأخبار والسير إلى أن الآية المذكورة، نزلت في أمر الحمس، "لأن الحمس لا يدخلون تحت سقف ولا يحول بينهم وبين السماء عتبة باب ولا غيرها، فإن احتاج أحدهم إلى حاجة في داره تسنم البيت من ظهره، ولم يدخل من الباب"1. وذهب المفسرون إلى أنها نزلت في الأنصار، فقد كانوا إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك، فنزلت هذه الآية. وورد: "كانت قريش تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بستان، إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب! فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: فإن ديني دينك! فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} 2. وقد أغفلت بعض الروايات اسم من كان لا يدخل البيوت من أبوابها، بأن قالت: "كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرونه برًّا"، أو "كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيوت من ظهورها، ولم يأتوا من أبوابها" أو "إن ناسًا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطًا من بابه ولا دارًا من بابها أو بيتًا" أو "كان ناس من أهل الحجاز، إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوها من ظهورها"3. وذكر أن من كان يفعل ذلك، فإنما يفعله؛ لأنهم كانوا يتحرجون من أن يكون بينهم وبين السماء حائل4. وقد جعل "اليعقوبي" العرب في الجاهلية على دينين: دين الحمس ودين الحلة. وذلك بالنسبة للمشركين. وذكر أن منهم من دخل في دين اليهودية وفي النصرانية، ومنهم من تزندق وقال بالثنوية، وبهذه الفرق حصر "اليعقوبي" أديان أهل الجاهلية. إذ قال: "فهاتان الشريعتان اللتان كانت العرب عليهما. ثم دخل قوم من العرب في دين اليهود، وفارقوا هذا الدين. ودخل آخرون.

_ 1 الروص الأنف "1/ 134 وما بعدها". 2 أسباب النزول "ص35 وما بعدها". 3 تفسير الطبري "2/ 108" وما بعدها. 4 المصدر نفسه.

في النصرانية، وتزندق منهم قوم، فقالوا بالثنوية"1. والتعميم الذي يطلقه "اليعقوبي" وبقية المؤرخين والأخباريين في قولهم "وكانت العرب في أديانهم" لا يمكن التسليم به، إلا بالنسبة لأهل مكة ولمن كان يقصدهم من العرب. أما بالنسبة لجميع العرب، فهذا ما لا يمكن التسليم به. وأما "الطلس" فقد وصفهم "محمد بن حبيب" بقوله إنهم: "بين الحلة والحمس: يصنعون في إحرامهم ما يصنع الحلة، ويصنعون في ثيابهم ودخولهم البيت ما يصنع الحمس. وكانوا لا يتعرون حول الكعبة، ولا يستعيرون ثيابًا، ويدخلون البيوت من أبوابها، وكانوا لا يئدون بناتهم، وكانوا يقفون مع الحلة ويصنعون ما يصنعون"2. وهم سائر أهل اليمن، وأهل حضرموت، وعك وعجيب، وإياد بن نزار3. وذكر أن من الحجاج من كان يحج بغير زاد، وأن منهم من كان إذا أحرم رمى بما معه من الزاد، واستأنف غيره من الأزودة، وأن "قبائل من العرب يحرمون الزاد إذا خرجوا حجاجًا وعمَّارًا"، فنزل الوحي: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 4، فأمر من لم يكن يتزود منهم بالتزود لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يحتفظ بزاده فلا يرمي به5. وقد عرف هؤلاء بـ"المتوكلة"؛ لتوكلهم على "رب البيت" في أطعام أنفسهم، واعتمادهم في ذلك على السؤال. وقد ذكر علماء التفسير أن الآية: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} نزلت "في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالزاد. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلة عليها زاد، وقدم عليه ثلاثمائة رجل من مزينة فلما أرادوا أن ينصرفوا قال: يا عمر زود

_ 1 اليعقوبي "1/ 226". 2 المحبر "ص181". 3 المحبر "ص179"، الروض "1/ 133". 4 البقرة الآية "197. 5 تفسير الطبري "2/ 162"، "أن قومًا كانوا يرمون بأزوادهم ويتسمون بالمتوكلة، فقيل لهم تزودوا من الطعام، ولا تلقوا كلكم على الناس"، تفسير الطبرسي "1/ 294.

القوم ... كما روى البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس"1. ويظهر مما تقدم أن "المتوكلة" لم يكونوا جميعًا من الفقراء المحتاجين، بل كان منهم قوم أغنياء فضل الله عليهم، بدليل أنهم كانوا إذا حجوا رموا زادهم، أو أعطوه للمحتاج إليه، يفعلون ذلك ديانة وتقربًا إلى الله، كما فعل "المتوكلة" من بعدهم في الإسلام. فهم إذن طائفة من الطوائف الجاهلية المتدينة، ترى أن التقشف في الحج، يزيد في ثوابه، ويقرب أصحابه إلى رب البيت. ويريد أهل الأخبار بالثياب "الإحرام" على ما يظهر. وهو قديم وقد عرف عند غير العرب أيضًا. وهو محاكاة لملابس رجال الدين الذين يخدمون المعابد، ويتقربون إلى الآلهة. وهو يتكون من قطعتين من: إزار ومن وشاح. ويكون أبيض اللون. واللون الأبيض من الألوان التي تعبر عن معان دينية. فقد كان رجال الدين والكهنة يلبسون الثياب البيض. كما أنه شعار الحزن عند بعض الشعوب، وفي جملتهم عرب الحجاز2. ويظهر أن أهل مكة وهم قريش، كانوا يلبسون الإحرام، أو يكرهونه لغيرهم من العرب أو يعيرونه لهم إن كانوا من حلفائهم فيحرمون كإحرام قريش. أما من لم يتمكن من الحصول على الإحرام، فقد كان يضطر بحكم الضرورة إلى الطواف عريانًا على نحو ما يقصه علينا أهل الأخبار. أما بالنسبة إلى أهل العربية الجنوبية من معينيين وسبئيين وقتبانيين وحضرميين، فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن سنة الطواف حول المعابد عندهم؛ لعدم ورود شيء عن ذلك في النصوص الواصلة إلينا. ولكني لا أستبعد احتمال طوافهم حول بيوت أصنامهم على نحو ما كان يفعله أهل الحجاز؛ لأن الطواف حول بيوت الأصنام أو حول الصنم من السنن الشائعة بين العرب وعند جماعات من بين إرم والنبط.

_ 1 تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن "2/ 411"، تفسير بن كثير "1/ 239". 2 Shorter Ency, of Islam, p. 160.

التلبية

التلبية: وذكر "محمد بن حبيب" أن طواف أهل الجاهلية بالبيت أسبوعًا، وذكر أنهم كانوا يمسحون الحجر الأسود، ويسعون بين الصفا والمروة. وكانوا يلبون وذكر أن نسك قريش كان لإساف، وأن تلبيتهم" "لبيهم اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"1. وأن تلبية من نسك للعزى: "لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، ما أحبنا إليك". وأن تلبية من نسك للات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك كفى ببيتنا بنية، ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية أربابه من صالحي البرية". وكانت تلبية من نسك لجهار: "لبيك، اللهم لبيك لبيك، اجعل ذنوبنا جبار، واهدنا لأوضح المنار، ومتعنا وملنا بجهار". وكانت تلبية من نسك لشمس: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك، ما نهارنا نجره، إدلاجه وحره وقره، لا نتقي شيئًا ولا نضره، حجًّا لرب مستقيم بره"، وكانت تلبية من نسك لمحرق: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك حجًّا حقًّا، تعبدًا ورقًا"، وكانت تلبية من نسك لود: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، معذرة اليك". وكانت تلبية من نسك ذا الخلصة: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك، بما هو أحب إليك". وكانت تلبية من نسك لمنطبق: "لبيك اللهم لبيك، لبيك". وتلبية عك، أنهم كانوا إذا بلغوا مكة، يبعثون غلامين أسودين أمامهم، يسيران على جمل. مملوكين قد جردا فهما عريانان، فلا يزيدان على أن يقولا: "نحن غرابا عك" وإذا نادى الغلامان بذلك صاح من خلفهما من عك: "عك إليك عانية، عبادك اليمانية، كيما نحج الثانية، على الشداد الناجية"1. وكانت تلبية من نسك مناة: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، لولا أن بكرًا دونك يبرك الناس ويهجرونك، ما زال حج عثج يأتونك، إنا على عدوائهم من دونك". وتلبية من نسك لسعيدة: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لبيك، لم نأتك للمياحة، ولا طلبًا للرقاحة، ولكن جئناك للنصاحة". وكانت تلبية من نسك ليعوق: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، بغض إلينا الشر، وحبب إلينا الخير، ولا تبطرنا فنأشر ولا تفدحنا بعثار". وكانت تلبية من نسك ليغوث:

_ 1 المحبر "313".

"لبيك، اللهم لبيك، لبيك، أحبنا بما لديك، فنحن عبادك، قد صرنا إليك" وكانت تلبية من نسك لنسر: "اللهم لبيك، اللهم لبيك، لبيك، أننا عبيد، وكلنا ميسرة عتيد، وأنت ربنا الحميد، اردد إلينا ملكنا والصيد". وكانت تلبية من نسك ذا اللبا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، رب فاصرفن عنا مضر، وسلمن لنا هذا السفر، إن عما فيهم لمزدجر واكفنا اللهم أرباب هجر". وكانت تلبية من نسك لمرحب: "لبيك اللهم لبيك، لبيك، إننا لديك لبيك، حببنا إليك". وكانت تلبية من نسك لذريح: "لبيك، اللهم لبيك، لبيك، كلنا كنود، وكلنا لنعمة جحود فاكفنا كل حية رصود". وكانت تلبية من نسك ذا الكفين: "لبيك، اللهم لبيك لبيك، إن جرهمًا عبادك، الناس طرف وهم تلادك، ونحن أولى منهم بولائك"، وتلبية من نسك هبل: "لبيك اللهم لبيك، إننا لقاح حرمتنا على أسنة الرماح، يحسدنا الناس على النجاح"1. وقد تعرض "اليعقوبي" لموضوع التلبية فقال: "فكانت العرب، إذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها وصلوا عنده، ثم تلبوا حتى يقدموا مكة. فكانت تلبياتهم مختلفة. وكانت تلبية قريش: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، تملكه وما ملك. وكانت تلبية كنانة. لبيك اللهم لبيك، اليوم يوم التعريف، يوم الدعاء والوقوف. وكانت تلبية بني أسد: لبيك اللهم لبيك، يا رب أقبلت بنو أسد، أهل التواني والوفاء والجلد إليك، وكانت تلبية بني تميم: لبيك اللهم لبيك، لبيك عن تميم، قد تراها قد أخلقت أثوابها وأثواب من وراءها، وأخلصت لربها دعاءها. وكانت تلبية قيس عيلان: لبيك الله لبيك، لبيك أنت الرحمن أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان. وكانت تلبية ثقيف لبيك اللهم إن ثقيفًا قد أتوك: وأخلفوا المال وقد رجوك. وكانت تلبية هذيل: لبيك عن هذيل قد أدلجوا بليل، في إبل وخيل. وكانت تلبية ربيعة: لبيك ربنا لبيك، لبيك إن قصدنا إليك. وبعضهم يقول: لبيك عن ربيعة، سامعة لربها مطيعة، وكانت حمير وهمدان يقولون: لبيك عن حمير وهمدان والحليفين من حاشد والهان. وكانت تلبية الأزد: لبيك رب الأرباب،

_ 1 المحبر "311-315".

تعلم فصل الخطاب، لملك كل مثاب. وكانت تلبية مذحج: لبيك رب الشعرى، ورب اللات والعزى. وكانت تلبية كندة وحضرموت: لبيك لا شريك لك، تملكه، أو تهلكه، أنت حكيم فاتركه. وكانت تلبية غسان: لبيك رب غسان، راجلها والفرسان. وكانت تلبية بجيلة: لبيك عن بجيلة في بارق ومخيلة، وكانت تلبية قضاعة: لبيك عن قضاعة، لربها دفاعة، سمعًا له وطاعة، وكانت تلبية جذام: لبيك عن جذام، ذوي النهى والأحلام، وكانت تلبية عك والأشعريين. نحج للرحمن بيتًا عجبا ... مستترًا مضببًا محجبا1 و"التلبية" إجابة المنادي، أي إجابة الملبي لربه. وقولهم: لبيك اللهم لبيك، معناه إجابتي لك يا رب، وإخلاصي لك2. وقد كان الجاهليون يلبون لأصنامهم تلبيات مختلفة. وقد ذكر "أبو العلءا المعري" أن تلبيات العرب جاءت على ثلاثة أنواع: مسجوع لا وزن له، ومنهوك، ومشطور. فالمسجوع كقولهم: لبيك ربنا لبيك ... والخير كله بيديك والمنهوك على نوعين: أحدهما من الرجز، والآخر من المنسرح: فالذي من الرجز كقولهم: لبيك إن الحمد لك ... والملك لا شريك لك إلا شريك هو لك ... تملكه وما ملك أبو بنات بفدك وكقولهم: لبيك يا معطي الأمر ... لبيك عن بني النمر جئناك في العام الزمر ... نأمل غيثًا ينهمر يطرق بالسيل الخمر

_ 1 اليعقوبي "1/ 225 وما بعدها". 2 اللسان "1/ 732"، "لبيب".

والذي من المنسرح جنسان: أحدهما في آخره ساكنان كقولهم: لبيك رب همدان ... من شاحط ومن دان جئناك نبغي الإحسان ... بكل حرف مذعان نطوي إليك الغيطان ... نأمل فضل الغفران والآخر لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم: لبيك عن نجيله ... الفخمة الرجيله ونعمت القبيله ... جاءتك بالوسيله تؤمل الفضليه وربما جاءوا على قوافٍ مختلفة، من ذلك تلبية بكر بن وائل: لبيك حقًّا حقا ... تعبدًا ورقا جئناك للنصاحة ... لم نأت للرقاحة وروي في تلبية "تميم" قولها: لبيك لولا أن بكرًا دونكا ... يشكرك الناس ويكفرونكا ما زال منا عثج يأتونكا ورووا أن من تلبيات همدان: لبيك مع كل قبيل لبيك ... همدان أبناء الملوك تدعوك قد تركوا أصنامهم وانتابوك ... فاسمع دعاءً في جميع الأملوك ومن تلبياتهم قولهم: لبيك عن سعد وعن بنيها ... وعن نساء خلفها تعنيها سارت إلى الرحمة تجتنيها وختم "أبو العلاء المعري" رأيه عن التلبية بقوله: "والموزون من التلبية يجب أن يكون كله من الرجز عند العرب، ولم تأت التلبية بالقصيد. ولعلهم قد لبوا به ولم تنقله الرواة"1.

_ 1 رسالة الغفران "ص535-537. "بنت الشاطئ".

والتلبية هي من الشعائر الدينية التي أبقاها الإسلام، غير أنه غير صيغتها القديمة بما يتفق مع عقيدة التوحيد، فصارت على هذا النحو: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لله، والملك لا شريك لك"1. كما جعلها جزءًا من حج مكة، بعد أن كانت تتم خارج مكة؛ إذ كانت كل قبيلة تقف عند صنمها، وتصلي عنده ثم تلبي، قبل أن تقدم مكة2. وذلك بالنسبة لمن كان يحج مكة. فأبطل ذلك الإسلام، وألغى ما كان من ذلك من حج أهل الجاهلية. وقد رأينا صيغ التلبيات، وكيف كانت تلبيات القبائل خاصة بها، تلبي كل قبيلة لصنمها، وتوجه نداءها إليه. وتردد جمل التلبية بصوت مرتفع، ولعل ذلك لاعتقاد الجاهليين أن في رفع الصوت إفهامًا للصنم الذي يطاف له بأن الطائف قد لبى داعيه، وأنه استجاب أمره وحرص على طاعته. وقد أشار بعض الكتاب "الكلاسيكيين" إلى الصخب والضجيج الذي كان يرتفع في مواضع الحج بسبب هذه التلبية. وهناك مواضع أخرى غير متصلة بالبيت الحرام، كانت مقدسة وداخلة في شعائر الحج، منها عرفة ومنى والمزدلفة والصفا والمروة، ومواضع أخرى كان يقصدها الجاهليون لقدسيتها أو لوجود صنم بها، ثم حرمها الإسلام، فنسيت وأهملت فذهبت معالمها مع ما ذهب من معالم الجاهليين. وتقف الحمس في حجها على أنصاب الحرم من نمرة على نحو ما ذكرت أما الحلة والطلس، أي غير الحمس من بقية العرب فيقفون على الموقف من عرفة، عشية يوم "عرفة"، فإذا دفع الناس من عرفة وأفاضوا أفاضت الحمس من أنصاب الحرم حتى يلتقوا بمزدلفة جميعًا. وكانوا يدفعون من عرفة إذا طفلت الشمس للغروب وكانت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم. فيبيتون بمزدلفة حتى إذا كانت في الغلس وقفت الحلة والحمس على "قزح"، فلا يزالون عليه حتى إذا طلعت الشمس وصارت على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في

_ 1 البخاري، كتاب الحج، الحديث 31 وما بعده، عمدة القاري "9/ 172 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 288"، إرشاد الساري "3/ 197"، "باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة". 2 اليعقوبي "1/ 225"، "أديان العرب".

وجوههم دفعوا من مزدلفة، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير1. ومن مناسك الحج الطواف بالصفا والمروة، وعليها صنمان: إساف ونائلة: وكان الجاهليون يمسحونهما2. وكان طوافهم بهما قدر طوافهم بالبيت، أي سبعة أشواط. تقوم بذلك قريش، أما غيرهم فلا يطوفون بهما، وذلك على أغلب الروايات. ويظهر أن الصفا والمروة من المواضع التي كان لها أثر خطير في عبادة أهل مكة. ففي حج أهل مكة طوافان: طواف بالبيت، وطواف بالصفا والمروة. وبين الصفا والمروة يكون "السعي" في الإسلام، ولذلك يقال للمسافة بين المكانين "المسعى" وكان إساف بالصفا، وأما نائلة فكان بالمروة3. ولا بد أن يكون لاقتران الاسمين دائمًا سبب، و"المسعى" هو الرابط المقدس بين هذين الموضعين المقدسين عند الجاهليين. وكان أهل مكة يتبركون بلمس الحجر الأسود، ثم يسعون بين الصفا والمروة ويطوفون بإساف أولًا ويلمسونه، كل شوط من الطواف ثم ينتهون بنائلة ويلبون لهما. وكانت تلبيتهم لهما: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"4. وذكر أن "الأنصار"، لما قدموا مع النبي في الحج، كرهوا الطواف بين الصفا والمروة لأنهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية، وأرادوا تركه في الإسلام. وذكر أن قومًا من المسلمين قالوا: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شرك كنا نصنعه في الجاهلية. فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بين الصفا والمروة مسحوا الوثنيين، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام، كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} 5. ويتبين من غربلة الأخبار أن الذين كانوا يطوفون بالصنمين المذكورين ويسعون بينهما. هم من عباد الصنمين وهم قريش

_ 1 الأزرقي "2/ 226"، مسند ابن حنبل "1/ 39، 42، 50، 52"، الأم للشافعي "2/ 180"، 2 البلدان "5/ 365"، "8/ 38"، إرشاد الساري "3/ 187". 3 Rest, s. 77. 4 المحبر "311"، الأزرقي "1/ 112". 5 البقرة، الآية 158، أسباب النزول "30 وما بعدها"، تفسير الطبري "2/ 43"، "طبعة البابي 1954م".

خاصة، وليس كل من كان يحج إلى مكة من الغرب، ولذلك كرهوا الطواف في الإسلام بالصفا والمروة. وقد استبدل الإسلام بالطواف السعي؛ لهدم الصنمين اللذين كان الناس يطوفون حولهما واكتفى بالسعي بين الموضعين. وذكر بعض العلماء أن العرب عامة كانوا لا يرون الصفا والمروة من الشعائر ولا يطوفون بينهما فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} 1، أي لا تستحلون ترك ذلك2. وذكر أن الأنصار كانوا يهلون لمناة في الجاهلية، فلما جاء الإسلام قالوا: يا نبي الله إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما، فأنزل الله الآية المذكورة. وكان أهل "تهامة" ممن لا يطوفون أيضًا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام ونزل الأمر بالطواف بالبيت، ولم ينزل بالطواف بين الصفا والمروة، قيل للنبي: إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة وإن الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة فهل علينا من جناح أن لا نطوف بهما. فنزل الوحي: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، فصار الطواف بين الصفا والمروة لجميع الحجاج، لا كما كان في عهد الجاهلية. من اقتصاره على قريش وبعض العرب المتأثرين بهم. فكانوا يطوفون بهما ويمسحون بالوثنين إساف ونائلة، فلما جاء الإسلام تحرج بعض الناس وفيهم قوم من قريش من الطواف بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية، فنزل الأمر به3. وذكر أهل الأخبار أن السعي بين الصفا والمروة. شعار قديم من عهد هاجر أم إسماعيل. وأما رمل الطواف، فهو الذي أمر به النبي، أصحابه في عمرة القضاء ليُري المشركين قوتهم، حيث قالوا: وهنتهم حمى يثرب4.

_ 1 البقرة، الآية 158. 2 تاج العروس "3/ 304"، "شعر"، روح المعاني "2/ 41"، تفسير القرطبي، الجامع "2/ 114"، الأزرقي "74"، تفسير ابن كثير "1/ 198"، صحيح البخاري "1/ 414"، الموطأ "1/ 373"، إرشاد الساري "3/ 187". 3 تفسير الطبري "2/ 27 وما بعدها"، الطبرسي "2/ 45"، ابن كثير "1/ 181، 200"، البخاري "1/ 414"، "باب 79"، الموطأ، "1/ 653"، "1/ 371"، "باب 40". 4 اللسان "11/ 295 وما بعدها"، "رمل".

وورد في خبر عن "عائشة" أنها قالت: "إن الأنصار كانوا يلهون في الجاهلية لصنمين على شط البحر، يقال لهما: "إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة ثم يحلقون، فلما جاء الإسلام، كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية، فأنزل الله عزل وجل: إن الصفا والمروة من شعائر الله إلى آخرها. قالت فطافوا". وهو خبر يناقض أخبارًا أخرى يتصل سندها بـ"عائشة"، تجمع على أنها قالت: إن الأنصار أو الأنصار وغسان كانوا قبل أن يسلموا يصلون لمناة، فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سُنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة1، ولم أجد في خبر آخر شيئًا يفيد أن إسافًا ونائلة كانا على ساحل البحر. و"السعي" في الإسلام سبعة أشواط، تبدأ بالصفا، وتختتم بالمروة. وعندما يصل الحاج حد "السعي" يسعى ويهرول، فإذا جاز الحد مشى. وكان الجاهليون يبدأون بـ"الصفا" وينتهون بـ"المروة" كذلك2. ومن مناسك حج أهل الجاهلية الوقوف بـ"عرفة"، ويكون ذلك في التاسع من ذي الحجة ويسمى "يوم عرفة" ومن "عرفة" تكون "الإجازة" للإفاضة إلى "المزدلفة"، ومن "المزدلفة" إلى "منى". وقد كان الجاهليون من غير قريش يفيضون في عرفة عند غروب الشمس، وأما في المزدلفة فعند شروقها. وكان الذي يتولى الإجازة رجلًا من تميم يقال له "صوفة"، ثم انتقلت إلى "صفوان" من تميم كذلك3. ولم يكن "الحمس" يحضرون عرفة، وإنما يقفون بالمزدلفة، وكان سائر الناس يقف بعرفة. ولما رأى أحد الصحابة رسول الله واقفًا بعرفة عجب من شأنه وأنكر منه ما رأى لأنه من الحمس، وما كان يظن أنه يخالف قومه في ذلك، فيساوي نفسه بسائر الناس، فأنزل الله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5،

_ 1 صحيح مسلم "4/ 68"، "باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به". 2 راجع باب الحج في كتب الحديث والفقه. 3 ابن هشام "77، 82"، اللسان "7/ 191"، تاج العروس "6/ 193"، الروض الأنف "1/ 86"، الصحاح "3/ 1099"، البلدان "4/ 104". 4 إرشاد الساري "3/ 200"، تفسير الطبرسي "2/ 296"، تفسير ابن كثير "1/ 242 وما بعدها"، أسباب النزول "42". 5 البقرة، الآية 199.

فشمل ذلك الحمس وغيرهم. فأخذوا يقفون كلهم موقف عرفة، ووضع عن قريش ما فعلوه من تمييز أنفسهم عن الناس1. وورد في روايات أخرى، أن قريشًا وكل حليف لهم وبني أخت لهم، لا يفيضون من عرفات، إنما يفيضون من المغمس، وورد أن قريشًا وكل ابن أخت وحليف لهم، لا يفيضون مع الناس من عرفات، يقفون في الحرم ولا يخرجون منه. يقولون: إنما نحن أهل حرم الله، فلا نخرج من حرمه، وأنهم قالوا "نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقاطنوا مكة وساكنوها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له العرب مثل ما نعرف لنا، فلا تعظموا شيئًا من الحل، كما تعظمون الحرم. فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها"2. وذكر أن قريشًا ومن دان بدينها تفيض من "جمع" من المشعر الحرام3" و"جمع" المزدلفة4. و"عرفة" أو "عرفات" موضع على مسافة غير بعيدة عن مكة5. لا بد وأن يكون من المواضع التي كان يقدسها أهل الجاهلية، وأن يكون له ارتباط بصنم من الأصنام، وإلا لما صار جزءًا من أجزاء مناسك الحج وشعائره عند الجاهليين. ويقف الحجاج موقف عرفة من الظهر إلى وقت الغروب. وقد يكون لموقف الجاهليين في عرفة وقت الغروب علاقة بعبادة الشمس. فإذا غربت الشمس اتجه الحجاج إلى "المزدلفة".

_ 1 تفسير الطبري "2/ 166 وما بعدها". 2 تفسير الطبري "2/ 170". 3 أسباب النزول "42". 4 قال أبو ذؤيب: فَباتَ بِجَمعٍ ثُمَّ تَمَّ إِلى مِنىً ... فَأَصبَحَ رَأدًا يَبتَغي المَزجَ بِالسحلِ تاج العروس "5/ 305"، "جمع". 5 "وعرفات، موقف الحاج ذلك اليوم على اثني عشر ميلًا من مكة"، تاج العروس "6/ 193"، تفسير الطبري "4/ 114 وما بعدها"، أخبار مكة "1/ 115 وما بعدها".

الإفاضة: ومن "عرفة" تكون الإفاضة إلى "المزدلفة". و"المزدلفة"، موضع يكاد يكون على منتصف الطريق بين عرفة و"منى". وفيه يمضي الحجاج ليلتهم، ليلة العاشر من "ذي الحجة". ومنه تكون الإفاضة عند الشروق إلى "منى". وقد نعت بـ"المشعر الحرام" في القرآن الكريم1. ويذكر أهل الأخبار أن "قصي بن كلاب"، كان قد أوقد نارًا على "المزدلفة" حتى يراها من دفع من عرفة، وأن العرب سارت على سنته هذه، وبقيت توقدها حتى في الإسلام2. ولا بد وأن يكون من المواضع الجاهلية المقدسة كذلك، التي كان لها صلة بالأصنام. وقد ذكر علماء اللغة اسم جبل بالمزدلفة دعوه "قزحًا". قالوا إنه "هو القرن الذي يقف عنده الإمام"3، وذكروا أن "قزح" اسم شيطان4. ونحن نعرف اسم صنم يقال له "قزاح"، قد تكون له صلة بهذا الموضع. ويفيض الحجاج في الجاهلية عند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة من "المزدلفة" إلى "منى"؛ لرمي الجمرات ولنحر الأضحي. و"منى" موضع لا يبعد كثيرًا عن مكة. ولعلماء اللغة آراء في سبب التسمية، من جملتها أنها عرفت بذلك لما يمنى بها من الدماء5. وذكر بعض أهل الأخبار أن "عمرو بن لحي" نصب بمنى سبعة أصنام، نصب على "القرين" القرن الذي بين مسجد منى والجمرة الأولى صنمًا، ونصب على الجمرة الأولى صنمًا، وعلى الجمرة الوسطى صنمًا، وعلى شفير الوادي صنمًا6. ولا بد أن يكون لهذا الموضع صلة بالأصنام، نظرًا لما له من علاقة متينة بمناسك الحج. وقد يكون لرمي الجمرات ولنحر الذبائح صلة بتلك الأصنام.

_ 1 سورة البقرة، الآية 198، تفسير الطبري "2/ 164"، روح المعاني "2/ 74"، تفسير ابن كثير "1/ 242". 2 نهاية الأرب "1/ 109"، "ذكر نيران العرب" صبح الأعشى "1/ 409"، الأزرقي "36، 130، 411، 415"، "وستنفلد" ابن هشام "77"، ابن سعد 1/ 72" "صادر" اللسان "9/ 138"، البلدان "4/ 519"، تاج العروس "6/ 131". 3 تاج العروس "2/ 207"، "قزح". تاج العروس "2/ 207"، "قزح". 5 تاج العروس "10/ 348"، "منى". 6 الأزرقي "2/ 142".

وقد ذكر العلماء "أن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير"1. وأن النبي خالفهم، فأفاض حين أسفر قبل طلوع الشمس"2. وفي فعل المشركين ذلك، ووقوفهم انتظارًا للإفاضة عند طلوع الشمس، دلالة على عبادة الشمس عندهم، ولهذا غيَّر الرسول هذا الوقت. و"رمي الجمرات" بمنى من مناسك الحج وشعائره. وهو من شعائر الحج كذلك المعروفة في المحجات الأخرى من جزيرة العرب. كما كان معروفًا عند غير العرب أيضًا. وقد أشير إليه في التوراة3. وهو معروف عند "بني إرم"4. وكلمة "رجم" من الكلمات السامية القديمة. وقد وردت في حديث "عبد الله بن "مغفل": لا ترجموا قبري، أي لا تجعلوا عليه الرجم، وهي الحجارة، على طريقة أهل الجاهلية، ولا تجعلوه مسنمًا مرتفعًا5. وقد فعله أهل الجاهلية على سبيل التقدير والتعظيم. فكان أحدهم إذا مر بقبر، وأراد تقدير صاحبه وتعظيمه وضع رجمة أو رجامًا عليه. "والجمرات"، أي مواضع "رمي الجمرات" عديدة عند الجاهليين، يطاف حولها، ويحج إليها6 منها مواضع أصنام، وأماكن مقدسة، ومنها قبور أجداد. وقد ورد قسم بها في بيت ينسب إلى شاعر جاهلي7. وتُرمى الجمرات على مكان عرف بـ"جمرة العقبة" وبـ"الجمار" وبـ"موضع الجمار" وهو بـ"منى"، وتتجمع وتتكوم عنده الحصى. وهي جمرات ثلاث: الجمرة

_ 1 إرشاد الساري "3/ 210". 2 المصدر نفسه. 3 التكوين، الإصحاح الحادي والثلاثون، "وقال لابان ليعقوب: هوذا هذه الرجمة، وهو ذا النصب الذي وضعت بيني وبينك" الآية 51. 4 Shorter Ency, p. 464, Reste, s. 112. 5 النهاية "2/ 74" اللسان "15/ 117 وما بعدها" تاج العروس "8/ 304 وما بعدها"، "رجم". 6 المشرق: السنة: السنة التاسعة والثلاثون تموز – أيلول 1941م، "246"، Reste, s. 111. 7 فأقسم بالذي قد كان ربي ... وأنصاب لدى الجمرات مغر ابن هشام "534"، المشرق، الجزء المذكور، قال حذيفة بن أنس الهذلي: لأدركهم شعث النوامي كأنهم ... سواشق حجاج توافي المجمرا اللسان "5/ 217".

الأولى، والجمرة الوسطى، وجمرة العقبة1. ويرجع أهل الأخبار مبدأ رمي الجمرات إلى "عمرو بن لحي" يذكرون أنه جاء بسبعة أصنام فنصبها بـ"منى"، عند مواضع الحجرات، وعلى شفير الوادي، ومواضع أخرى، وقسم عليها حصى الجمار، إحدى وعشرين حصاة، يُرمى كل منها بثلاث جمرات، ويقال للوثن حين يُرمى: أنت أكبر من فلان الصنم الذي يُرمى قبله2. وكان إفاضة الجاهليين على هذا النحو: كان أمر الإفاضة بيد رجل من أسرة تناوبت هذا العمل أبًا عن جد. وقد اشتهر منهم رجل عرف بـ"عميلة بن خالد العدواني"، واشتهر بين الناس بـ"أبي سيارة". كان يجيز الناس من المزدلفة إلى منى أربعين سنة. يركب حمارًا أسود، وينظر إلى أعالي جبل "ثبير"، فإذا شاهد عليها أشعة الشمس الأولى نادى: أشرق ثبير، كيما نغير! ثم يجيز لهم بالإفاضة وفيه يقول الشاعر: خلوا الطريق عن أبي سيَّاره ... وعن مواليه بني فزاره حتى يجيز سالمًا حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره فقد أجار الله من أجاره3. وضرب به المثل، فقيل: أصح من عير أبي سيَّارة4. وذكر "الجاحظ" أن اسم "أبي سيارة" "عميلة بن أعزل"، دفع بأهل الموسم أربعين عامًا، ولم يكن عيره عيرًا وإنما كان أتانًا، ولا يعرفون حمارًا وحشيًّا عاش وعَمَّر أطول من عير "أبي سيارة"5.

_ 1 تاج العروس "3/ 107"، "حجر"، "10/ 348"، "منى". 2 الأزرقي، أخبار، "ص402"، لا يبزك". 3 اللسان "7/ 191"، الروض الأنف "1/ 86"، الميداني "1/ 421 وما بعدها"، البلدان "3/ 6"، "ثبير"، "البكري" "1/ 335"، "طبعة السقا"، "وأبو سيارة: عميلة بن أعزل"، الحيوان "7/ 215"، "عبد السلام محمد هارون"، إرشاد الساري "3/ 210". 4 تاج العروس "3/ 287"، "سير"، نهاية الأرب "16/ 36 وما بعدها". 5 الحيوان "1/ 139".

وورد أن الذين كان لهم أمر الإجازة بالحجاج، وهي الإفاضة، هم "صوفة". وهم حي من مضر من نسل "الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر"، وقد سموا "صوفة" و"آل صوفة"؛ لأن "الغوث" أبوهم جعلت أمه في رأسه صوفة وجعلته ربيطًا للكعبة يخدمها. وكانوا يخدمون الكعبة ويجيزون الحاج، أي يفيضون بهم، فيكونون أول من يدفع. وكان أحدهم يقوم فيقول: أجيزي صوفة، فإذا أجازت، قال: أجيزي خندف، فإذا أجازت أذن للناس كلهم في الإجازة. وكانت الإجازة بالحج إليهم في الجاهلية. وكانت العرب إذا حجت وحضرت عرفة لا تدفع منها حتى تدفع بها صوفة، وكذلك لا ينفرون من "منى" حتى تنفر "صوفة"، فإذا أبطأت بهم، قالوا: أجيزي صوفة. وورد أن "صوفة" قوم من "بني سعد بن زيد مناة" من تميم1. ويفهم من رواية أن كلمة "صوفة" لم تكن اسم علم، وإنما هي لفظة أطلقت على من كان يتولى البيت أو قام بشيء من خدمته، أو بشيء من أمر المناسك2. فهم من رجال الدين، تخصصوا بالإجازة بالناس في مواسم الحج. ولعلهم كانوا يضعون على رأسهم صوفة على هيئة عمامة أو عصابة، أو عطر؛ لتكون علامة على أنهم من أهل بيت دين وشرف. فعرفوا بـ"صوفة" وبـ"آل صوفة"، وبـ"صوفان". وفي ذلك قال: مرة بن خليف الفهمي"، وهو شاعر جاهلي قديم: إذا ما أجازت صوفة النقب من منى ... ولاح قتار فوقه سفع الدم3 و"يظهر" من الروايات الواردة عن "ثبير" أنه كان من المواضع المقدسة عند الجاهليين، أو أن على قمته صنمًا أو بيتًا كانوا يصعدون إليه لزيارته وللتبرك به4. ومن الشعائر المتعلقة بمنى نحر الذبائح، وهي الأضحية في الإسلام و"العتائر".

_ 1 تاج العروس "6/ 169"، "صوف"، معجم الشعراء "382"، ابن هشام "1/ 77، 82". 2 الروض الأنف "1/ 85". 3 معجم الشعراء "382". 4 المشرق، السنة التاسعة والثلاثون "1941م"، "ص259".

في الجاهلية. ولذلك عرف هذا العيد: عيد الحج بـ"عيد الأضحى". وعرف اليوم الذي تضحى به الأضحية بـ"يوم النحر" وبـ"الأضحى" وبـ"يوم الأضحى". وكانوا ينحرونها على الأنصاب وعلى مقربة من الأصنام، فتوزع على الحاضرين ليأكلوها جماعة أو تعطى للأفراد. وقد تترك لكواسر الجو وضواري البر فلا "يصد عنها إنسان ولا سبع"1. وتبلغ ذروة الحج عند تقديم العتائر؛ لأنها أسمى مظاهر العبادة في الأديان القديمة. وكان الجاهليون يقلدون هديهم بقلادة، أو بنعلين، يعلقان على رقبتي الهدي، أشعارًا للناس بأن الحيوان هو هدي، فلا يجوز الاعتداء عليه، كما كانوا يشعرونه. والإشعار الإعلام. وهو أن يشق جلد البدنة أو يطعن في أسنمها في أحد الجانبين بمبضع أو نحوه، وقيل في سنامها الأيمن حتى يظهر الدم ويعرف أنها هدي والشعيرة البدنة المهداة2. وكان بعض أهل الجاهلية، يسلخون جلود الهدي؛ ليأخذوها معهم. ويتفق هذا مع لفظة "تشريق" التي تعني تقديم اللحم. ومنه سميت أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي تشرر في الشمس3. وقيل سمي التشريق تشريقًا؛ لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس4. ويظهر أن الجاهليين كانوا ينحرون قبيل شروق الشمس وعند شروقها. بدليل ما ورد في الحديث من النهي عن ذلك. ومن حديث: "من ذبح قبل التشريق فليعد". أي قبل أن يصلي صلاة العيد. وهو من شروق الشمس وإشراقها لأن ذلك من وقتها5. ولا يحل للحجاج في الجاهلية حلق شعورهم أو تقصيرها طيلة حجهم، وإلا بطل حجهم. ويلاحظ أن غير العرب من الساميين كانوا لا يسمحون بقص الشعر في مثل هذه المناسبات الدينية أيضًا، لما للشعر من أهمية خاصة في الطقوس.

_ 1 ابن هشام "100"، المشرق: السنة السابعة والثلاثون، كانون الثاني - أذار 1939م، "92". 2 نُقَتِّلُهم جِيلًا فجِيلًا نَرَاهُمُ ... شَعَائِرَ قُربانٍ بِهِم يُتقَرَّبُ تاج العروس "3/ 303 وما بعدها"، "شعر". 3 تاج العروس "6/ 393"، "شرق". 4 المصدر نفسه. 5 تاج العروس "6/ 393"، "شرق".

الدينية عندهم، ولا سيما اللحية لما لها من علاقة بالدين. ولهذا نجد رجال الدين والزهاد والأتقياء الورعين يحافظون عليها ويعتبرونها مظهرًا من مظاهر التدين1. وقد كانت القبائل لا تحلق شعورها في مواسم حجتها إلا عند أصنامها، فكان الأوس إذا حجوا وقفوا مع الناس المواقف كلها ولا يحلقون رءوسهم، فإذا نفروا أتوا صنمهم مناة فحلقوا رءوسهم عنده، وأقاموا لا يرون لحجهم تمامًا إلا بذلك2. وكانت قضاعة ولحم وجذام تحج للأقيصر وتحلق عنده3. وكان من عادة بعض القبائل، مثل بعض قبائل اليمن، إلقاء قرة من دقيق مع الشعر4. وذلك أن أهل اليمن كانوا إذا حلقوا رءوسهم بمنى وضع كل رجل على رأسه قبضة دقيق، فإذا حلقوا رءوسهم سقط الشعر مع ذلك الدقيق، ويجعلون ذلك الدقيق صدقة، فكان ناس من أسد وقيس يأخذون ذلك الشعر بدقيقه، فيرمون بالشعر وينتفعون بالدقيق. وفي ذلك يقول معاوية بن أبي معاوية الجرمي: ألم تر جرمًا أنجدت وأبوكم ... مع الشعر في قص الملبد شارع إذا قرة جاءت تقول أصب بها ... سوى القمل إني من هوازن ضارع5 وكان من يقصد العزى يذبح عند شجرة هناك ثم يدعون، وكان من يقصد مناة يهدي لها كما كان غيرهم يهدي للكعبة ويطوفون بها ثم ينحرون عندها، وكان عبدة ذي الخلصة في أسفل مكة يذبحون عنده كذلك6. وكذلك كانت بقية القبائل تطوف في أعيادها حول أصنامها، وتهدي إليها، ثم تنحر عندها عند إكمالها هذه الشعائر دلالة على إكمالها شعائر الحج إلى هذه المواضع وانتهائها منها على أحسن وجه. وتميز الحيوانات التي يهيئها أصحابها أو مشتروها للذبح في الحج بعلامات، بأن توضع عليها قلائد تجعلها معروفة، أو أن يحدث لها جرح ليسيل منه الدم ليكون ذلك علامة أنها هدي، ويقال لذلك إشعار، ومنه إشعار البدن، وهو أن يشق.

_ 1 Smith, p. 323. 2 الأصنام "ص14"، البلدان "8/ 169"، الأزرقي "1/ 73". 3 الأصنام "ص48"، البلدان "1/ 314"، Reste, s. 62. 4 الأصنام "ص48"، البلدان "1/ 314 وما بعدها"، Reste, s. 62. ff. 5 تاج العروس "3/ 486"، "قرر". 6 بلوغ الأرب "1/ 344 وما بعدها".

أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل منه الدم ليكون ذلك علامة الهدي1. وقد كان من أهل مكة من يتخذ من لحاء شجر الحرم قلادة يضعها في عنق البدن؛ لتكون دلالة على أنها هدي، فلا يعترضها أحد. ويجوز للحجاج مغادرة "منى" في اليوم العاشر من ذي الحجة، أي في اليوم الأول من العيد، ففي هذا اليوم يكمل الحجاج حجهم، ولكن منهم من يمكث في هذا الموضع حتى اليوم الثالث عشر، وذلك ابتهاجًا بأيام العيد، ومشاركة لإخوانه فيه. ويقال لذلك "التشريق". وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر3. وكان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم وفرغوا من الحج، وذبحوا نسائكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فيقول بعضهم لبعض: كان أبي يطعم الطعام، ويقول بعضهم: كان أبي يضرب بالسيف، ويقول بعضهم: كان أبي جز نواصي بني فلان. يقولون ذلك عند "الجمرة"، أو عند البيت، فيخطب خطيبهم ويحدث محدثهم. أو أنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم وأقاموا بمنى قعدوا حلقًا، فذكروا صنيع آبائهم في الجاهلية وفعالهم به، يقوم الرجل، فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عظيم القبة كثير المال، وما شاكل ذلك، فنزل الوحي: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} 4. وكانوا إذا خرج أحدهم من بيته يريد الحج، تقلد قلادة من لحاء السمر؛ دلالة على ذهابهم إلى الحج، فيأمن حتى يأتي أهله. وذكر أنه كان يقلد نفسه وناقته، فإذا أراد العودة عادوا مقلدين بلحاء السمر. وروي أنهم إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة يتقلدون من لحاء السمر، وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها، تقلدوا قلادة شعر فلا يعرض لهم أحد بسوء. بقي ذلك شأنهم حتى نزل الأمر بمنع دخول المشركين مكة وبوجوب قتلهم حيث وجدوا5.

_ 1 النهاية "2/ 442". 2 اللسان "4/ 369"، "6/ 81 وما بعدها"، الموطأ "1/ 249"، مسند ابن حنبل "1/ 216، 254، 280، 249، 334، 339"، "6/ 35، 82، 87". 3 تاج العروس "6/ 393"، "شرق". 4 البقرة، الآية 200، تفسير الطبري "2/ 172 وما بعدها". تفسير الطبرسي "2/ 296 وما بعدها". 5 تفسير الطبري "6/ 37 وما بعدها"، اللسان "3/ 367" "قلد".

التجارة في الحج

التجارة في الحج: قال علماء التفسير: كان متجر الناس في الجاهلية: عكاظ وذو المجاز، فكانوا إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم. ويقولون أيام الحج أيام ذكر. وقالوا: "كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا ضالة ليلة النفر. وكانوا يسمونها ليلة الصدر، ولا يطلبون فيها تجارة ولا بيعًا". وقالوا: "كان بعض الحاج يسمون الداج. فكانوا ينزلون في الشق الأيسر من منى وكان الحاج ينزلون عند مسجد منى، فكانوا لا يتجرون حتى نزلت ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم. هي التجارة. قال: اتجروا في الموسم"1. والصدر الإفاضة. ومنه طواف الصدر. وهو طواف الإفاضة2. والداج: الأجراء والمكارون والأعوان ونحوهم الذين مع الحاج3. وذكر أن قومًا جاءوا إلى "عبد الله بن عمر"، فقالوا: "إنا قوم نكرى، فيزعمون أنه ليس لنا حج. قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ " قالوا بلى. قال فأنتم حاج4. ومن يكري لخدمة الحاج، فهو من الداج.

_ 1 تفسير الطبري "2/ 164 وما بعدها". 2 تاج العروس "3/ 328"، "صدر". 3 تاج العروس "2/ 39"، "دج". 4 تفسير الطبري "2/ 164 وما بعدها".

العمرة

العمرة: و"العمرة" هي بمثابة "الحج الأصغر"، في الإسلام، وكان أهل الجاهلية يقومون بأدائها في شهر "رجب". وللعمرة في الإسلام شعائر ومناسك، وتكون بالطواف بالبيت وبالسعي بين الصفا والمروة. ولا بد أن يكون لها عند الجاهليين شعائر ومناسك. وهي في الإسلام فردية اختيارية، وهي تختلف بذلك عن الحج الذي هو فرض عين على كل مسلم مستطيع، وجماعي، أي أن المشتركين فيه يؤدونه جماعة1 أما بالنسبة إلى الجاهليين، فيظهر من ذكر العمرة في القرآن.

_ 1 Shorter Ency, of Islam, p. 604. ff

الكريم أنهم كانوا يؤدونها كما كانوا يؤدون الحج، ولوقوعها في شهر رجب، وهو شهر كان الجاهليون يذبحون العتائر فيه، لعلنا لا نخطئ إذا قلنا إنهم كانوا يذبحون ذبائحهم في العمرة، حينما يأتون أصنامهم فيطوفون حولها، أما في الإسلام، فالعمرة دون الحج. وإذا كانت في شهر رجب في الجاهلية، كانت حجًّا خاصًّا مستقلًّا عن الحج الآخر الذي يقع في شهر ذي الحجة. حرص الجاهليون على ألا يوافق موعدها موعد مواسم الحج، لما كان لها من أهمية عظيمة عندهم قد تزيد على الطواف المألوف في شهر الحج1. وورد أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن العمرة من أشهر الحج: شوال وذي القعدة وتسع من الحجة وليلة النحر، أو عشر أو ذي الحجة من الفجور في الأرض، أي من الذنوب2، ولكن بعضًا آخر كان يعتمر في كل شهر، ولا سيما في رجب، حيث كانوا يحلقون رءوسهم ويجيئون إلى محجاتهم للعمرة. وورد أن أهل الجاهلية "كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر. ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر"3. وذكر أن الأشهر الحرم ثلاثة سردًا وواحدًا فردًا، وهو رجب. أما الثلاثة، فليأمن من الحجاج واردين إلى مكة وصادرين عنها، شهرًا قبل شهر الحج، وشهرًا بعده، قدر ما يصل الراكب من أقصى بلاد العرب، ثم يرجع وأما رجب، فللعمَّار يأمنون فيه مقبلين وراجعين نصف الشهر للإقبال ونصفه للإياب؛ إذ لا تكون العمرة من أقاصي بلاد العرب كما يكون الحج. وأقصى منازل المعتمرين بين مسيرة خمسة عشر يومًا4. ويلبس المعتمر "الإحرام" أيضًا. وقد كان الجاهليون يكتفون في عمرتهم بالطواف بالبيت، أما "السعي" بين الصفا والمروة، فأغلب الظن أن العرب لم يكونوا يقومون به. بدليل ما ورد في القرآن الكريم من قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا

_ 1 المشرق، الجزء 39 "1941"، "ص250"، Reste, s. 84, 2 إرشاد الساري "6/ 174". 3 الروض الأنف "1/ 351". 4 الروض الأنف "2/ 60".

وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 1. ففي هذا النص دلالة على أن الجاهليين من غير قريش لم يكونوا يدخلون السعي بينهما في شعائر الحج أو العمرة، وأن الله أمر بإدخاله فيهما. أما موقف الجاهليين بالنسبة لطواف العمرة، فهو نفس موقفهم بالنسبة للطواف بالبيت في أثناء الحج، والفرق بين الحج والعمرة، أن الحج هو الإحرام ثم الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة وقضاء مناسك عرفة والمزدلفة والوقوف بالمواضع التي أمر بالوقوف بها، بينما العمرة الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة2، فلا يكون موقف عرفة من العمرة، وكان الجاهليون يحلقون رءوسهم للعمرة، ويكون حلق الرأس علامة لها. فإذا وجدوا رجلًا وقد حلق رأسه علموا أنه من "العمار"، فلا يمسونه بسوء، إلا إذا مس أحدًا بسوءٍ احترامًا للعمرة ولشعائر الدين3. والفرق بين العمرة والحج في الإسلام، أن العمرة تكون للإنسان في السنة كلها، والحج في وقت واحد في السنة. وتمام العمرة أن يُطاف بالبيت، ويُسعى بين الصفا والمروة، والحج لا يكون إلا مع الوقوف بعرفة يوم عرفة وإجراء بقية المناسك4. وتقبيل الأحجار والأصنام واستلامها في أثناء الطواف أو في غير الطواف من الشعائر الدينية عند الجاهليين. كان في روعهم أن هذا التقبيل مما يقربهم إلى الآلهة، ويوصلهم إليها، فتقربوا إليها ونصبوها في مواضع ظاهرة، ومسحوا أجسامهم بها تبركًا وكلمة "تمسح" من الكلمات التي لها معانٍ عند الجاهليين، وكذلك كلمة "استلم" و"استلام" عند أهل مكة خاصة حيث استعملت بالنسبة للحجر الأسود. وطريقتهم أن يمر الإنسان يده على الحجر المقدس أو أن يمسه بها إن صعب استلامه كله. وقد يعوض عن ذلك بعصا يمدها الإنسان إلى الحجر حتى

_ 1 البقرة، الآية 158. 2 تفسير الطبري "2/ 120 وما بعدها". 3 "وقد كان حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عمار فلا بأس علينا منهم"، تفسير الطبري "2/ 202". 4 اللسان "6/ 282"، تاج العروس "3/ 422 وما بعدها"، اللسان "4/ 604"، "صادر"، البلدان "4/ 154"، الإقناع "1/ 334، 397 وما بعدها".

تلمسه، وإذا تعذر الوصول إليه بسبب ما، فيجوز أن يفعل ذلك راكبًا على جمل1. ومن هذا القبيل أيضًا طرق مطارق أبواب البيوت المقدسة طرقات خفيفة، وإمرار بعض الأشياء مثل الملابس على الأصنام والصخور والمواضع المقدسة لاكتساب البركة، والتمسح بجدران البيت او استلام أركانه أو التعلق بأطراف الكسوة. وتلطيخ الأحجار بدماء الضحية التي تقدم للأوثان وذلك بصب الدماء عليها، أو بتلطيخها وتلويثها كلها أو جزء منها بدم الضحية، توكيدًا بإراقة دم الضحية في نفس من ضحيت الضحية من أجله2. وقيل إن من شعائر الجاهليين في الحج أن الرجل منهم كان إذا أحرم، تقلد قلادة من شعر، فلا يتعرض له أحد. فإذا حج وقضى حجه، تقلد قلادة من "إذخر"، والإذخر نبات زكي الرائحة، وأن الرجل منهم يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم، فلا يخاف من أحد، ولا يتعرض له أحد بسوء3. وتذكرنا هذه العادة بما يلبسه بعض الحجاج عند إتمامهم حجهم وعودتهم إلى بلادهم من لباس "كوفية" خاصة بأهل مكة ومن عقال حجازي وذلك بالنسبة للرجال، وخمار أبيض بالنسبة للنساء، وذلك طيلة الأيام السبعة الأولى من احتفالهم بالعودة من الحج. ولم يكن الجاهليون القريبون من مكة أو البعيدون عنها يقصدونها في حج "عرفة" وعمرة "رجب" حسب، بل كانوا يقصدونها في أوقات مختلفة وفي المناسبات، للطواف حول الأصنام، واستلام الحجر الأسود، والتقرب إلى الآلهة المحلية. وقد ساعد ذكاء سادة قريش الذي تجلى في جمعهم أكثر ما أمكنهم جمعه من أصنام القبائل في "البيت الحرام"، على اجتذاب القبائل إليها، وبذلك نشطوا في استغلال مواسم الحج والعمرة بالاستفادة من القادمين بالاتجار معهم، وببيع ما

_ 1 وفي الحديث أن الرسول طاف وسعى بين الصفا والمروة، وهو على ظهر جمل، البخاري "1/ 66، 211"، السنن "2/ 37، 39"، مسلم "1/ 486، 488"، الأغاني "13/ 166"، المشرق، السنة السابعة والثلاثون، كانون الثاني – أذار 1939م "ص87 وما بعدها". 2 Reste, S. 109. 3 بلوغ الأرب "2/ 289".

يحتاجون إليه من طعام وزاد، فحصلوا على مال، حسدهم عليه الآخرون. فكان الفضل في ذلك للبيت. وإلى ذلك أشير في القرآن، في سورة "قريش": {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} 1. هذا ما عرفناه عن شعائر الحج إلى مكة وعن مناسكه في الجاهلية المتصلة بالإسلام. أما عن الحج إلى البيوت الأخرى وعن شعائره ومناسكه، فلا نكاد نعرف من أمرها شيئًا يذكر. ولكننا نستطيع أن نقول إن من أهم أركان الحج عند جميع الجاهليين، وجوب مراعاة النظافة، نظافة الجسم ونظافة الثياب. ولذلك، كانوا إذا حجوا لبسوا ملابس خاصة بالحج هي "الإحرام" أو ملابس جديدة، أو ملابس مستعملة نظيفة مغسولة، وذلك لحرمة هذه المواضع وقدسيتها، فلا يجوز دخولها بملابس وسخة دنسة، وإذا كانوا يلبسون أحسن ما عندهم عند ذهابهم إلى مقابلة عظيم أو سيد قبيلة أو رجل محترم؛ احترامًا له وإجلالًا لشأنه، أفلا يجب إذن لبس خير ما عند الإنسان من ثياب لدخول بيوت الآلهة، ولا سيما في مواسم الحج؟. وكان منهم من يوجب على نفسه الغسل وتنظيف جسده حين دخوله المعبد أو اعتزامه الحج. وتقبيل الأصنام والأحجار واستلامها في أثناء الطواف والتمسح لها من الشعائر الدينية اللازمة في الحج وفي غير مواسم الحج عند الزيارات. كان في روعهم أن هذا التقبيل مما يقربهم إلى الآلهة، ويوصلهم إليها، فتجعلها ترضى عنهم وتشفيهم مما هم فيه من سقم وأمراض، فتقربوا إليها ومسحوا أجسامهم بها تبركًا وتقربًا. و"التمسح" بالصنم أو الحجر المقدس، التبرك به لفضله وعبادته، كأنه يتقرب إلى الآلهة بالدنو منه ولمسه2. وقد كان رجال الدين يمسحون بأيديهم أجسام المرضى وثيابهم؛ لإزالة السوء عنهم. وقد ذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يتمسحون بأصنامهم، ويمسحون ظهورهم بها؛ لاعتقادهم أنها تشفيهم من كل ألم وسوء. واستلام الصنم أو الحج المقدس، هو نوع من أنواع التقدير والتعظيم والتقرب. ويراد بذلك تقبيل الحجر ولمسه وتناوله باليد ومسحه بالكف. وإذا صعب الوصول

_ 1 سورة قريش، الرقم 106، رقم الآية 3 وما بعدها، تفسير الطبري "30/ 197"، روح المعاني "30/ 241". 2 تاج العروس "2/ 226"، "مسح".

إليه لشدة الازدحام، فقد يمد أحدهم قصبة أو عودًا أو عصًا إليه لمسه، فيكون لمس هذه الأشياء له، كأنه لمس حقيقي، يجلب لصاحبه ما تمناه وطلبه ورجاه من ذلك الصنم أو الحجر1. وقد أشار بعض "الكلاسيكيين" إلى وجود غابة من النخيل في ركن من البحر الأحمر، كان يؤمها النبط للتبرك بها؛ إذ كانت في نظرهم أرضًا مقدسة، عليها معبد من الحجر عليه كتابة، وصفوها بأنها كتابة لا يستطيع اليوناني قراءتها، وبه كهَّان وكاهنات يقضون عمرهم في خدمة ذلك المعبد، قالوا: وفي كل خمس سنين يحج الناس إليه، ويتجمعون عنده، ويحضر معهم من في جوار المعبد من ناس، فيذبحون، ويتقربون إلى آلهتهم. فإذا عادوا أخذوا معهم ماء من ذلك المكان؛ للتبرك به، لاعتقادهم أنه يمنحهم الصحة والعافية. وذكر بعض آخر أن الحج إلى هذا البيت كان مرتين في السنة: الحج الأول في مطلع السنة، ويستغرق شهرًا واحدًا. أما الحج الثاني فيكون في نهاية الصيف، ويستغرق شهرين وتكون هذه الأشهر الثلاثة أشهرًا حرمًا لا يحل فيها قتال، يعمها سلم أوجبته الآلهة على الإنسان والحيوان. ونرى في هذا الشعائر مشابهة كبيرة لشعائر الحج في مكة. ولولا تعيين هؤلاء الكتبة المكان، ونصهم على أنه على البحر الأحمر، وأنه غابة نخيل، لانصرف الذهن إلى مكة؛ إذ نجد أن شعائر الحج فيها تشبه هذه الشعائر، واستقاؤهم من ماء "زمزم" للتبرك به، يشبه استقاء هؤلاء من بئر معبدهم هذا، وقد أهمل أولئك الكتبة أسماء الأشهر الحرم الثلاثة، فأضاعوا علينا فرصة ثمينة كانت تساعدنا كثيرًا في الوقوف على تثبيت الأشهر عند الجاهليين. ويلاحظ أن النبط كانوا يعقدون في أثناء هذه الأشهر الحرم سوقًا، تذكرنا بسوق عكاظ التي كان يعقدها أهل الحجاز. ولا شك أن موسم الحج في المعبد المذكور، الذي يتحول إلى سوق للبيع والشراء، يشبه موسم الحج في مكة حيث ينقلب أيضًا إلى سوق.

_ 1 اللسان "12/ 297"، "سلم". 2 Die Araber in der Alten welt, I, S. 32. f.

الأعياد

الأعياد: والأعياد من جملة مظاهر الأديان وشعائرها. والحج في حد ذاته عيد من أعياد الجاهليين. وقد كانت للجاهليين أعياد لها صلة بأديانهم. غير أننا لا نستطيع أن نتحدث بالطبع عن وجود أعياد عامة يعيِّد فيها جميع الجاهليين عبدة الأصنام، لأن الأعياد العامة تستدعي وجود ديانة واحدة وعبادة إله أو آلهة مشتركة يعبدها جميع القوم، وإذ كانت العرب لا تعبد إلهًا واحدًا أو آلهة مشتركة يقدسها أهل الوبر وأهل المدر منهم جميعًا، فلا يمكن أن نتصور وجود أعياد عامة لجميع العرب، في عهود ما قبل الإسلام. ولفظة العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد على رأي علماء اللغة1. وهو بالمعنى المعروف الذي يخص الاحتفالات الدينية من الألفاظ المعربة المأخوذة عن لغة بني إرم على رأي المستشرقين. فـ"عيدا" في الإرمية هي "العيد" في العربية2.

_ 1 تاج العروس "2/ 438"، اللسان "4/ 313"، بلوغ الأرب "1/ 344". 2 Ency, II, p. 444.

الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة

الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة مدخل ... الفصل الثالث والسبعون: بيوت العبادة والمعبد هو الموضع المخصص للعبادة. وقد وردت في النصوص الجاهلية وفي عربية القرآن الكريم ألفاظ تؤدي هذا المعنى، فقد كان الجاهليون قد اتخذوا معابد ثابتة ومعابد منتقلة مثل بيوت الوبر، تعبدوا بها إلى معبوداتهم قبل الإسلام وقبل الميلاد. فقد كانت القبائل في حركة دائمة؛ بحثًا عن الغزو والكلإ والماء. وكانت آلهتها في حركة دائمة أيضًا، ترحل مع المتعبدين لها، وتستقر عند استقرارهم بمكان ما. وعند نزول القبيلة في موضع ما توضع الأصنام في قبتها. وهي خيمة تقوم مقام المعبد الثابت عند أهل المدر، وتكون للخيمة بسبب ذلك قدسية خاصة، وللموضع الذي تثبت عليه حرمة ما دامت الخيمة فوقه، وقد كانت معابد القبائل المتنقلة كلها في الأصل على هذا الطراز1. ولم يكن من السهل على أهل الوبر تغيير طراز هذا المعبد، واتخاذ معبد ثابت؛ لخروج ذلك على سنن الآباء والأجداد. ولذلك لم يرض العبرانيون عن المعبد الثابت الذي أقامه سليمان، لما فيه من نبذ للخيمة المقدسة التي كانت المعبد القديم لهم وهم في حالة تنقل من مكان إلى مكان ثم إن أهل الوبر قوم رحل، ولا يمكن لمن هذا حاله اتخاذ معبد ثابت له، لما كان عليه من وجوب نقل أصنامه معه حيث يذهب.

_ 1 Die Araber, III, s. 132.

ولبيوت الأصنام سدنة، يحفظون الأصنام بها ويرعونها، وينقلونها معهم حيث ترحل القبيلة، فإذا نزلت نزلوا بها، ليقيموا لها الواجبات الدينية المفروضة في الخيمة المقدسة. حيث فرضت طبيعة البداوة على أصحابها هذا النوع من أنواع البيوت المقدسة، وهذه الطقوس الدينية التي تلائم حياة الأعراب. وبيوت العبادة عند الجاهليين ثلاثة أنواع: بيوت عبادة خاصة بالمشركين عبدة الأصنام، وهم الكثرة الغالبة، وبيوت عبادة خاصة باليهود، وبيوت عبادة خاصة بالنصارى. أما بيوت عبادة المجوس، فقد عرفت في العربية الشرقية وفي العربية الجنوبية، ولكن عبادها هم من المجوس، أي العجم، فالمجوسية لم تنتشر بين العرب، ولم تدخل بينهم إلا بين عدد قليل من الناس. وما ذكرته عن بيوت العبادة، خاص بالمعابد العامة، وهناك مواضع عبادة خاصة، جعلت في البيوت، وضع أصحابها أصنامهم في ركن من أركانها، وتقربوا إليها. روي أن العباس، كان قد أقام الصنمين إسافًا ونائلة في ركن داره، وكانا حجرين عظيمين1. واحتفظ غيرة بأصنام في بيوتهم للتبرك بها، ولحماية البيت، وكانوا إذا سافروا حملوا أصنامهم الصغيرة معهم للاحتماء بها، وأخذ بعض شباب المدينة ما وجده من أصنام في البيوت، تعبَّد لها آباؤهم فحطمها، ومنهم من رماها في مواضع العذرة والقاذورات. وقد استطعنا اليوم بفضل جهود السياح والمنقبين والباحثين من الحصول على بعض المعلومات عن معابد جاهلية كانت عامرة يومًا ما. وذلك بعثور المذكورين على ألواح مكتوبة وجدت في خرائب تلك المعابد. ولكن ما عثر عليه، لا صلة له بالدين في الغالب. فليس فيه أدعية أو صلوات أو كتابات تفصح عن عقائد القوم وعن أمور دينهم. ولهذا فإن علمنا بديانات الجاهليين لا يزال ضحلًا، لم يتقدم تقدمًا مرضيًا، وأملنا الوحيد في زيادته هو في المستقبل، فلعله يخرج من صناديق سره المكتومة ما يفصح عن عقائد القوم. وقد اتخذ بعض العرب، وهم المتمكنون، بيوتًا وكعبات لعبادة أصنامهم، وضعوا أصنامهم في أجوافها، ومنهم من اتخذ صنمًا، فلم بين عليه بناءً؛ لعدم استطاعته ذلك. ومن لم يقدر عليه، ولا على بناء بيت نصب حجرًا أمام

_ 1 الأزرقي "1/ 112"، "2/ 188".

الحرم، وأمام غيره، مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسموها الأنصاب1. وذكر أن "وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي"، كان قد اتخذ له صرحًا بالحزورة، سوق كانت بمكة، يرتقيه بسلالم يتعبد فيه، فعرف بصاحب الصرح2. والبيت، مأوى الإنسان ومسكنه في الأصل، ثم تجوز الناس فأطلقوا اللفظة على المعبد، باعتبار أنه بيت الآلهة أو الإله؛ لاعتقادهم أن الآلهة تحل به3. وقد كانوا يضعون الصنم أو الأصنام فيه. ويقال للبيت عندئذ "بيت الله" أو "بيت ريام" وهو بيت يذكر "ابن الكلبي" أنه كان لحمير بصنعاء، وأن الناس كانوا يعظمونه ويتقربون عنده بالذبائح4، أو "بيت الربة" وما شاكل ذلك، بحسب اختصاص البيت بالصنم. كذلك أطلقت كلمة "بيت" بمعنى معبد في نصوص المسند، فورد،: "وقدسو بيت مرب"، أي "وقدسوا بيت مأرب" أو "وبيت مأرب المقدس"5. فلفظة بيت هي اللفظة التي استعملت لمواضع العبادة، أي المعبد، أطلقت قبل اسم الإله أو الموضع لتدل على التخصيص، وهي ترد في لغات سامية أخرى في هذا المعنى نفسه. وأما "الكعبة" فالبيت المربع، وكل بيت مربع كعبة عند العرب. وقد خصصت في الإسلام بالبيت الحرام بمكة. والكعبة الغرفة أيضًا. وقد كان لربيعة بيت يطوفون به، يسمونه الكعبات، وقيل: ذو الكعبات، وقد ذكره الأسود بن يعفر في شعره، فقال: والبيت ذي الكعبات من سنداد6 والمسجد كل موضع يتعبد فيه7. وقد استعملها الجاهليون بهذا المعنى أيضًا.

_ 1 الأصنام "21" "روزا". 2 تاج العروس "2/ 139"، "صرح". 3 المفردات "64". 4 الأصنام "7" "روزا". 5 CIH 541, Le Museon, 1934, LXVII, p. 103. 6 اللسان "1/ 718"، المفردات "446". 7 اللسان "3/ 204 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 371"، "سجد".

وقد وردت اللفظة في نصوص بني إرم وفي النصوص النبطية والصفوية. ورد على هذه الصورة "مسجدا" في نصوص بني إرم. وورد على هذه الصورة في النصوص الصفوية أيضًا، وقد عنت به معبدًا1. وقد عبر عن المعبد بلفظة "مكربن"، أي "المكرب" أو "المكراب" في بعض نصوص المسند؛ إذ ورد "مكربن يعق"، بمعنى "معبد يعوق"2. ومن هذا الأصل أخذت كلمة "مكراب" في الحبشية، ومعناها "معبد"3. ولهذا ذهب "كلاسر" وغيره إلى أنه "مكربة" Mocoraba المدينة المذكورة في "جغرافيا" "بطلميوس" هي "مكة"؛ لأنها "مقربة" إلى الأصنام، فهي بمعنى "البيت" و"الكعبة" في لهجتنا4. وتقابل كلمة المعبد كلمة Templum اللاتينية التي تعني موضعًا مربعًا، فهي بمعنى "الكعبة"، و"كعبة" في اللغة العربية. ويلاحظ توافق تام بين معنى الكلمتين في هاتين اللغتين5. ولا بد أن يكون لاتخاذ هذا الشكل للمعبد سبب؛ إذ لا يعقل أن يكون قد جاء ذلك عفوًا، ولا سيما أننا نلاحظ أن الكلمتين: اللاتينية والعربية، قد جاءتا من شكل البناء ونوعه وطرازه. وذكر علماء اللغة أن في جملة الألفاظ التي تطلق على بيوت الأصنام والعبادة والتصاوير، لفظة "البد". وهي تؤدي معنى "صنم" كذلك. وذكروا أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية، عربت من "بت"6، وأنها تعني البيت إذا كان فيه أصنام وتصاوير7. وذكروا أن في جملة الألفاظ التي أطلقت على بيوت الأصنام لفطة "الطاغوت" والجمع "الطواغيت". ورد أن العرب "كانت قد اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي إليها، كما

_ 1 العرب في سورية قبل الإسلام "119". Shorter Ency, of Islam , p. 330. Cooke, North, Semitic Inscriptions, p. 238. 2 Le Museon, 1954, LXVII, p. 100 3 Ency, II, p. 586. 4 Glaser skinzze, II, S. 235. 5 Ency, Religi, Vol, 12, p. 236. 6 تاج العروس "2/ 295"، "بدد". 7 شمس العلوم "جـ1، ق1، ص119"، غرائب اللغة "218".

تهدي إلى الكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر، عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم الخليل ومسجده"1. وورد أن "الطاغوت" الصنم، وكل معبود من دون الله، ولما تقدم سُمي الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن طريق الخير طاغوتًا"2. واللفظة تعني في لغة "بني إرم": رئيس عقيدة ضلال، وشيطان وصنم3. و"الهيكل" من الألفاظ الدالة على موضع العبادة، استعملت لبيوت الأصنام مجازًا، ولمعابد النصارى4. والظاهر أن استعمالها كان عند العرب الشماليين في الغالب. مثل عرب العراق وعرب بلاد الشأم، ولا سيما عند النصارى منهم. أخذوها من الآراميين، إذ هي بمعنى بيت الصنم، أي معبد الوثنيين عندهم5. وقد وردت في لغة المسند كذلك، وردت بمعنى قصر "6"، ومعبد في أيام دخول النصرانية على اليمن. وقد أطلق "الديدانيون" على بيت "بعل سمن"، لفظة: "أحرم" بمعنى "الحرم" تعظيمًا وتمجيدًا له. فهو ذلك الإله7. وترد لفظة "محرم" -التي لا زالت حية معروفة يطلقها أهل اليمن على محرم "بلقيس"- في لغة المسند، بمعنى المعبد، والمسجد الحرام. وقد وردت في عدد من النصوص8. وبيوت العبادة أنواع. بيوت عبادة كبيرة، يحج إليها في أوقات معينة، ومواسم محددة، من مواضع قريبة أو بعيدة، هي محجات يحج إليها في وقت معين ثابت، يتقرب بها المتعبدون إلى رب المحجة أو أربابها بأداء واجب الخضوع والطاعة. وتكون محجة واحدة في الغالب، اختارها الإله أو الآلهة من بين سائر أماكن الأرض لتكون موضعًا مقدسًا وحرمًا آمنًا، فهي أقدس بقعة وأعز مكان في نظر المتعبدين لها على وجه هذه الدنيا. فلا تدانيها المعابد الأخرى ولا تبلغ منزلتها في الحرمة والمكانة.

_ 1 ابن هشام "1/ 86 وما بعدها"، هامش على الروض الأنف "1/ 64". 2 المفردات، للأصفهاني "307"، الأصنام "6"، تاج العروس "10/ 225"، "طغا". 3 غرائب اللغة "194"، Hughes, Dictionary, of Islam, p. 625. 4 تاج العروس "8/ 170"، "هيكل". 5 غرائب اللغة "209". 6 Jamme, South, Arab, Inscriptions, p. 433. 7 Histoire, IV, P. 312, Preislamiques, p. 20 8 Jamme, South, Arabi, Inscriptions, p. 440.

وهناك بيوت عبادة أخرى تكون دون المحجات في الأهمية والدرجة؛ لأن الآلهة لم تخترها لنفسها ولم تنص على اسمها، وإنما هي دور عبادة أقامها الناس تقربًا إلى تلك الآلهة. وهي متفاوتة في الدرجة أيضًا، فيها المعابد الكبيرة التي صرف على إقامتها مال كثير، وفيها معابد بسيطة، يقيمها الناس تقربًا إلى أربابهم. والناس في ذلك العهد، كالناس في أيامنا هذه، لا يكتفون بتشييد معبد واحد في المدينة، بل نجدهم يقيمون جملة بيوت للعبادة، وقد خصص بعضها بعبادة جملة آلهة، وخصص بعضها بعبادة إله واحد معين، يذكر اسمه على باب المعبد. وقد تبنى في الموضع الواحد جملة معابد لإله واحد؛ لأن المعابد من الأعمال الخيرية التي يقوم بها المؤمنون تقربًا إلى الآلهة، لذلك يصادف قيام جملة أسر ببناء معابد لذلك الإله، تسميها باسمه وتنقش اسم الأسرة أو المتبرع بالبناء على موضع بارز من المعبد. وبفضل هذه الطريقة القديمة، التي لا تزال البشرية تتبعها، تمكنا من الحصول على معلومات عن تلك المعابد وعن الآلهة التي خصصت لها وعن أسماء المؤمنين الذين أقاموها. وقد اتخذ الإنسان من الكهوف بيوتًا للعبادة، كما اتخذ من الجبال والمواضع المرتفعة أمكان بنى عليها معابده؛ ليكون في رأيه ونظره أقرب إلى السماء، حيث تقيم الآلهة، فتسمع دعاءه، وتصل إليها كلمته، وتستجيب له أكثر من استجابتها له لو كان على سطح الأرض. وبنى الحضري معبده في المواطن التي يقيم فيها، وحاول جهده الإنفاق عليها، والتفنن في بنائها وزحرفتها؛ لتكون بيوتًا تليق بسكنى الأرباب. أما البدو، فكانت معابدهم في الخيام، تحفظ فيها أصنامها، فتنتقل معها، وتضرب في الموضع الذي تحل القبيلة فيه، ينظرون إليها نظرة تقديس وإجلال؛ لأنها حرم الآلهة وأماكنها وبيوتها المقدسة، فلا يجوز تدنيسها ولا انتهاك حرمتها. لهذا لم يكن يسمح لأحد بالدخول إليها إلا إذا كان من رجال الدين. ولهذه الخيام المقدسة سدنة، يضعون الصنم أو الأصنام في جوفها، ويسهرون على خدمتها، وينقلونها معهم حيث تنتقل القبيلة. وهم يتوارثون خدمتها. وإذا استقرت القبيلة وتحضرت، تحضر معبد صنمها بتحضرها كذلك. ووجد الصنم

عندئذ له مستقرًّا دائمًا ومقامًا ثابتًا، ويصير عندئذ في عداد الأصنام الثابتة. ويكون للصنم عندئذ معبد تتناسب قيمته وأهميته ودرجة عمرانه مع مكانة القبيلة وعدد رجالها وغناها وما عندها من مال. وللعين أهمية كبيرة في تقييم المعبد وفي نشر العبادة وفي تكوين شخصية الإله رب المعبد فيما بين الناس فكما أن قيمة الإنسان بملبسه وبأناقته وبحسن مظهره، كذلك تكون قيمة المعبد بضخامته وبما يزين به من نقوش وزخارف وبما يعلق على الموضع المقدس منه من ذهب وفضة وأحجار كريمة فالمعبد الضخم، يدل على قوة الإله وقدرته في نظر من ينظر بعينه لا بعقله إلى قيم الأمور، أي في نظر السواد، وهم الكثرة الغالبة، ولذلك يجلبهم إليه، وتلقى ضخامته في نفوسهم تأثيرًا كبيرًا يجعلهم يشعرون أنهم أمام بيت إله حقًّا، لما فيه من روعة ولما تفوح في داخله من روائح البخور والطيب، لذا حرص رجال الدين على جعل معابدهم ضخمة فخمة؛ لتجلب لها أكبر عدد ممكن من المتعبدين. ومن أشهر المواضع المرتفعة التي حج إليها المتعبدون للتبتل والتعبد، والتي ورد ذكرها في قصص أهل الأخبار: حراء، وأبو قبيس، وثبير. أما "حراء" فقد ورد في بيت منسوب إلى شاعر جاهلي: فإني والذي حجت قريش ... محارمه، وما جمعت حراء1 وجعل أحد الأجبل الخمسة التي بُني من حجارتها البيت2. وإليه كان يلجأ كبار قريش لدعوة آلهتهم في الملمات، وإليه أيضًا كان يأتي بعض المتحنثين النساك الزاهدين في عبادة الأوثان للتفكير والتأمل. وفيه غار تحنث فيه النبي، ويعرف بـ"جبل النور"3. وورد أن أبا طالب أرسل عقيلًا ليأتي بالرسول إليه، فذهب إلى "كبس"، وأخرجه منه. والكبس الغار4. ويظهر أنه أراد به غار حراء.

_ 1 البكري "2/ 432"، "حراء" هو "عوف بن الأعوص"، العامري، شرح ديزان لبيد "21". 2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 26"، "ما ذكر من بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة". 3 تاج العروس "10/ 87"، "حرو". 4 تاج العروس "4/ 239"، "كبس".

وأما "أبو قبيس"، فيظهر من غربلة أخبار الأخباريين أنه كان من المواضع المقدسة الداخلة في شعائر الحج، يرتقي الحجاج ظهره؛ ليتموا بذلك مناسك حجهم، وليدعوا آلهتهم بما يطلبون ويرغبون. وكان مقصودًا عند نزول الشدة والبلاء. فالمظلوم يجد محله فوق هذا الجبل للدعاء عند انحباس المطر، لنزول الغيث1. وقد زعم بعض أهل الأخبار، أنه سمي "أبا قبيس" برجل من مذحج حداد؛ لأنه أول من بنى فيه، أو بقبيس بن شالخ، رجل من جرهم، كان قد وشى بين عمرو بن مضاض وبين ابنة عمه "مية"، فنذرت أن لا تكلمه، وكان شديد الكلف بها فحلف ليقتلن قبيسًا، فهرب منه في الجبل المعروف به وانقطع خبره. فإما مات وإما تردى منه، فسمي الجبل أبا قبيس. "وله خبر طويل ذكره ابن هشام في غير هذا الكتاب، وكان أبو قبيس الجبل هذا يسمى الأمين؛ لأن الركن، أي الحجر الأسود، كان مستودعًا فيه"2. "وكان الله عز وجل استودع للركن أبا قبيس حين غرق الله الأرض زمن نوح"، فلما أقام "إبراهيم" قواعد البيت، "جاءه جبريل بالحجر الأسود"3. والظاهر أن بيتًا للعبادة كان عليه، وأنه كانت له صلة بالبيت، فتجسمت هذه الصلة في الذي ذكروه عن الحجر الأسود ووجوده فيه. وأما "ثبير"، فقد كانوا يفيضون منه في الحج على نحو يذكر في شعائر الحج. ويلاحظ أن أهل العربية الجنوبية وأهل السراة قدسوا قمم الجبل، فجعلوا فيها معابد لعبادة الآلهة، مثل معبد "أوم" "أوام" في "ألو". وقد أزيلت معالم تلك المعابد في الإسلام، ولكن بعضها أخذ طابعًا إسلاميًّا فصير مثلًا قبًرا من قبور الأنبياء مثل: "حضور نبي شعيب"، الذي يقع على قمة جبل تعد من أعلا قمم جبال العربية الجنوبية، و"نبي أيوب" و"مقلى" على محر "مبلقة"4.

_ 1 المشرق: السنة التاسعة والثلاثون، تموز- أيلول 1941، "ص252 وما بعدها". 2 تاج العروس "4/ 212"، "قبس". 3 الأزرقي "1/ 27"، "ما ذكر من بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة". 4 تاج العروس "3/ 148"، "حضر"، Beitrage, S. 85, Ency, II, p. 222

وترجع قدسية المواضع المقدسة وحرمتها إلى الاعتقاد بنزول الآلهة في هذه المواضع، وإلى وجود قوى خارقة فيها، أو إلى وجود مقدسين فيها قبروا في باطنها، فقدست تلك المواضع لهذه الأسباب. وتعرف هذه المواضع المقدسة بأسماء من تقدست بهم، وبأسماء المواضع التي تقع فيها. وإنا لنرى كثيرًا من الأماكن المقدسة قد أقيمت في جزيرة العرب عند الينابيع والآبار المقدسة حيث تروى الأرض بالماء فتنمو به المزروعات ويستقي منها الناس. وقد صوَّر هذا الخصب لسكان تلك المناطق وجود قوى خارقة كامنة في تلك الأرضين كانت السبب في نظرهم في بعث الحياة للإنسان ولهذه الأرض1. وقدست بعض المواضع وأقيمت المعابد بها؛ بسبب وجود أشجار مقدسة بها، ونجد في أخبار أهل الأخبار أن بعض المعابد مثل معبد العزى، كان المتعبدون يتقربون بها إلى سمرات، أي شجرات ثلاثة، أو إلى شجرة واحدة، فكانوا يعلقون عليها الحلى ويزينونها، ومثل معبد "ذات أنواط"، وهي شجرة كانت تعبد في الجاهلية، وهي سمرة كان المتعبدون لها ينوطون بها سلاحهم ويعكفون حولها2. وقدست مواضع أخرى لوجود أحجار مقدسة بها، كانوا يطوفون حولها، من هذه المواضع: "عكاظ" فكان الناس يأتون الموضع في الموسم، فينصبون فيه خيامهم، ويقيمون سوقهم، ويطوفون بأحجار عكاظ، يقيمون على ذلك أيام الموسم. فهي أيام عبادة وتجارة وفرح. ولهذه القدسية والحرمة، لم يسمح للسواد الأعظم من الناس بدخول الغرف المقدسة المخصصة بالآلهة؛ لأنها بيوت الآلهة، وعوض لهم عن هذا التحريم بالطواف حولها أو بلمس جدرانها، وللسبب نفسه، حتم على القاصدين لها غسل أجسامهم وتنظيفها ولبس ملابس طاهرة نظيفة، كان سدنة بعض تلك المعابد، أو أهل المواضع التي تقع فيها المعابد يؤجرونها للناس بأجر معين مرسوم، إن كانت تلك المعابد من المعابد الكبيرة وفي مواسم الحج. كذلك لم يكن يسمح لأحد بالدخول إلى المعابد والأحذية في أرجلهم فلا بد من خلعها والدخول بغير أحذية.

_ 1 Ency, Religi, 6, p. 753. Robertson, p. 115. 2 تاج العروس "5/ 236"، "نوط".

احترامًا لقدسية المكان وخشية التدنيس1. وقد حتم الجاهليون على من يريد دخول الكعبة من المتمكنين خلع نعليه؛ احترامًا للبيت. ذكر أهل الأخبار أن أول من خلع نعليه لدخول الكعبة "الوليد بن المغيرة"، فخلع الناس نعالهم في الإسلام2. وقد عثر على كتابات جاهلية تبين منها، أن الجاهليين كانوا يعدون طهارة الملابس وطهارة الجسم من الأمور الملازمة لمن يريد دخول المعبد، فإذا دخل إنسان معبدًا وهو نجس عدَّ آثمًا، وقد ورد أن رجلًا اتصل بامرأة، ثم دخل المعبد بملابسه التي كان يلبسها حين اتصل بها، فعدَّ آثمًا، ودفع فدية عن إثمه إرضاءً للآلهة3. وورد أن رجلًا دخل معبد الإله "رب السماء" "ذ سموى" بمعطف نجس، فدفع فدية عن ذلك، جزاء ما ارتكبه من إثم4. فدخول المعابد بملابس نجسة، نجاسة: مادية أو معنوية، إثم، تعاقب الآلهة عليه، لهذا اشترطت ديانتهم عليهم عدم دخول بيوت الآلهة، إلا بملابس طاهرة نظيفة حرمة وتقديرًا لهذه البيوت. وللسبب المذكور اشترط سدنة الصنم "الجلد" على من يريد من عباده تقديم قربان إليه، أو تكليمه كراء ثياب مسدنة، للبسها بدلًا من ملابسهم؛ لأنها ملابس نظيفة طاهرة، لم تمسها أدران مادية أو معنوية5. وهو شرط نجده عند غير العرب أيضًا كالعبرانيين6. وقد كانت المعابد تدخر ملابس تكريها لمن يريد أداء شعائر زيارة بيوت الأصنام. وورد في كتب أهل الأخبار، أن الجاهليين حتموا على المرآة الحائض ألا تمس الصنم ولا تتمسح به، وألا تدخل بيته لنجاسة الحيض7. وورد أن "فاختة" أم "حكيم بن حزام بن خويلد"، كانت دخلت الكعبة وهي حامل متم بحكيم.

_ 1 Ency, Rengi,6, p. 53. 2 ابن رسته، الأعلاق "191"، صبح الأعشى "1/ 428". 3 Glaser, 1052, Hofmus, 6, CIH, 523, Grohmann,s. 251. f. 4 Rep, Epigr, 3956, Grohmann, s. 252. 5 البلدان "3/ 122". 6 "ثم قال الله ليعقوب: قم فاصعد إلى بيت إيل، وأقم هناك، واصنع هناك مذبحا لله الذي ظهر لك عند هربك من وجه عيسو أخيك. فقال يعقوب لأخيه وسائر من معه: أزيلو هذه الآلهة الغريبة التي بينكم وتطهروا وابدلوا ثيابكم. وهلموا تصعد إلى بيت إيل"، التكوين، الفصل "35"، الآية 1 وما بعدها. 7 الأصنام "33"، خزانة الأدب "3/ 245".

ابن حزام فأجاءها المخاض، فلم تستطع الخروج من الكعبة، فوضعته فيها فلفت في الأنطاع هي وجنينها، وطرح مثبرها وثيابها التي كانت عليها، فجعلت لقى لا تقرب1. فيظهر من هذا الخبر أن أهل كانوا يعتبرون دم المخاض والولادة نجسًا، ولهذا اعتبرت الأنطاع التي وضعت "فاختة" جنينها عليها بل اعتبرت هي نجسة أيضًا فلفت بالأنطاع وألقيت، وجعلت لقى لا يمسها أحد. وعثر المنقبون على أحواض داخل المعابد في العربية الغربية يظهر أنها كانت للوضوء؛ لتطهير الجسم قبل الدخول إلى المسجد، موضع الصنم ... وذلك بغسل الوجه واليدين والقدمين وربما الأبدان كذلك، قبل الدخول إلى بيت الصنم، ولكون هذا الوضوء تطهيرًا للجسم، عرفت "الميضأة" بالمطهرة؛ لأنها تطهر من الأدران2. ولهذا السبب، حفرت الآبار في المعابد؛ لتموين هذه الأحواض بالماء، وللتبرك أيضًا بالماء المقدس، ولاستعماله في أغراض أخرى، منها تنظيف الجسم من الأدران بعد قضاء الحاجة. ولهم آداب اتبعوها حين دخولهم بيت الصنم وحين خروجهم منه. من ذلك أن القبائل كانت تتجنب أن تجعل ظهورها على مناة إعظامًا للصنم. فكانت تنحرف في سيرها، حتى لا يكون الصنم إلى ظهرها. وفي ذلك قال الكميت بن زيد، أحد بني أسد بن خزيمة بن مدركة: وَقَد آلَت قَبَائِلُ لاَ تُوَلِي ... مَنَاةَ ظُهُورِهَا مُتَحَرِّفِينَا3 وقد تطورت أشكال المعابد وهندستها بتطور الحضارة، وبشكل طبيعة الأرض التي يقام المعبد عليها. وهي تتناسب مع درجة تطور الشعوب ودرجة رقيها وطراز تفكيرها واختلاطها بالأمم المجاورة. ولذلك نجد معابد "تدمر" مثلًا قد تأثرت بطراز البناء الإغريقي؛ لتغلغل الثقافة اليونانية فيها، ولتأثر سكان المدينة باليونان. كذلك نجد هذا الأثر والأثر الروماني في معابد بلاد الشأم وفلسطين فالمعبد إذن

_ 1 الروض الأنف "1/ 134"، الإصابة "1/ 348"، "رقم 1800" كتاب نسب قريش "231". 2 تاج العروس "1/ 134"، "وضوء". 3 ابن هشام "1/ 900"، المشرق، السنة 1938م، "الجزء الأول"، "ص11". ابن هشام "1/ 65"، "حاشية على الروض الأنف"، "قصة عمرو بن لحي، وذكر أصنام العرب".

هو نموذج معبر عن نفسية الناس وعن حضارتهم ودرجة تفكيرهم وعن هندستهم، ومدى تأثر فن البناء عندهم بالمؤثرات الداخلية الأصيلة أو المؤثرات الدخيلة في الزمن الذي قام فيه البناء. ومن هنا نجد معابد اليمن اتخذت لها الحجارة الضخمة المتقطعة من الصخور في بناء الجدار والأرض وفي الأعمدة، ونجد المعمار قد تفنن في تزويق الجدر والأعمدة والسقوف وفي زخرفتها، فصارت المعابد ضخمة جميلة، لا تضاهيها المعابد التي أقيمت في مواضع سهلة من جزيرة العرب؛ لعدم وجود المواد الصالحة للبناء فيها، ولأن الطبيعة لم تهب للمعمار فيها ما يدفعه إلى بناء أبنية ضخمة فيها تضاهي معابد أهل اليمن.

الاستفسار عن المغيبات

الاستفسار عن المغيبات: ولم تكن المعابد مواضع عبادة وتقرب إلى الأصنام حسب، بل كانت مواضع استفسار عن المغيبات كذلك، يقصدها أهل الحاجات لسؤال الآلهة عما عندهم من مشكلات، أو عما سيخبئه لهم المستقبل من أمور، أو عن أعمال يريدون القيام بها، أو عن سرقة، وما شابه ذلك من طلبات. ومن هذه البيوت بيت رئام، وقد كانوا يكلمون منه وينحرون عنده1. وبيت العزى، وكانوا يسمعون فيه الصوت2، والمنطبق وكان صنمًا من نحاس يكلمون من جوفه، فيأتيهم الجواب3. وبيت "الجلسد"، صنم كندة وأهل حضرموت4. وقد ذكر "الجاحظ: "أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من أجواف الأوثان همهمة، وأن خالد بن الوليد حين هدم العزى رمته بالشرر حتى احترق عامة فخذه، حتى عاده النبي، صلى الله عليه وسلم". وهو ممن يشكون في صدور مثل هذه الأمور إذ يقول: "وهذه فتنة لم يكن الله ليمتحن بها الاعراب وأشباه الأعراب من العوام. وما أشك أنه كان للسدنة حيل وألطاف لمكان التكسب"5.

_ 1 الأصنام "ص12"، الطبري "2/ 97". 2 الأصنام "ص18". 3 المجد "ص318". 4 البلدان "3/ 122 وما بعدها". 5 الحيوان "6/ 201".

تكليم الأصنام

تكليم الأصنام: ويقوم الكهان بتكليم الصنم، وهم الذين يفسرون للسائلين الهمهمة أو الأصوات الصادرة من تلك الأصنام ويتكلمون على ألسنتها بما يلائم السائل مقابل نذر وهدايا وألطاف يقدمونها إلى السدنة. وهذا النوع من التنبوء، معروف عند اليونان والرومان، مشهور ومعروف عند غيرهم من الأمم كالبابليين والآشوريين والعبرانيين. بل هو يؤلف جزءًا مهمًّا من أركان الديانات القديمة، ويطلق عليه Oracle في الإنكليزية من Oraculum اللاتينية، ومعناها التكلم. ولهذا النوع من التنبوء صلة كبيرة بالسحر Magic وبالكهانة في الديانات القديمة والديانات البدائية عند بعض الشعوب الإفريقية والأسترالية في الزمن الحاضر. وقد اكتسبت بعض معابد اليونان شهرة كبيرة في هذا النوع من التنبوء بالغيب، وأشهرها معبد "دلفي" Delphi" الذي كسب شهرة عظيمة في هذا الباب1. وقد ورد في بعض النصوص، أن قومًا كلموا آلهتهم في شهر "ذ أجبى ذ عثر" و"ذ فرعم ذ عثتر"، فأجابهم الإله "عثتر" على ما سألوا عليه. وورد أن جماعة من المؤمنين بـ"عم"، كلموه، فأجابهم على ما سألوا عنه. وكانوا إذا كلموا الآلهة، فوجدوا أن الأجوبة غير منسجمة مع الأسئلة، أعادوا الأسئلة عليها وقدموا قرابين جديدة لها، أو وزادوا في الحلوان، يفعلون ذلك حتى يسمعوا الجواب المناسب لأسئلتهم2. ولم أسمع بوجود تكليم في مكة. فلم يذكر أحد من أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يأتون الكعبة لسماع أجوبة الأصنام عن أسئلة يوجهونها إليها، ولا عن وجود سدنة كانوا يقومون بأي نوع من التكليم. وإنما ذكروا أنهم كانوا يسألون الأصنام النصح والإرشاد، والأمر والنهي بفعل فعل أو تركه، ويكون ذلك بالاستقسام بالأزلام. وقد خصص الصنم "هبل" بهذا النوع من الإرشاد. وكانت عنده سبعة قداح، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة عليهم، فإن خرج العقل، فعلى

_ 1 Ency, Brita, Vol, 16, p. 830 , T. D. Dempsey, The Delphic Aracle, 1918, L. R. Farnell, Cults of the Greek States, Vol..Iv, p. 179. 2 Grohmann, s. 251.

من خرج حمله: وقدح فيه "نعم" للأمر، إذا أرادوه يضرب به في القداح، فإن خرج قدح فيه نعم، عملوا به، وقدح فيه "لا"، فإذا أرادوا الأمر ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح. لم يفعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه "منكم"، وقدح فيه "ملصق"، وقدح فيه "من غيركم"، وقد فيه "المياه" فإذا أرادوا أن يحفرون للماء ضربوا بالقداح، وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج به، عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا أو ينكحوا منكحًا أو يدفنوا ميتًا أو شكوا في نسب أحدهم، ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا فلان، أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه. ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج عليه "منكم" كان منهم وسيطًا، وإن خرج عليه من "غيركم" كان حليفًا، وإن خرج عليه "ملصق"، كان ملصقًا على منزلته فيهم لا نسب له ولا حليف، وإن خرج عليه شيء مما سوى هذا مما يعملون به "نعم" عملوا به، وإن خرج "لا" أخروه عامه ذلك، حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في أمرهم ذلك إلى ما خرجت به القداح1. وهكذا كانت قريش والقبائل التي تحج إلى مكة تأتي على هبل لاستشارته في قضايا تهمها. فما يخرج في القداح مما هو مكتوب، يكون الجواب. غير أن بعض الأجوبة قد يأتي على خلاف رغبة السائلين، ولذلك كانوا يغرون الضارب على القداح بالضرب إلى أن يخرج القداح الذي فيه يريدون ويشتهون وقد يؤخرون ذلك بعض الوقت. وهم يفسرون النتيجة التي تظهر أنها رغبة الصنم وإرادته بوحيها، فتظهر بالقداح. وذو الخلصة من الأصنام التي كان يستقسم عندها كذلك. وإلى هذا الصنم ينسب قول أحد الشعراء لهذه الأبيات: لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا ... مثلي وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العُداة زورا

_ 1 الأزرقي "1/ 68 وما بعدها"، الطبري "2/ 172 وما بعدها".

وهي أبيات ينسبها بعض الرواة إلى امرئ القيس. وكان أبوه قتل، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلصة، فاستقسم عنده بالأزلام، فخرج السهم ينهاه عن ذلك، فقال هذه الأبيات التي تتحدث عن غضب الشاعر على هذا الصنم، لنهيه إياه عن الأخذ بالثأر. ولو كانت النتيجة كما يشتهي، لما قال الشاعر هذه الأبيات بالطبع، وتجاسر على الصنم1. ولما كانت الحروب والغزوات من القضايا المهمة، كانت استشارة الأصنام والاستقسام بشأنها من الأمور المألوفة، فكان أهل مكة إذا أرادوا الحرب أو عقد هدنة أو إبرام أمر خطير أتوا "هبل" يستقسمون عنده ليعطيهم الرأي المصيب في هذا الموضوع. والغالب أن يكون الاستقسام أمام الصنم؛ ليقع في روع طالب الاستقسام أن ما يجري إنما هو بعلم الصنم وبوحيه، فيكون ذلك أوكد في نفسه وأعمق تأثيرًا.

_ 1 الأصنام "35، 47".

أشكال المعابد

أشكال المعابد: هذا ولا بد لي أن أشير إلى أننا لا نملك حتى الآن رأيًا واضحًا قاطعًا في شكل المعابد عند الجاهليين. ولا يمكن تكوين رأي واضح عن هذا النحو إلا بعد قيام علماء الآثار المتخصصين بدراسة آثار المعابد والكشف عنها ورسم مخططات صحيحة لقواعدها وأسسها. ولذلك لا بد من مرور زمن، حتى يتمكن العلماء من تكوين رأي في أصول المعابد وكيفية إقامتها من الوجهة الدينية الأصولية عند العرب قبل الإسلام. وإذا كان في استطاعتنا تجديد شكل "بيت الله" بمكة، و"كعبة نجران" و"كعبة سنداد"، أو "كعبات سنداد"، كما يسميها البعض، فإن من الصعب علينا تحديد هيئة بيوت الأصنام في المعابد الأخرى، لعدم ورود نص يعين صفة تلك البيوت في أخبار أهل الأخبار. فلا ندري أكانت مكعبات، أم على أشكال أخر. ولما كانت المعابد بيوت الأرباب، صارت لها حرمة خاصة وقدسية في كل

دين، فلا يجوز انتهاك حرمتها، ولا القيام بأعمال شائنة دنسة فيها، خاصة بالقياس إلى الأماكن المقدسة جدًّا التي تعد محجة للناس، وقد اتخذت حول البيوت مواضع عدت جزءًا من المعبد حددت بحدود، فما كان داخلًا عد حرمًا آمنًا، وما كان خارج الحد كان خارجًا عن المعبد، فليست له تلك الحرمة التي عينتها شريعة القوم للمعابد. وأقدس مكان في المعبد هو "البيت"، أي الغرفة التي تضم الصنم أو الأصنام. فقد كانت البيت، وهو المسمى الكعبة في مكة، أقدم موضع عند قريش وعند غيرهم من عبدة الأصنام الذين كانوا يقدسون "البيت الحرام"، وذلك بسبب وجود الأصنام فيه. ويعبر في العربية الجنوبية عن البيت الذي توضع فيه الأصنام، بـ"مختن"1. فهو إذن بمثابة الكعبة بمكة. ويقال للأرض الحرام المقدسة التي تحيط بـ"البيت"، "الحرم" قيل سمي "الحرم" حرمًا لتحريم الناس فيه كثيرًا مما ليس بمحرم في غيره من المواضع2. وقد وردت اللفظة في الكتابات النبطية. فوردت في كتابة نبطية عثر عليها في "بطرا" علمًا لحرم الإله ذي الشرى، قصد به الأرض المقدسة المحيطة ببيت ذلك الصنم، والمعبد كله؛ لأنه مرحم ومقدس: "حرم ذي الشرى الإله ربنا"3. ولا يجوز لأحد انتهاك حرمة الحرم والاعتداء عليه. وإذا دخل إنسان الحرم صار آمنًا منطمئنًا، لا يجوز أن يُعتدى عليه، ولا أن يمس بسوء، وإن كان قاتلًا، وحدود الحرم أنصابه، وهي علاماته، فمن اجتازها وصار في داخلها، دخل في حرمة الحرم. وما كان خارج الحرم، هو من الحل، أي من المنطقة الخارجة عن حرمة المعبد. فلا تشملها الأحكام المفروضة على الحرم. وكان الرجل في الجاهلية إذا أحدث حدثًا ولجأ إلى الكعبة، لم يهج، فكان إذا لقيه ولي الدم في الحرم، قيل له: هو صرورة ولا تهجه4.

_ 1 Grohmann, s. 249. 2 المفردات "113". 3 Lidzbarski, nord semi, Epigra, s. 280. CIS, II, p. 350. G. A. Cooke, North Semi, Inscriptions, Oxford, 1903.p. 79. Ency. Religi, 6.p. 753. 4 تاج العروس "3/ 331"، "صرر".

ولمكانة الحرم في نفوس الجاهليين ولأنه موطن آمن من دخل فيه صار آمنًا، كان لا بد من تحديده ووضع معالم تشير إلى نهايته، إما بوضع أنصاب على أطرافه من تجاوزها إلى داخله صار آمنًا فلا يخاف على نفسه، وإما ببناء حائل كجدار أو سياج أو أمثال ذلك ليكون إشارة على حرمة ما وراءه في الداخل. وقد جعل أهل مكة حدود حرم البيت أنصابًا من تجاوزها إلى الداخل صار في حرمة الحرم وفي حماية رب البيت. وكانت أرض المعابد، أي حرمها، واسعة في الأصل، ذات ماء وأشجار وحمى، ثم تقلصت وضيقت وحددت بحدود، بسكن الناس حولها، وبتقربهم من المعبد، وبزيادة عدد عبَّاده فعندما يتألق نجم معبد ويكثر المؤمنون بصاحبه، يكثر زواره، ويتسابق الناس إلى السكن بجواره والتقرب منه جهد إمكانه، إذ يكون ذلك شرفًا لهم. شرف مجاورة البيت، كما يكون مكسبًا وموردًا طيبًا للمال، لرغبة الزوار في مجاورة المعبد، فيدفع هذا الطمع، أصحاب النفوذ والجاه على اختلاس الأرض والتجاوز على حدود الحروم فتضيق. كالذي حدث بمكة، إذ كان الحرم واسعًا كبيًرا، يشمل الوادي كله، فلما هبط "قصي" به وابتنى البيوت، اعتدى من جاء بعده على الحرم حتى صغر، مما دفع الخلفاء على شراء البيوت المجاورة وهدمها لإعادة أرضها إلى الحرم ليتسع صدره للناس. وتلحق بالمعابد أرضون، يقال لها "حمى" لأنها في حماية الأرباب والأصنام ورعايتها، فلا يُعتدى عليها، ولا يُقطع شجرها ولا يُرعى فيها ولا يُسمح بصيد الحيوان فيها والاعتداء عليه في أرض الحمى1. فكان في الطائف "حمى"، وهو "حمى اللات"، وقد خصص به، وكان حمى في جرش2. بل كان وادي مكة الذي أقيم البيت به "حمى" لرب البيت، ولم يكن يسمح لأحد قبل "قصي" بقطع شجره، ولا التجاوز على ما فيه من نبت. وقد كان "قصي" كما يقول أهل الأخبار أول من اقتطع شجره، وأقام البيوت لسكناه وسكنى قريش في ذلك الوادي. ويفهم من كلام "نيلوس" Nilus أن العرب لم يكونوا يحيطون مواضعهم.

_ 1 اللسان "14/ 199"، العرب في سوريا قبل الإسلام "111". 2 Ency, Religi, 6, p. 753.

المقدسة التي فيها أصنامهم بأسوار، وإنما كانوا يجعلون لحرمها حجارة تكون حدًّا وعلامة للحرم. ويتبين من كلام هذا المؤرخ الذي أسر العرب ابنه وأرادوا تقديمه إلى الزهرة قربانًا على حد قوله، أنه قصد بالعرب الأعراب، ولا سيما أعراب طور سيناء، وقد كانوا أشداء غلاظًا يلقون الرعب في النفوس، وكانوا يتاجرون بالرقيق يقبضون على من يقع في أيديهم ويبيعونه في أسواق الرقيق. وجماعة هذا شأنها لا تستقر في مكان، لا يمكن بالطبع أن يكون لها معبد ثابت، وإنما يكون معبدها الموضع الذي يوضع صنم القبيلة فيه. ولتعيين الأرض الحرام توضع تلك الحجارة. إلا أن هذا لا يعني أن معابد أهل المدر كانت مسورة أو ذات حائل دائمًا، فقد ذكرت أن حرم بيت الله بمكة لم يكن مسورًا، بل كان معلمًا بأنصاب ومكة موضع حضر. أما حرم معبد "المقه" بمأرب وكذلك أكثر معابد أهل اليمن، فقد كانت مسورة بأسوار عالية قوية، لها أبواب يدخل المتعبدون منها، تفتح وتغلق كما نفعل هذا اليوم في دور العبادة عندنا. ومن المعابد الشهيرة: "البيت الحرام"، أي "الكعبة" بمكة، وسأتكلم عليه في موضع خاص. ومعبد "ذو الشرى" Dushare بمدينة "بطرا"، و"كعبة سنداد"، و"كعبة نجران"، ومعابد عديدة في مواضع أخرى من جزيرة العرب، ولا سيما اليمن. والفضل في ظفرنا ببعض المعارف عن "بيت الرب" بمدينة "بطرا"، يعود إلى الكتابات النبطية، وإلى ما كتبه بعض الكتبة اليونان والسريان عنه. وقد خصص هذا البيت بعبادة الإله "ذي الشرى"، الذي هو "رب البيت"1 التي أطلقها النبط على إلههم، تذكرنا بجملة أخرى معروفة في الجاهلية عند أهل مكة، كما هي معروفة عند المسلمين حتى اليوم، هي جملة: "رب البيت"، التي تعني إله البيت، وهو الكعبة، وقد أقرها وثبتها الإسلام. وقد نعت "رب البيت"، "رب بيت ذي الشرى" بـ"الذي يفرق الليل عن النهار"2 وهو نعت له أهمية كبيرة في تكوين فكرة عن وجهة نظر عباده إليه.

_ 1 CIS, II, 235, Res, 1088. 2 RES, 1102. Ency. Religi, p. 122.

وقد نصب في هذا المعبد الصنم "ذو الشرى" على قاعدة مكسوة بالذهب، في بيت موشى بالذهب وبالصور التي تمثل مشاهد تقديم القرابين إليه. وهو في موضع مرتفع على صخرة عالية، يحج إليه الناس من مواضع بعيدة؛ للتقرب إلى ذلك الإله الذي يقابل الإله "باخوس" و"ديونسيوس" "Dionysos- Bacchus" في رأي الكتبة اليونان واللاتين1. وكان لهذا المعبد حج يقع في اليوم الخامس والعشرين من شهر كانون الأول من كل عام، فيفد إليه الناس من أماكن بعيدة للتقرب إلى "رب البيت"، فينحرون ويقضون الأيام المعينة، ثم يعودون إلى ديارهم. والظاهر أن هذه الكعبة لم تكن خاصة بأهل "العربية النبطية"، إنما كانت محجة لغيرهم من العرب، كما يتبين ذلك من تصريحات بعض الكتبة "الكلاسيكيين" عنها. وقد عرف بعض معابد الجاهليين بـ"الكعبات" ويدل ذلك على أن بناءها كان على هيئة مكعب كشكل بناء الكعبة، وعلى أن العرب كانوا يبنون بيوت الأصنام الكبرى على هذا النحو. من هذه كعبة "سنداد" على ما يذكره الأخباريون، وهي قصر كانت العرب تحج إليه فيطوفون حوله، وقد عرف بـ"الكعبات" جمع كعبة وهو البيت المربع والمرتفع، وبـ"ذات الكعبات" و"ذي الكعبات" وكان مركز حج قبائل بكر بن وائل وإياد2. ولكن الأخباريين لم يتحدثوا بشيء من التفصيل عن هذا المعبد وعن كيفيته وشكله وعن الأصنام التي كانت فيه. وقد ذكر "ابن الكلبي" أن هذا البيت لم يكن بيت عبادة، إنما كان منزلًا شريفًا3. وذكر أن "ذات الكعبات" بيت كان لبكر وتغلب ابني وائل وإياد، وذكر أنه بيت كان لربيعة، كانوا يطوفون به. وذكر أنه كان لإياد، وكان كعبة.

_ 1 Ency, Religi, 9, p. 122, Epiphanius, Hoer, LI, 22. 2 البلدان "5/ 150"، "سنداد"، "7/ 255"، اللسان "1/ 718"، "كعب"، تاج العروس "1/ 456 وما بعدها"، Ency, II, p. 590. 3 الأصنام "ص45"، "وكان لربيعة بيت يطوفون به، يسمونه الكعبات. وقيل: ذا الكعبات، وقد ذكره الأسود بن يعفى في شعره، فقال: والبيت ذي الشرفات من سنداد". اللسان "1/ 718"، "كعب".

بسنداد بين الحيرة والإبلة1. وهو من منازل إياد أسفل سواد الكوفة، وكان عليه قصر تحج العرب إليه2. وكان بنجران بيت عبادة عرف بـ"كعبة نجران". وهو بناء بُني على هيئة الكعبة. وفي رواية تنسب لابن الكلبي أنها كانت قبة من أدم من ثلاث مائة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن. أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفدًا رفد3. ويستخلص من الأخبار الواردة عن هذه الكعبة ومن أسماء أصحابها ومن كونهم أساقفة أنها كانت بيعة أسسها النصارى في مركز النصرانية في اليمن، وهو موضع نجران، وأنه لا علاقة له بالوثنية. ويذكر الأخباريون أن بني عبد المدان بن الديان الحارثي أقاموها هناك، مضاهاة للكعبة4. وقد ذكر "ابن الكلبي" أن كعبة نجران لم تكن كعبة عبادة، وإنما كانت غرفة يعظمها القوم من بني الحارث بن كعب5. وبنو الحارث بن كعب هم رؤساء نصارى نجران. وذكر بعض أهل الأخبار أن كعبة نجران وكانت لمذحج وبني الحارث بن كعب، عرفت بـ"الربة"6. وقد ذكر "ابن الكلبي" أن رجلًا من جهينة يقال له عبد الدار بن حُديب أراد بناء بيت بأرض من بلادهم يقال لها الحوراء ليضاهي به الكعبة حتى يستميل به العرب، فأعظم قومه ذلك، وأبوا عليه7. ونجد في كتاب "الأصنام" لابن الكلبي وفي كتب أهل الأخبار أسماء مواضع ذكر أنها كانت بيوت عبادة حج إليها العرب حجهم لمكة. وذكر أن قريشًا بَنَتْ للعزى بيتًا بوادي حراض بإزاء الغمير، وحمت له شعبًا من وادي حراض يقال له سقام، يضاهون به.

_ 1 تاج العروس "1/ 457"، "كعب"، الأصنام "45"، البلدان "5/ 149"، 2 تاج العروس "2/ 383"، "سند". 3 البلدان "8/ 262 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 556"، "نجر". 4 البلدان "8/ 262". 5 الأصنام "ص45". 6 تاج العروس "1/ 262"، "ربب" قال الأعشى: وَكَعبَةُ نَجرانَ حَتمٌ عَلَيكِ ... حَتّى تُناجي بِأَبوابِها يزورُ يَزيدَ وَعَبدَ المَسيحِ ... وَقَيسًا هُمُ خَيرُ أَربابِها تاج العروس "3/ 556"، "نجر" 7 الأصنام "45".

الكعبة، وقد حجت إليه، وكانت تنحر عنده، ويتقربون إلى العزى بالذبائح1. وقد ذكر الأخباريون أنه كان بعكاظ صخور يطوف الجاهليون بها ويحجون إليها2. وإذا تذكرنا "دومة الجندل" ومعبدها الكبير، فلا يستبعد أن تكون الأسواق الأخرى مواضع مقدسة قديمة كانت محجة للناس عامرة تفد إليها القبائل في مواسم الحج، ثم فقدت خطورتها قبيل الإسلام، ولم يبق عليها إلا طابع الأسواق التجارية. وتكون في المعابد مواضع يلقي فيها العباد وأصحاب النذور هداياهم ونذورهم التي يتقربون بها إلى آلهة المعبد. وقد أشار أهل الأخبار إلى وجودها في الكعبة وفي المعابد الجاهلية الأخرى. ويظهر من وصفهم لها أنها كانت على شكل حفر تلقى فيها تلك الهدايا والنذور. فذكر الأخباريون أنه كان على يمين الداخل إلى البيت "جب"، اتخذ خزانة للبيت يلقى فيه ما يُهدى إلى الكعبة، وهو الجب الذي نصب عليه عمرو بن لحي "هبل" وهو صنم كانت قريش تعبده. وقد عرف علماء اللغة الجب بأنه البئر3، ووصفها "الأزرقي"، فقال: إنها كانت في جوف الكعبة على يمين من يدخلها، وكان عمقها ثلاث أذرع، وأن اسمها "الأخسف"، وكانت العرب تسميها "الأخشف"4.

_ 1 الأصنام "ص16، 18 وما بعدها". 2 البلدان "6/ 203"، المشرق، السنة 37، نيسان – حزيران، 1939م "ص220". 3 اللسان "1/ 250" "صادر". 4 أخبار مكة "1/ 27، 68"، البلدان "7/ 258"، وما بعدها".

السقاية

السقاية: وفي المعابد سقايا، يُستقى منها الماء للشرب وللتطهر، كأن تغسل الأوجه والأيدي والأرجل بالماء ليسمح للزائر بدخول المعبد، أو لتحل له إقامة الشعائر الدينية. ويعد الماء ماءً مقدسًا؛ لأنه من أرض مقدسة، ولذلك يتبرك به أيضًا ويُستشفى بالشرب منه. وقد عثر المنقبون على آثار آبار وأحواض مطمورة في حرم المعابد، كان المتعبدون يستفيدون من مياهها عند زيارتهم بيوت أربابهم، وعند أدائهم الشعائر الدينية. وبئر زمزم، هي البئر الوحيدة الباقية من آبار بيوت الله التي كانت في الجاهلية. وقد كانت سقاية الحاج من المآثر الكبيرة عند أهل مكة، وهي تسقية الحجاج من الزبيب المنبوذ بالماء. وكان يليها في أيام الرسول العباس بن عبد المطلب1. وكان بعضهم يسقى الحاج اللبن بالعسل.

_ 1 اللسان "14/ 392". "سقى"، الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507".

المذابح

المذابح: وتلحق بالمعابد مذابح تذبح عليها القرابين التي يتقرب بها المؤمنون إلى آلهتهم، ويقال للواحد منها، مذبح" و"نصب" و"مصب" و"غبغب". وقد وردت لفظة "مذبح" و"مذبحت"، أي "المذبحة"، في طائفة من الكتابات. وهي مواضع الذبح، حيث يكون تقريب القرابين إلى الآلهة. وقد ذهب علماء اللغة مذاهب في تحديد معنى "النصب" فرأى بعضهم أن النصب كل ما عبد من دون الله، وذهب بعض آخر إلى أن النصب صنم أو حجر كانت الجاهلية تنصبه، وتذبح عنده، فيحمر للدم، وذهب آخرون إلى أن الأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب، ويذبح عليها لغير الله تعالى1. وعرفها بعضهم بقوله: "النصب الأوثان من الحجارة، جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض، فكان المشركون يقربون لها وليست بأصنام"، "قال ابن جريج: النصب ليست بأصنام. الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب ثلاثمائة وستون حجرًا. منهم من يقول ثلاثمائة منها بخزاعة. فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت وشرحوا اللحم وجعلوه على الحجارة. فقال المسلمون: يا رسول الله؟ كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحق أن نعظمه"2. ولو أخذنا برواية "ابن جريج". خلصنا إلى أن هذه

_ 1 اللسان "1/ 760" "صادر"، "2/ 259" "بولاق" القاموس "1/ 132"، تاج العروس "1/ 486"، الأصنام "97" تفسير الطبري "6/ 44"، الأصنام "33"، "المطبعة الأميرية 1964". 2 تفسير الطبري "6/ 48".

الأنصاب، كانت بعدد أصنام الكعبة، أي أنهم كانوا قد خصصوا بكل صنم نصبًا، يذبحون عليه ما يتقربون به إليه من عتائر. فقد كان عدد أصنام الكعبة ثلاثمائة وستون حجرًا عام الفتح على ما يذكره أهل الأخبار، إلا إذا اعتبرنا ما ذكروه عن عدد الأصنام وهمًا، وأخذنا برواية "ابن جريج" التي هي دون الرواية الأخرى في الشهرة والذكر. وأشير إلى "النصب" في شعر ينسب على "الأعشى"، يقال إنه قاله في مدح الرسول. هو: وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعاقبة والله ربك فاعبدا1 وعلى كل، فنحن لو أخذنا بالروايتين، أو برواية واحدة منهما، فإن العدد "360" يلفت النظر حقًّا. فلمَ خصص رواة الخبرين عدد الأصنام أو الأنصاب بهذا الرقم، وهل يمثل ذلك شيئًا له صلة بالفلك، أو بأسطورة دينية قديمة كانت عند أهل مكة؟ وقد وردت كلمة "النصب" في آية اللحوم المحرمات التي لا يجوز أكلها في القرآن الكريم: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} 2. فجعلت الذبائح التي تذبح على النصب للأصنام في جملة التي لا يحل للمسلم أكلها، فيفهم من هذه الآية أن النصب مواضع تذبح عليها القرابين. كما وردت في موضع آخر من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} 3. وقد ذكر علماء التفسير، أن الأنصاب التي يذبحون عندها4. وقد ذكر علماء التفسير، أن أهل الجاهلية كانوا قد وضعوا حول الكعبة

_ 1 تاج العروس "1/ 486"، "نصب". 2 المائدة، الآية 3. 3 المائدة، الرقم "5"، الآية 90. 4 تفسير الطبري "7/ 21".

أنصابًا، أي حجارة كانوا يذبحون عليها، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت وشرحوا اللحم: وجعلوه على الحجارة. وكانوا يبدلونها إذا شاءوا بحجر هو أحب إليهم منها1. كما كانوا قد وضعوا الأنصاب في بيوت الأصنام الأخرى، يذبحون عليها ذبائحهم لهما. وقد أشير إلى "المائرات"، أي الدماء، دماء الذبائح لـ"رشيد بن رميض العنزي": حلفت بمائات حول عوض ... وأنصار تركن لدى السعير2 و"عوض" صنم لبكر بن وائل، و"السعير" صنم لعنزة خاصة. و"نصب" هي "نصب" و"مصب" في اللهجات العربية الجنوبية، و"نصب" و"مصبت" في الفينيقية، و"مصبه" Masseba في العبرانية ويراد بها مذبح، تذج عليها القرابين والضحايا التي يقدمها المتعبدون إلى معبودهم Deity ويعرف بـ Altar أي مذبح في الإنكليزية. وهو من حجر واحد في الأصل، قد يذبح عليه، فيسيل الدم فوقه ويتلطخ به، وقد يكون في نظرهم بمثابة المعبود الذي تقدم الضحية إليه. وقد يذبح عليه. فيسيل الدم من فتحة تكون فيه إلى بئر تتجمع فيها دماء الذبائح، تكون عند قاعدة النصب. وقد تخصص المذابح بحرق لحم الذبيحة كله أو بعضه عليها؛ تقربًا إلى الأصنام، كالذي كان يفعله العبرانيون3. وقد عثرالمنقبون على أحجار عديدة اتخذت أنصابًا لذبح القرابين عليها أو عندها، عثر عليها في العربية الجنوبية بصورة خاصة. وفي بعضها فتحة على هيئة ثقب تسيل منه دماء القرابين إلى موضع تتجمع فيه. وفي بعض آخر مسايل جانبية، تسيل الدماء منها إلى الخارج. وهذه الأنصاب هي "مذابح" ويقال للواحد منها "مذبحم" في العربيات الجنوبية أي "مذبح". ولذبح القرابين "ذبحن" و"ذبحم"، أي "الذبح" و"ذبح".

_ 1 تفسير الطبري "6/ 48 وما بعدها"، "وهي أحجار كانت حول الكعبة يذبحون عليها للأصنام"، إرشاد الساري "6/ 172". 2 تاج العروس "3/ 268"، "سعر"، "3/ 550"، "مور". 3 Hastings, p. 23.

فالنصب إذن، الأحجار التي تذبح عليها القرابين وما يهل للأصنام. والعادة أن تكون أمام الصنم، وعلى مقربة منه فإذا ذبح القربان سال دمه على النصب إلى ثقب يؤدي إلى حفرة يتجمع فيها الدم. هي "الغبغب". و"النصب" هو "مصبه" Massebah في العبرانية، حيث كانوا يذبحون عليها القرابين. ولكثرة ما كان يذبح عليها صارت تبدو حمراء من لون الدم، وقد أشير على الحمرة في حديث إسلام "أبي ذر الغفاري"، إذ ذكر أنه وصف تعذيب قريش له بقوله: "فرماني الناس حتى كأني نصب أحمر"1. وليس لأهل الأخبار رأي واحد في "الغبغب"، وإنما ذهب بعضهم على أن الغبغب هو المنحر، وذهب بعض آخر إلى أنه خزانة المعبدة، يلقي الناذرون فيها ما عندهم من نذور وقربان، وذهب فريق آخر إلى أنه بيت كان الناس يحجون إليه كما يحج إلى البيت بمكة2. وقيل إنه كان لمعتب بن قيس بيت يقال له غبغب كانوا يحجون إليه3. والذي عليه أكثر أهل الأخبار أن "الغبغب" المنحر. وقد صرح بذلك "ابن الكلبي" في كتاب "الأصنام": وهو يتحدث عن "العزى" فقال: "ولها منحر ينحرون فيها هداياها، يقال له الغبغب"4. كما صرح بذلك علماء اللغة إذ عرفوا الغبغب بأنه المنحر، أو نصب كان يذبح عليه في الجاهلية، أو كل مذبح بمنى. وقد خصصه بعضهم بمذبح منى5. أو هو حجر ينصب بين يدي صنم، وكان لمناف مستقبل ركن الحجر الأسود غبغب، وقيل كانا اثنين ويظهر من شرح علماء اللغة للمثل: "رب رمية من غير رامٍ"، ينسب قوله إلى الحكم بن عبد غوث أن الغبغب هو المذبح، أي المنحر الذي ينحر عليه6.

_ 1 الإصابة "4/ 93"، "الرقم "384"، "فخررت مغشيًّا علي، ثم ارتفعت كأني نصب أحمر"، الأصنام "111". 2 مراصد الاطلاع "2/ 983"، البلدان "4/ 185"، اللسان" 1/ 637"، تاج العروس "1/ 403"، البلدان "6/ 112"، الأصنام "111"، ابن هشام "1/ 55". 3 ابن هشام "1/ 55"، البلدان "6/ 122". 4 الأصنام "13" "روزا". 5 اللسان "1/ 637". 6 اللسان "1/ 637" "صادر"، "2/ 128 وما بعدها" "بولاق"، تاج العروس "1/ 403"، "غب"، البلدان "6/ 265"، "الغبغب".

ويظهر من روايات أهل الأخبار عن "بيوت" الآلهة أنه كان لكل "بيت" "غبغب"، تذبح فيه هداياها، أي ما يهدى إلى تلك البيوت من قرابين وقيل: الغبغب: المنحر، وهو جبيل بمنى، فحصص. وقيل كل منحر بمنى غبغب. قال الشاعر: والراقصات إلى منى فالغبغب1 ويذكر علماء اللغة أن "الغبغب" "العبعب" كذلك2. وأن العبعب موضع الصنم. وصنم لقضاعة ومن داناهم3. وبيت كان لمعتب بن قيس، كانوا يحجون إليه كما يحجون إلى البيت4. ويظهر من هذا الشرح أن "الغبغب" و"العبعب"، كلمة واحدة، لشيء واحد. و"الغبغب" "الحب" كذلك وهو حفرة يجمع فيها دم البدن، والجمع "الجباجب" قال "الزبير بن بكار: الجباجب جبال مكة حرسها الله تعالى، أو أسواقها أو منحر. وقال البرقين حفر بمنى كان يلقى به الكروش، أي كروش الأضاحي في أيام الحج، أو كان يجمع فيها دم البدن والهدايا، والعرب تعظمها وتفخر بها"5. ويفهم أحيانًا أن "الغبغب"، حفرة أو بئر، كان المتعبدون للاصنام يرمون بها نذورهم وهداياهم وما يتقربون به إلى أصنام من نذور نفيسة، من ذهب أو فضة أو حجارة كريمة فكانت تحت صخرة "اللات" حفرة عرفت بـ"الغبغب" حفظت فيها الهدايا والنذور والأموال التي كانت تقدم إلى الصنم. فلما هدم الصنم أخذت من الغبغب تلك الأموال6. ويرادف الغبغب "الجب"، الذي يقال له "الأخسف" و"الأخشف"، وهو بئر في جوف الكعبة نصب "هبل" عليه. كان الناس يرمون فيها نذورهم وهداياهم. وتقع على يمين من يدخل البيت، وكان عمقها ثلاث أذرع7.

_ 1 تاج العروس "1/ 404"، "غب". 2 تاج العروس "1/ 403"، "غب". 3 تاج العروس "1/ 363"، "عب" البلدان "6/ 112"، الأصنام "111". 4 البلدان "4/ 185". 5 تاج العروس "1/ 174"، "جبب". 6 الطبري "3/ 99" وما بعدها". 7 أخبار مكة، للأرزقي "1/ 66 وما بعدها".

و"الغري" مذبح على ما يظهر من تفسير علماء اللغة لهذه اللفظة. يظهر أنه كان صخرة تذبح عندها الذبائح وتطلى بدمها، أو نصب تذبح القرابين عليه1. ويعبر عن المذبح الذي تذبح عليه الحيوانات الكبيرة، مثل البقر بلفظة "حردن"2. ومن الألفاظ التي تطلق على المذبح، "منطف" و"منطفت"، أي "المنطقة"، وهي المذبحة3. والمذبح، هو "مذبحت" في نصوص المسند، أي موضع الذبح.

_ 1 اللسان "15/ 122"، "غرا"، تاج العروس "10/ 264". 2 Grohmann, Arabien, s. 247 3 Grohmann, Arabien, s. 249

المحارق

المحارق: وتلحقب بالمعبد محارق، تحرق فيها القرابين، يقال لها "مصرب"1. وقد كان العبرانيون يحرقون قرابينهم، في محارق تلحق بالمعبد، وتكون جزءًا منه. أما العرب، فإننا لا نستطيع أن نقول إنهم كانوا يحرقون قرابينهم في كل جزيرة العرب؛ لأننا لا نملك أدلة آثارية على ذلك، إلا معابد اليمن وأعالي الحجاز، حيث عثر على آثار المحارق في معابدها مما يدل على أنهم كانوا يحرقون القرابين. و"المصرب"، المحرقة، الموضع الذي يحرق به الخشب ذي الرائحة الطيبة أو البخور، وهو مبخرة، تكون في المعابد، يحرق بها؛ لتفوح منها روائح طيبة، أثناء العبادة. وقد أشير إليها في نصوص المسند.

_ 1 Grohmann, Arabien, s. 247

البخور والمباخر

البخور والمباخر: وللتبخير شأن كبير في أداء الفروش في المعابد، إذ لا بد من حرق البخور فيها، فيبخر بها المذبح والأصنام كما يبخر القائمون بأداء تلك الفروض. وتسمى المبخرة بـ"مسلم"، وبـ"مقطر" وذلك في لغة بعض الجاهليين1.

_ 1 Grohmann, Arabien, s. 247

و"المجمرة" والمجمر، الموضع الذي يوضع فيه الجمر بالدخنة للتجمير1. وقد أشير إلى المجمرات والمباخر في كتابات المسند. وعثر المنقبون على نماذج منها، قدمها الناذرون نذورًا إلى آلهتهم، وقد وضعوها في معابدها، وهي في جملة الهدايا المرموقة التي تقدم إلى المعابد من أحجار وبعضها من معدن بذل جهدًا في صنعته وفي زخرفته حيث يكون هدية قيمة تكون خليقة بوضعها في المعابد وقد كان الناس يأتون بالمجامر ليجمروا بها الكعبة تقربًا بعملهم هذا إلى الأصنام، وذكر أن حريقًا أصاب الكعبة؛ بسبب تطاير شرر من مجمرة امرأة جمرت البيت، فأصاب ستار الكعبة، فاحترق. والتجمير هو من شعائر التقدير والتعظيم. وهو مما يدخل في الطقوس، وقد صرفت المعابد القديمة أموالًا على شراء "العود" وغيره لإحراقه في المجامر؛ لتطييب المذبح والمعبد به. وكان البخور مما يبخر به في المعابد أيضًا. وقد استعمله الجاهليون في بيوتهم المعظمةكذلك. وتلحق بالمعابد مواضع يخزن فيها ما يقدم إلى المعبد من هدايا ونذور، وما يرد إليه من غلات أوقافه. وإذا كانت النذور والهدايا ماشية، فقد تحفظ في مواضع بعيدة عن المعبد، أو توضع في إحماء المعابد لترعى بها. ولا يجوز التعرض لها بسوء. وتعلم بعلامات تشير إلى أنها مما حبس على الأصنام. وكانت لهبل خزانة للقرابين. وكان قربانة مائة بعير، وله حاجب يقوم بخدمته2. وفي جملة ما أهداه الناس إلى أصنامهم السيوف والملابس، وكانوا يعلقونها أحيانًا على الأصنام3.

_ 1 تاج العروس "3/ 108" "جمر". 2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 68 وما بعدها". 3 نهاية الأرب "16/ 19".

سدنة الآلهة

سدنة الآلهة: ولبيوت العبادة سدنة وحجبة وخدم، يقومون كلهم بخدمة البيت وما فيه من أصنام. ويعبر في عربيتنا عن الذي يتولى أمر الصنم بـ"السادن" و"سادن الصنم".

فهرس الجزء الحادي عشر

فهرس الجزء الحادي عشر: الفصل الحادي والستون أديان العرب 5 الفصل الثاني والستون التوحيد والشرك 34 الفصل الثالث والستون أنبياء جاهليون 83 الفصل الرابع والستون الله ومصير الإنسان 102 الفصل الخامس والستون الروح والنفس والقول بالدهر 136

الفصل السادس والستون الآلهة والتقرب إليها 163 الفصل السابع والستون التقرب إلى الآلهة 184 الفصل الثامن والستون رجال الدين 212 الفصل التاسع والستون الأصنام 227 الفصل السبعون أصنام الكتابات 290 الفصل الحادي والسبعون شعائر الدين 336

الفصل الثاني والسبعون الحج والعمرة 347 الفصل الثالث والسبعون بيوت العبادة 398 الفهرست 429

المجلد الثاني عشر

المجلد الثاني عشر الفصل الرابع والسبعون: الكعبة مدخل ... الفصل الرابع والسبعون: الكعبة وكعبة مكة، هي الكعبة الوحيدة التي بقيت محافظة على اسمها ومقامها حتى اليوم، من بين الكعبات التي كانت في الجاهلية. فقد اندثر أثر الكعبات الأخرى وزالت معالمها، ولم يبق لها مكان. وإلى الإسلام يعود ولا شك فضل بقاء "البيت الحرام". وبفضل الإسلام أيضًا جمع العلماء ما تمكنوا من جمعه من تاريخ المدينة القديم والمعالم المتصلة بها، ومن أخبار قريش، لما لهذا التاريخ من صلة بظهور الإسلام1. ويذكر أهل الأخبار أن الكعبة كانت معروفة عند العرب خارج الحجاز كذلك، وأنهم كانوا يحجون إليها ويقدسونها ويقسمون بها. وأن ممن أقسم بها وذكر البيت

_ 1 آل عمران، الآية 96، تفسير الطبري "ذ/ 6 وما بعدها"، "دار المعارف"، الطبرسي "2/ 476"، سورة الحج، الرقم 22، الآية 26، تفسير الطبري "3/ 47 وما بعدها، 66 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "7/ 78 وما بعدها"، سورة إبراهيم، الرقم 14، الآية 37، تفسير الطبري "13/ 152"، روح المعاني "13/ 212"، تفسير الطبرسي "6/ 317 وما بعدها"، البقرة، الآية 158 تفسير الطبري "2/ 43"، تفسير الطبرسي "1/ 238 وما بعدها"، سورة المائدة، الآية 97، تفسير الطبري "7/ 76 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "3/ 246 وما بعدها"، سورة الأنفال، الآية 34، تفسير الطبري "3/ 238"، تفسير الطبرسي "3/ 539"، سورة الإيلاف، الآية 3، تفسير الطبري "30/ 307 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "10/ 543".

في شعره "زهير"1 و"النابغة"2. وقد عرفت بـ "البيت العتيق"، وبـ "البيت المعمور"3. ورووا أن "عدي بن زيد العبادي" قصدها بقوله: كلا يمينًا بذات الودع لو حدثت ... فيكم وقابل قبر المساجد الزارا دعاها "ذات الودع" لأنه كان يعلق الودع في ستورها4. وقد أقسم بها شاعر جاهلي آخر، هو "عوف بن الأحوص" إذ قال: وإني والذي حجت قريش ... محارمه وما جمعت حراء وشاعر عامري آخر، إذ قال: فأقسم بالذي حجت قريش ... وموقف ذي الحجيج إلى إلاله5 يريد بذلك مكة. وبمكة بيت الله. ومعارفنا عن "البيت الحرام" ضئيلة، وفي الذي يذكره أهل الأخبار عنه ما لا يمكن قبوله ولا الأخذ به، لأنه لا يدخل في حدود التاريخ، ولغلبة الطابع القصصي عليه. ثم إن بعضه يناقض بعضًا، وفي بعضه تحيز وتعصب لبيت قرشي على بيت آخر. وحتى القسم الذي يتناول الأيام القريبة من الإسلام، لا يخلو من اضطراب ومن تناقض، وفيه شعر نحل على أناس، أقحمت أسماؤهم في قصص مكة، لتثبيته على طريقتهم في تثبيت الأخبار برواية شعر يتعلق بها. ولم يعثر حتى الآن على كتابة جاهلية تكشف القناع عن تاريخ "البيت الحرام". ولذلك انحصر علمنا بتاريخه بما ورد في الموارد الإسلامية عنه. وقد نصّ في القرآن الكريم، على أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان رفعا القواعد من البيت {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى،

_ 1 فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم ديوان زهير "15"، الثعالبي، ثمار القلوب "16". 2 فلا ورب الذي قد زرته حججا ... وما هريق على الأنصاب من جسد "فلا لعمر الذي مسحت كعبته" في رواية أخرى، ديوانه "25"، الثعالبي، ثمار "17". 3 البلدان "1/ 521"، "بيروت 1955". 4 تاج العروس "5/ 534"، "ودع". 5 المحبر "319"، شرح ديوان لبيد "21".

وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ 126 وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1. وقد كان تأسيس البيت في أيام العرب الأولى، في أيام 01:35 م 27/ 09/ 2006جرهم، على روايات أهل الأخبار، وفيهم تزوج. وفي عهده ظهر ماء بئر زمزم2. ويذكر أهل الأخبار أن مكة حرم آمن، لا يحل فيه قتال. ولم يكن أهله يقاتلون فيه، وأن أول بغي وقع فيه. كان حرب وقعت بين "بني السباق بن عبد الدار" وبين "بني علي بن سعد بن تميم"، حتى تفانوا. ولحقت طائفة من "بني السباق" بعك، فهم فيهم. وقيل أول بغي كان في قريش: بغي "الأقايش"، وهم "بنو أقيش" من بني سهم، بغى بعضهم على بعض، فلما كثر بغيهم على الناس، أرسل الله عليهم فأرة تحمل فتيلة، فأحرقت الدار التي كانت فيها مساكنهم فلم يبق لهم عقب3. وقد بقي البيت معبودًا مقدسًا عند أهل مكة وعند غيرهم، غير أن المشركين حولوه إلى بيت لعبادة الأصنام والأوثان والشرك حتى عام الفتح، حيث أزال الرسول عنه آثار الجاهلية، وأمر بطمس معالم الوثنية. وصار حرمًا آمنًا خاصًّا بالإسلام لا يدخله مشرك ولا تطأ أرضه أقدام غير مسلم مؤمن بالله وبرسوله. ويذكر أهل الأخبار أن أهل مكة كانوا يعظمون البيت، وأن من سنن تعظيمهم له، أن من علا الكعبة من العبيد فهو حرّ، لا يرون الملك من علاها، ولا يجمعون بين عز علوها وذل الرق4.

_ 1 البقرة، السورة رقم 2، الآية 125 وما بعدها. 2 الطبري "1/ 275"، قصص الأنبياء، "69". Shorter Ency. Of Islam, p. 178. ff, Grunbaum, Neue Beitage zu sem. Sogenkunde, S. 102, Goldziher, Die Richtungen der Islamischen Koranauslegung, S. 79, J. Harovitz, Koranische untersuchungen, S. 91. 3 الروض الأنف "1/ 28". 4 الثعالبي. ثمار "18".

8 وأنهم لم يكونوا يبنون بنيانًا مربعًا بمكة تعظيمًا للكعبة1. وأن أول من بنى بها بيتًا مربعًا، "بديل بن ورقاء" الخزاعي، وهو أول من اتخذ بمكة روشنًا، وكانوا قبل ذلك يتحامون التربيع في البناء كيلا يشبه بناء الكعبة2 وأن أول من سقف بمكة سقفًا "قصي بن كلاب"، وكان الناس قبل ذلك إنما ينزلون في العريش وأن أول من بوب بمكة بابًا "حاطب بن بلتعة"3. و"بديل بن ورقاء"، هو "بديل بن ورقاء بن عبد العزى"، شريف كتب إليه النبي يدعوه إلى الإسلام، وكان له قدر في الجاهلية بمكة4. فلو أخذنا برواية من قال أنه كان أول من بني بيتًا مربعًا بمكة، وأول من اتخذ بها روشنًا. وجب جعل حدوث ذلك في أيام النبي، أو بسنين قليلة قبل المبعث، فهل يعقل ذلك؟ والروشن الرف، و "الرشن" الكوة، من الألفاظ المعربة عن الفارسية5. وأما "حاطب بن أبي بلتعة" فهو "حاطب بن أبي بلتعة بن عمرو بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي"، حليف بني أسد بن عبد العزى، من الصحابة وممن شهد بدرًا، كان حليفًا للزبير، وكان قد كتب كتابًا إلى قريش يخبرهم بتجهيز رسول الله إليهم، فضبط الكتاب قبل وصوله مكة، واعتذر. فهو من الصحابة6، وذكر أن الرسول أرسله إلى "المقوقس" صاحب الإسكندرية7. فهل يعقل أن يكون أول من بوب بابًا بمكة، وقد كانت البيوت قبله بمكة منذ وجدت، فكيف كان يدخل الناس إليها، وقد رأينا قصصًا لأهل الأخبار يروونه عن امتناع "الحمس" عن دخول البيوت من أبوابها، والحمس هم قريش وأهل مكة قبل دخول "حاطب" إليها! ويذكر أهل الأخبار أن البيت قد تهدم مرارًا، وأن السيول قوضت قواعده عدة مرات، لذلك لم يتمكن "بيت إبراهيم وإسماعيل" من البقاء، ولكن

_ 1 الثعالبي، ثمار القلوب "16". 2 صبح الأعشى "1/ 426". 3 صبح الأعشى "1/ 426". 4 الاشتقاق "280". 5 تاج العروس "9/ 216"، "رشن". 6 الإصابة "1/ 300"، "1538"، المحبر "72". 7 المحبر "76".

الجاهليين حرصوا على المحافظة على أسسه وشكله وموضعه. وإنهم كانوا بعد كل هدم أو تصدع يصيبه يحاولون إرجاعه إلى ما كان عليه في أيام آبائهم وأجدادهم جهد إمكانهم، لا يحدثون فيه تغييرًا ولا يدخلون على صورة بنائه تبديلًا. و"البيت الحرام" بناء مكعب، ولذلك قيل له "الكعبة". وصفه أهل الأخبار، فقالوا: كانت الكعبة قبل الإسلام بخمسة أعوام صنمًا، أي حجارة وضعت بعضها على بعض من غير ملاط، فوق القامة، وقيل كانت تسع أذرع من عهد إسماعيل، ولم يكن لها سقف، وكان لها باب ملتصقة بالأرض. وكان أول من عمل لها غلقًا هو تبع1. ثم صنع "عبد المطلب"، لها بابًا من حديد، حلاها بالذهب من ذهب الغزالين. وهو أول ذهب حليت به الكعبة2. ووصف أهل الأخبار لها على النحو المذكور، يجعلنا نتصورها وكأنها خربة بدائية بسيطة، هي ساحة تكاد تكون مربعة أحيطت بجدار من أحجار رضمت بعضها فوق بعض من غير مادة بناء تمسك بينها، تحط في فنائها الطيور وسباع السماء، ولا يحول بين أرضها وبين أشعة الشمس المحرقة والأمطار التي تنزل على مكة أحيانًا على شكل مياه خارجة من أفواه قرب، أي حائل. إنها في الواقع حائط من أحجار لا يزيد ارتفاعه على قامة إنسان. ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من بنى جدار الكعبة، "عامر" الجادر من الأزد. فقيل له: "الجادر"3. وكان أول من جدر الكعبة بعد إسماعيل4. وأول تسقيف لها كان –كما يذكر أهل الأخبار- في التعمير الذي أجرى عليها في النصف الأول من القرن السابع للميلاد، وذلك قبل الإسلام بخمس سنين، وعمر الرسول يومئذ خمس وثلاثون سنة. وسبب ذلك حريق أصابها –كما يزعمون- فقرروا إعادة بنائها، واجتمعوا وعملوا رأيهم فكان قرارهم تسقيفها بخشب، وقد أقيم السقف على ستة أعمدة من الخشب، وزعت في صفين. وزادوا فيها تسع أذرع، فصارت ثماني عشرة ذراعًا، ورفعوا بابها عن الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج أو سلم. ورفعوا من جدرانها التي بنوها بساف

_ 1 الروض الأنف "1/ 127"، الطبري "2/ 283 وما بعدها". 2 الروض الأنف "1/ 101". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 64"، "صادر". 4 الاشتقاق "25".

من حجر وساف من خشب، حتى زادت على ما كانت عليه في الأصل1. وورد في الأخبار أن رسول الله لما دخل الكعبة عام الفتح/ قام عند سارية فدعا، وفيها ست سوار2. وذكر أهل الأخبار، أن سبب بنيان الكعبة، هو أنها كانت رضمة فوق القامة، وأنها كانت قد تصدعت حتى تداعت جدرانها وتساقطت أحجارها، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرًا من قريش وغيرهم سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، فأجمعوا أمرهم في هدمها وبنائها3. ولم يكن هذا البناء الجديد بناءً فخمًا، كما يظهر من الوصف الوارد في كتب أهل الأخبار. كل ما فيه أنه غرفة سقفت الآن بخشب، أقيم سقفها على صفين من أعمدة، كل صف ذي ثلاثة أعمدة. وأما حيطانها، فقد زيد ارتفاعها فصار ثماني عشرة ذراعًا، بعد أن كانت تسع أذرع، أو ارتفاع قامة أو أعلى من ذلك بقليل. وقد بنيت هذه المرة من مادة بناء قوية، جعلت مدماكًا من حجارة ومدماكًا من خشب، فكان الخشب خمسة عشر مدماكًا، والحجارة ستة عشر مدماكًا. وجعلوا سقفها مسطحًا له ميزاب، يسيل منه ماء المطر. وهو على الجملة لا يقاس بشيء بمعابد العربية الجنوبية مثل معبد "المقه" بمدينة مأرب أو المعابد الأخرى التي تمكن الباحثون من الوقوف على أسسها ومعالمها، من حيث مساحة البناء أو الفن أو الروعة والعظمة. ويذكر أهل الأخبار أن أهل مكة استعانوا بتسقيف البيت بخشب سفينة رجل من تجار الروم رمى البحر بسفينته إلى الساحل إلى "الشعيبة"، وهو مرفأ السفن من ساحل الحجاز، وكان مرفأ مكة، ومرسى سفنها قبل "جدة". فجاءوا بالخشب إلى مكة، وكان بها نجار "قبطي"، استعين به في تسقيف البيت بذلك الخشب. وذكر أن الذي سقف البيت علج كان في السفينة، يحسن النجارة اسمه

_ 1 الروض الأنف "1/ 127 وما بعدها"، الطبري "2/ 283 وما بعدها"، "دار المعارف"، البلدان "7/ 259"، "الكعبة"، مروج الذهب "1/ 169"، "محمد محيي الدين عبد الحميد". 2 صحيح مسلم "4/ 97"، "باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة فيها والدعاء في نواحيها كلها". 3 الطبري "2/ 283".

"باقوم"، فجيء به مع الخشب، وسقف الكعبة. وقد سألهم عن كيفية تسقيفها هل يجعل السقف قبة أو مسطحًا، فأمروه أن يكون مسطحًا، فعمله على ما أمروه به1. ويذكرون أن قريشًا حين أرادوا بناء الكعبة أتى "عبد الله بن هبل بن أبي سالم"، ومعه مال، فقال: دعوني أشرككم في بنائها، فأذنوا له فبنى الجانب الأيمن، فـ "لبني كلب يد بيضاء في نصرتهم لقريش حين بنوا الكعبة"2. وصاحب هذا الخبر هو "ابن الكلبي"، ولا أستبعد أن يكون خبره هذا من وحي العاطفة نحو قومه الكلبيين. وذكر أن "باقوم" الرومي، كان يتجر إلى "المندب"، فانكسرت سفينته بالشعيبة، فخرجت إليه قريش فأخذوا خشبها. وقالوا له ابنها على بنيان الكنائس، وقال لقريش: هل لكم أن تجروا عيري في عيركم، يعني التجارة، وأن أمدكم بما شئتم من خشب ونجار فتبنوا به بيت إبراهيم3. ويذكر الإخباريون أنه كان في بطن البيت قرنا كبش معلقان في الجدار تلقاء من دخلها يخلّقان ويطيّبان إذا طيب البيت، وقد علق عليهما معاليق من حلي كانت تهدى إلى الكعبة. ويرمز القرنان إلى قرني الكبش الذي ذبحه إبراهيم الخليل4. وقد بقيا في الكعبة إلى أيام "عبد الله بن الزبير" فاحترقا مع الكعبة5. وقد زوقت الكعبة بعد هذا الحريق، زوق سقفها وجدرانها من بطنها ودعائمها، وجعلت "في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة، فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمان، شيخ يستقسم بالأزلام، وصورة عيسى بن مريم وأمه، وصورة الملائكة عليهم السلام أجمعين. فلما كان يوم فتح مكة، دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، البيت، فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب، فجاء بماء زمزم، ثم أمر بثوب فبل بالماء، وأمر بطمس تلك الصور فطمست. ووضع كفيه على صورة عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام. وقال:

_ 1 الأزرقي "1/ 104"، ابن هشام "1/ 130 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "1/ 130". 2 تاج العروس "4/ 109"، "بس". 3 الإصابة "1/ 140 وما بعدها"، "رقم 583". 4 الأزرقي "1/ 100". 5 القاسمي، شفاء الغرام "19".

امحُ جميع الصور، إلا ما تحت يدي، فرفع يديه عن عيسى ابن مريم وأمه. ونظر إلى صورة إبراهيم، فقال: قاتلهم الله جعلوه يستقسم بالأزلام، ما لإبراهيم والأزلام"1. وقد بقيت صورة عيسى ابن مريم وأمه، إلى أيام عبد الله بن الزبير، فلما تهدم البيت، تهدمت الصورة معه2. وأعاد الجاهليون –كما يذكر أهل الأخبار- الصنم هبل إلى مكانه، نصبوه أمام "الغبغب"، وأعادوا معه بقية الأصنام، التي كانت تتعبد لها بعض القبائل. ووضعوا حول الكعبة أصنامًا أخرى، يجب أن تكون من الدرجة الثانية في المنزلة أي أصنام قبائل ضعيفة، لذلك وضعت خارج البقعة المقدسة. وقد أوصلت الروايات عدة أصنام الكعبة عام الفتح إلى "360" صنمًا، كان بعضها منحوتًا من الحجارة، وبعضها معمولًا من النحاس، وبعضها قوارير، وكان صنم خزاعة قوارير صفر. ولما دخل الرسول مكة، أمر بها أفزيلت وحطمت، فلم يبق من يومئذ بها صنم3. وذكر أن النبي دخل مكة "وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نُصبًا. فجعل يطعنها بعود كان بيده. ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} 4. وذكر في بعض الروايات أن رسول الله بعد أن طاف بالبيت سبعًا على راحلته دخل الكعبة فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها5. وأنه لما طاف بالبيت وجد حولها أصنامًا مشدودة بالرصاص، فحطمت، وأعظمها "هبل" صنم قريش6. ويتبين من الروايات الواردة عن بناء الكعبة وعن اختلاف أهل مكة وتشاحنهم وتنافسهم فيما بينهم على شرف وضع "الحجر الأسود" في مكانه أنه كان لهذا الحجر أهمية خاصة في نظرهم، وأنه كان أقدس شيء عندهم. وإلا لما اختلفوا

_ 1 الأزرقي "1/ 104 وما بعدها"، السيرة الحلبية "3/ 87"، ابن الأثير "2/ 105"، نهاية الأرب "17/ 313". 2 الأزرقي "1/ 104". 3 السيرة الحلبية "1/ 144"، ابن الأثير "2/ 105". 4 صحيح مسلم "5/ 173"، "باب إزالة الأصنام من حول الكعبة"، إرشاد الساري "7/ 210"، "باب وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا" 5 الروض الأنف "2/ 274"، نهاية الأرب "17/ 312". 6 الروض الأنف "2/ 276"، نهاية الأرب "17/ 314".

هذا الاختلاف على وضعه، حتى ليمكن أن يقال إنه كان فوق أصنام الكعبة منزلة، بدليل عدم ورود إشارة ما إلى وقوع اختلاف بشأن إعادة صنم من تلك الأصنام إلى مواضعها. ولو كانت الأصنام أقدس منه، لكان الاختلاف على شرف وضع تلك الأصنام لا الحجر الأسود بالطبع. وهذا التقديس الزائد يحملنا على التفكير في أسبابه وفي الميزة التي ميزت هذا الحجر على الأصنام وهي في طبيعتها حجارة مثله. لقد ذهبت "ولهوزن" إلى أن قدسية البيت عند أهل الجاهلية، لم تكن بسبب الأصنام التي فيه، بل كانت بسبب هذا الحجر. لقد كان هذا الحجر مقدسًا في ذاته، وهو الذي جلب القدسية للبيت، فصار البيت نفسه مقدسًا، مقدسًا في حد ذاته، بحجره هذا الذي هو فيه، ولعله شهاب "نيزك"، أو جزء من معبود مقدس قديم1. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن البيت لم يكن إلا بمثابة إطار للحجر الأسود الذي كان من أهم معبودات قريش، لأنه يمثل بقايا حجر قديم كان مقدسًا عند قدماء الجاهليين، غير أنه لم يكن معبود قريش الوحيد2. ويلاحظ أن التقرب إلى الأحجار في بيوت العبادة كانت شائعة بين الجاهليين. وقد ذكر أن في "غيمان" موضع عبادة وفيه "حجر قحمم" "حجر قاحمم" "حجر قاحم"، وهو يشبه الحجر الأسود الذي كان يتقرب إليه الجاهليون في مكة. والحجر الذي كان في كعبة نجران وفي "تسلال"، وفي مواضع أخرى عديدة ذكرها "الهمداني". وقد عثر على مقابر جاهلية عديدة تبين للذين نقبوا فيها أن لها صلة بعبادة الأحجار، وأن تلك المقابر أقيمت عند موضع مقدس لوجود حجر مقدس فيه3. وقد كان الجاهليون يلمسون الحجر الأسود للتبرك به، وهو مبني في جدار الكعبة، فيكون اللمس بالطبع للجانب البارز منه. وبين موضع "الحجر الأسود" وباب البيت يكون "الملتزم"، وفي الناحية الشمالية الغربية "الحجر" أو "الحطيم".

_ 1 Reste, S. 74. 2 المشرق: "1941"، تموز-أيلول، "ص 247". 3 Beitrage, S. 84.

وكانت الجاهلية تتحالف وتحلف عنده1. ويقال للجهة التي فيها الحجر الأسود "الركن". وذكر أن العرب في الجاهلية كانت تطرح بموضع الحطيم ما طاقت به من الثياب، فيبقى حتى يتحطم بطول الزمان، فسمي الموضع حطيمًا2. وقد كانت الجاهلية تتحالف عند "الملتزم" بالأيمان، وتدعو على الظالم، وتعقد الحلف3. وذكر "اليعقوبي" أن الجاهليين كانوا قد وضعوا "إسافًا" و"نائلة"، داخل المسجد الحرام. وضعوا كل واحد منهما على ركن من أركان البيت، فكان الطائف إذا طاف بدأ بإساف فقبله وختم به. وذكر أنهم نصبوا على الصفا صنمًا، يقال له "مجاور الريح"، وعلى المروة صنمًا يقال له "مطعم الطير"4. وفي روايات أهل الأخبار عن تزويق الكعبة بالصور لبس وغموض: وهي روايات عديدة، يفهم من بعضها أن هذه الصور كانت بالزيت، رسمت على دعائم السقف. ويفهم من بعض آخر أنها كانت قد رسمت على أشياء متنقلة، وأنها كانت معلقة على جدران البيت. ويفهم من بعض الروايات أن الرسول أمر فطمست معالم جميع الصور، ويفهم من بعض آخر، أنه استثنى منها صورة مريم وابنها عيسى، وأنها بقيت كما ذكرت إلى أيام عبد الله بن الزبير. فلما تهدم البيت: تهدمت الصورة معه. أما رسم شجر أو صور ملائكة أو أشباه ذلك في الكعبة، فأمر لا اعتراض عليه، إذ يجوز أن يكون ذلك في معبد وثني، يضم الأصنام. ولكن ما للوثنية والأنبياء، وما شأن الشرك بمريم وبابنها وببقية الرسل حتى ترسم صورهم على جدران أو أعمدة البيت؟ ثم هل كانت الكعبة مزوقة قبل هذا التزويق بالرسوم والصور؟ وهل كانت هذه الصور من بقايا صور قديمة؟ أم هي صور حديثة رسمت بعد أن أعادت قريش بناء البيت؟ ورأيي أن هذه الصور هي من عمل عمال نصارى أراهم الروم الذين جلبهم أهل مكة مع "باقوم" بعد تحطم سفينتهم عند الساحل للاتجار معهم ولبناء الكعبة.

_ 1 تاج العروس "3/ 125"، "8/ 251"، اللسان "4/ 166"، "15/ 29"، البلدان "2/ 223 وما بعدها"، "5/ 190"، أخبار مكة، للأزرقي "246"، تاج العروس "9/ 59". 2 اللسان "12/ 139"، "حطم"، تاج العروس "8/ 251". 3 البلدان "8/ 146" "الملتزم". 4 اليعقوبي "1/ 224".

و "باقوم" كما يقول الإخباريون هو الذي أشرف على إقامة البناء وهندسته. وهو الذي سقف البيت وأقامه على عمد. ولا أستبعد أن يكون هو الذي رسم تلك الصور وحده أو بالاستعانة بإخوانه من بني جنسه الروم. وقد كان هؤلاء نصارى، فرسموا على جدران البيت أو أعمدته صور قصص كتابي، ومنه صور الأنبياء، للزينة والزخرف. لم يجد أهل مكة فيها ما يناقض عقيدتهم في الأصنام. ومن يدري، فلعله رسم لهم ذلك على أن له صلة بعقيدتهم التي كانوا عليها، فلم يعترضوا لذلك عليه. أما طمس الإسلام لتلك الصور، فللعلماء في ذلك كلام. وقد أشير إليه في كتب الحديث، وأكثرهم على أن الرسول لم يستثن من ذلك الطمس صورة1. وفي الحرم بئر "زمزم"، وهناك مقام إبراهيم، وبين زمزم ومقام إبراهيم كان موضع الذبح، ذبح القرابين. ويرى "ولهوزن" احتمال كون موضع المقام هو المكان الذي كان الجاهليون يذبحون فيه2. ويرجع الإخباريون تاريخ بئر "زمزم" إلى يوم بناء الكعبة وعهد إسماعيل. ويقال لها "بئر إسماعيل" أيضًا. وهي في الحرم في جهة الجنوب الشرقي من الكعبة في الجهة المقابلة للركن. ولا نعرف من أمرها شيئًا يذكر. ويظهر من روايات أهل الأخبار عنها أنها دفنت في أيام جرهم، وأن أهل مكة صاروا يستقون الماء من آبار أخرى احتفروها، ويستوردونه من الخارج إليها، حتى إذا كانت أيام عبد المطلب، ألقي في قلبه أن يحتفرها، فحفرها واستخرج منها كنزًا، وظهر الماء بها منذ ذلك اليوم3. ولأهل الأخبار تفاسير عديدة للفظة "زمزم"، تدل على أنهم لم يكونوا على علم بأصل التسمية، مما جاء فيها أن الملك "سابور" لما حج البيت أشرف عليها وزمزم فيها، فقيل لها "زمزم"4. وهكذا جعلوا "سابور" من المؤمنين الحجاج للبيت الحرام، المتبركين بماء زمزم!

_ 1 الأزرقي "1/ 104" "تعليقات السيد رشدي الصالح ملحس على الأزرقي". 2 Reste, S. 76. 3 الطبري "2/ 251" "دار المعارف"، الروض الأنف "1/ 80، 98 وما بعدها"، الأزرقي "1/ 24، 280 وما بعدها"، البلدان "2/ 643"، Shorter Ency. of Islam, P. 657. 4 البلدان "3/ 147"، الصحاح "5/ 1945"، اللسان "12/ 275"، البكري، معجم "2/ 700"، عمدة القاري "9/ 277"، البلدان "2/ 940 وما بعدها".

وكان حرم "الكعبة" كما يظهر من روايات أهل الأخبار واسعًا شاسعًا ذا نبت وشجر. ولم يجرؤ أحد على احتطاب شجره أو قطعه لحرمة المكان ولحرمة ما فيه، فبقيت أشجاره على ما هي عليه، حتى إذا ما كانت أيام "قصي"، ضاقت مكة بمن وفد عليها من قريش، ممن جاء بهم "قصي" إليها، وقطعها "قصي" رباعًا، وأرادوا البنيان، ولكنهم هابوا قطع شجر الحرم للبنيان، وتذكر رواية أنهم قالوا لقصي: كيف نصنع من شجر الحرم؟ فحذرهم قطعها وخوفهم من العقوبة في ذلك. فكان أحدهم يحوف بالبنيان حول الشجرة حتى تكون في منزله1. وتذكر روايات أخرى العكس. تذكر أن قريشًا هابت قطع شجر الحرم في منازلهم، فقطعها قصي بيده، وأعانوه2. وبذلك تقلصت أرض الحرام وقلت أشجاره بالتدريج. وتذكر رواية أن أهل مكة كانوا يهابون حتى في الإسلام قطع شجر الحرم. وقطع كل شجرة دخلت من أرض الحرم في دور أهل مكة. وأن "عمر" لما قطع "دوحة" كانت في دار "أسد بن عبد العزى"، وكانت تنال أطرافها ثياب الطائفين بالكعبة، وذلك قبل أن يوسع المسجد، وداها بقرة. وتذكر أيضًا أن "عبد الله بن الزبير" حين ابتنى دورًا بـ "قعيقعان" ترخص في قطع شجر الحرم للبنيان، وجعل دية كل شجرة بقرة. وذكر أن "أبا حنيفة"، قال إن كانت الشجرة التي في الحرم مما يغرسها الناس ويستنبتونها فلا فدية على من قطع شيئًا منها، وإن كان من غيرها ففيه القيمة بالغًا ما بلغت3. وفي الحديث أن الله حرم مكة، وحرم شجر الحرم في جملة ما حرمه على الناس4. ويظهر أن أرض مكة كانت كلها في الأصل قبل أيام "قصي" حمى للكعبة، على عادة الجاهليين في تخصيص "حمى" لأربابهم تكون حول بيوتها، ولهذا كانت أشجار هذا الحمى أشجارًا مقدسة لا يجوز قطعها ولا احتطابها، سوى أخذ بعض أغصانها أو لحائها لعمل قلائد منها للاحتماء منها. فلما استباح أهل مكة لأنفسهم

_ 1 الروض الأنف "1/ 87 وما بعدها". 2 الطبري "2/ 258" "دار المعارف". 3 الروض الأنف "1/ 87 وما بعدها". 4 الروض الأنف "1/ 128".

التطاول على الحرم، أي على هذا الحمى، بقطع شجره وتحويل أرضه إلى بناء، أو بإبقاء بعض أشجاره في داخل الدور، بقوا ينظرون إلى ذلك الشجر الباقي في البيوت نظرة هيبة وتقدير، باعتبار أنه من بقايا الحرم القديم. وبذلك صغرت مساحة الحرم، وقلت مساحته، حتى اضطر الخليفة "عمر" إلى توسيعه بشراء البيوت التي أقامها الناس عليه وإدخالها في الحرم من جديد، وذلك حين ضيق الناس على الكعبة وألصقوا دورهم بها، فقال: "إن الكعبة بيت الله، ولابد للبيت من فناء، وأنكم دخلتم عليها ولم تدخل عليكم"، فاشترى بعض الدور من أهلها وهدمها وبنى المسجد المحيط بها، ثم اشترى عثمان دورًا أخرى وأغلى في ثمنها1 ثم زاد في المسجد من جاء بعدهما حتى وصل إلى النحو الذي هو عليه الآن. ولم يكن للحرم في الجاهلية سور، إنما كانت تحدد معالمه وحدوده أنصاب نصبت على أطرافه. لتكون علامة على ابتدائه وانتهائه. أما ما نراه في الوقت الحاضر من وجود سور مرتفع له، أي حائط به غرف، فإنه مما حدث في الإسلام. وذكر أهل الأخبار أن الحرم قد ضرب على حدوده بالمنار القديمة التي بَيَّنَ إبراهيم مشاعرها، وكانت قريش تعرفها في الجاهلية والإسلام، لأنهم كانوا سكان الحرم، ويعلمون أن ما دون المنار إلى مكة من الحرم، وما وراءها ليس من الحرم. فما كان دون المنار، فهو حرم لا يحل صيده ولا يقطع شجره، وما كان وراء المنار، فهو من الحل يحل صيده، إذا لم يكن صائده محرمًا2.

_ 1 الروض الأنف "1/ 129 وما بعدها". 2 تاج العروس "8/ 239"، "حرم"، اللسان "12/ 122"، "حرم".

الكسوة

الكسوة: وكسوة البيت عادة قديمة، كان يقوم بها الجاهليون. ينسبها الإخباريون إلى "تبع أسعد الحميري"، فيذكرون أنه كساها بالأنطاع، ثم كساها بثياب جدة من عصب اليمن، أغلى ثياب معروفة في تلك الأوقات1. ولا يستبعد أن يكون الإكساء من بقايا المنشأ القديم للبيت، حيث كان خيمة في الأصل. وقد

_ 1 الأزرقي "1/ 165"، الروض الأنف "1/ 24".

ورد في الأخبار أنه كان في موضع البيت خيمة قبل أن تكون الكعبة1. وكذلك كان معبد بني إسرائيل خيمة في الأصل قبل أن يبنى الهيكل. ويذكرون أن التبع الذي كسا البيت، هو التبع الذي أتى به "مالك بن عجلان" إلى يثرب لطرد اليهود عنها. وذكروا أن ذلك التبع هو "أسعد أبو كرب الحميري"2. وقد كساها الوصايل، ثياب حيرة من عصب اليمن. وكانت الكعبة تكسى بالحبرة والبرود وغيرها من عصب اليمن، تكسى بها ويوضع ما يفضل منها في خزانة الكعبة. فإذا تمزقت الكسوة، تستبدل بكسوة أخرى تؤخذ من الخزانة. تكسى من الداخل والخارج، وتطيب بالحلوق وتبخر بالمجامر3. وقد سبق لي أن تحدثت عن "التبع أسعد"، وذكرت ما قاله رواة الأخبار عنه، وما جاء عنه في نصوص المسند. وكان قد علق في ذاكرة أهل الأخبار أشياء عنه وعن بعض من جاء بعده، زوقت ونمقت. على طريقتهم في رواية أكثر أخبار اليمن. ولعل ما ذكروه عن إكسائه البيت، هو من مصنوعاتهم التي وضعوها في الإسلام ليجعلوا لأهل اليمن فضلًا على الكعبة، فضل يسبق فضل العدنانيين عليها، وقد رأينا أنهم أوجدوا لهم جملة أنبياء نسبوهم إلى قحطان، ووضعوا أشياء أخرى كثيرة، في إظهار فضل القحطانيين على الإسماعيليين المتعربين يوم فات الحكم من قحطان وصار في أهل مكة في الإسلام. فكان النزاع القحطاني العدناني المعروف. ولو جارينا أهل الأخبار، وأخذنا بروايتهم في أن التبع "أسعد أبو كرب الحميري"، كان أول من كسا الكعبة، نكون قد رجعنا بمبدأ تاريخ إكساء الكعبة إلى نهاية القرن الرابع وأوائل القرن الخامس للميلاد. وقد سبق أن تحدثت عن هذا الملك في الجزء الثاني من هذا الكتاب4. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن كسوة الكعبة لم تكن كسوة واحدة، ولا من نسيج واحد، بل كانت أنطاعًا، أي أبسطة من أدم، وحبرة وبرودًا، وغيرها من عصب اليمن. وهي برود يمنية يعصب غزلها ثم يصبغ وينسج، فيأتي

_ 1 الأزرقي "1/ 6" "ذكر هبوط آدم إلى الأرض". 2 البلدان "4/ 463". 3 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 173 وما بعدها". 4 "ص 569 فما بعدها".

موشى، وقيل هي برود مخططة1. وذكر أن النبي كساها الثياب اليمانية، وأن عمر وعثمان كسواها بالقباطي2. وذكر أن أول من كسا البيت الحرير "نتيلة بنت جناب بن كليب" وهي من "بني عامر" المعروف بالضحيان، وكان من ملوك ربيعة. وكان العباس بن عبد المطلب ابنها، قد ضاع وهو صغير، فنذرت أمه إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فكسته، فهي أول من كساه ذلك3. وقيل أول من كسا البيت الديباج خالد بن جعفر بن كلاب. أخذ لطيمة من البر وأخذ فيها أنماطًا فعلقها على الكعبة4. وروي أنهم كانوا يكسون الكعبة يوم "عاشوراء"، وذكر أن "بني هاشم" كانوا يكسونها يوم التروية بالديباج، لتظهر في أحسن حال، ويراها الناس على ذلك. أما إذا حل يوم عاشوراء، فأنهم يعلقون الأزار عليها. وورد أنهم كانوا يكسون الكعبة بالديباج يوم التروية، فيعلق عليها القميص ولا يخاط، حتى إذا ما انصرف الناس من "منى" خيط وترك الإزار، ثم تكسي بالقباطي يوم عاشوراء، ويعلق عليها الإزار، ويوصل الديباج5. ولا نستبعد احتمال كون يوم "عاشوراء" من الأيام التي كانت لها حرمة وقدسية عند أهل الجاهلية، وإن كنا نجهل كل شيء عنه وعن سبب احتفال أهل مكة به، وصومهم فيه. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى احتمال تأثر قريش بعاشوراء اليهود، كأن يكون أحد سادة مكة قد أخذ ذلك اليوم عنهم فعظمه، فأخذه أهل مكة عنه وجعلوه سنة لهم. غير أن من الجائز ألا يكون لهذا اليوم صلة بعاشوراء اليهود، وإنما كان من تقاليد أهل مكة القديمة المعروفة عند غيرهم أيضًا، ولا صلة له بيود يهود6. ويظهر أنهم كانوا يضعون الأكسية الجديدة فوق الأكسية القديمة، فلا يرفعونها

_ 1 اللسان "1/ 604"، "عصب". 2 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 173 وما بعدها". 3 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507"، كتاب نسب قريش "18"، الروض الأنف "1/ 77". 4 الروض الأنف "1/ 77". 5 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 173 وما بعدها". 6 Shorter Ency., P. 47

عنها، فكانت تتراكم بعضها فوق بعض، فلما جاء الإسلام، استمروا على ذلك أمدًا، ثم رأى "شيبة بن عثمان" سادن البيت، تجريدها من أكسية الجاهلية، لأنها رجس من عمل الجاهليين فأزيلت. ثم رأى الخليفة المهدي، أن الأكسية قد اثقلت الكعبة، فأمر بتجريدها، تخفيفًا عنها، واكتفى بثلاث كسي من القباطي والخز والديباج1. وذكر أهل الأخبار أن أول من حلل البيت "عبد المطلب"، جد النبي، لما حفر "بئر زمزم"، وأصاب فيه من دفن جرهم غزالين من ذهب، فضربهما في باب الكعبة2.

_ 1 الأزرقي، أخبار مكة "1/ 173 وما بعدها"، الإصابة "2/ 157"، "شيبة بن عثمان". 2 البلدان "4/ 463 وما بعدها".

المال الحلال

المال الحلال: وقد تجنب أهل الجاهلية بناء معابدهم بمال حرام، فلما أرادت قريش بنيان الكعبة نادى مناديهم: لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيبًا. لا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس1. هذا ما يذكره أهل الأخبار ويروونه عن بناء البيت الحرام.

_ 1 الروض الأنف "1/ 130 وما بعدها".

بقية محجات العرب

بقية محجات العرب: ومن محجات العرب وبيوتها المعظمة: بيت عرف بـ "بس" لغطفان، كانت تعبده. بناه "ظالم بن أسعد بن ربيعة بن مالك بن مرة بن عوف"، لما رأى قريشًا يطوفون بالكعبة ويسعون بين الصفا والمروة، فذرع البيت، وأخذ حجرًا من الصفا وحجرًا من المروة، فرجع إلى قومه، فبنى بيتًا على قدر البيت ووضع الحجرين، فقال: هذان الصفا والمروة فاجتزئوا به عن الحج، فأغار "زهير بن جناب الكلبي"، فقتل ظالمًا وهدم بناءه. وورد في رواية أخرى أن "العزى" سمرة عبدتها غطفان. أول من اتخذها "ظالم بن أسعد"، فوق ذات

عرق إلى البستان بتسعة أميال، بنى عليها بيتًا وسماه بسًا، وأقام لها سدنة، فبعث إليها رسول الله "خالد بن الوليد"، فهدم البيت وأحرق السمرة1. وفي أخبار أهل الأخبار عن بيت "العزى"، أوهام وتناقض. فتراهم يجعلون "العزى" صنمًا مرة ويجعلونها "سمرة" أو "شجرة" أو ثلاث سمرات مرة أخرى، ثم تراهم يخلطون بين البيت وبين الحرام الذي كان حوله، كما بينت ذلك في أثناء حديثي عن "العزى"2. والذي أراه، أنه كان للعزى بيت هو "بس"، فيه صنم العزى، وكان حوله حرم، كحرم مكة، به "سمرة" أو ثلاث سمرات، كان الناس يقدسونها أيضًا ويتقربون إليها بالنذور. وهي جزء متمم لبيت العزى. فلما أمر الرسول خالد بن الوليد، بهدم العزى، هدم البيت وحطم الصنم، فرجع، فلما سأله الرسول عنه، واستفسر منه عن السمرة أو السمرات الثلاث، وعلم منه أنه لم يقطعها، أمره بالعودة إليها وقطعها اجتثاثًا لكل علامة من علائم عبادة هذا الصنم. فقطعها. فقطع عن عُبّادها كل صلة لهم كانت تربطهم بذلك الصنم. ومن محجات الجاهليين، بيت الصنم "ذو الخلصة"، ذكر أنه كان بتبالة، وكان يسمى بـ "الكعبة اليمانية"، تمييزًا له عن الكعبة التي عرفت بـ "الكعبة الشامية". وذكر أنه نفسه عرف بـ "الكعبة الشامية"، كما دعي بـ "كعبة اليمامة"، وقد تحدثت عنه في أثناء كلامي على هذا الصنم. ولما هدم البيت والصنم بأمر الرسول، صار مكانه موضع عتبة باب مسجد تبالة. وذكر أن البيت هو "ذو الخلصة"، والصنم "الخلصة"، وقيل "ذو الخلصة: الصنم نفسه"3 وقد عرف البيت بـ "الكعبة" كذلك، لأنه كان بناءً مكعبًا. وكان بيتًا في خثعم باليمن، وكانت بجيلة تعظمه كذلك. به صنم، هو "ذو الخلصة" ونصب يذبحون عليه4. ويظهر أنه كان من البيوت المعظمة الكبيرة، بدليل ما ذكره العلماء من أن الرسول قال لجرير بن عبد الله البجلي: "ألا تريحني من ذي الخلصة"؟ فذهب إليه وأحرق البيت وهدم الصنم وكسر النصب. وذكر

_ 1 تاج العروس "4/ 109"، "بس"، مراصد الإطلاع "937". 2 البلدان "1/ 412"، "بساء". 3 تاج العروس "4/ 389"، "خلص". 4 إرشاد الساري "6/ 424 وما بعدها".

أن موضع "ذي الخلصة"، صار مسجدًا جامعًا لبلدة يقال لها: العبلات من أرض خثعم1. وقد ذكر "أبو العلاء المعري" أن فدك كانت في الجاهلية ذات أصنام. وكانوا يقصدونها للحج، وذكر تلبيتهم لها2. وكان بيت "اللات" من البيوت المعظمة عند ثقيف. كانوا إذا عاد أحدهم من سفر، فأول ما يفعله أن يأتي "الربة"، وهي اللات ليتبرك بها. وهي الصخرة التي كانت تعبدها ثقيف.. ولما أسلم "عروة بن مسعود الثقفي"، وعاد إلى قومه دخل منزله، فأنكر قومه عليه دخوله قبل أن يأتي الربة، يعني اللات. وفي حديث وفد ثقيف: كان لهم بيت يسمونه الربة. يضاهون بيت الله3. وكانت ثقيف تضاهي أهل مكة، وتنافسهم على الزعامة. وكان لبيت اللات أستار وسدنة وحوله فناء معظم، يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب4. ولأهل اليمن بيوت تعبدوا لها، وبقيت معظمة عندهم إلى الإسلام. من ذلك بيت عرف بـ "بيت رئام"ز ذكر "ابن اسحاق" أن أهل اليمن كانوا يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون. وكانوا يعتقدون أن رئامًا كان فيه شيطان، وكانوا يملأون له حياضًا من دماء القربان، فيخرج فيصيب منها، ويكلمهم، وكانوا يعبدونه5. وبيت غمدان، وقد ذكروا أن الضحاك بناه باليمن على اسم الزهرة6، فجعلوه بيتًا، أي موضع عمادة، بينما هو دار حكم وبيت الملوك بصنعاء، كما سبق أن تحدثت عنه. وذكر بعض أهل الأخبار أن "ريام" بيت بصنعاء كان لحمير، وكان به كلب أسود، وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه وهدما البيت7. وكان "ذو الكعبات" لبكر ولتغلب ابني وائل وإياد بسنداد، وله يقول الأعشى:

_ 1 إرشاد الساري "6/ 423 وما بعدها". 2 رسالة الغفران "535"، "بنت الشاطئ". 3 تاج العروس "1/ 262"، "دبب". 4 تفسير ابن كثير "4/ 253". 5 الروض الأنف "1/ 28". 6 نهاية الأرب "1/ 62". 7 تفسير ابن كثير "4/ 254".

بين الخورنق والسدير ويارق ... والبيت ذو الكعبات من سنداد1 وذكر أنه بيت كان لربيعة، كانوا يطوفون به، وقد ذكره الأسود بن يعفر في شعره، فقال: والبيت ذي الكعبات من سنداد2 فالبيت للأسود لا للأعشى على هذه الرواية. وقد تعرض "ابن كثير" لموضوع بيوت الأصنام: اللات والعزى ومناة، فقال: "وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم الكعبة، غير هذه الثلاثة التي نصَّ عليها في كتابه العزيز ... قال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب وتهدي لها كما يهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها"3. وما فات من أسماء المحجات في العربية الجنوبية والشرقية وفي نجد، قد يزيد عدده على ما ذكرنا. فات عنا، لأن أهل الأخبار لم يذكروا شيئًا عنها، لانصراف اهتمامهم إلى الحجاز وما كان له صلة بالإسلام، من أرضين، فحرمنا بذلك من الوقوف على أخبار المحجات في المواضع الأخرى من جزيرة العرب. ويحج الناس إلى هذه البيوت في أشهر معينة من السنة، هي الأشهر الحرم، وهي أشهر مقدسة لا يحل فيها قتال ولا اعتداء على أحد، فهي أشهر هدنة وسلام، أشهر خصصت بالآلهة، فلا يجوز انتهاك حرمتها. وفي شهر الحج الذي حج فيه الناس إلى أصنامهم، يجتمع الناس في المعبد لأداء الفروض المكتوبة المعينة، فيكون الاجتماع اجتماعًا دينيًّا وسياسيًّا وتجاريًّا يتعامل فيه الناس. ويتبادلون به السلع، ويعود على أهل الموضع الذي فيه المعبد بأرباح كبيرة ولا شك. وقد ذكرت أن هذه الحرمة لم تكن عامة، فقد كان من العرب من لا يراعيها ولا يحترمها، ثم إننا لا ندري إذا كان أهل العربية الجنوبية أو العربية الشرقية كانوا يعرفونها أم لا!

_ 1 تفسير ابن كثير "4/ 254". 2 تاج العروس "1/ 457"، "كعب"، اللسان "1/ 718"، "كعب". 3 تفسير ابن كثير "4/ 253 وما بعدها".

وليست كل المعابد محجة للناس، يقصدونها في الأيام أو المواسم. فقد كان في الموضع الواحد جملة معابد في بعض الأحيان، ولا يحج إليها، بل كانت المعابد التي يحج إليها معدودة معينة. لا بد أن تكون لها ميزة شرفتها على سائر دور العبادة الأخرى. ولهذه الميزة قصدت في المواسم من أماكن بعيدة. وإذا استثنينا ما ورد عن مكة، فإننا لا نكاد نعرف شيئًا ذا بال عن المعابد الكبيرة الأخرى. ثم إن في أكثر ما ذكره أهل الأخبار عن مكة غموض ومجال واسع للنقد، لأنه منقول عن أفواه رجال يظهر أنهم نقلوا ما قيل لهم دون تحفظ أو تمحيص.

المزارات

المزارات: وقد عظم بعض أهل الجاهلية قبور ساداتهم ورؤسائهم واتخذوها أضرحة يزورونها ويتقربون إليها ويتبركون بها، وقد بلغ من بعضهم أن جعلها حمى وملاذًا من دخل إليها آمن، ومن لجأ إليها وكان محتاجًا أغيث، ومن طلب العون واستغاث بصاحب القبر أغيث، حتى صارت في منزلة المعابد. ومنها أضرحة السدنة والكهان وسادات القبائل، فقد كان قبر "تميم" جد قبيلة "تميم" مزارًا معظمًا عند أبناء القبيلة من احتمى به من "بني تميم" ومن غيرهم صار آمنًا. ولم أجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود أضرحة في مكة، اتخذت مزارًا وموضعًا يتبرك به. يعظمونه ويتقربون إليه بالنذور والذبائح. لقد كان قبر قصي معروفًا عند أهل مكة، ولكنهم لم يتخذوه مزارًا ومصلى على ما يتبين من رويات الإخباريين.

الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء

الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء مدخل ... الفصل الخامس والسبعون: الحنفاء وقد أشار القرآن الكريم إلى جماعة من العرب لم يتعبد الأصنام، ولم تكن من اليهود ولا النصارى، وإنما اعتقدت بوجود إله واحد عبدته1. وقد ذكر المفسرون وأهل الأخبار أسماء جماعة من هؤلاء، غير أن ما ذكروه عنهم غامض لا يشرح عقائدهم، ولا يوضح رأيهم في الدين، فلم يذكروا عقيدتهم في التوحيد، ولا كيفية تصورهم لخالق الكون. وقد عرف هؤلاء بالحنفاء وبالأحناف، ونعتوا بأنهم على دين إبراهيم، ولم يكونوا يهودًا ولا نصارى، ولم يشركوا بربهم أحدًا. سفهوا عبادة الأصنام وسفهوا رأي القائلين بها2.

_ 1 "وقالوا: كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا. قل: بل ملة إبراهيم حنيفًا، وما كان من المشركين"، البقرة، رقم2، الآية 125، تفسير الطبرى "1/ 404"، روح المعاني "1/ 352"، تفسير المنار"1/279 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 196"، اللسان "10/ 402 وما بعدها"، النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير "1/ 265" الطبرسي، مجمع البيان "1/ 467" "1/ 215 وما بعدها"، "طبعة طهران"، تفسير القرطبي، الجامع "2/ 128"، الطبري، جامع البيان "11/ 177"، للزمخشري "1/ 236"، اللسان "9/ 56" "صادر"، تاريخ الخميس، للديار بكري "2/ 177"، الكامل، لابن الأثير "1/ 244"، تفسير القرطبي، الجامع "10/ 198"، "حنيفا"، سورة النحل، رقم 16، الآية 120. 2 النهاية "1/ 299".

وقد أشير إلى "الحنيفية" و"الحنفاء" في كتب الحديث1. وقد بحث عنها شراح هذه الكتب. ومما نسب إليه حديث: "لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة" 2. وحديث: "بعثت بالحنيفية السمحة السهلة" 3. وحديث "أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة" 4. ويذكر أهل الأخبار أن الجاهليين جميعًا كانوا قبل عمرو بن لحي الخزاعي على دين إبراهيم. كانوا موحدين يعبدون الله جل جلاله وحده، لا يشركون به ولا ينتقصونه. فلما جاء عمرو بن لحيي، أفسد العرب، ونشر بينهم أضاليل عبادة الأصنام، بما تعلمه من وثني بلاد الشام حين زارهم، وحل بينهم، فكان داعية الوثنية عند العرب والمبشر بها ومضلهم الأول. وهو على رأيهم موزع الأصنام بين القبائل، ومقسمها عليها. فكان من دعوته تلك عبادة الأوثان، إلى أن جاء الإسلام فأعاد العرب إلى سواء السبيل، إلى دين إبراهيم حنيفًا، وما كان إبراهيم من المشركين5. ولقد فشت دعوة عمرة بن لحي وانتشرت، حتى دخل فيها أكثرهم، والضلال سريع الانتشار، وقل عدد من حافظ على دين إبراهيم والمراعي لأحكام دين التوحيد الحنيف: من اعتقاد بوجود إله واحد أحد، وطواف بالبيت، وحج إليه، وعمرة، ووقوف على عرفة وهدي للبدن، وإهلال بالحج والعمرة، وغير ذلك. فلم يبق منهم إلا عدد محدود في كل عصر إلى زمن البعثة المحمدية6. ولسنا نملك ويا للأسف شيئًا من الجاهلية يعيننا في الوقوف على عقائد الأحناف ودينهم، فليس في كتابات المسند ولا في الكتابات الجاهلية الأخرى، بل ولا في كتب اليونان واللاتين شيء عن عقيدتهم وعن آرائهم، لذلك اقتصر علمنا بأحوالهم على ما جاء في المؤلفات الإسلامية وحدها، والفضل في حفظ أخبارهم للقرآن

_ 1 راجع ونسنك: المعجم المفهرست لألفاظ الحديث النبوي الشريف، حيث تجد الإشارة إلى تلك الأحاديث. 2 مسند أحمد بن حنبل "4/ 116"، "6/ 33". 3 اللسان "9/ 56 وما بعدها". 4 مجمع البيان، للطبرسي "1/ 215 وما بعدها"، "أحب الدين إليَّ الحنيفية السمحة"، الإصابة "1/ 51"، "رقم 114". 5 اللسان "10/ 403"، بلوغ الأرب "2/ 195". 6 بلوغ الأرب "2/ 196".

الكريم، فلولا إشارته إليهم وذكره لهم، لما اهتم المفسرون وأصحاب الأخبار بجمع ما كان عالقًا في ذهن الناس عنهم. وللحديث وكتب السير والأدب فضل في جمع أخبارهم يجب ألا ينسى كذلك. وللعلماء الإسلاميين آراء وتفسيرات في أصل لفظة "حنيف" وحنفاء وأحناف وفي معانيها. فهم يقولون أن الأصل "حنف"، وحنف بمعنى مال. وحنف القدمين ميل كل واحدة منهما نحو الأخرى. والحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال. والحنيف هو المائل. ومن هذا المعنى أخذ الحنف. وأما الحنيف، فالذي يميل إلى الحق، وقيل الذي يستقبل البيت الحرام، أو الحاج أو من يختتن، والحنيف من أسلم في أمر الله فلم يلتو في شيئ، والحنيف المستقيم الذي لا يلتو في شيء1. وقد وردت لفظة "حنيفًا" في عشر مواضع من القرآن الكريم2. ووردت لفظة "حنفاء" في موضعين منه3. وبعض الآيات التي وردت فيها آيات مكية، وبعضها آيات مدنية. وقدنصَّ في بعض منها على إبراهيم، وهو على الحنيفية، ولم ينص في مواضع منها على اسمه. وقد وردت لفظة "حنفاء" في سورتين فقط. هما: سورة الحج وسورة البينة، وهما من السور المدنية. وذكر بعض أهل الأخبار أن الحنيف عند أهل الجاهلية من اختتن وحج البيت فكل من اختتن وحج البيت هو الحنيف4. وقد رأي الطبري أن ذلك لا يكفي،

_ 1 المفردات، للأصفهاني "ص 133"، اللسان "10/ 44"، "9/ 56 وما بعدها" "صادر"، تاج العروس "6/ 77 وما بعدها"، النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير "10/ 265"، تفسير الطبري "1/ 258 وما بعدها"، القاموس المحيط للفيروز آبادي "3/ 130". تفسير الطبري "1/ 563"، "1954"، "3/ 105" "دار المعارف"، الملل والنحل، "2/ 52"، الأغاني "3/ 113 وما بعدها" "دار الثقافة بيروت 1955م"، روح المعاني للآلوسي "3/ 173 وما بعدها"، تفسير الخازن "1/ 98". 2 البقرة، رقم 2 الآية 135، آل عمران، 3 الآية 67، 95، النساء، الرقم 4، الآية 125، الأنعام 6، الآية 79، 161 يونس، الرقم 10، الآية 105، النحل 16، الآية 120، الروم، الآية 30. 3 الحج الآية 31، البينة، الآية5. 4 اللسان "10/ 402 وما بعدها"، الكشاف "1/ 178، 236، 407"، الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن "1/ 467 وما بعدها"، "3/ 109 وما بعدها"، تفسير الفخر الرازي "13/ 57 وما بعدها"، "14/ 10 وما بعدها"، "17/ 171 وما بعدها"، تفسير الطبري "3/ 104 وما بعدها".

بل لا بد من الاستقامة على ملة إبراهيم وأتباعه عليها1. والذين يذكرون أن الحنيف هو من اختتن وحج البيت، يذكرون أن العرب لم تتمسك في الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت، ولهذا فكل من اختتن وحج البيت، قيل له حنيف. وقد أضاف بعضهم اعتزال الاصنام والاغتسال من الجنابة إلى ما ذكرت، وجعلوا ذلك من أهم العلامات الفارقة التي ميزت الحنفاء عن المشركين2، لأن الحنيفية على حد قولهم لو كانت حج البيت والاختتان لوجب أن يكون الذين كانوا يحجون ويختتنون في الجاهلية من أهل الشرك حنفاء، وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفًا بقوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3. وينسب أهل الأخبار إلى الأحناف بالإضافة إلى ما ذكرت، امتناعهم عن أكل ذبائح الأوثان وكل ما أهل إلى غير الله. فقد ذكروا عن كل واحد من الأحناف أنه كان قد امتنع عن أكل الذبائح التي تذبح للأوثان والأصنام، لأنها ذبحت لغير الله. كما نسبوا إليهم تحريم الخمر على أنفسهم، والنظر والتأمل في خلق الله، ونسبوا إليهم أداء شعائر الحج وغير ذلك4. وقد لخص "الفخر الرازي" و"الطبرسي"، آراء العلماء في "الحنيفية" وأجملاها في تفسيرهما للآية: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . فقالا: "وفي الحنيفية أربعة أقوال: أحدها أنها حج البيت، عن ابن عباس والحسن ومجاهد. وثانيها أنها أتباع الحق، عن مجاهد، وثالثها أنها أتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إمامًا للناس بعده من الحج والختان وغير ذلك من شرائع الإسلام،

_ 1 تفسير الطبري "3/ 105 وما بعدها"، "3/ 306"، "5/ 297"، "7/ 251"، تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "2/ 128". 2 اللسان "9/ 56" "صادر"، القاموس "3/ 130"، تاج العروس "6/ 77 وما بعدها"، "حنف". 3 الطبري، جامع البيان "1/ 564 وما بعدها". 4 الأصنام "6" "1914م"، القرطبي، الجامع لاحكام القرآن، "4/ 109" "1937م" "مطبعة دار الكتب المصريةط، ابن خلدون "القسم الأول من المجلد الثاني" "ص 707 وما بعدها" "بيروت 1956م" الخازن، لباب التأويل في معاني التنزيل "1/ 238 وما بعدها، 251"، تفسير الرازي "8/ 150 وما بعدها".

والرابع أنها الأخلاص لله وحده والإقرار بالربوبية والإذعان للعبودية"1. ترى مما تقدم، وسترى فيما بعد أن أهل الأخبار لم يكونوا على بينة تامة وعلم واضح بأحوال الحنيفية وبآرائها وقواعد أحكامها وأصولها، وأنهم خلطوا في بعض الأحيان فيما بينها وبين الرهبنة، ولا سيما رهبنة النصرانية. فأدخلوا فيها من يجب إخراجهم عنها، لأنهم كانوا نصارى على ما يذكره نفس أهل الأخبار في أثناء تحدثهم عنهم، ومن هؤلاء: قيس بن ساعدة الأيادي وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، فقد نصوا نصًّا صريحًا على أنهم كانوا من العرب المتنصرة، ثم نجدهم مع ذلك يدخلونهم في جملة الأحناف. وللمستشرقين بحوث في أصلها ومعناها وفي ورودها عند العرب قبل الإسلام. ومنهم من يرى أن اللفظة من أصل إرمي، وقد كانت معروفة عند النصارى، وأخذها الجاهليون منهم، وأطلقت على القائلين بالتوحيد من العرب، على أولئك ظهرت بتأثير اليهودية والنصرانية، غير أن أصحابها لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، وإنما كانوا فرقة مستقلة تأثرت بآراء الديانتين2. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل عبراني، هو: "تحينوت" tchinoth، أو من "حنف" Hnef، ومعناه التحنث في العربية، وذلك لما لهذه اللفظة من صلة بالزهد والزهاد3. وقال "نولدكه" إنها من أصل عربي هو "تحنف"، على وزن تبرر، وهي من الكلمات التي لها معان دينية. ويلاحظ أن السريان يطلقون لفظة "حنفة" Hanfa على الصابئة4. وقد وردت لفظة "حنف" في النصوص العربية الجنوبية، وردت بمعنى "صبأ"، أي مال وتأثر بشيء ما5.

_ 1 مجمع البيان "1/ 215 وما بعدها"، التفسير الكبير، للفخر الرازي "4/ 89 وما بعدها". 2 Ency, II, p. 259. 3 Abraham I. Katsh, Judaism in Islam, New York, 1954, p. 108, f, J.A. Montgomery, Acetic Strains in Early Judaism, in, JBL. Vol. LI, 1932, PP. 183, Tar Andrae, Der ursprung der Islam und des CHristentum, Uppala, 1926, p. 40. Charles Lyall, The Ward Hanif and Muslim, in JRAS, 1903, p. 772, Sprenger, Das Leben, Bd. I, S. 45. ff. 4 Ency., II, 259, Barhebraeus, Chronic., P. 176. 5 Rhodokanakis, Stud., II, S. 40.

أي بالمعنى الذي فهمه علماء اللغة. فاللفظة إذن من الألفاظ المعروفة أيضًا عند العرب الجنوبيين. عندي أن لفظة "حنيف"، هي في الأصل بمعنى "صابئ" أي خارج عن ملة قوم، تارك لعبادتهم. ويؤيد رأيي هذا ما ذهب إليه علماء اللغة، من أنها من الميل عن الشيء وتركه، ومن ورودها بهذا المعنى في النصوص العربية الجنوبية. وبمعنى "الملحد"، و "المنافق"، و"الكافر" في لغة بني إرم، ومن إطلاق "المسعودي" و "ابن العبري" لهذه اللفظ على "الصابئة". ومن ذهاب "المسعودي" إلى أن اللفظة من الألفاظ السريانية المعربة. وقد اطلقت على "المنشقين" على عبادة قومهم الخارجين عليها، كما أطلق أهل مكة على النبي وعلى أتباعه "الصابئ" و "الصباة"، فصارت علمًا على من تنكر لعبادة قومه، وخرج على الأصنام. ولهذا نجد الإسلام يطلقها في بادئ الأمر على نابذي عبادة الأصنام، وهم الذين دعاهم بأنهم على "دين إبراهيم". ولما كان التنكر للأصنام هو عقيدة الإسلام لذلك صارت مدحًا لمن أطلق الجاهليون عليهم تلك اللفظة لا ذمًا1. وليست الصورة التي رسمها المفسرون وأهل الأخبار عن عقيدة الحنفاء واضحة، فهي صورة غامضة مطموسة في كثير من النواحي، تخص الناحية الخلقية أكثر مما تخص الناحية الدينية. فليس فيها شيء عن عقيدتهم في الله، وكيفية تصورهم وعبادتهم له، وليس فيها شيء عن كتاب كانوا يتبعونه أو كتب كانوا يسيرون عليها. نعم، إن نفرًا منهم كما ذكر الرواة كانوا قد قرءوا الكتب ووقفوا عليها، ولكن ما تلك الكتب التي قرءوها، وما أسماؤها. وهل هي التوراة والإنجيل؟ ولكن أي توراة وإنجيل؟ التوراة والإنجيل التي كانت بين أيدي الناس أو غيرها؟ فالذي يفهم من كلام الرواة أن الحنفاء كانوا يرون تحريفًا في الكتابين، وأن هناك تباين قليلًا أو كثيرًا بين الأصل الذي أوحاه الله وبين الذي كان بين أيدي الناس، وأنهم لذلك مالوا عن اليهودية والنصرانية إلى دين إبراهيم الحنيف، فقرءوا كتبه وتعبدوا بعبادة إبراهيم. ولكن ما هي كتب إبراهيم وما هي عبادته؟

_ 1 راجع أيضًا: Ency., II, P. 259

وليس في إمكاننا في الوقت الحاضر وضع حد صريح واضح لمفهوم الأحناف و "الدين الحنيف" عند الجاهليين، لما ذكرته من عدم وجود موارد واضحة صريحة عن الأحناف، ولعدم ورود أي شيء عنهم في نصوص جاهلية، ولأن في الكثير من الذي يذكره المفسرون وأهل الأخبار عنهم غموض وإبهام أو صنعة وتكلف، لذلك فليس أمامنا سوى الانصراف إلى البحث عن جمع كل ما ورد عن الحنيفية في الشعر وفي النثر وتنقيته وغربلته لإستخراج المادة الصافية منه التي تفيدنا في الوقوف. على تلك الحركة الدينية التي. كانت بارزة عند المذكورين قبيل ظهور الإسلام. والوقوف عليها يفيدنا كثيرًا ولا شك في فهم الإسلام الذي أثنى على الحنيفية وأرجعها إلى ديانة إبراهيم، وفي فهم اتجاهات الأحناف ودعوتهم التي وجهوها إلى قومهم في نبذ عبادة الأصنام والأحجار والمعبودات المادية الأخرى، والالتجاء إلى عبادة إله أعلى لا يشبه المادة، هو إله واحد لطيف خبير. والحنفاء، كما يفهم من روايات أهل الأخبار، كانوا طرازًا من النساك، نسكوا في الحياة الدنيا، وانصرفوا إلى التعبد للإله الواحد الأحد إله إبراهيم وإسماعيل، ساحوا في البلاد على نحو ما يفعله السياح الزهاد بحثًا عن الدين الصحيح دين إبراهيم، فوصل زيد بن عمرو بن نفيل إلى الشام والبلقان ووقف على اليهودية والنصرانية، فلم ير في الديانتين ما يريد1. ومنهم من أخذ على قومه هدايتهم بحثهم على ترك عبادة الأصنام، لذلك لاقوا منهم غشًّا ونصبًا شديدًا. ومنهم من كان يتأمل في هذا الكون، لذلك تجنب الناس واعتزلهم، والتجأ إلى الكهوف والمغاور البعيدة ابتعادًا عن الناس للتأمل والتفكر، وقد تجنبوا الخمرة والأعمال المنكرة، وقول الفحش، وساروا على مثل الإسلام، وإن عاشوا قبل الإسلام، لأن الإسلام دين إبراهيم. والذي يفهم من القرآن الكريم، هو أن الحنفاء هم أولئك الذين رفضوا عبادة الأصنام، فلم يكونوا من المشركين، بل كانوا يدينون بالتوحيد الخالص، وهو فوق توحيد اليهود والنصارى، فلم يكونوا يهودًا ولا نصارى، و {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 247 وما بعدها"، الطبرسي، مجمع البيان "3/ 110" "7/ 252"، "11/ 107" "14/ 137".

الْمُشْرِكِينَ} 1، وأن قدوتهم في ذلك إبراهيم. ويلاحظ أن لفظة "مسلم" استعملت في مرادف ومعنى لفظة "الحنيف"، وإن إبراهيم هو أبو وأول المسلمين. وقد وصف الإسلام بأنه دين الله الحنيف، والدين الحنيف، وأن الشريعة الإسلامية، هي الحنيفية السمحة السهلة، وذلك تمييزًا لها عن الرهبانية المتعصبة2. وقد عد بعض المستشرقين الحنفاء شيعة من شيع النصرانية، وعدوهم نصارى عربًا زهادًا كيفوا النصرانية بعض التكييف؛ وخلطوا فيها بعض تعاليم من غيرها. وقد استدلوا على ذلك بما ورد من تنصر بعضهم، وبما ورد في بعض الأشعار الجاهلية من مواضع يفهم منها على تفسيرهم أن المراد بهم شيعة من شيع النصرانية3. غير أن القرآن الكريم قد نصَّ نصًّا صريحًا على أن الحنفاء لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، وأنهم ينتمون في عقيدتهم إلى إبراهيم. ثم إن الإخباريين وإن أدخلوا في الأحناف أناسًا نصوا على أنهم كانوا نصارى، إلا أنهم نصوا في الوقت نفسه نصًا صريحًا على أن البقية الباقية، كانت واقفة، لم تدخل في يهودية ولا نصرانية، إذ وجدت في كل ديانة من الديانتين أمورًا جعلتها تتريث، فلم تدخل في إحداهما، وبقيت مخلصة لسنة إبراهيم، لذلك فلا يمكن اعتبار الأحناف نصارى خلصًا، أو شيعة من الشيع النصرانية. وقد كان من الحنفاء نفر من النصارى، أخلصوا لنصرانيتهم وماتوا عليها. فهؤلاء هم نصارى من غير شك، ويجب إخراجهم من طائفة الحنفاء، وإدخالهم فهؤلاء هم نصارى من غير شك، ويجب إخراجهم من طائفة الحنفاء، وإدخالهم في النصارى، مثل "بحيرا" الراهب، وأمثاله ممن سأتحدث عنهم فيما بعد. ويلاحظ أن جميع من حشرهم أهل الأخبار في الحنيفية، كانوا من القارئين، الكاتبين. وكانوا يشترون الكتب ويراجعونها ويتسقطون أخبار أهل الآراء والمذاهب والديانات. ولبعض منهم –كما يروي أهل الأخبار- علم باللغات الأعجمية مثل السريانية والعبرانية، كما كان لهم علم ووقوف على تيارات الفكر في ذلك الوقت. وقد اضافوا إلى علمهم الذي أخذوه من الكتب، علمًا حصلوا عليه من

_ 1 آل عمران، الآية 67 وما بعدها، البقرة، الآية 35، آل عمران، الآية 95، النساء، الآية 124، الأنعام، الآية 79، 162، يونس 105. 2 ابن سعد "1/ 128"، قال عبد الله بن أنيس: فقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف على دين النبي محمد 3 Reste, S. 238, J.A. Montgomry, Ascetic Strains in Eariy Judaism , JBL, vol, LI. 1932, p. 183, Abraham J. Katsch, Judaism in Islam, p. 108.

أسفارهم إلى الخارج مثل العراق وبلاد الشام ومن اتصالهم بالرهبان وبرجال الكنائس واليهود. فهم بالنسبة لذلك الوقت الطبقة المثقفة من الجاهليين نادت بالإصلاح وبرفع مستوى العقل وبنبذ الأساطير والخرافات وبتحرير العقل من سيطرة العادات والتقاليد فيه، وذلك بالدراسات والتأمل وبقراءة الكتب وبالرجوع إلى دين الفطرة، الذي لا يقر عبادة الشرك ولا عبادة الناس. لذلك نستطيع أن نقول عن هؤلاء إنهم كانوا أناسًا من النوع الذي نطلق عليهم كلمة "مصلحين" في الوقت الحاضر. من هذا الطراز الذي يريد إصلاح الأوضاع ورفع مستوى العقل. فهم جماعة ضد الأوضاع الإجتماعية السائدة في أيامهم. لأنها في نظرهم أوضاع مؤخرة تمنع الإنسان من التقدم ومن إدراك الواقع. وقد رأت أن العقل لا يقر التقرب إلى أحجار وإلى التبرك بها والذبح لها، لأنها حجارة لا تعي ولا تفهم وليس في إمكانها أن تسمع أو تجيب لذلك نفرت منها. ومنهم من آمن بدين كالنصرانية، ولكنه لم يكن على نصرانية قومه، لأن عقله لا يقر التقرب إلى المادة مثل الصليب والصور والتماثيل، ومنهم من أبعدته مثل هذه العبادة عن النصرانية، فصيرته حائرًا في أمره من الديانات، يعتقد بإله، ولكنه لم يستقر على دين. عائب على قومه من المشركين ما هم عليه من جهل ومن عبادة أحجار ومن كل تقرب إليها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر ذكروا أنهم كرهوا عبادة الأوثان وسخفوا أحلام المتعبدين لها، إذ وجدوا أن من الحمق التقرب إلى حجر لا يضر ولا ينفع، وهو جماد، فلما سمع بعضهم بالإسلام أسلموا. ولكنهم لم يدخلوهم في عداد الأحناف. وقد رأينا أن من أهل الأخبار من جعل "مسيلمة" يدعو إلى عبادة "الرحمن" قبل مبعث النبي. وقد ذكروا أن "عمرو بن عبسة بن عامر بن خالد" السلمي، كان قد رغب عن آلة قومه في الجاهلية، رأي أنها باطلة، وأن الناس في ضلال إذ يعبدون الحجارة، والحجارة لا تضر ولا تنفع، فكان حائرًا، حتى اهتدى إلى الإسلام1. وليس في أيدينا اليوم مورد يفيد بوجود تكتل وتنظيم لمن أطلق الإخباريون

_ 1 الإصابة "3/ 5 وما بعدها"، رقم "5905"، الاستيعاب "2/ 491 وما بعدها"، حاشية على الإصابة.

عليهم لفظة: "الحنفاء"، تكتل وتنظيم مع مظاهر خارجية وداخلية تميزهم عن غيرهم من أهل الأديان. لذلك، فنحن لا نستطيع أن نقول إن الحنيفية كانت فرقة تتبع دينًا بالمعنى المفهوم من الدين، كدين اليهودية أو النصرانية، لها أحكام وشريعة تستمد أحكامها من كتب منزلة مقدسة ومن وحي نزل من السماء، على نحو ما نفهمه من الأديان السماوية. لذلك، فأنا لا أستطيع إقرار رأي من ذهب إلى أنهم كانوا جماعة دينية منظمة، كرأي المستشرق "شبرنكر"، الذي ذهب إلى هذا المذهب1. وجل هؤلاء الأحناف، هم من أسر معروفة، وبيوت يظهر أنها كانت مرفهة أو فوق مستوى الوسط بالنسبة إلى تلك الأيام، ولهذا صار في إمكانهم الحصول على ثقافة وعلى شراء الكتب، وقد كانت غالية الثمن إذ ذاك، لنيل العلم منها. كما صار في إمكانهم الطواف في خارج جزيرة العرب لامتصاص المعرفة من البلاد المتقدمة بالنسبة إلى تلك الأوقات، مثل العراق وبلاد الشام. وقد اتصلوا كما يزعم أهل الأخبار فعلًا برجال العلم والدين فيها، وتحادثوا معهم وأخذوا الرأي منهم. ومن يدري فلعلهم قرءوا عليهم الكتب وفي جملتها كتب اليونان، أو ترجمات كتبهم بالسريانية، فحصلوا نتيجة لذلك على علم بمقالات اليونان وبآرائهم في الفلسفة والدين والحياة. وقد تكون بعض الآراء المنسوبة إليهم، والتي ترجع إلى أصل يوناني، قد قالوها من أخذهم لها من تلك الكتب ومن دراستهم على من اتصلوا بهم من العلماء في أثناء وجودهم في العراق وفي بلاد الشام. ونجد في الأخبار أن الرسول كان يعد الرهبانية مخالفة للحنيفية، إذ ورد أن أبا عامر بن صيفي –المعروف بالراهب لأنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح- قدم المدية ورأى الرسول، وسأله: ما هذا الذي جئت به؟ -فقال الرسول: "جئت بالحنيفية دين إبراهيم"، قال: فأنا عليها، فقال الرسول: "لست عليها، ولكن أدخلت فيها ما ليس منها". وقد سماه الرسول الفاسق. فذهب مغاضبًا للرسول كما تقول الروايات، متوجهًا إلى قيصر، ليحمله على توجيه جيش إلى المدية للقضاء على الإسلام، غير أنه مات وهو في بلاد الشام2.

_ 1 Sprenger, Das Leben, Bd., I, S. 4, Ency., II, S. 259 2 مجمع البيان "9/ 64 وما بعدها"، "3/ 500" "طبعة طهران".

وقد خرج "أبو عامر" واسمه "عيد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان بن أمية"1 الراهب أحد "بني ضبيعة" إلى مكة مباعدًا لرسول الله، معه خمسون غلامًا من الأوس، منهم "عثمان بن حنيف". "فكان يعد قريشًا أن لو قد لقي محرمًا لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما كان يوم أحد، كان أول من لقي أهل المدينة أبو عامر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينًا يا فاسق، وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية "الراهب" فسماه رسول الله الفاسق، فلما سمع ردهم عليه، قاتلهم ثم راضخهم بالحجارة". ثم رجع مع قريش إلى مكة ثم خرج إلى الروم يوم فتحت مكة فمات بها سنة تسع، ويقال سنة عشر. وأعطى "هرقل" ميراثه لكنانة قائلًا لعلقمة: هما من أهل المدر وأنت من أهل الوبر. وكان له ولد اسمه "حنظلة" أسلم، واستأذن رسول الله في قتل أبيه، فنهاه عن ذلك. فلما كان يوم أحد شهده، والتقى هو وأبو سفيان، فلما استعلى حنظلة رآه "شداد بن شعوب" فعلاه بالسيف حتى قتله، وقد كاد يقتل أبا سفيان. فقال النبي: "إن صاحبكم تغسله الملائكة"3، فعرف بـ "غسيل الملائكة"4. فكان الابن مع المسلمين في هذا اليوم، وكان الأب مع المشركين. وروي أنه كان يتزهد في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين بإتخذا مسجد الضرار، وأتى قيصر فاستنجده على النبي5. وروي أنه هو الذي حزب الأحزاب لقتال الرسول: فلما خذل لحق بالروم يطلب النصر منهم، وقال لأناس من الأنصار ابنوا مسجدكم واستعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح،

_ 1 تاريخ الطبري "2/ 512"، "معركة أحد"، المحبر "470"، سيرة ابن هشام "2/ 129"، "حاشية على الروض"، أبو عامر بن صيي بن مالك بن أمية بن ضبيعة بن زيد بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، الأوسي، الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863"، مروج الذهب "1/ 88"، "دار الأندلس". 2 الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863". 3 الإستيعاب "1/ 279 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 4 الإصابة "1/ 360"، "رقم 1863"، الاستيعاب "1/ 279 وما بعدها"، حاشية على الإصابة". 5 تفسير النيسابوري "9/ 76"، "حاشية على تفسير الطبري"، روح المعاني "9/ 111".

فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه، وكان قد خرج معه كنانة بن عبد يا ليل الثقفي وعلقمة بن علاثة. فأما علقمة وابن ياليل "ابن بالين"، فرجعا فبايعا النبي وأسلما، وأما "أبو عامر" فتنصر وأقام1. ويظهر أن "أبا عامر الراهب"، كان قد وضع مع جماعة من الأنصار الحاقدين على الرسول وعلى المهاجرين الذين صاروا يزاحمونهم في أعمالهم، واستحوذوا على التجارة واستغلوا أرض يثرب فقام قوم منهم بزراعتها، خطة لعمل مكيدة يخرجون بها الرسول من المدينة، يساعدهم في ذلك الروم. غير أنها لم تنجح، وهدم المسجد، الذي تواعدوا على أن يكون موضع التآمر وملتقى الحاقدين على الرسول، وقضي على المؤامرة، وبقي "أبو عامر" عند الروم. فلما مات عاد "كنانة بن عبد يا ليل" الثقفي، وكان رئيس ثقيف في زمانه، وكان يقول: "لا يرثني رجل من قريش"، مما يدل على أنه كان من الكارهين لقريش المتحاملين عليها وعلى الإسلام، ففر إلى "نجران" ثم توجه إلى الروم. فلما مات "أبو عامر" عاد فأسلم2. وعاد "علقمة" أيضًا. وهناك روايات أخرى، تذكر أنه ارتد في أيام "عمر"، والتحق بالروم، ثم عاد إلى الإسلام3. ولاشتهار أبي عامر بالراهب، ولما ورد في بعض الأخبار من أنه كان حنيفًا، ذهب "ولهوزن" إلى أن الأحناف هم من النصارى، وأن حركتهم حركة نصرانية، وأنهم كانوا القنطرة التي توصل بين النصرانية والإسلام4. غير أن ما لدينا من معارف عن الأحناف، لا يكفي لا بداء رأي كهذا الرأي، وللتسليم بمثل هذا القول ينبغي لنا الوقوف على آرائهم وقوفًا دقيقًا ومقارنة ما لدينا بما نعرفه من النصرانية لنتمكن من التوصل إلى رأي علمي في هذا الشأن. وفي بيت منسوب إلى أمية إشارة إلى الحنيفية، ذكر فيه أن كل دين زور عند الله إلا دين الحنيفية. وقد رأينا أن أهل الأخبار يدخلون أمية في جملة

_ 1 تفسير الطبري "11/ 17 وما بعدها"، تفسير القرطبي "7/ 320"، "8/ 253 وما بعدها". 2 الإصابة "3/ 305"، "رقم 7532". 3 الإصابة "2/ 496"، "5677". 4 Wellhausen, Reste, S. 239. f.

الحنفاء، ويقولون: أنه لبس المسوح تعبدًا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل وحرم الخمر1. ويلاحظ أن الإخباريين ينسبون إلى عدد من هؤلاء الأحناف لبس الموح، مما يشير إلى أنهم كانوا قد تأثروا بالرهبان المتقشفين وبالزهاد النصارى الناسكين، فأخذوا عنهم هذه الطريقة التي أشير إلهيا في القرآن الكريم وفي الحديث، والتي عدت من البدع الممقوتة في الإسلام. وقد أورد أهل الأخبار كلامًا ذكروا أن الأحناف قالوه، هو من نوع كلام الكهان المرتب على طريقة السجع، أوردوه بنصه على ما ذكروه. غير أن من الصعب تصور صدور ذلك الكلام المنمق من أناس عاشوا قبل الإسلامن ومحافظة الناس عليه محافظة تامة إلى ما بعد الإسلام. ويظهر على كل حال من دراسة روايات أهل الأخبار عن الكهان والأحناف أن كلام رجال الدين قبل الإسلام كان على هذا النمط من السجع، ومن جمل مكررة معادة عامة. وقد ظل الجسع الطريقة المحببة في الكتابة إلى أيامنا هذه عند بعض الكتاب. ويفهم من كلام الرواة أن بعض هؤلاء الحنفاء كانوا نصارى مثل ورقة بن نوفل، أي على عكس ما يذكره الرواة أنفسهم من أن هؤلاء كانوا قد تجنبوا اليهودية والنصرانية متبعين ديانة إبراهيم2. والظاهر أن الرواة قد اشتبه عليهم الأمر، فخلطوا في بعض الأحيان بين النصرانية وبين هؤلاء الذين أنكروا عبادة الأصنام واعتقدوا التوحيد. ولدينا أمثلة أخرى على هذا الوهم. وسنرى من تراجم عدد من الأحناف أن منهم من يحب إدخاله في عداد النصارى. لا الأحناف. وقد نص أهل الأخبار أنفسهم على تنصرهم، غير أنهم أدخلوهم مع ذلك في جملة الأحناف حين تكلموا عنهم. فكأنهم عنوا بالأحناف من كان على حياة الرهبنة والتقشف. وقد أدخل "المسعودي" بعض الأحناف في جماعة أهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد، ومن أهل التوحيد، ممن يقر بالبعث. ثم قال: "وقد اختلف الناس فيهم، فمن الناس من رأى أنهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك"3.

_ 1 كل دين يوم القيامة عند اللـ ... ـه إلا دين الحنيفة زور الأغاني "4/ 122" "طبعة دار الكتب المصرية". 2 بلوغ الأرب "2/ 270". 3 مروج "1/ 78"، "دار الأندلس".

وقد ذكر من بينهم "حنظلة بن صفوان"، و"خالد بن سنان العبسي"، و "رئاب الشني"، و "أسعد أبو كرب الحميري"، و "قس بن ساعدة الإيادي"، و "أمية بن أبي السلط الثقفي"، و "ورقة بن نوفل"، و "عداس" مولى "عتيبة بن ربيعة الثقفي"، وطورقة بن نوفل"، و "عداس" مولى "عتيبة بن ربيعة الثقفي، و "أبو قيس" "صرمة بن أبي أنس" الأنصاري، و "أبو عامر الأوسي"، و "عبد الله بن جحش الأسدي"، و "بحيرا الراهب"1. ومن هؤلاء من كان على النصرانية، وقد نص "المسعودي" نفسه على ذلك. والذين ذكر الرواة أسماءهم من الحنفاء هم أناس عاشوا في الجاهلية المتصلة بالإسلام، ومنهم من أدرك الرسول، ولا عبرة بالطبع لما زعمه الإخباريون من طول عمر أولئك الأشخاص وبلوغ بعضهم مئين عدة من السنين، وادخالهم في المعمرين2، فإن من عادة الإخباريين إطالة عمر هؤلاء وأمثالهم من الرجال البارزين الظاهرين، ليكون ذلك مناسبًا لما يجيء في أخبارهم من الحكم المنسوبة إليهم، وهي فكرة عامة نجدها عند غير العرب أيضًا، ولذلك نجد صورة الحكماء والفلاسفة في الغالب على صورة شيوخ أصحاب لحى طويلة بيض ورأس جلله الشيب أو قضى في الغالب على شعره الزمن والتفكير، فصلع، لأن هذه من علامات الحكمة والتفكير. وعندي أن الحنفاء جماعة سخرت من عبادة الأصنام، وثارت عليها وعلى المثل الأخلاقية التي كانت سائدة في ذلك الزمن، ودعت إلى إصلاحات واسعة في الحياة وإلى محاربة الأمراض الاجتماعية العددية التي كانت متفشية في ذلك العهد، دعاها إلى ذلك ما رأته في قومها من إغراق في عبادة الأصنام ومن أسفاف في شرب الخمر ولعب الميسر وما شاكل ذلك من أمور مضرة، فرفعت صوتها كما يرفع المصلحون صوتهم في كل زمن ينادون بالإصلاح، وقد أثارت دعوتهم هذه المحافظين وأصحاب الجاه والنفوذ وسدنة الأوثان شأن كل دعوة إصلاحية. ويجوز أن يكون من بين هؤلاء من مال إلى النصرانية، غير أننا لا نستطيع أن نقول أنهم كانوا نصارى أو يهودًا، أنما أستطيع أن أشبه دعوة هؤلاء بدعوة الذين دعوا إلى عبادة الإله رب السماء "ذو سموى" أو عبادة الرحمن في اليمن،

_ 1 مروج "1/ 78 وما بعدها". 2 جعل السجستاني عمر قس بن ساعدة الأيادي، وهو من الحنفاء، ثمانين وثلاث مئة سنة، بلوغ الأرب "2/ 246".

متأثرين بمبادئ التوحيد التي حملتها اليهودية والنصرانية إلى اليمن. ولكنهم لم يكونوا أنفسهم يهودًا أو نصارى، إنما هم أصحاب ديانة من ديانات التوحيد. ولا يعني قولي هذا أن الحنفاء كانوا على رأي واحد ودين واحد كالذي يفهم مثلًا من قولنا يهودي ونصراني ويهود ونصارى، بمعنى أنهم كانوا طائفة معينة تسير على شريعة ثابتة كالذي ذهب "شبرنكر" إليه1. إنما كان أولئك الأحناف نفرًا من قبائل متفرقة لم تجمع بينهم رابطة، إنما اتفقت فكرتهم في رفض عبادة الأصنام وفي الدعوة إلى الإصلاح. وهذا المعنى واضح في آيات القرآن الكريم التي أشارت إلى الحنفاء. والرجال الذين قال أهل الأخبار عنهم إنهم كانوا على دين، وكانوا من الأحناف، هم: قس بن ساعدة الإيادي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت وأرباب بن رئاب، وسويد بن عامر المصطلقي، وأسعد أبو كرب الحميري، ووكيع بن زهير الإيادي، وعمير بن جندب الجهني، وعدي بن زيد العبادي، وأبو قيس صرمة بن أبي أنس، وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وعامر بن الظرب العدواني، وعبد الطانحة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة، وعلاف بن شهاب التميمي، والملتمس بن أمية الكناني، وزهير بن أبي سلمى وخالد بن سنان العبسي، وعبد الله القضاعي، وعبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب2. وبعض هؤلاء مثل: "قس بن ساعدة الإيادي" و"عثمان بن الحويرث" و "عدي بن زيد العبادي" نصارى، وبعض منهم مثل "أسعد أبو كرب الحميري"، "أبو كرب اسعد الحميري"3 و"عبيد بن الأبرص"، و"زهير بن أبي سلمى"، مشكوك في أمرهم، لا نستطيع أن نذكر شيئًا عن دينهم. ولهذا فأنا أذكرهم هنا بحذر، مجاراة لمن أدخلهم في أهل الدين من الجاهليين. ولا أعني أنهم كانوا على الحنيفية، أي على شريعة التوحيد التي ينص عليها أهل الأخبار.

_ 1 Sprenger, Das Leben, Bd., I, S. 4. 2 بلوغ الأرب "2/ 244 وما بعدها"، مروج الذهب "1/ 78"، "دار الأندلس". 3 بلوغ الأرب "2/ 244"، مروج "1/ 52 وما بعدها".

وقد اقتصر "محمد بن حبيب" على ذكر بعض من تقدم، حين تكلم عن "أسماء الذين رفضوا عبادة الاصنام"، فذكرهم على هذا النحو: عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب الأسدي. وذكر أن منهم من تنصر ومات على النصرانية، مثل: عثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب الأسدي1. فأما قس بن ساعدة الأيادي، فقد رفعه الإخباريون من مصاف أسوياء البشر، ووضعوه في صف المعمرين الذين عاشوا مئين من السنين قبل سبع مئة سنة، وقيل ست مئة سنة، أو أقل من ذلك بكثير، غير أنه لا يقل عن ثلاث مئة سنة على كل حال2. وأما مولده، لمجهول. وأما وفاته، فيكاد يحصل الاتفاق على أنه كان قبيل البعثة. وقد ورد في رواية إن الرسول أدركته ورآه يخطب في سوق عكاظ خطبته الشهيرة المعروفة، غير أنه لم يحفظها، وأن أبا بكر، وكان من جملة من حضر السوق وسمع الخطبة، كان قد حفظها، فأعادها على الرسول. وهي الخطبة الشهيرة المتداولة بين الناس والمحفوظة في الكتب. وهناك رواية تذكر أن الرسول كان يحفظها، وقد تلاها على من حضر عنده، وتلا بعضًا منها على وفد عبد العقيس3.

_ 1 المحبر "171 وما بعدها". 2 وخيل: قس بن ساعدة بن حذافة بن زفر، وقيل: حذافة بن زهر بن نزار. وقيل: قسبن ساعدة بن عمرة بن عدي بن مالك بن ايدعان بن النمر الخ ... وقيل: هو ابن ساعدة بن عمرو بن شمر بن عدي بن مالك، وهكذا. بلوغ الأرب "2/ 246"، البيان والتبيين "1/ 50" "طبعة السندوبي"، "1926"، شعراء النصرانية "2/ 211"، "قس بن ساعدة الأيادي بن عمرو بن عدي بن مالك بن ابدطان "ايدعان" بن النمر بن وائلة بن الطمثان بن عوذ مناة بن يقدم بن أفصى، المحبر "ص 136"، الأغاني "14/ 40"، البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 230" الميداني، مجمع الأمثال "1/ 117". 3 وفي نصها بعض الاختلاف، راجع: الإصابة "5/ 285"، "وقدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل منهم: هل تعرف قس بن ساعدة؟ فقال رسول الله: "ليس هو منكم. هذا رجل من إياد، تحنف في الجاهلية، فوافى عكاظ والناس مجتمعون، فيكلمهم بكلامه الذي حفظ عنه"، طبقات ابن سعد: الجزء الأول: القسم الثاني "ص 55"، "وفد بكر بن وائل"، محاضر الأبرار "ص 48 وما بعدها"، البداية والنهاية "2/ 230".

ومما يلفت النظر في الروايات الواردة عن حفظ الرسول لخطبة "قس"، هو إشاراتها إلى أن النبي كان يحفظ نص الخطبة، ولم يكن يحفظ الشعر الملحق بها. مع أن حفظ الشعر أيسر من حفظ النثر. ولعل الرواة رووا ذلك لإظهار أن الرسول كان لا يقول الشعر، وإنما كان يسمعه. ولكننا نجدهم من ناحية أخرى يروون أنه كان يتلو من الشعر المناسب ما شاء أن يتلو، وأنه كان يستشهد به في كلامه، وأنه كان يحفظ شيئًا من شعر الماضين والحاضرين. ولن يضير النبوة من حفظ الشعر شيئًا. والنص المحفوظ لخطبة "قس" نص مختلف لم يتفق الرواة عليه. مما يدل على أنه لم يكن مدونًا، وإنما روي بروايات مختلفة، ثم دونت فيما بعد. وأوصل بعض الإخباريين قسًا إلى القيصر، فزعموا أنه ذهب إليه واتصل به، وأن القيصر أكرمه وعظمه. وأنه سأله عن العلم قائلًا له: ما أفضل العلم؟ قال: معرفة الرجل بنفسه. قال: فما أفضل العقل؟ قال: وقوف المرء عند علمه. قال: فما أفضل الأدب؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه. قال: فما أفضل المروءة؟ قال: قلة رغبة المرء في اختلاف وعده. قال: فما أفضل المال؟ قال: ما قضي به الحق1. وهو كلام ينبئك أسلوبه وطبيعته عن أصله وفصله، وله أصل يرجع إلى الفلاسفة اليونان. ونسبوا له قبرًا جعلوه في موضع "روحين" على مقربة من حلب في لحف جبل ينذر له2. ونجد حديث قيصر المزعوم مع "قس"، في رواية أخرى على شكل آخر. وقد أهملت هذه الرواية اسم قيصر. فلم تشر إليه، واكتفت بلفظة "قيل"، فقالت: "قيل لقس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة؟ قال: معرفة الرجل بنفسه. قيل له: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه! قيل له: فما أفضل المروءة؟ قال استبقاء الرجل ماء وجهه"3. وقس هو مخترع أوجد للعرب أشياء عديدة على زعم أهل الأخبار. أحدث لهم أمورًا كثيرة. فهو أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية، وأول من توكأ

_ 1 شعراء النصرانية "2/ 211"، الأمالي، للقالي "3/ 37" "دار الكتب"، العقد الفريد "2/ 254 وما بعدها، 290 وما بعدها". 2 شعراء النصرانية "2/ 216"، الأغاني "14/ 40 وما بعدها". 3 العقد الفريد "2/ 290 وما بعدها".

عند خطبته على سيف أو عصا وأول من علا على شرف وخطب عليه، وأول من قال: "أما بعد"، وأول من كتب "إلى فلان بن فلان"1. وأول من قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فكل ما عرفه العرب من هذه الأمور، هو من صنعة قس وعمله. ثم أنه كان أحد حكماء العرب، وكان أسقف نجران، وخطيب العرب كافة2. وذكروا أن له ولقومه فضيلة ليست لأحد من العرب، لأن الرسول روى كلامه وموقفه على جمله الأورق بعكاظ وموعظته، وعجب من حسن كلامه، وأظهر تصويبه3، وأنه قال فيه: "يحشر أمة وحده" 4. وجاء في رواية في تفسير قول الرسول: "يحشر أمة وحده"، أو "يرحم الله قسًا، إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة واحدة"، أن وفدًا من إياد قدم على النبي: فسألهم عن قس، فقالوا: هلك. فقال: "رحمه الله، كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق "أحمر" وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أوجدني أحفظه". فقال رجل من القوم، أنا أحفظه يا رسول الله. سمعته يقول: أيها الناس اسمعوا وعوا ... إلى آخر الخطبة، وما جاء بعدها من شعر، فقال رسول الله عندئذ قوله المذكور فيه5. ويختلف هذا الخبر بعض الاختلاف مع خبر آخر أشرت إليه قبل قليل، فقد وردت في ذلك الخبر أن رسول الله كان يحفظ تلك الخطبة، غير أنه لم يكن يحفظ الأبيات الملحقة بها، وكان "أبو بكر" يحفظها، فأعادها على مسامعه6. كما يختلف عن رواية أخرى، جاء فيها أن الوفد الذي قدم على الرسول كان وفد "عبد القيس"، وأن الذي قرأ الشعر عليه هو أحد بني عبد القيس7.

_ 1 المؤتلف والمختلف، للمرزباني "338"، بلوغ الأرب "2/ 246"، الأغاني "14/ 40 وما بعدها" مروج الذهب "1/ 82"، "2/ 102"، "دار الأندلس"، البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها". 2 اللسان "8/ 58"، شعراء النصرانية "2/ 211". 3 بلوغ الأرب "2/ 246". 4 الأغاني "14/ 40". 5 الأغاني "14/ 40 وما بعدها"، المعارف "61"، البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها". 6 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها"، مجمع الأمثال، للميداني "1/ 117". 7 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها".

ويذكر بعض أهل الأخبار، أن "الجارود"، وكان في ضمن رجال وفد "عبد القيس"، قال للرسول حين سأل عن "قس": "فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وإني من بينهم لعالم بخبره، وأقف على أمره. كان قس يا رسول الله سيطًا من أسياط العمر عمر ستمائة سنة، تقفر منها خمسة أعمار في البراري والقفار". ثم أخذ في وصفه وفي ذكر عقائده، وفي لقياه لـ "سمعان" رأس الحواريين. وخلص بعد ذلك إلى ذكر نص خطبته بسوق عكاظ، ومطلعها: "شرق وغرب"، حتى انتهى منها، ثم ألحق بها شعرًا1. وهي خطبة تختلف تمامًا عن الخطبة المعروفة التي تنسب إليه، وإن كانت على نمطها من حيث الأسلوب والأفكار، وفيها مصطلحات إسلامية ترد في القرآن الكريم. ولا أستبعد أن تكون من وضع شخص آخر غير الجارود. وضعها في العصور العباسية، للحث على الزهد. والجارود من سادات عبد القيس، وكان نصرانيًّا، قدم على النبي سنة عشر في وفد عبد القيس الأخير، وسر الرسول بإسلامه، وكان حسن الإسلام صلبًا على دينه، وقتل بأرض فارس في خلافة عمر، وقيل بقي إلى خلافة عثمان2. ولو صح ما ذكروه من أنه كان أسقفًا على نجران، لوجب إخراجه إذن من الحنيفية وإدخاله في عداد النصارى. ولكن ليس مؤكدًا أنه كان أسقفًا على ذلك الموضع، ويرى الأب "لامانس" احتمال كونه نصرانيًّا، لأن ما نسب إليه يبعث على هذا الظن3. وقد أدخل الأب "لويس شيخو" قسًا في جملة النصارى الجاهليين، وأورد أكثر ما نسب إليه في ترجمته4. غير أن كثيرًا من هذا المنسوب إليه منسوب إلى غيره. وقد أشار إلى من نسب إليهم من العلماء. وذهب "شبرنكر" إلى أن قسًا كان من "الركوسية"، وهم فرقة عرفهم أهل اللغة بأنهم بين النصارى والصابئين، شملت جماعة من الحائرين في أمر دينهم، ولذلك عمدوا إلى السياحة والترهب والانزواء5. وقد حسبهم العرب نصارى، فأدخلوهم فيهم في أثناء كلامهم على هؤلاء6.

_ 1 البداية والنهاية "2/ 230 وما بعدها". 2 الإصابة "1/ 217 وما بعدها"، "رقم 1042". 3 Ency., II, P, 1161, Sprenger, Leben, I, S. 45. 4 شعراء النصرانية "2/ 211 وما بعدها". 5 تاج العروس "4/ 163". 6 Sprenger, Leben, I, S. 43.

ويرى "لامانس" أنه لو كان قيس شخصية تاريخية حقًّا، فإن زمانه لا يمكن أن يكون في أيام الرسول أو في أيام مقاربة من أيامه. إذ لا يعقل عنده أن يتكون هذا القصص الذي صير قسًا شخصية من الشخصيات الخرافية، لو كان من المعاصرين أو المقاربين له. ثم إن ايادًا لم تكن في أيام الرسول كتلة واحدة، حتى ينسب قس إليها. فلا بد اذن أن تكون أيام هذا الرجل بعيدة بعض البعض عن أيام الرسول1. غير أن حجج "لامانس" المذكورة لا يمكن أن تكون سندًا يؤيد ادعاءه في ان قسًا كان شخصية خرافية، أو أنه كان رجلًا حقًّا، ولكنه كان بعيد العهد عن الرسول. فقد روى الإخباريون قصصًا كثيرًا عن سلمان الفارسي وعن غير سلمان من الصحابة، لا يقل نسيجًا عن نسيج قصص قس، فهل يتخذ هذا القصص حجة لإنكار شخصية سلمان وغيره ممن وزد هذا القصص عنهم؟ وهل يجوز أن نقول إن سلمان إن كان شخصًا حقًّا فوجب أن تكون أيامه بعيدة عن أيام الرسول. ولدى الرواة أبيات ينسبونها إلى بعض الشعراء الجاهليين، هم: الاعشى، والحطيأة، ولبيد، ذكر فيها اسم قس. وقد أشيد فيها بفصاحته وببلاغته وحكمته، حتى جعل لبيد لقمان دون قس في الحكم2. وورد اسم "قس" في هذا الشعر وفي أمثاله إن صح أنه من شعر الجاهليين حقًّا، وورود اسمه في الحديث وفي الأخبار، هو تعبير عن رأي أهل الجاهلية في خطيب مفوه عد في نظرهم المثل الأعلى في الخطابة وممثل البلاغة عندهم فهو كشيوخ الخطباء عند اللاتين.

_ 1 Ency., II, P. 1161. 2 قال لبيد: وأخلف قسا ليتني ولعلني ... وأعيا على لقمان حكم التدبر الإصابة "5/ 285" "قس"، قال الأعشى: وأحلم من قس وأجرى من الذي ... بذى الغيل من خفان أصبح حاردا وفي رواية أخرى: وأحلم من قيس وأجرء مقدمًا ... لذى الدرع من ليث إذا راح حاردا ديون الأعشى "ص 49" "تحقيق R. Geyer". المؤتلف والمختلف "ص 338"، وقال الحطياة: وأقول من قس وأمضى إذا مضى ... من الرمح إذ مس النفوس نكالها المؤتلف والمختلف "ص 338".

وجميع هذا القصص المروي عن قس، هو من النوع الذي يحتاج إلى تمحيص. وقد نسبوا إليه شعرًا، زعموا أنه قاله وهو يبكي بين قبرين بني بينهما مسجدًا، هما قبرا أخويه، على حين أن أكثر الرواة يقولون إن هذا الشعر لغيره، وأن قصة القبرين لا تخص قسًا، بل تخص أناسًا آخرين، وقد كانا في إيران وأصحابهما قبرا فيهما في الإسلام. ورواة هذا الخبر، هم رواة خطبة قس الشهيرة، وهم محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح بن عباس وجماعة آخرون أشار "ابن حجر" إلى بعضهم في كتابه: "الإصابة في تمييز الصحابة"، وقد ضعف ابن حجر هذه الطرق، فقال: "وقد أفرد بعض الرواة طريق حديث قس، وفيه شعره وخطبته، وهو في الطوالات للطبراني وغيرها. وطرقه كلها ضعيفة"1. ثم عرج بعد ذلك إلى ذكر بعض الطرق التي وردت فيها خطبة قس. وأما "زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر"، فهو من قريش من بني عدي، لم تعجبه عبادة قومه، فانتقدها وسخفها وهزي منها ووقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان، ونهى عن قتل الموؤودة، وامتنع من الذبح للأنساب ومن أكل الميتة والدم وما ذبح للأصنام. فكان في آرائه هذه مثل نفر آخر من قريش منهم: ورقة بن نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش، لاموا قومهم على عبادتهم الأصنام، واتخاذ الأنصاب وعبادة ما لا يضر ولا ينفع2. وهم طائفة من المفكرين، رأى بعضهم بلاد الشام، واتصل ببعض المبشرين النصارى، ووقف على التطورات الفكرية في الخارج، ولعله كان يقرأ ويكتب، وله اطلاع على مؤلفات في الفلسفة والدين. وترجع إحدى الروايات سبب خروج "زيد" على عبادة قومه، أنه حضر يومًا وحضر معه في ذلك اليوم "ورقة بن نوفل"، و "عبد الله بن جحش" و "عثمان بن الحويرث"، عيدًا من أعياد قريش، عند صنم من أصنامهم،

_ 1 الأغاني "14/ 40 وما بعدها"، الإصابة "5/ 286". 2 ابن هشام "1/ 244 وما بعدها"، ارشاد اساري "6/ 190"، أسد الغابة "2/ 236"، طبقات الشعراء "ص 66" "طبعة ليدن"، البداية والنهاية "2/ 237"، ابن خلدون، القسم الأول، المجلد الثاني "ص 707"، المسعودي، مروج "1/ 70" "محمد محيي الدين عبد الحميدي" الأغاني "3/ 113"، البخاري "5/ 50" المعارف "27".

كانوا يعظمونه، ويعكفون عنده، أو يديرون به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا، وكانوا ينحرون له، فلما خلد بعضهم إلى بعض وتصادقوا، قالوا ليكتم بعضكم على بعض، واتفقوا على ذلك، ثم قال قائلهم: تعلمون والله ما قولكم على شيئ، لقد أخطئوا دين إبراهيم وخالفوه. ما وثن يعبد؟ لا يضر ولا ينفع فابتغوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب"1. وقد زار زيد الشام والبلقاء، وعاش على خمس سنين قبل البعث، فهو من أولئك الرهط الثائرين على قومهم، والذين أدركوا أيام الرسول. وقد نسبوا إليه شعرًا في تسفيه عبادة قومه، وفي فراقة دينهم وما لقيه منهم. وكان قد أوذي لمقالته هذه في دين قومه، حتى أكره على ترك مكة والنزول بـ "حراء"، وكان "الخطاب بن نفيل" عمه، وقد وكل به شبابًا من شباب قريش وسفهاء من سفائهم كلفهم ألا يسمحوا له بدخول البلدة وبمنعه من الإتصال بأهلها، مخافة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراق ما هم عليه. واضطر زيد إلى المعيشة في هذا المحل، معتزلًا قومه، إلا فترات، كان يهرب خلالها سرًا، ليذهب إلى موطنه ومسكنه، فكانوا إذا أحسوا بوجوده هناك، آلموه وآذوه2. وورد في رواية، يرجع رواتها سندها إلى "هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل"، أي إلى حفيد "زيد"، تذكر أن "زيد" خرج مع "ورقة بن نوفل" يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فسأله عن الدين، فلم يقتنع بالنصرانية، أما "ورقة"، فاقتنع بها وتنصر3. وتذكر رواية أخرى أن "زيد بن عمرو" خرج إلى الشام ومعه: "ورقة بن نوفل"، و"عثمان بن الحويرث"، و "عبيد الله بن جحش"4. ويذكر الرواة أن زيدًا كان

_ 1 البداية "2/ 238"، ابن هشام، سيرة "1/ 242". 2 ابن هشام "1/ 240 وما بعدها" "البابي"، بلوغ الأرب "2/ 251 وما بعدها"، ابن سعد، الطبقات "1/ 162" "طبعة دار صادر"، مروج الذهب "1/ 70" "القاهرة 1958م"، البداية "2/ 238". 3 البداية "2/ 238". 4 البداية "2/ 243".

نديمًا لورقة بن نوفل، فمات ورقة، وخرج زيد إلى الشام، فقتله لخم وجذام1. ويذكر أهل الأخبار أن حرصه على الحنيفية وتمسكه الشديد بها، حمله على السفر إلى بلاد شاسعة بحثًا عنها وعن مبادئها الصحيحة، مبادئ إبراهيم الأصيلة الخالية من كل درن وشائبة. فذهب إلى الموصل والجزيرة، ثم طاف في بلاد الشام حتى انتهى إلى راهب بـ "ميفعة"2 "ببيعة"3 من أرض البلقاء أو "أيلة"، فسأله عما قدم من أجله، فأرشده إلى أن ما يبتغيه ويراه لا يجده في النصرانية، فغادره وتركه، وعاد يريد مكة موطنه. فلما توسط بلاد لخم أو جذام، عدوا عليه وقتلوه. وقالوا أيضًا أنه التقى في أثناء أسفاره هذه بأحبار اليهود وبعلماء من النصارى، ولكنه لم يجسد عندهم ما يطمئن نفسه، وما يرى فيه التوحيد الخالص، ومبادئ إبراهيم، لذلك لم يدخل في ديانة ما من تلك الديانتين، حتى قتل4. وتذكر رواية من الروايات، أن "زيد بن عمرو بن نفيل" مات بالسم في بلاد الشام، سمة بعض ملوك غسان5. وتجعل رواية أخرى مقتله بمكان يقال له "ميفعة" من أرض البلقاء بالشام، وتذكر. أن قتلته هم من بني لخم6. وتذكر رواية أن "ورقة بن نوفل"، لما سمع بخبر وفاته بكاه في شعر له7. وهناك روايات أخرى تفيد رجوع زيد إلى قومه بعد عودته من الشام، ووفاته وفاة طبيعية لا قتلًا بيد إنسان. "توفي وقريش تبني الكعبة قبل أن ينزل الوحي على رسول الله بخمس سنين"، ودفن بأصل حراء8.

_ 1 المحبر "175". 2 ابن هشام "1/ 249". 3 "ببيعة"، البداية "2/ 238". 4 ابن هشام "1/ 249 وما بعدها"، طبقات ابن سعد: الجزء الثالث: القسم الأول "ص 276 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 251 وما بعدها"، "فلما توسط أرض جذام عدوا عليه فقتلوه" المحبر "ص 172"، سير أعلام النبلاء، للذهبي "1/ 90 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 707 وما بعدها"، المسعودي، مروج "1/ 70"، إرشاد الساري "6/ 172 وما بعدها". 5 المسعودي، مروج "2/ 56". 6 البداية "2/ 241". 7 ابن هشام "1/ 249 وما بعدها". 8 طبقات ابن سعد: الجزء الثالث: القسم الأول "ص 277"، البداية "2/ 241".

وفي رواية تظهر عليها سيماء الصنعة، أن الذي أرشد "زيد بن عمرو" إلى الحنيفية، حبر التقى به في بلاد الشام، وعالم نصراني، وذلك أنه كان قد سألهما عن دين صحيح قويم، فأرشداه إلى الحنيفية دين إبراهيم. فدخل فيها وصار يرفع يديه إلى الله ويقول: اللهم إني أشهدك إني على دين إبراهيم1. ونجد في هذه الرواية أسئلة وجهها "زيد" إلى الحبر في البحث عن الله وعن دينه الحق، وأجوبة الحبر عليها. كما نجد أسئلة أخرى ذكر أنه وجهها إلى العالم النصراني، ونجد أجوبة ذلك العالم عليها. وكيف أنهما دلاه على الحنيفية2. وذكر "ابن حبيب" أن زيدًا "أول من عاب على قريش ما هم عليه من عبادة الأوثان"3. وقال عنه "ابن دريد"، وكان قد "ترك دين العرب في الجاهلية وقلاه"4. وقصد بـ "دين العرب" الوثنية ولا شك. وزعم أنه "كان يحيى الموؤودة. يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته مهلًا: لا تقتلها أنا أكفيك مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مؤونتها"5. وقيل أنه كان يقول: "اللهم لو أعلم أي الوجوه أحب إليك سجدت إليه. ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته"6. وأنه كان "يقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم. وكان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله تعالى! إنكارًا لذلك وإعظامًا له"7. أو "يا معشر قريش: أيرسل الله قطر السماء، وينبت بقل الأرض، ويخلق السائمة فترعى فيه، وتذبحونها لغيره! والله ما أعلم على ظهر الأرض أحدًا على دين إبراهيم غيري"8. ويستقبل القبلة ثم يقول:

_ 1 الطبري، تفسير "3/ 306"، صحيح البخاري "5/ 50"، "مطبعة الأزهر بمصر". 2 الأغاني "3/ 126 وما بعدها" "دار الكتاب المصرية"، البداية "2/ 238". 3 المحبر "ص 171". 4 الاشتقاق "ص 103". 5 طبقات ابن سعد، الجزء الثالث: القسم الأول "ص 276 وما بعدها". 6 المحبر "ص 171". 7 أسد الغابة "2/ 236"، طبقات الشعراء "66" "طبعة ليدن"، بلوغ الأرب "2/ 248"، البداية والنهاية "2/ 237"، إرشاد الساري "6/ 171 وما بعدها". 8 الأغاني "3/ 119 وما بعدها".

أنفي لرب البيت عان راغم ... مهما يجشمني فإني جاشم عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل القبلة وهو قائم1 وروي أن أسماء بنت أبي بكر "قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري. ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به. ولكني لا أعلم. ثم يسجد على راحته"2. ثم يصلي إلى الكعبة ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم3. وذكر "ابن دريد" أن "زيد بن عمرو بن نفيل"، أدرك أيام الرسول، ثم قال: "وكان النبي عليه الصلاة والسلام قبل الوحي قد حبب إليه الانفراد، فكان يخلو في شعاب مكة، قال: فرأيت زيد بن عمرو بن نفيل في بعض المشاعب، وكان قد تفرد أيضًا، فجلست إليه وقربت إليه طعامًا فيه لحم، فقال لي يابن أخي إني لا آكل من هذه الذبائح"4. وذكر "ابن دريد"، أن زيد بن عمرو قال شعرًا في تجنبه الأصنام، هو: فلا عزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور أربًا واحدًا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور5 ويفهم من هذا الشعر أن "عزى"، إلهة، أي انثى، وأن لها ابنتين اثنتين. ولم يشر "ابن دريد" إلى اسميهما. وقد صيغت الرواية المتقدمة التي تشير إلى التقاء الرسول بزيد في شكل آخر. صيغت بهذه الصورة: "أتى زيد بن عمرو بن نفيل على رسول الله صلى الله

_ 1 كتاب نسب قريش، للزبيري "ص 364". 2 البداية "2/ 237"، الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 54". البغدادي، خزانة "3/ 99". 3 المصدر نفسه. 4 الاشتقاق "84"، إرشاد الساري "6/ 171 وما بعدها". 5 الاشتقاق "84"، وورد: أربًا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور عزلت اللات والعزى جميعًا ... كذلك يعقل الجلد الصبور فلا عزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور

عليه وسلم، ومعه زيد بن حارثة، وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعواه لطعامهما، فقال زيد بن عمرو: يابن أخي: أنا لا آكل مما ذبح على النصب"1. وورد خبر التقاء "زيد" مع رسول الله في رواية أخرى. يرجع رواتها سندها إلى "زيد بن حارثة". يذكرون أنه قال: خرجت مع رسول الله في يوم حار من أيام مكة، وهو مردفي، فلقينا زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا كل منا صاحبه. فقال النبي: "يا زيد مالي أرى قومك قد شنقوك؟ " فأجابه زيد، بأنه لا يهتم بذلك، وأنه خرج يبتغي دين الله، حتى قدم على أحبار خيبر، فوجدهم يعبدون الله ويشركون به. ثم سأل أحد الأحبار، وهو شيخ منهم عن الدين الذي يبتغيه، فقال له: ما نعلم أحد يعبد الله به إلا شيخًا بالحيرة، فخرج إليه. فلما كلمه قال له: إن الذي تطلب قد ظهر ببلادك قد بعث نبي، قد طلع نجمه. فعاد إلى مكة2. ولو صح هذا الخبر لوجب أن يكون زيد قد أدرك مبعث الرسول. ولكن أهل الأخبار مجمعون على أنه توفي قبل المبعث. وأن الرسول نفسه قال عنه: "يبعث يوم القيامة أمة واحدة". وعلى الخبر سيماء الصنعة والتزويق. ومروي عنه أن قومه كانوا إذا دعوه إلى وليمة، كان يأبى أن يأكل منها قائلًا: "إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه"3. وهكذا كان يقاطع أكل لحوم الحيوانات التي تذبح للأصنام. ويشاركه في الامتناع عن أكل لحوم هذه الذبائح الأحناف الآخرون، فقد روي أن ورقة بن نوفل كان لا يأكل من لحوم هذه الذبائح أيضًا للسبب المذكور4. ويذكر أهل الأخبار أن "زيد بن عمرو بن نفيل" كان إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال: لبيك حقًّا حقًّا، تعبدًا ورقًّا، البر أرجو لا الحال، وهل مهجر لمن قال. ثم يقول: عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل الكعبة وهو قائم5

_ 1 البداية "2/ 238، 240". 2 أسد الغابة "2/ 231". 3 البخاري "5/ 50". 4 الأغاني "3/ 119". 5 الأغاني "3/ 117".

أو "لبيك حقًّا، تعبدًا ورقًّا، عذت بما عاد به إبراهيم"1. وذكر أنه كان يأمر بالتوحيد وبعبادة إله واحد. ومن ذلك قوله: لا تعبدن إلها غير خالقكم ... وإن دعيتم فقولوا دونه حدد2 وزعم إنه كان يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة، فصلى وسجد سجدتين، ثم يقول: هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل لا أعبد حجرًا ولا أصلي له ولا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم بالأزلام، إنما أصلي لهذا البيت حتى أموت. وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي، فيقول: لبيك لا شرك لك، ولا ند لك، ثم يدفع من عرفة ماشيًّا، وهو يقول: لبيك متعبدًا مرقوقًا3. ويروي أهل الأخبار أقوالا أخرى لزيد، كما رووا له أشعارًا زعموا أنه قالها، وهي في هذه الأمور التي ينسبونها إلى الأحناف من ذكر لديانة إبراهيم وللتوحيد ومن ذم إلى الأصنام ومن إصلاح لحال مجتمع ذلك اليوم4. كما رووا له أبياتا من شعر زعموا أنه نظمه يعاتب فيه زوجته "صفية بنت الحضرمي"، لأنها كانت تمانع في خروجه عن مكة وفي سفره إلى الخارج التماسا لهذا الدين5. وتفيد رواية من روايات أهل الأخبار بأن "زيد بن عمرو بن نفيل"، كان في جملة من اشترك في "حرب الفجار"، تقول إنه كان على رأس "بني عدي" وذلك في يوم شمطه6. وروي أن رسول الله سئل عن "زيد بن عمرو"، فقال: "يبعث أمة وحده يوم القيامة" 7، بل روي أنه ترحم عليه، وأنه قال: "رأيته في الجنة يسحب ذيولا" 8.

_ 1 الأغاني "2/ 238". 2 تاج العروس "2/ 331"، "حدد". 3 البداية "2/ 239". 4 الأغاني "3/ 117". 5 ابن هشام، سيرة "1/ 247". 6 البلاذري، أنساب "1/ 102". 7 البخاري "5/ 50"، المعارف "27"، البغدادي، خزانة "3/ 100". 8 ابن سعد، طبقات "3/ 273.

وينسب أهل الأخبار لزيد شعرا، هو من هذا الشعر الذي ينسبوه إلى الأحناف، ذي الطابع الديني، من بحث عن توحيد، وحث على عبادة إله واحد، وإقرار بحساب وكتاب. وأمثال ذلك1. وقد نسب بعض منه إلى "أمية بن أبي الصلت"، ونسب بعض منه إلى شعراء آخرين. كما أن الرواة يروون هذا الشعر بقراءات مختلفة. ومن ولد زيد رجل كان له سبق وقدم في الإسلام، هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. كان من السابقين الأولين ومن المهاجرين، شهد المشاهد والأحداث المهمة، إلا بدرًا، فإنه لم يكن حاضرًا بالمدينة إذا ذاك. وهو أحد العشرة المبشرة. ذكر أنه أسلم قبل دخول رسول الله دار الأرقم، ولا بد أن يكون لرأي والده في دين قومه وما أبداه من ثورة صريحة جامحة على عقائدهم أثر في نشوء هذا الابن وفي إقدامه مع السابقين على الدخول في الإسلام، بعد أن كان والده قد سبق إسلامه برحيله إلى الآخرة بسنين. وأمه "فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد بن خالد بن اليعمر" من خزاعة، ولسعيد أخت اسمها عاتكة بنت زيد2. وذكر "ابن هشام" أن زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، اتفقوا في الرأي والعقيدة، وتعاهدوا على نبذ عبادة قومهم، وما كانوا عليه من ضلال، وتصادقوا، وكونوا عصبة خرجت على عبادة قريش، فلم يشتركوا معهم في أعيادهم، ولم يشاركوا في عبادتهم، وظلوا حتى ماتوا عن عبادة قومهم صابئين3. أما عبيد الله بن جحش بن رئاب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، فقد بقي مرتابا في دين قومه، بعيدا عنهم وعن عبادتهم، حتى إذا ظهر الإسلام دخل فيه، ثم هاجر مع من هاجر إلى الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مسلمة كذلك. فلما صار في الحبشة، فارق الإسلام

_ 1 البداية "2/ 241 وما بعدها". 2 كتاب نسب قريش "365"، الاستيعاب "4/ 365"، الإصابة "2/ 44"، "رقم 3261". 3 ابن هشام "1/ 242" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، المحبر "171، 175،237"، الروض الأنف "1/ 145".

وتنصر، وهلك هناك1. وأما عثمان بن الحويرث، فقد بقي مغاضبًا قومه في دينهم، ثم رأى الذهاب إلى الروم، فذهب إليهم، وتقرب إلى قيصر، وحسنت منزلته عنده، وتنصر ومنحه لقب "بطريق"، وأراد تنصيبه ملكًا على مكة، ولكن قومه أبوا عليه ذلك، فلم يتم له مراده، ومات بالشام مسمومًا، سمه عمرو بن جفنة الغساني2. وذكر "الزبيري"، أن والدة "عثمان بن الحويرث"، هي "تماضر بنت عمير بن أهيب بن حذاقة بن جمح"3. وأنه خرج إلى "قيصر فسأله أن يملكه على قريش، وقال: أحملهم على دينك، فيدخلون في طاعتك، ففعل، وكتب له عإدًا وختمه بالذهب، فهابت قريش قيصر، وهموا أن يدينوا له، ثم قام الأسود بن المطلب أبو زمعة، فصاح، والناس في الطواف: إن قريشًا لقاح، لا تملك ولا تملك، فاتسعت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان مما جاء له، فمات عند ابن جفنة، فاتهمت بنو أسد بن جفنة بقتله"4. وكان ابن جفنة حبس أبا ذئب عنده، وأبا أحيحة بسبب عثمان بن الحويرث5. ويقصدون بابن جفنة: عمرو بن جفنة الغساني6. وتذكر إحدى الروايات، إن وفاة "عثمان بن الحويرث" كانت بالشام، وقد مات عند قيصر، وكانت وفاته قبل المبعث بثلاثين سنة، أو نحوها. وقد رثاه "زيد بن عمرو بن نفيل"7، وورقة بن نوفل8. ويعد "عثمان بن الحويرث" من أشراف "بني أسد" من قريش9. وقد كان مع "خويلد بن أسد" على رأس "بني أسد" في "حرب الفجار"10.

_ 1 ابن هشام "1/ 243"، المحبر 76، 88، 172، 173"، البداية "2/ 243". L KrehI Das Leben Muhammad 2 ابن هشام "1/ 243"، الاشتقاق "ص59"، المحبر "165، 170، 171، 175، 307" الروض الأنف "1/ 146". 3، 4 كتاب نسب قريش "209 وما بعدها"، وذكر صاحب "المحبر" أن أمه من الحبشيات "307". 5 الحبشيات "307", 6 جمهرة ابن حزم "190". 7 البداية "2/ 243".ط 8 كتاب نسب قريش "210". 9 المحبر "165". 10 المحبر "170".

وكان ينادمه "شيبة بن ربيعة بن عبد شمس". وقد تنصرا جميعًا، وقتل شيبة يوم بدر كافرًا1. وأما "أمية بن أبي الصلت"، فهو أحسن الحنفاء حظًّا في بقاء الذكر، بقي كثير من شعره، وربما وضع كثير منه على لسانه، وحفظ قسط لا بأس به من أخباره. وسبب ذلك بقاؤه إلى ما بعد البعث، واتصاله بتاريخ النبوة والإسلام اتصالا مباشرًا وملاءمة شعره بوجه عام لروح الإسلام، لم يكن مسلمًا ولم يرض أن يدخل في الإسلام، لأنه كان يأمل أن تكون النبوة فيه، وأن ينزل الوحي عليه، فيكون نبي العرب والعالم أجمعين، فلما رأى النبوة في الرسول، حسده، وأثار المشركين عليه، ورثى قتلاهم في معركة بدر، وحرض قريشًا عليه، حتى مات على حسده وعناده سنة تسع للهجرة بالطائف قبل أن يسلم قومه الثقفيون. ولم يمت مسلمًا، ولم يمت على دين الوثنيين من قومه: بل مات كافرًا بالديانتين2. وقد جاء في بعض الروايات، إن وفاة "أمية"، كانت في السنة الثانية من الهجرة3. وورد في روايات أخرى أنه توفي سنة تسع للهجرة، كافرًا قبل أن يسلم الثقفيون4. ورثاؤه قتلى معركة بدر، محفوظ في قصيدة حائية. مطلعها: ألا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولى الممادح كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الغصن الصوادح

_ 1 المحبر "175". 2 الأغاني "4/ 120 وما بعدها"، "طبعة دار الكتب المصرية"، ابن هشام "1/ 11، 48،61، 63، 68"، "2/ 16،321، 401،406"، "3/ 65" "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، شرح السيرة النبوية، لأبي ذر بن محمد بن مسعود الخشني "1/ 23،24"،"تحقيق بولس بروفله" نسب قريش "98"، جمهرة الأنساب "257"، ابن قتيبة، الشعراء "429"، شعراء النصرانية "2/ 219 وما بعدها"، الأغاني "16/ 69"،الحيوان للجاحظ "2/ 320"، خزانة الأدب "1/ 119"، الشعر والشعراء "176"، النووي، تهذيب الأسماء "1/ 126"، Ency IV p 997" 3 تاريخ الخميس "1/ 412"، الأغاني "4/ 124، 129"، الشعر والشعراء "1/ 369". 4 الإصابة "1/ 134"، "رقم 552".

وهي قصيدة يتوجع فيا أمية لسقوط قتلى المشركين، ودفنهم بالقليب، وفيهم "عتبة" و"شيبة" ابنا "ربيعة بن عبد شمس"، وهما ابنا خالة أمية، وقد ذكر بعض الرواة أن الذي حمله على قول هذا الشعر، هو أنه لما وصل إلى القليب موضع مدفن قتلى قريش بدر، وكان ذاهبا إلى المدينة يريد الدخول في الإسلام، قال له بعض من كان معه من غلاط الأكباد من المشركين: هل تدري ما في هذا القليب؟ قال: لا. قيل: فيه شيبة وربيعة وفلان وفلان. فجدع أنف ناقته، وشق ثوبه، وبكى، وعاد إلى الطائف1. وذكر أن أمية نال في بيتين من هذه القصيدة من أصحاب رسول الله، ولذلك أهملهما "ابن هشام" صاحب السيرة2. وذكر أيضًا أن النبي نهى عن روايتهما3. ولكن الرواة رووها وحفظوها ودونوها في الكتب، فكيف تجرؤوا على حفظها وتدوينها لو صح أن النبي نهى عن روايتها على نحو ما يزعمه أهل الأخبار. وأمية مثل سائر المتألهين الآخرين من طبقة الحنفاء، سافر إلى الشام، واتصل بأهلها، وأوى إلى الأديرة ورجال الدين يسأل منهم عما يهمه من مشكلات دينية وعما كان يجول في خاطره من عبادة قومه وحقيقة العالم، وكان تاجرًا، يذهب مع التجار في قوافلهم إلى تلك الديار التي كانت في أيدي الروم. ثم إنه كان على ما يظهر من الروايات التي وردت في ترجمته وسيرته قارئًا كاتبًا، قرأ الكتب، ووقف عليها، ومنها ومن اتصاله برجال الدين وبأهل الكتاب تكونت عنده فكرته عن الدين، وشكه في عبادة قومه وفيما كانوا عليه من عقائد وعبادات. وقد بدا هذا التأثر في الكلمات والمصطلحات الأعجمية والغربية المستعملة في شعره وفي الأمثلة والقصص المنتزع من الكتابين: للعهد القديم والعهد الجديد ومن موارد وأمية مثل سائر المتألهين الآخرين من طبقة الحنفاء، سافر إلى الشام، واتصل بأهلها، وأوى إلى الأديرة ورجال الدين يسأل منهم عما يهمه من مشكلات دينية وعما كان يجول في خاطره من عبادة قومه وحقيقة العالم، وكان تاجرا، يذهب مع التجار في قوافلهم إلى تلك الديار التي كانت في أيدي الروم. ثم إنه كان على ما يظهر من الروايات التي وردت في ترجمته وسيرته قارئا كاتبا، قرأ الكتب، ووقف عليها، ومنها ومن اتصاله برجال الدين وبأهل الكتاب تكونت عنده فكرته عن الدين، وشكه في عبادة قومه وفيما كانوا عليه من عقائد وعبادات. وقد بدا هذا التأثر في الكلمات والمصطلحات الأعجمية والغربية المستعملة في شعره وفي الأمثلة والقصص المنتزع من الكتابين: للعهد القديم والعهد الجديد ومن موارد

_ 1 ابن هشام "2/ 401 وما بعدها"، راجع القصيدة في "ص20"، من ديوان أمية، بيروت 1934، بلوغ الأرب "2/ 256"، خزانة الأدب "1/ 119"، الحيوان، للجاحظ "2/ 329"، الشعر والشعراء "176"،البيان والتبيين "1/ 291" المسعودي، مروج "1/ 73" محمد محيي الدين عبد الحميد" "1958م"، الأغاني "119 وما بعدها"، خزانة الأدب "2/ 39 وما بعدها"، الأغاني "4/ 122"، الإصابة "1/ 134"، "رقم 552". 2 ابن هشام "2/ 405". 3 الأغاني "4/ 123" "ذكر أمية بن أبي الصلت ونسبه وخبره"، بروكلمان، تاريخ الأدب العربي "1/ 113".

أخرى عديدة من الموارد الشائعة المستعملة عند أهل الكتاب1. وقد ورد في بعض الأخبار أن أمية سافر مرة مع أبي سفيان والد معاوية في تجارة إلى بلاد الشام، فكان كلما نزل منزلا أخذ فيه سفرا له يقرأه على من معه، كما كان يزور علماء النصارى ويتباحث معهم، وكان يلبس ثوبين أسودين حينما يقابلهم2. ولم تذكر الرواية شيئًا عن السفر أو الأسفار التي كان يقرأ منها أمية ويشرحها لمن معه من التجار. وتذكر رواية أخرى أنه كان قد بلغ مع "أبي سفيان" غزة أو "إيلياء"3. ولأمية في هذا اليوم ديوان ضم أكثر ما نسب إليه من شعر. كما أن في بطون كتب الأدب والأخبار أشعار أخرى لم يرد لها ذكر في هذا الديوان. ومعظم شعره هو عن الدين والآخرة وعن الجنة والنار، والحساب والكتاب، وقد تضمن إشارات إلى حوادث وقعت في أيامه، أو في أيام قريبة من أيامه مثل قصة الفيل، كما تضمن بعض قصص الأنبياء، ولتعرض شعره إلى هذه النواحي نعت بشاعر الآخرة4. ومما ذكره الإخباريون ورواة شعر أمية من أمثلة على استعماله للكلم الغريب، أنه استعمل "الساهور" للقمر، وهي كلمة لا تعرفها العرب، وإنه ذكر "السطيط"، أسماء لله تعالى. وأنه أطلق كلمة "التغرور" على الله تعالى في موضع آخر من شعره، وأنه سمى السماء "صاقورة" و"حاقورة" وأنه استعمل أشياء أخرى من هذا القبيل. ولولعه هذا باستعمال الغريب، رفض علماء اللغة الاحتجاج بشعره5.

_ 1 الأغاني "4/ 121 وما بعدها" "طبعة دار الكتب المصرية"، "وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب، يأخذها من الكتب المتقدمة، أو بأحاديث أهل الكتاب" الشعر والشعراء "1/ 369". 2 البداية والنهاية، لابن كثير "2/ 220"، الأغاني "4/ 123 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية". 3 البداية والنهاية "2/ 224". 4 تاريخ الأدب العربي، لبروكلمن "1/ 113" "الترجمة العربية"، عيون الأخبار، لابن قتيبة "6/ 374"، الحيوان "7/ 321" "عبد السلام محمد هارون"، البيان والتبيين "1/ 291". 5 الأغاني "4/ 121 وما بعدها"، شعراء النصرانية "2/ 219"، ديوان أمية فحول الشعراء "جمع بشير يموت" "بيروت 1934م""ص5 وما بعدها". سيرة ابن هشام "1/ 48".

والساهور، كلمة آرامية الأصل من أصل "سهرو" SahroK بمعنى القمر، أي تمامًا بالمعنى الوارد في شعر أمية1. وهذا الشعر المنسوب إلى أمية وغريبه خاصة مادة مهمة جدًّا تجب دراستها بعناية، لمعرفة مبلغ صحة ما جاء في أخبار الرواة عن هذه الكلمات وعن أصولها ومواردها الأولى، إن صح إنها من أشعار تلك الأيام حقًّا، إذ ترشدنا أمثال هذه الدراسات إلى معرفة المنابع التي استقى منها هذا الشاعر علمه وإلهامه ومدى تأثره وتأثره أمثاله من الجاهليين بالآراء والتيارات الفكرية التي كانت في مكة وفي خارج جزيرة العرب قبيل الإسلام. وقد روى الإخباريون قصصًا عن التقاء أمية بالرهبان، وعن توسمهم معالم النبوة فيه، فكانوا يسألونه أسئلة تستخرج من أجوبتها في نظرهم معالم النبوة. فلما كانوا يقفون على الأجوبة، يقولون له: كادت النبوة تكون فيه، لولا بعض النقص في علاماتها عنده، كما رووا قصصًا عن شق طيرين لقلب هذا الشاعر، لتنظيفه، وتهيئة النبوة فيه. ولكنهما عندما وقفا عليه لم يجدا أن النبوة خلقت له2. وقد حاكى أهل الأخبار قي قصصهم هذا ما رواه رجال السير عن علامات النبوة عند الرسول3. كذلك رووا أنه كان يتفرس في لغات الحيوانات، فيعرف ما تقوله وما تريده ويقصه على الناس وإنه كان يسخر الجن، وكانت تطيعه، وأنه تنبأ بموته حينما نعب عليه الغراب4. فجعلوه بأخبارهم هذه في مرتبة تضاهي سليمان في علمه بمنطق الطير وبقية الحيوانات5. وذكر "ابن دريد": "كان بعض العلماء يقول له لولا النبي صلى الله عليه وسلم، لادعت ثقيف أن أمية نبي، لأنه قد درس النصارى وقرأ معهم، ودارس اليهود وكل الكتب قرأ"6. وتشبه قصة تنظيف الطيرين لقلب أمية، وهي القصة التي أشرت إليها قبل

_ 1 غرائب اللغة العربية "ص189". 2 الأغاني "4/ 123 وما بعدها"، شعراء النصرانية، الجزء الثاني "ص219". ابن سلام، طبقات فحول الشعراء "220 وما بعدها" "دار المعارف Sprenger, Leben, I, s. 119, M. cl. Huart, Le Livre de La Creation Et de L'histoir, I, pp. 55, 153, 155, 156, 190, 191, 195. 4 البداية والنهاية "2/ 227 وما بعدها". 5 النمل، الآية 15 وما بعدها. 6 الاشتقاق "ص184".

قليل، خبر "حليمة السعدية" مرضعة الرسول لصدر النبي. ورواة قصة شق صدر أمية وتنظيف قلبه هي من أهل الطائف، ويرجعون سند قصتهم إلى أخت أمية المسماة "الفارعة"، "وكانت ذات لب وعقل وجمال، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم بها معجبا"1، وقد وفدت عليه، فلما سألها عن شعر أخيها كما يقول الرواة، قصت عليه قصة الطيرين، كما قصت عليه قصة وفاته" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها"2. ويشير القصص الوارد عن التقاء "أمية" بالأحبار وبالرهبان وباتصاله بهم، إلى أن أمية كان يرجو أن يكون نبيا، وأنه كان يعتقد بقرب ظهور نبي وتأمله أن يكون هو ذلك النبي المرتجي: ألا نبي منا فيخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس مجرانا3 وقد كسف وتألم كثيرًا وأكل الحسد قلبه، حين فلت الأمر منه، إذ سمع بإعلان الرسول رسالته، ودعوة الناس إلى دين الله، الذي كان أمية نفسه يدعو إليه. وقد ورد أنه لما سمع بنبوة الرسول قال: "إنما كنت أرجو أن أكونه"4. ويروي أهل الأخبار أن أمية كان قد مات وهو معتقد بأن الحنيفية حقٌّ إذ رووا أنه قال في مرض موته، "قد دنا أجلي، وهذه المرضة فيها منيتي وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد. وقال: لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر". وفي جملة ما رووه عنه، أنه عرف مجيء يومه من نعيب غراب، نعب على مقربة منه. فحدث القوم بما سمعه من الغراب، وكان يعرف منطقه، وقال لهم

_ 1 البداية والنهاية "2/ 224 وما بعدها". 2 البداية والنهاية "2/ 224 وما بعدها"، تهذيب ابن عساكر "3/ 127"، مروج "1/ 57 وما بعدها"، الطبرسي، مجمع "7/ 63 وما بعدها"، الطبري، تفسير "9/ 121" "طبعة البابي"، تفسير ابن كثير "2/ 264"، شرح الشهاب على البيضاوي "4/ 236". 3 البداية والنهاية "2/ 227" تهذيب ابن عساكر "3/ 127"، تاريخ الخميس، "1/ 412. 4 الأغاني "4/ 123 وما بعدها".

أنه سيموت وذكر علامة ذلك، فكان أن مات على نحو ما قال للقوم1. وذكر أيضًا أنه لما كان على فراش الموت محتضرًا أفاق عدة مرات، وكان يتلو في كل مرة: "لبيكما لبيكما"، ها أنذا لديكما"، ثم يتلو هذا الكلام بكلام آخر فيه توسل وتضرع إلى الإله، إلى أن أفاق للمرة الأخيرة، فقال شعرًا بين فيه أن الموت أمر لا بد منه، وأنه هالك في هذه المرة لا محالة، ثم هلك، دون أن يؤمن بالرسول2. وهذا القصص الوارد عن أمية، وهو -بالطبع- من القصص المصنوع الموضوع، مثل كثير من أخباره وأخبار غيره، قص على ذوي القلوب الطيبة من الرواة والإخباريين، فأخذوه ونقلوه كما نقلوا ما شاء الله من الإسرائيليات والأساطير، وروي على أنه مما كان يعلمه الأحبار والرهبان والخاصة من أهل الكتاب. ولا أستبعد أن يكون هذا القصص قد ظهر في أيام الحجاج عصبية وتقربًا إليه، فقد كان الحجاج من ثقيف، وكان أمية من ثقيف كذلك. وقد أنتج الوضاعون في أيامه شيئًا كثيرًا من الأخبار في قبيلة ثقيف، كما أنتجوا شيئًا في ذمها وفي ذم رجالها نكاية به. وقد يكون في قول "الحجاج" حين سئل عن شعر أمية، شيء من التوجع والتألم أو المبالغة في تقديره حين قال: "ذهب قوم يعرفون شعر أمية، وكذلك اندراس الكلام". وقد يكون كلام الحجاج غير ذلك، لو كان أمية من قبيلة أخرى. ونحن نستطيع إدخال قول من قال عن "أمية" "قيل أنه كان نبيا"3 في جملة هذه الدعاوي التي وضعت في هذا العهد، للرفع من شأن "ثقيف" ومن الرد على المتهجمين عليها الطاعنين حتى في نسبها الذين جعلوا "ثقيفًا" من بقية "ثمود"، وأيدوا قولهم هذا بحديث زعموا أن الرسول قاله: "ثقيف من

_ 1 البداية والنهاية "2/ 227". 2 الأغاني "4/ 125 وما بعدها"، ابن سلام، طبقات فحول "ص220 وما بعدها". الإصابة "1/ 134"،"رقم 552". 3 تهذيب ابن عساكر "3/ 115".

ثمود"1، وجعلوه من عبد لأبي رغال، وأبو رغال نفسه الذي نسب عبده إليه، أي جد ثقيف، هو في نظر العرب وقريش خاصة سبة2. ويذكرون عنه أنه بعد أن صبأ عن قومه وتحنف، لبس المسوح على زي المترهبين الزاهدين في هذه الدنيا، ورافق الكتب ونظر فيها، ليستلهم منها العلم والحكمة والرأي الصحيح، ثم حرم الخمر على نفسه مثل بقية المتألهين، وتجنب الأصنام، وصام، والتمس الدين، وذكر إبراهيم وإسماعيل، وأنه كان أول من أشاع بين قريش افتتاح الكتب والمعاهدات والمراسلات بجملة: "باسمك اللهم، وهي الجملة التي نسخت في الإسلام بجملة: "بسم الله الرحمن الرحيم"3. ويذكر أهل الأخبار أن أمية أخذ جملة: "باسمك اللهم" من شيخ كان منطويًا على نفسه في برية نائية، وذلك حينما ألح عليه قوم كانوا معه من قريش في عير لهم، كانت قد نفرت، بأن يجد طريقة لطرد حية كانت تظهر بين إبلهم فتنفرها، فذهب إلى ذلك الشيخ واستشاره في طريقة تبعد عنهم أذى تلك الحية، فأشار عليه باستعمال تلك الجملة، فهربت الحية ونفرت منهم، وقد كان سبب ظهور تلك الحية كما يذكر أهل الأخبار، هو أن رجلا من القوم هو: "حرب بن أمية بن عبد شمس" كان قد قتل حية فقررت زميلتها الانتقام من قتلتها، فقتلته الجن انتقامًا منه بثأر تلك الحية. وهربت الجن عند سماعها تلك الجملة. وإليه أشير كما يقول أهل الحجاز الأخبار بقولهم: وقبر حرب بمكان فقر ... وليس قرب قبر حرب قبر فحرب هذا المذكور في هذا البيت، هو حرب بن أمية، وأما الشيخ فكان رجلا من الجن4.

_ 1 الأغاني "4/ 307" "دار الكتب". 2 الأغاني "4/ 302" "دار الكتب". 3 المسعودي، مروج "1/ 571 وما بعدها"، ديوان، أمية "المقدمة" لبشير يموت "بيروت 1934"، ابن خلدون "1/ 177 وما بعدها"، "بيروت 1961م"، التنبية والإشراف "359"، "مكتبة الخياط". 4 الحيوان للدميري "2/ 195"، الأغاني "4/ 122 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية".

ويذكر أنه لم يكن يرتضي من الأديان غير دين الحنيفية دينا. وأنه قال ذلك في شعر له: كل دين يوم القيامة عند الله ... إلا دين الحنيفية زور1 وأنه كان يعظم الله في شعره ويكبره ويحمده، ويرى أنه إله واحد لا شريك له، وأن من يشرك به أحدا فقط ظلم نفسه: الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنقسه ظلما2 وهناك من يروي أن "النابغة الجعدي"، كان يدعي أن هذا البيت وما بعده هو من نظمه. قال ذلك أمام "الحسن بن علي بي أبي طالب"3. 1ويروى أن النبي كان يسمع شعر أمية، وأن "الشريد بن سويد" "الشريد بن عمرو" الثقفي، كان ينشد له شيئًا منه، في أثناء أحد أسفاره، فكان كلما أنشد له شيئًا منه، طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشده مئة بيت، قال النبي له: كاد ليسلم، أو كان ليسلم في شعره. وذكر أن الرسول قال في حديث له عنه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه4. وأنه لما سمع شعره في الدين والحنيفية ومطلعه: الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربي ومسانا قال: "إن كاد أمية ليسلم"5.

_ 1 الأغاني "3/ 112"، البغدادي، خزانة الأدب "2/ 39"، شيخو، شعراء النصرانية، الجزء الثاني "912"، ابن هشام، السيرة "1/ 40" "2/ 982"، الأغاني "4/ 123" "دار الكتب"، الإصابة "1/ 130" "طبعة السعادة". 2 المسعودي، مروج "1/ 70". 3 طبقات ابن سلام "106 وما بعدها"، الأغاني "5/ 10". 4 صحيح مسلم "كتاب الشعر"، "7/ 48" "طبعة محمد علي صبيح" طبقات ابن سعد: "5/ 376"، "الشريد بن سويد" "الرشيد بن سويد"، بلوغ الأرب "2/ 253 وما بعدا"، المعارف، لابن قتيبة "28"، المزهو "2/ 309"، خزانة الأدب "1/ 227"، ابن سعد "5/ 376"، الشعر والشعراء "1/ 369" الإصابة "1/ 134"، "رقم 552". 5 الأغاني "4/ 132 وما بعدها" "دار الثقافة"، شرح الشهاب على البيضاوي "4/ 236"، تفسير ابن كثير "2/ 264"، ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري "1/ 26".

وروي عن "ابن عباس"، إن الرسول لما سمع شعر "أمية": زحل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصدا1 قال: صدق أمية. وفي رواية أنه: "كان قرأ الكتب القديمة، وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فاتفق أن خرج إلى البحرين، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام هناك ثماني سنين. ثم قدم، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جماعة من أصحابه، فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه سورة يس، حتى إذا فرغ منها، وثب أمية يجر رجليه، فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية؟ فقال: أشهد أنه على الحق. قالوا: فهل نتبعه؟ قال: حتى أنظر في أمره. فخرج إلى الشام، وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم، فلما أخبر بها، ترك الإسلام. وقال: لو كان نبيًّا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات"2. وفي هذه الرواية المنسوبة إلى الزهري، عن سماع أمية بن أبي الصلت بنبوة النبي وهو في البحرين، ثم مجيئه إلى مكة والتقائه بالرسول ومحاجته له في ظل الكعبة، ثم انكسافه وتراجعه وذهابه إلى الشام، ثم عودته منها3، تكلف ظاهر، وفي تفاصيلها ما يناقض بعضه بعضًا. وورد في رواية أخرى، أن أمية بن أبي الصلت قدم المدينة فقال للنبي: ما هذا الذي جئت به؟ فقال الرسول: الحنيفية دين إبراهيم. قال: فأنا عليها. فقال عليه الصلاة والسلام لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال: أمات الله تعالى الكاذب منا طريدًا وحيدًا، ثم خرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا للسلاح، ثم أتى قيصر، وطلب منه جندًا، ليخرج النبي

_ 1 الإصابة "1/ 129"، الإصابة "1/ 134"، "رقم 552". "القاهرة 1939م". 2 اروح المعاني "9/ 112 وما بعدها"، تاريخ الخميس، للديار بكري "1/ 412"، مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي "7/ 63 وما بعدها"، "بيروت 1957م". 3 راجع البداية والنهاية "2/ 220".

من المدينة، فمات بالشام طريدا وحيدا، وهي قصة ينسب وقوعها إلى "أبي عامر" الراهب، كما سبق أن تحدثت عن ذلك1. وتخالف هذه الرواية الروايات المألوفة الواردة إلينا عن وفاة "أمية" بالطائف. وتزعم إحدى الروايات، أن أمية كان قد أخذ ابتيه وهرب بهما إلى أقصى اليمن، وذلك حين بعث النبي. ثم عاد إلى الطائف، فبينما هو يشرب مع إخوان له في قصر بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة في القصر فنعق، وأدرك أمية أنه ميت، لأنه عرف منطق الغراب، وحدث القوم بذلك في قصة مفصلة تجدها في الكتب ثم مات2. وقصة الشرب هذه تناقض ما يذكر عنه أهل الأخبار من إنه كان لا يقترب من الخمر، ومن إنه كان قد حرمها على نفسه، شأنه في ذلك شان بقية الأحناف. كذلك يناقض خبر تحريمة الخمر على نفسه، خبر آخر، خلاصته إنه كان يشرب يوما مع عبد الله بن جدعان، فأخذ الشراب برأس "ابن جدعان"، وأصاب عين أمية، فلما كان اليوم الثاني وجلس أيضًا للشرب معه، سأل "عبد الله" أمية عن سبب الألم البادي على عينه، فلما أخبره بأنه كان هو سببه، ترك "ابن جدعان" الخمر استحياء مما فعله وقال شعرا في سبب تركه الخمر. ويقول أهل الأخبار: "ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية، إلا ترك الخمر استحياء مما في من الدنس"3. وتؤيد قصة ذهاب "أمية" إلى اليمن وسكنه أمدا هناك قصة ينتهي سندها بـ "أبي سفيان"، خلاصتها إنه كان قد ذهب في ركب من قريش إلى اليمن في تجارة، فمر بأمية، وقال له كالمستهزئ به: يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته؟ فأجابه أمية: إما إنه حق فأتبعه، وقال له قولا يتنبأ فيه بمصير أبي سفيان وكيف سيؤتى به إلى الرسول، فيحكم فيه كما يريد4. ففي هذه القصة توكيد بخروج أمية إلى اليمن حين بعث الرسول وبمكوثه زمانا هناك. وذكر أنه الشخص الذي نزلت في حقه الآية: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ

_ 1 روح المعاني "9/ 111"، تفسير الطبرسي "3/ 500"، "طبعة طهران". 2 الأغاني "4/ 130 وما بعدها"، الإصابة "1/ 129". 3 الأغاني "8/ 332". 4 البداية والنهاية "2/ 224".

آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} 1، وهي آية قيل أيضًا إنها نزلت في "بلعام بن باعور" "بلعم بن أبر"، "بلعام بن باعرا"، أو في زوج البسوس،، أو في "النعمان بن صيفي الراهب"2. وأمية كأكثر الشعراء له شعر في المدح وله تعريض. وأكثر مدحه في "ابن جدعان" من أجود العرب المعروفين المشهورين في الجاهلية3. وهو في المدح أو في الرثاء أو في كل مناسبة أخرى، مستعمل لكلمات ذات صلة بالدين وبالأفكار الدينية ولمصطلحات لا ترد إلا نادرًا في الأشعار المنسوبة إلى الشعراء الجاهليين، مما يدل على غلبة التفكير الديني عليه، وتأثير ما قرأه أو أخذه من غير العرب فيه. سئل الأصمعي عن شعر أمية، فقال: "ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة وذهب عنترة بعامة ذكر الحرب، وذهب عمر بن أبي ربيعة بعامة ذكر الشباب"4. ووالد "أمية"، هو "عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف الثقفي" أو "ربيعة بن وهب بن علاج بن أبي سلمة" الثقفي على رواية "الزبيري"5. أما أمه فهي "رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف". وقد كان والده شاعرًا. ذكر أنه مدح "سيف بن ذي يزن"6. ومن الرواة من ينسب القصيدة التي تنسب إلى والد أمية، والتي هي في مدح "سيف بن ذي يزن"، إلى أمية نفسه. وفي القصيدة إشارة إلى ذهاب "سيف بن ذي يزن"، إلى هرقل، فلما لم يجد منه أية مساعدة أو اهتمام، عافه، وذهب إلى كسرى، حيث وجد منه مساعدة، فجاءت إليه بعد سنين

_ 1 الأعراف، الآية 175، الأغاني "4/ 125 وما بعدها" "بيروت"، تفسير الطبري "9/ 82 وما بعدها". 2 روح المعاني "9/ 111"، تفسير الطبرسي "3/ 499 وما بعدها". 3 المحبر "ص138"، ديوان أمية بن أبي الصلت: تحقيق "فريدرش شولتس" FrIedrich SchuIthere المطبوع بمدينة "لايبزك" سنة 1911، وكذلك ديوانه المطبوع ببيروت سنة 1934م. جمع بشير يموت التبريزي، شرح ديوان الحماسة "4/ 145"، الأغاني "8/ 328"، تهذيب ابن عساكر "3/ 123"، ابن هشام "3/ 141. 4 الإصابة "1/ 129"، الأغاني "4/ 130 وما بعدها". 5 نسب قريش "98". 6 الأغاني "4/ 120 وما بعدها، الشعر والشعراء "1/ 369"، "بيروت"، تهذيب ابن عساكر "3/ 115"، اليعقوبي "1/ 22" "4/ 120 وما بعدها"، الأزرقي، تاريخ مكة "1/ 93". جمهرة الأنساب "257".

من تعب ومواظبة1. وينسب إلى أمية شعر، ذكر أنه افتخر فيه بـ نزار" وبـ"معد"، وبقبيلة "إياد"، حيث نعتهم بـ "قومي إياد"2. ويتلخص ما جاء في شعر هذا الشاعر من عقائد وآراء في الاعتقاد بوجود إله واحد، خلق الكون وسواه وعدله، وأرسى الجبال على الأرض، وأنبت النبات فيها، وهو الذي يحيي ويميت، ثم يبعث الناس بعد الموت ويحاسبهم على أعمالهم، وليجازيهم بما كسبت أيديهم، فريق في الجنة وفريق في النار، يساق المجرمون عراة إلى ذات المقامع والنكال مكبلين بالسلاسل الطويلة وبالأغلال، ثم يلقى بهم في النار يصلونها يوم الدين، يبقون فيها معذبين بها، ليسوا بميتين، لأن في الموت راحة لهم، بل قضى الله أن يمكثوا فيها خالدين أبدًا3. أما المتقون، فإنهم بدار صدق ناعمون تحت الظلال، لهم ما يشتهون، فيها عسل ولبن وخمر وقمح ورطب وتفاح ورمان وتين وماء بارد عذب سليم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وحور لا يرين الشمس فيها، نواعم في الأرائك قاصرات، على سرر ترى متقابلات، عليهم سندس وجياد ريط وديباج، وحور بأساور من لجين ومن ذهب وعسجد كريم، لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا غول ولا فيها مليم، وكأس لا تصدع شارييها، يلذ بحسن رؤيتها النديم، تحتهم نمارق من دمقس، فلا أحد يرى فيهم سئيم. أما المتقون، فإنهم بدار صدق ناعمون تحت الظلال، لهم ما يشتهون، فيها عسل ولبن وخمر وقمح ورطب وتفاح ورمان وتين وماء بارد عذب سليم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وحور لا يرين الشمس فيها، نواعم في الأرائك قاصرات، على سرر ترى متقابلات، عليهم سندس وجياد ريط وديباج، وحور بأساور من لجين ومن ذهب وعسجد كريم، لا لغو فيها ولا تأثيم، ولا غول ولا فيها مليم، وكأس لا تصدع شارييها، يلذ بحسن رؤيتها النديم، تحتهم نمارق من دمقس، فلا أحد يرى فيهم سئيم. وللوقوف على آراء "أمية"، وعلى معتقداته الدينية يجب الرجوع بالطبع إلى أشعاره وما نسب إليه من كلام. ففي هذا التراث الذي تغلب عليه النزعة الدينية والحكمية، تتمثل آراء ذلك الشاعر الجاهلي الذي أدرك أوائل المبعث، وهي آراء قريبة جدًّا من الإسلام، وبعضها يكاد يكون قولا إسلاميا في لفظه وفي معناه مسبوكا في شعر. وفي هذا الشعر قصص الرسل والأنبياء: آدم ونوح وقصة

_ 1 كتاب التيجان، لوهب، "307"، الشعراء والشعراء لابن قتيبة "1/ 369"، بروكلمان "1/ 114"، Schuthesi OrIent Studien 2 الأغاني "4/ 120"، "8/ 327 وما بعدها" شعراء النصرانية "2/ 234". 3 وسيق المجرمون وهم عراة ... إلى ذات المقامع والنكال ديوان أمية "49". جهنم تلك لا تبقي بغيًّا ... وعدن لا يطالعها رجيم ديوان أمية "53"، "بشير يموت".

طوفانه، والغراب والحمامة1، وقصة ذي القرنين وبلقيس وحكاية الهدهد2، وقصة إبراهيم وتقديم ابنه للذبح، وداود، وفرعون، وموسى، وابن عاد3. وعيسى وأمه مريم وكيفية حملها به، فوصف ذلك بانيا وصفه على نحو ما جاء في القرآن الكريم عن تكون عيسى، مضيفا إلى ذلك زيادات في حديث مريم مع الملائكة وجواب الملائكة لها4. كما أورد في الشعر قصة "لوط أخي سدوم"5. وهي من القصص المذكور في التوراة، وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل6. وفي أكثر ما نسب إلى هذا الشاعر من آراء ومعتقدات دينية، ووصف ليوم القيامة والجنة والنار، تشابه كبير وتطابق في الرأي جملة وتفصيلا لما ورد عنها في القرآن الكريم. بل نجد في شعر أمية استخدامًا لألفاظ وتراكيب واردة في كتاب الله وفي الحديث النبوي، فكيف وقع ذلك؟ وكيف حدث هذا التشابه؟ هل حدث ذلك على سبيل الاتفاق أو أن أمية أخذ مادته من القرآن الكريم، أو كان العكس، أي أن القرآن الكريم هو الذي أخذ من شعر أمية فظهرت الأفكار والألفاظ التي استعملها أمية في آيات الله وسوره؟ فكتاب الله إذن هو صدى وترديد لآراء ذلك الشاعر المتأله، أو أن هذا التشابه مرده شيء آخر هو تشابه الدعوتين واتفافهما في العقيدة والرأي، أو اعتماد الاثنين على مورد أقدم، هما الكتابان المقدسان: التوراة والإنجيل، وما لهما من شروح وتفاسير، أو كتب أو موارد عربية قديمة كانت معروفة ثم بادت وبقي أثرها في القرآن الكريم وفي شعر أمية بن أبي الصلت، أو أن كل شيء من هذا الذي نذكره ونفترضه

_ 1 جزى الله الأجل المرء نوحًا جزاء البر ليس له كذاب ديوان أمية "18 وما بعدها، 58"، "بشير يموت" الحيوان، للجاحظ "2/ 117"، البدء والتاريخ "1/ 24". 2 قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا ... ملكا علا في الأرض غير معبد من قبله بلقيس كانت عمتي ... حتى تقضى ملكها بالهدهد ديوان أمية "ص26"، "بشير يموت". 3 حي داود وابن عاد وموسى ... وقريع بنيانه بالثقال إنيي زارد الحديد على النا ... س دروعًا سوابغ الأذيال ديوان أمية "50 وما بعدها" "بشير يموت". 4 وفي دينكم من رب مريم آية منبئة بالعبد عيسى ابن مريم ديوان أمية "58"، "بشير يموت". 5 ثم لوط أخو سدوم أتاها ... إذ أتاها برشدها وهداها ديوان أمية "69"، "بشير يموت". 6 راجع التوراة، ومادة "Lot" في معجمات التوراة.

افتراضًا لم يقع، وإن ما وقع ونشاهده، سببه أن هذا الشعر وضع على لسان أمية في الإسلام، وأن واضعيه حاكوا في ذلك ما جاء في القرآن الكريم فحدث لهذا السبب هذا التشابه. أما الاحتمال الأول، وهو فرض أخذ أمية من القرآن، فهو احتمال إن قلنا بجوازه ووقوعه، وجب حصر هذا الجواز في مدة معينة، وفي فترة محدودة تبتدئ بمعث الرسول، وتنتهي في السنة التاسعة من الهجرة، وهي سنة وفاة أمية بن أبي الصلت، أما ما قبل المبعث، فلا يمكن بالطبع أن يكون أمية قد اقتبس من القرآنن لأنه لم يكن منزلا يؤمئذ، وأما ما بعد السنة التاسعة، فلا يمكن أن يكون قد اقتبس منه أيضًا، لأنه لم يكن حيا، فلم يشهد بقية الوحي. ولن يكون هذا الفرض مقبولا معقولا في هذه الحالة، إلا إذا أثبتنا بصورة جازمة أن شعر أمية الموافق لمبادئ الإسلام ولما جاء في القرآن قد نظم في هذه المدة المذكورة، أي بين المبعث والسنة التاسعة من الهجرة، وأن أمية كان يتتبع نزول الوحي، ويجمعه، وإنه كان يملك نسخة مما نزل على الرسول، رجع إليها واقتبس منها، وإلا سقط العرض. فإذا أثبتنا ذلك وثبتنا تاريخ نظم هذا الشعر، أمكنت المقابلة عندئذ بين شعر أمية وما جاء في معناه وفي موضوعه من آيات نزلت بين ابتداء نزول الوحي على الرسول وبين السنة التاسعة، أما الآيات التي نزلت بعد هذه السنة، فلا تكون شاهدا على أخذ أمية منها: لأنه كان قد توفي في السنة التاسعة، فلا يقع هذا الافتراض. ولكن من استطاعته تثبيت تواريخ شعر أمية وتعيينه، وتعيين أوقات نظمه؟ إن في استطاعتنا تعيين بعضه من مثل الشعر الذي قاله في مدح عبد الله بن جدعان أو معركة بدر. ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بالغالبية منه، وهي غالبية لم يتطرق الرواة إلى ذكر المناسبات التي قيلت فيها. ثم إن بعض هذا الكثير مدسوس عليه، مروي لغيره، وبعضه إسلامي، فيه مصطلحات لم تعرف إلا في الإسلام، فليس من الممكن الحكم على آراء أمية الممثلة في شعره هذا بهذه الطريقة. ثم أحدا من الرواة لم يذكر أن أمية كان ينتحل معاني القرآن الكريم، وينسبها إلى نفسه. ولو كان قد فعل، لما سكت المسلمون عن ذلك، ولكان الرسول أول الفاضحين له.

بقي لدينا افتراض، هو أخذ القرآن الكريم من أمية، وهو افتراض ليس من الممكن تصوره، فعلى إثبات أن شعر أمية في هذا الباب هو أقدم عهدا من القرآن الكريم، وتلك قضية لا يمكن إثباتها أبدا. ثم إن قريشًا ومن لف لفها ممن عارض الرسول لو كانوا يعلمون ذلك ويعرفونه، لما سكتوا عنه، ولقالوا له إنك تأخذ من أمية، كما قالوا له: إنك تتعلم من غلام نصراني كان مقيمًا بمكة، وإليه أشير في القرآن الكريم بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1. ولقد أشار المفسرون إلى اسم الغلام، كما سأتحدث عن ذلك في الفصل الخاص بالنصرانية عند العرب قبل الإسلام، ولم يشيروا إلى أمية بن أبي الصلت2. ثم إن أمية نفسه لو كان يعلم ذلك أو يظن أن محمدًا إنما أخذ منه، لما سكت عنه وهو خصم له، منافس عنيد، أراد أن تكون النبوة له، وإذا بها عند شخص آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمنون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد. آخر ينزل الوحي عليه، ثم يتبعه الناس فيؤمون بدعوته. أما هو فلا يتبعه أحد. هل يعقل سكوت أمية لو كان قد وجد أي ظن وإن كان بعيدا يفيد أن الرسول قد أخذ فكرة منه، أو من المورد الذي أخذ أمية نفسه منه؟ لو كان شعر بذلك، لنادى به حتما، ولأعلن للناس أنه هو ومحمد أخذا من منبع واحد، وأن محمدا أخذ منه، فليس له من الدعوة شيء، ولكانت قريش وثفيف أول القائلين بهذا القول والمنادين به. نعم، لقد ورد في الحديث، كما قلت قبل قليل، إن الشريد بن سويد كان قد أنشد الرسول شعر أمية، وإنه كان كلما أنشده شيئًا منه طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشه مئة بيت، قال له الرسول: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، ولكننا هنا بحاجة إلى تثبيت تاريخ هذا الإنشاد، وإثبات صحة الرواية وتدقيق رجال السند، لإثبات أن ما أنشد لم يكن قد نزل في مثله الوحي. وممن ذهب إلى افتراض أخذ الرسول من أمية من المستشرقين "كليمان هوار" و"بور" "Power. زغم "بور" إنه حيث يوجد تشابه بين شعر أمية والقرآن

_ 1 النحل، الآية 103. 2 سيرة ابن هشام "1/ 420".

الكريم، فإن ذلك يدل على أن الرسول أخذ من "أمية"، لأن أمية أقدم من الرسول1. وهذا الافتراض مقبول كما لو أثبتنا أن هذا النظم شعر أصيل صحيح، وإنه نظم قبل نزول مشابهه في القرآن الكريم، وإنه لم يضف إليه في الإسلام، فإن أثبتنا إنه له، جاز لهما مثل هذا الادعاء. وأما الرأي الثالث -وأعني به رأي من يرجع التشابه بين شعر أمية وما ورد من مثل معانيه في القرآن الكريم إلى أخذ الاثنين من التوراة والإنجيل وتفاسيرهما، وإلى بعض "الصحف" و"المجلات" التي أشير إلى وجودها عند العرب- فهو رأي قديم، وليس بجديد. رأي قيل عن الوحي كله، لا عن القرآن وشعر أمية أو غير أمية، قبل أن يخلق المستشرقون بأكثر من 1300 سنة، فقد زعم "إن النبي يتعلم من غلام نصراني اسمه جبر!! ". وقد أشير إلى هذا الزعم في كتاب الله، وجاء الرد عليه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . فلم يخف القرآن الكريم ذلك الطعن والمغمز، ولم يتجاهل المفسرون اسم من قيل إنه كان يعلمه، فذكروا جبرا هذا، وكان غلاما مقيما بمكة، وقال بعضهم بل هو رجل رومي اسمه غير ذلك. ولو كان الرسول وأمية قد أخذ من منهل واحد، واستقيا من مورد واحد، لما سكتت قريش عن القول به، ولما سكت أمية نفسه وهو الغاضب الحاقد على الرسول عن الجهر به. وكيف يعقل سكوته عن هذا، وهو أمر مهم جدًّا بالنسبة إليه. وسيف يحارب به الإسلام؟ ولما سكت مسيلمة ومن كان على شاكلته من المتنبئين من الإشارة إليه في أثناء حروب الردة، وقد كانت فرصة سانحة لإطهار هذه المقالة. ولما سكت "يوحنا الدمشقي" وأمثاله من التلميح إلى ذلك، وقد لمح بأمور كثيرة في طعنه في الإسلام. ثم إن هذا التشابه، على ما يتبين من نقده وتمحيصه، ليس من نوع ما يحصل عن أخذ شخصين مستقلين من مورد معين، إنما هو من قبيل ما يحدث من اعتماد أحد الشخصين على الآخر، بدليل ورود أمور في القرآن الكريم،

_ 1 ديوان أمية "ص7"، "المقدمة الألمانية" "تحقيق فردرش شولثيس"، بروكلمن "1/ 113". CI Huatrt GA X VoI IV 1904 P1225

لم ترد في التوراة ولا في الإنجيل، ولكنها وردت في شعر أمية، وبدليل ورود أكثر قصص الأنبياء والآراء والمعتقدات في شعر أمية على شكل إسلامي، لا على النحو الوارد عند أهل الكتاب. واستعمال هذا الشعر لجمل وألفاظ وتراكيب إسلامية واردة في القرآن الكريم وفي الحديث لا في الكتب السماوية المذكورة. فلو كان مرد هذا التشابه الأخذ من مورد واحد، لوجب انحصار هذا التشابه في الأمور المشتركة التي ترد في الكتب المقدسة: التوراة والإنجيل والقرآن، وفي شعر أمية فحسب، لا في المسائل التي ترد في شعر أمية وفي القرآن الكريم، ولا ترد في الكتابين المقدسين أو في الكتب الأخرى. ثم إن المقابلة بين نصين لمعرفة صلة أحدهما بالآخر، وأخذ أحدهما من الآخر، تستوجب التأكد من صحة نسبة الشعر إلى أمية. ففي هذا الشعر مقدار لا يمكن أن يشك في وضعه وصنعه، ومقدار نص العلماء نصا على أنه لغيره، وهم إنما ذكروه في شعر أمية، لأن بعض أهل الأخبار نسبه إليه. ولذلك استدركوا هذا الخبر، بالإشارة إلى اسم قائله الصحيح. فلم يبق من هذا الشعر ما يصلح للمقابلة غير القليل منه، وهو القليل الذي له صلة بعقيدة ودين. وهذا القليل هو، في الغالب أيضًا، تبع لما ورد في القرآن وحده، لا لما ورد في الكتابين المقدسين. ولما كان القرآن محفوظا ثابتا، فلم يرتق إليه الشك. أما شعر أمية، فليس كذلك، وهو غير معروف من حيث تعيين تاريخ النظر. فهذه المقابلة إن جازت، فإنها تكون حجة على القائلين بالرأي المذكور، لا لهم. وقد كان عليهم أن يثبتوا أولا إثباتا قاطعا صحة رأيهم في أصالة هذا الشعر، لا أن يفترضوا مقدما أنه شعر أصيل صحيح، وأن يذهبوا رأسا إلى أنه هو والقرآن الكريم من وقت واحد، بل إنه على حد قول بعضهم أقدم منه، فكتاب الله منتزع منه. وممن قال باحتمال أخذ القرآن وأمية من مورد مشترك واحد، "فردرش شولثيس" Friedrich SchuIthetz ناشر ديوان أمية. وقد زعم أيضًا احتمال أخذ أمية من بعض آيات الله التي كانت منزلة يومئذ، ونظمها في شعره. استند في زعمه القائل باقتباس الرسول من مورد مشترك إلى ورود بعض كلمات في القرآن الكريم وفي الحديث وفي كتب السير، يفهم منها على زعمه أن الرسول كان قارئًا كاتبًا، ولكنه لم يشترط في هذه المؤلفات كونها الإنجيل والتوراة، بل ذهب إلى أنها

"مجلة" و"صحيفة"، تتضمن أحاديث وتفاسير وقصصًا دينيا قديما1. أما دليله، فافتراض واحتمال، وليس له غير هذين. ولا يقوم علم إلا على دليل ملموس. أما أنا، فأرى أن مرد هذا التشابه والاتفاق إلى الصنعة والافتعال. لقد كان أمية شاعرا، ما في ذلك شك، لإجماع الرواة على القول به. وقد كان ثائرا على قومه، ناقما عليهم، لتعبدهم للأوثان. وقد كان على شيء من التوحيد والمعرفة باليهودية والنصرانية، ولكني لا أظن أنه كان واقفا على كل التفاصيل المذكورة في القرآن وفي الحديث من العرش والكرسي وعن الله وملائكته وعن القيامة والجنة والنار والحساب والثواب والعقاب ونحو ذلك. إن هذا الذي أذكره شيء إسلامي خالص، لم ترد تفاصيله عند اليهود ولا النصارى، ولا عند الأحناف. فوروده في شعر أمية وبالكلمات والتعابير الإسلامية، هو عمل جماعة فعلته في عهد الإسلام: وضعته على لسانه، كما وضعوا أو وضع غيرهم على ألسنة غيره من الشعراء والخطباء، لاعتقادها أن ذلك مما يفيد الإسلام، ويثبت أن جماعة من الجاهليين كانوا عليه، وأنه لم يكن لذلك غريبا، وأن هؤلاء كانوا يعلمون الغيب، يعلمون بقرب ظهور نبي عربي، وأنهم لذلك بشروا به، وأنهم كانوا يتمنون لو عادوا فولدوا في أيامه، أو لو طال بهم العمر حتى يدركوه فيسلموا، وأمثال ذلك من قصص راج وانتشر، كما راج أمثاله في كل دين من الأديان. ولا بد وأن يكون هذا الوضع قد صنع في القرن الأول للإسلام، لأن أهل الأخبار القدامى يذكرون بعض هذا الشعر2. وقد يكون قد وضع أكثره في عهد الحجاج تقربا إليه، لأنه من ثقيف، وفي ذلك العهد وضع الوضاع أخبارا كثيرة في الغض من شأن قوم الحجاج، نكاية به فتقدم قوم آخرون إليه بالرفع من شأنها وبإضافة ذلك الشعر إلى أمية وغيره، ليكون ردا على كارهي ومبغضي الحجاج. وتتبين آية الوضع في شعر أمية في عدم اتساقه وفي اختلاف أسلوبه وروحه.

_ 1 Ency, IV, p. 998, Tar Andrae, Die Entstehung des Islams und des Christentums, upsale, 1926, S. 48. 2 بروكلمان "1/ 113".

فبينما نجد شعره المنسوب إليه في المدح أو في الرثاء أو في الأغراض الأخرى مما ليس لها صلة مباشرة بالدين، في ديباجة جاهلية على نسق الشعر المنسوب إلى شعراء الجاهلية، نجد القسم الديني منه والحكمي في أسلوب يجعله قريبا من شعر الفقهاء والصوفيين المتزمتين، ونساك الصارى، فهو بعيد جدًّا من أسلوب الجاهليين، حتى أسلوب مثل "عدي بن زيد" العبادي والأعضى وبقية من نسب إلى النصرانية من شعراء الجاهلية القريبين من الإسلام1. يضاف إلى ذلك ما ذكره الرواة وأهل الأخبار من نشبة بعض ذلك الشعر إلى غيره من الشعراء. وقد يقال إن أسلوب "أمية" في نظم الشعر الديني والحكمي، هو أسلوب صحيح لا يمكن إلا أن يكون على هذا الحال، هو أسلوب بعيد عن أسلوب الجاهليين في النظم، لأن الشعر الجاهلي المعروف نظم في أغراض أخرى لا صلة لها بالحكم وبالدين، وما جاء منه إلينا في الحكم وفي الدين هو على أسلوب آخر أيضًا، بدليل أن بعض الشعراء منهم حين نظموا في الحكم، رق شعرهم وبان عن نظمهم المألوف. وبدليل أن نظم "حسان بن ثابت" في الإسلام، هو دون نظمه في الجاهلية من حيث الجزالة والفخامة في النظم، وأن شعر "لبيد" في الإسلام، هو دون ما نظمه في الجاهلية، بسبب تغير الظروف واختلاف الموضوع. وهو اعتذار صحيح، ولكن أسلوب أمية في تعبيره عن الجنة والنار والبعث والحساب، أسلوب آخر، لا يفصح عن عقلية دينية جاهلية، وإنما عن عقلية إسلامية. ومن هنا جاء شكنا في صحة هذا الشعر وفي اصالته، وليس من أسلوب النظم. ولكن من الذي وضع هذا الشعر، ثم أنكره على نفسه وأسنده إلى أمية؟ ومن الذي رضع شعر أمية بأبيات من وزنه وقافيته، ولكنها أبيات إسلامية؟ ومن كان أول من جمع شعر ذلك الشاعر في ديوان نسبه إليه؟ هذه أسئلة يجب أن توجد لها أجوبة، ولكن أجوبتها كتاب يؤلف في حياة هذا الشاعر وفي شعره وديوانه، عندئذ يكون هناك مجال للتنقيب عن هذه الأمور، روي أن الحجاج قال، وهو على المنبر: "ذهب قوم يعرفون شعر أمية"2. فهل ذهب العالمون

_ 1 Ency IV p 998 2 الأغاني "4/ 123".

به حقًّا قبل أيام الحجاج؟ وهل كان شعره ضخما واسعا؟ أو هوقول من أقوال الحجاج، وهو ثقفي من قوم أمية، أو هو قول وزعم من زعم الرواة. وما أكثر مزاعم الرواة وحملة الأخبار. وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيدا. فالقصيدة التي مطلعها: لك الحمد والمن رب العبا ... د أنت المليك وأنت الحكم هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبدا أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إيمانا عميقًا من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلا: محمدا أرسله بالهدى ... فعاش غنيا ولم يهتضم ثم خذ الأبيات التالية له وفيها: عطاء من الله أعطيته ... وخص به الله أهل الحرم وقد علموا أنه خيرهم ... وفي بيتهم ذي الندى والكرم يعيبون ما قال لما دعا ... وقد فرج الله إحدى البهم به وهو يدعو بصدق الحدي ... ث إلى الله من قبل زيغ القدم أطيعوا الرسول عباد الإله ... تنجون من شر يوم ألم تنجون من ظلمات العذاب ... ومن حر نار على من ظلم دعانا النبي به خاتم ... فمن لم بجبه أسر الندم نبي هدى صادق طيب ... رحيم رءوف بوصل الرحم به ختم الله من قبله ... ومن بعده من نبي ختم يموت كما مات من قد مضى ... يرد إلى الله باري النسم مع الأنبياء في جنان الخلود ... هم أهلها غير حل القسم وقدس فينا بحب الصلاة ... جميعًا وعلم خط القلم كتابا من الله نقرأ به ... فمن يعتريه فقدما أتم اقرأ هذه المنظومة، ثم احكم على صاحبها، هل تستطيع أن تقول إنه كان

74 شاعرا مغاضبا للرسول، وإنه مات كافرًا، وإن صاحبها رثى كفار قريش في معركة بدر وأنه قال ما قال في الإسلام وفي الرسول؟ اللهم، لا يمكن أن يقال ذلك أبدا فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الإيمان، هو واعظ مبشر، يخاطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام وإلى طاعة الله والرسول. إنه مؤمن قلبا ولسانا، مع أنهم يذكرون أن الرسول قال فيه: آمن شعره وكفر قلبه، أو آمن لسانه وكفر قلبه، وإنه مات وهو على كفره وعناده وحسده للرسول، ثم إن صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول، مع أن أمية، كان قد توفي في السنة التاسعة من الهجرة، فهل يعقل أن يكون إذن هو صاحبها وناظمها؟ أليست هذه المنظومة وأمثالها إذن دليلا على وجود أيد لصناع الشعر ومنتجيه في شعر أمية. نحمد الله على أن صناعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها، ودلوا على مقاتل النظم. ثم خذ قصيدة أخرى من القصائد المنسوبة لأمية، وهي في وصف الجنة والنار استهلت بهذا البيت: جهنم تلك لا تبقي بغيا ... وعدن لا يطالعها رجيم ثم استمر في قراءتها، وفي ما جاء فيها من وصف للجنة والنار، ثم أنعم النظر في هذه الأبيات: فذا عسل وذا لبن وخمر ... وقمح في منابته صريم ونخل ساقط الأكتاف عد ... خلال أصوله رطب قميم وتفاح ورمان وموز ... وماء بارد عذب سليم وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم وحور لا يرين الشمس فيها ... على صور الدمى فيها سهوم نواعم في الأرائك قاصرات ... فهن عقائل وهم قروم على سرر ترى متقابلات ... ألا، ثَمَّ النضارة والنعيم عليهم سندس وجياد ريط ... وديباج يرى فيها قتوم وحلوا من أساور من لجين ... ومن ذهب وعسجده كريم ولا لغو ولا تأثيم فيها ... ولا غول ولا فيها مليم

وكأس لا تصدع شاربيها ... يلذ بحسن رؤيتها النديم تصفق في صحاف من لجين ... ومن ذهب مباركة رذوم1 ثم احكم بعد ذلك على صاحب هذه الأبيات. لقد حاول ناظمها إدخال بعض الكلمات الجاهلية فيها، لإلباسها ثوبا جاهليا، ولإظهارها بمظهر الشعر الجاهلي الأصيل، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل صيرها في الواقع نظما لوصف الجنة والنار في الإسلام، وما بي حاجة إلى أن أحيلك على الآيات التي أخذ منها صاحب هذا الشعر وصفه من القرآن الكريم. ومن الغريب أن بعض الإخباريين اتخذ هذا النظم وأمثاله حجة لتبيان عقائد الجاهليين، فذكر مثلا أن العرب في جاهليتها كانت تؤمن بالجزاء، وأن منهم من نظر في الكتب وكان مقرا بالجنة والنار. وحجته في ذلك هذه المنظومة المنسوبة إلى أمية2. وقد نسي أن ما قاله على سبيل التعميم أو التغليب، يناقض ما جاء في القرآن الكريم وما أورده الإخباريون عن الجاهليين. ثم خذ قصيدته في عيسي بن مريم وحمل أمه به3، وسائر قصائده الأخرى، تجد عليها هذه المسحة الإسلامية بارزة ظاهرة، ولكن هذا لا يمنع مع ذلك من القول بوجود أبيات قد تكون من نظم أمية حقًّا، في هذا المنظوم الديني، غير أن هذا الموجود، هو على كل حال مما لا يتعارض مع عقائد الإسلام. ومن الممكن إدراكه بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره، وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره من الهجين. ولأمية بن أبي الصلت أخت، اسمها "فارعة"4. قدمت على النبي بعد فتح الطائف، وكانت ذات لب وعفاف وجمال، وكان يعجب بها. وقال لها يوما: هل تحفظين من شعر أخيك شيئًا؟ فأخبرته خبره وقصت في شق جوفه

_ 1 تجد اختلافا في كلمات هذه القصيدة وأبياتها، وكذلك في قصائد هذا الشاعر الأخرى، فارجع في ذلك إلى طبعات ديوانه وإلى كتب الأدب لمعرفة مواضع الاختلاف: كتاب البدء والتاريخ "1/ 202 وما بعدها"، ديوان أمية "طبعة بشير يموت"، "ص53" ديوان أمية "ص51 وما بعدها"، "طبعة فريدرش شولثيس". 2 كتاب البدء والتاريخ "1/ 202"، "طبعة كليمان هوار"، "النص العربي". 3 ديوان أمية "ص58"، "طبعة بشير يموت". 4 اللسان "1/ 792"، "وثب".

وإخراج قلبه ورده مكانه وهو نائم وأنشدته شعره1، على ما يزعمه أهل الأخبار. وذكر أهل الأخبار أسماء أربعة بنين لأمية، هم: القاسم، ووهب، وعمرو "عمر"، وربيعة. فأما" القاسم"، فكان شاعرا، وله مرثية في عثمان بن عفان2. وأسلم "وهب بن أمية" كذلك. وذكر أن رجلا من ثقيف مات في عهد النبي عن غير ولد، فاختصموا في ميراثه، فأعطى النبي ميراثه لوهب3. وأما "ربيعة" فأسلم كذلك، وله شعر4. وقد ذكر أهل الأخبار أن "حقة" بنت وهب بن أمية بن أبي الصلت"، تزوجت "عبد الله بن صفوان"، فولدت له صفوان بن عبد الله بن صفوان5. وذكر أن "ربيعة"، قد ولي بعض الوظائف في الإسلام. وأنه صاحب "ربيعتان"، نهر بقرب الأبلة، وأن من ولده "كلدة بن ربيعة"، وكان شريفًا شاعرًا، وقد ذكر أن بغلا قتل "ربيعة" على باب دار "عبد الله بن عباس"6. وكل ما يعرف عن سويد بن عامر المصطلقي أنه كان على دين الحنيفية وملة إبراهيم، وأنه قال شعرا، وصلت منه بضعة أبيات في "المنايا" وفي المقدر على الإنسان، وأن المنايا محتومة لا مفر منها، وأن الخير والشر مكتوبان على النواصي، وليس لامرئ يد فيما يصيبه من مقدور. فهي في هذه المشكلة المعضلة التي شغلت بال الإنسان ولا تزال تشغله مشكلة: "الجبر والاختيار"، أو "القدر"، المشكلة التي احتلت منزلة الصدارة في "علم الكلام". والتي صارت من أهم موضوعات الجدل في الإسلام. ويقال إنها أنشدت للرسول، فلما سمعها، قال: "لو أدركته لأسلم" 7. وأما ورقة بن نوفل فهو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يلتحم نسبه بنسب الرسول في جد جده. ذكروا أنه ساح على شاكلة من شك في

_ 1 الإصابة "4/ 363"، "رقم "824". 2 الإصابة "3/ 213"، "رقم 7052". 3 الإصابة "3/ 604"،"رقم 9157. 4 الإصابة "1/ 493"،"رقم 2950". 5 الإصابة "3/ 604"، "رقم 9157". 6 كتاب البغال للجاحظ "2/ 258"، "من رسائل الجاحظ" "الأغاني "3/ 179"، الاشتقاق "304 وما بعدها"، "4/ 120"، الشعر والشعراء "1/ 369"، الإصابة "2/ 197" أنساب العرب "269". 7 بلوغ الأرب "2/ 259".

دين قومه، وتتبع اليهود والنصارى، وقرأ الكتب، وعد في جملة المتنصرين في أغلب الروايات، فقد ذكر أنه "تنصر واستحكم في النصرانية، وقرأ الكتب ومات عليها"1. وهذا هو رأي أكثر أهل الأخبار. ونسب إليه شعر ذكر إنه قاله في رثاء زيد بن عمرو بن نفيل، وفيه إشارة إلى النار وإلى الثواب والعقاب بعد الموت وإلى فكرة التوحيد والإيمان برب ليس رب كمثله وإلى التنديد بالأوثان2. وله أبيات من الشعر يحث فيها على مساعدة الضعيف ونصر المظلوم، وعلى فعل الخير للناس3. ولا نعلم عن حياة ورقة في أيام شبابه شيئًا، ولعله كان يعين أهله أو أقربائه في اتجارهم مع بلاد الشام أو اليمن شأن أكثر شبان أسر مكة المعروفة في ذلك الوقت. فتعلم بذلك سلوك الطرق الموصلة إلى العراق أو بلاد الشام، ومن هنا اندفع نحو خارج الجزيرة يلتمس الحكمة والوصول إلى رأي يقنعه في الحياة. ويظهر إنه لم يكن في شبابه من أولئك الشباب الخاملين الذين كانوا يصرفون وقتهم في فراغ دائم، دون عمل ولا تفكير، متوسدين الأرض يقتلون فراغهم في ترهات الكلام، كما إنه لم يكن من أولئك الطائشين النزقين الذين يقضون وقتهم في النزاع والخصومة وشرب الخمر والاعتداء على الناس، والحصول على المال للانفقا على اللهو بأية طريقة كانت، بل كان شابا متأملا مفكراا منكمشا على نفسه، مكنه علمه بالكتابة والقراءة من قراءة الكتب والاطلاع على آراء الماضين والحاضرين، حتى جاء يوم، دفعه اجتهاده الذي وصل إليه على الخروج على تقاليد قومه وانتقاد الأوضاع التي كانوا عليها، مما حمله على ترك مكة طوعا أو قهرا، والتجول للبحث أو فرارا من غضب قومه عليه. وهو ابن عم خديجة الكبرى زوج الرسول. وقد أشير إليه في خبر "مجيء جبريل إلى النبي في حراء"، وله كلام مع الرسول على ما ورد في بعض الروايات.

_ 1 اليعقوبي "1/ 298" "2/ 22" "ليدن" البداية لابن كثير "2/ 238". 2 المحبر "171"، ابن هشام "1/ 243،256"، الأغاني "3/ 113 وما بعدها" "1/ 73"،الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 68". 3 خزانة الأدب "2/ 39 وما بعدها".

يقال إنه قال للرسول وكان قد ذهب إليه مع زوجته خديجة ليسأله رأيه فيما رآه من الرؤيا: "ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قوم؟ " وأن الرسول قال له: "أمخرجي هم؟ " قال: نعم، إنه لم يجئ رجل قط بما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا"1. وأشير إليه في خبر آخر، حيث ورد أن "خديجة" ذهبت وحدها إلى ابن عمها لتسأله عن الرؤيا التي رآها الرسول وعن هذا "الناموس الأكبر" الذي تجلى له. فلما قصت عليه القصة قال: "لئن كنت صادقة، إن زوجك لنبي، وليلقين من أمته شدة، ولئن أدركته لأومنن به"2. وذكر في خبر آخر أن الرسول قد رأى "ورقة" في منامه، وكان لابسًا ثيابًا بيضًا. وأن الرسول ذكر ذلك لم سأله عنه، وبين لهم أنه لو كان من أهل النار لما ظهر له في منامه وهو بهذه الملابس. لأن أهل النار لا يلبسون ثيابًا بيضًا3. ويروى أن الرسول قال: "لا تسبوا ورقة بن نوفل، فإني رأيته في ثياب بيض" 4. قيل إن شخصًا تساب مع أخ لورقة بن نوفل، فسب ورقة ليحرق قلب أخيه، فبلغ ذلك الرسول، فنهى عن سبه5. وجاء في خبر أن "ورقة" كان يمر بمكة فيرى بلالا وهو يعذب، يعذبه المشركون برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء، ويضربونه يريدون منه أن يشرك بالله، فلا يشرك به. ويأبى إلا أن يقول: أحد أحد، فيرثى ورقة لحاله ويقول: أحد أحد والله يا بلال. والله لئن قتلتموه فأنتم من الخاسرين6. أو "والله لئن قتلتموه، لأتخذن قبره حنانًا"7.

_ 1 الطبري "2/ 299""دار المعارف"، ابن هشام "1/ 254 وما بعدها"، المسعودي مروج "2/ 59"، "1/ 73" "محمد محيي الدين عبد الحميد" "1958م"، الكامل، لابن الأثير "2/ 31" الذهبي تاريخ الإسلام "1/ 75" القسطلاني، شرح صحيح "1/ 66"، الإصابة "3/ 633". 2 الطبري "2/ 300" "دار المعارف"، ابن سعد، الطبقات "1/ 194" "بيروت 1957م" شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني "1/ 66 وما بعدها". 3 الأغاني "3/ 113 وما بعدها" "بيروت 1955م". 4 كتاب نسب قريش "ص207"، الترمذي "3/ 251" الإصابة "6/ 318 وما بعدها" مجمع الزوائد "9/ 416". 5 الإصابة "3/ 633". 6 الأغاني "3/ 113 وما بعدها". 7 النهاية، لابن الأثير "1/ 226"، الإصابة "6/ 318"، كتاب نسب قريش "208".

ويظهر من الأخبار المتقدمة أن "ورقة بن نوفل"، كان قد أدرك أيام الرسول وعاش إلى يوم نزول الوحي عليه. بل يظهر من خبر رؤيته لبلال وهو في حالة تعذيبه، إنه عاش مدة بعد نزول الوحي. غير أن الأخبار المذكورة لا تنص على إسلامه، ولم نجد أحدا قد نص على ذلك. أما خبر رؤيا الرسول له في منامه، فإنه يدل على عدم إسلمه، وعلى إنه كان قد توفي قبل نزول الوحي على الرسول. وهو الرأي الراجح. وهذا ما حمل أحد المؤرخين على القول: وقد اختلف فيه، فمنهم من زعم إنه مات نصرانيا ولم يدرك ظهور النبي. ومنهم من رأى إنه مات مسلمًا وإنه مدح النبي1. وقد ورد في بعض الأخبار إن الرسول قال لما توفي ورقة: "لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير، لنه آمن بي وصدقني"2. وورد مثل ذلك من أحاديث زعم أن الرسول قالها في حق ورقة، وهي كلها تشير إلى وفاة ورقة قبل المبعث، وعلى دينه، إذ لم يدرك الإسلام. وورد في بعض الروايات أنه "كان يكتب الكتاب العربي، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب"3. وورد في رواية أخرى أنه "كان يكتب الكتاب العبراني، فكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب"4. والخبران هما خبر واحد، كما يظهر من وحدة النص، غير إن اسم اللغة التي زعم أنه كان يكتب بها قد حرف، فقرأه بعضهم العربي، وقرأه بعض آخر العبراني. ولما كان الإنجيل باليونانية وبلغة بني إرم، فقد أخطأ الرواة بجعل لغة الإنجيل هي العبرانية، وهم يتوهمون كثيرًا فيخلطون بين العبرانية والسريانية. والغالب أنهم كانوا يريدون بالعبرانية لغة بني إرم التي كانت لغة العلم والأدب والدين في العراق وفي بلاد الشام، بل وبين مثقفي اليهود ورجال دينهم في ذلك الوقت. وذكر أهل الأخبار أنه لم يعقب5. ولم يذكروا سبب ذلك، هل كان قد

_ 1 المسعودي، مروج "2/ 59". 2 القسطلاني، شرح صحيح "1/ 65"، الذهبي، تاريخ الإسلام "1/ 68". الذهبي، سير النبلاء "80"، خزانة الأدب "2/ 41". 3 النصرانية "1/ 119". 4 الأغاني "3/ 113"، الاشتقاق "164". 5 كتاب نسب قريش "ص207".

تزوج، ولكنه كان عقيمًا، فلم يعقب؟ أو أنه عاش أعزب ولم يتزوج طول حياته؟ وكان "أبو قيس صرمة بن أبي أنس" "صرمة بن أنس" وهو من بني النجار، قد ترهب ولبس المسوح، وهجر الأوثان، ودخل بيتًا واتخذه مسجدًا لا تدخله طامث ولا جنب، وقال: أعبد رب إبراهيم، فلما قدم النبي المدينة أسلم وهو شيخ كبير، وحسن إسلامه. وفيه نزلت الآية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 1. ورووا له شعرا2. وزعم أنه اغتسل من الجنابة، وهم بالنصرانية، ثم أمسك عنها. وذكر أن "ابن عباس" كان يختلف إليه يأخذ عنه الشعر3. وأما "وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي"، فهو من إياد، زعم "ابن الكلبي" إنه ولي البيت بعد جرهم، فبنى صرحًا بأسفل مكة، وجعل فيه أمة يقال لها "حزورة"، وبها سميت "حزورة مكة"، وجعل في الصرح سلمًا، فكان يرقاه ويزعم أنه يناجي الله. وكان ينطق بكثير من الخبر، ويزعم الناس أنه صديق من الصديقين، وقالوا كان كاهنًا4. وذكروا له كلمات مسجعة، ليس فيها ما يشرح لنا معتقده الديني وضوحًا تامًّا5. والصرح كما يقول علماء اللغة، بيت يبنى منفردًا ضخمًا طويلا في السماء

_ 1 البقرة، الآية 187، مروج، "1/ 52 وما بعدها"، تفسير الطبري "2/ 97" "بولاق". 2 بلوغ الأرب "2/ 266". 3 بلوغ الأرب "2/ 266"، أسد الغابة "3/ 18"، الإصابة "2/ 176"، "رقم 4061"، الاستيعاب "2/ 149"، "حاشية على الإصابة". 4 المحبر "136"، بلوغ الأرب "2/ 260". 5 "وقال الإيادي صاحب الصرح، الذي اتخذ سلمًا لمناجاة الرب، وهو القائل: مرصعة وفاطمة، القطيعة والفجيعة، وصلة الرحم وحسن الكلم، زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابًا، وبالشر عقابًا، وإن من في الأرض عبيد لمن في السماء، هلكت جرهم وربلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد. من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه كل شاة معلقة برجلها. واياه عنى الشاعر بقول: ونحن إياد عبيد الإله ... ورهط مناجيه في السلم ونحن ولاة حجاب العتيق ... زمان الرعاف على جرهم البيان والتبيين "2/ 109" الأمثال للميداني "2/ 81".

وكل بناء عال مرتفع1. والحزورة الرابية الصغيرة والتل الصغير2. ويظهر إنه كان بنى صرحه فوق تل في محل منفرد، ليختلي هناك على طريقة الرهبان والنساك. وكان ما عرفه أهل الأخبار عن "عمير بن جندب" الجهني، إنه كان من جهينة، وإنه كان موحدا لم يشرك بربه أحدا، وإنه مات قبيل الإسلام3. وكان عامر بن الظرب العدواني من الحكماء، نسبت إليه أقوال في الحكم والدين. منها "إني ما رأيت شيئًا خلق نفسه، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا، ولا جائيا إلا ذاهبا، ولو كان يميت الناس الداء، لأحياهم الدواء". ثم قال: "إني أرى أمورا شتى وحتى. قيل له: وما حتى؟ قال: حتى يرجع الميت حيا، ويعود اللاشيء شيئًا، ولذلك خلقت السماوات والأرض، فتولوا عنه ذاهبين"4. وقد نسبوا إليه جملة أحكام، منها حكمه في "الخنثى"، وقد ذكروا أن حكمه هذا قد أقره الإسلام. وقالوا إن العرب كانت إذا أشكل عليها أمر في قضاء، أو حارت في أمر معضل ترى وجوب الحكم فيه برأي صائب وعقل وتدبير، ذهبت إليه، فإذا حكم كان حكمه الحكم الفصل، فلا راد له5. ونسبت إلى كل من عبد الطانجة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة وعلاف بن شهاب التميمي أبيات، فيها إقرار بوجود إله واحد خالق لهذا الكون، وبوجود الحساب والثواب والعقاب6. وأما "المتلمس بن أمية" الكناني، فذكروا إنه كان قد اتخذ من فناء الكعبة موضعا يخطب فيه، ويعظ قومه عظات دينية، فكان في جملة ما قاله لهم:

_ 1 تاج العروس "2/ 178 وما بعدها"، "صرح". 2 تاج العروس "3/ 138"، "حرز". 3 بلوغ الأرب "2/ 261 وما بعدها". 4 المحبر "135، 181، 236،236، 239" بلوغ الأرب "2/ 275 وما بععدها"ز 5 الروض الأنف "1/ 86"، ابن هشام "1/ 134"، "محمد محيي الدين عبد الحميد" المعمرون "44 وما بعدها"، عيون الأخبار "1/ 266" البيان والتبيين "1/ 264، 365، 401"، "2/ 72، 199"، ط3/ 38، 39، 299، 369". 6 الأغاني "3/ 113"، "طبعة بيروت" مروج "2/ 60".

"إنكم قد تفردتم بآلهة شتى، وإني لأعلم ما الله راض به. وإن الله تعالى رب هذه الآله، وإنه ليحب أن يعبد وحده". فنفرت كلماته هذه وأمثالها القوم منه وتجنبته، وقالوا عنه إنه على دين بني تميم1. وفي أبيات منسوبة إلى زهير بن أبي سلمة الشاعر المعروف إقرار بوجود إله عالم بكل ما في النفوس، هو "الله"، لا تخفى عليه خافية، فلا يجوز كتمان شيء عنه، وبوجود يوم حساب يحاسب فيه الناس على ما قاموا به من أعمال، وقد ينتقم الله من الظالم في الدنيا قبل الآخرة، فلا مخلص له2. ونسب الإيمان بالله واليوم الآخر إلى أشخاص آخرين، منهم: عبد الله القضاعي والشاعر عبيد بن الأبرص الأسدي، وكعب بن لؤي بن غالب، والأول منهم هو ابن تغلب بن وبرة بن قضاعة، كان من الحكماء الخطباء، يتبع الحنيفية، وينهج على نهجها مثل الحنفاء3. وأما الثاني، وهو عبيد بن الأبرص، فشاعر جاهلي شهير له في قتله قصة، هي من ذيول قصة "الغريين" للمنذر بن ماء السماء. نجد في الشعر المنسوب إليه اسم "الله" يتردد في كثير من المواضع، ونراه من المتشائمين المؤمنين بالمنايا وبالمحتم المكتوبن ونراه افي القصيدة البائية يتوكل على الله، ويدعو الناس إلى الاعتماد عليه فيقول: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيب والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب4

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 277". 2 فلا تكتمن الله ما في صدوركم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيودع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم شرح ديوان زهير بن أبي سلمى، للإمام ثعلب "ص12"، "طبعة الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "القسم الرابع ص518"، بلوغ الأرب "2/ 277 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "2/ 280". 4 البيان والتبيين "1/ 226"، شعراء النصرانية "القسم الرابع ص607 وما بعدها"، أسماء المغتالين "211"، "نوادر المخطوطات".

ونراه يقول في المنايا: فأبلغ بني وأعمامهم ... بأن المنايا هي الوارده لها مدة فنفوس العباد ... إليها وإن كرهت قاصده فلا تجزعوا الحمام دنا ... فللموت ما تلد الوالده1 وفي كثير من مواضع شعره يذكر المنايا ويتذكر الموت، ثم هو يتجلد ويتصبر في ملاقاة الشدائد والأهوال، وينصح الناس بالسير على هذا المنوال. والذي يقرأ شعره، يشعر أنه أمام رجل حضري رقيق عاطفي المزاج، ذي نفس ميالة إلى التقشف والتصوف، مؤمن بالعدل، كاره للظلم، فهل كان عبيد على هذه الشاكلة؟ وهل هذا الشعر وخاصة ما جاء منه في البائية هو نظم من منظومه؟ أو هو من نظم من عاش بعده في الإسلام؟ وأما "كعب بن لؤي بن غالب". فهو من أجداد النبي. وقد كان على الحنيفية، وإليه كانت تجتمع قريش في كل جمعة، فكان يعظهم ويوجههم ويرشدهم يأمرهم بالطاعة والتفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتقلب الأحوال والاعتبار بما جرى على الأولين والآخرين، ويحثهم على صلة الأرحام وإفشاء السلام وحفظ العهد ومراعاة حق القربة والتصدق على الفقراء والأيتمام2. هذه خلاصة موجزة لسير من حشرهم أهل الأخبار في زمرة الحنفاء، تريك آراء الجماعة تكاد تكون واحدة: كفر بالأصنام وبالشرك كله، وإعراض عن عادات قومهم، وثورة على عقائدهم، وترقب لحدوث تطور وإصلاح يقضي على الجهالة، وقد مهدوا له بدعوتهم تلك التي أشاعوها بين بني قومهم فجلبت عليهم السخط والغضب الشديد، مما حمل أكثرهم، وهم في الغالب من مكة وأطرافها، على الفرار من بلدتهم إلى أطرافها المنعزلة الآمنة وغيرها من الأماكن الخالية، ليكونوا في أمان من إيذاء قومهم لهم، وفي وسط يفكرون فيه في خلق السماوات والأرض تفكيرا هادئا، فلا يزعجهم مزعج، ولا ينغص حياتهم هناك مختص.

_ 1 شعراء النصرانية "القسم الرابع ص604 وما بعدها". 2 ابن سعد، الطبقات "الجزء الأول، القسم الأول ص39"، بلوغ الأرب "2/ 282".

لقد جعل أهل الأخبار معظم من تحدثنا عنهم إن لم نقل كلهم من القارئين الكاتبين، ونسبوا إلى بعضهم قراءة الكتب والصحف والزبور ومجلة لقمان. يريدون بذلك الكتب المقدسة. ويفهم من كلامهم في بعض الأحيان أن منهم من كان يحسن فهم العبرانية أو لغة بني إرم. ولكن الإخباريين عفا الله عنهم لم يتبسطوا لنا في الحديث عن ماهية تلك الصحف وعن محتويات مجلة لقمان وعن الكتب المنزلة، ولم يأتوا بنماذج مفصلة طويلة أو قطع ترشد إلى المظان، التي نقلت منها. فأضاعوا علينا، بإهمالهم الإشارة إلى هذه الأمور، أشياء كثيرة كهمة، بنا حاجة ماسة إلى معرفتها، للوقوف على الحالة الدينية في جزيرة العرب قبيل الإسلام وإبان ظهوره. ويؤكد أهل الأخبار أن بعض أولئك الحنفاء كانوا يسيرون على سنة إبراهيم وشريعته، وأن بعضًا آخر منهم كان يلتمس كلماته ويسأل عنها، وأنهم في سبيل ذلك تحملوا المشاق والأسفار والصعاب. وقد جعلوا وجهة أكثرهم أعالي الحجاز وبلاد الشأم وأعالي العراق. أي المواضع التي كانت غالبية أهلها على النصرانية يومئذ، وجعلوا أكثر كلامهم وسؤالهم مع الرهبان. وقد أضافوا إليهم الأحبار أحيانًا، وذكروا أن الرهبان والأحبار أشاروا عليهم بوجوب البحث والتأمل، فليس عندهم ما يأملونه ويرجونه من دين إبراهيم وإسماعيل، ولذلك لم يدخلوا في يهودية ولا نصرانية، بل ظلوا ينتظرون الوعد الحق، ومنهم من مات وهو على هذه العقيدة. مات معتقدا بدين إبراهيم حنيفا، غير مشرك بربه أحدا. أما كيف كانت شريعة إبراهيم، وعلى أي نهج سار الحنفاء، وهل كان لهم كتاب أو كتب أو نحو ذلك؟ فأسئلة لم يجب عنها أهل الأخبار إجابة صريحة واضحة. لذلك صرنا في جهل بأمر تلك الشريعة: شريعة إبراهيم، شريعة التوحيد الحق. ويذكر أهل الأخبار أنه كان الأتباع إبراهيم من العرب علامات وعادات ميزوا أنفسهم بها عن غيرهم، منها: الختان، وحلق العانة، وقص الشارب. وهي علامات جعلها بعض المفسرين من "كلمات إبراهيم" التي ذكرت في القرآن الكريم، في الآية: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} 1. ذهب القائلون

_ 1 البقرة، الآية 124.

بهذا الرأي إلى أن تلك الكلمات هي عشر: "خمس في الرأس، وخمس في الجسد. فأما التي في الرأس، فالمضمضة والاستنشاق وقص الشارب وفرق الرأس والسواك. وأما التي في الجسد، فالاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان"1. ومن سنن شريعة إبراهيم الاختتان. وهو من العادات القديمة الشائعة بين العرب الجاهليين الوثنيين. أما العرب النصارى، فلم يكونوا يختتنون. فالحنفاء في هذه العادة والوثنيون سواء. وفي أخبار معركة "حنين" أن الأنصار حينما أجهزوا على قتلى ثقيف ممن سقط في المعركة مع هوازن وجدوا عبدا، عندما كشف ليستلب ما عليه وجد أغرل. فلما تبين ذلك للأنصار، نادى أحدهم بأعلى صوته: يعلم الله أن ثقيفا غرل ما تختتن. فقام إليه المغيرة بن شعبة، وهو من ثقيف، فأخذ بيده، وحشي أن يذهب ذلك عن قومه في العرب، فقال له: لا تقل ذلك فداك أبي وأمي، إنما هو غلام لنا نصراني، ثم جعل يكشف له قتلى قومه ويقول له: ألا تراهم مختتنين2؟ ويتبين من هذا الخبر أن العرب كانوا يعدون الغزل شيئًا معيبًا، ومقبضة تكون حديث الناس. وهناك خبر آخر يفيد أن العرب جميعًا كانوا يختتنون، وأن الاختتان كان من السمات التي تميزهم عن غيرهم، وأنهم في ذلك كاليهود3. وقد ورد في الموارد اليهودية ما يفيد اختتان العرب. ولعل التوراة التي ذكرت قصة اختتان إسماعيل، أخذت خبرها هذا من تقاليد العرب الشماليين التي كانت شائعة بينهم في ذلك العهد4.

_ 1 تفسير الطبري "1/ 414 ومابعدها"، روح المعاني "1/ 374"، بلوغ الأرب "2/ 287"، المحبر "329". 2 الطبري "3/ 130"، "ذكر الخبر عن غزوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هوازن بحنين. 3 الأغاني "6/ 91"، "ذكر أبي سفيان وأخباره ونسبه. 4 Reste S175

الاعتكاف

الاعتكاف: وقد نسب الاعتكاف في الكهوف وفي البراري وفي الجبال إلى عدد من هؤلاء الحنفاء. فقد ذكر أهل الأخبار أنهم كانوا قد اعتكفوا في المواضع الخالية البعيدة

عن الناس، وحبسوا أنفسهم فيها، فلا يخرجون منها إلا لحاجة شديدة وضرورة ماسة1. يتحنثون فيها ويتأملون في الكون، يلتمسون الصدق والحق. والتحنث التعبد. فكانوا يتعبدون في تلك المواضع الهادئة الساكنة، مثل غار "حراء" وقد ذكر أن الرسول كان يتحنث فيه الليالي، يقضيها في ذلك الغار2. ويعبر عن التعبد ليلا بـ "التهجد" أيضًا. وذكر أن التهجد الصلاة ليلا. وقد كان الرسول يتهجد3. والتهجد التيقظ والسهر بعد نومة من الليل. والهجود النوم عند العرب. ويظهر أن تفسير التهجد بالتعبد ليلا، إنما ورد من تفسيرهم لما ورد في القرآن الكريم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} 4. فخص العلماء التهجد بالتعبد ليلا. ويعبر عن التعبد بالنسك، والنسك: العبادة والطاعة وكل ما يتقرب به إلى الآلهة. والنساك: المتعبدون. وقد كان الحنفاء من النساك أي المتعبدين. وعدوا الذبائح من النسك. وجعلوا النسيكة: الذبيحة5. والذبائح، أي النسائك، هي من أهم مظاهر التعبد والزهد عند الجاهليين. وممن نسب إلى النسك والرهبنة من الجاهليين "أبو عمر عامر عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان"، أحد "بني ضبيعة بن زيد". وكان في الجاهلية يسمى "الراهب"، لأنه كان مترهبا، وقد كان من المقدمين بيثرب، إذ كان رأس الأوس فيها، فلما جاء رسول الله إلى المدينة، خاصمه، ثم خرج إلى مكة مباعدا له، ومعه خمسون غلاما من الأوس، واشترك مع قريش يوم أحد6.

_ 1 تاج العروس "6/ 203"، "عكف". 2 تاج العروس "1/ 616""حنث". 3 تاج العروس"2/ 543" "هجد". 4 الإسراء، الآية 79، تفسير الطبير "15/ 95"، روح المعاني "15/ 127". 5 اللسان "10/ 498 وما بعدها" "نسك". 6 نهاية الأرب "17/ 89"، "ذكر غزوة أحد"، امتاع الإسماع "1/ 115".

الفصل السادس والسبعون: اليهودية بين العرب

الفصل السادس والسبعون: اليهودية بين العرب مدخل ... الفصل السادس والسبعون اليهودية بين العرب والحديث عن اليهودية بين العرب، وعن وجود يهود في أنحاء من جزيرتهم، لا يمكن أن يكون حديثا تأريخيا مبنيا على العلم إذا ارتفعنا به إلى الميلاد وإلى ما قبل الميلاد. ولا يعني كلامي هذا عدم وصول يهود إلى جزيرة العرب، وعدم إقامتهم في أماكن منها. فهذا كلام لا يمكن أن يقال، ولا يمكن قبوله. إنما أريد أن أقول أننا لا نملك نصوصا تأريخية تخولنا أن نتحدث عن اليهود في جزيرة العرب قبل الميلاد حديثا علميا، بأن نعين المواضع التي نزلوا فيها، والأماكن التي وصولا إليها، وما فعلوه هناك، وفي أي عهد كان ذلك، ومن قادهم إلى تلك الأنحاء، ومن استقبلهم استقبالا حسنا، أو استقبلهم استقبالا سيئًا من الجاهليين؟ وقد عرف اليهود عند الجاهليين، وورد ذكرهم في الشعر الجاهلي. ولا بد من وقوف الجاهليين على أحوالهم، لأنهم كانوا كما سنرى يسكنون في مواضع عديدة معروفة تقع ما بين فلسطين ويثرب، كما سكنوا في اليمن وفي اليمامة وي العروض. وكان تجار منهم يقيمون في مكة وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب للاتجار وإقراض المال بربا فاحش للمحتاجين إليه. ومعارفنا عن يهود جزيرة العرب مستمدة من الموارد الإسلامية. والسبب في ورود خبرهم في هذه الموارد، هو اصطدامهم بالإسلام، ومقاومتهم له حينما دعاهم الرسول إلى الدخول فيه، فنزل فيهم الوحي، وأشير إليهم في الحديث،

وذكروا في كتب التفسير والسير والتواريخ والأدب. ومن هنا تجمعت معارفنا عن يهود الجاهلية. ولهذا تجد الحديث عن يهود الجاهلية لا يرتقي كثيرًا عن عصر النبوة، ولا يبتعد عنه ولكني لا أستبعد احتمال تغير الحال، إذا ما عثر المنقبون في المستقبل على كتابات جاهلية قد تكون مطمورة في الوقت الحاضر في باطن التربة، يكون لها صلة بيهود جزيرة العرب، أو إذا ما عثر على مؤلفات ووثائق مكتوبة عبرانية أو غير عبرانية قد تكون مجهولة عن ذوي العلم في الوقت الحاضر، تكون لها صلة وعلاقة بأمر يهود جزيرة العرب قبل الإسلام. وقد وردت لفظة "يهود" معرفة في القرآن الكريم. أي على هذا الشكل: "اليهود". وردت في مواضع من سورة البقرة1. ومن سورة المائدة2 ومن سورة التوبة3. وكلها سورة مدنية. ولم ترد في سورة من السور المكية. كما وردت لفظة "يهوديا" في سورة آل عمران، وردت في شرح ديانة "إبراهي": {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} 4. وهي من السور المدنية كذلك. وعبر القرآن الكريم عن اليهود وعن معتنقي اليهودية بـ {الذين هادوا} 5، وبـ {من كان هودا} 6 و {كونوا هودا} 7 و {كانوا هودا} 8. وسورتي الأنعام والنحل من السور المكية. وبناء على ذلك تكون جملة "الذين هادوا" قد نزلت قبل نزول لفظة "اليهود" في القرآن الكريم. وقد عبر عن العبرانيين عامة ب"بني إسرائيل" في القرآن الكريم. عبر عنهم في سورة مكية وفي سورة مدنية. ويلاحظ أن ورود هذا التعبير في القرآن الكريم، هو أكثر بكثير من ورود لفظة "اليهود" فيه.

_ 1 البقرة: الآية 113، 120. 2 المائدة، الآية 18، 51، 64،82. 3 التوبة، الآية30. 4 آل عمران، الآية 67ز 5 البقرة، الآية 62،النساء، الآية 46، 160،المائدة الآية 41، 44، 69 الأنعام الآية 146، النحل، الآية 188، الحج، الآية 17، الجمعة، الآية 9. 6 البقرة، الآية 111. 7 البقرة، الآية 135. 8 البقرة، الآية 140.

ولما كانت فلسطين امتدادا طبيعيا للحجاز، كان من الطبيعي اتصال سكانها بالحجاز، واتصال سكان الحجاز بفلسطين، وذهاب جاليات يهودية إلى العربية الغربية، للاتجار وللإقامة هناك، خاصة بعد فتوح الدول الكبرى لفلسطين واستيلائها عليها، وهجرة اليهود إلى الخارج. فكانت العربية الغربية لاتصالها بفلسطين من الأماكن الملائمة المناسبة لهجرة اليهود إليها، وإقامتهم فيها، ولا سيما عند مواضع المياه وفي الأرضين الخصبة الغامرة، غير إننا لا نستطيع، كما قلت، التحدث عن هجرة اليهد هذه إلى هذه الأنحاء حديثا علميا معززا بالكتابات وبالتواريخ. ولم يترك يهود جزيرة العرب لهم أثرًا مكتوبا يتحدث عن ماضيهم فيها. وكل ما عثر عليه منهم، نصوص معدودة، وجدت في اليمن، لا تفصح بشيء ذي بال عن اليهود واليهودية. كذلك لم يصل إلينا أن أحدا من المؤلفين والكتبة العبرانيين ذكر شيئًا عن يهود الجاهلية. وليس لنا من تأريخ اليهود في جزيرة العرب إلا ما جاء في القرآن الكريم وفي الحديث وكتب التفسير والأخبار والسير. فمادتنا عن تأريخ اليهودية في العربية، لا ترتقي إلى عهد بعيد عن الإسلام. لقد ذهب بعض المؤرخين المحدثين إلى أن اليهود كانوا في جملة من كان في جيش "نبونيد" يوم جاء إلى تيماء. فأقاموا بها وبمواضع أخرى من الحجاز بلغت "يثر". وأن هؤلاء اليهود أقاموا منذ ذلك الحين في تلك الأماكن واستوطنوا وادي القرى وأماكن أخرى إلى مجئ الإسلام. غير أن "نبونيد" لم يشر في أخباره المدونة إلى وجود اليهود في جيشه وإلى إسكانه لهم في هذه الأرضين كما أننا لم نعثر على كتابات تتحدث عن هذا العهد أو عن العند الذي سبقه أو الذي جاء من بعده، لذلك فإننا لا نستطيع أن نعزز هذا الكلام بنصوص وكتابات. وإن كنا لا نريد نفي احتمال مجئ اليهود إلى هذه الديار في عهد "نبونيد"، أو في عهد "بخت نصر"، أو قبل العهدين. نعم، لقد عثر على عدد من الكتابات النبطية في الحجر وفي مواضع أخرى من أرض النبط وردت فيها أسماء عبرانية تشير إلى أن أصحابها من يهود، ويعود بعضها إلى القرن الأول للميلاد، ويعود بعض آخر إلى ما بعد ذلك مثل الكتابة التي يعود عهدها إلى سنة 307 ميلادية، وصاحبها رجل اسمه "يحيى بر شمعون" أي "يحيى بن شمعون"1. غير أن هذه الكتابات شخصية، ولا تفصح بشيء

_ 1 Islamic culture, vol, III, No. 2, April 1929, Judaeo-Arabic Relations in Pre-Islames Times, By Josef Horovity, P. 170.

ذي بال عن عقيدة أصحابهان ولا عن تأريخهم في هذين الأرضين. وقد ذهب اليهود إلى العربية الشرقية، ذهبوا إليها من العراق، فسكنوا في مواضع من سواحل الخليج، وتاجروا مع أهل هذه البلاد ومع باطن الجزيرة. وقد ساعدتهم بعض الحكومات على الذهاب إليها. وقد كانت ليهود العراق تجارات مع أهل الخليج، كما يفهم ذلك من مواضع من التلمود. ويتبين من روايات المؤرخ اليهودي "يوسفوس فلافيوس Iosephos Fiavius أن اليهودية كانت قد وجدت لها سبيلا بين العرب. وأن بعض ملوك مملكة "حدياب" Adiabene كانوا قد دخلوا فيها1. ويذكر المؤرخ "سوزومين" Souzomenos أن اليهود كانوا ينظرون إلى العرب الساكنين شرق الحد العربي Iimes Arabicus على أنهم من نسل إسماعيل، وأنهم كانوا يرون أنهم من نسل إسماعيل وإبراهيم، فهم من ذوي رحمهم، ولهم بهم صلة قربى. وكانوا يرجون لذلك دخلوهم في دينهم، واعتناقهم دين إبراهيم جد اليهود والعرب. وقد عملوا على تهويد أولئك العرب2. ويظهر من مواضع من التلمود أن نفرا من العرب دخلوا في اليهودية، وأنهم جاءوا إلى الأحبار، فتهودوا أمامهم3. وفي هذه المرويات "التلمودية"، تأييد لروايات أهل الأخبار التي تذكر أن اليهودية كانت في حمير، وبني كنانة، وبني الحارث بن كعب، وكندة4، وغسان. وذكر "اليعقوبي" أن ممن تهود من العرب "اليمن بأسرها. كان تبع حمل حبرين من أحبار يهود إلى اليمن. فأبطل الأوثان، وتهود من باليمن، وتهود قوم من الأوس والخزرج بعد خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب وقوم من غسان وقوم من جذام"6. وقد ذكر علماء التفسير في تفسيرهم الآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ

_ 1 Die Araber, II, S. 65. ff. 2 Sozomenos, 6 38 10-13, 299, 17, Die Araber, II, S. 74. 3 Y bamot, 16, Abooda Zara 27a, Die Araber, II, S 74. 4 المعارف "621"، الأعلاق النفيسة "217". 5 البدء والتأريخ "4/ 31". 6 اليعقوبي "1/ 226 وما بعدها".

الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 1، أنها نزلت في الأنصار. كانت المرأة المقلات في الجاهلة تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده فتهود قوم منهم. فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام. أو أنهم لما بقوا على يهوديتهم، وأمر اليهود بالجلاء، وفيهم منهم، شق على آبائهم ترك أبنائهم يذهبون مع اليهود، فقالوا: "يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم.. فسكت عنهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ... فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد خير أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم"2. وذكر العلماء أيضا أن ناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني قريظة وغيرهم من يهود، فتهودوا، وأن من الأنصار من رأي في الجاهلية أن اليهودية أفضل الأديان، فهودوا أولادهم، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، أرادوا إكراه أبنائهم الذين تهودوا على الدخول فيه، فنزل الوحي بالآية المذكورة3. فقد كان إذن بين يهود جزيرة العرب، عرب دخلوا في دين يهود. وذكر أهل الأخبار أن "جبل بن جوال بن صفوان" الثعلبي، من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، كان يهوديا فأسلم، فهو عربي، يظهر أنه أو أهله قبله قد تهودوا، فكان على دين يهود، وعاش مع "بني قريظة"، حتى اعتنق الإسلام4. وذكروا أسماء آخرين كانوا من متهودة الجاهليين. ويرى بعض المؤرخين اليهود أن يهود جزيرة العرب كانوا في معزل عن بقية أبناء دينهم وانفصال، وأن اليهود الآخرين لم يكونوا يرون أن يهود العربية مثلهم في العقيدة، بل رأوا أنهم لم يكونوا يهودًا، لأنهم لم يحافظوا على الشرائع الموسوية ولم يخضعوا لأحكام التلمود5. ولهذا لم يرد عن يهود جزيرة العرب شيء في أخبار المؤلفين العبرانيين. وعندي أن عدم ورود شيء عن يهود الحجاز في أخبار المؤلفين العبرانيين

_ 1 البقرة، رقم 2، آية 256. 2 تفسير الطبري "3/ 10 وما بعدها. 3 تفسير الطبري "3/ 10 وما بعدها"، تفسير القرطبي "3/ 280، وما بعدها". 4 الإصابة "1/ 223 وما بعدها" "رقم 1071". 5 إسرائيل ولفنسون: تأريخ اليهود في بلاد العرب "ص13"، "القاهرة 1927".

لا يمكن أن يكون دليلا على عزلة يهود الحجاز عن بقية اليهود. فقد أهمل غيرهم أيضًا ولم يشر إليهم، لأن التأليف الفكري عند العبرانيين كانا قد تركزا في هذه العهود على المستوطنات اليهودية في العراق وعلى فلسطين، وعلى "طبريا" بصورة خاصة، ولم تشتهر الجاليات اليهودية التي انتشرت في مواضع أخرى بالتأليف، فكان من الطبيعي أن تنحصر أخبار اليهود في هذا العهد في هذين القطرين. ولهذا لم يشر إلى يهود الحجاز وإلى يهود بقية جزيرة العرب. ثم إن الحجاز على اتصال بفلسطين، وفلسطين جزء من الحجاز متمم له جغرافيا، وهو متصل بفلسطين منذ القدم، وفلسطين منفذه التجاري، وميناء "غزة" من المواضع التي كان يقصدها تجار الحجاز للاتجار، والحركة مستمرة دوما بين فلسطين والحجاز، وقد كان تجار اليهود من أهل الحجاز يتاجرون مع بلاد الشام وفي وجملتها أرض فلسطين، وإلا يكون بين اليهودين اتصال. أما من ناحية الآراء الدينية والاعتقادية، فقد يكون بين اليهودين بعض الاختلاف، فقد وقع اختلاف في الآراء بين أحبار يهود العراق وبين أحبار يهود فلسطين، فلا يستبعد إذن رأي من يقول بوجود اختلاف في وجهة نظر يهود فلسطين بالنسبة ليهود الحجاز، إذ قد يكون بوجود اختلاف في وجهة نظر يهود فلسطين بالنسبة ليهود الحجاز، إذ قد يكون بوجود اختلاف في وجهة جزيرة العرب قد تأثروا بالعرب الذين نزلوا بينهم فاضطروا إلى التخفيف من التمسك بشعائر دينهم، لا سيما وأن من بين يهود جزيرة العرب يهود متهودون، كانوا في الأصل من أدوم ومن النبط ومن العرب، دخلوا في اليهودية لعوامل متعددة، فلم يكونوا لذلك على سنة اليهود الأصيلين في المحافظة على شريعتهم محافظة شديدة تامة. وقد انتشر اليهود جماعات استقرت في مواضع المياه والعيون من وادي القرى وتيماء وخيبر إلى يثرب، فبنوا فيها الآطام لحماية أنفسهم وأرضهم وزرعهم من اعتداء الأعراب عليهم. وقد أمنوا على أنفسهم بالاتفاق مع رؤساء القبائل الساكنة في جوارهم على دفع إتاوة لهم، وعلى تقديم الهدايا إليهم لاسترضائهم. وكان من شأنهم أيضًا التفريق بين الرؤساء وإثارة الشحناء بين القبائل حتى لا تصفوا الأحوال فيما بينها وتلتئهم ولئلا يكون اتفاقها والتئامها خطرًا يتهدد اليهود. وليس الذي يرويه أهل الأخبار عن إرسال موسى جيشًا إلى الحجار، واستقرار ذلك الجيش في يثرب بعد فتكه بالعماليق وبعد وفاة موسى، ثم ما يذكرونه عن

هجرة داود مع سبط يهوذا إلى خيبر وتملكه هناك ثم عودته إلى إسرائيل1 وأمثال هذا إلا قصصًا من النوع الذي ألفنا قراءته في كتب أهل الأخبار، لا أستبعد أن يكون مصدره يهود تلك المنطقة أو من أسلم منهم، لإثبات أنهم ذوو نسب وحسب في هذه الأرضين قديم، وأنهم كانوا ذوي بأس شديد، وأن تاريخهم في هذه البقعة يمتد إلى أيام الأنبياء وابتداء إسرائيل، وأنهم لذلك الصفوة المختارة من العبرانيين. وقد زعم أهل الأخبار، أن العمالقة كانوا أصحاب عز وبغي شديد، وكانوا ينزلون الحجاز في جملة ما نزلوا من أماكن في أيام موسى، وكان منهم: بنو هف وبنو سعد وبنو الأزرق وبنو مطروق. وملكهم إذ ذاك رجل منهم اسمه "الأرقم"، ينزل ما بين تيماء وفدك. وكان سكان يثرب من العمالقة وكذلك سكان بقية القرى. فلما تغلب عليه العبرانيون انتزعوا منهم مساكنهم، وأقاموا في مواطنهم في الحجاز2. وقد أخذ أهل الأخبار ما رووه عن دخول اليهود إلى يثرب في أيام موسى، وما ذكروه عن إرساله جيشًا إلى هذه المنطقة، ثم ما رووه عن سكنهم القديم في أطراف المدينة وفي أعالي الحجاز، من سفر "صموئيل الأول" من التوراة3. وقد حسب أهل الأخبار العمالقة من سكان يثرب القدماء، ومن سكان أعالي الحجاز، فزعموا أن تلك الحروب قد وقعت في هذه المنطقة، وأن اليهود قد سنوها لذلك منذ أيام موسى. وقد أخذ الإخباريون رواياتهم هذه من اليهود، وممن دخل منهم في الإسلام4. ويرى بعض الإخباريين أن ابتداء أمر اليهود في الحجاز ونزولهم وادي القرى وخيبر وتيماء ويثرب إنما كان في أيام "بخت نصر"، فلما جاء "بخت نصر"

_ 1 الأغاني "19/ 94 وما بعدها"، "أخبار أوس ونسب اليهود بيثرب وأخبارهم"، ابن خلدون "2/ 88"، "2/ 594"، "دار الكتاب اللبناني، بيروت 1956"، أبو الفداء "1/ 123"، ابن الأثير، الكامل "1/ 401 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 594" "بيروت 1956"، ابن هشام "2/ 17". 2 الأغاني "19/ 94"، ابن هشام "2/ 17". 3 صموئيل الأول: الاصحاح الخامش عشر، الآية 5 وما بعد. 4 NoIdeke BeItrage S 52

إلى فلسطين، هرب قسم منهم إلى هذه المواضع واستقروا بها إلى مجيء الإسلام1. وليس في هذا الخبر ما يحملنا على استعباده، فهروب اليهود إلى أعالي الحجاز ودخولهم الحجاز أمر سهل يسير، فالأرض واحدة وهي متصلة والطرق مفتوحة مطروقة، ولا يوجد أي مانع يمنع اليهود أو غير اليهود من دخول الحجاز. لا سيما وأن اليهود كانوا خائفين فارين بأنفسهم من الرعب، فهم يبحثون عن أقرب ملجأ إليهم يحميهم من فتلك ملك بابل بهم. وأقرب مكان مأمون إليهم هو الحجاز. أما ما ورد في روايات أهل الأخبار عن هجرة بعض اليهود إلى أطراف يثرب وأعالي الحجاز على أثر ظهور الروم على بلاد الشام وفتكهم بالعبرانيين وتنكيلهم بهم مما اضطر ذلك بعضهم إلى الفرار إلى تلك الأنحاء الآمنة البعيدة عن مجالات الروم، فإنه يستند إلى أساس تاريخي صحيح2. فالذي نعرفه أن فتح الرومان لفلسطين أدى على هجرة عدد كبير من اليهود إلى الخارج، فلا يستبعد أن يكون أجداد يهود الحجاز من نسل أولئك المهاجرين. وكان يقيم "بـ "مقنا" عند ظهور الإسلام قوم من اليهود اسمهم "بنو جنبة"، وقد كتب إليهم الرسول وإلى أهل "مقنا" يدعوهم إلى الإسلام، أو إلى دفع الجزية3. وكتب إلى قوم من يهود اسمهم "بنو غاديا"4، وإلى قوم آخرين اسمهم "بنو عريض"5. ومن هؤلاء المهاجرين على رأي الإخباريين بنو قريظة وبنو النضير وبنو بهدل. ساروا إلى الجنوب في اتجاه يثرب، فلما بلغوا موضع الغابة، وجدوه وبيا، فكرهوا الإقامة فيه، وبعثوا رائدا أمروه أن يلتمس لهم منزلا طيبا، وأرضا عذبة، حتى إذا بلغ "العالية"، وهي بطحان ومهزور واديان من حرة على تلاع أرض عذبة. بها مياه وعيون غزيرة، رجع إليهم بأمرها، وأخبرهم بما

_ 1 الأغاني "19/ 94"، ابن خلدون "2/ 594" "دار الكتاب"، أبو الفداء "1/ 123". "الكامل" "1/ 401" Rdony Die IsraeIiten zu Mekka S 135 2 ابن خلدون "2/ 594" "بيروت 1956". 3 ابن سعد "طبقات "1/ 276". 4 ابن سعد "طبقات" "1/ 278". 5 ابن سعد طبقات "1/ 279".

رآه منها، فقر رأيهم على الإقامة فيها. فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان، ونزلت قريظة وبهدل ومن معهم على مهزور، فكانت لهم تلاعة وما سقى من بعاث سموات1. وسكن اليهود يثرب. سكنها منهم بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو القصيص وبنو ماسلة، سكن هؤلاء المدينة وأطرافها، وكان يسكن معهم من غير بني إسرائيل بطون من العرب، منهم: بنو الحرمان حي من اليمن، وبنو مرثد حي من بلي، وبنو نيف وهم من بلي أيضًا، وبنو معاوية حي من بني سليم ثم من بني الحرث بن بهثة، وبنو الشظية حي من غسان. وظل اليهود أصحاب يثرب وسادتها، حتى جاء الأوس والخزرج، فنزلوها واستغلوا الخلافات التي كانت قد وقعت بين اليهود، فتغلبوا عليهم، وسيطروا على المدينة، وقسموها فيما بينهم، فلم يبق من يومئذ عليها سلطان2. وتذكر روايات أهل الأخبار أن مجئ الأوس والخزرج إلى يثرب كان بعد حادث سيل العرم. جاءوا إليها لفقر حالهم، والتماسا لوطن صالح جديد، وأنهم حينما نزلوها لم يكن لهم حول ولا قوة. ولذلك قنعوا بالذي حصلوا عليه من أرض ضعيفة موات، ومن رزق شحيح. أما المال والثروة والملك والجاه، فلليهود. بقوا على ذلك أمدا حتى إذا ما ذهب مالك بن العجلان، وهو منهم، إلى أبي جبيلة الغساني رئيس غسان يومئذ، ونزل عند، شكا لأمير غسان سوء حال قومه وما هم عليه من بؤس وضنك. فوعده أبو جبيلة أن يأتي على رأس جيش من قومه لمساعدته، على أن يقوم بعد عودته ببناء حائر عظيم، يعلن أنه بناه لاستقبال الأمير فيه، وأن يطلب من اليهود الخروج لاستقباله والتشرف بزيارته في ذلك الحائر، فإن فعلوه، فتل بهم وأبادهم. فلما تم البناء, ووصل الأمير في الأجل الموقوت، ودخل المدعوون رؤساء اليهود الحائر، فتكت عساكر أبي جبيلة بهم أهلكتهم، وتمت الغلبة من يومئذ للأوس والخزرج، وعاد

_ 1 الأغاني "19/ 94 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 594"، تأريخ أبو الفداء "1/ 123" "مطبعة التقدم". 2 الأغاني "19/ 95"، الكامل، لابن الأثير "1/ 401".

أبو جبيلة إلى مقر مكله1. غير أن اليهود ظلوا مع هذه الغلبة يتهاترون مع الأوس والخزرج ويعترضونهم ويتناوبونهم، فعمد مالك بن العجلان إلى الحيلة، فتظاهر أنه يريد الصلح معهم، وإنه عزم على تسوية العداوات وطمس الحزازات، وإنه لذلك يدعو رؤساءهم إلى طعام، ليتفاوضوا مع سادات قومه في أمر الصلح. فلما حضر رؤساء يهود، فتك بعشرات منهم ممن استجاب لدعوته، وفر أحدهم ليخبر قومه بما حدث، وحذر أصحابه الذين بقو، فلم يأت منهم أحد. "فلما قتل مالك من يهود من قتل، ذلوا، وقل امتناهم، وخافوا خوفًا شديدًا، وجعلوا كلما هاجمهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه لم يمش بعضهم لبعض كما كانوا يفعلون قبل ذلك، ولكن يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم، فيقول: إنما نحن جيرانكم ومواليكم، فكان كل قوم من يهود لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بهم" ومنذ ذلك الزمن لم يبق لليهود على هذه الأرضين سلطان2. وورد في رواية أخرى أن "مالك بن عجلان"، كان من الخزرج، وكان سيد قومه يومئذ، وكان على اليهود رجل منهم اسمه "الفطيون" ملك عليهم، واستبد بأمر الناس، وكان يهوديا ومن بني ثعلبة، وكان أمر سوء فاجرا، قرر ألا تدخل امرأة على زوجها إلا بعد دخولها عليه. فاغتاظ مالك من فعل الفطيون ومن استذلاله للعرب، ولما كان زفاف أخته لزوجها، وكان لا بد من ادخالها على "الفطيون" أولا ليستمتع بها، كبر ذلك عليه، فدخل معها في زي امرأة، فلما أراد "الفطيون" الخلو بها، وثب مالك عليه وعلاه بسيفه وقتله، وخلص قومه منه، وفر عندئذ إلى أبي جبيلة ملك غسان3. وتذكر هذه الرواية أن "جبيلة" لم يكن من غسان، بل كان من الخزرج، وكان عظيمًا ذا منزلة كبيرة في الناس، حتى صار ملكا على الغساسنة، ويرجح

_ 1 الأغاني "19/ 97 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 596"، أبوالفداء "1/ 123"، الكامل "1/ 401". 2 الأغاني "19/ 95 وما بعدها"، ابن الأثير الكامل "1/ 401 وما بعدها". 3 ابن الأثير، الكامل "1/ 401"، وفي بعض الكتب "القطيون" بحرف القاف، وهو تحريف، المحبر "113" جمهرة أشعار العرب "243"، "القاهرة 1926م".

رواتها أنه لم يكن ملكا على آل غسان، بل كان مقربا عند ملكهم، عظيم الحظوة لديه. ودليلهم على ذلك عدم اعتراف الغساسنة بوجود ملك عليهم اسمه "عبيد بن سالم بن مالك بن سالم"، وهو اسم "أبو جبيلة" المذكور. ويذكرون أن "الرمق بن زيد الخزرجي" مدحه بشعر قاله فيه1. وتذكر رواية أن الفطيون اسم عبراني، واسمه "عامر بن عامر بن ثعلبة بن حارثه"، وكان تملك بيثرب. فلما قتل خرج مالك بن العجلان، حتى قدم على "أبي جبيلة" ملك غسان، فأعلمه غلبة يهود على يثرب فعله بهم، فقدم "أبو جبيلة" ملك غسان، فأعلمه غلبة يهود على يثرب وفعله بهم، فقدم "أبو جبيلة" يثرب، ثم صنع طعاما، ومكن الأوس والخزرج ممن دعاهم إلى الطعام من قتل مائة من أشراف اليهود، فقويت الأوس والخزرج عليهم2. وجاء في رواية أخرى، أن "مالك بن العجلان"، إنما فر إلى "تبع"، بعد قتله "الفطيون" فاستصرخه على اليهود، فجاء حتى قتل ثلثمائة وخمسين رجلا غيلة من سادات يهود بـ "ذى حرض"، ولما أدبهم رجع إلى أرضه اليمن3. أما مالك بن العجلان، فقد صوره اليهود شيطانا ملعونا، وصوروه في بيعهم وكنائسهم ليلعنوه كما دخلوا ورأوه، وذكروه في شعرهم في أقبح هجاء قالوه4. وقد كان بين يهو يثرب قو يقال لهم "بني الفطيون" بقوا حتى جاء الرسول إلى يثرب. فأجلاهم في السنة الثالثة من الهجرة5. وذكر "ابن دريد" أن بعضًا من "بني الفطيون" الذين هم من نسل "الفطيون" ملك يثرب، قد شهد "بدرا" واستشهد بعضهم بوم اليمامة. وذكر أن نسب "الفطيون" في غسان. أن من ولد الغطيون: "أبو المقشعر" واسمه "أسيد بن عبد الله"6.

_ 1 ابن الأثير، الكامل "1/ 401 وما بعدها". 2 نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "136 وما بعدها". 3 البدء والتأريخ "3/ 179". 4 الأغاني "19/ 69"، الاشتقاق "ص270". Graetz, Geschichte der Juden, V, S. 431, Hirschfeld, Essai de I'histoire des Juives de Medine, in Revue Etudes Juives, VII, 1883, p. 173, Caussin de Perceval, Essai, II, p. 652, Wellhausen, Skizze, IV, S. 33, Nallino, Reccolta, III, p. 111 5 المحبر "112". 6 الاشتقاق "2/ 249"، "وستنفلد".

وقد فسر أهل الأخبار كلمة "الفطيون" بـ"مالك"، وقالوا إنها تقابل "النجاشي" عند الحبشة، و"خاقان" عند الترك. وذكروا أسماء نفر ممن كانوا يلقبون بالفطيون1. ويفهم من روايات الإخباريين أن يهود الحجاز كانوا قبائل وعشائر وبطونا، منهم: بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع، وبنو عكرمة، وبنو محمر، وبنو زعورا، وبنو زيد، وبنو الشظية، وبنو جشم، وبنو بهدل، وبنو عوف، وبنو القصيص "العصيص"، وبنو ثعلبة2. غير أنهم لم يكونوا أعرابا، أي بدوا يتنقلون من مكان إلى مكان، بل كانوا حضرا استقروا في الأماكن التي نزلوا فيها، ومارسوا مهن أهل المدر، كل جماعة مستقلة تحمل اسما من تلك الأسماء التي ذكرها الإخباريون. وقد عرف بنو قريظة وبنو النضير من بين اليهود بـ "الكاهنين"، نسبوا ذلك إلى جدهم الذي يقال له "الكاهن". و"الكاهن" هو الكاهن بن هارون بن عمران على زعم بعض أهل الأخبار3. فهم على هذه النسبة من أصل رفيع ومن نسب حسيب، يميزهم عن بقية طوائف يهود ولهذا كانوا يفتخرون بنسبهم هذا، ويرون لهم السيادة والشرف على من سواهم من إخوانهم في الدين. ويرى "نولدكه" احتمال كون بني النضير وبني قريظة من طبقة الكهان في الأصل: هاجروا من فلسطين على أثر الحوادث التي وقعت فيها، فسكنوا في هذه الديار. وهناك جملة عشائر وأسر يهودية تفتخر بإلحاق نسبها بالكاهن هارون شقيق موسى النبي4. كذلك يرجع "أوليري" كأمثاله من المستشرقين أصل بني قريظة وبني النضير إلى اليهود، ويرى أنهم غادروا ديارهم وجاءوا إلى هذه المنطقة في الفترة الواقعة ما بين خراب الهيكل في عام 70 للميلاد وتنكيل "هدريان" باليهود في عام 132 للميلاد5.

_ 1 الاشتقاق "2/ 259". 2 الأغاني "19/ 95 وما بعدها"، سيرة ابن هشام "2/ 147 وما بعدها". NoIdike BeItage 3 الأغاني "19/ 95"، تاج العروس "5/ 259" "قرظ". Margoliouth, p. 59, Graetz, History of the Jews, III, p. 56. 4 Noldeke, Bitrage, S. 55. 5 O'beary, p. 173.

ويرجع بعض بقية يهود جزيرة العرب نسبهم إلى الكاهنين وإلى الكاهنين وإلى الأسباط العشرة كذلك، فيدعون إنهم من تلك الأسباط المفقودة، وإنهم من نسل قدماء اليهود1. وقد كانت منازل بني النضير حينما غزاهم الرسول في وادي بطحان وبموضع البويرة2. ووادي بطحان، هو أحد أودية يثرب الثلاثة، هي: العقيق وبطحان وقناة، وهو واد فيه مياه غزيرة وعيون، اتخذ به اليهود الحدائق والآطام. وقد كان غزاهم الرسول بعد ستة أشهر من غزوة أحد، فأحرق نخلهم وقطع زرعهم وشجرهم لتطاولهم على المسلمين. ومن ساداتهم: حي بن أخطب، وأخوه ياسر بن اخطب، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع، وهو أبو رافع الأعور، والربيع بن أبي الحقيق3. وعمرو بن جحاش. ومن بني النضير، كعب بن الأشرف، وكان معاصرا للرسول، وكان صاحب لسان ونفوذ. أبوه من طئ على رواية، ومن بني النضير على رواية أخرى. أما أمه فهي من بني النضير بإجماع الرواة. توفي أبوه -على رأي من يقول إنه من طئ- وهو صغير، فحملته أمه إلى أخواله، فنشأ فيهم، وقال الشعر عندهم، وساد. ولما جاء الرسول إلى يثرب، كان كعب فيمن ناصب الرسول العداء فعلا وقولا، فهجا الرسول، وهجا أصحابه، وظل هذا شأنه بالرغم من محاولة المسلمين استصلاحه واسترضاءه، حتى جنى عليه لسانه، فأهدر النبي دمه، فذهب إليه نفر من المسلمين، فاقتحموا داره وقتلوه. وقد كانت له مناقضات مع حسان بن ثابت وغيره في الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج4.

_ 1 Nallino, Raccolta, III, p. 99, Friedlander, The Jews of Arabia and the Rechabites, in Jews Quarteriy Review, 1910-1911.p. 254 2 بالضم ثم السكون، وقيل بفح أوله وكسر ثانيه وبفتح أوله وسكون ثانية، البلدان "2/ 216"، "1/ 512 وما بعدها"، "السعادة". 3 البلدان "2/ 310 وما بعدها"، البكري، معجم "1/ 285" "طبعة مصطفى السقا" "بويرة" شرح ديوان حسان، للبرقوقي "ص193 وما بعدها، الطبري "2/ 224"، "الاستقامة" فتوح البلدان، للبلاذري "1/ 32"، "1932م"، "القاهرة". 4 الأغاني "19/ 106 وما بعدها"، المحبر "ص117،282،390"، ديوان حسان "ص46" "طبعة هرشفلد، شرح ديوان حسان "ص272 وما بعدها" "للبرقوقي"، الكامل، لابن الأثير "2/ 99"، الطبري "2/ 177"، معجم الشعراء، للمرزباني "343"، ابن خلدون "2/ 757"، ابن هشام "2/ 548"، البداية والنهاية "4/ 74".

وكان قد ذهب إلى مكة، فحرض قريشًا على الرسول، ولما عاد إلى موضعه، ألب المشركين من أهل يثرب عليه. ومرثا قتلى القليب، فقتله المسلمون كما ذكرت1. وكانت لبني قريظة حصون، يتحصنون بها وقت الخطر، ولهم آبار، ومنهم "محمد بن كعب القرظي"2. والزبير بن باطان بن وهب، وعزال بن شمويل، وكعب بن أسد، وشمويل بن زيد، وجبل بن عمرو بن سكينة. وكان بنو قينقاع أول اليهود الذين ناصبوا الرسول العداء، وكانوا يسكنون في أحياء يثرب، وكانوا أغنياء على غير وفاق ووئام مع بقية أبناء قومهم قريظة وبني النضير. وقد اشتركوا في يوم بعاث: ووقعت بينهم وبين بني النضير وبني قريظة معارك فتك فيها ببني قينقاع، وأصيبوا بخسائر كبيرة اضطرتهم على ما يظهر إلى الالتجاء إلى يثرب والإقامة فيها في حي واحد من المدينة3. ويرى "أوليري" احتمال كون بني قينقاع من أصل عربي متهود، أو من بني أدوم4. وقد تكون بعض القبائل اليهودية التي ذكر أسماءها الإخباريون قبائل يهودية حقًّا، أي من الجماعات اليهودية التي هاجرت من فلسطين في أيام القيصر "طيطوس" Titus" أو "هدريان" Hadrian، أو قبل أيامهما، أو بعدها. ولكن بعضًا آخر منها، لم يكن من أصل يهودي، إنما كانت قبائل عربية دخلت في دين يهود، ولا سيما القبائل المسماة بأسماء عربية أصيلة. ولبعض هذه

_ 1 التنبية "243"، والمصادر المذكورة، السيرة الحلبية "2/ 94 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 401 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 608"، ابن عساكر "1/ 40"، البداية والنهاية "4/ 74 وما بعدها". 2 تاج العروس "5/ 259"، "قرظ"، البداية والنهاية "4/ 116" الأغاني "19/ 94"، فتوح البلدان، للبلاذري "1/ 23، 35"، الطبري "2/ 245"، "الاستقامة"، السيرة الحلبية "2/ 145 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 777". 3 البداية والنهاية "4/ 3"، الطبري "2/ 172"، "الاستقامة" البدء والتأريخ "4/ 195"، البلدان "7/ 199"، ولفنسون "128 وما بعدها" السيرة الحلبية "2/ 2 وما بعدها"، ابن خلدون "2/ 608". 4 Obeary 173 f

101 الأسماء، صلة بالوثنية تشعر أنها كانت على الوثنية قبل دخولها في دين يهود1. والظاهر إنها تهودت إما بتأثير التبشير، وإما باختلاطها ودخولها في عشائر يهودية جاورتها فتأثرت بديانتها. وقد ذكر البكري إن "بني حشنة بن عكارمة"، وهم من بليّ قتلوا نفرًا من بني الربعة، ثم لحقوا بتيماء "فأبت يهود أن يدخلوهم حصنهم وهم على غير دينهم، فتهودوا، فأدخلوهم المدينة، فكانوا معهم زمانًا، ثم خرج نفر إلى المدينة، فأظهر الله الإسلام، وبقية من أولادهم بها"2. وهنالك بطون أخرى عربية الأصل كانت على دين يهود3. وقد اشتهر يهود خيبر من بين سائر يهود الحجاز بشجاعتهم. وخيبر موضع غزير المياه كثيره، وقد عرف واشتهر بزراعته وبكثرة ما به من نخيل. وعند إجلاء اليهود عن خيبر، تفرقوا فذهب بعض منهم إلى العراق، وبعض آخر إلى الشام، وبعض منهم إلى مصر. وقد بقوا في كل هذه المواضع متعصبين لوطنهم القديم خيبر، ينادون بشعارهم الذي كانوا ينادون به قبل الإسلام، وهو: "يا آل خيبر"4. وقد اشتهرت "خيبر" وعرفت بالحمى. حتى نسبت إليها، فقيل لها حمى" خيبرية". وكان من أساطيرهم إذ ذاك، أن من أراد دخولها فعليه بالتعشير ليتخلص منها. وكان من أوبداهم فيما يزعمون أن الرجل إذا ورد أرض وباء ووضع يده خلف أذنه، فنهق عشر نهقات نهيق الحمار، ثم دخلها أمن من الوباء5. وزعم أن يهود خيبر هم من نسل "ركاب" المذكور في التوراة6، وأن "يونادب" Jonadab "جندب" ابنه: تبدى مع أبنائه ومن اتبعه، وعاش

_ 1 Margoilouth, p. 60, Noldeke, Beitrage, S. 52, Wustenfeld, Geschichte von Medina, S. 28. 2 البكري "1/ 29" "طبعة السقا"، IsIamic III VoI 2 p 177 3 NoIdk BeItrage S 55 4 المشرق: السنة السادسة والثلاثون، 1938 "ص152 وما بعدها. 5 قال عروة بن الورد: وإني وإن عشرت من خشية الردى ... نهاق حمار إنني لجزوع 6 الملوك الثاني: الاصحاح العاشر، الآية 15-28 Hastings 784

عيشة تقشف وزهد وخشونة، وأن نسلهم هاجر بعد خراب الهيكل الاول إلى الحجاز حتى بلغوا خيبر، فاستقروا بها، واشتغلوا بزراعة النخيل والحبوب، وأنهم أقاموا فيها قلاعا وحصونا تحميهم من غارات الأعراب عليهم. ذكر بعض الإخباريين أنها ولاية من سبعة حصون، منها: حصن ناعم، والقموص حصن ابن أبي الحقيق وهو أقواها وأعزها وقد أقيم على مرتفع من الأرض حماه وعزز دفاعه، وحصن الشق، وحصن النطاة، وحصن السلالم، وحصن وجده، وحصن الوطيح، وحصن الكتيبة "الكثيبة". وقد أخرجوا منها وأجلوا عنها زمان عمر الخطاب1. وقد زعم بعض الإخباريين إن خيبر لفظة عبرانية، وأن معناها الحصن في عربيتنا2. وزعم بعض آخر إنها نسبة إلى رجل اسمه "خيبر بن فاتية بن مهلاييل"، سميت خيبر باسمه، لأنه كان أول من نزلها3. وذهب "وايل" WeiI، إلى أن اللفظة لفظة عبرانية، وهي بمعنى مجموعة مستوطنات4، أما "دوزي"، فقد أخذ بالرواية العربية، فزعم أن "خيبر"، كناية عن جماعة من اليهود هاجرت في أيام السبي من فلسطين إلى هذا الموضع، وهي من نسل "شفطيا بن مهللئيل" من "بني فارص"5. وأن "فاتيه"، هو تحريف "شفطيا" Shaftja المذكور في سفر "نحميا" من أسفار التوراة، وهو ابن "مهللئيل"، الذي هو "مهلاييل" عند أهل الأخبار. وزعم أن زمان هجرة هذه الجماعة يتناسب تمامًا مع الرواية القائلة أن هجرة اليهود إلى جزيرة العرب كانت في أيام "بخت نصر"6. وذهب المستشرقون أن كلمة "خيبر"، كلمة عبرانية الأصل "خيبر" Kheber"

_ 1 البلدان "3/ 495 وما بعدها"، البكري، معجم "1/ 521" تاج العروس "3/ 168"، "خبر"، اد المعاد "2/ 133"، تاريخ الإسلام "1/ 294 وما بعدها". Graetz, III, p. 56, Ency, II, p. 869, Caetani, Annali, II, I, 8-33. 2 أبو الفداء، "ص89"، البلدان "3/ 495"، البكري، معجم "2/ 521 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 168"، "خبر" 3 R Dozy Mekka S 136 4 Mohammed der Propht S 185 5 نحميا، الاصحاح الحادي عشر، الآية 4 وما بعدها. 6 R Dozy Mekka S136 f

ومعناها الطائفة والجماعة1. وذهب بعضهم إلى أن معناها الحصن والمعسكر2. وهي من أقدم المواضع التي لجأ إليها اليهود في الحجاز. ومن الصعب تعيين الزمن الذي هاجر فيه اليهود إلى هذا الموضع. لقد رجع بعضهم ذلك إلى أيام هجوم الرومان على فلسطين. غير أن من الجائز أن تكون هجرتهم إليها قد وقعت قبل ذلك، من الجائز أن تكون في أثناء السبي واستيلاء البابليين على القدس، وقد يجوز أن يكون قوم منهم قد جاءوا مع "نبونيد" ملك بابل إلى تيماء حين اتخذ "تيماء" عاصمة له. فهاجر قسم منهم إلى خيبر وإلى نواح أخرى من الحجاز3. وأقدم إشارة كتابية ورد فيها اسم خيبر، نص: حران اللجاة، ويرجع تأريخه إلى سنة مئة وستين من الأندقطية الأولى، وتقابل سنة 568 للميلاد، وقد ورد فيه: بعد مفسد خيبر بعم"4. أي بعد خرب خيبر بعام. وهو يشير إلى غزو لهذا الموضع أنزل به خسائر كبيرية، ولأهميته وفداحته في نفوس أهله أرخوا بوقوعه. ويعود النص المذكور المدون باليونانية والعربية إلى "شرحيل بن ظلمو" "شراحيل بن ظالم"، وقد دونه لمناسبة بنائه "مرطولا"، فأرخ بتاريخ خيبر المذكور. وهو يشير إلى غزوة قام بها أحد أمراء غسان على خيبر5. وقد وجدت كتابات بحروف المسند وكتابات نبطية في خيبر، هي أقدم عهدا من نص "حران اللجاة"، يفهم منها بوجود سكن في هذه الأرضين يعود بعضه إلى ما قبل الميلاد، ولم تكشف تربة خيبر حتى الآن، وكل ما عثر من عاديات فيها هو من النوع الذي وجد ظاهرا على سطح الأرض، وليس بمستبعد أن يعثر على كتابات قد تكشف عن تأريخ هذه البقية. ولما بلغ أهل تيماء ما حدث لإخوانهم في خيبر ووادي القرى، وفدك، قبلوا

_ 1 Charles Cutler Torrey, The Jewish Foundations of Islam, New York, 1933, p. 13. 2 Ency II p 879 3 Torret P 17 MuIIer Der IsIam IS 36 ff 4 جواد علي العرب قبل الإسلام "1/ 195 وما بعدها". 5 المصدر المتقدم، المعارف "313"، ولفنسون، السامية "192".

الجزية، وصالحوا الرسول في سنة تسع للهجرة، فضمن بذلك لهم حرية بقائهم في دينهم، وعلى تيماء كان يشرف حصن السموأل "الأبلق الفرد". وقد نعتت تيماء في بعض الأشعار بتيماء اليهود1. وتيماء من المواضع القديمة. وقد مر الحديث عنها في أماكن من هذا الكتاب. وقد سبق أن قلت بأن الملك "نبونيد" قد أقام فيها، حيث اتخذها عاصمة له، وهي في موقع حسن، وملتقى طرق هامة يسلكها التجار، وقد استبد بها اليهود فأقاموا بها وجعلوها من أهم مستوطناتهم في الحجاز. استغلوا أرضها فزرعوها، واستنبطوا الماء من الآبار بالإضافة إلى واحتها ذات المياه العذبة الغزيرة التي كان لها الفضل في تكوين هذا الموضع وإعماره. وقد ذكرت في شعر "امرئ القيس"، وفيها كان حصن السموأل بن عادياء المذكور في قصص امرئ القيس الشاعر. ويرى بعض المستشرقين أن "شمعون التيماني" Simeon of TemanIte المذكور في التلمود والمدراش، هو من أهل "تيماء"2. ولا يستبعد أن يكون من بين أهل هذه المدينة من حصل على شهرة في العلم بفقه اليهود وبأحوال دينهم. فإن مركزها وموقعها يجعل من السهل على سكانها الوصول إلى فلسطين وبقية بلاد الشام وأخذ العلم من علماء تلك البلاد. وقد عثر الرحالة "أويتنك" Euting" على كتابة مدونة بقلم بني إرم تعود إلى عهد كان الفرس قد استولوا فيه على هذا المكان، تتحدث عن أهمية تيماء ورقيها في هذا العهد3. ولا يستبعد العثور على كتابات عديدة إذا ما قام العلماء بالتنقيب عنها في باطن الأرض، فإن موضعا مثل هذا الموضع لا بد أن يكون غنيا بالكتابات والآثار. وقد وجد "أويتنك" آثار معبد قديم، وآثار مواضع عتيقة أخرى ترجع إلى ما قبل الإسلام4. ووجد "جوسن" Jaussen" و"سافينه" Savignac آثار مقابر على تلال من النوع الذي يطلق عليه الآثاريون اسم

_ 1 البلدان "2/ 442" "تيماء"، فتوح البلدان "1/ 29". 2 Mishna Yadayim, I, 3, Yebamoth, 4, 13, Tosephta Berachoth, 4, 24, Sanhedr, 12, 3, Besa, 2, 19, Bab. Talmud, Zebachim, 32 b. Baba Gamma, 90, b. Besa, 21a Tarrey, pp. 26 Margoliouth, p. 68. 3 Ency, IV. P. 622. 4 Euting, Tagebuch Einer Reise in innerarabien, II, 148. 199.

"تمولي" TumuIi ومرقاة مدرجة تؤدي إلى بناء مربع لعله معبد من معابد القوم بني على هذا التل1. ولا توجد اليوم بقية للأبلق الفرد، الذي افتخر السموأل وآل السموأل به، وكذلك يهود تيماء. وليس بمستبعد أن يكون ذلك الحصن من بقايا قصر "نبونيد" أو من بقايا قصور رجاله، أو من بقايا أبنية غيره ممن نزل هذا المكان. وقد يكون بناء أقامه السموأل وبناه بحجر تلك الأبنية القديمة. وقد أكسب قصر السموأل هذا الموضع شهرة، وأكسبه خبر وفاء السموأل شهرة كذلك على النحو المذكور في كتب الأدب والأخبار2. وفدك موضع آخر من المواضع الذي غلب عليه اليهود. وسكانه مثل أغلب يهود الحجاز مزارعون عاشوا على الزراعة كما اشتغلوا بالتجارة وببعض الحرف التي تخصص فيها اليهود مثل الصياغة والحدادة والنجارة3. والموضع من المواضع القديمة التي يعود عهدها إلى ما قبل الإسلام، وقد ذكره الملك "نبونيذ" في جملة المواضع التي زارها والتي خضعت لحكمه في الحجاز. وكان رئيس فدك عند ظهور الإسلام وهجرة الرسول إلى يثرب يوشع بن نون4. ووادي القرى، هو من من المواضع التي غصت باليهود، فكان أكثر أهله منهم. وقد كان يهوده من المزارعين5، وقد حفروا به الآبار، وتحالفوا مع الأعراب، وعاشوا معهم متحالفين. يعملون بالزرع. وقد غزاهم الرسول مرجعه من خيبر سنة سبع للهجرة، على أثر إصابة "مدعم الأسود" مولى الرسول بسهم غارب قتله. وهو مولى مولد من "حسمي"، كان أهداه "رفاعة بن زيد الجذامي" أو "فروة بن عمرو الجذامي" إلى الرسول6.

_ 1 Jaussen and Savignac, Mission Archeologique, II, pp. 133, 163. 2 أبو الفداء، تقويم البلدان "86"، البكري، معجم "1/ 329"، البلدان "2/ 67"، اللسان "12/ 76""صادر"، ابن حوقل، صورة الأرض "30"، ابن خلدون "2/ 574"، دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية" "6/ 130". 3 البكري، معجم "1/ 327"، تقويم البلدان "78". 4 الطبري "3/ 98" حوادث السنة السابعة" ابن الأثير "2/ 93"، "ذكر فدك"، البلاذري، فتوح "36 وما بعدها"، NaIIino RaccoIta I 198 III 97 5 زاد المعاد "2/ 146". 6 الطبري "3/ 16"، "ذكر غزوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وادي القرى" الإصابة "3/ 374"، "رقم 7858".

وكان من بين أهل مقنا وأيلة في أيام الرسول قوم من اليهود كذلك، وكذلك أهل بقية القرى الواقعة في أعالي الحجاز وعلى ساحل البحر، وقد صالحوا الرسول على الجزية، وبذلك ضمنوا لهم البقاء في هذا الأنحاء1. ومن هؤلاء اليهود "بنو جنبة"، وهم يهود بـ"مقنا"2، و"بنو غاديا"3، و"بنو عريض"4. وكان بالطائف قوم من اليهود طردوا من اليمن ويثرب، فجاءوا إليها، ولم تكن قد أسلمت بعد، فأقاموا بها للتجارة. فلما صالح أهل الطائف الرسول -على أن يسلموا ويقرهم على ما في أيديهم من أموالهم وركازهم، واشترط عليهم ألا يربوا ولا يشربوا الخمر وكانوا أصحاب ربا- وضعت الجزية على يهودها، وبقوا فيها، ومن بعضهم ابتاع معاوية أمواله بالطائف5. ويظهر إنه لم تكن لليهود جاليات كبيرة في جنوب المدينة حتى اليمن، لعدم إشارة أهل الأخبار إليهم، وإن كنت لا أستبعد وجود أفراد وأسر منهم في مكة وفي عدن وفي المدن التي اشتهرت بالتجارة كبعض موانئ البحر الأحمر وموانئ سواحل العربية الجنوبية. غير أن وجودهم في هذه المواضع، لم يكن له أثر واضح مهم، فلم يتجاوز محيط التجارة والاتجار. وقد ذهب بعض المستشرقين، استنادًا إلى دراسة أسماء يهود الحجاز عند ظهور الإسلام، إلى أن أولئك اليهود لم يكونوا يهودا حقًّا، بل كانوا عربا متهودين، تهودوا بتأثير الدعاة اليهود6. ولكن الاستدلال من دراسة الأسماء على أصول الناس، لا يمكن أن يكون حجة للحكم على أصولهم وأجناسهم. فالفرس والروم والهنود وغيرهم ممن دخل في الإسلام، تسموا بأسماء عربية، وبعضها أسماء عربية خالصة. وتسمياتهم هذه لا تعني أن من تسمى بها كان عربي الأصل. ثم إن كثيرًا من اليهود في الغرب وفي أمريكا وفي البلاد العربية والإسلامية، سموا أنفسهم بأسماء غير عبرانية، ولكنهم كانوا وما زالوا على دين يهود،

_ 1 البلدان "8/ 128" "مقنا"، البلاذري، فتوح "66"، زاد المعاد "2/ 117"، الطبري "2/ 232 وما بعدها". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 276". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 279". 4 ابن سعد "طبقات" "1/ 279". 5 البلاذري، فتوح "63". 6 W CaskeI Das attarabIsche koningreich Lihyan S 19

فالأسماء وحدها لا تكفي في إعطاء رأي علمي في تعيين الأصول والأجناس، ولا سيما في المواضع الكائنة على طرق التجارة والمواصلات وفي الأماكن التي يكثر فيها الاختلاط. وللمستشرق "ونكلر" رأي في هذا الموضوع، خلاصته: أن أولئك اليهود لو كانوا يهودا حقًّا هاجروا من فلسطين إلى هذه المواضع، لكانت حالتهم وأوضاعهم ومستواهم الاجتماعي على خلاف ما كان عليه هؤلاء اليهود. كانت حالتهم أرقى وأرفع من الحالة التي كانوا عليها، إذ لا يعقل، على رأيه، وصول جماعة إلى ذلك المستوى الاجتماعي الذي كان عليه يهود جزيرة العرب لو كانوا من بلاد مستواها الثقافي والمدني أرقى من مستوى من هو دونهم كثيرًا في شؤون الحياة. ومستوى الحياة في جميع نواحيها، فلسطين، أرقى وأرفع من مستواها في الأماكن التي وجد فيها اليهود من بلاد العرب. فهم على رأيه عرب متهودون، لا يهود مهاجرون1. غير أن هنالك من يؤاخذ ونكلر على هذا الرأي، لأن رأيه لا يمكن أن ينطبق على من ترك دياره وهاجر، واستقر في موطن جديد لأمد طويل، لأن الأوضاع المحيطة بالوطن الجديد سرعان ما تؤثر في المهاجرين، ولا سيما إذا كانوا جماعات صغيرة أو جماعات ليست ذات بأس شديد، فتجعلها تنصاع للمحيط الذي نزلت به بعض الإنصياع، فتفقد بعض خصائصها، لتكتسب خصائص المجتمع الجديد. ثم إن اليهود الذين نزلوا في الحجاز، كانوا يختلفون مع ذلك عمن كان في جوارهم أو بينهم، إذ كانوا يشتغلون بالزراعة ويمتهنون بعض المهن التي يأنفها العربي الأصيل، كما أنهم يشتغلون بالزراعة ويمتهنون بعض المهن التي يأنفها العربي الأصيل، كما أنهم كانوا لا يرغبون في القتال، ولا يميلون إلى الغزو والحروب، ولم يشتركوا إلا اضطرارا وإلا بإلحاح المصالح الضرورية فيها، وهم يختلفون في هذه الناحية من الأعراب2. ويلاحظ أن يهود الجاهلية لم يحافظوا على يهوديتهم وعلى خصائصهم التي يمتازون بها ويحافظون عليها محافظة شديدة، كما حافظوا عليها في الأقطار الأخرى. فأكثر أسماء القبائل والبطون والأشخاص، هي أسماء عربية، والشعر المنسوب إلى شعراء منهم، تحمل الطابع العربي، والفكر العربي، وفي حياتهم الاجتماعية والسياسية

_ 1 winkIer Mett Var Asai Ges VI S 222 2 MargoIiouth P62

لم يكونوا يختلفون كبيرا عن العرب، فهم في أكثر أمورهم كالعرب فيما سوى الدين1. ولعل هذا بسبب تأثير العرب المتهودة عليهم، وكثرتهم بالنسبة إلى من كان من أصل يهودي، مما سبب تأثيرهم، وهم ذوو أكثرية، في اليهود الأصيلين الذين أثروا فيهم فأدخلوهم في دينهم، فأثروا هم فيهم، وطبعوهم بطابع عربي. وقد عاش اليهود في جزيرة العرب معيشة أهلها، فلبسوا لبساهم، وتصاهروا معهم، فتزوج اليهود عربيات، وتزوج العرب يهوديات، ولعل كون بعض يهود من أصل عربي، هو الذي ساعد على تحطيم القيود التي تحول بين زواج اليهود بالعربيات وبالعكس. والفرق الوحيد الذي كان بين العرب واليهود عند ظهور الإسلام هو الاختلاف في الدين. وقد تمتع اليهود بحرية واسعة لم يحصلوا عليها في أي بلد آخر من البلاد التي كانوا بها في ذلك العهد2. ومن الأسماء قد تكون من أصل عبراني "زعورا"، وهم اسم عبراني متأثر بلهجة بني إرم، "يساف"، وقد يكون من "يوسف"، و"نبتل" وقد يكون من "نفتالي" NaftaeIi، وأسماء أخرى لم تتمكن من المحافظة على أصلها العبراني، فتأثرت بخواص اللسان العربي. وليس بين أسماء البطون اليهودية الأحد عشر، التي كانت في الحجاز في أيام ظهور الإسلام، اسم تظهر عليه الملامح العبرانية غير الاسم الذي ذكرته وهو "زعوراء"3. وكانت يثرب عند هجرة الرسول إليها، في أيدي أصحابها الأوس والخزرج، لهم السيطرة والسلطان، ولليهود آطامهم وقلاعهم في خيبر وفي تيماء وفي بعض قرى وادي القرى وفي أعالي الحجاز، يتاجرون، ويزرعون، ويقرضون الأموال بالربا الفاحش للأعراب، ويحترفون بعض الحرف مثل الصياغة، وهي حرفة اشتهروا بها منذ القديم، ويعقدون الأسواق ليقصدها الأعراب للامتياز. ولكن اليهود مع ما كان لهم من قلاع وآطام وقرى عاشوا فيها متكتلين مستقلين لم يتمكنوا من بسط نفوذهم وسلطانهم على الأرضين التي أنشئوا مستوطناتهم

_ 1 NoIdeke Beirage S55 f 2 Graetz III p58 f 60 3 Margoliouth, P. 60, Nallino, Raccolta, III, P. 104, H. Hirschfeld, Essal Sur I'histoire des Juifs de Medine, in Revue des Etudes Juifs, X, 1885. P. 11. f.

فيها، ولم يتمكنوا من إنشاء ممالك وحكومات يحكمها حكام يهود، بل كانوا مستقلين في حماية سادات القبائل، يؤدون لهم إتاوة في كل عام مقابل حمايتهم لهم ودفاعهم عنهم ومنع الأعراب من التعدي عليهم. وقد لجئوا إلى عقد المحالفات معهم، فكان لك زعيم يهودي حليف من الأعراب ومن رؤساء العرب المتحضرين. وقد كان اليهود يخضعون في نظامهم السياسي والاجتماعي لرؤسائهم وساداتهم، يدفعون لهم ما هو مفروض عليهم أداؤه في كل سنة، وهؤلاء السادة هم أصحاب الآطام والحصون والأرض. ولمن يشتغل في الأرض تسديد ما عليه لصاحبها في مقابل استغلاله لها. وقد اعتنوا عناية خاصة بزراعة النخيل. وعرفت القطعة من الأرض المزروعة نخلا عندهم بالصورين" "الصور"1، ولما كانت الأرضون المزروعة واسعة، كانت خارج الآطام والحصون، يحميها حراسها والمشتغلون بها أيام ثمرتها. وأما في أيام الغزو والحروب، فقد كانت معرضة لهجوم المهاجمين. وهذا ما كان يعرض أعظم غلة لليهود للخطر، ولهذا شق عليهم كثيرًا، وانهارت مقاومتهم حين أمر الرسول بقطع النخل وتحريقه، وأخذوا يلتمسون منه وقف ذلك. ويتولى الأحبار الأمور الدينية وتنفيذ الأحكام والنظر فيما يحدث بين الناس من خصومات. يقيمون لهم الصلوات وبقية شعائر دينهم، ويعلمونهم في بيوت المدارس. وقد أدى التنافس بين سادات يهود إلى نشوب معارك بينهم في الجاهلية. وقد أشار إليها القرآن الكريم وأنبهم على ذلك. واضطرت بنو قينقاع بسبب ذلك وبضغط بني النضير وبني قريظة إلى الالتجاء إلى أحياء يثرب وإلى محالفة الخزرج، وفي مقابل ذلك تحالفت بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس، فصاروا فرقتين: فرقة مع الخزرج، وفرقة مع الأوس. وفي تأنيب يهود، لتخاصمهم وتنابذهم وإخراجهم بعضهم بعضًا من ديارهم وأسر بعضهم بعضًا وافتداء الأسرى كالذي وقع بين بني قينقاع وبني النضير، نزل الوحي: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ

_ 1 الروض الأنف "2/ 194"، ابن هشام "2/ 195"، "حاشية على الروض"، "الصورة: أصل النخل"، "الصورة: النخلة"، تاج العروس "3/ 343"، "صور".

مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1 أَنَّبَهُم لأنهم فعلوا فعل المشركين والأعراب، مع أنهم أهل دين واحد وكتاب. أما المشركون فلا لوم عليهم، لأنهم لم يكونوا على دين، وليس لهم كتاب يأمرهم وينهاهم. وفي المعارك والخصومات التي تقع بين يهود، كانوا يؤدون الدية. وهي على ما يظهر من روايات أهل الأخبار مختلفة، وغير متكافئة. فكان بنو النضير يؤدون الدية كاملة لشرفهم في يهود، أما بنو قريظة، فكانوا يؤدون نصف الدية. وفي خلاف في أداء الدية وقع بينهم، التجئوا إلى الرسول للحكم بينهم، فذكروا له هذا الاختلاف، فحكم بالدية متساوية. وفي هذا الحكم نزلت الآية: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 2. ذكر علماء التفسير عن "ابن عباس" أنه قال: "كانت قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودى مائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا لنقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي، صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} النفس بالنفس ونزلت أفحكم الجاهلية يبغون"3. وذكر علماء التفسير في تفسيرهم للآيات المتقدمة، أن أحبار اليهود لم يكونوا يحكمون بالحق فيما بين الناس، كانوا يحابون ويتحزبون ويحكمون بالباطل ويأكلون "السحت" أي الرشا، جزاء حكمهم بالباطل. وكانوا يتساهلون في تطبيق أحكام

_ 1 البقرة: الآية 84 وما بعدها، روح المعاني "1/ 309"، ابن هشام "2/ 23" "حاشية على الروض". 2 المائدة، الآية 42. 3 تفسير القرطبي، الجامع "6/ 187"، تفسير الطبري "6/ 157".

الشريعة مع الشريف لشرفه، ويتشددون مع الدنيء لدناءته وفقر حاله، ولا يراعون التساوي في أخذ النيات. "كان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي وحموا وجه الشريف وحملوه على البعير، أو جعلوا وجهه من قبل ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة، رجموه". وكان هذا شأنهم "إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف، فقال بعضهم لبعض لا يدعكم قومه ترجمونه، ولكن اجلدوه ومثلوا به، فجلدوه وحملوه على حمار أكاف وجعلوا وجهه مستقبل ذنب الحمار. إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف، فقالوا ارجموه. ثم قالوا فكيف لم ترجموا الذي قبله، ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا"، واختلفوا فذهب فريق منهم إلى الرسول، فحكم بينهم بما جاء بحكم التوراة1. وذكر أن "حيي بن أخطب" كان قد حكم أن للنضري ديتان وللقرظي دية، لأنه كان من النضير2. وذكر أهل الأخبار إنه كان لليهود حكام يحكمون بينهم، ويقيمون حدودهم عليهم. فلما جاء الرسول إلى يثرب، صار اليهود يعترضون على عدالة حكم بعضهم، ولا يرضون بتنفيذ أحكامهم عليهم. فكان الحكام أو هم يذهبون إلى الرسول لكي يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون وفق شريعتهم3. وكان جل اعتماد اليهود في هذه المنطقة عند ظهور الإسلام على التجارة، ومعاطاة الربا والزرع، وبعض الصناعة: كالصياغة، وتربية الماشية والدجاج، وصيد الأسماك في أعالي الحجاز على ساحل البحر الأحمر. واشتهروا بالاتجار بالبلح وبالبر والشعير والخمر، وكانوا يجلبون الخمر من بلاد الشام. وكانوا يبيعون بالرهن، يرهن المشترون بعض أمتعتهم عندهم ليستدينوا منهم ما يحتاجون إليه. وقد ورد أن الرسول رهن درعًا له عند يهودي من أهل يثرب في مقابل شعير كان به حاجة شديدة إليه4. ومن الصناعات التي اشتغل بها اليهود، النسيج وهو من اختصاص نسائهم على

_ 1 تفسير الطبري "6/ 157". 2 تفسير الطبري "6/ 157". 3 تفسير القرطبي، الجامع "6/ 187". 4 البخاري "2/ 16، 45"، فتوح البلدان "60"، ولفنسون "ص18". IsIamic CuIture 1929 III No 2 p 187

الأكثر، والصياغة وقد اختص بها بنو قينقاع، والحدادة، وهي صناعة يأنف منها العرب ويزدرونها ويرونها من الحرف الممقوتة الحقيرة. ولم يكن من مصلحة اليهود، وهم أهل زرع وضرع ومال وتجارة وأرض ثابتة وقصور وآطام، أن يشتركوا في الحروب أو يشجعوا وقوعها في ديارهم وفي جوارهم، بل كان من مصلحتهم أن يعم الاستقرار البلاد التي يقيمون فيها، ليعيشوا عيشة هنيئة، وليبيعوا ما عندهم من الأعراب وليشتروا منهم ما عندهم من سلع وليقبضوا أموالهم منهم والأرباح التي استحقت على تلك الأموال. وفي النزاع الذي يقع بين القبائل، لم يكن من مصلحتهم تأييد حزب على حزب، خوفًا من الوقوع في أخطاء تجر عليهم أخطارا ومهالك هم في غنى عنها وفي مأمن من شرها. ثم إنهم بتحزبهم لطرف يغضبون الطرف الآخر، فيضمر عندئذ شرًّا لهم، فيخسرون بذلك مشتريًا وبائعًا. وهم أناس أصحاب سوق وتجارة. غير أن الظروف كانت تكرههم في بعض الأحيان على الاشتراك في الحرب، وعلى إثارة الحرب أيضًا متى وجدوا في إثارتها فائدة لهم ومصلحة ترتجى كأن ينهكوا العدو بحرب مع عدو آخر بإيقاع الفتنة وإشعال النيران، كما أوقعوا بين الأوس والخزرج، لإضعاف الطرفين معًا، حتى لا تبقى لهم قوة تهددهم وتكون خطرًا عليهم. وفي يوم بعاث استعان الأوس ببني قريظة والنضير، فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا إليهم يحذرونهم من سوء عاقبة الاشتراك في هذا النزاع، فتوقفوا، غير أنهم عادوا فعاونوا الأوس، وانضم إليهم بنو النبيت، فلما كسب الأوس الحرب، كسب بنو قريظة والنضير والنبيت غنائم من الخزرج، وخرجوا في هذا اليوم منتصرين بانتصار الأوس1. ويذكر أهل السير والأخبار: أن يهود يثرب كانوا إذا تضايقوا من الأوس والخزرج هددوهم بقرب ظهور نبي يستعلون به عليهم. ففي رواية عن بعض الصحابة إنهم قالوا: "كنا قد علوناهم في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون لنا: إن نبيا يبعث الآن نتبعه، قد أطل زمانه،

_ 1 ابن هشام "3/ 94"، اليهود "ص62 وما بعدها".

نقتلكم معه قتل عاد وإرم"1. ولما ذكرهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور ونفر آخرون بدعواهم تلك، وبظهور النبي العربي بقولهم لهم: "يا معشر يهود، اتقوا الله، واسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل شرك، وتخبروننا إنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته"، فكان جواب يهود لهم ما جاء على لسان سلام بن مسكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم، وقد أشير إلى ذلك في القرآن الكريم {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 2. واستفتاح اليهود على المشركين، هو للتفريج عن أنفسهم ولتخويف الأوس والخزرج ولاعتقادهم حقًّا بظهور مسيح منهم، أي من بني إسرائيل. ولهذا أنكروا نبوة الرسول، وأبوا التسليم بها، لأنه لم يكن منهم، ولأن النبوة لا تكون -على رأيهم- إلا في بني إسرائيل. فكيف يصدقون بنبي عربي من الأميين "نبي أموت ها عولام "Nebie Ummot ha Oiam.

_ 1 ابن هشام "2/ 166"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، تفسير الطبري "1/ 324". 2 البقرة، الآية 89، تفسير الطبري "1/ 324"، روح المعاني "1/ 289".

يهود اليمن

يهود اليمن: والموضع الثاني الذي عششت فيه اليهودية وباضت، هو اليمن. ففي هذه الأرض من جزيرة العرب ظهر التهود فيها ظهورا واضحا، وصارت اليهودية ديانة البلاد الرسمية. أما كيفية مجيئها وانتشارها هناك، ومتى كان ذلك، فليس لدينا علم واضح دقيق عن ذلك. ويزعم أهل الأخبار أن تبعا، وهو التبع "تبان أسعد أبو كرب"، اهتدى إلى هذه الديانة عند اجتيازه بيثرب وهو عائد إلى اليمن من حرب قام بها في الشمال وفي إيران، وذلك بتأثير بعض الأحبار عليه، ومنذ ذلك الحين صارت هذه الديانة ديانة رسمية للبلاد1. وتجعل بعض روايات الإخباريين اسم هذا التبع "تبع بن حسان" أو "حسان"،

_ 1 الطبري "2/ 105 وما بعدها"، "طبعة دار المعارف بمصر".

وهو "تبع الأصغر"، أو "أبو كرب بن حسان بن أسعد الحميري" أو غير ذلك. وتزعم أن حبرين من أحبار اليهود من بني قريظة عالمين راسخين في العلم، هما اللذان هديا التبع إلى اليهودية، وأبعداه عن عبادة الأوثان1. وقد يكون لهذه الروايات شيء من الصحة، غير إني أرى أن دخول اليهودية إلى اليمن مرده أيضًا إلى اتصال اليمن من عهد قديم بطرق القوافل التجارية البحرية والبرية ببلاد الشأم. وفي قصة سليمان وملكة سبأ إشارة إلى تلك الصلات، وإلى هجرة جماعات من اليهود إلى هذا القطر عن طريق الحجاز، بعوامل متعددة، منها: التجارة والهجرة إلى هذا القطر عن طريق الحجاز بعوامل متعددة، منها: التجارة والهجرة إلى الخارج، وهروبهم من اضطهاد الرومان لهم، وعوامل أخرى جعلتهم يتجهون من الحجاز إلى اليمن، فأقاموا هناك. وأما يهود اليمن المحدثون فإن أخبارهم ورجال العلم والفهم منهم يرجعون وجودهم في اليمن إلى أيام السبي، أي إلى أيام "بخت نصر"، وهم يزعمون أنهم بقوا في اليمن منذ ذلك اللحين ولم يعودوا إلى فلسطين2. وقد غادروا اليمن بعد التقسيم. وقد أشار حبر يسمى "ربي عاقبة" "رباي عقيبة" Rabbi Aqiba، في حوالي سنة "130م"، إلى زيارته لملك عربي كوشي "مليخ عرابيم" كانت زوجته كوشية كذلك، وإلى تحدثه معه. ويراد بـ"كوشي" الأحباش غير أن بعضهم كان يقصد بها العربية الجنوبية كذلك. ولا يستبعد أن يكون مراد الحبر بذلك اليمن، أو منطقة أخرى من العربية الجنوبية كان الحبش قد استولوا عليها3. وربما قصد منطقة ساحلية كان يحكمها ملك عربي في ذلك الوقت. وتدل رحلة "ربي عقيبة" Raqiba هذه إلى اليمن على وجود يهو فيها، إذ لا يعقل سفره هذا إلى تلك البقعة النائية وتجشمه مشقته، لو لم تكن هناك

_ 1 الأغاني "1/ 109 وما بعدها"، "13/ 120 وما بعدها". Caussin de Perceval, Essai, I, 91, Nallino, Raccolta, III, p. 88. 2 Travels and adventure of the Rev. Poseph Walf. London, 1861, p. 509, R. dozy, Die Israeliten zu mekka von David Zeit Bis In's Funfte Jakrhundert unsrer Zeirechung, 1864, s. 135. 3 Islamic Culrure, III, 2, p. 190 1929, Josephus, Antiqultate, XV, 3, 29, Die Araber, III, s. 22. Talmud Babli, in Rosh Hashnah, 26a, Kraus, in ZDMG, S. 331, 1916.

جالية يهودية فيها. وقد يجوز أن تكون سفرته إلى اليمن مجرد سفرة استطراق وعبور، لغاية الذهاب من اليمن إلى الحبشة، ولكني لا أستبعد مع ذلك وجود اليهود في اليمن في هذا العهد، إذ كان "أوليوس غالوس" قد جاء بجمع منهم معه في حملته على اليمن، فيجوز أن يكون بعضهم قد فضل البقاء في اليمن والسكن فيها لطيبها ولخصب أرضها وتعبهم من السفر، ففضلوا لذلك البقاء على الرجوع وتحمل المشقات والجوع والعطش والهلاك. وقد هلك بالفعل القسم الأكبر من رجال الحملة بسبب صعوبة الطريق والحر الشديد والجوع والعطش1. وقد عثر على كتابة من كتابات في "بيت شعا ريم" Beth She arim في جنوب شرقي حيفا، ورد فيها: "منحم قولن حميرن" Mnhm Kwin hmyrn أي "مناحيم قيل حمير". والموضع الذي وجدت هذه الكتابة فيه، هو مقبرة من مقابر كبار الأحبار، وقد وجدت معها كتابات أخرى، تشير إلى أسماء أحبار معروفين قبروا فيها. لذلك فإن "مناحيم" "قيل حمير" هو يهودي، قد كان جاء إلى فلسطين للزيارة أو للاتصال بعلماء اليهود الذين كانوا قد تجمعوا في "بيت شيعا ريم"، فمرض ومات هناك. ودفن في مقبرة هذا الموضع. ويرجع الباحثون تأريخ الكتابة المذكورة إلى حوالي سنة "200م"2. واستدل بعض المستشرقين بنص دونه "شرحبيل يعفر بن أبي كرب أسعد" على سد مأرب، وردت فيه جملة "بعل سمن وارضن"، أي" رب السماء والأرض"، على تهوده بحجة أن هذه العبارة تشير إلى التوحيد الخالص، والتوحيد الخالص هو عقيدة يهود3. وقد ذكر المؤرخ النصراني "فيلوستورجيوس" PhiIostorgius في حوالي سنة 425م، أن أهل سبأ كانوا يتبعون في "السبت" سنة "إبراهيم"، ولكنه ذكر أيضًا أنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر ومعبودات أخرى، وأن بعضًا منهم كان على دين يهود، وإنه قاوم رسالة "ثيوفيلس" TheophiIus في حوالي سنة 425/، أن أهل سبأ كانوا يتبعون في "السبت" سنة "إبراهيم"، ولكنه ذكر أيضًا أنهم كانوا يعبدون الشمس والقمر ومعبودات أخرى، وأن بعضًا منهم كان على دين يهود، وإنه قاوم رسالة "ثيوفيلس" TheophiIus الذي أرسله القيصر

_ 1 Uliendorff, in Journ of Sem. Stud, Vol, I, Num. 3, July 1956, p. 221 2 S. D. Goitein, Jew and Arabes, New York, 1955, p. 47, Die Araber, III, S. 16 ff, Corp. Inscript, Iudaic, 2, 1952, 207, Nr. 1137, Driver, in Hebrew and Semific Studies, 1963, 151. F. 3 Islamic Culture, 1929, III, 2, p. 191, Margoliouth, Relations. P 68.

قسطنطين "340-361م" للتبشير بين الحميريين. وذكر المؤرخ "ثيودور لكتور" Theodorus Lector، وهو من رجال النصف الأول للقرن السادس للميلاد، أن الحميريين كانوا في بادئ أمرهم على دين يهود، دخلوا فيه في أيام ملكة سبأ المعروفة بقصتها مع سليمان، بدعوتها إياهم إلى هذا الدين. ولكنهم كما يقول هذا المؤرخ عادوا فارتدوا إلى الوثنية، ثم دخلوا بعدئذ في النصرانية في أيام القيصر "أنسطاس" Anastasius "491-518م". ولم يشر ها المؤرخ إلى وجود اليهودية بين الحميريين، كما إنه لم يشر ولا المؤرخ الآخر إلى تهود أحد من ملوك حمير1. ويفهم من الجمل: "وأن اليهود الكائنين في طبرية يرسلون سنة فسنة ووقتًا فآخر كهنة منهم إلى هناك لإثارة الحس بين نصارى الحميريين. فلو كان الأساقفة نصارى وليسوا بشركاء لليهود، ويودون أن تستقيم النصرانية، لرغبوا إلى الملك وعظمائه، ليلقوا القبض على رؤساء كهنة طبرية وبقية المدن، ويلقوهم في السجن. ولا نقول هذا لنجازي سيئة بسيئة، بل ليتوقفوا منهم بكفلاء حتى لا يعودوا يرسلون رسائل وأشخاصا وجيهين إلى ملك الحميريين، فيصب صاعقة الأرزاء على شعب المسيح في حمير ... "، وهي جمل أقتبسها من رسالة "شمعون" عن تعذيب نصارى نجران، أن يهود اليمن لم يكونوا بمعزل عن يهود فلسطين، بل كانوا على اتصال بهم، وأن أحبار طبرية كانوا يرسلون رجالا منهم إلى اليمن ومعهم أمال ووجوه إلى يهودها وملكها وكبارها للتأثير فيهم ولتوثيق صلاتهم وروابطهم بهم. وقد نسب شمعون إلى أحبار طبرية، إنهم كانوا يحرضون ملك حمير ويهود حمير على الضغط على نصارى اليمن وعلى اضطهادهم انتقاما منهم، فطالب الحكومة والنصارى على الضغط على يهود فلسطين وعلى أحبار طبرية بصورة خاصة، ليكتبوا إلى يهود حمير بالكف عن التحرش بنصارى اليمن، وعن تهديدهم بانزال العقوبات بهم انتقاما منهم إلى لم يسدوا لهم النصح. وورد في أخبار الشهداء الحميريين: أن أحبارا من فلسطين من "طبريا" Tiberias كانوا قد جاءوا إخوانهم في الدين يهود اليمن وسكنوا معهم2. ومعنى

_ 1 Margoliouth, P. 62 F, Migne, Partologia Graeca, XXXV, P. 211, Islamic Culture, 1929, III, 2, p. 190, Philostorgius, Hist. Eccl, III, 5. 2 MargIiouth p 68.

هذا أن الصلات بين يهود اليمن ويهود فلسطين كانت موجودة، وأن يهود اليمن لم يكونوا بمعزل عن يهود فلسطين، ويجب أن يقال مثل ذلك عن يهود الحجاز، إذ لابد وأن يكون ليهود الحجاز اتصال بيهود فلسطين وبيهود اليمن. وكيف لا يكون لهم اتصال بهم، وهم جيران فلسطين ولهم تجارات معهم، ثم إنهم على طريق اليمن وفلسطين، فإذا أراد يهود فلسطين الذهاب إلى اليمن، أو يهود اليمن الذهاب إلى فلسطين فلا بد من المرور بأرض يهود الحجاز والنزول بهم. وقد عثر في اليمن على نص مكتوب بالمسند، وردت فيه كلمة "يسرائيل" و"رب يهود". ويدل هذا على أن صاحبه كان على دين يهود. عتر عليه المستشرق "كلاسر" ونشره المستشرق "ونكلر"، وهذا هو: "تبرك سم رحمنن ذ بسمين" سمن" ويسر ال والهمو رب يهود. ذ هرد عبد همو وشحرم وامهوبم "؟ " وحشكهتو شمسم واولهمو ذمم "ظ" وابشعر ومار وكل ابه"1. وأما كتابته بلهجتنا، فعلى هذا المنوال: "تبارك اسم الرحمان الذي في السماء وإسرائيل وإلهه رب يهود الذي ساعد عبده شحرًا وأمه بم"؟ " وزوجته شمسًا وأولاده ذمم "؟ " وأبشعر ومئارًا وكل أهل "بيته". غير أن من الباحثين من يشك في صحة نقل هذا النص نقلا صحيحًا تامًّا، ولم يتأكد من صحة نقل كلمة "إسرائيل"2. واليهودية وإن ضعفت في اليمن بدخول الحبشة فيها، بقيت مع ذلك محافظة على كيانها، فلم تنهزم، ولم تجتث من أصولها، وبقيت قائمة في هذه البلاد في الإسلام كذلك فلم يجل أهلها عنها كما أجلي أهل خيبر، وظلت بقيتهم هناك إلى سنيات قريبة حيث غادروها على أثر حوادث فلسطين. وقد كانت "نجران" من المستوطنات المهمة التي نزل بها اليهود في اليمن3. وهي مكان خصب، وقد عاش اليهود فيها مع غيرهم من العرب من نصارى وعبدة أصنام. ووجد اليهود في مواضع أخرى من جزيرة العرب. وجدوا في العربية الشرقية

_ 1 Glaser 394-395, Revue des Etudes Juives, 1891, VOl., 23, P. 122, Winckler AOF, I, S. 337 2 MargIiouth p 68 3 معجم "1/ 327".

وفي نجد وفي مواضع من العربية الجنوبية، ولما ارتد "بنو وليعة" والأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية الكندي، وتحصن "الأشعث" في النجير"، وهو حصن لهم، كانت فيه امرأة من يهود، عرفت بشماتتها بوفاة الرسول، اسمها "هند بنت يامين" اليهودية1. مما يدل على وجود اليهود في هذا المكان. وكان بالبحرين قوم من اليهود، صالحوا المسلمين مثل النصارى على دفع الجزية عن رءوسهم2. وقد كتب "المنذر بن ساوى" العبدي، يخبر الرسول أن بأرضه يهود ومجوس، فكتب إليه الرسول: "من أقام على يهودية، أو مجوسية فعليه الجزية"3.

_ 1 البلاذري، فتوح "111"، "ردة وليعة والأشعث بن قيس ين معد يكرب بن معاوية الكندي. 2 البلاذري، فتوح "89، 91" "البحرين". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 263".

الفصل السابع والسبعون: اليهود والإسلام

الفصل السابع والسبعون اليهود والإسلام ويتبين من القرآن الكريم، أن اتصال الرسول باليهود اتصالا مباشرًا إنما كان في يثرب. أما في مكة، فلم يكن لليهود فيها شأن يذكر، لذلك لا نجد في الآيات المكية ما نجده في الآيات المدنية، ولا سيما المتأخر منها، من تقريع لليهود وتوبيخ لهم، لوقوفهم موقفا معاديا من الإسلام، واتفاقهم مع المشركين في معارضة الرسول ومقاومته. وقد بدأ اليهود يعارضون الرسول والإسلام، حينما طلب إليهم الدخول في الإسلام والإيمان برسول الله، وحينما تبين لهم أن الأمر سيفلت من أيديهم، وأن الرسول ليس كبقية رجال قريش أو غير قريش سهل الانقياد مطواعا لهم، وأن تعاليم الإسلام ستفسد العرب عليهم، ولا سيما بعد تحريم الربا. والربا مورد مهم كان يدر ربحًا عظيمًا على يهود، لهذا وجدوا مصلحتهم في معارضته ومقاومته وفي الاتفاق وفي الاتفاق مع المشركين عليه. ويظهر أنه لم يكن لليهود نفوذ كبير ولا جاليات كبيرة في مكة. فلو كان لهم نفوذ فيها أو رأي مسموع، لسمعنا به كما سمعنا بخبرهم في يثرب، ولكان لهم حي خاص بهم، ومكانة بين رجال قريش، كالذي كان عليه يهود يثرب في اتصالهم بالأوس والخزرج، ولأشير إليهم في السور المكية، على نحو ما أشير إليهم في السور المدنية، ثم لما اضطر رجال قريش للذهاب إلى يثرب مرارا، لاستشارتهم في أمر سلوكهم مع المسلمين، ولما جاء سادات يهود يثرب إلى مكة، لتحريض أهلها على مقاومة الرسول، ولعقد حلف معهم عليه.

وقد أمل المسلمون أن يساعد اليهود الإسلام على الوثنة وأن يقفوا منه موقف ود أو حياد، ذلك بأنهم أصحاب كتب منزلة ودين توحيد، والإسلام قريب منهم، وقد اعترف بالأديان السابقة له، ونزه الأنبياء والمرسلين، وهو دين توحيد كذلك. ثم إن الرسول تودد إليهم حين دخوله يثرب، وأمنهم على أموالهم وأنفسهم، وزراهم وطمأنهم، ثم تعاهد معهم في صحائف كتبت لهم، فيها العهد بالوفاء لما اشترط لهم، ما داموا موفين بالوعد وبالعهد وقد طلب إلى جميع المسلمين الوفاء بما جاء فيها، ومنعوا من التجاور والتطاول على من في يثرب من يهود1. وجعل لليهود نصيبا في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين كما شرط عليهم النفقة معهم الحرب. ولم تكن علاقات اليهود مع المسلمين سيئة في الأيام الأولى من مجئ الرسول إلى يثرب. رأت جمهرة يهود أن الإسلام دين اعترف بالأنبياء، وأنه دين توحيد وإنه في جملة أحكامه قريب من أحكام ديانتهم وقواعدهم، وأنه يناهض الأوثان، وقد أشاد بفضل بني إسرائيل وبتفوقهم على غيرهم بظهور الأنبياء من بينهم، ثم إن قبلته إلى القدس، وقد تسامح معهم فأباح للمسلمين طعام أهل الكتاب2. وهو دين اعترف بأبوة إبراهيم للعرب، وجعل سنته سنة له. وقد تسامح معهم وحفظ ذممهم، فلم تر في انتشاره بين أهل يثرب ما يضيرهم شيئًا أو يلحق بهم أذى، ولذلك أظهرت استعدادها لعقد حلف سياسي مع ووقوفها موقف ود منه أو موقف حياد على الأقل، على ألا يطلب منها تغيير دينها وتبديله والدخول في الإسلام. ولما دخل أهل يثرب في الإسلام أفواجا، وتوجه المسلمون إلى اليهود يدعونهم إلى الدخول فيه وإلى مشاركتهم لهم في عقيدتهم باعتبار أنهم أهل دين يقول بالوحي ويؤمن بالتوراة، وبرسالة الرسل، فهم لذلك أولى بقبول هذه الدعوة من الوثنيين، أدركت جمهرتهم أن الإسلام إذا ما استمر على هذا المنوال في المدينة من التوسع والانتشار ومن توجيه دعوته إلى اليهود أيضًا، فسيقضي على عقيدتهم التي ورثوها وهي عقيدة لا تعترف بقيام نبي من غير بني إسرائيل ولا بكتب غير التوراة

_ 1 ابن هشام "3/ 74، 197"، الروض الأنف "2/ 16"، "كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين اليهود". 2 المائدة، الآية 48.

والكتب التي دونها علماؤهم، ثم هم يرون أن النبوة قد ختمت ولن يكون المسيح إلا منهم، فكيف يعتقدون بنبي عربي وهو من الأميين؟ وقد رفض اليهود الدخول في الإسلام، وأبوا تغيير دينهم، ودافعوا عن عقيدتهم وتمسكوا بها، ورفضوا التسليم بما جاء في رسالة الرسول من أن الرسول نبي أرسل للعالمين كافة وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن القرآن كتاب مصدق من الله، وأن أحكامه مؤيدة لما جاء في التوراة ناسخة لبعضها. وقد جادلوا في ذلك، وانبرى أحبارهم للدفاع عن عقيدتهم ولمجادلة من يأتي إليهم من المسلمين لأقناعهم في الدخول في الإسلام. وفي القرآن الكريم صور من جدلهم هذا ومن محاجتهم الرسول في دعوته، كما نجد مثل ذلك في الحديث النبوي وفي كتب السير. ويتبين من نتائج دراسة صور هذا الجدل والخصام الذي وقع بين اليهود والمسلمين، وهو خصام مهم خطر، أن الخصومة كانت في مرحلتها الأولى رفضا لدعوة الرسول إياهم للدخول في الإسلام، وتمسكا شديدًا بعقيدتهم وبدينهم وبما ورد عندهم من أن النبوة قد بدأت وانتهت في بني إسرائيل، ثم تطورت واشتدت عنفا وقوة لما تبين لهم أن الإسلام يرفض نظريتهم هذه، وأنه قد حرم أمورا ستؤثر في مستقلبهم، وقد ألف بين قلوب أهل يثرب وأوجد منهم كتلة واحدة، وأنه سيحد من سلطانهم لا محالة، وأن ملكهم سيزول، فوسعوا مقاومتهم له، واتصلوا بمن وجدوا فيه حقدا وبغضا للرسول، وبمن تأثر سلطانه بدخول الإسلام في يثرب من أهلها، ثم لما وجدوا أن كل ذلك غير كاف، تراسلوا مع أعداء الرسول في خارج يثرب من قريش، لتوحيد خططهم معهم، ولجملهم على مهاجمة المسلمين في مدينتهم ومعقلهم قبل أن يستفحل أمرهم ويقوى مركزهم، فيعجزون ميعا هم وأهل مكة عن التغلب عليهم والقضاء على الإسلام. وهكذا بدأت خصومة اليهود للإسلام خصومة فكرية، هم يرفضون الاعتراف بنبوة الرسول، وبأن دعوته موجهة إليهم، ويرفضون نبوة في غير بني إسرائيل، والرسول يدعوهم إلى الإيمان بالله وإلى الدخول في دعوته المبنية على الإيمان بالله رب العالمين، رب العرب وبني إسرائيل والعجم، وعلى الإيمان بنبوته وبنبوة الأنبياء السابقين، ثم تطورت هذه الخصومة إلى معارك وحروب، والحروب كما نعلم تبدأ نزاعا في الآراء والأفكار ثم تتحول إلى صراع ونزاع وقتال.

ومن أشهر سادات يهود الذين وقفوا موقفا معايدا من الرسول، وعارضوه معارضة شديددة، وصمموا على الايقاع به، حيي بن أخطب، وأخواه ياسر بن أخطب وجدي بن أخطب1، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقق، وسلام بن الربيع بن أبي الحقيق، وهو أبو رافع الأعور الذي قتله أصحاب الرسول بخيبر، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وعمرو بن جحاش، وكعب بن الأشرف، والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وكردم بن قيس حليف كعب بن الأشرف، وكل هؤلاء من بني النضير، وعبد الله بن صوري الأعور2، وابن صلوبا، وهما من بني "ثعلبة بن الفطيون"، وزيد بن اللعيث "اللعيب"3، وسعد بن حنيف، ومحمود بن سيحان "سبحان"، وعزير بن أبي عزير، وعبد الله بن صيف "ضيف"، وسويد بن الحارث، ورفاعة بن قيس، وفنحاص، وأشيع، ونعمان بن أضنا "أمنا؟ "، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، وشاس بن قيس، وزيد بن الحارث، ونعمان بن عمرو، وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس، ومحمود بن دحية، ومالك بن الصيف "الضيف"، وكعب بن راشد، وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد، وإزار بن أبي إزار "آزر بن أبي وعازر، ورافع بن أبي رافع، وخالد، وإزار بن أبي إزار "آزر بن أبي آزر"، ورافع بن حارثة، ورافع بن حريملة، ورافع بن خارجة، ومالك بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، وكل هؤلاء من يهود بني قينقاع4. أما الذين حاربوا الإسلام من بني قريظة، فكانوا: الزبير بن باطا بن وهب، وعزال بن شمويل "سموال"، وكعب بن أسد، وهو صاحب عقد بني قريظة الذي نقض عام الأحزاب، وشمويل بن زيد، ونافع بن أبي نافع، وأبو نافع، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، وكردم بن زيد، وأسامة بن حبيب، ورافع بن رميلة "زميلة"، وجبل بن أبي قشير، ووهب بن يهوذا. أما من بقية بطون يهود، فكانوا: لبيد بن أعصم، وهو من يهود بني زريق،

_ 1 "جد بن أخطب"، "جدي بن أخطب"، "حدى بن أخطب"، الروض الأنف "2/ 24". 2 الروض الأنف "2/ 24". 3 "ابن اللعيب"، ابن هشام "2/ 136". 4 ابن هشام "2/ 136 وما بعدها"، الروض الأنف "2/ 24"،"تسمية اليهود الذين نزل فيهم القرآن".

وكنانة بن صورياء "صوريا"، وهو من بني حارثة، وفردم "قردم" بن عمرو، وهو من يهود بن عمرو بن عوف، وسلسلة بن برهام، وهو من يهود بني النجار1. ويظهر من أقوال علماء التفسير في تفسير لفظة "الطاغوت" الواردة في القرآن الكريم، أن "كعب بن الأشرف"، كان من أبرز سادات اليهود في أيام الرسول2. فقد كانوا يتحاكمون إليه ويأخذون برأيه، وكان المقدم عندهم وعند الأوس والخزرج، حتى أن الأنصار كانوا يتحاكمون إليه. ونجد في القرآن أمثلة من أسئلة وجهها اليهود إلى الرسول لإحراجه ولإظهار فساد دعوته بزعمهم. سألوه أن يأتي لهم بمعجزة، إذا قالوا له: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} 3، فنزل الرد عليهم: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4. "نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وفنحاص بن عازورا، وجماعة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: له: أتزعم أن الله أرسلك إلينا، وأنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإذا جئنا به صدقناك، فأنزل الله هذه الآية"5. وسألوه "أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه على صدقة دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة"6. وسألوه أسئلة عن أشياء مذكورة في التوراة، وسألوه عن أشياء أخرى محرجة عديدة، وأوحوا إلى غيرهم من المشركين بأسئلة مماثلة ليلقوها على الرسول لامتحانه وإحراجه، وقد نزل الوحي بالرد عليهم، وبتأنيبهم على أقوالهم هذه، وبتذكيرهم

_ 1 وتختلف الموارد في ضبط هذه الأسماء، ابن هشام "2/ 137" وما بعدها"، الروض الأنف "2/ 24". 2 تفسير الطبري "5/ 97 وما بعدها". 3 سورة آل عمران، الآية 183. 4 الآية نفسها. 5 تفسير القرطبي "4/ 295"، روح المعاني "4/ 128 وما بعدها" تفسير الطبري "4/ 131 وما بعدها". 6 سورة النساء، الآية 153، تفسير القرطبي "6/ 6"، تفسير الطبري "6/ 6 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 5"، ابن هشام "2/ 198".

بما قام به أجدادهم وأسلافهم في مقام أنبيائهم من عدم التصديق برسالتهم ومن الطعن بهم ومن إصرارهم على عبادة الأوثان والكفر بالتوحيد1. ووقع جدل بين المسلمين وبين سادات يهود، أثار نزاعا بين الطرفين. دخل أبو بكر "بيت المدارس، فوجد من يهود ناسا كثيرًا قد اجتمع إلى رجل منهم يقال له "فنحاص" كان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال له: أشيع. فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. قال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه، كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء. ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك"2. ووقع مثل ذلك في مناسبات أخرى، جعل اليهود يحقدون على المسلمين. وعمد اليهود إلى استغلال الأحقاد والبغضاء الكمينة التي كانت كامنة في نفوس أهل يثرب من الأوس والخزرج من أيام الجاهلية، فأثاروها، كما استفادوا مما كان بينهم وبين رجال من المسلمين من الحلف والجوار في الجاهلية للاحتماء بهم وللاتقاء بهم مما قد يلحق بهم من أذى في إثارة الفتنة. وفي عهد "عمر" أمر بإجلاء اليهود ممن لم يكن لديهم عهد من رسول الله. أما من كان له عهد منه، فقد بقي في وطنه وعلى دينه بالشروط التي ذكرت في الصحف. وقد كان في يثرب نفر من اليهود عاشوا فيها في زمن الرسول حتى بعد إجلاء بني النضير وبني قريظة وبعد غزوة خيبر. وقد ورد في رواية أن النبي لما أمر أصحابه بالتهيؤ لغزوة خيبر، شق ذلك على من بقي بالمدينة من يهود3. ولما مرض عبد الله بن أبي، كان اليهود في جملة من التفَّ حول سريره في مرضه الذي هلك فيه، ثم كانوا في جملة من شيعه إلى قبره ومن

_ 1 سورة البقرة، الآية 101، ابن هشام "2/ 167، 171، 201". 2 آل عمران، الآية 181، تفسير الطبري "4/ 129 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "1/ 548"، "طهران". 3 الطبقات، لابن سعد "الجزء الثاني من القسم الأول "ص77".

نثر التراب على رأسه حزنًا على فراقه1. وقد بقيت أسر يهودية في وادي القرى وفي تيماء قرونًا عديدة بعد صدور أمر عمر بالإجلاء، بل ورد أن عددًا منهم عاش في المدينة أيضًا. وقد كانت اليهودية قانعة بما أوتيت، وبم كسبته من مواطن وتجارة، إن وجدت سبيلا إلى إقناع سادات القبائل والأمراء والملوك بالتهود وبالدخول في دعوتها، فذلك خير وتوفيق. وإن لم تجد في هؤلاء ميلا إلى اليهودية، رضيت منهم باكتساب العطف والحماية ورعايتهم في تحصيل ديونهم والأرباح التي يحصلون عليها من الربا، وبالسماح لهم بالتجارة والبيع والشراء، وهو ما يصبو إليه كل يهودي. لذلك نستطيع أن نقول أن اليهودية كانت من ناحية التبشير عند ظهور الإسلام جامدة خامدة، لا يهمها نشر الدين بقدر ما تهمها المحافظة على الحياة وعلى المركز الذي وصلت إليه وعلى تجارتها التي تعود عليها بمال غزير. فكانت لهذا لا تهتم بحركة إلا إذا وجدت فيها فائدة لها، ومنفعة ترتجى منها، ولا تحارب رأيا إلا إذا وجدت أنه سيكون خطرًا عليها، فحاربت النصرانية في اليمن لما وجدت الروم يسيرون على سياسة معايدة لليهود، وأن النصرانية مهما كانت كنيستها هي فرع من شجرة واحدة هي الشجرة التي يقدسها الروم، فامتداد أي فرع منها إلى اليمن، كفيل بالحاق الأذى الذي لاقاه إخوانهم من البيزنطيين بهم. وحاربت الإسلام بعد هجرة الرسول إلى المدينة، لما تبين لها إنه يدعو إلى رب العالمين، وإنه لم يكن على ما ظنته حينما سمعت بدعوة الرسول وهو في مكة، من إنه سيخضع لها، أو سيميل إليها، فتستفيد منه على الأقل، فلما وجدت الأمر غير ما ظنت، عندئذ خاصمته وانضمت إلى المشركين في محاربة الإسلام. ولسنا نجد بين القبائل العربية يهودا وفدوا إليها وأحبارا سكنوا بينها لاقناعها بمختلف الوسائل والطرق للدخول في دين يهود. نعم لم يفعل اليهود هذا كما فعله النصارى، ولهذا انحصرت سكنى اليهود عند ظهور الإسلام في هذه المواضع الخصبة وطرق المواصلات والتجارة البرية والبحرية من جزيرة العرب، وانحصر عملهم في التجارة وفي الربا في الزراعة وفي بعض الصناعات التي تخصصوا بها. وهي أمور جعلت لهم نفوذا عند سادات القبائل والأمراء والملوك.

_ 1 الواقدي "415"، اليهود "177".

وقد كانت لليهود مواضع يتدارس فيها رجال دينهم أحكام شريعتهم، وأيامهم الماضية، وأخبار الرسل والأنبياء، وما جاء في التوراة والمشنا، وغير ذلك. عرفت بين الجاهليين بـ "المدارس" و"بيت المدارس" "والمدارش". وأطلق الجاهليون عن الموضع الذي يتعبد اليهود فيه "الكنيس" و"كنيس اليهود" تمييزا لهذه الكنيسة عن "الكنيسة" التي هي لفظة خاصة بموضع عبادة النصارى1. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الكنيسة كلمة معربة من "كنشت" وهي لليهود، والبيعة للنصارى. وذهب بعض آخر إلى أنها متعبد الكفار مطلقا2. وقد أخذ الجاهليون مصطلح "المدارس" من العبرانيين، من لفظة "مدارش" Midrash التي هي من أصل "درش" Darash التي تقابل "درس" في العربية، وتؤدي هذه الكلمة المعنى المفهوم من لفظة "درس" العربية تمام الأداء. ويقصد بالمدارش درس نصوص التوراة وشرحها وتفسيرها وإيضاح الغامض منها وأسرارها وأمثال ذلك، وينهض بذلك المفسر الشارح "درشن" Darshan، ولكل طريقة وأسلوب. وقد نجمت عن هذه الدراسة ثروة أدبية ودينية طائلة للعبرانيين. نتجت من اتباع جملة طرق في الشرح والتفسير، منها "مدارش هلاخه" Midrash HaIachah و"مدراش هاكاده" Midrash Haggaddah، وتختلف هذه في كيفية اتباع طرق العرض والشرح والتفسير3. ولم يكن المدارس "المدارش" موضع عبادة وصلوات حسب، بل كان إلى ذلك دار ندوة ليهود يجتمعون فيه في أوقات فراغهم لاستئناس بعضهم ببعض وللبحث في شؤونهم، وللبت في القضايا الجسيمة الخطيرة على اختلاف درجاتها. فهو إذن مجمع الأحبار ومجمع الرؤساء والسادات وأصحاب الشرف فيهم، وإليه كان يقصد الجاهليون حين يريدون أمرا من الأمور أو الاستفهام عن شيء يريدون الوقوف عليه، وإليه ذهب الرسول وكبار المسلمين لمحادثة يهود ومجادلتهم فيما

_ 1 اللسان "7/ 382"، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي "2/ 120"، صحيح مسلم "5/ 122"، البخاري "كتاب الجزية والموادعة من أهل الذمة والحرب"، الحديث6، غرائب اللغة "ص213" النهاية "2/ 20"، محيط المحيط "1/ 643"،القاموس "2/ 215". 2 اللسان "8/ 83"، المعرب "81"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الأول "201". 3 Ecny-Brita, 15, p. 458, Moore, Judaism, I, 125, Jew. Ency, VII, p. 538. f.

كان يحدث بينهم من خلاف أو من أمر يريدون البت فيه. ويقال إنهم عرضوا أمام الرسول كتبهم، فكان يقرأها له بعضهم ممن دخل في الإسلام كعبد الله بن سلام أو بعض المسلمين ممن كان له علم وفهم في العبرانية لغة يهود. قال "ابن عباس": "دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيت المدارس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم ودينه. فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلموا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم، فأبوا عليه"1. ويظهر أن هذا المدارس كان من بيوت مدارسهم بيثرب. وعرفت مساجد اليهود، أن المواضع التي كان يصلون بها، بالمحاريب جمع محراب. وقد جاءت الإشارة إليها في بيت شعر منسوب إلى "قيس بن الخطيم"2. أما في النصرانية، فقد خصصت الكلمة بصدر الكنائس، وذلك على ما يفهم من الكلمة في الإسلام3. وعرف علماء اليهود ورجال دينهم بـ "الأحبار" جمع "الحبر" وبـ "الربانيين" وقد وردت الكلمتان في القرآن الكريم4. وللإسلاميين آراء في أصل "الحبر"، وهم يذكرون أن من معانيها العالم، والرجل الصالح5. واللفظة من الألفاظ المعربة عن العبرانية أصلها "حبر" Haber وجمعها حبريم، Habarim، ومعناها "الرفيق" camradeو associate، وكانت ذات مدلول خاص ومعنى معين. وقد أطلقت في العهد التلمودي على العضوية في جمعية معينة، فأطلقت في العصر الأول والثاني للميلاد على من كان من "الفروشيم"، وهم شيعة يهودية أقسمت على نفسها بمراعاة النصوص الدينية "اللاوية" على نحو ما نزلت وعلى نحو ما يفعله اللاويون.

_ 1 الطبري "7/ 145". 2 Margobiuuth p 73 3 النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني "ص174"ز 4 حبر بالضم وبالكسر، المائدة، الآية 44، 63ن التوبة، الآية 31، 34. 5 تاج العروس "3/ 120"، "حبر"، اللسان "5/ 228"، المفردات، للأصفهاني "ص104".

وللفظة "حبر" أهمية كبيرة عند اليهود، فإنها تشير إلى العلم والمعرفة، وإن كانت لا تصل إلى درجة "رابي" "ربي" Rabbi ولا تزال مستعملة عندهم فيمن درس الشريعة اليهودية والعلوم وتقدم فيها وأتقن الأحكام، وقضى بين الناس، غير أنها دون درجة1 Rabbi. فهي في العبرانية بمعنى عالم ولكن دون المعنى المفهوم في العربية عند علماء اللغة الإسلاميين، فهذا المعنى هو في مقابل لفظة Rabbi أي "ربان" لا "حبر". وقد وردت لفظة "حبر" في شعر للشماخ: كما خط عبرانية بيمينه ... بتيماء حبر ثم عرض أسطرا2 أما "الربانيون"، فهم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي، على رأي بعض العلماء الإسلاميين. وقال بعض آخر: الربان العالم الراسخ في العلم والدين، أو العالم العامل المعلم، أو العالي الدرجة في العلم. وفرق بعضهم بين الربانيين وبين الأحبار بأن جعل الأحبار أهل المعرفة بأنباء الأمم وبما كان ويكون، وذهبوا إلى إنها من الألفاظ المعربة العبرانية أو السريانية3. وهي من الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم في أثناء الكلام على علماء يهود4. ويتبين من القرآن الكريم إنه قد كان للأحبار والربانيين نفوذ عظيم على اليهود، فكانوا يطيعون أوامرهم ويفعلون ما يأمرونهم به، وأن غالبيتهم لم تكن تفقه شيئًا ولا تعرف من أحكام دينها إلا ما يقوله لهم أولئك الأحبار5. وبعض هؤلاء الأحبار هم من المقيمين في جزيرة العرب في المواطن التي أقامت فيها يهود، وبعض منهم كان يأتي إلى يهود العرب من فلسطين: ولا سيما من "طبرية" التي اكتسبت شهرة عظيمة بعد خراب القدس "أورشليم" حيث استقر فيها "السنهدريم" وغدت مركزًا عظيمًا للعلوم عند اليهود، وفيها جمعت "المشنة" "المشنا" Mishna و"الماسورة" الكتاب الذي بين كيفية تحريك كلمات التوراة6.

_ 1 اليهود "ص20"، The UnIversaI Jewish Ency VoI VP 1445 2 تاج العروس "3/ 117"، "حبر". 3 تاج العروس "1/ 260"، "9/ 211"، المعرب، للجواليقي "ص161"، سيرة ابن هشام "1/ 395". 4 المائدة: الآية 44، 63، آل عمران، الآية 79، تفسير الطبري "6/ 251". 5 التوبة، الآية 31. 6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 46".

وقد ذكر أهل الحجاز أسماء عدد من رجال يهود ممن أدركوا الإسلام، ذكر عنهم إنهم كانوا أحبارا، وإنهم كانوا أصحاب علم بالتوراة وبكتب الأنبياء وفي مقدمة من ذكروا، عبد الله بن صورى الأعور، قالوا: إنه لم يكن بالحجاز في زمانه من كان أعلم بالتوراة منه، وإنه كان من بني ثعلبة بن الفطيون. ويقولون: إن الفطيون كلمة تقال لمن يلي أمر اليهود وملكهم، كما أن النجاشي تقال لمن يلي ملك الحبشة1. وذكر "القلقشندي" أن المشهور من ألقاب أرباب الوظائف عند اليهود ثلاثة ألقاب: الأول الرئيس، وهو القائم فيهم مقام البطرك في النصارى، والثاني الحزان، وهو فيهم بمثابة الخطيب يصعد المنبر ويعظهم، والثالث الشيلحصبور، وهو الإمام الذي يصلي بهم2. وقد أطلق القرآن الكريم على أسفار اليهود، أي كتبهم المقدسة "التوراة"3. وعرفت بهذه التسمية في الحديث وفي كتب التفسير، وصارت علمًا لها في الإسلام. كذلك أطلقت هذه اللفظة على معابد اليهود، ولم يعرف ورودها في الشعر الجاهلي خلا بيتا ينسب إلى شاعر جاهلي يهودي اسمه "سماك"4. ولعلماء اللغة الإسلاميين آراء في أصل كلمة "التوراة"، حتى ذهب بعضهم إلى أنها عربية، ولكن ذوي أكثريتهم ترى أنها عبرانية، لأن لغة موسى كانت العبرانية، وبهذه اللغة نزلت التوراة5. ثم هم يختلفون في تعيين حدود التوراة، فيرى بعضهم أنها خمسة أسفار، ويرى بعض آخر أنها أكثر من ذلك، وأنها تشمل الزبور ونبوة أشعياء وسائر النبوات، لا يستثنى إلا الأناجيل6.

_ 1 ابن هشام "2/ 136" "محمد محيي الدين عبد الحميد". 2 صبح الأعشى "5/ 474". 3 آل عمران الآية 3، 48، 50، 65، 93، المائدة، 46 وما بعدها، 49، الصف، الآية6، الفتح، الآية 29، الجمعة، الآية5. 4 Ency IV p 706 5 اللسان "20/ 365 وما بعدها" ورى"، تاج العروس "10/ 389"، القراءون والربانون "179"، المفردات، للأصفهاني "ص74". Uni Jew Ency 10 p 267 katsh p191 6 صبح الأعشى "13/ 254 وما بعدها" Katsh 191.

وليس في القرآن الكريم تحديد لأسفار التوراة، ولكن اقتران اسم موسى بها في بعض الموارد منه يشير إلى أن المراد بها ما يقال له بـ "الأسفار الخمسة" Pentateuch عند الغربيين. وهذه الأسفار الخمسة هي الأسفار المنزلة المكتوبة التي نزلت على موسى على رأي قدماء العبرانيين. ثم توسعوا في مدلول اللفظة فيما بعد، فأطلقوها على جميع الأسفار التي يقال لها العهد القديم. وأطلقتها بعض الفرق على غيرها من الأسفار مثل الأنبياء "نبيم" Nebiim، والكتب "كتوبيم1" Kettubim. وقد أورد القرآن في مخاطبة يهود وتقريعهم قصصًا عن الأنبياء والمرسلين والأمم القديمة، منه ما هو مذكور عندهم في الأسفار الخمسة، ومنه ما هو وارد عندهم في "الهكاده" وفي "المشنه". ولما كان في احتكاك الإسلام بيهود كان لأول مرة في منطقة يثرب، صارت معظم الإشارات الواردة في القرآن الكريم إلى التوراة في السورة المدنية لمخاطبة الوحي لهم، وتوجيه الكلام مباشرة إليهم، ولم ترد تلك التسمية في الآيات المكية إلا في موضع واحد هو في سورة الأعراف2. والمراد من "الكتاب" الذي أنزل على موسى، والمذكور في مواضع من القرآن الكريم التوراة، أي هذه الأسفار الخمسة التي نتحدث عنها3. وهو تعبير قرآني لا نستطيع أن نقول إنه كان من مصطلحات الجاهليين، كما أننا لا نستطيع نفي ذلك، إذ يجوز أن يكون الجاهليون قد أطلقوه على تلك الأسفار، أو على العهد القديم كله، بمعنى هذه الأسفار وبقية ما ورد فيها من أخبار الأيام والملوك والأنبياء. وقد ورد في الأخبار عن "أبي هريرة"، أنه "كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله" 4.

_ 1 Uni-Jew. Ency., 10, P. 688, Katsh., P. 191.f 2 الأعراف: الآية 157 Ency IV p 706 3 "ولقد آتينا موسى الكتاب"، البقرة، الآية 78، ورح المعاني "1/ 316"، تفسير الطبرسي "1/ 15"،المفردات للأصفاني" 437" 4 "كتاب تفسير القرآن"، سورة البقرة: 2رقم 11، البخاري "3/ 198""طبعة ليدن".

وقصد بعبارة أهل الكتاب، اليهود، لأنهم أصحاب كتاب موسى، وبينهم كان نزوله، ولذلك عرفوا به. ويظهر من خبر أبي هريرة هذا ومن أخبار أخرى في هذا المعنى أن اليهود كانوا يقرءون على المسلمين كتبهم وهي بالعبرانية، ثم يفسرونها لهم بالعربية، وذلك في أيام حياة الرسول. أما الزبور والزبر فقد وردتا في القرآن الكريم. ويراد بـ"الزبر" في بعض الآيات مثل: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} الكتب المنزلة القديمة1. وقد وردت الكلمتان في بعض الشعر المنسوب إلى الجاهليين كامرئ القيس2 والمرقش الأكبر3 وأمية بن أبي الصلت4. وذكر علماء اللغة أن معنى "زبر" كتب ونقش. ويرى بعض المستشرقين احتمال. كونها من الكلمات العربية الجنوبية. ويرى بعض آخر أنها من أصل "مزمور" Mazmor العبراني. و"مزمور" Mazmor في اللهجة السريانية، و"مزمور" Mazmur في الحبشية. أخذت الكلمة وأجري عليها بعض التغيير حتى صارت على هذا الشكل5. وقد وردت لفظة "الزبور" مفردة في موضعين من القرآن الكريم، في سورة النساء6 وفي سورة الأنبياء7. أما في الموضع الأول، فقد ورد فيه: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} ، ومعنى هذا أن زبورا أو كتابا من الكتب المنزلة نزل على داود. أما الموضع الثاني. فقد أشير فيه إلى "زبور" معرفة بأداة التعريف

_ 1 الشعراء: الآية 196. 2 أتت حجج بعدي عليها فأصبحت ... كخط زبور في مصاحف رهبان وينسب إليه أيضًا هذا البيت: لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عسيب يماني شرح ديوان أمرئ القيس، تأليف السندوبي "ص184"، قصيدة رقم 86، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص184". 3 وكذاك لا خير ولا ... شيء على أحد بدائم قد خط ذلك في الزبو ... ر الأوليات القدائم اللسان "3/ 16"، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص184". 4 وأبرزوا بصعيد مستوى جرز ... وأنزل العرش والميزان والزبر كتاب البدء "2/ 146"، النصرانية: القسم الثاني، الجزء الثاني "ص184". 5 اللسان "4/ 314 وما بعدها". Ency IV p 1184 6 الآية 163. 7 الآية 105.

"ال": {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} . ولكن لم يضف إلى اسم نبي من الأنبياء، كما رأينا في الموضع السابق. وقد فسر بعض المفسرين كلمة "الزبور" في الموضع بمعنى الكتاب وكتب الله المنزلة، أي على التعميم لا التخصيص1. ويراد بالزبور ما يقال له "المزامير" في الترجمات العربية للتوراة، PsaIms في الإنكليزية، من أصل PsaImos اليونانية التي هي ترجمة لفظة "مزمور" Mizmor العبرانية، ومعناها المدائح والأناشيد. وهي أناشيد شعرية ترنم في حمد الإله وتمجيده، ولذلك قيل لهذه المزامير "تحليم" tehiIIim في العبرانية. وtiIIim على سبيل الاختصار، وtiIIim في لهجة بني إرم2. وقد "قال أبو هريرة: الزبور ما أنزل على داود، من بعد الذكر من بعد التوراة"3. وذكر بعض العلماء أن الزبور خص بالكتاب المنزل على داود4. وقد ذهب الشعبي إلى أن الزبور، الكتاب المنزل على داود، أما الذكر فما نزل على موسى. وذهب آخرون مذاهب أخرى في تفسير المراد من الزبور ومن الذكر. ولكن الرأي الغالب أن المراد من الزبور، مزامير داود. وذلك لنص القرآن على ذلك. وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود اختلاف بين بني إسرائيل في فهم كتاب الله وتفسيره، وأنهم انقسموا لذلك شيعا وأحزابا. ولا يستبعد أن يكون هذا الاختلاف شاملا ليهود الحجاز أيضًا، كأن يكون أحبارهم قد ساروا في اتجاهات مختلفة في التفاسير وفي شرح الأحكام وكان أصحابهم يتعصبون لهم ويتحزبون، وعلى نمط الأعراب في عصبيتهم لقبائلهم، وفي اتباع أقوال ساداتهم دون تعقل وتفكير. أما مواضع الاختلاف ومواطن الفرقة التي كانت تفرق فيما بينهم، فلا نعرف اليوم من أمرها شيئًا، لأنها لم تدون ولم تذكر، ولم يشر القرآن إليها، ولكنها على كل لا تخرج ولا شك عما نعرفه من خلاف في أوجه النظر في المسائل المعروفة حتى اليوم في أمور الفروع.

_ 1 تفسير الجلالين "2/ 33". 2 Uni Jew Ency 9p 13 3 اللسان "4/ 315" "صادر". 4 المفردات "ص210".

ونحن لا نستطيع أن نتصور أن سواد يهود الجاهلية كانوا على علم بالكتابة وبالقراءة ثم بأحوال دينهم وأموره. وفي القرآن الكريم أن هذا السواد كان جاهلا ليس له علم ولا خبر بأمور دينه وشريعته، وأنه مقلد تابع لما تقوله له أحباره وربانيوه. فكل ما كانوا يقولونه له، كانوا يرونه حقًّا وعلمًا1. مع أن من بين أولئك من كان دجالا ليس على درجة من دراية وعلم، ومن كان ينطق بالباطل ولا يخشى الكذب، لينال بذلك كسبا ومالا، وأنه كان لهؤلاء على أتباعهم ومقلديهم سلطان عظيم. وقد تعرض "ابن خلدون" لموضوع علم اليهود العرب وثقافتهم، فقال: "إذا تشوقت العرب إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم. وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى. وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية. فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك"2. فغالبية يهود جزيرة العرب في الجاهلية، هم في مستوى، يعد، دون مستوى يهود البلاد الأخرى، بسبب تبديهم وانقطاعهم عن غيرهم من اليهود. وقد كانت لليهود مدارس تدارسوا فيها أحكام شريعتهم، وكان لهم أحبار وحاخامون علموهم أمور دينهم. ذكر أهل الأخبار إنهم كانوا يكتبون بالعبرانية أو بالسريانية، وذلك لاختلاف أهل الأخبار في تعيين تلك اللغة، وعدم تمكنهم من التمييز بينهما. وفي كتب الأخبار والتواريخ إشارات إلى اتصال بعض رجال مكة ويثرب باليهود والاستفسار منهم عن أمور الرسل والأنبياء والماضيين وعن بعض الأحكام. وفيها قصص إسرائيل وجد له سبيلا إلى العربية، يرويه القصاصون عن الرسل والأنبياء، وأساطير لا يشك في كونها إسرائيلية الأصل. كما نجد ألفاظا

_ 1 "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني. وإن هم إلا يظنون"، البقرة، الآية 87، تفسير القرطبي، الجامع "1/ 296 وما بعدها". 2 ابن خلدون "1/ 439".

عبرانية لا شك في أصلها وجدت لها سبيلا إلى عربية الجاهليين بسبب اتصال اليهود بهم، واستعمالهم إياها، فتأثر بهم الجاهليون وأخذوها منهم واستعملوها أيضًا فصارت من المعربات. وينسب إلى الشاعر "الأسود بن يعفر" بيت شعر هو: سطور يهوديين في مهرقيهما ... مجيدين من تيماء أو أهل مدين1 وإذا صحت نسبة هذا البيت إليه، يكون قد تعرف على يهوديين اثنين، وجدهما يجيدان الكتابة، وقد كتبا على المهارق. ولم يكن الشاعر على علم أكيد بموطنهما، فلم يدر إذا كانا من أهل تيماء أو من أهل مدين. ولتعبير "مجيدين" أهمية خاصة، إذ يشير إلى تمييزه بين الكتابة الجيدة والكتابة الرديئة، وإلى وجود مصطلح "مجيد" عند الجاهليين، يطلقونه كما نطلقه اليوم على من يجيد الكتابة ويتقنها. ولما كانت اللغة العبرانية لغة الدين عند العبرانيين، وبها نزل الوحي على موسى، فلا بد أن يكون لعلمائهم ورجال دينهم في جزيرة العرب علم بتلك اللغة وفقه بها. ولكن هذا لا يعني ضرورة كونهم كعلماء طبرية أو قيصرية في فلسطين أو بعض المواضع التي اشتهرت بعلمائها في التلمود بالعراق، ولست أستبعد أن يكون لهم علم بلغة بني إرم أيضًا، لأن هذه اللغة كما نعلم كانت لغة العلم والثقافة قبل الميلاد وبعده، وبها كتبت كتب عدة من التلمودين، ثم إنها انتشرت بين سواد الناس حتى صارت لغة سواد يهود يتكلمون بها ولو برطانة وبلهجة خاصة هي اللهجة التي يمتاز بها سواد اليهود في كل قطر يعيشون فيه. أما سواد يهود جزيرة العرب في الجاهلية: فلا أظن أنهم كانوا يتلكمون العبرانية أو لغة بني إرم، إنما أرى أنهم كانوا يتكلمون لهجة من هذه اللهجات العربية. أعني لهجة العرب الذين كانوا يعيشون بينهم وينزلون بين أظهرهم، ولم يرد في الأخبار ما يفيد أنهم كانوا يتحادثون بالعبرانية، بل الذي ورد أن عامتهم لم تكن تعرف تلك اللغة، وأن الخاصة منهم والمزاولين لحرفة الكتابة

_ 1 ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التأريخية، "ص82".

والسحر كانوا يعرفونها ويكتبون بها، وبها يعوذون أنفسهم وغيرهم من الناس، وكانوا يفسرون التوراة والتلمود والكتب المقدسة لسواد الناس من العبرانية إلى العربية، لأنهم لم يكونوا يعرفون العبرانية، لا سيما وقد كان بينهم عرب متهودة. ولم يظهر في يهود جزيرة العرب من حاز على شهرة في العلم والفقه والتأليف والخطابة على نحو ما ظهر بين يهود العراق أو فلسطين أو مصر، وإلا لاشتهر أمره وذاع خبره، كما ذاع خبر علماء يهود بابل وفلسطين ومصر. ولا يمكن أن تكون عزلتهم عن بقية يهود الأقطار المذكورة سببا كافيا في تعليل عدم شيوع اسم أحد من هؤلاء، إن قضية عزلتهم عن بقية إخوانهم في الدين، هي نفسها تحتاج إلى سند يثبت وجود تلك العزلة. فمواضعهم في أعالي الحجاز، على اتصال ببلاد الشام، وهي لا تبعد كثيرًا عن مساكن إخوانهم في فلسطين. ثم إنهم كانوا على اتصال مستمر بهم بالتجارة، وقد كانوا يشترون حاصل بلاد الشام من خمور وحبوب وما شاكل ذلك، وينقلونه إلى يثرب، يذهبون إليها للتعامل والاتجار، فكيف يكون يهود جزيرة العرب في معزل عن غيرهم مع وجود الأسفار والتجارة لا سيما أن أحبار "طبرية" كانوا يأتون إلى يهود اليمن ليلقنوهم أمور الدين، ولا يستبعد أن يكون من بين أولئك الأحبار من ذهب إلى يهود يثرب أو خيبر أو تيماء. فالقضية على ما يظهر، ليست قضية عزلة يهود جزيرة العرب عن بقية يهود وانفصالهم بذلك ثقافيا وعلميا عن بني دينهم انفصالا يؤثر في مستواهم الثقافي والعلمي، فيجعلهم دون غيرهم من إخوانهم في العلم والثقافة، إنما يظهر أن هنالك جملة عوامل حالت دون نبوغ أحد فيهم. فيهود جزيرة العرب مهما قيل عنهم وعن رقيهم وارتفاع مستواهم عن مستوى من كان في جوارهم، لم يكونوا في ثقافتهم وفي مستواهم الاجتماعي أرقى من الفلاحين وسكان القرى وما إليها في العراق أو فلسطين أو مصر، كما أن حالتهم المادية لم تكن على مستوى عال بحيث يمكن أن تقاس بالأحوال المادية التي كان عليها اليهود الآخرين في الأرضين المشار إليها، أو أصحاب تلك الأرضين من غير يهود. ثم إن عددهم مهما قيل فيه، لم يكن كبيرا. وقد راينا أن رجالهم المحاربين لم يكونوا يتجاوزون كلهم في الحجاز كله بضعة آلاف، وفي مثل هذا العدد والظروف والأحوال لا يمكن بالطبع أن تتوفر الإمكانيات المساعدة على البحث والتتبع والتعمق في العلم.

وقد عرف يهود يثرب بمعرفتهم السحر والاتقاء منه، وبعلمهم بالتعاويذ، فكان المشركون يلجؤون إليهم إذا احتاجوا إلى السحر أو إذا اعترضتهم مشكلات يرون أنها لا تحل إلا بقراءة التعاويذ عليها. وقد ذكر المفسرون أن اليهود عملوا السحر للنبي، علمه رجل اسمه "لبيد بن الأعصم" أو بناته وهو من يهود يثرب1. وقد أشير إلى سحر اليهود في الحديث2. وقد لجأ العرب إلى اليهود يأخذون منهم الرقى والتعاويذ. فقد ورد في الأخبار "أن أبا بكر دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: ارقيها بكتاب الله. يعني: بالتوراة والإنجيل ... "3. وقد حافظ يهود جزيرة العرب على حرمة السبت، ويوم السبت من الأيام المقدسة التي يجب مراعاة حرمتها مراعاة تامة، فلا يجوز ليهودي الاشتغال فيه، والقيام ببعض الأعمال. ومن خالف حرمة هذا اليوم ودنسه بالاشتغال فيه يكون قد ارتكب جرمًا عظيمًا. وقد وردت إشارات إلى يوم السبت في مواضع من القرآن الكريم، في معرض الكلام على بني إسرائيل، وأشير في بعضها إلى أخذ موسى العهد منهم بوجوب مراعاة حرمة هذا اليوم، وإلى نقضهم له وعدم مراعاتهم جميعًا لهذا العهد، وإلى أنهم اعتدوا فيه4. وفي هذه الإشارات دلالة على أن من اليهود عامة من خالف حرمة هذا اليوم، فلم ينفذ ما ورد في أحكام شريعته عنه. ولكن هذا عام غير خاص بيهود العرب الجاهليين، وإنما يشير إلى خروج بعض بني إسرائيل على أحكام دينهم وعدم مراعاتهم لها، وهذا اليوم من أقدس الأيام في نظرهم.

_ 1 تفسير الطبير "31/ 226"، تفسير الطبرسي "5/ 568"، روح المعاني "30/ 282"، 2 البخاري: باب سحر، عمدة القاري "21/ 279 وما بعدها"، "الحديث رقم 77 وما بعده". 3 عمدة القاري "21/ 262". 4 الأعراف: الآية 162، النحل: الآية 124، البقرة: الآية 65، النساء: الآية 46، 153، أو الثناء الألوسي، روح المعاني "1/ 256 وما بعدها"، اللسان "2/ 37" "صادر" محيط المحيط "3/ 9121 وما بعدها" الطبري، تفسير "9/ 65"، الطبرسي، مجمع البيان "1/ 129 وما بعدها"، الزمخشري، الكشاف "1/ 218" الطبرسي "5/ 391" "طهران" الطبرين تفسيير "14/ 124"، الكشاف "2/ 178".

وقد وقف العرب الذين كانوا على اتصال باليهود على بعض أحكام دينهم مثل: الرجم بالنسبة للزنا، واعتزال النساء في المحيض. فذكر العلماء أن حكم الإسلام في الحيض "اقتصاد بين إفراط اليهود الآخذين في ذلك بإخراجهن من البيوت، وتفريط النصارى. فإنهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض"1، ومثل الدعاء إلى الصلاة عند اليهود بالنفخ في "الشبور"2، وذلك كما تحدثت عنه في موضع، ومثل صوم "عاشوراء" وأعيادهم، ومثل الصلاة وأوقاتهم عندهم. واستعمل يهود يثرب "القرن" في معابدهم، لإعلان صلواتهم وأعيادهم وإعلان احتفالاتهم والحوادث المهمة التي قد تقع لهم. وقد كانوا يستعملون آلتين، يقال لأحداهما الـ "شوفار" Shophar ومعناها القر، ويقال للأخرى القرن، وتصنع من القرون كذلك. ولذلك اختلط الأمر بينهما. والظاهر أنهما كانتا تختلفان في نوع قرون الحيوانات التي تتخذان منها3. وقد اختلف يهود جزيرة العرب عن الجاهليين في الأمور التي حرمتها شريعتهم عليهم في مثل المأكولات، كما اختلفوا عنهم في عبادتهم وفي اعتقادهم بوجود إله واحد، هو "إله إسرائيل"، وفي أمور عقائدية أخرى، واختلفوا عنهم في بعض العادات والمظاهر الخارجية، فكان اليهود مثلا يسدلون شعورهم، أما المشركون فكانوا يفرقون رءوسهم. ورد عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه"4. ولا يستبعد اختلافهم عنهم في لبس بعض الملابس التي لم تكن مألوفة عند الجاهليين. وقد ظهر بين اليهود شعراء، نظموا الشعر بالعربية وعلى طريقة العرب في نظم الشعر. منهم السموأل المشهور، و"كعب بن الأشرف" وسماك اليهودي، وسأتكلم عنهم في أثناء حديثي عن الشعر.

_ 1 إرشاد الساري "1/ 340"، "كتاب الحيض". 2 إرشاد الساري "2/ وما بعدها" "كتاب الآذان". 3 AreIig Ency VoI III p 1599 4 عمدة القاري "17/ 71".

لم يسلم من يهود في أيام الرسول غير عدد قليل من المتبينين منهم. مثل: عبد الله بن سلام، ولم يتعاون معه غير عدد قليل منهم مثل يامين بن عمير بن كعب النضري، ويامين بن يامين الإسرائيلين ومخيريق، وكان رجلا غنيا صاحب نخيل، وهو أحد بني ثعلبة بن الفطيون، حث قومه على مساعدة الرسول ومعاونته في غزوة أحد. وكان الرسول قد طلب مساعدتهم لوجود صحيفة بينه وبينهم. فلما اعتذروا له بالسبت، خالفهم مخيريق قائلا لهم: لا سبت لكم، وقاتل معه حتى قتل، فقال الرسول: مخيريق خير اليهود. وقد وصف بالعلم، وذكر إنه كان حبرا عالما فيهم1. آمن بالرسول وجعل ما له له، وهو سبعة حوائط فجعلها الرسول صدقة2. أما عبد الله بن سلام، فكان يدعي، وهو في يهوديته، الحصين بن سلام بن الحارث. وسلام اسم والده. فلما أسلم سماه رسول الله "عبد الله"، وهو من بني قينقاع، أسلم والرسول في مكة لم يهاجر بعد، وذلك في رواية من الروايات. وأسلم بعد الهجرة على أكثر الروايات. ذكر إنه كان شريفا في قومه، سيدا، صاحب نسب وحسب، وإنه كان حبرا عالما. فلما أسلم، نبذه قومه، وتحدثوا فيه3. وقد نزلت فيه بضع آيات4. أما أنه كان حبرا من الأحبار، عالما في شريعتهم، فلا يمكن البت فيه، فقد جرت عادة أهل الأخبار على إطلاق كلمة "الحبر" على نفر ممن أسلم من يهود في أيام الرسول، كما أطلقت على نفر ممن أسلم بعده، مثل كعب الذي عرف بكعب الأحبار. ولا يمكن في نظري البت في درجات علم أمثال هؤلاء وفي مقدار فهمهم للتوراة ولكتب يهود إلا بجمع ما نسب إليهم من قول، ودراسته. عندئذ نستطيع أن نحكم على علمهم إن كان لهم علم بأحكام ديانة يهود وبالعالم وبما كان يتدارسه علماء ذلك العهد. ورأيي أن هذه الدرجات إنما منحها لهم

_ 1 ابن هشام "2/ 140"، "3/ 38"، "محمد محيي الدين عبد الحميد". Graetz VoI III p75 2 البلاذري، فتوح "24"، الإصابة "3/ 373"، "رقم 7852"، "من بني النضر ... ويقال إنه من بني قينقاع، ويقال من بني الفطيون". 3 ابن هشام، سيرة "2/ 137"، أسد الغابة "3/ 176"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 270 وما بعدها" الروض الأنف "2/ 25". 4 تهذيب الأسماء "1/ 271"، الإصابة "3/ 116"، "2/ 212"، "رقم 4725". "1939م".

بعض ذوي القلوب الطيبة من المسلمين الأولين، لما رأوه فيهم، ولما سمعوه منهم من أقوال نسبوها إلى الأنبياء والعلماء وإلى كتب الله القديمة، ولم يكن لهم بطبيعة الحال علم بها، لعدم وقوفهم على ما كان يتداوله الأخبار، فعجبوا من علمهم هذا، ومن إحاطتهم بأحوال الماضين، فعد وهم أحبارا لهم في قومهم علم ورأي. وقد تساهل بعضهم في ذلك لظنه أن في منح هؤلاء أمثال هذه النعوت مما يفيد الإسلام، إذ يعني هذا تقدير أولئك الأحبار أصحاب العلم الأول له، وأن تقديرهم هذا شهادة مزكية له. وقد يكون لهم نصيب أيضًا في منحهم هذه الدرجة لأنفسهم للتباهي وللتصدر بذلك بين المسلمين. وقد نسب أهل الأخبار أقوالا لابن سلام، تجد بعضها في كتب التفسير والحديث، وتجد بعضها في كتب السير والأخبار. لبعضها طابع إسرائيل، فهو من القصص المعروفة بالإسرائيليات، ولبعضها طابع الأقاصيص. قد يكون "ابن سلام" صاحبها ومرجعها، وقد يكون غيره قد نسبها إليه1. وقد كان له ابنان، هما يوسف ومحمد، رويا عنه الحديث2. وقد كنى باسم ولده يوسف، فعرف بأبي يوسف3. ويعد يوسف من الصحابة، وله حديث عن الرسول، ويقال إن الرسول هو الذي سماه يوسف، وقيل ليست له صحبة. وقد روى عن جماعة من الصحابة4. وقد أسلم يامين بن يامين الإسرائيلي، على أثر إسلام عبد الله بن سلام5. وأما يامين بن عمير بن كعب، أبو كعب، أو كعب النضري، فهو من بني النضير. وقد ساعد اثنين من فقراء أصحاب رسول الله على تجهيزهما بشيء من التمر ليتمكنا بذلك من الالتحاق بالجيش الذي سار في السنة التاسعة من الهجرة لغزوة تبوك6. أسلم فأحرز ماله من بني النضير، ولم يحرز ماله من بني النضير غيره وغير أبي سعيد بن عمرو بن وهب، فأحرزا أموالهما. وذكر أن النبي قال

_ 1 Ency, I, p. 30-31, Gaetani, Annali, I, p. 413, Harovitz, in ZDMG, IV, 524. 2 أسد الغابة "3/ 176". 3 تهذيب الأسماء واللغات "1/ 271". 4 تهذيب الأسماء "2/ 166". 5 الإصابة "6/ 333"، "3/ 612"،"رقم "9214". 6 الطبري "3/ 143"، "حوادث السنة التاسعة"، الإصابة "6/ 333"، "القاهرة 1907م"، "3/ 611"، "رقم "92123".

ليامين: ألم تر إلى ابن عمك عمرو بن جحاش وما هم به من قتلي؟ وكان أراد أن يلقى على النبي رحى فيقتله. فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله. وكان فيمن أسلم من بني قريظة "كعب بن سليم القرظي"، وهو من سبيهم في الإسلام، ويعد في الصحابة، ولكن لا تعرف له رواية. وهو والد محمد بن كعب القرظي المعروف بروايته عن أحداث يهود مع النبي، وعن بعض أخبار بني إسرائيل1. وله روايات في حديث الرسول، وتوفي ما بين سنة ثمان ومئة وسنة عشرين ومئة. وقد عده علماء الحديث في طبقة الثقات الورعين2. وفيمن أسلم من يهود بني قريظة رفاعة القرظي، وهو رفاعة بن سموأل "سموال"، وقيل: رفاعة بن رفاعة القرظي من بني قريظة، وهو خال صفية زوجة النبي، لأن أمها برة بنت سموأل "سموال"، أما أبوها، فهو "حيي بن أخطب" من رؤساء يهود، وكان من كبار المعارضين له، وهو من بني النضير3. ويعد "زيد بن سعية" "سعنة" في طبقة الصحابة، ويقال إنه كان أحد أحبار اليهود الذين أسلموا، وإنه كان أكثرهم علما ومالا، وقد شهد مع النبي مشاهد كثيرة، وتوفي في غزة تبوك مقبلا إلى المدينة4. ويعد "عطية القرظي" من الصحابة كذلك، كان صغيرا حين غزا النبي بني قريظة، ولذلك لم يقتل، فأسلم، وصحب النبي5. ولم يظهر من يهود اليمن في الإسلام ممن عرفوا برواية الإسرائيليات سوى رجلين، هما: كعب الأحبار، ووهب بن منبه. فأما كعب الأحبار، فقد أدرك زمن الرسول، غير أنه لم يره، ولم يدخل في الإسلام إلا في أيام أبي بكر أو عمر. وهو أبو إسحاق كعب بن ماتع بن هينوع "هيسوع"، وقد عرف

_ 1 تهذيب الأسماء "2/ 676"، أسد الغابة "4/ 242". 2 الطبري "3/ 44"، "السنة الخامسة"، تهذيب الأسماء "1/ 90". 3 الإصابة "1/ 504" "رقم 2668"، تهذيب الأسماء "1/ 171 وما بعدها، 191"، "2/ 348 وما بعدها". 4 تهذيب الأسماء "1/ 204"، الإصابة "3/ 28"، "1/ 548"، "رقم 2904"، "التجارية 1939م"، "واستشهد في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر". 5 تهذيب الأسماء "1/ 235"، الإصابة "2/ 479"، "رقم 5581".

بين المسلمين بكعب الأحبار وبكعب الحبر من باب التعظيم والتقدير لعلمه. وقد أتاه هذا اللقب من علمه بالشريعة وبكتب الأنبياء وبأخبار الماضين، وهو علم لا نستطيع أن نحكم على درجته ومقدار بعده أو قربه من العلم الذي كان منتشرا بين أحبار ذلك العهد ما لم نقف على الأقوال الصحيحة التي صدرت عن ذلك الحبر. أما هذا المروي عنه والمذكور في تفسير الطبري وفي تأريخه وفي كتب من كان يعني بجمع القصص ولا سيما قصص الرسل والأنبياء فليس في استطاعتنا التصديق بأنه كله صادر من فم كعب، إذ يجوز أن يكون من رواية أناس آخرين ثم حمل على كعب. ولم ينسب أحد إلى كعب مؤلفا، وكل ما نسب إليه فهو مما ورد عنه بالمشافهة والسماع. وهو بين صحيح يمكن أن يكون قد صدر عنه، وبين مشكوك في أمره وضع عليه، وفيه ما هو إسرائيلي صحيح، أي إنه مما هو وارد في التوراة أو في التلمود أو في الكتب الإسرائيلية الأخرى وفيه ما هو قصص إسرائيلي نصراني، وما هو محض افتعال وخلط. وبالجملة، إن هذا الوارد عنه يصلح أن يكون موضوعا لدراسة، لمعرفة أصوله وموارده والمنابع التي أخذت منه. وعندئذ يمكن الحكم على درجة أصله ونسبه في علم بني إسرائيل، وإمكان صدوره من كعب أو من غيره، ومقدار علم كعب ووقوفه على الإسرائيليات. وأما وهب بن منبه، فيعد من التابعين، ويعد مرجعا مهما في القصص الإسرائيلي. ويقال إنه حصل على علمه من كتب الأولين، وإن أخا له كان يذهب إلى الشام للتجارة فيشتري له الكتب ليطالعها، وإنه كان على علم غزير بأحوال الماضين، وكان ملما بجملة لغات1. وإذ كان وهب من المتأخرين وكان نشاطه في الحركة الفكرية في الإسلام لا في الجاهلية، لم نجعل له في هذا الموضع مكانا، إنما مكانه في الأجزاء المتعلقة بتاريخ الإسلام. هذه قصة يهود جزيرة العرب قبل الإسلام، قصة لا تستند إلى مؤلفات تأريخية كتبت في تلك الأيام، ولا إلى نصوص جاهلية عربية أو أعجمية لها علاقة بيهود كتبت في ذلك العهد، ولكن تستند، في أكثر ما حكيناه إلى موارد إسلامية، ذكرتهم وأشارت إليهم لمناسبة ما وقع بينهم وبين الرسول من خلاف، وقد ورد

_ 1 لي مقال عنه في مجلة المجمع العلمي العراقي، الجزء الأول والثاني منها.

شيء كثير بحقهم في القرآن الكريم وفي الحديث وفي الأخبار ولا سيما أخبار الغزوات، يتعلق معظمه بأمر الخصومة التي وقعت بينهم وبين النبي عند قدومه يثرب، فهو لا صلة له لذلك إلا بما له علاقة بهذه الناحية. وما ورد عنهم إذن هو من مورد واحد وطرف واحد. أما الطرف الثاني من أصحاب العلاقة بهذا التأريخ والشأ، وأعني بهم اليهود، فلا صوت لهم فيه، ولا رأي. فلم تصل إلينا منهم كتابة ما عنهم في علاقتهم بالإسلام. كذلك لم تصل إلينا كتابة أو رواية أو خبر عن أولئك اليهود في الموارد التأريخية التي دونها غيرهم من مؤرخي يهود وكتابهم عن علاقة يهود جزيرة العرب بالإسلام، وعن اجلاء يهود الحجاز من مواضعهم إلى بلاد الشام، لا في العربية ولا في العبرانية ولا في بقية اللغات، مع ما لهذا الحادث من خطر في تأريخ اليهود في جزيرة العرب. ولعل الأيام تكشف لنا عن موارد في العبرانية أو في لغة بني إرم تذكر أحوال يهود جزيرة العرب قبيل الإسلام وعند ظهوره، وتكشف عن آثار يهود في المواضع التي كانوا يسكنونها في الحجاز، فتبت في أمور كثيرة عن حياة هؤلاء. وليس احتمال عثورنا على مثل هذه الآثار ببعيد، فلا بد أن يعثر على حجر من الحجارة المكتوبة التي توضع فوق القبور، فتعرف منه ما لغة الكتابة التي كان يستعملها أولئك اليهود، أهي العبرانية، أو العربية، أو لغة بني إرم، أو أبجدية من الأبجديات المشتقة من القلم المسند؟ وقد يعثر على نصوص أطول من هذه النصوص التي توضع على القبور، تكشف النقاب عن أمور أخرى مهمة تفيدنا في معرفة أحوال اليهود ببلاد العرب قبل الإسلام. وما دمنا لا نملك نصوصا يهودية جاهلية، ولا نصوصا عربية جاهلية تتعرض ليهود، فليس في وسعنا إذن أن نتحدث باطمئنان عن أثر اليهود في الجاهليين أو أثر الجاهليين في اليهود. لقد تحدث عدد من المستشرقين عن أثر اليهود في الجاهليين، فزعموا أن اليهود أثرًا عميقًا فيهم، فالختان مثلا هو أثر من آثار يهود في العرب. وشعائر الحج عند الوثنيين أكثرها هي من إسرائيل، فالطواف حول البيت يرجع أصله إلى بني إسرائيل، ذلك أن قدماءهم كانا يطوفون حول خيمة الإله "يهوه" إله إسرائيل، ومنهم تعلمه الجاهليون واتبعوه في طوافهم بالبيت. والإجازة بعرفة يهودية كذلك، لأن الذي كان يجيز الحجاج بعرفة فيأمر الحج بالرمي بعد أن يلاحظ الشمس وقت الغروب يعرف بـ "صوفة"، وصوفة

تسمية عبرانية لها علاقة وصلة بهذه الوظيفة مراقبة غروب الشمس وتثبيت وقته، فالإجازة إذن عبرانية الأصل. و"منى" صنم من أصنام إسرائيل، ووادي منى على اسم هذا الصنم الإسرائيلي، وأسماء أيام الأسبوع هي تسميات أخذت من يهود، ولفظة "المدينة" التي تطلق على يثرب، أطلقها اليهود، على هذا الموضع قبل الإسلام، وقد أخذوها من الإرمية، لتميز هذا المكان عن "وادي القرى". وأشياء أخرى عديدة من هذا القبيل1. وقد غالى بعض اليهود في تقدير يهود جزيرة العرب، فذهب إلى أن أولئك اليهود جلهم إن لم يكونوا كلهم كانوا يحسنون قراءة الكتاب المقدس، بدليل إطلاق القرآن الكريم عليهم "أهل الكتاب". وقد فاته أن عبارة "أهل الكتاب" لا تعني أهل الكتابة، بمعنى أنهم كانوا أصحاب علم بالكتابة، وإنما المراد من ذلك أهل كتاب منزل سماوي. ويدخل في ذلك النصارى أيضًا لوجود كتاب سماوي لديهم كذلك هو الإنجيل. وقد رأيت أن القرآن الكريم قد وصف بعض الأحبار بالعلم. كما رمى أكثرهم بالجهل. أما السواد الأعظم منهم، فقد جعلهم عامة تتبع أقوال رجالها، فلا علم لها ولا معرفة بأمور الماضين أو الحاضرين. وأنا لا أريد هنا أن أجادل في نفي هذه الأمور، أو إثباتها، فأخذ الشعوب واقتباسها بعضها عن بعض، من القضايا التي لا يمكن أن ينكرها إلا المعاندون الجاهلون المتعصبون. وقد رأيت أن ابن الكلبي وغيره من قدامى الإخباريين قد أشاروا إلى أن أصل بعض الأصنام عند العرب هو من الشمال، استورد في مناسبات أشاروا إليها، كما أن التنقيبات الأثرية قد أثبتت وجود صلات فكرية بين جزيرة العرب وبين العالم الخارجي، وأن ما يزعمه القائلون بعزلة الجاهليين عن بقية العالم هو هراء لا يستند إلى دليل. ولكني في هذه الأمور من الحذرين. أكره الجزم بشيء من غير برهان قاطع ودليل محسوس. فلكلام أهل الأخبار، أكثره مما لا يمكن الاعتماد عليه، وقد رأينا طبيعة أكثره ونوعه. ثم إن الكثير مما له علاقة بيهود وبالدين هو مما أخذ من أهل الكتاب في سلام أو من أفواه مسلمة أهل الكتاب. فهو متأخر عن الجاهلية، فلا يمكن أن يشمل الجاهليين من أهل الكتاب ومن وثنيين. وعلينا الآن التمييز بين هذا الذي أدخل بين العرب بعد أيام الجاهلية

_ 1 اليهود "78 وما بعدها" Graetz VoI p 60

وبين ذلك الذي كان معروفا عند الجاهليين وقد ورد عنهم، وذلك لنتمكن من أبداء راي في هذه القضايا المعقدة. ثم إن العرب كانوا شعبا ساميا، كاليهود في اصطلاح العلماء وتشترك البطون السامية في كثير من أصول التفكير والعقيدة، ومعنى هذا أن ما نجده عند يهود قد يكون عند العرب وعند غيرهم ممن يدخلهم المستشرقون في هذه الزمرة. فلم كل شيء ليهود، ونحكم على أن الجاهليين قد أخذوه منهم، ولا نقول إن هذا من ذلك التراث القديم الموروث؟ أنا لا أقول ذلك متأثرًا بدافع من العصبية، إنما أقول ذلك لأني أدين بفكرة هي أن الاستعجال في إصدار الأحكام بغير دليل خطأ فاحش لا يجوز لإنسان بإنسانيته أن يوقع نفسه فيه. هذا ولا بد بالطبع من أن يتأثر الجاهليون المجاورون لليهود بعض التأثر بهم، بأن يأخذوا منهم بعض الأشياء ويتعلموا منهم بعض الأشياء التي تنقصهم والتي هم في حاجة ماسة إليها. فذلك أمر لا بد منه. كما ولا بد وأن يكون اليهود قد أقتبسوا من جيرانهم العرب، وعملوا على محاكاتهم في حياتهم الاجتماعية، لا سيما وبينهم يهود من أصول عربية.

الفصل الثامن والسبعون: شعر اليهود

الفصل الثامن والسبعون شعر اليهود واللغة التي كان يتكلم بها اليهود، هي اللهجات العربية التي كان يتكلم بها أهل المناطق التي ينزلونها. ولتكلم اليهود في كل قطر يحلون فيه بشيء من الرطانة، لا يستبعد أن تكون لغتهم العربية التي كانوا يتكلمون بها عربية تشوبها الرطانة العبرانية. ولكن هذا لا يمنع من وجود أناس فيما بينهم كانوا يتكلمون ويكتبون بالعبرانية، ولا سيما أنهم كانوا يستعملون العبرانية في دراسة أمورهم الدينية وفي كتابة النشرات والتعاويذ، كما كانوا يستعملونها في السحر. وقد وردت إشارات إلى ذلك في كتب الحديث. وقد ورد أيضًا أنهم كانوا يعلمون أطفالهم العبرانية في الكتاب. ويروي رواة الشعر شعرا جاهليا زعموا أن قائليه هم من يهود، وأكثره أبيات لشعراء لا نعرف من أمرهم شيئًا، لعلها بقايا قصائد. أما القصائد، فينسب أكثرها إلى السموأل بن عادباء صاحب حصن الأبلق في تيماء، وصاحب قصة الوفاء المشهورة1. وهذا الشعر المنسوب إلى اليهود، لا يختلف في طريقة نظمه وفي تراكيبه ونسقه عن شعر الشعراء الجاهليين، ولا نكاد نلمس فيه أثرًا لليهودية ولا للعبرانية، فألفاظه عربية صافية نقية مثل ألفاظ أهل الجاهلية، وأفكاره على

_ 1 تأريخ الأدب العربي، لكارل بروكلمان "1/ 121"، "طبعة دار المعارف بمصر"، "طبعة ثانية"، "تعريب الدكتور عبد الحليم النجار".

نمط أفكار الجاهليين. ويصعب أن تجد فيه أثرًا للتوراة والتلمود، مما يحملنا على التفكير في صحة هذا الشعر وفي درجة تعمق صاحبه وتفهمه لدين يهو. ومن الشعراء الذين روى الإخباريون شيئًا من شعرهم بعد السموأل: "أوس بن دنن"، وهو من بني قريظة، و"كعب بن سعد القرظي"، و"سارة القريظية"، و"سعية بن غريض بن عادياء" "شعية بن غريض بن عاديا"، و"الربيع بن أبي الحقيق"، و"أبو الديال" "أبو الزناد"، وله شعر في رثاء يهود تيماء الذين أجلاهم الرسول، و"شريح بن عمران"، و"كعب بن الأشرف"، و"أبو رافع اليهودي"1. وروي أن "جعفر بن محمد الطيلسي" جمع أشعار اليهود في ديوان، ويظهر أنه أخذ ذلك من كتاب للسكري، ويقال إن الموفق بالله أخا الخليفة المعتمد العباسي طلب من الوزير "إسماعيل بن بلبل" أن يقدم إليه ديوانا في شعر اليهود، فطلب الوزير من العالم اللغوي الأديب "المبرد" أن يقدم إليه ديوانا في شعر يهود، فأخبره المبرد أنه لا يعرف شعرا لليهود. فطلب الوزير من العالم "ثعلب" أن يقدم إليه ما عنده من شعره لليهود، فأجابه أن لديه ديوانا من شعرهم، فقدمه إليه2. وقد كانت بين المبرد وثعلب خصومة شديدة ومنافسة عنيفة، فلعل هذا الخبر هو من مرويات الجماعة المتعصبة لأحد الطرفين في الطعن في أحدهما والحط من شأنه، فقد تحزب طلاب العلم وانقسموا جماعتين، كل جماعة كانت تنتصر لصاحبها، إذ لا يعقل إلا يكون للمبرد علم بشعر لليهود، وقد ذكر من سبقه مثل أبي تمام في حماسته والجمحي في طبقات الشعراء كما ورد في الأصمعيات شعرا لهم3، كما أن في كتابة الكامل نتفا من شعرهم، أو لعل إنكاره لشعرهم بمعنى أن أكثر ما نسب إليهم من شعر هو في نظره مزيف مصنوع، ولهذا لم يعن بجمع ما ورد عنهم، ولا يمكن أن يكون ديوانا في شعر يهود4.

_ 1 الأغاني "19/ 94 وما بعدها" الميداني "2/ 276"، المشرق، السنة الثانية عشرة "1909"، "162" MargiIiouth p 76 2 rgiIiouth p 75 3 طبقات الشعراء للجمحي "70/ وما بعدها". 4 MargoIioutgth p 74

والشعراء اليهود الذين ذكرهم الجمحي في كتابه "طبقات الشعراء"، هم: السموأل بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وهو من "بني النضير"، وكعب بن الأشرف، وشريح بن عمران، وشعبة بن غريض "شعبة بن غريض" وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيال، ودرهم بن زيد. وقد ذكر لهم أبياتا مما قالوه من الشعر1. والسموأل، وهو من سادات يهود الحجاز ومن أثريائهم وملاكهم، أحسن الشعراء اليهود حظًّا في الخلود. بقيت أشعاره، وحفظت قصائده، ولم يبخل علماء الشعر عليه، فجمعوا شعره في ديوان. ولم يشأ الزمان أن يبخل عليه، فهيأ له من طبعه. ولا تزال تلك القصة: قصته مع مخلفات امرئ القيس مضرب الأمثال. وصير هذا الشاعر الملاك المرابي مثلا وقدوة للأوفياء، فضرب به المثل وقيل: أوفى من السموأل، ولعل القصيدة المبتدئة بهذه الأبيات: وفيت بأدرع الكندي، إني ... إذا ما ذم أقوم وفيت وأوصى عاديا يوما بألا ... تهدم يا سموأل ما بنيت بنى ليه عاديا حصينا ... وماء كلما شئت استقيت هي التي خلدت هذه القصة، وصيرت لها فروعا وذيولا، وهي قصة تجعل الكندي المقصود بها هو الشاعر الشهير امرأ القيس، وهي التي خلدت اسم صاحب ذلك الحصن. ونجد هذه القصة في قصيدة للأعشى، يقال إنه قالها مستجيرا بابن السموأل شريح، ليفكه من أسره، وكان قد وقع أسيرا في يد رجل كلبي كان الأعشى قد هجاه، ثم ظفر به الكلبي، فاسره وهو لا يعرفه، فنزل بشريح بن السموأل وأحسن صيافته، فلما مر بالأسرى، قال الأعشى أبياتا يمحده فيهان ويمدح أباه، ويذكر كيف أن أباه اختار أدراع الكندي، وأبي إلا أن يسلمها إلى آله وذويه، على أن يسلمها إلى آسري ابنه إذا أطلقوه. وهي أبيات نجته من أسر الكلبي، ففر منه بعد أن وهبه لشريح وهو لا يعرف به. فلما عرف به، ندم. ولكن ندمه هذا لم يفده شيئًا لأنه جاء بعد فوات الوقت2.

_ 1 "ص70 وما بعدها". 2 الأغاني "19/ 99 وما بعدها".

ويروي الإخباريون ورواة الشعر أشعارا أخرى للأعشى قالها في مدح السموأل وفي وصف حصنه وفي سرد قصة وفائه، نجد فيها مصطلحات وجملا وكلمات ترد أيضًا في الشعر المنسوب إلى السموأل. وهذا ما يحملنا على التفكير في كيفية حدوث ذلك ووقوعه. هل حدث ذلك لوقوف الأعشى على شعر السموأل واقتباسه منه، باعتبار أن السموأل أقدم عهدا منه، أم حدث بتوارد الخواطر والمعاني فهو من قبيل المصادفة ليس غير، أم صنع فيما بعد على لسان السموأل بعد شيوع هذا الشعر المنسوب إلى الأعشى صاحب الأبلق الفرد، أم الشعران مصنوعان صنعا في الإسلام ووضعا على لسان الرجلين؟ وبالجملة أن أكثر ما ينسب إلى السموأل، هو من النوع المصنوع الذي شك فيه، وبعضه مما نسب إلى غيره من الشعراء. أما جامع شعر السموأل في ديوان، فهو إبراهيم بن عرفة الملقب بنفطويه "323- 32هـ"، من مشاهير علماء العربية: وبعض ما هو مذكور في هذا الديوان1، مثل قصيدته الشهيرة: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل مذكور في حماسه أبي تمام، وبعضه من مرويات الأصمعي. ولم يذكر نفطويه جامع الديوان سنده في رواية هذا الشعر. وهذا السند مهم جدا عند المؤرخ للوقوف على كيفية حصول هذا العالم على شعر السموأل، ولمعرفة صحة نسبته إليه. وفي الشعر المنسوب إلى السموأل جزء منحول مصنوع، وضع عيه، وجزء منسوب إلى غيره، وقد أشار إليه العلماء، ونحن إذا قمنا بغربلته وتنقيته نجد أقله له وأكثره لغيره، قد يكون من صنعة شاعر آخر، وقد يكون من وضع وضعة الشعر ومفتعليه. ثم إذا فحصنا هذا القليل الذي يتفق أهل الأخبار على أنه له، لا نجد فيه ما يشير إلى وجود أثر لدين يهود في الشعر. وقد استدل الأب "شيخو" على نصرانية ذلك الشاعر، من قصيدة نسبت إلى السموأل، ورد فيها شيء من القصص الديني، والأب شيخو لا يكتفي بنصرانية

_ 1 طبع هذا الديوان في بيروت "سنة 1909م" في مجلة المشرق للسنة المذكورة "ص161 وما بعدها" كما نشره عيسى سابا بعنوان شعر السموأل ببيروت كذلك. وأعاده نشره الشيخ محمد حسن آل حسن آل ياسين بعنوان: "ديوان السموأل" صنعة أبي عبد الله نفطويه وطبع ببغداد سنة 1955م.

السموأل وحده، بل يرى أن النصرانية هي ديانة جميع الشعراء الجاهليين، ولهذا ألف فيهم كتابه "شعراء النصرانية" وتحدث فيه عنهم على أنهم نصارى مؤمنون بدين المسيح1. وقد فاته شيء واحد لا أدري كيف عزب عن باله، عفا الله عنه، هو: تعيينه مذهبهم في النصرانية، ونصه على ترهبهم وتنسكهم ولبسهم المسوح على طريقة الرهبان. ومن القصائد المنسوبة إلى السموأل، قصيدة مطلعها: ألا أيها الضيف الذي عاب سادتي ... ألا اسمع جوابي لست عنك بغافل ختمها بهذا البيت: وفي آخر الأيام جاء مسيحنا ... فأهدى بني الدنيا سلام التكامل2 وهي قصيدة تختلف في أسلوب نظمها وفي العرض العام عن طرق النظم المألوفة في الشعر قبل الإسلام، والشعر المنسوب إلى السموأل. وقد وردت فيه كلمة "رحمانهم" وأشير فيها إلى قصة إبراهيم الخليل، والذبيح ابنه، وإلى تسميته بإسرائيل، ثم إلى الأسباط. وقصة بني إسرائيل مع فرعون مصر. وقد أغرق الله فرعون في البحر. وإلى القدس والطور، وأمثال ذلك. وهذه القصيدة هي رد لأقوال رجل يظهر أنه عاب بني إسرائيل، وتهجم عليهم، فأثار هذا التطاول صاحب هذه الأبيات فنظمها في الرد عليه، وفي الفخر بقومه، مستشهدا على ذلك بالقصص الوارد في التوراة عن بني إسرائيل وعن الأنبياء: إبراهيم وإسحاق ويوسف، وختمها بالبيت الذي رويته منها عن مجئ المسيح، وقد دعا بـ "مسيحنا"؛ لأن المسيح من اليهود. ذكر المسيح فيها بعد حديثه عن موسى وتكليم الرب له على جبل الطور، وهو انتقال فجائي غريب ليست له صلة ما بالأبيات المتقدمة.

_ 1 Nalino Raccolta, III, p. 105, Noldeke, Sammaual, in Zeitschrift Fur Assyriologie, XXVI, 1912, S. 177, Welhausen, Zum Koran in ZDMG, LxVII, 1913, A. 630, Eisenburg, Zu Samaw'al, in ZDMG, LXVIII, 1914, S. 644, Al-Samaw'al, in ZDMG, LXVIII, 1914, s. 644, Al-Samaw'al Ivn Adiya, in Zeitschrift fur Asyriologie, XXVI, 1912, S. 318. 2 شعر السموأل "ص53"، "وعيسى سابا"، "بيروت 1951م".

والحوادث المذكورة في هذه القصيدة، والاستشهادات التي استشهد بها الشاعر، وإن كانت مما هو مذكور في "الكتاب المقدس" بجزءيه، تدل على أن ناظمها قد استعان في نظم المصطحات التي استعلمها وطريقة تعبيره عن الحوادث بالقرآن الكريم، وبالقصص الوارد في كتب سير الرسل والأنبياء، وأن الغاية من نظمها هو إثبات مجئ المسيح، وقد جاء. وشهادة شاعر يهودي مفيدة ولا شك في هذا الباب. ولم ترد هذه القصة في ديوان ولا في كتب الأدب القديمة. وعدم ورودها في تلك الموارد، دليل على أنها مما وضع بعد تدوين شعر السموأل في الديوان المنسوب إليه وفي كتب الأدب القديمة، وأن هذه القصيدة هي من الشعر المصنوع المتأخرة بالنسبة إلى بقية ما نسب إليه. وللسموأل آراء دينية تراها في هذا الشعر المنسوب إليه، في بعضه إقرار بالبعث والحساب، وأن المليك وهو الرب بجازي الإنسان على ما قام به وما فعله من خير أو شر1، وأن الله قد قدر كل شيء وقضى به، وإن كل ما قدره كائن ولكل رزقه2، أن الإنسان ميت من يوم يولد، وفيه جرثومة الموت، ولد من ميت، ثم يموت، ثم يبعث تارة أخرى للحساب والكتاب، ولكل أجل3. وفي قصيدة تائية: نطفة ما منيت يوم منيت ... أمرت أمرها وفيها بريت كنها الله في مكا خفي ... وخفي مكانها لو خفيت وهي في كيفية نشوء الإنسان من منى يمنى، وهي فكرة يظهر أن صاحب هذا الشعر اقتبسها من القرآن الكريم، نظرا لمظهر التأثر به في تعبيره عن كيفية خلق الإنسان. وقد تطرق في هذه القصيدة إلى ما ذكرته من اعتقاده بالموت وبالبعث بعده وبالحساب والثواب والعقاب، وإلى سليمان والحواري يحيى وبقايا

_ 1 شعر السموأل "بيروت 1951"، "عيسى سابا" "ص26". 2 ليس يعطى القوي فضلا من الرز ... ق ولا يحرم الضعيف الشخيت بل لكل من رزقه ما قضى الـ ... ـه وأن حز أنفه المستميت شعر السموأل "28". 3 شعر السموأل "ص29 وما بعدها".

الأسباط أسباط يعقوب دارس التوراة والتابوت1. وإلى انفلاق البحر لموسى وأشار إلى طالوت وجالوت. والإشارات الموجزة هذه، وإن كانت لقصص موجود في التوراة، لم يعتمد الشاعر عليها، بل اعتمد في القرآن الكريم. وهو اسم الملك "شاؤول" في التوراة3. وفي أخذ الشاعر بهذه التسمية القرآنية التي لا وجود لها في التوراة دليل على أنه وضع شعره بعد نزول القرآن، أي في الإسلام. وأما "جالوت" فلفظة وردت في كتاب الله كذلك، وهي تقابل "GoIiath" في العهد القديم4. ويلاحظ أن صاحب القصيدة قد أخذ مصاب "جالوت" من القرآن الكريم، كما أنه سار على نهجه في ذكر طالوت جالوت، وهو ينفرد بذلك عن التوراة. وشعر فيه هذه المصطلحات وهذا المعاني، لا يمكن أن يكون شعرا يهوديا جاهليا، بل لا بد أن يكون من الشعر المصنوع المنظوم في الإسلام. فليس في شعر السموأل إذن شيء خاص من الأشياء التي انفردت بها يعود، وهذا الفخر الذي نراه في إسرائيل وفي الأسباط هو فخر يقوم على نمط فخر القبائل بقبائلهم، وليس شيئًا من دين. ثم إن بنا حاجة إلى إثبات أنه من نظم السموأل حقًّا، وأنه ليس من نظم إنسان آخر قاله على لسان السموأل في مدح اليهود وفي الفخر بهم. ولا عجب أن يقوم إنسان بوضع شعر على لسال السموأل أو غيره من الشعراء الجاهليين، فكتب الأدب مليئة بشواهد تذكر أسماء قصائد منتحلة، وضعت على ألسنة شعراء جاهليين، وأسماء من انتحل ذلك الشعر. ولم يكن انتحال ذلك الشعر عملا سهلا، إذ لا بد له من قدرة وعلم ومعرفة بأساليب شعر الماضتين. وقد كان حماد الرواية، وهو أديب كبير وراوية شهير، على رأس طبقة المنتحلين الوضاعين للشعر.

_ 1 وبقايا الأسباط أسباط يعقو ... ب دارس التوراة والتابوت وانفلاق الأمواج طورين عن مو ... سى وبعد المملك الطالوت ومصاب الأفريس حين عصى الل ... ـه وإذ صاب حينه الجالوت شعر السموأل "ص27"، ديوان السموأل "ص25". 2 سورة البقرة، الآية 246 وما بعدها. 3 Ency IV p 642 4 Ency Ip 1008 Hastinrs 303

وأشهر القصائد والأشعار المنسوبة إلى السموأل، القصيدة المقولة في الفخر التي مطلعها: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل وهي قصيدة شهيرة معروفة تعد نموذجا في الفخر والحماسة وفي حسن النظم، ولذلك تحفظ في المدارس حتى اليوم اليوم، ويضيف إليها بعض العلماء هذا البيت: هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعز على من رامه ويطول وبعض العلماء يزيد عليها وينقص منها أبياتا أخرى. وهي مع ذلك مما يعزوه بعض العلماء إلى شعراء آخرين، فعزاها بعضهم إلى عبد الملك بن عبد الرحيم الأزدي، وهو شاعر شامي إسلامي1. وينسب بعض الرواة القصيدة المذكورة إلى شاعر إسلامي آخر يسمى "دكين" الراجز2 فترى من هذا مبلغ الاختلاف في صحة نسبة هذه القصيدة إلى السموأل. ولم يرد في ديوان السموأل ولا في بعض الكتب الأخرى البيت المتقدم، وأعني به قوله: هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعز على من رامه ويطول ولعدم وروده في ديوانه أهمية بالطبع، إذ يجوز أن تكون هذه الزيادة متعمدة لإثبات إنها من شعر السموأل حقًّا، وآية ذلك ورود "الأبلق الفرد" في هذه القصيدة، وليس هناك حصن اشتهر وعرف بهذه التسمية غير هذا الحصن. وينسب إلى السموال قوله معتذرا لرجل من ملوك كندة: وإن كنت ما بلغت عني فلامني ... صديقي وحزت من يدي الأنامل

_ 1 ديوان السموأل "ص10 وما بعدها"، الحماسة "ص49"، العيني "2/ 77"، الأمالي "1/ 272". 2 الأغاني "9/ 262"، "طبعة دار الكتب المصرية".

وقد ذكر هذا البيت، وكذلك بيت آخر معه في ديوانه. غير أن بعض العلماء ينسبها إلى معدان بن جواس بن فروة السكوني1. وللأخباريين روايات تختلف بعض الاختلاف في اسم والد السموأل، فمنهم من جعله عادياء، ومنهم من دعاه أوفى، ومنهم من سماه حيان، "حسان"، ومنهم من قال له "السموأل بن غريض بن عاديا"2. وهم يقولون إنه يهودي، ويقولون أحيانًا أنه من غسان، وغسان بالطبع ليست من يهود. ومنهم من قال أن والده من يهود، أما أمه فكانت من غسان3. فهو إذن ذو نصفين -إذا صح التعبير- نصف يهودي، ونصف آخر عربي. ثم هم يذكرون إنه كانت له صلات وثيقة بأمراء غسان، ولصلته هذه بهم قصده امرؤ القيس، طالبا وساطته له عند الحارث بن أبي شمر الغساني، ليوصله إلى قيصر، فينال بمساعدته حقه من خصومه4. أما نحن، فلا يهمنا من أمر السموأل في هذا المكان شيء، وكل ما يهمنا هو ما له صلة بدين اليهود، وعقيدة يهود الجاهلية في الحجاز. ويستشهد الذين يذكرون أن اسم والد السموأل هو "عاديا" ببيت شعر نسبوه إلى السموأل هو: بني له عاديا حصنا حصينا ... وعينا كلما شئت استقيت فقالوا أن أباه "عاديا" اليهودي، وهو باني ذلك الحصن5. وقد جعل "ابن دريد" نسب السموأل" في "بني غسان"، وجعل عمود نسبه على هذا النحو: "السموأل بن حيا بن عادياء بن رفاعة بن الحارث بن ثعلبة بن كعب"6.

_ 1 ديوان السموأل "ص43 وما بعدها"، سمط الآلئ "457". 2 الأغاني "3/ 12"، "9/ 98"، الميداني "2/ 276"، تاج العروس "7/ 382"، "السموأل بن أوفى بن عادياء بن رفاعة بن جفنة" التاج "7/ 382"، المشرق، السنة الثانية عشرة "1909"، "ص176"، "دار الأندلس". 3 الأغاني "19/ 98"، المشرق، العدد المذكور. 4 الأغاني "19/ 98". 5 تاج العروس "6/ 298". 6 الاشتقاق "2/ 259" "وستنفلده".

ولا يستبعد بعض المستشرقين احتمال كون السموأل من أصل عربي، هو من غسان. تهود في جملة من تهود من العرب، لا سيما أن في منطقة يثرب أحياء نص على أصلها العربي، دخلت في هذا الدين. وقد ذهب بعضهم إلى احتمال وجود رجلين بهذا الاسم: رجل غساني عربي، وآخر يهودي1. وفي هذا البيت المنسوب إلى الأعشى: أرى عاديا لم يمنع الموت ما له ... وفرد بتيماء اليهودي أبلق ما يشير على يهودية السموأل، وهو يشير أيضًا إلى غنى عادياء وكثرة ماله. وقد عرف حصن السموأل بالأبلق، وبالأبلق الفرد، وهو حصن مشرف على تيماء، وقد ذكر الإخباريون أنه إنما دعي بالأبلق، لأنه كان في بنائه بياض وحمرة. وكان أول من بناه عادياء أبو السموأل. وقد ذكر ياقوت الحموي أن موضعه على رابية فيها آثار أبنية من لبن لا تدل على ما يحكى عنه من العظمة والحصانة، وهو خراب2 ولست أرى ان الأبلق أو الأبلق الفرد هي تسمية ذلك الحصن، إنما هي صفة له، أخذت من البيت: هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعز على من رامه ويطول وهو بيت ينسب قوله إلى السموأل ومن أبيات أخرى تنسب إلى الأعشى. وورد في أبيات منسوبة إلى الأعشى أن باني الأبلق هو "سليمان"، قال: ولا عاديا لم يمنع الموت ما له ... وحصن بتيماء اليهودي أبلق بناه سليمان بن داود حقبة ... لا أزج علا وطئ موثق يوازي كبيدات السماء ودونه ... بلاط ودارات وكلس وخندق ولكن هذا البيت يناقض ما ينسب إلى السموأل من شعر فيه أن باني ذلك

_ 1 Zeitschrift fur Assyioiogie 1912 S 174 2 البلدان "1/ 86"، القزويني، آثار البلاد "48"، المشرق "1909"، "163"، تاج العروس "6/ 298"، "بلق". 3 البلدان "1/ 87"، تاج العروس "6/ 298".

الحصن، هو أبوه "عاديا" "عادياء". ولست استبعد أن يكون أكثر هذا الشعر من الشعر المصنوع في الإسلام. وأما نسبة بناء الحصن إلى سليمان، فهي من الأمور المألوفة التي رواها أهل الأخبار عن أبنية سليمان في جزيرة العرب. وردت من أساطير روجها اليهود بين العرب في الجاهلية وفي الإسلام عن عظمة سليمان وبنائه الأبنية العظيمة. وقد خصصوا سليمان دون سائر رجال اليهود بالبناء، لبنائه الهيكل الذي أدهش العبرانيين ولا شك، ولم يكن لهم عهد بمثل هذا العهد من قل. ومن يدري، فلعل هذه الأبيات المنسوبة إلى الأعشى هي من عمل أناس في الإسلام كلفهم اليهود صنعها، للتفاخر والتباهي بمآثرهم الماضية، أو أنها حقًّا من قول الأعشى، صنعها لليهود بعد أن فك شريح أسره وأعطاه شيئًا من المال، والمال مالك لكل لسان. وزعم أهل الأخبار أن الملكة "الزباء" قصدت هذا الحصن، وحصن مارد، فعجزت عنهما، فقالت: "تمرد مارد وعز والأبلق"، فسيرته العرب مثلا لكل عزيز ممتنع1. و"مارد" حصن بدومة الجندل2. ونحن إذا تتبعنا الشعر المنسوب إلى السموأل، نجد معظمه كما قلت منتحلا موضوعا، صنع فيما بعد. وإذا تتبعنا سيرة هذا الشخص وما قيل فيه، نجد أكثره مما لا يستطيع الثبات للنقد. ولعل هذا هو الذي حمل بعض المستشرقين على الشك لا في شعر السموأل وحده، بل في شخصية السموأل نفسها، فذهبوا إلى أنها من اختراع أهل الأخبار، اخترعوها لما سمعوه من قصص مذكور في التوراة عن "صموئيل"3. وقد نسب بعض المستشرقين بقاء شعر السموأل وعد ذهابه في الإسلام إلى أهله الذين دخلوا في الإسلام، وبقوا في أماكنهم من تيماء، فلم يكن من الهين عليهم نبذ شعره وتركه، ولهذا حافظوا عليه، فكانت محافظتهم هذه عليه سبب بقائه حتى اليوم4.

_ 1 تاج العروس "6/ 298"، "بلق". 2 تاج العروس "2/ 500". 3 MargoIiouth p 72 Winckier in MVAG Bd VI S262 4 IsImec CuIture III 2 p 190 "1939"

وقد ذكر الإخباريون أسماء ثلاثة أولاد للسموأل. أولهم شريح الذي مر ذكره. وثانيهما حوط، وثاليهما منذر. ولا نعرف من أمرهما غير الاسم. ويظن أن حوطا هو الذي وقع في الأسر فذبح1. أما "سعية بن غريض" "شعية بن غريض بن السموأل" "شعبة"، فهو أخو السموأل على رواية لأبي الفرج الأصبهاني، جعلت اسم والد السموأل: "غريض بن عادياء"2، وهو حفيده على رواية أخرى. وقد أورد له الأصبهاني جملة أبيات في أثناء كلامه على السموأل3. ويذكر أنه كان غنيا صاحب أملاك وأموال، يعقد المجالس، وينادمه قوم من الأوس والخزرج، وأن بعض ملوك اليمن أغار عليه فانتف من ماله حتى افتقر ولم يبق له مال، ثم عاد إليه حاله، وأنه عاش عليه فانتسف من ماله حتى افتقر ولم يبق له مال، ثم عاد إليه حاله، وأنه عاش طويلا إلى أيامه معاوية، وإنه دخل في الإسلام، وأن معاوية رآه يصلي في المسجد الحرام، فطلب حضوره، وسأله عن شعر أبيه الذي يرىثي به نفسه، فأنشده قصيدته: يا ليت شعري حين أندب هالكا ... ماذ تؤبني به أنواحي ويذكر رواة هذا الخبر أن "سعية" كان شيخا طاعنا في السن يومئذ. وإنه لم يكن يرى حقًّا لمعاوية في الخلافة، ولذلك لم يقبل أن يسلم عليه بالخلافة، وإنه أجاب أجوبة فيها خشونة وجفاء، وإن الخليفة كف أصحابه من الإساءة إليه قائلا لهم: قد خرف الشيخ، فأقيموه. فأخذ بيده فأقيم. والقصيدة المذكورة ينسبها بعض الرواة إلى السموأل، وهذه النسبة تجعل السموأل أبا لسعية لا أخا له. أما إذا جعلناها من شعر غريض "عريض"، والد سعية، فلا يكون هناك إشكال ما من ناحية نسبة القصيدة، غير أن علينا حينئذ جعل "سعية" "شعية" حفيدا للسموأل، في رواية من جعله "شعية بن غريض بن السموأل". بإضافة ولد آخر على أولاد السموأل، اسمه "غريض" "الغريض".

_ 1 المشرق، السنة "1909"، "ص163". 2 الأغاني "19/ 100"، طبقات الشعراء، لابن سلام "111"، "اليهود "31". 3 NoIdeke Betrage

وذكر البحتري في "حماسته" اسم شاعر يهودي آخر، هو: عريض بن شعبة، ونسب إليه هذا الشعر: ليس يعطي القوي فضلا من الرز ق ولا يحرم الضعيف الخبيث بل لك رزقه ما قضى اللـ ـه ولو كد نفسه المستميت1 وهو من شعر السموأل نفسه على رواية بعض الإخباريين يروونه له مع شيء من الاختلاف2. أما "الربيع بن أبي الحقيق"، فهو من بني قريظة على رواية، أو من بني النضير على رواية أخرى. وقد اشترك في يوم بعاث، وعاصر النابغة الشاعر الشهير، وخلف جملة أولاد ناصبوا الرسول العداء3. ومن بقية شعراء يهود: "أوس بن دنى" من قريظة4، و"كعب بن الأشرف"5، و"سماك اليهودي". وهو شاعر قوي في رده على المسلمين عنيف6. وكان "كعب بن الأشرف" رجلا شاعرا يهجو النبي وأصحابه ويحرض عليه ويؤذيهم. خرج إلى مكة ونزل على "المطلب بن أبي وداعة السهمي"، بعد معركة بدر" وجعل يحرض على رسول الله وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب. فكان حاصل هجائه القتل7. وكان "أو دعفك" اليهودي من يحرض على رسول الله ويقول الشعر، وكان شيخا كبيرا. فقتل لتحريضه على رسول الله وقوله الشعر فيه8.

_ 1 NoIdeke Beitrage s 71 2 ليس يعطي القوي فضلا من الرز ... ق ولا يحرم الضعيف الشخيت بل لكل من رزقه ما قضى اللـ ... ـه وأن حز أنفه المستميت 3 الأغاني "21/ 61"، NoIdke BeIrage s 72 4 الأغاني "19/ 94". 5 الأغاني "19/ 106"، ابن هشام "2/ 123"، "حاشية على الروض". 6 نهاية الأرب "2/ 179"، "حاشية على الروض". 7 نهاية الأرب "17/ 72 ومابعدها". 8 نهاية الأرب "17/ 66 وما بعدها".

الفصل التاسع والسبعون: النصرانية بين الجاهليين

الفصل التاسع والسبعون: النصرانية بين الجاهليين مدخل ... الفصل التاسع والسبعون النصرانية بين الجاهليين ولم تكن اليهودية، الديانة السماوية الوحيدة التي وجدت لها سبيلا إلى جزيرة العرب، بل وجدت ديانة الوحيدة التي وجدت لها سبيلا إلى جزيرة العرب، بل وجدت ديانة سماوية أخرى طريقا لها إلى العرب، هي الديانة النصرانية، وهي ديانة أحدث عهدا من الديانة الأولى، لأنها قامت بعدها، ونشأت على أسسها ومبادئها، ولكنها كانت أوسع أفقا وتفكيرا من الأولى. فبينما حبست اليهودية نفسها في بني إسرائيل، وجعلت إلهها إله بني إسرائيل شعب الله المختار، جعلت النصرانية ديانتها ديانة عالمية جاءت لجميع البشر. وبينما قيدت اليهودية أبناءها بقيود تكاد تضبط حركاتهم وسكناته، وفرضت عليهم فروضا ثقيلة، نجد النصرانية أكثر تساهلا وتسامحا، فلم تقيد أبناءها بقيود شديدة، ولم تفرض عليهم أحكاما اشترطت عليهم وجوب تنفيذها. وقد قام رجال الدين النصارى منذ أول نشأتها بالتبشير بها، وبنشرها بين الشعوب، وبذلك تميزت عن اليهودية التي جمدت، واقتصرت على بني إسرائيل. ولفظة "النصرانية" ,"نصارى" التي تطلق في العربية على أتباع المسيح، من الألفاظ المعربة، يرى بعض المستشرقين أنها من أصل سرياني هو: "نصرويو" Nosroyo، "نصرايا" Nasraya1، ويرى بعضآخر أنها من Nazereneds التسمية العبرانية التي أطلقها اليهود على من اتبع ديانة المسيح. وقد وردت في

_ 1 غرائب اللغة "ص207"، Ency III p 848

العد الجديد في "أعمال الرسل" حكاية على لسان يهود1، ويرى بعض المؤرخين أن لها صلة "بالناصرة" التي كان منها "يسوع" حيث يقال: "يسوع الناصري" أو أن لها صلة بـ "الناصريين" "Nazarenes= Nasarenes إحدى الفرق القديمة اليهودية المتنصرة. وقد بقي اليهود يطلقون على من اتبع ديانة المسيح "النصارى"، وبهذا المعنى وردت الكلمة في القرآن الكريم، ومن هنا صارت النصرانية علما لديانة المسيح عند المسلمين. ولعلماء اللغة الإسلاميين آراءب في معنى هذه الكلمة وفي أصلها، هي من قبيل التفسيرات المألوفة المعروفة عنهم في الكلمات الغريبة التي لا يعرفون لها أصلا. وقد ذهب بعضهم إلى أنها نسبة إلى الناصرة التي نسب إليها المسيح2. وزعم بعض منهم أنها نسبة إلى قرية يقال لها "نصران"، فقيل نصراني وجمعه نصارى3. وذكر أن "النصرانة" هي مؤنث النصراني4. ولم أعثر حتى الآن على نص جاهلي منشور وردت فيه هذه التسمية. أما في الشعر الجاهلي، وفي شعر المخضرمين، فقد ذكر أن أمية بن أبي الصلت ذكرهم في هذا البيت: أيام يلقى نصاراهم مسيحهم ... والكائنين له ودا وقربانا5 وذكر أن شاعر جاهليا ذكر النصارى في شعر له، وهو: إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا في بطنها جنينها مخالفا دين النصارى دينها

_ 1 أعمال الرسل: الإصحاح 24، الآية 5 "فإننا إذا وجدنا هذا الرجل مفسدا، ومهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكونة ومقدام شيعة الناصريين".Ency ReIig Ethic Ethic IIIp574 2 اللسان "7/ 68"، تاج العروس "3/ 568"، "نصر". 3 المفردات، للأصفهاني "ص514". 4 فكلتاهما خرت وأسجد رأسها ... كما أسجدت نصرانة لم تحنف اللسان "7/ 68"، "نصر"، و"النصرانية وأحدة النصارى"، تاج العروس "3/ 569"، "نصر". 5 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص187".

وذكر أن جابر بن حنى قال: وقد زعمت بهراء أن رماحنا ... رماح نصارى لا تخوض إلى دم1 وأن حاتما الطائي قال في شعر له: وما زلت أسعى بين ناب ودارة ... بلحيان حتى خفت أن أتنصرا2 وأن "طخيم بن أبي الطخماء" قال في شعر له في مدح بني تميم: وإني وإن كانوا نصارى أحبهم ... ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق3 وأن حسان بن ثابت قال: فرحت نصارى يثرب ويهودها ... لما توارى في الضريح الملحد4 غير أن هذه الأبيات وأمثالها إن صح إنها لشعراء جاهليين حقًّا، هي من الشعر المتأخر الذي قيل قبل الإسلام. أما قبل ذلك، فليس لنا علم بما كان العرب يسمون به النصارى من تسميات. والذي نعرفه أن قدماء النصارى حينما كانوا يتحدثون عن أنفسهم كانوا يقولون: "تلاميد" Discipies، "تلاميذ المسيح"، ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى المسيح نظرتهم إلى معلم يعلمهم5 وكذلك نظروا إلى حوارييه، فورد "تلاميذ يوحنا" وقصدوا بذلك النصارى6. وهذه التعابير من أقدم التعابير التي استعلمها النصارى للتعبير عن أنفسهم. كذلك دعا قدماء النصارى جماعتهم بـ "الأخوة" وبـ"الأخوة في الله" Brethren in Lord للدلالة على الجماعة، وبـ "الأخ" للتبعير عن الفرد،

_ 1 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص171، 225"، شعراء النصرانية "190"، المشرق، السنة السابعة "1904، "620 وما بعدها". 2 الأغاني "16/ 104" النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "171، 225". 3 المشرق، السنة السابعة "1904 "602 وما بعدها". 4 ديوان حسان "24". 5 Hastings p 192 6 انجيل مرقس: الإصحاح الثاني، الآية 18.

ذلك لأن العقيدة قد آخت بينهم، فصار النصارى كلهم إخوة في الله وفي الدين1. ثم تخصصت كلمة "الأخ" برجل الدين2. ودعوا أنفسهم "القديسين" Sainte3 والمؤمنين4 والمختارين الأصفياء والمدعوين، ويظهر أنها لم تكن علمية، وإنما وردت للإشارة إلى التسمية التي تليها. وقد كنى عن مجتمع النصارى بـ "الكنيسة" EccIesia وتعني "المجمع" في الإغريفية، بمعنى المحل الذي يجتمع فيه المواطنون. فكنى بها عن المؤمنين وعن الجماعة التابعة للمسيح. كما عبر عن النصارى بـ "الفقراء وبـ "الأصدفاء"5. وقد عرف النصارى بـ Christians نسبة إلى Christos اليونانية التي تعني "المسيح" Messiah، أي المنتظر المخلص الذي على يديه يتم خلاص الشعب المختار. ويسوع هو المسيح، أي المنتظر المخلص الذي جاء للخلاص كما جاء في عقيدة أتباعه، ولذلك قيل لهم أتباع المسيح. فأطلقت عليهم اللفظة اليونانية، وعرفوا بها، تمييزا لهم عن اليهود. وقد وردت الكلمة في أعمال الرسل وفي رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتوس6. أما في القرآن الكريم وفي الأخبار، فلم ترد هذه اللفظة اليونانية الأصل. ولهذا نجد أن العربية اقتصرت على إطلاق "نصارى" و"نصراني" و"نصرانية" على النصارى تمييزا لهم عن أهل الأديان الأخرى. أما مصطلح "عيسوي" و"مسيحي"، فلم يعرفا في المؤلفات العربية القديمة وفي الشعر الجاهلي، فهما

_ 1 Hastings p 104 2 أعمال الرسل، الإصحاح الأول، الآية 15 وما بعدها. Ency ReIi Ethic 3 p 573 3 رسالة بولس الرسول، الأولى إلى أهل كورنتوس، الإصحاح الأول، الآية الأولى وما بعدها. 4 أعمال الرسل: الإصحاح الخامس، الآية 14، رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس، الإصحاح الأول: الآية الأولى وما بعدها. 5 Ency ReIi Ethic 3 p 574 6 أعمال الرسل: الإصحاح الحادي عشر: الآية 26، الإصحاح 26، الآية 28، رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتوس: الإصحاح الرابع، الآية 16، Hastings p 127

من المصطلحات المتأخرة التي أطلقت على النصارى1. وقد قصد في القرآن الكريم بـ "أهل الإنجيل"2 النصارى، إذ لا يعترف اليهود بالإنجيل. وقد أدخل علماء اللغة اللفظة في المعربات3. وأهم علامة فارقة ميزت نصارى عرب الجاهلية عن العرب الوثنيين، هي أكل النصارى للخنازير، وحملهم للصليب وتقديسه. ورد أن الرسول قال لراهبين أتياه من نجران ليبحثا فيما عنده: "يمنعكما عن الإسلام ثلاث: أكلكما الخنزير، وعبادتكما الصليب، وقولكما الله ولد"4. وورد أنه رأى "عدي بن حاتم الطائي" وفي عنقه صليب من ذهب، لأنه كان على النصرانية5. وورد في شعر ذي الرمة: ولكن أصل امرئ القيس معشر ... يحل لهم أكل الخنازير والخمر6 يريد إنهم نصارى في الأصل، فهم يختلفون عن المسلمين في أكلهم لحم الخنزير وفي شربهم للخمر. وقد أقسم النصارى بالصليب. هذا "عدي بن زيد" يحلف به في شعر ينسب إليه، فيقول: سعى الأعداء لا يألون شرا ... عليك ورب مكة والصليب7 ليس في استطاعتنا تعيين الذي دخلت فيه النصرانية إلى جزيرة العرب. وتحاول مؤلفات رجال الكنائس رد ذلك التاريخ إلى الأيام الأولى من التأريخ النصراني8، غير أننا لا نستطيع أقرارهم على ذلك، لأن حججهم في ذلك غير

_ 1 Hughes Dictionary of IsIam p 431 2 المائدة، الآية 47. 3 النهاية في غريب الحديث "4/ 136"، المعرب، للجوالقي "23". 4 البلاذري: 71". 5 اللسان "13/ 443"، و"ثن" السيوطي، الدر المنثور "10/ 75". 6 النصرانية "75". 7 شيخو، شعراء النصرانية "451". 8 النصرانية وآدابها، القسم الأول، تأليف لويس شيخو، بيروت 1912م.

كافية للاقناع. ولذلك فليس من الممكن تثبيت تأريخ لانتشارها في هذه الأماكن في الزمن الحاضر، وليس لنا إلا التفتيش عن أقدم الوثائق المكتوبة للوقوف عليها بوجه لا يقبل الشك ولا التأوي. ونحن أمام بحث علمي، يجب أن تكون العاطفة بعيدة عنه كل البعد. وإذا كانت اليهودية قد دخلت جزيرة العرب بالهجرة والتجارة، فإن دخول النصرانية إليها كان بالتبشير وبدخول بعض النساك والرهبان إليها للعيش فيها بعيدين عن ملذات الدنيا، وبالتجارة، وبالرقيق ولا سيما الرقيق الأبيض المستورد من أقطار كانت ذات ثقافة وحضارة. أما هجرة نصرانية كهجرة يهود إلى الحجاز أو اليمن أو البحرين، فلم تحدث، ذلك لأن النصرانية انتشرت في إمبراطورية الروم والساسانيين بالتدريج، ثم صارت ديانة رسمية للقياصرة والروم وللشعوب التي خضعت لهم، فلم تظل النصرانية أقلية هناك، لتضطر إلى الهجرة جماعة وكتلة إلى بلد غريب. لذلك كان حديثنا عن نصارى العرب من حيث الأصل والأرومة، يختلف عن حديثنا عن أصل يهود اليمن أو الحجاز. وبفضل ما كان لكثير من المبشرين، من علم ومن وقوف على الطلب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التأثير في النفوس، تمكنوا من اكتساب بعض سادات القبائل فأدخلوهم في دينهم، أو حصلوا منهم على مساعدتهم وحمايتهم. فنسب دخول بعض سادات القبائل ممن تنصر إلى مداواة الرهبان لهم ومعالجتهم حتى تمكنوا من شفائهم مما كانوا يشكون منه من أمراض. وقد نسبوا ذلك إلى فعل المعجزات والبركات الإلهية، وذكر بعض مؤرخي الكنيسة أن بعض أولئك الرهبان القديسين شفوا بدعواتهم وببركات الرب نساء العقيمات من مرض العقم فأولدن أولادا، ومنهم من توسل إلى الله أن يهب لهن ولدا ذكرا، فاستجاب دعوتهم، فوهب لهم ولدا ذكرا، كما حدث ذلك لضجعم سيد الضجاعمة، إذ توسل أحد الرهبان إلى الله أن يهب له ولدا ذكرا، فاستجاب له. فلما رأى ضجعم ذلك، دخل في دينه وتعمد هو وأفراد قبيلته1. ومنهم من شفي بعض الملوك العرب من أمراض كانت به مثل "مارايشوا عزخا" الراهب. ذكروا أنه شفى النعمان ملك الحيرة من مرض عصبي ألم به، وذلك بإخراجه الشيطان

_ 1 النصرانية وآدابها "1/ 35"، Sozomene Hist EccI VI 38

من جسده1. وفي تواريخ الكنيسة قصص عن أمثال هذه المعجزات المنسوبة إلى القديسين، كالتي نسبوها إلى القديس "سمعان العمودي" "المولود نحو سنة 360م" يذكرونها على أنها كانت سببا في هداية عدد من الأمراء وسادات القبائل إلى النصرانية، وبفضل تنصرهم دخل كثير من أتباعهم في هذا الدين2. وكالتي نسبوها إلى القديس "أفتميوس" الذي نضر بفضل هذه المعجزات جمعا من الأعراب وأسكنهم في أماكن خاصة أنشأ فيها كنائس أطلق عليها في اليونانية ما معناه "المحلة" أو "المعسكر"3. ولم يعبأ المبشرون بالمصاعب والمشقات التي كانوا يتعرضون لها، فدخلوا مواضع نائية في جزيرة العرب، ومنهم من رافقوا الأعراب، وعاشوا عيشتهم، وجاروهم في طراز حياتهم، فسكنوا معهم الخيام، حتى عرفوا بـ "أساقفة الخيام" وبـ "أساقفة أهل الوبر"، وبأساقفة القبائل الشرقية المتحالفة وبأساقفة العرب البادية. وقد ذكر أن مطران "بصرى" كان يشرف على نحو عشرين أسقفا انتشروا بين عرب حوران وعرب غسان وقد نعتوا بالنعوت المذكورة، لأنهم كانوا يعيشون في البادية مع القبائل عيشة أهل الوبر4. وقد دخل أناس من العرب بالنصرانية باتصالهم بالتجار النصارى وبمجالستهم لهم. روي أن رجلا من الأنصار، يقال له "أبو الحصين"، كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا، أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية فرجعا إلى الشام معهم5. ودخلت النصرانية جزيرة العرب مع بضاعة مستوردة من الخارج، هي تجارة الرقيق من الجنسين، فقد كان تجار هذه المادة الرابحة يستوردون بضاعتهم من أسواق عالمية مختلفة، ولكن أثمن هذه البضاعة وأغلاها هي البضاعة المستوردة من إمبراطوريةي الروم والفرس، لمميزات كثيرة امتازت بها أنواع المستوردة

_ 1 الديورة في مملكتي الفرس والروم، للقس بولس شيخو "ص32، 47". 2 النصرانية وآدابها "1/ 81 وما بعدها". 3 المشرق: السنة الثانية عشرة، الجزء5. آذار "1909م"، "ص344 وما بعدها". 4 النصرانية "1/ 37". 5 تفسير الطبري "3/ 10"، تفسير القرطبي "3/ 280 وما بعدها".

من إفريقية مثلا. فقد كان صنفها من النوع الغالي الممتاز بالجمال والحسن والاتقان ثم بالابتكار وبالقيام بأعمال لا يعرفها من هم من أهل إفريقية. ومن الروميات والصقلبيات والجرمانيات من صرن أمهات لأولاد عدوا من صميم العرب. وقد كان أكثرهن، ولا سيما قبيل ظهور الإسلام، على النصرانية. ومن بينهن من خلدت أسماؤهن لتتحدث للقادمين من بعدهم من الأجيال عن أصولهن في العجم وعن الدين الذي كن عليه. وقد كان في مكة وفي الطائف وفي يثرب وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب رقيق نصراني كان يقرأ ويكتب للناس ويفسر للناس ما جاء في التوراة والأناجيل، ويقص عليهم قصصًا نصرانيا ويتحدث إليهم عن النصرانية، ومنهم من تمكن من إقناع بعض العرب في الدخول في النصرانية، ومنهم من أثر على بعضهم، فأبعده عن الوثنية، وسفه رأيها عندهم، لكنهم لم يفلحوا في أدخالهم في دينهم، فبقوا في شك من أمر الديانتين، يرون أن الحق في توحيد الله وفي اجتناب الأوثان، لكنهم لم يدخلوا في نصرانية، لأنها لم تكن على نحو ما كانوا يريدون من التوحيد وتحريم الخمر وغير ذلك مما كانوا يبتغون ويشترطون. وقد أثرت الأديرة تأثيرا مهما في تعريف التجار العرب والأعراب بالنصرانية. فقد وجد التجار في أكثر هذه الأديرة ملاجئ يرتاحون فيها ومحلات يتجهزون منها بالماء، كما وجدوا فيها أماكن للهو والشرب: يأنسون بأزهارها وبخضرة مزارعها التي أنشأها الرهبان، ويطربون بشرب ما فيها من خمور ونبيذ معتق امتار بصنعة الرهبام. وقد بقيت شهرة تلك الأديرة بالخمور والنبيذ قائمة حتى في أيام الإسلام. ومن هؤلاء الرهبان ومن قيامهم بشعائرهم الدينية، عرف هؤلاء الضيوف شيئًا عن ديانتهم وعما كانوا يؤدونه من شعائر. وقد أشير إلى هؤلاء الرهبان الناسكين في الشعر الجاهلي، وذكر عنهم أنهم كانوا يأخذون المصابيح بأيديهم لهداية القوافل في ظلمات الليل1. وقد كانت هذه الأديرة، وهي بيوت خلوة وعبادة وانقطاع إلى عبادة الله والتفكير فيه، مواطن تبشير ونشر دعوة. وقد انتشرت حتى في المواضع القصية من البوادي. وإذا طالعنا ما كتب فيها وما سجله أهل الأخبار أو مؤرخو الكنائس

_ 1 WeIhausen Reste S 232

عن أسمائها، نعجب من هذا النشاط الذي عرف به الرهبان في نشر الدعوة وفي إقامة الأديرة للإقامة فيها مواضع لا تستهوي أحدا. وهي متقاربة عديدة في بلاد العراق وفي بلاد الشام. بل نجد لها ذكرا حتى في الحجاز ونجد وفي جنوبي جزيرة العرب وشرقيها: تتلقى الاعانات من كنائس العراق والشام ومن الروم، حتى تمكنت من التبشير بين أكثر القبائل. ولولا ظهور الإسلام ونزول الوحي على الرسول في الحرمين، لكان وجه العالم العربي ولا شك غير ما نراه الآن. كان العرب في الحرمين، لكان وجه العالم العربي ولا شك غير ما نراه الآن. كان العرب على دين النصرانية وتحت مؤثرات ثقافية أجنبية، هي الثقافة التي اتسمت بها هذه الشيع النصرانية المعروفة حتى اليوم. وقد ذكر "ابن قتيبة الدينوري": أن النصرانية كانت في ربيعة، وغسان، وبعض قضاعة1 وقال "اليعقوبي": "واما من تنصر من أحياء العرب، فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزى، منهم عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وورقة بن نوفل بن أسد. ومن بني تميم: بنو امرئ القيس بن زيد مناة، ومن ربيعة: بنو تغلب، ومن اليمن: طئ ومذحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسان ولخم"2. وطبيعي أن يكون انتشار النصرانية في العرب ببلاد الشام واضحا ظاهرا أكثر منه في أي مكان آخر. وأقصد ببلاد الشام ما يقصده علماء الجغرافيا العرب من هذا المصطلح. فقد كان لعرب هذه الديار علاقة مباشرة واتصال ثقافي بغيرهم من سكان هذه الأرضين الذين دخل أكثرهم في الديانة النصرانية، والذين صارت هذه الديانة ديانة بلادهم الرسمية بعد دخول الروم فيها واتخاذهم النصرانية دينا رسميا للدولة منذ تنصير الشعوب الخاضعة لهم، لا تقربا إلى الله وحده، بل لتمكين سلطانهم عليهم، واخضاعهم روحيا لهم. ولهذا كان من سياسة البيزنطيين نشر النصرانية بين أتباها وفي الخارج وإرسال المبشرين والأغداق عليهم ومدهم بالأموال لنشر الدعوة وتأسيس مكاتب للتبشير، وبالفعلة لبناء الكنائس الفخمة الجميلة على طراز في أنيق جميل غير معروف بين من سيبشر بهذا الدين بينهم. وبذلك تبهر عقولهم، فتشعر أن الدين الجديد مزايا ليست في دينهم، وأن معابده أفخم من

_ 1 المعارف "621"، البدء والتأريخ "4/ 31"، الأعلاق النفيسة "217". 2 اليعقوبي "1/ 227".

معابدهم، ورجال دينه أرقى من رجال دينهم، وبذلك يأتون إليها. وللبهرجة والفخفخة أثر عظيم في كثير من الناس, فالعين عند أكثر البشر، تقوم مقام العقل. وقد يكون ما قام به الأحباش في اليمن من إنشاء الكنائس العظيمة فيها وتفننهم في تزويقها وتجميلها وفي فرشها بأفخر الرياش والفراش لصرف الناس عن الكعبة كما يزعم أهل الأخبار دليلا على ما أقول. وقد وجدت النصرانية لها سبيلا بين عرب بلاد الشام وعرب بادية الشام والعراق. فدخلت بين "سليح"، و"الغساسنة"، و"تغلب"، و"تنوخ"، و"لخم"، و"إياد"1. وقد انتشرت بين عرب بلاد الشام بنسبة تزيد على نسبة انتشارها بين عرب بلاد العراق، وهو شيء طبيعي، فقد كانت بلاد الشام تحت حكم البيزنطيين، وديانتهم الرسمية، هي الديانة النصرانية، وكانوا يعملون على نشرها وترويجها بين شعوب "إمبراطوريةهم"، وبين الشعوب الأخرى، لا سيما الشعوب التي لهم مصالح اقتصادية معها. ففي نشر النصرانية بينهم وادخالهم فيها، تقريب لتلك الشعوب منهم، وتوسيع لنفوذهم السياسي بينهم، وتقوية لمعسكرهم المناهض لخصومهم الفرس، أقوى دولة معادية لهم في ذلك الوقت. ولهذا سعت القسطنطينة لإدخال عربهم في النصرانية، وعملت كل ما أمكنها عمله للتأثير على سادات القبائل لإدخالهم في دينهم، بدعوتهم لزيارة كنائسهم وبإرسال المبشرين اللبقين إليهم، لاقناعهم بالدخول فيها، وبإرسال الأطباء الحاذقين إليهم لمعالجتهم، وللتأثير عليهم بذلك في اعتناق النصرانية، كما دعوهم لزيارة العاصمة، لمشاهدة معالمها ولأنهار عقولهم بمشاهدة كنائسها، والاتصال بكبار رجال الدين فيها، لتعليمهم أصول النصرانية. وأظهروا لهم مختلف وسائل المعونة والمساعدة إن دخلوا في ديانتهم، وبذلك أدخلوهم في النصرانية فصاروا إخوانا للروم في الدين. نعم، دخل سادات القبائل والحكام العرب التابعون لهم في هذه الديانة، فصاروا نصارى، ولكنهم لم يأخذوا نصرانية الروم، بل أخذوا نصرانية شرقية مخالفة لكنيسة "القسطنطية"، فاعتنقوها مذهبا لهم. وهي نصرانية عدت "هرطقة" وخروجا على النصرانية الصحيحة "الأرثوذكسية" في نظر الروم. نصرانية متأثرة

_ 1 اليعقوبي "1/ 227"، "أديان العرب".

بالتربة الشرقية، وبعقلية شعوب الشرق الأدنى، نبتت من التفكير الشرقي في الدين، ولهذا تأثرت بها عقلية هذه الشعوب فانتشرت بينها، ولم تجد لها إقبالا عند الروم وعند شعوب أوروبة. وكان من جملة مميزاتها عكوفها على دراسة العهد القديم، أي التوراة، أكثر من عكوفها على دراسة الأناجيل1. والنصرانية التي شاعت بين عرب بلاد الشام، هي النصرانية اليعقوبية، أو المذهب اليعقوبي بتعبير أصح. وهو مذهب اعتنقه أمراء الغساسنة وتعصبوا له، ودافعوا عنه، وجادوا رجال الدين في القسطنطنية وفي بلاد الشام في الذب عنه. فزعم مثلا أن "الحارث بن جبلة" "ملك العرب النصارى" تغلب في مناظرة جرت له مع "البطريرك بن جبلة" "526- 545م" على "البطريرك" وأفحمه في جوابه. وكان إفرام، وهو على مذهب "المكيين"، قد قصده لإقناعه بترك المذهب "المنوفيزيتي" والدخول في مذهبه2. ونسبوا إلى "المنذر بن الحارث" دفاعًا شديدًا عن "المنوفيزيتية"، أي المذهب الذي كان عليه الغساسنة من مذاهب النصرانية، وذكروا أنه أَنَّبَ "البطريرك دوميان" وهو في القسطنطنية على تهجمه على "المنوفيزيتين"، وعمل جهده في التقريب بين مذهبه ومذهب القيصر، واتصل بالقيصر "طيباريوس" "578-5682م" ليعمل على بث روح التسامح بين المذاهب النصرانية وترك الحرية للأفراد في دخول المذهب الذي يريدونه والصلاة في أية كنيسة يريدها النصراني2. ويظهر أن بعض الضجاعمة الذين كانوا يتولون حكم عرب الشام قبل الغساسنة كانوا على دين النصرانية. غير إننا لا نستطيع أن نحكم على أي مذهب من مذاهب النصرانية كانوا. فذكروا أن "زوركوموس"، وهو "ضجعم" جد الضجاعمة تنصر على يد أحد الرهبان، وذلك أن هذا الرئيس كان متهلفًا إلى مولود ذكر، فجاءه هذا الراهب، وتضرع إلى الله أن يهبه ولدًا ذكرًا، فلما استجاب الله له تعمد وتبعته قبيلته3.

_ 1 NoIdeke Geschichte des goraus Is7 2 المشرق، السنة الرابعة والثلاثون، كانون الثاني -آذار، 1936 "ص61 وما بعدها". 3 النصرانية "1/ 35".

وقد كان مشهد القديس "سرجيوس" في "الرصافة"، من أهم المزارات التي تقصدها المتنصرة من عرب الشام، مثل الغساسنة وتغلب. وقد تقرب إليه بعض ملوك الغساسنة بتقديم الهدايا والنذور إليه وبتزيينه وبزيارته، وبالاعتناء بالمدينة وبصهاريجها تكريمًا له، وتقربًا إليه، وظل هذا المزار مقصودًا مدة في الإسلام. وقد عد التغلبيون هذا القديس شفيعهم، جعلوا له راية حملوها معهم في الحروب، وكانوا يحملونها مع الصليب تبركًا وتيمنًا بالنصر1. وكان حاضر "قنسرين" لتنوخ. أقاموا في طرفها هذا منذ زمن قديم، مذ أول نزولهم بالشام. نزلوا في طرفها وتنصروا. فلما حاصر "أبو عبيدة" المدينة، دعاهم إلى الإسلام، فأسلم بعضهم، وأقام على النصرانية بنو سليح. كذلك كان في طرف قنسرين عشائر من طيء، نزلوا بها في الجاهلية على أثر الحروب التي وقعت فيما بينهم، واستدعت تفرقهم، فأقاموا عند قنسرين مع القبائل العربية الأخرى التي جاءت إلى هذا المكان2. وكان بقرب مدينة "حلب" حاضر يدعى "حاضر حلب" يجمع أصنافًا من العرب من تنوخ وغيره. فلما جاء "أبو عبيدة" إلى المدينة، صالح من فضل البقاء منهم على دينه على الجزية، ثم أسلم الكثير منهم فيما بعد3. وتعد بهراء في جملة القبائل العربية المتنصرة عند ظهور الإسلام. تنصرت كما تنصرت غسان وسليح وتنوخ وقوم من كندة، وذلك لنزولها في بلاد الشام ولاتصالها بالروم4.

_ 1 قال الأخطل: لما رأونا، والصليب طالعا ... ومار سرجيس وسما ناقعا وأبصروا راياتنا لوامعا ... خلوا لنا راذان والمزارعا فأجابه جرير: أفبالصليب ومار سرجيس تتقي ... شهباء ذات مناكب جمهورا وقال: ستنصرون بمارسرجيس وابنه ... بعد الصليب ومالهم من ناصر المشرق، السنة الرابعة والثلاثون، نيسان - حزيران، 1936، "ص246 وما بعدها". 2 البلاذري، فتوح "150 وما بعدها"، "أمر جند قنسرين والمدن التي تعدى العواصم". 3 البلاذري، فتوح "151"ز 4 اليعقوبي "1/ 298"، الخراج "146"، النصرانية"125".

وقد سكن قوم من "إياد" السواد والجزيرة، وسكن قوم منهم بلاد الشام، فخضعوا للغساسنة وللروم وتنصروا. وهم في جملة القبائل التي لم يأخذ علماء العربية اللسان عنها لمجاورتها أهل الشام، ولتأثرها بهم، وهم قوم يقرءون ويكتبون بالسريانية، فتأثروا بهم، لروابط الاحتكاك والثقافة والدين1. وقد ترك لنا رجل من نصارى الشام نصًّا قصيرًا مؤرخا بسنة "463" المقابلة لسنة "568" للميلاد، وهي غير بعيدة عن ميلاد الرسول جاء فيها: "نا شرحيل بر ظلمو بنيت ذا المرطول سنت 463 بعد مفسد خيبر بعم"، أي "أنا شراحيل بن ظالم بنت ذا المرطول بعد مفسد "خيبر" بعام". هو على قصره ذو أهمية عظيمة من الناحية اللغوية، إذ هو النص الجاهلي الوحيد الذي وصل إلينا مكتوبا باللهجة التي تزل بها القرآن الكريم. وهو على ما أعلم النص الجاهلي الوحيد أيضًا الذ وصل إلينا مكتوبا بصيغة المتكلم، فالنصوص الأخرى التي وصلت إليها والمكتوبة بمختلف اللهجات العربية مدونة كلها بضمير الغائب. وهو أيضًا من النصوص العربية القليلة التي تركها النصارى العرب لمن بعدهم في بلاد الشام. وقد استغل الروم العرب المتنصرة بأن أثاروا في نفوسهم العواطف الدينية على المسلمين، حينما عزم المسلمين على فتح بلاد الشام وطرد البيزنطيين منها، وأغروا سادات القبائل بالمال وبالهدايا وبالوعود حتى اشتروهم فصاروا إلى جانبهم. والمصالح الشخصية هي فوق كل مصلحة عند سادات القبائل، لا يعلوها عندهم مصلحة، فانضموا إليهم، وجاءوا بقبائلهم لتحارب معهم. ومن هذه القبائل العربية التي حاربت مع الروم، غسان. حاربوا معهم في معارك عديدة. ففي يوم اليرموك كانوا في صفوف الروم، وكان رئيسهم "جبلة بن الأيهم الغساني" في مقدمة الجيش الذي أرسله هرقل لمحاربة المسلمين. كان على رأس مستعربة الشام من غسان ولخم وجذام2. وقد اشترك مع الروم في حروب أخرى ضد المسلمين. وكانت "سليح" في جملة القبائل العربية المتنصرة التي حاربت المسلمين. ولما تقهقر الروم وانهزموا، دفعوا الجزية لاحتفاظهم بدينهم. وكذلك كانت عاملة ولخم وجذام في جملة القبائل المتنصرة التي ساعدت الروم، وآزرتهم. كانوا مع

_ 1 المزهر "1/ 105"، النصرانية "124". 2 البلاذري، فتوح "140"، "يوم اليرموك".

الروم مثلا حين مجئ الرسول إلى "تبوك"1. وظلوا إلى جانبهم يؤيدونهم، حتى تبين لهم أن النصر قد تحلو للمسلمين، وأن الهزائم قد حالفت الروم، عندئذ انضمت في جملة من انضم من منتصرة العرب إلى المسلمين لمحاربة الروم2. وكادت قبيلة "تغلب" الساكنة غرب الفرات، أن تفر إلى بلاد الروم وتلحق بأرض الروم، لما غلب البيزنطيون على أمرهم وفتحت بلاد الشام والعراق أمام المسلمين. ولما خيرت بين البقاء على دينها ودفع الجزية وبين الدخول في الإسلام، أنفت من دفع الجزية، ورضيت بدفع ضعف الصدقة التي تؤخذ من المسلمين في كل سائمة وأرض3. وقد نزحت "إياد" إلى بلاد الروم وبقيت بهان ثم عاد جمع منها لإخراج القيصر إياهم، فنزلوا بلاد الشام والجزيرة وانضموا إلى إخوانهم في الجنس4. ويلي هؤلاء عرب العراق، لاحتكاكهم بالنصارى ولانتشار النصرانية في العراق بالرغم من أن ديانة الحاكمين لهذا القطر كانت ديانة أخرى، وأن النصرانية لم تكن في مصلحة الفرس. غير أن الفرس لم يكونوا يبشرون بدينهم، ولم يكن يهمهم دخول الناس فيه، إذ عدت المجوسية ديانة خاصة بهم، وهذا مما صرف الحكومة عن الاهتمام بأمر أديان الخاضعين لها من غير أبناء جنسها، إلا إذا وجدتها تتعارض مع سياستها، وتدعوا إلى الابتعاد عنها. ثم إن النصرانية إلا إذا وجدتها تتعارض مع سياستها، وتدعو إلى الابتعاد عنها. ثم إن النصرانية التي انتشرت فيما لم تكن من النصرانية المتشيعة بالأخطار، فغضت النظر عنها، وأن قاومتها مرارا واضطهدتها، وفتك ملوكها بعدد من الداخلين فيها، أشارت إليهم كتب مؤرخو الكنيسة في تواريخم عن الشهداء القيسين5. وقد أشار أهل الأخبار إلى تنصر بعض ملوك الحيرة، ونسبوا إليهم بناء الأديرة

_ 1 البلاذري "71"، "تبوك وإيلة وأذرح ومقنا والجرباء". 2 الخراج "138"، "فصل في الكنائس والبيع والصلبان". 3 البلاذري "185"، "أمر نصارى بني تغلب بن وائل"، السنن الكبرى "9/ 216". الخراج "120 وما بعدها". 4 الطبري "4/ 197 وما بعدها"، "الجزيرة". 5 هنالك عدة مؤلفات في هذا لموضوع راجع منها: Georg Hoffmann, Aszuge Aus Syrischen Akten Persicher Martyrer, Leipzig, 1880.

والكنائس، كما أشار إلى ذلك بعض مؤرخي الكنيسة. كالذي ذكروه عن المنذر" وعن "النعمان بن المنذر". غير أننا لا نستطيع إقرار ذلك بوجه عام، ولا بد من التريث، إذ يظهر أن أكثر ملوك الحيرة كانوا على الوثنية. وإذا كان كثير من ملوك الغساسنة قد دخلوا في النصرانية فإن ظروفهم تختلف عن ظروف ملوك الحيرة. فقد كان الروم، وهم سادة بلاد الشام، على هذه الديانة، وكانوا يشجعون انتشار النصرانية ويسعون لها، ولهذا كان لهذه السياسة أثر في الغساسنة أصحاب الروم، وهم على اتصال دائم بهم بطبيعة حكمهم لبلاد الشام. أما في العراق، فلم تكن هذه الديانة ديانة رسمية للحكومة، إنما انتشرت بفضل المبشرين، ولهذا انتشرت بين سواد الشعب، ولم تنتشر بين الملوك. ولم تضغط الحكومة الساسانية على ملوك الحيرة للدخول في هذه الديانة التي لم يكونوا أنفسهم داخلين فيها، فهي بالإضافة إليهم ديانة غريبة، لا يعنيهم موضوع انتشارها، ولا يهمهم موضوع انتشارها، ولا يهمهم شأنها ما دامت لا تتعارض وحكمهم في العراق. وقد كان "هانئ بن قبيضة الشيباني" ممن كان على النصرانية، وهو من سادات "بني شيبان"، ومات وهو على هذا الدين. وكان في جملة من فاوض "خالد بن الوليد" باسم قومه على دفع الجزية للمسلمين. ومن متنصرة العراق بنو عجل بن لجيم من قبائل بكر بن وائل. وقد عرف منهم "حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي" الذي سادهم في معركة ذي قار. وقد حاربت "خالد بن الوليد"، وكان قائدها بن بجير وعبد الأسود. وكان منها في أيام بني أمية أبجر بن جابر. وهو والد حجار. وقد بقي على نصرانيته في الإسلام1. وكان في الحيرة سراة نصارى اشتركوا مع سراة قريش في الأعمال التجارية مثل "كعب بن عدي التنوخي"، وهو من سراة نصارى الحيرة، وكان أبوه أسقفا على المدينة، وكان هو يتعاطى التجارة، وله شركة في التجارة في الجاهلية مع "عمر بن الخطاب" في تجارة البز، وكان "عقيدا"، قدم المدينة في وقد من أهل الحيرة إلى النبي ورأى الرسول، فأسلم في رواية، ولم يسلم في رواية أخرى. ولما توفي الرسول، ثبت على الإسلام على رواية من صيره مسلمًا في

_ 1 الأغاني "13/ 46 وما بعدها"، النصرانية "136".

أيام الرسول. واشترك في جيش اليمامة الذي أرسله "أبو بكر"، ووجهه "أبو بكر" في رسالة إلى "المقوقس"، ثم وجهه "عمر" برسالة إليه في أيامه. وشهد فتح مصر1. وقد أخرجت مدينة الحيرة عددا من رجال الدين، مثل مار إيليا وأصله من الحيرة، والقديس والقديس حنا نيشوع، وهو من عرب الحيرة ومن عشيرة الملك النعمان2، والقديس مار يوحنا3 و"هوشاع" الذي حضر مجمع إسحاق الجاثليق عام 410م، وشمعون الذي أمضى أعمال مجمع "يهبالا" الذي انعقد سنة 486م، وشمعون الذي حضر مجمع "أقاق"، و"إيليا" المنعقد سنة 486م وأمضى في سنة 497م مجمع "اباي" و"افرام" و"يوسف"، وقد حضر مجمع "أيشوعياب الأرزني" الذي انعقد سنة 585م، وشمعون بن جابر الذي نصر الملك النعمان الرابع في سنة 594 على ما يذكره مؤرخو الكنيسة4. وقد كان "مار يشوعياب الأرزوني" Jesujab I Arzunita المتوفى سنة 596م من أصل عربي. درس الديانة في "نصيبين" Nisibis ثم تقدم فصار أسقفا على "أرزون" Arzun، ثم ترقى حتى صار "بطريكا" بطريقا" على النساطرة سنة 580م. وقد زار الملك "النعمان". وتوسط عند الروم لمساعدة خسرو ابرويز" Chosroes Abruizus ضد "بهرام" Beheram Varames وقد توفي في خيم "بني معد" "المعديين" Maadenes، ونقل إلى الحيرة فدفن في دير "هند" ابنة النعمان5. وقد عثر على آثار كنائس في خرائب الحيرة، وأشار أهل الأخبار إلى وجود الكنائس والبيع والأديرة في الحيرة. وذكر "ياقوت الحموي" أسماء عدد من الأديرة كانت بالحيرة أو بأطرافها وبالبادية، منها: "دير ابن براق" بظاهر الحيرة، "دير ابن وضاح" بنواحي الحيرة، وديارات الأساقف، وهي

_ 1 الإصابة "3/ 282"، "رقم 7422". 2 الديورة في مملكتي الفرس والعرب "32 وما بعدها". 3 الديورة "47". 4 أدى شير "2/ 208". 5 W// Smith, A Dicrionary, II, p. 370, John of Ephesus, Eccl. Histo, II, 40 ff.

جملة أديرة كانت بالنجف ظاهر الكوفة بحصريها نهر الغدير، ودير الأسكون "وهو بالحيرة راكب على النجعف وفيه قلالي وهياكل وفيه رهبان يضيفون من ورد عليهم". ودير الأعور، بظاهر الكوفة بناه رجل من إياد يقال له الأعور من بني حذافة بن زهر بن إياد، ودير بني مرينا، بظاهر الحيرة عند موضع جفر الأملاك، ودير حنظلة، منسوب إلى حنظلة بن أبي عفراء بن النعما، وهم عم إياس بن قبيصة، وكان من رهط "أبي زبيد" الطائي، وكان من شعراء الجاهلية، ثم تنصر وفارق قومه، ونزل الجزيرة مع النصارى حتى فقه دينهم وبلغ نهايته، وبنى ديرا عرف باسمه، هو هذا الدير، وترهب حتى مات1. ودير حنظلة بالحيرة، وهو منسوب إلى حنظلة بن عبد المسيح بن علقمة، ودير حنة، وهو بالحيرة كذلك بناه المنذر لقوم من تنوخ يقال لهم بنو ساطع، تقابله منارة عالية كالمرقب تسمى القائم، لبني أوس بن عمرو بن عامر، ودير السوا بظاهر الحيرة يتحالفون عنده، ودير الشاء، ودير عبد المسيح وهة بظاهر الحيرة بموضع الجرعة بناه عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة، ودير علقمة بالحيرة منسوب إلى علقمة بن عدي بن الرميك بن توب بن أسس بن دبي بن نمارة بن لخم، ودير قرة وهو دير بإزاء دير الجماجم بناه رجل اسمه قرة من بني حذافة بن زهر بن إياد في أيام المنذر بن ماء السماء، ودير اللج وهو بالحيرة بناه النعمان بن المنذر أبو قابوس، و"كان يركب في كل أحد إليه، وفي كل عيد، ومعن أهل بيته، خاصة من آل المنذر، عليهم حلل الديباج المذهبة، وعلى رءوسهم أعلام فوقها صلبان، وإذا قضوا صلاتهم، انصرفوا إلى مستشرفه على النجف، فشرب النعمان وأصحابه فيه بقية يومه، وخلع ووهب، وحمل ووصله وكان ذلك أحسن منظر وأجمله"2. ودير مارت "مارة" مريم. هو دير قديم من أبنية آل المنذر بنواحي الحيرة بين الخورنق والسدير وبين قصر أبي الخصيب مشرف على النجف، ودير مار فايثون بالحيرة أسفل النجف، ودير مر عبدا بذات الأكيراح من نواحي الحيرة منسوب إلى مر عبدا بن حنيف وضاح اللحياني كان مع ملوك الحيرة،

_ 1 البكري، معجم "2/ 567"، "دير حنظلة". 2 البكري، "معجم "5/ 596"، "دير الج".

ودير ابن المزعوق، وهو دير قديم بظاهر الحيرة، ودير هند الصغرى بنت النعمان بن المنذر المعروفة بالحرقة، وكانت به قبور أهلها، بنته هند في أيام "خسرو أنو شروان" في زمن مار افريم الأسقف. وأما الدير المعروف بدير هند الأقدم، فنسب بناؤه إلى هند الكبرى، أم عمرو بن هند1. هذه أسماء اخترتها من بين أسماء أديرة أخرى كثيرة ذكرها "الشابشي"2، وياقوت الحموي والبكري، لأن لها صلة بالحيرة وبما جاورها وبالعرب سكان هذه الأرضين. ونجد في بلاد الشام أديرة أخرى بناها عربها في تلك الديار قبل الإسلام. ونجد على تسميات بعضها الصبغة الإرمية كما في تسمية "مار افريم" "مار افرايم" و"مار عبدا" و"مار فايثو"، وغيرها. وكلمة "مار" من كلمات بني إرم، كما نجد الصبغة النصرانية للأعلام واضحة على بعضها كما في عبد المسيح وحنة ومارت مريم وأمثال ذلك، وهي من الأعلام التي اختصت بالنصارى. وذلك بسبب أن النصرانية كانت متأثرة بثقافة بني إرم، وكانت تستعمل اللغة الإرامية في الصلوات وفي تأدية الشعائر الدينية الأخرى. ولغة بني إرم هي لغة العلم عند النصارى الشرقيين، فكان من الطبيعي استعمال نصارى العرب لهذه اللغة في كنائسهم وبيعهم وأديرتهم وفي دراستهم للدين وما يتصل باللاهوت من علوم. ومن هنا استعمل كتابهم قلم بني إرم في كتاباتهم، ومن هذا القلم تولد القلم النبطي المتأخر الذي تفرع منه القلم العربي الذي كتب به أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، فصار القلم الرسمي للمسلمين. وقد نعت الرواة وأهل الأخبار العرب التي دانت بالنصرانية بـ "العرب المتنصرة"، تمييزا لها عن العرب الآخرين الذين لم يدخلوا في هذه الديانة، بل بقيت على إخلاصها ووفائها لديانة آبائها وأجدادها، وهي عبادة الأوثان. ومن القبائل التي يحشرها أهل الأخبار في جملة "العرب المتنصرة" غسان وتغلب وتنوخ ولخم وجذام وسليح وعاملة. وبلاحظ أن الإخباريين يطلقون على هذه القبائل أو على أكثرها "العرب المستعربة"، وهم لا يصدقون بذلك نسبها، لأن من بينها كما نعلم من هو من أصل قحطاني على حسب مذهب أهل الأنساب في نسب

_ 1 البكري "2/ 606"، البلدان "4/ 119 وما بعدها"، "القول في ذكر الأديرة". 2 مطبعة المعارف، بغداد، تأريخ كلدو وأثور "2/ 29"، ذخيمة الأذهان "317".

القبائل. وإنما يريدون من هذا المصطلح التي كانت قد سكنت ببلاد الشام والساكنة في أطراف الإمبراطورية البيزنطية وفي سيف العراق من حدود نهر الفرات إلى بادية الشام، فهو يشمل إذن القبائل النازلة على طرفي الهلال الخصيب وفي طرفي القوس التي تحيط بحدود الإمبراطوريةين. وخاصة تلك القبائل التي دانت بالنصرانية وتأثرت بثقافة بني إرم وبلهجتها، وذلك لظهور هذا الأثر فيها، وعلى لهجتها خاصة، مما حدا بعلماء اللغة أن يتحرجوا في الاستشهاد بشعرها في قواعد اللغة. والاستشهاد بشعر قبيلة لإثبات القواعد هو أوثق شاهد في نظر العلماء على التسليم بنقاوة لغة القبيلة التي يستشهد بشعرها وأصالتها. ووجدت النصرانية بعد بلاد الشام والعراق لها مواضع أخرى دخلت إليها، هي أطراف جزيرة العرب، كالعربية الغربية والجنوبية والشرقية. وتفسير دخولها إلى هذه الأرضين واضح، هو اتصالها بطرق القوافل البرية والبحرية في البلاد التي انتشرت فيها النصرانية، ومجئ التجار النصارى والمبشرين مع القوافل إليها. وتجار النصارى، لم يكونوا على شاكلة تجار يهود: كانوا يرون أن التجارة هي كسب والآخرة، فكانوا يغتنمون فرصة وجودهم في البلاد التي يطرقونها كسبا لهم ولبلادهم، وأكثرهم من الروم. فإنهم يجدون بتنصر الغرباء، إخوانا هلم يرون رأيهم، ويعطفون عليهم. ثم إنه سيفضلونهم في تعاملهم معهم على غيرهم، وسيتساهلون معهم ولا شك. ثم إنهم سيقربنهم بتنصيرهم من العالم النصراني، وممثل هذا العالم وحماته هم الروم. وكان أهل دومة الجندل خليط، فيهم نصارى، قال عنهم أهل الأخبار إنهم "من عباد الكوفة"1. ويظهر من خبر أسر خالد للأكيدر ومجيئه به على رسول الله، ومن مصالحة الرسول له على الجزية، إنه كان على النصرانية، إذ لا تؤخذ الجزية من مشرك2؟

_ 1 البلاذري، فتوح البلدان "74". "دومة الجندل". 2 "ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته" الطبري "3/ 109". "دار المعارف"، "ذكر الخبر عن غزوة تبوك".

أما "أيلة"، فكان اسم صاحبها في أيام الرسول "يحنة بن رؤبة" "يوحنا بن رؤبة". وهو نصراني كما يدل اسمه عليه، جاء إلى تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وكا الرسول بها، فصالحه على الجزية وبقي في محله1. وقد دعاه المسعودي "أسقف أيلة"2. وورد في محاضر بعض المجامع الدينية "أسقف أيلة والشراة"3. وكان في وادي القرى نفر من الرهبان، كما ورد ذلك في شعر جعفر بن سراقة أحد بني قرة، وهو: فريقان رهبان بأسف ذي القرى ... وبالشام عرافون فيمن تنصرا4 وتعد طئ من القبائل التي وجدت النصرانية سبيلا إليها. وقد ورد أن "أحودما" "المغريان" تنقل بين طئ في سنة "870" لليونان المقابلة لسنة "559" للميلاد5. وقد كان عدي بن حاتم الطائي في جملة الداخلين في النصرانية من طئ. ويذكر إنه كان "ركوسيا"، وفد على الرسول، وأعلن إسلامه6. غير أن هذا لا يعني أن النصرانية كانت هي الغالبة على هذه القبيلة، فقد كان قوم منها يتعبدون للصنم "الفلس"، أي على الشرك. ولم يذكر أهل الأخبار شيئًا يستحق الذكر عن النصرانية في يثرب. وقد أشار القرآن الكريم في مواضع عديدة من الآيات المدنية إلى النصارى، غير أن تلك الإشارات عامة في طبيعة المسيح وفي النصرانية نفسها لا في نصارى يثرب وفي صلاتهم بالإسلام. ثم إن أهل السير لم يشيروا إلى تصادم وقع بين النصارى والمسلمين ولا إلى مقاومة نصارى يثرب للرسول كالذي وقع بين يهود يثرب والرسول، مما يدل على أن النصرانية لم تكن قوية في المدينة، وإن جاليتها لم تكن

_ 1 البلاذري "66"، السنن الكبرى "9/ 185 وما بعدها". 2 التنبيه "272"، النصرانية "448". 3 النصرانية "448". 4 الأغاني "7/ 96" "نسب جميل وأخباره". 5 النصرانية وآدابها، القسم الأول "132 وما بعدها". Barhebraei Chrinion EccI III100 6 الإصابة "2/ 461"، "رقم 5477"، المشرق، السنة الثامنة، العدد 11، "1905" "507"، النصرانية "133".

كثيرة العدد فيها. غير أن هذا لا يعني عدم وجود النصارى في هذا الموضع الزراعي المهم1. فكما كان في مكة رقيق وموالي يقومون بخدمة ساداتهم، كذلك كان في المدينة نفر منهم أيضًا يقومون بمختلف الأعمال التي يعهد أصحابهم إليهم القيام بها. ولا بد أن تكون لهذه الطبقة من البشر مكانة في هذه المدينة وفي أي موضع آخر من جزيرة العرب. فقد كانت هذه الطبقة عمودا خطيرا من الأعمدة التي يقوم عليها بنيان الاقتصاد في ذلك العهد، فهي بالنسبة لذلك العهد الآلات المنتجة والمعامل المهمة لأصحاب الأموال وللسادة الأثرياء، تؤدي ما يطلب منها القيام به وما يراد منها انتاجه بأجور زهيدة وبدقة ومهارة لا تتوفر عند الأحرار من العرب. ثم إن الأحرار مهما بلغ حالهم من الفقر والفاقة كانوا يأنفون من الأعمال الحرفية ونحوها مما يوكل إلى هذه الطبقة القيام به، لأنها في نظرهم من المهن المنحطة التي لا تليق بالرجل الحر مهما كان عليه من فقر وبؤس، ولهذا كان لا بد من الاستعانة بالموالي والرقيق للقيام بأكثر متطلبات حياة الإنسان. ويفهم من بيت للشاعر حسان بن ثابت في قصيدة رقى بها النبي، وهو: فرحت نصارى يثرب ويهودها ... لما توارى في الضريح الملجد2 أنه كان في يثرب نفر من النصارى كما كان يها قوم من يهود. وذكر أن النصارى كانوا يسكنون في يثرب في موضع يقال له: سوق النبط3. ولعل هذه السوق هي الموضع الذي كان ينزل فيه نبط الشام الذين كانوا يقصدون المدينة للاتجار في الحبوب، فصارت موضعا لسكنى هؤلاء النصارى، وسب إليهم4. وقد ورد أن عمر بن الخطاب استعمل أبا زبيد الشاعر النصراني على صدقات قومه، وأن أبا زبيد هذا كان مقربا من الخليفة عثمان بن عفان من بعده5. وقد كان "أبو عامر" الراهب الذي تحدثت عنه أثناء حديثي عن الأحناف،

_ 1 السنن الكبرى "9/ 182 وما بعدها". 2 ديوان حسان "59" "تحقيق هرشفلد". 3 IIio RaccoIta p 140 4 البخاري "3/ 41 وما بعدها"، النصرانية "449". 5 النصرانية "449".

ممن اعتنق النصرانية، ومن أهل يثرب. ويظهر أنه كان قد تمكن من إقناع بعض شباب الأوس من اعتناق دينه، بدليل ما ذكره علماء التفسير من أنه لما خرج من يثرب مغاضبا للرسول، وذهب إلى مكة، مؤيدا إياهم ومحرضا لهم على محاربة الرسول أخذ معه خمسين أو خمسة عشر رجلا من الأوس، على ما ذكره علماء التفسير، فلما أيس من نجاح أهل مكة في القضاء على الرسول فر إلى بلاد الشام على نحو ما ذكرت، ليطلب مددا من الروم يعينه في زحفه على المدينة. وأنا لا أستبعد احتمال وجود أناس آخرين من أهل يثرب كانوا قد دخلوا في النصرانية ودعوا إليها، واحتمال وجود مبشرين فيها، كانوا يسعون لإدخال أهلها في دين عيسى، يؤيدهم ويمدهم بالمال والمعنة الروم حكام بلاد الشام. وكان بين سكان مكة عند ظهور الإسلام جماعة من النصارى هم من الغرباء النازحين إليها، لأسباب، منها: الرق، والاتجار، والتبشير، والحرفة. فأما الرقيق، فمنهم الأسود والأبيض: الأسود من إفريقية، والأبيض من أوروبة، أو من أقطار الشرق الأدنى، وهم أعلى في المنزلة وفي السعر من النوع الأول، وهم بحكم قانون ذلك العهد وعرفه تبع لسادتهم وفي ملك يمنيهم، يقومون بالأعمال التي توكل إليهم، ليس لهم التصرف إلا بأمرهم، فهم في الواقع بضاعة يتصرف بها صاحبها كيف يشاء، ليس لها صوت ولا رأي، إن أبق المملوك قتل، أو أنزل به العقاب الذي يراه ويختاره صاحبه ومالكه. وبين الرقيق الأبيض خاصة نفر كانوا على درجة من الفهم والمعرفة، يعرفون القراءة والكتابة، ولهم اطلاع في شئون دينهم ومعارف ذلك العهد. ولهذا أوكل إليهم القيام بالأعمال التي تحتاج إلى مهارة وخبرة وذكاء. وقد كان حالهم لذلك أحسن من حال غيرهم من الأرقاء. ومنهم من كان يشرح لسادتهم أمور دينهم وأحوال بلادهم، ويقصون عليهم ما حفظوه ووعوه من أخبار الماضين وقصص الراحلين، وأكثرهم ممن كانت ألسنتهم لم تتروض بعد على النطق بالعربية، فكانوا يرطنون بها، أو يتلعثمون، ومنهم من كان لا يعرف شيئًا منها، أو لا يعرف منها إلا القليل من الكلمات. ومن هؤلاء رجل نصراني كان بمكة قيل إن اسمه: سلمان، أو يسار، أو جبر، أو يعيش، أو بلعام، ادعى أهل مكة أنه كان هو الذي يلقن الرسول

ما كان يقوله للناس من رسالته، وأنه هو الذي كان يعلمه، وقد أشير إلى قول قريش هذا في الآية: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 1. ومن روى من المفسرين أن اسمه جبر، قال: إنه كان غلامًا لعامر بن الحضرمي، وأنه كان قد قرأ التوراة والإنجيل2، وكان الرسول يجلس إليه عند المروة إلى مبيعته، "فكانوا: والله ما يعلم محمدًا كثيرًا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام الحضرمي"3. ومن هؤلاء من زعم إنه كان قينًا لبني الحضرمي، وإنه كان قد جمع الكتب، وهو رومي، فكان رسول الله يأتي إليه ويجتمع به، فكان المشركون يقولون: إنه يتعلم من هذا الرومي! وذكر بعض الرواة أن "آل الحضرمي" كانوا يملكون عبدين، هما: جبر ويسار، فكانا يقرآن التوراة والكتب بلسانهما، فكان الرسول يمر عليهما فيقوم يستمع منهما. وقيل إنهما كانا من أهل "عين التمر"، وإنهما كانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل، فربما مر بهما النبي، وهما يقرآن فيقف ويستمع. وأما من قال أن اسمه "يعيش"، فذكر أنه كان مولى لحويطب بن عبد العزى. وأما من ذكر أن اسمه "بلعام"، فقال إنه كان قينا روميا بمكة وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان، "فكان المشركون يرون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين يدخل عليه وحين يخرج من عنده، فقالوا إنما يعلمه بلعام"4. ومهما اختلف المفسرون في اسم هذا الرجل فإنهم اتفقوا على أنه كان أعجمي الأصل، نصرانيًّا، يقرأ الكتب، وإنه كان بمكة نفر من الموالي كانوا على دين النصرانية يقرأون ويكتبون. وإلى هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص، أعني: يعيش ويقال عائش أو عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر، أشير في القرآن الكريم، في الآية: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا

_ 1 سورة النحل: الرقم 16، الآية 103. 2 تفسير الطبري "14/ 119"، "وكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدًا كثيرًا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام ابن الحضرمي" روح المعاني "14/ 212 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 420". 3 تفسير الطبري "14/ 120"، روح المعاني "14/ 212"، ابن هشام "260". 4 تفسير الطبري "14/ 119"، روح المعاني "14/ 233"، تفسير الطبرسي "المجلد الثالث 386".

إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} 1 وقد ذكر المفسرون أن هؤلاء "كانوا كتابيين يقرأون التورأة، أسلموا، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يتعهدهم، فقيل ما قيل"2. وعرفت أسماء جملة رجال ونساء من هذا الرقيق الذي جيء به إلى مكة وإلى مواضع أخرى من جزيرة العرب. من هؤلاء نسطاس، ويقصد بذلك أنستاس، وكان من موالي صفوان بن أمية. و"مينا" "ميناس"، و"يوحنا" عبد "صهيب الرومي"، و"صهيب" نفسه لم يكن عربيًّا، إنما كان من بلاد الشام في الأصل، وهو رومي الأصل ولذلك قيل له "صهيب الرومي". وكان قد جاء مكة فقيرًا لا يملك شيئًا، فأقام بها، ثم اتصل بعبد الله بن جدعان الثري المعروف، وصار في خدمته، ولذلك قيل إنه كان مولى من موالي عبد الله بن جدعان. وفي رواية إنه كان من "النمر بن قاسط"، سقط أسيرا في الروم فباعوه فاشتري منهم. وقد ورد في حديث: "صهيب سابق الروم"، فهذا يدل على إنه من أصل رومي. وهو من أوئل المسلمين، يذكر إنه حينما هم بترك مكة والذهاب إلى المدينة بعد هجرة الرسول إليها "قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك!! والله، لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني جعلت لكم مالي"3، وترك قريشًا ليذهب إلى الرسول. وكان لبني مخزوم الأثرياء جملة يونانيات، كما كان لدى العباس عم النبي جوار يونانيات، وأشير إلى وجود جوار فارسيات. وكان هذا الرقيق الأبيض ذكورًا وإناثًا من جنسيات متعددة، منهم من كان من أصل رومي، ومنهم من كان من عنصر أوروبي آخر، ومنهم من كان من الفرس أو من أهل العراق مثل نينوى وعين التمر، ومنهم من كان من بلاد الشام أو من أقباط مصر، وهم على النصرانية في الغالب4.

_ 1 الفرقان، الرقم 25، الآية 4. 2 تفسير الطبير "18/ 137 وما بعدها"، روح المعاني "18/ 234 وما بعدها"، مجمع البيان "7/ 161"، "طهران"، "الجزء الثامن عشر"، "سورة الفرقان". 3 ابن هشام "2/ 89"، الإصابة "2/ 188"، "الرقم 4104". 4 المشرق، السنة الخامسة والثلاثون 1937 "ص88 وما بعدها".

وقد كانت في مكة عند ظهور الإسلام جالية كبيرة كثيرة العدد من العبيد، عرفوا بـ "الأحابيش". وبين هؤلاء عدد كبير من النصارى، استوردوا للخدمة وللقيام بالأعمال اللازمة لسراة مكة. وقد ترك هؤلاء الأحابيش أثرًا في لغة أهل مكة، يظهر في وجود عدد من الكلمات الحبشية فيها في مثل المصطلحات الدينية والأدوات التي يحتاج إليها في الصناعات وفي الأعمال اليدوية التي يقوم بأدائها العبيد. وقد أشار العلماء إلى عدد من هذه الكلمات ذكروا أنها تعربت، فصارت من الكلام العربي. وقد أشاروا إلى ورود بعضها في القرآن الكريم وفي الحديث1. ويشير أهل الأخبار إلى ورود بعض الرهبان والشماسة إلى مكة. وقد كان من بينهم من يقوم بالتطبيب. وقد ذكر الإخباريون أن شماسا كان قد قصد مكة، فعجب الناس به، وقد سموا أحدهم به، هو عثمان بن الشريد بن سويد بن هرمي بن عامر بن مخزوم، فقالوا له: "شماس"2. وذكر "اليعقوبي"، أن ممن تنصر من أحياء العرب، قوم من قريش من بني "أسد بن عبد العزى"، منهم "عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى"3. وقد ورد في بعض الأخبار إنه قدم على قيصر، فتنصر، وحسنت منزلته عنده. وأن قيصر ملكه على مكة. ومنحه براءة بذلك، واعترف به. وقد سبق أن تحدثت عنه في أثناء كلامي على مكة. وقد ذكرت أن من الصعب تصور بلوغ نفوذ القيصر هذا الحد من جزيرة العرب, فلم يتجاوز نفوذ الروم الفعلي في وقت ما من الأوقات أعالي الحجاز. ولكن ذلك لا يمنع من تقرب السادات وتزلفهم إلى عمال الروم وموظفيهم في بلاد الشام، بإظهار إنهم من المخلصين لهم المحبين للروم، وإنهم من كبار السادات ذوي المكانة والنفوذ، للحصول على مكاسب مادية ومعنوية منهم، تجعل لهم مكانة عند أتباعهم وجاها ومنزلة ونفوذا على القبائل الأخرى. وقد كان الروم يعرفون ذلك معرفة جيدة، بفضل دراستهم لنفسية الأعراب، ووقوفهم على طبائع سادات القبائل، فكانوا يشجعون هذا النوع من التودد السياسي لكسب العرب وجرهم إلى جانبهم.

_ 1 "فقال: يا أم خالد، هذا سناه وسناه بالحبشية حسنة"، أسد الغابة "5/ 579"، المعرب "202، 303، 352"، صحيح مسلم "2/ 189". 2 ابن هشام "2/ 329"، "من حضر بدرا من بني مخزوم"، المشرق، السنة الخامسة والثلاثون "1937 "ص90 وما بعدها"، كتاب نسب قريش "342". 3 اليعقوبي "1/ 227"، "أديان العرب".

وعد "ورقة بن نوفل" في جملة المتنصرين في بعض الروايات، فقد ذكر إنه "تنصر واستحكم في النصرانية، وقرأ الكتب، ومات عليها"1. وقد استدل "شيخو" من الخبر المروي عن الصور التي قيل إنها صور الرسل والأنبياء وبينها صورة المسيح ومريم، والتي ذكر إنها كانت مرسومة على جدران الكعبة، على إنها هي الدليل على أثر النصرانية بمكة. استدل على فكرته هذه بخبر خلاصته أن الرسول حينما أمر فطمست تلك الصور، استثنى منها صورة عيسى ابن مريم، وبخبر ثان ورد عن تمثال لمريم مزوق بالحلي وفي حجرها عيسى، باد في الحريق الذي شب في عصر "ابن الزبير"، وبخبر ثالث عن امرأة من غسان قيل إنها "حجت في حاج العرب، فلما رأت صورة مريم في الكعبة، قالت: بأبي أنت وأمي: إنك العربية. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمحو تلك الصور، إلا ما كان من صورة عيسى ومريم"2. وكان في الطائف نفر من الموالي كانوا على دين النصرانية، لم يتعرض سادتهم كسائر رجال الأماكن الأخرى من الحجاز لدينهم، فتركوهم على دينهم يقيمون شعائرهم الدينية على نحو ما يشاؤون. من هؤلاء "عداس"، وكان من أهل نينوى، أوقعه حظه في الأسر، فبيع في سوق الرقيق، وجي به إلى الطائف فصار مملوكا لعتبة وشيبة ابني ربيع. وعند مجئ الرسول إلى الطائف عارضا نفسه على ثقيف أهلها، كان هو في جملة من تكلم إليه3. ومنهم الأزرق، ذكر أنه كان عبدا روميا حدادا، وإنه هو أبو نافع الأزرق الخارجي الذي ينتمي إليه الأزراقة. وهناك روايات تنفي وجود صلة لهذا الأزرق بالأزرق والد نافع المذكور4. وأما الحديث عن النصرانية في اليمن، فهو حديث غامض أوله، مبهم أصله، لا نعرف متى نبدأ به على وجه التحقيق. فليس لدينا نص بالمسند يشير إلى مبدأ

_ 1 اليعقوبي "1/ 298"، "ليدن" "المحبر "171"، ابن هشام "1/ 243، 250 وما بعدها "، النصرانية "1/ 119"، المشرق، السنة الخامسة والثلاثون، 1937 "ص272". 2 النصرانية "ص117". 3 ابن هشام "2/ 30"، أسد الغابة "3/ 289"، الإصابة "2/ 459"، "الرقم 5470" النصرانية "452". 4 البلاذري "62".

دخول النصرانية العربية الجنوبية. وما لدينا من كتابات مما له بعض العلاقة بالنصرانية إنما دون في الحقبة المتأخرة من تأريخ اليمن، وفي أيام الحبشة في اليمن، وهو ساكت في الجملة عن المبدأ وعن المبشرين بالنصرانية في العربية الجنوبية. فليس لدينا من بين نصوص المسند في هذا الباب عو ولا سند. وليس لنا إذن إلا أن نفعل ما فعلناه بالنسبة إلى اليهودية، فنرجع إلى الموارد الإسلامية والنصرانية لنرى رأيها في هذا الباب. وتزعم الموارد الإسلامية أن الذي نشر النصرانية في اليمن رجل صالح من بقايا أهل دين عيسى اسمه "فيميون1" Faymiyion= Phemion، وكان رجلا زاهدا في الدنيا مجاب الدعوة سائحا ينزل القرى لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف فيها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان بناء يعمل الطين وكان يعظم الأحد: إذا كان الأحد لم يعمل فيه شيئًا. ففطن لشأنه في قرية من قرى الشام رجل من أهلها اسمه "صالح"، وفأحبه واتبعه على دينه ورافقه. وانصرف ومعه صالح من ضواحي الشام حتى وطئا بعض أرض العرب، فعدا عليهما، فاختطفتهما سيارة من بعض العرب، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران. وأهلها من بني الحارث بن كعب من بني كهلان. وكانوا يعبدون العزى على صورة نخلة طويلة بين أظهرهم. فابتاع رجل من أشرافهم "فيميون"، وابتاع رجل آخر صالحا، وقد أعجب صاحب فيميون به، لما رآه فيه من صلاح وورع، فآمن بدينه، وآمن أهل نجران منذ ذلك الحين بالنصرانية لمعجزة قام بها "فيميون"، حينما دعا الله يوم عيد العزى أن يرسل عليها ريحا صرصرا عاتية تختى عليها. فأتت الريح عليها فجعفتها من أصلها فألقتها، فآمن بدينه أهل نجران. فمن هنالك كانت النصرانية بنجران2. ويذكر الطبري أن أهل نجران كانوا يعيدون كل سنة، "إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه، وحلي النساء. ثم خرجوا، فعكفوا عليها يوما"3. ويظن أن "فيميون" كلمة يونانية في الأصل حرفت من أصل Euphemion

_ 1 "فيميون" "قميون" "ميمون". 2 الطبري "2/ 103 وما بعدها"، ابن هشام "20 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "1/ 171"، البيضاوي "2/ 395"، ابن خلدون "2/ 59". 3 الطبري "2/ 120 وما بعدها"، "دار المعارف".

وزعم أن "فيميون" عين أحد النجرانيين واسمه "عبد الله بن الثامر" رئيسا عليهم، وجعلهم تحت رعاية أسقف اسمه "بولس"1. وقد ذكر "الأزرقي" أن أهل نجران كانوا من أشلاء سبأ "وكانوا على دين النصرانية على أصل حكم الإنجيل، وبقايا من دين الحواريين، ولهم رأس يقال له: عبد الله بن ثامر"2. وتذكر رواية إسلامية أخرى أن أهل نجران كانوا أهل شرك، يعبدون الأوثان وكان في قرية من قراها قريبا من نجران يعلم غلمان أهل نجران السحر، وكان أحد رجال نجران واسمه "الثامر" يرسل ابنه "عبد الله" مع غلمان أهل نجران إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فكان يمر على صاحب خيمة بين نجران وتلك القرية، وقد أعجبه ما رآه من صلاته وعبادته وتقواه، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى دخل في دينه، وصار يدعو إليه بين أهل بلده. فمن ثم انتشرت النصرانية في نجران، وظهرت على الوثنية3. وتذكر هذه الرواية، أن "عبد الله بن الثامر"، أخذ من ثم يبشر بالنصرانية، ويأتي بالمعجزات إذ يشفي المرضى "حتى لم يبق أحد بنجران به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره، ودعا فه فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران. فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك! قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح عن رأسه فيقع على الأرض، ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه، قال عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت بشهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرةن فقتله، فهلك الملك مكان÷ واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر"4. ولم تصرح هذه الرواية التي يرجع سندها إلى "محمد بن كعب القرظي"

_ 1 FeII in ZDMG 35 1881 anm I Oeary p 143 2 أخبار مكة "1/ 81". 3 الطبري "2/ 121 وما بعدها" "دار المعارف"- 4 الطبري "2/ 122" "دار المعارف".

وبعض أهل نجران، باسم الرجل الصالح الذي أخذ منه "عبد الله بن الثامر" نصرانيته. وقد نبه إلى ذلك الطبري، في أثناء سرده لها، فقال: "ولم يسموه باسمه الذي سماه به وهب بن منبه"1. وقد صيرت بعض الروايات "عبد الله بن الثامر" في جملة من قتلهم "ذو نواس" من النصارى، غير أن "الطبري"، نبه إلى خطل هذا البعض، وبين أن "عبد الله" كان قد قتل قبل ذلك، قتله ملك كان قبله، هو كان أصل ذلك الدين2. وهناك قصة ذكرها "ابن إسحاق"، تزعم أن رجلا حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجاته، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا واضعا يده على ضربة في راسه ممسكا عليها بيده، فإذا أخرت يده عنها انثعبت دما، وإذا أرسلت يده ردها عليها، فأمسك دمها، وفي يده خاتم، فأقر على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه، وكان ذلك بأمر عمر بن الخطاب3. والظاهر أن النجرانيين، لم ينسوا رئيسهم "عبد الله بن الثامر" حتى بعد إسلامهم، فرووا عنه هذا القصص وصيروه على هذه الصورة التي روتها القصة. ويظهر أنه قتل، فصير شهيدا من الشهداء، لأنه قتل في سبيل دينه وفي سبيل نشره بين النجرانيين. وزعم بعض الإخباريين أن الذي أدخل النصرانية ونشرها في الحميريين، هو التبع عبد كلال بن مثوب: أخذ التبع نصرانيته بزعمهم من رجل من غسان ذكروا أنه كان قد قدم عليه من الشام، فلما علمت حمير بتنصر التبع وبتغيير دينه وإعراضه عن عبادتها، وثبت بالغساني فقتلته4. وقد أشير إلى تنصره في القصيدة الحميرية5.

_ 1 الطبري "2/ 121 وما بعدها" "دار المعارف"ز 2 الطبري "2/ 123" "دار المعارف". 3 الطبري "2/ 124". 4 الطبري "2/ 86": "ذكر ما كان من الأحداث في أيام يزدجرد بن بهرام وفيروز بين عمالها على العرب وأهل اليمن"، النصرانية "1/ 55 وما بعدها". NaIIino RaccoIta III p 124 5 أم أين عبد كلال الماضي على ... دين المسيح الطاهر المساح النصرانية "1/ 55".

أما الرواية الأولى فتنسب إلى "وهب بن منبه". وأما الرواية الثانية فتنسب إلى "محمد بن كعب القرصي" إلى بعض أهل نجران لم يصرح "ابن إسحاق" بذكر أسمائهم، فالروايتان أذن من مورد واحد هو أهل الكتاب1. فوهب بن منبه من مسلمة يهود. وأمه محمد بن كعب بن أسد القرظي المتوفى بين سنة 118-120للهجرة، فهو من أصل يهودي كذلك، من قريظة حلفاء الأوس، وقريظة يهود. وكان مثل وهب قاصا من القصاص يقص في المسجد. وقد جر قصصه هذا عليه البلايا، فكان يقص في المسجد فسقط عليه السقف فمات2. وجدت أقوال محمد بن منبه القرظي سبيلها إلى تأريخ الطبري عن طريق سيرة ابن إسحاق، وهو طريق ابن حميد عن سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق صاحب السيرة الذي أخذ منه بلا واسطة كما أخذ منه بالواسطة. أما الأخبار المروية عنه، فهي في سير الرسل والأنبياء، وفي انتشار اليهودية والنصرانية في اليمن، وفي الأمور التي تخص اليهود والأنبياء، وفي انتشار اليهودية والنصرانية في اليمن، وفي الأمور التي تخص اليهود في الحجاز3. وكان من المقربين إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز، لأنه كانت له به معرفة سابقة قبل توليه الخلافة. فلما ولي الخلافة، كان يذهب إليه ويتحدث معه في الزهد وفي القصص الذي يحمل طابع الإسرائيليات وفي التفسير الذي اشتهر به4. فناقل النصرانية إلى نجران إذن رجل غريب جاء إلى البلد من ديار الشام على رواية "وهب بن منبه". ويرجع "أوليري" هذه الرواية إلى أصل يرى جذوره في السريانية. واسم هذا الرجل الصالح غير عربي بالطبع. فلعله من المبشرين الذين كانوا يطوفون بين ديار العربب للتبشير.

_ 1 الطبري "2/ 104"، تفسير الطبري "30/ 85". NaIIino RaccoIta Di Scritti III 1941 p 124 2 راجع ما كتبته عنه في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الأول "1950، "ص198"، وتهذيب التهذيب "9/ 420"، عيون الأخبار "1/ 201، 264" "1/ 14،343"، "3/ 4". 3 الطبري "1/ 138"، "2/ 104"، ورد اسمه في "29" موضعا من تأريخ الطبري. 4 ابن سعد "طبقات "5/ 272 وما بعدها"، مجلد 7 قسم 2 ص194، عيون الأخبار "2/ 343"، "3/ 4". 5 O Ieary

فقد كانوا يتنقلون بين العرب لنشر هذا الدين. وليس بمستبعد أيضًا أن يكون قد دخل عن طريق الساحل أيضًا مع السفن. فقد كان المبشرون يتنقلون مع البحارة والتجار لنشر النصرانية، وقد تمكنوا بمعونة الحكومة البيزنطية من تأسيس جملة كنائس على سواحل جزيرة العرب وفي سقطرى والهندز كا لا يستبعد أن يكون للمبشرين الذين جاؤوا من العراق كما تذكر بعض الموارد النصرانية السريانية دخل في نشر النصرانية في اليمن. ولا سيما نشر النسطورية في تلك البلاد. وأما الموارد النصرانية، فإنها مختلفة فيما بينها في أول من أدخل النصرانية إلى، اليمن فالموارد اليونانية ترى رأيا، والموارد السريانية ترى رأيا، والموارد الحبشية ترى رأيا آخر، يختلف عن الرأيين. وكل رأي من هذه الآراء الثلاثة يرجع شرف النصرانية في اليمن إليه. يحدثنا كتبة التواريخ الكنسية من اليونان أن القيصر "قسطنطين" الثاني أرسل في عام "354" للميلاد "ثيوفيلوس اندس" TheophIius Indus، أي "ثيوفيلوس الهندي"، من جزيرة سرنديب أي سيلان إلى العربية الجنوبية للتبشير بالنصرانية بين الناس. وقد تمكن من إنشاء كنيسة في عدن وأخرى في ظفار وثالثة في هرمز، وعين للمتنصرين رئيسا ثم رحل. وصارت ظفار في سنة 356م مقرا لرئيس أساقفة يشرف على شؤون نصارى نجران وهرمز وسقطرى1. وقد عثر على مقربة من خرائب ظفار على أعمدة من الطراز "الكورنثي" وعلى بقايا تيجانه وعليها نقوش صلبان يظهر أنها من مخلفات تلك الكنائس القديمة التي شيدت بمساعدة البعثات التبشيرية وفي أيام الحبشة في اليمن2. وزعم "فيلوستورجيوس" PhiIstorgius أن هذا الشعب الذي بشر "ثيوفيلوس" بين أفراده بالنصرانية، شعب هندي، وكان يدعى سابقا باسم شعب "سبأ" نسبة إلى عاصمته سبأ ويعرف اليوم باسم حمير3 Honeritae. وقد توهم

_ 1 "تاوفيل الهندي" النصرانية: 1/ 56". Alt Kult, S. 148, Philostorgius, Historia Eccleslastica, III, 46, Hugh Scott, in The High Yemen, 1947, p. 211, Mordtmann, Miscellen zur Himjarischen Alterthumskunde, in ZDMG, 1877, XXXI, S. 64, ff, Migne, Petr. Grea, LXV, cl, 459-637, Conti Rossini, un Documento, p. 710. 2 Alt. Kult, S. 148, Nallino, Raccolta, III, p. 133, Bury, History of the Roman Empire, II, p. 322. 3 Philostorgius, I, II, 6, ZDMG, 31, 1877, S. 65.

عدد من الكتبة "الكلاسيكين" فحسبوا الحميريين من الهنود، كما أن بعضًا منهم ظنوا أن السبئيين من "الكوشيين" الحبش، والذي أوقعهم في هذا الوهم هو صلات هؤلاء بإفريقية وبالهندن ولوقوع بلادهم على المحيط الهندي وعلى مقربة من إفريقية1. وجاء في رواية أخرى أن القيصر "قسطنطين" الثاني أرسل "ثيوفيلوس" إلى ملك حمير Homeritae ونجاشي الحبشة Axume وذلك في عام "356" للميلاد. برسائل كتبها القيصر إلى الملكين. فلما أنهى مهمته لدى ملك حمير، انتهز هذه الفرصة فزار وطنه الهند، ثم عاد فذهب إلى الحبشة، وعاد منها فذهب إلى أنطاكية Antiochia ومنها إلى القسطنطنية2. ويظهر من هذه الرواية أن مهمته هذه لم تكن مهمة دينية، إنما كانت ذات طابع سياسي، الغاية منها ضم حمير والأحباش إلى معسكر البيزنطيين. وقد كان من مصلحة الحكومة البيزنطية بعد دخول القيصر "قسطنطين" في النصرانية عام "313" للميلاد واتخاذها ديانة رسمية للدولة، أن ينشر هذا الدين ويكثر أتباعه، لما في ذلك من فوائد سياسية ومصالح اقتصادية، فضلا عن الأثر العميق الذي يتركه هذا العمل في نفوس أتباعه المؤمنين مما يرفع من مكانة القياصرة في نفوس الشعب ويقوي من مراكزهم ونفوذهم على الكنيسة والرعية. وبمساعدة هؤلاء القياصرة تمكن المبشرون من إنشاء ثلاث كنائس في "ظفار" و"عند" و"هرمز"3. ولم يكن يقصد "قسطنطين" كما يرى المستشرق "روسيني" من إرسال الوفد الذي ترأسه "ثيوفيلوس" إلى ملك حمير، هدفا دينيا محضا، وإنما أراد أن يعقد معاهدة تجارية مع الحميريين ويحقق له منافع اقتصادية وسياسية، بأن يحقق له التجارة البحرية، ويحرض اليمانيين على الفرس ويدخلهم في معسكره بدخلوهم

_ 1 النصرانية "1/ 53 وما بعدها. 2 Paluys-Wissowa, Zweite Reiuke, Halbbnd, S. 2167, Philostorgius, Hist. Eccli, II, 6, Kidd, A History of the church, I, 161, III, 429, Bury, History of the Later Roman Empire, II, p. 322. 3 Ency. F Relig. And Ethi, III, p. 589, Franz Stuhlmann, Der Kampf um Arabien, S. 12.

في النصرانية التي تجمع عندئذ بينهم وبين الروم1. وورد في رواية أن الحميريين HomerItae دخلوا في عهد "انسطاس" "انسطاسيوس" "491-518م" في النصرانية. وذكر أيضًا أنه كان في جملة من قصدوا القديس "سمعان العموي" رجال من عرب حمير، وقد رآهم "تاودوريطس" في القرن الخامس للميلاد2. وأما الموارد السريانية، ومنها الموارد النسطورية، فتزعم أن تاجرا من أهل نجران اسمه "حنان" أو "حيان"، قام في أيام "يزدجرد الأول "399-420للميلاد" بسفرة تجارية إلى القسطنطنية، ثم ذهب منها إلى الحيرة، وفيها تلقن مبادئ النصرانية ودخل فيها. فلما عاد منها نجران، بشر فيها بالنصرانية حتى تمكن من نشرها بين حمير. وترجع تواريخ البطارقة هذه الحادثة إلى ايام بطرقة "معنى" Mana الموافقة لحوالي سنة "420" بعد الميلاد3. وذكر أنه ي عهد البطريق "سيلاس" SiIas "505-423"، هرب لاجئون من اليعاقبة Jakobiten إلى الحيرة، غير أن النساطرة أجلوهم عنها، فذهب قسم منهم إلى نجران، فنشروا مذهبهم بين السكان4. وتشير الأخبار الكنسية أيضًا إلى أن رسولي الكلدان الأولين: "ادي"و"ماري" كانا قد سارا إلى بلاد العرب سكان الخيام، وإلى نجران وجزائر بحر اليمن. وجاء في المصحف الناموسي: "وبشر الجزيرة والموصل وأرض السواد كلها وما يليها من أرض التيمن كلها وبلاد العرب، سكان الخيام وإلى ناحية نجران والجزائر التي في بحر اليمن مارى الذي من السبعين"5. وللحبش قصص عن انتشار النصرانية في نجران، خلاصتها: أن قديسا اسمه

_ 1 النصرانية "1/ 59". Conti Rossini, un Documento Sul Cristlanesimo nello Iemen, p. 710. 2 النصرانية "1/ 57 وما بعدها". Mordtmann, in ZDMG, XXXI, 1877, S. 65, Theodorus, Lector, Histo. Eccl, I, II, p. 567, ed. Valesius and Nicephorus Callistus. 3 Chronik von Seert, II, 149, ABM, 22, Eduard Sachau, zur ausbreitung des Christentums in Asien, Berlin, 1919, S. 68. 4 Chronik von Seert, II, 144. 5 النصرانية "1/ 58".

"ازقير" Azker، أقام كنيسة ورفع الصليب وبشر بالنصرانية في نجران، وذلك في أيام الملك "شرحبيل ينكف" ملك حمير، فاستاء من ذلك "ذو ثعلبان" و"ذو قيفان"، وأرسلا رجالهما إلى المدينة لهدم الكنيسة وانزال الصليب والقبض على القديس، ففعلوا وألقوا به في غياهب السجن. وفي أثناء إقامته فيه هدى قوما من السجناء إلى النصرانية بفعل المعجزات التي قام بها، فغضب الملك "شرحبيل" عليه، وأرسل إلى القيلين اللذين كانا في نجران أن يرسلا إليه هذا الرجل الذي فتن الناس، فأرسل مخفورا إليه. وفي أثناء اجتيازه الطريق إلى عاصمة الملك ظهرت منه معجزات خارقة، آمن بها عدد ممن رافقوه أو وقفوا على أحواله وتعمدوا على يديه. فلما وصل إلى "ظفار" عاصمة "شرحبيل"، انتهره الملك وحاجه في دينه وعرض عليه كتب "يهود"، ثم أغراه بالذهب والمال، فقال له القديس: "الذهب والفضة فانيان، أما كرستس ساكن السماء فباق". وقد حرضه عليه أحد الأحبار، فأمر الملك عندئذ بإرساله إلى نجران لقتله. فلما بلغ المدينة، قتله اليهود، قمات شهيدا في سبيل دينه1. وتزعم الرواية الحبشية أن نصارى اليمن كانوا يرسلون بهداياهم إلى النجاشي وبالضرائب يدفعونها إليه2. وذكر أن أحد الأساقفة ممن كان في اليمن، كان قد اشترك في أعمال مجمع "نيقية" الذي انعقد سنة 325 للميلاد3. وإذا صح هذا الخبر، فإنه يعني أن النصرانية كانت قد وجدت لها سبيلا إلى اليمن في القرن الرابع للميلاد. يتبين من هذه الأخبار أن النصرانية لم تدخل العربية الجنوبية من طريق واحد، وإنما دخلتها من البر ومن البحر، دخلتها من البر من ديار الشام إلى الحجاز فاليمن، ومن العراق أيضًا مع القوافل التجارية المستمرة التي كانت بين اليمن والعراق. ودخلتها من البحر بواسطة السفن اليونانية ودخلتها مع الحبشة كذلك الذين كانوا على اتصال دائم باليمن وببقية العربية الجنوبية منذ أيام ما قبل الميلاد.

_ 1 Winckler, AOF, IV, 1896, S. 329. ff, Britisch Museom Orient, 686, 687, 688, 689. 2 FeII in ZDMG 35 1881 S 50 3 النصرانية "1/ 57". NaIIino RaccoIta III p 122 Caetani AnnaII I p 125

وقد كانت نجران أهم موطن للنصرانية في اليمن، ولعلها الموطن الوحيد الذي رسخت هذه الديانة فيه في هذه البلاد. وقد اشتهرت نجران بالحادثة التي وقعت فيها، حادثة تعذيب النصارى، وبما ذكره أهل الأخبار عن الكنيسة التي أنشاها الأحباش فيها وعرفت بـ"كعبة نجران" عند الإخباريين كما عرفت بـ "بيعة نجران" أيضًا. وفي رواية تنسب إلى ابن الكلبي "أنها كانت قبة من أدم من ثلاث مئة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن، أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفد أرفد. وكانت لعظمتها عندهم يسمونها كعبة نجران، وكانت على نهر نجران، وكانت لعبد المسيح بن دارس بن عدي بن معقل، وكان يستغل من ذلك النهر عشرة آلاف دينار، وكانت القبة تستغرقها"1. وكان يتفق عليها من غلة ذلك النهر. وورد في رواية أخرى أنها كانت بناء بني على بناء الكعبة. وقد بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي، بنوها على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة لها. وكان فيها أساقفة معتمون، وهم الذي جاءوا إلى النبي، ودعاهم إلى المباهلة2. وتذكترنا قصة "ابن الكلبي" عن أصل كعبة نجران، وأنها كانت من أدم، بما نعرفن عن خيمة "يهوه" إله العبرانيين، وتعبد الإسرائليين له فيها قبل بناء الهيكل، واعتقادهم أنها خيمة مقدسة، وبما نعرفه من خيم القبائل المقدسة، وذلك لأنها كانت بيوتا توضع فيها الأصنام ويتعبد أفراد القبيلة بها، فإذا ارتحلوا إلى مكان جديد نقلوا خيمتهم معهم. والظاهر أن كعبة نجران المذكورة، إن صحت رواية ابن الكلبي، كانت من هذا النوع، خيمة مقدسة في الأصل وذلك قبل دخول أهل نجران في النصرانية، فلما دخلوها، لم تذهب عنها قدسيتها، بل حولوها إلى كنيسة، ثم بنوا بيعة في موضعها فيما بعدز وفي رواية أن قس بن ساعدة الأيادي كان أسقفا على نجران3، وهي رواية تحتاج إلى سند موثوق به، وقد أخذ بها "شيخو" وأمثاله ممن يرجع كل شيء

_ 1 البلدان "8/ 193"، تاج العروس "1/ 457"، "3/ 556"، ديوان الأعشى "122"،"طبعة كاير" Geyer، ابن قتيبة، الشعر والشعراء "283".RaccoIta III p 127 2 البلدان "8/ 623" "نجران" تاج العروس "3/ 556". 3 RaccoIta III p 128 Lammens CaIifat p 332

من هذا القبيل في الجاهلية إلى النصرانية. وقد كانت نجران المركز الرئيسي للنصرانية في اليمن عند ظهور الإسلام، لها نظام سياسي واداري خاص تخضع له، وعليها: "العاقب"، وهو كما يقول أهل السير: "أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه"، و"السيد"، وهو "ثمالهم، وصاحب رحلهم ومجتععم", و"الأسقف"، وهو "حبرهم، وإمامهم، وصاحب مدارسهم"1. ويقصدون به رئيس نجران الديني الذي إليه يرجعون في أمور الدين. أما العاقب والسيد، فإليهما إدارة الجماعة، والإشراف على شؤونهم السياسية والمالية، وتدبير ما يحتاج المجتمع إليه من بقية الشؤون2. وقد صالح أهل نجران خالد بن الوليد، في زمن النبي، في السنة العاشرة من الهجرة، وبذلك دخل أكثر سكان المدينة في الإسلام. أما من بقي على دينه من النصارى، فقد فرضت عليه الجزية3. ويذكر أهل السير أن اسم عاقب نجران في أيام النبي، هو "عبد المسيح" رجل من كندة. وقد قدم على رأس وفد من أهل نجران إلى يثرب، فقابل الرسول، وتحدث معه. وكان معه "الأيهم" وهو سيد نجران يومئذ، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم يومئذ، وله مقام عظيم عندهم، "وقد شرف فيهم، ودرس كتبهم حتى حسن علمه بدينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه، واخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينه"4. وإذا صح ما رواه أهل الأخبار من أن يعاقب نجران كان كنديا، وأن أسقفها كان من "بكر بن وائل"، فإن ذلك يدل على أن الرئاسة عند النصارى العرب،

_ 1 ابن هشام "2/ 204"، تاج العروس "1/ 389"، "عقب"، "6/ 141"، "سقف"، اللسان "11/ 57"، "صاحب مدارسهم"، ابن سعد "1/ 357"، 2 RaccoIta III p 128 3 الطبري "3/ 157"، "حوادث السنة العاشرة"، البلدان "8/ 261 وما بعدها". 4 ابن هشام "3/ 204"، تاج العروس "1/ 389"ن اللسان "2/ 105"، ابن سعد "1/ 358"، نهاية الأرب "18/ 121".

لم تكن تتبع العرف القبلي في الزعامة، وإنما كانت عن تنسيب واختيار، وأنا لا أستبعد احتمال وجود مراجع دينية عليا، كانت هي التي تتولى النظر في إدارة الكنائس وفي تعيين رجال الدين وفي النظر في المشكلات التي تقع بين النصارى، أو بين النصارى وغيرهم، وفي أمر مساهمة النصارى العرب في المجامع الكنسية التي تنظر في المسائل العامة للطوائف. ويرى بعض أهل الأخبار أن "السيد والعاقب أسقفي نجران اللذين أرادا مباهلة رسول الله" هما من ولد الأفعى بن الحصين بن غنم بن رهم بن الحارث الجرهمي، الذي حكم بين بني نزار بن معد في ميراثهم، وكان منزله بنجران1. ويذكر علماء اللغة، أن "العاقب" من كل شيء آخره، والعاقب السيد، وقيل الذي دون السيد، وقيل الذي يخلف السيد، وقيل: الذي يخلف من كان قبله في الخير كالعقوب2. والذي أوحى إليهم بهذا التأويل والتفسير، ظاهر لفظة "عقب" في عربيتنا التي منها اشتقت لفظة "العاقب" على رأسهم. والصحيح أنها لفظة عربية جنوبية وردت في المسند، بمعنى "رئيس" وممثل قوم، أي رسول قوم، فورد "عقبت نشقم"، أي "رئيس" مدينة "نشق"3، وبمعنى ممثل مدينة "نشق"4. وذكر أن نصارى نجران، أرسلوا العاقب والسيد في نفر لمحاججة رسول الله فيما نزل عليه في المسيح، من إنه عبد الله، حيث كبر ذلك عليهم سماعه، فأخذوا يخاصمونه ويجادلونه فيه، وألحوا عليه بالجدل والخصومة، فدعاهم إلى الملاعنة، فامتنعوا ودعوا إلى المصالحة، فصالحهم5. وإنه إلى ذلك أشير في القرآن الكريم: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 6.

_ 1 المحبر "131". 2 تاج العروس "1/ 389"، "عقب". 3 Jamme 619 Mb 178 Mahrm p 120 4 Jamme South Arabian Inscription p 445 5 إرشاد الساري "6/ 437". 6 آل عمران، الآية رقم 61، تفسير الطبري "3/ 209 وما بعدها"، روح المعاني "3/ 165"، امتاع الأسماع "1/ 502"،الواحدي، أسباب ""74"، ابن سعد "1 قسم 2 ص84" إرشاد الساري "6/ 437".

وورد أيضًا إنه بعث رسول الله وسمع به أهل نجران أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم منهم العاقب والسيد، و"مار جرجس"، و"ماريخر"، "فسألوه ما يقول في عيسى. فقال: هو عبد الله وروحه وكلمته. قالوا هم: لا، ولكنه هو الله نزل من ملكه، فدخل في جوف مريم، ثم خرج منها، فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنسانا خلق من غير أب؟ فأنزل الله، عز وجل، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 1. وقد كان لنصارى اليمن كنائس أخرى غير كنيسة "نجران": فقد كانت لهم كنيسة عظيمة في "صنعاء"، هي "القليس" التي اكتسبت شهرة عظيمة في كتب الأخبار والتورايخ وهي كنيسة "أبرهة"، من أصل "اكلسيا" EccIysia اليوناني بمعنى الكنيسة، وموضعها الآن جامع "صنعاء" على ما يظن. وقد أبدع الأحباش في تزيينها وتجميلها، وأنفقوا عليها مبالغ طائلة. كما كانت لهم كنائس في "مأرب" و"ظفار". وقد عهد الأحباش بتدبير شؤون كنيسة "ظفار" إلى أسقف شهير يقال له "جرجسنيوس" جورجيسيوس" "جرحيسوس". وهو مؤلف كتاب شرائع الحميرين. وله مناظرات مع اليهود2. وقد بقيت النصرانية قائمة في اليمن في أيام الإسلام، ففي الأخبار الكنسية أن رئيس البطارقة النساطرة "طيموثاوس"، نصب في أواخر القرن الثامن للميلاد أسقفا لنجران وصنعاء، اسمه "بطرس"3. وفي "الفهرست" لابن النديم، أنه التقى براهب من نجران يدعى حسان، كان قد أنفذه الجاثليق إلى الصين، ليتفقد مع خمسة أناسي من النصارى أحوال نصاراها، فعاد منها سنة "377" للهجرة، وأخبره بعجائب تلك الميلاد4. وذكر أنه في حوالي سنة 1210 للميلاد كان في منطقة صنعاء خمسة أساقفة، وأسقف في مدينة زبيد وأسقف في نجرانن وأنه كان في حوالي سنة 1250 للميلاد أسقف في عدن5.

_ 1 تفسير الطبري "3/ 19 وما بعدها". 2 النصرانية "1/ 64". Migne pane patr Grae 86 567 620 3 النصرانية "1/ 67". 4 الفهرست "504" "مطبعة الاستقامة". 5 النصرانية "1/ 67".

إن بقاء النصرانية في نجران وفي مواضع من اليمن وأنحاء أخرى من جزيرة العرب، وبقاء اليهود في اليمن إلى زمن غير بعيد، يشير إلى أن ما ذهب إليه كثير من المؤرخين من إجلاء أهل الكتاب بأمر الخليفة "عمر" عن جزيرة العرب ثم بقية الخلفاء الذين ساروا على حكم: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" فيه مبالغة1. والظاهر أن الإجلاء كان قاصرا على الموضع التي تعرضت فيها جاليات أهل الكتاب فيها للإسلام بسوء. فطبق على جاليات يهود يثرب ومن كان يسكن إلى الشمال منهم، لوقوفهم موقفا معاديا شديدا من الإسلام، ولعملهم في إثارة الفتن على المسلمين. ومن يدري فلعلهم ولعل أهل الكتاب عمومًا ساعدوا في قيام الردة وتشجيع المتنبين والمرتدين للقضاء على الخطر الذي زعموه، خطر ظهور الإسلام وانتشاره في جزيرة العرب وفي خارجها، وقيام دولة موحدة كبيرة فيها ومن يدري أيضًا، فلعل الروم والأحباش كانوا أيضًا في جملة من كان يحرض أهل الكتاب على الدس للإسلام، وأن بعض من أعلن الردة مثل "النعمان بن الغرور" وهو نصراني، وغيره ما حمل الخليفة على اتباع قاعدة إجلاء الدساسين من أهل الكتاب مهما كان نوعهم عن جزيرة العرب لحماية الإسلام من خطر الفتنة ومن الردة، ولم تكن قواعده قد تركزت واستقرت استقرارًا تامًّا بعد. إن الذي افهمه من سياسة إجلاء "عمر" لأهل الكتاب، هو أن ذلك الإجلاء كان خاصًّا بالجاليات اليهودية التي كانت تقيم فيها بين فلسطين ويثرب، وقاصرا عليها، بسبب وقوفعها موقفا معاديا من الإسلام، أما النصارى فلم تكن لهم جاليات هناك، فلم يقع إجلاء لهم فيها. ولكن "عمر" ومن جاء بعده لم يطيقوا الإجلاء على الأسر والأفراد، بدليل ما نجده في أخبار أهل الأخبار من وجود أسر وأفراد من يهود ونصارى في يثرب وفي مكة وفي الطائف بعد وفاة عمر. أما في غير الحجاز من بقية أنحاء جزيرة العرب، فلم يطبق قانون "عمر" على أهل الكتاب، بدليل دفع جالياتهم "الجزية" عن رءوسهم في أيامه إلى وفاته، ثم في أيام من جاء بعده من الخلفاء. فكأن الخليفة، قد طبق أمر الإجلاء على

_ 1 "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأخرجن اليهود والنصارى عن جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا"، البلدان "8/ 263".

يهود الحجاز لخوفه من خطر بقائهم في مقر الإسلام وفي مدينة الرسول ومن احتمال عودة من هاجر منهم إلى أرضهم وتكتلهم من جديد، وإثارتهم من لم يكن قد تمكن الإسلام من قلبه بعد، فيقع للإسلام ما وقع في أيام الرسول من اتصالهم سرا بكفار قريش، ومن حدوث ردة جديدة، فقرر إجلاءهم جماعة عن تلك الديار.

النصرانية في بقية مواضع جزيرة العرب

النصرانية في بقية مواضع جزيرة العرب: وكان التجار الروم ينزلون سواحل العربية الجنوبية للتزود منها بالماء وبالطعام وللاتجار مع سكانها، ومهم من أقام بها وقضى حياته فيها، وتعرب. وكان منهم من بشر بالنصرانية وعمل على نشرها بين السكان. ولعل الحكومة البيزنطية كانت ترسل المبشرين إلى هذه المواضع للتبشير، كذلك أرسل نصارى الحيرة المبشرين لنشر نصرانيتهم في العربية الجنوبية1. وبعد دخول هذه البلاد في الإسلام احتفظ قوم من النصارى بدينهم، مقابل دفع الجزية للمسلمين2. وأما اليمامة، فكانت النصرانية قد وجدت لها سبيلا بين قراها وقبائلها. ويظهر من شعر للأعشى مدح به "هوذة بن علي" حاكمها عند مبعث الرسول، إنه كان نصرانيا من على قوم من "تميم" ففك وثاقهم يوم أسروا، ويوم قتلوا وسط "المشقر"، ومن عليهم "يوم الفصح"، يرجو الإله بما سدى وما صنعا3. وأما العربية الشرقية، فقد دخلت النصرانية إليها من الشمال، من العراق في الغالب. ولكن بعض الروم كانوا قد وجدوا سبيلهم إليها، فدخلوها من البحر أيضًا. فعشت في مواضع منها مثل البحرين، وقطر، وهجر، وبعض جزر الخليج. وكانت غالبية نصارى هذه الأرضين على مذهب نسطور آخذين هذا المذهب من نصارى الحيرة الذين كانوا على اتصال وثيق بهم، كما كان رجال دينهم يسافرون إلى هذه المنطقة للتبشير بها، فزرعوا فيها بذور مذهبهم، ونشروه بين من أقبل على النصرانية من العرب.

_ 1 النصرانية "70". 2 البلاذري "84". 3 ديوان الأعشى "86"، جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "5/ 211".

ومن رجال البحرين النصارى "الجارود بن عمرو بن حنش المعلى"1، قدم على النبي بالمدينة، فأسلم وأسلم معه أصحابه. وكان حسن الإسلام صلبا حتى هلك، وقد لام قومه ممن انضم إلى "المنذر بن النعمان بن المنذر" الغرور، فارتد عن الإسلام وعاد إلى دينه الأول2. وقد بقي إلى أيام عمر" في أغلب الروايات وغلى خلافة عثمان في رواية. واشترك في حروب فارس، فقتل بها بـ "عقبة الطين"، التي عرفت باسمه، فقيل لها عقبة الجارود، وذلك سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، وقيل قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن. وقد رووا له شعرا. وكان ولده "المنذر بن الجارود" من رؤساء "عبد القيس" بالبصرة. وحفيده "الحكم بن المنذر" الذي مدحه "الأعشى الحرمازي" بشعر حسده الحجاج عليه3.

_ 1 ويقال ابن عمرو بن المعلي، وقيل الجارود بن العلاء، وورد الجارود بن عمرو بن حنش، "والجارود لقب بشر بن عمرو بن حنش بن المعلى من بني عبد القيس العبيد الصحابي، رضي الله عنه. كنيته أبو المنذر، وقيل أبو غياث، وهو أصح" تاج العروس "2/ 318"، "جرد". 2 الطبري "3/ 136 وما بعدها" "قدم الجارود في وفد عبد القيس". 3 الإصابة "1/ 217"، "رقم 1042".

الفصل الثمانون: المذاهب النصرانية

الفصل الثمانون المذاهب النصرانية لقد أصيبت النصرانية بما أصيبت به أكثر الأديان من تشقق وتصدع وانفصام، فظهرت فيها شيع وفرق، تخاصمت فيها بينها وتجادلت. وكان أكثر جدالها في موضوع طبيعة المسيح وعلاقة الأم بالابن، وفي موضوع النفس، وقد عقدت لذلك جملة مجامع كنسية للنظر في هذه الآراء والحكم على صحتها أو فسادها، وفي أمر أصحابها، اجتمع فيها مندوبون من مختلف الأماكن وبينهم بعض الأساقفة العرب. غير إنها لم تتمكن من القضاء على النزعات المختلفة، فظهرت فيها جملة مذاهب، حرمت المجامع أصحابها، وحكمت ببدعتهم وبخروجهم على التعاليم الصحيحة، وطلبت من بعضهم الرجوع إلى الدين الصحيح، غير أن منهم من أصر على رأيه، وتحزب له، وبشر به، فوجد أنصارا وأعوانا انتموا إليه وتسموا به. والواقع إنه لم يكن من السهل على الداخلين في النصرانية فهم قضية معقدة كهذه القضية، وهي قضية فلسفية جدلية أكثر منها عقيدة دينية. ولذلك كان من الطبيعي وقوع الاختلاف فيها، وتشتت آراء النصرانية بالقياس إليها، خاصة وهي حديثة عهد، وأكثر الداخلين فيها هم ممن دخلوا حديثا في هذا الدين، وليس لهم الإدراك العميق والخيال الواسع لفهم موضوع كهذا الموضوع. ثم إن النصرانية ديانة عالمية، لم توجه لأمة خاصة من الأمم، وقد جاءت ككل الأديان بأحكام لا بد وأن يختلف الناس في فهمها، لاختلاف المدارك والثقافات، وهذا

الاختلاف في الفهم، يؤدي إلى ظهور المذاهب والشيع، وإلى تناحر هذه المذاهب، وادعاء كل واحد منها إنه وحده على الحق، وإن ما دونه على الباطل والهرطقة والكفر. لقد فتح "بولس الرسول" وأتباع المسيح الآخرون ميدانا واسعا من الجدل في موضوع المسيح: هل المسيح إنسان، أو هو رب، أو هو من خلق الرب؟ وهل هو والرب سواء، أو هو منفصل عن الرب؟ هذه الأسئلة وأمثالها مما يتصل بطبيعة المسيح شغلت رجال الكنيسة، وكتلتهم كتلا: كل كتلة ترى أن رأيها في الطبيعة هو الرأي الصواب، وأنه هو الدين الحق القويم، وأن ما دونه ضلال وباطل. فظهرت المذاهب: شرقية وغربية، وانقسمت الكنيسة على نفسها، فظهرت من الكنيسة الواحدة كنائس. ولا تزال تنشق، ويزيد عددها وتظهر أسماء جديدة لمذاهب لم تكن معروفة في النصرانية القديمة. لقد كان الناصريون الأولون، وهي التسمية القديمة التي عرف بها النصارى، في فوضى فكرية. فلم تكن تعاليم المسيح مفهومة عندهم ولا مهضومة، وكانت تفاسير تلاميذه غير منسقة ولا مركزة تركيزا يكفي لتوجيه الناصريين وجهة معينة واحدة. ثم إن تعقب اليهود والرومان للنصارى وتنكيلهم بهم، وخوف الناصري على حياته وعلى ماله إذا تظاهر بدينه: كل هذه كان لها أثر خطير في المجتمع النصراني الأول. ولولا جلد بعض التلاميذ وتفانيهم في الدعوة، وتركيزهم لتعاليمها وتبويبها وصقلها، لما كان للنصرانية ذكر باق حتى الآن. وليس في استطاعة أحد الزعم بأن هذه النصرانية التي تركزت وتثبتت على هذه الصورة التي نشهدها، هي النصرانية التي جاء بها المسيح وكان عليها الناصريون، أي أقدم أتباع عيسى. فالنصرانية هي سلسلة تطورات وأفكار وآراء وضعها البارزون من الآباء، ثم إنها كأكثر الأديان تأثرت بمؤثرات عديدة لم يكن من الممكن على الداخلين فيها التخلص منها. فدخلت فيها وصارت جزءًا منها، مع أن بعضها مناهض ومناقض لمبادئ هذا الدين. وتولد عن هذا الجدل ظهور "الآريوسية" أتباع "آريوس" و"السبيلية" SabiIIians وأتباع "الثالوث" Trinitarians ومذاهب أخرى نبعث من تلك البلبة الفكرية التي أظهرها الاختلاف في طبيعة المسيح. ونظرا إلى ما أحدثته هذه الآراء

الفصل الحادي والثمانون: التنظيم الديني

الفصل الحادي والثمانون: التنظيم الديني مدخل ... الفصل الحادي والثمانون التنظيم الديني وكان لنصارى العرب تنظيمهم الخاص بدور العبادة وبالتعليم والإرشاد، وهو تنظيم أخذ من تنظيم الكنيسة العام، ومن التقاليد التي سار عليها آباء الكنيسة منذ أوائل أيام النصرانية حتى صارت قوانين عامة. فللكنيسة درجات ورتب، وللمشرفين عليها منازل وسلالم، وقد اقتبست هذه التنظيمات من الأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشت فيها النصرانية منذ يوم ولادتها، والتي وضعها رؤساؤها لنشر الديانة ولتنظيم شؤون الرعية، حتى صارت الكنيسة وكأنها حكومة من الحكومات الزمنةي، لها رئيس أعلى، وتحته جماعة من الموظفين، لها ملابس خاصة تتناسب مع درجاتهم ومنازلهم في مراتب الحكومة، ولهم معابد وبيوت وأوقاف وسيطرة على أتباعهم، جاوزت أحيانًا سيطرة الحكومات. ومن الألفاظ التي لها علاقة بالدرجات والرتب الدينية عند النصارى لفظة "البطرك" و"البطريق". وقد وردت لفظة "البطريق" في شعر ينسب إلى "أمية بن أبي الصلت"1.

_ 1 من كل بطريق لبطريق نقى الوجه واضح - تاج العروس "6/ 296"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزءالثاني، القسم الأول "ص191"، تاج العروس "7/ 111" "الطبعة الأولى بمصر، مطبعة مصر"، اللسان "10/ 212، 401"، "دار صادر" "بيروت 1956"، البستان "11/ 157"، "بيروت 1927"، محيط المحيط "1/ 102" بيروت 1868/"، مروج "2/ 199"، صبح الأعشى "5/ 472"، "القاهرة 1915م"" المطبعة الأميرية".

وقد ذهب علماء اللغة إلى أن "البطرك"، هو مقدم النصارى، وهو في معنى "البطريق" أيضًا. وقالوا أيضًا إن البطريق مقدم جيش الروم. و"البطرك" من أصل يوناني هو "Patriakhis" "بثريارخيس"، ومعناه "أبو الآباء"، وذلك لأنه الأب الأول والأعلى للرعية، فهو أب الآباء ورئيس رجال الدين. أما لفظة البطريق، فإنها من أصل لاتيني، هو Patrikios، وهو يعني وظيفة حكومية وتعني درجة "قائد" في المملكة البيزنطية1. فلا علاقة لها إذن بالتنظيم الديني للنصرانية. وبين البطريق "البطرك" والأسقف منزلة يقال لشاغلها "المطران"، وقد عرف بأنه دون البطرك وفوق الأسقف. وقد وسمه "القلقشندي"، بأنه القاضي الذي يفصل الخصومات بين النصارى2. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية، أخذت من "متروبوليتيس "MitropoIitis" أي مختص بالعاصمة، أو المدينة3. وقد ذكر علماء اللغة أن لفظة "المطران"، ليست بعربية محضة4. والأسقف من الألفاظ التي تدل على منزلة دينية عند النصارى، وقد وردت في كتب الحديث. وقد ذكر بعض علماء اللغة إنه إنما سمي أسقف النصارى أسقفا لأنه يتخاشع5. واللفظة من الألفاظ المعربة المأخوذة عن اليونانية، فهي "ابسكوبوس" Episkopos" في الإغريقية، وقد نقلت منها إلى السريانية، ثم نقلت منها إلى العربية6. وقد وردت في كتب التواريخ والسير، حيث ورد في شروط الصلح التي عقدها الرسول مع أهل نجران، شرط هو: "لا يغير أسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته".

_ 1 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص190 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص255". 2 صبح الأعشى "5/ 472". 3 محيط المحيط "2/ 1987"، غرائب اللغة "ص269". 4 تاج العروس "3/ 546"، "مطر"، النصرانية "191"، البلدان "4/ 122" "ديارات الأساقفة". 5 اللسان "11/ 56"، البلدان "4/ 122"، تاج العروس "6/ 141"، صبح الأعشى "5/ 472"، مقدمة ابن خلدون "234"، تأريخ ابن خلدون "27، القسم الأول ص297" اللسان "9/ 156" "صادر". 6 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص119"، غرائب اللغة "ص252" محيط المحيط "1/ 970"، البستان "1/ 111"، النهاية في غريب الحديث "4/ 237".

والقس من الألفاظ الشائعة بين النصارى، ولا تزال مستعملة حتى الآن. ويقال لها "قسيس" في الوقت الحاضر أيضًا. وهي من أصل آرامي هو "Gachecho" ومعناه، كاهن وشيخ1. وقد جمعها "أمية بن أبي الصلت" على "قساقسة"2. وذكر بعض علماء اللغة أن "القس والقسيس العالم العابد من رءوس النصارى" وأن "اصل القس تتبع الشي وطلبه بالليل. يقال تقسست أصواتهم بالليل، أي تتبعتها"3. وقد وردت لفظة "قسيسين" في القرآن الكريم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} 4. ويدل ذلك على أن موقف النصارى تجاه الإسلام كان أكثر مودة من موقف يهود. وقد نسب ذلك إلى القسيسين والرهبان. وترد لفظة "شماس" في جملة الألفاظ التي لها معان دينية عند نصارى الجاهلية. وهي من الألفاظ الحية التي لا تزال تستعمل في هذا اليوم أيضًا. وتعد من الألفاظ المعربة عن السريانية. وهي "Chamocho" في الأصل، وتعني خادم، ومنها البيعة. فهي إذن ليست من الوظائف الدينية الكبيرة، وإنما هي من المراتب الثانوية في الكنيسة5. وقد ذكر بعض العلماء بأن الشماس يحلق وسط رأسه ويجعل شعره من جوانب رأسه على شكل دائرةن وهو الذي يكون مسؤولا عن الكنيسة، ويكون مساعدا للقسيس في أداء واجباته الدينية، وفي تقديس القداس أيام الآحاد والأعياد. يعمل كل ذلك للتعبد. وليس لأخذ المال والتكسب6.

_ 1 غرائب اللغة "ص201"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص192". 2 لو كان منفلت كانت قساقسة ... يحييهم الله في أيديهم الزبر تاج "4/ 207". 3 تاج العروس "4/ 216"، محيط المحيط "1/ 1221"، تأريخ ابن خلدون "جـ2 قسم 1 ص297". المفردات، للأصفهاني "ص412"، اللسان "6/ 174" "صادر" صبح الأعشى "5/ 472"، مقدمة ابن خلدون "233". 4 المائدة، الآية 85، أسباب النزول "152"، تفسير الطبري "7/ 2". 5 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص193"، غرائب اللغة "ص191". 6 اللسان "6/ 114" "صادر محيط المحيط "1/ 1221"، صبح الأعشى "5/ 472"، ابن خلدون "29، القسم الأول، ص297"، البستان "1/ 1259".

وورد في كتاب رسول الله إلى سادة نجران: "لا يغير أسقف عن سقيفاه، ولا راهب عن رهبانية، ولا واقف عن وقفانيته"1. ويظهر من هذا الكتاب أن الواقف منزلة من المنازل الدينية التي كانت في مدينة نجران. والظاهر إنها تعني الواقف على أمور الكنيسة، أي الأمور الغدارية والمالية والمشرف على أوقافها وأملاكها. فهو في الواقع مسؤول إداري، اختصاصه الإشراف على الأمور المتعلقة بسير غدارة الكنيسة وأموالها. إذ لا يعقل أن يكون الواقف بمعنى خادم البيعة الذي يقوم بالخدمة بمعنى التنظيف والأعمال البسيطة الأخرى، إذ لا يعقل النص على مصل هذه الدرجة في كتاب صلح الرسول مع سادة نجران. وقد ذكر بعض علماء اللغة: "الواقف خادم البيعة، لأنه وقف نفسه على خدمتها"2. ولا يعني هذا التفسير بالضرورة الخدمة على النحو المفهوم من الخدمة في الاصطلاح المتعارف. فقد كان الملوك والسادات يلقبون أنفسهم بـ "خادم الكنيسة" و"خادم المعبد"، أي بالمعنى المجازي. ولا يكون خادما صارفا وقته كله في تنظيف الكنيسة وفي القيام بالأعمال التي يقوم بها الخادم الاعتيادي. وهناك لفظة أخرى لها علاقة بالكنيسة وبالبيعة وبالنواحي الإدارية منها، هي لفظة "الوافه" و"الواقه". وقد عرفوا صاحبها بـ "قيم البيعة التي فيها صليب النصارى"، وفي هذا المعنى أيضًا لفظة "الواهف"، حيث قالوا: "الواهف سادن البيعة التي فيها صليبهم وقيمها، كالوافه وعملها الوهافة"، والوهفية والهفية. والظاهر إنها كلها في الأصل شيء واحد، وإنما اختلف علماء اللغة في ضبظ الكلمة، فوقع من ثم هذا الاختلاف بينهم3. فالوظيفة إذن، هي بمنزلة الخازن القيم على شؤون الصليب، يحفظه من السرقة، ويضعه في خزانة أمينة، فإذا حانت أوقات العبادة وضعه في موضعه. فالصليب ثمين، وفيه ذهب

_ 1 ابن سعد، الطبقات "1/ 358" "طبعة صادر"، "لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا وافه من وفاهيته"، النهاية في غريب الحديث "4/ 237"، "واقه من وقاهيته"، البلاذري "فتوح "72"، "صلح نجران"، اللسان "17/ 459"، تاج العروس "9/ 421"، الفائق "2/ 317"، النهاية "4/ 240". 2 تاج "6/ 269"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص193" اللسان "9/ 360"، "صادر". 3 تاج "6/ 373"، "9/ 421"، المخصص "13/ 600"،اللسان "13/ 561" "صادر.

في الغالب، لذلك يكون هدفا للسراق1. ويلاحظ أن علماء الحديث والتأريخ والسير، ليسوا على اتفاق فيما بينهم في تدوين نص كتاب الصلح الذي أعطاه الرسول لأهل نجران، إذ تراهم يختلفون في ضبط نصه: وفي جملة ما اختلفوا فيه جملة: "ولا واقه من وقاهيته"، فقد كتبوها بصور شتى كما رأيت، كما كتبوا النص بأشكال متباينة، مما يدل على أن الرواة قد اعتمدوا على نسخ متعددة للكتاب، وعلى أن أهل نجران كانوا قد نسخوا منه نسخا، تحرفت نصوصها بالاستنساخ، لعدم تمكن الناسخ من ضبط العبارات ضبطا صحيحا. فلما دون العلماء صورة النص تباينوا في تدوينه، وأوجدوا لهم تفاسير للفظة "واقف" و"وافه"و"واقه"، وهي لفظة واحدة في الأصل، قرأها النساخ ثلاث قراءات، فظهرت وكأنها ألفاظ مختلفة. وحاروا في تعليل المعنى، فقال بعضهم الوافه: قيم البيعة بلغة أهل الجزيرة، وقال بعض آخر بلغة أهل الحيرة، وقال بعض: كلها في معنى واحد2. وهناك مصطلحات دينية أخرى استعملها النصارى للدلالة على درجات رجال دينهم، مثل "بابا"، وهي كلمة "رومية" وهو أعلى مرجع في نظر النصارى "الكاثوليك"3، و"الجاثليق"، وهو رئيس أساقفة بلد ما، والأعلى مقاما بينهم، وقد أطلقت اللفظة على رئيس نصارى بغداد في العهد العباسي4، وهي من أصل يوناين هو "كاثوليكوس" KathoIikos ومعناه عام5. والساعي من الألفاظ التي تتناول المنازل والدرجات عند النصارى، وتشمل اليهود أيضًا. ويقصد بها الرئيس المتولي لشؤون اليهود أو النصارى، فلا يصدرون رأيا إلا بعد استشارته، ولا يقضون أمرا دونه. وقد ورد في حديث حذيفة في الأمانة: "إن كان يهوديا أو نصرانيا ليردنه على ساعيه"6.

_ 1 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص194". 2 اللسان "17/ 459"، تاج العروس "9/ 421", النهاية "4/ 240". 3 صبح الأعشى "5/ 472"، تأريخ ابن خلدون "جـ2 القسم الأول، ص297". مقدمة ابن خلدون "ص234"، غرائب اللغة "ص277". 4 تاج العروس "6/ 305"، صبح الأعشى "5/ 472"، محيط المحيط "1/ 214"، البستان "1/ 309". 5 غرائب اللغة "ص256". 6 تاج العروس "10/ 178" "سعى"، اللسان "14/ 387"، محيط المحيط "1/ 960"، النصرانية"192".

ولفظة "بابا" وما بعدها، هي من الألفاظ التي شاع استعمالها في العربية في الإسلام، وليس لدينا ما يفيد استعمالها بين الجاهليين. وذكر علماء اللغة أن من الألفاظ المعروفة بين النصارى لفظة "العسطوس"، ويراد بها القائم بأمور الدين، وهو رئيس النصارى1. أما "الراهب"، فهو المتبل المنقطع إلى العبادة، وعمله هو الرهبانية. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الرهبانية غلو في تحمل التعبد من فرط الرهبة2. وقد ذكرت الرهبانية في القرآن الكريم3، وذكرت في الحديث. وقد نهى عنها الإسلام: "لا رهبانية في الإسلام". وقد ندد القرآن الكريم في كثير من الأحبار والرهبان، فورد: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} 4. ويظهر من ذلك أن جماعة منهم كانت تتصرف بأموال الناس التي تقدم إلى الأديرة والبيع، فيعيشون منها عيشة مترفة، لا تتفق مع ما ينادون به من التقشف والزهد والعبادة. كما أن منهم من عاش عيشة رفيهة وبطر، فتكبر عن الناس وترفع، حتى جعلوا أتباعهم يحيطونهم بهالة من التقديس والتعظيم، إلى درجة صيرتهم أربابا على هذه الأرض. فتقربوا إليهم وقدسوهم قدسية لا تليق إلا للخالق. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} 5. ذلك إنهم كانوا يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون ما أحل الله لهم فيحرمونه. "أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه وإذا حرموا شيئًا أحله الله لهم حرموه، فتلك

_ 1 تاج العروس "4/ 192"، اللسان "6/ 141"، محيط المحيط "1/ 1396". 2 المفردات، للأصفهاني "ص203"، اللسان "جـ1/ 437" "صادر القاموس "1/ 76"، تاج العروس "1/ 281"، الصحاح، للجوهري "1/ 140". 3 المائدة، الآية 82،التوبة، الآية 31، 34، سورة الحديد، الرقم 57، الآية 27، مجمع البيان "7/ 158"، تفسير الفخر الرازي "12/ 66 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 8 وما بعدها"، النهاية، لابن الأثير "2/ 120". 4 التوبة، الرقم 9، الآية 34، مجمع البيان "10/ 48"، تفسير الطبري "7/ 8 وما بعدها" تفسير الخازن "7/ 233 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 141 وما بعدها"، المقريزي، السلوك من معرفة سير الملوك "1/ 182"، "دار الكتب المصرية "1936"، السيوطي، الدر المنثور "10/ 75". 5 التوبة، الرقم9، الآية 31، جامع البيان "10/ 80"، الكشاف "2/ 31" روح المعاني "10/ 75"، تفسير الخازن "2/ 216".

كانت ربوبيتهم"1. وكانوا يطيعونهم طاعة عمياء، ويأخذون عنهم، ويقدسونهم، ويقبلون أيديهم ولا يعصون أمرا لهم. وذكر أن "عدي بن حاتم" الطائي، قال لرسول الله لما سمعه يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، "يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم. فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله، فتحلونه! قال: قلت بلى: قال فتلك عبادتهم"2. ويظهر من روايات أهل الأخبار، أن من الرهبان من بالغ في الترهيب وفي التزهد، فخصى نفسه ووضع السلاسل في عنقه أو في يديه أو رجليه ليحبس نفسه، وامتنع عن المآكل والأطايب، مكتفيا بقليل من الماء وبشيء من الخبز الخشن، وأن منهم من امتنع عن الكلام وصام معظم أوقاته، وابتعد عن الناس متخذا من الكهوف والجبال والمواضع النائية الخالية أماكن للتأمل والتعبد. وذلك كما يظهر من نهي الرسول عن الرهبة والرهبانية، وحمل الإسلام عليها. لأنها تبعد الناس عما أحل الله وقد عوض الإسلام عنها بالجهاد في سبيل الله3. ومن عادات الرهبان وتقاليدهم التي وقف عليها أهل الجاهلية، الامتناع عن أكل اللحوم والودك، أبدا أو أمدا، وحبس النفس في الأديرة والصوامع، والكهوف، والاقتصاد على أكل الصعب من الطعام والخشن من الملبس، ولبس السواد والمسوح. وهي عادة انتقلت إلى الأحناف أيضًا وإلى الزهد من الجاهليين الذين نظروا نظرة زهد وتقشف إلى هذه الحياة4. كما كانوا لا يهتمون بشعورهم فكانوا يطلقونها ولا يعتنون بها ولذلك كانت شعروهم شعثا، وعبر عن الراهب

_ 1 تفسير الطبير "10/ 80 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "5/ 142"، تفسير الطبرسي "5/ 22". 2 تفسير الطبري "10/ 80 وما بعدها"، "بولاق". 3 النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير "ص163" "2/ 120" "المطبعة الخيرية"، اللسان "1/ 437 وما بعدها"، تاج العروس "1/ 280 وما بعدها"، القاموس المحيط "1/ 76"، محيط المحيط "1/ 806" مجمع البيان "7/ 158"، "6/ 176"، جامع البيان "27/ 238"، "10/ 117"، الكشاف، للزمخشري "4/ 69". "2/ 31"، "1/ 43"، روح المعاني "27/ 165"، "10/ 75"، "7/ 3"، الدر المنثور "10/ 75"، صحيح مسلم "8/ 229" "كتاب الزهد"، اللسان "1/ 437" "صادر". 4 تفسير الطبري "7/ 8" "الطبعة الثانية 1957م"، تفسير أبي السعود، "4/ 141 وما بعدها"، تفسير الرازي "12/ 67 وما بعدها".

بالأشعث، لأنه كان يطلق شعر رأسه ولا يحلقه ولا يعتني به1. ومن الرهبان من ساح في الأرض، فطاف بلاد العرب وأماكن أخرى، وهام على وجهه في البوادي وبين القبائل، لا يهمه ما سيلاقيه من أخطار ومكاره، ومنهم من ابتنى له بناء في الفيافي وفي الأماكن النائية، واحتقر الآبار وحرث البقول، وعاش عيشة جماعية، حيث يعاون بعضهم بعضًا في تمشية أمور الدير الذي يعيشون فيه2. ومنهم من عاش في قلل الجبال، بعيدا عن المارة والناس. قال الشاعر: لو عاينت رهبان دير في القلل ... لانحدر الرهبان يمشي ونزل3 وقد وقف بعض أهل الجاهلية على أخبار هؤلاء الرهبان وعرفوا بعض الشيء عنهم، وبهم تأثر بعض الحنفاء على ما يظهر فأخذوا عنهم عادة التحنث والتعبد والانزواء والانطواء في الكهوف والمغاور والأماكن النائية البعيدة للتنسك والتعبد مبتعدين بذلك عن الناس منصرفين إلى التأمل والتفكر في خلق هذا الكون دون أن يدخلوا النصرانية. وقد نهى الرسول بعض الصحابة مثل "عثمان بن مظعون"، وهو من النصارى في الأصل من تقليد الرهبان في الإخصاء وفي الامتناع عن الزواج ومن التشدد في أمور أحلها الله للناس4. ويظهر أن هذا التشدد إنما جاء إليه وإلى أمثاله من وقوفهم على حياة الرهبان وعلى رأيهم وفلسفتهم بالنسبة لهذه الحياة. وفي حق هؤلاء نزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ

_ 1 تاج العروس "1/ 638". 2 تفسير الطبري "27/ 124"، روح المعاني "6/ 8 وما بعدها"، تفسير الطبري "7/ 9وما بعدها"، تفسير الخازن "7/ 233 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 141 وما بعدها". 3 تفسير الطبري "7/ 4". لو أبصرت رهبان دير في الجبل لانحدر الرهبان يسعى ويصل تفسير القرطبي، الجامع "6م 258". 4 الدر المنثور "2/ 307"، مجمع البيان في تفسير القرآن "7/ 6 وما بعدها"، تفسير القرطبي "6/ 260 وما بعدها"، مجمع البيان "27/ 158"، "طبعة دار الفكر. بيروت"، الدر المنثور، للسيوطي "2/ 307"، روح المعاني "7/ 3"، "27/ 165".

وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1. وذكر أن الرسول لما سمع بابتعاد "عثمان" من أهله، دعاه، فنهاه عن ذلك. ثم قال: "ما بال أقوم حرموا النساء والطعام والنوم! ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني". فنزلت الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} . يقول لعثمان لا تجب نفسك، فإن هذا هو الاعتداء"2. وورد في الحديث: "لا صرورة في الإسلام"، والصرورة التبتل وترك النكاح، أي ليس ينبغي لأحد أن يقول لا أتزوج، لأن هذا ليس من أخلاق المسلمين، بل هو من فعل الرهبان. وهو معروف في كلام العرب. ومنه قول النابغة: لو أنها عرضت لأشمط راهب ... عبد الإله صرورة متعبد يعني الراهب الذي ترك النساء3. وقد أشير إلى الرهبان في شعر امرئ القيس، إذ أشار فيه إلى منارة الراهب التي يمسي بها يتبتل فيها إلى الله، وعنده مصباح يستنير بنوره4. كما أشار فيه إليه وهو في صومعته يتلو الزبور ونجم الصبح ما طلعا5، دلالة على تهجده وتعبده في وقت يكون الناس فيه نياما. كما أشير إليهم في شعر شعراء جاهليين آخرين مثل "النابغة الذبياني"، الذي أشار إلى ركوع الراهب يدعو ربه فيه ويتوسل إليه6. كما أشار إلى موقف الراهب من رؤية امرأة جميلة، وكيف سيرنو إليها

_ 1 المائدة، الآية 87. 2 تفسير الطبري "7/ 6"، روح المعاني "7/ 7". 3 تاج العروس "3/ 331"، "صور". 4 تضئ الظلام بالعشاء كأنها ... منارة ممس راهب متبتل النصرانية "الجزء الثاني، القسم الأول، ص175". 5 كأنه راهب في رأس صومعة ... يتلو الزبور ونجم الصبح ما طلعا النصرانية "جـ 2، قسم2، ص392". 6 سيبلغ عذراء أو نجاحا من امرئ إلى ربه رب البرية راكع دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية" "10/ 9"،النصرانية "الجزء الثاني، القسم الثاني "ص394".

حتى وإن كان راهبا اشمط1. وقد أشار إلى "ثوبي راهب الدير" وإلى الحلف بثوبيه2. وورد في الشعر ما يفيد بانقطاع الرهبان في الأماكن الصعبة القصية مثل قلل الجبال وذراها، حيث لا يأتيهم الناس، فيعيشون في خلوة وانقطاع عن البشر3. ومن الأماكن التي اشتهرت بوجود الرهبان فيها أرض مدين4. ووادي القرى ومنازل تنوخ وصوران وزبد5. وقد سبح الرهبان ورجال الدين، الله، في الكنائس وفي الأديرة بألحان عذبة جميلة، ورتلوا الزبور والأسفار المقدسة الأخرى. وقد عرف الجاهليون ذلك عنهم، وأشاروا إلى ذلك في شعرهم، وربما كان بعضهم يحضر تلك التراتيل ويستأنس بها على الرغم من وثنيته وعدم اعتقاده بالنصرانية. ويقال للراهب الزاهد، الذي ربط نفسه عن الدنيا: الربيط. وقيل له: الحبيس. وذكر أن الربيط، هو المتقشف الحكيم6، وأن الحبيس هو الذي حبس نفسه في سبيل الله، فقبعوا في الأديرة وابتعدوا عن الناس. فصاروا كالحبساء7.

_ 1 تفسير القرطبي، "6/ 258". لو أنها عرضت لاشمط راهب ... عبد الإله صرورة متعبد كرنا لرؤيتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد 2 تاج العروس "1/ 281". 3 لو كلمت رهبان دير في القلل لانحدر الراهب يسعى فنزل اللسان "1/ 437" "صادر"، تاج العروس "1/ 281"، المقريزي، السلوك في معرفة سير الملوك "1/ 182" تفسير الطبري "27/ 158"، "البابي"، الكشاف "2/ 31"، الدر المنثور "6/ 177"، تفسيرالخازن "2/ 216". "4/ 232". لو أنها عرضت لاشمط راهب ... في رأس مشرفة الذرى متبتل الأغاني "19/ 92" "دار الثقافة بيروت"، وقد نسب هذا الشعر إلى ربيعة بن مقروم الصيفي. وقد مر النصف الأول من هذا البيت من شعر نسب إلى النابغة الذبياني في تفسير القرطبي "6/ 258"ز 4 قال جرير: رهبان مدين، لو رأوك تنزلوا ... والعصم، من سعف العقول، الغادر اللسان "1/ 437" "صادر"، تفسير الطبري "7/ 4". 5 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "196 وما بعدها". 6 تاج العروس "5/ 143"، القاموس المحيط "2/ 361"، المقريزي، سير "1/ 182" البلدان "2/ 213" "صادر". 7 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "197"، البلدان "2/ 213".

ويقال للراهب: المقدسي. والمقدس الراهب. وصبيان النصارى يتبركون به، ويتمسحون بملابسه تبركا1. كما قيل له: المتعبد، والأعابد2 ونسب إلى "امرئ القيس" هذا البيت: فأدركنه يأخذن بالساق والنسا ... كما شبرق الولدان ثوب المقدسي ويروي المقدسي، وهو الراهب ينزل من صومعته إلى بيت المقدس، فيمزق الصبيان ثيابه تبركا به3. وأما "النهامي"، فهو صاحب الدير، أو الراهب في الدير4. ومن الألفاظ التي شاعت بين النصارى ووصل خبرها إلى الجاهليين، لفظة: "الأبيل"، وقد اتخذوها للدلالة على رئيس النصارى. وذكر بعض أهل الأخبار أنها تعني أيضًا "المسيح". وقد كانوا يعظمون الأبيل فيحلفون به كما يحلفون بالله. وهي من الألفاظ المعربة عن السريانية "ابيلو" AbiIo"، ومعناها في السريانية الزاهد والناسك والراهب. وكانوا يتخذون عادة رؤساءهم من الرهبان المتبتلين5. وقد وردت لفظة "الأبيل" في الشعر الجاهلي، في شعر: الأعشى وفي شعر عدي بن زيد. وورد "أبيل الأبيلين"، وأريد بذلك المسيح6. وذكر أن "الأبيل" هو صاحب الناقوس، والراهب أيضًا7. وأن "الأبيلي"، هو ضارب الناقوس. و"الأيبل"، العصا التي يدق بها الناقوس8. قال الأعشى:

_ 1 اللسان "6/ 169" "صادر". 2 اللسان "3/ 272". 3 تاج العروس "6/ 390"، "شبرق". 4 تاج العروس "9/ 88"، نهم"، المخصص "13/ 100". 5 النصرانية، الجزء الثاني: القسم الأول "190"، غرائب اللغة "172". 6 قال ابن عبد الجن، وقيل عمرو بن عبد الحق: أما ودماء ماثرات تخالها ... على قنة العزى أو النسر عندما وما قدس الرهبان في كل هيكل ... أبيل الأبيلين، المسيح بن مريما لقد ذاق منا عامر يوم لعلع ... حساما، إذا ما هز بالكف صمما اللسان "11/ 6 وما بعدها"، "أبل"، صادر". 7 اللسان "11/ 6 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 199". الأب مرمرجي، معجميات عربية سامية "131 وما بعدها"، شعراء النصرانية، لشيخو "453"، المخصص "13/ 100". 8 ديوان الأعشى "53" "المطبعة النموذجية"، 1950م".

وما أيبلي على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا يراوح من صلوات المليك ... طورا سجودا وطورا جؤارا يعني بالجؤارالصياح. إما بالدعاء وإما بالقراءة1. والساعود من أسماء المسيح وهو من أصل "سوعورو" So ouro، بمعنى زائر. وتطلق اللفظة على من يزور القرى ويطلع على أحوالها وذلك بأمر من الأسقف2. وذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن السريانية، وأن الأصل "ساعورا"، ومعناه متفقد المرضى، وتطلق اللفظة على مقدم النصارى في معرفة علم الطلب3. ويقال لخادم البيعة: الجلادي4. وذكر أن "الجلذي" الراهب والصانع والخادم في الكنيسة. قال ابن مقبل: صوت النواقيس فيه ما يفرطه ... أيدي الجلاذي جون ما يغضبنا5 و"الكنيس" و"الكنيسة" موضع عبادة اليهود والنصارى، فهما في مقابل "المسجد والجامع" عند المسلمين. والكلمة من الألفاظ المعربة عن الآرامية، وتعني لفظة "Knouchto" "كنشتو" "كنشت" في السريانية، اجتماع، ومجمع وأطلقت بصورة خاصة على كنيس اليهود6. ولهذا نجد العرب يطلقونها على معبد اليهود كذلك. ويقال في العبرانية للكنيس "كنيستا"، بمعنى محل الصلاة. ونجد الكتب العربية تفرق بين موضع عبادة اليهود وموضع عبادة النصارى، فتطلق "الكنيس" على موضع عبادة اليهود و"الكنيسة" على موضع عبادة الأصنام. وقد ذهب بعض علماء اللغة، إلى أن الكنيسة، هي متعبد اليهود، وأما "البيعة"،

_ 1 تفسير الطبري "14/ 82". 2 غرائب اللغة "187". 3 تاج العروس "3/ 468" "الخيرية"، النصرانية، القسم الأول "194"،القاموس "2/ 48". 4 اللسان "5/ 14" "المطبعة الأميرية"، "3/ 483" "صادر"، تاج العروس "2/ 557". 5 تاج العروس "2/ 557"، "ما يعفينا"، اللسان "3/ 482"، "صادر". 6 غرائب اللغة "ص204"، النصرانية وآدابها، شيخو "2/ 201 وما بعدها"، "الطبعة الثانية بيروت 1933".

فهي متعبد النصارى1. وقد عرف علماء اللغة العرب، إنها من الألفاظ المعربة، فقالوا: وهي معربة، أصلها كنست2. وقد زوق النصارى كنائسهم، وجملوها، وزينوها بالصور وبالتماثيل، ووضعوا الصلبان على أبوابها وفي داخلها. ووضعوا بها المصابيح لإنارتها في الليل، وكانوا يسرجون فيها السرجن وجعلوا بها النواقيس، لتقرعن فترشد المؤمنين بأوقات الصلوات، ولتشير إليهم بوجود مناسبات دينية، كوفاة، أو ميلاد مولود، أو عرس وأمثال ذلك. ومن الكنائس التي اكتسبت حرمة كبيرة عند النصارى العرب: كنيسة القيامة، وكنيسة نجران، وكنيسة الرصافة. وقد أشير في شعر للنابغة إلى "صليب على الزوراء منصوب"، أي على كنيسة. والتمثال الشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله، أي من إنسان أو حيوان أو جماد3. وأدخل العلماء الصور في التماثيل. وقد كانت الكنائس مزينة بالتماثيل والصور، تمثل حوادث الكتاب المقدس وحياة المسيح. ونظرا إلى محاربة الإسلام للأصنام، وإلى كل ما يعيد إلى ذاكرة الإنسان عبادة الأصنام والصور، ورد النهي عنها في الإسلام. جاء في الحديث: "أشد الناس عذاب يوم القيامة المصورون" 4. وقد كان الروم يمدون الكنائس والمبشرين بالمال وبالفعلة وبالمساعدات المادية لبناء الكنائس والأديرة. والكنائس والأديرة وإن كانت بيوت تقوى وعبادة، كانت بيوت سياسة ودعوة وتوجيه. ونشر النصرانية مهما كان مذهبها ولونها، مفيد للروم، فالنصراني مهما كان مذهبه لا بد أن يميل إلى إخوانه في العقيدة والدين، ففي انتشار النصرانية فائدة من هذه الناحية كبيرة للبيزنطيين. وفي العربية لفظة أخرى للكنيسة، إلا أنها لفظة خصصت بكنيسة معينة، هي الكنيسة التي بناها أبرهة بمدينة صنعاء، واللفظة هي: "القليس". وللأخباريين آراء في معناها وفي أصلها، بنيت على طريقتهم الخاصة في إيجاد التفاسير للكلمات القديمة من عربية ومن معربة، التي لا يعرفون من أمرها شيئًا. وهي لذلك

_ 1 تاج العروس "4/ 235". 2 اللسان "6/ 199"، تاج العروس "4/ 235". 3 تاج العروس "8/ 111"، "مثل". 4 تفسير الطبري "22/ 49"، تفسير القرطبي "4/ 273 وما بعدها".

لا تفيدنا شيئًا. والكلمة أعجمية الأصل، عربت، وشاع استعمالها، حتى ظن إنها اسم تلك الكنيسة. أخذت هذه اللفظة من أصل يوناني هو "أكليسيا" "EkkIesia"، ومعناه في اليونانية المجمع، أي الكنيسة، فصيروها اسم علم على هذه الكنيسة، ولم يدروا أنها تعني الكنيسة، أي موضع عبادة1. والصوامع والبيع هما من الألفاظ التي استعملها الجاهليون للدلالة على مواضع العبادة عند النصارى. وقد ذهب العلماء إلى أن البيعة من الألفاظ المعربة2. أخذت من السريانية. وأصل اللفظة في السريانية، هو "بعتو" بمعنى بيضة، وقبة، لأنها كانت قبة في كثير من الكنائس القديمة3. وقد استعملت في الحبشة كذلك ولذلك ذهب بعضهم إلى أنها من الحبشة4. وقال علماء اللغة العرب: الصومعة كل بناء متصمع الرأس، أي متلاصقة، والأصمع اللاصقة إذنه برأسه5. وقد أشير إلى "البيع" في القرآن: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} 6. وقد ذهب بعض علماء اللغة، إلى أن البيعة متعبد اليهود7. ولكن أغلبهم على أنها متعبد النصارى. وقد وردت لفظة "بيعة" في نص "أبرهة" الشهير الذي دونه على سد مأرب. ففي هذا النص جملة: "وقدس بعتن"، أي "وقدس البيعة"8. وذكر أن لفظة "البيعة" قد وردت في شعر ينسب إلى ورقة بن نوفل، حيث زعم إنه قال: أقول إذا صليت في كل بيعة ... تباركت قد أكثرت باسمك داعيا9

_ 1 "القليس"، "القليسة"، اللسان "6/ 180"، "قلس". Ency II p 144 RacciIta III p 127 2 المعرب "ص81". 3 معجميات "ص109 وما بعدها"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213"، غرائب اللغة "175". 4 النصرانية "الثاني"، القسم الأول "213" ""طبعة ثانية". 5 المفردات "288"، اللسان "8/ 208"، تاج العروس "7/ 411" 6 الحج: الآية 40. 7 تفسير الطبري "15/ 175" "البابي"، اللسان "8/ 26" "صادر". 8 رجع النص في مجلة المجمع العلمي العراقي "4/ 215". 9 الأغاني "3/ 16".

كما ذكر إنها وردت في كلام أناس من الجاهليين والمخضرمين1. وقد أشير إلى ورودها في الشعر الجاهلي وفي بعض الأخبار المنسوبة إلى الجاهليين. وردت في شعر منسوب إلى "عبد المسيح بن بقيلة"، وهو كما يظهر من اسمه من النصارى2. ووردت في بيت منسوب إلى لقيط بن معبد3. وفي شعر ينسب إلى الزبرقان بن بدر التميمي4. ولا بد أن تكون هذه الكلمة من الكلمات المألوفة عند الجاهليين المتنصرين، وعند غيرهم ممن كانوا على الوثنية، غير إنهم كانوا على اتصال بالنصارى، ذلك لأنها من الألفاظ الشائعة المعروفة عند النصارى. وقد كانت البيع منتشرة في المدن وفي القرى والبوادي، وطالما قصدها الأعراب للاحتماء بها من الحر والبرد وللاستعانة برجالها لتزويدهم بما عندهم من ماء أو زاد أو للتنزه بها واحتساء الشراب. والصومعة من أصل حبشي هو "صومعت" على رأي بعض المستشرقين. وقد خصصت بـ "قلاية" الراهب5. أي مسكن الرهبان. وبهذا المعنى وردت في القرآن. ويقول علماء اللغة، أنها على وزن فوعلة، سميت صومعة، لأنها دقيقة الرأس. وهي صومعة النصارى6. وذكر بعض منهم أن الصومعة كل بناء متصمع الرأس، أي متلاصقة7. وقد سميت صومعة لتلطيف أعلاها8. ويدل ورود هذه اللفظة بصورة الجمع في القرآن الكريم، على وقوف الجاهليين على

_ 1 ابن هشام "935" "طبعة ليدن"، تاج العروس "5/ 285"، النصرآنية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص201 وما بعدها". 2 كم تجرعت بدير الجرعة ... غصصا كبدي بها منصدعه من بدور فوق أغصان على ... كثب زرن احتسابا بيعه البلدان "4/ 120" "دير الجرعة"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202 وما بعدها". 3 تامنت فؤادي بذات الخال خرعبة ... مرت تريد بذات العذبة البيعا تاج العروس "5/ 285"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202". ابن هشام "1/ 935"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "202". 4 نحن الكرام، فلاحي يعادلنا ... منا الكرام، وفينا تنصب البيع ابن هشام "1/ 935"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "201". 5 معجميات "ص109 وما بعدها"، RaccoIta III P 127 6 اللسان "10/ 76"، معجميات "ص153"، تاج العروس" 7/ 411"، النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني "174، 213". 7 مفردات، الأصفهاني "ص288". 8 اللسان "8/ 208" "صادر".

الصوامع ووجوها بينهم1. وقد كان الرهبان قد ابتنوا الصوامع وأقاموا بها للعبادة بعيدين في مختلف أنحاء جزيرة العرب، ومنها الحجاز. وقد وقف الجاهليون عليها، ودخلوا فيها. أما تجارهم ممن قصد بلاد الشام والعراق، فقد رأوا في طريقهم إلى تلك الأرضين، وفي تلك الأرضين بالذات، حيث انتشرت فيها النصرانية صوامع كثيرة. ونجد في كتب الأخبار أمثلة عديدة تشير إلى دخول تجار مكة الصوامع في بلاد الشام وفي وادي القرى، للحصول على ملجأ أو عون. والقلاية، وهي كالصومعة، يتعبد فيها الرهبان، وهي من الألفاظ المعربة، عربت من أصل يوناني هو "KeIIiyon"، ومعناه غرفة راهب أو ناسك2. ومن هذا الأصل انتقلت اللفظة إلى السريانية فصارت "قليتا"، فانتشرت بين نصارى بلاد الشام بصورة خاصة ثم بقية النصارى، منها دخلت العربية. وقد عرف علماء العربية إنها من الألفاظ المعربة، فقالوا: هي تعريب كلاذة، وهي من بيوت عباداتهم، أي عبادات النصارى. وقد وردت في الحديث، كما ورد ذكرها في صلح عمر مع نصارى الشام، حيث كتبوا له كتابا: إنا لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا قلية3. والظاهر أن النصارى توسعوا في المعنى، فأطلقوها على المنازل التي يسكنها الرهبان، ثم توسعوا فيها فأطلقوها على دور المطارنة والبطارقة، وأصلها بمعنى الأكواخ4. ولفظة "الدير" شيء من الألفاظ النصرانية الشهيرة المعروفة بين العرب. وهي أكثر اشتهارا من الألفاظ الأخرى التي لها علاقة بمواضع العبادة أو السكن عند النصارى، وذلك لانتشارها ووجودها في مواضع كثيرة من العراق وبلاد الشام وجزيرة العرب, ولمرور التجار وأصحاب القوافل والمارة بها، واضطرارهم إلى الاستعانة بأصحابها وباللجوء إليها في بعض الأحيان. كما كانت محلا ممتازا للشعراء ولأصحاب الذوق واليكف، حيث كانوا يجدون فيها لذة ومتعة تسر العين والقلب، من خضرة ومن ماء بار عذب ومن خمر يبعث فيهم الطبر والخيال، ولذلك

_ 1 سورة الحج، الرقم22، الآية 40، النهاية، لابن الأثير "2/ 120"، تفسير الطبري "15/ 175". 2 غرائب اللغة "ص265"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213". 3 النهاية "3/ 309"، البكري، معجم "2/ 583"، اللسان "20/ 63"، تاج العروس "8/ 86"، "قل". 4 معجميات "ص180 وما بعدها".

أكثر الشعراء في الجاهلية والإسلام من ذكر الأديرة في شعرهم. حتى الشعراء النصارى مثل "عدي بن زيد العبادي"، يترنم في شعره بذكر الدير، لأنه نادم فيه "بني علقما"، وعاطاهم الخمر ممزوجة بماء السماء1. ولفظة "الدير" هي مثل أكثر الألفاظ النصرانية من الألفاظ المعربة. عربت من أصل سرياني، هو "دير" Dayr "، بمعنى دار، أي بيت الراهب2. ومسكنه، ولا سيما المحصن، ثم خصوا بها مسكن الرهبان3. وقد عرف علماء العربية أن الدير هو مسكن النصارى، يتعبد فيه الرهبان ويسكنون به، وقد ذكر "ياقوت الحموي" أن الدير يتعبد فيه الرهبان، ولا يكاد يكون في المصر الأعظم، وإنما يكون في الصحاري ورءوس الجبال، فإن كان في المصر الأعظم فإنه كنيسة أو بيعة4 غير أن الأديرة تكون في كل مكان، تكون في القرى وتكون في المدن كما تكون في البوادي وفي رءوس الجبال5. و"الديراني"، صاحب الدير، وقد ذكر بعض العلماء أن الديراني صاحب الدير الذي يسكنه ويعمره. نسب على غير قياس. ويقال للرجل إذا رأس أصحابه هو رأس الدير6. ولا تقتصر الأديرة على الرجال، فللراهبات أديرة أيضًا. ويقضي أصحاب الأديرة وقتهم في الزهد والتقشف والعبادة. والقيام بالأعمال اليدوية التي يوكلها رئيس الدير إليهم7. وقد عرف الراهب المعتكف بالدير بـ "الديراني" و"الديرانية"، هي الراهبة8. وقد عرفت أديرة الراهبات بـ "أديرة العذارى" كذلك.

_ 1 نادمت في الدير بني علقما ... عاطيتهم مشمولة عندما كأن ريح المسك من كأسها ... إذا مزجناهما بماء السما البلدان "2/ 639، 680"، "2/ 449" "بيروت"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، المخصص "13/ 100 وما بعدها". 2 غرائب اللغة "ص182". 3 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212". 4 معجم البلدان "2/ 639"، "6/ 639". 5 اللسان "5/ 287"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"ز 6 اللسان "5/ 387"، تاج العروس "3/ 231"ز 7 البلدان "2/ 639"، "4/ 451". 8 النصرانية، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، الشعر، لابن قتيبة "229".

وإذ كان لهذه الأديرة حرمة في نفوسهم، فقد كانوا يعقدون فيها عقودهم ويحلفون بها على ما كان يفعله الوثنيون في معابدهم حيث كانوا يقسمون الإيمان ويعاقدون أمام الأوثان، فكان للنصارى في الحيرة دير السوا، وفي هذا الدير كانوا يتناصفون ويحلفون بعضهم لبعض على الحقوق1. وفي الآرامية لفظة هي "عمرو" Oumro"، وقد صارت "العمر" في العربية. ويراد بها البيعة والكنيسة والدير ودار2. وقد وردت في شعر "المتلمس"، حيث جاء: ألك السدير وبارق ومبايض ولك الخورنق ... والعمر ذو الأحساء واللذات من صاع وديسق3 وعرفت العربية لفظة "الكرح"، و"الأكيراح"، وقد عرفها علماء العربية بقولهم: "الأكيراح: بيوت ومواضع تخرج إليها النصارى في بعض أعيادهم"4. واللفظة من أصل سرياني هو "كرحو" "Kourho"، بمعنى كوخ، ومسكن حبيس، وبيت ناسك وراهب5. وذكر ياقوت الحموي: أن الأكيراح بيوت صغار تسكنها الرهبان الذين لا قلالي لهم"6 وهناك دير اسمه "الأكيراح"، ورد في شعر لأبي نؤاس، ويقع بظاهر الكوفة كثير البساتين والرياحين، وبالقرب منه ديران، يقال لأحدهما دير عبد، وللآخر دير هند7. والمحراب من الألفاظ التي استعملها النصارى في أمور دينهم كذلك، إذ أطلقوها على صدر كنائسهم. وقد استعملت في الإسلام أيضًا، حيث يشير إلى القبلة، ويؤم الإمام فيه المصلين، وقد ذكر بعض علماء اللغة، أن محاريب

_ 1 البلاذري، فتوح: 292". 2 غرائب اللغة "ص196". 3 البكري، معجم "696"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص213"، تاج العروس "3/ 320". 4 سا دير حنة من ذات الأكيراح من يصح عنك فإني لست بالصبح اللسان "3/ 405"، البكري، معجم "4/ 575"، المخصص "13/ 102". 5 غرائب اللغة "ص203"، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212،214". 6 البلدان "1/ 345". 7 البلدان "1/ 345".

بني إسرائيل مساجدهم التي كانوا يصلون فيها1. وقد وردت لفظة المحراب في أشعار بعض الجاهليين2. كما وردت في القرآن الكريم3. وفي الشعر الجاهلي4. وذكر علماء التفسير أن المحراب كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلي فيه: محراب، وذكروا أن المحاريب دون القصور، وأشرف بيوت الدار. قال عدي بن زيد العباد: كدمى العاج في المحاريب أو كالـ ... ـبيض في الروض زهره مستنير5 وذكر علماء العربية لفظة "التامور" التأمور"، في جملة الألفاظ المتعلقة بالرهبان والرهبنة، وقد عرفها بعضهم بأنها صومعة الراهب وناموسه6. وذكر أن "القوس"، بمعنى الدير والصومعة أو موضع الراهب. أو معبد الراهب7. وذكر أن أصل الكلمة من الفارسية8. وذكر أن "الغربال"، هو مكان أيضًا من أمكنة الرهبان، وأنه كهيئة الصومعة في هندسة بنائه وارتفاعه، وأنه كان بناء مرتفع. ويظهر أنها من الألفاظ المعربة9. والإسطوانة، وهي السارية من الألفاظ النصرانية التي وقف عليها الجاهليون. وقد اتخذها العرب بمعنى العمود الذي كان يتعبد فوقه بعض الرهبان المعروفين بالعموديين StyIites. وقد أشير إلى "أسطوان" في شعر نسبوه إلى "ذي الجدن". وفسرت لفظة "الاسطوان" و"الاسطوانة"، بأنها موضع الراهب المرتفع10.

_ 1 النصرانية، الجزء الثاني القسم الأول "174". 2 اللسان "1/ 305"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "174"، اللسان "7/ 17". 3 آل عمران، الآية 37، 39، مريم، الآية 11، ص، الآية 21. 4 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "174". 5 تفسير الطبري "22/ 48" تفسير القرطبي "14/ 271". 6 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول "ص212"، تاج العروس "3/ 20"، "أمر". 7 اللسان "8/ 69"، معجم البلدان "4/ 200". 8 النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول، "ص214". 9 تاج العروس "7/ 416"، البلدان "3/ 525"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "213". 10 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "211"، البلدان "1/ 345"، المخصص "13/ 100 وما بعدها".

و"المنهمة" مسكن النهام، والنهامي، هو الراهب. وأما المنهمة فموضع الراهب1. ووردت في شعر للأعشى لفظة "الهيكل". إذ قال: وما أيبلى على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا2 ويذكر علماء اللغة، أن الهيكل: بيت النصارى فيه صورة مريم وعيسى، وربما سمي به ديرهم. وأن الهيكل العظيم واستعمل للبناء العظيم، ولكل كبير، ومنه سمي بيت النصارى الهيكل3. واللفظة المعربة، وهي ترد في العبرانية "هيكل" وفي الآرامية "هيكلو". وتعني في اللغتين المعبد الكبير ومعبد الوثنيين4. وقد كان الرهبان وبقية رجال الدين وكذلك الأديرة والكنائس يستعملون المصابيح. والقناديل للاستضاءة بهما. ويعبر عن المصباح بالسراج كذلك5. وقد تركت مصابيحهم وقناديلهم أثرًا ملحوظا في محلية الشعراء فأشير إليها في شعر "مزرد بن ضرار الذبياني" حيث قيل إنه قال: كأن شعاع الشمس في حجراتها ... مصابيح رهبان زهتها القنادل6 وذكر علماء اللغة أن الزيت الذي له دخان صالح ويوقد في الكنائس، هو "السليط"7. ولفظ: قنديل من الألفاظ المعربة، أصلها يوناني هو "CandeIa"، أي شمعة8. وقد دخلت إلى العربية قبل الإسلام، عن طريق الاتصال التجاري بين جزيرة العرب وبلاد الشام.

_ 1 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "214". 2 اللسان "6/ 144"، الاضداد "24"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "203" 3 المخصص "13/ 100 وما بعدها"، اللسان "14/ 225"، العقد الثمين "18"، النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "202". 4 النصرانية، الجزء الثاني، القسم الأول "202"، غرائب اللغة "209". 5 المفردات، للأصفهاني "ص674". 6 تاج العروس "5/ 158"، اللسان "7/ 320"، "سلط". 8 غرائب اللغة "279".

وكان النصارى العرب يتقربون إلى رجال دينهم ويتبركون بهم ويحترمونهم حتى قيل إن الصبيان منهم كانوا إذا رأوا الراهب ينزل ليذهب إلى بيت المقدس أو غيره خرجوا له فتمسحوا به ولثموا ثيابه، حتى يمزقوا أثيابه. وإلى ذلك أشير كما يقول أهل الأخبار - في شعر امرئ القيس: فأدركنه يأخذن بالساق والنسا ... كما شبرق الولدان ثوب المقدس1 ولبس رجال الدين ملابس خاصة لتميزهم عن غيرهم، غلب عليها السواد. وقد اختصت لفظة "المسح" و"المسوح" بالملابس التي كان يلبسها الزهاد والرهبان. ومن أهم العلامات الفارقة التي ميزت معابد النصارى عن معابد اليهود والوثنيين: "الناقوس"، الذي ينصب فوق سطح الكنائس وفي منائرها، للإعلان عن أوقات العبادات ولأداء الفروض الدينية، وهو عند الجاهليين خشية طويلة يقرع عليها بخشبة أخرى قصيرة يطلقون عليها لفظة "الوبيلة" و"الوبيل". وهو في مقابل البوق عند يهود يثرب، إذا أرادوا الإعلان عن موعد العبادة. وقد عرف هذا البوق بين عرب يثرب بـ "القنع" أيضًا2، وبـ"الشبور"3. وقد ذكر علماء اللغة أن الشبور "شيء يتعاطها النصارى بعضهم لبعض كالقربان يتقربون به". وقال بعضهم: هو القربان بعينه، وذكروا أن الشبور شيء ينفخ فيه، فهو البوق عند اليهود، وهو معرب وأصله عبراني4. وقد وردت كلمة "الناقوس" في الشعر الجاهلي: وردت في بيت للشاعرالمتلمس5،

_ 1 المعاني الكبير "2/ 764". 2 القنع، وورد القبع والقتع والقثع، اللسان "10/ 131"ز 3 عمدة القاري "5/ 102 وما بعدها"، اللسان "8/ 126". 4 اللسان "6/ 59"، تاج العروس "3/ 289"، "شبر"، وقد نقس بالوبيل الناقوس"، تاج العروس "4/ 262 وما بعدها". 5 حنت قلوصي بها والليل مطرق ... بعد الهدو وشاقتها النواقيس ديوان المتلمس "178"، "طبعة فولرس" "لايبزك 1903".

وفي شعر للمرقش الأكبر1، وللأعشى2، وللأسود بن يعفر3. وقد أشير في هذه الأبيات إلى قرع النواقيس بعد الهدوء إيذانا بدنو الفجر وحلول وقت الصلاة. وقد كانت هذه النواقيس في القرى وفي الأديرة، يقرعها الرهبان والراهبات والقسيسون4. وقد أدخل بعض علماء اللغة هذه الكلمة في جملة الألفاظ المعربة التي دخلت العربية من أصول أعجمية5. واللفظة من أصل "سرياني" هو "ناقوشا"6.

_ 1 وتسمع تزقاء من البوم حولنا ... كما ضربت بعد الهدوء النواقس المفضليات "564"، النصرانية "207". 2 وكأس كعين الديك باكرت حدها ... بفتيان صدق والنواقيس تضرب تاج العروس "2/ 331"، "حد"، ويروى لعنترة، العقد الثمين في دواوين الشعراء الجاهليين "179"، "طبعة الوردت"، "AhIwardt"، "باريس 1913"، النصرانية "207". 3 وقد سبأت لفتيان ذوي كرم ... قبل الصباح ولما تقرع النقس اللسان "8/ 126"، "نقس"، تاج العروس "4/ 263". 4 النصرانية "207". 5 عمدة القاري "5/ 103"، المعرب "339". 6 Shorter Ency p 436

أعياد النصارى

أعياد النصارى: وقد ذكر أهل الأخبار أسماء أعياد نصرانية ترجع أصول تسميتها في الأكثر إلى لغة بني إرم، ويظهر أن أولئك الإخباريين تعرفوا عليها في الإسلام باختلاطهم وباتصالهم بالنصارى، إذ لم يشيروا إلى ورود أكثرها في الشعر الجاهلي، ومن عادتهم أنهم إذا عرفوا شيئًا كان معروفا عند الجاهليين جاؤوا ببيت أو أبيات يستشهدون بها على ورودها عند الجاهليين. ومن الأعياد التي ورد فيها شاهد في الشعر الجاهلي، "السباسب"، وهو "يوم السعانين" ,"الشعانين". وقد ورد كلمة السباسب في بيت للنابغة قاله في عيد السعانين عند بني غسان، هو:

رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب1 و"السعانين" و"الشعانين" من أصل عبراني "هو شعنا". وقد وردت هذه الكلمة في صحيفة صلح "عمر" مع نصارى الشام، وردت معها لفظة أخرى من الألفاظ النصرانية كذلك هي "الباعوث"2، وهي رتبة تقام في اليوم الثاني من عيد الفصح3، وصلاة لثاني عيد الفصح في بعض الطوائف4. وقد ذكرها علماء اللغة في جملة الألفاظ المعربة، والإرمية الأصل، وجعلها بعضهم "الباغوث". وذكروا إنها "استسقاء النصارى"، وأن "عمر" لما صالح نصارى الشام، كتبوا له أن لا نحدث كنيسة ولا قلية ولا نخرج سعانين ولا باعوثا5. و"خميس الفصح" من أعياد النصارى كذلك. وهو بعد السعانين بثلاثة أيام، وكانوا يتقربون فيه بالذهاب إلى الكنائس والبيع6. وقد أشير إلى عيد "الفصح" في بيت للأعشى يمدح فيه "هوذة بن علي" لتوسطه لدى الفرس بالإفراج عن مئة أسير من أسرى بني تميم همم الفرس بقتلهم، وذلك لمناسبة يوم الفصح. وقد كان نصارى الجاهلية يحتفلون به، فيوقدون المشاعل، ويعمرون القناديل، ويضيئون الكنائس بالمسارج ويقصدونها للاحتفال بها، حتى قيل للقنديل الذي يعمر لهذا اليوم "قنديل الفصح"7.

_ 1 "والسباسب أيام السعانين. في الحديث أن الله تعالى أبدلكم بيوم السباسب يوم العيد. يوم السباسب عيد النصارى، ويسمونه يوم السعانين"، تاج العروس "1/ 293"، النصرانية "215"، غرائب اللغة "212"، عن "أحد الشعانين" راجع المشرق: السنة الثامنة، الجزء8، السنة 1905م، "ص337 وما بعدها". 2 "أن لا يحدثوا كنيسة ولا قلية، ولا يخرجوا سعانين ولا باعوثا"،"ويوم السعانين عيد للنصارى. وفي حديث: شرط النصارى ولا يخرجوا سعانين. قال ابن الأثير: هو عيد لهم معروف. قبل عيدهم الكبير بأسبوع. وهو سرياني معرب. وقيل: هو جمع واحده سعنون"، اللسان "17/ 71". "سعن" "13/ 209"، "صادر". 3 النصرانية "217". 4 غرائب اللغة "173". 5 اللسان "13/ 209"، تاج العروس "1/ 903"، "بعث"، اللسان" "2/ 118"، "بعث". 6 الأغاني "3/ 32"، النصرانية "216". 7 قال عدي بن زيد العبادي: بكروا علي بسحرة فصحبتهم ... باناة ذي كرم كعقب الحالب بزجاجة ملء اليدين كأنها ... قنديل فصح في كنيسة راهب الأغاني "9/ 53"، اللسان "3/ 378"، النصرانية "216". وورد في شعر لأوس بن حجر: عليه كمصباح العزيز يشبه ... لفصح ويحشوه الذبال المفتلا شعراء النصرانية "494"، النصرانية "216".

وقيل لاجتماع النصارى واحتفالهم "الهنزمن"، وذكر أن هذه اللفظة من أصل فارسي هو "هنجمن" أو "أنجمن"، ومنها دخلت إلى السريانية فأطلقت على اجتماع النصارى واحتفالهم وتعييدهم1. وقد أشار امرؤ القيس في بعض شعره إلى عيد النصارى، ولبس الرهبان فيه ملابس طويلة ذات أذيال2. وكانت الكنائس والأديرة والأضرحة والمقابر الأماكن التي يقصدها النصارى في أعيادهم. فتكون موضع تجمع ولقاء. كانوا يقصدونها للتقرب إلى الرب وللصلوات له. وللتوسل إليه بأن يمن عليهم ويبارك فيهم. وكانوا يقصدون المقابر إظهارا لشعورهم بأن موتاهم وإن فارقوهم وابتعدوا عنهم، غير أنهم لا زالوا في قلوبهم. وأيام الأعياد من أعز الأيام على الإنسان، لذلك فهي أجدر الأيام بأن تخصص لزيارة بيوت الأرباب، وبيوت الموتى: القبور.

_ 1 قال الأعشى: إذا كان هنزمن ... ورحت مخشما اللسان "17/ 329"، تاج العروس "9/ 368"، النصرانية "217". 2 فآنست سربا من بعيد كأنه ... رواهب عيد في ملاء مهدب النصرانية "173".

الفصل الثاني والثمانون: أثر النصرانية في الجاهليين

الفصل الثاني والثمانون: أثر النصرانية في الجاهليين وإذا كنا قد حرمنا من الموارد الأصلية التي يجب أن نستعين بها في معرفة أثر النصرانية عند نصارى الجاهلية والجاهليين، فإن في الشعر المنسوب إلى بعض نصارى الجاهلية مثل عدي بن زيد العبادي وإلى بعض الشعراء ممن كان لهم اتصال بالنصارى مثل الأعشى، فائدة في تكوين صورة يتوقف صفاؤها ووضوحها وقربها أو بعدها من الواقع والحق على مقدار قرب ذلك الشاعر من الصدق والصواب والواقع والافتعال. وعدي بن زيد هو أشهر من وصل إلينا خبره من شعراء النصارى الجاهليين. هو من العباديين، أي من نصارى الحيرة، ولذلك عرف بالعبادي. كان من أسرة اكتسبت نفوذا واسعا ونالت حظًّا كبيرًا عند الفرس وعند ملوك الحيرة، فكان لها أثر خطيرًا في سياسة عرب العراق في ذلك الزمن. ولما كانت السياسة ارتفاعا وهبوطا، سعادة وشقاء، لاقى عدي منها الاثنين: ارتفع حتى بلغ أعلى المنازل، ثم انخفض حتى تلقاه قابض الأرواح وهو في سجنه فقضى عليه بعد أن ترك أثرًا خطيرًا في سياسة الحيرة وفي تقرير مصير الملك فيها. وعدي، على ما يذكر أهل الأخبار، من أهل اليمامة في الأصل: هاجر أحدا أجداده من اليمامة إلى الحيرة بسبب دم أهرقه هناك، فخاف على نفسه من الثأر، ولم يجد محلا أصلح له وآمن مقاما من الحيرة، لوجود "أوس بن قلام" أحد رؤساء بني الحارث بن كعب فيها، وهو من أصحاب الجاه والنفوذ، وبينه وبين أوس

نسب من النساء، وهو من نسب يضمن له الحماية والعيش بسلام، فجاء إلى الحيرة وأقام بها حيث أكرمه أوس وقربه إلى آل لخم، واكتسب منزلة عالية عند ملوك الحيرة، انتقلت من بعده إلى أبنائه الذين كونوا لهم صلات وثيقة مع آل لخم ومع ملوك الفرس، بما كان لهم من علم وذكاء وحسن سياسة، ويذكر الإخباريون أن جد عدي قد تعلم الكتابة في الحيرة، فصار من أكتب الناس فيها، وأنه لذلك انتخب كاتبا لملك الحيرة، واتصل بحكم وظيفته المهمة هذه بدهاقين الفرس، وأنه لما توفي أوصى بابنه زيد والد عدي إلى واحد منهم يعرف بـ "فروخ ماهان" فأخذه هذا إلى بيته، ورباه مع ولده. فتعلم عندهم الفارسية، وحذقها وكتب بها وبرز، وكان قد حذق الكتابة بالعربية كذلك، فأوصله الدهقان إلى كسرى، لعلمه هذا باللغتين ولذكائه، فعينه في وظيفة مهمة لم يكن الفرس يعينون لها أحدا من غيرهم هي وظيفة البريد. وقد مكث في هذه الوظيفة زمانا جعلته يكتسب منزلة محترمة عند عرب الحيرة والفرس. وعني زيد بتربية ولده عديا: أرسله إلى الكتاب ليتعلم به العربية. فلما برع فيها، أرسله إلى كتاب الفارسية حيث تعلم مع أبناء المرازبة فنون القول والكتابة، ثم تعلم الرماية ولعب الفرس حتى صار من المبرزين فيها. وقد قربه علمه وعقله من آل لخم ومن الفرس حتى وصل إلى مناصب عالية جعلت لقوله أهمية كبيرة حتى في تثبيت ملك ملوك الحيرة. وقد أرسله "هرمز بن أنو شروان" في سفارة مهمة إلى القيصر "طيباريوس" فأداها على خير وجه. وعاد فأقام أمدا بالشام، ووقف على ما كان فيها من علم ومعالم. وقد زادت هذه الأسفار بالطبع في سعة أفقه وفي ثقاقته. ثم عاد إلى الحيرة. فوجد والده قد توفي بعد أن صار المهيمن الحقيقي على البلاد. وزار كسرى ليقدم إليه هدايا قيصر. وارتفع نجمه في البلاطين. وتزوج هندا بنت الملك النعمان. غير أن تقدمه هذا أوجد له خصومة شديدة من منافسيه "بني مرينا" وهم نصارى مثله ومن أهل الجاه والحسب، فأغرى خصمه ومنافسه العنيد "عدي بن مرينا" قلب النعمان عليه. وكان عدي بن زيد صاحب الفضل في حصول النعمان على تاج. وظل "ابن مزينا" يعمل في الخفاء للقضاء على عدي،

حتى تمكن من ذلك، إذ سجنه النعمان، ثم أمر فاغتيل وهو في السجن1. وذكر أن "كسرى" جعله كاتبا على ما يجتبى من الغور، وكان هو سبب ملك النعمان بن المنذر2. والذي يهمنا في هذا الموضع من أمر عدي هو مدى وقوف عدي على النصرانية ومبلغ تسربها في نفسه وفي نفوس أهل الحيرة. أما النواحي الأخرى من حياته، فليس لها محل في هذا المكان. وشعر عدي وأضرابه من العباديين هو سندنا الوحيد الذي نستخرج منه رأينا في النصرانية عند عدي وعند إخوانه العباديين. والشعر المنسوب إلى عدي أقرب إلى نفوسنا وأسهل علينا فهما من الشعر المنسوب إلى بقية الجاهليين، معانيه وألفاظه حضرية متحررة من الأساليب البدوية التي تميل إلى استعمال الجزل من الكلمات، وهو يخالف مذاهب أولئك الشعراء في كثير من الأمرو. ولهذا "كانت الرواة لا تروي شعر أبي دواد ولا عدي بن زيد لمخالفتهما مذاهب الشعراء"3، و"لأن ألفاظه ليست بنجدية"4. وقد ورد في شعره بعض المعربات مما يدل على أثر الفارسية والإرامية فيه5. وكثير من شعره هو في الزهد، وفي التذمر من هذه الدنيا التي لا تدوم حالها على حال، وفي تذكير الأحياء بنهاية الأموات بالرغم مما أقاموه وشيدوه من أبنية ضخمة وقصور شاهقة. وهذا الشعر يتناسب مع ما يذكره أهل الأخبار عن حياة هذا الشاعر وتألق نجمه وبلوغه أعلى المراتب ثم سقوطه فجأة ودخوله السجن واغتياله فيه. وفي شعره قصائد في القيان وفي الخمر تتحدث عن الحياة التي قضاها قائلها، وهي حياة لذيذة ولكنها لا تدوم بالطبع إلى الأبد، ولا بد لها أن تزول ثم تنتهي بما.

_ 1 المشرق، الجزء الأول، كانون الأول 1944، "ص39 وما بعدها"، شعراء النصرانية "436 وما بعدها"، كارلو كانينو، تاريخ الآداب العربية في الجاهلية حتى عصر بني أمية "ص71"، "القاهرة 1954", Ency, I, p. 137, Brockelmann, I, S. 29, Rothstein, S. 109, Noldeke, Geschlchte der Perser und Araber zur Zeit der Sassaniden, s. 512, Islamic Culture, IV, p. 31, ff. 2 نوادر المخطوطات، أسماء المغتالين "140". 3 الأغاني "15/ 93", "مطبعة التقدم"، "ذكر أخبار أبي دؤاد الأيادي ونسبه"، نالينو "74". 4 ابن قتيبة، الشعر "115". 5 نالينو "74".

يوجب الأسف عليها والألم والتوجع من فنأئها ومن ذهاب تلك الأيام. أما صميم الديانة والآراء النصرانية الخاصة، وهي ضالتنا في هذا الفصل وهدفنا الذي نقصده، فلا نجد منها في شعره الموثوق بصحته شيئًا كثيرًا. ونحن لا نستطيع بالطبع أن نلوم عديا على ذلك، فعدي كما نعلم رجل شعر وسياسة، وليس برجل دين ولا كهانة فيتعمق في شعره بإيراد تواريخ الأنبياء والأوامر والنواهي الإلهية الواردة في التوراة والإنجيل. ولم يذكر أحد من الإخباريين عنه إنه كان كاهنا أو قسيسا فنأمل منه التطرق في شعره إلى موضوعات اللاهوت والكهنوت. فما نجده في شعره عن النصرانية هو من حاصل المناسبات والظروف، وليس من حاصل بحث متعمد قصد به البحث في الدين من أجل الدين. ولو كان عدي قد تعرض للنصرانية عنده وبين قومه لأفادنا ولا شك كثيرًا. وما زلنا في الواقع فقراء في ناحية علمنا بمبلغ فهم أهل الحيرة وغير أهل الحيرة من نصارى العرب في الجاهلية لأحكام النصرانية وقواعدها، ومقدار رسوخها في نفوس أولئك النصارى ولا سيما الأعراب منهم. ولكن عذره كما قلت بين واضح، وليس لنا أن نلومه. وما جاء به عن النصرانية في شعره على كل حال مفيد، أفادنا ولا شك. فلنكن قنوعين غير طامعين، مكتفين بما أورده عدي عنها في شعره، ولننظر إلى المستقبل، فهو أملنا الوحيد، فلعله يكشف عن مصادر كتابية مطمورة، يبعثها من قبورها المغمورة بالأتربة المتراكمة، وعندئذ تكون أمام المؤرخ ثروة تغنيه، يستطيع أن يظهرها العشاق للمولعين بمعرفة أحوال الماضين. وقد ورد في قصيدة قيل إنه نظمها في معاتبة النعمان على حبسه بيت فيه قسم برب مكة والصليب: سعى الأعداء لا يألون شرا ... عليك ورب مكة والصليب1 وهذا البيت يدعو إلى التأمل والتفكير، فرجل نصراني يؤمن بعيسى وبالصليب، لا يمكن أن يقسم برب مكة. فمكة كما نعلم مجمع الأصنام والأوثان وكعبة الوثنية في الجاهلية، فكيف يقسم بربها رجل نصراني يرى الأوثان والوثنية رجسًا من عمل الشيطان وكفرًا. بل لو فرضنا أنه أقسم بمكة وبرب مكة على سبيل مجاراة

_ 1 شيخو، شعراء النصرانية "451".

العرب الوثنيين وتقربا إلى الملك النعمان، فليس لدينا دليل مقنع يفيد أن وثني الحيرة كانوا يؤمنون برب مكة. ولم يذكر أحد من أهل الأخبار أن أصنام أولئك الوثنيين كانت بمكة، وأن أهل الحيرة كانوا يزورون مكة ويحجون إلى "رب البيت" في جملة من كان يحج إليه من العرب. ولم يرد في روايات أهل الأخبار أن الملك "النعمان" كان وثنيا مؤمنا بقدسية مكة وأنه حج إليها حتى نذهب إلى الفرض بأن عديا، إنما أقسم بمكة، مجاراة لهذا الملك، بل الوارد فيها أنه كان على دين النصرانية، وإنه كان مؤمنا بهذا الدين، يزور الأديرة ويحضر الصلوات ورجل على هذا النحو من التدين لا يمكن بالطبع أن يحفل بقسم ببيت من بيوت الأصنام. ثم إن مصطلح "رب مكة"، هو مصطلح إسلامي، أخذ من عقيدة التوحيد في الإسلام، فقيل: "رب البيت" ,"رب هذا البيت"1. لقد اتخذ الأب "شيخو" هذا البيت دليلا على انتشار النصرانية في مكة وعلى تنصر أحياء منها، وعلى أن النصرانية قديمة فيها، بل يكاد يفهم من قوله أن البيت هو في الأصل كنيسة بنيت بعد المسيح بعهد قليل: بناها النصارى الذين جاءوا إلى هذه المدينة وسكنوها، وأن صور الأنبياء وصورة عيسى وأمه مريم التي ذكر الإخباريون أنها كانت مرسومة على جدار الكعبة والتي أمر الرسول بطمسها ومحو معالمها هي دليل على أثر النصرانية في مكة، ولهذا كان النصارى الجاهليون يحجون إليها ويقدسونها، ولهذا السبب أقسم2 عدي بها، وأقسم الأعشى بها كذلك حيث قال: حلفت بثوبي راهب الدير والتي ... بناها قصي والمضاض بن جرهم وذكر أن من شعر "عدي" هذا البيت: كلا يمينا الودع لو حدثت ... فيكم وقابل قبر الماجد الزارا3 وقد اختلف العلماء في مراده بـ"ذات الودع"، فذهب بعض منهم إلى

_ 1 "فليعبدو رب هذا البيت" سورة قريش، الآية 3. 2 "النصرانية "ص118"، وفي الديوان: فإني وثوبي راهب اللج والتي ... بناها قصي وحده وابن جرهم ديوان الأعشى "95". 3 تاج العروس "5/ 534"، "وعد".

أن "ذات الودع" الأوثان، أو وثن بعينه، وقيل سفينة نوح، وكان يحلف بها، وكانت العرب تقسم بها، وتقول: بذات الودع. وقيل الكعبة، لأنه كان يعلق الودع في ستورها1. ولم يرد في شعر عدي شيء ما يتحدث عن عقيدة التثليث، أي الإيمان بالثالوث. وكل ما ورد فيه هو الإشارة إلى عقيدة بوجود رب واحد هو "الله". وهو رب مستجيب مسبح خلاق2. وهذا الرأي إسلامي كما هو معلوم، وقريب من عقيدة الحنفاء. ووردت في بيت شعر وجهه إلى النعمان كلمة "أبيل"3، وأبيل اسم للمسيح، ويطلق على حبر النصارى أيضًا، ومعناها الناسك والزاهد. وهي من أصل سرياني، من فعل "ابل" بمعنى ناح وبكى على خطاياه، ولذلك قصد بها الناسك والراهب4. وقد دعا الأعشى ضارب الناقوس: الأبيل5. ونسب لعدي هذا البيت: وأهبط الله إبليسا وأوعده ... نارًا تلهب بالأسعار والشرر6

_ 1 المصدر نفسه 2 فإني قد وكلت اليوم أمري ... إلى رب قريب مستجيب أجل أن الله قد فضلكم ... فوق من أحكا صلبا بازار واذهبي يا أميم إن يشا اللـ ... ـه بنفسي من أزم هذا الخناق أو تكن وجهه فتلك سبيل النـ ... ـاس لاتمنع الحتوف الرواقي ليس شيء على المنون بباق ... غير وجه المسيح الخلاق شعراء النصرانية "452، 454"، النصرانية "194". 4 تاج العروس "7/ 199"، "ابل"، اللسان "13/ 6"، مرمرجي، معجميات عربية سامية "131 وما بعدها". 5 فإني ورب الساجدين عشية وما صك ناقوس الصلاة أبيلها النصرانية "208". 6 النصرانية "168".

ولم ترد كلمة "إبليس" في شعر منسوب لشاعر جاهلي آخر، إنما وردت كلمة "شيطان" في شعر منسوب إلى أمية بن أبي الصلت. ونسب إلى عدي هذا البيت: ناشدتنا بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله تقنع1 ويظهر من دراسة الشعر المنسوب لعدي أنه كان على مذهب القائلين بالقضاء والقدر. فكل كائن خاضع لحكم القدر، يفعل به ما يشاء، ليس في إمكانه رد شيء مقدر كائن عليه. وقد رسخت هذه العقيدة في نفس عدي ولا شك بعد أن زج به في السجن، وأصبح وحيدا لا يدري ما الذي سيصنع به. وهي عقيدة يسلم بها أكثر من يقع في مثل هذه الظروف، لأنها تفرج عن النفس، وتخفف بعض التخفيف عما ينتاب المرء وهو في هذه الحالة من هموم وأحزان. والإيمان بالقدر وبأن الإنسان مسير مجبر، عقيدة لها صلة كبيرة بالظروف الاجتماعية وبالأحوال التي تحيط بالإنسان، وهي ليست من الآراء الدينية الخالصة. ونسبت لعدي أبيات فيها حكايات من العهد العتيق، مثل هذه الأبيات وهي في مبدأ الخلق: اسمع حديثا لكي يوما تجاوبه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا أن كيف أبدي إله الخلق نعمته ... فينا وعرفنا آياته الأولا كانت رياحا وماء ذا عراثيه ... وظلمة لم يدع فتقا ولا خللا فأمر الظلمة السوداء فانكشفت ... وعزل الماء عما كان قد شغلا وبسط الأرض بسطا ثم قدرها ... تحت السماء سواء مثل ما فعلا وجعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا قضى لستة أيام خلائقه ... وكان آخر شيء صور الرجلا2 دعاه آدم صوتا فاستجاب له ... بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا3

_ 1 شعراء النصرانية "472". 2 قضى لستة أيام خليقته ... وكان آخرها أن صور الرجلا الحيوان "4/ 19"، "عبد السلام محمد هارون". 3 البدء والتأريخ "1/ 150 وما بعدها"، النصرانية "254"، وتجد في النص بعض الاختلاف عن النص الذي تجد في كتاب النصرانية، وفي المراجع الأخرى.

وطابع هذا النظم وأسلوبه يفصحان إنه نظم من النوع التعليمي الديني، لا أدري أكان شاعرنا يعترف به وينسب إلى نفسه؟ أما أنا، فلا أرى إنه لشاعر عربي عاش قبل الإسلام. ونجد في "شعر "عدي" نزعة من نزعات التصوف والتأمل، جاءت إليه من الأوضاع التي أحاطت به، من وشايات، ومن غضب الملك عليه ومن سجن، بعد أن كان السيد المهيمن. حتى صار الدهر عنده حالا بعد حال. لا يدوم صفاؤه لأحد، فلا يركن أحد إليه، ولا يغتر إن وجد نفسه في أعلى عليين، فقد يسقط غدا إلى أسفل سافلين1. وهناك شاعر آخر اسمه "الملمس بن عبد المسيح" يدل اسم أبيه على أنه كان نصرانيا، غير أن هناك رواية أخرى تذكر أن اسم والده "عبد العزى"2. وعبد العزى من أسماء الوثنيين كما هو معروف. ثم إننا لا نجد في شعره ما يشير إلى آراء وعقائد نصرانية يمكن أن يستنبط منها أن كان نصرانيا. ورجل يحلف في شعره باللات والأنصاب لا يعقل أن يكون نصرانيا3. أما الأعشى، فهو شاعر عاش في الجاهلية، وأدرك أيام الرسول. ومدحه بقصيدة جميلة مشهورة، جعلت أبا سفيان يحرض قومه على إرضائه خوفًا من أن يسلم ومن أن ينظم شعرا آخر في مدح الرسول وفي ذم قريش، فجعل له مائة من الإبل جمعها من قومه على أن يرجع ويؤجل أمر إسلامه عاما. فرجع إلى بلدته "منفوحة" باليمامة. وكان قد ولد بها، فمات بها بعد حين وعرف قبره بين الناس أمدا. وكان الأعشى كما يروي أهل الأخبار جوابا في الآفاق، عرف الحيرة ونادم ملوكها، وزار النجاشي في أرضه، وتجول في أرض النبيط وأرض العجم. وتنقل في أرجاء اليمن وفي حضرموت وعمان وبلاد العراق وبلاد الشام ومتع نظره

_ 1 العمدة "1/ 223". 2 VoIIers, Die Gedichte des MutaIammis, Leibzig, 1903, S. 149. 3 أطردتني حذر الهجاء ولا ... واللات والأنصاب لا تثل ديوان المتلمس "171" "طبعة "فولرس"، النصرانية "404"

بالآثار القديمة واتخذها عبرة للمعتبرين1. وقد وسعت هذه الأسفار آفاق نظره وعرفته على شعوب متعددة وعلى آراء ومعتقدات متنوعة. ومنها هذه النصرانية التي نبحث فيها. وقد حمله اختلاطه بالنصارى العرب على الإشارة إلى بعض طقوسهم وأحوال عباداتهم في شعره. وإلى أن يشير إلى قصص معروف بين أهل الكتاب، وارد بينهم، فذكره في شعره. فتراه يتحدث عن حمامة نوح وعن أخبار سليمان وعن جن سليمان وعن المباني القديمة العادية المنسوبة إليه، كما تراه يشير إلى عادة النصارى في الطواف حول الصليب أو تمثال المسيح2. ثم تراه يشير إلى الصليب نصبه الراهب في الهيكل بعد أن زينه بالصور3. وفي الشعر المنسوب إليه إقرار بإله واحد كريم4، ونهي عن عبادة الأوثان ومن التقرب منها5، وفيه أن الرب يكفي الإنسان ويرعاه ويساعده في حله وفي ترحاله6،

_ 1 وقد طفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأوري شلم أتيت النجاشي في أرضه ... وأرض النبيط وأرض العجم فنجران فالسرو من حمير ... فأي مرام له لم أرم ومن بعد ذاك إلى حضرموت ... فأوفيت همي وحينا أهم ألم ترى الحضر إلا أهله ... بنعمي، وهل خالد من نعم أقام به سابور الجنود ... حولين يضرب فيه القدم فما زاده ربه قوة ... ومثل مجاورة لم يقم ديوان الأعشى "طبعة رودولف كاير"، "ص33 وما بعدها". قد طفت ما بين بانقيا إلى عدن ... وطال في العجم ترحالي وتسياري ديوان الأعشى "126". 2 قال في مدحه "قيس بن معديكرب الكندي": تطوف العفاة بأبوابه ... كطوف النصارى ببيت الوثن ديوان الأعشى "19"، اللسان "17/ 334"، "وثن". 3 وما أيبلى على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا ديوان الأعشى "40"، النصرانية "204"، بروكلمان، تاريخ الأدب العربي "1/ 147 وما بعدها". 4 ربي كريم لا يكدر نعمة ... فإذا تنوشد في المهارق أنشدا النصرانية "162". 5 وذا النصب المنصوب لا تسكنه ... ولا تعبد الأوثان، والله فاعبدا النصرانية "159". 6 ولكن ربي كفى غربتي ... بحمد الآله فقد بلغن ديوان الأعشى "17".

وأن الإنسان عبده1. وأن الفناء واقع على كل امرئ، وليس أحد في هذه الدنيا بخالد، ولو كان الخلود لأحد لكان لسليمان2. وفيه حديث عن البعث والحساب يوم الدين. ونجد في شعره معرفة بنوح وبسفينته، أشار إلى نوح في مدحه إياسا حيث خاطبه بقوله: جزى الإله إياسا خير نعمته ... كما جزى المرى نوحا بعدما شابا في فلكه إذ تبداها ليصنعها ... وظل يجمع ألواحا وأبوابا3 فهل أخذ الأعشى رأيه هذا عن نوح من أهل الجيرة؟ وهل كان في ذلك قاصدا متحدثا مخاطبا رجلا نصرانيا يعرف الحكاية والموضوع؟ أو كان متحدثا عن نوح حديث من يدين به ويعتقد، فهو رأيه ودينه. الواقع أن البت في ذكل أمر لا أراه ممكنا ما لم تتجمع لنا موارد تأريخية كثيرة، ليتمكن المرء من استنتاج رأي واضح في أمثال هذه الموضوعات المعقدة، التي لم تدرس مظانها المدونة، ولم تنتقد حتى الآن. وقد ذهب "كاسكل" "CaskeI" إلى أن "الأعشى" كان نصرانيا. وذهب الأب "شيخو" هذا المذهب أيضًا، وجوز "بروكلمن" تنصره، لكنه ذهب إلى إنه لم يكن متعمقا في النصرانية4. وقد استدل "كاسكل" على نصرانيته من بيتين في ديوانه، ومن بيت آخر ورد في قصيدة أخرى، لا يمكن في الواقع أن يكون دليلا على نصرانية قائلة5. وذكر إنه كان قدريا، روى روايته "يحيى بن متى" وهو من عباد الحيرة،

_ 1 فأقسم بالذي أنا أعبده ... لتصطفقن يوما عليك المآتم ديوان الأعشى "58". 2 ولو كان شيء خالدا ومعمرا ... لكان سليمان البرئ من الدهر رآه الهي فاصطفاه عبادة ... وملكه ما بين ثريا إلى مصر وسخر من جن الملائكة تسعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر ديوان الأعشى "243". 3 شعراء النصرانية "389"، النصرانية "261". 4 تأريخ الأدب العربي لبروكلمن "1/ 147 وما بعدها". 5 انظر البيتين 12-13 من القصيدة رقم 43 بديوانه، والبيت 9 من القصيدة 13 بالديوان، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 147"، "الترجمة العربية".

أنه أخذ مذهبه هذا في القدر من العباديين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك. وقد استشهدوا على قوله هذا في القدر بهذا البيت: استأثر الله بالوفاء وبالعد ... ل وولى الملامة الرجلا1 وقد راجعت شعر "الأعشى"، فلم أتمكن من استنباط شيء منه يدلني على مقدار علمه بالنصرانية وعلى مدى تعمقه أو تعمق غيره من النصارى بدينهم. فما ذكره مما له علاقة بالنصرانية، هو شيء عام، يأتي بخاطر كل شاعر ذكي جواب في الآفاق، له احتكاك واتصال بالنصارى أو بغيرهم، وهو لا يصلح أن يكون دليلا على عقيدة ودين وفهم لذلك الدين. وفي شعر "الجعدي" كلام عن سفينة نوح، ذكر أنه قال: يرفع، بالقار والحديد من الـ ... ـيجوز، طوالا جذوعها، عما2 والنابغة الجعدي، مخضرم، يقال إنه كان مثل الحنفاء، أنكر الخمر والميسر، وهجر الأزالام والأوثان، وكان ممن فكر في الجاهلية، وأنكر الجمر والسكر، وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر إبراهيم. وقد لقي الرسول، وأسلم وأنشده من شعره. وذكر أنه هو القائل القصيدة التي فيها: الحمد لله ربي لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل إنها لأمية، لكن صححها حماد الراوية3. ونجد في شعر آخرين من غير من ذكرت ألفاظا وكلمات كانت معروفة عند النصارى وإشارا إلى عباداتهم وعاداتهم، وردت في شعر "النابغة الذبياني" ولبيد، وامرئ القيس، وأوس بن حجر وآخرين غيرهم ممن طافوا في الأرضين وارتحلوا فوقفوا على بعض أحوال النصارى فأشاروا إليها في شعرهم.

_ 1 الأغاني "8/ 79"، نالينو "17". 2 اللسان "12/ 425"، "عمم". 3 الإصابة "3/ 508" "رقم 8641"، أمالي المرتضي "1/ 263 وما بعدها"، المرزباني "321".

ونجد في شعر "الأفوه الأودي"، وهو صلاءة بن عمرو، تسجيلا لأبناء نوح. سجلهم مع سجل أسماءهم من ملوك التابعة ممن دانت لهم الأنام، فنجده يقول: ولما يعصها سام وحام ... ويافث حيثما حلت ولام1 ولا أدري إذا كان هذا البيت من نظم شاعر جاهلي، وهو الأودي، أو من نظم شخص آخر نظمه على لسانه في الإسلام. ولكني لا أستبعد بالطبع أن يكون خبر أولاد نوح الثلاثة. وهم: سام ويافث وحام، قد عرف عند العرب النصارى وعند من كان على احتكاك واتصال بهم. ونجد في بيت شعر ينسب لأفنون التغلبي ذكرا لولد آدم2. وورود آدم في هذا البيت، إن صح إنه من شعر ذلك الشاعر الجاهلي، دليل على وقوف هذا الشاعر على قصة آدم وانحدار البشر من نسله. ولا يستبعد أن يكون أذن قد وقف عليها باختلاطه ببني قومه تغلب، وقد كان قسم كبير منهم قد دخلوا في النصرانية. ولا يستبعد أيضًا أن يكون بعض الوثنيين قد وقفوا أيضًا على قصة الخلق كما وردت في الديانتين من اختلاطهم بأهل الكتاب واتصال بهم. وقد وردت، في بيت آخر من قصيدة يقال إنه قالها في رثاء نفسه، لفظة "الله" في شكل يفهم منه إنه كان يدين بالتوحيد، وأن الآجال كلها بيد الله3، وأشار في بيت آخر إلى عاد وإرم ولقمان وجدن4. وأشير في أشعار بعض الجاهليين إلى تعبد النصارى وصلواتهم سجدا وقياما، وهؤلاء الذين أشير إليهم من الرهبان والناسكين الذين كانوا قد اعتكفوا في الصوامع وفي

_ 1 النصرانية "266"، عن الأفوه الأودي راجع الأغاني "11/ 41 وما بعدها"، ابن قتيبة، الشعر "10"، ديوان الأفوه، "القاهرة 1937"، "تحقيق عبد العزيز الميمني". 2 قد كنت أسبق من جاروا على مهل ... من ولد آدم ما لم يخلعوا رسني المفضليات "524"، النصرانية "261"، شعراء النصرانية "193". 3 لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا شعراء النصرانية "193". 4 لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... ربيت فيهم ومن لقمان أو جدن شعراء النصرانية "193".

البيع والأديرة النائية يعبدون الله، ويدعون إلى الرب تقربا وخشية1، ومنهم من ترك السجود أثرًا في جباهم. وقد أطلقوا على صلواتهم هذه اسم "الصلاة". وهي من الألفاظ التي أخذها أولئك النصارى من "بني إرم". وعرفت المواضع التي كانوا يسجدون فيها بالمساجد، والمسجد هو الموضع الذي يتعبد فيه2. وقد كان الركوع من العادات المعروفة عند الأحناف والنصارى3، و"كانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعا إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركع إلى الله"4. وأما إحناء الرءوس، فكان للتعظيم، ولذلك حنوا رءوسهم في الكنائس ولرؤسائهم على سبيل الاحترام والتعظيم5. وقد كانوا يبجلون رءوسهم وسادتهم كثيرًا، ولذلك نزل الوحي بتأنيبهم وتقريعهم، إذ جعلهم هذا الاحترام في مصاف الآلهة والأرباب. وتلحق بالصلاة التسابيح، أي ذكر الله وتقديس اسمه، وقد كان من عادة الرهبان التسبيح بعد الصلاة، ولا سيما في الضحى والعشي6.

_ 1 قال منظور الأسدي: كأن مهواه على الكلكل ... موقع كفي راحب يصلي في غبش الصبح أو التتلي الألفاظ، لابن السكيت "412"، النصرانية "177". وقال البعيث: على ظهر عادي كأن أرومه ... رجال يتلون الصلاة قيام تاج العروس "10/ 53"، اللسان "18/ 111"، وقال الأعشى: لها حارس لا يبرح الدهر بيتها ... وإن ذبحت صلى عليها وزمزما ببابل لم تعصر فسالت سلافة ... تخالط قنديدا ومسكان مختما وقال المضرس الأسدي: وسخال ساجية العيون خواذل ... بجماد لينة كالنصارى السجد النصرانية "177". 2 اللسان "5/ 187"، "سجد". 3 النصرانية "178". 4 "5/ 363": 5 قال النابغي الذبياني: سيبلغ عذرا أو نجاحا من امرئ ... إلى ربه رب البرية راكع النصرانية "178". 6 قال أمية بن أبي الصلت: سبحانه ثم سبحانا يعود له ... وقبلنا سبح الجودي والجسد وقال الأعشى: وسبح على حين العشيات والضحى ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا "2/ 157"، "سبح"، اللسان "3/ 210"، النصرانية "178".

وقد كان رجال الدين، ولا سيما الرهبان منهم، يقومون بالفروض الدينية فرادى وجماعةن فيرتلون المزامير والأدعية بنغمات وألحان شجية. وقد عرف ترتيل القسيسي "الهينم"، وذلك في حالة النغم بخفوت الصوت1. وإذا طرب القس في صوته خفيا قيل لذلك "الزمزمة"2. أما إذا تغنى، فيقال لذلك الشمعلة. وقد قيل للمتغنين في تلادة الزبور "المتشمعل". وورد: "شمعلة اليهود: قراءتهم، إذا اجتمعوا في فهرهم"3. وأما إذا أطلق صوته بالدعاء فيقال لذلك الجأر4. واللحون من الكلمات التي أطلقت على ترتيل أهل الكتاب لكتبهم المقدسة. فقد كانوا يقرؤون التوراة والإنجيل في المحافل باللحن. وقد أشير إلى ذلك في بعض الأحاديث5. أما إذا ردد الشخص نغمات الإنجيل في حلقه، فكانوا يقولون له الترجيع، ومنه قولهم: رجع الإنجيل6. و"التصبيغ" من الألفاظ التي كانت تدل على معنى خاص عند النصارى، هو التعميد. وقد عرفه الجاهليون. وذكر علماء اللغة أن الصبغة الدين والملة والشريعة والفطرة والختانة. "اختتن إبراهيم، صلوات الله عليه، فهي الصبغة.

_ 1 "الهيمنة: الصوت. وهو شبه قراءة غير بينة". وأنشد لرؤبة: لم يسمع الركب بها رجع الكلم ... إلا وساويس هيانيهم الهنم وفي حديث إسلام عمر، رضي الله عنه. قال: ما هذه الهينمة؟ قال أبو عبيدة: الهينمة: الكلام الخفي لا يفهم ... وفي حديث الطفيل بن عمرو: هينم في المقام. أي قرأ فيه قراءة خفية. وقال الليث: ألا يا قيل ويحك قم فهينم أي فادع الله"، اللسان "16/ 108"، تاج العروس "9/ 111". 2 "قال الجوهري: الزمزمة كلام المجوس عند أكلهم. وفي حديث عمر، رضي الله عنه، كتب إلى أحد عمال في أمر المجوس: وإنههم عن الزمزمة. قال: هو كلام يقولونه عند أكلهم بصوت خفي. وفي حديث قباث بن أشيم: والذي بعثك بالحق ما تحرك به لساني ولا تزمزمت به شفتاي. الزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم"، اللسان "15/ 165". 3 تاج العروس "7/ 399"، "اشمعل". 4 "جأر يجأر جأرا وجؤرا: رفع صوته مع تضرع واسغاثة ... وقال ثعلب: هو رفع الصوت إليه بالدعاء. وجأر الرجل إلى الله عز وجل إذا تضرع بالدعاء. وفي الحديث: كأني أنظر إلى موسى له جؤار إلى ربه بالتلبية. ومنه الحديث الآخر: لخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"، اللسان "5/ 181". 5 النهاية في غريب الحديث "4/ 57"، معجميات "42 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 330"، اللسان "17/ 263". 6 اللسان "9/ 172"، النصرانية "356".

فجرت الصبغة على الختانة. وصبغ الذمي ولده في اليهودية أو النصرانية صبغة قبيح، أدخله فيها"1. و"كانت النصارى تغمس أبناءها في ماء المعمودية ينصرونهم"2. وقد صالح عمر بني تغلب بعدما قطعوا الفرات قاصدين اللحاق بأرض الروم، على ألا يصبغوا صبيا ولا يكرهوه على دينهم، وعلى أن عليهم الصدقة مضعفة3. وعرفوا "المعمودية" بقولهم: "لفظ معمودية معرب معموذيت بالذال المعجمة، ومعناها الطهارة. وهو ماء أصفر للنصارى يقدس بما يتلى عليه من الإنجيل، يغسمون فيه ولهم معتقدين إنه تطير له كالختان لغيرهم"4. وقد كان نصارى الجاهلية يعمدون أولادهم، يأخذونهم أطفالا إلى الكنائس لتعميدهم على نحو ما يفعل سائر النصارى. وقد قيل له: التغميس والتصبيغ5. والصوم من الأحكام الدينية المعروفة عند اليهود والنصارى، وقد أشير إليه في شعر لأمية بن أبي الصلت وفي بيت ينسب إلى النمر بن تولب6. وقد عرف أهل الجاهلية أن اليهود كانوا يصومون، وقد أشير إلى صومهم في عاشورا في أثناء الكلام على فرض الصوم على المسلمين بصيامهم شهر رمضان. ولا بد أن يكون للجاهليين علم بصوم النصارى كذلك، وذلك نتيجة لاتصالهم بهم واختلاطهم معهم. ومن المصطلحات النصرانية "الحواريون"، وقصد بها رسل المسيح. وقد وردت اللفظة في مواضع من القرآن الكريم7. ووردت لفظة "الحواري" في بيت ينسب إلى "ضابئ بن الحارث بن أرطاة البرجمي"8. وقد رجع بعض الباحثين

_ 1 تاج العروس "6/ 19"، "صبغ". 2 المصدر المذكور. 3 "قال الأزهري: وسمعت النصارى غمسهم أولادهم في الماء صبغا، لغمسهم إياهم فيه"، اللسان "10/ 319"، فتوح البلدان "190". 4 تاج العروس "2/ 432"، "عمد". 5 السنن الكبرى "9/ 216"، "ومنه صبغ النصارى أولادهم في ماء لهم. قال الفراء: إنما قيل صبغة لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد المولود جعلوه في ماء لهم كالتطهير. فيقولون هذا تطهير له كالختانة"، اللسان "10/ 320". 6 صدت كما صد عما لا يحل له ... ساقي نصارى قبيل الصبح صوام النصرانية "179". 7 آل عمران، الآية 52، المائدة الآية 114 وما بعدها، الصف، الآية 14. 8 وكر كما كر الحواري يبتغي ... إلى الله زلفى أن يكر فيقتلا المشرق، المجلد 1929 "ص575 وما بعدها"، النصرانية "189".

أصل هذه اللفظة إلى لغة بني إرم ورجعها اللغويون إلى أصل عربي هو "حور"، وذهب آخرون إلى أنها من أصل حبشي1. والصليب، من أهم المصطلحات المعروفة عند النصارى، لاعتقادهم بصلب المسيح عليه، حتى صار رمزا للنصرانية. وصاروا يعلقونه على أعناقهم تبركا وتيمنا به، وينصبونه فوق منائر كنائسهم وقبابها، ليكون علامة على متعبد النصارى. وقد أقسموا به. وقد عرف المسلمون تمسك النصارى به، واتخاذهم له شعارا، حتى كان بعضهم يرسمه على جبهته، وكانوا يلثمونه ويتمسحوون به تبركا، ويزينون صدورهم به2. وذكر علماء اللغة "الشبر" على أنه من المصطلحات الشائعة بين النصارى. وهو على حد تعريفهم له: "شيء يتعاطاه النصارى بعضهم لبعض كالقربان، يتقربون به، أو القربان بعينه". وذكروا أيضًا أن "الشبر" الإنجيل والعطية والخير. ومن ذلك قول عدي: لم أخنه والذي أعطى الشبر3 ويظهر من كتب الحديث أن أهل الكتاب كانوا يخالفون المشركين في بعض عاداتهم، كالذي ورد عن عبد الله بن عباس من "إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم. وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحب موافقة أهل الكتاب

_ 1 المشرق، السنة السابعة "1904 "620"، النصرانية "189"، معجميات "139". 2 قال الأخطل: لما رأونا والصليب طالعا ... خلوا لنا راذان والمزارعا ديوان الأخطل "309". وقال حجار بن أبجر: هددني عجل وما خلت إنني ... خلاة لعجل والصليب لها بعل الأغاني "13/ 47". وقال الأقيشر: في قتية جعلوا الصليب الههم ... حاشاي أني مسلم معذور النصرانية "204". ونسم إلى عبد المطلب بن هاشم قوله: لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم، عدوا، محالك اللسان "11/ 619"، "محل". 3 تاج العروس "3/ 289"، "شبر".

فيما لم يؤمر فيه بشيء. ثم فرق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه"1. وكالذي ورد من أن أهل الكتاب كانوا يخالفون الجاهليين في كيفية التحية عند ملاقاة أحدهم الآخر، وأن الرسول أقر المصافحة. وقد أطلقت لفظة "المصاحف" في شعر ينسب إلى امرئ القيس على أسفار النصارى، وهو قوله: "كخط زبرو في مصاحف رهبان"2. والكلمة على رأي بعض علماء الساميات والنصرانيات من أصل حبشي، ومفردها "مصحف"3. وصحف بمعنى كتب. وقد وردت لفظة "صحيفة" في بيت ينسب إلى "لقيط الإيادي"4. والمجلة من الألفاظ المعروفة بين الجاهليين. وقد اشتهرت في العربية باقترانها باسم "لقمان"، فقيل: "مجلة لقمان"5. وأطلقت عند العبرانيين على أسفار الكتاب المقدس على سبيل التخصيص أحيانًا وعلى باب التعميم في بعض الأحيان6.وقد وردت في شعر للنابغة، هو: مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب7 وقصد بها كتاب النصارى، فقد مدح به الغساسنة، وهم على دين المسيح. وقصد بالسفر وبالأسفار الكتاب والكتب من التوراة والإنجيل، وكلمة "سفر" بمعنى كتاب8. وكانت النصارى تقرأ كتبها من المصحف9، وتفسر للمستمعين ما جاء من مشكل. ولفظة "جهنم" من الألفاظ المعروفة عند اليهود والنصارى. وهي تعني

_ 1 عمدة القاري "17/ 71". 2 أتت حجج بعدي عليه فأصبحت ... كخط زبور في مصاحف رهبان العقد الثمين "161". 3 النصرانية "181". 4 كتاب في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد الأغاني "20/ 34"، النصرانية "181". 5 النصرانية "181". 6 معجميات "167 وما بعدها". 7 "محلتهم" في بعض الروايات، ديوان النابغة "8". 8 اللسان "6/ 35"، الاشتقاق "103"، النصرانية "18". 9 النهاية "4/ 136".

الموضع الذي يكون فيه العذاب بعد الحشر، فيخلد فيه أصحاب الآثام والمعصية. واللفظة من أصل عبراني على رأي المستشرقين وعلماء الساميات هو "جحينوم" "جهينوم" "Gehinnom"، أي "وادي حينوم1" "Hinnom". وهو واد يدور حول القدس نحو أربعة كيلو مترات، ويعرف اليوم باسم "وادي الربابي"، وقد كان اليهود الوثنيون يقربون في موضع منه يسمى "توفيث" "Topheth"، الصبيان قرابين للإله "ملوخ" MoIech=MoIoch" يقدمونها ذبائح محروقة إكراما له، ثم صار هذا الموضع محلا ترمى فيه أقذار المدينة وجثث الحيوانات، وتحرق هناك لئلا تنتشر منها الأوبئة، وصار الموضع رمزا للجحيم، ومنه أخذت لفظة "جهنه" "Gehenna" التي هي جهنم2، الموضع الذي يعاقب فيه المجرمون بعد الموت. وهو موضع يقع تحت الأرض، واسع جدا، وأكبر حجما من الأرض. يلقى فيه الآثمون جزاء إثمهم في الدنيا ومخالفتهم شريعة الرب فيبقون فيه فيعذبون. وقد اختلف في موضوع أبدية التعذيب وبقاء وجهنم، فمنهم من رأى جهنم خالدة، وأن العذاب أبدي، ومنهم من ذهب إلى أنها ترفع بعد انتهاء التعذيب3. وقد وردت لفظة جهنم في مواضع متعددة، من شعر أمية بن أبي الصلت، كما ورد فيه وصفها وكيفية التعذيب فيها4. ولمعرفة أصل هذا الشعر: هل هو

_ 1 Ency I P 998 Shorter Ency p 81 2 Hastings p 285 3 متى، الاصحاح الخامس، الآية 29، الاصحاح العاشر، الآية 28، Hastings p 285 4 "ورد في تأريخ دمشق لابن عساكر "3/ 124": قال عبد الله بن مسلم الدينوري: سئلت هل وجدتم لجهنم ذكرا في الشعر القديم، فقلت: هذا يحتاج إلى تتبع وطلب. وقد أتذكر فلم أذكر إلا شيئًا وجدته في شعر أمية بن أبي الصلت، فإنه قال: فلا تدنو جهنم من برئ ... ولا عدن يطالعها أثيم إذا شبت ثم وارت ... وأعرض عن قوانسها الجحيم وروي البيت في المخصص "9/ 6": جهنم لا تبقى بغيا ... وعدن لا يطالعها رجيم وذكر للعديل بن الفرخ "ياقوت "4/ 117" قوله في نار جهنم وجنة الخلد: أما ترهبان الدار في ابني أبيكما ... ولا ترجون الله في جنة الخلد وقد ورد اسم جهنام في شعر الأعشى. قال "التاج 7/ 372": دعوت خليلي مسحلا ودعوا له ... جهنام جدعا للهجين المذمم النصرانية "462 وما بعدها".

من شعر أمية حقًّا، أو من شعر آخرين وضعوه على لسانه، لا بد من دراسته ومقارنته بما جاء في الإسلام عن وصف جهنم وكيفية التعذيب فيها. وهناك رواية تنفي ورود لفظة جهنم في أي شعر جاهلي خلا هذا الشعر المنسوب إلى أمية بن أبي الصلت، ويلاحظ أنه ذكر "عدن" مع جهنم. ولم أجد في أشعار الجاهليين ذكرا للإنجيل، إلا في الشعر المنسوب إلى "عدي بن زيد العبادي"1. وربما في شعر عدد قليل آخر من الجاهليين، لم أقف عليه. غير أن عدم ورود اللفظة كثيرًا في هذا الشعر، لا يدل على عدم معرفة الجاهليين لها، ودليلنا على ذلك ورودها ف مواضع من القرآن الكريم. وورودها فيه دليل على وقوف الجاهليين عليها واستعمالهم إياها، وأصلها من اليونانية، وقد وقف العرب عليها من السريانية أو من الحبشية2. وقد ذكرت فيما سبق أن نفرا من أهل الكتاب كانوا قد أقاموا بمكة وكانوا يقرأون التوراة والإنجيل بألسنتهم، فلا يستبعد إذن وقوف بعض الجاهليين، ولا سيما المثقفين منهم وأصحاب التجارات الذين كانوا يقصدون الحيرة وبلاد الشام ونجران للتجارة وكان لهم اتصال وثيق بنصارى هذه الأرضين على الإنجيل وعلى الكتب الأخرى التي كان يستعملها رجال الكنيسة لإفهام الناس أمورالدين. ويظهر من بعض روايات الإخباريين أن بعض أهل الجاهلية كانوا قد اطلعوا على التوراة والإنجيل، وأنهم وقفوا على ترجمات عربية للكتابين. أو أن هذا الفريق كان قد عرب بنفسه الكتابين كلا أو بعضًا، ووقف على ما كان عند أهل الكتاب من كتب في الدين. فذكروا مثلا أن "ورقة بن نوفل" "كان يكتب الكتاب العبراني، ويكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب": وقالوا: "وكان امرؤ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب"3. وذكروا مثل ذلك عن "أمية بن أبي الصلت"، فقالوا إنه كان قد قرأ الكتب المقدسة4، وقالوا مثل ذلك عن عدد من الأحناف.

_ 1 وأوتينا الملك والإنجيل نقرؤه ... نشفي بحكمته أحلامنا عللا الحيوان "4/ 64"، النصرانية "185". 2 اللسان "13/ 171"،النصرانية "185" Shorter Ency p 168 3 راجع ما كتبته عنه في فصل الأحناف Spenger Leben I S128 4 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "176".

وإذا كانت هذه الروايات صحيحة، فإنها تدل على أن الجاهليين كانوا قد وقفوا على ترجمة العهدين. ويرى بعض المستشرقين احتمال ترجمة العرب للكتاب المقدس قبل الإسلام وعند ظهوره، ترجمة من اليونانية على الأرجح. وقد استندوا في ذلك إلى خبر ذكره "ابن العبري" "Barkebraeus" يفيد أن البطريق "المنوفيزيتي" المدعو "يوحنا" "Monophysite Patriarch Johannes" كان قد ترجم الكتاب المقدس إلى أمير عربي اسمه "عمرو بن سعد"، وذلك بين سنتي "631","640" للميلاد، وإلى أخبار تفيد أن بعض رجال الدين في العراق كانوا قد ترجموه إلى العربية وذلك قبيل الإسلام وعند ظهوره1. ولا يستبعد وجود ترجمات للكتاب المقدس في الحيرة، لما عرف عنها من تقدم في الثقافة وفي التعليم، ولوجود النصارى المتعلمين فيها بكثرة. وقد وجد المسلمون فيها حينما دخلوها عددا من الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة وتدوين الأناجيل، وقد برز نفر منهم، وظهروا في علوم اللاهوت، وتولوا مناصب عالية في سلك الكهنوت في مواضع أخرى من العراق، فلا غرابة إذا ما قام هؤلاء بتفسير الأناجيل وشرحها للناس للوقوف عليها. وقد لا يستبعد تدوينهم لتفاسيرها أو لترجمتها، لتكون في متناول الأيدي، ولا سيما بالنسبة إلى طلاب العلم المبتدئين. وقد لا يستبعد أيضًا توزيع بعض هذه الترجمات والتفاسير إلى مواضع أخرى لقراءتها على الوثنيين وعلى النصارى للتبشير2. ونجد في كتب الإخباريين وفي كتب قصص الأنبياء وفي الفصول المدونة عن الماضين قصصًا وأمثلة وكلاما يرجع أصله إلى بعض أسفاره التوراة أو إلى الأناجيل، غير أننا لا نستطيع أن نؤكد أن هذا المدون قد نقل عن الجاهليين، وأن أهل الجاهلية كانوا يعرفونه، وإنه ليس مما قصه أهل الكتاب أو مسلمة أهل الكتاب مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه على المسلمين، فدخل بينهم. ثم إن القصص أكثره من "التلمود"، "المشنا" والكتب غير القانونية، روي بشكل فيه بعد في بعض الأحيان عن هذا المدون المعروف، وهو يفيدنا من هذه الناحية كثيرًا في الحكم على مدى معرفة العرب بعلم أهل الكتاب.

_ 1 Sprenger I S 131 2 Ency II p 504

وللأسماء أهمية كبيرة في تعيين مبلغ أثر اليهودية والنصرانية في الجاهليين. وإذا كانت أسماء الوثنيين قد ساعدت "ولهوزن" في الكشف عن أسماء أصنام وأوثان لم ترد في كتاب الأصنام لابن الكلبي ولا في كتب الإخباريين الأخرى، وساعدت في الكشف عن مدى تغلغل الوثنية في نفوس أهل الجاهلية، فإن للأسماء اليهودية أو الأسماء النصرانية التي تسمى بها أهل الجاهلية والتي وصل خبرها إلينا أهمية كبيرة في الافصاح عن مدى تأثر الجاهليين بالديانتين. وليس من اللازم أن تكون هذه الأسماء أسماء أناس كانوا على دين يهود، أو على دين النصرانية، فالأسماء وإن كان لها ارتباط في الغالب بأديان حامليها غير أنها لا تكون دائمًا دليلا على دين أصحابها، فللبيئة ولبعض العادات والاعتقادات دخل في اختيار الأسماء. وعلى ذلك فإن ما سنذكره من أسماء لا نذكرها على أن أصحابها كانوا يهودا أو نصارى حتما، وإنما نذكرها على سبيل الإشارة إلى أن بعض الجاهليين كانوا يحملون أسماء هي في الغالب من أسماء اليهود والنصارى. وفي طليعة هذه الأسماء التي يجب أن نذكرها، الأسماء الواردة في التوراة والإنجيل، فهي أسماء عبرانية ونصرانية معروفة، وبها تسمى. كثير من اليهود والنصارى. ودخولها بين الجاهليين العرب دليل على وجود بعض تلك المسميات بينهم، وتسمى أهل الجاهلية بتلك الأسماء. ومن جملة تلك الأسماء: آدم وقد دعي به آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. قتل في الجاهلية، وهو الذي وضع النبي دمه يوم فتح مكة. وقد جاء "ابن دريد" بتفسير لهذه التسمية فذكر أنها من الأدمة أو بمعنى الطويل القامة ذي العنق الناصع، ولم يشر إلى وجود علاقة لها باسم آدم أبي البشر1. غير أني لا أستبعد احتمال أخذها من التسميات التي كانت بين اليهود أو النصارى عند الجاهليين. غير أننا لا نعرف من أمثال هذه التسميات غير عدد قليل محدود بحيث لا يمكن أن نتخذها قاعدة لبناء حكم عليها في ورود هذه التسمية عند الجاهليين. وأكثر من هذه التسمية شيوعا اسم "إبراهيم"، ومن جملة من تسمى بها: إبراهيم جد عدي بن زيد بن حمان بن زيد بن أيوب من بني امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم. فولد أيوب إبراهيم وسلم وثعلبة وزيد. منهم عدي بن زيد

_ 1 الاشتقاق "44"،النصرانية "228".

ابن حمان بن زيد بن أيوب بن مجروف الشاعر. ومنهم مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيوب، الذي نسب إليه قصر مقاتل. وقال ابن الكلبي: لا أعرف في الجاهلية من العرب أيوب وإبراهيم غير هذين، وإنما سميا بهذين الإسمين للنصرانية1. وممن سمي بإبراهيم: الحارث بن كتيف النبهاني، وهو شاعر قديمن وإبراهيم الأشهلي، وإبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي القرشي، وابو رافع إبراهيم القبطي، وهو من موالي الرسول، وإبراهيم بن عباد الأوسي، وإبراهيم بن قيس بن حجر بن معديكرب الكندي، وإبراهيم النجار وهو الذي صنع المنبر لرسول الله. وأكثر هؤلاء هم من الذين عاصروا الرسول وكانوا من صحابته2. ويجب ألا ننسى أن الرسول سمى ابنه توفي صغيرا في حياته إبراهيم3. وعرف من الصحابة رجل اسمه "إسحاق الغنوي"4، وعرف ثلاثة صحابيين باسم "إسماعيل"5. وأما "أيوب"، فقد عرف به "أيوب بن مجروف" جد عدي بن زيد العبادي، وأيوب بن مكرز، كما تكنى به أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري من الصحابة، وهو الذي نزل عليه الرسول يوم مقدمه إلى يثرب مهاجرا من مكة6. واسم "داود" من الأسماء التي وردت في جملة أسماء ملوك بني سليح، فذكر منهم "داود اللثق"7. وأظن أن لفظة "دؤاد" التي كني بها الشاعر الجاهلي أبو دؤاد الإيادي هي من داود8، وإن ذهب المفسرون فيها مذهبا آخر فقالوا أنها من الدود والدوادة والدودة وأمثال ذلك9. وعرف شاعر آخر باسم

_ 1 تاج العروس "1/ 151"، "أوب"، النصرانية "229". 2 أسد الغابة "1/ 40 وما بعدها"، الإصابة "1/ 25 وما بعدها"، النصرانية "329". 3 ابن هشام "1/ 206". 4 أسد الغابة "1/ 68"، الإصابة "1/ 47"، "رقم 49"، النصرانية "229". 5 أسدالغابة "1/ 79"، الإصابة "1/ 55 وما بعدها"، النصرانية "230". 6 ابن هشام "2/ 66، 125، 144، 150، 305"، "3/ 347، 392"، الاشتقاق "266". 7 الاشتقاق "319"، النصرانية "532". 8 النصرانية "232". 9 الاشتقاق "104".

داود بن حمل الهمداني1، ومن الأنصار رجل اسمه داود بن بلال2 وصحابي اسمه داود بن سلمة الأنصاري3. وقد عرف داود في الشعر بنسجه الدروع حتى ضربت بدروعه عندهم المثل. وهي في نظرهم دروع قوية ممتازة، صنعها من الحديد الذي كان يلين بين يديه4. وقد تكرر ورود ذلك في أشعار جملة شعراء، مما يدل على أنها كانت معروفة بين الجاهليين مشهورة. هذا ولا بد أن يكون لذلك أصل بعيد ظهر من قصص بني إسرائيل عن داود وعن ملكه وحروبه وتغلبه على خصومه. هذا القصص الذي جعل من داود رجلا لا يستطاع عليه بفضل الحديد الذي لان بين يديه، فصار دروعا لا تمضي فيه سيوف المقاتلين.

_ 1 النصرانية "232". 2 أسد الغابة "2/ 129"، الإصابة "1/ 463"، "رقم 2287و228"، الإصابة "4/ 169"، "988". 3 الإصابة "1/ 463". 4 قال طرفة: وهم ما هم إذا ما لبسوا ... نسج داود لباس محتضر النصرانية "272"، شعراء النصرانية "309"، ديوان طرفة "58". وقال حصين بن الحمام المري: صفائح بصرى أخلصتها قيونها ... ومطردا من نسج داود بهما الحماسة لأبي تمام "189"، النصرانية "273". وقال حسيل بن سجيع الضبي: وبيضاء من نسج ابن داود تثرة ... تخيرتها يوم اللقاء ملابسا الحماسة لأبي تمام "284"، النصرانية "273". وللبيد: ونزعن من داود أحسن صنعه ... ولقد يكون بقوة ونعيم صنع الحديد لحفظه أسراده ... لينال طول العيش غير سروم ديوان لبيد "83"، "طبعة الخالدي"، النصرانية "273". وللأعشى: ومن نسج داود يجدي بها ... على أثر العيس عيرا فعير النصرانية "273"، شعراء النصرانية "388". ولسلامة بن جندل: مداخلة من نسج داوو شكلها ... كحب الجنا من أبلم متفرق وله أيضًا: من نسج داود وآل محرق ... غال غرائبهن في الآفاق النصرانية "273".

ولم يخل شعر الأعشى من اسم داود، فورد في مناسبة التحدث عن حوادث الزمان واعتداء الدهر على الإنسان، وتبدل الأيام، كما في موضع آخر في كلامه على الدروع1. أما عبيد الأبرص، فقد ذكره في أثناء كلامه على طول العمر2. وعرف "سليمان" في أبيات للنابغة قالها في مدح النعمان ملك الحيرة بتسخيره الجن لبناء تدمر3. وعرف بمثل ذلك وببنائه الأبنية الفخمة وبسعة ملكه في شعر شعراء آخرين4. وإذا كان ما نسب إلى أولئك الشعراء صحيحا، كان رأيهم هذا في سليمان بتأثير ما كان يقصه أهل الكتاب على الجاهليين من قصص وارد في العهد الجديد، في سفر الملوك الثالث وأخبار الأيام الثاني عن ملكه وعجيب أبنيته5. وقد ورد اسم سليمان علما لجملة رجال عاشوا في الجاهلية وفي أيام الرسول، فهناك حاكم من حكام العرب المعروفين في الجاهلية اسمه "سليمان بن نوفل"6.

_ 1 ومر الليالي كل وقت وساعة ... يزعزعن ملكا أو يباعدن دانيا وردن على داود حتى أبدنه ... وكان يغادي العيش أخضر صافيا الحماسة، للبحتري "90"، النصرانية "272". 2 وطلبت ذا القرنين حتى فاتني ... ركضا وكدت أن أرى داؤودا خزانة الأدب "1/ 323"، النصرانية "272". 3 ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد إلا سليمان، إذا قال الإله له: ... قم في البرية فاحددها عن الفند وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد فمن أطاعك فاخضعه بطاعته ... كما أطاعك وأدلله على الرشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تعقد على أحد العقد الثمين "7"، شعراء النصرانية "663"، النصرانية "274". 4 قال الأعشى: فلو كان حيا خالدا ومعمرا ... لكان سليمان البري من الدهر براه الهي واصطفاه عبادة ... وملكه ما بين سرفي إلى مصر وسخر من جن الملاك شيعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر البدء والتأريخ "3/ 108"، النصرانية "274"، وله أيضا: فذاك سليمان الذي سخرت له ... مع الإنس والجن الرياح المراخيا الحماسة، للبحتري "86 وما بعدها"، النصرانية "275". 5 النصرانية "273". 6 اليعقوبي "1/ 299"، النصرانية "232".

وهناك جملة من الصحابة عرفوا بسليمان1. ومن هذه اللفظة نشأت الأسماء: سلمان وسلام، وسليم، كما يتبين ذلك من أبيات للأسود بن يعقر2 والخطيئة3 والنابغة4. وعرف بسلمان رجل من نصارى بني عجل اسمه سلمان العجلي. وهناك طائفة لأسماء نصرانية خالصة تسمى بها نفر من الجاهليين قبل الإسلام، مثل: عبد المسيح، وعبد ياسوع، وعبد يسوع، وعبد يشوع، وايشوع، وأبجر، وقد عرف بأبجر عدد من ملوك الرها، كما عرف بها أبجر بن جابر سيد بين عجل، وأفريم، وبولس وجرحس، وجريج، ورومان، ورومانوس، وسرجس، وسمعان، وشمعون، ونسطاس، وحنين، و"حنيناء"و"يحنة"5. ومن أسماء النساء: مارية، ومريم، وحنة6،ومن بين هذه الأسماء ما كانت خاصة بطبقة الموالي الذين جلبوا من الخارج وبيعوا في أسواق النخاسة، فحافظوا على أسمائهم القديمة التي تشير إلى أصولهم في النصرانية. ونرى ورود "عبد المسيح" بين أسماء أهل الحيرة بصورة خاصة، ورد علما لأناس معروفين جدا بينهم، وكانوا عليهم زعماء، مثل عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة، وكان في جملة من خرج لملاقاة خالد بن الوليد

_ 1 مثل سليمان بن الحارث، الاشتقاق "2/ 318" وسليمان الليثي بن أكيمة، وسليمان بن أبي حتمة القرشي، وسليمان بن صرد الخزاعي، وسليمان بن عمرو بن حديدة، وسليمان بن مسهر، وسليمان بن هاشم بن عتبة القرشي، أسد الغابة "2/ 350 وما بعدها"، الإصابة "2/ 128 وما بعدها"، النصرانية "232"، تاج العروس "8/ 344". 2 ودعا بمحكمة أمين سكها ... من نسج داود أبي سلام تاج العروس "8/ 344". 3 فيه الرماح وفيه كل سابغة ... جدلاء محكمة من نسج سلام النصرانية "232". 4 وكل صموت نثلة تبعية ... ونسج سليم كل قضاء ذائل ديوان النابغة "99"، النصرانية "233"، "أراد نسج داود، فجعله سليمان ثم غير الاسم، فقال سلام وسليم. ومثل ذلك في أشعارهم كثير. قال ابن بري: وقالوا في سليمان اسم النبي، صلى الله عليه وسلم: سليم وسلام فغيروه ضرورة"، اللسان "15/ 192 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 344". 5 البكري: معجم "4/ 580"، تاج العروس "9/ 186". 6 النصرانية "239"، وقد أورد قائمة بالأسماء النصرانية، وأورد أمثلة لمن تسمى بها قبل الإسلام من الجاهليين، الكبري، معجم "4/ 578"، "دير حنة".

للاتفاق معه على شروط الصلح1. وعادة جعل المرء نفسه عبدا لإله أو لشخص مقدس، كما في هذه التسمية، لم تكن من العادات الخاصة بالنصارى، فقد رأينا أن أكثر الجاهلين كانوا يجعلون أنفسهم عبدا لإله من الآله، ثم يتخذون ذلك تسمية لهم، مثل عبد العزى، وعبد يغوث، وعبد ود، وأمثال ذلك. فلما كانت النصرانية، تبرأ من تنصر من اسم الآلهة الوثنية، وأحلوا محلها اسم المسيح. وكان اسم والد حنظلة صاحب دير حنظة الذي بأرض بني علقمة بالحيرة "عبد المسيح"، ويذكر الإخباريون أنهم وجدوا على صدر الدير كتابة مكتوبة بالرصاص على ساج محفور: "بني هذا الهيكل المقدس، محبة لولاية الحق والأمانة، حنظلة بن عبد المسيح، يكون مع بقاء الدنيا تقديسه، وكما يذكر أولياؤه بالعصمة، يكون ذكر الخاطئ حنظلة"2. غير أن هذه الأسماء اليهودية الأصل أو النصرانية قليلة الاستعمال، فلم تكن مستعملة بنطاق واسع. وأكثر من تسمى بها، هم من الموالي والأرقاء، أو من العرب الذين كانوا على أطراف العراق وبلاد الشام، وممن تأثر بالمؤثرات الثقافية الأعجمية، أو ممن كان على يهودية أو نصرانية، فتسمى بأسماء محببة أو مباركة في هاتين الديانتين. وأهل نجران، هم الذين كانوا يجادلون الرسول في طبيعة المسيح، فلم يكن بمكة أو بيثرب قوم منهم يستطيعون مجادلته في أمور الدين. وقد ذكر بعض المفسرين أن أهل نجران كانوا أعظم قوم من النصارى جادلوا الرسول في عيسى. جاءوا إلى الرسول، فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسى. تزعم إنه عبد الله. فقال: أجل إنه عبد الله. قالوا: فهل رأيت مثل عيسى أو أنبئت به، ثم خرجوا من عنده غاضبين. وقالوا إن كنت صاقدا، فأرنا عبدا يحيي الموتى ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، فلما عادوا قال رسول الله: "مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له: كن فيكون" 3.

_ 1 البلاذري، فتوح "252"، المعمرون، للسجستاني "38"، "طبعة كولدتزيهر". المشرق، السنة السابعة عشرة، "1914"، "ص132"، البلدان "2/ 677". 2 البكري، معجم "2/ 572"، "دير حنظلة". 3 تفسير الطبري "3/ 207 وما بعدها.

وقد جادل بعض النصارى رسول الله في أمور الدين، ثم أسلموا. ونظرا لقلة عددهم بيثرب، لم يقاوموه هنا كما قاومه اليهود. وطبيعي أن يتأثر نصارى الجاهلية بلغة بني إرم، فيستعملوا المصطلحات التي كانت شائعة في الكنيسة، وهي مصطلحات إرمية الأصل في الغالب: فقد كانت لغة بني إرم لغة العلم والدين عند النصارى الشرقيين. بها يقيمون طقوسهم الدينية، ومنها يترجمون الأناجيل إلى أتباعهم النصارى العرب، فدخلت بذلك إلى العربية ألفاظ إرمية ذات معان خاصة. ومنها الألفاظ التي تكلمنا عنها وألفاظ أخرى عديدة لم نتطرق إليها، لعدم وجود صلة لها بهذا الموضوع، وخشية الإطالة والخروج على صلب الموضوع. وهناك مصطلحات يونانية ولاتينية وحبشية، لها صلة بالدين والمجتمع دخلت العربية أيضًا عن طريق النصرانية، ظهر أثرها في نصارى بلاد الشام والعربية الغربية خاصة، بتأثير الاحتكاك المباشر والتبشير. وقد عني بعض الباحثين بجمع المصطلحات الدينية المعروفة عند أهل الكتاب في الجاهلية والتي أقرها الإسلام على نحو ما كانت تعرف به، أو أعطاها معنى خاصًّا، ومن بينها عدد كبير ورد في القرآن الكريم1. ولما كانت غالبية العرب على الوثنية، وهي ديانة بسيطة قليلة الشعائر بالنبة إلى اليهودية والنصرانية، لذلك كانت هذه المصطلحات شائعة معروفة بين أهل الكتاب من الجاهليين، وقد نقلوها من اللغات الدينية التي كتب بها علماء أهل الكتاب، فهي في الغالب من أصل سرياني أو عبراني أو يوناني أو حبشي. وقد جمع الأب "شيخو" في كتابه: "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية" الألفاظ الخاصة بأهل الكتاب من الأبيات الواردة في دواوين شعراء الجاهلية وفي كتب الأدب، وهي أبيات منها ما أجمع الرواة وأهل الأخبار على نسبتها إلى أولئك الشعراء، ومنها ما ورد عند بعض الرواة والإخباريين ولم يرد في دواوين أولئك الشعراء، ليجعل من تلك الألفاظ دليلا على أثر النصرانية في الجاهليين، وعلى مدى تغلغلها بينهم. وهو حكم لا يمكن أن يكون سليما، إلا بعد ثبوت صحة نسبة تلك الأبيات إلى الجاهليين.

_ 1 Noldeke, Neue Beitrage zur Semit. Sparad, s. 1. ff, J. Horovitz, Jewish Proper Names and Derivatives in Koran, 145, R. Bell, The Grigin of Islam in Its Christian Environment, London, 1926.

وقد كان للنصرانية أثر مهم في نشر الكتابة العربية، المأخوذة عن الإرمية، بين الجاهليين، الكتابة التي تولد منها قلمنا الذي نكتب به في الوقت الحاضر. وقد وجد المسلمون في فتحهم للعراق مدارس عديدة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، كما أن تجار مكة ويثرب الذين كانوا يقصدون الشام والعراق وجدوا الضرورة تحتم عليهم تعلم هذا الخط، فتعلموه. ولما نزل الوحي كتب كتابه به، فصار قلم المسلمين. كما سأتحدث عن ذلك في موضوع الخط عند الجاهليين. ولم يترك رجال الدين من النصارى العرب لنا أثر كتابيا بنبئ عن مدى اشتغالهم في علم اللاهوت وفي العلوم الأخرى، غير أن هذا لا يعني أن النصارى العرب لم يخرجوا علماء دين منهم، ولم يعطوا النصرانية رجلا منهم يخدمها ويقف حياته الروحية عليها، ففي قوائم أسماء من حضروا المجامع الدينية التي عقدت للنظر في الأمور الجدلية وفي القضايا التي تخص مبادئ الدين أسماء رجال تنبئ أنهم كانوا عربا، وقد دونت في محاضر تلك المجالس أسماء المواضع التي مثلوها من بلاد العرب، كما أن بين رجال الدين الكبار الذين نبغوا في العراق من كان أصله من الحيرة، وإذ كانت غالبية سكان هذا المدينة من العرب، فلا يستبعد أن يكون من بين هؤلاء العلماء النصارى الحيريين من كل من أصل عربي. لقد كانت النصرانية عاملا مهما بالطبع في إدخال الآراء الإغريقية والسريانية إلى نصارى العرب، فقد كانت الكنيسة مضطرة إلىدراسة الإغريقية ولغة بني إرم، لما للغتين من قدسية خاصة نشأت من صلتهما بالأناجيل. وقد كان أثر الإرمية أهم في الكنيسة الشرقية من الإغريقية، لكونها لغة الثقافة في الهلال الخصيب في ذلك العهد. ولهذا وجدنا معظم التعابير والمصطلحات الدينية عند نصارى الشرق هي من هذه اللغة، ومنها أخذها النصارى العرب، فصارت عربية. وقد كان السريان قد نقلوا بعض مؤلفات اليونان واللاتين إلى لغتهم، ولا أستبعد نقلهم بعض تلك المؤلفات، ولا سيما الدينية منها، من هذه اللغة إلى اللغة العربية، وذلك قبل الإسلام، أو ترجمتها ترجمة شفوية لطلاب العلم من العرب ممن كانوا لا يفقهون لغة بني إرم، أو لا يلمون بها إلماما صحيحا. وإذ كانت هذه اللغة لغة مقدسة لغة بني إرم، أو لا يلمون بها إلماما صحيحا. وإذ كانت هذه اللغة لغة مقدسة ولغة الكنيسة الرسمية، وكان أكثر رجال الدين من بني إرم، فقد كانت هذه اللغة المقررة في الكنيسة، بها يدرس ويتباحث رجال الدين وإن كانوا عربا، على نحو ما يفعله رجال الدين المسلمين الأعاجم الذين يدرسون العربية بعلومها المختلفة

ليتفقهوا بذلك في الدين، والعربية هي لغة الدين الإسلامي، وكما يفعل رجال الدين الكاثوليك أيضًا في دراستهم اللاتينية وتبحرهم بها لأن الاتينية هي لغة النصرانية عند الكاثوليك. وكان للنصرانية أثر آخر في نصارى عر الجاهلية، هو أثرها فيهم من ناحية الفن، إذ أدخلت النصرانية بين العرب فنا جديدا في البناء، هو بناء الكنائس والأديرة والمذابح والمحاريب والزخرفة، كما أدخلت النحت والتصوير المتأثرين بالنزعة النصرانية، ولدخول أكثر هذه الأشياء لأول مرة بين الجاهليين، استعملت مسمياتها الأصلية اليونانية أو الآرامية في اللغة العربية، بعد أن صقلت وهذبت، حتى اكتسبت ثوبا يلائم الذوق العربي في النطق. وستكشف الحفريات في المستقبل عن مدى تأثر النصارى العرب الجاهليين بالفن النصراني المقتبس عن الروم أو عن بني إرم والأحباش.

الفصل الثالث والثمانون: المجوس والصابئة

الفصل الثالث والثمانون: المجوس والصابئة مدخل ... الفصل الثال والثمانون المجوس والصابئة يقصد الإخباريون بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة: الخير والشر، فيزعمون أن الخير من فعل النور وأن الشر من فعل الظلمة1. وهم يعلمون أن المجوس من الفرس وأنهم عبدة النيران. وفي القرآن الكريم ذكر للمجوس. وقد ورد ذكرهم في موضع واحد منه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2. وفي ذكرهم في القرآن الكريم دليل كاف على معرفة أهل الحجاز بهم، ووقوفهم عليهم. وكيف لا يكون لهم علم بهم ووقوف عليهم، وقد كان لأهل مكة اتصال وثيق بالحيرة كما كان لأهل الحجاز اتصال باليمن؟ وقد كان المهيمن على اليمن الفرس عند ظهور الإسلام، حيث طردوا الأحباش وأخذوا محلهم، وقد كان هؤلاء الفرس على المجوسية، ثم إنه كان في حضرموت وفي العربية الشرقية أناس منهم أقاموا هناك. وقد كان وكلاء الأكاسرة على هذه الأماكن منهم، وهم على دين

_ 1 النهاية "4/ 85"، اللسان "8/ 98" "مجس"، تاج العروس "4/ 345" "مجس"، الملل والنحل "2/ 57"، الحيوان "1/ 190"، "4/ 59، 479، 481"، المسعويد، مرج "1/ 252، 253،273"، "بيروت"، عمدة القاري "15/ 78". 2 الحج، الآية 17، عمدة القاري "15// 78 وما بعدها" الطبرسي، مجمع البيان "13/ 88 وما بعدها"، تفسير أبي السعود "4/ 8"، تفسير الطبري "6/ 201"، روح المعاني "6/ 179"، تاج العروس "4/ 245". "مجس".

المجوسية. وقد أشير إلى وجودهم في أخبار الفتوح، حيث دفع الجزية من أبي منهم الدخول في الإسلام. والظاهر أن هؤلاء كانوا مقيمين فيها من أمد طويل بدليل ورود جملة في أخبار الفتوح تفيد ذلك، وهي: "وأسلم معهما جميع العرب وبعض العجم. فأما أهل الأرض من المجوس واليهود والنصارى، فإنهم صالحوا العلاء"1. ويروي أهل الحديث حديثين يذكرون أن الرسول قالهما هما: "كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يمجسانه"، أي يعلمانه دين المجوسية. وحديث "القدرية مجوس هذه الأمة"2. وفي هذين الحديثين ذكر للمجوس. ولعلماء الحديث كلام عليهما. ولا سيما على الحديث الثاني، وفيه تعريض بالقدرية، أسلاف المعتزلة. وكلمة "مجوس" من الكلمات المعربة، عربت عن لفظة "مغوس" "Maghos" الفارسية التي تعني "عابد النار"3. وهي من الألفاظ التي دخلت إلى اليونانية كذلك، حيث وردت لفظة "Magi" فيها. وهي جمع "مجوس" "Magus"4. وقد دخلت إلى لغة "بني إرم" أيضًا. ولا ندري اليوم على وجه صحيح من أي طريق دخلت لفظة "مجوسي" و"مجوس" إلى العربية، عن الفرس أنفسهم، أو عن اليونانية أو عن طريق لغة "بين إرم"5! وقد عرف علماء اللغة بأن لفظة "مجوس" من الألفاظ المعربة. وقد ذهبوا إلى إنها معربة عن الفارسية القديمة. ولكنهم اختلفوا فيما بينهم في أصل اللفظة وفي بيان معناها، وذهبوا في ذلك مذاهب6، وبعض هذه التفسيرات والتأويلات مفتعل يدل على عدم وقوف أصحابها على جلية الموضوع.

_ 1 البلدان "2/ 74"، "ومن أبي فعلية الجزية. فصالحهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أن على المجوس الجزية"، "وأخذ الجزية من المجوس"، الطبري "3/ 29". 2 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 345"، اللسان "8/ 98" "مجس" "طبعة بولاق". 3 غرائب اللغة "ص269". 4 Hastings p 565 5 Shorter Ency of IsIam p 98 Ency III p 97 6 اللسان "8/ 98" "طبعة بولاق"، محيط المحيط "2/ 250"، تاج العروس "4/ 345" "مجس"، الحيوان، للجاحظ "5/ 69" "عبد السلام هارون"، المعرب، للجواليقي "320".

ويريد الإخباريون بالمجوسية عبادة النار. وإذا صح ما ورد في شطر بيت منسوب إلى الشاعر الجاهلي "التوأم اليشكري" المعاصر لامرئ القيس، هو: "كنار مجوس تستعر استعارا"1، فإن فيه دلالة على أن هذا الشاعر هو وامرأ القيس كانا على علم بنار المجوس، وإنها كانت تستعر دائمًا، وربما كانا على علم ببعض تعاليمها أيضًا. وفي أخبار أهل الأخبار ما يفيد بعض العرب، فورد أن "المزدكية والمجوسية في تميم"2. وورد أن "زرارة بن عدس" وابنه "حاجب بن زرارة"، وهما من سادات تميم كانا قد اعتنقا المجوسية، واعتنقها أيضًا "الأقرع بن حابس" و"أبو الأسود"، جد "وكيع بن حسان"3. وقيل إن أشتاتا من العرب عبدت النار، سرى إليها ذلك من الفرس والمجوس4. وكان مجوس اليمن، من الفرس الذين أرسلهم كسرى لطرد الحبش من اليمن، فهم وأبناؤهم كانوا على هذا الدين، دين الإمبراطورية الفارسية، ولما ظهر الإسلام، نبذ هؤلاء المجوسية واعتنقوا الإسلام5. وأما مجوس عمان وبقية أنحاء العربية الجنوبية، فقد كانوا من الفرس كذلك: من تجار ومن مقيمين من بقية الفرس الذين كانوا قد استولوا على هذه الأرضين. وعند ظهور الإسلام لم يكن لهم نفوذ سياسي، فقد كان سادات القبائل قد كونوا مشيخات فيها، واستقلت في إدارة شئونها، غير أن المجوس بقوا فيها، وعند دخول أهلها في الإسلام، ودخول البلاد في دين الله، دفع بعض أولئك المجوس الجزية، ودخل الباقون في الإسلام. شأنهم في ذلك شأن اليهود والنصارى المقيمين في هذه الأرضين. وأما مجوس البحرين، فقد كانوا أكثر عددا وأكبر نفوذا من إخوانهم في عمان، لقرب هذه الأرضين من إمبراطورية الساسانيين، ولهجة الفرس من السواحل المقابلة ومن طريق الأبلة الساحلي، وقد عثر المنقبون على قبور عديدة

_ 1 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 245"، "مجس". 2 البدء والتأريخ "4/ 31". 3 المعارف "266" "الصاوي"، البدء والتأريخ "4/ 31"، الأعلاق النفيسة "217". 4 بلوغ الأرب "2/ 233". 5 Ency VoI III p 99

تعود إليهم؛ وعلى آثار لمعابدهم في العربية الشرقية. وكان على "هجر"، حين أبلغ الرسول دعوته إليها، رجل من الفرس اسمه "سيبخت مرزبان"، وقد أسلم واسلم معه قوم من قومه، ودفع الجزية من فضل البقاء منهم على دينه، شأنهم في ذلك شأن أهل الكتاب1. وذكر أن الرسول كتب إلى "مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أخذت منهم الجزية، وبأن لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم"2. وكان باليمامة قوم من المجوس، عاشوا في قراها ومواضعها، اشتغلوا بالزراعة وبالتعدين. وأرض اليمامة أرض غنية، وهي "ريف" أهل مكة، وعليها اعتمادهم في الحصول على الحبوب. كما عرفت بوجود المعادن بها، فسهل أهلها دخول المجوس إليها، للاستفادة منهم في استغلال الأرض وفي التعدين. هذا ولم نسمع بدخول أحد من ملوك الحيرة، أو الأمراء الذين عينهم الفرس على العرب في المجوسية مع علاقتهم بالفرس واتصالهم الوثيق بهم، ووجود الفرس في أرضهم وفي عاصمتهم، بينما نجد بعضًا منهم وقد دخل في النصرانية. ولعل ذلك بسبب عدم ميل الفرس إلى إدخال أحد من الغرباء عنهم في دينهم وإلى عدهم المجوسية ديانة قومية خاصة بهم، فلا يهمهم دخول أحد من غيرهم فيها. هذا ولا أجد صلة بين "الأسبذية" التي زعم أنها ديانة قوم كانوا يعبدون الخيل بالبحرين، عرفوا بـ "الأسبذيين"، وبين "بني دارم"، وكونهم كانوا على هذا الدين. فقد كان أحدهم وهو "المنذر بن ساوى" أسبذيا، ولم يكونوا كلهم. قيل إنه نسب إلى قرية بهجر يقال لها "الأسبذ"، وقيل إلى الأسبذيين3. ولا صلة لهذه الأسبذية بالمجوسية، أو إلى ديانة دخلت من فارس إلى البحرين. وقد تحدثت في مكان آخر عن وجود قوم من العرب قدسوا "الحصان". ورأي أن المراد من "الأسبذية" الفرسان. وأن "المنذر بن ساوى" كان "أسبذا" أي بدرجة فارس، وهي من درجة الشرف والرفعة في الجيش الساساني.

_ 1 البلاذري "85 وما بعدها"، البلدان "2/ 73 وما بعدها". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 263"، "صادر". 3 فتوح البلدان "98"، "89" "طبعة المكتبة التجارية"، محاضرات للدكتور صالح أحمد العلي "171".

ويذكر علماء اللغة في معرض كلامهم على معنى لفظة "الزمزمة" أن من عادة المجوس الزمزمة عند الابتداء بالأكل، أي قراءة شيء من كتبهم الدينية قراءة خافته على المأكول تقديسا وشكرا لهز وقد نهى الخليفة عمر عن الزمزمة، لأنها من علائم المجوس1. وقد عرف عالم المجوس ورئيسهم الروحي عند العرب بـ "الموبذ" و"الموبذان"، وعرف كبيرهم بـ "موبذان موبذ"؛ وجعل بعض العلماء "الموبذان" بمنزلة قاضي القضاة للمسلمين، والموبذ بمنزلة القاضي2. وتعني "موبذان موبذ" الموبذ الأعظم. وقد اكتفى أحيانًا بلفظة "موبذان" للتعبير عن "موبذان موبذ". وقد فسر المسعودي لفظة "الموبذ" بمعنى حافظ الدين. ورجع أصلها إلى "مو" بمعنى "دين" في رأيه، و"بذ" بمعنى "حافظ"3. ورأى "اليعقوبي" أن "الموبذان" بمعنى عالم العلماء4. والموبذ هي من الألفاظ المعربة عن الفهلوية، فهي من أصل فهلوي هو Magupat، بمعنى عظيم المجوس. ويتمتع هذا الرئيس الديني الأعظم بسلطات دينية واسعة5. وقد أطلق السريان على الموبذ جملة "ريش مكوشي" "Resh Magushi" و "Resh damgushi، أي "رئيس المجوس"، و"مكوش" تعني "المجوس"6. وترد في العربية لفظة أخرى، لها صلة بالمجوسية، هي "الهربذ" و"الهرابذاة". ذكر علماء اللغة أن "الهرابذية: المجوس، وهم قومة بيت النار التي للهند ... وقيل عظماء الهند أو علماؤهم". وذكروا أن "الهربذي مشية فيها اختيال، كمشي الهرابذة، وهم حكام المجوس. قال امرؤ القيس: مشى الهربذي في دفه ثم فرفرا"7

_ 1 اللسان "15/ 165"، تاج العروس "8/ 165"، تاج العروس "8/ 328". 2 اللسان "3/ 511"، "موين"، النهاية في غريب الحديث "4/ 119"، تاج العروس "2/ 513". 3 مروج الذهب "1/ 268"، "ذكر ملوك الغساسنة". Ency III p 453> 4 تأريخ اليعقوبي "1/ 207". 5 Ency III p 453 6 اللسان "3/ 517 وما بعدها"، "هربن". 7 Ency III p 453

واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. من أصل "هور" و"بت"، بمعنى رئيس خدام النار. والموكل على خدمة النار في المعبد1. وقد ذكر "الألوسي"، أن صنفا من العرب عبد النار، وقال عنهم: "وهم أشتات من العرب، وكأن ذلك سرى إليهم من الفرس والمجوس"2. ولم يذكر أسماء هؤلاء الأشتات. ولم يتحدث عن طريقة تعبدهم للنار. ولكننا نستطيع أن نجد في "نار الاستمطار" وفي "نار التحالف" وفي النيران الأخرى التي يذكرها أسماءها أهل الأخبار دلالة على وجود فكرة تقديس بعض العرب للنار. وقد حبب الإسلام هذه النيران. فقد ذكر أهل الأخبار أن العرب كانت في الجاهلية الأولى، إذا احتبس عنهم المطر، ويئسوا من نزوله، يجمعون البقر ويعقدون في أذنابها وعراقبيها السلع والعشر ويصعدون بها في الجبل الوعر، ويشعلون فيها النار، ويزعمون أن ذلك من أسباب المطر، قال الشاعر "الورل" الطائي: أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... وسيلة منك بين الله والمطر3 وقد أشير إلى هذه النار في شعر ينسب إلى أمية بن أبي الصلت4. ويسمونها بنار الاستسقاء وبنار الاستمطار5. وذكروا نارًا أخرى قالوا لها: "نار التحالف" ,"نار المهول". وقالوا أن العرب كانوا لا يعقدون حلفا إلا عليها، وكانوا إذا اختصموا في شيء، واتفقوا على اليمين، حلفوا على النار. ولهذا قيل لها "نار التحالف". وطريقتهم في ذلك أن المتحالفين أو المتخاصمين يحفرون أمام نار يوقدونها، ثم يلقون عليها

_ 1 غرائب اللغة "248". 2 بلوغ الأرب "2/ 233". 3 "الوديل الطائي"، صبح الأعشى "1/ 409"، بلوغ الأرب "2/ 164"، خزانة الأدب "3/ 212"، الحيوان "4/ 468". لا در در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الازمات بالعشر أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر اللسان "4/ 73"، "بقر". 4 نهاية الأرب، للنويري "1/ 109 وما بعدها"، الحيوان "4/ 466 وما بعدها". 5 نزهة الجليس "2/ 406".

ملحا وكبريتا. وعندئذ يذكرون منافع هذه النار ويدعون بالحرمان من خيرها على من ينقض العهد ويحل العقد وفي حالة الحلف واليمين يقول صاحب النار للحالف: "هذه النار قد تهددتك"، فإن كان مبطلا نكل، وإن بريئًا حلف، ولذلك قيل لها "نار المهول"1. وذكروا أيضًا أن هذه النار كانت معروفة في اليمن، مستعرة دائمًا، ولها سادة سدنة وقيمون يطرحون الملح والكبريت في النار، أما السدنة فيقومون بأخذ اليمين. وكان سادتها إذا أتي برجل ليحلف، هيبوه من الحلف بها، وخوفوه من الكذب. وقد عرفت هذه النار بـ "نار التحاليف" كذلك. وقد أشار إليها الكميت بقوله: هم خوفوني بالعمى هوة الردى ... كما شب نار الحالفين المهول كما أشار إليها شاعر آخر هو أوس، إذ قال: إذا استقبلته الشمس صد بوجهه ... كما صد عن نار المهول حالف2 وذكر "الجاحظ" أن العرب "يقولون في الحلف: الدم، الدم، والهدم الهدم، لا يزيده طلوع الشمس إلا شدا، وطول الليالي إلا مدا، ما بل البحر صوفة، وما أقام رضوى في مكانه، إن كان جبلهم رضوى. "وكل قوم يذكرون جبلهم، والمشهور من جبالهم. وربما دنوا منها حتى تكاد تحرقهم"3. بل زعم بعض أهل الأخبار أن حمير كانت تحتكم إلى نار كانت باليمن تحكم بينهم فيما كانوا يختلفون به. تأكل الظالم ولا تضر المظلوم. فلما اعتنق التبع "تبان أسعد"، ديانة يهود، وطلب من قومه الدخول فيها، أبوا عليه ذلك، وطلبوا منه الاحتكام إلى تلك النار في قصة يذكرونها في سبب تهود بعض حمير4. وللعرب نار السعالي والجن والغيلان5. ذكروا أن الغيلان توقد بالليل النيران

_ 1 اللسان "5/ 234"، "نور"، "نزهة الجليس "2/ 406". 2 اللسان "7/ 102"، صبح الأعشى "1/ 409"، خزانة الأدب "3/ 212"، "خوفونا"، نهاية الآرب "1/ 109 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، الحيوان "45/ 470". 3 الحيوان "4/470 وما بعدها". 4 سيرة ابن هشام "1/ 27". 5 الحيوان "4/ 481".

للعبث والتخييل واضلال السابلة. وإنها ترفع للمثقفر فيتبعها فتهوى به الغول. وأورد أهل الأخبار شعرا في ذلك منه شعر لـ "عبيد بن أيوب"، المعروف بـ "أبي مطراب"، وكان يزعم أنه يؤاكل الظباء والوحش ويرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي1. وذكر أهل الأخبار قصة عن "خالد بن سنان العبسي" النبي العربي الذي منحه بعضهم في الإسلام جملة "عليه السلام" باعتبار أنه من أنبياء الله، قد يكون لها صلة بعقيدة عبادة النار عند العرب. إذ ذكروا أن نارًا ظهرت "بالبادية بين مكة والمدينة في الفترة، فسمتها العرب بدًا، وكادت طائفة منهم أن تعبدها مضاهاة للمجوس. فقام خالد هذا، فأخذ عصاه، واقتحم النار يضربها بعصاه، حتى أطفأها الله تعالى. ثم قال: إني ميت، فإذا أنا مت، وحال الحول، فارصدوا قبري. فإذا حمار عند قبري، فارموه واقتلوه، وانبشوا قبري، فإني أحدثكم بكل ما هو كائن. فمات. فلما حال الحول، رأوا الحمار فقتلوه، وأرادوا نبشه، فمنعهم أولاده، وقالوا: لا نسمى بني المنبوش"2. وقد عرفت تلك النار بـ "نار الحرتين"3. وذكر إنها كانت ببلاد عبس، فإذا كان الليل تضيء نار تسطع وفي النار دخان مرتفع. وربما بدر منها عنق فأحرق من مر بها. فحضر خالد بن سنان النبي، فدفنها، فكانت معجزة له4. ويظهر أن حرة، كانت في تلك المنطقة، ثم خمدت فنسب الناس خمودها إلى "خالد بن سنان". وللجاهليين استعمالات أخرى للنار، فكانوا إذا خافوا شر رجل، وتحول عنهم أوقدوا خلفه نارًا، ليتحول شره معه5. ويقولون: "أبعده الله وأسحقه وأوقد نارًا في أثره"، يقولون ذلك لكراهيتهم له، ويتمنون الموت له. وتعرف هذه النار بـ "نار الطرد"6. وذكر أن العرب تدعو على العدو فتقول:

_ 1 الحيوان "4/ 481 وما بعدها"، معجم الشعراء "182"، مروج الذهب "1/ 328"، الحيوان "5/ 123"، صبح الأعشى "1/ 410". 2 محاضرات الأبرار "1/ 77"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406 3 الحيوان "4/ 476 وما بعدها". 4 صبح الأعشى "1/ 409 وما بعدها". 5 اللسان "7/ 102"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها". 6 خزانة الأدب "3/ 212"، الحيوان "4/ 474"، صبح الأعشى "1/ 409".

أبعد الله داره وأوقد نارًا أثره1. ولا بد أن يكون للنار الموقدة على المزدلفة صلة ما بعقائد الجاهليين القديمة في النار. وينسب الإخباريون هذه النار إلى "قصي بن كلاب"، يقولون إنه أوقدها على المزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة في أيام الحج. وقد بقي الناس يوقدونها إلى الإسلام2. ومن نيران العرب، نار الغدر، وتوقد بمنى أيام الحج على أحد الأخشبين، جبلي مكة: أبي قبيس وقعيقعان، أو أبو قبيس والأحمر. فإذا استعرت، صاح موقدها: هذه غدرة فلان، ليحذره الناس، وليعلموا أن فلانا قد غدر بجاره3. وأما "نار السلامة"، فهي التي توقد للقادم من سفر سالما غانما، وقد عرفت لذلك بـ نار المسافر" أيضًا4. و"نار السليم"، هي النار التي توقد للملدوغ وللمجروح ولمن ضرب بالسياط ولم عضه الكلب الكلب، ويقولون إنها إنما توقد لكي لا يناموا، فيشتد بهم الأمر ويؤدي إلى الهلالك5. وأما "نار الحرب"، فهي النار التي كانوا إذا أرادوا حربًا، وتوقعوا جيشًا عظيمًا، وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلا على جبلهم نارًا، ليبلغ الخبر أصحابهم. وإذا جدوا في جمع عشائرهم إليهم أوقدوا نارين6. ونار الصيد، هي نار توقد للظباء وللحيوانات الأخرى، فتغشاها إذا نظرت إليها7.

_ 1 قال الشاعر: وجمة أقوام حملت، ولم آكن ... كموقد نار أثرهم للتندم اللسان "5/ 243"، "نور". 2 صبح الأعشى "1/ 409"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها، نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب "462" الكامل، لابن الأثير "2/ 17"، نزهة الجليس "2/ 406". 3 بلوغ الأرب "2/ 162"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406". 4 الحيوان "4/ 473"، نزهة الجليس "2/ 406. 5 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 410". 6 الحيوان "4/ 474 وما بعدها"، "5/ 133"، صبح الأعشى "1/ 409"، نزهة الجليس "2/ 406". 7 صبح الأعشى "1/ 410"، نزهة الجليس "2/ 406".

ونار الأسد، وهي نار توقد إذا خافوا الأسد، لينفر عنهم، فإن من شأنه النفار عن النار، يقال إنه إذا رأى النار حدث له فكر يصده عن قصده، ويشغله عن السابلة. ويقولون إن الضفدع إذا رأى النار تحير وترك النقيق1. ونار الفداء، وكان الملوك منهم، إذا أسروا نساء قبيلة، خرجت إليهم السادة منهم للفداء أو الاستيهاب، فيكرهون أن يعرضوا النساء نهارا فيفتضحن أو في الظلمة فيخفى قدر ما يحسونه لأنفسهم من الصفي، فيوقدون النار لعرضهن2. ونار القرى، هي من أعظم مفاخر العرب، وهي النار التي ترفع للسفر، ولمن يلتمس القرى، فكلما كان موضعها أرفع كان أفخر. وهي نار مذكورة على الحقيقة لا على المثل3. وعرفت عندهم بـ "نار الضيافة" وبـ "نار الأضياف" أيضًا. وقد ذكر أهل الأخبار إنهم ربما يوقدونها بـ "المندلى"، ليهتدي إليها العميان. فالمندلى خشب ذو رائحة طيبة، تفوح منه إذا أحرق، فتشم من مسافة بعيدة4. وذكر إنهم كانوا يوقدونها في ليالي الشتاء، خاصة لحاجة الناس إلى القرى في ذلك الوقت. وكلما كانت النار مرتفعة ضخمة، كانت أفخر لصاحبها. وقد أشير إليها في الشعر5. ويطلق العرب على كل نار تراها العين لا حقيقة لها عند التماسها، نار الحباحب، ونار أبي الحباحب. وقد ذكر "الجاحظ" أنه لم يسمع في أبي حباحب شيئًا6. ولهم قصص عن شخص زعموا أنه كان يعرف بـ "أبي حباحب"، وان رجلا في سالف الدهر بخيلا لا توقد له نار بليل، مخافة أن يقتبس منها نار، أو يراها الضيفان فيفدون إليه، فإن أوقدها ثم أبصرها مستضئ أطفأها، فضربت العرب به المثل في البخل، فقالت: "أخلف من نار أبي حاجب". وذكر

_ 1 صبح الأعشى "1/ 410"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 212"، "نزهة الجليس "2/ 406". 2 صبح الأعشى "1/ 410"، بلوغ الأرب "1/ 161 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 212"، نزهة الجليس "2/ 406". 3 الحيوان "5/ 134"، خزانة الأدب "3/ 212"، نزهة الجليس "2/ 406". 4 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها". 5 بلوغ الأرب "2/ 161"، صبح الأعشى "1/ 410". 6 الحيوان "4/ 486 وما بعدها"، المخصص "11/ 28"، بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها".

أن "أبا الحباحب" رجل كان لا ينتفع بماله لبخله فنسبوا إليه كل نار لا ينتفع بها1. ومن النيران الأخرى: نار البرق، ونار البراعة، ونار الخلعاء والهراب، ونار الوسم، وهي النار يسم بها الرجل منهم أبله. فيقال له: ما سمة إبلك؟ فيقول كذا2. وقد ذكر علماء اللغة ان العرب استعملوا النار في معنيين: معنى حقيقي، ومعنى مجازي. وقصدوا بالنيران الحقيقة، النيران التي كان يوقدها العرب حقًّا، وحصروها في أربعة عشر نارًا أو أكثر من ذلك، أو أقل3. وقصدوا بالنيران المجازية، استعمال الكلمة في معان مجازية، مثل قولهم نار الحب ونار المعدة، ونار الحمى، ونار الشوق4.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها". 2 الحيوان "4/ 486 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 410"، نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "2/ 161 وما بعدها"، خزانة الادب، للبغدادي "3/ 212"، "بولاق"، نهاية الأرب "1/109 وما بعدها"، الحيوان "5/ 107 وما بعدها"، نزهة الجليس "2/ 406". 4 نهاية الأرب "1/ 109 وما بعدها".

الصابئة

الصابئة: ونجد في القرآن الكريم إشارة إلى الصابئين، وقد ذكروا بعد اليهود والنصارى في موضع من سورة البقرة1، وذكروا وسطا بين اليهود والنصارى في موضع من سورة المائدة وفي سورة الحج2. ويظهر أن معارف أهل الأخبار عنهم نزرة، فليس لديهم شيء مهم مفيد يفيدنا عن عقائد أولئك الصابئة وآرائهم. وقد ربط أهل الأخبار بين هؤلاء الصابئة المذكورين في القرآن وبين صابئة حران وصابئة العراق، وجعلوها طائفتين في الأصل: طائفة هم صابئة حنفاء

_ 1 البقرة، الآية 62. 2 المائدة، الآية 69، الحج، الآية 17، تفسير الطبري "2/ 144"، "دار المعارف"، مجمع البيان، الطبرسي "1/ 278"، الملل والنحل، للشهرستاني "2/ 98"، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، للدمشقي "1/ 44" "بطرسبورغ"، ابن خلدون "2/ 32""دار الكتاب اللبناني 1959م"، المسعودي، مروج "2/ 247"، الفهرست "332"، رسوم دار الخلافة "5".

وهم في نظرهم أصحاب إبراهيم ممن كان بحران وممن كان على دعوته، وصابئة مشركون وهم من فسدوا من الصابئة فأشركوا واعتقدوا بالكواكب1. ولكن الذي يفهم من القرآن الكريم أن الصابئة جماعة كانت على دين خاص، وإنها طائفة مثل اليهود والنصارى، أي أن الكلمة مصطلح ولها مدلول معين مفهوم. فما ذهب إليه المفسرون من هذا الترعيف للصابئة ومن هذا التقسيم، إنما تكون عندهم في الإسلام، بعد وقوفهم على أحوال الصابئة واتصالهم بهم. ويفهم من المواضع التي ورد فيها ذكرهم في القرآن الكريم، ومن ورود اسمهم مع اليهود والنصارى فيه، إنهم كانوا يعبدون إلها، ويتوجهون في دينهم إليه2. ولا استبعد أن يكون من بين سكان مكة أناس كانوا من الصابئة، جاءوا إليها تجارا من العراق، أو جاء بهم الحظ إليها، حيث أوقعهم في سوق النخاسة، فاشتراهم تجار مكة وجاءوا بهم إلى مدينتهم، وعرفوا منهم أنهم صابئة. ونحن إذا ما تتبعنا ما ورد عن لفظة صبأ وصابئ في الموارد الإسلامية نرى أن هذه الموارد تفسر ما ورد عن لفظة صبأ وصابئ في الموارد الإسلامية نرى أن هذه الموارد تفسير لفظة صبأ بمعنى خرج من شيء إلى شيء، وخرج من دين إلى دين غيره. وتذكر أن قريشًا كانت تسمي النبي صابئا، والصحابة الصباة3. أي الخارجين على دين قومهم. وهي تستعمل لفظة الصابئة في كثير من الأحوال في معنى حنفاء، كالذي نراه في ربطهم إبراهيم بهاتين الديانتين، وعدهم قدماء الصابئة في جملة الحنفاء، فإن هذا يدل على أن المراد من الصابئة بين العرب عند ظهور الإسلام هم المنشقون الخارجون على ديانة قومهم، أي على عبادة الأوثان والمنادين بالتوحيد. وأما ما نراه من إطلاق الصابئة على الصابئة المعروفين في الإسلام، فإنما حدث في الإسلام. واطلاق قريش لفظة الصابئ والصباة على المسلمين بدلا من تسميتهم بمسلمين قضية مهمة جدا، يجب الاهتمام بها، وفي الأخبار أمثلة كثيرة على ذلك. فقد

_ 1 التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون "1/ 887"، بلوغ الأرب "2/ 223 وما بعدها". 2 Dicttonary of IsIam 3 النهاية "2/ 369"، اللسان "1/ 102"، "وكانت العرب تسمي النبي صلى الله عليه وسلم الصابئ، لأنه خرج من دين قريش إلى الإسلام، ويسمون من يدخل في دين الإسلام مصبوا.. ويسمون المسلمين الصباة"، تاج العروس "1/ 306"، "طبعة الكويت"، القاموس المحيط "1/ 20".

ذكرت كتب الحديث والسير واللغة أن قريشًا دعت النبي صابئا، وفي جملة من دعاه بذلك عمر قبل إسلامه، ثم رمي عمر بها بعد إسلامه أيضًا. ولما أسلم أبو ذر الغفاري، انهال عليه أهل مكة بالضرب، لأنه صبأ وفتن وخرج عن دينهم. ولما أرادت زوج مطعم بن عدي خطبة ابنة أبي بكر إلى ابنها، ذكرت له أنها تخشى أن يؤثر على ولدها، فيكون من الصباة. وقد كانت لفظة الصباة والصباء بمعنى مسلمين عند المشركين، ففي معركة حنين نجد "دريد بن الصمة" يخاطب أحد رءوس القوم ويقول له في جملة ما قاله: "ثم ألق الصباء على متون الخيل"1. ولما أرسل بنو عامر لبيدا إلى النبي ليرى خبره وعلمه، أسلم، وأصابه وجع شديد من حمى، فرجع إلى قومه بسبب تلك الحمى، وجاءهم بذكر البعث والجنة والنار، فقال صرافة بن عوف بن الأحوص: لعمر لبيد إنه لابن أمه ... ولكن أبوه مسه قدم العهد دفعناك في أرض الحجاز كأنما ... دفعناك فحلا فوقه قرع اللبد فعالجت حماه وداء ضلوعه ... وترنيق عيش مسه طرف الجهد وجئت بدين الصابئين تشوبه ... بألواح نجد بعد عهدك من عهد وإن لنا دارا زعمت ومرجعا ... وثم إياب القارضين وذي البرد فكان عمر يقول: "وايم الله إياب القارضين وذي البرد2". فقصد الشاعر بجملة "دين الصابئين" الإسلام، فالصابئون في نظر المشركين هم المسلمين. ولما ذهب سعد بن معاذ إلى معركة، أنبه أبو جهل على قدومه إليها بعد أن دخل في دين الصابئين. ولما قدم خالد بن الوليد على بني جذيمة، نادوه بأنهم صبئوا، أي دخلوا في الإسلام3. ويلاحظ أن الوثنيين أطلقوا هذه التسمية على كل من أسلم، وعلى كل من شكوا فيه ورأوا أنه ميال إليهم، فكانوا يرمونه بهذه التهمة. أما المسلمون، فلم يرتاحوا إليها. والظاهر إنها كانت سبة بالنسبة إليهم في ذلك العهد، بدليل إنهم كانوا يكذبون من كان يطلقها من المشركين عليهم ويرد عليهم ردا شديدا، فلما نادى جميل بن معمر الجمحي في قريش:

_ 1 الطبري "1/ 126"، "معركة حنين". 2 الأغاني "15/ 131 وما بعدها" "خبر لبيد في مرثية أخيه". 3 لقد جمع "ولهوزن" أكثر المواضع التي أطلق الوثنيون فيها هذه اللفظة على المسلمين، راجع كتابة: Reste S 236

ألا، إن ابن الخطاب قد صبأ، وذلك حين دخل في الإسلام، وشهد بذلك أمام النبي، نادى عمر من خلفه: كذب، ولكني أسلمت، وقالت قريش: صبأ عمر1. ولا بد أن يكون لتكذيب عمر وغيره الوثنيين لتسميتهم المسلمين بهذه التسمية من سبب. وهو سبب يشعر أن أهل مكة إنما أطلقوها عليهم إهانة لهم وازدراء لشأنهم وعلى سبيل السبة، لأنها كانت سبة عندهم وذلك قبل الإسلام. وإلا لما انزعج المسلمون منها، وردوا على قريش بسببها ردا قبيحا. وقد رأيت أن المسلمين كانوا يفتخرون باطلاق الحنيفية عليهم، وإنهم كانوا يرون أن الحنفاء هم سلف المسلمين، وأن إبراهيم كان حنيفا وكان أول المسلمين. فالصابئون إذن هم أولئك الخارجون على عبادة قومهم المخالفون لهم في ديانتهم شأنهم في ذلك في نظر قريش شأن من يسميهم المسلمون في أيامنا بالملحدين أو الهدامين، أو أي مصطلح آخر يراد به الرمي بالخروج على مثل المجتمع القائم وتقاليده، وذلك ازدراء بهم، وتنفيرا للناس عنهم.

_ 1 ابن الأثير "2/ 34 وما بعدها" "ذكر إسلام عمر بن الخطاب".

الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح

الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح مدخل ... الفصل الرابع والثمانون: تسخير عالم الأرواح للعالم الخفي، وأقصد به عالم الأرواح وكل ما لا تراه العين ويدركه الحس من قوى طيبة أو خبيثة، أثر خطير في عقائد أهل الجاهلية، وفي عقائد الشعوب القديمة، وفي أنفس كثير من الناس حتى اليوم، إذ يشغل ذكل العالم في الواقع جزءًا خطيرًا من الدين ومن حياة الناس عامة. فهناك صلوات وشعائر وأدعية مكتوبة وغير مكتوبة تنلى وتقال وتقرأ للسيطرة على ذلك العالم، وللانتفاع منه، ولتسخيره في سبيل خير الإنسان ومصلحته، ولتجنب أذى النوع الخبيث منه. وإذا تتبعنا هذه الاعتقادات عند الجاهليين، وجدنا إنها قد كونت الجزء الأكبر من عقيدتهم وديانتهم، وإنها والذبائح من الأصول التي ارتكزت عليها ديانات العرب قبل الإسلام. والواقع أن الاعتقاد بالأرواح يشغل حيزًا كبيرًا من فناء الدين عند الجاهليين، وإن بدا لنا إنه شيء لا علاقة له بالدين. فنحن حين البحث في موضوع العقيدة والدين عند أهل الجاهلية، لا نتحدث بالطبع عن العقيدة والدين بالنسبة إلى معتقداتنا وبالنسبة إلى تفكير الإنسان في القرن العشرين، وإنما نتحدث عن رأي أناس عاشوا قبل الإسلام، وعن جماعة أدركت العشرين، وإنما نتحدث عن رأي أناش عاشوا قبل الإسلام، وعن جماعة أدركت الإسلام، كانت الأرواح في نظرها أكثر أثرًا في حياة الفرد من أثر الآلهة فيه. فتقرب وتوسل إليها أكثر من تقربه وتوسله إلى آلهته التي كان يرى أن بيدها مفتاح سعادته وشقائه. وآية ذلك كثرة الكلمات والمصطلحات الجاهلية المتعلقة بها، وما ورد في القرآن الكريم وفي

الحديث النبوي والأخبار من أثر الجن في نفوس القوم، حتى تصوروهم آلهة وشركاء للأرباب في إدارة دفة هذا الكون. هذا، ونحن إن ذكرنا الأرواح، فإننا لا نقصد المعنى المفهوم منها في رأينا، بل نقصد هذا المعنى وشيئًا آخر أعم وأوسع منه، معنى يشمل أيضًا بعض الأحجار والأشجار والآبار والكهوف وأمثال ذلك من أشياء تصور أهل الجاهلية إ، ما تكمن فيها قوة خارقة تستطيع التأثير في حياة الناس، فتقربوا إليها بالزيارات والقرابين وبالتضرع والتوسل والأدعية لقدسيتها ولتلك القدرة العجيبة التي فيها، فهي من حيث النفع أو الضرر كالأرواح: لوجود قوى خارقة غير منظورة فيها، هي من الأرواح، فتقرب إليها الإنسان لذلك، لغرض الاستفادة منها أو دفع أذاها. وطبيعة الأرواح، طبيعة غير مرئية ولا منظورة، هي لطيفة خفية مستورة. إنما يجوز لبعضها الظهور في سورة أشباح، والتجسم على هيأة الأجساد. ثم إنها على طبيعتين: شريرة وخيرة، خبيثة وصالحة. من الطبيعة الأولى الشياطين وبعض أنواع الجن، ومن الطبيعة الثانية الملائكة والشطر الثاني من الجن. وأثر الخبيث من الأرواح أوضح وأكثر في عقلية أهل الجاهلية من أثر الفريق الصالح. وهو شيء منطقي مفهوم، فالإنسان إلى الشر أقرب منه إلى الخير، ذلك أن من طبع الخير عدم إلحاق الأذى بالغير، فلا يخشى منه. أما الشرير، ففي طبعه إلحاق الضرر والأذى بكل واحد، وفي كل لحظة يراها، لذلك التفتت إليه الأنظار حذار منه، وخشية من مكره، وتقربت وتوددت إليه، لا حبا له، ولا تقربا إليه لا، جدير به، بل إنما تملقا وتزلفا لإبعاد شره، وأمن جانبه على نمط ما يفعله الناس تجاه الأقوياء من الأشرار حيث يتقربون إليهم أو يبتعدون عنهم طمعا ورهبة، تمشية لأمور معاشهم، لا حبا لهم وإخلاصا لاستحقاقهم ذلك الحب والاخلاص. وقد ذكر "الجاحظ" أن الأعراب تجعل الخوافي والمستجنات جنسين. يقولون جن وحن1. وقصد بـ "الخوافي" الأرواح، لأنها لا ترى. وذكر غيره أن "الحن"، حي من الجن، كانوا قبل آدم، يقال منهم الكلاب السود البهم، يقال كلب حتي، أو سفله الجن وضعفاؤهم أو كلابهم، "ومنه حديث

_ 1 الحيوان "6/ 193".

ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، الكلاب من الحن، وهي ضعفة الجن، فإن كان عندكم طعام فألقوا لهن، فإن لهن أنفسا، أي تصيب بأعينها"1. وذكر أن "الحن" خلق بين الجن والإنس2. وذكر "الجاحظ" أيضًا أن بعض الناس يقسم الجن على قسمين، فيقول: هم جن و"حن" ويجعل "الجن" أضعفها3. وقد ذهب بعض أهل الأخبار إلى أن "الحن"، هم كلاب الجن وسفلتهم، وشر أنواع الجن4. ويجعلون الجن فوق الجن5. ويقال للجن الجان، و"الجِنة" كذلك. و"الجان" اسم جمع للجن على رأي بعض علماء اللغة6. وقد ورد في مقابل "الإنس" في القرآن الكريم، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} 7. وصيره اسم أبي الجن بعض العلماء، أي في مقابل آدم أبي البشر8. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن كلمة "الجن" من الكلمات المعربة، وذهب بعض آخر إلى إنها عربية9. وأرى إنها من الكلمات السامية القديمة، لأن الإيمان بالجن من العقائد القديمة المعروفة عند قدماء الساميين وعند غير الساميين كذلك. والجن قوم مستترون، وكلمة "جنون" من هذا الأصل، ومن معاني أصل الكلمة الاستتار. ولم يتوصل الباحثون حتى الآن إلى رأي ثابت في أصل كلمة "الجن". فمنهم من رأى اسم صنم من أصنام العرب القديمة، ومنهم من رأى أنها من أصل

_ 1 تاج العروس "9/ 185"، "حنن". 2 المصدر نفسه. 3 الحيوان "7/ 177"، "هارون" "6/ 193". 4 بلوغ الأرب "2/ 351". 5 قال الأعشى سليم: فما أنا من جن إذا كنت خائفا ... ولست من النسناس في عنصر البشر وقال آخر: أبيت أهوى في شياطين ترن ... مختلف نجواهم حن وجن الحيوان "6/ 193". 6 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، روح المعاني "14/ 34 وما بعدها". 7 الرحمن، الآية 74. 8 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، "والجان: أبو الجن.. كما أن آدم أبو البشر"، اللسان "13/ 95 وما بعدها"، "جنن" Reste S 148 9 Ency., I, P. 1045, Smith, P. 121, Lane, Laxicon, P. 492

أعجمي، ومنهم من وجد لها صلة بالحبشية1. أما علماء العربية، فرأوا أن معنى الكلمة الأصلي هو الاستتار، وأنها من الاجتنان، ولعدم إمكان رؤية ذلك العالم أطلقت عليه كلمة "الجن"2. وتقابل لفظة "الجن" و"جن" لفظة "Demonw" في الإنكليزية. ويرى "نولدكه" أن فكرة "الجن" فكرة استوردها العرب من الخارج، بدليل قولهم أن الجنة من عمل الجن، ومن تلبس الجن بالإنسان. وهي في نظره عقيدة قديمة دخلت العرب من جيرانهم الشماليين، فقد كان الإيرانيون يطلقون على المجنون لفظة "ديوانه" "Devana"، أي جان. ومن هذه الفكرة دخلت العهد الجديد من الكتاب المقدس. ويأتي "نولدكه" بدليل آخر على إثبات نظريته في أن فكرة الجن فكرة مستوردة من الخارج شيوع قصص بناء جن سليمان مدينة "تدمر" بين الجاهليين، وهو قصص ورد من قصة بناء "سليمان" لـ "تامار" في العهد القديم، وتفسير "تامار" بتدمر عند المفسرين العبرانيين3. ورأى "روبرتسن سمث" وجوه شبه كبير بين فكرة العرب عن الجن وبين فكرة بعض القبائل البدائية عن الحيوانات. إن رأي الجاهليين في الجن في رأيه يشبه رأي المتوحشين الطوطميين في الحيوانات الوحشية. وفي القصص الذي يرويه البدائيون عن الحيوانات الوحشية وعن أرواحها وإمكان إحداثها الأمراض والأذى بالإنسان شبه بهذا القصص المروي عن الحيوانات الوحشية، مما جعله يتصور أن فكرة الجن عند الجاهليين هي تطور لهذه النظرية القديمة التي تكون عند الطوطميين. انتقلت إليهم من عقيدة سابقة تطورت من عهد عبادة الطوطم. وأن الجن "طوطمية" دون أن يكون لها قوم يشعرون بوجود صلة نسب وقربى بها4. ولكن من الصعب تصور ظهور فكرة الجن عند عرب الجاهلية برمتها من

_ 1 Ency. Religi, I, p. 669, Noldeke, Moallakat, I, 69, 78, Shorter Ency, p. 91. Ency, I, p. 1045. 2 تاج العروس "9/ 165"، "جن"، اللسان "13/ 95 وما بعدها"، "جنن". 3 Ency. Religi, I, p. 670. 4 Robertson Smith, Marriage, p. 128.

الطوطمية، لأن هناك أمورا عديدة لا يمكن تفسيرها على وفق هذه النظرية. ولكننا نستطيع أن نقول إنها نوع من أنواع1 الـ"Animism". وقد وجدت عند العبرانيين في عهودهم القديمة، كما كانت عند البابليين وغيرهم. وإذا سكن الجني مع الناس، قالوا: عامر، والجمع عمار، وإن كان ممن يعرض للصبيان، فهم أرواح، فإن خبث أحدهم وتعرم، فهو شيطان. فإن زاد على ذلك، فهو مارد. فإن زاد على ذلك في القوة، فهو عفريت. فإن طهر الجني ونظف ونقي وصار خيرًا كله فهو ملك. وهم في الجملة جن وخوافي2. لقد لعب الإيمان بالجن عند بعض الجاهليين دورا فاق الدور الذي لعبته الآلهة في مخيلتهم، فنسبوا إليها أعمالا لم ينسبوها إلى الأرباب، وتقربوا إليها لاسترضائها أكثر من تقربهم إلى الآلهة. إنها عناصر مخيفة راعبة. تؤذي من يؤذيها ويلحق به الأذى والأمراض، ولذلك كان استرضاؤها لازما لأمن تلك الآفات. وهذه العقيدة جعلت الجن في الواقع آلهة، بل أكثر سلطة ونفوذا منها، وصيرت عمل الآلهة سهلا يسيرا تجاه الأعمال التي يقوم بها الجن. ولا زال أثر هذه العقيدة باقيا في نفوس الناس حتى الأيام، مع تقليل أهمية عمل الجن على الإنسان في الإسلام. وليست هذه العقيدة عقيدة أهل الجاهلية حسب، بل هي عقيدة أكثر من اعتقد بأثر الأرواح في العالم وفي عمل الإنسان، إذ صيرتها آلهة مقرها الأرض، أو آلهة من الدرجة الثانية. والغريب أننا نرى بعض الشعوب تخصص أعمال الآلهة الكبيرة بناحية معينة، وتعتبرها آلهة رئيسية كبرى، بينما تجعل عمل الجن عملا واسعا يشمل كل الأرض والإنسان، أي أن عملها أوسع جدا من عمل تلك الألهة وأهم. وفي القرآن الكريم أن قريشًا جعلت بين الله وبين الجنة نسبا: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} 3، وإنها جعلت الجن شركاء له: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 4. أي جعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم

_ 1 المصدر نفسه. 2 الحيوان "6/ 190 وما بعدها". 3 الصافات، الآية "158. 4 الأنعام، الآية 100.

اياه، وخرقوا له بنين وبنات، وتخرصوا لله كذاب، فافتعلوا له بنين وبنات جهلا وكذابا1. وورد أن الله تزوج الجن، وأن الملائكة هم بناته من هذا الزواج. "قال كبار قريش: الملائكة بنات الله. فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: بنات سراة الجن"2. ويفهم من القرآن الكريم أيضًا أن من العرب من كان يعبد الجن: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3. وذكر "ابن الكلبي" أن "بني مليح" من خزاعة رهط طلحة الطلحات، كانوا ممن تعبد الجن من الجاهليين4. ويزعمون أن الجن تتراءى لهم5. وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} 6. وذكر أن قبائل من العرب عبدت الجن، أو صنفا من الملائكة يقال لهم الجن. ويقولون هم بنات الله7، فأنزل الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 8. وليس لدى المفسرين أو أهل الأخبار علم واضح عن كيفية اعتقاد بعض العرب بألوهية الجن وبمصاهرتها للآلهة أو الإله. وما ورد عن ذلك في القرآن، مجمل. والظاهر أن ذاكرة الإخباريين لم تتمكن من حفظ تفاصيل هذه العقيدة والعقائد المماثلة الأخرى، ولا بد وأن تكون لها أسطورة قديمة، يظهر أنها ماتت قبل الإسلام، أو أن المسلمين تركوا روايتها لمعارضتها للإسلام ولأنها كانت في نظرهم خرافة تتعلق بأصنام، فلم يروا الاهتمام بها، وتركوها، ولولا ورود ذكرها مقتضبا في القرآن، فلربما صرنا في جهل تام بأمر تلك العبادة. ويرى "نولدكه" أن الجاهليين لم يتعبدوا للجن، ولم يتخذوها آلهة على نحو

_ 1 تفسير الطبري "7/ 197". 2 لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي "2/ 81 وما بعدها"، حاشية على تفسير الجلالين. 3 سبأ، الآية 41. 4 الأصنام "34"، الاشتقاق "276". 5 تفسير القرطبي "14/ 309". 6 الأعراف، الآية "193. 7 تفسير الطبري "15/ 72". 8 الإسراء، الرقم "17،الآية 57.

ما نفهم من معنى الآلهة، وأن "عبد الجن"، وإن دل على التعبد للجن، إلا أن هذه التسمية لا تدل حتما على عبادة للجن1. وتتألف الجن من عشائر وقبائل، تربط بينها رابطة القربى وصلة الرحم. وهي كعشائر وقبائل جزيرة العرب، تتقاتل فيما بينها، ويغزو بعضها بعضًا. ولها أسماء ذكر بعضًا منها أهل الأخبار، كما أن لها ملوكا وحكاما وسادات قبائل. فهي في حياتها تحيا على شكل نظام حياة الجاهليين. وإذا اعتدى معتد على جان انتقمت قبيلته كلها من المعتدي أو المعتدين. وبين قبائل الجن عصبية شديدة، كعصبية القبيلة عند الجاهليين، وهي تراعي حرمة الجوار، وتحفظ الذمم والعقود وتعقد الأحلاف. فنحن إذن أمام حياة جاهلية مستترة غير منظورة، هي حياة جن جاهليين، ومن الجن "بنو غزوان"2، "بنو "غزوان"3. وقد تتقاتل طوائف من الجن، فيثير قتالها عواصف الغبار، ولذلك فسر الجاهليون حدوث العواصف والزوابع بفعل الجن. ونجد هذه الفكرة فكرة إحداث الجن للرياح والعواصف في المزامير من أسفار التوراة4. وهم مثل البشر، فيهم الحضر، أهل القرار، وفيهم المتنقلة وهم أعراب الجن، وفيهم من يسير بالنهار، وفيهم من يسير بالليل، وهم "سراة الجن"، و"السراة". قال الشاعر: أتوا ناري فقلت منون قالوا ... سراة الجن، قلت: عموا ظلاما5 وللجن كما للإنس ورؤساء وعظماء، نذكر منهم: الشنقناق والشيصبان. وقد ذكر الأول في شعر "بشار بن برد" وفي شعر لأبي النجم، وفي شعر حسن بن ثابت6. و"دحرش" أبو قبيلة من الجن7. وعقد الجاهليون أحلافا مع الجن على التعاون والتعاضد، فقد ذكر أن قوما

_ 1 Ency. ReIigI I, p. 670 2 اللسان "5/ 89"، "وبنو غزوان، حي من الجن"، "قرر". 3 تاج العروس "10/ 241"،"عزا". 4 المزمور104، الآية الرابعة Reste,S.151 5 تاج العروس "10/ 174"، "سرى". 6 الحيوان "1/ 308"، "6/ 228، 231"، ثمار القلوب "55". 7 تاج العروس "4/ 310"، "دحرش".

من العرب، كانوا قد تحالفوا مع قوم من الجن من "بني مالك بن أقيش"1. ويذكر الرواة قصصًا عن الجن مع الإنسان. يذكرون أن "تأبط شرا" رفع كبشا تحت إبطه، وأخذه معه إلى الحي، فصار يبول عليه في الطريق، حتى إذا قرب من مكانه، ثقل عليه، فرمى به، فإذا هو الغول2. ويذكرون أن ابن امرأة من الجن أراد الحج في الجاهلية، فخافت عليه أمه من سفهاء قريش، ولكنه ألح عليها بأن تسمح له بالذهاب. فلما أكمل الطواف، وصار ببعض دور بني سهم، عرض له شاب منهم فقتله، فثارت غيرة شديدة بمكة، ومات من بني سهم خلق كثير قتلهم الجن انتقاما منهم لمقتل الجان، فنهضت بنو سهم وحلفاؤها ومواليها وعبيدها، فركبوا الجبال والشعاب بالثنية، فما تركوا حية ولا عقربا ولا عظاية ولا خنساء ولا شيئًا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه، حتى ضجع الجن، فصاح صائحهم من على أبي قبيس يطلب وساطة قريش بينهم وبين بني سهم الذين قتلوا منهم أضاف ما قتله الجن من بني سهم، قتوسطت قريش، وأنهي النزاع، وتغلب بنو سهم على الجن3. والجن مثل البشر، يعتدون كذلك، ولا يردعهم من اعتدائهم إلا بالقوة. هذا رجل من "بني سهم" يقص علينا في الإسلام إنه كان بـ "تبالة" يراجع نخلا له، وبين يديه جارية له، فصرعت، فأدرك أن الجن هم الذين صرعوها، فوقف عليها قائلا: يا معشر الجن! أنا رجل من بني سهم، وقد علمتم ما كان بيننا وبينكم في الجاهلية من الحرب وما صرنا إليه من الصلح والعهد والميثاق أن لا يغدر بعضنا ببعض، ولا يعود إلى مكروه صاحبه، فإن وفيتم وفينا، وإن غدرتم عدنا إلى ما تعرفون. فخافت الجن من هذا التهديد، وأفاقت الجارية، ولم يصبها بعد ذلك مكروه4. وذهب الجاهليون إلى جواز قتل الجن للإنسان. وقد بقي هذا الاعتقاد

_ 1 الطبري "2/ 349"،"دار المعارف". 2 الأغاني "18/ 210 وما بعدها". 3 الأزرقي "2/ 11 وما بعدها"،"المطبعة الماجدية بمكة". 4 الأزرقي "2/ 12 وما بعدها".

في الإسلام. فلما قتل "سعد بن عبادة بن دليم"، زعم أن الجن قتلته1. ولما قتل المغني المعروف "الغريض"، وهو من الموالي، وكان نشأ خياطا ثم أخذ الغناء بمكة عن "ابن سريج"، زعم أن الجن نهته أن يغني لحنه الذي يقول فيه: تشرب لون الرازقي بياضه ... أو الزعفران خالط الملك رادعه فلما لم ينته قتلته الجن في ذلك خنقا2. وزعم أن الجن خنقت "حرب بن أمية"، وقالت الجن في ذلك شعرا3. وقتلت "مرداس بن أبي عامر"، أبا "عباس بن مرداس"، واستهوت "سنان بن حارثة"، ليستفحلوه، فمات فيهم. واستهووا "طالب بن أبي طالب"، فلم يعثر أهله له على أثر، واستهووا "عمرو بن عدي" اللخمي الملك، ثم ردوه على خاله "جذيمة بن الأبرش"، بعد سنين وسنين. واستهووا "عمار بن الوليد بن المغيرة"، ونفخوا في أحليه؛ فصار مع الوحش4. ويروي أهل الأخبار أن الجن تتصادق مع الإنسان وتتباغض معه، وقد تقتله، ورووا في ذلك قصصًا، وذكروا أنها قد تتألم لوفاة رجل طيب أو شهير محبوب. وقد تعطف على المحتاجين والمعوزين. وفي جملة ما قالوه عن الجن أن "أبا هالة" كان قد خرج في الجاهلية في عير لقريش يريد الشام، فنزل واديا يقال له: "عز"، وانتبه آخر الليل فإذا شيخ قائم على صخرة، وهو ينشد شعرا في رثاء عبد الله بن جدعان، وكان ذلك الشيخ جان من الجن. وقد ذكر أهل الأخبار محاورة من الشعر قالوا إنها جرت بين "أبي هالة"، وبين ذلك الشيخ

_ 1 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 373"، المعارف 112، الحيوان "6/ 209"، الاشتقاق"456". وسمعوا الهاتف يقول: قد قتلنا سيد الخزر ... ج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين ... فلم نخط فؤاده الحيوان "6/ 209"، "هارون"، "1/ 308". 2 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 373"، الأغاني "2/ 136، 143"، الحيوان "6/ 208""، "هارون" الحيوان "1/ 307". 3 الحيوان "1/ 302"، "هارون". وقالت الجن: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر الحيوان "6/ 207"، "هارون". 4 الحيوان "6/ 209 وما بعدها"، "هارون"

الجني الذي عين وقت وفاة "عبد الله بن جدعان"، وثبته بالضبط، فكان كما قال1. وقد يقع الحب بين الجن والإنس. فقد ذكر أن الجنية قد تتبع الرجل تحبه، ويقال لها: تابعة. ومن ذلك قولهم: معه تابعة، أي من الجنن والتابعة جنية تتبع الإنسان. كما يكون للمرأة تابع من الجن، يتبع المرأة يحبها2. وقد يعشق الجني امرأة ويتصادق معها. هذا "منظور" الجني، عشق امرأة اسمها "حبة"، وتصادق معها، فكانت "حبة" تتطبب بما يعلمها منظور3. وقد يسرق الجن الأطفال والرجال والنساء، وللأخباريين قصص يروونه في ذلك. وينسب فقدان الأشخاص في البوادي إلى الجن في الغالب. غير إنها قد تنفع الناس أيضًا، لأن من الجن من هو طيب النفس، مفيد نافع، ولا سيما إذا ما تقرب إليها الإنسان وأحسن إليها. رأى الشاعر عبيد بن الأبرص حية، فسقاها. فلما ضل جمل له وتاه، نادى هاتف بصوت مسموع سمعه عبيد بن الأبرص مشيرا إلى الموضع الذي ذهب الجمل إليه. فذهب عبيد إلى المكان، وجاء بمجملة4. وكان هذا لهاتف هو صوت الحية التي هي جان من الجن. وقد يتصاهر الإنسان مع الجن، فقد كان لعمرو بن يربوع بن حنظلة التميمي زوج من الجن: ولكنها لم تبق معه، بل اختفت بعد ذلك عند ظهور البرق5. ونسبت بعض الأسر والقبائل مثل "بني مالك"، و"بني شيصيان"، و"بني يربوع بن حنظلة" وعرفوا ببي السعلاة إلى الجن6. ونسب بعض الإخباريين نسب بلقيس وذي القرنين إلى الجن7. وذكر أيضًا أن زوج "عمرو بن يربوع التميمي" كانت سعلاة، أقامت مع زوجها في "بني تميم": فلما رأت برقا يلمع من شق بلاد السعالي، حنت وطارت إليهم، فقال شاعرهم:

_ 1 الاشتقاق "ص88 وما بعدها". 2 اللسان "8/ 29"، تبع". 3 تاج العروس "1/ 198"، "حب". 4 الأساطير العربية "79"، Reste, 154 ff. 5 الحماسة "1/ 561"، "طبعة فرايتاغ"، بلوغ الأرب "2/ 340"، الحيوان "1/ 185 وما بعدها، 188"، "هارون". Reste, S 154. 6 الأساطير العربية "75". 7 بلوغ الأرب "2/ 349"، الحيوان "1/ 180 وما بعدها".

رأى برقا فأوضع فوق بكر ... فلا بك ما أسأل وما أغاما1 وفي ذلك قال "علباء بن أرقم": يا قاتل الله بني السعلاة ... عمرو بن يربوع شرار النات2 وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع زواج الإنس بالجن وبالعكس، أي زواج الجن بالإنس. وتعرض لقول من قال إن "بلقيس" كانت من امرأة جنية. وذكر آراء الناس في هذا الزواج المختلط، الذي شك في إمكان انجاب نسل منه. وقال: "وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحطانية، ونقرؤه في كتب السيرة، قص به القصاص، وسمروا به عند الملوك"3. وقد كان لأهل اليمن قصص وأساطير، بدليل ما نلاحظه من أن معظم رواة القصص القديم كانوا من أهل اليمن في صدر الإسلام. ويظهر أنهم حذقوا به وتفوقوا به على بقية العرب الذين نسميهم العدنانيين بسبب دخول كثير منهم في اليهودية وفي النصرانية وشرائهم الكتب، وفيها قصص من قصص أهل الكتاب والأساطير القديمة، فمزوجوه مع ما كان لهم من قصص وثني قديم. وقد أطلق "الجاحظ" على قول الناس بزواج الإنس بالجن وبالعكس "الزواج المركب"، وأشار إلى قول الشاعر علباء بن أرقم: يا قاتل الله بني السعلاة ... عمرا وقابوسا شرار النات إنه الدليل على أن السعلاة تلد الناس. هذا سوى ما قالوا في الشق وواق واق ودوال باي وفي الناس والنسناس4. وذكر أيضًا أن أعراب بني مرة تزعم أن الجن استهوت سنانا بي أبي حارثة المري، وهو والد هرم بن سنان، لتستفحله إذ كان منجبًا، وكان سنان قد

_ 1 الحيوان "1/ 186"، "هارون"، "6/ 197". 2 الحيوان "6/ 161"، اللسان "2/ 407"، نوادر أبي زيد "104، 147"، المخصص "3/ 26" "13/ 283"، الأمالي، للقالي "2/ 68"، محاضرات الراغب "2/ 281"، الخصائص "451"، الفصول والغايات "210". 3 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 371". 4 كتاب البغال من رسائل الجاحظ "2/ 374"، الحيوان "1/ 189". "هارون".

هام على وجهه1. وقد وجه الإنسان جميع مواهبه منذ أقدم أيامه لتسخير عالم الأرواح، وجعله في خدمته وتحت تصرفه، أو لتحويله بحسب رغباته، وتجنب ضرره وأذاه. قام بذلك رجال الدين خاصة، ورجال الدين بحكم اتصالهم بالآلهة وبالعالم غير المنظور، هم خلفاء الآلهة على وجه الأرض، وألسنة الأرواح الناطقة بين الناس. فكانوا حكاما ورجال دين وسحرة وأطباء وعلماء، كما قام بذلك المنجمون والسحرة والكهان وغيرهم ممن تكهن وتحدث عن الغيب، وأظهر أن في قدرته التأثير على حياة الإنسان ونفعه وضره بالاستعانة بعالم الأرواح وبما عنده من قدرات خارقة في إمكانها اختراق حجب الأسرار والتحكم في العالم الخفي لتحويله إلى صالح إنسان إلى إلى الاضرار به. وليس الجاهليون بدعا في هذه الأمور، بل كان غيرهم من الشعوب كالعبرانيين والبابليين والأغريق والرومان والمصريين والهنود وكل الشعوب الأخرى تعتقد بذلك. ولها رجال ادعوا العلم. وقد كان الجاهليون يعلقون الحلي والجلاجل على "اللديغ"، يفعلون ذلك لاعتقادهم إنه يفيق بذلك، فلا تنام، ولو نام، سرى السم في جسمه، فمات. وذهب بعضهم إلى أن تعليق الحلي على اللديغ يبرئه من أمله. أما إذا علق الرصاص عليه، أو حلي به، فإنه يموت2. وتقوم الجن بأعمالها بشكل غير منظور في الغالب، لأنها أرواح. وهي قد تحذر الإنسان أو ترشده إلى شيء يريده بصوت جمهوري مسموع، يقال له: الهاتف، دون أن يرى الشخص أو الأشخاص صاحب ذلك الصوت. وهي تنبئ عن المستقبل كما تتحدث عن الماضي3. وقد ذكر "الجاحظ" أن "الأعراب وأشباه الأعراب لا يتحاشون عن الإيمان بالهاتف، بلد يتعجبون ممن رد ذلك". ثم قال: "قالو: ولنقل الجن الأخبار علم الناس بوفاة الملوك، والأمور المهمة، كما تسامعوا بموت المنصور بالبصرة وفي اليوم الذي توفي فيه بقرب مكة. وهذا الباب أيضًا كثير"4.

_ 1 المصدر نفسه "ص375"، الحيوان "7/ 24"، الميداني "1/ 202". 2 بلوغ الأرب "2/ 304". 3 الحيوان "6/ 202". 4 الحيوان "6/ 202 وما بعدها".

والجن وإن كانت من الأرواح، أي أنها غير منظورة، إلا أن في استطاعتها أن تتجسم متى شاءت. فتظهر على هيئة جسم من الأجسام. إذ أن للجن قدرة على التشكل بالشكل الذي تريده، تظهر في صورة حيوان أو في صورة إنسان أو غير ذلك. ومن هنا نجد قصص مصاهرة الإنسان للجن، وظهور نسل وأسر من هذا الزواج. وفي استطاعتها أيضًا تغيير الشكل الذي ظهرت به بشكل آخر حيث تشاء1. كما ورد ذلك في قصة الشاعر "تأبط شرا" والكبش الذي حمله، بينما هو جني. ومن هنا تختلف طبيعتها عن طبيعة البشر والحيوان. وقد تتمثل الجن في صور حيوانات مشعرة، أي ذات شعر كثيف. فالجن عند الشعوب السامية ذات شعر كثيف، لذلك قيل لها "سعريم" "Sa,hirim" في العبرانية. وهي تختار الأماكن الموحشة المقفرة في الظلام، مثل رهبان الليل "ليليت" LiIith"، وتذهب مع الحيوانات التي تنفر من الإنسان مثل النعامة2. وفي الأساطير الجاهلية أن البقر إذا أوردت "فلم ترد، ضربوا الثور ليقتحم الماء، فتقتحم البقر بعده، ويقولون إن الجن تصد البقر عن الماء، وأن الشيطان يركب قرني الثور"3. وقد ذكرت هذه الأسطورة في أشعار جاهلية، يظهر من نقدها ودراستها إنها من آثار العقائد الجاهلية في الجن. وقد اتخذت مثلا لمن ينزل عليه يركب قرني الثور، هو الذي جعلهم يتصورون أن الثور يتقدم البقر في شرب الماء، ذلك لأن الشيطان ركب قرنيه، فلا يخشى الثور إذن من الجن، والشيطان أخبث أنواع الجن وأذكاها. فتخافه الجن، وتفسخ المجال للبقر في ورود الماء. أما ضرب الثور لتوجيهه إلى الماء، فلأجل أن الشيطان ركب قرنيه، فبضربه وبتقدمه الشيطان نحو الماء فتخافه الجن وتفزع منه، وتسمح للبقر بورود الماء، ولهذا ضرب، ليستفيد بذلك غيره4.

_ 1 Robertson Smith, Lectures on the Religion of the Semite, p. 120. 2 Robertson, p. 120, B.C. Thompson, Semitic Magic, London, 19089, p. 57. 3 قال الأعشى: لكالثور والجني يضرب وجهه ... وما ذنبه إن عافت الماء باقر ولغيره: إني وقتلى سليكا حين أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر 4 بلوغ الأرب "2/ 303 وما بعدها".

وأهم مواطن الجن في نظر الجاهليين، هي المواضع الموحشة، والأماكن المقفرة التي لا تطرق إلا نادرا والمحلات التي لا تلائم الصحة، والمقابر والأماكن المظلمة والمهجورة. ففي مثل هذه المواطن تنزل الجن، وتفضل الإقامة بها، وسبب ذلك، هو أن الإنسان يخشى هذه المواضع، ويحس بشيء من الخوف والوحشة من الدخول إليها، فقد يتعرض فيها إلى التهلكة، فأوحى هذا الأحساس إليه أنها "مسكونة"، وأن سكانها هم الجن. وأنهم قد يتعرضون له بسوء إن لم يعرف كيف يسلك سلوكان طيبا معها، ولذلك صار يتحاشى ولوج هذه المواضع، لا سيما في الليالي المظلمة، وإذا دخلها مضطرا، تخيل الأشباح والأرواح وهي تلعب به كيف تشاء، وتحوم حوله. ومن هنا ظهر عنده القصص المروي عن مواطن الجن. وسكنت الجن المواضع المظلمة والفجوات العميقة فيها وباطن الأرض، ولذلك قيل لها: ساكنوا الأرض. كما سكنت المقابر1. والمقابر هي من المواضع الرئيسية المهمة المأهولة بالجن. ولذلك يخشى كثير من الناس ارتيادها ليلا. وهي لا بد أن تكون على هذه الصفة، فهي مواطن الموتى، وأرواح الموتى تطوف على القبور، والموت نفسه شيء مخيف، والجن أنفسها أرواح مخيفة، فهل يوجد موضع أنسب من هذا الوضع لسكن الجن؟ وتزعم الأعراب أن الجن سكنت "وبار". وحمتها من كل من أرادها؛ وهي بلاد من أخصب بلاد العرب، وأكثرها شجرا، وأطيبها ثمرا، وأكثرها حبا وعنبا. فإن دنا إنسان من تلك البلاد، متعمدا أو غالطا، حثوا في وجهه التراب، فإن أبى الرجوع خبلوه، وربما قتلوه. فليس في تلك البلاد إلا الجن، والإبل الحوشية2. وقد زعم أن "يبرين" من مواطن الجن. وكانت في الأصل مواضع عاد. فلما هلكت، سكنتها قبائل الجن. وقد روى أهل الأخبار قصصًا عنها وعن اتصالها بالإنسان. وزعم بعض منهم أن "النسناس"، هم قوم من الجن3.

_ 1 Reste S 151 2 الحيوان "6/ 215 وما بعدها". 3 تاج العروس "4/ 257"، "نس".

وقد ورد مثل هذه الأقوال عن مواضع أخرى كانت عامرة آهلة، ثم أقفرت، مثل الحجر موضع ديار ثمود1، مما يدل على أن من اعتقادات العرب قبل الإسلام هو أن المواضع التي تصيبها الكوارث تكون بعد هلال أصحابها مواطن للجن. ونجد مثل هذه الأساطير عند العبرانيين وعند غيرهم من الشعوب2. وأشير في شعر "لبيد" إلى "جن البدي". قيل: "والبدي: البادية، أو موضع بعينه" وقيل واد لبني عامر3. وأشار "النابعة" إلى "جنة البقار". وذكر أن البقار واد، أو رملة، أو جبل، سكنته الجن، فنسبت إليه4. وأشير إلى "جنة عبقر" في شعر "زهير" و"لبيد" و"حاتم"5. وعبقر أرض بالبادية كثيرة الجن، وذكر بعضهم إنها باليمن6، قال لبيد: ومن فاد من إخوانهم وبنيهم ... كهول وشبان كجنة عبقر وقال بعض العلماء: عبقر قرية الجن فيما زعموا، فكلما رأوا شيئًا فانقا غريبا مما يصعب عمله ويدق أو شيئًا عظيمًا في نفسه نسبوه إليها. ولهذا قالوا: العبقري للسيد الكامل من كل شيء، وللذكي الممتاز7. والمواضع المذكورة هي المواضع المفضلة المختارة لسكنى الجن. غير أن مواطن الجن غير محدودة ولا معينة، إنها تسكن كل موضع ومكان، حتى بيوت الناس لا تخلو منها، بل حتى البحار والسماء لا تخلو منها كذلك، فدولتها إذن على هذا الوصف أوسع من دولة الإنسان. وعلى من سكنت الجن بيته ألا يمسها بأذى ولا يلحق بها أي سوء، وأن يقوم بترضيتها بالبخور وبما شاكل ذلك مما تحبه الجن، وإلا أساءت إليه، وجعلت بيته مؤذيا شؤما، لا يرى من يسكن فيه أي خير.

_ 1 Reste, S. 150 2 Robertson, p. 120 3 الحيوان "6/ 189"، "هارون". 4 الحيوان "6/ 189"، اللسان "6/ 47"، "12/ 330". 5 الحيوان "6/ 189"، اللسان "6/ 209"، البلدان "6/ 113"، ثمار القلوب "188". 6 تاج العروس "3/ 379"، "عبقر"، اللسان "4/ 53 7 تاج العروس "/ 379"، "عبقر".

وكان الرجل في الجاهلية إذا اطرف دارا ذبح فيها ذبيحة، يتقي بها أذى الجن، لاعتقادهم أن في كل دار جنا يقيمون بها فلترضيتهم وللتقرب إليهم، يذبحون ذبيحة عرفت عندهم بـ "ذبائن الجن"1. ولا تزال عادة الناس ذبح ذبيحة عند الابتداء ببناء دار، وعند الانتقال إليها. وكانوا أيضًا يذبحون ذبيحة عند استخراجهم عينا، أو شرائهم دارا، أو بنياتهم بنيانا، مخافة أن تصيبهم الجن، فأضيفت الذبائح إليهم لذلك. وقد نهى النبي عن ذبائح الجن2. وكان في اعتقادهم أن الأماكن المذكورة مليئة بالجن، لذلك كانوا يستجيرون برجال من الجن في أسفارهم، إذا نزلوا منازلهم، يقولون: نعوذ بأعز أهل هذا المكان، أو إني أعوذ بكبير هذا الوادي. وإلى ذلك أشير في القرآ الكريم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 3. روي عن "حجاج بن علاط السلمي"، "إنه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخوف موحش، فقال له الركب: قم خذ لنفسك أمانا ولأصحابك، فجعل يطوف بالركب ويقول: أعيذ نفسي وأعيذ صحبي ... من كل جني بهذا النقب حتى أأوب سالما وركبي4 فوصل وركبه سالما إلى مكة دون أن يمسه أو أن يمس من كان معه من الركب أحد بسوء5. وروي أن الرجل منهم كان إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل عمد إلى واد ذي شجر فأناخ راحلته في قرارته وهي القاع المستديرة وعقلها وخط عليها خطا ثم قال: "أعوذ بصاحب هذا الوادي. وربما قال بعظيم هذا الوادي"6. قال أحدهم:

_ 1 اللسان "13/ 213"، "سكن". 2 اللسان "2/ 437"، "ذبح". 3 سورة الجن، رقم 72، الآية 6، تفسير الطبري "29/ 67 وما بعدها". 4 الروض الأنف "1/ 136". 5 الروض الأنف "1/ 136"، الإصابة "1/ 312"، "1622". 6 بلوغ الأرب "2/ 325".

قد بت ضيفا لعظيم الوادي ... المانعي من سطوة الأعادي راحلتي في جاره وزادي وقالوا إنهم كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلا يقولون: نعوذ بأعز أهل هذا المكان. يقولون ذلك عند نزولهم واديا في الغالب إذ نجد الرواة يكررون عبارة: "كانوا إذا نزلوا الوادي، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي"، أو "بعزيز هذا الوادي"2. ويظهر أنهم تخوفوا من الوديان خاصة، لما قد يقع فيها من مهالك، فنسبوا ذلك إلى فعل الجن. وقال آخر يستجير بجن "عالج" ويتوسل إليهم ألا يرهقوه بغوي هائج، إذ يقول: يا جن أجزاء اللوى من عالج ... عاذ بكم ساري الظلام الدالج لا ترهقوه بغوي هائج وقال آخر: أعوذ من شر البلاد البيد ... بسيد معظم مجيد أصبح يأوي بلوى زرود ... ذي عزة وكاهل شديد وقد استعاذ رجل منهم ومعه ولد، فأكله الأسد فقال: قد استعذنا بعظيم الوادي ... من شر ما فيه من الأعادي فلم يجرنا من هزبر عادي3 وذكر أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا يرون أن الجن تعزف في المفاوز بالليل. والعزف والعزيف صوت الجن، وهو جرس يسمع بالمفاوز. وهو صوت يسمع بالليل كالطبل. وروي عن "ابن عباس" قوله: "كانت الجن تعزف بالليل كله بين الصفا والمروة"4. وقد اشتهر موضع "العزاف"، وقيل "ابرق

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 326". 2 تفسير الطبري "29/ 68 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "2/ 326". 4 تاج العروس "6/ 197"، "عزف".

العزاف" بأنه موضع يسمع به عزيف الجن1. وقد مون القصص الإسرائيلي أهل الجاهلية بشيء مما كان ينقصهم من أساطير الجن، وتوسع وزاد هذا القصص في الإسلام، حتى تولد منه هذا الذي نجده مدونا عن أخبار الجن في المؤلفات الإسلامية. وتخبر الجن الإنسان تقع في مواضع بعيدة، وهو لا يعلم عنها شيئًا. فلما "هبط نباش بن زرارة بن وقدان"، زوج "خدييجة بنت خويلد" قبل النبي، واديا يقال له "عز"، انتبه في آخر الليل، فإذا شيخ قائم على صخرة، وهو يقول: ألا هلك السيال غيث بني فهر ... وذو العز والباع القديم وذو الفخر فقال له نباش: ألا أيها الناعي أخا الجود والفخر ... من المرء تنعاه لها من بني فهر وبقيا يقولان الأبيات، حتى أخبره الشيخ بوفاة "عبد الله بن جدعان" في وقت حدده وضبطه له. فلما وصل مكة، علم بوفاته على نحو ما أخبره به ذلك الشيخ. وهو جني من الجن، ينظم الشعر، وقد رثى "ابن جدعان"2. ونجد في شعر الشعراء الجاهليين أمثال "أمية بي أبي الصلت" و"الأعشى" إشارات إلى الجن. وهم من أهل الجاهلية الذين كان لهم اتصال بأهل الكتاب وبكتبهم، وقد زعم أن بعضًا منهم كان قد قرأ تلك الكتب ووقف على العبرانية أو السريانية. ولهذا ورد في شعرهم شيء من قصص أهل الكتاب. وفي جملته ما ذكرته من إشاراتهم إلى الجن. وتراهم يربطون بينها وبين "سليمان". أخذوا ذلك ولا شك من الأساطير العبرانية، التي صيرت الجن في خدمة "سليمان". نجد الأعشى يقول: وسخر من جن الملائك تسعة ... قياما لديه يعملون محاربا

_ 1 تاج العروس "6/ 197، 287"، "برق". 2 الاشتقاق "88 وما بعدها".

قصد بذلك "سليمان"1. ونجد أن في جملة ما نسب عمله إلى جن سليمان بعض المواضع مثل تدمر وقصر غمدان. وقال النابغة الذبياني: إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد فمن عصاك فاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد2 وفي هذا الشعر إن صح أنه من نظم النابغة حقًّا، دلالة على تأثر الشاعر بالأسطورة اليهودية عن "تامار"، وعن جن سليما. ونسبوا السيوف المأثورة إلى جن وشياطين "سليمان". ونسبوا إليه وإليهم أشياء عديدة أخرى3. وقد ادعى إناس من الجاهليين إنهم كانوا يرون الغيلان والجن، ويسمعون عزيف الجان، أي صوت الجن. وقد بالغ الأعراب في ذلك، وأغربوا في قصص الجان، لما كانوا يتوهمونه من ظهور الأشباح لهم في تجوالهم بالفيافي المقفرة الخالية، فتصوروه جنا وغولا وسعالى، وبالغوا في ذلك أيضًا، لما وجدوه في أهل الحضر ولا سيما في الإسلام من ميل إلى سماع قصص الجان والسعالى والغول4. وقالوا إنهم ربما نزلوا بجمع كثير، ورأوا خياما، وقبابا، وناسا، ثم إذا بهم يفقدونهم من ساعتهم، وذلك لأنهم من الجن5. ونسبوا إلى الجن إحداث كثير من الأمور غير الطبيعية، مثل الأمراض والأوبئة والصرع والاستهواء والجنون خاصة. فالجنون هو تلبس الجن بالإنسان ودخولهم جسمه. لذلك ربطوا بين الجن والجنون. ويرى "نولدكه" أن فكرة أن الجنو من عمل الجن، عقيدة قديمة وجدت عند غير العرب كذلك. فقد كان الإيرانيون

_ 1 تاج العروس "9/ 165"، "جن". وسخر من جن الملائك تسعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر اللسان "13/ 97"، "جنن". 2 الحيوان "6/ 223". 3 الحيوان "6/ 178". 4 الحيوان "6/ 172" وما بعدها، 182". 5 الحيوان "6/ 200"، "هارون".

يطلقون على المجنو لفظة "ديوانه" "Devana"، أي الذي به "ديو" "Dev" من الأصل "ديوه" "Daiva"، ومعناها "Demon" أي جان. ومن هذه الفكرة دخلت في العهد الجيد من الكتاب المقدس. ومن الفارسية دخلت "ديوان" Daiwan" في الإرمية بينما دخلت إلى الفارسية كلمة "شدها" Shedha" من أصل "شدهان" "Shedhan" الإرمي واستعملت في مقابل "Deo" أي جان و"شيده" "Shedh" في الإرمية الجان1. وهم يزعمون أن الجن إذا عشقت إنسانا صرعته، ويكون ذلك على طريق العشق والهوى، وشهوة النكاح. وأن الشيطان يعشق المرأ’، وأن نصرته إليها من طريق العجب بها أشد عليها من حمى أيام، وأن عين الجان أشد من عين الإنسان2. والعرب تزعم أن الطاعون من الجن، ويسمون الطاعون رماح الجن. قال الأسدي للحارث الملك الغساني: لعمرك ما خشيت على أبي ... رماح بني مقيدة الحمار ولكني خشيت على أبي ... رماح الجن أو إياك حار3 وللجن حوار مع الإنس وكلام نجده منثورا كما نجده منظوما في شعر ينسب إلى الشعراء الجاهليين. ويروي الإخباريون شعرا ينسبونه إلى "جذع بن سنان" ورد فيه وصف ملاقاته للجن ومحاورته معها ودعوته إياها إلى الطعام وامتاعها عن الأكل، كما رووا شعرا لغيره يصف ملاقاة بين الجن وبين أصحاب هذا الشعر4. وهو قصص لم يبخل على الجن فأعطاها شعرا من هذا الشعر الجاهلي الفصيح! وقد سخر "الخيتعور" أحد "بني الشيصبان" من الجن من الأشعار التي جمعها "المرزباني" "المتوفى سنة 384هـ"، من شعر الشعراء الجن، فما هذا الذي جمعه إلا قطعه من شعرهم، وهل يعرف البشر من النظم كما يعرف الجن.

_ 1 Ency. ReIig, I, p. 670 2 الحيوان "6/ 217 وما بعدها". 3 الحيوان "6/ 219". 4 بلوغ الأرب "2/ 350 وما بعدها".

وإنما للبشر خمسة عشر جنسا من الموزون، قل ما يعدوها القائلون، وإن للجن آلاف الأوزان ما سمع بها الإنس1.

_ 1 رسالة الغفران "291"، "بنت الشاطئ".

طعام الجن

طعام الجن: وطعام الجن مثل طعام الإنسان، هم يشاركونه أكله في بعض الأحيان. "رووا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنه سأل المفقود الذي استهوته الجن: ما كان طعامهم؟ قال: الفول. قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف. رووا أن طعامهم الرمة وما لم يذكر اسم الله عليه"1. وقد جاء قوم من الجن إلى نار "شمر بن الحارث الضبي"، فدعاهم إلى الطعام بقوله: أتوا ناري فقلت منون قالوا ... سراة الجن قلت عموا ظلاما فقلت إلى الطعام فقال منهم ... زعيم نحسد الإنس الطعاما2 والحوشي من الإبل هي التي قد ضربت فيها فحول إبل الجن. فالحوشية من نسل إبل الجن3. ويقال إنها منسوبة إلى "الحوش" بلاد الجن من وراء رمل يبرين، لا يمر بها أحد من الناس، وقيل هم من بلاد الجن. وقيل الحوشية إبل الجن، أو منسوبة إلى الحوش وهي فحول جن، تزعم العرب إنها ضربت في نعم "بني مهرة بن حيدان" فنتجت النجائب المهرية من تلك الفحول الوحشية، فنسبت إليها، فهي لا يكاد يدركها التعب4.

_ 1 الحيوان "6/ 210 وما بعدها". 2 الحيوان "6/ 197". 3 الحيوان "6/ 216". 4 الحيوان "4/ 302"، "حاش".

الحية

الحية: والحية، من أكثر الحيوانات ورودا في القصص الذي يرويه الإخباريون عن الجن. وقد جعلوها فصيلة مهمة من فصائلها، ونوعا بارزا من أنواعها. قال

بعض العلماء: الجان، حية بيضاء، وقال بعض آخر: الجان حية، أو ضرب من الحيات1. ولما قام "حرب بن أمية" جد معاوية بن أبي سفيان مع "مرداس بن أبي عمرو" باصلاح "القرية"، وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام، فأضرما النار في الغيضة، فلما استطارت وعلا لهيبها سمع من الغيضة أنين وضجيج كبير، ثم ظهرت منها حيات بيض تطير حتى قطعتها وخرجت منها، فما لبث أن مات الرجلان، أماتهما الجن على ما يزعمه رواة هذا الخبر2. ولعلهما ماتا بعضة حية من تلك الحيات التي كانت ساكنة بين تلك الحيات والحشرات، فابتدعت مخيلة القصاصين هذه القصة عن فزع الجن وطيرانها في صورة ثعابين بيض. ويعلل "نولدكه" وفاتهما بفعل الاختناق من الغاز الذي تصاعد من الاحتراق3. وذكروا أن الحية لا تموت حتف أنفها، وإنما تموت بعرض يعرض لها. وإنها تصبر على الجوع حتى ضرب بها المثل في ذلك. وإنها إذا هرمت صغرت في بدنها. ولم تشته الطعام4. وإنها تنطق وتسمع. وقد أورد أهل الأخبار شعرا في ذلك، ذكروا أنه للنابغة. ومذهب النابغة في الحيات مذهب أمية بن أبي الصلت، وعدي بن زيد وغيرهما من الشعراء5، الذين تأثروا برأي أهل الكتاب فيما جاء عن الحية في العهدين وفي كتب الشروح والتفاسير والقصص الإسرائيلي القديم. ولم تنفرد مخيلة الجاهليين وحدها باختراع إسطورة أن الحيات هي من الجن، وإنها جنس منها، فإن غير العرب من الساميين مثل العبرانيين كانوا يقولون أيضًا بهذا القول. وكذلك قال بهذه الأسطورة غير الساميين، مما يدل على إنه من الأساطير القديمة جدا التي انتشرت عند البشر، بسبب ما قاسوه في أيام بداوتهم من هذا الحيوان6. ونجد قصة الحية في سفر التكوين. وهي في هذا السفر أشد

_ 1 تاج العروس "9/ 165"، "جن". 2 الحيوان "2/ 143"، "حاشية"Robertson, p. 233 3 Ency. ReIigi, I, p. 670 4 الحيوان "4/ 118 وما بعدها"، "موت الحية". 5 الحيوان "4/ 203 وما بعدها". 6 Ency. ReIigi, I, p. 669

الحيوانات حيلة، فهي التي خدعت حواء خدعتها الشهيرة، وسببت طردها وطرد زوجها آدم من الجنة إلى الأرض1. ولعقيدتهم هذه في "الحية"، كانوا إذا وجدوا حية ميتة كفنوها ودفنوها، فعلوا ذلك في الإسلام أيضًا. جاء إنه بينما كان "عمر بن عبد العزيز" يمشي في أرض فلاة، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها. وورد إنه كان جمع من أصحاب رسول الله "يمشون فرفع لهم اعصار، ثم جاء إعصار أعظم منه، ثم انقشع، فإذا حية قتيل، فعمد رجل منا إلى ردائه وكفن الحية ببعضه ودفنها. فلما جن الليل إذا امرأتان تتساءلان أيكمن دفن عمرو بن جابر؟ فقلنا ما ندري ما عمرو بن جابر! فقالتا إن كنتم ابتغيم الأجر، فقد وجدتموه. إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين منهم. فقتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم"2. "وفي الحديث: إنه نهى عن قتل الجنان. هي الحيات التي تكون في البيوت، واحدها جان، وهو الدقيق الخفيف"3. والجان الشيطان أيضًا. وورد في الحديث: ذكر الحيات، فقال: من خشي خبثهن وشرهن واربهن، فليس منا. أي من توقى قتلهن خشية شرهن فليس ذلك من سنتنا. وكانت الجاهلية تقول إنها توذي قاتلها أو تصيبه بخبل4. وذكر العلماء أن "اللاهة" الحية، أو الحية العظيمة. وأن "اللات"، الصنم المعروف أصله "لاهة" كأنه سمي بها. وأن اسم الجلالة منها5. وفي الأساطير الجاهلية ما يفيد تعبد الجاهليين للحية، وفي هذا التفسير ما يؤيد هذا الرأي. ويقال للحية: "بنت طبق". و"بنات طبق" الحيات، والحية "أم طبق" وبنت طبق. وهي "الدواهي". ومن أساطيرهم أن بنت طبق سلحفاة تبيض تسعا وتسعين بيضة كلها سلاحف، وتبيض بيضة تنقف عن حية6. والحيات شياطين، وللعرب شجر يطلقون عليه "الصوم"، كريه المنظر

_ 1 السفر الثالث من تكوين، الآية 1 وما بعدها. 2 الروض الأنف "1/ 136". 3 اللسان "13/ 95"، "جنن". 4 تاج العروس "1/ 145"، "أدب". 5 تاج العروس "9/ 410"، "لاه". 6 تاج العروس "6/ 415"، "طبق".

جدا، يقال لثمره "رءوس الشياطين" أي الحيات، وليس له ورق1.

_ 1 تاج العروس "8/ 372"، "صام".

الغول

الغول: وقصص الغول هي من أشهر القصص الجاهلي المذكور عن الجن، ومع خطر الغول وشراسته في رأي الجاهليين، ورد في قصصهم تزوج رجال من الإنس منهم. وورد أن الشاعر "تأبط شرا" تعرض بغيلة. فلما امتنعت عليه، جللها بالسيف فقتلها. وهم يروون أن من الممكن قتل الغول بضربة سيف. أما إذا ضربت مرة ثانية، فإنها تعيش ولو من ألف ضربة. وهكذا ترى قصصهم يروي تغلب الإنسان على الغيلة في بعض الأحيان. وأكثر قصص الغول منسوب إلى "تأبط شرا"1. وللقب الذي يحمله هذا الشاعر أو حمل عليه دخل، ولا شك، في ظهور هذا القصص. ويرى علماء اللغة أن من معاني "الغول" التلون، والظهور بصور مختلفة، والاغتيال. ويرون أن الغول أنثى، وأما ذكرها فيسمى "قطربا"2. ولصفة التلون والظهور بصور مختلفة سموا الغول "حيتمورا"، وهو كل شيء لا يدوم على حالة واحدة، ويضمحل كالسراب3. وذكر في وصف غدرها بالإنسان إنها إذا أرادت أن تضل إنسانا أوقدت له نارًا، فيقصدها، فتدنوا منه، وتتمثل له في صور مختلفة، فتهلكه روعا، وإن خلقتها خلقة إنسان، ورجلاها رجلا حمار4. وذكروا أن الغول اسم لكل شيء من الجن يعرض للسفار، ويتلون في ضروب الصور والثياب، ذكرا كان أو أنثى. وقد قال "كعب بن زهير" الشاعر الصحابي، الذي مدح الرسول، في وصف تلون الغول:

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 341 وما بعدها"، الأغاني "18/ 209 وما بعدها"، الحيوان "6/ 233، 235". 2 بلوغ الأرب "2/ 346 وما بعدها"، الحيوان "6/ 48"، تاج العروس "8/ 51"، "غال". 3 بلوغ الأرب "2/ 347". 4 بلوغ الأرب "2/ 348"، الحيوان "6/ 214".

فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول1 وفي تلون الغول يقول "عباس بن مرداس السلمي": أصابت العام رعلا غول قومهم ... وسط البيوت ولون الغول ألوان2 فالغول تتحول في أي صورة شاءت، وتتمثل في صور مختلفة، إلا رجليها، فلا بد من أن تكونا رجلي حمار3. وذكر أن "الغول" "السعلاة"، وهما مترادفان، وذكر أن الغيلان جنس من الجن والشياطين، والعرب تسمي الحية الغول. وقيل أن "أنياب أغوال" الواردة في شعر لامرئ القيس، الحيات، وقيل: الشياطين4. وإلى الشاعر "عبيد بن أيوب" شاعر "بني العنبر"، يعود قسط كبير من القصص الوارد عن "الغول" و"السعلاة". فقد كان يخبر في شعره إنه يرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي، ويؤاكل الظباء والوحش. وقد أورد أهل الأخبار شيئًا من شعره في هذا الباب5. وذكر بعض علماء اللغة، أن الغول الذكر من الجن، والسعلاة الأنثى. والغول ساحرة الجن، وتقول إن الغول يتراءى في الفلاة للناس فتضلهم عن الطريق6. وأما "السعالي"، وواحدتها السعلاة، فذكر أنها سحرة الجن، وقيل: إن الغيلان جنس منها، وأن الغيلان هي إناث الشياطين، وأنها -أي السعالي- أخبث الغيلان، وأكثر وجودها في الغياض، وإنها إذا ظفرت بإنسان ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر، وأن الذئب يأكل السعلاة7. وذكر أن "السعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغول السفار. وهم إذا رأوا المرأة

_ 1 الحيوان "6/ 158 وما بعدها". 2 الحيوان "6/ 161". 3 الحيوان "6/ 220". 4 تاج "8/ 51"، "غال". 5 الحيوان "4/ 482"، "هارون"، "5/ 123، 138، 241"، "6/ 128، 159، 160، 165، 235، 251، 395", 6 تاج العروس "8/ 51"، "غال". 7 بلوغ الأرب "2/ 346 وما بعدها".

حديدة الطرف والذهن، سريعة الحركة ممشوقة ممحصة، قالوا: سعلاة. وقال الأعشى: ورجال قتلى بجنبي أريك ونساء كأنهن السعالى1 وذكر أن في الجن سحرة كسحرة الإنس لهم تلبيس وتخييل، وهم السعالى. وهم أقدر من الغيلان في هذا الباب2.

_ 1 الحيوان "6/ 158 وما بعدها". 2 تاج العروس "7/ 375 وما بعدها"، "سعل".

الشيطان: والشيطان هو "Satan" في الإنكليزية، و"DiaboIos" في الإغريقية. ويرجع علماء اللغة كلمة "الشيطان" إلى أصل "شطن"، ويقولون إن من معاني هذه الكلمة الخبث، ولما كان الشيطان خبيثا قيل له "شيطان" ومعنى ذلك أن فكرة خبث الشيطان كانت معروفة لصاحبها قبل التسمية1. فلما بحث عن لفظة مناسبة لها، اختاروا هذا الكلمة التي تدل على الخبث. وهو تعليل من تلك التعليلات المعروفة المألوفة التي كان يرجع إليها علماء اللغة كلما أعيادهم الوصول إلى أصول الأشياء. و"الشيطان" "ساطان" "سطن" في العبرانية، ومعناه: عدو ومشتك في هذه اللغة2. ومن هذه اللغة جاءت لفظة "Satan" في الإنكليزية. وذكر "الطبري": "والشيطان في كلام العرب كل متمرد من الجن والإنس والدواب ولك شيء"3، ثم قال: "وإنما سمي المتمرد م كل شيء شيطانا لمفارقة أخلاقه وأفعاله أخلاق سائر جنسه وأفعاله وبعده من الخير. وقد قيل إنه أخذ من قول القائل شطنت داري من دارك، يريد بذلك بعدت. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان: نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين

_ 1 اللسان "17/ 104"، "شطن"، الحيوان "1/ 153، 291". 2 غرائب اللغة "212". 3 تفسير الطبري "1/ 37 وما بعدها".

والنوى الوجه الذي نوته وقصدته، والشطون البعيد. فكأن الشيطان على هذا التأويل شطن. ومما يدل على ذلك كذلك، قول أمية بن أبي الصلت: أيما شاطن عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأكبال ولم ترد لفظة "الشيطان" في شعر الشعراء الجاهليين، خلا شعر "أمية بن أبي الصلت" و"عدي بن زيد العبادي". والأول شاعر وقف، على ما يظهر من شعره، على شيء من اليهودية والنصرانية. وأما الثاني، فهو نصراني، لذلك يجوز لنا أن نرجع علمهما بالشيطان إلى ما جاء في اليهودية والنصرانية عنه، ولذلك نستطيع أن نقول أن هذ اللفظة جاءت العرب عن طريق أهل الكتاب. وذكر علماء اللغة، أن "الأزب" اسم من أسماء الشياطين، وذكروا أن "الأزب" شيطان اسمه أزب العقبة، وقيل هو حية1. وأن من أسماء الشيطان: "الحباب". يقع على الحية أيضًا، لأن الحية يقال لها شيطان، وفي حديث: "الحباب شيطان"2. وذكروا أن من أسماء الشيطان "الطاغوت"3. ومن الشياطين، شيطان اسمه "زوبعة"، وقيل وقيل هو رئيس للجن. ومنه سمي الإعصار زوبعة، ويقال أم زوبعة وأبو زوبعة، وهو الذي يثير الإعصار، حين يدور على نفسه، ثم يرتفع في السماء ساطعا كأنه عمود4. وأما ما ورد في القصص عن الشياطين عند الجاهليين، فهو يختلف عما جاء عن الشيطان في الكتب اليهودية والنصرانية، مما يدل على أن منبعه منبع آخر، وأن "ألشيطان" عند الجاهليين، هو غير الشيطان المعروف عند اليهود والنصارى الذي دخل إلى العرب قبيل الإسلام وفي الإسلام. ومن القصص المذكورة، استمد بعض الجاهليين قصصهم عن ذكاء الشيطان وعن حيله. ومن حيله. ومن هذا القصص ولا شك استعمل الناس مصطلح "تشيطن" و"الشيطنة" بمعنى الذكاء والحيلة، لما رسخ في ذهنهم من ذلك القصص عن ذكاء الشيطان وسعة حيله وتلاعبه بأذكى البشر. وهو في التوراة ذو طبع شرير،

_ 1 تاج العروس "1/ 147". "أزب" "1/ 284"، "زبب". 2 اللسان "1/ 295"، "حبب". 3 تفسير الطبري "14/ 71"، "23/ 131 وما بعدها". 4 تاج العروس "5/ 367"، "تزبع".

وزعيم العصاة لأوامر الله، يضل الناس ويسلك بهم سبل الخطيئة، ولذلك تعوذوا منه1. ومن القصص المذكور استمد أيضًا علماء اللغة ما ذكروه من أن كلمة "الشيطان" تعني الحية2، ففي ذلك القصص ظهور الشيطان على صورة "حية" خدعت أبوينا آدم وحواء في الجنة. وتمثل هذا القصص في الأدبين العبراني والنصراني. وسبب ذلك هو ما علق بذهنهم عن هذه الصورة في الشيطان. والحية هي عند أكثر الشرقيين رمز يشير إلى الثورة والعصيان والشر. وهذه الفكرة هي من أسطورة شرقية قديمة عن سقوط البشيرية في الشر، وتتمثل في سقو آدم وحواء وطردهما لذلك من الجنة، وفي تعاليم زرادشت من أن الشرير ظهر في هيأة حية، وأخذ يعلم الناس الشر3. وزعم أن "شيطان الحماطة" الحية4. وورد "شيطان حماط". ولعل ذلك بسبب لجوء الحيات إلى الحماط، والحماطة شجرة شبيهة بالتين، وهي أحب الشجر إلى الحيات، إذ تألفها كثيرًا5. وفي هذا المعنى ورد في قول الشاعر: تلاعب مثنى حضرمي كأنه ... تعمج شيطان بذي خروع قفر6 والتعمج التولي. والمراد هنا تلوي شيطان بمكان قفر نبت فيه الخروج. وقصد بالشيطان الحية. وقد وصف الشيطان بالقبح، فإذا أريد تعنيف شخص وتقبيحه، قيل له: "يا وجه الشيطان" وما هو إلا شيطان، يريدون بذلك القبح، وذلك على سبيل تمثيل قبحه بقبح الشيطان. وقيل: الشيطان حية ذو عرف قبيح الخلقة7.

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 651". 2 اللسان "17/ 104"، تاج العروس "9/ 253"، "شطن"، "والعرب تسمى كل حية شيطانا"، الحيوان "1/ 30". 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 400"، Hastings, p. 829 4 الحيوان "6/ 192". 5 تاج العروس "5/ 121"، "حمط". 6 الحيوان "1/ 153"، "6/ 192". 7 الفاخر "ص238"، الحيوان "1/ 300"، تاج العروس "9/ 253"، "شطن".

وقيل إنه كان حية زعم أنها تأتي حول البيت، فلا يطوف أحد. ولما شرعوا ببناء الكعبة في أيام شباب الرسول، جاء طير فالتقط الحية1. ولقبح وجه الشيطان، قالوا للذي به لقوة أو شتر، إذا سب: يا لطيم الشيطان. وقالوا للمتكبر الضخم: ظل الشيطان2. وكانوا إذا أرادوا ضرب مثل بقبح إنسان قالوا: لهو أقبح من الشيطان3. وقالوا لشجرة تكون ببلاد اليمن، لها مظهر كريه "رءوس الشياطين"4. وبهذا المعنى فسرت "رءوس الشياطين"5. "يقول تعالى ذكره كأن طلع هذه الشجرة يعني شجرة الزقوم في قبحه وسماجته رءوس الشياطين في قبحها"، "وذلك أن استعمال الناس قد جرى بينهم في مبالغتهم إذا أراد أحدهم المبالغة في تقبيح الشيء، قال: كأن شيطان، فذلك أحد الأقوال، والثاني أن يكون مثل برأس حية معروفة عند العرب تسمى شيطانا. وهي حية له عرف فيما ذكر، قبيح الوجه والمنظر، وإياه عنى الراجز، بقوله: عنجرد تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف ويروي عجيز: "والثالث أن يكون مثل نبت معروف برءوس الشياطين، ذكر إنه قبيح الرأس"6. ويظهر أن العرب في الجاهلية، كانوا يطلقون "رءوس الشياطين" على شجر كريه المنظر جدا، قال علماء اللغة: "والصوم: شجر على شكل شخص الإنسان كريه المنظر جدا، يقال لثمره رءوس الشياطين، يعني الشياطين والحيات، وليس له ورق"7 وقد جمع هذا التفسير بين الشياطين والحيات والقبح. ويمثل الصورة التي رسمها الناس في مخيلتهم للشياطين. وكانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقى على أفواهها الشعر، وتلقنها إياه

_ 1 الفاخر "ص238". 2 الحيوان "6/ 178". 3 الحيوان "6/ 213"ز 4 الحيوان "6/ 211"، "4/ 39 وما بعدها". 5 الصافات، 37 الآية 63 وما بعدها. 6 تفسير الطبري "23/ 40 وما بعدها". 7 اللسان "12/ 351 وما بعدها"، "صوم".

ابن صياد" شيطان يلقي إليه بما خفي من أخبار الأرض، وذكر أن النجوم تقذف الشياطين، وأن الجاهليين كانوا يرون ذلك، وهو موجود في أشعار القدماء من الجاهلية، منهم عوف بن الجزع، وأوس بن حجر، وبشر بن أبي خازم وكلهم جاهلي، وقد وصفوا الرمي بالنجوم1. و"إبليس" من هذه الأفكار التي نفذت إلى العرب عن طريق أهل الكتاب، والعلماء على أن الكلمة معربة، وهي كذلك2. فأصلها "ديابولس" "DiaboIos" وهي كلمة يونانية استعملت في مقابل لفظة "شيطان"3. وقد أطلقت لفظة "أباليس" في مقابل "شياطين". وقد ورد أن من أسماء إبليس "قترة"، وأن اللفظة علم للشيطان. ومن المجاز أبو قترة: إبليس. "وفي الحديث نعوذ بالله من الأعميين ومن قترة وما ولد. الأعميين الحريق والسيل، وقترة من أسماء إبليس، وكنيته: أبو قترة. وقترة حية صغيرة، لا ينجو سميمها4، ولعل بين التسميتين صلة.

_ 1 الروض الأنف "1/ 135"، "فصل في الكهانة". 2 المعرب، للجواليقي "23"، تاج العروس "4/ 111"، "إبليس". 3 Ency. Religi, 4, p. 600, Geiger, Was hat Mohammed aus der Judenthume Aufgenomen, Leipzig, 1902, S. 107, Weil, Biblische Legenden der Muselmanner, S. 12, Shorter Ency, p. 146, Grunbaum, Beitrage zur Sem. Sagen, S. 60. 4 اللسان "5/ 73"، "إبليس"، تاج العروس "3/ 480"، "قتر"، "4/ 111"، "البلس".

الشيطان

وتعينها عليه، وتدعي إن لكل فحل منهم شيطانا يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود. وبلغ من تحقيقهم وتصديقهم بهذا الشأن أن ذكروا لهم أسماء شياطينهم، فقالوا: إن اسم شيطان الأعشى مسحل، وللأعشى أشعار فيه، يمدحه ويثني عليه، لأنه يعاونه ويساعده في نظم الشعر فيلقيه عليه إلقاء. وقد زعم "حسان بن ثابت" أن شيطانه الذي يلهمه الشعر هو من "بني شيصبان" من فصائل الجن. وقد انتقلت هذه العقيدة في إلهام الشعر للشعراء إلى المسلمين كذلك. وقد دعا "جرير" شيطانه الذي يلقي عليه الشعر "إبليس الأباليس"1. ويكنى عن الشيطان بالشيخ النجدي2. وقد أشير إليه مرارا في كتب السير والأخبار. أشير إليه في بنيان الكعبة، حين حكموا رسول الله في أمر الركن من يرفعه، فحضر في زي شيخ نجدي بين الحاضرين، وصاح: يا معشر قريش أرضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم، وحضر اجتماع "دار الندوة". وأيد قرارهم في قتله. وذكر علماء الأخبار، أنه عرف بالشيخ النجدي، لأنه تمثل نجديا، وتذكر أن الفتن تخرج من المشرق، والمشرق نجد بالنسبة لأهل الحجاز3. و"قرن الشيطان"، ناحية رأسه، ومنه الحديث: تطلع الشمس بين قرني الشيطان، فإذا طلعت قارنها، وإذا ارتفعت فارقها4. وفي الأساطير أن للشيطان قرنين. وكان الكهان يستعينون بالشياطين في الأخبار عن المغيبات، يذكرون أن الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيخبرونهم عن أنباء الأرض. وكان للكاهن "صاف

_ 1 الثعالبي، ثمار القلوب "69 وما بعدها"، قال الأعشى: دعوت خليلي مسحلا ودعوا له ... جهنام جدعا للهجين المذمم وقال: حباني أخي الجني نفسي فداؤه ... بأقبح جياش العشيات مرجم الحيوان "6/ 225 وما بعدها". 2 تاج العروس "2/ 512"، "نجد". 3 الروض الأنف "1/ 291". 4 تاج العروس "9/ 306"، "قرن".

شق

شق: ومن الجن جنس صورة الواحد منهم على نصف صورة الإنسان، واسمه "شق"، وإنه كثيرًا ما يعرض للرجل المسافر إذا كان وحده، فربما هلك فزعا، وربما أهلكه ضربا وقتلا. ورووا في ذلك قصصًا. منه ما زعموه من أن "علقمة بن صفوان بن أمية بن محرث الكناني" جد "مروان بن الحكم"، خرج في الجاهلية، وهو يريد مالا له بمكة، وهو على حمار، وعليه إزار ورداء، ومعه مقرعة، في ليلة اضحيانة، حتى انتهى إلى موضع يقال له "حائط حزمان"، فإذا هو بشق، له يد ورجل، وعين، ومع سيف، وهو يقول:

علقم إني مقتول ... وإن لحمي مأكول أضربهم بالهذلول ... ضرب غلام شملول رحب الذراع بهلول فقال علقمة: يا شقها ما لي ولك ... اغمد عني منصلك تقتل من لا يقتلك فقال شق: عبيت لك عبيت لك ... كما أتبيح مقتلك فاصبر لما قد حم لك فضرب كل واحد منهما صاحبه، فخرا ميتين1.

_ 1 الحيوان "6/ 206"، "هارون".

والهاتف والرئي

والهاتف والرئي ... الهاتف والرئي: ويؤمن الأعراب بالهاتف، ويتعجبون ممن يرد ذلك. وهم يزعمون أنهم يسمعون الهاتف يخبرهم ببعض الخبر، فيكون صحيحا. فمن ذلك حديث "الأعشى بن نباش بن زرارة الأسدي"، أنه سمع هاتفا يقول: لقد هلك الفياض غيث بني فهر ... وذو الباع والمجد الرفيع وذو الفخر فقال مجيبا له: ألا أيها الناعي أخا الجود والندى ... من المرء ننعاه لنا من بني فهر فقال: نعيت ابن جدعان بن عمرو أخا الندى ... وذا الحسب القدموس والحسب القهر1

_ 1 الحيوان "6/ 202".

وزعموا أن لنقل الجن الأخبار، علم بوفاة الملوك وأصحاب النباهة والجاه، وأمثال ذلك من الأمور الخطيرة1. وتردد في الأخبار كملة "هاتف" و"الهاتف"، بمعنى صوت صادر من مصدر غير مرئي، وردت في مواضع عديدة من القصص الجاهلي، ووردت بعدها الجمل التي قالها الهاتف لمن وجه خطابه إليه. وهي تكهن وأخبار، عن أمر وقع وحدث، أو لتحذير من القيام بعمل ما، أو بإرشاد إلى عمل أو جهة أو ما شابه ذلك من الأمور. وقد تستعمل بمعنى "الرئي" الذي يهتف للكاهن، أو الصوت الذي يزعم أنه يخرج من جوف الصنم2.

_ 1 المصدر نفسه "ص203". 2 تاج العروس "6/ 273"، "هتف".

الرئي

الرئي: وكانوا يقولون، إذا ألف الجني إنسانا وتعطف عليه، وخبره ببعض الأخبار وجد حسه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئي من الجن، يخبره بما وقع ويقع وعن الأسرار. وممن يقولون ذلك فيه: عمرو بن لحي بن قمعة، والمأمور الحارث، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وهم من الرؤساء السادة، وقد كان لكل كاهن وعراف رئي يخبر صاحبه بما يسأل عنه. وذكر إنه قد كان مسيلمة يدعي أن معه رئيا في أول زمانه ولذلك قال الشاعر حين وصفه: ببيضة قارور وراية شادن ... وخلة جني وتوصيل طائر1

_ 1 الحيوان "6/ 205 وما بعدها"، "هارون".

الملائكة

الملائكة: والملائكة هم روحانيون، أي من أرواح في نظر أهل الجاهلية ويدل ورود الملائكة في مواضع عديدة من القرآن الكريم ومن الآيات التي تشير إلى مجادلة المشركين ومحادثتهم للرسول في الملائكة، أن فكرة الملائكة كانت معروفة شائعة

بينهم، وأن بعض العرب كانوا يعبدونها، كما يظهر ذلك من الآية: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 1. غير أن المفسرين، لم يشيروا إلى أولئك الذين تعبدوا للملائكة، ولم يذكروا أسماءهم، مع أنهم ذكروا اسم من تعبد للجن2. بل يظهر من تفسيرهم للآية المذكورة، أنها وردت على سبيل الاستفهام "كقوله عز وجل لعيسى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . قال النحاس فالمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم، فهو استفهام توبيخ للعابدين"3. ولكنهم أشاروا في مواضع أخرى إلى أن مشركي قريش كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونها، ويقولون أن أمهاتهن بنات سروات الجن، يحسبون أنهم خلقوا مما خلق منه إبليس4. وقد أشير في القرآن الكريم، إلى أن من الجاهليين من زعم أن الملائكة بنات الله5. وتحدث المفسرون في تفسير ذلك، غير أنهم خلطوا في الغالب بين الملائكة والجن. ولم يأتوا بشيء يذكر عن رأي أهل الجاهلية في الملائكة. وما ذكروه هم عن الملائكة، هو إسلامي، يرجع في سنده إلى أهل الكتاب، ولا سيما القصص الإسرائيلي، ولهذا فهو مما لا يمكن أن يقال عنه إنه يعبر عن رأي الجاهليين. ويظهر أن الجاهليين لم يكونوا يعرفون شيئًا عن الملائكة، لأن الاعتقاد بالملائكة من عقيدة الديانة اليهودية ثم النصرانية، وهم لا يعرفون الكتاب، إلا من كان منهم على دين اليهودية أو النصرانية، أو كان من الحنفاء أو على اتصال بأهل الكتاب، كأمية بن أبي الصلت وأمثاله. وقد أشير إلى الملائكة، أي "الملائكة" في شعر ينسب إلى "أمية بن أبي الصلت"، هو:

_ 1 سبأ، الآية 40 وما بعدها. 2 راجع تفسير الطبري "22/ 69"، روح المعاني "22/ 139"، القرطبي، الجامع "14/ 309". 3 القرطبي، الجامع "14/ 308 وما بعدها". 4 تفسير الطبري "32/ 67 وما بعدها". 5 الصافات، الآية 149 وما بعدها، الإسراء، الآية 40، الزخرف، الآية 15 وما بعدها، تفسير الطبري "14/ 83".

وكأن برقع، والملائك حوله ... سدر تواكله القوائم أجرد1 وورد "ملاك" في شعر رجل من عبد القيس جاهلي يمدح الملوك، قيل هو النعمان. وقيل هو لأبي وجزة يمدح به عبد الله بن الزبير: فلست لإنسي، ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب2 وقد زعم أن الملائكة تصافح الناس وتناجيهم. زعم ذلك حتى في الإسلام. ذكر "ابن دريد" أن "عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف"، وهو من الصحابة، وعرف بـ "أبي نجيد"، "كانت تصافحه الملائكة وتناجيه لداء كانه به، فاكتوى، فذهب عنه ذلك. وذهب ما كان يسمع ويرى"3.

_ 1 اللسان "10/ 496". 2 اللسان "10/ 496". 3 الاشتقاق "2/ 278"، "طبعة أوربة"، "إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى"، الإصابة "3/ 27"، "الرقم "6012".

السحر

السحر: والسحر من أهم الوسائل التي لجأ إليها البشر وأقدمها منذ أعتق أيامه في التأثير على الأرواح، وقد جعله جزءًا من الدين، لذلك كان من اختصاص رجال الدين، يقومون به في المعابد قيامهم بالشعائر. وإذ كان معظم الناس في الزمن الحاضر يفرقون بين الدين والسحر، ويعدون السحر شيئًا بعيدا عن الدين، بل هو ضد الدين، فإن قدماء البشر لم يكونوا ينظرون إليه هذه النظرة، كانوا ينظرون إليه كما قلت على إنه جزء مهم من الدين، بل هو أهم جزء فيه وأعظمه، بل ما زلنا نجد ديانات القبائل البدائية تعد السحر جزءًا من الدين1. وهو كذلك في كل دين بدائي. وعلم الساحر. هو السحر، والسحر في عرف بعض علماء اللغة الإسلاميين هو

_ 1 R. Campell Thompson Semitic Magic its Origins and Development, London, 1908, p. XVII, Smith, P. 90.

"عمل يقرب فيه إلى الشيطان"1. وقد فسر بعض العلماء كلمة "الجبت" في القرآن الكريم بمعنى السحر، كما ذكر أنها تعني الساحر والكاهن والصنم وكل ما عبد من دون الله. وفسر "الطاغوت" بمعنى الشيطان2. وقد وردت كلمة "السحر" و"سحر" و"الساحر" و"الساحرون" و"السحرة" و"مسحورا" و"مسحورون" في مواضع عديدة من القرآن الكريم، ويدل ورودها فيه بهذه الكثرة على مبلغ أثر السحر في عقلية الجاهليين وقد اتهم أهل مكة الرسول أنه ساحر، حينما أخبرهم بنزول الوحي عليه. وقالوا إنه يستمد وحيه من الشياطين. وقد جمع البخاري بين الكهانة والسحر بأن قدم الكهانة على السحر، لأن مرجع الاثنين شيء واحد هو الشياطين3. وقد حملت تلك المواضع من القرآن الكريم المفسرين على جمع ما علق بأذهان الناس عن السحر. أما كتب الحديث ففيها مادة مفيدة وردت ضمنا عن عقيدة أهل الجاهلية به. كما وردت في أخبار أهل الأخبار إشارات إليه، تجمل جميعها أن الاعتقاد بالسحر بين الجاهليين كان شائعا معروفا، وأن ممارسيه في جزيرة العرب كانوا عربا ويهودا، إنهم كانوا يرون أن أصوله في بابل وعند يهود. وقد كان أكثر السحرة في الجاهلية من يهود4. يقصدهم الجاهليون من أنحاء بعيدة، لاعتقادهم بسعة علمهم وباختصاصهم فيه. وكان اليهود يسندون علمهم إلى بابل، ولهذا نجد الأحاديث والأخبار العربية ترجع علم السحر إلى بابل واليهود. والفرق بين الكهانة والسحر أن الكهانة تنبؤ، فسند الكاهن هو كلامه الذي يذكره للناس. أما السحر، فإنه عمل في الأكثر، للتأثير في الأرواح، كي تقوم بأداء ما يطلب منها. ولا يمكن صنع سحر ما لم يقترن بعمل. ويصحب هذا

_ 1 تاج العروس "3/ 258"، "سحر"، اللسان "4/ 348"،"سحر". 2 النساء، الآية 50، "وسمي الساحر والكاهن جبتا"، المفردات "83"، تاج العروس "1/ 535"، شمس العلوم "جـ1، ق2، ص244". 3 عمدة القاري "21/ 421، 445"، الطبرسي، "1-2"، "384". 4 عمدة القاري "21/ 213"، الطبري "2/ 439"، العقد الفريد "6/ 276"، تفسير الرازي "17-18 "ص9"، سنن ابن ماجة "2/ 1173"، روح المعاني "30/ 283".

العمل كلام مفهوم أو غير مفهوم، وإشارات، يدعي الساحر إنه إنما يقوم به وبالإشارات لتسخير الأرواح، وأن ما يفعله مفهوم عند جنوده، وهم الجن والشياطين. وفن مثل هذا مغر جدا، فمن الناس من لا يريد تسخير القوى الخفية لخيره ولصالحه، وإلحاق الأذى بأعدائه ومبغضيه. ولذلك كان للسحر وللسحرة أثر خطير في التأريخ، بالرغم من مقاومة بعض الأديان له. فما يقوم به السحرة من أعمال وخفة، وما لشخصيات بعض السحرة من تأثير نفسي كبير، تجعل من الصعب على بعض الناس أن تكون للساحر مكانة كبيرة في نفس ذلك الشخص. وللسحر أغراض عديدة، وقد استخدم في معالجة أمور كثيرة، حتى إدارة الملك والقضاء على الأعداء، للسحر وللسحرة فيها صولات وجولات. ومن الطبيعي أن يكون للحب المكانة البارزة فيه، حتى ليكاد يتخصص بهذا الجانب من حياة الإنسان. ولما كانت العادة أن يتزوج الرجل من جملة نساء صار السحر من أهم الوسائل التي استعانت بها الزوجات للتأثير في قلب الرجل، ولكسب المكانة الأولى عنده، وللتفريق بين الرجل وبين بقية أزواجه. ومصداق ذلك ما ورد في القرآن الكريم عن السحر في هذه الآية: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 1. فالتفريق بين المرء وزوجه، كان ولا يزال من أهم أعمال السحرة. ونجد في الحديث تقريعا ولوما للسحرة لاستخدامهم السحر في هذا الغرض الفاسد. والساحر في معالجة الحب على طريقين: إشعال جذوة نار الحب في قلب من يقصد إثارته عنده، أو إطفاء نارها وإخمادها وإماتتها في قلب المسحور. ولكل من الطريقين قواعد وأحكام وأصول يجب تطبيقها بعناية، وإلا بطل فعل السحر. أما إشعال نيران الحب، فيكون بطرق متعددة يتبعها الساحر، فقد يستعين بالنباتات والأعشاب، يستخرج أدوية منها يقدمها إلى المرأة لتوجر الرجل إياها سرا. وقد يستعين بالجمر يقرأ عليه، ثم يرمي في الممرات التي يمر الرجل،

_ 1 البقرة: الآية 102، عمدة القاري "20/ 278 وما بعدها".

أو الشخص المراد سحره منها. وقد يدفن السحر في موضع كمقبرة أو محل آخر ليؤثر من ذلك الموضع على المسحور. وقد يستعين بالخرز يسحر عليها، فتحبب المرأة إلى زوجها، وتسمى "التولة"1. وكما يستعمل السحر لاشعال نيران الحب في القلب، كذلك يستعمل لايقاد البغض والكراهية في النفوس. ففي استطاعة الساحر بما عنده من جنود مجندة أن يلقي البغضاء والكراهية والحقد في نفس أي شخص يود إنسانا آخر، فينقلب مبغضا حاقدا كارها لمن كان يحبه ويعشقه. ومجال هذا الباب واسع جدا للنساء خاصة. وفي استطاعة الساحر مداواة العاشق وإماتة عشقه بوصفه يعطيها إليه تقضي على حبه الجامح قضاء تاما يسمونها "السلوانة" و"السلوان". وما هذه الوصفة إلا مادة ذات سحر عجيب يغتسل بها الإنسان أو يشربها، فتطفئ في الحال أو بعد أمد كل نيران للحب مؤججة في قلب العاشق. والسلوانة هي شيء من تراب قبرن أو خرزة تسحق ويشرب ماؤها، فيورث شاربها سلوة. وتكون الخرزة شفافة، تدفن في الرمل فتسود، ثم تستخرج لسحقها وشربها، وقد يكتفي بصب ماء المطر على تلك الخرزة لسقي العاشق ذلك الماء الذي يسمونه "السلوان"، ليشفي من العشق2. ولا بد أن يكون لاختيار الماء وتراب القبر أو مسحوق الخرزة في معالجة العشق، سبب يمكن تفسيره بأنه لغسل قلب المحب، وإماتة الحب فيه. ومن أهم الأعمال التي يعالجها السحرة، إخراج الجن من المجانين. فالجنون هو من عمل الجن. تحل الجنة بالإنسان فتأخذ عقله. ومن هنا قيل لهذا المرض "جنة" و"جنون"3. ومن واجب الساحر إخراج الجن من هؤلاء المرضى، وهو عمل يقوم به الساحر حتى اليوم، ويكون ذلك بضرب المريض بالعصا لإخراج

_ 1 بالكسر وبالضم، "وقيل هي معاذة تعلق على الإنسان"، اللسان "13/ 85". 2 يا ليت أن لقلبي من يعلله ... أو ساقيا فسقاني عنك سلوانا وورد: شربت على سلوانة ماء مزنة ... فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو وجاء: جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد أن هما شفياني فما تركا من رقية يعلمانها ... ولا سلوة إلا بها سقياني اللسان "19/ 118 وما بعدها". 3 تاج العروس "9/ 164 وما بعدها"، "جنن".

الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب

الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب مدخل ... الفصل الخامس والثمانون: في أوابد العرب وهي أمور كانت العرب عليها في الجاهلية، بعضها يجري مجرى الديانات، وبعضها يجري مجرى الاصطلاحات والعادات، وبعضها يجري مجرى الخرافات، وقد كانت قد هيمنت وسيطرت على عقليتهم، ولا سيما تلك الأمور التي كانت تتصل بحياتهم، كالكهانة والحداسة والرقية والتنجيس والتنجيم، وغير ذلك مما له علاقة بحياة الإنسان حتى قيل إنهم كانوا "بين متكهن وحداس وراق ومنجس ومتنجم"1.

_ 1 إرشاد الساري "8/ 400"، صحيح مسلم "7/ 35 وما بعدها"، عمدة القاري "21/ 275"، اللسان "7/ 244"، الروض الأنف "1/ 136"، مروج الذهب "2/ 82"، "محمد محيي الدين عبد الحميد".

"الكهانة" "Divination"، ويقال لمن يقوم بذلك الكاهن. أما الذي يزعم أن في إمكانه التحكم في الأرواح وتوجيهها الوجهة التي يريدها، فيقال له "ساحر" ويقال لعمله "السحر". وتقابل كلمة "السحر" في العربية كلمتا "Magic" و"Sorcery" في الإنكليزية. والكهانة في اللغة العربية تعاطي الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ومعرفة المغيبات والأسرار، وتقابل بهذا التعريف في العربية كلمة "Soothsayer" في الانكليزية. وتقابل كلمة "كاهن" لفظة "كوهين" "kohen في العبرانية و"كهنا" "kahna" في لغة بني إرم، وكلها من الأصل السامي القديم1. ومن مرادفات الكاهن: "الطاغوت". وبهذا التفسير فسر العلماء قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} 2. قالوا: الطاغوت: الكاهن. وهم كهان تنزل عليهم شياطين يلقون على ألسنتهم وقلوبهم. والطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها، كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد وهم كهان تنزل عليهم الشياطين3. وذكر بعض علماء التفسير أن الطاغوت: الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه. وقد وردت اللفظة في موضع آخر من القرآن الكريم بعد لفظة "الجبت"، إذ جاء في التنزيل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 4. وقد ذكروا أن الجبت السحر والساحر، بلسان الحبشة والطاغوت الكاهن5. وأن الجبت والطاغوت صنمان، أو أن الجبت الأصنام والطاغوت تراجمه الأصنام، والذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، أو أن الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظمة بالعبادة من دون الله، فقد كانت جبوتا وطواغيت،

_ 1 إرشاد الساري "8/ 398"، اللسان "13/ 362 وما بعدها"، "كهن"، مفتاح السعادة، لطاش كبرى زاده "1/ 293 وما بعدها". Noldeke, Neue Beltrage Semltlschen Sprachwissenschaft, S. 36. 2 البقرة، الرقم الآية 256. 3 تفسير الطبير "3/ 13 وما بعدها". 4 النساء، الآية 51. 5 تفسير الطبري "5/ 84".

وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كانا مقبولا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله، وكذلك حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين1. وذكر علماء التفسير في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدا} 2، أي "الطاغوت" الكاهن الذي كان يحكم بين الناس، ويتحاكمون إليه. وأنها نزلت في حق يهودي اختصم مع مسلم، فكان المسلم أو المنافق يريد الاحتكام إلى الكاهن، وكان اليهودي يدعو إلى النبي أو المسلمين، لأنهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، أو إلى كاهن بالمدينة، أو إلى كعب بن الأشرف، فنزل الوحي بتوبيخ ذلك المسلم أو المنافق3. والتكهن عن المستقبل والتحدث عن الماضي، موضوع له فروع عديدة. وقد عد علما من العلوم عند كثير من الأمم، وألفوا فيه. وتبؤ الأصنام هو نوع من هذا الأنواع. ويدخل في التكهن التنبؤ بواسطة وسيط: مكالمة صنم، أو "تابع أي "رئي"، وقراءة كبد الشاة وقراءة أعضائها كما كان عند البابليين وعند المصريين. والتكهن بحركات الطيور، وتفسير الأحلام. وتفسير بعض الظواهر الطبيعية وما شابه ذلك ذلك وكل هذه كانت معروفة عند الجاهليين. وليس من الضروري أن يكون التكهن بتكليم الصنم حتما وفي المعبد بالضرورة، فقد كان من الكهان من يقيم في بيته ويتكهن مع ذلك للناس، ينطق بما يوحى إليه وبما يشعر به. وقاصدوه يرون أن فيه قوة خارقة وقابلية لتلقي الوحي من تلك القوة التي يتصورونها على هيأة شخص غير منظرو يلقي إلى الكاهن الوحي، فينطلق بما يناسب المقام وبما يكون جوابا على الأسئلة التي توجه إليه. ويطلقون على ذلك الشخص الخفي اسم "تابع" أو "صاحب" أو "مولى" و"ولي" و"رئي"، لأنه يكون تابعا وصاحبا للكاهن، يتبعه ويصاحبه ويلقي إليه

_ 1 تفسير الطبري "5/ 83 وما بعدها". 2 سورة النساء، الآية 60. 3 تفسير الطبري "5/ 96 وما بعدها".

"الرئي". يكشف له الحجب ويأتيه بالأسرار. فهو "حاز" و"حزاء" و"حازية" و"الراتي" في العهد القديم1. وكان من رأي الجاهليين أن هناك وحيا يوحى إلى الكاهن بما يقوله، وقد قالوا لذلك المصدر الذي يوحي إليه: "شيطان الشاعر"، ذلك لأن شيطان الكاهن يسترق السمع ويلقي به إلى الكهنة2. يسترقه من السماء، فيأتي به إلى الكاهن ويلقي ما استرقه إليه، فيلقي الكاهن ما ألقي عليه شيطانه إلى الناس، وبذلك يتنبأ لهم3. "سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ناس عن الكهان، فقال: "ليسوا بشيء"، فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثونا أحيانًا بشيء، فيكون حقًّا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق، يخطفها من الجني فيقرها في أذن وليه، فيخلطون معها مائة كذبة" 4. وقد وردت كلمة" كاهن" في القرآن الكريم في معرض الرد على قريش الذين اتهموا الرسول بأنه "كاهن". وبأنه يقول القرآن على نمط سجع الكهان. فجاء فيه: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} 5، و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 6. فرد عليهم بقوله: "ما هذا القرآن بقول شاعر؛ لأن محمدًا لا يحسن قيل الشعر، فتقولوا هو شعر، قليلا ما تؤمنون. يقول تصدقون قليلا به أنتم، وذلك خطاب من الله لمشركي قريش. ولا بقول كاهن، قليلا ما تذكرو. يقول ولا هو بقول كاهن، لأن محمدا ليس بكاهن، فقولوا هو

_ 1 Reste, S. 134, Shorter Ency. P. 207 2 تاج العروس "9/ 326 وما بعدها" اللسان "17/ 244"، الطبرسي "5/ 349، 367"، بلوغ الأرب "2/ 269"، مروج الذهب "2/ 172 وما بعدها"، مفتاح السعادة، لطاش كبري زاده "1/ 113 وما بعدها"، إرشاد الساري "8/ 398"، مقدمة ابن خلدون "1/ 101 وما بعدها". 3 صبح الأعشى "1/ 398". 4 إرشاد الساري "8/ 400"، صحيح مسلم "7/ 35 وما بعدها"، عمدة القاري "21/ 275"، اللسان "17/ 244"، الروض الأنف "1/ 136"، نهاية الأرب "3/ 128"، "في أخبار الكهان". 5 سورة الطور، الآية 29، تفسير الطبري "27/ 18". 6 الحاقة، الآية 42.

ممن سجع الكهان"1. فكان للكهان أسلوب خاص في كلامهم عند التبؤ والتكهن هو أسلوب السجع. ولذلك عرف بـ "سجع الكهان". وقد امتاز سجعهم هذا باستعمال الكلام الغامض، والتعابير العامة الغامضة التي يمكن تفسيرها تفاسير متناقضة ومختلفة. وهو أسلوب تقتضيه طبيعة التكهن، لكي لا يلزم الكاهن على ما يقوله من قول ربما لا يقع، أو قد يقع العكس. ففي مثل هذه الحالة، يمكن أن يكون للكاهن مخرج باستعماله هذا النوع من الكلام. وقد ورد أن رسول نهى عن محاكاة الكهان في سجعهم، فذكر عنه قوله: "أسجع كسجع الجاهلية"2. ويذكر أهل الأخبار أن "تابع" الكاهن، وهو شيطانه وجنيه، كان يسترق في الجاهلية الأخبار من السماء، فيلقي بها إلى الكاهن المختص به. فيخبر الكاهن من يأتي إليه للكاهنة. بقوا على ذلك إلى ظهور النبوة، فلما نزل الوحي انقطعت الكهانة، إذ وجد الشياطين الذين كانوا يسترقون السمع لهم شهابا رصدا. وقالوا إن قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} 3، إنما عنى به هذا الحادث. حادث منع الشياطين من استراق السمع4. ويذكر أهل الأخبار أيضًا أن "القذف بالنجوم قد كان قديما، وذلك موجود في أشعار القدماء من الجهلية. منهم: عوف بن الجزع، وأوس بن حجر، وبشر بن أبي خازم، وكلهم جاهلي. وقد وصفوا الرمي بالنجوم"5. وأن من عقائد أهل الجاهلية أن في تساقط النجوم والشهب دليل على موت عظيم أو ميلاد مولود عظيم6. وذكر أن الرسول كان جالسا مع قوم من الأنصار إذ رمي بنجم فظهر نوره، فقال لهم: "ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في

_ 1 تفسير الطبري "29/ 42". 2 البيان والتبيين "1/ 287". 3 سورة الجن، رقم 72، الآية 8 وما بعدها. 4 تفسير الطبري "29/ 69 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "2/ 10"، "المنيرية"، نهاية الأرب "3/ 124 وما بعدها"، مفتاح السعادة 1/ 293 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 326 وما بعدها"، كهن" مروج الذهب "2/ 152 وما بعدها". 5 الروض الأنف "1/ 135". 6 الروض الأنف "1/ 136 وما بعدها".

الجاهلية؟ " قالوا: يا رسول الله كنا نقول حين نراه يرمى به مات ملك، ولد مولود1. وقد جعل "المسعودي" حدة الأذهان مع نقصان الأجسام وتشويه الخلق، من جملة العوامل التي دفعت على التكهن والإخبار عن الغيب. وضرب مثلا على ذلك: شق، وسطيح، وسملقة، وزوبعة، وسديف بن هوماس، وطريفة الكاهنة، وعمران أخي مزيقياء، وحارثة، وجهينة، وكاهنة باهلة وأشباههم من الكهان2. وقد يلحق التابع من الجن أشخاصا لم يشتهروا بالكهانة وإنما عرفوا بشدة ذكائهم ومعرفتهم بعواقب الأمور، مثل "أحيحة بن الجلاح" وكان من أشراف المدينة، وقد اشتهر عندهم بكثرة صوابه وسرعة إدراكه للعواقب. فعللوا ذلك بوجود تابع له من الجن كان يعلمه المغيبات3. قال "الجاحظ": "وكانوا يقولون، إذا ألف الجني إنسانا وتعطف عليه، وخبره ببعض الأخبار، ووجد حسه ورأى خياله، فإذا كان عندهم كذلك قالوا: مع فلان رئي من الجن. وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لحي بن قمعة، والمأمور الحارث، وعتيبة بن الحارث بن شهاب. فأما الكهان، فمثل حارثة جهينة، وكاهنة باهلة، وغزى سلمة، ومثل شق وسطيح وأشباههم4. والكهان يرون تابعهم، وقد يتجلى لهم في صورة إنسان. ويظهر على صورة رجل للكواهن كذلك. فقد كان للغيطلة، وهي على ما يزعمه أهل الأخبار كاهنة أبوها مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق بن مرة، وشنوق أخو مدلج، تابع يفد إليها، ويدخل غرفتها، ويجلس تحتها. كما كان لفاطمة بنت النعمان النجارية، وهي كاهنة كذلك، تابع من الجن "كان إذا جاءها، اقتحم عليها في بيتها. فلما كان في أول البعث، أتاها، فقد على حائط الدار ولم يدخل، فقالت له: لم لا تدخل؟ فقال: قد بعث نبي بتحريم الزنى"5.

_ 1 السيرة الحلبية "1/ 140". 2 مروج "2/ 154". 3 الأغاني "13/ 115" "ذكر احيحة بن الجلاح". 4 الحيوان "6/ 203 وما بعدها". 5 الروض الأنف "1/ 137".

فالكاهن إذن، هو الذي يتنبأ بواسطة تابع، ولا يستطيع غير الكاهن رؤية التابع. وتكون الكهانة كلامًا يلقيه الكاهن نفسه، أو تابعه، جوابًا عن أسئلة الكاهن. ولما كان التابع روحًا، كان من الطبيعي تصور صدور ذلك الكلام من روح لا يمكن لمسها ولا رؤيتها، ترى وتسمع وتعقل، وتجيب ما يطلب منها الإجابة عنه. ويكون الكاهن في أثناء تكهنه في غيبوبة أو في شبه غيبوبة في الغالب، ذلك بأنه متصل في هذه الأثناء بعالم مجهد صعب لا يتحمله كان إنسان، ولاتصال الروح فيه، واتصال الروح بجسم الكاهن شيء جد عسير، يتصبب العرق منه. خاصة إذا كان المتكلم الكاهن نفسه. ويكون التكهن، في الغالب، في مكان هادئ تكتنفه ظلمة أو عتمة، لأن للهدوء والظلام أثرًا عظيمًا في النفوس، ويسبقه حرق بخور في الأكثر يستمر إلى ما بعد انتهاء التنبؤ، لأن البخور من الروائح الطبية التي تؤثر في الأرواح، فتجلبها إلى المكان بسرعة. ثم إن له تأثيرًا خاصًّا في الأعصاب، وهو بذلك مادة صالحة في الإيحاء لمن يقصد استشارة الكهان. ويروي الإخباريون أن الناس كانوا إذا قدموا على الكهان امتحنوهم ليتأكدوا من صدق تكهنهم ومقدار علمهم. وذلك بإخفاء شيء اخفاء لا يمكن الاهتداء إليه، أو بوضع لغز، أو ما شابه ذلك، فيبدؤون الكاهن بالسؤال عنه. فإذا أجاب جوابا دل على معرفة وسعة علم، سألوه عن الأمر الذي عندهم والذي من أجله قصدوه. ويكون لهؤلاء الكهان أجر يدفع إليهم. والعرف الغالب أن الكهانة لا تكون ولا تصح إلا بتقديم شيء للكاهن، لأن التابع لا يرضى بالتنبؤ إلا إذا رأى حلاوة التنبؤ. ومن قبيل الامتحانات التي امتحن بها الكهان، امتحان "عتبة بن ربيعة" إلى بعض كهان اليمن ليتأكد من صدق تكهنه قبل النظر في أمر اختلاف ابنته "هند" مع زوجها "الفاكه بن المغيرة" في فرية رماها "الفاكه" زوجته بها1. وامتحان "عبد المطلب" للكاهن "ربيعة بن حذار الأسدي" حين اختصم مع "بني كلاب وبني رباب"2، وامتحان "الكاهن الخزاعي"3 وغير ذلك.

_ 1 نهاية الأرب "3/ 131"، صبح الأعشى "1/ 398 وما بعدها". 2 نهاية الأرب "3/ 133". 3 نهاية الأرب "3/ 132.

وما يعطاه الكاهن وبجعل له على كهانته، يقال له "الحلوان" و"حلوان الكاهن"، وهو شيء غير معين ولا ثابت، إنما يتفق عليه، والرأي الشائع بين العامة حتى الآن أن الكهانة لا تصدق إذا لم يعط الكاهن أو الساحر "حلوانه"؛ لأن ما يقدم إلى الكاهن لا يخصه ولا يكون له، إنما هو للرئي، والرئي لا يقوم بعمله ولا يحسن أداءه إلا بحلوان، يقبله مهما كان، وعلى الكاهن استشارة "التابع" ومراجعته فيه حتى يقنع، ويوافق على الأجر. ولما كان الإسلام قد منع الكهانة، كان من الطبيعي نهيه عن دفع الحلوان1. والكهان إنما صاروا كهانا، أي متنبئين بالغيب، لأن "الكهنة قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في الأمور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه"2. وهذا هو تعليل إسلامي بالطبع لمصدر تنبؤ الكهان، أما رأي الجاهليين عنه، فلا علم لدينا عنه، لعدم ورود شيء منهم إلينا. وتقدم الكهانة على القدرة الشخصية وعلى ذكاء الكاهن، لذلك لم تكن كالسدانة مثلا إرثا ينتقل من الإباء إلى الأبناء، بل كان في إمكان كل شخص يرى في نفسه القدرة على التنبؤ بالغيب والتحدث عما سيحدث للسائلين أن يدعي الكهانة وأن يعد نفسه كاهنا يتكلم باسم الأرباب، وينطق بالقوة الخفية التي توحي إليه بالتنبؤات، فيتخذ له مكانا في معبد أو في موضع آخر أو في بيته ليقصده من يريد استشارته في عظائم الأمور مهما اختلفت وتنوعت عن المستقبل وعن الأخبار وعن الأسرار والمغيبات وعن القيام بعمل من الأعمال. وفي الأقوال المنسوبة إلى الكهان، قسم بالكواكب كالشمس والقمر وبالنجوم وبالليل وبالنهار وبالأشجار وبالرياح والكلمات وبالجبال والأنهار والطيور وبما شابه ذلك أمور طبيعة، الغرض منها التأثير في نفوس السامعين والإغراب في الكلام، ليكون بعيدا عن الأسلوب المألوفة. وقد رو الإخباريون نماذج من هذا الكلام،

_ 1 "أعطيت الكاهن حلوانه، أي كراء كهانته"، الاشتقاق "2/ 314"، "نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن"، إرشاد الساري "8/ 400"، اللسان "18/ 211"، تاج العروس "10/ 96"، اللسان "14/ 194"، "صادر" "حلو"، النهاية "3/ 256 وما بعدها"، مفتاح السعادة "1/ 293 وما بعدها". 2 عمدة القاري "21/ 275"، إرشاد الساري "8/ 398 وما بعدها".

من هذا السجع المعروف بـ "سجع الكهان"، نسبوه إلى أصحابه من كهان الجاهلية. وهي نسبة مهما حاولوا إثبات صحتها وصدق روايتها، فانهم عاجزون في رأيي عن إقناعنا بصحة ما يقولون. كيف حفظوا ذلك الكلام وتناقلوه بالحرف الواج بوزنه وبأسلوبه وبنصه وبفصه إلى أن أوصلوه إلى أيدي العلماء والمدونين فثبتوه بالتدوين؟ وكيف لم يخطئوا في ذلك ولم ينسوا منه حرفا، حتى لكأنه كلام مقدس وارد عن وحي سماوي، فلا بد من المحافظة على نصه وروايته على نحو ما ورد وحفظ؟ وإذا كان العلماء قد تساهلوا في رواية متن حديث رسول الله فسمحوا بالتصرف فيه بشرط المحافظة على المعنى محافظة تامة، لصعوبة التمسك برواية النص على نحو ما ورد عن الرسول. فكيف يعقل محافظة تامة، لصعوبة التمسك برواية النص على نحو ما ورد عن الرسول. فكيف يعقل محافظة الرواة على حرفية كلام الكهان على نحو ما نسب إليهم. وكلام الكهان ليس بشيء بالقياس إلى كلام الرسول، ثم إنه أقدم منه، ولم يكن مدونا ولا مكتوبا في كتاب على ما يفهم من روايات الإخباريين. وقد كان للكهان على ما يتبين من قصص الإخباريين أثر كبير في حياة العرب قبل الإسلام. فقد كان الناس يستشيرونهم في إبرام مهمات الأمور، كإعلان حرب أو كشف عن جزيمة أو بحث عن شيء مفقود وما شاكل ذلك. لقد كانوا يستشيرونهم في الحروب، يتبؤون للناس بقرب حدوث غزو أو نزول كارثة أو خير سيقع قريبا. لقد كان هجوم بني أسد على "حجر" بمشورة الكاهن وبرأيه، وكان تركهم تميما وافتراقهم عنهم في يوم جبلة بتحذير من الكاهن كذلك1. وقد استعان النعمان أو يزيد بن عمرو الغساني بالكاهن "الخمس التغلبي"، لأخباره عمن تجاسر على ناقته فقتلها، كما استعان "عتبة بن ربيعة" في إثبات نسب ابنته "هند" منه2. وقد اشترك الكهان أنفسهم في الغزوات وفي الحروب. كانوا يشجعون قومهم ويحثونهم على القتال، وكان بعضهم من مشاهير الفرسان، مثل "زهير بن جناب"، و"جذيمة" العبسي، وقلطف الكاهن، والمأمور كاهن مذحج.

_ 1 الأغاني "10/ 36"، مروج الذهب "2/ 173 وما بعدها"، نهاية الأرب، للنويري "3/ 124"، صبح الأعشى "1/ 398"، Reste, S. 1367 2 الأغاني "10/ 27"، "ذكر مقتل خالد بن كلاب"، صبح الأعشى "1/ 338 وما بعدها". Reste, S. 136.

ولم يكن الكهان من الطبقات الدنيا عند عرب الجاهلية، ولا من سواد الناس. لقد كان منهم من هو من سادة القبيلة ومن الأشراف. ولا بد أن يكونوا من هذه الطبقة، ليكون حكمهم نافذا بين الناس بما لهم من عز ومنزلة وجاه. وقد عد الإخباريون "زهير بن جناب" رئيس كلب في جملة الكهان1. وقد كان للقبائل "كهان" تلتجئ إليهم في الملمات، لتستشيرهم وتعمل برأيهم في الغزو والحرب. يسيرون معها، وقد يقودونها في المعارك. وقد كان لكل قبيلة كاهن منها أو عدة كهان، تلتجئ القبيلة إليهم لاستشارتهم في كل أمر عظيم يحدث لهم. ولا يشترط أن يكون كاهن القبيلة رجلا، إذ يجوز أن يكون امرأة. وكان كاهن ثقيف "قريش" عند ظهور الإسلام رجل يقال له "خطر"، وكان لجنب كاهنهم كذلك، وكان لقريش حين ظهور الإسلام كاهنة تدعى "سوادء بنت زهرة بن كلاب"، وهكذا كان شأن بقية القبائل. فلما ظهر الإسلام، ودع أولئك الكهان رئيهم وتابعهم، وكهانتهم، إذ نهى الإسلام عنها، وقد كان لبعضهم أثر معهم أثر مهم في إعداد قبائلهم للدخول في الإسلام2. وقد أشار بعض الكتبة الكلاسيكيين إلى وجود كهان عند العرب، كما إنه ورد في كتابات طور سيناء ما يدل على وجودهم عند القبائل3. ولم يكن الكاهن، كاهنا، بمعنى المخبر عن المغيبات فقط، بل كان حاكما يحكم بين الناس فيما يقع بينهم من خلاف. فالكاهن حاكم يفصل في الخصومات. وقد كان أكثر حكام العرب كهانا، يقصدهم المتخاصمون من مواضع بعيدة لما عرفوا به من إصالة الرأي، وصحة الحكم. وقد ذكر أن الكاهن كان لا يلبس المصبغ. أما العراف فإنه لا يدع تذييل قميصه وسحب ردائه4، ويدل ذلك على أنهما كانا يميزان أنفسهما بمميزات وعلامات وأنهما كانا يتجنبان بعض الأمور.

_ 1 الأغاني "8/ 66، "15/ 73"، "21/ 99". 2 الروض الأنف "1/ 137 وما بعدها"، مفتاح السعادة، "1/ 113 وما بعدها"، نهاية الأرب "3/ 124"، صبح الأعشى "1/ 398". 3 Ency. ReIigi, I,p. 667 4 تفسير الطبري "18/ 57"، ثمار القلوب "193"، بلوغ الأرب "3/ 407".

وقد اشتهر في الجاهلية عدة كهان ذكر الإخباريون أسماءهم، منهم: شق، وسطيح، وأوس بن ربيعة، والخمس التغلبي، وعزى سلمة الكاهن، ونفيل ابن عبد العزي، وخنافر بن التوأم الحميري، وسواد بن قارب الدوسي، وعمرو بن الجعيد، وابن الصياد، والأبلق الأزدي، والأجلح الدهري، وعروة بن زيد الأزدي، ورباح "رياح" بن عجلة، وهو معروف بعراف اليمامة، والكاهن الخزاعي، ورباح "رياح" بن عجلة، وهو المعروف بعرافة اليمامة، والكاهن الخزاعي، وهو جد "عمرو بن الحمق"، وكان منزله بعسفان، وإليه احتكم هاشم وأمية1، و"كهال"، أحد الكهنة الجاهليين2. وأشهر الكهان وأعرفهم: شق وسطيح، وللأخباريين عنهما قصص أخرجهما من عالم الواقع، وجعلهما في جملة الأشخاص الخرافيين. فشق في زعمهم إنسان له يد واحدة وعين واحدة، وجعلوه من المتشيطنة صورته صورة نصف آدمي. وذكروا أنه كان معاصرا لمالك بن نصر اللخمي، وأنه استدعاه واستدعى سطيحا مع لتفسير رؤيا رآها أفزعته، وأنهما أخبراه بوقوع غزو الحبشة لليمن وبظهور سيف بن ذي يزن. وقالوا: إنه من بني جليحة، وأنه عمر ثلاثمائة سنة3. وقالوا أن سطيحا كان كتلة من لحم يدرج كما يدرج الثوب، ولا عظم فيه إلا الجمجمة، وأن وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، وكان في عصر من أشهر الكهان، وأن كسى بعث إليه عبد المسيح بن بقيلة الغساني ليسأله في تأويل رؤيا رآها، فأخبره بظهور أمر رسول الله وبقرب زوال ملك العجم، فأخبر "عبد المسيح" كسرى بذلك4. وزعم أن سطيحا جسد ملقى لا جوارح له، ولا يقدر على الجلوس، إلا إذا غضب انتفخ فجلس. وكان شق شق إنسان، له يد واحدة، ورجل واحدة، وعين واحدة. وولد سطيح وشق في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة،

_ 1 تاج العروس "9/ 326"، بلوغ الأرب "2/ 269 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 175 وما بعدها"، الكامل، لابن الأثير "2/ 10"، البيان والتبيين "1/ 289"، نهاية الأرب "3/ 132"، الثعالبي، ثمار "105 وما بعدها" Reste, S. 136 f. 2 تاج العروس "8/ 106"، "كهل". 3 الاشتقاق "303"، المستطرف "2/ 80 وما بعدها"، "ربيعة بن نصر اللخمي"، الأزمنة والأمنكة "2/ 193"، الاشتقاق "286". 4 القزويني: عجائب المخلوقات "1/ 371" "طبعة وستنفلد"، الطبري "2/ 99"، نهاية الأرب "3/ 128 وما بعدها"، "في أخبار الكهان" Ency. VoI IV p 370

امرأة "عمرو بن عامر"، وهي بنت الخير الحميرية، ودعت بسطيح قبل أن تموت، فأتيت به، فتفلت في فيه، وأخبرت إنه سيخلفها في علمها وكهانتها. وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، ودعت بشق ففعلت به ما فعلت لسطيح، ثم ماتت وقبرها بالجحفة1. وقد ذكر "المسعودي"، نسب الكاهن "شق" على هذا النحو: "شق بن مصعب بن شكران بن أترك بن قيس بن عنقر بن أنمار بن ربيعة بن نزار" وذكر نسب "سطيح" على هذه الصورة: "هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن غسان"2. وعاه بـ "سطيح الغساني" في موضع آخر. وأورد سجعا من سجعه، كما أورد أخبارا لشق المعاصر له3. وقد دعاه "الجاحظ" بـ "سطيح الذئبي"، كما دعاه "ابن إسحاق" بذلك، لأنه ينسب إلى جد اسمه "ذئب"4. وإذا كانت رواية أهل الأخبار عن وجود الكاهن "سطيح" صحيحة، فيجب أن يكون قد عاش في القرن السادس للميلاد، إذ هم يذكرون أنه كان معاصرا لكسرى أنو شروان، وللنعمان بن المنذر، ويروون أنه أخبر "عبد المسيح بن حسان" الذي جاء إليه ليستفسر منه عن رؤيا رآها كسرى في منامه فأزعجته، فأخبره بمولد الرسول. وذكروا أيضًا أن كسرى كان يستعين في حكمه بالكهان، فيستشرهم، وإنه لديه ثلثمائة وستون كاهنا وسحرة ومنجمين، وكان من بينهم كهنة من العرب، وأشهرهم: السائب5. وذكر بعض أهل الأخبار "أن خالد بن عبد الله القسري كان من ولد شق هذا. فهو خالد بن عبد الله بن أسد بن كرز. وذكر أن أن كرزا كان دعيا، وإنه كان من اليهود فجنى جناية، فهرب إلى بجيلة، فانتسب فيهم. ويقال كان عبدًا لقيس، وهو ابن عامر ذي الرقعة. وسمي بذي الرقعة، لأنه

_ 1 الروض الأنف "1/ 18 وما بعدها". 2 مروج الذهب "2/ 160"، "دار الأندلس"، سيرة ابن إسحاق "47"، "طبعة أوربة"، عجائب المخلوقات "310"، الحيوان "3/ 210"، "6/ 204، 206 وما بعدها". 3 مروج الذهب "2/ 175 وما بعدها"، الحيوان "3/ 204"، "6/ 204", 4 الحيوان "3/ 210"، البيان والتبيين "1/ 281"، ابن إسحاق "47"، "كوتنكن". 5 تاريخ الخميس "1/ 322"، نهاية الأرب "3/ 128 وما بعدها".

كان أعور يغطي عينه برقعة ابن عبد شمس بن جون بن شق الكاهن بن صب"1. ويظهر أن أعداء "القسري" قد أوجدوا له هذه القصة للحط منه، كما أوجدوا قصصًا شبيهًا بهذه القصة، حكوها عن ثقيف، نكاية بالحجاج المكروه. وإلى هؤلاء تجب إضافة "الأفعى الجرهمي"، وكان منزله بنجران، وإليه، احتكم ولد نزار في إرث والدهم2. ورووا أن الكاهن "الخزاعي" كان من الكهان المعروفين وإليه تحاكم "أمية بن عبد شمس" و"هاشم بن عبد مناف" في أمر مفاخرتهمان فحكم لهاشم على أمية، فخرج إلى الشام وأقام بها عشر سنين. وإنه قال في حكمه كلامًا مسجعًا ختمه بقوله: "ولأمية أواخر"، فكانت أول عداوة بين بني هاشم وبني أمية3. وهكذا جعلوه يتنبأ بظهور ملك بني أمية. وربما كان هذا الملك هو الذي أوحى إلى مفتعل القصة بإبداع موضوع اختيار "أمية" الشام لتكون دارًا له أقام بها مدة نزاعة مع هاشم، فحكم أن الملك عليها كان مكتوبا لبني أمية منذ عهد الجاهلية. وتشبه هذه القصة، قصة شك "الفاكه بن المغيرة" في سيرة زوجه "هند بنت عتبة بن ربيعة"، وتكلم الناس فيها، وذهاب والدها وزوجها بها إلى كاهن من كهان اليمن، فلما امتحنه عتبة، وتبين له أن الكاهن حاذق لا يخطئ قال له: قد جئناك "في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يأتي إلى كل واحدة منهن ويضرب بيده على كتفها، ويقول لها: انهضي حتى بلغ هندًا. فقال: انهضي غير رسحاء ولا زانية وستلدين ملكًا اسمه معاوية، فنهض إليها الفاكه، فأخذ بيدها، فجذبت يدها من يده، وقالت إليك عني، فوالله لأحرص أن يكون ذلك من غيرك! فتزوجها أبو سفيان، فولدت له أمير المؤمنين معاوية"4. وهي قصة تتحدث عن نفسها، ولا حاجة لي إلى إبداء أي تعليق عليها. وكان "صاف بن صياد" يتكهن ويدعي النبوة. وخبأ له النبي خبيئًا فعلمه.

_ 1 الروض الأنف "1/ 19". 2 مجمع الأمثال "1/ 17 وما بعدها". 3 المستطرف "2/ 81"، نهاية الأرب "3/ 123 وما بعدها". 4 المستطرف "2/ 82"، نهاية الأرب "3/ 131 وما بعدها"، "الباب الثالث من القسم الثاني من الفن الثاني. في أخبار الكهنة".

وكان يدعي أن شيطانه كان يأتيه بما خفي من أخبار الأرض1. ويذكر أن الرسول سأله: كيف يأتيك هذا الأمر؟ قال: يأتيني صادقًا وكاذبًا2. وأن رسول الله ذهب إليه ليرى أمره وكان "ابن صياد" في نخل، فكلمه رسول الله. وذكر أنه انطلق مرة مع "عمر بن الخطاب" في رهط قبل ابن صياد، فوجده عند "أطم بني مغالة"3. وكان في بني لهب كاهن لهم يقال له خطر بن مالك، وكان في أيام الرسول. وكان إذ ذاك شيخًا كبيرًا4. وكان "أبو برزة" الأسلمي من الكهان المعروفين في المدينة أيام الرسول، وقد تحاكم إليه بنو قريظة وبنو النضير في أمر الديات التي كانت بينهما5. وذكر أن "خطر بن مالك" كان من أعلم كهان "بني لهب"، وأنهم كانوا يأتونه في الملمات، أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة، وقد تنبأ لقومه بانقطاع الكهانة وظهور الرسول بمكة حين سألوه عن سبب تساقط النجوم في السماء6. وكان في دوس كاهن اسمه سواد بن قارب الدوسي أو السدوسي. وقد وفد مع وفد من قومه على الرسول وأسلم معه أمامه. وكان له رئي يأتي إليه7. وذكر أهل الأخبار أنه كان حاذقا في الكهانة، مصيبا بها، "خرج خمسة نفر من طيء من جور الحمى، منهم: برج بن مسهر، أحد المعمرين وأنيف بن حارثة، ولأم عبد الله بن سعد والد حاتم، وعارف الشاعر، ومرة بن عبد رضا، يريدون سواد بن قارب، ليمتحنوا علمه، فقالوا: ليخبئ كل منا خبيا ولا يخبر أصحابه، فإن أصاب عرفنا علمه، وإن أخطأ ارتحلنا عنه. ثم وصلوا إليه فأهدوا إليه إبلا وطرفا، فضرب عليهم قبة ونحر لهم، فلما مضت ثلاثة أيام دعاهم، فتكلم برج، وكان أسنهم فذكر القصة بجميع ما خبأوه ثم بمعرفته بأعيانهم وأنسابهم فقال فيه عارف الشاعر:

_ 1 الروض الأنف "1/ 137"ز 2 مقدمة ابن خلدون "1/ 95 وما بعدها". 3 زاد المسلم "2/ 104 وما بعدها". 4 الروض الأنف "1/ 138 وما بعدها". 5 تفسير الطبري "5/ 97 وما بعدها". 6 السيرة الحلبية "1/ 139". 7 الروض الأنف "1/ 139 وما بعدها"، نزهة الجليس "1/ 277".

الله أعلم لا يجاري ... إلى القالات في حصني سواد كأن خبيئنا لما انتخبنا ... بعينه يصرح أو ينادي1 ومن الكهان المعروفين "الحصين بن نضلة" وقد عرف بـ "الكاهن"، وقيل: إنه سيد أهل تهامة في أيامه2. و"عمر بن الحمق"، وقد أسلم وصحب النبي، وشهد المشاهد مع علي3. وكان "ربيعة بن حذار الأسدي" من الكهان المعروفين، وإليه تحاكم "بنو كلاب" و"بنو رباب" لما خاصموا "عبد المطلب" في مال قريب من الطائف فحكم لـ "عبد المطلب"4. وذكر "المسعودي" اسم كاهنين، دعاهما بـ"سملقة" و"زوبعة"5. وقد أشار "الجاحظ" إليهما في معرض كلامه على الخرافات6. وأشار "الجاحظ" إلى كاهن ظهر في "بني جهينة"، عرف بـ "حارثة جهينة"7، وإلى "عزى سملة". وقد قال الجاحظ" عن "عزى"، أنه كان من أكهن العرب وأشجعهم. ودعاه بـ "سلمة بن أبي حية"8. وكان "خنافر بن التوأم الحميري" كاهنا، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتيا، فلما وفدت وفود اليمن على النبي، وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر، فحالف "جودان ابن يحيى الفرضمي"، وكان سيدا منيعا، ونزل بواد من أودية الشحر، ثم جاءه "شصار" رئيه، فنصحه بالعودة إلى اليمن، والدخول في الإسلام. فأسلم على يد معاذ بن جبل بصنعاء، فترك الكهانة وتعلم سورا من القرآن9.

_ 1 الإصابة "2/ 59"، "رقم 3582". 2 الاشتقاق "ص279". 3 الاشتقاق "279"، الإصابة "2/ 526"، "رقم 5820". 4 نهاية الأرب "3/ 133". 5 مروج الذهب "2/ 160، 176". 6 الحيوان "1/ 309". 7 الحيوان "6/ 204"، مروج الذهب "1/ 337"، ثمار القلوب "81". 8 الحيوان "6/ 204"، البيان والتبيين "1/ 195"، رسائل الجاحظ "130". 9 الامالي، للقالي "1/ 134 وما بعدها"، الإصابة "1/ 456"، "رقم "2342"، تاج العروس "3/ 192"، "حنافر".

الإسلام ومن الكهان "المأمور"، وهو "الحارث بن معاوية" الكاهن. وكانت مذحج في أمره تتقدم وتتأخر1. و"قلطف"، وهو من طيء2. وكان "زهير بن جناب الكلبي"، و"جذيمة" العبسي، كهانا3. وزهير من الفرسان، فكان من فرسان كلب، وكان شاعرا4. ويعد "الافكل" من الكهان الفرسان، وله فرس اسمه هبود5. ولم تحرم النساء الكاهانة، فكان لهن فيها حصة ونصيب. وقد حفظ الإخباريون أسماء عدد من الكهانات اشتهرت كهانتهن في الجاهلية، منهن طريفة الكاهنة، وزبراء وسلمى الهمدانية، وعفيراء الحميرية، وفاطمة بنت مر الخثعمية، وسجاح، وغيرهن. وقد نسبوا إلى طريفة إخبارها عمرو بن عامر أحد ملوك اليمن بزوال ملكه وبخراب سد مأرب، وذكروا إنها سارت مع القبائل حين خافت سيل العرم6. ونسبوا إلى بقية الكاهنات أمثال هذا القصص عن أمور ستقع قالوا إنها وقعت كما تنبأن به. وذكر "المسعودي"، أن "طريفة" كانت كاهنة لعمرو بن عامر. وقد نعتها بـ "طريفة الخير". وقد تنبأت له بقرب تهدم السد، وظهور سيل العرم. كما تنبأ بذلك أخ للملك اسمه "عمران"، وكان عقيما كاهنا، فوقع ما تنبآ به7. وكان من شهيرات الكاهنات أيضًا "الغيطلة"، وهي "أم الغياطل"، وهي من "بني مرة بن عبد مناة بن كنانة"8. وقيل: "الغيطلة بنت مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن شنوق مرة. وشنوق أخو مدلج". وقد عرف ولدها بالغياطل، وهم من بني سهم بن عمرو بن هصيص9.

_ 1 الاشتقاق "2/ 238". 2 الاشتقاق "2/ 237". 3 المشرق، السنة 1938م، "الجزء الاول"، "ص7". 4 معجم الشعراء "130"، الشعر والشعراء "223". 5 المشرق، السنة "1938م، "الجزء الأول ""ص9". 6 بلوغ الأرب "2/ 283 وما بعدها"، الأغاني "13/ 105" "ذكر خبر مضاض بن عمرو"، الطبري "2/ 244"، مروج الذهب "2/ 175". Reste, S. 137. 7 مروج الذهب "2/ 167 وما بعدها". 8 الروض الأنف "1/ 138 وما بعدها". 9 الروض الأنف "1/ 137 وما بعدها".

ويقال أيضًا أن "سعدي بنت كريز بن ربيعة" كانت قد تكهنت، وهي خالة عثمان بن عفان1. وكان لفاطمة بنت النعمان النجارية تابع من الجن، وكان إذا جاءها اقتحم عليها في بيتها، وقد أدركت مبعث الرسول2. وكانت سوداء بنت زهرة بن كلاب، كاهنة قريش. ويذكر أعطاها لحافر قبور ليحفر لها قبرا في الحجون، فيدفنها حية فيه. أي يئدها، لأنها ولدت زرقاء شيماء، وكانوا يئدون من البنات من كان على هذه الصفة، غير أن حافر القبر عاد بها إلى والدها، لأنه لم يشأ دفنها في خبر يرويه أهل الأخبار3. وكان في "خثعم" كاهنة عرفت بفاطمة4. ولاستشارة الناس هؤلاء الكهان في الأمور وطلبهم منهم الفصل صارت كلمة "حكم" مرادفة لكلمة "كاهن" في بعض الأحايين. وقد روى الإخباريون أمثلة عديدة من حكم هؤلاء الكهان بين الناس وطريقة فصلهم في الأمور، فهم في هذه الحالة حكام يفصلون في القضايا التي يتفق الجانبان المتخاصمان فيها على إحالتها عليهم. ولم تكن لنفوذ أحكامهم مناطق وحدود. لقد كان حدود أحكامهم المدى الذي وصلت شهرة الكاهن إليه، لذلك كان الناس يقصدون الكاهن من مناطق بعيدة في بعض الأحيان لشهرته الواسعة التي يتمتع بها بين الناس. وتتوقف هذه الشهرة بالطبع على مبلغ ذكاء ذلك الكاهن وقدرته في فهم طبيعة المتخاصمين أو السائلين، ليتمكن من إصدار حكم معقول مقبول. وتكون أحكامهم قطعية، على الطرفين اطاعتها المتخاصمين قبل سماعه الشكوى عهدا بوجوب الامتثال لحكمه وعدم رده مهما كان نوع الحكم.

_ 1 نهاية الأرب "3/ 126"، "3/ 130"، "طبعة وزراة الثقافة والإرشاد القومي في الجمهورية العربية المتحدة". 2 الروض الأنف "1/ 137". 3 الروض الأنف "1/ 141". 4 أنساب الأشراف "1/ 79".

العراف

العراف: ويطلق بعض علماء اللغة على الكاهن "العراف" فهو عندهم مرادف للكاهن. غير أن من العلماء من يفرق بين الكلمتين، ويرى بينهما فرقا، فالكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، والعراف هو الذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما، أو الذي يزعم إنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله1. ومنهم من يذهب إلى أن العراف من اختص بالإنباء عن الأحوال المستقبلة. أما الكاهن فهو الذي اختص بالإخبار عن الأحوال الماضية2. وقد فرق بين الكاهن والعراف في حديث: "من أتى عرافا أو كاهنا ... " 3. وأطلق بعضهم العراف على من يدعي الغيب مطلقا وفي ضمنهم المنجم والحازي4. وذكر أن "العراف" الكاهن أو الطبيب أو المنجم أو الحازي الذي يدعي علم الغيب5. فللكمة معان عديدة، ولا تختص بمعنى واحد. وقد ذهب "المسعودي" إلى أن العراف دون الكاهن6. ونجد هذه النظرة عند غيره أيضًا. وخلاصة ما يفهم عن الكهانة والعرافة في روايات الإخباريين أن الكهانة هي التبؤ بواسطة تابع. وأن العرافة تكون بالملاحظات وبالاستنتاجات وبمراقبة الأشياء لاستنتاج أمور منها، يخبربها السائلون على سبيل التنبؤ. وهي على ما يظهر من تلك الروايات، دون الكهانة في المنزلة، ولم يكن للعرافين اتصال ببيوت العبادة والأصنام7، ولم يكن لهم "رئي" أي "تابع"، وإنما كانوايستنبطون ما يقولونه بذكائهم وعلى القياس. فيأخذون بالمشابهة وبالارتباط بين الحوادث، ويحكمون بما سيحدث بموجب ذلك8. وقد عد العبرانيون العرافة من الحيل الشيطانية كالسحر والتفاؤل، لأنها من

_ 1 النهاية "4/ 43". 2 تاج العروس "6/ 193". 3 النهاية "3/ 98". 4 تاج العروس "6/ 193". 5 تاج العروس "6/ 193". 6 مروج "2/ 154". 7 "وأما العراف، وهو دون الكاهن"، الحيوان "6/ 204". 8 مفتاح السعادة "1131 وما بعدها".

رجس المشركي. وتشمل عندهم التنجيم والقرعة والزجر وما شاكل ذلك1. وقد نهي عنها في الإسلام. وقد اعتمد العراف على الخط. فكان يخط خطوطا، ثم ينظر إليها، ليستنبط شيئًا منها، يتنبأ به للناس. ومن مشاهيرهم "حليس الخطاط الأسدي". وقد ذكر أنهم كانوا يخطون خطوطا، ثم ينظر العراف ويقول: "ابنا عيانن اسرعا البيان، ثم يخبر بما يرى"2. وتعتمد العرافة -كما تعتمد الكهانة- على الذكاء والتفرس في الأمور والتجارب. وقد خصصها أكثر الناس في الإسلام بالتوصل إلى معرفة الأشياء المفقودة. والعراف بما عنده من الملكات والمواهب المذكورة، يقضي ويتنبأ للناس فيما يراه، ومن أشهر العرافين في الجاهلية: عراف اليمامة، وهو "رباح بن كحلة" "رباح بن عجلة" رياح بن كحلة" المذكور في الشعر، وعراف نجد وهو الأبلق الأسدي3. والأجلح الزهري، وعروة بن زيد الأسدي4. وفي عراف اليمامة ورد قول الشاعر: فقلت لعراف اليمامة داوني ... فإنك إن داويتني لطبيب والأبلق الأسدي، هو عراف نجد، وفيه يقول عروة بن حزام: جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني5 وقد كان أهل الجاهلية يعرضون صبيانهم على "العرافين" لإخبارهم عن

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "3/ 93". 2 فأنتم عضاريط الخميس إذا غزوا ... غناؤكم تلك الأخاطيط في الترب الحيوان "1/ 63". 3 بلوغ الأرب "3/ 306 وما بعدها"، قال عمرو بن حزام العذري: وقلت عراف اليمامة داوني ... فإنك إن أبرأتني لطبيب فما بي من سقم ولا طيف جنة ... ولكن عمي الحميري كذوب تاج العروس "6/ 193"، "فقلت"، الحيوان "6/ 205"، مروج الذهب "2/ 154"، ثمار القلوب "81". 4 الحيوان "6/ 204"، "الازذي"، مروج "2/ 154"، "دار الأندلس". 5 مروج الذهب "2/ 154"، "العرافة وبعض العرافين"، رسائل الجاحظ "130"، مقدمة ابن خلدون "94 وما بعدها"، الحيوان "6/ 204"، "1/ 63".

مستقبلهم. وكانت الأسواق مثل سوق عكاظ موئلا لهم. فكان العراف فيها يربه الناس صبيانهم، ويقول عنهم ما يجول بخاطره، وذلك بالتفرس في وجه الصبي، ومفارنة ذلك بما حصل عليه من تجارب في هذا الباب1. وفي اللغة العربية كلمة قديمة أخرى لها صلة بموضوعنا هذا، هي "القيافة". ويقصد به التنبؤ والإخبار عن شيء بتتبع الأثر والشبه2. وتدخل في ذلك قيافة آثار الأقدام والأخفاف والحوافر للاستدلال مها على أصحابها، وتعيين النسب في حالة الشك فيه. وما زالت القيافة معروفة عند العرب حتى الآن. وقد اشتهرت بها "بنو مدلج" خاصة، حتى قيل للقائف "مدلجي" بسبب هذا الاختصاص3، وبنو لهب4، وأحياء مضر5. ويرى "المسعودي" أن القيافة من الأمور التي برع بها العرب واختصوا بها، وصار لهم مران وخبرة بها، وذكر أن ممن عرف واشتهر بها "محرز المدلجي"، وقد تعجب الرسول من قيافته وصدقه6. وذكر أهل الأخبار أن "الحازر"، هو من يحزر الأشياء، وأن "الحزارة" في معنى القيافة. وأما "الفراسة"، فتكون بالاستدلال بهيأة الإنسان وأشكاله وأقواله على صفاته وطبائعه. وقد ذهب بعض المستشرقين بهيأة الإنسان وأشكاله وأقواله على صفاته وطبائعه. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أنها من الكلمات المعربة التي أخذت من "بني إرم"، وإنها أحدث عهدا من لفظة "القيافة" التي هي من الكلمات العربية الجاهلية7. وقد توسع في معناها وألف فيها الكتب في الإسلام وتبحر فيها بعض أئمة الفقهاء مثل الشافعي8. وأما "العيافة" فهي التنبؤ بملاحظة حركات الطيور والحيوانات ودراسة أصواتها،

_ 1 السيرة الحلبية "1/ 114". 2 اللسان "11/ 201 وما بعدها"، مروج الذهب "2/ 144". 3 المستطرف "2/ 82", Ency., II, p. 1048, Muh. Stud, I, S. 184. 4 بلوغ الأرب "3/ 262". 5 مروج "2/ 149". 6 مروج الذهب "2/ 150". 7 Ency., II, p. 108. 8 النهاية "3/ 207 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 263 وما بعدها"، نهاية الأرب "3/ 149".

وقراءة بعض أحشائها، ولذلك قيل في العبرانية للعائف "الشاق"، لشقه الحيوانات والطيور لدراسة أحشائها واستخراج الخبر مما يراه على تلك الأحشاء من ألياف يرى أن في أوضاعها معاني يذكرها للسائل على شكل نبوءة1. وكانت معروفة خاصة عند الكلدانيين. وقد اشتهرت "بنو أسد" بالعيافة، فقصدها الناس للأخذ منها، حتى الجن سمعت بعيافتها، وعجبت منها، فجاءت إليها تمتحنها في هذا العلم2. واشتهرت "بنو لهب" بالعيافة كذلك، ولهب حي من الأرد. ومن هؤلاء "العائف اللهبي"، "لهب بن أحجن بن كعب"، وهو الذي تكهن بموت عمر بن الخطاب قبل وقوعه بعام3. والزجر العيافة، وهو يزجر الطير يعافها. وأصله أن يرمي الطير بحصاة ويصيح، فإن ولاه في طيرانه ميامنه تفاءل به أو مياسره تطير. وهو ضرب من التكهن. وإنما سمي الكاهن زاجرا، لأنه إذا رأى ما يظن إنه يتشاءم به زجر بالنهي عن المضي في تلك الحاجة برفع صوت وشدة4. وتطلق لفظة "الحازي" على من يحزر الأشياء ويقدرها بظنه، فهي من الكلمات المستعملة في الكهانة، ويطلق على من يشتغل بالنجوم اسم "حزاء"، لأنه ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره5. وأطلقت أيضًا على من يزجر الطير، ولا سيما الغراب6.

_ 1 تاج العروس "1/ 207"، قاموس الكتاب المقدس "2/ 129". 2 "وبنو أسد يذكرون بالعيافة ويوصفون بها، قيل عنهم أن قوما من الجن تذكروا عيافتهم، فأتوهم، فقالوا: ضلت لنا ناقة، فلو أرسلتم معنا من يعيف. فقالوا: لغليم منهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم، ثم ساروا، فلقيهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام وبكى، فقالوا: مالك؟ فقال: كسرت جناحا ورفعت جناحا، وحلفت بالله صراحا، ما أنت بانسي ولا تبغي لقاحا"، تاج العروس "6/ 307"، اللسان "11/ 167 وما بعدها". 3 الروض الأنف "1/ 118 وما بعدها". قال عبد الرحمن الخزاعي: تيممت لهبا أبتغي العلم عندهم ... وقدرد علم العائفين إلى لهب تاج العروس "1/ 475"، "لهب". 4 تاج العروس "3/ 234"، "لهب". 5 الروض الأنف "1/ 118 وما بعدها". 6 النهاية "1/ 257".

وقد أشير في كتب أهل الأخبار إلى "حازي" عرف واشتهر بين الجاهليين بـ "حازي جهينة"1.

_ 1 البيان والتبيين "1/ 289".

الراقي

الراقي: ويقال لمن يعمل الرقية ويرقي: "الراقي". والرقية العوذة التي يرقي بها صاحب الآفة كالحمى والصرع. قال عروة: فما تركا من عوذة يعرفانها ... ولا رقية إلا بها رقياني1 ويقال لأجرة الراقي: "البسلة" و"بسلة الراقي". و"البسل" الحلال، والبسل أيضًا الحرام، فهو من الأضداد. وبسل الدعاء بمعنى آمين، أي الاستجابة. وكان الرجل إذا دعا على صاحبه، يقول: قطع الله مطاك. فيقول الآخر: بسلا بسلا، أي آمين آمين2.

_ 1 تاج العروس "10/ 154"، "رقى". 2 تاج العروس "7/ 227"، "بسل"، الروض الأنف "1/ 75".

الاستقسام بالأزلام

الاستقسام بالأزلام: ومن طرق التنبؤ الاستقسام بالأزلام ويقابل ذلك ما يقال له "كسيم" "كسم" "Gasam" في العبرانية. وهي طريقة معروفة عند البابليين كذلك4. وعند غيرهم من الشعوب. وقد أشير في التوراة إلى أن "نبو ختنصر" "بختنصر" "نبخد نصر" Nebuchadnezzar" أجال السهام حين عزم على فتح "أورشليم "القدس". "فإن ملك بابل قد وقف عند أم الطريق في رأس الطريقين ليباشر عرافة. فأجال السهام وسأل الترافيم ونظر في الكبد"1. وقد خرج السهم الذي كتب عليه "أورشليم"، فعمل به وهاجم القدس وفتحها2.

_ 1 حزقيال، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية 21. 2 Hastings, p. 567.

وتعني لفظة "كوسيم "Gosem" و"Gesem" "Kosem" العرافة في العبرانية1. من أصل "كسم" "قيسم" وهو التكهن. وهو أصل "سامي". وإليه تعود كلمة "الاستقسام"، لا إلى "قسم" بمعنى تقسيم الشيء وتجزئته. وهو المعنى الذي ذهب إليه أكثر علماء اللغة. وقريب من معنى "قيسم" "كيسم" ما ذكره علماء اللغة من أن القسم هو الحظ والنصيب. فإن للحظ والنصيب علاقة وثيقة بالتكهن، لما فيه من معرفة المستقبل والوقوف عليه. وقد عرف أهل الأخبار "الأزلام": إنها السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. وعرفوا "الزلم"، إنه السهم، وإنه القدح المزلم2. وعرفوا القدح: إنه السهم قبل أن ينصل ويراش. وأن القدح: قدح السهم، وجمعه قداح، وصانعه قداح3. وقد فسر بعض العلماء الأزلام بأحجار بيض تشبه أحجار الشطرنج، كما جعل بعض آخر تلك السهام في مقابل "الكعاب" التي يستعلمها الروم والفرس في الاستخارة4. وذكر بعض آخر أن "الأزلام: سهام كانت لأهل الجاهلية مكتوب على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، فإذا أراد الرجل سفرا أو أمرا، ضرب تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه أمرني ربي مضى لحاجته، وإن خرج الذهي عليه نهاني ربي لم يمض في أمره"5. وذكر أن الأزلام التي كانوا يستقسمون بها غير قداح الميسر، وإنها قداح الأمر والنهي لا قداح الميسر6. وذكر أن أهل الجاهلية، كانوا إذا أرادا أن يخرجوا في سفر، جعلوا قداحا للجلوس والخروج، فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا7. وطريقة الضرب بالقداح، أن الرجل منهم إذا اراد أن يخرج مسافرا، كتب في قدح هذا يأمرني بالمكث، وهذا يأمرني بالخروج، وجعل معهما أزلاما مسحة،

_ 1 العدد، الإصحاح الثالث والعشرون، الآية 23، صموئيل الأول، الإصحاح السادس، الآية2، أشعياء، الإصحاح الرابع والأربعون، الآية 25. 2 اللسان "12/ 270". 3 اللسان "2/ 556" "قدح"، تاج العروس "2/ 202"، "قدح". 4 تفسير الطبري "12/ 478 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 59 وما بعدها". 5 اللسان "12/ 478 وما بعدها"، "قسم"، "صادر". 6 اللسان "12/ 479"، "قسم"، تاج العروس "6/ 417"، "قسم". 7 تفسير الطبري "6/ 42 وما بعدها".

أي لم يكتب فيها شيئًا، وثم استقسم بها حين يريد الخروج، فإن خرج الذي يأمر بالمكث، مكث، وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وإن خرج الآخر أي المسح، أجالها ثانية يخرج أحد القدحين1. وهكذا يفعلون في سائر أمور الاستقسام. وقد جمع المفسرون ما تمكنوا من جمعه عما علق في أذهان الناس من الأزلام، لورود الإشارة إليها ف موضعين من سورة "المائدة"2. وأورد علماء الحديث والأخبار ما وصل إلى علمهم أيضًا من "الاستقسام" بالأزلام". ويظهر مما ذكروه أن أهل الجاهلية كانوا يقيمون في أيامهم وزنا كبيرًا للاستقسام بالأزلام لاعتقادهم أن يحكي إرادة الأرباب ويتحدث عن مشيئتها. لذلك كانوا لا يفعلون فعلا ولا يعملون عملا إلا بعد أخذ رأيها بالاستقسام. فإن جاء أمر فعلوا، وإن جاء نهي امتنعوا. وجاء في سورة المائدة: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ} 3، وذلك مع أمور نهى عنها الإسلام. منها تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أخل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي، وما ذبح على النصب. وجاء ذكر الأزلام في موضع آخر من ذكر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، حيث جعلت رجسا من عمل الشيطان، لذلك، على المسلم اجتنابها والابتعاد عنا4. فالاستقسام بالأزلام من الأمور التي نزل الأمر بالنهي عنها في الإسلام. وقد جاء الأمر بالنهي في شريعة يهود كذلك إذ اعتبرت "رجسا"، ومن أعمال الوثنيين5. ويكون الاستقسام عند الأصنام في الغالب لاعتقادهم أن النتيجة تمثل إرادة الصنم ومشيئته، غي أن ذلك ليس بشرط، فقد كان أصحاب الأزلام يحملون أزلامهم معهم، ويستقسمون حث يطلب ذلك منه. فهم في ذلك مثل أصحاب

_ 1 تفسير الطبري "6/ 42 وما بعدها". 2 سورة المائدة، الآية 3، 90، تفسير الطبري "6/ 49"، روح المعاني "6/ 59 وما بعدها"، الطبري "2/ 240". 3 الآية4، تفسير البيضاوي "1/ 118"، تفسير الطبرسي "3/ 238 وما بعدها". "3/ 156 وما بعدها". 4 المائدة، الآية 93، تفسير البيضاوي "1/ 132". 5 Hastings, p. 567.

"الفأل" والقارئون للرمل والسحرة في الوقت الحاضر، يتنقلون بين الناس عارضين فنهم عليهم في مقابل حلوان يقدم إليهم. وهذا النوع، من أصحاب الأزلام، هم من الطبقة المرتزقة على شاكلة هذه الجماعة المذكورة في هذه الأيام. وقد كان منهم من يستقسم لنفسه بنفسه، وذلك بأن يستقسم بالأزلام التي عنده في بيته، والتي قد يحملها معه، تمامًا كما يفعل أهل "الاستخارة" في الاستخارة بالمسبحة "السبحة" أو بوسائل الاستخارة الأخرى في الوقت الحاضر. قال أهل الأخبار: "والأزلام كانت لقريش في الجاهلية مكتوب عليها أمر ونهي وافعل ولا تفعل، قد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة، يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا أتى السادن فقال: اخرج لي زلما، فيخرجه وينظر إليه، فإذا خرج قدح الأمر مضى على ما عزم عليه، وإن خرج قدح النهي قعد عما أراده، وربما كان مع الرجل زلمان وضعهما في قرابه، فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما"1. و"قالوا": كانوا إذا كانت مداراة أو نكاح أو أمر يريدونه، ولا يدرون ما الأمر فيه ولم يصح لهم أخذوا قداحا لهم فيها: أفعل ولا أفعل لا يفعل، نعم لا خير، شر بطيء سريع، فأما المداراة فإن قداحا لهم فيها بيضا ليس فهم فيها شيء، فكانوا يجيلونها فمن خرج سمهمه فالحق له، وللحضر والسفر سهمان، فيأتون السادن من سدنة الأوثان، فيقول السادن: اللهم أيهما كان خيرًا فأخرجه لفلان، فيرضى بما يخرج له، فإذا شكوا في نسب الرجل أجالوا له القداح وفيها: صريح، وملصق، فإن خرج الصريح ألحقوه بهم، وإن خرج الملصق نفوه، وإن كان صريحا، فهذه قداح الاستقسام"2. "وإن كان بين اثنين اختلاف في حق سمي كل منهما له سهما وأجالوا القداح، فمن خرج سهمه فالحق له"3. وذكر أن أقداح "هبل" سبعة، وضعت قدامه. فإن أراد أحدهم سفرا أو عملا أو تجارة أو زواجا أو بتا في نسب مشكوك فيه أو دفع دية أو أن

_ 1 اللسان "12/ 270 وما بعدها". 2 نهاية الأرب "3/ 117 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "2/ 6"، الدر المنثور "1/ 319". 3 صبح الأعشى "1/ 402".

يخرجوا ماء، أتوا هبل، ومعهم مائة درهم وبجزور فأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم، وكانت أزلامهم سبعة قداح محفوظة عند سادن الكعبة وخادمها، وهي مستوية في المقدار عليها أعلام وكتابة قد كتب على واحد منها "أمرني ربي" وعلى واحد منها "نهاني ربي" وعلى واحد "منكم" وعلى واحد "من شيء، فإذا أرادوا الوقوف على مستقبل الأمر الذي تصدوا له استقسم لهم صاحب القداح بقدحي الأمر والنهي، فإن نجح قدح الأمر ائتمروا وباشروا فيما تصدوا لخ من حرب أو سفر أو زواج أو ختان أو بناء أو نحو ذلك مما يتفق لهم، وإن خرج قدح النهي أخروا ذلك العمل إلى سنة فإذا انقضت أعادوا الاستقسام مرة أخرى. ويروى أن السؤال إن كان يخص أقداما أو احجامان استعمل صاحب القداح قدحي "نعم" أو "لا" فإذا ظهر للمجيل قد "نعم" عمل به، ومضى إلى ما قصد، وإن جاء "لا" أي النهي توقفوا سنة. أما إذا كان نزاعا في نسب أحد منهم، استقسم بالأزلام الموسومة بـ "منكم" و"من غيركم" و"ملصق"، فإن ظهر "منكم"، اعتبر المتنازع على نسبه منهم، وإن خرج "من غيركم" اجتنبوه ونفروا منه، وإن ظهر "ملصق"، بقي أمره على ما كان عليه قبل الاستقسام، وأما إذا كان السؤال نزاعا في "العقل": أي دية القتيل، بأن اشتبه عليهم القاتل، واستقسم بهما، فمن خرج عليه العقل تحمل الدية، وإن خرج "الغفل" أجالوا ثانيا حتى يخرج الكتوب عليه1. ولما أراد "أبو سفيان" الخروج إلى "أحد"، استخار هبلز بأن كتب على سهم نعم، وعلى الآخر لا، وأجالهما عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج بقومه إلى "أحد". وقال يقول: أعل هبل. وقال عمر: الله أعلى وأجل، قال أبو سفيان: أنعمت فعال عنها، أي اترك ذكرها، فقد صدقت في فتواها، وأنعمت، أي أجابت بنعم2.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 66 وما بعدها"، الأصنام: ص28"، النهاية "3/ 268"، تاج العروس "8/ 326"، تفسير الطبري "6/ 42 وما بعدها". 2 اللسان "12/ 589".

ولصاحب الأزلام وخازنها حق يتقاضه من الطالبين في مقابل علمه. فكان سادن "هبل" يتقاضى مئة درهم أجرا عن الاستقسام، كما سبق أن ذكرت فإ، تكرار ذلك زيد أجره على ما يذكره الرواة. وقد كان غير العرب يدفعون حلوانا إلى صاحب الأزلام ليتبأ لهم. فلما انطلق شيوخ مديان "مدين" و"مؤاب" إلى "بلعام" ليستقسم لهم، حملوا حلوانهم معه، فقدموه إليه مقابل ما قام به من عرافة إليهم1. وقيل للذين يضربون بالقداح "الضرباء"2. والواحد الضريب والضارب. وهو الموكل بالقداح، وقيل الذي يضرب بالقداح. يقال هو ضريب قداح3. وقد أشير إلى الاستقسام في شعر الشعراء الجاهليين، وقد ذكرت في قصة الشاعر "امرئ القيس" الكندي حينما جاء إلى الصنم "ذي الخلصة"، ليستقسم عنده بشأن الأخذ بثأر أبيه. فلما خرج النهي عنه ثلاث مرات، غضب على صنمه، وكسر الأزلام ورماها في وجهه، كما يقول الرواة قائلا: "لو كان أبوك المقتول لما نهيتي"، وأنشد: لو كنت يا ذا الخلص الموتورا ... لم تنه عن قتل العداة زورا وأشار الخطيئة إلى ذلك بقوله: لم يزجر الطير، إن مرت به سنحا ... ولا يفيض على قسم بأزلام4 وقال طرفة: أخذ الأزلام مقتسما ... فأتى أغواهما زلمه5 وهناك طرق عدة عرفت عند الشعوب القديمة في التكهن بالسهام، ومنها رمي السهام في الهواء لمراقبة حركاتها وكيفية سقوطها، ومنها رمي حزمة من السهام أمام الصنم، فالسهم الذي يقع قبل بقية الأزلام، يكون هو السهم الذي

_ 1 العدد، الإصحاح الثاني والعشرين "الآية 7 وما بعدها"، Hastings, p. 567 2 الاشتقاق "278". 3 اللسان "1/ 547 وما بعدها". 4 اللسان "12/ 270"، الأصنام "47"، نهاية الأرب "3/ 67". 5 اللسان "2/ 270".

أمر به الصنم في زعمهم، فيعمل بموجب ما كتب عليه1. ولخص "الألوسي" الأزلام التي كانت عند العرب على ثلاثة أنحاء: أحدها: قداح الميسر العشرة، وثانيها: لكل أحد، وهي ثلاثة على أحدها مكتوب "افعل"، أي أمر، وعلى الثاني "لا تفعل" وعلى الثالث "غفل". فإذا أراد أحدهم الأمر جعلها في خريطة، وهي "الربابة" وأدخل يده فيها وأخرج واحدا، فإن طلع الآمر فعل أو النهاي ترك أو الغفل أعاد. وثالثها: للأحكام وهي لاتي عند الكعبة. وكانوا يتحاكمون عند "هبل" في جوف الكعبة. وكان عند كل كاهن وحاكم للعرب مثل ذلك. وكانت سبعة مكتوب عليها ما سبق2. و"القرعة" أي "السهمة"، نوع من أنواع التنبؤ بالغيب التابعة للاستقسام بالأزلام. و"السهمة" هي رضاء بحكم "السهم"، أي بحكم وقوع السهام على الأشياء. وهي جواب فصل يمثل إرادة الآلهة للسائل أو للمختصمين في أمر من الأمور. وقد قيل للسهم: الحظ والنصيب3، لأنه يتكلم عن حظ الإنسان ونصيبه. والتنبؤ بالتفرس في الأشباح التي تظهر على الماء، أو الزيت المصبوب في الأقداح، أو الحركات التي تظهر على سطح السائل بعد رمي شيء فيه، لمعرفة الأسرار والمغيبات والإجرام كالسرقات والقتل، والزنى، ودراسة سطح المرآة: هذه وأمثالها كانت معروفة عد البابليين والعبرانيين، وعند غيرهم من الشعوب. وعقيدتهم أن الأرواح هي التي ترشد إلى إظهار المخفيات، وأن هناك مأمورين من بينهم واجبهم أخبار العراف والعائف والكاهن بما يطلب منهم معرفته ليقوله للسائل4. ومن ضرب التنبؤ "الطرق"، وهو الضرب بالحصى للكشف عن المستقبل، يقوم بذلك الرجال والنساء. ويقال للقائمين بذلك الطراق والطوارق5. وورد أن الطرق: الضرب بالحصى والخط في التراب، وهما ضربان من التكهن. وقيل أيضًا: الطرق: أن يحط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع، ويقول:

_ 1 Hastings, p. 567. 2 بلوغ الأرب "3/ 67 وما بعدها". 3 تاج العروس "8/ 352"، "سهم". 4 Ency. ReIigi, p. 807. 5 النهاية "3/ 40".

ابني عيان اسرعا البيان، وزعم بعضهم أن الطرق أن يخلط الكاهن القطن بالصوف فيتكهن. وقد نهى عنه في الإسلام. ورد في الحديث: إنه قال: الطرق والعيافة من الجبت1. ويدخل في ضروب التنبؤ "الخط" "وهو الذي يخطه الحازي. يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حلوانا، فيقول له: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازي غلام له معه ميل، ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط فيها خطوطا كثيرة بالعجلة لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها على مهل خطين خطين، وغلامه يقول للتفاؤل: "ابني عيان، أسرعا البيان"، فإن بقي خطان فهما علامة النجح، وإن بقي خط واحد فهو علامة الخيبة ... وقيل: الخط هو أن يخط ثلاثة خطوط، ثم يضرب عليهن بشعير أو نوى، ويقول: يكون كذا وكذا. وهو ضرب من الكهانة"2. وكانت العرب تسمي ذلك الخط الذي بقي من خطوط الحازي الأسحم. وكان هذا الخط عندهم مشؤومًا. وقد كان الخط من علوم العرب القديمة3. وعلم الخط هو علم الرمل. وينسب إلى "ابن عباس" قوله: علم قديم تركه الناس. وخط الزاجر في الأرض، رسم خطا بإصبعه، ثم زجر. وذكر أن "الخطيطة" الرملة التي يخط عليها الزاجر، وأن الأسحم اسم خط من خطوط الزاجر، وهو علامة الخيبة عندهم. وذلك أن يأتي إلى أرض رخوة وله غلام معه ميل، فيخط الأستاذ خطوطًا كثيرة على عجل لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها خطين خطين، فإن بقي من الخطوط خطان، فهما علامة النجح وقضاء الحاجة، ويمحو وغلامه يقول للتفاؤل: ابني عيان أسرعا البيان، وإذا محا الخطوط، فبقي منها خط، فهي علامة الخيبة4.

_ 1 اللسان "10/ 215"، "طرق" تاج العروس "6/ 417"، "طرق". لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع النهاية "3/ 40"، اللسان "17/ 84"، سنن أبي داود "4/ 16". 2 النهاية "1/ 303، 38"، "خطط"، "3/ 40" "طرق"، تاج العروس "6/ 417"، اللسان "17/ 85". 3 اللسان "7/ 287 وما بعدها"، "خطط". 4 تاج العروس "5/ 131"، "خطط".

الأحلام

الأحلام: والأحلام "Dreams" و"الرؤيا "Visions" باب من أبواب الكهانة كذلك، فهي تفسير لما سيقع في المستقبل من حوادث. وقد تخصص بذلك أناس تعاطوا تعبير الرؤيا والأحلام. وإذ كان اعتقاد الشعوب القديمة أن الأحلام حقيقة، لا كما نتصورها نحن، كان الاهتمام بها كبيرًا، والاعتناء بها شديدا ولا يزال يخصها كثير من الناس بالعناية. وقد فسرت بعض الشعوب القديمة الأحلام بأنها الآلهة أو الأرواح تتجلى في الإنسان في أثناء منامه، فتطلعه على أشياء كثيرة تتعلق بحياته وبمصيره، وتساعده بذلك على حل مشكلات عديدة عويصة لديه، أو تهديه إلى أمور لم يكن يعرف عنها شيئًا، أو تحذهره بقرب حلول كارثة أو خطر به أو بغيره، أو بحصول خير له أو لغيره. وقد ترجع به إلى أيام ماضية وحوادث قديمة سالفة كان قد نسيها وذهبت من ذاكرته. ونجد في المؤلفات اليونانية واللاتينية والسريانية وفي الكتابات الهيروغليفية والمسمارية أشياء عديدة من القصص المتعلق بالأحلام. وفيها أن كثيرًا من الملك والخاصة كانوا يقيمون وزنا نجح كثير منهم كما خسر كثير منهم أيضًا بسبب تأثير الأحلامفيهم، حتى إن بعضهم اتخذ له مفسرا للأحلام أو جملة مفسرين، ليكونوا في خدمته حتى إذا ما رأى حلما فسروه له. ولما كانت بعض الأحلام مزعجة، رجع الكهان المتخصصون بالأحلام أسبابها إلى فعل الأرواح الشريرة. أما الأحلام المريحة الطيبة، فقد جعلوها من إلهام الآلهة في الإنسان. ولأهمية الاعتقاد بالأحلام، وضعت قواعد وتعاليم للأشخاص الذين يريدون معرفة مستقبلهم بالرؤيا والأحلام. وقد نصح في بعضها باجتناب الأكل الثقيل، وبشرب بعض الأشربة المعينة وبالنوم في المعابد، للحصول على الرؤيا الصادقة، وبشرب بعض الأشربة المعينة وبالنوم في المعابد. للحصول على الرؤيا الصادقة، والابتعاد عن أضغاث الأحلام. وضع تلك القواعد أناس تخصصوا بهذا الفن، يلجأ إليهم من يرى حلما ليجد تفسيره عندهم. فلكل شيء في الرؤيا والحلم معنى خاص، لا يمكن أن يعرفه إلا ذووو الخبرة والعلم1. وقد عثر على كتابة لحيانية في موضع "الخريبة"، تبين منها وجود صنم في معبد هذا الموضع تخصص بتفسير الأحلام2.

_ 1 مقدمة ابن خلدون "1/ 103". 2 Jaussen – Sabignac, Mission, II, p. 417, Euting 825, Arabien. S. 98.

وفي كتب التفسير والسير والأخبار والأدب أمثلة عديدة من الرؤيا، تشير إلى أن الاعتقاد بالأحلام كان معروفا عند الجاهليين، وأن أثره كان عميقًا في حياتهم. وقد يكون لأهل الكتاب أثر عليهم في كيفية تفسير الأحلام وتوجيه تعبير الرؤيا، غير أن الاعتقاد بالأحلام هو اعتقاد عام، وكان يقوم به متخصصون بتفسير الأحلام. وقد عرف في الإسلام واشتهر به "ابن سيرين"1. وقد عرف بعض العلماء الإسلاميين الحلم بأنه عبارة عما يراه النائم في نومه من الأشياء المزعجة، وخصصوا الرؤيا بما يراه الإنسان في منامه من الخير والشيء الحسن2. وهم بذلك على طريقة القدماء في جعل الأحلام نوعين: أحلام من فعل الشيطان والأرواح الخبيثة، وأحلام من إلهام الآلهة في الإنسان، وهي التي تنكشف من رؤية أشياء جميلة وعن أشياء يرغب صاحب الحلم في الحصول عليها وتحقيقها. ويرجع العلماء الرؤيا إلى النفس، تطلع الرؤيا إلى النفس، تطلع على الواقعات فتتذكرها، وتوحي بها إلى صاحبها. وهم يعتقدون بها. وجعلوها جزءًا من النبوة3.

_ 1 "كتاب التعبير"، عمدة القاري "24/ 126"، الفهرست "439"، "الكتب المؤلفة في تعبير الرؤيا". 2 النهاية "1/ 289 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 255"، "حلم". 3 مقدمة ابن خلدون "1/ 102 وما بعدها".

الفصل السادس والثمانون: الطيرة

الفصل السادس والثمانون: الطيرة مدخل ... الفصل السادس والثمانون: الطيرة وقد كان للطيرة شأن كبير في حياة الجاهليين. وهي معروفة عند جميع الشعوب، ويقال لها في العبرانية: طير "Tayyar"، فهي من نفس الأصل الذي أخذ العرب منه التسمية1. ويقال لها في الإنكليزية "Augury"، ويرى بعض الباحثين أن الطيرة انتقلت إلى العبرانيين من العرب2. وهناك نوع آخر من التطير يقال له "Haruspicy" في الإنكليزية، ويقصد به الطيرة من الحيوانات الميتة، أو مراقبة الحيوان في أثناء لمعرفة المستقبل من حركاته وهو يرتجف رجفة الموت3. ويقول علماء الأخبار، إن الطيرة من زجر الطيور ومراقبة حركاتها، فإن تيامنت دل تيامنها على فأل، وإن تياسرت دل على شؤم4. فهي إذن تشمل التيمن والتشاؤم، إلا أنها خصصت بالتشاؤم فيما بعد. فصارت تعني هذا المعنى عند الاستعمال. قال "الجاحظ": "وأصل التطير إنما كان من الطير ومن جهة الطير، إذا مر بارحا أو سانحا، أو رآه يتفلى وينتف، حتى صاروا

_ 1 Ency. ReIigi., 4, p. 807. 2 Ency. ReIigi., 4, p. 778, Hastings, p. 568. 3 Ency. ReIigI., p. 778. 4 اللسان "4/ 512 وما بعدها"، مفردات، للأصفهاني "312" صبح الأعشى "1/ 399".

إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر، زجروا عن ذلك وتطيروا، كما تطيروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال. فكان زجر الطير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطير، ثم استعملوا ذلك في كل شيء"1. قال أحدهم: عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير كأن الذي يرى ما يكره أو يسمع يطير وقد عد العلماء الطيرة والزجر في معنى واحد، لأن أصلهما إنهم كانوا إذا أرادوا فعل أمر أو تركه زجروا الطير حتى يطير، ثم يحكمون من حركاته على ما سيحدث ويقع. فالزجر والطيرة من ثم شيء واحد2. وقد قيل لمن يزجر الطير "زاجر": "لأنه إذا رأى ما يظن إنه يتشاءم به زجر بالنهي عن المضي في تلك الحاجة برفع صوت وشدة"3. والطيور هي مادة التطير، وذلك بمراقبة حركاتها وسكناتها. وهو ما يقال له في العبرانية: "نيحوش" "نحوش" "Nihush" من أصل "نيحيش" "نحش". وتقابل لفظة "نحش" كلمة "حنش" في العبرانية وتعني "الثعبان". وقد ذهب بعض علماء التوراة أن لكلمة "نحش"، صلة بالثعبان، ذلك لأن الثعبان كان بعض علماء التوراة أن لكلمة "نحش"، صلة بالثعبان، ذلك لأن الثعبان كان من الآلهة القديمة، بينما يرى بعض آخر عدم وجود صلة ما للثعبان بهذا الموضوع، لأن العبرانيين لم يتعبدوا البتة للثعابين، فلا صلة للثعبان به4. ويدخل في باب الزجر، زجر الطير والوحش. ويذكر بعض العلماء أن الأصل في الطيرة، هو زجر الطير، ثم صار في الوحش، وقد يجوز أن يغلب أحد الشيئين على الآخر فيذكر دونه ويرادان جميعًا5. وقد يراد بالطيرة "التشاؤم" الذي هو خلاف التيامن، غير أن "التشاؤم"

_ 1 الحيوان "1/ 438"، "هارون"، العمدة "2/ 259 وما بعدها". 2 صبح الأعشى "1/ 399". 3 تاج العروس "3/ 364"، اللسان "5/ 407"، "طير". 4 Ency. ReIigI., 4, p. 807, Hastings, p. 568. 5 العمدة "2/ 260".

هو في الواقع أوسع مجالا وأكثر ساحة من الطيرة، لأن التشاؤم طيرة وزيادة، وأعني بالزيادة تشاؤم المتشائمين من أمور أخرى كثيرة مثل التشاؤم من ذوي العاهات أو القبح من البشر، والتشاؤم من سماع الكلام السيء أو الأخبار السيئة عند الصباح أو من رؤية ميت أو سماع نياحة أو مشاهدة مخلوق مشوه أو سماع اسم موضع يدعو للتشاؤم أو اسم شخص فيه معنى التشاؤم وأمثال ذلك، فتكون كل هذه الأمور مدعاة للتشاؤم عند المتشائمين. "حتى صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر، زجروا عند ذلك وتطيروا عندها كما تطيروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال"1. ويقول علماء اللغة: الشؤم: خلاف اليمن. ورجل مشؤوم على قومه2. وأصل ذلك هو أن العرب تتفاءل بالجهة اليمنى، وتتشاؤم من الجهة اليسرى، ولذلك كانت إذا أرادت أن تعمل عملا عمدت إلى "الزجر" وهو رمي الطير بحصاة، ثم يصيح الرامي، ليفزعها ويزجرها، وعندئذ يراقب حركة طيرانها، فإن تيامنت أي جرت يمنة تفاءل به، وإن تشاءمت أي تياسرت، تشاءم به. فالتيمن هو بالتيامن والتشاؤم هو بالتياسر. ولذلك قيل للكاهن "زاجر" أيضًا، "لأنه إذا رأى ما يظن أنه يتشاءوم به زجر بالنهي عن المضي في تلك الحاجة برفع صوت وشدة"3. ولاعتماد الزاجر على الطيور في الغالب في هذا النوع من التكهن قيل له: "الطيرة". قال علماء اللغة: "وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة، لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزرجها والتطير ببارحها ونعيب غرابها وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها، فسموا الشؤم طيرا وطائرا وطيرة لتشاؤمهم بها"4. ولا بد أن يكون للتطير صلة بعقيدة استحالة الأرواح طيورا بعد مفارقتها الأجساد، فقد كان من المتعارف عليه عند كثير من الشعوب القديمة أن بعض فصائل الطيور هي أرواح الموتى بعد مفارقتها الأجساد، وإنها لذلك تعي وتفهم، وأن في استطاعة بعض الناس فهم منطقها وتكليمها، ومن هنا ظهرت فكرة

_ 1 الحيوان، للجاحظ "1/ 438" "تحقيق محمد عبد السلام هارون". 2 اللسان "12/ 314". 3 تاج العروس "3/ 364"، اللسان "5/ 407"، "12/ 314" "شأم". 4 تاج العروس "3/ 364"، "طير".

"منطق الطير". وقد كان "سليمان" يحادث الطير1. فإذا كانت الطير على هذه الصفة، ففي حركاتها وسكناتها منطق لمن لا يحسن منطقها، يشير إلى ما يجب على الإنسان أن يفعله أو يتركه من أعمال. وقد كان للتطير والتفاؤل شأن كبير في حياة الجاهليين. كما كان لهما مثله في حياة شعوب أخرى عديدة: ومن بينهم اليونان والرومان والفرس. والتطير هو نظير التشاؤم في المعنى كما قلت. أما نظير الطيرة وقعت لبعض القبائل عند إقدامها على الحرب، فخسرت لتطيرها، ويحدث من التطير النحس، وأما من التفاؤل فيكون السعد. وفي الأخبار: "كانت العرب إذا خرج أحدهم من بيته غاديا في بعض الحاجة، نظر: هل يرى طائرا يطير، فيزجر سنوحه أو بروحه، فإذا لم ير ذلك، عمد إلى الطير الواقع على الشجر، فحركه ليطير، ثم نظر إلى أي جهة يأخذ، فزجره. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أقروا الطير على مكناتها: لا تطيروها ولا تزجروها"2. وذكر "إنهم كانوا في الجاهلية إذا خرج أحدهم لحاجة، فإن رأي الطير طار عن يمينه تيمن به واستمر، وإن طار عن يساره تشاءم به ورجع، وربما كانوا يهيجون الطير، ليطير فيعيدون ذلك"3. وقد أبطل الرسل الطيرة. "وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، يتفاءل ولا يتطير. وأصل الفأل الكلمة الحسنة يسمعها عليل، فيتأول منها ما يدل على برئه، كأن سمع مناديا نادى رجلا اسمه سالم، وهو عليل، فأوهمه سلامته من علته، وكذلك المضل يسمع رجلا يقول يا محمد يا واجد، فيجد ضالته. والطيرة مضادة للفأل. وكانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد. فأثبت النبي الفأل واستحسنه وأبطل الطيرة ونهى نها"4. وروي أن أهل الجاهلية كانوا يقولون: "إن الطيرة في المرأة والدار والدابة"5

_ 1 Ency. ReIigi,. 4, p. 808. 2 جامع الأصول "8/ 458". 3 إرشاد الساري "8/ 396". 4 تاج العروس "3/ 364 وما بعدها". 5 أمالي المرتضى "2/ 2020".

و"الكدس" التطير، و"الكدسة" عطسة البهائم، وقد تستعمل للإنسان: ومنه الحديث: إذا بصق أحدكم في الصلاة، فليبصق عن يساره أو تحت رجله، فإن غلبته كدسة أو سعلة ففي ثوبه. والكادس ما يتطير به من الفال والعطاس وغيرهما. ومنه قيل للظبي وغيره إذا نزل الجبل وغيره كادس1. ومن الألفاظ المستعملة في الى "الزجر" "سنح" و"برح". وللفظة "برح" معان عديدة، وهي من الكلمات السامية الواردة والباقية في عدد من لهجاتها. بين يديك من جهة يسارك إلى يمينك، والعرب تتيمن به، لأنه أمنك للرمي والصيد. والبارح ما مر من يمينك إلى يسارك والعرب تتطير به، لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف"2. وقد ذكر بعض اللغويين عكس المعنى، كا ذكر أن أهل نجد كانوا يتشاءومون بالبوارح ويتيمنون بالسانح. أما غيرهم من العرب، فقد كانت تتيمن بالبارح، وأن بعضًا منهم لم يكن له رأي في شيء من هذا3.وذكر أن أهل "العالية" يتشاءمون بالسانح ويتيمنون بالبارح4. قال ذو الرمة وهو من نجد: خليلي لا لاقيما ما حييتما ... من الطير إلا السانحات وأسوأ وقال النابغة، وهو نجدي أيضًا، يتشءوم بالبارح: زعم لا لاقيما البوارح أن رحلتنا غدا ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود وقد عبر "كثير" عن رأي أهل الحجاز بقوله: أقول إذا ما الطير مرت مخيفة ... سوانحها تجري ولا استثيرها5 وذكر أن هذيلا كانت تتشاؤم بالسنيح. أما غيرها، فكانت تتشاءم بالبارح6.

_ 1 تاج العروس "4/ 230"، "كدس". 2 النهاية "1/ 85" المعاني الكبير "3/ 1187". 3 الأغاني "9/ 157" "أخبار النابغة ونسبه"، Reste, S. 202. 4 العمدة "2/ 263". 5 البرقوقي "ص19 وما بعدها". 6 المعاني "3/ 1186".

ويقال للمتطيرين من الرجال "الخثارم"1. وذكر أن "بني لهب"، "هم أعيف العرب وأزجرهم للطير"2. وهم بطن من العرب يعرفون بالعيافة. ولأهل الأخبار قصص عن عيافتهم وعن زجرهم للطير3. ومن الطيور التي تطير منها أهل الجاهلية: الغراب وطيور الليل، وهي البومة، والصدى، والهامة، والضوع، والوطواط، والخفاش، وغراب الليل4. وقاعدتهم في الطيرة، إنهم يشتقون من اسم الشيء الذي يعاينون ويسمعون من ذلك قول سوار بن المضرب: تغنى الطائران ببين ليلى ... على غصنين من غرب وبان فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان فاشتق الاغتراب من الغرب، والبينونة من البان. وقال عنترة: ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى بينهم الغراب الأبقع حرق الجناح كأن لحيي رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع فزجرته ألا يفرخ بيضه ... أبدا ويصبح خائفا يتفجع إن الذين نعبت لي بفراقهم ... هم أسهروا ليلى التمام فأوجعوا فقال: وجرى بينهم الغراب، لأنه غريب، ولأنه غراب البين، ولأنه أبقع. ثم قال: حرق الجناح تطيرا أيضًا من ذلك. ثم جعل لحيي رأسه جلمين، والجلم يقطع. وجعله بالأخبار هشا مولعا، وجعل نعيبه وشحيجه كالخبر المفهوم5. وأشأم الطيور عند الجاهليين، "الغراب": "ليس في الأرض شيء يتشاءم

_ 1 المعاني "3/ 1187". 2 الاشتقاق "ص288"، صبح الأعشى "1/ 339 وما بعدها". 3 صبح الأعشى "1/ 399 وما بعدها". 4 الحيوان "2/ 298"، "هارون". 5 الحيوان "3/ 442 وما بعدها"، "هارون".

به إلا والغراب أشأم منه"1، ولذلك قالوا إذا تعب: خيرًا خيرًا، وذلك من باب التفاؤل بالأضداد2. "والعامة تتطير من الغراب، إذا صاح صيحة واحدة، فإذا ثنى، تفاءلت به"، "وإذا صاح الغراب مرتين، فهو شر، وإذا صاح ثلاث مرات، فهو خير"3. وورد "غراب البين" و"الغراب الأبقع" و"الغراب الأسود"4. ويراد بذلك التشاؤم بفراق الأحبة، ويقال للغراب الأسود "حاتم"، والحتمة السواد، وهو مشؤوم، لأنه يحتم بالفراق5. "والعرب تتشاءم من الغراب، ولذا اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب"6. "فالغراب أكثر من جميع ما يتطير به في باب الشؤم، ألا تراهم كلما ذكروا ما يتطيرون منه شيئًا كروا الغراب معه؟ وقد يذكرون الغراب ولا يذكرون غيره، ثم إذا ذكروا كل واحد من هذا الباب لم يمكنهم أن يتطيروا منه إلا من وجه واحد، والغراب كثير المعاني في هذا الباب، فهو المقدم في الشؤم"7. وروي أن "ابن عباس" كان إذا صاح الغراب، قال: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك. قال الجاحظ: "وليس في الأرض بارخ ولا نطيح، ولا قعيد، ولا أعضب ولا شيء مما يتشاءمون به إلا والغراب عندهم أنكد منه، يرون أن صياحه أكثر أخبارا، وأن الزجر أعم قال عنترة:

_ 1 تاج العروس "1/ 407"، "عزب"، قال رؤبة: فأزجر من الطير الغراب الغاربا اللسان "2/ 438"، الحيوان للجاحظ "2/ 316". 2 الحيوان للجاحظ "3/ 457، 458"، طبعة عبد السلام محمد هارون". 3 الحيوان، للجاحظ "3/ 457 وما بعدها"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 255" 4 قال عنترة: ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى بينهم الغراب الأبقع خرق الجناح كأن لجى رأسه ... جلمان بالأخبار هش مولع اللسان "16/ 210"، القاموس "4/ 204"، "غراب البين"، الحيوان للجاحظ "3/ 431"، البيان والتبيين "1/ 83" "لجنة"، قال النابغة: زعم البوارح أن رحلتنا غدا ... وبذاك خبرنا الغراب الأسود الحيوان للجاحظ "3/ 442". 5 إذا ما رأت عبس من الطير جاثما ... شديد سواد الزف ظلت تفزع الاشتقاق "2/ 166"، اللسان "15/ 3"، الحيوان للجاحظ "3/ 436"، "هارون"، بلوغ الأرب "2/ 338 وما بعدها". 6 الحيوان للجاحظ "2/ 316"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 190". 7 الحيوان للجاحظ "2/ 316"، حياة الحيوان "2/ 244".

حرق الجناح كأن لحيي رأسه ... جلمان، بالأخبار هش مولع1 وفي الغراب وشؤمة يقول الأعشى: ما تعيف اليوم في الطير الروح ... من غراب البين أو تيس برح2 وقد كنوا عنه بكنى عديدة، دلالة على مقدار اهتمامهم به. فقالوا له: أبو حاتم، وأبو جحادف، وأبو الجراح، وأبو المرقال، وأبو حذر، وأبو زيدان، وأبو زاجر، وأبو الشؤم، وأبو غياث. ووضعوا الأمثلة على لسانه وعنه. وقصوا عنه الحكايات. من ذلك، إنه أراد أن يقلد القطاة في مشيها، فحاكاها، لكنه لم يفلح في المشي مشيها، فلما أراد العود إلى مشيته الأولى، أضل مشيته، إذ نسيها، فنسي المشيتين: فلذلك سموه: أبا المرقال3. وضربوا المثل بالغراب الأعصم، فقالوا: أعز من الغراب الأعصم، للشيء القليل الوجود4. وأوردوا له قصصًا مع الديك ومع حيوانات أخرى. ورموه بالفسق والفجور5. وفي الشعر الجاهلي وشعر المخضرمين إشارات إلى شؤم الغراب. جاء في شعر "حسان بن ثابت". وبين في صوت الغراب اغترابهم ... عشية أو في غصن بان فطربا فصوت الغراب، يشير إلى الغربة والاغتراب، لذلك كره6. وهو من ألأم الطير وأخبثها، وهو من عبيد الطير، وليس من أحرارها، فهو دنئ النفس، إذا صادفته جيفة، نال منها، وهو لا يتعاطى الصيد. فهو حيوان خبث الفعل وخبيث المطعم، لذلك عد العرب أكله عارا يعبر من يقدم

_ 1 الحيوان "2/ 316"، "هارون". 2 العمدة "2/ 260"، تاج العروس "6/ 207"، "عاف"، اللسان "9/ 261"، "عيف". 3 الحيوان، للجاحظ "3/ 129"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 172". 4 حياة الحيوان "2/ 173". 5 الحيوان "3/ 131"، حياة الحيوان "2/ 273 وما بعدها"، "3/ 317"، "هارون"، "فسق الغراب وتأويل رؤياه. 6 البرقوقي "ص19"، بلوغ الأرب "2/ 334 وما بعدها".

عليه. وكانوا يتعايرون بأكل لحمه1. وليس ذلك "لأنه يأكل اللحوم ولأنه سبع"، لو كان ذلك منهم "لكانت الضواري والجوراح أحق بذلك عندهم"2 إنما امتنعوا عن أكله، لأنه يأكل الجيف والقاذورات، ولذلك عدة العبرانيون من الحيوانات النجسة، والحيوانات هي في الغالب الحيوانات التي لا يجوز أكل لحومها، والظاهر أنه كان على هذه النظرة عند أغلب الساميين. ونعت الغراب بـ "الأعور"، قيل إنه نعت بذلك لحدة نظره3، وقيل إنما سموه "الأعور" تفاؤلا بالسلامة4. ووصف بالحذر، فقيل: أحذ من غراب، وقيل إنه نعت بذلك على التشاؤم به، لأن الأعور عندهم مشؤوم، وقيل لخلاف حاله، لأنهم يقولون: أبصر من غراب، ويقال سمي الغراب أعور، لأنه إذا أراد يغمض عينيه5. ويذكر أهل الأخبار أن غراب البين نوعان: أحدهما صغار معروفة بالضعف واللؤم. أما الآخر، فإنه ينزل في دور الناس، ويقع على مواضع إقامتهم إذا ارتحلوا عنها وبانوا منها، ولذلك سمي بغراب البين6. وللعرب عادات بالنسبة إلى الغراب، ترى إنه إذا علق منقار الغراب على إنسان، حفظ من العين. اما إذا علق طحاله على إنسان، هيج الشبق. وأن دمه إذا جفف وحشي به البواسير، أبرأها. وإذا أكل مشويا، نفع القولنج. وإذا غمس الغراب الأسود بريشه في الخل، وطلي به الشعر، سوده وإذا طلي بها إنسان مسحور، بطل عنه السحر. وإذا جفف لسان الغراب "الزاغ"، ثم أكله إنسان عطشان، ذهب عشطه7.

_ 1 ما بالعار ما عيرتمونا ... شواء الناهضات مع الخبيص فما لحم الغراب لنا بزاد ... ولا سرطان أنهار البريص الحيوان، للجاحظ "2/ 314 وما بعدها"، "2/ 313"، "لؤم الغراب وضعفه". 2 الحيوان للجاحظ "2/ 317"، "التعاير بأكل لحم الغراب". 3 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص258". 4 الحيوان، للجاحظ "2/ 314 وما بعدها". 5 تاج العروس "3/ 428"، "عور". 6 الحيوان، للجاحظ "2/ 315" حياة الحيوان، للدميري "2/ 246". 7 حياة الحيوان، للدميري "2/ 245، 255".

ونسب إلى المرقش السودسي، ذكر الغراب في شعره، إذ قيل إنه قال: ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم وإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم1 ويبين هذان البيتان رأي هذا الشاعر في التيامن والتشاؤم. وكا العرب إذا أرادوا أن يصفوا أرضا بالخصب والسواد، قالوا: وقعوا في أرض لا يطير غرابها، فهذا يعني أن الأرض كلها خصبة مزروعة سوداء، لا ترى فيها قطعة بيضاء، ولا ترى إلا الزرع والخيرات والثمر. وإذا أرادوا التعبير عن انتقال مرحلة الشباب إلى مرحلة الشيخوخة، وعن التهام الشيب لسواد الرأس: قيل: طار غراب البين2. وقد يكون في جملة أسباب تشاؤم العرب من الغراب، إنه كان يضر بإبلهم. فهم يذكرون إنه إذا وجد دبرة في ظهر البعير، أو قرحة في عنقه، سقط عليها ونقره وعقره. ولذلك كانوا إذا رأوا دبرة بظهر البعير، غرزو في سنامه إما قوادم ريش أسود، وإما خرقا سودا، لتفزع الغربان فلا تتقرب منه ولا تسقط عليه. وقد يضعون الريش في اسنمتها وتغرز فيها3. والعرب تسمي الغراب لذلك "ابن دأية"، لأنه ينقر دبرة البعير أو قرحة عنقه، حتى يبلغ إلى دايات العنق وما اتصل بها من خرزات الصلب، وفقار الظهر4. والغراب من الطيور التي ورد ذكرها في التوراة. والعبرانيون مثل العرب اعتقدوا بالطيرة منه، أي بتأثير حركاته وسكناته في إحداث الفأل والشؤم5. وقد ذكر "الجاحظ" جريدة بأسماء الجهات التي يقف عليها "الغراب" فينعب، وما سيقع من وقفته تلك ومن نعيبه، وما يجب أن يفعله أو يتجنبه

_ 1 المعاني "3/ 1187". 2 تاج العروس "1/ 407". 3 الحيوان، للجاحظ "3/ 416 وما بعدها"، "هارون". 4 الحيوان "3/ 415، 439"، "هارون". 5 الملوك الأول، الاصحاح السابع عشر، الآية 6: التكوين، الاصحاح الثامن، الآية 7، Ency. ReIigI, 4 p. 808.

الإنسان في هذه الحالات. كما ذكر أمورا أخرى تخص التطير أو التفاؤل من أصوات الحيوانات أو من رؤيتها1. وكان "أمية بن أبي الصلت" ممن يتطير من الغراب، ويذكر أهل الأخبار أنه بينا كان يشرب مع إخوان له في قصر "عيلان" بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة القصر، فنعب نعبة، فقال أمية: "بفيك الكثكث"، أي التراب وتشاءم منه، وقد مات فعلا في مكانه بعد نعيبه للمرة الثالثة2. وفي شعر أمية قوله: بآية قام ينطق كل شيء ... وخان أمانة الديك الغراب وذلك أن من أحاديث العرب، أن الديك كان نديما للغراب، وأنهما شربا الخمر عند خمار ولم يعطياه شيئًا، وذهب الغراب ليأتيه بالثمن حين شرب، ورهن الديك، فخاس به، فبقي محبوسا، وأن نوحا حين بقي في اللجة أياما بعث الغراب، فوقع على جيفة ولم يرجع، ثم بعث الحمامة لتنظر هل ترى في الأرض موضعا يكون للسفينة مرفأ، واستجعلت على نوح الطوق الذي في عنقها، فرشاها بذلك. وفي جميع ذلك وغيره قال "أمية" ذلك البيت وأبياتا أخرى، تطرق فيها إلى قصص إسرائيلي آخر، أخذ علمه به من أهل الكتاب. "فقد كان داهية من دواهي ثقيف، وثقيف من دهاة العرب، وقد بلغ من اقتداره في نفسه أنه قد كان هم بادعاء النبوة، وهو يعلم كيف الخصال التي يكون الرجل بها نبيا أو متنبيا إذا اجتمعت له، نعم وحتى ترشح لذلك بطلب الروايات، ودرس الكتب، وقد بان عند العرب علامة، ومعروفا بالجولان في البلاد، روابة"3. ومن رأي العرب أن الغراب لا يشيب، وضربوا به المثل في ذلك، فقالوا: "حتى يشيب الغراب ويبيض القار"، ضربوا به مثلا في الاستمرار على العمل

_ 1 نهاية الأرب "3/ 134 وما بعدها". 2 نهاية الأرب "3/ 139"، حياة الحيوان "2/ 173"، الحيوان "3/ 131". 3 الحيوان "2/ 320".

وعدم الملل من شيء1. ويقولون: ذهب الغراب يتعلم مشي العصفور أو القطاة، فلم يتعلمها، ونسي مشيته. فلذلك صار يحجل ولا يقفز قفزان العصور، أو مشية القطاة2. والبوم من الطيور التي يتشاءم منها بعض الناس، ولعل ذلك بسبب منظرها الكئيب ولصوتها الحزين وظهورها في الليل، والليل هو رمز الشر. ويدل وصفها بـ "أم الخراب" و"أم الصبيان" على النظرة السيئة التي كان يراها العرب لها3. ويقال إن من أنواعها الصدى والهامة. ولعل اعتقادهم أن الصدى والهامة أو ذكر البوم منها، هي روح الميت المرفرفة على القبر هو الذي حمل أولئك المتشائمين على التشاؤم منها. والعاطوس، وهي سمكة في البحر أو دابة من الحيوانات التي كان العرب يتشاءمون منها4. وكذلك "الأخيل" وهو "الشقراق"، "يتطيرون منه ويسمونه مقطع الظهور: يقال إذا وقع على بعير، وإن كان سالما يئسوا منه، وإذا لقي المسافر الأخيل تطير وأيقن بالعقر إن لم يكن موت في الظهر"5. وهم يتشاءمون من الثور الأعضب أي المكسور القرن6. ويتشاءمون من "العراقيب"، الشقراق. وتقول العرب: إذا وقع الأخيل على البعير ليكشفن عرقوباه. وقيل: كل طائر يتطير منه الإبل، فهو طير عرقوب لأنه يعرقبها7. ويتطيرون بالصرد، ومن أسمائه الأخطب، ويقال "الأخيل" كذلك. و"الواق" أيضًا الصرد8. ويتشاءمون من "الأفكل"، وهو الشقران، فإذا عرض لهم كرهوه وفزعوا منه وارتعدوا9.

_ 1 اللسان "11/ 629"، الحيوان "3/ 131"، حياة الحيوان "2/ 177". 2 الحيوان "4/ 325". 3 حياة الحيوان "1/ 1818 وما بعدها". 4 قال طرفة بن العبد: لعمري لقد مرت عواطيس جمة ... ومر قبيل الصبح ظبي مصمع تاج العروس "4/ 192"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 121، 221"، العمدة "2/ 260"، اللسان "6/ 142". 5 بلوغ الأرب "2/ 37"، البرقوقي "348"، ديوان حسان "ص22" "هرشفلد". 6 بلوغ الأرب "2/ 338"، العمدة "2/ 262". 7 تاج العروس "1/ 378"، "عوقب". 8 العمدة "2/ 261". 9 تاج العروس "8/ 65"، "افتكل".

والثعلب والأرنب من الحيوانات التي استعان بها الزاجر، في الزجر1. والواقع أن أهل الزجر قد توسعوا في علمهم حتى شمل كل المخلوقات، فحركات الإبل والخيل وسكناتها كلها ذات معان ومفاهيم يعرفها المشتغلون بالطيرة، وكانوا يستعينون بغيرها من الحيوانات. وقد ذكر بعض الإخباريين أن العرب تتشاءم من الأفراس بالأشقر2. وذكروا أيضًا أنها تطيرت من: "المراة، والدار، والفرس". وفي الحديث: "إن كان الشؤم، ففي الدار والمرأة والفرس"3. وورد: "إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار". وذكر أن "عائشة"، قالت: "وإنما قال: أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك"، أي أن الرسول إنما قال ذلك حكاية عن أهل الجاهلية فقط4. وكما يتغلب الإنسان على الأمراض بالأدوية والعلاج، كذلك يمكن التغلب على النحس وشؤم ناصية المرأة وعتبة الدار بالذبائح في بعض الأحيان، ولهذا جرت العادة بذبح ذبيحة أو عدة ذبائح عند زفاف العروس إلى بعلها ووصولها عتبة بيته طردا للأرواح الشريرة وإرضاء لها، كما جرت العادة بذبح الذبائح حين الانتقال إلى دار جديدة، أو حين الشعور بوجود أرواح فيها، ويقال لهذه الذبائح "ذبائح الجان"5. وقد ابتدع الجاهليون طرقا لإبعاد الطيرة من تفكيرهم، من ذلك إنهم تجاهلوا بقدر إمكانهم، المسميات التي تبعث على التشاؤم بتسميتها بضدها من الكلمات التي لا يتشاءم منها، فسموا اللديغ بالسليم، والبرية بالمفازة، وكنوا الأعمى أبا بصير والأعور ممتعا، والأسود أبا البيضاء، وسموا الغرب بحاتم، وذلك لتشاؤمهم من الغراب6. والتسمية بالأضداد لدفع الطيرة عن الأذاه، ليست عادة جاهلية حسب، إنما هي معروفة في الإسلام كذلك. كما إنها معروفة عند غير العرب من الأمم قديما وحديثا.

_ 1 Reste, S. 202. 2 مجمع الأمثال "2/ 86". 3 "لا عدوى ولا طيرة، إنما الشؤم في ثلاث في القرس والمراة والدار"، جامع الأصول "8/ 396"، عمة القارئ "21/ 289". 4 القسطلاني، إرشاد "5/ 73 وما بعدها". 5 تاج العروس "2/ 138". 6 الحيوان "3/ 439"، "عبد السلام هارون"، بلوغ الأرب "2/ 338 وما بعدها".

التثاؤب والعطاس

التثاؤب والعطاس: ويدخل في الطيرة بعض ما يصدر من الإنسان والحيوان من حركات، مثل التثاؤب والعطاس، والتثاؤب عمل من أعماله الشيطان. وأما العطاس، فقد كان أثره في إيجاد الشؤم شديدا، وهو من العادات الجاهلية المذكورة في الشعر المنسوب إلى الجاهليين. ذكر أن امرأ القيس قال: وقد اغتدي قبل العطاس بهيكل ... شديد منيع الجنب نعم المنطق وإنه أراد بذلك إنه كان يتنبه للصيد قبل أن ينتبه الناس من نومهم، لئلا يسمع عطاسا فيتشاءم بعطاسه1. وقيل إن العرب كانت تتطير منه، فإذا عطس العاطس، قالوا: قد ألجمه، كأنها قد تلجمه عن حاجته2. ويقال الكدسة لعطسة البهائم. وقد تقال لعطسة الإنسان. والكادس ما يتطير به من الفال والعطاس وغيرهما. وقيل الكادس: القعيد من الظباء، وهو الذي يجئ من خلفك، ويتشاءم به، كما يتشاءم بالبارح3. والعطاس فضلا عن ذلك دواء في نظر أهل الجاهلية، لذلك كانوا يتجنبونه بقدر إمكانهم، ويحاولون جهدهم حبسه وكتمه. فإذا عطس أحدهم وكان وضيعا مغمورا أسمعوه كلاما مرا فيه رد للشؤم على صاحب العطاس، كأن يقولوا له: "وريا وقحابا". والوري هو داء يصيب الكبد فيفسدها، والقحاب هو السعال، أو: "بك لا بي: أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي". أما إذا كان العاطس معروفا محبوبا شريفا، قالوا له: "عمرا وشبابا". وكلما كانت العطسة شديدة كان التشاؤم منها أشد4. ويقال للدعاء على العاطس "التشميت" و"التسميت"5.

_ 1 العمدة "2/ 260"، إرشاد الساري "9/ 125 وما بعدها". 2 المعاني الكبير "3/ 1185"ز 3 تاج العروس "4/ 230"، "كدس". 4 المعاني الكبير "2/ 1015"، بلوغ الأرب "2/ 332". 5 اللسان "2/ 357"، تاج العروس "1/ 559". "شمت".

وقد نهى الإسلام عن التشاؤم بالعطاس، وعكسه، فجعله محبوبا، بحديث: "إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب" 1. وإذا مات رجل قالوا: عطس الرجل، و"عطست به اللجم"، واللجمة ما تطيرت منه، ويقال للموت: لجم عطوس2.

_ 1 جامع الأصول "7/ 396 وما بعدها". 2 اللسان "6/ 142".

بعض من أنكر الطيرة: وكان بين الجاهليين أناس أنكروا الطيرة، ولم يحلفوا بها. منهم المرقش من بني سدوس، حيث قال: إني غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم فكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم1 وممن كان ينكر الطيرة ويوصي بذلك، سلامة بن جندل، والحارث بن حلزة. ونجد الشاعر "الخثيم بن عدي" يمدح "مسعود بن بجر الزهري"، بقوله: وليس بهياب إذا شد رحله ... يقول عداني اليوم واق وحاتم ولكنه يمضي على ذاك مقدما ... إذا صد عن تلك الهنات الخثارم فهو يمدحه، ويقول إن ممدوحه لم يكن من الخثارم، أي المتطبرين، بل كان إذا أراد أن يمضي أمرا، صد عن تلك الهنات، فلا يحفل بواق وحاتم2. وكان النابغة من المتطيرين، خرج مع "زيان بن سيار" يريدان الغزو، فبينما هما يريدان الرحلة، إذ نظر النابغة وإذا على ثوبه جرادة تجرد ذات ألوان، فتطير وقال: غيري الذي خرج في هذا الوجه! فلما رجع زبان من تلك الغزوة سالما. أنشأ يذكر شأن النابغة، فقال:

_ 1 الحيوان "3/ 436، 449"، "هارون". 2 الحيوان ط3/ 437"، "هارون".

تخبر طيره فيها زياد ... لتخبره وما فيها خبير أقام كأن لقمان بن عاد ... أشار له بحكمته مشير تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير1 واسم النابغة زياد2. وهناك نوع آخر من التنبؤ يقال له في الإنكليزية "Hepatscopy"، ويراد به استخراج الغيب من دراسة كبد الأضاحي التي تقدم إلى الآلهة. وقد اشتهر به الكلدانيون على الأخص، وتوسعوا فيه فشمل أيضًا قراءة الرئة أو بقية الأحشاء. وكان معروفا أيضًا عند العبرانيين واليونان والرومان والمصريين وغيرهم3. وللكبد أهمية خاصة عند العرب، وهو ف نظرهم معدن العداوة ومقر الحقد، لذلك يقال للأعداء: سود الأكباد، لأن الحقد قد أحرق أكبادهم حتى اسودت4. وقد تشاءموا من بعض الأيام، مثل "الأيام النحسات". وهي كل أربعاء يوافق أربعاء من الشهر، مثل أربع خلون، وأربع وعشرين، وأربع بقين. كما تشاءموا من بعض الشهور، مثل شهر شوال، ولذلك كرهت التزوج فيه5. وورد يوم نحس و"أيام نحسات"، وهي المشؤومات. والعرب تسمي الريح الباردة إذا دبرت نحسا. والنحس: الجهد والضر، وخلاف السعد من النجوم وغيرها6. وقد كان أه لنجد يتيمنون بالسانح، ويتشاءمون بالبارح، ويخالفهم أهل العالية، فيتشاءمون بالسانح، ويتيمنون بالبارح7. ويدخل في هذه الأيام تشاؤم بعض الجاهليين من يوم معين وتفاؤلهم من يوم آخر. فيكون يوم التشاؤم يوم بؤس، يغضب فيه من يتشاؤم منه على كل من يراه أول مرة أو في ذلك النهار، وقد يلحق به سوءا كالذي روي من قصة

_ 1 الحيوان "3/ 447"، "هارون". 2 الحيوان "5/ 555"، "هارون". 3 Ency. ReIigI., 4, p. 808 Hastings, p. 568, Diodorus SicI., II, p. 29. 4 اللسان "4/ 378". 5 مروج الذهب "2/ 108 وما بعدها". 6 اللسان "6/ 227". 7 العمدة "2/ 263".

"يومي البؤس والنعيم" عند "المنذر بن ماء السماء أو "النعمان بن المنذر"1. ويكون يوم التفاؤل "يوم نعيم" يفرح فيه صاحبه ويهش لكل من يراه ولا سيما لأول قادم عليه. وعبر عنهما بـ "يوم بؤس"، "يوم نعم"2. وكانت العرب تشاءم من كلبة يقال لها "براقش"3.

_ 1 البلدان "6/ 283 وما بعدها"، الأغاني: 5/ 213"، ابن قتيبة: الشعر "144". القالي، الأمالي "3/ 195". 2 اللسان "12/ 579". 3 الحيوان "5/ 454"، "هارون".

بعض من أنكر الطيرة

بعض من أنكر الطيرة ...

الفأل

الفأل: والفأل ضد التشاؤم والطيرة. ويكون برؤية شيء أو سماع أمر أو قول أو غير ذلك يتفاءل منه، كأن يسمع مريض رجلا يقول يا سالم فيقع في ظنه إنه يبرأ من مرضه، أو يسمع طالب حاجة رجلا يقول يا واجد فيخال إنه يجد ضالته، فيتوقع صحة هذه البشرى، ويقال لذلك في الإنكليزية Omen. ,I, وهو معروف عند العبرانيين وقد ذكر في التوراة1. وأصل كلمة "الفأل" على ما يظهر للتشاؤم والتفاؤل، أي إنها كالطيرة أريد بها الحالتان، ثم تخصصت بالحسن، كما تخصصت الطيرة بالشؤم2. وقد نهى في الحديث عن الطيرة. أما الفأل، فقد ورد أن الرسول كان يتفاءل ولا يتطير لما في التفاؤل من أثر طيب في أعمال الإنسان3. وضد "الشؤم" "اليمن"، ومن معاني اليمن "البركة" و"الميامين" على نقيض "المشائيم"، و"الميمون" ضد المشؤوم"4. وورد "ميمون النقيبة"5 و"ميمون الناصية". ويلاحظ أن للناصية علاقة متينة بالشؤم والتمين، فكما يقال "ميمون الناصية" قيل "شؤم الناصية" كذلك، وهي كناية عن الإنسان فقد كان في رأيهم أن من الناس من هم شؤم. ويجلبون الشؤم على من يراهم،

_ 1 جامع الأصول "8/ 468"، "كتاب الطيرة"، اللسان "14/ 27"، إرشاد الساري "8/ 397، Ency., II, p. 46, Reste, S. 203. ff. 2 في الحديث: "أصدق الطيرة الفأل"، النهاية "3/ 195". 3 النهاية "3/ 195"، جامع الأصول "8/ 467". 4 تاج العروس "9/ 371". 5 تاج العروس "10/ 491".

وأن منهم من تجلب رؤيته الخير لمن يراه. ويكون للحسن والقبح ولسيماء الوجه والجسم دخل كبير في تكوين رأي عن الشخص الذي يتشاءم أو يتفاءل منه. وقد قلت إن بعض العاهات التي تكون في بعض الناس، تجعل غيرهم يتشاءمون منهم عند وقوع نظرهم عليهم في الصباح. وهناك كلمات عديدة في التشاؤم و"الشؤم"، مثل "شائم" و"شؤم" و"مشؤوم" و"مشوم" و"مشائيم" و"تشاءموا"، و"الأشأم" وأمثال ذلك1. ولا يقتصر استعمال هذه الألفاظ على جنس معين، بل تقال لكل ما يجلب الشؤم على إنسان. فمن البشر -كما قلت- من هم شؤم على غيرهم، يجلبون الشر لمن يتشاءم منهم، يستوي في ذلك الرجال والنساء والأطفال. ولما كان التشاؤم قضية اعتبارية تتعلق بالنفس والمزاج، كان بعض الأشخاص أو الحيوانات أو الأشياء شؤما عند ناس، بينما هم ليسوا كذلك عند جماعة آخرين. ولكن الغالب أن التشاؤم من الأشياء القبيحة أو الناقصة أو الراعبة وما شابه ذلك، فهذه المزعجات تؤثر على النفس، فتجعلها تتشاءم منه، وتتوقع حدوث النحس من رؤيتها، ولا سيما في الصباح، وعند الهم بالشروع في عمل مهم. وكانوا يحبون أن يأتوا أعداءهم من شق اليمين2. يتفاءلون بذلك. لأن في اليمين اليمن، وفي اليسار العسر. وللأسماء والكلمات أثرها في الفأل وفي الطيرة، فالأسماء الحسنة الجميلة تبعث على التفاؤل، أما الأسماء الخبيثة والرديئة فإنها تولد التشاؤم. وقد عرف هذا النوع من التفاؤل في الإسلام، ولم ينه عنه. بل قيل إن الرسول كان يتاثر من الأسماء، وكان يقول إذا أعجبته كلمة: "أخذنا فألك من فيك"، وإنه يعجبه إذا خرج لحاجة أن يسمع: يا راشد، يا نجيح، وأنه قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل" 3. وللطيرة سمت العرب المنهوش السليم، والبرية المفازة، وكنوا الأعمى أبا بصير،

_ 1 تاج العروس "8/ 354". 2 الحيوان "5/ 516"، "هارون". 3 جامع الأصول "8/ 394".

والأسود أبا البيضاء، وسموا الغراب بحاتم، إذ كان يحتم الزجر به على الأمور1 وورد أن العرب إذا تطيروا من الإنسان وغيره قالوا: صباح الله لا صباحك2. ولإيمان العرب بباب الطيرة والفأل عقدوا الرتائم، وعشروا إذا دخلوا القرى تعشير الحمار، واستعملوا في القداح الآمر، والناهي، والمتربص، وهن غير قداح الأيسار3. ومن أبواب الفراسة النظر إلى خطوط الكف للاستدلال بها على طبيعة صاحب الكف وعلى ما سيحدث له من أحداث. وقد أشار إلى الكف وإلى أسرارها الأعشى في قوله: انظر إلى كف وأسرارها ... هل أنت إن أوعدتني ضائري4 ولمراقبة الكلف الذي يظهر على وجه القمر ودراسة النجوم والظواهر الطبيعية التي تحدث للأجرام السماوية كالكسوف والخسوف، أهمية كبيرة في التكهن. وقد كان الجاهليون يعتقدون أن للكسوف والخسوف أثرًا في حياة الإنسان، فإذا وقعا دلا على موت إنسان عظيم أو حياته، أو ولادة مولود صاحب حظ كبير5. وكذلك كان رأيهم في تساقط النجوم. وقد أشير إليه في أشعار القدماء من الجاهلية، منهم عوف بن الجزع وأوس بن حجر وبشر بن أبي خازم6. وقد كان في زعم الكهان من صنف المنجمين أن في استطاعتهم التأثير في الأجرام السماوية وفي أحداث الضباب والعواصف والرياح، وقد نهي عن التصديق بها في الإسلام، لتعارضها مع الإيمان بسيطرة الله وهيمنته وحده على الكون. كان للجاهليين اعتقاد بأثر فعل النجو في الإنسان، ولهذا كانوا يراقبون السماء لتفسير ما يرون فيه من تساقط نجوم، ومن أخبار الشياطين عما يستعون إليه من وحي السماء. وذكر أنهم كانوا يفزعون إذا تساقطت الشهب بكثرة غير

_ 1 الحيوان "3/ 439"، "هارون، "4/ 253". 2 اللسان "2/ 502". 3 الحيوان "3/ 440"، "هارون". 4 المعاني الكبير "3/ 1185". 5 اللسان "11/ 208"، الروض الأنف "1/ 135". 6 الرض الانف "1/ 135".

معهودة، وقد حدث أن تساقطت النجوم بكثرة ففزعوا وجزعوا وقالوا: "هلك من في السماء. فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر يذبح كل يوم بقرة، وصاحب الغنم كل يوم شاة حتى أسرعوا في اتلاف أموالهم. فقالت ثقيف بعد سؤال كاهنهم.. امسكوا عن أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء. ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي. والشمس والقمر كذلك"1. فكأنهم تصوروا أن تساقط النجوم هذا بكثرة معناه اختلال نظام السماء وموت من فيه، واحتمال فناء العالم تبعا لذلك. وكانوا إذا خافوا من شيء وأرادوا الاستعاذة، كأن يكون الإنسان مسافرا فرأى من يخافه قال: حجرا محجورا، أي حرام عليك التعرض بي. وقد ترك هذا الاستعمال في الإسلام2. وقد ورد الحديث في النهي عن التطير. جاء: "الطيرة شرك. ولكن الله يذهبه بالتوكل" 3.

_ 1 السيرة الحلبية "1/ 141 وما بعدها". 2 الصاحبي "93". 3 جامع الأصول "8/ 467"، "كتاب الطيرة"، سنن أبي داود "4/ 17 وما بعدها"، "باب في الطيرة"، عمدة القاري "21/ 273"، "باب الطيرة"، اللسان "10/ 450"، "شرك".

الفصل السابع والثمانون: من عادات وأساطير الجاهليين

الفصل السابع والثمانون: من عادات وأساطير الجاهليين مدخل ... الفصل السابع والثمانون: من عادات الجاهليين ولأهل الجاهلية عادات وأساطير كثيرة، وقد اختص العرب بقسم منها، أما القسم الثاني فهو عام معروف، عرف عند الساميين والعجم، وهي مما يقال له "الشعبيات" أو "الفلولكلوريات" في مصطلح الإفرنج لهذا العهد. فمن ذلك ما كانوا يفعلونه في أسفارهم إذ كان أحدهم إذا خرج إلى سفر عمد إلى شجرة من "الرتم"، فعقد غصنا منها، فإذا عاد من سفره ووجده قد انحل، قال: قد خانتني امرأتي، وإن وجده على حالته قال لم تخني1. ويقال لذلك العقد "الرتم"و "الرتمة". وذكر أن الرجل منهم كان إذا سافر عمد إلى خيط فعقده في غصن شجرة أو في ساقها، فإذا عاد نظر إلى ذلك الخيط، فإن وجده بحاله علم أن زوجته لم تخنه، وإن لم يجده أو وجده محلولا قال: قد خانتني. ويقال: بل كانوا يعقدون طرفا من غصن الشجر بطرف غصن آخر2. وتستعمل "الرتمة" لتذكير الإنسان بشيء. يستعلمها من يكثر نسيانه. وهي خيط يعقد في الأصبع للتذكير. وقد يعقد على الخاتم3. ومن اعتقادهم في السفر أن من خرج في سفر والتفت وراءه لم يتم سفره.

_ 1 المستطرف "2/ 78". 2 بلوغ الأرب "2/ 316 وما بعدها"، نهاية الأرب "3/ 125"، اللسان "15/ 116". صبح الأعشى "1/ 408". 3 تاج العروس "8/ 303"، "رتم".

فإن التفت تطير، وفسره بالعودة. فلذلك لا يلتفت إلا العاشق الذي يريد العود1. ومنها التصفيق: كانوا إذا ضل الرجل منهم في الفلاة، قلب ثيابه، وحبس ناقته، وصاح في أذنها كأنه يومئ إلى إنسان، وصفق بيديه: الوحا الوحا، النجا النجا، هيكل، الساعة الساعة، إلي إلي، عجل، ثم يحرك الناقة فيهتدى. قال الشاعر: وأذن بالتصفيق من ساء ظنه ... فلم يدر من أي اليدين جوابها2 وذكر إنه كان يقلب قميصه ويصفق بيديه كأنه يومئ بهما إلى إنسان فيهتدي3. وكان أحدهم إذا أراد دخول قرية، فخاف وباءها أو جنها، وقف على بابها قبل أن يدخلها، فنهق نهيق الحمار، ثم علق عليه كعب أرنب، كأن ذلك عوذة له ورقية من الوباء والجن. ويسمون هذا النهيق التعشير. وروي أن "عروة بن الورد" خرج إلى "خيبر" ليمتار، فلما قربوا منها، عشر من معه، وعاف "عروة" أن يفعل فعلهم. فيقال: إن رفقته مرضوا، ومات بعضهم، ونجا "عروة" من الموت والمرض4. وكان مسافرهم إذا ركب مفازة وخاف على نفسه من طوارق الليل، عمد إلى واد ذي شجر، فأناخ راحلته في قرارته، وهي القاع المستديرة وعقلها، وخط عليها خطا، ثم قال: أعوذ بصاحب هذا الوادي5. وإلى ذلك أشار القرآن {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 6. وذكر أنهم كانوا إذا نزلوا الوادي، قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضرا ولا نفعا7. ومن عادات بعض العرب أنهم إذا خافوا شر إنسان وأرادوا عدم عودته إليهم، أوقدوا خلفه نارًا، إذا تحول عنهم، ليتحول ضبعه معه، أي شره. وكانوا يقولون: أبعد الله دار فلان وأوقد نارًا أثره، والمعنى لا رجعه الله ولارده8.

_ 1 المستطرف "2/ 80"، بلوغ الأرب "2/ 328". 2 نهاية الأرب "3/ 122"، صب الأعشى "1/ 405". 3 المستطرف "2/ 80"، بلوغ الأرب "2/ 316". 4 بلوغ الأرب "2/ 315 وما بعدها". 5 بلوغ الأرب "2/ 325". 6 الجن، الآية 6. 7 تفسير الطبري "29/ 68". 8 اللسان "3/ 466". "وقد".

وإذا غاب الإنسان، فلم يقفوا على أثره، ففي الوسع الاهتداء إليه، وذلك بأن يذهبوا إلى بئر قديمة أو حفر قديم، ثم ينادوا في البئر أو الحفر اسم الغائب ثلاث مرات، فإن سمعوا صوتا علموا أنه حي معافى، وإن لم يسمعوا شيئًا علموا أنه قد مات1. وإذا أراوا ضمان عدم رجوع الثقلاء ومن لا يرغب في عودتهم، فإن الثقيل إذا غادر المحل، عمد صاحب البيت والمكان إلى كسر شيء من الأواني أو رمى حجرا خلفه، وفي ذلك ضمان بألا يعود2. ومن خرافاتهم أن أحدهم كان إذا اشترى دارا أو استخرج ماء عين أو بنى بنيانا وما أشبهه، ذبح ذبيحة للطيرة. وقد عرفت عندهم بـ "ذبائح الجن". وكانوا يفعلون ذلك مخافة أن تصيبهم الجن وتؤذيهم. وقد نهي في الإسلام عن ذبائح الجن3. وأوجدوا لدوام الحب علاجا، هو شق الرداء والبرقع. زعموا أن المرأة إذا أحبت رجلا أو أحبها ثم لم تشق عليه رداءه، ويشق عليها برقعها، فسد حبهما، فإذا فعل ذلك دام حبهما4. وإذا صعب على المرأة العثور على خاطب لها، فإن في الإمكان تيسير ذلك بنشر جانب من شعرها، وتكحيل إحدى عينيها، وتحجيل إحدى رجليها، ويكون ذلك ليلا، ثم تقول: "يا لكاح، أبغي النكاح، قبل الصباح"، فيسهل أمرها، وتتزوج عن قريب5. ومن آرائهم أن الرجل منهم إذا عشق ولم يسل وأفرط عليه العشق، حمله رجل على ظهره كما يحمل الصبي، وقام آخر فأحمى حديدة أو ميلا وكوى به بين إليتيه فيذهب عشقه6. ولدوام الحب بين الرجل والمرأة، يشق الرجل برقع من يحبها وتشق المرأة رداءه، فيصلح حبهما ويدوم، فإن لم يفعلا ذلك فسد حبهما7.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 3 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "2/ 330". 3 اللسان "2/ 437"، "ذبح"، ثمار القلوب "ص69". 4 نهاية الأرب "3/ 126". 5 بلوغ الأرب "2/ 330". 6 بلوغ الأرب "2/ 321". 7 بلوغ الأرب "2/ 322".

وإذا غاب عن النساء من يحببنه أخذن ترابا من موضع قدمه وموضع رجله، ليرجع سريعا1. وإذا أرادت المقلاة أن يعيش ولدها، ففي إمكانها ذلك إذا تخطت القتيل الشريف سبع مرات، وعندئذ يعيش ولدها. وإنما كانوا يفعلون ذلك بالشريف يقتل غدرا. وقد ذكر ذلك في شعر لبشر بن أبي خازم2. ومن عقائدهم أن صاحب الفرس المهقوع إذا ركبه فعرق حته اغتلمت امرأته، وطمحت إلى غيره. والهقعة: دائرة بالفرس، وربما كانت على الكتف في الأكثر3. وكان الصبي إذا بترت شفته، حمل منخلا على رأسه ونادى بين بيوت الحي: "الحلاء الحلاء، الطعام الطعام" فتلقي له النساء كسر الخبز والتمر واللحم في المنخل، ثم يلقى ذلك للكلاب، فتأكله فيبرأ من المرض فإن أكل صبي من الصبيان من ذلك الذي ألقاه للكلاب تمرة أو لقمة، بتر شفته4. وتعالج "الخطفة" و"النظرة" عند الصبيان بتعليق سن ثعلب، أو من هرة على الصبي، فإن تلك الأسنان تهرب الجن. ويهربها كذلك تنقيط شيء من صمغ "السمرة" "حيض السمرة"، وهي شجرة من شجر الطلع، بين عيني النفساء، وخط شيء منه على وجه الصبي خطا، فلا تجرؤ الجنية على التقرب من الصبي، ويقال لذلك "النفرات"، فإذا قال لها صواحباتها في ذلك، قالت: كانت عليه نفره ... ثعالب وهرره والحيض حيض السمره5 ومن عاداتهم في إبعاد الجن عن الصبيان، تنفير المولود، وذلك أن يسميه باسم غريب منفر، فينفر الجن منه، ولا يتقربون منه6.

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 239 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "2/ 317 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "2/ 323". 4 بلوغ الأرب "2/ 328". 5 نهاية الأرب "3/ 124"، بلوغ الأرب "2/ 325"، تاج العروس "3/ 578 وما بعدها". 6 بلوغ الأرب "2/ 325".

وعادة أخذ الغلام إذا ثغر، السن الساقط ووضعه إياه بين السبابة والإبهام، واستقبال الشمس، وقذف السن في عينها، لا تزال معروفة حتى الآن، وهم يقولون في ذلك: "ابدليني بسن أحسن منها، ولتجر في ظلمها إياتك"1، أو "أبدليني أحسن منها، أمن على أسنانه العوج، والفلج، والثعل". قال طرفة: بدلته الشمس من منبته ... بردا أبيض مصقول الأشر2 واعتقد قوم منهم أن من ولد في القمراء، تقلصت غرلته، فكان كالمختون3. واعتقدوا أن طول الغرلة من تمام الخلقة وأقرب ما يكون إلى السؤدد4. ومن عقائدهم، أن المولود إذا ولد يتنا، كان ذلك علامة سوء، ودليلا على الفساد، واليتن خروج رجل المولود قبل رأسه5. ومن عقائدهم أن الرجل كان إذا ظهرت فيه القوباء عالجها بالريق، وإذا أصيب أو أصيبت دابته بالنملة، وخط عليها ابن المجوسي إذا كان من اخته تبرأ وتنصلح وترأب6. وزعموا أن من أصيب بـ "الهدب"، وهو "العشا" يكون في العين، عمد إلى سنام فقطع منه قطعة، ومن الكبد قطعة، وقلاهما، وقال عند كل لقمة يأكلها بعد أن يمسح جفنه الأعلى بسبابته: فيا سناما وكبد ... ألا اذهبا بالهدبد ليس شفاء الهدبد ... إلا السنام والكبد ويزعمون أن ذلك بالعشا بذلك7. وقد زعم الجاهليون أن الطاعون الذي كان يقع كثيرًا في الجاهلية فيحصد الناس

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 318". 2 نهاية الأرب "3/ 122". 3 بلوغ الأرب "2/ 331". 4 تاج العروس "8/ 41"، "غرل"، بلوغ الأرب "2/ 331"ز 5 الحيوان "1/ 286"، "هارون". 6 بلوغ الأرب "2/ 329"، وتعرف "القوباء بـ"كوباية" بلغة العمامة لهذا العهد. 7 إنه لا يبرئ داء الهدبد ... مثل القلايا من سنام وكبد تاج العروس "2/ 545"، "الهدبد"، بلوغ الأرب "2/ 340".

حصدا، هو من وخز الجن، وأنه من فعلهم في الإنسان ودعوه "رماح الجن"، وذكر ذلك في الشعر فقال أحد الشعراء: لعمرك ما خشيت على عدي ... رماح بني مقيدة الحمار ولكني خشيت على عدي ... رماح الجن أو إياك جار1 وكانوا يرون أن أكل لحوم السباع يزيد في الشجاعة والقوة2. وفي حركات الإنسان دليل ومعان تنبئ عن أشياء. فإذا اختلجت العين دل، ذلك على توقع قدوم شخص غائب محبوب. ولا تزال هذه العادة باقية عند الناس اليوم3. ومن عاداتهم أن أحدهم إذا خدرت رجله، ذكر أحب الناس إليه، فتنبسط4. وكانوا يعقدون الرتم للحمى، ويرون أن من حلها انتقلت الحمى إليه. قال أحد الشعراء: حللت رتيمة فمكثت شهرا ... أكابد كل مكروه الدواء5 وقد زعموا أن في البطن حية، إذا جاع الإنسان، عضت على شرسوفه وكبده. وقيل: هو الجوع بعينه، ليس أنها تعض بعد حصول الجوع6. وكان من عادة الجاهليين حمل ملوكهم على الأعناق إذا اشتد بهم المرض. وهم يعتقدون أنهم بذلك سيتغلبون على المرض، ويعللون ذلك بأنه أسهل على المريض، وأكثر راحة له من وضعه على الأرض7. واعتقدت العرب أن دم الملوك والرؤساء يشفي من عضة الكلب8. وزعموا أن الكلب جنون الكلاب المعتري من أكل لحم الإنسان. وأجمعت العرب أن

_ 1 ثمار القلوب "68". 2 بلوغ الأرب "2/ 323". 3 بلوغ الأرب "2/ 321 وما بعدها". 4 تاج العروس "3/ 170"، "خدر". 5 بلوغ الأرب "2/ 317". 6 بلوغ الأرب "2/ 313 وما بعدها". 7 بلوغ الأرب "3/ 20 وما بعدها". 8 بلوغ الأرب "2/ 319".

دواءه قطرة من دم ملك يخلط بماء فيسقاه، وقيل إن الرجل الكلب يعض إنسانا فيأتون رجلا شريفا، فيقطر لهم من دم إصبعه، فيسقون الكلب فيبرأ1. ومن عقائدهم إنهم كانوا إذا قتلوا الثعبان خافوا من الجن أن يأخذوا بثأره، فيأخذون روثة، ويفتونها على رأسه، ويقولون: روثة راث ثائرك. وقد يذر على الحية المقتولة يسير رماد، ويقال لها: فتلك العين ثائر لك. وفي أمثالهم لمن ذهب العين دمه هدر: هو قتيل العين2. واعتقد الجاهليون بـ "السفعة"، و"السفعة" العين تصيب الإنسان: عين إنسية وعين جنية، "والسفعة" النظرة من الجن3. وإذا طالت علة الواحد منهم، وظنوا أن به مسا من الجن، لأنه قتل حية أو يربوعا أو قنفذا، عملوا جمالا من طين، وجعلوا عليها جوالق وملؤوها حنطة وشعيرا وتمرا، وجعلوا تلك الجمال في باب جحر إلى جهة المغرب وقت غروب الشمس، وباتوا ليلتهم تلك، فإذا أصبحوا، نظروا إلى تلك الجمال الطين، فإذا رأوا إنها بحالها، قالوا: لم تقبل الهدية، فزادوا فيهان وإن رأوها قد تساقطت وتبدد ما عليها من الميرة قالوا: قد قبلت الدية، واستدلوا على شفاء المريض، وفرحوا، وضربوا بالدف4. ومن أوابدهم تعليق الحلي والجلاجل على اللديغ، يرون أن يفيق بذلك، ويقال إنه إنما يعلق عليه، لأنهم يرون أنه إن نام يسري السم فيه فيهلك، فشغلوه بالحلي والجلاجل وأصواتها عن النوم. وذهب بعضهم إلى إنه إذا علق عليه حلي الذهب برأ، وإن علق الرصاص أو حلي الرصاص مات5. ومن آرائهم في إطفاء نار الحرب إنهم كانوا بما أخرجوا النساء فبلن بين الصفين، يرون أن ذلك يطفئ نار الحرب ويقودهم إلى السلم6.

_ 1 تاج العروس "1/ 460"، "كلب". 2 بلوغ الأرب "2/ 358". 3 بلوغ الأرب "2/ 265". 4 بلوغ الأرب "2/ 359". 5 وإلى هذه العقيدة أشار النابغة الذبياني بقوله: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع يسهد من ليل التمام سليمها ... بحلي النساء في يديه قعاقع بلوغ الأرب "2/ 304". 6 بلوغ الأرب "2/ 4".

ومن وسائل إبعاد الجن عن الناس، وإبعاد عيونهم عنهم، تعليق كعب الأرنب. يقولون إن من فعل ذلك لم تصبه عين ولا سحر، وذلك لأن الجن تهرب من الأرنب، لأنها ليست من مطايا الجن، لأنها تحيض. وذكر أيضًا أن من علق على نفسه كعب أرنب، لم يقربه "عمار الحي" "جنان الحي" و"جنان الدار"، و"عمار الدار" ولا "شيطان الحماطة" وجان العشرة "جار العشيرة" وغول العقر "غول القفر"، كل الخوافي وأن الله يطفئ نار السعالي1. و"الحماطة" شجرة شبيهة بالتين تأوي إليها الحيات2. وكانوا إذا خافوا على الرجل الجنون وتعرض الأرواح الخبيثة له، نجسوه بتعليق الأقذار عليه، كخرقة الحيض وعظام الموتى. وذكروا أن أنفع من ذلك أن تعلق طامث عظام موتى ثم لا يراها يومه ذلك. ويشفي التنجيس من كل شيء. إلا من العشق3. ومن مذاهبهم قولهم في الدعاء: "لا عشت إلى عيش القراد". يضربونه مثلا في الشدة والصبر على المشقة يزعمون أن القراد يعيش ببطنه عامًا وبظهره عامًا4. وكانوا يتبركون بأشياء منها المدمى من السهام، الذي ترمى به عدوك ثم يرميك به. وكان الرجل إذا رمى العدو بسهم فأصاب، ثم رماه به العدو وعليه دم، جعله في كنانته تبركًا به. ذكر أن "سعدًا" قال: "رميت يوم أحد رجلا بسهم فقتله، ثم رميت بذلك السهم أعرفه، حتى فعلت ذلك وفعلوه ثلاث مرات، فقلت: هذا سهم مبارك مدمى فجعلته في كنانتي، فكان عنده حتى مات"5. كان أحدهم يلقي الرجل يخافه في الشهر الحرام، فيقول: حجرًا محجورًا، أي حرام محرم عليك هذا الشهر، فلا يبدؤه بشر6. وكانوا يقولون ذلك إذا نزلوا مكانا وخافوا فيه من الجن. وكان من عاداتهم أنهم كانوا إذا أرادوا أن تورد البقر الماء، فعافته قدموا ثورا، فضربوه، فورد، فإذا فعلوا ذلك، وردت البقر. وفي ذلك قال الأعشى:

_ 1 نهاية الأرب "3/ 123 وما بعدها". 2 عنجرد تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف بلوغ الأرب "2/ 324"، اللسان "9/ 146". 3 بلوغ الأرب "2/ 319". 4 بلوغ الأرب "2/ 339". 5 اللسان "14/ 270"، "دمى". 6 تاج العروس "3/ 123"، "حجر".

وما ذنبه إن عافت الماء باقر ... وما أن تعاف الماء إلا لتضربا1 ويقولون إن الجن تصد البقر عن الماء، وأن الشيطان يركب قرني الثور2. ويظهر أن هذا الاعتقاد من الاعتقادات التي كانت شائعة بين الجاهليين، بدليل وروده في أشعار عدد من الشعراء. وكانوا يزعمون أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء حتى تمسك البقر عن الماء حتى تهلك3. ومن عاداتهم أيضًا أنهم كانوا إذا وقع العر في إبلهم، اعترضوا بعيرا صحيحا لم يقع ذلك فيه، فكووا مشفره وعضده وفخذه. يرون أنهم إذا فعلوا ذلك ذهب العرب عن إبلهم4. وذكر أن العر قروح مثل القوباء، تخرج بالإبل متفرقة في مشافرها وقوائمها يسيل منها مثل الماء الأصفر، فتكوى الصحاح لئلا تعديها المراض. تقول منه: عرت الإبل، فهي معرورة. قال النابغة الذبياني: فحملتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكون غيره وهو راتع5 وفي المعنى المذكور قول الشاعر: فألزمتني ذنبا وغيري جره ... حنانيك لا تك الصحيح بأجربا وقول آخر: كمن يكوي الصحيح يروم برءا ... به من كل جرباء الإهاب6 وذكر أن الفصيل كان إذا أصابه العر، عمدوا إلى أمه فكووها، فيبرأ فصيلها7.

_ 1 كتاب المعاني الكبير "2/ 928 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "2/ 303". 3 وفي ذلك قال أنس بن مدركة في قتله سليك بن سلكه: إني وقتلي سليكا ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر الدميري، حياة الحيوان "1/ 182"، الحيوان "1/ 18 وما بعدها"، "هارون". 4 كتاب المعاني الكبير "2/ 928"، اللسان "6/ 230 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 398 وما بعدها"، بلوغ الأرب "2/ 305 وما بعدها"، الحيوان "1/ 17"، "هارون". 5 تاج العروس "3/ 390"، "العر"، اللسان "4/ 555"، "عرر". وكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوي غيره وهو راقع بلوغ الأرب "2/ 305". 6 بلوغ الأرب "2/ 305 وما بعدها". 7 بلوغ الأرب "2/ 306".

ومن ذلك إنهم كانوا يفقأون عين فحل الإبل، لئلا تصيبها العين. وكانوا إذا كثرت إبلهم فبلغت الألف، فقئوا عين الفحل، فإن زادت الإبل على الألف فقئوا العين الأخرى. وذلك المقفأ والمعمى1. وكانت العرب إذا أجدبت، وأمسكت السماء عنهم، وتضايقوا من انحباس المطر، وأرادوا أن يستمطروا، عمدوا إلى السلع والعشر، فحزموهما، وعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النيران، وأصعدوها في موضع وعر، واتبعوها، يدعون الله ويستسقون، وإنما يضرمون النار في أذناب البقر تفاؤلا للبرق بالنار. وكانوا يسوقونها نحو المغرب من دون الجهات2. ويقال لهذا الفعل "التسليع". وذكر أن التسليع في الجاهلية إنهم كانوا إذا أسنتوا، أي أجدبوا، علقوا السلع مع العشر بأذناب البقر وحدروها من الجبال وأشعلوا في ذلك السلع والعشر النار يستمطرون بذلك. ونجد من الرواة من يقول: حدروها من الجبال وأشعلوا في ذلك السلع والعشر النار، ومنهم من يقول: ثم يضرمون فيها النار، وهم يصعدونها في الجبل، فيمطرون3. وقد أشير إلى هذا الفعل في الشعر، قال أمية بن أبي الصلت: سلع ما ومثله عشر ما ... عائل ما، وعالت البيقورا وقال الورك الطائي "وداك الطائي": لا در در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر4 ومن السلع "المسلعة"، كان العرب في جاهليتها تأخذ حطب السلع والعشر في المجاعات وقحوط القطر، فتوقر ظهر البقر منها، وقيل: يعلقون ذلك في أذنابها، ثم تلعج النار فيها يستمطرون بلهب النار المشبه بسنى البرق. وقيل:

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 306"، "وذلك المقفأ والمعمى"، الحيوان "1/ 17"، "هارون". 2 بلوغ الأرب "2/ 301 وما بعدها". 3 اللسان "8/ 161"، "سلع"، تاج العروس "5/ 1384"،"سلع". 4 اللسان "8/ 161"، "سلع"، تاج العروس "5/ 385"، بلوغ الأرب "2/ 302"، "الورك الطائي"، اللسان "8/ 161"، "وداك الطائي"، تاج العروس "5/ 385"، "سلع"، ابن فارس، رسالة النيروز "18"، "الورل الطائي"، "18"، "الورك الطائي"، "اللسان "4/ 73".

يضرمون فيها النار، وهم يصعدونها في الجبل، فيمطرون"1. وقد تعرض "أبو الحسين أحمد بن فارس" لموضوع "البيقور"، فقال: "كانت العرب إذا أمسكت السماء قطرها، استمطروا، فعمدوا إلى شجرتين يقال لهما السلع والعشر، فعقدوهما في أذناب البقر فأضرموا فيها النار، وأصعدوها في جبل وعر وتبعوا آثارها، يدعون الله عز وجل ويستسقونه. قال ابن الكلبي: وإنما يضرمون النار تفاؤلا للبرق"، "كانوا إذا فعلوا ذلك توجهوا نحو المغرب من بين الجهات كلها قصدا إلى العين، والعين قبلة العراق. قال الحجاج: سار سرى من قبل العين فجر ... غر السحاب والمرابيع البكر2

_ 1 اللسان "8/ 161"، "سلع". 2 ابن فارس، رسالة النيروز "18 وما بعدها".

عقيدتهم في الحيوان

عقيدتهم في الحيوان: وللجاهليين عقائد في الحيوان. فمنهم من كان يعتقد أن للجن بهذه الحيوانات تعلقا، ومنهم من يرى أنها نوع من الجن، ومنهم من كان يرى أن لبعضها، مثل الورل والقنفذ والأرنب واليربوع والنعام، صلة بالجن، وأنها مراكب لها، يمتطونها كما يمتطي الإنسان الخيل والبغال والإبل والحمير1. ومن مواكب الجني، "العضرفوط"، قال الشاعر: وكل المطايا قد ركبنا فلم نجد ... ألذ وأشهى من وخيد الثعالب ومن فارة مزمومة شمرية ... وخود برد فيها أمام الركائب ومن عضرفوط حط بي من ثنية ... يبادر سربا من عظاء قوارب2 والعضر فوط دويبة من دواب الجن3، ويقال: العضرفوط ذكر العظماء، وقيل: دويبة تسمى العسودة، بيضاء، ناعمة4. واعتقدوا أن السموم لما فرقت على الحيوانات، احتسبت العظاية "العظاءة"

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 360". 2 تاج العروس "5/ 183"، "العضرفوط". 3تاج العروس "5/ 183"، "العضرفوط. وكل المطايا قد ركبنا فلم نجد ... ألذ وأشهى من ركوب الأرانب ومن عضرفوط عن لي فركبته ... أبادر سربا من عظاء قوارب بلوغ الأرب "2/ 360". 4 اللسان "7/ 351"، "عضرفوط".

عند التفرقة حتى نفد السم، وأخذ كل حيوان قسطا منه على قدر السبق إليه، فلم تنل العظاية نصيبا منه، فخسرته. لذلك صارت تمشي مشيا سريعا ثم يقف، لما يعرض لها من التذكر والأسف على ما فاتها من السم1. و"الظباء" ماشية الجن، في زعم بعضهم وهي تسمع وتكلم، ولهم قصص عنها2. وتزعم العرب أن "الهديل"، فرخ على عهد "نوح" مات عطشا، وضبعه أو صاده جارح من جوارح الطير، فما من حمامة إلا وهي تبكي عليه3. وللخرز عند الجاهليين وعند الأعراب حتى اليوم، شأن كبير في السحر وفي دفع أذى الأرواح والعين، وفي النفع والحب، وأمثال ذلك. وسأتحدث عنها في المكان المخصص بالسحر. وضرب المثل ببخل "أبي حباحب". ومن محارب خصفة، وكان بخيلا، فكان لا يوقد ناره إلا بالحطب الشخت لئلا ترى، ,وقيل: "اسمه "حباحب"، فضرب بناره المثل، لأنه كان لا يوقد إلا نارًا ضعيفة، مخافة الضيفان، فقالوا: نار الحباحب4. وأم حباحب: دويبة، مثل الجندب، تطير، صفراء خضراء، رقطاء برقط صفرة وخضرة، ويقولون إذا رأوها: أخرجي بردي أبي حباحب، فتنشر جناحيها، وهما مزينان بأحمر وأصفر5. وللعرب أساطير عن الكواكب، من ذلك ما ذكروه من أن "الدبران" خطب "الثريا" وأراد القمر أن يزوجه منها، فامتنعت وأعرضت، وقالت للقمر: ما أصنع بهذا السبروت الذي لا مال له؟ فجمع الدبران قلاصه، ووضعها قدامه، وأخذ يتبعها يريد اقناعها بالزواج منه. ومن ذلك قولهم في "المرزم"، وهو "الشعري"، يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة لحر. تقول العرب: إذا

_ 1 بلوغ الأرب "2/ 360 وما بعدها"، الدميري، حياة الحيوان "2/ 122"، "العظاءة". 2 بلوغ الأرب "2/ 361 وما بعدها"، حياة الحيوان، للدميري "2/ 102 وما بعدها"، "الظباء". 3 الدميري، حياة الحيوان "2/ 382"، تاج العروس "8/ 164"، "هدل"، بلوغ الأرب "2/ 264". 4 اللسان "1/ 297"، "حبحب". 5 اللسان "1/ 298"، "حبحب".

طلعت الشعرى جعل صاحب النحل يرى، وهما الشعريان: "العبور" التي في "الجوزاء" و"الشعرى الغميصاء" التي في الذراع. تزعم العرب أنهما أخت "سهيل". وقد عبدت طائفة من العرب "الشعرى العبور". قالوا: إنها عبرت السماء عرضا، ولم يعبرها عرضا غيرها، فأنزل الله: "وإنه هو رب الشعرى"، وسميت الأخرى "الغميصاء"، لأن العرب قالت في حديثها إنها بكت على أثر العبور حتى غمصت1. وزعموا أن "سهيلا" كان عشّارًا على طريق اليمن ظلوما فمسخه الله كوكبا. وعرف بأنه نجم يماني عند طلوعه تنضج الفواكه وينقضي القيظ2. و"الشمس" إلهة عند كثير من الجاهليين، فتعبدوا لها، وعدت صنما عندهم3. ومن أساطيرهم ما تحدثوا به عن "برد العجوز". حدثوا أن عجوز دهرية كاهنة من العرب كانت تخبر قومها ببرد يقع في أواخر الشتاء وأوائل الربيع فيسوء أثره على المواشي، فلم يكترثوا بقولها، وجزوا أغنامهم، واثقين بإقبال الربيع، فلم يلبثوا إلا مديدة حتى وقع برد شديد، أهلك الزرع والضرع، فقالوا هذا برد العجوز. يعنون العجوز التي كانت تنذر به. وحدثوا: أن عجوزًا كانت بالجاهلية، ولها ثمانية بنين، فسألتهم أن يزوجوها وألحت عليهم، فتآمروا بينهم، وقالوا: إن قتلناها لم نأمن عشيرتها، ولكن نكلفها البروز للهواء ثماني ليال، لكل واحد منا ليلة. فقالوا لها: إن كنت تزعمين أنك شابة، فابرزي للهواء ثماني ليال، فإننا نزوجك بعدها، فوعدت بذلك، وتعرت تلك الليلة والزمان شتاء كلب، وبرزت للهواء. وفعلت مثل ذلك في الليل الآخر، فلما كانت الليلة السابعة، ماتت. ونسب العرب إليها برد الأيام الثمانية، وأسماؤها: الصن، والصنبر، والوبر، وآمر، ومؤتمر، ومعلل، ومطفئ الجمر، ومكفئ الظعن4. ومن الأمور التي تداولوها قولهم في "زمن الفطحل". وضربهم المثل به. قالوا: أيام كانت الحجارة رطبة. وإذ كل شيء ينطق5. وهو دهر لم يخلق

_ 1 تاج العروس "3/ 305"، "شعر". 2 تاج العروس "7/ 384"، "سهل". 3 تاج العروس "4/ 172"، "شمس". 4 الثعالبي، ثمار "1/ 313 وما بعدها". 5 الثعالبي، ثمار "642 وما بعدها".

فيه الناس بعد1. وكانوا يعتقدون بالمسخ. وهو تحويل صورة إلى أخرى أقبح منها، وتحويل إنسان إلى حيوان أو حجر. ولهم اعتقادات في مسخ الأطفال، وتبديل "الجن" لهم بأولادهم من ذوي العاهات. وقد زعموا أن "اللات" صنم ثقيف، كان في الأصل يهوديا يلت السويق في "الطائف" فمسخ حجرا، عبد فصار "اللات". وللعرب قصص وضعوه على ألسنة الحيوانات نجده في كتب الأدب. ولهم أمثلة وراءها قصص في سبب ضربها. ونجد في كتب الأمثال والأدب أشياء كثيرة من ذلك. وقد صوروا بعض الحيوانات ناطقة عاقلة، ونسبوا لها الحكمة والقول الحسن. وصوروا بعضها بليدة غبية. ونجد في كتب الأمثال والأدب أشياء كثيرة من ذلك2. واتخذوا من بعض الناس مثلا على أمر من أمور الحياة. وضربوا بهم الأمثال. فضربوا المثل ببلاغة "سحبان وائل" وبقدرته على الخطابة3. وبفصاحة "قس بن ساعدة الإيادي"4. وجعلوهما المثل الأعلى في البلاغة والفصاحة عند العرب. ووضعوا "باقل" مثلا للعي والبلادة5. فمما رووه عنه، أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما، فمر بقوم فقالوا: بكم أخذت الظبي؟ فمد يديه، وأخرج لسانه، يريد بأصابعه عشرة دراهم ,بلسانه درهما فشرد الظبي حين مد يديه، وكان الظبي تحت إبطه، فجرى المثل بعيه، وقيل: أشد عيا من باقل، وأعيا من باقل، كما قيل أبلغ من سحبان وائل6. وذكر أنه كان من ربيعة7. واتخذوا "بيهس" الفزاري، الملقب بنعامة، مثلا للحمق، فقالوا: أحمق من بهيس. وهو أحد الأخوة السبعة الذين قتلوا، وترك هو لحمقه8. زعموا أنه هو القائل: ألبس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها وإنما لقب بيهس بنعامة لأنه كان شديد الصمم، وإذا دعا الرجل من العرب

_ 1 تاج العروس "8/ 63"، "الفطحل". 2 راجع كتاب الحيوان للجاحظ، وكتاب كليلة ودمنة وكتب الأدب الأخرى. 3 الثعالبي، ثمار "102 وما بعدها"، الدينوري، المعارف "611". 4 الثعالبي، ثمار "60، 98، 222، 124 وما بعدها، 142". 5 الثعالبي، الأمثال "2/ 43"، الثعالبي، ثمار "102". 6 الثعالبي، ثمار "127". 7 تاج العروس "7/ 234"، "بقل". 8 تاج العروس "4/ 113". "بهس".

على صاحبه بالصمم، قال: اللهم اصنجه كصنج النعامة. والصنج أشد الصمم1. وضرب المثل بحمق "هبنقة"، واسمه "يزيد بن ثروان" أحد بني قيس بن ثعلبة، الملقب بـ "ذي الودعات". لقب به لأنه جعل من عنقه قلادة من ودع وعظام وخزف مع طول لحيته. فسئل عن ذلك، فقال: لئلا أضل، أعرف بها نفسي، فسرقها أخوه في ليلة وتقلدها، فأصبح هبنقة ورآها في عنقه، فقال: أخي أنت أنا، فمن أنا؟ فضرب بحمقه المثل. فقيل أحمق من هبنقة2. وضربوا المثل بحمق دغة. وهي بنت منعج، زوجت وهي صغيرة في بني العنبر، فحملت، فلما ضربها المخاض ظنت أنها تحتاج إلى الخلاء، فبرزت إلى بعض الغيطان ووضعت ذا بطنها، فاستهل الوليد، فجاءت منصرفة وهي لا تظن إلا إنها أحدثت، فقالت لأمها: يا أماه، هل يفتح الجعر فاه؟ قالت: نعم ويدعو أباه، فسب بها بنو العنبر، فسموا بني الجعراء3. وقيل هي امرأة من بني عجل بن لجيم. وقيل هي: دغة بنت معيج بن إياد بن نزار. ولدت لعمرو بن جندب بن العنبر4. وذكر أن اسمها: مارية بنت ربيعة، من عجل، وكانت عند "جندب بن العنبر" فولدت له "عدي بن جندب"، وكانت حمقاء حسناء5. وضربوا المثل بـ "جوف حمار". وقالوا: هو أكفر من حمار، وأخلى من جوف حمار. وهو رجل من عاد، يقال له حمار بن مويلع، وجوفه واد له طويل عريض. لم يكن ببللاد العرب أخصب منه، وفيه من كل الثمرات، فخرج بنوه يتصيدون: فأصابتهم صاعقة فهلكوا، فكفر. وقال: لا أعبد من فعل هذا ببني، ودعا قومه إلى الكفر فمن عصاه قتله، فأهلكه الله تعالى وأخرب واديه، فضرب العرب به المثل في الخراب والخلاء. قال الأفوه الأودي: وبشؤم البغي والغشم قديما ... قد خلا جوف ولم يبق حمار6

_ 1 الثعالبي، ثمار "445". 2 قال الفرذدق: فلو كان ذا الودع بن ثروان لالتوت ... به كفه أعني يزيد الهبقا تاج العروس "5/ 534"، "ودع". 3 الثعالبي، ثمار "309". 4 تاج العروس "10/ 128"، "الدغية". 5 الدينوري، المعارف 620". 6 الثعالبي، ثمار "84"، الميداني "1/ 257".

وذكر أن الجوف واد بأرض عاد، فيه ماء وشجر، حماه رجل اسمه حمار وكان له بنون فأصابتهم صاعقة فماتوا، فكفر كفرًا عظيمًا وقتل كل من مر به من الناس. فأقبلت نار من أسفل الجوف فأحرقته ومن فيه وغاض ماؤه فضربت العرب به المثل. فقالوا: أكفر من حمار، وواد كجوف الحمار وكجوف العير وأخرب من جوف حمار1. وورد إنه "حمار بن مالك"، وهو رجل من عاد وقيل من العمالقة. كان مسلمًا أربعين سنة في كرم وجود، فخرج بنوه عشرة للصيد، فأصابتهم صاعقة فهلكوا. فكفر كفرًا عظيمًا. وقال لا أعبد من فعل ببني هذا. وكان لا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه وإلا قتله. فأهلكه الله وخرب واديه2. وإذا وعد إنسان وعدًا، فعليه الوفاء به، لأن من شمائل الكريم الوفاء بالوعود والعهود. قالت العرب: "خلاف الوعد من أخلاق الوغد". وكانت العرب تستعيبه وتستقبحه. وضد ضربوا المثل برجل من العرب في مخالفته المواعيد، فقالوا: "مواعيد عرقوب". وعرقوب صاحب المواعيد3، قيل: إنه من الأوس، كان أكذب أهل زمانه. فضربت به العرب المثل في الخلف، فقالوا: مواعيد عرقوب. وذلك إنه أتاه سائل، وهو أخ له، يسأله شيئًا. فقال له عرقوب: إذا أطلع نخلي، "وفي رواية: إذا أطلعت هذه النخلة"، فلما أطلع، أتاه على العدة، قال: إذا أبلح، فلما أبلح أتاه، قال: إذا أزهى، فلما أزهى أتاه، قال: إذا أرطب، فلما أرطب أتاه، قال: إذا أتمر. فلما أتمر، عمد إليه عرقوب وجده ليلا، ولم يعطه منه شيئًا فصارت مثلا في إخلاف الوعد. وورد: وأكذب من عرقوب يثرب لهجة ... وأبين شؤما في الحوائج من زحل وورد "مواعيد عرقوب أخاه بيترب"، بالتاء وهي اليمامة، ويروى بالمثلثة، وهي مدينة الرسول نفسها. ويقال: هو أرض بني سعد. والأول أصح، وبه فسر قول كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل

_ 1 تاج العروس "3/ 156"، "حمر" 6/ 63"، "الجوف". 2 فبشؤم الجور والبغي قديما ... ما خلا جوف ولم يبق حمار تاج العروس "3/ 156"، "حمر". 3 تاج العروس "2/ 536 وما بعدها"، "وعد".

وورد: "هو أكذب من عرقوب يترب"، وتقول: "فلان إذا مطل تعقرب وإذا وعد تعقرب". ومن أمثالهم: "الشر ألجأه إلى مخ عرقوب" "وشر ما أجأك إلى مخة عرقوب"، أي: عرقوب الرجل لأنه لا مخ له. يضرب هذا عند طلبك من اللئيم أعطاك أو منعك. وهو لغة بني تميم. ومن المستعار: ما أكثر عراقيب هذا الجبل. العراقيب خياشيم الجبال وأطرافها وهي أبعد الطرق، لأنك تتبع أسهله أين كان. والعراقيب من الأمور كالعراقيل عظامها وصعابها1. وضربوا المثل في الإقامة على الذل برجل من ضببة، زعموا أنه عرف عندهم بـ "قضيب" فقالوا: أصبر من قضيب. و"قضيب" رجل آخر تمار بالبحرين، كان يأتي تاجرًا فيشتري منه التمر، ولم يكن يعامل غيره2. وضربوا المثل بـ "حديث خرافة". زعموا أنه كان رجلا من "بني عذرة" أو من "بني جهينة" سبته الجن، فكان يكون معهم، فإذا استرقوا السمع أخبروه فيخبر أهل الأرض، فيجدونه كما قال. وقيل: "استهوته الجن واختطفته ثم رجع إلى قومه، فكان يحدث بما رأى، يعجب منها الناس، فكذبوه، فجرى على ألسن الناس وقالوا: هذه خرافة. ويقال أيضًا للخرافات الموضوعة من حديث الليل: حديث خرافة. وذكر أن "عائشة" قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حدثيني": قلت ما أحدثك حديث خرافة. قال: "أما إنه قد كان"3 وذكر أيضًا أنه قال لها: "إن أصدق الأحاديث حديث خرافة " 4.

_ 1 تاج العروس "1/ 378"، "عرقب". 2 ومنه قولهم: أقيمي عند غنم لا تراعي ... من القتل التي تلوى الكثيب لأنتم حين جاء القوم سيرا ... على المخزاة أصبر من قضيب أي: لم تطلبوا بقتلاكم، فأنتم في الذل كهذا الرجل، تاج العروس "1/ 433"، "قضيب". لأنتم يوم جاء القوم سيرا ... على المخزاة أصبر من قضيب اللسان "1/ 680"، "قضب". 3 تاج العروس "6/ 83"، "خرف". 4 ابن قتيبة، المعارف "610 وما بعدها"، "حديث خرافة".

فهرس الجزء الثاني عشر

فهرس الجزء الثاني عشر الفصل الرابع والسبعون الكعبة 5 الفصل الخامس والسبعون الحنفاء 25 الفصل السادس والسبعون اليهودية بين العرب 87 الفصل السابع والسبعون اليهود والإسلام 119 الفصل الثامن والسبعون شعر اليهود 145

الفصل التاسع والسبعون النصرانية بين الجاهليين 158 الفصل الثمانون المذاهب النصرانية 199 الفصل الحادي والثمانون التنظيم الديني 214 الفصل الثاني والثمانون أثر النصرانية في الجاهلية 238 الفصل الثالث والثمانون المجوس والصابئة 267 الفصل الرابع والثمانون تسخير عالم الأرواح 281

الفصل الخامس والثمانون في أوابد العرب 331 الفصل السادس والثمانون الطيرة 362 الفصل السابع والثمانون من عادات وأساطير الجاهليين 382 الفهرست 399

المجلد الثالث عشر

المجلد الثالث عشر الفصل الثامن والثمانون: أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين ... الفصل الثامن والثمانون: أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين للوقوف على أسس اقتصاد أمة من الأمم، لا بد من الوقوف على طبيعة إقليمها من جو وأرض، فللطبيعة أثر كبير في تحديد خيرات تلك الأمة وفي تكوين سماتها وعاداتها وانتاجها: من ناتج زراعي أو حيواني أو صناعي، ثم في فقرها وغناها. فالجو البارد ذو الأمطار الغزيرة، لا يمكن أن يكون أثره في الأحياء أثر الجو الحار الرطب، أو الجو الحار الجاف، أو الجو المعتدل. الجو البارد يدفع الإنسان إلى العمل ويبعث فيه الحيوية والنشاط، ويجبره على العمل، ويقدم له الماء هدية من السماء، ثم هو يكره الأرض أن تتلقح بماء المزن، لتولد خضرة تكسو الأرض ببساط جميل يخلب الألباب، ولتولد للماشية علفًا طريًّا شهيًّا، وللإنسان أرضًا طيعة لا تحتاج إلى سقي باليد أو بالآلة، ثم هو يوفر له كثيرًا من الجهد الذي يجب على الإنسان أن يبذله في البلاد الحارة الجافة لاستصلاح التربة ولمكافحة الحشرات التي تبارك فيها الحرارة إلى غير ذلك من صعوبات، لا تقاس بها الصعوبات التي تواجه سكان البلاد الباردة الممطرة. أما الجو الحار الرطب، فيغيث الإنسان بمطر، قد ينهمر انهمارًا، وقد ينزل بمواسم، لكن حرارته الشديدة المتشبعة بالرطوبة، تهد الجسم، وتعطيه رخاوة في بدنه وفي عقله، تجعله يميل إلى الخمول والكسل والدعة، وإلى الاسترسال في العواطف، ثم تحرمه من نشاط إنسان الجو البارد، وتجعله دونه في العمل وفي السعي في هذه الحياة والضرب في هذه الأرض وفي استغلال التربة وما فيها وما

عليها، وأما الجو الحار الجاف، فيحرم سكانه من نعمة "الغيث" في الغالب، ويلبس سطح الأرض أكسية غبراء من رمال تذروها الرياح، ثم هو يجعل من الصعب على الإنسان أو الحيوان أن يجد قوته في هذه القفار الواسعة المغبرة، أو أن يعيش فيها عيشة مستقرة، دائمة، في مجتمعات كثيفة كمجتمعات الأجواء الباردة أو المعتدلة أو الحارة الرطبة، فاضطر إلى التنقل والارتحال بحثًا عن الكلأ والماء، اللهم إلا في مواطن الماء، وهي عزيزة ثمينة؛ لأنها في أرض غلب على طبعها الجفاف، فتصير هذه المواطن القليلة هدفًا لهجمات العطاشى عليها في سني القحط وانحباس المطر، وأيام الضيق والشدة، لسد الرمق وللمحفاظة على ما في الجسم الذابل النحيل من عروق لتعينه على البقاء، حتى يفنى بطعنة، أو بموت حتف أنفه. تبلغ مساحة جزيرة العرب حوالي مليون وربع مليون ميل من الأميال المربعة. إذا ثبتنا مواضع المياه على "خارطتها"، نجد أنها قليلة، لا يتناسب توزيعها ووجودها مع هذه المساحة الشاسعة، ثم أنها مياه ضيقة المعين، لا يتسع صدرها لإرواء بقاع واسعة على نحو ما نجده في مياه الأنهار الكبيرة، وفي هذه المواضع انحصر السكن، فصار من ثم عدد سكانها قليلًا جدًّا في كل وقت. وإذا قسنا مساحة الأرضين الخصبة منها القابلة للزرع والإنبات ذات الماء بالأرضين المجدبة، نجد أنها قلة إلى كثرة، وإن ما لا يصلح منها للزرع أكثر بكثير مما يصلح له. وإن مساحة البراري والبوادي تزيد على مساحة الأرض الطيبة الخصبة، وإن هنالك أرضين ذات طبقات ثخينة من الرمال، أكرهت الناس على الابتعاد عنها، ترفعًا من أن يطأ وجهها خف جمل أو نعل إنسان، أو أن تدوسها الأقدام. وقد نشأ عن هذا الوضع ضيق في مساحة الأرضين المزروعة، لشح الماء وعدم كفايته لإرواء الإنسان ولإرواء ماشيته وإسقاء أرضين واسعة، ضيق أثر في شكل تكوين المجتمع العربي، فلم يسمح بظهور المجتمعات الكثيفة الكبيرة في جزيرة العرب، والمجتمعات الكثيفة الكبيرة، هي المجتمعات الخلاقة، التي تتعقد فيها الحياة، وتظهر فيها الحكومات المنظمة للعمل وللانتاج وللتعامل بين الناس. جعل المجتمعات المذكورة مجتمع مستوطنات، رزقها من زراعتها الصغيرة ومن رعاية الماشية، وصار اقتصادها من ثم اقتصادًا بدائيًّا لا تعقيد فيه ولا تطوير يحول المواد الأولية إلى مواد أخرى أفيد منها وأكثر ربحًا تفيد المجتمع، وتعود عليه بأرباح طائلة من بيع المنتجات في الأسواق.

وهو ضيق صير العرب قومًا يكرهون الزراعة وينفرون منها، ويرون المزارع موطنًا من الدرجة الدنيا، ولا سيما ذلك المزارع الذي يزرع الخضر والبقول وعلف الحيوان، فهو عندهم "خضار". ولو كانت للعرب مياه فائضة، وأمطار غزيرة لما كرهوا الزراعة، ولما ازدروا شأنها، فحرمانهم من الماء جعلهم يستحقرون شأن الزراعة؛ لأنهم لم يتذوقوا ثمرتها ولم يشعروا بخبراتها، ولهذا اختلف عنهم أهل اليمن وبقية العربية الجنوبية ومن جد عندهم الماء، فغرسوا وزرعوا واعتبروا الزراعة نعمة، وتقدموا إلى آلهتهم لكي تبارك في زرعهم وتنعم في حصادهم وتعطيهم غلاث وافرة كثيرة. وجو جزيرة العرب جو من أجواء البلاد الحارة الجافة. وأمطاره على العموم قليلة، ولا سيما في أواسط جزيرة العرب. وقد تنحبس في بعض السنين انحباسًا تامًّا، فيسبب انحباسها هذا كارثة ومصيبة، يجف في أثنائها العشب، وييبس كل أخضر، فلا تجد الإبل لها طعامًا، ولا يكون في وسع أهلها تقديم طعاما لها لعدم وجوده عندهم، وقد ينفق مالهم من العطش والجوع، فيصاب أصحابها بخسائر كبيرة، وقد يهلك عدد من الناس قبل بلوغهم موضع ماء، إما من شدة الحر والعطش والجوع، وإما من السيف الذي لا بد لهم من استعماله لاجبار أهل الماء على السماح لهم بمشاركتهم لهم إياه، أو بالاستحواذ عليه ونزلهم به، وطردهم أصحابه عنه إلى أماكن أخرى، أو بهروبهم من هذا الموضع لقوة أصحابه ولتمكنهم من رد الطامعين عنه. وتتساقط الأمطار في العربية الغربية والعربية الجنوبية، ولكن سقوطها ليس منتظمًا وعلى طول أيام السنة. وقد تثور السماء فجأة على الأرض، فترسل عليها سيلًا مدرارًا، يكتسح ما يجده أمامه من إنسان وحيوان وكل عائق، ليجد له سبيلًا إلى أرض منخفضة أو إلى أودية، ثم لا يلبث أن يختفي ويزول؛ لأن عمره قصير في الغالب، إذ تبتلعه أرض رملية، فيغور إلى باطنها ليكون مياهًا جوفية، وقد تبتلعه البحار، إذ يسيل بشدة إلى الأودية المنحدرة الشديدة الانحدار فيتوجه مسرعًا نحو البحر، فيذهب فيها هباءً من غير أن يفيد أحدًا من الناس أو أن يغيثهم بشيء. وفي كتب أهل الأخبار قوائم بسيول كثيرة مهلكة مدمرة وقعت قبل الإسلام وبعده. والأمطار في جزيرة العرب هي قليلة على العموم، مقدار ما يتساقط منها

لا يسد رمق الزرع ولا يغني الزراع ولا يكفي في بعض السنين لانبات الخضرة ولظهور الكلأ، وقد يستمر هذا المعدل سنين، فيتضايق الناس، وقد ترد بعدها سنين ينهمر فيها المطر انهمارًا، فيسقط من السماء وكأنه ماء انهمر من أفواه قرب، فيسبب سيولًا تؤذي الناس ولا تنفعهم، وقد يستمر هطول المطر على هذا المعدل من الشدة عدة سنين، ثم يقف فيشح، وتبخل السماء، فلا تعطي الأرض من غيثها إلا قليلًا، وقد تبخل بخلًا شديدًا فلا تعطيها منه شيئًا يذكر، فيتضايق الناس، ويعيشون عندئذ عيشة صعبة قاسية، قد تضطرهم إلى الارتحال إلى مواضع أخرى بحثًا عن الكلأ والماء. وقد يكون انحباس المطر، ظاهرة موضعية، تصيب موضعًا، ولا تصيب مواضع أخرى، وقد يكون عامًا، يصيب أكثر جزيرة العرب أو كلها. وتكون شدته عندئذ في هذه الحالة أعم وأشد، وضرره في الناس أكثر، فأينما ترحل القبائل لا تجد أمامها إلا القحط والمحنة، وقلة الماء والغذاء، أي "القحط" والجدب والمحل. و"القحط" الجدب من أثر احتباس المطر، فيتأذى الناس، ويقل الطعام وترتفع أسعاره. ويعيشون في شدة1. ويلازم القحط في الغالب، اختفاء الطعام وارتفاع ثمنه. فالقحط ملازم إذن لانحباس المطر، ويلازمه الجوع وارتفاع السعر، وقلة الطعام، واختفاؤه من السوق، بسبب الخزن أملًا في الحصول على ربح ومكسب، أو بسبب قلة حاصل الموسم. ويقال أقحط القوم، أي أصابهم القحط، وكان ذلك في إقحاط الزمان. وقد يعقب انحباس المطر ظهور الملح في طعم مياه الآبار والعيون2، حتى قد يصير الشرب منها صعبًا، والزرع عليها غير ممكن. فيضطر أصحابها عندئذ إلى تركها والارتحال عنها إلى مواضع أخرى، يحفرون فيها آبارًا جديدة، تكلفهم مالًا وجهدًا، وقد لا يجدون في الأرض الجديدة، ماءً عذبًا سائغًا فراتًا للشاربين، وقد لا يجدون فيها ما يكفيهم لشربهم ولشرب أموالهم، مما يحملهم على الارتحال إلى أرض أخرى، أو على التشتت والتبعثر، بسبب عدم وجود الماء أو عدم سده حاجتهم.

_ 1 تاج العروس "5/ 201"، "قحط". 2 تاج العروس "2/ 229"، "ملح".

ويقال للسنة وللأرض التي لم يصبها المطر، "الجماد"، وسنة جامدة لا كلأ فيها ولا خصب ولا مطر. وأرض جماد، يابسة لم يصبها مطر ولا شيء فيها1. وهي من السنين الحرجة في حياة العرب، المؤذية المهلكة للأنفس وللمال. ويقال للمحل "الجدب". والجدب نقيض الحصب2. و"المحل" الجدب وانقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ، وتعد أيام المحل من شر الأيام، يقال: "زمان ماحل"، و"مكان ماحل"، و"بلد ماحل"، و"أرض محل"، وأرض محلة ومحول، يريدون بالمحل الشدة والجوع الشديد وإن لم يكن جدب، على سبيل المجاز ؛ لأن المحل الجدب ويبس الأرض وانقطاع المطر، فتشتد حالة الناس، ويطهر الجوع ويعيش الناس في ضنك شديد3. ويقال لمثل هذه السنين الشديدة، التي تجف فيها المراعي، ويصاب الناس فيها بأزمة شديدة، سنة جرداء، وسنة الجمود لجمود الرياح فيها وانقطاع الأمطار وذهاب الماشية وهزالها وثبات الغلاء، ويقال لها الحطمة والأزمة واللزبة والمجاعة والرمد، وكحل والقصر والشدة والحاجر، وما شاكل ذلك من ألفاظ فيها معاني الشدة والفقر والجوع4. وكان منهم من يتصور أن نجوم الشتاء هي سبب نزول الغيث، ولذلك كانوا إذا لم يمطروا، وانحبست السماء عندهم يقولون: "أحجرت النجوم". قال الراجز: إذا الشتاء أجحرت نجومه ... واشتد في غير ثرى أزومه ومن المجاز أجحر القوم، إذا دخلوا في القحط. والجحرمة الضيق5. ولبس أشد على العرب وأضيق في انحباس المطر عنهم.

_ 1 تاجر العروس "2/ 324 وما بعدها"، "جمد". 2 تاج العروس "1/ 176"، "جدب". 3 تاج العروس "8/ 113"، "محل". 4 الصفة "214". 5 تاج العروس "3/ 88"، "جحر". قال زهير بن أبي سلمى: إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت ونال كرام المال في الجحرة الأكل يريد بكرام المال الإبل، يقول: إنها تنحر وتؤكل؛ لأنهم لا يجدون لبنا يغنيهم عن أكلها، تاج العروس "3/ 88"، "جحر".

وإذا أمطرت السماء، واستبشر الناس خيرًا، فالمطر خير وبركة ونعمة. يعقبه ربيع مفرح مبهج، تسمن فيه إبلهم ومواشيهم، ويكثر ولدها، فتنمو أموالهم، وكانوا يقولون إذا ألبنوا وسمنت إبلهم: "كان ربيعنا مملوحًا"1. وقد تهب بعض الرياح فتنكب الناس بأنفسهم وبأموالهم وتؤذيهم، لذلك يسمونها "النكباء"، و"النكباء" ريح انحرفت ووقعت بين ريحين. وهي تهلك المال وتحبس القطر. ذكر أنها تهب بين الصبا والشمال، والجربياء التي بين الجنوب والصبا، وذكر بعضهم أن نكب الرياح أربع: الأزيب، وهي نكباء الصبا والجنوب، مهياف ملواج ميباس للبقل، وهي التي تجيء بين الريحين، وذكر بعض آخر أن الأزيب، هو الجنوب لانكباؤها. والثانية الصابية، وتسمى النكيباء أيضًا، وهي نكباء الصبا والشمال، معجاج مصراد لا مطر فيها ولا خير عندها. والثالثة الجربياء، وهي نكباء الشمال والدبور، وهي قرة وربما كان فيها مطر قليل، وهي نيحة الأزيب. والرابعة الهيف، وهي نكباء الجنوب والدبور، وهي نيحة النكيباء2. وقد تأتي السماء بسحب كثيفة من جراد، فلا تهبط مكانًا إلا جردته. والجراد من شر الآفات والنوازل التي تنزل بالزرع، يجرده جردًا وينزل الخسائر بأصحابه، أضف إلى ذلك الأوبئة والأمراض التي كانت تهب بين الحين والحين، فتصيب الإنسان أو الحيوان أو الزرع، وهو عاجز إذ ذاك عن مقاومتها وعن التغلب عليها، نضيف إليها الحميات التي كانت قد عششت في مواضع المياه، كالعيون، فكانت تصيب الناس، ولا يكاد يسلم منها إنسان، فقد عرفت "خيبر" بالحمى، حتى قيل لها "حمى خيبرية" أو "خيبرية"، وعرفت يثرب بالحمى أيضًا، وعرفت مواضع من وادي القرى، بالحمى كذلك، كما عرفت "هجر" في العربية الشرقية بهذا الوباء كذلك. ويتضايق الإنسان في التهائم من أثر الحرارة المتشبعة بنسب عالية من الرطوبة. ودرجات الحرارة فيها وإن كانت دون درجتها في الأماكن الأخرى في الأغلب، غير أن اقترانها بالرطوبة العالية جعلتها حرارة تضايق الإنسان إلى حد مزعج، تبعث على الاسترخاء والكسل، حتى صيرت الجسم خاملًا، خال من الحيوية

_ 1 تاج العروس "2/ 228"، "ملح". 2 تاج العروس "1/ 494"، "نكب".

والنشاط. غير فعال لا يستطيع أن يعمل بنشاط وهمة أهل الأجواء المعتدلة أو الحارة الجافة، وعلى الرغم من ارتفاع نسبة الرطوبة في هذه التهائم وتشبع هوائها ببخار الماء، فإنها لم تحظ بدرجة عادلة من المطر، يخفف من شدة وطأة الحرارة فيها. ويسقي أرضها سقيًا كافيًا لتنبت لسكانها ما ينبته الجو الاستوائي المشبع بالرطوبة المذابة في الحرارة المشابه لجو هذه التهائم في البلاد الأخرى. فحرمت من الغابات ومن الأشجار الضخمة ذات الخشب الصلد، ومن الأدغال التي تؤوي الوحوش، ومن المياه الفوارة المتدفقة، ومن الحشائش، ومن أمثال ذلك مما يرى في البلاد ذات المناخ المتشابه، مما يكون ثروة لسكانها، قد تعوض عن حرمانهم من الجو المعتدل، أو الجو البارد المنشط. وتخف الرطوبة ويقل شأنها وتذهب حدتها كلما ابتعد الإنسان عن الساحل، فيزداد الجفاف في الجو حتى يبلغ أقصاه في البواطن، فيشعر الإنسان عندئذ بانطلاق في جسمه وبشيء من النشاط في حركته، وبحدة في ذهنه؛ لأنه يجد أمامه مناخًا أصح وأصفى من مناخ السواحل، هواؤه جاف في الشتاء وفي الصيف، البرودة فيه في موسم الشتاء أظهر وأبرز من برودة الأشتية في التهائم، والحر فيه في الصيف أخف على الجسم بكثير من حر صيف السواحل. أما المطر، فنسبة سقوطه في الباطن أقل من نسبة هطوله على التهائم وفي العربية الجنوبية. وقد عوضت الطبيعة أهل البواطن عن شح مطرها هذا، بإرسال ألوان وأشكال من الأهوية والرياح والعواصف عليهم، تحمل بعضها في أمواجها سحرًا عجيبًا ينعش الروح والبدن، إذا مس إنسانًا أنساه شظف عيشه وغلظ الجو الذي يعيش فيه، وصيره يحس وكأنه ملك الملوك، وصاحب خزائن الأرض، وإذا مست عصاه أحدًا من أصحاب الحس المرهف، أثارت فيه قريحته، فصيرته شاعرًا ينظم إحساسه بكلم موزون مقفى، وبشعر غزلي، يتغزل فيه، يتغزل بتلك الأهوية، التي لمست جسمه، وأغرقت فمه ووجهه بقبلاتها الحبيبة المثيرة، التي أنسته أشجانه وما يلاقيه في حياته من ضيق وشح، وهو ما يكاد يفيق من حلم حبه هذا، حتى يفاجأ بأعاصير ورياح الواقع، تعصف به وبخيمته الخفيفة، وبماله، تتلاعب به، وقد ترشق وجهه بموجات متعاقبة من سموم مشبع برمال، تجعله يغمض عينيه ويسد فمه، ويبرقع وجهه يبرقع ليقيه من هذه الرياح العاتية التي تحرشت به من غير سبب، مع أنه إنسان مسكين قنوع، لا دخل له في وجوده في هذا المكان،

ولد فيه عن غير عمد ولا اختيار، وسيموت فيه وهو لا يدري لم يموت، ولم عاش، وإلى أين ذاهب، فإذا ذهبت وولت، وركد الجو واستقر، جلس تحت خيمته التي لا تقيه من حر ولا من برد، ولا من شمس ولا من مطر: إلا بقدر، ليستجم ويستريح، أو ليستلقي على أرضها، وليتناول أكله، وهو أبسط أكل يأكله إنسان في هذه الحياة من غير شك. والسعيد في جزيرة العرب من ولد في مستوطنة ذات ماء، فهو في عيشة هنيئة راضية، في بيت مهما كان نوعه، فإنه أحسن حالًا على كل حال من بيوت الوبر أو الشعر، يستطيع أن يشرب فيه ماءً يتناوله له من منبعه، لا من قرب خزن الماء فيها أيامًا، وأن يرى نخلًا وشيئًا من شجر وخضرة وزرع، وصوت رجال ونساء وأطفال، وبعض بائعين وبائعات. أي حياة جماعة. وهو أكثر سعادة وحضارة إن كانت مستوطنته على ملتقى طرق، تمر بها القوافل لتمتار منا ميرة الطريق، ولتأخذ منها الماء ولتسقي إبلها وترويها، ولشتري منها ما تجده من حاجات ضرورية ومن منتوجات موضعية، تحتاج إليها، أو يمكن بيعها في مواضع أخرى. وفي هذه المواضع نجد الحضارة الجاهلية ومن آثارها نستنبط التأريخ الجاهلي، وفيها نرى معدن الرقة وموطن اللين والدماثة، لما فيها من ظرف تهدأ النفس وتريح الأعصاب، فصار أصحابها من ثم ألين عريكة وأسهل انقيادًا من الأعراب الذين ولدوا في محيط خشن، ونشأوا من خشونة، فصار طبعهم من ثم غليظًا خشنًا، وهو لا يمكن أن يكون إلا كذلك، وليس له دخل في ظهور هذا الطبع عنده. ومن هنا صار أهل اليمن من ألين العرب عريكة، ومن أكثرهم تعاونًا فيما بينهم. جاء في الحديث: "أن رجلًا من أهل اليمن قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: إنا أهل قاه، فإذا كان قاه أحدنا دعا من يعينه فعملوا له، فأطعمهم وسقاهم من شراب يقال له المزر، فقال: أله نشوة؟ قال: نعم. قال: فلا تشربوه. قال أبو عبيدة: ألقاه سرعة الإجابة وحسن المعاونة، يعني أن بعضهم يعاون بعضًا، وأصله الطاعة. وقيل المعنى: إنا أهل طاعة لمن يتملك علينا، وهي عادتنا لا نرى خلافها، فإذا أمرنا بأمر أو نهانا عن أمر أطعناه، فإذا كان قاه أحدنا، أي ذوقاه أحدنا دعانا إلى معونته. وقال الدينوري: إذا تناوب أهل الجوخان، فاجتمعوا مرة عند هذا ومرة عند هذا وتعاونوا على

الدياس، فإنه أهل اليمن يسمون ذلك القاه، ونوبة كل رجل قاهة، وذلك كالطاعة له عليهم"1. وجاء في الحديث: "أهل اليمن هم أرق قلوبًا، أي ألين، وأقبل للموعظة، والمراد ضد القسوة والشدة"2. ومن هنا صار الأعرابي جلفًا صعبًا خشنًا، يكره كل شيء لا يجده عنده، لا يخضع لسلطان، ولا يستسلم لقيادة أحد إلا لقيادة قبيلته المتمثلة في سيدها إلى غير ذلك من صفات وسمات تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وفي مواضع أخرى من الأجزاء الباقية. والماء في أغلب أجزاء جزيرة العرب مقنن قدر بقدر، ليس فيه فيض، ولا زائد يحمله إلى الجري إلى مسافات بعيدة وبكميات كبيرة عن منبعه، ثم هو بين عيون وحسى وآبار محفورة، ومدى موارد هذه المياه مقدر محدود، وهي لا تفيض فيض مياه الأنهار. فلم يتسع زرعها، ولم تتحمل نشوء مجتمعات كبرى عندها، وإنما ساعدت على ظهور مستوطنات، لم تكن حضرية تمامًا ولا بدوية تمامًا، بل كانت منزلة بين المنزلتين، ودرجة وسطى بين الحضارة والبداوة، تمكنت من إعالة نفسها، بما توفر فيها من مواد أولية، وبما زرعته من نخيل وحب وخضر، ومن بيع ما زاد عن حاجتها إلى من حولها وإلى من كان يقصدها من الأعراب. وأوجدت فيها حرفًا، ولكنها لم تكن حرفًا متطورة ذات انتاج واسع، لضآلة الموارد، ولصغر المجتمع، ولعدم وجود رؤوس الأموال الكبيرة لتشغيلها في استغلال ما قد يكون فيها من موارد طبيعية كامنة أو ظاهرة. وفي تغرير الناس للعمل في استثمارها وفي استثمار الأرض استثمارًا واسعًا، ينتج غلة وافرة، وفي مجتمعات صغيرة، ذات موارد محدودة، لا يمكن أن تظهر فيها رؤوس أموال كبيرة، وكيف تبرز رؤوس الأموال في مستوطنات فقيرة، مواردها محدودة، وخيراتها مقننة، وهي في محيط فقير، تتناولها الرياح من كل وجهة، وأعين الأعراب الجياع الفقراء لها بالمرصاد. وقد انتشرت هذه المستوطنات وتناثرت وتبعثرت في أرضين واسعة غلب على طبعها اليباس والجفاف، كيست بطبقات متفاوتة السمك من الرمال، فحالت بينها

_ 1 تاج العروس "9/ 407"، "القاه". 2 اللسان "10/ 122"، "رقق".

وبين تكوين المجتمعات الكبيرة، وبين ظهور حكومات كبيرة قوية في جزيرة العرب. وجعلت من العرب شعوبًا وقبائل، متناثرة متشاحنة، ذات لهجات، تشعر كل قبيلة منها، أنها أمة قائمة بذاتها، ولها كيان خاص، ونسب وجد، ولاء أبناؤها للقبيلة، ولرمزها: سيد القبيلة ولرؤسائها المتزعمين لفروعها ولأغصانها، أو للمكان الذي أقامت فيه. ومجتمع مثل هذا، حضره في مستوطنات متباعدة صغيرة، وبدوه متباعدون متنافرون متشاحنون، لا أمان فيه للأفراد وللتجار وللمسافرين إلا بعقود وبعهود، لا يمكن أن يظهر فيه اقتصاد متين متطور، ذو انتاج متطور متقدم، يفيض على حاجة أهله، فيصدره إلى الخارج، فتخلف اقتصاده، ولم ينتج إلا المواد الأولية البسيطة المتورفرة لديه، مثل التمور والحبوب والخمور والجلود، وهي سلع استهلكت في الداخل، ولم يصدر منها إلى الخارج إلى القليل مثل الجلود، ثم هو أخر الزراعة وعاق أهل المال من البحث عن الماء لخوفهم من تعرضهم لغارات الأعراب الفقراء، وخطر الأعراب على الزرع لا يقل عن خطر الجراد عليه. لذلك لم يقبل المتمكن المتمول استنباط الماء ومن الزرع عليه، إلا إذا وجد نفسه في مكان مأمون وفي موضع محمي له فيه أهل وعشيرة وجوار. أما السلع المعدنية، فهي من حاصل مواطن الحضر، وهي من حديد، في الغالب، صنعت من حديد استخراج من معادن جزيرة العرب، ومن حديد استورد من الخارج، ومن سلع حديد استوردت من الخارج، إذا استهلكت أعيد سبكها، ثم استعملت من جديد. وأغلبها صناعة سيوف وخناجر، ومساحي ومناجل وما شابه ذلك من مواد ضرورية للحياة في جزيرة العرب. ولم نسمع بتصدير شيء منها إلى الخارج؛ لأنها لم تكن بانتاج واسع ولا باتقان لتنافس السلع المماثلة لها في الخارج، بل نجد أن أهل جزيرة العرب كانوا يستوردون أمثالها من الخارج أيضًا، لرخص ثمنها بالنسبة إلى المنتوج المحلي، ولتفوقها على المنتوج العربي في نقاوة المعدن وفي الصنعة والاتقان. والمعادن في جزيرة العرب، محدودة وبقدر وبشح في الغالب، وقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن وجود ذهب وفضة وخامات حديد ونحاس في مواضع من جزيرة العرب. وسأتحدث عنها أيضًا في أثناء حديثي عن الصناعة عند الجاهليين. وهي في العربية الغريبة وفي العربية الجنوبية في الغالب. وقد

عرفت المواضع التي استخرج المعدن منها بـ"المعدن" و"معدن"1. والمعدن مكان كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه2. ولكن استخراج المعدن من منجمه وخامه، يحتاج إلى مال وعلم وأيد عاملة فنية، لها مران وخبرة في الاستخراج وفي التنقية، ليمكن استخراجه بكميات وافرة، وبسعر اقتصادي مناسب، منافس للأسعار العالية في الأسواق الأخرى. وهذه الشروط لم تكن متوفرة عند أهل الجاهلية، لذلك لم نسمع بتصديرها من المعادن، إلا الذهب، حيث قدمه السبئيون للآشوريين وللعبرانيين، رشوة وجزية كما تقول الموارد. أما المعادن الأخرى، فلم نسمع في كتب المتقدمين على الإسلام من الأعاجم، ولا في كتابات الجاهليين ولا في أخبار أهل الأخبار، أنها صدرت إلى الخارج. وأما الأخشاب الصلدة الثقيلة القوية مثل الساج، وهو خشب رزين قوي3، ومثل الآبنوس، والصندل، وأمثالها، فغير موجودة في جزيرة العرب، وإنما كانت تستورد من الهند في الغالب لعمل السفن وللأغراض الأخرى؛ لأنها من أشجار تحتاج إلى أمطار وحرارة ورطوبة، وهي شروط غير متوفرة في أكثر أنحاء بلاد العرب. وفي بلاد العرب أشجار ذات خشب، نمت في الجبال بصورة خاصة، لذلك عرفت بـ"شجر الجبال"4، سأتحدث عنها في أثناء بحثي عن الشجر، أمدت أهل العربية الغربية والجنوبية، بشيء من حاجتهم إلى الخشب، حيث استعملوه في البناء وفي الأثاث، لكن أخشابها لم تكن قوية صلدة مثل الأخشاب المذكورة، ثم إن الناس كانوا يقتطعون شجرها ولا يزرعون غيرها في مواضعها، فقلت، وقل الخشب نتيجة لذلك، حتى إن أهل الأخبار ليذكرون أن أهل مكة لما أرادوا تسقيف الكعبة، لم يجدوا خشبًا يصلح للتسقيف، فلما سمعوا بخبر تحطم سفينة رومية عند "الشعيبة"، ذهبوا إلى هناك، وجاءوا بالخشب اللازم للتسقيف من ذلك الميناء، وخشب السراة، وخشب المواضع المرتفعة الأخرى، خشب لا يضاهي خشب الهند أو أفريقية في الصلابة وفي المتانة والصلادة، لذلك لم يستعمل في بناء السفن ولم يساعد في تطوير وسائل النقل في البحار.

_ 1 كمجلس. 2 تاج العروس "9/ 275"، "عدن". 3 تاج العروس "2/ 61"، "ساج". 4 تاج العروس "8/ 335"، "الساسم".

أما الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، فلم يكن شجرها من النوع المنتج للخشب الصلد المتين الصالح لصناعة السفن أو لأعمال البناء ولصنع أثاث البيت وغيره، وإذا وجد شجر ذو خشب أنبتته الطبيعة، أو كان من زرع الإنسان، فإنه لم يكن كثيرًا ولا كافيًا لسد حاجات الناس. ثم أن شجر الطبيعة -ما نبت منه في الجبال، وما أنبت منه في السهول والمنخفضات- مشاع بين أهل المنطقة، يقطعه من يريد، لا يجبر قاطعه على زرع غيره في محله، لذلك قضي عليه هذا القطع والإهمال، وصار الخشب اللازم للنجارة وفي الأعمال الأخرى قليلًا في جزيرة العرب، مع أنه من الوسائل المهمة الداخلة في تنمية الاقتصاد وفي الترفيه عن الناس، وفي رفع مستواهم الحضاري. ولم تعرف بلاد العرب بتصدير الخضر والأثمار والحبوب. فلم نعثر في الأخبار على خبر يفيد تصدير شيء منها إلى العراق أو بلاد الشأم، أو أي بلد آخر خارج حدود جزيرة العرب. بل نجد أنها كانت تستورد الحبوب والدقيق والزيوت من بلاد الشأم، وذلك؛ لأن موارد الماء فيها لم تمكنها من زرع زراعة كثيفة واسعة، فصارت زراعتها زراعة محلية في الغالب، عمادها الاستهلاك المحلي، أو التصدير إلى الأرضين المجاورة للمزارع في داخل الجزيرة وفي المواسم الجيدة وعند ظهور فيض في الحاصل، فصارت اليمامة ريفًا لأهل مكة تمونهم بالحبوب، وكانت سوقًا للأعراب، تمدهم بالتمور. وكانت الطائف، مزرعة تمد أهل مكة بالأثمار والزبيب. والجمل في طليعة حيوان جزيرة العرب من حيث الفائدة والشهرة، هو رمز البداوة وعنوان الصحاري، والحيوان الوحيد الذي رضي بمصادقة الأعرابي وبتمضية حياته معه، قاطعًا للفيافي والبراري معرضًا نفسه للجوع وللعطش، ولتحمل الحياة الشاقة الخشنة في البادية، مع الأعراب الغلاظ الجفاة، الذين استصعب إخوانهم أهل الحضر للعيش معهم، وهو لولاه لما تمكن الأعراب من اختراق البوادي ومن التنقل بها، ولما طابت لهم الحياة فخيامهم من وبره، وشربهم وكسر حدة جوعهم من لبن نياقه، ثم هو طعامهم عند الحاجة، ورأس مالهم، إذا احتاجوا إلى مال. تليه الخيل والضأن والمعز والحمير وغيرها، وهي كلها دونه بكثير في تحمل العطش والجوع ومشقات الحياة، ثم هي لا تستطيع تحمل غلظ الأعراب وصعوبة حباتهم؛ لأنها أكثر رقة من الجمل، لذلك اجتنبت البوادي،

وعاسشت على المراعي الخضراء وعند مشارف الحضارة، وشاركت الحضر في بيوتهم، فهي من أموال العرب في الغالب، أي الحضر والرعاة الملازمين للمراعي المتصلة بمشارف الحضارة. ودولة الحيوان في جزيرة العرب دولة صغيرة، إذا قيست بما يجب أن تكون عليه بالنسبة إلى المساحة السطحية. وسبب صغرها أن المراعي الغنية بالعلف اللازمة لتربية الحيوان ولإكثار نسله، لم تكن متوفرة عند أهل الجاهلية، وأن أصحاب الماشية كانوا عالة على الطبيعة، لعسر أحوالهم وعدم تمكنهم من الأنفاق على الماشية وتهيئة العلف الصحي اللازم لنمو الحيوان ولإكثار نسله، ثم إن الأحوال الاقتصادية لم تكن حسنة وعلى ما يرام، بل كانت منخفضة، وهذا ما حد من الاستهلاك المحلي، وحد من عدد الذين كانوا يمتهنون حرفة تربية المواشي، إلى أسباب أخرى لا مجال للبحث عنها في هذا المكان. والعدد العام لسكان جزيرة العرب، في الجاهلية وحتى الآن هو قليل بالنسبة إلى ما يجب أن يكون عليه إذا قسنا العدد بعدد الأميال المربعة التي تكون المساحة السطحية لبلاد العرب. وسبب ذلك أن المسكون المعمور منها، قليل بالنسبة إلى المهجور القفر، والبوادي فيها أوسع وأكثر من الأرضين الصالحة للزرع وللرعي وللسكن وإن الموارد المعاشية التي تعيش الإنسان وحيوانه، لا تكفي في معظم أنحاء جزيرة العرب لاعاشة المجتمعات الكثيفة المكتظة، والمستوطنات الضخمة. فالحسي أو العيون أو الآبار أو البرك، أو ما أشبهها من موارد ماء، لا يمكن أن تستضيف مجتمعًا كبيرًا مع توابعه من المواشي، وهي لا تتمكن أيضًا من توفير الماء اللازم لزرع كثيف، ولتهيئة كلأ تعلفه المواشي، لذلك صار حجم مستوطناتهم يتناسب مع حجم الماء المتوفر فيها، وانتاجها انتاج محدود، هو حاصل زراعي في الغالب، يختلف قلة وكثرة باختلاف حجم المساحات المزروعة، أي سعة الماء الموجود في المستوطنة. وفي هذه المستوطنات وفي الأرياف والقرى، نجد الملكية الفردية، بصورة متباينة ملكية دور ثابتة، وملكية مزارع وآبار، فالذي يحضر بئرًا وينفق من ماله على حفرها تكون البئر بئره، في إمكانه بيع الماء منها للمحتاج إليه، وفي إمكانه الزرع عليها، فيكون الزرع زرعه بالطبع، وله بيع حاصله من ثمر أو خضر، أو

حب. والذي أقام على مقربة من الحضر، ولا سيما من حضر العراق وبلاد الشأم استطاع الاتجار مع تلك البلاد، ببيع ما عنده من ماشية وجلود وبشراء ما كان يحتاج إليه من مواد ضرورية، أو من مواد يتاجر بها مع المستوطنات ومع الأعراب. فتولد رأس المال في هذه المستوطنات، ولا سيما في الكبيرة منها، ذات الماء الغزير، وجاء الرأس المال بالبعيد، لتشغيلهم في الزرع. أما البوادي وديار الأعراب، فالأرض فيها للقبيلة، ما خلا الإحماء. وأما الماء والكلأ فللجميع، لا يمنع أحد من أبنائها من وروده، وحق الرعي فيها للجميع. لصاحب الإبل حق رعي إبله في أي موضع شاء من حيه، وله أن ينقل بيته في "ديرته"، ليجد لإبله الكلأ اللازم لها، وأن يذهب إلى البرك ومواضع الماء، لأخذ ما يحتاج إليه من الماء، الذي يكون في الغالب على ساعات أو أيام من بيته. وإذا جف الكلأ واختفى خير الأرض، اضطر للانتقال إلى مواضع أخرى، ليجد فيها ما يعلف إبله. وفي هذا المجتمع الأعرابي، ملكية فردية، هي ملكية الخيام وما فيها من أشياء بسيطة وملكية إبل، وبعدد ما يملكه الإنسان من جمال ونوق، تقدر ملكية الأفراد. وفيه شيوع: شيوع في الماء والكلأ والنار، الماء للجميع، ما لم يكن محميًّا ولا مملوكًا، والنار للجميع، أي حق الاحتطاب، فلكل حق قطع الشجر وما يراه من زرع نابت غير محمي ولا مملوك. ومجتمع على هذا النوع من البساطة في الحياة، يكون اقتصاده بالطبع بسيطًا، الجمل والناقة فيه، المال ورأس المال. وكل شيء يقاس فيه على عدد من الناحية الاقتصادية، ما يملكه الإنسان من أباعر ونوق. فهو اقتصاد إبل، الإبل فيه في محل الدراهم والدنانير أو الفضة والذهب، وهو عالم استهلاكه قليل وتصديره قليل كذلك قليل كذلك، ليس فيه استهلاك سلع متطورة، وليس فيه انتاج متطور، كل انتاجه الإبل ومشتقاتها وكفى. وقد حالت البراري بين العرب وبين تكوين المجتمعات الكبيرة، وعرقلت الاتصال بين المستوطنات التي بعثرتها ونشرتها هنا وهناك، وبعثرت الأعراب في البوادي على شكل قبائل وعشائر، تغزو بعضها بعضًا طمعًا في رزق هي في حاجة إليه، وتعقد أحلافًا فيما بينها للدفاع عن نفسها، ثم هي توجه كل أنظارها نحو

المستوطنات ومواضع الحضر، لتجد فيها غفلة أو موضع ضعف تدخل منه إلى ديارهم لتأخذ منها كل ما يمكن أخذه، وكل شيء يقع في أيديهم هو ثمين بالنسبة لهم؛ لأنهم لا يمكلون شيئًا، والذي لا يملك شيئًا ويجهل قيم الأشياء بحسب كل شيء يقع في يديه ثمينًا له قيمة، وهكذا صارت البوادي والأعرابية من عوامل القلق وعدم الاستقرار في جزيرة العرب، ومن عوامل التحاسد والتباغض والتناحر فيما بين سكانها لأتفه الأسباب، حتى صارت من الأمراض المستعصية عند العرب، التي لا تزال باقية حية. وفي ظروف من هذا النوع، لا يمكن أن يظهر فيه اقتصاد متطور وانتاج كبير، وأن يرتفع مستوى حياة الناس، فتأخر اقتصاد سكان جزيرة العرب، وغلب على سواد الناس. وهبط بينهم مستوى المعيشة، حتى اضطر إلى وأد بناتهم خشية إملاق، أو بيع أولادهم من جوع وفقر. وقد وجدت هذه الروح الأعرابية بين الحضر كذلك، تجسمت في العصبية للحي وللقرية، وفي تناحر الزعماء على الزعامة والملوك على الملكية، حتى في اليمن التي تمثل النموذج الحسن للإنسان الحضري الطيع الهادئ، تجد الملوك يحاربون بعضهم بعضًا، والزعماء يثورون على ملوكهم لأخذ عروشهم، مما حمل الحبش والفرس والروم على التدخل في شئوونها، فدمرت المدن والقرى والمستوطنات، وأحرق الزرع، وتباهى الملوك والثوار بعدد ما أحرقوه من مدن وقرى وزرع، ومحيط تسوده الفتن والقلاقل والحروب لا بد وأن يتأثر اقتصاده بها، وأن يتأخر زرعه وعمله، وكيف يعمل الإنسان ويجازف بماله، وهو غير مطمئن على حياته ولا واثق من يومه ولا مما سيأتيه به الغد من مصائب وأحزان! لقد حالت البوادي بين العرب وبين ظهور اقتصاد متقدم متطور عندهم، يقوم على تحويل المواد الأولية، أي المواد الخام إلى مواد أفيد منها وأهم، وإلى انتاج كبير راق، يجلب لهم دخلًا طيبًا يرفع من مستواهم. فساءت أحوالهم وغلب الفقر عليهم، وصار معاشهم ضيقًا، وحياتهم الاقتصادية متأخرة، أغلب منتجاتهم بسيطة، ليس فيها تطوير ولا تنويع، ولا تصنيع، وليس في أسواقهم مشترون جيوبهم منتفخة بالعملة، ليجازف التاجر بجلب سلع متنوعة إليها، فصارت سلعهم قليلة، اقتصر على السلع الضرورية، جدًّا للبيت، وعلى الناتج الطبيعي المستحصل من الزرع أو من الحيوان ومن الحاصل المحلي في الغالب.

وقد أوجد عدم التناسق والتناسب والاتزان بين نسب توزيع الخصب إلى الجدب تباينًا كبيرًا في كيفية توزيع الناس، فجعل السكان ثلاث طبقات: أهل مدر، وهم حضر مستقرون، وهم أرقى أهل جزيرة العرب. وأهل وبر، وهم أعراب يقطنون البوادي. وطبقة ثالثة، كانت بين بين، ووسط بين الحضر وبين البدو، عاشت على اتصال ومقربة من الحضر، لم تبتعد عنهم، ولم تفارق الماء والحضارة، بل لازمتها، ولم تمعن في البادية إلا في أيام الربيع عند نزول الغيث واخضرار الأرض، فتبتعد عندئذ بماشيتها إلى البادية لتنعم هناك بنعمة الربيع، وهي جماعة الرعاة. والرعاة قوم بين الحضر وبين الأعراب. كانوا متنقلة في الأصل، فلما قاربوا الماء والحضر، تأثروا بالظروف الجديدة، فاستقروا بعض الاستقرار، وأضاقوا إلى رعاية الإبل، رعاية البقر والغنم والخيل. وكان هؤلاء مادة الحضر في الغالب، والجرثومة التي كونت المجتمع الحضري. واقتصاد الأعراب اقتصاد واحد، وأن تنوع أصحابه قلوا أو كثروا، قبائل كانوا أم عشائر أم أفخاذ؛ لأن جذوره وأسسه واحدة، هي البادية وتربية الإبل، وليس في البادية غير كلأ وعشب وشجيرات أو أشجار، تعلف أوراقها وأغصانها الإبل، ويحتطبها البدو لبيع حطبها من أهل الحضر إن كانوا على مقربة منهم، أو لاستعماله وقودًا لهم، أو فحمًا يبيعونه للحضر، وليس فيها غير "وبر"، وشيء من الملح، يحلمونه إلى أهل الحواضر لبيعه منهم. وأما مشترياتهم، فبسيطة، تمور ودقيق وأبسط أنواع الثياب وما يحتاج البيت إليه من مواد. واقتصاد من هذا النوع، لا يساعد على ظهور رأس مال كبير، وعلى حدوث تطوير في الصناعة، لذلك تخلف اقتصاد الأعراب عن اقتصاد المستوطنات والقرى بدرجات ودرجات. أما اقتصاد أهل الحضر، فإنه اقتصاد متطور بالقياس إلى اقتصاد الأعراب: اقتصاد البداوة، أو اقتصاد بدوي إن شئت تسميته بذلك. اقتصاد الحضر متفاوت في الدرجات، أبسطه اقتصاد المستوطنات الصغيرة المنتشرة في بواطن جزيرة العرب وأعلاه اقتصاد المدن الواقعة في أطراف الجزيرة وعلى سواحل البحر وفي أرضين خصبه غنية بالماء والمزارع وقد برز بعض أهل تلك المستوطنات في التجارة، وبرز بعض آخر بالزراعة، وجمع بعض آخر بين الزراعة والحرف اليدوية القائمة على أساس تحويل المنتجات الزراعية إلى منتجات أخرى، أو تحويل الجلود إلى

أدم، أو تحويل المواد الأولية المتيسرة إلى مواد ذات ضرورة للمجتمع، وهي إما استهلاكية، توجر بها في الأسواق الداخلية، وإما انتاجية، صنعت للاستهلاك المحلي وللتصدير. ومن أبرز المستوطنات التي ظهرت في باطن جزيرة العرب، مستوطنات اليمامة، والمستوطنات التي ظهرت على الأودية ومواضع الماء، وقد عاشت على الزراعة وتربية الماشية، ومونت الأعراب بالتمور، ومونت الحجاز بالحبوب. ومنها ما كانت ملتقى طرق برية، ربطت العربية الجنوبية بالعراق، ومنها ما ربط بين العربية الشرقية وبلاد الِشأم، وأنا آسف، لأن أقول إن معارفنا عن المستوطنات قليلة، لعدم وصول شيء في النصوص الجاهلية عنها، ولعدم تطرق أهل الأخبار إليها، إلا عندما يكون لذكرها صلة بالأيام أو بالشعر أو بالحوادث البارزة جدًّا التي وقعت قبيل الإسلام، أو التي كان لها اتصال بظهور الإسلام. وأما المستوطنات التي برزت وظهرت في أطراف الجزيرة، فهي عديدة، أشهرها وأعرفها وأعرضها ذكرًا مكة والمدينة. مكة في التجارة، والمدينة في الزراعة. ولا يعني ذلك، أن المدينتين المذكورتين كانتا أعظم المستوطنات المذكورة، وأبرزهما في التجارة والزراعة عند ظهور الإسلام، وأن البقية الباقية، لم تكن لاحقة بهما في الناحيتين. فقول مثل هذا لا يمكن أن يجزم به مؤرخ حصيف، وانما جاءتهما هذه الشهرة بفضل الإسلام، فقد ظهر الإسلام في المدينتين المذكورتين، ونزل القرآن الكريم فيهما، وأِشير فيه إلى أمور عديدة وقعت بهما، وعاش الرسول فيهما، فمن هنا صار اهتمام العلماء وأهل الأخبار بهما أكثر من سائر مواضع جزيرة العرب، ولا سيما المواضع البعيدة النائية عن المدينتين، والتي لم يكن لها اتصال متين بظهور الإسلام، ومن هنا كثرت أخبارهما، حتى ظن الناس أن مكة قبل الإسلام، كانت أرض التجارة والتجار، وقبلة جميع العرب، ومجمع أصنام كل العرب، وموضع تكدس الأموال، وبلد الربا والمرابين، وهو استنتاج أخذ من الروايات التي قصها أهل الأخبار عنها دون نقد ولا تحليل، ولكننا لو استعرضنا ما ذكره أهل الأخبار أنفسهم عن هجر وعن البحرين وبقية العربية الشرقية، فإنه يرينا على قلته، أن مدن وقرى هذا الجزء من جزيرة العرب، لم تكن أقل درجة في المال والتجارة والانتاج من مكة أو المدينة، إن لم تكن قد تفوقت عليهما بالفعل، بدليل ما جاء في أخبارهم عن مقدار الزكاة والصدقات التي أرسلها عمال

الرسول والخلفاء إلى المدينة، فإنها تدل على وجود تجارة وأعمال في هذه الأرضين ربما كانت قد فاقت أرباح وأعمال أهل مكة، لكننا لا نعرف عنها شيئًا، بسبب عدم اهتمام المؤرخين والأخباريين بأخبارها في الجاهلية، لعدم وجود صلة لها بتأريخ الإسلام، أو بسبب عدم وقوفهم على أخبارها، فلم يتطرقوا لذلك إلى شيء من أحوالها بصورة مفصلة، فظهرت وكأنها قد تأخرت عن مكة من النواحي الاقتصادية بكثير، وصارت مكة، بذلك، الموطن المتفوق الأول في المال وفي الزعامة وفي كل شيء في جزيرة العرب. لقد أثر الجو إذن على اقتصاد جزيرة العرب، كما أثر عليهم في كل شيء، حتى صيرهم على النحو المعروف، لهم خصائصهم وصفاتهم المميزة لهم عن غيرهم، ولو كان للعرب جو مثل أجواء أوروبية، لكان شأنهم ولا شك في التأريخ شأن آخر. على كل، فقد كتب عليهم أن يعيشوا في الجو المذكور، وكان من نصيبهم في هذه الحياة حرارة وجفاف، وحرارة ورطوبة، وأرضون غلب عليها اليبس والجفاف، فصارت موارد رزقهم شحيحة في الجاهلية، وتخلفوا عن غيرهم في الانتاج وفي الإبداع، وغلب على سوادهم الفقر، والفقر كافر لا يرحم، ولولا "النفط" اليوم، الذي جاء على عرب القرن العشرين بالمال، لما تضخمت جيوب الأسياد، وبنيت القصور الشاهقة الضخمة بالملايين من الجنيهات، وأملي أن يكون هذا المال سببًا في استغلال العرب أنفسهم لمواردهم الظاهرة والباطنة، وأن يكون سببًا من أسباب التعمير، لا الإنفاق والتبذير، وأن يحول الطاقات المهملة إلى طاقات منتجة، قبل أن يأتي يوم تنضب فيه آبار النفط، أو أن يموت النفط فيه أو يهمل، بسبب العثور على موارد تكون أحسن نوعية وأقل كلفة منه. لقد جعل هذا الجو العرب -كما سبق أن ذكرت- قبائل وشعوبًا متنابذة متخاصمة، متحالفة متعاقدة متآخية، متطرفة في كل شيء، متطرفة في حبها وفي إخلاصها، متطرفة في الوقت نفسه في بغضها وفي حقدها، تميل إلى المادة إلى درجة العبادة، ثم تنطرف في أمور عاطفية بعيدة عن المادة والماديات بعدًا كبيرًا، تمجد العقل والتعقل، وتقيم وزنًا كبيرًا للحكمة ولضرب الأمثال، حتى ليخيل إليك أن كل أفعال الناس وأعمالهم إنما تصدر منهم عن عقل وحكمة، لكنك سرعان ما تصطدم بوجود واقع آخر، هو واقع تغلب العواطف على العقل، وانصياعهم إلى الانفعال وسرعة التأثر وفقدان الوزن بين الأمور بميزان العقل،

وتركهم أنفسهم فريسة لهذه العواطف، تعبث بهم في حياتهم، ولا تزال تعبث بهم الآن، تراهم كرماء، يقدمون أعز شيء عندهم لضيوفهم، بإسراف وتبذير، ثم تراهم بخلاء يحرصون على أتفه الأشياء أحيانًا حرصًا يدفعك على الاستغراب من وجود هذا التضاد في الأخلاق، أو ما نسميه بازدواج الشخصية في اصطلاح المحدثين على نحو ما تحدثت عن ذلك في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب. لقد أثرت الطبيعة إذن في تكييف اقتصاد الجاهليين وفي تعيين موارده، وفي توجيههم توجيهًا تجاريًّا في المواضع التي قل فيها الزرع، مثل مستوطنات الأطراف حيث نجد أهلها يميلون إلى التجارة، ويرون فيها مهنة من أشرف المهن، وتوجيهًا زراعيًّا في المواضع التي توفرت فيها شروط الزراعة، وتوجيهًا رعويًّا في المواضع الأخرى، لا سيما بين الأعراب. فلندخل الآن في استعراض هذا التوجيه وفي دراسة الموارد الطبيعية لجزيرة العرب، وفي دراسة كيفية تعامل أهل الجاهلية في الأسواق، بعد أن قدمنا مقدمتنا القصيرة عن أثر الطبيعة في الاقتصاد.

الفصل التاسع والثمانون: الزرع والمزروعات

الفصل التاسع والثمانون: الزرع والمزروعات مدخل ... الفصل التاسع والثمانون: الزرع والمزروعات والزراعة هي عماد ثروة اليمن وبقية العربية الجنوبية، والمواضع التي تتوفر فيها المياه في جزيرة العرب، وهي رأس مالها الأكبر في حياتها، والمورد الأول الذي يتعيش عليه الناس وقد انحصرت في المواضع الخصبة، أي في المواضع التي جادت عليها الطبيعة بالأمطار أو بالينابيع والجعافر والعيون وبالماء الجوفية القريبة من سطح الأرض وبالحسي وما أشبه ذلك. وحيث أن أغلب أرض بلاد العرب هي أرض صحراوية موات، لهذا فإن الزراعة فيها معدومة، ويمكن في المستقبل إحياء قسم منها، وذلك باستخدام الوسائل الحديثة التي استنبطها العقل والتي سيستنبطها في استخراج الماء وفي إصلاح التربة، وسيتحول شكل جزيرة العرب عندئذ عما هو عليه الآن كثيرًا ولا شك، وقد حولت في هذه الأيام مناطق موات، إلى أرض عمار، تسقى بالمياه المنبعثة من الآبار "الارتوازية" ومن السدود التي حبست مياه السيول، وصارت تنتج في مواضع عديدة من جزيرة العرب غلة زراعية وافرة بفضل استعمال الفن الحديث في استنباط الماء وفي كيفية الاستفادة من التربة وفي إدخال أساليب الزراعة الحديثة إلى هذه الأماكن. وقد يأتي يوم، تتحول فيه معظم أرض جزيرة العرب الفارغة المهملة التي يخشى الإنسان من ولوجها إلى أرض خصبة منتجة، إذا ما زرعت زراعة حديثة، تناسب جو بلاد العرب وتركيب تربتها، واستنبطت المياه الكافية من جوفها للزراعة وللشرب ونحن وإن كنا لا نملك مراجع جاهلية مكتوبة واسعة تتحدث عن الزراعة في

جزيرة العرب قبل الإسلام وعن أنواعها وتفاصيلها وأساليبها وطرقها وضرائبها وعن كيفية استغلال الأرض وطرق الاستفادة منها وواجب الفلاح تجاه صاحب الأرض، وعن الحاصلات السنوية ومقدار ما تأخذه الحكومة من المزارعين من ضرائب، وأمثال ذلك من أمور متصلة بالزراعة، لكنا قد تمكنا من تكوين رأي فيها من مراجعتنا للكتابات الكثيرة التي وصلت إلينا، وفيها أمور متعددة لها علاقة بهذه الموضوعات، كما أن آثار الأقنية والسدود الجاهلية المنتشرة في مختلف نواحي اليمن، هي في حد ذاتها شاهدة على مقدار توسع اليمانيين في الزراعة في ذلك العهد، ونجد مثل هذه الآثار الجاهلية في مواضع أخرى من جزيرة العرب، وهي دليل واضح على أنها كانت مزروعة معمورة، لا مغمورة مهملة كما هو شأنها في الوقت الحاضر. أما بخصوص الزراعة واستغلال الأرضين وإيجارها وجباية الضرائب عنها والعقود التي كان يعقدها الملوك مع كبار الاقطاعيين وتنظيم المياه وأمثال ذلك، فقد وصلت إلينا كتابات وأوامر عامة فيها، كان يصدرها الملوك و"الكبراء"، يعلنونها على الناس، ليطلعوا عليها، وليعملوا يموجبها، تكتب على الحجارة، وتوضع في محلات عامة، أو في خزانات المسؤولين بموجبها، وذوي الشأن، ليرجع إليها حين الحاجة. وهنالك كتابات كتبها رؤساء عشائر وأصحاب أملاك، عن حدود أملاكهم، أو عن تأجيرها لغيرهم، أو عن إنشاء سدود لضبط المياه وتوزيعها، أو عن حفر آبار، وأمثال ذلك، وهي كلها على صفتها الشخصية ذات قيمة بالقياس إلى هذا، لما ورد فيها من أفكار ومصطلحات فنية، تمكننا من تكوين رأي في الزراعة والنظم الاقتصادية في العربية الجنوبية في ذلك العهد. وإذا كنا قد حصلنا على فكرة ما عن الزراعة في اليمن، وفي بعض أقسام العربية الجنوبية استنادًا إلى الألفاظ والمصطلحات الزراعية في الكتابات الجاهلية وإلى الوثائق الخاصة بالأرض وبالضرائب وبالتأجير وبعقود البيع والشراء، وإلى بعض الصور المنقوشة على هذه الكتابات، فإننا لم نعثر، ويا للأسف، على كتابات جاهلية تتحدث عن هذه الأمور في الحجارة وفي أواسط جزيرة العرب وفي الأقسام الشرقية منها، وآراؤها عنها مستمدة في الدرجة الأولى من المراجع الإسلامية ومن مشاهدات السياح لمناطق الآثار ووصفهم آثار الزراعة في المناطق التي مروا بها، ومن تقارير الخبراء "الجيولوجيين" وغيرهم من موظفي شركات النفط العاملة في جزيرة العرب.

وفي لغة المسند مصطلحات زراعية تعبر عن معان خاصة، وفيها مسميات لآلات وأدوات استخدمت في الزراعة, ولا بد أن تكون لهجات أهل العربية الجنوبية أوسع ألفاظًا في الزراعة من لهجات العرب الآخرين القاطنين في الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب، بسبب تنوع الأجواء في العربية الجنوبية، وما أعقب ذلك من تنوع الزرع وطرق الزراعة فيها، أضف إلى ذلك خصب التربة ووجود الماء فيها، وجودًا لا يماثله أي مكان آخر في جزيرة العرب، فظهرت فيها ألفاظ زراعة ومصطلحات زراعية لم تعرفها عربيات بقية جزيرة العرب، اضطرت اللهجات الأخرى إلى أخذها منها، لعدم وجودها عندها، ونجد في معجمات اللغة وفي كتب النبات والأدب ألفاظًا زراعية، نص العلماء على أنها من لغات أهل اليمن. وقد حفظت الأيام بعض الحجارة المكتوبة بالمسند، وعليها صور، أفادتنا في تكوين فكرة عن ملامح المزارع قبل الإسلام، وفي تبيين طراز معيشته، وشكل بعض ملابسه، وما شابه ذلك، وبين هذه الحجارة المصورة المكتوبة، حجر حفرت عليه صورة حراث حافي القدمين وقد ارتدى ثوبًا بلغ ركبتيه وشد وسطه بحزام وأمسك بيده اليسرى الحبل أو النطاق المتصل بالمحراث، وباليمين آلة على هيئة فأس من خشب، ربما استعملها في ضرب ثوري المحراث، أو استعملها في حفر الأرض أيضًا وفي تفتيت التراب المحفور. وقد ربط الثوران بالمحراث، وأخذا يحرثان الأرض، والفلاح يوجههما. ورسمت تحت الصورة صورة ثلاثة رجال، يظهر من ملامحهم ومن شكل ملابسهم أنهم كانوا من أصحاب الأرض. ولأهل اليمن سبق على غيرهم من أهل جزيرة العرب في الزراعة، وهم حتى الآن على ما كانوا عليه من ميل إليها، ويشتغل عدد منهم اليوم في المملكة العربية السعودية أجراء لغيرهم في زراعة الأرض، أو مشاركون لأصحاب الأرض في الحاصل، أما الأعراب، فكانوا يزدرون شأنها، وينقصون من قدر المزارع "الخضار". ونجد هذه النظرة الازدرائية إلى المزارع عند أهل الحضر أيضًا، حتى أن بعض الصحابة كرهوا تعاطي العمل في الأرض، حتى بعد الفتح، تارركين ذلك إلى أهل الذمة. روي عن "أبي أمامة الباهلي" أنه قال، إذ رأى سكة وشيئًا من آلة الحرث، فقال: سمعت النبي يقول: لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل. قالوا في تفسيره: "لما يلزمهم من حقوق الأرض التي يزرعونها، ويطالبهم بها الولاة، بل ويأخذون منهم الآن فوق ما عليهم بالضرب والحبس،

سبل ويجعلونهم كالعبيد أو أسوأ من العبيد، فإن مات أحد منهم، أخذوا ولده عوضه بالغضب والظلم، وربما أخذوا الكثير من ميراثه ويحرمون ورثته، بل ربما أخذوا من ببلد الزارع فجعلوه زراعًا، وربما أخذوا ماله"1. وهو تفسير فيه شيء من التكلف، يفصح عن كراهية القوم للزراعة أكثر من المعنى المذكور، وأما الحديث نفسه، من حيث الصحة أو الضعف، فللعلماء كلام فيه، وفي كتب الحديث أحاديث أخرى تحث على الزراعة والزرع. وورد في الحديث أن الرسول كان يحدث جمعًا من الصحابة عن الجنة، وعن رجل زرع في الجنة فاستوى نباته، وعنده رجل من أهل البادية، فلما انتهى الرسول من كلامه، قال الأعرابي: "والله لا تجده إلا قرشيًّا أو أنصاريًّا، فإنهم أصحاب زرع. وأما نحن، فلسنا بأصحاب زرع"2. وكراهة الزرع، كراهية نشأت من عدم توفر الماء والأرض لأكثر الناس، فصاروا يكرهونها، أما الذين ملكوهما فلم يزدروها ولم يغضوا من شأنها، والأعرابي لا يملك شيئًا، فصار يكره كل شيء لا يملكه ولا يقدر عليه، من زراعة ومن حرف ومن قيود اجتماعية ومن تنظيم، ومن كل ما يخالف مألوفه من عرف وتقاليد. ولذلك صارت الزراعة من عمل أهل المدر، وعمل كل من وجد لديه الماء الوافر، ليأخذ منه ما يلزمه للزرع، وسادت القبائل، الذين توفر الماء عندهم، أو كان لديهم المال لتشغيله في البحث عن الماء، زرعوا مثل أهل الحضر، وشغلوا العبيد وأتباعهم في الزراعة، لما وجدوا فيها من مكسب وربح، وكان للكثير منهم زرع وحوائط. ونظرًا لتغير الحال عند العرب في الإسلام، وظهور الدعوة فيه إلى الأمة والجماعة، فقد حث الرسول المسلمين على الزرع، وظهر من روى عن الرسول أنه قال الزراعة أفضل المكاسب، وذلك لما فيها من عموم الانتفاع، حتى أن منهم من فضلها على التجارة للتوسعة على الناس، ولما للقوت الذي يأتي منها من صلة بحياة الناس3. ومع ذلك، فقد بقي العرف الجاهلي مسيطرًا على عقلية السادة

_ 1 إرشاد الساري "4/ 172". 2 إرشاد الساري "4/ 190". 3 إرشاد الساري "4/ 171"، "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو انسان أو بهيمة إلا كان به صدقة"، صحيح البخاري "كتاب المزارعة وفي كتاب الأدب في باب رحمة الناس والبهائم"، صحيح مسلم "كتاب البيوع في باب فضل الغرس والزرع"، زاد المسلم "2/ 333 وما بعدها".

الكبار، من افتخارهم بحيازة الأرض، ومن ازدرائهم من الاشتغال بأنفسهم بها، فكانوا يستخدمون العبيد والأجراء وكراء الأرض في استغلالها، فهؤلاء وأمثالهم خلقوا للعمل في الأرض، أما هم فقد خلقوا ليكونوا سادة، عملهم امتلاك الأرض، وقد ظهر من هؤلاء جبل امتلك أرضين واسعة في البلاد المفتوحة شغل فيها أهل الذمة، والنبط وسكان الأرضين المفتوحة، ومئات وآلافًا من الرقيق والعبيد، كان عليهم العمل، ولسيدهم الكسب الوفير والمغنم. وقد يزرع أهل الحضر في جوف القرية من النخيل والأشجار، أو داخل ما طاف به سور المدينة، ويقال لذلك "الضامنة"؛ لأن أربابها قد ضمنوا عمارتها وحفظها، فهي ذات ضمان، محروسة آمنة، وتحت رعاية وعيون أصحابها، وقد يزرعون خارج قريتهم، وخارج العمارة في البر، أي في الضاحية، ويقولون لذلك "الضاحية"، وفي كتاب النبي لأكيدر: إن لنا الضاحية من البعل، وإن لكم الضامنة من النخل1. وقد كان زرع أهل الطائف وأهل يثرب وقرى اليمامة واليمن وغيرها بين ضاحية وضامنة. والضاحية أوسع وأكثر بالطبع، لاتساع العين ووفرة الماء. ولم يكن من الممكن بالنسبة لأيام الجاهلية، زرع مساحات واسعة بالحبوب أو الخضر والنخيل وبقية الشجر، لصغر حجوم المياه، وقلة المطر، وعدم كفايته لإرواء الزرع منذ بذر بذوره حتى حصاده، وللظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت مهيمنة على مجتمع ذلك العهد، من عدم وجود حكومات قوية كبيرة ترعى الأمن وتحمي حقوق المزارع وزرعه من العبث به، ثم تشجيعه وتقديم المعونة له، لذلك كان من الصعب ظهور مزارع كبيرة تنتج غلات عظيمة تعرض للاستهلاك المحلي وللتصدير. ولم يكن في وسع أحد إنشاء مثل هذه المزارع إلا إذا كان متمكنًا ذا مال ونفوذ، وصاحب عشيرة قوية، تحمي حقه ممن يريد الاعتداء عليه. وزرع، بمعنى طرح البذر. وقيل الزرع نبات كل شيء يحرث. ويقال زرعت الشجر كما يقال زرعت البر والشعير. والزريعة الشيء المزروع، والزرعة البذر2. فالزراعة إذن، هي التي تكون بفعل إنسان، يطرح بذرًا أو يغرس

_ 1 تاج العروس "9/ 266"، "ضمن". 2 تاج العروس "5/ 368"، "زرع".

غرسًا، أو ينبت نبتًا، وأزرع الزرع طال. وموضع المزروع المزرعة. وقد غلب على المكان الذي يزرع برًّا وشعيرًا1. ويكون "الغرس" بفعل إنسان، يقوم بغرس الغرس، وغرس الشجر يغرسه غرسًا، أثبته في الأرض، والغرس الشجر، والغراس وقت الغرس2. فلا يكون الغرس ببذور، وإنما بغرس غرس، ينمو ويكبر، فيصير غرسًا، ولا تعبر لفظة "غرس" عن ظهور النبات بفعل الطبيعة، وإنما تعبر عن غرس "فسيل" ليصير شجرًا. من ذلك فسيل النخل، وقضبان الكروم والأوراد، وأمثال ذلك3. ويعبر عن صغار الفسيل بـ"الودي". وفي حديث أبي هريرة، لم يشغلني عن النبي غرس الودي4. و"التغاريز" ما حول من فسيل النخل5. وغرسوا الشجر سككًا. والسكة السطر المصطف من الشجر والنخيل. وقد كانت بساتين يثرب سككًا مسطرة بسطور النخل. ومنه الحديث: خير المال: سكة مأبورة ومهرة مأمورة. المأبورة المصلحة الملقحة من النخل، والمأمورة الكثيرة النتاج والنسل6. وغرسوا النخل أسطرًا على جانبي مسايل الماء والجداول والسواقي. والسطر، الصف من الشيء كالكتاب والشجر والنخل. يقال بني سطرًا من نخل، وغرس سطرًا من شجر، أي صفًّا7. وغرسوا "الكرم" سككًا كذلك. وقد يتخذون له "عريشًا" يعترش العنب. و"العريش"، ما عرش للكرم من عيدان تجعل كهيأة السقف، فتجعل عليها قضبان الكرم فتعترشها8. ويعبر بلفظة "نبت" عن كل ما نبت من نفسه، أي بدون فعل فاعل، وإنما بفعل الطبيعة في التربة، وذلك في الغالب المألوف. وذلك بتأثير المطر عليها، أو بتأثير السيول والطوفان والرطوبة والمياه الجارية, وأمثال ذلك، مما يكون سببًا

_ 1 تاج العروس "5/ 368"، "زرع". 2 تاج العروس "4/ 201"، "غرس". 3 تاج العروس "8/ 58"، "فسل". 4 تاج العروس "10/ 387"، "ودي". 5 تاج العروس "4/ 64"، "غرز". 6 تاج العروس "7/ 143"، "سك". 7 تاج العروس "3/ 266 وما بعدها"، "سطر". 8 تاج العروس "4/ 322"، "عرش".

لنبت النبات، يقال: نبتت الأرض وأنبتت"، و"نبت الكلأ"1. وترد لفظة "سقح" بمعنى زرع وغرس في لغة المسند2. رقد فسرها بعض علماء العربيات الجنوبية بمعنى هيأ الماء وجمعه وأجرى السواقي والأرض وحفر القنوات ومهدها للزرع، وبعبارة مختصرة التمهيد لكي شيء ولكل عمل3.

_ 1 تاج العروس "1/ 588"، "نبت". 2 كما في هذه الجملة: "وسقح كل اسررس وجروبس"، أي "وزع كل الأودية والجروب"، Mordatmann Und O. Mittwoch, Alt Sud. Inchr., S. 9. 3 وذلك كما في هذه الجملة: "صير وبقر وجرب وبقل وسقح كل اسررم وجربم"، ومعناها "صير وحرث وعمل المدارج وزرع البقول ومهد كل الأودية والجرب"، Rep. Epiger 3856, Rhodokanakls, Stud. Lexi., Ii, S. 35.

التربة

التربة: وللتربة عند العرب أسماء، وذلك لأهميتهما بالنسبة إلى حياتهم. فنجد في كتب المعاجم ألفاظًا كثيرة لها، من حيث لونها ومن حيث خصبها ومن حيث نوعها ومن حيث وجود الماء فيها إلى غير ذلك. وهم يقولون للأرض الطيبة السهلة التي لا يعلوها السيل "الأبهر"، وقيل الأبهر ما بين الأجيل1. ويقولون: "السخاخ" للأرض اللينة الحرة2. ويقولون أرض حلاوة، تنبت ذكور البقل3. و"الخصب" نقيض الجدب، وأرض خصبة منبتة، قابلة للزرع، و"العثعث" ما لان من الأرض ومن مكارم المنابت: وقيل الكثيب من السهل أنبت أو لم ينبت4. و"الجادسة"، الأرض لم تعمر ولم تعمل ولم تحرث، ورد في الحديث: من كانت له أرض جادسة، قد عرفت له في الجاهلية حتى أسلم، فهي لربها. أي الأرض التي لم تزرع قط5. والسبخة، أرض ذات نزو وملح. والسباخ الأرض التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر9.

_ 1 تاج العروس "3/ 63"، "بهر". 2 تاج العروس "2/ 261"، "سخ". 3 تاج العروس "10/ 96"، "حلو". 4 تاج العروس "1/ 633"، "عث". 5 تاج العروس "4/ 118"، "جدس". 6 تاج العروس "2/ 261"، "سبخ".

والبلوقة، المفازة، وهي الأرض المستوية اللينة، أو التي لا تنبت إلا "الرخامي" على رأي آخر، والثيران تولع به وتحفر أصوله فتأكل عروقه. وهي من الأرضين التي ليس بها شجر ولا تنبت شيئًا البتة على بعض الآراء. وقد يكون قفرها هذا، وعدم إنباتها سبب قول الأعراب أنها مساكن الجن. ويظهر من أقوال بعض علماء اللغة أن البلوقة أرض واسعة مخصبة، أي على عكس ما ذكره بعض آخر، من أنها الأرض التي لا تنبت شيئًا1. ويعبر عن الأرضين الزراعية بلفظة "أرض" "أرض" في جميع اللهجات العربية الجنوبية. وهي من أصل يرد بهذا المعنى في جميع اللهجات السامية، وهي تشير في الغالب إلى الأرضين المعدة لزراعة الخضر والحبوب، وقد. يراد بها الأرضين المزروعة بالخضر والحبوب. ولذلك فلفظه "أرض"، قد تعني أرضًا صالحة للزرع، غير أنها غير مزروعة، وقد تعني أرضًا مزروعة، ويرادف هذا المعنى معنى لفظة "المزرعة". والقراح: الأرض لا ماء بها ولا شجر، وقيل الأرض المخلصة للزرع والغرس، وقيل: القراح المزرعة التي ليس عليها بناء ولا فيها شجر2. و"الجربة"3، المزرعة، ومنه سميت الجربة المزرعة المعروفة بوادي زبيد. والجربة: القراح من الأرض المصلحة لزرع أو غرس، واستعارها "امرؤ القيس" للنخل، فقال: كجربة نخل أو كجربة يثرب4 والركيب: المزرعة والقراح الذي يزرع فيه، والمشارة، أو الجدول بين الدبرتين، أو ما بين الحائطين من النخل والكرم، وقيل ما بين النهرين من الكرم. قال تأبط شرًّا. فيومًا على أهل المواشي وتارة لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل وأهل الركيب، هم الحضار5.

_ 1 تاج العروس "6/ 299"، "بلق". 2 تاج العروس "2/ 205"، "قرح"، المخصص "10/ 148". 3 بالكسر. 4 تاج العروس "1/ 179"، "جرب". 5 تاج العروس "1/ 278"، "ركب".

فالركيب إذن أرض زراعة، تكون محددة، معينة المعالم، يمتلكها مالك أو ملاك، تزرع أشجارًا مثمرة في الغالب، لا حبوبًا. والحقل، قراح طيب يزرع فيه، وقيل هو الموضع الجادس أي البكر الذي لم يزرع فيه قط. يقال أحقلت الأرض، صارت ذات حقل. والمحاقل المزارع1. والمبقلة: الأرض التي يزرع البقل فيها. وأما المبطخة، وتجمع على مباطخ، فالأرض التي يزرع فيها البطيخ. والمرج: الأرض الواسعة ذات كلأ وماء. تمرج فيها الدواب حيث شاءت2. والسبخة أرض ذات نز وملح، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض النبات، ولهذا لا يزرعها الفلاح، وتترك لعدم صلاحها للزرع، ولصعوبة استصلاحها بغسلها من الأملاح3. وفي جزيرة العرب سباخ رخوة قد تغوص فيها الأقدام، لذلك ابتعد عنها المسافرون. ويعبر في المسند عن الأرض المزروعة نخيلًا بلفظة "انخل"، أي "نخيل". ويراد بذلك الأرض المغروسة نخلًا. ويعبر عن الأرض المزروعة أشجارًا بلفظة "أثمر"، أي أشجارًا مثمرة، وعن الأرض المخصصة بزراعة الحبوب بكلمة "مذرا" "مذري"4. وعن الأرض التي تزرع أعنابًا بـ"أعنب"، أي بساتين الكروم. وفسر بعض الباحثين في العربيات الجنوبية لفظة "موفرن" "موفر"، الواردة في نصوص المسند، بمعنى الأرض الصالحة للزراعة بصورة عامة، كما فسرها بعضهم بمعنى المزرعة والحديقة5. وهي في مقابل لفظة "الوفراء" في عربيتنا، والوفراء الأرض التي لم ينقص من نبتها شيء، والأرض التي في نباتها فرة، أي كثرة. يقال أرض وفراء، وهذه أرض نباتها فر، وفرة6.

_ 1 تاج العروس "7/ 281"، "حقل"، القاموس "2/ 358"، جامع الأصول "11/ 478". 2 عمدة القارئ "11/ 214 وما بعدها". 3 تاج العروس "2/ 261"، "سبخ". 4 Ref. Epigr., Tome, V, P.196. 5 Rhodokananakis, Stud. Lwxt., I, S. 58. نقوش خربة معين "ص25"، النقش رقم 17. 6 تاج العروس "3/ 605"، "وفر".

وقد حول بعض أصحاب الأرض والمزارعين الأرضين الزراعية إلى بساتين وحدائق، غرست بالنخيل والشجر الملتف درت عليهم أرباحًا حسنة، من بيع ثمارها. واكتسبت بعضها شهرة، بسبب وقوع أحداث فيها، مثل: "الحديقة" من أعراض المدينة، كانت بها رقعة بين الأوس والخزرج1، ومثل "حديقة الرحمان"، بستان كان لمسيلمة بفناء اليمامة، فلما قتل عندها سميت: "حديقة الموت"2. والحديقة، الروضة ذات الشجر، والبستان عليه الحائط، وخص بعضهم من النخل والشجرالملتف، وخص بعضهم الشجر بالمثمر، وقال بعضهم بل هي الجنة من نخل وعنب، والقطعة من النخل3، و"المخرف" مثل "الخروفة" النخلة أو النخيل دون البستان4. و"المخرفة" سكة النخل والبستان من النخل5. وقد وردت الجنة مفردة ومجموعة ومنكرة ومعرفة في القرآن الكريم، وتقابل "كن" "Gan" و"كنه" "Gannah" = "Gehenne" في العبرانية، وهي في معنى "فردوس" الفارسية الأصل، وParadise"" في الإنكليزية6. ويراد بها موضع للأشجار الجميلة التي تسر الناظرين والأشجار المثمرة والورد والزهر والمياه. والحديقة ذات النخيل والشجر، أو ذات النخل والعنب، وهي البستان عند بعض اللغويين7. وأما "الجنينة"، فتصغير جنة. و"البستان" من الألفاظ المعربة. ذكر علماء اللغة أنها "معرب بوستان. فبو بمعنى الرائحة، وستان -بالكسر- الجاذب" بالفارسية8 و"الروضة" و"الريضة"، مستنقع الماء من قاع فيه جراثيم ورواب سهلة صغار في سرار الأرض. وقيل الأرض ذات الخضرة، وقيل البستان الحسن، وقيل الروضة عشب وماء، ولا تكون روضة إلا بماء معها أو إلى جنبها، وقيل أرض ذات مياه وأشجار وأزهار

_ 1 تاج العروس "6/ 309"، "حدق". 2 تاج العروس "6/ 310"، "حدق". 3 تاج العروس "6/ 309"، "حدق". 4 الروضة الأنف "2/ 291"، 5 تاج العروس "6/ 81"، "خرف". 6 Ency., I, P.1014,.Hastings, P.282, 681. 7 القاموس "4/ 211"، تاج العروس "9/ 166"، "جنن". 8 تاج العروس "9/ 140"، "البستان".

طيبة. وإن كانت الرياض في أعالي البراق والقفاف. فهي السلقان، واحدها سلق، وإن كانت في الوطاآت فهي رياض. ورب روضة فيها حرجات من السدر البري، وربما كانت الروضة ميلًا في ميل، فإذا عرضت جدًّا فهي قيعان. ورياض "الصمان" والحزن بالبادية أماكن مطمئنة مستوية يستريض فيها ماء السماء، فأنبتت ضروبًا من العشب ولا يسرع إليها الهيج والذبول1. ويقال للبستان إذا كان محاطًا بجدار "الحائط"، وتجمع على حوائط، وقد وردت هذه اللفظة في كتب الحديث2. وهناك لفظة أخرى تؤدي هذا المعنى هي "الحظار". ويراد بها الأرض التي فيها الزرع المحاط عليها. وقد ذكرت في كتب الحديث3. وذكر علماء اللغة أن من معاني "الحظار"، الحائط وكل ما حال بينك وبين شيء، وما يعمل للإبل من شجر ليقيها البرد والريح، والجدار من الشجر يوضع بعضه على بعض ليكون ذري للمال يرد عنه برد الشمال في الشتاء4. ويعبر في المسند عن الحقول والبساتين وكل المزارع التي تكون داخل حدود القرى و"الهكر" "الهجر" أي المدن، أو في ضواحيها وأطرافها، بلفظة "اقنى"، التي تعني الممتلكات، أي المزارع المملوكة المغروسة بالشجر. أما لفظة "أرض" فتطلق بمعنى المزارع والأرضين المزروعة خارج حدود القرى والمدن، وتزرع عادة بالمزروعات الواطئة، أي: "الخضر"5. وتحدد الأرضين بحدود تعين معالمها وتثبتها. ويقال للحدود "وثن" أي حد، ويجمع على "اوثين". وهناك لفظة أخرى تطلق على الحد هي "زنن". وتعني الخط الفاصل الذي يعين الحدود6. وتجمع اللفظة على "ازنن". والدبر مشارات المزرعة، أي مجاري مائها. وقيل: الدبار الكردة من

_ 1 تاج العروس "5/ 38"، "روض". 2 القاموس "2/ 355"، "حوط"، جامع الأصول "11/ 477"، تاج العروس "5/ 123". 3 جامع الأصول "11/ 229". 4 تاج العروس "3/ 150"، "حظر". 5 Rhdokanankis, Stud. Lexi., Ii, S. 8. 6 Rhodokanankis, Stud. Lexi., Ii, S. 69, 72, Glaser 1061, Hofmus. 12.

المزرعة، والدبار: الأنهار الصغار التي تنفجر في أرض الزرع1. و"الكردة"، الدبرة من المزارع، وهي المشارات أي سواقيها. وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية2. و"المشارة"3، الكردة، وهي من الألفاظ المعربة4. ويعرف حافظ الكرم والنخل والزرع بـ"الناطر" و"الناطور". ذكر علماء اللغة أن اللفظة من كلام أهل السواد، ليست بعربية محضة، ومنهم من جعلها من الألفاظ الأعجمية5. و"النطار" الخيال المنصوب بين الزرع6. وقد استغل أهل اليمن الجبال والمناطق المرتفعة. فزرعوها بمختلف المزروعات التي تلائم طبيعتها، ففي المحلات التي يكون الجو فيها باردًا في الشتاء ولطيفًا في الربيع والصيف غرست الأشجار تلائم ذلك، وزرعت في المناطق الوسط المعتدلة النباتات التي تحب هذا الجو. أما في التهائم والمناطق المنخفضة الحارة، فقد زرعت النباتات التي تحب هذا الجو، وبذلك تنوعت المزروعات، وتكاثرت ألوانها، وصار في الإمكان الحصول في موسم الشتاء على المزروعات التي تزرع في الصيف ببعض البلاد الباردة، والحصول في موسم الصيف على المزروعات التي تزرع في الشتاء. ولتحقيق غرس الجبال والمناطق المرتفعة، لا بد من تمهيدها للزرع، وذلك يجعلها مدرجات عريضة، تسند جوانبها الظاهرة بالصخور والحجارة منعًا من انهيار تربتها والمزروع فيها، ويقال لهذه المدرجات في المسند "جروب" "جرب" جمع "جربت" "جربة". وتحمي الجربة بحائط من الحجارة، وهي تعني الحجارة المقطوعة، على سبيل المجاز المرسل من باب تسمية الكل باسم الجزء علاقة7. وأهل اليمن لا يزالون يتبعون هذه الطريقة، وفي كثير من المناطق الجبلية والهضاب المهملة الآن آثار تلك المدرجات. تتحدث عن زرع يانع في الأيام

_ 1 تاج العروس "3/ 197"، "دبر". 2 تاج العروس "2/ 485"، "كرد". 3 بالفتح. 4 تاج العروس "3/ 542"، "هشر". 5 تاج العروس "3/ 572"، "نطر". 6 تاج العروس "3/ 573"، "نطر". 7 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 43, 124, Kat. Texte, Ii, S. 32.

القديمة، وهي تناجي أهل البلاد لعلهم ينتبهون إليها فيعيدون إليها الحياة، وقد كانت زراعة الكروم ولا تزال من أهم المزروعات التي تعتمد على هذه الطريقة. وهي تتحمل جوًّا باردًا بعض البرودة ومعتدلًا، ولهذا تجود بالثمر الكثير الطيب في هذه المدرجات. وقد أشار "بطلميوس"، إلى اتخاذ أهل النجود والجبال في بلاد العرب المدرجات لزرعها وتشجيرها. وأطلق على الجبال المكونة للقسم الجنوبي من "السراة" اسم "Climax Mons" ومعناه الجبال المدرجة، فترى وكأنها ذات سلالم. وهذه الطريقة شائعة في اليمن حتى اليوم، ولا سيما في جبل حضور نبي شعيب وفي الأقسام الغربية من السراة. فجبال "القليمس" "Climax Mons" التي يشير إليها "بطلميوس"، إذن هي القسم الجنوبي من السراة الممتد في اليمن وعسير1. وزرع أهل "السراة" على هذه الطريقة أيضًا، وكذلك أهل الجبال والمرتفعات، ففي استطاعة المزارع في المواضع المرتفعة الاستفادة من ماء المطر وبالتحكم فيه، وبحصره في "الركيب" أي المشارة المزروعة، أعني المزرعة التي يزرع بها، والتي قد تكون ما بين ساقيتين أو الجدول بين الدبرتين، أو المزرعة بصورة عامة. كما جاء في قول تأبط شرًّا: فيومًا على أهل المواشي وتارة ... لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل2 لقد تبين من نتائج الفحص العام الذي قام به الباحثون لمواضع من العربية الجنوبية، أن الزراعة كانت متقدمة تقدمًا كبيرًا في اليمن بالنسبة إلى بقية أنحاء جزيرة العرب، وأن العربي الجنوبي حرص حرصًا شديدًا على الاستفادة من الأمطار في إرواء أرضه، كما تبين ذلك من آثار السدود التي تلاحظ في كل واد تقريبًا. وهي سدود أقيمت لا لكي تتحكم في سير "السيول" وفي ضبطها خشية إغراق المدن والقرى والزرع فقط، بل لكي يمكن خزنها في أحواض وتوجيهها الوجهة التي يريدونها في أوقات الحاجة إليها، وذلك بواسطة أبواب

_ 1 Glaser, Skizze, Ii, S. 215, D.G. Hogarth, The Penetration Of Arabia, P.20, Forstet\R, Ii, P.270. F. 2 تاج العروس "1/ 278"، "ركب".

تفتح وتغلق حسب الحاجة، وقنوات ومجاري للماء توصل إلى مواضع الزرع والحاجة إلى الماء. وقد درس بعض الباحثين ومنهم "بوون" "R. Le Baron Bowen" حالة الإرواء والزراعة في العربية الجنوبية دراسة علمية قيمة وقدم لنا معلومات ثمينة عن هذا الموضوع، جعلتنا نأخذ فكرة عن أسلوب الزراعة والري عند العرب الجنوبيين منذ الألف الثانية قبل الميلاد إلى ما بعد الميلاد1. ودرس غيره من الباحثين بعض أساليب الزراعة واستغلال الأرض عند العرب الجنوبيين، ولا سيما القتبانيين وعند غيرهم أيضًا، وفي تقارير خبراء الزراعة والنفط والمعادن الذين سبروا أرض جزيرة العرب في مواضع مختلفة منها، بعض المعلومات المفيدة عن الزراعة وعن أمور الري عند الجاهليين. والأودية هي من أهم مناطق الزراعة في اليمن وفي العربية الجنوبية وفي بقية أنحاء جزيرة العرب، ففيها الخصب والنماء والماء، ويقال للوادي "سرن" "السر" و"سرم" "سر"، والجمع "أسرار"، في العربيات الجنوبية. "والسر" في قول علماء اللغة بطن الوادي وأطيبه، وأفضل موضع فيه، وأخصب الوادي، والذي كتم نداه ولم ييبس2. ويقال له "تخل" في اللهجة الصفوية، وقد وردت في الكتابات الصفوية أسماء جملة أودية، زرعوا بها3. ونجد أطراف الأودية وجروفها وقد ظهرت المستوطنات بها، كما ظهرت عند مصباتها، وذلك لاستفادتها من السيول التي قد تهطل فتملأ بطونها، وهي تشبه المستوطنات التي تظهر على شواطئ الأنهار، حيث تستفيد من المياه الجارية في النهر. وهي مستوطنات زراعية، جل زراعتها النخيل ثم الحبوب وبعض الأشجار المثمرة والحضر والبقول. وقد عثر على كتابات عديدة بالمسند وباللهجات العربية الأخرى، تتحدث عن حفر آبار وعن زرع وعن تملك لهذه الآبار، وأسماء تلك الأودية والمواضع التي

_ 1 The Bible And The Ancient Near East, P.317, 321, 325, R. Le Baron Bowen, Irrigation In Ancient Qataban, Archaeological Discoveries In South Arabia, P.43. 2 تاج العروس "3/ 263"، "سر". 3 Cis 269, Parsquinta, P.44, Dunand 1330 A.

حفرت بها تلك الآبار. وهي وثائق تملك، تبين حق صاحبها في تلك البئر. ونجد في كتاب صفة جزيرة العرب وصف مواضع كانت غنية بالأغيال والمآجل والعيون، وقد نبتت حولها الأشجار المثمرة والزروع، وأنواع الخضر والبقول والأزهار، مما يشير إلى ما للماء من أهمية في إحياء هذه الأرضين وفي استنباتها، فلولا الأمطار الموسمية التي غذت اليمن بالماء الذي أولد الحياة في الأرض، لكانت أهلها قفراء مثل أكثر أرجاء جزيرة العرب، ليس فيها نبت ولا زرع، يكره أهلها الزراعة ويستهجنونها، ويرون في الاشتغال بها خسة ودنية، وقد أقبل أهل هذه الأرضين التي توفرت بها مصادر الماء، على استغلالها استغلالاً طيبًا، يدل على أن العرب لو تهيأ له لهم الماء لما كرهوا الزراعة وازدروا شأن المزارعين. واليمامة من الأرضين الخصبة في جزيرة العرب، قال عنها أهل الأخبار: "وكانت أحسن بلاد الله أرضًا، وأكثرها خبرًا وشجرًا ونخيلاً من سائر الحجاز"1. وقد نعتت بـ"ريف مكة"، إذ كانت تمون مكة بالحبوب، ولولاها لما تمكنت مكة من العيش برخاء. فلما أسلم "ثمامة بن أثال بن النعمان" الحنفي سيد أهل اليمامة، أراد العمرة، فلما سمع به المشركون جاءوه، فقالوا: يا ثمامة صبوت وتركت دين آبائك! قال: لا أدري ما تقولون إلا أني أقسمت برب هذه البنية لا يصل إليكم من اليمامة شيء مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمدًا من آخركم.. وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم، فلما أضر بهم كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها، وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن خل بين قومي وبين ميرتهم"2. وبذلك استراحوا وعادت أقواتهم إليهم. ويجب أن نحمل ما جاء في الشعر من "جوع قديم" لبني حنيفة، وهم من أهل اليمامة، محمل الأقوال التي يقولها الشعراء عند استهزائهم بخصومهم، أو عند

_ 1 تاج العروس "9/ 115"، "يمم". 2 الاستيعاب "1/ 206 وما بعدها"، الإصابة "1/ 204"، رقم "961"، صحيح البخاري "كتاب الصلاة، باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير في المسجد"، صحيح مسلم "كتاب الجهاد"، زاد المسلم "2/ 278 وما بعدها".

حنقهم على قوم لم ينالوا منهم خيرًا، أو محمل العصبيات القبلية. ورد في الشعر قول أحد الشعراء: أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحم والمجاعة لم يحذروا من ربها ... سوء العواقب واتباعه وروي بهذه الصورة: أكلت ربها حنيفة من جو ... عٍِ قديم بها ومن أعواز1 وقد ذكروا أن "بني حنيفة" كانوا قد اتخذوا إلهًا من حيس، فأصابتهم سنة، فعمدوا إليه فأكلوه فعيرهم الشاعر به. والحيس في تفسير علماء اللغة: تمر يخلط بالسمن وأقط فيعجن، أو هو التمر البرني والأقط يدقان ويعجنان بالسمن عجنًا شديدًا ثم يندر منه نواه، ثم يسوى كالثريد، وهي الوطبة، وربما جعل فيه سويق أو فتيت عوض الأقط2. وذكر أن اسم اليمامة القديم هو "الجوف"، وأن الجوف المطمئن من الأرض وهو أوسع من الشعب تسيل فيه التلاع والأودية وله جرفة3. فالجوف أرض خصبة ذات مياه قد تسيل وقد تكون قريبة من سطح الأرض. ولما كانت اليمامة على هذه الصفة، لا يستبعد أن تكون قد سميت بهذه التسمية. وباليمامة أودية خصبة، صارت من أهم مواضع الخصب فيها، لوجود الماء فيها على مقربة من سطح الأرض ولوجود العيون العذبة بها، من هذه الأودية: "العرض"، والعرض الوادي يكون فيه قرى ومياه، أو كل واد فيه نخل، وقال بعضهم: كل واد فيه شجر4، ومن أعراض اليمامة، عرض شمام، وعرض حجر، فالأول يصب في "برك" وتلتقي سيولهما بـ"جو" في أًسفل "الخضرمة"، فإذا التقيا سميا "محقفًا"، وهو قاع يقطع الرمل. قال الأعشى:

_ 1 الأعلاق النفيسة "217". 2 تاج العروس "4/ 135"، "حاس". 3 تاج العروس "6/ 62"، "جوف". 4 تاج العروس "5/ 45"، "عرض".

ألم تر أن العرض أصبح بطنه ... نخيلًا وزرعًا نابتًا وفصافصا وقال المتلمس وبه لقب: وذاك أوان العرض جن ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس1 وفي الشعر المتقدم على خصب "العرض"، وكثرة زرعه ونخله، وعلى اشتغال أهله بالزراعة. وفي اليمامة مرتفع يقال له "عارض اليمامة". والعارض الجبل وقد جاء ذكره في الحديث2. وإلى ذلك أشار "عمرو بن كلثوم" بقوله: وأعرضت اليمامة واشمخرت ... كأسياف بأيدي مصلتينا3 ومن أودية اليمامة "العقيق"، وهو واد واسع مما يلي "العرمة" تتدفق فيه شعاب العارض وفيه عيون عذبة الماء4. وبه معدن. ومن مواضع اليمامة الخصيبة "قرّان"، موضع به ماء ونخيل، وهو لبني سحيم من بني حنيفة، ويذكر مع "ملهم"5. و"ملهم" موضع كثير النخل، به ماء، ويوم "ملهم" حرب نسبت لهذا المكان بين تميم وحنيفة6. وكانت في الحجاز، ولا سيما ما وقع منه شمال المدينة، عند ظهور الإسلام، مواضع كثيرة ذات عيون ومياه جارية، غرست بالنخيل، واشتغل أهلها بالزراعة. وقد كان وادي القرى كثير المياه بصورة خاصة، بالنسبة إلى باطن جزيرة العرب، وعلى مواضع المياه أقيمت مستوطنات وقرى عديدة، عاشت على النخيل والزرع وعلى القوافل التي تسلك هذا الوادي تحمل التجارات. وقد وردت أسماء مواضع عامرة آهلة بالسكان في غزوات النبي، تقع كلها في شمال "يثرب" إلى فلسطين، وبين مكة ويثرب بعض مواضع مياه، عاش سكانها على النخيل والقوافل والرعي

_ 1 تاج العروس "5/ 46"، "عرض". 2 تاج العروس "5/ 43"، "عرض". 3 تاج العروس "5/ 49"، "عرض". 4 تاج العروس "7/ 15"، "عق". 5 تاج العروس "3/ 488"، "قرر"، "9/ 309"، "قرن". 6 تاج العروس "9/ 68"، "لهم".

وبعض الزرع. وكذلك وجدت بعض مواضع مياه "مكة" والعربية الجنوبية، ومن الأماكن الخصبة "وادي الغرس"، قرب "فدك" بينها وبين "معدن النقرة"، وكانت فيه منازل بين النضير1. ومن المواضع التي استغلت في الزراعة الجرف، وهو موضع قرب المدينة على ثلاثة أميال منها، بها كانت أموال "عمر". ومنه حديث "أبي بكر" أنه مر يستعرض الناس بالجرف فجعل ينسب القبائل حتى مر ببني فزارة2. وكان "عبد الرحمن بن عوف" يزرع به على عشرين ناضحًا، فكان يدخل منه قوت أهله سنة3. أي أنه كان يسقي زرعه نضحًا. والناضح البعير أو الحمار أو الثور الذي يستقي عليه الماء، والنضيح من الحياض ما قرب من البئر حتى يكون الإفراغ فيه من الدلو، ويكون عظيمًا، وهي ناضحة وسانية4. وأرض يثرب وما تبعها من أطراف، هي من الأرضين الخصبة، وقد حفر أصحابها آبارًا بها، وسقوها منها، وغرسوا عليها النخيل وزرعوا بها. واتخذوا لهم بها "الحوائط" و"البساتين". ويظهر أن بعضها كانت واسعة تسقي بآبار غنية بالماء، لها جملة نواضح، وهي تظهر أن أهل المدينة كانوا مزارعين، وأن مزارعهم كانت تأتي عليهم بمال طيب، جعل بعضهم من الأثرياء، وقد استفيد من شراج الحرة في سقي المزارع، وكانت تستمد ماءها من الحرة، وقد كانت للزبير بن العوام مزرعة على هذه الشراج، كما كان لأنصاري مزرعة عليها كذلك، وقد ورد ذكرها في كتب الحديث بسبب اختلافهما على السقي5. وتنافي هذه الأخبار المتحدثة عن اشتغال الأنصار بالزراعة، الأخبار الأخرى، التي يرويها أهل الأخبار أيضًا، الذاكرة أن الأنصار، أهل المدينة لم يكن لهم علم بالزراعة ولم يكونوا يقبلون عليها، إقبال يهود خيبر وفدك ووادي القرى على الفلاحة. ويظهر أن رواياتهم هذه إنما نشأت من الوضع السيء الذي كان فيما بين الأوس والخزرج ومن تقاتلهم بعضهم مع بعض، على الرئاسة والزعامة، وبسبب العصبية القبلية الضيقة، فأثر كل ذلك على الزراعة في يثرب وفيما حولها

_ 1 تاج العروس "4/ 201"، "غرس". 2 تاج العروس "6/ 56"، "جرف". 3 الاستيعاب "2/ 388"، "حاشية على الإصابة". 4 تاج العروس "2/ 240"، "نضح". 5 إرشاد الساري "4/ 197 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 63"، "شرج".

فجعلها متأخرة لاعتداء كل جانب منهما على زرع خصمه، وقد ألهاهم عن الزرع. وبالمدينة وأطرافها مواضع عرف الواحد منها بـ"البقيع". والبقيع الموضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى، والمكان المتسع ولا يسمى بقيعًا إلا وفيه الشجر، ومنه "بقيع الغرقد"، وقد ورد في الحديث، وهو مقبرة مشهورة بالمدينة. سمي بالغرقد، بشجر له شوك فذهب وبقي الاسم لازمًا للموضع، وبقيع الخيل، وبقيع الخبجبة، وبقيع الزبير، وبقيع الخضمات، موضع عند خرم بني النبيت1. وبيثرب ثلاثة أودية مهمة هي: العقيق، وبطحان، وقناة2. وفي وادي العقيق عيون ونخيل، وقد ذكر في الحديث3. والأودية المذكورة من المواضع الخصبة المنبتة في هذه المنطقة، ومياهها قريبة من سطح الأرض، ومن الممكن العثور عليها بسهولة بحفر الآبار بها. ومن الأودية التي استفيد منها في الزراعة "وادي مهزور"، وقد ذكر في الحديث، ذكر أنه وادي بني قريظة، وأن الرسول قضى في سيله أن يحبس حتى يبلغ الماء كعبين. وذكر بعضهم أنه يذكر مع "مذينيب" يسيلان بماء المطر خاصة، وهو من أودية المدينة. ومن مهزور إلى مذينيب شعبة تصب فيها4. وقد كان من الممكن استصلاح الأرض المحيطة بيثرب، بحفر الآبار بها، فالماء فيها غير بعيد عن سطح الأرض، وهو عذب أو مج لكنه يصلح للشرب ولسقي الزرع. ولما نعمت يثرب بالهدوء في عهد الرسول، أقبل بعض المهاجرين على الزراعة فيها، فحفروا الآبار وزرعوا عليها، وحوطوها، وجنوا منها ثمرًا طيبًا، ولولا الفتوحات الإسلامية التي اجتلبت إليها المهاجرين والأنصار على السواء للخيرات الكثيرة التي كانت في الأرضين المفتوحة، لتحولت يثرب إلى بساتين ومزارع منتجة، تمون الأماكن البعيدة عنها بالتمور وبالفواكه والخضر. وقد زرع أصحاب الأرض بيثرب أرضهم بقولًا وحبوبًا، ومنهم من زرع تحت النخيل، ورد أن مولى من موالي "عثمان بن مظعون" كانت في يده أرض

_ 1 تاج العروس "5/ 280"، "بقع". 2 تاج العروس "2/ 125"، "بطح". 3 تاج العروس "7/ 15"، "عق". 4 تاج العروس "3/ 620"، "هزر".

لآل مظعون بالحرة، فكان يزرعها قثاءً وبقلًا1. ولما صارت أرض "بني النضير" خالصة لرسول الله، كان يزرع تحت النخل في أرضهم فيدخل من ذلك قوت أهله وأزواجه سنة، وما فضل جعله في الكراع والسلاح2. وقد كان بنو النضير قد استغلوا أرضهم، وأقاموا بها "الحوائط"، ولما أسلم "مخيريق"، وهو أحدهم، جعل للرسول ما له وهو سبعة حوائط، فجعلها الرسول صدقة2. وذكر في بعض الروايات أن "أحيحة بن الجلاح"، وكان من أصحاب الأملاك بيثرب، كانت له بساتين وأرضين يزرعها ويسقيها بالسواني فلا يعبأ بتأخر المطر وانقطاعه. ونسب بعض أهل الأخبار له هذه الأبيات: إذ جمادي منعت قطرها ... إن جناني عطن معصف معروف أسبل جباره ... أسود كالغابة مغدودف يزخر في أقطاره مغدق ... بحافتيه الشوع والغريف4 ويظهر من وجود المصطلحات الآرامية والفارسية والنبطية في لغة زراع يثرب، أنهم استعانوا في الجاهلية بالرقيق المستورد من العراق ومن بلاد الشأم في زراعة الأرض وفي إنباتها، حتى أنهم أخذوا مسمياتهم منهم، مثل "الخربز" الذي هو البطيخ في لغة أهل مكة، كانوا يسمونه "الخربز"، و"الخربز" لفظة عربية معربة، من أصل فارسي، وقد وردت في الحديث5. ونجد في مواضع من بقية جزيرة العرب مياهًا صارت مواطن لسكن، اختلفت كثافة سكانها باختلاف مقدار الماء. وهي رحمة وغوث بالنسبة للرحل ولأهل القوافل ولذلك صارت ملاذًا استليذ به في هذه البوادي البعيدة الأبعاد الجافة القاسية، وقد اضطرت القوافل إلى الاتجاه نحوها للوصول إلى أهدافها، لذلك صارت عقدًا، تجتمع في بعض منها جملة طرق برية، إذ كانت ذات مياه غزيرة وعلى مفترق طرق، تختصر الأبعاد والمسافات، وفي هذه الأماكن، ظهرت زراعة النخيل، وهي زراعة تقنع بالقليل من الماء، لامتصاصها الرطوبة من باطن الأرض وبعض.

_ 1 البلاذري، فتوح "22". 2 البلاذري، فتوح "31". 3 البلاذري، فتوح "31". 4 تاج العروس "5/ 404"، "شوع". 4 تاج العروس "4/ 33"، "الخربز".

النباتات الأخرى، التي لا تحتاج على سقي كثير، وظهرت البيوت المعدة لاستقبال التجار والمسافرين وأصحاب القوافل. وفي العربية الشرقية مواضع قرب فيها الماء العذب من وجه الأرض، أو ظهر على وجهها وفار على شكل عيون، وفي هذه المواضع صار سكن وزرع تناسبت كثافته مع كثافة الماء ومدى وصوله، حيث توقف عند ذلك المكان الذي انتهى إليه. فالماء هو الذي يحدد الزرع ويعين نوعه، وهو الذي يقرر السكن ويثبت حده. ومن هذه المواضع التي وجد فيها سكن وزع "هجر"، وقد اشتهرت بنخيلها، فقصدها الأعراب لامتيار التمر منها، حتى ضرب بها المثل في كثرة التمر، فقيل: كمبضع تمر إلى هجر. ويظهر أن مياهها كانت راكدة متجمعة، فتسببت في ظهور الأوبئة فيها. قال "عمر" "عجبت لتاجر هجر، وراكب البحر، وإنما خصها لكثرة وبائها، أي تاجرها وراكب البحر سواء في الخطر"1. والأحساء من المواضع المشهورة بالزراعة في العربية الشرقية، وقد عرفت بزراعة النخيل وبعض الأشجار والخضر، وهي لا تزال على مكانتها، فلا تزال عيون مائها تمون الناس بماء شربهم وزرعهم. و"قطر" موضع قديم يعود عهده إلى ما قبل الميلاد، وقد أشير إليه في الكتب اليونانية واللاتينية، وأسس به المبشرون كنائس، وقد ساهم أساقفته في المجامع الكنسية التي انعقدت للنظر في أمور الجدل بين المذاهب النصرانية، كما اشتهرت بثياب جيدة نسبت إليها، أشير إليها في الحديث، كما أشرت إلى ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب. و"كاظمة" اسم قديم معروف، يرد في الشعر الجاهلي وفي القصص، جو من سيف البحر من البصرة على مرحلتين. وفيه ركايا كثيرة وماؤها شروب. وقد أشير إلى قطاها في شعر لامرئ القيس2. و"المرائض" في ديار "تميم" بين "كاظمة" و"النقيرة" فيها أحساء3.

_ 1 تاج العروس "3/ 614"، "هجر". 2 تاج العروس "9/ 47"، "كظم". 3 تاج العروس "5/ 39"، "روض.

الفصل التسعون: الزرع

الفصل التسعون: الزرع مدخل ... الفصل التسعون: الزرع ولابد من حرث الأرض وتنقيتها من الشوائب الضارة بالزرع، ومن تليينها، وذلك قبل الشروع بالبذر أو بالغرس. وقد كان بعضهم يحرق الأدغال والأعشاب وما يجده على الأرض المراد زرعها من زوائد وأوساخ، وذلك للتخلص منها، وللاستفادة منها في تقوية التربة وزيادة نمائها. ثم يقومون بحراثتها فيندمج رمادها في التربة ويصير جزءًا منها. وقد يقتلون أصول الزرع السابق وما يكون قد نبت على الأرض من نبات غريب مؤذ للزرع، قبل حراثة التربة. فإذا تم ذلك، ونظفت التربة، سقوها بالماء ليكون من السهل على الأكار حرث الأرض وتعزيقها، وربما لا يسقونها، بل يحرثونها مباشرة. وذلك بالنسبة للأرضين التي تسقى بماء السماء، حيث لا يتوفر الماء الجاري، أو ماء الآبار. ومتى تمت الحراثة وقلبت التربة، تهيأت للزرع ونظمت وفقًا لنوع الزرع الذي سيكون فيها، على هيأة ألواح طويلة دقيقة، أو مربعات تتخللها السواقي والقني، أو غير ذلك، ثم يشرع بعد ذلك في الزرع والغرس. ويقوم الزارع نفسه في العادة بحرث أرضه وإصلاحها وتمهيدها للزرع. وقد يقوم بالحراثة أشخاص مقابل أجر يدفع لهم. والحرث والحراثة العمل في الأرض زرعًا كان أو غرسًا. وقد يكون الحرث نفس الزرع. وذكر أن الحرث قذفك الحب في الأرض للازدراع، والحراث الزراع1. و"الكراب" في مرادف الحراث، والكرابة الحراثة. والكراب

_ 1 تاج العروس "1/ 614"، "حرث".

والكرب إثارتك الأرض. و"الفلاح" في معنى الحراث والأكار؛ لأنه يفلح الأرض، وحرفته الفلاحة. ورد: "أحسبك من فلاحة اليمن، وهم الأكرة؛ لأنهم يفلحون الأرض يشقونها". والفلاحة الحراثة، وهي حرفة الأكار1. و"الجوار" الأكار، وقيل: هو الذي يعمل لك في كرم أو بستان2. و"الأكار" الحراث والزراع، والمؤاكرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض. وهي المخابرة. ويعد الأكار من الطبقات المحتقرة عند العرب. وفي حديث قتل أبي جهل، فلو غير أكار قتلني. أراد به احتقاره وانتقاصه، كيف مثله يقتل مثله3، فهو رجل شريف غني ثري، فكيف يقتله من هو دونه في المنزلة والمكانة، فكان يتمنى وهو مقتول، لو كان قاتله مثله في المنزلة والمكانة. وقد اشتهرت اليمن بالفلاحة، ورد: "وأحسبك من فلاحة اليمن. وهم الأكرة؛ لأنهم يفلحون الأرض، يشقونها"4. وقد بقيت شهرة أهل اليمن بالفلاحة إلى هذا اليوم، ومنهم قوم هاجروا إلى العربية السعودية للاشتغال بالفلاحة في أرضها. وأساليب الحراثة تكاد تكون واحدة عند جميع شعوب الشرق الأدنى. وبعض الأساليب بدائي جدًّا، يستعمل في حراثة الأرضين الصغيرة بصورة خاصة. فتستعمل الحجارة أو الأخشاب أو الفؤوس على اختلاف أنواعها، وبعضها متقدم نوعًا ما اعتمد على المسحاة وعلى آلات الحراثة التي تجرها الحيوانات، وتستعمل هذه الطريقة في حراثة المزارع الكبيرة، ومنها سكة الحراث حديدة الفدان التي يحرث بها الأرض. وينسب إلى الرسول قوله: ما دخلت السكة دار قوم إلا ذلوا. إشارة إلى ما يلقاه أصحاب المزارع من عسف السلطان وإيجابه عليهم بالمطالبات وما ينالهم من الذل عند تغير الأحوال بعده. وقد ذكرت السكة في ثلاثة أحاديث بثلاث معان مختلفة5. وورد في بعضها ما يفيد العكس، أي مدح

_ 1 تاج العروس "2/ 200"، "فلح". 2 تاج العروس "3/ 113"، "جار". 3 تاج العروس "3/ 17"، "أكر". 4 تاج العروس "2/ 199"، "فلح". 5 تاج العروس "7/ 143"، "سكك".

للزراعة والزراعة وحث عليها. وتشبه آلات حراثة الجاهليين الآلات التي يستعملها الفلاحون في بلاد العرب اليوم. وقد استعملوا "الفدان" في الفدن. و"الفدان" الثوران اللذان يفدن عليهما، ولا يقال للواحد فدان1. وذكر أن "الهيس" الفدان، أو أداته كلها بلهجة أهل اليمن، أو بلغة أهل عمان2. ومن الآلات التي استعملت في حراثة التربة: المحفار، وهي المسحاة وغيرها مما يحفر به3. والمخدة، حديدة تخد بها الأرض4. والمعول، لتكسير الحجارة والحفر. والمسحاة، وهي من حديد، وصانعها سحاء، وحرفته السحاية5، وهي لا تزال تستعمل في الحراثة وفي سد المياه وفتحها في السواقي لسقي المزارع والبساتين، ولقلع الأعشاب والأشجار. و"المر"، المسحاة أو مقبضها، وقيل هو الذي يعمل به في الطين6. ومن المصطلحات المستعملة في الحراثة، العزق، وهو تشقيق الأرض بفأس، والأداة المعزق والمعزقة7. والكور الحفر، ومنها كرت الأرض كورًا أي حفرتها8. والجوار الأكار، والأكار الحفار9. والتربيك في الحرث رفع الأعضاد بالمجنب10. والكرم من الأرض التي عدنوها بالمعدن حتى نقوا صخرها وحجارتها، فتركوا مزارعتها لا حجر فيها، وهي أفضل أرضهم. والأرض الكرم يحرث فيها البر، وهي سهلة لا تحتاج إلى العدن11. والمعدن الصاقور. ويقال عدنت الأرض أي أصلحتها12. وأما قولهم نخنختُ الأرضَ فبمعنى شققتها

_ 1 القاموس "4/ 255"، "فدن"، المخصص "10/ 152 وما بعدها"، تاج العروس "9/ 299"، "فدن". 2 المخصص "10/ 152"، القاموس "2/ 260"، تاج العروس "4/ 276"، "الهيس". 3 القاموس "2/ 42"، تاج العروس "3/ 151"، "حفر". 4 المخصص "10/ 47". 5 تاج العروس "10/ 170"، "سحا". 6 تاج العروس "3/ 538"، "مرر". 7 القاموس "2/ 264"، تاج العروس "7/ 12". 8 تاج العروس "3/ 531"، "كور". 9 القاموس "1/ 265، 294"، تاج العروس "3/ 113"، "جاد". 10 المخصص "10/ 148" وما بعدها"، القاموس "1/ 49". 11 المخصص "10/ 148"، تاج العروس "9/ 41 وما بعدها"، "كرم". 12 المخصص "10/ 148"، تاج العروس "9/ 247 وما بعدها"، "عدن".

للحرث. والنخة البقر العوامل1. ويقال رضت الأرض إذا أثرتها2. وأما وطدت الأرض فبمعنى ردمتها لتصلب، والميطدة خشبة يوطد بها المكان من أساس بناء وغيره ليصلب3. ويقال شحبت الأرض شحبًا وأشحبها. إذا قشرت وجهها بمسحاة وغيرها، وهي يمانية4. ويقال لكل واحد من أخاديد الأرض تلم والجمع التلام. وهو مشق الكراب في الأرض بلغة أهل اليمن5. والخرق بمعنى شق الأرض للحرث. وخضضت الأرض بمعنى قلبتها6. والحيوانات المستخدمة في الحراثة هي الثيران والحمير والخير والجمال، وذلك بحسب كثرة هذه الحيوانات وقلتها، ويستعمل في الحرث حيوان واحد حينًا وحيوانات حينًا آخر. وقد وصلت إلينا بعض النصوص الجاهلية محفورًا فيها صور حيوانات تحرث، تجر المحراث ويسوقها الفلاح. ويكون الكراب على البقر، وهو الغالب، وفي المثل: "الكراب على البقر"7. ويظهر من كتب الحديث أن اعتماد أهل الحجاز في الحراثة كان على البقر. وقد ورد في الحديث: "بينما رجل راكب على بقرة، التفتت إليه، فقالت: لم أخلق لهذا، خلقت للحراثة"8. ويظهر أنهم كانوا يستعملون الكلاب في الحراثة كذلك. ففي الحديث: "كلب حرث". وقد ورد أيضًا "كلب غنم" و"كلب ماشية"، و"كلب صيد"، و"كلب زراعة"9. ويشتغل الفلاح بعد حراثة الأرض بإصلاحها ونثر الحب فيها نثرًا متساويًا منتظمًا، ويستعمل لذلك بعض الآلات، مثل "المالق"10 و"المملقة".

_ 1 تاج العروس"2/ 282"، "نخخ". 2 تاج العروس "8/ 313"، "رضم". 3 القاموس "1/ 345 وما بعدها". 4 المخصص "10/ 148"، القاموس "1/ 85 وما بعدها". 5 المخصص "10/ 148"، القاموس "4/ 83". 6 المخصص "10/ 248". 7 المخصص "10/ 150". 8 عمدة القارئ "12/ 159 وما بعدها"، "باب استعمال البقر للحراثة". 9 عمدة القارئ "12/ 157 وما بعدها"، جامع الأصول "7/ 461 وما بعدها"، "في ذكر الكلاب واقتنائها"، إرشاد الساري "4/ 172 وما بعدها"، "باب اقتناء الكلب للحرث". 10 كهاجر.

وهي خشبة عريضة، تجرها الثيران، وقد أثقلت لتستوي السنة واللؤمة فتتلما على الحب، وتملس التربة المثارة1. و"المجز"، وهي شبحة فيها أسنان وفي طرفها نقران يكون فيهما حبلان وفي أعلى الشجة نقران فيهما عود معطوف، وفي وسطها عود يقبض عليه ثم يوثق بالثورين فتغمز الأسنان في الأرض حتى تحمل ما قد أثير من التراب حتى يأتيا به المكان المنخفض2. "والمجنب" وهي شبحة مثل المشط، إلا أنها ليست لها أسنان، وطرفها الأسفل مرهب يرفع بها التراب على الأعضاد والفلجان3. ويعبر في عربية القرآن الكريم عن طرح البذر في الأرض بلفظة "زرع" ويقال أيضًا: زرعت الشجر كما يقال زرعت البر والشعير. والزرع الإنبات. ومن هذا الأصل لفظة الزرع والزراعة4. وتثار الأرض وتقلب على الحب، لضمان طمر الحب في التربة، فلا يظهر على سطحها، فتلتقطه الطيور، ويتعرض للعوارض الجوية التي تفسده وتتلفه. ثم تسقي الأرض، ويقال للسقية الأولى العفر، ثم تسقى بعد ذلك بحسب الحاجة حتى ينمو الزرع وينضج ويجمع، فيقطع عندئذ السقي5. والحبة6، بزور البقول والرياحين، أو بزر العشب، أو جميع بزور النبات، وبزر كل ما نبت. والحبة أيضًا يابس البقل، تقول العرب: رعينا الحبة، وذلك في آخر الصيف، إذا هاجت الأرض ويبس البقل والعشب وتناثرت بزورها وورقها، فإذا رعتها النعم سمنت عليها. ويسمون الحبة بعد الاندثار: القميم والقف7. والبزر كل حب يبذر للنبات. والبزور: الحبوب الصغار، مثل بزور البقول وما أشبهها8.

_ 1 المخصص "10/ 154"، القاموس "3/ 284"، تاج العروس "7/ 73"، "ملق". 2 المخصص "10/ 154"، تاج العروس "4/ 16"، "جز". 3 المخصص "10/ 154"، تاج العروس "1/ 191"، "جنب". 4 تاج العروس "5/ 368"، "زرع". 5 تاج العروس "3/ 410"، "عفر". 6 بالكسر. 7 تاج العروس "1/ 198"، "حبب". 8 تاج العروس "3/ 40"، "بزر".

و"البذر"، ما عزل للزراعة من الحبوب. و"البذر" زرع الأرض1. وتزرع بعض الزروع على السواقي وأطراف مسايل الماء، وذلك بوضع "البذر" أو "البصل" في حفر، ثم يوضع فوقها قليل من التراب، لمن الطيور من التهامها، وللمحافظة عليها من أثر الجو فيها. وقد يزرع البزر، فإذا نبت، تقلع النبتة الواحدة، لتزرع في موضع آخر. وإذا أصاب الزرع الخصب والنماء، عبر عن ذلك بلفظة "خصب" في المسند2. اللفظة التي نستعملها نحن في الزراعة، بمعنى كثرة العشب والزرع والنماء والوفرة3. ولا بد لنمو الزرع ونضوجه من إسقاء، ويعبر عن السقي بلفظة أخرى هي "المكر". والمكر سقي الأرض. يقال أمكروا الأرض إذا سقوها4. ولتقوية الأرض وإعادة الحيوية إليها. استخدم الجاهليون التسميد. وبالسماد تعاد إلى الأرض بعض قوتها، وينمو الزرع. وقد استعملوا في ذلك جملة وسائل كما يفعل المزارعون في الزمن الحاضر الذين لا يزالون يسيرون على طريقة القدماء في التسميد، فاستعملوا فضلات الإنسان والحيوانات، كما استعملوا الزبل أيضًا. وذكر أن من أسمدتهم عذرة الناس والسرقين برماد، يسمد به النبات ليجود5. والسرجين، والسرقين، الزبل تدبل به الأرض6. والمزبلة موضع الزبل، وزبل زرعه يزبله، سمده، أي أصلحه بالزبل وكذلك الأرض7. ويقال لتسميد الأرض بالزبل "عدن الأرض" أي أصلحها بالزبل8. ويقال دبل الأرض دبولًا، بمعنى أصلحها بالسرقين ونحوه لتجود، فهي مدبولة9. ولحماية الزرع من عبث الطيور وبقية الحيوانات به، اتخذوا وسائل عديدة لحمايته. منها: اللعين. ما يتخذ في المزارع كهيأة رجل، أو الخيال تذعر به.

_ 1 تاج العروس "3/ 35"، "بذر". 2 Rep. Epigr. 4646. 3 تاج العروس "1/ 235"، "خصب". 4 تاج العروس "3/ 548"، "مكر". 5 تاج العروس "2/ 381"، "سمد". 6 تاج العروس "9/ 234"، "سرجن". 7 تاج العروس "7/ 354"، "زبل". 8 تاج العروس "9/ 274"، "عدن". 9 تاج العروس "7/ 317"، "دبل".

الطيور والسباع والوحوش1. و"الخيال"، كساء أسود ينصب على عود يخيل به للبهائم والطير فتظنه إنسانًا، وقيل خشبة توضع فيلقى عليها الثوب للغنم. إذا رآها الذئب ظنها إنسانًا. و"الخيلان"، ما ينصبه الراعي عند حظيرة غنمه. وقيل: الخيال، ما نصب في أرض ليعلم أنها حمى، فلا تقرب2.

_ 1 تاج العروس "9/ 335"، "لعن". 2 تاج العروس "7/ 315"، "خيل".

الحصاد

الحصاد: ويحصد الزرع بعد نضجه، يحصد بالمنجل. وأكثر ما يستعمل في البر والشعير ونحوهما من الزرع. والمحصد، المنجل1. والحصاد هو "فقل" في المسند2. وقد فسر بعض العلماء لفظة "خرفت" بمعنى الحصاد كذلك3. ولا يقصد بالحصاد هنا حصاد الحبوب وحدها، كالحنطة والشعير، كما نفهم من معنى اللفظة في عربيتنا، وإنما يقصد بها هذا ومعنى آخر هو جني الثمار وقطف الأعناب، عند نضوجها. ويقال لمن يحصد الحصاد بالأجرة "المحاين"، وللعمل "المحاينة"، يقال استأجره محاينة، أي على الحصاد4. وترد لفظة "افقل" من أصل "فقل" في النصوص الزراعية، وهي من الألفاظ اليمانية القديمة التي وعتها كتب اللغة، فذكرت أن "الفقل" التذرية بلغة أهل اليمن، وأن أهل اليمن يذرون بالمفقلة، وهي الحفراة ذات الأسنان، يرفعون بها الدق ثم ينثرونه ويذرونه لاستخلاص الحب منه. و"الدق" ما قد ديس ولم يذر5. و"افقل" في نصوص المسند، هي البيادر التي تتجمع من

_ 1 تاج العروس "2/ 336"، "حصد". 2 Mordtmangn Und Mittwoch, Sab. Inschr., S. 117. 3 Glaser 181, Cih 197, Rep. Epigr. 3966, Mordttmann Und Mittwoch, Sab. Inschr., S. 113. 4 تاج العروس "9/ 188"، "حين". 5 تاج العروس "8/ 65"، "فقل". Rep. Epigr., Vii, P.285, Num, 4636, Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 157.

هذه الحبوب بعد التذرية. وترد لفظة "خرف" في عربية القرآن الكريم بمعناها الوارد في نصوص المسند. فذكر علماء اللغة، أن "خرف" بمعنى صرم واجتنى، وأن الاختراف بمعنى لقط النخل بسرًا كان أو رطبًا، وأنها تعني قطف الثمر، كما وردت لفظة "المخرفة" بمعنى البستان والنخل والسكة بين صفين من النخل، يخترف المخترف من أيهما شاء، والمخترف هو القاطف للثمر، وأن "المخرف" بمعنى زنبيل صغير يخترف فيه من أطايب الرطب، أو الآلة التي تخترف فيها الثمار و"الخارف" حافظ النخل، والخراف النظار، والخرافة ما خرف من النخل1. وقد وردت لفظة "نحقل" بمعنى الناتج والمحصور. و"حقل" بمعنى الحاصل أي الحاصر الزراعي المجموع من الحقل والمزرعة، وذلك كما في هذه الجملة: "نحفل ثمنيت الفم بقلم لس". ومعناها: "الحاصل ثمانية آلاف لس من البقول". و"لس" نوع من الكيل أو الوزن، أو الكومات، أو الحزم. ويعبر عن الدراسة بلفظة "علص" في المسند. وفسر بعض علماء المسند لفظة "معلصت"، بمعنى المزرعة والحقل2. ولا استبعد كونها آلة من آلات الدراسة أيضًا. وإذا ديس الزرع قيل لذلك العمل الدق والدياس والدراس. والإكادة كالإداسة3. وأما الدقوقة، فالبقر والحمر التي تدوس الزرع لاستخراج حبه وتهشيم سيقانه4. وقد تستعمل بعض الآلات لقطع سوق الزرع وتهشيمه وتهشيم السنبل، تجرها الثيران أو الحمير، ويجلس عليها شخص ليثقلها، وهي مثل العجلة، التي تقطع الجل، يقال لها "الحيلان". وهي آلة من خشب لها محالتان كمحالة العجلة، قد أنعلتا بحديد مضرس إذا دارتا على الجل قطعتاه، فتجعلان في طرفي عارضة

_ 1 تاج العروس "6/ 81 وما بعدها"، "خرف". 2 Mordtmann Und Mittwoch, Sab. Inschr., S. 155, Nr. 84, Rw 125, Cih 197, Glaser 181. 3 "أكد الحنطة داسها ودرسها"، تاج العروس "2/ 291"، "أكد". 4 تاج العروس "6/ 346"، "دق".

ضخمة، ويقعد عليها رجل ليثقلها، ثم يجرها الثور على الجل1. وأما "المقحفة" فالخشبة المتقفعة التي يقحف بها الحب، أي يذرى2. وبعد الدياسة والدراسة يذرى الطعام لفصل الحب عن التبن. ويستعملون في ذلك آلات التذرية، وهي آلات يدوية ما زال الفلاحون يستعملونها كما كانت قبل آلاف السنين، تتألف من مقبض طويل وأصابع في رأسه يذرى بها الهشيم في الهواء، ليحمل الهواء التبن، وهو خفيف الوزن إلى مكان والحب إلى مكان آخر. وقد ذكر العلماء جملة أسماء لآلة التذرية، منها "المذرى" و"المذرة"3 و"المروح" و"المرواح" و"المثار"4 و"الحفراة"، وهي "الرفش" أيضًا5. ويتولى الفلاحون دوس الحاصل بأنفسهم، لهشم السيقان والحصول على التبن والحب. يستعملون في ذلك أرجلهم وآلات الدياسة. أما إذا كان الحاصل كبيرًا، فيستعملون عندئذ الحيوان يمشي عليه، أو يجر آلات الدياسة الثقيلة لهشم السيقان وفصل الحب عنها. ومن عادات أهل اليمن في الدرس والدياسة التناوب، وذلك بأن يجتمعوا مرة عند هذا ومرة عند هذا، فيتعاونوا على الدياس، ويسمون ذلك "القاه". وذلك كالطاعة له عليهم؛ لأنه تناوب قد ألزموه على أنفسهم، فهو واجب لبعضهم على بعض. وقد وصف أحد أهل اليمن ذلك للرسول بقوله: "أنا أهل قاه، فإذا كان قاه أحدنا دعا من يعينه، فعملوا له، فأطعمهم وسقاهم من شراب يقال له المزر"6. وكان أهل "الجوخان" يتناوبون ويتعاونون على الدياس، يجتمعون مرة عند هذا ومرة عند هذا، يرون التعاون فيما بينهم لزامًا عليهم، وكالطاعة لهم، ونوبة كل رجل قاهة7.

_ 1 المخصص "11/ 55". 2 تاج العروس "6/ 216"، "قحف". 3 المخصص "11/ 55"، تاج العروس "3/ 224"، "ذر". 4 المخصص "11/ 55". 5 تاج العروس "3/ 152"، "حفر". 6 تاج العروس "9/ 407"، "القاه"، المخصص "11/ 55". 7 تاج العروس "9/ 407".

ويجمع الفلاحون الحاصل ثم يقسمونه بحسب الإنفاق، إن كان هناك فلاح ورب أرض، ليأخذ كل واحد منهما نصيبه، أو يوزع حسب نصيب كل من الشركاء، إن كان الزرع شركة. أو يسلم إلى صاحب الزرع، إن كان الزرع زرعه، وكان الفلاحون عبيدًا له. ويخزن الحاصل في مخازن مبنية، وفي بيادر وبيدر الطعام كومه. والبيدر الموضع الذي يداس فيه الطعام، والمكان الذي يجمع الطعام فيه. وهو "الأندر"، و"الكدس"1. و"الأندر"، كدس القمح خاصة2. والكدس: الحب المحصود المجموع وهو العرمة من الطعام والتمر والدراهم ونحو ذلك، مما يكدس بعضه فوق بعض3. وذكر علماء اللغة أن "الجرين" للحب، والبيدر للتمر. وذكروا أيضًا أن الجرين موضع البر، بلغة أهل اليمن، وأن "الجرد" الطحن شديدًا بلغة هذيل4. وينقل الطعام بأوعية إلى المخازن، ومنها نوع يقال له "العيبة"، وهو زنبيل من أدم، ينقل فيه الزرع المحصود إلى "الجرن" في لغة همدان5. وهناك أسماء أوعية أخرى استعملت في نقل الحاصل من أرض الحصاد وكوم التذرية إلى المخازن. ويعبر عن حمل الزرع بعد الحصاد إلى البيدر بلفظة "رفع" كأن يقال: رفع الزرع"، و"الرفاع" اكتناز الزرع ورفعه بعد الحصاد6. وأما "الغبوط" فالقبضات المصرومة من الزرع. و"الغبوط" هي القبضات التي إذا حصد البر وضع قبضة قبضة، الواحد غبط7. وأما "المكتل"، فزنبيل يحمل فيه التمر أو العنب إلى "الجرين"، وقيل هو شبه الزنبيل يسع خمسة عشرة صاعًا. وفي حديث خيبر: فخرجوا بمساحيهم ومكاتلهم8. وكان "عمال خيبر" قد خرجوا بمساحيهم

_ 1 تاج العروس "3/ 35"، "بدر". 2 تاج العروس "3/ 560"، "ندر". 3 تاج العروس "3/ 230"، "كدس". 4 تاج العروس "9/ 160"، "جرن". 5 تاج العروس "1/ 402"، "عاب". 6 تاج العروس "5/ 358"، "رفع". 7 تاج العروس "5/ 190"، "غبط". 8 تاج العروس "8/ 94"، "كتل".

ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم والجيش، قالوا: محمد والخميس معه، فأدبروا هرابًا"1. و"الحنوان"، هما الخشبتان اللتان عليهما الشبكة ينقل عليها البر2. و"الوشيجة"، ليف يفتل ثم يشبك بين خشبتين ينقل بها البر المحصود3. ويعبر عن جمع المحصولات في مواضع معينة لتحسينها، أو لخزنها، أو لتجفيفها وللمحافظة عليها بجملة ألفاظ، منها: "الكدس"، ويراد بها الحب المحصود المجموع، وهو العرمة من الطعام والتمر والدراهم ونحو ذلك4. ومنها "المربد"، والمربد كل شيء حبست به الإبل والغنم. ولهذا قيل مربد النعم الذي بالمدينة. وهو أيضًا الجرين الذي يوضع فيه التمر بعد الجداد لييبس، وهو "الأندر" بلغة أهل الشأم، والبيدر بلغة أهل العراق5. وأما "المسطح" فمكان مستو يبسط عليه التمر ويجفف، ويسمى "الجرين" يمانية6. وأما "الصبرة"، فما جمع من الطعام بلا كيل ووزن بعضه فوق بعض. يقال اشتريت الشيء صبرة، أي بلا وزن ولا كيل، والصبرة الكدس7. وللمحافظة على الحبوب وغيرها من التلف، اتخذت مخازن تحت الأرض تحفظ فيها سميت "مدفنن" "المدفن" في المسند8. ولا تزال هذه الطريقة معروفة في مواضع من جزيرة العرب حيث يخزنون القمح وسائر الحبوب في حفر تحفر في الأرض. ويعرف "المدفن" بـ"قنت"، أي الحفرة في لغة المسند كذلك. وهي مخزن يخزن فيه الحب. وذكر "الهمداني"، أن أهل اليمن كانوا في أيامه يحفرون حفرًا في الأرض ويدفنون الذرة فيها، ويسع المدفن خمسة آلاف قفيز إلى ما هو أقل. ويسد عليه، ويبقى على ذلك مدة طويلة. فإذا كشف المدفن ترك

_ 1 سيرة ابن هشام "2/ 236 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف". 2 المخصص "11/ 55". 3 المخصص "11/ 55"، تاج العروس "2/ 111"، "وشج". 4 تاج العروس "4/ 230"، "كدس". 5 تاج العروس "2/ 349"، "ربد". 6 تاج العروس "2/ 163"، "سطح". 7 تاج العروس "3/ 234"، "صبر". 8 Rhodokanakis, Stud. Lexl., Ii, S. 73.

أيامًا حتى يبرد ويسكن بخاره، ولو دخله داخل عند كشفه لتلف بحرارته1. ويعبر عن قطف الثمار وجزها، ولا سيما النخل بلفظة "الصرام"، و"صرم" و"اصطرام"2. و"اصطرام" النخل اجترامه. وجرم النخل جرمًا، خرصه وجزه، والجرام صرام النخل3. وتؤدي لفظة "الجداد" معنى "الصرام" كذلك، وقيل: الجداد بمعنى الحصاد والقطاف4.

_ 1 الصفة "108". 2 تاج العروس "8/ 365"، "صرم"، جامع الأصول "11/ 477". 3 تاج العروس "8/ 224"، "جرم". 4 تاج العروس "2/ 313"، "جدد".

الفصل الحادي والتسعون: المحاصيل الزراعية

الفصل الحادي والتسعون: المحاصيل الزراعية الحبوب: يطلق علماء اللغة على الحنطة والشعير لفظة: "الحب"1. وهما عماد الخبز في جزيرة العرب حتى الآن. وتقابل اللفظة كلمة "ميرس" في المسند. والحنطة من أهم المواد الضرورية التي يتاجر بها، وهي "بر" في المسند2. والبر3، الحنطة في لغة القرآن الكريم كذلك. وهي "قمح" أيضًا. وقد تكلم بها أهل الحجاز، ووردت في الحديث. وذكر أنها شامية وقيل قبطية4. وهي آرامية الأصل، من "قمحو" "Gamho"5. وهي غذاء الطبقة المترفة والموسرة في الأكثر لغلاء ثمنها بالنسبة إلى الفقراء. وقد تباهى الناس وافتخروا بتقديمهم "البر" إلى الضيوف6. و"الحنطة" من الألفاظ التي كانت شائعة عند العرب أيضًا، فهي

_ 1 تاج العروس "1/ 198"، "حبب". 2 راجع السطر: "97"، من النص الموسوم بـ: Cih 241, Glaser 618. 3 بالضم. 4 تاج العروس "2/ 208"، "قمح". 5 غرائب اللغة "202". 6 قال المتنخل "الهذلي: لا در دري أن أطعمت نازلكم قرف الحتى وعندي البر مكنوز تاج العروس "3/ 38"، "بر".

"حطاه" "خطاه" "Chittah" في العبرانية مثلًا1. وقد قيل لها "بر" في العبرانية كذلك2. ويقال للحنطة: "البيضاء"، وهي "السمراء" أيضًا3. و"البثنية"، الحنطة الجيدة4. وذكر "ابن المجاور" اسم موضع يقال له "بحرى"، ذكر أنه اشتهر بزرع الحنطة، وأن سكانه يزرعون الحنطة مرتين في السنة، في كل ستة أشهر مرة5. واشتهرت "الطائف" بزراعة نوع من الحنطة الجيدة6. وأشير إلى نوع من الحنطة عرف بـ"المهرية"، قيل إنها حنطة حمراء، وكذلك سفاها، وهي عظيمة السنبل غليظة القصب مربعة7. والشعير، أرخص من الحنطة، ولذلك كثر استعماله في الأكل، فمنه كان خبز أكثر الناس8. ولا زال خبز أهل القرى وبعض الأعراب، وقد كان يهود المدينة يتاجرون به وبدقيق الشعير: يبيعونه في مواطنهم، وفي الأسواق ولا سيما سوق "بني قينقاع". وقد استدان الرسول من أحد اليهود صاعين من دقيق الشعير. ويقال للطحين في كتابات المسند "دققم" أي "دقيق"9. ويصنع بطرق مختلفة، أشهرها "الرحى"، التي تدار باليد، والتي يديرها الحيوان، والتي تدار بالقوى المائية. و"الطحانة" التي تدور بالماء10. ومع أن معظم الأسر تصنع الطحين في بيوتها، فإن كثيرًا من الناس يشترون الطحين من الأسواق، ويستوردونه من الخارج من بلاد الشأم في الغالب، ويبيعونه في الأسواق المحلية ويقال للدقيق "طحنم" في لغة المسند كذلك، أي "طحين"11.

_ 1 Hastings, P.972, The Bible Dictionary, Ii, P.549. 2 Encyclopaedia Biblica, By Cheyne, Vol., Ii, P.908. 3 تاج العروس "5/ 10"، "بيض". 4 تاج العروس "9/ 135"، "بثن". 5 ابن المجاور "1/ 26". 6 ابن المجاور "1/ 25". 7 تاج العروس "3/ 551". "مهر". 8 البخاري "5/ 47". 9 راجع السطر الـ"120" من النص الموسوم بـ: Cih 241, Glaser 618. 10 تاج العروس "9/ 268"، "طحن". 11 Handbuch, I, S. 137.

ويظهر أن "الرز" لم يكن من الحبوب المعروفة عند أهل الحجاز، أو الأماكن الأخرى من جزيرة العرب. وهو من طعام الحضر. وقد تعود الناس استعمال حبوب أخرى بدلًا من الحنطة والشعير والذرة، وذلك في سي الفاقة والعوز. وبعض هذه الحبوب هو من الحبوب التي تنبت بالطبيعة. ومن جملة هذه الحبوب "الطهف"، حب يؤكل في المجهدة ضاو دقيق. لونه أحمر، ويختبز1. و"العلس"، وهو حبة سوداء، إذا أجدبوا طحنوها وأكلوها. وقيل هو ضرب من الحنطة، يكون بناحية اليمن، وقيل هو طعام أهل صنعاء. ويقال إنه العدس2. و"البيقية"، وهو حب أخضر يؤكل مخبوزًا ومطبوخًا، حبه أكبر من الجلبان ينبت في الحروث3. و"السلت"، وهو حب بين الشعير والبر، إذا نقي انجرد قشره، فكان مثل البر. وقيل شعير لا قشر له أجرد، كأنه الحنطة يكون بالغور والحجاز4. ويقال للرطب من السلت: "البيضاء"5. وقد عرفت زراعة الذرة باليمن بصورة خاصة، كانوا يخبزونها ويستخرجون منها شرابًا يقال له: "المزر". أشير إليه في كتب الحديث والفقه، وقد نهى الرسول عن شربه6. وذكر أن المزر نبيذ الذرة والشعير والحنطة والحبوب، وقيل نبيذ الذرة خاصة، وقيل المزر من الذرة، والبتع نبيذ العسل، والجعة نبيذ الشعير، والسكر من التمر، والخمر من العنب7.

_ 1 تاج العروس "6/ 186"، "أطهف". 2 تاج العروس "4/ 195"، "علس"، المخصص "11/ 64". 3 تاج العروس "6/ 302"، "بيقية". 4 تاج العروس "1/ 554"، "سلت". 5 تاج العروس "5/ 10"، "بيض". 6 الإصابة "1/ 137"، "رقم 567"، "أوس بن بشير". 7 تاج العروس "3/ 541"، "مزر".

القطنية

القطنية: ويطلق علماء اللغة على حبوب الأرض التي تدخر كالحمص والعدس والباقلاء والترمس والدخن والأرز والجلبان: "القطنية"، وأطلقها بعض آخر على ما سوى

الحنطة والشعير والزبيب والتمر، أو على الحبوب التي تطبخ. وجعلها بعضهم: العدس والخلر، وهو الماش، والفول، والدجر، وهو اللوبياء، والحمص وما شاكلها. وقد ذكر أن الخليفة "عمر" كان يأخذ من القطنية العشر1. و"الحمص" معروف عند العرب، وهو بري، أي وحشي، ينبت من نفسه، وبستاني، أي ينبت بزرع الإنسان. وقد علفوا به فحول الدواب والجمال. وقد عالجوا به وبدقيقه وبنقيعه أمراضًا عديدة2. و"العدس"، معروف عندهم أيضًا، ويقال له "العلس"، و"البلس" أيضًا3. وذكر أن "العلس"، ضرب من البر جيد، تكون حبتان منه في قشر، يكون بناحية اليمن. وهو طعام معروف عند أهل صنعاء4. والجلبان من "القطنية" "القطاني"، نبت يشبه الماش، أو هو حب أغبر أكدر على لون الماش إلا أنه أشد كدرة وأعظم جرمًا يطبخ5. و"الماش"، معروف عند العرب كذلك، يأكله الحضر. ويداوون به6. وقد أشير في القرآن الكريم إلى البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل7. ولفظة "بقلن"، و"بقلت"، الواردة في نصوص المسند، هي في مرادف "بقل"، و"البقل" في عربيتنا، وأما لفظة "تبقلت"، فتقابل لفظة "تبقيل"، ويراد بها زرع الأرض بالبقول. والسلق من البقول، وهو نبت، له أوراق طوال، وأصل ذاهب في الأرض، يطبخ ورقه، وقد ذكر أن أهل المدينة كانوا يأخذون ورق السلق، فيجعلون فيه حبات من شعير، ويطبخونه، فيكون من ذلك أكل لذيذ8. و"القثاء"، الخيار، ويقال إنه اسم جنس لما يقول له الناس الخيار، والعجور والفقوس، وبعض الناس يطلقه على نوع يشبه الخيار. ويقال هو أخف

_ 1 تاج العروس "9/ 311 وما بعدها"، "قطن"، اللسان "13/ 344". 2 تاج العروس "4/ 383"، "حمص". 3 تاج العروس "4/ 186"، "عدس". 4 تاج العروس "4/ 195"، "علس". 5 تاج العروس "1/ 186"، "جلب". 6 تاج العروس "4/ 352"، "ماش". 7 البقرة 22، الآية 61. 8 عمدة القارئ "12/ 182"، صحيح البخاري "2/ 109"، تاج العروس "6/ 382"، "سلق".

من الخيار1. ويطلق العرب لفظة "الشعارير" على القثاء الصغير2. وذكر بعض علماء اللغة أن الخيار شبه القثاء، وأن اللفظة ليست بعربية أصيلة3. وهي من أصل فارسي، هو "خيار"، ولهم نوع آخر من الخيار اسمه "خيار جنبر"4. وأما لفظه "القثاء"، من المعربات كذلك، عربت من أصل آرامي5. و"القثد" نبت يشبه القثاء، وقيل ضرب منه، وهو القثاء المدور، أو هو الخيار. وفي الحديث أنه كان يأكل القثد بالمجاج6. والمجاج العسل. ويقال للقثاء "قشّايم" "قشّائيم" "Kishshu.htm'im" في العبرانية، و"قثوتو"، في لغة بني إرم. ويظهر أن لفظة "قثّاء" من الألفاظ القديمة. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها من الألفاظ الإرمية في الأصل7. أما لفظة "خيار" فيرون أنها من أصل فارسي8. وذكر علماء اللغة أن "الفقوس"، هو البطيخ الشامي، والذي يقال له البطيخ الهندي، بلغة أهل مصر، والحبحب بلغة أهل اليمن9. وقد اختلف علماء التفسير واللغة في معنى "الفوم"، فذهب بعضهم إلى أنه الثوم، وقال بعض آخر الحنطة، وهو لغة قديمة فيها. وذهب بعض آخر، إلى أنه الحنطة وسائر الحبوب التي تخبز، كما ذهب جماعة إلى أن الفومة هي كل عقدة من بصلة أو ثومة أو لقمة عظيمة10. والثوم، بقلة معروفة كثيرة بأرض العرب، يأكلونها ويداوون بها نيئة ومعجونة، ومسحوقة، ومطبوخة، ومسلوقة11. والبصل معروف وواحدته بصلة. وذكر أنه "الفراريس"، أو "الفراديس"12. وهم يداوون به، ويضرب به المثل، فيقال: أكسى من البصل13.

_ 1 تاج العروس "1/ 100"، "أقثأ". 2 تاج العروس "3/ 304"، "شعر". 3 تاج العروس "3/ 195"، "خير". 4 غرائب اللغة "226". 5 غرائب اللغة "200". 6 تاج العروس "2/ 459"، "قثد". 7 Encyclopaedia Biblica, By Cheyne, Vol., I, 965, Hastings, P.271, Hastings, A Dictionary, Vol., I, P.531. 8 غرائب اللغة العربية "ص226". 9 تاج العروس "4/ 209"، "فقس". 10 تاج العروس "9/ 15"، "فوم". 11 تاج العروس "8/ 220"، "الثوم". 12 تاج العروس "9/ 15"، "فوم". 13 تاج العروس "7/ 228"، "بصل".

الكمأ

الكمأ: والكمأ نبات معروف في جزيرة العرب، يخرج من غير زرع كما يخرج الفطر. والعرب تسميه "جدري الأرض"، ويقال لبائعه "الكمّاء". وقد استعمل العرب ماءه لشفاء العين. وقد أشير إليه في الحديث، وهو من النبات الذي يقتات به في أوقات ظهوره1. والكمأة السوداء خيار الكمأة. وأما "الجبأة"، فالكمأة الحمراء، وقال بعض علماء اللغة الجبأة هنة بيضاء كأنها كمأة2. وأما "الفطر"، فهو ضرب من الكمأة. وقد ذكر علماء اللغة أنه قتال3. وقد أخذو هذه الفكرة من وجود فصائل سامة منه. إلا أن بينه ما هو غير سام. وذكر علماء اللغة أسماء أنواع عديدة لنباتات تشاكل الكمأة، منها: العرجون، والطرثوث، نبت رملي طويل مستدق كالفطر، يضرب إلى الحمرة وييبس، يؤكل منه حلز، وهو الأحمر، ومنه مر وهو الأبيض، وذكر بعض علماء اللغة أن الطرثوث نبت على طول الذراع، لا ورق له، كأنه من جنس الكمأة4 و"الطرنوث" و"الضغبوس"5. وذكر بعض علماء اللغة، أن "الضغابيس" صغار القثاء، جمع ضغبوس. وقيل: هي أغصان شبه العراجين تنبت بالغور، في أصول الثمام والشوك طوال حمر، وهي التي تؤكل، أو نبات كالهليون، ينبت في أصل الثمام يسلق بالخل والزيت ويؤكل6. وهناك بقول برية، منها "القلقلان"، و"البسباس"7، و"الذرق"8، و"النفل"9، و"الملاح"10.

_ 1 تاج العروس "1/ 112"، "كمأ"، المخصص "12/ 2 وما بعدها". 2 تاج العروس "1/ 50"، "جبأ". 3 تاج العروس "3/ 470"، "فطر". 4 تاج العروس "1/ 631"، "طرثوث". 5 المخصص "12/ 2 وما بعدها". 6 تاج العروس "4/ 176"، "الضغابيس". 7 تاج العروس "4/ 109"، "بس". 8 تاج العروس "6/ 351"، "ذرق". 9 تاج العروس "1/ 141"، "نفل". 10 تاج العروس "2/ 229"، "ملح".

فصيلة اليقطين

فصيلة اليقطين: و"اليقطين" في تعريف علماء العربية: ما لا ساق له من النبات ونحوه، أو كل شيء ذهب بسطًا في الأرض، نحو القرع، والبطيخ، والشريان، والدباء، والحنظل، ونحوها1. فكل هذا النبات هو من اليقطين. واليقطين، مذكور في القرآن الكريم2. وقد ذهب بعض علماء التفسير إلى أن المراد من اليقطين في القرآن الكريم، القرع، وذهب بعض آخر، إلى أنه الدباء، وذهب بعض آخر إلى أنه البطيخ. وذهب قوم إلى أن اليقطين شجرة غير ذات أصل من الدباء ونحوه أو غيره. وقد ذكروا أن أمية بن أبي الصلت أشار إلى قصة "يونس"، وكيف أن الله أنبت عليه شجرة من يقطين، أظلته وعاش عليها، وذلك قبل الإسلام، إذ قال: فأنبت يقطينًا عليه برحمة ... من الله لولا الله ألفي ضاحيا3 وذكر أن "القرع"، حمل اليقطين، وكان النبي يحبه. وأكثر ما تسميه "الدباء"، وقل من يستعمل القرع4. والبطيخ من المزروعات المعروفة في بلاد العرب5. وعرف أيضًا بـ"الخربز". وهي لفظة معربة من أصل فارسي هو "خربوزة"6. وقد وردت لفظة "الخربز".

_ 1 تاج العروس "9/ 311"، "قطن". 2 الصافات، 37، الآية 146. 3 تفسير الطبري "23/ 64 وما بعدها". 4 تاج العروس "5/ 462"، "قرع". 5 القاموس "1/ 257، تاج العروس "2/ 253"، "البطيخ". 6 القاموس "2/ 125"، تاج العروس "4/ 33"، "الخربز".

في الحديث، مما يدل على أنها كانت معروفة في الجاهلية. والظاهر أنها وردت من العراق بواسطة التجار العرب أو التجار الفرس الذين كانوا يتاجرون مع الحجاز، أو بواسطة الرقيق المستورد من هناك، والذي استخدم في الزراعة في هذه الديار. وذكر علماء اللغة أن "الحبحبة" البطيخ المعروف بالبطيخ الشامي، الذي يسميه أهل العراق: "الرقي" والفرس تسميه: "الهندي" لما أن أهل العراق يأتيهم من جهة "الرقة"، والفرس من جهة الهند، وأن أصل منشئه من هناك، وذكر بعض علماء اللغة أنه يسمى "الجوح"، ويسميه المغاربة: "الدلاع"1. والحنظل، معروف جدًّا عند العرب، وهم يداوون به، ويعالجون به أمراضًا كثيرة، ولا زال الأعراب يقيمون له وزنًا كبيرًا في طبهم. ويأكلون حبه أيضًا.

_ 1 تاج العروس "1/ 199"، "حبب"، "2/ 134"، "جوح".

النبات الشائك

النبات الشائك: ومن فصائل النبات عند العرب، النبات الشائك، أي ذو الشوك. وهو كل نبات به شوك، وأرض شاكة كثيرة الشوك. وشجرة مشوكة كثيرة الشوك، وأرض مشوكة فيها السحاء والقتاد والهراس، وذلك؛ لأن هذا كله شاك. والسحاء، نبت شائك، له زهرة حمراء في بياض تسمى "البهرمة"، يرعاه النحل عسله غاية1. و"القتاد"، شجر صلب له شوكة كالإبر. وجناه كجناة السمر، ينبت بنجد وتهامة. قال بعض علماء اللغة، إنه من العضاه، وهو ضربان. فأما القتاد الضخام، فإنه يخرج له خشب عظام، وشوكة حجناء قصيرة. وأما القتاد الآخر، فإنه ينبت صعدًا لا ينفرش منه شيء. وهو قضبان مجتمعة، كل قضيب منها ملآن ما بين أعلاه وأسفله شوكًا. وفي المثل: من دون ذلك خرط القتاد. وقد ذكر أن الإبل لا تأكل القتاد إلا في عام جدب، فيجيء الرجل ويضرم فيه النار حتى يحرق شوكه ثم يرعيه إبله، ويسمى ذلك التقتيد. والتقتيد هو أن تقطع القتاد، فتحرقه، أي شوكه، فتعلفه الإبل، فتسمن عليه، وذلك عند الجدب2.

_ 1 تاج العروس "10/ 171"، "سحا". 2 تاج العروس "2/ 458"، "قتد".

و"الهراس"، شجر شائك، شوكه كأنه حسك، ثمره كالنبق، قال بعض علماء اللغة: أنه شجر، وقال بعض آخر أنه بقل، أو شوك من أحرار البقول1. و"الحسك"، نبات له ثمرة خشنة تعلق ثمرته بصوف الغنم ووبر الإبل في مراتعها، وعند ورقه شوك ملزز صلب ذو ثلاث شعب، لا يكاد أحد يمشي في أرض حسكة، إلا أحد في رجليه حذاء2. و"النفل"، نبت من أحرار البقول، ومن سطاحه، ينبت متسطحًا وله حسك، قيل: هو قت البر، تأكله الإبل والخيل وتسمن عليه3. والعوسج، شجر من شجر الشوك، له ثمر أحمر مدور، كأنه خرز العقيق. وقيل: هو شجر كثير الشوك، وهو ضروب، منه ما يثمر ثمرًا أحمر يقال له المقنع فيه حموضة. والعوسج المحض، يقصر أنبوبه ويصلب عوده ولا يعظم شجره، فذلك قلب العوسج، وهو أعتقه4. وذكر أن "المصعة" ثمرة العوسج وحمله، وهو قدر الحمصة حلو طيب يؤكل، أحمر، ومنه قولهم: هو أحمر كالمصعة، ومنه أسود لا يؤكل على أردأ العوسج وأخبثه شوكًا5.

_ 1 تاج العروس "4/ 272"، "هرس". 2 تاج العروس "7/ 119 وما بعدها"، "حسك". 3 تاج العروس "8/ 141، "نفل". 4 تاج العروس "2/ 74"، "عسج". 5 تاج العروس "5/ 512"، مصع".

الفصل الثاني والتسعون: الشجر

الفصل الثاني والتسعون: الشجر مدخل ... الفصل الثاني والتسعون: الشجر الشجر في تعريف علماء اللغة: ما قام من النبات على ساق، أو ما سما بنفسه دق أو جل، قاوم الشتاء، أو عجز عنه1. وتطلق اللفظة على كل الشجر، مهما كان أصله، شجر زرعه إنسان بغرس، أو بحب. أو شجر أنبتته الطبيعة. شجر الحضر، أي الشجر الذي يعيش بين أهل المدر، وشجر وحشي، نبت على الجبال أو في البوادي، دون أن تتعهده يد إنسان. والشجر: شجر مثمر، وشجر غير مثمر. ثم هو أهلي، أي من غرس وزرع الإنسان، وبري أي من إنبات وغرس الطبيعة. والعادة أن ثمر الشجر الأهلي أطيب وألذ من ثمر الشجر البري، لاعتناء الإنسان به ورعايته له. ويستعمل الشجر الذي لا ثمر له، حطبًا أو في أعمال البناء إن كان ذا خشب جيد، وفي أعمال أخرى. وفي جبال "السراة" أنواع من أشجار الجبال. ومن الأشجار المثمرة النخيل وسائر أشجار الفواكه. وقد وجد النخل في كل مكان من جزيرة العرب فيه ماء ولو كان قليلًا. وهو شجر صبور، يصبر على العطش طويلاً، ومن أجل ذلك صار مثل الجمل رمزًا للصحراء. ولم ينفر العربي من زراعة النخيل نفوره من زراعة أشجار الفواكه والخضر بوجه خاص. وقد تخصص بزراعة النخل المستقرون بالطبع.

_ 1 تاج العروس "3/ 291"، "شجر".

أما الأعراب، فإنهم لاضطرارهم إلى التنقل من مكان إلى مكان، ولعدم استقرارهم في موضع واحد استقرار أهل الحضر، لم يكن ميسورًا لهم غرسه. ثم إنهم كانوا يزدرون الزراعة بجميع أنواعها، وفي ضمنها زراعة النخيل، وأية زراعة أخرى بلا استثناء. والنخل، هو شجر التمر، وهو "ن خ ل" "نخل" في المسند كذلك1. وقد صورت النخلة ونحتت على بعض الصخور وعلى كثير من نصوص المسند، وجعلت رمزًا للشمس. وكان السومريون يجعلونها رمزًا للشمس كذلك2. والظاهر أن تحمل النخلة لحر الشمس، ووجودها في مناطق دافئة، ومنظر رأسها الذي هو على شكل كرة مكونة من السعف، الذي يشبه خيوط أشعة الشمس، حمل الناس على تصور قيام صلة لها بالشمس، فجعلوها رمزًا لها وعلامة عليها. وتعني لفظة "انخل" "أنخل"، "النخيل" وبساتين النخيل ومزارعها2. ومن "نخل" أخذت لفظة "منخل" بمعنى مزرع النخيل، أي الموضع المزروع نخلاً. وقد عني العرب الجنوبيون بزراعة النخيل، وكونوا بساتين واسعة منها, وكانت "نجران" من أهم المناطق المشهورة بزراعة النخيل4. وإذا استقام فسيل النخل وثبت في الأرض، صبر على العطش، وتحمل السكوت عن طلب الماء، أمدًا طويلًا، لاعتماده على رطوبة الأرض ولامتصاص جذوره للمياه الجوفية. ويقال للنخلة التي لا تحتاج إلى سقي: "الغامرة"5. وقد ورد عن الرسول قوله: "خير المال سكة مأبورة"، قيل أراد النخل المصطف، والسكة أيضًا: السنة وهي الحديدة التي يشق بها الفدان الأرض، ويقال لها أيضًا المان6. وقد اعتبر العرب النخل من الشجر المبارك الذي بورك فيه لما فيه من فوائد.

_ 1 Rw 155, Bu Jemen 1907, 286, C 1514, Burchard 4, Mordtmann Und Mittwoch, Sab, Inschr., S. 234. 2 Carl Rathjens, Sabaeica. S. 140. 3 Rep. Epigr. 4626, Vii, Ii, P.278. 4 Wissmann – Hofner, S. 9. 5 تاج العروس "3/ 148"، "غمر". 6 الروض الأنف "2/ 207".

والنخيل، هي مثل الجمال ثورة ورأس مال تدر على صاحبه ربحًا وافرًا، ومن كان له نخل وافر كان غنيًّا ثريًّا. وقد ربح أصحاب النخيل أرباحًا طائلة من اشتغالهم بزراعة النخيل. فالتمر هو مادة ضرورية يعيش عليها أكثر العرب ويتأدمون بها. يأكلونه بدلًا من اللحم. وكان الأعراب يأتون أهل الريف، بما عندهم من وبر ومن حاصل البوادي، ليبادلوه بالتمر وبالدقيق وبما يحتاجون إليه في حياتهم البدوية من حاجات ضرورية. فكسب أصحاب النخيل أرباحًا طيبة من بيعهم التمور. ولا يوجد مكان في جزيرة العرب فيه ماء، إلا والنخلة هي سيدة المزروعات فيه، بل تكاد تكون النبات المتفرد بالزرع في أكثر الأمكنة، لا يزاحمها نبات آخر من النبات. ويقال للنخل المرتفع طولًا مجنون1، وهو نخل يقل تمره، وتقل فائدته لذلك وإذا غرس النخل سطرًا على جدول أو غير جدول، قيل: "نخل ركيب"2. و"الجباب" تلقيح النخل. وزمن الجباب زمن التلقيح للنخل، و"الأبر" تلقيح النخل أيضًا3. وكانوا يلقحون النخلة بدس شمراخ الفحال في وعاء الطلع4. ويؤكل التمر رطبًا، ويؤكل يابسًا جافًّا. ويقال لنضيج البسر قبل أن يتمر "رطبًا" وواحدته "رطبة"5. وإذا كان التمر يابسًا قيل له "القسب6. ويستعمل "القسب" بعد انتهاء موسم التمر وذهابه، وهو أكثر تمر الأعراب، لسهولة المحافظة عليه من التلف ومن الفساد وتغير الطعم. وقد لجأ الجاهليون إلى طريقة كبس التمر، للمحافظة عليه زمنًا طويلًا، ولسهولة نقله والاتجار به من مكان إلى مكان. ومن طرقهم في ذلك، أنهم كانوا ينزعون نواة التمر، ثم يكنزونه في قرب وظروف من الخوص، ويقولون

_ 1 تاج العروس "9/ 166"، "جنن". 2 تاج العروس "1/ 179"، "كب". 3 تاج العروس "1/ 171"، "جب". 4 تاج العروس "2/ 217"، "لقح". 5 تاج العروس "1/ 271"، "رطب". 6 تاج العروس "1/ 438". "قسب".

لذلك التقليف، والقلف التمر الذي نزع نواه وكنز في القرب وظروف الخوص1. ولا تزال طريقة التقليف معروفة، ويقال لما يخصف من التمر في "الخصاف"، تمر مخصوف2، وللتمر المكبوس في الخصافة مع ظرفه "الخصافة"، أما القربة التي يكبس في داخلها التمر، فيقال لها مع تمرها المكبوس بها "الكيشة" في لغة أهل العراق في الوقت الحاضر، و"تمر كيشة"، هو التمر الذي يستخرج من "الكيشة". وقد يحفظ التمر في "القراب"، وعاء شبه جراب من أدم: "وفي كتابه لوائل بن حجر: لكل عشرة من السرايا ما يحمل القراب من التمر"3. ويكنز التمر في وعاء من خوص يقال له: "جلة" و"الجلة"4، وهو "القفعة"، ويسمى بالعراق "القفة"، و"جلة التمر" في لغة أهل اليمن5. وللنخل فوائد كثيرة جعلها بعضهم نحوًا من "360" فائدة، مثل استعمال سعفه وخوصه وجذوعه وليفه في حاجات الإنسان، حيث يصنع منها مختلف الأشياء، ويباع بعضها في الأسواق، فتكون دخلًا لأصحابها. وصارت منها صناعة تعيش عليها أناس، ولا زالت الصناعات المستندة على استغلال النخلة وأجزائها وسعفها باقية، وإن أخذت في الأفول والاندثار، بسبب منافسة الجديد للقديم، وانصراف الناس عن الوسائل البدائية القديمة إلى الجديد المريح الرخيص. والنخل في كل موضع من جزيرة العرب فيه ماء. وهو أنواع وفصائل كثيرة. وقد اشتهرت "هجر" بكثرة تمرها. وبزيادته عن حاجة أهلها، فكان الأعراب يأتونها للامتيار، ولشراء التمر منها. وفيها ضرب المثل: كمبضع تمر إلى هجر، و"كجالب التمر إلى هجر". وكانت تصدره إلى البوادي وإلى اليمامة، حين يقل تمرها. وقد عرفت بكثرة وبائها. قال "عمر": "عجبت لتاجر هجر وراكب البحر"، كأنه أراد لكثرة وبائها وخطر البحر، فتاجرها وراكب البحر في الخطر سواء6.

_ 1 تاج العروس "6/ 127"، "قلف". 2 تاج العروس "6/ 88"، "خصف". 3 تاج العروس "1/ 423"، "قرب". 4 اللسان "13/ 156"، "جلل"، تاج العروس "7/ 260"، "جلل". 5 تاج العروس "5/ 478"، "قفع". 6 تاج العروس "3/ 614"، "هجر".

واشتهرت خيبر بكثرة تمورها كذلك، حتى ضرب بها المثل في كثرته كما ضرب المثل بكثرة تمر هجر، قال "حسان بن ثابت": فأنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمرًا إلى أهل خيبرا وقال "خارجة بن ضرار المري": فإنك واستبضاعك الشعر نحونا ... كمستبضع تمرًا إلى أهل خيبرا1 ولا تزال أرض خيبر تحتضن النخيل وتتعهدها بالعناية والرعاية، وقد وصف "فلبي" موضعها في الوقت الحاضر، وذكر أن الذي يعتني بالنخيل، هم قوم من "العبيد"، يقومون بفلاحة الأرض وبالعناية بالشجر، مقابل الحصول على نصف الحاصل، فإذا حل موسم القطاف، أخذت الحكومة حصتها قبل اقتسام الحاصل، ثم قسم الباقي بين الأعراب الذين يدعون ملكية الأرض وبين العبيد الذين يسهرون طيلة أيام السنة على رعاية الشجر وعلى الزرع، والمفروض أن تكون القسمة قسمة عادلة، قسمة مناصفة، غير أن الأعراب يشتطون في القسمة فيأخذون لهم أكثر مما يأخذ العبيد2. وينطبق هذا الوصف على حالة قسمة الحاصل في المواضع الأخرى من جزيرة العرب في الجاهلية، ولا سيما في العربية الجنوبية. فقد كان جباة الحكومة أول من يأخذ حصة الحكومة، أو حصة الحاكم المهيمن على المكان، ثم يأتي دور صاحب الأرض، الذي يحاول الاستئثار بالحاصل حتى لا يترك للفلاح الذي يفلح ويتعب ويكد إلا أقل ما يمكن إعطاؤه له. وبأرض خيبر جملة عيون ومسايل ماء، لا زال الناس يزرعون عليها. وتوجد آثار نقوش وكتابات تشير إلى سكن كان بهذا الموضع يعود إلى أيام الجاهلية. وقد عثر "فلبي" على نقود قديمة، ومن الممكن استصلاح أرض خيبر وتحويلها إلى أرض زراعية منتجة. و"تيماء" من المناطق الخصبة كذلك. وتشاهد آثارها ظاهرة للعيان. وقد حصل المنقبون على مجموعات أثرية منها، في جملتها قطع من النقود تعود إلى

_ 1 تاج العروس "5/ 278"، "بضع". 2 عبد الله فلبي، أرض الأنبياء "ص38".

القرن الأخير قبل الميلاد1. وهناك آثار آبار ومسايل ماء تدل على أن الأرض كانت مخصبة مزروعة، ومن أشهر آبارها بئر "خداج"2. يستقي منها الأعراب ويزرعون عليها في الوقت الحاضر3. وقد وجد "فلبي" صورًا وصخورًا منحوتة تمثل رأس الإله "صلم" إله ثمود وإله هذه المنطقة، وأمامها أرض ممهدة كانت موضع تقديم القرابين لذلك الإله4. وقد وجد "فلبي" وغيره من السياح ممن زار هذه الأرضين الواقعة شمال "يثرب"، آثار مستوطنات جاهلية كثيرة وآثار قنوات وآبار ومسايل مياه، تدل على أنها كانت عامرة مزروعة، وأن في الإمكان إحياءها، وأن آفة اندثارها هو كثرة الغزو الذي وقع عليها وعدم وجود حكومات تدافع عنها وتحميها من غزو الأعراب، الذين كانوا وباءً بالنسبة للحضر، ينهبون ما يجدونه أمامهم ويحرقون الزرع ثم يهربون. وعرفت اليمامة بتمورها أيضًا، وهو أنواع عديدة، وكان الأعراب يأتونها لشراء التمر منها، وقد عرف الذين يردون اليمامة لامتيار التمر بـ"السواقط"، و"السقاط" ما يحملونه من تمر5. وعرفت يثرب وما حولها وما وقع أعلاها إلى بلاد الشأم بكثرة نخلها، وهو نخل زرع سككًا في بساتين على طريقة الأنباط في أمصارهم، لا يخافون عليها كيد كائد. تتخلله السواني والسواقي لتسقيه، فيثرب حوائط وآطام، عاش أهلها على الزرع والغرس والجلاد6. وقد أشير إلى كثرة نخل يثرب في شعر ينسب إلى الشاعر "امرئ القيس"، فنعتها بـ"جنة يثرب": علون بأنطاكية فوق عقمة ... كجرمة نخل أو كجنة يثرب7

_ 1 أرض الأنبياء "111". 2 أرض الأنبياء "115". 3 أرض الأنبياء "116". 4 المصدر نفسه "ص121". 5 تاج العروس "5/ 156"، "سقط". 6 الروض الأنف "2/ 207"، تاج العروس "5/ 123"، "حوط"، جامع الأصول "11/ 177". 7 تاج العروس "8/ 224"، "جرم".

وقد افتخر "كعب بن مالك" يوم الخندق على قريش بأن قومه غرسوا النخل حدائق تسقى بالنضح من آبار ثقبت من عهد "عاد" أي من آبار قديمة جدًّا، فهي تسقي النخيل المغروسة عليها، ولهم رواكد فيها "الغاب" و"البردي" يزخر فيها نهر "المرار"، ولهم الزرع الذي يتباهى بسنبله الجميل، لا سيما إذا أصابته أشعة الشمس، لم يجعلوا تجارتهم اشتراء الحمير لأرض دوس أو مراد، بل أثاروا الأرض وحرثوها وغرسوها على نحو ما تفعل النبط في أمصارها، لا يخافون عليها كيد كائد، دلالة على عز أهل يثرب ومنعتهم وأنهم لم يغلبوا على بلادهم من قديم الدهر كما أجليت أكثر الأعاريب عن محالها وأزعجها الخوف عن موطنها1. ومن أنواع التمور: "الصرفان"2، و"البرني"، تمر أصفر مدور، من أجود التمور. وقيل: ضرب من التمر أحمر مشرب بصفرة كثير اللحاء عذب الحلاوة3. و"التعضوض" ضرب من التمر، والعمر نخل السكر، وهو معروف عند أهل البحرين4. و"البحون"، ضرب من التمر5، والصفرى، وقد نعت بأنه سيد التمور، ثم "السرى"، ثم "اللصف"، ثم "الفحاحيل"، ثم "المجتنى"، ثم "الجعادى"، ثم "الشماريخ"، ثم "المشمرخ"، ثم "البياض"، ثم "السواد" وهما ألوان كثيرة6.

_ 1 سيرة ابن هشام "2/ 207 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف" الروض الأنف "2/ 207". 2 تاج العروس "6/ 164"، "صرف". 3 تاج العروس "9/ 137"، "برن". 4 تاج العروس "3/ 420"، "عمر". 5 اللسان "16/ 190 وما بعدها"، "بحن"، تاج العروس "9/ 135"، "البحون". 6 الصفة "161".

أجناس عديدة، بعض أصيل أي من نابت جزيرة العرب ومن تربتها، وبعض مستورد استورد من بلاد الشأم بصورة خاصة ومن أماكن أخرى، فغرس في بلاد العرب ونبت نباتًا حسنًا، وأجاد إجادة طيبة، جعل زراع الكروم يكثرونه من زراعته. والعنب، هو "عنبم"، أي "عنب" في لغة المسند كذلك1. وإذا يبس العنب دعي "زبيبًا". ويعرف الزبيب بـ"فصمم"، أي "فصم" "فصيم" في اللهجة الحميرية. وقد وردت هذه اللفظة في نص أبرهة، بمناسبة توزيع أبرهة الزبيب على العمال الذين ساهموا في بناء سد مأرب2. وقد كان أهل اليمن كما يظهر من نصوص المسند يكثرون من زراعة الأعناب ويربحون من زراعتها كثيرًا، بدليل ورود كثير من النصوص الزراعية، وفيها: أن أصحابها قد غرسوا أعنابًا في المناطق الفلانية والفلانية، أو ورثوا المزرعة الفلانية وفيها أعناب كثيرة وبدليل حفر صور أغصان العنب وعناقيد العنب في الأحجار وإبرازها على الألواح المصنوعة من الجبس، أو حفرها على الأخشاب للزينة والزخرفة، وتفننهم في ذلك، حتى صارت هذه الزخرفة من مميزات الفن اليماني. وما كانوا يفعلون ذلك لو لم يكن للأعناب وجود في اليمن، ولو لم تكن زراعته منتشرة كثيرًا في تلك البلاد. ومن أنواع العنب: العنب "الجرشي"، وهو عنب طيب، يقول علماء اللغة: هو أطيب العنب كله، وهو أبيض إلى الخضرة، رقيق صغير الحبة، وهو أسرع العنب إدراكًا، عناقيده طويلة، ينسب إلى جرش، مخلاف باليمن3. والعنب "الكلافي"، وهو نوع من أنواع أعناب أرض العرب، وهو عنب أبيض فيه خضرة، وزبيبة أدهم أكلف، ولذلك سمي: الكلافي. وقيل: هو منسوب إلى الكلاف بلد بشق اليمن4. والعنب التربي نسبة إلى "تربة"، والعنب التبوكي نسبة إلى تبوك. و"الرمادي"، ضرب من العنب بالطائف أسود

_ 1 Halevy 360, 362. 2 راجع السطر 128 من نص أبرهة، جواد علي، مجلة المجمع العلمي العراقي، الجزء الأول من المجلد الرابع "ص218". 3 تاج العروس "4/ 287 وما بعدها"، "جرش". 4 تاج العروس "6/ 238"، "كلف".

أغبر1. و"الغربيب"، ضرب من العنب بالطائف شديد السواد، وهو من أجود العنب وأرقه وأشده سوادًا2. و"الحمنان"، عنب طائفي، أسود إلى الحمرة صغير الحب3. والدوالي نوع من الكروم4. و"العنجد"، الزبيب، أو ضرب منه، أو الأسود منه، أو الرديء منه5. و"الفرصد"، عجم العنب، أو عجم الزبيب6. وقد اشتهرت قرية "ثافت" باليمن بكثرة كرومها، ويقال لها "أثافت" و"أثافة" أيضًا. وقد عرفت بخمرها المصنوع من هذه الكروم. وكان الأعشى كثيرًا ما يتجر فيها، وكان له معصار للخمر يعصر فيها ما جزل له أهل أثافت من أعنابهم7. ويقال "الأكار" لمن يشتغل في بستان عنب. ويقال للأكار "الجوار"8. والأكار الزراع والحراث9. والتين هو من الأشجار المعروفة في الحجاز وفي اليمن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد أشير إليه في القرآن الكريم10. وهو كثير في أرض العرب، وأجناسه كثيرة، برية، وريفية، وسهلية، وجبلية. ويكون أخضر اللون، أو أصفر، وأحمر وأسود. وهو كثير بالسراة مباح، يؤكل رطبًا ويزبب ويدخر11. وذكر بعض علماء اللغة أنه "البلس"، وقال بعض آخر: البلس: ثمر كالتين يكثر باليمن، وقيل هو التين نفسه إذا أدرك12. ومنه "الطبار"، قيل هو تين كبير من أكبر أنواع التين، كميت أنى تشقق، وإذا أكل قشر لغلظ لحائه،

_ 1 المخصص "11/ 22". 2 تاج العروس "1/ 410"، "غرب". 3 تاج العروس "9/ 183"، "الحمن". 4 اللسان "11/ 254". 5 تاج العروس "2/ 433"، "عنجد". 6 تاج العروس "1/ 451"، "الفرصد". 7 تاج العروس "1/ 534"، "أثث". 8 تاج العروس "3/ 113"، "جار". 9 تاج العروس "3/ 17"، "أكر". 10 سورة التين. 11 تاج العروس "9/ 154"، "تين". 12 تاج العروس "4/ 111"، "بلس".

فيخرج أبيضن ويزبب. وذكر بعض علماء اللغة، أنه من شجر الضرف، وهو على صورة التين، إلا أنه أدق1. و"الضرف"، شجر التين، يقال لثمره البلس. أو هو من شجر يشبه الأتأب في عظمه وورقه، إلا أن سوقه غبر مثل سوق التين، وله تين. وقيل: له جني أبيض مدور مفلطح كتين الحماط الصغار، مر يضرس يأكله الناس والطير والقرود2. والرمان من الفواكه المعروفة في الحجاز وفي اليمن، وقد ذكر في القرآن الكريم3. ومنه أنواع برية، ذكر بعض علماء اللغة منها "المظ". وهو ينبت في جبال السراة، وفي بقية الجبال. وذكر بعض آخر، أنه شجر الرمان4. و"الجشب" قشور الرمان عند أهل اليمن5. والتفاح بأرض العرب كثير6. والموز معروف عندهم، ولا سيما في العربية الجنوبية وفي التهائم7. و"الخوخ" معروف عند العرب8. ويقال له "الفرسك"9. و"الفرصاد"، التوت أو حمله أو أحمره. و"التوت" من الألفاظ المعربة10. ويربون على ورقه ديدان الحرير. و"الزيتون"، شجر معروف في بلاد العرب، استخرجوا منه زيت الزيتون. وقد ذكر في القرآن الكريم11. و"السدر"، من الأشجار المعروفة في كل مكان من جزيرة العرب. ورد ذكره في القرآن. واستعمل ورقه في مقام الصابون، كما استفيد من ثمره ومن أغصانه وأخشابه. وهو يتحمل الصبر على العطش لعمق جذوره في باطن الأرض. وبذلك لاءم جو جزيرة العرب هذا النوع من الشجر، وما زال الناس يزرعونه في كثير من المواضع. وقد استعمل مظلة يجلسون تحتها في أيام الحر الشديد ومجلسًا

_ 1 تاج العروس "3/ 355"، "طبر". 2 تاج العروس "6/ 171"، "الضرافة". 3 سورة الأنعام، الآية 99، 141. 4 تاج العروس "5/ 264"، "مظظ". 5 المخصص "11/ 140"، تاج العروس "1/ 183"، "خشب". 6 تاج العروس "2/ 128"، "التفاح". 7 تاج العروس "4/ 83"، "موز". 8 تاج العروس "2/ 256"، "الخوخة". 9 تاج العروس "7/ 168"، "الفرسك". 10 تاج العروس "2/ 451"، "الفرصد". 11 سورة التين.

يجلسون فيه لتمضية الوقت والتسلي والترويح عن النفس. والسدر من العضاه، هو لونان، فمنه عبري ومنه ضال. فأما العبري، فما لا شوك فيه إلا ما لا يضير. وأما الضال، فذو شوك. وذكر أهل الأخبار: أن أجود نبق يعلم بأرض العرب. نبق هجر. وهو أشد نبق حلاوة وأطيبه رائحة يفوح فم آكله وثياب ملابسه كما يفوح العطر1.

_ 1 تاج العروس "3/ 261"، "سدر".

الجوز

الجوز: والجوز معروف بأرض العرب، ويربى باليمن. وبالسروات شجر جوز لا يربى، وخشبه موصوف بالصلابة والقوة، وينبت الجوز في الجبال والمرتفعات. وقد أشير إلى صلابة وقوة خشب الجوز في شعر للأعشى. وقد زعم أن سفينة "نوح" كانت من خشب الجوز1. والجوز نوعان: جوز يربى، أي يزرعه الإنسان بنفسه ويرعاه، وجوز وحشي، نبت على الطبيعة، دون أن تزرعه يد إنسان. وهو أنواع عديدة، لها أسماء ترد في كتب اللغة.

_ 1 قال الجعدي: كأن مقط شرا سيفه ... إلى طرف القنب فالمنقب لطحن بترس شديد الصفا ... ق من خشب الجوز لم يثقب وقال في وصف سفينة نوح: يرفع بالقر والحديد من الجوز طوالاً جذوعها عمما تاج العروس "4/ 20"، "جوز".

اللوز

اللوز: واللوز ثمر معروف في بلاد العرب، ومن أسمائه القمروص. وهو على نوعين: حلو ومر. وقد استعملا في المعالجة: في معالجة أمراض عديدة، من باطنية وجلدية. واستعمل الحلو منه في الطعام، وفي الحشو. والثمر الملوز، هو الثمر المحشو به. وبذلك أن ينزع منه نواه، ويحشى فيه اللوز1. واللوز، صنف من المزج، والمزج ما لم يوصل إلى أكله إلا بكسر، وقيل هو ما دق من المزج. أو المر من اللوز2.

_ 1 تاج العروس "4/ 79"، "اللوز". 2 تاج العروس "2/ 100"، "مزج" "4/ 79"، "اللوز".

الثمر

الثمر: والثمر، حمل الشجر1. وهو "ثمر" في نصوص المسند كذلك، ويجمع عندهم على "أثمر"، أي "أثمار". و"الفاكهة" الثمر كله2. وفي القرآن الكريم: "وفاكهة وأبًّا". قال العلماء الأب الكلأ، وما تأكله الأنعام، والمرعى كله. والفاكهة ما أكله الناس. فالأب من المرعى للدواب كالفاكهة للإنسان3. ويحتاج الشجر المثمر إلى رعاية وعناية وحماية من أذى الطبيعة ومن أذى الإنسان والحيوان فعلى صاحبه حمايته من الشمس المحرقة، ومن البرد الشديد ومن الأهوية والعواصف، ومن الحشرات التي قد تصيبه فتأتي عليه، ومن الأمراض والآفات الزراعية، ومن تطاول إنسان غريب عنه عليه، بقطعه أو بسرقة ثمره، ثم حمايته من أذى الحيوان، بأكله أو بأكل ورقه أو ثمره، وكسر أغصانه، وأمثال ذلك مما يلحقه من أذى بالشجر وبثمره. ولحماية الشجر، أحاطوا الأرض المشجرة بحائط مرتفع قدر الإمكان، ليمنع الإنسان أو الحيوان من دخولها، ومن الاعتداء على شجرها أو ثمرها، ويقال لها "الحائط"، و"الحائط" البستان. وقد أطلقت اللفظة على البستان من النخل في الغالب وكانت "يثرب"، ذات "حوائط". وقد أشير إليها في الحديث: ورد: "على أهل الحوائط حفظها بالنهار. يعني البساتين"4. وقد عني أهل الجاهلية بتحسين وبتنويع وبتطعيم أشجارهم المثمرة، وكان منهم مثل أهل الطائف واليمن من استورد الشجر المثمر الجيد من الخارج. من بلاد الشأم ومن أفريقية والهند ومن المواضع التي اشتهرت بصنف جيد من أصناف الشجر من جزيرة العرب، وبذلك نوعوا ثمرهم وحسنوا أصناف شجرهم، ويظهر أثر

_ 1 تاج العروس "3/ 77"، "ثمر". 2 تاج العروس "9/ 402". "فكه". 3 تاج العروس "1/ 142"، "أب". 4 تاج العروس "5/ 123"، "حوط".

استيراد الشجر من خارج جزيرة العرب، من الأسماء الأعجمية التي عرفت بها في الجاهلية، والتي تتحدث عن المكان الذي استوردت منه. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من الأشجار نبتت ونمت نموًّا طبيعيًّا، منها ما نبت على الجبال والمرتفعات، ومنها ما نبت في البوادي وفي التهائم. فهي من الأشجار الوحشية التي لم تزرعها يد إنسان. بعض منها مثمر، يستفاد من ثمره، وبعض منها مثمر، غير أنه لا يمكن الاستفادة من ثمره، ولا ينتفع به إنسان أو حيوان. وبعض منه عقيم، غير مثمر. ومن الأشجار المعروفة: التين الوحشي، أو التين البري. ويكثر وجوده في الجبال والمرتفعات. وقد عرفت جبال السراة بكثرة وجود هذا التين بها، والزيتون الوحشي "العتم". ذكر علماء اللغة أن "العتم" شجر الزيتون البري، وقيل هو ما ينبت منه في الجبال، ويوجد شجر يشبهه ينبت بالسراة1. ويستخرج الأهلون اليوم منه دهنًا قائم السواد يسمى "القطران"، لطلاء الأبواب والنوافذ في أرض "شمران" المحاذية للسراة في المملكة العربية السعودية2. واتخذت منه الأسوكة. ورد: الأسوكة ثلاثة: أراك، فإن لم يكن فعتم أو بطم3. والحماط، شجر شبيه بالتين، خشبه وجناه وريحه، إلا أن جناه هو أصغر وأشد حمرة من التين، ومنابته في أجواف الجبال، وقد يستوقد بحطبه ويتخذ خشبه لما ينتفع به الناس، ويبنون عليه البيوت والخيام. وقيل هو في مثل نبات التين، غير أنه أصغر ورقًا وله تين كثير صغار من كل لون أسود وأملح وأصفر، وهو شديد الحلاوة، ويحرق الفم إذا كان رطبًا، فإذا جف ذهب ذلك عنه، وهو يدخر، وله إذا جف متانة وعلوكة، وهو أحب شجر إلى الحيات، تألفه كثيرًا، ولذلك قيل: شيطان حماط، وهو شجر التين الجبلي، أو هو الأسود الصغير المستدير منه، أو هو شجر "الجميز"4. و"الجميز" التين الذكر، يكون بالغور، وهو حلو، وهو الأصفر منه والأسود يدمي الفم5.

_ 1 تاج العروس "8/ 388"، "عتم". 2 جريدة البلاد السعودية "العدد 164، السنة الأولى، 12 أغسطس 1959". "الزراعة ومشاكلها في شمران". 3 تاج العروس "8/ 388"، "عتم". 4 تاج العروس "5/ 121"، "حمط". 5 تاج العروس "4/ 18"، "جمز"، عرام "415".

والتألب، وينبت بجبال اليمن، وله عناقيد كعناقيد البطم، فإذا أدرك وجف اعتصر للمصابيح، وهو أجود لها من الزيت. وتقع السرفة في التألبة فتعريها من ورقها. ويتخذ من عيدان التألب القسي1. و"الألب" شجرة شاكة كالاترج، ومنابتها ذرى الجبال، وهي سم، يؤخذ خضبها وأطراف أفنانها فيدق رطبًا ويقشب به اللحم ويطرح للسباع كلها، فلا يلبثها إذا أكلته، فإن هي شمته ولم تأكله عميت عنه2. و"الشوحط"، ضرب من شجر الجبال، تتخذ منه القسي. ويكثر وجوده في جبال السراة، فإنها هي التي تنبته. وله ثمرة مثل العنبة الطويلة، إلا أن طرفها أدق، وهي لينة تؤكل3. و"النبع"، شجر من أشجار الجبال، أصفر العود رزينه ثقيله في اليد، وإذا تقادم أحمر، تتخذ منه القسي، وكل القسي إذا ضمت إلى قوس النبع كرمتها قوس النبع؛ لأنها أجمع القسي للأرز واللين، ولا يكون العود كريمًا، حتى يكون كذلك، أي شديدًا لينًا. وتتخذ السهام من أغصانه. وله ذكر في شعر الشعراء الجاهليين4. ومن أشجار الجبال: "الرنف"، و"الحثيل"، و"البان"، و"الظيان"، و"الرنف"، شجر ينضم ورقه إلى قضبانه إذا جاء الليل وينتشر بالنهار. وفي مقتل "تأبط شرًّا"، أن الذي رماه لاذ منه برنفة، فلم يزل "تأبط شرًّا" يجدمها بالسيف حتى وصل إليه فقتله، ثم مات من رميته5. و"الحثيل" شجر جبلي يشبه الشوحط، ينبت مع النبع وأشباهه6. و"البان"، شجر، ولحب ثمره دهن طيب. وتعالج بحبه جملة أمراض جلدية وداخلية. وهو يطول

_ 1 المخصص "11/ 142"، عرام "407، رقم 10". 2 تاج العروس "1/ 149"، "ألب". 3 قال الأعشى: وجيادا كأنها قضب الشو ... حط يحملن شكة الأبطال تاج العروس "5/ 165"، "شحط"، عرام، أسماء جبال تهامة "ص396"، 4 تاج العروس "5/ 518"، "نبع". 5 تاج العروس "6/ 122"، "أرنف"، عرام، أسماء جبال تهامة "ص396". 6 قال أوس بن حجر: تعلمها في غيلها وهي حظوة ... بواد به نبع طوال وحثيل تاج العروس "7/ 273"، "حثل".

باستواء مثل نبات الأثل، وورقه له هدب كهدب الأثل، وليس لخشبه صلابة، وعدة بعض العلماء من العضاه، وله ثمرة تشبه قرون اللوبياء، إلا أن خضرتها شديدة. فهو من النبات الذي تطبب به1. و"الظيان"، ياسمين البر، وهو نبت يشبه النسرين، وضرب من اللبلاب. وقد دبغ بورقه، ويلتف بعضه على بعض2. وهو على هذا التعريف، ليس من الأشجار التي تعطي الخشب. وبعض ما ذكرته ينبت في الهضاب والأودية3. وذكر أن للظيان، ساق غليظة، وهو شاك، ويحتطب. وله سنفة كسنفة العشرق. والسنفة: ما تدلى من الثمر وخرج عن أغصانه. والعشرق: ورق يشبه الحندقوقا منتنة الرائحة4. والقرظ، شجر عظام لها سوق غلاظ، أمثال شجر الجوز وورقه أصغر من ورق التفاح، وله حب يوضع في الموازين. وهو ينبت في القيعان، واحدته قرظة. ويستعمل حبه للتداوي. ويدبغ به، ويستخرج صبغ منه، يصبغ به الأديم. والقرظ من أشهر مواد الدباغة وصبغ الجلود عند الجاهليين5. و"الضهياء"، وهو شجر يشبه العناب تأكله الإبل والغنم6. و"العرعر" شجر يعمل به القطران، وهو شجر عظيم جبلي لا يزال أخضر، يسميه البعض "السرو"، وقيل: الساسم، وقيل الشيزى، وله ثمر أمثال النبق، يبدو خضر، ثم يبيض، ثم يسود حتى يكون كالحمم، ويحلو فيؤكل واحدته عرعرة7. و"البشام"، شجر عطر الرائحة طيب الطعم، يدق ورقه ويخلط بالحناء يسود الشعر وقيل: هو شجر ذو ساق وأفنان وورق صغار، أكبر من ورق الصعتر، ولا ثمر له، وإذا قطعت ورقته أو قصف غصنه هريق منه لبن

_ 1 تاج العروس "9/ 147"، "البون". 2 تاج العروس "9/ 273"، "ظن"، "10/ 233"، "ظني". 3 قال أوس بن حجر: بواد به نبع طوال وحثيل ... وبان وظيان ورنف وشوحط ألف اثيث ناعم متغيل "أنف" تاج العروس "6/ 122"، "أرنف". 4 عرام، أسماء جبال تهامة "399". 5 تاج العروس "5/ 258"، "قرظ"، عرام، أسماء جبال تهامة "396". 6 عرام "396، 403، 411"، تاج العروس "10/ 222"، "ضهي". 7 تاج العروس "3/ 292"، "عرر".

أبيض. قيل: ويستاك بقضبه. وفي حديث "عتبة بن غزوان"، ما لنا طعام إلا ورق البشام1. و"الدلب"، شجر "الصنار"، معرب "جنار" الفارسية، واحدته "دلبة"، شجر عظيم، ورقه يشبه الخروع إلا أنه أصغر منه، ومذاقه مر عصف، وله نوار صغار، يتخذ منه النواقيس، تقول العرب: هو من أهل الدربة بمعالجة الدلبة، أي هو نصراني2. و"التنضب"، شجر ضخام ليس له ورق، وهو يسوق ويخرج له خشب ضخام وأفنان كثيرة، وإنما ورقه قضبان تأكله الإبل والغنم. وقال بعض العلماء: التنضب شجر له شوك قصار، وليس من شجر الشواهق، تألفه الحرابى. وذكر بعض آخر، أن التنضبة شجرة ضخمة يقطع منها العمد للأخبية، وتتخذ منها السهام. وذكر بعض آخر: التنضب شجر حجازي، وليس بنجد منه شيء إلا جزعة واحدة بطرف "ذقان" عند التقيدة، وهو ينبت ضخمًا على هيئة السرح، وعيدانه بيض ضخمة، وهو محتظر وورقه منقبض ولا تراه إلا كأنه يابس مغبر وإن كان نابتًا. وشوكه كشوك العوسج، وله جني مثل العنب الصغار يؤكل. وهو أحيمر. ودخان التنضب أبيض مثل لون الغبار، ولذلك شبهت الشعراء الغبار به. وقد قطعت منه العصي الجياد3. وذكر أن للتنضب ثمرًا يقال له "الهمقع" يشبه المشمش يؤكل طيبًا4. والأيدع، شجر يشبه الدلب، إلا أن أغصانه أشد تقاربًا من أغصان الدلب، له وردة حمراء، وليس له ثمر، نهى الرسول عن كسر شيء من أغصانه وعن السدر والتنضب والشبهان؛ لأن هؤلاء جميعًا ذوات ظلال يسكن الناس فيها من البرد والحر5.

_ 1 تاج العروس "8/ 203"، "بشم". 2 تاج "1/ 247"، "دلب". 3 قال عقيل بن علقمة المري: وهل أشهدن خيلاً كأن غبارها ... بأسفل علكد دواخن تنضب وقال النابغة الجعدي: كأن الدخان الذي غادرت ... ضحيا دواخن من تنضب تاج العروس "1/ 489"، "نضب". 4 عرام "40"، تاج العروس "5/ 561"، "همقع". 5 عرام، أسماء جبال تهامة "400".

والشبهان والشبه، نبت كالسمر شائك له ورد لطيف أحمر، وحب كالشهدانج يشرب للدواء، وترياق لنهش الهوام، نافع للسعال، ويفتت الحصى ويعقل البطن. وذكر أنه شجر من العضاه1. فهو من النباتات التي تطبب بها. و"السرح" شجر كبير عظيم طويل لا يرعى وإنما يستظل فيه وينبت بنجد في السهل والغائط، ولا ينبت في السهل والغلظ، ولا ينبت في رمل ولا جبل، ولا يأكله المال إلا قليلًا. له ثمر أصفر، أو هو كل شجر لا شوك فيه، وقد ورد ذكره في الشعر الجاهلي2. و"السلم"، شجر من العضاه، وورقه القرظ الذي يدبغ به الأديم. وهو سلب العيدان طولًا شبه القضبان، وليس له خشب، وإن عظم، وله شوك دقاق طوال حاد، وله برمة صفراء فيها حبة خضراء طيبة الريح وفيها شيء من مرارة، وتجد بها الظباء وجدًا شديدًا3. والسماق في جملة الشجر الذي ينبت في جزيرة العرب، ذكر بعض العلماء أنه يسمى "الظمخ" في الحجاز، و"العرتن" في نجد. وهو من شجر القفاف والجبال. وله ثمر حامض عناقيد فيها حب صغار، وهو من النبات الذي يداوى به، في جملة أمراض4 وورد أن "الظمخ"، هو شجر السماق، ويقال فيه الظنخ، والزمخ، والطنخ. وأن الظمخ، شجرة على صورة الدلب، يقطع منها خشب القصارين التي تدفن، وهي العرن، وهي أيضًا شجرة التين في لغة طيء5. وذكر أن "العرنة" عروق "العرنتن"، و"العرنة" خشب الظمخ، واحدتها ظمخة. شجرة على صورة الدلب، يقطع منها خشب القصارين التي تدفن. وقيل هو شجر يشبه العوسج، إلا أنه أضخم منه، وهو أثيث الفرع وليس له سوق طوال. وسقاء معرون دبغ به6. و"الخزم"، شجر كالدوم سواء، وله أفنان وبسر صغار يسود إذا أينع مر عفص لا يأكله الناس. تتخذ من لحائه الحبال. والخزام بائعه7. وذكر

_ 1 تاج العروس "9/ 393"، "أشبه". 2 تاج العروس "2/ 161"، "سرح". 3 تاج العروس "8/ 337"، "سلم". 4 عرام "402 وحاشية رقم 2"، تاج العروس "6/ 385"، "سحق". 5 تاج العروس "2/ 270"، "الظمخ". 6 تاج العروس "9/ 277"، "عرتن". 7 تاج العروس "8/ 274"، "خزم"، عرام، أسماء جبال تهامة "402".

أنه شجر يشبه ورقه ورق البردي، وله ساق كساق النخلة يتخذ منه الأرشية الجياد1. وأما "الدوم"، فشجر ثمره "المقر". تعبل شجرته وتسمو ولها خوص كخوص النخل. وتخرج أفناء كأفناء النخلة2. وذكر أن "المقل" صمغ شجرة شائكة كشجرة اللبان، وهو الذي يسمى "الكور"، أحمر طيب الرائحة، ينبت بعمان، في جبل يدعى "قهوان" مطل على البحر. وهو من الأدوية المعروفة عند العرب. و"المقل المكي"، ثمر شجر الدوم، الشبيه بالنخلة في حالاتها ينضج ويؤكل، ويستعملونه لمعالجة المعدة. ويتدخن اليهود بالمقل، الذي هو الكندر، وحبه يجعل في الدواء3. و"الشقب"، شجر ينبت كنبتة الرمان وورقه كورق السدر، وجناه كالنبق وفيه نوى. وذكر أنه شجر من شجر الجبال ينبت في جبال اليمن على أفواه الأودية، له أساريع كالشطب التي في السيف، يتخذ منها القسي4. و"الإثرار" وله ورق يشبه ورق الصعتر وشوك نحو شوك الرمان، ويقدح ناره إذا كان يابسًا فيقتدح سريعًا، وقد يتخذ من "الإثرار" القطران، كما يتخذ من العرعر5. و"المرخ" من شجر النار عند العرب، أي من الأشجار التي تورى بسرعة وتعطي نارًا طيبة، سريع الورى كثيره، حتى قالوا: في كل شجرة نار، واستمجد المرخ والعفار. وقيل هو من العضاه، وهو ينفرش ويطول في السماء حتى يستظل فيه، وليس له ورق ولا شوك، وعيدانه سلبة قضبان دقاق، وينبت في شعب وفي خشب، ومنه يكون الزناد الذي يقتدح به. ذكروا أنه ليس في الشجر كله أورى نارًا من المرخ، وربما كان المرخ مجتمعًا ملتفًّا وهبت الريح وجاء بعضه إلى بعض فأورى فأحرق الوادي. ولم ير ذلك في سائر الشجر6.

_ 1 عرام "ص402 وحاشية رقم 2". 2 تاج العروس "8/ 297"، "دوم". 3 تاج العروس "8/ 118"، "مقل". 4 تاج العروس "1/ 323"، "شقب"، عرام "403". 5 عرام "402، 408". 6 قال الأعشى: زنادك خير زناد الملو ... ك خالط فيهن مرخ عفارا ولوبت تقدح في ظلمة ... حصاة بنبع لاوديت نارا تاج العروس "2/ 278"، "مرخ".

و"العفار"، من شجر النار كذلك. وهو شجر يتخذ منه الزناد، يسوى من أغصانه فيقتدح به. شبيه بشجرة الغبيراء الصغيرة، وهو شجر خوار. وقيل في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} إنها المرخ والعفار. وهما شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر1. و"الأراك" من الحمض، وقيل الحمض نفسه، له حمل كحمل عناقيد العنب، يستاك به، أي بفروعه، وهو أفضل ما استيك بفروعه، وأطيب ما رعته الماشية رائحة لبن. تتخذ المساويك من الفروع ومن العروق، وأجوده عند الناس العروق2. ويقال للغصن من ثمر الأراك "المرد"، والنضيج منه "الكباث"، و"البرير" ثمر الأراك أيضًا3. و"الطلح"، شجر عظيم حجازي جناته كجنات السمرة، وهو شوك أحجن ومنابته بطون الأودية، وهو أعظم العضاه شوكًا وأجودها صمغًا. وذكر بعض علماء اللغة، أن الطلح شجرة طويلة لها ظل يستظل بها الناس والإبل وورقها قليل ولها أغصان طوال عظام، ولها شوك كثير مثل سلاء النخل، ولها ساق عظيمة لا تلتقي عليها يدا الرجل، وهي أم غيلان، تنبت في الجبل، الواحدة طلحة. وذكر بعض آخر، أن الطلح أعظم العضاه وأكثره ورقًا، وأشده خضرة، وله أشواك ضخام طوال وشوكه من أقل الشوك أذى، وليس لشوكته حرارة في الرجل، وله برمة طيبة، وليس في العضاه أكثر صمغًا منه ولا أضخم ولا ينبت إلا في أرض غليظة شديدة خصبة. وقد فسر بعض العلماء قوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} ، بأنه الطلع، "والطلع" لغة في الطلح. وذكروا أن الطلع الموز، وهذا في نظر بعض آخر، غير معروف؛ لأن شجر الموز غير شجر الطلح4. و"النشم"، شجر جبلي، تتخذ منه القسي، وهو من عتق العيدان5.

_ 1 تاج العروس "3/ 412"، "عفر". 2 تاج "7/ 99 وما بعدها"، "أرك". 3 تاج العروس "2/ 500"، "مرد". 4 تاج العروس "2/ 190"، "طلح". 5 تاج العروس "9/ 76"، "نشم".

و"الغرب"، شجر، يسوى منه الأقداح البيض1. و"العرفط"2، شجر من العضاه، وهو فرش على الأرض لا يذهب في السماء، وله ورقة عريضة وشوكة حديدة حجناء، وهو مما يلتحى لحاؤه وتصنع منه الأرشية التي يستقى بها، وتخرج في برمه العلفة كأنها الباقلاء، تأكله الإبل والغنم. وقيل لبرمته الفتلة، وهي بيضاء كان هيادبها القطن. وهو من خرج العيدان، وليس له خشب ينتفع به فيما ينتفع من الخشب وصمغه كثير، وربما قطر على الأرض حتى يصير تحت العرفط، مثل الأرحاء العظام. وذكر بعض علماء اللغة: العرفط، شجرة قصيرة متدانية الأغصان، ذات شوك كثير طولها في السماء كطول البعير بأركالها وريقة صغيرة. تنبت في الجبال، تأكل الإبل بفيها أعراض غصنتها. وذكر أن لصمغها رائحة كريهة، فإذا أكلته النحل حصل في عسلها من ريحه. وقد أشير على رائحته هذه في كتب الحديث3. و"الغرف" شجر يدبغ به، ويعمل منه القسي، وذكر أنه لا يدبغ به، وقيل يدبغ بورقه، وإن كانت القسي تعمل من عيدانه، وذكر أنه إذا جف فمضغ شبهت رائحته رائحة الكافور. وجعله بعضهم ثمامًا. فقالوا: الثمام أنواع، منه: الغرف، وهو شبيه بالأسل، وتتخذ منه المكانس، ويظلل به المزاد فيبرد4. و"الشث" شجر من أشجار الجبال، وقيل ضرب من الشجر ونبت طيب الريح مر الطعم يدبغ به، ينبت في جبال الغور وتهامة ونجد. وقيل شجر مثل شجر التفاح القصار في القدر، ورقه شبيه بورق الخلاف، ولا شوك له، وله برمة موردة صغيرة، فيها ثلاث حبات أو أربع سود، ترعاه الحمام إذا انتثروا5. وذكر أن "الغريف" شجر خوار مثل الغرب أو البردي6. و"الضرو"

_ 1 تاج العروس "1/ 407"، "غرب". 2 بالضم. 3 تاج العروس "5/ 182"، "اعرنفط". 4 تاج العروس "6/ 209"، "غرف". 5 تاج العروس "1/ 627 وما بعدها"، "شث". 6 قال حاتم في صفة نخل: رواء يسيل الماء تحت أصوله ... يميل به غيل بأدناه غريف وقال أحيحة بن الجلاح: يزخر في حافاته مغدق ... بحافتيه الشوع والغريف

شجرة الكمكام، وهو شجر طيب الريح يستاك به، ويجعل ورقه في العطر، وأكثر منابت الضرو باليمن، وهو من شجر الجبال كالبلوط العظيم له عناقيد كعناقيد البطم، غير أنه أكبر حبًّا، ويطبخ ورقه فإذا نضج صفي ورد ماؤه إلى النار فيعقد. يتداوى به1. وذكر أن الكمكام قرف شجر الضرو، وقيل صمغ شجرة تدعى الكمكام تجلب من اليمن، وقيل هو علك الضرو. وقرف شجرة الضرو أو لحاؤها من أفواه الطيب. وقد يستاك به2. و"المظ"، شجر الرمان أو بريه، ينبت في جبال السراة ولا يحمل ثمرًا وإنما ينور نورًا كثير. ومنابته الجبال. وفي نوره عسل كثير ويمص وتأكله النحل فيجود عسلها، ولها حطب أجود حطب وأثقبه نارًا يستوقد كما يستوقد الشمع. وقيل هو الرمان البري الذي تأكله النحل، وإنما يعقد الرمان البري ورقًا ولا يكون له رمان. وقيل هو: دم الأخوين، وهو دم الغزال، الذي يعرف بالقاطر المكي، وهو عصارة عروق الأرطى، وهو حمر، والإرطاة خضراء، فإذا أكلتها الإبل احمرت مشافرها3. و"السماق" من الأشجار التي تنبت بجبال تهامة، وأهل الحجاز يسمونه "الضمخ"، وأهل نجد يسمونه "العرتن"4. و"الشوع". شجر البان، أو ثمره. قيل شجر طوال وقضبانه طوال سمجة، ويسمى ثمره أيضًا الشوع. وهو يريع ويكثر على الجدب وقلة الأمطار، والناس يسلفون في ثمره الأموال. وأهل الشوع، يستعملون دهنه كما يستعمل أهل السمسم دهن السمسم. وهو جبلي، وقيل ينبت في الجبل والسهل5. و"الضبر"، شجر جوز البر، يكون بالسراة في جبالها ينور ولا يعقد. وذكر بعض علماء اللغة، أن "الضبر"، "جوز بويا"، و"جوز بوا"، كما يسميه البعض. وذكر بعض آخر، أنه جوز صلب. و"الضبار"، شجر يشبه شجر البلوط، وحطبه جيد، مثل حطب المظ. فإذا جمع حطبه رطبًا،

_ 1 تاج العروس "6/ 210"، "غرف". 2 تاج العروس "10/ 219"، "ضرى". 3 تاج العروس "5/ 264"، "مظظ". 4 عرام أسماء جبال تهامة "402". 5 تاج العروس "5/ 404"، "شوع".

ثم أشعلت فيه النار، فرقع فرفعة المخاريق، ويفعل ذلك بقرب الغياض التي فيها الأسد. فتهرب1. و"الطباق"، شجر ينبت متجاورًا، لا تكاد ترى منه واحدة منفردة، وهو نحو القامة، وله ورق طوال دقاق خضر تتزلج، إذا غمزت يضمد بها الكسر فيجبر. وله نور أصفر مجتمع، ولا تأكله الإبل ولكن الغنم، ومنابته الصخر مع العرعر، والنحل تجرسه والأوعال أيضًا. وينبت بجبال نواحي مكة، وقد استخدم في معالجة أمراض جلدية وداخلية2. و"السراء" ضرب من شجر القسي3. و"الصوم"، شجرة بلغة هذيل، قيل إنها على شكل الإنسان، كريهة المنظر جدًّا، يقال لثمرها رءوس الشياطين، يعني بالشياطين الحيات، وليس لها ورق. وقيل لها هدب ولا تنتشر أفنانها بنبت نبات الأثل، ولا تطول طوله، وأكثر منابتها بلاد "بني شبابة"4. و"القتاد" شجر ضخم ينبت بنجد وتهامة. وهو شجر صلب له شوك كالأبر. وهو من العضاه. وهو ضربان، فأما القتاد الضخام، فإنه يخرج له خشب عظام وشوكة حجناء قصيرة، وأما القتاد الآخر، فإنه ينبت صعدًا لا ينفرش منه شيء وهو قضبان مجتمعة، كل قضيب منها ملآن ما بين أعلاه وأسفله شوكًا، وفي المثل: من دون ذلك خرط القتاد. وإبل قتادية تأكل شوك القتاد5. و"الأشكل"، السدر الجبلي، وقيل: شجر مثل شجر العناب في شوكه وعقف أغصانه، غير أنه أصغر ورقًا وأكثر أفنانًا، وهو صلب جدًّا، وله نبيقة حامضة شديدة الحموضة، ومنابته شواهق الجبال تتخذ منه القسي6. و"الصاب" و"السلع" ضربان من الشجر مران، والمصاب قصب السكر7. و"السرح" من الأشجار، له ثمر يقال له "آلاء"، يشبه الزيتون على قول

_ 1 تاج العروس "3/ 347"، "ضبر". 2 تاج العروس "6/ 415"، "طبق". 3 تاج العروس "1/ 77"، "سرأ". 4 تاج العروس "8/ 372"، "صام". 5 تاج العروس "2/ 458"، "قتد". 6 تاج العروس "7/ 393"، "شكل". 7 تاج العروس "1/ 340"، "صوب".

أو الموز على قول آخر، يأكله الناس ويرتبون منه الرب1. و"الغضور" شجر أغبر ينبت في كل جبال تهامة2. وذكر أن "السرح" شجر كبار عظام طوال لا ترعى وإنما يستظل فيه، وينبت بنجد في السهل والغلظ، ولا ينبت في رمل ولا في جبل ولا يأكله المال إلا قليلًا له ثمر أصفر، وقيل السرحة، دوحة محلال واسعة يحل تحتها الناس في الصيف ويبنون تحتها البيوت3. و"الغاف" شجر عظام ينبت في الرمل ويعظم، وورقه أصغر من ورق التفاح، وهو في خلقته، وله ثمر حلو جدًّا، وهو غلف كأنه قرون الباقلى وخشبه أبيض أو هو شجر الينبوت يكون بعمان. وذكر أن الغاف من العضاه، وهي شجرة نحو القرظ شاكة حجازية تنبت في القفاف4.

_ 1 تاج العروس "2/ 162"، "سرح"، عرام، أسماء جبال تهامة "ص400". 2 عرام، أسماء جبال تهامة "401"، تاج العروس "3/ 450"، "غضر". 3 تاج العروس "2/ 161"، "سرح". 4 تاج العروس "6/ 214"، "غيف".

الأشجار العادية

الأشجار العادية: ونجد في كتب اللغة والأخبار ألفاظًا تعبر عن قدم الأشجار وضخامتها، فاستعملوا "العادي"، و"العدمل"، و"العدملة"، و"العدملي" للقديم من الشجر. وقد رأينا أنهم استعملوا "العادي"، بمعنى الشيء القديم، ولا شيء قديم لا يعرف أصله1. ومنه "العيدانة"، للشجرة الصلبة القديمة، التي لها عروق نافذة إلى الماء2. و"العدمل"، كل مسن قديم وقيل هو الضخم القديم من الشجر3. و"العدولي"، الشجرة القديمة الطويلة4. و"الربوض"، الشجرة العظيمة الضخمة الغليظة5. والدوائح، العظام من الشجر6. و"الهيكل"،

_ 1 تاج العروس "2/ 437"، "عود". 2 تاج العروس "2/ 438"، "عود". 3 تاج العروس "8/ 12"، "العدمل". 4 تاج العروس "8/ 11"، "عدل". 5 تاج العروس "5/ 30"، "ربض". 6 تاج العروس "2/ 137"، "الداح".

النبات الطويل البالغ العبل، أي العظيم، وكذلك الشجر1. أما الشجرة الطويلة، فيقال لها "سحوق"، و"سهوق". والنخلة السحوق، الطويلة التي بعد ثمرها على المجتني. وقيل هي الجرداء الطويلة التي لا كرب لها2. و"السمق" من الشجر، هو الشجر الطويل المرتفع3. والقراح، النخل الطويل الذي زال كربه وصار أملس4.

_ 1 تاج العروس "8/ 170"، "هيكل". 2 تاج العروس "6/ 377"، "سحق". 3 تاج العروس "6/ 384"، "سحق". 4 تاج العروس "2/ 205"، "قرح".

جماعة الشجر

جماعة الشجر: وفي دواوين اللغة ألفاظ كثيرة أطلقت على جماعة الشجر من حيث كثافتها في أرض تنبت بها، ومن هذه الألفاظ: "الدخل"، الشجر الملتف، كالدغل1. و"الدغل"، الشجر الكثير الملتف، وقيل هو اشتباك النبت وكثرته، وأعرف ذلك في الحمض، والجمع أدغال2. و"الشجراء"، اسم لجماعة الشجر3. و"الغيضة"، مجتمع الشجر في مغيض ماء، والمراد بالشجر، أي شجر كان، أو خاص بالغرب لا كل شجر4، و"الأجمة"، الشجر الكثيف الملتف5. وأما "الغيطلة"، فهي الشجر الكثيف الملتف، وجماعة الشجر والعشب وكل ملتف مختلط، وقيل جماعة الطرفاء6. و"الحرجة"، اسم لمجتمع الشجر، وقيل الشجر الملتف. وقيل الحرجة تكون من السمر والطلح والعوسج والسلم والسدر. وقيل هو ما اجتمع من السدر والزيتون وسائر الشجر7. و"العيص"، الشجر الكثير الملتف، وقيل هو الشجر الملتف النابت بعضه في أصول بعض. وقيل ما اجتمع بمكان وتدانى والتف من السدر والعوسج والنبع والسلم من العضاه كلها

_ 1 تاج العروس "7/ 320"، "دخل". 2 تاج العروس "7/ 322"، "دغل". 3 تاج العروس "3/ 291"، "شجر". 4 تاج العروس "5/ 65"، "غيض". 5 تاج العروس "8/ 180"، "أجم". 6 تاج العروس "8/ 46"، "غطل". 7 تاج العروس "2/ 20"، "حرج".

وهو من الطرفاء الغيطلة، ومن القصب الأجمة. وقيل العيص ما التف من الشجر وكثر مثل السلم، والطلح، والسيال، والسدر، والعرفط، والعضاه1. وأما "الرمخ"، فالشجر المجتمع كذلك2. وأما "الغيل"، فالشجر الكثير الملتف الذي ليس بشوك يستتر به. وقيل جماعة القصب والحلفاء3 وأما "الغريف"، فالشجر الكثير الملتف من أي شجر كان، أو الأجمة من البردي والحلفاء، وقد يكون من الضال والسلم4. وأما "الأبأة"، فالقصبة، أو أجمة الحلفاء والقصب خاصة، وماؤها شر المياه5. وأما "الزأرة"، فالأجمة ذات الحلفاء والماء والقصب، و"الزأرة" قرية كبيرة بالبحرين، وبها عين معروفة، يقال لها عين الزأرة، وقيل "مرزبان الزأرة" كان منها. و"المرزبان" الرئيس، أي رئيس الأجمة6. و"الخيس" و"الخيسة": فالشجر الكثير الملتف، والمجتمع من كل الشجر، أو ما كان حلفاء وقصبًا، وقيل الملتف من القصب والأشاء والنخل. وقيل: منبت الطرفاء وأنواع الشجر، والخيسة، الأجمة7. و"الربض"، جماعة الطلح والسمر، وقيل: جماعة الشجر الملتف8. و"الوهط"، ما كثر من العرفط، وقيل: وهط من عشر، كما يقال عيص من سدر. وقيل: الوهط: المكان المطمئن من الأرض المستوى، تنبت فيه العضاه، والسمر، والطلح، والعرفط9. ويقال للغملى من النبات، وهو ما التف بعضه على بعض "الشربب"10. و"الأيكة"، الشجر الملتف الكثير، وقيل: الغيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما، أو الجماعة من كل الشجر حتى من النخل، وخص بعضهم به منبت الأثل ومجتمعه. وقال بعض علماء اللغة: الأيك الجماعة الكثيرة من الأراك تجتمع

_ 1 تاج العروس "4/ 411"، "العيص". 2 تاج العروس "2/ 259"، "رمخ". 3 تاج العروس "8/ 53"، "الغيل". 4 تاج العروس "6/ 210"، "غرف". 5 تاج العروس "1/ 39"، "أباءة". 6 تاج العروس "3/ 230"، "زأر". 7 تاج العروس "4/ 144"، "الخيس". 8 تاج العروس "5/ 30"، "ربض". 9 تاج العروس "5/ 243"، "وهط". 10 تاج العروس "1/ 315"، "شرب".

في مكان واحد، وقد ذكرت الأيكة في القرآن الكريم1. قيل أن شجر أصحاب الأيكة كان الدوم، وقيل: أثل ورهط من عشر، وقصيمة من غضى2. وأما "العيكة"، فلغة في الأيكة3. و"الغابة"، الأجمة ذات الشجر المتكاثف؛ لأنها تغيب ما فيها، وقيل الغابة: الأجمة التي طالت ولها أطراف باسقة، يقال: ليث غابة. وقيل الغابة أجمة القصب. وفي الحديث: كان منبر الرسول من أثل الغابة، وفي رواية من طرفاء الغابة، والغابة غيضة ذات شجر كثير، وهي على تسعة أميال من المدينة. وقيل: "موضع قريب من المدينة. والعرب تسمي ما لم تصبه الشمس من النبات كله: الغيبان4. و"الصور"، جماع النخل، وقيل النخل المجتمع الصغار. قيل: ويقال لغير النخل من الشجر صور5. و"العقدة"، المكان الكثير الشجر، يرعونه من الرمث والعرفج، وقيل الحائط الكثير النخل6. وتنبت القصباء والحلفاء في الماء الراكد أو الهادئ، وعلى حواشي الأنهار حيث يظهر الماء في المنخفضات. جاء في شعر للأعشى: كبردية الغيل وسط الغريف ... إذا ما أتى الماء منها السديرا7 والقصباء جماعة القصب، وقيل منبتها. وقد أقصب المكان، وأرض قصبة ومقصبة، أي ذات قصب8. وينبت في المواضع التي يكثر وجود الماء الراكدة أو الهادئة بها، مثل المستنقعات والبطائح، مثل بطائح العراق، حيث تعد من أهم منابت القصب والبردي في العراق حتى اليوم. والقصب مادة مهمة لأهل الريف، ولمن يعيش على الماء، مثل أهل البطائح

_ 1 القرآن الكريم في سورة الحجر، والشعراء، وص، وق. 2 تاج العروس "7/ 104 وما بعدها"، "الأيك". 3 تاج العروس "7/ 165"، "عيكة". 4 تاج العروس "1/ 416 وما بعدها"، "غبب". 5 تاج العروس "3/ 343"، "صور". 6 تاج العروس "2/ 427"، "عقد". 7 تاج العروس "6/ 210"، "غرف". 8 تاج العروس "1/ 430"، "قصب".

والأهوار، والمستنقعات، والأجم التي تتخللها المياه. إذ اتخذوا منها بيوتًا صنعوها من القصب، ولا زال سكان "الأهوار" في العراق يصنعون بيوتهم من القصب. واتخذوا منها فراشًا يجلسون عليه، وهو "البارية"، ويقال لها "البوري"، و"البورية"، و"البورياء"، و"الباري"، و"البارياء". الحصير المنسوج من القصب. وقد أشير إلى "البوري" في الحديث1. والحلفاء نبت من الأغلاس، قلما تنبت إلى قريبًا من ماء أو بطن واد، وهي سلبة غليظة المس، وقد يأكل منها الإبل والغنم أكلًا قليلًا، وهي أحب شجرة إلى البقر. وقد كانت الأسود تأوي إليها. ومن مآوي الأسود والآجام ومنابت الحلفاء. وقد تجف، إذا قل الماء2. والبردي من النبات الذي يحتاج مثل القصب والحلفاء إلى ماء. فهو لا ينبت إلا قريبًا من ماء أو في مستنقع أو هور، أو منخفض فيه ماء، ويؤلف أجمة في وسط ماء3. و"الجليل"، نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت، وهو "الثمام" في رأي بعض علماء اللغة4. و"الثمام"، نبت ضعيف له خوص، أو شبيه بالخوص، وربما حشي به وسد به خصاص البيوت. وهو أنواع. فمنها: الضعة ومنها الجليلة، ومنها الغرف، وهو شبيه بالأسل وتتخذ منه المكانس، ويظلل به المزاد فيبرد الماء، يقال: "بيت مثموم" مغطى به، وقد يستعمل لإزالة البياض من العين5.

_ 1 تاج العروس "3/ 60 وما بعدها"، "بار". 2 تاج العروس "6/ 76"، "حلف". 3 تاج العروس "2/ 298"، "برد". 4 تاج العروس "7/ 261"، "جلل". 5 تاج العروس "8/ 219"، "ثمم".

الفحم وقطع الشجر

الفحم وقطع الشجر: وقد صنع أهل الجاهلية من النباتات البرية والأشجار الجبلية الفحم، وهم لا يزالون يصنعونه من هذه المواد. وذلك بإشعالها أولاً ثم بإطفاء جمرها،

للاستفادة من الفحم الحاصل من ذلك في أغراض شتى. ويحمله أصحابه إلى أهل المدر، لبيعه لهم، أو لمقايضته من الباعة بمواد أخرى يحتاجون إليها، وقد أدى الإسراف في ذلك وفي قلع الأشجار البرية النابتة بالطبيعة دون التعويض عنها بزراعة غيرها في مكانها، إلى تحول الأرضين الشجراء إلى أرض جرداء، وإلى إلحاق ضرر كبير بمصدر ثروة مهمة من الثروات الطبيعية. وتشاهد في كثير من المناطق الجبلية والنجود بقايا أشجار قديمة وأصول أشجار ممتدة بين الصخور تدل على أن هذه المناطق الجرد كانت ذات أشجار باسقة، ولكنها أصابها الدمار بفعل جهل الإنسان واعتدائه عليها، وعدم عنايته بها، فتلفت وبادت، حتى استحالت تلك البقاع الشجراء قفارًا جردًا. وكان مما ضيق من مساحة الأرضين المشجرة، التي شجرتها الطبيعة بنفسها، قطع الإنسان للشجر من عروقه أو من موضع اتصال الساق بالأرض، للاستفادة من المقطوع إلى أقصى حد ممكن، مما أهلك النبت، فأمات عروقه، وقطع عنه مادة الحياة، ولم يحفل بغرس آخر في مكانه، ليأخذ محله؛ لأن الأرض ليست أرضه، وإنما هو يريد بيع الخشب والحطب ليستفيد من الثمن، فقلت مساحة الأرض المشجرة بالطبيعة، بهذا التجاوز الفظيع، ولم تعوض الطبيعة الإنسان عن الضرر الذي ألحقه بنتاجها، فقد أعطته كثيرًا، وكان من الواجب عليه أن يعينها في الإنبات، لا أن يعمل على إفساد ما زرعته.

آفات زراعية

آفات زراعية: ويفهم من بعض النصوص الجاهلية أن الزراعة كانت تتعرض لآفات زراعية خطيرة تقضي على المزروعات في بعض الأحيان. وطالما وجدنا أصحابها يسألون الآلهة وقاية مزروعاتهم وحمايتها وإنزال البركة عليها ومنحهم غلات وافرة كثيرة. وقد يكون من بين هذه الآفات: الحشرات والجراد وانحباس المطر. ومن طرق هذه الحماية في نظرهم تسمية الزرع باسم إله، ليكون في حمايته ورعايته. وقد يخصص نصيب منه لذلك الإله، في مقابل حمايته له. وفي كتب اللغة ألفاظ عديدة في معاني الآفات التي تصيب الزروع، مثل: البثق، وهو داء يصيب الزرع من ماء السماء1، و"الغمل"، وهو مرض

_ 1 تاج العروس "6/ 283"، "بثق".

يغمل النبات، فيجعله يركب بعضه بعضًا ويذبل ويعفن1. و"الخناس"، داء يصيب الزرع فيتجعثن منه فلا يطول2. و"الشفران"، و"اليرقان"، آفة للزرع تصيبه فيصفر منها، وقيل دود يكون في الزرع فيتلفه3، و"الأرقان"4، والرصع، والوصم، وهو العيب في العود، والقادح، أكال يقع في الشجر وفي الخشب فيأكله، والقادح أيضًا العفن، ويقع القادح في الأسنان، وهو السواد الذي يظهر فيها5. والسوس، داء يصيب الزرع، لوقوع السوس فيه، بسبب حشرة تعبث فيه، ويقال مثل ذلك بالنسبة إلى الصوف والثياب والطعام، إذا عبثت العثة فيها6. و"العثة"7 سوسة، أو الأرضة التي تلحس الصوف فتؤذيه، وقيل: دويبة تعلق الإهاب فتأكله. والجدجد أيضًا دويبة تعلق الإهاب فتأكله8. والأرضة ضربان، ضرب صغار، مثل كبار الذر، وهي آفة الخشب خاصة، وضرب مثل كبار النمل، ذوات أجنحة، وهي آفة كل شيء من خشب ونبات، غير أنها لا تعرض للرطب، وهي ذوات قوائم. وقيل: هي دودة بيضاء شبه النملة تظهر في أيام الربيع. وقيل دودة بيضاء سوداء الرأس، وليس لها أجنحة، وهي تغوص في الأرض وتبني لها كنًّا من الطين، وهي تأكل الخشب وغيره9. والنخر، دار يصيب الأغصان والسيقان، والخشب، فيسبب جفافها وتفتتها10. و"القادحة"، دودة تأكل الشجر11. و"القتع"، دود حمر تأكل الخشب، أو هي الأرضة، وقيل الدود مطلقًا. وقيل هي السرقة، والقتعة، والهرنصانة، والحطيطة، والبطيطة، واليسروع، والعوانة، والطحنة12.

_ 1 تاج العروس "8/ 50"، "غمل". 2 تاج العروس "4/ 143"، "خنس". 3 تاج العروس "7/ 97"، "يرق". 4 تاج العروس "6/ 278"، "أرق". 5 تاج العروس "2/ 203"، "قدح". 6 تاج العروس "4/ 168"، "سوس". 7 بالضم. 8 تاج العروس "1/ 632"، "عث". 9 تاج العروس "5/ 4"، "أرض". 10 المخصص "11/ 56"، تاج العروس "3/ 559"، "نخر". 11 المخصص "11/ 12 وما بعدها". 12 تاج العروس "5/ 458"، "قتع".

و"السرفة"، دويبة تؤذي الزرع، تثقب الشجر ثم تبني فيها بيتًا من عيدان دقاق تجمعها بمثل العنكبوت، وقيل دودة تنسج على بعض الشجر وتأكل ورقه وتهلك ما بقي منه بذلك النسج1. وذكر أن "الهرنصانة"، السرفة2، وأن "البطيطة" السرفة كذلك3. وأن "الحطيطة" السرفة أيضًا4. ومن الأمراض والآفات التي تصيب النخيل، الدمان، ويقع على التمر، فيفسد، وتصيبه العفونة قبل إدراكه حتى يسود5. والمراض، داء للثمار يقع فيها فيهلكها6. و"القشام"7، وهو أن ينتفض تمر النخل قبل أن يصير بلحًا8. وذكر بعض العلماء أن الدمان فساد النخل قبل إدراكه، وإنما يقع ذلك في الطلع يخرج قلب النخلة أسود معفونًا، وذهب آخرون إلى أنه فساد الطلع وتعفنه وسواده. وقال بعضهم: الدمان التمر المتعفن، وأنه فساد التمر وعفنه قبل إدراكه حتى يسود من الدمن. وأما المراض، فذكر بعض العلماء أنه اسم لجميع الأمراض. وأما القشام، فهو أكال يقع في التمر9. ومن الآفات التي كانت تصيب الزرع فتؤذي الناس وتلقي بأصحاب الزرع خسائر كبيرة "الجراد"، فقد كان يكتسح الزرع في بعض السنين اكتساحًا، فيأتي في موجات كثيفة، ويلتهم كل ما يجده أمامه، حتى يجرد الأرض جردًا، ولا يترك من نبتها شيئًا. ونجد في كتابات المسند إشارات إليه. ويقال له: "اربى" في العربيات الجنوبية10. وفي العربية: "جراد سد"، أي كثير سد الأفق. ويقال جاءنا سد من جراد، إذا سد الأفق من كثرته 11. وللجراد أسماء تمثل مراحل نموه، ذكرها علماء اللغة. مما يدل على مدى اتصاله

_ 1 تاج العروس "6/ 137"، "سرف". 2 تاج العروس "4/ 447"، "الهرنصانة". 3 تاج العروس "5/ 109"، "بط". 4 تاج العروس "5/ 119"، "حطط". 5 القاموس "4/ 223"، تاج العروس "9/ 203"، "دمن". 6 تاج العروس "5/ 86"، "مرض". 7 بالضم كغراب. 8 القاموس "4/ 165"، "قشم". 9 عمدة القارئ "12/ 3". 10.South Arabian Inscriptions, P.427. 11 تاج العروس "2/ 373"، "سدد".

بحياة الناس، وما كان يحدثه من أذى وأثر في زرعهم. وإذا أكل الجراد نبت أرض، قيل: أرض مجرودة، وجرد الجراد الأرض جردًا1، ومن أسماء الجراد "الجندب". وقيل أنه الصدى يصر بالليل ويقفز ويطير. وقيل هو أصغر من الصدى يكون في البراري، وقيل هو الصغير من الجراد2. وكان الجراد يغزو المزارعين فيأتي على ما زرعوه، لا يترك لهم منه شيئًا، وهم عاجزون عن الاتيان عليه. وهو أنواع عديدة من حيث اللون والجسم. وكان إذا انتقل من مكان إلى مكان ظهر في السماء، وكأنه سحابة من كثرته. وقد صار طعامًا لهم، يأكلونه كما يأكل هو زرعهم. ذكر أن "ابن أبي أوفى" قال: غزونا مع النبي سبع غزوات أو ستًّا كنا نأكل معه الجراد3.

_ 1 تاج العروس "2/ 319"، "جرد". 2 تاج العروس "1/ 176"، "جدب". 3 إرشاد الساري "8/ 271"، "باب جواز أكل الجراد".

الأسوكة

الأسوكة: السواك سوك الفم بالعود. والعود مسواك. ويتخذ من الأراك، فإن لم يكن فعتم أو بطم1. ويستاك بالبشام كذلك، وهو شجر ذو ساق وأفنان وورق صغار أكبر من ورق الصعتر ولا ثمر له2.

_ 1 تاج العروس "8/ 388"، "عتم". 2 تاج العروس "8/ 203"، "بشم".

الفصل الثالث والتسعون: المراعي

الفصل الثالث والتسعون: المراعي مدخل ... الفصل الثالث والتسعون: المراعي وفي جزيرة العرب مراعي، منها الخاص، ومنها العام. والمراعي الخاصة ما تكون ملكًا لرجل أو أسرة أو قبيلة تفرض سلطانها على المرعى، مثل الإحماء، حيث لا يسمح لأحد غير مأذون بالرعي في "الحمى"، أما المراعي العامة، فهي التي لا تدخل في ملك أحد، وإنما يرعى فيها كل أبناء الحي، وجميع أبناء القبيلة؛ لأن أرض القبيلة ملك للقبيلة ما دامت عزيزة فيها مالكة لرقبتها، يرعى فيها كل أبنائها، فإذا ذلت واستخذت طمعت فيها القبائل المجاورة القوية، فشاركتها في أرضها، وربما أجلتها عنها. وإذا ارتحلت القبيلة عن أرضها، وتركتها، ونزل بها نازل جديد، صارت الأرض ملكًا له، ما لم يدفع عنها بالقوة، أو يتركها هو رضاءً، فإذا ارتحل عنها، ونزل في مكان جديد، سقط حقه فيها، وانتقلت رقبة الأرض إلى النازل الجديد. وهكذا تكون المراعي عامة مشاعة بين جميع أبناء القبيلة، ما خلا الحمى، ينتفع بها جميع أبنائها، بما في ذلك سادة القبيلة وأصحاب الإحماء، الذين ترعى إبلهم في إحمائهم، كما ترعى مع إبل الناس في مراعي القبيلة، ولا يجوز لأحد من القبيلة أن يأخذ من أرباب المواشي عوضًا عن مراعي القبيلة؛ لأنها للجميع. وقد أخذ بهذا الحكم في الإسلام بالنسبة للمراعي الموات، بقول الرسول: "الناس شركاء في ثلاث: الماء، والنار، والكلأ"1.

_ 1 الأحكام السلطانية: "208".

و"الرعي" الكلأ، وهو ما ترعاه الراعية. والراعي، هو الذي يتولى أمر الماشية التي ترعى، ويقال للذي يجيد رعية الإبل "تر عاية" و"ترعى"، أو هو الحسن الارتياد للكلأ للماشية، أو صناعته وصناعة آبائه رعاية الإبل. و"الرعاوى" الإبل التي ترعى حوالي القوم وديارهم؛ لأنها الإبل التي يعتمل عليها1. ويقال للمرعى في المسند "مرعم"، "مرعيم"، "مرعى"2. والمرعى موضع الرعي. والرعي الكلأ. والمرعى والرعي ما ترعاه الراعية. ورعيان، ورعاء، رعاة الغنم على الأكثر. ويقال "ترعى" و"ترعاية" و"تراعية" للرجل يجيد رعية الإبل، أو هو الحسن الارتياد للكلأ للماشية، أو صناعته وصناعة آبائه رعاية الإبل، و"الرعاوى"3، الإبل التي ترعى حوالى القوم وديراهم؛ لأنها الإبل التي يعتمل عليها4. ويقال للمرعى "الأب"، وهو الكلأ جميعه الذي تعتلفه الماشية، رطبه ويابسه5. ويعبر عن الإبل إذا رعت بـ"سامت المال"، و"سامت الإبل"، يقال سامت الراعية والماشية والغنم تسوم سومًا، رعت حيث شاءت، فهي سائمة والسوام والسائمة الإيل الراعية، وقيل كل ما رعى من المال في الفلوات إذا خلى وسومه يرعى حيث شاء، والسائم الذاهب على وجهه حيث يشاء. وذكر أن السوام والسائمة كل إبل ترسل ترعى ولا تعلف في الأصل. وورد في الحديث: سائمة الغنم6. و"السرح" المال السائم. وذكر بعض علماء اللغة أن المال لا يسمى سرحًا إلا ما يفدى به ويراح7. وتؤدي لفظة "مرتع" معنى "مرعى". ورتع بمعنى أكل وشرب للبهائم. ولا يكون الرتع إلا في خصب وسعة8. وتؤدي لفظة "النجعة"، معنى طلب الكلأ في موضعه. و"والنجعة عند العرب المذهب في طلب الكلأ في موضعه،

_ 1 تاج العروس "10/ 152"، "رعى". 2 Rhodokanakis. Stud. Lexi., I, S. 57, Halevy 147. 3 كسكارى ويضم. 4 تاج العروس "10/ 152"، "رعى". 5 تاج العروس "1/ 142"، "أب". 6 تاج العروس "8/ 350"، "سوم". 7 تاج العروس "2/ 160"، "سرح". 8 تاج العروس "5/ 347". "رتع".

والبادية تحضر محاضرها عند هيج العشب ونقص الخرف وفناء ماء السماء في الغدران، فلا يزالون حاضرة يشربون الماء العد حتى يقع ربيع بالأرض خرفيًّا كان أو شتيًّا، فإذا وقع الربيع توزعتهم النجع وتشبعوا مساقط الغيث يرعون الكلأ والعشب، إذا أعشبت البلاد، ويشربون الكرع وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع إلى أن يهيج العشب من عام قابل وتنش الغدران فيرجعون إلى محاضرهم على أعداد المياه"1. ويقال أرض معرضة، للأرض التي يستعرضها المال ويعترضها، أي هي أرض فيها نبات يرعاه المال إذا مر فيها2. وإذا أقامت الإبل في المرعى، قيل: "عدنت الإبل"، وخص بعضهم به الإقامة في "الحمض"، وقيل يكون في كل شيء3. وقد تكون المراعي عند مشارف أهل الحضر، لا تبعد عن القرى وعن مستوطناتهم كثيرًا، وذلك بالنسبة لرعي الغنم. فيؤدي أهل البيوت أغنامهم إلى الراعي، ليأخذها إلى الخارج فيرعى بها وتتجمع عند الراعي أغنام لمختلف الناس، في مقابل أجر يدفع له. وقد كان الرسول راعي غنم، يرعى غنم قريش، وغنم أهله بـ"أجياد" بالقراريط4. وكان بين أصحاب الغنم، وبين أصحاب الإبل تنازع، وقد كان يستطيل أصحاب الإبل على أصحاب الغنم5. و"المنقل" النجعة يتنقلون من المرعى إذا احتفوه إلى مرعى آخر، وذلك إذا رعوا فلم يتركوا فيه شيئًا. والناقلة ضد القاطنين، والجمع النواقل. والنقل الطريق المختصر6. والنجعة طلب الكلأ في موضعه. والبادية تحضر محاضرها عند هيج العشب ونقص الخرف وفناء ماء السماء في الغدران، فلا يزالون حاضرة يشربون الماء العد حتى يقع ربيع بالأرض خرفيًّا كان أو شتيًّا، فإذا وقع الربيع توزعتهم النجع وتتبعوا مساقط الغيث يرعون الكلأ والعشب إذا أعشبت البلاد

_ 1 تاج العروس "5/ 519"، "نجع". 2 تاج العروس "5/ 49"، "عرض". 3 تاج العروس "9/ 274"، "عدن". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 125 وما بعدها". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 126". 6 تاج العروس "8/ 144".

ويشربون الكرع وهو ماء السماء، فلا يزالون في النجع إلى أن يهيج العشب من عام قابل، وتنش الغدران، فيرجعون إلى محاضرهم على أعداد المياه1. وإذا أمطرت السماء مطرًا كافيًا، كان ذلك خيرًا للعرب وفرحة عظيمة. إذ تغيث الأرض وتكسوها حلة سندسية جميلة، وتزول الغبرة عن وجهها. وتظهر الأرض فرحة مستبشرة بعد عبوس وكآبة. فتهيج الأرض وتنبت نبتًا أخضر، يكون بهجة للناظرين وطعامًا شهيًّا للإبل ولبقية حيواناتهم، تقبل عليه إقبالًا شديدًا، فتشبع وتصح أجسامها، ويكثر نسلها. ويقال للخضرة التي تكسو وجه الأرض "الكلأ"، وهو العشب، رطبه ويابسه. وأرض كليئة ومكلأة، كثيرة الكلأ2. وذكر أن العشب الكلأ الرطب، والرطب من البقول البرية، ينبت في الربيع، وهو سرعان الكلأ في الربيع يهيج ولا يبقى. ويدخل في العشب، أحرار البقول وذكورها، فأحرارها ما رق منها وكان ناعمًا. وذكورها ما صلب وغلظ منها. وذكر بعضهم أن العشب كل ما أباده الشتاء وكان نباته ثانية من أرومة أو بذر3. وفي ذلك يقول الأعشى: ألم تر أن الأرض أصبح بطنها ... نخيلًا وزرعًا نابتًا وفصافصا والفصافص الرطب من علف الحيوان، ويسمى "القت". وقيل هو رطب القت. وفي الحديث: ليس في الفصافص صدقة4. و"البقل" ما نبت في بزره لا في أرومة ثابتة. وذكر أنه كل ما اخضرت به الأرض. والفرق بين البقل ودق الشجر، أن البقل إذا رعي لم يبق له ساق، والشجر تبقى له سوق وإن دقت. وقال بعض علماء اللغة: البقل ما لا يثبت أصله وفرعه في الشتاء. والبقلة، بقل الربيع خاصة. وبقلت الأرض إذا أنبتت5. وذكر أن من أسماء بقل الربيع: الجشر6.

_ 1 تاج العروس "5/ 519"، "نجع". 2 تاج العروس "1/ 111"، "كلأ". 3 تاج العروس "1/ 383"، "عشب". 4 تاج العروس "4/ 416"، "فصص". 5 تاج العروس "7/ 231"، "بقل". 6 تاج العروس "3/ 101"، "جشر".

وترد لفظة "لسن"، "لسس"، الواردة في نصوص المسند في معنى "لساس"1 في عربيتنا2. ويراد بها أول البقل، وقيل هو من البقل ما استمكنت منه الراعية وهو صغار. وقيل: البقل ما دام صغيرًا لا تستمكن منه الراعية، وذلك؛ لأنها تلسه بألسنتها لسًا3. والحشيش الكلأ اليابس، ولا يقال وهو رطب حشيش. والطاقة منه حشيشة. والعشب يعم الرطب واليابس. وقال بعض علماء اللغة: الحشيش أخضر الكلأ ويابسه، وقال بعض آخر العرب إذا أطلقوا اسم الحشيش عنوا به الخلي خاصة، وهو أجود علف يصلح الخيل عليه. وهو من خير مراعي النعم. وقال بعض آخر: البقل أجمع رطبًا ويابسًا حشيش وعلف وخلي4. والخلي: الرطب من النبات. وقال بعض علماء اللغة: هو النبات الرقيق ما دام رطبًا5. وترد في المسند لفظة "جمست" "جمسة"، بمعنى الحشائش عند جفافها والنبت إذا ما ذهبت غضاضته6. وهي بهذا المعنى في عربية القرآن الكريم. فالجامس من النبات ما ذهبت غضوضته ورطوبته فولى وجسًا7. وتنبت الأمطار ما دق من الشجر، وبعض أنواع الشجر، وقد تثمر ثمرًا يستفيد منه الإنسان. كما يستفيد من عوده ومن حطبه وخشبه. أما ورقه فيكون طعامًا شهيًّا للإبل. ونجد في كتب اللغة أسماء عدد كبير من هذه النباتات. وقد استعان الأعراب بالنبات وبالشجر في مداواة أنفسهم، علمتهم تجاربهم الطويلة القديمة، ما ينفع منها في معالجة ما يصابون به من مرض، فصار لهم طب خاص بهم، يقوم على الفراسة وعلى الملاحظة وعلى التجارب في استخدام النبات في مداواة الإنسان وفي معالجة ماله، ولا زال هذا الطب معمولًا به في البوادي، عند الأعراب.

_ 1 كغراب. 2 القاموس "2/ 249". 3 تاج العروس "4/ 241"، "لس"، Rep.Epigr., Tome, V, P.196 4 تاج العروس "4/ 298"، "حشش". 5 تاج العروس "10/ 120"، "خلى". 6 Rep.Epigr., Tome, V, P.196. 7 القاموس "2/ 205"، تاج العروس "4/ 122 وما بعدها"، "جمس".

ويعد الأراك من أطايب أكل الإبل، إذا أصابت منه شيئًا، ظهر طعمه في اللبن، وهم يستحسنون هذا اللبن. وقد كان الرعاة إذا مروا به اجتنوا ثمرته، و"الكباث"، هو أحسن ثمره، ولونه أسود، وهو أطيب ثمر الأراك. وقد اجتناه الرسول يوم كان راعيًا1. وهو النضيج من ثمر الأراك. وما لم ينضج فهو "برير". وقيل: الكباث هو ما لم ينضج منه، وقيل حمله إذا كان متفرقًا2. وتكتسي الأرض بعد ظهور الكلأ ثوبًا سندسيًّا جميلًا، فتظهر خضراء، لكثرة ما عليها من "الخضر"، وهو الزرع والنبات الذي نبت عليها. و"الخضر"، المكان الكثير الخضرة، ويراد بالخضرة "البقلة الخضراء"، وهي بقلة خضراء خشناء ورقها مثل ورق الدخن وكذلك ثمرتها وترتفع ذراعًا، وهي تملأ فم البعير. و"الخضر" ضرب من الجنبة، والجنبة من الكلأ ما له أصل غامض في الأرض، مثل النصي والصليان. وليس الخضر من أحرار البقول التي تهيج في الصيف. وجيدها الذي ينبته الربيع بتوالي أمطاره فتحسن وتنعم، ولكنه من البقول التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبسها حيث لا تجد سواها، وتسميها العرب الجنبة، فلا ترى الماشية تكثر من أكلها ولا تستمريها3. والجنبة، عامة الشجر التي تتربل في زمان الصيف. واسم لنبوت كثيرة، وهي كلها عروق. سميت جنبة؛ لأنها صغرت عن الشجر الكبار وارتفعت عن التي لا أرومة لها في الأرض. فمن الجنبة: النصي والصليان والحماط والمكر والحذر والدهماء. صغرت عن الشجر ونبلت عن البقول4. والنصي: نبت ما دام رطبًا، فإذا ابيض، فهو الطريفة، فإذا ضخم ويبس، فهو الحلي. وهو من أفضل المرعى5. وذكر أن "الطريفة" من النصي، إذا ابيض ويبس، أو هو منه إذا اعتم وتم وكذلك من الصليان. وذكر أيضًا أن الطريفة من النبات، أول الشيء، يستطرفه المال، فيرعاه كائنًا ما كان. وسميت طريفة؛ لأن المال يطرفه

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 126". 2 تاج العروس "1/ 640"، "كبث". 3 تاج العروس "3/ 179"، "خضر". 4 تاج العروس "1/ 189"، "جنب". 5 تاج العروس "10/ 370"، "أنصى".

إذا لم يجد بقلًا. وقيل لكرمها وطرافتها واستطراف المال إياه. وقيل الطريفة خير الكلأ، إلا ما كان من العشب. ومن الطريفة النصي والصليان والهلتي والشحم والثغام1. و"الحلي" ما ابيض من يبيس النصي والسبط، وقيل: هو كل نبت يشبه نبات الزرع، أو اسم نبت بعينه. وقيل هو من خير مراتع أهل البادية للنعم والخيل2. والحماط، شجر شبيه بالتين، خشبه وجناه وريحه، إلا أن جناه هو أصغر وأشد حمرة من التين، ومنابته في أجواف الجبال، وقد يستوقد بحطبه، ويتخذ خشبه لما ينتفع به الناس، يبنون عليه البيوت والخيام. وقيل: هو في مثل نبات التين، غير أنه أصغر ورقًا، وله تين كثير صغار من كل لون أسود وأملح وأصفر، وهو شديد الحلاوة يحرق الفم إذا كان رطبًا، فإذا جف ذهب ذلك عنه. وهو يدخر وله إذا جف متانة وعلوكة. وهو أحب شجر إلى الحيات، أي أنها تألفه كثيرًا. يقال: شيطان حماط3. والصليان، نبت من الطريفة، ينبت صعدًا وأضخمه أعجازه وأصوله على قدر نبت الحلي، ومنابته السهول والرياض. وقيل الصليان من الجنبة لغلظه وبقائه4. والمكرة نبتة غبراء مليحاء تنبت قصدًا. كأن فيها حمضًا حين تمضغ، تنبت في السهل والرمل، لها ورق وليس لها زهر. وقد تقع المكور على ضروب من الشجر كالرغل5. و"الدهماء"، عشبة عريضة ذات ورق وقضب، كأنها القرنوة، ولها نورة حمراء يدبغ بها، ومنبتها قفاف الرمل6.

_ 1 تاج العروس "6/ 177 وما بعدها"، "طرف". 2 تاج العروس "10/ 98"، "حلى". 3 تاج العروس "5/ 121"، "حمط". 4 تاج العروس "7/ 406"، "صلل". 5 تاج العروس "3/ 548"، "مكر". 6 تاج العروس "8/ 299"، "دهم".

الحمض والخلة

الحمض والخلة: ويقسم بعض العلماء المرعى كله إلى حمض وخلة. فالحمض ما فيه ملوحة،

والخلة ما سواه. وكل أرض لم يكن بها حمض، فهي خلة، وإن لم يكن بها من النبات شيء. وخلل الأرض التي لا حمض بها، وربما كانت بها عضاه، وربما لم تكن. ولو أتيت أرضًا ليس بها شيء من الشجر وهي جرز من الأرض قلت أنها خلة1. والحمض ما ملح وأمر من النبات، كالرمث والأثل والطرفاء ونحوها. وذكر أن الحمض من النبات كل نبت مالح أو حامض يقوم على سوق ولا أصل له. ومن الحمض النجيل، والخذراف، والاخريط، والقضة، والقلام، والهرم، والحرض، والدغل، وما أشبهها. وذكر أن الحمض كل نبات لا يهيج في الربيع ويبقى على القيظ وفيه ملوحة، إذا أكلته الإبل شربت عليه، وإذا لم تجده رقت وضعفت. وهي كفاكهة الإبل، والخلة ما حلا، وهي كخبزها، تقول العرب: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها ويقال لحمها2. والرمث، مرعى للإبل، وهو من الحمض، وشجر يشبه الغضى، لا يطول ولكنه ينبسط ورقه، وهو شبيه بالأشنان، وله هدب طوال دقاق، وهو مع ذلك كله كلأ تعيش فيه الإبل والغنم وإن لم يكن معها غيره، وربما خرج فيه عسل أبيض كأنه الجمان، وهو شديد الحلاوة وله حطب وخشب ووقوده حار وينتفع بدخانه من الزكام. ويرتفع دون القامة فيحتطب3. والطرفاء جماعة الطرفة، شجر. قيل إنها أربعة أصناف من الأثل، وقيل الطرفاء شجر من العضاه، هدبه مثل هدب الأثل، وليس له خشب، وإنما يخرج عصيًّا سمحة في السماء، وقد تتحمض به الإبل إذا لم تجد حمضًا غيره. وقيل إنه من الحمض4. والأثل: شجر، عده بعضهم نوع من الطرفاء، وقال بعض آخر: الأثلة سمرة أو عضاهة طويلة قويمة يعمل منها الأقداح5. والنجيل، ضرب من دق الحمض، وقيل هو خير الحمض كله وألينه على السائمة. وذكر أنه إذا أخرج

_ 1 تاج العروس "7/ 307"، "خلل". 2 تاج العروس "5/ 22"، "حمض". 3 تاج العروس "1/ 625"، "رمث". 4 تاج العروس "6/ 177"، "طرف". 5 تاج العروس "7/ 202"، "أثل".

عن الحمض أربع شجرات، فسائره نجيل. هي الرمث والغضى والسلج. ومن النجيل: الخذراف، والرغل، والغولان، والهرم، والفذا، والقلام والطمحاء1. والخذراف، نبات ربعي إذا أحس بالصيف يبس، أو هو ضرب من الحمض له وريقة صغيرة يرتفع قدر الذراع2. والرغل، نبت، أو حمضة تنفرش وعيدانها صلاب وورقها نحو من ورق الجماجم إلا أنها بيضاء ومنابتها السهول، والإبل تحمض به3. والغولان، حمض كالأشنان، وقيل شبيه بالعنظوان، إلا أنه أدق منه. وهو مرعى4. و"الهرم"، نبت ضعيف ترعاه الإبل، وقيل ضرب من الحمض فيه ملوحة. وقيل هو يبيس الشبرق، وهو أذله وأشده انبساطًا على الأرض واستبطاحًا. وقيل شجر، وأن الهرمة البقلة الحمقاء5. و"الغذام"، نبت من الحمض6. و"القلام" من الحمض هو كالأشنان إلا أنه أعظم7 و"القضاض"8. شجر من الحمض، وقيل هو دقيق ضعيف أصفر اللون9. والأراك من الحمض، وقوم مؤركون نازلون بالأراك يرعونها، ويقال أطيب الألبان ألبان الأوارك. وفي الحديث أتى بلبن الأوارك وهو بعرفة، فشرب منه10. و"الحرض"، من النجيل. وذكر أنه الأشنان، تغسل به الأيدي على أثر الطعام. وشجرته ضخمة، وربما استظل بها، ولها حطب، وهو الذي يغسل به الناس الثياب، وأنقى وأبيض حرض هو حرض ينبت باليمامة، بواد منها يقال له جو الخضارم11. و"الحيهل"، شجرة قصيرة من دق الحمض

_ 1 تاج العروس "8/ 128"، "نجل". 2 تاج العروس "6/ 80"، "خذرف". 3 تاج العروس "7/ 348"، "رغل". 4 تاج العروس "8/ 52"، "غال". 5 تاج العروس "9/ 102"، "هرم". 6 تاج العروس "9/ 3"، "غذم". 7 تاج العروس "9/ 31"، "قلم". 8 وورد بالصاد. 9 تاج العروس "5/ 79". 10 تاج العروس "7/ 100"، "أرك". 11 تاج العروس "5/ 18 وما بعدها"، "حرض".

لا ورق لها، وقيل إنه "الهرم"، وهو إذا أصابه المطر نبت سريعًا، وإذا أكلته الإبل، فلم تبعر ولم تسلح مسرعة ماتت، وبذلك فسروا تسمية "الهرم" هرمًا1. وقد يضطر أصحاب الماشية إلى إطعامها ما ينبت في الأرض السبخة، أي ذات الملح. يقال "ملح الماشية"، بمعنى أطعمها سبخة الملح2. و"السبخة"، أرض ذات نز وملح، وهي لا تكاد تنبت إلا بعض الشجر والنبات3. وتوجد السباخ في مواضع من جزيرة العرب، في الأماكن الوطئة، حيث تنز الأرض، ويعلوها الملح، وتكون رخوة. ولفظة "رعى" من الألفاظ التي كثر ورودها في الكتابات الصفوية، وهي كتابات أصحابها رعاة، كانوا يتنقلون مع ماشيتهم من مكان إلى آخر في طلب المرعى، فكانوا يكتبون خواطرهم على الحجارة والصخور، تخليدًا لنزولهم هاتيك المواضع. وهم من عشائر مختلفة امتهنت الرعي، فكانت تتنقل من مكان إلى مكان. تتوغل في الربيع في البوادي، فإذا انتهى الموسم ويبس الكلأ، عادت إلى مواضع قريبة من الحضر، حيث يتوفر فيها الماء، فترعى ماشيتها بكلأ هذه الأرضين، وتبيع إلى أهل المدر، ما يكون عندها من وبر وأصواف ومنتوج ألبان. وتثبت النصوص الصفوية أن أصحابها كانوا جماعة من الرعاة، يتنقلون من مكان إلى مكان، بدليل الإشارة إلى المرعى "همرعى" "هـ مرعى"، "ها مرعى"، أي "المرعى" وإلى الماء وإلى البقر والإبل والشياه "شهى" "شاهي"، والأودية "هنخل" "هـ - نخل" "ها نخل" وغير ذلك من الألفاظ التي ترد على ألسنة الرعاة. فكان هؤلاء الصفويون يتنقلون مع الكلأ والماء لرعي ماشيتهم4.

_ 1 تاج العروس "7/ 298"، "الحيهل". 2 تاج العروس "2/ 229"، "ملح". 3 تاج العروس "2/ 261"، "سبخ". 4 ديسو، العرب في سورية قبل الإسلام "ص94 وما بعدها".

أصناف الرعاة

أصناف الرعاة: والرعاة على صنفين: رعاة الإبل، وهم الممعنون في البوادي، والذين يبيتون مع الإبل في المرعى لا يأوون إلى بيوتهم، ولا يرعون غيرها، وهم: الجشر" أو هم الذين يرعون الإبل، ويقيمون معها في المرعى، ولا يرعون معها غيرها من بقية الحيوانات1. وهم جل الأعراب، بل كلهم؛ لأن حياة الأعرابي هي حياة رعي إبل، يرعاها عند بيته أو على مبعدة منه. بات مع الإبل بعيدًا عن بيته أو أهله أيامًا أو موسم الربيع، أو أقام عند خيمته مع إبله، فهو راعي إبل في الحالتين. وراعي الإبل، هو الأعرابي الأصيل، ابن البادية جواب بيداء، لا يأكل البقل والخضر، هو كما قال الراجز: جواب بيداء بها غروف ... لا يأكل البقل ولا يريف ولا يرى في بيته القليف2 ويقال للأعرابي الذي ينشأ في البدو والفلوات لم يزايلها: المقحم3. ويكون هؤلاء الرعاة الأعراب من أبعد الرعاة عن "المصانع"، أي القرى والحضر، ومن أهلها، لا يذهبون إليها ولا يتصلون بها4. فهم يعيشون في عالم خاص بهم بعيد عن القيود والتكاليف، والتنويع في المأكل والمشرب. ورعاة يرعون إبلًا ويرعون غيرها معها من بقر وخيل وغنم. وهم لعدم استطاعة البقر والغنم من التوغل في البادية والتعمق في طياتها، لا يستطيعون الابتعاد عن الماء كثيرًا، لعدم استطاعة تلك الحيوانات الصبر على العطش كثيرًا ولهذا فهم على اتصال بالحضر وبالحضارة، وهم مرحلة وسطى بين الحضارة وبين

_ 1 تاج العروس "3/ 100 وما بعدها"، "جشر"، قال الأخطل: تسأله الصبر من غسان إذ حضروا ... والحزن كيف قراه الغلمة الجشر "وإنما قالوا له ذلك؛ لأنه كان يقول لهم: أنتم جشر، أي رعاة إبل"، تاج العروس "9/ 174"، "حزن". 2 تاج العروس "6/ 123"، "تريف"، "6/ 227"، "قلف". 3 تاج العروس "9/ 17"، "قحم". 4 تاج العروس "5/ 422"، "صنع".

الأعرابية، وهم الجرثومة التي نبتت منها المجتمعات العربية الحضرية في العراق وفي بلاد الشأم وفي جزيرة العرب، وهم من أهل الخيام السود المنسوجة من شعر الماعز، أو من صوف الأغنام، وقد أشير إليهم في التوراة، وقد كانوا يسكنون شرق العبرانيين وفي أرض فلسطين. وكانوا يتنجعون أيام الكلأ فتجتمع منهم قبائل شتى في مكان واحد، فتقع بينهم ألفة، فإذا افترقوا ورجعوا إلى أوطانهم ساءهم ذلك، وقد عرف هؤلاء بـ"الخلطاء". كما كانوا يتشاركون في الرعي، وذلك أن يستأجروا راعيًا أو رعاة، ويقدم كل واحد من الشركاء ما يريد تقديمه من الإبل أو الشياه، ويحتمل كل واحد من المتشاركين أجر الرعي، حسب عدد إبله أو شياهه1. ولا يشترط في الراعي، أن يكون أجيرًا لغيره يرعى إبل وماشية غيره، فقد يكون راعيًا، وهو مالك لإبله ولبقية الماشية التي يرعاها، وهو إنما سمي راعيًا؛ لأنه اتخذ الرعي وسيلة للحياة يعيش عليها، ويجوز أن يكون قد ورثها عن آبائه وأجداده، ويجوز أن يكون قد اختارها هو حرفة له، كما يجوز أن يكون راعيًا لمال غيره من أهل قبيلته أو من الأبعدين، وقد يكون هؤلاء من أهل الحواضر المستقرين، يسلمون ما لهم للرعاة، لترعى في البوادي، وليكثر نسلها وتصح أجسامها، فإذا أرادوا بيعها طلبوا من الرعاة إعادتها إليهم. ويقوم الأبناء في العادة برعي إبل الأب والعائلة، ونجد في القصص إشارات إليهم، لطمع الرجال في الإبل، وازدراءهم شأن الراعي لصغر سنه، فيستاقون إبله، مما يتسبب عن ذلك تعقب السراق، ووقوع حوادث بينهم وبين أرباب الإبل. ولا يربي الرعاة الدجاج والبط والحمام والأوز والطيور المختلفة والخنازير، إنما يربيها أهل الريف. والريف ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها، وأرض فيها زرع وخصب، أو حيث تكون الخضر والمياه والزروع2. وتربية الدجاج حرفة ينظر العربي إليها نظرة ازدراء واستهجان، فلا يليق برجل حر يحترم نفسه، أن يخدم طيرًا أو حيوانًا صغيرًا كالدجاجة، ولذلك كانت من حرف

_ 1 تاج العروس "5/ 132"، "خلط". 2 تاج العروس "6/ 123"، "تريف".

"النبط" والعرب المتنبطة، أي أهل الريف ممن خالط النبط، أي بني إرم، ومن تأثر بهم. وقد ربى أهل القرى الدجاج والطيور، لأكلهم، إذ كانوا يأكلون لحم الدجاج، ذكر أن الرسول والصحابة أكلت لحومها1، ونجد الشعراء يشيرون إلى صياح الديكة عند دنوهم من الأرياف، لتربيتهم الدجاج واعتنائهم بها، واعتبارهم لحومها من ألذ اللحوم. وترعى الماشية في القرى وفي المزارع بما يظهر من أخضر على وجه الأرض بعد الحصاد، ويقال لذلك: المحشرة2.

_ 1 تاج العروس "2/ 38"، "دج". 2 تاج العروس "3/ 142"، "حشر".

الرعاة والحضارة

الرعاة والحضارة: وقد حدث في الجاهلية ما يحدث اليوم: يتنقل الأعراب بمواشيهم وبيوتهم وكل ما يملكون من باطن جزيرة العرب في الجفاف، فيتجهون نحو الشمال، نحو بلاد الشأم والعراق للرعي والاكتيال. ينزلون هناك جماعات حيث يجدون الماء والكلأ، في مواضع مختلفة قد تكون بعيدة عن القرى والمدن ممعنة في البادية، وقد تكون في أطراف القرى وبين الحضر، وقد يدخلون بين الحضر للاكتيال والامتيار وللري في مواضع العشب والكلأ المحيطة بهم. وهم على هذه الحالة ما دامت بهم حاجة إلى كل أولئك، فإذا انتهت أو شح ما قصدوه انتقلوا إلى مواضع أخرى، وهكذا كانت سنة البدوي في الحياة. وقد كانوا يفدون دومًا من باطن الجزيرة، فيتوغلون في بادية الشأم ومنهم من كان يمعن في التوغل في تلك البادية حتى يصل أقصاها، أي أعاليها في الشمال، فيدخل الأرضين الجنوبية من "تركية" في الوقت الحاضر، وأعالي العراق وبلاد الشأم. ومنهم من كان يجد له طيب العيش والمقام، في هذه المهابط والمواطن الجديدة، فيقيم بها، وقد يتحضر قوم منهم، ومن هؤلاء تولد حضر العرب في هذه الديار. ولما كان في مجيء الأعراب على هذه الصورة محاذير وأخطار على الحضر وعلى الحكومات، اضطرت الحكومات المسيطرة على العراق وبلاد الشأم إلى اتخاذ وسائل

الحماية المختلفة لحماية أرضها منهم، فبنت المسالح ووضعت الحرس في المواضع المشرفة على البوادي الممسكة بعنان طرقها، لمراقبة القادم والخارج ولإبلاغ رجال الأمن بدنو الخطر، وحذرت من الأعراب، فأشرفت على حركاتهم وسكناتهم خشية انتهازها فرص الضعف، فتعبث على عادتها بالأمن، وقد أنشأ الرومان واليونان بركًا واتخذوا صهاريج لخزن مياه الأمطار ليستفيد منها الأعراب وليجدوا فيها ما يحتاجون إليه، فلا يتوغلوا عميقًا في بلاد الشأم، كما أقاموا حصونًا في أطراف البادية لمراقبة حركات الأعراب. وهكذا أمن حكام الشأم من خطر الأعراب، بعد أن اتبعوا معهم سياسة الترضية والتهدئة للاستفادة منهم في حفظ الحدود، وأقام قسم من الأعراب في المواضع التي تتوافر فيها المياه، وزرعوا، واشتغلوا ببعض الحرف مثل غزل الأصواف ونسجها، والتوسط في التجارة بين الأعراب وسكان المدن والقرى البعيدة عن البادية من بلاد الشأم، وزرع الحبوب وأشجار الزيتون والكروم. واستفادوا من هذا الحاصل الزراعي ببيعه للأعراب المحتاجين إليه. ولا حاجة بي إلى الإشارة إلى أثر المراعي في حياة جزيرة العرب، وفي حياة الأعراب بصورة خاصة. فعلى المراعي تتوقف حياة الماشية عماد الثروة والمال لأهل البادية، وهي من أهم المشكلات العويصة بالنسبة إليهم وإلى الحكومات حتى الآن. والأعرابي ومعه ماشيته وراء المراعي يفتش عنها في كل مكان، وينتقل إليها ليجد فيها الكلأ لماشيته. وسبب هذه المشكلة هو قلة وجود الماء في جزيرة العرب، وقلة الأمطار وانحصارها في مواسم ضيقة لا تمتد طويلًا، وانحباسها في بعض السنين، مما يسبب قصر زمن الرعي، وجفاف الكلأ والتأثير في حياة الماشية بحيث تتعرض للهلاك والموت، وهذا مما يحمل القبائل على التنقل من مكان إلى مكان، فتتزاحم وتتطاحن للاستيلاء على المراعي.

الفصل الرابع والتسعون: الثروة الحيوانية

الفصل الرابع والتسعون: الثروة الحيوانية مدخل ... الفصل الرابع والتسعون: ثروة الحيوانية والحيوان ثروة مهمة وخاصة لتلك البلاد الفقيرة التي لا تملك صناعة، والتي تكون مواردها الطبيعية محدودة. فتعوض عن الصناعة بتربية الحيوان وبالزراعة إن توفر الماء. والإبل مصدر ثروة عظيمة في الجاهلية، لاستفادتهم منها في أمور كثيرة عديدة. وبعدد الإبل تقاس الثروات. والإبل المال عند العرب، وأساس التعامل بينهم. قال بعض العلماء: "المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان. وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم"1. وفي الحديث نهي عن إضاعة المال. قيل أراد به الحيوان، أي يحسن إليه ولا يهمل2. ويطلق العرب على الإبل والبقر والشاء "النعم"، وزاد بعض علماء اللغة المعز والضأن. وذكر بعض آخر، أن النعم، إنما خصت بالإبل، لكونها عندهم أعظم نعمة. وقيل إن العرب إذا أفردت النعم، لم يريدوا بها إلا الإبل، فإذا قالوا الأنعام: أرادوا بها الإبل والبقر والغنم3. ويراد بـ"الماشية"، الإبل والغنم، وقيل الإبل والبقر والغنم، وقال بعض العلماء، وأكثر ما يستعمل في الغنم، وقيل: كل مال يكون سائمة للنسل والقنية

_ 1 تاج العروس "8/ 121"، "مول". 2 تاج العروس "8/ 121"، "موّل". 3 تاج العروس "9/ 79 وما بعدها"، "نعم".

من إبل وشاء وبقر، فهي ماشية. وأصل المشاء النماء والكثرة. ومشت الماشية مشاءً كثرت أولادها1. و"الشاة"، الواحدة من الغنم، تكون للذكر والأنثى، أو يكون من الضأن، والمعز، والظباء، والبقر، والنعام، وحمر الوحش. وفي الحديث: فأمر لها بشياه غنم، إنما أضافها إلى الغنم؛ لأن العرب تسمي البقرة الوحشية شاة، فميزها بالإضافة لذلك، وشاء، وشياه، وشواه، وأشاوه، وشوي، وشيه، في حالة الجمع2. و"السوام" و"السائمة"، الإبل الراعية، وقيل كل ما رعي من المال في الفلوات، إذا خلى وسومه يرعى حيث شاء. والسائم الذاهب إلى وجهه حيث شاء، يقال سامت السائمة، وأسأمها هو، أي أرعاها أو أخرجها إلى الرعي، وذكر أن السوام والسائمة كل إبل ترسل ترعى ولا تعلف في الأصل. وسوم الخيل، أرسلها إلى المرعى، ترعى حيث شاءت3. والجمل هو الحيوان الوحيد الذي رضي بمرافقة الأعراب وبمشاطرتهم حياتهم في البوادي. ألفهم وعاشرهم وشاركهم في مسراتهم وفي أحزانهم، صابرًا راضيًا، يحملهم ويحمل أثقالهم، لا يسألهم على ذلك أجرًا، وهو مع ذلك طعامهم إذا جاعوا، أو شعروا أنه قد مرض مرضًا لا يرجى شفاؤه، أو أنه قد كبر وأسن، فصار لا يصلح للعمل، ومن وبره صنعوا خيامهم. وهو قنوع يقنع بالقليل ولا يطالب بالكثير. ويصبر على العطش والجوع، لا يباريه في هذا الصبر أي حيوان من الحيوانات التي ألفت الإنسان وقاسمته حياته. إذا اخضرت الأرض، وجد طعامه هبة، لا يكلف مالكه شيئًا عن اقتضامه له، وإذا يبست الأرض قنع بالتهام اليابس، وبتناول العوسج ونباتات البر، التي يكون عمرها أطول من عمر الكلأ، وإذا بعد الماء صبر على العطش حتى يجده، لا يلح على صاحبه بوجوب تقديم الماء له، كما تفعل الخيل والحمير والبغال. وتعد لحوم الإبل من اللحوم اللذيذة الطيبة عند العرب. وتنحر عند قدوم شخصية كبيرة تقديرًا لها، وتنحر تقربًا إلى الأصنام وفي المناسبات الدينية، وتعقر

_ 1 تاج العروس "10/ 343"، "مشى". 2 تاج العروس "9/ 395 وما بعدها"، "شوه". 3 تاج العروس "8/ 350"، "سوم".

القبور إكرامًا لصاحب القبر، ويبيع الجزارون لحومها وسائر اللحوم الأخرى. ونظرًا إلى أهمية الإبل بالنسبة إلى حياة الأعراب، ولغلاء ثمنها، ولعدم تمكنهم من شراء عدد كثير منها، إلا بالنسبة للموسر منهم، اقتصدوا في ذبحها، إلا لعلة قاتلة ومرض مهلك؛ لأنها أصول أموالهم، فهم يريدون إكثارها، وفي إكثارها إكثار لأموالهم، ولا سيما في إكثار الإبل النجيبة التي لا توازى عندهم بثمن، والتي تعد مقياس الثراء والجاه والغنى عند العرب. وإذا مات فصيل الناقة أو ذبح، سلخ برأسه وقوائمه ثم حشي جلده تبنًا لتزأمه أمه وتشم رائحته، فتدر عليه ولا ينقطع لبنها، فتحلب. ويقال للجلد المحشو بالتبن "البو"1. و"الأشراط" الإبل أو الغنم تعزل للبيع. و"الشريطة"، الجماعة المعزولة منها، المعدة للبيع2. والجمل، هو الحيوان الوحيد الذي لم يجد الأعرابي في تربيته بأسًا ولا غضاضة، ولا حطة لقدر ومنزلة. فاجتناه وتباهى به وافتخر، وجعله مقياس ثرائه وماله، وأعز شيء عنده في حياته، وما الذي يملكه الأعرابي في دنياه غير هذا الجمل! أما البقر والغنم والحمير والبغال، فهي دون الجمل في المكانة والمنزلة عنده، فترفع لذلك عن تربيتها، واعتبر تربيتها وخدمتها وبيعها عملًا من أعمال "النبط" والخدم والعبيد والأعاجم، وكيف يقبل أن ينظف تلك الحيوانات وأن يجمع روثها، ويتحمل سقوط أبوالها عليه، وأن يشم رائحة أرواثها وبولها، وهي حوله أو في بيته، والروث قذارة. وكيف يرضى أن يحشها ,أن يقدم لها العلف والقت، ثم تروث له. جاء في المثل: أحشك وتروثني3؟. والجمل قليل الكلفة، لا يكلف أكله صاحبه كثيرًا، يعيش على ما تنبته الأرض، وعلى ما يجده على وجهها من يابس النبات، ومن عوسج ونبات ذي شوك، ومن نباتات أخرى تتبطر عليها بقية الماشية. وهو لا يطلب من صاحبه علفًا غاليًا، أو متنوعًا، كما تفعل بقية الماشية، مثل البقر والخيل والغنم

_ 1 الفاخر "249". 2 تاج العروس "5/ 167"، "شرط". 3 تاج العروس "1/ 626"، "راث".

والحمير، مع أنها ليست في صبر الجمل ولا في قدرته على تحمل المشقات وحمل الأثقال على مسافات طويلة في البوادي، وفي الرمال التي تفزع منها بقية الماشية، وتهلك إن أجبرت على السير بها. والإبل من حيث الأصالة والعرق أجناس وأصناف، فيها الإبل الأصيلة التي يفتخر أصحابها بها، ويظنون على غيرهم بها. ولا يعطون منها لأحد، وفيها الإبل الرخيصة، من الصنف الواطيء المعدود للبيع، لخساسة جنسه، ولعدم نجابته. وكان الملوك وسادات القبائل يجنون الأصيل من الإبل، فكان "النعمان بن المنذر"، وهو من أصحاب الهوايات في حيازة النادر من الأشياء، يمتلك الإبل الجيدة، ومنها إبل عرفت بـ"عصافير النعمان". وقد أمر للنابغة بمائة ناقة من عصافيره بريشها وحسام وآنية من فضة، أعطاها بريشها ليعلم أنها من عطايا الملوك. وكان للملك "المنذر" ملك الحيرة إبل نجائب منهن إبل عرفت بـ"عصافير المنذر"1. ومن الإبل الجيدة الشهيرة، النجائب القطريات. نسبت إلى قطر وما والاها من البر2. و"المهرية"، وقد نالت حظًّا واسعًّا من الشهرة حتى زعم أنها من إبل الجن3. وقد اشتهرت "جرش"، باليمن بإبلها، فقيل "ناقة جرشية" وبعير جرشي4. والأرحبيات من نجائب الإبل الكريمة، منسوبة إلى بني أرحب من همدان5، والصدفية، والجرمية، والداعرية6. وكانوا لا يبيعون الإبل النجيبة، إلا عن اضطرار. ويسمونها "الحرائز". ذكر علماء اللغة أن الحرائز من الإبل التي لا تباع نفاسة. ومنه المثل: لا حريز من بيع، أي إن أعطيتني ثمنًا أرضاه لم أمتنع من بيعه. والحرزة خيار المال؛ لأن صاحبها يحرزها ويصونها، ومنه الحديث في الزكاة: لا تأخذوا من حرزات أموال الناس شيئًا، أي من خيارها7.

_ 1 تاج العروس "3/ 408"، "عصفر". 2 تاج العروس "3/ 500"، "قطر". 3 تاج العروس "3/ 551"، "مهر". 4 تاج العروس "4/ 387"، "جرش". 5 تاج العروس "1/ 268"، "رحب". 6 الصفة "201". 7 تاج العروس "4/ 24"، "حرز".

وللعرب مصطلحات يقولونها في الإبل إذا كثر عددها. منها "الهجمة" القطعة الضخمة منها، قيل: أولها أربعون إلا ما زادت، و"الهنيدة"، المائة فقط، وقيل: هي ما بين الثلاثين والمائة، أو ما بين السبعين والمائة، أو ما بين السبعين إلى دوينها، أو هي ما بين التسعين إلى المائة. وقال بعض علماء اللغة: إذا بلغت الإبل ستين، فهي "عجرمة"، ثم هي "هجمة" حتى تبلغ المائة1. وتطلق لفظة "الكور" على الجماعة الكثيرة من الإبل2. والعارض الناقة المريضة أو الكسير، وهي التي أصابها كسر أو آفة، وكانوا ينحرون العوارض، ومن عادتهم أنهم لا ينحرون الإبل إلى من داء يصيبها، وتقول العرب للرجل إذا قدم إليهم لحمًا أعبيط أم عارضة. فالعبيط الذي ينحر من غير علة. والعرب تعير من يأكل العوارض، ومن ينحر الإبل المريضة للضيوف3. ويقال للإبل وللبقر "العوامل"4، ويظهر أن ذلك بسبب تشغيل أهل القرى لها في كثير من الأعمال في مثل الحمل وسحب الماء من الآبار والحراثة وأمثال ذلك من أعمال. وأطلقت اللفظة على بقر الحراثة والدياسة. وفي حديث الزكاة: ليس في العوامل شيء ... العوامل من البقر، هي التي يستقي عليها ويحرث وتستعمل في الأشغال5. وذكر "الهمداني" أن بالعربية الجنوبية من البقر الجندية والخديرية والجبلانية، وهي قوية6. وقد استخدم أهل العربية الجنوبية البقر في الحراثة، وكذلك غيرهم في معظم أنحاء جزيرة العرب. والخيل جماعة الأفراس7. و"الفرس" للذكر والأنثى، ولا يقال للأنثى فرسة8. و"الحصان" الفرس الذكر، أو هو الكريم المضنون بمائه، حتى

_ 1 تاج العروس "9/ 99"، هجم"، "2/ 547"، "هند". 2 تاج العروس "3/ 530"، "كور". 3 تاج العروس "5/ 42"، "عرض". 4 تاج العروس "8/ 34"، "عمل". 5 تاج العروس "8/ 35"، "عمل". 6 الصفحة "201". 7 تاج العروس "8/ 315"، "خيل". 8 تاج العروس "4/ 206"، "فرس".

سموا كل ذكر من الخيل حصانًا1. و"الحجر"، الأنثى من الخيل2. و"الطحون" الكتيبة من الخيل3. لم تكن الخيل كثيرة في الحجاز عند ظهور الإسلام. ففي معركة "بدر" لم يكن مع المسلمين سوى فرسين، فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد4، ولم يكن مع قريش سوى مائة فرس5. فقد كانت غالية الثمن، وتكاليفها عالية، فعسر على من لا مال له شراؤها والإنفاق عليها. وقد ورد في بعض الروايات أن "المقداد بن عمرو"، كان فارس يوم بدر، حتى أنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره. وكان اسم فرسه "سبحة"6. والأخدرية من الخيل منسوبة إلى "أخدر" فحل أفلت فتوحش، ذكر أهل الأخبار أنه كان لسليمان، أو لأزدشير "أردشير". وهناك حمر عرفت بالأخدرية كذلك، ذكروا أنها منسوبة إليه أيضًا. والخدري، الحمار الأسود، والأخدري وحشيه، ويقال للأخدرية من الحمر بنات الأخدر7. والأغنام عند الحضر وأشباههم، يربونها للاستفادة من لحومها وألبانها وأصوافها، ولحاجتها إلى الماء والكلأ والعلف بصورة دائمة، صارت من ماشية أهل الحضر والمراعي. وهي مصدر ثروة لأصحابها، تصدر إلى أسواق العراق وبلاد الشأم لبيعها هناك. ومن أنواعها المشهورة: الكباش العوسية. والعوس، ضرب من الكباش البيض8، ويكون صوفها أبيض، وهو مرغوب مطلوب. و"المعز" خلاف الضأن من الغنم، والمعز ذوات الشعور، والضأن ذوات الصوف، و"الماعز" واحد المعز9. ويستفاد من لحوم المعز ومن ألبانها وشعرها. وكان أعراب بادية الشأم الساكنين على مقربة من فلسطين، يتخذون بيوتهم من

_ 1 تاج العروس "9/ 180"، "حصن". 2 تاج العروس "3/ 125"، "حجر". 3 تاج "9/ 368"، "طحن". 4 الطبري "2/ 478". 5 الطبري "2/ 477". 6 الإصابة "3/ 434"، "رقم 8185". 7 تاج العروس "3/ 171"، "خدر". 8 تاج العروس "4/ 199". "العوس". 9 تاج العروس "4/ 82"، "معز".

شعر الماعز، كما تتخذ البسط والسجاجيد منها. و"العنز" الأنثى من المعز. ويكثر وجود المعز البري في جبال السراة وفي المناطق الصخرية، حيث يعيش على الأشجار والأعشاب البرية. ويربي الرعاة المعز، حيث يأخذون قطعانها إلى المواضع المعشبة القريبة من الماء لترعى هناك، وتربى بصورة خاصة في الأرضين الجبلية والمتوجة، حيث يتسلق المعز المرتفعات، فيأكل ما يجده أمامه من شجر وحشائش.

الطيور

الطيور: وقد عني أهل المدر وأهل الريف، بتربية الطيور، وعلى رأسها الدجاج. وقد عد أكله من طعام المترفين المتمكنين، لارتفاع ثمنه بالنسبة إلى الفقراء، وكانوا يتفننون في طبخه. وقد أكله النبي والصحابة1. والأوز عند العرب البط، صغاره وكباره2. ويعدونه من طير الماء، ويذكر علماء اللغة أن "بطة" و"بط" من الألفاظ المعربة3. واللفظة إرمية أصلها في لغة بني إرم "بطو"4. ويربي الزراع الحيوانات للاستفادة منها في الخدمات الزراعية وفي معاشهم، كالجمال للنقل والحراثة ومتح الماء من الآبار العميقة، والبقر للانتفاع بألبانها ولحومها وللحراثة ومنح الماء، والضأن والمعز والدجاج وغير ذلك من الحيوانات الأخرى الأليفة، مثل البط والأوز، وغيرها مما يربيه الحضر وأهل الريف.

_ 1 تاج العروس "2/ 38"، "دجّ". 2 تاج العروس "4/ 5"، "الأوز". 3 تاج العروس "5/ 108"، "بطّ". 4 غرائب اللغة "174".

تربية النحل

تربية النحل: والنحل ذباب العسل، يقع على الذكر والأنثى1 و"اليعسوب" أمير النحل

_ 1 تاج العروس "8/ 129"، "نحل".

وذكرها والرئيس الكبير1. والعسل من الأغذية الثمينة عند أهل الجاهلية، وقد استعملوه في المعالجة من أمراض عديدة، نص عليها في كتب الحديث والطب، وقد أطلق العرب لفظة "العسل" على ما يشبه العسل في الحلاوة أو في الشكل، فقالوا: عسل العرفط، وهو صمغ العرفط لحلاوته، وعسل اللبنى، صمغ ينضح من شجرة، يشبه العسل لا حلاوة له، ويتبخر به، وعسل الرمث، شيء أبيض يخرج منه كالجمان2. ويعسل النحل في "الخلى"، وقد يتخذ النحل خليته بنفسه، في الجبال وفي البساتين، فتكون خلايا طبيعية، وقد يعمل الإنسان بيده خلية النحل، كما يفعل من يربي النحل، فيتخذ لها ما يشبه الراقود من طين، ويقال لها "كوارة"، أو خشبة تنقر ليعسل فيها، وأشياء أخرى3. وهي خلايا أهلية. و"الكور" موضع الزنابير، و"كوارة النحل"، شيء يتخذ للنحل من القضبان والطين، ضيق الرأس تعسل فيه، وقد يراد باللفظة العسل في الشمع4. و"الشمع" الموم كذلك5. و"الجزع" خلية النحل6. وتعزل للنحل مواضع منتبذة عن البيوت يقولون لها: "المصانع"، واحدتها مصنعة7. والنحل من الجوارس في اصطلاح أهل الأخبار، ويعنون بذلك أنه يلحس الشجر والنور للتعسيل. فهو من الجوارس8. وقد عد "سترابون" العسل من جملة المحصولات التي اشتهرت بها العربية السعيدة، وذكر أنه كثير جدًّا فيها9. وهو كثير في اليمن، ولا تزال اليمن على شهرتها به10. وقد كانت الجبال والهضاب المنعزلة، من مواطن النحل الوحشي، وهناك

_ 1 تاج العروس "1/ 381"، "عسب". 2 تاج العروس "8/ 17"، "عسل". 3 تاج العروس "10/ 118"، "خلا". 4 تاج العروس "3/ 531"، "كور". 5 تاج العروس "9/ 70"، "الموم". 6 تاج العروس "5/ 301"، "جزع". 7 تاج العروس "5/ 423"، "صنع". 8 تاج العروس "4/ 118"، "جرس"، "3/ 78"، "ثمر". 9 مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 247". 10 أحمد فخري، اليمن ماضيها وحاضرها "23".

"معيدون"1، حذقوا الرقي والنزول من الجبال، يذهبون إلى الجبال للبحث بين صخورها عن خلايا للنحل لاستخلاص العسل منها، وقد اشتهرت جبال "بني سليم"، بكثرة ما بها من عسل، وبقيت على شهرتها هذه في الإسلام2. وقد عني الحضارمة بتربية النحل ودر العسل عليهم ربحًا طيبًا. ونجد في كتاب رسول الله لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي وإخوته وأعمامه "أن لهم أموالهم ونحلهم ورقيقهم وآبارهم وشجرهم ومياههم وسواقيهم ونبتهم وشراجعهم بحضرموت"3. وفي ذكر النحل بعد الأموال، إشارة إلى أهميته وكونه من مصادر الرزق عندهم في ذلك الوقت.

_ 1 المخصص "8/ 180". 2 ابن المجاور "1/ 14". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 266".

الأسماك

الأسماك: وقد أشير في القرآن الكريم إلى صيد البحر، فورد فيه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 1 وصيد البحر، ما يصطاد من البحار من حيوانات تعيش فيه. وقد كان العرب يعتاشون من البحر، ولا سيما سكان السواحل حيث يسد هذا الصيد جزءًا مهمًّا من معيشتهم، فيستعملون ما يحتاجون إليه، ويبيعون الفائض منه، أو يتقاضون به. وقد كان سكان السواحل يخرجون بالوسائل المتيسرة لهم لصيد السمك، ومنهم من يصطاد عند السواحل فيجمع ما يقع تحت يديه ليستفيد منه. ويقال لصياد السمك "العركي" كذلك، ولهذا قيل للملاحين "عرك"؛ لأنهم يصيدون السمك. وفي الحديث أن النبي كتب إلى قوم من اليهود على ساحل خليج العقبة عليكم ربع ما أخرجت نخلكم، وربع ما صادت عروككم، وربع المغزل. والعروك جمع عرك. وهم الذين يصيدون السمك2.

_ 1 المائدة، الآية 99. 2تاج العروس "7/ 161"، "عرك"، القاموس "3/ 213"، المخصص "1/ 28".

وقد عاش على صيد البحر خلق كثير من سكنة السواحل، في ذلك الزمن، حيث كانت سبل العيش عندهم قليلة ضيقة. وقد استفادوا من الحيتان والأسماك الأخرى الكبيرة بصورة خاصة للحمها الغزير، ولاستعمال عظامها وهي كبيرة في حاجات متعددة، حتى جلودها استفادوا منها. والحيتان معروفة في البحر الأحمر وفي البحر العربي والخليج. وهي لضخامتها يحتاج في صيدها إلى آلات وإلى أيدي متعددة. وقد أشير إليها وإلى ضخامتها في القرآن الكريم. والحوت، في رأي بعض علماء اللغة السمك كله. ولكن الغالب أنه ما عظم منه، والسمك في العرف أصغر من الحوت. ويجفف السمك في الشمس، ويملح أحيانًا، ويجفف في الهواء ليؤكل وقت الحاجة إليه. وقد يستعمل علفًا للحيوانات. وقد يطحن السمك المجفف ويؤكل طحينه، ويجعل علفًا للحيوانات، وقد يحفظ السمك في ماء مملح أو في خل، ويقال للسمك المملح ما دام طريًّا "القريب"1. وأما السمك الممقور في ماء وملح، فهو "النشوط"2، والمقر السمكة المالحة أو المنقعة في الخل3. و"الحساس"، سمك يجفف ويسمى "قاشعًا" كذلك4. ومن حيوان البحر "التامور"5، و"الاطوم" سلحفاة بحرية غليظة الجلد، يشبه بها جلد البعير الأملس وتتخذ منها الخفاف للجمالين، وتتخذ منها النعال. وقيل: إنها سمكة عظيمة، يقال لها المصلة والزالحة، تحذى من جلدها النعال6. و"النكيع" دابة من دواب البحر7، و"الزجر"، سمك عظام8، و"اللخم" سمك بحري، ضخم لا يمر بشيء إلا قطعه، وهو يأكل الناس. وقيل هو الكوسج، وقيل القرش9. و"الجمل"، كاللخم من السمك الضخم، ويقال

_ 1 القاموس "1/ 115"، "قرب"، تاج العروس "1/ 425"، "قرب". 2 القاموس "2/ 388"، "نشط"، تاج العروس "5/ 232"، "نشط". 3 القاموس "2/ 136"، "مقر"، تاج العروس "23/ 548"، "مقر". 4 المخصص "10/ 20"، القاموس "2/ 207". 5 المخصص "10/ 20 وما بعدها". 6 القاموس "4/ 75"، تاج العروس "8/ 187"، "أطم". 7 المخصص "10/ 20 وما بعدها". 8 القاموس "2/ 38"، تاج العروس "3/ 234"، "زجر". 9 تاج العروس "9/ 58"، "لخم".

له "البال"، قيل إن طول السمكة منه ثلاثون ذراعًا، ويقال هي "الكبع"1. و"الكبع"، جمل البحر، وقيل سمك بحري وحشي الهيئة، ومنه يقال للمرأة الدميمة: يا وجه الكبع2. و"الكنعد"، و"الكنعت" ضرب من سمك البحر3. و"سابوط" دابة من دواب البحر4. و"قضاعة" اسم كلب الماء، وقيل كلبة الماء5. و"قبع" دويبة بحرية6، و"الدوع" ضرب من الحيتان بلهجة أهل اليمن، وسمكة حمراء صغيرة كأصبع7. و"العنز"، ويقال لها "عنز الماء" أيضًا، سمكة كبيرة، لا يكاد يحملها بغل8. و"الجريث" سمك يقال له "الجري". ويظهر أن اليهود كانوا لا يأكلونه، ولما جاء الإسلام، سألوا عن أكله، فاختلف الناس فيه، فمنهم من أباحه ومنهم من نهى عنه. وذكروا اسم نوع آخر من السمك اسمه "الصلور"، قالوا إنه "الجريث"، وأما "الانقليس"، فإنه "مار ماهي" بالفارسية، أي حية الماء9. وقد ذكر أحد الشعراء أن الأزد كانوا يأكلون: "الشيم"، والجريث، والكنعد10، و"الشيم" نوع من السمك أيضًا11. فقال: قل لطغام الأزد لا تبطروا ... بالشيم والجريث والكنعد12 وقد كان أهل البحرين يحملون "الكنعد" المالح في الجلال البحرانية. يستخرجونه من البحر. وذكر الشاعر "جرير" هذا السمك أيضًا، وذكر أنهم كانوا يشوونه ويأكلونه مع البصل13.

_ 1 تاج العروس "7/ 263"، "جمل". 2 تاج العروس "5/ 490"، "كبع". القاموس "1/ 156، 234"، تاج العروس "2/ 487"، "كنعد". 4 القاموس "2/ 263"، تاج العروس "5/ 149"، "سبط". 5 القاموس "3/ 69"، "تاج العروس "5/ 470"، "قضع". 6 القاموس "3/ 65"، تاج العروس "5/ 457"، "قبع". 7 تاج العروس "5/ 333"، "داع". 8 تاج العروس "4/ 61"، "عنز". 9 تاج العروس "1/ 609"، "جريث". 10 قل لطغام الأزد لا تبطروا ... بالشيم والجريث والكنعد تاج العروس "2/ 487"، "كنعد". 11 تاج العروس "8/ 363"، "شيم". 12 تاج العروس "2/ 487"، "كنعد". 13 تاج العروس "2/ 487"، "كنعد"، "9/ 135"، "البحون".

الفصل الخامس والتسعون: الأرض

الفصل الخامس والتسعون: الأرض مدخل ... الفصل الخامس والتسعون: الأرض والأرض هي مصدر الثراء والغنى للإنسان، وعلى مقدار ما يملكه الإنسان من أرض، تكون ثروته ويكون غناه، وعلى قدر ما يبذله صاحب الأرض من جهد في استغلالها وفي تطويرها وفي استنباط ما في باطنها من خيرات يتوقف دخله منها وغلته التي تأتيه من أرضه هذه. ولا تعرف ملكية الأرض والماء، إلا بين الحضر، أما الأعراب، فإن هذه الملكية تكون عندها للقبيلة ولساداتها، حيث يحمون بعض الأرضين، أو يستنبطون الماء من أرض موات لا ماء فيها، فتتحول الأرض بذلك إلى أرض نافعة ذات ماء، يبسط حافرها حمايته عليها ويجعلها ملكًا له، وقد يزرع عليها، فتصير الأرض التي يزرعها ملكًا له. وبهذه الطريقة تكونت الملكية بين القبائل. ولا يستطيع أن ينال من هذه الملكية بالطبع إلا المتمكن من أبناء القبيلة ومن ساداتها، ممن يتمكن بما لديه من مال وإمكانيات من استنباط الماء ومن إحياء الأرض واستغلالها بما عنده من موال وعبيد. ويكتسب هذا التملك صفة شرعية، إذ يعتبر ملكًا صرفًا لصاحبه، ليس لأحد حق منازعته عليه. ولمالكه أن يتصرف به كيف يشاء، له أن يبيعه، وله أن يهبه، وإن مات انتقلت ملكيته إلى ورثته. فالأرض في معظم جزيرة العرب، حق عام مشاع لا تعود ملكيته لأحد.

إلى أن صار الرعي، وأخذت القبائل تنتقل من مكان إلى مكان، ففرض سادتها حق الحمى، وهو نوع من التملك المتولد من حق الاستيلاء بسبب الزعامة والقوة والاغتصاب، فصار الحمى ملكًا لسادات القبائل، وصارت الأرض المتبقية التي دخلت في حوزة القبيلة بسبب بسطها سلطانها عليها، ملكًا لها. ملكًا مشاعًا بين جميع أبناء القبيلة، ليس لأحد صد أحد من أبناء قبيلته عن ارتياد أرضها، إلا بقانون القوة والعزة والتجبر، أو بفرض سلطانه على الأرض باستنباط مائها، وهو حق لا يعمل به إلا القوي المتمكن. ومن هذا الإحياء للأرض الموات تكونت بعض المستوطنات في البوادي، جلب ظهور الماء فيها الناس إليها، فسكنوا حولها، وجاءوا من أطرافها للاستقاء من مائها، وشجع العثور عليه في هذا الموضع المتمكنين الآخرين على الحفر أيضًا، فكان إذا ظهر ماء عذب، جذب الناس إليه، وسحرهم بسحره، وأناخهم حوله، فتوسعت بذلك تلك المستوطنات، وتعددت، وظهرت فيها الملكية الفردية، والحياة الحضرية القائمة على الحيازة والتملك الفردي، بصورة أوسع مما نجدها عند البدوي الاعتيادي الذي لا يملك إلا بيته، وهو خيمته وأهله، وما قد يكون عنده من الإبل.

ظهور القرى

ظهور القرى: وصار بعض هذه المستوطنات قرى، توسع قسم منها حتى صار بمنزلة المدن، منها ما كان يضاهي "يثرب" أو مكة في الحجم، غير أنه لم يشتهر ولم يذكر، لعدم وجود تماس له وصلة مباشرة بتأريخ الإسلام. وهي مستوطنات سكن وماء وأسواق وتجارة، ذكرها أهل الأخبار بقولهم: "قرية كانت عظيمة الشأن" وبقولهم: "قرى". وصار بعض منها "قرى وزروع ونخيل"1، أي قرى غلبت الزراعة على أهلها. فظهرت الزراعة بها. زراعة نخيل، إن كانت زراعة النخيل هي الزراعة المتغلبة عليها. وزراعة نخيل وزروع أخرى، إن شاركت

_ 1 الصفة "147"، "حائط بني غير: قرية عظيمة بها سوق. وكذلك جماز قرية عظيمة أيضًا"، الصفة "142".

الزروع الأخرى النخيل في ذلك. وهذا هو سبب نص "الهمداني" وأمثاله ممن كتب عن مواضع جزيرة العرب، على القرى، بأنها قرى، أو قرى سكن، أو قرى نخيل1. أو قرى زراعة ونخيل، أو نخل وقرية2. وأما القرى التي غلب التعدين عليها، فقد نص عليها بأنها "معدن"، لتمييزها عن القرى الأخرى3. وهكذا ظهرت في البوادي مستوطنات زراعية رعوية، كفت نفسها بنفسها، توقف حجمها على كمية الماء فيها، وتوقف إنتاجها على مقداره وكميته، وظهرت فيها نتيجة لذلك الملكية الفردية، تملك المقيم فيها الأرض التي استقر بها وبنى بيته عليها، وتملك زرعه وحاصله إن كان له زرع، وتملك ماشيته إن كان صاحب ماشية. وتولد نتيجة لكل ذلك مجتمع مستقر، تعاون فيما بينه في الدفاع عن نفسه وعن ماله، وفي جلب السلع التي يحتاج إليها الإنسان والميرة، وتولد فيها تعامل وبيع وشراء، توقف حجمه بالطبع على حجم ذلك المكان وعلى مقدار وجود الماء به. فالبحث عن الماء والحصول عليه بالمال وبالخدم والعبيد، كون الملكيات الفردية في البوادي بين الأعراب، وأوجد المستوطنات الحضرية والمستقرات، وصير من بعض البدو حضرًا أو أشباه حضر، وغير بعض التغيير من معاييرهم ومقاييسهم الاجتماعية، بجعلهم زراعًا وفلاحين، بعد كره واستهجان للمزارع وللزراعة. وهذه المستوطنات هي مستوطنات نشأت وظهرت بجهد الإنسان وبعمله وجده، وباستثمار عقله وماله وفي تسخير أتباعه في استنباط الماء، وتحويل الأرض البكر إلى أرض زراعة وسكن، وفي جزيرة العرب مستوطنات عديدة من هذا القبيل، ومعظم مستوطنات يثرب، هي من هذا النوع، مستوطنات قامت على الآبار التي احتفرها المتمكنون من أهلها، فزرعوها وأقاموا الأطم بها لحماية الزرع والناس من الأخطار. والأطم القصور، وكل حصن بني بالحجارة أطم. وقيل هو

_ 1 "وفي ثنية الحفير نخل"، الصفة "148"، "روضة الحازمي، وبها النخيل وحصن منيع"، الصفة "142". 2 "والعذيب نخل وقرية"، الصفة "149". 3 "وقرية عظيمة يقال لها: العوسجة. وهي معدن. وكذلك شمام: معدن ... "، الصفة "149".

كل بيت مربع مسطح. وقد اشتهرت يثرب بآطامها. وذكر "الأعشى" آطام جو بقوله: فلما أتت آطام جو وأهله ... أنيخت فألقت رحلها بفنائكا1 وأقيمت الحصون لحماية هذه المستوطنات، واتخذت وسائل التحصن الأخرى لحماية النفس والزرع من الأعراب الجياع. ولا تزال في اليمامة آثار حصون وآطام عادية، تعود إلى ما قبل الإسلام بأمد، وكانت حماية ومنعة للساكنين حولها، وتشاهد آثار السكن في أطرافها، وآثار آبار مندرسة، وآثار زرع، هي مزارع القوم. فنجد في الإفلاج حصونًا، ونجد في "ملهم" حصونًا كان يتحصن بها "بنو يشكر"، ونجد في أرضين أخرى حصونًا بنيت كلها لدرء النفس من الأخطار2. واليمامة حصون متفرقة ونخل ورياض، وفيها بتل، والبتيل، هن مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين، ويرجع أهل الأخبار زمانها إلى "طسم" و"جديس"، وذكروا أن طول بعضها خمسمائة ذراع3. وقد أشار أهل الأخبار إلى قرى ومستوطنات قديمة في مواضع متعددة من جزيرة العرب، نسبوها إلى "عاد" وإلى "طسم" و"جديس" لبعض منها حصون وآبار. فالقرية، موضع قديم به ماء عادي، أي ماء قديم، إلى جنبه آبار عادية وكنيسة منحوتة في الصخر4. والقصر العادي بالأثل من عهد طسم وجديس5، و"القرية": القرية الخضراء، خضراء حجر، هي حضور لطسم وجديس، وفيها حصونهم وبتلهم. والبتيل: هن مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين. بناء بعضه مائتا ذراع أو خمسمائة ذراع مرتفعًا سامقًا في السماء6. وبقرية بني سدوس، قصر مبني بصخر منحوت، نسبه أهل الأخبار إلى "سليمان بن

_ 1 تاج العروس "8/ 187"، "أطم". 2 العقد الفريد "5/ 190"، البلدان "2/ 537". 3 الصفة "140 وما بعدها". 4 الصفة "152". 5 الصفة "160". 6 الصفة "141".

داوود"1. و"تر" نخيل وحصون عادية وغير عادية2. إلى غير ذلك من قرى وقصور وحصون قديمة ذكرها أهل الأخبار، أشرت إلى بعض منها في مواضع من هذا الكتاب، نشأت ونبتت في البوادي، في المواضع التي أمكن للإنسان بفنه البدائي وبعلمه في ذلك الوقت من استنباط الماء فيها. وبظهور ذلك الماء نبتت مستوطنات وزروع ونخيل وملكيات في أرض كانت ميتة ليس لها مالك، فأحياها استنباط الماء منها، وجعلها ملكًا لأصحاب الماء. وقد كانت هذه الآطام والحصون معاقل لأصحاب الأرض ومنازل لهم، ومخازن يخزنون بها حاصل أرضهم وماشيتهم عند دنو الخطر، وقد يحتمي بها عبيدهم وأتباعهم، فهي مثل قلاع الأشراف النبلاء في أوروبة أيام الإقطاع، ومثل المحافد والقصور في اليمن. وهي تختلف في الحجم والسعة باختلاف درجة ومنزلة المالك للأرض، من حيث تملكه للمال وللخدم والعبيد وما عنده من ثراء، وقد صارت سببًا في تحويل أصحابها إلى حضر أو شبه حضر، ولو أنهم كانوا وسط بواد وبين أعراب، فإقامتهم في أبنية مستقرة وحرثهم الأرض وزرعها، واستخدامهم للعبيد في الفلاحة، طورتهم بعض التطوير، حتى صاروا على شاكلة الحضر، يتركون منازلهم لزيارة القرى والأرياف، ويتصلون بالحضر وقد يقيمون بينهم على نحو ما يفعله كثير من سادات "شيوخ" القبائل في الوقت الحاضر، وكان جل سادات القبائل الكبار من أصحاب الأبنية الثابتة، لهم منازلهم ومزارعهم وأعرابهم الذين لم تمكنهم أحوالهم المادية من تملك الأرض والزرع، فاشتغلوا برعي الإبل. وقد تتعرض مزارع هذه المستوطنات إلى الأخطار مع وجود الحصون وأبنية الحماية الأخرى، فالمزارع الكبيرة لا يمكن حمايتها إلا إذا حميت بحصون عديدة من جميع جهاتها، وحمايتها على هذا النحو عمل مكلف باهظ، لذلك كان المهاجم يهاجم الزرع ليحرق قلوب أصحاب المتحصنين في الحصن، فلما هاجم "بنو يربوع" "بني يشكر"، تحصن "بنو يشكر" بحصنهم بقرية "ملهم"،

_ 1 الصفة "141". 2 الصفة "141".

فأحرق "بنو يربوع" بعض زرعهم، وعقروا بعض نخلهم، فلما رأى القوم ذلك نزلوا إليهم فقاتلوهم1. وقد اتخذ المزارعون ملاجئ لهم عند أماكن زرعهم يأوون إليها لحماية أنفسهم من أشعة الشمس ومن المطر والعواصف، وكانوا يسكنون بها، كانت هذه سنتهم في الجاهلية وفي الإسلام. وقد ذكر مؤلف "بلاد العرب" أن بروضة السويس قبتين مبنيتين يسكنها الزارعون2. وقد أولد هذا المجتمع تباينًا في منازل الناس، جعل من أصحاب الأرض الكبيرة ملاكًا كبارًا لهم أطم وحصون، يأوون إليها، ولهم خدم يخدمونهم ويخدمون زرعهم وماشيتهم، هم العنصر المنتج، والآلة التي تساعد على الإنتاج وعلى تكثيره، وعلى تزييد أموال الملاك، أما هم أنفسهم فمجرد خدم ورقيق، خلقوا لخدمة سادتهم ووجدوا لرعاية أموالهم والعناية بزرعهم وتكثير رزقهم. وإلى جانب هؤلاء الناس أحرار، كان في رزقهم شح، وفي حياتهم عسر، وقوتهم قليل، قاموا بمختلف الأعمال والحرف لإعالة أنفسهم وسد رمقهم. وقد تمكنت بعض هذه المستوطنات من إنتاج حاصل زراعي سد حاجة أهل المستوطنة، ومن بيع الفائض منه إلى الأعراب. وبينها مستوطنات زرعت الحبوب، مثل الحنطة وصدرتها إلى أماكن أخرى. فقد ذكر أن قرى اليمامة كانت تمون مكة بالحب، وتمون الأعراب بالتمور. وما هذه القرى سوى مستوطنات، ظهرت في البوادي بسبب وجود الماء فيها، وبسبب استنباطه من الأرض بحفر الآبار، فنمت وتوسعت، لاتساع صدر الماء بها، ولتفضل الأرض على من نزل بها بإعطائهم ماءً كافيًا، كفاية تساعد على توسع المستوطنة، فيما لو عمل النازلون بها على استنباطه من باطنها، واستعملوا عقولهم وأيديهم في استغلال التربة للحصول على موارد الرزق منها. وتحدد الأرض المملوكة بحدود، وقد توضع على أطرافها علامات، لتكون حدودها معلومة، فلا يتجاوز عليها. ويقال للحد بين الدارين، أو بين الأرضين "الجماد"، وقد أشير إلى "الجوامد"، أي الحدود في الحديث. ورد: إذا

_ 1 النويري، نهاية الأرب "15/ 385"، "يوم الحائر وهو يوم ملهم". 2 بلاد العرب "304".

وقعت الجوامد فلا شفعة في الحدود1. والأرض عامر أو غامر، والعامر المأهول والمزروع والمستغل، والغامر خلاف العامر، وهو الخراب. وقد قسم "عمر" السواد إلى عامر وغامر، أي عامر وخراب. والغامر الأرض ما لم تستخرج حتى تصلح للزراعة والغرس، وقيل: هو ما لم يزرع مما يحتمل الزراعة, وإنما قيل له غامر؛ لأن الماء يبلغه فيغمره2 ويقال للأرض العامرة: "السوداء"، وأرض سوداء، أرض مغروسة، والأرض في عرف العرب إذا غرست اسودت واخضرت، و"البيضاء" الخراب من الأرض؛ لأن الموات من الأرض يكون أبيض3. والبور: الأرض قبل أن تصلح للزرع، وقيل: هي الأرض التي لم تزرع، أو الأرض كلها قبل أن تستخرج حتى تصلح للزرع أو الغرس، وفي كتاب النبي لأكيدر دومة: ولكم البور والمعامى وأغفال الأرض، فالبور الأرض الخراب التي لم تزرع، أو هي التي تجم سنة لتزرع من قابل4. وذكر أن المعامي الأعلام من الأرض ما لا حد له. والأغفال ما لا يقال على حده من الأرض5. والمعامى على حد قول بعض العلماء: أغفال الأرض التي لا عمارة بها، أو لا أثر للعمارة بها6. والغفل: ما لا عمارة فيه من الأرضين، وقيل الموات، وأرض غفل لا علم بها ولا أثر عمارة، وأرض سبسب ميتة لا علامة فيها، وكل ما لا علامة فيه ولا أثر عمارة من الأرضين والطرق ونحوها غفل، وبلاد أغفال لا أعلام فيها يهتدى بها7. وقد ورد في كتاب الرسول إلى الأكيدر: "أن له الضاحية والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور"8.

_ 1 تاج العروس "2/ 325"، "جمد". 2 تاج العروس "3/ 454"، "غمر". 3 تاج العروس "5/ 10"، "بيض". 4 تاج العروس "3/ 60"، "بدر". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 289". 6 تاج العروس "10/ 255، "عمى". 7 تاج العروس "8/ 47"، "غفل". 8 ابن سعد، طبقات "1/ 288 وما بعدها".

والضاحية ما كان خارج السور من النخل، والضاحية البادية، وضواحي قريش النازلون بظواهر مكة1. والعامر، إما ملك للحكومة، وإما ملك للملوك ولذويهم، وإما ملك للمعبد، أي أوقاف حبست على المعابد، وإما ملك لأسر وأفراد، وذلك بالنسبة للحضر، وفي العربية الجنوبية بصورة خاصة. وأما بالنسبة إلى الأعراب، سكنة البوادي، فأرض القبيلة –كما سبق أن قلت- ملك لها، إلا ما حمى منها، فهو من حق أصحاب الإحماء. فالأرض إذن مشاعة بين أبناء القبيلة، ويدخل في ذلك الماء والكلأ. وقد عبر في أحد النصوص عن الأرض التي آلت إلى صاحبها بطريق التملك بـ"مقبلت قنيو"، أي الأرض التي أقبلت إلى الشخص بطريق الملكية2. ومعناها الأرض المقتناة أي الملك. وهي أرض ملكها صاحبها إرثًا من أهله. وذلك تمييزًا لها عن الأرض التي يتملكها صاحبها شراء، وقد عبر عنها بـ"شامتهو"، أي الأرض المشتراة3. وتعد كل الأرضين التي لا تملكها الجهات المذكورة ملكًا للدولة. ورقبتها بيد الحكومة، وتسجل باسم الشعب الحاكم. فإذا كانت الحكومة حكومة معين، تسجل الأرض باسم شعب معين، وإذا كانت الأرض في سبأ، تسجل باسم شعب سبأ، وقد توسعت رقعة الأرضين الحكومية بالفتوحات الواسعة التي تمت في عهد الملك "كرب ايل وتر"، وفي عهود الملوك المحاربين مثل "شمر يهرعش" الذين إذا انتصروا على خصومهم جعلوا أرضهم وما يملكونه غنيمة لحكومتهم، تابعة لبيت المال. وذلك على نحو ما فعله المسلمون في الفتوحات من تسجيلهم الأرضين التي فتحوها باسم "بيت مال المسلمين". وقد تؤجر أرض التاج للقبائل والعشائر بعقد يتفق عليه، تذكر فيه شروطه في الوثائق التي تدون لهذه الغاية، ويتم الدفع بموجبها، فيكون إما عينًا، وإما نقدًا. وقد يقوم سادات القبائل باستغلال الأرضين المؤجرة على حسابهم، وقد

_ 1 تاج العروس "10/ 218"، "ضحو". 2 Rep. Epigr. 2876, Tome, V, P.209. 3 الفقرة الثالثة من النص المذكور.

يؤجرونها أو يؤجرون أجزاءً منها إلى حاشيتهم أو أتباعهم في مقابل جعل يدفع لهم. فيكون دخلهم من هذه الأرض المؤجرة من العوائد التي اتفقوا على استحصالها من المستأجرين الثانويين ومن صغار الفلاحين. وقد كان الفلاح مغبونًا في الأكثر؛ لأنه بحكم فقره واضطراره إلى استئجار الأرض بشروط صعبة في الغالب، مضطر إلى الاستدانة في أغلب الأحيان، لضمان معيشته في مقابل تعهده بدفع ما استدانه في آخر موسم الحصاد وقطف الثمر فإذا حل الأجل، اضطر إلى دفع ديونه وما ترتب عليها من ربا فاحش، وما عليه من حق للحكومة ولصاحب الأرض، فلا يتبقى لديه ما يكفيه في عامه الجديد، فيضطر إلى تجديد الاستدانة، والغالب أن أصحاب الأرض هم الذين يقومون بتقديم الديون إلى الفلاحين، لربطهم طول حياتهم بالأرض، فلا يتمكن الفلاح من الهروب منها بسبب ثقل ما عليه من الديون، ووجوب دفعها مع فائضها كاملة إنْ أراد تركها، وهو حل لا يتمكن من تنفيذه، فيظل لذلك مرتبطًا مع عائلته بأرض المالك صاحب الديون. وكانت حكومة سبأ تستغل أرضها الخاضعة للخزينة العامة، أي "أرض السلطان"، إما بإدارتها نفسها وباستغلالها بتشغيل المزارعين بها على حساب الدولة، وإما ببيعها، وإما بتأجيرها في مقابل "أجر" يقال له "اثوبت" في لغتهم1. وامتلكت المعابد أرضين واسعة شاسعة، استغلتها باسم الآلهة، ودرت عليهم أرباحًا كثيرة. وهي أرضين سجلت باسمها منذ نشأت المعابد وظهرت، فارتبطت بها، وصارت وقفًا عليها. منها ما سجل في عهد "المكربين" أي حكومات رجال الدين في العربية الجنوبية، يوم كان "المكرب" هو رجل الدين والحاكم الدنيوي، فكانت نظرتهم أن الأرض وما عليها ملك للآلهة، ورجال الدين الحكام هم خلفاء الآلهة على الأرض، وهم وحدهم لهم حق الحكم والفصل بين البشر، وما يقرونه حق، وما يخالفونه ويحرمونه فهو باطل. وهم الذين يفصلون بين الحرام وبين الحلال، ويقررون ما يوافق حكم الآلهة وما يخالفه. فهم حكام الشرع والقانون.

_ 1 Glaser 904, Haevy 51, 1571, Handbudh, I, S. 137. Rhodokanakis, Katab. Texte, I, S. 70.

وكانت للمعابد الأخرى أحباس خصصت بها، وحميت للمعبد ولما ينذر له ويحبس عليه من حيوان يرعى فيه، فلا يتطاول عليه أحد، وقد سبق أن تحدثت عن حرم "العزى"، وهو شعب حمته قريش للصنم، يقال له "سقام" في وادي حراض، وقد كان حرمًا آمنًا، لا يجوز قطع شجره ولا الاعتداء على ما يكون فيه من إنسان وحيوان1. وهو قرب مكة بين "المشاش" و"الغمير" فوق ذات عرق، إلى البستان، وقيل بالنخلة الشامية2. كما كان للبيت الحرام، حرم واسع به شجر وزرع، سبق أن تحدثت عنه. وقد وجدت في بعض المناطق، مثل أرض قبيلة "بكل" "بكيل"، أملاك واسعة حبست على "المقه"، كانت تديرها وتتصرف بها عشيرة "مرثد"، ووجدت أرضون واسعة في مناطق أخرى، جعلت المعبد من أكبر ملاك الأرض. وقد استغل المعبد بنفسه بعض أملاكه، وأجر بعضًا آخر للأسر المتنفذة ولسادات القبائل، بموجب اتفاقات دونت وحفظت في خزائن المعابد. وقد كان المتنفذون قد استولوا على بعض حبوس المعابد، واستغلوها، ولما كانوا أقوياء، والأوقاف في مناطق نفوذهم، ولا يمكن للمعبد أن ينتزعها منهم، اضطر إلى تأجيرها لهم ببدل إيجار رمزي، ليحافظ بذلك على اسم وقفه، فلا يستبد أولئك السادة به، ويسجلونه ملكًا باسمه. فصارت هذه الأملاك من أملاك المعبد بالاسم، ومن أملاك الملاك الأقوياء بالفعل. ولا نجد في أخبار أهل الأخبار ما يفيد بوجود حبوس كبيرة وكثيرة، على المعابد في العربية الغربية أو العربية الوسطى أو العربية الشرقية، على نحو ما وجدناه في اليمن، ويعود سبب ذلك في رأيي إلى صغر مساحات الأرضين الخصبة المزروعة في هذه الأقسام، وإلى قلة الماء فيها، مما جعل من الصعب على الناس التخلي عن أرضين كبيرة للمعبد. بل ترينا أخبارهم أن أهل هذه المناطق كانوا لا يتأثمون أحيانًا من التطاول على "حرم" المعابد، فكانوا يقطعون شجره ويستقطعون قطعًا من أرضه لاتخاذها منازل لهم كالذي حدث لـ"حرم" بيت الله. وقد كان الملوك وكبار الملاك يقطعون أرضهم إقطاعات لاستغلالها. ويعبر عن

_ 1 البلدان "5/ 91"، "6/ 166". 2 تاج العروس "5/ 19"، "حرض".

ذلك بلفظة "بضع" في المسند، أي القطعة. وقد يراد بها الأرض المعطاة لجماعة لاستغلالها في الزراعة1. وفي أواخر عصور الملكية في سبأ، نجد طبقة الأشراف وسادات "الأعراب" "أعربم" والقبائل وقد ازداد نفوذها وقوي سلطانها، فنازعت الملك على صلاحياته في بعض الأحيان. وصار لرؤساء القبائل نفوذ قوي في المملكة، حتى قلصت حكم الـ"مزود" واستأثرت بالأرض، واحتكرتها، فاضطر الملوك إلى النزول عن حقهم في الأرضين إلى أولئك الرؤساء في مقابل اتفاقيات تحدد الواجبات والمبالغ التي يجب على رئيس القبيلة أن يقدمها إلى الملك في مقابل استغلاله للأرض، ويقوم الرئيس بإيجار أرضه لأتباعه المتنفذين في القبيلة أو لأفراد قبيلته الاعتياديين، يتقاضى على ذلك أجرًا يتفق عليه، باهظًا مرهقًا للفلاح المسكين الذي لا يملك في العادة أرضًا، فتحولت العربية الجنوبية بذلك إلى دولة إقطاعية، أرباحها وحاصلها وناتجها وقف وإقطاع لطبقات معينة متنفذة. وفي جملة تلك الواجبات تقديم عدد يتفق عليه من أتباع من حصل على أرض حكومية للقيام بالخدمات العسكرية، ووجوب الدفاع عن الحكومة عند ظهور خطر عليها. فيقوم المقتطع للأرض بإرسال رجاله على حسابه للدفاع عن الملك. وبذلك صارت جيوش الملك مؤلفة من جنود مرتزقة وجنود أرسلوا إلى القتال إرسالًا بأمر سادتهم تنفيذًا لالتزاماتهم التي ألزموا أنفسهم بها مع الملوك. ويمكن حصر الأشخاص الذين تمتعوا بنعم الإقطاع وامتيازاته بالملوك وبذويهم، والملك هو الراعي الشرعي للحق العام، وهو الناظر والوصي لأرض الدولة، وهو بهذه الصفة يصطفي لنفسه ولأولاده ولأهله خيرة الأرضين، ثم يليه من بعده رجال الدين الناطقون باسم الآلهة، وهم في نظر الشرع، أي الدين أصحاب الأرض؛ لأن الأرض ملك الآلهة. ثم يليهم قادة الجيش وصفوة الملوك وكبار الحكام، والسادات. سادات الحضر وسادات القبائل. أما السواد، وهم غالبية الناس، فليس منهم من يملك إلا المساحات الصغيرة من الأرض، وإلا البيوت، وأغلب الباقين عالة على غيرهم، يتعيشون باستعمال أيديهم في كسب قوتهم.

_ 1 راجع الفقرة الثانية من النص: Glaser 1000, A, B, 1693, Rhodokanakis, Kataba. Texte, Ii, S. 41.

وقد يؤجر سيد القبيلة أو سادات الأرض ما استحوذوا عليه من الحكومة من أرضين إلى أناس غرباء أجراء أم إلى قبائل أخرى، في مقابل شروط يعينها، فيستغلون الأرض بموجبها، ويكونون عندئذ في حمايته وفي رحمته ورعايته، فيعاملون عندئذ وكأنهم فرع من فروع قبيلة صاحب الأرض. وإذا استمر العقد، فقد يدمجهم الزمن في قبيلة سيد الأرض فيعدون منها، وينسبون إليها، مع أنهم غرباء عنها. ومن هنا نرى أن القبائل في العربية الجنوبية، لم تكن على نحو ما نفهمه من معنى القبيلة، من أنها بنوا أب واحد، وأصحاب نسب واحد يصعد حتى يتصل بجد، بل قد تكون من قبائل وعشائر مختلفة ومن جماعات عمل، تمثل مختلف الحرف، انضمت إلى قبيلة كبيرة1، أو إلى ملاك كبير، للعمل في أرضه أو لأداء خدمات له، فلما طال بها المقام اندمجت في القبيلة الكبيرة، أو في قبيلة الملاك الكبير، فعدت منها، أو في آل وأتباع صاحب الأرض، فعدوا من أتباعه، ونسبوا إليه، حتى إذا طال الزمن وتقادم العهد، صار ذلك الرئيس جدًّا لهم، وعد نسبهم منه. ولما ظهر الإسلام. كان الأقيال وسادات القبائل قد استبدوا بالأمر وتحكموا في رقاب الأرض، وأقطعوها فيما بينهم. ولقب بعضهم كما سبق أن تحدثت عن ذلك أنفسهم بألقاب الملوك. ومن هؤلاء "بنو وليعة" ملوك حضرموت: "حمدة"، و"مخوس"، و"مشرح"، و"أبضعة"2. و"الحارث بن عبد كلال"، و"نعيم بن عبد كلال"، و"النعمان" قيل ذي دعين "ذي يزن" ومعافر وهمدان3 وشريح بن عبد كلال، وزرعة ذي رعين4. و"جيفر بن الجلندي" و"عبد بن الجلندي" وهما من الأزد. وكان "جيفر"، يلقب نفسه بلقب ملك عمان5. و"ذو الكلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع"، و"ذو عمرو"6، و"معدي كرب بن أبرهة" صاحب

_ 1 J. Rychmans, L’institution Monarchique, P.178. 2 ابن سعد، طبقات "1/ 349". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 356". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 264 وما بعدها". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 262". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 266".

خولان1. و"ربيعة بن ذي مرحب" الحضرمي، وآل ذي مرحب، وكانوا يملكون الأموال والنحل والرقيق والآبار والمياه والسواقي والشراجع بحضر موت2. و"وائل بن حجر"، من كندة حضرموت، وكان يملك الأرضين والحصون والأودية، وكان "الأشعث" وغيره من كندة ينازعونه في واد3. ويقال لتقديم الفلاح أو المستأجر لأرض ما، ما عليه من حقوق تجاه الحكومة، التي استأجر الأرض منها، أو صاحب الملك، الذي استأجر أرضه لزراعتها، "دعتم" "دعت"4، أي "غلة"، تسلم إلى وكلاء الحكومة أو صاحب الأرض عن حقهم المتفق عليه. وتعرف الأرضون الحكومية التي تعطى باللزمة والإجارة لمن لا يملكها بـ"مقبلت" و"قبلت"، و"مقبل"، ومن أصل "قبل"5. تعطى في مقابل تعهد يتعهد الملتزم والمؤجر بدفع مبلغ معين أو حصة معينة إلى الملك أو ممثليه من الموظفين أو أصحاب الأرض، وذلك في مقابل استغلاله للأرض. وقد تدون شروط الاتفاق وتثبت ليرجع إليها إذا حدث اختلاف. وقد صالح الرسول أهل خيبر، على حقن دمائهم، وعلى أن يقوموا على النخل والزرع؛ لأن لهم علمًا بإصلاح الأرض وخدمة الزرع، ولم يكن لرسول الله وأصحابه غلمان يقومون بذلك، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما6. فبقوا يستغلونها على نصف ما خرج منها، فكان "الخارص" يأتي إليهم عند الموسم يخرص ما يخرج منها، فيأخذ النصف، ويترك النصف الآخر لليهود7. وصالح الرسول أهل "فدك" على نصف الأرض بتربتها، وعلى نصف النخل8.

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 266". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 266". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 287". 4 Handbuch, I, S. 137. 5 Rep. Epigr. 2876, Tome, V, P.209. 6 البلاذري، فتوح "37". 7 البلاذري، فتوح "39 وما بعدها". 8 البلاذري، فتوح "42 وما بعدها".

عقود الوتف

عقود الوتف: وقد وصلت إلينا وثائق مهمة تتضمن عقودًا في استغلال الأرضين، عرفت باسم "وتفم" "وتف". وهي عقود تبين أن الحكومة كانت تؤجر الأرض لمن يريدها في مقابل حقوق يقدمها إليها. وتشمل عقود الوتف، العقود التي عقدت بين المعبد والوجهاء وسادات القبائل أيضًا، والعقود التي عقدها كبار أصحاب الأملاك الذين فاضت أملاكهم عن حاجتهم إلى المحتاجين إليها في مقابل شروط اتفق عليها دونت في "الوتف". وقد عثر على نصوص "وتف" ورد فيها اسم "مرثد". مما يدل على أن "بني مرثد" هؤلاء كانوا يستأجرون الأرضين لاستغلالها، في مقابل تعهدات خاصة يقدمونها إلى أصحاب الأرض. وتتناول معظم هذه العقود "الوتف" استئجار أرضين خاضعة للحكومة وأرضين هي من أوقاف المعابد. وجدت المعابد أن من الصعب عليها إدارتها فأجرتها إلى "بني مرثد" لاستغلالها، وقد قام "بنو مرثد" بتأجير قسم منها إلى غيرهم من العشائر التابعة لهم في مقابل جعل يقدمونه لهم، يزيد على مقدار بدل الإجارة المتفق عليه مع المعبد، وبذلك استفادوا من الفرق بين بدل الإجارتين. ولدينا جملة نصوص "وتف" يفهم منها أن بعض المتعاقدين من مستأجري أملاك المعبد قد قدموا نذورًا وذبائح إلى الآلهة التي أوقفت عليها الأرض المستأجرة؛ لأنها أعطتهم غلة طيبة وحاصلًا وافرًا طيبًا بعد فقر وجوع. ويظهر من بعضها أن أولئك المستأجرين المتعاقدين كانوا قد تهاونوا في تنفيذ ما ورد في العقد، أو أنهم أخلوا بها عمدًا، فلم ينفذوا ما جاء فيها، واتفق أن نزلت آفات طبيعية بزروعهم، مثل جفاف أتلف معظم حاصلهم، ففشا الجوع بينهم، ففسروا ذلك على أنه غضب حل بهم من آلهتهم، وانتقام نزل بهم من منها. ولهذا كفروا عن ذنوبهم وتابوا عما ارتكبوه من آثام، بعدم تنفيذهم تلك الاتفاقيات، وعاهدوا آلهتهم على ترضيتها وتقديم الذبائح إليها في كل عام بانتظام، إن هي غفرت لهم قبح أعمالهم، وباركت في زروعهم، وهم في مقابل ذلك سيوفون بالعهد، ويؤدون ما فرض عليهم من "الوتف" كاملًا غير منقوص1.

_ 1 Osiander 10, Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 158.

وقد استغلت الأرض في العربية الجنوبية، ولا سيما في اليمن استغلالًا حسنًا بالنسبة إلى باقي أنحاء جزيرة العرب، وذلك لسقوط المطر الموسمي بها بكميات مناسبة للزراعة، ولوجود موارد طبيعية للمياه بكثرة فيها بالقياس إلى المواضع الأخرى من جزيرة العرب، ثم لوجود فجوات ومنخفضات بين الجبال والهضاب ساعدت على خزن مياه الأمطار بها، كما ساعدت على إقامة السدود في أفواه الأودية لحصر المياه في المنخفضات ومنعها من السيلان في البحر. وبسبب هذه الميزات ظهر في اليمن اقتصاد زراعي وحاصل زراعي، أمكن استغلاله في الداخل وتصدير الفائض منه إلى الخارج.

الإقطاع

الإقطاع: الإقطاع في الإسلام يكون تمليكًا ويكون غير تمليك. والقطائع إنما تجوز في عفو البلاد التي لا ملك لأحد فيها ولا عمارة فيها لأحد، وفيما ليس بمملوك كبطون الأودية والجبال والموات، فيقطع الإمام المستقطع منها قدر ما يتهيأ له عمارته بإجراء الماء إليه أو باستخراج عين منه، أو بتحجر عليه للبناء فيه. ومن الإقطاع إقطاع أرفاق لا تمليك كالمقاعدة بالأسواق التي هي طرق المسلمين، فمن قعد في موضع منها كان له بقدر ما يصلح له ما كان مقيمًا فيه، فإذا فارقه لم يكن له منع غيره منه، كأبنية العرب وفساطيطهم، فإذا انتجعوا لم يملكوا بها حيث نزلوا منها، ومنها إقطاع السكنى. وفي الحديث: لما قدم النبي المدينة أقطع الناس الدور، معناه أنزلهم في دور الأنصار يسكنونها معهم، ثم يتحولون عنها. ومنه الحديث، أنه أقطع الزبير نخلًا، يشبه أنه إنما أعطاه ذلك من الخمس الذي هو سهمه؛ لأن النخل مال ظاهر العين حاضر النفع، فلا يجوز إقطاعه، وأما إقطاع الموات، فهو تمليك1. وهو ضربان: إقطاع تمليك. وإقطاع استغلال. فأما إقطاع التمليك فتنقسم فيه الأرض المقطعة ثلاثة أقسام: موات وعامر ومعادن. فأما الموات، فعلى ضربين أحدهما ما لم يزل أمواتًا على قديم الدهر فلم تجر فيه عمارة ولا يثبت

_ 1 تاج العروس "5/ 474"، قطع"، إرشاد الساري "4/ 206"، صبح الأعشى "13/ 113 وما بعدها".

عليه ملك، فهذا الذي يجوز للسلطان أن يقطعه من يحييه ومن يعمره، والضرب الثاني من الموات ما كان عامرًا، فصار مواتًا عاطلًا. وذلك ضربان: أحدهما ما كان جاهليًّا، فهو كالموات الذي لم يثبت فيه عمارة، ويجوز إقطاعه. والضرب الثاني ما كان إسلاميًّا جرى عليه ملك المسلمين ثم خرب حتى صار مواتًا عاطلًا وقد اختلف فيه الفقهاء. وأما العامر فضربان: أحدهما ما تعين مالكه فلا نظر للسلطان فيه، والضرب الثاني من العامر ما لم يتعين مالكوه ولم يتميز مستحقوه، وهو على ثلاثة أقسام: تكلم فيها الفقهاء. وأما إقطاع الاستغلال فعلى ضربين: عشر وخراج. فأما العشر: فإقطاعه لا يجوز. وأما الخراج، فيختلف حكم إقطاعه باختلاف حال مقطعه، وله ثلاثة أحوال، ذكرت في كتب الفقه. وأما إقطاع المعادن، فهو ضربان، ظاهرة وباطنة، فأما الظاهرة، كمعادن الكحل والملح والقار والنفط، وهو كالماء الذي لا يجوز إقطاعه والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه. وأما المعادن الباطنية، ففي جواز إقطاعها قولان: أحدهما لا يجوز كالمعادن الظاهرة، وكل الناس فيها شرع. والقول الثاني: يجوز إقطاعها. وفي حكمه قولان: أحدهما أنه إقطاع تمليك يصير به المقطع مالكًا لرقبة المعدن كسائر أمواله في حال عمله وبعد قطعه يجوز له بيعه في حياته وينتقل إلى ورثته بعد موته. والقول الثاني أنه إقطاع أرفاق لا يملك فيه رقبة المعدن ويملك به الارتفاق بالعمل فيه مدة مقامه عليه، وليس لأحد أن ينازعه فيه ما أقام على العمل، فإذا تركه زال حكم الإقطاع عنه وعاد إلى حال الإباحة. فإذا أحيا مواتًا بالإقطاع أو غير إقطاع فظهر فيه بالإحياء معدن ظاهر أو باطن ملكه المحيي على التأييد كما يملك ما استنبطه من العيون واحتفره من الآبار1. وما الإقطاع عند أهل الجاهلية، فكان معروفًا عندهم، وقد أشير إليه في نصوص المسند. وقد كان إقطاع تمليك، وإقطاع استغلال. فأما إقطاع التمليك، فيشمل الموات والعامر والمعادن. وقد أقطع الحكام في كل هذه الأقسام الثلاثة. فكان الملوك، يهبون الموات أو العامر إلى من يريدون

_ 1 الأحكام السلطانية، للماوردي "190 وما بعدها".

من أقربائهم أو قواد جيوشهم أو سادات القبائل، أو كبار الموظفين ومن يرضون عنه. يعطونهم أرضًا مواتًا لا أصحاب لها، أو أرضًا عامرة لها أصحاب وملاك فقد كانوا يحاربون، فإذا انتصروا اصطفوا لأنفسهم ما أحبوا من أرض مملوكة للدولة أو للأشخاص، فسجلوه ملكًا باسمهم، وأعطوا ما شاءوا إلى خاصتهم وذوي رحمهم وقواد جيشهم، ملكًا لهم، يملكون رقبته وكل ما عليه من شجر ونبات وماء ومعادن ورقيق وأناس، لا ينازعهم في ذلك منازع، لهم حق بيعه إن شاءوا، أو حق إيجاره، أو إعطائه لأي شخص آخر لاستغلاله، وإن وجدت فيه معادن، فهي لهم أيضًا. وقد يغضب ملك أو أي حاكم متفرد بأمره على من هو من تبعته، فينتزع منه ملكه، ويستولي عليه وعلى كل ما عليه، وقد يقطعه كله أو جزءًا منه أحد خاصته، أو يقطعه إقطاعًا، لجملة أشخاص هبة أي تمليكًا، أو غير تمليك، أي عارية، رقبته للحاكم ومنفعته لمن أقطع له إلى أجل معين أو إلى أجل غير محدود، يكون له ولورثته حق الانتفاع منه. والحاكم الذي يقطع الإقطاع لمن يشاء ويهب الأرض لمن يحب، لا يعجز عن استعادة ما أقطعه تمليكًا أو استغلالًا متى أحب، فهو الآمر بأمره والناهي، لا يعارضه معارض، متى أراد الاستيلاء على أرض أو على إقطاع أقطعه أحدًا، أمر بالاستيلاء عليه، فيطاع أمره وينفذ ما دام قويًّا له الحول والطول. ولا يعني الإقطاع عند الجاهليين وجوب وجود العبيد أو الأقنان في الأرض لاستغلالها ولإعمارها، فقد يتعامل الإقطاعي، مع أجراء أو أحرار يتفقون معه على استثمارها في مقابل حقوق يدفعونها له. أما إذا كان متمكنًا غنيًّا له خدم ورقيق وأتباع، فقد يستخدمهم في خدمة ملكه بأجر ملكه بأجر أو بغير أجر، حسب مبلغ هيمنته عليهم ومقدار نفوذه بين قومه وأهله. وقد عرف إقطاع المعادن عند الجاهليين، ما ظهر من المعادن، وما بطن. ويظهر أن أهل اليمن لم يكونوا يفرقون في الإقطاع بين النوعين من المعدن. فكانوا يقطعون المعادن الظاهرة، مثل الذهب والملح، كما كانوا يقطعون المعادن الباطنة، أي المعادن التي يكون جوهرها مستكنًا فيها، لا يوصل إليه إلا بالعمل، كمعادن الذهب والفضة والصفر والحديد، فهذه معادن باطنة سواء احتاج المأخوذ

منها إلى سبك وتخليص أو لم يحتج، في حين أن المعادن الظاهرة، ظاهرة على سطح الأرض، ولا يبذل لإخراجها ما يبذل في إخراج المعادن الباطنة. أما الإسلام، فقد جعل حكم المعادن الظاهرة حكم الماء العد من ورده أخذه، لا يجوز إقطاعه والناس فيه سواء يأخذه من ورد إليه1. وفي كتب السير والتأريخ أن الرسول أقطع بعض سادات القبائل ورؤساء الوفود إقطاعًا، وأمر فكتبت لهم كتب التملك. فأعطى "الزبير بن العوام" "ركض فرسه من موات النقيع "البقيع"، فأجراه، ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطوه منتهى سوطه"2. وفي حديث "أسماء" بنت "أبي بكر"، أنه أقطع الزبير أرضًا من أموال بني النضير ذات نخل وشجر3. وقد سأل "الأبيض بن حمال" رسول الله، أن يستقطعه ملح مأرب، فأقطعه. "فقال الأفرع بن حابس التميمي، يا رسول الله إني وردت هذا الملح في الجاهلية، وهو بأرض ليس فيها غيره، من ورده أخذه، وهو مثل الماء العد بالأرض. فاستقال الأبيض في قطيعة الملح. فقد أقلتك على أن تجعله مني صدقة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هو منك صدقة، وهو مثل الماء العد من ورده أخذه"4. و"الأبيض بن حمال"، سبأي من أهل مأرب، وكان من سادة قومه. وفد على أبي بكر، لما انتقض عليه عمال اليمن، فأقره أبو بكر على ما صالح عليه النبي، من الصدقة، ثم انتقض ذلك بعد أبي بكر وصار إلى الصدقة. وكان مصابًا بـ"حزازة" في وجهه، وهي القوباء، فالتقمت أنفه5. وأقطع الرسول "بلال بن الحارث، المعادن القبلية جلسيها وغوريها وحيث

_ 1 الأحكام السلطانية، للماوردي "197". 2 الأحكام السلطانية "190"، "في أحكام الإقطاع". 3 إرشاد الساري "4/ 210"، البلاذري، فتوح "24، 42"، "موات البقيع"، صبح الأعشى "13/ 105". 4 الأحكام السلطانية "197"، "في أحكام الإقطاع"، صبح الأعشى "13/ 105". 5 الإصابة "1/ 29"، "رقم 19".

يصلح الزرع من قدس، ولم يقطعه حق مسلم"1. وذكر أن المراد من الجلسي والغوري: أعلاها وأسفلها، وذكر أن الجلسي بلاد نجد والغوري بلاد تهامة2. وذكر أن "القبلية"، ناحية من ساحل البحر، بينها وبين المدينة خمسة أيام، وقيل: ناحية من نواحي الفرع بين نخلة والمدينة، وهي التي أقطعها الرسول، بلال بن الحارث. وورد أيضًا: "معادن القلبة"3. ولم يذكر العلماء أسماء المعادن التي كانت في هذه الأرض. وقد باع بنو "بلال" "عمر بن عبد العزيز" أرضًا منها، فظهر فيها معدن أو معدنان، فجاءوا إليه، وقالوا: إنما بعناك أرض حرث ولم نبعك المعادن. فقال "عمر" لقيمه: أنظر ما خرج منها وما أنقفت وقاصهم بالنفقة ورد عليهم الفضل4. وأقطع الرسول "وائل بن حجر" أرضًا بحضرموت5. وكان أبوه من أقيال اليمن، وفد على النبي واستقطعه أرضًا فأقطعه إياها وكتب له عهدًا6. وأقطع "زيد الخيل" الشاعر الفارس لما وفد عليه في سنة تسع من الهجرة أرضين. هي "فيد" وكتب له بذلك7. فلم وصل موضع "قردة"، توفي بها فدفن هناك، وأقام عليه "قبيصة بن الأسود بن عامر" المناحة سنة8. وأقطع الرسول "حمزة بن النعمان بن هوذة" "جمرة" العذري، أرضًا من وادي القرى، وكان سيد "بني عذرة"9، وكان "جمرة" أول من قدم بصدقة "بني عذرة" إلى النبي، وقدم في وفد قومه. وقد نزل أرضه التي أقطعها الرسول له إلى أن مات10. وأقطع الرسول "ساعدة التميمي العنبري"

_ 1 الأحكام السلطانية "198"، "في أحكام الإقطاع"، تاج العروس "9/ 275"، "عدن". 2 الأحكام السلطانية "198". 3 تاج العروس "8/ 73"، "قبل". 4 البلاذري، فتوح "27". 5 إرشاد الساري "4/ 210". 6 الإصابة "3/ 592"، رقم "9102". 7 تاج العروس "7/ 315"، "خيل". 8 الإصابة "1/ 555"، "رقم 2941". 9 البلاذري، فتوح "48"، "حمزة". وضبطه الآخرون "جمرة"، الإصابة "1/ 244"، "رقم 1184"، "1/ 396"، "رقم 2110". 10 الإصابة "1/ 244"، "رقم 1184".

بئرًا في الملاة1. وأقطع "مجاعة بن مرارة" الحنفي اليمامي، وكان من رؤساء "بني حنيفة" أرضًا باليمامة يقال لها "العورة"، وكتب له بذلك كتابًا2 وكانت خصبة منتجة ذات ماء. وأقطع الخلفاء القطائع كذلك، فأقطع "أبو بكر" "الزبير" ما بين "الجرف" إلى "قناة". وأقطع "عمر" "الزبير" "العقيق"، وأقطع "خوات بن جبير" الأنصاري أرضًا تتصل بالعقيق، فعرفت بقطيعة خوات، فباعها، وأقطع "عليا" "ينبع"3.

_ 1 الإصابة "2/ 4"، "رقم 3027". 2 الإصابة "3/ 342"، "7724". 3 البلاذري، فتوح "26".

الحمى

الحمى: وتفرد العزيز من أهل الجاهلية بالحمى لنفسه، كالذي كان يفعله "كليب بن وائل"، فإنه كان يوافي بكلب على نشاز من الأرض، ثم يستعديه ويحمي ما انتهى إليه عواؤه من كل الجهات، وتشارك الناس فيما عداه حتى كان ذلك سبب قتله1. والحمى، موضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعى. وذكر أن الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدًا في عشيرته استعوى كلبًا فحمى لخاصته مدى عواء الكلب، لا يشركه فيه غيره، فلم يرعه معه أحد، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله2. وقد نهى النبي أن يحمي على الناس حمى كما كانوا في الجاهلية يفعلون إلا ما يحمى لخيل المسلمين وركابهم التي ترصد للجهاد ويحمل عليها في سبيل الله، وابل الزكاة كما حمى عمر "النقيع" لنعم الصدقة والخيل المعدة في سبيل الله3. وكان الرسول قد حماه، وهو موضع على عشرين فرسخًا من المدينة، وقدره

_ 1 قال العباس بن مرداس: كما كان يبغيها كليب بظلمه ... من العز حتى طاح وهو قتيلها على وائل إذ يترك الكلب نابحًا ... وإذ يمنع الأقناء منها حلولها الأحكام السلطانية "186". 2 تاج العروس "10/ 99"، "حمى"، إرشاد السناري "4/ 206". 3 تاج العروس "10/ 99"، "حمى".

ميل في ثمانية أميال1. وقد جعل بعض العلماء هذا النقيع: نقيع الخضمات، وجعله بعضهم غرز النقيع. وذهب بعضهم مذهبًا آخر في تعيين موضع المكان2. وقد حمى عمر "السرف" "الشرف" أيضًا3. وفي الشرف حمى "ضربة"، وضرية بئر وفي الشرف الربذة، وهي الحمى الأيمن. وفي الحديث أن عمر حمى الشرف والربذة4. ويقال لحمى الربذة "حمى الحناكية" في الوقت الحاضر. وهناك حمى آخر، يسمى "حمى النير"5. وذكر أن بالنير قبر "كليب وائل"، الذي تنسب إليه بدعة الإحماء، وهو قريب من "ضرية"6. ومن أشهر الأحماء وأكبرها في جزيرة العرب، حمى "ضرية". يذكر أهل الأخبار أنه سمي بـ"ضرية بنت ربيعة بن نزار". وقد حماه "عمر" لإبل الصدقة وظهر الغزاة، وكان ستة أميال من كل ناحية من نواحي ضرية، وضرية في وسطها7. وحمى "فيد"، ذكر أنه فلاة في الأرض بين "أسد"، و"طيء"، في الجاهلية. فلما قدم "زيد الخيل" على رسول الله أقطعه "فيد"8. وقد أشير إلى هذا الحمى في الشعر9. و"فيد" قلعة وبليدة بطريق مكة، في نصفها من الكوفة في وسطها حصن عليه باب حديد وعليها سور دائر، كان الناس يودعون فيها فواضل أزوادهم إلى حين رجوعهم، وما ثقل من أمتعتهم، وهي قر أجأ وسلمى جبلي طيء. وقد ذكرت في شعر لزهير10، وفي شعر للبيد بن

_ 1 إرشاد الساري "4/ 206". 2 تاج العروس "5/ 530"، "نقع"، "8/ 280" "خضم". 3 بين العلماء اختلاف في ضبط الاسم، فمنهم من ضبطه "السرف"، ومنهم من ضبطه بحرف الشين، أي "الشرف"، والصحيح أنه "الشرف" إرشاد الساري "4/ 206". 4 تاج العروس "6 "152"، إرشاد الساري "4/ 206". 5 الصفة "408". 6 تاج العروس "3/ 593"، "نير". 7 تاج العروس "10/ 219"، "ضرى". 8 تاج العروس "2/ 457"، "فاد". 9 سقى الله حيا بين صارة والحمى ... حمى الفيد صوب المدجنات المواطر تاج العروس "2/ 457"، فاد. 10 ثم استمروا وقالوا إن مشربكم ... ماء بشرقي سلمى فيد أو ركك تاج العروس "2/ 457"، "فاد"، و"رك ماء شرقي سلمى، أحد جبلي طيء. له ذكر في سرية علي، رضي الله عنه، إلى العلس"، تاج العروس "7/ 136"، "رك".

ربيعة1، وفي شعر لآخرين2. وقد زعم بعض أهل الأخبار أنها سميت بـ"فيد بن حام" أول من نزلها3. وقد يشير هذا الزعم إلى وجود جالية من العبيد في هذا المكان، عهد إليها زراعة الأرض. وذكر أنها عرفت بكعكها حتى ضرب به المثل: وتلك فيد قرية والمثل ... في كعك فيد سائر لا يجهل4 وقد أعطى الرسول "بني قرة بن عبد الله بن أبي نجيح" النبهانيين المظلة كلها أرضها وماءها وسهلها وجبلها حمى يرعون فيه مواشيهم5. ولا تزال عادة الإحماء متبعة حتى الآن. فـ"سجا" مثلًا وهو ماء يعد في حمى الأمير "فيصل آل سعود" خص به إبله وخيله6. وقد عرف الإحماء عند العرب الجنوبيين، وقد ذكر "الحمى" بلفظة "محمت" و"محميم" في نصوص المسند. أي "المحماة" و"المحمى"، ومعناها الأرض المحماة، أي "الحمى"7. وذكر علماء اللغة أن "الحمى" "المحجر". والمحجر: "الحديقة"، والمرعى المنخفض والموضع فيه رعي كثير وماء، وما حول القرية، ومنه محاجر أقيال اليمن، أي ملوكها، وهي الإحماء. كان لكل واحد منهم حمى لا يرعاه غيره. وذكر أن محجر القيل من أقيال اليمن حوزته وناحيته التي لا يدخل عليه فيها غيره8. وورد أن "بني عمرو بن معاوية" لما امتنعوا عن دفع الصدقات خرجوا على "المحاجر"، وهي أحماء حموها، فنزلوا بها وتحصنوا، وقاوموا منها

_ 1 مرية حلت بفيد وجاورت ... أرض الحجاز فأين منك مرامها تاج العروس "2/ 457"، "فاد". 2 لقد أشمتت بي أهل فيد وغادرت ... بجسمي صبرا بنت مصان باديا 3 تاج العروس "2/ 457"، "فاد". 4 تاج العروس "2/ 457"، "فاد". 5 ابن سعد، الطبقات "1/ 267". 6 محمد بن عبد الله بن بليهد النجدي، صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار "1/ 18". 7 Rhodokanakis, Stud. Lexi, Ii, S. 120, Mordtmann, Himj. Inschri, S. 42. 8 تاج العروس "3/ 126". "حجر".

جيش المسلمين1. ويظهر أن المحاجر، هي أبنية حصينة من حجارة، اتخذت في أملاك أهل المحاجر، للدفاع عنها أيام الخطر. ولم يستعمل الحمى كما يظهر من كتب الحديث والفقه في غير الرعي، رعي الكلأ الذي ينبت فيه. ولم أعثر حتى الآن على نص يفيد أنهم استعملوه لأغراض زراعية. ويظهر أن لفظة "الحمى" قد خصصت بهذا النوع من المراعي، لتمييزها عن المراعي العامة التي يتساوى فيها الجميع في حقوق الرعي، فهي مراعي مشاعة لا يجوز منع إبل أحد من الرعي فيها، وتساهم في الرعي فيها إبل السادة أصحاب الأحماء.

_ 1 الطبري "3/ 334"، "ذكر خبر حضرموت في ردتهم".

الموات

الموات: والأرض الموات التي لا مالك لها ولا ينتفع بها ولا ماء بها، والموتان من الأرض ما لم يستخرج ولا اعتمر، وأرض ميتة وموات من ذلك1. وقد يستصلح الموات ويعمر، ويكون من خيرة الأرضين المثمرة، فتكون رقبته بيد مصلحه؛ لأنه أحياه بعد أن كان مواتًا، وصرف عليه مالاً وجهدًا، فيكون له. ويكون إحياء الموات، بجمع التراب المحيط به حتى يصير حاجزًا بينه وبين غيره، أو سوق الماء إليه إن كان يبسًا وحبسه عنه إن كان بطائح أو مغمورًا بماء، أو بحرثه لزرعه أو لتعديله وتسويته لإعداده للزراعة أو للسكن أو لأي انتفاع آخر، أو بحفر آبار فيه لاسقائه أو لزرعه، أو للاستفادة من البئر، ببيع مائها، فتكون البئر ملكًا لصاحبها، ليس لأحد محاججته فيها، فقد صرف عليها وأنفق جهدًا في استنباط الماء منها. وفي التأريخ الجاهلي أمثلة عديدة لآبار حفرها أصحابها في أرض موات، فصارت ملكًا لهم، وصارت الأرض المحيطة بها ملكًا له قدر وصول الماء إليها.

_ 1 تاج العروس "1/ 587"، "موت"، اللسان "2/ 93".

إحياء الموات

إحياء الموات: وقد أثبت إقدام سادات القبائل وأعزة أهل القرى على إحياء الموات، باستنباط

الماء من جوف التربة وبالاستفادة من ماء السماء المنهمر قربًا، على أن من السهل تحويل الغامر من الأرض إلى أرض عامرة حية منتجة، وإلى تكوين قرى ومستوطنات في المفاوز والبوادي، كما وقع ذلك في اليمامة وفي الحجاز وفي مواضع أخرى، حيث حفر رجال آبارًا واستنبطوا عيونًا، أحيت الأرض بعد موت، وأولدت قرى عليها. غير أن عقلية البداوة، وأعني بها الروح الفردية ونزعة الغزو بسبب الجهل والفقر، وعدم وجود حكومة تحمي الأمن وتدافع عن هذه المستوطنات وعن مشاريع الأفراد، تشعر أن من واجبها البحث عن الماء في كل مكان، قد كانت من أهم العوائق في عدم إحياء الأرض وإنباتها، وفي تأخر سكان جزيرة العرب وفي تفقيرهم فكان على من يحيي أرضًا حماية ما أحياه بنفسه والدفاع عنه بأهله وبماله وبنفوذه وقوته، وإلا عرض نفسه وما أحياه للخطر، وهذا عمل مجهد شاق، جعل أكثر المتمكنين يحجمون عنه، ولا يقبلون عليه، ولم يقبل عليه إلى المجازف القوي المتمكن من القيام به بما له من جاه ونفوذ. وأهم ما تعرض له إحياء الموات من خطر، هو خطر الغزو ومحاولات الاستيلاء عليه. وحماقة البحث عن العامر لأخذه أو لأخذ ما يوجد فيه بدلًا من إحياء موات وتعميره. وذلك لما قلته من وجود الفقر وفقدان الأمن والحماية، فتحول قسم كبير من العامر بسبب هذا المرض إلى غامر، إذ خربت مصادر الحياة فيه وهو المياه وطمرت، فماتت، وماتت المستوطنات التي كانت عليها بسبب ذلك.

الماء والكلأ والنار

الماء والكلأ والنار: الماء إذا كان عامًا، فإنه لا يمتلك. والماء العام مثل عيون الماء التي لا تكون في حيازة مالك، بل تكون مشاعة بين الجميع، لا يملكها أحد من أهل الحي، وليس لرقبتها مالك، فماؤها للجميع. مثل أن تكون العين في قرية أو في مدينة أو في أرض قبيلة، فلكل إنسان حق الانتفاع منها، لا يمنعه أحد منها، ولا يستوفى بدل عن ذلك الماء. وقد ورد أن الناس شركاء في الماء، ماء الأرض وماء السماء، إذا كانا في أرض عامة، أي مشاعة، ينتفع منها كل إنسان1.

_ 1 تاج العروس "10/ 99"، "حمى".

وإذا كان الكلأ في أرض عامة، فإنه يكون أيضًا ملكًا للجميع، أي مشاعًا بينهم. فلا يجوز لأي أحد منع آخر من الاستفادة منه؛ لأنه مشترك بين الجميع، فلا يكون أحد أخص به من أحد، ولو أقام عليه وبنى عليه. وباستثناء الأحماء فإن الكلأ النابت في موطن قبيلة هو لكل أبناء القبيلة، ليس لأحد صد أحد عنه إلا إذا كان غريبًا عن القبيلة دخل أرضها بغير إذن من أبنائها وهو ليس في حماية أحد منها. فالكلأ في البادية لا يعود لمالك فرد، وإنما هو ملك القبيلة، أبناء القبيلة فيه شركاء، يرعون فيه سواء1. وقد ورد في الحديث، أنه قال: الناس شركاء في ثلاث: الكلأ والماء والنار. ومعنى النار الحطب الذي يستوقد به، فيقلع من عفو البلاد. وكذلك الماء الذي ينبع، والكلأ الذي منبته غير مملوك والناس فيه مستوون. وذهب بعضهم إلى أن الماء ماء السماء والعيون والأنهار التي لا مالك لها، وأراد بالكلأ المباح الذي لا يخص به أحد، وأراد بالنار الشجر الذي يحتطبه الناس من المباح فيوقدونه2. فكل هذه الموارد الثلاثة، موارد مشاعة للجميع، يشترك في الانتفاع بها كل الناس. وهو مذهب أهل الجاهلية أيضًا، ما لم يبسط أحد من الملوك أو سادة القبائل سلطانه عليها، وبعلن أنها في حمايته، إذ تكون حينئذ ملكًا له.

_ 1 تاج العروس "10/ 99"، "حمى". 2 اللسان "10/ 449"، "شرك".

الأرض ملك الآلهة

الأرض ملك الآلهة: الأرض كما سبق أن بينت ملك للآلهة. وكل شيء على هذه الأرض هو ملك لها كذلك. والناس أنفسهم عبيد لها "ادم"1. ورأيهم هذا يطابق رأي الإسلام بالنسبة إلى الملك. فالله في الإسلام مالك الملك، وهو مالك كل شيء. والمال مال الله والناس عبيد له. وعندهم أن ممثلي السلطة الإلهية على هذه الأرض هم الذين ينظمون الملك ويقيمون العدل بين الناس ويحقون الحق كما تأمرهم الآلهة به. وكما شرعته لهم وأوصت به. فهم في ذلك مثل الإسلام أيضًا في أن أولي الأمر

_ 1 "ادم"، "ادوم" "ادومت"، "أوادم"، "عبيد"، "عبدات"، Grohmann, S. 126.

أي "السلطان" يحكمون بين الناس بالقسط والعدل وبما أنزله الله على رسوله من أحكام وأوامر ونواه فهم ظل الله وخلفاء رسول الله على العباد. هذا هو المبدأ العام بالنسبة إلى الملكية والتملك عند العرب الجنوبيين. ويتمثل هذا الرأي في عقود التملك "شامت" "شمت" بالشراء المدونة باللهجات العربية الجنوبية، حيث يذكر المتعاقدون أنهم باعوا أو تملكوا ملكًا مثل أرض أو دار أو بستان أو غير ذلك، بموافقة "الإله الفلاني"، وبرضاه. وأنهم أجروا ذلك وفقًا لأوامره ونواهيه يكتبون ذلك على حجر يضعونه على حد الملك أو باب الدار، ليكون بمثابة شهادة تمليك. أو صك بيع أو شراء وسند "طابور"، أي سند تملك كما يعبر عن ذلك في لغة أهل العراق في الوقت الحاضر. وحكم أن الملك ملك الآلهة، لا يعني أن الملكية هي مجرد انتفاع إلى أجل يحدد أو لا يحدد. أو أن من حق السلطان انتزاع الملك من صاحبه والاستيلاء عليه أو إعطائه لآخر باعتباره ممثل سلطة الآلهة على الأرض، بل الملكية تملك دائم، لا يجوز لأحد منازعة صاحب الملك على ملكه؛ لأن انتزاع الملك من صاحبه ومن دون رضاه تعسف وظلم. ولا ترضى الآلهة بظلم أحد، حتى وإن صدر ذلك الظلم من "السلطان" أي الملك أو من خوله الملك الحكم نيابة عنه. وقد خولت القوانين المالك الذي يغتصب ملكه حق مقاضاة المغتصب عند ذوي الرأي، "أولي الأمر" وعند المعابد وإن كان ذلك المغتصب ملكًا. صحيح أن بعض الملوك ظلموا الناس، بمصادرة أملاكهم وأموالهم، وبالاستيلاء على كل ما ملكه أفراد رعيتهم من دون دفع تعويض عنه. غير أن هذا عمل شاذ، وقد وقع لظروف شاذة، كأن يكون الشخص الذي صودر ملكه من أعداء الملك أو قد قام بعمل معاد للحكومة، أو قاوم "أولي الأمر" بطريقة من الطرق، أو خالف أوامر المعبد وأحكام دينه إلى غير ذلك من أمور. فهذه أمور شاذة لا تكون قاعدة حكمية عامة؛ لأن الأصل القانوني هو: أن الملكية حق مقدس لا يجوز مسه ولا الاعتداء عليه؛ لأن الآلهة لا ترضى بذلك، وهي تنتقم من المعتدين مهما كانوا. والملك هو كل ما تملكه يمينك ويكون في حوزتك احتواءً قادرًا على الاستبداد به. وكل ما صار في ملكك إما شراءً وإما إرثًا أو لقطة لم يظهر مالكها ولم ينازعه عليها منازع ولم يعارض في تملكه لها قانون، وأما هبة أو ما شاكل ذلك.

وذلك بالنسبة إلى الملك الدائم الذي لا يمكن انتزاعه من صاحبه؛ لأن الآلهة أمرت به وأقرته. خلاف الملكية المؤقتة، التي تمنح الإنسان حق التصرف بالملك ولكن لأجل وبشروط تعين وتثبت لا يجوز تخطيها والعمل بخلافها. مثل التملك بعقد، أي بشروط وبعبر عن ذلك بـ"شامت" "شمت". ويكون ذلك شراءً، أو بعقد خاص أو بإيجار1. ولا نجد في الحجاز أو نجد أو العربية الشرقية ملاكًا مزارعين كبارًا على نحو ما نجده في اليمن أو في بقية العربية الجنوبية، وذلك لصغر مساحة الأرضين المسقاة بالمطر أو بالمياه الأرضية في هذه البلاد. نتيجة شح الأرض وبخلها على الناس بالماء. ولهذا لم يظهر في الحجان أو في نجد أو أرض العروض مزارعون كبار، لهم عدد كبير من الفلاحين والرقيق يستغلونهم في استغلال الأرض. ومع ذلك فإننا لا نجد حتى في اليمن أو في العربية الجنوبية أناسًا أصحاب أرضين واسعة أي من نسميهم اليوم بـ"إقطاعيين" على نحو ما نجده في أرض السواد، أي العراق، حيث كان الإقطاعيون يملكون مساحات واسعة من الأرض، تسقيها الأنهار دون كبير عناء، ويعمل فيها الفلاحون بأجور بخسة ورقيق الأرض والخول فتأتي لأصحابها بالمال والثراء.

_ 1 Grohmann, Arabien, S. 126.

الخليط

الخليط: ويعرف المشارك في حقوق الملك كالشرب والطريق ونحو ذلك بـ"الخليط". والخليط الشريك المشارك في الشيوع. وقد حدثت خصومات في موضوع هذه الشركة. وقد بحث فيها الإسلام. جاء في الحديث: "ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية". وورد أيضًا: "الشريك أولى من الخليط. والخليط أولى من الجار". وأراد بالشريك المشارك في الشيوع1.

_ 1 تاج العروس "5/ 132"، "خلط".

الفصل السادس والتسعون: الإرواء

الفصل السادس والتسعون: الإرواء مدخل ... الفصل السادس والتسعون: الإرواء تعطي الديانات السامية الماء أهمية كبيرة. وقد أثابت الأشخاص الذين يتقربون إلى آلهتهم بتقديم الماء إلى العطاشى، وفرضت عليهم تقديم الماء إلى العطشان لإغاثته وإنقاذه من الهلاك. وفي الأسفار القديمة أمثلة عديدة على ذلك، كما أشادت تلك الأديان بقيمة الماء في الحياة. ولا بد أن تكون للوثنية العربية النظرة ذاتها التي نراها في الأديان الأخرى بالنسبة إلى الماء، بأن أعطته شيئًا من التقديس والأهمية، وجعلت له مكانة في عقائدها، وذلك قياسًا على ما قلته من تقديس الأديان الأخرى له. وإن كنا نجهل ذلك لعدم ورود شيء عن ذلك في المسند. ولكن عدم ورود شيء من ذلك في المسند لا يكون دليلًا على عدم تقديس العرب الجاهليين له؛ لأن نصوص المسند لم تختم بعد، وما وصل إلينا ليس إلا شيئًا قليلًا بالنسبة إلى ما قد يعثر عليه في المستقبل ولا شك. وفي الأخبار المروية عن الجاهليين وغيرهم من تقديس بعض الآبار والعيون، والتبرك بشرب الماء منها، دليل على نظرة التقديس التي نظرتها الشعوب السامية وغيرها إلى الماء. فالماء هو الحياة. وفي القرآن الكريم: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1. ولا بد أن تكون هذه النظرة التقديسية هي التي حملت الجاهليين

_ 1 الأنبياء، الرقم 21، الآية 30.

على تقديس بئر زمزم. ولا يقدر أهمية البئر حق قدرها إلا قطان هذا البلد الكائن في واد غير ذي زرع وماء، ولولا زمزم والآبار الأخرى التي احتفرها أهله، والآبار والعيون الواقعة في أطرافه، يحملون منها الماء إلى بلدهم حملًا، لهلك أهله، أو هجروه. ولا يدرك المرء قيمة الماء إلا إذا كان في صحراء فقرة لا ماء فيها ثم نفد ماؤه. ولهذا كان الغيث رحمة عظمى للأعراب، يغيثهم بعد أن يتعرضوا للجدب والهلاك. ولا غرابة بعد ذلك، إذا رأينا العرب تقول في دعائها على الإنسان: ما له أحر الله صدره، أي أعطشه. وفي الدعاء: سلط الله عليه الحرة تحت القرة! يريد العطش مع البرد، ورماه الله بالحرة والقرة، أي بالعطش والبرد. وقالوا: أحر الرجل، فهو محر: عطشت إبله1. وأي شيء أعظم مصيبة وخطرًا على الإنسان من العطش في أرض حارة! وتعد بقاع جزيرة العرب من الأرضين الجافة، فالأمطار فيها، ولا سيما أقسامها البعيدة عن البحر شحيحة، والأنهار الكبيرة معدومة فيها، والعيون قليلة أيضًا، وجوها جاف لا نكاد نستثني منها إلى سواحلها، وهذا لجفاف صير القسم الأكبر من أرضها صحاري قاحلة تكسوها طبقة غليظة من الرمال في بعض الأماكن مثل الربع الخالي، كما جعلها غير قابلة للزرع. على أن من الممكن أن تبعث الحياة في مناطق واسعة شاسعة من هذه الأرضين، فتجعل أرضين منتجة مخصبة نافعة، إذا اتبعت الأساليب العلمية في معالجة الأرض، وفي استنباط الماء، وفي السيطرة على الأمطار والسيول التي تنشأ منها في بعض الأحيان وتغور في الرمال دون أن يستفاد منها، بإقامة السدود والحياض الصناعية التي تخزن فيها إلى وقت الحاجة، وذلك كما فعل الجاهليون في بعض الأماكن، وخاصة في العربية الجنوبية، من إقامة سدود تحجز السيول وتحبسها، فإذا انقطعت الأمطار وحل الجفاف استفيد منها في الإرواء. ونجد في بطون الكتب أسماء مواضع عديدة كبيرة كانت ذات عيون ومياه وآبار ونخيل وأناس عند ظهور الإسلام2. وهي اليوم صحاري خالية أو مواضع صغيرة لا أهمية لها. وذلك بسبب إهمال الإنسان لها واعتدائه عليها، وتحول

_ 1 اللسان "4/ 178 وما بعدها". "حرر". 2 ابن المجاور "1/ 9، 16 وما بعدها، 132".

الطرق التجارية عنها. ويظهر أن لاشتراك القبائل في الفتوح، ونزولها في العراق وفي بلاد الشأم والأماكن الغنية الأخرى بعد دخول هذه الأماكن في الإسلام أثرًا في هجرة الناس عن مواضع العيون والآبار في الحجاز وفي بقية جزيرة العرب، لقلة خيراتها وحاصلاتها وعدم تعلق الفلاح بالأرض في تلك الأماكن. أما في الوطن الجديد الذي حمله الفتح إليه، فقد وجد فيه خيرًا كثيرًا وأرضًا وماءً وجوًّا ألطف وأرق من الجو الذي كان يعيش فيه، وبذلك خسرت جزيرة العرب عددًا كبيرًا من سكانها، ممن فضل الهجرة على القعود. ومن يقرأ كتاب "صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز" وكتبًا أخرى من هذا القبيل، يعجب من التدهور الذي أصاب الزراعة في جزيرة العرب بعد الإسلام، إذ يجد أسماء مواضع عديدة كانت تكفي نفسها، أو تصدر الحاصل الزراعي إلى الأسواق المجاورة، ثم قل حاصلها كثيرًا بإهمال الزراعة. وإعراض الناس عنها، حتى بعض النواحي القريبة من مكة والمجاورة لها، كانت مشهورة بالخضر والفواكه والأزهار والرياحين، ثم فقدت شهرتها من بعد. وذكر "ابن المجاور" أن موضع "الزهران" كان معروفًا بزراعة "الزعفران"، وكان الموظفون يجبون جباية لا بأس بها منه ومن الزرع والضرع وسقي الأنهار. "فلما دار الدهر، نقص جميع ما ذكرناه، لاختلاف النيات مع قلة الأمانات"1. وفي هذا الكتاب أمثلة عديدة على هذا التدهور المؤسف الذي حل بالزرع وبالماء وبالأيدي العاملة المشتغلة بإصلاح الأرض، والذي كان من جملة أسبابه ما قلته من هجرة المتمولين والمثرين والسادة الكبار من الحجاز وبقية جزيرة العرب إلى العراق وبلاد الشأم، لوجود مجال واسع للإثراء، لا مثيل له في جزيرة العرب. وللعرب مصطلحات كثيرة في الإرواء وفي سقيهم وسقي إبلهم، لارتباط حياتهم بالماء، ولأثر الحر والعطش والجفاف فيهم وفي أموالهم، وفي جملة هذه المصطلحات "الشريعة"، "مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون. وربما شرعوها دوابهم، فشرعت تشرب منها. والعرب لا تسميها شريعة حتى يكون الماء عدًّا لا انقطاع له، ويكون ظاهرًا معينًا لا يستقى بالرشاء. وإذا كان من السماء والأمطار، فهو الكرع. وقد أكرعوه إبلهم فكرعت فيه وسقوها بالكرع. وهو مذكور في موضعه كالمشرعة"2. وتقابل هذه اللفظة لفظة "مشترعن" في

_ 1 ابن المجاور "1/ 9". 2 تاج العروس "5/ 395"، "شرع".

لغة المسند، أي "المشترع"، والمشرعة1. وقد تخصص أناس باستنباط المياه وتقدير حفر الآبار، كما تخصص آخرون بالسيطرة عليها وحصرها بالسدود. وسمى علماء اللغة المقدر لمجاري المياه "القناقن" وهو مثل المهندس في هذا الفن2. وذكر بعضهم أن "القناقن" البصير بحفر المياه واستخراجها، والمهندس الذي يعرف موضع الماء تحت الأرض، أو هو الذي يسمع فيعرف مقدار الماء في البئر قريبًا أو بعيدًا3. وقد قسم بعض العلماء المياه المستخرجة إلى ثلاثة أقسام: مياه أنهار، ومياه آبار، ومياه عيون. وقسموا مياه الأنهار إلى ثلاثة أقسام: أنها كبار لم يحفرها الآدميون، وأنها صغار، لم يحتفرها إنسان، وأنهار احتفرها الناس. فتكون ملكًا لمن احتفرها، لا حق لغيرهم في الانتفاع منها. وأما الآبار، فآبار تحفر للسابلة، فيكون ماؤها مشتركًا، وآبار تحفر للارتفاق بمائها. كالبادية إذا انتجعوا أرضًا وحفروا فيها بئرًا لشربهم وشرب مواشيهم. كانوا أحق بمائها ما أقاموا عليها في نجعهم، فإذا ارتحلوا عنها صارت البئر سابلة. وآبار مملوكة. وتكون ملكًا لمالكها لا ينازعه عليها منازع. وقسموا العيون إلى ثلاثة أقسام: عيون لم يستنبطها الآدميون. وعيون استنبطها إنسان، فتكون ملكًا لمن استنبطها، ويملك معها حريمها. وعيون يستنبطها الرجل في ملكه، فتكون ملكًا له4. واليمن مثل سائر أقسام جزيرة العرب، خالية من الأنهار الكبيرة كدجلة والفرات والنيل، وخلوها من أمثال هذه الأنهار أثرت كثيرًا –ولا شك- في وضع الزراعة فيها. ولكن الطبيعة عوضتها بعض التعويض عن هذه الخسارة، فصار حالها أحسن كثيرًا من حال الأقسام الشرقية أو الوسطى من جزيرة العرب. فجعلت لها رياحًا تحمل إليها الأمطار في مواسم معروفة، وجعلت لها أمكنة ملائمة لخزن هذه الأمطار الهاطلة، استبدت بها أيدي الإنسان، وتحكمت فيها بأن جعلت

_ 1 Rhodokanakis, Stud., Lexi., I, S. 113. 2 المعاني الكبير "المجلد الثاني"، "ص640". 3 تاج العروس "9/ 315"، "قنن"، المخصص "10/ 33". 4 الأحكام السلطانية "197 وما بعدها".

لها أبوابًا ومنافذ، وسدودًا في بعض المواضع، وتمكنت بذلك من خزن هذه الأمطار للاستفادة منها في أيام الحاجة. ثم جعلت لها تربة حسنة طيبة أريضة تنبت كل ما يبذر فيها، وتنبت ما يتساقط عليها من بذور متطايرة مع الهواء، حتى شاع صيتها وانتشر خبرها بين الناس، فعرفت باليمن الخضراء. وقد ساعدت هذه الأمطار أهل اليمن كثيرًا في تطوير أحوالهم من النواحي الاجتماعية، فمال كثير منهم إلى الاستقرار وإلى الاشتغال بالزراعة والتعيش منها. وساعد ذلك على سكناهم في المدر وفي القرى والمدن، على عكس ما يحدث في الأرضين التي غلبت عليها الطبيعة الصحراوية لانحباس المطر عنها، وهي حالة اضطرت أصحابها إلى التنقل فيها من مكان إلى مكان طلبًا للكلأ والماء، وجعلت من أصحابها أناسًا فقراء، يعيشون عيشة شظف وضنك وفقر، مع ما وهبتهم الطبيعة من ذكاء مفرط واستعداد للتطور إن تهيأت لهم الظروف الملائمة وساعدتهم الأحوال. والأمطار قليلة بصورة عامة في جزيرة العرب، فلم تعتمد الزراعة فيها على الأمطار كما تعتمد في البلاد الأوروبية، وإنما تعتمد على الجعافر والحسي والعيون والآبار. ولهذا السبب انحصرت الزراعة في الأماكن التي توجد فيها هذه الموارد المائية. ويختلف عمق الآبار باختلاف المواقع، وباختلاف سطوح المياه الجوفية عن سطح الأرض. ولما كانت بعض الآبار عميقة جدًّا بسبب بعد سطح مائها عن سطح الأرض، لم يستفد منها في الزراعة كثيرًا، وإنما استفيد منها في شرب الإنسان والحيوان فقط. وفي العربية الغربية مواضع عديدة كانت ذات ماء، ورد اسمها في كتب اللغة وفي كتب "الجغرافيا" والبلدان والرحلات. تكونت من سقوط الأمطار على الجبال والمرتفعات. وبعضها ماء عذب، وبعض منها ماء مج أو مالح، وقد استفيد منها في السقي وفي الزرع. ويظهر من دراسة ما ذكره العلماء عنها، أنه قد كان في الإمكان الاستفادة منها واستغلالها لأغراض زراعية، لو كان لأهل هذه الأرضين علم بكيفية السيطرة على الماء، وكيفية استنباطه من باطن الأرض، وكيفية الهيمنة عليه بحفر مجار له. فقد كانت لبني الحارث بن بهثة بن سليم. عيون ماء في صخور، لم يتمكنوا من الانتفاع بها؛ لأنهم لم يتمكنوا أن يجروها

إلى حيث ينتفعون بها1. وكان في "يليل" عين كبيرة تخرج من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماء، لم يزرعوا عليها إلا في مواضع يسيرة؛ لأنها تجري في رمل2، ولم يكن علم على ما يظهر في كيفية استخراج هذا الماء من ذلك الرمل. وكان في إمكانهم مسك مسايل الماء من الجري نحو البحر، وحبسها في أحباس، بصنع سدود لها، لو كان لهم علم ومال وحكومة كبيرة تكون عندها المؤهلات والإمكانيات لعمل السدود، للاستفادة من مياه بعض المنابع التي كانت تجري طيلة أيام السنة، فتحول بينها وبين الذهاب عبثًا على البحر، فتحيي بذلك أرضين مواتًا وعدم وجود حكومات كبيرة تقوم بمثل هذه الأعمال بضبط الأمن. وإشاعة الاستقرار، هو من أهم العوامل التي كانت سببًا في عدم الاستفادة من المياه وفي تأخر الزراعة في جزيرة العرب، فلو كانت هنالك حكومات كبيرة، لكان في وسعها الاستفادة من المياه الظاهرة والباطنة ومن مياه السماء، فتحيي بذلك أرضين كثيرة خصبة، وتحمي الزرع من عبث العابثين وتشيع الأمن والطمأنينة في النفوس فيقبل الناس على الزرع والعناية بالضرع. وقد ذكر "عرام" اسم موضع دعاه "ذا مجر"، ذكر أنه غدير كبير في بطن وادي قوران، وبأعلاه ماء يقال له "لقف"، وهو آبار كثيرة، عذبة المياه، ليس عليها مزارع ولا نخل، لغلظ موضعها وخشونته، وفوق ذلك ماء يقال له "شسي" ماء آبار عذاب3. وذكر اسم جبل يقال له "مغار" في جوفه أحساء، منها حسي يقال له "الهدار" يفور بماء كثير، لم يستفد منها فائدة تذكر4، فكانت المياه تذهب عبثًا إلى سباخ لعدم وجود من يتغلب عليها بعقله وبعلمه وبماله ويستروضها لتخدمه في إحياء الأرض وفي إعاشته وإعاشة ماشيته. أما العربية الشرقية والعربية الوسطى، فإنهما أقل مياهًا من العربية الغربية، لقلة ما يسقط عليهما من الأمطار. ولذلك صارت مواضع الماء فيها متباعدة، والمسافات التي يجب أن يقطعها المسافرون من موضع إلى موضع أطول من المسافات التي تقطع بين منازل العربية الغربية، لتباعد مواضع المياه. ومن أهم موارد الماء

_ 1 عرام، أسماء جبال تهامة "407". 2 عرام، أسماء جبال تهامة "398". 3 عرام، أسماء جبال تهامة "433". 4 عرام، أسماء جبال تهامة "433 وما بعدها".

في العربية الشرقية نهر "محلم" بهجر البحرين. ذكر بعض أهل الأخبار أنه في أرض العرب بمنزلة نهر بلخ في أرض العجم، وأن "تبعًا" نزل عليه فهاله. وأن مياهه الجوفية متصلة بسيح الأطلس الذي يكون مخرج مائه من عين الناقة1. إن قلة الأمطار أو شحها وانحباسها في بعض السنين وعدم وجود الماء في أكثر أنحاء جزيرة العرب، أثر أثرًا كبيرًا في حياة أهلها الاجتماعية، فحول قسمًا كبيرًا منهم إلى بدو رحل، يتنقلون من مكان إلى مكان طلبًا للكلأ والماء، هدفهم في هذه الحياة الحصول على الكلأ والماء. والكلأ والماء هما العز والجاه والثراء وأغلى شيء في هذه الدنيا، فقاتل بعضهم بعضًا من أجل الحصول عليهما، وقطعوا مسافات شاسعة بحثًا عنهما. ولم يتمكن الروم والرومان من منعهما من دخول بلاد الشأم بحثًا عن الكلأ والماء، ولم يتمكن الساسانيون من منعهم من الوصول على هذه الثروة العظيمة كذلك. هذه الثروة التي سببت اقتتال القبائل فيما بينها من أجل الحصول عليها. ولحماية الماء ولا سيما مياه الآبار من اعتداء الطبيعة أو الإنسان عليه أقاموا أبنية فوقه، في أيام الجاهلية وفي الإسلام. وقد أشار العلماء إلى قباب بنيت فوق المياه، فقد اتخذ أهل بطن "السيدان" قبابًا على كل ماء به، ومياهه تسمى الجرور والجراير، لبعد قعرها؛ ولأنها لا تخرج إلا بالغروب والسواني لبعد الماء فيها عن سطح الأرض2.

_ 1 الصفة "160". 2 بلاد العرب "318".

انحباس المطر

انحباس المطر: يؤدي انحباس المطر إلى كوارث ومصائب تترك أثرًا كبيرًا في أحوال السكان. تهلك أموالهم وهي كل ما عندهم في هذه الحياة، وقد يموت الكثير منهم من العطش والجوع. ولهذا عمد الناس في جزيرة العرب، كما عمد غيرهم إلى استرضاء آلهتهم بالتقرب إليها بتقديم الهدايا والقرابين، وبالتوسل إليها لإنزال المطر، وبالصلاة لها صلاة خاصة يقال لها صلاة الاستسقاء، هي صلاة أقرتها الأديان السماوية أيضًا،

لم يرد في نصوص المسند ويا للأسف شيئًا عنها، غير أننا نملك نصًّا جاء فيه أن شخصًا قدم قرابين إلى الإله "عثتر" وإلى معابده كلها؛ لأنه من على سبأ وأتباعهم، فأرسل عليهم "سقي خرف ودثا"1، أي "مطر الخريف ومطر الربيع". ومعنى ذلك أن القوم كانوا قد توسلوا إلى هذا الإله ليرسل عليهم الغيث الذي انحبس عنهم في موسميه المعروفين في اليمن، ونذروا له نذرًا إن استجاب لهم، وقد استجاب لدعوتهم فأرسله عليهم، فقدمت إليه تلك الذبائح والقرابين. وقد تحدثت في أثناء كلامي على الحياة الدينية عن عادة أهل الجاهلية في الاستمطار، وعن هذه النار التي كانوا يولعونها والتي يسمونها "نار الاستمطار". وهي عادة قد تكون مألوفة بين أهل مكة وأهل الحجاز، وهي من العادات التي أبطلها الإسلام، إذ أحل محلها صلاة الاستسقاء2. وقد تهطل الأمطار أحيانًا هطولًا شديدًا مؤذيًا، فتكون سيولًا عارمة تجرف الزروع والبيوت والمواشي وتنكب الناس بعيشهم الضيق الذي هم فيه. ونجد في كتب أهل الأخبار إشارات إلى سيول عديدة حدثت في الجاهلية والإسلام، في الحجاز واليمن وفي أمكنة أخرى، فأصابت الناس بأضرار كبيرة، حيث تنحدر بشكل سريع وشديد وبقوة كبيرة من الجبال والهضاب والمرتفعات إلى الأودية والسهول فتغمرها بالمياه، وفي كتب الأخبار أن السيول قد أصابت مكة مرارًا في الجاهلية وفي الإسلام. وهي في جملة المصائب والكوارث التي تنزل بالناس، فلا عجب إذا ما رأينا المثل العربي يقول: "سال بهم السيل، وجاش بنا البحر، أي وقعوا في أمر شديد، ووقعنا نحن في أشد منه؛ لأن الذي يجيش به البحر أسوأ حالًا ممن يسيل به السيل"3. ولفظة "سقى" من الألفاظ الواردة في المسند، بمعنى "مطر" و"إرواء"

_ 1 Rhodokanakis, Katab. Texte, Ii, S. 53, Glaser 1752. 2 ألا در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر تاج العروس "3/ 54"، "5/ 385"، بلوغ الأرب "2/ 164، 302". 3 تاج العروس "7/ 386"، "سال".

و"سقي"1. ولفظة "مسقت" و"مسقيت" بمعنى "مسقى" و"مسقية". ووردت لفظة الإرواء في النصوص العربية الجنوبية كذلك: وردت في نص معيني على هذه الصورة "رويم" "روي" بمعنى "إرواء"2، وذلك كما في هذه الجملة: "رويم لا نخلهمى"، أي "لإرواء نخيلهم"3، وفي هذا المعنى جملة: "رويم وسقيتم لنخلهمو"4، أي "إرواء وإسقاء نخيلهم". و"المكر" سقي الأرض، وأرض ممكورة، مسقاة، ومكر أرضه، سقاها5.

_ 1 Rhodokanakis, Stud., Lexi., Ii, S. 115, 119. 2 Halevy 174. 3 Rhodokanakis, Ii, S. 129. 4 Glaser 423, Rep. Epigr. 852. 5 تاج العروس "3/ 548"، "مكر".

أنواع السقي

أنواع السقي: ويسقى الزرع في جزيرة العرب، إنا بالسيح، والسيح الماء الجاري الظاهر على وجه الأرض1. ويقال له: "المسقوي"2. وأما بماء المطر، أي بما تسقيه السماء، ويقال له: "المظمى"3، وإما من الآبار، أي بالدلاء، وقد تستخدم النواعير في رفع الماء من الأنهار إلى السواقي لتجري إلى المزارع، أي بالطرق الفنية التي يستخدمها الإنسان في تسخير الماء في خدمته. ويقال لما سقته السماء من النخل "العثري". وقيل "العثري" هو من الزرع ما سقي بماء السماء والمطر وأجري إليه الماء من المسايل، وقيل النخيل التي تشرب بعروقها من ماء المطر4. وفي هذا المعنى "العذي"، والعذي أيضًا الموضع الذي ينبت في الشتاء والصيف من غير نبع ما، وقيل العذي: الزرع الذي لا يسقيه إلا المطر5. وقد اتخذت المرتفعات وذرى الجبال قرى ومزارع، صارت زراعها أعذاء، لا تسقى6. و"عمد" الأرض التي تسقى بماء السماء في لغة المسند7. ونقرأ لفظة "أعذاء" في كتب من وصف جزيرة العرب ومواضعها وزروعها8، وقد قصدوا بها زروع نبتت على ماء السماء.

_ 1 تاج العروس "2/ 168"، "السيح". 2 تاج العروس "10/ 179"، "سقى". 3 تاج العروس "10/ 179، 232"، "سقى"، "الضمياء". 4 تاج العروس "3/ 382"، "عثر"، اللسان "3/ 382"، "عثر". 5 تاج العروس "10/ 239"، "عذى". 6 عرام، أسماء جبال تهامة "407". 7 Jamme, South Arabian Inscriptions, P.445. 8 بلاد العرب "305".

المطر

المطر: ويقال للمطر في المسند "ذ ن م م" "ذنمم"، وقد وردت هذه اللفظة في عدد من النصوص1، ويقال له "دثن" أيضًا2. وهي "الدث" في عربية القرآن الكريم، يقال دثت السماء إذا نزل منها الدث، والدث هو المطر الضعيف3. ويراد بـ"دثن" "الدث" في المسند، المطر الذي يتساقط بعد الحر الشديد وفي نهاية القيط. ويقال للمطر الغيث كذلك. وذكر بعض علماء اللغة أن الغيث هو المطر الخاص بالخير الكثير النافع، ومن المجاز: الغيث بمعنى الكلأ ينبت بماء السماء، وكذا السحاب. ورأى بعض العلماء أن الغيث اسم المطر كله. وأما السبل، فالمطر أيضًا، أو المطر بين السحاب والأرض حين يخرج من السحاب ولم يصل إلى الأرض ومثله العثانين. وأما الودق، فالمطر أيضًا. ومنه النزل والرجع في كلام هذيل. وكذلك الخرج والقطر والخدر. وقيل: النصر، الغيث. والذهاب اسم المطر كله ضعيفه وشديده4. و"الديمة"، مطر يدوم أي يطول زمانه أيامًا. وأرض مديمة، أصابتها الديم، والمدام المطر الدائم5. و"الديمن" و"الديم"، هو الزرع الذي يسقى بماء المطر، في اصطلاح أهل العراق اليوم. وإذا بكر الغيث في أول الوسمي، قيل له "باكور"6. أما آخر أمطار السنة

_ 1 Mordtmann Und Mittwoch, Sab. Inschr., S. 101, Num. 76, S. 238, Num. 171. 2 Cih 540. 3 تاج العروس "1/ 621"، القاموس "1/ 166". 4 تاج العروس "1/ 632"، "9/ 120 وما بعدها"، المخصص "11/ 5". 5 تاج العروس "8/ 296"، "دوم". 6 تاج العروس "3/ 57"، المخصص "11/ 8".

الذي يأتي في وقت الخراف، أي أواخر الخريف1، فإنه "خرفن" في نصوص المسند، أي "الخراف". ويقال للمطر الذي ينزل في فصل الخريف: "الخريف"، ويقال له: "الخرفي" كذلك، أو هو أول المطر في أول الشتاء، وهو الذي يأتي عند صرام النخل، ثم الذي يليه الوسمي. وهو عند دخول الشتاء، ثم يليه الربيع، ثم يليه الصيف، ثم الحميم، وقال بعض علماء اللغة: أول المطر الوسمي، ثم الشتوي، ثم الدفيء، ثم الصيف، ثم الحميم، ثم الخريف، ولذلك جعلت السنة ستة أزمنة. وقال أبو حنيفة: ليس الخريف في الأصل باسم للفصل، وإنما هو اسم مطر القيظ، ثم سمي الزمن به. والحجاز كله يمطر بالخريف، ونجد لا تمطر به2. والمزن السحاب. وقد وردت اللفظة في القرآن الكريم. ويقول علماء اللغة أن المزن جمع مزنة، وهي السحاب الأبيض. وقد كان جل اعتماد أهل جزيرة العرب في الشرب، وفي الإرواء على ماء المطر. كما نجد ذلك في الآية: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} 3. ولارتباط حياة العرب بالمطر، كثرت الألفاظ المتعلقة به في لغتهم. ففي معاجم اللغة ألفاظ كثيرة في معنى المطر وفي أمور تتعلق به، في مثل السحاب، وأنواعه وأسماء قطعه، وما شاكل ذلك من ألفاظ وأسماء، تمثل لك مدى عناية العرب بالمطر، لشدة حاجتهم إليه. وللعرب علامات إذا ظهرت دلت عندهم على أنها أمارات الغيث وعلاماته، منها الهالة التي تكون حول القمر، إن كانت كثيفة مظلمة، كانت من دلائل المطر، ولا سيما إن كانت مضاعفة. ومنها "الندأة"، وهي الحمرة التي تكون عند مغرب الشمس أيام الغيوث. والمبشرات، وهي عدة علامات تتوالى، تدل عندهم على نزول الغيث. ومنها الرعد والبرق، ومنها أن ترى القمر أو الكواكب في الصحو يحيط بها لون يخالف لون السماء، وكذلك إن رأيت القمر في الغيم

_ 1 المخصص "11/ 5". 2 تاج العروس "6/ 82". 3 تاج العروس "9/ 345". "مزن".

وإن كان قزعًا كأنه تحيط به خطوط كخطوط قوس المزن، وهي القسطانية. وبعض الرواة يجعل قوس الغيم أيضًا بدأة1. وهم يعتبرون الغيث نعمة ورحمة، ولهذا كانوا يفرحون بنزوله ويستبشرون، لا سيما إذا كان نزوله بعد قحط وجدب. ويهنأ أحدهم الآخر بانصبابه لما سيصيبهم جميعًا من خير عميم. ولكنه قد يصير نقمة إذا نزل سيلًا مدرارًا، يكتسح كل شيء يجده أمامه، وقد تمتلئ به بطون الأودية، فتغرق سيولها القرى والمستوطنات. مثل ما كانت تصاب به مكة من السيول. فمكة في واد على طرفيه جبال، إذا نزلت عليها الأمطار سالت إلى باطن الوادي، فتؤذي البلدة والحرم، وقد أقيمت الردم لمنع السيول من إغراق الحرم، والبيوت، غير أن السيول تكون قاهرة جبارة في بعض الأحيان، فلا يقف أمامها ردم ولا سكر. وقد أشار أهل الأخبار إلى المهم من هذه السيول2. وقد هددت السيول يثرب بالغرق أيضًا، مع أنها ليست في واد، وذلك من سيل "مهزور". وقد أقام "عثمان" ردمًا لمنع سيل هذا الوادي من إغراق المدينة3.

_ 1 "قوس المزن"، تاج العروس "5/ 206"، القاموس "2/ 279". 2 البلاذري، فتوح "65". 3 البلاذري، فتوح "24".

الاستفادة من مياه الأمطار

الاستفادة من مياه الأمطار: وقد اضطر سكان جزيرة العرب أن يلجئوا إلى الوسائل الصناعية للاستفادة من المياه، وذلك لقلتها وشحها، سواء أكانت مياه أمطار أم مياه أرض، متدفقة من أجواف الأرض على هيئة عيون أو جعافر. وفي جملة ما اتخذوه إقامة السدود في الأرضين التي تساعد طبيعتها على إقامة السدود، وحفر الآبار للاستفادة منها في السقي وفي الزراعة بمقياس يتناسب بالطبع مع كميات مياه الآبار. وقد اتخذ أهل المواضع المرتفعة مثل الأماكن الجبلية التي يصعب نقل الماء إليها كل الوسائل الممكنة للمحافظة على ماء المطر والسيطرة عليه وجمعه لئلا يذهب

سدى، فحفروا الصهاريج العميقة في البيوت وفي أماكن أخرى ليسيل إليها، وسلطوا مياه الميازيب على أماكن تسيل منها إلى هذه الصهاريج. ولا يزال بعض الميازيب الجاهلية في حالة جيدة يستعمل في الأغراض التي صنع من أجلها. وهي مصنوعة من الصخور، وبعضها من المرمر الأبيض الجميل. وفي مسجد "حصن غيمان"، صهريج جاهلي قديم، يستعمل لخزن المياه. وهناك صهاريج عديدة في هذا الموضع، كلها من أيام الجاهلية. وبعضها مفتوح على هيأة حوض، وأكثره من النوع المغطى والمنقور في الصخر. وقد تساقطت سقوف بعض هذه الصهاريج أو أصيبت بتلف في بعض أقسامها وظهرت هيآتها للعيان، فعرفت أشكالها وأعماقها، ولبعضها ممرات توصل بعضها ببعض، فتجعلها كأنها شبكة تربط مساحة واحدة تملأ بالماء تحت سطح الأرض. ولهذه الصهاريج فتحات تستخرج منها المياه للإرواء1. ولهذه الصهاريج أهمية خاصة في أيام الحروب، إذ تمنع العدو من قطع الماء عن المحاصرين، وبذلك يستطيعون البقاء مدة طويلة يدافعون عن أماكنهم خلف الأسوار. وقد استخدمت الصهاريج لخزن الماء، حتى البيوت استخدمتها لذلك، فكان إذا وقع الغيث سال إلى هذه الصهاريج فخزنته. وقد اتخذ أهل المدن الصهاريج الكبيرة لتموين الناس بالماء، وبنوا الصهاريج في المعابد ليستفيد منها المتعبدون القادمون إليها ورجال الدين. وقد عثر على صهاريج عديدة في حضرموت وفي اليمن، عرفت عند الحضرميين بـ"نقب". وهي عبارة عن حفر نقرت في الصخور وفي المواضع الحجرية وفي مواضع أخرى، يبلغ قطر أفواهها وفتحاتها زهاء المتر في الغالب. أما أعماقها فهي مختلفة وكذلك أقطارها السفلى أي من جهة قواعدها، فقد عثر على بعضها، وأعماقها تتراوح من ثلاثة أمتار إلى أربعة، وأقطارها السفلى تتراوح من خمسة أمتار إلى ستة. ويقال لعملية الحفر "نقب" كما في هذه الجملة: "نقبو نقب"2 أي "نقبوا نقبًا"، ومعناها "حفروا نقبًا"، و"حفروا صهريجًا".

_ 1 Sabaeica, I, S. 76. 2 Ry 63, Wissmann Und Hofner, Beitrage, S. 56.

وتوصل هذه الصهاريج بمجاري تحت الأرض قد يبلغ أطوالها جملة كيلومترات لإيصال الماء منها إلى مواضع السكن أو الزرع. وتكون الصهاريج مرتفعة عن مسايل المياه الأرضية، ليسيل منها الماء إلى الجهات التي تريدها. ويكون معينها هو ماء المطر1. ويظهر أن طريقة توزيع الماء من النقاب بمسايل للمياه أرضية كانت شائعة قبل الإسلام في المدن والقرى المرتفعة البعيدة عن الغيول والنهيرات والآبار والتي تتساقط فيها الأمطار، فلجأت إلى هذه الطريقة الفنية لحبس مياه الأمطار للاستفادة منها في الشرب والاستعمال وفي الزراعة أيضًا.

_ 1 Beitrige, S. 54. Ff.

الذهب

الذهب: ويقال لموضع تجمع مياه الأمطار ومسيلها "ذهبن"، أي "الذهب". ويستخدم هذا الماء المتجمع لإسقاء الحيوان وللشرب ولإسقاء الزرع، قال "الهمداني": "والذهب.. يمتلئ من السيل، فإذا امتلأ نف فيه الطهف والدخن، فنضب الماء، ثار نبته"1. وقد كانوا يستفيدون من أمثال هذه "الذهب" بتسويرها وحصر الماء فيها ثم توجيهها إلى الأحواض الكبرى للاستفادة منها عند انحباس الأمطار. وكانت أشراج الحرة بيثرب من مسايل الماء، فإذا هطلت الأمطار انحدرت إليها وامتلأت بها فتسيل إلى الأرضين المزروعة ترويها بالماء2. وقد تحبس الشراج فتكون أحواضًا يستفاد منها في السقي والزرع. وهناك حفر تتجمع فيها المياه فيستفاد منها في الشرب. وقد ذكر علماء اللغة ألفاظًا عديدة تتعلق بالحفر على اختلاف أنواعها، وفي جملتها الحفر التي تتجمع فيها المياه. وذلك لكثرتها ولأهميتها في حياتهم العملية، إذ كانت على ضآلة بعضها ووسخ مائها، غوثًا للمسافرين العطاشى الذين هم ودوابهم في آخر رمق من الحياة. فهي تكون في مثل هذه الظروف هبة ولقطة لا تقدر بثمن. ومن مواضع تجمع الماء في الحفر الأوقة، وهي حفرة يجتمع فيها الماء، وجمعها

_ 1 الهمداني، صفة "199".Rhodokanakis, Stud., Lexi., Ii, S. 113. 2 البلاذري، فتوح "25 وما بعدها".

أوق1. والوجيل والموجل، حفرة يستنقع فيها الماء يمانية2. والمرهة، حفيرة يجتمع فيها ماء السماء3. والهوقة، وهي حفرة كبيرة يجتمع فيها الماء، وتألفها الطير4. و"الركية" البئر. وقد كانوا يتبردون بها في أيام الحر5. و"المركو"، الحوض الكبير وقيل الحويض الصغير يسويه الرجل بيديه على رأس البئر إذا أعوزه إناء يسقي فيه بعيرًا أو بعيرين6. والنقر، الغائر في الأرضين، وهي موارد الماء في جزيرة العرب. إذا احتفرت، ظهر الماء بسهولة في آبارها، وقد تظهر البرك فيها. ومن هذه النقر، موضع "معدن النقرة"، منزل لحاج العراق بين أضاخ وماوان. فيه بركة، وثلاث آبار، بئر تعرف بالمهدي، وبئران تعرفان بالرشيد، يظهر أنها حفرت في أيام الخليفتين: المهدي والرشيد، وآبار صغار للأعراب. وعندها تفترق الطرق، فمن أراد مكة نزل المغيثة، ومن أراد المدينة أخذ نحو العسيلة، ذكر أن هذا الموضع إنما سمي نقرة؛ لأن النقرة كل أرض متصوبة في هبطة فهي نقرة7.

_ 1 "الأوقة بالضم: الركية مثل البالوعة في الأرض، خليقة في بطون الأودية، وتكون في الرياض أحيانًا. تسمى إذا كانت قامتين أوقة. فما زاد وما كان أقل من قامتين، فليست بأوقة. وفمها مثل الركية وأوسع أحيانًا. وهي الهوة"، تاج العروس "6/ 282". 2 تاج العروس "8/ 153". 3 تاج العروس "9/ 411". 4 المخصص "10/ 47 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 97". 5 تاج العروس "10/ 155"، "ركا"، جامع الأصول "9/ 321". 6 تاج العروس "10/ 155"، "ركا". 7 تاج العروس "3/ 582"، "نقر".

الحياض

الحياض: وقد ترك الجاهليون حياضًا واسعة كانوا أنشأوها في مواضع كثيرة من اليمن وبقية العربية الجنوبية لخزن الماء فيها للاستفادة منها أيام الجفاف. فإذا ما تساقطت الأمطار، سالت إلى هذه الحياض، وبعضها عميق واسع لا تنضب منها مياهها طوال السنة. وقد أحيطت هذه الحياض بجدران متينة من الصخور صفت ورتبت على هيأة مدرجات، حتى إذا انخفض الماء أمكن لمن يريد الاستسقاء منها أن

ينزل على هذه الدرجات حتى يبلغ الماء ولا يزال بعض هذه الحياض موجودًا يستعمله الناس. وقد وصف السواح الذين زاروا اليمن بعضها وتحدثوا عنها وعن أبعادها وعن طرق بنائها وهندستها1. ولمنع تسرب الماء من الحوض، يسد ما بين الحجارة من منافذ بالمدرة المعجونة، وتطلى أوجه الجدر بمادة تغطيها مثل الصهريج لمنع تسرب الماء وخروجه إلى الخارج، كما يبلط قاع الحوض ويطلى كذلك. وتوضع حجارة تنصب حول الحوض، ويسد ما بينها بالمدرة، ويقال لذلك النصيبة. ويمدر الحوض إذا طين وسد خصاص ما بين حجارته، كما يعبر عن ذلك بلفظة اللوط. ويوضع الإباد حول الحوض، أي التراب، لدعمه وتقويمه. وقد ترفع جدر الحوض فوق الأرض، وتعمل فيه صنابير لخروج الماء فيها، وقد تنشأ فيها حنفيات لأخذ الماء منها، تعمل من المعدن أو الحجارة2. وقد عثر على ميازيب ومثاعب حجر نحتت نحتًا جميلًا، وضعت في جدران الأحواض، ليسيل منها الماء3. وقد صنعت مواضع مسايل بعضها على هيأة رؤوس حيوانات فتحت أفواهها، ومن هذه الأفواه المفتوحة يتساقط الماء. ولا يزال بعضها في هيأة حسنة ومستعملة حتى الآن. واستعملت بعضها في السطوح لسيلان الأمطار منها، كما عثر على صخور منحوتة نحتًا جميلا جدا كانت تكون الواجهة الظاهرة من جدران الحياض، وقد نحت بعضها على شكل صور حيوانات بارزة أو أوجه حيوانات، ونحت بعضها على صور أوراق نبات وأغصان أعناب أو عناقيد أعناب وما شابه ذلك من أجزاء النبات. وثعب الماء سال، ومنه اشتق مثعب المطر. والثعب مسيل الوادي، ومنه مثاعب المدينة، أي مسايل مائها. والمثعب المرزاب4. وتعمل الأحواض لشرب الإبل وغيرها. وقد يوضع في وسطها حجر، يكون مقياسًا للماء، يقال له "القداس" إذا غمره الماء رويت الإبل، أو هو حجر يطرح في حوض الإبل، يقدر عليه الماء، يقتسمونه بينهم. وقيل هو حصاة،

_ 1 Carl Rathjens, Sabaeica, I, Teil, Hamburg, 1953, 113. 2 المخصص "10/ 49 وما بعدها". 3 تاج العروس "1/ 147"، "أزب". 4 تاج العروس "1/ 163"، "ثعب".

توضع في الماء قدر الري للإبل، أو يقسم بها الماء في المفاوز1. وفي كتب اللغة ألفاظ عديدة أطلقت على الحوض، بحسب شكله واتساعه وعمقه منها الحوض المركو. أما المقراة، فالحوض العظيم، وأما الجرموز، فالحوض الصغير، وقيل هو حوض مرتفع الأعضاد. والنضيج الحوض، وخصه بعضهم بالحوض الصغير. والجابية الحوض كذلك. وأما الشربة فالحوض يجعل حول النخلة يملأ ماء، فيكون ري النخلة. والحضج الحوض2. ويقال لموضع تجمع الماء، والمكان الذي يخزن فيه فيكون على هيأة بحيرة صغيرة أو حوض "بحرت"، "البحرة"3. ولا يزال أهل الشأم يطلقون لفظة "بحرة" على حوض الماء الذي يقيمونه في أفناء دورهم، للتمتع بمنظره وبمنظر الماء الذي يتدفق منه. وقد يضعون الأسماك فيه. وقد وردت اللفظة في هذه الجملة: "وصرح ثبرن وبحرت بموثب احلين"4، ومعناها: "وأعلى حصن ثبر، والبحرة الكائنة في أسفل السلالم". ويظهر أن أصحاب الحصن كانوا قد أقاموا "بحرة" عند قاعدة السلالم التي ترتقي إلى الحصن، وذلك من أجل نقل الماء منها إلى أعلى للاستفادة منه، ولإحمائه وسكبه على المحاصرين في أثناء الحصار5. والمقرى والمقراة كل ما اجتمع فيه الماء من حوض وغيره، وخصه بعضهم بالحوض. وذكر بعضهم، أن المقراة المسيل، وهو الموضع الذي يجتمع فيه ماء المطر من كل جانب. وقيل المقراة شبه حوض ضخم يقرى فيه من البئر، ثم يفرغ في المقراة. وقري الماء مسيله من التلاع، أو مجرى الماء في الروض6. ويقال للموضع الذي يستنقع فيه الماء، أي يجتمع: "النقيع"، فإذا نضب الماء نبت فيه الكلأ7. و"المنقع" الموضع الذي يستنقع فيه الماء، أي

_ 1 تاج العروس "4/ 213". 2 المخصص "10/ 49". 3 "والبحرة مستنقع الماء"، تاج العروس "3/ 28 وما بعدها". Glaser 1144, Halevy 353, Rep. Epigr. 647, Ii, P.75. 4 راجع نهاية الفقرة الثالثة من النص: Glaser 1144, Halevy 353. 5 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 73. 6 تاج العروس "10/ 290"، "قرى". 7 إرشاد الساري "4/ 206".

يجتمع1. و"الحيل" الماء المتنقع في بطن واد2. ويقال لموضع تجمع المياه في خزانات صغيرة لخزنها فيها وتوزيعها على السواقي "مزف". تأتي المياه إليها من خزانات أخرى أكبر منها, فتخزن فيها لإعادة توزيعها. والفعل هو "زف" من "زفف". وتطلق لفظة "زف" على مواد عمل ما. وأما العمل نفسه فيقال له "فعل"3. وقد أشير في نص إلى وجود "هور" أمام "محفد"، أي حصن: "بقنو هور محفدهمو ذ معينن"4، ومعناها: "أمام هور محفدهم "حصنهم" ذي المعين". وهو "هور" في هذه الجملة هو "الهور" في عربيتنا، وهو "بحيرة تغيض فيها مياه. فتتسع ويكثر ماؤها"، ويجمع على أهوار5. أما في النص، فلا يراد به هذا المتسع الواسع من الماء، بل يراد به حوض أو متجمع من الماء أوسع من البحرة، كان أمام الحصن6. وقد وردت لفظة "بركتن" أي البركة في اللهجات العربية الجنوبية كذلك، ووردت لفظة أخرى هي "عسن" يظهر أنها تعني بركة كبيرة أو صهريج ماء تحت الأرض، أو جملة برك تتصل بمأخذ أو مآخذ، تتجمع فيها المياه7. وقد ذكر علماء اللغة أن البركة مثل الحوض يحفر في الأرض لا يجعل له أعضاد فوق صعيد الأرض. ويسمي العرب الصهاريج التي سويت بالآجر وصرجت بالنورة في طريق مكة ومناهلها بركًا. ورب بركة تكون ألف ذراع وأقل وأكثر. وأما الحياض التي تسوى لماء السماء، ولا تطوى بالآجر، فهي الأصناع واحدها صنع8. وقد طليت جدران البرك الجاهلية بمادة متماسكة قوية، ترى اليوم وكأنها قد فرغ منها من عهد قريب. فلم تتشقق ولم تصب بتلف إلا قليلًا. فيها فتحات عملت لمرور الماء منها إلى السواقي. وقد استعمل مثل هذه البرك لخزن الماء وللإرواء

_ 1 تاج العروس "5/ 530"، "نقع". 2 تاج العروس "7/ 298"، "حيل". 3 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 100. 4 Langer I, Rhodokanakis, Stud, Lexi., Ii, S. 37. 5 تاج العروس "3/ 624"، "هور". 6 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 37. 7 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 114. 8 تاج العروس "7/ 106"، "برك".

في الوقت نفسه. وتمكن الاستفادة منها إذا ما نظفت من المواد الزائدة التي تراكمت فيها وأدخلت عليها بعض الإصلاحات1. و"الأضاة" الغدير، والماء المستنقع من سيل أو غيره2. والغدير مستنقع الماء، ماء المطر صغيرًا كان أو كبيرًا، غير أنه لا يبقى إلى القيظ إلا ما يتخذه الناس من عد ووجد أو وقط أو صهريج أو حائر. والعد الماء الدائم الذي لا انقطاع له. ولا يسمى الماء الذي يجمع في غدير أو صهريج أو صنع عدا؛ لأن العد ما يدوم مثل ماء العين والركية3. ويعبر عن "الغدير" بـ"النهي"، وقيل النهي الغدير حيث يتحير السيل فيوسع. وكل موضع يجتمع فيه الماء أو الذي له حاجز ينهى الماء أن يفيض منه4. وفي كتب اللغة ألفاظ عديدة أطلقت على النهيرات والسواقي المتفرعة منها. ومنها الشراج، جمع شرج، وهي مسايل الماء من الحزن إلى السهل. والأربعاء، وهي مسايل ومساقي يسقى منها النخيل والبساتين، ويزرع على جانبيها5. وأما "الجعافر"، فقيل: "الجعفر" النهر، وقيل هو النهر الصغير، وقيل هو النهر الكبير الواسع: وقيل النهر الملآن، أو فوق الجدول6. ويقال للجدول الربيع في عربية القرآن الكريم، ويجمع على "أربعاء"7. وأهل المدينة يغرسون الشجر على جانبيه. ويقال له أيضًا "السعيد". ويراد به النهير الذي يسقي المزرعة، وقد ورد في الحديث: "كنا نزارع على السعيد"8، و"الجدول" النهر الصغير9. ويقال لأوائل الجداول "أقبال الجداول"10. وأما السواقي بين الزروع، فتسمى "دبار"11.

_ 1 Sabaeica, I, S. 84. 2 عرام، أسماء جبال تهامة "436". 3 تاج العروس 3/ 441"، "غدر". 4 تاج العروس "10/ 381"، "نهى". 5 عمدة القارئ "11/ 200 وما بعدها". 6 تاج العروس "3/ 104"، "حفر". 7 تاج العروس "5/ 342"، "ربع"، جامع الأصول "11/ 370 وما بعدها". 8 تاج العروس "2/ 378"، "سعد". 9 تاج العروس "7/ 254"، "جدل". 10 جامع الأصول "11/ 478". 11 تاج العروس "3/ 200"، "دبر".

ويطلق أهل اليمن على ساقية الماء والجدول الصغير "الغيل"، وهي من الألفاظ القديمة المستعملة في الري. وفي اليمن جملة أغيال، يقل ماؤها عند انحباس المطر، ويزداد عند هطوله في مواسمه. ويشرب أهل صنعاء من مياه الغيل المسمى "الغيل الأسود"، ويزرعون عليه1. وذكر علماء اللغة أن الغيل الماء الجاري على وجه الأرض، وقال بعضهم ما جري من المياه في الأنهار والسواقي. وأما الذي يجري بين الشجر، فهو "الغلل". "وفي الحديث ما سقي بالغيل ففيه العشر، وما سقي بالدلو، ففيه نصف العشر"2.

_ 1 تاج العروس "8/ 53"، "العظم "1/ 85، 103". 2 تاج العروس "8/ 53"، "غيل".

في جزيرة العرب، حضارة تمثل مرحلة متقدمة بالنسبة إلى الحياة الأعرابية، عمادها الزراعة وتربية الحيوان. وهي تثبت للمرء بجلاء أن سبب انتشار الأعرابية في جزيرة العرب، هو الجفاف الذي غلب عليها وندرة وجود الماء بها، وأن الماء لو توفر بها، لكان نصيبها في الحضارة مثل نصيب غيرها من البلاد التي تقدمت في أيامها وازدهرت، فلما ظهر الماء في هذه المواضع، ظهر السكن والاستقرار، ولو رزق العرب سكان جزيرة العرب ما رزق غيرهم من جو طيب، ومن أرض خصبة ذات أنهار وماء، كان شأنهم غير هذا الشأن ولا شك. ويقال للوادي "العقيق". وذكر أن العقيق كل مسيل شقه ماء السيل فأنهره ووسعه1. أي في معنى وادي. والأعقة من مواضع الخصب والزرع في جزيرة العرب، إذ تكون المياه فيها قريبة من سطح الأرض. منها عقيق اليمامة، وهو واد واسع مما يلي العرمة، تتدفق فيه شعاب "العارض"، وفيه عيون عذبة الماء، وموضع بتهامة، وموضع بنجد، يقال له عقيق القنان، تجري إليه مياه قلل نجد وجباله، والعقيق، ستة مواضع أخر، وهي أودية شقتها السيل عادية منها عقيقان في بلاد بني عامر من ناحية اليمن. ومن الأودية المشهورة: وادي العتيق بالحجاز2. و"العرمة" أرض صلبة تتاخم الدهناء ويقابلها عارض اليمامة3. والأودية هي من أخصب المواضع في جزيرة العرب، حتى إن كانت جافة في معظم أيام السنة، وذلك لخصب تربتها، ولقرب الماء فيها من سطح الأرض، ولوجود العيون والبرك في بعض منها. وهي قبلة أنظار الأعراب والرعاة بعد نزول الغيث وامتلائها بالسيول، إذ يظهر فيها الكلأ: وتبقى في حفرها المياه، فتكون بركًا للشرب. وقد زرع أهل وادي "مهزور" على مياهه، ويستمد هذا الوادي ماءه من السيل، وكذلك وادي "مذينيب". ومن "مهزور" إلى "مذينيب" شعبة يصب فيها4. ويسيلان بماء المطر خاصة، و"مهزور" هو وادي "بني قريظة"، وقد كان يحدث اختلاف فيما بين المزارعين في حقوقهم في الماء، ولا سيما في

_ 1 تاج العروس "7/ 15"، "عق". 2 تاج العروس "7/ 15"، "عق". 3 تاج العروس "8/ 395"، "عرم". 4 البلاذري، فتوح "23 وما بعدها".

أيام انحباس المطر أو أيام نزوله بشح، واستغلال أهل الأرضين العالية للماء، مما يسبب انقطاعه عن الأرضين الواطئة الواقعة على مسايله. وقد كان "مهزور" يهدد المدينة بالغرق عند سقوط الأمطار بشدة وتكوينها سيولًا طاغية، ولما هدد المدينة بالغرق في خلافة "عثمان" اتخذ له ردمًا1. وقد هدد المدينة مرارًا بالغرق، ولما كاد أن يغرقها سنة "156هـ" حفرت الحكومة له منسوبًا، غاص منه الماء إلى وادي بطحان2. وقد قضى الرسول في سيل "مهزور" أن لأهل النخل إلى العقبين، ولأهل الزرع إلى الشراكين، ثم يرسلون الماء إلى من هو أسفل منهم3. و"بطحان" هو أحد أودية المدينة الثلاثة، وهي العقيق وبطحان وقناة4.

_ 1 البلاذري، فتوح "24". 2 البلاذري، فتوح "24". 3 تاج العروس "3/ 620"، "هزر"، البلاذري، فتوح "24". 4 تاج العروس "2/ 125"، "بطح".

الأنهار

الأنهار: وليس في جزيرة العرب أنهار كبيرة بالمعنى المعروف من لفظة نهر، مثل نهر دجلة أو الفرات أو النيل، بل فيها أنها صغيرة أو جعافر. وهي لذلك لم تستفد من نعم الأنهار الكبيرة التي نعمت بها البلاد الأخرى، ولم تسعد بسبب ذلك بظهور المجتمعات الكبيرة بها، ولا بظهور الحضارة فيها؛ لأن الحضارة الراقية لا تكون ولا تنمو إلا في المجتمعات الكبيرة، حيث تتوفر بها بذور الحضارة والثقافة، ولا تظهر هذه البذور مع وجود الجفاف وفقدان الماء أو قلته. ومن الأنهار الصغيرة التي نجدها في اليمن نهر الخارد. وكان السهل الذي عاش فيه المعينيون، وبنوا فيه عاصمتهم يسقى بهذا النهر، وتنبت فيه مختلف النباتات والزروع، وكان يصل إلى مقربة من العاصمة وربما تجاوزها إلى مواضع أخرى ولا تزال هذه المنقطة تعد من المناطق الزراعية الجيدة، وقد تحول قسم منها بسبب الجفاف الذي حل بها إلى مناطق تعلوها كثبان رملية، ومناطق قاحلة، بعد ما كانت من أجود الأرضين لأهل معين1.

_ 1 محمد توفيق، آثار معين في جوف اليمن "ص4 وما بعدها"، من منشورات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، سنة 1951م.

ومن أنهار اليمن الأخرى، مور هو من أغزر أنهار اليمن ماءً وأكبرها، وهو بالقرب من وادي "صبيا". ينبع من جبال الهضبة إلى جنوبي صعدة، وتصب فيه أودية من "عمران" و"حجة"، ويمر من جبال "حجة" وجبال "حجور" في اتجاه البحر الأحمر حيث يصب به شمال "اللحية". وتجري الأقسام الشرقية من هذا النهر في أكثر أيام السنة1. وسردد، واد متسع بتهامة اليمن، مشتمل على قرى ومدن وضياع2. ويتألف من فروع تنبع من جبال "كوكبان" ومن جبال حضور وحراز، ويصب في البحر الأحمر شمال "الحديدة"3. ووادي سهام واد ينبع من جبال خولان وآنس، مارًا بجنوبي جبال حراز، ثم يصب في البحر الأحمر جنوبي الحديدة4. وبه مياه حارة5. ووادي "أذنة" من أودية سبأ، وهو الذي كان يمون سد مأرب بالماء. ومن أودية اليمن الأخرى: رزان، و"رمع" "رماع"، وهو متصل بوادي سهام ووادي مور، مشتمل على عدة قرى6. وشرس، و"ريمة" و"زبيد". وتعرف هذه الأنهار بـ"وادي" في اصطلاح أهل اليمن7. و"الدبل" الجدول من جداول الأنهار. وإنما سميت الجداول دبولًا؛ لأنها تدبل، أي تصلح وتجهز وتنقى. ومنه الحديث أنه غدا إلى النطاة، وهي من حصون خيبر، وقد دل على مشارب كانوا يسقون منها دبول. كانوا ينزلون إليها بالليل فيتروون من الماء، فقطعها، فلم يلبثوا إلا قليلًا حتى أعطوا بأيديهم8. وتكرى الأنهار وموارد المياه الأخرى، لاستخراج الطمي منها ولتعميقها حتى

_ 1 تاج العروس "3/ 550"، "مار"، زيد بن علي عنان، تأريخ اليمن القديم "ص10"، "المطبعة السلفية"، "القاهرة". 2 تاج العروس "2/ 375"، "سرد". 3 تأريخ اليمن القديم "11". 4 تأريخ اليمن القديم "11". 5 الصفة "105". 6 تاج العروس "5/ 362"، "رمع". 7 الدكتور أحمد فخري، اليمن ماضيها وحاضرها "ص5". 8 تاج العروس "7/ 317"، "دبل".

لا يسيل الماء على حافات مورد الماء1. وكانوا يكرونها بالمساحي، ويرمون الطمي على الجانبين. وإذا جرى الماء على وجه الأرض قيل له "السيح". وباليمامة ثلاثة أودية بأقصى العرض، عرف كل واحد منها بسيح، ونسب إلى أهله أو مكانه2. وقد أشار "الهمداني" إلى "السيح يجري تحت النخل والآبار"3. وقصد به الماء الجوفي. وأشار إلى "سيح الغمر"4. وإلى سيح دعاه سبح بن مربع، ذكر أنه كان غزيرًا ثم انقطع بضعف أهله5. وذكر اسم سيح آخر دعاه سيح قشير، ويسمى أيضًا بسيح إسحاق6.

_ 1 تاج العروس "10/ 312"، "كرى". 2 تاج العروس "2/ 168"، "السيح". 3 الصفة "159". 4 الصفة "150". 5 الصفة "148". 6 الصفة "160".

الحسي

الحسي: وينتفع من الأحساء والرحاب في الزراعة، وذلك باستنباط مياهها الجوفية المنحسرة عن قشرة الأرض بمسافة غير بعيدة، والتي قد تظهر على سطح الأرض وتسيل. والحسي سهل من الأرض يستنقع فيه الماء أو غلظ فوقه رمل يجمع ماء المطر. وفي جزيرة العرب أحساء كثيرة، منها أحساء بني سعد بحذاء هجر بالبحرين، وأحساء خرشاف، بسيف البحرين، وأحساء بني وهب، على خمسة أميال من المرتمى فيه بركة، وتسعة آبار كبار وصغار بين القرعاء وواقصة على طريق الحاج، والأحساء ماء لغنى، والأحساء ماء باليمامة، وأيضًا ماءة لجديلة طيء بأجأ1. والأحساء التي على الخليج، هي من أهم هذه الحسي في الوقت الحاضر. وهي وحدة إدارية في المملكة العربية السعودية، بها عيون تفيض ماءً، تروي بساتين النخيل والأشجار الأخرى. و"البثر" يشبه الأحساء، يجري تحت الحصى على مقدار ذراع أو ذراعين

_ 1 تاج العروس "10/ 89"، "حسي".

ودون الذراع، وربما أثارته الدواب بحوافرها1. والباثر من الماء البادي من غير حفر. والبثر أرض سهلة رخوة. وذكر بعض علماء اللغة أن البثور الأحساء وهي الكرار2. وذكر بعضهم أن "الكرار" البثر، أو الحسي، أو موضع يجمع فيه الماء الآجن3. وقد تنبع العيون في مواضع رملية، فلا تمكن الناس من الاستفادة من الماء فائدة كبيرة تخرج من جوف رمل من أعذب ما يكون من العيون وأكثرها ماءً، تجري في رمل فلا تمكن الزراعين عليها إلا في مواضع يسيرة من أحناء الرمل، فيها نخيل، وتتخذ البقول والبطيخ. وتسمى هذه العيون "البحير"4. وتكون تربة الرحبة خصبة، ولهذا صارت مواطن صالحة للزراعة لو استنبطت مياهها التي في جوف الأرض القريبة من السطح، لأفادت في توطين الأعراب. والرحبة في تعريف علماء اللغة "من الوادي مسيل مائه من جانبيه فيه. جمعه رحاب. وهي مواضع متواطئة يستنقع الماء فيها، وهي أسرع الأرض نباتًا، تكون عند منتهى الوادي وفي وسطه، وقد تكون في المكان المشرف يستنقع فيها الماء وما حولها مشرف عليها، ولا تكون الرحاب في الرمل، وتكون في بطون الأرض وفي ظواهرها"5. والرحبة الأرض الواسعة المنبات. ومن الرحاب المشهورة: "الرحبة" حذاء القادسية، وواد قرب صنعاء، وناحية بين المدينة وبلاد الشأم قرب وادي القرى، ورحب باليمامة، تعرف برحبة الهدار، وصحراء بها أيضًا فيها ماء وقرى6. وقد وجدت كتابات جاهلية في بعض هذه الرحاب، تشير إلى سكن أناس فيها ونزولهم هناك قبل الإسلام. والنقرة الوهدة المستديرة في الأرض ليست بكبيرة يستنقع فيها الماء7. و"الحفر" الموضع فيه ركايا محفورة، يستقى منها الماء. منها "حفر ضبة"، وهي ركايا بناحية "الشواجن" بعيدة القعر عذبة الماء8. والشواجن، واد

_ 1 عرام. أسماء جبال تهامة "410، 421"، "تاج العروس "3/ 25"، "بثر". 2 تاج العروس "3/ 25"، "بثر". 3 تاج العروس "3/ 519"، "كر". 4 عرام. أسماء جبال تهامة "398". 5 تاج العروس "1/ 268"، "رحب". 6 تاج العروس "1/ 268"، "رحب". 7 تاج العروس "3/ 581"، "نقر". 8 تاج العروس "3/ 152"، "حفر".

كبير بديار ضبة في بطنه أطواء كثيرة، منها الصاف واللهابة وثبرة، ومياهها عذبة1. ومنها "حفر سعد بن زيد مناة بن تميم"، بحذاء "العرمة" وراء الدهناء يستقي منها بالسانية2. و"القلت" النقرة في الجبل تمسك الماء، وقيل كل نقرة في أرض يستنقع فيها الماء. وإذا سالت السيول ملأت القلات. وفي الحديث ذكر لقلات السيل3. ومثلها "الوقب". وهي نقرة في الجبل أو في الصخر يجتمع فيها الماء كالوقبة، أو هي نحو البئر في الصفا تكون قامة أو قامتين يستنقع فيها ماء السماء4.

_ 1 تاج العروس "9/ 251"، "شجن". 2 تاج العروس "3/ 152"، "حفر". 3 تاج العروس "1/ 572"، "قلت". 4 تاج العروس "1/ 505"، "وقب".

الآبار

الآبار: وفي الأماكن التي تكون المياه الجوفية فيها غير بعيدة عن سطح الأرض، ويكون من السهولة حفر الآبار فيها، يحفر الناس آبارًا في بيوتهم وفي أملاكهم للشرب والزرع إن كانت عذبة وللتنظيف والاستعمال. ويستعان بالخدم وبالسقائين في جلب مياه الشرب من الآبار العذبة والعيون والنهيرات. كما حفروا الآبار في الحصون. وقد كانت في حصن الهجوم بئر عظيمة عميقة، عذبة الماء، وقد بني الحصن من حجارة ضخمة ذكر أن طول الحجر منها سبع أذرع في عرض ثلاثة أذرع، وأقام أصحابه عليه الأسوار والأبراج. وقد فتح في أيام الرسول1. و"البئر" هي "بار" في كتابات المسند. والجمع "ابار" أي "آبار". وقد وصلت إلينا نصوص عديدة في حفر آبار أو في شرائها وبيعها، وفي تعميرها، وإصلاحها. وهي ثروة ورأس مال كبير في جزيرة العرب، تحيي الأرض وتميتها، وتفني الناس وتميتهم، ولذلك كانوا إذا حفروا بئرًا أو إذا ظهرت لهم مياه عذبة غزيرة، يقدمون إلى آلهتهم الشكر والحمد والنذور. وقد أقامت الآبار الكبيرة العميقة العذبة مدنًا. وأماتت مدنًا بسبب نضوب مياهها وجفافها، وهي على هذه الأهمية الخطيرة إلى الآن.

_ 1 ابن المجاور "1/ 21".

وللأهمية المذكورة للآبار في حياة العرب، كثرت في لغتهم المصطلحات الخاصة بها، من أسماء لأنواع الآبار ومن مصطلحات للحفر ولوسائل الحفر، ومن ألفاظ للمواد التي تستعمل في بناء البئر وفي استخراج الماء منها، ومن كلمات تشير إلى أبعاد البئر، ومقدار ما فيها من ماء، وأبعاد أفواهها. ومن أسماء البئر "الطوى" و"الطوية"، إذا بنيت بالحجارة1. و"الجب"، البئر، وقيل البئر الكثيرة الماء البعيدة القعر، ولا تكون جبًّا حتى تكون مما وجد، لا مما حفره الناس2. و"القليب" البئر ما كانت. وقيل: البئر قبل أن تطوى، فإن طويت فهي الطوي، أو العادية القديمة منها التي لا يعلم لها رب ولا حافر يكون في البراري3. وقد عرفت بـ"الرس" كذلك4. ومن أنواع الآبار التي ذكرها علماء اللغة: الشبكة، ويراد بالشبكة الآبار المتقاربة والأرض الكثيرة الآبار. وأما "الفقر"، فهي ركايا تحفر ثم ينفذ بعضها إلى بعض حتى يجتمع ماؤها في ركي. وإذا اجتمعت ركايا ثلاث فما زاد إلى ما بلغ من العدة قيل له "فقير"، ولا يقال ذلك لأقل من ثلاث. وورد أن الفقير فم القناة، والمكان السهل تحفر فيه ركايا متناسقة، وفم القناة التي تجري تحت الأرض، ومخرج الماء منها5. وأما "الكظامة"، فإنها بئر إلى جنبها بئر بينهما مجرى في بطن الأرض. وقيل: كل ما سددت من مجرى ماء أو باب أو طريق، فهو كظم، والذي يسد به الكظامة. وقيل: هي آبار متناسقة تحفر ويباعد ما بينها، ثم يخرق ما بين كل نهرين بقناة تؤدي الماء من الأولى إلى التي تليها تحت الأرض فتجتمع مياهها جارية ثم تخرج عند منتهاها فتسيح على وجه الأرض6. و"الجفر" البئر التي ليست بمطوية، وتجمع على جفار. وأما "الجد", فالبئر الجيدة الموضع من الكلأ، والجمع أحداد، والملك البئر ينفرد بها الرجل،

_ 1 تاج العروس "10/ 229"، "طوي". 2 تاج العروس "1/ 172"، "جبب". 3 تاج العروس "1/ 437 وما بعدها"، "قلب". 4 المخصص "10/ 24". 5 تاج العروس "3/ 474"، "فقر". 6 تاج العروس "9/ 47"، "كظم"، المخصص "10/ 34 وما بعدها".

والبود البئر كذلك1. والسهبرة من أسماء الركايا2. و"القليب" البئر ما كانت، والبئر قبل أن تطوى، فإذا طويت فهي "الطوي"، أو العادية منها التي لا يعلم لها رب ولا حافر يكون في البراري3. و"الطوي" البئر المطوية بالحجارة4. ومن المواضع التي عرفت بأطوائها موضع "الأطواء" باليمامة، قرب "قر قرى"، ذو نخل وزرع كثير5. وقد تكون الآبار ذات مياه غزيرة كبيرة، تخص المدينة بأسرها، أو القبيلة بأسرها، وقد تكون ملك أسرة تستغلها الأسرة لحسابها، أو ملك فرد يستفيد منها مباشرة أو يبيع مياهها للناس، لإسقاء الأرضين أو الماشية. وقد تباع لأشخاص آخرين، وقد تؤجر. وطالما كانت الآبار مصدر نزاع خطير بين القبائل وسببًا في إثارة الحروب. و"العد" البئر لها مادة من الأرض، فهي كثيرة الماء دومًا ولا تنزح. وأما "المفهاق" فإنها البئر الكثيرة الماء، و"الغروب" الدلاء، واحدها "غرب" وهي التي تجرها الإبل، و"الاسجل" الواسع من الدلاء بمائها، والغلل الماء الجاري يجري تحت النخيل، و"اليعبوب" النهر الجاري وتسلسله مضيه في جريته. و"الخسف" البئر ذات الماء الكثير6. وقد اشتهرت بعض الآبار بغزارة مياهها، ذكر "الهمداني" أن "بئر النقير" بناحية البحرين "على عشر قبم لا تنكش، ويجتمع عليها كثير من وراد العرب وربما سقى عليها عشرة آلاف بعير"7. وهناك آبار أخرى عرفت بغزارة مياهها. وقد يحفرون سلسلة آبار يخرق أسافلها، ليفرغ بعضها في بعض من موضع الماء. مثل "الهباءة". وكانوا يزرعون عليها الحنطة والشعير وما أشبه8.

_ 1 تاج العروس "2/ 307"، "البود". 2 تأريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي "8/ 323 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 285"، "السهبرة". 3 تاج العروس "1/ 437 وما بعدها"، "قلب". 4 تاج العروس "1/ 229"، "طوى". 5 تاج العروس "10/ 229"، طوى". 6 العمدة "94". 7 الصفة "163". 8 عرام، أسماء جبال تهامة "435".

ولم يكن من السهل في ذلك الزمن حفر الآبار، لعدم توفر الآلات والأدوات الفنية. فإن حفر البئر على عمق بعيد الغور كما تتطلبه الأماكن المرتفعة يحتاج إلى آلات كثيرة وإلى علم وتدبير وفن وذكاء في محافظة جدران البئر من الانهيار على الحفارين، وعلى الماء بعد الانتهاء من الحفر، فتندثر ويذهب المجهود في حفرها عبثًا. هذا ولا بد لمهندس الآبار من معرفة بطبيعة الأرض ومظنة وجود الماء فيها أو عدمه ومدى عمقه، فلا يعقل إقدام شخص على حفر بئر في أرض لا يعرف من أمرها شيئًا. وحفر البئر في النجاد عمل مكلف باهظ، فلا بد إذن من تخصص أناس بهندسة الآبار، ليقوموا بهذا العمل الذي لا يمكن القيام به ما لم يسنده علم وفهم. وقد تخصص أناس بحفر الآبار واختيار المواضع التي يحتمل وجود المياه العذبة بها. ولهم في ذلك علم ودراية وخبرة. وكانوا إذا قربوا من الماء احتفروا بئرًا صغيرة في وسط البئر بقدر ما يجدون طعم الماء، فإن كان عذبًا حفروا بقيتها، ولذلك يقال "التعاقب" و"الاعتقام"1. فالاعتقام "إذن عملية تجريبية لاختبار طعم ماء البئر وتجربته من حيث العذوبة والملوحة وعليها تتوقف عملية الحفر. ومتى حفرت البئر ووصل إلى الماء، قيل: أمهت البئر، وأموهت، وأمهيت، ويقال ابتأرت بئرًا، أي حفرتها. ويقال أيضًا: حفرت البئر حتى نهرت، أي بلغت الماء. وإذا بلغ الحفارون الأرض الغليظة قيل: بلغت الكدية. وإذا وصلوا موضعًا صعبًا فصعب الحفر، قيل: بلغ مسكة البئر. ويقال أجبلت، أي انتهيت إلى جبل. ويقال الصلود، وهي الأرض التي تحفر فيغلب جبلها الحافر. فيصلد الحفر على الحافر لصعوبة الأرض. وإذا حفر الحفارون حتى يبلغوا الطين، فيقال عندئذ: أثلجت، فإذا بلغ الماء، قيل: أنبط ونبط. والنبط أول ما يظهر من ماء البئر حين تحفر. وإن بلغ الرمل، قيل: أسهب، وإن انتهى إلى سبخة، قيل: أسبخت. ويقال: تأثل البئر إذا حفرت البئر، وهزمت البئر حفرتها2. ويتحايل الحفارون في الحفر إذا فوجئوا بصخرة أو أرض صلدة، تمنعهم من

_ 1 تاج العروس "8/ 403"، المخصص "10/ 41". 2 المخصص "10/ 40 وما بعدها".

الاستمرار في الحفر. خاصة إذا كانوا قد بلغوا عمقًا بعيدًا في باطن الأرض. وقد كلفهم الحفر صرف مال كثير، فإذا تركوه أصيب صاحب البئر بخسارة، لذلك يتحايل الحفارون على الأرض بالتعاريج في الحفر، يمنة ويسرة، للعثور على موضع ينزلون منه إلى موضع وجود الماء، ويقولون لذلك: "التلجيف". ويراد به الحفر في جوانب البئر1. وقد تنقر آبار صغيرة ضيقة الرؤوس في نجفة صلبة، لئلا تهشم، ويقال لمثل هذه الآبار المناقر. وأما المنقر، فيراد بها البئر التي يكثر فيها الماء2. وفي بعض المناطق الصخرية والجبلية آبار منقورة تتجمع فيها مياه جوفية تنحدر إليها من المواضع المرتفعة أو من مياه الأمطار التي تتساقط على المواضع المرتفعة فتسيل إلى أفواه تلك الآبار وتدخل إليها وتتجمع فيها، فيستفيد منها الناس. وفي جملة الألفاظ الواردة في الكتابات العربية الجنوبية والمستعملة في حفر الآبار وتوسيعها وتعميقها، لفظة "حفر"، وهي بالمعنى المفهوم منها في عربيتنا. ولفظة "سنبط"، ويقصد بها معنى "استنبط"، من "نبط" ويراد بها ظهور الماء واستخراجه من باطن الأرض وأما لفظة "سبحر"، فتعني "استبحر"، من أصل بحر، بمعنى التعميق. ولا يزال حفرة الآبار في العراق يستعملون لفظة تبحير البئر بمعنى تعميقها3. وفسرت لفظة "ضفر"، بمعنى الدعم بالحجارة، أي كسوة جدار البئر بالحجارة4. وللمحافظة على البئر من الانهيار بسبب رخاوة جدرانها وتساقط المياه الممتوحة منها، عمدوا إلى ربرها من قعرها إلى أعلاها بالحجارة، ويعبر عن هذا الجدار بلفظة "كولم" "كول" في المسند. وبـ"جول" في عربيتنا. ورد في كتب اللغة: "الجول: جدار البئر"5. ويقال لمثل هذه البئر "المزبورة" أي المطوية

_ 1 تاج العروس "6/ 243"، "لجف"، المخصص "10/ 41". 2 المخصص "10/ 46"، تاج العروس "3/ 581"، "نقر". 3 "يوم حفر وسنبط وسبحر"، بمعنى "يوم حفر واستنبط وعمق"، أو "حين حفر واستنبط وعمق"، النقش رقم16 المنشور في "ص23" من كتاب "نقوش خربة معين". 4 نقوش خربة معين "ص23". 5 تاج العروس "7/ 267". Rhodokanakis, Stud., Lexi., Ii, S. 28.

بالزبر. وأما "المعروشة"، فالتي تطوى قدر قامة من أسفلها بالحجارة، ثم يطوى سائرها بالخشب وحده, وذلك الخشب هو العرش، فإن كانت كلها بالحجارة، فهي مطوية، وليست معروشة. وهناك تعابير أخرى تشير إلى تبطين البئر وكساء جدرانها بمواد مقوية تمنعها أن تنهار. فإذا بنيت البئر بالحجارة، قيل بئر مضروسة وضريس، وهو أن يسد ما بين خصاص طيها بحجر، وكذلك سائر البناء. ويقال الأعقاب للخزف الذي يدخل بين الآجر في الطي لكي يشتد. والوسب خشب يطوى به أسفل البئر إذا خافوا أن تنهال، والجمع الوسوب1. والحامية الحجارة تطوى بها البئر2. وهناك ألفاظ عديدة ذكرها علماء اللغة للآبار التي تكثر مياهها أو تقل. فورد: بئر غزيرة بمعنى كثيرة الماء، وورد بئر ميهة وماهة إذا كثر ماؤها، والعيلم البئر الكثيرة الماء. والخسيف التي تحفر في حجارة فلا ينقطع ماؤها كثرة، وهي التي خسفت إلى الماء الواتن تحت الأرض، ويقال بئر سجر ومسجورة بمعنى مملوءة، وبئر ذات غيث أي مادة. والقيلذم، البئر الكثيرة الماء، وبئر مقيضة كثيرة الماء قد قيضت عن الجبال. والبئر الماكدة التي يثبت ماؤها على قرن واحد لا يتغير، وإن كثر منها، وأن وضع عليها قرنان أو أكثر، غير أن ذلك إنما يكون على قدر ما يوضع عليها من القرون بقدر مائها، وبئر مكود وماكدة لا تنقطع مادتها، والهزائم الآبار الكثيرة الماء، وبئر زغربة كثيرة الماء، وبئر ذمة وذميم وذميمة كثيرة الماء كذلك، والنقيع البئر الكثيرة الماء3. ويقال حبض ماء البئر، وذلك إذا انحدر ونقص، ونكزت البئر أي قل ماؤها، وبئر نزح ماء فيها، وبئر مكول وهي التي يقل ماؤها فيستجم حتى يجتمع الماء في أسفلها، واسم ذلك الماء المكلة، وبئر قطعة وبئر ذمة قليلة الماء، وبئر ضهول قليلة الماء، والخليقة البئر التي لا ماء فيها، وقيل هي الحفيرة في الأرض المخلوقة، والضغيط بئر تحفر إلى جنبها بئر أخرى فيقل ماؤها، وبئر فروع قليلة الماء وهي كالضنون سميت بذلك؛ لأنها تقرع قرعًا كلما فني ماؤها،

_ 1 تاج العروس "1/ 503"، "وسبب". 2 المخصص "10/ 42 وما بعدها". 3 المخصص "10/ 27 وما بعدها".

وبئر رشوح وبروض وبضوض قليلة الماء1. وتستخرج المياه من الآبار بالدلاء، تربط بالحبال إلى الأعمدة المثبتة فوق البئر. ويقال للعمود "عمد" "عامود" والجمع "عُمُد" و"أعمد"2. وأما "الدلو" وهو الوعاء أو القربة المصنوعة من الجلد في الغالب، فيقال له "علبت" و"علبم" في المسند3، تمتلئ بالماء حين دخولها في ماء البئر، فتسحب وهي مملوءة به، فإذا بلغت موضع سكب الماء سحبت إلى ذلك المكان لتفريغ مائها فيه، فيسناب إلى "مسقيت" أي "مسقية"، بمعنى الساقية لإروارء المزرعة، أو لإيصاله إلى المدينة أو البيوت. وأما الآلة التي تعلق عليها الدلاء والمتصلة بالأعمدة فتعرف بـ"اعزر" في المسند4. ويقال للدولاب الذي يستقى عليه: المنجنون، وذلك في عربيتنا5. ويقال لتفريغ الركية وأخذ ما فيها من ماء "حبض" في لغة المسند. وهي بهذا المعنى أيضًا في عربية القرآن الكريم. والاحباض أن يذهب ماء الركية فلا يعود، و"أحبض الركية" احباضًا، فلم يترك فيها ماء6. ولا بد للدلاء من حبال قوية متينة تتحمل الاحتكاك بينها وبين البكرة وتساعدها في حمل الدلو. وهذه الحبال تتخذ من مواد مختلفة، تفتل وتبرم، والعادة أن يقوى الحبل بحملة حبال تبرم بعضها فوق بعض وتشد شدًّا قويًّا لئلا تتهرأ بسرعة فينقطع. وقد يتكون الحبل الواجد من مجموع عشرة حبال. أما مادة الحبل فالليف والخوص والجلود ولا سيما جلود الإبل والابق والمصاص، وهو نبات، ولحاء الشجر والقنب، ومشاقة "السلب"، وهو ضرب من الشجر ينبت متسلقًا فيطول. ويؤخذ فيحل ثم يشقق فتخرج منه مشاقة بيضاء كالليف يتخذ منها أجود ما يكون من الحبال. وقد تصنع من القطن ومن ليف جوز الهند7.

_ 1 المخصص "10/ 39 وما بعدها". 2 Rhodokanakis, Stud. Lexi, Ii, S. 115, 152. 3 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 132. 4 Cih 303, Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 131. 5 تاج العروس "9/ 166"، "جنن". 6 تاج العروس "5/ 18"، "حبض". 7 المخصص "9/ 170 وما بعدها".

ولفتل الحبال تستعمل المغازل والمبارم، لغزل الألياف وبرمها بعضها فوق بعض، كما تستعمل بعض المواد المقوية للألياف مثل الزيوت لتحافظ على قوة الحبل وعلى تماسكه فتبقيه طريًّا، فلا ينقطع بسهولة. وقد تخصص أشخاص بصناعة الحبال وعاشوا عليها، وقد كانت ذات أهمية بالنسبة لذلك الزمن. ويقال للدلو العظيمة: "الغرب". ويتخذ من مسك ثور، والغرب الراوية1, و"السانية" الغرب وأداته، والناقة إذا سقت الأرض، وسنيت الدابة، إذا استقى عليها، والقوم يسنون لأنفسهم إذا استقوا2. والسناية والسناوة السقي، وهو سان. والساني، يقع على الرجل والجمل والبقر، كما أن السانية على الجمل والناقة. والمسنوية، البئر التي يسنى منها، وركية مسنوية، إذا كانت بعيدة الرشاء لا يستقى منها إلا بالسانية من الإبل3. وتستخدم الثيران والجمال والحمير والبغال في متح الماء بالدلاء من الآبار الكبيرة الواسعة لسقي المزارع والبساتين والناس، ويشرف على ذلك العبيد أو الفلاحون أو أصحاب البئر. أما الآبار الصغيرة الخاصة بشرب الناس، فيستخرج الماء منها الإنسان، وتصب الدلاء المياه في أحواض أعدت لذلك، لها منفذ يسيل منه الماء إلى السواقي. وقد تحمى البئر من الأدران ومن الأتربة ومن أخذ الماء منها، بإقامة بناء فوقها على هيأة غرفة، فإذا أقيم ذلك على البئر عرف بـ"منشا" في المسند. وقد تؤدي هذه اللفظة معنى أخذ الماء وتوجيهه إلى الجهة المراد إرسال الماء إليها بمجرى يأخذ ماءه من "فنوت"4. وفسرت لفظة "ثقول" بمعنى تعليق. وتعليق شيء فوق بئر، أو إنشاء سقف فوقها لحماية البئر ولتعليق الأدوات التي يمتح بها الماء من البئر عليها، وذلك كما في هذه الجملة: "ابارسم وثقولسم"، ومعناها: "وكل آبارهم وسقوفها" أو "كل آبارهم والأعمدة المقامة فوقها للاستقاء بها"5.

_ 1 تاج العروس "1/ 405"، "غرب"، الخراج "96"، المبرد، الكامل "2/ 732". 2 تاج العروس "10/ 185"، "سني". 3 تاج العروس "10/ 186"، "سني". 4 Rhodkanakis, Stud. Lexi., I, S. 113. 5 Kat. Texte, Ii, S. 28.

وتتعرض الآبار لسقوط الأتربة والرمال فيها، وقد تنهار جدرانها فينضب ماؤها، ولا تمكن الاستفادة منها إلى بنزحها. ويقال لنزح البئر جهرت البئر واجتهرت، أي نزحت. وقيل المجهورة المعمورة منها عذبة كانت أو ملحة1. ولا بد من نزح هذه الآبار دائمًا، إذا أريد بقاء الماء فيها، وإلا ذهب ماؤها وانتفت فائدتها، فتترك وتهمل. وتنظف الآبار بنزول الرجال فيها فيشد الرجل وسطه بالحبل، ويترك طرفه في يد رجل، أو مشدودًا بشيء ثابت قوي. ويقال لهذا الحبل "الجعار"2. وذكر أن "الجعار" حبل يشد به المستقي وسطه إذا نزل في البئر لئلا يقع فيها، وطرفه في يد رجل، فإن سقط مده به. وقيل هو حبل يشده الساقي إلى وتد ثم يشده في حقوه3. وتعمل في جدر الآبار في العادة مواضع للأقدام متقابلة يضع النازل في البئر رجليه عليها، تمكنه من النزول لمتح البئر، واستخراج ما قد يتساقط فيها من أتربة ورمال، أو لحفر قاعها لزيادة الماء فيها. ويعبر عن انهيار البئر وسقوطها بألفاظ، مثل: "صقعت"، وانقاصت، وانقاضت، وانهارت، وتنقضت، وتجوخت، وانقارت. والهدم ما تهدم من نواحي البئر في جوفها، وانخسفت البئر، تهدمت4. وتنظف الآبار بالجبجبة، تملأ بالأتربة وبالطين وبالأوساخ المتراكمة في قاع البئر وترفع، وتصنع من جلود وأدم، وهي نوع من الزبيل. ويستعمل في التنظيف "الثوج" كذلك، وهو زبيل، يعمل من خوص، يحمل فيه التراب وغير ذلك. ويستعمل القفير كذلك، وهو الزبيل بلغة أهل اليمن، ومن أسماء الزبيل أيضًا "الصن" وهو زبيل كبير، والحفص زبيل صغير من أدم، والعرق نوع من أنواع الزبيل. ويقال للخشبتين اللتين تدخلان في عروتي الزبيل إذا أخرج به التراب من البئر "المسمعان". وقيل المسمع العروة التي تكون في وسط المزادة5.

_ 1 المخصص "10/ 39 وما بعدها". 2 المخصص "9/ 171". 3 قال أحدهم: ليس الجعار ما نعي من القدر ولو تجعرت بمحبوك ممر تاج العروس "3/ 102"، "جعر". 4 المخصص "10/ 44". 5 المخصص "10/ 45 وما بعدها".

وتسحب الزبيل بحبال أعلى لاستخلاص ما فيها من تراب وطين ووسخ حتى تنظف. ومن الألفاظ المعبرة عن تنقية البئر ونزولها وتنظيفها من الأوساخ والأتربة قولهم: نثلت البئر، أي أخرج ترابها، واسم ذلك التراب النثيلة والنثالة والثلة والنبيثة. ويقال نبيثة النهر كذلك. وأما خمامة البئر، فيراد بها ما كنس منها. ويقال جهرت البئر، بمعنى أخرجت ما فيها من الحمأة. وأما الشأو، فما يخرج من ترابها، وقد شأوت البئر نقيتها، ويقال للذي يخرج به المشآة، ويقال أخرجت من البئر شأوًا أو شأوين، وهو ملء الزبيل من التراب. وجششت البئر أجشها جشًا، أي كنستها. ونكشت البئر، أخرجت ما فيها من الحمأة والجيئة والطين1. وقد يتغير طعم مياه الآبار وألوانها لعوامل عديدة. وهناك مصطلحات عديدة ذكرها علماء اللغة للدلالة على فساد ماء البئر ونتنه. مثل: المسيط والضغيط، والحمأة الطين الأسود المنتن، وقد يحمئ ماء البئر فيكدر وتخالطه الحمأة فتتغير رائحته. وتنزع حمأة الآبار وتنظف ليمكن الاستفادة منها2. والجيئة والجيأة: البئر المنتنة3. وقد كان أهل المدن والقرى يشربون من العيون ومن موارد المياه الطبيعية الأخرى إن كانت في قراهم عندها أو على مقربة منها، كما كانوا يحتفرون الآبار في بيوتهم أو في خارجها للاستفادة من مياهها، فإن كانت. عذبة فرحوا بها وشربوا منها. وكانت قريش قبل جمع قصي إياها وقبل دخولها مكة تشرب من حياض ومصانع على رؤوس الجبال، ومن بئر حفرها "لؤي بن غالب" خارج الحرم تدعى "اليسيرة"، ومن بئر حفرها "مرة بن كعب" تدعى "الروي"، وهي ما يلي "عوقة" ثم حفر "كلاب بن مرة" خم ورم، و"الجفر" بظاهر مكة4. وورد أن الذي حفر بئر "خم" هو "عبد شمس بن عبد مناف"، حفرها بمكة5. وأن الذي حفر بئر "رم" هو "مرة بن كعب" أو "كلاب بن مرة" حفرها بمكة6. وذكر أن "الجفر" بئر بمكة كانت لبني تميم بن

_ 1 المخصص "10/ 45"، تاج العروس "4/ 359", "نكش". 2 تاج العروس "1/ 58"، "حمئ". 3 المخصص "10/ 47". 4 البلاذري، فتوح "60". 5 تاج العروس "8/ 283"، "خم". 6 تاج العروس "8/ 318"، "رمم".

مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي1. ثم إن "قصي بن كلاب" حفر بئرًا سماها "العجول" واتخذ سقاية، ثم إنه سقط في العجول بعد ممات "قصي" رجل فعطلت2. وورد أن الذي احتفرها "قصي" أو "عبد شمس"3. وحفر "هاشم بن عبد مناف" "بذر"، وهي البئر التي عند حطم الخندمة على فم شعب أبي طالب، وهي لبني عبد الدار4. وحفر "هاشم" أيضًا "سجلة"، وقد دخلت في المسجد5. وحفر "عبد شمس بن عبد مناف" "الطوى" وهي بأعلى مكة، و"الجفر"، وحفر "ميمون بن الحضرمي" "بثرة"، وهي آخر بئر حفرت في الجاهلية بمكة. وعندها قبر "المنصور". وورد أن "عبد شمس" حفر أيضًا بئرين وسماهما "خم" و"رم"، على ما سمى "كلاب بن مرة" بئريه6. فأما "خم" فهي عند "الردم". وأما "رم"، فعند دار "خديمة بنت خويلد"7. وحفرت بنو أسد بئر "شفية"8. وحفر "بنو عبد الدار" "أم أحراد"، وقد أشير إليها في الحديث9. وحفر "ينو جمح" "السنبلة". وذكر أن الذي حفرها "بنو جمح" و"بنو عامر"10. وحفر "بنو سهم" "الغمر"، وهي بئر "العاص بن وائل". وحفرت "بنو عدي" "الحفير". وحفرت "بنو مخزوم" "السقيا"، و"بنو تيم" "الثريا"، وهي بئر "عبد الله بن جدعان". وحفرت "بنو عامر بن لؤي" "النقيع"، وكانت لجبير بن مطعم بئر، وهي بئر بني نوفل، وكان عقيل بن أبي طالب، حفر في الجاهلية بئرًا،

_ 1 تاج العروس "3/ 105"، "جفر". 2 البلاذري، فتوح "60". 3 تاج العروس "8/ 8". "عجل". 4 تاج العروس "3/ 36"، "بذر"، البلاذري، فتوح "61". 5 البلاذري، فتوح "61". 6 البلاذري، فتوح "61". 7 وقال عبد شمس: حفرت خما وحفرت دما ... حتى أرى المجد لنا قد تما البلاذري، فتوح "61". 8 البلاذري، فتوح "61"، تاج العروس "10/ 201"، "شفى". 9 البلاذري، فتوح "61"، تاج العروس "2/ 335"، "حرد". 10 البلاذري، فتوح "62"، تاج العروس "7/ 383"، "سنبل".

وهناك آبار أخرى غيرها، ذكرها "البلاذري" في كتابه "فتوح البلدان"1. وقد اشتهرت بعض الآبار وعرفت، ولا تزال معروفة نقرأ أسماءها في الكتب، ومن أشهرها "بئر زمزم"، ذات الشهرة البعيدة، بسبب مكانتها من الكعبة، وبئر "طوى". وهي بئر حفرها عبد شمس بن مناف2. وبئر "ذروان"، وهي لبني زريق، جاء ذكرها في حديث سحر النبي3. و"بئر رومة"، وهي ليهودي كان يبيع الماء منها للناس، وقد حصل على مال كثير منها، وكان إذا غاب، قفل عليها بقفل، فلا يستطيع أحد أخذ الماء منها. فشكا المسلمون ذلك إلى الرسول، فقال: "ومن يشتريها ويمنحها للمسلمين ويكون نصيبه كنصيب أحدهم. فله الجنة". فاشتراها "عثمان" بخمسة وثلاثين ألف درهم، فوقفها4. وبيثرب وأطرافها آبار عديدة، كان يستقي منها أهلها للشرب، منها بئر "غرس". ويظهر أنها كانت من أجود وأحسن آبار يثرب. وقد ورد ذكرها في الحديث، حيث ورد: نعم البئر بئر غرس، هي من عيون الجنة. وغسل رسول الله منها5. وذكر أنها كانت بقباء، وأنه برك فيها6. ويستقى منها على حمار7. ومنها بئر "مالك بن النضر بن ضمضم"، وهي التي يقال لها بئر "أبي أنس"8. ولما نزل الرسول منزل "أبي أيوب"، كان أبو أيوب يخدمه ويستعذب له هذه البئر9. ولما صار الرسول إلى منزله، كان خدمه يحملون قدور الماء إلى بيوت نسائه من بئر السقيا، ومن بئر غرس10. وبئر "بضاعة" بئر معروفة بالمدينة، قطر رأسها ستة أذرع، وهي في بستان، وكان أهل يثرب يطرحون فيها خرق الحيض ولحوم الكلاب والمنتن11.

_ 1 "من ص26 فما بعدها". 2 تاج العروس "10/ 229"، "طوى". 3 تاج العروس "10/ 126"، "ذرو". 4 المعارف "ص83". 5 تاج العروس "4/ 201"، "غرس". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 503". 7 ابن سعد، طبقات "1/ 503". 8 ابن سعد، طبقات "1/ 503". 9 ابن سعد، طبقات "1/ 504". 10 ابن سعد، طبقات "1/ 504". 11 تاج العروس "5/ 278"، "بضع".

وكان أهل العربية الغربية يحفرون حفرًا، يجعلونها كالبئر، يلقون بها الجيف وما شاكلها. وذكر أن "الجباجب"، حفر بمنى كان يلقى بها الكروش، كروش الأضاحي في أيام الحج، أو كان يجمع فيها دم البدن والهدايا، والعرب تعظمها وتفخر بها1. وقد ورد أن الرسول كان يشرب من بئر "بضاعة" وأنه بصق فيها وبرك2. وأن خيل رسول الله كانت تسقى منها، وأن أهل المدينة كانوا يغسلون مرضاهم بمائها، لاعتقادهم أنه يشفي من المرض3. ولعل قصة رمي الجيف والمنتن بها من القصص الموضوع المصنوع، أو أن ذلك حدث فيما بعد، حين أهمل شأنها، فلم يعد الناس يستقون منها، فاتخذت موضعًا يرمى فيه الجيف. ومن بقية الآبار "البقع" وقيل هي السقيا التي بنقب بني دينار، وبئر "جنب"، وبئر "جاسم"، بئر أبي الهيثم بن التيهان براتج4، وبئر "العبيرة، بئر "بني أمية بن زيد"، وقد شرب منها الرسول وسماها "اليسيرة"5. وبئر "رومة" بالعقيق، وكانت لرجل من مزينة يسقى عليها بأجر، فقال رسول الله: نم صدقة المسلم هذه من رجل يبتاعها من المزني فيتصدق بها6. وكان المزني، قد ضرب خيمة إلى جنب البئر، يأخذ أجوز الدلاء، وله جرار بها ماء بارد، مر الرسول به مرة فشرب منها ماءً باردًا، فقال: هذا العذب الزلال7. ويرد في كتب السير مصطلح "بئر السقيا"، و"بيوت السقيا"، و"السقيا" ورد أن الرسول كان يشرب من بيوت السقيا8، وورد أن خدمه كانوا يحملون قدور الماء إلى نسائه من "بئر السقيا"، وأنه شرب حين خرج إلى "بدر" من "بئر السقيا"9. وقد ذكر بعض العلماء، أن "بيوت السقيا" موضع في

_ 1 تاج العروس "1/ 174"، "جبب". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 503". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 505". 4 تاج العروس "5/ 280"، "بقع". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 503 وما بعدها". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 506". 7 ابن سعد، طبقات "1/ 506". 8 ابن سعد، طبقات "1/ 503". 9 ابن سعد، طبقات "1/ 504، 506".

بلاد "عذرة"، يقال له "سقيا الجزل"، قريب من وادي القرى1. وهناك بئر قيل لها "السقيا" بنقب بني ديار، ورد ذكرها في الحديث2. وهناك مواضع أخرى عرفت بـ"السقيا"، و"سقيا"، منها سقيا غفار، و"السقيا الجزل"، "سقيا يزيد"، والسقيا للعنبر3. وقد ذكر أن الرسول قد شرب من الآبار المذكورة، وبصق فيها وبرك4، ليبارك في مائها. ولأبي عبيدة، معمر بن المثنى كتاب في الآبار، جمع فيه ما ورد ذكره من الآبار5. وقد اتخذ النبط وغيرهم من القبائل آبارًا لشربهم ولشرب مواشيهم، لها فتحات تسد بالحجارة، فلا يمكن لأحد غريب الوقوف عليها، فإذا داهمهم عدو، أو أرادوا النقلة إلى أماكن أخرى، سدوا بها فتحاتها، ووضعوا فوقها من التراب ما يخفي معالمها. وقد أشار إليها الكتبة اليونان واللاتين. ولا تزال بعض الآبار القديمة مستعملة ينتفع بمائها وهناك آبار طمرت، أو جفت مياهها، وقد عثر عند أفواهها على كتابات تشير إليها وإلى أسماء أصحابها. وهناك آبار أخرى عديدة عثر عليها في مواضع متعددة من جزيرة العرب، وبعضها عميقة جدًّا، وهي كلها "عادية" من أيام الجاهلية. والبئر العادية البئر القديمة التي لا يعرف لها مالك. وقد استغلت بعض الآبار الجاهلية المندثرة، بتنظيفها وتطهيرها واستغلالها. ذكر "فؤاد حمزة" أن آبارًا عديدة جاهلية نظفت وأصلحت، فعادت إليها الحياة، واستغلت مياهها في إحياء الأرضين التي كانت خصبة مثمرة ثم تحولت إلى موات6. ولا يزال الناس يستغلون في اليمن وفي غير اليمن بعض الآبار القديمة للشرب، وذلك لصعوبة استخراج مياهها للزراعة لعمقها، واقتصار الناس هناك في استخراج

_ 1 تاج العروس "10/ 180"، "سقى". 2 تاج العروس "5/ 280"، "بقع". 3 بلاد العرب "29، 330، 331، 396"، 4 ابن سعد، طبقات "1/ 503 وما بعدها". 5 "كتاب الآبار"، تاج العروس "3/ 36"، "بذر". 6 فؤاد حمزة "ص190".

الماء على الدلاء1. ويظهر من وجود بعض الآبار "العادية" في البراري أن تلك المواضع كانت في محلات مأهولة، ثم تركها أهلها فعميت، وبقيت آثارها تتحدث عن وجود سكن قديم في هذه المواضع. وفي اليمامة آبار عديدة عادية، لا تزال على وضعها، وهي من آبار ما قبل الإسلام. وأشار العلماء إلى مياه عادية، فقد ذكروا أن "لبينة" ماءة عادية، أي من المياه القديمة التي يعود عهدها إلى الجاهلية2. وقد عثر المنقبون على نصوص جاهلية مدونة بالمسند، تتعلق بتملك الآبار وبحفرها وبإصلاحها. وقد أرخ بعض منها بأيام ملك، أو برجل عظيم كان معروفًا مشهورًا في زمانه، أو بحادث وقع لهم ذي بال. وقد أمدتنا هذه النصوص ببعض المعلومات عن الآبار وعن أصحابها وأسماء المواضع التي حفرت بها. ويكون نضوب الماء من البئر، أو تحول مائها العذب إلى ماء ملح، نكبة بالنسبة لأهل البئر، ففي تبدل طعم الماء هذا خسارة كبيرة لأهل الماء، وعليهم البحث عن مورد آخر لسد رمقهم، وإطفاء ظمأ أموالهم، وحفر بئر أخرى في مكان آخر. ونقرأ في كتب أهل الأخبار واللغة أمثلة كثيرة عن هذا التبدل الذي حدث في طعم الماء، وسببه، هو انحباس المطر، وتحول مجاري المياه العذبة الجوفية من مكان إلى مكان، مما يسبب نضوب ماء الآبار والعيون التي كانت على المجاري القديمة، أو تقليل كمياته، فتظهر عندئذ ملوحة التربة، وقد تتغلب على طعم الماء العذب، فتحوله إلى ماء ملح3. وقد هجرت مستوطنات عديدة بسبب وقوع هذه الظواهر المحزنة في موارد مياهها كانت تستمد مياهها من حوض ماء جوفي، فلما قلت المياه فيهما، أو تحولت إلى موضع آخر، لعوامل "جيولوجية"، تأثرت المنطقة التي فيها الماء، بهذا التحول، واضطر سكانها إلى تركها، نتيجة انقطاع موارد المياه عنها، أو تبدل طعمها، تبدلًا لا يطاق.

_ 1 نزيه مؤيد العظم، رحلة في بلاد العرب السعيدة "ص45". 2 بلاد العرب "211". 3 تاج العروس "2/ 228 وما بعدها"، "ملح".

العيون

العيون: ويقال لينبوع الماء "العين". وعيون الماء معروفة مشهورة في مواضع كثيرة من جزيرة العرب، وهي مواضع الخصب والنماء والزرع. ويستفاد منها في سقي المزارع وإرواء الأشجار المغروزة في هذه الأماكن، على أن كثرة مياه بعض العيون قد صار سببًا في انتشار الأوبئة مثل "الملاريا" كما في واحة خيبر ذات العيون العديدة. ويقال لمجاري الماء من العيون القصّب، وقيل قصبة كل مخرج ماء. ويقال للعين التي لا ينقطع ماؤها عين حشد. أما إذا كانت العين كثيرة الماء فيقال لها عين غزيرة، وعين زغربة، وعين غدقة، وعين ثرة، وكذلك ثرثارة1. وقد ذكر العلماء أسماء عيون عديدة كانت ذات مياه عذبة، هي رحمة للناس تنقذ حياتهم وحياة ماشيتهم من العطش والحر الشديد، وقد أقيمت حولها قرى، مثل "ينبع"، قرية وحصن، ذكر أنها كانت ذات عيون كثيرة، زرعت عليها نخيل وزروع2. وبعض العيون عيون معدنية، بعضها بارد، وبعضها حار يستشفى فيه. ويقال للعين الحارة: الحمة3. وذكر علماء اللغة أن الحمة كل عين فيها ماء حار ينبع يستشفى بالغسل منه. وقد أشير إليها في الحديث4. وكان أهل الجاهلية يستشفون بالاغتسال في العيون الحارة، وخاصة عند إصابتهم بأمراض الجلد. والعيون: هي مما استنبطته الطبيعة في الغالب، فلا يد للإنسان في وجودها، وهي تكون عامة لأهل المنطقة التي تقع فيها، يشربون منها سواء، وقد تكون مما استنبطه الآدميون، فتكون ملكًا لمستنبطها ولورثته من بعده، لهم تملكها ولهم حق بيعها، تسقي ملكهم لا ينازعهم عليها منازع، وإذا سال ماء العين فيعبر عن ذلك بلفظة "ثج"، أي سال5. ونقرأ في كتب الأخبار واللغة لفظة "الغمر" علمًا لمواضع فيها مياه غزيرة، قد تكون آبارًا وقد تكون عيونًا. ومنها "الغمر"، بئر قديمة بمكة حفرها بنو سهم، و"غمر ذي كندة" بينه وبين مكة يومان، و"الغمر" باليمامة، موضع ماء6. وأما لفظة "الركايا"، فتعني الآبار7.

_ 1 المخصص "10/ 33". 2 تاج العروس "5/ 517"، "نبع". 3 المخصص "10/ 33". 4 تاج العروس "8/ 260"، "حمم". 5 تاج العروس "2/ 13"، "ثجَّ". 6 تاج العروس "3/ 453 وما بعدها"، "غمر". 7 تاج العروس "10/ 155"، "ركا".

الكراف

الكراف: وترد لفظة "كرفن"، أي "الكرف"، و"الكريف"، في النصوص المتعلقة بالإرواء والإسقاء والزراعة. وقد فسرها بعض العلماء بـ"صهريج". وفسر "الهمداني" لفظة "كريف" بقوله: "كريف جوبة عظيمة في صفا يكون فيها الماء السنة وأكثر"1. والكرف صهاريج، نقرت في الصخر، ومنها كريف "درداع"، وهو كريف "وحاظة" واسمها "سباع"، ذكر أن مساحته "600" ذراع في مثلها، وكريف "الوفيت"، منقور في الصخر الأسود، عمقه في الأرض خمسون ذراعًا، وعرضه عشرون، وطوله خمسون. محجوز على جوانبه يمنع السقوط فيه2. ويقال للموضع الذي يجتمع فيه ماء كثير، أو للماء الجاري الدائم الذي له مادة لا تنقطع كماء العين والبئر "العد". وقد وردت اللفظة في كتب الحديث. وقد نهى الرسول عن اقطاع "الأعداد"3. وقد ذكر علماء اللغة أن من معاني العد: الماء القديم الذي لا ينتزح، وأنه الماء الكثير بلغة تميم، والماء القليل بلغة بكر بن وائل، والركي في لهجة بني كلاب، ومن الماء العد: كاظمة، جاهلي إسلامي، لم ينزح قط. وفي الحديث نزلوا أعداد مياه الحديبية، أي ذوات المادة كالعيون والآبار4.

_ 1 الهمداني "ص80". Rhodokanakis, Ii, S. 95, Hartmann, Arab. Frage, S. 400. 2 زيدان، العرب قبل الإسلام "168". 3 جامع الأصول "11/ 228". 4 تاج العروس "2/ 416"، "عدّ".

القنى

القنى: والقناة كظيمة تحفر في الأرض تجري بها المياه، وهي الآبار التي تحفر في

الأرض متتابعة ليستخرج ماؤها ويسيح على وجه الأرض1. ويكثر وجودها في العربية الجنوبية، ولا تزال آثارها باقية، وقد استفيد من بعضها في الشرب والسقي. والقنا والفقر، واحد2، و"الفقرة" الحفرة في الأرض3.

_ 1 تاج العروس "10/ 304"، "قنو". 2 عرام، أسماء جبال مكة وتهامة "ص413". 3 تاج العروس "3/ 475"، "فقر".

التلاع

التلاع: وقد تنحدر المياه من عيون في الإسناد والنجاف والجبال حتى تنصب في الأودية وفي الأماكن المنحدرة، مكونة تلاعًا. و"التلعة" مسيل الماء من أعلى الوادي إلى أسفله. والتلاع مجاري أعلى الأرض إلى بطون الأودية. وتلعة الجبل أن الماء يجيء فيخد فيه ويحفره حتى يخلص منه. وربما جاءت التلعة من أبعد من خمسة فراسخ إلى الوادي، فإذا جرت من الجبال فوقعت في الصحاري حفرت فيها كهيأة الخندق، وإذا عظمت التلعة حتى تكون مثل نصف الوادي أو ثلثيه، فهي ميثاء. وقد تجري التلاع عند سقوط المطر وتكوين السيول، فيجري الماء بسرعة جارفة، تجرف ما قد يقف أمامها من مانع. ولذلك كانوا يخافون نزول التلعة، خشية خطر مجيء السيل فيجرف من قد يكون فيها. وللعرب أمثلة في التلاع، منها: "لا يمنع ذنب تلعة"، يضرب للذليل الحقير، و"لا أثق بسيل تلعتك"، يقال لمن لا يوثق به، "ما أخاف إلى من سيل تلعتي"، أي من بني عمي وأقاربي؛ لأن من نزل التلعة، وهي مسيل الماء، فهو على خطر إن جاء السيل جرف به1. ومما يدل على غرق أناس في هذه التلاع. ويقال لمسيل ما بين التلعتين "المذنب"، وذنب التلعة. والمذنب مسيل في الحضيض ليس بخد واسع. وأذناب الأودية ومذانبها أسافلها. وقال بعض علماء اللغة: المذنب: مسيل ما في الحضيض والتلعة في السند، والجدول يسيل عن الروضة بمائها إلى غيرها، فيتفرق ماؤها فيها، والتي يسيل عليها الماء مذنب أيضًا. قال امرؤ القيس:

_ 1 تاج العروس "5/ 391"، "تلع"، "1/ 648"، "ميث".

وقد أغتدي والطير في وكناتها ... وماء الندى يجري على كل مذنب1 وإذا انحدر المطر إلى موضع واطئ، قيل إنشل، وانشل السيل وانسل ابتدأ في الاندفاع قبل أن يشتد2. و"الوشل": ماء يخرج من شاهقة، فيسقط إلى منحدر3. وتوجد الأوشال في الجبال، وفي الشواهق وذكر علماء اللغة أن الوشل الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة، يقطر منه قليلًا قليلًا، أو الماء الكثير، فهو من الأضداد. وفي تهامة جبل يقال له الوشل فيه مياه كثيرة. وقد يقال للقطرات التي تنزل من سقف كهف أو لحف جبل فتجتمع في أسلفه الوشل4.

_ 1 تاج العروس "1/ 255"، "ذنب". 2 تاج العروس "7/ 395"، "شلل". 3 عرام، أسماء جبال تهامة وسكانها "ص397"، "نوادر المخطوطات". 4 تاج العروس "8/ 154"، "وشل".

التحكم في الماء

التحكم في الماء: وللسيطرة على المياه، ولا سيما مياه الأمطار، عمد أهل الجاهلية إلى اتخاذ مختلف الوسائل في التحكم فيها. بعضها بدائية وبعضها راقية تدل على براعة وعلم وفن. منها اتخاذ السدود للهيمنة على الماء، وخزنه للاستفادة منه عند الحاجة، وتوجيهه الجهة التي يريدونها. وقد أظهر العرب الجنوبيون مقدرة كبيرة في الاستفادة من الأمطار ومن مياه الينابيع والأنهار لاستعمالها في الإرواء والشرب والسقي. وتحكم مهندس الإرواء عندهم في الماء وسيطر عليه، لكيلا يذهب هباء، فاستخدم لضبطه الأبواب والفتحات والحواجز والرحاب، ونوع في المجاري وفي مسايل المياه، ليستفيد من الماء قدر إمكانه فلا يفلت منه شيء. ولم يكن من السهل على حكومات ذلك الزمن السيطرة على مياه السيول والاستفادة منها، فكانت تذهب سدى، بعد أن كانت تصيب الأرض والناس بالأضرار وحين تنحدر هذه السيول من النجاد والجبال والأمكنة المرتفعة، تتحول الأودية فجأة وبسرعة أنهارًا عريضة كبيرة، تسيل مياهها مندفعة هدارة، لكنها لا تلبث

طويلًا، بل تزول وتذهب وتجف الأودية ولا يبقى فيها من الماء شيء، إذ يسيل إلى البحر أو يغور في التربة. وقد اجتهد الجاهليون أن يستفيدوا من هذه السيول فأقاموا السدود على قدر إمكانهم كما فعلوا في سد مأرب وفي سدود أخرى كما يظهر من الآثار، ولكن قدرتهم الفنية والمالية لم تكن من الاتساع والقوة بحيث تساعدهم على السيطرة على السيول. وقد عثر على آثار سدود في مختلف أنحاء جزيرة العرب. وقد أنشئت في المواضع التي يزورها الغيث وتنهمل عليها الأمطار. وقد تقام لضبط مياه النهيرات والينابيع، لجمعها، ثم إعادة توزيعها. وبعض هذه السدود المندثرة هو اليوم في مناطق صحراوية لا ماء فيها لا بشر، مما يشير إلى أنها كانت مأهولة، ثم عفى على أهلها الدهر، فأهملت وتهدمت. وبعض هذه السدود، سدود بسيطة، صنعت من تراب أو من تراب وحجارة لمنع ماء المطر من الذهاب عبثًا, فيسد طريقه ويحبس في منخفض أو حوض ليستفاد منه. وقد أمر الرسول بسد ماء السماء في موضع ليستفاد من الماء، فعرف بـ"سد". ويطل جبل "شوران" على السد1. وأمر "معاوية" بسد الوادي الذي يمر بحرة المدينة، فحبس سيله بسد، عرف بسد معاوية فهو يحتبس فيه الماء، يرده الناس بمواشيهم يسقونها2. ويمر على طرف "قدوم" ويصب في "أحد"3. و"قدوم" جبل على ستة أميال من المدينة4. وتتخذ "المُسُك" لمسك الماء وحبسه، تمنعه من الذهاب عبثًا. كأن تمنعه من أن ينصب في البحر5. ويقال للسد "عرمن" في العربيات الجنوبية، أي "العرم". فلفظة "العرم" تعني السد عند اليمانيين القدماء، ولم تكن علمًا على سد معين. أعني سد مأرب. وقد وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} 6.

_ 1 عرام، أسماء جبال تهامة "ص425". 2 بلاد العرب "401". 3 البلاذري، فتوح "26". 4 تاج العروس "9/ 20"، "قدم". 5 تاج العروس "7/ 177 وما بعدها"، "مسك"، عرام، أسماء جبال تهامة "397". 6 سورة سبأ، الآية 16.

وفي هذه الآية إشارة إلى حادث انفجار سد مأرب كما يذهب إلى ذلك المفسرون. وتولت الحكومات في اليمن إنشاء السدود وحفر القنوات والسواقي، وأنفقت على الأعمال من أموالها، وقدمت المواد الغذائية وبعض الأجور إلى العمال. وكانت تطلب إلى سادات القبائل والقرى تقديم الرجال للعمل وتقوم هي بإعاشتهم طوال أيام عملهم، كالذي ورد في نص "أبرهة" عامل الحبشة على اليمن، فقد كان يقدم الطعام إلى العمال لقاء اشتغالهم ببناء السد. وقد ذكر مقدار ما قدمه وما صرفه عليهم من طحين وبر وتمر ولحم وقد يشغل العمال سخرة، فلا تدفع الحكومة أو سيد القبيلة أو الموضع إليهم شيئًا. وقد كانت السخرة شائعة في ذلك العهد، لا في اليمن حسب، بل في العالم القديم كله، فيسخر العمال بتكسير الحجارة واقتلاعها من المحاجر ونقلها إلى الأماكن التي يراد إقامة السدود أو منشآت البناء فيها أو غير ذلك، ثم بإصلاحها وببقية أعمال البناء اللازمة، إلى أن تنجز، وعندئذ يسمح لهم بالانصراف إلى حيث يشاؤون. وفي الحالات الاضطرارية يحشر الناس حشرًا، كما في الفيضانات المفاجئة التي تنشأ عن السيول. فتحشر الحكومة ورؤساء المدن والعشائر كل من يجدونه أمامهم للعمل على إنشاء الحواجز والسدود وفتح المجاري لمرور المياه لإنقاذ الأرواح والأموال من الكوارث والأضرار. وقد تتولى المعابد هذه الأعمال، فتصرف عليها من واردها، تعد ذلك هبة أو دينًا تتقاضاه من أصحاب الأرض ومن المستأجرين في المدن والقرى، كما يتولاها أيضًا رؤساء القبائل، بأن يكلفوا القبيلة القيام بذلك العمل، مقابل تعهدهم بتقديم الطعام للمشتغلين به، وقد يكلفونهم ذلك سخرة مستخدمين حق القوة التي يتمتعون بها إن كانوا رؤساء أقوياء. وفي كتب أهل اللغة والأخبار تعابير عديدة عن سيل السيول، وأثرها في الأرض وجرفها التربة وما عليها، وتفتيتها أشفار الأودية والأماكن التي تنحدر منها وكيفية قلعها الأشجار والصخور1. يظهر منها كلها أن أثر السيول كان شديدًا مؤذيًا، وهو ما زال على أذاه إلى هذا اليوم.

_ 1 المخصص "9/ 126 وما بعدها".

المسايل

المسايل: وللسيطرة على المياه، ولا سيما مياه الأمطار، عمد العرب الجنوبيون إلى الوسائل الصناعية الفنية في التحكم فيها، فأنشأوا المجاري الصناعية لترجي فيها المياه وتسيل فلا تذهب عبثًا ولا تجري في القنوات إلا بقدر. ومن هذه المجاري ما يقال له "ماخذ" و"ماخذت" في لغة المسند. أي "مأخذ" و"مأخذة". ويراد بالمأخذ المجرى المحفور المعمق لمرور المياه إلى الحقول والبساتين أو المعابد1. ويقال للقناة أي الممر الذي تمر منه المياه "عبرن" في اللهجات العربية الجنوبية، أي المعبر. ذلك؛ لأن المياه تعبرها وتجري فيها وتسيل منها إلى الأماكن التي كان يقصد وصولها إليها2. وترد بكثرة في النصوص المتعلقة بتنظيم الإرواء وفي النصوص المتعلقة بشؤون الزراعة. وأما لفظة "امررن" فتعني "المرور"، والإمرار و"الممرات"، وقد وردت في النصوص الزراعية بمعنى الممرات المائية التي تجري فيها المياه، فهي بمعنى سواقٍ لإسقاء الأرض3. وأما الممر الواحد أو الوادي، فيقال له "سرن"4. وترد كثيرًا في النصوص المتعلقة بشؤون الإرواء لفظة "حرت". وورودها فيها يدل على وجود علاقة لها بالإسقاء والإرواء. ويظهر أن لهذه اللفظة صلة بلفظة "خر" العربية التي تعني ما خده السيل من الأرض، والشق، فيقال خر الماء الأرض خرًّا إذا شقها، والهوى من علو إلى أسفل. وإذا تدهدى الشيء من علو5. وهي بهذا المعنى وبمعنى ثقب وفتحة في لغة بني إرم وفي العبرانية المتأخرة، وتؤدي لفظة "خرو" Harru معنى قناة في الأشورية. وهذا يدل على أن للفظة "حرت" معنى قناة أو فتحة تفتح في السد، أو في مجرى ماء، لإسالة الماء من الفتحة إلى القناة أو المجرى المخصص بجري الماء6. وقد عثر السياح الذين زاروا اليمن ودرسوا آثار السدود على "حرات"

_ 1 Rw 59, Bu. San’a 1909, Jemen, Ii, 431, Mordtmann Und Mittwoch, Sab. Inschr., S. 17. 2 Rep. Epigr. 4351, Vii, Ii, P.210. 3 Rep. Epigr. 4351, Vii, Ii, P.209. 4 Rep. Epigr. 4351. 5 تاج العروس "3/ 172"، "خرّ". 6 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 81, 85, 115.

كثيرة تتخلل جانبي السد. وهي عبارة عن فتحات مستديرة، تختلف أقطار فتحتها بحسب كميات المياه المراد إمرارها منها إلى "القنوات". وهذه الفتحات هي الحرات "حررتن". والفتحة الواحدة هي "حرت" "حرة"1. ويعبر عن أحداث فتحة أو ثغرة في جدار أو جبل أو في صخرة لإسالة الماء منها أو فتح شيء ما، بلفظة "بلق". وتؤدي لفظة "مخض" معنى "بلق" أيضًا، فهي أيضًا بمعنى إحداث ثغرة أو فتحة، غير أنها تستعمل للتعبير عن معان أخرى مثل فتح الطرق وشقها في الجبال في الغالب، أو إحداث طريق فوق "منقلن". ويراد بالمنقل معنى "نقيل" أي ممر. ولما كانت العربية الجنوبية ذات جبال ومرتفعات، تصطدم بها الرياح المتشبعة بالأبخرة، فتتساقط مطرًا، عمل المهندسون على الاستفادة من هذه الأمطار بالتحكم فيها وبتوجيهها الجهة التي يريدونها، وذلك بإحداث فتحات في الصخور وعمل قنوات وأنفاق لإكراه الماء على المرور منها إلى المواضع التي يريدون خزنها فيها للاستفادة منها عند الحاجة، ولتكوين مسايل كبيرة تتجمع فيها المياه فتجري كالأنهار. وتؤدي لفظة "قلح" معنى سال وجرى وصب، ولها معان أخرى ذات صلة بالحركة. وبهذا المعنى ترد لفظة "سفح" كذلك2. ولسفح في عربيتنا معنى قريب من معناها في المسند، فمن معاني السفح، عرض الجبل حيث يسفح فيه الماء، وسفح بمعنى سال وأراق وصب3. وهي معان لها صلة بجريان الماء. وأما لفظة "منفخت" "منفخة"، و"منفخ"، من أصل "نفخ"، فإنها تعني فتح الماء وإسالته، وذلك بفتح الفتحات الماسكة له ليسيل منها إلى المجاري المخصصة بمسيله. وهي في معنى لفظة "منفس" التي هي من أصل "نفس". ويراد بها خروج الماء وجريانه من الفتحات الحابسة له وارتفاعه نتيجة لفتح الماء. وهي من ألفاظ الإرواء الواردة في الكتابات العربية الجنوبية4. ويستعمل العراقيون جملة "تنفس الشط" بمعنى ارتفع ماء النهر وزاد، وذلك

_ 1 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 118. 2 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 62. 3 تاج العروس "2/ 164"، "سفح". 4 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 82.

في أيام الفيضان. و"تنفس الموج" و"تنفس دجلة". فالمنفخ والمنفس إذن في معنى واحد، ويطلقان على عملية رفع مستوى الماء بزيادة كمياته من الفتحات التي تضبطه وتسيطر عليه، لأجل رفع مستواه في الأنهار أو في المجاري والسواقي لإرواء الأرضين في يسر وسهولة، ولا سيما الأرضين المرتفعة بعض الارتفاع. ويقال لمجرى الماء الصغير المتفرع من مجرى أوسع منه "مسبا". وذهب بعض الباحثين إلى أن المراد بهذه اللفظة الصهريج. وقد عرف علماء اللغة "المسبا" بأنه الطريق في الجبل1. أما السواقي ومجاري الماء الصغيرة التي تستعمل في إسقاء المزارع والحدائق، فيقال لها "مسقيت"، أي "مسقية", "ساقية"2. وذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "مسفحة" "المسفحة"، تعني الساقية أيضًا3. ويعبر عن خروج الماء وسيلانه ونزوله بلفظة "فجر"4. و"الفجر" في عربيتنا تفجير الماء، يقال انفجر الماء وتفجر: سال وانبعث. والمفجر والمفجرة منفجر الماء من الحوض وغيره. وفجرة الوادي، متسعه الذي ينفجر إليه الماء5. و"الشرج" مسيل ماء من الحرة إلى الوادي، ومنفسح الوادي6، فلها علاقة بمسير الماء وسيلانه. وبهذا المعنى وردت لفظة "سفح" في المسند7.

_ 1 "والمسبأ كمقعد الطريق في الجبل". تاج العروس "1/ 76"، "سبأ". Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 112, Hommel, Aufs. Und Abbadlungen, S. 126. 2 Glaser 1150, Halevy 193, 199. 3 Muller, Wzkk, Ii, S. 189, Rhodokanakis, Stud. Lexi, Ii, S. 89. 4 Halevy 149, Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 59. 5 تاج العروس "3/ 464"، "فجر". 6 تاج العروس "2/ 63"، "شرج". 7 Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 59, Alt. Sab. Inschr., S. 77.

المصانع

المصانع: وللاستفادة من ماء المطر استعملوا المصانع، جمع مصنعة. مساكات لماء السماء، يحتفرها الناس فيملؤونها ماء السماء يشربونها. والمصنعة كالحوض أو شبه

الصهريج، وذكر أن الحبس مثل المصنعة1. وذكر أن المصانع مساكات لماء المطر يحتفرها الناس، وأن العرب تسمي القرى مصانع، تقول هو من أهل المصانع، أي القرى والحضر، والمصانع أيضًا المباني من القصور والآبار وغيرها والحصون. والصنع، مصنعة الماء، وهي خشبة يحبس بها الماء وتمسكه حينًا، وسمت العرب أحباس الماء الأصناع، وبهذا المعنى: الصناع والصناعة2. و"الرصف" السد المبني للماء3. ويكون من حجارة مرصوف بعضها إلى بعض في مسيل فيجتمع فيها المطر4.

_ 1 تاج العروس "5/ 422"، "صنع"، المخصص "10/ 52 وما بعدها". 2 تاج العروس "5/ 422"، "صنع". 3 المخصص "9/ 153". 4 تاج العروس "6/ 117"، "رصف".

السكر

السكر: ويعبر في لهجة أهل الحجاز بلفظة "سكر" و"سكر الأنهار" عن سد الماء وحبسه، وذلك لضبط الماء، فلا يتسرب إلى المزرعة أو إلى مكان فيغرقه، أو لحبس الماء للاستفادة منه في الإسقاء1. وقد يكون السكر ثابتًا دائمًا، مبنيًّا له فتحات تغلق وتفتح وقت الحاجة إليه، وقد تكون مؤقتة تزال وتسد بحسب الحاجة، وتكون هذه في السواقي والنهيرات. وتؤدي لفظة "حبس الماء" معنى سده ومنعه من السيلان والجري، وذلك بواسطة السكر والحاجز المقام. وتؤدي لفظة "السكر"، أيضًا معنى سد النهر و"العرم" أي السد، والمسناة2.

_ 1 عمدة القارئ "11/ 200 وما بعدها"، "باب سكر الأنهار"، تاج العروس "3/ 274"، "سكر". 2 تاج العروس "3/ 274"، "سكر".

الأحباس

الأحباس: و"الحبس" خشبة أو حجارة تبنى في مجرى الماء لتحبسه، كي يشرب القوم ويسقوا أموالهم. والجمع أحباس. وقيل ما سد به مجرى الوادي في أي

موضع حبس. وقيل الحبس كالمصنعة تجعل للماء1. و"العرمة" سد يعترض به الوادي ليحتبس به الماء، والأحباس تبنى في أوساط الأودية2. و"الرجيع" محبس الماء، و"الخرنق" مصنعة الماء، والسرج والقرى والحافشة. وهذه مسايل الماء3. و"الخربق" مصنعة الماء واسم حوض4. و"الردم" السد5. و"الحواجر" و"الحاجر" ما يمسك الماء من شفة الوادي ويحيط به6. ومن الأحباس: حبس ضعاضع. جبيل عنده حبس كبير يجتمع عنده الماء. وهو حجارة مجتمعة وضعت بعضها على بعض7. وتكون على السواقي ومسايل الماء والسدود، مسايل جانبية، تفتح عند الحاجة لمرور الماء منها إلى المزارع، تخرج من المسيل الأعظم يمنة ويسرة، يقال لها: "النواشط". وطريق ناشط، إذا كان ينشط من الطريق الأعظم يمنة ويسرة8. وقد كان نضوب الماء من الآبار والغدران ومواضع الماء الأخرى من المشكلات التي جابهت الجاهليين. ومن المشكلات التي ما برح سكان جزيرة العرب يواجهونها اليوم أن بعض الآبار يغور ماؤها، فيضطر الناس إلى ترك أماكنهم، أو قد يتبدل طعم الماء، فلا يكون مستساغًا للشرب ولا مجديًا في الزراعة. وحفر الآبار في مواضع متقاربة يؤدي إلى انخفاض مستوى الماء أو نضوبه في كثير من الأحيان، وقد أدى إهمال الناس للآبار إلى تراكم الأتربة فيها، وانهيار جدرانها، ونضوب الماء منها، وارتحال الناس عنها.

_ 1 تاج العروس "4/ 124"، "حبس"، اللسان "6/ 45"، "حبس". 2 تاج العروس "8/ 395"، "عرم". 3 تاج العروس "6/ 331"، "خرنق". 4 تاج العروس "6/ 327"، "خربق". 5 تاج العروس "8/ 309"، "ردم". 6 تاج العروس "3/ 125"، "حجر". 7 قال الشاعر: وإن التفاتي نحو حبس ضعاضع ... وإقبال عيني في الظبا لطويل عرام، أسماء جبال تهامة "410". 8 تاج العروس "5/ 232"، "نشط".

السدود

السدود: السد في اللغة الحاجز، والوادي فيه حجارة وصخور يبقى الماء فيه زمانًا.

وقد كان الجاهليون يقيمون حواجز عند مخارج السيول، لحبس الماء في المنخفضات لتكوين أحواض لحفظ الماء فيها، للاستفادة من مائها عند انقطاع السيول وظهور الجفاف. ولما كان بناء سد ضخم بحجارة وبجدر مرتفعة طويلة، عمل يحتاج إلى مهارة وخبرة وإلى مال، وإلى وجود حكومة كبيرة متمكنة من الناحية المادية، وهي شروط لم تكن متوفرة في معظم أنحاء جزيرة العرب، ما خلا اليمن، صارت السدود في معظم أنحاء جزيرة العرب سدودًا صغيرة بدائية في أغلب الأحيان، هي مجرد حواجز من تراب أو من صخور كدست بعضها فوق بعض لحبس الماء في المنخفض ومنعه من الجريان. وقد شاهد السياح آثار سدود جاهلية في أنحاء جزيرة العرب، ووصفوها، وذكروا أن من الممكن الاستفادة من بعض تلك السدود ومن مواقعها، وأشادوا بمقدرة من شيدها وأقامها وبقابلياته الهندسية وبفطنته في حسن اختيار المواقع، بالرغم من ضعف القدرة الفنية وبدائية الأساليب التي استعملت في ذلك الزمن1. ومن السدود: "السد" ماء سماء في "حزم بني عوال"، جبيل لغطفان أمر الرسول بسده. وسد "أبي جراب" أسفل من عقبة منى دون القبور عن يمين الذاهب إلى منى، منسوب إلى "أبي جراب عبد الله بن محمد بن عبد الحاراث بن أمية الأصغر"، وسد قناة2، وسد "العياد"، وقد أقيم في موضع يبعد عن الطائف زهاء ستة أميال، كتب عليه بالخط الكوفي المحفور على الحجر: "هذا سد عبد الله بن معاوية أمير المؤمنين. بناه عبد الله بن إبراهيم". وكان ذلك سنة "58" للهجرة. وقد أقيم بالحجارة وحدها، فلم يضع مهندسه، عبد الله بن إبراهيم مادةً من مواد البناء مثل الملاط أو الطين وما شابه ذلك بين الحجارة لتثبيتها وضمها بعضها إلى بعض حتى تتماسك، فتكون كأنها قطعة واحدة. وهي طريقة معروفة في اليمن، استعملها المهندسون الجاهليون كما يظهر ذلك من فحص الخرائب العتيقة الباقية من الأبنية والسدود الجاهلية. ولا يزال هذا السد في حالة ممتازة يتحدث عن نفسه وعن قدرة المهندس الذي أقامه في هذا المكان.

_ 1 تويتشل، المملكة العربية السعودية "ص50". 2 تاج العروس "2/ 373"، "سدد".

سد مأرب

سد مأرب: واستبد سد مأرب من بين سائر سدود جزيرة العرب بالاسم والذكر، ونال مكانة كبيرة في كتب التفسير والسير والأخبار. ولذكر القرآن لـ"سيل العرم"، نصيب كبير في توجيه أنظار علماء التفسير واللغة والأخبار إليه، وفي خلود اسمه إلى الآن. وقد روى أهل الأخبار قصصًا عنه وعن كيفية خرابه، وتشتت شمل سبأ بسببه، ونزوحهم إلى مواضع بعيدة عن ديارهم القديمة. ويعد سد "مأرب" من أهم السدود التي أقيمت في اليمن وفي جزيرة العرب. وقد بني من أجل السيطرة على مياه الأمطار والسيول التي تتدفق منها لوقاية المزارع والقرى منها، وللاحتفاظ بهذه السيول للاستفادة منها إذا انقطعت الأمطار، وإرواء مناطق واسعة من الأرضين، جيدة التربة، خصبة مثمرة، لكن بها حاجة شديدة إلى الماء، وما كان في الإمكان إنباتها لولا السيطرة على السيول وإنشاء هذا السد. وتأتي السيول إلى السد من أماكن عديدة، من "ذمار"، و"جهران"، و"الحدي"، و"حولان"، وبلاد مراد، وقيفة، وعروش، وجوانب ردمان، وشرعة، وكومان وغيرها، وذلك إذا أمطرت السماء وتجمعت فيها السيول وانحدرت. حتى تنتهي إلى وادي "أذنة"، فتسير فيه المياه حتى تنتهي إلى مضيق بين جبلين، يقال لكل منهما "بلق"، ويسميهما "الهمداني" مأزمي مأرب، تسير المياه فيه حتى تدخل منخفضًا من الأرض واسعًا، هو حوض هذا السد. تدخر مياه الأمطار فيه. وله سدود وأبواب لحجز المياه وحبسها، أو لتصريفها حسب الحاجة. فتمر من أبواب تفتح وتغلق، لتمر المياه منها في قنوات توزع إلى الأماكن التي يراد توجيه الماء إليها1. ولا توجد لدينا نصوص عن أول رجل أقام هذا السد، وعن العهد الذي تم فيه البناء. وكل ما لدينا اليوم عن وقت بنائه لأول مرة هو لذلك حدس وتخمين.

_ 1 زيدان، العرب قبل الإسلام "170 وما بعدها"، العظم "2/ 88 وما بعدها"، البلدان "4/ 383"، حمزة "126"، الأغاني "16/ 72"، الصفة "80". Muller, Burgen, Ii, S. 83. F.

ويرى "كلاسر" أن عهده يعود إلى السنة السبعمئة قبل الميلاد1. وقد بقي قائمًا يؤدي واجبه إلى حوالي السنة "575" بعد الميلاد2. ويظهر من بعض الكتابات المحفورة على جدرانه بالمسند أن جملة تحسينات وتعميرات أدخلت عليه في أوقات مختلفة قبل الميلاد وبعدها، وآخرها هو إصلاح أبرهة له الذي تم على أثر تصدعه سنة 542 للميلاد. ويظهر أن تصدعًا آخر وقع للسد في أيام طفولة الرسول، وذلك في حوالي السنة "575" للميلاد، لم يكن من الممكن التغلب عليه، بسبب التدهور الاقتصادي الذي حدث في هذا العهد في اليمن وارتباك الأوضاع السياسية واضطراب الأمن وانتشار الثورات في كل مكان وتدخل الأجانب في شؤون البلاد فتصدع قسم كبير منه، ولم يهتم أحد من الحاكمين في إعادته إلى أصله بإصلاحه وترميمه، وتحولت بذلك الأرضين الخصبة التي كانت تروى بمائه والتي كانت واسعة إلى أرضين موات، غطتها الطبيعة بطبقة من الرمال والأتربة وألبستها أكسية الصحراء الحزينة، حدادًا على فراقها لذلك السد العتيد. وتعود أقدم الكتابات الباقية إلى أيام "المكربين". وتأتي كتابة "سمه علي ينف" "سمهعلي ينوف" مكرب سبأ على الرأس. ويظهر منها أن هذا المكرب قد أقام سد "رحاب"، وقد اشتغل به ابنه "يثع أمر بين" وقواه، كما بنى سدًّا آخر عند "حبابض"، ويقع في المنطقة الشمالية من سد مأرب3. وقام المكرب "كرب ال بين بن يثع امر"، ببناء جزء من السد وتقوية أجزائه الأخرى. كما قام الملوك بإضافة أجزاء جديدة إليه، وتقوية الأجزاء القديمة منه. ومن هؤلاء الملك "ذمر علي ذرح" ملك سبأ، والملك "يدع ال وتر" "يدع ايل وتر"4. كذلك أصلح الملك "شمر يهرعش" هذا السد، ورممه الملك "شرحبيل يعفر" في سنة "449" للميلاد. ولكن المياه جرفت أقسامًا منه سنة "450" للميلاد، أي

_ 1 Ency., Iii, P.290. 2 A Grohmann, Sudarabien Ais Wirtschaftsgebiet, Ii, 23-28, A. Grohmann. S. 151. 3 Ency., Iii, P.290, Muller, Burgen, Ii, S. 13, F. 4 Muller, Burgen, Ii, S. 15.

بعد سنة من الترميمات، فاضطر إلى إعادة إصلاحه وتقويته1. وقد أقام المهندسون في الجهة الضيقة التي تسيل منها السيول إلى المجاري ثم إلى حوض واسع سدًّا قويًّا طوله نحو من "577" مترًا ونصف المتر، عرف بـ"رحاب" في المسند. أقيم في المنطقة التي تضيق فيها الشقة بين جزءي جبل "بلق"، حيث يمر بينهما واد يفصل بين الجزءين المعروفين بـ"بلق القبلي" و"بلق الأوسط". فسد الوادي بذلك وتحكم السد بمسير ماء السيول. وصار يجري من خلال فتحة، هي باب يتحكم الإنسان فيها كيف يشاء إلى "وادي أذنة" "وادي ذنة"، حيث يملأ الحوض2. وينتهي الحوض بسدين آخرين أقيما لتنظيم تصريف الماء المخزون عند الحاجة وتوجيهه إلى الأرضين المحتاجة إليه، بهما منافذ هي أبواب تفتح وتغلق للتحكم في توزيع الماء. وقد استخدمت في بناء السد والحواجز حجارة اقتطعت من الصخور، وعولجت بمهارة وحذق حتى توضع بعضها فوق بعض، وتثبت وتتماسك وتكون وكأنها قطعة صلدة واحدة. ونحتت الصخور، بحيث صارت تتداخل بعض في بعض، بأن يدخل رأس من صخرة في فتحة مقابلة لها، فتكون كالمفتاح في القفل، وبذلك تتماسك هذه الصخور، وترتبط ارتباطًا وثيقًا، وتكون كأنها صخرة واحدة. وقد وجد أن بعض الأحجار قد ربطت بعضها ببعض بقطع من قضبان اسطوانية من المعدن المكون من الرصاص والنحاس يبلغ طول الواحد منها حوالي "16"، سنتمترًا، وقطرها حوالي الثلاثة سنتمترات ونصف. وذلك بصب المعدن في ثقب الحجر، فإذا جمد وصار على شكل "مسمار" يوضع الحجر المطابق الذي صمم ليكون فوقه في موضعه بإدخال "المسمار" في الثقب المعمول في الجهة السفلى من ذلك الحجر، وبذلك يرتبط الحجران بعضهما ببعض برباط قوي محكم. وقد اتخذت هذه الطريقة لشد أزر السد، وليكون في إمكانه الوقوف أمام ضغط الماء وخطر وقوع الزلازل3. أما المادة التي استعملت في البناء لربط الأحجار بعضها ببعض فهي من أحسن أنواع الجبس Gips، وقد تصلب هذه الجبس الذي طليت

_ 1 Glaser 554, Ency., Iii, P.290. 2 "وادي أذنة"، الصفة "80، 94". 3 العظم "2/ 92". A. Grohmann, S. 152.

به واجهات السد أيضًا حتى صار كأصلب أنواع السمنت1. وقد أقام المهندسون أبوابًا لدخول المياه منها وخروجها، كما أنشأوا فتحات لتقسيم المياه وتوزيعها على المجاري والسواقي تفتح وتقفل بحسب حاجة المزارع والأماكن إلى المياه. ولا يزال بعض جدر السد قائمًا، وآثار السواقي والمجاري التي كانت تجري فيها المياه من الحوض باقية، وهي تدل على مهارة منهدسي الري في ذلك العهد وعلى براعتهم في كيفية الاستفادة من الأرض ومن الطبيعة لخدمة الإنسان. وبنيت في اليمن سدود أخرى، منها "قصعان"، و"ربوان"، وهو سد قتاب، وشحران، وطمحان، وسد عباد، وسد لحج، وهو سد عرايس، وسد سحر، وسد ذي شهال، وسد ذي رعين، وسد نقاطة، وسد نضار وهران، وسد الشعباني، وسد النواسي، وسد الخانق بصعدة، وسد ريعان، وسد سيان، وسد شبام، وسد دعان وغيرها2. وذكر "الهمداني" أن في مخلاف "يحضب العلو" ثمانين سدًّا3. وسد "الخانق" سد ينسب إلى "نوال بن عتيك" مولى سيف بن ذي يزن، ومظهره في "الخنفرين" من رحبان. وقد خربه "إبراهيم بن موسى العلوي" بعد هدم صعدة4. وهناك آثار سدود جاهلية أخرى أقيمت في مواضع متعددة من العربية الجنوبية. منها آثار سد قتباني أقيم عند موضع "هجر بن حميد" بوادي بيحان. وقد درسه ووصفه "بوون"5. كان يسقي بمائه منطقة واسعة من أرض مملكة قتبان.

_ 1 A. Grohmann, S. 152. 2 زيدان، العرب قبل الإسلام "169"، Muller, & Sudarabische, S. 88. 3 الصفة "101"، زيدان "169". 4 زيدان، "169". 5 A. Grohmann, S. 153, Hamilton, Archaeological Sites In The Western Aden Protectorate, In G.J., 101, “1943”, 116. Philby, The Land Of Sheba, G. J., 92 “1938”, 113, 119.

وآثار سد "مرخة"1، وآثار سد آخر أقيم عند "شبوة"، وسد آخر عند "الحريضة"، تفرعت منه شبكة من القنوات والمجاري لإيصال الماء إلى المزارع والأرضين الخصبة التي تعيش عليها. وقد ظهرت من الصور "الفوتغرافية"، التي أخذت من الجو لبعض مواضع من جزيرة العرب آثار شبكات للإرواء تتصل بأحواض مياه وسدود أقيمت لخزن مياه الأمطار فيها للاستفادة منها وقت الحاجة، ففي "وادي عديم" آثار جدر سدود وقنوات ومجاري مياه متصلة بعضها ببعض تمتد إلى مسافات بعيدة كانت تمدها بإكسير الحياة. وكذلك تشاهد آثار الإرواء عند "حصن العر" و"ثوبة" في القسم الجنوبي من "وادي حضر موت". وقد نحتت الصخور عند "نجران" لعمل ممر منها للماء ليذهب إلى حوض واسع أحيط بسد وجدار حيث يمكن خزن مئة مليون "غالون" من الماء فيه2.

_ 1 G. Gaton Thompson – E.W. Gardner, Climate, Irrigation And Early Man In The Hadhramut, G.J., 93 “1939”, 34. F, A. Grohmann, S. 153. 2 A. Grohmann, S. 153, Philby, The Land Of Sheba, G.J., 92 “1938”, 16.

توزيع الماء

توزيع الماء: وقد يوزع الماء الجاري من العيون والأنهار، بالنصيب. بأن تعين أوقات تفتح فيها المياه على مزرعة ما، فإذا انتهى الوقت سد الماء، وحول إلى مزرعة أخرى، وذلك لقلة الماء وعدم كفايته في اسقاء المزارع كلها دفعة واحدة، فيوزع بالحصص، في أوقات تثبت وتعين. وقد تقع الخصومات من جراء التجاوز وعدم التقيد بضبط الأوقات، كما يحدث في أيامنا في كثير من الأماكن الزراعية. ونجد في كتب الأخبار أمثلة عديدة من أمثلة هذه النزاع. ويقال للنصيب من السقي "سقي"1 أي الحظ من الشرب2.

_ 1 المفردات، للأصفهاني "235". 2تاج العروس "10/ 180"، "سقي".

حقوق الري

حقوق الري: وللجاهليين أعراف محلية قامت مقام القوانين في الاستفادة من الماء. والمياه عندهم، أما مياه طبيعية لا دخل ليد الإنسان في استنباطها، مثل مياه الأمطار والعيون والأنهار. وإما مياه وجدت باستنباط الإنسان لها، باستخدام ماله ويده في تذليلها، كمياه الآبار والعيون التي يفجرها الإنسان ومياه الصهاريج والكهاريس والمياه التي تتجمع من إقامة السدود وما شاكل ذلك مما للإنسان يد وعمل في الاستفادة منها. وطبيعي أن تختلف هذه الأعراف باختلاف مواضع جزيرة العرب. فالمياه في العربية الجنوبية من أمطار ومن مياه مستخرجة أو نابعة هي أكثر بكثير من مياه أي منطقة أخرى من جزيرة العرب. ولهذا نجد لها ذكرًا في الكتابات العربية الجنوبية، حيث نجد فيها إشارات إلى أحكام وإلى كيفية السقي وحقوق أصحاب الأرض في الماء وحقوق المستأجرين للأرض في الماء وإلى خصومات وقعت بينهم في موضوع حقوق التصرف بالماء. ولدينا في الوقت الحاضر كتابات، هي قوانين صدرت من حكومات العربية الجنوبية في تنظيم حقوق السقي والاستفادة من الماء ومن حق الانتفاع من الآبار، كما تعرضت لموضوع حقوق شراء الأرض، وكيفية بيعها وما إلى ذلك مما يتعلق بالري والزراعة. وأما في الحجاز، فقد استخدمت الآبار المحفورة، يحفرها أهلها ليستفيدوا من مياهها في الشرب وفي إسقاء الزرع والمواشي، وقد يكرونها لغيرهم مقابل كراء يعين. لهذا وضعوا أعرافًا خاصة بالنسبة إلى الاستفادة من حقوق ملكية الآبار.

الخصومات بسبب الماء

الخصومات بسبب الماء: وطالما وقعت مشاحنات وخصومات بين أصحاب المزارع بسبب اشتراكهم في الماء، في مثل الشراج والجعافر والأنهار وأمثالها، إذ كان يستأثر بعضهم به، ولا يدع الماء يسيل إلى غيره إلا بعد أن يسقي زرعه سقيًا كاملًا، وكان أصحاب

المزارع الذين تقع مزارعهم في أعالي منابع الماء يستأثرون به، بتوجيهه إلى مزارعهم، أو بوضع سكر يحبس الماء عن البساتين الواقعة خلف السكر، فيذهب الماء إلى مزارعهم ولا ينال المزارع الأخرى إلا القليل منه ونجد مثل هذه الخصومات في العربية الجنوبية وفي منطقة يثرب وفي مواضع الحسي وعيون الماء. وقد خاصم أنصاري "الزبير بن العوام" عند النبي في شراج الحرة، وهي مسايل الماء التي يسقون بها النخل، فقضى النبي، أن يسقى الأعلى ثم الأسفل1.

_ 1 إرشاد الساري "4/ 197 وما بعدها".

الفصل السابع والتسعون: معاملات زراعية

الفصل السابع والتسعون: معاملات زراعية المحاقلة ... الفصل السابع والتسعون: معاملات زراعية وقد تطرقت كتب الحديث والفقه إلى ذكر معاملات زراعية، كان المزارعون في الجاهلية يمارسونها. وهي عبارة عن عقود ومواثيق كانوا يأخذونها على أنفسهم بالقيام بأعمال زراعية معينة، مثل: المحاقلة، والمخابرة، والمزارعة، والمساقاة. المحاقلة: ولم ترد في نصوص المسند معلومات مسهبة عن المحاقلة عند العرب الجنوبيين. ولكن في استطاعتنا أن نقول إنها لم تكن تختلف في أسلوبها عن المحاقلة عند أهل الحجاز قبيل الإسلام. والمحاقلة عندهم اكتراء الأرض بالحنطة أو الذهب أو شيء آخر، والمزارعة على نصيب معلوم يتفق عليه بالثلث أو الربع أو أقل من ذلك أو أكثر، أو على الأوسق من التمر والشعير، أو على الدينار والدرهم1. ويقال للمحاقلة "نحقل" في المسند2.

_ 1 القاموس "3/ 359"، جامع الأصول "11/ 478"، تاج العروس "7/ 281"، "حقل"، عمدة القارئ "12/ 180 وما بعدها"، إرشاد الساري "4/ 187"، صحيح مسلم "5/ 26". 2 Rhodokanakis, Katab. Texte, I, S. 84.

والمخابرة هي المؤاكرة، وهي المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض1. وقيل: المخابرة المزارعة على النصف ونحوه، أي الثلث والمزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما وقيل المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض2. والمؤاكرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع. وهي المخابرة3. وفي الحديث كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا حتى أخبر رافع أن رسول الله نهى عنها. وقد اختلف علماء اللغة في أصل اللفظة، فقال بعضهم: هي من خبرت الأرض خبرًا كثر خبارها، وقال بعض آخر من خيبر؛ لأن النبي أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل خابرهم، أي عاملهم في خيبر4. و"الخبر" في قول علماء اللغة الزرع، ومن هذه اللفظة يجب أن يكون أصل المخابرة. ويظهر من اختلاف العلماء في تعريف المراد من لفظة المخابرة، التي تعني المزارعة أنهم لما أرادوا وضع حد لمعناها، وجدوا المخابرين أي المزارعين أنماطًا وأشتاتًا في تثبيت حصص المخابرة ونصيبها، فحفظ كل ما سمعه، وظن أن ما وعاه وسمعه هو المخابرة، فجاءت تعاريفهم من ثم على هذا النحو. ولو أخذناها ودققناها، وجدنا أنها كلها شيء واحد، هو: المخابرة المزارعة على نصيب معلوم مما يزرع في الأرض. أما تثبيت الأنصبة، فلا دخل له بالتعريف؛ لأنه مجرد تعامل أشخاص واتفاق أفراد، منهم من كان يزيد في النصيب ومنهم من كان ينقص منه، حسب الحاجة، على نحو ما يقع في كل تعامل مثل البيع والشراء. والمزارعة المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها ويكون البذر من مالكها5. فإن كان من العامل، فهي مخابرة6. وقد كانوا يتعاملون مع المزارعين أو الأجراء على "القصارة". وهي ما يبقى في المنخل بعد الانتخال، أو ما بقي في السنبل من الحب، مما لا يتخلص بعدما

_ 1 جامع الأصول "11/ 472"، شرح النووي "6/ 406 وما بعدها". 2 تاج العروس "3/ 167"، "خبر". 3 تاج العروس "3/ 17"، "أكر". 4 تاج العروس "3/ 167"، "خبر". 5 تاج العروس "5/ 368"، "زرع". 6 إرشاد الساري "4/ 170"، "ما جاء في الحرث".

يداس، أو ما يبقى على الأرض من حب بعد التذرية1. فيشترط بعضهم أن تكون القصارى للمذري، وقد لا يوافق على ذلك صاحب الزرع، فتكون له. وقد يحدث الاختلاف بين صاحب الزرع وبين المذري، بسبب اتهامه للمذري، باستغلال الشرط، والإفراط في إسقاط الحب على الأرض للاستفادة منه. وذكر أن أحدهم كان يشترط في المزارعة ثلاثة جداول والقصارة، أي ما سقى الربيع. وقد نهى النبي عن ذلك2. والجدول النهر الصغير، ونهر الحوض ونحو ذلك من الأنهار الصغار3. ولما جاء المهاجرون إلى يثرب، وكان بينهم قوم يحسنون الزراعة، وكانوا يريدون عملًا يعتاشون منه، حاقلوا أصحاب الأرض على زرع أرضهم في مقابل نصيب معلوم، كانوا يتفقون عليه. وقد نجح بعض منهم في استغلال الأرض، وكسبوا منها. غير أن قسمًا منهم اختصموا مع الملاك، بسبب توزيع الحاصل أو الماء، فكان الرسول يتداخل بنفسه لحسم الخلاف. وقد صار الصحابة من أهل مكة بين تاجر وبين زراع، ورد في حديث "أبي هريرة": "لم يشغلني عن النبي غرس الودي، أي صغار النخل"4. وورد أن الأنصار قالوا للمهاجرين: تكفونا المؤونة في النخل بتعهده بالسقي والتربية ونشرككم في الثمرة، واتفقوا على ذلك5. وقد نهى الإسلام عن المحاقلة والمزارعة والمؤاكرة، وذلك لما كان يقع بسببها من خلاف بين المالك والفلاح، وما كان يقع من ظلم في القسمة أو اختلاف على توزيع الحاصل. فلما جاء الرسول إلى "يثرب"، ورأى هذه الخصومات، نهى عن إيجار الأرض وكرائها بقوله: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها، فإن لم يفعل فليمسك أرضه"6. وفي رواية أخرى أنه لم "يحرم المزارعة، ولكن قال أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئًا معلومًا،

_ 1 اللسان "5/ 100 وما بعدها"، "قصر". 2 اللسان "5/ 101"، "قصر". 3 اللسان "11/ 106"، "جدل". 4 تاج العروس "10/ 387"، "ودى". 5 إرشاد الساري "4/ 175". 6 عمدة القارئ "12/ 180 وما بعدها"، تاج العروس "5/ 368"، "زرع".

لأنهم كانوا يتنازعون في كراء الأرض حتى أفضى بهم إلى التقاتل بسبب كون الخراج واحدًا لأحدهما على صاحبه، فرأى أن المنحة خير لم من المزارعة التي توقع بينهم مثل ذلك"1. وقد ذكر العلماء أن هذا النهي إنما وقع بسبب المنازعات التي كانت تقع فيما بين الطرفين المتعاقدين لاتفاقهما على شيء مجهول، وذكروا مثلًا آخر على ذلك هو كري المزارع على الأربعاء وبشيء من التبن. والربيع هو النهر الصغير. فتقع المنازعة ويبقى المزارع أو رب الأرض بلا شيء2. وقد كانوا يتعاقدون على ما ينبت على ربيع الساقي، أي النهر الذي يسقي الزرع. فيقع اختلاف بين المزارع والمالك، أو بين صاحب الماء والمزارع3. أما إذا كان الاتفاق على شيء واضح معلوم، في مثل استئجار الأرض البيضاء من السنة إلى السنة، أو في آجال يتفق عليها بالذهب والفضة، أي بالدنانير والدراهم، فقد جاز كذلك كما ورد في كتب الحديث4.

_ 1 إرشاد الساري "4/ 187 وما بعدها". 2 عمدة القارئ "12/ 183"، شرح النووي، "6/ 400"، "حاشية على إرشاد الساري". 3 تاج العروس "5/ 342"، "ربع". 4 تاج العروس "12/ 184".

المساقاة

المساقاة: وكما مارس أصحاب الأملاك والمزارعون الجاهليون طريقة المحاقلة والمزارعة، مارسوا "المساقاة" كذلك. وتكون بالاتفاق بين طرفين على قيام أحدهم بتوجيه الماء إلى صاحب أرض أو ملتزم لها أو غير ذلك، وهو محتاج إلى ماء مقابل تعهد يقدمه الطرف الثاني إلى صاحب الماء بعوض، مثل جزء من حاصل أو عين وما شابه ذلك، مقابل ذلك الماء. وذكر أن المساقاة، أن يستعمل رجلًا في نخيل أو كرم ليقوم بإصلاحها مقابل أن يكون له سهم معلوم مما تغله. وأهل العراق يسمونها معاملة1 وذكر العلماء أن أهل المدينة كانوا يقولون للمساقاة المعاملة،

_ 1 تاج العروس "10/ 180"، "سقى"، "8/ 36"، "عمل"، اللسان "11/ 476".

وللمزارعة المخابرة، وللإجارة بيع، وللمضاربة مقارضة، وأن لهم لغات اختصوا بها1. وقد يخصص الماء كله بالزرع، أي يكرى كله لمؤجره، وقد يكرى لما يسد حاجة الزرع، أي لإرواء الزرع الذي اتفق على إسقائه بالماء، في كل وقت، في النهار أو في الليل، وفي أي لحظة يشاء المستأجر لذلك الماء. وقد يكون على حظ من الماء، مثل ربع يوم أو ليلة، أو يوم معين، أو وقت يثبت. ويقال لهذا الماء "ربيع"، أي حظ2. وطالما وقعت الخصومات بين المزارعين بسبب اختلافهم على الماء. فالماء هو رأس مال المزارع، فإذا انقطع عن زرعه، تأثر زرعه، وتعرض للهلاك، وزرعه هو رأس ماله وحياته. ومن هذا القبيل الخصومات التي تقع بسبب اشتراك جملة مزارعين في مورد ماء واحد، ومحاولة كل واحد منهم الحصول على أكبر مقدار من الماء، أو أخذه قبل غيره. والخصومات التي تقع من سيل الماء في الشرائج. والجداول التي تمر في عدة مزارع والينابيع والعيون التي تروي جملة أحواط ومحاقل. وقد أشير إلى جملة أنواع من هذه الخصومات في كتب الحديث3. ومن عادة أهل "يثرب" أنهم كانوا يكرون الأرض، لأجل قصير أو لأجل طويل. فإذا كان الأجل طويلاً فربما غرسوا شجرًا، على نصيب معلوم من الثمر، وذلك؛ لأن أكثرهم لم يكونوا يملكون كثيرًا من الذهب والفضة، فكانوا يتعاملون على الشطر مما تغله الأرض. ولما جاء المهاجرون زارعوا الأنصار بالشكر على الثلث والربع، حتى ما كان بالمدينة بيت هجرة، إلا وزرع على الشطر4. أو على التبن أو على أوسق من تمر أو بر أو غير ذلك. وكرى بعضهم أرضه بالدراهم والدنانير وبالفضة وبالذهب. وقد أشير إلى ذلك في كتب الحديث5.

_ 1 جامع الأصول "11/ 172"، شرح النووي "6/ 406 وما بعدها". 2 تاج العروس "5/ 342"، "ربع". 3 عمدة القارئ "12/ 188 وما بعدها"، "كتاب المساقاة". 4 إرشاد الساري "4/ 176 وما بعدها". 5 إرشاد الساري "4/ 188 وما بعدها".

إكراء الأرض

إكراء الأرض: وإكراء الأرض، بمعنى إيجار أرض ما لمدة معينة محدودة، أو بدون حد بشروط وفي مقابل بدل. ويقال لهذا البدل الذي يدفع عن ثمرة استغلال الأرض أو أي كراء "اثوبت"، أي "الثواب" "ثواب". ثواب أجر الانتفاع من الشيء الذي أجر. وقد يكون هذا الشيء أرضًا وقد يكون دارًا وقد يكون حيوانًا. فورد في بعض النصوص العربية الجنوبية أن أختين استأجرتا أرضًا على ساحل نهر "عبرت"، وبقرًا لتقوما بإيجارها إلى الفلاحين لاسغلالها بزرعها، وبتنمية البقر بشروط معينة، تنتهي بأجل نص عليه، في مقابل بدل إيجار "اثوبت" يدفع إلى أصحاب المال. وقد أشير في الكتابة إلى أن الإله "المقه"، قد وافق على العقد وباركه1. ومعنى ذلك أن العقد عقد شرعي وقد سجل رسميًّا وصار عقدًا معترفًا به قانونًا من الحكومة ومن المعبد. ويراد بلفظة "عبرت"، لفظة "عبرة" و"العبرة" في لغتنا. والعبرة شاطئ النهر وناحيته، قال النابغة الذبياني يمدح النعمان بن المنذر: وما الفرات إذا جاشت غواربه ... ترمي أواذيه العبرين بالزبد يومًا بأطيب منه سيب نافلة ... ولا يحول عطاء اليوم دون غد2 وورد في أحد النصوص، أن ناسًا "ادم"، استأجروا أرضًا من الآلهة، على أن يدفعوا أجرها سنة بعد سنة، وحسبما اتفقوا عليه مع الآلهة3، مما يدل على أن هذه الأرض المؤجرة هي من أوقاف المعبد. وقد أجرها أولئك الناس، من رجال الدين الذين بيدهم أمر حبوس الآلهة. ومن حق المؤجر، أي المالك إبطال العقد، إذا أخل المستأجر بشرط العقد أو أظهر كسلًا وتباطؤًا أو عدم مبالاة في استغلال الشيء المؤجر4. ويعني هذا أن

_ 1 Glaser 862 = Cih 290, 1064, 1572, Halevy 49, Sd 13, Glaser 131, Cih, 99, Grohman, 126, Handbuch, I, S. 124. 2 تاج العروس "3/ 376"، "عبر". 3 Halevy 49, Sd 13, Glaser 131, Cih 99, Grohmann, S. 126. 4 Grohmann, S. 126, Sd 21.

الاتفاق كان على دفع نصيب معين من الغلة أو من ثمرة العمل. وبما أن هذا النصيب متوقف على مقدار الجهد الذي يبذل في استغلال الملك المؤجر، بحيث إذا زاد، زاد نصيب المؤجر عن إيجار ملكه، وإذا قل، قل نصيبه أيضًا، ومن حيث أن من مصلحة المؤجر أن يزداد وارد "اثوبت" ملكه، لذلك صار من حقه إبطال العقد، إذا رأى تهاونًا في تطبيق ما جاء فيه. وقد كان أهل الحجاز، يكرون أرضهم، يكرونها بالثلث والربع والطعام المسمى وبالذهب وبالورق. وكانوا يدفعون الأرض على من يزرعها ببذر من عنده على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على مسايل الماء ورؤوس الجداول أو هذه القطعة والباقي للعامل. وقد نهى رسول الله عن أكثر أنواع هذه الكراء، ذكر أنه قال: " من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها "1.

_ 1 صحيح مسلم "5/ 18 وما بعدها"، "باب كراء الأرض".

بيوع زراعية

بيوع زراعية: وتضطر الظروف الاقتصادية المزارعين إلى بيع الثمار وخضر البقول قبل بدو صلاحها، وقد يفعلون ذلك تخلصًا من معاملات جني الثمر وحراسته من اللصوص، وحمله إلى الأسواق، وأمثال ذلك من معاملات تحتاج إلى مال وجهد. ويقال لذلك "المخاضرة". وقد عرفت بأنها بيع الثمار قبل بدو صلاحها، سميت بذلك؛ لأن المتبايعين تبايعًا شيئًا أخضر بينهما، مأخوذ من الخضرة، ويدخل في ذلك بيع الرطاب والبقول وأشباهها1 فكان صاحب الأشجار والمزرعة يبيع ثمار زرعه لغيره، فيبيع الثمار قبل أن تطعم، ويبيع الزرع قبل أن يشتد ويفرك منه. وقد نشأت عن هذا البيع خصومات ومنازعات بسبب وقوع عاهات في الحاصل، تفسد على المبتاع ربحه، فيطلب عندئذ من البائع استرجاع ما دفعه له كله أو بعضه، وتقع عندئذ الخصومات. وقد بقيت سنتهم على ذلك حتى مجيء الرسول إلى المدينة، فكانوا يأتونه للمقاضاة، فوقع النهي منه على هذا النوع من البيوع،

_ 1 تاج العروس "3/ 180"، "خضر".

ولم يسمح به إلا أن يبدو صلاح الثمر، فيتبين صلاحه ونوعه. وعندئذ لا يحق لمبتاع التذمر من شرائه؛ لأنه شاهد ما ينوي شراءه ورآه، فلا غبن فيه1. ومن بيع المخاضرة شراؤها مغيبة من الأرض، كالفجل، والبصل، واللفت، والثوم وشبهه، وللفقهاء في ذلك جملة آراء2. وورد أن "المحاقلة" نوع من البيوع. وهي بيع الطعام في سنبله بالبر، وقيل اشتراء الزرع بالحنطة. وقد نهي عنها في الإسلام3. ومن أنواع البيوع التي تعرض لها الفقهاء "المزابنة". وهي بيع الثمر في رؤوس النخل بالتمر كيلًا، وبيع الزبيب بالكرم كيلًا. وذكر بعض العلماء أن المراد بذلك بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، وبيع التمر في رؤوس النخل بالتمر. وذكر أيضًا أن من المزابنة بيع التمر بكيل جزاف، وكل تمر بيع على شجره بتمر كيلًا، وقد نهي عنه في الحديث؛ لأنه بيع مجازفة من غير كيل ولا وزن. وقد نهي عنه لما يقع فيه من الغبن والجهالة. وذكر أن المزابنة كل جزاف لا يعرف كيله ولا عدده ولا وزنه بيع بمسمى من مكيل وموزون ومعدود. أو هو بيع معلوم بمجهول من جنسه، أو هو بيع مجهول بمجهول من جنسه، أو هو بيع المغابنة في الجنس الذي لا يجوز فيه الغبن؛ لأن البيعين إذا وقفا فيه على الغبن، أراد المغبون أن يفسخ البيع وأراد الغابن أن يمضيه فتزابنا فتدافعا فاختصما4.

_ 1 عمدة القارئ "12/ 2 وما بعدها". 2 عمدة القارئ "12/ 14". 3 إرشاد الساري "4/ 180". 4 عمدة القارئ "11/ 290 وما بعدها"، "12/ 13 وما بعدها"، القاموس "4/ 230"، تاج العروس "9/ 224"، "زبن".

جمعيات زراعية

جمعيات زراعية: ويظهر من بعض الكتابات أن بعض المقاطعات الزراعية كانت في إدارة مجلس يتألف من ثمانية أشخاص عرفوا بـ"ثمنيتن"، أي "الثمانية"، أداروا شؤون المقاطعة من إشراف على العمل، ومن إدارة لأمور الزروع، ومن تهيئة للبذور وما يحتاج إليه الزرع، ومن دفع حصص الحكومة والمعبد، ومن خزن وبيع

وتصريف1. فهم هيأة مجلس زراعي لمشروع تعاوني يضم أهل تلك المقاطعة، واجبهم تمشية أمور هذه المؤسسة الزراعية والإشراف عليها، وإعطاء كل ذي حق حقه ونصيبه في هذه الجمعية الزراعية التعاونية. ويظهر أن شيئًا من التخصص، كان قد وجد في هذه الجمعيات، فعهدت أمر الإدارة إلى رجل عرف بـ"سمخض"، كان بمثابة مدير للجمعية، واجبه الإشراف على الأرض التي أوكل أمر إدارتها إليه. أما وظيفته، فعرفت بـ"سمخضت" أي إدارة أرض أو إدارة مقاطعة، أو "إدارة" بتعبير أصح. وعرف من تولى أمر جباية الضرائب والإشراف على الموظفين الذين يوكل أعمل الجباية إليهم، بـ"نحل"، ويقال لوظيفته "نحلت"2. ولا استبعد أن تكون "نحلت"، جماعة جمعت بين أعضائها روابط فكرية واقتصادية. فتعاونت فيما بينها على العمل معًا والاشتراك في استغلال حاصل هذا العمل. ودليل ذلك أننا نجد معاجم اللغة تفسر "النحلة" بالديانة3، ولهذا التفسير صلة بما ذهبت إليه من معنى للفظة "نحلت"، وعلى ذلك يكون الـ"نحل" رئيسًا للنحلة، يشرف عليها ويدفع بالنيابة عنها حق الحكومة والمعبد. وقد ورد في أحد النصوص أن جمعية من هذه الجمعيات الثماني، كانت تدير أرضين في ضواحي مدينة "هرم". وقد نعت أعضاؤها بـ"ابعل"، أي سادة ورؤساء4. فهم سادة هذه الجمعية وأصحاب الإرادة فيها.

_ 1 النص الموسوم بـHakevy 147 2 Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 56, Hartmann, Arab. Frage, S. 208, 401, Rhodokanakis, Stud. Lexi, Ii, S. 67. 3 تاج العروس "8/ 130"، "نحل". 4 راجع السطر الأول من النص الموسوم بـ: Hakevy 147.

الهروب من الأرض

الهروب من الأرض: وقد جابهت حكومات العربية الجنوبية المشكلة التي تجابه كل حكومة. مشكلة هرب المزارعين من الأرض والالتجاء إلى المدن. ففي بعض نصوص المسند الخاصة بالزراعة نجد تهديدًا للمزارعين الذين يفرون من المزارع ويجلون عنها، فيلحقون بذلك الأذى بالزراعة وبالحاصل. والواقع أن حياة الفلاح في المزرعة كانت صعبة

قاسية، فلا يكاد دخل الفلاح يكفيه مؤونته ومؤونة عياله، ولا سيما أيام الشدة حين يقل الزرع أو يتعرض للتلف لعوامل عديدة ليس في طاقة الفلاح مكافحتها، فضلًا عن الضرائب الباهظة التي عليه أن يدفعها إلى صاحب الأرض والحكومة والمعبد. فلاذ بأذيال الهرب من الأرض إلى المدن للاشتغال فيها، بالرغم من تشديد الحكومة في منع الهجرة وترك المزارع من غير موافقة أصحاب الأرض. وقد عرف الهارب من الأرض والمجلي عنها بـ"مهسجلت" في نصوص المسند1. ويقال للأرض التي يهاجر المهاجر إليها، وللمكان الذي يفر إليه المزارع من الحضر ليجد فيه رزقًا يبحث عنه "مهجرت" في لغة المسند. أي "المهجرة"، بمعنى: "المهجر"2.

_ 1 السطر التاسع والعاشر من النص: Rep. Epigr. 4646 2 Halevy 147, Rhodokanakis, Stud. Luxi., I, S. 57.

العمري والرقبي

العمري والرقبى: ومن عقود أهل الجاهلية: "العمري" و"الرقبى". والعمري ما يجعل لك طول عمرك أو عمره، أو هو أن يدفع الرجل إلى أخيه دارًا، فيقول له: هذه لك عمرك أو عمري أينا مات دفعت الدار إلى أهله. وقد عمرته إياه وأعمرته جعلته له عمرة أو عمري، أي يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت إلي1. و"الرقبى"2 أن يعطي الإنسان إنسانًا ملكًا كالدار والأرض ونحوها، فأيهما مات رجع الملك لورثته. أو أن يجعله لفلان يسكنه، فإن مات ففلان يسكنه، فكل واحد منهما يرقب موت صاحبه. وقد أرقبه الرقبى، وأرقبه الدر جعلها له رقبى3. وللفقهاء كلام في الاثنين4. ويكون "العمري" و"الرقبى" في الأرض كذلك، كأن يعطي الرجل رجلًا أرضًا يستغلها طول حياة أحدهما، فأيهما مات طبقت بحق الأرض ما اتفق عليها من شروط. وقد كانوا يفعلون ذلك بالنسبة للأقرباء والأصدقاء والمقربين لمساعدتهم.

_ 1 إرشاد الساري "4/ 364"، تاج العروس "3/ 421"، "عمر". 2 كبشرى. 3 تاج العروس "1/ 275"، "رقب". 4 إرشاد الساري "4/ 364 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 421"، "عمر".

العرية

العرية: العرية النخلة المعراة. وأعراه النخلة وهب له ثمر عامها1. والعرية أيضًا التي تعزل عن المساومة عند بيع النخل، والتي يعريها صاحبها رجلًا محتاجًا، وأن يشتري الرجل النخل ثم يستثني نخلة أو نخلتين، يقال أعرى فلان فلانًا ثمر نخلة، إذا أعطاه إياها يأكل رطبها، وليس في هذا بيع، وإنما هو فضل ومعروف. فالعرية إذن النخلة عزلتها من المساومة، والإعراء أن تجعل ثمرتها لمحتاج أو لغير محتاج عامها ذلك، وقد رخص الرسول في العرايا، وللفقهاء كلام في ذلك2.

_ 1 قال سويد بن الصامت الأنصاري: ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوانح اللسان "15/ 49"، "عرا". 2 اللسان "15/ 50"، "عرا".

الفصل الثامن والتسعون: الحياة الاقتصادية

الفصل الثامن والتسعون: الحياة الاقتصادية مدخل ... الفصل الثامن والتسعون: الحياة الاقتصادية وأقصد بالحياة الاقتصادية كل ما يتعلق بمفهوم الاقتصاد من معنى، ما يتعلق منه بالحكومة أو ما يتعلق منه بالشعب. وما يتعلق منه بالتجارة والمال، أو ما يتعلق منه بالزراعة أو بالصناعة والحرف. واقتصاد أية أمة، حاصل أمور عديدة: الجو، من حر وبرد، ومن مطر وجفاف، ومن ثروات طبيعية، تستنبط من الماء أو التربة، ومن نشاط وجهد وظروف اجتماعية، هي من حاصل تأثير المحيط في أهله. وأدخل هنا في الحياة الاقتصادية ما يشمل التجارة بنوعيها تجارة البر وتجارة البحر، وما يشمل الزراعة، ثم ما يشمل الحرف والصناعات. وتشمل التجارة: الاتجار داخل جزيرة العرب، أي تعامل أبناء بلاد العرب بعضهم مع بعض، والاتجار مع الخارج، أي مع الحكومة الغربية مثل الهند وحكومات أفريقيا والفرس والروم. لقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب السامية نشطون في عالم التجارة. والتجارة تكاد تكون الحرفة الوحيدة عند العرب التي لم ينظر العربي إليها وإلى المشتغل بها نظرة استهجان وازدراء وانتقاص. بل اعتبرت عندهم من أشرف الحرف قدرًا ومنزلة. ونظر إلى التاجر نظرة تقدير وتجلة، مع أنها حرفة مثل سائر الحرف، فيها من الحيل والخداع واللعب على الناس ما في أية حرفة أخرى

وفيها عمل وجهد على نحو ما نجد في الزراعة أو في الصناعة, ولكنها نظرة واجتهاد إلى الحياة، وظروف طبيعية، جعلت العرب تجارًا في الغالب، فشرفوا التجارة على غيرها من الحرف، وقدموها عليها في المنازل والدرجات. وقد بقيت على هذه المنزلة والدرجة في الإسلام كذلك. وأشير إلى شرفها وسمو منزلتها في كتب الحديث، مما يدل على ما كان للتجارة من منزلة في نفوس الناس. والتاجر الذي يبيع ويشتري. ومن المجاز التاجر الحاذق بالأمر، لما تحتاجه التجارة من ذكاء وحذق في مساومات البيع والشراء. وذكر علماء اللغة أن العرب تسمي بائع الخمر تاجرًا، وأن أصل التاجر عندهم الخمار، يخصونه من بين التجار1. والتجارة صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشتري للربح2. و"التاجر" هو "مكر" في لغة المسند، و"تمكرو" في الآشورية3. كان الملوك تجارًا يبيعون ويشترون، وكان رؤساء المعبد تجارًا يتاجرون باسم معابدهم، ويكسبون من الضرائب التي تقدم للمعابد كسبًا فاحشًا، وكان أصحاب الأملاك ورؤساء العشائر تجارًا كذلك، يتاجرون بما يقدمه إليهم من هو دونهم في المنزلة من حاصل وغلة، ويتاجرون بما يستوردونه من الخارج، من إفريقية أو من الهند، من حاصلات ثمينة غالية في نظر تجار ذلك اليوم، لبيعه في الداخل أو نقله إلى بلاد الشأم أو العراق لتصريفه في أسواق تلك الجهات. وفي اللهجات العربية ألفاظ ومصطلحات كثيرة لها صلة بالتجارة وبالتعامل، وهي من اللغات العالمية الغنية في هذه المادة، ويلاحظ بصورة عامة أن اللهجات السامية غنية كلها تقريبًا بالألفاظ المستعملة في البيع والشراء والتعامل والتجارة، وفيها مترادفات كثيرة في هذا الباب، وكثرة هذه الألفاظ دليل على حذق الساميين عمومًا بالتجارة وافتتانهم بها، وعلى وجود عقلية تجارية لديهم. والتأريخ يؤيد ذلك، فترى الساميين عمومًا، وهم أنشط من غيرهم، يتنقلون من مكان إلى مكان طمعًا في ربح، وركضًا وراء تجارة، وهم من أحذق الناس يومئذ في التحكم في الأسعار وفي التعامل وفي البيع والشراء.

_ 1 تاج العروس "3/ 66"، "تجر". 2 إرشاد الساري "4/ 13". 3 Grhomann, S. 124.

وفي القرآن الكريم لفظة "تجارة" و"تجارتهم" ومصطلحات أخرى عديدة ذات صلة بالاتجار والتجارة والمعيشة والكسب. كما أن فيه إشارات كثيرة إلى تجارة قريش وإلى أثر التجارة في حياة الناس في ذلك الوقت. وفيه تحريم للربا وتوبيخ وتقريع و {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 1. وفيه أمور أخرى توحي إلينا بما كان للتجارة من أثر كبير في حياة أولئك الجاهليين. بل نجد القرآن الكريم يحاججهم ويناقشهم ويخاطبهم بلغتهم التي يفهمونها لغة الربح والخسارة والكسب والثواب والعقاب، والتأجيل والتعجيل، وما أشبه ذلك من كلام له أبلغ الوقع والإدراك في نفس التاجر، الذي يعي الناحية المادية من ربح وخسارة وكسب وتوفير، أكثر من وعيه وإدراكه للأمور الروحية التي لا يفهمها كثيرًا؛ لأنها ليست من صميم حياته ومحيطه العملي. والتجارة أنواع كثيرة، تشمل كل أنواع البيع والشراء. والتاجر، هو الذي يتاجر في الأسواق. غير أن منهم من تخصص في نوع خاص من أنواع التجارة مثل بيع الحبوب، وقد يتخصص ببيع نوع خاص من الحبوب، مثل الحنطة، فيقال له: "حنّاط" وحرفته "الحناطة"2. وقد يتخصص ببيع وشراء "البز"، فيقال له "البزاز" وحرفته "البزازة"3. وقد يتخصص ببيع "الزيت"، فيقال لبائعه "الزيات" وللذي يعتصره "الزيات" كذلك4. وتكون التجارة بالمقايضة، وهي المعاوضة، إذا عارض التاجر أو أي شخص متاعًا بمتاع آخر، وبادل سلعة بسلعة أخرى5. وهي الطريقة القديمة في الاتجار، قبل أن يتعامل بالذهب والفضة وزنًا، في تقييم قيم الأشياء، وقبل أن تعرف النقود، التي ولدت من التعامل بالذهب والفضة. وطريقة المقايضة أو المبادلة أو المعاوضة، لا تزال طريقة قائمة معروفة، تتبعها الدول، في تصريف منتجاتها بمنتوجات أخرى عوضًا عن النقد، لحاجتها إلى النقد وإلى تصريف حاصلاتها

_ 1 سورة المطففين، الآية 1 وما بعدها. 2 تاج العروس "2/ 121"، "حنط". 3 إرشاد الساري "4/ 13، تاج العروس "4/ 8، "بزز". 4 تاج العروس "1/ 547"، "زيت". 5 تاج العروس "5/ 81"، "قيض".

الفائضة عليها. وقد اتبع الجاهليون هذه الطريقة، فكانوا يبادلون الجلود بسلع أخرى، ويبادلون التمر بالحنطة1. وقد اتبع الجاهليون طريقة التعامل بالذهب والفضة وزنًا كذلك، كما تعاملوا بالنقود. ويتبين لنا من دراسة كتب التفسير والحديث وكتب الأدب والأخبار والسير أنه كان لأهل مكة عرف وضعوه في أصول التجارة يمكن أن نسميه "قانون التجارة" بالنسبة لأهل تلك المدينة، تكون من تجاربهم في الاتجار ومن تعاملهم بعضهم مع بعض، ومن تجاربهم وتعاملهم مع الخارج، مثل تعاملهم مع الفرس والروم والحبش، حيث أخذوا من هؤلاء الأعاجم النظم والقواعد التجارية التي كانوا يسيرون عليها والتي لم تكن معروفة عند أهل مكة، بسبب اختلاف المحيط وطريقة التعامل التجاري بين الدول. فتجار مكة وأصحاب المال، هم الذين وضعوا أصول التعامل في التجارة فيما بينهم، وهم الذين كونوا بأنفسهم قوانينهم، إذ لا حكومة منظمة لهم تضع التشريع وتقوم بالتنفيذ على نحو ما كان في العربية الجنوبية أو عند الفرس أو الروم. ويتبين لنا من دراسة الموارد المذكورة كذلك، أن أهل مكة كانوا خبراء في أصول تنمية الأموال وفي كيفية استثمارها واستغلالها، فكانت لهم مرابحات وكانت لهم شراكات وتعامل ومراسلات مع غيرهم من أصحاب المال في مختلف أنحاء جزيرة العرب، وكان لهم ربا، للحاجة، أي للشدة والعسر والضيق. أو للتعامل بالمال المقترض بالربا لإنمائه في مشاريع اقتصادية تعود بالفائدة على المقترض أكثر من فائدة الربا التي يدفعها للمرابي، حتى ظهر في مكة أناس كانوا يعدون من كبار الأغنياء بالنسبة لأهل تلك المدينة وبالنسبة لجزيرة العرب في ذلك الوقت. وفي المسند ألفاظ كثيرة ذات معاني تجارية تتعلق بالبيع والشراء والامتلاك والعقود وهي دليل على أن العرب الجنوبيين كانوا قومًا تجارًا يجنون من التجارة أرباحًا طائلة، ويعيش الكثير منهم عليها. فكانوا يبيعون ويشترون ويصدرون ويستوردون في الداخل والخارج، يقصدون الأسواق الشهيرة القريبة منهم، كما يقيمون الأسواق في بلادهم في المواسم أو في أيام معينة من الأسبوع للبيع والشراء، ولسد حاجاتهم

_ 1 تقويم البلدان "99".

بما يفيص عليهم من حاصل زراعة أو منتوج حيوان يبلدونه مقايضة بما يعوزهم من ضرورات وحاجات. والتجارة هي "ش ت ي ط" "شتيط" في لغة قتبان. وقد وردت هذه اللفظة في عدد من النصوص القتبانية، في أوامر أصدرها ملوك قتبان لتنظيم التجارة وتنظيم الجباية، وفي كيفية جباية "المكس" عن البضائع التي تباع في الأسواق، وفي العقوبات التي تفرض على المخالفين وعلى المتهربين من دفع جباية السوق. وقد حددت القواعد التي يسمح بموجبها للغرباء في الاتجار بأسواق مملكة قتبان، وفي كيفية اتجار القتبانيين في الأسواق الخارجية. وفي جملة هذه النصوص نص أصدره الملك "شهر هلال بن يدع اب" "شهر هلل بن يدع اب" في تنظيم التجارة وفي كيفية الاتجار. وقد نشر على شكل إعلان أو مرسوم ملكي موجه من الملك إلى التجار من أهل قتبان، وإلى الغرباء الوافدين عليها للاتجار، وقد كتب ونشر ليطلع عليه الناس كما تفعل الدول في الوقت الحاضر. وقد وردت في النص جملة مصطلحات وألفاظ، لها معان تجارية، مثل "يشط" أي يتاجر، و"يعرب" من "عرب" بمعنى يقدم عربونًا ويضع عربونًا1. ومن أصل "عرب" العرابة والعربون في العربية الشمالية2. و"خدر" بمعنى أقام ومقيم ومقيمين ونازلين. وقد ورد في المعجمات اللغوية أن من معاني هذه اللفظة الإقامة بالمكان3. ويقصد بذلك النازلون في مكان ما. ولما كان هذا النص أمرًا وقانونًا في تنظيم التجارة، فقد حدد ما جاء فيه من أوامر، بالنسبة إلى سكان المدينة "تمنع" وخارجها، وكذلك مملكة قتبان، والمقيمين بها، والوافدين من خارج قتبان للعمل بالأسواق والاتجار. ولذلك وردت هذه الجملة: "ومن يتجر تجارة بتمنع وبخارج تمنع، فعليه أن يقدم عربونًا إلى تمنع، وأن يكون مقيمًا بشمر، وإن آثر قتبان محلًّا لاتجاره، وأراد أن يتجول ليشتري، فعليه أن يشتري من شمر ... "، فحدد بذلك كيفية الاتجار وحق الاتجار والموضع

_ 1 راجع السطر الثاني من النص: Rep. Epigr. 4337. 2 القاموس "1/ 102"، تاج العروس "3/ 333 وما بعدها"، "الكويت"، "3/ 170 وما بعدها"، "خدر". 3 القاموس "2/ 18".

الذي يجب أن يشتري منه بالنسبة إلى تجار قتبان وإلى التجار الغرباء عن تمنع. وقد حدد هذا القانون حقوق الـ"خدر"، أي التاجر النازل والمقيم في إمارة "شمر"، والذي يتجول فيذهب إلى قتبان للاتجار فيها والتسوق من أسواقها، ويذهب إلى قبائلها لبيع ما عنده إليها أو لشراء ما يحتاج إليه من تجارة منها، وعليه أن يفعل ذلك، ولكنه ملزم بأخبار "عهر شمر"، وبذلك، وذلك لتسوية المشكلات والحسابات التي تتولد من المعاملات التجارية. وقد تطرق النص إلى الأضرار التي قد تصيب الأجانب أو القتبانيين، وإلى إحقاق الحقوق، ولهذا وضع الملك هذا الأمر. وجاءت في آخر النص هذه الجملة: "وخمسي ورقم" أي "خمسين ورق"، وقد سقطت كلمات قبلها، فلم يعرف المراد من ذكر هذا الرقم، أقصد وضع تأمينات بهذا القدر المذكور، أم قصد جزاءً يفرض على المخالفين، أو غير ذلك. وهذه القوانين القتبانية، هي من أقدم وأشهر القوانين التي وصلت إلينا باللهجات العربية القديمة في كيفية تنظيم الاتجار والتعامل في السوق وفي تعيين حقوق الحكومة ونصيبها من الأرباح المتأتية من التجارة. وهي دليل ناطق على مقدار عناية القتبانيين بأمور التجارة بالنسبة لذلك الوقت.

التجارة البرية

التجارة البرية: والتجارة البرية، هي عماد تجارة الجاهليين، ولا سيما الجاهليين القريبين من الإسلام وسندهم الأول في رخائهم وفي كسب ثرواتهم. وعماد هذه التجارة وسندها القوافل. فقد كان الملوك وسادات القبائل والأشراف يرسلون تجارتهم بقوافل إلى مواضع اتجارهم، فتبيع ما تحمل وتشتري ما تحتاج إليه من تجارة، لتبيعها في مكان آخر بثمن غال، ويكسب أصحاب هذه القوافل كسبًا حسنًا من هذا الاتجار. والتجارة البرية: إما تجارة داخلية، أي داخل قطر من أقطار جزيرة العرب وبين أقطارها، وإما تجارة خارجية، كانت تتم مع بلاد الشأم والعراق، أي خارج حدود جزيرة العرب في اصطلاح الجغرافيين المسلمين. وقد أشير في التوراة وفي الكتابات الآشورية والمؤلفات اليونانية واللاتينية إلى

اتجار العرب مع الخارج، كما أشير إلى اتجار الآشوريين والفرس والرومان والروم مع العرب، وإلى طمع الدول الكبرى لعالم ذلك الوقت في جزيرة العرب، نظرًا لما كانوا يسمعونه عن ثرائها وغناها، ولموقعها الجغرافي المهم الذي يقع بين أفريقية وآسية. ويهيمن على المياه الدافئة ذات المنافع الكبيرة بالنسبة للتجارة العالمية في كل وقت وزمان. والعربية الجنوبية في كتب اليونان والرومان وفي التوراة، بلاد غنية ذات خيرات وثروات وتجارات وأموال، قوافلها تخترق جزيرة العرب إلى بلاد الشأم والعراق، وفي بلادها الذهب والفضة والحجارة الكريمة، تتاجر مع الخارج فتربح بتجارتها هذه كثيرًا، وبذلك اكتنزت المعادن الثمينة المذكورة والأموال النفسية حتى صارت من أغنى شعوب جزيرة العرب. وفي "المزامير" أن "شبا" ستعطي "الذهب" لملك العبرانيين في جملة الشعوب التي ستخضع له، تقدم له الجزية1. وورد في "أرميا" أن "شبا" كانت ترسل "اللبان" إلى إسرائيل2. وقد ذكروا في سفر "حزقيال" في جملة كبار التجار. كانوا يتاجرون بأفخر أنواع الطيب وبكل حجر كريم وبالذهب3. وأشير في "أيوب" إلى قوافل "شبا" التي كانت تسير نحو الشمال حتى تبلغ إسرائيل4. وفي هذه الإشارات دلالة على الصلات المستمرة التي كانت بين العبرانيين والسبئيين، وعلى أن السبئيين كانوا هم الذين يذهبون إلى العبرانيين، يحملون إليهم الذهب والأحجار الكريمة والطيب واللبان. فتبيع قوافلهم ما عندها في أسواق فلسطين، ثم تعود حاملة ما تحتاج إليه من حاصلات بلاد الشأم ومصر وفلسطين. ويظهر من سفر "يوئيل" أن السبئيين كانوا يشترون السبي من فلسطين، من "بني يهوذا"، حيث جاء فيه تهديد لأهل صور وصيدا بأن رب إسرائيل سينتقم منهم جزاء اعتدائهم على الإسرائيليين ونهبهم ذهبهم وفضتهم. وسيجعلهم عبيدًا يباعون في الأسواق إلى السبئيين: "وأبيع بنيكم وبناتكم بيد بني يهوذا

_ 1 المزامير، المزمور الثاني والسبعون، الآية 15. 2 أرمياء، الإصحاح السادس، الآية 20. 3 حزقيال، الإصحاح السابع والعشرون، الآية 22 وما بعدها. 4 أيوب، الإصحاح السادس، الآية 19.

تبيعونهم للسبئيين، لأمة بعيدة؛ لأن الرب قد تكلم". مما يدل على أنهم كانوا من المشترين للرقيق، ينقلونه إلى بلادهم للاستفادة منهم في مختلف نواحي الحياة، يتخذون النساء الجميلات زوجات لهم، ويتخذون البشعات والقويات للخدمة، ويعهدون للرجال بالأعمال المختلفة التي تحتاج إلى ذكاء ومهارة وفن وإتقان، وبأعمال أخرى صناعية وزراعية، وأمثال ذلك. وقد أشير إلى ثراء السبئيين وامتلاكهم للذهب والفضة في بعض الكتابات الآشورية، فذكر "تغلاتبليزر" الثالث مثلًا أنه أخذ الجزية من السبئيين، أخذها ذهبًا وفضة وإبلًا: جمالًا ونوقًا ولبانًا وبخورًا من جميع الأنواع، كما ذكر "سرجون" أنه أخذ الجزية من "يثع أمر" ملك سبأ، أخذها ذهبًا وخيلًا وجمالًا ومن مصنوعات الجبال1. وقد سبق لي أن تحدثت عن هذا الموضوع في أثناء حديثي عن صلات الآشوريين مع العرب، وعندي أن هذه الجزية التي دفعت إلى الآشوريين، قد تكون جزية بالمعنى المفهوم من اللفظة، أي نتيجة قهر وإكراه وخضوع لحكم الآشوريين وهزيمة لحلقت بالسبئيين في حرب أو حروب وقعت مع الآشوريين، وقد تكون بمعنى ضريبة دفعها السبئيون إلى الآشوريين في مقابل السماح لهم بالاتجار في أسواق الحكومة الآشورية، فهي ضرائب يدفعها التجار أو تدفعها الحكومات إلى الحكومات الأخرى في مقابل السماح لها بالاتجار معها، وفتح أبواب أسواقها لرعاياها، للبيع والشراء. وفي كتب اليونان واللاتين تأييد واتفاق تام على ما جاء في التوراة عن ثراء السبئيين، وعن امتلاكهم الذهب والفضة والأحجار الكريمة. وقد بالغت في ذلك مبالغة أخرجتها من حدود الواقع إلى الخيال. فنسبوا لهم استعمال الأثاث المصنوع من الذهب والأواني المستعملة من الذهب والفضة، وغير ذلك مما أخرج وصفهم من حدود المعقول وأدخله في عالم القصص والأساطير. وقد بالغ "سترابو" في وصف ثراء السبئيين بسبب اتجارهم بنوع من العطور الزكية، دعاها باسم "اللاريم" Larimum وبالمواد الأخرى النفيسة، وذكر أنه كانت "لديهم كميات كبيرة من مصوغات الذهب والفضة، كالأسرة والموائد

_ 1 Hastings, P.842.

الصغيرة، والآنية والكؤوس، أضف إليها فخامة منازلهم الرائعة، فإن الأبواب والجدران والسقوف مختلفة الألوان بما يرصع فيها من العاج والذهب والفضة والحجارة الكريمة"1. وقد كانت هذه الشهرة من أهم العوامل التي دفعت بالقيصر "أغسطس" إلى إرسال حملته المشهورة المخفقة على اليمن. وهاك ما كتبه المؤرخ "بلينيوس" Pliny عن ثروة العرب وعن تجارتهم، لترى ما كان ماثلًا في مخيلة الرومان واليونان عن العرب. قال: ومن الغرابة أن نقول: إن نصف هذه القبائل التي تفوق الحصر، يشتغل بالتجارة، أو يعيش على النهب وقطع الطرق. والعرب أغنى أمم العالم طرًّا، لتدفق الثروة من روما وبارثيا إليهم، وتكدسها بين أيديهم. فهم يبيعون ما يحصلون عليه من البحر ومن غاباتهم. ولا يشترون شيئًا مقابل ذلك"2. وقد أشار "بلينيوس" إلى أن المعينيين كانوا يملكون أرضًا غنية خصبة، يكثر فيها النخيل والأشجار، وكان لهم قطعان كثيرة من الماشية، وأن السبئيين كانوا أعظم القبائل ثروة بما تنتجه غاباتهم الغنية بالأشجار من عطور وبما يملكونه من مناجم الذهب والأرضين المزروعة المرواة، وما ينتجونه من العسل وشمع العسل. كما كانوا ينتجون العطور3. وقد عد "سترابو" العسل في جملة المحصولات التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وذكر أنه كثير جدًّا فيها4. وقد كان العرب الجنوبيون يتاجرون مع بلاد الشأم، فيرسلون إليها قوافلهم مارة بالحجاز إلى أسواق بلاد الشأم بالطرق البرية التي لا يزال الناس يسلكونها حتى اليوم مع شيء من التحوير والتغيير. وقد عثر على كتابة دونها كبيران شكرا فيها الإله "عثتر"؛ لأنه نجاهما مع قافلتهما من الحرب التي كانت قد وقعت بين "مصر" وبين "مذي"، فوصلا معها سالمين إلى مدينة "قرنو"، أي

_ 1 مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 262"، "1952". 2 مجلة المجمع العلمي العراقي "ج1 م3 ص129". 3 مجلة المجمع العلمي العراقي "الجزء الأول: المجلد الثالث"، "1954م" "ص139". 4 مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 247".

عاصمة "معين". وقد ورد أنهما كانا يتاجران مع "مصر" و"ااشر"، أي "آشور"، و"عبر نهرن" "عبر نهران"1. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن هذه الكتابة تشير إلى حرب وقعت فيما بين السنة "220" والسنة "205" قبل الميلاد. أي في عهد "البطالمة"، وأن تلك الحرب كانت بين "الميديين" الذين أشير إليهم بـ"مذى" وبين "البطالمة" الذين أشير إليهم بـ"مصر"؛ لأنهم حكام مصر، أو الحرب التي وقعت فيما بين "السلوقيين" وبين "البطالمة"، والتي أدت إلى الاستيلاء على "غزة" سنة "217" قبل الميلاد. وقد كان العرب الجنوبيون يتاجرون مع هذه المدينة التي تعتبر الميناء الذي يؤدي بالتجار إلى موانئ مصر2. وقد كانت "البتراء" أي "سلع" Sela، أهم عقدة طرق يمر بها المعينيون والسبئيون. ومنها يتجه طريق نحو البحر الميت، لمن يريد الاتجار مع بلاد الشأم وطريق آخر ينتهي بغزة، لمن يريد الاتجار مع هذا الميناء المهم، الذي بقي العرب يتاجرون معه إلى أيام الرسول. وقد كان "هاشم بن عبد مناف" ممن يتاجر معه، وبه توفي كما تذكر الأخبار. وقد كان الذهب في رأس السلع التي حملها تجار العرب إلى الآشوريين وحكومات العراق وبلاد الشأم، وفي التوراة ذكر للذهب الذي كان يجلبه العرب إلى العبرانيين، وقد أشرت إلى ما ذكره الكتبة اليونان عن الذهب عند العرب، ولعلهم كانوا يحملون الفضة إليهم كذلك. فقد كانت للفضة مناجم في جزيرة العرب. وقد ورد في أخبار أهل الأخبار أن "أبا سفيان" كان قد حمل فضة كثيرة معه لبيعها في أسواق بلاد الشأم، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد، فلا يستبعد تصدير العرب للفضة لبيعها في تلك الأسواق في ذلك العهد. أما منتوجات الحديد أو مصنوعات معادن أخرى، فلا نجد لها ذكرًا في قائمة السلع التي كان يحملها التجار العرب إلى الخارج، بل يظهر أن أهل جزيرة العرب، كانوا هم الذين يستوردون مصنوعات المعادن من الخارج إلى جزيرتهم،

_ 1 Rep. Epigr. 3022, J. Pirenne. Paleographie Des Inscriotions Sud-Arabes, I, “1956”, P.211. 2 Die Araber, I, S. 74. F.

فنجد في الأخبار أنهم كانوا يفتخرون بالسيوف الهندوانية، أي المصنوعة بالهند، أو المعمولة من حديد هندي، أو المعمولة على طراز سيوف الهند، وقد عثر المنقبون على مصنوعات معدنية، تبين لديهم أنها من مصنوعات الرومان والروم، مما يدل على أنها قد استوردت من الخارج، أو أن العمال والمشتغلين في الصناعات المعدنية، كانوا قد رأوا تلك النماذج فعملوا على محاكاتها وصنع أمثالها. ونظرًا لتأخر الصناعة عند الجاهليين، وإلى نظرتهم الازدرائية إليها واحتقارهم لمن كان يشتغل بها، فلا يعقل أن تجد مصنوعاتهم المعدنية مكانة لها بين المنتوجات المماثلة لها في الأسواق الخارجية. لهذا اقتصرت صادرات جزيرة العرب إلى الخارج على المواد الخام، المتيسرة في بلاد العرب، أو المستوردة من أفريقية أو من الهند ومن وراء بلاد الهند، وأهما العطور والطيب والجلود. وكان "الطيب"، من أهم المواد التي تاجر بها العرب الجنوبيون. تاجروا بتصديره إلى خارج العربية الجنوبية إلى بلاد الشأم ومصر والعراق وتاجروا به في الداخل أي في العربية الجنوبية. وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد عرف "الطيب" بـ"طب" "طيب" في لغة المسند1. ويستخرج الطيب من أنواع متعددة من الأشجار، ويجلب بعضه من الخارج من الهند وأفريقية، ويصدر إلى مصر وأسواق بلاد الشأم والعراق. والبخور من المواد الثمينة ذات السعر العالي بالنسبة لتجارة ذلك الوقت. والبخور ما يتبخر به، وثياب مبخرة مطيبة2. وقد كانوا يحرقون البخور في المباخر، ويبخرون به المعابد والأصنام، كما كانوا يبخرون الضيوف، ويطيبون ثيابهم به. ومنه "القسط"، وهو عود هندي يتبخر به، يجاء به من الهند، يجعل في البخور والدواء. ويوجد قسط عربي. وورد "قسط أظفار"، قيل هو ضرب من الطيب، وقيل من العود3. وعندي أنه "قسط ظفار"، نسبة إلى "ظفار" قرب مرباط بالعربية الجنوبية، وتعرف بـ"ظفار الساحل"، نسب إليه العود الذي يتبخر به؛ لأنه يجلب إليها من الهند، ومنها إلى اليمن، كنسبة الرماح إلى "الخلط"، فإنه لا ينبت به، وإنما تجلب من الهند4. وقد أشير

_ 1 Muller, Biblische Studien, Iii, S. 85. 2 تاج العروس "3/ 32"، "بخر". 3 تاج العروس "5/ 205"، "قسط". 4 تاج العروس "3/ 370"، "ظفر".

إلى "العود" في الحديث. ورد: عليكم بالعود الهندي. وقيل هو القسط البحري1. و"المسك" من أنواع الطيب التي ورد ذكرها في القرآن الكريم2، ويحفظ عادة في قوارير، وهو من الطيب الثمين الذي يباع بأثمان غالية. وكانت العرب تسميه "المشموم"، ويذكر علماء اللغة أن اللفظة معربة، عربت من أصل فارسي هو "مشك"3، ورد في الحديث أطيب الطيب المسك. واستعملوه في الطب، عالجوا به جملة أمراض4. والعنبر من المواد التي تذكر بعد المسك في العربية، وللأخباريين آراء في أصل العنبر، وأجوده ما يجلب من شحر عمان5. و"المر"، وهو "امرر" في المسند، من المواد الثمينة الغالية في قائمة المنتجات العربية التي تباع داخل البلاد العربية وخارجها، وقد أقبل العبرانيون والمصريون على استيراده وشرائه لاستعماله في الأغراض الدينية، فاستعمل في المعابد وفي التحنيط، واستعمل في جملة الأجزاء التي تدخل في الدهن المقدس6. وذكر علماء اللغة أن "المر" كالصبر، دواء سمي به لمرارته. وقد عالجوا به جملة أمراض7. و"الصبر" عصارة شجر مر، وأجوده "السقطرى"، ويعرف أيضًا بالصبارة8. وأما "القرفة"، فإنها من المواد الثمينة كذلك، وتنبت في جزيرة "سيلان" بصورة خاصة. وتقشر ويستعمل قشرها، أو يستعمل دهنها الحاصل من ثمرها في بعض الأحيان9. ويرى علماء اللغة أن "القرفة" ضرب من "الدار الصيني"، وهو أنواع، منه "الدار صيني" الحقيقي، ومنه المعروف بـ"قرفة القرنفل"10.

_ 1 تاج العروس "2/ 437"، "عود". 2 سورة المطففين، الآية 26. 3 تاج العروس "7/ 176"، "مسك". 4 تاج العروس "7/ 176 وما بعدها"، "مسك". 5 تاج العروس "3/ 126"، "العنبر"، الإشارة إلى محاسن التجارة. "ص19 وما بعدها". 6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 326"، Hastings, P.639. 7 تاج العروس "3/ 537"، "مرر". 8 تاج العروس "3/ 325"، "صبر". 9 قاموس الكتاب المقدس "2/ 212"، Hastings, P.786. 10 تاج العروس "6/ 219"، "قرف".

و"القرنفل" من المواد المستوردة من الهند وما وراءها. وقد استعملوه طيبًا، كما عالجوا به، وطيبوا به الأكل. وقد أشير إليه في شعر لامرئ القيس، حيث أشار إلى رائحته الطيبة، وأشير إليه في شعر لعمرو بن كلثوم1. وقد ذكر "الكافور" في القرآن الكريم: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} 2. وفي ذلك دلالة على معرفة العرب به ووقوف قريش عليه واستعمالها له. وذكر أن الكافور، طيب، أو أخلاط من الطيب تركب من كافور الطلع، وقيل يكون من شجر بجبال بحر الهند والصين3. وأما "قصب "الذريرة""، فهو "قليمتن"، أي "القليمة" في المسند، وهو "قصب الطيب"4. و"الذرور" عطر يجاء به من الهند، كالذريرة، وهو ما انتحت من قصب الطيب، وقيل هو نوع من الطيب مجموع من أخلاط. وبه فسر حديث عائشة: طيبت رسول الله لإحرامه بذريرة5. و"السليخة" نوع من الـCassia، أي قشرة تؤخذ من شجرة القرفة، أو من أشجارها6، وذكر علماء اللغة أن السليخة عطر، وكأنه قشر منسلخ، ودهن ثمر البان قبل أن يربب بأفاويه الطيب، فإذا ربب بالمسك والطيب ثم اعتصر، فهو منشوش، أي اختلط الدهن بروائح الطيب7. و"الكندر" ضرب من العلك، وقيل هو اللبان، وقد عولج به8. و"اللبان"، مشهور في العربية الجنوبية، وهو من حاصل الهند والعربية الجنوبية وأفريقية، وهو ضرب من الصمغ، وذكر أنه الكندر، وانه يصنع من عصير جملة أنواع من الشجيرات، ويستخرج من عصير يستنبط بشق قشر الشجيرة،

_ قال عمرو بن كلثوم: كأن المسك نكهته بفيها ... وريح قرنفل والياسمينا تاج العروس "8/ 79"، "القرنفل". 2 سورة الدهر، الآية5. 3 تاج العروس "3/ 527"، "كفر". 4 قاموس الكتاب المقدس "2/ 216"، Hastings, P.786. 5 تاج العروس "3/ 223"، "ذر". 6 قاموس الكتاب المقدس "2/ 262"، Hastings, P.119. 7 تاج العروس "2/ 262"، "سلخ". 8 تاج العروس "3/ 529"، "الكندر".

وتجفيف العصير. وقد استخدم في المعابد. وأشير في سفري "أشعياء"1، و"أرمياء"2، إلى أن العبرانيين كانوا يستوردونه من "شبا"، أي من أرض "سبأ"، وأشهره من شحر عمان. وأحسنه ما يجمع من موضع تجمعه قبل سقوطه على الأرض، أو تلوثه بمادة غريبة قد تتساقط عليه3. ولفظة "الكندر" من أصل أعجمي هو Cunduru، وهو من الألفاظ "السنسكريتية"، فيظهر أن الكلمة دخلت العربية من الهند4. وقد كانت في المعابد مخازن تجمع فيها أصناف الطيب والمر والبخور، وذلك للتصدير والبيع. وقد كانت تقوم بمهمة وسيط في البيع والشراء، تبيع ما تخزنه وتحصل بذلك على عمولة تستفيد منها وتدر عليها أرباحًا طائلة جدًّا، تثري منها وهكذا نجد المعابد وهي تكاد تحتكر تلك المواد وتنفرد ببيعها إلى التجار5. ويقسم الطيب إلى ذكور الطيب وإلى إناثه. وذكور الطيب ما يصلح للرجال دون النساء نحو المسك والعنبر والعود والكافور والغالية والذريرة. وعرف هذا النوع بـ"ذكارة الطيب". والمؤنث طيب النساء، كالخلوق والزعفران6. وورد أن "الغالية"، طيب عرف في زمن "معاوية"، وذلك أن "عبد الله بن جعفر" دخل عليه ورائحة الطيب تفوح منه، فقال له ما طيبك يا عبد الله؟ فقال: مسك وعنبر جمع بينهما دهن بان. فقال معاوية: غالية أي ذات ثمن غال، وقيل أول من سماها بذلك "سليمان بن عبد الملك"، وإنما سميت؛ لأنها أخلاط تغلي على النار مع بعضها7. والخلوق من طيب النساء، يتخذ من الزعفران وغيره، وتغلب عليه الحمرة والصفرة. وقد نهي عنه؛ لأنه من طيب النساء8.

_ 1 أشعياء، الإصحاح 60، الآية 6. 2 أرمياء، الإصحاح6، الآية2. 3 تاج العروس "9/ 329"، "لبن"، الإشارة إلى محاسن التجارة "ص22". 4 W. Smith, A Dictionary Of The Bible, I, P.633. 5 Rhodokanakis, Stud. Lexi., I, S. 6. 6 اللسان "4/ 310"، "ذكر". 7 تاج العروس "10/ 270"، "غلى". 8 تاج العروس "6/ 337"، "خلق".

قوافل سبأ

قوافل سبأ: وقد أشير في التوراة إلى قوافل سبأ، وهي قوافل كانت تسير من العربية الجنوبية مخترقة العربية الغربية إلى فلسطين، فتبيع ما تحمله من سلع هناك. وقد كان السبئيون يسيطرون على العربية الغربية، حتى بلغت حدود مملكتهم أرض فلسطين. ولم تشر التوراة إلى وجود قوافل بحرية وسفن للسبئيين في البحر الأحمر، تتاجر مع فلسطين ومصر، ولم نعثر على كتابات بالمسند تشير إليها، لذلك، فليس في استطاعتنا التحدث عن التجارة البحرية للسبئيين مع بلاد الشأم. سارت حكومة سبأ على سياسة التوسع التجاري، وهذا التوسع يقتضي السيطرة على الطرق، فبذلت جهدها لبسط سلطانها على الطرق والمسالك وجعلها تحت نفوذها وحكمها. وبعد استيلائها على بقية الحكومات العربية الجنوبية الأخرى وضعت الطرق الجنوبية المؤدية إلى أرض اللبان والمواد الأخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وإلى الموانئ والمرافئ التي تتاجر مع إفريقية والهند وتستورد منها السلع النفيسة الثمينة تحت نفوذها وحكمها، وحسنتها وشقت طرقًا جديدة لأغراض حربية واقتصادية، وبلطت بعض مواضع منها لتقاوم السيول والأمطار، وأحكمت جوانبها وحصنتها بالحجارة الصلدة حتى تقاوم السيول التي تنحدر من المرتفعات على هذه الطرق فلا تلحق الأذى بها. ولا تزال آثار تلك الطرق باقية، وقد كتب عنها السياح. واتجهت نحو السيطرة على الطرق البرية المؤدية إلى بلاد الشأم. ولهذه الطرق أهمية كبيرة بالنسبة إلى اليمن والعربية الجنوبية. وهي طرق موازية للطريق البحرية الممتدة في البحر الأحمر، ولها شأن خطير في التجارة العالمية. وقد أسست مواضع حراسة، لحراسة القوافل من قطاع الطرق ومن تحرش القبائل بها، ولعل أهل يثرب الذين يرجعون نسبهم إلى اليمن، هو من الرجال الذين غرسهم السبئيون في هذا المكان لحماية قوافلهم التي تذهب إلى بلاد الشأم. ووجه السبئيون أنظارهم نحو العراق وموانئ الخليج العربي كذلك، فاستخدموا الطريق الممتدة من نجران إلى "السليل" ومن هناك إلى الخليج والعراق1.

_ 1 Rhodokanakis, Altsab. Texte., S. 9, W. H. Irvine Shakespear, In The Geogr. Journal, Lix., No. 5, “1922”, P.321.

وتوجد آثار طرق جاهلية مبلطة تبليطًا حسنًا وأخرى ممهدة تمهيدًا فنيًّا. وقد أنشئ بعضها في أرض جبلية وفي أرضين وعرة، وذلك باستعمال الآلات بمهارة فائقة في قطع الصخور لإنشاء هذه الممرات. وقد زفت بعض هذه الطرق وغطي بطبقة من الأسفلت، ووضعت عليها صوى ترشد المارة، ولما كانت الطرق الطويلة المبلطة تبليطًا فنيًّا تحتاج إلى نفقات طائلة وإلى أيد عاملة كثيرة وإلى حكومة كبيرة غنية، لم يكن من الممكن يومئذ فتح طرق طويلة ممهدة تخترق جزيرة العرب، على شكل الطرق التي أنشأها الرومان في انبراطوريتهم، لسير القوات العسكرية عليها والتجارات فاقتصر على إقامة الطرق الضرورية القصيرة التي توصل المدن والقرى بالمواضع المهمة1. وقد كان اعتماد التجار على الحيوانات ولا سيما الجمل في نقل تجارتهم. أما العربات فلم تكن مستخدمة في أغراض تجارية في جزيرة العرب، ولم ترد إشارات إليها في نصوص المسند، ولا في النصوص الجاهلية الأخرى، ولا في أخبار أهل الأخبار. وقد ظل اعتماد التجار وأصحاب القوافل على الحيوانات طوال العهود الإسلامية إلى أواخر القرن التاسع عشر للميلاد، ففيه أخذ في تمهيد الطرق لسير وسائل النقل الحديثة عليها، فأخذت تنافس تلك الوسائل القديمة، وستقضي عليها في المستقبل بالبداهة. والتجارة هي التي نقلت بعض الكتابات الشمالية إلى العربية الجنوبية، وأدخلت الكتابة الثمودية والكتابة النبطية إلى اليمن. وأصحاب الكتابتين من الشعوب المقيمة في العربية الشمالية كما هو معروف فكتاباتهم لم تأت إلى هنا قافزة متخطية المسافة، بل جاءت مع أصحابها التجار الذين قصدوا هذه الأماكن للاتجار، ومن بينهم من سكن فيها واختلط بأهلها ومات فيها. وقد كتبوا فيها الكتابات التي عثر عليها بعض العلماء في أماكن متعددة من خرائب اليمن، وقد يعثر على عدد منها وعلى كتابات أخرى، قد يكون من بينها كتابات بلغات أعجمية في المستقبل بعد قيام بعثات الحفر بالتنقيب هناك.

_ 1 Sabaeica, I, P.78.

الفصل التاسع والتسعون: ركوب البحر

الفصل التاسع والتسعون: ركوب البحر والبحر في رأي علماء العربية الماء الكثير، ملحًا كان أو عذبًا. وقد غلب على الملح فقط، حتى قل في العذب، وهو خلاف البر1. وأطلق أهل العربية الجنوبية على البحر اللفظة نفسها التي نطلقها عليه، فيقولون "بحرم" أي بحر. وقد ذكر البحر في معاهدة التآخي والأخوة "تاخين" التي عقدت في القرن الرابع للميلاد بين ملك الحبشة "جدرت" والملك "يدع اب غيلان" ملك حضر موت، لمقاومة ملك سبأ وذي ريدان2. وذكر في النص المعروف بنص "أبنة"، حيث ورد: "وكل الت ذ بحرم ويبسم ومشرقم ومغربم": ومعناه الحرفي "وكل آلهة البحر واليابسة والمشرق والمغرب". وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة البحر تعني الجنوب، وأن لفظة "يبسم" "يابس" "يبس" "يابسة" تعني الشمال، وأن معنى الجملة المذكورة: "وكل آلهة الجنوب والشمال والمغرب"3. وقد وردت اللفظة بمعنى "بحر" في نص "Glaser 830"، حيث جاء: "ببحرم ويبسم وكل تشعث وزبد"4، أي "ببحر ويابسة وكل العطايا والهدايا".

_ 1 تاج العروس "3/ 27"، "بحر". 2 السطر الخامس عشر والسادس عشر من النص: Glaser 850 3 Rhodokanakis, Stud. Lexi., Ii, S. 10, 166. 4 السطر الخامس عشر من النص، Rhodokanakis, Ii, S. 10. Mordtmann, Himj. Inschi., S. 21.

ووردت لفظة "اليم" في القرآن الكريم1، ويراد بها البحر. وقد ذكر بعض علماء اللغة أنها لغة سريانية2. وفي اللغة العربية ألفاظ أخرى مرادفة للبحر أيضًا، منها "القلمس"، و"الدأماء"، و"الكافر"، و"الحنبل"، و"الخضم"، و"العيلم"، وغير ذلك من ألفاظ ترد في كتب اللغة3. ولجزيرة العرب سواحل طويلة تحيط بها من جميع جهاتها الثلاث، أما حدها الشمالي فهو أرض تتصل بالعراق وببلاد الشأم. وقد عرف أهل السواحل البحر وعركوه، وعملوا على استغلال ثرواته قدر طاقتهم، وتعاملوا مع أهل السفن الذين كانوا يقصدونها من مسافات بعيدة، وركب جمع منهم السفن، للاتجار مع السواحل المقابلة لهم. فباعوا في أسواقها واشتروا، وقد أظهر أهل السواحل العربية الجنوبية والشرقية نشاطًا في ركوب البحر، لا نجده عند أهل السواحل الغربية، على ما يتبين من روايات أهل الأخبار. ولتكوين رأي عن مدى وقوف الجاهليين على البحار وعلى مدى توغلهم فيها، وركوبهم أمواجها للتجارة أو للاستيطان في مواطن جديدة غريبة، لا بد لنا من الرجوع إلى مراجع لتستحلب منها مادة نكون منها علمنا عن هذا الموضوع. والآثار هي أول ما يجب الرجوع إليه لاستخلاص هذه المادة، ولكنا ويا للأسف شحيحة، ليس فيها شيء كاف منها. وأما الموارد الأعجمية، مثل الموارد المدونة باليونانية واللاتينية والسرياينة، فلم تتحرش بموضوع العرب والبحار وبتجارتهم في البحر. وأما الموارد الإسلامية، فهي بخيلة، ليس فيها ما يفيدنا عن العرب والبحر غير نزر يسير يفيد، أن أهل الجاهلية، كانوا يكرهون ركوب البحر، ويتهيبون منه، وأنهم لم يكونوا يملكون سفنًا لعبوره، حتى أن المهاجرين الأولين من المسلمين، لما هربوا من مكة إلى الحبشة، ركبوا سفنًا بدائية حبشية، أوصلتهم إلى الحبشة، وأن الخليفة "عمر" كان يتهيب ركوب البحر، وكان يوصي قواده بتجنيب جيوشهم مخاطره، والابتعاد عنه قدر الإمكان. وبضرورة وضع أرض آمنة وراء الجيش ليكون في وسعهم الرجوع إليها عند المهالك والمآزق4.

_ 1 طه، الآية 39، 78، 92، القصص، الآية 7، الأعراف، الآية 135. 2 المخصص "10/ 163"، تاج العروس "9/ 114"، "يمم"، اللسان "4/ 42"، "بحر". 3 راجع الألفاظ المذكورة في كتب اللغة والمعجمات. 4 إرشاد الساري "4/ 14 وما بعدها".

وأنه لما كتب إلى "عمرو بن العاص"، يسأله عن البحر، فقال: خلق عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود. كتب إليه "عمر" أن لا يركبه أحد طول حياته، فلما كان بعد "عمر" لم يزل يركب حتى كان زمن "عمر بن عبد العزيز"، فاتبع فيه رأي "عمر". وكان منع عمر شفقة على المسلمين1. وقد عرف العربي عند الأعاجم ببغضه للبحر وبخوفه منه وبابتعاده عنه. ورد في حكم "أحيقار": "لا تر العربي البحر، ولا تر الصيدوني "الصيداني" الصحراء"2. وذلك لاشتهار العربي عندهم بسكنه في البوادي وبابتعاده عن البحر ولاشتهار أهل "صيدا" بركوبه وبقهر أمواجه. وإذا كنا قد فشلنا في الحصول على صورة مفصلة واضحة عن العرب والبحر من الموارد التي أشرت إليها، وهي مادة المؤرخ في حصوله على مادته التأريخية، فليس لنا من سبيل لتكوين صورة ولو باهتة عن الموضوع، سوى الرجوع إلى اللغة نستلهم من ألفاظها المتعلقة بالبحر وبوسائل ركوبه، ما فات وروده في تلك المصادر. فاللغة كما نعلم مظهر من مظاهر الحياة العقلية والعملية لكل أمة، وهي لم تخلق دفعة واحدة، ولم يأخذها الخلف عن السلف كاملة، وإنما خلقت بالتدريج وعلى قدر الحاجة، فإذا ظهرت أشياء جديدة خلق المتكلمون بها لها ألفاظًا جديدة وإذا اندثرت أشياء، فقد تندثر ألفاظها. واللغة مثل الناطقين بها في حياة وموت مستمرين. وإذا حصرنا الألفاظ التي أطلقها الجاهليون على البحر وعلى وسائل ركوبه وعلى ما فيه، نستطيع إذن أن نعرف ماذا كانوا يعرفونه عنه وماذا كانوا يجهلون من أمره. فنأخذ الألفاظ المتعلقة بالبحر إذن سندًا لنا، من لغتنا العربية نستنبط منها علم الجاهليين به، مع العلم بأن هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم لا يمكن أن تؤدي المهمة على أحسن وجه؛ لأنها لغة أهل بر، وليس لأهل البر علم أهل الساحل به. والأحرى بنا الاستعانة بلغات أهل السواحل في مثل هذه الدراسة، لكننا لا نملك نصوصًا جاهلية مدونة بها، حتى نستنبط منها ما نريد، وليس في لهجات المسند عن البحر سوى نزر يسير، ولكنا ما دمنا لا نملك وسيلة للإحاطة

_ 1 إرشاد الساري "4/ 15". 2 A. T. Olmstead, History Of The Persian Empire, P.326.

بعلم الجاهليين بالبحر سوى دراسة هذه اللغة، فما علينا إلا أن نتتبع ما جاء فيها عنه، وفي هذا الذي سنقف عليه تصوير لرأي المتكلمين بها بالبحر، وهو تصوير يمثل رأي أهل البر عنه. يقال لشاطئ البحر "الساحل" في عربية القرآن الكريم، وهو بمعنى ريف البحر وشاطئه1. وقد وردت اللفظة في كتاب الله2. وقد خصصت هذه اللفظة بالبحر، أما شط النهر، فقد عرف بـ"الشاطئ"3. ويقال للساحل أيضًا "السيف" و"سيف البحر"4. وذكر علماء اللغة أن "العيقة" ساحل البحر وناحيته5. وأن "العدان"، موضع كل ساحل. وقيل هو الساحل نفسه6. وذكر أن "السيف ساحل الوادي، أو لكل ساحل سيف، وإنما يقال ذلك لسيف عمان"7. وورد أن "الطف" و"الطفطاف" ساحل البحر8. و"القاموس"، بمعنى معظم ماء البحر، أو البحر، أو أبعد موضع فيه غورًا، ووسط البحر9، ولجة البحر، معظم البحر، ومنه بحر لجي10، و"الشرم"، لجة البحر، وقيل موضع، وقيل هو أبعد قعره، أو الخليج منه. وقد ذكر "أمية بن أبي الصلت "الشروم" في وصفه جهنم". فتسمو لا يغيبها ضراء ... ولا تخبو فتبردها الشروم والشرم، مرسى من مراسي خليج السويس، بينهما ستة مراحل11. و"العوطب"، لجة البحر، أو المطمئن بين الموجتين، أو أعمق موضع

_ 1 القاموس "3/ 294"، "سحل"، تاج العروس "7/ 371"، "سحل". 2 سورة طه، الآية 39. 3 المخصص "10/ 20"، القاموس "3/ 368"، تاج العروس "1/ 80"، "شطأ". 4 القاموس "3/ 156"، المخصص "10/ 20". 5 القاموس "3/ 275"، تاج العروس "7/ 275"، تاج العروس "7/ 31"، "عيق". 6 القاموس "4/ 247"، تاج العروس "9/ 275"، "عدن". 7 تاج العروس "6/ 149"، "سيف". 8 تاج العروس "6/ 182"، "طفف". 9 القاموس "2/ 243"، تاج العروس "4/ 223"، "قمس". 10 القاموس "1/ 205"، تاج العروس "2/ 92"، "لج". 11 تاج العروس "8/ 357"، "شرم".

في البحر1، و"الدردور" موضع في البحر يجيش ماؤه، قلما تسلم منه السفينة، ويخاف منه الغرق2. و"الخليج"، وهو من البحر، سمي بذلك؛ لأنه يجذب من معظم البحر3، والحور الخليج من البحر، وقيل مصب الماء في البحر، وقيل مصب المياه الجارية في البحر إذا اتسع وعرض، وقيل: عنق من البحر يدخل في الأرض4. والغب الضارب من البحر حتى يمعن في البر5. وذكر علماء اللغة أن الجزيرة إنما سميت جزيرة لانقطاعها عن معظم الأرض أو لما جزر عنه6. و"البضيع"، الجزيرة في البحر، والبحر نفسه7. وأما "الدبر"، فقطعه تغلظ في البحر كالجزيرة يعلوها الماء وينضب عنها8. والسفينة هي واسطة النقل على وجه الماء في الأنهار وفي البحار. وهي من الكلمات المعروفة في عربيتنا، وقد أشير إليها في شعر عمرو بن كلثوم: ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وموج البحر نملؤه سفينا9 وقد وردت لفظة "سفينة" و"السفينة" في القرآن الكريم10، ويدل ذلك على أنها من الألفاظ التي كانت معروفة ومستعملة بهذا المعنى في أيام ظهور الإسلام. وعبر عن السفينة بلفظة أخرى هي "الفلك"، وتقع على الواحد والاثنين والجمع. وقد وردت في مواضع متعددة من القرآن الكريم11. كما يعبر عنها

_ 1 القاموس "1/ 106"، تاج العروس "1/ 387"، "عطب". 2 تاج العروس "3/ 205"، "در". 3 القاموس "1/ 186"، تاج العروس "2/ 34"، "خلج". 4 تاج العروس "3/ 192"، "خار". 5 القاموس "1/ 109"، تاج العروس "1/ 403"، "غب". 6 المخصص "10/ 11"، القاموس "1/ 389"، تاج العروس "3/ 89"، "جزر". 7 القاموس "2/ 6"، تاج العروس "5/ 278"، "بضع". 8 القاموس "2/ 26"، تاج العروس "3/ 198"، "دبر". 9 اللسان "13/ 209 وما بعدها"، "سفن"، تاج العروس "9/ 236"، "سفن". 10 الكهف، الآية 72، 80، العنكبوت، الآية 15. 11 المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم "526"، اللسان "10/ 479".

بـ"مركب"، والجمع مراكب1. ولو أن المركب كلمة عامة تطلق على كل ما يركب عليه، فالدواب هي مركب أيضًا لمن يركبها، غير أن "المركب" السفينة على سبيل التغليب والاصطلاح, وقد عبر القرآن الكريم عن السفن والمراكب بلفظة "الجاريات" و"الجوار"، و"الجارية" كما في هذه الآية: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} ، وكما في هذه الآية: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} ، وفي مواضع أخرى2. و"الجارية" المركب أيضًا، صفة غالبة؛ لأنها تجري على الماء3. وقد وردت لفظة "الفلك" بصورة خاصة تعبيرًا عن سفينة نوح الواردة في الطوفان. ويذكر بعض المفسرين أن السفينة، أي "الفلك"، كانت مصنوعة من خشب الساج، وكانت "ذات أرواح ودسر"، أي أن ألواحها قد التصقت بعضها ببعض بـ"دسر" وهي المسامير4. وورد في القرآن الكريم: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} 5. وورد في الشعر: جوافل في السراب كما استقلت ... فلوك البحر زال بها الشرير والفلوك هنا جمع "الفلك"، وأما الشرير، فشجر البحر6. ويظهر من هنا أن "الفلك" هي سفينة من سفن البحر. وهي من السفن الكبيرة. وقد ورد في القرآن أيضًا {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي السفينة المشحونة المملوءة كما ورد: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيْحٍ طَيِّبَةٍ} . وفي هذه الآية معنى مهم، يدل على إحاطة الجاهليين بالبحر وركوبهم فيه، وتسييرهم لها بفعل الرياح. وقد وردت في القرآن الكريم إشارات إلى صنع الفلك وإلى سيرها مواخر في البحر.

_ 1 اللسان "8/ 292". 2 سورة الشورى، الآية 32، والرحمن، الآية 24، والحاقة، الآية 11، اللسان "8/ 292"، شمس العلوم "حـ1 ق7 ص318"، القاموس "4/ 312". 3 تاج العروس "10/ 72"، "جرى". 4 قصص الأنبياء "ص34"، تاج العروس "3/ 316"، "دسر" Ency., Ii, P.117. 5 البقرة, الآية 164. 6 المخصص "10/ 23"، القاموس "2/ 57".

ويقال للسفينة: "البارجة" أيضًا، والجمع "البوارج". وذكر أنها السفن الكبار، وأنها سفينة من سفن البحر تتخذ للقتال1. و"القرقور": ضرب من السفن، وقيل: هي السفينة العظيمة أو الطويلة والقرقور من أطول السفن. وجمعه قراقير. وفي الحديث: "فإذا دخل أهل الجنة الجنة ركب شهداء البحر في قراقير من در"2. و"الخلية" العظيمة من السفن، والجمع خلايا. قال طرفة: كأن حدوج المالكية، غدوة ... خلايا سفين بالنواصف من دد وقال الأعشى: يكب الخلية ذات القلاع ... وقد كان جؤجؤها ينحطم3 وقيل: هي التي يتبعها زورق صغير4. وذكر أن من أسماء السفن الكبيرة "الخلج". وقيل: إنها دون العدولية. وأما "الصلفة" فسفينة كبيرة، و"الزنبرية" نوع من أنواع السفن الكبيرة5. و"القادس": السفينة العظيمة، وقيل صنف من أصناف المراكب، أو لوح من ألواحها6. وقد ضرب "لبيد بن ربيعة العامري" مثلًا بسفينة "الهندي" في طولها وعرضها وفي إحكام عملها، عملها صانعها من صفائح مشبوحة ودهنها وسد المسافات التي تكون بين صفائح الخشب حتى لا ينفذ منها ماء البحر7. مما يدل بالطبع على وقوفه عليها وعلى شهرة تلك السفن في تلك الأيام.

_ 1 اللسان "2/ 213"، القاموس "1/ 178"، تاج العروس "2/ 7"، "برج"، المخصص "10/ 26". 2 اللسان "5/ 91". 3 اللسان "14، 241"، تاج العروس "10/ 119"، "خلا". 4 تاج العروس "10/ 119"، "خلا"، القاموس "4/ 325". 5 المخصص "10/ 25 وما بعدها". 6 القاموس "2/ 239"، تاج العروس "4/ 213"، "قدس". 7 شرح ديوان لبيد "ص142".

وقد أشار بعض الكتبة من اليونان واللاتين إلى نوع من السفن دعوه "Madarata"، ذكروا أن ميناء "عمانه" "Omana" كان قد اشتهر ببنائه. وقد صنعت هذه السفن من الألواح المشدودة بالليف. وقد رأى بعض الباحثين أن هذه اللفظة من أصل عربي، هو "مدرعات"، ويراد بها السفن المشدودة بدروع النخل. ورأى آخرون أنها من أصل "Mabarata"، جمع "معبر" من أسماء السفن في لغة بني "إرم"1. وذكر علماء اللغة أن "المعبر" ما عبر به النهر من فلك أو قنطرة أو غيره، والمعبرة سفينة يعبر بها النهر2. فالمعابر إذن من الوسائل المستعملة في عبور النهر على ما يظهر من شرح أولئك العلماء. وقريب من هذا الوصف وصف نوع من السفن عرف بـ"العمائم". ذكر علماء العربية أنه: عيدان مشدودة تركب في البحر ويعبر عليها3. وهو نوع بدائي بالطبع لا يمكن أن يقارن بالسفن التي كانت عند الرومان واليونان. و"الطوف" قرب ينفخ فيها ويشد بعضها إلى بعض، فتجعل كهيئة السطح يركب عليها في الماء ويحمل عليها الميرة والناس، ويعبر عليها، وهو الرمث. وربما كان من خشب والجمع أطواف. وذكر بعض العلماء أن الطوف التي يعبر عليها الأنهار الكبار تسوى من القصب والعيدان يشد بعضها فوق بعض، ثم يقمط بالقمط حتى يؤمن انحلالها ثم تركب ويعبر عليها، وربما حمل عليها الحمل على قدر قوته وثخانته، ويسمى: "العامة"4. والرمث خشب يضم بعضه إلى بعض كالطوف ويركب عليه في البحر، وفي الحديث أن رجلًا أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا نركب أرماثًا لنا في البحر ولا ماء معنا، أفنتوضأ بماء البحر، فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته. قال أبو صخر الهذلي:

_ 1 العرب والملاحة في المحيط الهندي في العصور القديمة وأوائل القرون الوسطى، تأليف جورج فضلو حوراني، وترجمة الدكتور السيد يعقوب بكر "ص60 وما بعدها". 2 اللسان "4/ 530"، "عبر". 3 اللسان "12/ 425"، القاموس "4/ 154"، تاج العروس "6/ 184"، المخصص "10/ 79". 4 تاج العروس "6/ 184"، "طوف"، القاموس "3/ 170".

تمنيت من حبي علية أننا ... على رمث في الشرم ليس لنا وفر1 وذكر علماء العربية اسم نوع من السفن قالوا له: "البوصي". وقالوا أنه فارس معرب، وأن الكلمة وردت في شعر للأعشى2. وذكر أن "البوصي" الملاح، وقيل الزورق، وأن الكلمة معربة "بوزي"3. وذهب بعض علماء اللغة إلى أن "العدولية" الواردة في قول طرفة بن العبد: عدولية أو من سفين بن يامن ... يجور بها الملاح طورًا ويهتدي سفنًا منسوبة إلى قرية بالبحرين يقال لها "عدولي"، أو إلى قوم كانوا ينزلون هجر، أو إلى عدول، رجل كان يتخذ السفن4. ولا يستبعد أن يكون مراد الشاعر من السفن "العدولية"، السفن القادمة من ميناء "أدولس"، "عدولي" ميناء تجاري على ساحل الحبشة اشتهر بالتجارة قبل الإسلام. ويظهر من شعر طرفة المذكور، أن رجلًا اسمه "ابن يامين" كان تاجرًا يملك سفنًا، وأن سفنه كانت تمخر العباب. وذكر أيضًا أنه كان بحارًا، وورد "ابن نبتل" بدلًا من "ابن يامين"5. وذكر علماء اللغة أن من أسماء المراكب المائية الصغيرة: الزورق والقارب والركوة. والزورق، السفينة الصغيرة، وقيل هو القارب الصغير6. و"الركوة" زورق صغير7. وقد عرفت السفن المستعملة في القتال بأسماء خاصة، منها البارجة، وهي سفينة من سفن البحر تتخذ للقتال8.

_ 1 تاج العروس "1/ 625"، "رمث"، القاموس "1/ 162"، "رمث". 2 مثل الفراتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر تاج العروس "4/ 376"، القاموس "2/ 296"، المخصص "10/ 23"، بلوغ الأرب "2/ 367". 3 تاج العروس "4/ 376"، اللسان "7/ 9". 4 القاموس "4/ 14"، تاج العروس "8/ 11"، "عدل"، بلوغ الأرب "3/ 365". 5 بلوغ الأرب "3/ 265 وما بعدها". 6 تاج العروس "6/ 369"، "زرق". 7 تاج العروس "10/ 155"، "ركا". 8 المخصص "10/ 26"، القاموس "1/ 178"، تاج العروس "2/ 7".

والشراع هو "ماكنة" السفينة وقوتها المحركة الدافعة لها. ويقال له "القلع" أيضًا1، وجل كذلك2. وقد ذكر علماء اللغة، أن الشراع كالملاءة الواسعة فوق خشبة من ثوب أو حصير مربوع وتر على أربع قوى، تصفقه الريح فيمضي بالسفينة3. ويظهر من هذا الوصف أن أشرعة أهل الجاهلية كانت بسيطة، ولم تكن متداخلة كأشرعة الروم. والشراع البسيط على النحو المذكور، يكون ضعيفًا فاتر الهمة لا يتمكن من دفع السفن الكبيرة، بل وقد لا يتمكن حتى من دفع السفن الصغيرة بسرعة، بسبب صغر حجمه، ثم إنه لا يتمكن من الاستفادة من قوة الريح، ومن استخدام هذه القوة في توجيه السفينة بسرعة نحو هدفها، والسير بها في عرض البحر، بينما يتمكن الشراع المكون من عدة أقلعة، من الاستفادة من الريح، ومن دفع السفينة دفعًا سريعًا، ومن حملها إلى عرض البحر، فيقلص من المسافات ويبعدها عن أخطار لصوص البحر، ولذلك لم تتمكن سفن أهل الجاهلية من مواجهة سفن الروم ومن تحديها، حين دخلت سفنهم البحر الأحمر والبحر العربي والمحيط. والدقل: سهم السفينة، وهو خشبة طويلة تشد في وسط السفينة، يمد عليها الشراع4. والجؤجؤ: صدر السفينة5، و"المرنحة": صدر السفينة كذلك6. وعرف "الدقل" بـ"الدوقل" كذلك، وتسميه البحرية "الصاري"7. و"الصاري" الملاح أيضًا، لحفظه السفينة8. و"القب"، رأس الدقل، و"القرية" خشبة مربعة على رأس القب9. وأما الذي يعدل اتجاه السفن ويغير من اتجاهها، فهو "السكان"، وهو "الكوثل" أيضًا. وذكر أيضًا أن "السكان" ما تسكن به السفينة تمنع به

_ 1 بالكسر، اللسان "8/ 292"، القاموس "3/ 74". 2 اللسان "11/ 121"، "والجل بالفتح: الشراع"، تاج العروس "7/ 260"، "جلل". 3 تاج العروس "5/ 395"، "شرع". 4 تاج العروس "7/ 323"، "دقل". 5 تاج العروس "1/ 49"، "جأجأ". 6 تاج العروس "2/ 147"، "رنح". 7 اللسان "11، 246"، تاج العروس "7/ 323"، "دقل". 8 تاج العروس "10/ 209"، "صرى". 9 اللسان "2/ 455"، تاج العروس "2/ 147"، "رنح".

من الحركة والاضطراب1. وذكر بعض علماء العربية أن "الكوثل" مؤخر السفينة، وفيه يكون الملاحون ومتاعهم2, والأغلب أنه "السكان"، ويعبر عنه بـ"الخيزرانة" كذلك3. وبلفظة أخرى هي "الدويطرة". وقد عرفت بأنها كوثل السفينة4. ويعرف سكان السفينة بـ"الخيزرانة" وبـ"الخيزران". قال النابغة يصف الفرات وقت مده: يظل من خوفه الملاح معتصمًا ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد5 ويستعمل الملاحون "المجاديف" "المجاذيف" في تجديف السفينة6. و"المجداف" خشبة رأسها لوح عريض تدفع بها7. ويقال له "المقذف" و"المقذاف" أيضًا8. ولم يتطرق علماء اللغة ولا أهل الأخبار إلى عدد "مجاديف" السفينة الواحدة، أي إلى عدد رجالها الذين كانوا يجدفون بالمجاديف، فالسفن الكبيرة الضخمة تحتاج إلى عدد من المجدفين، قد يبلغون العشرات، وقد كانت سفن الروم، ذات طابقين بالنسبة للمجدفين، فيجلس عدد منهم في الطابق الأسفل، ويجلس فوقهم عدد آخر من المجدفين، لتسير السفينة بسرعة، وقد استخدموا هذه الطريقة في سفنهم الحربية بصورة خاصة؛ لأنها سفن، يجب أن تعتمد على السرعة وعلى خفة الحركة لتتمكن من التغلب على سفن الأعداء. وأما "المردي"، فخشبة يدفع بها الملاح السفينة. وذلك كي يحركها عند

_ 1 اللسان "13/ 211"، قال طرفة: كسكان بوصي بدجلة مصعد 2 اللسان "11/ 583 وما بعدها". 3 قال الأعشى: من الخوف كوثلها يلتزم اللسان "11/ 584". 4 اللسان "11/ 584"، "2/ 455". 5 اللسان "4/ 238". 6 بالدال والذال جميعًا، لغتنان فصيحتان. 7 اللسان 9/ 23". 8 اللسان "9/ 277، القاموس "3/ 122"، تاج العروس "6/ 54"، "جدف"، "6/ 218"، "قذف".

الشواطئ والسواحل حيث تكون المياه ضحلة1. والقيقلان خشبة يدفع بها السفينة أيضًا2. ويقال للذي يشتغل في السفينة ويعمل على تسييرها "الملاح"، ويقال له "صار" و"الصاري" أيضًا3. وحرفته "الملاحة". ويقال للملاح: "السفان" كذلك، وهو الذي يشتغل في السفن، ويعبر عنه بـ"النوتي"4. والجمع "نوتية" و"نواتين". "وفي حديث علي، كرم الله وجهه: كأنه قلع داري عنجه نوتية". وورد أن "النوتي" البحار، وهو من كلام أهل الشأم5. واللفظة من أصل يوناني6. و"الربان"، أو "ربان السفينة"، هو قائدها الذي يجريها. ويرى علماء اللغة أنها دخيلة معربة7. ويقال للموضع الذي ترفأ إليه السفن "المرفأ". من أصل "رفأ" بمعنى أدنى. وورد في حديث "تميم الداري": "أنهم ركبوا البحر ثم أرفأوا إلى جزيرة"8. ويعبر عن "المرفأ" بلفظة "الكلاء" و"المكلا" أيضًا؛ لأنه يكلأ السفن من الريح، وذلك بحبس السفن فيه لحمايتها من الريح ولإنزال ما فيها، وأخذ ما فيه من تجارة وناس9. ويقال للمرفأ "الميناء" كذلك، وعرفوه بأنه الموضع الذي ترفأ فيه السفن10. كما يقال له: "فرضة"

_ 1 اللسان "3/ 402"، القاموس "4/ 334"، تاج العروس "10/ 148". 2 بلوغ الأرب "3/ 366". 3 اللسان "11/ 121"، "14/ 460". 4 اللسان "2/ 600 وما بعدها". 5 اللسان "2/ 101". 6 غرائب اللغة "271". 7 اللسان "13/ 175". 8 اللسان "1/ 87"، "وفي حديث أبي هريرة في القيامة، فتكون الأرض كالسفينة المرفأة في البحر تضربها الأمواج"، تاج العروس "1/ 71"، "رفأ". 9 اللسان "1/ 146"، تاج العروس "1/ 112"، "كلأ"، "سوق الكلأ"، بالبصرة، موضع يكلئون سفنهم به، أي يحبسونها. 10 اللسان "13/ 426"، "ميني"، كل مرسى السفن، تاج العروس "9/ 355"، "مان".

و"فرضة البحر"1 و"المرساة"، البقعة التي ترسو فيها السفينة2. ومن مصطلحات السفن في العربية، الشحن، فيقال شحنت السفينة شحنًا بمعنى ملئت، ومخرت السفينة، أي جرت3 وحبت السفينة، أي جرت4، وجنحت السفينة جنوحًا إذا انتهت إلى الماء القليل فلزقت بالأرض فلم تمض، وجمحت جموحًا إذا تركت قصدها فلم يضبطها الملاحون، ويقال ماهت السفينة إذا دخل فيها الماء، ورست وأرست، إذا بلغ أسفلها القعر فثبتت، وإذا أرسيت وسخرت أطاعت وطاب لها السير، وحدرت السفينة أحدرها، وتقاذفت في البحر جرت، وشجت البحر قطعته5. وهناك مصطلحات عديدة أخرى يشير ورودها في اللغة إلى معرفة في البحر وفي استخدام السفن في البحار. وعند دنو السفينة من الأماكن التي تريدها، ترسو في مرفأ لتفرغ حمولتها أو لتحميلها أو لتزود بما تحتاج إليه من زاد وطعام، فتلقي بمراسيها في المرفأ تثبيتًا لها فلا تتحرك ولا تأخذها الأمواج ولا الرياح. ويسمى الملاحون المرساة "الأنجر"، ويكون من الخشب الصلب الثقيل أو حديدًا أو حجرًا كبيرًا، وقد يكون على شكل كرة، وقد يكون على شكل مربع أو مستطيل، أو على شكل "خطاف" أو حديد محجن6. فإذا أرادت السفينة الرسو أنزل إلى الماء ليستقر على القاع فتثبت السفينة7. وقد وصف "الأنجر"، أنه خشبات يخالف بينها وبين رؤوسها وتشد أوساطها في موضع واحد، ثم يفرغ بينها الرصاص المذاب فتصير كصخرة، ورؤوس الخشب ناتئة تشد بها الحبال وترسل في الماء إذا رست السفينة، تعريب لنكر من أصل فارسي8. وقد ذكر علماء اللغة أن "السبابجة"، هم قوم من السند يستأجرون ليقاتلوا، وكانوا قومًا جلاوزة وحراس السجن في البصرة أيام الإسلام. وكان رئيس السفينة

_ 1 اللسان "7/ 206". 2 القاموس "4/ 334"، تاج العروس "10/ 149"، "رسا". 3 القاموس "2/ 131"، "نحر". 4 تاج العروس "10/ 81"، "حبو". 5 المخصص "10/ 23 وما بعدها". 6 تاج العروس "3/ 557"، "نجر". 7 تاج العروس "10/ 149"، "رسا". 8 تاج العروس "3/ 557"، "نجر".

البحرية يستأجرهم ليكونوا معه يبذرقونها، أي يخفرونها ويقاتلون من يتصدى لها بسوء1. وقد كانت بالأبلة التي عاشت قبل البصرة جاليات جاءت إليها من الهند، فقد كان الاتجار بين الهند وجنوبي العراق وسواحل جزيرة العرب اتجارًا قديمًا، وقد أقامت جاليات أخرى منها في مواضع من هذه السواحل، وقد أشرت إلى عثور العلماء على هياكل بشرية بأرض عمان، تمثل "الدرافيديين"، أي سكان الهند القدامى، وإلى وجود أثر لملامح هندية في سكان ساحل عمان تظهر عليهم حتى اليوم. وصناعة السفن الكبيرة تحتاج إلى أخشاب صلدة قوية وإلى مسامير من حديد تستعمل في ربط الألواح والأخشاب بعضها ببعض، وإلى أيدي فنية عاملة، وعلم بهندسة بناء السفن. ولم تتيسر هذه الأشياء في جزيرة العرب. فالخشب الصالح لبناء السفن غير موجود في أكثر أنحائها، ولهذا اقتصرت صناعة السفن على السفن الصغيرة في الغالب، وهي سفن ليس في مقدورها اختراق آفاق البحار الكبيرة والمحيطات، والتجول بحرية في أية ناحية كانت من نواحي البحر الواسعة. ولم يكن لها إلا السير في محاذاة السواحل، وهو سير يكلفها كثيرًا، فعلى السفن أن تقطع مسافات طويلة معرضة نفسها لمخاطر الاصطدام بالصخور الكامنة في المياه ولهجمات لصوص البحر الجائعين وللجوء إلى مراسي كثيرة طلبًا للماء العذب والزاد، ولتمضية وقت طويل، على حين لا تحتاج السفن الكبيرة إلى كل ذلك، فهي قادرة بفضل متانتها وقوة صنعها من اختصار المسافات وتقصير الوقت وحماية نفسها من هجمات لصوص البحر باستخدام الرياح البحرية، وقطع البحر باستقامة وبحرية إلى أي ميناء يريده الربان. وكان على أصحاب معامل السفن العرب استيراد الخشب القوي الصالح لبناء السفن من الخارج، أو شراء السفن جاهزة من الأسواق الخارجية، وفي كلتا الحالتين يتكلف المشتغلون بالتجارة البحرية تكلفًا باهظًا، ويكونون عالة في قوتهم وفي أعمالهم على الخارج. وهذا ما سهل للرومان واليونان والفرس مزاحمة الدول العربية الجنوبية في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي، ومن إنزال خسائر فادحة في ثروة العرب، أثرت أثرًا كبيرًا في الأوضاع السياسية والاقتصادية لجزيرة العرب،

_ 1 اللسان "2/ 294"، "10/ 14".

كما أثرت عليها من الناحية العسكرية إذ جعلت السواحل مكشوفة مفتوحة من الوجهة الحربية فأنزلت الدول الكبرى في مواضع منها قواتًا لحماية مصالحها التجارية وقوافلها البحرية وذلك قبل الميلاد وبعد الميلاد إلى ظهور الإسلام. والساج من أثمن الأخشاب وأنفسها في صناعة السفن، فهو خشب مقاوم صلب، وقد استورد من الهند1. ويظهر أنه هو الخشب الذي ذكر "ثيوفراستسوس" "Theophrastus"، أنه كان بجزيرة "تيلوس" "Tylus"، ويقصد بها البحرين، والخشب الذي كان في ميناء "عمانة" عمان الذي أشار إليه صاحب مؤلف "الطواف حول البحر الأريتري"، والذي ذكر أنه خشب مستورد من ميناء "بريجازا" بالهند2. وقد صنع الجاهليون سفنهم وقواربهم بأيديهم، مستعينين بالخشب المستورد وبالخشب المحلي. صنعوها في مواضع متعددة من سواحل جزيرة العرب، ولا سيما على سواحل الخليج، حيث تيسر لسكانها استيراد الخشب الصالح لبناء السفن من الهند. وهي صناعة لا تزال حية، إلا أن الهرم بدأ يظهر عليها، وأخذت تتقلص، وأوشكت على توديع الدنيا، لتراكم الأمراض عليها، ولعجزها عن مد نفسها بمقومات الحياة الملائمة لعصر السرعة. وتتكون السفن الكبيرة الجدية من سقائف، وهي ألواح السفينة. وكل لوح سقيفة3. وقيل إن اللوح من ألواح السفينة، هو القادس4. وأما ما بين كل خشبتين من السفينة، فيقال له الطائق5. وتخرز السفن بالليف، ويجعل في خللها القار6. والجلفاظ الذي يجلفظ السفن، وهو أن يدخل بين مسامير الألواح، وخروزها مشاقة الكتان، ويمسحه بالزفت والقار7. وقد تطلى السفن بالقار، وتدسر. ويراد بالدسر المسامير لغاية التسمير والتدسير8. ويقال للموضع الذي يجتمع

_ 1 القاموس "1/ 195"، تاج العروس "2/ 61". 2 حوراني "ص244" وما بعدها". 3 القاموس "3/ 152". 4 القاموس "2/ 239"، تاج العروس "4/ 213". 5 القاموس "3/ 260"، "طوق". 6 المخصص "10/ 25 وما بعدها"، القاموس "2/ 124"، تاج العروس "3/ 512". 7 القاموس "2/ 394"، القاموس "2/ 353". 8 القاموس "2/ 29"، تاج العروس "3/ 206".

فيه الماء الراشح جمة المركب1. ولم ترد في نصوص المسند المصورة صورة سفينة نهتدي بها إلى معرفة أشكال السفن عند العرب الجاهليين. كذلك لم يعثر المنقبون حتى الآن على صورة لها في النصوص التي ظفر بها في أماكن أخرى من جزيرة العرب. ولا يستبعد أن تكون سفن العرب أنواعًا متعددة، بحسب أغراضها ووفرة الخشب الصالح لبناء السفن، وعلى قدر اختلاط سكان سواحل الجزيرة بغيرهم من أصحاب السفن. ولا أستبعد أن يكون أهل العربية الجنوبية والعربية الشرقية قد تأثروا بصناعة السفن اليونانية والساسانية والهندية والإفريقية لاختلاطهم بهم، ومجيء سفن هؤلاء إلى مراسي السواحل العربية، ولتمكنهم من شراء الخشب الصلد الصالح لبناء السفن من إفريقية والهند. ولم تتمكن سفن ذلك اليوم، وحتى أعظمها وأكبرها من مناطحة عواصف البحار ومقاومة أمواجها، فكثرت أمراضها وعللها، وفي جملتها الخروق التي كانت تصيب مواضع اتصال ألواحها، فتفكك أوصالها فتهلك، ويتعرض أصحابها إلى خسائر كبيرة، أضف إلى ذلك تعرضها إلى تحرش لصوص البحر بها، الذين كانوا يترصدون السفن، فإذا وجدوا فرصة مناسبة، هاجموها لأخذ ما قد يقع في أيديهم من حمولتها النفيسة. ولهذا كانت أجور نقل التجارة بالسفن عالية، لتعوض عن خسائر السرقة والغرق، ثم إن أجواف تلك السفن كانت صغيرة، لا تتحمل حملًا كثيرًا، فصار أصحابها لا يحملونها إلا السلع الغالية التي لا تحتاج إلى مكان كبير والتي تتحمل أرباحها دفع الأجور الغالية عن نقلها إلى المواضع التي يراد إيصالها إليها. ولا يتسع هذا المكان لذكر كل الألفاظ والمصطلحات التي لها علاقة بالبحر، فهناك أسماء لمختلف أنواع السفن، وأسماء أدوات كثيرة استعملت في السفن، وأسماء للساحل وللجزر وللنباتات البحرية وغير ذلك وردت في كتب اللغة، وإليها يجب أن يرجع من يريد المزيد من هذه الألفاظ والمصطلحات، غير أن علينا أن ننتبه إلى أن في هذه المصطلحات، مصطلحات عديدة دخلت العربية في الإسلام. وتفيدنا هذه الألفاظ والمصطلحات فائدة كبيرة في الوقوف على مدى تأثر البحرية

_ 1 القاموس "4/ 91".

العربية الجاهلية بالبحرية الأجنبية، وذلك بدراسة أصول هذه الألفاظ، والمصطلحات لمعرفة المكان الذي جاءت منه والشعب الذي مون البحارة العرب بها. ونجد في مصطلحات البحر ألفاظًا يونانية، وألفاظًا لاتينية، وألفاظًا فارسية، وألفاظًا حبشية، ودخول هذه الألفاظ اللهجات العربية دليل على تأثر البحرية العربية ببحرية تلك الأمم واتصالها بها وأخذها منها. وقد أشار علماء اللغة إلى أصول بعض هذه الألفاظ، فذكروا أنها أعجمية. ولما كان علمهم باللغات الأعجمية غير الفارسية محدودًا، لم يتمكنوا من تشخيص أصول بعض المصطلحات المعربة عن اليونانية أو اللاتينية أو الحبشية أو الهندية، فرجعوها إلى أصل فارسي في الغالب، وهي ليست من الفارسية في شيء. ولم يرد في الكتابات الجاهلية ما يفيد بدخول أهل العربية الغربية البحار، والأخبار الإسلامية لا تشير إلى ذلك أيضًا، بل الذي يفهم منها أن أهل الحجاز لم يكن لهم نصيب في البحر، وأنهم كانوا يركبون البحر في سفن حبشية توصلهم إلى السواحل الإفريفية للاتجار هناك. ولما خرج المسلمون الأولون مهاجرين إلى الحبشة، انتهوا إلى "الشعيبة"، فوجدوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار1. و"الشعيبة"، مرسى السفن من ساحل بحر الحجاز، وكان مرسى مكة قبل جدة2. ونجد في خبر عودة المهاجرين من الحبشة، أنهم حملوا في سفينتين، حملهم عليهما النجاشي. أي أن السفينتين كانتا من سفن الحبش3. ولم يرد في الخبر، اسم الموضع الذي أبحروا فيه منه إلى الحجاز، ولا اسم المرسى الذي رست السفينتان فيه، واتجه المسلمون منه إلى يثرب. ويظهر أن تلك السفن كانت صغيرة مكشوفة الجوانب ولم تكن تتسع لعدد كبير من المسافرين، حتى أن حركات المسافرين كانت تؤثر فيها. روي أن "جعفر بن أبي طالب"، سأل رسول الله كيف نصلي في السفينة إذا ركبنا في البحر، لقال: صل قائمًا إلا أن تخاف الغرق، أو يصلي قائمًا إلا أن يضر بأهلها. وصلى أنس في السفينة جالسًا4.

_ 1 الطبري "2/ 329". 2 تاج العروس "1/ 321"، "شعب". 3 الروض الأنف "2/ 250 وما بعدها". 4 الروض الأنف "1/ 215".

ومما يؤسف له أن أهل الأخبار لم يذكروا أسماء المواضع التي كان يتاجر معها العرب على السواحل الإفريقية المقابلة، ولم يذكروا حتى أسماء المرافئ التي نزل بها المهاجرون المسلمون الأولون من مكة على ساحل الحبشة، ولا اسم الموضع الذي نزل به وفد "قريش" إلى الحبشة، الذي جاء لتحريض الحبش على من هاجر إليهم من المسلمين، ولم يذكروا كذلك اسم الموضع الذي أبحر منه المسلمون للعودة إلى الحجاز، يوم أرسل الرسول "عمرو بن أمية الضمري" ليعود بهم إلى يثرب، ولا اسم الموضع الذي نزلوا به من ساحل الحجاز1.

_ 1 الروض الأنف "2/ 250 وما بعدها".

الفصل المائة: التجارة البحرية

الفصل المائة: التجارة البحرية ... الفصل المئة: التجارة البحرية وليس في كتابات المسند التي وصلت إلينا شيء عن التجارة البحرية. ولا يعقل بالطبع ألا يكون لسكان سواحل جزيرة العرب علم بالبحر، وإلا تكون لهم سفن مهما كان حجمها، كانوا يركبونها في اتجارهم مع إفريقية ومع بلاد الهند وإيران. فقد علمنا أن العرب الجنوبيين كانوا قد أقاموا دولة "اكسوم" في الحبشة. وقد رأينا أن من المستشرقين من يرى أن أصل كلمة "حبشت" "حبشة"، من أصل عربي، وأن "الحبشة" أرض في العربية الجنوبية في الأصل، منها هاجر الحبش، سكان تلك الأرض، وهم من العرب فنزلوا بالأرض التي سميت باسمهم في إفريقية، وقد رأينا أيضًا أن العرب امتلكوا السواحل الإفريقية المقابلة للعربية الجنوبية أمدًا طويلاً، كما امتلكوا بعضًا منها في الإسلام إلى عهد غير بعيد، ولا يعقل بالطبع ذهابهم إلى تلك السواحل ونزولهم بها بغير ركوب سفن، ولا يعقل أن يكونوا قد ذهبوا إليها بسفن أجنبية، بل لا بد وأن يكونوا قد عبروا إلى تلك السواحل بسفن كانت تعود لهم، ولا بد وأن لهم أسطول تجاري كانوا يمخرون به عباب البحار للاتجار. وقد رأينا من كتب بعض الكتبة اليونان واللاتين أن الصومال كان يحكمه حكام عرب، وأن التجار العرب كانوا يشاهدون بكثرة في "رهابتا" "Rahapta" على مقربة من "زنجبار". وأن مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"،

كان قد ذكر أن رئيس "معافر" كان يحكمها بموجب حق قديم. وأن أهل مدينة "Muza" يحكمونها باسمه، ويبعثون إليها بسفن تجارية يديرها ربابنة ووكلاء عرب ألفوا أهل البلاد، واختلطوا بهم، وصاهروهم، وخبروا الساحل، واطلعوا على لغتهم1. إن خلو كتابات المسند من كل إشارة إلى البحر وإلى السفن وإلى الاتجار مع الأقطار الواقعة على السواحل، لأمر يؤسفنا كثيرًا، فقد حرمنا الكلام على البحرية العربية وعلى علم العرب الجنوبيين بالبحار، وبات علمنا بالتجارة علمًا ضئيلًا محدودًا، وليس لنا إلا التطلع إلى المستقبل، فهو وحده الكفيل بزيادة علمنا في هذا الموضوع. وقد كان أكثر ثراء العربية الجنوبية من التجارة، التجارة البرية والتجارة البحرية، والاتجار بالمواد الناتجة في جزيرة العرب ذاتها، والاتجار بالمواد المستوردة من الخارج ولا سيما السواحل الإفريقية أو الهند. وقد كان الاتجار مع إفريقية سهلًا يسيرًا بالنسبة إلى تجار العربية الجنوبية، ولا سيما تجار اليمن. فإن الشقة بين سواحل إفريقية وسواحل اليمن ليست واسعة كبيرة، ولهذا كان في استطاعة السفن الشراعية أن تقطعها بدون مشقات وصعوبة كبيرة. تذهب إلى أفريقية تحمل إليها حاصلات اليمن، ثم تعود إليها وهي محملة بالبضائع الإفريقية الثمينة، مثل الأخشاب والعاج، وببضاعة ثمينة أخرى: بضاعة حية تتحرك وتنطق، هي الزنوج. يستوردونهم شراء من أسواق النخاسة، أو اقتناصًا من السواحل، لحاجة البلاد إلى استخدامهم في الإنتاج وفي أداء الخدمات التي يأنف العربي عادة من القيام بها. وقد كان هذا الوارد عصبًا حساسًا في الإنتاج في ذلك العهد. ولم ترد في كتابات المسند التي عثر عليها في جزيرة العرب وياللأسف معلومات عن أسفار العرب البحرية، لا إلى سواحل أفريقية ولا إلى سواحل الهند وجنوب إيران. ولكن وجود السبئيين في الساحل الإفريقي وتكوينهم حكومة هناك، ثم احتلال الحبش للعربية الجنوبية الغربية مرارًا، وذهاب المسلمين الأوائل مهاجرين إلى الحبشة، وحث الرسول لهم على الذهاب إلى أرض الحبشة؛ لأن بها ملكًا

_ 1 Periplus, 7, 10, 14, 17.

لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق1. وذهاب المسلمين إلى مرسى "الشعيبة" للسفر منه بسفن التجار إليها، كل ذلك دليل على وجود اتصال بحري بين إفريقية واليمن. وقد أشرت في الجزء الثاني من هذ الكتاب، إلى عثور العلماء على كتابات معينة في جزيرة "ديلوس" Delos من جزر اليونان، وهي نصوص ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى بحثنا هذا، فإنها ترينا وصول المعينيين إلى هذه الجزيرة وإقامتهم فيها، واتجارهم مع اليونان، ومن يدري، فلعلهم كانوا قد توغلوا شمالًا أيضًا، ونزلوا بلاد اليونان، وتاجروا هناك، ومع شعوب أوروبة في ذلك العهد. وقد ورد في نص من هذه النصوص: "هنا" أي "هانئ"، و"زيد ايل" من "ذي خذب"، نصبا مذبح ود وآلهة معين بـ"دلث"، أي بـ"ديلوس" وقد كتب بالمسند، وباليونانية، وقد جاء في النص اليوناني: "يا ود إله معين يا ود". وفي هذا النص والنصوص الأخرى دلالة على وجود جالية معينية في هذه الجزيرة وسكناها فيها، وعلى تعلقها بدينها وبآلهتها وعدم تركها لها حتى في هذه الأرض البعيدة عن وطنها. ومن يدري؟ فلعلها كانت على اتصال ببلادها، وكانت تتجر معها، فترسل إليها حاصلات اليونان ومنتوجات أوروبة، وتستورد منها حاصلات اليمن والعربية الجنوبية وأفريقية والهند. وقد أشرت في ذلك الجزء أيضًا إلى عثور العلماء على كتابة معينية بمصر، كتبت حوالي سنة "263"، قبل الميلاد، وذلك بالجيزة. وهي كتابة قصيرة، ولكنها ذات أهمية كبيرة؛ لأنها تشير إلى وجود المعينيين بمصر في ذلك العهد. وعن وجود صلات تجارية ربطت بين مصر وجزيرة العرب من البر والبحر. وهي تتحدث عن رجل اسمه "زيد بن زيد ايل" من "آل ظبرن"، اعترف بوجود دين عليه وواجب هو توريد وتزويد "ابيتت الالت مصر"، أي "بيوت آلهة مصر"، أو "معابد آلهة مصر" بـ"امررن وقلمتن" "قليمتن"، أي بـ"المر والقليمة". ويقصد بلفظة "قليمتن" "قلمتن"، ما يقال له "Calamus" في الانكليزية و"Kalamus" في الألمانية، ويراد به ما يقال له قصب الذريرة أو قصب الطيب. و"امررن"، بمعنى "المر"، وهو معروف مشهور

_ 1 الروض الأنف "1/ 204".

عند العرب، ودواء كالصبر مر، استعمل في معالجة أمراض عديدة1. وقد كان ذلك في شهر "كيحك" من السنة الثانية والعشرين من حكم الملك "بطلميوس"2. وقد ذهب "رودوكناكس" "Rhodokanakis" ناشر النص المذكور ومترجمه إلى احتمال كون "زيد ايل" كان كاهنًا في معابد مصر، ولو كان من أصل غير مصري، فقد كان المصريون قد تساهلوا في هذا العهد –كما يرى- فسمحوا للغرباء بالانخراط في سلك الكهان وخدمة المعابد، وتساهلوا مع "زيد ايل" هذا فأدخلوه في طبقة "اويب" "Ueeb" وانتخبوه كاهنًا ليضمن لهم الحصول على المر والقليمة بأسعار رخيصة لاستيراده إياها باسمه ومن موطنه مباشرة من غير وساطة وسيط3. وقد ذهب "رودوكناكس" أيضًا إلى أن "زيد ايل"، كان يستورد المر والقليمة لا لحسابه الخاص ومن ماله، بل لحساب المعابد المصرية ومن أموالها. فلم يكن هو إلا وسيطًا وشخصًا ثالثًا يتوسط بين البائع والمشتري، يشتري تلك المادة ويستوردها باسمه، ولكنه يستوردها للمعابد ولفائدتها، وهو لا يستبعد مع ذلك احتمال اشتغاله هو لنفسه وعلى حسابه في التجارة، يستوردها لنفسه ويبيعها في الأسواق، ويتصرف بالأرباح التي تدرها كما يريد. وهو لا يستبعد أيضًا احتمال مساعدة المعابد له بتجهيزه بالمال لتقوية رأس ماله، أو انتشاله من خسارة قد تصيبه. وقد أصيب هذا التاجر كما يظهر من هذا النص بخسارة كبيرة في شهر "حتحر" ربما أتت على كل ما كان يملكه، فهبت المعابد المصرية لإنقاذه، وإعادة اعتباره المالي إليه، بإسناده بتقديم أقمشة الـ"بص" "بوص" إليه. وقد أخذها وصدرها في سفينته التي يستورد بها المر والقليمة إلى الأسواق، فربح منها. واستورد المر والقليمة وأعاد إلى المعابد ثمن ما أخذه منها من تلك السلعة، وأدى ديونه في شهر "كيحك". وقد عاد إليه اعتباره وأنقذ من تلك الضائقة المالية التي حلت

_ 1 تاج العروس "3/ 537"، "مرر". 2 Rep. Epigr. 3427, Tome, V, P.151, Rhodokanakis Die Sarkophaginschrift Von Gizeh, S. 113, In Zeitschrift Fur Semitistik, Bd., Ii, 1924, Conti Rossini, Chrest. Ar. Merid., 1931, P.86. 3 Zeitschrift Fur Semitistik Und Verwandte Gebiete, Bd., 2, 1924, S. 116. Ff.

به بمدة قصيرة لا تتجاوز شهرًا كما يرى ذلك "رودوكناكس"1. ولم يذكر النص اسم الجهة التي ذهبت السفينة إليها، ولا اسم الموضع الذي أرسل "البوص" إليه، ولا اسم المكان الذي استوردت القليمة وكميات المر منه. و"البص" "البوص"، هو "البز" في عربيتنا. والبز: الثياب، وقيل ضرب من الثياب، وبائعه البزاز2. ويظهر أنه كان من الأصناف الجيدة، التي امتازت مصر به، فاشتهر في الخارج، فكان يصدر إلى الأسواق الخارجية، وهي لفظة معربة، عربت من أصل يوناني هو "Vissas"، ومعناه نسيج كتان، ونسيج من كتان هندي رقيق جدًّا3. لقد كانت حكومة البطالمة قد احتكرت صناعة نسيج الكتاب وتجارة البز "بوص"، وبيع المر والبخور والعطور والصبر وغير ذلك. وكانت تنتهج في خطتها الاقتصادية نهج احتكار الدولة بين السلع الرائجة المهمة. نعم، سمحت للتجار المستوردين باستيراد ما يشاءون من المر والبخور واللبان والصمغ والصبر وما شاكل ذلك من الخارج، ولكنها لم تسمح لهم ببيعها أو تحويلها أو تغيير شكلها من غير استئذان الحكومة وموافقتها، ذلك؛ لأنها تعدها من المواد الداخلة في دائرة الانحصار والاحتكار "Statesmonopol"، والتابعة لمراقبة الحكومة. أما نسج "البوص" "البص" البز، فقد أودع أمره إلى المعابد، تشرف عليه وتدير صناعته، ورثت ذلك من عهود سبقت أيام البطالمة، وذلك في مقابل السماح لها بأخذ ما يحتاج إلى استعماله في المعابد أو لحاجات رجال الدين الخاصة، وتسليم بقية ما ينسج إلى دوائر الحكومة المختصة لبيعه للناس4. ويظهر من المؤلفات اليونانية واللاتينية أن العرب كانوا يملكون سفنًا في البحر الأحمر وفي البحر العربي وفي الخليج، إلا أن سفنهم لم تكن ضخمة، ولهذا لم تتمكن من مجابهة السفن الرومانية والسفن اليونانية حين نزلت تلك البحار؛ لأنها كانت أضخم منها، وكانت ذات أربعة صفوف من المجاذيف، كما أنها كانت سريعة الحركة وذات مرونة في الاستدارة وفي الالتفاف وفي الرجوع والانتقال،

_ 1 Zeitschrift Fur Semitistik Und Verwandte Gebiete, Bd. 2, 1924, S. 117. 2 تاج العروس "4/ 7"، "بز". 3 غرائب "256". 4 المصدر نفسه "ص115 وما بعدها".

وذلك بفضل أشرعتها التي طورت تطويرًا كبيرًا ليناسب تطورها هذا فعل الرياح بها، ولتتمكن من السير مع الأهوية أو ضدها، وبسبب آخر هو تطوير هندستها بصورة مستمرة، لتجاري التيار ولتقطعه بكل سهولة، دون أن يعيقها أو يلحق أذى بها، وبفضل هذا التطوير تمكنت تلك السفن من التغلب على السفن العربية، ومن ملاحقة لصوص البحر "القرصان" الذين كانوا يتحرشون بالسفن ليأخذوا ما فيها، بسفنهم الصغيرة البدائية، وبذلك صار في مستطاع السفن اليونانية والرومانية دخول الموانئ العربية والموانئ الإفريقية ومن الوصول إلى الهند. وقد أشار "أغاثرشيدس" إلى هذا التفوق، كما أشار إليه "سترابو" في أثناء كلامه على حملة "أوليوس غالوس" وعن خطأه في تقدير موقفه من البحرية العربية. فقد ذكر "سترابو" أن "أوليوس غالوس" ظن أن للعرب سفنًا كبيرة في البحر وأنها ستظهر أمام سفنه وستقاومه، لهذا أمر ببناء سفن طويلة لمجابهة تلك السفن، مع أن العرب قوم تجارة وبيع وشراء، ولم يكونوا أمة حرب، لا في البحر وحده، بل في البر أيضًا. ومع ذلك بنى ما لا يقل عن ثمانين سفينة حربية، منها سفن ذوات صفين من المجاذيف ومنها ذوات ثلاثة، ومنها ذوات صف واحد ... ولما أدرك خطأه ابتنى مئة وثلاثين سفينة للحمل، ركب فيها نحو من عشرة آلاف من المشاة ... وبعد أن خسر كثيرًا من سفنه، غرق عدد منها وغرق من فيها من بحارة، وذلك بسبب صعوبة الملاحة لا بمقاومة من عدوّ1. ولا نجد في كتب أهل الأخبار ما يشير إلى وجود قوى بحرية عربية، بل نجد فيها أن سفن الروم كانت هي التي تمخر عباب البحر الأحمر وكانت هي المهيمنة عليه وأنها كانت تصل إلى سواحل أفريقية وتذهب إلى الهند، ونجد فيها أن سفن الحبشة كانت تأتي "الجار" و"الشعيبة"، وموانئ عربية أخرى لتتاجر معها، وأن سفن الساسانيين كانت تهيمن على مياه الخليج العربي والبحر العربي، ثم نجد في روايات أهل الأخبار عن كيفية احتلال الحبش لليمن واحتلال الفرس لها وعن هجرة المهاجرين الأولين من مكة إلى الحبشة ووصفهم لكيفية بناء الكعبة وأخذهم لخشب سفينة رومية ما يؤيد أن الجاهليين لم يكونوا يملكون سفنًا

_ 1 مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 264"، لسنة 1952م.

كثيرة كبيرة قوية في ذلك العهد، وأنهم كانوا قد تركوا البحر إلى غيرهم منذ عهد قبل الإسلام. ويعود تفوق سفن اليونان والرومان على السفن العربية في البحار إلى ما قبل الميلاد. لا بل نستطيع أن نرجع هذا التفوق إلى ما قبل أيام اليونان والرومان، نستطيع أن نرجعه إلى أيام المصريين. فقد ورد في أخبارهم أنهم أرسلوا سفنهم إلى البحر الأحمر فوصلت إلى السواحل الإفريقية، وأنهم كانوا قد حفروا قناة لتصل بين نهر النيل والبحر الأحمر، فيكون في وسع السفن القادمة من البحر الأبيض من اليونان أو من إيطاليا أو من أي مكان آخر دخول نهر النيل والمرور من القناة إلى البحر الأحمر ثم إلى المحيط للاتجار مع أسواق البلاد الحارة، والعودة من تلك الأسواق بحاصلات آسيا وإفريقية إلى أوروبة. وهو مشروع يدل على ذكاء وحنكة في السياسة، مهد الدرب لمشروع قناة السويس الحديث. ولما استولى "دارا" "داريوس" على مصر، قرر إعادة ذلك المشروع المصري القديم، الذي كان قد اندثر وأكلته الرمال، بأن أمر بشق قناة تصل النيل بالبحر الأحمر عن طريق الفرع البلوزي أحد فروع النيل القديمة، بالقرب من الزقازيق، مخترقة وادي الطميلات ثم البحيرات إلى السويس. وهو مشروع يدل على ذكاء ذلك الملك وإدراكه لأهمية ربط البحرين بطريق مائي، وإلى ما فيه من فوائد في السياسة وفي الاقتصاد وفي الناحية العسكرية. ووضع "الإسكندر" الأكبر مشروعًا خطيرًا آخر يفوق كل ما وضع من قبله من مشاريع. فقد وضع خطة السيطرة على المياه الدافئة بالسيطرة على سواحل جزيرة العرب، وذلك بالاستيلاء عليها، ويكون بذلك ملك أكبر انبراطورية عرفت حتى ذلك اليوم تمتد من الهند إلى مصر وما وراء مصر من أرضين1. وقد كلف قواده بالالتفاف حول جزيرة العرب، وباشروا بتنفيذ الأمر بالفعل، وقد رأينا قائده "نيرخوس" "Nearchus" على رأس أسطول ضخم، لعله أعظم أسطول شاهده الخليج والبحر العربي حتى ذلك العهد. وقد رأينا كيف قرر الإحاطة بجزيرة العرب من الجنوب والغرب بالسيطرة على سواحلها وإنشاء أسطول يمخر المياه المحيطة بها، بعد أن هيمن على السواحل الشرقية. وقد استعان

_ 1 Arrianus, Anabasis, Vii, 19, 20.

نفسه بخبرة الفينيقيين وعلمهم بالبحر. نقلهم إلى هذه المياه وكلفهم بناء السفن له، وبإدارتها له. ولو قدر للإسكندر أن يعيش طويلًا لتحقق مشروعه الضخم، ولكن القدر قضى عليه مبكرًا، فمات مشروعه معه، ولم يكن لخلفائه ما كان لسيدهم من عزم، فتركوا المشروع، ولم يتحمسوا له1. وقد أدرك البطالمة قيمة القناة القديمة التي كانت تربط النيل فالبحر المتوسط بالبحر الأحمر، فأمر "بطلميوس الثاني" "185-146ق. م" بإعادتها، ومكن بذلك تجاره من دخول البحر الأحمر ومن نقل التجارة من أسواقها الأصلية إلى مصر، ومنها إلى أسواق اليونان والرومان وسائر بلاد أوروبة بالطرق المائية، وضبط بذلك الممر المائي العالمي القديم، هذا الممر الذي فتح ذهن "دلسبس" فيما بعد فجعله يفكر في موضع أصلح رآه في المكان الحالي المعروف بـ"قناة السويس"، القناة العالمية التي تلعب اليوم دورًا خطيرًا في الاقتصاد العالمي وفي السياسة الدولية والموقف الحربي للدول. وعين البطالمة موظفين خاصين مهمتهم الإشراف على إدارة التجارة البحرية وسير السفن. فنجد في كتابة تعود إلى سنة "130" قبل الميلاد إشارة إلى موظف كان مسؤولًا عن سير السفن وعن الطريق الصحراوية الممتدة إلى قفط، ونجد أخبارًا تعود إلى ما بين سنتي 120 و110 قبل الميلاد تتحدث عن سفن كانت تسير بين مصر والهند، كما نجد فيها وفي نصوص تعود إلى عهود متأخرة عن هذه إشارات إلى وجود موظفين مسؤولين عن البحرين الأحمر والهندي2. وقد كان لوقوف "هيبالس" "Hippalus"، وهو أحد اليونان أو الرومان على سر الاستفادة من الرياح الموسمية في تسيير السفن وفي تقصير الوقت في قطع المسافات، وفي تمكينها من الابتعاد عن أخطار السير في محاذاة السواحل أهمية كبيرة في تطوير فن الملاحة الأوروبية بالنسبة لذلك العهد3. ويمكن اعتبار وقوف هذا الملاح على هذا السر من أهم الأحداث البارزة التي حدثت في ذلك العهد والتي مكنت الغربيين من التوفق في البحر بالنسبة لتلك الأيام. أضف إلى

_ 1 Arrianus, Anabasis, Vii, 19, 20. 2 حوارني "ص66". 3 Pliny, Vi, 26, Tarn, The Greeks In Bactria And India, P.366.

ذلك أن الذين خبروا البحر وعركوه من بعده أضافوا ما استفادوه من فنه ومن علم من تقدم عليه علمًا آخر مكن البحارة البطالسة ثم الرومان الذين جاؤوا من بعدهم فحكموا مصر، ثم اليونان من السيادة على البحار ومن انتزاع المغانم من التجار العرب ومن غيرهم ومن إلحاق ضرر بالغ بهم، وبذلك وضعوا لمن جاء بعدهم من دول أوروبة خطط السيطرة على البحار وعلى العالم القديم. ويعد القيصر الروماني "أغسطس قيصر" من أهم القياصرة الذين وجهوا أنظارهم نحو الشرق، ونستطيع أن نقول أنه خليفة "الإسكندر الأول" في هذا الباب، ومن أستاتذة "نابليون" في خططه العسكرية الرامية إلى السيطرة على الشرق، لقد نوى الاستيلاء على بلاد العرب، وربما على ما وراء بلاد العرب من أرضين، وكانت غايته من هذه النية –كما قال سترابو- "إما أن يسترضي العرب، وإما أن يخضعهم، كما أنه فعلت في نفسه الروايات الشائعة منذ القدم أن العرب قوم واسعوا الثراء، وأنهم يستبدلون الفضة والذهب بعطرهم وحجارتهم الكريمة، دون أن ينفقوا مع الغرباء ما يحصلون عليه في مقايضاتهم التجارية. فأمل أحد أمرين: إما أن يحصل على أصدقاء موسرين، وإما أن يتغلب على أعداء موسرين"1. وإذا كان "أغسطس" قد أخفق في تحقيق مشروعه في احتلال جزيرة العرب، فإنه لم يهمل ناحية الاستفادة من البحار، فشجع الملاحين وزاد عدد السفن الذاهبة إلى الهند، وقد كان عددها لا يزيد على عشرين سفينة في السنة الواحدة قبل أيامه، فارتفع عدد ما يصل إلى الهند منها إلى ما لا يقل عن "120"، سفينة في السنة الواحدة2. وقد أقام اليونان والرومان معبدًا في موضع "Mauziris" على ساحل الـ"مالابار" في أيام "أغسطس"، ووجود هذا المعبد في هذا الموضع دليل على المدى الذي وصل إليه التجار اليونان والرومان في بلاد آسية، وعلى مقدار تشجيع القيصر لأولئك التجار3. وبدلًا من أن ينتظر التاجر الروماني أو اليوناني البضائع الثمينة، تأتي إليه إلى أسواق مصر أو بلاد الشأم محملة بسفن عربية أو على ظهور جمال القوافل كما كان

_ 1 الصفحة "264"، من المجلد الثاني من مجلة المجمع العلمي العراقي لسنة "1952م". 2 حوراني "ص75"، Strabok, 17, I, 13. 3 حوراني "ص75".

ذلك في الغالب، وهي بأسعار عالية، ارتاد هو البحر الأحمر، ومنه المحيط الهندي إلى سواحل إفريقية أو سواحل العربية الجنوبية أو الهند فما وراءها، يشتري من موانئها وأسواقها ما يريد، بأسعار رخيصة جدًّا بالقياس إلى تلك الأسعار التي كانت يدفعها للتجار الموردين في أسواق مصر أو أسواق بلاد الشأم، فاستفاد هو، واستفادت حكومته منه، وخسر التجار العرب بوصول هؤلاء التجار إلى تلك الأسواق ومنافستهم لهم خسائر فادحة، أوجدت خللًا في الحياة الاقتصادية للدول العربية، وضررًا عامًّا في جميع نواحي الحياة الأخرى. وطالما تشكى الرومان واليونان من فداحة الأرباح والضرائب التي كان يفرضها التجار العرب على البضائع المرسلة إليهم، والتي كانوا يحتاجون إليها ويشترونها بأي ثمن كان. وقد ذكر "سترابون" الجغرافي الشهير في جملة الأسباب التي حملت القيصر "أغسطس" على إرسال حملته الشهيرة، هو ثراء أهل تلك البلاد، وحصولهم على أرباح مفرطة من الغرباء وفي ضمنهم الرومان واليونان من اتجارهم معهم، ومن تحكمهم في وضع الأسعار، دون أن يعطوا أولئك التجار والبلاد التي يحملون تجارتهم إليها شيئًا1. وقد كان للأحداث السياسية، في الامبراطوريتين الرومانية واليونانية أثرًا كبيرًا في حالة الملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي. ففي أيام الفتن والاضطرابات وحدوث القلاقل، لم يكن في وسع أصحاب السفن الرومان أو اليونان التوغل في البحار البعيدة عن مناطق نفوذ الانبراطوريتين، لضعف وسائل حماية السفن التجارية وحماية التجار والمستعمرات العديدة المقامة على السواحل. ولهذا نجد "سترابو" يذكر أنه قبل أيامه لم تكن هنالك سفن كثيرة تجتاز البحر الأحمر، فقد كان كل ما يرسله الرومان من السفن لا يزيد على العشرين سفينة، تجتاز هذا البحر، فتصل إلى ما وراءه في المحيط2. وأخذ التجار اليونان والرومان يقصدون سواحل أفريقية وبلاد العرب والهند، ويقيمون في موانئها للاتجار، وقد عثر على نقود يونانية ورومانية في مواضع متعددة من هذه السواحل، كما عثر فيها على آثار معابد ومباني تشير إلى أصل يوناني

_ 1 راجع الترجمة المنشورة في مجلة المجمع العلمي العراقي "2/ 763"، "1952م". 2 Strabo, 17, I, 13.

وروماني، كذلك نجد أخبارًا لأشخاص يونانيين ورومانيين ذهبوا إلى أرض سبأ للاتجار. ولم يجد الرومان ولا اليونان مقاومة تذكر حينما ولجوا البحر الأحمر والمحيط الهندي. لقد كانت سفنهم أكبر وأقوى من سفن العرب، وأحدث منها، وأقدر على الحركة والمقاومة. تتحمل صعاب البحر، وتقاوم الأعاصير والظروف القاسية الشديدة، وتتسع لاستيعاب أعداد كبيرة من الرجال، وتحمل حملًا كبيرًا بالقياس إلى السفن العربية. وهذا مما يقلل بالطبع من أجور النقل، ومن أخطار الغرق والاصطدام بصخور السواحل، ومن التعرض للصوص البحر، ويخفض من أثمان البضائع في الأسواق، ويزيد في عدد المستهلكين. وقد رأى البحر الأحمر سفنًا أقوى وأضخم من السفن العربية الصغيرة ومن سفن سكان سواحل أفريقية: رأى سفنًا تسير بقوة أربعة صفوف من المجاذيف Quadriremes"1 أخذت تتعقب لصوص البحر، وتحمي سفن اليونان والرومان، وتحمي المستعمرات التي أنشئت على سواحل البحر الأحمر لإيواء تلك السفن، وتقديم المساعدات إلى أصحابها، وشراء السلع من القبائل الساكنة على مقربة منها، وسرعان ما صارت أسواقًا للبيع وللشراء، يبيع فيها هؤلاء التجار الأجانب ما يأتون به من تجارة من حوض البحر المتوسط، ويشترون منهم ما عندهم من مواد أولية، يقبل عليها أهل مصر واليونان والرومان وسكان البحر المتوسط. وقد أثرت هذه الأسواق بالطبع في مصالح التجار العرب الذين كانوا يقومون بمثل هذه الأعمال، ألحقت بهم ضررًا ولا شك. ولوعورة الساحل العربي على البحر الأحمر ولكثرة صخوره المؤذية للسفن، ولكثرة لصوص البحر فيه، ولأسباب أخرى تجنبت السفن الرومانية واليونانية هذا الساحل قدر إمكانها، فلم ترس به إلا في المواضع الآمنة التي أمنت النزول بها، وسيطرت عليها بوضع حاميات عسكرية بها، أو بعقد محالفات وعهود ومواثيق مع سكانها. وقد كان ميناء "مخا" "Muza" الميناء المفضل لها. قصدته للاتجار

_ 1 حوراني "ص59"، Agatarchides, I, 83, 85, 88.

ولتموين نفسها بالماء والغذاء1. وقد كان في استطاعة سفن تلك الأيام السير على مبعدة من ذلك الساحل ودون توقف حتى تصل إلى الميناء المذكور، أو إلى ميناء عدن "Arabia Eudaemon"، وبذلك تجنبت السفن المخاطر والمهالك التي كانت ستتعرض لها فيما لو سارت في محاذاة الساحل العربي. ويظهر أن موضع "لويكه كومه"، أي "القرية البيضاء" كان ميناءً معروفًا في القرن الأخير قبل الميلاد، ففيه هبط "أوليوس غالوس" سنة "25 أو 24" قبل الميلاد في حملته التي أمر القيصر "أغسطس" بإرسالها على اليمن. ولو لم يكن من المرافئ الحسنة الصالحة لرسو السفن لمن نزل به الجيش الروماني. ويكتنف تأريخه الغموض، فلم يرد اسمه كثيرًا في كتب اليونان والرومان ولا في كتب الإسلاميين. ويقال إنه ظل قائمًا حتى نهاية القرن الثالث بعد الميلاد2. ولعله "الحوراء"، مرفأ سفن مصر قديمًا، وقد ذكره أصحاب الرحل3. و"الجار"، فرضة أهل المدينة، ترفأ إليها السفن من أرض الحبشة ومصر وعدن والصين والبحرين، وبحذائها جزيرة في البحر ميل في ميل يسكنها التجار4. فهي من الموانئ التي كان يقصدها التجار من السواحل المقابلة ومن سواحل إفريقية الشرقية والمحيط الهندي. وذكر أن الناس كانوا لا يعبرون إلى الجزيرة إلا بالسفن، وهي مرسى الحبشة خاصة. وأن بينها وبين المدينة يوم وليلة، وبين أيلة نحو من عشر مراحل، وإلى ساحل "الجحفة" نحو ثلاث مراحل5، وقد عرفت تلك الجزيرة بـ"قراف"، وسكانها تجار كنحو أهل الجار6. و"الشعيبة" من المراسي القديمة في الحجاز، وهي أقدم من جدة. وهي خور أمين تقصده السفن لتتزود بما تحتاج إليه من زاد وماء، ولتفرغ فيه ما تأتي

_ 1 "المخا: موضع باليمن بين زبيد وعدن، بساحل البحر. وهو مقصود"، البلدان "7/ 202"، "ومخا: مقصورة، بساحل بحر اليمن تجاه باب المندب ... قال الصاغاني: ترفأ بمكلئها السفن"، تاج العروس "10/ 328". 2 Handbuch, I, S. 114. 3 تاج العروس "3/ 161"، "حور". 4 تاج العروس "3/ 112"، "جار". 5 البلدان "3/ 35". 6 عرام، أسماء جبال تهامة وسكانها "ص398 وما بعدها"، "نوادر المخطوطات"، تاج العروس "6/ 220"، "قرف".

به من شحن من أفريقية إلى الحجاز. وهو مرفأ مكة ومرسى سفنها قبل جدة. وإليه جنحت سفينة "باقوم"، التي تحطمت بدفع الريح لها، فاستعانت قريش في تجديد عمارة الكعبة بخشب تلك السفينة على نحو ما تحدثت عنه في أثناء كلامي على تجديد بناء الكعبة قبل المبعث بقليل1. ومنه هاجر المسلمون إلى الحبشة في السنة الخامسة من المبعث، حيث وجدوا سفينتين للتجار حملوهم فيها إلى الحبشة2. ومنه كان يذهب تجار مكة إلى أفريقية للتجارة قبل الإسلام. وميناء "Muza" = "Muza" من موانئ اليمن المهمة على البحر الأحمر3، وكان مقصودًا، وتصل إليه السفن البيزنطية والسفن الواردة من مصر، ومن هنا كانت تتزود تلك السفن بضائع البلاد العربية، أو تبيع فيه ما استوردته من مصر أو من سواحل حوض البحر المتوسط. وقد تتزود ما تحتاج إليه من ماء وزاد، ثم تتجه إلى أفريقية أو إلى سواحل الهند. وقد كانت به جاليات من اليونان أو من غيرهم مقيمة هناك للاتجار والتعامل مع الوطنيين. وهو ميناء "مخا" المشهور4. ويذكر أهل الأخبار، أن بين "مخا" وبين "باب المندب"، أي الساحل الأفريقي المقابل للساحل العربي يومين أو أكثر، وأن باب المندب، مرسى ببحر اليمن، وهو اسم ساحل مقابل لزبيد اليمن، وهو جبل مشرف ندب بعض الملوك إليه الرجال حتى قدوه بالمعاول؛ لأنه كان حاجزًا ومانعًا للبحر عن أن ينبسط بأرض اليمن، فأراد بعض الملوك أن يغرق عدوه، فقد هذا الجبل وأنفذه إلى أرض اليمن، فغلب على بلدان كثيرة وقرى أهلك أهلها وصار منه بحر اليمن الحائل بين أرض اليمن والحبشة والآخذ إلى عيذاب وقصير إلى مقابل "قوص"، والملك هو "الإسكندر"5. وبهذه الطريقة أوجد أهل الأخبار لهم تأريخًا لباب المندب، وحلوا مشكلة كيفية انفصال أفريقية عن اليمن! وميناء "Arabia Eudaemon"، هو ميناء "عدن"، وهو ميناء مهم في ذلك الوقت أيضًا، ولا يزال يحافظ على مركزه وأهميته من الوجهة العسكرية

_ 1 البلدان "5/ 276"، ابن المجاور، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز، "القسم الأول ص42"، وما بعدها". 2 الطبري "2/ 329". 3 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "8/ 97". 4 البلدان "7/ 202"، تاج العروس "10/ 338"، "مخى". 5 تاج العروس "1/ 482"، "ندب".

والاقتصادية1. وقد ذكره "بطلميوس" باسم "Rabia Emporion". وقد كان مركزًا لتبادل السلع الإفريقة والهندية والمصرية، ومكانًا تبحر منه السفن إلى الهند، كما تلتجئ إليه السفن الواردة من تلك البلاد. وقد استولى عليه الرومان في فترات. ويذكر أنه في حوالي سنة "345"، أسس أحد المبشرين واسمه "ثيوفيلوس" "Theophilus" المعروف بالهندي، كنيسة في "عدن2 "Adane". وجزائر "فرسان"، من الجزر التي كان يتاجر أهلها مع الحبشة، ويذكر "الهمداني" أن سكانها كانوا يعملون في التجارة إلى بلاد الحبش، ولهم في السنة سفرة3. وميناء "Cana" "قنا"، هو موضع "حصن غراب" "حصن الغراب". وهو سوق اللبان الذي يزرع داخل البلاد، يؤتى به إلى ذلك الميناء على ظهور الجمال، أو في الأرماث المصنوعة من الجلد، وفي القوارب. وهو ميناء تجارة كذلك مع مدن الساحل البعيد، مع بعض مدن الهند، وميناء "عمانه" "Umana" "عمان" والموانئ التي على الخليج4. وتقع "قنا" على مرتفع، قريب من "ميفع"5، و"ميفع"، قرية على الساحل، و"ميفعة"، بلدة بين "ميفع" و"أحور"، إلا أنها ليست على الساحل، بل بينهما مرحلة6. وأما ميناء "Moscha"، فهو "ظفار" من أعمال الشحر، قريب من صحار. وبجبال ظفار "اللبان"، وإليه يحمل، وبه يقسم ويوزع، ولا يسمح بحمله إلى غيره7. وقد ذكر عدد من المؤلفين اليونان واللاتين. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنه "مسقط" وأنه "Mosca Portus".8 ويذكر أهل الأخبار،

_ 1 البلدان "6/ 127"، ابن المجاور "1/ 106 وما بعدها". 2 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام، 8/ 98 وما بعدها". 3 الصفة "53". 4 Periplus, 20. F., 27. 5 تاج العروس "10/ 305"، "قنا". 6 تاج العروس "5/ 566"، "يفع". 7 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 342"، Glaser, Skizze, Ii, S. 180, Ptolemy, Vi, 7, 10. 8 Geography, Ii, S. 757.

أن "ظفار" قرب مرباط، وتعرف بـ"ظفار" الساحل، وإليها ينسب القسط، وهو العود الذي يتبخر به؛ لأنه يجلب إليها من الهند، ومنها إلى اليمن، كنسية الرماح إلى "الخلط"، فإنه لا ينبت به، وهي قريبة من "الشحر"1. وكان أهل "جرها" "Gerrha" على ساحل الأحساء من أنشط الناس في التجارة، يتاجرون في البر والبحر، ويتاجرون مع الهند وسواحل إيران الجنوبية، كما كانوا يتاجرون مع العربية الجنوبية وأرض العراق. وكانوا قومًا مسالمين لا يرغبون في الحروب. فلما أراد "أنطيوخس" "Antiochus" الثالث الاستيلاء على المدينة وذلك في حوالي سنة "205"، قبل الميلاد، سألوه الصلح والمهادنة، "وألا يقضى على ما أعطتهم الآلهة من سلام وحرية أزليين"2. وأما مدينة "أبولوكس" "Apologus"، فهي الأبلة في الكتب الإسلامية و"Uubulum" في الكتابات الأكادية. وقد كانت من أهم موانئ أعالي الخليج في أيام فتح المسلمين للعراق. تصدر إلى الهند حاصلات العراق وبلاد الشأم وآسية الصغرى وأوروبة، وتستورد منها أخشاب الصندل والآبنوس ومنتجات الهند وسيلان والصين3. وقد عرفها أهل الأخبار، فذكروا أنها كانت أقدم من البصرة؛ لأن البصرة، مصرت في أيام "عمر"، وكانت الأبلة حينئذ مسالح من قبل كسرى، وقد كان تجارها يربحون ربحًا عظيمًا، وهي أرض واسعة. قال "خالد بن صفوان": "ما رأينا أرضًا مثل الأبلة مسافة، ولا أغذى نطفة، ولا أوطأ مطية، ولا أربح لتاجر، ولا أحفى بعابد"4. وهناك مواني عديدة أخرى، ذكر المؤلفون اليونان واللاتين أسماءها، وقد تحدثت عنها في الجزء الثالث من كتابي: "تاريخ العرب في الإسلام"، وشخصت مواقعها قدر الإمكان. وقد كان لا بد من أن يكثر عدد الموانئ في تلك الأيام، فسفن ذلك العهد لم تكن ضخمة كسفن هذا اليوم، ولم يكن في استطاعتها لهذا الابتعاد عن السواحل كثيرًا، ولا السير إلى مسافات شاسعة، إذ كان لا بد لها

_ 1 تاج العروس "3/ 370"، "ظفر". 2 Polybius, Historia, Book, 13, Chapter 9. 3 Pliny, Iv, 31, 32, Dio Casius, Roman History, 68, 28, 29. جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "8/ 100". 4 تاج العروس "7/ 200"، "ابل".

من التزود دومًا بالماء والغذاء، ولا سيما بالنسبة إلى السفن الصغيرة، فأخذت ترسو في مراسي كثيرة لتموين نفسها ولإراحة أصحابها، من عناء البحر، ولم تتخلص السفن من تعدد الرسو في المواني إلا بعد تحسن صناعة بناء السفن، وظهور السفن البخارية، فانتفت حاجتها إليها، وقد قضى هذا التحسن على أكثر المواني، فماتت وذهبت مع العصور التي ولدت فيها. وقد تتجه السفن من ميناء "مخا" إلى السواحل الإفريقية مخترقة مضيق المندب، وقد تتجه إلى "عدن"، ثم تواصل سيرها نحو السواحل الإفريقية، بعد أن تتمون بما تحتاج إليه من ماء وزاد، أو تتجه إلى ميناء "أكيلا" "Acilla"، الواقع على مقربة من "رأس الخيمة" "Massandum"، للإقلاع منه إلى الهند1. وهو أقرب طريق يوصل العرب الجنوبيين وعرب سواحل عمان إلى تلك البلاد. ولما تحسنت هندسة بناء السفن صار في إمكانها قطع مسافات أبعد من دون حاجة إلى الرسو في موانئ عديدة، وصارت السفن القادمة من مصر ترسو في ميناء "عدن" رأسًا، وبعد أن يستريح أصحابها يتجهون إلى سواحل أفريقية أبعد مما كانوا يصلون إليها في السابق، أو يتجهون نحو الهند. وبذلك قصر الوقت وقلت كلفة الأسفار، وصار في وسع اليونان والرومان دخول الأسواق الأصلية رأسًا، يأخذون منها ما يريدون ويبيعون فيها ما عندهم دون حاجة إلى وسيط. وكانت السفن اليونانية والرومانية تتحمل من صعاب البحر، وتقاوم الأعاصير والظروف القاسية الشديدة، وتتسع لاستيعاب أعداد كبيرة من الرجال، وتحمل حملًا كبيرًا بالقياس إلى السفن العربية. وهذا ما قلل بالطبع من أجور النقل، وخفض من أثمان البضائع في الأسواق، وزاد في عدد المستهلكين. ولكن السفن اليونانية والرومانية جوبهت مع ذلك بلصوص البحر الذين كانوا يتعقبون السفن، ويغيرون عليها عند تقربها من السواحل. كان هؤلاء اللصوص قد ابتنوا سفنًا لهم، فإذا رأوا سفنًا يونانية أو رومانية أو غيرها وقد وقعت في قبضة الأعاصير، أو اصطدمت بالصخور البحرية أو كانت على مقربة منهم وفي مناطق يمكن وصولهم إليها، أغاروا عليها وأخذوا منها كل ما تقع أيديهم عليه.

_ 1 Pliny, Vi, 32, Glaser, Skizze, Ii, S. 186.

ولا ينجو منها أحد، حتى أصحابها يؤخذون أسرى، فيباعون في الأسواق خولًا. ولحماية السفن والتجار، أنشأ الرومان واليونان قوة بحرية حربية، تولت حراسة السفن التجارية وحماية المستعمرات التي أقاموها على سواحل هذه الطرق المائية العالمية المهمة. ولم تكن المسافات بين المستعمرات الساحلية قصيرة، ليكون في الإمكان الدفاع عنها والتعاون فيما بينها. وللتغلب على هذا الضعف ولحمايتها حماية قوية زودوها بما تحتاج إليه من مياه عذبة ومن أطعمة ومن جنود لصد غارات المعتدين. وبذلك هيمنوا على البحار: وضبطوا البحر الأحمر بصورة خاصة، ولم يبق للعرب من مجال في التجارة العالمية إلى بسلوك الطرق البرية الموصلة إلى بلاد الشأم والعراق. وقد تكون في إشارة "بليني" "Plinus" إلى وجود جاليات يونانية على سواحل بلاد العرب في مواضع غير بعيدة عن موضع "Attevae" الذي هو "عدن"، إيماءة إلى وجود مستعمرات يونانية على سواحل جزيرة العرب أنشئت قبل أيامه لضبط الأمن في البحار وللاتجار مع العرب وبسط نفوذ. الروم عليهم وفي جملة تلك الأماكن التي ذكرها: "Arethusa" و"Larisa" و"Chalcis"، ذكر أنها كلها كانت قد خربت بسبب الحروب، مما يدل على أنها كانت قد أقيمت قبل أيامه بزمان1. وقد ضمنت تلك القوة البحرية الضخمة للرومان السيطرة على البحر الأحمر وعلى البحر العربي، واستطاعت احتلال "عدن". ففي أيام "كلوديوس" "Claudius" "41-54م" كان هذا الميناء في قبضة الرومان2. وكانت به حامية رومانية. وتمكن هذا القيصر الذي كانت عدن خاضعة له في أيام مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري"، أو أي قيصر آخر، قد يكون "Coligula" وقد يكون "طبريوس" "Tiberius"، من عقد معاهدة مع الملك "كرب ايل" "Charibael" "ملك سبأ وذو ريدان" في ذلك الوقت. ولم يشر مؤلف

_ 1 Pliny, 6, 159, Die Araber, I, S. 120. 2 Wissmann, Geogr. Grundlagen, 107, Grohmann, Arabien, S. 28, Periplus Maris Erythraei., 26.

الكتاب المذكور الذي لا نعرف اسمه اليوم إلى اسم القيصر، بل اكتفى بذكر اللقب فقط، وهو "قيصر"، وهو كما نرى لقب عام، يطلق على كل من يحكم انبراطورية الرومان. وقد ذهب بعض الباحثين إلى عدم إمكان التفكير في القيصر "أغسطس"، وإلى احتمال كونه قيصرًا آخر، وقد يكون بالإضافة إلى ما ذكرته "نيرو" أو "تراجان"، أو "سبتيموس سويرس" "سبتيميوس سفيروس" "Septimius Severus"1. واهتم "تراجان" بأمر التجارة البرية والبحرية، جعل أرض النبط ولاية خاصة دعاها: "الكورة العربية" أو "المقاطعة العربية" "Arabia Provincia" وذلك سنة "106" للميلاد. واهتم بالطرق البرية، فأصلح طريقًا مهمة تمر من دمشق إلى أيلة فبصرى والبتراء، وهي طرق قديمة ومعروفة، بالنسبة للاتجار مع بلاد العرب، وكانت في حاجة إلى عناية وإصلاح ووضع معالم. واعتنى بميناء "أيلة" فعمره ووضع إدارة "كمركية" فيه، وجعله من الفرض المهمة في خليج العقبة، بل والبحر الأحمر، وأصلح القناة القديمة بعد أن تراكمت فيها الأتربة حتى سدت مجراها، وحفر قسمًا جديدًا من طرفها الغربي، أوصلها بالنيل عند "بابلون" "Babylon"، موضع مصر القديمة. وبذلك سهل الاتصال بالفرع الغربي للنيل المؤدي إلى الأسكندرية، وبرز ميناء "القلزم" "Clysma" حيث التقت قناة تراجان بالبحر الأحمر2. وعثر على كتابة دونها قوم من أهل تدمر، اشتغلوا بالملاحة في البحر الأحمر، أشادوا بفضل القيصر "هدريان" هدريانوس" "117-138م" عليهم3. وتدل هذه الكتابة على اشتراك التدمريين في الملاحة، مع أنهم من أهل مدينة صحراوية، عماد حياتها التجارة بالبضائع الواردة إليها بالطرق البرية. وقد توغل الملاحون في أيام أسرة "انطونينوس" "Antonines" "98-192م". حتى أدركوا موضع "رهابتا" على مقربة من "زنجبار" في السواحل الإفريقية، ووصلوا إلى سواحل الصين في آسية. وهذا هو سر وجود أسماء مواضع في جغرافيا

_ 1 Die Araber, I, S. 43. 2 حوراني "86". 3 Dio Casius, 68, 14, Ptolemy, Iv, 5, 14.

"بطلميوس" "في حوالي 150-160 للميلاد" لم ترد في كتب المؤلفين السابقين الذين عاشوا قبل هذا الجغرافي اليوناني الشهير. وفي جملة ما ذكره هذا الجغرافي أسماء مواضع عديدة في جزيرة العرب، لم يشر إليها المؤلفون اليونان والرومان السابقون، وأوصاف أدق وأصدق من الأوصاف التي ذكروها، وفي ذلك دلالة على زيادة علم اليونانيين والرومان في هذه الأيام بأحوال الشرق نتيجة زيادة اختلاطهم واتصالهم بالشرقيين. ومعارفنا بأخبار الملاحة في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي في العهد البيزنطي، أي العهد الذي أصبحت فيه القسطنطينية فيه عاصمة بدلًا من روما "330م"، قليلة ضحلة؛ لأن أكثر المؤرخين الذين عاشوا في هذه الحقبة ثم ما بعدها إلى ظهور الإسلام إنما اهتموا بالأمور الدينية، وكانوا إذا ما تطرقوا إلى النواحي الجغرفاية أو التاريخية المعاصرة للبلاد الخارجة عن نطاق الانبراطورية البيزنطية أو نفوذها السياسي، أوجزوا القول إيجازًا لا يعطي القارئ رأيًا في الأحوال العامة وفي ضمنها التجارة والملاحة في البحر الأحمر والمحيط الهندي. لقد أثرت الأوضاع السياسية القلقة التي حدثت في الدولة البيزنطية، والحروب المتوالية بين الساسانيين والبيزنطيين، أثرًا خطيرًا على البحرية البيزنطية في البحر الأحمر وفي المحيط الهندي، إذ حدت من توسعها، وقلصت من عدد سفنها، ولم تجد بسبب انشغال الحكومة في تلك الحروب عناية ورعاية، ولهذا اقتصر نشاطها على البحر الأحمر وعلى السواحل الإفريقية التي كانت على صلات حسنة بالبيزنطيين. فكانت تصل إلى ميناء "أدولس"، ومنه يصل التجار إلى أسواق الحبشة الداخلية، أو إلى مواني "سقطرى"، وقد كان بها مستوطنون يونانيون، أقاموا فيها منذ أمد طويل، وبنوا بها كنائس ومستوطنات للإقامة فيها، وظل بعضهم بها إلى أيام الإسلام. وكانت السفن اليونانية تمون نفسها بما تجده في "ادولس" وفي "سقطرى" من تجارات، بعضها من نفائس تجارة الهند جاءت بها السفن الساسانية إلى هذه المواضع، فيشتريها التجار اليونان ويأخذونها إلى بلادهم. ويذكر أهم الأخبار أن "سقطرى" كانت مركزًا هامًّا من مراكز التجارة في البحر، وكان بها قوم من اليونان يحفظون أنسابهم محافظة شديدة. وقد كانوا بها

من أيام ما قبل الميلاد، وربما كانوا بها قبل أيام "الإسكندر". ولما ظهرت النصرانية تنصر من كان بها من اليونانيين. ويذكرون أن قومًا منهم طرحهم "كسرى" في هذه الجزيرة. وكانت بوارج الهند تأوي إليها. وقد اشتهرت بالصبر الجيد الذي لا يوجد مثله في غيرها، وبدم الأخوين، وهو صمغ شجر يسمونه "القاطر"، وهو "الأيدع"، وقد ساكن العرب اليونان1. ويذكر أهل الأخبار أن "أرسطو"، هو الذي أشار على "الإسكندر"، بإجلاء أهل "سقطرى"، وإسكان طائفة من اليونان بها، لحفظ "الصبر" لعظيم منفعته. وذكروا أن بينها وبين "المخا" ثلاثة أيام مع لياليها، وأن من مدنها: "بروه" و"ملتده"، و"منيسة"، وهي مسكن ملك الزنج2. أما البحرية والتجارة البحرية الساسانية، فإننا لا نعرف عنها في هذا العهد معرفة واسعة، ولا نستطيع أن نتحدث عن وجود قوة بحرية ساسانية، أو نشاط بحري في البحر الأحمر في كل العهود، وإنما كان أقصى ما وصل إليه نفوذ الساسانيين في البحر، هو باب المندب، أي مدخل البحر الأحمر، حيث وقفوا عنده. وقد صار البحر الأحمر، منذ استيلاء اليونان والرومان على مصر، بحرًا يونانيًّا رومانيًّا بيزنطيًّا، حرسوه بأساطيل قوية، ضمنت لهم التفوق فيه، فلم يكن في وسع الفرس ولوجه أو التوغل فيه. وقد ذكر أن "أردشير" الأول "225-241م" بنى جملة مواني بحرية وأن "نرسي" "292-302م" عقد صلات ودية مع ملك الزنوج في شرق الصومال، وأن "سابور" الثاني حوالي سنة "310م" هاجم البحرين، وأقام حامية بها، وفتك بقبائل عديدة، وذلك ردًّا على هجوم تلك القبائل على سواحل فارس. وصار للفرس نشاط ملحوظ في الخليج وفي المحيط الهندي. وقد أنشأ الفرس جملة كنائس في سواحل الهند وسقطرى، أنشأها الفرس النساطرة، وكانوا تجارًا، نزلوا في هذه المواضع للاتجار، كما كانت هنالك سفن فارسية في "أدولس". وكان الساسانيون يستغلون الظروف الحرجة، والأوضاع القلقة التي

_ 1 البلدان "5/ 93 وما بعدها". 2 تاج العروس "3/ 273"، "السقطري".

تقع في انبراطورية الروم، فيزيدون من نشاطهم في البحر، ويمنعون في مطاردة التجار البيزنطيين في البحر العربي وفي الخليج وفي الهند، حتى قل عدد سفن الروم، في المحيط، واكتفت بالوصول إلى باب المندب والسواحل الإفريقية في بعض الأحيان، عند اشتداد الأزمات، ووقوع قلاقل داخلية، أو نزول كوارث بالروم في الحروب. وقد وجد الساسانيون أن من الأصلح لهم نقل التجارة الآتية التي تجارهم من الصين والهند وسيلان إلى الخليج حيث لا يزاحمهم أحد، ومنه إلى العراق، أو من الهند والصين إلى فارس، ثم العراق ومنه إلى "نصيبين"، أو إلى بلاد الشأم، لبيعها إلى البيزنطيين، وفي جملة مواد هذه التجارة "الحرير" الذي كان مطلوبًا عند البيزنطيين؛ لأنه من الألبسة الفاخرة بالنسبة للطبقة الحاكمة ولرجال الكنيسة وللطبقة المترفة المرفهة، فكان يباع بأغلى الأثمان1. وقد دخل الأحباش البحر، فكانوا يسيرون سفنهم بين السواحل الإفريقية والسواحل العربية الغربية والجنوبية. ولو لم تكن لهم قوة بحرية ما تمكنوا من الاستيلاء على اليمن وعلى مواضع من العربية الجنوبية جملة مرات. آخرها فتحهم اليمن سنة "525" للميلاد. وقد تولت سفنهم نقل حاصلات الحبشة والسواحل الإفريقية إلى بلاد العرب، وكان التجار العرب ينقلون هذه السلع إلى بلاد الشأم أو العراق. وقد ذكر أهل الأخبار أن "الجار"، وهي مدينة على ساحل بحر القلزم بينها وبين المدينة يوم وليلة وبينها وبين أيلة نحو من عشر مراحل، وإلى ساحل الجحفة نحو ثلاث مراحل، كانت فرضة، ترفأ إليها السفن من الحبشة ومصر وعدن والصين وسائر بلاد الهند، وبحذاء الجار جزيرة في البحر تكون ميلًا في ميل لا يعبر إليها إلا بالسفن، وهي مرسى الحبشة خاصة2. ولكن قوة الحبشة البحرية لم تكن قوة قوية ضخمة، ولم تكن مكونة من سفن كبيرة ذات مرونة وقابلية على الحركة، بل كانت سفنًا صغيرة لا تضاهي السفن اليونانية في الضخامة وفي الفن. ولم تكن كثيرة العدد، ولا سيما في الجاهلية القريبة من الإسلام، بدليل ما ورد في بعض الروايات من أن السفن التي حملت

_ 1 Runciman, Byzantine Civilization, P.164. 2 البلدان "3/ 35".

جيش ملك الحبشة إلى اليمن لاحتلالها سنة "525" للميلاد، وذلك في عهد "ذي نواس" كانت سفنًا يونانية أمر القيصر بإرسالها إلى الحبشة لحمل الجيش إلى اليمن1. وبدليل ما ورد في روايات إخراج الحبش وطردهم من اليمن، من أن السفن التي حملت الفرس إلى اليمن كانت ثماني سفن، غرق منها سفينتان، وبقيت ست سفن فقط، وقد تغلب من كان بها مع ذلك على الحبش. فلو كان للحبش أسطول بحري قوي، ولو كانت لهم هيمنة على البحر، لما كان في إمكان هذه السفن الفارسية الست الوصول إلى مياه اليمن، وإنزال ما فيها من جنود، ومن التغلب على الحبش والقضاء على حكمهم هناك. وضعف بحرية الحبشة، هو الذي جعلها لا تستطيع الوفاء بوعدها للقيصر "جستنيان" "Justinian" في شراء الحرير من الهند ومن وراء الهند، وبيعه للروم. فقد كان هذا القيصر قد أرسل في عام "531م" وفدًا إلى "أكسوم"، ليفاوض الحبش في هذا الموضوع لحرمان الساسانيين من ربح كبير كانوا يجنونه من الاتجار بالحرير المستورد من الهند ومن وراء الهند، فوافقوا على ذلك، لكنهم لم يتمكنوا في النهاية من الوفاء بالوعد، لعدم تمكن سفنهم البحرية من الوصول إلى الهند ومن منافسة التجار الفرس الذين كانوا قد استقروا في سيلان وفي الهند وفي مواضع أخرى منذ عهد طويل2. ولم يتمكن الأحباش أن يفيدوا فائدة تجارية كبيرة من فتحهم لليمن. ولم يحصل البيزنطيون على ما كانوا يتوقعون الحصول عليه من الاتصال بالحبش من البر، وذلك عن طريق "المقاطعة العربية" في جنوب بلاد الشأم فالحجاز إلى اليمن. فلم يتمكن الحبش من احتلال الحجاز، للاتصال بالروم. وأخفق "أبرهة" في الاستيلاء على مكة على نحو ما تحدثت عنه في موضعه. وتمكن الفرس من طردهم من اليمن بكل سهولة، دون أن يقوم الحبش ولا حلفاؤهم البيزنطيون بإرسال قوات بحرية لمقاتلة السفن الساسانية القليلة التي جاءت بمقاتلين من المساجين المجرمين، لا بجيش نظامي مدرب، وقد تمكنوا من ذلك من التغلب على الحبش، بمساعدة كبيرة بالطبع من اليمانيين أنفسهم الذين كانوا قد أعلنوا

_ 1 الطبري "2/ 127". 2 Procopius, Persian Wars, I, 29, 9-13, Malalas, 18, 456-459.

ثورة عامة على الحبش. ولو كان للحبش أو لحلفائهم البيزنطيين أساطيل من السفن المحاربة القوية، لما تمكن الفرس من الاستيلاء على اليمن بتلك القوة الضعيفة! ولم يكن الساسانيون أقوياء في البحر عند ظهور الإسلام، وآية ذلك وأن عاملهم على اليمن، كان يرسل ألطاف اليمن وما يجمعه منها إلى "كسرى" عن طريق البر، وقد تحدثت عن تعرض "بني تميم" بقافلة كسرى التي كانت قادمة من اليمن في طريقها إلى "المدائن"، ولو كان للفرس أسطول قوي من سفن ضخمة على نمط سفن البيزنطيين، لاستخدموه واسطة للنقل بين اليمن والعراق، ولسمعنا بوجوده في البحر. وقد يقال إن الفرس استخدموا البر؛ لأنه أسهل عليهم من البحر، وأقصر مسافة وأسرع من حيث الوقت، ثم هو يمر بأرضين صديقة للفرس أو موالية لهم، أو تابعة لأمراء موالين لهم، خاضعين لسيادتهم، وليس في ذلك دليل على عدم وجود أسطول قوي لهم في البحر، ولكننا مع موافقتنا على هذا التعليل، فإننا لا نسمع في أخبار أهل الأخبار المنقولة من روايات فارسية أصلية، ما يفيد بوجود فعل وأثر لأسطول ساساني ما وراء عمان إلى السواحل الإفريقية، ثم إن الفرس كانوا قد تحكموا في السواحل العربية الجنوبية قبل فتحهم لليمن، ولكنا لا نجد في هذا العهد أثرًا لحكم فارسي على السواحل العربية الجنوبية، مما يدل على زوال حكمهم عنها وعدم وجود أسطول ساساني في مياه السواحل، فتخلصت منهم، واستقلت بأمرها وإدارتها. وقد استفاد أهل مكة، من الأحداث التي وقعت في اليمن، ولا سيما بعد موت أبرهة وموت مشروعه في الاستيلاء على مكة قبل وفاته. وإني أرى أن حملة "أبرهة" على مكة، لم تكن حملة غايتها هدم الكعبة، ونقض قواعدها، كما يذكر ذلك أهل الأخبار، وإنما كانت لدوافع اقتصادية وسياسية، فقد كانت مكة قد برزت وظهرت إلى الوجود، قبل أبرهة، واستغل أهلها مواهبهم وذكاءهم في كيفية جمع المال، حتى صاروا تجارًا ووسطاء في التجارة، يتاجرون بين بلاد الشأم واليمن، وبين الحبش والعراق، وصاروا أصحاب مال، لهم نقود: دنانير، ودراهم، وذهب، وفضة، وغير ذلك مما يسيل له لعاب التاجر وصاحب المال، أضف إلى ذلك وقوع مكة في موقع مهم، والاستيلاء عليه يمهد للسير نحو بلاد الشأم، للاتصال بالروم، أصحاب مشروع الحملة الأصليون،

كما تحدثت عن ذلك. فالعوامل إذن اقتصادية سياسية، وليست العوامل التي ذكرها أهل الأخبار. وقد ساهم أهل الهند في تسخير البحر كذلك، فكانت سفنهم تمخره ما بين الهند وساحل الخليج إلى "الأبلة"، كما كانت تتجه نحو "سقطرى" وسواحل إفريقية الشرقية، فقد ذكر أهل الأخبار أن "بوارج الهند" كانت تتاجر مع هذه الجزيرة1. وقد مونت الهند جزيرة العرب بالحديد الجيد، الذي صنعت منه السيوف الهندوانية، نسبة إلى الهند. و"التهنيد"، عمل الهند. كما مونتهم بالعود الطيب، وبالخشب الصلد2. وبظهور الإسلام، وباستيلاء المسلمين على مصر وعلى شمالي إفريقية، وبفتح بلاد الشأم والعراق وإيران وما وراء إيران تغير الحال بالطبع، فماتت الإنبراطورية الساسانية، ومات أسطولها معها، وانقطعت صلة البحرية البيزنطية بالبحر الأحمر وبالمحيط الهندي، وأبعد الأوروبيون من البحار الدافئة إلى أن تبدلت الدنيا مرة أخرى، فظهر المكتشفون الأوروبيون وفي مقدمتهم البرتغال، فعاد التفوق البحري للغرب، وانتزع البحر من البحرية الإسلامية؛ لأنها ظلت جامدة محافظة لم تحدث تغييرًا في هندسة السفن، ولا في أسلوب القوى المحركة لها وفي قابليتها على الحركة، فصارت عاجزة عن مقاومة العقل الحديث، وغلبت على أمرها نتيجة جمود العقلية وعدم التطور مع عقلية الزمن. هذا ولا بد لي هنا من لفت نظر القارئ إلى ورود شيء في كتب أهل الأخبار عن حملات الروم على بلاد العرب وعلى البحر الأحمر، ولو أن هذا المذكور المدون في كتبهم، هو من نوع القصص المعروف المألوف الذي ألفنا قراءته في كتب أهل الأخبار، فيه مبالغة وغرابة وخيال، وفيه سذاجة تنم عن عقلية سطحية تروي كل ما يقال لها من غير نقد ومناقشة. وقد أخذ من أهل الكتاب وفي الإسلام في الغالب. ولكنه قصص يستند –على كل حال- إلى أصل وسبب وإن كان بعيدًا. ثم إنه قصص طريف يريك مبلغ علم القوم بأحوال الماضين، وكيف يروون قصص الحوادث المتقدمة وينقلونه على أنه تأريخ للماضين ويكاد يكون أكثر تأريخ من تقدم زمن الإسلام من هذا النوع.

_ 1 البلدان "5/ 93". 2 تاج العروس "2/ 547"، "هند".

الفصل الواحد بعد المائة: تجارة مكة

الفصل الواحد بعد المائة: تجارة مكة مدخل ... الفصل الواحد بعد المائة: تجارة مكة وكان أهل مكة من أبرع التجار ومن أنشطهم في العربية الغربية عند ظهور الإسلام. وقد أشير إلى تجارتهم في القرآن الكريم1. وسبق أن تحدثت عن تجارتهم في أثناء كلامي على مجمل الحالة السياسية لجزيرة العرب عند ظهور الإسلام. وقد استفاد أهل مكة، ولا شك، من الوضع السيئ الذي طرأ على اليمن بدخول الحبش إليها، ومن تردي الأوضاع السياسية فيها والاضطرابات المستمرة التي وقعت بتصادم الوطنيين والغزاة الأحباش. فانحسر كل نفوذ سياسي أو عسكري كان لحكومات اليمن في الحجاز أو على بعض القبائل، ووجدت قريش نفسها حرة مستقلة وفي وضع يمكنها من استغلال مواهبها في التجارة، فقامت بمهمة الوسيط، تنقل تجارة أهل اليمن والعربية الجنوبية إلى أسواق فلسطين، وتنقل تجارة بلاد الشأم وحوض البحر المتوسط إلى الحجاز ونجد واليمن، وبذلك حصلت على أرباح طائلة عظيمة، جعلتها من أغنى العرب عند ظهور الإسلام، وصيرت مكة مركزًا خطيرًا من مراكز الثروة والمال في جزيرة العرب في ذلك الحين. وقد وصف أهل الأخبار أهل مكة بترفعهم عن البخل والشح، فقال "الجاحظ" وهو يصفهم: "ومن العجب أن كسبهم لما قل من قبل تركهم الغزو، ومالوا إلى الإيلاف والجهاد، لم يعتريهم من بخل التجار قليل ولا كثير، والبخل خلقة

_ 1 سورة قريش.

في الطباع، فأعطوا الشعراء كما يعطى الملوك، وقروا الأضياف، ووصلوا الأرحام، وقاموا بنوائب زوار البيت. فكان أحدهم يحيس الحيسة في الأنطاع فيأكل منها القائم والقاعد والداخل والراكب، وأطعموا بدل الحيس الفالوذج"1. فمرود الكسب الأول عند العرب في الجاهلية هو الغزو على رأي أهل الأخبار، وقد ترفعت قريش عنه، وصرفت نفسها إلى التجارة. ومن طبع التجار البخل ومسك اليد، أما قريش، فخالفتهم في البخل، ووصلت الشعراء وقرت الأضياف. ونسب "الجاحظ" سبب تركهم الغزو إلى كونهم أهل حمس ديانين، فقال: "وكانوا ديانين، ولذلك تركوا الغزو، لما فيه من الغصب والغشم واستحلال الأموال والفروج من العرب"2. ويعتقد "الجاحظ"، بأن للدين أثرًا كبيرًا على سلوك الإنسان وعلى كره الحرب، إذ تراه يقول: "ثم جاء ما هو أعجب من هذا وأهم، وذلك أنا قد علمنا أن الروم قبل التدين بالنصرانية كانت تنتصف من ملوك فارس، وكانت الحروب بينهم سجالًا فلما صارت لا تدين بالقتل والقتال والقود والقصاص، اعتراهم مثل ما يعتري الجبناء حتى صاروا يتكلفون القتال تكلفًا، ولما خامرت طبائعهم تلك الديانة وسرت في لحومهم ودمائهم، فصارت تلك الديانة تعترض عليهم، خرجوا من حدود الغالبين إلى أن صاروا مغلوبين"3. فالنصرانية قد أثرت على الروم حتى جعلتهم يكرهون الحروب، وصاروا مغلوبين بعدما كانوا غالبين، ثم جاء بدليل آخر على إثبات رأيه في أن الدين ينقص من شهوة الحرب، هو أن "التغزغز" من الترك، نقصت عندهم الشجاعة وهبت عنهم الشهامة بعد أن دانوا بالزندقة4. فالدين إذن مخفف من شهوة الحرب مبرد من التعطش إلى القتال، لكنه على رأيه أيضًا، يحول المتدينين إلى أسود في المعارك، فقريش التي تركت الغزو بتة، كانوا مع طول ترك الغزو، إذا غزوا، غزوا كالأسود مع الرأي الأصيل والبصيرة النافذة، والخوارج

_ 1 كتاب البلدان "ص468"، "نشر الدكتور صالح أحمد العلي"، "مستلة من مجلة كلية الآداب سنة 1970". 2 كتاب البلدان "468"، "وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشديد في الدين، فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصوب"، كتاب البلدان "472". 3 كتاب البلدان "471". 4 كتاب البلدان "471".

على اختلافهم من أحرار وعبيد وموالي يقاتلون قتال الباسل المستميت مع اختلاف أنسابهم وبلدانهم، و"في هذا ليل على أن الذي سوى بينهم التدين بالقتال"، وأن استبسال قريش والخوارج وغيرهم من المتدينين "إنما هو بسبب الديانة"1 ووحدة العقيدة وعامل الدفاع عنها والجهاد في سبيلها. وقد نسب "الجاحظ" ميل قريش إلى التجارة واشتغالهم بها إلى تحمسهم في دينهم وتشددهم في الدين، فقال: "وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشديد في الدين فتركوا الغزو كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصوب، فلما تركوا الغزو لم تبق مكسبة سوى التجارة فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم وإلى النجاشي بالحبشة وإلى المقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"2. فتحمس قريش في دينهم، حملهم على ترك الغزو، وترك الغزو حملهم على التكسب بالتجارة، فاتجار قريش في مكة وضربهم في الآفاق، هو بسبب البحث عن رزق يعوضهم عن رزق الغزو، الذي أبعده الدين عن قلوبهم، فكان ما كان من أمر تجارتهم. هذا هو رأي الجاحظ في السبب الذي حمل قريشًا على الانصراف إلى التجارة. وفي القرآن: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 3. فمكة بلد بواد قفر غير ذي زرع ولا ماء، ليس لأهلها ما لسكان الأرياف والقرى التي تملك المياه والأنهار من ثمرات النبات والأشجار، فصارت الطائف مصيفًا لهم، وموردًا يمدهم بثمر النبات والأشجار4، واستغل أهلها فقر واديهم، وموقع مدينتهم الذي تمر به القوافل، وشجعوا من كان يسكن حولهم على الحج إلى معبدهم وعلى قصده أيام السنة وموسم الحج، فاستفادوا من الحجاج. وعلوا الموسم سوقًا يتعاطون فيه البيع والشراء، فربحوا وصار لهم مال استثمروه وشغلوه، في سوق مكة وفي الأسواق الأخرى، وتعاملوا مع الأعراب، وعقدوا الإيلاف مع ساداتهم ومع الفرس والروم والحبش، فصاروا

_ 1 كتاب البلدان "472". 2 كتاب البلدان "472". 3 إبراهيم، الرقم 14، الآية 37، تفسير الطبري "13/ 152". 4 تفسير الطبري "13/ 155".

يخرجون إلى خارج مكة بأمان بفضل العقود والعهود التي عقدوها مع سادات الأعراب، وهي أهم في نظري من أي عقد آخر عقدوه مع حكام العراق وبلاد الشأم أو اليمن، إذ كان في استطاعة الأعراب نهب قوافل مكة وسلب أموالها، وهي ذاهبة أو آيبة محملة، فلا يستطيع أهل مكة فعل شيء، ولا تبقى أية فائدة عندئذ لعقود الإيلاف المعقودة مع الحكام المذكورين. وقد علم سادة مكة ذلك، فتعاقدوا مع سادات الأعراب، وأدو لهم نصيبًا من الربح، وبذلك أمنوا جانب أعرابهم، فكانوا إذا تحرش بهم متحرش، أدبه سادة قبيلته، واستعادوا منه ما أخذه من نهب وسلب. وقوم هم أهل قرار، لهم بيت مقدس، ولهم تجارة، لا يفكرون في غزو، ولا يرتاحون من وجود أهل شغب وفتن بينهم. فالغزو سواء أكان منهم أو كان عليهم مضر بهم. ولا يعود عليهم بفائدة، بل هو يبعد القاصدين لهم عنهم، وفي ابتعادهم عنهم خسارة ثم هو يعرقل تجارتهم ويحول دون اتجارهم، والتجارة مورد رزقهم وعليها معاشهم. وقريش من المستقرين، ومن التجار، ولهم معبد، فكان من صالحهم إشاعة الأمن والابتعاد عن التشاحن وفض كل خلاف يقع فيما بينهم، أو فيما بينهم وبين غيرهم بالتي هي أحسن، وجر الناس إليهم، والعمل على اكتساب صداقة أهل الحضر وأهل الوبر أيضًا، وعلى إنصاف الغريب الذي قد لا يجد له مجيرًا من بين أهل مكة فيظلم، وعلى تقديم الرفادة للحجاج الضعفاء، وإسقائهم الزبيب المنبوذ بالماء في أيام الحج، وعلى شراء الألسنة، ألسنة الشعراء خاصة، لما كان لها من أثر في النفوس. وللمنافع المادية التي كانوا يحصلون عليها من تآلفهم مع القبائل، حرصوا على ألا يؤذي أحد منهم أحدًا من الغرباء، فيثير قوم الغريب عليهم، لا سيما إذا كان ذلك الغريب من قبيلة تمر تجارة قريش بها، فلما عذب أهل "مكة" "أبا ذر الغفاري"، أقبل "العباس" عليهم، وقال: "ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأنه من طريق تجارتكم إلى الشام؟. فأنقذه منهم"1. فزهد قريش وعدم ميلهم إلى الاعتداء على الغرباء، لم يكن كما رأى "الجاحظ" عن "تحمس" وعن دين، وإنما كان عن طمع في المال وفي الكسب وفي الحصول على كسب

_ 1 الإصابة "4/ 64"، "رقم 382".

من تجارة تمر بطرق يجب أن تكون آمنة بالنسبة لها أمينة، ولا يكون ذلك الأمان ممكنًا، إلا بتأليف قلوب سادات القبائل، والحرص على منع أهل مكة من الاعتداء على الغرباء. بل نجد أهل مكة يجيرون كل غريب حتى إن كان صعلوكًا أو خليعًا أو مستهترًا بالعرف والأخلاق، أو قاتلًا غادرًا، أملًا في الاستفادة منهم، وفي عدم التحرش برجالهم إن خرجوا متاجرين يحملون أموالهم لبيعها في الأسواق البعيدة، ولاستخدامهم في حمايتهم ممن قد يتحرش بهم من الأعداء والأعراب، ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء عدد من أمثال هؤلاء، كانوا قد لجأوا إلى مكة وأقاموا بها واستقروا وعاشوا بها مجاورين لسادتها، آمنين على حياتهم؛ لأنهم في جوار سيد من قريش. وفي القرآن الكريم آيات تدل على وجود مستوى راق في مكة، وفي أماكن أخرى للتجارة والاقتصاد، وتدل على تنسيق وعمل منظم بين التجار. وقد وردت فيه إشارات إلى "رؤوس الأموال"، وهي الأموال الخالصة التي تشغل في التجارة والتي تعطي أيضًا المحتاجين إليها لتربو ولتعطي صاحبها الربا، كما وردت فيه إشارات إلى البيع والشراء والقروض والرهون والشركات والتكاتب والتعامل التجاري وأمثال ذلك. وكل ذلك قد نظم وهذب وفقًا لقواعد الإسلام وصار أساسًا لنظم التجارة والمال في الإسلام. ولهذا تستدعي دراسة النظم الاقتصادية والتجارة في الإسلام الرجوع إلى السناد، وسنادها هو نظمها وقواعدها قبل الإسلام. ويظهر من كتب التفسير والسير أن أهل مكة كانوا يسهمون في رؤوس أموال قوافلهم التي يبعثون بها إلى بلاد الشأم واليمن، وفي الأعمال التجارية الأخرى. يسهم أفارد أسرة تجارية واحدة أو جملة أسر، بل معظم أفراد مكة الأحرار في تلك القوافل، كل بحسب نصيبه لينعموا بالأرباح. وقد ساعدت هذه الشركة على إعانة أصحاب السهام وعلى مساعدة أهل مكة في رفع مستواهم المعاشي. وإذا كنا لا نملك موارد تتحدث عن أنظمة تلك الشركة أو الشركات وقوانينها، وعن كيفية توزيع الأرباح بين المساهمين، وعن أنواع تلك الشركات وأصول حساباتها ووكلائها في الخارج، فمن الميسور أن نظفر بقدر كبير من جذورها وأصولها في

فصول الشركات والقضايا المتعلقة بتنظيم التجارة في الإسلام في كتب التفسير والحديث والفقه خاصة، ففي هذه الفصول إشارات كثيرة إلى شؤون التجارة والاقتصاد عند الجاهليين. ويظهر مما ذكره أهل الأخبار وأوردوه عن قوافل مكة، أن مال القافلة، لم يكن مال رجل واحد، أو أسرة معينة، بل كان يخص تجارًا من أسر مختلفة وأفرادًا وجد عندهم المال، أو اقترضوه من غيرهم فرموه في رأس مال القافلة أملًا في ربح كبير. فقد ذكروا أن قافلة قريش التي كانت في خفارة "أبي سفيان" والتي أثارت معركة "بدر"، كان رأس مالها مختلطًا، ساهم فيه كل متمكن من أهل مكة. حتى "لم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدًا إلا بعث به في العير"1. ويظهر من سورة "قريش" أن قريشًا كانت ترحل رحلتين في السنة: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى بلاد الشأم. وهما رحلتان تجاريتان، تشتري فيهما وتبيع، وتبرح منهما ربحًا صيرها في وضع مالي حسن. وقد صارت مكة لذلك العهد مركزًا ماليًّا خطيرًا في الحجاز، وسوقًا لتبادل السلع. ولم تكن قريش تستورد التجارة لتخزنها في مكة، أو لتصرفها في أسواق مكة وحدها. فمكة وحدها بلدة صغيرة لا تستوعب أسواقها هذه التجارة، بل كانت تستوردها من الشمال والجنوب، لتصرف ما يمكن بيعه في أسواق مكة وهو القليل، ولتصدر وهو الغالب ما استوردته من الجنوب إلى الشمال أعني بلاد الشأم، ولتصدر ما استوردته من بلاد الشأم، إلى اليمن ومنها إلى بقية العربية الجنوبية والسواحل الإفريقية المقابلة، فتربح من هذه الصفقات ربحًا حسنًا. وتروي كتب أهل الأخبار أن قريشًا كانوا لا يخرجون عيرًا فيرحلون إلا من "دار الندوة"2. فكأنها كانت منطلق التجار والتجارة. ولعلهم كانوا يفعلون ذلك لكونها ندوة مكة ودار الرأي والحكم في هذه المدينة ومجلس أهل المال فيها. وكذلك كان يفعل أهل المدن المتاجرة، تتحرك قوافلهم من ساحة مجالسها ليشاهدوا الناس، وإذا عادت أناخت في هذه الساحات أيضًا، ليراها أهل البلد، فتكون

_ 1 إمتاع الأسماع "1/ 66". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 70"، "ذكر قصي بن كلاب".

لهم فرحة تشبه أفراح العيد. والرحلتان المذكورتان، هما من قوافل قريش الكبيرة التي كانت القافلة الواحدة منها تتألف من أكثر من ألف بعير، والتي يساهم فيهما كل من شاء ممن له مال من أهل مكة، ويريد الاتجار به، تشترك فيهما الأسر المعروفة بالغنى والتجارة من قريش ويساهم معها من له مال في ذلك الوقت، رجاء الربح والكسب. وقد كانت قافلة "أبو سفيان" التي أهاجت وقعة بدر من قبائل قريش كلها، وأخصها "بطون كعب بن لؤي". ليس فيها من "بني عامر"، إلا ما كان من "بني مالك بن حسل"، ولذلك عرفت نفرة قريش إلى "بدر" بـ"نفرة بني كعب بن لؤي"1. وكانت قافلة "أبو سفيان" المذكورة، قد تاجرت ببلاد الشأم وهمت بالعودة إلى مكة، فما سمع رسول الله بأبي سفيان مقبلًا من الشأم، بألف بعير، محملة بأموال عظيمة، ندب المسلمين إليه، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فأخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها، فانتدب الناس، وكان أبو سفيان يتحسس الأخبار، فبلغه خبر استنفار الرسول أصحابه، فأرسل "ضمضم بن عمرو" الغفاري إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه. فخرج إليها، فلما بلغها، وقف على بعيره ببطن الوادي، وقد جدع بعيره وحول رحله، وشق قميصه، ثم صرخ: يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث. فتجهز الناس سراعًا، وساروا حتى بلغوا "بدرًا"، وكان "أبو سفيان"، قد غير طريقه حين سمع خبر خروج رسول الله بأصحابه، فساحل بقافلته وترك بدرًا يسارًا، وانطلق حتى أسرع فبلغ مكة، وكانت قريش قد نزلت "الجحفة"، فكتب إليها: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا. وأصر بعض رؤساء قريش على ورود "بدر"، وكان بدر موسمًا من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام. وفيه ماء، وعلى الإقامة ثلاثًا، ينحرون الجزور، ويطعمون الطعام، ويسقون الخمر، وتعزف عليهم القيان حتى تسمع بهم العرب

_ 1 الطبري "2/ 422".

وبمسيرهم ويجمعهم، فلا يزالون يهابونهم أبدًا بعدها. ومضوا إلى بدر، فوقعت معركة بدر1. وما كان إصرار رؤساء قريش على المسير إلى المسلمين لملاقاتهم في الطريق، أسلوبًا من أسلوب التجار في الحفاظ على السمعة وفي الظهور بمظهر القوي المتمكن حتى لا يطمع بهم الطامعون ويتجاسرون عليهم. فكان خروجهم هذا نوعًا من التحدي ومظهرًا من مظاهر إظهار القوة، لتخويف الغير، لعلمهم بقوتهم، فكأنهم أرادوا إنزال ضربة بمن خرج مع الرسول لملاقاة القافلة، معتمدين على عددهم وقوتهم، حتى يتهيب المسلمون في المستقبل من التحرش بقوافلهم، وليكون ذلك درسًا لهم. ولعلهم كانوا لا يريدون في الواقع الاشتباك مع المسلمين في قتال، وإنما كانوا أرادوا مجرد تخويفهم وإظهار أنفسهم مظهر القوي العزيز المهاب، كما يظهر ذلك من قول أهل الأخبار من أنهم كانوا أرادوا الإقامة ببدر ثلاثة أيام، ينحرون الجزور، ويطعمون الطعام، ويسقون الخمر، وتعزف عليهم القيان حتى تسمع بهم العرب وبمسيرهم وبجمعهم، فلا يزالون يهابونهم أبدًا بعدها. ولكن أبت الأقدار إلا أن يقع الاصطدام فوقع على نحو ما هو مذكور. وكانت "بصرى" سوق قريش في رحلتهم إلى بلاد الشأم، عندما تقف قوافلهم وتحط رواحلهم، فيشترون ويبيعون ويمكثون حتى ينتهوا من تجارتهم ثم يعودون إلى مكة. وكان منهم من يصل إلى "غزة" ويتاجر في أسواقها، حيث تبيع أسواقها منتوجات حوض البحر المتوسط وما يرد إليها من "أوروبة" من تجارة. ويبيع التجار العرب فيها ما يحملونه من بلاد العرب من سلع مستطرفة مطلوبة في أسواق البحر المتوسط. وبها مات "هاشم بن عبد مناف" جد النبي، حين كان توجه للشأم بالتجارة، فأدركته منيته فمات بغزة وبها قبره، فقيل غزة هاشم2.

_ 1 ابن هشام "2/ 61 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "2/ 61 وما بعدها"، الطبري "2/ 421 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 98"، القاموس "4/ 176"، تفسير ابن كثير "4/ 553 وما بعدها"، تفسير الطبري "30/ 197 وما بعدها". 2 وقد رثاه "مطرود بن كعب" الخزاعي بقوله: وهاشم في ضريح عند بلقعة ... تسفى الرياح عليه وسط غزات وقيل "بين غزات"، وورد: ميت بردمان، وميت بسلمان، وميت عند غزات تاج العروس "4/ 65".

والأدم، هي في رأس قائمة السلع التي كان يحملها أهل مكة إلى بلاد الشأم، كانوا يجمعونه من اليمن ومن الطائف ويحملونه إلى بلاد الشأم والعراق. ومنه ما كان معمولًا مصقولًا معتنى به، زخرف بالذهب، لذلك عرف بـ"المذاهب". و"المذاهب" الجلود المذهبة1. وهي من أرقى الجلود وأغلاها، يشتريها الأغنياء لاستعمالها في الأشياء الغالية الثمينة. وتعد اليمن من أهم الأماكن المصدرة لجلود البقر في جزيرة العرب، وقد كانت تحمل إلى مكة وإلى مواضع أخرى لبيعها في أسواقها منها البصرة في الإسلام، حيث كان التجار يحملون جلود البقر من اليمن إليها2. واشتهرت أيضًا بعطورها لجودتها. روي أن "عبد الله بن أبي ربيعة" كان يبعث بعطر اليمن من اليمن إلى أمه "أسماء بنت مخربة"، أم "أبي جهل"، فكانت تبيعه إلى الأعطية، وكانت تضع العطور في قوارير، وتزنها، فتبيع نقدًا، أو دينًا. فإذا باعت دينًا كتبت مقدار الدين في كتاب3. ولعل شهرة مكة بعطورها، إنما جاءتها من العطور المستوردة التي تأتي إليها من اليمن ومن أماكن أخرى. وكان الزيت على رأس السلع التي كان يشتريها أهل مكة وتجار يثرب من بلاد الشأم، لصفائه ولنقاوته وجودته، وكان "دحية بن خليفة الكلبي" يتجر مع بلاد الشأم بالزيت والطعام، وصادف رجوعه من الشأم وقت صلاة الجمعة، والرسول يخطب، فلما سمع المصلون خلف الرسول صوت أجراس القافلة جعلوا يتسللون إليها، خشية أن يسبقوا إليها، فتباع، حتى بقيت منهم عصابة اثني عشر رجلًا وامرأة. فوبخهم الله بالآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 4.

_ 1 تاج العروس "1/ 258"، "ذهب". 2 قال الشاعر: والله للنوم بجرعاء الحفر ... أهون من عكم الجلود بالسحر بلا العرب "ص308". 3 ابن سعد، طبقات "8/ 220"، الواقدي، مغازي "65". 4 الجمعة، الآية 9، تفسير الطبري "28/ 66 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "4/ 366 وما بعدها"، الواحدي أسباب النزول "320"، مسند الإمام أبي حنيفة "73 وما بعدها".

وقد عرف الزيت المستورد من الشأم بالزيت الركابي؛ لأنه كان يحمل على الإبل من الشأم1. ولم يشر أهل الأخبار إلى رحلة على شاكلة رحلتي الشتاء والصيف إلى العراق. وإنما أشاروا إلى تجار منهم كانوا يتاجرون مع الحيرة. ومعنى هذا ذهاب قوافل صغيرة إلى العراق، لم تكن بحجم قوافل قريش إلى بلاد الشأم أو اليمن. ولم يشر القرآن الكريم أيضًا إلى رحلة جماعية إلى العراق أو إلى موضع آخر، مما يدل على أن قريشًا كانت ترحل رحلتين جماعيتين كبيرتين في السنة إلى بلاد الشأم في الصيف، وإلى اليمن في الشتاء فقط. أما رحلاتهم الأخرى، فلم تكن كبيرة ضخمة وجماعية، بل كانت قوافل دون القافلتين في الحجم، وكانت خاصة أصحابها أغنياء، لهم رؤوس أموالهم، يبعثون بقوافلهم على حسابهم، في كل وقت شاؤوا، وتكون أرباحها لهم: لا يشاركهم فيها مشارك، وقد يرأسون بأنفسهم قوافلهم، فيذهبون بها إلى العراق، ولهم فيه تجار وأصحاب، فإذا باعوا عادوا ببضاعة جديدة وبما كسبوه إلى مكة. فقد رووا أن "أبا سفيان" كان يذهب بنفسه إلى العراق للاتجار، يحمل معه حاصلات اليمن والحجاز، ويعود بحاصلات العراق وبما يحتاج إليه أهل الحجاز واليمن ممن بضاعة. بل ذكروا أنه كان يفد على "كسرى"، يحمل إليه الهدايا تقربًا إليه، ذهب إليه مرة، ومعه خيل وأدم، فقبل "كسرى بن هرمز" الخيل ورد الأدم وأعطاه هدايا وألطافًا2. وكان من مصلحة كسرى التقرب إلى أهل مكة، فقد كانوا تجارًا، وكانوا على طريق مهم وفي مركز خطير من الناحية السياسية والتجارية، كما كان نفسه يتاجر مع العرب ويتبايع معهم، لذلك كان من مصلحته مجاملة أهل مكة والاتصال بهم. وذكر أنه قد كانت له صلات برؤساء وتجار الحيرة، وبملوكها أيضًا، يحمل إليهم الهدايا، ويأخذ منهم ألطافهم، ثم يعود بهما يجده في أسواق الحيرة من تجارات. قدم مرة على عمرو بن هند، أو النعمان بن المنذر، فوجد عنده "مسافر بن عمرو بن أمية القرشي"، وكان قد ترك مكة ونزل الحيرة، وهو

_ 1 تاج العروس "1/ 277"، "ركب"، كتاب البلدان "488". 2 الأغاني "12/ 46"، العقد الفريد "2/ 21"، "اللجنة".

في قبة من أدم حمراء، أمر الملك بضربها له، إكرامًا له، وكان الملك إذا فعل ذلك برجل، عرف قدره مكانته، فالتقى بـ"مسافر"1. وكان أبو سفيان –كما يقول أهل الأخبار- تاجرًا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشأم وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانًا بنفسه، وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكان لا يحبسها إلا رئيس، فإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعت تلك الراية بيد الرئيس. وكان صديقًا للعباس ونديمه في الجاهلية2. وكان "مسافر بن أبي عمرو بن أمية"، وهو من رجال قريش جمالًا وجودًا وشعرًا، ومن فتيانها، ممن يتاجرون مع العراق، ويربح من تجارته هذه ربحًا طيبًا، وكان هلاكه بالعراق. فقد كان قد خرج في تجارة إلى الحيرة، فهلك بها عند "النعمان بن المنذر"، ورثاه "أبو طالب"3. وكان "عبد الله بن جدعان" من أثرياء مكة ومن تجارها. ذكر أنه تاجر مع الحيرة. ويظهر مما ذكرها أهل الأخبار عنه، أنه كان ثريًّا جدًّا، وربما عد أثرى قريش في أيامه، وإليه تنسب قصة إدخال "الفالوذج"، إلى أهل مكة، حيث يذكرون أنه تعلمها من أهل العراق، وجاء ومعه طباخ خاص ليطبخ له طبيخ الحيرة وأهل فارس. وكان "العاص بن وائل بن هاشم" السهمي من تجار مكة، الذين رحلوا بتجارتهم إلى خارج مكة. وكان من أشراف قريش. وقد مات بالأبواء4. ولعله كان خارجًا في تجارة له فمات هناك. ومن ولده "عمرو بن العاص". وقد أسلم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة معًا5. وكان تاجرًا كذلك ويذكر "ابن كثير" أن "عمرو بن العاص" وفد على "مسيلمة"، وذلك بعد ما بعث رسول الله وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة، فقال:

_ 1 الأغاني "8/ 46 وما بعدها". 2 الاستيعاب "4/ 86"، "حاشية على الإصابة". 3 كتاب نسب قريش "135 وما بعدها"، الاشتقاق "103". 4 كتاب نسب قريش "408". 5 كتاب نسب قريش "409".

وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر، وإنما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر، ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو، والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب1. والرواية موضوعة، فسورة "العصر" من السورة المكية ورقمها "27" حسب ترتيب نزول السور بمكة على رأي العلماء، أي قبل الهجرة، وقبل إسلام "عمرو" بزمن، وقبل مجيء "مسيلمة" إلى المدينة مع وفد حنيفة، وبعد مجيئه إليها بدأت دعوته بمعارضة الرسول. ثم إن جملة: "ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ "، جملة تشعر أن "عمرو بن العاص" كان مسلمًا إذ ذاك، بينما كان هو من المشركين في ذلك العهد. ثم إن ما نسب إلى "مسيلمة" من آيات، وضع على وزن آيات القرآن ومحاكاة لها، وليس في: "يا وبر يا وبر إلخ" أي شيء يضاهي: "والعصر" في النسق أو في المعنى، وعندي أن الخبر من الأخبار الموضوعة. وقد يكون "عمرو بن العاص" قد زار اليمامة, فهذا شيء غير مستبعد، فقد كان تاجرًا وكان تجار مكة يسافرون إلى اليمامة وإلى غيرها للاتجار، أما أنه ذهب خاصة لزيارة "مسيلمة" ومكالمته على نحو ما يرد في الخبر، فأسلوب يدل على وجود الصنعة فيه أكثر مما يدل على الصحة وصدق الرواية. وقد عرف أهل الحيرة بنشاطهم في الأسواق وباتجارهم مع أسواق جزيرة العرب وغيرها، حتى قيل: "إنك لا ترى بلدًا في الأرض ليس فيه حيري"2. وقد كانت الحيرة نفسها سوقًا مقصودة، تشتري وتبيع، يأتيها التجار من مختلف الأمكنة، وموضع تجاري على هذه الشاكلة لا بد أن يذهب أهله إلى الأسواق الأخرى للبيع والشراء. وقد عرف أهل الحيرة بحذقهم في الصيرفة وفي بيع الفلوس. قيل لأحد أهل الحيرة ممن يتعاطى الطب: "ما لأهل الحيرة والطب. عليك ببيع الفلوس في الطريق"3.

_ 1 تفسير ابن كثير "4/ 547"، البداية والنهاية "6/ 326". 2 مختصر كتاب البلدان "ص51". 3 ابن العبري: تأريخ مختص الدول "ص250".

وكان تجار الحيرة يزورون مكة للاتجار بها، ولهم مع تجارها عقود وجوار وتجارة، فإذا ذهب أحدهم إلى مكة نزل على حليفه وجاره، ثم باع ما عنده من تجارة، واشترى ما يجده بمكة من سلع مطلوبة مرغوبة ثم يعود إلى الحيرة. وكان منهم من كون مع حلفائه من أهل مكة تجارة مشتركة تتعامل بالحيرة وبمكة وبمواضع أخرى، وتسوي أشغالها بالمراسلة، يدير الحيريون منهم أعمال الشركة بالحيرة، ويدير المكيون منهم أعمالها بمكة، ثم يتراجعون في الحساب، ويقتسمون الأرباح والخسائر على وفق ما اتفقوا عليه. وقد كانت تجارة قريش تجارة واسعة، وقد أقام تجارهم وكالات ومتاجر في مواضع متعددة، لتتولى أمر البيع والشراء. ولعلهم كانوا يمثلون مصالح مكة السياسية في الحبشة كذلك، كأن يتولى هؤلاء التفاوض مع الحكومة هناك في عقد عهود سياسية واقتصادية وما شابه ذلك. وقد كن اتصال أهل مكة بالحبشة وثيقًا ودائمًا، ويظهر أنهم كسبوا منافع مهمة من أعمالهم واشتغالهم في تلك البلاد1. وقد عهدت قريش إلى أناس آخرين من رجالها بقيادة قوافلها، إلى بلاد الشأم أو إلى اليمن. كما قام رجال منها بتجهيز قوافل لهم لتتاجر بأموالهم. ولما هاجر الرسول إلى "يثرب" استاؤوا من خبر هجرته استياءً كبيرًا، لعلمهم بأهمية موضع "يثرب"، وبما سيقوم به المسلمون من التعرض بقوافلهم ومن تحرشهم بتجارهم وفي هذا العمل نكبة عظيمة تصيب تجارتهم وأرباحهم ومنافعهم المادية. فتشاوروا في أمرهم وتناقشوا، وقالوا: "قد عوّر علينا محمد متجرنا وهو طريقنا "وقال "أبو سفيان" و"صفوان بن أمية": "إن أقمنا بمكة أكلنا رءوس أموالنا"2، وقال أيضًا: "كنا قومًا تجارًا، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حضرتنا حتى نهكت أموالنا"3، وقال غيره مثل ذلك من كلام، يشعر بمقدار الأضرار والخسائر التي منيت بها تجارة قريش بسبب هجرة الرسول إلى يثرب واعتراضه طرق القوافل. لا سيما بعد أن تبين لها أن جميع السبل التي فكرت في سلوكها لتسيير قوافلها عليها، هي غير أمينة ولا سالمة، وأن المسلمين

_ 1 الأغاني "8/ 50". 2 الطبري "2/ 491 وما بعدها". 3 الطبري "2/ 646".

قد أخذوا يباغتون قوافلهم حتى في الطرق الجنوبية المؤدية إلى اليمن والطرق البعيدة التي تؤدي إلى العراق. وقد وقف المسلمون لقريش بالمرصاد، وأخذوا باعتراض قوافلهم، فما كادت تمضي سبعة أشهر من مقدم الرسول المدينة، حتى أمر "حمزة" بالتوجه إلى ساحل البحر من ناحية العيص، للتحرش بعير لقريش كانت قد جاءت من الشأم تريد مكة، فيها أو جهل في ثلاثمائة راكب1، فكان خبر هذه السرية أول خبر سيئ يبلغ مسامع قريش، وقد نجت القافلة، إلا أن الخبر جعل قريشًا تشعر أنه سيكون مقدمة لأخبار سيئة ستصيب مصالحها التجارية وحياتها الاقتصادية، ولن يكون لها من نجاة، إلا بالتهيؤ للقضاء على الرسول والإسلام، كما فكرت في وضع خطط لتغيير طرقها التي تسلكها في ذهابها إلى الشأم باتباع طرق بعيدة سالمة، تكون بعيدة عن المسلمين، وقد سلكتها فيما بعد، حين ضيق المسلمون على قوافلها التي كانت تسير على الطرق المألوفة، فتبين أنها لم تكن سالمة أيضًا وأن المسلمين أخذوا يهاجمونها على كل طريق، مهما كان. وكان من غيظهم على الرسول، ومن تأثرهم بما أصاب تجارتهم من خسارة وضرر، أن لقبوا الرسول بـ"القاطع". ولما ذهب "الحجاج بن علاط"، إلى مكة، وكان تاجرًا له مال بمكة أودعها زوجته، ومالًا متفرقًا في تجار أهل مكة، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، قالوا له: أخبرنا بأمر محمد، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر، وهي بلدة يهود وريف الحجاز2. فنعتوا الرسول بـ"القاطع"؛ لأنه قطع عليهم تجارتهم وهدد طرقهم التي يسلكونها للوصول إلى أسواق الشأم وبلاد العراق. ولما كان الشهر الثامن من مقدم الرسول المدينة، أرسل سرية إلى بطن "رابغ" بلغت "ثنية المرة"، وهي بناحية الجحفة، لتقابل عيرًا لقريش، اختلف في أميرها، فقيل: كان "أبو سفيان"، وقيل بل "مكرز بن حفص"، وقيل "عكرمة بن أبي جهل". فكان بين المسلمين والمشركين رمي، ونجت القافلة.

_ 1 الطبري "2/ 402"، إمتاع الأسماع "1/ 51". 2 الطبري "3/ 18".

وكانت كبيرة على ما يظهر، إذ كان عدد رجالها، أي حراسها مائتين1. ورجع المسلمون دون أن يغنموا شيئًا، وقد كانت السرية إنذارًا آخر لقريش بالخطر الذي سيحيق بتجارتها وبمصالحها المادية وبأن ما كانت تربحه من أرباح لن يدوم لها فيما بعد. وقد تمكن "أبو بصير" من إنزال ضربات موجعة بتجارة قريش، اختار "العيص"، وهو ناحية على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشأم موضعًا ينقض منه على قوافل قريش، فيسلب ما فيها من مال ويقتل من يقتل من المارة، حتى ضيق عليها، وهرب إليه من كان بمكة محبوسًا من المسلمين، حتى تجمع عنده قريب من سبعين مسلمًا، أغار بهم مرة على ركب كان يريد الشأم، معهم ثمانون بعيرًا، فأخذوا ذلك وأصاب كل رجل منهم قيمة ثلاثين دينارًا. فغاظ قريش تضييق "أبو بصير" عليهم، حتى كتبوا إلى رسول الله يسأله بأرحامهم إلا أدخل أبا بصير إليه ومن معه. فكتب إليه أن يعود ومن معه2. ولما عقد صلح "الحديبية" وكانت الهدنة بين قريش والرسول، استراحت "قريش"، وإن بقيت خائفة من أن لا تجد أمنًا لها، فأرسلت قافلة في نفر من قريش فيها "أبو سفيان"، إلى "غزة" متجرها في بلاد الشأم، فوصلت سالمة إلى هناك، وتاجرت ثم عادت3. وذكرت كتب التأريخ والأخبار أسماء عدد من رجال مكة كانوا يخرجون إلى التجارة بأموالهم وأموال غيرهم من أمثال أبي العاص زوج زينب بنت رسول الله، وكان يخرج تاجرًا إلى الشأم. وكان رجلًا مأمونًا، يخرج بماله وأموال رجال من قريش أبضعوها معه4. وقد عرف "بالأمين"، وكان من رجال مكة المعدودين مالًا وأمانة وتجارة، يخرج بماله وبمال غيره تاجرًا، يأتمنون به، ثم يعود فيؤدي إلى كل ذي مال من قريش ماله الذي كان أبضع معه. وكان آخر خروجه تاجرًا بأمواله وبأموال قريش قبل الفتح، خرج إلى الشأم فلما انصرف قافلًا لقيته سرية لرسول الله، أميرهم "زيد بن حارثة"، وكان أبو العاص

_ 1 الطبري "2/ 402"، إمتاع الأسماع "1/ 52". 2 إمتاع الأسماع "1/ 305". 3 الطبري "2/ 646"، "ذكر خروج رسل رسول الله إلى الملوك". 4 الطبري "2/ 292".

في جماعة عير، وكان زيد في نحو سبعين ومائة راكب، فأخذوا ما في تلك العير من الأثقال وأسروا منهم ناسًا، فاستجار "أبو العاص" بزينب، فأجارته، ورد الرسول الأموال والأسرى إليه، وعاد مع القافلة إلى مكة، فأدى إلى كل ذي مال من قريش ماله الذي كان أبضع معه، ثم أعلن أمام قريش شهادة الإسلام، وتركهم فقدم يثرب مسلمًا، ورد رسول الله ابنته عليه1. ومن تجار قريش "صفوان بن أمية بن خلف"، ذكر أنه كان أحد العشرة الذين إليهم شرف الجاهلية ووصله لهم الإسلام من عشرة بطون. وكان أحد المطعمين في الجاهلية والفصحاء، وأحد أشراف قريش، وإليه كانت الأيسار، وهي الأزلام، فكان لا يسبق بأمر حتى يكون هو الذي يجري يسره على يديه. وكان يقال له: "سداد البطحاء"، وهو أحد المؤلفة قلبوهم. وكان غنيًّا، وكذلك كان أولاده2. ورد في الحديث: أن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية، وقنطر أبوه، أي صار لهما مال كبير، كأنه يوزن بالقنطار3. فهما من أسرة ثرية ثقيلة الثراء. وتعد أيام مغادرة القوافل وأيام عودتها سالمة، من الأيام المشهودة في مكة، يخرج فيها أهل البلدة لتوديع القافلة متمنين لها النجاح والفلاح والعودة سالمة بربح وافر كثير، داعين آلهتهم أن تبارك في رجالها وتمنحهم العون والفلاح في البيع وفي وقايتها من شر السفر ومن أذى الأشرار قطاع الطريق. ويخرج فيها أهل مكة فرحين مستبشرين، لاستقبال القافلة قادمةً من سفرتها البعيدة وهي محملة بسلع جديدة وبثمن ما باعته من سلع وما ربحته من فروق الأسعار: سعر الشراء وسعر البيع، حتى إذا ما بلغت القافلة مكة، كان أول واجبها زيارة رئيسها وأصحابها "البيت الحرام" لرفع الحمد والشكر إلى رب البيت على ما أنعمه عليها من الأمن والسلامة وما رزقها من ربح، ثم يعود مع أصحابه إلى بيوتهم ليستريحوا وليقوموا بتصفية حسابهم، وإعطاء كل واحد من المساهمين في رأس مال القافلة نصيبه من الربح. وقد ذكر أن قريشًا كانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارًا. وأن قافلة

_ 1 الإصابة "4/ 121"، "رقم 692"، الاستيعاب "4/ 125"، "حاشية على الإصابة". 2 الإصابة "2/ 181 وما بعدها"، الاستيعاب "2/ 179 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 3 تاج العروس "3/ 509"، "قنطر".

"أبي سفيان" التي كانت سبب وقعة بدر، كانت ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، فسلم أبو سفيان على أهل العير رؤوس أموالهم، وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارًا1. وقد اشتهرت بعض الأسر من قريش بالتجارة مع الأقطار البعيدة عن مكة. وقد ذكر أهل الأخبار أن بني "عبد مناف" المعروفين بـ"أصحاب الإيلاف" كانوا أسرة ثرية غنية اختصت بالاتجار مع الخارج، وكانوا أربعة أخوة، هم: هاشم، وكان يؤالف الروم، فأمن في تجارته إلى الشأم. أما الأخ الثاني، فعبد شمس، وكانت تجارته مع الحبشة، وأما الثالث فكان المطلب، وكان يرحل إلى اليمن. وأما الرابع، فهو نوفل، وكان يرحل إلى فارس. وقد عرف هؤلاء بـ"المتجرين"2 وبـ"المجبرين" وبـ"المجيرين"3. ولم يكن الإيلاف إيلافًا مع الروم أو الفرس أو الحبشة، وإنما كان إيلافًا مع سادات القبائل. فبفضل العقود والعهود التي عقدها "هاشم" وإخوته مع سادات العرب أمكن مرور قوافل مكة بأمن وسلام نحو العراق وبلاد الشأم واليمن والحبشة. ولولا هذه العقود التي جبرت قلوب سادات القبائل بتقديم حقوق مرور لهم، أو بإشراكهم في مال القافلة، بحمل تجار مكة ما عندهم من سلع لبيعها على حسابهم، وتقديم ثمنها مع الربح الذي جاؤوا به على سعر البيع المقدر، لما كان في إمكان قريش ضبط أولئك الأعراب ومنعهم من التحرش بقوافلهم ومرورها إلى الأسواق بأمن وسلام. ويرجع أهل الأخبار مبدأ "الإيلاف" وخروج قريش من مكة بالقوافل إلى بلاد الله الأخرى إلى "هاشم بن عبد مناف"، فهم يذكرون أن قريشًا كانوا تجارًا "وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب، فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشأم فنزل بقيصر، فكان يذبح كل يوم شاة ويصنع جفنة ثريد ويجمع من حوله فيأكلون، وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم،

_ 1 نهاية الأرب "17/ 81"، "ذكر غزوة أحد". 2 بلوغ الأرب "3/ 285". 3 تاج العروس "6/ 44"، "الف".

فذكر ذلك لقيصر فقيل له: ها هنا رجل من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم، وإنما كانت العجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم بالخبز، فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فكان يبعث إليه في كل يوم فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده قال له: أيها الملك، إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابًا تؤمن تجارتهم فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو أرخص عليكم! فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشأم أخذ من أشرافهم إيلافًا –والإيلاف: أن يأمنوا عندهم في أرضهم بغير حلف إنما هو أمان الطريق- وعلى أن قريشًا تحمل إليهم بضائع فيكفونهم حملاتها ويؤدون إليهم رؤوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشأم حتى قدم مكة فأتاهم بأعظم شيء أتوا به بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة وخرج هاشم معهم يجوزهم يوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب حتى أوردهم الشأم وأحلهم قراها، ومات في ذلك السفر بغزة. وخرج المطلب بن عبد مناف إلى اليمن فأخذ من ملوكهم عهدًا لمن تجر إليهم من قريش، وأخذ الإيلاف كفعل هاشم، وكان المطلب أكبر ولد عبد مناف، وكان يسمى "الفيض" وهلك بردمان من اليمن. وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى الحبشة، فأخذ إيلافًا كفعل هاشم والمطلب، وهلك عبد شمس بمكة فقبره بالحجون، وخرج نوفل بن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه فأخذ عهدًا من كسرى لتجار قريش وإيلافًا ممن مر به من العرب، ثم قدم مكة ورجع إلى العراق فمات بسلمان. واتسعت قريش في التجارة في الجاهلية وكثرت أموالها، فبنو عبد مناف أعظم قريش على قريش منة في الجاهلية والإسلام"1. وبهذا القصص، أوجد أهل الأخبار مبدأ الإيلاف، ومبدأ خروج قريش بالتجارة إلى الأقطار المذكورة. ويكون عمل "آل عبد مناف" وفق هذه القصة، عملين: أخذهم أمانًا من الملوك المذكورين بمعاملة قريش معاملة حسنة وحمايتهم لهم في أرضهم من كل تعد قد يقع عليهم، ومراعاتهم مراعاة خاصة حين مجيئهم إليهم للاتجار، معاملة الأحسن حظوة بين التجار الذين يتجارون في أسواقهم، والعمل الثاني، هو عقدهم الإيلاف مع

_ 1 ذيل الأمالي "199 وما بعدها".

سادات القبائل الذين يمرون بهم في ذهابهم وإيابهم إلى الشأم والعراق واليمن والحبشة، بأن يأمنوا عندهم في أرضهم، ولا يعتدى على أحد منهم. وموضوع ذهاب هاشم وإخوته إلى الشأم أو العراق أو اليمن أو الحبشة، موضوع طبيعي لا داعي إلى إثارة الشك حوله، فقد وجدنا أن غيرهم من تجار مكة كانوا يتاجرون مع الأماكن المذكورة، تاجروا معها قبلهم وتاجروا معها بعدهم، أما أنهم التقوا بقيصر وبكسرى وبالنجاشي وبتبابعة اليمن، وتعاقدوا وتعاهدوا معهم، فقضية أخرى فيها نظر، وقد عودنا أهل الأخبار على سماع مثل هذا القصص. ولك ما نستطيع أن نتصوره فيما لو صدقنا بالخبر، هو أن أولئك الأخوة قد قابلوا بعض موظفي الحدود وتصادقوا معهم وقدموا لهم بعض الهدايا، فصاروا يتساهلون معهم في جباية الأعشار وفي أخذ حقوق المرور، فشاع بين قومهم أنهم تعاقدوا مع أولئك الملوك. والإيلاف، العهد والذمام وشبه الإجازة بالخفارة، من ألف بينهما تأليفًا، أوقع الألفة وجمع بينهما بعد تفرق ووصلهما، ومن ذلك المؤلفة قلوبهم، أمر النبي بتألفهم، أي بمقاربتهم وإعطائهم من الصدقات ليرغبوا من وراءهم في الإسلام، ولئلا تحملهم الحمية مع ضعف نياتهم على أن يكونوا مع الكفار على المسلمين1. وصار أهل مكة، بفضل الإيلاف، آمنين امتيارهم وتنقلاتهم شتاءً وصيفًا والناس يتخطفون من حولهم، فإذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله فلا يتعرض لهم أحد. فالإيلاف العهود التي أخذتها قريش من سادات القبائل إذا خرجت في التجارات فتأمن بها2. وقد عرف أصحاب الإيلاف، وهم الأخوة الأربعة أبناء عبد مناف بـ"المجيرين"، إذا كانوا يؤلفون الجوار يتبعون بعضه بعضًا، يجيرون قريشًا بميرهم ويجبرون فقيرهم، ولذلك قيل لهم "المجبرين". وذكر أن كل واحد من الأخوة المذكورين أخذ حبلًا من ملك. فأما هاشم فإنه أخذ حبلًا من ملك الروم، وأما عبد شمس، فإنه أخذ حبلًا من النجاشي، وأما المطلب، فإنه أخذ حبلًا من أقيال حمير. وأما نوفل، فإنه أخذ حبلًا من

_ 1 تاج العروس "6/ 44"، "ألف". 2 تاج العروس "6/ 44"، "ألف".

كسرى، فكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بحبال هؤلاء1. و"الحبل" العهد والذمة والإيمان، يقال كانت بينهم حبال فقطعوها، أي عهود وذمم. وذلك أن العرب كانت تخيف بعضها بعضًا فكان الرجل إذا أراد سفرًا أخذ عهدًا من سيد قبيلة فيأمن بذلك ما دام في حدودها حتى ينتهي إلى أخرى فيأمن بذلك2. والحبل الحلف أيضًا والعصم3. فالحلف بمعنى العهد بين القوم والمعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق. وقد كانت الأحلاف كما سبق أن تحدثت عنها من أهم سمات الجاهلية، وقد نهي عنها في الإسلام، لما كانت توقعه من أضرار في المجتمع بسبب التكتلات والتحزبات والعصبية التي تؤدي إلى القتال. فورد: لا حلف في الإسلام وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه الرسول: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة". يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق. وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام4. وكانت للعرب تعابير ومصطلحات في إعطاء العهد والأمان، ومنها مصطلح: "لا بأس". والبأس العذاب والشدة والخوف، وإن قال الرجل لعدوه لا بأس عليك، فقد أمنه؛ لأنه نفى البأس عنه. وهو في لغة "حمير" "لبات"5. وبفضل اتباع سياسة تأليف قلوب القبائل، بإشراك ساداتها في تجارة قريش، أو إعطاء سادتها جعالة مرور، أو هدايا، أو بالتصاهر معها، أو بإكراء إبلها لنقل تجارة قريش، تمكنت قريش من تأليف قلوب سادات القبائل، فأمنت على نفسها، وصارت قوافلها تخرج في أي وقت شاءت من أوقات السنة في الشهور

_ 1 تاج العروس "6/ 44"، "ألف". 2 تاج العروس "1/ 269 وما بعدها"، "حبل". 3 ابن سعد، الطبقات "1/ 75 وما بعدها"، المحبر "162"، الطبري "2/ 12"، Kister, P.126. 4 تاج العروس "6/ 75"، "حلف". 5 قال شاعرهم: تنادوا عند غدرهم لبات ... وقد بردت معاذر ذي رعين تاج العروس "4/ 104"، "بؤس"، "1/ 580"، "لبت"، اللسان "6/ 20 وما بعدها"، "بؤس".

الحل أو في الشهور الحرم. لا تخشى بأسًا، حتى أنها صارت تعطي أمانها لغيرها، وبذلك ألفت القبائل الأخرى التي لم تكن لها عقود وإيلاف وحبال مع القبائل المحالفة لقريش، فصارت تحمل كتاب أمان قريش وشعارها، وهو ما عضد من شجر الحرم، يوضع حول العنق، على ما يزعمه أهل الأخبار، فيكون جواز سفر وكتاب مرور. والإيلاف، أي عقد "الحبال" مع سادات القبائل، عمل مهم جدًّا بالنسبة لكل صاحب عمل وتاجر. إذ يتمكن التاجر به من حماية نفسه وماله ومن المرور بأمن وسلام، دون أن يتعرض لخطر النهب والسلب، وهو حتى إذا تعرض للخطر، فإن سيد القبيلة بنفوذه وبسيادته على قبيلته كفيل بأن يعيد إليه ما انتهب منه. ولهذه الأهمية، عقدت قريش الحبال مع سادات القبائل الذين تمر تجارة تجارها بأرضهم. عقدتها قريش، أو أمضاها تجار من تجارها، بما لهم من صداقة وصلات زواج وروابط بسادات القبائل. ولا سيما بسادات قبيائل المناطق التي تمر الطرق التجارية بأرضها، فلهذه القبائل بالذات أهمية كبيرة بالنسبة على كل تاجر، وللحكومات بصورة خاصة بالطبع، ولهذا تنافست على الاستحواذ عليها حكومات اليمن وحكومة الحيرة، والساسانيون. وقد رأينا "امرأ القيس" المتوفى سنة "238" للميلاد يصل بجيشه إلى "نجران" مدينة "شمر"، ورأينا في خبر سجل بالمسند وصول جيوش اليمن إلى أرض الخليج. فلهذه الأرضين، كاليمامة ونجد والبحرين أهمية كبيرة بالنسبة للتجارة في جزيرة العرب لمرور الطرق البرية التي تربط العربية الجنوبية بالعربية الشمالية وبالعراق وسواحل الخليج بها، ولمرور الطرق التي تربط العربية الغربية بالعربية الشرقية وبالعراق بأرضها، وقد رأينا كيف تعرضت قافلة "كسرى" التي قدمت من اليمن، قاصدة المدائن إلى السلب والنهب، وكيف تعرضت "لطيمة" النعمان إلى النهب في هذه الطرق. ويذكر أهل الأخبار، أن تجار اليمن والحجاز، كانوا يتحفزون بقريش، إذا كانوا بأرض مضر. وأن قريشًا استفادوا من عقدهم الإيلاف مع تميم وأسد، و"بني عمرو بن مرثد" من "بني قيس بن ثعلبة"، ومع قبائل "ربيعة" عامة. و"مضر" و"ربيعة"، هي من قبائل نزار، و"قريش" نفسها من ولد "مضر بن نزار" في عرف النسابين، فإذا أخذنا بذلك علمًا، استطعنا القول إن هذا النسب، إنما هو مصالح تجارية وروابط سياسية مصلحية، جمعت

هذه القبائل في "بوتقة" مصالح مشتركة، فأوجدت منها هذا النسب الذي أفاد أهل مكة كما أفاد القبائل الأخرى المشتركة فيه، والتي كانت تتاجر في أسواق مشتركة فتبيع وتشتري وتنتفع بفضل هذا النسب السياسي. وللنسب أهمية كبيرة في تأليف القبائل وفي المحافظة على الأمن في البوادي. والتصاهر هو من أهم الروابط التي كانت تربط بين القبائل وبين الأفراد. ومن هذه الأهمية ظهر التصاهر السياسي والتصاهر الاقتصادي، عند الملوك وعند سادات القبائل والأشراف، فصاهر رجال من قريش قومًا من "تميم" ومن "بني عامر بن صعصعة" ومن يثرب واليمن، وصاهر ملوك الحيرة سادات القبائل المعروفة، للاستفادة من المصاهرة لمآرب سياسية واقتصادية، بالحصول على تأييد قبائل أولئك السادة: ولمرور تجارتهم من أرضهم بأمن وسلام. وقد كانوا يعرفون كيف يختارون من يصاهرونه بالطبع، يختارونه لكثرة عدد أبناء قبيلته ولمنزلتها ولمكانتها بين القبائل، ليتخذوا منه قوة في تأديب القبائل الأخرى. وهو عمل لم يكن سادات القبائل في جهل من أسبابه، وفي غفلة عن إدراك كنهه، لذا كانوا يتاجرون به، كما تاجر به الملوك، أو سادات القبائل، فيشترطون فيه شروطًا فيها مكاسب ومنافع لهم. كأن يطعمهم الملوك "الطعم" ويعطونهم الآكال، ويجعلون لهم جباية الطرق، وبعض الامتيازات على القبائل الأخرى، ويجعلونهم على مقربة منهم في مجالسهم، ويقربونهم بذلك على غيرهم من السادات. وقد كان لهذا التقديم الحضري أهمية كبيرة في نفوس القبائل، فهو عندهم أمارة من أمارات التشريف والتقدير. والأعرابي وإن ازدرى الحضر والحضارة، يقر مع ذلك في نفسه بتفوق الحضري عليه، إن لم يكن بالسلاح وبالقتال، فبالحيل والغش والخداع كما يرى الأعرابي ذلك، أي باستعمال الحضري ذكاءه المبني على التجارب والتقدم في مستوى الحياة في التغلب على الأعراب البسطاء الذين وإن كانوا أذكياء بالبديهة، لكن ذكاءهم لا يكافئ ذكاء الحضر في التخلص من المتاعب والورط المعقدة التي تحتاج إلى خداع. وقد افتخر سادات القبائل الذين كان مستواهم العقلي فوق مستوى قبائلهم بكثير –بفضل اتصالهم بالحضر، وزياراتهم "الأرياف" وبيوت الملوك، بل البلاد الأعجمية المتقدمة أيضًا- بهذا التقديم، واعتبروه شرفًا وتعظيمًا، فأكثروا من زيارة الملوك، وانتهزوا المناسبات للاتصال بهم، وافتخروا بما كانوا ينالونه منهم

من عطايا وصلات وخلع، وهو تكريم كان يؤدي أحيانًا إلى نتائج محزنة، بسبب مبالغة بعض الملوك في تكريم سيد قبيلة، وتقديمه على غيره من السادات، مما كان يثير حقد بقية السادات، الذين قد تتهيج عواطفهم عندئذ لهذا التقديم، وقد يعتبرونه إهانة خاصة قصد توجيهها إليهم، فينتقمون ممن قدم عليهم، أو ينتقمون من الملك، بالإغارة على أرضه وأمواله. ونجد تأريخ الحيرة مليئًا بحوادث سببها إسراف بعض الملوك في الانصياع لعاطفتهم بتقديم سيد قبيلة، وتأخير آخر بإجلاسه في مكان هو دون المكان الذي كان من اللازم إجلاسه فيه من مجلس الملك ولقرب المكان وبعده من الملك ومن صدر المجلس أهمية كبيرة عند سادات القبائل وفي عرف المجتمع آنذاك، حتى صار ذلك سنة لهم، اتبعوها في مجالسهم أيضًا، فإذا دخل الناس مجلس سيد القبيلة جلسوا حسب منازلهم وأقدارهم في مجتمعهم، على الرغم من مظاهر "الدمقراطية" والمساواة التي تظهر عليهم، والتي تبدو عندهم في مخاطبة بعضهم بعضًا.

السلع

السلع: والأدم والزبيب والصمغ والطيب والتبر والبرد واليمانية والثياب العدنية والأسلحة ومصنوعات الحديد والمعادن الأخرى، هي من أهم السلع الرئيسية التي تتكون منها تجارة قريش. وبعض هذه السلع مهم وغال ومطلوب. فكان تجار مكة يشترونه من معادنه ومواضعه، ويبيعونه في الأماكن التي تبحث عنها، وتربح من ذلك ربحًا كبيرًا. وقد كانت "الأدم" على رأس الأموال التي تاجرت بها، حتى أن قريشًا كانت قد جعلتها على رأس الهدايا والألطاف التي كانت تهديها إلى الملوك والرؤساء وأكابر الناس. فلما ذهب "أبو سفيان" إلى العراق، ووصل إلى "كسرى" كما يزعم أهل الأخبار، أهدى إليه أدمًا وخيلًا، فقبل "كسرى بن هرمز" الخيل ورد الأدم1. ولما أرسلت "قريش" "عبد الله بن أبي ربيعة" و"عمرو بن العاص بن وائل" إلى النجاشي ومعهما هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، جمعت له أدمًا كثيرًا، ولم تترك من

_ 1 الأغاني "12/ 46"، العقد الفريد "2/ 21"، "لجنة".

بطارقته بطريقًا إلا وله هدية، فكانت الأدم على رأس ألطاف مكة وهداياها1. ومن العطور التي كان معروفة بمكة: "الذرور"، عطر يجاء به من الهند كالذريرة، وهو ما أنتجت من قصب الطيب، وقيل هو نوع من الطيب مجموع من أخلاط، وبه فسر حديث عائشة: طيبت رسول الله لإحرامه بذريرة2. وأغلى سلع قريش التي كانت تحملها لبيعها في أسواق بلاد الشأم، هي "الفضة" ولما أرسل الرسول "زيد بن حارثة" على عير لقريش كان فيها "أبو سفيان"، وكانت قد غيرت طريقها الذي يسلك إلى الشأم، وسلكت طريق العراق، كانت مع "أبي سفيان" فضة كثيرة، وهي أعظم تجارتهم، فالتقى بها "زيد بن حارثة" فأصاب العير، وبلغ خمس الرسول من الغنيمة عشرون ألفًا، ومعنى هذا أن قيمة الغنائم، كانت مائة ألف3. وقد ذكر في خبر هذه السرية أن الفضة كانت آنية كثيرة، وسكت خبر آخر عن نوع الفضة، وإنما ذكر أن "أبا سفيان" كان يحمل معه فضة كثيرة4. والأسلحة من أهم مواد التجارة التي كان يتاجر بها التجار. فالسلاح أداة ضرورية جدًّا بالنسبة إلى الأعرابي، فبه يدافع عن نفسه، وهو لا ينام إلا وسلاحه إلى جانبه، حتى إذا ما شعر بأقل حركة، نهض وهو بيده ليدافع به عن نفسه. والتاجر نفسه مع أنه إنسان مسالم لا يميل بطبيعة عمله إلى حمل السلاح والتقاتل كان مضطرًّا مع ذلك إلى حمله معه وإلى استخدام العبيد والأعوان للدفاع عن نفسه وعن أمواله. ولهذا كان يحرض على شرائه من أي مكان يجده فيه ليدافع به عن نفسه، كما كان يتاجر به؛ لأن الاتجار به من أربح الأعمال في السوق، لإقبال الناس عليه، فكان يشتريه من صناعة ومن أسواقه، ليبيعه لمن يطلبه بسعر أعلى، فيربح بذلك كثيرًا من الفرق بين السعرين. وكان لأهل مكة خاصة حس مرهف نحو التجارة. كانوا إذا سمعوا أجراس

_ 1 الروض الأنف "1/ 211 وما بعدها". 2 تاج العروس "3/ 223"، "ذر". 3 الطبري "2/ 492 وما بعدها". 4 الطبري "2/ 492 وما بعدها".

عير، هرعوا نحوها يلتمسون خبرها. فلما أقبلت من الشأم عير لدحية بن خليفة الكلبي، أو لعبد الرحمن بن عوف، تحمل زيتًا أو طعامًا، وكان رسول الله يخطب يوم الجمعة، والناس خلفه صفوفًا، فلما سمعوا بها، جعلوا يتسللون ويقومون إليها، خشية أن يسبقوا إليها، فتباع، حتى بقيت منهم عصابة اثني عشر رجلًا وامرأة. وكانوا إذا أقبلت العير، استقبلوها بالطبل والمزامير والكبر والتصفيق. فلما نظر رسول الله إلى المصلين وقد انفضوا من حوله، عنفهم ووبخهم، ونزل في حقهم ما نزل في الآية من ترك البيع حالة صلاة الجمعة1. ويتبين من كتب الحديث أن الصحابة كانوا يتعاطون التجارة، ويتكسبون في الأسواق، وقد كانوا نشطين جدًّا في ذلك، وكان أهل مكة أكثر نشاطًا من أهل المدينة في هذا الباب، فلا يكاد بعضهم يصل المدينة مهاجرًا من مكة حتى يسأل عن السوق، ويبحث عن رزق، فذهب بعضه إلى سوق بني قينقاع، وهي من أسواق يهود، فنجحوا فيها وحصلوا على ربح ومال أعالوا به أنفسهم. وقد كان في جملة ما أجاب به أبو هريرة، وقد قيل فيه: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، وإن المهاجرين والأنصار لا يحدثون عنه بمثل حديث أبي هريرة: "إن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق الأسواق، وكنت ألزم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءًا مسكينًا من مساكين الصفة أعي حين ينسون"2. فالأنصار كانوا أصحاب زرع وأموال. والمهاجرون كانوا أصحاب تجارات. وكانوا إذا التهوا في السوق وانصرفوا في التجارة ونسوا أمورهم الأخرى، قالوا ألهانا الصفق بالأسواق، يعني الخروج إلى تجارة وبيع وشراء، وقد أدى

_ 1 سورة الجمعة، الآية 9 وما بعدها، تفسير الطبري "28/ 66 وما بعدها"، تفسير النيسابوري "28/ 68 وما بعدها"، "حاشية على تفسير الطبري"، تفسير ابن كثير "4/ 366 وما بعدها"، الواحدي، أسباب النزول "320"، مسند الإمام أبي حنيفة "73 وما بعدها"، إرشاد الساري "4/ 12 وما بعدها"، آثار السنن "2/ 88"، تيسير الوصول "1/ 182". 2 صحيح البخاري "3/ 52 وما بعدها"، "كتاب البيوع"، عمدة القارئ "11/ 161 وما بعدها"، إرشاد الساري "4/ 15 وما بعدها".

انصراف بعض الصحابة إلى السوق وتعلقهم بالتجارة إلى انفضاضهم أحيانًا عن الرسول وهم حوله، فورد في الحديث: "بينما نحن نصلي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إذ أقبلت من الشأم عير تحمل طعامًا فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا اثنا عشر رجلًا، فنزلت: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} 1. وكان "العباس بن عبد المطلب" من أغنياء قريش، ومن المقرضين للمال بفضل يأخذه من المدين يضعه على رأس ماله. وقد بقي على ماله وثرائه في الإسلام كذلك. وكان الرسول قد أبطل ربا العباس في أول ما أبطل من ربا في الإسلام. وكان العباس يتاجر كذلك، له محل يتاجر فيه، ويستقبل التجار الغرباء. وقد ذكر أن "عفيف الكندي" كان في جملة من تاجر معه في الجاهلية، وقد جاء إليه ليبتاع منه بعض التجارة2. ولما آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين، آخى بين "عبد الرحمن بن عوف"، وهو من المهاجرين، وبين "سعد بن الربيع" وهو من أكثر الأنصار مالًا، فقال "سعد بن الربيع": "أقاسمك مالي نصفين وأزوجك". قال "عبد الرحمن": بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق. فدلوه على سوق قينقاع، فغدا إليه، ثم تابع الغدو، فما لبث أن جمع مالًا من تعامله بالسوق وصار من المثرين3. وقد كان "عبد الرحمن" تاجرًا بمكة قبل هجرته إلى يثرب، وصاحب مال. فلعل الرسول أراد من مؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، أن يساعد المهاجرون الأنصار وأن يتعاونوا معًا، كما كان شأن عبد الرحمن وسعد بن الربيع، وهما من أصحاب الخبرة والتجربة في العمل، فيفيدوا بذلك الإسلام بما يحصلون عليه من مال. وقد ذكر أهل الأخبار، أن عبد الرحمن، تصدق على عهد رسول الله، بشطر ماله، ثم تصدق بعد بأربعين ألف دينار، ثم حمل خمسمائة فرس في سبيل

_ 1 البخاري "3/ 55"، إرشاد الساري "4/ 14 وما بعدها، 55". 2 الإصابة "2/ 480"، "رقم 5588". 3 إرشاد الساري "4/ 4 وما بعدها".

الله وخمسمائة راحلة، وكان أكثر ماله من التجارة. وذكروا أنه أعتق ثلاثين ألف نسمة وأنه أوصى لكل من شهد بدرًا بأربعمائة دينار، فكانوا مئة رجل1. وذكروا أنه كان تاجرًا مجدودًا في التجارة، وكسب مالًا كثيرًا، وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة، ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا فكان يدخل منه قوت أهله سنة. وذكروا أنه صالح امرأته التي طلقها في مرضه من ثلث الثمن بثلاثة وثمانين ألفًا، وقيل عن ربع الثمن من ميراثه. ورووا أنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدًا. وأنه كان يقول: "قد خشيت أن يهلكني كثرة مالي. أنا أكثر قريش كلهم مالًا"2. وكان "أبو بكر" تاجرًا معروفًا بالتجارة بمكة قبل الإسلام، ولقد بعث النبي وعنده أربعون ألف درهم، ولما أسلم كان يعتق منها ويعول المسلمين، حتى قدم المدينة بخمسة آلاف3. وكان "طلحة بن عبيد الله بن عثمان" القرشي التيمي، من تجار مكة، ولما قدم المدينة مهاجرًا، أخذ يتاجر مع "الشأم"، وذكر أنه اشترى مالًا بـ"بيسان"، وأن غلته تبلغ ألفًا وافيًا كل يوم. والوافي في وزنه وزن الدينار، وعلى ذلك وزن دراهم الفرس التي تعرف بالبغلية. وقد ساهم في حرب الجمل، التي وقعت سنة ست وثلاثين4. والزبير من رعيل التجار كذلك، وكان تاجرًا مجدودًا في التجارة، كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج5، وله أرضون واسعة وأموال طائلة.

_ 1 الإصابة "2/ 408"، "رقم 5181". 2 الاستيعاب "2/ 385 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 3 الإصابة "2/ 333"، "رقم 4817". 4 الاستيعاب "2/ 210 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 5 الاستيعاب "1/ 563"، "حاشية على الإصابة".

تجار يثرب

تجار يثرب: ولم يشتهر أهل "يثرب" في كتب أهل الأخبار بالتجارة، وإنما اشتهروا فيها بالزراعة، ولا سيما بزراعة النخيل. ولكننا نجد أن من بينهم من كان يتاجر مع

بلاد الشأم واليمن، وله أموال شغلها في التجارة، كما أن من بينهم من كان يعطي فضل ماله بالربا للمحتاج إلى المال، وكان منهم من حصل على مال كثير فابتنى له "الأطم" و"الحصون" ليحصن نفسه وماله بها، ولما هاجر المهاجرون إليها، فتعاظم شأن التجارة بها، إذ أخذ المهاجرون والأنصار يتاجرون مع الشأم، فيبيعون ويشترون ويستوردون التجارة إلى المدينة، بقوافل تأتي محملة بالزيوت وبتجارة الشأم إليها، حتى أمر الرسول باتخاذ سوق بها، يتاجر فيه التاجر دون أن يدفع خراجًا، بقوله: هذا سوقكم لا خراج عليكم فيه1. فرفع عن تجار يثرب ما كان يدفعه تجار الأسواق الأخرى من خراج الأعشار. ويظهر من دراسة وتشريح كتب التفسير والحديث والسير والأخبار. أنه قد كان بين أهل "يثرب" وأهل مكة فروق في أصول التعامل التجاري، فوزن أهل يثرب يختلف عن وزن أهل مكة، وكيلهم يختلف عن كيلهم أيضًا، وتعاملهم في السوق يختلف بعض الاختلاف عن تعامل أهل مكة. ثم هم فوق ذلك يختلفون عن أهل مكة في أنهم أصحاب زرع، وأهل مكة أصحاب تجارة، ولما جاء الرسول إلى المدينة، وجد لهم معاملات تخص أكثرها الزراعة لم تكن معروفة بمكة، فسألهم عنها، وحدد لهم موقف الإسلام منها. وسبب هذا الاختلاف، هو اختلاف طبيعة المكانين. فمكة بلد غير ذي زرع فقل عندهم التعامل الزراعي، لعدم احتياجهم إليه. أما "يثرب"، فبلد زراعة عيشة أهله على الزراعة واستغلال الأرض، لذلك صار أكثر تعاملهم بأعمال تتعلق بالزراعة وباستغلال الأرض، وبالاشتراك والتعاون في استغلال الملك الفائض على حاجات صاحبه، فظهرت عندهم أعراف زراعية، لم تعرف بمكة. وكانت عندهم بعض حرف، لم تشتهر بمكة. ومن هنا راعى التشريع الإسلامي في التجارة أعراف أهل مكة فيها، وراعى في التشريع الزراعي وفي الحرف، أعراف أهل يثرب في الاثنين. واقتصاد يثرب اقتصاد زراعي، الإنتاج فيه إنتاج زراعي، ثم حيواني، عماد الإنتاج فيه التمور والخضر، أما اقتصاد مكة، فهو اقتصاد تجاري عماده التجارة القائمة على أساس شراء السلع من الأسواق ونقلها إلى مكة، وتصريفها من هناك

_ 1 البلاذري، فتوح "28".

على أهل مكة ومن حولهم، ونقل الفائض إلى الأسواق الموسمية وأسواق العراق وبلاد الشأم والعربية الجنوبية. فهو اقتصاد لا يعتمد على الإنتاج المحلي ولا على حرف محلية، إنما يقوم على أساس شراء المنتجات الأجنبية من مصادرها بأسعار أعلى، للحصول على الأرباح عن طريق الفرق بين السعرين: سعر الشراء وسعر البيع، أو عن ثمن التوسط في معاملات البيع والشراء. ويظهر أن أهل يثرب لم يكونوا قد أقبلوا على الزراعة إقبالًا كافيًا، وأن الأرض لم تكن قد استغلت استغلالًا جيدًا، لهذا نجد الرسول بعد هجرته إلى هذه المدينة يحث المسلمين على الإقبال على الزراعة وعلى العمل بها، وعلى استغلال الأرض؛ لأن فيها قوت المسلمين، فأراد بذلك سد النقص الذي كان يجابه أهل المدينة وغيرها في الحبوب وفي أقواتهم الأخرى، وهذا مما أدى إلى إحياء بعض أرضها في أيامه، أحياها أهل يثرب وأحياها بعض المهاجرين. وكان بعض تجار مكة يمرون بيثرب في طريقهم من مكة إلى بلاد الشأم، وفي عودتهم منها إلى مكة. ولما خرج "هاشم" في عير لقريش فيها تجارات، كان طريقه على المدينة، ثم نزل بسوق النبط، وهي سوق تقوم بها في السنة يحشدون لها، يبيعون ويشترون1. وهي سوق يظهر أنها كانت تقام في موسم معين من السنة، فيتجمع فيها التجار للبيع والشراء. ولما خرج "عبد الله" والد الرسول إلى الشأم إلى غزة في عير من عيرات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجارتهم ثم انصرفوا، مروا بالمدينة، وبها توفي فدفن هناك، في دار النابغة، وهو رجل من بني عدي بن النجار2. وقد كان الأنباط يتاجرون مع المدينة، يأتون إليها بـ"الدرمك"، وهو الدقيق الحواري، وهو دقيق أبيض، وبالزيت. وكانوا يأتون إليهم بأخبار الروم3. ولعلهم كانوا يتاجرون في موضع معين من أسواق يثرب، فعرف لذلك بسوق النبط. وقد نافست "يثرب" مكة في التجارة بعد هجرة الرسول إليها، إذ أخذ المهاجرون يتاجرون منها مع بلاد الشأم والعراق، وصارت القوافل ترد إليها محملة

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 78". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 99". 3 إمتاع الأسماع "1/ 445 وما بعدها".

ببضائع بلاد الشأم, وأخذ الأنصار والمهاجرون يتاجرون معًا في الأسواق، وقد تضخمت هذه التجارة بعد فتح مكة، ودخول القبائل في الإسلام ووصول الصدقات إلى بيت المال في المدينة، فتحسن حال أهل المدينة وصار لهم رأس مال مكنهم من تشغيله في التجارة وفي الزراعة، فاستغلوا أرض يثرب بزرعها زروعًا مختلفة، ثم استغلوا أموالهم هذه في الخارج بعد الفتوح. وقد نشأت يثرب وتوسعت لوجود الماء بها، وهذا الماء هو الذي صيرها مستوطنة زراعية، كما صير غيرها من المستوطنات العديدة التي تقع في شمالها وتمتد حتى تتصل في فلسطين مستوطنات زراعية منتجة ذات بساتين ومزارع يعتمد في زرعها على العيون والآبار. وكان عماد حاصلها التمر. وقد أحاطت بيثرب هالة من "الحوائط" المغروسة بالنخيل، غرسها سادات يثرب، فصارت من أهم موارد رزقهم، وقد زرعوا بعض الخضر والبقول تحت النحيل، لسد حاجتهم وبيع الفائض منه في الأسواق. ولكبار الملاكين فيها "أطم" يعيشون فيها ويخزنون بها ميراتهم وحاصلهم، ويحتمون بها عند الخطر. وأما سواد الناس، فلهم بيوتهم، وبعضها بيوت ذات طابقين. ولم تكن المدينة مسورة ولا محاطة بخندق على ما يظهر من روايات أهل الأخبار، بل كانت مدينة مكشوفة، إذا داهمها خطر، قام أهلها بسد منافذ طرقها، وبالدفاع عنها من السطوح، وبمقاومته في الأزقة. وأرض يثرب أرض خصبة كان من الممكن زرعها لو أقبل أهلها على الزراعة، ولكنهم لم يقبلوا عليها إقبالًا تامًّا، بل قام المتمكنون منهم بغرس الأرضين الغنية بالماء، والأرضين التي كان الماء فيها قريبًا من سطح الأرض بحفر الآبار بها، وتركوا الأرضين الأخرى مواتًا لم تزرع. وشغلوا الموالي والرقيق في الزراعة، ولو أجهدوا أنفسهم في استصلاح التربة وفي استنباط الماء، وحبس مياه السيول، لأحيوا بذلك أرضين واسعة. وبدليل أن بعض المهاجرين ممن كانت عندهم رغبة في الزراعة وأموالًا، عملوا في استصلاح أرضين مواتًا حتى أحيوها، وصارت تأتي إليهم بغلات وافرة. ومن أثرياء يثرب "أحيحة بن الجلاح"، وهو من سادة الأوس1. وهو

_ 1 تاج العروس "2/ 119"، "أحّ".

من أصحاب الأرض، وكان شريفًا في قومه، مات قبل الإسلام. وكانت تحته "سلمى بنت عمرو الخزرجية"، وتزوج "سلمى" بعده "هاشم بن عبد مناف" فولدت له "عبد المطلب" جد النبي1. وسعد بن عبادة بن دليم، سيد الخزرج، هو من أغنياء يثرب ومن أصحاب الأطم فيها. وكان سيدًا كريمًا مضيافًا، جفنته تدور مع النبي في بيوت أزواجه وكان يأخذ كل ليلة جماعة من أهل الصفة يعيشهم، وكان أهل الحاجة يذهبون إلى أطمه ينالون الشحم واللحم2. والطائف مصيف أهل مكة ومتمونها من الفواكه والزبيب والعسل والخضر. وقد اشترى أغنياء قريش بها الأملاك والبساتين وشاركوا أهل الطائف في التجارة. وهي بلاد "ثقيف". وثقيف من المتحضرين النشطين الأذكياء. وللطائف قرى، أولها "لقيم"، وآخرها "الوهط". وكان اسمها القديم "وج". ويذكر أهل الأخبار، أن "الطائف"، كانت في الأصل قرية بالشأم، أو قطعة من الجنة التي كانت لأصحاب الصريم، أو باليمن بنواحي صنعاء، فنقلت بدعوة "إبراهيم" إلى الحجاز، لتكون مصيفًا وجنة لأهل مكة. وكانت بغير سور، فلما جاء "الصدف بن الدمون" من حضرموت إلى "وج"، وكان قد أصاب دمًا في قومه، لحق بثقيف وأقام بها، وأقام لهم طوفًا أطاف بوج، فسميت بالطائف منذ ذلك الوقت. ومنهم من يزعم، أنها إنما سميت بذلك؛ لأن "جبريل" لما نقلها من موضعها، طاف بها بالبيت سبعًا، ثم وضعها بموضعها، فعرفت بالطائف3. وكان أهل الطائف مزارعين، عاشوا على الزراعة، واتخذوها تجارة لهم. زراعة الكروم والفواكه والحبوب. وكسبوا من ذلك مالًا، وكان منهم من اشتغل بدبغ الجلود، وبيع "الأدم" أي الجلود المدبوغة أو تصديرها إلى الخارج، ومنهم من تاجر، وساهم مع تجار مكة في تجارتهم. فتجمع من كل ذلك رأس مال شغله أصحابه في الربا، فكانوا يقرضون المال لمن يحتاج إليه من أهل الطائف ومن غيرهم، لوجود مال فائض عندهم.

_ 1 الإصابة "1/ 37 وما بعدها"، "رقم 55"، المحبر "456". 2 الإصابة "2/ 27 وما بعدها"، "رقم "3173". 3 تاج العروس "6/ 184"، "طوف".

ووجد التجار في كل مكان وجدت فيه أسواق وسلع وتجارة من بلاد العرب في الجاهلية وفي الإسلام، لم تكن تخلو منهم مدينة من المدن أو قرية كبيرة. فسوق الفلج كان سوقًا لبني نزار واليمن1. وبـ"العوسجة" وهي معدن، تجار2. من الجائز أن يكونوا قد تجمعوا في هذا المكان للاتجار بالمعدن الذي يستخرج منه، فكانوا يتعاطون الاتجار بالمعادن.

_ 1 الصفة "160". 2 بلاد العرب "368".

فهرس الجزء الثالث عشر

فهرس الجزء الثالث عشر: الفصل الثامن والثمانون. أثر الطبيعة في اقتصاد الجاهليين 5 الفصل التاسع والثمانون. الزرع والمزروعات 24 الفصل التسعون الزرع 45 الفصل الحادي والتسعون. المحاصيل الزراعية 57 الفصل الثاني والتسعون. الشجر 66

الفصل الثالث والتسعون المراعي 97 الفصل الرابع والتسعون. الثروة الحيوانية 111 الفصل الخامس والتسعون. الأرض 130 الفصل السادس والتسعون. الإرواء 157 الفصل السابع والتسعون. معاملات زراعية 216 الفصل الثامن والتسعون. الحياة الاقتصادية 227

الفصل التاسع والتسعون. ركوب البحر 243 الفصل المائة. التجارة البحرية 261 الفصل الواحد بعد المائة. تجارة مكة 285 الفهرست 317

المجلد الرابع عشر

المجلد الرابع عشر الفصل الثاني بعد المئة: القوافل مدخل ... الفصل الثاني بعد المائة: القوافل وتنقل التجارة البرية بطرق القوافل؛ وذلك لضمان حماية الأموال والتجارة والأرواح. و"القافلة": الرفقة القفال والمبتدأة في السفر1, وذكر علماء اللغة أن "القافلة": العير كذلك. وذكر بعض منهم أن "العير": الإبل التي تحمل الميرة، أو كل ما امتِيرَ عليه إبلًا كانت أو حميرًا أو بغالًا2. وقد أطلق أهل السير والتأريخ ومن تحدث عن وقعة بدر: لفظة "العير" على قافلة قريش التي كان يرأسها "أبو سفيان"، كما أطلق بعضهم "ركبان قريش" على من كان مع "أبي سفيان" من تجار قريش، معهم أموالهم وتجارتهم من بلاد الشام3. ونجد كتب السير والتواريخ تطلق لفظة العير على قوافل قريش بغير حصر، مهما كان حملها, فلما تحدثوا عن سرية "حمزة" إلى العيص استعملوا لفظة "عير" لقريش، واستعملوا هذه اللفظة في مناسبات أخرى، مما يدل على أنهم أرادوا بها قافلة، أي: جماعة من جماعات السفر، مهما كان حملها. والركبان والركب: ركاب الإبل. وقال بعض علماء اللغة: الركب: ركبان

_ 1 تاج العروس "8/ 83"، "قفل". 2 تاج العروس "3/ 433"، "عير"، تفسير الطبري "13/ 11 وما بعدها"، تفسير القرطبي "9/ 230 وما بعدها"، اللسان "4/ 624"، "عير". 3 الطبري "2/ 421"، "ذكر وقعة بدر الكبرى".

الإبل في السفر دون الدواب، وهم العشرة فصاعدًا، وذكر أن من الجائز استعمال "الركب" للخيل وللجيش1. و"القيروان": الجماعة من الخيل, والقفل: جمع قافلة, وهو معرب "كاروان". وقد تكلمت به العرب, قال امرؤ القيس: وغارة ذات قيروان ... كأن أسرابها الرعال2 وورد في الحديث أنهم كانوا يترصدون عيرات قريش، أي: إبلهم ودوابهم التي كانوا يتاجرون عليها3. ويقال للعير التي تحمل الطيب: "اللطيمة", وذكر أن اللطيمة: العير التي تحمل الطيب وبز التجارة4, فاللطيمة: قافلة تحمل تجارة نفيسة إلى الأسواق. وقد كان ملوك الحيرة يرسلون لطائمهم إلى الأسواق؛ لتتاجر بالطيب، ومنهم "النعمان بن المنذر"، وكان يبعث إلى "سوق عكاظ" في وقتها بلطيمة يجيزها له سيد مضر، فتبتاع وتشتري له بثمنها الأدم والحرير والوكاء والمغراء والبرود من العصب والوشي والمسير والعدني5. ويقال لقافلة الإبل التي تخرج ليُجاء عليها بالطعام، "ركابًا" حين تخرج، وبعدما تجيء, وتسمى عيرًا على هاتين المنزلتين. والتي يسافر عليها إلى مكة أيضا ركاب تحمل عليها المحامل، والتي يكترون ويحملون عليها متاع التجار وطعامهم كلها ركاب، ولا تسمى عيرًا، وإن كان عليها طعام، إذا كانت مؤاجرة بكرى. وليس العير التي تأتي أهلها بالطعام، ولكنها ركاب. يقال: هذه ركاب بني فلان, ويقال: زيت ركابي؛ لأنه يحمل من الشام على ظهور الإبل6. وذكر أن العسجدية: ركاب الملوك التي تحمل الدق من المتاع7. فهي عير

_ 1 تاج العروس "1/ 276"، "ركب". 2 تاج العروس "9/ 309"، "قرن". 3 اللسان "4/ 624"، "عير". 4 تاج العروس "9/ 60"، "لطم"، اللسان "12/ 543"، "لطم". 5 الأغاني "19/ 75"، شرح ديوان لبيد "48"، الأمثال للميداني "2/ 34"، الكامل، لابن الأثير "1/ 359 وما بعدها". 6 تاج العروس "1/ 277"، "ركب"، إرشاد الساري "4/ 74". 7 تاج العروس "1/ 60"، "لطم".

إذن تحمل متاعًا ثمينًا، كالذهب والجوهر. وذكر أن العسجدية: الإبل تحمل الذهب، وهي ركاب الملوك التي تحمل الدق الكثير الثمن، والسوق يكون فيها العسجد وهو الذهب، وركاب الملوك، وهي إبل كانت تزين للنعمان بن المنذر1. و"السابلة" "الواطئة"، وهم المارة. سموا بذلك لوطئهم الطريق2, وهم الذين يسلكون الطرق. والسابلة من الطرق: المسبولة، المسلوكة، وابن السبيل هو ابن الطريق، والذي قطع عليه الطريق، والمنقطع3. ويسمى كل طريق يكثر الاختلاف عليه محجة، ويسمى الطريق المدروس "الأيتار المليكي"، ويسمى الطريق الضيق الحبل شركًا، وحبال الطريق: أيتاره. وطريق جادة، أي: مجدودة بالوطء، وقارعة الطريق في معنى مقروعة، والريع: الطريق4. وكلما كانت الأموال ثمينة وكثيرة، كانت القافلة كبيرة, يحرسها عدد كبير من الحراس؛ لحمايتها من لصوص الطرق وقطاع السبل الذين كانوا يعيشون على السلب والنهب. ونقل التجارة بالقوافل طريقة عالمية قديمة، أشير إليها في الكتابات وفي الكتب المقدسة. ولم يكن من السهل على التجار في ذلك الزمن التوسع في تجارتهم والمجازفة بالمتاجرة مع أماكن أخرى بعيدة؛ فالتاجر محتاج إلى حماية حياته وأمواله، ولم تكن الحماية ممكنة إلا في ظل حكومة مدنية قوية، تحمي أبناءها وكل من يفد على أرضها وعلى الأرض الخاضعة لها من اعتداء المعتدين. لهذا صار لزامًا على التجار الالتجاء إلى نظام القوافل، ولا سيما القوافل القوية الكبيرة معتمدة على حماية نفسها بنفسها أولًا، ثم على حماية الحكومة ثانيًا. وقد عمدت في الدرجة الأولى إلى استرضاء سادات القبائل؛ وذلك لتأمين حمايتهم في المناطق التي تمر بها القافلة ولبذل العون والمساعدة لها, بتقديم حق مرور للرؤساء وهدايا وعطايا مناسبة وعقد عقود ومواثيق، وإلا تعرضت أموال القافلة للأخطار.

_ 1 تاج العروس "2/ 422"، "العسجد". 2 تاج العروس "1/ 135"، "وطئ". 3 تاج العروس "7/ 396"، "سبل". 4 الصفة "183".

ولطول الطرق وبُعد المسافات، كان على القوافل استرضاء كبار سادات القبائل للحصول على حمايتهم، ومعنى هذا دفع إتاوات لهم، وتحميل المشترين تلك الإتاوات. وهذا مما زاد في الأسعار وجعل الأثمان عالية، وقد أضر ذلك بالتجارة العربية ولا شك، كما أضر بالمنتجين الذين كانوا يبيعون إنتاجهم اليسير, وأكثره مواد خام يتعيشون عليها, بأسعار بخسة لسد رمقهم في هذه الحياة. وقد عمد تجار مكة -كما ذكرت ذلك في مواضع من هذا الكتاب- إلى أساليب مختلفة في استرضاء سادة القبائل الذين تمر بأرضهم قوافلهم، منها استرضاؤهم بالمال، وإشراكهم معهم في رأس المال، بتقديم ما عندهم من سلع يتوسطون لهم ببيعها في الأسواق، أو بشراء ما يريدون شراءه من تلك الأسواق وتقديمه لهم، ومنها التصاهر معهم، ودعوتهم لزيارة مكة وتقديم الهدايا لهم، ثم ضبط كل ذلك بعقود "الإيلاف"، التي وضعت قواعد وأصول وحقوق مرور قوافل مكة وقوافل تجارها الخاصة في كل الأيام والمواسم بأمن وسلام، في مقابل تعهدات وعقود عينت بعقود الإيلاف. وكان كل تاجر يخرج من اليمن والحجاز يتخفر بقريش ما داموا في بلاد مضر؛ "لأن مضر لم تكن تعرض لتجار مضر، ولا يهيجهم حليف لمضري, وكان ذلك بينهم. فكانت كلب لا تهيجهم لحلفهم بني تميم، وطيء أيضا لا تهيجهم لحلفهم بني أسد. وكانت مضر تقول: قضت عنا قريش مذمة ما أورثنا إسماعيل من الدين, فإذا أخذوا طريق العراق، تخفروا ببني عمرو بن مرثد، من بني قيس بن ثعلبة، فتجيز ذلك لهم ربيعة كلها"1. وهكذا تمكنت قريش من تأمين مصالحها التجارية بعقد الأحلاف مع سادات القبائل، وصار تجارها يتنقلون في مختلف أنحاء جزيرة العرب بحرية وأمان. والجمال هي واسطة النقل في جزيرة العرب، هي قطار القوم وسياراتهم في ذلك العهد. وليس في استطاعة حيوان آخر القيام بمثل تلك المشاق من قطع المسافات البعيدة في أماكن لا ماء فيها إلا في مواضع متباعدة, وفي أماكن يتغلب عليها الجدب والشظف. كان على ذلك الحيوان أن يتحمل ثقل ما يوضع على ظهره، وأن يسير به مسافات طويلة، ثم عليه أن يتحمل العطش والجوع. ولولا الخواص الجسمية

_ 1 المحبر "ص264".

التي امتاز بها عما عداه من الحيوانات، لما كان في إمكانه احتمال هذه المشقات ولعجز عنها حتمًا. وقد أشير في التوراة إلى قوافل الإبل الضخمة التي كانت تأتي من جزيرة العرب إلى بلاد الشام، وهي محملة بالبضائع الثمينة النفيسة لتبيعها هناك1. ولا تحتاج الإبل إلى شرب الماء كل يوم؛ لذلك غدت الحيوان المثالي الملائم لحياة الأعرابي وللبادية. والجمل صبور على الجوع وفي استطاعته مكافحة جوعه بأكل العوسج والنباتات التي تنبتها البادية. وللعرب أسماء في أظماء الإبل؛ ومنها "الخمس": أن ترد الإبل الماء يومًا فتشربه، ثم ترعى ثلاثة أيام، ثم ترد الماء اليوم الخامس، فيحسبون اليوم الأول والآخر اليومين اللذين شربت فيهما. وقيل: أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع2. ومن الأظماء "الغب"، وذلك أن ترد الإبل يومًا وتصدر، فتكون في المرعى يومًا، وترد اليوم الثالث, وما بين شربتيهما ظمأ طال أو قصر3, وعرف "الغب" أنه ورد يوم وظمأ آخر. وقيل: هو ليوم وليلتين، وقيل: هو أن ترعى يوما وترد من الغد4. ومن أمثال العرب المتعلقة بهذا الموضوع: يضرب أخماسًا لأسداس، أي: يسعى في المكر والخديعة. وأصله من إظماء الإبل، فقد كان الرجل إذا أراد سفرا بعيدا عوَّد إبله أن تشرب خمسا سدسا، حتى إذا دفعت في السير صبرت، ثم ضرب مثلا للذي يراوغ صاحبه ويريه أنه يطيعه، وقيل: يضرب لمن يظهر شيئا ويريد غيره، أو الذي يقدم الأمر يريد به غيره، فيأتيه من أوله، فيعمل رويدًا رويدًا5. وإذ كانت هذه القوافل في حياة القوم على جانب من الخطورة، كما كانت المصدر المهم من مصادر الثروة، وضعها أصحابها في حماية آلهتهم، واتخذ بعضهم إلها خاصا واجبه حماية القافلة وإيصالها سالمة إلى المحل المقصود. وقد عرف الإله "شيع هـ - قوم" "شيع القوم"، بأنه إله القوافل، الساهر على حمايتها

_ 1 الملوك، الأول، الإصحاح العاشر، الآية 2, أشعياء، الإصحاح 60، الآية 6، Hastings, P. 946.. 2 تاج العروس "4/ 140"، "خمس". 3 تاج العروس "1/ 93"، "ظمئ". 4 تاج العروس "1/ 403"، "غب". 5 تاج العروس "4/ 140"، "خمس".

وحماية أصحابها التجار. وعرف الإله "أبو إيلاف" "إيلف" "إيلاف"، بأنه إله القوافل والتجار وأرباب القوافل كذلك. وكان أصحاب القوافل يقدمون إلى آلهتهم النذور والقرابين بعد انتهاء رحلة القافلة، برًّا بنذرهم لها، وتقربًا إليها؛ كي تستمر في بذل حمايتها لهذه القوافل ورعايتها لها، كما كانوا يأتون إلى المعابد والمحجات فيطوفون بها، ويقصدون أصنامهم فينحرون عندها شكرًا وتقربًا إليها؛ لما أنعمت عليهم من نعم الحماية والربح الوافر الذي كسبوه في رحلاتهم هذه. وفي الذي يذكره أهل الأخبار عن طواف رؤساء قوافل مكة بالكعبة قبل بدئهم الرحلة وبعد انتهائهم منها، الكفاية للدلالة على أهمية هذه الرحلات التجارية في نفوس القوم. والغالب أن تعهد حراسة القوافل منذ يوم مغادرتها مكانها, إلى حراس أشداء أقوياء يحملون سلاحهم معهم، لمقاومة المعتدين. أما رئاسة القافلة، فلا تعطى إلا للمعروفين بشجاعتهم وبقوتهم وببأسهم وبالحيل وبمعرفتهم للطرق، ولأهل البيوتات والجاه العريض والسمعة بين القبائل. فرئيس القافلة وكبيرها، هو دماغها المفكر وقلبها النابض، وعلى حركاته وأعماله يتوقف مصير القافلة ومصير الأموال الثمينة التي توضع تحت يديه، فإذا أظهر الرئيس جبنًا أو عدم مقدرة في قيادة القافلة وفي الدفاع عنها، حين تعرضها للخطر، فقد تقع فريسة سهلة بأيدي لصوص الطرق، وتنتهب أموالها، فتكون هذه النتيجة طامة كبرى للمساهمين في أموال القافلة. ولأهمية قادة القوافل المذكورة، عملت لهم تماثيل لتخليد ذكراهم، وكرّموا في الكتابات. وقد عثر على عدد من هذه التماثيل والكتابات في مدينة "تدمر", وحمل الكثير منهم ألقاب الشرف التي كانت لا تُمنَح إلا لمن يؤدي خدمات ممتازة للمدينة في ذلك العهد، ووصل بعضهم إلى درجة عضو في مجلس المدينة الحاكم. وقد نال بقية قادة القوافل مثل هذا الاحترام من أصحابها, ولقب قائد القافلة في الكتابات الجاهلية بـ"زعيم القافلة" وبـ"زعيم السوق"1. حتى رؤساء الحكومات مثل كسرى وملوك الحيرة، كانوا لا يسلمون زمام قوافلهم إلا للأشداء المعروفين من الرجال. كانوا يتاجرون في الأسواق, يشترون

_ 1 CooKe, North - Semitic, pp. 274-279

ويبيعون، فإذا أقبل الموسم أرسلوا قافلتهم إلى السوق برئاسة رجل مشهور معروف بالشجاعة لا يهاب الموت ليوصلها إلى السوق المقصود, أو المكان المراد وصول البضاعة إليه؛ ذلك لأن مجال حكمهم أو نفوذهم لا يصل إلى الأنحاء البعيدة، فاضطروا إلى استئجار الشجعان المعروفين بقيادتهم للقوافل؛ لحماية تجارتهم وأموالهم من اعتداءات المعتدين. وتعتمد القوافل على الأدلاء الخبراء بطرق البوادي؛ لإيصالها إلى أهدافها بأمن وسلام وبأقصر الطرق، ولتجنيبها أخطار الأعداء وشر قطاع الطرق، عند شعورها بوجود خطر عليها إذا ما سلكت الطريق العام، أو طريقها الذي قررت السير به نحو المكان الذي تريده. فلما أبلغ جواسيس "أبي سفيان" أن النبي قد خرج يترصده نحو "بدر"، أسرع فاستعان بالأدلاء فانحاز عن بدر، وساحل, وتخلص بعلم أدلائه وعلمه بالطرق من وقوعه ووقوع قافلته بأيدي المسلمين. وإلى الدليل والأدلاء أُشير في قول الشاعر: شدوا المطيَّ على دليل دائب ... من أهل كاظمة بسيف الأبحُر1 وقد استعان قادة الجيش وأمراء السريا والغارات بالأدلاء أيضا؛ لإرشادهم إلى المواضع التي كانوا يقصدونها. وكان الرسول يستعين بالأدلاء، ويسأل الخبراء أصحاب العلم بطرق البادية حين يغزو، أو حين يرسل سراياه على قوم, وفي غزوة "بئر معونة" كان "المطلب السلمي" دليلها على الطريق2. ويذكر أهل الأخبار, أن "قريش بن بدر بن يخلد بن النضر" كان دليل "بني كنانة" في تجارتهم، فكان يقال: "قدمت عير قريش"، فسميت قريش بذلك, وأبوه "بدر" صاحب "بدر" الموضع الذي لقي فيه رسول الله قريشًا3. فقريش بن بدر, إذن هو على هذه الرواية، هو أول دليل يصل إلينا خبره من أدلاء قوافل قريش، وهو مؤسس تجارتها. ولا بد للقوافل من منازل تنزل بها لتستريح ولتريح دوابها من التعب ولتتموَّن

_ 1 تاج العروس "7/ 325"، "دلل". 2 الإصابة "3/ 405"، "رقم 8032". 3 كتاب نسب قريش "12".

بالماء وبالزاد إن احتاجت إليه. ونظرًا إلى بطء الحيوان في سيره وعدم تمكنه من السير مسافات طويلة دون توقف وراحة، كانت "منازل" ذلك الوقت غير متباعدة. ويقال للمكان الذي تنزل به القوافل: "المنزل", والمنزل: المنهل والدار1، وهو في معنى "الخان"، و"الخان" لفظة معربة معناها: المنزل والحانوت2. وقد اشتهرت اللفظة في الإسلام، وأطلقت على منازل المسافرين في الطرق وفي القرى والمدن, وتعني المنزل المخصص لنزول المسافر. وهو منزل يكون كبيرًا في الغالب، يستريح فيه المسافر، تاجرًا كان أو غير تاجر، ويضع فيه مطاياه. وأما "الفندق"، فبمعنى المنزل الذي ينزل به التجار والمسافرون، وهي من الألفاظ المعربة عن اليونانية من أصل Pandhokiyon3. وقد استعملها عرب بلاد الشام, ويظهر أنها من الألفاظ التي شاع استعمالها في الإسلام. وقد ذكر بعض علماء العربية، إن الفندق بلغة أهل الشام: الخان والسبيل من هذه الخانات التي ينزلها الناس مما يكون في الطرق والمدائن، وهو فارسي4. ولم تكن منازل أهل الجاهلية منازل مبنية بالضرورة، فقد كان المسافرون يضربون لهم خياما يأوون إليها، أو يلجئون إلى ظل مثل شجرة, يحتمون به من أشعة الشمس، وقد يفترشون الأرض وينامون جنب إبلهم، وكل ما يلزم في المنزل أن يوجد به ماء. فالماء هو إكسير الحياة بالنسبة للمسافر، وهو أهم لهم من الطعام، فطعامهم في ذلك الوقت طعام قليل بسيط؛ تمرات مع لبن، أو سويق، وما شاكل ذلك. ثم هم لا يأكلون كثيرًا ولا يقيمون لوجبات الطعام وزنًا، وقد يكتفي أحدهم بأكلة واحدة من هذه الأكلات الجافة التي يحملها، وقد يقتاتون بما يجدونه من نابت في طريقهم, من ثمر شجر بري أو بقل أو أعشاب؛ ولهذا صارت المنازل على مواضع الماء. ولم تكن الأبعاد بين هذه المنازل متساوية، بل كانت مختلفة، تتوقف أبعادها على الماء. فإذا وجد الماء في مواضع متقاربة، قامت على مستوطنات متقاربة،

_ 1 تاج العروس "8/ 134"، "نزل". 2 تاج العروس "9/ 194"، "خان". 3 غرائب اللغة "263". 4 تاج العروس "7/ 51"، "الفندق".

وصارت المسافات فيما بينها غير بعيدة، وإذا كان الماء بعيدًا، صارت المنازل متباعدة، وقد لا يهم الماء القوافل إذا كانت مزودة به. وكل ما تلاحظه في سفرها هو تعب الإنسان ومقدار تحمل دابته مشقة السفر والبعد؛ ولهذا كانوا يقطعون طرقهم بمراحل، و"المرحلة": المنزل بين المنزلين، يقال: بيني وبين كذا مرحلة أو مرحلتان1, فهم يقطعون طرقهم على قدر طاقتهم ومقدار تحمل إبلهم على السير. وقد علمتهم تجاربهم مقدار ما يقطعون، فإذا شعروا بالتعب وبتعب دوابهم، نزلوا منزلًا قد يكون مأهولًا به ماء، وقد يكون خاليًا في عراء؛ للاستراحة به، فإذا ارتاحوا استمروا في سيرهم نحو جهتهم المقصودة. و"الفرسخ" في تفسير علماء العربية: الراحة، و"فرسخ" الطريق هو ثلاثة أميال هاشمية، أو ستة، أو اثنا عشر ألف ذراع، أو عشرة آلاف ذراع. سمي بذلك؛ لأن صاحبه إذا مشى قعد واستراح من ذلك, كأنه سكن, واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية. وقيل: الفرسخ: الساعة من النهار2. و"الميل": مقياس تقاس به الأبعاد، يقال: قطع كذا ميلًا. وهو منار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض، ومنه الأميال التي في طريق مكة، وهي الأعلام المبنية لهداية المسافرين3. ونظرًا إلى وجود إمارات وعشائر وقبائل عديدة تمر بأرضها القوافل، فقد كان على أصحاب القوافل وأرباب المال إرضاء هؤلاء المتنفذين, بإعطاء إتاوات مرور لهم، وهدايا لحمايتهم وللسماح لهم بالمرور، على نحو ما تفعله حكومات هذا اليوم من استيفاء حق المرور "ترانزيت" "ترانست" عن التجارة والسيارات. فإذا تحرش بهم متحرش، وحاول قطاع الطرق الاعتداء عليهم، كان من واجب سيد القبيلة والرئيس المتنفذ في تلك الأرض تعقب المعتدين وتأديبهم وإعادة ما استولوا عليه إلى أصحابه. وبهذه الطريقة أمنت القوافل على أموالها، وأخذت تقطع البوادي والطرق البعيدة الطويلة، وهي في حمى هؤلاء المتنفذين.

_ 1 تاج العروس "7/ 341 وما بعدها"، "رحل". 2 تاج العروس "2/ 272"، "الفرسخ". 3 تاج العروس "8/ 123"، "ميل".

وقد كان الملوك وسادات القبائل والمتنفذون الذين تمر قوافل التجارة بمناطق نفوذهم، أو الذين تقع الأسواق في أرضهم أو في مناطق نفوذهم، يشتطون في الإتاوة، ويشتدون في جباية المكس، ويبالغون في رفع حق المرور والحقوق الأخرى المكتسبة بالعرف والعادة, أو بقانون القوة والكيف، فيؤذون بذلك التجار والتجارة ويضطرون التجار إلى رفع أسعار البيع؛ للحصول على أرباح لهم، فتضررت التجارة بذلك ضررًا كبيرًا, وقلَّ الإقبال على شراء السلع المستوردة من جزيرة العرب إلا ما كان ضروريا ولا مناص من شرائها، وارتفع على المشتري سعر المواد المستوردة، واضطر التجار إلى التحكم في أسعار الشراء من الأسواق المحلية في جزيرة العرب, بشرائها بأسعار متهاودة لضمان تصريفها في الأسواق الخارجية. وفي كل هذه الأحوال ضرر عام للبائع وللمشتري وللمستهلك وللاقتصاد العربي بوجه عام. وقد كانت القوافل تقصد الأماكن التي تريد البيع والشراء فيها, في مواسم معينة في الغالب؛ وذلك لاجتماع التجار فيها, وهذا مما يهيئ للتاجر أكبر عدد ممكن من التجار. كما كان التجار يقصدون الأسواق المؤقتة التي تقام في الأعياد وفي المناسبات الدينية لبيع ما عندهم من بضاعة ولشراء ما يأتي به الناس من أموال، ولم يكن ذلك خاصًّا بجزيرة العرب، فقد كان العبرانيون وغيرهم من بقية الشعوب السامية يفعلونه أيضًا. ونرى أن الأسواق التي كانت تقام في جزيرة العرب، كانت تقام في مواسم معينة تقع في الأشهر الحرم؛ وذلك لضمان مرور التجار بأمان، فلا يتحرش بهم إلا مستهتر طريد. والغالب أن سادات القبائل, التي تحرش المستهترون بالقافلة التي مرت بأرضهم, ينتقمون بأنفسهم منهم. وقد كان الجاهليون يضعون أعلامًا على الطريق ليُهتدَى بها، يقال لها: "الصُّوى" و"الثوة". ويقول علماء اللغة: إن الصوى: الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة يستدل بها على الطرق. والثوة كالصوة، وربما نصبت فوقها الحجارة ليهتدى بها، وإن العوة كالصوة التي هي العلم. وفي الحديث: "إن للإسلام صُوى ومنارًا كمنار الطريق"1. وذكر أن "الصوة": حجر يكون علامة في الطريق2.

_ 1 المخصص "10/ 81"، اللسان "14/ 127"، "صادر". 2 تاج العروس "10/ 215"، "الصوة".

وذكر أن "الثوة": حجارة ترفع فتكون علمًا بالليل للراعي إذا رجع، وأخفض علم يكون بقدر قعدتك، وارتفاع وغلظ, وربما نصبت فوقها الحجارة ليهتدى بها1. والمنار: العلم يجعل للطريق أو الحدّ للأرضين والعلامة التي توضع على الحدود لتوضح معالمها2. وقد كان أهل العربية الجنوبية يضعون علامات على الطرق لتشير إلى معالمها، فلا يضل عنها من يسلكها من الرجال والقوافل. وقيل في الإسلام للأعلام المبنية في طريق مكة: أميال؛ لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل إلى الميل، وكل ثلاثة أميال منها: فرسخ3. والمنار: محجة الطريق، قال الشاعر: لعك في مناسمها منار ... إلى عدنان واضحة السبيل4 والعلامة: شيء منصوب في الطريق يهتدى به. ويقال لما يبنى في جواد الطريق من المنازل يستدل بها على الأرض: أعلام, والأعلام: الحدود, والمعلم: ما يستدل به على الطريق من الأثر5, فقد كان من الصعب حتى على خبراء البادية الاهتداء إلى الطرق بدون وضع علامات تشير إليها. والنعامة: المفازة، وقيل: علم من أعلام المفاوز يهتدى به6. و"المنقل": الثنية في الجبل وكل طريق في الجبل: نقيل، في لغة أهل اليمن7. والآجام: علامات وأبنية يهتدى بها في الصحاري. و"الوجم": حجارة مركومة بعضها فوق بعض على رءوس القور والآكام، وهي أغلظ وأطول في السماء من الأروم. وحجارتها عظام، لا يحركها الإنسان ولو اجتمع جمع منهم بصعوبة، ينسبها الناس إلى صنعة عاد8. و"الآرام": الأعلام تنصب في المفاوز

_ 1 تاج العروس "10/ 64"، "ثوى". 2 اللسان "5/ 240 وما بعدها". 3 اللسان "11/ 639". 4 تاج العروس "3/ 588"، "نور". 5 تاج العروس "8/ 406"، "علم". 6 تاج العروس "9/ 79"، "نعم". 7 تاج العروس "8/ 145"، "نقل". 8 قال رؤبة: وهامة كالصمد بين الأصماد ... أو وجم العادي بين الأجمادِ تاج العروس "9/ 89"، "وجم".

يهتدى بها، أو خاص بعاد، أي: بأعلامهم، و"الأروم": الأعلام في المفاوز. وكان من عادة الجاهلية، أنهم إذا وجدوا شيئًا في طريقهم لا يمكنهم استصحابه, تركوا عليه حجارة يعرفونه بها, حتى إذا عادوا أخذوه. وقيل: قبور عاد1. وقد كان الجاهليون قد مهدوا الطرق وكسوا بعضها بمادة قوية مثل "الأسمنت" ووضعوا عليها العلامات. وقد أطلق العرب لفظة "العود" على الطريق القديم العادي2. وسن الطريق سنًّا: إذا ساره، ويقال: ترك سنن الطريق، أي: جهته3. وقد كان القادة يتنكبون عن سنن الطريق؛ ليباغتوا العدو، أو ليتجنبوا تعقبهم لهم. وقد كان لرؤساء القوافل علم بالأبعاد والمسافات, وبالأماكن التي يجب النزول بها والتمون منها بالماء والطعام. ونجد في كتب أهل الأخبار أخبارًا بأسماء منازل القوافل وبأبعادها, وقد استقيت من أفواه رجال القوافل في الجاهلية. كما نجد أن للأعراب دراية مدهشة بمواضع الماء وبالطرق مع مرورها في بوادٍ يصعب السير فيها، وقد ورثوا علمهم هذا عن أسلافهم ومن تجاربهم الخاصة التي تعلموها من كثرة أسفارهم وتنقلاتهم. وقد كان التجار وأصحاب القوافل يقطعون أسفارهم بمراحل، ينزلون في كل مرحلة بمنزل يستريحون فيه ويمونون أنفسهم بما يحتاجون إليه من ماء وزاد. ويعبرون عن المسافات التي تقطعها القافلة بين منزل ومنزل آخر بـ"مسيرة"، فيقولون: "مسيرة يوم" أو "مسيرة نهار" وما شابه ذلك, كما عرفوا الأبعاد بالفرسخ والميل4. و"النزل": المنزل، وما هيئ للضيف أن ينزل عليه, ومنه: منازل الطريق5. وتراعي القوافل في سيرها إلى أهدافها الأخذ بأقصر الطرق الآمنة المطمئنة, التي تتوفر فيها المياه، وقد تعدل من سيرها فتسلك طرقًا بعيدة أو وعرة إذا أحست بعدو يتربص لها في الطريق المسلوك، أو بلصوص ظهروا فيها، أو بقوم يريدون الاستيلاء على قافلتهم، كالذي فعله "أبو سفيان" مقفله من الشام يريد مكة، حيث بدل طريقه، فحوَّله عن "بدر"، وساحل، فأضاع بذلك الفرصة على المسلمين ووصل سالمًا بقافلته إلى مكة.

_ 1 تاج العروس "8/ 184"، "أرم". 2 تاج العروس "2/ 437"، "عود". 3 تاج العروس "9/ 242 وما بعدها"، "سَنَّ". 4 اللسان "11/ 639"، "صادر". 5 تاج العروس "8/ 124"، "نزل".

قوافل الميرة

قوافل الميرة: وقد يجتمع نفر للذهاب إلى سوق للامتيار منه، وقد يذهب أصحاب البيوت إلى الأسواق ليمير أهله بما يحتاجون إليه من طعام ولباس، وكان "الأعشى" المازني الشاعر, في جملة من يمتار من سوق "هجر". وقد خرج مرة يمتار في شهر "رجب" من "هجر", فهربت امرأته بعده ناشزةً عليه، فعاذت برجل منهم يقال له: "مطرف بن نهصل". فلما قدم الأعشى أخبر أنها نشزت، وأنها عاذت بـ"مطرف" فأتاه، فقال له: يابن عم, عندك امرأتي معاذة فادفعها إليَّ, فامتنع مطرف وكان أعز منه، فخرج حتى أتى النبي فعاذ به وأنشده شعرًا، فكتب الرسول إلى "مطرف" أن يدفع زوجة الأعشى إليه، فدفعها إليه1. وقد استغل بعض الناس هذه الطرق للتعيش منها، فعمل على حفر آبار بها، وعلى تهيئة ما يمكن تهيئته من وسائل الراحة للمسافرين؛ لينزلوا بها وليخففوا بذلك عنهم عناء السفر, وليتزودوا بالماء الطيب العذب. فنشأت عشرات المنازل، التي أراحت المسافرين وأصحاب القوافل، وجعلتهم في مأمن من الجوع والعطش وإمكانية التيه في البوادي والقفار. كما حفظت لهم حياتهم وأموالهم بضمان أصحاب تلك المنازل للمسافرين حياتهم وأموالهم من تحرش أحد بهم, ما داموا في جوارهم وفي حماهم، وضمان قبائلهم لهم حق الحماية والجوار، والقيام معهم بمعاقبة من يتطاول على المسافرين وينتهك حرمة الجوار. وقد صارت الطرق موردًا من موارد العيش لمن لا عيش له ولا رزق من الصعاليك والذؤبان. فتجمعوا، وكونوا عصابات أخذت تتربص بالقوافل، حتى إذا جاءت قافلة انقضت عليها وسلبتها، ثم فرت بما غنمته إلى مواضع نائية قصية

_ 1 الإصابة "2/ 267"، "رقم 4535"، الاستيعاب "2/ 256"، "حاشية على الإصابة".

بعيدة عن أي حكم؛ لتعيش على ما غنمته, وقد عرف هؤلاء بـ"لصوص الطرق". وكان المطرود من قبيلته ومن غضب أهله عليه فنفوه عنهم وتبرءوا منه، والعبيد الآبقون، يتجمعون في المواضع الحصينة وفي المراقي الصعبة التي تشرف على الطرق، ويهاجمون منها المارة والسابلة والقوافل. ولما ظهر الإسلام, كان قوم من هؤلاء, جماعهم من: كنانة، ومزينة، والحكم، والقارة، ومن اتبعهم من العبيد، قد اعتصموا في "جبل تهامة"، وآذوا الناس، فكتب لهم رسول الله، أنهم إن آمنوا وأسلموا، فعبدهم حر، ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رُدَّ إليهم, ولا ظلم عليهم ولا عدوان1.

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 278".

الفصل الثالث بعد المئة: طرق الجاهليين

الفصل الثالث بعد المئة: طرق الجاهليين ... الفصل الثالث بعد المائة: طرق الجاهليين لا أملك نصًّا جاهليًّا فيه أخبار عن الطرق التي كان يسلكها الجاهليون في تنقلاتهم من مكان إلى مكان؛ لأغراض خاصة، أو للرعي, أو للاتجار، وما سأذكره عن الطرق مأخوذ من الموارد الإسلامية فقط. وهي موارد تعرضت لموضوع "المسالك" والطرق التي كان يسلكها الحجاج والمسافرون والتجار في أيام الخلافة، داخل أرض الخلافة وخارجها. وعلى رأس هذه الموارد كتب "المسالك والممالك"، وبقية كتب "الجغرافيا" والسياحات ووصف جزيرة العرب. ففي هذه الموارد وصف للمسالك والطرق ولسكك البريد التي كانت في بلاد العرب, وهي وإن كانت طرقا إسلامية، إلا أنها بنيت على الطرق الجاهلية القديمة في الأغلب، وما فعله المسلمون هو أنهم اختصروا بعضًا منها، أو أقاموا مستوطنات جديدة عليها، أو حفروا آبارًا بين منازلها التي كانت متباعدة، بدليل أن المنازل والمواضع الجاهلية التي ترد أسماؤها في الشعر الجاهلي ترد كذلك في وصف الإسلاميين لطرق جزيرة العرب على النحو الوارد في ذلك الشعر، أو في أخبار أيام العرب, أو في كتب السير والتواريخ. ولهذا فسيكون اعتمادي في وصف طرق القوافل عند أهل الجاهلية، على هذه الموارد الإسلامية، مع العلم بأن بعض المسالك الجاهلية قد ماتت وذهب أثرها، وأن بعضًا منها بقي على حاله، وأن بعضًا من الطرق المسلوكة في الوقت الحاضر، والتي مهدت وعمرت تعميرًا حديثًا بالوسائل الفنية المعروفة في هذا اليوم، هي طرق

جاهلية قديمة، كانت مسلوكة قبل الإسلام. وهي طرق طبيعية كانت مسلوكة لوجود الماء فيها في مواضع متقاربة، وقد أُقيمت عندها مستوطنات، وبقيت على حالها لم تذهب فائدتها، ولم تتغير مواضع الاستيطان فيها؛ لذلك صارت السبل التي تسلك بين أجزاء جزيرة العرب إلى هذا اليوم. ومما يؤسف له كثيرًا، هو أن الموارد الإسلامية التي تحدثت عن غزوات الرسول وسراياه وعن الوفود التي قصدته من مختلف أنحاء جزيرة العرب، والعمال والرسل الذين أرسلهم الرسول إلى سادات القبائل أو لجمع الصدقات، ثم عن حروب الردة وعن عمال الخلفاء على أقاليم جزيرة العرب -سكتت عن ذكر الطرق التي سلكت والمنازل التي نزلت، ولم تفصل في ذكر المنازل والمراحل؛ فأضاعت علينا بذلك معرفة الطرق الجاهلية التي كان يسلكها الجاهليون في تجاراتهم وفي أسفارهم. ثم إن الذين بحثوا في الإسلام عن المسالك والطرق, وذكروا المنازل مع أبعادها بالأميال, أو بالفراسخ، أو بالمراحل -لم يهتموا بالإشارة إلى ذكر تواريخ هذه الطرق أو المنازل وإلى أصلها؛ هل هي جاهلية, أم هي إسلامية، أم معدلة، ولمثل هذه الملاحظات التي أهملوها أهمية كبيرة بالنسبة للبحث بالطبع. وسأبدأ بالطرق التي سلكها أهل الجاهلية فيما بين العراق وبلاد الشام, وقد كان منهم من يحاذي الفرات؛ حتى لا يبتعد عن الماء والغذاء وأهل الحضر, ثم يسلك الطرق الشمالية التي مهدها الروم؛ لدخول بلاد الشام، وهي في أيدي الروم في الغالب, غير أن الفرس استولوا عليها في بعض الأحايين. ونظرا إلى ما لهذه الطرق من الأهمية من الناحية الاقتصادية والعسكرية، فقد تشدد الروم في مراقبة القوافل التي تقصد بلاد الشام، أو تخرج منها للذهاب إلى العراق، وتصعبوا في السماح لها وللتجار بالمرور. ومن التجار من كان يخرج من الحيرة إلى بلاد الشام، فيسلك طريق "القطقطانة". وهو موضع سبق أن تحدثت عنه في أثناء كلامي على نهاية الملك "النعمان بن المنذر"، إذ جاء في رواية أن "كسرى" أمر به فسجن به. وهو موضع غير بعيد عن الكوفة من جهة البرية بالطف1, ثم يسلك الطريق إلى "البقعة"،

_ 1 البلدان "7/ 125"، الأغاني "2/ 28"، تاج العروس "5/ 209"، "قطط"، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام "3/ 268".

ثم إلى "الأبيض"، ثم إلى "الحوشي"، ثم إلى "الجمع"، ثم إلى "الخطى"، ثم إلى "الجبة"، ثم إلى "القلوفي"، ثم إلى "الأعناك"، ثم إلى "أذرعات"، ثم إلى "دمشق"1. وطريق آخر سلكه الناس من العراق إلى بلاد الشام يبدأ من "عين التمر"، وهو موضع تحدثت عنه في مواضع من هذا الكتاب، ويتجه نحو "الأخدمية"، ثم إلى "الخفية"، ثم إلى "الخلط"، ثم إلى "سوى"، ثم إلى "الأجيفر"، ثم إلى "الغربة"، ثم إلى "بصرى"2. وقد سبق لي أن تحدثت عن بصرى في مواضع من هذا الكتاب. وهي المدينة التي وصل إليها الرسول مع عمه "أبي طالب"، وبها كان "بحيرا" الراهب على ما جاء في كتب السير، وإليها كان يقصد تجار مكة، حيث يتاجرون بأسواقها. وبها قبر "بحيرا"، وهو يزار3. وأما طرق العربية الشرقية مع العراق، فقد كان من الجاهليين من يسلك الطرق المائية, فيتجه نحو سواحل الخليج عن طريق الأبلة، فيحاذي الساحل. ومنهم من كان يتجه إلى الشرق نحو جزر الخليج، ثم يتجه منها إلى ساحل "عمان"، ومنهم من كان يسلك طرق البر. وقد ذكر "ابن خرداذبة"، أن الطريق من البصرة إلى عمان على الساحل، يمر إلى "عبادان"، ثم إلى "الحدوثة"، ثم إلى "عرفجا"، ثم إلى "الزابوقة"، ثم إلى "المقر"، ثم إلى "عصى"، ثم إلى "المعرس"، ثم إلى "خليجة"، ثم إلى "حسان"، ثم إلى "القرى" "القرنتين"، ثم إلى "مسيلحة" "مسلحة"، ثم إلى "حمض"، ثم إلى ساحل "هجر"، ثم إلى "العقير"، ثم إلى "قطر"، ثم إلى "السبخة"، ثم إلى "عمان"4. ومن الطرق المهمة التي تربط اليمامة بجنوب العراق، طريق يأخذ من الأبلة "البصرة"، ثم يتجه نحو "كاظمة"، ثم إلى منازل ثلاثة لم يذكر أسماءها "ابن خرداذبة"، ثم إلى "القرعاء"، ثم إلى "طخفة"، ثم إلى "الصمَّان"،

_ 1 ابن خرداذبة، المسالك والممالك "99"، "وسيكون رمزه: المسالك". 2 المسالك "97". 3 صبح الأعشى "4/ 108". 4 المسالك "60"، قدامة "193"، صبح الأعشى "5/ 57".

ثم منازل ثلاثة لم يشر إلى اسمها "ابن خرداذبة"، ومنها إلى "جب التراب"، ثم إلى منزلين آخرين، ومنهما إلى "سليمة"، ثم إلى "النباك"، ومنه إلى "اليمامة"1. ويتفق وصف هذا الطريق، وأسماء المواضع مع ما ذكره "قدامة بن جعفر" في كتابه "الخراج", سوى أن "ابن خرداذبة" يبدأ بالبصرة، ثم ينتهي باليمامة، أما "قدامة" فيبدأ باليمامة وينتهي بالبصرة. ونجد في كتاب بلاد العرب، للحسن بن عبد الله الأصفهاني, وصفًا لطريق آخر يتجه من "حجر" اليمامة حتى ينتهي بالبصرة, ذكر فيه أسماء المواضع ووصف الأرض والمياه، وينتهي طريقه بـ"سفوان"، "صفوان"، المعروف اليوم في العراق. وقد ذكر "كاظمة"، وذكر أنها على ساحل البحر، وبها حصن وتجار ودور مبنية، ثم ذكر أسماء مواضع تقع بينها وبين "سفوان"2. ولما كانت البصرة إسلامية بُنيت في زمن "عمر"، فإن الجاهليين كانوا يسافرون من "الأبلة" التي حلت البصرة محلها, إلى جزيرة العرب. ويبدأ هذا الطريق بالحرمليَّة، وهو ماءة في قف في شُعبة عليه نخلات، ثم تركب القف، فنأخذ على وادٍ يقال له: "ذو جراف"، فتجزعه عرضا، ثم تنتهي إلى "المديدان"، ثم تجزع "الحرملية" ثم وادي "بنبان" حتى تصل "سويسًا"، ثم "البديع"، ثم "الطنب"، ثم "الجرداء"، وهي روضة تشرب من وادي جراف, ثم "الراح". فإذا جزته وقعت في العرمة، ثم تخترق وادي حرج حتى تنتهي إلى "الجرباء", وعلى يسار الجرباء في العرمة ماء يقال له: "الرداع"، فإذا فصلت من العرمة من حيال الجرباء صرت إلى وادٍ يقال له: "مجمع الأودية", ثم تصير إلى "ذات الرّئال"، ثم تنتهي إلى "الحفر" حفر سعد، ثم تفوز إلى "الدهناء"، فتصل "خشاخِش" فتقع في معبر، فتعبر جبال الدهناء, فتصل إلى أبرق يقال له: "القنفذ", ثم تستقبل "الصمان", فتمضي فيه حتى تنتهي إلى "المعا"، ثم ترد "طويلعا" وهو وسط الطريق بين حجر وبين البصرة, وهو موضع فيه ماء وفيه تجار، وحصن يتحصنون به من اللصوص3.

_ 1 المسالك "151"، كتاب الخراج، لقدامة "193"، "نبذ طبعت مع المسالك". 2 بلاد العرب "301-324". 3 بلاد العرب "301-314".

ثم تجوز "طويلعا" إلى وادٍ يقال له: "الشيط"، فإذا انحدرت من عقبة الشيط تأتي "الوريعة"، فإذا جزته تأتي "الدو". فإذا فصلت في "الدو" صرت إلى "كفة العرفج"، وفي منقطع "الدو" حين تجوزه وادٍ يقال له: "وادي السيّدان"، وعلى الطريق ماء "النحيحة"، تخرج منه إلى "تياس"، وقريب منه ثمد يقال له: "الفارسي"، ثم تجوز ثمادًا أخرى حتى تصل "المخارم"، فتهبط "كاظمة". ثم تخرج من "كاظمة" إلى "النجفة"، ثم تمضي إلى "الصليف" "الصليب"، ثم تهبط إلى "أيرمى" "أيرمى الركبان"، وهو علم مبني من حجارة للطريق، وهو شبه شخص إنسان. ثم تصل "الحزيز"، ثم تهبط "سفوان"، تم تخرج حتى تهبط "الأحواض"، وهو ماء للسانية، ثم تصل البصرة1. وهناك طريق يوصل "حجرًا" بالكوفة، يبدأ بالحبل، وهو ماء في ناحية القف لراعية اليمامة، ثم تخرج منه فترد القف، ثم تمضي حتى ترد "البالدية"، فإذا خرجت منها وردت ماء يقال له: "الغميم", ثم ترد واديًا يقال له: "العتك"، ثم "مبايض"، ثم تجوزه إلى "تعشار"، فـ"مويهة"، ثم "تلعة"، ثم "السقيا"، ثم تجوز الدهناء، فتعلو قفا يوصلك إلى "المجازة", وهي من طريق مكة الذي يأخذ عليه البصريون، عليه المنار من بطن فلج. وهي منهل، ثم تجوزها فتقع في "اللوى" ثم تصير إلى "لينة"، وهي ماءة كبيرة، ثم تسير فترد "زبالة"، وهي سوق من أسواق طريق الكوفة المؤدي إلى مكة. فإذا خرجت من "زبالة" وردت "القاع"، ثم تخرج منه إلى "العقبة", ثم ترد "الشقوق"، ثم "واقصة"، ثم "العذيب"2. ويذكر علماء اللغة أن العرب أطلقت "القعقاع" على الطريق من اليمامة إلى الكوفة، وذكر بعضهم إلى مكة3. وكان بين أهل "الحيرة" وبين أهل مكة اتصال تجاري وثيق، بل واتصال ثقافي أيضا، فمنها حُمِلَ الخط العربي إلى مكة على رواية أهل الأخبار. وكان

_ 1 بلاد العرب "301-324". 2 بلاد العرب "327-335". 3 تاج العروس "5/ 477"، "قع".

التجار يرحلون منها إلى "القادسية"، وهو موضع معروف سبق أن تحدثت عنه، وبه كانت وقعة القادسية1. ومنه إلى "العذيب"، وهو مسلحة بين العرب وفارس في حد البرية، وبها حائطان متصلان من القادسية إلى العذيب ومن الجانبين كليهما نخل2. وبالعذيب أحساء غزيرة الماء، يخرج الماء خريرًا من قوة اندفاعه على ما يفهم من شعر ورد على لسان بعض الضبيين3. ويخرج الإنسان من العذيب فيدخل المفازة، ويكون بنجد حتى يبلغ موضع "ذات عرق"4. والعذيب بين القادسية ومغيثة، وفي الحديث ذكر العذيب, وهو ماء لبني تميم, وهو طرف أرض العرب5. ويتجه الطريق من "العذيب" إلى المغيثة، وفيها برك6, وماؤها ماء السماء. ثم يتجه إلى "وادي السباع"، ثم إلى "القرعاء"7 وفيه آبار، ثم إلى "واقصة"8، ثم إلى "العقبة" وبها آبار9، ثم إلى "القاع"، ومن "القاع" إلى "زبالة"، ومن "زبالة" إلى "الشقوق"، ومن "الشقوق" إلى "البطان"، وهو قبر العبادي10, ثم إلى "الثعلبية"، وهو ثلث الطريق

_ 1 المحبر "14, 261، 292، 302". 2 المسالك "185"، بلاد العرب "334، 337"، تاج العروس "1/ 370"، "عذب"، المفصل "4/ 225 وما بعدها". 3 المحبر "248". 4 المسالك "125". 5 تاج العروس "1/ 370"، "عذب". 6 المسالك "125-128"، قدامة "186"، بلاد العرب "335". 7 المسالك "126"، قدامة "186"، بلاد العرب "296، 351، 353، 355"، تاج العروس "5/ 463"، "قرع". 8 المسالك "126"، قدامة "186"، بلاد العرب "334، 335"، تاج العروس "4/ 445"، "وقص". 9 المسالك "126"، قدامة "186"، بلاد العرب "334، 335". 10 "البطان"، "البطانية"، ابن رستة، الأعلاق "175"، المسالك "126"، قدامة "186"، وبطان بين الشقوق والثعلبية في طريق الكوفة. وأنشد نصر: أقول لصاحبي من التآسي ... وقد بلغت نفوسهم الحلوقا إذا بلغ المطي بنا بطانا ... وجزنا الثعلبية والشقوقا وخلفنا زبالة ثم رحنا ... فقد وأبيك خلفنا الطريقا تاج العروس "9/ 142"، "بطن".

فيها برك1، ثم إلى "الخزيمية"، وهي مدينة سميت "خزيمة"؛ لأن خزيمة صير فيها سواني، وكانت تسمى "زرود"2، ثم إلى "الأجفر"3، ثم إلى "فيد"، وهي نصف الطريق، وبها منزل العامل في الإسلام, وبها أسواق وقناة وزروع، وبرك وآبار وعيون جارية, وقد عظم شأنها في الإسلام. ذكر أن بها حصنًا عليه باب حديد وعليها سور دائر، وكان الحجاج يودعون فيها فواضل أزوادهم إلى حين رجوعهم وما ثقل من أمتعتهم، وهي قرب "أجأ" و"سلمى" جبلي طيء. وقد ذكرت في شعر "زهير بن أبي سلمى"، إذ قال: ثم استمروا وقالوا: إن مشربكم ... ماء بشرقيّ سلمى فيد أو ركك4 وتقع في فلاة الأرض بين أسد وطيء، أقطعها الرسول إلى "زيد الخيل"5. ثم إلى "توز"، فيها برك وآبار وحصن بناه "أبو دلف"6, ثم إلى "سميراء"7، ثم الحاجز8، فمعدن القرشي، وهو "معدن النقرة"9, وعنده تفترق الطريق؛ فمن أراد مكة نزل "المغيثة"، ومن أراد "المدينة" أخذ نحو العسيلة فهبطها. وهو منزل حاج العراق بين "أضاخ" و"ماوان", وفيه بركة وثلاثة آبار: بئر تعرف بالمهدي، وبئران تعرفان بالرشيد, وآبار صغار للأعراب تنزح عند كثرة الناس, وماؤها عذب10. فمن أخذ على المدينة، فمن المعدن إلى العسيلة، ثم إلى بطن نخل، ثم إلى

_ 1 المسالك "127"، قدامة "186"، "الثعلبية بطريق بكة -حرسها الله تعالى- على جادتها, من الكوفة حتى منازل أسد بن خزيمة"، تاج "1/ 165"، "ثعلب". 2 قدامة "186"، المسالك "127"، "والخزيمية: منزل للحاج بين الأجفر والثعلبية"، تاج العروس "8/ 275"، "خزم". 3 المسالك "127"، قدامة "186"، تاج العروس "3/ 106"، "جفر". 4 المسالك "127"، قدامة "186". 5 تاج العروس "2/ 457"، "فيد". 6 المسالك "127"، قدامة "186"، تاج العروس "4/ 12"، "توز". 7 يا رب جار لك بالحزيز ... بين سميراء وبين توز تاج العروس "3/ 278"، "سمر". 8 تاج العروس "3/ 126"، "حجر". 9 المسالك "127"، قدامة "186". 10 تاج العروس "3/ 582"، "نقر".

الطرق، ثم إلى المدينة1, وهي "يثرب". وذكر بعض أهل الأخبار أن "مرزبان البادية" كان قد عيَّن على المدينة في الجاهلية عاملًا يجبي خراجها، وكانت قريظة والنضير ملوكًا ملكوها على المدينة, على الأوس والخزرج. وفي ذلك يقول شاعر الأنصار: تؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير2 ومن المدينة إلى "السيالة"، ومنها إلى "الروحاء"، ثم إلى "الرويثة"، ومنها إلى "العرج"، ثم إلى "السقيا"، ثم إلى "الأبواء"، ثم "الجحفة"، ثم إلى "قديد"، ثم إلى "عسفان"، ثم إلى "مر الظهران"، ثم إلى مكة3. ومن أراد "مكة" قصد "مغيثة الماوان"4، ومن "مغيثة" إلى "الربذة", وماؤها كثير, وإليها هاجر "أبو ذر" الغفاري، وبها مدفنه. وقد خربت سنة "319" للهجرة بالقرامطة5. ومن الربذة إلى معدن بني سليم، ومن معدن بني سليم إلى العمق، ومنه إلى "أُفاعية"6 "الأفيعية" إلى "المسلح"، ثم إلى "الغمرة"، ومنه يعدل إلى اليمن، ومن الغمرة إلى "ذات عرق"، ومنه يقع الإحرام7، ثم إلى "أوطاس"، ثم إلى بستان بني عامر "بستان ابن عامر"، ثم غمر ذي كندة، ثم مشاش، ثم مكة8. ويلاحظ أن هذا الطريق هو من أقصر الطرق المؤدية من "الحيرة" إلى "المدينة"، وهو يمر بجبلي "طيء"، أي: "جبل شمر" في الوقت الحاضر. ويمر على "حائل" بجبلي طيء، وهو مدينة في الوقت الحاضر ورد ذكرها في شعر "امرئ القيس", إذ يقول:

_ 1 المسالك "128"، قدامة "187". 2 المسالك "128". 3 الصفة "184 وما بعدها". 4 قدامة "186"، "بين معدن النقرة والعمق عند ماوان"، تاج العروس "1/ 637"، "غوث". 5 تاج العروس "2/ 562"، "ربذ". 6 تاج العروس "10/ 282"، "فعا". 7 قدامة "186". 8 المسالك "132".

يا دار ماوية بالحائل ... فالفرد فالجبتين من عاقل1 وبجبل "سلمى" مدينة اسمها "أُرك", عرفت بمدينة "سلمى"، وأصحابها من "طيء", وقد انحاز إليها "خالد بن الوليد"، لما أرسله "أبو بكر" من "ذي القصة" لمحاربة المرتدين2. وقد نزل "خالد" بأجأ، ثم تعبأ لملاقاة "طليحة الأسدي"، فالتقى به على "بزاخة"3. ويسلك هذا الطريق في الوقت الحاضر, الحجاج الذين يقصدون الحج عن طريق النجف بالسيارات. و"الربذة" من القرى القديمة في الجاهلية، وهي عن المدينة من جهة الشرق على طريق حاج العراق على نحو ثلاثة أيام, سميت بـ"خرقة الصائغ"، بها مدفن "أبي ذر"4. ومعدن بني سليم، هو لبني سليم الذين غزاهم الرسول غزوة "قرارة الكدر"، ويقال: "قرقرة بني سليم وغطفان", لما بلغه أن بقرارة الكدر جمعًا من غطفان وسليم يريد الكيد للمسلمين5, و"الكدر": ماءة لبني سليم في ديار غطفان ناحية المعدن6. وإلى هذا الموضع أيضًا وصل الرسول في غزوته المعروفة بغزوة السويق، وسببها أن "أبا سفيان" نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدًا؛ انتقامًا لبدر، فسلك النجدية حتى نزل بصدور قناة إلى جبل يقال له: "تيت"، من المدينة على بريد أو نحوه، ثم خرج إلى "بني النضير"، ثم خرج فأرسل رجالًا من قريش إلى ناحية من المدينة يقال لها: "العُريض"، فحرقوا في أصوار من نخل لها، وقتلوا رجلين، ثم انصرفوا راجعين، فخرج رسول الله في طلبهم حتى بلغ "قرقرة الكدر"، فوجد أن "أبا سفيان" قد فاته وأصحابه، وكان أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب الدقيق ويتخفون، وكان

_ 1 تاج العروس "7/ 295"، "حول". 2 الطبري "3/ 254 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 101"، "أرك". 3 الطبري "3/ 255"، تاج العروس "2/ 253"، "بزخ". 4 ابن رستة "179"، تاج العروس "2/ 562"، "ربذ". 5 إمتاع الأسماع "1/ 107". 6 تاج العروس "3/ 518"، "كدر"، "3/ 490 وما بعدها"، "قرر"، الطبري "2/ 482".

ذلك عامة زادهم؛ فلذلك سميت غزوة السويق1. وقد غزا الرسول "بني سليم" مرة أخرى, فسار إليهم حتى بلغ موضع "بحران" معدنًا بالحجاز من ناحية الفرع، فلما لم يجد أحدًا منهم، وكانوا قد تفرقوا, رجع عنهم. ويظهر أن قريشًا كانوا قد جاءوا إليهم، واتفقوا معهم على مهاجمة المدينة، بدليل ما ورد في خبر هذه الحملة من أنه "غزا يريد قريشًا وبني سليم"2. و"بحران": موضع بناحية الفرع من الحجاز، به معدن للحجاج بن علاط البهري3. و"الفرع" بالحجاز من أضخم أعراض المدينة4. وهذا الطريق هو الطريق الذي كان أهل مكة في الجاهلية يسلكونه إلى العراق. ولما خافت قريش طريقها الذي كانت تسلكه إلى الشام حين كان من وقعة "بدر" ما كان، قررت سلوك طريق العراق، أي: هذا الطريق، واستأجرت لها دليلا خريتا بالطرق عالما بها، هو "فرات بن حيان"، وخرجت القافلة تحمل مالًا كثيرًا، فيه فضة كثيرة وهي معظم تجارتهم، سلكت طريق "ذات عرق"، ثم خرج الدليل بهم إلى "غمرة"، وانتهى إلى النبي خبر العير وفيها المال الكثير، فأرسل "زيد بن حارثة" على سرية، التقت بالقافلة بموضع "القردة"، فظفر بالعير, وأفلت أعيان القوم, وأتى بدليلها أسيرًا، وخمست الغنائم، فبلغ الخمس عشرين ألف درهم5. وقد ذكر "الهمداني" أسماء منازل طريق الكوفة -يثرب، والكوفة- مكة على هذا النحو: الكوفة، فالقادسية، فالمغيثة، ثم القرعاء، ثم واقصة، ثم العقبة, ثم القاع، ثم زبالة، ثم الشقوق, ثم البطان، ثم الخزيمية، ثم الأجفر، ثم فيد، ثم توز، ثم سميراء، ثم الحاجر، ثم معدن النقرة، ثم العسيلة، ثم بطن نخل، ثم الطرف، ومنه إلى المدينة.

_ 1 الطبري "2/ 483 وما بعدها"، ابن هشام "2/ 119"، "حاشية على الروض"، إمتاع الأسماع "1/ 106". 2 الطبري "2/ 487"، ابن هشام "2/ 120"، إمتاع الأسماع "1/ 111 وما بعدها". 3 تاج العروس "3/ 31"، "بحر". 4 تاج العروس "5/ 449"، "فرع". 5 الطبري "2/ 492"، إمتاع الأسماع "1/ 112"، ابن هشام "2/ 121 وما بعدها"، "حاشية على الروض".

ومن الطرف يؤدي الطريق إلى مكة، فيمر بالسيالة، ثم الروحاء، ثم الرويثة، ثم العرج، ثم السقيا، ثم الأبواء، ثم الجحفة، ثم قديد، ثم عسفان، ثم مرّ الظهران، ثم مكة1. ومن أخذ الجادة من مكة إلى معدن النقرة، فمن مكة إلى البستان، ثم ذات عرق، ثم الغمرة، ثم المسلح، ثم الأفيعية، ثم حرة بني سليم، ثم العمق، ثم السليلة، ثم الربذة، ثم ماوان، ثم معدن النقرة, وهو ملتقى الطريقين2. وقد عرف طريق العراق من الكوفة إلى مكة بـ"المثقب", يقال: سلكوا المثقب, أي: مضوا إلى مكة, وقيل: إنه طريق ما بين اليمامة والكوفة. وذكر بعض العلماء أنه طريق كان بين الشام والكوفة, وكان يسلك في أيام بني أمية. ويظهر أن الاسم من الأسماء القديمة، بدليل اختلاف العلماء في تعليل التسمية؛ فقال بعضهم: سمي لمرور رجل به يقال له: مثقب، وقال بعض آخر: سمي بذلك؛ لأن بعض ملوك حمير بعث رجلًا يقال له: مثقب, على جيش كثير إلى الصين, فأخذ ذلك الطريق فسمي به3. وكان حاج البصرة إذا أرادوا الحج، اتجهوا إلى "المنجشانية" على ستة أميال من البصرة، تنسب إلى "منجش" مولى "قيس بن مسعود"4، ثم إلى "الحفير"، وهو ركايا ما بين "ماوية" و"المنجشانيات"5، ثم إلى "الشجى"، ثم إلى "الخرجاء"، وهو ماءة احترفها "جعفر بن سليمان" على طريق حاج البصرة6، ثم إلى "الحفر"7، ثم إلى "ماوية"، ثم إلى ذات العشر، ثم إلى "الينسوعة" ينسوعة القف، منهل من مناهل طريق مكة على جادة البصرة، بها ركايا كثيرة عذبة الماء عند منقطع رمال الدهناء بين ماوية النباج8. ثم إلى

_ 1 الصفة "183 وما بعدها". 2 الصفة "185". 3 تاج العروس "1/ 166"، "ثقب"، ابن دريد، جمهرة اللغة "1/ 203"، الصفة "173، 176"، البلدان "4/ 414". 4 تاج العروس "4/ 348، 354"، "م/ ج/ ش"، "نجش". 5 تاج العروس "3/ 152"، "حفر". 6 تاج العروس "2/ 32"، "خرج". 7 تاج العروس "3/ 152"، "حفر". 8 تاج العروس "5/ 523"، "نسع".

"السُّمَيْنة": أول منزل من النباج لقاصد البصرة1، ثم إلى "النباج"، ويقال له: نباج بني عامر بن كريز، وهو بحذاء "فيد", وبه يوم من أيام العرب مشهور لتميم على بكر بن وائل. وقد استنبط ماءه "عبد الله بن عامر بن كريز"، شقق فيه عيونًا وغرس نخلًا، وسكن به رهطه بنو كريز2, و"عامر بن كريز بن ربيعة" القرشي العبشمي, والد "عبد الله"، وهو من المحمقين في قريش، ذكر أنه أسلم يوم الفتح، وكان ابنه "عبد الله" أميرًا على البصرة زمن عثمان3، كما كان صهرًا لمعاوية ومن أغنياء المسلمين4. ومن النباج إلى "العوسجة"، ثم إلى "القريتين"، ثم إلى "رامة"، ثم إلى "إمرة"، ثم إلى "طخفة"، ثم إلى "ضرية"، ثم إلى "جديلة"، ثم إلى "فلجة"، ثم إلى "الدثينة" "الدفينة", ثم إلى "قبا", ثم إلى "مران", ثم إلى "وجرة"، ثم إلى "أوطاس"، ثم إلى "ذات عرق"، ثم إلى بستان ابن عامر، ثم إلى مكة5. ويلاحظ أن مبدأ هذا الطريق قد عمر في الإسلام؛ وذلك بسبب تأسيس البصرة، ولكنه يسلك أيضا الطريق الجاهلي القديم في مواضع كثيرة منه. و"بستان ابن عامر" عند مكة، ويرى بعض العلماء أن هذه التسمية مغلوطة وأنها من أقوال سواد الناس وأن الصحيح بستان ابن معمر، وهو مجتمع النخلتين اليمانية والشامية6. بينما يرى بعضهم العكس، إذ قال: "وبستان ابن عامر بنخلة, هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة. ولا تقل: بستان ابن معمر؛ فإنه قول العامة"7. وورد أيضا "بستان ابن عامر لعمر بن عبد الله بن معمر بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي، ولكن الناس غلطوا فيه، فقالوا: بستان ابن عامر، وبستان بني عامر، وإنما

_ 1 تاج العروس "9/ 242"، "سمن". 2 تاج العروس "2/ 103"، "نبج". 3 الإصابة "2/ 248"، "رقم 4418". 4 المحبر "47، 57، 150، 346، 363، 387، 440، 450". 5 المسالك "146 وما بعدها"، قدامة "190"، بلاد العرب "371". 6 بلاد العرب "374"، تاج العروس "3/ 424"، "عمر". 7 تاج العروس "3/ 424"، "عمر".

هو بستان ابن معمر، وقوم يقولون: نسب إلى ابن عامر الحضرمي، وآخرون يقولون: نسب إلى ابن عامر بن كريز"1. وذكر أنه على مقربة من هذا البستان موضع يقال له: "المسدّ"، وهو مأسدة2. ويقع موضع "السّيّ"، وهو ماء من ذات عرق إلى "وجرة", على ثلاث مراحل من مكة إلى البصرة وخمس من المدينة. فهو من منازل طريق البصرة - مكة, وإليه أرسل الرسول "شجاع بن وهب" الأسدي، على "بني عامر" بناحية "ركبة"3, ووجرة في طريق البصرة. وأما "ذات عرق" فحد يفصل في عرف علماء جزيرة العرب بين الحجاز ونجد, فمن ذات عرق إلى الغرب الحجاز، ومن ذات عرق مشرقًا فهو نجد4. وإذا جزت "وغرة" ووجرة فأنت في نجد إلى أن تبلغ "العذيب"، و"غمرة" في طريق الكوفة5, وهي تفصل ما بين تهامة ونجد6. وعلى مقربة من "ذات عرق"، يقع قبر أبي رغال في موضع يقال له: "الغُمَيْر"7، بين ذات عرق وبين البستان8. وقد ذكر "القلقشندي" طريقًا يبدأ بالبصرة ويتجه نحو "اليمامة"، على هذا النحو: "البصرة"، ثم "المنجشانية"، ثم إلى "الكفير" "الحُفير"، ثم إلى "الرحيل"، ثم إلى "الشجى"، ثم إلى "الحفر"، ثم إلى "ماوية"، ثم إلى "ذات العشر"، ثم إلى "الينسوعة"، ثم إلى "السمينة"، ثم إلى "النباج"، ثم إلى "العمومية" "العوسجة"، ثم إلى "القريتين"، ثم إلى "سويقة"، ثم إلى "صداة"، ثم إلى "السد"، ثم إلى "السقي"،

_ 1 البلاذري، فتوح "63". 2 تاج العروس "2/ 374"، "سدد". 3 إمتاع الأسماع "1/ 344". 4 بلاد العرب "15، 178، 336". 5 بلاد العرب "336". 6 تاج العروس "3/ 455"، "غمر". 7 كزبير. 8 قال امرؤ القيس: كأثل من الأعراض من دون بَيْشَةٍ ... ودون الغُمَيْر عامدات لِغَضُورا تاج العروس "3/ 455"، "غمر".

ثم إلى "المنبية"، ثم إلى "السفح"، ثم إلى "المريقة"، ثم إلى "اليمامة"1. وذكر "الهمداني" أسماء بعض المواضع التي كان يسكنها المسافرون من الكوفة إلى العراق، وهي الطرق السالكة التي عرفت بـ"المحجة"؛ لأنها طرق الحج2. وقد ذكر "الهمداني" أسماء مواضع يمر بها الطريق من "نجران" إلى البصرة, وهي: نجران, ثم كوكب، ثم الحفر، ثم العقيق وهو معدن ذهب، ثم "الفلج"، ثم "الخرج"، ثم "الخضرمة"، ثم "الفقى"، ثم البصرة3. وإذا أراد أهل اليمامة السفر إلى مكة، سافروا إلى العرض وهو بطن العرض، عرض بني حنيفة، الوادي المعروف اليوم باسم الباطن، وفيه مياه وقرى4، ثم "الحديقة"، ثم إلى "السيح"، وهو سيح "آل إبراهيم بن عربي" والي اليمامة في عهد "عبد الملك" و"هشام"5، ثم إلى "الثنية"، ثم إلى "سقيراء"، ثم إلى "السد"، ثم إلى صداة، ثم إلى "شريفة"، ثم إلى "القريتين" من طريق البصرة، فيتصل الطريق بطريق البصرة، ويسلكها على نحو ما مر6. وقد ذكر "قدامة" منازل هذا الطريق على هذا النحو: "العرض"، ثم "حديقة"، ثم "السيح"، ثم "الثنية العقاء"، ثم "سقيراء"، ثم "السد"، ثم "مرارة"، ثم "سويقة"، ثم "القريتين"، ثم طريق البصرة7. ونجد في "بلاد العرب" وصف طريق يبدأ بـ"حجر" اليمامة وينتهي بمكة, ويبدأ بـ"بطن العرض"، ثم "السيح"، ثم "ثنية الأحيسى"، ثم ناحية من "قرقرى" اليمامة، ثم "المنفطرة"، ثم "الغُزيز"، ثم "الوركة"، ثم "أهوى"، و"أضيمر"، ثم "العفافة"، ثم "عكاش"، ثم "المروت"، ومنه إلى "السحامة" وعليها طريق المنار، وإذا جزت "أهوى"، فمن ورائها مويهة

_ 1 صبح الأعشى "5/ 61". 2 الصفة "131". 3 الصفة "166". 4 بلاد العرب "361". 5 بلاد العرب "361". 6 المسالك "146 وما بعدها". 7 قدامة "191".

يقال لها: "الأسودة"، ثم تعبر رملة يقال لها: "جراد"، ثم تصل "الهلباء" بحايل، فإذا جزت "الهلباء" وقعت في وادٍ تجوزه فترد "عكاشا"، ثم ترد "العيصان" وهو معدن، ثم ترد معدن الأحسن وهو من أول عمل المدينة، ثم تجوزه إلى "العلكومة"، ثم ترد "الدثينة" "الدفينة": قرية على طريق البصرة إلى مكة1, ثم يسلك هذا الطريق المواضع التي ذكرتها عند حديثي على طريق البصرة - مكة. وكان لأهل اليمامة طرق توصلهم إلى اليمن، منها طريق يؤدي إلى "الخرج"2، ثم إلى "نبعة"، ثم إلى "المجازة"، و"المعدن"، و"الشفق" "الشقق"، ثم "الثور"، ثم "الفلج"، وهو قرية كبيرة بها نخيل ومزارع وعين يقال لها: "الذّبا", يخرج منها سبعة عشر نهرًا، وهي من الأفلاج3. ثم "الصفا"، وبئر الآبار, ونجران، ثم الحمى, وبرانس، ومريع، والمهجرة4. ثم يسلك طريق المهجرة المؤدي إلى صنعاء5. وذكر "الهمداني" طريقًا يصل نجران باليمامة ثم ينتهي بالبصرة, ومعنى ذلك طريق يوصل البصرة باليمن، فنجران من أهم عقد الطرق المؤدية إلى اليمن. ويبدأ الطريق بنجران، ومنها إلى "كوكب"، ثم إلى "الحفر"، ثم "العقيق" وهو معدن يعق عن الذهب، وهو لجرم وكندة، ثم "المقترب"، ثم "الفلج"، ثم "الخرج"، ثم "الخضرمة"، ثم "الفقى" وهو طرف اليمامة، ثم البصرة6. وذكر "الهمداني" أن من يريد التوجه من "الفلج" إلى اليمامة، سلك طريق "العقيمة" أو "مخمسة"، ومن أخذ "الثفن" من الفلج إلى اليمامة أخذ أسافل أودية جعدة، فيأخذ الغادي على أسفل الغيل من الثفن، ثم يقطع "غلغل" و"الثجة" و"النضج"، فإن أحب شرب بدلاميس, ثم نسلة

_ 1 بلاد العرب "361-371". 2 تاج العروس "2/ 29"، "خرج"، بلاد العرب "3، 233". 3 بلاد العرب "221 وما بعدها"، الصفة "159 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 86 وما بعدها". 4 قدامة "193". 5 المسالك "152 وما بعدها"، الخراج "193". 6 الصفة "166".

إلى الخرج، وإن أحب شرب بالمرَّاء، ثم برك ثم بريك1. وإذا أراد أهل البحرين التوجه إلى اليمامة صعدوا الطريق، فيكون عن يمينهم "خرشيم"، وهي هضاب وصحراء مطرحة إلى "الحفرين" وإلى "السلحين"، ثم "الحابسية"، ثم "مُزَلَّقَة"، ثم "الموارد", ثم الفروق الأدنى, ثم الفروق الثاني، ثم الخوار، خوَّار الثلع، ثم الصليب, وعن يمينك الصلب: صلب المِعَى والبرقة: برقة الثور. ثم الصمان، ثم ترجع إلى طريق "زَرْي"، فعن يسارك "الدُّبيب", وعن يمينك "الدحرض", ثم تقطع بطن "قو", ثم السمراء، ثم تأخذ في الدهناء وتأخذ على الشجرة، ثم إلى "الخل" خل الرمل، ثم قَلْت هبل، ثم "النظيم" نظيم الجفنة، ثم شباك العرمة والغرابات، ثم تقطع العرمة و"شيعًا"، ثم تسير في "السهباء"، ثم تقطع جبيلًا يقال له: "أنقد"، ثم الروضة، ثم ترد "الخضرمة" جو الخضارم, وهي أول اليمامة قبل البحرين2. وكان لأهل نجد جملة طرق يسلكونها في اتجاههم نحو "مكة" أو المدينة أو اليمن, وقد عرف طريق نجد إلى مكة بـ"الجلال" وبـ"مثقب" وبـ"القعقاع"3. وذكر أن "المثقب": طريق العراق من الكوفة إلى "مكة"، وكان فيما مضى طريقًا بين اليمامة والكوفة يسمى "مثقبا"، وذكر أنه طريق العراق إلى مكة. وقد أوجدوا لذلك جملة تعاليل لحل مشكلة التسمية, فقالوا: إنه سمي مثقبًا؛ لمرور رجل به يقال له: مثقب. وقالوا: بل لأن بعض ملوك حمير بعث رجلًا يقال له: مثقب, على جيش كثير إلى الصين, فأخذ ذلك الطريق فسمي به. وذكر بعض آخر, أنه طريق كان بين الشام والكوفة، وكان يسلك في أيام بني أمية4. وذكر أن "القعقاع": الطريق لا يسلك إلا بمشقة, وهو طريق من اليمامة إلى الكوفة، وقيل: إلى مكة5.

_ 1 الصفة "150". 2 الصفة "138 وما بعدها". 3 تاج العروس "7/ 260"، "جلل". 4 تاج العروس "1/ 166"، "ثقب". 5 تاج العروس "5/ 477"، "قعقع".

ويكون طريق نجد إلى المدينة ومكة جزءًا من طريق العراق إلى المدينتين، وقد ذكرت أسماء بعض المواضع التي يسلكها القادمون من الكوفة أو الحيرة ثم من البصرة إلى المدينة أو مكة، وهي تمرّ بعد اجتيازهم حد العراق بنجد. ومن هذه المواضع: "القَرْدة" "الفَردة"، الذي كانت إليه سرية "زيد بن حارثة" للتعرض بقافلة لقريش, تنكبت طريق الشام خوفًا من تحرش المسلمين بها وسلكت طريق العراق في الشتاء، فالتقى بها "زيد بن حارثة" بهذا الموضع فظفر بالعير1. ومن مواضع طرق نجد "قطن"، وهو جبل بناحية "فيد"، به ماء لبني أسد ابن خزيمة بنجد. وإليه أرسل الرسول "أبا سلمة بن عبد الأسد"، لما بلغه أن "طليحة" و"سلمة" ابن خويلد، قد استعدا لحرب رسول الله. وقد نكب بالسرية عن الطريق وسار بها ليلا ونهارا حتى يعجل بها إلى ملاقاتهما، فنذر بهم القوم وتفرقوا، ثم عاد بعد أن وجد سرحًا ومعه ثلاثة رعاء مماليك2. و"قطن": جبل في غرب "القصيم" من نجد لا زال معروفًا بقرب بلدة "الفوارة"3. ونجد في اصطلاح بعض العلماء, ما بين "العذيب" إلى "ذات عرق" وإلى اليمامة وإلى اليمن وإلى جبلي طيء، ومن المربد إلى "وجرة", وذات عرق أول تهامة إلى البحر. وذكر أن الأعراب يقولون: إذا خلفت "عجلز" مصعدًا، فقد أنجدت, و"عجلز" فوق "القريتين"، فإذا أنجدت عن ثنايا ذات عرق فقد أتهمت، فإذا عرضت لك الحرار بنجد قيل: ذلك الحجاز. وذكر أن نجدًا: الأريضة التي تقع جنوب العراق والشام، وشمال تهامة واليمن. وذكر أن كل ما وراء الخندق على سواد العراق، فهو نجد, والغور كل ما انحدر سيله مغربيا وما أسفل منها مشرقيا فهو نجد. وتهامة ما بين ذات عرق إلى مرحلتين من وراء مكة، وما وراء ذلك من المغرب فهو غور، وما وراء ذلك من مهب الجنوب فهو السراة إلى تخوم اليمن4. وأما طرق العربية الغربية، فأهمها الطرق الممتدة من بلاد الشام إلى اليمن، وتتصل بها الطرق الآتية من مصر. وقد كان الجاهليون يقصدون دمشق للاتجار

_ 1 إمتاع الأسماع "1/ 112"، تاج العروس "2/ 450"، "فرد". 2 إمتاع الأسماع "1/ 170"، تاج العروس "9/ 312"، "قطن". 3 العرب "1968"، "ج11 ص977". 4 تاج العروس "2/ 509"، "نجد".

بها وللاصطياف، ولزيارة أمراء الغساسنة الذين كانوا قد امتلكوا قصورًا بها، غير أن بعضًا منهم كان يقف عند "بصرى"، يتاجر في أسواقها ثم يعود. ومنهم من كان يتوجه إلى "غزة"؛ للاتجار بها لوجود تجار بها قصدوها من سواحل البحر الأبيض، معهم تجارة ساحل البحر. وقد كان "هاشم" ممن قصد هذه المدينة. ويبدأ طريق دمشق بـ"الكسوة" ومن "الكسوة" إلى "جاسم"، وهو موضع ورد ذكره في شعر لحسان بن ثابت، إذ قال: قد عفا جاسم إلى بيت رأس ... فالجوابي فحارث الجولان1 ومن "جاسم" إلى أفيق"، وأفيق من أعمال حوران، وهو عقبة طويلة، وأفيق في أول العقبة ينحدر منها إلى غور الأردن ومنها يشرف على طبرية2, ومن "أفيق" إلى "طبرية". وتعد "سرغ"، في آخر الشام وأول الحجاز، بين "المغيثة" و"تبوك"، وفيها لقي "عمر" أمراء الأجناد3، ثم "تبوك" وهي قرية مهمة يرد خبرها في أخبار غزوات الرسول، إذ عرفت بغزوة "تبوك". وبها صالح رسول الله "يحنة بن رؤبة", صاحب أيلة، وأهل جرباء وأذرح4. ومن "تبوك" يتجه الطريق إلى "المحدثة" ثم إلى "الأقرع"، ثم إلى "الجنينة"5، ثم إلى "الحجر"، وهي في نظر أهل الأخبار ديار ثمود وبلادهم، وقد أشير إليها في القرآن: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} 6، وقد مر بها رسول الله في غزوته لتبوك، ونهى عن دخول مساكنها وعن الشرب من مائها، واستحث راحلته، وأسرع حتى خلفها7. وذكر "أن بيوتها منحوتة في الجبال مثل المغاور، كل جبل منقطع عن الآخر، يطاف حولها، وقد نقر فيها بيوت

_ 1 المسالك "78"، تاج العروس "8/ 228"، "جسم". 2 تاج العروس "7/ 54"، "فوق". 3 تاج العروس "6/ 16"، "سرغ". 4 الطبري "3/ 100 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 113"، "باك"، ابن سيد الناس "2/ 215 وما بعدها". 5 تاج العروس "9/ 166"، "جنن". 6 الحجر، الرقم 15، الآية 80. 7 تفسير الطبري "14/ 34", ابن سيد الناس "2/ 218".

تقل وتكثر على قدر الجبال التي تنقر فيها. وهي بيوت في غاية الحسن, فيها بيوت وطبقات محكمة الصنعة, وفي وسطها البئر التي كانت تردها الناقة1. وهي قرية لا تزال معروفة مسكونة"2. ثم إلى "وادي القرى"، فتمر القوافل في قرى عديدة، ثم إلى "الرحيبة"، ثم إلى "ذي المروة"، وهو قرية بين "ذي خشب" و"وادي القرى"3، ثم إلى "المر"، ثم إلى "السويداء"4، ثم إلى "ذي خشب"5، وهو وادٍ على مسيرة ليلة من المدينة، ذكر في الأحاديث والمغازي ويقال له: "وادي خشب"، فيه عيون6، ثم إلى المدينة7. ولما سار الرسول إلى "تبوك" نزل "ذا خشب"، ثم "ثنية الوداع"، ثم مرَّ بوادي القرى، ثم بالحجر، ثم تبوك8. وهناك طريق يمتد من "أيلة" إلى "حقل"، ثم "مدين", ثم إلى الأغواء، ثم إلى "الكلابة"، ثم إلى "شغب"، ثم إلى "بدا". وشغب: موضع ذكر في حديث الزهري، أنه كان له مال بشغب وبدا، وهما موضعان كانا في الشام، وبه كان مقام "علي بن عبد الله بن عباس" وأولاده إلى أن وصلت إليهم الخلافة. وبشغب مات الزهري، وهو "أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري"، المدني, مات سنة "124هـ" في أمواله بها. وذكر أنه قبر بأداما، وهي خلف شغب وبدا، وهي أول عمل فلسطين وآخر عمل الحجاز، وبها ضيعة "الزهري" التي كان فيها9. ومن "بدا" يتجه الطريق إلى "السرحتين"، ثم إلى "البيضاء"، ثم إلى "وادي القرى"، ثم إلى "الرحيبة"، ثم إلى "ذي المروة"، ثم إلى "المر"، ثم إلى "السويداء"، ثم إلى "ذي خشب"، ثم إلى المدينة،

_ 1 تاج العروس "3/ 124 وما بعدها"، "حجر". 2 بلاد العرب "397 وما بعدها". 3 بلاد العرب "395، 396، 413، 414". 4 تاج العروس "2/ 385"، "سود". 5 بلاد العرب "406، 414". 6 تاج العروس "1/ 235"، "خشب". 7 المسالك "150"، قدامة "191". 8 الطبري "2/ 100 وما بعدها"، إمتاع الأسماع "1/ 445 وما بعدها". 9 تاج العروس "1/ 322"، "شغب"، "10/ 33"، "بدى".

ومنها إلى مكة. وقد كان حجاج مصر يسلكون هذا الطريق, إذا جاءوا من البر1. وهناك طريق ساحلي سلكه حجاج مصر أيضًا، يبدأ بشرف البعل، ثم إلى "الصلا"، ثم إلى "النبك"2، ثم إلى "ظبة"، ثم إلى "عونيد"، ثم إلى "الوجه"، ثم إلى "منخوس"، ثم إلى "الجرة"، ثم إلى "الأحساء"، ثم إلى "ينبع"، ثم إلى "مسئولان"، ثم إلى "الجار"، ثم إلى المدينة3. و"الجار" على ساحل البحر، وهو فرضة المدينة، ترفأ إليه السفن من أرض الحبشة ومصر وعدن، وبحذائه جزيرة في البحر, ميل في ميل, يسكنها التجار4. و"ينبع" حصن له عيون فوَّارة، ذكر بعضهم أنها مائة وسبعون عينًا، ونخيل وزروع، بطريق حاج مصر عن يمين الجائي من المدينة إلى "وادي الصفراء"، وقد جفت عيونه فيما بعد، كما ذكر من زارها من الباحثين5. وأما طريق المدينة المؤدي إلى مكة، فيمر بـ"الشجرة"، وهو ميقات أهل المدينة، ثم إلى "ملل"، ثم إلى "السيالة". وقد ذكر أنها أول مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة، وأنها بين "ملل" والروحاء6. ثم إلى "الرويثة", ثم إلى "السقيا", فيها نهر جارٍ بين المدينة ووادي الصفراء7, ثم إلى "الأبواء"، وهي قرية من أعمال "الفرع" بين المدينة والجحفة8، ثم إلى "الجحفة" وهي من تهامة، وفيها آبار، وهي ميقات أهل الشام، وكانت تسمى "مهيعة"، فنزل بها "بنو عبيل" وهم إخوة عاد, وكان أخرجهم العماليق من يثرب, فجاءهم سيل جحاف فاجتحفهم فسميت الجحفة. وهكذا فسر

_ 1 المسالك "149 وما بعدها"، قدامة "190". 2 "موضع بين ضجوة ومضيق جبة من منازل حاج مصر"، تاج العروس "7/ 186"، "بنك". 3 قدامة "191". 4 تاج العروس "3/ 112"، "جار". 5 تاج العروس "5/ 517"، "نبع". 6 تاج العروس "7/ 385 وما بعدها"، "ملل". 7 تاج العروس "10/ 180"، "سقى". 8 تاج العروس "10/ 6"، "أبى".

"ابن الكلبي" سبب تسمية هذه القرية القريبة من البحر بهذه التسمية1. والأبواء من المنازل التي كان يطرقها المسافرون إلى بلاد الشام، فهي على طريق التجارة القديم. وللرسول غزوة عُرفت بغزوة الأبواء وبغزوة ودان، وصل فيها إلى موضع "ودان"، وكان يريد اعتراض عير لقريش مرت بهذا المكان، وهي أول غزوة غزاها الرسول. وقد وادع فيها "بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة" على ألا يكثروا عليه ولا يعينوا أحدًا عليه2, مما يدل على أن هذا الموضع كان لبني ضمرة في ذلك العهد. وورد أنه كان لبني ضمرة ولغفار وكنانة3. وودان قرب الأبواء والجحفة من نواحي "الفرع"، بينها وبين "هرشى" ستة أميال, وبينها وبين "الأبواء" نحو من ثمانية أميال، وكانت قرية سكنها "الصعب بن جثامة" الليثي من أصحاب الرسول، فنسب إليها4. و"هَرْشى" ثنية قرب "الجحفة" في طريق مكة يرى منها البحر، ولها طريقان فكل من سلكهما كان مصيبًا، وهي على طريق الشام وطريق المدينة إلى مكة في أرض مستوية، وأسفل منها "ودَّان" على ميلين مما يلي المغرب. ويتصل بها من الغرب خبت رمل, في وسط هذا الخبت جبل أسود شديد السواد صغير, يقال له: طفيل5. ومن الجحفة يتجه المسافر إلى "قُديد"6، ثم إلى "عسفان"، ثم إلى بطن مر، ثم إلى مكة7. و"بطن مر": قرية كبيرة، وعلى أربعة أميال منها قبر "ميمونة" زوجة النبي، وعلى مسافة منها مسجد عائشة، ومنها يحرم أهل مكة، وهو حد الحرم8. والجحفة من منازل طريق تجارة مكة إلى الشام؛ ولذلك صارت هي والمواضع التي تقع على هذا الطريق من الأهداف التي قصدها المسلمون للتحرش بقوافل

_ 1 تاج العروس "6/ 53"، "جحف". 2 إمتاع الأسماع "1/ 53"، الطبري "2/ 403". 3 تاج العروس "2/ 530"، "ودد". 4 تاج العروس "2/ 530"، "ودد". 5 تاج العروس "4/ 367"، "هرش". 6 تاج العروس "2/ 461"، "قدد". 7 المسالك "131". 8 قدامة "187".

قريش. ومن نواحي الجحفة "ثنية المرة"، ومنها سار "عبيدة بن الحارث بن المطلب" إلى عير لقريش يحرسها مائتان من المشركين بقيادة "أبي سفيان" أو غيره, وذلك في السنة الأولى من الهجرة، فالتقى بها على ماء يقال له: "أحياء" من بطن "رابغ" على عشرة أميال من الجحفة، وأنت تريد قديدًا عن يسار الطريق1. و"رابغ": وادٍ عند الجحفة قرب البحر بين "البزواء" و"الجحفة" دون "عزور"، وقرية لا تزال معروفة, بينها وبين "بدر" خمس مراحل؛ الأولى "قاع البزواء"، ثم عقبة وادي السويق، ثم آخر ودان، ثم شقراء، ثم رابغ2. وهي اليوم قرية، مياهها عذبة ذات مزارع ونخيل. وأرسل الرسول سرية أخرى إلى "الخرَّار" للتعرض لعير قريش التي كانت تسلك الجحفة، فلما وصلت "الخرار" من الجحفة قريبًا من "خم"، وجدت عير قريش قد سبقتها ونجت3. و"خم": غدير دون الجحفة وقيل: بالجحفة4. وعلى مسيرة يوم من "ينبع"، يقع جبل "رضوى" الذي يبعد سبع مراحل عن المدينة5, ومن نواحي هذا الجبل ناحية "بواط"، وإليها خرج الرسول غازيًا معترضًا عير قريش التي كانت مارة بهذا المكان. وكانت قافلة كبيرة تتألف من ألفين وخمسمائة بعير، يحرسها مائة رجل من قريش، فيها "أمية بن خلف"، وقد أفلتت ونجت، دون أن يقع أي قتال6. وببطن ينبع موضع يقال له: "ذو العشيرة" "ذات العشيرة"، إليه كانت غزوة "العشيرة" "غزوة ذات العشيرة"، حين بلغ الرسول خبر خروج عير لقريش إلى بلاد الشام، وقد جمعت قريش أموالها في تلك العير، ولكن القافلة نجت، فوصلت سالمة إلى بلاد للشام، وهي التي خرج الرسول في طلبها

_ 1 الطبري "2/ 402"، إمتاع الأسماع "1/ 52". 2 تاج العروس "6/ 10"، "ربغ". 3 الطبري "2/ 403"، إمتاع الأسماع "1/ 53"، تاج العروس "3/ 113"، "خرر". 4 تاج العروس "8/ 283"، "خم". 5 تاج العروس "10/ 151"، "رضو"، عرام "396". 6 الطبري "2/ 405، 407"، إمتاع الأسماع "1/ 54"، تاج العروس "5/ 112"، "باط".

لما عادت، وكانت وقعة بدر. فرجع الرسول إلى المدينة، بعد أن صالح "بني مدلج" وحلفاءهم "بني ضمرة"1. ولما هاجر الرسول من مكة إلى المدينة, سلك به الدليل طريقًا لا تسلكه القوافل، أي: طريقًا لا يسلكه المسافرون عادة إلى المدينة؛ ليتجنب من ملاحقة قريش له. سلك به وبصاحبه "أبي بكر" أسفل مكة، ثم مضى بهما حتى حاذى بهما الساحل، وعارض الطريق أسفل من "عسفان"، ثم سلك بهما إلى أسفل "أمج"، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعدما جاوز "قديدًا"، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك، فسلك بهما "الخرار"، ثم سلك بهما "ثنية المرة" "ثنية المرأة"، ثم أجاز بهما "مدلجة لفف" "لقف"، ثم استبطن بهما "مدلجة مجاج" "مجاج"، طريقًا يقال له: "المدلجة" بين طريق "عمق" وطريق الروحاء2. ثم سلك مرجحًا من مجاج، ثم بطن "مرجح ذي العضوين" ثم "بطن ذي كشد" "بطن ذات كشد" "ذي كشد"، ثم أخذ بهما على "الجداجد"، ثم على "الأجرد"، ثم سلك بهما "ذا سلم"3 "ذا سمر"4 من بطن أعداء "مدلجة تعهن"، ثم على "العبابيد"، ويقال: "العبايب" ويقال: "الغيثانة"5 "العتبانة"6، ثم أجاز بهما "الفاجة"، ويقال: "القاحة"7, ثم هبط بهما "العرج"، ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بهما ثنية "العاثر"8 "الغابر"9 "الأعيار"10، ويقال "ثنية الغاثر"11، عن يمين

_ 1 الطبري "2/ 408 وما بعدها"، إمتاع الأسماع "1/ 54 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 403"، "عشر"، "ويقال فيه: العشير بغير هاء أيضًا". 2 الطبري "2/ 377"، "لقف"، نهاية الأرب "16/ 238". 3 سيرة ابن هشام "1/ 9"، "حاشية على الروض". 4 المسالك "129 وما بعدها". 5 ابن هشام "1/ 9"، "حاشية على الروض". 6 المسالك "129 وما بعدها". 7 ابن هشام "1/ 9"، "حاشية على الروض"، "المسالك "129". 8 ابن هشام "1/ 10"، "حاشية على الروض". 9 الطبري "2/ 377". 10 المسالك "129". 11 ابن هشام "1/ 10"، "حاشية على الروض".

"ركوبة"، ثم هبط "بطن رئم"1 "بطن ريم"2، ثم قدم بهما "قباء"، ثم "يثرب"3. ولما سمع الرسول بقدوم "أبي سفيان" مقبلًا من الشام في غير لقريش عظيمة, فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم، خرج لملاقاتها في موضع "بدر", وكان بدر طريق ركبان قريش من أخذ منهم طريق الساحل إلى الشام4, فخرج من المدينة على نقب المدينة، فنزل بالبقع, ويقال: بئر أبي عتبة، وهي على ميل من المدينة، ثم اتجه نحو "بيوت السقيا"، فضرب عسكره هناك. ثم أمر أصحابه أن يستقوا من "بئر السقيا"، وصلى عند بيوت السقيا، وسلك من السقيا بطن العقيق حتى نزل تحت شجرة بالبطحاء، ثم سلك "ذا الحليفة"، ثم إلى "أولات الجيش" "ذات الجيش"، ثم إلى "تربان"، ثم إلى "ملل"، ثم إلى "غميس الحمام" من "مريين"، ثم إلى صخيرات اليمام، ثم إلى "السيالة"، ثم إلى "فج الروحاء"، ثم إلى "شنوكة"، وهي الطريق المعتدلة، ثم إلى "عرق الظبيَّة" "الظبية"، ثم إلى "سجسج" وهي بئر الروحاء، حتى إذا كان بالمنصرف ترك طريق مكة بيسار, وسلك ذات اليمين إلى "النازية" يريد "بدرا"، فسلك في ناحية منها، حتى جزع واديًا يقال له: "وحقان" بين "النازية" وبين مضيق الصفراء, ثم إلى المضيق ثم انصب منه إلى "الصفراء" وهي قرية بين جبلين، ثم سلك إلى وادٍ يقال له: "ذو فران"، ثم سلك إلى ثنايا يقال لها "الأصافر"، ثم انحط منها إلى بلد يقال له: "الدبة" "الدية"، وترك "الحنان" بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل، ثم نزل بدرًا5.

_ 1 الطبري "2/ 377"، المسالك "129 وما بعدها". 2 ابن هشام "1/ 10"، "حاشية على الروض". 3 ابن هشام "1/ 10"، "حاشية على الروض"، الطبري "2/ 377"، المسالك "129 وما بعدها"، نهاية الأرب "16/ 338 وما بعدها". 4 الطبري "2/ 422"، "ذكر وقعة بدر الكبرى". 5 ابن هشام "2/ 63 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الطبري "2/ 433 وما بعدها".

و"السقيا": موضع به ماء، بين المدينة ووادي الصفراء1، يعرف اليوم بـ"أم البرك"2. و"شنوكة": جبل جمع على "شنائك" في شعر لكثير؛ لأنه ثلاثة أجبل صغار منفردات من الجبال، يمر منها الطريق إلى بدر والصفراء وإلى النازية ورحقان، ويدع المنصرف إلى يساره3. وتقع بين "المنصرف" وبين الروحاء, ولا تزال معروفة4. و"المنصرف": موضع يقال له "المسيجد" في الوقت الحاضر، وهو قرية كبيرة5, وتقع على طريق المدينة المتجه إلى "الصفراء" فالساحل والذي يتصل بجدة. وهو غير بعيد عن "النازية", و"النازية": عين ثرة على طريق الآخذ من مكة إلى المدينة قرب الصفراء، وهي إلى المدينة أقرب6. و"بدر" أسفل وادي الصفراء، وهو إلى المدينة أقرب، يقال: إنه هو منها على ثمانية وعشرين فرسخًا، وبينه وبين "الجار"، وهو على ساحل البحر, ليلة. وبه بئر حفرها رجل من غفار اسمه "بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة", وقيل: بدر بن قريش بن يخلد بن النضر بن كنانة، وقيل: بدر رجل من "بني ضمرة" سكن ذلك الموضع فنسب إليه, ثم غلب اسمه عليه، وقيل: بدر رجل من جهينة كان يملك البئر فسميت به, ولهم تفاسير أخرى من هذا القبيل في تعليل سبب تسمية بدر بدرا7. وبدر قرية كبيرة في الوقت الحاضر أسفل "وادي الصفراء"، يتجه منها طريق إلى "ينبع"، ومن ينبع إلى مكة8. وكان "أبو سفيان" لما بلغ "الزرقاء" من بلاد الشام وهو منحدر إلى مكة، أخبره أحدهم أن محمدًا كان قد عرض لعيرهم في بدأتهم، وأنه تركه

_ 1 تاج العروس "10/ 180"، "سقى". 2 العرب "1968"، "ج11, ص977". 3 تاج العروس "7/ 151"، "شنوكة"، العرب "1968"، "ج11, ص977". 4 العرب "1968"، "ج11, ص977". 5 العرب "ج11"، "السنة الثانية" "1968"، "ص62". 6 تاج العروس "10/ 365"، "نزا". 7 تاج العروس "3/ 34"، "بدر". 8 العرب "1968"، "ج11, ص978".

مقيمًا ينتظر رجعتهم، فخرج خائفًا من الرصد، فلما بلغ الساحل أرسل رسولًا استأجره بعشرين مثقالًا، وأمره أن يخبر قريشًا أن محمدًا قد عرض لعيرهم، فذهب إليهم وأخبرهم، فتجهزوا وأسرعوا لإنقاذ قافلة "أبي سفيان" الذي خاف خوفا شديدا حين دنا من المدينة، فلما أصبح "أبو سفيان" ببدر، ضرب وجه عيره فساحل بها، وترك بدرًا يسارًا وانطلق سريعًا، حتى بلغ مكة. وكان أهل مكة قد خرجوا من مكة على طريق "مر الظهران"، ثم "عسفان", ثم "قديد"، ثم إلى "مناة" من البحر، ثم "الجحفة"، ثم "الأبواء"، ثم "بدر"1، حيث التقوا برسول الله، فوقعت معركة بدر. وكانت قريش تأخذ الساحل: ساحل البحر, حين تأخذ إلى الشام2. وهو طريقها إلى متجرها هناك، وقد عرف بالمعرقة، وفيه سلكت عير قريش حين كانت وقعة "بدر". ومن هذا قول "عمر" لسلمان: أين تأخذ إذا صدرت؟ أعلى المعرقة أم على المدينة؟ 3. ويقع طريق المعرفة بين "عزور" وبين "رضوى" تختصره العرب إلى الشام وإلى مكة وإلى المدينة, وهو بين الجبلين4. ومن مواضع هذا الطريق: العيص، وهو عرض من أعراض المدينة، وموضع على مقربة من ساحل البحر5، ومن "ذي المروة"6. وهو موضع على طريق تجارة قريش مع الشام، وبه كان يمر طريق الشام ومصر إلى المدينة ومكة7. وإلى سيف البحر ناحية العيص أرسل الرسول "حمزة"، حين بلغه أن "أبا جهل" قد جاء بعير لقريش من الشام يريد مكة في ثلاثمائة راكب8, فقد كان هذا الموضع من الساحل مسلك قوافل قريش. ولا يزال اسم العيص معروفا, وفي مقابله "الحوراء"، مرفأ سفن مصر في القديم9.

_ 1 إمتاع الأسماع "1/ 66 وما بعدها"، الطبري "2/ 437 وما بعدها". 2 الطبري "2/ 639". 3 تاج العروس "7/ 11"، "عرق". 4 عرام "396". 5 تاج العروس "4/ 411"، "عيص". 6 الطبري "2/ 639". 7 بلاد العرب "395، 396، 413، 414". 8 إمتاع الأسماع "1/ 51 وما بعدها"، ابن هشام "2/ 56"، "حاشية على الروض". 9 تاج العروس "3/ 161"، "حور".

ولم يذكر علماء السير والأخبار أسماء المراحل التي قطعتها قريش عند زحفها على "أُحُد" بتفصيل, وكل ما ذكروه أن قريشًا جاءوا فنزلوا "عينين" بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة1, وذكر أنه الجبل الذي أقام عليه الرماة يوم أحد؛ ولذلك قيل ليوم أحد: يوم عينين2. وكانوا قد قدموا من "ذي طوى" على طريق "الأبواء" حيث همت وهي هناك أن تنبش قبر "آمنة" أم النبي. وسلكوا "العقيق" حتى نزلوا ظاهر المدينة3, ثم التقوا بالمسلمين عند أحد. ويظهر من هذه الأسماء، أن قريشًا سلكت في سيرها على المدينة الطريق المألوف الذي يمر بالأبواء. و"ذو طوى": موضع قرب مكة عرف بالزاهر، به بئر حفرها "عبد شمس بن عبد مناف"4. ولما سار الرسول للعمرة، سلك طريق "الفرع" "الفروع" نحو "مر الظهران"، ثم "بطن يأجج"، وحبس الهدي بـ"ذي طوى" ودخل مكة من الثنية5. و"مر الظهران"، وادٍ به عيوان ومياه غير بعيد عن مكة، وبه "مجنة"، ويعرف الآن بوادي فاطمة6. وخرج الرسول من المدينة, فسلك حرة بني حارثة، ثم "الشوط" بين المدينة وأحد، ثم "الشيخين" حتى نزل الشعب من "أحد" في عدوة الوادي إلى الجبل7. ولما عاد الرسول إلى المدينة، بلغه أن "أبا سفيان" كان بموضع "ملل" يقرر الرجوع إلى المسلمين، وأن رجلًا أخبره أنه رأى "أبا سفيان" بالروحاء، وهو مجمع مع قريش على السير إلى المدينة. وسأل الرسول عن موضع قريش فقيل له: إنه بالسيالة، فخرج من المدينة حتى وصل "حمراء الأسد", فبلغه رجوع قريش إلى مكة وذهاب شرها, فرجع إلى يثرب8.

_ 1 الطبري "2/ 502"، "غزوة أحد". 2 تاج العروس "9/ 291"، "عين". 3 إمتاع الأسماع "1/ 115 وما بعدها". 4 تاج العروس "10/ 229"، "طوى". 5 إمتاع الأسماع "1/ 337 وما بعدها"، الطبري "3/ 23 وما بعدها". 6 بلاد العرب "24، 32". 7 الطبري "2/ 504 وما بعدها". 8 الطبري "2/ 534"، إمتاع الأسماع "1/ 167 وما بعدها".

ولما عاد "عمرو بن أمية الضمري" من مكة، وكان قد وجهه الرسول لقتل أبي سفيان، خرج إلى "التنعيم"، ثم أخذ طريق "الصفراء"، ثم "غليل ضجنان"، ثم أخذ المحجة، ثم "النقيع" حتى وصل المدينة1. و"التنعيم" على ثلاثة أمثال أو أربعة من مكة، وهو أقرب أطراف الحل إلى البيت، على يمينه جبل نعيم وعلى يساره جبل ناعم، والوادي اسمه "نعمان"2. و"الصفراء" وادٍ بين مكة والمدينة، وراء بدر مما يلي المدينة3, و"ضجنان" غليل يظهر من وصف خبر رجوع "عمرو بن أمية" إلى المدينة، أنه بعد الصفراء، ذكر أنه موضع أو جبل بين مكة والمدينة، ويظهر أن العلماء كانوا قد اختلفوا في تعيين مكانه4. و"النقيع" هو "نقيع الخصمات" الذي حماه "عمر" لنعم الفيء وخيل المجاهدين, فلا يرعاها غيرها. وورد في الحديث: "أول جمعة جمعت في الإسلام بالمدينة في نقيع الخضمات"5. ويظهر من شعر لمعبد بن أبي معبد الخزاعي، أن ماء "ضجنان" بعد ماء "قديد"6. ولما سار الرسول إلى "بني لحيان"، خرج من المدينة فسلك على "غراب" جبل بناحية المدينة على طريقة إلى الشام، ثم على "مخيض"، ثم على "البتراء", ثم صفق ذات اليسار، ثم على "يين"، ثم على "صخيرات اليمام"، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة، حتى نزل على "غُران" وهي منازل بني لحيان, و"غران": وادٍ بين "أمج" و"عسفان" إلى بلد يقال له "ساية". ثم سار الرسول حتى نزل "عسفان"، ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كُراع "الغميم"، ثم "كرا"، ثم قفل الرسول راجعًا إلى المدينة7.

_ 1 الطبري "2/ 543 وما بعدها". 2 تاج العروس "8/ 84"، "نعم". 3 تاج العروس "3/ 335 وما بعدها"، "صفر". 4 تاج العروس "9/ 263"، "ضجن". 5 تاج العروس "5/ 530"، "تقع". 6 تهوى على دين أبيها الأتلد ... قد جعلت ماء قديد موعدي وماء منجنان لها ضحى الغد الطبري "2/ 560". 7 الطبري "2/ 595".

ويظهر من هذا الوصف أن الرسول أراد إعماء خبر غزوته عن "بني لحيان"، فسلك طريق الشام, ثم غير اتجاهه فتوجه نحو "يين" وصخيرات اليمام، فبلغ الجادة، ثم أسرع حتى بلغ "غران"، منازل "بني لحيان" بين "أمج" و"عسفان", فتكون منازل "بني لحيان" في هذه المنطقة. ولما سار الرسول إلى مكة عام الفتح، سلك طريق "العرج"، و"العرج": جبل بين مكة والمدينة يمضي إلى الشام1، وواد يقع بين أم البرك، الموضع المعروف بالسقيا قديمًا، وبين الجيّ، الوادي الذي يقطعه المسافرون مع طريق السيارات القديم إلى "المسيجد"2, وذكر أنه على أربعة أميال من المدينة3. وكان الرسول قد نزل "السقيا"، وهي "أم البرك" الآن4، وذكر أنه بين المدينة والصفراء، وفي الحديث أنه كان يستعذب من بيوت السقيا5, و"الصفراء" وراء "بدر" مما يلي المدينة6. كما مر بثنية العقاب7, وبالأبواء، وبذي الحليفة، وبالجحفة، وبالكديد، وهو موضع على اثنين وأربعين ميلًا من مكة بين "عسفان" و"رابغ"، وقيل: بين عسفان وقديد بينه وبين مكة ثلاث مراحل، أو بين ثنية غزال وأمج8, وبـ"قديد"9، وبمر الظهران10. ولما حج الرسول حجة الوداع، سار من المدينة فصلى الظهر بـ"ذي الحليفة"، ثم استوى بالبيداء، ومر إلى "القاحة"، وهو موضع على ثلاث مراحل من

_ 1 المسالك "172". 2 بلاد العرب "29، 338". 3 تاج العروس "2/ 72"، "عرج". 4 بلاد العرب "29، 330، 396". 5 تاج العروس "10/ 180"، "سقى". 6 تاج العروس "3/ 335"، "صفر". 7 الطبري "3/ 52". 8 تاج العروس "2/ 483"، "كد". 9 تاج العروس "2/ 461"، "قد". 10 إمتاع الأسماع "1/ 357 وما بعدها"، الطبري "3/ 42 وما بعدها"، "ذكر الخبر عن فتح مكة".

المدينة وعلى ميل من "السقيا"، وهو بين "الجحفة" و"قديد"1. ثم سار إلى "ملل" "يلملم"2، وهو موضع به آبار على مسافة اثني عشر ميلًا من "الشجرة"3، أو سبعة عشر ميلًا من "المدينة"، وقيل: عشرين ميلًا4، ثم شرف السيالة وهو موضع بين "ملل" و"الروحاء" في طريق مكة5، ثم "عرق الظبية" بين "الروحاء" و"السيالة"، وهو دون "الروحاء"، ثم نزل "الروحاء"، ثم راح من "الروحاء" فصلى العصر بالمنصرف6. و"المنصرف" على أربعة بُرُد من "بدر" مما يلي "مكة"7، وصلى المغرب بالمُتعشى وتعشى به، وصلى الصبح بالأثاية. و"أثاية" بطريق "الجحفة" إلى مكة، فيه مسجد نبوي، قيل: بينه وبين المدينة خمسة وعشرون فرسخًا، أو بئر دون العرج8, وأصبح بالعرج يوم الثلاثاء9. ونزل "السقيا" يوم الأربعاء، وأصبح بالأبواء، ثم راح إلى "الجحفة"، ثم راح منها إلى "قديد، ثم "عسفان"، ثم "الغميم", ثم "مر الظهران"، ثم نزل موضع "سرف". ولما انتهى إلى "الثنيتين" بات بينهما، بين "كداء" و"كدى"، ودخل مكة من "كداء"10. وأما الطريق من مكة إلى الطائف، فمن مكة إلى بئر ابن المرتفع، ثم إلى قرن المنازل وهي ميقات أهل اليمن والطائف، ثم إلى الطائف. ومن أراد من مكة إلى الطائف على طريق العقبة, يأتي عرفات، ثم بطن نعمان، ثم يصعد عقبة حراء، ثم يشرف على الطائف ويهبط ويصعد عقبة خفيفة، تسمى "تنعم

_ 1 تاج العروس "2/ 210"، "قاح"، إمتاع الأسماع "1/ 512"، "حاشية رقم 3". 2 "يلملم" هكذا في إمتاع الأسماع "1/ 513"، وهو خطأ؛ فـ"يلملم": ميقات أهل اليمن، والصواب: "ملل". 3 المسالك "130، 187". 4 تاج العروس "8/ 120"، "ملل". 5 تاج العروس "7/ 385 وما بعدها"، "سال"، "6/ 152"، "شرف". 6 إمتاع الأسماع "1/ 513". 7 تاج العروس "6/ 165"، "صرف". 8 تاج العروس "10/ 10"، "أثى". 9 إمتاع الأسماع "1/ 513". 10إمتاع الأسماع "1/ 516 وما بعدها".

الطائف"، ثم يدخل الطائف1. وبين مكة والطائف موضع يقال له: "بطن نخلة" "نخلة"2، إليه أرسل الرسول "عبد الله بن جحش" على رأس سرية؛ ليرصد بها عير قريش. فسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له "بحران", سلك طريقه نحو "نخلة" حتى بلغها، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارةً من تجارة قريش وخمرًا، فاستولت على العير وأخذت أسيرين ممن كان يحرس العير، ورجعت إلى المدينة. وذكر أن "عبد الله بن جحش" كان يحمل كتابًا من الرسول يعين له الهدف، أمره ألا يفتحه إلا بعد أن يسير ليلتين، فلما سار وصار ببطن "ملل" أو عند "بئر ابن ضميرة" فتح الكتاب، فإذا فيه أن يذهب إلى "بطن نخلة" ليتحسس أخبار قريش3. وقد سلك أهل مكة في ذهابهم إلى اليمن وفي إيابهم منها جملة طرق، منها ما تمر بالساحل، ومنها ما تمر شرقًا عنه. ومن هذه الطرق: طريق يبدأ بمكة، ثم إلى "قرن المنازل", قرية كبيرة, وهو ميقات أهل اليمن والطائف، واسم وادٍ4. ثم إلى "الفتق"5، وهو قرية، ثم إلى "صفن" "صفر" "صقر"، ثم إلى "تربة"، ثم إلى "كرى" "كرا" "كدا" "كدى"، ثم إلى "رنية"، ثم إلى "تبالة"، ويرد اسمها في تأريخ "الحجاج"، فقد استعمل عبد الملك "الحجاج" عليها، فلما أتاها استحقرها ولم يدخلها، فقيل: "أهون من تبالة على الحجاج"6. ثم إلى "بيشة بعطان"، ثم إلى "جسداء"، ثم إلى "بنات حرب" "بنات حرم"، ثم إلى "يبمبم"، وهو منزل في صحراء فيه بئر واحدة عذبة، وليس به أهل، وحوله أعراب من خثعم، وبينه وبين

_ 1 المسالك "134"، قدامة "187 وما بعدها". 2 وقد ذكر في شعر لامرئ القيس: فريقان منهم سالك بطن نخلة ... وآخر منهم جازع نجد كبكب تاج العروس "8/ 131"، "نخل". 3 الطبري "2/ 410 وما بعدها"، ابن هشام "2/ 59"، "حاشية على الروض"، إمتاع الأسماع "1/ 55 وما بعدها". 4 تاج العروس "9/ 306"، "قرن"، صبح الأعشى "5/ 43". 5 تاج العروس "7/ 41"، "فتق". 6 تاج العروس "7/ 239"، "تبل".

"جرش" نحو أربعة عشر ميلًا، ومنه إلى "كتنة" "كثبة"، ثم إلى "الثجة"، ثم "سروم راح" "شروم راح"، ثم إلى "المهجرة"، وفيما بين "سروم راح" والمهجرة طلحة الملك، شجرة عظيمة تشبه الغرب غير أنها أعظم منه، وهي الحد ما بين عمل مكة وعمل اليمن1, وكان النبي حجز بها بين اليمن ومكة2. ومن "المهجرة" يتجه الطريق إلى "عرقة", وهو أول عمل اليمن، ثم إلى "صعدة"، وهي مدينة يدبغ فيها الأدم، واشتهرت بالنعل3, ولصعدة مخاليف، وقرى كثيرة. وقد ذكر "قدامة" أن أكثر تجار "صعدة" من أهل البصرة، وطريق منها للبصريين يرجع إلى "ركبة" "الركيبة", مما يدل على أن التجارة كانت متينة بين أهل اليمن وبين أهل البصرة في الإسلام. ومن يدري، فلعل هذه التجارة تعود إلى ما قبل تأسيس البصرة، أي: إلى ما قبل الإسلام. ومن صعدة، يتجه الطريق إلى "الأعمشية"، ومن الأعمشية إلى خيوان، قرية جبلية الماء من السماء، وفيها كروم، ومن خيوان إلى "أثافت"، وهي قرية عظيمة وفيها زروع وكروم، وماء الشرب من بركة4. ثم إلى صنعاء5. والطريق المذكور، هو الطريق الذي عليه الأميال، وهو طريق العوامل والعمال6. فهو الطريق المسلوك الذي يمر به البريد. وذكر العلماء أن أهل "صنعاء" كانوا إذا أرادوا مكة قصدوا "الرحابة"، ثم إلى "رافدة"، ثم إلى "خيوان"، ثم إلى "صعدة"، ثم إلى "النضج"، ثم "القصبة"، ثم "الثجة", ثم كثبة "كتنة"، ثم بنات حرم "بنات حرب", ثم جسداء، ثم بيشة، ثم تبالة، ثم رنية، ثم الزعراء، ثم صفر، ثم الفتق، ثم بستان ابن عامر، ثم مكة7.

_ 1 المسالك "134 وما بعدها". 2 قدامة "189". 3 المسالك "135"، تاج العروس "2/ 398". 4 المسالك "136"، قدامة "189"، صبح الأعشى "5/ 43 وما بعدها". 5 المسالك "136". 6 قدامة "190". 7 قدامة "192"، الصفة "186".

و"تربة" بناحية "العبلاء"، على أربع ليالٍ من "مكة" طريق صنعاء ونجران, وإليها أرسل الرسول "عمر بن الخطاب" على رأس سرية في شعبان سنة سبع, وأصحابها من "عجز هوازن"1. وذكر "الهمداني" محجة "صنعاء" إلى مكة على هذا النحو: ريدة، ومنها إلى "أثافت"، ثم خيوان، ثم العمشية، ثم صعدة، ثم إلى "العرقة"، في المحجة اليسرى القديمة، ثم بقعة في المحجة اليمنى المحدثة، ثم إلى مهجرة، ثم إلى أرينب، ثم سروم الفيض، ثم إلى الثجة، ثم إلى كتنة، ثم إلى الهجيرة، ثم إلى يَبَمبم، ثم إلى بنات حرب، ثم إلى الجسداء, ثم إلى بيشة بعطان، ثم تبالة، ومنها إلى كرى، ثم تربة، ثم إلى الصفن، ثم الفتق، ثم إلى رأس المناقب، ثم قرن المنازل، ثم رمة، ثم الزيمة، ثم مكة2. وذكر "الهمداني" أن هنالك طريقًا يمر بتهامة، هو محجة صنعاء إلى مكة, فقال: "من صنعاء صليت من البون، ثم المربد، ثم أسفل العرقة وأخرف، ثم الصرجة، ثم رأس الشقيقة، ثم حرض، ثم الخصوف من بلد حكم, ثم الجوينية من قنونا وتسمى القناة، ثم دوقة وهي للعبديين من بقايا جرهم، ثم إلى السرين، ثم المعجر، ثم الخيال، ثم إلى يلملم, ثم ملكان, ثم مكة. هذه طريق الساحل". "والمحجة القديمة ترتفع إلى حلي العليا وتسمى حَلْية، وإليها ينسب أسود حلية ... ثم إلى عشم، ثم على الليث ومركوب إلى يلملم"3. وأما محجة "عدن"، فمن عدن إلى المخنق، ومن المخنق الحُجار، ومن الحجار المسيل، ومن المسيل عبرة، ومن عبرة إلى كهالة بئر ذي يزن، ومن كهالة الماجلية، ثم المقعدية، ثم إلى زبيد، ثم إلى المعقر، ثم الكدراء، ثم المهجم، وبالمهجم تفضي محجة صنعاء إلى وادي سهام، ثم بلحة من وادي مور، ثم الحسارة، ثم العباية، ثم الشرجة، ثم العُرش، ثم عثر4. وذكر "ابن خرداذبة" طريقا ساحليا ربط "عمان" بمكة، وهو الطريق الذي سلك في الإسلام. وقد كان جاهليًّا ولا شك؛ لأن الجاهليين والروم وغيرهم كانوا يساحلون العربية الغربية والجنوبية والشرقية، ويهبطون بعض المواضع التي

_ 1 إمتاع الأسماع "1/ 333"، تاج العروس "1/ 159"، "ترب". 2 الصفة "186 وما بعدها". 3 الصفة "188". 4 الصفة "188".

يذكرها المسلمون كمراحل لهذا الطريق. ويبدأ الطريق بعمان، ثم يمر إلى "فرق"، ثم إلى "عوكلان"، ثم إلى ساحل "هباة" "هماة"، ثم إلى "الشحر"، وهي بلاد "الكندر"1، ثم إلى مخلاف "كندة"، ثم إلى مخلاف "عبد الله بن مذحج"، ثم إلى مخلاف "لحج"2، ثم إلى "عدن أبين"، ثم إلى "مغاص اللؤلؤ"، ثم إلى "مخلاف بني مجيد"، ثم إلى "المنجلة"، ثم إلى مخلاف الركب، ثم إلى المندب، ثم إلى مخلاف زبيد، ثم إلى غلافقة، ثم إلى مخلاف عك، ثم إلى الحردة، ثم إلى مخلاف حكم، ثم إلى عثر، ثم إلى مرسى ضنكان، ثم إلى مرسى حلي، ثم إلى السرين، ثم إلى أغيار، ثم إلى الهرجاب، ثم إلى الشعيبة، ثم إلى منزل لم يذكر "ابن خرداذبة" اسمه، ثم إلى "جدة" وهي إسلامية لم تكن في الجاهلية، وإنما ذكرت هنا؛ لأن هذا الطريق كان يسلك في الإسلام، ومن جدة إلى مكة3. ويوجد طريق بري بين مكة وحضرموت يمر بـ"نجران" و"الضحيان" و"تثليث"، وهو طريق مختصر يكون الجادة إلى حضرموت4. وذكر "الهمداني" أن محجة حضرموت من العبر إلى الجوف، ثم صعدة، وتنضم معهم في هذه الطريق أهل مأرب، وبيحان، والمسّروين، ومرخة، وهذه محجة حضرموت العليا. وأما محجتها السفلى، فمن العبر في شئز صيهد إلى نجران، ثم من نجران حبونن، ثم الملحات، ثم لوزة، ثم عبالم, ثم مريع، ثم الهجيرة، ثم تثليث، ثم جاش، ثم المصامة، ثم مجمعة ترج، والتقت بمحجة صنعاء بتبالة5.

_ 1 قال الشاعر: اذهب إلى الشحر ودع عمانا ... ألا تجد تمرًا تجد لبانا المسالك "147 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 293"، "شجر". 2 "ولَحْج -بفتح فسكون-: بعدن أبين, سُمي بلحج بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميع بن حمير بن سبأ"، تاج العروس "2/ 94". 3 المسالك "147 وما بعدها"، قدامة "192 وما بعدها"، صبح الأعشى "5/ 57". 4 تاج العروس "10/ 217"، "ضحا". 5 الصفة "188 وما بعدها".

الفصل الرابع بعد المئة: الأسواق

الفصل الرابع بعد المئة: الأسواق مدخل ... الفصل الرابع بعد المائة: الأسواق والسوق: المحل الذي يتسوق منه, وهي إما ثابتة مع أيام السنة، يبيع فيها الباعة ويقصدها المشترون للشراء، وإما موسمية، تعقد في مواسم معينة، فإذا انتهى الموسم رُفِعَتْ. ويقال للسوق: القسيمة كذلك1. وتكون الأسواق الثابتة في مواضع السكن، كالقرى والمدن والمستوطنات، أي: بين "الحضر"، حيث القرار والاستقرار والإقامة، فيجلس الناس في السوق يبيعون ما عندهم من سلع يبسطونها على الأرض، أو على "الدكة" المبنية للجلوس عليها، ولعرض البضاعة فوقها، أو على مائدة أو ما شابه ذلك، وهم من صغار الباعة ممن لا تكون عندهم سلع كثيرة. أما الباعة الكبار فيجلسون في "حوانيت"، وهي "الدكاكين"، يبيعون فيها سلعهم التي توضع فيها، ولها أبواب، فإذا انتهوا من البيع، أغلقوها ليعودوا إليها في اليوم الثاني. ويقال للحانوت: "المبيعة" كذلك. ولم يكن كل الباعة يملكون حوانيتهم، أو ما يعرضونه من سلع للبيع. فبينهم

_ 1 "والقسيمة، وهي السوق أيضا"، القاموس "4/ 165"، والقسيمة كسفينة, وبه يفسر قول عنترة: وكأن فأرة تاجر بقسيمة ... سبقت عوارضها إليك من الفم وعلى قول ابن الأعرابي أصله القسمة, فأشبع الشاعر ضرورة، وهي السوق"، تاج العروس "9/ 27"، "قسم".

من كان يشتغل لغيره، كأن يكون مملوكًا أقامه سيده في "مبيعته"، ليبيع عنه، وليأتي بثمن ما باعه إليه. ومنهم من كان أجيرًا اتفق مع صاحب الحانوت ومالكه على أن يشتغل عنده في مقابل أجر يقدمه إليه، فهو لا ينال من الدكان إلا أجر عمله. والبيع في العربية من الأضداد، يقال: باع فلان إذا اشترى، وباع من غيره. والبائع هو كل من البائع والمشتري، والبياعة: السلعة، والتبايع: المبايعة، والبيعة: الصفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة، والمبيعة: الدكان، أي: موضع البيع1. وقد تخصص بعض الجاهليين في عمله، فمنهم من كان حدادًا، حرفته معالجة الحديد، ومنهم من كان نجارًا، ومنهم من كان بزَّازًا، ومنهم من كان عطارًا، ومنهم من كان "جزارًا" حرفته "الجزارة". وقد يجتمع صنف واحد من الباعة في مكان واحد، يكوِّنون سوقًا خاصة بهم، فتسمى سوقهم باسم ذلك الصنف. وهناك مصطلحات تطلق على السوق من حيث الرواج والكساد. فإذا نشطت السوق وراج عمل أصحابها قيل: نفقت السوق2، وإذا كسدت قيل: انحمقت3. و"الصفقة": البيعة, يقال: صفقة رابحة وصفقة خاسرة، أي: بيعة. وإنما قيل للبيعة صفقة؛ لأنهم إذا تبايعوا تصافقوا بالأيدي، ويقال لمن لا يشتري شيئًا إلا ربح فيه: إنه لمبارك الصفقة, والصفقة تكون للبائع والمشتري, والصفق: التبايع. وفي حديث "ابن مسعود": "صفقتان في صفقة ربا"، أراد بيعتان في بيعة، وهو على وجهين، أحدهما: أن يقول البائع للمشتري: بعتك عبدي هذا بمائة درهم على أن تشتري مني هذا الثوب بعشرة دراهم، والوجه الثاني: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرين درهمًا على أن تبيعني سلعة بعينها بكذا وكذا درهمًا4. و"الصفاق": الكثير الأسفار والتصرف في التجارات5.

_ 1 تاج العروس "5/ 284 وما بعدها"، "بيع". 2 القاموس "3/ 286"، تاج العروس "7/ 79". 3 القاموس "3/ 224"، تاج العروس "6/ 324". 4 تاج العروس "6/ 409"، "صفق". 5 تاج العروس "6/ 409"، "صفق".

وقد يشهد الأسواق للتجارة قوم لا رأس مال عندهم ولا نقد لديهم، فإذا اشترى التجار شيئًا دخلوا معهم فيه, ويقال لهؤلاء: "الصعافقة"1. وقد ترد التجارة من الخارج لبيعها في السوق, ويقال للذين يجلبون الإبل والغنم للبيع: الأجلاب والجلب, وذكر أن الجلب: ما يجلب من إبل وغنم وخيل ومتاع وسبي. وفي المثل: النفاض يقطر الجلب، أي: إذا نفض القوم، بمعنى: نفدت أزوادهم, قطروا إبلهم للبيع، كالجليبة و"الجلوبة"2. ويقال لموضع بيع النعم: "المربد"3. وتمتار القبائل ميرتها من أسواق الحضر، والميرة: الطعام يمتاره الإنسان، وجلب الطعام. فكان رجالها يقصدون الأسواق في المواسم وعند الحاجة لشراء ما فيها من طعام يحتاجون إليه، ومن حاجيات أخرى يحتاجون إليها، ثم يعودون إلى منازلهم. و"الميار": جالب الميرة, ويقال للرفقة التي تنهض من البادية إلى القرى لتمتار: "ميارة"4. و"السواقط": الذين يردون اليمامة لامتيار التمر، و"السقاط": ما يحملونه من التمر5. ويقال لكل سوق يجلب إليها غير ما يؤكل من حر الطيب والمتاع غير الميرة: "ليمة", والميرة لما يؤكل. وذكر أن اللطيمة سوق فيها أوعية من العطر ونحوه، وربما قيل لسوق العطارين: لطيمة6. ويقال للإبل التي تخرج ليجاء عليها بالطعام "ركابًا", حين تخرج وبعدما تجيء, وتسمى عيرًا على هاتين المنزلتين. والتي يسافر عليها إلى مكة أيضا ركاب تحمل عليها المحامل والتي يكثرون ويحملون عليها متاع التجار وطعامهم كلها ركاب، ولا تسمى عيرًا، وإن كان عليها طعام إذا كانت مؤاجرة بكرى, وليس العير التي تأتي أهلها بالطعام ولكنها ركاب. ويقال: زيت ركابي؛ لأنه

_ 1 تاج العروس "6/ 407"، "الصعفوق". 2 تاج العروس "1/ 184"، "جلب". 3 تاج العروس "2/ 349"، "ربد". 4 تاج العروس "3/ 552"، "ماير". 5 تاج العروس "5/ 156"، "شقط". 6 تاج العروس "9/ 60"، "لطم".

يحمل من الشام على ظهور الإبل1. ويباع في الأسواق كل شيء: سلع مختلفة الأصناف والألوان ومنها البشر والحيوان. وقد ذكر العبيد والإماء مع الحيوانات في بعض الأوامر والأنظمة التي أصدرها الملوك في تنظيم البيع والشراء، وفي كيفية جباية حصة الحكومة من البيع والشراء، كما في هذه الجملة المقتبسة من أمر ملكي أصدره الملك "شمر يهرعش ملك سبأ وذي ريدان" في تنظيم التجارة والجباية: "بن إنسم وإبلم وثورم وبعرم وشامت بمنمو ذ يشامتم عبدم فعو أمتم وبعرم"2, ومعناها: "من إنس "بشر" وإبل وثيران وبعر تشتري, ومن يشتري عبدًا أو أمتًا أو بعرًا". فذكر "إنسم" أي: "إنسًا" وذكر بعدهم الإبل والثيران والبعر وغير ذلك. وكيف يميز بين الإنسان والحيوان, والإنسان في ذلك الوقت سلعة مثل سائر السلع تباع وتشترى؛ ليكون عبدا وخادما ومملوكا لمشتريه!. والبضاعة: القطعة من مال يتجر فيه, وأبضعه البضاعة: أعطاه إياها3. وهي من الألفاظ التجارية التي لا زالت رائجة جارية على كل لسان في الأسواق. ويقال لثمن الشيء: "القيمة"، وهو ثمن الشيء بالتقويم, وقومت السلعة: ثمَّنتها. ويقول أهل مكة: "استقمتها"، أي: ثمَّنتها، ويقولون: استقمت المتاع: أي: قوَّمته4. و"العينة": خيار المال, وعين التاجر: إذا باع من رجل سلعته بثمن معلوم إلى أجل معلوم, ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن الذي باعها به. وقد كره العينة أكثر الفقهاء ورُوِيَ فيها النهي5. وقد كانت بالقرى والمدن أسواق محلية، فكان بمكة والمدينة أسواق بها مبيعات, ويظهر أن "ملأ" القرى كانوا يشرفون عليها ويأخذون ضرائب البيع والشراء منها. وقد ورد أن "عمر" استعمل على سوق المدينة "السائب بن يزيد" وسليمان بن أبي خيثمة وعبد الله بن عتبة بن مسعود6, ولم تشر الرواية إلى الأعمال

_ 1 تاج العروس "1/ 277"، "ركب". 2 REP. EPIGR. 3910 3 تاج العروس "5/ 279"، "بضع". 4 تاج العروس "9/ 36"، "قوم". 5 تاج العروس "9/ 291"، "عين". 6 الإصابة "2/ 12"، "رقم 3077".

التي أناطها "عمر" بهؤلاء. ولكني لا أستبعد احتمال كون هذا التعيين استمرارًا لعادة قديمة كانت متبعة بيثرب قبل الإسلام؛ لمراقبة السوق، ولمنع التلاعب به وأخذ الحقوق من التعامل بالسوق.

أسواق العرب الموسمية

أسواق العرب الموسمية: وللعرب أسواق يقيمونها شهور السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض ويحضرها سائر العرب بما عندهم من حاجة إلى بيع أو شراء1, وتقع هذه الأسواق في مواضع مختلفة متناثرة من جزيرة العرب, فهي إذن أسواق عربية. وهناك أسواق أخرى قصدها العرب للاتجار في مواسم وفي أوقات مختلفة كانت خارج جزيرة العرب؛ في العراق أو في بلاد الشام أو في الحبشة، وقد كان العرب يقصدونها أيضا للاتجار والامتيار. وقد ذكر "اليعقوبي"، أن أسواق العرب كانت عشر أسواق يجتمعون بها في تجاراتهم ويجتمع فيها سائر الناس ويأمنون فيها على دمائهم وأموالهم2, ويظهر من قول "اليعقوبي" هذا من أنهم كانوا يأمنون فيها على دمائهم وأموالهم أثناء التقائهم بها. إن من دين أهل الجاهلية، اعتبار هذه الأسواق أماكن حرمًا، يأمن الإنسان فيها دمه وماله ما داموا في ضيافة السوق وحرمته؛ ولهذا كان لكل سوق "قومة" يقومون بأمر السوق وبالمحافظة على الأرواح والأموال فيه؛ فقد "كان في العرب قوم يستحلون المظالم إذ حضروا هذه الأسواق، فسموا "المحلّون"3. وهؤلاء "المحلون" هم مثل "المحلين" الذين كانوا لا يقيمون وزنًا لحرمة "الحرم" و"الحرمات" مثل حرم مكة، ولا يقيمون للأشهر الحرم قدرًا، فكانوا يعتدون فيها وفي كل شهر؛ ولذلك قيل لهم: "المحلون".

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 264"، المرزوقي، الأزمنة والأمكنة "2/ 161 وما بعدها"، المفضليات "208"، البكري، معجم "3/ 959"، النقائض "1/ 139"، العقد الفريد "5/ 208"، البيان والتبيين "3/ 100"، الأغاني "5/ 23"، "11/ 6، 82"، "12/ 16"، "15/ 240"، أسد الغابة "2/ 224"، الأغاني "14/ 145". 2 اليعقوبي "1/ 239"، "النجف 1964م". 3 اليعقوبي "1/ 240"، "النجف 1964م".

ومن المحلين قبائل من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة, وقوم من بني عامر بن صعصعة1. ولحماية الأسواق والمجتمع من "المحلّين"، الذين أباحوا لأنفسهم استحلال المظالم، ظهر قوم من أهل المروءة والمعروف، تواصوا فيما بينهم على رد السفيه عن سفهه والغاوي عن غيِّه، ونصبوا أنفسهم حماةً على الأسواق، يحملون سلاحهم فيها في الأشهر الحل وفي الأشهر الحرم للذود عن الحرمات, وقد عرف مثل هؤلاء بـ"الذادة المحرمين". وقد تحدث عنهم "اليعقوبي"، فقال: "وكان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق، فسموا المحلين، وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر، فيسمون الذادة المحرمين. وأما المحلون، فكانوا قبائل من أسد وطيء وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة وقومًا من بني عامر بن صعصعة. وأما الذادة المحرمون، فكانوا من بني عمرو بن تميم, وبني حنظلة بن زيد مناة، وقوم من هذيل، وقوم من بني شيبان, وقوم من بني كلب بن وبرة, فكانوا هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس، وكان العرب جميعًا بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم"2. والذود في اللغة: السوق والطرد والدفع, فالذادة هم المدافعون الذابون عن المظلومين، والواقفون أمام الظالمين. وقد ورد "ذادة" بمعنى: يذودون عن الحرم3. ولم تكن هذه الأسواق محصورة في موضع معين, إنما كانت تعقد في مواضع مختلفة متعددة من جزيرة العرب, وقد خصصت في الغالب بامتيار الأعراب وبشراء ما عندهم من سلع فائضة عليهم. ولا يستبعد بالطبع ورود التجار الأجانب إليها من غير العرب، فقد كان الروم مثلا يتوغلون إلى مسافات بعيدة في هذه الأرضين الشاسعة للبيع والشراء. وبحكم ورود أناس إلى هذه الأسواق لا يسهل الاجتماع والاتصال بهم في الأوقات الأخرى، فقد قصدها أناس من أماكن بعيدة بحثًا عن طلب أو ترويجًا لرأي،

_ 1 اليعقوبي "1/ 240"، العقد الفريد "2/ 206"، البيان والتبيين "3/ 100". 2 اليعقوبي "1/ 240"، "النجف 1964م". 3 تاج العروس "2/ 374"، "ذود".

فقصدها المبشرون للاتصال بالقبائل وللتأثير في بعض أفرادها لإدخالهم في دينهم. وفي كتب السير, أن الرسول نفسه كان يخرج في المواسم؛ لعرض نفسه على القبائل، ولهدايتهم إلى الإسلام. ومن أشهر أسواق العرب عند ظهور الإسلام: "سوق دومة الجندل"، و"سوق هجر"، و"سوق عمان"، و"سوق المشقر"، و"سوق عدن أبين"، و"سوق صنعاء"، و"سوق حضرموت"، و"سوق ذي المجاز"، و"سوق مجنة"، و"سوق عكاظ"، و"سوق حباشة"، و"سوق صحار"، و"سوق بدر"1، و"سوق بني قينقاع"، و"سوق الشحر"، و"سوق عثر"، وأسواق محلية أخرى تأتيها القبائل والعشائر للامتيار. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أن أسواق العرب الكبيرة كانت في الجاهلية ثلاث عشرة سوقًا، وأولها قيامًا: دومة الجندل2. وذكر "الهمداني"، أن من أسواق العرب القديمة: عدن، ومكة، والجند، ونجران، وذو المجاز، وعكاظ، وبدر، ومجنة، ومنى، وحجر اليمامة، وهجر البحرين3, وسوق "همل" من الخارف ببلد حاشد4. وهناك أسواق أخرى عديدة وردت أسماؤها عرضًا في روايات أهل الأخبار. أما "دومة الجندل"، فكانوا ينزلونها أول يوم من شهر ربيع الأول، يجتمعون في أسواقها للبيع والشراء والتبادل. وكان أكيدر صاحب دومة الجندل يرعى الناس ويقوم بأمرهم أول يوم، وتدوم سوقهم إلى نصف الشهر, وكان "أكيدر" يعشر الناس. وربما يتولاها بنو كلب الذين يأتونهم متأخرين، فيتولونها، وتدوم عندئذ إلى آخر الشهر، ويتولون هم حينئذ تعشير الناس5. ويعرف البيع فيها بـ"بيع الحصاة"، وهو نوع من أنواع المقامرة أبطله

_ 1 الطبري "2/ 276"، صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها". 2 المرزوقي، الأزمنة والأمكنة "2/ 161". 3 الصفة "179 وما بعدها". 4 الصفة "113". 5 البلدان "4/ 106 وما بعدها"، "2/ 628 وما بعدها"، "طبعة طهران" "سنة 1965"، اليعقوبي "1/ 226" "طبعة النجف"، ابن خلدون "2، القسم الأول ص773" "بيروت 1956م".

الإسلام1. وكانت تقصدها قبائل الشام والحجاز والأقسام الشمالية والغربية من أعالي نجد، وتقيم بالقرب منها كلب وجديلة طيء. وكان الذي يشرف على هذه السوق سادات العرب من كلب أو من غسان، يتنافسون عليها ويتزايدون، فأي الحيين فاز خضع ودان له الآخر. وكان مكس هذه السوق لمن يتولى الإشراف عليها, وهم جميعًا يأخذون الإذن بالإشراف على السوق من الملك الذي يحكم الموضع في ذلك الوقت2. وكان الإشراف على هذه السوق عند ظهور الإسلام بين "الأكيدر" وبين "قنافة الكلبي" الذي كان ينافسه على الملك3. وذكر "ابن حبيب" أنه "كان لكلب فيها قنّ كثير في بيوت شعر، فكانوا يكرهون فتياتهم على البغاء ويأخذون كسب أولئك البغايا، ولما كان الإسلام حرَّم هذه العادة بالآية: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 4. ودومة الجندل في غائط من الأرض خمسة فراسخ، ومن مغربه عين تثج فتسقي ما به من النخل والزرع، ودومة ضاحية بين غائطها واسم حصنها مارد5, وهو حصن قديم، ورد ذكره في الشعر الجاهلي وفي كتب الأدب. وقد اكتسب شهرة كبيرة بين الجاهليين حتى ضربوا به وبـ"الأبلق" حصن السموءل المثل في العز والمنعة، فقالوا: "تمرد مارد وعزّ الأبلق"، قالوا: قصدتهما الزباء فعجزت عن قتالهما، فقالت: "تمرد مارد وعز الأبلق"، وذهب مثلًا لكل عزيز ممتنع6. ويظهر أن حصن "مارد" كان من الحصون الحصينة القديمة التي

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 264 وما بعدها"، المسعودي، التنبيه "214"، الطبري "2/ 578" "مطبعة الاستقامة"، تأريخ الخميس "2/ 1 وما بعدها"، فتوح البلدان "1/ 68 وما بعدها"، جمهرة أنساب العرب "403"، فتوح البلدان "223" "دار النشر للجامعيين, بيروت 1957". 2 البلدان "4/ 106"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 161 وما بعدها"، المحبر "264"، البكري "2/ 564 وما بعدها"، مراصد الاطلاع "2/ 542 وما بعدها"، التأريخ الكبير "1/ 89 وما بعدها"، المسالك والممالك "115", الكامل "2/ 192". 3 الأزمنة والأمكنة "2/ 161". 4 النور، الرقم 24، الآية 33، المحبر "264"، الأزمنة والأمكنة "2/ 161 وما بعدها"، البلدان "4/ 106". 5 تاج العروس "8/ 297"، "دوم". 6 تاج العروس "2/ 500"، "مرد".

بنيت بـ"الجندل"، أي: الحجر1. ولم تكن دومة الجندل سوقًا يقصدها التجار في موسم واحد معين، بل كانت مفرقًا مهمًّا من مفارق الطرق، وموضعًا يقصده أصحاب القوافل الذاهبون من جزيرة العرب إلى العراق وإلى الشام وبالعكس؛ لوجود الماء العذب بها، وما يحتاج المسافر إليه من زاد وماء. وهي اليوم "الجوف" في المملكة العربية السعودية. ويقصد سوق المشقر الأعراب الساكنون في العربية الشرقية والأعراب القريبون إلى هذا الموضع، ويرد إلى هذه السوق تجار فارس ببياعاتهم يقطعون البحر، فيتاجرون مع من يقصد هذه السوق من القبائل والحضر, وكانت بنو تميم وعبد القيس جيرانها. أما المشرف عليها فرؤساء تميم من بني عبد الله بن زيد رهط المنذر بن ساوى، وكانوا يتلقبون بألقاب الملك, ويسيرون في معاملتهم في هذه السوق سيرة الملوك بدومة الجندل، ويأخذون العشر. وكان من يؤمها من التجار يتخفرون بقريش؛ لأنها لا تؤتي إلا في بلاد مضر, وكان بيعهم فيها الملامسة والهمهمة, وتقوم سوقها أول يوم من جمادى الآخرة إلى آخر الشهر2. وقد قصد هذه السوق أحياء من العرب من مختلف أنحاء جزيرة العرب، كما وفدت إليها اللطائم. وطالما أعجبت أرض هجر وموضع المشقر منها، بعض هؤلاء الأعراب فيبقون فيها ولا يرتحلون عنها، فمن هناك صارت بهجر طوائف من كل حي من العرب وغيرهم3. ويحمي المشقر حصن قديم قويم، يقال: ورثه "امرؤ القيس"، وقد أشير إليه في الشعر. قال عنه "المخبل":

_ 1 تاج العروس "7/ 266"، "الجندل". 2 المحبر "ص265"، اليعقوبي "1/ 226"، البكري، معجم "4/ 1193"، البلدان "5/ 134"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 162 وما بعدها"، آثار البلاد وأخبار العباد "ص73"، مراصد الاطلاع "3/ 1275"، البكري "3/ 1232". 3 الأزمنة والأمكنة "2/ 163".

فلئن بنيت لي المشقر في ... صعب تقصر دونه الهمم لتنقبن عني المنيَّة ... إن الله ليس كعلمه علم1 وكان من الحصون التي تحمي قرى ساحل الخليج من الأعراب, به حامية كبيرة، تغلق عليها الأبواب عند دنو الخطر. ويظهر من قصة فتك المكعبر بتميم، أنه كان ذا بابين، وكان قد بُني لحماية المنطقة من الأعراب وللمحافظة على الأمن. وقد كان حصنًا كبيرًا ادخر فيه الفرس الميرة والأرزاق لتوزيعها على الأعراب أيام المجاعة, وبه جنود من الفرس يحكمهم قوَّاد منهم، يقومون بضبط الأمن ومراقبة حركات الأعراب. وتعقد سوق هجر في شهر ربيع الآخر، وكان الذي يتولى تعشير التجار بها "المنذر بن ساوى" أحد بني عبد الله بن دارم, وهو ملك البحرين2. وهجر اسم لجميع أرض البحرين، وقصبة بلاد البحرين, وقد عرفت بكثرة تمرها، ومنه المثل: كمبضع تمر إلى هجر. وذكر أن "عمر" تذكرها فقال: عجبت لتاجر هجر وراكب البحر، كأنه أراد لكثرة وبائها، فتاجرها وراكب البحر في الخطر سواء3, ويظهر أنها كانت موبوءة. ثم يرتحلون نحو عمان من البحرين أيضًا، فتقوم سوقهم بها. ثم يرتحلون فينزلون "إرم" وقرى الشحر، فتقوم أسواقهم بها أيامًا. ثم يرتحلون فينزلون سوق عدن4. أما "سوق عدن"، فكانت تقوم أول يوم من شهر رمضان إلى عشر يمضين منه, وكانت الأبناء هي التي تعشر التجار بها، والأبناء هم أبناء الفرس الذين فتحوا اليمن مع وهرز وقتلوا الحبشة. وكان التجار لا يتخفرون فيها بأحد؛ لأنها أرض مملكة وأمرها محكم5، أما ما قبل حكم الأبناء، فقد كان يعشر هذه

_ 1 وقال عنه "لبيد": وأفنى بنات الدهر أرباب ناعط ... بمستمع دون السماء ومنظر وأنزلن بالدومي من رأس حصنه ... وأنزلن بالأسباب رب المشقر تاج العروس "3/ 311"، "شقر". 2 صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها". 3 تاج العروس "3/ 613 وما بعدها"، "هجر". 4 صبح الأعشى "1/ 411". 5 المحبر "ص266".

السوق ملوك حمير، ثم من ملك اليمن من بعدهم. وأشهر ما يباع فيها الطيب, ولم يكن أحد يحسن صنع الطيب من غير العرب، حتى إن تجار البحر ترجع بالطيب المعمول تفخر به في السند والهند، ويرحل به كذلك تجار البر إلى فارس والروم1. وأما سوق صنعاء، فكانت تقوم في النصف من شهر رمضان إلى آخره, وكانت الأبناء تعشرهم, وكان بيعهم بها الجس؛ جس الأيدي2. وقد اشتهرت ببيع الخرز والأدم والبرود, وكانت تجلب إليها من معافر3, والقطن والكتان والزعفران والأصباغ وأشباهها مما يتفق بها، ويشترون بها ما يريدون من البُرِّ والحديد وحاصلات اليمن وما يأتي إلى اليمن من تجارات البحار4. وسوق ذي المجاز قريبة من عكاظ، وتقوم أول يوم من ذي الحجة إلى يوم التروية, ثم يصيرون إلى منى5. وقد كانت لهذيل, وكانت مبايعة العرب بها بإلقاء الحجارة، وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول السلعة يساومون بها صاحبها، فأيهم أراد شراءها ألقى حجرًا، وربما اتفق في السلعة الرهط، فلا يجدون بدًّا من أن يشتركوا وهم كارهون, وربما ألقوا الحجارة جميعًا فيوكسون صاحب السلعة إذا تظاهروا عليه. وكانت قريش تخرج قاصدة إليها من مكة، فإن أخذت على حزن لم تتخفر من القرب حتى ترجع، وذلك أن مضر عامتهم لا تتعرض لتجار قريش ولا يتهجَّمهم حليف لمضري مع تعظيمهم لقريش ومكانتهم في البيت6. وأما سوق حُباشة فمن أسواق العرب المشهورة القديمة في الجاهلية, في العربية الغربية, وهي سوق بتهامة، يتاجر فيها أهل الحجاز، وأهل اليمن. وكان

_ 1 الأزمنة والأمكنة "2/ 165"، اليعقوبي "1/ 236". 2 المحبر "ص266". 3 صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها". 4 الأزمنة والأمكنة "5/ 165"، اليعقوبي "1/ 236". 5 المحبر "ص267". 6 الأزمنة والأمكنة "2/ 161".

في جملة من حضرها وتاجر فيها الرسول1, وكانت تقام في شهر رجب2. وحباشة سوق أخرى كانت لبني قينقاع3. وكان الجلندي بن المستكبر، هو الذي يعشر تجار سوق صُحار بعمان، وكذلك تجار سوق "دبا". وكان يقصد سوق "دبا" تجار السند والهند والصين ومواضع أخرى، فهي سوق عظيمة كبيرة, ذات تجارة مع العالم الخارجي. إحدى فرضتي العرب, ويقوم سوقها آخر يوم من رجب, وكان بيعهم فيها المساومة. وتقوم سوق صُحار أول يوم من رجب, تقوم خمس ليالٍ4. ويذكر بعض أهل الأخبار أن البيع في سوق صحار هو بإلقاء الحجارة5. وقد اشتهرت "صحار" بثيابها، فعرفت باسمها، كما كانت سوقًا للتجارات المستوردة من اليمن والصين والبحرين والهند؛ ولذلك كانت سوقا نشطة، وبها أصحاب حرف وصناعة6. وأما "بدر"، فكان موضعًا فيه ماء وفيه وقعت معركة بدر الكبرى, وكان موسمًا من مواسم العرب، تجتمع لهم بها سوق كل عام، يجتمعون فيه للتجارة وللتنزه، فكانوا ينحرون ويطعمون ويشربون ويسمعون الغناء7. وذكر أن موضع "بدر" بئر حفرها رجل من غفار, ثم من "بني النار" اسمه بدر, وذكر أنه "بدر بن قريش بن يخلد"8، وبه سمي الموضع بدرًا، وقيل: بدر رجل من "بني ضمرة" سكن المكان فنسب إليه9، وهو بين مكة والمدينة أسفل وادي الصفراء، وهو إلى المدينة أقرب، وبينه وبين "الجار"، وهو ساحل

_ 1 بالضم والشين معجمة، البلدان "3/ 206"، شرح القاموس "4/ 293"، وقد كان هذا الموضع هو السبب الباعث لياقوت الحموي على تأليف كتاب معجم البلدان، راجع مقدمة الجزء الأول من معجم البلدان. 2 أخبار مكة، للأزرقي "1/ 194 وما بعدها". 3 تاج العروس "6/ 263"، البلدان "3/ 206". 4 المحبر "ص265 وما بعدها". 5 اليعقوبي "1/ 236" "النجف"، الأزمنة والأمكنة "2/ 163". 6 راجع دائرة المعارف الإسلامية مادة "صحار". 7 الطبري "2/ 279"، البلدان "2/ 88". 8 الروض الأنف "2/ 61". 9 تاج العروس "3/ 34"، "بدر".

البحر ومرفأ ليلة1. ويظهر أنه كان من المواضع المقدسة على شاكلة "سوق عكاظ", به أحجار يتقرب إليها الناس وبه ماء, فصار سوقًا في موسمه المخصص له، يقصده الناس من مكة ومن المواضع القريبة؛ لبيع ما عندهم من ناتجهم فيه، ولشراء ما يحتاجون إليه منه. وأما سوق بني قينقاع فسوق لليهود, يذهب إليها الناس للاتجار وابتياع ما عند يهود من سلع، ولبيع ما عندهم ليهود. أما "سوق الشحر" شحر مهرة، فتقوم السوق تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود, ولم تكن بها عشور؛ لأنها ليست بأرض مملكة. وكانت التجار تتخفر فيها ببني محارب بن هرب من مهرة, وكان قيامها للنصف من شعبان, وكان بيعهم بها إلقاء الحجارة2. وكان غالب ما يعرض فيها الأدم والبز وسائر المرافق, ويشترون بها الكندر، والمرّ، والصبر، ويقصدها تجار من البر والبحر3. وأما سوق الرابية بحضرموت، فلم يكن يصل إليها أحد إلا بخفارة؛ لأنها لم تكن أرض مملكة. وكان من عز فيها بزّ صاحبه, فكانت قريش تتخفر فيها ببني آكل المرار، وسائر الناس يتخفرون بآل مسروق بن وائل من كندة4. وتقوم سوق نطاة بخيبر, وسوق حجر باليمامة يوم عاشوراء إلى آخر المحرم5. وأشهر الأسواق المتقدمة وأعرفها "سوق عكاظ"، وهي سوق تجارة وسوق سياسة وسوق أدب. فيها كان يخطب كل خطيب مصقع، وفيها علقت القصائد السبع الشهيرة افتخارًا بفصاحتها على من يحضر الموسم من شعراء القبائل, على ما يذكره بعض أهل الأخبار. وكان يأتيها قريش وهوازن وسليم والأحابيش وعقيل والمصطلق وطوائف من العرب, وكانت تقوم للنصف من ذي القعدة إلى آخر الشهر. ولم تكن فيها عشور ولا خفارة, وكان بيعهم السرار: إذا وجب البيع

_ 1 تاج العروس "3/ 34"، "بدر". 2 المحبر "ص266". 3 الأزمنة والأمكنة "2/ 163"، اليعقوبي "1/ 226"، تاج العروس "6/ 293". 4 المحبر "ص267"، الأزمنة والأمكنة "2/ 165"، اليعقوبي "1/ 236". 5 المحبر "ص268".

وعند التاجر فيها إلف ممن يريد الشراء ولا يريده, أشركه في الربح1. وذكر أن عكاظ: نخل في وادٍ بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليالٍ، وبه كانت تقام سوق العرب. وقيل: عكاظ: ماء ما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له: الفنق، كانت موسمًا من مواسم الجاهلية, تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يومًا. وكانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون، أي: يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر، يقيمون على ذلك شهرا، يتبايعون ثم يتفرقون. فلما جاء الإسلام هدم ذلك2. وذهب فريق من أهل الأخبار إلى أن انعقاد سوق عكاظ إنما كان يقوم بهلال شهر ذي القعدة ويستمر لمدة عشرين يومًا3. وهم يخطئون رأي من يذهب إلى أن انعقاد السوق كان في شهر شوَّال، وحجتهم أن انعقاد السوق كان في الأشهر الحرم؛ ليراعي الناس حرمة تلك الأيام فلا يعتدون على من يقصد السوق, وشهر شوال لا يدخل في جملة الأشهر الحرام؛ لذلك فلا يمكن أن يكون انعقاد السوق فيه. ويستدلون بدليل آخر، هو تقاتل بعض العرب في أيام عكاظ، ونظرًا لوقوع ذلك القتال في شهر حرام، أطلقوا على تلك الأيام أيام الفجار، وهي أربعة أيام: يوم شمطة، ويوم العبلاء، ويوم الحريرة، ويوم شرب، وهذه الأسماء هي أسماء أماكن في عكاظ. وما كان العرب ليطلقوا على تلك الأيام أيام الفجار, لو لم تكن قد وقعت في أيام حرم4.

_ 1 الحيوان, للجاحظ "7/ 215"، البكري، معجم "3/ 959 وما بعدها"، المحبر "ص267"، "وكانت تقوم هذه السوق في قول: أول ذي القعدة إلى عشرين منه، ثم يتوجهون إلى مكة فيقفون بعرفات ويقضون مناسك الحج ثم يرجعون إلى أوطانهم. وفي قول آخر: إنهم كانوا يقيمون به جميع شوال إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة, ولعل ذلك لاختلاف العادة في السنين، أو لاختلاف القبائل في الإقامة في هذا الموسم. والذي عليه صاحب قبائل العرب، أنهم كانوا يقيمون في هذه السوق من نصف ذي القعدة إلى آخره ... " بلوغ الأرب "1/ 270". 3 مراصد الاطلاع "2/ 953"، القاموس المحيط "2/ 396"، أخبار مكة، للأزرقي "129"، صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها"، البلدان "3/ 704"، الأزمنة والأمكنة "2/ 165"، اليعقوبي "1/ 236". 4 أخبار مكة "132"، الأغاني "9/ 176"، "10/ 9"، العقد الفريد "3/ 377"، أخبار مكة "1/ 66"، الكامل, لابن الأثير "1/ 358 وما بعدها".

وجاء في بعض الأخبار أن أشراف العرب كانوا يتوافون بتلك الأسواق مع التجار من أجل أن الملوك كانوا يرضخون للأشراف، لكل شريف بسهم من الأرباح؛ فكان شريف كل بلد يحضر سوق بلده، إلا عكاظ، فإنهم كانوا يتوافون بها من كل أوب1. فسوق عكاظ إذن سوق حرة، لا عشور فيها ولا خفارة, وهي تختلف بذلك عن بقية الأسواق التي كان يعشرها الملوك؛ إذ كانت في حكم "ملك"، أو في حكم الأمراء وسادات القبائل، على أن يؤدوا سهمًا من الأرباح المتجمعة من العشور والخفارات إلى أشراف العرب، أي: سادات القبائل الذين تقام تلك الأسواق في أرضهم. فأشراف "تميم" وإن أشرفوا على هذه السوق، وحكموا بها، ونظموا أمورها، إلا أنهم لم يكونوا يجبون شيئًا من التجار, ولعل ذلك كان بتأثير قريش عليهم، فقد كان رجال مكة هم المستأثرون الأثيرون من عكاظ, وكانوا يشجعون العرب على حضورها؛ لما لهم فيها من منافع اقتصادية، وقد كان لهم أنفسهم إشراف على نواحٍ من أمور السوق. ويظهر أنه لأجل تشجيع القبائل على حضور "عكاظ" وجمع أكثر من يمكن جمعه من التجار، اتفقوا مع سادات تميم ولا سيما مع "بني دارم", على أن يتركوا السوق حرة؛ ليقصدها أي تاجر، فلا يكلف أحد منهم بكلفة العشور والخفارة، ولا يهان أو يعتدى عليه، وهو بالطبع في شهر حرام؛ ليضمنوا بذلك حضور أكبر عدد ممكن من الناس، وليضمنوا مجيئهم بعد ذلك إلى مكة. وقد كانوا يسعون جهد طاقتهم لجلب العرب إليها من الأماكن البعيدة؛ ليستفيدوا منهم في موسم الحج، وليكوِّنوا معهم صلات طيبة وعلاقات وثيقة تؤمن لهم ولقوافلهم ولتجارتهم حق المرور بأمن وسلام، وتقديم كل ما يحتاج إليه رجال القوافل من ماء وطعام ومأوى وحماية. ويعرض للبيع وللشراء في سوق عكاظ وفي الأسواق الأخرى كل أنواع البضاعات، من أدم ومن حبوب وأقمشة إلى بضاعة حية ناطقة هي الحيوان أو الإنسان، حيث يعرض الرقيق في السوق, وقد كان شراء "خديجة" زوجة الرسول لـ"زيد بن حارثة" من سوق عكاظ2. وقد اشتهرت سوق عكاظ

_ 1 المرزوقي، الأمكنة "2/ 166". 2 المعارف "ص144".

بأديمها حتى عُرِفَ بين تجار الأديم بـ"الأديم العكاظي"1 مع أنه لم يكن من حاصل عكاظ، بل كان يورد إلى السوق من مختلف الأنحاء. وذكر بعض أهل الأخبار أن "سوق عكاظ" موسم عظيم من المواسم، وقد اتخذت سوقًا بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة. وهي من أعظم أسواق العرب على الإطلاق في الجاهلية وفي الإسلام, ثم تضاءل شأنها وخربت بعد سنة "129" للهجرة، عندما ظهر الخوارج الحرورية مع المختار بن عوف في مكة، فنهبت هذه السوق، وخاف الناس على أنفسهم من الذهاب إليها، فتُرِكَتْ2. ولو أخذنا بهذه الرواية، نكون قد جعلنا مبدأ هذه السوق سنة "585" أو "586" للميلاد تقريبًا, أي: إن تأريخ سوق عكاظ لم يكن بعيد عهد عن الإسلام, فهو قبله بنحو ربع قرن. وقد أقيمت وعمر الرسول آنذاك "15" عامًا. ويذهب الناس بعد سوق عكاظ إلى سوق أخرى هي سوق مجنة، فيقيمون بها عشرة أيام. فإذا رأوا هلال ذي الحجة في نهاية هذه الأيام العشرة قصدوا ذا المجاز، وهي سوق جاهلية، فيقيمون فيها ثمانية أيام يبيعون ويشترون، ثم يخرجون يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة، فيأخذون ذلك اليوم من الماء ما يرويهم من ذي المجاز. وقد سمي هذا اليوم باسم يوم التروية؛ لترويهم من الماء بذي المجاز, حيث كان ينادي بعضهم على البعض الآخر أن يترووا من الماء؛ لأنه لا يوجد ماء بعرفة, كذلك لا يوجد ماء بالمزدلفة يومئذ. ويعتبر يوم التروية نهاية أسواقهم, وكان العرب لا يتبايعون في يوم عرفة ولا في أيام منى. فلما جاء الإسلام أحل لهم ذلك3. وذكر أن "ذا المجاز" موضع بمنى، وذكر أنه سوق كانت في الجاهلية على فرسخ من عرفة, بناحية كبكب، سمي به لأن إجازة الحج كانت فيه4. و"كبكب": جبل بعرفات خلف ظهر الإمام إذا وقف، وقيل: هو ثنية5.

_ 1 البلدان "3/ 704"، تاج العروس "5/ 254"، "عكظ". 2 الأزرقي، أخبار مكة "129 وما بعدها"، البكري، معجم "3/ 959 وما بعدها"، اللسان "7/ 447". 3 أخبار مكة، للأزرقي "129 وما بعدها". 4 تاج العروس "4/ 21"، "جوز". 5 تاج العروس "1/ 444"، "كب"، "ك/ ب/ ب".

ويذكر علماء التفسير أن متجر الناس في الجاهلية كان سوقي عكاظ وذي المجاز، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك. وكانوا لا يتجرون في أيام الحج، فكانوا لا يبيعون أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة، ويبتاعون ويبيعون قبل وبعد أيام الحج، إذ كانوا يتأثمون من الاتجار في أيام الحج1. وقد كان الحج من أكبر مواسم الربح لقريش، تبيع قريش ما عندها للأعراب القادمين إليها من البادية ولأهل القرى البعيدة عن مكة، وتشتري منهم ما يحملونه معهم من مواد وسلع، ثم تقوم قوافلهم بنقل الفائض مما اشترته إلى الأسواق الخارجية في بلاد الشام أو العراق، وتشتري في مقابل ذلك ما يحتاج إليه الحجاز وأعراب البادية من سلع ومواد. ومكة في مواسم الحج وفي المناسبات الأخرى سوق تجارية مهمة، لا تقل شأنًا في الواقع عن الأسواق الأخرى. وقد تمكن أهلها النشطون في جمع المال من اكتناز الأموال ومن استثمار ما يحصلون عليه من أرباح, حتى صاروا من أغنى الناس في الحجاز. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن حظ المفاخرة والمباهاة والتمدح والذم، لم يكن بأقل من حظ البيع والشراء في سوق عكاظ, فقد كان الشعراء يعرضون أجود وأحدث ما عندهم من شعر على الحاضرين2. وكان كثير من هؤلاء الحاضرين إنما يفدون إليها للوقوف على أحدث ما يقال من صنوف الشعر، وهو صنف رائج أكثر من رواج النثر بالطبع, لما فيه من إيقاع وموسيقى ووزن وسهولة في الحفظ وأثر في النفس؛ لذلك كان للشاعر في هذه السوق مكانة تزيد كثيرًا على مكانة التاجر فيها؛ لما لشعره من أثر في الحياة العامة لمجتمع ذلك اليوم. ويقال: إن الشاعر الشهير "النابغة الذبياني" كان يحضر سوق عكاظ، فتُضرَب له قبة من أدم، يجلس تحتها، فيفد إليه من الشعراء من يريد أن يفتخر

_ 1 تفسير الطبري "2/ 165 وما بعدها". 2 تاج العروس "5/ 254 وما بعدها"، اللسان "9/ 447"، "وقد كانت قبائل العرب تجتمع فيها كل سنة، يتفاخرون فيها ويحضرها شعراؤهم ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ثم يتفرقون"، البلدان "6/ 203"، ابن خلدون، المجلد الثاني "ص642".

بشعره على غيره؛ لينشد أمامه شعره، فيحكم على شعره برأيه؛ لما لرأيه من أثر في الناس. وكان الشاعران الأعشى وحسان بن ثابت ممن احتكما إليه وكذلك الشاعرة الخنساء1. وممن حضر عكاظ: الخطيب الجاهلي الشهير "قس بن ساعدة الإيادي" "شيشرون" العرب، وعمرو بن كلثوم التغلبي, الشاعر المعروف2. ويذكر أهل الأخبار أن الرسول رأى "قس بن ساعدة الإيادي" يخطب في هذه السوق, وقد قصد الرسول سوق عكاظ وسوقي مجنة وذي المجاز، يدعو من كان يحضر المواسم إلى دين الله. وقيل: إنه مكث سبع سنين يتبع الناس في مواسمهم في سوق عكاظ، وكان فيمن كلمهم ودعاهم إلى الإسلام "بنو عامر بن صعصعة"3. وحال الأسواق الأخرى مثل حال سوق عكاظ, من حيث ورود الشعراء إليها لعرض ما عندهم من شعر جديد، والظاهر أن قرب سوق عكاظ من مكة، وورود الحجاج إليها قبل البدء بالحج، ثم ورود اسمها في أخبار الرسول، ولكونها سوق مكة وتجار قريش، ووقوعها في أرض يتكلم أهلها باللغة التي نزل بها الوحي، هذه الأسباب وغيرها هي التي خلدت اسم هذه السوق، وربطت بينها وبين الشعر والنثر، أكثر من الأسواق الأخرى التي كانت بعيدة عن مكة، وبعيدة لذلك عن ذاكرة أهل الأخبار. هذا, وإن للباحثين في موضع سوق عكاظ آراء متباينة فيه, ولا زالت هذه الآراء متباينة فيه حتى اليوم4. هذا، وقد كان موضع عكاظ في الأصل مكانًا مقدسًا على ما يظهر من أخبار أهل الأخبار؛ فقد ذكروا أن العرب كانت تطوف بصخور كانت هناك ويحجون إليها، وكانوا يذبحون وينحرون إلى تلك الأصنام والأنصاب, حتى تلطخت تلك

_ 1 الأغاني "9/ 156" "مطبعة التقدم"، شعراء النصرانية "5/ 640". 2 الأغاني "9/ 176". 3 البكري "5/ 259 وما بعدها"، ابن كثير, البداية "3/ 141". 4 لسان العرب "7/ 447"، معجم، البكري "3-4/ 196"، البلدان "3/ 704"، القاموس "2/ 396"، تاج العروس "5/ 255"، مراصد الاطلاع "2/ 953"، شرح ديوان الحماسة "3/ 1514 وما بعدها".

الأنصاب والأرض التي تحيط بها بدماء البدن1. ويظهر أن أهمية ذلك المكان الدينية كانت قد قلَّت بالتدريج؛ إذ غطت قدسية مكة عليه. ولما جاء الإسلام وأزال الأنصاب والأصنام, ذهبت كل أهمية لمحجة عكاظ, واختفت أهمية السوق معه حتى ماتت على نحو ما ذكرت. ويتقدم سادات الناس في مثل هذه المناسبات إلى آلهتهم بإطعام الفقراء وإضافة الناس. وكان "خويلد بن فضيل بن عمرو بن كلاب" المعروف بـ"الصعق"؛ لأن صاعقة نزلت عليه فأحرقته، ممن يطعم بعكاظ, وكان من سادات قومه2. ويترك هذا الكرم أثرًا في نفوس من يحضر السوق، ويكون سببًا للحصول على ثناء ومديح الشعراء لأولئك الكرماء. والظاهر من روايات أهل الأخبار عن هذه الأسواق، أنها كانت كلها في الأصل مواضع مقدسة، لها أصنام تعبدها القبائل، وتأتي للتقرب إليها في مواسم معينة هي مواسم حجها، فتتحول تلك المواسم إلى أسواق للبيع والشراء. فقد ذكروا أن "بني وبرة" كانوا يفدون إلى "دومة الجندل" للتقرب إلى "ودّ"، وكان سدنته من "بني الفرافصة بن كلب"3، وأن "بني عبد القيس" كانوا يتقربون إلى صنم لهم اسمه "ذو اللب" وكان بالمشقر، وسدنته "بنو عامر"4. ويجب ألا ننظر إلى هذه الأسواق نظرتنا إلى السوق بالمعنى المفهوم من اللفظة في الوقت الحاضر, فقد كانت أسواق الجاهلية أوسع مجالًا من ذلك بكثير. كانت مجامع لأهل اللسان من شعراء ومن خطباء، ومن مرموقين معروفين ومن مغمورين طلاب شهرة، قصدوا هذه الأسواق للحصول على اسم وسمعة، كما هو شأن سوق عكاظ. كما كانت مجتمعات تعقد فيها العقود والمعاهدات والاتفاقات القبلية والعائلية، ومواضع يعلن فيها عن التبني وعن الخلع، أي: خلع الأفراد،

_ 1 البلدان "6/ 203"، البكري "3/ 959 وما بعدها". 2 جمهرة، ابن حزم "ص269". 3 جمهرة أنساب العرب، لابن حزم "ص458". 4 جمهرة، ابن حزم "ص460".

لجرائم يرتكبونها، وهي ساحات محاكم، يجلس فيها المتخاصمون للاستماع إلى قرار حاكم مهاب محترم، اتفقوا على تحكيمه في نزاعهم. وقد كانت الحكومة في هذه السوق إلى "بني تميم"، وكان آخر من حكم منهم فيها: الأقرع بن حابس التميمي1. ويروي أهل الأخبار أن فرسان العرب كانوا إذا حضروا موسم عكاظ تقنعوا إلا "أبا سليط" "طرفة بن تميم"، فارس عمرو بن تميم في الجاهلية؛ فإنه كان لا يتقنع ولا يبالي أن تقع عيون الفرسان عليه, وذلك اعتمادًا على نفسه وازدراءً لشأن أعدائه ومن يريد إلحاق الأذى به2. وقد كانت سوق عكاظ وبقية الأسواق، من أهم المواضع التي تجلب أنظار الفرسان إليها، إذ كان الكثير منهم يتصيدون فرص الأخذ بالثأر بعد انفضاض موسم السوق، أو الحصول على غنائم بمهاجمة التجار ومن يحمل تجارة دسمة أو حمولة ثمينة؛ ولهذا كان لا بد للفرسان ومن يريد الحصول على مغنم أو تنفيذ مأرب ما من التحفظ والاحتراز حذر انكشاف أمره، فيكون عرضة للغدر. وإذا وقعت في هذه الأسواق خصومات في مثل اختلاف في سعر أو اختلاف في تجارة، فهناك حكَّام يلجأ المتخاصمون إليهم للنظر في خصوماتهم وللنظر في كل خصومات أخرى قد تقع على الحاضرين, فيقوم هؤلاء الحكام بفض ذلك النزاع. وقد اشتهر سادات بني تميم بالنظر في الخصومات التي تقع في الأسواق القريبة منهم أو التي تقع في ديارهم، وكان من أواخر حكامهم "الأقرع بن حابس"3.

_ 1 صبح الأعشى "1/ 410 وما بعدها". 2 الاشتقاق "ص131"، اليعقوبي "1/ 226"، العقد الفريد "2/ 206"، البيان والتبيين "3/ 100". 3 صبح الأعشى "1/ 410".

سوق عكاظ في الإسلام

سوق عكاظ في الإسلام: كانت سوق عكاظ عامرة مقصودة في الجاهلية، "فلما جاء الإسلام هدم

ذلك"1. وورد في كتب الحديث: "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، أسواقًا في الجاهلية. فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها، فأنزل الله: "ليس عليكم جناح في مواسم الحج", قرأ ابن عباس كذا"2. وورد في تفسير الطبري: "قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية, فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم في مواسم الحج""3. وورد: "كانوا يحجون ولا يتجرون، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} "4. وتفسير ذلك كما جاء في كتب التفسير والحديث، وكما سبق أن تحدثت عن ذلك في الجزء الخاص بالحياة الدينية عند أهل الجاهلية، أن الجاهليين كانوا يتأثمون من الاتجار في الحج، فلا يحجون ولا يتجرون، وتكون تجارتهم في الأسواق المذكورة قبل الحج أو في مكة بعد الحج، وبقوا على ذلك حتى رفع عنهم الحرج بنزول الوحي: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} 5، فرخَّص لهم في المتجر والركوب والزاد، وأحل الله لهم الاتجار في الحج6، فصاروا يتبايعون بمكة، فأثر ذلك على الأسواق المذكورة. وكان تحديد مواقيت الحج, وانتشار الإسلام، ومنع التعرض والتحرش بالناس طيلة أيام السنة، في جملة العوامل التي قللت من أهمية تلك الأسواق، فلم يعد الحجاج في حاجة إلى الذهاب قوافلَ إليها؛ استغلالًا لحرمة الأشهر، بل صاروا يتجهون إلى المواقيت المعينة للحج رأسًا، فيتجرون بمكة ويعودون إلى ديارهم، فقلت بذلك أهمية تلك الأسواق حتى ماتت. وسبب آخر, هو في نظري أهم من كل ما ذكرت, هو أن هجرة الرسول إلى يثرب، وانتصار الإسلام على مكة، ثم وفاته بيثرب، واتخاذ الخلفاء الثلاثة الأول إياها قاعدة لهم ولبيت مال المسلمين، ثم خروج سادات مكة إليها في

_ 1 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ". 2 إرشاد الساري "4/ 37". 3 تفسير الطبري "2/ 164، 165". 4 تفسير الطبري "2/ 164". 5 سورة البقرة، رقم 2 الآية 198. 6 تفسير الطبري "2/ 164 وما بعدها".

حياة الرسول، وانتقالهم إلى الأمصار المفتوحة لإدارتها سياسيًّا وعسكريًّا، أو للاشتغال بها بالزراعة والتجارة وبالأعمال الأخرى المربحة، كل هذه العوامل وأمثالها جعلت مكة في الدرجة الثانية بعد "يثرب"، حتى إن من بقي بالمدينة من الصحابة ولم يغادرها كما غادرها غيرهم إلى الأمصار المفتوحة، وجدوا أن من أدب الصحبة ملازمة قبر الرسول، والثوى بها في الحياة وفي الممات، ولم يقيموا بمكة إلا فترات؛ لحج أو لزيارة، فأثر ذلك على وضعها المالي، وأزال مكانها القديم في التجارة، فتغير بذلك كل شيء.

الفصل الخامس بعد المئة: البيع والشراء

الفصل الخامس بعد المئة: البيع والشراء أنواع البيع ... الفصل الخامس بعد المائة: البيع والشراء أنواع البيع: وقد تعرض أهل الأخبار لبعض أنواع البيع وطرقها التي كان يستعملها الجاهليون، وهي لا تختلف في طبيعتها عن طبيعة ما يسمى بـ"الحظ والنصيب" في العهد الحاضر. ونظرًا إلى ما قد كانت تسببه هذه الأنواع من خصومات ومنازعات بين المشتري وبين البائع، من بيعهم شيئًا مجهولًا غير معلوم، وإلى ما في كثير من هذه البيوع من غرر، نهى الإسلام عنها، وجاء ذكرها لذلك في كتب الحديث والفقه. والبيع والشراء، إما أن يكونا بشروط يشترطها أحدهما أو كلاهما عند عقد الصفقة، ويتم التوافق والتعاقد عليها برضى البائع والمشتري، أي: الطرفين, وإما ألا يكونا بشروط. فإذا اشترط المشتري على البائع شرط حق إرجاع السلعة إليه إن وجد فيها شيئا مخالفا للوصف، ورضي البائع بذلك، فللمشتري حق إرجاع السلعة إليه في حدود معقولة، وقد يعين زمن ذلك الحق وهو ما يحدث في الغالب. ومن جملة طرق البيع: "بيع الحصاة", وهو بيع ذكر أهل الأخبار أنه كان متبعًا في سوق "دومة الجندل" المنعقدة في أول يوم من شهر ربيع الأول, وقد ذكروا أن هذه المبايعة من بيوع الجاهلية التي أبطلها الإسلام. وتفسير ذلك أن يقول أحد المتبايعين للآخر: ارم هذه الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت فهو لك

بدرهم، أو أن يبيع أحد المتبايعين من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة، أو أن يقبض على كف من حصى ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشيء المبيع، أو يبيعه سلعة ويقبض على كف من الحصى ويقول: لي بكل حصاة درهم، أو أن يمسك أحدهما حصاة في يده، ويقول: أي وقت سقطت الحصاة وجب البيع، أو أن يتبايعا ويقول أحدهما: إذا نبذت إليك الحصاة فقد وجب البيع، أو أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ الحصاة ويقول: أي شاة أصابتها فهي لك بكذا1، أو هو أن يقول: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها، أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك, أو أي ثوب من هذه وقعت الحصاة التي أرمي بها فهو لي بكذا، فيقول البائع: نعم, فيقع البيع لوجود شروط الإيجاب والقبول2. ومن طرق البيع: بيع الملامسة، والمراد بالملامسة: المس باليد، وأن يجعل عقد البيع لمس المبيع. وذكر أن بيع الملامسة: أن تشتري المتاع بأن تلمسه ولا تنظر إليه, وذلك كأن يقول: "لمستَ ثوبي أو لمستُ ثوبك أو إذا لمست المبيع، فقد وجب البيع بيننا بكذا وكذا، ويقال: هو أن يلمس المتاع من وراء الثوب ولا ينظر إليه، ثم يوقع البيع عليه", و"قيل: معناه: أن يجعل اللمسَ باليد قاطعًا للخيار"3. وقيل: هو أن يأتي البائع بثوب مطويّ، ثم يطلب من المشتري أن يلمسه، ثم يقول له: "بعتك إياه بثمن كذا, بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك", أو أن يقول له: "إذا لمست هذا الشيء, فهو بيع لك", فيكون اللمس نهاية خيار المشتري. وهو يحل بذلك محل النظر إلى الشيء الذي سيباع وتدقيقه وتمحيصه للوقوف على مقدار جودته أو بما فيه من عيوب. فهو بيع شرطه اللمس ولا خيار

_ 1 جامع الأصول "1/ 441"، بلوغ الأرب "1/ 261"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 164"، زاد المعاد "4/ 266". 2 صحيح مسلم "5/ 3"، الجصاص "1/ 530"، اللسان "14/ 183"، تاج العروس "10/ 92"، "حصا"، زاد المعاد "4/ 266". 3 اللسان "6/ 210"، صحيح مسلم "5/ 2 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 340"، "لمس"، زاد المعاد "4/ 266".

فيه1. ومن بيع الملامسة، أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب الآخر، ولكن يلمسه لمسًا2. واختلف الفقهاء في تفسير الملامسة على ثلاث صور: إحداها: أن يكتفي باللمس عن النظر ولا خيار له بعده؛ بأن يلمس ثوبًا لم يره ثم يشتريه على أن لا خيار له إذا رآه. الثانية: أن يجعل اللمس بيعًا، بأن يقول: إذا لمسته فقد بعتكه، اكتفاءً بلمسه عن الصيغة. الثالثة: أن يبيعه شيئًا على أنه متى لمسه لزم البيع وانقطع خيار المجلس وغيره, اكتفاءً بلمسه عن الإلزام بتفرق أو تخاير. وبطلان المبيع المستفاد من النهي؛ لعدم رؤية المبيع، واشتراط نفي الخيار في الأولى ونفي الصيغة في عقد البيع في الثانية، وشرط نفي الخيار في الثالثة3. ومن البيوع: بيع المنابذة, وهو أن يجعلا النبذ بيعًا. وهو أن تقول لصاحبك: انبذ إليَّ الثوب أو غيره من المتاع، أو أنبذه إليك، وقد وجب البيع بكذا وكذا, أو هو أن ترمي إليه بالثوب ويرمي إليك بمثله, وهو أن يجعلا النبذ بيعًا بغير صيغة، أو أن يجعلا النبذ قاطعًا للخيار, ويقال له: بيع الإلقاء4. وقيل: هو أن تقول: إذا نبذت الحصاة إليك, فقد وجب البيع, أو أن ينبذ الرجل إلى الرجل بثوبه, وينبذ الآخر إليه ثوبه، ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراضٍ, فيكون النبذ وحده هو البيع5. و"النجش": أن يبيع الإنسان بياعة, فتساومه بثمن كثير لينظر إليك ناظر

_ 1 صحيح البخاري "2/ 87"، تاج العروس "4/ 340"، "لمس"، بلوغ الأرب "1/ 265". 2 إرشاد الساري "4/ 64". 3 إرشاد الساري "4/ 64"، "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لبستين وعن بيعتين، نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسة: لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار, ولا يقبله إلا بذاك"، زاد المسلم "5/ 517 وما بعدها"، صحيح البخاري "كتاب البيوع، باب بيع الملامسة"، "وفي كتاب اللباس، في باب اشتمال الصماء"، "باب الاحتباء في ثوب واحد"، صحيح مسلم "كتاب البيوع، باب إبطال بيع الملامسة". 4 تاج العروس "2/ 581"، بلوغ الأرب "1/ 264 وما بعدها"، صحيح البخاري "2/ 87"، إرشاد الساري "4/ 64 وما بعدها". 5 صحيح مسلم "5/ 3"، الشوكاني، نيل الأوطار "5/ 147 وما بعدها"، اللسان "3/ 512".

فيقع فيها، وكذلك في الأشياء كلها. وقيل: النجش في البيع: أن يزيد الرجل ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، ولكن ليسمعه غيره فيزيد بزيادته. وقيل: أن تمدح سلعة غيرك ليبيعها، أو أن تنفر الناس عن الشيء إلى غيره. والغاية من كل ذلك هو غش المشتري وجرّ النفع؛ لذلك نهي في الإسلام عنه. و"التناجش" في البيع المنهي عنه، هو التزايد في البيع وغيره1, وأن يقول الرجل للرجل: بيعٌ فيقول: نظر، أي: أنظرني حتى أشتري منك2. والنجش في الشرع، أن يزيد في ثمن السلعة من غير رغبة ليوقع غيره فيها, فهو بيع غش وخداع3. ويقال للنجش: الفلح، قالوا: الفلح: النجش في البيع، وذلك أن يطمئن إليك، فيقول لك: بع لي عبدًا أو متاعًا أو اشتره لي، فتأتي التجار فتشتريه بالغلاء وتبيع بالوكس وتصيب من التاجر، وهو الفلاح. وذكر أنه زيادة المشتري ليزيد غيره فيغريه4. ومن طرق البيع أيضًا: البيع ناجزًا بناجز, أي: يدًا بيد5. ومن بيوعهم قول أحدهم: بعتك هذا الثوب نقدًا بدينار ونسيئةً بدينارين، وقد ورد في الحديث: "لا يجوز شرطان في بيع"، أي: مثل هذا البيع6. والبيعُ مُزابنة، وهو بيع التمر في رءوس النخل بالتمر, وبيع الرطب في رءوس النخل بالتمر, أو بيع كل ثمر على شجرة بتمر كيلًا, أو بيع التمر على رءوس النخل بالذهب والفضة. وقد نهي عنه في الإسلام إلا إذا أنضج, ولا يباع منه إلا بالدرهم والدينار؛ وذلك لأنه بيع مجازفة، ولما يقع فيه من الغبن والجهالة7. ورُوِيَ عن الإمام "مالك" أنه قال: المزابنة: كل جزاف لا يعرف كيله ولا عدده ولا وزنه, بِيعَ بمسمى من مكيل وموزون ومعدود, أو هي

_ 1 تاج العروس "4/ 354"، "نجش". "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن النجش"، البخاري "3/ 69 وما بعدها"، "كتاب البيوع"، عمدة القاري "11/ 258 وما بعدها"، اللسان "6/ 351"، القسطلاني "4/ 62"، زاد المسلم "5/ 485". 2 المخصص "12/ 254". 3 تاج العروس "4/ 354"، "نجش"، عمدة القاري "11/ 258 وما بعدها". 4 تاج العروس "2/ 199"، "فلح". 5 المخصص "12/ 254". 6 تاج العروس "5/ 166"، "شرط". 7 صحيح البخاري "2/ 94"، "كتاب البيوع"، القاموس "4/ 230"، صحيح مسلم "5/ 13"، زاد المسلم "5/ 477 وما بعدها".

بيع معلوم بمجهول من جنسه أو بيع مجهول بمجهول من جنسه، أو هي بيع المغابنة في الجنس الذي لا يجوز فيه الغبن؛ لأن البيعين إذا وقفا فيه على الغبن، أراد المغبون أن يفسخ البيع، وأراد الغابن أن يمضيه، فتزابنا فتخاصما فتدافعا1, وتكون المزابنة في النخل غالبًا. وذكر أن سبب ورود النهي عن هذا البيع، هو أنه يؤدي إلى ربا الفضل، إذ الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة من حيث إنه لم يتحقق فيها المساواة المشروطة في الربوي بجنسه2. وكان هذا البيع معروفًا عندهم, وذلك أن يبيع رجل ثمر نخله بتمر كيلًا أو بغير كيل، أو أن يبيع كُرْمه بزبيب، فورد النهي عنه في الإسلام. وإنما نهى عن ذلك لجهل المبيع3, واعتبر هذا البيع نوعًا من أنواع الربا4. ومن البيوع الجاهلية: المخاضرة، بيع الثمار خضرًا قبل أن يبدو صلاحها, ويدخل فيه بيع الرطاب والبقول وأشباهها على قول بعض. سمي مخاضرة؛ لأن المتبايعين تبايعا شيئًا أخضر بينهما، مأخوذ من الخضرة5. وقد نهي عن "المعاومة" في الإسلام, وهي بيع النخل معاومة, وأن تبيع زرع عامك بما يخرج من قابل, أو أن تبيع ثمر النخل أو الكرم أو الشجر سنتين أو ثلاثًا فما فوق6, فهو بيع السنين. ولما فيه من غرر ومن بيع لمجهول، لم يصح هذا البيع في الإسلام7. و"الطني": شراء الشجر، أو بيع ثمر النخل خاصة8. ونهي في الإسلام عن بيع صبرة التمر المجهولة القدر، أي: بيع المبيع بالكومة، ولا يعلم مكيلته بالكيل9.

_ 1 تاج العروس "9/ 224 وما بعدها"، البخاري "كتاب البيوع، في باب بيع المزابنة"، صحيح مسلم "كتاب البيوع، في باب كراء الأرض". 2 زاد المسلم "5/ 477". 3 زاد المسلم "5/ 482". 4 "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمر بالتمر، وقال: "ذلك الربا تلك المزابنة, إلا أنه رخص في بيع العرية، النخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرًا يأكلونها رطبًا"، زاد المسلم "5/ 494 وما بعدها". 5 تاج العروس "3/ 180"، "خضر"، القاموس "2/ 21"، صحيح مسلم "5/ 11". 6 تاج العروس "8/ 412"، "عام". 7 صحيح مسلم "5/ 17 وما بعدها". 8 القاموس "4/ 358"، تاج العروس "10/ 228"، "طنى". 9 صحيح مسلم "5/ 9".

ومن ذلك أيضًا البيع المعروف بـ"المجر"، وهو من بياعات الجاهلية. والمجر: بيع ما في بطون الحوامل من الإبل والغنم، وهو أن يباع الشيء بما في بطن الناقة، وأن يباع البعير أو غيره بما في بطن الناقة، ولا يقال لما في البطن مجرا إلا إذا ثقلت الحامل. فالمجر: اسم للحمل الذي في بطن الناقة، وحمل الذي في بطنها1. ونهى الإسلام عن بيع "حبل الحبلة"، وهو بيع نتاج النتاج، وبيع الأجل، فكان الرجل في الجاهلية يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها، أو بيع حبل الكرم قبل أن يبلغ، ومنه بيع الملاقيح والمضامين. والملاقيح: ما في البطون من الأجنة, والمضامين: ما في أصلاب الفحول، وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة وما يضربه الفحل في عام أو أعوام. وسبب النهي عنه أنه من بيوع الغرر، وهو بيع مجهول2. ومن بيوع أهل الجاهلية: "الغَدَوى"، وذلك أن تبيع الشاة بنتاج ما نزا به الكبش ذلك العام. وقيل: كل ما في بطون الحوامل، وقوم يجعلونه في الشاة خاصة. أو هو أن يباع البعير أو غيره بما يضرب الفحل، أو أن تباع الشاة بما نزا به الكبش, وكان الرجل منهم يشتري بالجمل أو العنز أو الدراهم ما في بطون الحوامل3. وأما بيع "الغذى" فهو كالسابق: أن يباع بنتاج ما نزا به الكبش, وقيل: بل يكون الغذى من الإبل والبقر والغنم4. وأظن أن "الغدى" و"الغذى" شيء واحد, وقد أخطأ بعض النساخ في حرفي الدال أو الذال، فصارت الكلمة كلمتين. وقد نهي في الحديث عن بيع الملاقيح والمضامين. رُوِيَ عن سعيد بن المسيب

_ 1 اللسان "5/ 158"، زاد المعاد "4/ 267"، القاموس "2/ 131"، تاج العروس "3/ 533"، "مجر". 2 عمدة القاري "11/ 262 وما بعدها"، جامع الأصول "1/ 441 وما بعدها"، زاد المعاد "4/ 266"، صحيح البخاري "2/ 87"، اللسان "11/ 139"، صحيح مسلم "5/ 3". 3 المخصص "10/ 251"، القاموس "4/ 269"، تاج العروس "10/ 263"، "غدا". 4 تاج العروس "10/ 263"، "غذا".

أنه قال: "لا ربا في الحيوان، وإنما نهي عن الحيوان عن ثلاث؛ عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة"، فالملاقيح: ما في ظهور الجمال، والمضامين: ما في بطون الإناث. وورد العكس، أي: الملاقيح: ما في بطون الإناث، والمضامين: ما في أصلاب الجمال, وكانوا يتبايعون أولاد الشاء في بطون الأمهات وأصلاب الآباء1. و"الرجع": أن تباع الذكور ويشترى بثمنها الإناث, وقيل: بيع الإبل بعد الارتجاع منها. و"الرجعة: إبل تشتريها الأعراب ليست من نتاجهم, وليست عليها سماتهم", و"الراجعة: الناقة تُباع ويُشترى بثمنها مثلها", والرَّجِيعة: بعير ارتجعته، أي: اشتريته من أجلاب الناس، ليس هو من البلد الذي هو به. وكانوا يربحون من بيع الذكور وشراء الإناث بثمنها؛ لأن الإناث تلد، فيكثر عندهم المال. "قيل لقوم من العرب: بِمَ كثرت أموالكم؟ فقالوا: أوصانا أبونا بالنجع والرجع", فالنجع: طلب الكلأ، والرجع: أن تباع الذكور ويشترى بثمنها الإناث2, وبذلك يكثرون أموالهم. وتدخل في البيوعات الجاهلية بيع الرجل ما ليس عنده، وهو يتضمن نوعًا من الغرر، فإنه إذا باعه شيئًا معينًا وليس في ملكه, ثم مضى ليشتريه ويسلمه له كان مترددًا بين الحصول وعدمه، فكان غررًا يشبه القمار فنهى الإسلام عنه3. وبيع المعدوم لا يدري يحصل أو لا يحصل ولا ثقة لبائعه بحصوله بل يكون المشتري منه على خطر، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه ولا له قدرة على تسليمه ليذهب ويحصله ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيهًا بالقمار والمخاطرة من غير حاجة بهما إلى هذا العقد ولا تتوقف مصلحتهما عليه؛ لهذا منع الشارع بيعه، لا لكونه معدومًا بل لكونه غررًا4. وقد نهى الإسلام عن بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه, فورد أن الرسول نهى عن أن يستام الرجل على سوم أخيه5. وكان أهل الجاهلية يستامون بعضهم على بعض بما في ذلك استيام الإخوة، فنهى عنه، لما قد يحدث هذا الاستيام من فرقة واختلاف بين الإخوة.

_ 1 تاج العروس "2/ 216"، "لقح"، "9/ 266"، "ضمن". 2 المخصص "10/ 252"، تاج العروس "5/ 352"، "رجع". 3 زاد المعاد "4/ 262". 4 زاد المعاد "4/ 263". 5 صحيح مسلم "5/ 3 وما بعدها".

ونهى الإسلام عن التلقي للركبان، أي: عن تلقي البيوع والسلع حتى تبلغ الأسواق. وقد ورد في الحديث: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقَّاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار"؛ وذلك لأن من تلقاهم يكذب في سعر البلد ويشتري بأقل من ثمن المثل وهو تغرير1. وقد نهي عن بيع الحاضر للبادي, وذلك بأن يكون له سمسار ليكسب منه، أو أن يطلب الحاضر من البادي أن يترك متاعه عنده حتى يبيعه بسعر أغلى؛ وذلك لما في هذا البيع من تغرير ومن ضرر يصيب الناس2. ونهى الإسلام عن بيوع أخرى من بيوع الجاهلية، منها بيع "الغرر"، ويراد به البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان، وهو بيع المخاطرة, وهو الجهل بالثمن أو المثمن أو سلامته أو أجله. ومن ذلك بيع العبد الآبق الذي لا يقدر على تسليمه والفرس الشارد والطير في الهواء وبيع السمك في الماء، وكبيع ضربة الغائص وما تحمل شجرته أو ناقته وما يرضى له به أو يهبه له أو يورثه إياه ونحو ذلك مما لا يعلم حصوله أو لا يقدر على تسليمه أو لا يعرف حقيقة مقداره، فهو بيع شيء مجهول3. وقد كانت من البيوع الشائعة بين الجاهليين تفنّنًا في الغش، وفي الكسب من أي طريق كان. وقد عرفوا بيعة الغائص، بأن يقول الغائص في البحر للتاجر: أغوص غوصةً، فما أخرجت فهو لك بكذا، فيتفقان على ذلك. وقد نهي عنه؛ لأنه غرر4. ومن البيوع الجاهلية: "الجس"، وهو بيع عُرف بسوق صنعاء. فإذا تعاقد شخصان على سلعة، ووافقا على البيع، جس أحدهما يد الآخر، علامةً على صحة البيع5. ومنها: "السرار", فإذا وجب البيع وعند التاجر إلف ممن يريد الشراء ولا يريده، أشركه في الربح6.

_ 1 صحيح مسلم "5/ 5". 2 صحيح مسلم "5/ 6". 3 عمد القاري "11/ 262 وما بعدها"، جامع الأصول "1/ 441 وما بعدها"، زاد المعاد "4/ 266"، صحيح البخاري "2/ 87"، "كتاب البيوع". 4 تاج العروس "1/ 350"، "ضرب". 5 المحبر "ص266"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 164". 6 المحبر "ص267"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "2/ 164".

وهناك نوع من البيوع يقال له: "الجزاف"، وهو أخذ الشيء بالحدس, بلا كيل ولا وزن ولا عدد1. وقد عرف "بيع المزايدة" عند الجاهليين كذلك2. وهو أن يعرض ما يراد بيعه للبيع فيتزايد من يريد شراءه على ثمنه، حتى يقف على آخر من يقدم أكبر سعر له3. ومن البيوع بيع "العينة"، أن يشتري التاجر بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم ويقبضه ثم يبيعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم يبيعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن الذي اشتراها به، فهذه عينة, وسميت عينة لحصول النقد لطالب العينة. وذكر أن العينة، إذا باع التاجر من رجل سلعته بثمن معلوم إلى أجل معلوم، ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن الذي باعها به, وللفقهاء كلام في هذا البيع4. وقد كانوا يربحون من "العينة"، قال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام, وكان من سادة قريش: "اغد غدًا إلى السوق، فخذ لي عينة"، فغدا ابنه فتعين من السوق عينة لأبيه, ثم باعها، فأقام أيامًا، ما يبيع في السوق طعاما ولا زيتا غير ابنه من تلك العينة, وربح منها ربحًا طيبًا5. وقد كان في جملة البيوع التي نهى عنها الرسول، بيع حاضر لبادٍ، والبادي هو الذي يكون في البادية، مسكنه المضارب والخيام، والحاضر ساكن الحضر، وصورة البيع للبادي أن يقدم غريب من البادية بمتاع ليبيعه بسعر يومه، فيقول له بلدي: اتركه عندي؛ لأبيعه لك على التدريج بأغلى منه, أو أن تشتري السلع من الأعراب الوافدين على القرى وهم في طريقهم إلى السوق وأماكن البيع بأثمان بخسة، ثم عرضها في السوق وإغلاء أثمانها فيها، أو تشرى السلع منهم وهي في السوق, وعرضها مرة أخرى للبيع؛ لكسب الفرق بين السعرين. وقد نهى الإسلام عن هذا البيع؛ لما فيه من احتكار وإضرار بالمصلحة العامة، ليكتسب

_ 1 شمس العلوم "ج1 ق2 ص330". 2 القسطلاني "4/ 61 وما بعدها". 3 اللسان "3/ 199". 4 تاج العروس "9/ 291"، "عين". 5 كتاب نسب قريش "304".

بذلك نفر محدود من الناس. وللفقهاء في هذا لبيع كلام وآراء1. وقد كان الناس يلجئون إلى أساليب غير حميدة من أساليب التلاعب بالأسعار, وغش المشترين والتحايل بالبيع، كأن يأتي البائع بجماعة من أصحابه يتظاهرون بالشراء وبالتكالب على السلعة لرفع السعر، حتى يدفع الحاضرين على رفع السعر، فيرسو البيع عليهم, وبذلك يغش البائع المشتري. وهو بيع نهي عنه في الإسلام. ومن البيوع التي تتضمن الغش والخداع بيع التصرية. وكان من عادة العرب إذا أرادوا بيع شاة أو ناقة تركوها أيامًا لا يحلبونها، فيبقى اللبن في ضرعها، فيكبر، فيعرضها البائع للبيع، ويظن المشتري أن كبر ضرعها ووجود اللبن بغزارة فيه، هو بسبب أن تلك الشاة أو الناقة حلوبة، فيشتريها، فيغش. ونظرًا إلى ما في هذا البيع من غش وخداع نهي عنه في الإسلام2، وجعل خيار البيع ثلاثة أيام، فإن ردها رد معها صاعًا من تمر، وإن شاء أمسكها. ويقال لهذا البيع أيضًا: بيع المصراة3. وقد يشتري الشركاء سلعة رخيصة، ثم يتزايدون بينهم حتى يبلغوا غاية ثمنها، فيشتريها من يرسو الثمن عليه ويأخذها, ويقال لذلك: "التقاوي", ولم يرَ الإسلام بأسًا بذلك. وفي حديث ابن سيرين: لم يكن يرى بأسًا بالشركاء يتقاوون المتاع بينهم فينمو ويزيد4. ومن البيوع التي نهي عنها في الإسلام "الإعراب", أن يقول الرجل للرجل: إن لم آخذ هذا البيع بكذا، فلك كذا وكذا من مالي5.

_ 1 عمدة القاري "11/ 258"، إرشاد الساري "4/ 72 وما بعدها". 2 صحيح البخاري "2/ 87"، "وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: من اشترى مصراة، فهو بخير النظرين؛ إن شاء ردها ورد معها صاعًا من تمر ... لا تصروا الإبل والغنم"، اللسان "14/ 458". 3 صحيح مسلم "5/ 4"، تاج العروس "10/ 209"، "صري". 4 تاج العروس "10/ 307"، "قوو". 5 تاج العروس "1/ 372"، "عرب".

الخلابة

الخلابة: ومن البيوع الفاسدة الخلابة. وتقوم على المخادعة، والخلابة: المخادعة. وفي الحديث: "إن بيع المحفلات خلابة، ولا تحل خلابة مسلم", والمحفلات: التي جمع لبنها في ضرعها. وفي حديث النبي، أنه قال لرجل كان يخدع في بيعه: "إذا بايعتَ، فقل: لا خلابة", أي: لا خداع1؛ وذلك لأن بعض الباعة كانوا يخادعون المشتري في بيوعهم. ومن بيوع أهل الجاهلية: بيع المواصفة، وهو أن تواصف الرجل بالسلعة ليست عندك. وقد أبطل هذا البيع بعض الفقهاء، وأجازه بعض آخر، إذا وافقت السلعة الصفة2. وقد يتفق في السلعة الرهط، فلا يجدون بدًّا من أن يشتركوا وهم كارهون. وربما اتفقوا فألقوا الحجارة جميعًا إذا كانوا عددا على أمر بينهم فوكسوا صاحب السلعة إذا طابقوا عليه3. ومن بيوع أهل الجاهلية بيعهم الذهب بالذهب, والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح, وقد نهي عنه في الإسلام، إلا سواء بسواء، أي: إلا متساويين، ويدًا بيد. ويسمى هذا البيع "مراطلة" إن كان بالوزن، ومبادلة إن كان بالعدد4. وأما بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، فقد أبيح ذلك في الإسلام كيف شاء المتبايعون، بتفاضل أو بتساوٍ، لأن بيع الذهب بالفضة والعكس يسمى "صرفًا" ويجوز فيه التفاضل، لكن يشترط فيه التقابض يدًا بيد5. ويظهر من منع الإسلام لبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا أن يكونا متساويين ويدًا بيد، أي: مقبوضين، أن أهل الجاهلية كانوا يبيعون الذهب بذهب

_ 1 اللسان "1/ 363"، "خلب". 2 تاج العروس "5/ 39"، "روض". 3 المحبر "264". "أسواق العرب المشهورة في الجاهلية ومبايعتهم فيها". 4 قال ابن عاصم في تحفة الحكام: والجنس بالجنس هو المراطلة ... بالوزن أو بالعد فالمبادلة 5 زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم "5/ 470 وما بعدها"، "القاهرة 1956م".

يزيد عليه حين يؤديه في أجله المحدود، فاعتبر الإسلام ذلك علة من علل الربا، وعلته هنا الثمنية، ولو تبايع الناس بالجلود لنهى عن التفاضل فيها. والعلة في الأربعة الأخرى الادخار للقوت أو ما يصلح للقوت, وعلة الربا هي النقدية أو الطعم أو الاقتيات1. ومن بيوع أهل الجاهلية بيع حق الانتفاع، مثل أن يبيع بائع لمشترٍ حق الانتفاع من ظهر دابة، بأن يستفيد من ركوب ظهر الدابة التي اشتراها، ولكن الدابة تكون مع ذلك لصاحبها. ومن ذلك اشتراط البائع على المشتري ظهر الدابة إلى مكان معين2. وقد كان الباعة الجاهليون يفعلون في أسواقهم ما يفعله باعة أيامنا من صخب في السوق ومن لغط ومن قسم على جودة السلع ورخص أسعارها، يريدون التأثير على المشترين وحملهم على الشراء. وقد لاحظ الرسول ما في هذا الصخب من ضرر، وما في هذا النوع من الدعاية للبضاعة من غش، فنهى عنه3. وقد لخصت بعض كتب الحديث والفقه البيوع, وعرفتها على النحو الآتي: البيع المطلق إن كان بيع العين بالثمن، والمقايضة إن كان عينًا بعين، والسلم إن كان بيع الدين بالعين، والصرف إن كان بيع الثمن بالثمن، والمرابحة إن كان بالثمن مع زيادة، والتولية إن لم يكن مع زيادة, والوضيعة إن كان بالنقصان، واللازم إن كان تامًّا، وغير اللازم إن كان بالخيار، والصحيح والباطل والمكروه4. والبيع نقدا، وهو خلاف النسيئة, وهو أن يشتري الرجل شيئًا، فيعطي البائع نقدًا معجلًا5. أما بيع النسيئة، فهو البيع المؤخر، أي: الذي يدفع ثمنه مؤخرًا6. وقد اتخذ الإسلام قاعدة عامة في البيوع، هي: بطلان بيع المبيع الذي يقوم على بيع المجهول كمًّا وكيفية وقبل التأكد منه، أي: بيع المجهول؛ لما في ذلك

_ 1 زاد المسلم "5/ 472". 2 إرشاد الساري "4/ 433". 3 عمدة القاري "باب كراهية الصخب "السخب" في السوق"، "10/ 242". 4 عمدة القاري "11/ 159، 175"، "كتاب البيوع". 5 تاج العروس "2/ 516"، "1/ 454"، "طبعة الكويت"، "نساء"، البخاري "3/ 59"، "كتاب البيوع"، عمدة القاري "11/ 182"، "كتاب البيوع". 6 تاج العروس "1/ 454"، "نسأ"، "طبعة الكويت".

من التغرير، أي: الخداع في البيع والغبن، ولما يقع من هذه البيوع من أضرار ولما تحدثه من خصومات ومجادلات ومن تلاعب في الأسعار ومن تأثير ذلك في الناس المنتفعين. فأبطل بيع المبيع قبل القبض، إذ كان الجاهليون يتبايعون بالذهب والطعام وهو مرجأ، يشترون الطعام من الركبان جزافًا، ثم يبيعونه في مكانه، للكسب، فنهى الرسول عن هذا النوع من البيع، حتى يؤووه إلى رحالهم ويحولوه، وفي رواية: ويكتالوه، وأمر الرسول بضرب من يبتاع الطعام جزافًا1، كما نهى عن معظم البيوع المذكورة واعتبرها باطلة، لا تعتبر عقدًا صحيحًا مشروعًا لمن عقده. والبيوع المذكورة وإن كانت بيوعًا بنيت في الواقع على إيجاب وقبول في البيع وتراضٍ من الطرفين وبموافقة بحصول البيع من المتعاقدين: البائع والمشتري، غير أن هذه البيوع كانت تحدث منازعات أحيانا بين الطرفين، وتنتج ضررًا لذلك نهي عنها في الإسلام, وقيد بعضها بقيود حتى تحدّ من وقوع المخاصمات قدر الإمكان, ومن وقوع الغلط في السلعة، من حيث الجنس والنوع أو من حيث الصفة، ومن وقوع الغبن والتغرير.

_ 1 صحيح مسلم "5/ 7 وما بعدها".

الحكرة

الحكرة: الحكرة وتعرف أيضا بالاحتكار، ويراد بها: حبس الطعام ليتربص به الغلاء؛ وذلك للحصول على كسب زائد. وقد كان أهل المال من الجاهليين يقصدون الأسواق، فيشترون ما يرون فيه ربحًا في المستقبل من طعام أو ما شابه ذلك من مواد ضرورية، ثم يختزنونها ويبيعونها عند حلول الموسم أو وقوع مجاعة أو فرص مواتية بسعر مرتفع، غير مبالين بما في ذلك من ضرر ومن استغلال لأحوال الناس. وقد ورد النهي عن هذا البيع في الإسلام1. ومن التجار المتمكنين من كان يشتري حمولة قافلة كاملة، ثم يحتكرها ليبيعها

_ 1 "في الاحتكار والتسعير"، جامع الأصول "2/ 22 وما بعدها"، اللسان "4/ 208"، "حكر"، تاج العروس "3/ 154"، "حكر".

وقت الحاجة، أو يدخرها ويبيع منها على التفريق بغية الربح، فلا ينافسه على ربحها أحد1, ويجعل لما اشتراه السعر الذي يشاء. ومن التجار من كان يتلقى "الركبان" ليشتروا ما معهم من طعام، وذلك قبل وصولهم السوق2؛ فيتضرر بذلك تجار الأسواق والمستهلكون، أي: المشترون. ومن هذا القبيل، خروج الحضر لاستقبال البدو، أي: الأعراب الذين يقصدون الحواضر؛ لبيع ما عندهم من سلع، فكان أصحاب المال يستقبلونهم قبل وصولهم السوق، وقبل اتصالهم بالتجار ووقوفهم على السعر، فيشترون منهم ما يحملونه من سلع، لبيعها في السوق3.

_ 1 اللسان "4/ 624"، "عير". 2 إرشاد الساري "4/ 74". 3 إرشاد الساري "4/ 72 وما بعدها".

شهود البيع

شهود البيع: وقد كان من الجاهليين من يشهد "شهودًا" على التبايع، أي: يجعل له شهودا يشهدون على صحة المعاملة، ومنهم من كان يكتب التبايع وشروطه بكتاب، حتى لا ينكل أحد المتبايعين عن البيع ويلحق الضرر بالطرف الآخر؛ إذ يكون الكتاب حجة وشاهدًا, وإلى ذلك أشير في القرآن الكريم: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} 1؛ وذلك منعًا لما قد يحدث من خلاف ونزاع بين المتكاتبين، فيرجع عندئذٍ إلى ما هو مكتوب ويعمل بموجبه.

_ 1 البقرة، الآية 282، تفسير الطبري "3/ 88".

فسخ البيع

فسخ البيع: والبيع عقد فيه إيجاب وقبول، فلا يجوز فسخه والتخلص منه من غير سبب مخل بعقد شرط البيع. أما إذا حصل تراضٍ على فسخ الصفقة فذلك مباح؛ لأنه قد حصل عن رضا وموافقة واختيار، دون إكراه ولا إجبار. ويعبر عن تفاسخ الصفقة بـ"تقايل البيع", يقال: تقايلا بعدما تبايعا أي: تتاركا, وأقلته البيعَ إقالة: فسخه, وعاد المبيع إلى مالكه والثمن إلى المشتري، إذا كان قد ندم أحدهما أو كلاهما1.

_ 1 اللسان "11/ 579 وما بعدها"، "قيل".

العربون

العربون: و"العربون": ما عقد به البيع1, ويعبر عنه بـ"عربن" في المسند, وتقابل هذه اللفظة لفظة "العربان" في عربية القرآن الكريم2. وهو ما يقدمه المشتري للبائع لعقد البيع، إذا كان البيع نسيئة، حتى يسلم تمام الذي اتفق عليه. ولهذا لا يكون عربونا إذا تم البيع يدا بيد، أي: إذا دفع الثمن كاملا في مجلس البيع، وتم البيع والاستلام، إذ لا حاجة عندئذ إليه؛ لأن العربون وديعة تقدم للائتمان، لتكون وثيقة للبيع، ولقبول المشتري السلعة، فلا يحق له النكول عن البيع وإلا خسر عربونه، وليكون ضمانًا للبائع على البيع، فإذا نكل المشتري وامتنع عن الشراء خسر عربونه، وصار حقه للبائع بدل النكول. ولهذا يكون العربون في الغالب مبلغًا يرضي البائع، أي: متناسبًا مع قيمة البيع3. وكما يكون "العربون" في البيع يكون في الإجارة، وفي العمل. وذلك أن يقدم الرجل رب العمل أو المال إلى الصانع أو التاجر ليرتبط العقد بينهما حتى يتوافيا بعد ذلك4. فإذا أخلف رب العمل أو المال في وعده وخاس في عهده، صار العربون من حق الصانع أو التاجر. ويعبر عن العربون بلفظة "ودعت" في المسند, ويراد بها الوديعة5, والوديعة في عربيتنا: ما استودع. يقال: استودعه مالًا وأودعه إياه: دفعه إليه ليكون عنده وديعة6. فالوديعة في هذه العربية قد تؤدي معنى العربون، وقد تؤدي معنى الرهن والرهينة، وقد تؤدي معنى الاستيداع مطلقًا، أي: إيداع شيء عند شخص

_ 1 تاج العروس "9/ 277"، "عربن". 2 تاج العروس "1/ 372"، "عرب". 3 تاج العروس "1/ 376"، "عرب". 4 تاج العروس "1/ 376"، "عرب". 5 REP,EPIGR. 3911 6 اللسان "8/ 386"، "ودع".

وحفظه لديه. وأنا لا أستبعد أن يكون هذا المعنى هو معناها في لغة المسند أيضا. ويقال للعربون: الأربون كذلك, وهو ما عقد به المبايعة، أو البيعة من الثمن. وفي الحديث: أنه نهى عن بيع العربان، وهو أن يشتري السلعة ويدفع إلى صاحبها شيئًا، على أنه إن أمضى البيع حسب من الثمن، وإن لم يمضِ البيع كان لصاحب السلعة، ولم يرتجعه المشتري. وذكر هو القليل من الثمن أو الأجرة يقدمه الرجل إلى الصانع أو التاجر ليرتبط العقد بينهما حتى يتوافيا بعد ذلك, فكما أنه يكون في البيع يكون في الإجارة. وللعلماء الفقهاء آراء في جواز أو عدم جواز البيع بالعربون1. و"الكُلأة": النسيئة والعربون، أي: السلفة. وفي الحديث نهي عن الكالئ بالكالئ، يعني: النسيئة بالنسيئة2. و"المسكان" العربون كذلك. وجاء في الحديث النهي عن بيع المسكان، وهو أن يشتري شيئًا فيدفع إلى البائع مبلغًا على أنه إن تم البيع احتسب من الثمن، وإن لم يتم كان للبائع ولا يرتجع منه3.

_ 1 "وفي حديث عمر أن عامله اشترى دارًا للسجن بأربعة آلاف، وأعربوا فيها أربعمائة، أي: أسلفوا"، تاج العروس "1/ 376"، "عرب". 2 تاج العروس "1/ 111"، "كلأ". 3 تاج العروس "7/ 177"، "مسك".

الخيار في البيع

الخيار في البيع: والخيار في البيوع: طلب خير الأمرين: إما الإمضاء وإما البيع أو فسخه1. فقد يرى البائع أو المشتري في السلعة المشتراة رأيًا، لم يكن له حين عقد صفة البيع. وللفقهاء كلام عليه، وهو أنواع عندهم، منها خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار الرؤية وهو شراء ما لم يره على أنه بالخيار إذا رآه، وخيار العيب، وخيار تلقي الركبان، وخيار تفريق الصفقة وتفريقها بتعددها بالابتداء، وخيار العجز عن الثمن، وخيار فقد الوصف المشروط في المبيع، والخيار فيما رآه

_ 1 تاج العروس "3/ 195"، "خير".

قبل العقد إذا تغير عن صفته، وغير ذلك1. وقد جعل بعضهم الخيار ثلاثة أضرب: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار النقيضة2. وقد يشترط في البيع ألا يضمن عهدته, ويقال لهذا النوع من البيع: "الملسى", و"الملسى" هي البيعة التي لا يتعلق بها تبعة ولا عهدة. يقال: أبيعك الملسى لا عهدة, أي: تتملس وتنفلت ولا ترجع إليَّ, ويقال في البيع ملسى لا عهدة، أي: قد انملس من الأمر لا له ولا عليه3.

_ 1 إرشاد الساري "4/ 42". 2 تاج العروس "3/ 195"، "خير". 3 قال الراجز: لما رأيت العام عامًا أعبا ... وما ربيع ما لنا بالملسى تاج العروس "4/ 249"، "ملس"، اللسان "6/ 221"، "ملس".

صفات البيع

صفات البيع: وإذا تم عقد بيع بين بائع ومشترٍ، يضع أحدهما يده في يد الآخر، دلالة على قبول البيع وتمامه, ومن هنا قيل للتبايع: الصفق. وورد: تصافقوا، أي: تبايعوا1, وبذلك يتم البيع ويكون في عرفهم بيعًا صحيحًا. وكانت عادتهم أنهم إذا تبايعوا تصافقوا بالأيدي، دلالة على عقد البيع وحصول الرضا به، ووقوع الإيجاب والقبول من البائع والمشتري، ومن هنا قيل للبيعة: صفقة، والصفقة تكون للبائع والمشتري2. ومتى تم التصافق فلا يجوز لأحدهم النكول عن البيع؛ لأنه عقد عقدًا وأمضى أمرًا، وكان عليه أن يعمل رأيه قبل المصافقة، وإذا كانت البيعة على شيء مجهول، كأن تكون السلعة المباعة قد خبئت في خباء وبيعت مجهولة، ووافق المشتري على شرائها على تلك الحالة، ثم تبين أنها دون الثمن بكثير، فلا حق للمشتري برد البيع؛ لأنه حين شرائه تلك السلعة كان يعلم أنها مخبأة, وأنها تباع بيع الشيء المجهول. وقد رضي بالبيع بالمصافقة، فلا حق له إذن برفض السلعة.

_ 1 اللسان "10/ 200 وما بعدها"، "صفق". 2 تاج العروس "6/ 409".

الدين

الدَّيْن: وقد لعبت الديون دورًا خطيرًا في الحياة العامة في الجاهلية وفي الحياة الاقتصادية بصورة خاصة؛ لاضطرار التجار إلى التعامل بالدين، وكذلك الباعة والمشترون. وتلعب الحاجة الدور الأول في التداين، فلولاها لما استدان مدين. وقد استدان أصحاب المال بعضهم من بعض أيضًا؛ لتمشية أمورهم المالية، ولتوسيع رأسمالهم بالدين، بتشغيله للحصول على ربح كبير منه. وذلك على نحو ما يفعل التجار في هذا اليوم من التداين من البنوك، لتشغيل ما يستقرضونه منها في أعمال تجارية, تأتي إليهم بأرباح تزيد كثيرًا على مقدار الفائدة التي ستدفع للبنوك. وقد أشير إلى الدَّيْن في القرآن الكريم. ورد في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} 1, يعني: "يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله إذا تداينتم, يعني: إذا تبايعتم بدين أو اشتريتم به أو تعاطيتم أو أخذتم به إلى أجل مسمى, يقول: إلى وقت معلوم وقَّتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم في كل ما جاز السلم شرى أحل بيعه، يصير دينًا على بائع ما أسلم إليه فيه، ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه. كان ابن عباس يقول: نزلت هذه الآية في السلم خاصة"2. و"السلم" الذي يشير "ابن عباس" إليه، هو "السلف", وأسلم وأسلف بمعنى واحد3. والسلف: القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض غير الأجر والشكر، وعلى المقترض رده كما أخذه4. والدين في تعريف العلماء ما له أجل، وما لا أجل له فقرض, وبينهما وبين

_ 1 الآية "282". 2 تفسير الطبري "3/ 76". 3 تاج العروس "8/ 337"، "سلم". 4 تاج العروس "6/ 143"، "سلف".

السلم فروق عرفية1, والقرض: ما تعطيه من المال لتقضاه2. وقد كان من الصعب دفع الديون أو استحصالها؛ للأحوال الاقتصادية السيئة التي قد تحيط بالمدين, فإذا أخذ الرجل الدين أكله، فإذا أراد صاحب الدين حقه لواه به، أي: مطله, ومنه المثل: الأخذ سلجان, والقضاء ليان3.

_ 1 تاج العروس "9/ 207"، "دين". 2 تاج العروس "5/ 76"، "قرض". 3 تاج العروس "2/ 59"، "سلج".

المنحة

المنحة: والمنحة: العطيَّة. وقد تقع المنحة على الهبة مطلقًا، لا قرضًا ولا عارية، فتكون له, وقد تكون إعارة للاستفادة من منفعة، ثم تعاد. ومن هذا القبيل منحة الأرض؛ فقد تمنح هبة، فتكون لمن وهبت له، يستغل منفعتها، وله أن يبيعها متى شاء؛ لأنها هبة وهبت له، فصارت في حكم ملكه، وقد تستغل إعارة لأجل يتفق عليه، أو بغير أجل، يستردها صاحبها متى شاء وأحب. ومن المنح، منح الإبل؛ للاستفادة من وبرها وألبانها وولدها، والسفر عليها، وإكرائها للقوافل وللأشخاص. والمنحة المعارة مردودة, وقد ورد في الحديث: "المنحة مردودة، والعارية مؤداة"1. وورد أن المنحة عند العرب على معنيين: أحدهما أن يعطي الرجل صاحبه المال هبة أو صلة فتكون له, وأما لمنحة الأخرى، فأن يمنح الرجل أخاه ناقة أو شاة يحلبها زمانًا وأيامًا ثم يردها, وهو تأويل ما ورد في الحديث من قوله: "المنحة مردودة, والعارية مؤداة"2.

_ 1 تاج العروس "2/ 232"، "منح". 2 تاج العروس "2/ 232"، "منح".

الفصل السادس بعد المئة: الشركة

الفصل السادس بعد المئة: الشركة مدخل ... الفصل السادس بعد المائة: الشركة والشركة في البيع معروفة عند الجاهليين، فقد كان الناس يشتركون في البيع, بالمساهمة بمال الشركة مناصفة أو على نصيب يعين أو بنسب يتفقون عليها، وبالمساهمة بمال يقدم من جهة وبعمل يقوم به الطرف الآخر وفق شروط يتفق عليها المشاركون بالنسبة إلى الربح أو إلى الخسارة. وقد كان من عادة أهل مكة مساهمة معظم أهلها في مال تجارتهم التي يرسلونها إلى اليمن وإلى بلاد الشام؛ ولهذا كانت القافلة التي يرسلونها تكون كبيرة ضخمة، يزيد عدد جمالها على الألف. ومعنى هذا أن المال الذي تحمله القافلة يكون كبيرًا غاليًا؛ وذلك لأن أكثر أهل مكة من الأغنياء والموسرين والمتوسطين قد ساهموا فيه. ويقال للشريك "الجار", و"الجار": الشريك في العقار والشريك في التجارة1. وقد يتكاتب الشركاء فيما بينهم، بأن يكتبوا ما اتفقوا عليه في صحيفة تحفظ نسخ منها عند الشركاء. وقد يتكاتبون، وإنما يرضون بالوفاء على ما اتفقوا عليه، معتمدين على إخلاصهم في النية وعزمهم على الوفاء بما اتفقوا عليه بكل أمانة وإخلاص. ونجد في كتب أهل الأخبار أمثلة على تشارك أشخاص للقيام بأعمال تجارية في مختلف أنحاء جزيرة العرب. فهي تبين أن الشركاء كانوا يقدمون من أموالهم كذا وكذا من المال للعمل شركة, فيخلطون المال المقدم من الشركاء

_ 1 تاج العروس "3/ 111"، "جار".

حتى يصير شيئًا واحدًا، وبعد إخراج رأس المال بعد الحساب، والمؤن, والكلف يقسم الربح نصفين إن كانا شريكين، أو أكثر حسب عدد الشركاء ومقدار ما ساهم به كل واحد من الشركاء في رأس المال. وتوزع الخسائر، إن كانت هنالك خسائر على عدد المساهمين، وبنسب ما ساهم كل واحد من المساهمين في رأس المال1. وقد ورد في الأخبار أن "نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم" كان في الجاهلية شريكًا "للعباس بن عبد المطلب"، وكانا شريكين متفاوضين في المال متحابين, ولما وقع في الأسر في "بدر"، فداه العباس. وقد كان غنيًّا، أسلم, وأعان رسول الله يوم بدر بثلاثة آلاف رمح2. وكان "السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ" يشارك الرسول في تجارته، ويتاجران مع بلاد اليمن3, وذكر أن "السائب بن عبد الله" المخزومي، كان هو شريك الرسول وصاحبه في الجاهلية4. وورد أن "السائب بن الحارث بن صبرة" كان شريكًا للنبي بمكة5. ويظهر أن اشتراك الثلاثة في الاسم، صير ثلاثتهم شركاء للرسول في تجارته، والصحيح أن واحدًا منهم كان شريكًا له. وكان "مرداس بن أبي عامر" والد "العباس بن مرداس" الشاعر، شريكًا لحرب بن أمية والد أبي سفيان6. وكان "العباس بن أنس" شريكًا لعبد المطلب7. وقد شارك "البرَّاء بن عازب" "زيد بن أرقم" بالصرف، وهو بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة. ثم راجعا رسول الله فيه، فقال لهما: "ما كان يدًا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فذروه"8. وقد تشارك أهل مكة فيما بينهم في تكوين الشركات، كما تشاركوا مع غيرهم

_ 1 نهاية الأرب "9/ 18". 2 البرقوقي "ص72". 3 إمتاع الأسماع "1/ 8 وما بعدها"، الإصابة "2/ 10"، "رقم 3064". 4 الإصابة "2/ 10"، "رقم 3066". 5 الإصابة "2/ 10"، "رقم 3057". 6 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4511". 7 الإصابة "2/ 262". 8 إرشاد الساري "4/ 290".

في تكوين شركات، أسست لها فروعًا في المحال التي أقام فيها الشركاء الغرباء. فقد شاركوا بعض أهل اليمن، وجعلوا من مواضع شركائهم فروعًا لهم هناك، يبيعون ويشترون شراكة، ويقتسمون الأرباح والخسائر على حسب ما اتفقوا عليه. فشاركوا أهل الحيرة؛ كانوا يرسلون تجارتهم إليهم؛ لبيعها في أسواق الحيرة، ويرسل شركاؤهم من أهل الحيرة بضائعهم إلى مكة؛ لتصريفها بها، ثم يتحاسبون ويقسمون الأرباح أو الخسائر حسب ما اتفقوا عليه. وكان "كعب بن عدي" التنوخي الحيري، شريك "عمر" في التجارة؛ يتاجر معه في البز. وقد أسلم قبيل وفاة الرسول، وكان قد ذهب في وفد من أهل الحيرة إلى المدينة، فعرض الرسول عليهم الإسلام فأسلموا، فلما انصرفوا إلى الحيرة، جاءتهم أنباء وفاة الرسول، فارتاب أصحابه، وقالوا: لو كان نبيًّا لم يمت، وقال كعب: فقد مات الأنبياء قبله، وثبت على الإسلام, ثم خرج إلى المدينة ورأى "أبا بكر"، فلما بعث أبو بكر جيشًا إلى اليمامة ذهب معه، ثم أرسله "عمر" إلى "المقوقس" وقدم الإسكندرية سنة خمس عشرة رسولًا من "عمر" إلى المقوقس, وشهد فتح مصر. وورد في رواية أخرى، أنه أسلم بعد وفاة الرسول، في خلافة "أبي بكر". وورد في رواية أخرى, أنه كان أحد وفد الحيرة إلى الرسول، وكان شريك النبي في الجاهلية1, وكان عقيدًا أي: حليفًا لعمر2. وقد أشرك أهل مكة سادات القبائل معهم في الاتجار؛ تأليفًا لقلوبهم، وحماية لتجارتهم ولقوافلهم من التعرض للسلب والنهب، وكانوا يعطونهم نصيبهم من الأرباح. وهو عمل حكيم جعل سادات القبائل يفدون إلى مكة، ويعقدون العقود مع تجارها للاتجار معهم, وبذلك توسعت تجارة مكة وزادت رءوس أموال قريش. وقد كان أهل اليمن يتشاركون في الأرض، وهو أن يدفعها صاحبها إلى آخر بالنصف أو الثلث أو نحو ذلك, وقد أشير إلى هذا التشارك في نصوص المسند. وفي حديث معاذ: أنه أجاز بين أهل اليمن الشرك، أي: الاشتراك في الأرض3.

_ 1 الإصابة "3/ 282"، "رقم 7422". 2 الإصابة "3/ 282"، "رقم 7422"، تاج العروس "2/ 482"، "عقد". 3 اللسان "10/ 449"، "شرك"، تاج العروس "7/ 148"، "شرك".

أنواع الشركات

أنواع الشركات: ويقسم الفقهاء الشركة في التجارة إلى شركة عنان وشركة مفاوضة، أو شركة عنان وشركة تفويض1. وجعلها بعضهم أنواعًا أربعة: شركة الأبدان كشركة الحمَّالين والجمَّالين وسائر المحترفة؛ ليكون كسبهما متساويًا أو متفاوتًا مع اتفاق الصنعة واختلافها، وشركة الوجوه، كأن يشترك وجيهان عند الناس ليبتاع كل منهما بمؤجل ويكون المبتاع لهما، فإذا باعا كان الفاضل عن الأثمان بينهما، وشركة المفاوضة، بأن يشترك اثنان, بأن يكون بينهما كسبهما بأموالهما وأبدانهما وعليهما ما يعرض من مغرم. وسميت مفاوضة من: تفاوضا في الحديث؛ شرعا فيه جميعًا، وشركة العنان. وكلها باطلة إلا شركة العنان؛ لخلو الثلاث الأولى من المال المشترك ولكثرة الغرر فيها, بخلاف الأخيرة فهي الصحيحة2. فأما "شركة العنان" أو "العنان" "شركة عنان"، فهي أن يخرج كل واحد من الشريكين دنانير أو دراهم مثل ما يخرج صاحبه ويخلطاها، ويأذن كل واحد منهما لصاحبه بأن يتجر فيه؛ فإن ربحا في المالين فبينهما، وإن وُضِعَا فعلى رأس مال كل واحد منهما. وسميت هذه الشركة شركة عنان لمعارضة كل واحد منهما صاحبه بمال مثل ماله, وعمله فيه مثل عمله بيعًا وشراءً. وقد أشير إلى هذه الشركة في شعر ينسب إلى النابغة الجعدي، حيث يقول: وشاركنا قريشًا في تقاها ... وفي أحسابها شِرك العنان3 وهناك شركة أخرى عرفت بـ"شركة المفاوضة" "فوضى"، وهي أن يشتركا في كل شيء في أيديهما أو يستفيداه من بَعْدُ، وقيل: هو أن يعارض الرجلُ الرجلَ عند الشراء فيقول له: أشركني معك، وذلك قبل أن يستوجب العتق. ورد: "الشركة شركتان: شركة العنان، وشركة المفاوضة"4.

_ 1 تاج العروس "3/ 111"، "جار"، تاج العروس "9/ 28"، "عنّ". 2 إرشاد الساري "4/ 281"، "باب الشركة". 3 اللسان "13/ 292"، "صادر"، تاج العروس "7/ 148"، "شرك"، "وفي أنسابها"، تاج العروس "9/ 282"، "عنّ". 4 اللسان "13/ 292"، "صادر".

وذكر أن شركة المفاوضة، وهي العامة في كل شيء, وشركة العنان في شيء واحد, يقال: شاركته شركة مفاوضة, وذلك أن يكون مالهما جميعًا من كل شيء يملكانه بينهما. وقيل: شركة المفاوضة أن يشتركا في كل شيء في أيديهما أو يستفيآنه من بعد, يقال: تفاوض الشريكان في المال إذا اشتركا فيه أجمع, والمفاوضة: المساواة. ويقال: متاعهم فوضى بينهم, إذا كانوا فيه شركاء, كما يقال أيضا: فوضى فضا. قال الشاعر: طعامهم فوضى فضا في رحالهم ... ولا يحسنون السر إلا تناديا1

_ 1 تاج العروس "5/ 71"، "فوض".

المشاركة

المشاركة: ويعبر عن "الشريك" بـ"الخليط", والخليط: المشارك في حقوق الملك, كالشرب والطريق ونحو ذلك. وقيل: الخليط والمخالط، لا يكون إلا في الشركة. وفي الحديث، أي حديث الشفعة: "الشريك أولى من الخليط، والخليط أولى من الجار", أراد بالشريك: المشارك في الشيوع، والخليط: المشارك في حقوق الملك. ومنه الحديث: "ما كاد من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية"1. وقد أشير إلى "الخلطاء" في القرآن، ورد: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 2. والخلطاء: الشركاء الذين خلطوا أموالهم، وقد تغلب الخلطة في الماشية3. وقد أشار أهل الأخبار إلى أن تجار قريش صاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء4، جابوا البلاد وضربوا في الأرض إلى قيصر بالروم وإلى النجاشي بالحبشة وإلى المقوقس بمصر. فهم شركاء يكسبون عيشهم بالتجارة بعد أن حرموا من خيرات الأرض في واديهم القفر.

_ 1 تاج العروس "5/ 132"، "خلط". 2 سورة ص، الرقم 38، الآية "24". 3 تفسير الطبري "23/ 92"، تفسير النيسابوري "23/ 92"، "حاشية على تفسير الطبري"، تفسير القرطبي "15/ 179". 4 الثعالبي، ثمار القلوب "11 وما بعدها"، البلدان "472".

والخلطاء: الشركاء الذين خلطوا أموالهم، وقد تغلب الخلطة في الماشية1, وذلك أن يتخالطوا في الماشية، فيقدم كل واحد عددًا من الماشية ترعى معًا، ويقال لذلك: "الخلاط". وقد أشير إليه في كتب الحديث2. وذكر بعض العلماء أن الخليطين: الشريكان لم يقتسما الماشية وتراجعهما بالسوية. وقد يكون الخليطان الرجلين يتخالطان بماشيتهما وإن عرف كل واحد ماشيته، ولا يكونان خليطين حتى يريحا ويسرحا ويسقيا معًا، وتكون فحولهما مختلطة، وإن تفرقا في مراح أو سقي أو فحول فليسا خليطين، ولا يكونان خليطين حتى يحول عليهما حول من يوم اختلطا. وللفقهاء بحث في هذا الموضوع3. والتراجع بين الخليطين: أن يكون لأحدهما مثلًا أربعون بقرة وللآخر ثلاثون ومالهما مشترك، فيأخذ العامل عن الأربعين مسنة وعن الثلاثين تبيعًا، فيرجع بأذل المسنة بثلاثة أسباعه على خليطه، وبأذل التبيع بأربعة أسباعه على خليطه؛ لأن كل واحد من السنين واجب على الشيوع، كأن المال ملك واحد4. والخلاطة شركة في الواقع، تختلف عن الشركة المعروفة في كونها شركة بالمال، وتلك شركة برأس المال, وكل واحد من الخليطين يتصرف بما عنده من مال، ثم يتراجعان عند الحساب؛ لإخراج ما فيه من ربح أو غرم، وبذلك تختلف الخلاطة عن الشركة5.

_ 1 تفسير النيسابوري "23/ 92"، "حاشية على تفسير الطبري". 2 تاج العروس "5/ 132"، "خلط". 3 تاج العروس "5/ 133"، "خلط". 4 تاج العروس "5/ 351"، "رجع". 5 إرشاد الساري "4/ 284".

السفتجة

السفتجة: وعرفت "السفتجة" بين الجاهليين, وهي كتاب صاحب المال لوكيله أن يدفع مالًا قراضًا يأمن به من خطر الطريق. وقيل: هو قرض استفاد به المقرض سقوط خطر الطريق، بأن يقرض ماله عند الخوف ليرد عليه في موضع أمن. أو أن يعطي رجل مالا لآخر، وللآخر مال في بلد المعطي، فيوفيه إياه فيستفيد

أمن الطريق وفعله السفتجة، والجمع: السفاتج. وقد كان أهل الجاهلية يعطون مالًا لشخص محتاج إليه، على أن يوفيه في بلده لوكيل صاحب المال أو لمن يثق به، في مقابل نفع يعين، أو قرض لا نفع له. وقد نهى النبي عن قرض يجرُّ نفعًا1.

_ 1 تاج العروس "2/ 59"، "السفتجة".

الوكالة

الوكالة: وعرفت الوكالة عند الجاهليين. والوكيل: هو الذي يقوم بأمر الإنسان، سمي به؛ لأن موكله قد وكل إليه القيام بأمره، فهو موكول إليه الأمر1, وحكم الوكيل حكم الأصيل، والتاجر الوكيل في البيع والشراء وفي كل تعامل، هو بمنزلة التاجر الأصيل صاحب المال، وما يعقده من عقود يكون ملزمًا بحق التاجر الأصيل. وقد عرف العلماء الوكالة أنها تفويض شخص أمره إلى آخر فيما يقبل النيابة2. ولا يشترط في الوكالة, أن تكون وكالة تجارة، بل يجوز أن تكون وكالة في كل شيء، كأن تكون إشرافًا على أهل أو بيت لحمايته أثناء غياب صاحبه، كما تكون وكالة حراسة أموال والتصرف بها. فقد كاتب "عبدُ الرحمن بن عوف" "أميةَ بن خلف" أن يحفظه في صاغيته بمكة، وأن يحفظ "عبد الرحمن" صاغية "أمية" بالمدينة3. وكانوا يوكلون وكلاء عنهم في إجراء العقود والتوقيع على العهود، وعلى شروط السلم، إذا كانوا مخولين. ولما جاء وفد "هوازن" إلى رسول الله، يسأله المنَّة عليه برد أموالهم وسبيهم، سأل رسول الله من كان عنده من أصحابه من الناس من المقاتلين في أمر رد السبي، فتنازلوا عن حقهم فيه طيبةً لرسول الله، فقال رسول الله: "إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع لنا عرفاؤكم أمركم"، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا، وقد طيبوا وأذنوا لرسول الله أن يرد السبي إليهم؛ لتوكيل الناس لهم ذلك4.

_ 1 تاج العروس "8/ 159"، "وكل". 2 إرشاد الساري "4/ 155"، "كتاب الوكالة". 3 إرشاد الساري "4/ 156". 4 إرشاد الساري "4/ 161".

السمسرة

السمسرة: والسمسار: المتوسط بين البائع والمشتري لإمضاء البيع, وهو الذي يسميه الناس: الدلال، فإنه يدل المشتري على السلع ويدل البائع على الأثمان. واللفظة من الألفاظ المعربة، وقد ذكرت في شعر للأعشى: فأصبحت لا أستطيع الكلام ... سوى أن أراجع سمسارها1 والسمسار: الرجل الحاذق المتبصر، وسمسار الأرض: العالم بها، والحاذق المتبصر بأمورها2. وقد ذهب علماء اللغة إلى أنها لفظة عُرِّبت عن الفارسية، وذهب بعض الباحثين إلى أنها من أصل إرمي3. والسمسار الذي يبيع البُرَّ للناس. وفي حديث "قيس بن أبي عروة": "كنا قومًا نسمى السماسرة بالمدينة في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمانا النبي -صلى الله عليه وسلم- التجار"4. والسمسرة: هو أن يتوكل الرجل من الحاضرة للبادية فيبيع لهم ما يجلبونه, قيل: القيم بالأمر الحافظ له5. ويظهر أنهم كانوا يطلقون لفظة "السمسير" على الوكيل والقيم بالأمر الحافظ له في الأصل، ثم غلب استعمالها فيمن يدخل بين البائع والمشتري. كما استعملوها خاصة فيمن يدخل بين البائع البادي والمشتري الحاضر، أو عكسه6. ومن طريقتهم في السمسرة أن يقول صاحب السلعة للسمسار: بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك، فما زاد على ما اتفق عليه يكون أجرة سمسرة. أو أن يقول: بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك7, أو أن يترك السعر للسمسار، يبيعه حسب خبرته وقدرته على السوم، فإن باع الشيء دفع صاحب السلعة له

_ 1 تاج العروس "3/ 280"، "سمسر"، اللسان "4/ 380"، "سمسر". 2 تاج العروس "3/ 280"، "سمسر". 3 غرائب اللغة "189". 4 اللسان "4/ 380"، "سمسر". 5 اللسان "4/ 380"، "سمسر". 6 إرشاد الساري "4/ 72 وما بعدها". 7 إرشاد الساري "4/ 136".

أجر سمسرته. وقد يأخذها من المشتري, وقد يأخذها من صاحب السلعة ومن المشتري. ولا تنحصر السمسرة بالبيع في السوق، ويحمل السمسار السلعة معه يعرضها على من يريد الشراء، فقد تكون السمسرة عن طريق بيع ملك ثابت، مثل دار أو أرض أو بئر، فيراجع السمسار من يرغب في الشراء في بيته أو في أي مكان آخر مناسب، فلا ينادي المتساومين المتنافسين لشراء الملك، وقد يقف عند الدار أو الأرض أو البئر، في يوم يعين ووقت يثبت، ثم ينادي على السعر فيزايد الراغبون في الشراء السعر، حتى يقف على أعلى المتزايدين. ويدخل في هذه المزايدات بيع الحيوان, من نعم وماشية وغير ذلك. ومن السماسرة من كان يربح ربحًا حسنًا، ولا سيما أولئك الذين كانوا يرعون أمور "الركبان" من الأعراب، ويبيعون لهم على الأمانة والتصريف, ويكونون لهم وكلاء، إذ كانوا يبخسون الأعراب حقهم ويتناولون منهم أكثر مما يجب أخذه عن أتعابهم؛ لجهلهم بمعاملات السوق والبيع والشراء.

الفصل السابع بعد المئة: المال

الفصل السابع بعد المئة: المال مدخل ... الفصل السابع بعد المائة: المال المال في اللغة: ما ملكته من كل شيء، وهو في الأصل: ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يُقتنَى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم. وفي الحديث نُهي عن إضاعة المال، قيل: أراد به الحيوان1. ويشمل المال الصامت وهو العين2, والورق وسائر المصوغ منها3, والعرض ويشمل الأمتعة والبضائع والجواهر والمعادن والأخشاب وسائر الأشياء المصنوعة منها، والعقار من مسقف ومن مزروع مثل البساتين والكروم والمراعي والغياض والآجام وما يحويه من العيون والحقوق في مياه الأنهار، والحيوان بأنواعه. ويدخل الرقيق أيضًا في أصناف المال بالنسبة إلى ذلك العهد؛ لأن له قيمة وثمنًا، وهو ثروة لصاحبه وملك، وهو بوجه عام كل ما تملكه مما له ثمن. و"العين": الدينار والذهب عامة4, و"الوَرِق": الدراهم المضروبة، وقيل: الفضة، كانت مضروبة أولًا5. ويلاحظ أن الكلمتين تعبران عن الذهب

_ 1 اللسان "11/ 11/ 635 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 121"، "مول". 2 القاموس "4/ 52"، كتاب الإرشاد إلى محاسن التجارة "ص2 وما بعدها". 3 القاموس "3/ 288 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 86 وما بعدها". 4 تاج العروس "9/ 288"، "عين". 5 تاج العروس "7/ 85"، "ورق".

والفضة، وعن الدنانير والدراهم, والدنانير من ذهب، والدراهم من فضة. ويعبر عن الذهب بلفظة "الصفراء" للونه1, وعبروا عن الفضة بـ"البيضاء" وبالأبيض لبياض الفضة، ومنه الحديث: "أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وهما الذهب والفضة"2. ويقال للمال: "النشب"، والنشب: المال والعقار، وأكثر ما يستعمل في الأشياء الثابتة التي لا براح بها كالدور والضياع. والمال أكثر ما يستعمل فيما ليس بثابت كالدراهم والدنانير، وربما أوقعوا المال على كل ما يملكه الإنسان، وربما خصصوه بالإبل، والعروض اسم للمال3. والذهب والفضة، هما مقياس الثراء عند الحضر, ويكون ذلك بحيازتهم سبائك من ذهب أو فضة، أو مصوغات، أو دنانير ودراهم. و"الثري": الكثير المال -والثروة: كثرة المال4- وهو الذي يملك الذهب والفضة أو الأموال الأخرى. والغني: ذو الوفر، أي: المال الكثير5. وكان الذهب والفضة مقياسي الثراء عند الإنسان قبل أن تضرب النقود وتسكّ السكك، بل بقيا على ذلك حتى بعد ضرب النقود؛ بسبب ندرة الدنانير، وقلة الدراهم، وتفضيل البعض الذهب على الدينار والفضة على الدرهم؛ لهذا نجد أهل الجاهلية يتعاملون بالذهب والفضة وزنًا في تعيين الأسعار وفي شراء الحاجات وفي المهور مع وجود الدنانير والدراهم، بل بقي التعامل بهما في الإسلام أيضًا. ولما أرسل الرسول "شجاع بن وهب الأسدي" إلى "الحارث بن أبي شمر" الغساني، أمر له "الحارث" بمائة مثقال ذهب6. وأجاز رسولُ الله "مسعودَ بن سعد" الجذامي رسول "فروة بن عمرو الجذامي" إليه، باثنتي عشرة أوقية ونشّ، وذلك خمسمائة درهم, وكان "فروة" عامل قيصر على "عمان" من أرض البلقاء, فأرسل "مسعودًا" إلى الرسول ليخبره بإسلامه، وأرسل معه هدية إلى الرسول7.

_ 1 تاج العروس "3/ 335"، "صفر". 2 تاج العروس "5/ 9"، "بيض". 3 تاج العروس "1/ 484 وما بعدها"، "نشب". 4 تاج العروس "10/ 56"، "ثرو". 5 تاج العروس "10/ 271"، "غنى". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 261". 7 ابن سعد، طبقات "1/ 262".

ونظرًا لوجود أناس كانوا يتلاعبون في نوعية الذهب والفضة، بغش المعدنينِ ومزج معادن خسيسة فيهما، فقد ظهر أناس تخصصوا بفحص الذهب والفضة وبتعيين درجتهما من حيث الجودة والنقاوة، وبتعيين سعر السبائك, وما يباع منهما وفقًا لذلك, ثم تخصص هؤلاء بدراسة النقود، وتعيين درجة نقاوتها وتثبيت وزنها؛ وذلك لوجود الغش فيها بالنسبة لذلك العهد. فإذا اشتروا نقدًا أو باعوه، أو صرفوه بنقد آخر، فحصوه فحصًا دقيقًا وتأكدوا منه قبل الشراء أو التصريف لكي لا يكون مغشوشًا, فصار هؤلاء هم صيارفة النقود، وخبراء السكة في ذلك العهد. وقد كان الصيارفة يجلسون أمام باب "الهيكل" في القدس، يبيعون ويشترون ويصرفون النقود, وقد أشير إليهم في "الأناجيل", ووبَّخهم "المسيح" وقلب موائد صيرفتهم1. وكانوا يصرفون الدنانير بالدراهم, والدراهم بنقود النحاس، والعملات الأجنبية بالعملة الرومانية الدارجة في فلسطين، تمامًا كما يفعل صيارفة هذا اليوم في بلاد الشرق الأدنى. ويظهر من الأناجيل، أن أولئك الصيارفة كانوا يجلسون عند موائدهم التي يصرفون عليها النقود. أما كبارهم، أي: الأغنياء منهم من أصحاب المال، فقد كانوا يتعاملون بالقروض, يقرضون المال للمحتاج إليه, في مقابل دفع فوائد عنها هي الربا، وفي تشغيل أموالهم في مشاريع تعود عليهم بالأرباح2. وقد تاجر أهل الجاهلية في "الصرف"، وهو بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، أو أحدهما بالآخر. وقد أقر الرسول الصرف، إذا كان يدًا بيد، أي: متقابضين في المجلس، ونهى إذا كان نَساءً3. والصيرفي، والصيرف، والصراف: صراف الدراهم ونقادها من المصارفة, وهو من التصرف على ما يذكره علماء اللغة4. وقد جاءت لفظة "الصرف" والصيرفة في رأيي من "الصرف" أي: الفضة، فالصرف: الفضة في لغة العرب الجنوبيين. و"الصريف"5: الفضة

_ 1 إنجيل متى، الإصحاح 21، الآية 12. 2 Hastings, p. 630 3 إرشاد الساري "4/ 13". 4 تاج العروس "6/ 164"، "صرف". 5 كأمير.

أيضًا في لغة القرآن الكريم، كما يذكر ذلك علماء اللغة. قال الشاعر: بني غدانةَ حقًّا لَسْتُم ذهبًا ... ولا صريفًا, ولكن أنتم خزف1 وذلك أنهم كانوا يتعاملون بالفضة في الغالب؛ لكثرتها بالنسبة إلى الذهب، حتى غلب اسمها على هذا التعامل, فقيل: الصرف والصيرفة والصراف، وهو الذي يتعامل بالصرف, فصارت كلمة "الصرف" التي تعني الفضة مرادفة للنقود، كما صارت لفظة "الفلوس" التي هي جمع: "فلس" أصغر عملة من العملات وهي من النحاس، مرادفة للنقود. وفي العبرانية شبه لذلك, فالنقود، أي: العملة "Money" هي "Keseph" في العبرانية، و"Keseph" الفضة، وقد استعملها العبرانيون في معنى العملة؛ لأنهم كانوا يتعاملون بها في حياتهم اليومية، فكانت مشترياتهم وأجورهم ومعاملاتهم بالفضة وبالعملة المعمولة منها، حتى صارت في معنى النقود2. ومن تعامل الصيارفة، شراء الدنانير بالدراهم والدراهم بالدنانير؛ بأن يساوم رجلٌ رجلًا على بيع مائة دينار بدراهم، فيتراوض الطرفان على ذلك ويتساوما حتى يتفقا على عدد ما يدفع من الدراهم3؛ وذلك لاختلاف نوع الدراهم وأوزانها وجودة فضتها, ويكون العكس، بأن يبيع شخص دراهم في مقابل دنانير. وقد يتبايعون على بيع الذهب بالذهب، مضروبًا كان أو غير مضروب، أو بيع الفضة بالفضة. وكانون يتلاعبون في تصريف النقود, ويتحكمون في أسعار صرفها؛ لاحتكارهم الصرافة في الأسواق، ويربحون خاصة من فروق تصريف العملة الأجنبية بالعملة الرائجة في السوق. وقد عرف الصراف بالحيلة والخداع والغش في الصرف؛ ولهذا السبب لعنوا في الأناجيل، وقلب "المسيح" موائد صيرفتهم, و"الصيرفي": المحتال المتصرف في الأمور والمجرب لها كالصيرف. قال سويد بن أبي كاهل اليشكري: ولسانًا صيرفيًّا صارمًا ... كحسام السيف ما مس قطع4

_ 1 تاج العروس "6/ 163"، "صرف"، وورد: "بني غدانة ما إن أنتم ذهبًا". 2 Hastings, p. 627 3 إرشاد الساري "4/ 79". 4 تاج العروس "6/ 164"، "صرف".

ولا زال الناس يومنا هذا يطلقون لفظة "صراف" على المحتال الذكي الذي يعرف كيف يتعامل مع الناس. ومن مصطلحات الصيارفة المذكورة في كتب اللغة "الشوقل", يقال: شوقل الدينار: إذا عايره وصححه ووزنه، واستعملوا الشاقل أيضا في المعايير. ويظهر من مراجعة كتب اللغة، أن علماء اللغة لم يكونوا على علم واضح بأصل لفظة "شقل"، فاكتفوا بقولهم: شقل الدينار: وزنه1. وترد هذه اللفظة في الآرمية كذلك بمعنى الوزن، أي: وزن الدنانير والدراهم2، وترد بهذا المعنى أيضا في العبرانية. وقد أخذ هذا الوزن من الأوزان البابلية، وقد كانت الأوزان البابلية أساسًا لجميع الأوزان التي استعملت في الشرق الأدنى، بل وفي أوروبا أيضًا, و"الشقل" "Shekel" هو جزء من ستين جزءًا من "المن" Manu""3. فمن هذا الوزن ورد اصطلاح "شقل" و"شوقل" بمعنى وزن العملة بالميزان في لغات أهل الشرق الأدنى؛ لأنهم كانوا يصححون العملة ويعايرونها بوزنها بالميزان، لتظهر صحة وزنها، فيتبين به الزائف منها من الصحيح. وقد برع قوم من "الصيارفة" بتنقاد الدراهم، أي: بتمييز الدراهم وإخراج الزائف منها. وقد برع في ذلك نفر من أهل مكة؛ لأنهم تجار يتعاملون في الأسواق ويتعاطون الربا والصيرفة وتبديل العملة. وكان اليهود من الصيارفة، يتعاطون بيع الذهب والفضة وتبديل النقود والربا, وكان الأعراب يحفظون عندهم ودائعهم، ذهبًا وفضة ونقودًا, ذكر أن رجلًا من قريش استودع "عبد الله بن سلام" ألفًا ومائتي أوقية ذهبًا4. وذكر علماء التفسير، أن من اليهود من كان يأكل الأمانات ويجحدها فلا يؤديها إلى أصحابها، إلا بالتهديد والقوة، وقد استحل أكل أموال العرب، ذلك أنهم قالوا: لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ولا إثم؛ لأنهم على غير الحق وأنهم مشركون5.

_ 1 التاج "7/ 392"، "شقل". 2 غرائب اللغة "191". 3 Hastings, p. 627. 4 تفسير النيسابوري "3/ 225"، "حاشية على تفسير الطبري". 5 تفسير الطبري "3/ 226 وما بعدها".

وكان الصيارفة يعتبرون النقود الطيبة اللينة نقودًا صحيحة، والنقود الصلبة نقودًا زائفة، فالدرهم القسي هو درهم زائف؛ لذلك كانوا إذا قالوا: "درهم قسي"، عنوا بقولهم درهمًا زائفًا مغشوشًا، فضته صلبة رديئة ليست بلينة. وفي الحديث: "كانت زيوفًا وقسيانًا"1. قال مزرد: وما زوَّدوني غير سحق عمامة ... وخَمْسِمِئٍ منها قسيّ وزائف2

_ 1 الروض "1/ 95"، تاج العروس "10/ 293"، "قسا". 2 تاج العروس "10/ 293"، "قسا".

رأس المال

رأس المال: ورأس المال: أصله, يقال: أقرضني عشرة برءوسها، أي: قرضا لا ربح فيه إلا رأس المال1. وقد أشير إليه في القرآن الكريم في تحريم الربا: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون} 2. فأوجب الإسلام على المرابين الذين دخلوا فيه التوبة من الربا, وأن يأخذوا رءوس أموالهم التي أعطوها من غير زيادة عليها، مهما كان قدرها، فهذه الزيادة هي الربا3. وما يضعه التاجر من مال ليتاجر به، هو رأس ماله الذي يتاجر به. وما يتجمع من مال يقدمه المساهمون في تكوين شركة، هو رأس مال الشركة الذي تشتغل به ليأتي عليها بأرباح توزع على المساهمين، حسب نسب حصصهم في رأس المال، وما يقدم من مال قراضًا، فهو رأس مال، وكل مال يتخذ أساسًا لعمل هو رأس مال ذلك العمل.

_ 1 تاج العروس "4/ 157"، "رأس". 2 البقرة، الرقم 2، الآية 279. 3 تفسير الطبري "3/ 71"، روح المعاني "3/ 46".

استثمار الأموال

استثمار الأموال: وقد أبدع أصحاب الأموال بمكة وأجادوا في تشغيل رءوس أموالهم وفي استثمارها، --

فزادت ونمت. شغلوها في التجارة، وشغلوها في أعمال نستطيع أن نسميها أعمالًا مصرفية بلغة هذا اليوم، مثل إعطائها للمحتاج إليها بفائض هو "الربا"، أو "مضاربة"، أو مسالفة، وشغلوها باستثمارها بمشاريع زراعية وصناعية وما شابه ذلك، مشاركة أو على ربح ثابت معين، أو مساهمة في الأرباح دون الخسائر. وكان بعض منهم قد ساهم في أعمال عديدة، واستثمر أمواله بها، فإذا خسر في عمل، عوض عن خسارته تلك بربح يأتيه من عمل آخر. ولم يكتفِ تاجر مكة بالاتجار على حسابه، بل ساهم مع غيره من أهل مكة في تكوين رءوس أموال القوافل، بحيث صارت القوافل تجارة شركاء، أو شركة عامة يساهم فيها من يشاء من أصحاب المال. وساهم تاجرهم أيضًا بتوزيع أمواله على التجار الآخرين؛ ليشاركهم بذلك في أرباحهم، فكان "أبو سفيان" يتاجر بتجارته وعلى حسابه، يذهب بنفسه على رأس قافلته إلى العراق للاتجار بالحيرة، وكان من المساهمين في قوافل قريش كذلك، كما كان يقدم ماله للتجار؛ للاتجار به مع أموالهم، فيشاركهم بذلك في أرباحهم، ويأخذ منهم ما يقع له من نصيب في الأرباح. وكان "العباس" قد وزع مالًا من ماله على التجار لاستثماره، وكان للحجاج بن علاط السُّلمي مال متفرق في تجار أهل مكة1. وكانوا يتعاملون مع غير تجار قريش كذلك، يقرضونهم المال ويستقرضون الأموال منهم، ويتاجرون على الأرباح والخسائر، ونجد في الأخبار أسماء رجال من الطائف أو من الحيرة أو من أهل اليمن، كانت لهم شراكة مع تجار من تجار مكة, خلطوا أموالهم مع أموال أولئك الغرباء عنهم, فهم "خلطاء"، أي: شركاء, و"الخليط": الشريك2. فأهل مكة خلطاء فيما بينهم، وخلطاء مع غيرهم أيضا, يتاجرون بأموالهم ويتاجرون بأموال غيرهم كذلك, "وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء"3.

_ 1 الطبري "3/ 17". 2 تاج العروس "5/ 132"، "خلط". 3 الثعالبي، ثمار القلوب "11 وما بعدها"، البلدان "472".

الربا

الربا: وفي جملة وسائل استثمار المال: الربا، وقد كان شائعًا بين أهل الجاهلية،

كما كان شائعًا معروفًا بين غير العرب. وقد عرفه العلماء بأنه: "الزيادة على رأس المال"1 "وهو في الشرع: الزيادة على أصل المال من غير عقد تبايع"2, والإرباء: الزيادة على الشيء، والزيادة: هي الربا3. وكل قرض جر منفعة فهو ربا4، ويقال له: "اللياط"، وهو الربا الذي كانوا يربونه في الجاهلية إلى أن يأخذوا رءوس أموالهم ويدعوا الفضل عليها5. وقد كان أهل الجاهلية يزيدون على الدين شيئا ويؤخرونه, كأن يحل دينك على رجل فتزيده في الأجل ويزيدك في الدين, وقد نهي عنه في الإسلام6. وهو في الواقع ربا؛ لأنه استغلال ووجود منفعة بغير جهد, ويقال لذلك: المعاومة. وقد اشتطَّ أهل المال في الاستفادة من المقترضين، فتقاضوا منهم الربا الفاحش، وألحفوا في زيادته، وتشددوا في المطالبة برأس المال ورباه، ولم يمهلوا معسرًا، ولم يتساهلوا في الأداء إلى وقت الميسرة، إلا إذا زادوا في الربا، وأخذوا ربا المال وربا الربا. وكان اليهود من أشهر المرابين في الحجاز، كما اشتهرت بذلك مكة والطائف ونجران، ومواضع المال الأخرى من جزيرة العرب. وكان من عادة هؤلاء أنهم كانوا يحتسبون الربا الذي يستحق في آخر السنة ولا يدفع للمرابي جزءًا من رأس المال، أي: من المبلغ المقترض، فيؤدي الربا للسنة التالية على أساس المبلغ المقترض مع رباه، وإذا أجل دفع ربا هذا المبلغ الجديد المكون من المبلغ الأصل ورباه، أضيف إليه فصار المبلغ المقترض ورباه ثم ربا المبلغين جزءًا من القرض، ويطلب من المدين دفع الربا على هذا الأساس. والربا هو "نشك" "نشق" "Neshec" في العبرانية, وتعني اللفظة: الزيادة التي تؤخذ عن كل دين يعطى لمدين، سواء كان ذلك الدين نقودًا أو عينًا، بضاعة أو ملكًا، أو أي شيء آخر يستدان من مدين في مقابل زيادة تؤدى عليه عند

_ 1 المفردات "ص185". 2 اللسان "14/ 305". 3 تفسير الطبري "3/ 67". 4 اللسان "9/ 159"، "سلف". 5 اللسان "7/ 396 وما بعدها"، "لوط، ليط"، الروض الأنف "1/ 62". 6 تاج العروس "8/ 412"، "عام".

استحقاق الأجل المعين, وقد أشير إليه في التوراة1. وعرفت الزيادة التي تؤخذ على المبلغ بـ"تربيث" أيضًا، أي: ربا, غير أن ربا "النشق"، استعمل في ربا المال، أي: الربا المأخوذ عن النقد من دنانير ودراهم، فهو في مقابل "ربا النسيئة" في الإسلام. وأما "التربيث" فهو الربا المأخوذ عن الطعام مثل: الحنطة والشعير والتمر وما شابه ذلك من طعام, وهو ما يقال له: "ربا الفضل" في الإسلام. وقد تطلق لفظة "نشق" على الربوين: ربا الدنانير والدراهم، وربا الفضل. وقد حرمت التوراة على اليهود تعاطي الربا فيما بينهم، وأحلته بالنسبة للغرباء؛ فجوزت لليهودي أخذه ممن لم يكن على دينهم, ولكنهم لم يتقيدوا بما جاء في التوراة من تحريم الربا عليهم، فتعاطوه فيما بينهم، لا سيما بعد عودتهم من السبي، وصار الربا من أهم المنافع بالنسبة لأرباب المال عندهم2. وقد كان الرومان واليونان قد كونوا "بنوكًا" أي: مصارف تعاملت بالمال، وتعاطت قرضه مقابل ربح هو رباه. وقد حدد بنسبة واحد في الشهر، و"12" في السنة، وذلك في مقابل الاعتماد "Creditum". وقد تعاطت المعابد أعمال الربا كذلك، ومن هذه معابد "بابل"3. وأصل "الربا" هو وجود حاجة لدى إنسان إلى مال، ووجود أناس ذوي مال يريدون استغلال أموالهم وتكثيرها، فيقرضونها إلى المحتاج إليها مقابل زيادة يتفق عليها, تدفع عن المال المقترض للأجل المتفق عليه. ويستغل المرابي في الغالب حاجة الشخص الذي يريد المال، فيشتط عليه ويتعسف في شروطه، ويضطر المدين إلى قبول ما تُملَى عليه من شروط لحاجته إلى المال، وإلى دفع الربح العالي الذي فرضه المرابي عليه. ومن الربا أنهم "كانوا يبيعون البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا"4.

_ 1 الخروج، الإصحاح الثاني والعشرون، الآية 25، اللاويون، الإصحاح الخامس والعشرون، الآية 36. 2 W. Smith, A dictionary of the Bible vol, III, p. 1606, Beetons, Illustrated Dictionary of Religion, Philosophy, Politics, and Law, p. 523, John, Babylonian and Assyrian Laws, Contracts, and Letters, 211, Hastings, A. Dictonary of Christ and the Gospels, I, 837, The Bible Dictionary, vol, II, p. 540 3 Hastings, A Dictionary of Christ and the Gospels, I, p. 837 4 تفسير القرطبي "4/ 202".

ويدخل في الربا, الربا في الطعام، وقد كان شائعًا بين أهل العمود والبوادي بصورة خاصة، إذ ليس عندهم دراهم ولا دنانير، فكانوا يأخذون الصاع الواحد مقابل صاع وزيادة، والزيادة رباه، حتى يكون قفزانًا كثيرة, فاستغل المرابون أهل الحاجة وضايقوهم بالطلب. ورد أن أحدهم في الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه, فهو ربا مثل الربا في النقد1. كما فعلوا ذلك في الدنانير والدراهم، فكان أحدهم يبيع الدينار بدينارين، والدرهم بدرهمين، وفي الذهب والفضة، فكانوا يعطون مثقالًا مقابل مثقالين أو أكثر أو أقل من المثقالين، فالزيادة هي الربا. ومعنى هذا أن الربا كان يعادل المبلغ المقترض، فالدرهم بدرهمين والدينار بدينارين، وهو ربا فاحش، استغل فيه المرابي حاجة المدين إلى المال؛ ولهذا نهي عنه في الإسلام بتحريم كل أنواع الربا في القرآن وفي الحديث, حيث ورد: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين, ولا الدرهم بالدرهمين"2، و"الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما"3. أما رباهم بالذهب والفضة، فكانوا يأخذونه وزنًا فإذا أعادوه زادوا عليه وزن الربا المتفق عليه؛ ولهذا ورد في الحديث: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل, ولا تشفوا بعضها على بعض, ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز"4. فمنع الرسول الزيادة، وجعل الربا قرضًا يعاد إلى صاحبه وزنًا بوزن، أي: متساويين في الوزن. كما منع الزيادة في البيع، فجعل الزيادة على ثمن البيع، الذي يدفع بأجل ربا؛ لأنه زيادة على المبلغ، واستغلال لحاجة المشتري، وهو بيع غرر. وورد في الحديث أنهم كانوا يشترون الصاع بالصاعين أو أكثر، كأن يعرض أحدهم سلعة، فيبيعها بسلعة مثلها، ولكن بضعف وزنها أو أكثر، فقد اشترى غلام لمعمر بن عبد الله صاعًا وزيادة من شعير بصاع من قمح، فلما عاد بما اشتراه أمره سيده برده؛ لأنه سمع أن الرسول قال: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل". وورد أن بعضًا من الصحابة كانوا يشترون صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الجمع،

_ 1 أعلام الموقعين "2/ 138 وما بعدها"، تفسير الطبري "3/ 67". 2 البخاري "5/ 42"، "كتاب البيوع، باب الربا". 3 البخاري "5/ 45"، "كتاب البيوع، باب الربا". 4 البخاري "5/ 42"، "كتاب البيوع، باب الربا".

أي: من تمر مختلط من أنواع متفرقة وليس مرغوب فيه، وما يخلط إلا لرداءته. فلما سمع بذلك الرسول، قال: "لا تفعلوا ولكن مثلًا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا" وكذا الميزان1. وسبب هذا التوسع في هذا النوع من الربا، أن العرب كانوا أهل تجارة وأهل زراعة ورعي، ولم تكن العملة من دنانير ودراهم، منتشرة بين المزارعين وأهل البوادي، فكانت المقايضة تقوم عندهم مقام العملة. فمن احتاج إلى طعام، أخذ من بائعه أو مالكه أو مكتنزه كيلًا بكيل مثله لأجل معلوم, على أن يعطيه زيادة عليه، يتفق على مقدارها. فيأخذ قفيص تمر بقفيص ونصف أو قفيصين، أو أكثر من ذلك، على نحو ما اتفق عليه، يؤديه له من جنس التمر المسلف ومن جودته، فإذا حل الأجل، ورأى المستحق أن يؤخر دينه، على أن يزيد في المال فعل، وكلما أخره زاد في المال حتى يصير أضعافا مضاعفة، وذلك بسبب الحاجة والفقر. فهذا هو ربا مثل ربا الدنانير والدراهم، نشأ من الحاجة والظروف التي كان عليها أهل الجاهلية في ذلك العهد. ونجد هذا النوع من الربا عند غير العرب من الشعوب أيضًا، وهو ربا الفقراء والمحتاجين في الغالب، أما ربا الدراهم والدنانير فكان ربا التجار، ومن كان يريد تنمية ثروته وزيادة تجارته، فكان يقترض بالربا لهذه الغاية. والربا المذكور هو الأصل، وأما ربا الدراهم والدنانير أي: ربا العملة، فمتأخر بالنسبة إليه؛ لأن الإنسان مارس التجارة قبل أن تكون لديه دراهم ودنانير، كانت تجارته مبادلة سلع بسلع، وذلك قبل ضرب العملة. فكان الربا ربا سلع ومواد عينية, يقدم المرابي طعامًا إلى تاجر آخر أو إلى محتاج، إلى أجل معين، على أن يزيده في الكمية عند حلول أجل الربا، وفقًا لما اتفق عليه، فإن أخره زاد في المال، وكلما أخره زاد في المال حتى يتضاعف أضعافًا مضاعفة، فهذه أصل الربا الأول. فلما أوجد الإنسان العملة وتعامل بها، وأقبل عليها، ظهرت تجارة جديدة أساسها التعامل بالعملة، وظهر بذلك ربا العملة، الذي غلب على الربا الأول، حتى صار وكأنه هو الربا وحده ولا ربا سواه. ووجهة نظر المرابين إلى الربا، أنه نوع من أنواع البيوع، وأن الربا مثل

_ 1 البخاري "5/ 47"، "كتاب البيوع، باب بيع الطعام مثلًا بمثل".

البيع, ففيه إيجاب وقبول. ولما نزل الأمر بتحريمه عجب المرابون من التحريم، عجبوا كيف أحل البيع وحرم الربا، مع أن الاثنين في نظرهم واحد, وذلك كما يظهر من الآية: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 1, فنظموا البيع والربا في سلك واحد، لإفضائهما إلى الربح، فاستحلوه استحلاله. وكانت شبهتهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجل ما لا يساوي إلا درهمًا بدرهمين جاز، فكيف إذا باع درهمًا بدرهمين؟ 2. فكان التاجر والمرابي عندهم سواء بسواء، فكلاهما يعامل المشتري أو المدين معاملة كسب ونهب، والحصول منهما على أكثر ما يمكن الحصول عليه من ربح ومكسب, والإثراء بأية طريقة كانت. ولهذا عجبوا من تحريم الإسلام للربا، وهو كسب يأتي عن إيجاب وقبول، ومن تحليله للبيع، وهو كسب أيضًا، مبني على إيجاب وقبول. وقد اشتهر اليهود بمعاطاة "الربا"، وقد أشير إلى ذلك في القرآن الكريم3. كما عرف به أهل مكة والطائف ونجران وسائر من كان لديه فضل من المال وأراد استغلاله؛ وذلك للظروف الاقتصادية التي كانت سائدة في ذلك العهد, من عدم وجود صناعة يشغل أصحاب المال بها أموالهم، فيكثرونها باستغلالها بإنشاء صناعات أو توسيع حرف، ومن عدم وجود مياه غزيرة وأرضين خصبة تسقي سيحًا بصورة دائمة، حتى يشغل صاحب المال ماله في استغلال الأرض؛ ولهذا عمد أصحاب المال إلى تكثير أموالهم بطريق إقراضه والاستفادة من رباه. وكان ربا الجاهلية أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أَخِّرْ عني دينك وأزيدك على مالك, فيفعلان ذلك, فذلك هو الربا أضعافًا مضاعفة. وروي عن "عطاء" أنه قال: "كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية, فإذا حل الأجل قالوا: نزيدكم وتؤخرون"، فكان يكون أضعافا مضاعفة4. وروي

_ 1 البقرة، الآية 275. 2 إرشاد الساري "4/ 26 وما بعدها". 3 سورة النساء، الرقم 4، الآية 161، تفسير الطبري "6/ 17 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 13". 4 تفسير الطبري "4/ 59"، تفسير الآلوسي "4/ 49".

أيضا أن الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية، كان إذا حل مال أحدهم على غريمه يقول الغريم لغريم الحق: "زدني في الأجل وأزيدك في مالك"1. وذكر "أن ربا أهل الجاهلية: يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء, زاده وأخر عنه"2. وذكر أيضًا أنهم "كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين, فيقول: لك كذا وكذا، وتؤخر عني، فيؤخر عنه"3, أو أن يقول أحدهم لمدينه إذا حل الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي4. وذكر أن "الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرضه, على ما يتراضون به", و"أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل"5. وروي عن "ابن زيد" أنه كان يقول: إنما كان الربا في الجاهلية وفي التضعيف وفي السن, يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل، فيقول له: تقضيني أو تزيدني، فإن كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك. إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية، ثم حقة، ثم جذعة, ثم رباعيا, ثم هكذا إلى فوق. وفي العين يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن يكن عنده أضعفه أيضًا، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة يضعفها له كل سنة أو يقضيه, فهذا قوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة} 6. ومن أغراض الربا وأسبابه الحاجة, الحاجة إلى المال لسد دين أو عجز وللتغلب على فاقة أو ما شاكل ذلك من ضرورات، فيضطر المحتاج إلى اللجوء إلى المرابي ليستدين منه في مقابل زيادة يؤديها إليه عند حلول الأجل. وقد يأخذ المدين المال ليشتغل به فيربح منه، فيؤدي المال ورباه، ويستفيد من الربح الذي حصل عليه

_ 1 تفسير الطبري "3/ 69". 2 تفسير الطبري "3/ 67". 3 تفسير الطبري "3/ 67". 4 عمدة القارئ "11/ 202". 5 أحكام القرآن، للجصاص "1/ 465 وما بعدها". 6 تفسير الطبري "4/ 59".

من تشغيله لذلك المال في تجارة أو في أعمال إنتاجية أخرى. ورد عن "إبراهيم النخعي" أنه قال: "كان هذا في الجاهلية، يعطي أحدهم ذا القرابة المال يكثر به ماله"1. وورد أنهم كانوا يعطون الرجل المال ليكثر به ماله، وذلك عن طريق تشغيله لذلك المال2. وقد قسم العلماء الربا إلى نوعين: ربا النسيئة وربا الفضل. أما الأول، فهو الذي كان يتعارفونه في الجاهلية, كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدرا معينا، ثم إذا حل الدين طالب الدائن المدين برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل3. "وفي الحديث: إنما الربا في النسيئة هي البيع إلى أجل معلوم"، يريد أن بيع الربويات بالتأخير من غير تقابض هو الربا، وإن كان بغير زيادة. وكان "ابن عباس" "يرى بيع الربويات متفاضلة مع التقابض جائزًا، وأن الربا مخصوص بالنسيئة"4. وقد ورد في الحديث: "إنما الربا في النسيئة, وما كان يدًا بيد فلا بأس"5. وكان بيع النسيئة بيعًا معروفًا، ولما قدم الرسول المدينة كانوا يتبايعون بهذا البيع, فقال: "ما كان يدًا بيد فلا بأس به, وما كان نسيئة فهو ربا"6. والنسيئة: التأخير إلى أجل هو الموسم، أو أي أجل يتفق عليه. وقسم بعض الفقهاء الربا إلى ثلاثة أنواع: ربا الفضل، وهو البيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر، وربا اليد، وهو البيع مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما، وربا النساء، وهو البيع لأجل, وكل منها في الإسلام حرام7. وعرفوا ربا الفضل، بأنه الربا الذي يباع فيه الشيء بضعفه، مثل أن يباع من الحنطة بمَنَوَيْنِ مثلًا8، وأن يباع الدرهم بدرهمين. وقد خصص العلماء ربا

_ 1 تفسير الطبري "1/ 30 وما بعدها". 2 تفسير الطبري "21/ 30". 3 تفسير الطبري "3/ 67". 4 اللسان "1/ 167"، تاج العروس "1/ 457"، "طبعة الكويت". 5 مسند الإمام أبي حنيفة "ص158"، عقود الجواهر "2/ 30". 6 البخاري "5/ 45"، "كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الورق بالذهب دينًا". 7 إرشاد الساري "4/ 26 وما بعدها". 8 تفسير النيسابوري "3/ 79"، "حاشية على تفسير الطبري"، تفسير القرطبي "3/ 348".

الفضل في ستة أعيان، وهي: الذهب، والفضة، والبُرّ، والشعير، والتمر، والملح، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها1. وقد منع هذا الربا في الإسلام, فإذا باع رجل رجلًا دينارًا بدينارين إلى أجل، أو درهمًا بدرهمين، أو كيلة حنطة بكيلتين أو أكثر كما كان يفعل أهل الجاهلية، فالزيادة هي ربا؛ ولذلك نهي عنه في الإسلام2. ولما نزل الأمر بتحريم الربا، وذلك في آخر ما نزل من الوحي، وقبل وفاة الرسول بتسع ليالٍ على بعض الروايات3, صعب ذلك على الأغنياء الذين كانوا يعيشون على الربا ويقولون: إنما البيع مثل الربا4. وذكر علماء التفسير أن الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 5، إنما نزلت في "العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانوا شريكين في الجاهلية، سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو, وهم بنو عمرو بن عمير. فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله ذروا ما بقي من فضل كان في الجاهلية من الربا"6. وذكر أيضًا "أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال في خطبته يوم الفتح: "ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله, وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب"7. ولما جاء وفد "ثقيف" إلى المدينة؛ لمفاوضة الرسول في أمر دخولهم في

_ 1 إعلام الموقعين "2/ 136 وما بعدها". 2 مسند الإمام أبي حنيفة "ص159"، صحيح مسلم "5/ 42"، "باب الربا"، "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن, مثلًا بمثل, سواء بسواء"، صحيح مسلم "5/ 42 وما بعدها". 3 تفسير الطبري "3/ 76"، "وعن ابن عباس, قال: آخر ما أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آية الربا"، "وعن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه} "، تفسير الطبري "3/ 75". 4 البقرة، الآية 282، تفسير الطبري "3/ 68"، "وقد قيل: إن هذه الآيات في أحكام الربا هن آخر آيات نزلت من القرآن", "إن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا, وإن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قبض قبل أن يفسرها"، تفسير الطبري "3/ 75 وما بعدها". 5 البقرة، الآية 282. 6 تفسير الطبري "3/ 71". 7 تفسير الطبري "3/ 72"، تفسير ابن كثير "1/ 330".

الإسلام، قال "عبد ياليل" وهو لسانهم الناطق باسمهم: "أرأيت الزنى! فإنا قوم عُزَّاب لا بد لنا منه، ولا يصبر أحدنا على العُزبة قال: "هو مما حرم الله"؛ قال: أرأيت الربا! قال: "الربا حرام! " قال: فإن أموالنا كلها ربا! قال: "لكم رءوس أموالكم", قال: أفرأيت الخمر! فإنها عصير أعنابنا ولا بد لنا منها! قال: "فإن الله حرمها! "1. وكانت ثقيف قد صالحت النبي "على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا، فهو موضوع, فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة. وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة, وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية, فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد. فكتب عتاب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... } إلى: { ... وَلا تُظْلَمُونَ} . فكتب بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عتاب, وقال: "إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب" 2. وذكر أن "بني عمرو بن عوف"، الذين كانوا يأخذون الربا من "بني المغيرة"، هم: "مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة بنو عمرو بن عمير. وهم كبار الملاكين والأثرياء في ثقيف"3. وأسقط النبي عن أهل نجران كل ربا كان عليهم في الجاهلية، إلا رءوس أموالهم فإنهم يردونها وأسقط عنهم كل دم كانوا يُطلَبون به4. وق كان إرغام ثقيف وغيرهم من الذين كانوا يتاجرون بالربا على ترك الربا، والاكتفاء بأخذ رءوس أموالهم إن كان لهم ربا في الجاهلية، خسارة كبيرة لهم، أرغموا عليها إرغامًا، لتحريم القرآن له, وإحلال "القرضة الحسنة" محله. والقرض الحسن، هو إقراض المال للمحتاج إليه من غير اشتراط زيادة عليه حين إعادته، أي: من غير ربا لذلك المال.

_ 1 الطبري "3/ 492". 2 تفسير الطبري "3/ 71"، البلدان "6/ 10 وما بعدها". 3 تفسير الطبري "3/ 71". 4 اللسان "14/ 305".

واضطر من كان له فضل ربا من ربا الجاهلية وهو في الإسلام, على تركه والتنازل عنه, وعلى أخذ خالص ماله فقط الذي أقرضه للمدين من غير أي ربح. وفرض الإسلام على هؤلاء الدائنين أيضًا وجوب التساهل مع المدينين وتأجيل الدفع إن كان المدين في عسر وضيق حال, حتى يتحسن حاله فيتمكن من الدفع1. وقد ذكر الفقهاء أن الربا ربوان: فالحرام كل قرض يؤخذ به أكثر منه أو تجرّ به منفعة فحرام، والذي ليس بحرام أن يهبه الإنسان يستدعي به ما هو أكثر أو يهدي الهدية ليهدى له ما هو أكثر منها2. وقد دعا بعض العلماء الربا الأول بـ"ربا البيع", وقال عنه: إنه هو الربا المحرم3. وأول إشارة وردت في القرآن الكريم إلى الربا، هي الإشارة الواردة في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 4, وسورة الروم من السورة المكية. أما المواضع الأخرى التي أشير فيها إلى الربا ففي سورة البقرة5, وسورة آل عمران6, وسورة النساء7، وهي من السور المدنية. ويظهر من دراسة هذه المواضع أن حرمة الربا إنما نزلت في المدينة، أما في مكة فلم يكن قد حرّم، وإنما حث الأغنياء على قرض المال للمحتاج إليه لوجه الله، مساعدة له، ويكون ثوابه عند الله. وفي سورة "المزمل"، وهي من السور المكية وتعد السورة الثالثة في ترتيب سور القرآن: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} 8، وفي سورة التغابن: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} 9.

_ 1 تفسير الطبري "3/ 72، 74 وما بعدها". 2 القرطبي "14/ 305" "صادر"، تفسير الطبري "21/ 30 وما بعدها"، تفسير القرطبي "14/ 36". 3 تفسير ابن كثير "3/ 434". 4 سورة الروم، الآية 39. 5 البقرة، الآية 275 فما بعدها. 6 آل عمران، الآية 130. 7 النساء, الآية 161. 8 المزمل، الرقم 73، الآية 20. 9 التغابن، الرقم 64، الآية 17.

وهذه السورة هي من السور المكية كذلك, ولم يكن الربا قد حرم في هذا العهد كما ذكرت. فيكون الإسلام قد وضع مبدأ القرضة الحسنة، وهو القرض لله وفي سبيله، بغير زيادة، والتبرع في سبيل الله، في موضع الربا في ذلك الوقت. فلما نزل الأمر بتحريمه، جعلت القرضة الحسنة، من أعمال البر والتقرب إلى الله, وصار كل قرض يؤخذ عليه ربح ربًا محرمًا، يعاقب الله الإنسان يوم القيامة عليه, ولعن آكل الربا ومُؤكله وكاتبه وشاهديه1. وقد ذكر علماء التفسير في تفسيرهم الآية: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 2, أن هذا كان في الجاهلية يعطي أحدهم ذا القرابة المال يكثر به ماله, أو أن الرجل يقول للرجل: لأموِّلنك فيعطيه، فهذا لا يربو عند الله؛ لأنه يعطيه لغير الله ليثري ماله، أو أن الرجل يلزق بالرجل، فيخف له ويخدمه ويسافر معه، فيجعل له ربح بعض ماله ليجزيه، وإنما أعطاه التماس عونه ولم يرد وجه الله، أو هو ما يعطي الناس بينهم بعضهم بعضًا، يعطي الرجلُ الرجلَ العطية ليثيبه، يريد أن يعطي أكثر منها3. ويذكر العلماء أن رسول الله لما ظهر على مكة وضع يومئذٍ الربا كله، وحتَّم على المرابين أخذ رءوس أموالهم من غير زيادة عليها، وذكر بعض العلماء أن التحريم نزل في ربا "بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف, وفي بني المغيرة من بني مخزوم"، أو "في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان، وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر: لا يبقى لي ما يكفي عيالي إذا أنتما أخذتما حظكما كله، فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنهاهما وأنزل الله تعالى هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رءوس أموالهما"4. وقيل: "نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا, فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. فقال

_ 1 البخاري "5/ 50"، "كتاب البيوع، باب لعن آكل الربا ومؤكله". 2 الروم، الرقم 30، الآية 39. 3 تفسير الطبري "21/ 29 وما بعدها"، روح المعاني "21/ 40 وما بعدها". 4 أسباب النزول "ص65".

رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب" 1. فنحن إذن أمام أفراد وأمام شركاء كانوا يتعاملون بالربا، أي: قرض المال في مقابل جر مغنم منه, وقد حصل هؤلاء المرابون على أموال طائلة منه. أضف إلى ذلك أنهم كانوا تجارًا، يسافرون إلى الخارج ويربحون من تجارتهم هذه ربحًا حسنًا. ولضبط المدين الآخذ بالربا، كانوا يكتبون الدين ورباه في صحيفة، يكتب كاتبها اسمه فيها، ويكتب فيها اسم المدين وإقراره بدينه للدائن، وبمقدار الزيادة. والغالب أنهم كانوا لا يذكرون أصل الدين، بل يذكرون الرقم الذي يبلغه هذا المبلغ مع فائضه مضافا إليه، حتى يظهر الفائض وكأنه جزء من رأس المال. ويشهد على صحة العقد شاهدان؛ ولهذا لعن الرسول آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه2. وكان "أبو لهب" من أصحاب المال بمكة ومن المرابين, ذكر أنه كان قد لاط "العاصي بن هشام" بأربعة آلاف درهم، فلما وقعت معركة بدر استأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه، فلم يخرج "أبو لهب" مع من خرج من رجال قريش. وكان "العاصي" قد أفلس، فلم يتمكن من دفع المبلغ ورباه، فتنازل "أبو لهب" عنه على أن يخرج إلى بدر في مكانه3. وفي سورة "تبت" إشارة إلى أن "أبا لهب" كان ملَّاكًا ذا مال وقد كسب كثيرًا. وقد كان أهل يثرب يقترضون المال والطعام من اليهود في مقابل ربا فاحش. فورد أن أنصاريًّا اقترض ثمانين دينارًا من يهودي، وقد أعطاه ربا بلغ خمسين في المائة من المبلغ لسنة واحدة4. وقد وبخهم القرآن لأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل5.

_ 1 المصدر نفسه. 2 البخاري "5/ 50"، الترتيب والبيان عن تفصيل آي القرآن "2/ 234"، عقود الجواهر "2/ 33"، تيسير الوصول "1/ 68"، مسند الإمام أبي حنيفة "ص158". 3 الروض الأنف "2/ 62". 4 البخاري، بيوع "34/ 14"، Watt, Muhammad at Medina, p. 297 5 تفسير الطبري "1/ 17 فما بعدها".

القراض

القراض: وفي جملة وسائل تنمية المال وزيادته: القراض، وهو المضاربة في كلام أهل الحجاز، ويراد به تقديم مال إلى شخص يتجر به على ربح معين. وكان معروفًا بين أهل مكة، فكانوا يضاربون بأموالهم مساهمة منهم في الأرباح, ومنه حديث الزهري: "لا تصلح مقارضة من طُعمته الحرام". فكانوا يعطون المال مضاربة إلى شخص يتجر به، على جزء يأخذه من ربح المال1، وذلك كأن يعطي رب مال رجلًا مالًا يعمل فيه ويأذن له أن يشتري ما يشاء، وأن يبيع بالسعر الذي يشاء، ويدير هذا المال على يديه، وبعد إخراج رأس المال وما صرف على التجارة من أتعاب وأجور وضرائب، يوزع الربح نصفين، أو أثلاثًا: لرب المال الثلثان، وللعامل بحق عمله الثلث، أو حسب ما تعاقدا عليه2. وقيل: القراض: أن يدفع إليه مالًا ليتجر به والربح بينهما على ما يشترطان, والوضيعة على المال3. وذكر أن المضاربة أن تعطي إنسانًا من مالك ما يتجر فيه على أن يكون الربح بينكما، أو يكون له سهم معلوم من الربح. والمضارب صاحب المال والذي يأخذ المال, كلاهما مضارب, ويقال للعامل: ضارب؛ لأنه هو الذي يضرب في الأرض. وجائز أن يكون كل واحد من رب المال ومن العامل يسمى مضاربًا؛ لأن كل واحد منهما يضارب صاحبه، وكذلك المقارض4. فنحن إذن أمام نوع من الاتجار بالمال، يقدم فيه صاحب المال مالا إلى شخص آخر ليعمل به رأس مال التجارة، على أن يكون الربح بينهما على نحو ما اتفقا عليه. وقد عرف بالقراض وبالمضاربة. و"الوضيعة": الخسارة، وفي حديث "شريح" الوضيعة على المال والربح على ما اصطلحا عليه، يعني أن الخسارة من رأس المال5؛ وذلك لاشتراط بعض الجاهليين أن القراض على جزء من الربح، على ألا يتحمل صاحب المال، أي: المقرض له, أية خسارة إذا خسرت التجارة, وعلى المقترض إرجاع المال كاملًا إلى المقرض.

_ 1 اللسان "7/ 217" "صادر", "قرض". 2 نهاية الأرب "9/ 19". 3 تاج العروس "5/ 77"، "قرض". 4 اللسان "1/ 544"، "ضرب"، تاج العروس "1/ 349"، "ضرب". 5 تاج العروس "5/ 544".

التسليف

التسليف: وفي جملة وسائل الاستفادة من المال: التسليف. وهو تسليف المال لمزارع أو لأصحاب الإبل والماشية في مقابل شيء يتفق عليه، يدفع بعد البيع أو الحصاد؛ يدفع نقودًا أو عينًا أو إبلًا أو ماشية أو أي شيء آخر يتفق عليه. والسلف: هو أن يعطي مالا في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمسلف, وقيل: كل مال قدمته في ثمن سلعة مضمونة اشتريتها للصفقة، فهو سلم وسلف. والسلف: القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض غير الأجر والشكر, وعلى المقترض رده كما أخذه1. وذكر العلماء أن السلف في المعاملات له معنيان: أحدهما القرض الذي لا منفعة للمقرض فيه غير الأجر والشكر وعلى المقترض رده كما أخذه, والعرب تسمي القرض سلفًا. والمعنى الثاني في السلف، هو أن يُعطي مالا في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمسلف2. ولما قدم النبي المدينة، وجدهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، أي: يعطون الثمن في الحال ويأخذون السلعة في المآل, فقال لهم: "من أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"3. ويظهر من ذلك أنهم كانوا يسلفون المزارع مالا، ويشترطون عليه أن يعطيهم في مقابل ذلك حاصلًا، أو يبيع زرعه عندهم أو بواسطتهم، وذلك على نحو ما يفعل المزارعون في هذا الوقت, فيكسب المسلف, ويربط المزارع به، بحيث يرغمه على أن يكون مرجعه الوحيد في بيع حاصله. فجوَّز الرسول السلف، على أن يكون بيعًا شرعيًّا صحيحًا: كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم. و"القرض" الذي لا منفعة للمقرض فيه غير الأجر والشكر، هو ما يقال

_ 1 تاج العروس "6/ 143"، "سلف". 2 اللسان "9/ 159"، "سلف". 3 البخاري "5/ 55 وما بعدها"، "كتاب البيوع، باب السلم".

له "قرض حسن" في الإسلام، وهو ما تعطيه لتقضاه، أي: ما يعطي قرضًا، فيُعَاد إلى صاحبه1. وقامت المعابد في العربية الجنوبية بتسليف المال للمحتاج إليه, ولا أعني بالمال النقود، بل كل شيء له ثمن وقيمة, وكانت تتقاضى فائضًا في مقابل الاستفادة منه. وقد كانت معظم معابد ذلك الوقت تقوم مقام "بنوك التسليف" في هذا اليوم, بتسليف الأموال إلى المحتاج لها؛ لما كان عندها من فائض يأتيها من أملاكها ومن حقوقها المفروضة على أتباعها، فتاجرت في الأسواق, وسلفت الفائض إلى المتسلفين. ولهذه المعابد بيوت وضعت بها أموال المعبد، وهي خزائن المعابد، وبيوت المال عند المسلمين. وقد كانت في المعابد في الغالب؛ ليكون في وسع أصحاب النذور طرح نذورهم بها, أما الزروع والمواشي التي تكون من حقوق المعبد فتحفظ في المخازن المخصصة لهذه الغاية وفي "حرم" الآلهة المحماة باسمها لرعي ماشيتها. وقد تحدثت عن "الغبغب" الذي كان بمكة في الجزء السادس من هذا الكتاب، وقد كان خزانة للكعبة، وأشرت إلى وجود خزائن لبيوت الأرباب الأخرى. وسدنة الأصنام هم حفاظها وأمناؤها، ولا أستبعد احتمال قيام هؤلاء السدنة بالاتجار باسم المعابد، وبتسليف ما في خزائنها من مال إلى المحتاجين إليه. وقد عرف الاستلاف من بيت المال في الإسلام. استلف منه بعض الخلفاء والعمال وكبار الرجال لحاجتهم إلى المال أو لتشغيله وللاستفادة منه تجارة أو لاستخدامه في مشاريع زراعية مثل إحياء موات، أو تحويل مجرى ماء إلى غير ذلك من سلف وقروض نص عليها أهل التواريخ والأخبار.

_ 1 تاج العروس "5/ 76"، "قرض".

الإفلاس

الإفلاس: والإفلاس ذهاب المال، وإذا لم يبقَ للتاجر مال1. فقد كان التاجر يصاب بخسارة فادحة، تتغلب على أرباحه وعلى ما عنده من مال، أو تتعرض أمواله

_ 1 اللسان "6/ 166"، "فلس".

للنهب، فلا يستطيع إعادة اعتباره، فلا يكون في وسعه دفع ما بذمته من قروض أو رأس مال إلى دائنيه، فيعلن عندئذ عدم تمكنه من دفع ما عليه، ويشهر إفلاسه, وهذا ما يقال له الإفلاس. والمفلس مسئول عن وفاء ديونه, وعليه إرضاء خصومه بدفع ما بذمته لهم دفعًا كاملًا, أو حسب ما يتفق معهم عليه، أو تقسيطًا. ويكون الشركاء مسئولين عن إفلاسهم أيضًا، وعليهم تحمل المسئولية, كل حسب حصته في الشركة.

الفصل الثامن بعد المئة: أصحاب المال

الفصل الثامن بعد المئة: أصحاب المال مدخل ... الفصل الثامن بعد المائة: أصحاب المال وصاحب المال عند أهل الجاهلية، من له تجارة وجمع منها مالًا، أو من له زرع ونخيل، جاء إليه بربح طيب، أو من له إبل، والإبل هي "المال" عند العرب" ومقياس ثراء الإنسان؛ لأنهم لا يعرفون مالًا غيرها، أو من له حرفة رائجة، وذلك بين أهل المدن والقرى، حيث يستطيع صاحبها الحصول منها على ربح طيب إذا عرف كيف يستغل مواهبه في اختيار حرفته, وفي تشغيل الأيدي العاملة لزيادة الإنتاج. وقد أشار أهل الأخبار إلى رجال جاهليين ومخضرمين كان يملك كل واحد منهم عشرات الألوف من الدراهم، أي: النقود، عدا الإبل والمزارع والأملاك, من هؤلاء: "عبد الله بن جدعان". ويظهر أنه كان واسع الثراء، لم يبلغ أحد مبلغه في كثرة ماله بمكة، حتى ذكر أنه كان يأكل بصحاف من ذهب، ويشرب بآنية من فضة وبكئوس من البلور، وأنه كان قد امتلك قيانًا ليغنين له. وللجرادتين، وهما قينتان من قيانه، شهرة واسعة في كتب الأدب، تغنيان له ولمن يحضر مجلس شرابه ليلًا، وكان بيته دارًا للضيفان. وكان استعمال الأغنياء لآنية من الفضة والذهب في أكلهم وشربهم معروفًا بمكة, وقد كان ذلك يترك أثرًا في نفوس الفقراء الذين لا يملكون قوتًا لهم؛ ولهذا السبب نُهِيَ عن استعمالها في الإسلام، ونُهِيَ أيضا عن استعمال ثياب الحرير. وقد كانت ثياب الحرير والملابس المقصبة بالذهب، وحلل الديباج من ألبسة

الأغنياء، الذين كانوا يعتنون بملابسهم وينفقون في شرائها مالًا، وهي تستورد من الخارج؛ من اليمن ومن بلاد الشام والعراق. ويفهم من القرآن الكريم أن بين الجاهليين من كان يكتنز الذهب والفضة، ولا يعطي مما جمعه للفقراء والمحوجين شيئًا. وقد بشر هؤلاء بعذاب أليم؛ لاكتنازهم المال وعدم إخراج شيء منه من حق مفروض عليهم، لينفق في موضعه ومكانه الذي وضعه الله له1, وأشار إلى أناس حبب إليهم جمع القناطير المقنطرة من الذهب والفضة2. وكان أغنياؤهم يعيشون عيشة مترفة؛ يحتسون الماء بآنية من ذهب، حتى قيل لأحدهم: "حاسي الذهب" و"شارب الذهب"3, ويستخدمون الأثاث الفاخر، والمذهبات وهي الأشياء المطلية بالذهب، والبرد المذهبة, والملابس المذهبة، والحلي المصوغة من الذهب، على حين يعيش بعضهم عيشة كفاف، وبعض منهم عيشة فقير معدم. وقد عرف "عثمان بن عمرو بن كعب"، وهو من "بني تميم بن مرة" بـ"شارب الذهب"؛ لغناه وكثرة ماله، حتى كان يشرب بآنية من ذهب، وقد عد في أجواد قريش4. ويظهر من سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} 5 أن "أبا لهب" كان رجلًا ثريًّا كسب مالًا وذرية ذكورًا. وهو عم من أعمام النبي، واسمه "عبد العزى"، وكان يرى نفسه لكثرة ماله وولده، أنه من رجال قريش وسادتهم، فلا يليق به اتباع ابن أخيه، وهو أصغر منه سنًّا وأقل منه مالًا. يقال: إنه قال للنبي: "ماذا أُعطَى يا محمد إن آمنت بك؟ قال: "كما يعطى المسلمون! " فقال: ما لي عليهم فضل! قال: "وأي شيء تبتغي؟ " قال: تبًّا لهذا من دين, تبًّا أن أكون أنا وهؤلاء سواء"6. وقد تحدثت عن "أبي سفيان" في مواضع من هذا الكتاب، وكان تاجرًا

_ 1 سورة التوبة، الرقم 9، الآية 34. 2 سورة آل عمران، الرقم 3، الآية 14. 3 المحبر "137". 4 المحبر "137". 5 سورة تبت، الرقم 111، الآية 1 وما بعدها. 6 تفسير الطبري "30/ 217".

يجهِّز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانا بنفسه1. وقد عهدت إليه قريش بقيادة قوافلها إلى الشام، وبسبب قيادته قافلتها إلى الشام وقعت معركة بدر. ويظهر أنه كان يدفع أمواله إلى كبار تجار قريش ممن كانوا يتاجرون مع الشام والعراق؛ للاتجار بها، فإذا عادوا يصيب من أرباحها. ويتبين من خبر وقوع ابنه "عمرو" أسيرًا يوم بدر، ومن امتناعه من تخليصه من أسره بتقديم فدية عنه، ومن قوله لمن ألحَّ عليه بإفدائه: "أيجمع عليَّ دمي ومالي! قتلوا حنظلة وأفدي عمرًا، دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم"، أنه كان شحيحًا حمله شحه على تفضيل المال على ابنه, حتى حمله شحه هذا على مخالفة دين قريش، وعرفهم في عهدها ألا تعترض لأحد حاجا أو معتمرا إلا بخير. فلما جاء "سعد بن النعمان بن أكال"، وكان شيخًا مسلمًا كبيرًا, إلى مكة معتمرًا، عدا عليه "أبو سفيان", فحبسه بمكة بابنه "عمرو"، مما حمل الرسول على فك أسر ابنه بـ"سعد بن النعمان بن أكال"2. وكان يتاجر بالفضة وبالأدم، والأدم من تجارة قريش المهمة. ويظهر أنه كان يشتري الأدم من الطائف ومن اليمن، ثم ينقله إلى بلاد الشام, وقد أشير إلى أدم قريش، وهو أديم عرف في الأسواق بجودته وبنفاسته. وكان "العباس بن عبد المطلب" من أثرياء قريش, كانت له ثروة واسعة من نقود ومن ذهب وفضة, وقد استغل ماله في التجارة وفي إقراضه بالربا. قيل عنه: إنه "كان ذا مال كثير متفرّق في قومه"3, كان يقرضهم ويسلفهم ويشاركهم في تجارتهم. ولما انتهى إلى المدينة قال الرسول له: "يا عباس, افدِ نفسك, وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عروة ابن عمرو بن جحدم, أخا بني الحارث بن فهر؛ فإنك ذو مال ". فقال: يا رسول الله؛ إني كنت مسلمًا، ولكن القوم استكرهوني، فقال: "الله أعلم بإسلامك، إن يكن ما تذكر حقًّا فالله يجزيك به, فأما ظاهر أمرك فقد كان

_ 1 الاستيعاب "4/ 86"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "2/ 172"، "رقم 4046". 2 الطبري "2/ 466 وما بعدها". 3 الطبري "2/ 461".

علينا، فافدِ نفسك" -وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أخذ منه عشرين أوقيةً من ذهب- فقال العباس: يا رسول الله، احسبها لي في فدائي، قال: "لا؛ ذاك شيء أعطاناه الله عز وجل منك"، قال: فإنه ليس لي مال, قال: "فأين المال الذي وضعته بمكة حيث خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث، ليس معكما أحد, ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا, فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا، ولقثم كذا وكذا، ولعبيد الله كذا وكذا! " قال: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله، ففدى العباس نفسه وابني أخيه وحليفه"1, وكان ذلك عند وقوعه في الأسر ببدر2. وكانت أم العباس غنية على ما يظهر، ذكر أنه ضاع وهو صغير، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت الحرير، فوجدته فكست البيت الحرير، فهي أول من كساه ذلك3. وكان له مال في الطائف، فإذا كان الموسم جيء إليه بالزبيب لينتبذه للحجاج، فقد كان المتولي لأمر السقاية بمكة. وذكر أنه كان يملك "مكوكًا" مصوغًا من فضة مموهًا بالذهب, يشرب به4. وقد نجح بعضهم في الزراعة نجاحًا باهرًا، وأظهر مقدرة في إحياء الأرض الموات, ومن هؤلاء: "عبد الله بن عامر بن كريز". وكان صغيرا في أيام النبي، وولي "البصرة" في أيام "عثمان", وكان ابن خال "عثمان". وله "النباج" الذي يقال له: نباج ابن عامر، وله "الجحفة"، وله بستان ابن عامر بنخلة على ليلة من مكة، وله أرضوان أخرى، تمكن من معالجتها ومن إظهار الماء فيها، حتى جمع ثروة طائلة من الزراعة5. ونجح "عبد الله بن عمرو بن العاص" في الزراعة أيضًا، فقد كان له مال بالطائف على ثلاثة أميال من "وج"، هو كرم فاخر موصوف، "كان يعرش على ألف ألف خشبة شراء كل خشبة درهم", وقد كان يحصل منه على أكوام كبيرة من الزبيب6.

_ 1 الطبري "2/ 466". 2 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507". 3 الإصابة "2/ 263"، "رقم 4507"، الاستيعاب "3/ 94"، "حاشية على الإصابة". 4 تاج العروس "7/ 179"، "مك". 5 كتاب نسب قرش "148"، الاستيعاب "2/ 251"، "حاشية على الإصابة". 6 تاج العروس "5/ 243"، "وهط".

وعرف "آل مخزوم" بالثراء في الجاهلية وفي الإسلام. مرَّ "عثمان بن عفان" بمجلس لبني مخزوم، فسلم عليهم، ثم قال: "إنه ليعجبني ما أرى من جمالكم ونعمة الله عليكم". "وزعموا أن قومًا قعدوا يذكرون الأغنياء من قريش، فقال أحدهم: "المغيرة بن عبد الرحمن", فقال له القوم: "وهل لمغيرة من مال؟ " فقال الرجل: أليس له أربع بنات وأربع أخوات؟ وكان المغيرة يقول: لا أزوج كفؤًا إلا بألف دينار! فكان إذا خطب إليه الكفؤ، قال له: قد علمت قولي؟ فيقول له الخاطب: قد علمتُ وقد أحضرت المال, فيزوجه ويقبض المال منه؛ ثم يقول له: اختم عليه بخاتمك، فإذا أدخل زوجته، بعدما يجهزها بما يصلحها، ويخدمه خادمين، ويدخل بيتها نفقة سنة دفع إليها صداقها مختومًا بخاتم زوجها، ثم يقول لها: هذا مالك، وما جهزناك به صلة منا لكِ"1. وهي قصة مهما قيل فيها فإنها تشير إلى ثراء وغنى آل مخزوم. وعكرمة بن أبي جهل من أغنياء قريش كذلك، ولما ندب "أبو بكر" الناس لغزو الروم، خرج معهم غازيًا، فبصر "أبو بكر" بخباء عظيم، حوله ترابط ثمانية أفراس ورماح وعدة ظاهرة، فجاء إليه، فإذا خباء "عكرمة"، فعرض أبو بكر عليه المعونة، فقال: "أنا غني عنها, معي ألفا دينار، فاصرف معونتك إلى غيري"2. وكان "الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس" من تجار مكة، وكان يخرج بتجارته إلى الخارج، فيذهب إلى الحيرة للاتجار بسوقها. ومر "الحكم" بحاتم الطائي فسأله الجوار في أرض طيء حتى يصل إلى "الحيرة", فأجاره ونحر له وأوصله إلى الحيرة. ومن أغنياء الطائف "مسعود بن معتب الثقفي"، قيل: إنه كان له مال عظيم, وإنه أحد من قيل فيه: إنه المراد من الآية: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . وكانت له مزارع بها أشجار كروم وفواكه، وله عبيد، وقصر ضخم3. ومن رجال الطائف الأغنياء "مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي"، كان غنيًّا

_ 1 كتاب نسب قريش "308 وما بعدها". 2 كتاب نسب قريش "311". 3 تاج العروس "6/ 184"، "طوف".

يرابي بماله, ولإخوته ربا عند "بني المغيرة بن عبد الله"، فلما أسلموا طالبوهم، فقالوا: ما نعطي الربا في الإسلام، واختصموا إلى "عتاب بن أسيد"، فكتب به إلى النبي، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. ولا توجد لدينا قوائم بمقدار ما كان يملكه الأغنياء في الجاهلية من مال، وأقصد بالمال هنا: النقود من دنانير ودراهم؛ لعدم وصول موارد مدونة فيها مثل هذه القوائم، إلا أن الموارد الإسلامية قد تطرقت إلى ذكر ما قدمه بعض من أسلم من النقود في سبيل الله، وبعض ما قدمه المشركون من أجل الدفاع عن مصالحهم، كما أشارت إلى أمور أخرى وردت فيها أعداد وأرقام، قد ترسم لنا صورة عن أموال بعض الأغنياء عند ظهور الإسلام. فقد ورد في كتب السير والتواريخ مثلًا أن الرسول استسلف من "عبد الله بن أبي ربيعة" أربعين ألف درهم، فأعطاه, واستقرض من "صفوان بن أمية" خمسين ألف درهم فأقرضه, واستقرض من "حويطب بن عبد العُزى" أربعين ألف درهم, فكانت ثلاثة ومائة ألف قسمها بين أهل الضعف، فأصاب الرجل خمسين درهمًا وأقل وأكثر، وبعث من ذلك إلى بني جذيمة2. وورد أن "المطلب بن أبي وداعة"، فدى أباه يوم بدر بأربعة آلاف درهم3, وهو مبلغ يمكن أن يتحدث عما كان لدى آل "أبي وداعة" من مال. واستعان الأغنياء بخزنة يخزنون لهم أموالهم، ويكتبون لهم حساباتهم، فكان لـ"طلحة بن عبيد الله" خازن يحفظ له ماله، ويشرف على أملاكه ونخله وزروعه4, والخازن، هو الذي يحافظ على المال وخزنه، والخزانة مكان الخزن5. وقد كانت الخزائن معروفة عند الجاهليين، وقد أشير إليها في مواضع من القرآن الكريم6, وكان "بلال المؤذن" خازنًا لأبي بكر، ثم صار خازنًا للرسول،

_ 1 الإصابة "3/ 392"، "رقم 7958". 2 إمتاع الأسماع "1/ 395". 3 كتاب نسب قريش "406". 4 إرشاد الساري "4/ 79". 5 تاج العروس "9/ 191". 6 غافر، الآية 49، الزمر، الآية 71، 73، الملك، الآية 8، الأنعام، الآية 50، هود، الآية 21، الإسراء، الآية 100، يوسف، الآية 55، ص، الآية 9، الطور، الآية 37، المنافقون، الآية 7، الحجر، الآية 21.

لما أعتقه "أبو بكر"، يقوم بحفظ ما يأتي إلى الرسول من بيت المال، ويعطي منه من يأمره بإعطائه منه1. واتخذوا لهم محاسبين يحسبون لهم حسابهم. وتجار لهم قوافل ولهم شركات مساهمة، يساهم فيها كل من أراد من أهل مكة، كان لا بد لهم من استخدام المحاسبين؛ لحساب رءوس أموالهم ومصاريفهم وتقدير أرباحهم وخسائرهم. وقد "استعمل الرسول رجلًا من الأسد على صدقات "بني سليم"، يدعى "ابن اللتيبة"، فلما جاء حاسبه، فقد صح أن رسول الله حاسب. وبكتاب الحساب تحفظ الأموال"2. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال آخرين عيَّنهم الرسول لأخذ صدقات المسلمين ومحاسبتهم عليها. وقد استغل أهل مكة "الطائف"، فكانت لقريش أموال بها يأتونها من مكة فيصلحونها، فلما فتحت مكة وأسلم أهلها طمعت ثقيف فيها، حتى إذا فتحت الطائف أقرت في أيدي المكيين, وصارت الطائف مخلافًا من مخاليف مكة. وممن كان له مال بالطائف "العباس بن عبد المطلب"، كانت له بها أرض, بها كروم، فكان الزبيب يحمل منها فينبذ في السقاية للحجاج3. والتجارة من أهم موارد الثراء عند الجاهليين، وقد كان أكثر أغنياء مكة تجارًا. وأهم ما يمتاز به ثراء التاجر عن ثراء غيره من الأغنياء، هو أن ثراءه ثراء نقود، وتعامله بالدنانير والدراهم في الغالب، وأن ما يبيعه ويشتريه هو من منتوج ومحصول غيره، فهو وسيط، يكسب ربحه من البيع والشراء، أي: من فرق السعر الذي يكون بين سعر شرائه وسعر بيعه، وقد يخسر بالطبع. أما ثراء الأغنياء المزارعين، فمن بيع حاصلهم، ويزيد كسبهم كلما ارتفع سعر البيع، فتزيد به ثروتهم وتتوسع أرضهم. وأما ثراء سادة القبائل، فمن المال أي: الإبل، ومن الجباية والتعامل مع التجار, ومن الجهود الشخصية التي يبذلونها في الحصول على المال، مثل حفر الآبار واستنباط الماء في الأرض الموات وغير ذلك. ومن وسائل الثراء العثور على "الرِّكاز"4، دفين أهل الجاهلية، أي: الكنز

_ 1 الاستيعاب "1/ 145 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "1/ 169"، "رقم 736". 2 نهاية الأرب "8/ 192". 3 البلاذري، فتوح "68". 4 الركاز ككتاب.

الجاهلي، والمال العادي يوجد مدفونًا. و"الركزة" واحدة الركاز: القطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها، وقطع عظام مثل الجلاميد من الذهب والفضة تخرج من الأرض أو من المعدن, وأدخل بعض العلماء المعادن في الركاز. وخصص أهل الحجاز الركاز بالمال المدفون خاصة مما كنزه بنو آدم قبل الإسلام، وأما المعادن فليست بركاز1. وعرف الركاز بـ"السيوب", وذكر أن السيوب المعادن، وذكر أنها عروق من الذهب والفضة تسيب في المعدن، أي: تتكون فيه وتظهر، سميت سيوبًا لانسيابها في الأرض, وذكر أنها المال المدفون في الجاهلية أو المعدن. وقد وردت اللفظة في كتاب الرسول لـ"وائل ابن حجر", إذ ورد: "وفي السيوب الخمس"2. وقد اعتبر الجاهليون "الركاز" مالًا يأخذه من يعثر عليه، ونصيبًا حلالًا حكمه حكم اللقطة التي لا صاحب لها، أما الإسلام، فقد فرض الخُمس في الركاز, وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه. فما استخرج من الركاز، فلمستخرجه أربعة أخماس ولبيت المال الخمس3. ونجد السور المكية الأولى من سور القرآن، تصور أغنياء قريش أناسًا متغطرسين غلاظ الأكباد يرون أنفسهم فوق الناس؛ لغناهم ولمكانتهم بسبب ذلك في قولهم، وكان ضعف حال الرسول بالنسبة لهم، وصغر سنه من أهم العوامل التي دفعت أولئك السادة إلى مقاومته ومقاومة ما جاء به، خاصة في دعوته إنصاف الفقير وإخراج حق الله المكتوب للفقراء من أموالهم صدقة وزكاة، تزكية لأموالهم، وإسعافًا لفقرائهم. قال أبو لهب للرسول: "ماذا أعطى يا محمد إن آمنت بك؟ قال: "كما يعطى المسلمون! " فقال: ما لي عليهم من فضل! قال: "وأي شيء تبتغي؟ " قال: تبًّا لهذا من دين، تبًّا أن أكون أنا وهؤلاء سواء"4. ويصورهم القرآن الكريم قومًا ألهاهم التكاثر والتفاخر، تفاخروا بأموالهم وبوجاهتهم في قومهم، بل تفاخروا حتى بمن توفي منهم من سادتهم5. لا يرحمون

_ 1 تاج العروس "4/ 39"، "ركز". 2 تاج العروس "1/ 305"، "سيب". 3 تاج العروس "4/ 39"، "ركز". 4 تفسير الطبري "30/ 217". 5 سورة التكاثر، الرقم 102.

فقيرًا، ولا يعطفون على يتيم، بل كانوا يأكلون أموال اليتامى ويقهرونهم، ولا يعطونهم حقوقهم1. إذا جاءهم سائل انتهروه وطردوه طردًا قبيحًا، وإذا طلب محروم منهم عونًا أبعدوه عنهم, وإذا وزن بائعهم أنقص في الميزان، وإذا كال قصر في الكيل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} 2. ونجد هذه الصور البشعة المعبرة عن جشع بعض الأغنياء في كتب السير والحديث والأخبار أيضا، إذ صورت بعضها بعضهم وقد اعتدى على أموال رجل غريب جاء يتاجر بمكة، فتلقاه تاجر من تجارها، عامله على سلعة له، ثم بايعه، فلما قبضها ماطله الثمن، ثم أكله. هذا "أبو جهل" ابتاع إبلًا لرجل من "إراش" "إراشة" بمكة، فمطله بأثمانها، فأقبل "الإراشي" حتى وقف على نادٍ من قريش، ورسول الله في ناحية من المسجد جالس, فقال: يا معشر قريش, من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام، فإني رجل غريب ابن سبيل, وقد غلبني على حقي. فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس -يشيرون إلى رسول الله، وهم يهزءون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه فإنه يؤديك عليه. فذهب به إلى أبي جهل، وأخذ منه حقه، وأعاده عليه3. وهذا رجل من "زبيد" قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه "العاصي بن وائل"، وكان ذا قدر بمكة وشرف فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف، فأبوا أن يعينوه على "العاصي بن وائل" وزبروه. فلما رأى الزبيدي الشر, أوفى على أبي قبيس وقريش في أنديتهم، فصاح بأعلى صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقضِ عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر إن الحرام لمن تمت كرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

_ 1 الأنعام، الرقم 6، الآية 152، الإسراء، الرقم 17، الآية 34، الفجر، الرقم 89، الآية 17، الضحى، الرقم 93، الآية 9، ومواضع أخرى، المعجم المفهرس "770". 2 الرحمن، الآية 9، المطففين، الآية 1 وما بعدها، تفسير الطبري "30/ 57 وما بعدها"، تفسير النيسابوري "30/ 44"، "حاشية على تفسير الطبري". 3 ابن هشام، سيرة "1/ 237 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف".

فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان، وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُؤدَّى إليه حقه. وعرف حلفهم هذا بحلف الفضول، ثم مشوا إلى "العاصي بن وائل"، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه1. فكان حلف الفضول نتيجة لما كان يقع بمكة من اعتداء على حقوق وأموال الغرباء والمستضعفين من الناس. وذكر أن منهم من كان يأكل أجر العامل الأجير، ومنهم من كان يشتط على عبده، فيشغله في أشغال صعبة، ثم يطلب منه أجره، وقد يستقل أجره فيضربه ليحمله على أن يشتغل له أكثر من شغله، ليجيء إليه بمال زائد. ومنهم من كان يحمل إماءه على البغاء ليأخذ أجرهن، كما أشير إلى ذلك في القرآن الكريم، وكما أشرت إلى ذلك في مواضع أخرى من هذا الكتاب. ومنهم من كان لا يبالي للحصول على المال بسلوك أي سبيل يؤدي إليه. وهي صورة تعارض ما نقرؤه في أخبار أهل الأخبار عن تعاطف أغنياء مكة مع فقرائهم، وعن إخراجهم جزءًا من أموالهم لمساعدة البائس والفقير والصعلوك والغريب، حتى صار الفقير عندهم كالكافي وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء إلى غير ذلك من نعوت وأوصاف2، وكما جاء في شعر ينسب إلى "مطرود بن كعب الخزاعي"3, وما ذكروه عن الذادة الذين أخذوا على أنفسهم الذود عن الضعيف والمظلوم. ونجد أناسًا بين الأعراب كانوا يشعرون بما كان يعانيه الفقراء من شدة الفقر، ومن شدة ما أصاب بعضهم من إملاق، ومن اضطرار بعضهم إلى وأد بناته من شدة الفقر، كما أشير إلى ذلك في القرآن الكريم، وهذا مما حمل بعض أصحاب القلوب الرحيمة الشفيقة على ودي البنات، وحمل مئونتهن وبذل الرعاية لهن حتى يكبرن فيتزوجن. وقد ذكر أن من هؤلاء الذين وهبوا الشعور بالمسئولية الإنسانية وبالشفقة والرحمة والحنان: "صعصعة بن ناجية بن عقال"، فقد أحيا الموءودات فبعث الرسول, وعنده مائة جارية وأربع جوارٍ أخذهن من آبائهن لئلا يوأدن4.

_ 1 ابن هشام، سيرة "1/ 90 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "1/ 90 وما بعدها". 2 ثمار القلوب "10 وما بعدها". 3 الروض الأنف "1/ 117". 4 المحبر "141".

عادات وأعراف

عادات وأعراف: ويظهر من بعض الأخبار أن الوأد لم يكن عن إملاق فحسب، بل كان لسبب آخر أراه متصلًا بعقيدة ودين. فقد ذكر أن وفد "جعفى"، قال لرسول الله: يا رسول الله! إن أمنا مُليكة بنت الحلو، كانت تفك العاني وتطعم البائس وترحم المسكين، وإنها ماتت وقد وأدت بنية لها صغيرة, فما حالها؟ قال: "الوائدة والموءودة في النار" 1. فلم يكن الوأد هنا بسبب الفقر والإملاق، بل لسبب آخر، قد يكون له صلة بدين أو بعرف اجتماعًا, ويلاحظ أن "جعفى" كانوا يحرمون القلب في الجاهلية ولا يأكلونه. ولما قدم وفدهم إلى يثرب، قال رسول الله: "بلغني أنكم لا تأكلون القلب؟ " قال: نعم. قال: "فإنه لا يكمل إسلامكم إلا بأكله". ودعا له بقلب فشوي، ثم ناوله أحد رجال الوفد، فلما أخذه أرعدت يداه، فقال له رسول الله: "كُلْهُ"، فأكله وقال: على أني أكلت القلب كرهًا ... وترعد حين مسته بناني2 وقد حمل الأعشى على أولئك الذين ينامون وهم متخمون ملاء البطون، وجيرانهم جياع يتضورون من الجوع، إذ يقول: تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا وفي هذا المعنى يقول بشر بن المغيرة: وكلهم قد نال شبعًا لبطنه ... وشبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه ولعل هذا الشعور هو الذي حمل "عروة بن الورد" على أن يكون سيد الصعاليك ومجمعهم ومغيثهم، حتى قيل له: "عروة الصعاليك"؛ لأنه كان يجمع الصعاليك في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه3. وفي القرآن الكريم أن "ملأ" نوح، وهم الأعزة أصحاب الحول والطول،

_ 1 ابن سعد، الطبقات "1/ 325". 2 ابن سعد، الطبقات "1/ 324 ما بعدها". 3 تاج العروس "7/ 153"، "صعلك".

يقولون لنوح: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} 1، وفيه أنهم قالوا له: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} 2. وقول ملأ نوح هذا، هو تعبير عن رأي ملأ قريش الذين كانوا يقولون: لو كان محمد رسولا حقا، لكان رجلا من رجال قريش أو الطائف الأغنياء أصحاب المال، فالرئاسة ولو كانت نبوة لا تكون إلا في رجل عظيم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 3. وكانوا يسخرون من المسلمين ويستهزئون بهم حينما يرونهم خلف الرسول يدخلون المسجد الحرام، وهم من الأراذل الضعفاء والفقراء، فيضحكون ويقولون: جاءكم ملوك الأرض كسرى وهرقل, فدين يكون أتباعه ومعتنقوه من الرقيق والضعفاء دين ليس له شأن، ولا يمكن أن يكون مقبولًا حتى يكون أتباعه من الأغنياء ملأ القوم. وقضى أغنياء مكة وسادتها لياليهم في مجالسهم ونواديهم، وعادتهم أنهم كانوا يتنادمون، يشربون ويسمعون القيان، ويتنادرون ويسمعون القصص والنكات، ثم يعودون إلى بيوتهم، ونجد في كتب أهل الأخبار أسماء ندماء قريش. وأكثر الأغنياء من التدهن، فالتدهن من النعيم، وهم يتدهنون بالدهون الجيدة المطيبة. ويقال لكثرة التدهن: "التورن"4, و"التودن": كثرة التدهين والتنعيم5. وفي مقابل هذه الطبقة الغنية، كان السواد فقيرًا، ومنهم معدمون تمامًا لا يملكون شيئًا، إذا عجزوا عن الحصول على قوت، عمدوا إلى الشجر فأكلوا ورقه أو ثمره إن كان بريًّا لا يملكه أحد، أو إلى الأعشاب فأكلوها -ورد في حديث "عتبة بن غزوان": ما لنا طعام إلا ورق البشام6- أو إلى "العلهز" فأكلوه. وهو طعام من الدم والوبر كان يتخذ في أيام المجاعة، وذلك أن يخلط الدم بأوبار الإبل ثم يشوى في النار، قيل: وكانوا يخلطون فيه القردان، وذكر أنه الصوف ينقش ويشرب بالدماء ويشوى ويؤكل. ورد في حديث "عكرمة":

_ 1 سورة هود، الرقم 11، الآية 27. 2 سورة الشعراء، الرقم 26، الآية 111. 3 الزخرف، الرقم 43، الآية 31. 4 تاج العروس "9/ 360"، "التورن". 5 تاج العروس "9/ 360"، "ودن". 6 تاج العروس "8/ 203"، "بشم".

كان طعام أهل الجاهلية العلهز1. أو إلى "القرف"، لحاء الشجر، فأكلوه2, وأكلوا "الوزين"، وهو الحنظل يؤكل باللبن أيام الحاجة3. وقد كان الناس يصابون بالشدة والعسر، ويعبر عن ذلك بـ"الحشر", والحشر: إجحاف السنة الشديدة بالمال. وإذا أصابت الناس سنة شديدة فأجحفت بالمال وأهلكت ذوات الأربع قيل: حشرتهم السنة، بمعنى: أصابهم الضرر والجهد4. وفي العربية ألفاظ عديدة تعبر عن الشدة والضيق والفقر وضنك الحياة وسوء الحال، من ذلك "القشف" والضعف والشظف وغير ذلك5. وفي كثرة هذه الألفاظ تعبير عن سوء الأحوال وعن تبرم الناس من الحياة ومن شدتها عليهم في ذلك الوقت، حيث كانت حياتهم في عسر وضيق.

_ 1 تاج العروس "4/ 61"، "العلهز". 2 وإن قرى قحطان قرف وعلهز ... فأقبح بهذا ويح نفسك من فعل تاج العروس "4/ 16"، "العلهز". 3 تاج العروس "9/ 361"، "وزن". 4 تاج العروس "3/ 142"، "حشر". 5 تاج العروس "6/ 221"، "قشف".

سرقة أموال الآلهة

سرقة أموال الآلهة: وقد ورد في نص من نصوص المسند، وعيد بأن ينزل الإله رب السماء "ذسموي" غضبه ولعناته وكل سوء، وأن يلحق البؤس "يباس" بكل "نفس" إنسان لا يبالي بأوامر ذلك الإله، فيسرق "ذ يسرقن" محرمه، ويسرق من أموال محرمه "بقرم" بقرًا أو غير ذلك, كما أشير إلى العقوبات التي ستنزل بذلك الإنسان المتطاول المخالف لأوامر الآلهة1؛ عقوبات العذاب "عذبن" تنزلها الآلهة على أولئك الأشخاص2. ولهذا النص أهمية كبيرة بالنسبة إلينا؛ لأنه شاهد ناطق على أن الإنسان عند الحاجة وعند تصوره وجود منفعة وفائدة له لا يعبأ بسرقة آلهته وبالسطو على ما في معابدها من أموال وحلال، وأنه لا يتردد من السطو على أوقاف تلك الآلهة

_ 1 REP. EPIGR. 820 2 الفقرة السادسة من النص: REP. EPIGR. 820. Rhodokanakis, Stud. Lexi. II, S. 162.

وأخذ ما فيها, لا فرق في ذلك بين إنسان قديم، كان للدين عليه وعلى مجتمعه نفوذ وسلطان، وبين مجتمع حديث تهذب فيه الإنسان وارتفعت فيه مداركه ومزاياه, فها نحن أمام جماعة سرقت معبد "محرم" إلهها "ذو سموي" رب السماء، ولم تكتفِ بسرقة ذلك المعبد، بل سرقت البقر في الأرض المحبوسة على ذلك الإله. ولهذا أمر رجال ذلك المعبد الناطقين باسم ذلك الإله بكتابة ذلك النص ليقرأه الناس وليروا ما فيه من لعنات ستنزل على من يتجاسر على مخالفة أوامر ذلك الإله، فيسرق معبده ويسرق بقره. ويلاحظ أن التشريع قد اعتبر القبيلة والجماعة وحدة اجتماعية مسئولة أمام الإله عن كل ما اقترفه أفرادها من سرقات وآثام. فإذا سرق أحدهم من معبده أو ألحق أضرارًا بأملاكه، صارت القبيلة مسئولة قانونًا وكلها أمامه، وعليها إنزال عقابها بالفاعل، بالإضافة إلى العقاب الذي يفرضه المعبد عليه. وبإيقاع المسئولية على القبيلة كلها، يكون المعبد قد أمن بذلك من غدر الأفراد المجهولين، ومن تطاول السراق المتسترين على أموال المعابد والآلهة، ومتى وجدت القبيلة أنها مسئولة عن ذلك بالتضامن، فإنها تكن حذرة وعينًا على السراق والمفسدين، لا سيما إذا ما علمت أن الآلهة تغضب عليها فتصيبها بالكوارث، فتقل بذلك حوادث السرقات بالنسبة إلى أموال المعابد والأوقاف. ويجب أن نتذكر هنا القصة التي يرويها أهل الأخبار عن سرقة "كنز الكعبة" وذلك قبل بنيانها بقليل، ووضع السراق ما سرقوه عند "دويك" مولى لبني "مليح بن عمرو" من خزاعة، وقطع أهل مكة يده لذلك. وما ذكروه أيضًا من أن سارقًا سرق من مالها زمن جرهم، فانتزع المال منه1. كذلك يجب أن نتذكر أن سارقًا سرق من بيت "عائشة" شيئًا، فدعت عليه، فقال لها النبي: "لا تسبخي عنه بدعائك عليه"، أي: لا تخففي عنه إثمه الذي استحقه بالسرقة بدعائك عليه2. سرق بيت رسول الله مع أنه مسلم مؤمن بالله وبرسوله، لم يردعه عن السرقة دينه، وقد تكون الحاجة قد دفعته إلى تلك السرقة. ووصلت إلينا نصوص أخرى يفهم منها أن أشخاصًا استدانوا من أموال المعبد فلم يؤدوها له، وأن قومًا أكلوا حقوق الآلهة المفروضة عليهم من أعشار ونذور،

_ 1 ابن هشام "1/ 130"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "1/ 130". 2 تاج العروس "2/ 260"، "سبخ".

وفي بعض منها إقرار من أصحابها بأنهم أكلوا حق الآلهة، أو لم يتمكنوا من الوفاء بديونهم أو بنذورهم لها، فهي تتوسل إليها بأن تغفر لأصحابها ما اقترفوه بسبب ذلك من إثم، وأن تمن عليهم بالصحة والعافية. ويظهر أنهم أصيبوا بسوء ومرت بهم أوقات عصيبة, جعلتهم ينسبون ما حل بهم إلى فعل الآلهة، وإلى غضبها عليهم بسبب أكلهم أموالها وحقوقها، فكتبوا ما كتبوه يستغفرون ويتوبون، يرجون الصفح والعفو، وقد وعد بعضهم بالوفاء بل ما أخذه ولواه.

دفن الذنوب

دفن الذنوب: ومن عادة العرب في الجاهلية، أن أحدًا منهم إذا جنى جناية، أو نهب شيئًا, أو أكل مالًا، أو غش أحدًا في تجارة، أو أكلها بالباطل، وأراد المجني عليه العفو عما وقع، فالتعويل في الصفح فيها على الدفن. وطريقتهم فيه أن تجتمع أكابر قبيلة الذي يَدْفن الذنب بحضور رجال يثق بهم المدفون له، ويقوم منهم رجل، فيقول للمجني عليه: نريد منك الدفن لفلان، وهو مقر بما أهاجك عليه، ويعدد ذنوبه التي أُخذ بها ولا يبقي منها بقية، ويقر الذي يدفن ذلك القائل على أن هذا جملة ما نقمه على المدفون له، ثم يحفر بيده حفيرة في الأرض، ويقول: قد ألقيت في هذه الحفيرة ذنوب فلان التي نقمتها عليه، ودفنتها له دفني لهذه الحفيرة، ثم يرد تراب الحفيرة إليها حتى يدفنها بيده. ولا يطمئن خاطر المذنب منهم إلا به، إلا أنه لم تجر للعرب فيه عادة بكتابة، بل يُكتفَى بذلك الفعل بمحضر كبار الفريقين، ثم لو كانت دماء أو قتلى عفيت وعفيت بها آثار الطلائب1.

_ 1 صبح الأعشى "13/ 252".

الفصل التاسع بعد المئة: الطبقة المملوكة

الفصل التاسع بعد المئة: الطبقة المملوكة مدخل ... الفصل التاسع بعد المائة: الطبقة المملوكة وأدنى الطبقات منزلةً في المجتمع، هي الطبقة التي تحترف الحرف، وطبقة الرقيق، أي: الطبقة المملوكة, التي تساوي الحيوان في كونها مخلوقات حية مملوكة لغيرها، ليس لها في هذه الحياة حرية ولا رأي ولا اختيار. فقدت حريتها بالرق، وصارت ملك سيدها، وهي وما تنتجه ملك للمالك، ويدخل في ذلك نسلها إلى الأبد، إذ إذا منَّ المالك على عبده بفك رقبته، فيصير حرًّا، وتنتقل الحرية إلى نسله كذلك. والرقيق سلعة من سلع السوق، تباع وتشترى كما تباع وتشترى أية سلعة أخرى. وليس لها سعر ثابت معين، إنما يتوقف ثمنها على عمر تلك السلعة وعلى درجتها من الجمال وعلى نوع جنسها وعلى حذق ومهارة ودرجة فطنة وذكاء تلك السلعة الآدمية وعلى الأعمال التي تتمكن من القيام بها. ولم نعثر على نصوص جاهلية فيها أسعار الرقيق، أما أخبار أهل الأخبار، فقد ذكرت في بعض المناسبات أسعار بعض الرقيق، فساعدتنا بذلك على تكوين رأي عن سعر هذه البضاعة الحية عند ظهور الإسلام. فقد ذكرت كتب السير والتواريخ والصحابة، أن "خديجة" ملكت "زيد بن حارثة" اشتراه لها "حكيم بن حزام بن خويلد"، بسوق عكاظ بأربعمائة درهم1. وذكرت أن "أبا بكر" اشترى "بلال بن رباح" مؤذن الرسول

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "185".

وهو من الحبش، أي: من الزنوج بخمس أواقٍ، وقيل: بسبع أواقٍ، وقيل: بتسع أواقٍ، ثم أعتقه, وكان خازنًا له1, كما كان خازنًا للرسول2. وبيع "يعقوب" المدبر والمعروف بـ"القبطي"، من "نعيم النحام" بثمانمائة درهم، وقيل: بسبعمائة أو تسعمائة3.

_ 1 الاستيعاب "1/ 145"، "حاشية على الإصابة". 2 الإصابة "1/ 169"، "رقم 736". 3 إرشاد الساري "4/ 111"، الإصابة "3/ 630"، "رقم 9359".

الاتجار بالرقيق

الاتجار بالرقيق: وكان الرقيق إذا ذاك تجارة نشطة مربحة، يكسب صاحبها منها ربحا طيبا، وكان المتاجر بالرقيق يشتري تجارته من الأسواق الخارجية، ثم يأتي بسلعته إلى أسواق جزيرة العرب لبيعها فيها؛ في الأسواق الموسمية وفي الأسواق المحلية الدائمة، مثل: سوق مكة ويثرب والطائف ونجران وغيرها. ففي كل هذه الأسواق وأمثالها طلب شديد على الرقيق؛ لأنه وسيلة من وسائل تأدية الأعمال والإنتاج. وأسواق العراق وبلاد الشام من أهم الأسواق التي موَّنت جزيرة العرب بالرقيق الأبيض, أما السواحل الإفريقية، فقد مونتها بالرقيق الأسود, وهو أرخص ثمنًا من الرقيق الأبيض، وكفاءته محدودة، وقابلياته للعمل معينة، وهو لا يجاري الرقيق الأبيض في كثير من الأمور. والرقيق المملوك: بين الرق, والرق: الملك والعبودية, ورق: صار في عبودية, واسترق المملوك فرق: أدخله في الرق، والرقيق: العبد، والرق: العبودة, سُمي العبيد رقيقًا لأنهم يرقون لمالكهم ويذلون ويخضعون1, و"المملوك": العبد. وقيل الذي سبي ولم يملك أبواه، أو إذا ملك ولم يملك أبواه، فهو عبد مملكة. "وفي الحديث: أن الأشعث بن قيس خاصم أهل نجران إلى عمر في رقابهم وكان قد استعبدهم في الجاهلية، فلما أسلموا أبوا عليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين, إنا كنا عبيد مملكة ولم نكن عبيد قن". المملكة: أن يغلب عليهم فيستعبدهم

_ 1 اللسان "10/ 124"، "رقق"، تاج العروس "6/ 359"، "رق".

وهم في الأصل أحرار. والقنّ: العبد، ويقال: المشتري1. والعبد: المملوك خلاف الحر، و"العِبِديّ": جماعة العبيد الذين ولدوا في العبودية. "وفي حديث عامر بن الطفيل: أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما هذه العبدي حولك يا محمد؟ أراد فقراء أهل الصفة، وكانوا يقولون: اتبعه الأرذلون"2. و"القِن": عبد مملك هو وأبواه، أو هو الخالص العبودة، أو الذي وُلد عندك ولا تستطيع إخراجه عنك3. ومن الرقيق، رقيق تبع الأرض، فهو دائمًا بها، يُباع معها، ويُشترى بشرائها, ويقال له: "أمتى" في لغة العرب الجنوبيين. وأما "الأدم"، فيمثلون الطبقات الدنيا من عمال يشتغلون بالأرض أو بالحرف، فهم أحرار من حيث التنقل وامتهان الحرف، غير أنهم من الطبقات الدنيا، وكذلك الـ"غبر"، وهم من الفقراء المعدمين، وطبقة "مي" "أمي"، وهم الأوباش غير المثقفين4. ولعل لفظة "الأمي"، قد جاءت من هذا الأصل. ونظرًا لصغر مساحة الأرضين التي كانت تزرع في الحجاز، فإننا لا نستطيع أن نجد إقطاعًا فيه على نمط الإقطاع الذي نراه في العربية الجنوبية، ولا نجد فيه تذمرًا بين الفلاحين على نحو ما وجدناه في اليمن، كما لا نجد سادة أملاكًا في الحجاز لهم نفوذ واسع، على نحو ما نجده في اليمن من تحكم الأقيال والأذواء وبقية الملاكين في الحكم وفي المجتمع وفي شئون رقيقهم المستخدم في استغلال الأرض. وكل ما نجده أن أشخاصًا كانوا يمتلكون ينابيع أو عيونا أو آبارًا، وقد زرعوا بمائها. وزراعة تعتمد على هذا النوع من الري لا يمكن أن تكون زراعة كثيفة تدر على أصحابها ربحا طائلا؛ لذا فهي لا تحتاج إلى تشغيل عدد كبير من العبيد والأرقاء. وكانت الغزوات والحروب أهم مورد لتجارة الرقيق, وهو مورد قديم معروف. فالغالب المنتصر يأخذ من يقع في قبضته من أسرى، ويعده ملكًا له, وقد كان

_ 1 اللسان "10/ 493"، "ملك". 2 اللسان "3/ 271"، "عبد"، تاج العروس "2/ 409"، "عبد". 3 تاج العروس "9/ 314"، "قن". 4 Grohmann, S. 124

في إمكان الأسرى فك أسرهم بـ"الفداء". أما من لم يتمكن من دفع الفدية منهم، فيعد بحسب القانون ملكًا لآسره أو للدولة بحسب القوانين النافذة، فيجوز في هذه الحالة امتلاك الأسير وتشغيله في الأعمال التي يكلفه إياها سيده، ويجوز له إطلاق حريته وعده حرًّا معتق الرقبة وبيعه في أسواق النخاسة. وقد كان تجار العبيد يفدون إلى هذه الأسواق؛ ليبتاعوا منها العبيد الذين يحتاجون إليهم, ويأخذونهم معهم إلى بلادهم، ليبيعوهم مرة ثانية في أسواق النخاسة لمن هو في حاجة إليهم. والحروب مورد من موارد الرزق للمحاربين الشجعان الذين يتمكنون من أسر من يبرز لهم، والأسر خير للآسر من محارب يقتله، فقتله لا يفيده من الناحية المادية شيئا، سوى ما قد يقع في يديه من أسلابه. أما أسره، فإنه يفيده فائدة مادية، فعلى الأسير ترضيته بدفع فدية مرضية، إن أراد فك أسره وتحرير رقبته، وإلا صار عبدًا مملوكًا لآسره، له أن يمتلكه وله أن يبيعه، والغالب أنه يبيعه في حالة عجزه عن تقديم فدية، أو عجز أهله عنها، كي يتخلص بذلك آسره من أخطار هروبه منه، فيأخذه إلى الأسواق ويبيعه فيها. وقد يقع القريب أسيرًا في يدي قريب له، فيكون مملوكًا له, ولا تسقط صلة الرحم حق التملك. وللأسير فداء نفسه حتى إن كان أخًا لآسره أو عمًّا له1. ولكن الأغلب أن يتوسط الناس بين الآسر وأسيره؛ لفك أسره، وأن تتغلب عاطفة الدم على المطالبة بالمال. ومن أسباب الرق الفقر، ونجد في كتب الحديث والأخبار أن عوائل باعت أولادها من ذكور وإناث، من الفقر. وكان بعض من باع أولاده يشترط أن يكون الولاء لهم, والولاء سبب من أسباب الإرث. جاءت "بريرة" إلى "عائشة"، وكانت مكاتبة، ولم تكن قضت من مكاتبتها شيئا، وكانت كاتبتهم على تسع أواقٍ في كل سنة أوقية، فقالت: يا أم المؤمنين اشتريني فإن أهلي يبيعونني، فأعتقيني. قالت عائشة: نعم. قالت بريرة: إن أهلي لا يبيعونني حتى يشترطوا ولائي. قالت: لا حاجة لي فيك. فسمع ذلك النبي، فقال: "ما شأن بريرة؟ " فذكرت له شأنها، فقال: "اشتريها فأعتقيها, وليشترطوا ما شاءوا ".

_ 1 إرشاد الساري "4/ 315"، "باب إذا أسر أخو الرجل أو عمه, هل يفادى؟ ".

فاشترتها وأعتقتها. فقال النبي: "الولاء لمن أعتق, وإن اشترطوا مائة شرط" 1. وقد وجد الرقيق في كل مكان من جزيرة العرب، لا سيما في المستوطنات الزراعية والقرى ومواضع التجار والتعدين؛ لحاجة هذه المواضع إلى الأيدي العاملة وإلى من يدافع عنها، حتى إنهم كانوا يقذفون بعبيدهم في الحروب للدفاع عنهم. ولما أراد "مجاعة" مصالحة "خالد بن الوليد" على "الصفراء والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع وحائط من كل قرية ومزرعة"، قال "سلمة بن عمير الحنفي": "لا والله لا نقبل، نبعث إلى أهل القرى والعبيد فنقاتل ولا نقاضي خالدًا، فإن الحصون حصينة والطعام كثير، والشتاء قد حضر"2, فجعل "سلمة بن عمير" أهل القرى والعبيد في جملة من يتكل عليهم في قتال "خالد". ولما كان القتال بين "خالد" وبين "مسيلمة" واستحرَّ القتل، "قال أهل القرى: نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم. فقال لهم أهل البادية: إن أهل القرى لا يحسنون القتال، ولا يدرون ما الحرب! فسترون إذا امتزنا من أين يجيء الخلل! فامتازوا"3. ونجد في رواية أخرى أن "خالدًا" صالح "مجاعة" على "الصفراء والبيضاء والحلقة وكل حائط رضانا في كل ناحية ونصف المملوكين"4, بدلا من جملة: "ونصف السبي" التي ترد في روايات أخرى, والمملوك العبد ومن دخل في الرق. وهذا مما يدل على وجود عدد كبير من العبيد في اليمامة في ذلك العهد؛ لحاجة أهل اليمامة وهم أهل زرع في الغالب إليهم، لتشغيلهم في الأعمال الزراعية وفي التعدين والحرف. ونجد إشارة إلى الموالي في بعض كتب الرسول إلى سادات القبائل. فلما كتب الرسول عهده لقيس بن سلمة الجعفي، جاء فيه: "كتابٌ من محمد رسول الله لقيس بن سلمة بن شراحيل: إني استعملتك على مران ومواليها، وحريم ومواليها, والكلاب ومواليها"5, وفي النص على ذكر الموالي في هذا العهد دلالة على أنهم كانوا يكوّنون طبقة ظاهرة في "جعفى".

_ 1 إرشاد الساري "4/ 439". 2 الطبري "3/ 298"، "ذكر بقية خبر مسيلمة الكذاب وقومه من أهل اليمامة". 3 الطبري "3/ 292". 4 الطبري "3/ 299". 5 ابن سعد، الطبقات "1/ 325".

وأما "أهل القرى"، فهم المستوطنون الذين أغراهم عثورهم على الماء, على السكن حوله وعلى الاشتغال بالزراعة، كما استقروا حول مواضع المعادن وفي المستوطنات القديمة التي نسبت إلى "طسم وجديس". فهم طبقة خاصة من أهل اليمامة، وهم حضر اليمامة، وأصحاب العمل والثراء ولهم العبيد لحاجتهم إليهم. أما الطبقة الثانية، فأهل البادية, ممن سكن بيوت الوبر، ولم يقم في بيوت من طين, ولم يفلح ولم يزرع، بل كان رزقه على الإبل. وكان لأهل القرى حصونهم، يحتمون بها من الأعراب ومن كل من يريد بهم سوءًا، ولهم مخازنهم يخزنون بها طعامهم، ولهم آبارهم في داخل قراهم وحصونهم، فإذا حُوصِروا كان لديهم الماء، فلا يحتاجون إلى مصالحة المحاصر لهم لعطشهم ولعدم وجود الماء عندهم، وتكون حصونهم عند الحصار قد امتلأت بهم، وقد أغلقوا أبوابها، وقد احتلوا أبراجهم وسطوحها لرمي المحاصر بالسهام وبالماء الحارّ وبالحجارة، وحولها خنادق تمنع العدو من الدنو من حائط الحصن، وقد رفعوا جانب الخندق المقابل للحصن حتى يصعب على من يريد تسلقه وتسوره الوصول إلى الحصن. وبعض هذه الحصون عالية سميكة الجدران، ذكر "الهمداني" أن جدر "الهيصمية"، وهي لبني "صُهيب" من "بني قشير", يركض عليها أربعة من الخيل، وكان من الصعب أن ينال رأسها السهم. وذكر عن "القصر العادي" بالأثل، أنه قصر منيف من عهد "طسم" و"جديس"، أُقيم على حصن من طين ثلاثين ذراعًا دكّة، ثم بني الحصن. ووصف حصونًا كثيرة بعضها من حصون ما قبل الإسلام، بنيت لحماية أهلها من الغارات1. و"القصب" دون الحصون، ذكرها "الهمداني" بقوله: "وبالمذارع وغيرها قصب دون الحصون لطاف, تسمى الثنية"2. والقصبة: القصر أو جوفه، يقال: كنت في قصبة البلد والقصر والحصن، أي: جوفه. والقصب من البلد: المدينة والقرية3. وورد في خبر مصالحة "خالد بن الوليد" "بني حنيفة"، أنه صالحهم

_ 1 الصفة "159 وما بعدها". 2 الصفة "159". 3 تاج العروس "1/ 131"، "قصب".

"على الرقيق ولم يصالحهم على أنفسهم"، وأنه أخذ منهم رقيقًا، كان فيه أمة سندية سوداء، لم تكن من بني حنيفة، وإنما كانت من رقيقهم، فصارت إلى "علي بن أبي طالب"1. وفي وجود هذه السندية في اليمامة دلالة على وجود الرقيق المستورد من الهند في جزيرة العرب في الجاهلية، وقد كانت أسواق البحرين وبقية أسواق العربية الشرقية تشتري الرقيق الوارد عليها من الهند، فلا يستبعد وصول رقيق السند وغير السند من بلاد الهند إلى اليمامة وإلى أماكن أخرى من جزيرة العرب قبل الإسلام. ويعرف بائع الرقيق بالنخاس، والنخاسة حرفته، والنخاس في الأصل بياع الدواب2. وقد كان تجار الرقيق يشترون الرقيق ويزوِّجونه؛ ليجنوا نسله لهم، فيبيعوه في الأسواق. يفعلون ذلك فعل من يربي الخيل أو الإبل أو البقر، لتكثير نسله وبيعه, وبذلك يكثر مال صاحبه. وينسب المولد إلى الأرض التي ولد بها، والتي يكون سيده مقيمًا بها، وإلى قبيلة سيده أيضا، فيقال: هو من مولدي السراة، وهو من مولدي هذيل. ويعرف "العبد" المولود في الرق بالوليد, قال بعض علماء اللغة: الوليد: من يولد في الرق3, و"المولدة": الجارية المولودة بين العرب كالوليدة. وورد عربية مولدة ورجل مولد: إذا كان عربيا غير محض4, وترد لفظة "مولد" ومن "مولدي" في تراجم بعض الأشخاص. فقد كان "أبو كبشة" مولى رسول الله من مولدي "مكة"، وقيل: من مولدي أرض دوس5, وكان "أنسة" مولى الرسول من مولدي "السراة"6, وكان "أبو مويهبة" وهو من موالي الرسول كذلك، مولدًا من مولدي "مزينة"7.

_ 1 المعارف "210". 2 تاج العروس "4/ 255"، "نخس". 3 تاج العروس "2/ 540"، "ولد". 4 تاج العروس "2/ 542"، "ولد". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الإصابة "4/ 164"، الاستيعاب "4/ 164"، "حاشية على الإصابة". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 497". 7 ابن سعد، طبقات "1/ 398"، "ويقال: أبو موهبة وأبو موهوبة"، الإصابة "4/ 188"، "رقم 1105".

وتطلق لفظة "غلام" على الولد إلى أن يشب، ويطلق على الغلام الذي يكون مملوكًا، أو يخدم غيره, وقد يطلق أيضًا على الكهل1. وكان "شقران"، واسمه "صالح بن عدي", غلامًا للرسول، وكان حبشيًّا2, وكان "سفينة" غلامًا للرسول، وهو من أصل فارسي3, وكان "مدعم" غلاما للنبي، وكان من مولدي "حسمى"4, وهبه له "رفاعة بن زيد الجذامي"، ويظهر أنه كان من الزنج، إذ عرف بالأسود5. وكان "كركرة"، غلامًا للنبي6, وكان نوبيًّا، أهداه له "هوذة بن علي الحنفي اليمامي" فأعتقه7, وكان "رباح" غلاما للرسول8, وكان أسود، وكان يستأذن عليه، ثم صيره الرسول مكان "يسار" بعد قتله، فكان يقوم بلقاحه, وكان يؤذن له9. وتطلق لفظة "خادم" و"خادمة" على من يقوم بالخدمة؛ خدمة البيت، أو السفر، وكل خدمة أخرى يطلبها المالك, وفي حديث فاطمة وعلي: "اسألي أباك خادمًا تقيك حر ما أنت فيه"10. ويخدم الخدم في البيوت، يقومون بتنظيفها وبالطبخ والخبز وما شاكل ذلك من أعمال. وكان "أنس بن مالك بن النضر" الأنصاري خادمًا لرسول الله, وكان يخرج معه يخدمه، وهبته أمه للنبي11 ولم يكن عبدا بل كان حرا من الأنصار، نذرت أمه أن تجعله خادما لرسول الله، ووفت بنذرها، وكان كثير المال. ومن خدم رسول الله "سلمى" أم رافع، امرأة أبي رافع12، و"خضرة"13،

_ 1 تاج العروس "9/ 5"، "غلم". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، ابن سعد، إصابة "2/ 150"، "رقم 3916". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 498"، ابن سعد، إصابة "2/ 56"، "رقم 3335". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 498". 5 الإصابة "3/ 374"، "رقم 7858". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 498". 7 الإصابة "3/ 277"، "رقم 7402". 8 ابن سعد، طبقات "1/ 498". 9 إصابة "1/ 490"، "رقم 2565". 10 تاج العروس "8/ 269"، "خدم". 11 الإصابة "1/ 84"، "277"، ابن سعد، طبقات "1/ 497". 12 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الإصابة "4/ 326". 13 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الإصابة "4/ 277"، "رقم 344".

و"رضوى"1، و"ميمونة بنت سعد"2, و"مارية" جدة المثنى بن صالح بن مهران، مولى "عمرو بن حريث"3, و"مارية" المكناة بـ"أم الرباب"4, و"موهبة"5.

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الإصابة "4/ 295"، "رقم 421". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 497"، الإصابة "4/ 399"، "رقم 1027". 3 الاستيعاب "4/ 398"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "4/ 392"، "رقم 986". 4 الاستيعاب "4/ 399"، "حاشية"، الإصابة "4/ 391"، "رقم 985". 5 الإصابة "4/ 397"، "رقم 1025".

الموالي

الموالي: ويعد المولى في طبقة المملوكين، وللفظة "مولى" معانٍ عديدة، منها المعنى الذي نقصده منها في هذا المكان، وهو "العبد"1. ولا يشترط في المولى أن يكون أعجميا، أي: من أصل غير عربي، فيقع الولاء على العرب كذلك؛ كأن يؤسر، أو يقع في غنيمة قطاع طرق، فيكون ملكًا لهم، يبيعونه في الأسواق، أو يطلبون فداءه من إله، وإلا بيع مع الرقيق. وقد كان بمكة وسائر الأمكنة الأخرى عدد كبير من هؤلاء، ومن جملتهم "زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي"، مولى خديجة بنت خويلد، زوج الرسول، ثم مولى الرسول. فقد كان من كلب, أصابته خيل من "بني القين بن جسر"، وكان قد خرج مع أمه لتزيره أهله، فباعوه بسوق حباشة من أسواق العرب، وهو يومئذ ابن ثمانية أعوام، ثم أعتقه الرسول2. وكان "ثوبان" مولى رسول الله من العرب من أهل اليمن، وقيل: من السراة، ابتاعه النبي بالمدينة فأعتقه، ويظهر أنه مات ولم يكن يملك شيئًا3. وكان "فضالة" مولى رسول الله من أهل اليمن4. وقد يكون للعبد مالكان أو أكثر, كأن يقع في أسر رجلين أو أكثر،

_ 1 تاج العروس "10/ 399"، "ولى". 2 الروض الأنف "1/ 164". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 498"، الإصابة "1/ 205"، "رقم 967". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 498"، الإصابة "3/ 202".

فيصير عبدًا لهما أو لهم, أو أن يتشارك رجلان أو أكثر في شراء عبد، فيكون مملوكًا لمشتريه, وكان بعضهم يتشاركون في شراء العبيد. وقد يبيع بعضهم حصصهم من العبيد لشركائهم أو لغيرهم، وقد يمنُّ بعض منهم على عبده أو عبيده؛ فيتنازل عن حقه فيه أو فيهم، ويبقى العبد مملوكا للشريك الآخر أو لبقية الشركاء، لحقهم فيه. وكان منهم من يرضى بعتقه على أن يدبر له ما بذمته من حق1. ومن حق سيد العبد بيعه متى شاء، أو إهداؤه إلى من يريد. فهو ملكه، ومن حق المالك أن يفعل بما يملكه ما يشاء ويريد2. وقد تضخم عدد الموالي بين أهل الحضر وبين أهل المدر، حتى صار لهم شأن يذكر، ولما ظهر الإسلام كان الموالي من العوامل المؤثرة في التوازن السياسي عند الحضر وعند القبائل، حتى ذكروا في العقود لكثرة عددهم وللحقوق المترتبة لسادتهم عليهم، فلما عقد الرسول عقده مع وفد "جعفى" من قبائل اليمن، واستعمل الرسول "قيس بن سلمة" من بني "مرَّان بن جعفى"، كتب له كتابا فيه: "إني استعملتك على مران ومواليها، وحريم ومواليها، والكلاب ومواليها"3. و"الكلاب": أود، وزبيد، وجزء سعد العشيرة، وزيد الله بن سعد، وعائذ الله بن سعد، وبنو صلاءة من بني الحارث بن كعب. ولما عقد الرسول عهده مع "وفد همدان"، وكتب لقيس بن مالك بن سعد بن لؤي الأرجي كتابا، ولاه فيه على قومه، جاء فيه أنه ولاه "على قومه همدان: أحمورها وغربها وخلائطها ومواليها أن يسمعوا له ويطيعوا"4. وذكر الموالي مع همدان والأحمور والغرب والخلائط يشير بالطبع إلى أهميتهم وإلى كثرة عددهم في ذلك العهد. والأحمور: هم قُدم، وآل ذي مران، وآل ذي لعوة، وأذواء همدان. والغرب: أرحب، ونِهم، وشاكر، ووادعة، ويام، ومرهبة، ودالان، وخارف، وعذر، وحجور5.

_ 1 إرشاد الساري "4/ 303". 2 الإصابة "3/ 374"، "رقم 7858". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 325". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 341". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 341".

ولما كتب الرسول إلى "ربيعة بن ذي مرحب" الحضرمي وآله، يدعوه إلى الإسلام، أشار إلى "رقيقهم" في الكتاب، مما يدل على أن عددهم كان كبيرًا1.

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 266".

بيع الولاء

بيع الولاء: وقد نهى الإسلام عن بيع الولاء وعن هبته. وهو أنه إذا مات "المُعْتَق" ورثه شرعًا "مُعْتِقه" حسب قوانين أهل الجاهلية، وكانت العرب تبيعه وتهبه مع أنه كالنسب فلا يزول بالإزالة. وقد كانوا في الجاهلية ينقلون الولاء بالبيع وغيره، فإذا أعتق رجل عبده، صار له حق ولائه، وله ولورثته حق بيع ذلك الولاء، على نحو ما كان لهم من حق الحصول على إرثه، فنهى الشارع عن ذلك1.

_ 1زاد المسلم "5/ 503 وما بعدها".

رزق المملوك

رزق المملوك: وما يحصل عليه العبد من عمل يديه، يكون لسيده؛ لأنه ملك يمينه، مملوك الرقبة. وإذا شهد غزوًا أو حربًا فلا يسهم له بسهم في الغنائم؛ لكونه مملوكا1, وإذا حارب سيده حارب معه، وإذا أمر بالاشتراك في غزو أو حرب وجبت عليه الطاعة وبذل النفس في القتال، دون أن يصيب من غنائمه أي شيء. وإذا عهد السيد إلى مملوكه القيام بتجارة، فإن التجارة وأرباحها تكون لسيد العبد, وكان الرسول قد أعطى "العباس" عمه عشرين غلامًا، تجروا بماله2. وكان لـ"تميم الداري" خمسة غلمان يتاجرون بالخمر؛ اسم أحدهم "فتحا"، وكان من بيت المقدس، فلما رآهم الرسول مع "تميم" قال له: "بعني غلمانك لأعتقهم"، فقال له تميم: قد أعتقتهم يا رسول الله. و"فتحا" هو الذي

_ 1 الإصابة "2/ 150"، "رقم 3916". 2 المقريزي، إمتاع الأسماع "1/ 61".

أسرج مسجد النبي, وكان يسرج بسعف النخل. فقدم "فتحا" بالقناديل والزيت والحبال وأسرج المسجد، فسماه الرسول "سراجًا"1. وإذا أجاز مالك عبد لعبده الاشتغال بالتجارة، صار من حقه الاتجار حسب ما اتفق عليه. ويقال للعبد المأذون له في التجارة: "المجيز"2. وقد يقرر السيد ضريبة يفرضها على عبده، يدفعها إليه في كل يوم، وعلى العبد أداؤها له3, فيشتغل العبد في السوق أو يقوم بأي عمل يتمكن منه لأداء ما فرضه سيده عليه. ونظرًا إلى عدم تمكن بعضهم من الوفاء بما فرض عليه، فقد عمد بعضهم إلى السرقة ليسد مبلغ ما فرض عليه. وفرض بعض منهم على إمائه أن يزنين؛ ليأتين إليهم بما فرضوه عليهن من ضريبة، فقد ذكر علماء التفسير أن "عبد الله بن أبي بن سلول" كان يكره فتياته على البغاء، ليأخذ أجورهن. وروي عن "عبد الله بن عباس" أنه قال: "كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنى, يأخذون أجورهن، فقال الله: لا تكرهوهن على الزنى من أجل المنالة في الدنيا"4. وفي منع ذلك وتحريمه نزل في القرآن الكريم: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} 5. وتكون المسبية ملكًا لسابيها، له أن يصيبها متى شاء، وله أن يبقيها عنده حتى تموت أو يموت هو، فتنتقل إرثًا لورثته، وله أن يبيعها متى أراد. وكان منهم من يصيب المسبيات، غير أنه يعزل، فلا ينزل فيها، حتى لا يحصل لها الولد المانع من البيع, وذلك لحبهم للأثمان6. ومن الحرف التي شاعت بين الرقيق الحجامة، وقد كان سادتهم يأخذون أجورهم منها. ومن الحجامين الذين ورد اسمهم في الكتب "سالم الحجام"، وقد حجم الرسول وشرب دم المحجمة التي فيها دم الرسول تبركًا به7.

_ 1 الإصابة "2/ 17"، "3103". 2 تاج العروس "4/ 21"، "جوز". 3 إرشاد الساري "4/ 139". 4 تفسير الطبري "18/ 103 وما بعدها"، الاستيعاب "4/ 401"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "4/ 394"، "رقم 1003". 5 سورة النور، الرقم 24، الآية 23، أسباب النزول "ص245 وما بعدها". 6 إرشاد الساري "4/ 110". 7 الإصابة "2/ 6"، "رقم 2051".

العتق

العتق: العتق خلاف الرق، وهو الحرية, يقال: عتق العبد، أي: خرج عن الرق, ويقال: هو مولى عتاقة، ومولى عتيق، إذا كان عبدًا فعتق، فصار مولى لسيده، تربطه به رابطة الولاء، فهو في حمايته ورعايته1. ولما فتح الرسول مكة عفا عن أهلها وأطلقهم فلم يسترقهم، فعرفوا بالطلقاء. "وفي الحديث: الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة, وفي رواية: بعضهم أولى ببعض. وفي حديث حنين، خرج ومعه الطلقاء، وهم الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، واحدهم طليق"2. والطليق: الأسير الذي أُطلق إساره وخُلِّيَ سبيله؛ لمنة أراد الآسر أن يمن بها على أسيره3. وقد ينجح العبد المعتق في حياته بعد نيله حريته، فيصير من ملاك العبيد. ومن بين الصحابة جماعة كانت من الرقيق في الجاهلية، فلما أسلمت عتقت وتحسن حالها فاشترت لها الرقيق.

المكاتبة

المكاتبة: فالعتق هو فك الرقبة، وعودة الحرية إلى العبد. ومن أبواب فك الرقبة وتحريرها من العبودية المكاتبة، وهو أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على كذا منجمًا, إذا أديته فأنت حر، ويبين عدد النجوم، وقسط كل نجم, فإذا أدى العبد ما عليه، صار حرًّا, وقد عرف ذلك في الإسلام أيضا. وقد كان "سيرين" والد "محمد بن سيرين" المشهور، من سبي "عين التمر" فاشتراه "أنس بن مالك" الأنصاري، وكان كثير المال، فأراد "سيرين" فك نفسه من العبودية، وسأل أنسًا المكاتبة, فأبى، فانطلق "سيرين" إلى "عمر"، فأمره أن يكاتبه، وتلا عليه: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} . وذكر في رواية أخرى، أن أنسًا كاتبه على عشرين ألف درهم، فأتاه بكتابته، فأبى أن

_ 1 تاج العروس "7/ 3"، "عتق". 2 تاج العروس "7/ 4"، "عتق". 3 تاج العروس "6/ 425"، "طلق".

يقبلها منه إلا نجومًا، فأتى "عمر" فذكر ذلك له، فقال: أراد أنس الميراث، وكتب إلى أنس: أن اقبلها من الرجل، فقبلها. وورد في صحيفة المكاتبة: هذا ما كاتب أنس غلامه سيرين؛ كاتبه على كذا وكذا ألفًا، وعلى غلامين يعملان مثل عمله1. وكاتب "عبد الله بن عمر" غلامًا له يقال له: شرف, على خمسة وثلاثين ألف درهم، فوضع من آخر كتابته خمسة آلاف2. وذكر "الدميري" أن "المكاتبة" لفظة إسلامية3. ولكني أشك في صحة هذا الرأي؛ لأن التكاتب كان معروفا عند الجاهليين، وهو عقد من العقود، يؤدي العبد بموجبه ما فارقه عليه من أداء المال، فإذا أداه استحق العتق، وإن عجز عن أداء نجم يحل عليه، فلسيده تعجيزه4. ودليل ذلك ما ورد عن المكاتبة في القرآن الكريم من قوله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} 5. فنسق الآية يدل على وجود التكاتب عند الجاهليين، وإذا وجد، فلا يستبعد استعمالهم لفظة "المكاتبة" قبل الإسلام. أما "التنجيم"، فمن "نجم المال": إذا أداه نجومًا، أي: يؤديه عند انقضاء كل شهر منها نجمًا، حتى إنهم كانوا يؤدون الديات نجوما. قال زهير في ديات جعلت نجومًا على العاقلة: ينجمها قوم لقوم غرامة ... ولم يهريقوا بينهم ملء محجم "وفي حديث سعد: والله لا أزيدك على أربعة آلاف منجمة. تنجيم الدين: هو أن يقدر عطاؤه في أوقات معلومة متتابعة مشاهرة أو مساناة, ومنه تنجيم المكاتب"6. ويظهر من ذلك أنهم كانوا في الجاهلية ينجمون حق العتق، ويكتبون بذلك كتابًا.

_ 1 إرشاد الساري "4/ 329"، "باب المكاتب"، تفسير الطبري "18/ 98 وما بعدها". 2 تفسير الطبري "18/ 101 وما بعدها". 3 تاج العروس "1/ 445"، "كتب". 4 تاج العروس "1/ 445"، "كتب". 5 سورة النور، الرقم 24، الآية 33، تفسير الطبري "18/ 98 وما بعدها". 6 تاج العروس "9/ 72"، "نجم".

وكان منهم من يوصي بفك رقبة عبد له، أو أمة بعد وفاته. وللفقهاء آراء في بيع "المدبر"، وهو العبد الذي علق سيده عتقه على الموت1.

_ 1 إرشاد الساري "4/ 313".

سوء حالة العبيد

سوء حالة العبيد: ونظرًا إلى ما كان يعانيه الرقيق من معاملة غليظة شديدة قاسية، ومن قسوة ينزلها بهم أصحابهم عند صدور أي شيء منهم لا يرضى عنه أصحابهم، فقد فر كثير منهم من ساداتهم، وخرجوا على أمرهم، فأبقوا مع علمهم بما في الإباق من عقوبة صارمة يدخل فيها قتل الآبق. وانضم بعض منهم إلى الخارجين على عرف قبيلتهم؛ من الضلال والصعاليك والخلعاء وألفوا عصابات أخذت تعتدي على المارة وتغزو العشائر، فتصيب منها مغنمًا. وقد تكتل قوم من كنانة ومزينة والحكم القارة ومن اتبعهم من العبيد في جبل تهامة، وأخذوا يغتصبون المارة، وقد كتب إليهم الرسول، أنهم إن آمنوا بالله وبرسوله وعملوا بسنة الإسلام، فعبدهم حر ومولاهم محمد, ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم1. ويظهر أنهم كانوا قد هددوا الأمن في ذلك الوقت، وقطعوا السبيل؛ مما أدى بالرسول إلى الكتابة إليهم بالدعوة إلى الإسلام وبترك الفتنة. وقد فر بعض الرقيق من ساداتهم، ودخلوا في الإسلام، وقد خاف سادات قريش والطائف من هذه الظاهرة؛ لما قد تتركه من أثر عليهم وعلى أوضاعهم الاقتصادية. والعبيد ركن قويم في نظمهم الاقتصادية، فحسنوا بعض الشيء من أحوال رقيقهم، وشددوا على من شعروا أن في نفسه ميلًا إلى الإسلام. وقد أمر الإسلام بالعطف على الرقيق, ففي القرآن: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} 2.

_ 1 ابن سعد "1/ 278". 2 النساء، الرقم 4، الآية 36، تفسير الطبري "5/ 50".

وفي كتب الحديث أحاديث في الحث على إنصاف المماليك، أي: الرقيق؛ منها حديثه: "إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم"1, وحث في أحاديث أخرى على إنصاف الجواري والإحسان إليهن، وعتقهن وتزويجهن إن أمكن2. كما حث العبيد على خدمة سادتهم بإخلاص, ونهى سادة الإماء من إكراههن على الزنى؛ لأخذ أجورهن3.

_ 1 إرشاد الساري "4/ 320 وما بعدها". 2 المصدر نفسه. 3 المصدر نفسه كذلك.

تعرب العبيد والموالي

تعرب العبيد والموالي: وقد أشار أهل الأخبار إلى أقوام من العبيد، تعربوا واستقروا فصاروا من العرب. كما أشار الكَتَبَة اليونان واللاتين إلى أقوام من الأعاجم نزلت سواحل جزيرة العرب، لأغراض تجارية وعسكرية، فأقامت بها واستقرت، وتعربت ونسيت أصلها، واتخذت نسبًا عربيًّا. وقد عثر الباحثون والمنقبون المحدثون على بقايا هياكل بشرية، وبقايا عظام بشر، في مواضع متعددة من السواحل والبواطن، تدل على أن أصحابها من الأعاجم ومن الإفريقيين الوافدين على جزيرة العرب، وقد أقاموا واستقروا بها وماتوا فيها, كما سبق أن تحدثت عن ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب. ومن المتعربة قوم عرفوا بـ"الصعافقة". قال أهل الأخبار: إن آباءهم كانوا عبيدًا استعربوا, أو إنهم كانوا قومًا من بقايا الأمم الخالية ضلت أنسابهم. وقد ذكروا أن مساكنهم كانت في اليمامة في موضع يقال له: "صعفوق"، به قناة يجري منها نهر كبير، أو أنهم بالحجاز. وقيل: أن "الصعافقة" خول لبني مروان، أنزلهم اليمامة، ومروان بن أبي حفصة منهم1.

_ 1 تاج العروس "6/ 407"، "الصعفوق".

السخرة

السخرة: السخرة: تكليف شخص وقهره على ما لا يريده, وسخره تسخيرًا: أذله وكلفه ما لا يريد وقهره وأجبره على عمل بلا أجرة ولا ثمن1. وقد عرفت السخرة في العربية الجنوبية، إذ كانت تلك الحكومات تقوم بإنشاء الأبنية العامة والطرق والجسور والسدود, وبتشييد القصور على طريق "السخرة", وهي طريقة كانت معروفة في كل أنحاء العالم في ذلك الوقت، وكانت معروفة إلى عهد قريب؛ وذلك بأن تطلب إلى الموظفين وإلى المدن والقرى وسادات القبائل تقديم ما يتمكنون من تقديمه من أتباعهم لتشغيلهم قسرًا بأعمال تريد القيام بها, فيقدم كل منهم ما يتمكن من جمعه، ويساقون سوقًا إلى مكان العمل للعمل هناك حتى ينتهي العمل. وتتكلف الحكومة الإنفاق على العمال الذين تكلفهم القيام بالأعمال العامة، تدفع إليهم عطاياهم، وتعرف بـ"شبو"، وتعني "الرزق" عينًا، وذلك بأن تقدم إليهم الطعام اللازم لعيشهم في مقابل اشتغالهم بتلك الأعمال، كما يقوم المعبد بتقديم ذلك إذا كان المعبد هو صاحب العمل2. وترد لفظة "أشبى" بمعنى أعطى في عربية القرآن الكريم3، وهو معنى قريب من معنى لفظة "شبو" في لغة المسند. والسخرة عمل مرهق، يقوم به المسخر المسكين دون مقابل، فهو لا يحصل وهو في موقع العمل حتى على أكل بطنه إلا بشق الأنفس، من الإهمال وسرقة القوت وسوء الاستعمال، ثم إنه قد يحبس أياما وأشهرا وهو في هذا الوضع، لا يدفع له شيء ليستعين به في تمشية أموره، أو في إعالة عائلته البعيدة عنه، إذا كان متزوجا، أو معيلا لأهله، وطالما تعرض للمرض، ومنهم من كان يموت من الإرهاق والجوع؛ ولذلك كان الهرب من السخرة شيئا مألوفا، على الرغم من تشديد الحراسة على معسكرات العمل ومواضع تجمع المسخرين، وعلى الرغم من العقوبات الشديدة التي تفرض على الهارب في حالة القبض عليه.

_ 1 تاج العروس "3/ 260"، "سخر". 2 Glaser 1150, Halevy 192, 199 3 القاموس "4/ 316"، تاج العروس "10/ 192"، "شبا".

وكانت الحكومات تسرف في استخدام السخرة وتشتطّ، فتنجز بالسخرة كثيرًا من الأعمال التي هي من صميم عملها وواجبها, ولن يتأثر بالسخرة إلا الطبقات الفقيرة التي لا تملك دفاعًا عن نفسها، ولا تجد من يساعدها ويعاونها. أما سادات القبائل ووجوه البلد والأشراف وأصحاب الأرض، فلا تقع السخرة عليهم، وإنما يرسلون ما يطلب منهم من أتباعهم للقيام بالأعمال المطلوبة، وقد يسخرونهم لأداء أعمال خاصة بهم، لا صلة لها ولا علاقة بالأعمال العامة وبالنفع العام. ثم إن مفهوم القيام بالأعمال العامة وبالاشتغال بمشاريع النفع العام، لا يطبق لدى هذه الحكومات ولدى بعض الحكومات حتى في هذه الأيام إلا على هذه الطبقات الفقيرة، فعليها وحدها القيام بهذه الواجبات. ومثل هذه النظرة إلى السواد الأعظم من الأمة، جعل هذا السواد يكره حكوماته، ويكره الحاكمين، ويتهرب من الخدمة ما أمكنه ذلك؛ لأنه لا يشعر بحكومة تعطف عليه، ولا بحاكمين ينظرون إلى مصالحه، وإنما هم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم هم الناس، وأما أبناء الشعب فإنما خُلِقُوا لخدمتهم ليس غير. ولما قام أبرهة بإصلاح سد "مأرب"، طلب من الأقيال وسادات القبائل وأصحاب الأرض مده بالمسخرين، فأرسلوا إليه ما طلب منهم، واشتغلوا في إصلاح السد وفي العمل على رتق ما صدع منه. فقاموا بنقل الحجارة الصلدة من مواضع مقالع الحجر، وعملوا مسخرين في أعمال البناء، ولم يدفع لهم شيئًا سوى الأكل، وقد بقوا هناك حتى تم العمل، فسمح لهم بالعودة إلى ديارهم. والمفروض في أخذ المسخرين من المدن والقرى والقبائل، أن يكون ذلك متناسبًا مع عدد السكان، وعدد رجال القبيلة. فالمدينة الكبيرة تقدم عددًا يزيد على ما تقدمه المدينة الصغيرة أو القرية, والقبيلة الكبيرة تقدم عددًا يزيد على عدد ما تقدمه القبيلة الصغيرة، غير أن ذلك لا يطبق بصورة عملية، فالعادة أن تفرض الأعمال الشاقة على الضعفاء والفقراء، ورُبَّ قرية تقدم من المسخرين ما يزيد على ما تقدمه مدينة كبيرة. وهكذا الحال بالنسبة إلى القبائل الضعيفة والقبائل القوية.

وقد كان الرقيق في أوائل من استجاب إلى الإسلام؛ تخلصًا من رق العبودية، كان العبد إذا استطاع التخلص من سيده ودخل في الإسلام, صار حرًّا طليقًا؛ وهذا مما أغضب سادة قريش وغيرهم من الملَّاك أصحاب العبيد، وجعلهم يقولون: إن محمدًا قد أفسد علينا عبيدنا. ولما حاصر الرسول "الطائف" نزل إليه رقيق من رقيق أهل الطائف، فأسلموا وأعتقوا1، وجعل الرسول ولاء هؤلاء العبيد لسادتهم حين أسلموا2.

_ 1 البلاذري، فتوح "67". 2 الإصابة "2/ 454"، "رقم 5445".

الفصل العاشر بعد المئة: الاتاوة والمكس والاعشار

الفصل العاشر بعد المئة: الاتاوة والمكس والاعشار مدخل ... الفصل العاشر بعد المائة: الإتاوة والمكس والأعشار والإتاوة: الرشوة والعطاء والخراج، يقال: أدى إتاوة أرضه أي: خراجها، وضربت عليهم الإتاوة، أي: الجباية1. وهي ما كان يفرضه الملوك وأصحاب الأرض وسادات القبائل من حقوق على رعاياهم وأتباعهم، ويجبرونهم على أدائها لهم. وهي بالطبع جباية مكروهة، كان الناس يتهربون منها كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ويتهربون من رؤية وجوه عمالها الذين كانوا يكرهونهم كرهًا شديدًا لاشتطاطهم عليهم، وتعسفهم بهم، وأخذهم أكثر مما يجب أخذه في أغلب الأحوال؛ ليأكلوا منها ما يتمكنون من أكله، فقد كانت الجباية من موارد الرزق الحرام والكسب غير المشروع للجباة. ويقال للخراج والإتاوات: "الطعم"، يقال: فلان تجبى له الطعم، أي: الخراج والإتاوات, ويقال: جعل السلطان ناحية كذا طعمة لفلان، أي: مأكلة له, وفسر بعضهم الطعمة بشبه الرزق وبالمأكلة2. وفي هذا التفسير تفسير لوجهة نظر الجاهليين والإسلاميين بالنسبة إلى الإتاوة وكل أنواع الجباية، كانوا يرون أنها مأكلة للحكام ورزقًا يأخذونه من أتباعهم؛ ليعتاشوا به مع ما يعتاشون عليه من أرزاق، مثل الاتجار في السوق واستثمار الملك، بينما لا ينال الأتباع منه أي شيء، إلا بتوسل واستعطاف ودعاء ومدح وتمرغ على أعتاب أبواب الحكام.

_ 1 تاج العروس "10/ 7"، "أتوا". 2 تاج العروس "8/ 378"، "طعم".

و"المكس" هو ما يأخذه الماكس من جباية, من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، أو الدراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق. والمكوس: هي الضرائب التي كان يأخذها العشارون، والمكس: النقص، وبين المكس والنقص صلة وعلاقة، فتأدية المكس هو نقص يصيب مال المؤدي للمكس. وقد أشير إليه في شعر "جابر بن حني" التغلبي، الذي يقول: أفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم1 ومعنى هذا أن الناس كانوا يدفعون إتاوة في أسواق العراق، يدفعون عن كل ما يبيعونه مكسًا هو درهم. وهو مكس يزيد بزيادة ثمن البيع، فإذا كان ثمن المباع كثيرًا، زاد مكسه ليتناسب مع الثمن. وتقابل لفظة "مكس" لفظة "Telos" في اليونانية، و"Toll" في الإنجليزية, ويقال للموضع الذي تمكس البضائع والسلع فيه: Telonion""2. ويجب أن نميز بين هذه الضريبة وبين لفظة "Tribute" التي هي في مقابل "Mas"؛ لأن المكس ضريبة تؤخذ عن السلع وعن حق مساهمة الحكومة في الأرباح، بينما الثانية ضريبة إجبارية تؤخذ من الناس3, وقد ترجمت لفظة "Tribute" بـ"جزية" وجباية وإتاوة في اللغة العربية, يقال: جبى الخراج جباية. وورد في شعر للجعدي: دنانير يجبيها العباد وغلة ... على الأزد من جاه امرئ قد تمهلا4 ونجد علماء اللغة يجعلون لفظة "الماكس" في مرادف لفظة "العشار", وعرفوا المكس، بأنه ما يأخذه العشار, وهو ماكس، فالعشار هو الماكس. وورد في الحديث: "لا يدخل صاحب مكس الجنة", قيل: صاحب مكس هو العشار5. والعشار هو قابض العشر، والعشر أخذ واحد من عشرة. فالماكس إذن هو الجابي القابض للمكس، وهو العشر، أي: عشر ما يباع، وقد غلبت عليه

_ 1 تاج العروس "4/ 249"، "مكس"، المخصص "12/ 253". 2 Hastings, p. 948 3 Hastings, p. 948 4 تاج العروس "10/ 65 وما بعدها"، "جبى". 5 تاج العروس "4/ 249"، "مكس".

لفظة "العشار" لأنه يأخذ العشر، عشر أموال الناس، ولأنه يعشرهم. وقد كان "العشر" من أهم سمات الجاهلية ومعالمها، "وفي الحديث: "إن لقيتم عاشرًا فاقتلوه"، أي: إن وجدتم من يأخذ العشر على ما كان يأخذه أهل الجاهلية مقيمًا على دينه، فاقتلوه؛ لكفره أو لاستحلاله لذلك إن كان مسلمًا وأخذه مستحلًّا وتاركًا فرض الله، وهو ربع العشر"1. فالمكس، إذن هي الضرائب التي تؤخذ عن المبيعات والمشتريات، أي: عن التجارة، يجبيها جباة المكس، أي: العشارون من الأسواق ومن المواضع المخصصة لمرور التجار بها على الحدود، ولا صلة لهذا العمل بعمل جباية الجزية والخراج. ولفظة "الإتاوة" و"العشر" و"المكس" والجزية من الألفاظ التي لا يشك في كونها كانت معروفة عند الجاهليين. وقد أشرت إلى ورود لفظة "الإتاوة" في شعر "جابر بن حني التغلبي", ووردت في شعر للجعدي, هو: موالي حلف لا موالي قرابة ... ولكن قطينًا يسألون الأتاويا أي: هم خدم يسالون الخراج2. وكانت الكلمة على ما يظهر عامة، بمعنى: ضريبة من غير تعيين. وأما "الخراج"، فللعلماء في أصلها ومعناها كلام. وقد وردت لفظة "خرجًا" في القرآن الكريم؛ وردت في سورة الكهف: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} 3, وقد قرأها بعض المفسرين: "خراجًا"، وذهبوا إلى أنها بمعنى الأجر، وقال بعض منهم: إن الخراج عند العرب هو الغلة4. ووردت في سورة "المؤمنون": {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 5, وفسر العلماء اللفظتين بمعنى الأجر6.

_ 1 تاج العروس "3/ 400"، "عشر". 2 تاج العروس "1/ 7"، "أتو". 3 الكهف، الرقم 18، الآية 94. 4 تفسير الطبري "16/ 19". 5 المؤمنون، الرقم 23، الآية 72. 6 تفسير الطبري "18/ 33"، روح المعاني "18/ 48".

وذهب علماء اللغة إلى أن الخرج بمعنى الإتاوة تؤخذ من أموال الناس كالخراج، وهما واحد لشيء يخرجه القوم في السنة من مالهم بقدر معلوم, وقال بعضهم: الخراج الفيء والخرج الضريبة والجزية. وذكروا أن الخراج الذي وظفه "عمر" على السواد وأرض الفيء، فإن معناه الغلة أيضًا؛ لأنه أمر بمساحة السواد ودفعها إلى الفلاحين الذين كانوا فيه على غلة يؤدونها كل سنة، ولذلك سمي خراجًا، ثم قيل بعد ذلك للبلاد التي فتحت صلحًا. ووظف ما صُولحوا عليه على أراضيهم خراجية؛ لأن تلك الوظيفة أشبهت الخراج الذي ألزم به الفلاحون وهو الغلة, لأن جملة معنى الخراج الغلة. وقيل للجزية التي ضربت على رقاب أهل الذمة خراج؛ لأنه كالغلة الواجبة عليهم، وفي الأساس: ويقال للجزية الخراج، فيقال: أدى خراج أرضه والذمي خراج رأسه, وعن ابن الأعرابي: الخرج على الرءوس والخراج على الأرضين. وقال الرافعي: أصل الخراج ما يضربه السيد على عبده ضريبة يؤديها إليه، فيسمى الحاصل منه خراجًا, وقال القاضي: الخراج اسم ما يخرج من الأرض, ثم استعمل في منافع الأملاك كريع الأرضين وغلة العبيد والحيوانات1. والخراج، هو "طسقا" "Tasqa" في التلمود، و"Maddata" "مدَّاثا" في الموارد السريانية النصرانية2, ولفظة "طسقا"، هي من الألفاظ الآرمية الأصل. وتعرف ضريبة الأرض بـ"Halk" و"Halak" وبـ"Minda" "ميندا" وبـ"Midda" في لغة بني إرم, ووردت باسم "طسقا" وبـ"مناثا ذ - ملكا" "Mnata d-Malka" في التلمود، وباسم "طسقا" و"مدثا" "Maddata" في السريانية3. ولفظة "طسقا" معروفة في العربية كذلك، فهي عندهم "الطسق"، وتؤدي المعنى ذاته المفهوم منها في التلمود. ذكر علماء العربية أن الطسق، ما يوضع من الخراج المقرر على الجربان, وكتب "عمر" إلى "عثمان بن حنيف" في رجلين من أهل المدينة أسلما: ارفع الجزية عن رءوسهما وخذ الطسق من أرضيهما, وذكر بعض علماء اللغة أنها لفظة معربة أو مولدة4. فهي ضريبة الأرض, وتقابل

_ 1 تاج العروس "2/ 28"، "خرج". 2 Die Araber, I, S. 632, G. Widengren, The Status of the Jews in the Sassanian Empire, p. 149 3 Die Arabe, I, S. 632, Brockelmann, Lexi. Syriac, 374 4 تاج العروس "6/ 423"، "الطسق".

"فورس" "Phoros" في اللغة اليونانية, وتؤخذ عينًا في الغالب، أي: غلة1. وأما الجزية، فقد ذكر العلماء أنها خراج الأرض، وما يؤخذ من الذمي. ورد في الحديث: "ليس على مسلم جزية"، وورد: "من أخذ أرضًا بجزيتها"2، وورد في القرآن الكريم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 3. وقد ذكر المفسرون أن الجزية: الخراج عن الرقاب4, ويظهر من الحديث ومن كتب الفقه، أن المراد بها ضريبة الرأس. ولما كتب الرسول إلى "المنذر بن ساوى"، بشأن أتباعه، قال له: "ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية"5, وقد أمر الرسول عماله بأخذ الجزية من أهل الكتاب، ممن يريد البقاء في دينه. فهي إذن بهذا المعنى, ضريبة تؤخذ من غير المسلمين، في مقابل الزكاة التي تؤخذ من المسلمين. وضريبة الرءوس معروفة، وهي تؤخذ من المغلوب على أمره، ولا سيما بعد الحروب, فتفرض على المغلوب ضريبة على رأس كل إنسان بالغ؛ ولذلك أنفت تغلب من أدائها، ولم تقبل بتأديتها؛ لأن في أدائها مذلة وصغارًا. وهي ضريبة دائمة، تلازم من فرضت عليه ما دام في حكم من فرضها، وهي تختلف عن الفدية التي تفرض على الأسر لفك أسره، وعن المبلغ الجماعي الذي يفرض على المغلوب في مقابل التصالح معه، وهو ما يعبر عنه في العربية بـ"وصالحهم على كذا وكذا", يؤدونه جزاء العفو عنهم. وعبر عن الجزية بلفظة "Keraga" في التلمود, وبـKesef Rexa" "Kesef Resha"، أي: ضريبة الرأس في الموارد النصرانية السريانية، وبـ"Belo" "بلو" في لغة بني إرم وبـ""kesap Gulgulta في التلمود أيضا6. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن لفظة "الجزية" و"جزية" من أصل سرياني هو "Gzita"، وذهب بعض آخر إلى أنها

_ 1 Hastings, p. 948 2 تاج العروس "10/ 73"، "جزى". 3 التوبة، الرقم 9، الآية 29. 4 تفسير الطبري "10/ 77". 5 ابن سعد، الطبقات "1/ 263". 6 Die Araber, I, S. 632, Die Aramaische Sprache, I, 149

من أصل فارسي هو "Gazitak" و"كزيد" بمعنى ضريبة يدفعها الذمي، أي: الذي أمنته الحكومة على حياته وماله وعرضه, وذهب بعض آخر إلى أنها من أصل عربي1. وتقابل هذه الضريبة ما يقال له: "Kensos" في اليونانية، وهي ضريبة كان يأخذها الرومان من اليونان عن رءوسهم، وهي لا تدفع غلة أو سلعة وإنما تؤخذ منهم نقودًا، أي: بالعملة الرومانية2. وقد كانت الحكومات العربية الجنوبية تتقاضى العشر أيضًا عن البيوع وتوسعت حكومة "قتبان" في العشر، فجعلته إتاوة كل وارد أو ربح يصيبه الرجل، سواء أكان ذلك من البيع والشراء أم من الإجارة والإرث والزرع وكل عمل آخر3. ويظهر أن العشر، قد أخذ عن الزرع أيضًا في حكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت", وأيضًا في حكم الحبش على اليمن. وقد وردت لفظة "عشر" و"عشورت" في كتابات المسند، وتعني العشر الذي نبحث عنه4. وأشار "بلينيوس" إلى العشر، فذكر أن العرب الجنوبيين كانوا يعشرون اللبان وما تنتجه بلادهم من بخور، يعشرهم رجال الدين باسم الإله "سن" "سين"5. ومعنى هذا أن المعبد كان يعشر المتمكنين من أصحاب الحاصل، فيأخذ منهم عشر غلتهم من هذه المواد. وأعتقد أنهم كانوا يعشرون كل مال يدخل إليهم, ولا يقتصر هذا التعشير على المواد المذكورة، أي: على الغلة الزراعية، بل يشمل ذلك كل ربح مهما كان نوعه، جاء عن الزراعة أو التجارة, وهذا التعشير لكل شيء، كان متبعًا عند غير العرب كذلك6. ونجد "صموئيل" يهدد شعبه بأنه سيعشر زرعه وكرومه وغنمه، ويأخذ جواريه وعبيده وشبانه وبناته، فيجعلهم عبيدًا له، يسخرهم كالحمير إن لم يستجيبوا له، ويسمعوا لما طلبه منهم7.

_ 1 Die Araber, I, s. 633, C. Brockelmann, Lexi. Syriac, 1928, 111, G 2 Hastings, p. 948. غرائب اللغة 223. 3 راجع الفقرة الخامسة من النص الموسوم بـ: Glaser 1601. Rhodokanakis, Katab. Texte, I, S. 7 4 Rhodokanakis, Stud. Lexi., II, S., 58 5 Pliny XII, 65. 6 صموئيل الأول، الإصحاح الثامن، الآية 11-17، Hastings, p. 944 7 صموئيل الأول، الإصحاح الثامن، الآية 1 وما بعدها.

والعشر معروف عند غير العرب أيضًا، وهو يقابل "إش، رو، و" "Isch-ru-u" في الآشورية، أي "عشر"، وهو ما يدفع عن الأموال والذهب عندهم، و"مَعَشير" "Ma asher" في العبرانية، وقد جرى التعشير عندهم قبل أيام موسى، ونص عليه في التوراة. فكانوا يقدمون عشر أموالهم صدقة تزكيهم، يدخل فيه البقر وبقية الماشية، وتوسع "الفريسيون" في ذلك، فأدخلوا في العشر، عشر النعناع والشبث والكمون1. وقد أشير في نصوص المسند إلى الضرائب التي كان على المتبايعين في الأسواق أداؤها إلى الحكومة, فعلى كل متعامل في السوق دفع "همد" إلى جباة السوق. والـ"همد" ما يؤخذ من المتعاملين في السوق عن اتجارهم بها, فهي ضريبة البيع والشراء2. وقد حذرت تلك النصوص المخالفين المتهربين من دفع ما عليهم من الـ"همد" بإنزال أقصى العقوبات عليهم بما في ذلك مصادرة أموالهم، إن حاولوا أكل حق الحكومة، والتهرب من دفع حصتها من الربح. وهناك ضريبة أخرى ذكرت في النصوص كذلك، هي "فرعم"، أي: "فرع". يظهر أنها كانت عندهم تطوعية, لا يجبر الإنسان على أدائها، وإنما هي صدقة يتصدق بها من يشاء. وقد كانت الحكومات العربية الجنوبية قد عينت جباة يجلسون في الأسواق وعند مدخل الحدود لجمع الضرائب المفروضة على البيع والشراء والاتجار وحق المرور. أما ضرائب غلات الأرض، فلها جباتها، كما كان يلتزمها كبار أصحاب الأرض وأصحاب الأقطاع، فيدفعون للحكومة حصتها من الزرع، وهم يجبون تلك الحصة من صغار المزارعين التابعين لهم أو المستأجرين لأرضهم، فيأخذون منهم كل ما يمكنهم أخذه للاستئثار به، وإعطاء القليل منه إلى الحكومة. وبذلك كان صغار المزارعين والمستأجرين للأرض يلاقون عنتًا شديدًا من الضرائب المفروضة عليهم. وقد كان المتولون لأمر الأسواق يأخذون عشور التجار, لهم جباة يجوبون السوق؛ ليأخذوا عُشر ما يباع. فكان "الأكيدر" يعشر سوق دومة الجندل،

_ 1 راجع سفر التكوين، الإصحاح 14، الآية 20، والإصحاح 28، الآية 22، قاموس الكتاب المقدس "2/ 103"، "عشر عشور أعشار". 2 REP. EPIGR. 4337

وربما يتولاها سادة "كلب"، أو بعض الغساسنة، وكان "قنافة" الكلبي ممن ينافس الأكيدر على دومة, يتولى جباية العشر كذلك. وكذلك كان المتولون لأمر الأسواق الأخرى يأخذون العشر. فالعشر، الجباية المألوفة التي يدفعها التجار عن تجارتهم في كل ما يبيعون ويشترون، وعن مكس السلع التي تنقل لبيعها في الأسواق الخارجية. فقد كان التجار العرب إذا دخلوا حدود بلاد الشام، عشرهم رجال المكس على الحدود, وإذا تاجروا في أسواق بلاد الشام عشرهم العشارون في هذه الأسواق. وكان "زنباع بن روح" ممن يعشر من يمر به بمشارف الشام1, وهو من "جذام", وكان يعمل للحارث بن أبي شمر الغساني. ذكر أن "عمر" خرج تاجرًا في الجاهلية مع نفر من قريش، فلما وصلوا إلى فلسطين، قيل لهم: إن "زنباع بن روح" يعشر من يمر به، فعمدوا إلى إخفاء ما معهم من ذهب، فلما وجده، أغلظ عليهم في العشر ونال من عمر، فقال "عمر" في ذلك: متى ألق زنباع بن عمرو ببلدة ... لي النصف منه يقرع السن من ندم ويعلم أن الحي حي ابن غالبٍ ... مطاعين في الهيجا, مضاريب في الهيم2 ويقال لعمال العشور والجزية: "الحُشَّار"، وفي حديث وفد ثقيف اشترطوا ألا يعشروا ولا يحشروا، أي: لا يندبون إلى المغازي ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لا يحشرون إلى عامل الزكاة ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم3. وورد في كتاب الرسول لعبد يغوث بن وعلة الحارثي: "ولا عشر ولا حشر"، وورد في كتابه إلى "يزيد بن المحجل الحارثي": "إن لهم نمرة ومساقيها ووادي الرحمن من بين غابتها، وإنه على قومه من بني مالك وعقبة, لا يغزون ولا يحشرون"، وجاء مثل ذلك في كتابه لقيس بن الحصين ذي الغصة: "لا يحشرون ولا يعشرون"4، ووردت هذه الجملة في كتابه لبني جُعيل من

_ 1 تاج العروس "5/ 461"، "قرع". 2 الإصابة "1/ 533"، "رقم 2817". 3 تاج العروس "3/ 142"، "حشر". 4 ابن سعد "1/ 268".

بليّ1، وقد فسر "ابن سعد" جملة: "وأنهم لا يحشرون"، بقوله: "لا يحشرون من ماء إلى ماء في الصدقة"، وعبارة: "لا يعشرون" بقوله: "ولا يعشرون -يقول- في السنة إلا مرة", وفسر "السعاية" الواردة في الكتاب بالصدقة2. وعندي أن الحشر يجب أن يكون في معنى له صلة بالجلاء، أو بالجمع لسخرة وتكليف بقيام عمل إجباري. وقد ورد في كتب اللغة أن الحشر الجلاء؛ ولذلك قيل في بني النضير عندما أجلوا: إنهم أول حشر حشر إلى أرض المحشر، كما قالوا: يوم المحشر وأرض المحشر, والحشر أيضا بمعنى إجحاف السنة الشديدة بالمال3. فللفظة إذن علاقة بالإجلاء وبالسخرة وبالندبة إلى الحرب أو للقيام بعمل إجباري جماعي, ولا زال أهل العراق يستعملون لفظة "الحشور" في معنى جمع الناس للسخرة، ولأي عمل تريده الحكومة إجبارًا. و"العشر" كما يتبين من النصوص الجاهلية ومن الموارد الإسلامية، أقدم ضريبة معروفة عند العرب، وهي ضريبة عامة تشمل أرباح التجارة كما تشمل أرباح الزراعة, وقد عرفت في جميع أنحاء جزيرة العرب. وهي في الواقع من أقدم الضرائب المعروفة في التاريخ, فرضتها الحكومات والأديان على الأتباع منذ أقدم العصور. ولم أقف على وجود "العُشَّار" في مكة أو في يثرب أيام الجاهليين، ولكن هذا لا يعني نفيًا لوجود هذه الضريبة عند أهل المدينتين. ولا أستبعد وجودها عندهم، وذلك أنهم كانوا يأخذونها من المتبايعين في الأسواق لصرفها في الشئون العامة المتعلقة بمجتمعهما، فقد كان لكل سوق في الجاهلية عشارون يجمعون العشر, فلا داعي لاستثناء سوقي مكة والمدينة من العشر. وقد سبق لي أن ذكرت أن سادات مكة كانوا قد اتفقوا فيما بينهم على أن يقدموا من أموالهم مالًا للرفادة ولتحمل الأشناق ونفقات الدفاع عن المدينة, يدفعها كل إنسان حسب قابليته المالية وإمكانياته. ولعلهم كانوا يأخذون من أرباحهم التي يحصلون عليها من القوافل نصيبًا معلومًا قبل توزيعها على المساهمين؛ ليكون عونًا للمدينة في تمشية أعمالها وفي الدفاع عن شئونها.

_ 1 "وأنهم لا يحشرون ولا يعشرون"، ابن سعد "1/ 270". 2 ابن سعد "1/ 270 وما بعدها". 3 تاج العروس "3/ 141 وما بعدها"، "حشر".

الطعمة

الطعمة: وترد في كتب أهل الأخبار لفظة "طعمة"، بمعنى المأكلة، ورد أن النعمان بن المنذر جعل لبني لأم من طيء ربع الطريق طعمة لهم لصهر كان لهم عنده, أي: إن النعمان جعل حق الطريق لهم، يجبون من المارة جبايتهم فيأخذونها لهم، ولا يعطونها للملك؛ لأنه كان قد تنازل عن حقه فيها إليهم. يقال: فلان تجبى له الطعم، أي: الخراج والإتاوات1. وكان من عادة الملوك، التنازل عن حق جباية الإتاوة, عن بعض الأرضين أو الطرق لسادات القبائل؛ تأليفًا لقلوبهم، وإسكاتًا لألسنتهم، ولأنهم يعلمون أن نفوذهم على تلك الأرضين أو القبائل لم يكن ثابتا قويا، بل كان بالاسم فقط، وأنهم لا يتمكنون من أخذ جبايتها؛ لذلك كانوا يتظاهرون أمام الناس بالتنازل عن حقهم في تلك الضرائب.

_ 1 تاج العروس "8/ 378"، "طعم".

ضرائب الزراعة

ضرائب الزراعة: وعلى أصحاب الأرض والمزارعين دفع نصيب الحكومة من الحاصل, وقد عينت الحكومات موظفين لجباية حصتها، عرفوا بـ"حزرو" في نصوص المسند, وواحدهم: "حزر"1؛ "الحازر" والخارص في لغة القرآن الكريم. ويذكر علماء اللغة أن "الحزرة" من المال خياره. وفي الحديث أن الرسول بعث مصدقًا، فقال له: "لا تأخذ من حزرات أنفس الناس شيئًا، خذ الشارف والبكر" يعني في الصدقة2. والخرص: الحزر والحدس والتخمين, هذا هو الأصل في معناه. ومنه خرص التمر والنخل؛ لأن الخرص إنما هو تقدير بظن لا إحاطة, وفاعل ذلك "الخارص", وما يقدر هو خرص الأرض، وخرص النخل, وكان هؤلاء الخراص يذهبون في المواسم إلى البساتين والمزارع لخرصها. وفي الحديث كان النبي يبعث الخراص على نخيل خيبر عند إدراك ثمرها, فيحزرونه رطبًا كذا وتمرًا كذا3.

_ 1 Rhodokanakis, katba. Texte, II, S. 75, 99 2 تاج العروس "3/ 138"، "حزر". 3 تاج العروس "4/ 385"، "خرص".

ولا نستطيع أن نأتي بتأريخ ثابت معين عن مبدأ فرض الضرائب الزراعية والضرائب الأخرى في العربية الجنوبية، ولا في أي مكان آخر من جزيرة العرب؛ لعدم ورود نصوص جاهلية عن ذلك. ويظهر أن ما نسميه بالضرائب، كان في بادئ أمره صدقة يدفعها المتمكن عن نفسه وعن أمواله؛ قربة للآلهة وزكاة لنفسه ولأهله ولأمواله، لترضى عنه الآلهة، ولتمن عليه بالصحة والعافية. ومن هذا القبيل النذور، التي كان يكثر منها الإنسان في السابق, فكانت تكوّن موردا حسنا من موارد الحكومة والمعبد. فلما ظهر الملوك، وصارت الحكومة حكومتهم، فرضوا ضرائب إلزامية لتكون واردًا يموّن الملوك وحكومتهم بما يحتاجون إليه من مال ونفقات. والضرائب عالية في الغالب، بالنسبة إلى المزارعين المالكين لأرضين صغيرة, وللمزارعين الذين يشتغلون بأجور أو يستغلون الأرض بعقود, فعلى هؤلاء دفع عوائد أخرى إلى سادتهم أصحاب الملك، وإلى رجال الدين الذين يطالبون المزارعين بدفع زكاة زرعهم لهم قسرًا، فلا يبقى لدى هؤلاء من غلتهم إلا النزر اليسير الذي لا يكاد يكفيهم. فعاش الفلاح في ضنك من العيش, وهذا مما أثر على الوضع العام للدولة بالطبع. أما كبار الملاكين وسادات القبائل والأشراف، فلم يكونوا يدفعون إلى حكومتهم إلا جزءًا صغيرًا من دخلهم الذي يحصلون عليه من الزرع؛ فقد كانوا يتحايلون عليها في تقدير غلاتهم، كما كانوا يحملون المزارعين والمستأجرين لأملاكهم وأفراد قبيلتهم العبء الأكبر في دفع الضرائب. فقد كانوا هم الذين يقومون بجمع الغلة وتوزيعها وإفراز حصة الحكومة وحصة المعبد والحقوق الأخرى المترتبة على المزارع. فكانوا يتناولون حصصهم كاملة وزيادة، ويحملون مزارعيهم ومن يشتغل في خدمتهم دفع حصة الحكومة والمعبد، فلا يقع عنهم من باقي الحصة إلا الشيء القليل, يقع ذلك والحكومة عارفة به، ولكنها لا تستطيع أن تفعل شيئًا؛ لنفوذ كبار الملاكين وسادات القبائل وسلطانهم على أتباعهم الموروث من العادة والعرف. ولضمان تحصيل حصص الحكومة من الزرع، كان جباة الضرائب يأتون المزارع، فيأخذون ما قدروه وخرصوه من خيار الزرع ويتركون الباقي للفلاح. وقد يثبتون حصة الحكومة عند حلول أوان التقدير ويعينونها، فإذا حان وقت

جمع الحاصل، جاءوا فأخذوا غلة ما عينوه, ويقولون لهذا الذي تأخذه الحكومة من الغلة "رزم"1. يأخذونه وهو بعد على الأرض، قبل نقله إلى موضع التجميع والتخزين. والمزارع الصغير مغبون في كل شيء، وكذلك الفلاح. كان على المزارعين والفلاحين أن يبدءوا عملهم بالاستدانة من وكلائهم الذين يتوكلون عنهم في تصريف حاصلهم أو من رب الأرض، فيحملونهم ربا الدين ويتحكمون عندئذ في أمورهم، ويحصلون منهم على ربح يؤثر عليهم، حتى إذا انتهى الموسم، أو حال الحول وجد هؤلاء أنفسهم وقد أثقلتهم ديونهم، وتكاثرت عليهم التزاماتهم، وقد صاروا تابعين لأصحاب الأرض، لا يستطيعون ترك أرضهم إلا بعد ترضيتهم وتسوية ديونهم. وكما يفعل بعض الناس في الزمن الحاضر من التهرب من دفع الضرائب بمختلف الطرق، كذلك يهرب الناس في الجاهلية من دفع الضرائب إلى الحكومات، بالرغم من العقوبات الصارمة التي فرضت على المتهربين والمخالفين, وفي ضمن ذلك الاستيلاء على الحاصل الزراعي كله، وتهديم المذاخر التي قد يخفى فيها الحاصل, وتهديم أملاك صاحبه. ونجد في أحد النصوص أن من يخفي حاصله ولا يدفع ما عليه, ويخفيه في القنن -جمع قنة "قنت"، أي: المخازن- ويتستر عليه، فإنه يصادر عليه ويؤخذ منه، بل يُستولَى على كل ما يعثر عليه في المزرعة ويتلف، ويعاقب بالقتل أيضا2. أما بالنسبة إلى الضرائب الزراعية عند أهل العربية الغربية أو أهل المواضع الأخرى من جزيرة العرب، فلا نملك نصوصًا جاهلية عن هذا الموضوع, ولكنا نجد في القرآن الكريم وفي كتب التفسير إشارة إليها. ورد فيه: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 3, وورد: {وَهُوَ الَّذِي

_ 1 تاج العروس "8/ 310 وما بعدها"، "رزم". 2 REP. EPIGR. 2860, Tome, V, p. 192 3 سورة الأنعام، الرقم 6، الآية 138 وما بعدها.

أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 1, وورد: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 2. ففي الآيات المذكورة, أن أهل الجاهلية كانوا جعلوا لله ولشركائه من ثمراتهم ومالهم نصيبًا، فإذا كان يوم حصاد الزرع أو قطف الثمر، أخرجوا من كل عشرة واحدًا، فهي العشور؛ عشور كل شيء من نخل أو عنب أو حبّ أو فواكه أو قصب. وأما أموالهم، فقد جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميًا وأنعامًا لا يذكرون اسم الله عليها3. ونجد في كتب رسول الله إلى الملوك وسادات القبائل إشارة إلى "العشر"، أي: إلى هذا الحق الذي كانوا قد فرضوه على أنفسهم، ففي كتابه إلى "عبد يغوث بن وعلة الحارثي": "إن له ما أسلم عليه من أرضها وأشيائها -يعني: نخلها- ما أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأعطى خمس المغانم في الغزو، ولا عشر ولا حشر"4. وفي كتابه لقيس بن الحصين ذي الغصة، أمانه لبني أبيه بني الحارث ولبني نهد: "إن لهم ذمة الله وذمة رسوله، لا يحشرون ولا يعشرون"5، وفي كتابه لبني جُعيل: "لهم مثل الذي لهم، وعليهم مثل الذي عليهم، وأنهم لا يحشرون ولا يعشرون"6. وفي كتابه إلى "العلاء بن الحضرمي": "وابعث معها ما اجتمع عندك من الصدقة والعشور"7. وفي كتابه لبادية الأسياف ونازلة الأجواف مما حاذت صحار: "ليس عليهم في النخل خراص ولا مكيال مطبق حتى يوضع في الفداء, وعليهم في كل عشرة أوساق وسق"8، أي: العشر.

_ 1 سورة الأنعام، الرقم 6، الآية 141. 2 سورة الأنعام، الرقم 6، الآية 136. 3 تفسير الطبري "8/ 30 وما بعدها". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 268". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 268". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 270". 7 ابن سعد، طبقات "1/ 276". 8 ابن سعد، طبقات "1/ 286".

ونجد في كتاب رسول الله لعمرو بن معبد الجهني وبني الحرقة من جهينة وبني الجرمز: "وما كان من الدين مدونة لأحد من المسلمين قضى عليه برأس المال وبطل الربا في الرهن, وأن الصدقة في الثمار العشر"1, فجعل الصدقة بمعنى العشر، أي زكاة الثمار. ونجد العلماء يجعلون الصدقة زكاة، والزكاة صدقة، يفترق الاسم ويتفق المسمى2، ونجدهم يفرقون بينهما في بعض الأحيان، إذ تكون الصدقة تطوعًا، بينما الزكاة حكمًا مفروضًا، له حدود معلومة على نحو ما حددته كتب الفقه والأحكام. وقد كان هذا شأن أهل الحجاز، ولا سيما أهل يثرب, يؤدون عشر حاصل زرعهم يوم حصاده وعند الصرام، وبقوا على حالهم هذه حتى فرضت الصدقة المعلومة، أي: الزكاة، فسن العشر ونصف العشر، وترك عشر الجاهلية، على نحو ما نجده في كتب الفقه والأحكام3. وفي الحديث: "فما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالسانية والغروب والدلاء نصف العشر"4. وقد أشير إلى "العشر" في كتاب "عمر" إلى "زياد بن حدير"، حيث جاء: "إن أقاموا ستة أشهر فخذ منهم العشر، وإن أقاموا سنة فخذ منهم نصف العشر"5. وفي كتاب آخر بعث إليه أيضًا, هذا نصه: "لا تعشرهم في السنة إلا مرةً"6. وعرف من كان يجمع "الصدقة" في الإسلام بـ"المصدق", وهو آخذ الصدقات، أي: الحقوق من الإبل والغنم يقبضها ويجمعها، والمتصدق: معطيها7. وقد جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله، فقالوا: إن ناسًا من المُصدّقين

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 271 وما بعدها". 2 الأحكام السلطانية، للماوردي "113". 3 تفسير الطبري "8/ 42 وما بعدها". 4 صحيح مسلم "3/ 67"، "باب ما فيه العشر أو نصف العشر"، الأحكام السلطانية "118"، تاج العروس "1/ 405"، "غرب"، "10/ 185"، "غرب". 5 كتاب الخراج، للقرشي "172"، خورشيد أحمد فارق، حضرت عمركه سركاري خطوط "ص135". 6 كتاب الخراج، للقرشي "172"، خورشيد أحمد فارق "ص136". 7 تاج العروس "6/ 406"، "صدق".

يأتوننا فيظلموننا، فقال رسول الله: "ارضوا مصدقيكم"1. وقد حث الرسول على إرضاء المصدق2. و"الساعي" مثل المصدق، من يستعمل على الصدقات ويتولى استخراجها من أربابها, وفي حديث وائل بن حجر، أن وائلًا يستسعي ويترفل على الأقيال، أي: يستعمل على الصدقات3. وقد أهمل استعمال لفظة "الساعي" في هذا المعنى فيما بعد، واستعملت في أمور أخرى مثل سعاة البريد. وقيل لمن يتولى أمر الصدقات ويشرف على سعاتها: "عامل الصدقة"، و"عمال الصدقات". ونجد في كتب اللغة لفظة "السمرج"، في معنى له صلة بالضرائب، يذكر علماء اللغة أنها لفظة فارسية معربة تعني استخراج الخراج في ثلاث مرات، أو اسم يوم ينقد فيه الخراج، ويوم جباية الخراج, أو هو يوم للعجم يستخرجون فيه الخراج في ثلاث مرات4. وذكر بعض علماء اللغة أن "الشمرج" اسم يوم جباية الخراج للعجم، وقد عربه "رؤبة" بأن جعل "الشين" سينًا5. هذا, ونستطيع حصر الضرائب التي كان يدفعها أهل الجاهلية في ثلاثة أصناف: ضرائب الأرض أي: ما يؤخذ عن غلة الأرض، وضرائب الرءوس أي: ما يقال الجزية في الإسلام، وضرائب التجارة والأرباح. وقد كانت تقدم إلى الحكومة أو سادة القبائل على شكل نقود، أو سبائك ذهب أو مصوغات, حيث تحفظ في خزائنهم, وفي خزائن المعابد في حالة الضرائب التي تدفع إلى المعبد6. وكانت الجباية بأنواعها من المآكل والمطاعم بالنسبة لبعض من يتولون أمرها، يأكلون ما يتمكنون من أكله، ويسلمون الباقي إلى من عيَّنهم عليها. ونجد في الموارد الإسلامية إشارات إلى الرشوة والمرتشين وآكلي الصدقات وإلى "المصانعة" أي: الرشوة، يقال: صانع الوالي أو الأمير, إذا رشاه7.

_ 1 صحيح مسلم "3/ 74"، "باب إرضاء السعاة". 2 صحيح مسلم "3/ 121"، "باب إرضاء الساعي ما لم يطلب حرامًا". 3 تاج العروس "10/ 178"، "سعى". 4 تاج العروس "2/ 60"، "سمرج". 5 تاج العروس "2/ 65"، "شمرج". 6 Hastings, p. 944. f 7 تاج العروس "5/ 442"، "صنع".

الفصل الحادي عشر بعد المئة: النقود

الفصل الحادي عشر بعد المئة: النقود ... الفصل الحادي عشر بعد المائة: النقود وفي الموارد الإسلامية بعض الأخبار عن نقود كانت متداولة في الحجاز عند ظهور الإسلام, وقد سميت تلك النقود بأسمائها، وأشير إلى وزنها ومقدارها. وعثر الباحثون على نماذج من نقود جاهلية تعود إلى عهود مختلفة في مواضع متعددة مختلفة من جزيرة العرب، قدمت لنا بعض المعارف عنها وعن مصادرها. فمن الموارد الإسلامية ومن بعض كتابات المسند التي أشير فيها إلى نقود جاهلية ومن قطع النقود الجاهلية التي عثر عليها المنقبون، جمعنا ما سنقوله عن نقود أهل الجاهلية. وقد استعمل أهل العربية الجنوبية النقود في معاملاتهم، استعملوا نقودًا سكّت من ذهب، ونقودًا سكّت من فضة، وأخرى سكّت من نحاس ومن معادن أخرى, وقد عثر على نماذج من كل نوع من هذه الأنواع. كما تعاملوا بالنقود الأجنبية كذلك، مثل النقود اليونانية والرومانية والمصرية والحبشية والفارسية, وقد عثر على نماذج من هذه النقود في مواضع متعددة من العربية الجنوبية: في اليمن، وفي حضرموت، وفي مواضع أخرى. وقد زاد تعامل أهل اليمن بالنقود الحبشية والساسانية في أثناء احتلال الحبش والساسانيين لليمن، ولا شك. وفي بعض المتاحف ودور الآثار وعند بعض هواة جمع النقود والأشياء القديمة، قطع من نقود جاهلية ضربت في العربية الجنوبية، بعضها من ذهب، وبعضها من فضة، وبعض آخر من نحاس، ومنها الكبير، ومنها نقود صغيرة دوّن

على بعضها اسم الملك الذي ضربت في أيامه، أو الحرف الأول من اسمه، وعلى بعض آخر رموز وصور ألف العرب الجنوبيون ضربها على النقود، مثل صورة "أثينة" أو "البوم" وهي من الطيور التي ألف العرب الجنوبيون إظهار صورتها على النقد، وعلى الحجارة المكتوبة, وعلى جبهات البيوت. والعملة تطور خطير من التطورات التي أثرت في الحياة الاقتصادية للبشر, أحد اختراعها انقلابًا كبيرًا في النظم الاقتصادية والاجتماعية، ويعد إيجادها من المخترعات الكبرى التي لعبت دورا خطيرا في حياة الإنسان ولا تزال تلعبه. قلصت أعمال المقايضة المرهقة المتعبة، وقضت على التعامل بالوزن في تقدير الأثمان؛ أعني التعامل بوزن الذهب والفضة في تقدير قيم الأشياء، بأن يعطي إنسانٌ إنسانًا قيراطًا من ذهب، أو نصف مثقال، أو مثقالًا مقابل سلعة ثم التساوم على سعرها, أو وزن مثقال من فضة أو أقل من ذلك أو أكثر في مقابل سعة يريدها المشتري, وهو نظام سبق نظام النقد، الذي ولدت منه فكرة العملة. وهو نظام متقدم بالنسبة إلى نظم المقايضة التي سبقته، قلَّص من صعوباتها كثيرًا، وأراح التاجر في التعامل، حتى ولدت فكرة سك العملة، فقلصت منه ومن تعقيداته، لسهولة التعامل بالعملة، ولاكتسابها صفة رسمية وسعرًا ثابتًا مقررًا ووزنًا معينًا حددته الحكومات. وفي وسعنا إطلاق مصطلح "النقد الطبيعي" على نظام المقايضة، أي: مبدأ مبادلة سلعة بسلعة, فهو في الواقع نظام يستند على مبدأ التسعير وتثمين السلع وبيع سلعة بثمن سلعة أخرى. ولما وجد الإنسان صعوبة كبيرة في التعامل بهذه الطريقة، هداه عقله وتقدمه الفكري إلى ابتداع طريقة التعامل بالذهب والفضة وزنًا؛ فخفف الإنسان بذلك كثيرا من التعقيدات والصعوبات التي كان يجابهها في تعامله بالمقايضة، فكان إذا أراد شراء حاجة عامل صاحبها بمقدار موزون من الذهب أو الفضة، يقدمه إليه في مقابل شرائها, ثم انتقل بعد ذلك إلى طريقة سك العملة. فسهل بذلك معاملاته في البيع والشراء كثيرا، ولا زال هذا النظام سائدًا في كل أنحاء العالم، مع نظام العملة الورقية ونظام التعامل بالصكوك. وقد تعامل الجاهليون بالطرق الثلاثة المذكورة؛ تعاملوا بالمبادلة، أي: المقايضة، وتعاملوا بوزن الذهب والفضة، وتعاملوا بالعملة. ولما ظهر الإسلام كانت هذه الطرق لا تزال مألوفة عندهم متبعة، فكانوا يبيعون تمرًا بتمر، وشعيرًا بشعير،

وحنطةً بحنطة, وقد أشير إلى هذه الأنواع في كتب الحديث، وأشرت إليها في باب البيوع. ولم يراع أهل الجاهلية تنوع الصنف في البيع، كأن يبيعوا حنطة من جنس معلوم بحنطة من جنس آخر، بل كانوا يبيعون الحنطة بالحنطة من نفس الجنس والنوع، بوزن مختلف لوجود تباين في الجودة أو تراب أو حبوب غريبة في إحدى الحنطتين. كما تعاملوا بتنوع السلع، مثل بيع حنطة بشعير وبالعكس، وبيع تمر بصوف أو بجلود، وما شاكل ذلك لوجود حاجة ولقلة النقد. وتعاملوا بوزن الذهب والفضة، فاشتروا الرقيق بأواقٍ يحددونها من ذهب أو من فضة، وباعوا التجارة بأواقي الذهب والفضة, تعاملوا بالأواقي وبأقل منها وبأكثر حسب قيم الأشياء ودرجة تثمينها1. ونجد ذكر هذا التعامل في كتب الحديث والفقه؛ لما له من دور خطير في معاملات الناس في الجاهلية وفي والإسلام. و"النقد" في مصطلح علماء العربية: تمييز الجيد من الرديء. قال الشاعر: تنفي يداها الحصى في كل هاجرة ... نفي الدنانير تنقاد الصياريف والنقد: إعطاء النقد, ونقد الثمن: أعطاه نقدا معجلا2. ويظهر أن الجاهليين كانوا يطلقون لفظة "النقد" على العملة، وعلى التعامل بها من أخذ وقبض وتمييز الجيد من الرديء منها. و"السِّكة": حديدة منقوشة كتب عليها، يضرب عليها الدنانير والدراهم. ومنه الحديث أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس, أراد بها الدرهم والدينار المضروبين. سمى كل واحد منهما سكة؛ لأنه طبع بالحديدة المعلمة له3. ونجد في كتب الحديث رواية تذكر أن أول من ضرب الدينار تبع، وهو

_ 1 "وكانوا يتبايعون بأوزان اصطلحوا عليها فيما بينهم, وهو الرطل الذي هو اثنتا عشرة أوقية, والأوقية هي أربعون درهمًا"، الأحكام السلطانية "159"، "حاشية رقم 1". 2 تاج العروس "2/ 516"، "نقد". 3 تاج العروس "7/ 143"، "سكك".

"أسعد بن كرب"، وأن أول من ضرب الفلوس وأدارها في أيدي الناس: "نمروذ بن كنعان"1. وقد وردت في كتابات سبئية وقتبانية إشارات إلى نقود سبئية وقتبانية كانت مستعملة في تلك الأيام, ويرجع بعض العلماء تأريخ أقدمها إلى حوالي سنة "400" قبل الميلاد2. وقد ورد ذكر بعضها مع أسماء ملوك سبئيين وقتبانيين، في تدوين عقود زراعية أو ضرائب في الغالب، وقد ذكرت حين الإشارة إلى دفع مبلغ أو إلى تحديد غرامات, ولكن ورود أسمائها في تلك العقود وفي الأوامر الملكية لأولئك الملوك لا يدل على أنها سكت في أيامهم وضربت في عهدهم، فقد يجوز أن تكون قد ضربت قبل أيامهم بأمد طويل أو قصير، وأنها كانت مستعملة قبل أيامهم وفي أيامهم في الأسواق؛ ولذلك أشير إليها في تلك الكتابات. ونجد في أحد وجهي بعض النقود رأس رجل ظهرت ملامح وجهه إلى العنق، يحيط به غصنا شجر على هيئة دائرة، وقد تدلى شعر الرأس إلى العنق، وظهرت عليه تموُّجات الشعر على هيئة خصل محفورة, وأما صورة الأوجه، فهي جانبية اتجاهها نحو اليمين في الغالب. ولولا وجود بعض حروف المسند عليها لحسبتها من النقود المضروبة عند اليونان, ونجد في الوجه الآخر من النقد صورة البوم في الغالب؛ جسمها جانبي، أي قد امتد نحو الجانب. أما الوجه، فقد صور وكأنه ينظر إليك، وقد برزت عيناه بصورة واضحة ظاهرة حتى بدتا في شكل لا يتناسب أحيانًا مع حجم الوجه. ومن ينظر إلى هذا الوجه يخيل إليه أنه ينظر إلى رأس بومتين, لا بومة واحدة3. وتحمل بعض النقود إشارات ورموزًا لها صلة بديانة العرب الجنوبيين قبل الإسلام. ومن ذلك الهلال، إشارة إلى الإله القمر4, والهلال وفي داخله

_ 1 مسند أبي حنيفة "ص163". 2 Handbuch, I, S. 96 3 انظر الألواح المصورة للنقود الملحقة بكتاب: G. Fr. Hill, A Catalogue of the greek Colins of Arabia, Mesopotamia and Persia, London, 1922 وسيكون رمزه: Hill 4 Handbuch, I, S. 35

أو في مقابله كوكب ذو رءوس تلتقي بنقطة في الوسط، وأحيانا على هيئة قرص دون رءوس, يمكن اعتبارهما أساس الكوكب والهلال "النجمة والهلال" المستعملين في بعض الأعلام الإسلامية واللذين يشاهدان على قبب المساجد ويعتبران عند المسلمين وعند الغربيين شعارا للإسلام. وهما في الأصل من شعائر الوثنيين الجاهليين, وقد يكون الكوكب ذو الرءوس أو القرص رمزًا يشير إلى الشمس. وللعلماء الباحثين في النقود العربية الجنوبية آراء في الحروف المقطعة المضروبة على النقود, وفي الحروف المتصلة المربوطة بعضها ببعض في بعض الأحيان على هيئة الطغراء. وذهب بعضهم إلى أن هذه الحروف هي الأحرف الأولى لأسماء الملوك الذين ضربت تلك النقود في أيامهم, وذهب آخرون إلى أنها أسماء المواضع التي ضربت فيها تلك النقود, وذهب آخرون إلى أنها رموز للآلهة، وقد ضربت تبركًا باسمها. ومهما يكن من شيء، فبين الباحثين في النقود العربية الجنوبية اختلاف في هذا الموضوع، لم يتوصلوا فيه إلى حل متفق عليه1. ومن الملوك الذين ضربت بعض النقود في أيامهم، ملك ذكر لقبه وحده، وهو "ينف" "ينوف"، دون اسمه الأول الذي يعرف به, وإذ قد تلقب جملة ملوك بهذا اللقب، فمن الصعب البتّ في تعيين الملك صاحب هذا النقد2, وملك ذكر اسمه الأول، وهو "شمر"، والظاهر أنه "شمر يهرعش" ملك سبأ وذي ريدان3, و"كرب آل وتر يهنعم" وهو ابن الملك "ذمر على بين", و"عمدن يهقبض"، و"عمدن بين"، وملوك آخرون4. وقد وردت لفظة "بلط" في نصوص المسند، ترجمت بـ"نقد" وبـ"Coin" في الإنجليزية5. و"أبلط" في عربيتنا بمعنى لصق بالأرض وافتقر، وذهب ماله، وأفلس, والبلطة: المفلس6. وقد ذكر "نزيه مؤيد العظم"، أن أهل اليمن يطلقون على النقود لفظة

_ 1 Hill, XIVI 2 Hill, P.P. IVII 3 Hill, p. IX 4 Hill, p. IXVIII 5 Jamme, South Arabian Inscriptions, p. 428, Rhodokanakis, Kaba. Texte, II, S. 25, anm. 3 6 تاج العروس "5/ 111"، "بلط".

"ظلط"1، ولعل لهذه اللفظة صلة ببعض أسماء النقود اليمانية قبل الإسلام. وهناك لفظة أخرى وردت في نصوص المسند، هي "خبصتم"، "خبصت", ويرى "رودو كناكس" أنها اسم نقد أقل سعرًا وثمنًا من سعر نقد الذهب، وأنه لم يكن من الذهب ولا من الفضة بل من المعادن الأخرى2. ووردت لفظة "رضيم" "رضى" بعد العدد خمسة في نص سبئي، ذكرت مع العدد في أمر يشير إلى غرامة تفرض على المقصر والمتماهل في العمل، فحمل ذلك بعض الباحثين على الذهاب إلى أنها تسمية لنوع من النقد الذي كان مستعملا آنئذ. ولكن هناك من يرى أن اللفظة ليست تسمية وسمة لنوع من أنواع النقود، وإنما هي صفة لها، بمعنى مرضية ومرضٍ وبمعنى تامة وافية صحيحة، غير مزيفة ولا منقوصة في الوزن3. وإذا كنا لا نستعمل اليوم في لغتنا الألفاظ والتعابير التي تدل على صحة النقود وسلامتها من الغش والتزوير كثيرًا، فإن القدماء ولا سيما صيارفتهم وأصحاب المال كانوا يستعملونها في معاملاتهم اليومية وفي عقودهم التي كانوا يدونونها؛ لأن سك العملة وضربها لم يكن يومئذ متقنا ولا مضبوطا من حيث المادة أو الوزن. وكان من السهل تقليد العملة وغشها والتلاعب بوزنها؛ ولذلك كان ثمنها عرضة للتغير والتلاعب بالسعر في بعض الأحيان. كما كان من السهل غش الناس بإعطائهم العملات المزيفة، حتى حفظت كتب الماضين أمثلة عديدة على ذلك، وكتب القدماء فصولًا في كشف الغش في النقود وفي معاقبة المسئولين عنه. ومن الألفاظ التي استعملها أهل العربية الجنوبية للتعبير عن صحة العملة وسلامتها من الغش والتي دونوها في كتاباتهم، لفظة "مصعم" "مصع"، بمعنى نصع وخلص، أي: خالصة من كل غش، صحيحة لا شائبة فيها. ولفظة "رضيم" المتقدمة، ولفظة "خبصتم" "خبصت" من هذه التعابير على رأي بعض الباحثين4.

_ 1 رحلة "85". 2 Rhodokanakis, katab. Texte., II, S. 26 3 Rhodokanakis, katab. Texte., II, S. 25 4 Rhodokanakis, katab. Texte., II, S. 26

ويلاحظ وجود أثر للسكة اليونانية على السكة العربية الجنوبية, وقد وجد شبه أيضا بين بعض النقود العربية الجنوبية ونقود الساسانيين. ونظرًا إلى وجود صلات تجارية بين اليونان والساسانيين والعرب الجنوبيين، فلا يستبعد تأثر دور ضرب السكة في اليمن وفي حضرموت بطريقة ضرب النقود عند اليونان والساسانيين1. ومن أهم ملامح تأثر ضرب النقود بنقود اليونان، هو وجود صورة "البوم" رمز "أثينة" مطبوعًا على النقود، على نحو ما طبعت على النقود اليونانية، حتى صار من الصعب التفريق بينهما، فكأنما أخذ عمال ضرب النقود قالبًا للنقد اليوناني، ثم حفروا عليه حروف المسند وضربوه2. ثم صور الملوك، وكراسي جلوسهم عليها، والصولجان الذي بأيديهم، فكل هذه نقلت نقلا عن النقود اليونانية. ولا بد أن تكون في اليمن دور لضرب النقود سكّت فيها عملتهم. وإني لآسف إذ لم أقف على كتابات جاهلية فيها ما يفيدنا عن كيفية ضرب النقود عند العرب الجنوبيين أو عند غيرهم وأوزانها وأنواعها، وما شابه ذلك من أمور تتعلق بها، وليس لنا من أمل في زيادة علمنا بها غير الترقب والانتظار، فلعل يقظة العرب تولي تأريخ العرب القديم ما يستحقه من عناية ورعاية وبحث، فيجدُّون في تتبع مواطن الآثار الغنية المطمورة لاستخراج دفائنها التأريخية الثمينة التي تظهر لنا أمورًا كثيرة من تأريخ تلك الأيام. وقد عثر في بصرى وفي مواضع من المنطقة التي عرفت بـ"المقاطعة العربية" "الكورة العربية" على نقود معظمها من نقود الرومان واليونان، كما عثر على نقود نبطية. ويذهب بعض الباحثين في النمّيات، أن الملك "الحارث الثالث" "87 - 62ق. م."، هو أول ملك نبطي أمر بضرب النقود، أخذ السكة من اليونان أثناء استيلائه على دمشق. وقد عثر على نقد من فئة "دينار" طبع عليه رمز يمثل اتفاق الحارث و"سكاورس" وصورة جمل وشجرة. وعثر على نقود أمر "الحارث" هذا بضربها، تشبه النقود التي ضربها "ديمتريوس

_ 1 Carlo Conti Rossini, Monete Sud-Arabiche, Rendiconti della R. Acad. Dei Lincai, 30, 1922, p. 239, Handbuch, I, s. 96, 175 2 Mardtmann und Mittoch, Saba. Inschri, S. 8

الثاني" "الثالث" "Demetrius Eukairos III" بمدينة "دمشق" شبهًا كبيرًا؛ ولهذا يرى الباحثون أنها تقليد ومحاكاة لها. ولم يصل إلينا نقد من نقوده يحمل كتابة مدونة بالنبطية1. وجاد "عبادة" الثالث من ملوك النبط علينا بقطع من النقود، يرى الملك على أحد وجهيها ومعه صورة امرأة يظن أنها صورة أمه، وأنها تشير إلى مبدأ حكمه إذ كان قاصرًا، فكانت أمه تدير الملك باسمه نيابة عنه، وذلك بالنسبة إلى النقود التي ضربت في أوائل أيام الحكم, وأما في النقود المتأخرة، فإنها صورة زوجته، التي كانت تساعده وتؤازره2. وتشاهد صورة نسر واقف قابض على جناحيه في الوجه الثاني من أحد النقود، وعلى طرفي الصورة كتابة، وصورة رأس رجل في القطعتين المرقمتين "7" و"8" يرى أنها رأس الملك وعلى طرفي الصورة كتابات نبطية وتأريخ الضرب. وتعد النقود التي ضربت في أيام "الحارث" الرابع من خير ما ضرب من النقود في أيام النبط، ولم يعثر على نقد له ضرب في مدينة "دمشق" في المدة التي استولى فيها على تلك المدينة، وقد ضرب بعضها باسم الملك وباسم زوجته "خلدو" "خلد"، زوجته الأولى. وصورت صورة زوجته هذه على النقد، وضرب بعضها باسمه وباسم زوجته الأخرى "شقيلة" وطبعت صورتها على النقد كذلك, وضرب بعض آخر باسم الملك وحده. وهي مختلفة: بعضها من الفضة، وبعض آخر من البرنز، وعلى عدد منها تأريخ الضرب3. وضرب اسم "شقيلة" الثانية ملكة النبط مع اسم الملك "ملكو" "مالك" الثاني في نقد وصل إلينا, وقد وصفت في النقود بأنها أخته. أما القطع التي وصلت إلينا، فبعضها مصنوع من الفضة وبعض آخر من البرنز، وعلى نقوده شيء من التبديل والتغيير عن النقد الذي ضرب في أيام "الحارث" الرابع4. وتُبُورك في بعض النقود مثل نقود "بصرى" بضرب صور الآلهة أو نعوتها

_ 1 G. Fra-Hill, Catalogue of the Greek Coins of Arabia, Mesopotamia and Persia, London, 1922, pp. XI, Die Araber, I, S. 298 2 Hill, p. XIV, XV, XVI, 4,Pi. 1, 6, 7, 8, Morey, Rev. Num, 1911, p. 79 3 Hill. P. XVII, 5, P 1, 9, 10, 11, 12, 13, 14, 15, 16, 17, 18, 19, 20, 21, II, 1-12Dalman, Neue Petra Forschungen, S. 106. 4 Hill, p. XIX, II, P1, II, 13-17

أو رموزها على النقود، فقد ضرب نعت الإله "دو شرى" "ذو الشرى" على نقد ضرب في "بصرى". كما أشير إلى هذا الإله في نقد ضرب بـ"بصرى" بتصوير منظر من مناظر الاحتفالات السنوية التي كانت تقام في كل عام إكرامًا له، وتعرف بـ"Actia Dusaria"1. أما آلهة المدينة التي ضربت صورتها على بعض النقود، فتشبه صورتها صورة "عشتاروت" "عشتروت" المعروفة بفلسطين وفينيقية, ويظهر أنها "اللات"2. وتشبه في بعض النقود صورة "أثينة"، وقد دعيت بـ"Tyche"، و"أثينة" هي "اللات" عند أهل حوران3. وعثر في جزيرة "فيلكا" على نقود يونانية من بينها درهم ضرب في عهد الملك "أنطيوخس" الثالث من ملوك السلوقيين، ويعود تأريخ هذا الدرهم إلى حوالي السنة "212" قبل الميلاد. وتبين أن بعض الدراهم قد ضرب في "جرها" "Gerhha" "الجرعاء"، كما عثر على نقود ضربت من النحاس، تبين أن قطعة منها ضربت في عهد "سلوقيوس" الأول, ضربها باسم الملك "الإسكندر" الأكبر, وأن قطعتين منها ضربتا في أيام "أنطيوخس" الثالث. فهي تعاصر الدراهم المذكورة4. أما أهل الحجاز، فقد تعاملوا بالنقود الرومية والساسانية: تعاملوا بالدنانير، وتعاملوا بالدراهم، وتعاملوا بالدانق, وتعاملوا بنقود أهل اليمن، ولعلهم كانوا يتعاملون بنقود أهل الحبشة كذلك. فقد كان أهل مكة خاصة تجارًا يتاجرون مع اليمن ويتاجرون مع العراق وبلاد الشام والحبشة, وتجارتهم هذه تجعلهم يستعملون مختلف النقود. ولم يرد في الأخبار ما يفيد قيام أهل العربية الغربية أو أي مكان آخر في جزيرة العرب بضرب النقود الجاهلية فيها، لكن ذلك لا يمنع من احتمال عثور النقابين في المستقبل على نقود محلية, ضربت في مكة أو في الطائف أو في يثرب أو في مكان آخر ولو على نطاق ضيق محدود.

_ 1 Hill, p. XXVII 2 HILL, p. XXIX 3 HILL, p. XXX 4 نقود يونانية من جزيرة فيلكا، وزارة التربية والتعليم: قسم الآثار والمتاحف، مطبعة حكومة الكويت.

وكان تعامل أهل مكة بالدنانير، ترد إليهم من بلاد الشام، ولا سيما دنانير هرقل, وبالدراهم الفارسية البغلية، "فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر, وكان المثقال عندهم معروف الوزن، وزنه: اثنان وعشرون قيراطًا إلا كسرًا، ووزن العشرة الدراهم، سبعة مثاقيل، فكان الرطل اثنتي عشرة أوقية, وكل أوقية أربعون درهمًا, فأقر رسول الله" ذلك ومن جاء بعده إلى أيام "عبد الملك بن مروان"، فأمر أن تضرب الدراهم على خمسة عشر قيراطًا من قراريط الدينار1. وذكر أن الدنانير التي كانت ترد مكة في الجاهلية رومية، والدراهم كسروية2. وقد اشتهرت دنانير "هرقل"، وعرفت بـ"الهرقلية"، حتى إنها كانت تسمى الدنانير عامةً "الهرقلية"3. والظاهر أن ذلك بسبب كونها مجلوَّة مطبوعة طبعًا حديثًا، لم تطمس آثارها ولم يمض زمن طويل عليها، أو لأن العرب حصلت في عهده على أكثر دنانيرها، فنسبتها إليه. والدينار عملة من الذهب، عرف علماء اللغة أنها من الألفاظ المعربة، ولكنهم لم يتأكدوا من أصلها، فذهبوا إلى أنها من أصل فارسي4, وهي معربة من أصل يوناني هو "ديناريوس" "Dinarius" مختصر"Dinarius" Aureus" "Aureus Denarius"" كما جاء ذلك في تأريخ "بلينيوس"5. والظاهر أن العرب استعملوا التسمية التي كانت شائعة في بلاد الشام، منذ عهد إصلاح "قسطنطين" الأول "309 - 319م" لنظام النقد, فأطلقوا على العملة الذهب لفظة دينار. وقد كان أهل الشام قد اقتصروا على لفظة "Dinarius" منذ ذلك العهد6. وقد ورد ذكر الدينار في القرآن الكريم: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} 7,

_ 1 فتوح البلدان "452"، "أمر النقود، Josef Von Karabaek, zur Orientalischen Alterumskunde, Wien, 1908. S. 61 المخصص "12/ 27"، جامع الأصول "1/ 371". 2 فتوح البلدان "453". 3 "دنانير شيفت من هرقل بروسم"، الجواليقي "ص349"، المخصص "12/ 22"، حاشية على الصفحة 371 وما بعدها من الجزء الأول من كتاب: جامع الأصول من أحاديث الرسول، لابن الأثير الجزري. 4 تاج العروس "3/ 211"، "دينار". 5 Pliny, Hist. Nat., Book, XXXIII, 13 6 Ency., I, p. 975 7 آل عمران، الآية 75، المفردات "171".

والقنطار وزن. وتأويل الكلام: أن من أهل الكتاب الذي إن تأمنه على عظيم من المال كثير يؤده إليك ولا يخنك فيه, ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنك فيه، فلا يؤده إليك إلا بالتقاضي والمطالبة1. ويعرف "الدينار" بـ"العين", والعين الذهب عامة2، فكأنهم سموا عينًا، لأنه من ذهب. وقد فكر المسلمون قبل "عبد الملك بن مروان" في موضوع النقود، وفي ضرورة تحويلها إلى نقد إسلامي, وكان "عمر" في جملة من فكر في ذلك. إنه أراد أن يجعل الدراهم من جلود الإبل، فلما استشار ذوي الخبرة، لم يقروه على رأيه فأمسك3, وذكر أنه أمر بضرب الدراهم، فضربت سنة ثماني عشرة من الهجرة4, وضرب "عثمان" الدراهم كذلك. ثم إن معاوية ضرب الدراهم السود، وضرب أيضا دنانير عليها تمثال متقلد سيفًا5, وضرب "زياد" النقد كذلك. ولما قام عبد الله بن الزبير بمكة ضرب دراهم مدورة, وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة. وضرب "مصعب بن الزبير" دراهم بالعراق، ثم غيرها "الحجاج"، حتى استقر الأمر لعبد الملك، فعرب النقد على نحو ما هو معلوم6. وقد بقي العرب يتعاملون بالدنانير الرومية إلى أيام عبد الملك، حيث أمر بضرب الدنانير، فضربت بدمشق, وقد نعت الدينار الجديد بـ"أحرش" إذ كانت فيه خشونة لجدته. ومنه الحديث أن رجلًا أخذ من رجل آخر دنانير حرشًا، وهي الجياد الخشنة الحديثة العهد بالسكة التي عليها خشونة النقش7. ومن أسماء الدينار "السِّكِّي"8.

_ 1 تفسير الطبري "3/ 225 وما بعدها"، تفسير النيسابوري "3/ 225 وما بعدها"، "حاشية على تفسير الطبري". 2 تاج العروس "9/ 288"، "عين". 3 فتوح البلدان "456"، "أمر النقود". 4 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "160 حاشية". 5 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "160 حاشية". 6 الأحكام السلطانية، "160 وما بعدها". 7 تاج العروس "4/ 296"، "حرش". 8 تاج العروس "7/ 143"، "سك".

وقد ذكر علماء اللغة أن لفظة الدرهم فارسية الأصل، وقد عربت، وقالوا في جمعها: دراهم ودراهيم1, وهو نقد من الفضة. وقد عرف بـ"درم" Diram في الفارسية وبـ"درخمة" "درخما" Drachma في اليونانية. والظاهر أن العرب أخذوا بالتسمية الفارسية, وقد استعملوا في تعاملهم دراهم الفرس ودراهم اليونان. وأشير إلى الدراهم في الآية: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} 2. ويذكر المفسرون أنه كان من عادة الجاهليين التعامل بوزن الدراهم بالأواقي إن زاد عددها على وزن أوقية، وكان وزن الأوقية أربعين درهمًا. فما نقص عن هذا المقدار، جرى التعامل عليه بالعدد، وما زاد عليه جرى التعامل عليه بالوزن3. وكانت الدراهم مختلفة كبارًا وصغارًا، فكانوا يضربونها مثقالًا، وهو وزن عشرين قيراطًا، ويضربون عشرة قراريط، وهي أنصاف المثاقيل. وكان أهل الجاهلية يتعاملون بها حسب وزنها, وهي دراهم الأعاجم4. وقد قسم العلماء الدراهم التي كان يستعملها الجاهليون من أهل مكة وغيرهم إلى نوعين: الدراهم السود الوافية، والدراهم الطبرية العتق, والوافية هي البغلية, وكان لهم دراهم تسمى "جوراقية". والدرهم الطبري: ثمانية دوانق، والدرهم البغلي: أربعة دوانق، وقيل العكس. والدرهم الجوراقي: أربعة دراهم ونصف5. وورد أن الدراهم كانت في أيام الفرس مضروبة على ثلاثة أوزان: منها درهم على وزن المثقال عشرين قيراطًا، ودرهم وزنه عشرة قراريط، ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطًا6.

_ 1 قال الفرزدق: تنفي يداها في كل هاجرة ... نفي الدراهيم تنقاد الصياريف تاج العروس "8/ 298"، "درهم". 2 سورة يوسف، الآية 20، المفردات "168". 3 تفسير الطبري "12/ 102 وما بعدها". 4 فتوح البلدان "451"، "أمر النقود". 5 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الحنبلي "ص108، 158 وما بعدها"، "تحقيق محمد حامد الفقي"، الأموال، لأبي عبيد "رقم 1622". 6 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "159"، الأحكام السلطانية للماوردي "153".

وعرفت دراهم الأكاسرة بـ"دراهم الأسجاد", قيل: إنها عرفت بذلك؛ لأنها كانت عليها صور يسجدون لها، وقيل: كانت عليها صورة كسرى، فمن أبصرها سجد لها، أي: طأطأ رأسه لها وأظهر الخضوع. وإياها عنى الأسود بن يعفر النهشلي في رواية من الروايات بقوله: من خمر ذي نطف أغنّ منطق ... وافى بها كدراهم الأسجاد1 وذكر في رواية أخرى، أن الأسجاد: اليهود والنصارى، أو معناه: الجزية2. وكان الفرس عند فساد أمورهم فسدت نقودهم من العين والورق غير خالصة، إلا أنها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة وكان غشها عفوًا لعدم تأثيره بينهم إلى أن ضربت الدراهم الإسلامية فتميز المغشوش من الخالص3. وورد أنه كانت باليمن دراهم صغار، في الدرهم منها دانقان ونصف4, وورد أن الدرهم اليمني كان دانقًا5. ويظهر أنه كان من أيام الحميريين، بدليل تسمية "الماوردي" لهذه الدراهم بدراهم حميرية، وكانت كما يقول قليلة6. وعلى هذا يكون أهل مكة قد تعاملوا في الجاهلية بعملة الروم, وبعملة الفرس، وهي الدراهم على الأكثر، وبعملة اليمن، وأشار بعض العلماء إلى عملة مغربية، لم يذكروا عنها شيئا7. وذكر أن "عمر بن الخطاب"، أمر بضرب الدراهم على نقش الكسروية، وشكلها بأعيانها، غير أنه زاد في بعضها: "الحمد لله"، وفي بعضها: "محمد رسول الله"، وفي بعضها: "لا إله إلا الله وحده". وكان ذلك سنة ثماني عشرة من الهجرة, وفي آخر مدة عمر وزن كل عشرة دراهم ستة مثاقيل. فلما بويع "عثمان" ضرب في خلافته دراهم نقشها: "الله أكبر".

_ 1 تاج العروس "2/ 372"، "سجد". 2 تاج العروس "2/ 372"، "سجد". 3 الأحكام السلطانية، للماوردي "154"، لأبي يعلى "163". 4 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "159". 5 المصدر نفسه "ص162"، الأحكام السلطانية, للماوردي "154". 6 الأحكام السلطانية، للماوردي "154". 7 شرح النووي على صحيح مسلم "4/ 323"، "حاشية على إرشاد الساري".

وفي عهد "معاوية"، ضرب الدراهم السود الناقصة من ستة دوانق، فتكون خمسة عشر قيراطًا، تنقص حبة أو حبتين. وضرب منها "زياد"، وجعل وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وكتب عليها، فكانت تجري مجرى الدراهم. ولما قام "عبد الله بن الزبير" بمكة ضرب دراهم مدورة، وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة، وكان ما ضرب منها قبل ذلك ممسوحًا غليظًا قصيرًا، فدورها عبد الله. وضرب مصعب بن الزبير دراهم بالعراق، وجعل كل عشرة منها سبعة مثاقيل, فلما استوثق الأمر لعبد الملك بن مروان، ضرب الدنانير والدراهم في سنة ست وسبعين من الهجرة1. وجاء في رواية أخرى أن أصحاب رسول الله كانوا يتعاملون بدراهم العجم، فكان إذا زافت عليهم أتوا بها السوق، فقالوا: من يبيعنا بهذه؟ وذاك أنه لم يضرب النبي، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا معاوية2. وإن أول من ضرب المنقوشة عبد الملك بن مروان3, ونجد بين العلماء اختلافًا في أول من أمر بضرب الدنانير والدراهم في الإسلام. وذكر بعض أهل الأخبار، أنه كانت لقريش أوزان في الجاهلية، فدخل الإسلام فأقرت على ما كانت عليه. كانت قريش تزن الفضة بوزن تسميه درهمًا، وتزن الذهب بوزن تسميه دينارًا، فكل عشرة من أوزان الدراهم سبعة أوزان من الدنانير. وكان لهم وزن الشعيرة وهو واحد من الستين من وزن الدرهم، وكانت لهم الأوقية وزن أربعين درهمًا، والنش وزن عشرين درهمًا، وكانت لهم النواة وهي وزن خمسة دراهم، فكانوا يتبايعون بالتبر على هذه الأوزان, وقد أقرهم الرسول على ذلك4. وكانوا يحتفظون بالأوزان المقررة، حتى إذا حدث اختلاف على الوزن، رجعوا إلى الوزن المقرر المعتبر. وكان "أبو وداعة بن ضبيرة السهمي" يمتلك وزن مثقال في الجاهلية، يوزن به5.

_ 1 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الحنبلي "ص160 وما بعدها الحاشية". 2 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "165". 3 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "164"، وللمقريزي رسالة في النقود القديمة والإسلامية مطبوعة. 4 فتوح البلدان "452 وما بعدها"، "أمر النقد". 5 فتوح البلدان "452"، "أمر النقد".

وقد كانوا يثلمون أطراف الدينار والدرهم، أو يقطعونهما قطعًا، فيتعاملون بالقطع حسب الوزن، ويفعلون ذلك غشًّا، كما كانوا يكسرون النقود؛ للتأكد من صحة معدنها، أو لتحويل الدنانير إلى تبر1. وقد نهي في الإسلام عن التلاعب بالعملة، مثل قرضهم أطراف الدراهم والدنانير بالمقراض؛ لغرض الاستفادة من تلك القراضة، إذ يجمعونها فيسبكونها، فيخرجون بذلك النقد المقروض عن سعره2. والدرهم إذا عدل المثقال، فهو درهم وافٍ، وهو الذي لا يزيد ولا ينقص بل وَفََّى بزنته3. وأطلق علماء اللغة على الدرهم لفظة "الوَرِق"، وعلى الموسر المالك للدراهم المورق، وسموا الفضة وَرِقًا4, وقد وردت اللفظة في نصوص المسند، وكأنها نوع من أنواع العملات، أو وزن. فورد "خمسي ورقم"، أي: "خمسين ورق"5، و"عشر ورقم"، أي: "عشر ورقٍ"، فكأن لفظة "ورق" هنا اسم علم لنوع معين من العملة، أو وزن معين وعيار كان معروفًا عندهم. وذهب بعض العلماء إلى أن الورق: الذهب, وهذا التفسير ينطبق مع ما ذهب إليه المستشرقون من أن لفظة "ورق" في المسند، تعني ذهبًا. ولو فسرناها بهذا المعنى أيضا، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون المراد من "ورقم" عملة خاصة ضربت من ذهب, وأرجح أن المراد منها عملة خاصة عرفت بهذه التسمية. وذكر بعض العلماء أن الورق: المال، ورجل وَرَّاق: كثير المال, والدراهم بعينها والفضة6.

_ 1 "وفي الحديث: نهى عن كسر السكة الجائزة بين المسلمين إلا من بأس، يعني الدنانير والدراهم المضروبة، أي: لا تكسر إلا من أمر يقتضي كسرها، إما لرداءتها أو في صحة نقدها ... وقيل: كانت المعاملة بها في صدر الإسلام عددًا لا وزنًا، وكان بعضهم يقص أطرافها فنهوا عن ذلك"، اللسان "6/ 20"، "بأس". 2 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "166". 3 تاج العروس "10/ 394"، "وفى". 4 تاج العروس "7/ 85 وما بعدها"، المخصص "12/ 24"، "باب بيع الورق بالذهب نسيئة"، عمدة القاري "11/ 296"، اللسان "1/ 374 وما بعدها"، "ورق". 5 Rep. Epigr. 4337 6 الاشتقاق "102".

وأطلق أهل الحجاز على الدرهم والدينار لفظة "الناض"، وذلك إذا تحول عينًا بعد أن كان متاعًا. وفي حديث "عمر" كان يأخذ الزكاة من ناض المال، وهو ما كان ذهبًا أو فضةً، عينًا أو ورقًا, وقالوا: إن النض هو الدرهم الصامت1. أما إذا كان الدرهم رديئًا، فيعبرون عنه بلفظة "بهرج" و"قسيّ", فيقولون: درهم بهرج، أي: رديء، وكل مردود عند العرب بهرج ونبهرج. وذكر بعض العلماء أن اللفظة فارسية من "نبهرة"، وأنها بمعنى الباطل والرديء، والدرهم البهرج الذي لا يباع به لرداءته والذي فضته رديئة, وكل رديء من الدراهم وكل مردود عند العرب بهرج2. وتعرف الدراهم بـ"قطاع" بلغة هذيل3. ودرهم زائف مغشوش، مردود لغش فيه, يقال: درهم زيف وزائف, وزاف فلان الدراهم: جعلها زيوفًا4, ودراهم فسول: دراهم زائفة، وأفسل عليه دراهمه: إذا زيفها. "ومنه حديث حذيفة أنه اشترى ناقة من رجلين وشرط لهما من النقد رضاهما، فأخرج لهما كيسًا فأفسلا عليه، ثم أخرج كيسًا فأفسلا عليه، أي: أرذلا وزيفا منها. وأصلها من الفسل وهو الرديء الرذل من كل شيء"5. وكان "عبد الله بن مسعود" يكسر الزيوف وهو على بيت المال6. ويعبر عن الدراهم الموزونة بـ"دراهم مجربة"7؛ لأنها مجربة. وقد ظهر من التجربة أنها صحيحة غير منقوصة. وقد ورد في الأخبار، أن خمسمائة الدرهم، كانت تعادل في أيام النبي اثنتي عشرة أوقية ونشًّا8, وأن الدرهم سبعة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة

_ 1 تاج العروس "5/ 90"، "نضَّ". 2 تاج العروس "2/ 10 وما بعدها"، "بهرج". 3 تاج العروس "5/ 474"، "قطع". 4 المخصص "12/ 27"، تاج العروس "6/ 133"، "زاف". 5 تاج العروس "8/ 58"، "فسل". 6 الأحكام السلطانية، لأبي يعلى "167". 7 تاج العروس "1/ 181"، "جرب". 8 ابن سعد، طبقات "1/ 262".

مثاقيل1. و"النش" نصف أوقية، وهو عشرون درهمًا؛ لأنهم يسمون الأربعين درهمًا أوقية، ويسمون العشرين نشًّا، ويسمون الخمسة نواة2. وقد ذكر علماء اللغة نقدًا دعوه "النُّمّي"، وقالوا: إنه الدرهم الذي فيه رصاص أو نحاس، وقال بعض آخر: إنه الفلس من الرصاص بالروميَّة، وكانت بالحيرة على عهد النعمان بن المنذر3. قال النابغة أو أوس بن حجر: وقارفت وهي لم تجرب وباع لها ... من الفصافص بالنمي سفسير4 و"الدانق" من الأوزان ومن النقد. وهو "داناق" أيضًا، من أصل فارسي هو "دانك" في الفهلوية، ومن Dang و"دانك" Danak في الفارسية، وهو "دنك" Dank في الآرمية5. وهو يعادل سدس الدينار أو سدس درهم, وكان معروفا عند أهل مكة في الجاهلية6. أما "الفلس"، فلفظة لاتينية يونانية الأصل، عربت من أصل Follis اللاتيني، ويراد بها نقود مسكوكة من النحاس, وقد استعملها العرب في تعاملهم واحتفظوا بالأصل الأجنبي. وقد كان الفلس في أيام القيصر "أنستاس الأول" "أنسطاسيوس الأول" "491 - 518م" زهاء ثلاثين جرامًا، ووسم بالحرف M, وظهرت بعد ذلك فلوس بأوزان تقل عن هذه. ولما ضرب المسلمون النقد، كانت الفلوس في جملة ما ضرب من نقد7.

_ 1 شرح النووي على صحيح مسلم "4/ 324"، "حاشية على الإصابة". 2 تاج العروس "4/ 356"، "نش". 3 تاج العروس "9/ 85"، "نم"، "ن/ م/ م"، "10/ 378"، "نمى"، اللسان "12/ 593"، "نمم". 4 تاج العروس "3/ 272"، "السفسير"، "9/ 85"، "ن/ م/ م". 5 Ency., I, p. 912 6 اللسان "11/ 394"، "دنق"، القاموس "3/ 232"، تاج العروس "6/ 349"، "دنق". 7 تاج العروس "4/ 210"، "الفلس"، Ency., II, p. 47

وذكر بعض أهل الأخبار أن "القيراط" جزء من الدينار أو الدرهم. وقد ذكر "القيراط" في الحديث؛ في حديث رعي الرسول غنم قريش وفي أحاديث أخرى1. وذكر بعض العلماء أن العرب لم تكن تعرف القيراط الذي هو من النقد2. وذكر "ابن الأثير" أن القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشرة، ويظهر أن منهم من كان يستعمله وزنًا، ومنهم من جعله جزءًا من الدنانير والدراهم3.

_ 1 إرشاد الساري "4/ 127". 2 المصدر نفسه. 3 تاج العروس "5/ 203".

الفصل الثاني عشر بعد المئة: الصناعة والمعادن والتعدين

الفصل الثاني عشر بعد المئة: الصناعة والمعادن والتعدين مدخل ... الفصل الثاني عشر بعد المائة: الصناعة والمعادن والتعدين الصناعة حرفة الصانع وعمله الصنعة. ورجل صنع: حاذق في الصنعة، وعماد الصانع على يديه، يستعملها في صنع الأشياء، كما يعتمد على ذكائه في تحويل الأشياء إلى أشياء أخرى أهم منها أو أي شيء آخر يريده، أو يطلب منه. وهو بالطبع من أهم العناصر المنتجة اللازمة في الحياة الاقتصادية، فهو محور الإنتاج، وعلى قدر إنتاج أمة يقاس غناها ومقدار تقدمها في الحياة وتكون منزلتها بين الشعوب. فبالصناعة يتم تحويل المواد الخام الفائضة عن الحاجة، إلى مواد أخرى أفيد منها، تستهلك في الأسواق المحلية، أو تُبَاع في الأسواق الخارجية. والحرفة: الطعمة والصناعة التي يرتزق منها، وهي جهة الكسب. وكل ما اشتغل الإنسان به وضري به، أي أمر كان, فإنه عند العرب يسمى "صنعة" و"حرفة", يقولون: صنعة فلان أن يعمل كذا، وحرفة فلان أن يفعل كذا، يريدون دأبه وديدنه. ذكر أن "علي بن أبي طالب" قال: "إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا, سقط من عيني"1. و"المهنة" عند العرب: الحذق بالخدمة والعمل, وامتهنه: استعمله للمهنة

_ 1 تاج العروس "6/ 69"، "حرف".

وابتذله، والماهن: العبد والخادم1, والمهنة: العمل، والعامل: هو الذي يقوم بعمل ما، والعَمَلَة: العاملون بأيديهم، وهم الذين يرتزقون بعمل أيديهم, والعمالة: رزق العامل الذي جُعل له على ما قلد من العمل. ومن العملة: العاملون في طين، أو في حفر، أو في بناء, أو غير ذلك, وعامله معاملة: سامه بعمل, والاعتمال الذين يقومون بما تحتاج إليه من عمارة وزراعة وتلقيح وحراسة ونحو ذلك, وما يعطاه العامل من أجر العمل هو "العملة"2. وأغلب العَمَلة فقراء لا يملكون شيئًا، رزقهم بعملهم، فإذا مرض أحدهم أو أصيب بعاهة انقطع رزقه. ثم إن أجورهم قليلة وأرزاقهم من عملهم شحيحة؛ ولذلك كانت حياتهم ضنكًا, عليهم العمل قدر الإمكان لإعاشة أنفسهم وذويهم، والمشي على أرجلهم بحثًا عن عمل؛ ولهذا فلا عجب إذا ما عرفوا بـ"بني عمل". و"بنو عمل": المشاة على أرجلهم من المسافرين, الذين وصفهم أحد الأعراب, فقال: يحث بكرًا كلما نص ذمل ... قد احتذى من الدماء وانتعل ونقب الأشعر منه والأظل ... حتى أتى ظل الأراك فاعتزل وذكر الله وصلى ونزل ... بمنزل ينزله بنو عمل لا ضفف يشغله ولا ثقل3 والحرفة، أي: العمل باليد, من الأمور المستهجنة عند الأعراب، وعند أكثر العرب أيضًا، فلا يليق بالعربي الشريف الحر أن يكون صانعًا؛ لأن الصناعة من حرف العبيد والخدم والأعاجم والمستضعفين من الناس. وقد سبق أن تحدثت عن مكانة الصناع في المجتمع، وعن ازدراء الناس لهم، على الرغم من احتياجهم إليهم، وكونهم الطبقة المنتجة المثمرة في المجتمع، وأن أيديهم هي التي تصنع ما يحتاج الإنسان إليه من حاجات، ومدحهم الرجل الصنع اليد بقولهم: "رجل صنع اليدين", أي: حاذق ماهر في الصنعة, مجيد, من قوم صنعي الأيدي،

_ 1 تاج العروس "9/ 354 وما بعدها"، "مهن". 2 تاج العروس "8/ 35"، "عمل". 3 تاج العروس "8/ 35"، "عمل".

حتى إنهم كانوا إذا وصفوا إنسانًا بالبلاغة، قالوا: رجل صنع اللسان, ولسان صنع. قال الشاعر حسان بن ثابت: أَهدى لَهُم مِدحَتي قَلبٌ يُؤازِرُهُ ... فيما أَرَادَ لِسانٌ حائِكٌ صَنَعُ1 ولا تقوم صناعة، إلا في مكان تتوفر فيه إمكانياتها من استقرار وأمن، ومن وجود حاجة إليها، ومن توفر المواد الأولية فيها، والمواد الخام اللازمة لها, ومعنى هذا وجود مكان حضري. أما البداوة، فحاجاتها إلى الإنتاج قليلة؛ لسذاجة الحياة وبساطتها فيها؛ ولهذا تكون الصناعة فيها بسيطة بساطة تتناسب مع بساطة ذلك المجتمع البدوي، ومع درجة بداوته؛ ولهذا تفاوتت مستويات الصناعة البدوية بتفاوت مستوى البداوة، وبتفاوت درجة حاجاتها إلى الأشياء. فالبداوة المنعزلة عن الحضارة، التي قلَّ اتصال أبنائها بالحضر وبالعالم الخارجي، وشحت خيراتها ومواردها الأولية، لا يمكن أن تظهر فيها صناعة متطورة، ولا يعقل نمو عمل مزدهر فيها؛ لانعدام الموارد الطبيعية المغذية للعامل وللسادة أصحاب المال، ولعدم وجود حاجة إليها مع تلك البداوة القانعة بالبساطة في الحياة. ومن هنا نجد أن الصناعة، لم تتطور، إلا في المجتمعات المتطورة التي توفرت فيها إمكانيات التصنيع، وشعرت بضرورة الاستفادة من الثروات الطبيعية المتوفرة لديها بتصنيعها، أي: بتحويلها إلى موارد أخرى يحتاج إليها، وتوفرت فيها الوسائل اللازمة لظهور الصناعة. والمجتمعات البدوية مهما كانت من البداوة أو البدائية، فإنها لا تخلو من وجود صناعات بها؛ صناعات بدائية، هي من ناتج حاجات ذلك المجتمع، وناتجها يتناسب بالطبع مع حالة تلك البداوة. ولا يصح نفي وجود الصناعة بها. وقد لعب الرقيق والموالي دورًا كبيرًا في أعمال الحرف والزراعة في جزيرة العرب, إذ استخدموا في التعدين وفي الزرع. وقد ذكر "الهمداني" أنه كان بمعدن "شمام" ألوف من المجوس الذين يعملون المعدن، حتى إنه كان لهم بيتا نار يعبدان في ذلك المكان2, وذكر أنه كان بـ"جهران" قوم من وضيع

_ 1 تاج العروس "5/ 421"، "صنع". 2 الصفة "149".

تبع، أي: من الطبقة الوضيعة، وكذلك بـ"قتاب"، حيث نسبوا إلى "تبع" قوله: فسكنت العراقَ خيار قومي ... وسَكَنت النبيط قرى قتاب1 وكان بمدينة العقيق، وهي معدن، مائتا يهودي2, ولم يذكر "الهمداني" متى كانوا هناك ولا سبب وجودهم بهذا الموضع؛ للاتجار أو للعمل بالمعدن. وقد نتج من هجرة الأجراء والصناع إلى القرى والمدن اختلاط في السكان، لا يحدث مثله عند أهل الوبر, وهو مما جلب ازدراء الأعراب على الحضر، فكان سكان "ذمار" جمعًا من حمير ومن أنفار من الأبناء, وكان أهل "جهران" من بطون حمير، وقوم من وضيع تبع3. وقد استعمل الهمداني لفظة "أخلاط" للتعبير عن اختلاط سكان موضع ما، ووجود عناصر متباعدة فيه لا ترجع إلى قبيلة واحدة4. واستعمل لفظة "خليط" كذلك5؛ لأن مدن اليمن وقراها كانت خليطًا من بطون ترجع إلى عشائر مختلفة, وهي سمة الحياة الحضرية، حيث يفد الناس إلى مواضع الحضارة من مختلف البطون والعشائر. وقد استعمل "الهداني" لفظة "لخوم العرب" في معنى بطون العرب، وكذلك لفظة "طخوم" في المعنى ذاته6. وذلك في أثناء حديثه عن المواضع التي اختلط فيها السكان؛ لوجود فرص العمل بها والرزق الوافر الجزيل.

_ 1 الصفة "104". 2 الصفة "153". 3 الصفة "104". 4 الصفة "95"، "وفيهم أخلاط من بني غيلان ... ". 5 الصفة "54". 6 الصفة "165".

الإجارة

الإجارة: والأجر والأجرة يقال فيما كان عن عقد وما يجري مجرى العقد7. والإجارة:

_ 1 المفردات "ص9".

ما أعطيت من أجر في عمل1, وهي شرعًا: عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم2, وهي واسعة تشمل نواحي متعددة من فروع الاستئجار. والأجير: من يشتغل لغيره في مقابل أجر يدفع له, والأجرة: الكراء, وهو ما يعطى الأجير في مقابل العمل3. منهم من يشتغل في الحرف، مثل النجارة والحدادة والبناء وأمثال ذلك، ومنهم من يشتغل في الزراعة، ومنهم من يستأجر لأداء أعمال لأجل، مثل خدمة القوافل، أو حراسة زرع, وما شابه ذلك، فإذا انتهى الأجل انتهى العمل. وما يدفع إلى الأجير في مقابل عمله، يتوقف على الشروط التي اتفق صاحب الأرض مع الأجير عليها. فقد يكون الأجر نقدًا، ويقال لذلك: "ورقم" "ورق" في لغة المسند, وهو في القليل؛ لقلة النقد آنذاك. وقد يكون حصة، أي: نصيبًا يتفق عليه مع الملاك يؤخذ من الحاصل، وقد يكون مقايضة، بأن يدفع للأجير ما يحتاج إليه في حياته من ملبس, أو غذاء، أو حيوان، وأمثال ذلك، في مقابل جهده وتعبه. ومن ذلك استئجار الإنسان للقيام بتنفيذ عقد يحدد ويبين ويتفق عليه، كأن يقوم برعي النعم والماشية مقابل مبلغ من مال أو شيء آخر يتفق عليه، كالذي رُوِيَ من أن الرسول رعى غنم قريش على قراريط4, أو استئجار شخص أو أشخاص للعمل في سفينة أو في أرض أو لإرشاد قافلة أو نفر إلى طريق للوصول إلى موضع5, أو استئجار رجل ليعمل عملًا يحدد بأجل، أي بوقت، كأن يحدد بالساعات أو النهار أو الليل كالحراسة, أو أيامًا أو شهورًا أو سنة أو أكثر أو بغير أجل موقوت6, أو استئجار رجل للقيام بعمل محدد معين كالغزو7، أو الحمل، أي أن يحمل حملًا ينقله إلى موضع يعين له, أو ينقله من مكان إلى مكان8.

_ 1 اللسان "4/ 10". 2 إرشاد الساري "4/ 126". 3 تاج العروس "3/ 7"، "أجر". 4 إرشاد الساري "4/ 126 وما بعدها". 5 إرشاد الساري "4/ 127 وما بعدها". 6 إرشاد الساري "4/ 131 وما بعدها". 7 إرشاد الساري "4/ 129 وما بعدها". 8 إرشاد الساري "4/ 135".

ومن ذلك استئجار النبي "عبد الله بن أريقط" من "بني الديل"، ثم من "بني عدي" ليكون هاديًا له لطريق يوصله إلى يثرب، فساحل به وبأبي بكر وبعامر بن فهيرة، حتى بلغ يثرب. وكان قد ساحل؛ لأن أهل مكة كانوا يتبعون طريق "بدر" إلى المدينة، فأراد التخلص بذلك من تعقيبهم له1. واستئجار المقاتلين للقتال عنهم, فقد كان أحدهم يعتذر عن المشاركة بنفسه في القتال لوجود أسباب مانعة، فيرسل غيره للقتال عنه، يدفع إليه أجرًا عن ذلك2. و"الكروة" و"الكراء": أجرة المستأجر, والمكاري: هو الذي يكري دابته لغيره في مقابل "كروة"3, والمكارون: هم الذين يكرون دوابهم، وتدخل الإبل فيها، فقد كان من أصحاب الإبل من يكاري إبله للتجار ولغيرهم, تنقلهم إلى مسافات بعيدة أو قريبة. ويستخدم الملاكون وسادة الأرض الأجراء -ممن لا أرض لهم, ولا مال لديهم يحصلون به على أرض يستغلونها- في الاشتغال بأرضهم وبمزارعهم لإصلاحها وزرعها وبنائها, ويعرف هؤلاء بـ"ملجا" في بعض نصوص المسند, واللفظة من أصل "لجا" التي هي لجأ في عربيتنا. ويقيم اللاجئ في ملجئه ويتمتع بحماية صاحبه وسيده ما دام فيه، يزرع ويبني لسيده في مقابل هذه الحماية التي يتمتع بها, والحماية التي تحميه من أي ظلم أو اعتداء4. ويعبر عن الأجراء الذين يستخدمهم الملَّاكون في زراعة الأرض واستغلالها مقابل أجر يدفع لهم بلفظة "أجرم" في المسند5, أي: أجير وأجراء. والأجراء جماعة كبيرة، تنقلت من ملك إلى ملك، ومن خدمة سيد إلى خدمة سيد آخر؛ لتخدم ملاكًا في مقابل أجر يتفق عليه، وعقد يبرم بين المالك والأجير، فإذا انتهى العقد أو العمل، أو رأى المالك انتفاء الحاجة إلى خدمة الأجير، أنهى عمله. وقد كان الأجراء طبقة بائسة لا تملك شيئًا غير عمل يدها؛ ولهذا كانت مضطرة بحكم فقرها هذا إلى التنقل من مكان إلى مكان للحصول على عمل تقتات

_ 1 إرشاد الساري "4/ 128". 2 إرشاد الساري "4/ 130". 3 تاج العروس "10/ 313"، "كرى". 4 Kat. Texte, II, S. 36 5 Jamme, South Arabian Inscriptions, pp. 76, 77

منه؛ فكانت من جملة المشكلات الاجتماعية التي تعرضت لها حكومات جزيرة العرب في ذلك العهد. وجاء في أحد النصوص المعينية: "كل معنم حرم وأجرم"، أي: "كل معين أحرار وأجراء", ويقصد بـ"كل معين" كل شعب معين1؛ فقسم هذا النص شعب معين إلى أحرار، وإلى أجراء, وهم أكثر حرية من "الأدم"، أي: "العبيد" والرقيق؛ لأنهم يشتغلون بأجر وبعقود يتفقون عليها، فإذا انتهى العقد أو حصل خلاف، جاز للأجير الانتقال إلى موضع آخر، أو إلى صاحب محل آخر للعمل لديه، على حين لا يجوز للعبد فعل ذلك؛ لأنه ملك يمين. ومن أجراء الزراعة أجراء "المحاينة"، يؤدون خدماتهم موسم الحصاد، وينالون أجرهم في مقابل حصاد الحصاد، حسب ما اتفق عليه. فهم يحصدون الزرع وينقلونه مع سنبله إلى موضع تجميعه2, ويكون ذلك في المزارع الكبيرة التي تحتاج إلى أعداد كبيرة من حُصَّاد الزرع. واليمن، هي في مقدمة أجزاء جزيرة العرب في الصناعة، ولا نكاد نجد في جزيرة العرب مكانًا يسبقها فيها. وهي الأولى في الإنتاج أيضا, وقد عرفت منتجاتها في كل موضع من بلاد العرب. وهي المكان الوحيد فيها، الذي زادت صادراته فيه على وارداته، وكان مستواه المعاشي فيه أعلى من المستوى المعاشي لبقية أجزاء جزيرة العرب, وكان مستهلكًا ومنتجًا، لحاجته إلى الاستهلاك. ثم هو المكان الوحيد، الذي نجد فيه التمايز الطبقي، والعنعنات الطبقية واضحة ظاهرة؛ لتباين الظروف المعاشية التي عاشت فيها طبقات المجتمع؛ فأسياد أغنياء، وطبقات وسط، وطبقات فقيرة معدمة لا تجد رزقها إلا بشق الأنفس. ولم تبرز صناعة اليمن في نوع واحد أو في صنف معين، بل برزت في كل نوع من أنواعها المعروفة في ذلك العهد، والتي دعت الحاجة إلى ظهورها، والتي وجدت موادها الأولية فيها, مثل صناعة الحديد, واستخراج المعادن وتحويلها إلى مصنوعات، والتجارة, والحياكة، والدباغة، والأصباغ والصموغ، وغير ذلك من صناعات اشتهرت اليمن بها وارتبط اسمها بها.

_ 1 النقش رقم 5، الفقرة 3 من كتاب خربة معين "ص5". 2 تاج العروس "9/ 188"، "حين".

و"الذهب" هو "ذهبن" في لغة المسند، أي: "الذهب", ويقال له: التبر أيضًا. وذكر أن "التبر" الذي في المعدن، والذي لم يضرب ولم يصنع1, ومن أسمائه "العسجد". وقيل: العسجد اسم جامع يطلق على الجوهر كله كالدر والياقوت2. وذهب "إبريز" بمعنى خالص, و"العقيان": الذهب الخالص، أو الذهب الذي لا يستذاب من الحجارة، وإنما هو ذهب ينبت نباتًا3. مما يدل على أنهم يقصدون وجود حبيبات منه خالصة في معادنه، يجمعونها, فيحصلون عليه من غير نار ولا إذابة حجر. وكانوا يطحنون أحجار الذهب، ويذرون تراب المعدن؛ لاستخلاص الذهب منه, يقال: "ذريت تراب المعدن: طلبت ذهبه"4. ويقال لتراب الذهب: "السحالة", وهي أيضًا قشر البر والشعير والأرز5. وكانوا يضعون المعدن في التنور ليميع، ثم يجعلونه في "الكوج"؛ ليتخلص المعدن وينقى من الشوائب6. وقد ذكر الجغرافيون العرب أسماء مواضع عرفت بوجود خام الذهب بها، مثل موضع "بيشة" أو "بيش"، وقد كان الناس يجمعون التبر منه، ويستخلصون منه الذهب7, و"ضنكان" وكان به معدن غزير من التبر8, والمنطقة التي بين القنفذة ومرسى "حلج"9. وورد أن بـ"بيش" عدة معادن10, وذكر "الهمداني" أن بقرية "بنات حرب" شيئًا من الذهب11, وأن معدن "صعاد"، وهو من ديار "عقيل" هو أغزر معدن في جزيرة العرب، وهو الذي ذكره

_ 1 تاج العروس "1/ 258"، "ذهب". 2 تاج العروس "2/ 422"، "العسجد". 3 تاج العروس "10/ 249"، "عقى". 4 تاج العروس "10/ 136"، "ذرو". 5 تاج العروس "7/ 372"، "سحل". 6 بلاد العرب "380 وما بعدها". 7 البلدان "2/ 333 فما بعدها"، الصفة "127، 153، 257"، المسالك والممالك "188"، فؤاد حمزة، في بلاد عسير "61 فما بعدها"، Moritz, S. 105 8 الصفة "120"، "وضنكان: وهو معدن غزير ولا بأس بتبره". 9 Moritz, S. 110, Glaser, Skizze, S. 29 10 تاج العروس "4/ 285"، "بيش". 11 الصفة "257".

الرسول في قوله: "مُطِرَتْ أرضُ عقيل ذهبًا " , مما يدل على أنه كان معدن ذهب1. وقد ذكر بعض العلماء أن العرب تسمي معدن الذهب "خُزَيْبَة"2. ومن معادن الذهب، معدن "القُفاعة"3، ومعدن "الأحسن"، "الحسن" وهو معدن لبني كلاب، من أول عمل المدينة وأدنى عمل المدينة إلى اليمامة4, ومعدن "المؤخرة"، وهو من مياه "بني الأضبط" من بني كلاب, وهو معدن ذهب وجزع أبيض5، و"ثخب"، وهو جبل بنجد لبني كلاب، عنده معدن ذهب ومعدن جزع6، و"القَشْراء"7، و"خُصْلة"، ومعدن "خصلة" بحذائها، وكان به ذهب8، ومعدن "شيبان"، وبه معادن الذهب والفضة والصفر9، ومعدن "موزر" بضرية من ديار كلاب10، و"ناضحة" بين اليمامة ومكة11, ومعدن "الهردة"12، ومعدن "المخلفة", وهو معدن ذهب جيد بأرض حجور. وقد وصفه الهمداني، وذكر ما كان يستخرج منه من الذهب13, وقد ضبط معدن الهردة بـ"الهروة" في موضع آخر من "تاج العروس"، وقال: إنه عند "الحوأب" وبه معدن ذهب14، ومعدن

_ 1 الصفة "177". 2 كجهينة، تاج العروس "1/ 232"، "خزب". 3 الصفة "67، 73"، العرب، السنة الثانية "الجزء الحادي عشر" "آب 1968"، "ص980 وما بعدها"، "أشكر الدكتور صالح أحمد العلي على تقديمه هذا العدد وأعدادًا أخرى من هذه المجلة إليَّ للاستفادة منها، ولتقديمه كتبًا أخرى لم تكن متيسرة لديَّ"، الصفة "67". 4 بلاد العرب، للحسن بن عبد الله الأصفهاني "ص370، 387" "1968"، "تحقيق حمد الجاسر والدكتور صالح أحمد العلي". 5 بلاد العرب "198"، العرب "آب 1968"، "ص984". 6 بلاد العرب "159، 199"، تاج العروس "1/ 162"، "ثخب"، العرب "984"، "آب 1968". 7 بلاد العرب "199"، العرب "979 وما بعدها"، "آب 1968". 8 بلاد العرب "45". 9 بلاد العرب "398". 10 بلاد العرب "200"، العرب "984 وما بعدها"، "آب 1968". 11 بلاد العرب "166"، العرب "985"، "آب 1968". 12 بلاد العرب "154"، تاج العروس "2/ 546"، "هرد"، العرب "989"، "آب 1968". 13 الصفة "113"، العرب "983"، "آب 1968". 14 تاج العروس "3/ 56", "بقر".

"الهجيرة"1, ومعدن "الحراضة"، ويقع بين "ينبع" والمروة معادن للذهب2, ومعدن "الحُفير" بناحية "عماية" وهو معدن ذهب غزير، ومعدن "الحسن"، ومعدن "الثنية", ثنية "حصن بن عصام الباهلي"، ومعدن تياس، ذهب مخف بتياس3, و"العقيق" وهو من معادن الذهب4, وهو مدينة كان فيها مائتا يهودي ونخل كثير وآبار5, ومعدن الضبيب، عن يسار الضبيب6. ويظهر أن منجم "مهد الذهب"، هو المنجم الذي كان لبني سُليم، فعرف باسمهم وقيل له: "معدن بني سليم" "معدن سُلَيم"، وقد أقطعه الرسول "بلال بن الحارث"7. وقد عثرت شركة التعدين السعودية العربية على أدوات فيها استعملها الأولون قبل الإسلام في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه، مثل: رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح، وشاهدت آثار القوم في حفر العروق التي تكون الذهب. وقد عرف معدن "بني سليم" بـ"فران" "قران"، وقد نسب إلى "فران بن بلي" دخلوا في "بني سليم"، ويأخذ عليه طريق الكوفة إلى مكة8. وتعرف "الفضة"، في نصوص المسند بـ"صرفن" "الصرف", والفضة من المعادن المشهورة المعروفة في اليمن, و"الصريف": الفضة الخالصة9. وقد كانت جزيرة العرب في جملة الأسواق التي موَّنت العبرانيين بهذا المعدن10. ومن المواضع التي عرفت بالفضة "عوسجة" في بلاد هذيل, فقد كان

_ 1 الصفة "154"، العرب "989"، "آب 1968"، الصفة "154". 2 العرب "990"، "آب 1968". 3 الصفة "152"، البلدان "2/ 277". 4 الصفة "166". 5 الصفة "153"، البلدان "2/ 277". 6 الصفة "153". 7 "بلال بن الحارث بن بجير"، الإصابة "1/ 168 وما بعدها"، "رقم 735"، الصفة "131"، Naval, p. 517 8 بلاد العرب "148، 174، 179، 401، 403"، "وفران بن بلي بن عمران بن الحافي في قضاعة"، تاج العروس "9/ 300"، "فرن". 9 تاج العروس "6/ 163"، "صرف". 10 Hastings, p. 619

معدنًا للفضة1, ومعدن "شمام" معدن فضة ومعدن نحاس وصفر، "وكان به ألوف من المجوس الذين يعملون المعدن، وكان به بيتا نار يعبدان2"، ومعدن "شيبان"3، ومعدن "اليحموم". وقد ذكر "الهمداني" أن بـ"قرية المعدن" معدن فضة، فضة لا نظير لها في الغزر، وبقربه معدن الرضراض4، وهو معدن فضة كذلك، لا نظير له5. وذكر صاحب كتاب بلاد العرب أن "خزبة" معدن من معادن اليمامة، وكانت جبالها إنما هي فضة، ثم مسخت معادنها فصارت شيئًا آخر؛ إذ صيرت إلى "الكوج" التي كانت تخلص فيه، وتخلصت تصدعت كتصدع الزجاج، لا ينتفع بها6. و"اللجين": الفضة7، و"الوذيلة": القطعة من الفضة، وقيل: السبيكة منها، وقيل: القطعة من الفضة المجلوة، ولعل ذلك هو الذي حمل الطائيين على تسمية المرآة "الوذيلة"؛ لأن المرآة في ذلك الوقت صفيحة من المعدن مجلوة، ينظر فيها8. وقد كانت السلطات الحاكمة تأخذ "الخمس" من معادن "الفرع"، و"نجران"، و"ذي المروة"، و"وادي القرى"9. مما يدل على أن الناس كانوا يستغلون مناجم هذه الأرضين في الإسلام. ويظهر أن ما كان يستخرجه أهل الجاهلية من الذهب والفضة من معادنهما لم يكن بمقياس واسع, وبكميات كبيرة تصلح للتصدير إلى الخارج، بدليل أننا لم نعثر على خبر عنه لا في كتابات المسند ولا في روايات أهل الأخبار، ثم إنهم لو كانوا يستخرجون المعدنين المذكورين بكميات وافرة، لاستمروا على الاستخراج ولحسنوا كيفية استخلاص المعدنين المذكورين من معدنهما إلى ظهور الإسلام،

_ 1 تاج العروس "2/ 74"، "عسج"، بلاد العرب "241"، الصفة "147، 149، 153". 2 بلاد العرب "236"، الصفة "149، 154". 3 بلاد العرب "398". 4 الصفة "81". 5 الصفة "202". 6 بلاد العرب "379 وما بعدها". 7 تاج العروس "9/ 330"، "لجن". 8 تاج العروس "8/ 153"، "وذل". 9 البلاذري، فتوح "27".

ولأشير إلى ذلك حتمًا في الموارد الإسلامية، ولما سكتت هذه الموارد عن الإشارة إليهما. وقد استخدم أهل اليمن الرصاص في كثير من الأعمال، منها صبه في أسس الأعمدة, وبين مواضع اتصال الحجارة؛ لترتبط بعضها ببعض, وقد عثر المنقبون على بقايا منه في مواضع متعددة من الأماكن الأثرية باليمن. والرصاص ضربان: أسود وهو الأسرب والأبار، والأبيض وهو القلعي. وقد عرف بالآنك، والأسرب، والأسرف، والصرفان, وشيء مرصص مطلي به, وكانوا يطلون الأواني به، ويشربون بها1. وذكر أن "الآنك" هو الأسرب، وهو الرصاص القلعي، أو أبيضه، أو أسوده، أو خالصه، وذكر أن الآنك بمعنى الخالص، وأنهم كانوا يقولون: هذا رصاص آنك، بمعنى: هذا رصاص خالص2, وقال بعض العلماء: الآنك هو القزدير "القصدير". وورد في الحديث: "من استمع إلى مغنية صبَّ الله الآنك في أذنيه يوم القيامة"3. والأسرب، الآنك، وهو الرصاص، واللفظة من المعربات، عربت من أصل فارسي4. والأسرف، لفظة معربة أيضًا، تعني الآنك، من أصل فارسي، هو "سرب"5, و"الصرفان" هو الرصاص القلعي، وقيل: النحاس6. وأرى أن الرصاص القلعي، هو رصاص استخرج من "القلعة" موضع باليمن، بوادي "ظهر" به معدن حديد، وإليه نسبت السيوف القلعية, زعموا أن "الجن" تغلبت عليه7. وللحديد معدن في "رُغافة" باليمن على مرحلة من صعدة8. وفي "قساس" -ذكر أنه جبل بديار بني نمير، وقيل: بني أسد- فيه معدن حديد. وذكر أهل الأخبار اسم موضع آخر عُرف بوجود معدن الحديد فيه، قالوا: إنه بأرمينية منه

_ 1 القاموس "2/ 304"، تاج العروس "4/ 397"، "رصَّ". 2 تاج العروس "7/ 104"، "أنك". 3 تاج العروس "7/ 104"، "أنك". 4 تاج العروس "1/ 297"، "سرب". 5 تاج العروس "6/ 138"، "سرف". 6 تاج العروس "6/ 164"، "صرف". 7 تاج العروس "5/ 480"، "قلع". 8 العرب "199 وما بعدها"، "آب 1968".

السيوف القساسية1. وذكر "الهمداني" أن باليمن معادن حديد غير معمولة بنقم وغمدان2. ولعل كثرة الحديد باليمن، واشتهارها به، جعل أهل الأخبار يروون أن أول من عمل السنان من حديد هو "ذو يزن" "ديرون الحميري"3، وإنما كانت أسنة العرب من صياصي البقر4. وقد اشتهرت اليمن بسيوفها، فالسيوف اليمانية هي من السيوف الجيدة التي اكتسبت سمعة طيبة عند الجاهليين. و"النحاس" الصفر، وقيل: ما سقط من شرار الصفر، أو الحديد إذا طرق5. والصفر: النحاس الجيد، وقيل: هو ضرب من النحاس، وقيل: هو ما صفر منه, والصفر: الذهب أيضا6. واستعملت لفظة "هاع" بمعنى: سال وذاب, في نصوص المسند. استعملت لمناسبة صب الرصاص الذائب في أساس الأبنية وبين فواصل أحجار الأعمدة؛ لتشدها شدًّا محكمًا. والكبريت من المعادن الموجودة في اليمن, و"ذَمار" هي مركزه ومنها يجلب إلى سائر أعمال اليمن7. وذكر أنهم كانوا يكبرتون أباعرهم؛ يطلونها بالكبريت مخلوطًا بالدسم والخضخاض، وهو ضرب من النفط أسود رقيق لا خثورة فيه، وليس بالقطران؛ لأنه عصارة شجر أسود خاثر. وكانوا يستحمون في العيون التي يجري منها الماء مشوبًا به، ولها رائحة الكبريت8. و"الجزع" من الأحجار التي تستعمل في الفصوص التي توضع في الأختام.

_ 1 قال الراجز: أخضر من معدن ذي قساس ... كأنه في الحير ذي الأضراس ترمي به في البلد الدهاس تاج العروس "4/ 217"، "قس"، العرب "992"، "آب 1968". 2 الصفة "202". 3 ثمرات الأوراق "2/ 133"، "حاشية على المستطرف". 4 ثمرات الأوراق "2/ 133"، العقد الفريد "3/ 370"، اللسان "2/ 452"، الروض الأنف "1/ 9"، تاج العروس "2/ 145". 5 تاج العروس "4/ 254"، "نحس". 6 تاج العروس "3/ 337"، "صفر". 7 ابن المجاور "2/ 190 وما بعدها". 8 تاج العروس "1/ 575"، "كبرت".

وقد تحفر عليها كتابة أو صور1. وقد عثر على فصوص من هذا النوع في مواضع عديدة من الآثار, في اليمن وفي العربية الجنوبية والغربية وفلسطين. وذكر علماء اللغة أن الجزع: الخرز اليماني الصيني، وزاد بعضهم: الصيني، فيه سواد وبياض, تشبه به الأعين. قيل: إنه سمي جزعًا؛ لأنه مجزع، أي: مقطع بألوان مختلفة, وقد أشير إليه في شعر امرئ القيس2. ومن الجزع: الجزع السماوي، وهو العشاري من وادي عشار3. وقد اشتهرت "ظفار" بالجزع, فقيل: "جزع ظفار"4. قيل: إنه من "ظفار الحقل"، قرب صنعاء على مرحلتين منها، وقيل: إنه منسوب إلى "ظفار أسد" مدينة باليمن5, وكان لعائشة عقد من جزع ظفار6. واستخرج أيضا من جبل شبام7, ومن معادنه معدن ضهر، ومعدن سعوان، ومعدن عذيقة، مخلاف خولان8. ومن الجزع الموشى والمُسيّر، وهو في مواضع من اليمن، منها النقمى9. وعرفت اليمن بالعقيق، تتخذ منه الفصوص, يؤتى به من اليمن من معدن له على مرحلة من "صنعاء" يقال له: "مقرأ "مقرى", وهو أجود من عقيق غيرها10. ويوجد عقيق آخر يستورد من الشحر, وقد تختم

_ 1 الإشارة إلى محاسن التجارة "ص18". 2 كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب وقال أيضًا: فأدبرن كالجزع المفصل بينه ... بجيد معم في العشير مخول القاموس "3/ 12"، "جزع"، تاج العروس "5/ 300"، "جزع"، ابن المجاور "2/ 184". 3 الإكليل "8/ 30"، العرب "998"، "آب 1968". 4 قال المرقش الأكبر: تحلين ياقوتًا وشذرًا وصنعة ... وجزعًا ظفاريًّا ودارًا توائما تاج العروس "5/ 300"، "جزع". 5 تاج العروس "3/ 370"، "ظفر". 6 تاج العروس "5/ 300"، "جزع". 7 ابن المجاور "2/ 184". 8 الإكليل "8/ 30"، العرب "997 وما بعدها"، "آب 1968". 9 الصفة "202". 10 تاج العروس "1/ 103"، "قرأ".

به1, وذكر أنه يستخرج من جبل شبام2, ومن "الهام"، ومن "ألهان"، ومن "شهارة"، ومن قساس3. وذكر "الهمداني" أن العقيق الأحمر، والعقيق الأصفر العتيقين من ألهان4. وقد عرف معدن "بقران" بالأحجار التي تستخرج منها الفصوص البقرانية, وهو في مخلاف بني نجيد من اليمن5. وذكر "الهمداني" أن "البقران" ألوان، ويبلغ المثلث بها مالًا، إذ يشترى بأسعار عالية، وهو أن يكون وجهه أحمر، فوق عرق أبيض، فوق عرق أسود. ويوجد البقران بجبل أنس، وهو ينسب إلى أنس بن ألهان بن مالك6. ومن الأحجار الأخرى: الفصوص السعوانية من سعوان، وادٍ إلى جنب صنعاء، وهو فص أسود فيه عرق أبيض، ومعدنه بشُهارة، وعيشان من بلد حاشد إلى جنب هنوم، وظليمة والجمش من شرف همدان. والعشاري، وهو الحجر السماوي7. ومن الفصوص الثمينة: "الدهنج" كالزمرد، حصى أخضر تتخذ منه الفصوص، وأجوده: "العدسي"8. ومن معادنه حرة بني سليم9، وحرة النار10. ومن الجواهر الأخرى: "الزمرد"11, والزبرجد12، و"الشذر": قطع من الذهب تلقط من معدنه بلا إذابة الحجارة، ومما يصاغ من الذهب فرائد يفصل بها اللؤلؤ والجوهر، وقيل: خرز يفصل بها، أو اللؤلؤ الصغار13. و"الجسمت" معدن يستخرج من "الصفراء"، على ثلاثة أيام من المدينة،

_ 1 تاج العروس "7/ 15"، "عقَّ". 2 ابن المجاور "2/ 184". 3 العرب "998"، "آب 1968". 4 الصفة "202". 5 تاج العروس "3/ 56"، "بقر". 6 الصفة "202". 7 الصفة "202". 8 تاج العروس "2/ 46"، "دهنج". 9 العرب "995"، "آب 1968". 10 العرب "995"، "آب 1968"، تاج العروس "3/ 135", "حرر". 11 تاج العروس "2/ 364"، العرب "996"، "آب 1968". 12 تاج العروس "2/ 363"، "الزبرجد". 13 تاج العروس "3/ 294"، "شذر".

وهو في جملة ما يقال له: "القوارير"1. والبلور، ويستخرج من البراري من بين الحصى، ومن "ضهر"، و"سعوان"، ومن "عذيقة" مخلاف خولان، ومن وادي عشار، ومن ألهان، وشهارة2. و"الدرة": اللؤلؤة العظيمة، وما أعظم من اللؤلؤ3, ويستخرج اللؤلؤ من الخليج، وقد اشتهرت البحرين به منذ أيام ما قبل الإسلام. وأما "الياقوت"، فأجوده الأحمر الرماني، وقد استورد من سرنديب "سيلان"4. والزاج، مشهور في اليمن، ويقال له: الشب اليماني، وهو من الأدوية5. و"الشب": حجارة يتخذ منها الزاج وما أشبهه، وأجوده ما جلب من اليمن، وهو شب أبيض له بصيص شديد، وقد استعمل في دباغة الجلود, وقد أشير إليه في الحديث. وذكر بعض العلماء أن الزاج كثير الأصناف، وهو غير الشب، وينبعثان من معدن واحد، والشب من المعادن الأربعة التي لم تكمل صورتها، وهي: الزاج والملح والنوشاذر والشب, والشب يشبه الزاج وفيه بعض حموضة، وأما الزاج فحموضته أكثر، والشب أنواع6. وقد ذكروا أنه ماء يقطر، فيجمد قبل أن يصل إلى الأرض، فيصير هذا الشب اليماني. ومن معدنه "إسبيل"، جبل من ديار عنس من مذحج، بقربه مقطر الشب7، ومعدن الأشعر. ويظهر من أقوال أهل الأخبار أنهم كانوا يستخرجونه من "غرض" الجبال، وهي شقوق تكون في الجبل، يحفرون بها، ويستخرجون منها الشب8. ويطلق العرب على الموضع الذي يستخرجون المعدن منه "المعدن". وقد عرفوا "المعدِن"9 بأنه منبت الجواهر من ذهب ونحوه، ومكان كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه، نحو معدن الذهب والفضة والأشياء. ومنه حديث بلال بن الحارث

_ 1 تاج العروس "3/ 491"، "قرر"، العرب "996"، "آب 1968". 2 الإكليل "8/ 30"، العرب "997"، "آب 1968"، الصفة "202". 3 تاج العروس "3/ 204"، "در". 4 تاج العروس "1/ 598"، "ياقوت". 5 تاج العروس "2/ 55"، "زوج". 6 تاج العروس "1/ 308"، "شبب". 7 العرب "993"، "آب 1968". 8 العرب "994"، "آب "1968". 9 كمجلس.

أن الرسول أقطعه معادن القبيلة جلسيها وغوريها, وهي المواضع التي تستخرج منها جواهر الأرض1. وهي ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام، وقيل: ناحية من نواحي الفرع، بين نخلة والمدينة2. ومن المعادن: معدن الغاف3، ومعدن النقرة، منزل لحاج العراق بين إضاخ وماوان، وبها سوق, وبها بركة وثلاثة آبار وآبار صغار للأعراب تنزح عند كثرة الناس، وعندها تفترق الطريق؛ فمن أراد مكة نزل المغيثة، ومن أراد المدينة أخذ نحو العسيلة فنزلها4. و"العصيان" من معادن بلاد العرب5. ومن المعادن التي لم يخصص أهل الأخبار نوع معدنها: معدن "البئر"6، ومعدن النميرة7 "التميرة"، ومعدن "حليت"8، ومعدن "الخربة"9، ومعدن "خزبة"10، ومعدن "خصلة"11، ومعدن "الشبيكة"12, ومعدن "الشجرتين"13، ومعدن "عراقيب"14، ومعدن "ذي العوسج"15، ومعدن "العيصان"16 لبني نمير، ومعدن "عيهم"17، ومعدن "قساس"، وقد كشف فيه حديثًا معدن الحديد18، ومعدن "الكوكبة"، ويظهر أنه كان

_ 1 تاج العروس "9/ 275"، "عدن". 2 تاج العروس "8/ 73"، "قبل". 3 تاج العروس "6/ 214"، "غيف". 4 تاج العروس "3/ 582"، "نقر". 5 تاج العروس "4/ 411"، "العيص". 6 بلاد العرب "74". 7 بلاد العرب "382"، العرب "988"، "آب 1968". 8 بلاد العرب "107". 9 بلاد العرب "379". 10 بلاد العرب "379، 382". 11 بلاد العرب "38، 45". 12 بلاد العرب "241". 13 بلاد العرب "96". 14 بلاد العرب "107". 15 بلاد العرب "210". 16 بلاد العرب "370، 382"، البلدان "3/ 753". 17 بلاد العرب "183". 18 بلاد العرب "236".

من معادن الفضة1، ومعدن المزبدة2، ومعدن "النقيب"3، ومعدن "منضح"، وهو اسم معدن جاهلي بالحجاز عند جوبة ماء عظيمة يجتمع فيها الماء4، ومعدن اللقط5، ومعدن "ماوان"، وهو معدن مشهور6، ومعدن "النصب" من معادن القبلية7، ومعدن "النقرة"8, وبـ"بيش", وهو مخلاف من مخاليف مكة, عدة معادن9, ومعدن شمام، و"بحران"، وهو بناحية الفرع من الحجاز, به معدن للحجاج بن علاط البهري، له ذكر في سرية "عبد الله بن جحش"10، و"حوراء" بناحية المدينة وبها معدن البرام11, ومعدن "فران"، وينسب إلى "فران بن بليّ بن عمرو"12, ومعدن "المحجة" بين العمق وبين أفيعة13, ومعدن هبود لبني نمير14. والملح من المواد التي تاجر بها الجاهليون, وتوجد معادنه في مواضع متعددة من جزيرة العرب. وقد كان بعضهم يستحضره من المياه المالحة، ومنهم من كان يستخرجه من مناجم تُحفَر، فيستخرج منها. وقد ذكر "الهمداني" أسماء مواضع وجدت فيها معادن الملح15, وقد أشير في "المسند" إلى الملح وإلى الاتجار به، وإلى وجود كيَّالين كانوا يكيلونه ويرسلونه إلى الأسواق لبيعه فيها. ومن أشهر مواضع الملح في اليمن: جبل الملح في بلاد مأرب، وهو ملح صافٍ كالبلور، وكان النبي قد أقطعه "الأبيض بن جمال"16.

_ 1 بلاد العرب "382 وما بعدها". 2 بلاد العرب "394". 3 بلاد العرب "181". 4 تاج العروس "2/ 240"، "نضح"، العرب "984"، "آب 1968". 5 العرب "981"، "آب "1968". 6 العرب "982"، "آب 1968". 7 العرب "985"، "آب 1968". 8 ابن خرداذبة "127، 128، 131، 137"، تاج العروس "3/ 582"، "نقر"، العرب "987 وما بعدها"، "آب 1968"، الصفة "184 وما بعدها". 9 تاج العروس "4/ 285"، "بيش". 10 تاج العروس "3/ 31"، "بحر". 11 تاج العروس "5/ 229"، "نبط". 12 الصفة "170". 13 الصفة "154". 14 بلاد العرب "382". 15 الصفة "155". 16 الصفة "201".

وقد استغل التجار "مكر" في العربية الجنوبية تجارة الملح، فأخذوا يستغلون مناجمه، ويحملونه منها قوافل إلى الأسواق. ونظرًا إلى سعة هذه التجارة وإلى كثرة الملح المستخرج، ظهرت جماعة عرفت بـ"زلا" "سلا" في لغة المسند، تخصصت بكيل الملح وتعبئته في الجوالق؛ لإرساله إلى الأسواق1.

_ 1 Glaser 1571, Arabien, S. 124

الأحجار

الأحجار: واستُفِيدَ من الأحجار في البناء، ولا سيما في العربية الجنوبية، إذ كان الحجر مادة البناء عندهم. ويقطع من المقالع قطعًا بعضها ضخمة استخدمت في بناء الأبنية المهمة مثل: قصور الملوك والمعابد والسدود وبيوت السادات. ولتثبيت الأحجار ولصقها بعضها فوق بعض، استخدم "الجص"، ويقال له: "القص" بلغة أهل الحجاز, واللفظة معربة على ما يذكره علماء اللغة1. و"النورة" حجر يحرق ويستخدم في البناء، و"البورق"، وهو حجر يحرق أيضا، ويستعمل لتبييض الجدران، ومواد أخرى تشبه "السمنت" في قوتها وفي صلابتها وفي تثبيت الأحجار بعضها فوق بعض. ويقال لبعض أنواع الأحجار "المُسنى"، وتعمل منها نصب السكاكين2. و"الشزب"، حجر يعمل منه ألواح وصفائح وقوائم سيوف ونصب سكاكين ومداهن وقحفة3, و"الهيصمي" وهو حجر يشاكل الرخام، إلا أنه أشد بياضًا يخرط منه كثير من الآنية4. وقد نحت النحاتون من بعض الحجارة قدورًا للطبخ، عرفت عندهم بـ"البُرمة". وقيل: البرمة: قدر نحت من حجارة أو عمل من حديد أو نحاس, و"المبرم": صانعها أو من يقتلع حجارتها من الجبال فيسويها وينحتها, وقيل للمعدن الذي تقتلع منه هذه الحجارة: "معدن البرم" و"معدن البرام"5. ومن هذه المعادن

_ 1 تاج العروس "4/ 377"، "جص". 2 الصفة "202". 3 الصفة "203". 4 الصفة "202". 5 تاج العروس "8/ 198"، "برم"، الصفة "121".

"قدقد"، جبل به معدن البرام1. وكانوا يحفرون المعادن ويدخلون المنجم لاستخراج المعدن منه, وقد ينهار المعدن على حافره فيقتله. وإلى ذلك أشير في الحديث: "المعدن جبار, والبئر جبار, والعجماء جبار"؛ ومعناه: أن تنفلت البهيمة العجماء فتصيب في انفلاتها إنسانًا أو شيئًا، فجرحها هدر، وكذلك البئر العادية يسقط فيها إنسان فيهلك، فدمه هدر, والمعدن إذا انهار على حافره فقتله, فدمه هدر, ومعناه: إذا انهار على من يعمل فيه فهلك، لم يؤخذ به مستأجره2.

_ 1 تاج العروس "2/ 461"، "قد". 2 تاج العروس "3/ 85"، "جبر".

النسيج والحياكة

النسيج والحياكة: وقد اشتهرت اليمن عند ظهور الإسلام بالنسيج والحياكة, وهي قد أصدرت أنواعًا عديدة من الأقمشة والثياب إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب اكتسبت شهرة بعيدة في كل مكان؛ لجودة صنعها ونفاسة مادتها. ومن ثياب أهل اليمن الناعمة الثياب التي تعرف باسم "الخال"، وهو ثوب ناعم وضرب من البرود، وقيل: برد أرضه حمراء فيها خطوط سود1. و"الوصائل"، وهي ثياب يمانية حمر أو ثياب حمر مخططة، أو برود حمر فيها خطوط خضر2. والعصب، وهي ضرب من البرود وضرب من الثياب، يعصب غزلها، أي: يدرج ثم يحاك، وليس من برود الرقم, وقيل: العصب: برود يمانية يعصب غزلها، أي: يجمع ويشدّ ثم يصبغ وينسج, فيأتي موشى لبقاء ما عصب فيه أبيض، لم يأخذه صبغ, وقيل: برود مخططة. وورد أن "عمر بن الخطاب" أراد أن ينهى عن عصب اليمن, وقال: نبئت أنه يصبغ بالبول، ثم قال: نهينا عن التعمق. ويدل هذا الخبر, إن صح، على أن البرود العصب هي البرود المشدودة المصبوغة بالعصب، ولا ينبت العصب والورس إلا في اليمن. وهو يدل أيضا, على أن العصب

_ 1 قال الشماخ: وبردان من خال وتسعون درهمًا ... على ذاك مقروظ من الجلد ماعز تاج العروس "7/ 311"، "خول" "7/ 313"، "خيل". 2 تاج العروس "8/ 156"، "وصل".

صبغة تستخرج من نبات العصب، تصبغ بها البرود ونحوها من الأشياء1. والممرجل "الممرحل": ثياب من الوشي فيها صور المراجل2, ويظهر أنها المراجل، جمع "المرجل", والمرجل "المرحل" برد يماني. ومن أمثالهم: حديثًا كان بردك مرجليًّا، أي: إنما كسيت المراجل حديثًا، وكنت تلبس العباء. ويظهر أنها كانت موشاة وكانت من ألبسة المترفين، ففي الحديث: "حتى يبني الناس بيوتًا يوشونها وشي المراحل"، يعني تلك الثياب، ويقال لها أيضا: المراجل بالجيم3. وذكر أن "المرحل"، برد فيه تصاوير رحل وما ضاهاه3. وقد صورت بعض ثياب أهل الجاهلية ونمقت، ومنها ثياب صلبت، أي: نقشت بالصلبان. وقد نهى الرسول عن لبس هذه الثياب، وذكر أنه نهى عن الصلاة بالثوب المصلب4. والمقطعات من الثياب كل ما يفصل ويخاط من قمص وجباب وسراويلات وغيرها، وما لا يقطع منها كالأردية والأزر والمطارف والرياط التي لم تقطع وإنما يتعطف بها مرة ويتلفع بها أخرى. وقيل: القصار من الثياب، وبرود عليها وشي5. والحبرة، وهي ضرب من ضروب البرود كذلك، وهي البرود الموشاة المخططة, وقيل: ضرب من برود اليمن منمر. وذكر أن الحبير الثوب الجديد الناعم, وفي حديث أبي ذر: الحمد لله الذي أطعمنا الخمير وألبسنا الحبير6. وفيه دلالة على أن "الحبير" من ألبسة المتمكنين، وليس في وسع الفقراء اقتناؤها. والمعاجر، من ضروب الثياب المصنوعة في اليمن, والمعجر ثوب تعجر به المرأة، أصغر من الرداء وأكبر من المقنعة, وقيل: ثوب يمني يلتحف به ويرتدي7. و"السيراء"، وهي ثياب مخططة، ونوع من البرود، فيه خطوط صفر،

_ 1 تاج العروس "1/ 382 وما بعدها"، "عصب". 2 تاج العروس "7/ 339"، "رجل"، القاموس "3/ 382". 3 قال امرؤ القيس: فقمت بها أمشي تجر وراءنا ... على أثرنا أذيال مرط مرحل يروى بالحاء والجيم، أي: معلم. تاج العروس "7/ 347"، "رحل". 4 تاج العروس "1/ 337"، "صلب". 5 تاج العروس "5/ 475"، "قطع". 6 تاج العروس "3/ 118"، "حبر". 7 تاج العروس "3/ 383"، "عجر".

أو يخالطه الحرير والذهب الخالص، وقيل: ثوب مسير فيه خطوط تعمل من القز كالسيور، أو خطوط من الذهب, وهي من حلل الأغنياء والكبراء. روي أن "أكيدر" أهدى إلى الرسول حلة سيراء، وفي حديث عمر: رأى حلة سيراء تباع1. والثياب السحولية: أثواب كرسف من ثياب "سحول" موضع اليمن تنسج به الثياب السحولية، وتحمل منه إلى سائر الأنحاء, وهي ثياب قطن بيض. قال طرفة: وبالسفح آيات كأن رسومها ... يمان وشته ربذة وسحول2 وذكر أن السحل ثوب أبيض رقيق من القطن، أو من الكرسف من ثياب اليمن. والسحيل: الخيط غير مفتول، والغزل الذي لم يبرم، فأما الثوب، فإنه لا يسمى سحيلًا ولكن يقال له: السحل، وقيل: السحيل: الخيط غير مفتول، ومن الثياب ما كان غزله طاقًا واحدًا, والمبرم المفتول الغزل طاقين. و"المتأم" ما كان سداه ولحمته طاقين ليس بمبرم ولا مسحل, والسحل والسحيل: الحبل الذي على قوة واحدة، والمبرم: الذي على طاقين. وذكر أن السحيل من الحبل الذي يفتل فتلًا واحدًا كما يفتل الخياط سلكه، والمبرم أن يجمع بين نسيجتين فيفتلا حبلًا واحدًا3. ولما توفي الرسول، كفن في ثلاثة أثواب سحولية، ويروى في ثوبين سحوليين4. وقد اشتهرت عدن بصنع البرود كذلك, ورد في الحديث أن الرسول كان قد استعمل هذه البرود5, وقد عرفت بـ"العدني" وبـ"العدنيات". وهي ثياب كريمة نسبت إلى عدن، واشتهرت برياطها، فقيل: "رياط عدنيات"6.

_ 1 تاج العروس "3/ 287"، "سير". 2 تاج العروس "7/ 372"، "سحل". 3 تاج العروس "7/ 371"، "سحل". 4 جوامع السيرة وخمس رسائل أخرى لابن حزم، تحقيق الدكتور إحسان عباس والدكتور ناصر الدين الأسد، "ص6"، "دار المعارف" بمصر، تاج العروس "7/ 372"، "سحل". 5 مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "10/ 38 وما بعدها". 6 تاج العروس "9/ 276"، "عدن".

وقد اشتهرت قطر بنوع من الثياب يقال لها: الثياب القطرية، كما اشتهرت بنوع من النجائب, هي "النجائب القطريات"1, وذكر أنها برود من غليظ القطن، أو هي برود خمر لها أعلام فيها بعض الخشونة. وجاء في الحديث أن الرسول توشَّح بثوب قطري2. واشتهرت "هجر" بثيابها كذلك، واعتبرت من الملابس الفاخرة التي تستحق الإهداء. ولما أرسل الرسول "سليط بن عمرو العامري" إلى "هوذة بن علي الحنفي"، أجاز هوذة "سليطًا" بجائزة, وكساه أثوابًا من نسج هجر3. وقد اشتهرت برود وثياب اليمن بجودة النسج وبحسن الصنعة والدقة, كما امتازت بألوانها وبوشيها، والوشي: النمنمة والنقش4. ومنها المرحل، وهو برد فيه تصاوير رحل، والمرط المرحلة، ومنه الحديث: "كان يصلي وعليه من هذه المرحلات"، يعني: المرط المرحلة5. ومن برود اليمن المعروفة "الخمس"، ويقال لها أيضًا: الخميس. ذكر أنه إنما قيل للثوب خميس؛ لأن أول من عمله ملك باليمن يقال له الخمْس، أمر بعمل هذه الثياب فنسبت إليه6. و"الفوف" من برود اليمن، وهي ثياب رقاق موشاة7. ولأهل المعافر ثياب جيدة، وهم يستعملون "السكينية" في رءوسهم، وهم من حمير، وملوكهم "آل الكرندي"8. واشتهرت "صحار"، قصبة عمان مما يلي الجبل، بثياب عرفت بها، فقيل لها: "ثوب صحاري"، وثياب صحارية. وفي الحديث: "أن رسول الله كفن في ثوبين صحاريين"9. وقد اشتهرت "الحيرة" بنوع من الأنماط، تزين به الرحال، حتى عرف

_ 1 القاموس "2/ 119". 2 تاج العروس "3/ 500"، "قطر". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 262". 4 تاج العروس "10/ 391"، "وشى". 5 تاج العروس "7/ 341"، "رحل". 6 تاج العروس "4/ 140"، "خمس". 7 تاج العروس "6/ 215"، "فوق". 8 الصفة "99". 9 تاج العروس "3/ 327"، "صحر".

بها، فقيل: "الحاري"1. والنمط: ظهارة فراش ما، أو ضرب من البسط، أو ثوب صوف يطرح على الهودج، له خمل رقيق. وقيل: ضرب من الثياب المصبغة، ولا تكاد العرب تقول: نمط، إلا لما كان ذا لون من حمرة أو خضرة أو صفرة، فأما البياض فلا يقال: أنماط2. وقد اشتهرت صناعة البسط في جزيرة العرب, وهناك أنواع عديدة منها تنسب إلى مواضع متعددة. وهي تصنع من الأصواف ومن شعر المعز, ويشتغل بنسجها النساء والرجال, وقد اشتهر بعضها باسم "العبقري" و"العباقري", وفي الحديث: "أنه كان يسجد على عبقري"، وهي هذه البسط التي فيها الأصباغ والنقوش. وذكر بعض العلماء أن "عبقرة" موضع باليمن أو بالجزيرة يوشى فيه الثياب والبسط، ثيابه في غاية الحسن والجودة، فصارت مثلًا لكل منسوب إلى شيء رفيع3. وقد اشتهرت اليمن بكثرة المشتغلين من أهلها بالحياكة، وعرفت بها بقية العربية الجنوبية. وقد قيل في انتقاص أهل اليمن وفي النيل منهم؛ أنهم بين حائك برد وسائس قرد, ونسوة حوائك، يشتغلن بالحياكة. ورد في شعر ذي الرمة قوله يصف محلة: كأن عليها سحق لفق تأنقت ... بها حضرميات الأكف الحوائك4 وأشير إلى الحياكة في نصوص المسند، إذ كانت صناعة النسيج من أهم الصناعات في اليمن, وقد عرف "الحائك" عندهم بـ"أنم"5. وكان أهل مكة يقصدون اليمن، فيشترون منها الألبسة اللطيفة الجيدة ويحملونها إلى الأسواق لبيعها، ومنها أسواق بلاد الشام. وقد نشأت من الألياف والخوص وعيدان بعض الأشجار صناعة، فاستفيد من خوص الدوم في صنع أحفاش النساء، والدوم شجر المقل، واحدته دومة6.

_ 1 تاج العروس "3/ 166"، "حار". 2 تاج العروس "5/ 234"، "نمط". 3 تاج العروس "3/ 379"، "عبقر". 4 تاج العروس "7/ 124"، "حاك". 5 Glaser 1000 A, Arabien, S. 24 6 تاج العروس "8/ 297"، "دوم".

واستفيد من لحاء الخزم في صنع الحبال، ويقال لصانعها: "الخزام"1، وسفّ الخوص على هيئة سفرة، ويقال لذلك: السمهة2. وصنعت الحصر من بردى وأسل ومن الخوص3, وقيل للحصير المنسوج من سقف النخل: "الفحل", وأما الحصير المنسوج من الدوم، فيقال له: "الطليل"4. والبارية: الحصير, قال بعضهم: الحصير المنسوج من القصب5. وتاجر أهل اليمن بـ"الخضاب"، ويكون ذلك بالحناء، وإذا كان بغير الحناء قيل: صبغ شعره. وذكر أهل الأخبار أن "عبد المطلب" أول من خضب بالسواد من العرب، وكل ما غير لونه فهو مخضوب6. وكانوا يخضبون به الأطراف كذلك7, واختضبوا بـ"الوسمة" كذلك8, وكانوا إذا أرادوا الحصول على لون أسود قاتم، ليبدو الشعر به أسود، خلطوا الحناء بالوسمة. والحناء ورق نبات، وكذلك الوسمة، يدقان حتى يصيرا كالطحين الناعم جدًّا، أو يطحنان, ثم يعجن الطحين بالماء فيخضب به. ويخلطون بالحناء دقيق ورق البشام فيسود الشعر9.

_ 1 المخصص "11/ 136 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 274"، "خزم". 2 تاج العروس "9/ 392"، "سهم". 3 تاج العروس "3/ 143". 4 تاج العروس "7/ 420". 5 تاج العروس "3/ 60 وما بعدها". 6 تاج العروس "1/ 236"، "خضب". 7 تاج العروس "1/ 236"، "خضب". 8 تاج العروس "9/ 94"، "وسم". 9 تاج العروس "8/ 203"، "بشم".

الفصل الثالث عشر بعد المئة: حاصلات طبيعية

الفصل الثالث عشر بعد المئة: حاصلات طبيعية الصبغ ... الفصل الثالث عشر بعد المائة: حاصلات طبيعية الصبغ: والصبغ ما يُلوَّن به, وقد استخرج أهل الجاهلية الأصباغ من بعض النبات؛ لاستعمالها في الصناعة أو في البناء وفي صبغ الأنسجة. واشتهرت مواضع من جزيرة العرب بحذقها في الصباغة، وبإتقانها استخراج الصبغ من النبات وبعض المعادن. وقد كانت سلعة مطلوبة رائجة؛ لأنها جيدة ثابتة لا تتغير بسرعة. وقد عصفر الجاهليون ثيابهم بالعصفر. وهو نبات ينبت بأرض العرب، سلافته الجريال، صبغ أحمر1, وبزره "القرطم"، الذي يصبغ به منه2, وصبغوا بـ"الفرصاد", وهو صبغ أحمر, وبـ"الفوّة"، عروق يصبغ بها. وقيل: هي عروق حمر دقاق لها نبت يسمو في رأسه حب أحمر شديد الحمرة كثير الماء يكتب بمائه وينقش. قال الأسود بن يعفر: جرت بها الريح أذيالًا مظاهرة ... كما تجرّ ثياب الفوة العرس واستعملت "الفوة" دواءً لمعالجة الجلد4.

_ 1 تاج العروس "7/ 255"، "جرل". 2 تاج العروس "3/ 408"، "عصفر". 3 تاج العروس "2/ 451"، "الفرصد". 4 تاج العروس "10/ 285"، "الفوة".

و"الإحريض": العصفر، يقال: حرض ثوبه: إذا صبغه بالإحريض1. و"النكع": اللون الأحمر، وزهرة حمراء يصبغ بها, و"النكعة": ثمر النقاوى، وهو نبت أحمر، ومنه الحديث: "كانت عيناه أشد حمرةً من النكعة", وهي صمغة القتاد "القناد"2. و"الصِّرف": صبغ أحمر تصبغ به شرك النعال3, و"الك": نبات يصبغ به، وهو صبغ أحمر يصبغ به جلود البقر والمعز وغيرها، و"اللكاء": الجلود المصبوغة بالك4. وأكثر أصباغهم هي أصباغ أخذت من النبات, وهو شيء طبيعي لسهولة استحصال الأصباغ من النبات، ولتوفره لديهم في الحضر وفي البر. أما الأصباغ المستخرجة من المعادن، فهي أقل بكثير من الأصباغ المستخرجة من النبات؛ لما يحتاج استخراج الأصباغ منها إلى مهارة وحذق وتقدم في الصناعة والعلم.

_ 1 تاج العروس "5/ 19"، "حرض". 2 تاج العروس "5/ 531"، "نكع". 3 تاج العروس "6/ 164"، "صرف". 4 تاج العروس "7/ 174"، "لك".

العصير

العصير: والعصير: هو ما يحلب من الشيء إذا عصرته، وهو العصارة. ويعصر كل ما له دهن أو شراب أو عسل، وأمثاله, و"المعصرة" موضع العصر، والمعصر: ما يعصر فيه العنب، والمعصار: الذي يجعل فيه الشيء فيعصر حتى يتحلب ماؤه. والعواصر: ثلاثة أحجار يعصر بها العنب، يجعلون بعضها فوق بعض1. وتعصر الأشياء للشرب كالخمور والأشربة، أو للتداوي؛ لاستعمال العصير دواء يتداوى به، أو لاستخراج الدهن من المعصور. وقد استعمل المزارعون المعاصر لعصر الأعناب أو لاستخراج الزيوت من البذور, وتسمى "المعصرة" "موهت" في المسند، من أصل "وهت"2. ومن معاني هذه اللفظة الضغط وشدة الدوس، وهي تستعمل في الحقول كما تستعمل في البيوت وفي محلات الاتجار بالزيوت.

_ 1 تاج العروس "3/ 405"، "عصر". 2 REP. EPIGR. 2876, V. p. 209

و"القطران": عصارة الأبهل والأرز، وهو ثمر الصنوبر. يطبخ فيتحلب منه، ثم يهنأ به الإبل1. ويتخذ القطران من الإثرار، وهو شجر يقتدح سريعًا إذا كان يابسًا2, كما يتخذ من العرعر3. والزفت، كالقير، وقيل: هو القار، والزفت: المطلى به، وهو غير القير الذي يقير به السفن، إنما هو شيء أسود أيضا يمتن به الزقاق الحمر, وقد نهي في الحديث عن المزيت والمقير. والزفت أيضا دواء, وهو شيء يخرج من الأرض يقع في الأدوية4. وذكر أهل الأخبار، أنهم كانوا يستخرجون "الزفت" من أعجاز شجر "الأرز" وعروقه، وأنهم كانوا يستصبحون بخشب الأرز, وقد أشير إليه في الحديث5. وقد استخرجوا الزفت من شجر "التنوب" وغيره من ضروب الصنوبر، وهو قريب من دهن القطران6.

_ 1 تاج العروس "3/ 499 وما بعدها"، "قطر"، نهاية الأرب "11/ 323". 2 عرام، أسماء جبال تهامة "408". 3 عرام "403". 4 تاج العروس "1/ 546"، "زفت". 5 تاج العروس "4/ 3"، "أرز". 6 نهاية الأرب "11/ 324".

الزيوت والدهون

الزيوت والدهون: ويستعمل الحضر الزيت في أكلهم وفي تزييت شعرهم وفي أمور أخرى, وهم يحصلون عليه من النبات بعصر لبّ الثمر المتشبع بالزيت. واليمن هي على رأس الأمصار العربية في إنتاج الزيت, زيت الزيتون وغيره، وقد كانت تصدره إلى الحجاز وإلى مواضع أخرى من جزيرة العرب. والزيت في اللغة دهن، وهو عصارة الزيتون1. ويعد التزييت، أي: التدهن بالزيت الجيد المطيب من علائم النعيم والرفاه. و"السليط": الزيت عند عامة العرب وعند أهل اليمن دهن السمسم، وقد ذهب بعضهم إلى العكس. وقيل: هو كل دهن عصر من حبّ, وذكر أن دهن

_ 1 تاج العروس "1/ 546"، "زيت".

السمسم هو السيرج والحل1. و"السيرج" هو "الشّيْرج"2: دهن السمسم3، و "الحَل"، هو الشيرج، أي: دهن السمسم4. ومن الدهن، دهن يستخرجه أهل اليمن من "الكاذى", والكاذى شجر شبه النخل في أقصى بلاد اليمن، وطلعه هو الذي يصنع منه الدهن. وذكر أنهم كانوا يقلعون طلع "الكاذى" قبل أن ينشق، فيلقى في الدهن ويترك حتى يأخذ الدهن ريحه ويطيب5. ودهن الغار، دهن يستخرج من شجر الغار، وهو شجر الغار، وهو شجر له حمل أصغر من البندق أسود يقشر، له لب يستخرج منه الدهن، وورقه طيب الريح يقع في العطر، ويستعمل ثمره في الأدوية, ويستصبح بدهن الغار6. واستخرج أهل "الشوع" دهنًا منه، كما يستخرج أهل السمسم دهنًا منه. وذكر أن "الشوع" شجر البان، الواحدة: "شوعة", وهو يريع ويكثر على الجدب وقلة الأمطار، وهو مطلوب مرغوب، فكان الناس يسلفون في ثمره الأموال7. و"البان"، شجر يستخرج من حبّ ثمره دهن طيب, يستعمل في التدهين, وفي معالجة أمراض عديدة, وقد ذكر في شعر "امرئ القيس"8. وزيت مقتت، إذا أُغلِيَ بالنار ومعه أفواه الطيب، ودهن مقتت مطيب طبخ فيه الرياحين، أو خلط بأدهان طيبة, والتقتيت جمع الأفاويه كلها في القدر وطبخها9. واستخرج من موم العسل شمع، وهو ما يستصبح به. ويذكر علماء اللغة أن "الموم" لفظة مولدة جاءت من الفارسية، وأن لفظة "الشمع" لفظة مولدة كذلك10. ونظرًا لوجود العسل بكثرة في اليمن وفي "السراة" وفي مواضع أخرى

_ 1 تاج العروس "5/ 158"، "ملط". 2 كصيقل وزينب. 3 تاج العروس "2/ 64"، "شرج". 7 تاج العروس "7/ 286"، "حلل". 5 تاج العروس "10/ 312"، "كذا". 6 تاج العروس "3/ 457"، "غار". 7 تاج العروس "5/ 404"، "شوع". 8 تاج العروس "9/ 147"، "البون". 9 تاج العروس "1/ 571"، "قتّ". 10 تاج العروس "5/ 402"، "شمع".

من جزيرة العرب في الجاهلية، فلا أستبعد استخدام أهل الجاهليين شمع العسل لصنع الشموع؛ للاستصباح ولأغراض أخرى. والحرض: الأشنان تغسل به الأيدي على أثر الطعام, وشجرته ضخمة وربما استظل بها، ولها حطب وهو الذي يغسل به الناس الثياب, وقد مدح الأشنان النابت بجو الخضارم باليمامة. والحرّاض من يحرقه للقلي، أي: الذي يوقد على الحرض ليتخذ منه "القلي" للصبَّاغين. يحرق الحمض رطبا ثم يرش الماء على رماده فينعقد فيصير قليًّا. قال عدي بن زيد العبادي: مثل نار الحراض يجلو ذرا المز ... ن لمن شامه إذا يستطير1 و"القصيص" نبت ينبت في أصول الكمأة، يجعل غسلًا للرأس. وقد ذكر في شعر عدد من الشعراء، منهم امرؤ القيس والأعشى وعدي بن زيد العبادي2.

_ 1 تاج العروس "5/ 19"، "حرض". 2 تاج العروس "4/ 423"، "قصص".

الصمغ

الصمغ: الصمغ في تعريف علماء العربية: غراء القرظ، وهو الصمغ العربي، ولكل شجر صمغ، وهو نضحه فيسيل منه1. وكانوا يشرطون الشجر ليخرج منه غراءه، أو كانوا يعصرون بعض النبات, فيخرج منه عصير، يستخرجون منه صمغًا. ومن الأشجار التي استخرجوا منها الصمغ "الصاب"، يشرط فيخرج منه غراء، وهو شيء مرّ، ينعقد كالصبر2. واستخرجوا صمغًا من "القرظ"، وهو شجر معروف في بلاد العرب، استخرجوه من عصارته، استفادوا منه في الطب، دعاه الأطباء الإسلاميون: "أقاقيا"3. و"الصرب"، صمغ أحمر يستخرج من الطلح، وقيل: هو صمغ الطلح والعرفط، وهي حمر كأنها سبائك تكسر بالحجارة4.

_ 1 تاج العروس "6/ 22"، "صمغ". 2 تاج العروس "1/ 340"، "صوب"، "6/ 22"، "صمغ". 3 تاج العروس "5/ 258"، "قرظ". 4 تاج العروس "1/ 334"، "صرب".

والعرب تسمي صمغ العرفط عسلًا لحلاوته، وعسل اللبنى طيب، وهو صمغ ينضح من شجرة يشبه العسل لا حلاوة له، ويتبخر به. وعسل الرمث شيء أبيض يخرج منه كالجمان1. و"الأيدع"، صمغ أحمر يؤتى به من "سقطرى" ويتداوى به, داووا به الجراح. وذكر أن الأيدع صبغ أحمر، وهو خشب البقم. وقيل: هو دم الأخوين, وقيل: الأيدع شجر له حب أحمر يصبغ به أهل البدو ثيابهم, وإن البقم يحمل في السفن من بلاد الهند. وقد اشتهرت جزيرة سقطرى بأحسن أنواع الأيدع والصبر، حتى قيل: صبر سقطرى2. وذكر أن "دم الأخوين" هو "القاطر المكي"، وهو عصارة حمراء3. وقد عرفت جزيرة العرب بتصديرها بعض أنواع الصمغ واللثى، وهو شيء يسقط من شجر السمر، أو هو ماء يسيل من الشجر كالصمغ، فإذا جمد، فهو صعرور. وقيل: شيء يسيل من الثمام وغيره، وللعرفط لثى حلو يقال له: المغافير4, والمغافير: هو صمغ شبيه بالناطف ينضحه العرفط، وقد يكون المغفور للعشر والسلم والثمام والطلح وغير ذلك. وورد أن المغافير: صمغ الرمث والعرفط، وذكر أن المغافير عسل حلو مثل الرب إلا أنه أبيض5. و"العلك": المضغ، وصمغ الصنوبر والأرزة والفستق والسر والينبوت والبطم، وهو أجودها. يمضغ في الفم؛ للتسلية ولمنع العطش بظهور اللعاب في الفم، ولأغراض طبية6. وقد اشتهر علك الضرو، المستخرج من شجر الضرو، الذي ينبت باليمن, ويعالج به في الطب7. و"الكندر" اللبان، وهو ضرب من العلك يستخدم في الطب8. واللبان شجيرة شوكة لا تسمو أكثر من ذراعين, ولها ورقة مثل ورقة الآس، وثمرة مثل

_ 1 تاج العروس "8/ 17"، "عسل". 2 تاج العروس "5/ 564"، "أيدع". 3 تاج العروس "3/ 501"، "قطر". 4 تاج العروس "10/ 323"، "لثى". 5 تاج العروس "3/ 453"، "غفر". 6 تاج العروس "7/ 164"، "علك". 7 تاج العروس "10/ 219"، "ضرى". 8 تاج العروس "3/ 529"، "الكندر".

ثمرته، ولها حرارة في الفم, وهي من الصمغ. وذكر أن اللبان شجر الصنوبر1, وذكر أن لحب ثمر البان دهنًا طيبًا، وحبه نافع لمعالجة جملة أمراض جلدية وأمراض داخلية2, وذكر أن "الشوع"، شجر البان، أو ثمره. قيل: إنه يريع ويكثر على الجدب وقلة الأمطار، والناس يسلفون في ثمره الأموال. وأهل الشوع يستعملون دهنه، كما يستعمل أهل السمسم دهن السمسم, وهو جبلي، وقيل: ينبت في السهل والجبل3. وورد أن الكندر لا يكون إلا بالشحر من اليمن، ومنابت شجره الجبال، وقد استعمل دواء لمعالجة أمراض عديدة4. والصبر، أنواع فيه العربي والأسقطري، وأجوده "الأسقطري". وهو عصارة شجر، تترك حتى تثخن، ويشمس حتى يجف. وفي اليمن نوع منه أحمر ملمع بصفرة5. و"الضجاج" مثل شجر "اللبان" يكون في أرض عمان, وهو صمغ أبيض تغسل به الثياب, فينقيها مثل الصابون6. وذكر أنه ثمر ينبت أو صمغ تغسل به النساء رءوسهن7. والمقل, يستخرج من شجر يشبه الكندر، طيب الرائحة، وأكثر نباته فيما بين الشحر وعمان، وذكر أن المقل المكي هو صمغ الدوم؛ لأن الدوم هناك يدرك ويصمغ8. و"الدبس" عسل التمر وعصارته، وهو ما يسيل من الرطب, ويقال له: "الصقر" في لغة أهل يثرب. وذكر أنه ما سال من جلال التمر, وأطلق أيضا على تحلب من الزبيب والعنب9. و"الصقر" عند أهل البحرين ما سال

_ 1 تاج العروس "9/ 329"، "لبن". 2 تاج العروس "9/ 147"، "البون". 3 تاج العروس "5/ 404"، "شوع". 4 نهاية الأرب "11/ 299 وما بعدها". 5 نهاية الأرب "11/ 304 وما بعدها". 6 نهاية الأرب "11/ 309". 7 تاج العروس "2/ 68". 8 نهاية الأرب "11/ 321 وما بعدها". 9 تاج العروس "4/ 145"، "دبس".

من جلال التمر التي كنزت وسدك بعضها على بعض في بيت مضرج تحتها خواب خضر، فينعصر منها دبس خام كأنه العسل1. والصبيب: عصارة ورق الحناء والعصفر، وقيل: هو العصفر2.

_ 1 تاج العروس "3/ 339"، "صقر". 2 تاج العروس "1/ 331"، "صبب".

الدباغة

الدباغة: والدباغة حرفة الدَّبَّاغ، دبغ الإهاب بما يدبغ به1, والإهاب: الجلد من البقر والغنم والوحش، أو هو ما لم يدبغ2. وقد استخدم الدباغون في ذلك مواد مختلفة، بعضها بدائية، وعالجوا الجلد قبل دبغه لترقيقه وتنظيفه وصقله. وقد اشتهرت في ذلك جملة مواضع، منها: مدينة "جرش"، وهي من مخاليف اليمن من جهة مكة، وقد نسب إليها الأدم المعروف بـ"أدم جرش"، و"أدم جرشي"، وهي مدينة تسقى بالآبار، يستخرج منها الماء بالدلاء على الإبل، وقد فتحت في حياة النبي في سنة عشر للهجرة صلحًا على الفيء، وأن يتقاسموا العشر ونصف العشر3, وقد اشتهرت بإبلها كذلك التي نسبت إليها4. ومنها "صعدة"، في مخلاف خولان، وكانت تسمى في الجاهلية "جماع"، وكان بها قصر قديم ضخم. ذكر "الهمداني" أنها كورة بلاد خولان وموضع الدباغ في الجاهلية، وذلك أنها في موسط بلاد القرظ, وقد اشتهرت أيضا بالنصال5. ونعتها بأنها "بلد الدباغ في الجاهلية الجهلاء، وهي في موسط بلد القرظ، ربما وقع فيها القرظ من ألف رطل إلى خمسمائة بدينار مطوق على وزن الدرهم القفلة"6. والأدم من السلع المهمة المشهورة في تجارة أهل الجاهلية, والأديم: الجلد الذي قد تم دباغه, وقيل: الجلد ما كان أو أحمره أو مدبوغه، وقيل: هو بعد

_ 1تاج العروس "6/ 8"، "دبغ". 2 تاج العروس "1/ 151"، "أهب". 3 البلدان "3/ 85". 4 تاج العروس "4/ 287"، "جرش". 5 الصفة "66 وما بعدها". 6 الصفة "114".

226 الأفيق، وذلك إذا تمّ واحمرّ1. ويدخل في الحرف التي تقوم على تحويل الجلد إلى سلع، مثل الأحذية وصنع القباب التي تضرب للملوك وللسادة وللأشراف أمارة على الرئاسة والسيادة. وتصبغ جلودها بلون أحمر في الغالب, وكانت غالية؛ لذلك لم يستعملها إلا أصحاب الجاه والمال. فكان سادة مكة إذا نزلوا منزلا ضربوا قبابًا من أدم2، وكان حكام عكاظ والسادات الذين يحضرون السوق، يضربون لهم قبابًا، وأما سائر الناس، فيضربون لهم بيوت الشعر, وبيوت الشعر أرخص ثمنًا من قباب الأدم. وقد اتخذ العرب بيوتًا من جلد عرفت بـ"القشاعة" و"القشوع"، وذكر بعضهم أن "القشاعة" بيت من أدم, وربما اتخذوا من جلود الإبل صوانًا للمتاع3. وذكر أن البيت من أدم، هو "الطراف", وهو بيت من بيوت الأعراب ليس له كفاء، قال طرفة بن العبد: رأيت بني غبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدد4 وقد اشتهرت اليمن بدباغة الجلود وبالاستفادة من هذه الجلود في أغراض مختلفة، وبتصدير الجلود إلى أماكن أخرى من جزيرة العرب. ولا تزال اليمن تصنع الجلود على الطريقة القديمة، وتصدرها إلى الخارج. وقد ذكر "ابن المجاور" أن الأديم يدبغ في جميع إقليم اليمن والحجاز، وأنهم يبيعونه طاقات بالعدد، وقد اشتهرت مكة بدبغ الجلود كذلك، جلود الجمال والبقر والغزلان5. واشتهرت الطائف في دباغة الجلود كذلك, وذُكر أن مدابغها كانت كثيرة، وأن مياهها كانت تنساب إلى الوادي فتنبعث منها روائح كريهة مؤذية6. وكانوا يدبغون

_ 1 تاج العروس "8/ 181"، "أدم"، المفضليات، للضبي "56"، "أحمد محمد شاكر"، "دار المعارف 1964م". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 1، ص41". 3 تاج العروس "5/ 467 وما بعدها"، "قشع". 4 تاج العروس "6/ 179"، "طرف". 5 ابن المجاور، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز، المسماة تأريخ المستبصر, القسم الأول "ص13". 6 البلدان "6/ 10 وما بعدها".

بصورة خاصة الأدم الثقيل المليح1. وذكر "الهمداني"، أنها "بلد الدباغ، يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة"2. وقد ذكر علماء اللغة أسماء مواد كثيرة استعملت في دباغة الجلود، وذكروا أيضًا طرقًا متعددة في كيفية الدبغ وفي أسماء الجلود المدبوغة والمواد التي تصنع من مختلف الجلود3. والواقع أن اعتماد العرب الجاهليين على الجلود كان كبيرا؛ لأنها كانت متيسرة لديهم، وهي أسهل في العمل من الخشب أو الحديد أو الأشياء الأخرى بالنسبة إلى عمال جزيرة العرب في ذلك العهد. و"القرظ" من أهم ما استعمل في دباغة الأدم، يجلب فيطحن بحجر الطواحين، ثم يستعمل في الدباغة, ومن "العقيق" يجلب القرظ إلى مكة لاستعماله في الدباغة4. وقد أشار بعض الإخباريين إلى ضخامة حجر الطواحين التي يطحن بها القرظ5. واستعمل "الغرف" في الدباغة كذلك وعرفت الجلود التي تدبغ به بالجلود الغرفية، ومنها جلود يمانية وجلود بحرانية, وسقاء غرفي دبغ بالغرف, وكذلك مزادة غرفية6. ومن المواد التي استعين بها في دباغة الجلد: "الدهناء". وهي عشبة حمراء لها ورق عراض يدبغ به7، و"القرضم" قشر الرمان، ويدبغ به8, و"الشث" نبت طيب الريح مرّ الطعم يدبغ به، قيل: ينبت في جبال الغور وتهامة ونجد. وذكر بعضهم "الشب" في جملة ما كان يدبغ به9, و"الأرطى" شجر دبغ به، وعرف الجلد الذي يدبغ به بـ"المأروط" وبـ"الأرطى"، وبـ"أديم مرطى"10.

_ 1 ابن المجاور "1/ 25". 2 الصفة "120". 3 المخصص "4/ 100 وما بعدها". 4 تاج العروس "5/ 258"، "قرظ"، ابن المجاور "1/ 32". 5 ابن المجاور "10/ 20". 6 تاج العروس "6/ 209"، "غرف". 7 تاج العروس "9/ 205"، "دهن". 8 تاج العروس "9/ 24"، "قرضم". 9 تاج العروس "1/ 627"، "شث". 10 تاج العروس "5/ 101"، "أرط".

وعرف الجلد الذي يدبغ بغير "القرظ" بـ"الجلد الحوري"1, و"الأفيق" الجلد الذي لم يتم دباغه، أو الأديم دبغ قبل أن يخرز أو قبل أن يشق. وقيل: هو ما دبغ بغير القرظ والأرطى وغيرهما من أدبغة أهل نجد، وقيل: هو حين يخرج من الدباغ مفروغًا منه، وقيل: رائحته، وقيل: ما يكون من الجلد في الدباغ2.

_ 1 تاج العروس "3/ 161"، "حور". 2 تاج العروس "6/ 280"، "أفق".

الخمور

الخمور: وقد اتخذوا من التمور والكروم والشعير والذرة خمورًا، وذكر أن الخمر ما أسكر من عصير العنب خاصة, وتستعمل لفظة "الشراب" في معنى الخمر كذلك. وفي الحديث: "حرمت الخمر وما شرابهم يومئذٍ إلا الفضيخ البسر والتمر"، ونزل تحريم الخمر التي كانت موجودة من هذه الأشياء لا في خمر العنب خاصة1. وأما النبيذ، فهو ما نبذ من عصير ونحوه، كتمر وزبيب وحنطة وشعير وعسل، يقال: نبذت التمر والعنب، إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا، وقد ينبذ في وعاء عليه الماء ويترك حتى يفور فيصير مسكرًا. وسواء أكان مسكرًا أم غير مسكر، فإنه يقال له: نبيذ، ويقال للخمر المعتصر من العنب نبيذ، كما يقال للنبيذ خمر2. ويظهر من كتب الحديث، أن أكثر خمور أهل المدينة هي خليط من البسر والتمر3, وأن منهم من كان يخلط الزبيب والتمر، أو الرطب والبسر. وكانوا ينتبذونها في الدباء، والمزفت، والحنتم، والنقير، والمقير4. وذكر أن الخليفة "عمر" حدد المواد التي تعمل منها الخمور بخمسة أشياء: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والعسل, وجعل الخمر ما خامر العقل5.

_ 1 تاج العروس "3/ 176 وما بعدها"، "خمر". 2 تاج العروس "2/ 580"، "نبذ". 3 صحيح مسلم "6/ 88". 4 صحيح مسلم "6/ 92 وما بعدها". 5 صحيح مسلم "8/ 245"، "باب في تحريم نزول الخمر".

وقد ذكر هذه الأشياء؛ لأنها كانت هي الشائعة المعروفة عند أهل مكة ويثرب في ذلك العهد على ما يظهر، لأن هناك خمورًا عملت من غير هذه الأشياء. وكان لأهل اليمن شراب عرف عندهم بـ"البتع"، وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، وذكر أنهم كانوا يطبخون العسل حتى يعقد، فيكون البتع, وشراب عرف بـ"المزر"، وهو من الذرة1. وخطب "أبو موسى الأشعري"، فقال: "خمر المدينة من البسر والتمر، وخمر أهل فارس من العنب، وخمر أهل اليمن البتع وهو من العسل، وخمر الحبش السكركة"2. وقد ذكر "ابن عمر" الأنبذة، فقال: "البتع نبيذ العسل, والجعة نبيذ الشعير، والمزر من الذرة، والسكر من التمر، والخمر من العنب"3, وذكر أن المزر نبيذ الذرة والشعير والحنطة والحبوب، وقيل: نبيذ الذرة خاصة4. ويظهر أن إطلاق المزر على أنبذة الحبوب، هو من باب التجوز والتعميم، وأن الأصل هو نبيذ الذرة. و"الضريّ": الماء من البسر الأحمر والأصفر يصبونه على النبق, فيتخذون منه نبيذًا5. وقد اشتهرت "دُرْنى" بخمورها المصنوعة من الكروم، وقد ذكرها "الأعشى" في شعره, وكان الأعشى يزورها. وذكر أنها هي "أثافت" التي ذكرها "الأعشى" أيضًا في شعره، فقال: أحب أثافِتَ وقت القطاف ... ووقت عصارة أعنابها وكان كثيرًا ما يزورها، وله بها معصر للخمر يعصر فيه ما أجزل له أهل أثافت من أعنابهم6. وورد أنها من قرى اليمامة، كما ذكرت ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب.

_ 1 صحيح مسلم "6/ 99 وما بعدها"، "باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام". 2 تاج العروس "5/ 269"، "بتع". 3 تاج العروس "3/ 451"، "مرز". 4 المصدر نفسه. 5 تاج العروس "10/ 220"، ضرى". 6 الصفة "66".

وأنا لا أستبعد استخدام الجاهليين للماء في إدارة المطاحن، وقد ذكر "الهمداني" أن أهل اليمن بأودية: سربة، وشُراد، وبنا، وماوة، والموفد، وجمع، ويصيد، وأودية رعين، ووادي ضهر، كانوا يديرون مطاحنهم بالماء1, ولم يشر "الهمداني" إلى تأريخ استعمال هذه المطاحن التي تدار بالماء، ولكني لا أستبعد أخذهم هذه الصناعة من الجاهليين. وقد أشير إلى الطحن والمطاحن والطحين في نصوص المسند؛ ورد في بعضها أن الحكومات كانت تتقاضى الإتاوة من الناس إما نقدًا، وإما "ورقًا"، أي: ذهبًا سبائك، وإما "طحنًا" أي: طحينًا، وهو الدقيق, ويقال له "طحنم" و"طحن" في المسند، وإما "دعتم"، أي: بضاعة، بمعنى مواد عينية. فذكر "الطحين" في هذه النصوص، يشير إلى وجود المطاحن بكثرة في اليمن، وربما كانت تصدر الفائض منه إلى الخارج.

_ 1 Handbuch, I, s. 137

الفصل الرابع عشر بعد المئة: الحرف

الفصل الرابع عشر بعد المئة: الحرف مدخل ... الفصل الرابع عشر بعد المائة: الحرف من الحرف المتداولة بين الجاهليين النجارة والحدادة والحياكة والنساجة والخياطة والصياغة والدباغة والبناء ونحوها من حرف يحترفها الحضر في الغالب. أما الأعراب فقد كانوا يأنفون من الاشتغال بها، وينظرون إلى المشتغلين بها نظرة احتقار وازدراء؛ لأنها في عرفهم حرف وضيعة، خُلقت للعبد والرقيق والمولى ولا تليق بالحر، حتى إن الشريف منهم وذا الجاه، كان لا يحضر وليمة يدعوه إليها شخص من أصحاب هذه الحرف، استنكافًا وازدراء؛ لأنه ليس في منزلته ومكانته. وقد كان عمل الرسول كبيرًا في نظر رؤساء القوم يومئذ، حينما جوَّز حضور طعام الخياط والصائغ وأمثالهما، وكان يحضر منازلهم، فعد القوم ذلك عملًا غير مألوف ومخالفًا للعرف والتقاليد1. وقد كان أكثر أهل القرى ينظرون إلى الحرف والمحترفين بها نظرة ازدراء كذلك، ويأنفون لذلك من التزاوج معهم، ويعيِّرون من يتزوج من امرأة أبوها قين أو نجار أو دباغ أو خياط، ويلحق هذا التعيير الأبناء كذلك. وينظرون هذه النظرة إلى المشتغلين بزراعة الخضر مثل البقول في الغالب، ولا تزال هذه النظرة معروفة في جزيرة العرب, وفي أماكن أخرى خارج حدود هذه الجزيرة

_ 1 "وفيه جواز أكل الشريف طعام الخياط والصائغ وإجابته دعوته"، "باب ذكر الخياط"، عمدة القاري "11/ 210 وما بعدها".

كالعراق. وهذه هي مشكلة من جملة المشكلات التي أثرت في الاقتصاد العربي وفي الحياة الاجتماعية، وإن كانت قد أخذت تخف في هذه الأيام. ولم يكن العرب وحدهم ينظرون إلى الحرف والمشتغلين بها نظرة ازدراء، بل كانت شعوب العالم كلها تقريبًا تنظر إلى طبقة أصحاب الحرف مثل هذه النظرة؛ لأن الحرف هي من أعمال الطبقات الدنيا من سواد الناس الرقيق والموالي, أما الحر فلم يخلق لها ولم تخلق له. كذلك كانت نظرة قدماء اليونان إلى هذه الحرف؛ لأنها عندهم من الأعمال التي يقوم بها سواد الناس ورقيقهم1. وهذه الحرف لم يختص بها الجاهليون وحدهم، بل كانت عامة معروفة ومتداولة عند جميع الشعوب لتلك العهود, وهي لبساطتها وبداءتها متشابهة، لا تجد اختلافًا في آلاتها وأدواتها المستعملة عند الشعوب. فأدوات النجار تكاد تكون واحدة، سواء أكانت عند النجار العربي الجاهلي، أم النجار العبراني، أم النجار النبطي, وكذلك قل عن أدوات الحداد والصائغ وغيرهما من الطبقات العاملة التي ترتزق وتعيش على هذه الحرف التي تعتمد على اليد. ونجد في كتب اللغة والأدب وأمثالها ألفاظًا عديدة معربة، استعملها أهل الجاهلية وذلك بتعريبها ونقلها من أصول أعجمية معروفة، فيها الفارسي والآرامي واليوناني واللاتيني والحبشي والنبطي. وهي مما يدخل في باب الآلات والأدوات والمآكل والملابس والبيت والثقافة والعلم، دخلت العربية؛ لأنها كانت مصطلحات متداولة عند أهلها معروفة، أخذها العرب منهم باحتكاكهم وبتأثرهم بهم، وقد صقل بعضها وهذب ووسم بسمة عربية، وأدخل على بعض آخر بعض التعديل ليتناسب مع أسلوب النطق العربي، وقبل بعض آخر على نحو ما كان في أصله واستعمل في العربية, حتى صار في ظن من لا وقوف له على العربية أنه عربي صميم. والألفاظ المعربة التي نعنيها قديمة، دخلت قبل الإسلام بمئات السنين, وقد استعملتها الألسن وتداولتها، وصارت بهذا الاستعمال ألفاظًا عربية مستساغة, ومنها ما هو مستعمل حتى الآن. وجمع هذه الكلمات وضبط معانيها وتبويبها وتصنيفها، عمل مهم نافع أرجو أن يتهيأ له أصحاب العلم والاختصاص، فبها

_ 1 Hastings, p. 52

نتمكن من الوقوف على الاتصال الفكري الذي كان بين العرب وغيرهم، وبها نتمكن أيضًا من الوقوف على مدى الاتصال ومقدار تغلغله في جزيرة العرب. وبأمثال هذه الدراسة سنتمكن أيضًا من تكوين صورة علمية صحيحة للتأريخ الجاهلي وهي صورة ستغير، ولا شك، كثيرًا من هذه الآراء القديمة عند كثير من الناس عن الجاهليين، تكونت من دراستهم لروايات أهل الأخبار عن العرب قبل الإسلام. ولم يخفَ أمر هذه المعربات عن قدماء علماء اللغة، فقد أدركوا وجودها ودخولها في العربية قبل الإسلام، وألفوا فيها، وأشاروا إليها في معجمات اللغة ووضع بعضهم بحوثًا في معربات القرآن. وهي تفيدنا فائدة كبيرة بالطبع في الوقوف على الصلات الثقافية التي كانت بين العرب والعالم الخارجي قبل الإسلام، وإن كانت تلك البحوث والمؤلفات قد كتبت بطريقة ذلك العهد، استنادًا إلى الروايات دون التثبت منها وتعرف أصولها وتتبع مواردها, بدراسة اللغات الأجنبية ومقارنتها ومطابقتها بالأصل. وهي طريقة أوقعتهم في أغلاط، ولكنها أفادتنا مع ذلك فائدة كبيرة في معرفة هذا الغريب الدخيل، وفي تكوين رأي في الدراسات اللغوية عند علماء اللغة القدامى1. وقد عثر الرحالون والمنقبون على ألواح من الخشب وعلى شبابيك ومواد خشبية أخرى في اليمن وفي حضرموت منقوشة نقشًا بديعًا ومحفورة حفرًا يدل على دقة الصنعة وإتقان في العمل. وهي شاهد على تمكن النجار من مهنته، وعلى قدرته فيها، وعلى حسن استعماله ليده وعلى سيطرته عليها في استخدامها للأدوات النجارية, في صنع النفائس والطرائف من الخشب. والحرف وراثية في الغالب, يتعلمها الابن عن والده، وتنحصر في العائلة فتنتقل من الآباء إلى الأبناء. ولا يسمح لغريب أن يتعلم أسرار الحرفة وأن يقف عليها وخاصة في الحرف المربحة, وفي الحرف التي تحتاج إلى مهارة ودقة وذكاء؛ خوفًا من وقوع المنافسة، وانتقال سر العمل والنجاح إلى شخص غريب, فينافس أصحاب الحرفة في عملهم, وينتزع منهم رزقهم. لذلك حُوفظ على أسرار المهنة، ولم يبح بأسرارها حتى لأقرب الناس إليهم، وفي حالة اكتشاف رجل طريقة جديدة غير

_ 1 المعرب، للجواليقي، الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي "1/ 231".

معروفة في حرفته، فإنه يحتفظ بسره حتى لا يتسرب إلى الغرباء, ومنهم من لا يعلِّم حتى أولاده سر المهنة إلا في حالة شعوره بعجزه عن العمل أو بقرب وفاته ودنو أجله؛ خشية انتقال السر منهم إلى غيرهم، فينافسونهم على رزقهم ومصدر قوتهم من هذا السر. وينضمُّ أصحاب الحرف بعضهم إلى بعض مكوِّنين "صنفًا"، أي: طبقة خاصة، تتعاون فيما بينها تعاون النقابات الحرفية والمهنية في الوقت الحاضر، يتولى رئاستها أبرز رجال "الصنف". وإذا مات أحدهم تعاونوا في تشييعه ودفنه وفي مساعدة أهله ومواساتهم؛ وذلك لحماية رجال الحرفة من كل سوء قد يقع عليها وللمحافظة على حياتهم، ولا يسمح "الصنف" بدخول غريب بينهم؛ لأنهم جماعة ورثت حرفتها، فلا يجوز لغريب مزاحمتهم فيها. ويتجمع رجال بعض الحرف في أماكن معينة، كما هو الحال في الوقت الحاضر، كأن يتجمع الحدادون في منطقة معينة, والصاغة في حي، والصفارون في حي, والنجارون في حي؛ وذلك للتعاون فيما بينهم، وتنسب تلك المحلات إليهم. وقد تشتهر مدينة ما بحرفة من الحرف، فيكون لمنتوجها شهرة واسعة ويباع بأسعار عالية, وقد تشتهر منطقة بجملة صناعات. فقد اشتهرت اليمن بالبرود كما اشتهرت بسيوفها، التي اكتسبت شهرة بعيدة واسعة في كل جزيرة العرب, واشتهرت بعقيقها كذلك وبأنواع أخرى من التجارات. واشتهرت مكة ببعض أنواع العطور, واشتهرت ثقيف بالدباغة والأدم. وقد كانت أجور العمل معروفة عند الجاهليين, فتُدفع للعمال والصناع أجور يومية، كما تدفع لهم أجور مقطوعة عن عمل معين, وليس لهؤلاء العمال من أتعاب عملهم سوى ذلك الأجر المتفق عليه. أما الرقيق, فلا يدفع لهم في العادة أي شيء، سوى ما يقدم لهم من طعام وملبس وحماية, وعليهم في مقابل ذلك الاشتغال بالشغل الذي يوكل إليهم به أسيادهم، ولا حق له بالنسبة لقوانين ذلك الوقت الامتناع عن القيام بالعمل الذي كلفوه به. والأجور قد تكون يومية وقد تكون سنوية وقد تكون مقطوعة, ولا يشترط في الأجر أن يكون نقدًا، فقد يدفع عينة، أي: مالًا مثل طعام، أو كساء؛ لندرة النقد في ذلك الوقت. ومن أمثلة الحرف التي تدفع عنها الأجور، حرفة

البناء، فيُدفع للعامل أجر يومي في الغالب, والنجارة والحصاد، وتدفع عنها أجور مقطوعة على الأكثر, والرعي وأمثال ذلك من حرف، يقوم بها سواد الناس لإعاشة أنفسهم منها. ويمكن تصنيف وجمع الحرف التي عرفت عند الجاهليين في حرف النجارة، وهي تنجير الخشب وتحويله إلى متاع وأثاث أو إلى عمل البناء أو إلى تماثيل وزخارف وما أشبه ذلك، ثم حرف البناء، وتتناول كل ما يتعلق بالبناء من أعمال، ثم حرف الإعاشة، ثم حرف التعدين والمعادن، ثم حرف الجلود وحرف الملابس وحرف التجميل وحرف أخرى.

النجارة

النجارة: والنجارة من الحرف القديمة المهمة في المدن, وقد عثر على نماذج من مصنوعات خشبية في اليمن تدل على حذق النجار وذكائه وتقدمه في مهنته. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن أهل مكة والمدينة لم يكونوا على حظ كبير في النجارة؛ ولذلك كانوا يستعينون بالرقيق وبالأجانب في أعمال نجارتهم كاليهود أو الروم, وفي الذي رووه عن تسقيف الكعبة في أيام الرسول وقبل نزول الوحي عليه ما يدل على ندرة النجارين في مكة في تلك الأيام. ويعلل أهل الأخبار ذلك بسبب أنفة العربي من الاشتغال بالحرف, فاعتمد على الأجانب -وأغلبهم من الرقيق- في أداء هذه الحرفة. والنجار، هو الذي ينجر الخشب, فيقوم بنشره وحفره وإصلاحه وعمله على النحو المطلوب وحرفته: النجارة. وفي هذا المعنى: نجارة الخشب1. ومادة النجارة الخشب, وهو نوعان: نوع مستورد من الخارج، إما من الهند وإما من أفريقية، وهو من النوع الجيد الصلب القوي المقاوم, وهو ثمين غالٍ. لهذا استعمل في صنع الأثاث الفاخر الثمين, وفي الأدوات التي تحتاج إلى خشب صلب مقاوم, وفي المعابد والقصور, وفي الأبنية المهمة، ومن أهم أنواعه:

_ 1 اللسان "5/ 193"، Hastings, A dicti. Of the Bible, I. p. 356

الساج والأبنوس والعندل, ونوع هو من حاصل أرض جزيرة العرب وناتجها. وهو دون الخشب الأول في المقاومة والجودة، وفي الاستفادة منه في أعمال النجارة؛ لأن معظمه ليس من النوع الناضج الغليظ الصلد القوي، لا يصلح إلا للأعمال النجارية الاعتيادية وللوقود، ما خلا أنواعًا قليلة منه استخرجت من بعض الأماكن مثل "النضار"، وهو خشب غليظ بعض الشيء ينبت شجره في غور الحجاز، وبعض أشجار اليمن والمناطق الجبلية الأخرى1. وترد في كتابات المسند كلمة "عضم" "عض"، ويراد بها "الخشب" في لهجتنا2. ترد في كتابات البناء بصورة خاصة، أي: الكتابات التي هي عبارة عن وثيقة بناء، إذ كان أرباب الدور والأبنية يذكرون المواد التي استخدموها في البناء، وفي جملة ذلك الخشب, وقد وردت لفظة "العضم" في كتب اللغة بمعنى خشبة ذات أصابع يُذرَى بها الطعام3. ويشترك العبرانيون مع العرب الجنوبيين في تسمية الخشب بـ"عض"4. وقد استخدم الخشب في تقوية الجدر، استخدموا الخشب القوي الصلد منه. ولا تزال آثاره باقية ظاهرة فيما تبقى من أبنية الجاهليين، وبعضه قوي لم يَعِثْ به الزمن فسادًا ولم يَفْنِهِ، كما استخدم في صنع السقوف والأبواب وفي تقوية السلالم، وفي صنع الشبابيك وأمثال ذلك من الأعمال التي تدخل في صلب البناء، وتكون جزءًا منه. وقد استورد معظم هذا الخشب الصلد القوي: الساج5 والأبنوس والصندل6 من الهند ومن أفريقية؛ لعدم وجوده في جزيرة العرب، ولا تزال آثاره وقطع منه باقية, على الرغم من مرور مئات من السنين عليه. واستخدم الخشب في صنع أثاث البيت وفي كثير من الأدوات المستخدمة في حياة الإنسان. وقد عثر على بعض مصنوعات من الخشب استخدمت أثاثًا، تدل على مهارة صناعها وعلى حسن تصرفهم في صنعها وفي هندستها. ويعبر عن الأثاث في المعينية بلفظة "رثد", وهي في مقابل متاع, وتؤدي أيضًا معنى التنظيم

_ 1 تاج العروس "3/ 571"، "نضر". 2 Rep. Epi., Num. 2789 3 تاج العروس "8/ 401"، "عضم". 4 راجع المعجمات في العبرانية. 5 تاج العروس "2/ 61". 6 تاج العروس "7/ 408".

والترتيب وتنسيق الأشياء. وفي المسند لفظة أخرى تؤدي هذا المعنى هي لفظة "ربب" ومعناها: السناد والأساس أيضًا1, وبالمعنى المذكور ترد لفظة "رثد" في عربية القرآن الكريم2. وقد ذكر في القرآن الكريم أسماء بعض الأثاث، مثل: الأرائك3 والسرر4 {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَة} ، "وسررًا عليها يتكئون"، و {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَة} ، و {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِين} ، و {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَة} ، والكرسي5. وقد تصنع السرر من سعف النخيل، كما يصنع الكرسي من هذه المادة أيضًا، وتصنع المشاجب من الأعواد المركبة توضع عليها الثياب6. وإذا بُوعِدَ بين الأشياء المنسوج بها السرير أو غيره من سعف النخل، قيل لذلك: مرمل، فيقال: سرير مرمل، إذا كان قد نسج وجهه بالسعف، وبوعد فيه بين الأشياء المنسوج بها7. وقصد بالكرسي، الكراسي الكبيرة المرتفعة، وقد استخدم خاصة لجلوس الملوك وفي غرف الاستقبال. وقد أشير إلى الكرسي في القرآن الكريم, فورد: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} . والعرش من الألفاظ الواردة في القرآن الكريم كذلك، وهو من البيت سقفه، ويجمع على عروش، والعرش شبه الهودج أيضًا. وقد يصنع من الخشب، يقوم بصنعته النجار، وقد يكون من حجارة أو غير ذلك. ومن ذلك العرش الذي يتربع عليه الملوك, والعرش: الخيمة من خشب وثمام، والتابوت أيضا أي: سرير الموت والخشب تطوى به البئر8. والعرش هو السرير الذي ينام عليه, قد يكون له حاجز يمنع النائم من السقوط، وقد لا يكون له حاجز, وهو بهذه التسمية "عرش" عند العبرانيين9.

_ 1 Rhodokanakis, Stud. Lexi, II, S. 53 2 شرح القاموس "2/ 350". 3 المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني "ص14"، وسيكون رمزه: المفردات، "وقال الزجاج: فراش في حجلة. وقيل: هو السرير مطلقًا سواء كان في حجلة أو لا, أو كل ما يتكأ عليه"، شرح القاموس "7/ 1000"، شمس العلوم "1/ 72". 4 المفردات "ص228". 5 المفردات "441". 6 جامع الأصول "4/ 339"، شرح القاموس "1/ 309". 7 جامع الأصول "9/ 347"، "شرح القاموس "7/ 352". 8 المفردات "ص332"، تاج العروس "4/ 321"، "عرش" 9 Smith, Vol., I, p. 177

وقام النجار بصنع أواني الطعام أيضًا، ولا سيما الأواني الكبار التي تستعمل في إطعام عدد من الناس في المناسبات، وتدخل بيوت الملوك وسادات القبائل والأغنياء الكرماء في الغالب وفي بعض الظروف والمناسبات، مثل المآتم والأفراح. ومنها "الجفنة"، وهي -كما يقول بعض علماء اللغة- أعظم ما يكون من القصاع، يوضع فيها الطعام؛ ليتناول منه عدد من الناس, وقد افتخر الشاعر "حسان بن ثابت" بـ"الجَفَنَات" دلالة على الكرم والجود1. و"القصعة" وهي تلي الجفنة في السَّعة، يشبع الضخم منها عشرة أشخاص2, ثم "الصحفة" وتجمع على "صحاف", وقد وردت في شعر معزوٍّ للأعشى: والمكاكيك والصحاف من الفضة ... والضامرات تحت الرجال وتصنع من الفضة كذلك، كما رأينا في هذا البيت المتقدم، وذكر أنها تشبع خمسة أشخاص3. ويليها في الحجم والسعة "المئكلة"، تشبع الرجلين والثلاثة, ثم الصحيفة، وتشبع الرجل4. وتصنع بعض هذه الأواني من مواد أخرى كالأدم, أو من المعدن كما قلت في "الصحاف" حيث تصاغ من الذهب والفضة لبيوت الملوك والأمراء والشيوخ والأغنياء. وقام النجار، ولا سيما من تخصص بالقداحة منهم، بعمل القدح النضار، وهو القدح المعمول من النضار. والنضار خشب معروف في الحجاز في أيام الرسول يكون بغور الحجاز، يعمل منه ما رقَّ واتسع وغلظ من الأقداح؛ وذلك لتحمل هذا الخشب ما لا تتحمله الأنواع الأخرى من الخشب المستخرج من الحجاز. وقد كانوا يدفنون هذا الخشب حتى ينضر، ثم يعمل فيكون أمكن لعامله في ترقيقه, وقد كان عند الرسول قدح نضار عريض. ويعبر أيضا عن الأقداح المنحوتة من الخشب بـ"الخشيب"5.

_ 1 تاج العروس "9/ 162". 2 تاج العروس "5/ 469"، "المعرب "ص274". 3 تاج العروس "6/ 161". 4 تاج العروس "6/ 161". 5 تاج العروس "1/ 233"، "3/ 571".

كما جهز النجارون أصحاب الحرف الأخرى بالأدوات المساعدة التي تساعدهم في حرفهم، فصنع لأهل الطعام "الروسم" أو "الروشم"، وهو خشبة فيها كتاب منقوش يختم به الطعام لئلا يسرق منه، ويستخدمه الحناطون وأمثالهم من باعة الطعام، وقيل: الطابع التي يطبع به رأس الخابية, واللفظة من الألفاظ المعربة على رأي بعض العلماء1. وصنع للمزارعين "النورج"، وهو المدوس، يداس به الطعام، وقد يصنع من الحديد أيضًا2, و"الهاون"، وهو المهراس والمنحاز، ويدق به، وقد أدخل في المعربات. وقد يصنع من حجر3, فيدق اللحم أو الحبوب فيه لسحقها. وصنع النجار "الميتدة"، وهي مطرقة من خشب, يستعملها الأعرابي بصورة خاصة لدق أوتاد خيمته في الأرض. وتعرف بـ"مقبة" "مقابة" عند العبرانيين4. وصنع النجار أبواب البيوت، ويقال للخشبة التي تدور فيها رجل الباب "النجران", ويقال لأنف الباب الرتاج، ولمترسه القُنَّاح والنجَّاف. وعمل "النجيرة": السقيفة من خشب, ليس فيها قصب ولا غيره5. وصنع النجار صناديق من خشب؛ لخزن الأشياء فيها، تقفل بقفل. وقد عني بزخرفتها بتلوينها أو بالحفر على أوجهها، وذلك بالنسبة للصناديق الثمينة التي تستعملها الطبقات الراقية. وفي جملة مصنوعات النجار "الحدوج"، مركب من مراكب النساء يشبه المحفة، تركبه نساء الأعراب على الإبل. وذكر أن الحدج مركب ليس برحل ولا هودج تركبه نساء الأعراب6. والهودج مركب للنساء مقبب وغير مقبب

_ 1 المعرب "ص160"، تاج العروس "8/ 313". 2 المعرب "ص335"، تاج العروس "2/ 105". 3 المعرب "ص346"، "والهاون الذي يدق فيه، فارسي معرب"، تاج العروس "9/ 369". 4 Hastings, Dict Of the Bible, Vol. I, p. 291 5 اللسان "5/ 193". 6 تاج العروس "2/ 19"، "حدج".

يصنع من العصي ثم يجعل فوقه الخشب فيقبب. وذكر أنه محمل له قبَّة تستر بالثياب يركب فيه النساء1. ويستعين النجار بجملة أدوات في صنعته، بعضها من صنع الحداد؛ لأنها من الحديد، مثل الفأس على اختلاف أنواعها والمنشار والمحفرة والمحفار والمنقار والمسحل والمثقب والكلبتان والمسامير والأوتاد وغير ذلك من أدوات تستعمل في قطع الخشب وفي تنظيمه وصقله وهندسته لجعله صالحًا للعمل2. ونجد في كتب اللغة ألفاظًا عديدة تتعلق بهذا الموضوع. ومن الأدوات التي يستعين بها النجارون في قياس تربيع الخشب "الكُوس", وهي خشبة مثلثة3. ويستعمل النجار المنشار في قطع الأخشاب والأشجار, ويقال لنحت الخشب النشر كذلك4. أما المنقار، فهو حديدة كالفأس مستديرة لها خلف ينقر بها، ويقطع بها الحجارة والأرض الصلبة والخشب5, ولا سيما في نقش الخشب وحفره. والحفرة, وتعرف بالمحفار أيضًا، حديدة يحفر بها الشيء6، وتستعمل في حفر الخشب لأغراض متعددة، مثل نقشه أو الكتابة عليه. وأما المِحْل، فالمنحت، آلة ينحت بها الخشب كالمبرد7, والمثقب آلة يثقب بها8, والكلبتان آلة يستعملها النجار والحداد؛ يستعملها النجار في إخراج المسامير, ويستعملها الحداد في أخذ الحديد المحمي9. وأما المسامير، فما يشد به10. ونجد في "الكتاب المقدس" -في التوراة والإنجيل- أسماء أدوات عديدة استعملها النجار في عمله، منها ما استعمل لقطع الخشب وإعطائه الشكل المطلوب،

_ 1 تاج العروس "2/ 115"، "هدج". 2 بلوغ الأرب "3/ 396 وما بعدها". 3 المعرب "ص288"، "الكوس: خشبة مثلثة تكون مع النجار, يقيس بها تربيع الخشب. وهي فارسية"، تاج العروس "4/ 236". 4 تاج العروس "3/ 565". 5 تاج العروس "3/ 580". 6 تاج العروس "3/ 151". 7 تاج العروس "7/ 372". 8 تاج العروس "1/ 196". 9 تاج العروس "1/ 461". 10 تاج العروس "3/ 278".

ومنها ما استعمل لنشر الخشب وقصه، ومنها ما استعمل لثقبه باستعمال المثاقب الآلية أو اليدوية التي تعمل الثقوب بالطرق وبطريقة الحفر، كما أشير فيه إلى المسامير1. وقد ذكر في القرآن الكريم ألواح الخشب التي تستعمل في صنع السفن، و"الدسر" وهي المسامير, والسفن في ذلك العهد من صنع النجارين. وآلات النجارة المذكورة في التوراة وفي الأناجيل، معروفة ومستعملة عند الجاهليين, وقد تصنع الدسر من الخشب. وهناك نجارون تخصصوا بصنع القوارب والسفن؛ لاستعمالها في صيد السمك وفي البحار للتجارة البحرية والنقل. ونظرًا لعدم وجود الأنهر الكبيرة والبحيرات في جزيرة العرب، انحصرت حرفة صنع القوارب والسفن في السواحل. ويستورد أهل هذه السواحل الخشب القوي الصلد من أفريقية والهند لصنع السفن الكبيرة التي يكون في مقدورها الابتعاد عن الساحل, والسير إلى الأماكن البعيدة. ولا يستبعد قيام النجار الجاهلي بصنع العربات والمركبات؛ وذلك لاستخدامها في السلم وفي الحرب. فقد كان المصريون والعراقيون وأهل بلاد الشام يستخدمونها، وليس من المعقول عدم وجود علم للجاهليين ولا سيما لأهل اليمن بصنعها وبالاستفادة منها. والعربة هي "عجلة" "ع ج ل هـ" عند العبرانيين وتستخدم في نقل الحاصلات, وقد أشير إليها في التوراة2. وقد عرفت بـ"م ر ك ب هـ" "مركبة" كذلك، وبـ"مركب" أيضًا، من أصل "ركب" إحدى الألفاظ التي ترد في اللهجات السامية. وهي "مركبة" في عربيتنا و"نركبتو Narkabtu" في الآشورية و"مركبثا Markabtha" في السريانية. وقد تعني الحيوان وحده الذي يركب عليه3. ويراد بـ"عجلة"، العربة التي تستخدم في نقل الحاصلات الزراعية في الغالب، وقد عثر على صور عربات في الآثار المصرية والآشورية واليونانية والرومانية, وبينها عربات استخدمت في القتال, ولبعضها مظلات لتحمي ركابها من الشمس والمطر. ويسحب العربات الزراعية ثور أو ثوران في الغالب, وقد

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 23"، Hastings, p. 53 2 Gen, XIV, 19, 27, Num, VII, 3, 7, 8, Smith, Dict, Vol. I, p. 281. Ency. Bib1, vol. I, P. 724, Hastings, Dict, vol. I, p. 372 3 Ency, Biblica, vol. I, p. 724 ff

تستخدم الحمير والبغال, أما عربات القتال فتجرها الخيل. وقد كانت دواليب العربات من الخشب، إلا أنها صنعت من الحديد أيضًا. والغالب أن يكون للعربة دولابان، ولكن العربات ذات الأربعة الدواليب كانت معروفة أيضا ومستعملة، ولا سيما في أمور النقل. وقد كان الأكاسرة يستعملونها لنقل عوائلهم، ولها ستائر وسقف1. وذكر علماء العربية أن العجلة: الدولاب2, وأن "المركب" واحد مراكب البر والبحر3. والظاهر أن العجلات والمركبات كانت نادرة الوجود في أكثر مواضع جزيرة العرب, إذ لا نجد لها ذكرًا في أخبار الإخباريين عن الجاهليين ولا في كتب اللغة.

_ 1 Smit, Dict, vol. I, P. 295, Hastings, Dict, vol. I, P. 357 Ency. Bibli, Vol. I, P. 724. 2 اللسان "11/ 428". 3 اللسان "1/ 431".

الحدادة

الحدادة: وقد دفعت حاجة الإنسان إلى المعادن لاستخدامها في أمور حربية وزراعية وفي البيت على انصرافه إلى الاشتغال بها لتحويلها إلى أشياء نافعة. فظهرت الحدادة والصياغة وأمثالها، واشتغل بعض الناس بالبحث عن الحديد وعن المعادن الأخرى واستخلاصها من المواد الغريبة المختلطة بها, كما اشتغلوا في خلط المعادن لإيجاد أنواع جديدة منها. وقد وقع ذلك بين أهل الحضر في الغالب، أما أهل الوبر، الأعراب، فلبساطة حياتهم لم يشعروا بحاجة لهم إلى هذه الصناعات، وإذا شعروا بوجود حاجة لهم فيها اشتروها من أهل المدن، واحتقروا الصناعات وأهل الصناعة والمحترفين بالحرف. ويعرف الحدَّاد بـ"القين" كذلك عند الجاهليين1, وهو الذي يعد للزرَّاع الأدوات التي تستعمل في حرث الأرض، مثل: المسحاة والمحراث والمنجل والأدوات

_ 1 "والحداد ككتان معالجه، أي: الحديد، أي: يعالج ما يصنعه من الحرف. ومن المجاز: الحداد السجان؛ لأنه يمنع من الخروج، أو لأنه يعالج الحديد من القيود"، شرح القاموس "2/ 331"، تاج العروس "2/ 331"، "حدد".

الأخرى، يصنعها من الحديد، كما أنه يعد للحرف الأخرى ولأهل البيوت كثيرًا من الآلات، يصنعها من الحديد. وكان فضلًا عن ذلك, الخبير الاختصاصي بصنع السلاح على اختلاف أنواعه وتجهيز الحكومات والأفراد بالسلاح الذي يستعمل في الدفاع وفي الهجوم؛ لذلك كانت حرفته مهمة خطيرة، ولا يزال الحداد يعد للناس في جزيرة العرب السلاح؛ كالسيوف والخناجر والدروع والسكاكين والنصال المعدنية وغير ذلك من أدوات كانت تستعمل في الحروب لذلك العهد، وسأفرد لها بحثًا خاصًّا. وذكر بعض علماء اللغة أن القين هو العامل بالحديد, وقال بعض آخر: إن القين الذي يعمل بالحديد ويعمل بالكير، ولا يقال للصائغ قين. وذكر بعض آخر أن القين الحداد، ثم صار كل صائغ عند العرب قينًا, وذكر بعض آخر أن القين هو الذي يصلح الأسنة، إلى غير ذلك من آراء. وكان من بين أصحاب الرسول من كان قينًا، مثل "خباب بن الأرت"1، ذكر أنه كان يشتغل للعاص بن وائل. وكان العاص هذا من الزنادقة، ومثله: عقبة بن أبي معيط، والوليد بن المغيرة، وأُبيّ بن خلف2. وكان خبَّاب يضرب السيوف الجياد ويدقها، حتى ضرب به المثل، ونسبت إليه السيوف3, كما اشتهر بها رجل آخر عرف بـ"ريش المقعد"، أي: النبل, والمقعد اسم رجل كان يريش السهام4, والنبل: السهام، والنبَّال: صاحب النبال وصانعها، وحرفته النبالة5. وتحبس في الجعبة، يحملها صاحبها معه، فإذا أراد الرمي، فتحها ليستخرج منها ما يشاء. ومن الحدادين الأعاجم الذين ذكرهم أهل الأخبار، الأزرق بن عقبة أبو عقبة

_ 1 تاج العروس "9/ 316"، "قين"، البلاذري "1/ 175 وما بعدها". 2 عمدة القاري "11/ 208 وما بعدها"، "وخباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة الخزاعي، وقيل: التيمي، وهو أصح، أبو عبد الله، من السابقين في الإسلام، وشهد بدرًا، ثم نزل الكوفة، ومات بها سنة سبع وثلاثين"، شرح القاموس "1/ 228". 3 تاج العروس "1/ 228". 4 تاج العروس "1/ 228". 5 تاج العروس "8/ 125".

الثقفي، غلام الحارث بن كلدة الثقفي، ذكر أنه كان روميًّا حدادًا1. ويرجع في رواية تنسب إلى "ابن الكلبي" مبدأ الحدادة عند العرب إلى "الهالك بن عمرو بن أسد بن خزيمة"، فهو في هذه الرواية أول من عمل الحديد من العرب، وكان حدادًا، فنسب إليه الحداد، فقيل لكل حداد: هالكي. ولذلك قيل لبني أسد: القيون، وقال لبيد: جنوح الهالكيّ على يديه ... مُكِبًّا يجتلي نقب النصالِ2 وعرف القين الذي يقوم بطبع السيوف وصقلها بـ"الطباع" و"الصقل"3. وقد عرفت اليمن بإجادتها صنع السيوف وطبعها وصقلها، حتى اشتهرت بذلك في جميع أنحاء جزيرة العرب, واشتهرت السيوف المصنوعة من حديد بيحان بالجودة؛ لجودة حديدها وقوته4. ومن الأدوات التي يستعملها "الصيقل" في صقل السيوف "المصقلة"، وهي خرزة يصقل بها5. ويقال: طبع الطبَّاع السيف، أي: صاغه، وكذلك طبع الطباع الدرهم. والطبع عند علماء اللغة هو الختم، والتأثير في شيء ما، وتصوير الشيء بصورة مثل طبع السكة وطبع الدرهم، وهو عندهم أعم من الختم وأخص من النقش6. ويعتني الحداد باختيار الحديد عند صنعه السيوف الجيدة الثمينة، ويخرج منه خبثه، وينفق جهده في صقل السيف وفي إتقان عمل الحديد الملتهب قبل تبريده، وإلا صار خشنًا قليل الفائدة لا يُشترَى بثمن جيد, ويقال لهذا النوع من السيوف الخشنة: الخشيب. وتستعمل اللفظة في الضد أيضا، فتطلق على السيف الصيقل، وتطلق على السيف الحديث الصنعة كذلك7. ومن أنواع الحديد الجيد الذي يستخدمه الحداد في صنع المصنوعات الثمينة، "الفالوذ" أي: "الفولاذ", ويقال له "بلدو" Poldo في السريانية و"فلدة"

_ 1 البلاذري "1/ 157"، "الإصابة "1/ 29". 2 اللسان "10/ 507"، "الهالك بن مراد بن أسد بن خزيمة"، العمدة "2/ 232". 3 بلوغ الأرب "3/ 401 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 404". 4 بلوغ الأرب "1/ 204". 5 تاج العروس "7/ 403". 6 تاج العروس "5/ 438". 7 تاج العروس "1/ 233".

"فلداة" في العبرانية, وتصنع منه الأسلحة بصورة خاصة1. وهو معروف في العربية، وعرف بقولهم: "وهو مصاص الحديد, المنقى من خبثه"2. ويستعين الحداد بأدوات في طرق الحديد وفي تغيير شكله على النحو المطلوب. ومن أهم هذه الأدوات "الكير"، وهو المنفاخ، وهو زقّ ينفخ فيه الحداد، أو جلد غليظ ذو حافات، يستعمل لإثارة النار وإيقادها؛ كي ترتفع درجات حرارتها فتؤثر في الحديد وتجعله لينًا يسهل طرقه وإعطاؤه الشكل المطلوب3. والكور وهو مجمرة الحداد, وهي مبنية بالطين وبالحجارة، وتوقد فيها النار، ويسلط عليها الكير، ويوضع الحديد على النار ليحمى ويلين4. ومن أصل "كوّر" "كور" و"كير"، ويراد بها الموضع الذي تحرق فيه القرابين من بخور وذبائح, تهيأ للحرق تقربًا إلى الآلهة5. ويعرف الكور بـ"كور" عند العبرانيين, وقد وردت اللفظة في التوراة6. ويطرق القين الحديد المحمى على "السندان"؛ ليحوله إلى الشكل الذي يريده, ويعرف بـ"العلاة" أيضا7. وقد استغل اليهود أنفة أهل المدينة والعرب الصرحاء من الاشتغال بالحدادة، فاحتكروها لأنفسهم، وربحوا منها ربحا طيبا، وذلك بإنتاجهم الأدوات والآلات الزراعية وبصنعهم الأسلحة اللازمة لكل إنسان لحماية نفسه، مثل صنع السيوف والخناجر والدروع. وقد سلحوا أنفسهم بها، كما باعوا منتوجهم لغيرهم. وتصنع الدروع من الحديد الثقيل، كي تقاوم قراع السيوف8. وقد تزرد الدروع؛ لتقاوم في الدفاع، ويقال عندئذ: "درع مزرود"9. والسرد عند علماء اللغة نسج الدرع، وهو تداخل الحلق بعضها في بعض.

_ 1 Smith, Dict. Of the Bible, Vol. III, p. 1377 2 اللسان "3/ 503". 3 عمدة القاري "11/ 220"، تاج العروس "3/ 532"، مجمع الأمثال "1/ 6". 4 تاج العروس "3/ 530، 532". 5 Rhodokanakis, Stud., II, S. 33, 170 6 Smith, Dict. Of the Bible, Vol. I, p. 637 7 شرح ديوان لبيد "ص96". 8 تاج العروس "5/ 325". 9 تاج العروس "2/ 363".

والسرد اسم جامع للدروع وسائر الحلق, وسمي سردًا؛ لأنه يسرد فيثقب طرفا كل حلقة بالمسمار، فذلك الحلق المسرد, والمسرد هو المثقب, وهو السرَّاد1. ويراد بالحلقة السلاح عامًّة، قيل: الدرع خاصة، وإنما ذلك لمكان الدروع ولشدة غنائه. وقد سمى "النعمان" دروعه حلقة2. وتصنع النصال من الحديد أيضًا, والنصل حديدة السهم والرمح، ويقال: نصل السيف ونصل السكين. وقد ذكر أيضًا أن نصل السيف حديدة السيف ما لم يكن له مقبض, فإذا كان لها مقبض، فهو سيف. وقيل: إنه النصل السهم العريض الطويل، والمشقص على النصف من النصل3. ومن المجاز: الحداد السجان؛ لأنه يمنع من الخروج, أو لأنه يعالج الحديد من القيود. وفي هذا المعنى ورد: يقول لي الحداد وهو يقودني ... إلى السجن: لا تفزع فما بك من باس والحداد البواب؛ لأنه يمنع من الخروج4. والعتلة: حديدة كأنها رأس فأس عريضة، في أسفلها خشبة تحفر بها الأرض والحيطان، وليست بمعقفة كالفأس، ولكنها مستقيمة مع الخشبة، أو هي العصا الضخمة من حديد, لها رأس مفلطح، يهدم بها الحائط. وقيل: هي بيرم النجار5. ومن مصنوعات الحداد "الإبزيم"، وهو حلقة لها لسان يدخل في الخرق في أسفل المحمل، ثم تعض عليها حلقتها، والحلقة جميعها "إبزيم", وقد أدخلها الجواليقي في باب المعربات6 من الفارسية. ومن مصنوعات الحداد "المقدحة"، الأداة التي استعان بها الإنسان في إيجاد النار, وهي حديدة يقدح بها حجر يوضع عليه مادة قابلة للالتهاب ولأخذ النار، مثل الصوف، فيورى منها النار7.

_ 1 تاج العروس "2/ 375". 2 تاج العروس "6/ 319". 3 تاج العروس "8/ 136". 4 تاج العروس "2/ 331"، "حَدَّ". 5 تاج العروس "8/ 3". 6 المعرب "ص24"، تاج العروس "8/ 202". 7 تاج العروس "2/ 202".

ويهيئ الحداد أقفال الأبواب، وقد يصنعها النجار أيضا. ويُوضَع خلف الباب وتد من حديد لتسميره، فلا يمكن فتحه1، كما يهيئ البيت بما يحتاج إليه من أدوات تستعمل في الطبخ وفي الغسيل وفي الزينة. ويجهز الرجل والمرأة بالأدوات المساعدة للتجميل كـ"المدرى"، وهو شيء يسرح به شعر الرأس محدد الطرف من حديد، وقد يصنع من غيره مثل الخشب, وهو كسنّ من أسنان المشط، أو أغلظ قليلًا، إلا أنه أطول2. وقد ذكر أصحاب اللغة بعض أسماء الآلات والأدوات التي كان يستعملها الحدادون في حرفتهم، نذكر بعضًا منها، مثل: "القرزم"، و"العلاة", والقرزم: لوح الإسكاف المدور, و"المِطرقة"، و"الفطيس" وهي أكبر من المطرقة، وهي "الميفعة" أيضا, و"المِبرد" الذي يبرد به الحديد، و"البرادة" ما سقط منه3. وأما "فسالة الحديد" فما تناثر من الحديد عند الضرب إذا طبع، و" المشحذ" مبرد للحديد، أعظمها وأخشنها. وقال بعض اللغويين: المشحذ المسنُّ، و"المفراص" وهو للحديد كالمقراض للثوب، والمنفاخ "المنفاخة" وهو ما ينفخ به الكير، والكير الذي ينفخ فيه4. وأما المبني من الطين، فهو الكور, و"المشرجع": مطرق لا حروف لنواحيه، ومطرقة مشرجعة: مطولة ولا حروف لنواحيها. أما إذا كان الشيء مربعًا، وقد نحتت حروفه، قيل له: "شرجعة". و"العسقلان"، أصغر مطرقات الصائغ, و"الغُداف": الحديدة التي يدخل في أحد طرفيها الخاتم ويركزها على الجبأة، والخشبة التي بين يديه. أما "الحِملاج"، فمنفاخ الصائغ، وهو حديدة مجوفة ينفخ فيها الصائغ، إذا أراد النفخ في كيره, وله الكلبتان والمثقب5. وقد وردت في التوراة لفظة "أج ن" "أجن"6، وهي "إجانة" و"إجان" في العربية, وهي إناء يعجن فيه العجين، أو يوضع فيه سائل أو أية مادة أخرى.

_ 1 المعرب "ص264". 2 جامع الأصول "7/ 571". 3 شمس العلوم "1/ 145". 4 المغرب "2/ 220". 5 أخذت ذلك من بلوغ الأرب "3/ 403 وما بعدها". 6 Hastings, Dict. Of the Bibl., Vol. I, p. 533

ولا تزال الكلمة حية معروفة، وتصنع من المعدن في الغالب، ولكنها قد تصنع من خشب في بعض الأحيان. ويستخدم الحداد المطرقة في طرق الحديد المحمى؛ لتحويله إلى الشكل المطلوب, ويقال للمطرقة الكبيرة: "الفطيس"، وتقابلها لفظة "بطيش" Pattish عند العبرانيين1, وقد أشار علماء اللغة إلى "الفطيس"2. ويستخدم الـ"قدوم"، وهي مطرقة كذلك، تسمى بـ"قردم" "قردوم" عند العبرانيين3, وذكر علماء العربية أن "القدوم" التي ينحت بها4. ومن أنواع المطارق مطرقة دُعيت بـ"جرزن" عند العبرانيين، وتستخدم في القطع: في قطع الأشجار والأخشاب التي تستعمل في البناء. ويرى بعض العلماء أنها أخف من "القردم"5, وبين "جرزن" و"الجرز" اللفظة العربية تقارب وارتباط. وقد ذكر علماء اللغة أن "الجرز" من السلاح، والعمود من الحديد, وأن الجراز بمعنى: قاطع؛ ولذلك قالوا: سيف جراز ومدقة جراز6. وهي الفاس في العبرانية، ولعلها بهذا المعنى في العربية أيضا, وتستعمل لقطع الأحجار والأخشاب ولتكسيرها7. والمطارق الحديثة المستعملة في الشرق الأوسط وفي بلاد العرب، لا تزال محافظة على شكلها وهيئتها التي كانت عليها عند الجاهليين وعند غيرهم قبل الإسلام, كما يظهر ذلك من النماذج التي عثر عليها ومن صور المطارق المصورة على بعض الآثار. وبعض هذه المطارق ذات رأسين، وبعضها ذات حافتين, ويختلف شكلها باختلاف المهمة التي تستخدم فيها. واستخدمت المطارق في الحروب كذلك، حملها المحاربون معهم في قتال الأعداء وفي فتح الثغرات في الجدر والأسوار وتحطيم الدبابات والآلات الأخرى المستخدمة في حروب تلك الأيام.

_ 1 Hastings Dict. Of the Bible, Vol. I, p. 291 2 شمس العلوم "1/ 145"، المغرب "2/ 220". 3 Smith, Dict., Vol. I, p. 142 4 اللسان "12/ 417". 5 Hastings Dict, Vol. I, p. 205, Smith, Dict., Vol. I, 141 f., Ency. Bibll., Vol. I, p. 392. 6 اللسان "5/ 317". 7 The Bible, Dictionary, I, p. III

الصياغة

الصياغة: و"الصائغ": من يحترف الصياغة، وذلك في اللهجة العربية الشمالية، ويشتغل في صياغة الذهب والفضة, وقد كان بين أصحاب الرسول من احترف هذه الحرفة. وقد ورد عن أبي رافع الصائغ, أن عمر بن الخطاب كان يمازحه بقوله: "أكذب الناس الصواغ، يقول اليوم وغدًا"1. وكلام عمر بن الخطاب هذا يدل على أن الصاغة لذلك العهد كانوا يخلفون أيضا في المواعيد، ولا يحافظون على الأوقات. وقد تحدث بعض الكَتَبَة اليونان عن أثاث وحليّ مصنوعة من الذهب والفضة، ذكروا أن السبئيين كانوا يستعملونها في بيوتهم، ولكننا لم نقف على شيء مهم من ذلك، إلا قطعًا متآكلة من المعدن وصلت إلينا، لتتحدث عن عمل الصاغة والحدادين في العربية الجنوبية, وأكثرها من المصنوعات المعمولة من البرنز. فلدينا مصباح من البرنز مصاب ببعض العطب، عثر عليه في "شبوة"، على طرفه جسم "أيل" جميل، صنع وكأنه متهيئ للوثوب. وهناك قطع أخرى تمثل إحداها جملا، وأخرى حصانا، كما عثر على عصي مصنوعة من البرنز، وعلى ألواح من هذا المعدن أيضا, عليها كتابات, وهي محفوظة في المتاحف الأوروبية. وهذا الذي عثر عليه هو شيء قليل بالطبع بالنسبة إلى ما سيعثر عليه، متى سمح للآثاريين بالبحث عن الآثار والكشف عن المطمور في جزيرة العرب، ولا سيما في العربية الجنوبية, حيث تشاهد تلول من الأتربة منتشرة تضم تحتها كنوزًا ثمينة من الآثار. ويقال للذهب: الأنضر، وقد ذكر بعض علماء اللغة أن لفظة الأنضر اسم للذهب والفضة، وكذلك النضار. أما النضرة فإنها السبيكة من الذهب, ونُضار الجوهر الخالص من التبر2. وقد عرف التبر بأنه الذهب كله، وقيل: هو من الذهب والفضة وجميع جواهر الأرض من النحاس والصفر والشبه والزجاج وغير ذلك مما استخرج من المعدن قبل أن يصاغ ويستعمل. وقيل: التبر هو الذهب المكسور، وقيل: الفتات

_ 1 تاج العروس "6/ 23". 2 تاج العروس "3/ 571".

من الذهب والفضة قبل أن يصاغا، فإذا صِيغا فهما ذهب وفضة, وورد التبر ما كان من الذهب غير مضروب فإذا ضرب دنانير فهو عين. وقد يطلق التبر على غير الذهب والفضة من المعدنيات؛ كالنحاس والحديد والرصاص، وأكثر اختصاصه بالذهب, وورد في الحديث: "الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها1". وأما "الجذاذ"، فإنه حجارة فيها ذهب، أي: الحجر الذي يقلع من مناجم الذهب، ثم يسحن بالمساحن لاستخلاص الذهب من المواد الأخرى, والمسحنة: حجر يدق به حجارة الذهب2. والحلي، ويراد بها ما يزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة3، هي من أهم أعمال الصائغ عند الجاهليين، يقوم بصنعها من الذهب أو الفضة، ويزينها ببعض الحجارة في بعض الأحيان, وقد اشتهر "بنو قينقاع" في منطقة "يثرب" بإجادتهم حرفة الصياغة وإتقانهم لها. ومن هذه الحلي ما يعلق على الصدر، ومنها ما يوضع في الأيدي أو في الأصابع، ومنها ما يوضع حول الساق, وما يعلق في مواضع أخرى من الجسد مثل الأذنين أو الأنف أو على الجبين، كما أن بعضه مما يحلى به الحيوان أو الأشياء النفيسة في البيت. ومن الحلي المشهورة عند الجاهليين القلادة, وتصنع من الذهب أو الفضة في الغالب، وقد تكون من ربط حجارة أو عظام أو خرز بعضها إلى بعض, وتربط حول العنق، وتتدلى على الصدر, على أن القلادة في اللغة لفظة عامة تطلق على أمور كثيرة. وقد كان الجاهليون يضعون قلادة في عنق البدن، مثل عروة مزادة، أو خلق نعل، أو غير ذلك؛ ليعلم أنها هدي. كما كانوا يقلدون الإبل بلحاء شجر الحرم، ويعتصمون بذلك من أعدائهم4. والأسورة من أدوات الزينة كذلك, وقد استعملها أهل الجاهلية، تضعها المرأة في يديها. ويذكر علماء اللغة أن "السوار" الفظة معربة، عربت من الفارسية وأصلها في الفارسية "ستوار"، فأخذها العرب وعربوها, واشتقوا منها "سوَّرت

_ 1 اللسان "4/ 88". 2 المعاني الكبير "2/ 848". 3 تاج العروس "6/ 23". 4 تاج العروس "2/ 475"، "جامع الأصول "5/ 409".

الجارية" و"جارية مسوّرة"1. على أن بعض المحاربين كانوا يستعملون الأسورة، ويتباهون بها في الحروب. وأما "العصمة"، فقيل: إنها القلادة، وقيل: إنها شبه السوار، توضع حول اليد. وأما المعصم، فإنه موضع السوار من اليد أو الساعد2. وأما القرط، فمن حلي الأذن يعلق بشحمة الأذن3، سواء أكان درّة أم ثومة من فضة أم معلاقًا من ذهب4. والخلخال من أدوات الزينة التي تستعملها النساء، يوضع على الساق, يصاغ من الذهب أو الفضة5. وقد يحشى بالقار، كما تحشى الأسورة أيضا في بعض الأحيان لتبدو غليظة, ويستعمل القير والقار في طلي السفن؛ لمنع الماء من الدخول فيها. والعرب تسمى الخضخاض قارا، وهو قطران وأخلاط تهنأ بها الإبل. وقد ذكر أنه صعد يذاب، فيستخرج منه القار6. ولا يزال أهل البادية والقرى يتحلون بالخلخال, وللأجراس الصغيرة التي تعلق به رنين خاص ونغمات. وهو من أدوات الزينة المستعملة بين شعوب الشرق الأوسط منذ القديم, وقد أشير إليه في التوراة7. وقد نهى الإسلام عن تبختر النساء بالخلاخل، وإثارتهن نغماتها؛ لما في ذلك من إثارة للرجال وتأثير عليهم8. والخاتم من عمل وصنع الصائغ، وهو من حلي الإصبع، ويحلى بالحجارة الكريمة في الغالب، مثل الياقوت والماس والشذر وغير ذلك. ويستعمل الخاتم للختم كذلك, أي: للطبع بدلًا من التوقيع، وذلك بحفر رمز أو كلمة أو عبارة أو اسم صاحب الخاتم على الخاتم، فإذا أريد كتابة كتاب أو تصديق قرار أو وثيقة ختم به على

_ 1 تاج العروس "3/ 283"، المفردات "ص274"، جامع الأصول "5/ 408". 2 تاج العروس "8/ 400". 3 جامع الأصول "7/ 526"، المغرب "2/ 117". 4 تاج العروس "5/ 202". 5 قال امرؤ القيس: كأني لم أركب جوادًا للذة ... ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال تاج العروس "7/ 309". 6 المعرب "ص266". 7 Hastings, Dict. Of the Bible, I, p. 99 8 السورة 24, الآية 31.

الشيء المراد ختمه، فيقوم إذ ذاك مقام التوقيع والاعتراف بصحة المذكور. ويقال لما يوضع على الطينة وما يختم على اللبنة الخاتم كذلك1؛ ولذلك عد الخاتم عند الشعوب القديمة رمزًا للتفويض والتصديق والملك. وختم الملك يدل على إرادة الملك ورضائه وأمره؛ ولذلك قيل: خاتم الملك2. وقد يصنع الخاتم من الشبه أو الصفر أو الحديد، ويعمل على صور وأشكال متعددة متنوعة. وقد كان خاتم رسول الله من حديد ملوي، عليه فضة3. وفي المتاحف وعند الناس عدد كبير من الأختام، عثر عليها في مواضع متعددة من جزيرة العرب. وهي تكون عند علماء الآثار دراسة خاصة؛ لما كان لها من أهمية عند الشعوب القديمة, ولما في بعضها من دقة في الصنعة ومن تفنن وإبداع. وبعض هذه الأختام مستورد من الخارج وبعضه متأثر بالأختام الأجنبية، مثل: الأختام العراقية أو الأختام اليونانية أو الفارسية. ويقوم الصائغ بعمل الزينة للرأس، ومنها التيجان, وقد كان ملوك الحيرة يضعون التيجان على رءوسهم. وقد ورد في شعر لمالك بن نويرة أن تاج النعمان بن المنذر كان من الزبرجد والياقوت والذهب4. ومن حلي النساء الفتخ والخُرص والسخاب والحلق, وقد حلي بها الأولاد كذلك5, وكذلك المسكة من ذهب والسلسلة والأطواق والأجراس والجلاجل. ويراد بالفتخ الخواتيم الضخام, يكون في اليد والرجل، بفص وبغير فص. وقيل: الخاتم أيًّا كان، أو حلقة من فضة6. وأما المسكة، فسوار من ذبل أو عاج، فإذا كانت من غيرهما أضيفت إلى ما هي منه7, وتوضع السلسلة في العنق، وأما الأجراس فتوضع في الأرجل8.

_ 1 تاج العروس "8/ 266"، اللسان "12/ 163"، "صادر". 2 Smith, Vol. III, p. 1044 3 جامع الأصول "5/ 402". 4 لن يذهب اللؤم تاج قد حييت به ... من الزبرجد والياقوت والذهب المعرب "ص356"، تاج العروس "2/ 12". 5 جامع الأصول "5/ 404 وما بعدها". 6 جامع الأصول "5/ 408"، تاج العروس "2/ 270". 7 جامع الأصول "5/ 493". 8 جامع الأصول "5/ 410".

ومن الحلي: "الحُبلة": ضرب من الحلي يصاغ على شكل ثمرة "الحبلة", يوضع في القلائد في الجاهلية1. ويقال للنقوش والزينة المزوقة والتصاوير المموهة بالذهب "الزخرف". وذكر علماء اللغة أن "الزخرف" الذهب, وهو الأصل، ثم قيل لكل زينة زخرف، وكذلك كل شيء مُوّه به. وقد ورد في كتب الحديث والأخبار أن الكعبة كانت قد زينت بالزخرف، أي: بنقوش وتصاوير، وكانت بالذهب. فلما كان يوم الفتح، لم يدخل الرسول الكعبة، حتى أمر بالزخرف فنحي، وبالأصنام فكسرت، فدخل بعد ذلك الكعبة2. وقد ألف أهل مكة وغيرهم استعمال الآنية المصنوعة من الذهب والفضة، فاستعملوا الأكواب والأباريق والكئوس والقوارير والأواني, وبعضها عليه صور مرسومة أو محفورة. وقد أشير في القرآن الكريم إلى هذه الأواني، وذكرت في كتب الفقه، وقد ورد النهي عن الشرب بأواني الذهب في الحديث3، وفي ذلك دليل على وجودها واستعمالها عند العرب قبل الإسلام. وقد ذكر علماء اللغة أن من الأواني المستعملة من الفضة الجام4، وعرفوا الكوب بأنه كوز لا عروة له، أو هو المستدير الرأس الذي لا خرطوم له. وقد ذكر في شعر عدي بن زيد العبادي5، وفي شعر نفر آخر من الشعراء الجاهليين ممن ألفوا الحضارة. وورود "أكواب" جمع "كوب" في القرآن الكريم، دليل على استعمال أهل مكة للأكواب. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اليونانية, وتقابل لفظة Cup في الإنجليزية. وقد أخذت من هذا الأصل اليوناني. والكوب، هو في معنى "كوس" عند العبرانيين، أي: كأس في عربيتنا. وتصنع الكئوس من المعدن، كما تعمل من الطين, وعُمِلَتْ كئوس الملوك وكبار

_ 1 اللسان "11/ 140". 2 تاج العروس "6/ 126". 3 شمس العلوم "1/ 103". 4 تاج العروس "8/ 234". 5 متكئًا تصفق أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب تاج العروس "1/ 464".

الأغنياء من الذهب والفضة. ولبعضها يد أو علَّاقة ليحمل الكأس بها1, وقد ذكرت لفظة "كأس" في القرآن الكريم. واستعمل أهل مكة الأباريق المصنوعة من الذهب والفضة كذلك. وقد ذهب علماء اللغة إلى أن لفظة "إبريق" لفظة معربة، أصلها فارسي هو: "آب رى". وقد وردت لفظة "الأباريق" في القرآن، كما وردت لفظة "إبريق" في شعر منسوب إلى عدي بن زيد العبادي2. وأخذ تجار مكة من الفارسية بعض الألفاظ الحضارية التي لها علاقة بالصياغة، بحكم اتصالهم بالعراق، مثل لفظة "زركش"، وهي من أصل فارسي معناه: الراسم والناقش على الذهب3. وصاغ الصياغ خرزًا من الفضة، جعلوه على أمثال اللؤلؤ، وعرف عندهم باسم "الجمان", وقد وردت لفظة "جمانة" في شعر منسوب للبيد. وذكر الجواليقي أن اللفظة معربة من أصل فارسي، وأنها تكلمت بها العرب قديمًا4. ويصنع الصائغ إطارات للمرائي، جمع المرآة، وهي ما تراءيت فيه، وما ترى فيه صور الأشياء5. وقد يصنع الصائغ المرآة على هيئة سبيكة مصقولة من الفضة, إذا نظر إليها بان وجه الإنسان. وقد ذكر العلماء نوعًا من المرائي دعوه "السجنجل"، وقد وردت هذه اللفظة في معلقة امرئ القيس، وذكر العلماء أن اللفظة معربة من أصل رومي6. وقام الصائغ بعمل كل ما طلب منه، فعمل قبيعة السيف من الذهب والفضة وزين السيوف بالذهب والفضة. بل صنع بعضهم أنوفًا من ذهب لمن أُصيبت

_ 1 Smith, Vol. I, p. 372 2 ودعا بالصبوح يومًا فقامت ... قينة في يمينها إبريق تاج العروس "6/ 286"، وورد "فجاءت"، المعرب "ص23"، شمس العلوم "1/ 145". 3 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق "ص381، تموز 1960". 4 المعرب "115"، تاج العروس "9/ 163". 5 تاج العروس "10/ 139". 6 المعرب "ص179". مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل تاج العروس "7/ 371".

أنوفهم. فذكر أن صائغًا صنع أنفًا من ذهب لعرفجة بن سعد، وكان قد أصيب أنفه يوم الطلاب في الجاهلية1. وزينت الدروع والدرق بالذهب كذلك, ووجد الصائغ عملًا مهمًّا له في المعابد، إذ أمدها بزخارف مموهة بالذهب وضعت على أبوابها, وعلى الأماكن المقدسة فيها. كما أمدها بالتماثيل المصنوعة من الإبريز وبالقناديل والمصابيح المصنوعة من الذهب والفضة. ومن أدوات الصاغة المهمة التي يستعملونها في صناعتهم "الحماليج"، وهي المنافيخ، وتستخدم في إيقاد النار وفي زيادة لهبها؛ كي تتمكن من صهر المعدن أو جعله لينًا, ليحوله الصائغ على الشكل الذي يريده2. ومن الأدوات المصنوعة من الحديد ومن النحاس والبرنز أيضًا "التور"3 و"الطست"4 و"الطاجن"5، وهي أوانٍ يوضع فيها الماء في الغالب. وذكر بعض علماء اللغة أنها كلها ألفاظ معربة من الفارسية6. وقد عرف التور بأنه إناء من الأواني، وقيل: إنه إناء من صفر أو حجارة كالإجانة, وقد يتوضأ منه7. ومن الأدوات التي يصنعها النحاسون "القمقم", ذكر بعض علماء اللغة أنه الجرة أو ما يستقى به من نحاس8. واللفظة ما تزال حية معروفة في العراق،

_ 1 جامع الأصول "5/ 410 وما بعدها"، اللسان "8/ 259". 2 المعاني الكبير "2/ 763". 3 المعرب "ص86"، تاج العروس "3/ 70". 4 المعرب "ص86"، تاج العروس "1/ 563"، المغرب "2/ 14"، فرائد اللغة "ص238". 5 "الطجن: القلو، دخيل في العربية ... والمطجن, كمعظم: المقلو في الطاجن"، تاج العروس "9/ 268". 6 المعرب "ص86". 7 اللسان "4/ 96". 8 المعرب "ص260": والقمقم كهدهد: الجرة عن كراع, وأيضًا آنية من نحاس وغيره، يسخن فيه الماء، ويكون ضيق الرأس. قال الأصمعي: هو رومي معرب "كمكم" بكافين عجميتين. وقال عنترة: وكان ربا أو كحيلا معقدا ... حش القيان به جوانب قمقم ومنه استعير لإناء صغير من نحاس أو فضة أو صيني يجعل فيه ماء الورد، تاج العروس "9/ 33".

تطلق على وعاء يوضع فيه ماء الورد، يسكب منه في المآتم خاصةً. وقد اشتهرت بعض مواضع اليمن بالمعادن، وتُعرَف الأرضون المحتوية على خاماتها بـ"مَعْدِن" عند أهل الأخبار. ويذكر بعد هذه اللفظة اسم المكان الذي يوجد فيه المعدن ثم نوعه، فقد ورد مثلًا "معدن عشم" و"معدن ضنكان"، وقد اشتهرا بالذهب, وذكر أن ذهبهما من النوع الجيد الجليل. أما "معدن القفاعة" ففيه ذهب كذلك، لكنه دون ذهب المعدنين المذكورين، وهو خير من ذهب "معدن بني محيد"1. وقد استغل الناس مناجم الذهب والفضة والحديد، وعثر عند بعضها على أدوات استخدمت في إذابة المعدن؛ لاستخلاصه من المواد الغريبة العالقة به. وقد ذكر "فؤاد حمزة" في كلامه على جبل "تَهْلَل" بجوار السودة في عسير، وبه معدن الحديد2، أنه عثر فيها على آثار عشرات النقر لإذابة المعادن. وقد كانوا يضعون خام الحديد المستخرج من منجمه في هذه النقر ومعه الخشب والأغصان التي توقد لإيجاد النار الكافية لإذابة المعدن, واستخلاصه من المواد الغريبة المختلطة في خامه. فإذا ذاب المعدن وخلص من المواد الغريبة التي كانت ممتزجة به، عُولِج معالجةً خاصةً لتنقيته ولاستخراج فحمه والمواد الأخرى التي تجعله هشًّا قابلًا للكسر والثلم بسهولة. وقد يعالج جملة مرات إن أريد استعماله في أمور تستدعي استعمال حديد نقي صافٍ, في مثل السيوف الجيدة التي بجب صنعها من هذا الحديد. واستعمل الأتون أيضا في إذابة المعادن لتنقيتها وإذابتها ولإحالتها إلى الشكل المطلوب. وتوقد النيران في أسفل الأتون؛ لتذيب المعدن وتحيله إلى سائل يسيل من فتحة تقع في جانبه ليحوله المعدن إلى الشكل الذي يريده. ويخرج الدخان من فتحة تكون في نهاية موقد النار، وتقوم هذه المدخنة بتهوية الموقد في الوقت نفسه. وطريقة إذابة المعادن وتنقيتها هذه، معروفة عند الرومان واليونان والفرس والعبرانيين, ويطلق العبرانيون على الأتون، لفظة "أتون" كذلك3. وأشير إلى معادن أخرى في اليمن، منها: الفضة، وقد وجد في "معدن

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 204". 2 في بلاد عسير: "ص113 وما بعدها". 3 Smith, Dict. Of the Bible, Vol., I, p. 637

الرصاص"، موضع بين "فهم" من همدان، بين خولان العالية ومراد، ومعها الرصاص، وعليه كان اعتماد أهل اليمن. وكان في الموضع قرية تسمى "قرية الرصاص"، وأهلها من العرنيين, وقد ارتدوا، فقتلهم رسول الله1. وعرف الرصاص الخالص بالآنك2, وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها من أصل آرمي هو "أنكو" Anko3. ومن المعادن: الجزع، واليفران، والعقيق, وهو في مواضع عديدة من اليمن، بعضه بعدن أبيض، وبعضه بأرض وادعة بين صعدة والحجاز، وفي نجران وبيحان4. والنحاس، هو "نحشت" في العبرانية, ويعرف بـ"صبرو" Siparu في البابلية. ومن هذه اللفظة "الصفر"، المستعملة في العراق بمعنى نحاس5. وذكر علماء اللغة أن النحاس ضرب من الصفر والآنية شديدة الحمرة6, وذكروا أن الصفر: النحاس الجيد، وقيل: ضرب من النحاس, والصفار: صانع الصفر7. وقد عرف المشتغلون بالمعادن طريقة خلط المعادن، فاستعملوها في أغراض شتى. فخلطوا بين الفضة والرصاص أو النحاس في صنع النمي، وهي الفلوس, وكانت في الحيرة على عهد النعمان بن المنذر8. وخلطوا الحديد بمعادن أخرى؛ ليتناسب مع طبيعة الأشياء التي يراد صنعها منه, ويكون خلط المعادن بنسب مقدرة معلومة؛ كي تؤدي الغاية المرجوة منه. ومن هذه المعادن: الشبه, وقد ذكر علماء اللغة أنه ضرب من النحاس, يلقى عليه دواء فيصفر9. وفي العبرية لفظة "فولاذ"، وتعني معنى Steel في الإنجليزية، أي: نوعًا خاصًّا من أنواع الحديد, وتقابل لفظة "فلدو" "بلدو" في السريانية و"فلداة"

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 204". 2 شمس العلوم "1/ 102". 3 غرائب اللغة "ص172". 4 بلوغ الأرب "1/ 204". 5 Ency. Bibli. Vol, I, p. 893 6 اللسان "6/ 227". 7 اللسان "4/ 461". 8 تاج العروس "9/ 85". 9 اللسان "13/ 505".

في العبرانية. ويظهر أن الفولاذ كان معروفًا عند الشعوب القديمة قبل الميلاد1. ولم يختلف أهل اليمن القدماء عن أهل اليمن المحدثين في طرقهم البدائية في استخراج المعادن واستخلاصها من خاماتها، ولا يزال أهل اليمن يضرمون النار في الحجارة المحتوية على المعدن، فيسيل المعدن بتأثير الحرارة، فإذا سال سكب عليه الماء، فيبرد، وتتكون قطع منه، يستعان بها في صنع ما يحتاجون إليه من آلات وأدوات. ولا يزال كثير من سكان جزيرة العرب يمارسون الصناعات على الطريقة القديمة، يعتمدون فيها على الأيدي وعلى الآلات البدائية التي ورثوها من الماضي، فيدبغون الأدم على طريقتهم الموروثة، ويصنعون سرج الخيل وهوادج الإبل، والأحذية، وينسجون الأنسجة من صوف الأغنام أو الماعز أو الوبر، للملابس، ولبيوتهم التي تنتقل بتنقلهم. والعِطارة من الحرف القديمة المعروفة، وقد ذكرت في التوراة2. والعطَّار وإن كان اسمه قد جاء من العطر بسبب تعاطيه بيع الطيب والعطور، يبيع أيضا مختلف الأعشاب والعقاقير والأدوية. فهو صيدلي في الواقع، وإليه تأتي وصفة الطبيب تعيّن الأعشاب والعقاقير التي يحتاجها المريض. وقد كان العطارون يبيعون في مكة ويثرب وأماكن أخرى أنواع العطور والطيوب، وفي جملتها المسك. وقد ضرب الرسول المثل "بصاحب المسك" أي: العطار، إذ جعله مثال الجليس الصالح3 للرجل. ويبيع العطارون عدة أشياء تستعمل في الطب وفي الطعام، مثل الزعفران والكركم وهو أصغر، وذكر أنه "الهُرد"، وهو عروق يصبغ بها4. ومثل "المصطكا"، وهو علك رومي، ويدخل في الأدوية أيضًا5. وقد يحمل العطارون آلتهم معهم، يضعونها في خريطة من أدم، يطلقون عليها "القفدانة" و"القفدان". وهي لفظة فارسية معربة، وتطلق على المكحلة كذلك, كما يقول بعض علماء اللغة6.

_ 1 Smith, A dicti. Of the Bible, Vol, III, p. 1377 2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 22". 3 عمدة القاري "11/ 220". 4 المعرب "ص291". 5 المعرب "ص320". 6 المعرب "ص263"، تاج العروس "2/ 474".

حرف الإعاشة

حرف الإعاشة: وأعني بها الحرف التي تهيئ الأكل للإنسان من تقديم أكل وشراب وما يتعلق بهما من أعمال مساعدة في تهيئة ذلك, فيدخل فيها طحن الحبوب والطبخ والخبز والأواني التي يوضع فيها الطعام وما شابه ذلك من أمور. ولا بد للإنسان من سحق الحبوب وطحنها؛ ليكون في إمكانه أكلها والاستفادة منها. لذلك فقد يدقها دقا بين حجرين أو بآلات صلبة، ثم يلهم الحبوب المدقوقة لهمًا أو يحمصها على النار أو يمزجها بمادة أخرى؛ لتكون طيبة المذاق, مستساغة في الطعم. وقد يطحنها طحنًا، أي: يحولها إلى دقيق بواسطة الرحى، وهي حجران من حيث الأساس, أحدهما ثابت وهو الأسفل، والآخر متحرك وهو الحجر الأعلى وهو أصغر قليلًا من الحجر الأسفل، به فتحة توضع الحبوب بها فتنزل منها إلى سطح الحجر الثاني، فتقع بواسطة حركة الحجر الأعلى بين الحجرين وتداس فتسحق، وبواسطة استمرار الحركة وثقل الحجر الأعلى تتحول الحبوب إلى طحين يخرج من بين الحجرين إلى الخارج, حيث يسقط في حفرة أمامية عملت لتجميع الطحين بها، وذلك فيما إذا كان الحجر الأسفل مبنيًّا على قاعدة، أما إذا كان متحركًا فيسقط الطحين على أطراف الرحى على قماش أو أي شيء يوضع تحت الحجر الثاني، ثم يجمع الطحين. وهذا النوع من الرحى هو من النوع المحسن الذي يمثل تقدمًا في صناعة طحن الحبوب. وقد عثر على نوع هو أبسط من الرحى المتقدمة، فهو عبارة عن حجر مائل نوعًا ما، أحد طرفيه مرتفع عن الطرف الآخر، يوضع الحب عليه ثم يسحق بحجر أسطواني الشكل في الغالب, يمسك بالأيدي من مقبض نحت منه على كل طرف من طرفيه, ثم يحرك على الحبوب لسحقها، وقد يقبض بطرفي الحجر ثم يحرك نحو الأسفل فالأعلى حتى تسحق تلك الحبوب وتتحول إلى طحين.

ولا أستبعد استعمال العرب الجنوبيين للطواحين الكبيرة التي تدار بالماء، وذلك بالإضافة إلى الطواحين التي تديرها الحيوانات؛ وذلك لبيع الطحين في الأسواق. وقد كان الناس يستعملون الرحى في الغالب للحصول على الطحين، فلم يكد يخلو بيت منها؛ ولذلك كانت صناعة الرحى من الصناعات النافقة المربحة في ذلك الزمان. والطحن من الأعمال التي تخصص بها النساء، وتقوم به الخادمات في البيوت الكبيرة. وقد توضع جملة رحى في البيت الكبير, حيث تخبز كميات وافرة من العجين لإعاشة أفراد البيت. ولمكانة الرحى عند القوم يومئذ، تخصص أناس بإصلاح الحجر لتحويله إلى رحى صالحة لطحن الحبوب أو لعمل الزيوت. وليس يصلح كل حجر لأن يكون حجر رحى؛ ولهذا فعلى الخبير بالرحى اختيار الحجر الصالح، ثم عليه إصلاحه ليكتسب الاستدارة وعمل ثقب فيه ونقرة وغير ذلك مما يتعلق بهذا العمل. وتكون حجارة الرحى مختلفة في الحجم، باختلاف العمل الذي يوكل إليها أداؤه, فبعض الرحى كبيرة ثقيلة ذات قطر واسع، وتستخدم في طحن بعض المواد الصلبة مثل العفص ومواد الدباغة الأخرى والمواد التي تستخدم في إنتاج الزيت والطحين, ويستخدم الحيوان لإدارة مثل هذه الرحى. وقد عثر على حجارة رحى ضخمة استخدمها العرب قبل الإسلام في تلك الأغراض. وبائع الحنطة يقال له: الحنَّاط، يعيش من الاتجار بالحنطة، وقد يبيع معها الشعير والحبوب الأخرى. وقد ورد ذكر "الحناطين"، في كتب الحديث1. والخبز في العادة هو من الأعمال البيتية, أي: من الأعمال التي تتم في البيت، حيث تقوم الزوجة بخبزه، ويقوم الرقيق أي: الخدم بخبزه في البيوت الكبيرة الغنية. وهو من اختصاص النساء. وقد احترف بعض الناس الخبازة، وعرف واحدهم بـ"الخباز"، إذ يصنع الخبز المصنوع من الحنطة أو المصنوع من الشعير أو من الذرة ومن الأرز. والخبز على أنواع، فيه الغليظ وفيه الطري وفيه الناشف، وفيه ما يضاف إليه

_ 1 المعرب "ص141"، تاج العروس "5/ 121 وما بعدها".

السكر. وقد ذكر أن من الخبز الغليظ ما يقال له "جرذق" و"جردق" و"الجردقة"، واللفظة فارسية معربة وأصلها "كردة"1. والخبز المصنوع من الحنطة، هو أجود أنواع الخبز وأغلاها؛ ولذلك يعتبر خبزها خبز الأغنياء وخبز الطبقة المتمكنة, أما خبز الأعراب والفقراء وأهل القرى فهو الخبز المصنوع من الشعير أو من الذرة. ويقتات فلاحو بلاد الشام واليمن بخبز الذرة؛ لوجوده بكثرة عندهم، ولرخص ثمن الذرة بالنسبة إلى القمح. كما يقتات بعضهم بالخبز المصنوع من "الدخن"، وهو من الحبوب القديمة وقد أشير إليه في التوراة2. ومن أنواع الخبز "المرقق"، أي: الرقاق، وقد ورد ذكره في كتب الحديث3، ويقال له "المرقوق" في بلاد الشام، ويعرف بـ"رقيقيم" أي: "الرقيق" عند العبرانيين4, ولا زال معروفًا مستعملًا. ويكون ناشفًا رقيقًا يمكن حفظه وخزنه مدة طويلة؛ ولذلك يدخر للشتاء وللأسفار. ويرقق خبز الرقاق بآلة تسمى: المرقاق5. والخبز الجيد هو الخبز المصنوع من الطحين المنقى الصافي من قشرة الحبوب، وذلك بنخل الطحين في منخل فيسقط لب الطحين ويعزل عن القشرة التي تبقى في المنخل، حيث يستعمل لأغراض أخرى كعلف للحيوان، أو لتنظيف الأواني, وما شابه ذلك من أعمال. و"الكعك"، هو نوع من الخبز اليابس, ويحمل في الأسفار أيضًا، حيث يبقى مدة طويلة محافظًا على طعمه ونكهته. وقد ذكره بعض اللغويين في المعربات6. والسميذ، نوع من أنواع الخبز اليابس كذلك. وقد يحلى الخبز، بوضع مادة حلوة فيه، وقد يعجن بالدهن أو الزيت،

_ 1 المعرب "ص95، 115"، تاج العروس "6/ 305". 2 حزقيال، الإصحاح الرابع، الآية التاسعة، Hastings, Dict., Vol., I, p. 315 f 3 المعرب "ص197"، فتح الباري "9/ 464"، اللسان "10/ 123". 4 Hastings, Dict, of theBible, vol. I, p. 318, Hastings, a dict. Of Christ and the Gosple, bol, I, p. 231 5 تاج العروس "6/ 359". 6 تاج العروس "7/ 174"، المعرب "ص297".

وقد توضع فيه بعض المواد لإعطائه نكهة خاصة، أو يوضع عليه السمسم أو غيره، كما نفعل اليوم. ويخبز الخبز عند الحضر وأهل الريف في "التنور". و"التنور" من الألفاظ الواردة في عدد من اللغات السامية؛ فهو "تنورو" Tanuru في الآشورية1, و"تنور" في العبرانية2, والتنور العربي هو نفس البابلي القديم نفسه3. وقد عيّر "حسان بن ثابت" رهط "النجاشي" الشاعر, بأنهم لم يكونوا أهل حرب ولا طعان ولا فرسان، وإنما هم قوم لا يعرفون غير الأكل والجلوس حول التنانير، يأكلون ما يخبز فيها4. وعاش بعض الناس على بيع الحليب واللبن والزبدة والجبن. أما "اللبن"، فإنه الحليب المثخن، أي: الحليب الغليظ, غلظ بتسخينه وبإضافة خميرة إليه. وأما الزبدة، فتستخرج من خض الحليب وتحريكه، فتتجمع مادة دهنه وتكون الزبدة. وأما الجبن، فإنه من أكل أهل القرى والمدن في الغالب, أما الأعراب، فلم يستعملوه بكثرة، ولا زالوا على هذه العادة. وقد يستعمل بعضهم اللبن المجفف، فبعد تحويلهم الحليب إلى لبن، يجففون اللبن، ويستعملونه عند الحاجة. وقد ذكر الجبن في التوراة بـ"جبينة" من أصل "جبن" أحد الألفاظ السامية القديمة5. ويعيش أناس من الجِزارة، فكانوا يبيعون اللحم ويتكسبون بهذه الحرفة، كما كانوا يقومون بالجزارة للناس في مقابل أجر يتقاضونه، قد يكون نصيبًا يدفع إليهم من الذبيحة، وقد يكون شيئًا آخر يحصل التراضي عليه6. ولكن العادة أن يقوم الذبَّاحون بذبح الذبائح لأهل البيوت مقابل دفع شيء إليهم من الذبيحة أو بعض الأشياء التي يحتاجون إليها، وقد يقوم بالذبح أصحاب البيوت أو الخدم أو الطباخون, وذلك في العوائل الكبيرة؛ ولهذا فحرفة الجزارة لم تكن من الحرف

_ 1 Reallexkon, Bd, I, S. 5 Lieferung, S. 387 2 Hastings, A Dictionary of the Bible, P. 315 3 Reuther, Innenstadt bon Babylon, S. 26, F, 53, 107. 118 4 ألا طعان، ألا فرسان عادية ... إلا تجشؤكم حول التنانير ديوان حسان "ص215" "البرقوقي". 5 Smith, Vol., I, p. 237 6 جامع الأصول "4/ 396".

الشائعة، لا سيما وأن سواد الناس لم يكن في إمكانهم تناول اللحوم في كل يوم؛ لغلائها بالنسبة لهم، بل كانوا يعيشون على الخبز وبعض الإدام الرخيص؛ ولهذا صار الخبز المادة الأساسية في معيشة الإنسان، ومن هنا قيل له "العيش"، وقيل للطعام: "العيش". كما كان اللبن أساسًا لمعيشتهم، وقد يتأدمون بالتمر مع الخبز1. وأحسن اللحوم عند العرب لحوم الإبل، لا يفضلون شيئًا عليها، ومنهم من كان يستطيب أكل الضب2, وهم في أكل لحم الجمل على عكس يهود الذين يحرمون أكل لحوم الجمل. أما لحوم الغنم والماعز، فإنها تكون عند أهل القرى والمدن، حيث يبيعها الجزارون, وقد يأكون لحوم الخيل. وفي الأدب العربي قصص عن ذبح فرس لضيف قادم، حين لا يكون لدى المضيف من حيوان سوى الفرس. وقد يأكون الحمر الوحشية، والحيوانات الأخرى حيث يصطادونها, أما الدجاج, فإنه من مآكل أهل القرى والمدن حيث تربى عندهم ويبيعونها في السوق. وكان مأكولهم في غالب الأزمان لحوم الصيد والسويق والألبان، وكان الغالب من أهل باديتهم لا يعاف شيئًا من المأكل لقلتها عندهم. وكان الاصطياد ديدنًا لهم وسيرة فاشية, حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم؛ لاضطرارهم إلى النقلة في الغالب وتشاغلهم بالحروب وغزو بعضهم بعضًا، ولضيق ذات يدهم، فكانوا يتغلبون على كل ذلك بالاصطياد وبمطاردة الحيوانات بكل طريقة ممكنة لأكل لحومها3. والطِّباخة من الحرف التي كانت معروفة عند الجاهلين, وقد ورد في كتب اللغة والأخبار وكتب الحديث أسماء بعض الأطعمة التي كان يستعملها أهل الجاهلية وبينها أسماء أطعمة معربة، اقتبسها العرب من الفارسية والآرمية واليونانية. ومن هذه الأطعمة المعربة، "الخرديق" "الخردق"، وهو طعام شبيه بالحساء أو

_ 1 اللسان "6/ 322". 2 بلوغ الأرب "1/ 380"، وكان الرسول ممن لا يستسيغ أكل العنب، كتاب التأريخ الكبير، لأبي عبد الله، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري "المتوفى سنة 256هـ"، "1/ 170"، "طبعة حيدر آباد الدكن سنة 1363هـ". 3 بلوغ الأرب "1/ 380 وما بعدها".

"الخزيرة"1, وقيل: المرفة بالشحم. ذكر العلماء أنها من أصل فارسي، هو "خورديك"2, و"الحشنكان"3. وتقوم المرأة صاحبة البيت بالطبخ، أما إذا كانت الأسرة غنية موسرة، فتستخدم طبَّاخات للطبخ, وقد يقوم "طباخ" بذلك. وفي الولائم الكبيرة حيث يدعى عدد كبير من الناس، يصعب على الطبَّاخات الطبخ بالقدور الكبيرة؛ ولهذا يقوم الرجال بذلك. وقد استخدم أصحاب المال والثراء طباخين أعاجم لطبخ الأطعمة لهم؛ وذلك لإتقانهم عمل الطبخ, ولتفننهم فيه، ولمعرفتهم بأنواع المآكل الأعجمية التي لا يعرفها العرب. وقد ذكر أن "عبد الله بن جدعان" جاء بطباخ فارسي من العراق ليطبخ له مأكولات لا يعرفها أهل مكة وقد أعجبته، ومنها الفالوذج، وهو من مأكولات الفرس. وتستعمل القدور في طبخ الأكل, والعادة أن تكون هذه القدور من معدن؛ مثل نحاس أو حديد, ولكنها قد تصنع من الحجارة المنحوتة أو طين مشوي بالنار، أي: قدور من فخار. وتستخدم المقلاة للقلي، فيقلى فيها أو في القدر ما يراد قليه من لحم أو غير ذلك. وقد يسلق اللحم أو الخضر سلقًا، ويعبر عن ذلك في العبرانية بلفظة "سلق" كذلك, أما "المرق"، فيقال له "مرق" في العبرانية كذلك. وقد يهيأ الطعام بطريقة الشوي على النار، بأن يشوى اللحم أو السمك على النار، ويعبر عن ذلك بالشواء؛ يعلق اللحم أو السمك بعود أو أعواد أو بعمود من حديد، ثم يقرب من اللهيب أو الجمر حتى ينضج اللحم أو السمك فيرفع للأكل. وقيل للقدر: "البرمة" بلغة أهل مكة, والجمع "بِرَام". وقد وردت لفظة "قدور" في القرآن الكريم: "وجفان كالجوابي وقدور راسيات"4 والمفرد: قدر, و"القدير" ما يطبخ في القدر, وقيل: ما طبخ من اللحم بتوابل، فإن لم يكن ذا توابل فهو طبيخ. والقدَّار: الطباخ، وقيل: الجزَّار، وقيل: الجَزَّار

_ 1 المعرب "ص128". 2 تاج العروس "6/ 327". 3 المعرب "ص134". 4 اللسان "5/ 80"، البيان "1/ 19".

هو الذي يلي جزر الجزور وطبخها. قال مُهلهل: إنا لنضرب بالصوارم هامها ... ضرب القدار نقيعة القدَّام1 وعرفت البرمة بقولهم: البرمة: قدر من حجارة, والجمع: برم وبرام. وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن2. ويطلق على الحجارة التي تنصب عليها القدر الأثافي، واحدتها: أثفية، وعلى المسافة بين أثافي القدر التي يجتمع فيها الحجر "الرَّبعة"3. وطعام ابن البادية طعام محدود؛ لضيق أرضه وسذاجة حياته. أما الحضر، ولا سيما أصحاب الحضارة ومن كان منهم على اتصال بالروم والفرس، فكانت أطعمتهم متعددة متنوعة، فيها تفنن ومهارة في الطبخ. وقد يبقى الأعرابي مدة لا يذوق فيها طعامًا مطبوخًا باللحم؛ لأن اللحم نادر في البادية، إلا إذا جاء ضيف فنحر له، أو وقع له صيد. ولهذا أكل بعضهم الضباء والأرانب والحيوانات الأخرى التي تقع أيديهم عليها؛ لحاجتهم إلى اللحوم، وأكلوا الجراد. والأغلب شيُّ لحوم الصيد؛ لسهولة ذلك. أما الحضر وسادات القبائل وذوو اليسار، فكانوا يطبخون. وقد وردت أسماء بعض أطعمتهم في الشعر وفي الحديث النبوي، ومنها الثريد, وهو لحم مقطع يغلى في الماء، وقد يوضع البصل معه أو مادة أخرى، وبعد نضجه يثرد خبز ويلقى اللحم والمرق عليه، فيسمى الأكل ثريدًا. وقد كان من الأكل الطيب المحبوب, وقد ذكر في كتب الحديث, ويقدم في الولائم وللضيوف. والخبز ممدوح عند العرب؛ ولذلك مدح هاشم حين هشم الخبز, والثريد عام في الأشراف، يقدمونه للناس، ويرون أكل الخبز سببًا في صفاء العقل؛ ولهذا ذكروا أن كسرى مدحه، حينما سمع حديث هوذة بن علي الحنفي معه. فلما رأى رجاحة عقل هوذة وحسن ذكائه، قال له: "ما غذاؤك ببلدك؟ قال: الخبز. فقال كسرى: هذا عقل الخبز، لا عقل اللبن والتمر. ويقال: إن عبد الله بن حبيب العنبري كان يعاف التمر، ولا يرغب في اللبن، ولا يأكل

_ 1 اللسان "5/ 80". 2 اللسان "12/ 45". 3 المخصص "11/ 33".

إلا الخبز، فقيل في المثل: "أقرى من آكل الخبز", وكان من الأجواد1. وفي كتاب الأغاني: أن كسرى قال كلامه المذكور المتقدم إلى غيلان بن سلمة، وهو من ثقيف، وكان قد جاء مع أبي سفيان في تجارة إلى العراق. وقد خاف أبو سفيان من الفرس ومن احتمال مصادرتهم أموال تجارتهم، فتقدم غيلان ودخل مع الداخلين إلى بلاط كسرى، وتحدث معه، فأعجب كسرى به، وأخذ يسائله حتى سرّ منه، فاشترى منه تجارته، وقال له ذلك القول المذكور، وكساه، وبعث له معه من الفرس من بنى له أُطمًا بالطائف، فكان أول أُطم بني بها"2. وفي المآدب الكبيرة يكون "الثريد"، هو الطعام الرئيسي. ويهيأ بسلق قطع اللحم الملقاة في الماء، وقد يضاف إليه البصل والحمص، فإذا سلق اللحم ونضج وتولد منه مرق، ألقي مع مرقه على الخبز المثرود في قصع وصحاف، ليأكله المدعوّون. والثريد من الأطعمة المحببة إلى نفوس أهل مكة والحجاز, وقد قدم "أبرهة" الثريد إلى الجنود والفعلة الذين أتموا سد مأرب، وذلك يوم الاحتفال بانتهاء العمل. وقد يقابل ذلك ما يقال له "سلوق" و"سليقوت" عند العبرانيين3. وقد أشير إلى الثريد في قصة ذهاب "هاشم بن عبد مناف" إلى بلاد الشام، والتقائه بهرقل، وتثريده لمن معه ولأهل مكة. ولازدراء العرب ممن يزرعون البقول والخضر، أحجم الناس عن زراعتها، فقلَّ وجودها في مطابخ أهل الحضر. أما أهل البادية، فإن مآكلهم تكاد تكون خلوًّا من الخضر المطبوخة؛ لندرة الخضر في البادية، ولأنها تحتاج إلى لحم، وهو نادر في البادية أيضًا. ثم إن الطبخ المعقد لا يناسب الحياة في الصحراء؛ لهذا كان المطبخ الجاهلي، مطبخًا يكاد يكون مستغنيًا عن الخضرة المطبوخة باللحوم. لا يستثنى من ذلك إلا السادة المتصلون بالروم وبالفرس وأهل اليمن، والأغنياء من أهل المدن والقرى، فقد كان في إمكانهم الحصول عليها، ومن هنا استعملوها في الطبخ، يطبخونها مع اللحم.

_ 1 مجمع الأمثال "2/ 73"، بلوغ الأرب "1/ 86 وما بعدها". 2 الأغاني "12/ 46". 3 Ency. Bibli., Vol., I, p. 888

لذا صار عماد الأكل الجاهلي والتمر واللبن والسمن والدقيق المصنوع من البر أو الشعير والشحوم والعسل، وذلك عند أهل الحضر في الغالب، والجراد والأقط. وإذا دققنا في قائمة المأكولات الجاهلية، رأينا موادها لا تتعدى هذه الأشياء، وهي تختلف باختلاف خلط هذه المواد وباختلاف مزجها وطبخها, ولكنها كلها لا تخرج عن حدود الأشياء المذكورة. ونجد في قائمة مأكولات أهل الجاهلية أكلات تقوم على استعمال الدقيق في الطبخ, من ذلك الحساء: وهو طبيخ يتخذ من دقيق وماء ودهن, وقد يحلَّى ويكون رقيقًا يحسى1. وقد يستعمل الدقيق مع الحليب، بأن يطبخ، ومن ذلك الحريرة: الحساء من الدسم والدقيق، وقيل: هو الدقيق الذي يطبخ بلبن؛ وقيل: الحريرة من الدقيق, والخزيرة من النخال2. وقد عرفت قريش بإكثارها من أكل أكلة عرفت بـ"سخينة"، ولاكثار قريش من أكلها عيّرت بها حتى قيل لها: "سخينة". والسخينة: أكلة ارتفعت عن الحساء وثقلت عن أن تُحسى، وهي طعام يتخذ من الدقيق دون العصيدة في الرقة وفوق الحساء، وذكر أنها دقيق يلقى على ماء أو لبن فيطبخ, ثم يؤكل بتمر أو يحسى، وقيل: تعمل من دقيق وسمن. وذكر أن الناس يأكلون السخينة في شدة الدهر وغلاء السعر وعجف المال3. ويذكر أهل الأخبار أن أول من لقب قريشًا بـ"سخينة" "خداش بن زهير"، حيث يقول: يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرمُ فذهب ذلك على أفواه الناس حتى كان من التمازح به ما كان بين معاوية بن أبي سفيان وبين الأحنف بن قيس التميمي، حين قال له: ما الشيء الملفّف في البجاد؟ فقال له: السخينة يا أمير المؤمنين، أراد معاوية قول الشاعر:

_ 1 اللسان "14/ 177". 2 اللسان "4/ 184". 3 اللسان "13/ 206".

إذا ما مات ميت من تميم ... فسرَّك أن يعيش فجيء بزاد بخبز، أو بلحم، أو بتمر ... أو الشيء الملفف في البجاد يريد: وطب اللبن، وأراد الأحنف قول خداش بن زهير: يا شدة ما شددنا.. البيت. وحتى قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكعب بن مالك الأنصاري: "أترى الله نسي قولك؟ يعني: زعمت سخينة أن سَتَغلب ربها ... وليغلبنّ مغالب الغلاب1". وورد في بعض الروايات أن البيت المتقدم هو من شعر حسان بن ثابت2. ومن المآكل التي يأكلها أصحاب العيال إذا غلب عليهم الدهر: النفيتة، وهي الحريقة، أن يذر الدقيق على ماء أو لبن حليب حتى تنفت، ويتحسى من نفتها، وهي أغلظ من السخينة. وقد قيل عنها: حساء بين الغليظة والرقيقة3. والحريقة اسم مرادف للنفيتة4. ومن المآكل الحدرقة, وهي دقيق يلقى على ماء أو على لبن فيطبخ, ثم يؤكل بتمر أو يحسى وهو الحساء، فهي مثل السخينة والنفيتة والخزيرة والحريرة. وقيل: الحريرة أرق منها5, و"النجيرة": العصيدة, وهي لبن وطحين يخلطان6. ومنها "الصحيرة"، وهي اللبن يغلى ثم يذر عليه الدقيق, ومنها "العكيسة", وهي لبن يصب عليه الإهالة وهي الشحم المذاب. ومنها "الغريقة"، وهي حلبة تضم إلى اللبن والتمر وتقدم إلى المريض والنفساء، ومنها "الرغيدة" وهي اللبن الحليب يغلى ثم يذر عليه الدقيق حتى يختلط فيلعق7. ومن مآكلهم: "الأصية"، وهي دقيق يعجن بلبن وتمر، ومنها "الرهية"، وهي برّ يطحن بين حجرين ويصب عليه لبن. ومنها "الوليقة" وهو طعام

_ 1 العمدة "1/ 76 وما بعدها", "القاهرة 1963م". 2 العقد الفريد "6/ 292"، "كتاب التأريخ الكبير، للبخاري "1/ 70"، بلوغ الأرب "1/ 381 وما بعدها". 3 اللسان "2/ 100"، بلوغ الأرب "1/ 383". 4 اللسان "10/ 43". 5 اللسان "2/ 100"، "10/ 40". 6 اللسان "5/ 194". 7 بلوغ الأرب "1/ 383".

يتخذ من دقيق وسمن ولبن، ومنها "الخزيفة"، وهي شحمة تذاب ويصب عليها ماء يطرح عليه دقيق فيلبك به، ومنها "الرغيغة"، وهي حسو من دقيق وماء وليست في رقة السخينة، و"الربيكة"، وهي طعام يتخذ من بر وتمر وسمن. ومنها "التلبينة"، وهي حُثالة تتخذ من دقيق أو نخالة ويجعل فيها عسل. ومنها "الوشيقة"، وهي أن يُغلى اللحم ثم يرفع, و"العثيمة": طعام يطبخ ويجعل فيه جراد وهو الغشيمة" أيضا, و"البغيث" و"الغليث": الطعام المخلوط بالشعير1. و"العريقة"، وهي شيء يعمل من اللبن, و"البكيلة": السمن يخلط بالأقِط، وقيل: الدقيق يخلط بالسويق, ثم يبل بماء أو بسمن أو بزيت2. ومن مآكلهم "الخزيرة"، وهي أن ينصب القدر بلحم يقطع صغارًا على ماء كثير، فإذا نضج ذر عليه الدقيق, فإن لم يكن لحم، فهو عصيدة. وينسب صنعها إلى سويد بن هرمي؛ ولذلك قال شاعرهم لبني مخزوم: وعلمتم أكل الحزير وأنتم ... على عدواء الدهر صم صلاب3 وعرفت الخزيرة: أنها اللحم الغابُ يؤخذ فيقطع صغارًا في القدر, ثم يطبخ بالماء الكثير والملح، فإذا أميت طبخًا ذرَّ عليه الدقيق فعصد به, ثم أدم بأي إدام شيء، ولا تكون الخزيرة إلا وفيها لحم، فإذا لم يكن فيها لحم فهي عصيدة. وقيل: الخزيرة مرقة، وهي أن تصفى بلالة النخالة ثم تطبخ، وقيل: الخزيرة والخزير: الحساء من الدسم والدقيق, وقيل: الحساء من الدسم4. وصنع أهل مكة طعامًا, عدَّ عندهم من رقيق العيش، هو لباب البرّ بصغار المعزى5. وهناك أكلات أخرى بسيطة، مثل أكل تمر مع لبن، أو الزبد مع الرطب،

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 383 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "1/ 384". 3 بلوغ الأرب "1/ 384 وما بعدها". 4 اللسان "4/ 237". 5 البيان "1/ 18"، الحيوان "5/ 481".

أو خلط لبن بلبن آخر ذكر أسماءها علماء اللغة1, لا أرى حاجة إلى ذكرها؛ لعدم وجود أهمية لها وعلاقة كبيرة بهذا الموضوع. وقد استورد الحضر بعض مآكلهم من الخارج؛ لاستساغتهم واستحسانهم، فقد قيل: إن عبد الله بن جدعان سيد قريش كان قد زار العراق، ودخل قصر كسرى وأكل عنده, وكان في جملة ما أكل "الفالوذج"، فتعجب منه، وسأل عنه، فوصف له. ويقال: إنه ابتاع غلامًا يصنعه، وأخذه معه إلى مكة، وصار يأكله وأمر بوضع موائده بالأبطح إلى باب البيت؛ ليأكله الناس. وكان ممن أكله أمية بن أبي الصلت، فقال فيه شعرًا ومدح صاحبه لجوده وكرمه2: إلى ردح من الشِّيزى عليها ... لبُاب البُرِّ يُلبكُ بالشِّهاد والردح: الجفنة العظيمة، والشيزى: خشب أسود تتخذ منه القصاع، واللباب: الخالص، والشهاد: العسل3. وقد نسب "البرقوقي" ذلك البيت إلى "ابن الزبعرى" عبد الله, وهو من الشعراء الذين عرفوا بهجائهم للرسول وبدفاعهم عن المشركين4. وكان عبد الله بن جُدعان من أغنى أغنياء قريش، جمع مالًا عظيمًا، ولكنه كان على خلاف عادة التجار الأغنياء كريمًا جوادًا متأنقًا ينفق على طعامه وشرابه. كسا بيته بأحسن ما كان في ذلك العهد، كانت أواني شربه من ذهب، وفيه ورد في المثل: أقرى من حاسي الذهب5. ويقال: إن ابن جدعان هذا كان في ابتداء أمره صعلوكًا تَربَ اليدين، شريرًا فاقطًا، لا يزال يجني الجنايات فيعقل عنه أبوه وقومه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف لا يُئويه أبدًا، فخرج في شعاب مكة تائهًا حائرًا، فرأى شقًّا في جبل، فدخل فيه ليستريح، وإذا به يعثر على مقبرة فيها جثث عليها

_ 1 اللسان "1/ 384". 2 مجمع الأمثال "2/ 73"، الأغاني "8/ 4" "طبعة ساسي"، بلوغ الأرب "1/ 381". 3 البيان "1/ 17 وما بعدها". 4 البرقوقي "ص57". 5 مجمع الأمثال "2/ 72".

ثياب قد بليت، صارت كالهباء حين لمسها، ووجد كنزًا حمله معه إلى والده ليسترضيه، فرضي عنه، ومن هناك جاء غناه1. ويقال: إنه كان نخاسًا2. وروي أنه مذ هذا الحادث صار يطعم الناس ويفعل المعروف، وصنع له جفنة كبيرة جدًّا يأكل منها القائم والراكب لعظمها، ووضع له جفانًا في ردحة بيته ليأكل منها من يقصده. وورد أن الرسول ربما كان يحضر طعامه، وقد رأى جفنته، واستظل بها لضخامتها3. ولمكانته هذه ولمنزلته في قومه وبين الناس، آمنت به العرب، ووثقت به، فكانت تدفع أسلحتها إليه، حتى تفرغ من التسوق من سوق عكاظ ومن الحج، فإذا أرادت الرجوع، دفع إليها أسلحتها4. وقد عرف السكر عند الجاهليين، ويقال له: المبرت بلغة حميرة5, ولا يستبعد صنعه في جزيرة العرب أو استيراده من الهند أو من أماكن أخرى. وقد ذكر "ديوسقوريدس" Dioscurides أن في الهند وفي اليمن مادةً تشبه الملح في المنظر، تستخرج من سائل كالعسل6، وفي هذا الوصف ما ينطبق على السكر.

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 87 وما بعدها". 2 المعارف "ص250". 3 بلوغ الأرب "1/ 88 وما بعدها". 4 الأغاني "19/ 76". 5 شمس العلوم "1/ 146"، "البرت بالضم: السكر الطبرزذ، بإعجام الذال، وهو لغة اليمن"، تاج العروس "1/ 525"، "برت". 6 Ency. Of Islam, Vol., IV, p. 510

حرف أخرى

حرف أخرى: ومن الحرف الحِلاقة والحجامة. ويجمع الحلاق في الغالب بين حلاقة الشعر والحجامة, ويستعمل الحلاق الموسى والمقص في الحلاقة، ويتخذ المرآة لإراءة المحلوق شعره وكيفية قصه، وكذلك يتخذ أدوات زينة وطيب لتطييب الشخص؛ إذ الحلاقة نوع من أنواع الزينة كذلك. وكانت حلاقة الرأس مختلفة، لا تجري على طريقة واحدة؛ فللقبائل عادات مختلفة في طريقة حلاقة الشعر وقصه، كما أن الأعراب يختلفون عن أهل المدن في تنظيم شعر رءوسهم وحلاقته, وهم يدهنون

شعورهم ويتركونها تتدلى في الغالب، وقد يجعلونها ضفائر وجدائل تتدلى على الأكتاف. واعتماد الحجام على الموسى يشرط به جروحًا خفيفة يمص منها الدم بكأس من الزجاج توضع فوق الشرط، ثم يسحب الحجام الهواء من الفتحة الضيقة المتصلة بقناة داخل الكأس، فيخرج الدم إلى داخل الكأس, وقد كانت الحجامة من وسائل التداوي في ذلك الزمن. كذلك عد "الفصد"، وهو إخراج الدم من عرق في اليد، نوعًا من أنواع المداواة, ويقال للقائم به: "الفصاد", وقد يقوم بذلك الأطباء. واستعمل نوع من الديدان في امتصاص الدم كذلك, وذلك كنوع من أنواع المعالجات الطبية, ولا تزال هذه الطريقة معروفة عند الأعراب وأهل القرى والمدن. وقد حجم الرسولَ رجلٌ اسمه "أبو طيبة"، وأعطاه أجره عليه1, ويستعمل الفصاد المبضع في الفصد2. وعاش بعض الناس على بيع الحطب، فكانوا يجمعونه من البادية ومن الجبال ويأتون به إلى المدن والقرى مثل مكة ويثرب فيبيعونه, يقوم بذلك "الحَطَّابة"3. وقد نعتت امرأة أبي لهب في القرآن الكريم بـ"حمالة الحطب"؛ وذلك على سبيل الازدراء والتحقير. ويشد الحطب ويربط بحبل، ويوضع على ظهر الدابة، وقد يحمله الأشخاص لبيعه, والأغلب أن تبيع النساء العاقول والحطب. والرتم من الحطب الذي يعطي نارًا شديدة ذات لهب، يبيعه الحطابون لأهل المدن، ويقال له: "روتيم" في العبرانية. ويتخذ منه فحم، وذلك بإطفاء ناره قبل احتراقه, فيتولد من ذلك الفحم4. ومن أنواع الحطب الأطد، وهو: "أطد" في العبرانية أيضا, والعوسج، والحدق, ويقال له "حدق" في العبرانية كذلك، والسمر، وهو "شمير" عند العبرانيين5. وقد كان أكثر من يتعاطى الطبخ والخبازة والجزارة من العبيد. وقد تخصص

_ 1 عمدة القاري "11/ 221 وما بعدها"، تاج العروس "8/ 237". 2 المغرب "ص39". 3 المغرب "ص126". 4 Hastings, Dict. Of the Bible, Vol., I, p. 71 5 Smith, Dict., Vol., III, P. 1191

بعضهم بعمل واحد من الحرفة الواحدة، مثل بيع نوع واحد من الطبيخ، فذكر أن رسول الله دعا إليه مرة عبدًا، كان يبيع الخرديق1. و"القدَّار" هو "الجزار"2. والموقد، هو الموضع الذي توقد فيه النار، ويعرف بـ"ميقدة" عند العبرانيين3. وقد كان عرب بلاد الشام والعراق يتخذون المواقد للاصطلاء بها في أيام الشتاء، كما يستعمله الطباخ موضعًا للطبخ، يضع القدور عليه ويشعل فيه النار. وقد عاش أناس على كراء الحمير والإبل للمحتاجين إلى ذلك، ويقال لذلك: البرطسة4, ولمكتريها للناس: المبرطس5. وقد احترف بعض الناس حرفة صنع الحصر والسلال والقلل والسرر. صنعوها من الخوص ومن سعف النخيل؛ لوجودها بكثرة, وصنعها بعضهم من القصب وذلك في الأماكن التي تكثر فيها المياه والرطوبة. ولا تزال هذه الحرف قائمة معروفة, وتصنع بعضها بنسج الخوص أو الألياف كما هو الحال بالنسبة إلى "الحصر": جمع حصير, المنسوج الذي يبسط في البيوت. وذكر أن الحصير: سقيفة تصنع من بردي وأسلٍ ثم تفرش6. ويستخدم "السفط" في حفظ الأوراق والأشياء الثمينة, ويصنع من القصب والخيزران ومن الخوض أيضا، حيث يصفُّ صفًّا. و"القفة": نوع من السلال أيضًا. وتكون مختلفة الأحجام, وتستخدم في أغراض متعددة، ومنها نقل الطين، وتعرف عند أهل العراق بـ"قفة طين"، أو لنقل الأحجار, وتصنع من المعدن أو من الأغصان. وأشير إليها بـ"kophinoi" و""kophinos" "Cophinus في الأناجيل، من اليونانية حيث تسمى بـ"Kophinoi"

_ 1 تاج العروس "6/ 327". 2 الفاخر "ص98". 3 Hastings, Dict. Of the Bible, Vol., I, p. 72 4 شمس العلوم "ج1 ق1 ص155". 5 شمس العلوم "ج1 ق1 ص155". 6 اللسان "4/ 195 وما بعدها".

"kophinos" واللاتينية، حيث تسمى بـ""Cophinus1. ولعل بين لفظة "قفة" والتسمية اليونانية اللاتينية صلة, ومن لفظة "kophinos" أخذت لفظة "Coffen" أي: تابوت. ويلاحظ أن بين هذه اللفظة ولفظة "كفن" العربية، صلة كبيرة كذلك2. وذكر علماء اللغة أن القفة: الزّبيل، ويسمونها القفعة ويجعلون لها معاليق يعلقونها بها من آخرة الرحل، يلقي الراكب فيها زاده وتمره، وهي مدورة. وعرفت أنها شبه زبيل صغير من خوص يجتنى فيه الرطب وتضع فيها النساء الغزل3. وعرف الزبيل والزنبيل بالجراب، وقيل: الوعاء يحمل فيه، والقفة4. وأما السلة المصنوعة من الخوص، فيقال لها: "العلاقة" في العراق في الوقت الحاضر. وتكون صغيرة ومتوسطة, أما الكبيرة فيقال لها: "الكوشر" و"الزنبيل"، ويستعملهما الحمالون في حمل الأشياء للناس. وتستعمل السلال المصنوعة من الأعواد ومن أغصان الشجر الطرية في حفظ الأطعمة والمطبوخات؛ لدخول الهواء إليها، ولمنع الطيور والكلاب والقطط من الوصول إليها. وتكون مثل هذه السلال مرتفعة ذات قاعدة أصغر من الوجه العريض الذي يوضع على العرض. وقد وردت في التوراة والإنجيل وفي الكتب اليونانية واللاتينية وفي الآثار المصرية أسماء سلال صنعت في ذلك العهد, تفيدنا في تكوين فكرة عن السلال عند الجاهليين. وقد صنعت بعض تلك السلال من القصب ومن التبن ومن الخوص ومن الأعواد، وهي مختلفة في الأحجام والسعة. ففي التوراة لفظة هي: "س ل" "سل"، وهي "السلة" عندنا, والجمع: "سلال", وتصنع في بلاد العرب من الخوص أو من الأغصان الطرية, وتستعمل في نقل الخبز واللحوم والخضر والأشياء الأخرى5.

_ 1 Hastings, Dict, vol, I, p. 256, Hastings, Dict. Of the Christ, vol, I, p. 174. Smith, A Dictionary of the Bible, I, p. 171 2 The Bible dictionary, vol, I, p. 283 3 اللسان "9/ 287". 4 اللسان "11/ 300 وما بعدها". 5 Hastings, Dict, vol, I, p. 255, Smith, Dict, vol, I, P. 171, Ency. Bibl, vol, p. 499

وهي مثل الكيس أحيانًا، يمكن ضمها بعضها إلى بعض وتكون لها يد تحمل بها. وهي في مقابل "الطبق" عند العراقيين, غير أن الطبق ثابت يصنع من أغصان بعض الأشجار مثل الرمان، حيث تكون لينة لا تنكسر. ويكون بأحجام متعددة؛ منه ما هو صغير الحجم، ومنه ما هو وسط, ومنه ما هو كبير يستعمل لنقل الخضر والفواكه من البساتين والحقول إلى مواضع البيع, ومنه ما يستعمله القصابون المتجولون لبيع اللحم. والسرير: المضطجع والذي يجلس عليه1. وكانت أكثر الأسرة مصنوعة من الجريد؛ وذلك لتوفر الجريد في كل أنحاء جزيرة العرب، وقلة الخشب فيها. ولبست العباءة كذلك, تلبس فوق الملابس, وقد ذكر أن رسول الله كان يلبس العباء2. والبيطرة من الحرف المعروفة عند الجاهليين. وقد كانوا يستعملون الأدوية والكيّ في مداواة الحيوان, كما يستعملون بعض الآلات في معالجتها، مثل "المبزغ" وهو مثل مشرط الحجام3.

_ 1 اللسان "4/ 361". 2 البيان "1/ 236"، "2/ 30". 3 المغرب في ترتيب المعرب, تأليف أبي الفتح ناصر بن عبد السيد بن علي المطرزي الخوارزمي, المتوفى سنة 616، "ص37" طبعة حيدر آباد، تاج العروس "3/ 51".

حرف الجلد

حرف الجلد: والدباغة حرفة مهمة اشتهرت بها أماكن متعددة من جزيرة العرب، ولا سيما بعض القرى والمدن مثل الطائف وجرش ومواضع متعددة في اليمن وفي العربية الجنوبية. وهي صناعة تقوم على أساس إصلاح الجلد وإبعاد الصوف والشعر عنه؛ للاستفادة منه في أغراض نافعة. وقد استخدم الدباغون مواد مساعدة تعين على نتف الصوف والشعر من الجلد بسهولة، وبدون أذى له أو للجلد، مثل مادة الجير أو مواد أخرى، كما استخدموا مواد تساعد على حفظ الجلد ومنعه من التلف لدبغه، مثل العفص وغيره من مواد نباتية دابغة. وقد أنف كثير من الناس من هذه الصناعة وتجنبوها؛ لما ينشأ عنها من روائح كريهة ولاستعمال

الدباغين بها موادَّ تعد نجسة في نظر بعض الأديان. كما منعوا إقامة المدابغ في الأماكن المأهولة المعمورة، وحرصوا على عزلها وحصرها في الأماكن البعيدة عن أحياء السكنى, ولا سيما سكنى الطبقات المتنفذة الغنية. ويقوم الدباغون ببيع ما يدبغونه إلى التجار, وقد يحمل إلى أسواق بعيدة لاستخدامه في أغراض عديدة، كتحويله إلى قرب يخزن فيها الماء أو يحمل, أو أوعية تحفظ فيها الخمور والسمن والسويق والطيب، أو أحذية وسيور وغير ذلك من الحاجات, وقد يحوله الدباغون أنفسهم إلى هذه الأشياء المذكورة. كما تخصص أناس بحرف تحويل الجلود إلى مواد نافعة يستعملها الإنسان في حياته اليومية، كالمواد المتقدمة والدلاء وأمثال ذلك من أدوات. والقرب في ذلك الوقت مهمة جدًّا في حياة الإنسان؛ فقد كانت مخازن متحركة يخزن فيها أشياء كثيرة ضرورية. فكانت أوعية لحمل الماء في الحضر وفي السفر، كما كانت الأوعية الرئيسة لحفظ الخمور والأنبذة والزيوت والدهون والشحوم والدبس والمواد الغذائية الأخرى, يحتاج إليها الأعرابي في حله وفي ترحاله والحضري في مستقره وفي سفره. كان المصريون واليونان والرومان والعبرانيون يحفظون الخمور والأنبذة في أوعية القرب, وقد أشار إلى ذلك بعض الكتبة القدماء. ويعالج إهاب القرب معالجة خاصة ليعطي الشراب نكهة طيبة، ولئلا يتأثر الشراب من رائحة الجلد1. وذكر علماء اللغة أن "القربة": الوطب من اللبن، وقد تكون للماء، وقيل: هي المخروزة من جانب واحد2. وأما "الجِراب" فوعاء من إهاب الشاء لا يُوعى فيه إلا يابس3. فهو وعاء من الجلد -إذن- خُصص لحفظ الأشياء الجافة كالدقيق وما أشبه لحفظه. كما يقال لوعاء الزاد: المزود4. وتدخل المصارين، وهي أمعاء الحيوانات المذبوحة، في جملة الأعمال التي

_ 1 Smith, Dict. Of the Bible, Vol., I, p. 223 2 اللسان "6/ 668". 3 اللسان "1/ 261"، تاج العروس "1/ 119"، "جرب". 4 تاج العروس "2/ 366".

يقوم بها الدباغون، إذ يتعهدونها بالرعاية والعناية والإصلاح، فينظفونها مما بها من أوساخ ويصلحونها ويعالجونها، ثم يبيعونها إلى التجار أو يحوِّلونها إلى مواد نافعة مفيدة، مثل اتخاذها أوتارًا لآلات موسيقية أو للأقواس لرمي السهام، أي: لأغراض حربية. وكلما كانت العناية شديدة بمعالجة هذه الأمعاء، كانت الأوتار ذات قابلية كبيرة على الشد والتوتر، وبذلك يكون مجال رمي السهام بالأقواس كبيرًا، وفائدة القوس في القتال عظيمة. وقد كان القواسون, أي: الرماة بالقوس، قوة ذات أهمية في مصير حرب ما في ذلك العهد. وتدخل الجلود في أغراض حربية كذلك؛ فقد استخدمت لحماية الجسم من ضربات السيوف ومن تساقط السهام عليه، كما استخدمت في صنع الدروع والخوذ الواقية للرأس، وفي حماية الدبابات والمنجنيقات بتغليفها بجلود ثخينة مقاومة, وتعالج بمواد خاصة تكسبها مقاومة خاصة أمام تساقط النار أو الماء الحار أو الزيوت الساخنة عليها، وقد تعمل ستائر منها يحتمي الجنود المشغلون لها تحتها من المواد المقذوفة عليهم. وهناك استعمالات أخرى للجلود أدت للجيوش خدمات كبرى في الحروب؛ فالقرب مادة ضرورية في الحرب؛ لأنها أوعية ومخازن للماء، والماء مادة ضرورية للانتصار في الحروب, والراوية وهي المزادة من ثلاثة جلود، هي مادة ضرورية في الحرب وفي غير الحرب لما تحمله من ماء1. وصنعت الدرق من الجلود، وهي الحجفة تتخذ من جلود ليس فيها خشب ولها عقب2, ويراد بالحجفة التروس من جلود خاصة، وقيل: من جلود الإبل مقورة بلا خشب ولا عقب, وقد كانت معروفة عند الأحباش خاصة3. ويراد بالتروس كل الأسلحة التي يتوقى المحارب بها, والتراسة صنعة التروس، وأما الصانع فهو التراس4. وتفرغ أناس لاحتراف أنواع خاصة من أعمال الجلود، فصرف بعضهم نفسه إلى صناعة القرب والدلاء وأدوات السقي، وتخصص قوم بعمل السروج ونحوها من الأدوات التي تستعمل في الحيوان, مثل اللجام و"الرسن"، كما تخصص آخرون

_ 1 المغرب "ص225". 2 تاج العروس "6/ 342". 3 المصدر المذكور "6/ 65". 4 تاج العروس "4/ 114".

بصنع الأحذية. وذكر بعض العلماء أن بعض هذه الأدوات المصنوعة مثل "الرسن"1 هي من الألفاظ المعربة، وأن "الرسن" لفظة فارسية الأصل، وقد عربت في الجاهلية. وتصنع "القباب" من الأدم خاصة2, وقد تكون كبيرة، ولكنها ذات أحجام مختلفة. ومن الأدوات المصنوعة من الجلد "الجلبان"، وهي شبه جراب من الأدم، يوضع فيه السيف مغمودًا، ويطرح فيه الراكب سوطه وأداته، ويعلقه بآخر الرحل وواسطته3, والغرز وهو ركاب الرحل الذي تركب به الإبل، ويصنع من الجلد؛ فإذا كان من خشب أو حديد فهو ركاب4, والسقاء وهو ظرف الماء إذا كان من جلد5، ويكون في الغالب من جلد رقيق6, والركوة دلو صغير يشرب فيه، ويصطحب في الأسفار7, والكنانة وهي الجعبة التي يكون فيها النشاب8، والقفَّاز ويعمل لليدين وقد يحشى بالقطن وتكون له أزرار يزر بها على الساعدين من البرد, وقد كان يستعمله النساء9. وأما "الأرندج" و"اليرندج" فذكر الجواليقي أنها لفظة معربة، وأن أصلها "رندة"، وهي كلمة فارسية، ويراد بها الجلد الأسود المدبوغ بالعفص حتى يسود. وقد وردت لفظة "أرندج" في شعر منسوب إلى الأعشى10. وتصنع الهمايين من الجلود أيضا, وقد اشتهرت همايين عجر. واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية11, ويراد بالهميان الكيسُ تجعل فيه النفقة ويشد على الوسط.

_ 1 المعرب "ص164". 2 تاج العروس "1/ 419". 3 جامع الأصول "4/ 397"، تاج العروس "1/ 187". 4 جامع الأصول "4/ 371، 504"، تاج العروس "4/ 63". 5 جامع الأصول "6/ 119". 6 جامع الأصول "6/ 125". 7 جامع الأصول "6/ 119". 8 جامع الأصول "9/ 327". 9 جامع الأصول "4/ 365". 10 عليه ديابوذ تسربل تحته ... أرندج إسكافه يخالط عظلما المعرب للجواليقي "ص16"، تحقيق أحمد شاكر، "القاهرة 1942"، تاج العروس "2/ 50". 11 تاج العروس "1/ 368".

وتحلى الجاهليون بحلي مصنوعة من الجلد أيضا. ومن هذه الحلي الجمانة, وهي سفينة من أدم ينسج، وفيها خرز من كل لون، تتوشحه المرأة1. ويصنع الخوان من الجلد في بعض الأحيان، ويراد به ما يؤكل عليه الطعام، وهو من الألفاظ المعربة2. وأما الصُّفن، فخريطة الراعي، يكون فيها طعامه وزاده وما يحتاج إليه, وقيل: هو مثل الركوة3. و"العياب": هي أوعية من الأدم، ويقال للواحد منها: "عيبة"، يوضع فيها المتاع والثياب، وتطلق أيضًا على الزبيل الذي ينقل فيه الزرع المحصود إلى الجرين4. و"الشن": الوعاء المعمول من أدم، فإذا يبس فهو شن, وفي المثل: "وافق شن طبقه"؛ يضرب لكل اثنين أو أمرين جمعتهما حالة واحدة اتصف بها كل منهما، وهناك قصص عن أصل هذا المثل5. واستعمل النصارى واليهود "الزنار"، يشدونه في وسطهم على القميص أو الثوب أو المسوح الذي يلبسونه، ويتدلى أحد طرفيه إلى قريب من القدمين. ويصنع من الجلد أو الحرير أو القطن أو الوبر أو شعر الماعز, وقد يشد على الوسط عدة مرات. وقد يوضع فيه محل لحفظ منديل فيه، أو محبرة وحبر إذا كان صاحبه من الرهبان أو الكتاب، وقد يوضع خنجر أو سلاح حاد فيه, وهو يشبه في فائدته الحزام في الوقت الحاضر. وإذا اشتغل الفلاح أو الأعرابي أو غيرهما بعمل ما رفع الطرف الأسفل من قميصه إلى الزنار أو الحزام؛ ليسهل عليه العمل، وقد يضع في عُبّه أي: القسم الواقع فوق الزناد من جهة الصدر أشياء عديدة يحملها معه مثل خبزه وطعامه أو نقوده أو أشياء أخرى يحتاج إليها في ترحاله6. وقد كان الجاهليون يستفيدون من جلود السمك أيضًا، يصنعون منها أشياء متعددة. فالسفن مثلًا وهو جلد الأطوم، وهي سمكة في البحر ذات جلد خشن

_ 1 تاج العروس "9/ 163". 2 تاج العروس "9/ 194". 3 المغرب "ص304". 4 البرقوقي "ص58". 5 اللسان "10/ 214". 6 Hastings, Dict., of the christ, vol., I, p. 498

يستخرج منه السياط والسهام، ويكون على قوائم السيوف1. واستخدم الجاهليون كذلك فراء مختلف الحيوانات في الأيام الباردة، ومن أنواع الفراء نوع يدعى "سبنجونة"، وهي من جلود الثعالب، وهي من الألفاظ المعربة2، ونوع آخر يدعى "الفنك"، وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الفنك دابة يفترى جلدها، وذكر أيضًا أن الفنك جلد يلبس3. ومن أنواع الفراء "المساتق" وواحدتها: "المُستُقة". وقد ورد ذكرها في كتب الحديث، حيث قيل: إن الرسول كان يلبس "مستقة"، كما ذكر أن عمر كان يصلي وعليه "مستقة". وذكر الجواليقي أنها لفظة معربة عن الفارسية، وأنها "مشتة" بالفارسية, وقيل: إنها فراء طوال الأكمام4، وذكر أنها جبة واسعة5. ويقوم صانع الأحذية بصنع الأحذية، مثل النعال والخف و"القفش" أو "الكفش" ويراد به الخف أو الخف القصير، واللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية6. ومن أنواع النعال، النعال السبتية التي لا شعر لها، وتصنع من جلود البقر المدبوغة بالقرظ7, و"السبت": كل جلد مدبوغ أو المدبوغ بالقرظ، ومنه تصنع النعال السبتية8. ويقال للخف: "الموزج" أيضًا، وقد ذكر الاسم في كتب الحديث, وكذلك "الموق". وذكر أن "الموق: الخف الغليظ يلبس فوق الخف", وقد ذكر الجواليقي أن أصل الموزج فارسي هو "موزة" "موزجان" وأدخل الموق أيضا في باب المعربات9, والجمع: "أمواق". ويظهر من بيت شعر لـ"النمر بن

_ 1 المعرب "ص255"، تاج العروس "8/ 187". 2 المعرب "ص188". 3 المعرب "ص248"، تاج العروس "7/ 170". 4 المعرب "ص308". 5 تاج العروس "9/ 70". 6 المعرب "ص268". 7 جامع الأصول "4/ 398". 8 قال عنترة: بطل كأن ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السبت ليس بتوءم تاج العروس "1/ 548". 9 المعرب "ص311".

ثولب"، أن العباديين وهم نصارى الحيرة, كانوا يمشون بالأسواق1. وهناك نوع آخر من أنواع الخفاف، يقال لها "القسوبية" و"القساب"2، و"النعل" هو لباس الرجل المستعمل عند الجاهليين وعند الساميين, وهو "نعلِم" أي "نعل" في العبرانية. ولا يزال النعل مستعملًا حتى اليوم؛ يستعمل في البيت وفي خارجه، وهو يحمي باطن القدمين من حر الأرض في الصيف ومن الحجارة والمواد المؤذية التي تكون على وجه الأرض, وقد يستعمل نعلًا من خشب، يستعمله أهل القرى وأهل المدن في البيوت. والعرب تمدح برقة النعال وتجعلها من لباس الملوك، وتقدم النعال على سائر أنواع الأحذية3. ومن أنواع النعال: "النعال السبتية", وهي المصنوعة من الجلد المدبوغ بالقرظ, وخص بعضهم جلود البقر مدبوغة كانت أم غير مدبوغة. وقيل: نعال سبتية: لا شعر عليها، وذكر أنها نعال أهل النعمة والسعة4. وعرفت "حضرموت" بنعالها، فقيل: "نعل حضرمي" و"الحضرمي". وعرفت بأنها النعال المخصرة التي تضيق من جانبيها، كأنها ناقصة الخصرين5. وقد تفنن في تزيين وزخرفة الجلود, فذهَّبوها ورسموا عليها صورًا، وضغطوا عليها بآلات لإبراز بعض الصور عليها. ومن الجلود المذهبة: "المذاهب"، وهي جلود كانت تُذهَّب، تجعل فيها خطوط مذهبة، فيرى بعضها في أثر بعض، فكأنها متتابعة. وقيل: سيور تُموَّه بالذهب6. والجلود التي يستعملها الإسكافي هي: جلود البقر والجمال والغنم والماعز, وقد تستعمل جلود الثعابين والسمك إذا كانت كبيرة سميكة، وذلك بعد إصلاحها ودبغها. ويستعمل الإسكافي والنحَّات الإزميل, وقد ذكر علماء اللغة أن الإزميل حديدة تجعل في طرف رمح الصيد لصيد البقر: بقر الوحش, والمطرقة7, وهي من الألفاظ المعربة, وأصلها "زميلي" "Zmili" في اليونانية8.

_ 1 فترى النعاج به تمشي خلفة ... مشي العباديين في الأسواق المعرب، للجواليقي "ص311". 2 البرقوقي "ص146". 3 اللسان "11/ 667". 4 اللسان "2/ 36 وما بعدها"، الروض الأنف "1/ 71". 5 اللسان "4/ 202"، الروض الأنف "1/ 71". 6 اللسان "1/ 395". 7 تاج العروس "7/ 360". 8 غرئب اللغة "ص252".

الحياكة والنسيج والثياب

الحياكة والنسيج والثياب: والحياكة والنسيج، من الحرف التي لا ينظر إلى صاحبها نظرة احترام وتقدير في المجتمع العربي القديم. ويقوم بالغزل النساء في الغالب, والحياكة والنسج في الحضر في الغالب. وقد ذكر أهل اللغة أسماء بعض آلات الحياكة والنسج، مثل "الحف" وهي الآلة التي تلمظ بها اللحمة أي: تلقم وتصفق ليلتقمها السدى. وقيل: الحفة: المنوال، وهو الخشبة التي يلف عليها الحائك الثوب، وقيل: الحف: المنسج1. و"الوشيعة" وهي المنسج، وهي قصبة في طرفها قرن يدخل الغزل في جوفها، وتسمى السهم, وقيل: لفيقة من غزل، وتسمى القصبة التي يجعل النساج فيها لحمة الثوب للنسج2, و"المشيعة": ما يلف عليه الغزل3. و"الثناية" التي يثنى عليها الثوب, و"العدل" خشبة لها أسنان، مثل أسنان المنشار، يقسم بها السدى ليعتدل, و"الصيصية" عود من طرفاء، كلما رمي بالسهم فألحمه، أقبل بالصيصة فأدبر بها، وقيل: إنها شوكة الحائك التي يسوي بها السداة واللحمة4. و"النير" لحمة الثوب، وقيل: الخشبة المعترضة التي فيها الغزل, وقد تنسج الثياب على نيرين، ويكون بذلك أصفق وأبقى5. و"الصنار": رأس المغزل6, وأما "المداد" فالعصا في طرفها صنارتان يمدد

_ 1 تاج العروس "6/ 72"، المعاني الكبير "1/ 50". 2 تاج العروس "5/ 543". 3 بلوغ الأرب "3/ 404". 4 "والصيصة كذا في سائر النسخ، وهو خطأ، أو هو على التخفيف. وفي الصحاح والعباب: والصيصية: شوكة الحائك التي يسوي بها السدى واللحمة، وأنشد لدريد بن الصمة: فجئت إليه والرماح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج الممد قال ابن بري: حق صيصية الحائك أن تذكر في المعتل؛ لأن لامها ياء، وليس لامها صادًا" تاج العروس "4/ 405". 5 تاج العروس "3/ 593". 6 "قال أبو حنيفة: وهي فارسية, معرب: جنار، وقد جرت في كلام العرب. وقال الليث: هو فارسي دخيل. والصنار: رأس المغزل، ويقال: هي الحديدة الدقيقة المعقفة التي في رأس المغزل، ولا تقل صنارة. وقال الليث: الصنارة: مغزل المرأة، وهو دخيل" تاج العروس "3/ 341".

بهما الثوب1. و"الكُفة" الخشبة المعترضة في أسفل السدى2, و"الحماران" يوضعان تحتها ليرفع السدى من الأرض, و"المثلث" قصبات ثلاث, و"المبرم" و"البريم": الحبل الذي جمع بين مفتولين ففتلا حبلًا واحدًا. و"المبرم" من الثياب المفتول الغزل طاقين؛ ولذلك أطلقت اللفظة على نوع خاص من الثياب. و"الدعائم": خشبات تنصب ويمد عليها السدى, و"الشفشقة": قصبة تشق وتوضع في السدى عرضًا؛ ليتمكن به من السقي. و"الكحّمة": ما يلحم به، وأداة الحائك المنصوبة تسمى "المنوال"، وهو "النول" أيضًا3. وأما المادة التي يغزل منها ويحاك وينسج، فهي الصوف بأنواعه، وشعر الماعز والوبر والقطن والشاش والبز والكتان والحرير. وأما التي يغزل بها، فهي "المغزل"4, ومنه نوع بسيط يحمل باليد, وهو قديم جدًّا معروف في العصور المتقدمة قبل الإسلام، ولا يزال معروفًا ومستعملًا في الزمن الحاضر, ومنه ما هو سريع بعض السرعة. وهو على هيئة دولاب يدار بالأرض، فيكون سريعًا بالغزل بعض السرعة بالنسبة إلى اليد، ويكون مجال الغزل فيه أوسع من مجال الغزل بالمغزل اليدوي البسيط. ويلف الغزل على آلة تسمى "الهراوة"، وذلك تمهيدًا لتقديمها إلى "النساج" لنسجها5. ويقال للمغزل: "المُردن" أيضًا, وقيل: "المردن": المغزل الذي يغزل به الردن, والردن: الغزل. وقيل: الغزل يفتل إلى قدام، وقيل: هو الغزل المنكوس، وثوب مردون: منسوج بالغزل المردون6. والغزل هو من أعمال النساء في الغالب، فهي تمسك المغزل وتغزل به, وقد يقوم الرجال بالغزل أيضًا. وهناك أنواع من المغازل وهي متشابهة من حيث

_ 1 "والأمدة كالأسنة جمع: مداد كسنان، وضبطه الصاغاني بكسر الصخرة ... سدى الغزل. وهي أيضا المساك في جانبي الثوب إذا ابتدئ بعمله", تاج العروس "2/ 498". 2 بلوغ الأرب "3/ 404 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "3/ 404 وما بعدها". 4 تاج العروس "8/ 42". 5 المعاني الكبير "1/ 50". 6 اللسان "13/ 178".

الأساس والتصميم. وقد عثر على أنواع منها في مواضع من جزيرة العرب. وفي التوراة وصف لكيفية إعداد الصوف وشعر الماعز للغزل. فقد كان على الغزَّال تنظيف الصوف والمادة المراد غزلها قبل غزلها، وذلك بنثر المادة وتنظيفها من المواد الغريبة المختلطة بها. وقد تضرب بعصا أو بآلهة خاصة، على نحو ما يفعله "النداف" في الوقت الحاضر؛ لتلطيف المادة المراد غزلها وجعلها سهلة للغزل, وقد تغسل بالماء ثم تنشف ثم تنظف. فإذا وجد أن المادة المراد غزلها صارت نقية صالحة للغزل، غزلت. وقد عثر على صور لعمال كانوا يقومون بغسل المواد قبل غزلها على نهر النيل، وقد صورت على جدران مقابر قدماء المصريين1. وأهل الجاهلية مثل من تقدم أيضًا في تنظيف الصوف وشعر الماعز والوبر والكتان وسائر المواد الأخرى المراد غزلها، كانوا ينظفونها ويمشطونها بأمشاط خاصة؛ لإخراج ما قد يعلق بها فيها من مواد غريبة، ويعالجونها معالجة خاصة, فإذا نظفت وخلصت من الشوائب، غزلت. وقد كانوا يدقون الكتان لتهترئ أليافه وتتشقق فتنفصل، ثم يمشط بالممشقة، حتى يخلص وتبقى فتاته وقشوره، ويؤخذ الكتان لغزله ونسجه. أما الفتات والقشور، فهي المشاقة، وتستعمل في حشو الخفتان وللقبس2. ويقال لمشاقة الكتان وللخشن من ليف الكتان والقنب: "أسطبة"3. ويظهر أنها من أصل يوناني هو ""Stippi4. ويهيئ الفتال "السلك"، وهو الخيط, وقد يكون من حرير أو قطن أو كتان. وإذا وضع في الخيط الخرز واللؤلؤ، فيقال لذلك عندئذ: "السمط"5. ومن اللوازم المستعملة في البيوت وفي الحياة اليومية والتجارية، الحبال، يستعملونها من لحاء الشجر في بعض الأحيان، يؤخذ فيدق ويفتل منه حبل، ويقال لذلك:

_ 1 Hastings, p. 873 2 المغرب "2/ 186"، "والمشاقة "كثمامة": ما سقط من الشعر أو الإبريسم والكتان والقطن عند المشط، أي: تخليصه وتسريحه، وهي المشاطة أيضًا". تاج العروس "7/ 70". 3 تاج العروس "1/ 298". 4 غرائب اللغة "ص252". 5 المغرب "ص264"، "والسلكة "بالكسر": الخيط الذي يخاط به الثوب، الجمع: سلك بحذف الهاء، جمع الجمع: أسلاك وسلوك" تاج العروس "7/ 144".

"القَرَن"1، أو من شعر الماعز, أو من الأصواف، أو من مختلف الألياف المستخرجة من النبات، أو من الخوص. أما الخيوط، فإنها أدق من الحبل، وتصنع من الكتان أو القطن أو الصوف أو الحرير، ويخيط بها. وأما "الأطنب" و"الطنب"، فإنها حبال الخيمة، تستخدم لربط الخيمة, وأما "الوتر"، فيصنع من أمعاء الحيوانات، وتوضع في الأقواس لرمي السهم، وتستخدم في الآلات الموسيقية كذلك. وتستخدم الحبال رُبُطًا يربط بها؛ يربط بها الأسرى والمساجين والحيوانات2. والصوف مادة مهمة في صنع البسط والسجاجيد, وأكثر صوف جزيرة العرب من النوع الخشن, الذي يصلح لصنع السجاد, وتصنع منه الخيام كذلك. والمستعمل في صنع الخيام هو من شعر الماعز في الغالب, أما أصواف الأغنام، فتستعمل في الغزول والأنسجة اللطيفة التي تحتاج إلى صوف ناعم ودقيق. ولا يزال أهل البادية يصنعون خيامهم الشهيرة ذات اللون الأسود من شعر الماعز3, وقد كان عماد العبرانيين في نسجهم على الصوف وشعر الماعز والكتان4. وقد عرف البساط الضخم المنسوج من الوبر أو الصوف بـ"الأراخ"5، ويقال للفسطاط: "البلق"6. وقد اشتهرت اليمن بالغزل والنسيج، وعرفت بإنتاج بعض البرد التي اختصت بها حتى عرفت بـ"البرد اليمانية", وهي من الأنواع الغالية الثمينة التي لا يشتريها في العادة إلا المترفون والمرفهون. وقد جعل النبي في جملة ما يدفعه أهل الجزية الثياب عوضًا عن النقد, إن لم يكن في قدرة من فرضت عليه الجزية دفعها نقدًا7, كما عرفت بصنع "الحلل" الغالية. اشتهرت بجميع أنواع الغزل والنسيج، غزل القطن والصوف والحرير، وبأنسجة الصوف والقطن والحرير. وقد كان من عادة رؤساء اليمن لبس الملابس الثمينة والحلل الغالية المصنوعة في بلادهم،

_ 1 المخصص "11/ 15"، تاج العروس "9/ 305". 2 Hastings, Dicti. Of the Bible, I, p. 479, Smith, vol., I, p. 352 3 تويتشل "ص33". 4 Hastings, p. 873 5 شمس العلوم "1/ 71". 6 شمس العلوم "1/ 185". 7 "وعلى كل حالم: ذكر أو أنثى، حر أو عبد، دينار وافٍ أو عوضه ثيابًا"، "إسلام بني الحارث بن كعب على يدي خالد بن الوليد"، ابن هشام "4/ 242"، "القاهرة 1926"، الطبري "3/ 158".

كما كانوا يصدرونها إلى الخارج لبيعها في مختلف أسواق بلاد العرب وفي العراق وبلاد الشام. وعرفت دور النسيج في اللهجات العربية الجنوبية بـ"تعمت". وقد ورد في كتب اللغة: "عمت الصوف والوبر: لف بعضه على بعض مستطيلًا ومستديرًا حلقة فغزله". وورد: "يعمت الغزل"1. وقد ازدهرت صناعة غزل القطن ونسجه في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية في القرن السادس للميلاد2, فصارت صناعة الغزل والنسيج من أهم الموارد التي يتعيش عليها عدد كبير من الشعب, والتي تكون موردًا كبيرًا من موارد الدولة. وقد كان للملوك مغازل ودور نسيج تعمل لحسابهم ولهم، وقد عرفت دور النسيج الملكية بـ"تعمت ملكن"3، أي: "المنسج الملكي" و"دار النسيج الملكية". وهناك لفظة أخرى في المسند للموضع الذي ينسج فيه وتغزل فيه الغزول، هي لفظة: "ح ل ل ت" "حللت", ويرى "رودو كناكس" أنها "حلالة", وأما النساج، فيقال له: "أنم" في المسند4، وهو للمفرد والجمع5. وعندي أن المراد بـ"ح ل ل ت" "حللت": الحلة, والحلة عند علماء اللغة: إزار ورداء، بُردٌ أو غيره. وقيل: الحلل: الوشي والحبر والخز، وقيل: كل ثوب جيد جديد تلبسه غليظ أو رقيق، وقيل: كل ثوب له بطانة، وعند الأعراب من ثلاثة أثواب: القميص والإزار والرداء6. فيراد بها الموضع الذي تعمل فيه الحلل.

_ 1 "عمت يعمت عمتًا من حد ضرب كما هو مقتضى قاعدته: لف الصوف بعضه على بعض مستطيلًا ومستديرًا حلقة؛ ليجعل في اليد فيغزل بالمدرة.. والعميتة من الوبر كالغليلة من الشعر. ويقال: عميتة من وبر أو صوف كما يقال: سبيخة من قطن وسليلة من شعر. عمت الوبر والصوف: لفه حلقة فغزله كما يفعله الغزال الذي يغزل الصوف، فيلقيه في يده.. والاسم العميت ... يعمت يغزل من العميتة، وهي القطعة من الصوف.... عمت فلان الصوف يعمته عمتًا: إذا جمعه بعدما يطرقه, وينفشه, ثم يعمته ليلويه على يده ويغزله بالمدرة ... " تاج العروس "1/ 564 وما بعدها". 2 Von Kremer, Kulturgeschichte, II, S. 326 3 الفقرة الرابعة من النص الموسوم بـ: Glaser 1150, Halevy 192, 199 4 Rhodokanakis, Aitsab. Texte, I, S. 74 5 Rhodokanakis, Aitsab. Texte I, S. 27 6 تاج العروس "7/ 283 وما بعدها"، شمس العلوم "1/ 76".

وقد كانت بعض الحكومات تحتكر صناعة بعض أنواع النسيج، وذلك بصنع أنواع فاخرة منه لاستعمال الملوك، أو للإنعام به على الأمراء والكبراء ورجال الدين كالذي كان في مصر, ويوسم بسمة المعمل وبشعار الحكومة أو الحاكم؛ ليكون في علم الناس أنه من صنع الحكومة. وقد تبيعه الحكومة للناس, وتعد هذه الأنواع من النسيج من أفخر ما تنتجه المناسج، ويعرض في السوق. وقد كان الملوك والكهنة والأغنياء المتأنقون بملابسهم، يرتدون أنسجة دقيقة مصنوعة صنعا خاصا بأيدٍ ماهرة متقنة لعملها، لا تصنع إلا الأنسجة الثمينة الغالية. ومن هذه الأقمشة ما كان يصنع من الكتان الخالص أو الصوف الناعم الرقيق، ومنه ما كان يصنع من الحرير الخالص أو المخلوط بمادة أخرى. وقد يقصب القماش بالذهب، يوشى به، كألبسة الملوك ورجال الدين الكبار الذين كانوا يرتدون ملابس موشاة ومطرقة في أثناء أدائهم الصلوات وإقامة الشعائر الدينية. وقد كان الملوك والكهان يستوردون الأقمشة الجيدة من أماكن أخرى اشتهرت بإتقانها وإجادتها صنع الأقمشة الجيدة، مثل بابل وبلاد الشام والهند ومصر وفارس وغيرها, لمثل هذه الأغرض1. وقد اشتهرت منسوجات اليمن في كل مكان من جزيرة العرب، بجودتها وأناقتها، وظلت محافظة على سمعتها هذه إلى الإسلام، فكان أغنياء الحجاز وغيرها من جزيرة العرب يفتخرون بحصولهم عليها ويلبسونها خاصة في أعيادهم ومواسمهم. وكانت البرد المعروفة بـ"الحبر"، وهي برد موشاة مخططة، تعد من أثمن البرد اليمانية في القرن السادس والسابع الميلاديين، ولما قدم وفد نجران على الرسول كانوا يتوشحون بها. ولما توفي الرسول، ووضع مسجًّى في ناحية من البيت، وضعت عليه الحبرة2. ويقال للثوب الجديد الناعم: "الحبير". وذكر أيضا أن الحبير البرد الموشى المخطط، وأن الحبرة ضرب من برود اليمن منمر، وبائعها حبري لا حبار3. وتعد "ثياب الحبرة" من الثياب الغالية الجيدة التي يلبسها الأغنياء والسادات،

_ 1 Hastings, p. 874 2 المغرب "ص104"، جامع الأصول "7/ 478"، تاج العروس "3/ 118"، "حبر", شمس العلوم "1/ 144"، الطبقات، لابن سعد "1/ 357". 3 تاج العروس "3/ 188"، "حبر"، الطبقات لابن سعد "1/ 357".

فلما قدم وفد نجران على النبي بالمدينة "فدخلوا المسجد عليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير"1. واشتهرت اليمن بـ"المراجل"، وهي ضرب من البرود2. وذكر بعض علماء اللغة أن البرد المُرجل، فيه صور كصور الرجال, وورد: ثوب مرجل بمعنى معلم3، وبرد مرحل أي: برد فيه تصاوير رحل, على تفسير بعض علماء اللغة. وورد المرحلات يعني المرط المرحلة، وهي الموشاة، وقد أشير إليها في كتب الحديث4. و"القيصران" وهو ضرب من الثياب الموشاة5, والعصب ضرب آخر من البرود اليمانية يعصب غزله ثم يصبغ ثم يحاك وينسج، فيأتي موشى لبقاء ما عصب فيه أبيض لم يأخذه صبغ. وقيل: هي برود مخططة6, ويقال: ثوب مبرج, إذا كان ثوبًا ذا تصاوير7. وقد عرفت "البُرد"، أنها أكسية يلتحف بها، وقيل: إذا جعل الصوف شقة وله هدب. وقيل: البرد من برود العصب والوشي، وأما البردة، فكساء مربع أسود فيه صغر تلبسه الأعراب، وإن البرد ثوب فيه خطوط وخص بعضهم به الوشي8. واشتهر بلد المعافر بنوع من البرد والثياب، حتى قيل له: برد معافري وثوب معافري9. وأما "الشرعبية" فضرب من البرود10, وذكر أنها من الثياب الحارية, وإليها أشير في شعر امرئ القيس: فلما دخلناها أضفنا ظهورنا ... إلى كل حاري حديد مشطب11

_ 1 الطبقات، لابن سعد "1/ 357". 2 المعرب "ص272"، جامع الأصول "4/ 408". 3 تاج العروس "7/ 335". 4 تاج العروس "7/ 341". 5 تاج العروس "7/ 342". 6 تاج العروس "1/ 383"، المغرب "2/ 45". 7 شمس العلوم "1/ 154". 8 اللسان "3/ 87"، النهاية في غريب الحديث والأثر "1/ 86". 9 تاج العروس "3/ 494". 10 اللسان "1/ 494". 11 العمدة، لابن رشيق "2/ 220".

وعرفت "صنعاء" بوشيها وبأنواع أخرى من النسيج1. وعرفت اليمن بنوع من البرود سمي "عَصْبًا" لأن غزله يعصب، أي: يدرج، ثم يصبغ. وذكر أنها خاصة باليمن؛ لأنها تصبغ بالعصب, ولا ينبت العصب والورس إلا باليمن2. وقيل: العصب برود مخططة، اشتهرت بها اليمن3. والمسندة والمسندية وأثواب سند: نوع من البرود اليمانية4. والثياب القدمية منسوبة إلى موضع باليمن5. وثوب "أكباس" "أكباش" من برود اليمن6. وهناك ضرب من البرود قيل له: "القطرية" والمفرد: "قطري". وكان الرسول متوشحًا بثوب قطري, كما كان على عائشة درع قطري ثمنه خمسة دراهم، وذكر أن البرود القطرية حُمر لها أعلام فيها بعض الخشونة، وأنها تأتي من "قطر" بسيف البحرين7. وعرفت الأنسجة اليمانية المصنوعة من الكتان في كل مكان من جزيرة العرب, وقد كانت لباس الأغنياء والوجهاء. وتعطي أنسجة الكتان برودة خاصة في الصيف؛ ولهذا كانت رائجة في كل مكان. وقد كانت مصر ذات شهرة خاصة في تصدير أنسجة الكتان، فقد كان كتانها لطيفًا ناعمًا؛ ولهذا بيع بثمن مرتفع. وذكر علماء العربية أن الكتان لفظة عربية النجار، سمي بذلك لأنه يُخيس ويلقى بعضه على بعض حتى يكتن8. و"البرجد"، كناية عن كساء ضخم مخطط, وقد ذكر في شعر طرفة9. وذكر أنه كساء من صوف أحمر10. والعباءة، هي مقابل "س م ل هـ" "سملة" "شملة" عند العبرانيين

_ 1 نهاية الأرب "1/ 369". 2 اللسان "1/ 604"، الروض الأنف "1/ 71". 3 تاج العروس "1/ 383"، "عصب". 4 اللسان "3/ 223". 5 اللسان "12/ 472". 6 اللسان "6/ 339". 7 اللسان "5/ 106". 8 اللسان "13/ 355". 9 شرح المعلقات، للزوزني "ص48" "دار صادر"، شمس العلوم "ج1 ق1 ص149". 10 تاج العروس "2/ 301"، "البرجد".

و"Himation" عند اليونان1، وتلبس فوق الألبسة. ويكون بعضها ثقيلًا يصنع من الوبر أو الصوف، ويستعمل في الشتاء خاصة وفي الأوقات الباردة، وبعضها خفيفًا، يصنع من الصوف أو من شعر الماعز, وتستعمل في الأوقات التي لا يكون فيها البرد شديدا وفي أيام الصيف. وقد يستلقى عليها الإنسان، فتكون بمثابة فراش له. وقد تصنع العباءة من قطعتين من القماش، وقد تصنع من قطعة واحدة, وهي أحسنها وأغلاها. وتكون عباءة الأغنياء والرؤساء من قماش جيد منسوج نسجا خاصا, محلاة في الغالب من ناحية العنق والصدر والجهة العليا من اليدين بخيوط من الحرير أو الذهب يروفها "الروَّاف"، بأشكال متعددة, فيختلف سعرها لذلك باختلاف الجهد الذي بذله الرواف في تطريزها وفي زخرفتها. وتصنع أحسن العباءات من الوبر2, وقد تفنن فيها، وتخصصت بعض الأماكن بنسجها. ولا تزال هذه الصناعة باقية تدرُّ على أصحابها ربحًا يتعيشون منه، كما تصنع من أوبار الجمال أشياء أخرى عديدة. على أن القرن العشرين قد علّم سكان الجزيرة تصدير الوبر إلى الخارج, إلى المعامل الحديثة لاستعماله مع الأصواف في صناعة الغزل والنسيج. والشملة: كساء دون القطيفة يشتمل به كالمشمل. والمشملة عند العرب مئزر من صوف أو شعر يؤتزر به، فإذا لفق لفقين، فهي مشملة يشتمل بها الرجل إذا نام بالليل. وقيل: المشملة والمشمل: كساء له خمل متفرق يلتحف به دون القطيفة, واشتمل الثوبَ: أداره على جسده كله حتى لا تخرج منه يده3. وقد ذكر أن الجاهليين كانوا يستوردون الجبب والأردية والأقمصة والأقمشة من بلاد العرب والشام، وكانت غالية الثمن وذات قيمة عندهم؛ لحسن صنعتها وإتقان قماشها. وقد كانت للرسول جبة من صنع بلاد الشام4، وكان له طيلسان مدبج، أي: منقوش الأطراف بالديباج5. وفي جملة ما استورد من مصر من ألبسة

_ 1 Hastings, Dict. Of the Bible, vol, I, p. 625, Gastings, a dictionary of Christ and the Gospels, vol, I, p. 498, ff 2 تويتشل "الصفحة 32"، اللسان "118"، المخصص "4/ 118". 3 تاج العروس "7/ 397"، "شمل". 4 عمدة القاري "21/ 303"، "والجبة: ثوب من المقطعات يلبس"، تاج العروس "1/ 173". 5 المغرب "ص174".

وثياب، القباطي وهي ثياب بيض دقيقة رقيقة تتخذ بمصر1, والقسيّ وهي ثياب منسوجة من كتان وإبريسم مضلعة، تصدر من مصر، من قرية تسمى القسي فنسبت إليها. وقد بقيت مصر تصدر القباطي حتى في الإسلام. وذكر علماء اللغة أن القباطي والثياب القبطية منسوبة إلى القبط، أهل مصر الخلص من ولد القبط بن حام بن نوح على رأي بعض النسابين، أو من ولد قبط بن مصر بن فوط بن حام على رأي فريق آخر. وذكر أن لفظة قبطية وردت في شعر لزهير, هو هذا البيت: لِياح كأن بالأتحمية مسبع ... إزارًا وفي قبطية متجلبب2 وورد ذكرها في بيت شعر آخر ينسب له أيضًا, هو3: ليأتينك مني منطق قذع ... باق، كما دنس القبطية الودكُ وقد ورد ذكرها في كتب الحديث، فقد ذكر أن الرسول كسا "أسامة" قبطية4. وأشير إلى ثياب بيض قيل لها: "القبطرى". وزعم بعض علماء اللغة أن في الكلمة غلطًا، وأن الراء زائدة5. وعرفت بعض الثياب بـ"الأنماط"، جمع: "نمط"، وهي الثياب المصبغة, وفي حديث "ابن عمر" أنه كان يجلل بدنه بالأنماط. وذكر أن الأنماط ضرب من البسط, له خمل رقيق6.

_ 1 المغرب "2/ 107"، جامع الأصول "4/ 395"، اللسان "7/ 373". 2 تاج العروس "5/ 200". 3 اللسان "7/ 373". 4 المصدر نفسه. 5 اللسان "7/ 373". 6 قال المتنخل: علامات كتحبير النماط اللسان "7/ 417 وما بعدها".

ويقال للنمط الزوج كذلك, وقيل: الزوج: الديباج واللون1. وأما السبج، فالسبجة درع عرض بدنه عظمة الذراع، وله كُمّ صغير نحو الشبر، تلبسه ربات البيوت. وقيل: هي بردة من صوف فيها سواد وبياض, وقيل: ثوب له جيب ولا كمَّين له، يلبسه الطيَّانون. وقيل: هي مدرعة كمها من غيرها, وقيل: كساء أسود، أو القميص. وهي لفظة معربة أصلها بالفارسية "شبي", وذكر أن "السباج" ثياب من جلود2. وقد كانت بعض الثياب المستوردة من بلاد الشام ومصر ومن الأرضين التي تسودها أكثرية نصرانية -ترد وعليها صلبان منسوجة. فلما جاء الإسلام، وأمر بطمس الصلبان، وكان الرسول إذا رأى الصليب في ثوب قضبه وقطع موضعه أو نقشه3. وإذا كان الحرير المعروف بـ"الخسرواني"، معروفًا حقًّا عند الجاهليين، فإنه يدل على أنه كان مستوردًا من العراق، بدلالة اسمه عليه. ويذكر علماء اللغة أنه منسوب إلى الأكاسرة، وأنه حرير رقيق حسن الصنعة4. ولفظة "حرير" من الألفاظ المستعملة في العربية، غير أن من الصعب تعيين أصلها. وقد ذكر "سترابون" أن اليونان أخذوا الحرير من الهنود؛ ولذلك أطلقوا عليه لفظة أخذوها من اسم أحد الشعوب الهندية, أما العبرانيون فقد أطلقوا عليه لفظة "مسى"5. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن لفظة "سريقوم" "Sericum" الواردة في النصوص الكلاسيكية تعني الحرير الخام, ووردت في العبرانية لفظة "دمشق" "Demeshek"، يرى بعض العلماء أنها تعني حريرًا دمشقيًّا،

_ 1 قال الأعشى: وكل زوج من الديباج يلبسه ... أبو قدامة، محبو بذاك معا وقال لبيد: من كل محفوف، يظل عصية ... زوج، عليه كله وقرامها اللسان "2/ 293". 2 اللسان "2/ 294". 3 المعرب "ص305". 4 المعرب "ص135"، "والخسرواني "بضم الأول والثالث": شراب ونوع من الثياب كالخسروي. قال الزمخشري: منسوب إلى خسروشاه من الأكاسرة"، تاج العروس "3/ 176". 5 اللسان "4/ 184"، Hastings, vol. I, p. 624. "1910"

أي: معمولًا بدمشق. وذهب آخرون إلى أن اللفظة محرفة من لفظة "دمقس" الواردة في العربية, ويراد بها نوع من الحرير أو الحرير الخام1. والديباج من الثياب المعمولة من الحرير, واللفظة من الألفاظ الفارسية المعربة2. ومن الثياب والأقمشة التي تحمل اسمًا معربًا "الدخدار", وهو كما يقول "الجواليقي" "تخت دار" بالفارسية. وذكر أنه ورد في هذا البيت المنسوب إلى عدي بن زيد العبادي: تلوح المشرفية في ذراه ... ويجلو صفح دخدار قشيب3 وأشير إلى "الديباجة" في شعر "حسان بن ثابت"، ويراد بها الثياب المتخذة من الإبريسم4. وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "سندس"، وذهب العلماء إلى أن المراد بها رقيق الديباج. وذكر بعضهم أنه ضرب من "البزيون" يتخذ من المرعزاء، واللفظة من الألفاظ المعربة5. وأما الإستبرق، فإنه ما خشن من الديباج على رأي بعض العلماء, وأصله من الفارسية، فهو من المعربات6. وكان الأغنياء وسادات القبائل يلبسون الألبسة المنسوجة من الحرير، وهي ثمينة غالية، يستوردونها من الخارج، وينسج بعض منها في اليمن. وقد نهى

_ 1 Smith, Dicti. Of the Bible, vol. II, p. 1310 f 2 المعرب "ص140"، تاج العروس "2/ 37"، المخصص "4/ 76". 3 المعرب "ص141"، "الدخدار، بالفتح: ثوب أبيض مصون، أو أسود. وقد جاء في الشعر القديم, وهو معرب تخت دار، فارسية، أي: يمسكه التخت، أي: ذو تخت. وقال بعضهم: أصله تختار، أي: صين في التخت، والأول أحسن"، تاج العروس "3/ 203". 4 البرقوقي "ص146"، تاج العروس "2/ 37"، "دبج". 5 المعرب "ص177"، "السندس "بالضم": البزيون ... وقال الليث: إنه ضرب من البزيون، يتخذ من المرعزي، أو ضرب من البرود. وفي الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى عمرو -رضي الله عنه- بجبة سندس. قال المفسرون في السندس: إنه رقيق الديباج ورفيعه، وفي تفسير الإستبرق: غليظ الديباج، ولم يختلفوا فيه. معرب بلا خلاف عند أئمة اللغة"، تاج العروس "4/ 168". 6 اللسان "10/ 5"، المخصص "4/ 76".

الإسلام عن لبس الحرير؛ لما في ذلك من ترف يميت الرجولة, ومن تشبُّه بمترفي العجم، ومن تأثير يتركه استعماله في نفوس الفقراء. ومن أنواع الثياب الجيدة المصنوعة من القز الأبيض "الدمقس"، وهو ناعم, وذكر علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة القديمة الواردة في شعر لامرئ القيس1. ويرى بعض الباحثين أن الدمقس تحريف "مدقس" وهو الحرير الأبيض، وأن أصلها يوناني هو: ""Metaxa2. ويعرف الحرير الجيد بالسَّرق، وقيل: السرق: شقق الحرير أو الأبيض أو الحرير عامة. وذهب بعض العلماء إلى أنها من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن أصلها سَرَه أي: جيد. وقد ورد في الحديث: "إنك في سرقة من حرير"، أي: قطعة من جيد الحرير3. ويقال للسرق: "سريكون" "Sirikon" "Sericum" في اليونانية4, ويراد بها الحرير عامة, ومن هذا الأصل جاءت لفظة "السرق" على ما أرى. ويعرف الحرير بـ"مشى" و"دمشق" في العبرانية, وقد ذهب بعض علماء التوراة أن للفظة "دمشق" صلة بدمشق الموضع المعروف, ودمشق من المواضع المشهورة منذ القديم بنسج الحرير. وذهب آخرون أنها من أصل "دمقس"، تحرف فصار "دمشق" ولا علاقة لها بدمشق, وأما لفظة "حرير"، فتعرف بـ"Sericum" عند اليونان واللاتين كما ذكرت. أما لفظة "حرير" المستعملة في العربية، فإن من الصعب تعيين أصلها والوقت الذي ظهرت فيه5. والخز: ثياب تنسج من صوف وإبريسم، وقيل: إنه الثياب المعمولة من

_ 1 فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل المعرب "ص151"، "الدمقس "كهزبر": الإبريسم أو القز ... أو الديباج أو الكتان ... والدمقس والمدقس مقلوب ... وثوب مدمقس منسوج به"، تاج العروس "4/ 154 وما بعدها". 2 غرائب اللغة "ص258". 3 تاج العروس "6/ 379"، المعرب "ص182"، المخصص "4/ 68". 4 غرائب اللغة "ص259". 5 Smith, A dict. Of the Bible, vol. III, p. 1310 f. Hastings, Dict. Of the Bibl, vol. I, p. 624

الإبريسم1, وقيل: إنه الحرير2. وذكر علماء اللغة أن "اللاذ" ثياب من حرير تنسج بالصين، وأن "الإضريج" الخز الأصفر، وأن المطرف ثوب مربع من خزّ له أعلام3. وربما كان "الديبوذ" و"الديابوذ" من الثياب التي وصلت إلى الحجاز, من الاتصال التجاري بالعراق. واللفظة من المعربات؛ ذكر الجواليقي أنها من الألفاظ الفارسية الأصل، وأن المراد بها ثوب ذو نيرين، وأورد شعرًا للأعشى جاءت فيه هذه اللفظة4. وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "سرابيل" جمع: "سربل". وذكر علماء اللغة أن "السربال" القميص من أي جنس كان5, ووردت السربال في شعر منسوب إلى الأعشى: مقلص أسفل السربال معتمر6 وفي هذا المعنى لفظة "سروال" والجمع: "سراويل", والسربال هو "سربالين" "س ر ب ل ي ن" في العبرانية7. وهو أيضا "السروال" في العربية و"الشروال" من أصل فارسي. وقريب من السربال والسروال "اللباس" الطويل المستعمل عند أهل القرى والفلاحين وبين كثير من أهل المدن في الوقت الحاضر, يشد عند

_ 1 اللسان "5/ 345"، تاج العروس "4/ 33". 2 المخصص "4/ 68". 3 المخصص "4/ 68". 4 المعرب "ص138 وما بعدها"، "الديبوذ: ثوب ذو نيرين ... معرب، فارسيته دوبوذ "بالضم"، ونقله الجوهري عن أبي عبيدة، وأنشد بيت الأعشى يصف الثور: عليه ديابوذ تسربل تحته ... أرندج إسكاف يخالط عظلما تاج العروس "2/ 562". 5 المفردات "ص228". 6 برصوم: الألفاظ السريانية "ص258"، "السربال، بالكسر: القميص أو الدرع أو كل ما لبس فهو سربال, والجمع سرابيل، قال الله تعالى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} . ومنه قول كعب بن زهير: شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل ... وقد تسربل به, وسربلته إياه: ألبسته السربال. ومنه حديث عثمان -رضي الله تعالى عنه-: "لا أخلع سربالًا سربلنيه الله تعالى". السربال: القميص, وكنى به عن الخلافة"، تاج العروس "7/ 374". 7 Hastings, Dict. Of the Bible, vol. I, p. 625 f

الخصر ثم يعرض وينتهي بفتحتين ضيقتين لدخول الرجلين منهما. ولا زال "الشروال" مستعملًا بين الإيرانيين والأكراد وفي بلاد الشام, وقد ذكر علماء اللغة أن السروال لفظة معربة من أصل فارسي. وورد في حديث أبي هريرة: "أنه كره السراويل المخرفجة" أي: "الواسعة الطويلة"1, وقد اشتهر الفرس بلبس السراويل. والظاهر أن الرسول كره السراويل الواسعة الطويلة؛ لأنها كانت من سنة الأعاجم, فأراد عدم التشبه بهم. وأما القميص، فقد يقال له: "الدرع" والسربال2. وأما "القز" "القهز"، فهما ثياب صوف كالمرعزي وربما خالطها الحرير3. وأما "الزازفية"، فثياب بيض من كتان4. وأما "الخنف" فما غلظ من الثياب5. ومن الأكسية "الجودياء"، وقد ذكر بعض علماء اللغة أنها لفظة معربة عن أصل فارسي أو نبطي، وذكروا أن الأعشى تصرف بها في شعره فجعلها "أجياد"6. وهناك نوع من أنواع القمصان أو البرد المنسوجة من الصوف فيها سواد وبياض, يقال لها: "سبيج" "السبيج" و"السبجة" و"السبيجة". وقد ذكر الجواليقي أنها من الألفاظ المعربة7. والطيلسان من الألفاظ المعربة، ويراد بها: ثوب يلبس على الكتف، أو ثوب يحيط بالبدن ينسج للبس، خالٍ من التفصيل والخياطة. وذكر أيضا أنه كساء مدور أخضر, لا أسفل له، لحمته أو سداه من صوف8. وقد اشتهرت

_ 1 اللسان "11/ 334". 2 اللسان "7/ 82"، "11/ 325". 3 المخصص "4/ 68". 4 النهاية في غريب الحديث "1/ 83". 5 النهاية "1/ 4". 6 "والجودياء "بالضم": الكساء، نبطية أو فارسية، وعرَّبها الأعشى فقال: وبيداء تحسب آرامها ... رجال إياد بأجيادها وأنشد شمس لأبي زبيد الطائي في صفة الأسد: حتى إذا ما رأى الأنصار قد غفلت ... واجتاب من ظله جودي سمور قال: جودي بالنبطية هي جودياء، أراد: جبة سمور"، تاج العروس "2/ 328"، المعرب "ص111 وما بعدها". 7 المعرب "ص182"، تاج العروس "2/ 56". 8 المعرب "ص227"، المغرب "2/ 16".

الفرس بلبسه، ويسمى عندهم بـ"تالسان"، حتى استعمل العرب جملة: "يابن الطيلسان" أي: يابن الأعجمي في الشتم، وذلك من تطلسهم به1. والساج: الطيلسان الضخم الغليظ، وقيل: هو الطيلسان المقوَّر ينسج كذلك، وقيل: هو طيلسان أخضر. وفي حديث ابن عباس، أن النبي، كان يلبس في الحرب من القلانس ما يكون من السيجان الخضر، جمع: ساج، وهو الطيلسان الأخضر، وذكر "ابن الأعرابي" السيجان: الطيالسة السود2. و"الشوذر" من الألفاظ المعربة القديمة على رأي بعض العلماء، ويراد بها الملحفة والإزار3. وقد اشتهرت اليمن بصنع الأزر، واشتهرت بهذه الصناعة مواضع أخرى. وقد كان العراق يصدر الأزر إلى جزيرة العرب, واشتهرت أزره عند العبرانيين, فأطلقوا عليها "أزرت شنعار" "أزرت شنعر"، أي: "أزر شنعار", ويريدون بشنعار ما يقال له أرض بابل. وهو من نسيج جيد مبروم, وقد عرفت بـ"لُبلتي برمة" "Lubulti birme"، وعرف النساج الذي اختص بهذا النوع من الأزر بـ"أشبر برمي" ""Ushbar Birmi4. و"القهز" و"القهزى": ثياب بيض يخلطها حرير, وهي من الألفاظ المعربة. وذكر بعض علماء اللغة أن الأصل الفارسي هو "كهزانة"5. والخميصة: ثوب أسود معلم من خز أو صوف, وأما الأنبجانية فكساء له خمل، وقيل: الغليظ من الصوف. والفروج: القباء له فرج من وراء أو من أمام, وأما المِرط فالكساء يُتغطَّى به6. ومن أنواع الثياب "القباء", وقد ذكر بعض العلماء أن اللفظة فارسية الأصل معربة7.

_ 1 تاج العروس "4/ 179". 2 اللسان "2/ 302 وما بعدها". 3 المعرب "ص205"، "والشوذر: الملحفة معرب، فارسيته: جادر"، تاج العروس "3/ 294". 4 Hastings, Dict. Of the Bible, vol. I, p. 230 5 المعرب "ص263"، "ثياب تتخذ من صوف أحمر كالمرعزي, وربما يخالطه الحرير. وقيل: هو القز بعينه, وأصله بالفارسية: كهزانة"، تاج العروس "4/ 72". 2 جامع الأصول "7/ 496". 7 المعرب "262"، تاج العروس "10/ 286 وما بعدها".

و"النرمق": ثياب لينة بيض، وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأصلها "نرمة"1. وأما "النمرق" و"النمرقة"، فالوسادة أو الميثرة والطنفسة2. ولاحتياج الإنسان إلى الملابس في كل زمن، كانت حرفة الغزل والحياكة يحترفها كثير من الناس وتعيش عليها أسر عديدة. ويمكن عدها من أهم الحرف في ذلك العهد، وعد العمال المشتغلين بها أكثر من عمال الحرف الأخرى عددًا, ولم يكن المتعاطون لهذه الحرف هم أصحاب معامل النسيج، ولكن أصحابها الأغنياء والمتمولون. أما المشتغلون بها, فعمال يشتغلون فيها بأجر يتقاضونه، ومنهم من كان رقيقًا مملوكًا يعمل لحساب سيده ومالكه، في مقابل قيامه بأوده, والقليل من العمال من كان يملك مصانع نسيج، تعمل له وتدرُّ الربح عليه. بل كان الملوك يشاركون الشعب في امتلاك دور النسيج وينافسونهم في الإنتاج. وفي نصوص المسند إشارات عديدة إلى دور الحياكة والنسيج الملكية، وإلى إنتاجها واشتغالها, ولا يستبعد احتكارهم لها أو احتكار صناعة بعض الأنواع من النسيج وبيع الأقمشة, وقد علمنا في الجزء السابق من هذا الكتاب أن البطالمة كانوا قد احتكروا بيع أنواع معينة من النسيج وصناعتها. وقد ظل احتكار حكومات مصر لأنواع معينة من النسيج معروفًا إلى الإسلام، تنسجها في معاملها ولا تسمح للأهلين بإنتاجها، كما فعل ذلك غير المصريين أيضًا. فصناعة النسيج صناعة مهمة ذات أرباح وفوائد، وهي من أهم الصناعات في المجتمع. ولأرباحها هذه ولكونها موردًا مهمًّا، فكرت بعض الدول في احتكارها؛ للحصول على أرباحها، كما تفعل الدول في الزمن الحاضر في احتكار بعض الصناعات والمناجم وبعض المصالح العامة مثل: سكك الحديد أو التليفون والبرق وغير ذلك؛ لتكون موردًا يموِّن الدولة بالمال. ومن أسماء القطن "الطوط"، وقيل: الطوط: قطن البردي. وورد في شعر لأمية بن أبي الصلت: والطوط نزرعه أغن جراؤه ... فيه اللباس لكل حول يعضد3

_ 1 المعرب "ص333 وما بعدها"، تاج العروس "7/ 75". 2 تاج العروس "7/ 81". 3 تاج العروس "5/ 179"، "طوط".

ولم يقتصر عمل الحائك على حياكة الأقمشة ونسجها وحدها، بل شمل عمله كل شيء يحاك، مثل: البسط والطنافس والسجاجيد و"الدرانك" التي هي نحو من الطنافس والبسط, ويذكر علماء اللغة أن اللفظة من المعربات. وذكر بعض العلماء أن "الدرنوك" و"الدرموك" ضرب من الستور والفرش، يكون فيها الصفرة والخضرة، وقال بعض آخر: إنه ضرب من الثياب له خمل قصير كخمل المناديل، وبه شبه فروة البعير, وورد أنه الطنفسة والبسط ذات الحمل, وقد تكون كبيرة تفرش البيت1. والأنماط، وهي ضرب من البسط2، وضرب من الثياب المصبغة، وثياب من صوف تطرح على الهودج3, والنساجة وهي ضرب من الملاحف المنسوجة4. والقطيفة وهي دثار مخمل, وقيل: هي كساء مربع غليظ له خمل ووبر5, والوسادة وهي المخدة6. والنمرقة وهي الوسادة، وقيل: الصغيرة منها، أو هي الميثرة، وتوضع على الرحل كالمرفقة، غير أن مؤخرها أعظم من مقدمها, ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل7. وهناك حرفة أخرى لها علاقة بالنساجة والحياكة، هي الخياطة8. وحرفة الخياط تحويل الأقمشة إلى كسوة، وصنع الثياب والعمائم بتفصيل القماش وقصه ثم خياطته على وفق القياس المطلوب. وهي حرفة تروج في المدن, أما في البادية، فتقوم المرأة بعمل الضروريات، ويلتجئ الرجال إلى القرى والمدن في شراء ما يحتاجون إليه من ثياب. ونجد بين أسماء الثياب ما هو معرب، مما يدل على أنه منقول مستورد، وأن الخياطين الجاهليين قد رأوه فقلدوا صنعه. كذلك نجد بين أسماء أجزاء الثوب أسماء معربة. فذكر علماء اللغة أن "الدخريص" و"التخريص" من المصطلحات المعربة، وأن أصلها فارسي، وهي تعني "البنيقة" و"اللبنة". وقد وردت "الدخارص" في شعر منسوب إلى الأعشى9.

_ 1 المعرب "ص152"، تاج العروس "7/ 129". 2 جامع الأصول "4/ 395"، تاج العروس "5/ 234". 3 المعرب "2/ 231"، تاج العروس "3/ 234". 4 جامع الأصول "4/ 399". 5 المغرب "2/ 128"، تاج العروس "6/ 224". 6 جامع الأصول "4/ 402"، تاج العروس "2/ 534". 7 تاج العروس "7/ 81". 8 تاج العروس "5/ 131". 9 المعرب "ص143 وما بعدها"، تاج العروس "4/ 393"، "6/ 300".

ويعبر عن "الخياط" بلفظة "درز"، و"بنو درز" الخيَّاطون والحاكة1. و"الخِياط": الإبرة2, والإبرة: هي التي يخاط بها، وذلك بإدخال الخيط في سمّها, أي: في ثقب الإبرة، وتخييط ما يراد تخييطه بها, والخياطة صناعة الخائط3. ويقال للذي يسوي الإبر: الأبَّار4, و"السم": الثقب، ومنه "سم الخياط"، أي: سم الإبرة5. ومن أسماء الخياط: "القراريّ". قال الأعشى: يشق الأمور ويجتابها ... كشق القراري ثوب الردن6 ويعبر عن خياطة الخياط الثوب خياطة متباعدة بـ"شمج" و"شمرج"، وذلك بأن يباعد بين الغرز. و"الشمرج": الرقيق من الثياب وغيرها7. ويعبر عن الخيط بلفظة "السلك" و"السلكة"8. والثوب: اللباس9، وهو ما يلبس10؛ ولذلك فهما من الكلمات العامة التي تطلق على أشياء عديدة. وقد اشتهرت بعض الثياب بكونها ثيابًا رقاقًا، منها "السبوب" والسب: الشقة البيضاء، وكذلك الخمار. و"الشف"، وهو الثوب الرقيق، و"اللهلة" و"النهنة": الثوب الرقيق النسج, وثوب هلهل وهلهال: رقيق النسج، وهو المتدارك النسج11. والمواد التي يستعين بها الخياط في صنع الثياب والأكسية هي الأنسجة المصنوعة من القطن أو الحرير أو الكتان أو الأصواف أو الشاش أو البز أو الكرباس.

_ 1 اللسان "5/ 348". 2 بكسر الخاء. 3 اللسان "5/ 298 وما بعدها". 4 اللسان "4/ 4". 5 اللسان "12/ 303". 6 اللسان "13/ 177". 7 اللسان "2/ 308 وما بعدها". 8 اللسان "5/ 298"، "10/ 443". 9 اللسان "1/ 245". 10 القاموس "2/ 248". 11 المخصص "4/ 63".

ولفظة "قطن" من الألفاظ التي يصعب تعيين أصلها, وقد ذهب كثير من الباحثين إلى أنها من أصل هندي. وفي التوراة لفظة "كربس" "Karpas"، أي: الكرباس، فسرها علماء التوراة بمعنى "قطن", ولفظة "كرباس" معروفة في العربية, وهي من الألفاظ المعربة المعروفة عند الجاهليين, وترد في لغة بني إرم وفي العبرانية واليونانية واللاتينية. وقد ذهب بعض العلماء أنها من أصل سنسكريتي وأنها تعني شجرة القطن, وقد ذكرت اللفظة في تأريخ "هيرودوتس"، وعرفها اليونان الذين كانوا في حملة الإسكندر الكبير, ودعوها "Carbasus" و"Carbasina". وقد أشار إلى القطن "هيرودوتس" و"سترابو" وصاحب مؤلف "Periplus maris Erythr" و"لوقان" "Lucan" و"Quintus Curtius" وأشاروا إلى صلتها بالهند1. واللفظة من الألفاظ الواردة في الفارسية أيضًا, وذهب علماء العربية إلى أن الكرباس ثوب من القطن الأبيض, معرب عن الفارسية2. وفي حديث عمر: "وعليه قميص من كرابيس" جمع: كرباس, وهو القطن3. ومن أسماء القطن الخرفع والخرنع, وذكر أن "الطوط" هو قطن البردي4. والبز عند علماء العربية: الثياب، وقيل: ضرب من الثياب، وقيل: البز من الثياب: أمتعة البزاز، والبزاز: بائع البَز وحرفته البزازة, والبِزَّة: الهيئة والشارة واللبسة5, وذكر أن "البز" ضرب من برود اليمن6. واللباس والألبسة والملبس: كل ما يلبس7, والكسوة: اللباس أيضا, والكساء: واحد الأكسية8. وقد عرفت لفظة الكسوة في العربيات الجنوبية كذلك؛ إذ وردت في بعض النصوص: "كسوت" "كشوا" "كشوي"9. وذكر علماء العربية أن الكساء الذي لا بطانة له، يقال له: "كساء سمط"10.

_ 1 Ency. Bibli, vol. I, p. 915, Hastings, Diction. Of the Bible, vol. I, p. 623, Smith, Dict. Of the Bible, vol, I, p. 360 2 القاموس المحيط "2/ 93"، تاج العروس "4/ 231". 3 اللسان "6/ 195". 4 المخصص "4/ 69". 5 اللسان "5/ 312". 6 المعاني الكبير "3/ 1175". 7 اللسان "6/ 202 وما بعدها". 8 اللسان "15/ 223 وما بعدها". 9 Mahram, p. 439 10 اللسان "7/ 324".

وفي العبرانية لفظة "بجد" وتقابل "بجاد" و"بجد" في العربية، وتعني: اللباس عامة من دون تمييز. أما لفظة "لبوش"، فهي من أصل "لبس"، وهي في معنى "لبوس" و"لبس" في العربية1, والبجاد عند العبرانيين من الألبسة التي تستعملها الطبقات الراقية2. وذكر علماء العربية أن البجاد: كساء مخطط من أكسية الأعراب, وقيل: إذا غزل الصوف بسرة ونسج بالصيصة، فهو بجاد. ويقال للشقة من البجد: قليح وجمعه "قلح", وقيل: البجاد: الكساء3, وقيل: إنه من وبر الإبل وصوف الغنم مخيطة4. ومن أنواع الأكسية "المشملة": كساء يشتمل به دون القطيفة, وذكر المشمل: كساء له خمل متفرق يلتحف به دون القطيفة. وورد في الحديث: "ولا تشتمل اشتمال اليهود"، وهو افتعال من الشملة، وهو كساء يتغطى به ويتلفف فيه، والمنهي عنه هو التجلل بالثوب وإسباله من غير أن يعرف طرفه5. وهو "سملة" "simlah" و"salmah" عند العبرانيين. و"البرنس": كل ثوب رأسه منه ملتزق به دُرَّاعة كان أو ممطرًا أو جُبّة, وذكر أن "البرنس" قلنسوة طويلة، وكان النساك يلبسونها في صدر الإسلام. وهو من "البرس"، القطن6, وعرف بهذه التسمية أيضا عند العبرانيين7. والملاءة: الريطة، وهي الملحفة والإزار8. وذكر أن الريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين، وقيل: الريطة: كل ملاءة غير ذات لفقين كلها نسج واحد، وقيل: هو كل ثوب لين دقيق, والرائطة: المنديل9.

_ 1 Ency. Bibli, Vol. I, p. 1135. f 2 The Bible Dictionary, I, p. 30 3 اللسان "3/ 77". 4 شرح المعلقات العشر، للتبريزي "ص77". 5 اللسان "11/ 369". 6 اللسان "6/ 26". 7 The Bible Dictionary, I, p. 96 8 اللسان "1/ 160". 9 اللسان "7/ 307".

والإزار: الملحفة، والمئزرة: الإزار1, والرداء: الذي يلبس، والجمع: أردية2. وذكر أن المئزر من الصوف أو الشعر يؤتزر به، فإذا أنفق فهو "شملة" يشتمل بها الرجل إذا نام بالليل3. والردن: الكُمّ, يقال: قميص واسع الردن. وذكر أن الردن مقدم كمّ القميص، وقيل: هو أسفله، وقيل: هو الكم كله4. ويصنع الخياط الهمايين جمع: "الهميان"، ويراد به الحزام وبه كيس تجعل فيه النفقة ويشد على الوسط. وقد يصنع من الجلود أيضًا، وهو من الألفاظ المعربة من الفارسية5. أما "الكيس"، فهو لحفظ ولخزن ولحمل الأشياء, ويعرف بـ"كيس" في العبرانية كذلك، وقد يصنع من الجلد. وأما "الخريطة"، فإنها "خريط" في العبرانية, وتحفظ فيها الأشياء الثمينة، وقد تحلى وتزخرف. وأما "الصرة"، وهي "صرور" في العبرانية؛ فلصر الأشياء6. ولا تزال هذه الأسماء مستعملة معروفة. والجاهليون مثل عرب الإسلام في اختلاف ملابسهم، فقد كان ملابسهم تختلف باختلاف منازلهم ودرجاتهم. فللشرفاء والوجهاء أهل المدن والقرى لبس خاص يميزهم عن الطبقات الدنيا من الناس, وللتجار لبس خاص بهم. أما الأعراب، فكانوا يتميزون أيضًا بطريقة لبسهم عن أهل المدن والقرى, ثم إنهم عمومًا كانوا يختلفون في ألبستهم باختلاف أمكنتهم وبحسب درجة اتصالهم واختلاطهم بالأعاجم. فقد كان عرب العراق قد تأثروا بألبسة الفرس وبألبسة بني إرم، فأخذوا منهم, وتأثر عرب بلاد الشام بالروم، فأخذوا منهم بعض ملابسهم،

_ 1 اللسان "4/ 16 وما بعدها". 2 اللسان "14/ 316 وما بعدها". 3 الأغاني "1/ 372". 4 اللسان "13/ 178". 5 المعرب "ص346"، "والهميان دخيل معرب. والعرب قد تكلموا به قديمًا، فأعربوه, ويقال له: هميان أعجر، وهمايين عجر. وقد جاء ذكر لفظ الجمع في حديث النعمان يوم نهاوند: تعاهدوا هماينكم في أحقيكم وأشساعكم في نعالكم"، تاج العروس "9/ 367 وما بعدها". 6 Hastings, Dict. Of the Bible, Vol. I, p. 231

حتى أسماءها، احتفظوا بها، وقد حفظتها لنا كتب الإسلاميين, وبعضها لا تزال حية نستعملها هذا اليوم. ولا تختلف ألبسة الرأس المعروفة عند الجاهليين عن ألبسة الرأس المستعملة بين الأعراب وفي قرى جزيرة العرب, فقد اقتضت طبيعة الصحراء أن يحمي الجاهلي رأسه بألبسة واقية تقيه من أذى أشعة الشمس المحرقة, ومن الرمال التي تذرها العواصف في العيون وفي الأنوف. فأوجد لنفسه ألبسة رأس مناسبة له ولبساطة حياته, فستر رأسه بقطعة قماش مربعة الشكل في الغالب، تمتد على أطرافه ليتلثم بها وقت ظهور العواصف وارتفاع الرمال، أو وقت ظهور السموم، فيحمي نفسه منها ومن العطش، كما يحمي مؤخر رأسه من أشعة الشمس، ولتحميه من البرد في الشتاء كذلك. ويضع فوق هذه القطعة عقالًا، يصنع من الصوف أو من شعر الماعز أو الوبر؛ ليمسك قطعة القماش فلا تسقط. وتعرف قطعة القماش هذه بالكوفية وبـ"الكفية" في الوقت الحاضر، ويقال لها وللعقال: "الكفية والعقال" و"الكوفية والعقال" في اصطلاح المحدثين. أما عرب بلاد الشام، فقد كانوا يضعون لبادًا فوق رأسهم, مصنوعًا من مادة مضغوطة من الصوف أو الوبر، يشبه ما يسمى بـ"العرقجين" في العراق "العرقية"، يلف حوله بقماش مختلف الألوان، قد يمتد أحد طرفيه؛ ليستعمل لثامًا للوجه وسترًا للرقبة، وهو زي الفلاحين والرعاة. والعمامة من لباس الرأس عند الجاهليين. "والعرب تقول للرجل إذا سُوّد: قد عمم. وكانوا إذا سوّدوا رجلًا عمموه عمامة حمراء, وكانت الفرس تتوج ملوكها فيقال له: متوج"1. ويقال لها: "السبائب" كذلك, والعمامة: "السُّب"2. وعادة صبغ الثياب، من العادات المعروفة عند العرب قبل الإسلام. وكانوا يستعملون في ذلك أصباغًا مختلفة، كالقرف وهو قشور الشجر, والجذور يستخرجون ما فيها من مادة ملونة لصبغ ما يضعونه فيها من ملابس، والأصباغ المستخرجة من بعض النباتات3. ولألوان العمائم أو الملابس دخل في المناسبات الاجتماعية، فكانوا يستعملون للحرب مثلا نوعا خاصا من العمائم ذوات ألوان خاصة، تعبر

_ 1 اللسان "12/ 424". 2 اللسان "1/ 456"، الروض الأنف "1/ 59". 3 المخصص "11/ 14".

عن المواقع، ويستعملون في الأحزان نوعًا خاصًّا من العمائم والثياب، وفي الفرح ملابس خاصة، وهكذا، كما كانوا يقومون بتجميرها في بعض الأحوال. ويقوم بصبغ الثياب وقصرها الصباغون، يصبغون الملابس كما يصبغون الأقمشة قبل تفصيلها وخياطتها. وذكر أن الكهان كانوا لا يلبسون المصبغ1، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك بسبب اعتقادهم أن تابع الكاهن ينفر من الصبغ. وفي جملة الأصباغ المعروفة والشائعة عند الجاهليين: العصفر، وهو نبت أصفر يستخرج منه صبغ أصفر، تصبغ به الثياب والأقمشة وأمثالها, ومن هذه الصبغة جاءت لفظة "المعصفرات"، ويراد بها الثياب المصبوغة بالعصفر2. والورس وهو صبغ أصفر يؤخذ من نبت طيب الرائحة, تصبغ به الملابس، فيقال: ملحفة مورسة، إذا كانت مصبغة بالورس3. وقد جاء النهي عن لبس الثياب المعصفرة في الإسلام4. والثوب الأحمر، هو الثوب المصبوغ بلون أحمر، أما "الكرك"، فالثوب الأحمر كذلك. و"ثوب مشرق": ثوب بين الحمرة والبياض، و"ثوب قتمة" و"مقتوم": ثوب سواده ليس بشديد، و"ثوب مفروك": مصبوغ بالزعفران، وزبرقت الثوب زبرقةً: صفرته. وقد سمي "الزبرقان بن بدر" بذلك؛ لصفرة عمامته5. ويظهر أن الصباغين كانوا يمطلون بالمواعيد ويخلفون؛ لذلك ضرب بهم وبالصياغين المثل في الخلف. وورد في الحديث: "أكذب الناس الصباغون والصوَّاغون"6. ويستعمل شعر الماعز في الغالب لصنع الخيام، وذلك للأعراب وللتجار والمسافرين وغيرهم. والاتجار بالخيام من التجارات التي كانت رائجة يومئذٍ, ويستعمل شيوخ القبائل والرؤساء والملوك خيامًا خاصة مصنوعة من أقمشة غليظة, تتحمل المطر والعوارض الطبيعية الأخرى، ولها أسعار غالية عالية، تختلف باختلاف حجمها

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 407"، "اللسان "8/ 437". 2 جامع الأصول "4/ 365". 3 المعرب "2/ 246". 4 صحيح مسلم "6/ 144". 5 المخصص "4/ 95". 6 اللسان "8/ 437".

ونوع القماش المصنوعة منه. ولبعضها قواطع تجزئ الخيمة إلى أقسام تكون شبه غرف يسكن فيها, ويستعمل بعضها مضارب يعقد فيها ديوان الرئيس، وبعضها معابد توضع فيها الأصنام والأشياء المقدسة التي تنتقل مع القبيلة، يحملها الكهنة معهم. وقد أشير إلى هذه الأصنام المتنقلة مع القبائل في الأخبار التي سجلها الآشوريون عن حروبهم مع الأعراب، كما كان العبرانيون يصنعون خيامًا واسعة تكون مقدسة لخدمة الرب. ومن الخيم الكبار "الفسطاط", ويطلق على الأبنية كذلك1. والبساط: ما بسط. وقد اشتهرت أنواع خاصة من البسط بين الجاهليين, منها بسط عبقر؛ والبساط العبقري من الأبسطة الجيدة، ومن عادة العرب أنهم إذا استحسنوا شيئًا أو عجبوا من شدته ومضائه نسبوه إلى "عبقر". وعبقر عندهم أرض من أرض الجن, وورد "ثياب عبقرية" نسبة إلى عبقر, حتى قالوا: "ظلم عبقري" أي: شديد فاحش2. ومن أنواع البسط: "النخ", وهو بساط طوله أكثر من عرضه، وهو فارسي معرب، وجمعه: نخاخ3. وللعرب طرق في هيئة لبسهم وفي كيفية وضعها على أبدانهم، ولا سيما أهل الحضر منهم, كما كانوا يكيفون لبسهم حسب المناسبات في مثل الغارات والحروب والسفر. ومن ضروب لبسهم ما يقال له: "الاضطباع"، ويقال له: "التأبط"، وهو أن يدخل الثوب من تحت يده اليمنى, فيلقيه على منكبه الأيسر4. ومن ضروب اللبس: "التفضل" وهو التوشح: أن يخالف اللابس بين أطراف ثوبه على عاتقه, وأما "الفضلة" فالثياب التي تبتذل للنوم؛ لأنها فضلت عن ثياب الصرف5. وعرف التوشح: أن يتوشح بالثوب، ثم يخرج طرفه الذي ألقاه على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفيهما على صدره. وقيل: التوشح بالرداء مثل التأبط والاضطباع، وهو أن يدخل الثوب من تحت يده اليمنى فيلقيه على منكبه الأيسر، كما يفعل المحرم6. وأما "الاشتمال"، فهو إدارة الإنسان الثوب على جسده كله حتى لا تخرج

_ 1 المعرب "2/ 96"، تاج العروس "5/ 198 وما بعدها". 2 المخصص "4/ 73". 3 اللسان "3/ 61". 4 اللسان "7/ 254"، المخصص "4/ 97". 5 اللسان "11/ 526"، المخصص "4/ 99". 6 اللسان "2/ 633".

منه يده. ورُوِيَ أن النبي نهى عن اشتمال الصّمّاء, والشملة الصّمّاء: التي ليس تحتها قميص ولا سراويل، وذكر أن اشتمال الصماء هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده ولا يرفع منه جانبًا، فيكون فيه فرجة تخرج منها يده، وهو التلفع، وربما اضطجع فيه على هذه الحالة. وذكر الفقهاء: أن الاشتمال هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبه, فتبدو منه فرجة1. و"السند": ضرب من ضروب اللبس عند العرب، وهو أن يلبس قميصًا طويلًا تحت قميص أقصر منه, كما أن السند ضروب من البرود، وضرب من الثياب. وذكر أن السناد هي الحمراء من جباب البرود2. وإذا نام الشخص وأدخل رأسه في ثوبه قيل لذلك: الكبس والكباس3, و"الكمكمة": التغطي بالثياب4. وقد عرف الجاهليون "الكلل". و"الكلة": الستر الرقيق يخاط كالبيت, يُتوقَّى فيه من البق5. ويعبر عن الستر بـ"السجف"، وهو قماش يستر به. والسجافة: السدافة، أي: الحجاب, وكل باب ستر بسترين مقرونين فكل شق منه: سجف. وقيل: لا يسمى سجفًا إلا أن يكون مشقوق الوسط كالمصراعين6.

_ 1 اللسان "11/ 368"، المخصص "4/ 97". 2 اللسان "3/ 221 وما بعدها"، المخصص "4/ 99". 3 اللسان "6/ 190". 4 اللسان "12/ 528". 5 اللسان "11/ 595". 6 اللسان "9/ 144".

الفصل الخامس عشر بعد المئة: قياس الابعاد والمساحات والكيل

الفصل الخامس عشر بعد المئة: قياس الابعاد والمساحات والكيل ... الفصل الخامس عشر بعد المائة: قياس الأبعاد والمساحات والكيل وقد استعمل الجاهليون قياس الأبعاد والوزن والكيل في معاملاتهم, وهي متقاربة بين الشعوب السامية؛ لاختلاط هذه الشعوب بعضها ببعض، ولمستوى تلك الشعوب في الأيام الماضية، ودرجتها في الثقافة بالنسبة إلى تلك العهود. هذا, ونجد الأوزان والمكاييل قد تطورت شيئًا فشيئًا، تطورت بالتدريج من أحوال بدائية حسية يدركها الإنسان البدائي، إلى أن اتخذت أشكالًا تستند على أسس علمية. ويستعمل الوزن لقياس الكميات, أما المسافات والأبعاد، فتقاس بالطبع بمقاييس تستند إلى أساس تقدير الأبعاد. ويختلف أهل الجاهلية في الكيل والوزن، اختلاف الناس في هذا اليوم. منهم من يوزن الشيء، ومنهم من يكيله كيلًا. كان أهل المدينة يكيلون التمر، وهو يوزن في كثير من أهل الأمصار, وإن السمن عندهم وزن، وهو كيل في كثير من الأمصار1, وقد يباع الشيء عددًا، بينما يباع وزنًا عند قوم آخرين. والذي يعرف به أصل الكيل والوزن، أن كل ما لزمه اسم المختوم والقفيز والمكوك والمدّ والصاع فهو كيل, وكل ما لزمه اسم الأرطال والأواقي والأمناء فهو وزن. ودرهم أهل مكة ستة دوانيق، ودراهم الإسلام المعدلة كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل2.

_ 1 تاج العروس "8/ 107"، "كيل". 2 تاج العروس "8/ 107"، "كيل"، اللسان "14/ 125 وما بعدها".

وقد كان الجاهليون يستعملون المكاييل في الغالب لقياس الجوامد والمائعات على حد سواء. وذلك كما يتبين من دراسة أسماء المعايير بالقياس إلى المعايير المستعملة عند الرومان واليونان, وكما يتبين من مراجعة معجمات اللغة، حيث تذكر المقياس في قياس الجوامد أحيانًا وفي قياس المائعات أحيانًا أخرى, وكما يتبين من عدم تفريق بعض اللغويين بين الوزن والكيل. وقد جاءت في كتب الحديث والفقه وكتب اللغة أسماء بعض العيارات والموازين التي كان يستعملها العرب قبل الإسلام. ويظهر من هذه الكتب أن هذه العيارات والموازين كانت تختلف باختلاف المواضع، وإن اتفقت في الأسماء؛ فبين مكة والمدينة مثلًا اختلاف في تقدير العيارات. كذلك اختلف العرب في وزن الأشياء في بعض الأحيان، فقد ذكر أن أهل المدينة كانوا يكيلون التمر، وهو يوزن في كثير من الأمصار, ثم إن بعض المواد تكال وتوزن، فالسمن يكال في بعض الأماكن، ويوزن في أماكن أخرى، ويكال ويوزن في آنٍ واحدٍ في أماكن غيرها1. وقد ورد في الحديث: "الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة"2. والكيل والوزن سواء في معرفة المقادير, وتعني لفظة "كال" معنى وزن. وقد ورد عن النبي أنه قال: "المكيال مكيال أهل المدينة, والميزان ميزان أهل مكة"3, وورد: الكيل: كيل الطعام، يقال: كلتُ الطعام: إذا توليت ذلك له. وورد في القرآن الكريم: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 4, وذلك إن كان مخصوصًا بالكيل، فحثَّ على تحري العدل. وقد وردت لفظة: "الكيل" و"كيل" و"المكيال" و"كلتم" و"اكتالوا" و"نكتل" في مواضع من القرآن الكريم5. ويعبر عن الوزن وعن قياس الأبعاد بلفظة: "كل" "كال" أي: "كالَ"

_ 1 تاج العروس "8/ 107"، "كيل". 2 جامع الأصول "1/ 371". 3 جامع الأصول "1/ 371"، اللسان "11/ 605". 4 سورة المطففين، الآية 1 وما بعدها، المفردات "460". 5 الأنعام، الآية 152، الأعراف الآية 85، يوسف الآية 59، 60، 63، 65، 88، الإسراء، الآية 35، الشعراء, الآية 181، هود، الآية 84 وما بعدها.

في المسند, والوحدة "كلت" أي: "كيلة"1, أما في عربيتنا فقد استعملت في الوزن والكيل2. وجاء الكيل: كيل الطعام3, وورد: كال البئر، أي: قدر ما فيها من ماء4, والاسم "الكيلة"، والكيل، والمكيل، والمكيال، والمكيلة: ما كِيلَ به حديدًا كان أو خشبًا, وكان الدراهم والدنانير: وزنها. وفي معنى "كلت" ترد لفظة "سفرت" "سفرة", وتستعمل خاصة في قياسات الأبعاد، مثل البعد بين مكانين، أي: المسافات والأطوال, فهي بمعنى مرحلة أي: وحدة قياسية للبعد5, ومعدل ما يسافره الإنسان أو تقطعه القافلة في اليوم، أي: السفرة التي تتمكن منها القافلة في اليوم، فسفرت هي سفرة في لغتنا، أي: مرحلة. وتعد قياسات الأبعاد والموازين والمكاييل البابلية من أهم وأدق المكاييل والأوزان عند الشعوب الشرقية؛ فقد استند البابليون في قياساتهم هذه إلى أسس علمية. وهم في ذلك أدق من قدماء المصريين، ومن اليهود6. والعادة قياس الأبعاد الصغيرة والمسافات القصيرة بمقاييس تتناسب مع هذه الأبعاد, وذلك باستعمال مقاييس صغيرة مثل: الإصبع والشبر والذراع، صارت أساسًا للمقاييس التي تقاس بها المسافات البعيدة، مثل المسافات بين مراحل السفر أو الأبعاد بين المدن والقرى وما شاكل ذلك. إذ لا بد من اتخاذ وحدة قياسية كبيرة في قياس الأبعاد الطويلة؛ لسهولة الضبط والحفظ، ولهذا اصطلحت الأمم على اتخاذ وحدات كبيرة في قياسات المراحل والأبعاد، سمتها. وقاس الجاهليون مساحات الأرضين الزراعية, بمقدار البذور المنثورة وبمقدار ما يحرثه ثور واحد أو حيوان في نهار, ويراد بذلك متوسط عمل محراث واحد في الأرض. فتقدر مساحة أرض بمقدار كميات البذور التي تنثر في الأرض، وتذكر عندئذٍ مقدار كيلات البذور المنثورة، ويدل عددها على مساحة الأرض.

_ 1 Rhodokanakis, Stud., II, S. 79 2 اللسان "11/ 604 وما بعدها" "دار صادر". 3 المفردات "ص460". 4 اللسان "11/ 604" "دار صادر". 5 Rhodokanakis, Stud, II, S. 79 6 Hastings, p. 967

ولو تعمقنا في دراسة قياس المسافات، فإننا نجد أن الإنسان قد استعان بأجزاء جسمه في بادئ الأمر في القياسات، فاستعان بالإصبع، واعتبره وحدة قياسية صغيرة لقياس البعد، استعمل عرضه كما استعمل طوله. واستعمل "الكف" قياسًا للأبعاد كذلك, وهو أربع أصابع عند العبرانيين1, واستعمل "الشبر" للأبعاد التي تزيد على الكف, والشبر هو مسافة ما بين طرف الإبهام وطرف الخنصر، ويساوي ثلاث كفوف, ويعدل من ثمانية قراريط إلى أحد عشر قيراطًا. واستعملت "الذراع" وجعلوها تعادل شبرين, وتقدر بنحو قدم إلى قدمين. ثم "الخطوة" وتعادل ذراعين أو ثلاث أقدام أو اثنتي عشرة كفًّا. ثم "القامة"، وتعادل خطوتين أو أربع أذرع أو ستة أقدام. ثم "القصبة", وتعادل قامة ونصف قامة، أو ستة أذرع, وتعادل تسع أقدام أو ستًّا وثلاثين كفًّا2. والكف -عند العرب-: اليد، أو منها إلى الكوع3. والشبر: ما بين أعلى الإبهام وأعلى الخنصر، ويكال به, ومنه "الشبر": كيل الثوب بالشبر، يشبره شبرًا4. والذراع من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى, وقيل: الذراع والساعد واحد, يقال: ذرع الثوب وغيره: قاسه بالذراع, وهو ما يذرع به من حديد أو قضيب5. و"الباع": قدر مد اليدين وما بينهما من البدن، ويستعمل في قياس الأعماق، مثل الآبار، وأعماق الماء6. والخطوة ما بين القومين7, والقامة عند العرب: مقدار هيئة رجل، والبكرة بأداتها، وقيل: البكرة التي يستقى بها الماء من البئر8. والقامة: مقياس أيضًا تقاس به الأعماق9.

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "2/ 231". 2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 231"، Hastings, p. 967 3 تاج العروس "6/ 234"، "كف". 4 تاج العروس "3/ 228"، "شبر". 5 تاج العروس "5/ 333 وما بعدها"، "ذرع". 6 تاج العروس "5/ 283"، "بوع". 7 تاج العروس "10/ 115"، "خطا". 8 تاج العروس "9/ 36"، "قوم". 9 قال أبو ذؤيب: فلو كان حبلًا من ثمانين قامة ... وخمسين بوعًا نالها بالأنامل "وفي الديوان: وتسعين باعًا، وأما بوعًا فإنه رواية الأخفش"، تاج العروس "5/ 283"، "بوع".

وذكر الذراع في القرآن الكريم في آية: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} 1. ويعبر به عن المذروع، أي: الممسوح بالذارع2. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الذراع من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى3, وذكر بعض العلماء أن الذراع والساعد واحد. وأما المذارعة فالبيع بالذراع4, ويقال: ذراع من الثوب والأرض5. فتستعمل المذارعة -إذن- في الأموال المنقولة التي لها اتساع مثل: الثياب والأقمشة والخشب وما شابه ذلك، كما تستعمل في ذرع الأرض. وقد اختلف الذراع الجاهلي عن الذراع في الإسلام6. والقصبة من أصل "Kas - Pu" في البابلية، ومعناه: "ساعتان"، أي: مسيرة تقطع في ساعتين. وورد "Kas - Pu Kakkari" في النصوص البابلية، ويراد بالجملة ما يقابل "قصبة أرض" أو "ميل أرض"7. وقد كان أهل مصر في الإسلام يمسحون أرضهم بقصبة طولها خمسة أذرع بالتجاري، فمتى بلغت المساحة أربعمائة قصبة، فاسمها: الفدان8. و"الغلوة"، وكانت مقياسًا يونانيًّا، وتعادل نحو "145" خطوة، أو ثُمن ميل, وتسمى "فرسخًا" أيضًا9. وذكر علماء اللغة أن "الغلوة" قدر رمية بسهم، وتستعمل في سباق الخيل10, وقيل: هي قدر ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة ذراع. وذكر بعض علماء اللغة، أن الفرسخ التام خمس وعشرون غلوة11. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن الفرسخ ساعة من النهار, وقال بعض آخر: إنه المسافة المعلومة، وهو ثلاثة أميال هاشمية أو ستة أو اثنا عشر ألف ذراع أو عشرة آلاف ذراع. واللفظة من الكلمات المعربة، وهي "Frasong" "فرسنك"

_ 1 الحاقة، الآية 23، تفسير الطبري "29/ 40 وما بعدها"، "بولاق". 2 المفردات "176". 3 تاج العروس "5/ 333 وما بعدها". 4 Ency., I, p. 959 5 المفردات "176". 6 تاج العروس "8/ 123"، "ميل". 7 Schrader, S. 339 8 تاج العروس "5/ 203"، "قرط". 9 قاموس الكتاب المقدس "2/ 232". 10 اللسان "15/ 132" "صادر". 11 تاج العروس "10/ 269"، "غلا".

في الفهلوية. وقد أشير إلى هذا المقياس الفارسي في بعض مؤلفات الكتبة اليونان مثل "هيرودوتس" و"كسينوفون" "Xenophon", وهو "Farsong" في الفارسية الحديثة, PRasakha في لغة بني إرم1. وأما "الميل"، فمقياس روماني. وقد اختلف في طوله، فقيل: إنه ثلث الفرسخ، وقيل: إنه ثلاثة آلاف ذراع أو أربعة آلاف، وقيل: أربعة آلاف خطوة، كل خطوة ثلاثة أقدام, وقيل: إنه سدس الفرسخ, وهو من الألفاظ المعربة من أصل ""Miloin2. وذكر علماء اللغة أن الميل هو المنار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض، وأنه أيضا الأعلام المبنية على الطرق لهداية الناس3. وقد استخدم الجاهليون مصطلحات خاصة في تقدير المسافات والأبعاد، ولا سيما في الأسفار. فاستعملوا مصطلح "مسيرة ساعة" ومسيرة ليلة ومسيرة نهار ومسيرة قافلة وأمثال ذلك, وقصدوا بذلك معدل ما يقطعه الإنسان والقافلة في المدد المذكورة. واستعملوا "البريد" في تقدير الأبعاد والمسافات، و"البريد": فرسخان، كل فرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع أو أربعة فراسخ، وهو اثنا عشر ميلًا. وفي الحديث: "لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة برد" وهي ستة عشر فرسخًا, وفي كتب الفقه: السفر الذي يجوز فيه القصر أربعة برد، وهي ثمانية وأربعون ميلًا بالأميال الهاشمية في طريق مكة4. وقاس الجاهليون المساحات، مثل مساحات البيت أو الملك كالأرضين, بالذراع إن كانت غير كبيرة, أما إذا كانت كبيرة، فقد قيست بمقدار متوسط ما يحرثه "الفدان" في اليوم. وذكر علماء اللغة أن "الفدان" الثوران اللذان يقرنان فيحرث عليهما، وأن الفدان المزرعة5, والآلة، ومقدار محدود من الأرض اصطلح الناس على تحديد مقداره6.

_ 1 تاج العروس "2/ 272 وما بعدها"، البلدان "1/ 35"، "الباب الثالث"، Ency, II, p. 70, Gorn, Grundriss der Iranische Philolgie, I, 127 2 تاج العروس "8/ 123"، البلدان "1/ 36"، Hastings, p. 968 3 تاج العروس "8/ 123"، "ميل". 4 تاج العروس "2/ 298"، "برد". 5 اللسان "13/ 321"، "صادر"، "فدن". 6 تاج العروس "9/ 299"، "فدن".

وتقاس الأرض بالجريب أيضا, قال علماء اللغة: الجريب من الأرض: مقدار معلوم الذراع والمساحة، وهو عشرة أقفزة، كل قفيز منها عشرة أعشراء، فالعشير جزء من مائة جزء من الجريب, وقيل: الجريب: المزرعة، وقدر ما يزرع فيه من الأرض. وقد استعمل للطعام ولتقدير غلة الأرض، أي: وحدة قياس للأرضين، ومكيلة في آن واحد1. وقال بعض العلماء: إنه يختلف باختلاف البلدان2. ومن وحدات القياس في اليمن: "أم ب" "أمت", وقد ذكرت هذه الوحدة في نصوص المسند, وتقاس بها الأبعاد طولًا وعرضًا3. وذكر علماء اللغة أن "الأمت" الحزر والتقدير، يقال: كم أمت ما بينك وبين الكوفة؟، أي: قدر، وأمت القوم أمتًا: إذا حزرتهم4. فللمعنى إذن صلة بالمعنى المفهوم من اللفظة في لغة المسند. والشوحط من وحدات قياس الأبعاد كذلك, فورد: "سدثي شو حطم"، أي: ستون شوحطًا, وقد ذكر هذا المقياس في كتابات المعينيين5. ولعله قصبة أو خشبة، حدد طولها، واعتبرت كالمتر و"الياردة" وحدة أساسية لقياس الأبعاد. و"الشوحط" في كتب اللغة: ضرب من شجر الجبال تتخذ منه القسي، أو ضرب من النبع تتخذ منه القياس6. فلا يستبعد وجود صلة بين الشوحط اليماني وهذا الشوحط، وهو اتخاذ قضب الشوحط مقياسًا معينًا محددًا؛ لقياس الأبعاد. وترد في بعض كتابات المسند لفظة "ممد" مع العدد، كأنها استعملت للتعبير عن قياس. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها لا تعبر عن وحدة قياسية قائمة بذاتها، كما تعبر لفظة قدم أو ذراع، بل هي تعبر عن معنى عام، هو مسافة

_ 1 اللسان "1/ 260"، "صادر"، "جرب". 2 تاج العروس "1/ 129"، المخصص "12/ 264 وما بعدها"، برصوم "ص136". 3 راجع الفقرة الرابعة من النص: Glaser 1150, Halevy 192, 199 4 تاج العروس "1/ 522"، "أمت". 5 راجع النص الموسوم بـ: Halevy 352 6 تاج العروس "5/ 165"، "شحط".

أو كيل أو وزن. ويفهم ذلك المعنى من مكان الكلمة وموضعها في الجملة1. وأما وزن الأشياء، أي: تقدير مقدار ثقلها، فيختلف في الغالب باختلاف طبيعة الشيء المراد معرفة وزنه وتقدير ثقله؛ فإذا كان الشيء جافًّا قدر بمعايير خاصة، وإذا كان سائلًا قدر بمعايير أخرى, غير أن هذا التفريق لا يعد قاعدة عامة، وإنما يختلف باختلاف الأماكن والأعراف والعادات. فقد يزن بعض الناس المائعات بمعايير توزن بها الأشياء الجافة عند أناس آخرين، فالسمن مثلًا يوزن ويكال، والتمر يوزن ويكال، وهناك أمثلة عديدة أخرى من هذا القبيل2. وأما الأوزان، أي: معرفة الخفة أو الثقل للأشياء التي يراد وزنها لمعرفة مقدارها، فقد كانت توزن بوضعها في إحدى كفتي ميزان ووضع الأوزان في الكفة الثانية. وقد كانت للأوزان البابلية شهرة، وعليها كان اعتماد العبرانيين. والميزان الآلة التي يوزن بها, وقد ذكر علماء اللغة أسماء أجزاء الميزان. والميزان الذي كان يستعمله الجاهليون لا يختلف عن الميزان المستعمل عند الشعوب الأخرى. ويقوم الوزن على أساس المعادلة بين الكفتين3. ويظهر أن الجاهليين كانوا قد أخذوا الأوزان من العراق ومن بلاد الشام، واستعملوها كلها وبأسمائها الأصلية، وذلك بدليل ما نجده في أسماء هذه الأوزان التي استعملوها من مسميات بابلية أو آرمية وفهلوية ويونانية ورومانية. لقد أخذوها بتعاملهم مع أهل العراق ومع أهل بلاد الشام، وأدخلوا مسمياتها إلى لغتهم بعد إدخالهم بعض التحوير والتغيير عليها لتتناسب مع النطق العربي. وقد كان لا بد لهم من استخدام تلك الموازين كلها أو أكثرها على حد سواء؛ لأنهم تعاملوا وتاجروا مع العراق وبلاد الشام منذ القدم. فكان لا بد لهم من التعامل مع كل بلد بموازينه وبمقاييسه، ومن استعمال هذه الأوزان في بلادهم أيضا بحكم ذلك التعامل والاتجار، كما نستعمل اليوم الأوزان والمقاييس الأجنبية في التعامل عندنا بدلًا من الموازين والمقاييس القديمة.

_ 1 Rhodokanakis, Kata. Textile, II, S. 34 2 اللسان "14/ 125". 3 المخصص "12/ 263".

ومن الأوزان التي يعود أصلها إلى الروم: "الرطل"، وهو "Litra" عند اليونان, والأوقية وتقابل Ounguiya"" "ONCIA" عند البيزنطيين1. و"الدرهم"، وهو وحدة وزن، وقطعة نقد، من "Dhrakhmi"2, و"قيراط" وهو من ""Keration3. ومن وحدات القياس التي يعود أصلها إلى الفارسية: "الدانق"، فإنه من "دانك"، وهو سدس الدرهم4. وأما "المثقال" فمن أصل آرامي، من ""Matqolo5. والقسطاس: الميزان، ويعبر به عن العدالة، كما يعبر عنها بالميزان6. ويذكر العلماء أن القسطاس أقوم الموازين7, و"القسط" مكيال يسع نصف صاع, و"الفرق" ستة أقساط. وذكر بعضهم أن "القسط" أربعمائة وواحد وثمانون درهمًا, والقسط: الحصة من الشيء، والمقدار8. ويقاس الذهب بالوزن، وكذلك الفضة، فكان التجار يحملون معهم الموازين ليزنوا بها هذين المعدنين. وقد كان "الشاقل" هو وحدة القياس للوزن عند الجاهليين, ويقال في العربية: "شقل الدينار وشوقل الدينار، بمعنى: وزنه وعايره وصححه". وجاء أن الشقل: الوزن, يقال: اشقل لي هذا الدينار، أي: زنه9. واللفظة من الألفاظ البابلية التي دخلت إلى لغة بني إرم, وإلى العبرانية والعربية10. و"الحبَّة" من العيارات المستعملة عند الجاهليين والتي بقيت مستعملة في الإسلام كذلك، ولا تزال تستعمل. أما وزنها فاختُلف فيه باختلاف الأزمنة والأمكنة

_ 1 غرائب اللغة "254". 2 غرائب اللغة "258". 3 غرائب اللغة "267". 4 غرائب اللغة "227". 5 غرائب اللغة "176". 6 المفردات "413". 7 المخصص "12/ 263 وما بعدها". 8 تاج العروس "5/ 205"، "قسط". 9 اللسان "11/ 356"، القاموس "3/ 401". 10 غرائب اللغة "ص191"، برصوم، الألفاظ السريانية "ص97" Schrader, S 340

وقد قدرها بعضهم بعُشر الدانق1, وقدرها بعض آخر بسدس ثمن درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءًا من درهم2. والقيراط، هو نصف دانق. وذكر بعض العلماء أنه جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في بعض البلاد في الإسلام، وجزء من أربعة وعشرين في بلاد الشام3, وهو عند الروم جزء من أربعة وعشرين من أجزاء شيء. وهو من أصل رومي هو ""Keration4, ويظهر أن وزنه لم يكن ثابتًا، بل اختلف باختلاف البلدان5. و"المثقال" من الأوزان القديمة عند العرب، وقد وردت لفظة "مثقال" في القرآن الكريم بمعنى مقدار ووزن6. ويظن بعض المستشرقين أن "المثقال" من أقدم المعايير عند العرب، ويستعمله العطارون والصيارفة وباعة اللؤلؤ والحجارة الثمينة. وهو عبارة عن اثنتين وسبعين شعيرة, وفي بعض الموارد: المثقال: عشرون قيراطًا, وهو يقابل الـ"Solidus" عند الروم على وفق النظام الذي أقره القيصر "قسطنطين" "Costantine", وهو نظام اتبع في بلاد الشام وأقره العرب واستعملوه7. واللفظة من الألفاظ المعربة عن الآرمية من أصل "متقولو" "Matqolo" على بعض الآراء8. والأوقية من الأوزان التي كانت مستعملة في الجاهلية. وقد اختلف العلماء في ضبط وزنها وتعيين مقداره؛ فقال بعضهم: هي سبعة مثاقيل، وإنها أربعون درهمًا, وقال بعض آخر: هي أربعون درهمًا. وقد ورد في الحديث: "ليس فيما دون خمس أواقٍ من الوَرِقِ صدقة"9, وفي حديث النبي، أنه لم يصدق امراة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش. قال مجاهد: الأوقية: أربعون درهمًا،

_ 1 تاج العروس "5/ 205"، Ency., II, p. 185. 2 القاموس "3/ 330"، تاج العروس "5/ 180"، "دنق". 3 اللسان "7/ 375"، "قرط". 4 غرائب اللغة "ص267". 5 تاج العروس "5/ 203"، "قرط". 6 تاج العروس "7/ 245"، "ثقل". 7 Ency., III, p. 558 8 غرائب اللغة "176". 9 تاج العروس "10/ 396"، "وقى".

والنشُّ عشرون1, وهي تقابل "Uncia" عند الروم. و"البزمة" وزن ثلاثين درهمًا2. وقد أشير في الحديث إلى "نواة من ذهب"، وقد جعل بعض العلماء النواة زنة، وقال بعض آخر: النواة من العدد عشرون أو عشرة، أو هي الأوقية من الذهب أو أربعة دنانير أو ما زنته خمسة دراهم أو ثلاثة دراهم ونصف أو ثلاثة دراهم وثلث3. وقد كان الجاهليون يبايعون الذهب والفضة بالأوزان التي ذكرتها مثل: النواة والحبة والشعيرة والمثقال والأوقية. ولما جاء الرسول المدينة وجد أهلها يبايعون اليهود الوقية من الذهب بالدنانير، فقال لهم: "لا تبيعوا الذهب الذهب إلا وزنًا بوزن"4. وأما الرطل، فإنه في مقابل "Litra" في اليونانية، و"Libra" في اللاتينية, وهو قدر نصف "منّ", وهو من الأوزان المعروفة عند الجاهليين. وذكر أن الرطل الجاهلي هو ضعف الرطل الإسلامي، وقد اختلف وزنه عند المسلمين باختلاف الأماكن والمواضع والناس5. وذكر بعضهم: الرطل اثنتا عشرة أوقية بأواقي العرب، والأوقية أربعون درهمًا, فذلك أربعمائة وثمانون درهمًا6. وأما "المن"، "Mna" "Maneh" "MINA" "MnH" "MANA" "منا" و"منو" "Mnu" في البابلية، فإنه خمسة عشر شاقلًا، وعشرون شاقلًا, وخمسة وعشرون شاقلًا، أي: إنه ورد في ثلاثة أوزان, فعرف كل وزن من هذه الأوزان الثلاثة باسم "من"7. وهو معروف عند قدماء اليونان، وعند السريان8, وهو من الأوزان المعروفة عند العرب الجاهليين.

_ 1 اللسان "15/ 404"، "صادر"، "وقى"، تاج العروس "8/ 202"، "بزم". 2 تاج العروس "8/ 202"، "بزم". 3 تاج العروس "10/ 219"، عمدة القاري "11/ 164". 4 صحيح مسلم "5/ 46 وما بعدها". 5 Ency., III, p. 1129 6 تاج العروس "7/ 346"، "رطل". 7 قاموس الكتاب المقدس "2/ 425"، Hastings, p. 970, Shrader, Keil. Und das alte Testment, S. 338 8 غرائب اللغة "270".

وقد ذكر علماء اللغة أنه كيل أو ميزان وهو رطلان1. والقنطار وزن أربعين أوقية من ذهب، وقيل: ألف ومائتا دينار، وقيل: ألف ومائتا أوقية، وقيل: سبعون ألف دينار، وقيل: ثمانون ألف درهم، وقيل: مائة رطل من ذهب أو فضة. وزعم بعض علماء اللغة أنه سرياني، وزعم آخرون أنه عربي2. ويظهر أنه لاتيني الأصل, وأنه من أصل "Centenarium Pondus" أي: وزن يساوي مائة ضعف وزن آخر3. وقد اختلف العلماء في القنطار، وقد ذكر العلماء آراءهم فيه, ويظهر أنهم كانوا قد اختلفوا فيه في الجاهلية كذلك، وسبب ذلك على ما يظهر أنهم استعملوه وزنا، أي معيارا، واستعملوه ثمنا، أي بمقدار ما يعادله بالذهب والفضة، وبالنقد، ثم بالمقايضة، مثل قولهم: إنه ملء ثور ذهبًا أو فضة4. وقد ذكر في الآية: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} 5, وفي الآية: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} 6, وورد: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} 7. وفي الإشارة إلى القنطار في القرآن الكريم دلالة على استعماله في الحجاز, وربما في أماكن أخرى من جزيرة العرب كذلك. والقناطير جمع قنطار, ومعنى القناطير المقنطرة: المال الكثير من الذهب والفضة، والمال الكثير بعضه على بعض. ويظهر من اختلاف المفسرين وسائر العلماء في مقدار القنطار أن العرب لا تحد القنطار بمقدار معلوم من الوزن, ولكنها تقول: هو قدر ووزن؛ لأن ذلك لو كان محدودًا قدره عندهم, لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كل هذا الاختلاف8. والمُدّ مكيال، وهو رطلان أو رطل وثلث أو ملء كفي الإنسان المعتدل،

_ 1 تاج العروس "9/ 350"، "منن"، برصوم "121". 2 المخصص "12/ 266". 3 غرائب اللغة "279"، Ency., II, p. 1022 4 تاج العروس "3/ 509"، "قنطر". 5 آل عمران: الآية 75. 6 النساء: الآية 19. 7 آل عمران: الآية 14. 8 تفسير الطبري "3/ 130"، "طبعة بولاق".

إذا ملأهما ومد يده بهما، وبه سمي مُدًّا1. وقيل: هو ربع الصاع؛ لأن الصاع أربعة أمداد. وقد اختلف في مقدار المد في الإسلام، وقد ورثوا ذلك من الجاهلية، فقد اختلفوا في مقداره أيضا باختلاف مواضعهم2. والصاع من المكاييل التي كان يستعملها أهل الحجاز عند ظهور الإسلام, وقد عرف خاصة عند أهل المدينة, ويأخذ أربعة أمداد, وهو يأخذ من الحبّ قدر ثلثي الصاع في بعض الأماكن, وكان لأهل المدينة صيعان مختلفة. وورد صاع المدينة أصغر الصيعان, كما ورد في كتب الحديث والفقه، صاع النبي وصاع عمر3, وقد كالوا به التمر والحبوب4. وقد اختلف العلماء في مقداره في الإسلام, ومرد ذلك إلى الجاهلية الذين كانوا يختلفون في تقدير الصاع. وذكر المفسرون أن "صواع الملك"، أو "صاع الملك" حسب قراءة "أبي هريرة" كناية عن الصاع الذي يكال به الطعام, وذكر أنه الإناء الذي يكال به الطعام، وإناء يشرب فيه، وكان يشرب منه الملك، وهو من فضة. وكان للعباس في الجاهلية واحد، وهو المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه، كانت تشرب فيه الأعاجم5. والقفيز من المكاييل القديمة المستعملة لتقدير كميات الأشياء الجامدة، ويتسع لنحو عشرة "جالونات"، وأصله من المكاييل البابلية. وقد ذكره المؤرخ "أكسينيفون"6، وهو عند العرب أصغر من القاب ""Cub7. والوسق من المكاييل التي كان يستعملها العرب قبل الإسلام كذلك. قيل: هو ستون صاعًا, وقيل: هو حمل بعير, وقيل: الوسق مائة وستون منًّا, وقال الزجاج: خمسة أوسق هي خمسة عشر قفيزًا, وكل وسق بالملجم هو ثلاثة أقفزة. وقيل: إن الوسق ستون صاعًا, وهو ثلاثمائة رطل وعشرون رطلًا عند

_ 1 القاموس "1/ 337"، تاج العروس "2/ 498"، "مدد". 2 تاج العروس "2/ 498"، "مدد". 3 عمدة القاري "11/ 247 وما بعدها"، جامع الأصول "1/ 374"، المخصص "12/ 264"، اللسان "10/ 82"، تاج العروس "5/ 423"، "صاع". 4 صحيح مسلم "5/ 6 وما بعدها". 5 تفسير الطبري "13/ 13"، تفسير القرطبي "9/ 230". 6 Anabasis, I, 5 7 J. Abermyer, Die Landschaft Bobylonien, s. 221. ff, 241

أهل الحجاز, وأربعمائة رطل وثمانون رطلًا عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمد. والأصل في الوسق الحمل, وقيل: الوسق: العِدْل، وقيل: العدلان، وقيل: هو الحمل عامة1. واستعملوا الحمل كيلًا، وقد رأينا أن بعضهم عرَّف الوسق بأنه عدل أو عدلان، وهو مقدار ما يحمله الحيوان. وبهذا المعنى وردت لفظة "الوقر" وتطلق على حمل البغل أو الحمار أو البعير2، فهو شيء تقديري غير مضبوط تمامًا. وقد ورد في القرآن الكريم: {كَيْلَ بَعِيرٍ} 3؛ وذلك تعبيرًا عن حمل بعير، وهو مقدار ما يحمل, كما ورد فيه: {حِمْلُ بَعِيرٍ} في المعنى نفسه4. ولا يزال العرف جاريًا بين أهل القرى والبادية في البيع "حمولًا"، جمع: "حمل"، وهو حمل "بعير" أو حمار أو غير ذلك من الدواب التي تنقل الشيء الذي يراد بيعه مثل الملح أو "العوسج" أو "العاقول" أو "حطب البادية" أو الزرع إلى الأسواق، فتباع حملا لا وزنا، ويشتريه المشترون على هذه الصفة. وذكر علماء اللغة، أن الكر مكيال لأهل العراق، وقد أشير إليه في كتب الحديث, وذكر أنه ستة أوقار حمار، وهو عند أهل العراق ستون قفيزًا. والقفيز ثمانية مكاكيك, والمكوك صاع ونصف, وهو ثلاث كيلجات. وذكر "الأزهري" أنه اثنا عشر وسقًا، كل وسق ستون صاعًا أو أربعون إردبًّا بحساب أهل مصر5. وهو "كور" في لغة بني "إرم"، ويعادل عند أهل بابل وقر ستة حمير6. وذكر علماء اللغة أن "المكوك" طاس يشرب به, أعلاه ضيق ووسطه واسع، والصاع كهيئة المكوك, وكان للعباس مثله في الجاهلية يشرب به. وقد ورد في الحديث أن الرسول كان يتوضأ بمكوك. ويسع صاعًا ونصفًا، أو نصف رطل

_ 1 اللسان "12/ 258"، المخصص "12/ 265 وما بعدها"، المفردات "545"، تاج العروس "7/ 89"، "وسق". 2 اللسان "12/ 258"، المخصص "12/ 260". 3 سورة يوسف، الآية 65. 4 يوسف، الآية 72. 5 شرح القاموس "3/ 519"، اللسان "5/ 137". 6 J. Obermeyer, S. 241

إلى ثماني أواقٍ، أو يسع نصف الويبة، والويبة اثنان وعشرون، أو أربع وعشرون مدًّا بمد النبي، أو هو ثلاث كيلجات، وهو صاع ونصف. والكيلجة تسع منًّا وسبعة أثمان منا, والمنا: رطلان، والرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أستار وثلث، والأستار أربعة مثاقيل ونصف، والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم، والدرهم ستة دوانق، والدانق قيراطان، والقيراط طسوجان، والطسوج حبتان، والحبة سدس ثمن درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءًا من درهم. وذكر أن الكر: ستون قفيزًا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف، وهو ثلاث كيلجات1. والكيلة مقياس استعمله العبرانيون والجاهليون؛ وهي "Seah"، و"Saton", في اليونانية "Modius"، وهي تختلف باختلاف اصطلاح الأمم. فالكيلة العبرانية كبيرة بالقياس إلى الكيلة الرومانية، وهي تعادل كيلة وربع كيلة رومانية. وتبلغ ثلث "الأيفة"2, وتعادل اثنين وعشرين ""Sextari3, وتستعمل في وزن المواد الجامدة مثل الحبوب. وأما "الأيفة" "Ephah"، فكلمة مأخوذة من اللغة المصرية، ترد كثيرًا في العهد القديم, وهي تعادل ثلاث كيلات "Seah". وتستعمل لقياس المواد الجافة فقط، وتقابل "Atrabe"، و"Metretis" عند اليونان، وهي مجزأة إلى عشرة أجزاء، يقال للجزء الواحد: "العمر" "عومير" "أومير" "Omer"، أو الكومة, ويقال له "عشر" "Issaron" أيضا4. وتقسم إلى ستة أقسام, كذلك يطلق على كل قسم اسم "سدس"5. ولعل لأومير "عومير" "Omer"، صلة بـ"الغمر" عند الجاهليين. وهو عندهم قدح صغير يتصافن به القوم في السفر، إذا لم يكن معهم من الماء

_ 1 تاج العروس "7/ 180"، "مكَّ". 2 التكوين, الإصحاح 18، الآية 6، والإصحاح الثالث عشر، الآية 21، قاموس الكتاب المقدس "2/ 281"، تاج العروس "8/ 107"، "كيل". 3 Hastings, p. 969 4 الخروج، الإصحاح السادس عشر، الآية 36، الخروج، الإصحاح التاسع والعشرون، الآية 40، الكتاب المقدس "2/ 281"، Hastings, p. 969 5 Hastings, p. 969

إلا يسيرًا على حصاة يلقونها في إناء ثم يصب فيه من الماء قدر ما يغمر الحصاة فيعطاها كل رجل منهم. وقيل: هو "القعب" الصغير يحمله الراكب معه، يعلقه على رحله, وقيل: الغمر: أصغر الأقداح. قال أعشى باهلة يرثي أخاه المنتشر بن وهب الباهلي: تكفيه حزة فلذان ألم بها ... من الشواء ويروي شربه الغمر والغمر يأخذ كيلجتين أو ثلاثًا، والقعب أعظم منه، وهو يروي الرجل1. و"الكيلجة" مكيال3. و"الكر" من المكاييل المستعملة عند العبرانيين, وذكر علماء اللغة أن الكُرَّ مكيال لأهل العراق, وقد أشير إليه في كتب الحديث والفقه. ويظهر أنه مكيال للمائعات؛ ورد: إذا كان الماء قدر كرّ لم يحمل القذر, ومكيال للجوامد أيضا. وهو ستة أوقار حمار، وهو عند أهل العراق ستون قفيزًا, والقفيز ثمانية "مكاكيك", والمكوك صاع ونصف، وهو ثلاث كيلجات. وذكر الأزهري أنه اثنا عشر وسقًا، كل وسق ستون صاعًا أو أربعون إردبًّا بحساب أهل مصر4. واستعمل الجاهليون "الزق", وحدة عامة لوزن المائعات. فورد: "زق خمر" مثلا, ويستعمل خاصة في الخمور5. وقد عثر على عدد من قطع الأوزان المصنوعة من الحديد وبعضها من برنز، وقد استعملت في وزن الأشياء, وقد تأثر بعضها بالعوارض ولعبت الأيدي ببعض آخر. ونأسف على عدم وقوفنا وقوفًا تامًّا على أسماء الأوزان ومقدار ثقلها؛ لعدم وصول عدد كافٍ منها إلينا عليه كتابة تشير إلى اسمه ومقدار وزنه، ولعل الأيام تجود علينا منها بما يحقق لنا هذه المعرفة. أما "الصُّبرة": فما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن بعضه فوق بعض,

_ 1 تاج العروس "3/ 454"، "غمر". 2 بكسر الكاف وفتح اللام. 3 تاج العروس "2/ 91"، "كلج". 4 تاج العروس "3/ 519"، "كر". 5 تاج العروس "6/ 271".

فهي: الطعام المجتمع كالكومة1. ومن ذلك بيع "الصبرة" من التمر, وقد نهى الإسلام عن هذا النوع من البيع2. والفالج والفلج مكيال ضخم، وقيل: هو القفيز. وقد ذكر بعض الباحثين أنه سرياني الأصل، وأن أصله "فالغا" فعرب. قال الجعدي يصف الخمر: ألقى فيها فلجان من مسك دا ... رين وفلج من فلفلٍ ضرم ومن هنا يقال للظرف المعدِّ لشرب القهوة وغيرها: "فلجان"، والعامة تقول: فنجان3. و"الطسق" مكيال أيضا4, وهو من أصل فارسي، وذكر أنه مكيال لكيل الزيوت وكل أنواع الدهن5, وهو ضريبة الأرض كذلك، أي: في معنى خراج في الإسلام. كتب عمر إلى "عثمان بن حنيف" في رجلين من أهل المدينة أسلما: ارفع الجزية عن رءوسهما وخذ الطسق من أرضيهما6. والفرق: مكيال بالمدينة اختلف فيه؛ فقيل: يسع ستة عشر مدًّا، وذلك ثلاثة آصع، أو يسع ستة عشر رطلًا، وهي اثنا عشر مدًّا وثلاثة آصع عند أهل الحجاز, أو هو أربعة أرباع. وقيل: الفرق خمسة أقساط، والقسط نصف صاع, وقيل غير ذلك7. وذكر أن "الفرق" هو مكيال لأهل اليمن، وقد ذكر في عهد الرسول لقيس بن مالك بن سعد بن لؤي الأرحبي الهمداني، إذ جاء فيه: "وأطعمه ثلاثمائة فرق من خيوان، مائتا زبيب وذرة شطران ومن عمران الجوف مائة فرق بُرّ"8. وقد ذكر بعض علماء اللغة اسم مكيال من مكاييل أهل اليمن دعوه "الذهب"، ويجمع على: أذهاب9.

_ 1 اللسان "4/ 441"، "صادر". 2 صحيح مسلم "5/ 9 وما بعدها". 3 تاج العروس "2/ 87"، "فلج". 4 اللسان "10/ 225". 5 غرائب اللغة "238". 6 تاج العروس "6/ 423"، "الطسق". 7 تاج العروس "7/ 43"، "فرق". 8 ابن سعد، الطبقات "1/ 341"، "وفد همدان". 9 المخصص "12/ 264".

ومن المكاييل المذكورة في التوراة والمعروفة عند الجاهليين كذلك، والتي تكال بها الأشياء الجافة: "القبضة"، أي: كومة اليد, والكومة كيلة عند الشعوب الأخرى وهي بمعنى "صبرة". ولا يزال البدو يستعملونها، ولكنها ليست من المكاييل الرسمية، بل هي في الواقع كيلة عرفية, وهي تختلف في المقدار والكمية بحسب اتساع قبضة اليد1, وقد كان الجاهليون يكوِّمون ما يريدون بيعه بالتكوم كومًا، ولا زال هذا البيع معروفًا. وقد كان أهل الجاهلية يبيعون قبضة من التمر، أو قبضة من السويق أو الدقيق، وذلك بحسب ما تقبضه اليد، أي: كف منها2.

_ 1 اللآويون: الإصحاح الثاني، الآية الثانية "كومة من ذهب وكومة من فضة"، تاج العروس "9/ 52"، "كوم". 2 تاج العروس "5/ 74"، "قبض".

فهرس الجزء الرابع عشر

فهرس الجزء الرابع عشر الفصل الثاني بعد المائة القوافل 5 الفصل الثالث بعد المائة طرق الجاهليين 19 الفصل الرابع بعد المائة الأسواق 53 الفصل الخامس بعد المائة البيع والشراء 75 الفصل السادس بعد المائة الشركة 94

الفصل السابع بعد المائة المال 103 الفصل الثامن بعد المائة أصحاب المال 126 الفصل التاسع بعد المائة الطبقة المملوكة 141 الفصل العاشر بعد المائة الإتاوة والمكس والأعشار 160 الفصل الحادي عشر بعد المائة النقود 175 الفصل الثاني عشر بعد المائة الصناعة والمعادن والتعدين 193

الفصل الثالث عشر بعد المائة حاصلات طبيعية 218 الفصل الرابع عشر بعد المائة الحرف 231 الفصل الخامس عشر بعد المائة قياس الأبعاد والمساحات والوزن والكيل 308 الفهرست 327

المجلد الخامس عشر

المجلد الخامس عشر الفصل السادس عشر بعد المئة: الفن الجاهلي العمارة ... الفصل السادس عشر بعد المائة: الفن الجاهلي العمارة: لظهور الفن وازدهاره في مكان ما لا بد من توفر تربة خصبة فيه تمونه بالمواد الأولية اللازمة، ولا بد من وجود جو يساعد على نمو بذوره وإنمائها وازدهارها. وجزيرة العرب أرض كما نعلم غلب عليها الجفاف وتحكمت فيها أشعة الشمس المحرقة والسموم الحارة الجافة، وهي ذات جو مشرق صاف صاحٍ في الغالب، ولكنه جاف يابس، لا تبكيه السماء في الغالب إلا بمقدار، فإذا سالت دموعه، انهمرت انهمارًا وتحولت إلى سيول جارفة عارمة سرعان ما تختفي وتزول، بأن تغور في باطن الأرض، وقد تنزل الأمطار نزولًا لا بأس به، فتخضر الأرض وتنبت الأزهار والأعشاب، وتضحك ويضحك الناس معها، وتهيج قرائحهم لفرحهم وطربهم من حصولهم على هذه النعمة الكبرى، التي لا تدوم طويلًا، وهذا أمر يؤسف له، أو قد لا تعود إليهم ثانية إلا بعد أجل، لانحباس البخار مولد المطر، فيلجأ المخلوق إلى خالقه يتوسل إليه أن يغيثه بإنزال الغيث عليه بكل الوسائل التي يتوصل إليها عقله لإقناعه آلهته بإنزال المطر ليغيث الإنسان والحيوان والنبات. ولظهور العمارة وفن النحت والزخرف، لا بد من وجود أحجار صالحة للبناء أو للنحت والحفر، حتى يكون في إمكان المعمار أو النحات تحويلها إلى أبنية أو

أصنام وتماثيل أو ما شاكل ذلك. وأرض سهلة لا حجر طبيعي فيها لا يمكن أن يظهر فيها بناء أو فن إلا إذا كانت قريبة من مواطن الحجر أو من مواطن الحضارة حيث تستوردها عندئذ من تلك الأماكن. لذا نجد الفن الجاهلي قد تركز وانحصر وبرز في العربية الغربية وفي العربية الجنوبية وفي المواضع القريبة من مواضع الحجر ومن أهل المدر في الغالب. وفي اليمن أنواع من الأحجار الصالحة للبناء وللنحت، كما توفرت فيها، المواد المساعدة الأخرى التي تدخل في إنشاء العمارات مثل الجبس. ولهذا قامت فيها بيوت مرتفعة ذات طوابق متعددة، ولا يزال أهل اليمن وبعض أهل المواضع الأخرى من العربية الجنوبية يبنون البيوت والقصور المرتفعة السامقة، وما كان بوسعهم ذلك لولا وجود المواد الصالحة للبناء، التي تستطيع البقاء ومقاومة الطبيعة أمدًا1. وبفضل المواد المذكورة بقيت أبنية من أبنية الجاهليين اليمانيين إلى الإسلام, بقيت محافظة على نفسها وعلى شكلها العام، ولولا يد الإنسان التي لعبت بها وخربت أكثرها لبقيت أزمنة طويلة أخرى ولا شك. ولو كانت تلك الأبنية قد بنيت بالطابوق أو باللبن وبالمواد المستعملة في البناء في وسط وجنوب العراق، لما تمكنت من البقاء طويلًا؛ لأنها مواد لا تتحمل معاركة الطبيعة زمانًا طويلًا، لذلك تنهار بسرعة إذا لم ترعاها يد الإنسان دومًا بالإصلاح والتعمير2. وقد ساعدت وفرة الرخام والحجارة الصلدة في اليمن في التعويض عن استعمال الخشب القوي الصلد في البناء فاستعمل المعماريون الأعمدة العالية الجميلة ذوات التيجان في رفع السقوف وفي إقامة الردهات الكبيرة وفي "الطارمات" أمام الأبنية، وفي واجهات المعابد بصورة خاصة، استعملوها بدلًا من الخشب الذي لا يتحمل الثقل كما يتحمله الحجر، والذي لا يعمر طويلًا كما يعمر الحجر. وبفضل هذه الحجارة استطاع المعماريون أن يستفيدوا من الماء بإقامة السدود القوية التي تتحمل ضغط السيول العالي عليها، وهذه ميزة لا نجدها بالطبع في العراق. وقد ساعدت طبيعة اليمن عامل البناء في نحت الحجر وقطعه وصقله وتكييفه بالشكل الذي يريده. وتمكن بذلك من وضع أحجار مصقولة بعضها فوق بعض

_ 1 140.A.Grohmann ,S 2 140 A.Grohmann ,S.

لتكوين أعمدة منها أو جدر معبد أو حيطان سدود أو قصور بحيث يوضع حجر فوق حجر، فيجلس فوقه بصورة يصعب على الإنسان أن يتبين منها مواضع اتصال الحجر بعضه ببعض. ولولا وجود الحجر الجيد لديه لما تمكن من القيام بإنشاء الأبنية الضخمة المؤلفة من جملة طوابق والتي قاومت الدهر، ولكان بناؤه من الطابوق، أي: من اللبن الذي حُجّر بالنار، والطابوق لا يمكن أن يقوم مقام الحجر في البناء، ولا أن يقاوم الطبيعة وأن يعمر طويلًا. ونظرًا لصغر حجمه بالنسبة إلى الحجر، ولضرورة ربطه بعضه ببعض بمادة ماسكة مثل الجبس فإن البناء به لا يمكن أن يكون متينًا، ولا يمكن أن يقاوم الرطوبة والعوامل الجوية الأخرى، فيتآكل ويتداعى، ولا سيما في المواضع السهلة ذات الرطوبة، أو التي تتساقط عليها الأمطار بكثرة، فتكون سيولًا عارمة تكتسح ما تجده أمامها من أبنية مبناة بمادة غير متينة متانة الحجر. وتفيدنا دراسة المباني اليمانية في الزمن الحاضر فائدة كبيرة في تكوين فكرة عن البناء عن أهل اليمن قبل الإسلام. ففي هذا البناء الذي نراه عناصر عديدة لا تزال حيّة باقية، هي من بقايا البناء اليماني الجاهلي. وما قاله "الهمداني" في صفة بعض المباني والقصور الجاهلية التي كانت قائمة في أيامه ثم زالت، ينطبق على أوصاف القصور والمباني القائمة الآن، كما أن في دراسة أسماء أجزاء البناء وما يستعمل فيه فائدة كبيرة في حلِّ كثير من المعضلات الفنية المتعلقة بفن العمارة عند الجاهليين. وقد زال أكثر المباني الجاهلية، ويا للأسف، بسبب اعتداء الإنسان بجهله عليها. فقد حمله كسله وجهله على تدمير تلك الأبنية، لاستعمال حجارتها في بناء بيوت جديدة ولأغراض أخرى. ونجد في الأبنية الحديثة، وأكثرها أبنية رديئة قبيحة بالقياس إلى القصور القديمة، حجارة ضخمة، بعضها مكتوب عليها كتابة كاملة انتزعت من الأبنية الجاهلية، وبعضها ناقص الكتابة لتلف الكتابة المكملة أو لنقلها إلى موضع آخر. ونجد حجارة مكتوبة وقد طليت بالجبس، لإعطاء الجدار الذي دخلت فيه وجهًا أملس. ونجد في الكتب القديمة مثل كتب الهمداني إشارات إلى مثل هذه الأعمال، التي ما تزال جارية مستمرة بالرغم من قرار الحكومات المعنية بمنع هذه الأعمال. وقد حطمت تماثيل جميلة عثر عليها بين الرمال ولا تزال تحطم؛ لأنها في نظر العاثرين عليها أصنام لقوم كفرة، وتماثيل قوم ممسوخين

غضب الله عليهم، فلا يجوز الاحتفاظ بها، فهشمت وعبث بها، وبذلك خسر العرب كنوزًا فنية وذخائر لا تقدر بثمن، كان في وسعنا الاستفادة منهما في تدوين تأريخ الجاهليين. وقد حطمت ودمرت قصور عظيمة في اليمن، بقيت بعضها قائمة إلى الإسلام، مثل قصر "غمدان" بصنعاء. الذي يبالغ أهل الأخبار في وصف ارتفاعه وضخامته، وقد كان مؤلفًا من طبقات بعضها فوق بعض، ثم هدم وقلّ في الإسلام، أمر الخليفة "عثمان" بهدمه، فزالت معالمه، ولو بقي إلى اليوم لكان من المفاخر1، ومثل المعابد الضخمة، وقصور الأسر الحاكمة، مثل قصر "شمر" بذي ريدان، وأبنية أخرى قوضت لأسباب عديدة، فضاع بذلك علينا تراث مهم. وفعل مثل ذلك في الأبنية الأخرى. ففي العراق مثلًا، هدمت قصور الحيرة وبيوتها، لاتخاذ حجارتها مادة لبناء الكوفة، و"وجد في قراطيس هدم قصور الحيرة التي كانت لآل المنذر، أن المسجد الجامع بالكوفة بني ببعض نقض تلك القصور، وحسبت لأهل الحيرة قيمة ذلك من جزيتهم"2. وقد أضاعت علينا هذه الأعمال معالم قيّمة من تراث الجاهليين. وقد هدم قصر "يهر" "ذي يهر" ببيت حنبص، وهو أثر جاهلي مهم، بقي قائمًا إلى حوالي سنة "295" للهجرة، فأمر بإحراقه "ابن أبي الملاحف" القرمطي، فأحرق، وظلت أخشابه تحترق أربعة أشهر على ما يزعمه الرواة، مبالغة منهم بالطبع3. ولأهل اليمن عادات جميلة أفادتنا فائدة طيبة، وذلك بوضعهم على الجدر حجارة مكتوبة تحمل اسم الدار أحيانًا واسم صاحبها واسم الإله الذي تبرك صاحب المبنى بتقديمه إليه تيمنًا به، حتى الترميمات والإصلاحات التي يقوم بها أصحاب البناء تدون على هذه الحجارة، ولا سيما الترميمات والإصلاحات التي تدخل على المعابد والمباني العامة، تعين عليها بدقة تامة، فيذكر الموضع الذي ابتدأ به والموضع الذي انتهى منه، ويذكر مقدار ما صرف عليه في بعض الأحيان.

_ 1 تاج العروس "2/ 446"، "غمد". 2 البلاذري. فتوح البلدان "284". 3 الأكليل "1/ 12" "حاشية رقم1".

ومن هذه الكتابات أخذ معظم علمنا بتأريخ اليمن القديم. ويظهر أن أهل الحجاز لم يكونوا على شاكلة أهل اليمن في بناء البيوت الضخمة من الحجارة والمواد البنائية الأخرى التي يعمّر بها البناء عمرًا طويلًا، بدليل ما نشاهده في اليمن وفي مواطن أخرى من الجزيرة العربية من بقايا معابد ومبانٍ ضخمة، وعدم وجود شيء من ذلك في الحجاز، وبدليل ما أورده أهل الأخبار من قصص عن مباني اليمن العادية، وما شاهدوه من بقاياها في أيامهم هناك، وهي تتحدث عن فن عمراني متقدم، على حين خلت أخبارهم من هذا القصص عن الحجاز، بل يظهر منها أن أكثر أبنية مكة ويثرب لم تكن إلا أبنية صغيرة ضيقة، أكثرها من اللبن أو الطين، وقد عرشت بجريد النخل وبالعيدان وبالأخشاب المحتطبة من التلال والجبال. وقد عرفت بيوت أهل الحاجة في مكة بـ"عروش مكة"1. وقد امتازت "يثرب" عن مكة بوجود "الأطم" بها، والأطم، هي قصور تتكون من طابقين في الغالب، أو ثلاثة طوابق، تكون ضخمة نوعًا ما يعيش فيها سادتها، وتكون حصونًا لأهل المدينة يتحصنون بها عند دنو خطر عليهم، ويحمون أموالهم بها. وقد بنيت بالآجر وباللبن أحيانًا، وبالطين أحيانًا أخرى، حيث تجعل الجدر عريضة، لتقف صامدة أمام الدهر وأمام المهاجمين، وتتخذ في أعلى الأطم مواضع يقف عليها المدافعون لرشق المحاصر بالسهام، أو بالحجارة، وبصب الماء الحار أو النار عليه إن قرب من جدار الأطم. وقد اتخذت الأطم في يثرب، لعدم وجود سور حولها يحميها من الأعداء، ولكونها مكشوفة، لا تحميها حواجز طبيعية، يتحصن بها أهل المدينة عند دنو الخطر منهم، فلم يجدوا أمامهم من وسيلة سوى بناء هذه الأطم للدفاع عن أنفسهم، على نحو ما فعل أهل الحيرة في مدينتهم، حيث بنوا القصور. وتوجد في أعالي يثرب إلى فلسطين بقايا حصون وقصور ومواضع قديمة، كانت آهلة عامرة، أما الآن فلم تبق منها غير بقية آثارها، وهي لا تزال مادة "خامًا" لم تكتشف، ولم تدخلها بعثات علمية منتظمة، وتشاهد عندها بعض

_ 1 المغرب "2/ 37"، "عروش مكة، بيوتها؛ لأنها كانت عيدانًا تنصب ويظال عليها"، شرح القاموس "4/ 322".

أحجار مكتوبة، بقلم مشتق من المسند، وبلهجات عربية تختلف عن لهجة "ال"، أي: عن العربية التي نزل بها القرآن، مما يدل على أنها كانت في الأصل لقبائل كانت لهجاتها لا هي عربية جنوبية ولا هي عربية من عربية أهل البوادي، ولكنها كانت متأثرة بالثقافة التي تدون بالقلم المسند، ثم تأثرت بلغة الأعراب الذين جاءوها من البوادي وذلك قبيل الإسلام، فنزلت هذه المواضع، وزاحمت أهلها، ثم غلبتهم على أمرهم، فاختفت اللهجات العربية القديمة، وحلت محلها لهجة "ال". وسيجد المنقبون الذين سينقبون في المستقبل في هذه المواضع آثارًا ستحدد لهم الاتجاهات الثقافية والحضارية التي دخلت جزيرة العرب، واللغات التي كانت سائدة فيها. وفي المسند مصطلحات كثيرة خاصة بالبناء وبالآلات والمواد التي تستعمل فيه، وفي أجزاء البناء. واللهجات العربية الجنوبية هي أغنى بمصطلحات البناء من العربية التي نزل بها القرآن الكريم؛ وذلك لأن أهل العربية الجنوبية كانوا حضرًا في الغالب وأهل مدر، حتى إن أعرابهم كانوا يقيمون في أكواخ وعشش ثابتة مستقرة. لهذا كثرت في لغتهم ألفاظ الحضارة التي تقوم على الإقامة والاستقرار. وظهرت عندهم ألفاظ لمواد تستعمل في البناء مثل أنواع الصخور والحجارة، وكيفية قطعها، وأنواع الخشب المستعمل فيه، وآلات القطع أو آلات المعمار وغير ذلك من مصطلحات لا نجد لها مقابلًا في هذه العربية التي نتكلم بها؛ وذلك لأن حضارة البناء التي ظهرت في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية للأسباب المذكورة لم يظهر ما يماثلها في المواضع الأخرى من جزيرة العرب، حيث قام عمرانها على المدر بالنسبة للحضر أي: على الأبنية المتخذة من المدر أو من اللبن أو من الآجر. ومثل هذه الأبنية، لا تحتاج إلى مصطلحات وإلى آلات كثيرة، ولما كانت الحاجة هي أم الاختراع في اللغات، لذلك قلَّت مصطلحات العمران في اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، بينما كثرت فيها مصطلحات أهل الوبر ومصطلحات البداوة، في مثل أجزاء الخيمة وما يتعلق بحياة الفرس والجمل. حيث قصرت دونها هنا لغة المسند. وقد درس الآثاريون في الأيام المتأخرة موضوع الفن العربي الجنوبي ووضعوا بحوثًا فيه، استندت على الملاحظات والدراسات التي قاموا بها في مواطن الآثار أو من ملاحظاتهم للقطع الأثرية وللصور التي أخذت لها. وقد وجد بعضهم مثل

الباحثة "جاكلين بيرين" "Jacqueline Pirenne"، أن الحضارة العربية الجنوبية إنما برزت وظهرت في القرن الخامس قبل الميلاد، برزت بتأثير الحضارة اليونانية –الفارسية عليها. وقد زعمت أن القلم العربي الجنوبي أخذ من القلم اليوناني في ابتداء القرن الخامس قبل الميلاد، وأن عناصر الحضارة العربية الجنوبية، وخاصة الفن منها مثل النحت والعمارة، قد غرفت من مناهل يونانية - فارسية. أما ما قبل هذا الوقت، فلم يكن لشعوب الشرق الأدنى أي أثر حضاري أو ثقافي على أهل العربية الجنوبية1. وقد درست باحثة أخرى موضوع الفن العربي الجنوبي، هي "برتا سيكال" "Berta segal". ذهب اجتهادها بها إلى أن هنالك مؤثرات حضارية خارجية أثرت على الحضارة العربية الجنوبية، وأرجعت هذه المؤثرات إلى أثر يوناني هيلليني، وأثر سوري حثي وأثر فينيقي وإلى عناصر حضارية أخرى. وذكرت أن هذه المؤثرات أثرت على الحضارة العربية الجنوبية، وتولد من هذا المزيج الأجنبي والعربي حضارة العرب الجنوبيين2. لقد تبين من دراسة الفخار الذي عثر عليه في العربية الجنوبية أنه من صنع محلي ومن تصميم محلي أيضا. وقد تبين أيضًا أنه لا يخلو مع ذلك من المؤثرات الأجنبية التي أثرت عليه، ولا سيما على المظهر الخارجي للفخار في مثل الزخرفة والشكل. فقد أثر الفخار العراقي والسوري على الفخار العربي الجنوبي، ويظهر من الفخار الذي عثر عليه في "هجر بن حميد"، أنه قد تأثر بمؤثرات شمالية سورية وعراقية3. وتقدمت معارفنا بعض التقدم بالنسبة للفن المعماري عند العرب الجنوبيين. وتوجد

_ 1 Jacqueline Pirenne, La Grece et Sabe, Paris, 1955, The Bible and the Ancient Near East, by G. E. Wright, p. 313, 319. 2 Berta Segall, Sculpture from Arabia Felix, American Journal of Archaeology, 59, 1955, p. 207, Ars Orientalis, II, 1957, p. 37, Promiems of Copy and Adatpaton in the second quarter of the first millennium B.C. Americn Journal of Archaeology, 60, 1956, p. 165, The lion Riders from Timna, in Archaeological Discoveries in South Arabia, p. 155, The Bible and the Ancient Near East, p. 319. 3 The Bible and the Ancient Near East, p. 320, Belletin of the American School

لدينا فكرة عامة عن فن هندسة المعابد، أخذناها من فحص معابد "حقه" و"مأرب" وتمنع" و"حريضة" و"خور روري". وتقدمت معارفنا أيضًا في موضوع أبنية المقابر والأضرحة عند الجاهليين، وكذلك عن هندسة البيوت. وقد وجد أيضًا أن الفن المعماري قد تأثر بمؤثرات خارجية كذلك: بمؤثرات عراقية وسورية وفينيقية ويونانية ومصرية1. ويظهر الأثر اليوناني على سك العملة عند العرب الجنوبيين. فقد ضرب النقد على شاكلة النقد اليوناني، لا يختلف عنه إلا في وجود الحروف العربية الجنوبية على ذلك النقد. فالنقد العربي الجنوبي، هو تقليد ومحاكاة للنقد اليوناني، الذي ظهر في أيام "البطالمة" و"السلوقيين"، ويكاد يكون قالبًا لها، أضيفت عليه حروف المسند. فالبومة التي تمثل "أثينا"، والتي كانت تضرب على العملة اليونانية، ضربت على النقد العربي الجنوبي، إلى غير ذلك من أمور بحث عنها علماء "النمّيات". ولكننا لا نستطيع أن نقول اليوم: إن معارفنا عن الحضارة العربية الجنوبية قد تقدمت تقدمًا مرضيًا، وأنها صارت واضحة مفهومة، وسوف تبقى معارفنا عن هذه الناحية وعن النواحي الأخرى ناقصة ما دامت أكثر الآثار مدفونة تحت طبقات كثيفة من التربة لم تلمسها الأيدي حتى الآن. لقد تقدمت معارفنا عن هذه النواحي على نحو ما ذكرت بسبب قيام بعض الباحثين المحدثين بالتنقيب في بعض المواضع بصورة جدية علمية وبشيء من التعمق في باطن الأرض، ويمكن أن نتصور ما سيحصل عليه الباحثون من معلومات عن الجاهلية لو سمح لهم في التنقيب بأسلوب جدي علمي في باطن الأرض وفي مواطن الآثار. استعمل اللحيانيون لفظة "بنى" "بنا" للتعبير عن بناء شيء. وذلك كما نفعل نحن في عربيتنا. وتشمل اللفظة بناء كل الأبنية، من بناء بيوت أو قبور أو غير ذلك. وقد وردت في عدد من النصوص2. ويعبر عن المبنى بالتعبير عن نفسه في العربيات الجنوبية، فيقال "مبنى". وإذا

_ 1 "The Bible and the Ancient Near East، p. 320.". 2 راجع النصوص 16، 26، 74، 90 من كتاب: "W. Caskel، S. 133".

أريد التعبير عن تقديم البناء إلى إله أو جماعة، كأن يسمى باسم الإله ويحبس عليه، فيعبر عن ذلك بلفظة "قتدم" أي: قدم بهذا المعنى المفهوم منها في عربيتنا، وبمعنى أهدى1. وأما الفعل فهو "بنى"، وذلك كما في هذه الجملة: "عسى وبنى"2، أي: "تملك وبنى". و"هبنى"، وذلك كما في هذه الجملة: "هبنا عقبتهن قلت"3، أي: "بنى قلعة قلت". ويراد بـ"عقبت" "عقبة" القلعة. وللفظة علاقة بكلمة "عقبة" التي نستعملها نحن بمعنى صعوبة وعائق، ونجمعها على "عقبات". واستعمل اللحيانيون لفظة "حفر" بالمعنى المفهوم من اللفظة في عربيتنا. استعملت لكل أنواع الحفر: حفر الأسس أو الآبار أو العيون، أو الحفر على الأحجار والخشب، لغرض النقش والزخرفة، أو لأي هدف آخر4. ويشق المعماريون أسسًا في الأرض للأبنية الفخمة، كالبيوت المؤلفة من طبقات عدة كالمعابد، لتحمل الأرض ثقل البناء. ويختلف عمق الأساس وعرضه باختلاف سمك الجدار وثقل البناء، ويحفر العمال الأرض بالقدر الذي يعينه البناء، حتى إذا ما بلغوا العمق المقرر، وضعوا المواد اللازمة كالحجارة أو الكلس المخلوط بمواد أخرى، ثم يترك الأساس مدة حتى يجف ويستقر، ثم يقام عليه الجدار. ويقال لهذا الأساس في العربيات الجنوبية: "موثر"، وهي بمعنى "الأس" والأساس والأسس في عربية القرآن الكريم5. وقد ورد في كتب اللغة، "والوثير": الفراش الواطئ، وكذلك الوثر كل شيء جلست عليه أو نمت عليه فوجدته وطيئًا، فهو وثير6. وتؤدي لفظة "مبحر" معنى: "أساس" وسناد. فـ"مبحر" كل بناء هو أساسه وسناده في لغة السبئيين7.

_ 1 راجع السطر الأول من النص الموسوم بـ: ثقب الحجر. 2 راجع النص الموسوم بـ "Glaser 1089، 1660، Halevy 208" وهو من معين. 3 الجملة الثانية من نص أبنة، "Rhodokanakis Stud.، II، S. 48". 4 راجع النص 61 من كتاب: "W. Caskel، S. 133". 5 شرح القاموس "4/ 96"، ابن سلام، كتاب الأجناس من كلام العرب "ص 13". 6 تاج العروس "3/ 598". 7 "Jamme، South Arabian Inscriptions، p. 439".

وترد لفظة "برا" بمعنى بنى وأنشأ وأقام وشقّ وما شابه ذلك1. وترد بعدها لفظة: "هشقر" في الغالب. ومن هذا الأصل لفظة: "مبرام" "مبرا" بمعنى برئ من الدين، وبراءة الذمة2. وترد لفظة "برأ" في كت اللغة بمعنى الخلق. و "البرية": الخلق، وأصله الهمن، والجمع البرايا والبريّات. والبرى: التراب3. وأما "هشقر" فمعناها أكمل الشيء، وانتهى منه، وأتمه وغطاه وستره. وهي من أصل: "شقر"، وترد من هذا الأصل لفظة "تشقر" و"شقرم"، بمعنى الأعلى والنهاية. وذلك كما في هذه الجملة: "بتوربم اد شقرم"4، أي: من الأساس إلى الأعلى، أو إلى النهاية. و"ربب" معناها الأساس5. أما أعلى البناء ونهايته، أي: تاجه الذي ينتهي عنده، فيقال له: "تفرع". و"تفرع" نهاية الجدار وأعلاه، والمكان الذي ينتهي فيه6. ومن العبارات الواردة في بعض النصوص المتعلقة بالبناء، هذه العبارة: "بن موثر هو عدي مريمن"، وهي في معنى العبارة: "بن أشرس عد شقرن" التي ترد في النصوص المعينية، ومعناها من "الأساس إلى أعلى"7. فلفظة "موثر" وكذلك لفظة "أشرس" هما بمعنى الأساس, أي: أساس البناء، و"وعد" حرف جرٍّ بمعنى إلى، و"مريمن" و"شقرن" كلاهما بمعنى أعلى، أي: أعلى البناء. ويقال لتعلية البناء: "تعلى". أما تقوية البناء والجدر وحمايتها من السقوط، فيعبر عنه بـ"تصور"، من أصل "صور" ومعناها وضع أوتدة وأعمدة عند

_ 1 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 87". 2 المصدر نفسه "ص47 حاشية42". "hodokanakis، Bodenwirtschaft، S. 24". 3 شرح القاموس "10/36". 4 الفقرة الخامسة من نص أبنة. 5 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 486". مجلة المجمع العلمي العراقي، "المجلد الرابع، الجزء الأول"، "1956"، "ص207" "السطر 103 من نص أبرهة"، "Mordtmann und Mittwoch، Sab. Inschr.، S. 45. f.". 6 راجع النص الموسوم بـ: "Sab. Denkma.، S.، 31، CIH 325.". 7 "Mordtmann und Mittwoch، Alt. Inschr.، s. 25.".

الجدار أو البناء للتقوية والإحكام1. وهي بذلك قريبة من معنى "الظئر" في لهجة القرآن الكريم. ويعبر عن إتمام بناء ما أو إكمال شيء آخر بلفظة "تقه" و"قه"، بمعنى "وقه" أي: أكمل وأنجز. وهي مرادفة للفظة: "تفرع"، وللفظة "هوعب" أيضاً. وكلها بمعنى الإنجاز والإكمال والانتهاء من عمل ما. ولفظة "قه" هي من أصل "وقة". وتعني جملة: "إتقه عن"2. انتهى وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "وكن" هي بهذا المعنى, أي: أكمل وأنجز في بعض الأحيان3. ويعبر عن إصلاح البناء وترميمه بلفظة "هحدث"، وهي فعل ماضي أي: "أحدث"، ومعناها أقام ورمم وأحدث وأنشأ. أما سقوط حائط أو سقف أو ما شابه ذلك، فيعبر عنه بلفظة "تل" و"تلت"، ومن هذا الأصل لفظة "تلو"، أي: الخرائب والتلال، وتقابلها لفظة "خيل" في المعينية، و"ذخبل"4، أي: تداعى وسقط ووقع. وفي معنى الإصلاح والترميم أيضًا لفظة "غوث" الواردة في الكتابات المعينية5. وقريب من هذا المعنى معنى "غوث" في لهجة القرآن الكريم، ففي الإغاثة معنى المساعدة والإصلاح وترميم التصدع وإصلاحه. وترد مع هذه اللفظة لفظة أخرى، هي "سعذب"، وهي فعل ماض بمعنى أعاد وأرجع الشيء إلى ما كان عليه6، من أصل "عذب". وأما حرف السين الداخل على أول اللفظة فإنه في مقام حرف الهاء في السبئية، يدخلان على المصدر فيحولانه إلى فعل ماض. ويقال لمقدم كل بناء: "صلوتن" "الصلوة"7. وقد وردت اللفظة في كتابات

_ 1 راجع النص الموسوم بـ: "Glaser 1150، Halevy 192، 199.". وكذلك: "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 54.". 2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 46.". 3 المصدر نفسه "ص47". 4 Rhodokanakis، Stud.، II، S. 26."". 5 راجع النص: "Glaser 1144، Halevy 353، Rhodokanakis، Stud.، II، S. 29، 31.". 6 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 31.". 7 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 31.".

دونت لمناسبة إقامة سدود كذلك. ووردت في بعض الكتابات هذه الجملة: "بن ذت هورتن عدي صلوت بين ذن محرمن وميسلن"1، ومعناها: "من هذه الجهة الخلفية إلى الجهة الأمامية أو الصالة الأمامية بين هذا الحرم وموقد النار". ويقال للجهة الخلفية من البناء "هورتن". من أصل: "ورت"، بمعنى وراء. و"و َرَ هـ" في لغة أهل العراق، وذلك كما نرى في هذا النص. وتؤدي لفظة "صلوت" معنى "فناء" أيضًا، وقد تؤدي معنى موضع منعزل أو مكان للصلاة. وقد يراد به فناء يؤدي إلى "مبسل" يقع مقابله تمامًا2. وللفظة "صلوتن" "صلت" "صلوت" معنى آخر بعيد عن هذا المعنى بعدًا كبيرًا، هو "وثيقة" و"شهادة" و"عقد"، فتكون في معنى "سمع" و"اسمع" التي تطلق على هذا المعنى أيضا في العربيات الجنوبية3. ويقال للباب "خلف" و"خلفتن" في السبئية. ويراد بـ"خلف" و"خلفتن" "الخلفة" الشباك كذلك4. وقد كان أصحاب القصور يستعملون الشبابيك كثيرًا في قصورهم، ويزينونها بالرخام الرقيق وبالزخارف لتظهر جميلة خلابة: ويقصد بـ"خلف" و"خلفتن" المنافذ الخلفية كذلك. وتتكون الأبواب من "مصرع"، أو من "مصرعي"، ويراد بذلك "مصراع" واحد أو مصراعان5. ويعبر عن الباب بـ"الخلف" في عربيتنا كذلك6. وأما لفظة "مصرع الباب" و"المصرع" و"مصراعا الباب" فمعروفة في عربيتنا كذلك7. ويعبر عن الباب العظيم، أو الباب المغلق وفيه باب صغير، أو عما يغلق به

_ 1 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 45.". 2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 46.". 3 Rhodokanakis, Stud, II, S. 44, Der Grundsatz der Affentichkeit, S. 21, 24, Stud, I, S. 63. 4 "Rhodokanakisوالجملة الرابعة من نص أبنة، Stud.، II، S. 70.". 5 راجع الجملة الثانية من النص: "Glaser 1144، Halevy 353". 6 اللسان "9/ 93". 7 اللسان "8/ 199".

الباب بلفظة "رتج" "رتاج" في اللحيانية1. ولفظة "رتاج" لفظة معروفة في عربيتنا كذلك. ويعبر عن السلالم والدرجات بلفظة "احلين"، تطلق على السلالم من أية مادة مصنوعة، من الحجر أو الخشب2، كما يعبر عنها بلفظة "علوم" و"علوه" أيضًا؛ لأنها طريق يؤدي إلى أعلى3. ولفظة "علية"، والجمع "علالي"، هي عند أهل الحجاز بمعنى غرفة أيضاً، والجمع "غرف" و"غرفات". وقد وردت لفظة "غرف" و"غرفات" في القرآن الكريم4. وعبر عن السقف وسطح البناء بلفظة "ظلتن" و"ظلل", أي: "الظلة"5 و "الظل". وذلك لاستظلال الإنسان بالسقوف وحمايتها للبيوت والغرف من وهج الشمس. ويعبر عن الشيء المسقوف مثل ذي سقف أو ما شابه ذلك بلفظة "مسقفن"6، أي: "المسقف"، من أصل "سقف"7. وردت لفظة "مسقف" بمعنى الموضع المسقوف8. ويعرف المكان الذي ينفذ منه النور إلى مكان ما "مصبح" في الحضرمية. ويمكن أن نقرأها "مصباح" كذلك. فالمصباح الكوة أو النافذة التي ينفذ منها النور إلى مكان ما. والنور هو "صبحت" في الحضرمية, وذلك كما ورد في هذه الجملة: "صبحت عينو"9، أي: "نور عينه"10.

_ 1 النص رقم 22 و85 من كتاب: "W. Caskel، S. 134.". 2 راجع الجملة الرابعة من النص: Glaser 1144, Halevy 353, Rhodokanakis, Stud, II, S. 29, Glaser 283, Halevy 238. 3 "Rhodokanakis، Stud.،S. 47.". 4 البيان "1/ 19" "لجنة". 5 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 29، 30، 54.". 6 "CIH، 182.". 7 "Mordmann، Himj. Inschr. S. 36.". 8 "Glaser، 799، CIH 132، Rhodokanakis، Stud.، II، S. 34.". 9 "Osiander 29". 10 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 28.".

وأما الموضع الذي ينفذ النور إليه، ويستقر فيه، وقد يكون مسقوفًا وربما لا يكون مسقوفًا، فيقال له: "منحل"1. وعلى هذا المنحل يكون المصبح, أي: المنفذ الذي ينفذ النور منه2. ويعبر عن الجدار والسور بلفظة "جنا" في لغة المسند3. وقد فسر بعض علماء العربيات الجنوبية لفظة "بره" بمعنى مجاز4. ومن هذا الأصل أخذت كلمة "ابرى"5، ولعلها تؤدي معنى خارج كذلك. وترد لفظة "أردف" في مصطلحات البناء كذلك6، وتعني طرف البناء، وطرف كل شيء. وقد استعملت للتعبير عن تحصين جانب القلعة أو الحصن مثلًا، أو تحصين جوانب وأطراف برج ما7. ويعرف مقدم البناء أو مقدم أي شيء بـ"قدم" وبـ"انف". أما الجهة المضادة للمقدمة فيقال لها: "معذر"، فمعذر أي: بناء أو أي شيء هو الجهة الخلفية لذلك البناء أو لذلك الشيء، كما تطلق هذه اللفظة على الأسوار الخلفية للمدينة8. ويقال للطابق الأعلى من البناء "علوهو" "علوه"9، و"علين" "عليان"، لعلوه بالقياس إلى الطابق الذي تحته. أما الطابق الأسفل، فيقال له: "سلفه" "سفلهو"10. ويقال للبيت إذا كان فوق البيت: "علية" والجمع "علالي". وتقابل لفظة "علية" لفظة "غرفة" والجمع "غرف" و"غرفات". والغرفة عُليّة من

_ 1 راجع الجملة الثانية من النص: "Glaser 1089، 1660، Halevy 208". 2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 26.". 3 راجع أيضًا الجملة الثالثة من نص أبنة. 4 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 36.". 5 المصدر نفسه. 6 "Müller، in DMG.، 37، 383، Rhodokanakis، Stud.، II، S. 36.". 7 "CIH، 197، Glaser 181،Rhodokanakis، Stud.، II، S. 36.". 8 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 64.". 9 راجع النص الموسوم بـ: "CIH 325، Rhodokanakis، Stud.، II، S. 46. f.". 10 المورد نفسه.

البناء. وسميت منازل الجنة "غرفاً"1. ويعبر عن العمل الفني المتقن بلفظة "نكل"، ومن هذا الأصل لفظة "نكلو" و"نكلتو" في الأشورية2. وقد كان أصحاب الأبنية يذكرون المواد التي استخدموها في الأبنية بكل تفصيل لا يكتفون بذكر أسماء المواد فحسب، بل يذكرون حتى صفاتها. فإذا كان الحجر غير مهندس ولا مصقول ذكروه، وإذا كان مصقولًا ومهندسًا ومقطوعًا عبروا عن ذلك بلفظة "تقرم"3. ويقال للحجارة الحادة أو الملساء "زلت"، وهي تقابل لفظة "زِلّة" في لهجتنا4 وهي بمعنى أرض ذات حجارة ملساء أو حادة في اللهجتين المعينية والسبئية كذلك، وتعني لفظة "صلال" ألواحًا من الحجر في اللهجة الحضرمية. وأما الجمع فهو "ازلت"5. وتؤدي لفظة "زلت" معنى سيلان الزفت أو القار على أرض ما كأرض غرفة مثلًا أو أرض شارع أو حمّام لتبليط الأرض بهذه المواد. وذلك كما يفهم من هذه الجملة: "زلت أوسطهس" أي: "وزفت أو وقير الأواسط"، ويراد بالأواسط وسط الأشياء أو الشيء6. ويقال للحجارة المكسرة الناتجة عن تكسير الأحجار الأخرى أو عن القلع "جربم" "جرب". ويراد بها الحجارة المقطوعة أيضًا. وتوضع هذه الحجارة في أماكنها على نحو ما قلعت من المقلع، فلا تصقل، ولا تمسها آلات الصقل. أما الحجارة المقلوعة التي تصقلها الأيدي وتنقحها، فتعرف بـ"منهمتم" "منهمة". وتبنى هذه الحجارة مع الحجارة الأخرى، وتوضع بينها مواد البناء التي تلزم تلك الحجارة. والعادة هي أن توضع الحجارة المصقولة المعمولة المهندسة

_ 1 البيان والتبيين "1/ 19" "لجنة"، المفردات "ص365". 2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 26.". 3 راجع الجملة الثانية من النص الموسوم بـ: "Glaser 1089، 1660، Halevy 208". 4 "CIH، II، P. 23، Rhodokanakis، Stud.، II، S. 35.". 5 راجع الجملة الثالثة من النص: "Glaser 144، Halevy 353". 6 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 36.".

في جبهة الجدار لتكسبه منظرًا جميلًا حسنًا، توضع وراءها الحجارة الأخرى المقطوعة؛ وذلك لأن صقل جميع الحجارة التي تدخل في البناء يستنفد وقتًا كبيرًا كما يكلف ثمنًا باهظاً. ويضع المعمار الحجارة بالطبع وضعًا متناسبًا بحيث لا تكون مرتفعة أو منخفضة وتملأ الفرج ومواضع اتصال الحجارة بمواد البناء التي تلزمه وتمسكه بين الحجارة1. وقد توضع الحجارة لـ"جرب" على شكل طبقة واحدة في الجدار أو على هيئة طبقات وصفوف للزينة. ونجد هذه الطريقة في أبنية الحبشة كذلك2. ومن هذا الأصل جاءت لفظة "جربة" و "جروب" بمعنى المدرجات التي يضعها الفلاحون على الجبل، وذلك لزرعها بأنواع المزروعات، ولا سيما الكروم3. وكذلك الأسوار التي تحيط بالبساتين. وهناك من يرى أن "منهمتم" من "منهمت" "منهمة" تعني على العكس الحجارة المقلوعة غير المصقولة. و"حجر منهوم" بمعنى مقطوع غير مصقول4. وهناك لفظة أخرى تطلق على الحجارة المنحوتة المهندسة باليد هي "تقرم" من أصل "تقر"5. وهناك نوع آخر من الحجر يقال له: "بلق"6. وقد ذكر علماء اللغة أن "البلق" الرخام وحجارة باليمن تضيء ما وراءها كالزجاج7. ويعبر عن قطع الحجارة من الصخر وعن صقلها لجعلها صالحة للبناء، بلفظة "اثع" في اللحيانية8. وأرض اللحيانيين أرض صلدة صخرية، لذلك استخرج اللحيانيون حجر أبنيتهم منها فبنوا بها بيوتهم، كما نحتوا الصخور وجعلوها على هيئة كهوف لكي تكون ملاجئ لهم.

_ 1 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 43.". 2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 44.". 3 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 43، SE 48، 92، Ryckmans 340، BASOR، Nu. 83، 1961، p.24.". 4 "Glaser Zwei Inschriften، 47،Rhodokanakis، Stud.، II، S. 47. f.". 5 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 54، 63.". 6 المصدر نفسه "ص64". 7 شرح القاموس "6/ 298". 8 النص 72 من كتاب: "W. Caskel، S. 110.".

ويعبر عن تكسير الصخور وثقبها وعمل خرق بها بلفظة "جوبن"، وتعني "الجوب". والجوب هو عمل نقب في الحجر، أو ممر. وأما لفظة "جوب" فجمع "جوبة"، ويراد بها الفراغ بين شيئين1. ويُستعان بفئوس ومطارق في تكسير الحجارة وهندستها وإصلاحها لتتخذ الشكل المطلوب. فتستخدم المطارق الثقيلة في كسر الحجارة. وتكون ذات رءوس مختلفة الأشكال تناسب المهمة التي تؤدى بها. وتستعمل الفئوس في هندسة جوانب الحجارة وصقلها، وهي ذات أشكال مختلفة كذلك، منها ذات رأس حاد نابت يتصل بقاعدة عريضة وتستخدم في نقر الحجارة، ومنها ذات رأسين حادين عريضين، ولها خصر في الوسط وتستخدم في شذب أطراف الحجارة وصقلها. ولا تزال هذه المطارق والفئوس مستعملة في مثل الأعمال التي قام بها الجاهليون. ويعبر عن تزيين الحائط وزخرفته بالحجارة أو بالأخشاب التي يوضع بين حجر الجدار وطابوقه بحيث تبرز للعيان وتوضع في أبعاد متناسقة، يعبر عن ذلك بلفظة "موسم". ومن هنا لفظة "وسم" التي تعني التزيين والتزويق أيضًا2. فلفظة "موسم" تعني الزخرفة والنقش في البناء3. وأما الحجارة المصنوعة وما يقال له: "طابوق" في العراق، أي: الحجارة المكونة من الطين المشوي، فيقال لها: "لبتم" "لبت"4. ويراد بها اللبن كذلك, أي: الطين المجفف. وعادة مزج الحجارة المصنوعة, أي: الطابوق بالحجارة الطبيعية المقلوعة سواء أكانت مصقولة أم غير مصقولة هي عادة معروفة في البناء في الشرق5. وأما اللبن، أي: الطين المجفف بالهواء وبأشعة الشمس والمصنوع بقوالب ولكنه لم يوضع في النار لإحراقة، فيقال له: "لبن" أيضًا. وقد ورد "لبن شمس" أيضًا6. ويطلق العبرانيون لفظة لبنة على اللبن، وعلى الطابوق, أي: اللبن المفخور بالنار.

_ 1 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 26.". 2 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 63.". 3 المصدر نفسه "ص64". 4 راجع النص الموسوم بـ: "CIH 325، Sab. Denkm.، 31.". 5"Rhodokanakis، Stud.، II، S. 43، 54.". 6 راجع الجملة الخامسة من النص، "Hommel Aufs. Und abh.، S. 167، anm. 5.".

وقد عثر المنقبون على لبن جاهلي في أماكن متعددة من جزيرة العرب. وقد كان أهل الحجاز يستعملونه في أبنيتهم، لم ينفردوا بالطبع في ذلك وحدهم، بل كان يفعل ذلك كل الجاهليين، وقد بني مسجد الرسول باللبن. وكان الرسول ينقله مع الناقلين وهو مختلف الحجم. بعضه واسع ثخين، وبعضه متوسط أو صغير. ويكثر استعماله في الأمكنة التي تقل فيها الحجارة، وتتقلب على طبيعة أرضها التربة الطينية، فيكون من السهل على أهلها إقامة أبنيتهم باللبن بارتفاعات مختلفة تبعًا لمتانة البناء ورغبة صاحب البناء في الارتفاع. وقد عثر على آثار قلاع وحصون وأسوار بنيت باللبن. ويمكن لمثل هذه الأبنية البقاء مدة طويلة، لجفاف أجواء الشرق الأوسط وقلة الأمطار فيه، ولا سيما إذا كانت ذات أسس وقواعد وجدر ثخينة وفي أماكن جافة بعيدة عن رطوبة الأرض. أما الطابوق، أي: الآجر، فيتكون من طبخ اللبن في الكورة, أي: الأتون، أو بتكديس اللبن طبقات وصفوفًا، ووضع الوقود بينها، فإذا اشتعلت النار يصلد اللبن ويشوى فيكون آجرًا. وطريقة صنع الآجر بإحراق اللبن في الأتون، لا تزال شائعة معروفة في جزيرة العرب. وهي طريقة صنع الطابوق عند الفراعنة والسومريين والأشوريين والبابليين وغيرهم من الشعوب. ولم يكن في استطاعة الفقير بناء بيته باللبن أو بالطابوق، بل كان يشيد بيته بنفسه بالطين، فيقيم جدره بالطين طبقة طبقة، إذا جفت طبقة وضع فوقها طبقة أخرى، وهكذا، ويسقف بيته بالأغصان، وبسعف النخل، ويضع فوقها طبقة من الطين لتخفف عنه وهج الحر في أيام الصيف، وتمنع عنه سقوط المطر عليه عند نزوله. أما الأعرابي فلم يكن له بيت دائم، لا من الآجر ولا من اللبن، بل كان بيته خيمة تنتقل معه حيث يشاء، يستظل بها وينام تحتها، فهي بيته الحقيقي. ويقوّى الطين الذي يصنع منه اللبن أو تقام به جدر البيوت أو تفرش به سقوف البيوت بالتبن، يخلط مقدار مناسب منه بالتراب، ثم يعجن الخليط ويترك مدة حتى يختمر، ثم يستعمل عندئذ، فيكون أقوى وأدوم بقاء من اللبن أو الطوف المصنوعين من التراب الصرف. وهذه الطريقة معروفة أيضًا عند العراقيين والمصريين وعند غيرهم من الشعوب في العهود القديمة ولا تزال مستعملة عند

حَفَدَتهم. ويعرف التبن بـ"تبن teben"عند العبرانيين1. وتطين جدر البيوت الفقيرة والريفية بالطين، وذلك لتكون مُلْسًا خالية من الثقوب. ويستعمل الطيّانون آلة تسمى المسجة. ويذكر علماء اللغة أنها يمانية، وأنها خشبة يطين بها، وهي المالجة بالفارسية. ويعبر عن تطيين الحائط بلفظة وسج، وذلك إذا مسج الحائط بالطين الرقيق. وقد ذكر علماء اللغة أن السجة والسجة صنمان2. ويقال للحجارة المربعة، سواء أكانت مقلوعة أم مصنوعة، "ربعتم" "ربعت" "ربعة" أي: "مربعة"3. وهي تدخل في البناء إما مستقلة، وإما مع أنواع أخرى من الطابوق والحجارة. وقد توضع على مسافات وأبعاد متناسبة ومتناسقة، لتكوّن نوعًا من أنواع الزخرف في الجدر. وقد ذكر "الهمداني" في صدد ذلك هذه الجملة: "المكعب وذلك بكعاب خارجة في معارب حجارته على هيئة الدروق الصغار"4. وهذا النوع من الزخرفة معروف في اليمن. أما في الحبشة، فقد كانوا يضعون حجارة منحوتة على هيئة رءوس قردة للزينة5. ويعبر عن إدخال الحجارة بين حجارة أخرى للزينة أو الزخرفة أو ملء الفراغ بين جبهتي جدار بحجارة صغيرة لسدِّ الفراغات "ولج". أما "مولجم" "مولج"، فتعني الموضع الذي وضعت تلك الحجارة فيه6. والإيلاج هو إدخال شيء في شيء. وأما الحفر على الحجر أو الجدار، بقصد التزيين والزخرفة، فيعبر عنه بلفظة "فتخ"، وتقابل بلفظة "بتاخو Patahu". والحفر والنقش العميق على الحجارة والطابوق من مذاهب التزيين المتبعة في الشرق حتى الآن. وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أنها تعني معنى "ولج" كذلك، أي: إدخال الحجارة المحفورة والمنقوشة والمنحوتة بين حجارة جدار ما مثلًا للتزيين والتزويق7

_ 1 "Smith Vol.، III، p. 1386.". 2 شرح القاموس "2/ 56". 3 "CIH 325.". 4 الإكليل "80" "طبعةMüller". 5 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 44.". 6 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 43.". 7 "Rhodokanakis، Stud.، II، S. 43.".

وتؤدي لفظة: "فلزتم" "فلزت" "فلزة"، بمعنى: أبعاد وطريق جانبي وإخلاء وحفر ونقب. وقد أريد بها عمل ثقب في جدار في بعض الكتابات1. وكان من عادة أهل اليمن صهر الرصاص وصبه بين حجارة الأعمدة وفي أسسها، وذلك لربطها وتقويتها، ويقال لذلك: "صهرم"2 من "صهر"، التي تعني جعل الرصاص مائعًا يصب في المكان المراد تقويته أو تثبيته، أو لأي غرض آخر من هذا الصهر. وقد استعملوا الرصاص المصهور في سدِّ "مأرب" كذلك، استعملوه مادة ماسكة تمسك بعض الصخور التي تؤلف الجدر الأمامية وفي مواضع أخرى منه3. وقد استعمل المهندسون العرب الجنوبيون "القيطران" القار في البناء. استعملوه خاصة في الأماكن الرطبة والتي تسيل عليها المياه وفي الأسس لمنع الرطوبة، كما استخدموه في رصف الشوارع ورصف قيعان السدود. فقد وجدت آثار قيعان بعض السدود وهي مرصوفة ومكسوة بطبقة من القطران. وفي معنى "قطر" ترد لفظة "قثر"، و"قتر" أيضًا". و"القتار" بمعنى الدخان. ومن هذا المعنى جاءت جملة: "قتر اللحم" أي: شُوي وظهرت رائحته. وفي معنى "قطر" لفظة "هيع" أيضًا. ومعناها "سال" و"ماع". ولهذا استعملت في النصوص ذات الصبغة الدينية في القرابين حيث تسيل دماؤها، وفي الري لسيلان الماء، وفي صهر المعادن4. وفسر بعض الباحثين لفظة "هيع"، بمعنى بنى، أي: أنشأ بناءً، وفي مقابل لفظة "برا" في المسند5. واستعملت مواد دهنية مستخرجة من زيوت بعض الأشجار في منع الرطوبة أو الماء من التسرب إلى الأسس والجدر والسقوف. والخشب هو "عض"6 في العربيات الجنوبية. وقد استعمله العرب الجنوبيون

_ 1 "Rhodokanakis Stud.، II، S. 47". 2 "Rhodokanakis Stud.، II، S. 48". 3 "Wissmann-Hofner، S. 25.". 4 شرح القاموس "3/ 479"، "Rhodokanakis Stud.، II، S. 168". 5 "Jamme، South Arabian Inscriptions، p. 427، 433.". 6 "Rhodokanakis Stud.، II، S. 26".

في تسقيف بيوتهم, ولعمل الأبواب، كما أدخلوها في البناء كذلك لتقويته. أما لفظة "عضن" "العض"، فقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن المراد بها نوع خاص من الخشب، نوع ذو رائحة زكية، يستعمل خاصة للحرق في مذابح المعابد1. ويلاحظ من فحص بقايا بعض الأبنية القديمة من عهود ما قبل الإسلام أنها خالية من المواد الماسكة التي توضع عادة بين الحجر لتثبيته بعضه على بعض. ومعنى هذا أن المهندسين المعماريين كانوا قد وضعوا هذه الحجارة بعضها فوق بعض على نحو يجعلها كأنها متداخلة بعضها في بعض فتثبت مدة طويلة وتتماسك وتصبح وكأنها قد لصق بعضها ببعض بمادة من المواد المستعملة في العادة في تثبيت الحجارة مثل الجص أو الكلس أو الطين، ويسمى بـ"الخلب" عند أهل اليمن اليوم2. يوجد صورة يراد سحبها بالاسكانر من بقايا سد مأرب من كتاب "Qataban and Sheba" "ص221" والحجارة التي أقصدها هي صخور اقتطعت من الجبال، وأكثرها هي صخور كبيرة, وهي بعد أن تسوّى وتشذب وتهذب يوضع بعضها فوق بعض بحيث تتثبت

_ 1 المصدر نفسه "ص39". 2 المعظم "ص133".

بعامل الثقل وبهذه الطريقة تقام الجُدُر، ويجري ذلك في المباني الضخمة الكبيرة التي تستعمل فيها الصخور. وأما أوجه الجدر من الداخل فقد تملج بمادة كالجص لتجعلها مُلْسًا ناعمة، وبذلك تسد الفرج بين محال اتصال الصخور. واستعملت في مبانٍ أخرى المواد البنائية التي توضع بين الآجر والصخور الصغيرة والحجارة لتثبيتها ولضمان تماسكها. ومن هذه المواد: الجص والطين والكلس، وقد تكحل الفواصل التي بين الأحجار بالكلس وبالجص لسدِّ الفرج بينها وللزينة أيضًا. وأما الجدر الداخلية فتكسى بطبقة لتجعلها جميلة مُلْسًا على نحو ما يفعله أهل اليمن وما يفعله غيرهم في الزمن الحاضر. وقد وجدت البعثات الأثرية التي نقبت في العربية الجنوبية بقايا جدران بيوت، وقد كسيت بطبقة ملساء من الجص, تدل على مهارة البناء في ذلك الوقت. وقد تزخرف المواضع البارزة من الجدار بزخرف يصنع بقوالب خاصة توضع عليها المادة اللينة التي يراد زخرفتها، فإذا جفت رفع القالب عنها، فتظهر بارزة بالحفر التي تكون حولها. وتكسى الجدر الخارجية للبناء بالجص والكلس في بعض الأحيان. فإذا كسيت بالجص، ظهرت بيضًا ترى من مسافات بعيدة، جاء في شعر لعدي بن زيد: شاده مرمرًا وجلله ... كِلْسًا فللطير في ذراه وكسور1 وقد ورد الجص لغة، والعرب تسميه القصة2. ولم يكتفِ المتفنن العربي الجنوبي بإقامة الأبنية فحسب، بل استخدم الحجارة للتعبير عن شعوره وعن خواطره، ينحتها على الصخور ويبثها على ألواح الحجر. وإذا كان العربي الصحراوي قد عبر عن شعوره وعن خواطره بالشعر ينظمه أبياتًا أو مقاطع أو قصائد، يسر نفسه بها, ويسر الآخرين، فقد عبر العربي الجنوبي عن مشاعره وخواطره بنوع آخر من الشعر، هو الشعر المادي المتمثل في البناء وفي النحت والتصوير بالإضافة إلى الشعر المعروف الذي لم يترك لنا أثرًا مكتوبًا منه ويا للأسف.

_ 1 الكامل "1/ 59". 2 شمس العلوم "جـ1 ق2 ص279".

والعربي الجنوبي متفنن بطبعه مذواق، لم يكتف بهندسة الحجارة وصقلها وتزيينها، بل اهتم بالألوان كذلك وبالمظاهر الخارجية للبناء، فاتخذ الحجارة الملونة للبناء، وكوّن منها مناظر متعددة الألوان، محاكاةً للطبيعة، وتأثيرًا على النظر. وبنى جدران قصر غمدان من حجارة ذات ألوان مختلفة، فبنى سافًا بالحجارة البيضاء، وبني سافًا آخر بحجارة سُود، وبنى سافًا ثالثًا بحجر أحمر، وسافًا آخر بحجر أخضر1 وهكذا، وذلك إمعانًا في التفنن وفي التزويق ولا شك، وكسا السقوف والأبواب والأعمدة وبعض الجدران بصفائح الذهب والفضة وبالحجارة الكريمة وبسن العاج والأخشاب الغالية الثمينة، فأكسب البناء روعة وجمالًا وخشوعًا. ونجد ذلك في المعابد وفي القصور2. واستعمل المعمار العربي الجنوبي الرخام لإكساء أوجه الجدران أو في فرش أرض الغرف والمعابد ليكسبها بهجة وجمالًا، واستعمله ألواحًا رقيقة تزخرف بالصور والنقوش، لتعبر عن مباهج الحياة، كما استعمل ألواحًا رقيقة شفافة منه لتكون مكان الزجاج المستعمل في النوافذ في وقتنا الحاضر. ولا يزال أهل اليمن يستعملون الرخام المرقق في نوافذهم، توارثوا ذلك عن آبائهم وأجدادهم، وهو يعطي النافذة رونقًا وجمالًا لا يتوافران في الزجاج. وتكون النوافذ والشبابيك في جدار الغرفة المطل على صحن الدار. أما الجدر المقامة على الطرقات والأزقة، فتكون خالية منها وذلك لئلا ينفذ منها اللصوص أو الأعداء إلى الدار، وليمنع المارة من التطلع إلى داخل الغرف والبيوت. أما البيوت المرتفعة المكونة من طابقين فأكثر، فقد حليت بالنوافذ، ومن هذه النوافذ ما كان يصنع من الخشب ومنها ما كان يصنع من الحجارة، ولا سيما الرخام. وجعل العربي الجنوبي الطوابق العليا مواضع للدفاع عند الحاجة، ولا سيما في الأماكن المنعزلة النائية، وجعل لمزارعه مواضع مرتفعة مبنية أو من الأخشاب أو على الأشجار لمراقبة من يحاول السرقة وسلب الفلاح ثمار أتعابه. والنافذة ضرورية جدًّا بالنسبة للأبنية العالية التي عرفت بها العربية الجنوبية،

_ 1 "D. H. Müller, Burgen und Schl?sser, I. S. 348.". 2 "Strabo, X, 778, Hand. Der alter, altir., I, S. 146.".

وذلك للدفاع بواسطتها عن البيوت ولدخول النور والهواء إليها، وقد صنعت من لوح مرقق من الرخام، عملت فيه ثقوب، لدخول الهواء منها. وتعمل الألواح المصنوعة من الرخام ألواحًا رقيقة جدًّا، وقد تكون شفافة كالزجاج، لتنير الغرف. ولا تزال نوافذ بيوت العربية الجنوبية محافظة على طرازها القديم. وقد استخدمت بعض النوافذ الجاهلية في البناء. وقد صنعوا النوافذ من الخشب أيضًا، زخرفوها بزخارف جميلة وأحاطوها بأحجار أو بمرمر لتمسكها ولتعطيها منظرًا جميلًا. يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر. قصر الإمام أحمد بمدينة "تعز"، وترى نوافذ وهي ذات طابع يماني قديم من كتاب: Gunther Pawelke, Jemen "ص57" ويعبر في اللحيانية بلفظة "بت"، أي: "بيت" عن معنيين، عن معنى "بيت"، أي: موضع سكن، وعن معنى معبد. وذلك كما في هذه الجملة: "بنيو بت هصن لذ غبت"1 معناها: "بنوا بيت هصن لذي غابة"،

_ 1 النص رقم26 من كتاب: "W. Caskel, S. 88.".

و "ذو غابة" هو إله اللحيانيين، أو بتعبير آخر: "بنوا معبد هصن للإله ذي غابة". ويعبر عن البناء والبناية بلفظة "مبنى" في لغة سبأ1. وهي من أصل "بنا" "بنى". وقد ذكر علماء اللغة أسماء الدور بحسب نوع بنائها من حيث المادة أو المساحة أو الارتفاع وغير ذلك. ويقال للدار: المنزل كذلك والدارة والمنزلة والمباءة والمعان والوطن والمغنى والمثوى والمربع2. والصرح هو كل بناء مرتفع. وأما الأطم والأجم فالحصن. والدار المسكن والبيت، وترد اللفظة في النصوص اللحيانية، قال "ابن الكلبي": "بيوت العرب ستة: قبة من أدم، ومظلة من شعر، وخباء من صوف، وبجاد من وبر، وخيمة من شجر، وقنة من حجر, وسوط من شعر، وهو أصغرها". وقال البغدادي: الخباء بيت يعمل من وبر أو صوف، أو شعر، ويكون على عمود أو ثلاثة، والبيت يكون على ستة أعمدة إلى تسعة. والخيمة في عرف العرب: كل بيت من بيوت الأعراب مستدير، أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر، أو أعواد تنصب وتجعل لها عوارض وتغلل بالشجر فتكون أبرد من الأخبية. أو عيدان تبنى عليها الخيام، أو ما يبنى من الشجر والسعف يستظل به الرجل إذا أورد إبله الماء. والخيمة عند العرب البيت والمنزل وسميت خيمة3؛ لأن صاحبها يتخذها كالمنزل الأصلي. وورد أن الخيمة لا تكون إلا من أربعة أعواد, ثم تسقف بالثمام ولا تكون من ثياب، وأما المظلة، فمن الثياب وغيرها4 و"القبة" من البناء ومن الأدم. وقيل: القبة من الخباء بيت صغير مستدير وهو من بيوت العرب5. و "المظلة": الكبير من الأخبية، قيل: لا تكون إلا من الثياب، وهي كبيرة ذات رواق، وربما كانت شقة وشقتين وثلاثًا،

_ 1 "Jamme, South Arabian. Inscriptions, p. 439.". 2 بلوغ الأرب "3/ 389 وما بعدها". 3 تاج العروس "1/ 529"، "بيت". 4 تاج العروس "8/ 285"، "خيم". 5 تاج العروس "1/419"، "قبب".

وربما كان لها كفاء، وهو مؤخرها. قال بعض العلماء لا تكون المظلة إلا من الشعر خاصة. إلى غير ذلك من آراء1. والخباء: ما يعمل من صوف أو وبر، وقد يكون من شعر، وقد يكون على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك، فهو بيت2. ويظهر من تضارب آراء العلماء في تعريف الأسماء المذكورة، أنهم أخذوا معانيها من موارد مختلفة من رعاة ومن شبه حضر ومن أعراب، ومن جهات مختلفة، فكان كل مورد يفسر الشيء تفسيرًا يختلف عنه عند مورد آخر، فتضاربت من ثم تلك الآراء. ويقال لصحن الدار: حُرّ الدار وقاعتها وباحتها وساحتها وصرحتها وبحبوحتها. وفي الدار البيت. والمخدع، وهو البيت في البيت، والنفق والسرب، فالبيت تحت البيت ويتألف البيت من غرف. والغرفة في أعلى هي "العلية" والجمع علالي. والخزانة هي التي يحفظ فيها الشيء. والمرقد، هو المضجع3. وما يحيط بالبناء هو الحائط والجدار. والأُس هو أصل الحائط. والرهص، هو البناء من الطين الموطوء، ينضد بعضه فوق بعض، ويقال للنضدة الواحدة دمص، أما النضدة السفلى، فيقال لها رهص4. والخط الواحد من الحائط ساف، ويقال للصف الواحد من اللبن أيضًا ساف5. وإذا أقيم الآجر بعضه فوق بعض، فهو السميط6. ويقال للحائط حين يبلغ العقد أو الثقيف أو التقبيب، ارتفع الحائط. ويقال للعقد: عقد الأزج وللبيت مغمى إذا سقف بالخشب، وبيت مقبب إذا كان ذا قباب. أما إذا كان على هيئة السنام، فيقال له بيت مسنم. والبرزخ الفرجة بين الأزَجَين في صهوة البيت، والهدف ترس الأزج. وتقوى الجدر بالأوتاد، وذلك برز الوتد في الحائط عند البناء، وقد عثر

_ 1 تاج العروس "7/ 427". "ظلل". 2 تاج العروس "1/ 60"، "خبأ". 3 بلوغ الأرب "3/389". 4 "والدمص بالكسر: كل عرق من الحائط خلا العرق الأسفل فإنه رهص" شرح القاموس "4/ 396"، بلوغ الأرب "3/390". 5 شرح القاموس "6/ 147". 6 شرح القاموس "5/ 161".

على أوتاد من الخشب مرزوزة في بقايا أبنية السبئيين والمعينيين وغيرهم لتقوية الجدر، أو لاستعمالها لأغراض أخرى، مثل تعليق أشياء عليها، أو استعمالها بمثابة السلالم للتسلق إلى أعلى. وفي الدار الصُّفَّةُ، وتسمى بحسب الجهة المتجهة إليها. ويقال صفة فراتية إذا كانت الشمس لا تقع فيها رأسًا. و"المقنوءة" مكان ظله دائم ويكون بارد الهواء. والزاوية ملتقى الحائطين في البيت. والكوة الثقب في أعالي البيت. ويقال لها: الشاروق. والمشكاة التي في الحائط. ويقال لها: الأوقة, ويقال: بيت مأوَّق1. ويقال للسطح: الإجار والصهوة. وسقف البيت أعلاه الداخل. وأما سمكه، فما كان بين قراره إلى سقفه. والطاية السطح. والدرج المرتقى إلى السطح, أن كان من خشب دعي بـ"سلم". وكل مرقاة عتبة. والفرغ الخلاء بين المرقاتين. والعلاوة هي أعلى الحائط الذي لا يغمى. والتفاريج والطنف آجر أو نحوه يجتح به أعلى الحائط ليقيه المطر أن يسيل عليه. وهو الكثة والإفريز. والهرادة من الخشب لأعالي الحيطان، والنجيرة سقيفة بخشب لا يخالطها غيره2. ويسقف البيت بالخشب، يوضع عليه عُرضًا، ويسمى "العراص". ثم تلقى عليه أطراف الخشب الصغار3. وقد يطيَّن، أو يجصَّص، أو يُبنى فوقه ليمنع المطر من السقوط من خلال الخشب على البيت، وحرّ أشعة الشمس من النفاذ إليه. وكانت بيوت أزواج النبي من اللبن، ولها حجر من جريد مطرورة بالطين، وعلى أبوابها مسوح الشعر4. وهذه كانت صفة معظم بيوت أهل يثرب والمدينة، ما عدا بيوت الأثرياء، فقد كانت من حجر وكلس ولها وسائل الترفيه والراحة المتوفرة بالقياس إلى ذلك الزمان. واللبن جمع لبنة. وأما الذي يعمل اللبن، فهو اللبان. والملبن الآلة التي

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 390". 2 بلوغ الأرب "3/ 391". 3 البرقوقي "ص137". 4 طبقات ابن سعد "1/ 499 وما بعدها".

يضرب لها. والسابل، الأداة التي ينقل عليها. والسميقان والأسمقة خشبات يدخلن في السابل. والطوب هو الآجر، والطباخ هو الذي يطبخ أتونه، والأطيمة: أتون الجرار والقصاع وأمثالهما. والبلاط: الحجارة تفرش بها الأرض. ويقال أرض مبلطة، إذ فرشت بالبلاط1. وقد عرف بعض علماء اللغة اللبن بأنه المضروب من الطين مربعًا للبناء2، وتقابل لفظة "اللبنة" كلمة "Libbatu" في الأشورية، و "لبيتو" و "لبنتو" في الإرمية3. والطيّان، الذي يعمل الطين، ويطين الحائط أو السطح، ويشتغل بالطين. والملاط ما رق من الطين. ونحوه السيّاع. ويقال للمالج الذي يمسح به وجه الحائط: المسجّة والمسيعة. وأما الخيط الذي يقدر به البناء، فيقال له: "المطحر". والشيّد والشص الجص. والجصّاصة موضع الجص. والملاّحة مجمد الملح. والجيار والكلّس الصاروج. والصاروج النورة وأخلاطها. والثلاجة مكبس الثلج4. وتوضع في سطوح الدور ميازيب لتسيل منها مياه الأمطار إلى أسفل، وتعرف بـ"المثاعب"، وواحدها "مثعب"، ويكون من خشب وغيره. ويسيل الماء إلى "البالوعة" ويقال لها: "البلّوعة" كذلك5. ولفظة "مئزاب" و"مرزاب" من الألفاظ المعربة عن الفارسية، ولكنها من الألفاظ القديمة الداخلة إلى العربية6. وموضع الطبخ في الدار هو المطبخ. وأما المخبز فهو موضع التنور. ويقال للتنور: الوطيس والهيلم والمِسعر كذلك. والكرامة طبق التنور، والمناقة حجره. وأما الساعور، فتنور صغير في الأرض7.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 391". 2 شرح القاموس "9/ 328". 3 برصيوم "ص 269". 4 بلوغ الأرب "3/ 391". 5 بلوغ الأرب "3/391" وما بعدها". 6 المعرب "ص 326"، المغرب "ص14"، شرح القاموس "3/ 269". 7 بلوغ الأرب "3/ 392".

والسور هو حائط الحصن والمدن. وأما الربض: فحائط حول السور. والشرف هو ما أشرف فوق الحائط، ويتشرف الناس من ورائه1. ويعبر عن "السور" بـ "حل" "Hel" في العبرانية، أي: "حائل"، وهو الحائط الذي يحيط بالمدينة2. وتطلق لفظة "حال" و"حويل" على الحائط، وعلى الحدّ الذي يفصل بين ملكين؛ لأنه حائل يحول بين الأملاك وبين الأشياء، فلا تختلط ويمتزج بعضها ببعض3.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 392 وما بعدها". 2 "Roland de Vaux, Ancient Israel, London, 1961, p. 233.". 3 تاج العروس "7/ 295"، "Rhodokanakis Stud., II, S. 31".

الفصل السابع عشر بعد المئة: القصور والمحافد والاطام

الفصل السابع عشر بعد المئة: القصور والمحافد والاطام مدخل ... الفصل السابع عشر بعد المائة: القصور والمحافد والآطام وقد أورد علماء اللغة العربية, جملة ألفاظ لها صلة بالمباني الضخمة وبالمباني العالية. منها: "قصر" والجمع "قصور", و"محفد" والجمع "محافد" و "أطم", و"مجدل", و"حصن" و"برج" وغير ذلك من ألفاظ لبعض منها صلة بالناحية الحربية, لذلك أترك أمرها إلى ذلك الباب, وسأقتصر هنا على الكلام على المباني الأخرى التي تخص الحياة الاجتماعية في الأكثر. والقصر البيت الكبير الفاخر, وتقابل لفظة "قصر" كلمة "قصرو" في لغة بني إرم1. وقد أطلقها علماء اللغة على البيوت الكبيرة لأهل الجاهلية في اليمن, فقالوا: "قصور اليمن". واشتهر من بينها "قصر غمدان" و"قصر سلحين", وقد أطلقها عرب العراق على حصونهم التي كانوا يتحصنون بها عند دنو خطر عليهم, فكانت الحيرة مكونة من "قصور", أقامها أشرافها, واتخذوها بيوتًا لهم, وحماية لأموالهم, وملجأ يلجأ إلية أتباعهم عند دنو الخطر, للدفاع عن سادتهم وعن أموالهم, يصعدون إلى أعلى القصر, فيرمون المهاجم بالحجارة والخزف والسهام والنار, ويصبون عليه الماء الحار. ولما هاجمها "خالد بن الوليد", أخذ يحاصرها قصرًا قصرًا, ويفتحها, وبذلك سقطت المدينة, المؤلفة

_ 1 غرائب اللغة "201".

من هذه القصور. ولا تزال اللفظة معروفة في العراق, فيعرف حصن "الأخيضر" المشرف في البادية بـ"قصر الأخيضر", ويطلق على بعض قرى عين التمر القصور؛ لأنها كناية عن بيوت تُحمى بـ"قصر" في الأصل1. وتخزن في غرف الطابق الأرضي من القصر الميرة, وما يحتاج إليه, وكذلك الماشية, أما الطابق الثاني, أو ما بعده, فيتخذ مسكنًا, لأهل القصر, وقد تعمل به منافذ صغيرة, ليرمي منها المدافعون المهاجمين بالسهام والحجارة, لمنعه من الدنو من القصر, ويدافع عنه من السطح كذلك. والمحفد من الألفاظ الواردة في كتب اللغة, وجمعها "محافد". وتعني في العربية الجنوبية القلعة والحصن، أي: المكان الحصين المنيع الذي يتحصن فيه الجنود للدفاع2. وتعرف بـ"محفدن" في العربية الجنوبية, أي: "المحفد". وترد لفظة "صحفت" مع "محفد". وأما "صحفت", فقد فسرت بمعنى المجاز أو الطريق أو الممر أو الخندق. وهي في معنى لفظة "ضخف" التي تعني الحفر, ومنها "مضخفة" التي تعني المسحاة3. ويكون الخندق حول المحفد, يحميه من غارات الأعداء, فيحول بينهم والوصول إلى سوره. وتؤدي لفظة "صحفت" معنى ممر في داخل الحصن يربط بين السور وداخل الحصن4. والمجدل, هو القصر المشرف5. فهو نوع من أنواع الأبنية الضخمة. وهو الحصن في داخل المدن عند العبرانيين, ويقابل لفظة Castellum في اللاتينية6. وقد وردت لفظة "مجدل" و "مجادل" أي: في صيغة الجمع في النصوص اللحيانية بمعنى البرج والحصن7. وأما الأطم فالحصن والجمع آطام. وهي القصور والحصون. وقال "الأصمعي"

_ 1 راجع الجزء الثالث من تأريخ الطبري, في فتوح العراق, وكذلك فتوح البلدان للبلاذري. 2 "Rhodokanakis Stud., II, S. 61". 3 "Rhodokanakis Stud., II, S. 61". 4 المصدر نفسه. 5 شمس العلوم "جـ1 ق2 ص306". 6 "Roland de Vaux, Ancient Israel, London, 1961, p. 235.". 7 راجع النص 26 في كتاب: "W. Caskel, S. 88.".

الآطام الدور المسطحة السقوف, موشاة, أي: منقوشة1. وهي معروفة عند أهل "المدينة". وقد تحارب الأوس والخزرج عندها, فأرخوا بهذا اليوم. وكانت الأوس والخزرج تتمنع بها, فأخربت في أيام "عثمان"2. وتقوّى الحصون بسكك الحديد أحيانًا, وبكل وسائل التقوية والإسناد, لتتمكن من الصمود أمام العدو, ومن تحمل ضربات الآلات التي تستخدم للهدم. ويعبر عن التقوية هذه بلفظة "سكم", أي: "سك"3. وقد فسر بعض علماء العربيات الجنوبية لفظة "صرحت" "صرحة" "صرحس" التي ترد في كثير من الكتابات المتعلقة بأعمال البناء, بالطبقة الثانية من البناء أو أعلى كل بناء4. وفي كتب اللغة: "الصرح: بيت واحد يبنى منفردًا ضخمًا طويلًا في السماء", وقيل: "القصر" أو كل بناء عالٍ مرتفع. وفي التنزيل: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِير} ، والجمع صروح. وقال بعض المفسرين: الصرح بلاط اتخذ لبلقيس من قوارير5. وترد لفظة "صرحت" بهذا الشكل في بعض الكتابات, كما ترد بغير تاء, أي: "صرح". وقد وردت على هذه الصورة: "صرحس" في بعض الكتابات المعينية, كم وردت على هذا الشكل: "صرحسن" أي: "الصرح". والغالب بين علماء اللغة أن الصرح البيت العالي, وقد قيّد بعضهم ذلك بالبيت العالي المزوق6. وحيث أن البيوت المرتفعة العالية هي في اليمن وفي مواضع من العربية الجنوبية الأخرى في الغالب, ونظرًا لورود اللفظة في كتابات العرب الجنوبيين, فإننا نستطيع أن نقول باحتمال أخذ الحجازيين لفظة "الصرح" و"صرح" من العرب الجنوبيين.

_ 1 الأغاني "1/ 14", "طبعة ساسي", شمس العلوم "جـ1 ق1 ص85". 2 التنبية والإشراف "ص176". 3 "Rhodokanakis Stud., II, S. 46". 4 Rhokokanakis, Stud, II, S. 29, 32, F, Glaser 1089, 1660, Halevy 208, Glaser 1144, Halevy 353, Jamme, South Arabian Inscriptions, p. 448. 5 شرح القاموس "2/ 179". "الصرح: بيت عال مزوق", المفردات "280". 6 المفردات, للراغب الأصفهاني "ص280".

الأعمدة والاسطوانات

الأعمدة والأسطوانات: ومن الرخام أقيمت أعمدة جميلة كسيت تيجانها بالنقوش وبالزخرف الأخاذ, وقد تمكن المعماريون من وضع الصخور بعضها فوق بعض وضعًا فنيًّا في غاية الدقة جعلتها تظهر وكأنها قطعة واحدة. فقد صقلوا الصخور صقلًا تامًّا بدقة وعناية. وجعلوا نهايتها متطابقة تمامًا, فإذا جلست بعضها فوق بعض, انطبقت على بعضها, وبدت وكأنها قطعة واحدة يصعب التمييز بين مواضع انطباقها. وقد نقروا أحيانًا في أواسط الرخام نُقرًا عميقة, ثبّتوا في داخلها أوتادًا من الرصاص أو الحديد, لتربط بين قطع الرخام, ولتكون لها سندًا وقوة, فلا تسقط. وقد وجدت مثل هذه الأوتاد بين الصخور المكونة لسد مأرب1, وكذلك في قصر "غمدان"2. وأقيمت الأعمدة على قواعد تحمل الصخور الثقيلة المؤلفة منها تربط بينها أوتاد مربعة في الغالب, وتكون القواعد أكبر حجمًا من العمود ليستقر ثقل الأعمدة عليها, ولتكون أثبت على سطح الأرض. وتقوى هذه القواعد بصب الرصاص عليها. وقد وجد أن المعماري العربي الجنوبي تعمد في جعل الجدران المرتفعة ميّالة إلى الجدار الداخلي كلما ارتفع البناء, بمعنى أنه يجعل الجدران الخارجية أقرب إلى واجهة الجدران الداخلية في أعالي البناء من القواعد, فتكون المسافة عندئذ بين الجدارين عند السقف أقرب وأقصر منها عند القاعدة3. ويظهر أنه تعمد ذلك لأغراض هندسية واقتصادية, تستدعيها المحافظة على الحجارة من عبث الطبيعة بها وتقوية لها, وتخفيفًا عنها, واقتصادًا في مواد البناء. وأقيمت بعض الأعمدة على أرض البناء رأسًا من دون قاعدة بارزة يرتكز عليها بمعنى أن المعمار لم يجعل قاعدة العمود أوسع وأعرض من هيكل المجموع, فيظهر العمود وكأنه قد نبت من الأرض. وقد عثر المنقبون على أنواع متعددة من الأعمدة, تيجان بعضها مربعة أو

_ 1 "Glaser, Reise, S. 60, Hand. Der Alt., I, S. 146.". 2 "D. H. Müller, Burgen und Schl?sser, I, S. 345.". 3 "Hand-der altar. alter., I, S. 146.".

ذات زوايا مستقيمة. منها ما هو بسيط بدون زخرفة ولا نقوش, ومنها ما هو مزخرف أو علية بعض النقوش أو بعض الحروف أو الكتابات. ومن جملة الزخرف الذي زين تيجان الأعمدة زخرف يمثل زهرة الزنبق وأنواعًا أخرى من الزهور1. وتمثل الأعمدة المربعة الشكل أو المستطيلة والخالية من الزخرف أقدم أنواع الأعمدة بالنسبة للفن المعماري العربي الجنوبي. ونجد نماذج منها في خرائب معبد "قرنو" عاصمة معين. وفي "صرواح" "الخريبة" وفي "مأرب""حرم بلقيس" "محرم بلقيس"2 وقد اقتطع المعمار هذه الأعمدة من الصخور, كتلًا كتلًا, ثم أمر بصقلها وتشذيبها حتى حولّها إلى قطع أكسبها شكلًا هندسيًّا, قواعدها مربعة أو مستطيلة, وضعها بعضها فوق بعض إلى الارتفاع المقصود, مكونًا منها أسطوانة تحمل البناء. يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر. ونرى في هذه الصورة تاج أحد الأعمدة, وقد زخرف بحيث ظهر وكأنه كتلة من رءوس خرفان أو حيوانات لها قرنان كالوعل وقد أبدع الفنان في حفره حتى ظهر الحجر كأنه مجموعة حيوانات وقفت بعضها إلى جانب بعض, وزخرفت قاعدة الحجر, كما ترى في الصورة, ويظن بعضهم أنه رمز الإله القمر. من كتاب: Qataban and Sheba"ص224".

_ 1 "Hand. Der altar. Alter., I, S. 147, Deutsche Aksum Expedition, II, S. 143. ff.". 2 "A. Grohmann, S., 209.".

وقد أبدع الفنان في الحفر, وأجاد في الزخرفة وفي إتقان عمله, وأعطى عمله روعة, فترى الحفر على مستوى واحد, وقد عمل بدقة ومهارة. وإتقان العمل والإبداع في الفن من المزايا التي امتاز بها أهل العربية الجنوبية حتى اليوم. وهناك أنواع من الأعمدة تتكون من ثمانية أضلاع, وأنواع أخرى تتكون من ستة عشر ضلعًا, عثر عليها في مدينة "تلقم", وتتكون تيجانها من ست درجات: ثلاث منها على هيئة نصف أسطوانة: بطونها إلى الخارج وقاعدتها العمود, وثلاث على هيئة صفائح مستطيلة ذات ستة عشر ضلعًا. وقد نحتت هذه التيجان ورتبت على هذا الشكل: الدرجة السفلى مكونة من مستطيل ذي ستة عشر ضلعًا, وفوقه درجة على هيئة أسطوانة يليها مستطيل ذو ستة عشر ضلعًا, وهكذا إلى أن ينتهي التاج بالدرجة السادسة للتاج1. وقد عثر على نماذج من الأعمدة المثمنة الأضلاع في معبد "صرواح" بـ"أرحب", وفي "حقه" وفي "العرين" وفي "بيت غفر" وفي "سوق النعم" وفي "شبام كوكبان" وفي "مأرب", وفي مواضع أخرى. ويرجع عهد هذا النوع إلى ما قبل الميلاد, ويمتد إلى ما بعده. ويرى بعض الباحثين أن أكثر هذه الأعمدة قد ظهر في فترة من الزمن تقع فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني من بعد الميلاد2. وقد رأى "كلاسر" "Claser" عمودًا مثمنًا ذا تاج "كورنثي" في مسجد "منقط" بالقرب من "يريم", يرى الباحثون أنه من صنع عامل يوناني. وهم يرون أن أصلة من مدينة "ظفار" التي لا تبعد كثيرًا عن هذا المكان, جيء به من هناك إلى هذا المسجد. وقد كانت "ظفار" مركزًا خطيرًا وعاصمة لحمير, وفيها أسس "ثيوفيلوس" كنيسة حوالي سنة "354" للميلاد. وصارت هذه المدينة مركزًا لأسقفية تشرف على نجران وهرمز وسقطرى. وقد عثر في هذا المسجد على قطع أخرى أثرية, عليها آثار الصلبان وكتابات حبشية وآثار أخرى تشير إلى أصل نصراني, يظهر أنها من أيام استيلاء الحبشة على اليمن, وأنها ترجع إلى ما بين سنة "525" و"570" للميلاد. وفي خلال هذه المدة كان

_ 1 "Hand,der altar. alter., I, S. 148.". 2 "A. Grohmann, S. 210.".

احتلال الحبشة للعربية الجنوبية1. ولا أستبعد أن يكون من بين هذه الأعمدة التي نحت الصليب فوقها, أعمدة جاهلية أُخذت من المعابد الوثنية, ثم حفر الصليب عليها, لتتناسب مع الطقوس النصرانية. أو أنها كانت معابد وثنية قديمة, فلما استولى الحبش على اليمن, أو عند اعتناق أهل تلك المواضع للنصرانية حولّوا تلك المعابد إلى كنائس وأحدثوا فيها بعض التكييف والتغيير لتكون في وضع يناسب الكنيسة, فكان في جملة ما أدخلوه عليها حفر الصلبان على أعمدة تلك المعابد. وتظهر الأعمدة المكونة من ستة عشر ضلعًا, وكأنها أسطوانة, أي: عمودًا ذا شكل دائري؛ لأن الأضلاع صارت ضيقة متقاربة أعطت العمود شكل أسطوانة. وقد عثر على نماذج من هذه الأعمدة في مدينة "تلقم" وفي معبد "صرواح" بأرحب, وفي "صرواح" "الخريبة" وفي "الفراس", وفي جامع المتوكلية بصنعاء2. ويرى بعض الباحثين أن الأسطوانات, أي: الأعمدة المدوّرة ذات الشكل الأسطواني التام, قد ظهرت بعد الأعمدة المذكورة, وأنها ترجع إلى الأزمنة المتأخرة لذلك من تأريخ اليمن3. ومن العربية الجنوبية انتقلت هذه الأعمدة إلى بلاد الحبشة, حيث نجدها في معابد الحبشة القديمة. وقد أخذ أهل تلك البلاد هذا النوع من الأعمدة في جملة ما أخذوه من حضارة أهل العربية الجنوبية4. وقد رأينا أن أهل سبأ كانوا قد أقاموا حكومة لهم في إفريقية, وقد ترك أهل العربية الجنوبية, ولا سيما أهل سبأ منهم, آثارًا في اليمن في مختلف النواحي, ما تزال ظاهرة للعيان. وقد استعملت الأعمدة المصنوعة من الخشب لحمل السقوف ولا سيما في البيوت.

_ 1 Philostorgios, Historia Ecclesiastica, III, 4, Handb. Der Altar. Alter, I, S. 148, 2 A. Grohmann, S, 210, Rathjens un Van Wiossmann, Vorislamische Altertumer, 132, 133, Glaser, Geographische Forshungen in Jemen, 1882, 73. 2 3 "A. Grohmann, S. 210.". 4 Deutsche Aksum – Expedition, II, S. 101. F, 154, FF, Hand. Der Altar, Alter, I, S. 148.

وتوجت هذه الأعمدة بتيجان في الغالب, جعلت على هيآت وأشكال مختلفة. ولا يزال الناس يستعملون هذه الأعمدة في بناء البيوت. وقد نوّع المعمار هندسة تيجان الأعمدة والأساطين, بأن جعلها أشكالًا وأنماطًا, راعى وحرص على أن يجعلها تتناسب مع شكل العمود الذي سيوضع التاج فوقه, أو الأسطوانة التي سيوضع عليها. وقد مرّ هذا التنويع في أدوار وأطوار, كما مرت صناعة الأعمدة والأساطين بهذه الأدوار كذلك. لقد كان التاج في بادئ أمره جزءًا أساسيًّا من أجزاء العمود, أي: قطعة منه. هي القطعة الأخيرة من قطع العمود. وعلى هذا الجزء أقام قواعد السقف من غير أن يميزه عن الأجزاء الباقية من أجزاء العمود بأي شيء. ثم بدا له أن يجعل للقطعة الأخيرة حافة عليا بارزة, وأن يجعل أعلاها أوسع من أسفلها الذي هو قاعدة التاج التي ترتكز على بقية أجزاء العمود. وذلك لأسباب فنية تتعلق بالبناء وبعقد عقود سقوف المعابد. ثم أخذ يجعل التاج قطعة حجر تكون أوسع مساحة من مساحة القطعة من العمود الذي سيوضع فوقها, أي: أوسع من مساحة العمود نفسه, وصار يزخرفه ويتفنن في زخرفته, حتى ظهرت عنده جملة تيجان أقيمت عليها سقوف المعابد والقصور. وقد عثر على تيجان بسيطة هي عبارة عن حجر وضع فوق العمود, ولكي يربط هذا التاج بالعمود ربطًا محكمًا, ويجلس فوقه جلوسًا تامًّا هندسيًّا, فقد ربط بالعمود بوتد يقوم مقام المسمار في ربط أجزاء الخشب بعضها ببعض, يدخل في التاج وفي العمود ليربط بينهما ويجعلهما وكأنهما قطعة واحدة من حجر. وقد توضع بين التاج والعمود مادة بنائية لتشد بين الحجرين وتمسك بينهما, فضلًا عن "المسمار" الذي يدخل في الثقب الموجود في الحجرين, إن كان ذلك "المسمار" متحركًا أي: متنقلًا, أو في الثقب المحفور في الحجر المقابل, إن كان ذلك "المسمار" أو الوتد ثابتًا وقد نحت في أحد الحجرين حتى صار مرتفعًا كقطب الرحى, ليدخل في التجويف المعمول في الحجر الثاني المقابل وبذلك يتماسك الحجران. وقد وجد "كلاسر" تاج عمود, ظهر أنه كان مؤلفًا من حجرين, حجر مربع الشكل أطرافه قائمة الزوايا, وأضلاعه الخارجية عدلة, ثم حجر آخر أقيم تحته, أي: فوق العمود, أطرافه الخارجية منحوتة نحتًا جعل الأطراف مائلة نحو العمود, أي: إلى الجهة السفلى1. وربما كان هذا النوع من التيجان مرحلة من

_ 1 "A. Grohmann, S. 210.".

مراحل تكبير التاج وتطويله بجعله يتألف من جملة طبقات. كما عثر على تيجان جعلت جملة طبقات, طبقة مصقولة ملساء, وطبقة منحوتة ومزخرفة زخرفة هندسية أو بأشكال أخرى حسب ذوق المهندس المعمار الذي وضع تصميم المكان. عثر على نماذج أخرى عديدة من التيجان, تفنن في نحتها وفي تكوينها المعمار. وتمثل بعض منها شخصية ذلك المعمار تمام التمثيل. فهي مستقلة تمثل طابع العمارة العربية الجنوبية. ولكننا نجد بعض التيجان وكأنها تقليد ومحاكاة لتيجان أجنبية. فبينها تيجان تشبه تيجان أعمدة بعض معابد مصر التي تعود إلى ما قبل الميلاد, ونجد بعضًا وكأنه محاكاة لتيجان يونانية أو رومانية أو فارسية أو حبشية. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن عددًا من تيجان الأعمدة الموجودة اليوم في بعض دور الحكومة بصنعاء, أو في المساجد أو في بعض البيوت هي من أيام الاحتلال الحبشي أو الساساني لليمن. ولا يستبعد أن يكون من بينها تيجان وأعمدة أخذت من كنيسة "القليس"1. ولما كانت العربية الجنوبية على اتصال بالعالم الخارجي, منذ عصور ما قبل الميلاد, وقد شهدت فتوحًا أجنبية, كما كانت لها صلات تجارية مع الروم والإفريقيين والهنود والفرس, فلا يستبعد استخدام العرب الجنوبيين للأعاجم في أعمال البناء, وتأثرهم بالأساليب المعمارية الأجنبية, ولا سيما في أثناء الفتح الحبشي لليمن, فقد ذكر أهل الأخبار أن الحبش استعانوا بفعلة من الروم في بناء "القليس", كما أن الروم كانوا قد شيدوا كنائس في عدن وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب, وقد بنيت هذه الكنائس وفقًا لأسلوب الفن البيزنطي النصراني ولا شك. وقد كان بين الفرس من يحسن البناء ويتقنه, كما كان لأهل العربية الجنوبية اتصال بالفرس قبل هذا الفتح, وكانت فيها جاليات منهم ولا سيما في الأقسام الجنوبية الشرقية, فأثروا بذلك في طراز البناء. وما قلته من تفنن المعمار العربي الجنوبي في تنويع الأعمدة وتيجانها ينطبق أيضًا على القواعد التي أقيمت الأعمدة عليها. فبعد أن كانت قاعدة العمود أو الأسطوانة بسيطة, لا تمتاز عن العمود بأي شيء, بل كانت قطعة واحدة منه, ليست لها عن بقية الأقسام أية ميزة, رأى المعمار تمييزها عن بقية الأقسام, فجعلها أوسع

_ 1 "A. Grohmann, S. 119, Sabaeica, I, 119.ff.".

من العمود, وأعطاها أشكالًا هندسية وزخرفية ميزتها عن العمود وعن تاجه. فنجد قواعد أعمدة على شكل مربع أو على شكل مستطيل أو على شكل دائري. ثم نجدها بسيطة تمامًا, ونجدها مزخرفة ومزوقة. ونجدها وقد نحتت على شكل تظهر وكأنها من طبقات مختلفة. وعلى هذه الأعمدة والتيجان والأسطوانات أقيمت سقوف المعابد والقصور وبيوت السادات عقدت عقدًا على نحو ما نراه في الوقت الحاضر من بناء المساجد وبعض الأسواق القديمة والأبنية الأثرية. ولا يستبعد استعمال أهل اليمن للقباب في معابدهم وفي قصورهم, فمادة البناء متوفرة عندهم, والإمكانيات الفنية موجودة عند المعمار العربي الجنوبي. عقدت على عقود وأقواس ينتهي مركز ثقلها بتيجان الأعمدة أو برءوس الأعمدة على طريقة بناءهم للمساجد في هذه الأيام. ولم تجر حتى الآن حفريات علمية واسعة في اليمن وفي بقية أنحاء العربية الجنوبية, كما أن دراسات المتخصصين الضليعين بعلوم العربيات الجنوبية قليلة, ولهذا كان علمنا بالآثار العربية الجنوبية ضحلًا لا يعين على تكوين رأي علمي واضح صحيح في آثار تلك الأرضين وفي صلة الحضارة العربية الجنوبية بغيرها من الحضارات. لقد وضع "كلاسر" مخططات تقريبية لبعض المعابد والأبنية القديمة في اليمن, مثل معبد صرواح ومعبد "محرم بلقيس" حرم بلقيس, وهو معبد إله سبأ الرئيس "المقه" وأماكن أخرى, كما وضع غيره مخططات أخرى. ولكن هذه الدراسات تقريبية وغير كاملة. ولا بد من وقت للبحث في هندسة هذه الأماكن بحثًا علميًّا دقيقاً. ومثل هذه البحوث لا تقوم إلا بحفريات عميقة منتظمة, توصلنا إلى أسس تلك الأبنية وما طمر في الأرض من آثار تتعلق بتلك الأماكن. وقد تمكن المنقبون في هذا اليوم من تثبيت معالم بعض المعابد ولا سيما معبد "المقه" بمأرب, حيث شخصوا بعض معالمه, إلّا أن تحديده بصورة مضبوطة واضحة, وتعيين مواضع العبادة فيه, تحتاج إلى دراسات أثرية واسعة وبمقياس كبير. فقد أمكن مثلًا تنظيف بعض مواضع معبد "اوم" "اوام" بمدينة "مأرب" من الأتربة, لتظهر معالمه, وأمكن بذلك من الحصول على معلومات أثرية لا بأس بها عنه, غير أن معارفنا عنه لا تزال قليلة؛ لأن البحث العلمي لم يتم على هذا المعبد حتى الآن. وترى في الصورة بقايا الأعمدة التي كانت تحمل

سقوف المعبد, كما تشاهد بعض بقايا جداره, وهو من المعابد المهمة التي كانت في "مأرب". 1يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر. معبد أوام بمدينة مأرب من كتاب "Qataban and Sheba" "ص257" وقد نُسي اسم هذا المعبد القديم, الذي كان يسميه السبئيون معبد "اوم" "أوّام". وكانوا يتقربون إليه بالهدايا والنذور, تقدم باسم رب هذا المعبد: "بعل اوم". وهو "المقه" إله سبأ الأكبر, إله القبيلة القديم. وهو القمر ويسمى معبده في هذا اليوم بـ"حرم بلقيس" وبـ"محرم بلقيس", ويقع على مسافة ميلين تقريبًا من قرية "مأرب" الحديثة. وتقع معظم ساحة المعبد وجدره وأبنيته تحت الرمال. وما لم ترفع هذه الكثبان الرملية عنه, فإنه من المستحيل التحدث عنه حديثًا علميًّا. وقد سرق الناس أحجار السقوف وأعالي جدار المعبد, لاستعمالها في البناء, ولما زار "كلاسر" المعبد ووصفه, رأى سقف

المعبد, أي: البيت الذي يتعبد فيه, وكذلك أعالي سوره, وكانت زيارته له سنة "1888م", ولا نجد اليوم من آثار السقف وأعالي الجدران شيئًا, بسبب سرقة الأحجار, ولولا الرمال التي غطت الأرض والجدران وساحة المعبد, وحفظت في باطنها أحجارها وبعض الأعمدة الضخمة التي صعب على الناس قلعها, لما تبقى من حجارة هذا المعبد شيئًا. يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر جانب من معبد –أوام – وترى أبوابًا ونوافذ لقاعة من قاعات هذا المعبد. ويظن أنها ليست من أصل المعبد بل أضيفت إليه من كتاب "Qataban and Sheba" "ص272"

وقد بني هذا المعبد في أيام "المكربين", وقد وجدت فيه كتابة تعود إلى أيام المكرب "يدع ايل ذرح بن سمهعلي" مكرب سبأ. ويرى "البرايت" أنه حكم في منتصف القرن السابع قبل الميلاد. وربما كان هذا المكرب قد جدد بناء هذا المعبد الذي أقامه مكربون سبقوه في الحكم1. وتجد في هذه الصورة بقايا جدار معبد "اوم", وبقايا نوافذ حجرية, وقد تخللتها ثقوب لدخول الهواء والنور منها, وقد نقشت وزخرفت. وقد جدد ورمم بناء المعبد مرارًا, وأضيفت عليه جملة زيادات, كما يتبين ذلك من الكتابات التي عثر عليها المنقبون داخل المعبد, وقد دوّنت لمناسبات التجديد وإدخال الإضافات, ثم من طراز الهندسة الذي نراه في البناء ومن تنوع الأحجار ومادة البناء. وهذه صورة أخرى, أخذت أثناء قيام بعثة "وندل فيلبس" بأعمال الحفر في معبد "اوام" وترى الأعمدة قائمة, والعمال يشتغلون في إزاحة الأتربة التي طمرت ذلك المعبد القديم. يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر من كتاب "Qataban and Sheba" "ص256".

_ 1 راجع الصفحة "215 وما بعدها" من كتاب: Archaeological Discoveries in South Arabia, 1958, by John Hopkins Press. للوقوف على وصف هذا المعبد.

وهذه صورة أخرى لمعبد "اوم" "اوام", في أثناء قيام بعثة "وندل فيلبس" بالحفر فيه. يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر ونرى في هذه الصورة أعمال الحفر لبعثة "وندل فيلبس" وهي تجري في معبد "عثتر" بمدينة "تمنع" عاصمة قتبان. ويعود عهده إلى القرن الأول قبل الميلاد.

وتوجد في خرائب "مأرب" آثار معبد آخر خصص لعبادة "المقه" كذلك, هو معبد "برن" "بران". ويعرف موضعه بـ"العمايد" عند أهل مأرب الحاليين. وذلك لوجود أعمدة من أعمدته القديمة ظاهرة على سطح الأرض. ولم يقم العلماء بالتنقيب عن هذا المعبد المهم1. وقد بقيت في العربية الجنوبية بقية من أصول الهندسة المعمارية الجاهلية, تظهر معالمها في المباني الضخمة التي تكوّن بيوت الحكام والأسر الغنية, والتي تضم في الغالب أحجارًا قديمة مكتوبة وغير مكتوبة, وتراثًا قديمًا موروثًا ورثه المعمارون من عرب ما قبل الإسلام. وترى في الصورة نموذجًا من الريازة القديمة المتمثلة في مسجد "الأشرفية" بمدينة تعز, وهي ريازة أخذت من الفن الجاهلي. وترى الضريح, وقد أقيم يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر ضريح أحد الأئمة في مسجد الأشرفية بمدينة تعز من كتاب: "Gûnther Pawelke Jemen" "ص64".

_ 1 Archaeological Discoveries in South Arabia, pp. 238, A. Jamme, Inscriptions de Al Amyid a Mareb, in Le Museon, LXVIII, 1955, pp. 317, Jamme 534.

على طراز عربي قديم, لا يشبه الأضرحة التي توجد في البلدان العربية الأخرى, لاستمداده هندسته من هندسة الأضرحة القديمة في العربية الجنوبية. ونرى في هذه الصورة المأخوذة لجامع "الجندية" فنًّا, يختلف عن فن بناء المساجد في العراق أو في بلاد الشأم, فلعقود هذا الجامع ولأعمدته وأسطواناته صلة بالأبنية العربية الجنوبية القديمة. وأنت إذا دققت في هذه الصورة ترى طراز بناء القسم الأيمن منها يختلف عن طراز بناء الجزء الأيسر منها, ومع ذلك فإن للطرازين صلة بالفن العربي الجنوبي. وترى سطح السقف, وقد زين بأفاريز لها صلة بالأفاريز التي كان يعملها العرب الجنوبيون على مثل هذه المواضع من أسوار مدنهم, وأبنيتهم الضخمة من دور وقصور. يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر. جامع الجندية من كتاب: "Jamen, das Verbotene land" لمؤلفه "Gûnther Pawelke" "ص96". ونرى في الصورة التالية التي هي صورة مسجد بمدينة "تعز", فنًّا, له جذور وأصول قديمة, استمد روحه من الفن العربي الجنوبي الذي يعود إلى

أيام ما قبل الإسلام. وهو فن له استقلال في الشخصية, ومزايا تميزه عن الفن في المواضع الأخرى من جزيرة العرب. ونرى بعض قباب مساجد اليمن لها شخصية مستقلة, ترشدنا إلى أنها من أصل ذلك الفن اليماني العريق في القدم. يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر مسجد في تعز من كتاب: "Jamen, das Verbotene land" لمؤلفه "Gûnther Pawelke" "ص48" وعندي أن من الواجب في هذا اليوم دراسة الفن المعماري القائم حاليًا في العربية الجنوبية, المتجلي في الأبنية القائمة الباقية التي لها طابع عربي جنوبي خاص, من قصور ودور ومساجد وأضرحة, ودراسة فن الزخرفة المتمثلة في النقش على الحجر, من زخرف قديم وزخرفة حديثة, ودراسة الأعمال الفنية السائدة اليوم, مثل: النجارة والحفر والنقش والرسم وما شاكل ذلك؛ لأن مثل هذه الدراسة تساعدنا كثيرًا في الوقوف على الفن العربي الجنوبي. وقد أبدع أهل العربية الجنوبية في فن الزخرفة, و"الزُخرف" في تفسير علماء العربية: الذهب في الأصل, ثم سميت كل زينة زخرفًا, ثم شبه كل مموه مزوّر به. وفي حديث يوم الفتح أنه لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحّي وأمر بالأصنام فكسرت. الزخرف هنا نقوش وتصاوير1. ومن النقوش التي عثر

_ 1 تاج العروس "6/ 126", "زخرف".

عليها في العربية الجنوبية نقوش حيوانات وأشجار وصور بشر حفرت على الأحجار أو المعادن أو الأخشاب, وعلى ألواح من الجبس, استعملت في أغراض مختلفة للزينة. ومنها أحجار منقوشة, نقشت عليها عناقيد عنب وأغصان وأوراق, وما شاكل ذلك. وجد علماء الآثار أن بعضًا منها يعود عهده إلى القرون الأولى من الميلاد1. وإذا كانت المعابد شاهدًا على الفن وعلى التفكير الديني لقوم من الأقوام, فإن المقابر هي شاهد كذلك على وجهة نظر القوم إلى العالم الآخر, عالم ما بعد الحياة. فما في القبر من أدوات وأشربة وطعام وآنية, أو من بساطة وسذاجة, تشير إلى تفكير القوم في شكل الحياة الآخرة وفي كيفيتها وفي درجة تعلقهم وتمسكهم بالآلهة وبالدين. وخير مثال على ذلك, أهرامُ مصر وآثارها, فإنها آثار قبورية, تمثل مبلغ تغلغل الدين في نفوس الحاكمين وفي الشعب, ووجهة نظرهم إلى عالم ما بعد الحياة. لقد أنفق الحاكمون على قبورهم أكثر مما أنفقوه على قصورهم في الدنيا. إن بهم –بعد الموت– حاجة إلى كل ما يحتاج إليه الإنسان في الحياة. ولهذا ادخروه في هذه المقابر, ليستفيد منها الميت بعد انتقاله إلى العالم الآخر ورجوع الحياة إليه. أما العربي, فلم يهتم بقبره اهتمام المصري به, فلم يترك "المكربون" ولا الملوك ولا الأمراء ما تركه الفراعنة والكهان والأمراء في قبورهم, لا كله ولا بعضه. إنه لم يكن يحفل بالحياة الآخرة احتفال أهل مصر بها, لذلك نجد قبره ساذجًا, ثم هو لم يدخل فيه طعامًا ولا شرابًا ولا أثاثًا, ولم يدخل فيه كذلك خدمًا وحشمًا من بقايا الحاشية المسكينة التي أدخلت إلى القبر قسرًا لتخدم سيدها في العالم الآخر, كما خدمته في العالم الأول. وقد يقال: إن لفقر بلاد العرب دخلًا في ذلك, ولكن ما بال أهل اليمن, وقد كانوا في سعة وخير, لا يفعلون في قبورهم بعض ما فعله أهل مصر. وما بال قبور ملوكهم ساذجة, لا تحتوي ذهبًا ولا حجارة كريمة ولا تصاوير وتماثيل وتوابيت وجثثًا للضحايا التي تدفن مع الميت؟ إن ذلك, إن دلّ على شيء, فإنما يدل على اختلاف في وجهة نظر القوم عن وجهة نظر المصريين مثلًا

_ 1 "Beitr?ge, S. 18.".

عن الحياة الآخرة. ونحن لا نتكهن في الزمن الحاضر عن وجهة نظرهم في ذلك الزمن, لعدم وجود كتابات جاهلية أو آثار تتحدث عن تلك الحياة. وإذا قلنا: إن تلك القبور كانت ساذجة خالية من الكنوز التي يجدها الناس في أهرامات مصر, فإن ذلك لا يعني أن قبور الجاهليين, كانت كلها خالية من النفائس تمامًا. فقد عثر في بعض منها على أساور من ذهب وخواتم وتماثيل وجرار بل وعلى سيوف وخناجر وسكاكين, وضعت مع الميت في قبره, كما يروي أهل الأخبار أن بعض الجاهليين كانوا يتعقبون المقابر القديمة, فينبشونها لاستخراج ما فيها من أشياء نفيسة, حتى ذكروا أن ثراء "عبد الله بن جدعان" إنما كان من المقابر القديمة التي كانت بمكة1, ورووا قصصًا عن قبور زعم أن الناس عثروا فيها على كنوز, وقد سبب هذا القصص إقدام الناس على نبش المقابر الجاهلية لاستخراج ما قد يكون في جوفها من ذهب وكنوز, مما أفسدها وأزال معالمها وأضاع علينا تراث الجاهليين. وقد ذكر "أبو علي لغدة" الأصفهاني, أن "بجلدان هضبة سوداء, يقال لها: بتعة, ومنها نُقُبٌ, كل نقب قدر ساعة, كانت تلتقط فيه السيوف العادية, والخرز, يزعمون أن فيه قبورًا لعاد, وكانوا يعظمون ذلك الجبل"2. وقد عثر على بعض المقابر الجاهلية في العربية الجنوبية, ظهر منها أن القبور ساذجة لا تكلف فيها ولا تعقيد في الغالب. ولكنها مختلفة باختلاف الأرضين والقبائل وطبيعة الأرض. فقد عثر على قبور اتضح منها أن الجاهليين في بعض أماكن من اليمن, وضعوا الميت في تابوت قائم الزوايا, مصنوع من الحجر, وقد غطي بغطاء من الحجر كذلك. ومثل هذه القبور لا تكون في العادة إلا في الأماكن التي تتوفر فيها الحجارة. أما في الأماكن الصحراوية والترابية التي لا تتوافر فيها مثل هذه الحجارة, فلم يكن من الممكن وضع الميت في مثل هذا التابوت, ولهذا كانوا يدفنونه في الأرض في لحد, ثم يهال على الميت التراب. وقد عثر على جملة قبور تكوّن مجموعة واحدة يحيط بها حائط معقود بالحجارة يتراوح ارتفاعه من متر إلى خمسة أمتار. وهي مدافن أسرة واحدة في الغالب. وقد أشير إلى

_ 1 الروض الأنف "2/ 92 وما بعدها". 2 بلاد العرب "13, 30".

أمثال هذه المقابر في الكتابات. كما عثر على قبور هي غرف نحتت في الصخور, وقد كُتب على باب الغرفة, أي: القبر, اسم صاحب القبر أو أسماء المدفونين في الغرفة1. وقد وصف "هريس" بعض هذه القبور2. وعثر على بقايا مقبرة خارج سور مأرب من ناحية الشمال والغرب, تبين من فحصها ودراستها أن بعض الموتى قد دفنوا وقوفًَا, وبعضهم قد دفنوا على الطريقة المألوفة, أي: اضطجاعًا على الأرض. ومن هذه المقبرة العامة الجاهلية حصر "كلاسر" على عدد كبير من شواهد القبور, التي وضعت فوق قبور أصحابها لتدل عليهم, ولتشير إلى صورة صاحب القبر واسمه3. وقد عثر في معبد "اوم" "اوام", المعروف بمحرم "بلقيس", على مقابر, لها أبواب تؤدي إليها. ذات غرف, اتخذت مواضع لوضع الجثث بها. وجد أن بعضها كانت مقابر للمكربين وللملوك, فقد عثر على اسم "سمه علي ينف" "سمهعلي ينف" "سمه علي ينوف", مكتوبًا على حجر في أحد القبور, وعثر على اسم آخر هو: "يثع امر بين بن يكرب ملك وتر" وهما من الملوك الذين اعتنوا بهذا المعبد, فأضافوا إليه إضافات, ولعلّ الحفريات المقبلة ستكشف عن أسماء ملوك آخرين قبروا في هذا المعبد الكبير, الذي كان المعبد الرئيسي لشعب سبأ في عاصمته مدينة مأرب "هجرن مربن", "هجرن مرب". وقد عثر في هذه المقابر على مباخر, يظهر أنها استخدمت لتبخير القبر عند دفن الموتى, وفقًا لطقوسهم الدينية, كما عثر على قطع من الأحجار الكريمة وبعض المصوغات المعمولة من الذهب, ونظرًا لوجودها مبعثرة, يظن أن الأيدي قد عبثت بها, فنهبت ما كان أهل الموتى قد دفنوه مع الميت من أشياء ثمينة4. ووصف "فون ريده" نوعًا من الأضرحة وجده في "صهوة" بحضرموت. وقد وصفه بأنه بناء على هيئة مكعب, طول كل ضلع منه زهاء 25 قدماً, وبارتفاع مماثل. وقد شيد من حجارة مربعة كبيرة, ويبلغ سمك حائطه قدمين.

_ 1 "Handb.der altar. alter., I, S. 162.". 2 "W. B. Harris, A Journey through The Yemen, London, 1893, p. 273.". 3 "Wissmann – H?fner, S. 28.". 4 "Archaeological Discoveries in South Arabia, p. 235.".

وهو مقسم في الداخل إلى قسمين. يكون القسم الواحد غرفة يفصل بينهما حائط يبلغ ارتفاعه ستة أقدام من مدخل البناء. ويتكون السقف من حجارة عرضها قدمان. ونجد جوانبه ثلاثة أهرام للزخرفة. وعلى البناء كتابة قبورية تشير إلى القبر1. ولتخليد ذكرى صاحب القبر, ولوقوف الناس عليه, استخدم العرب الجنوبيون كغيرهم شواخص قبور, هي عبارة عن أعمدة من الحجر رباعية أو غير رباعية يكتب في أعلاها اسم المتوفى. وقد يصور تحت الكتابة صورة تمثل الميت, أو ترمز إلى شيء ديني. وقد عثر "كلاسر" على عدد من هذه الشواهد القبورية في مأرب2. وقد تكون الشواخص على هيئة صخور مستطيلة, يكتب عليها اسم صاحب القبر. وقد تزخرف هذه الصخور. وتنتهي الكتابة بلفظة "صلم" في بعض الأحيان, بمعنى صنم, أي: صورة, ويراد بها صورة المتوفى, أو الرمز الدال على شيء مقدس. وقد تدوّن الكتابة في القسم الأسفل من الشاهد, وتحفر الصورة في القسم الأعلى منه. وعثركلاسر أيضًا على نوع آخر ساذج من الشواهد, هو عبارة عن نصب يشتمل على الكتابة وتحتها عينان فقط3. وتثبت هذه الشواهد في الأرض. وقد وجد لبعضها حافة رقيقة كحد السكين, وذلك لتسهيل تثبيتها في الأرض, ومقاومتها لعبث الهواء والآفات الأخرى فيها4. ويقال للقبر "مثبر" و"هقبر" "القبر" في اللحيانية5. وقد عثر المنقبون على أحجار قبور, كتبت عليها أسماء الموتى, وصورت عليها صور تشير إلى الميت, وحفرت عليها بعض الرموز والإشارات المستعملة في طقوسهم الدينية. وقد وجدت في المقبرة الملكية لملوك أوسان تماثيل لبعض ملوك هذه الأسرة الصغيرة التي حكمت مملكة أوسان, وقد كتبت على قاعدة التماثيل أسماء الملوك, ويتبين من وجودها في هذه المقبرة, أن آل الميت دفنوا مع الملك المتوفى تمثالًا

_ 1 "A. von wrede, Reise in Hadhramaut, S. 245.". 2 "Handb-der altar. alter., I, S. 163.Wissmann –H?fner, S. 28.". 3 "D. H. Müller, Südarrabische Altertuner, S. 50.". 4 "Handb-der altar. alter., I, S. 164.". 5 النص رقم 45 و46 و47 من كتاب: "W. Caskel, S. 99, 133.".

له, ربما ليدل على قبره. وكتب لذلك عليه اسمه ليعرف, ولم يعثر على مواد أخرى ثمينة, ويظهر أنها كانت موجودة غير أن السرّاق سرقوها, فلم يبق فيها غير ما فات عنهم, فلم يصلوا إليه. وقد موّنت المقابر الأخرى التي سلمت علماء الآثار والباحثين بألواح من الحجر, نحتت عليها صور المتوفين, فوضعت شواخص على القبور, ليعرف بالشاخص صاحب القبر, كما عثر على مثل هذه الشواخص في باطن القبر, مما يدل على أنها دفنت مع الميت في القبر. يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر. شواخص قبور حاول صانعوها إبراز معالم أصحابها وقد أبدعوا في بعضها وخابوا في البعض الآخر. من كتاب: "Qataban and Sheba" "ص224" ونرى في الصورة التالية تماثيل صغيرة استخرجت من مقبرة قديمة, ويلاحظ أن الأنف دقيق, وقد حفرت العيون حفرًا, وجعلت واسعة نوعًا ما في بعض التماثيل. وقد نقرت بعض هذه القبور نقرًا في الصخور, وهي صغيرة لا تتسع إلا لميت واحد, ولكن المنقبين وجدوا مقابر جماعية, تضم أفراد العائلة الواحدة.

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر تماثيل عثر عليها في مقبرة قديمة من كتاب "Qataban and Sheba" "ص117". وعثر في المقابر التي ضمت جدث نساء على أقراط وحلي نسائية, وعلى أشياء أخرى تستعملها المرأة. وقد أمكن بواسطتها من تشخيص صاحبة القبر, ومن الوقوف على مكانة أسرتها ومنزلتها. وتوجد بعض الحلي في المتاحف, وهي يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر قلادة من الذهب الخالص تعود إلى القتبانيين, عثر عليها في مقبرة قديمة عند "تمنع" من كتاب: "Qataban and Sheba" "ص116".

جميلة تدل على مهارة "الصائغ" العربي الجنوبي. وفي جملة ما عثر عليه قلادة, عمل القسم الرئيسي منها على شكل هلال, بداخله زخارف, كما ترى في الصورة السابقة التي عثر على أصلها في مقبرة قديمة من مقابر "تمنع" عاصمة قتبان. ووجدت مصوغات أخرى من ذهب, لا يزال الصاغة يصوغون من أمثالها في العربية الجنوبية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. منها ما يعلق على الرأس, ومنها ما يعلق على الرقبة, ومنها ما يوضع على الزند أو المرفق أو الأرجل, ويلاحظ أن لفن الصاغة في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية طابع خاص يميزه عن فن الصاغة في البلاد الأخرى. وقد وضع الصاغة شعارات دينية على بعض المصوغات تيمنًا وتبركًّا بها. ولهذا فمن المستحسن مقارنة المصوغات الحالية مع المصوغات الجاهلية التي عثر وسيعثر عليها, للتوصل بهذه المقارنة إلى معرفة تأريخ هذه الحرفة عند العرب. وقد وجدت مجامر قديمة في مواضع متعددة من اليمن. وقد استعمل بعضها في المعابد, واستعمل بعض آخر في البيوت حيث يحرق فيها البخور أو بعض الأخشاب ذوات الروائح الطيبة العطرة لتطييب القادم. ولا تزال هذه العادة المعروفة قبل الإسلام مستعملة في اليمن, وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب, كما في "بيشة" مثلًا, وذلك على سبيل التقدير والتكريم والاحترام1.

_ 1 في بلاد عسير: "ص62".

الفصل الثامن عشر بعد المئة: الخزف والزجاج والبلور

الفصل الثامن عشر بعد المئة: الخزف والزجاج والبلور الخزف ... الفصل الثامن عشر بعد المائة: الخزف والزجاج والبلور الخزف: ما عمل من الطين وشوي بالنار فصار فخاراً, وبائعه الخزاف1. والفخّار: الخزف. وذكر أنه ضرب من الخزف تعمل منه الجرار والكيزان وغيرها. وورد في القرآن الكريم: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} 2. والفِخارة من الحرف المعروفة عند الجاهليين. ومادة الفخار الطين يسوّى على الشكل المطلوب. فإذا جف, فخّر بالنار. وأواني الشرب, أي: الجرار هي من أكثر الفخار استعمالًا حيث يوضع فيها الماء, والكيزان3. واستعمل الفخار لخزن المواد الغذائية أيضًا, ولحفظ الأشياء الثمينة مثل: الذهب والنقود والحلي, ولأغراض أخرى عديدة, ويكون في كل الأماكن الأثرية مادة مفيدة للآثاريين. وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى أن "الكوز" لفظة معربة, عربت عن الفارسية, وذهب آخرون إلى أنها عربية أصيلة4, وصانعها هو "الكوّاز". وعرف الخزف بأنه كل ما عمل من طين وشوي بالنار حتى صار فخارًا. أما أما صاحبه، فهو الخزّاف5.

_ 1 اللسان "9/ 67". 2 الرحمن, الآية 14, اللسان "5/49 وما بعدها. 3 شرح القاموس "3/ 466". 4 شرح القاموس "4/ 76". 5 شرح القاموس "6/84".

وقد عثر على جرار على هيئة "الثومة", أي: ذات عنق طويل, وأما أسفلها فواسع, في مواضع متعددة من جزيرة العرب وفي بلاد الشأم. وتعرف بـ"بقبق" و"بقبقة". وهي "بقبق" "بقبوق" في العهد القديم1. وللتربة أهمية كبيرة في صنع الخزف, ولهذا اشتهرت بعض المواضع ذات التربة الجيدة بجودة فخارها, فكانت تصدره إلى أماكن أخرى. كما أن للعناية التي يبذلها الفخار في عجن الطين وفي تنقيته من الشوائب أهمية كبيرة في صناعة الفخارة. ولم يشر أهل الأخبار إلى الآلات التي يستعين بها الخزاف والكواز الجاهلي في صناعته. ولكن سكوتهم هذا لا يكون دليلًا بالطبع على عدم استعانة الفخار والكواز بالآلات, فليس من المعقول صنع أنواع الفخار بغير آلة. فإن عملها باليد وبغير آلة أمر يكاد يكون صعبًا. وكل الخزف الذي عثر عليه يدل على أنه صنع بآلة؛ لأنه على شكل منتظم. والآلة التي يستخدمها الخزاف في صناعته, هي دولاب يدير قرصًا من الخشب, يوضع عليه الطين ثم يحرك, فيدور القرص ويدور الطين الذي عليه معه, ويعالجه الخزاف بيده ليعطيه الشكل الذي يريده. ولصنع خزف جيد لا بد من العناية بالطين, فيختار ترابه من تربة جيدة خالية من الأملاح والرمال, ثم يعجن بعناية, ويترك مدة ليختمر جيدًّا. وإلا كان الخزف رديئًا. وقد يدهن الخزف بعد جفافه بدهن ملون أو ينقش بنقوش, ثم يفخر بالنار. واستخدم "الأتون", لتحويل المواد التي صنعها الخزاف من الطين إلى خزف. والأتون هو "كورة" في أسفله موقد توقد فيه النيران, فيرتفع لهيبها وتصعد حرارتها من خلال فتحات تكون في قاع الأتون الذي هو سقف الموقد إلى أعلى مارة بين مصنوعات الطين الموضوعة في باطن الأتون لتشويها فتتحول بذلك إلى خزف وفخار. وتكون الأتونات مرتفعة لها فتحة في أعلاها وفتحة في الجانب تغلق أثناء العمل, وتفتح بعد نضوج الخزف والفخار. ولا يزال الخزافون والفخارون يصنعون بضاعتهم بهذه الأتونات على النحو المذكور. ويذكر علماء

_ 1 أرميا, 19, 110, "Ency. Bibl. Vol. I, p.600.".

العربية أن الأتون لفظة معربة. وأنها تطلق على أخدود الجبار والجصاص وأتون الحمّام1. وقد كان الجاهليون يدهنون الجرار أحيانًا, لسدّ مساماتها لمنع السوائل من السيلان منها, فكانوا يضعون النبيذ فيها مثلًا والسمن وأمثالهما. وصانعها هو الجرّار2. وقد كان أهل يثرب يحملون الخمر في جرار حمر, يطلقون عليها اسم "الحنتمة", وذكر أن "الحنتم" الخزف الأخضر أو كل خزف3. وورد: الحنتم جرار مدهونة خضر كانت تحمل إلى المدينة فيها الخمر ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم. وقد نهي عن الدباء والحنتم. وإنما نهي عن الانتباذ فيها؛ لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها. وقد أشير إليها في شعر للنعمان بن عدي: من مبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يسقى من رخام وحنتم4 وطالما استعملت الجرار لخزن الأشياء النفيسة فيها مثل: الذهب والنقود والحلي وما شاكل ذلك, إذ توضع هذه الأشياء في داخل جرة ثم تسد وتدفن حتى لا يقف عليها اللصوص والطامعون في المال. وقد عثر الجاهليون والمسلمون على كنوز كانت مخبأة في جرار طمرت تحت التراب. والقلال من صنع الخزف. وعرفت القلة بأنها الحب العظيم, وقيل: الجرة العظيمة, أو الجرة عامة. وقيل: الكوز الصغير. وذكر أنها إناء للعرب كالجرة الكبيرة, إلى غير ذلك من آراء, يظهر من غربلتها أن القُلة جرة كبيرة, بدليل ما ورد عنها في الحديث من إشارات تفيد كلها أن القُلة كبيرة. وقد اشتهرت "هجر" بقلالها, فقيل: "قلال هجر". وهجر قرية قريبة من المدينة, وليست هجر البحرين. وكانت تعمل بها القلال. واشتهرت الأحساء بقلالها أيضًا5. وعرف "الحُب" بالجرة الضخمة وبالحابية, وبأنه الذي يجعل فيه الماء. وذكروا

_ 1 اللسان "7/ 13". 2 تاج العروس "3/ 92". 3 المغرب "ص142", "الحنتم: الجرار الخضر, كانوا يحملون فيها الخمر", جامع الأصول "5/ 500". 4 تاج العروس "8/ 264 وما بعدها". 5 اللسان "565/ 11".

أنه فارسي معرب1. وعرفوا "الحابية" بالحُب, سمي بالحابية؛ لأنه يستر الشيء ويخفيه2. وقد عثر المنقبون على قلل وجرار وكئوس من خزف, وجدت على بعضها كتابات, عثر على كثير منها في المقابر, مما يدل على أنها دفنت مع الموتى في القبر. وقد يستنتج من ذلك أن أصحاب الموتى كانوا يتصورون أن موتاهم سيحتاجون إليها في حياتهم الثانية لشرب الماء بها, ولذلك دفنوها معهم, وقد يدل دفنها معهم, على أنهم أرادوا بذلك وضع ما كان يستعمله الميت في حياته لإظهار تقديرهم للميت, وأنهم يتنازلون عنها إليهم, ولذلك دفنوا معه حليِّه وسلاحه وما كان عزيزًا عنده, فقد عثر في المقابر على رءوس حراب, وعلى سيوف وخناجر, وسكاكين, ولا يعقل دفن هذه الأشياء مع الميت وفي قبره عبثًا, بل لا بد وأن يكون لهم رأي فيه. وقد استعملوا القدور المصنوعة من الحجر, كقدور "البُرَم" المصنوعة من حجر صلد قوي يستخرج من موضع يسمى "المعدي" لا يبعد كثيرًا عن الطائف3. والأعراب أقل من أهل المدر استعمالًا للفخار, وذلك بسبب وضعه وطبيعة حياته. فالفخار ثقيل وهو سهل الكسر, ويجب بذل عناية في حفظه, وحياة الأعرابي حياة تنقل, ولا توجد لدية أوعية لحفظ الفخار من الكسر, ولهذا استخدم الأدوات المصنوعة من الجلود والمعدن والخشب بدلًا من الفخار. ومن أواني الشرب "الراقود", وهو دنّ, يسيع باطنه بالقار. وذكر "الجواليقي" أن اللفظة من الألفاظ الفارسية المعربة4. و "القافزة", وهي "القاقوزة" و"القازوزة". وهي مشربة أو قدح, أو الصغير من القوارير والطاس5.

_ 1 اللسان "1/ 295". 2 اللسان "1/ 62". 3 ابن المجاور "25/ 1". 4 المعرب "ص160", تاج العروس "2/ 356". 5 المعرب "ص273".

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر أدوات مصنوعة باليد, تمثل كفاءة وقدرة العامل اليماني ودقته في الصنعة من كتاب اليمن "Yemen" لمؤلفه: "Günther Pawelke" "ص161". ولا بد أن يكون بين الجاهليين أناس تخصصوا بصنع الزجاج وعمله, فقد عثر على أواني معمولة من الزجاج وعلى قطع زجاج. وقد ذكر علماء اللغة أسماء أدوات من الزجاج, مثل "الباطية", وهو إناء واسع الأعلى ضيق الأسفل1. وذكر بعض العلماء أن الباطية شيء من الزجاج العظيم, يملأ من الشراب ويوضع

_ 1 المعرب "ص83".

بين الشَّرب يغرفون منها1 وهو "الناجود" على رأي بعض علماء اللغة2. وتصنع الأقداح والقوارير والقناديل والأسرجة من الزجاج أيضًا, والمصباح, هو السراج يصنع من الزجاج كذلك, وفيه موضع لوضع الفتيلة عليه, لتأخذ وقودها الذي يساعد على إدامة اشتعالها منه. وهذا الوقود هو الزيت3. وقد ذكر الزجاج في القرآن الكريم: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} 4. وذكر علماء اللغة أن الزجاج: القوارير, وأن الزجاجة القنديل5. وأن القوارير: أواني من زجاج في بياض الفضة لصفائها6. والمصباح: السراج, وهو قرطه الذي تراه في القنديل وغيره7. وعرف السراج, بأنه المصباح الزاهر الذي يسرج بالليل, والمسرجة التي فيها الفتيل8. و"القنديل", لفظة معربة, عربت عن اللاتينية من لفظة "Candela". وتعني مصباح وسراج ونبراس. وتقابل لفظة "نبراس" لفظة "نبرشتا" "Nebrastha" في لغة بني إرم. ولفظة "منوراه" "منوره" "Manorah" في العبرانية9. القنديل, لفظة أعجمية تخصصت بالمصابيح المحمولة. وقد يعلق القنديل وقد يتصل برجل تحمله. وتقابله لفظة "نبرشتا" في لغة بني إرم. أي: "النبراس" في عربيتنا. و "منوره" "مينوره" في العبرانية. وقد أشير إلى القناديل في التوراة. وتستعمل في المعابد وفي بيوت الأغنياء. وقد تصنع من الذهب والفضة والبرنز, على أشكال متنوعة10.

_ 1 المغرب "ص41". 2 شرح القاموس "37/ 10", "2/ 511". 3 شرح القاموس "2/ 52, 175". 4 النور الآية 35. 5 اللسان "2/ 187". 6 اللسان "5/ 87". 7 اللسان "2/ 506". 8 اللسان "2/ 297". 9 "Ency. Bibl. Vol. I, p. 644.". 10 شرح القاموس "8/ 88", "Ency. Bibl. Vol. I, p. 644., ff. Hastings, Vol. I., p. 348.".

ومن مصنوعات الزجاج "المرآة". وهي "مرات" في العبرانية أيضًا. وقد صنعت من المعادن المصقولة كذلك. مثل: النحاس. ووردت في التوراة لفظة "هجلونيم" فسرت بمعنى "مرآة اليد"1, وتعني "المجلاة" في عربيتنا. والكأس, هو إناء الشرب, يشرب به. ويصنع من مواد مختلفة فقد يكون من الزجاج وقد يكون من معدن مثل: الذهب أو الفضة أو الحديد وقد يكون من فخار. ويقال له: "كوس" عند العبرانيين2. وقد ينقش ويحلى بزخارف وباللؤلؤ والحجارة الكريمة. وقد ذكر "الكأس" في القرآن الكريم. والراووق, المصفاة, وقيل: الباطية والناجود. وذكر بعض علماء اللغة أن الراووق الكأس. وقد وردت اللفظة في شعر لعدي بن زيد العبادي: قدمته على عقار كعين الديك صفى سلافَهُ الراووقُ3 وقد عرف أهل العربية الجنوبية "البلور" لوجوده في اليمن وفي أماكن أخرى. وهم يستخرجونه من نوع خاص من الحجر ويصقلونه بعناية, والغالب عليه اللون الأبيض غير أن بعضه ذو ألوان أخرى, هو لون الحجر الذي أخذ منه. ولا يزال أهل اليمن يمارسون صقل الحجارة الكريمة التي يستخرجونها من بعض الجبال, مستعملين في ذلك الماء والتراب الناعم على حجارة رملية ويصنعونها بأشكال مختلفة ويستعملونها في صنع الحلي. وهي ذوات ألوان متعددة: بيِض وسُود وخُضر وزرق وصفر وحمر, ومنها ما يجمع عدة ألوان متمازجة. ويعد جبل نقم وجبل الغراس من أهم المواطن التي تستخرج منها مثل هذه الحجارة على مقربة من صنعاء4. وقد عُني العرب الجنوبيون بشق الطرق وتمهيدها, وبعمل القناطر والجسور وقد بلطوا بعض الطرق بالحجارة وبمادة تشبه "السمنت", وترى اليوم بقايا قناطر عملوها في الأودية للعبور عليها, وقد دمر الكثير منها بسبب الحروب

_ 1 "Hastings, Dict. Vol. II, p. 181.". 2 "Hastings, Dicti of the Bible. Vol. I, p. 533.. 3 شرح القاموس "6/ 393". 4 العظم "الصفحة 136".

والإهمال. ونرى في الصورة بقايا قناطر جاهلية وقد تطرق إليها الخراب من كبر العمر. وقد عملت على واد يفصل بين الجبال. يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر منظر طريق جبلي قديم من كتاب: "jemen" "ص 136".

الفصل التاسع عشر بعد المئة: الفنون الجميلة

الفصل التاسع عشر بعد المئة: الفنون الجميلة مدخل ... الفصل التاسع عشر بعد المائة: الفنون الجميلة وبين الآثار التي عثر عليها الرحالون, أو نقلت إلى بعض متاحف الغرب, عدد من التماثيل والصور المنحوتة على الحجارة, وهي قليلة في الوقت الحاضر لا تعطينا فكرة واضحة عن الفن العربي الجنوبي, وبعضها يمثل فنًّا عربيًّا جنوبيًّا أصيلًا, فلا يشبه المنحوتات اليونانية أو الرومانية, أو المصرية, أو الإيرانية, أو غيرها, وبعض آخر له شبه بفن بعض هذه الشعوب, مما حمل المستشرقين على أن يذهبوا إلى أن هذا التشابه هو نتيجة تقليد ومحاكاة لذلك الفن1. ونلاحظ على هذا التمثال الذي عثر عليه في مقبرة قديمة عند "تمنع" عاصمة "قتبان", ويعود عهده إلى القرن الأول أو الثاني قبل الميلاد, وأن المثَّال حاول جهد إمكانه إعطاء تمثاله الذي صنعه طابعًا عربيًّا جنوبيًّا, لكنه لم يتمكن من ذلك. وقد دوّن في أسفله اسم صاحبه, وهو "جبا ام هنعمت", "جبأ أوام هنعمت". ومن الصعب إصدار حكم عام على الفن العربي الجنوبي استنادًا إلى هذه التماثيل والصور المنحوتة أو البارزة؛ لأنها قليلة غير مغنية وغير كافية لإصدار حكم

_ 1 "Handbuch, I. S. 165.".

يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر. تمثال رجل اسمه "جبأ أوم هنعمت" عثر عليه في مقبرة قديمة عند "تمنع" يعود تاريخه إلى القرن الأول أو الثاني قبل الميلاد. من كتاب "Qataban and Sheba" "ص 124". في هذا الموضوع ثم هي من صنع أيد متعددة, فيها أيدٍ قوية ذات موهبة, وفيها أيدٍ ضعيفة إنتاجها بدائي يشبه فن البدائيين, لا تناسق فيه ولا تناسب بين الأجزاء. وقد نشأ ذلك بالطبع عن تفاوت مواهب المشتغلين بهذه الصناعات وعن وجود أناس اتخذوا احفر في المرمر حرفة يتكسبون بها, وقد يكون لأنهم ورثوا تلك الحرفة, فاشتغلوا بها, مع عدم وجود قابليات فنية لديهم. وقد عبر عن النحات, أي: المثّال الذي يصنع التماثيل بلفظة "هصنع", أي: الصانع في اللغة اللحيانية. ويعبر عن صنع التمثال بلفظة "نحت"1, أي: حسب تعبيرنا عن نحت التماثيل في الوقت الحاضر. وتطلق لفظة "هصنع" على الرسام

_ 1 راجع نص 83 في كتاب: "W. Caskel, S. 118.".

وكذلك وعلى المعمار1. ويلاحظ أن الفن العربي الجنوبي مثل أكثر الفنون الشرقية الأخرى, لا تجاري الفن اليوناني في هيئة الجسم في موضوع إبراز جماله2. فإذا ما نظرت إلى تمثال أو صورة بارزة أو حفر عربي جنوبي, ترى فرقًا واضحًا بين عمل الفنان في هذه الصور وعمل الفنان الهلليني اليوناني المعاصر له. ففي عمل هذا الأخير نرى عملًا فنيًّا جميلًا راقيًا, يبرز جمال الفن وروحية "الفنان", وهو عمل يقرب القطعة المعمولة إلى قلبك, ويجعلها تؤثر فيك تأثيرًا عميقًا, على حين لا نرى مثل هذا الإبداع في الفنون الشرقية في الغالب. وفي الفن اليوناني تناسق وتناسب بين الأجزاء. راعى الفنان فيه النسب الطبيعية للجسم فمثلها في تماثيله, وأظهرها بمظهر يشعرك بقوة فنه وبتمكنه من التعبير عن أحاسيسه. أما الفن الجاهلي, عمومًا عربي جنوبي أو من موضع آخر, فإنه لم يتمكن من تحقيق هذا التناسق ولا النسب ولا الاتساق والتوازن بين الأعضاء. ولم يتمكن الفنان مع كل ما بذله من جهد من إظهار الجمال الفني على القطع التي صنعها, ولا من إعطائها حياة ودمًا وروحًا أخاذة تجعلك تشعر أنك أمام فنان عبر عن إدراكه الفني وعن الحس الذي يشعر به أحسن تعبير بأية طريقة أو مدرسة من مدارس الفن. وبأية وسيلة من وسائل التعبير عن الذوق الفني الذي تملك الفنان فجعله يعبر عنه بطريقته التعبيرية الخاصة بهذا الإنتاج المجسم لروحه والذي نسميه الفن. ولا تملك المتاحف في الوقت الحاضر تماثيل جاهلية بالحجم الطبيعي للإنسان. ويظهر أن اعتبار كثير من الناس للتماثيل أصنامًا قد أدى بهم إلى إتلافها والقضاء عليها. وهناك أمثلة عديدة تؤيد هذا الرأي ذكرها القدامى والمحدثون. بل إن هذه النظرة لا تزال عند البعض. ثم إن الناس لم يكونوا يدركون قيمة الأثر في حفظ تأريخ أمتهم, ولهذا فلم يكونوا يهتمون بالتماثيل ولا بالأحجار المكتوبة ولا بكل أثر من الآثار. وتوجد اليوم قطع تماثيل يظهر أنها من تماثيل حطمها الإنسان بيده وهشمها بنفسه, إما للقضاء على معالم الوثنية المتجسمة في نظره في هذا

_ 1 راجع النص رقم 32 في كتاب: "W. Caskel, S. 93.". 2 "Handb.der altar. alter., I, S. 166.".

التمثال, وإما للاستفادة من أحجاره في أغراض البناء أو أغراض أخرى تفيده. ومن بينها رءوس تماثيل أو أقدام تماثيل, أو جسم تمثال بلا رأس ولا أرجل. أما التماثيل الصغيرة, فقد وصل عدد منها دون أن يمسها أي سوء. وقد استخرج عدد منها من باطن الأرض, استخرجه المنقبون والمواطنون الذين أخذوا يحفرون التلول الأثرية للبحث عن أثر يبيعونه لتجار العاديات. ونجد في دور المتاحف وعند جماع العاديات عددًا منها. ومن بين التماثيل الكاملة التي تستحق الدراسة والانتباه ثلاثة تماثيل لملوك من مملكة "أوسان". يبلغ ارتفاع إحداها "89" سنتمتراً. وقد نحتت من المرمر. وهي تمثل مرحلة من مراحل التطور في فن النحت عند العرب الجنوبيين. وقد حاول النحات جهد إمكانه بذل اقصى ما عنده من فن وقابلية وموهبة في إعطاء هؤلاء الملوك ما يليق بهم من جلال ووقار ومظهر, وإبراز ملامحهم وملابسهم, ولكنه فشل في نواح ووفق قدر استطاعته في نواحٍ. وقد نحت شعر الرأس وجعله متدليًا طويلًا مجعدًا. وجعل للتماثيل قواعد استقرت عليها, دوّن عليها أسماء أصحابها. وقد اختلف الباحثون الذين بحثوا في خصائص النحت البارزة على هذه التماثيل في تقدير عمرها, فذهب بعض منهم إلى أنها ترجع إلى القرن السادس أو إلى القرن الخامس قبل الميلاد, وذهب بعض منهم إلى أنها ترجع إلى القرن الأول قبل الميلاد, بينما رأى آخرون أنها من نحت القرن الأول بعد الميلاد1. وهناك تماثيل صغيرة لرجال ونساء وأطفال, بعضها من حجر وبعضها من معدن تكشف لنا عن عادات وتقاليد المجتمع في ذلك العهد. في مثل الكشف عن الحلي التي كانوا يحلون بها جيد المرأة وعنقها, أو التي تحلى بها الأيدي أو الأرجل, كما تكشف بعضها عن ملابس المرأة والرجل والأطفال في تلك الأوقات, ولهذا فإن لهذه التماثيل أهمية كبيرة لا من الناحية الفنية فحسب, بل من الناحية التأريخية أيضًا؛ لأنها تتحدث عن العوائد الاجتماعية كذلك. وتعبر بعض شواخص القبور عن شعور الحزن والأسى في نفس من أمر بحفر

_ 1 "A. Grohmann, S. 222.".

تلك الشواخص أو نحتها. فقد حرص صانعها على أن تكون معبرة عن المناسبة التي عملت من أجلها على أكمل وجه. وأكملها برموز وإشارات دينية لها صلة وعلاقة بالحياة الثانية, وتزيد في فوائد هذه الشواخص بالنسبة لعمل الباحث, التماثيل التي وضعت مع الميت في قبره, لتعبر عنه. فهي تعبير آخر عن هذا الشعور المؤسف في شكل آخر من أشكال الفن. وقد كانت العادة آنذاك, دفن تماثيل مع الموتى, أو صورًا محفورة على الصخر, فقد عثر في مصر وفي الحجاز وفي بلاد الشأم على مثل هذه التماثيل مدفونة في القبور, على مقربة من الأجداث. بعضها تماثيل رجال وبعضها تماثيل أطفال, ومن النادر تماثيل نساء, ولعل ذلك بسبب النظرة الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك العهد, من إعطاء الأولوية للرجل في المجتمع ثم للأولاد الذكور. ونرى في هذه الصورة رأس رجل عربي جنوبي, حفر النحات عيني الرجل حفرًا, وجعلها واسعة, فبدتا وكأنهما قلعتا, وأوصل اللحية بشعر الرأس, حتى أحاط الشعر بالرأس والوجه, وصار كأنه هالة. أما الفم, فصغير مفتوح, ولم يتمكن النحات من حفره حفرًا يقارب الطبيعة, ولم يتمكن كذلك من إبراز معالم الأنف. أما الجبين فأملس, وأما الوجنتان, فملساوان كذلك, وأما الحجر المنحوت, فمن الرخام. يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر. وإذا قارنت هذا التمثال والتماثيل العربية الجنوبية بالتماثيل اليونانية, أو بالتماثيل اليونانية التي عثر عليها في جزيرة "فيلكا" في الكويت, تجد فرقًا عظيمًا من النواحي الفية, فالفنان اليوناني له إدراك عظيم للقيم الفنية, له قدرة عظيمة على

إبراز الملامح, وفي تقدير النسب بين الملامح وأعضاء الجسد, ثم هو متمكن تمامًا من كيفية إظهار الحاجبين وحفر الأنف, وإبراز العينين. ومع مرور مئات السنين على الفن اليوناني, فإنك تستطيع أن تجد فيه حتى يومنا هذا الإبداع والجمال والاتساق والانسجام. خذ هذه الصورة, التي هي تمثال من الطين المحروق, عثر عليه في جزيرة فيلكا, ويعود عهده إلى حوالى "200" سنة قبل الميلاد, ثم قارنه بصور التماثيل التي عثر عليها في العربية الجنوبية ترى فرقًا كبيرًا جدًّا بين الفنين. تمثال من الطين المحروق من القلعة اليونانية حوالي 300 ق. م. من جزيرة فيلكا. ولكننا نجد مع ذلك في الفن العربي الجنوبي, محاولة تستحق التقدير, تظهر في طموح الفنان العربي الجنوبي ورغبته جهد إمكانه في إظهار شخصيته ومواهبه الفنية, وهو لو وجد التقدير الذي كان يظهره اليونان للفن, لأبدع ولا شك إبداعًا كبيرًا في عمله الفني.

وقد عبر الفنان العربي الجنوبي عن مشاعره بطريقة أخرى, هي طريقة الحفر على الحجر أو المعدن أو الخشب أو أية مادة أخرى يمكن الحفر عليها. وذلك بطريقتين: طريقة الحفر أي: نقش الصورة أو ما يراد تخليد أثره على المادة حفرًا كأن تحفر صورة إنسان أو حيوان حفرًا عليها بأن تجعل معالم الصورة محفورة حفراً عميقًا نازلًا في تلك المادة. فالحفر في هذه الحالة هو رسم محفور. وطريقة الحفر البارز, وذلك بجعل الأثر المراد تخليده بارزًا ظاهرًا فوق سطح المادة التي حفر عليها. وذلك بأن يؤشر معالم ما يراد تخليده ويرسم, ثم يحفر ما حوله من سطح المادة التي رسم عليها, فتبرز الصورة وترتفع بهذا الحفر عن سطح تلك المادة. وعثر على عدد من تماثيل الحيوانات, نحتت من المرمر ومن أحجار أخرى, فعثر على تمثال بقرة, وعثرت بعثة "وندل فيلبس" على تماثيل ثيران في خرائب مأرب. كما عثر بعض الباحثين على تماثيل أسود أو خيل1. وقد تمكن الفنان من التعبير عن موهبته الفنية في بعض المنحوتات, وأجاد في إبراز مظاهر بعض أعضاء جسم تلك الحيوانات التي نحتها. وقد وصلت بعض هذه التماثيل وهي مهشمة, وقد فقدت بعض منها بعض أجزاء جسمها, فأضاع هذا الفقدان على الباحثين إمكانية إعطاء رأي فني علمي عن هذه المنحوتات. ومن الصعاب التي اعترضت "الفنان" العربي الجنوبي مسألة التعبير عن الحركات, ورسم الأشياء المتجاورة, والتمييز بين البعيد والقريب, والتفريق بين المنازل الاجتماعية, كالسيدة المصون صاحبة البيت وبين خادمتها. وهي مشكلات تواجه كل فنان, ولا يتغلب عليها بالطبع إلا من له قدرة وعلم بالتصوير والنحت. ومن جملة النواقص التي نلاحظها على الصور المحفورة أن أكثر القطع المحفورة لم تتمكن من التنسيق بين وضع صاحب الصورة. فبينما نجد الوجة مثلًا وهو متجه إلى الأمام, كأن صاحبها ينظر إليك, نرى الساقين والقدمين جانبيتين, وهذا الوضع لا يتناسب بالطبع مع وضع القسم الأعلى من الجسم. وقد نشأت عن صعوبة التعبير عن الأشياء المتجاورة, مثل رسم ثورين متجاورين يجران محراثاً, أو فرسين مربوطتين معًا في محراث, مشكلة لم يتمكنوا من التغلب عليها, فلجئوا إلى طريقة بدائية في الغالب, يتحدث وضعها عن هذا العجز،

_ 1 "A. Grohmann, S. 224.".

هو رسم أحد الحيوانين مثلًا, وكأنه تحت الحيوان الثاني المجاور له, وذلك كما نرى في الصورة التي تمثل فلاحًا يحرث ويجر محراثه ثوران, فوضع الفنان الثور الجانبي الأيمن فوق الثور الجانبي الأيسر, ظانًّا أن ذلك قد عبر عن هذا الوضع, فبدا الثوران وكأن أحدهما قد ركب الآخر1. وقد عثر على لوح يمثل وجه إنسان مستدير, رسم كأنه مع الجبين دائرة كاملة. وقد حفر الشعر على صورة قوس يكاد يحيط بالوجه إلا الحنك, وقد برز الشعر متموجًا, وقد فصلت بين الأمواج قواطع جعلت الشعر خصلًا. أما العينان فصغيرتان بالنسبة إلى الأنف. وبدا الفم مقفلًا وقد حلق صاحب الرأس ذقنه, وترك له شاربين طويلين يتصلان بالشعر المتدلي من الرأس. أما الأذنان فقد اختفتا تحت الشعر ولا أثر لهما في الصورة. والرقبة غليظة وقد أحاطت بها حيتان ارتفعتا إلى أعلى على هيئة قوس. ويظهر في هذه الصورة أثر الفن الساساني2. وقد عبر النحات عن تجعد شعر الرأس بحفره بصورة تشعرك أنه يعبر عن شعر متجعد. وذلك بإحداث ثغرات تظهر الشعر وكأنه عقد, وقد جعله متدليًا إلى الكتفين, أو نازلًا على الجبين حتى الحاجبين, ولأجل أن يريك العينين وكأنهما في صورة طبيعية وضع أحجارًا ملونة أو أصباغًا في بعض الأحيان على باطن العين لتظهر التمثال وكأنه بعينين حقيقيتين تنظران إلى الأشخاص3. وحال حفر الأزهار وعناقيد العنب ورءوس الحيوانات وبعض الكروم هي خير من حيث الإجادة من تصاوير الإنسان أو الحيوانات كاملًا. وقد عثر على قطع رسمت فيها التيوس وهي من الحيوانات الكثيرة في اليمن, وقد رسمت بصورة تتمثل فيها القوة والحيوية4. وقد استعمل العرب الجنوبيون الكروم كثيرًا للزخرفة, ولا يستبعد ذلك منهم, فالكروم من النباتات المحبوبة الكثيرة في اليمن. وقد درّت عليهم أرباحًا طائلة, واستعملت للأكل والشرب. وهي تعطي نبيذًا طيبًا وخمرًا مشهوراً. فلا غرابة إذا

_ 1 "Handb.der altar. alter., I, S. 167.". 2 "Handb.der altar. alter., I, S. 168.". 3 "Arabien, S. 274 f.". 4 Handb. Der Atlar. Alter. I, S. 168, A. Grohmann, Gottersymbole, S. 60.

ما استعملوه بكثرة للزينة, يحفرون صوره في إطارات الألواح أو الصور, أو يكبسون صوره في الجبس. وعثر علي قطع فنية نفيسة, من الحجر النفيس الغالي المحفور, أي: من الأحجار الكريمة, حفرت عليها صور ذات صلة بالأساطير الدينية, مثل: القطعة النفيسة المحفوظة في المتحف البريطاني, ويظهر أنها من صنع فنان قتباني, حفر عليها أيلين أو وعلين وقد وقف كل واحد منهما على جانب, وقفا على القدمين الخلفيتين ورفعا القدمين الأماميتين إلى أعلى, وصور النحات القدم المقابل للشخص الذي يقابل القطعة أو ينظر إليها وقد عقف, أي: بوضع منحن. أما القدم المقابل للقدم المعقوف, فلم يتمكن النحات من إعطائها الوضع الصحيح. ونجد رأسي الحيوانين وقد اتجها إلى الداخل, فكأنهما يريدان الكلام مع بعضهما أو الالتقاء, ولإظهار قرني الحيوانين معقوفين, نحت النحات عليها نحوتًا على شكل "الجزر", أو الورق الرفيع. ووضع للحيوانين ذيلين قصيرين, وقد جعل آلة الذكر للحيوانين منتصبتين. وجعل تحت القدم المرتفع لكل حيوان رمزًا, له فم مفتوح متصل برقبة أو بجسم ينتهي بدائرة صغيرة, ثم بما يشبه كرة قائمة على ثلاثة أرجل. ووضع بين الحيوانين "طغراء" قراءته: "اب عم", "ابي عم", أي: "أبى" "عم" إله قتبان1. وبين الأحجار الكريمة المحفورة التي عثر عليها في خرائب اليمن, أحجار أصلها من العراق ومصر ومن أحجار يونانية من أيام القياصرة ومن العصور الهيلينية, وقد نحتت على بعض منها حروف بالمسند المعبرة عن بعض المعاني الدينية أو عن أسماء أصحابها2. وهي تستعمل خاتمًا في الأصابع, وتختم بها الوثائق والرسائل. وقد وضعوا "الدُّمَى" على ألواح الأبواب, إما للزينة, وإما لدفع الشر والأذى أو للتبرك والتقرب. وقد قيل: إن "الدمية" الصورة المصورة أو الصنم3. وقد عرفوا "الدُّمية" بالصورة وبالصنم وبالصورة المنقشة بالعاج, ونحوه. وعرّفوها أيضًا بالصورة المصورة؛ لأنها يتأنق في صنعتها ويبالغ في تحسينها4.

_ 1 "A. Grohmann, G?ttersymbole, 56, Abb. 141, A. Grohmann, S. 241.". 2 "A. Grohmann, S. 242.". 3 البرقوقي "ص219". 4 اللسان "14/ 271".

وقد اتخذ العرب الجنوبيون من الحجر أثاثًا لهم, فنحتوا منه أسرة وعروشًا. وقد عثر على قطع من المرم, هي من بقايا عروش أو كراسي عملت لبعض الأغنياء. وعثر على كراسي مصنوعة من أحجار أخرى. كما عثر على صناديق صنعت من حجر, وقد زوّقت واجهاتها وزخرفت وحفرت عليها بعض الصور التي تمثل الأوراق والنباتات والأزهار والنوافذ أو واجهات البيوت1. واتخذوا من الحجارة مذابح "Altars" وللمذابح مكانة في الطقوس الدينية ورسوم العبادة عند الجاهليين. ويقال لها: "مذبحت" و"مذبح" و"حردن". تذبح عليها حيوانات كبيرة مثل ثيران. وقد عثر على نماذج منها في مختلف المعابد2. وقد زُين بعض منها وزخرف بصور حيوانات حفرت عليها أو نحتت, كما حفرت عليها رموز لها علاقة بالعبادة والآلهة. وهي تفيدنا من هذه الناحية في الوقوف على فن الزخرف والنقش وعلى كل ما له من علاقة بالحياة الدينية عند الجاهليين. وللمباخر والمجامر والمحارق أهمية أيضًا بالنسبة لمن يريد الوقوف على الفن الجاهلي. وقد عرفت المحارق بـ"مصرب" و"مشود". وهي مواضع لحرق ما يقدم إلى المعبد من ضحايا عليها3. وعرفت المجامر بـ"مسلم", وأما المبخرة, فهي "مقطر"4. وقد عثر على نماذج عديدة منها. وقد صنعت من مواد مختلفة من مرمر ومن معادن. مثل: البرنز أو الذهب أو الفضة. وقد تفنن في صنعها, وبعضها مفتوح ليس له غطاء, وبعض آخر له غطاء. وقد نقش على بعض منها اسم الطيب الذي يحرق بالمجمرة, واسم صاحبها والمعبد أو الإله الذي خصصت به. ولم يصل إلينا ويا للأسف من مصوغات الذهب والفضة شيء كثير. والصياغة صناعة اشتهرت بها العرب الجنوبيون, حتى بالغ في ذلك بعض الكتاب اليونان, فأشاروا إلى أوانٍ وأثاث وأدوات منزلية أخرى مصنوعة من الذهب والفضة5.

_ 1 "A. Grohmann, S. 243.". 2 "Arabien, S. 247 f.". 3 "Arabien, S. 248. Reb. Epig. 4708, 4839.". 4 Arabiaen, s. 248, a. Grohmann, Sudarabien als Wirtschaftsgebiest, I, 115. f, C. Thompson, The Tombs and Moon Temple of Hureidha, 49. 5 "De Mari Erythraeo, 2, Strabo, XVI, 778, Handb., I, S. 171.".

ولكننا لم نر شيئًا مما ذكروا, ولم يروا هم ذلك أيضًا بالطبع, وإنما رووا ذلك عن طريق السماع. ويعرف الذهب بـ"ذهب" في العربيات الجنوبية. وأما الفضة, فيقال لها: "صرف"1. وقد وردت أرض "شبا" في جملة الأماكن التي مونت العبرانيين بالذهب, حمله إليهم تجار "شبا"2. وترد في الكتابات جمل مثل: "قدم تمثالًا من ذهب", مما يدل على أن العرب الجنوبيين كانوا ينذرون إلى آلهتهم إن منت عليهم وأجابت طلبهم بأن يقدموا لها نذرًا هو تمثال من ذهب. غير أن الباحثين لم يعثروا حتى اليوم إلاّ على عدد محدود من تماثيل صيغت من ذهب, بل عثروا على تماثيل من البرنز. لذا ذهب بعضهم إلى أن العرب الجنوبيين قصدوا بكلمة "ذهبن", أي: "الذهب", معدن البرنز, وذهب بعضهم إلى أنهم قصدوا معادن طليت بماء الذهب3. وفي جملة ما هو محفوظ من أعمال الصاغة, قلادة جميلة من الذهب عثر عليها في خرائب مدينة "تمنع"4 سبق أن وضعت صورتها قبل صفحات. وقلائد أخرى وصفائح من الذهب حفرت عليها صور بعض الحيوانات. كما عثر على معادن مطلية بطبقة من ذهب5. وقد وصلت قطع فنية نفيسة مصنوعة من المعادن, تدل على ذوق عالٍ وعلى مهارة في الصنعة وإتقان. من ذلك مصباح يضيء بالزيت, مصنوع من البرنز يتكئ على قاعدة. أما موضع الزيت, فينساب انسيابًا جميلًا, وقد صنع بشكل متناسق, وارتفع فوق المصباح من الطرف العريض تمثال "أيل" جميل جدًّا ربطه بالمصباح حزمة انفتحت عند اتصالها بالمصباح على هيئة أصابع يد. فلما ارتفعت, اتصل بعضها ببعض على هيئة ضفيرة, إلى موضع اتصالها بالأيل. وقد انكسرت يدا الحيوان وكانت ممتدة. أما الرقبة والرأس والقرنان, فقد صنعت بدقة ومهارة, وعلى الجملة: إن القطعة تدل على تطور كبير في فن الصناعات اليدوية عند العرب الجنوبيين, وذلك كما نراه في الصورة المذكورة.

_ 1 "Rhodokanakis Stud., II, S. 167". 2 حزيقال: الإصحاح السابع والعشرون, الآية: 22. 3 "A. Grohmann, S. 230.". 4 "W. Phillips, Qataban and Sheba, p. 114.". 5 "A. Grohmann, S. 242.".

ونرى في قطعة أخرى مصنوعة من البرنز فنًّا وخيالًا, نرى رجلًا قد وضع على رأسه غطاء يشبه الخوذة, وأمسك بيديه أسدين, فاليد اليمنى أمسكت بيد أسد, واليد اليسرى أمسكت بيد الأسد الآخر وقد أدار الأسدان رأسيهما إلى الجانبين, وكأنهما يتلويان من شدة القبض عليهما, وإن كانت لا تمثل أجزاء الأجسام تمثيلًا كاملًا, تعطي انطباعًا حسناً, وتعبر عن الفكرة تعبيرًا طيبًا1. وهناك قطعة مصنوعة من البرنز كذلك, تمثل منظرًا رمزيًّا: ففي الوسط راقص يشبه شكله شكل الشيطان في الأساطير, وقد اتصل فوق رأسه, وعلى الغطاء عمود يحمل طيرًا مادًّا جناحيه. ويقابل الطائر أيلان, انتصب كل أيل على جانب من جانبي الطير, وكأنهما يتقاتلان, ويحمل الأيلان جيوانين2. ونرى في هذه الصورة تمثالًا من البرنز لثور يرمز إلى الإله القمر, وقد عثر عليه في "ظفار". تمثال مصنوع من البرنز يمثل اله القمر عثر عليه في ظفار. من كتاب "Qataban and Sheba" "ص305".

_ 1 "Handb.,, I, S. 172.". 2 راجع الصورة المرقمة 68 والمنشورة على الصفحة 172 من كتاب: "Handb.,, I, S. 172.".

ونرى في هذه الصورة تمثال رجل صنع من النحاس, تظهر على شعر رأسه نتوءات بارزة كأنها الخرز, ربما تمثل زينة, أو تعبر عن شعر صاحبها المتموج. أما الوجه, فلا يمثل وجه أهل اليمن, بل كأنه يمثل وجهًا لـ"بوذا", أي: وجهًا متأثرًا بالفن الهندي الصيني القديم. الأنف فيه ضخم, والفم كبير, وقد غطي الجسم بقميص له رأس يغطي الرقبة ويصل إلى الحنك, وتجد القميص مفتوحًا تحت الخصر, وأما أعلى القميص فمغلق, وقد شد على الخصر "خنجر" مستقيم, على طريقة أهل اليمن في حمل الخناجر إلى هذا اليوم, وقد مدت اليد اليمنى إلى أعلى, وظهرت أصابع الكف واضحة مفصلة. أما اليد اليسرى, فقد مدت إلى أعلى قليلًا, وكفها مقبوض, مكوّنًا ثقبًا, يظهر أنه صنع لوضع عصا في الثقب, أو شيئًا آخر يرمز إلى سيادة ومنزلة اجتماعية. ونجد الجسم لا يتناسب مع ضخامة الرأس والكتفين, فهو ضئيل ضعيف. ونجد الأذن صغيرة بالنسبة إلى الرأس. وقد وضعت في مقدم الشعر. ونرى أن الوجه حليق, مما يدل على أن

بعض الناس كانوا يحلقون شعر أوجههم في تلك الأيام. وأما الرقبة فغليظة1. وهناك قطع أخرى هي عبارة عن تماثيل بشر أو حيوانات, مثل: حيات أو جمال أو خيل أو جرذان وأمثال ذلك, وقد صنعت من البرنز كذلك, بعضها في غاية الجودة والإتقان. ومن بين هذه القطع المتقنة عصا انتهى طرف منها على هيئة أفعى, نرى فيها الأناقة والرشاقة, وعصا أخرى رأسها على هيئة حيّة وقد تدلى إلى أسفل. والقطعتان من الصناعات المتأخرة ومن أواخر أيام دولة حمير2. وبين القطع القديمة المصنوعة من البرنز, تمثال رجل ماش يبلغ ارتفاعه "93" سنتمترًا, رجله اليسرى متقدمة على اليمنى, ويرى القسم الأعلى من الجسم عاريًا إلا من جلد أسد أو فهد لف على الظهر, ويتصل طرفاه بالصدر. أما الوركان فقد غطيا بمئزر شد على الجسم بحزام عريض. وقد جعل المثّال الرأس وكأنه قد غطي بخوذة مجعدة, كناية عن الشعر, وقد تدلى على الجبين. ووضع شيئًا أشبه بالريشة للمحافظة على الشعر, وجعل للرجل لحية عبر عن تجاعيد شعرها بعقد. وجعل العينين واسعتين, أما الأنف فكبير ملتحم, وأما الفم فصغير. وأما الجسم عمومًا, فهو نحيف. وقد عثر على هذا التمثال في المدخل المؤدي إلى "حرم بلقيس"3. ويرى بعض الباحثين أنه يعود إلى القرن السابع أو السادس قبل الميلاد. وأن صاحبه كان من كبار الموظفين في أيامه, وربما كان بدرجة حامل أختام الملك أو كاتم أسراره, وقد قدم التمثال تقربة ونذرًا إلى الإله "المقه". ووجد اسم صاحبه مدوّنًا على الكتف الأيسر منه, وهو "معدكرب" "معديكرب"4. وبين التماثيل المصنوعة من البرنز تمثال امرأة وهي ترقص, وقد لبست فستانًا طويلًا يمتد على سروال, وكأنه يمثل الزي الفارسي القديم, المعروف في العراق،

_ 1 "Archaeological Discoveries in south Arabia, p.270.". 2 "Handb., I, S. 173.". 3 "A. Grohmann, S. 232.". 4 Jamme, Sahaean Inscriptions on tow Bronze Statues from Marib, JAOS, 77, 1957, 32, 35, A. Grohmann, S. 232.

وقد أبدع صانع التمثال في عمله فجعله حيًّا ينبض بالحياة, وقد ضيق خصر المرأة, وجعل الساقين بعضهما فوق بعض, ليأخذ جسمها وضع راقصة وهي في حالة رقص, كما ترى في هذا التمثال. تمثال من البرنز لراقصة, عثر عليه في ظفار. من كتاب "Qataban and Sheba" "ص305". ونجد في مصنوعات المعادن مصنوعات تتحدث عن وجود أثر عراقي عليها, ومصنوعات أخرى تشير إلى وجود أثر مصري أو يوناني أو هندي عليها. وقد نسب بعض الباحثين وجود هذا الأثر إلى الصلات التجارية التي كانت تربط بين الأرضين المذكورة وبين العربية الجنوبية, كما نسبوه إلى أثر الرقيق المشترى من تلك البلاد والمستورد إلى العربية الجنوبية, حيث كلف بأداء الحرف اليدوية. وحيث إن هذا الرقيق كان من بلاد مختلفة, لهذا ظهر التنوع في هذه الصناعات1. ومن المصنوعات البرنزية التي يظهر عليها أثر الفن اليوناني مجموعة التماثيل التي

_ 1 "A. Grohmann, S. 230. ff.".

عثر عليها في بيت "يفش" في خرائب "تمنع"1, وتماثيل أخرى حفظت في متحف "صنعاء". وتمثالين لزنجيين عثر عليهما في موضع "نخلة الحمرا" "نخلة الحمراء" على مسافة خمسين كيلومترًا جنوب شرقي "صنعاء". وتماثيل أخرى لبعض الحيوانات, مثل تمثال حصان وتمثال آخر لأسد. والتماثيل البرنزية التي عثر عليها في بيت "يفش" بمدينة "تمنع", هي من الآثار المهمة التي عثر عليها في أرض قتبان. ونظرًا للأثر "الهليني" البارز على جسم الأسد وعلى وجه راكبه المحافظ على الملامح اليونانية يرى الباحثون أنها من القطع الفنية التي ربما يعود عهدها إلى القرن الأول للميلاد, حيث كان اليونان إذ ذاك يمخرون عباب البحار, وكان تجارهم ينقلون المصنوعات اليونانية إلى مختلف الأنحاء من العالم, لبيعها ولشراء ما يحتاجون إليه من النفائس التي لا توجد في بلاد اليونان وفيما وراءها. والظاهر أن الفنانين العرب, وقفوا على قطع فنية يونانية, فقلدوها وعملوا على صنع مثلها, وقد ضربوا على القاعدة حروف المسند, الدالة على صاحب البيت. ومن هذه التماثيل تمثال أسد, امتطى على ظهره ولد بيده اليمنى لجام, وبيده اليسرى شيء يشبه القفل, وقد صنع الأسد وكأنه يريد الوثوب, وذلك كما تراه في الصورة. وقد قدّر تأريخ صنعه فيما بين السنة 75 و 50 قبل الميلاد. ومنهم من يجعله بعد ذلك, أي: في القرن الأول للميلاد2. وقد تبين من هذه التماثيل أن العرب الجنوبيين, كانوا ينتعلون نعالًا على نحو أنعلة هذا اليوم، وهي سميكة لتقاوم الأرض فلا تأكلها عند المشي, كما تبين لنا من دراسة هذه التماثيل أن بين ملابس العربية القديمة قبل الإسلام وبين ملابس العرب في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية في الوقت الحاضر تشابه كبير. ومن الممكن في هذا اليوم عمل دراسة عن ملابس العرب الجنوبيين بالاستعانة بهذه التماثيل وبالصور المحفورة على الأحجار, التي تمثل مختلف طبقات المجتمع في ذلك العهد.

_ 1 Albright, Archaeological Discoveries in South Arabia, I, 155, ff, B. Segall, Scoupure from Arabia Felix, The Hellevistic Period, AJA, 59, 1955, 210, ff, Grohmann, S. 234. 2 "Archaeological Discoveries in South Arabia, p.155.".

تمثال الأسد وعليه طفل, وقد أخذت الصورة من كتاب: "Qataban and Sheba" لمؤلفه وندل فيلبس "ص112". تمثالان صنعا من البرنز, ويرى على التمثال أثر الفن "الهيليني" واضحًا بارزًا. من كتاب: "Qataban and Sheba" "ص189".

أما الخشب المزخرف, فهو وجه آخر من أوجه الفن وأضرابه, وقد استعمل في البناء وفي أثاث البيت وفي صنع التماثيل والألواح المكتوبة وفي أغراض أخرى. وقد عثر المنقبون على نماذج منه. ولما كان الخشب معرضًا للتلف والهلاك أكثر من المعدن والحجر, لذلك فإن يد الطبيعة قد لعبت بالكثير منه, كما استعملته يد الإنسان قبل الإسلام وبعده في أمور أخرى غير الأمور التي خصصها أصحاب تلك الأخشاب لها, لذلك زالت معالم الكثير منها, واستعمل بعض منه في الوقود وفي أعمال البناء. ولا زلنا لا نملك نماذج من الأثاث المعمول من الخشب, مثل: صناديق لحفظ الألبسة والأشياء الأخرى التي تحتاج إلى حفظ, وسرر منامة وكراسي وغير ذلك مما يستعمله الإنسان في حياته من مصنوعات الخشب. إن الفنان العربي الجنوبي حاول جهد طاقته إظهار شخصيته في أعماله الفنية, وهو وإن كان قد حاكى غيره وقلده في بعض الأمور, غير أنه نجح في إعطاء فنه صورة المحيط الذي عاش فيه. فنرى السحنة اليمانية على وجوه بعض التماثيل, ولا سيما في أوجه الرجال. ونجد الطابع العربي الجنوبي يبرز على بعض المصنوعات. وسوف يزداد علمنا -ولا شك في المستقبل- بالفن العربي الجاهلي في المستقبل حين تهدأ الأحوال وتقوم البعثات العلمية بالحفر العلمي المنظم في جزيرة العرب, فربما يعثر على أعمال فنية تغير وجهة نظر العلماء المكتوبة عنه في هذا اليوم. وأما الحديث عن الفن في الحجاز قبل الإسلام, فحديث مقتضب مختصر؛ لأن البحث العلمي لم يبدأ هناك حتى الآن. فاقتصر علمنا عنه على ما ورد في الموارد الإسلامية وحدها. وما ورد في هذه الموارد هو إشارات عارضة ذكرت عرضًا في أحوال لا علاقة لها بالفن بل في البحث عن أمور أخرى, مثل: فتح مكة, حيث أشير إلى وجود تصاوير وأصنام في الكعبة, أمر الرسول بطمسها وإزالة معالمها وبكسر كل ما كان هناك من أصنام, ومثل ما جاء في كتب الحديث والفقه عن "الصور والتماثيل" في باب النهي عنهما في الإسلام. وذلك يدل على أن بعض أهل مكة وسائر مواضع الحجاز الأخرى, كانوا يضعون الصور والتماثيل في بيوتهم, وأن طائفة من الناس كانت تصوّر وتتعيش من بيع الصور, وأن طائفة أخرى كانت تنحت وتعمل التماثيل, وأن طائفة من النساجين والخياطين كانوا يجعلون صور إنسان أو حيوان على الستائر أو الملابس لتزويقها, فنهى عن

ذلك الإسلام1. ونحن لو أخذنا بروايات أهل مكة عن بناء الكعبة, خرجنا منها على أن الكعبة لم تكن عند ظهور الإسلام وبعد تعميرها الأخير قبل البعثة, شيئًا يذكر من ناحية الفن والهندسة المعمارية, فهي لم تكن سوى بيت مكعب, تحيط بحرمه البيوت, ولم يكن الحرم واسعًا وله سور, وإنما كان ساحة مفتوحة تجاوز عليها أهل مكة, فأدخلوا جزءًا منها في بيوتهم, ولذلك اضطر الخلفاء إلى توسيعها, بشراء البيوت المجاورة وهدمها لإعادة إدخالها في الحرم. ونحن لا نجد اليوم أثرًا باقيًا على وضعه وحاله من آثار الجاهلية سوى "الحجر الأسود", وبئر زمزم, أما الأشياء الأخرى مثل الكعبة, فإنها من بناء الإسلام. أما بيوتها, فلا علم واضح لنا عنها؛ لأن أهل الأخبار لم يتحدثوا عنها حديثًا فيه إفاضة, وقد ورد في خبر إساءة الجوار لرسول الله, أن رسول الله كان يجلس تحت ظلة أمام باب داره, فكان جيرانه يرمونه بالحجارة, مما يدل على أنهم كانوا يبنون ظللًا على أبواب بيوتهم يجلسون تحتها على "دكة" ويستظلون بها من حرارة الشمس حين وقوفهم أمام الباب. ولا بد وأن تكون بيوت تجار مكة من حجارة وكلس, وقد تكون من طابقين أو أكثر, ولكن الأخبار لا تتحدث بحديث مفصل عنها. وفي أعالي الحجاز, آثار من بقايا أبنية ومن تماثيل وكتابات مكتوبة ومن تصاوير نقشت على الصخور, تعبر عن حالة النقّاش الذي نقشها, وهو من الأعراب. وفي جملة الصور مناظر إنسان يصيد غزالًَا, أو يجاهد في قتل أسد أو حيوان مفترس, أو فارسًا قد امتطى ظهر فرسه, أو مناظر قطعان حيوانات وحشية أو أليفة, وما شاكل ذلك من مناظر تمر على عيون الرعاة. وبعض هذه الصور مما يعود عهده إلى ما قبل الميلاد. وهي تستحق الدرس وتوجب على عشاق الفن دراسة النواحي الفنية والتعبيرية في هذه الصورة المرسومة على الأحجار والصخور. وفي المتحف البريطاني حجر, رمز إليه بـ"B. M. 120928" كتب عليه بالحروف الصفوية "هف زبن بن أحرب" أي: "هذا لزبان بن أحرب". وقد حفر صورة جمل تحت الكتابة, جعله لاعبًا بذنبه, وله سنام ضخم لا يتناسب حجمه

_ 1 تنوير الحوالك "2/ 241", تاج العروس "4/ 423", "قصص".

مع جسم الجمل, وله رقبة ورأس, أقرب إلى رقبة الزرافة ورأسها من رأس ورقبة الجمل. ولكن الرسم لا بأس به بصورة عامة, إذا أدركنا أن راسمه من الأعراب الذين عاشوا قبل الإسلام. ونجد في الأحجار الصفوية الأخرى, صور فرسان, وهم يتحاربون, أو يتسابقون, وصور خيل وحيوانات أخرى. وبعض هذه الصور في غاية من الإتقان والإبداع, وبعضها تمثل فنًّا بدائيًّا, لكنه يعبر عن وجود قابلية لدى راسمي هذه الصور الذين كانوا أعرابًا يتّنقلون في البوادي, وهم مع ذلك كتبة؛ لأننا نجد أسماء من رسم هذه الصور مكتوبة تحتها أو حولها لتدل عليهم. وأما العربية الشرقية, فقد عثرت البعثات التي نقبت بها على أعمال فنية عديدة, وقد عثر في "أبو ظبي" وفي أماكن أخرى من الخليج على آثار لم تكن معروفة من قبل. وقد أشرت في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب إلى عثور المنقبين عن الآثار على آثار مهمة في البحرين وفي جزيرة "فيلكا" من جزر الكويت, وهي يوجد صورة يراد سحبها على الاسكانر. منظر المعبد الهيليني بعد تنظيفه, وهو في جزيرة فيلكا وهو من منشورات قسم المتاحف والآثار بدولة الكويت.

تشير إلى أثر الاختلاط الذي كان بين الهند وفارس والروم والعراق وبين سكان الخليج, قبل الميلاد بعهود طويلة. ولا بد وأن تنبت في هذه الأرضين حضارة مختلطة؛ لأنها على ساحل بحر, وعلى طريق يعتبر من أهم طرق العالم في التجارة وفي المواصلات الدولية في القديم وفي الحديث. وفي جملة ما عثر عليه في جزيرة "فيلكا" بقايا معبد يوناني, بناه جنود الإسكندر حين أقاموا واستقروا بها, وقد تمكنت البعثة "الدانماركية" التي نقبت في هذه الجزيرة من العثور عليه, ونظفت ساحته حتى ظهر على هذه الصورة التي تراها في الصفحة السابقة. وفي جملة ما عثر عليه في جزيرة "فيلكا" نقود تعود إلى أيام "السلوقيين" خلفاء الإسكندر, وآثار اليونانيين الذين أقاموا في هذه الجزيرة منذ جاء جيش الإسكندر لفتح الهند. فاستقر قسم منهم بها وأنشأ معبدًا فيها, عثر في أنقاضه على بقايا أعمدة حجرية استخدمت لرفع سقفه, يظهر عليها الأثر الهليني بكل وضوح, وعلى أحجار منقورة مزخرفة وعلى كتابات. وقد استخدم الحجر في أعمال البناء, كما ترى ذلك في الصورة المأخوذة لموضعه, بعد تنظيفه وإعادة دائرة تمثال أفروديت, ويعود عهده إلى حوالى السنة 200 قبل الميلاد وهو من منشورات قسم الآثار والمتاحف بدولة الكويت.

الآثار والمتاحف في الكويت للأحجار إلى مواضعها. كما عثر في هذه الجزيرة على جرار كثيرة تعود إلى العهد البرنزي, تشبه الجرار الخزفية التي لا زال الناس يستعملونها في مواضع متعددة من جزيرة العرب. ومن أبدع ما عثر عليه في هذه الجزيرة, تمثال صغير من الطين المحروق يمثل "أفروديت", يعود عهده إلى حوالى السنة "300" قبل الميلاد, وهو تأريخ إنشاء هذا المعبد, ومخربشة جميلة, تمثل شجرة, يظهر أنها كانت قد وضعت في أعلى واجهة المعبد. وتمثال رأس الإسكندر, تحيط به الهالة, وتمثال آخر, صنع من الطين المحروق, وعدد كبير من الأختام, حفرت عليها مناظر مختلفة, فيها صور حيوانات, يعود عهدها إلى القرن الثالث قبل الميلاد. تمثال رأس الإسكندر تحيط به الهالة, من منشورات قسم الآثار والمتاحف بدولة الكويت. أما عن الفن العربي في العراق, فنحن لا نستطيع أن نتكلم عنه إلا بإيجاز مخل, وسبب ذلك, أن الحيرة التي كانت عاصمة المناذرة, والتي كانت من أكبر المستوطنات العربية, هدمت في الفتح الإسلامي وما بعده لاستخدام طابوقها

وأخشابها في بناء "الكوفة". فقد بني مسجد الكوفة بأنقاض قصور الحيرة, فزالت بذلك معالم تلك المدينة, ولم يبق منها أي شيء بتوالي الأيام. ويظهر من الأخبار الواردة في كتب أهل الأخبار, أن أهل الحيرة كانوا يتخذون "إيوانًا" في قصورهم. يجعلونه موضعًا يجلسون فيه. عرف بالإيوان الحيري. وقد كانوا يزخرفون الجدر باستعمال "الآجر" المزخرف. كما كانوا يطلون الجدر على الطريقة العراقية القديمة بطبقة من "الجص", ليظهر أملس أبيض, وكانوا يطلون الجدر الخارجية للبيوت بهذه الطبقة, ومن هنا بدت مدينتهم وكأنها بيضاء, فقيل لها: الحيرة البيضاء.

التصوير

التصوير: وقد عثر المنقبون والباحثون عن الآثار القديمة على رسوم بشر وحيوان ونبات نقشها الجاهليون على الصخور والحجارة, يرمز بعض منها إلى أمور دينية وأساطير قديمة. ويعبر البعض الآخر عن مواهب فنية عند حافري هذه الصور, وعلى مقدرة تقدر في الرسم, وعلى وجود ميول فطرية عند أصحابها في الفن, وفي محاولة إبراز العواطف النفسية والتعابير بلغة فنية يفهمها كل إنسان, هي لغة الرسم والنقش. وفي أخبار أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كانوا يتقربون إلى الصور, كما كانوا يزينون بيوتهم بالصور وبالنسيج المصور, كما كانوا يستعملون ستائر ذات صور, ويلبسون ملابس ذات صور ورسوم. ولما فتح الرسول مكة, أمر بتحطيم ما كان بها من أصنام وأوثان. وقد ذكر أهل الأخبار, أنه كانت في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها, ثم وجد صور الملائكة وغيرهم, فرأى إبراهيم مصورًا في يده الأزلام يستقسم بها, وصورة عيسى بن مريم وأمه, وصورة الملائكة أجمعين. فأمر الرسول بطمس تلك الصور, فغسلت بالماء, ومسحت بثوب بلّ بالماء, فطمست, إلا صورة عيسى بن مريم وأمه, إذ أمر الرسول بإبقائها كما تقول بعض الروايات, فبقيت إلى أيام "عبد الله بن الزبير", فلما

تهدم البيت, تهدمت الصورة معه1. وفي شعر "امرئ القيس" إشارة إلى التصوير. ففي البيت: بلى ربّ يومٍ قد لهوت وليلة ... بآنسة كأنها خط تمثال إشارة إلى التصوير. فالخط: الكتابة والرسم, والتمثال: الصورة, والصنم, أي التمثال المجسد. والتماثيل: الصور. وقد كانوا يصورون الصورة ويرسمونها قبل الإسلام2. ولكننا لا نملك اليوم صورًا زيتية أو صورًا أخرى مرسومة بالألوان أو الحبر أو الصبغ الأسود على أدم أو قراطيس, أو ألواح, فإن مثل هذه الصور لا يمكن أن تعمر طويلًا تحت الأتربة لذلك تبلى, ولا أستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على مثل هذه الصور, لما ذكرته من وجود الصور والتصوير عند الجاهليين. وقد كان الجاهليون يقتنون الصور يضعونها في بيوتهم للزينة, كما كان هناك مصورون يعيشون من بيع الصور التي يرسمونها, وصناع تماثيل, ينحتونها أو يعملونها بالقوالب بجعل عجين الجبس فيها, فإذا جفّ أخذ شكل التمثال, فيباع. وقد أشير إلى التصوير وصنع التماثيل في الحديث, بمناسبة ما ورد فيه من كره الإسلام للتصوير, أو تحريمه كما ذهب إليه البعض, فقد كره في الإسلام تصوير كل ذي روح, مثل: تصوير إنسان أو حيوان, وكره بيع المصورات, واتخاذ التصوير حرفة يتعيش منها. وقد سأل بعض المصورين "ابن عباس" رأيه في التصوير, وهي حرفته التي كان يتعيش منها, فنهاه عنها, إلا إذا صور شجرًا أو شيئًا لا روح فيه. وكانت معيشة هذا المصور من صنعة يده, يصنع التصاوير ويبيعها للناس3.

_ 1 الأزرقي "1/ 104 وما بعدها", السيرة الحلبية "3/87", ابن هشام, سيرة "2/ 274 وما بعدها", "حاشية على الروض", الروض الأنف "2/ 274 وما بعدها", ابن الأثير "2/ 105", نهاية الأرب "17/ 313", إمتاع الأسماع "1/ 385". 2 الخزانة "1/ 31", "بولاق". 3 إرشاد الساري "4/ 107", "باب بيع التصاوير".

وقد كانت الوثنية لا تتعارض مع التصوير, بل كانت تشجعه وتشجع الفنون الجميلة. فقد كانت الأصنام عماد سنتهم, وإليها كانوا يتقربون, وكانوا يضعونها في بيوتهم للتقرب إليها والتبرك بها, كما أنهم لم يكرهوا الغناء ولا الموسيقى, لما لهما من صلة بأعيادهما وبالطقوس الدينية. وقد منع من بيع الأصنام, أي: التماثيل في الإسلام, كما حرم بيع الصور المتخذة من جوهر نفيس1, وكان بين أهل مكة وغيرها من القرى أناس يتعيشون من بيعها, ويتفننون في صنعها, فماتت بذلك هذه الحرفة التي هي من الفنون الجميلة, مثل التصوير.

_ 1 إرشاد الساري "4/ 114", "باب تحريم بيع الميتة والأصنام".

الفصل العشرون بعد المئة: أمية الجاهليين

الفصل العشرون بعد المئة: أمية الجاهليين ... الفصل العشرون بعد المائة: أمية الجاهليين الشائع بين كثير من الناس أن العرب قبل الإسلام كانوا في جهالة عمياء وضلالة, لا يقرءون, ولا يكتبون, وأن الكتابة كانت قليلة بينهم, واستدلوا على رأيهم هذا بإطلاقهم لفظة "الجاهلي" على أيامهم, وبما جاء من أنهم كانوا قومًا "أميين لا يكتبون". واستدلوا على ذلك بحديث ذكر أن الرسول قاله, هو "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"1. وقد تحدثت في الجزء الأول من هذا الكتاب عن معنى "الجاهلية", وعن الآراء التي قيلت فيها, حديثًا فيه إفاضة وإحاطة, وقد قلت فيما قلته: إن تفسير الجاهلية بالجهل, الذي هو ضد العلم, تفسير مغلوط, وأن المراد من الجاهلية السفه والحمق والغلظة والغرور, وقد كانت تلك أبرز صفات المجتمع الجاهلي آنئذ, وتحدثت في كتابي: "تأريخ العرب قبل الإسلام" عن معنى الأمية وذلك في أثناء كلامي على أميّة الرسول وآراء العلماء فيها من مسلمين ومستشرقين2، وقلت: إن للأمية معنى آخر غير المعنى المتداول المعروف, وهو الجهل بالكتابة والقراءة. فقد ذكر "الفراء" وهو من علماء العربية المعروفين, أن الأميين هم

_ 1 البيان والتبيين "3/ 28", الصاحبي "8/ 11", تفسير القرطبي "2/ 5", البقرة الآية 87, اللسان "12/ 34", "أمم", تاج العروس "8/ 191", "أمم". 2 الصفحة 136 وما بعدها.

العرب الذين لم يكن لهم كتاب1. ويراد بالكتاب، التوراة والإنجيل. ولذلك نعت اليهود والنصارى في القرآن بـ"أهل الكتاب"، وهذا المعنى يناسب كل المناسبة لفظة "الأميين" الواردة في القرآن الكريم، وتعني الوثنيين، أي: جماع قريش وبقية العرب، ممن لم يكن من يهود وليس له كتاب. وللعلماء آراء في الأمية، وذلك لما لها من صلة بالرسول، ولما كان القرآن قد نعت قوم الرسول بالأميين، وجعل الرسول أميًّا مثلهم، فقد ذهبوا إلى أن العرب كانوا قبل الإسلام أميين بمعنى أنهم كانوا لا يقرءون ولا يكتبون إلا من شذّ منهم وندر، وإلا أفرادًا من أهل مكة، زعموا أنهم تعلموا الكتابة من عهد غير بعيد عن الإسلام، ولو أخذنا أقوالهم مأخذ الجد، وجب علينا القول بأنهم: إنما تعلموها في حياة الرسول، أي: قبل الوحي بسنين ليست بكثيرة، وأن مكة كانت المدينة الوحيدة التي عرفت الكتابة في جزيرة العرب، وهو كلام لا يقوم على علم. فقد كان بيثرب كتّاب يكتبون بكتاب مكة، وكان في أماكن أخرى كتّاب يكتبون بكتابهم أيضًا، فضلًا عن انتشار الكتابة بالمسند في العربية الجنوبية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب. والرسول أمي، لم يقرأ ولم يكتب، فإذا أراد كتابة رسالة أو عهد أو تدوين للوحي، أمر كتابه بالتدوين. على ذلك أجمع المسلمون. وقد وردت في القرآن آيات: مثل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} 2، وآية: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 3. أخذها البعض على أن فيها دلالة على أن النبي كان يقرأ ويكتب، واستدل أيضًا ببعض ما ورد في كتب الحديث والسير، وفيه ما يفيد أنه كان ملمًّا بالقراءة والكتابة، كالذي ورد في صلح "الحديبية" أنه "هو الذي كتب الكتاب بيده الشريفة. وهو ما وقع في البخاري"4. وما جاء في السيرة لابن هشام: "فبينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكتب

_ 1 المفردات "ص22". 2 سورة اقرأ، الآية الأولى. 3 العنكبوت، الآية 48، تفسير الطبري "4/ 21". 4 الروض الأنف "2/ 230"، الحلبية "3/ 23 وما بعدها". Nôldeke، Geschichte des Qorâns، I، S. 13.

الكتاب هو وسهيل"1. وما جاء في البخاري: "وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم" الكتاب ليكتب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد"2. وقالوا: إن في هذا المذكور وفي غيره من مثل ما ورد من إن الرسول "لما اشتد وجعه، قال: "ائتوني بالدواة والكتب أكتب لكم كتابًا لا تضلون معه بعدي أبداً" 3، ومثل ما ورد "في حديث أبي بكر -رضي الله عنه- أنه دعا في مرضه بدواة ومزبر فكتب اسم الخليفة بعده.4، دلالة صريحة على قدرته على الكتابة والقراءة5. وللعلماء كلام في الأدلة المذكورة، ولهم آراء في تفسير الآيات التي تعرضت لموضوع الأمية. في تفسير علماء اللغة من لا يكتب، أو العيي الجلف الجافي القليل الكلام. قيل له: أُمي لأنه على ما ولدته أمه عليه من قلة الكلام وعجمة اللسان6، أو الجهل التام بالقراءة والكتابة. "لأن أمة العرب لم تكن تكب ولا تقرأ المكتوب"7؛ أو لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة8، أو الأمي الذي على خلقة الأمة، لم يتعلم الكتاب، فهو على جبلته. وقد ورد في الحديث: "إنا أمة أمية لا نكتب"9، أو "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"10، أو "بعثت إلى أمة أمية"، فذهبوا إلى أن العرب كانوا على أصل ولادة أمهم، لم يتعلموا الكتابة ولا الحساب، فهم على جبلتهم الأولى. "وكل شيء للعرب، فإنما هو بديهة وارتجال ... ثم لا يقيده على نفسه ولا

_ 1 Noldeke, I, S. 13. 2 الروض الأنف "2/ 230"، الطبري "3/ 80"، "السنة السادسة"، "2/ 635" "دار المعارف"، الحلبية "1/ 24". 3 البلاذري "1/ 562"، "ائتوني باللوح والدواة –أو بالكتف والدواة –أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده"، "ائتوني أكتب كتابًا لا تضلوا بعدي أبدًا"، الطبري "3/ 192 وما بعدها"، "دار المعارف". 4 تاج العروس "3/ 231"، "زبر". 5 Noldeke, I, S. 12. ff. 6 اللسان "12/ 34"، "أمم". 7 تاج العروس "8/ 191"، "أمم". 8 تاج العروس "8/ 191"، "أمم". 9 اللسان "12/ 34"، "أمم". 10 تاج العروس "8/ 191"، "أمم" المفردات "22". اللسان "12/34"، "أمم".

يدرسه أحدًا من ولده. وكانوا أميين لا يكتبون"1. وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "الأمي"2، و"أميون"3، و"أميين"4، ونعت الرسول بـ"النبي الأمي"5، وردت في سور مكية وفي سور مدنية. وردت لفظة "الأمي" في سورة الأعراف، وهي من السور المكية، ووردت لفظة "أميون" و"الأميين" في سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة الجمعة، وهي من السور المدنية. ويلاحظ أن الآيتين المكيتين، خاصتان بالرسول، فنعت فيهما بـ"النبي الأمي"، أما الآيات المدنية، فقد قصد بها "الأميين"، الذين ليس لهم كتاب. بمعنى المشركين. وقد بحث "الراغب الأصبهاني" في معنى "الأمية" فقال: "والأمي: هو الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب وعليه حمل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: الآية 2] . قال قطرب: الأمية: الغفلة والجهالة. فالأمي منه، وذلك هو قلة المعرفة. ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} ، أي: إلا أن يتلى عليهم. قال الفراء: هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب. والنبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، قيل: منسوب إلى الأمة الذين لم يكتبوا لكونهم على عادتهم. كقولك: عامي لكونه على عادة العامة. وقيل: سمي بذلك لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ من كتاب، وذلك فضيلة له لاستغنائه بحفظه واعتماده على ضمان الله منه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} . قيل: سمي بذلك لنسبته إلى أم القرى"6. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الأميين من لا كتاب لهم من الناس، مثل: الوثنيين والمجوس، قال الطبري في تفسير الآية: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} 7: "يعني بذلك جل ثناؤه، وقل

_ 1 البيان والتبيين "3/ 28". 2 الأعراف، الآية 156 وما بعدها. 3 البقرة، الآية 78. 4 آل عمران، الآية 20، 75, الجمعة، الآية2. 5 الأعراف، الآية 156 وما بعدها. 6 المفردات في غريب القرآن "22". 7 آل عمران، الرقم3، الآية20.

يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى والأميين، الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب أأسلمتم ... "1. وذهب كثير من المفسرين إلى أن الأميين الذين لا كتاب لهم، أي: الذين ليسوا يهودًا ولا نصارى. وورد: "أن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- كان يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم"2. قال الطبري: "وكان النبي -صلى الله علية وسلم- يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، ففرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب"3. فالمسلمون أهل كتاب، والمجوس أميون كمشركي مكة وبقية العرب المشركين، لا لكونهم لا يقرءون ولا يكتبون، بل لأنهم لم يؤمنوا بالتوراة والإنجيل. ويلاحظ أن الآية: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ} 4، والأية: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} 5؛ والآية: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} 6، وكذلك: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} 7، لا تؤدي معنى الأمية، بمعنى الأمة الجاهلة بالقراءة والكتابة، لعدم انسجام التفسير مع المعنى، وإنما تؤدي معنى وثنية، أي: أمة لم تؤمن بكتاب من الكتب السماوية، أي: في المعنى المتقدم. "والأمي والأمان –بضمهما –من لا يكتب أو من هو على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب، وهو باقٍ على جبلته. وفي الحديث: "إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب". أراد أنه على أصل ولادة أمهم، لم يتعلموا الكتابة والحساب، فهم على جبلتهم الأولى.

_ 1 تفسير الطبري "3/ 143". 2 روح المعاني "21/ 17 وما بعدها"، "كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم أهل الكتاب، وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس لأنهم أهل أوثان"، وتفسير الطبري "21/ 12 وما بعدها". 3 تفسير الطبري "21/ 13". 4 آل عمران، الرقم3، الآية 20. 5 آل عمران، الرقم3، الآية 75. 6 البقرة، الرقم2، الآية 78. 7 الجمعة، الرقم62، الآية 2.

وقيل لسيدنا محمد -صلى الله علية وسلم- الأمي؛ لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، وبعثه الله رسولًا، وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- تلا عليهم كتاب الله منظومًا تارة بعد أخرى، بالنظم الذي أنزل عليه، فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، ففي ذلك أنزل الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} . وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي: إن مما حرم عليه, صلى الله عليه وسلم: الخط والشعر، وإنما يتجه التحريم إن قلنا: إنه كان يحسنهما، والأصح أنه كان لا يحسنهما، ولكن يميز بين جيد الشعر ورديئه. وادعى بعضهم أنه صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها؛ لقوله تعالى من قبله في الآية. فإن عدم معرفته بسبب الإعجاز. فلما اشتهر الإسلام وأمن الارتياب عرف حينئذ الكتابة. وقد روي عن ابن أبي شيبة وغيره: ما مات رسول الله -صلي الله عليه وسلم- حتى كتب وقرأ، وذكره مجالد للشعبي. فقال: ليس في الآية ما ينافيه. قال ابن دحية: وإليه ذهب أبو ذر الفتح النيسابوري والباجي وصنف فيه كتابًا، ووافقه عليه بعض علماء إفريقية وصقلية. وقالوا: إن معرفة الكتابة بعد أميته لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى بعد معرفة أميته وتحقق معجزته, وعليه تتنزل الآية السابقة والحديث, فإن معرفته من غير تقدم تعليم معجزة. وصنف أبو محمد بن مفوز كتابًا رد فيه على الباجي وبيّن فيه خطأه، وقال بعضهم: يحتمل أن يراد أنه كتب مع عدم علمه بالكتابة وتمييز الحروف، كما يكتب بعض الملوك علامتهم وهم أميون، وإلى هذا ذهب القاضي أبو جعفر السمناني"1. وقد تعرض "الألوسي" لهذا الموضوع في تفسير الآية: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} 2. فقال: "واختلف في أنه -صلى الله عليه وسلم- أكان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا؟ فقيل: إنه -عليه الصلاة والسلام- لم يكن يحسن الكتابة، واختاره البغوي في التهذيب، وقال: إنه الأصح. وادعى بعضهم أنه -صلى الله عليه وسلم- صار يعلم الكتابة بعد أن كان

_ 1 تاج العروس "8/ 191"، "أمم". 2 العنكبوت، 29، الآية 48، تفسير الطبري "21/ 4"، تفسير الألوسي "21/ 4"

لا يعلمها، وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية، فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ. وروى ابن أبي شيبة وغيره: ما مات -صلى الله عليه وسلم- حتى كتب وقرأ. ونقل هذا للشعبي فصدقه، وقال: سمعت أقوامًا يقولونه وليس في الآية ما ينافيه. وروى ابن ماجه عن أنس قال: قال، صلى الله عليه وسلم: رأيت ليلة أُسري بي مكتوبًا على الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر. ثم قال: ويشهد للكتابة أحاديث في صحيح البخاري وغيره، كما ورد في صلح الحديبية: فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب: "هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله" الحديث. وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وأبو الوليد الباجي من المغاربة، وحكاه عن السمناني. وصنف فيه كتابًا، وسبقه إليه ابن منية. ولما قال أبو الوليد: ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسبّ على المنابر، ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدّعاه، وكتب به إلى علماء الأطراف، فأجابوا بما يوافقه، ومعرفة الكتابة بعد أميته -صلى الله عليه وسلم- لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم. وقد رد بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح: "إنا أمة أمية نكتب ولا نحسب". وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: كتب، فمعناه أمر بالكتابة، كما يقال: كتب السلطان بكذا لفلان. وتقديم قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِهِ} على قوله سبحانه: {وَلا تَخُطُّهُ} كالصريح في أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يكتب مطلقًا. وكون القيد المتوسط راجعًا لما بعده غير مطرد. وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده، فقال: يفهم من ذلك أنه -عليه الصلاة والسلام- كان قادرًا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب، ولولا هذا الاعتبار، لكان الكلام خُلوًّا من الفائدة. وأنت تعلم أنه لو سُلّم ما ذكره من الرجوع، لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم، والظانّ ممن لا يقول بحجيته. ثم قال الألوسي في تفنيد هذه الردود ما نصه: ولا يخفى أن قوله، عليه الصلاة والسلام: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، ليس نصًّا في استمرار نفي الكتابة عنه -عليه الصلاة والسلام- ولعل ذلك باعتبار

أنه بعث عليه -الصلاة والسلام- وهو وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون، لا يكتبون ولا يحسبون، فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد. وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالمكاتبة، فخلاف الظاهر. وفي شرح صحيح مسلم للنووي عليه الرحمة نقلًا عن القاضي عياض: أن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب، كالنص في أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب بنفسه، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه. ثم قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا"1. وبحث "القرطبي" في هذا الموضوع أيضًا، فقال: " {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} ، الضمير في قبله عائد إلى الكتاب، وهو القرآن المُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- أي: وما كنت يا محمد تقرأ قبله، ولا تختلف إلى أهل الكتاب، بل أنزلناه إليك في غاية الإعجاز والتضمين للغيوب وغير ذلك، فلو كنت ممن يقرأ كتابًا، ويخط حروفًا لارتاب المبطلون, أي: من أهل الكتاب، وكان لهم في ارتيابهم متعلق، وقالوا: الذي نجده في كتبنا أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به. قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لا يخط ولا يقرأ، فنزلت هذه الآية؛ قال النحاس: دليلًا على نبوته لقريش؛ لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم، وزالت الريبة والشك. الثانية: ذكر النقاش في تفسير الآية عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي -صلى الله وعليه وسلم- حتى كتب. وأسند أيضًا حديث أبي كبشة السلولي؛ مضمنه: أنه -صلى الله عليه وسلم- قرأ صحيفة لعيينة بن حصن، وأخبر بمعناها. قال ابن عطية: وهذا كله ضعيف، وقول الباجي رحمه الله منه. قلت: وقع في صحيح مسلم من حديث البراء في صلح الحديبية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعليّ: "اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله"، فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك –وفي رواية بايعناك– ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فأمر عليًّا

_ 1 محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن "ص358 وما بعدها" "الطبعة الثانية"، "عيسى البابي الحلبي".

أن يمحوها، فقال علي: والله لا أمحاه. فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه فمحاها وكتب ابن عبد الله. قال علماؤنا, رضي الله عنهم: وظاهر هذا أنه -عليه السلام- محا تلك الكلمة التي هي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده، وكتب مكانها ابن عبد الله. وقد رواه البخاري بأظهر من هذا فقال: فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب فكتب. وزاد في طريق أخرى: ولا يحسن أن يكتب. فقال جماعة، بجواز هذا الظاهر عليه وأنه كتب بيده، منهم: السمناني وأبو ذر والباجي، ورأوا أن ذلك غير قادح في كونه أميًّا، ولا معارض بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِك} ، ولا بقوله: "إنا أمه أمية لا نكتب ولا نحسب"، بل رأوه زيادة في معجزاته، واستظهارًا على صدقه وصحة رسالته، وذلك أنه كتب عن غير تعلم لكتابة، ولا تعاط لأسبابها، وإنما أجرى الله تعالى على يده وقلمه حركات كانت عنها خطوط مفهومها: ابن عبد الله لمن قرأها، فكان ذلك خارقًا للعادة، كما أنه -عليه السلام- عَلِمَ عِلْمَ الأولين والآخرين من غير تعلم ولا اكتساب، فكان ذلك أبلغ معجزاته، وأعظم فضائله. ولا يزول عنه اسم الأمي بذلك، ولذلك قال الراوي عنه في هذه الحالة: ولا يحسن أن يكتب. فبقي عليه اسم الأمي مع كونه قال: كتب. قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وقد أنكر هذا كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم، وشددوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا؛ لأن تكفير المسلم كقتله على ما جاء عنه -عليه السلام- في الصحيح، لا سيما رمي من شهد له أهل العصر بالعلم والفضل والإمامة، على أن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار آحاد صحيحة، غير أن العقل لا يحيلها، وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها. قلت: وقال بعض المتأخرين من قال هي آية خارقة، فيقال له: كانت تكون آية لا تنكر لولا أنها مناقضة لآية أخرى، وهي كونه أميًّا لا يكتب، وبكونه أميًّا في أمة أمية قامت الحجة، وأفحم الجاحدون، وانحسمت الشبهة، فكيف يطلق الله تعالى يده فيكتب وتكون آية. وإنما الآية ألا يكتب، والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضًا. وإنما معنى كتب وأخذ القلم، أي: أمر من يكتب به من كتّابه، وكان من كتبة الوحي بين يديه -صلى الله عليه وسلم- ستة وعشرون كاتبًا.

الثالثة – ذكر القاضي عياض عن معاوية أنه كان يكتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: ألق الدواة وحرّف القلم وأقم الباء وفرّق السين، ولا تعوّر الميم، وحسّن الله، ومدّ الرحمن، وجوّد الرحيم. فقال القاضي: وهذا وإن لم تصح الرواية أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب، فلا يبعد أن يُرزق علم هذا، ويُمنع القراءة والكتابة. قلت: هذا هو الصحيح في الباب أنه ما كتب ولا حرفًا واحدًا، وإنما أمر من يكتب وكذلك ما قرأ ولا تهجى. فإن قيل: فقد تهجى النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر الدجّال، فقال: "مكتوب بين عينيه ك اف ر"، وقلتم: إن المعجزة قائمة في كونه أميًّا، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} ، الآية. وقال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب". فكيف هذا؟ فالجواب ما نص -صلى الله عليه وسلم- في حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضًا. ففي حديث حذيفة: يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أميًّا. وهذا من أوضح ما يكون جليًا"1. وقد ذهب "الطبرسي" في تفسيره للآية المذكورة إلى أن الرسول ساوى قومه في المولد والمنشأ، لكنه جاء بما عجز عنه الآخرون من كلام الله والنبوة، فهو أُمي مثلهم. ثم عرض رأي "الشريف المرتضى"، القائل: "هذه الآية تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما كان يحسن الكتابة قبل النبوة، فأما بعد النبوة فالذي نعتقده في ذلك التجويز، لكونه عالمًا بالكتابة والقراءة, والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع على أحد الأمرين. وظاهر الآية يقتضي أن النفي قد تعلق بما قبل النبوة دون ما بعدها؛ ولأن التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوة؛ لأن المبطلين إنما يرتابون في نبوته -صلى الله عليه وسلم- لو كان يحسن الكتابة قبل النبوة. فأما بعد النبوة، فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز أن يكون قد تعلمها من جبرائيل عليه السلام، بعد النبوة"2. وتعرض "الجاحظ" لهذا الموضوع أيضًا، فقال نقلًا عن كلام شيخ من

_ 1 الجامع لأحكام القرآن "13/ 351 وما بعدها". 2 الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن "الجزء الثامن من 389".

البصريين: "إن الله إنما جعل نبيه أميًّا لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب، ولا يقرض الشعر، ولا يتكلف الخطابة، ولا يتعمد البلاغة، لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب، من قيافة الأثر والبشر، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنسان وبالأخبار، وتكلف قول الأشعار، ليكون إذا جاء بالقرآن الكريم، وتكلم بالكلام العجيب، كان ذلك أدل على أنه من الله. وزعم أن الله تعالى لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظًّا من الحاسب الكاتب، ومن الخطيب الناسب، ولكن ليجعله نبيًّا، وليتولى من تعليمه ما هو أزكى وأنمى. فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليعطيه، وحجبه عن القبائل ليجلي له الكثير"1. وقد رد "الجاحظ" على كلامه هذا، بقوله: "وقد أخطأ هذا الشيخ ولم يُرِد إلا الخير. وقال بمبلغ علمه ومنتهى رأيه. ولو زعم أن أداة الحساب والكتابة، وأداة قرض الشعر ورواية جميع النسب، قد كانت فيه تامة وافرة، ومجتمعة كاملة، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- صرف تلك القوى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة، وأشبه بمرتبة الرسالة، وكان إذا احتاج إلى البلاغة كان أبلغ البلغاء، وإذا احتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، ولو كان في ظاهره، والمعروف من شأنه أنه كاتب حاسب، وشاعر ناسب، ومتفرس قائف، ثم أعطاه الله برهانات الرسالة وعلامات النبوة، ما كان ذلك بمانعٍ من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والانقياد لأمره على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم. ولكنه أراد ألا يكون للشاغب متعلق عما دعا إليه حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حجاب وإن رق، وليكون ذلك أخف في المئونة، وأسهل في المحنة. فلذلك صرف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هجرانه لقرض الشعر وروايته، صار لسانه لا ينطلق به، والعادة توأم الطبيعة. فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل منطيق، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف. وكانت آلته أوفر وأداته أكمل، إلا أنها كانت مصروفة إلى ما هو أرد.

_ 1 البيان والتبيين "4/ 32".

وبين أن نضيف إليه العجز، وبين أن نضيف إلية العادة الحسنة وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له، فرق. ومن العجب أن صاحب هذه المقالة لم يره -عليه السلام- في حال معجزة قط، بل لم يره إلا وهو إن أطال الكلام قصر عنه كل مُطيل، وإن قصر القول أتي على غابة كل خطيب، وما عدم منه إلا الخط وإقامة الشعر، فكيف ذهب ذلك المذهب، والظاهر من أمره -عليه السلام- خلاف ما توهم!؟ "1. فهذا هو رأي الجاحظ في أمية الرسول. وأما حديث: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، فيعارض حديث آخر ينسب إلى الرسول هو: "قريش أهل الله، وهم الكتبة الحسبة"2. "ويقال قريش أهل الله؛ لأنهم كتبة حسبة"3. والقرآن الكريم نفسه، يفند أن قريشًا لم يكونوا يحسنون الكتاب أو الحساب، لما فيه من آيات تناقض هذا الرأي. وفي الحديث، أحاديث كثيرة يجب عدم الأخذ لها؛ لأنها ضعيفة، ويشبه أن يكون الحديث المذكور واحد منها. ومن هذه الأحاديث الضعيفة، حديث: "حق الوالد على ولده أن يعلمه الكتابة والسباحة، والرماية، وأن لا يرزقه إلا طيبًا"، وحديث: "حق الوالد على ولده أن يحسن اسمه، ويزوجه إذا أدرك، ويعلمه الكتاب"4. والحديث المذكور من الأحاديث التي يرجع سندها إلى "أبي هريرة" وفي الأحاديث المنسوبة إليه أحاديث كثيرة يجب عدم الأخذ بها. ولو أخذنا بالحديث على علاته، وقبلناه دون نقد، كما يفعل كثير من الناس، وجب علينا القول: إن الرسول كان يقرأ ويكتب. ورد: "وذكر صاحب الشرعة أيضًا، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاوية -رضي الله عنه- وهو يكتب بين يديه: "ألقِ الدواة، وحرف القلم، وانصب الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن، وجود الرحيم" 5، وأنه قال "لزيد بن ثابت" وهو أحد كتّابه: "إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبيّن

_ 1 البيان والتبيين "4/ 33 وما بعدها". 2 الصولي، أدب الكتاب "28". 3 حكمة الإشراق "67". 4 الجامع الصغير، رقم 3742، و3743، حكمة الإشراق "66 وما بعدها". 5 حكمة الإشراق "67".

السين فيه"1، فهل يعقل صدور هذا الوصف، وهذه التسمية للحروف، وهذه المصطلحات من رجل أمي، لا يقرأ ولا يكتب. وقد روى الرواة هذين الحديثين مع تعارضهما لأقوال العلماء، ورووا أيضًا أن "أبا ذر" الغفاري سأل الرسول: "يا رسول الله، كل نبي مرسل بمَ يُرسل؟ قال: بكتاب منزل. قلت: "يا رسول الله، أي كتاب أنزل على آدم؟ قال: اب ت ث ج إلى آخره. قلت: يا رسول الله، كم حرف؟ قال: تسعة وعشرون. قلت: يا رسول الله، عددت ثمانية وعشرين، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى احمرت عيناه، ثم قال: "يا أبا ذر، والذي بعثني بالحق نبيًّا! ما أنزل الله تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفاً". قلت: يا رسول الله، فيها ألف ولام. فقال عليه السلام: "لام ألف حرف واحد، أنزله على آدم في صحيفة واحدة، ومعه سبعون ألف ملك. من خالف لام ألف، فقد كفر بما أنزل على آدم! ومن لم يعدّ لام ألف فهو بريء مني وأنا بريء منه! ومن لا يؤمن بالحروف، وهي تسعة وعشرون حرفًا لا يخرج من النار أبدًا" 2. وبعد فهل نقبل بحديث من هذا النوع، وكل ما فيه يطعن في صحته! ويظهر صراحة من الآية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 3، أن مرادها من الأميين, ليس الجهل بالكتابة والقراءة, وإنما العرب الذين لم يكن عندهم كتاب منزل من السماء. ودليل ذلك ما أورده "الطبري" في تفسيرها من أقوال وروايات. فقد قال: "والأميون هم العرب", قال "قتادة": " {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} . قال: كان هذا الحي من العرب أمة أمية ليس فيها كتاب يقرءونه فبعث الله نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رحمة وهدى يهديهم به"، وقال: "كانت هذه الأمة أمية لا يقرءون كتابًا"، وقال: "إنما سميت أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الأميين؛ لأنه لم ينزل عليهم كتابًا"، وقوله: " {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} . يقول ويعلمهم

_ الجامع الصغير "835"، حكمة الإشراق "67". 2 صبح الأعشى "3/ 7". 3 الجمعة, الآية 2.

كتاب الله وما فيه من أمر الله ونهيه وشرائع دينه، {وَالْحِكْمَة} يعني بالحكمة السنن". وقال: "ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة أيضًا، كما علم هؤلاء. يزكيهم بالكتاب والأعمال الصالحة ويعلمهم الكتاب والحكمة كما صنع بالأولين"، وقال في تفسير "وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. يقول تعالى ذكره، وقد كان هؤلاء الأميون من قبل أن يبعث الله فيهم رسولًا منهم في جور عن قصد السبيل وأخذ على غير هدى مبين. يقول: يبين لمن تأمله أنه ضلال وجور عن الحق وطريق الرشد"1. وقال "ابن كثير في تفسيرها: "وذلك أن العرب كانوا قديمًا متمسكين بدين إبراهيم الخليل -عليه السلام- فبدلوه وغيروه وقلبوه وخالفوه، واستبدلوا بالتوحيد شركًا وباليقين شكًّا ... فبعث الله محمدًا -صلوات الله وسلامه عليه- بشرع عظيم كامل لجميع الخلق، فيه هدايته والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم"2. وقال "القرطبي": قال ابن عباس: الأميون العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب"3. فالأميون إذن هم العرب؛ لأنهم كانوا أهل شرك، وليس لهم كتاب، وليس للفظة صلة بالأمية التي تعني الجهل بالقراءة والكتابة. وأما حديث: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا: مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين" 4. وقد نسب سنده إلى "ابن عمر"، فحكمه حكم الحديث السابق، وقد فسر الحساب، بأنه حساب النجوم وتسييرها، لا الجهل بالحساب. وقد ذهب "شبرنكر" إلى أن الرسول كان يقرأ ويكتب، وأنه قرأ "أساطير الأولين"5، و "شبرنكر" من المستشرقين العاطفيين، الذين يأخذون بالخبر، مهما كان شأنه فيبني حكمًا عليه. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن المقصود من الأميين هنا الوثنيون. وأن الأمية هذه أخذت من اليهود الذين كانوا يطلقون لفظة "امت" و"اميم"

_ 1 تفسير الطبري "28/ 61 وما بعدها". 2 تفسير ابن كثير "4/ 363". 3 الجامع لأحكام القرآن "18/ 91". 4 إرشاد الساري "3/ 359". 5 "Noldeke, I, s. 16, Ency of Islam, Vol. IV, p. 1016.".

على غيرهم، يريدون بها الوثنيين. كما في جملة: "امت ها عالولام1" "Ummot ha Olam". وقد أطلق اليهود على الغرباء وعلى كل من هو غير يهودي، "كوي" "Goy" للواحد، و "كويم" "Goyim" للجمع. وتقابل هذه اللفظة لفظة "Gentile" في اللاتينية. ويقال للغريب عنهم "اخريم" "Ahrim" و"Nochrim"، كذلك تمييزًا لهم عن العبرانيين الذين يذهبون إلى أنهم أمة مقدسة مفضلة على العالمين2. وذهب بعض المستشرقين اليهود إلى أن لفظة "الأميين" معربة من أصل "كوى" و"كوييم" المذكور3. والذي أراه أن لفظة "أمي" و"أمية" لم تكن تعني عند الجاهليين معنى عدم القراءة والكتابة والجهل بهما. وإنما كانت تعني عندهم: مشركين ووثنيين، وهو المعنى الذي ورد في القرآن الكريم. والذي نعت الرسول فيه بالأمي؛ لأنه من العرب، ومن قوم ليس لهم كتاب، عرفوا بذلك من قبل أهل الكتاب اليهود. أما تفسيرها بالجهل بالكتابة والقراءة، فقد وقع في الإسلام، أخذوه من ظاهر معنى لفظة "الكتاب" الواردة في القرآن، فظنوا أنها تعني "الكتابة" بينما المراد منها الكتاب المُنزل، لعدم انسجام تفسيرها بالكتابة مع معنى الآية، ودليل ذلك أنهم لما فسروا "الأمية" بمعنى عدم القراءة والكتابة حاروا في إيجاد مخرج لهذا التفسير، فقالوا ما قالوه في تفسيرها من أنها سميت بالأمية؛ لأنها على خلقة الأمة؛ أو لأنها على الجبلة والفطرة، وأصل ولادة الأمهات وما شاكل ذلك من تفاسير مضطربة باردة، تخبر أن علماء اللغة لم يجدوا لها أصلًا ووجودًا عند الجاهليين فلجئوا إلى هذه التعليلات4. ولو كانت الأمية معروفة عند أهل الجاهلية بهذا المعنى لاستشهدوا عليها بشعر من أشعار الجاهليين أو المخضرمين، ولما لجئوا إلى هذه التفاسير المتكلفة؛ لأن من عادتهم الاستشهاد بالشعر في تفسير

_ 1 Shorter Ency. P. 74, Horovitz, Koranische Utersuchungen, 1926, S. 51, Buhl-Shaeder, Das Leben Muhammeds, Leipzig, 1930, s. 56, Noldeke, Geschichte des Qorans, I, S. 14. 2 The Universe. Jewish Ency, vol. 4, p. 533. 3 Torrey, The Jewish foundation of Islam, New York, 1933, p. 38, Abram I. Katsh, Judaism in Islam, New York, 1934, p. 75. 4 تاج العروس "8/ 191"، "أمم".

الألفاظ، ولا سيما الألفاظ الغريبة، فعدم استشهادهم بشاهد من شعر أو نثر في تفسير الأمية هو دليل على أن اللفظة بهذا التفسير من الألفاظ التي ولدت في الإسلام، وأنها لم تكن عربية خالصة، وإنما سمعوها من أهل الكتاب. وعندي أن يهود يثرب هم الذين أطلقوا لفظة "الأميين" على العرب المشركين، على عادتهم حتى هذا اليوم في نعت الغرباء عنهم بألفاظ خاصة مثل "كوييم"، لتمييزهم عن أنفسهم، باعتبارهم "شعب الله المختار" المؤمن بإله إسرائيل. ومما يؤيد هذا الرأي، أننا نطلق في عربيتنا لفظة "الأمي" على من لا يعرف القراءة والكتابة معًا، بينما نطلق على الشخص الذي يحسن القراءة ولا يحسن الكتابة قارئ، أو قارئة، وذلك لوجود جماعة كانوا يحسنون القراءة، ولكنهم لا يكتبون. ونجد اليوم من النساء من يحسنَّ القراءة ولا يكتبن، ولما نزل الوحي على الرسول: باقرأ، قال الرسول: ما أنا بقارئ، أو لست بقارئ1، ولم يقل: أنا أمي، مما يدل على أن الأمية إنما صارت تعبر عن معنى عدم القراءة والكتابة فيما بعد. ثم إننا لا نجد في اللغات القديمة لفظة واحدة في معنى "الأمية" التي نستعملها في عربيتنا في الوقت الحاضر، أي: في معنى الجهل بالقراءة والكتابة معًا، وإنما يقال: لا يقرأ أو لا يكتب، أو يجهل القراءة والكتابة، فلا يعقل خروج العربية على هذه القاعدة. واستعمالها الأمية قبل الإسلام مصطلحًا للتعبير عن الجهل بالكتابة والقراءة معًا. ولم أعثر في النصوص الجاهلية على هذه اللفظة أو على لفظة أخرى تؤدي هذا المعنى. ولا يعقل أن يكون اليهود أو غيرهم قد أطلقوا الأمية على العرب، بسبب جهل العرب الكتابة والقراءة. فقد كان سواد يهود ونصارى جزيرة العرب أميًّا أيضًا، لا يقرأ ولا يكتب، إلا أن القرآن الكريم أخرجهم من الأميين، واستثناهم، وأطلق عليهم "أهل الكتاب"، وذلك يدل دلالة واضحة على أن المراد من "الأميين" العرب الذين لهم كتاب، أي: العرب الذين لم يكونوا يهودًا ولا نصارى لا من لا يحسن الكتابة والقراءة. والقرآن الكريم هو الذي هدانا إلى لفظة "الأميين" فلم ترد اللفظة في نص من نصوص الجاهلية وبفضله أيضًا عرفنا مصطلح "أهل الكتاب" دلالة على أهل الديانتين.

_ 1 إمتاع الأسماع "1/ 13"، "ثم قال اقرأ: قلت ما اقرأ"، تفسير الطبري "30/ 161"، تفسير النيسابوري "30/ 125"، "حاشية على تفسير الطبري".

وأنا لا أريد أن أثبت هنا أن العرب قاطبة كانت أمة قارئة كاتبة، جماعها يقرأ ويكتب، وأنها كانت ذات مدارس منتشرة في كل مكان من جزيرتهم، تعلم الناس القراءة والكتابة والعلوم الشائعة في ذلك الزمن، فقول مثل هذا هو هراء، ما في ذلك شك، ولا يمكن أن يدعيه أحد ثم إن شيوع القراءة والكتابة بالمعني المفهوم عندنا، لم يكن معروفًا حتى عند أرقى الشعوب إذ ذاك مثل: اليونان والرومان والساسانيين في عالم ذلك العهد. فسواد كل الأمم كان جاهلًا لا يحسن قراءة ولا كتابة، وإنما كانت القراءة والكتابة في الخاصة وفي أصحاب المواهب والقابليات الذين تدفعهم مواهبهم ونفوسهم على التعلم والتثقف وتزعّم الحركة الفكرية بين أبناء جنسهم، ومن هنا كانت كل الأمم أمية من حيث الأكثرية والغالبية، إنما اختلفت في نسبة المتعلمين والمتخصصين والمجتهدين ودرجتهم فيها. وفي هذا تتباين وتختلف أيضًا، فقد كان اليونان والرومان والعالم النصراني في الدرجة الأولى في العهد الذي قارب الإسلام، يليهم الفرس واليهود والهنود. أما العرب, فقد كانوا يتباينون في ذلك أيضًا تباينًا يختلف باختلاف أماكنهم كما سأبين ذلك. فأهل البوادي، ولا سيما البوادي النائية عن الحواضر، هم أميون ما في ذلك من شك؛ لأن طبيعة البادية في ظروفها المعلومة لا تساعد على تعلم القراءة والكتابة، ولا على ظهور العلوم وتطويرها فيها، غير أننا لا نعني أنهم كانوا جميعًا أميين، لا قارئ بينهم ولا كاتب. فقد كان بينهم من يقرأ ويكتب، بدليل هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها مبعثرة في مواضع متناثرة من البوادي، وفي أماكن نائية عن الحضارة. وهي كتابات أعراب ورعاة إبل وبقر وأغنام، دوّنوها تسجيلًا لخاطر، أو للذكرى، أو رسالة لمن قد يأتي بينهم، فيقف على أمرهم، ومن هنا نستطيع أن نقول: إن أعراب الجاهلية، كانوا أحسن حالًا من أعراب هذا اليوم، فقد كان فيهم الكاتب القارئ، الذي يهتم بتسجيل خواطره، وبإثبات وجوده بتدوينه هذه الكتابات، وأن الأمية المذكورة لم تكن أمية عامة جامعة، بل أمية نسبية، على نحو ما نشاهده اليوم في مجتمعاتنا من غلبة نسبة الأمية على نسبة المتعلمين. وأما أهل الحواضر، فقد كان بينهم من يقرأ ويكتب، كما كان بينهم الأمي, أي: الجاهل بالقراءة والكتابة. كان منهم من يقرأ ويكتب بالقلم المسند، وكان

بينهم من يقرأ ويكتب بالقلم الذي دوّن به القرآن الكريم، فصار القلم الرسمي للإسلام، بفضل تدوين الوحي به، كما كان بينهم من يكتب بقلم النبط وبقلم بني إرم. وكان بينهم من يكتب ويقرأ بقلمين أو أكثر. وقد سبق أن ذكرنا أن الأحناف كانوا يكتبون ويقرءون، ورأينا بعضًا منهم كان يكتب بأقلام أعجمية، وكان قد وقف على كتب أهل الكتاب، وكانوا أصحاب رأي ومقالة في الدين وفي أحوال قومهم. وذكرت أنهم قالوا عن بعضهم، مثل "ورقة بن نوفل"، أنه كان "يكتب الكتاب العبراني، فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب"1. وقد ذكر "الهمداني" أن العرب كانت "تسمى كل من قرأ الكتب أو كتب: صابئًا، وكانت قريش تسمي النبي -صلى الله عليه وسلم- أيام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن صابئًا"2. فالصباة على تفسير "الهمداني"، هم الكتبة وكل من قرأ الكتب، وعلى ذلك يكون الحنفاء في جملة الصباة. وقد ذكر أهل الأخبار أنه كان لدى "الأكاسرة" ديوان خاص يدون فيه كل ما يخص عرب الحيرة وسائر العرب بالعربي، ويتولى أيضًا ترجمة كل ما يرد إلى الدولة بالعربية إلى الفارسية، ويترجم ما يصدر بالفارسية من الحكومة إلى العرب بالعربية، وأن في جملة من اشتغل في هذا الديوان وقام بالترجمة فيه "زيد العبادي"، أبو الشاعر الشهير "عدي بن زيد العبادي"، وزعم "ابن الكلبي" أن ملوك الحيرة كانوا يملكون دواوين فيها أخبارهم ومقدار مدد حكمهم وما قيل في مدحهم من شعر، وفي خبر صحيفة المتلمس وقراءة أحد غلمان الحيرة للصحيفة التي كان يحملها ما يشير إلى معرفة غلمان أهل الحيرة القراءة والكتابة3. وفي كل هذه الروايات والأخبار تفنيد لزعم من ذهب إلى أن العرب قبل الإسلام كانوا جميعًا في جهالة وأمية.

_ 1 الأغاني "3/ 120". 2 الإكليل "1/ 44". 3 الفهرست "ص12 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 368 وما بعدها" "فأعطى المتلمس كتابه بعض الغلمان فقرأه"، "فإذا أنا بغلام من أهل الحيرة يسقي غنيمة له من نهر الحيرة، فقلت: ياغلام. أتقرأ؟ قال: نعم. قلت: اقرأ" مجمع الأمثال "1/ 412 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 374"، النصرانية وآدابها "1/ 157".

بل ورد في روايات أهل الأخبار في ترجمة عدي بن زيد العبادي المذكور: أن كان في الحيرة معلمون، يعلمون الأطفال القراءة والكتابة، يذهبون إلى بيوت الأطفال يعلمونهم إن شاء أهلهم، أو يعلمونهم في الكتاتيب. وقد ورد أيضًا: أن من الكتاتيب ما كانت تعلم بالعربية ومنها ما كانت تعلم بالفارسية. فكان جد عدي بن زيد العبادي مثلًا ممن تعلم في دار أبيه، وخرج من أكتب الناس في يومه "وطلب حتى صار كاتب ملك النعمان الأكبر. وكان أبوه زيد ممن حذق الكتابة والعربية، ثم علم الفارسية. ولما تحرك عدي، وأيفع، طرحه أبوه في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله المرزبان مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب الفارسية، فكان يختلف مع ابنه، ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية، حتى خرج من أفهم الناس بها، وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر وتعلم الرمي بالنشاب، فخرج مع الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها"1. وذكر أهل الأخبار أن "لقيط بن يعمر الإيادي" الشاعر كتب صحيفة إلى قومه إياد، يحذرهم من كسرى2. وكان كاتبًا ومترجمًا في قصر كسرى، يكتب من الفارسية إلى العربية ومن العربية إلى الفارسية3، فلما أراد كسرى الانتقام من قومه، كتب إليهم قصيدة في صحيفة، فيها: سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد وذكر أن "سعد بن ملك" أرسل ابنه "المرقش" الشاعر المعروف وأخاه إلى رجل من أهل الحيرة، فعلمهما الكتابة، فكانا يكتبان أشعارهما4، وذكر أنه كان يكتب بالحميرية، وأنه كتب أبياتًا بها على خشب رحل "الغفيلي الذي تركه وحده لما مرض، فلما قرءوا الكتابة ضربوا "الغفيلي" حتى أقر5. وكان جفينة العبادي، وهو من نصارى الحيرة، وظئرًا لسعد بن أبي وقاص،

_ 1 الأغاني "2/ 18 وما بعدها، 101". 2 الأغاني "20/ 23 وما بعدها"، الشعر والشعراء "97 وما بعدها"، بروكلمن، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 112"، "المترجم"، "2/ 101 وما بعدها". 3 البكري, معجم "1/ 52". 4 المفضليات "459 وما بعدها", الأغاني "6/ 130". 5 الشعر والشعراء "1/ 139".

كاتباً، قدم المدينة في عهد عمر، وصار يعلم الكتابة فيها. وقد اتهمه "عبيد الله بن عمر" بمشايعة أبي لؤلؤة على قتل أبيه، فقتله وقتل ابنيه1. ولما نزل "خالد بن الوليد" الأنبار، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا -فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها– فقال: ممن تعلمتم الكتاب؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوه قول الشاعر: قومي إياد لو أنهم أمم ... أولو أقاموا فتهزل النعم قوم لهم باحةُ العراق إذا ... ساروا جميعًا والخط والقلم2 ووجد "خالد بن الوليد" أهل "النقيرة" يعلّمون أولادهم الكتاب في كنيستها. وهي قرية من قرى "عين التمر". ومنها كان "حمران" مولى "عثمان بن عفان"3. ولما فتح "خالد" حصن عين التمر، وغنم ما فيه، "وجد في بيعتهم أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم"4، ثم أخرجهم، فقسّمهم في أهل البلاء، فكان منهم نصير، أبو موسى بن نصير، وسيرين أبو محمد بن سيرين، وحمران مولى عثمان وغيرهم. فنحن في العراق أمام مدارس تعلم العربية في القرى وفي الأماكن التي تكون غالبية سكانها من العرب، وتعلمهم أمور دينهم من نظر في الأناجيل وفي الكتب الدينية النصرانية والعلوم اللسانية المعروفة إلى غير ذلك من علوم ومعرفة وثقافة. وورد في روايات أهل الأخبار أن عددًا من الشعراء الجاهليين كانوا يكتبون ويقرءون. وكان منهم من إذا نظم شعرًا دوّنه ثم ظل يعمل في إصلاحه وتنقيحه وتحكيك ما نظمه إلى أن يرضى عنه. فينشده الناس. وممن كان يكتب ويقرأ

_ 1 الطبري "5/ 42"، ابن سعد، طبقات "3/ 1 ص258"، "ليدن"، البلاذري، فتوح البلدان "460". 2 الطبري "، "3/ 375". 3 البلدان "4/ 807 وما بعدها". 4 الطبري "3/ 377"، "خبر عين التمر".

سويد بن الصامت الأوسي، صاحب مجلة لقمان، والزبرقان بن بدر1، وكعب بن زهير2، وكعب بن مالك الأنصاري3، والربيع بن زياد العبسي، وكان هو وإخوته من الكملة. وقد كتب إلى "النعمان بن المنذر" شعرًا يعتذر إليه فيه4. وذكر أن أهل "دومة الجندل" كانوا يكتبون ويقرءون، وأن أهل مكة إنما تعلموا الكتابة من أحدهم. وورد أن قومًا من "طيء" تعلموا الكتابة والقراءة من كاتب الوحي لهود. وذكر أن "بشر بن عبد الملك" السكوني، أخو "أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن" السكوني الكندي صاحب دومة الجندل، وكان نصرانيًّا، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين، تعلم الخط العربي من أهل الحيرة، ثم أتى مكة في بعض شأنه، فرآه "سفيان بن أمية بن عبد شمس" و"أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" يكتب فسألاه أن يعلمهما الخط، فعلمهما الهجاء، ثم أراهما الخط، فكتبا. ثم إن بشرًا وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم "غيلان بن سلمة الثقفي"، فتعلم الخط منهم، وفارقهم بشر ومضى إلى ديار مضر، فتعلم الخط منه "عمرو بن زرارة بن عدس" فسمي عمرو الكاتب. ثم أتي بشر الشأم، فتعلم الخط منه ناس هناك5. وتعلم الخط من الثلاثة الطائيين: "مرامر بن مرة"، و "أسلم بن سدرة"، و "عامر بن جدرة"، الذين وضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلمه منهم أهل الأنبار –رجل من طابخة كلب، فعلمه رجلًا من أهل وادي القرى، فأتي الوادي يتردد، فأقام بها، وعلم الخط قومًا من أهلها6. وقد وصف الشاعر "أبو ذؤيب" الهذلي كاتبًا من اليمن وهو يكتب كتابًا، ولم يكن خط هذا الكاتب بالقلم العربي، قلم أهل مكة، وإنما كان بقلم أهل اليمن وهو المسند. وذلك كما يظهر من تعابير هذا الشاعر الواردة في شعره إذ يقول:

_ 1 الأغاني "2/ 180". 2 الشعر والشعراء "1/ 91". 3 ابن هشام "2/ 87 وما بعدها". 4 الأغاني "16/ 22 وما بعدها"، المرتضى، أمالي "1/ 136". 5 فتوح البلدان "456"، "أمر الخط". 6 فتوح البلدان "457"، "أمر الخط".

عرفتُ الديار كرَقْم الدوا ... ة يزبره الكاتب الحميري برقم ووشي كما زخرفت ... بميشمها المزدهاة الهدي أدان وأنبأه الأولو ... ن أن المدان المليُّ الوفيّ فنمنم في صحف كالريا ... ط فيهن إرث كتاب محيّ1 وهي قصيدة عدتها أربعة عشر بيتًا، ذكر في أولها دروس الديار وطموسها إلى أن رثى ابن عمه "نشيبة" بخمس أبيات من آخرها2. ويظهر من هذه الأبيات أن ذلك الكاتب الحميري كان يكتب بالحبر الموجود في دواة على شيء يصلح للكتابة عليه كأديم أو قرطاس، ولم يكن يستعمل المزبر المعمول من حديد لنقش الحروف على الحجر. وهذا مما يدل على أن أهل العربية الجنوبية كانوا يكتبون على مواد الكتابة الأخرى بالحبر والقلم، فِعْل أهل مكة وأهل الحيرة ودومة الجندل. وذكر أهل الأخبار أيضًا، أن رجلين من "بني نهد بن زيد" يقال لهما: "حزن" و"سهل" كانا يكتبان ويقرآن. وكانا قد زارا "الحارث بن مارية" الغساني، وكانا عندهما حديث من أحاديث العرب، ولهما ظرافة وأدب وصحبة، فنزلا منزلًا طيبًا من قلب الحارث، فحسدهما "زهير بن جناب الكلبي" وكان من ندماء الملك، فأراد إفساد مكانهما عنده، فقال له: "هما يكتبان إليه بعورتك وخلل ما يريان منك"3. يريد إخباره أنهما كانا يتجسسان عليه فيكتبان بأخباره إلى خصمه "المنذر" الأكبر، ملك الحيرة، جدّ النعمان بن المنذر. وأما عرب بلاد الشأم، فلم يذكر أهل الأخبار شيئًا عن علمهم بالكتابة والقراءة، ولكن ذلك لايمكن أن يكون دليلًا على جهلهم بها. ولا سيما أنهم كانوا على اتصال ببني إرم في بلاد الشأم وبعرب بلاد العراق، ثم إنه يجوز أنهم كانوا يكتبون بقلم بني إرم، على عادة معظم شعوب الشرق الأدنى إذ ذاك،

_ 1 ديوان الهذليين "1/ 64". 2 الخزانة "3/ 291"، "بولاق". 3 الأغاني "5/ 118"، "دار الكتب".

في الكتابة به؛ لأنه كان قلم العلم والثقافة والأدب في ذلك الحين. ثم إننا سمعنا أن ملوكهم المتنصرين كانوا يرأسون مجالس المناظرات في أمور الدين، ويبحثون مع رجال الدين في موضوعات دينية، ويدافعون عن مذهب اليعاقبة في طبيعة المسيح، ومثل هؤلاء الملوك لا يعقل أن يكونوا جهلة أميين لا يقرءون ولا يكتبون. وقد سبق أن تحدثت عن الكتابات الصفوية وعن كتابات عربية شمالية أخرى، عثر عليها السياح والمستشرقون في مواضع متعددة من "الصفاة" وفي البوادي، كتبت على صخور وهشيم صخور منثور، دل البحث فيها على أنها كتابات أعراب، كان أصحابها يتنقلون من مكان إلى مكان طلبًا للمرعى والصيد. وتدل تلك الكتابات الصفوية على أن أعراب الجاهلية كانوا في أيام الجاهلية أحسن حالًا من حيث علمهم بالكتابة والقراءة من أعراب هذا اليوم. فالكتابات الصفوية الكثيرة المبعثرة في البوداي، هي كتابات أعراب، متجولين، كانوا يرعون الإبل وبقية الماشية، فكانوا يسلّون أنفسهم بالكتابة والتصوير على الحجارة، بينما لا نكاد نجد بين أعراب هذا اليوم من يكاد يقرأ ويكتب. كما تحدثت عن كتابات ثمودية، وثمود قوم من لبّ العرب ومادة العرب البائدة الأولى في عرف النسابين، وتحدثت أيضًا عن القلم المسند بلهجاته ولغاته، فهل يصدق بعد هذا قول من زعم أن العرب قبل الإسلام كانوا في جهالة عمياء، لا يقرءون ولا يكتبون. ولا يعقل أن يكون المذكورون أميين كتبوا للتسلية والتلهية، وأن الأوامر والقوانين التي دوّنها ملوك اليمن قبل الإسلام وأعلنوها للناس بوضعها في المحلات العامة وفي الأماكن البارزة كانت مجرد تدوين أو تزويق وتزيين، لا للإعلان ولإفهام المواطنين بمحتوياتها. إن تدوين تلك الكتابات ووضع الحجارة الفخمة المكتوبة للإعلان، دليل على أن في الناس قومًا يقرءون ويكتبون ويفهمون، وأن الحكومات إنما أمرت بتدوينها لإعلام الناس بمحتوياتها للعمل بها، كما تفعل الحكومات في الوقت الحاضر عند إصدارها أمرًا أو قانونًا بإذاعته بالوسائل المعروفة على الناس للوقوف عليها، وأن من بين الحجارة الصفوية واللحيانية والثمودية المكتوبة، ما هو رسائل وكتب وجهت إلى أشخاص معروفين، كما نفعل اليوم في توجيه الرسائل إلى الأقرباء والأصدقاء.

ووجد عند ظهور الإسلام قوم كانوا يكتبون ويقرءون ويطالعون الكتب بمكة ولهم إلمام بكتب أعجمية، ومن هؤلاء "الأحناف" وقد ذكر عن بعض أنهم كانوا يجيدون بعض اللغات الأعجمية، وأنهم وقفوا على كتب اليهود والنصارى وعلى كتب أخرى. وفي معركة "بدر" اشترط الرسول على من أراد فداء نفسه ولم يكن موسرًا من أهل مكة، أن يعلم عشرة نفر من المسلمين القراءة والكتابة، كما كان من عادة أهل مكة تدوين ما يجمعون عليه وما يلزمون أنفسهم به في صحف يختمونها بخواتمهم وبأسمائهم لتكون شواهد على عزمهم كالذي فعلوه في الصحيفة. وذكر أن أمية بن أبي الصلت كان فيمن قرأ الكتب ووقف عليها1، وذكروا غيره أيضًا. وذكر أهل الأخبار أن قومًا من أهل يثرب من الأوس والخزرج، كانوا يكتبون ويقرءون عند ظهور الإسلام، ذكروا فيهم: سعد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وكان يكتب بالكتابين العربية والعبرية أو السريانية، ورافع بن مالك وأُسيد بن حُضير، ومعنى "معن" بن عدي البلوي، وأبو عبس بن كثير، وأوس بن خولي، وبشير بن سعيد، وسعد بن عُبادة، والربيع بن زياد العبسي، وعبد الرحمن بن جبر، وعبد الله بن أُبي، وسعد بن الربيع، وقد رجعوا أصل علمهم بالكتابة والقراءة إلى قوم من يهود يثرب، مارسوا تعليم الصبيان القراءة والكتابة، دعوهم "بني ماسكة"2. ويظهر -إن صحت هذه الرواية- أن يهود يثرب كانوا يكتبون بالعربية أيضًا، وأنهم كانوا يعلمونها للعرب. وتعرض البلاذري لهذا الموضوع فقال: "كان الكتاب في الأوس والخزرج قليلًا، وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون"3. ونجد هذا الخبر في موارد أخرى، أخذته دون أن تشير إلى السند، فظهر وكأنه حقيقة مسلمة وخبر متواتر، حتى جاز على المحدثين، فبنوا عليه حكمًا، هو أن الكتاب كان في يثرب قليلًا، حتى جاء الإسلام،

_ 1 المغارف، لابن قتيبة "ص28". 2 صبح الأعشى "3/ 15". 3 البلاذري، فتوح "479".

فانتشر بها، وأنه لو كانت الكتابة منتشرة عندهم، لما كلف الرسول القارئين الكاتبين من أسرى بدر، بأن يعلم كل واحد منهم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة، فداء لنفسه من الأسر1. ويظهر أن يهود يثرب، وربما بقية يهود، مثل يهود خيبر، وتيماء وفدك ووادي القرى، كانوا يكتبون بقلمهم، كما كانوا يكتبون بالعربية، ويظهر من استعمال "البلاذري" جملة: "وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، وكان تعلمه الصبيان في بالمدينة في الزمن الأول"2، أن يهود يثرب كانوا يكتبون بالعربية، كما كان يكتب بها صبيان المدينة، وكانوا يعلمون الكتابة لصبيان يثرب في مدارسهم. وفي هذا الخبر وأمثاله دلالة على أن الكتابة كانت معروفة بين أهل يثرب أيضًا قبل الإسلام، وأنها كانت قديمة فيهم، ولهذا فلا معنى لزعم من قال: إنها انتشرب بيثرب في الإسلام، وإن الكتابة كانت قليلة بها قبل هذا العهد. وقصد أهل الأخبار بجملة "وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية، الكتابة بالخط العربي الشمالي، لا بالقلم المسند؛ لأن هذا هو مرادهم من "الكتاب العربي" و"كتاب العربية"، ويظهر أن اليهود قد تعلموا الخط العربي من عرب العراق وبلاد الشأم، أو من التجار والمبشرين الذين كانوا يفدون إلى الحجاز، وأما القلم المسند، الذي هو قلم العرب الجنوبيين، فلم يكن مستعملًا في يثرب، وإلا لأشير إليه، مع أنها من القواعد المتعصبة للقحطانية، وحاملة الدعوة إلى اليمن قبل الإسلام وفي الإسلام، وأن سلطانه كان قد تقلص كثيرًا خارج العربية الجنوبية قبل نزول الوحي على الرسول، وربما كان القلم العربي الشمالي قد دخل العربية الجنوبية أيضًا قبل الإسلام، فأخذ ينافس المسند فيها، ولا سيما في المناطق التي تركزت فيها النصرانية وتحكمت في أهلها، فأخذ النصارى يقاومون ذلك القلم؛ لأنه قلم الوثنية، ويعلّمون أولاد النصارى القلم العربي الشمالي؛ لأنه قلمهم الذي كانوا يعلمون به في كنائس العرب في العراق وفي دومة الجندل وبلاد الشأم. وقد أطلق العرب على الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي، وقيل الحساب

_ 1 ابن سعد، طبقات "الجزء الثاني، القسم الأول"، "14". 2 البلاذري، فتوح "459"، "المكتبة التجارية".

أيضاً، والجَلَد أي: الشجاعة، وقول الشعر، وأصحاب الشرف والنسب: الكملة. وجمع بعض أهل الأخبار إلى ذلك استواء القامة وكمال الإنسان1. ومن هؤلاء الكلمة: "سعد بن عبادة بن دليم" سيد الخزرج، وهو من أسرة غنية تطعم الفقراء، ولها أطم يأوي إليه الفقراء للأكل. ولما نزل النبي يثرب، كانت جفنة "سعد" تدور مع النبي، وكان يعشي كل ليلة أهل الصفة2. ومن الكملة: الربيع بن زياد العبسي. وكان هو وإخوته من الكملة3. و "رافع بن مالك"، و"أسيد بن حضير"، و"عبد الله بن أبي"، و"أوس بن خولى"، و"سويد بن الصامت"، و"حضير الكتائب"4. ويظهر من النظر إلى قائمة أسماء من أدخلهم أهل الأخبار في الكملة، أن الكتابة والرماية والعوم، لم تكن الشروط الأساسية الكافية، لكي يعد الإنسان كاملًا، فقد توفرت هذه الشروط في أناس آخرين، لم يدخلوا مع ذلك في الكملة، وإنما هنالك أشياء أخرى بالإضافة إلى الأمور المذكورة، هي الشرف وكمال الجسم والعقل والامتناع عن الهجر في الكلام، والتحلي بالحكمة وبالفطانة واللب وقول الشعر المحكم الحكيم. وكان "عبد الرحمن بن جبر"، أبو عبس الأنصاري، يكتب بالعربية قبل الإسلام. ومات سنة أربع وثلاثين5. وكان "المنذر"، "منذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان" الخزرجي من الكتبة. وكان أحد السبعين الذين بايعوا الرسول، وأحد النقباء

_ 1 المعارف "259"، الأغاني "3/ 25"، "دار الكتب"، ابن سعد، طبقات "3/ 542". 2 ابن سعد طبقات "3/ 613"، الإصابة "2/ 27"، "رقم 3173"، الاستيعاب "2/ 32 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، أسد الغابة "2/ 378"، ابن الأثير، الكامل، "2/ 378"، ابن هشام "2/ 89". 3 أمالي المرتضى "1/ 136، 190"، الأغاني "16/ 22 وما بعدها". 4 فتوح البلدان "459 وما بعدها"، ابن سعد، طبقات "3/ 542"، الإصابة "1/ 98 وما بعدها"، "رقم334"، تفسير الطبري "4/ 23"، الروض الأنف "1/ 265 وما بعدها"، الأغاني "2/ 164"، ابن هشام، سيرة "1/ 265"، "حاشية على الروض". 5 المعارف "326"، "أبو عيسى"، الإصابة "2/ 386"، "رقم 5097"، "4/ 150"، "رقم880".

الاثني عشر. "وكان يكتب في الجاهلية بالعربية"1. قتل يوم بئر معونة. وكان "أبو جبيرة بن الضحاك" الأنصاري، ممن يكتب. وقد تولى الكتابة للخليفة "عمر"2. وكان "قيس بن نشبة" عم الشاعر "العباس بن مرداس" السلمي، أو ابن عمه من الكتبة. ذكر أنه كان ممن قرأ الكتب وتأله في الجاهلية. والعباس بن مرداس نفسه كان كاتبًا، ذكر أنه لما سمع أن رجلًا من أهل مكة اشترى إبلًا لقيس بن نشبة فلواه حقه، وأن "قيسًا" قام بمكة يقول: يا آل فهرٍ كنت في هذا الحرم ... في حرمة البيت وأخلاق الكرم أظلم لا يمنع مني من ظلم بلغ ذلك "عباس بن مرداس" فكتب إليه أبياتًا منها: وائتِ البيوت وكن من أهلها مددًا ... تلق ابن حرب وتلق المرء عبّاسًا فقام العباس بن عبد المطلب وأخذ له بحقه، وقال: أنا لك جار ما دخلت مكة، فكانت بينه وبين بني هاشم مودة3. وفي جملة من كان يكتب ويقرأ من أهل مكة "حرب بن أمية". وإليه ينسب قوم من أهل الأخبار إدخال الكتابة بين قريش. وهو أبو "أبي سفيان بن حرب"، فهو جدّ "معاوية بن أبي سفيان". وورد أن الذي حمل الكتابة إلى قريش بمكة "أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة". فهو ناشر الكتابة على هذه الرواية بين أهل مكة4. والاثنان على رأي أهل الأخبار من أقدم كتّاب مكة إذن، بل هما ناشرا الكتابة بها. وقد ذهب "ابن قتيبة" أن "بشر بن عبد الملك العبادي" علم "أبا سفيان بن أمية"، و"أبا قيس بن عبد مناف بن زُهرة"

_ 1 الاستيعاب "3/ 438 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "3/ 440"، "رقم 8226". 2 الجهشياري "16"، الإصابة "4/ 31"، "رقم 188". 3 الإصابة "3/ 249 وما بعدها"، "7244". 4 الفهرست "ص13"، المعارف "73".

الكتاب، فعلّما أهل "مكة"1. وقد ذكر "السيوطي" عن "أبي طاهر" السلفي في "الطيوريات" بسنده عن "الشعبي"، أنه "قال: أول العرب الذي كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس". تعلم من أهل الحيرة، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار2. ولو أخذنا برأي من قال: إن "حرب بن أمية" أو "أبو سفيان بن أمية"، هما أول من علم أهل مكة الكتابة، نكون قد جعلنا "بني أمية" أول من أدخل القلم إلى مكة، بفضل تعليم "بشر" لهم هذا القلم. ومنهم انتشر بين أهل مكة في عهد غير بعيد عن أيام النبي. وذكر أن في جملة من كان يكتب قبل الإسلام "عمرو بن عمرو بن عدس"3. وذكر "ابن النديم" أن "أسيد بن أبي العيص" كان من كتّاب العرب. وذكر أنه كان في خزانة "المأمون" كتاب بخط "عبد المطلب بن هاشم" في جلد أدم، فيه ذكر حق "عبد المطلب بن هاشم" من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري، من أهل وزل صنعا عليه ألف درهم فضة كيلًا بالحديدة ومتى دعاه بها أجابه. وكان الخط شبه خط النساء4. وكان "حنظلة بن أبي سفيان" ممن يحسن الكتابة والقراءة بمكة. فقد ورد في الأخبار أنه كتب من مكة إلى والده "أبو سفيان"، وكان إذ ذاك مع العباس بن عبد المطلب بنجران، يخبره خبر الرسول5. وكان والده يكنى به. وقد قتله "علي بن أبي طالب" يوم "بدر"6. وكان "بغيض بن عامر بن هاشم" من كتّاب قريش قبل الإسلام. وهو الذي كتب الصحيفة على بني هاشم7. وورد أن "أبا الروم بن عبد شرحبيل" واسمه "منصور بن عكرمة" هو الذي كتب الصحيفة8.

_ 1 المعارف "553". 2 المزهر "2/ 342". 3 المزهر "2/ 351"، "النوع الثاني والأربعون: معرفة الكتابة". 4 الفهرست "13 وما بعدها". 5 الأغاني "6/ 250"، "دار الكتب". 6 نسب قريش "123". 7 كتاب نسب قريش "254". 8 كتاب نسب قريش "255"، الروض الأنف "1/ 219".

وكان "الوليد بن الوليد" وهو أخو "خالد بن الوليد" ممن يكتب ويقرأ، وكان "خالد" ممن يقرأ ويكتب كذلك. وكان الوليد سبب إسلام "خالد". فقد كان قد فر من مكة ولحق بالرسول عمرة القضيّة، وكتب إلى أخيه خالد، أن الرسول قال له: "لو أتانا، لأكرمناه، وما مثله سقط عليه الإسلام في عقله"، فوقع الإسلام في قلب خالد. وكان سبب هجرته1. وكان "نافع بن ظريب بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف بن قصي" القرشي ممن يكتب. أسلم يوم الفتح. وهو الذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب2، أو المصحف له. وذكر أنه كان يكتب المصاحف، وأنه كتب المصاحف لعثمان3، فيظهر أنه كان من نسّاخ المصاحف، ينسخها للناس. وكان "حاطب بن أبي بلتعة" من الكتّاب. وكان حليفًا لبني أسد بن عبد العُزى، ويقال: حالف الزبير، وقيل: مولى "عبيد الله بن حميد بن زهير بن الحارث بن أسد". وهو الذي كتب كتابًا إلى أهل مكة يخبرهم بتجهيز رسول الله إليهم، فنزلت فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} 4. وقد شهد مع علي بن أبي طالب على كتاب رسول الله لسلمة بن مالك السلمي، الذي كتب الرسول به إقطاعه ما بين ذات الحناظى إلى ذات الأساود5. وكان الحكم بن أبي أحيحة سعيد بن العاصي، وهو الذي سمّاه رسول الله "عبد الله" من أولئك الذين أمرهم الرسول أن يعلم الكتاب بالمدينة. وكان كاتبًا قتل يوم "مؤتة"6. يقول أهل الأخبار: ولما نزل الوحي كان "في قريش سبعة عشر رجلًا كلهم يكتب: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجرّاح، وطلحة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وحاطب بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو العامري من قريش،

_ 1 نسب قريش "324". 2 الاستيعاب "3/ 510"، "حاشية على الإصابة". 3 الإصابة "3/ 515"، "رقم 8658". 4 الإصابة "1/ 299"، "رقم 1538"، المقريزي، إمتاع "1/ 362". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 285". 6 نسب قريش "174".

وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية، وخالد بن سعيد أخوه، وعبد الله بن سعد بن أبى سرح العامري، وحويطب بن عبد العزى العامري، وأبو سفيان بن حرب بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان، وجهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، ومن حلفاء قريش: العلاء الحضرمي"1. ولكننا لو أحصينا أسماء من كان يكتب من أهل مكة، ممن نص أهل الأخبار على أسمائهم، وممن لم ينصوا على اسمهم، وإنما ذكروهم عرضًا في أثناء كلامهم عنهم فذكروا أنهم كانوا يكتبون ويقرءون، لوجدنا أن عددهم أكثر بكثير من هذا الرقم المذكور، رقم سبعة عشر كاتبًا، أو بضعة عشر نفرًا2، وهو عدد ورد إليهم على ما يظهر من خبر آحاد، انتشر في الكتب، فصار متواترًا منتشرًا حتى في كتب المؤلفين في هذا اليوم، اتخذوه دليلًا على أمية العرب قبل الإسلام. وقد استعان الرسول بقوم كتبوا له، أشار العلماء إلى أسمائهم. منهم من كتب له الوحي، فعرفوا من ثم بـ"كتّاب الوحي". ومنهم من كتب له بريده ورسائله، ومنهم من تولى له تدوين المغانم وأمور الزكاة والخرص والصدقة وما إلى ذلك من أمور اقتضاها تطور الظروف والأحوال، ومنهم مثل "زيد بن ثابت" من كتب له بالعربية وبالعبرانية أو السريانية. وذكر أن بعضهم كان مثل زيد يكتب بغير العربية أيضًا. وكان ممن كتب له: "على بن أبى طالب"، و"عثمان بن عفان"، و"معاوية بن أبى سفيان"، و"حنظلة الأسيدي"، و"خالد بن سعيد بن العاص"، و"أبان بن سعيد"، و "العلاء بن الحضرمي"، و"عبد الله بن أبي سرح3". وروي أن "أول من كتب له أُبي بن كعب، وكان إذا غاب أُبى كتب له زيد بن ثابت"، وكان يكتب في الجاهلية4.

_ 1 فتوح البلدان "457"، "أمر الخط". 2 فتوح البلدان "457"، "أمر الخط"، العقد الفريد "4/ 242". 3 الطبري "3/ 173" "ذكر من كان يكتب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم"، التنبيه والإشراف" 245 وما بعدها "، الوزراء والكتاب "12 وما بعدها"، العقد الفريد "4/ 246". 4 الطبري "3/ 173"، "دار المعارف"، المعارف "112 وما بعدها".

وجاء في ترجمة أنس بن مالك: أن أمه جاءت به يوم قدم الرسول يثرب وقالت له: "يا رسول الله، هذا ابني وهو غلام كاتب"1. ومعنى هذا أن غلمان يثرب كانوا يقرءون ويكتبون. وقد ورد في أخبار "بدر" أنه كان في أسرى قريش قوم يقرءون ويكتبون، وقد أمر رسول الله بفك رقاب هؤلاء الأسرى على أن يكون فداؤهم تعليم كل واحد منهم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة والقراءة2. وقد علم كل واحد منهم صبيان يثرب الكتابة فانتشرت الكتابة بينهم3. وذكر أن ممن كتب لرسول الله: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير بن العوام، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص، وحنظلة الأسيدي، والعلاء بن الحضرمي، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبى سفيان، وجهيم بن الصلت، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن الأرقم الزهري. وذكر أن عدد من كتب للرسول ثلاثة وأربعون كتابًا4. وأول من كتب للنبي من قريش "عبد الله بن سعد بن أبي سرح"، وأول من كتب له مقدمه المدينة "أُبي بن كعب" وهو أول من كتب في آخر الكتاب: وكتب فلان بن فلان. وهو من كتاب الوحي والرسائل. وقد كان "عبد الله بن الأرقم الزهري" من كتاب الرسائل للرسول، وأما الكاتب لعهوده إذا عهد وصلحه إذا صالح، فعلي بن أبى طالب5. وقد وردت في أواخر بعض كتب الرسول أسماء كتاب تلك الكتب. وفي طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أمر بتدوينه رسول الله لنهشل بن مالك الوائلي من باهلة، كتبه "عثمان بن عفان".

_ 1 ابن سعد، الطبقات الكبرى "7/ 10". 2 طبقات "2/ 1 ص14 ". 3 إمتاع الأسماع "1/ 101 ". 4 الاستيعاب "1/ 30 "، "حاشية علىالإصابة "، الجهشياري، كتاب الوزراء والكتاب "12 وما بعدها "، العقد الفريد "4/ 246". 5 الاستيعاب "1/ 30"، الجهشياري، "13". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 284".

وكان "علي بن أبي طالب" من كتّاب الوحي، والكاتب لعهود الرسول إذا عهد، وصلحه إذا صالح1. ذكر أنه تعلم الكتابة وهو صغير، ابن أربع عشرة سنة، تعلمها في "الكتاب"2. وكان من كتّاب رسول الله الذين كتبوا له الرسائل إلى سادات القبائل يدعوهم فيها إلى الإسلام: خالد بن سعيد بن العاص3، والمغيرة بن شعبة4، ومعاوية5، وعبد الله بن زيد6، وأُبي بن كعب7، وعلي8. وجهيم بن الصلت9، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي10، والزبير بن العوام11، والعلاء بن الحضرمي12، وعقبة13، والعلاء بن عقبة14، وعثمان بن عفّان15، ومحمد بن مسلمة الأنصاري16، وثابت بن قيس بن شماس17. وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، من كتاب الرسول، وقد كان أول مرتد في الإسلام. ارتد وكان قد خالف في كتابه إملاءه، فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتبًا، فهرب، فلما كان يوم "الفتح" التجأ18 إلى "عثمان" أخوه من الرضاعة فأجاره، واستجار له "عثمان" عند النبي فأجاره له. وقد عينه "عثمان" عاملًا على مصر، وافتتح إفريقية، ومات سنة ست وثلاثين،

_ 1 الاستيعاب "1/ 30"، "حاشية على الإصابة". 2 الفصول المختارة، للمفيد "2/ 66"، "النجف". 3 ابن سعد، الطبقات "1/ 265، 271". 4 ابن سعد، الطبقات "1/ 266، 268". 5 ابن سعد، الطبقات "1/ 266، 267". 6 ابن سعد، الطبقات "1/ 267". 7 ابن سعد، الطبقات "1/ 267، 278". 8 ابن سعد، الطبقات "1/ 267". 9 ابن سعد، الطبقات "1/ 268"، الإصابة "1/ 257"، "1256". 10 ابن سعد، الطبقات "1/ 268، 269". 11 ابن سعد، الطبقات "1/ 269". 12 ابن سعد، الطبقات "1/ 269، 271". 13 ابن سعد، الطبقات "1/ 271". 14 ابن سعد، الطبقات "1/ 271، 273". 15 ابن سعد، الطبقات "1/ 284". 16 ابن سعد، الطبقات "1/ 286". 17 ابن سعد، الطبقات "1/ 286". 18 رسائل الجاحظ "2/ 188".

أو سبع وخمسين، أو تسع وخمسين1. وروي أنه كان أول من كتب له من قريش2. وهناك رواية يرجع سندها إلى "أنس بن مالك"، تذكر أن "رجلًا كان يكتب لرسول -الله صلى الله عليه وسلم- فكان إذا أملى عليه سميعًا عليمًا، كتب سميعًا بصيرًا. وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان من قرأهما قرأ قرآنًا كثيراً، فتنصر الرجل، وقال إنما كنت أكتب ما شئت عند محمد.. قال: فمات"3. ولا نعرف كاتبًا ينطبق عليه هذا الوصف سوى "عبد الله بن سعد بن أبى سرح". فهو المراد بهذه القصة. وهي قصة لا يمكن أن تكون صحيحة؛ لأن ارتداد "عبد الله" إنما كان بمكة، فدليل النص عليه في سورة الأنعام4، وهي سورة مكية، فكيف يكون قد قرأ سورة البقرة وآل عمران، ثم تنصر، وهما سورتان مدنيتان. وفي "عبد الله" نزلت الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ، أو قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء. ومن قال: سأنزل مثل الذي أنزل الله"5، على رأي أكثر المفسرين. "كان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وكان فيما يملي عزيز حكيم، فيكتب غفور رحيم، فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل، فيقول نعم سواء. فرجع عن الإسلام، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوّله ثم أقول لما أكتب، فيقول: نعم سواء. ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة". وورد في رواية أخرى: "وكان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا أملى عليه سميعًا عليمًا، كتب هو عليمًا حكيمًا، وإذا قال عليمًا حكيمًا، كتب سميعًا عليمًا، فشك وكفر. وقال: إن كان محمد يوحى إليه، فقد أوحي إلي وإن كان الله ينزله، فقد أنزلت مثل ما أنزل الله. قال محمد: سميعًا عليمًا. فقلت أنا: عليمًا حكيمًا.

_ 1 الإصابة "2/ 309"، "رقم 4711". 2 الاستيعاب "1/ 30"، "حاشية على الإصابة"، البلاذري، أنساب "1/ 358"، الجهشياري "13". 3 السجستاني، المصاحف "3". 4 أسباب النزول "165". 5 الأنعام، الآية 93.

فلحق بالمشركين، ووشى بعمّار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار، فأخذوهم فعذّبوا"1. وورد في رواية أخرى: "كان قد تكلم بالإسلام فدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم يكتب له شيئًا، فلما نزلت الآية التي فى المؤمنين: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} . أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًاآخَرَ} ، عجب عبد الله في تفصيل الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت عليّ، فشك عبد الله حينئذ، وقال: لئن كان محمد صادقًا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبًا، لقد قلت كما قال. وذلك قوله: ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. وارتد عن الإسلام"2. وورد أنه كان يقول: كنت أصرف محمدًا حيث أريد. كان يملي عليّ. عزيز حكيم، فأقول: أو عليم حكيم، فيقول: نعم كلٌّ صواب. فهدر النبي دمه3. وذكر أنه "قال لقريش: أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد. وكان يملي عليه الظالمين، فيكتب: الكافرين، يملي عليه سميع عليم، فيكتب: غفور رحيم وأشباه ذلك. فأنزل الله: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا، أو قال أوحي إليّ، ولم يوح إليه شيء. ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله. فلما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله بقتله، فكلمه فيه عثمان بن عفان، فأمر رسول الله بتركه4. وقد ذكر "الجاحظ" أنه "كتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخالف في كتابة إملائه. فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتبًا، فهرب حتى مات بجزيرة العرب كافرًا5". والصحيح أنه هرب، فلما كان يوم الفتح أمن النبى الناس إلا أربعة نفر وامرأتين. عكرمة، وابن خطل، ومقيس بن صبابة، وابن أبى سرح، فأما عبد الله فاختبأ عند عثمان، فجاء به حتى

_ 1 تفسير الطبري "7/ 180 وما بعدها". 2 أسباب النزول "165". 3 المعارف "130 وما بعدها"، إمتاع الأسماع "1/ 393". 4 فتوح البلدان "459"، "أمر الخط"، المعارف "300 وما بعدها". 5 ذم أخلاق الكتاب، رسائل الجاحظ "2/ 188".

أوقفه على النبي، وهو يبايع الناس، فاستجار له عثمان، فأجاره. وعاش وشهد فتح مصر مع "عمرو بن العاص"، وأمَّره "عثمان" على مصر. واختلف في وفاته، فقيل مات سنة "36هـ" وقيل عاش إلى سنة تسع وخمسين. وكان أخًا لعثمان في الرضاعة1. وكان "جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي"، ممن تعلم الخط في الجاهلية، فجاء الإسلام وهو يكتب، وقد كان كتب لرسول الله2. ذكر أنه كان هو و"الزبير بن العوّام" يكتبان أموال الصدقات3. وهو الذي كتب كتاب الرسول إلى "يحنة بن رؤبة" بتبوك، وكتابه ليزيد بن الطفيل الحارثي4. وذكر اسم "الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي" في جملة من كتب للرسول. ففي طبقات ابن سعد، أنه كتب له كتابه لعبد يغوث بن وعلة الحارثي5، وكتابه لعاصم بن الحارث الحارثي6، وكتابه للأجب، رجل من "بني سُليم"7. وكان اسمه "عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم"، ويكنى "أبا عبد الله". كان من السابقين الأولين، قيل أسلم بعد عشرة، وقيل قبل ذلك. وكان رسول الله يجلس في داره التي على "الصفا"، حتى تكاملوا أربعين رجلًا، وكان آخرهم إسلامًا "عمر" فلما تكاملوا أربعين رجلًا خرجوا، وأقطعه النبي دارًا بالمدينة8. و"عبد الله بن الأرقم بن أبي الأرقم" من كتاب الرسول كذلك. كان يجيب عنه الملوك، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك

_ 1 الإصابة "2/ 309"، "رقم4711"، أسد الغابة "3/ 173"، الاستيعاب "1/ 381". 2 الإصابة "1/ 257"، "رقم1256"، فتوح البلدان "459"، "أمر الخط". الاستيعاب "1/ 249"، "حاشية على الإصابة". 3 المسعودي، التنبية "245"، "كتاب من حضر من الكتاب". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 268". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 268". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 269". 7 ابن سعد، طبقات "1/ 273 وما بعدها". 8 الإصابة "1/ 42 وما بعدها"، "رقم 73".

فيكتب ويختم ولا يقرأه لأمانته عنده. "قال عمر: كتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاب. فقال لعبد الله بن الأرقم الزهري: أجب هؤلاء عني. فأخذ عبد الله الكتاب فأجابهم، ثم جاء به، فعرضه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أصبت. قال عمر: فقلت: رضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم وآله وسلم- بما كتبت، فما زالت في نفسي يعني حتى جعلته على بيت المال"1. وكتب لأبي بكر وعمر، وكان على بيت المال أيام عمر، وكان أميرًا عنده. وذكر أنه كان إذا غاب عن الرسول، وغاب زيد بن ثابت، واحتاج الرسول أن يكتب إلى أحد أمر من حضر أن يكتب. فمن هؤلاء عمر وعلي وخالد بن سعيد والمغيرة2. وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث الزهري، والعلاء بن عقبة، يكتبان بين الناس المداينات وسائر العقود والمعاملات3. وذكر أن "عبد الله بن الأرقم" الزهري، كان من المواظبين على كتابة الرسائل عن النبي4. وكان "حنظلة بن الربيع بن صيفي" الأسيدي، من كتاب الرسول، وقد نعته الطبري بـ"كاتب النبي"5. وعرف بـ"الكاتب". وهو من "بني أسيد"، وبنو أسيد من أشراف تميم. وهو ابن أخي "أكثم بن صيفي"حكيم العرب6. وقد عرف بـ"حنظلة الكاتب"7. وذكر أنه كان "خليفة كل كاتب من كتّاب النبي، إذا غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب. وكان يضع عنده خاتمه، وقال له: الزمني، وأذكرني بكل شيء لثالثة. فكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة أيام إلا أذكره، فلا يبيت رسول الله وعنده شيء منه". ومات بمدينة الرها8.

_ 1 الإصابة "2/ 265"، "رقم 4525"، نزهة الجليس "2/ 65". 2 الإصابة "2/ 265"، "رقم 4525". 3 المسعودي، التنبيه "245". 4 الاستيعاب "1/ 30"، "حاشية على الإصابة". 5 الطبري "3/ 570" "دار المعارف"، المعارف "299 وما بعدها". 6 الاستيعاب "1/ 278"، "حاشية على الإصابة". 7 فتوح البلدان "459"،الإصابة "1/ 359"، "رقم 1859". 8 الجهشياري "13".

ومن كتّاب الرسول: "شرحبيل بن حسنة" الطابخي. ويقال الكندي1، ويقال التميمي2. وهو ممن سيره "أبو بكر" في فتوح الشأم. وكان أميرًا على ربع من أرباع الشأم لعمر بن الخطاب، وقد مات في طاعون "عمواس". وكان "خالد بن سعيد بن العاص" "خالد بن سعيد بن العاصي" ممن كتب للرسول. كتب له كتابه إلى "بني عمرو بن حمير"3. وهو من السابقين الأولين. وقد استعمله الرسول على صدقات مذحج4 وعلى صنعاء، فلم يزل عليها إلى أن مات رسول الله5. وكان له إخوة هما: أبان وعمرو بن سعيد بن العاص، وكانا ممن عملا للرسول. فلما توفي الرسول، رجعا مع خالد عن أعمالهم، فخرجوا إلى الشأم6، وفي جملة ما كتبه خالد، كتاب الرسول لبني أسد7، وكتابه للعدّاء بن خالد بن هوذة ومن تبعه من عامر بن عكرمة8، وكتابه لراشد بن عبد السلمي، وكتابه لحرام بن عبد عوف من "بني سُليم"9، وكتابه لبني غاديا، وهم قوم من يهود، وكتابه لبني عريض، قوم من يهود10، وكتابه لثقيف11، وكتابه لسعيد بن سفيان الرعليّ12. وكان "أبان بن سعيد بن العاص" "العاصي"، وهو أخو خالد، ممن أسلم بعد هجرة الرسول إلى يثرب. ويقال أيام خيبر. وكان هو الذي تولى إملاء مصحف عثمان على زيد بن ثابت، يوم جمعه في خلافة عثمان، أمرهما بذلك عثمان. وذلك في رواية من جعله حيًّا إلى أيام الخليفة "عثمان". وزعم في

_ 1 فتوح البلدان "459"، "أمر الخط". 2 الإصابة "2/ 141"، "رقم 3869"، الاستيعاب "2/ 138 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 265"، الجهشياري "12". 4 الإصابة "1/ 406"، "رقم 2167"، الاستيعاب "1/ 398 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 5 الاستيعاب "1/ 400"، "حاشية على الإصابة". 6 الإصابة "2/ 532"، "رقم 5848"، الاستيعاب "1/ 400". 7 ابن سعد، طبقات "1/ 270". 8 ابن سعد، طبقات "1/ 273". 9 ابن سعد، طبقات "1/ 274". 10 ابن سعد، طبقات "1/ 279". 11 ابن سعد، طبقات "1/ 284". 12 ابن سعد، طبقات "1/ 285".

روايات أخرى أنه قتل يوم أجنادين سنة ثلاث عشرة، أو يوم اليرموك. وقيل قتل يوم مرج الصفر. وذكر في رواية أنه توفي سنة سبع وعشرين في خلافة عثمان1. وكان "طلحة" من الكتبة2. وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى. وكان تاجرًا، وكان عند وقعة بدر في تجارة في الشأم. ولما قدم المدينة آخى النبي بينه والزبير3. وذكر أنه آخى بينه وبين "كعب بن مالك" حين آخى بين المهاجرين والأنصار. وكان من الأغنياء، كانت غلته ألفًا وافيًا كل يوم. والوافي وزنه وزن الدينار، وعلى ذلك وزن دراهم فارس التي تعرف بالبغلية4. والزبير بن العوّام في جملة من كتب للرسول. كتب له كتابه لبني معاوية بن جرول الطائيين5. و"أبو عبيدة بن الجراح"، من هذه الجماعة الكاتبة القارئة. وهو من الأوائل الذين دخلوا في الإسلام، كان إسلامه قبل دخول النبي دار "الأرقم"، وقد آخى الرسول بينه وبين "سعيد بن معاذ"6. و"العلاء بن الحضرمي"، وهو "عبد الله بن عماد"، وكان أبوه قد سكن مكة وحالف حرب بن أمية، وكان للعلاء عدة إخوة منهم: "عمرو بن الحضرمي"، وهو أول قتيل من المشركين وماله أول مال خمس في المسلمين، وبسببه كانت وقعة بدر. وقد استعمل النبي "العلاء" على البحرين7. وهو الذي كتب للرسول كتابه لبني معن الطائيين8، وكتابه لأسلم من خزاعة9. وكان

_ 1 الإصابة "1/ 24"، "رقم2". 2 المزهر "2/ 351". 3 الإصابة "2/ 220"، "رقم 4266". 4 الاستيعاب "2/ 210 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 269". 6 الإصابة "2/ 243"، "رقم 4400"، الاستيعاب "3/ 2"، "حاشية على الإصابة". 7 الإصابة "2/ 491"، "رقم 5644". 8 ابن سعد، طبقات "1/ 269"، "صادر". 9 ابن سعد، طبقات "1/ 271".

أخوه "ميمون بن الحضرمي" صاحب بئر "ميمون" التي بأبطح مكة، احتفرها في الجاهلية. وذكر "المسعودي" أن العلاء ربما كتب بين يدي النبي مع "أبان بن سعيد"1. و"يزيد بن أبي سفيان" أخو "معاوية" من الكتاب كذلك توفي سنة "18" أو "19" للهجرة2. وهو ممن أسلم يوم الفتح. وقد كان عمر قد استخلفه على "الشأم" بعد وفاة "معاذ"، فلما مات استخلف أخاه "معاوية"3. وكان "معاوية بن أبي سفيان" من كتبة الرسول. وذكر أنه كان "من الكتبة الحسبة الفصحاء"4. ومعنى هذا أنه كان يتقن الكتابة والحساب. ولم يذكر من ذكر سيرته متى تعلم الكتابة. ولا أستبعد أن يكون قد تعلمها بمكة قبل دخوله في الإسلام. وهو ممن ولد قبل الإسلام وأسلم عام الفتح. فتكون كتابته للرسول إذن بعد هذا العام. ومن كتبه التي كتبها للرسول كتابه لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي5، وكتابه لبني قرة بن عبد الله بن أبي نجيح النبهانيين6، وكتابه لعتبة بن فرقد7، وكتابه لوائل بن حجر لما أراد الشخوص إلى بلاده8. وذكر "المسعودي" أن "معاوية" كتب للرسول قبل وفاته بأشهر9. و"المغيرة بن شعبة" من دهاة العرب وشياطينهم. أسلم قبل عمرة الحديبية. وكان يقال له "مغيرة الرأي". وكان رسول "سعد" إلى "رستم"، أصيبت عينه باليرموك، وروي أنه كان أول من وضع ديوان البصرة، وأول من سلم

_ 1 التنبيه "246". 2 الإصابة "3/ 619"، "رقم 9267". 3 الاستيعاب "3/ 612"، "حاشية على الإصابة". 4 الإصابة "3/ 412 وما بعدها"، "رقم 8070" الاستيعاب "3/ 375 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الجهشياري "12". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 266". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 267". 7 ابن سعد، طبقات "1/ 285". 8 ابن سعد، طبقات "1/ 287". 9 المسعودي، التنبيه "246".

عليه بالإمرة1. وهو الذي كتب كتاب رسول الله إلى أهل نجران2. وكتابه ليزيد بن المحجل الحارثي. وكتابه لبني قنان بن ثعلبة من بني الحارث3، وكتابه لبني جُوين الطائيين، وكتابه لعامر بن الأسود بن عامر بن جوين الطائي4، وكتابه لبني الجُرمز بن ربيعة، وهم من جهينة5. وذكر أنه والحصين بن نمير كانا يكتبان ما بين الناس6. و"معيقيب" ابن أبي فاطمة، من "ذي أصبح" وقيل من "بني سدوس". وكان حليفًا لبني عبد شمس. أسلم بمكة. وقد ولاه "عمر" بيت المال، ثم كان على خاتم "عثمان"7. وورد أنه كان حليف بني أسد، وكان يكتب مغانم رسول الله8. وكان "عقبة بن عامر بن عبس" الجهني الصحابي المشهور من الكتاب. وصف بأنه "كان قارئًا عالمًا بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعرًا كاتبًا، وهو أحد من جمع القرآن". وعثر على مصحفه بمصر على غير تأليف مصحف "عثمان" "وفي آخره: كتبه عقبة بن عامر بيده"9. ونجد في طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أمر الرسول بكتابته لعوسجة بن حرملة الجهني في آخره: "وكتب عقبة وشهد"10. وجاء في خبر ضعيف أنه كان للرسول كاتب يقال له "السجل"، وكاتبًا يقال له: "ابن خطل، يكتب قدام النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا نزل: غفور رحيم، كتب رحيم غفور، وإذا نزل: سميع عليم، كتب عليم سميع. وفيه: فقال ابن خطل: ما كنت أكتب إلا ما أريد، ثم كفر ولحق بمكة.

_ 1 الإصابة "3/ 432"، "رقم 8181". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 266"، "صادر". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 268"، "صادر". 4 الطبقات "1/ 269"، "صادر". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 271". 6 الجهشياري "12". 7 الإصابة "3/ 430"، "رقم 8166". 8 الجهشياري "12". 9 الإصابة "2/ 482"، "رقم 5603". 10 ابن سعد، طبقات "1/ 271".

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من قتل ابن خطل، فهو في الجنة". فقتل يوم الفتح وهو متعلق بأستار الكعبة"1. وهذا وهم، وقد خلط صاحب هذا الخبر بين "عبد الله بن أبي سرح" وبين "ابن خطل" الذي لم يرد في الأخبار أنه كتب للرسول. وذكر "ابن دحية" أن في "بني النجار" كاتبًا كان يكتب الوحي للرسول ثم تنصر2. وهو خبر لا نجده في الموارد الأخرى، ولم ينص على اسم الكاتب، والأغلب في نظري أنه من الأخبار الموضوعة، وضع على بني النجار للإساءة إليهم، وضعه من كان يتحامل عليهم. ويظهر أن كتّاب الرسول قد وزعوا الأعمال الكتابية فيما بينهم، أو أن الرسول هو الذي وزع تلك الأعمال عليهم، بحيث خصص كل واحد منهم بعمل من الأعمال. فقد روي أن عليًّا وعثمان كانا يكتبان الوحي فإن غابا كتب أُبي بن كعب وزيد بن ثابت. وأن خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية يكتبان بين يديه في حوائجه، وأن المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان ما بين الناس. وأن عبد الله بن الأرقم والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء. وأن زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي. وأن معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي يكتب مغانم رسول الله. وأن حنظلة بن الربيع "ربيعة" بن المدقع بن أخي أكثم بن صيفي الأسدي "الأسيدي"، خليفة كل كاتب من كتّاب النبي، إذا غاب عن عمله فغلب عليه اسم الكاتب. وكان يضع عنده خاتمه. وقال له: الزمني وأذكرني بكل شيء لثالثة. فكان لا يأتي على مال ولا طعام ثلاثة أيام أذكره، فلا يبيت رسول الله وعنده شيء منه3. فهو كاتب عام يكتب للرسول في كل أموره، وهو خليفة كل الكتّاب. ولهذا غلبت عليه لفظة "الكاتب". وقد كانت وفاته في خلافة "عمر"، ومات في "الرها" من بلاد مضر4.

_ 1 ابن سيد الناس، عيون الأثر "2/ 316". 2 ابن سيد الناس، عيون الأثر "2/ 316". 3 الجهشياري "12 وما بعدها"، المسعودي، التنبيه "245"، المعارف "130". 4 المسعودي، التنبيه "246"، المعارف "130".

وذكر أن "المغيرة بن شعبة" و"الحصين بن نمير" يكتبان أيضًا فيما يعرض من حوائجه1. و"حذيفة بن اليمان" "توفي سنة 36هـ" ممن يكتب خرص النخل2. وخصص "المسعودي" عمله بخرص الحجاز3. وذكر "عبد الله بن زيد" الضمري في جملة كتّاب رسول الله إلى الملوك4. ونجد في طبقات "ابن سعد" صورة كتاب أرسله رسول الله "لمن أسلم من حدَسٍ من لحم"، كتبه له "عبد الله بن زيد"5. وكان "العلاء بن عقبة" فيمن كتب للنبي. وذكر أن الرسول كان يبعثه والأرقم في دور الأنصار. وكانا يكتبان بين الناس المداينات والعهود والمعاملات6. وفي جملة ما كتبه للرسول كتابه لبني شَنْخ من جهينة7، وكتابه للعباس بن مرداس السلمي، أنه أعطاه "مدفوًا"8. وذكر أنهما كانا يكتبان بين القوم في قبائلهم ومياههم، وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء9. و"أُبي بن كعب بن قيس" من كتّاب الوحي، وهو من يثرب من "بني النجار" من الخزرج. وقد عرف بـ"سيد القراء"، وكان أقرأ الناس للقرآن. وكان أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم لكتاب الله. وكان ممن كتب للنبي قبل "زيد بن ثابت" ومعه أيضًا. وذكر أنه كان أول من كتب لرسول الله مقدمه المدينة، وأول من كتب في آخر الكتاب: "وكتب فلان" وكان إذا لم يحضر دعا رسول الله "زيد بن ثابت" فكتب. وكان وزيد يكتبان الوحي

_ 1 المسعودي، التنبيه "245"، نهاية الأرب "18/ 236 وما بعدها". 2 المعارف "114"، نهاية الأرب "18/ 236". 3 المسعودي، التنبيه "245". 4 الإصابة "2/ 305"، "رقم 4690". 5 الطبقات "1/ 266 وما بعدها". 6 الإصابة "2/ 491 وما بعدها"، "رقم 5649". 7 ابن سعد، طبقات "1/ 271". 8 ابن سعد، طبقات "1/ 273". 9 الجهشياري "12".

بين يدي الرسول، ويكتبان كتبه إلى الناس وما يقطع وغير ذلك1. ونجد في طبقات ابن سعد، صور كتب دوّنها أُبي للرسول، منها كتابه لخالد بن ضماد الأزدي، وكتابه لعمرو بن حزم، وهو عهد يعلمه فيه شرائع الإسلام وفرائضه وحدوده، حيث بعثه إلى اليمن2، ومنها كتابه لجنادة الأزدي3، وكتابه للمنذر ابن ساوى، وكتابه إلى "العلاء بن الحضرمي"، بشأن إرسال ما تجمع عنده من الصدقة والعشور4، وكتابه لجمّاع في جبل تهامة, كانوا قد غصبوا المارة من كنانة والحكم والقارة ومن اتبعهم من العبيد5، وكتابه لبارق من الأزد. وقد شهد على صحته أبو عبيدة بن الجراح وحذيفة بن اليمان6. وزيد بن ثابت من الأنصار، من "بني النجار". ولما قدم الرسول المدينة استكتبه، فكتب له الوحي، كما تولى له أمر كتابة الرسائل. ذكر أنه تعلم الكتابة على أسرى "بدر" في جماعة من غلمان الأنصار. فقد "كان فداء الأسرى من أهل بدر أربعين أوقية أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علّم عشرة من المسلمين، فكان زيد بن ثابت ممن عُلّم". وذكر أنه جاء إلى أبيه وهو يبكي، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبدًا7. وروي أنه في السنة الرابعة من الهجرة أمر الرسول زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود، وقال: لا آمن أن يبدّلوا كتابي8. فتعلم كتابهم، وتولى أمر كتابة رسائل الرسول إليهم، والرد على رسائلهم9. ونسب إليه إتقانه الكتابة بلغات أخرى. ذكر المسعودي منها: الفارسية والرومية والقبطية والحبشية. وأنه تعلم

_ 1 الاستيعاب "1/ 27 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "1/ 31". "رقم 32"، فتوح البلدان "458"، "أمر الخط". 2 ابن سعد، طبقات "1/ 267"، المعارف "261". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 270". 4 ابن سعد، طبقات "1/ 276". 5 ابن سعد، طبقات "1/ 278". 6 ابن سعد، طبقات "1/ 286 وما بعدها". 7 إمتاع الأسماع "1/ 101"، الطبقات "2/ 14"، الجهشياري "12". 8 إمتاع الأسماع "1/ 187، 194"، السجستاني، المصاحف "3". 9 فتوح البلدان "473 وما بعدها".

ذلك بالمدينة من أهل هذه الألسن، وكان يكتب إلى الملوك ويجيب بحضرة النبي ويترجم له1 وقيل: إنه كان من أعلم الصحابة بالفرائض2. وكان هو الذي تولى قسم غنائم اليرموك. وتولى جمع القرآن في أيام أبي بكر، بتكليف من الخليفة. وذكر أنه كان "رأسًا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض"3. وقد عرض زيد القرآن على رسول الله، "وكان آخر عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم_ القرآن على مصحفه، وهو أقرب المصاحف إلى مصحفنا"4. وكان حين قدم رسول الله المدينة ابن إحدى عشرة سنة. وكان يوم "بعاث" ابن ست سنين وفيه قتل أبوه. ويظهر أنه كان قد تعلم الكتابة وهو صغير. ذكر أنه أتي بزيد النبي مقدمه المدينة، فقيل: هذا من بني النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأ عليه فأعجبه ذلك فقال: تعلم كتاب يهود، فإني ما آمنهم على كتابي. فتعلمها، وتولى الكتابة بالعبرانية أو السيريانية بين الرسول واليهود، فضلًا عن كتابة رسائله وما ينزل عليه من الوحي حين يكون عنده. لذلك عدّ من البارزين في قراءة القرآن. وبرز في القضاء والفتوى والفرائض، وعدّ من أصحاب الفتوى، وهم ستة: عمر وعليّ وابن مسعود وأُبي وأبو موسى، وزيد بن ثابت. وهو الذي جمع القرآن5. وهو الذي جمع القرآن في عهد "أبي بكر"، وقد اختلف في سنة وفاته، فقيل مات سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين، وقيل سنة إحدى أو اثنتين، أو خمس وخمسين. وفي خمس وأربعين قول الأكثر. وذكر أن حسان رثاه بقوله:

_ 1 التنبيه "246"، فتوح البلدان "479"، السجستاني، المصاحف. تقييد العلم "51". 2 الاستيعاب "1/ 29"، "حاشية على الإصابة". 3 الإصابة "1/ 543 وما بعدها"، "رقم 2880"، الاستيعاب "1/ 532", "حاشية على الإصابة". 4 المعارف "260". 5 الإصابة "1/ 543"، "رقم 2880"، "الاستيعاب "1/ 532"، "حاشية على الإصابة"، نزهة الجليس "2/ 65"، أسد الغابة "2/ 221 وما بعدها".

فمن للقوافي بعد حسان وابنه ... ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت1 وعهد رسول الله إلى "زيد" إحصاء الناس والغنائم، وتقسيمها عليهم حسب حصصهم2. وكان "ثابت بن قيس بن شماس" الأنصاري ممن كتب للرسول. كتب له كتابه لوفد ثُمالة والحدّان. وقد شهد على الكتاب ووقع عليه "سعد بن عبادة"، و"محمد بن مسلمة"3. وكان خطيب الأنصار. وقد قتل يوم اليمامة4. وهو الذي أمره الرسول أن يجيب على خطاب خطيب "تميم" ولسانها الناطق "عُطارد بن حاجب". فكان خطيب المسلمين5. و"محمد بن مسلمة"، هو من الأوس. ولد قبل البعثة، وهو أول من سُمي في الجاهلية محمدًا. أسلم قديمًا على يدي "مصعب بن عمير"، وآخى الرسول بينه وبين "أبي عبيدة". واستخلفه الرسول على المدينة في بعض غزواته. وقد كتب للرسول كتابه لمهري بن الأبيض. توفي سنة "43" أو "46هـ"6. وكان "أوس بن خولي" من كتّاب يثرب، ولما كان صلح "الحديبية" وأراد الرسول تدوين الصلح "دعا أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك عليّ، أو عثمان بن عفان، فأمر عليًّا فكتب"7. وهو من الخزرج. ولما آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين آخى بينه وبين شجاع بن وهب8. وكان من "الكملة"، ولما قبض الرسول وأرادوا غسله، حضرت

_ 1 الإصابة "1/ 544"، "رقم 2880"، الطبري "2/ 421"، "مطبعة الاستقامة بالقاهرة"، تهذيب الأسماء واللغات، للنووي "1/ 200 وما بعدها"، تهذيب التهذيب، للعسقلاني "3/ 399"، "حيدر آباد 1325هـ"، اليعقوبي "2/ 157، 195"، "هوتسما"، ابن هشام، سيرة "3/ 11"، "مطبعة حجازي بالقاهرة". 2 إمتاع الأسماع "1/ 426". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 286"، "1/ 354"، "صادر". 4 الإصابة "1/ 197"، "رقم 904". 5 الطبري "3/ 116"، "قدوم وفد تميم ونزول سورة الحجرات". 6 الإصابة "3/ 363 وما بعدها"، "رقم 7808"، ابن سعد، طبقات "1/ 286"، "1/ 355"، "صادر". 7 إمتاع الأسماع "1/ 296". 8 الإصابة "1/ 95 وما بعدها"، "رقم 334".

الأنصار، وأبت على المهاجرين إلا أن يحضر منها أحد، فقيل لهم: اجتمعوا على رجل منكم، فاجتمعوا على أوس بن خولي، فحضر غسل رسول الله ودفنه مع أهل بيته. وتوفي في خلافة عثمان1. وكان "عبد الله بن رواحة" الخزرجي من كتّاب الرسول ومن الشعراء المعروفين بيثرب ومن السابقين الأولين من الأنصار وأحد النقباء ليلة العقبة. وكان الرسول يقول له: "عليك بالمشركين"، فينظم الشعر فيهم. وكان يناقض "قيس بن الخطيم" في حروبهم، ولما دخل الرسول مكة في عمرة القضاء كان ابن رواحة بين يديه، وهو يقول: خلّوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله ضربًا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله ومدح الرسول، وكان من جيد مدحه له قوله: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر2 وذكر بعض أهل الأخبار أنه لم نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} . قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا 3 وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 4. وسورة الشعراء التي فيها آية: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} وما بعدها، من السور التي نزلت بمكة إلا هذه الآية وما بعدها، وهي أربع آيات في آخرها، نزلت بالمدينة في شعراء الجاهلية، ثم استثنى منهم شعراء المسلمين منهم: حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ، فصار الاستثناء ناسخًا له من قوله والشعراء يتبعهم الغاوون5.

_ 1 الاستيعاب "1/ 49"، "حاشية على الإصابة". 2 الإصابة "2/ 298 وما بعدها". 3 في الإصابة "أن الذين"، وهو غلط مطبعي. 4 الشعراء، الآية 224 وما بعدها. 5 الناسخ والمنسوخ لابن سلامة "ص151 وما بعدها"، "حاشية على أسباب النزول"، "القاهرة 1315هـ".

وهناك كتبة آخرون كتبوا الكتاب والكتابين والثلاثة للرسول، ذكر "المسعودي" أنه لم يثبت أسماءهم في جملة أسماء من كتب للرسول؛ لأنه لم يكتب من أسماء كتاب الرسول إلا من ثبت على كتابته واتصلت أيامه وطالت مدته وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتبًا ويضاف إلى جملة كتابه1. وذكر أن كتّاب النبي كانوا يكتبون بالخط المقور، وهو النسخي. أما الخط "المبسوط" ويُسمى باليابس، فقد استعمل في النقش على الأحجار وأبواب المساجد وجدران المباني، وفي كتابة المصاحف الكبيرة، وما يقصد به الزينة والزخرف، وغلب عليه إطلاق لفظ "الكوفي"2. وكان بشير بن كعب العدوي ممن قرأ الكتب3. وذكر أنه كان من التابعين4. وكان "عبد الله بن عمرو بن العاص" ممن قرأ الكتب، وكان يكتب الحديث بين يدي رسول الله، ويقرأ بالسريانية5. وذكر أهل الأخبار أن رجلًا من أهل اليمن كان يقرأ الكتب، وأن امرأة اسمها "فاطمة بنت مرّ"، كانت قد قرأت الكتب كذلك6. وكان من النساء من يحسن القراءة والكتابة. منهن: "الشّفاء بنت عبد الله بن عبد شمس" القرشية العدوية. من رهط "عمر"7. أسلمت قبل الهجرة، وهي من المهاجرات الأول. وكانت من عقلاء النساء، وكان "عمر" يقدمها في الرأي. وكان رسول الله يزورها ويقيّل عندها في بيتها، وكانت قد اتخذت له فراشًا وإزارًا ينام فيه. وقد أمرها الرسول أن تعلم "حفصة" الكتابة، فعلمتها،

_ 1 المسعودي، التنبيه "246". 2 حفني بك ناصف "61 وما بعدها". 3 بضم أوله مصغرًا، الإصابة "1/ 183"، "رقم 822". 4 الإصابة "1/ 177"، "رقم 778". 5 المعارف "287"، الإصابة "2/ 343"، "4847"، الاستيعاب "2/ 338 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 6 الروض الأنف "1/ 104". 7 فتوح البلدان "477 وما بعدها"، "458"، "المكتبة التجارية".

كما علمتها "رقية" تسمى "رقية النملة"1. وقد تعلمت الكتابة في الجاهلية2. وكانت "حفصة" زوج النبي وابنة "عمر" تكتب3. وكانت "أم كلثوم" بنت "عقبة" تكتب4. وكذلك كانت "عائشة بنت سعد"، و"كريمة بنت المقداد"5، و"شميلة"6. وورد أن "عائشة" زوج الرسول، أنها كانت تقرأ المصحف ولا تكتب7. ولا شك في أنهما تعلمتا القراءة في الإسلام. وورد في بعض الأخبار أن العرب كانت تسمي كل من قرأ الكتب أو كتب: صابئًا. وكانت قريش تسمى النبي أيام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن صابئًا8. وقد اشتهر أهل اليمن بشيوع الكتابة والقراءة فيهم، فكان غلمانهم يتعلمونها ويرددون قراءة ما يكتبون ويقرءون وقد أشير إلى ذلك في شعر "لبيد" فورد: فنعاف صارة فالقنان كأنها ... زبر برجعها وليد يمان متعود لحنٌ يعيد بكفه ... قلمًا على عُسب ذبلن وبان9 والزبر: الكتب، فقال: كأن تلك المنازل، كتب يرددها وليد يمان، أي: غلام يمانٍ؛ لأن الكتاب فيهم؛ لأنهم أهل ريف. متعود لذلك: فهِمٌ، ولحِنٌ: بمعنى فهم، يعيد بكفه قلمًا، يكتب في العسب والبان. وكانوا يكتبون في العسب والبان والعرعر10. فيظهر من ذلك أن أهل اليمن، حتى غلمانهم، كانوا يكتبون، ويردد الأطفال الكتب، لحفظها ولتعلمها، على نحو ما يفعلون في الكتاتيب هذا اليوم.

_ 1 الإصابة "4/ 333"، "رقم 622". 2 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط". 3 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط". 4 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط". 5 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط". 6 البلاذري، أنساب "1/ 137"، الإصابة "4/ 335"، "رقم 632". 7 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط". 8 الإكليل "1/ 44". 9 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري، "تحقيق الدكتور إحسان عباس"، "ص138"، "طبعة الكويت 1962". 10 المصدر نفسه.

ويظهر أن ثقيفًا كانت قد حذقت الكتابة وبرزت بها. فقد ورد أن عمر بن الخطاب قال: "لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"، وأن عثمان بن عفان قال: "اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف"1. وذكر أن "غيلان بن سلمة بن معتب"، وهو ممن أسلم يوم الطائف، كان كاتبًا كما كان معلمًا2. وورد في الأخبار أن الجاهليين كانوا يضعون الكتب التي ترسل إلى الملوك من الآفاق، على لوح ضمت إلية ألواح من جوانبه، فلا تمسها إلا يد الملك، يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء ويجيب على ما فيها. وفي هذا الخبر دلالة على شيوع الكتابة والمراسلات عند الجاهليين، وعلى وجود ديوان خاص لدى الملوك، يتولى النظر في المراسلات. وفي هذا المعنى ورد في شعر لبيد: أو مذهبٌ جدد على ألواحـ ... هن الناطق المبروز والمختوم3 ويظهر أن قومًا من الشعراء كانوا يكتبون ويقرءون. ومنهم من كان على ثقافة وعلم. ورد في شعر للشاعر "لبيد" قوله: وجلا السيولُ عن الطلول كأنها ... زُبر تجدّ متونها أقلامها4 ولا يمكن صدور هذا البيت، إلا من رجل كاتب له ذكاء حاد، وربما كان ذلك الشاعر كاتبًا يدوّن شعره ويحفظه عنده، فوصفه مثل هذا للطلول، لا يمكن أن يقال إلا من رجل له علم بالكتابة، وحذق ودراية. وفي البيت الآتي: فمدافع الريّان عُرّي رسمها ... خلقًا كما ضمن الوحي سِلامها إشارة إلى الكتابة كذلك، فالوحي هو الكتابة، والسِّلام الحجارة، أي: كان

_ 1 ابن فارس، الصاحبي "28". 2 المحبر "475". 3 شرح ديوان لبيد "ص119". 4 شرح ديوان لبيد "ص299"، بلوغ الأرب "3/ 367 وما بعدها".

ما بقي من رسمها بعد أن عريت، مثل ما يبقى من الكتابة في الأحجار1. ويؤخذ من ذلك أن الحجارة كانت –كما ذكرت في مواضع من هذا الكتاب– مادة من مواد الكتابة عند الجاهليين. وفي شعر لبيد: فنعاف صارة فالقنان كأنها ... زُبر يرجعها وليد يمان مُتعود لحنٌ يعيد بكفّه ... قلمًا على عُسب، ذبلن وبان2 دلالة واضحة على إلمامه بالكتابة والقراءة، وعلى وقوفه على خط أهل اليمن، "على دراسة غلمان اليمن للزبر، وهي الكتب. بل ورد: أن لبيدًا كان يدوّن شعره، ويهذبه بعد كتابته، وأنه كان يكتب. روي: "أن عمر بعث إلى المغيرة بن شعبة، وهو على الكوفة، يطلب إليه أن يستنشد من قبله من شعراء الكوفة ما قالوه في الإسلام. فأجابه الأغلب، ورد عليه لبيد قائلًا: إن شئت ما عفى عنه –يعني الجاهلية -فقال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها، وقال: أبدلني اللهُ هذه في الإسلام مكان الشعر. فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص عطاء الأغلب خمس مئة، وجعلها في عطاء لبيد"3. وكان الشاعر "المرقش"، وهو من شعراء الحيرة، كاتبًا قارئًا، تعلم الكتابة والقراءة في "الحيرة" مع أخيه "حرملة" عند رجل من أهل الحيرة4. وكذلك كان الشاعر "لقيط بن يعمر الإيادي" كاتبًا قارئًا. وقد عرف بين أهل الأخبار بـ"صحيفته" التي أرسلها إلى قومه "إياد"، ينذرهم فيها بعزم "كسرى" على غزوهم، وهي قصيدة افتتحت بهذا البيت:

_ 1 شرح ديوان لبيد "ص297". 2 شرح ديوان لبيد "ص138". 3 شرح ديوان لبيد "ص28، 36"، الأغاني "15/ 131". 4 الأغاني "6/ 130"، المفضليات "459 وما بعدها".

سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد1 ويجب ألا ننسى الشاعر: "أمية بن أبي الصلت" الذي لم يكن كاتبًا قارئًا فحسب، بل كان واقفًا على كتب أهل الكتاب كذلك، وكان يقرأها، ويقتبس منها، وقد استخدم في شعره ألفاظًا ذكر أنه أخذها من كتب أهل الكتاب2. ونضيف إلى من تقدم: "الزبرقان بن بدر"3، و"النابغة الذبياني"4 و"الربيع بن زياد العبسي"5، و"لبيد بن ربيعة العامري"6، و"كعب بن زهير بن أبي سلمى"7. ودعوى أن الجاهليين كانوا أميين وعلى الفطرة والبديهة، لا يحسنون كتابة وقراءة خلا نفر بمكة وأشخاص بيثرب، دعوى باردة سخيفة، لا يمكن لمن له إلمام بأحوال الجاهلية أن يصدق بها. فأهل الأخبار الذين يروون هذه الرواية، يعودون فيخطئون أنفسهم، بسرد أسماء رجال من جزيرة العرب ومن العراق وبلاد الشأم، ذكروا أنهم كانوا يقرءون ويكتبون، بل ذكروا أكثر من ذلك، ذكروا أن منهم من كان يقرأ العبرانية أو السريانية، كالأحناف، ثم إنهم يذكرون أخبار مراسلات سادات القبائل في مختلف مواضع جزيرة العرب مع الرسول، ومكاتبة مسيلمة مع النبي وتأليفه كتابًا زعم أنه وحي نزل عليه من السماء مثل ما نزل على الرسول، فهل يعقل بعد ذلك، قول قائل: إن العرب كانوا أميين، خلا نفر. وقد رأينا أنهم تركوا آلاف الكتابات باللهجات العربية

_ 1 ابن قتيبة، الشعر والشعراء "1/ 152"، الأغاني "20/ 24"، مختارات ابن الشجري "2 وما بعدها". 2 ابن هشام، سيرة "1/ 48"، الأغاني "3/ 123"، "3/ 121 وما بعدها"، "4/ 129"، ابن قتيبة، المعارف "28"، ابن سعد، الطبقات "5/ 376"، المزهر "2/ 309". 3 الأغاني "3/ 180". 4 البغدادي، الخزانة "2/ 392 وما بعدها". 5 الأغاني "16/ 22 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 136". 6 ابن قتيبة، الشعر "233 وما بعدها"، الخزانة "2/ 215". 7 ابن قتيبة، الشعر "1/ 91"، جمهرة أشعار العرب "24".

الجنوبية وبالثمودية واللحيانية والصفوية، بل قد نجد الكتابة في بعض قبائل الجاهلية مثل قبائل الصفاة، أكثر اتساعًا وانتشارًا مما عليه الحال بين قبائل هذا اليوم. وبعد، فالأمية الجماعية التي فرضها أهل الأخبار على الجاهليين، فجعلوهم أميين مائة بالمائة، لم تكن أمية صحيحة، وإنما جاءت من وهم في فهم المراد من المواضع التي أشرت إليها من القرآن، بدليل مناقضة أهل الأخبار أنفسهم، بذكر أسماء من ذكرناهم وممن لم نذكرهم ممن كان يقرأ ويكتب بهذا القلم العربي الذي دوّن به القرآن. وبدليل ما أوردته من أقوال المفسرين في الأمية، من أنها الوثنية، لا الأمية بمعنى الجهل بالكتابة والقراءة حتمًا، لعدم انسجام هذا المعنى مع تفسير الآيات، ثم إن القرآن الكريم حين تعرض للأمية، بمعنى عدم القراءة والكتابة، قال: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ، وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 1. فعبر بذلك تعبيرًا مبينًا عن معنى عدم القراءة والكتابة، بأفصح عبارة، فقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} ، ولو كانت الأمية بهذا المعنى لما أهمل ذكرها في هذا المكان. ومن ذلك الوهم جاءت الأحاديث الضعيفة من أنه كان من أمة أمية لا تحسب ولا تكتب، ولعاطفة دينية، شددوا في أمية العرب، فجعلوها جميعًا أميين، لإظهار معجزة للرسول –هو في غنى عنها –في أنه ظهر بالنبوة في أمة أمية، وجاء من الله بأحسن بيان، وهي حجة له على أهل الكتاب والمشركين. وبعد، فقد فهمنا من روايات أهل الأخبار، أن أهل مكة إنما تعلموا الكتابة في عهد غير بعيد عن الإسلام. فهل يعني هذا أنهم لم يكونوا يحسنون الكتابة والقراءة قبل هذا العهد أبدًا؟ والذي أراه أن ذلك شيء غير معقول، وأن أهل مكة كانوا يكتبون ويقرءون، كانوا يكتبون بالمسند، القلم الذي كتب به أكثر أهل جزيرة العرب قبل الإسلام، بدليل ما نقرأه في كتب أهل الأخبار من زعمهم أن أهل مكة كانوا يجدون بين الحين والحين كتابات مدونة بالمسند في مقبرة

_ 1 العنكبوت، الآية "46 وما بعدها".

مكة القديمة وفي مواضع أخرى منها، وفي عثور الناس على هذه الكتابات دلالة على أن سكان مكة كانوا يكتبون بالمسند أو بأقلام مشتقة منه، ولا يعقل عدم استعمال أهل الحجاز لهذا القلم، وقد وجدنا أنه والأقلام المشتقة منه، قد كونت قلم أهل هذه البلاد قبل الإسلام، والظاهر أنهم وجدوا أن القلم الذي كان يكتب به النبط وبقية العرب، مثل عرب الحيرة، كان أسهل استعمالًا ومرونة من القلم المسند البطيء الحركة، وأنه لا يأخذ حجمًا كبيرًا بالقياس إلى الخط العربي الجنوبي، لذلك فضلوه على هذا القلم، واستعملوه عوضًا عنه، دون أن يجروا عليه تحويرًا أو تغييرًا، لإصلاح ما فيه من خلل، فلما جاء الإسلام، أجرى عليه ما أجرى من تحوير وتغيير وتطوير.

الفصل الحادي والعشرون بعد المئة: الخط العربي

الفصل الحادي والعشرون بعد المئة: الخط العربي مدخل ... الفصل الحادي والعشرون بعد المائة: الخط العربي للعلماء الذين اشتغلوا في موضوع نشوء الخط عند البشر، والقلم الأول الذي تفرعت منه سائر الأقلام، نظريات في تأريخ الكتابة وظهورها، وفي المراحل التي مَرَّت عليها من أول عهد مرّت فيه وهو عهد الكتابة الصورية "Pictography" إلى وصولها إلى مرحلة الحروف. وهذه النظريات مع أنها مرت بمناقشات وبحوث وتحددت حتى أصبحت معروفة عند علماء الخطوط، لم تستقر حتى الآن؛ لأن ما وصل إلينا من نماذج كتابية أثرية، لا يكفي لإبداء رأي مقبول أو رأي قاطع في أصل الخط وفي منشئه وفي الأمة التي أوجدته. ولا أعتقد أن في إمكان أحد القطع في ذلك، مالم يعثر المنقبون في المستقبل على نماذج عادية غير معروفة، تكون كافية لإبداء رأي علمي في هذا الموضوع. واختراع الكتابة من الاختراعات الكبرى التي غيرت مجرى البشر، وهو اختراع لا تقل أهميته عن أعظم الاختراعات والاكتشافات والمغامرات التي قام بها الإنسان منذ يومه الأول حتى هذا اليوم. ومنها هروب الإنسان من أحضان أمه الأرض، وعقوقه بحقها، والتبطر بها، وذهابه إلى القمر ثم إلى ما وراء القمر من عوالم سابحة راقصة في هذا الذي نسميه السماء. ونحن لا نحفل اليوم بموضوع أهمية اختراع الكتابة، بالنسبة إلى تقدم العقل البشري، ولا يعرف معظم الناس عنه أي شيء، ولا يحفلون به؛ لأنه صار من القديم البائد. وكل قديم بائد يكتب عليه النسيان. وسيأتي يوم ولا شك ينسى فيه الجاءون من بعدنا بمئات وبآلاف

من السنين، يوم هروب الإنسان من الأرض، ولا ينظرون إليه إلا كما ينظر الإنسان الأمي الجاهل إلى مبدأ الكتابة أو إلى اختراع النار أو الطباعة أو غير ذلك من المخترعات التي إذا مضى وقت طويل على اختراعها نسيتها ذاكرة البشر، ونسيت كل أثر تركته في تطور حياة هذا الإنسان المغامر المغرم بالبحث عن المجهول. ولعلي لا أخطئ إذا قلت: إن الإنسان قد فكر في الكتابة منذ أيامه الأولى, أي: منذ شعر بنفسه، وصار يُعبر عما في ذاته، فكر بها لأنه كان في حاجة إلى تسجيل أعماله ومعاملاته وكلامه، ليتمكن من تذكرها عند الحاجة وإلى مراجعتها. كما فكر في تسجيل حوادثه وشعوره وتأثره بالمرئيات الجميلة أو المحزنة، وبالخواطر التي كانت تمر عليه، وبكل إحساسه وعواطفه. وكان كلما تقدم عقله وتوسعت مداركه شعر بحاجته إلى تدوين أعماله وأحاسيسه، فعمد إلى الطرق البدائية في التدوين. ثم طورها تدريجيًّا حتى وصل إلى مرتبة الكتابة الصورية، أي: إنه استخدم الصور في مقام الألفاظ. بأن يرسم صورة، فإذا رآها أحد عرفها وسماها باسمها. وعرفت هذه الطريقة بالكتابة الصورية. غير أن هذه الطريقة وإن عبرت بعض التعبير عن مشاعر الكاتب، إلا أنها كانت عاجزة عن التعبير عن الأمور الروحية وعن الألفاظ المعنوية، وعن الأمور الحسابية وغير ذلك. لذلك لم يقنع بها بل أخذ يشحذ ذهنه لإيجاد طريقة أخرى مختصرة وبسيطة ولها قابلية على رسم المعاني والإحساس، فأوجد من الكتابة الصورية اختزالًا نسميه: الكتابة المقطعية. أي: إنه اختزل الصور، وجزأها إلى مقاطع. وأخذ منها مقاطعها الأولى. فسماها بأسمائها الأصلية. فوصل بذلك إلى مرحلة المقاطع. وتمكن بسليقته وبذكائه من تحليل الأسماء والألفاظ التي يراد تدوينها إلى مقاطع، وتدوين أي كلمة بمقاطعها التي تتألف منها. وقد سهلت هذه المرحلة عليه كتابة الكلمات التي تعبر عن الآراء, ومن تسْجيل جمل وصفحات فيها ألفاظ مادية محسوسة وألفاظ ليست بمسميات لأشياء مادية وإنما هي تعبير عن معان وإحساس. مثل: موت وحياة ورأي وما شاكل ذلك. إلا أنه وجد أن هذه الطريقة لا تزال طريقة صعبة عسيرة، وأن على الإنسان أن يحفظ صور مئات من العلامات التي تعبر عن المقاطع لتدوين رسالة. لذلك فكر في اختزالها أيضًا وفي غربلتها وجزم المقاطع للوصول إلى الجذور الأساسية للألفاظ, وقد نجح في عمله هذا فتوصل إلى إيجاد الحروف. فبلغ بذلك النهاية.

وهي المرحلة الحقيقية للكتابة. وبذلك استطاع أن يدوّن كل ما يدور بخلده من آراء بحروف, يضعها بعضها إلى بعض ليولد منها الألفاظ التي تدوّن بعضها إلى بعض لتعبر عما يريد الكاتب تدوينه. وما ذكرته يمثل مجمل رأي العلماء في تطور الكتابة من الرموز والعلامات البدائية إلى بلوغها مرحلة الكمال والتمام. وقد أخذوا رأيهم هذا من الصور والنقوش التي عثر عليها في الكهوف وعلى الصخور وفي المقابر في مختلف أنحاء العالم. ولكن رأيهم هذا يتشعب ويتضارب عندما يتعرض للأصل الذي أوجد الحروف, والمكان الذي صار له شرف إيجاد الكتابة, وحل المشكلة المستعصية التي دوخت الإنسان, مشكلة تدوين ما يدور بخلده بيسر وسهولة. فذهب بعض الباحثين إلى أن الكتابة إنما ظهرت في العراق, وذهب بعض آخر إلى أنها ظهرت في لبنان, وذهب بعض إلى أنها من نبت أرض النيل, وذهب آخرون إلى أنها من ثمرات جزيرة "كريت". ولكل رأي دليل وحجة تقوم على دراسة الكتابات والنصوص التي عثر عليها في تلك الأرضين. والذين يرون أن العراق هو وطن الكتابة الأول, يرون أن الخط إنما ظهر بتأثير عبادة النجوم, وذلك في أرض "كلديا", وكان الكهنة قد وضعوا رموزًا للنجوم ومن تلك الرموز أخذت الأبجدية الأولى, وتفرعت الألفباء السامية الغربية التي صارت أمًّا لمجموعة من الأبجديات, ومن قائلي هذه النظرية والمدافعين عنها المستشرق "هومل"1. وهناك طائفة من العلماء رأت أن الأبجدية الأولى هي وليدة أرض النيل. وأن الذين أوجدوا الأبجدية إنما أخذوها منها. وكان المصريون وقد استعملوا في بادئ أمرهم الكتابة الصورية, ثم اختزلوها وأولدوا منها "الكتابة الهيروغليفية". وهي كتابة متطورة متقدمة بالنسبة إلى الكتابة الصورية. وقد صارت هذه الكتابة أمًّا لأقدم الكتابات. إذ تعلمها أهل "سيناء" وأهل بلاد الشأم, ثم اختزلوها وجزموها, حتى أوجدوا من هذا الجزم الحروف الهجائية2.

_ 1 Grundriss, I, S. 97, Geschichte Babylonien und Assyrian, S. 50 2 Ency. Britanica, vol. I. p. 680, Hubert Grimme, Die Losung des Sinalschriftproblems, S. I, A. H. Gardiner, The Egyptian Orign of the Semitic Alphabet in the Jornal of Egyptian Archaeology, 1916.

وعثر المنقبون في طور سيناء في "سرابيط الخادم" على كتابة قديمة يعود عهدها إلى سنة "1850" قبل الميلاد, دفعت بعض العلماء مثل "مارتن اشبرنكلنك" على القول بأن هذه الكتابة هي وليدة الكتابة الهيروغليفية, وأنها الحلقة المفقودة التي توصل بين الهيروغليفية وبين مرحلة الحروف. وذهب إلى أن العمال الذين كانوا يشتغلون في مناجم طور سيناء إنما اهتدوا إلى التدوين بالحروف من معرفتهم للهيروغليفية. إذ اختزلوا المقاطع, وأخذوا بالجزء الأول من كل مقطع وسموا ذلك الجزء باسم من أسماء الصور بلغتهم, فتكونت عندهم مجموعة من الحروف كونت الأبجدية الطورسينائية, بلغ عددها اثنين وعشرين حرفاً, أصبحت نموذجًا للأبجديات الأخرى التى اعتمدت عليها1. وقد انتشرت هذه الأبجدية من "طور سيناء" إلى الشرق فوصلت إلى الشأم وجزيرة العرب, وصارت أصل الأبجديات في هذه الأماكن غير أنها لم تستعمل في العراق, حيث كانت الكتابة المسمارية, ولا في مصر, حيث كانت الكتابة "الهيروغليفية". وقد تغيرت أشكالها باستعمالها الطويل, وتحرفت بمرور الزمن, وتبدلت الأسماء التي وضعها كتاب طور سيناء لحروفهم, كما تبدلت من حيث الترتيب وبذلك تولدت منها أقلام جديدة2. ورأى بعض العلماء أن الخط الكنعاني الذي هو من الخطوط القديمة, قد اشتق من الخط الهيروغليفي, لوجود شبه بين الحروف الكنعانية وبعض الصور الهيروغليفية. ورأى بعض آخر أنه مشتق من الكتابة المسمارية. ورأى آخرون أنه اشتق من الأبجدية "الطورسينائية", إذ يصعب تصور اشتقاق الخط الكنعاني من الهيروغليفية رأسًا لبعد ما بين الكتابتين, وإن كان هناك شبه بين بعض الحروف الكنعانية والصور الهيروغليفية. ومن الخط الكنعاني تولدت بعض الأقلام السامية المتأخرة3. وذهب باحثون إلى أن الفينيقين هم أول من اخترعوا الأبجدية, ومن هذه الأبجدية الفينيقية تولدت الأبجديات الأخرى, وذهب قسم منهم إلى أن الفينيقيين, إنما أخذوا أبجديتهم هذه من الهيروغليفية, بأن شذَّبوها وجزموا مقاطعها, وأورلدوا

_ 1 Martin Sprengling, The Alphabet: Its Rise and Development from the Sinai Inscriptions, Chicago, 1931, The Universal Jewish Ency. I, p. 198. 2 "The Universal Jewish Ency. I, p. 198.". 3 "The Jewish Quarterly Review. XII, "1950", 83-109, 159-179.".

منها الحروف1. ونظرًا إلى وجود هوة كبيرة بين الكتابة الفينيقية وبين الهيروغليفية, رأى بعض الباحثين, أن الفينيقيين, إنما أخذوا خطهم من الخط الطورسينائي, ثم طوره وحسّنوه وأوجدوا منه خطهم الذي أولد جملة خطوط. وطائفة أخرى من العلماء, رأت أن وطن "الألفباء" الأول هو جزيرة قبرص أو جزيرة كريت, حيث عثر فيهما على نماذج قديمة للكتابة اتخذوها حجة يستند إليها في هذا الرأي. وقد زعم أصحاب هذه النظرية أن أهل ساحل البحر الأبيض إنما تعلموا الكتابة من أهل "كريت" أو "قبرص". وذلك باحتكاكهم بهم, وبهجرة الفلسطينيين "Philistines", من جزيرة "كريت" إلى سواحل فلسطين التي عرفت باسمهم "فلسطية" "Philistia", ثم أطلقت على المنطقة التي قيل لها فلسطين كلها. ومن الفلسطينيين أخذ الفينيقيون الأبجدية2. وقد عثر الباحثون على عدد من الكتابات القديمة في جزيرة "كريت", تَبيّن من دراسة بعض منها أنها مكتوبة على طريقة الكتابة الهيروغليفية, ويرجع عهدها إلى ما بين "2000" إلى "1600" قبل الميلاد. كما عثروا على كتابة صورية يعود عهدها إلى حوالي السنة "1700" قبل الميلاد. وعثروا على كتابات أخرى حملتهم على القول بأن "كريت" كانت الموطن الأول للكتابة, ومنها انتقلت الكتابة إلى مواضع أخرى من البحر المتوسط3. كما بينت ذلك في الفقرة السابقة. وقد عثر المستشرق "كلود شيفر" "M. Claude Schaeffer", المعروف بتنقيبه عن النصوص "اليغاريتية" "Ugarit" في شهر نوفمير من عام 1949م على آجرة صغيرة من الصلصال المفخور بالنار حجمها "5" سنتيمترات في 15 مليمترًا في موضع "رأس الشمرة" الواقع على مسافة عشرة أميال من شمال اللاذقية, ظهر أنها على صغرها وتفاهتها البادية عليها من أهم ما عثر عليه من نصوص. فهذه الآجرة الصغيرة التي لا تلفت إليها الأنظار هي لوح في

_ 1 الدراسات الأدبية, الجامعة اللبنانية, السنة الثانية, العدد الأول, 1960م "ص44 وما بعدها". Ency. Brita, , p. 680, A.H. Gardner, The Egyptian Origin of the Semitic Alphabet, in the Jornal of Egyptian Archaeology, 1916, M. Dunand, Byblia 2 Ency. Brit. I, p. 680, Hastings, p. 672, Ency. Bibli, p. 3434. 3 The Art of Writing, Unseco, p. 8.

غاية من الأهمية كتبت عليه الأبجدية "اليغاريتية" المؤلفة من ثلاثين حرفًا, وهي على الرغم من صغر حروفها مكتوبة كتابة واصحة بخط قوي جلي. وقد كان العلماء يبحثون عن هذه الأبجدية بكل شوق, والظاهر أن أحد الطلاب كتبها على هذا اللوح, ويرجع عهده إلى القرن الرابع قبل الميلاد1. وهذه الأبجدية "اليغاريتية" مكتوبة كتابة إسفينية, ولذلك رأى بعض الذين بحثوا في "اليغاريتية" أنها وليدة الكتابة المسمارية. ورأى بعض آخر أنها متأثرة بالهيروغليفية من حيث تكوين الحروف الصامتة. وأما من ناحية الرسم, فإنها متأثرة بالكتابة المسمارية. وتتألف من ثلاثين حرفًا, فهي تتضمن جميع الحروف في الأبجديات السامية الشمالية الغربية المكونة من اثنين وعشرين حرفًا صامتًا. ونجد أنها أوردت هذه الحروف على ترتيب الأجدية الإرمية والعبرانية, خلا أنها وضعت خمسة أحرف أخرى لم ترد في العبرانية بين هذه المجموعة, فتكوّن منها سبعة وعشرون حرفًَا تضاهي الأبجدية الكنعانية, ثم أضاف إليها كتبة "اليغاريتية" أحرفًا أخرى, فأصبح مجموف الحروف ثلاثين حرفًا تألفت منها الأبجدية "اليغاريتية"2. نرى مما تقدم أن آراء علماء الخط تكاد تتفق على أن مخترعي الأبجديات هم أناس يجب أن يكونوا من أهل الشرق الأدنى أو من حوض البحر الأبيض, من أهل جزيرة "كريت أو "قبرص". وآراؤهم هذه هي بالنسبة إلى الأقلام المشهورة التي لا تزال مستعملة وحية معروفة مثل: الخطوط المستعملة في أوربا, وفي أمريكا, ومثل: الخط العربي والعبراني والسرياني وبالنسبة إلى أقلام أخرى ماتت, غير أن العلماء المتخصصين يعرفون عنها شيئًا ويقرءون نصوصها مثل الكتابات المسمارية وأمثالها. إلا أن هناك أقلامًا هي قديمة أيضًا, ولها أهمية كبيرة

_ 1 راجع وصف الآجرة الصغيرة والأبجدية "اليغاريتية" في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: جـ4 مجلد25 "1950م", "62 وما بعدها", The Glascow Herald, Satutday March 4, 1950, Manchester Guardian Weekly, March 23rd, 1950. p. 13, BOASOR, NUM: 118, April 1950, p. 12. 2 The Glascow Herald, Saturday March, The 4th, 1950, BOASOR, NUM: 118, April 1950, P. 12, Le Museon, LIX, 1946, 1-4, P. 95, C.H. Gordon, Ugaritic Grammer, Analecta Orientalia, 20, Roma, 1939, p. 69, Caude F. A. Schaeffer, The Cuniform Texts of Ras Schamra Ugari, London, 1939.

ونصوص وكتابات, لذلك يجب البحث عنها, لمعرفة تأريخها ودرجة صلتها بالأقلام التي نتحدث عنها. للوقوف على البواعث التي دفعت أصحابها على إيجادها والمراحل التي مرّت بها. فليس من الصواب إهمال تلك الأقلام وغض النظر عنها باعتبار أنها أقلام بعيدة عن أقلامنا, وهي تمثل ثقافة بعيدة عن ثقافتنا. كذلك يجب البحث عن الرسوم والرموز والإشارات التي سجلها الإنسان البدائي للتعبير عن نفسه ولتخليد ما كان يدور بخلده. ومقارنة ذلك مع أمثاله في كل أنحاء العالم. فإذا فعلنا ذلك وجمعنا كل الأقلام القديمة مثل: أقلام الصين والهند وبقية أقلام أقطار آسيا وأقلام إفريقيا وأمريكا, ودرسناها دراسة علمية. فصار في إمكاننا تكوين رأي عام علمي تقريبي عن تأريخ ظهور الخط عند البشر: متى كان ذلك وأقدم من بدأ به, مع بذل الجهد للبحث عن نماذج جديدة من الخطوط في كل مكان من العالم لنزيد بها على علمنا المتجمع من الكتابات التي وصلت إلينا ولا نضيف عليه علمًا جديدًا وليكون حكمًا قريبًا من المنطق والعلم. والرأي عندي أنه لأجل الإحاطة بتأريخ تطور الخط, لا بد من الاستمرار في البحث عن كتابات أخرى جديدة ومن دراسة مظاهر أشكال الحروف وكيفية ترتيبها وكيفية النطق بها, أي: الإحاطة بأسماء الحروف. فإن هذه الأمور تساعدنا كثيرًا على فهم تطور الخط عند البشر وعن صلته بعضه ببعض ومن التوصل إلى نتائج علمية قويمة, لا تقاس بالنتائج التي تبني على مجرد الظن والتخمين والتصور. والذي نلاحظه اليوم أن حروف الخطوط السامية المستعملة عند الغربيين, تكاد تتفق في أسمائها وفي ترتيبها, ويشير هذا التشابه إلى وحدة الأصل, وإلى أن الأبجديات المذكورة قد تفرعت كلها من شجرة واحدة, ونبعت من منبع واحد. فكلها تبتدئ بحرف واحد, هو "الألف" وكلها تجعل الباء حرفًا ثانيًا, ثم إن في وحدة تسمياتها مع اختلاف اللغات التي تدوّن بها دليلًا كافيًا على إثبات أن هذه الأبجديات هي من أصل واحد. وعلى أن لأسماء الحروف علاقة وثيقة بالصور وبالكتابة الصورية للغة الأم التي اخترعت تلك الحروف وأوجدتها من مرحلة المقاطع. وإذا ثبتنا أسماء الحروف, وعرفنا من أين أخذت, وإذا استطعنا العثور على أقدم نص للأبجدية, يكون في إمكاننا إبداء رأي علمي في منشأ الحروف وفي المكان الذي كان له شرف إيجادها, أو الأماكن التي ساهمت بصور مستقلة

في إيجاد الحروف. وهذا ما أراه؛ لأني أعتقد أن الانسان فكر في أول الأمر ما فكر به في إيجاد وسيلة يسجل بها أعماله وأفكاره, وأن تفكيره هذا لم ينحصر في بقعة واحدة, بل وجد في كل مكان. حتى في البيئات البدائية, إذ نجد الشعوب البدائية تتخذ وسائل للتعبير عن آرائها وعن تدوين أفكارها بطرق تتفق مع مستواها العقلي ودرجتها في الثقافة. والحرف الأول, وهو الألف, يعني "ثورًا", ولذلك مثل في الهيروغليفية وفي كتابة طور سيناء بشكل رأس ثور, وأما الحرف الثاني, وهو الباء أو "Beth", فإنه يعني "بيتًا", وقد صور في الهيروغليفية وفي كتابة طور سيناء بشكل يصور مقدمة بيت. وأما الحرف الثالث, وهو الجيم, فإنه "كمل" "كيمل", أي: الجمل, وصورته لا ترمز إلى الجمل رمزًا تامًّا. وأما حرف الدال, فيقال "دالت", ومعناه باب. وأما حرف الهاء, فإنه من He "هي" بمعنى شباك. وأما الواو, فهو يشير إلى وتد. وأما الزاي, فإنه من زين بمعنى سلاح. وأما الحاء, فإنه من "حيث" بمعنى حائط. وأما الياء, فإنه من "يود" بمعنى يد أو يد مفتوحة. وأخذ حرف الكاف من "كاف" "كف" بمعنى كف اليد, أو يد مقبوضة. وأما حرف اللام, فإنه من "لمد" "لامد", ومعناه عصا لضرب الثور. وأما الميم, فإنه من "ميم" بمعنى ماء. وأما النون, فإنه من نون بمعنى سمكة. وأما حرف السين فهو سامخ, بمعنى آلة يعتمد عليها كالعصا. وقد أخذ حرف العين من عين, عين الإنسان. وأخذ الفاء من فم "بم" "" بمعنى فم, وأخذ حرف الصاد من "صادى", بمعنى صياد. وحرف القاف من قوف kof بمعنى الرأس إلى الخلف, وحرف الراء, من ريش بمعنى رأس, وحرف الشين من "شين" "شن" بمعنى سن. وأما التاء, فمن كلمة "تاو" "تو" بمعنى علامة أو صليب, وهكذا1. ولمسألة ترتيب الحروف أهمية كبيرة لا تقل عن أهمية أسماء الحروف. ويظهر أن ترتيب "أبجد هوز حطي ... إلخ", وهو ترتيب سار عليه العرب أيضًا, هو ترتيب قديم. وقد عرف عند السريان وعند النبط والعبرانيين, وعند "بني إرم" ويظن أنهم أخذوه من الفينيقيين. وقد سار عليه الكنعانيون أيضًا, غير أنهم

_ 1 The Universal Jewish Ency. I, p. 202

زادوا عليه الأحرف التي اقتضى وجودها في طبيعة لغتهم. وقد وضع علماء العربية بعد "قرشت" التي يمثل حرف التاء فيها آخر حروف الأبجدية الحروف التي لم ترد في ترتيب "أبجد هوز", وهي موجودة في العربية ويقال لها: "الروادف"1. أما الترتيب السائر اليوم في كتابة الحروف العربية مبتدئين بالألف ومنتهين بالياء, فهو ترتيب إسلامي, وقد وضع على ما يخيل إلي لتيسير حفظ أشكال الحروف للطلاب؛ لأنه راعى الجمع بين الحروف المتشابهة, ولم يتجنب مع ذلك الترتيب الأصل المراعى في نظام "أبجد هوز" تجنبًا تامًّا. وضعه "نصر بن عاصم" في أيام الحجاج. ومن الفينيقيين الذين كانوا يقطعون البحار والبراري للاتجار مع مختلف الشعوب, انتشرت الكتابة بالحروف إلى حوض البحر الأبيض. فقد كان تجارهم يسجلون ما يبيعون ويشترون ليضبطوا بذلك أعمالهم, فظن من كان يتعامل معهم من اليونان وغيرهم أنهم كانوا يقومون بأعمال سحرية. ولما عرفوا أنهم إنما يكتبون ذلك لضبط أعمالهم وتجارتهم تعلموا منهم سر الكتابة. ثم سرعان ما أخذوا يكتبون. وبذلك انتشرت الكتابة في أوربا. ويظهر أن انتقال الخط إلى أوربا كان في القرن العاشر قبل الميلاد2. وقد حافظ اليونان القدامى على أشكال الحروف الفينيقية وعلى طريقتهم في التدوين من اليمين ألى اليسار. وحافظوا على أسماء الحروف كذلك. ثم وجد اليونان أن الحروف الفينيقية هي حروف صامتة ولا توجد فيها حروف تعبر عن الحركات. فأكملوها بإضافة الحركات إليها. ثم طوروها بالتدريج. وكان في جملة التطورات الابتداء بالكتابة من اليسار نحو اليمين. وعن اليونان أخذ الرومان وغيرهم من الشعوب الأوروبية الكتابة, وأخذ كل قوم منهم يوجد منها طرقًا جديدة في الخط حتى صارت على نحو ما هي عليه في هذا اليوم.

_ 1 Ency. I, p. 68 2 The Art of Writing, Unesco, 36

الخط العربي

الخط العربي: والعرب من الشعوب التي عرفت الكتابة ومارستها قبل الإسلام بزمان طويل كذلك. بل عرفوا الكتابة قبل الميلاد ببضع مئات من السنين. وقد عثر في مواضع

من جزيرة العرب على كتابات دونت باليونانية وبلغات أخرى. وتبين من دراسة النصوص الجاهلية, أن العرب كانوا يدونون قبل الإسلام بقلم ظهر في اليمن بصورة خاصة, هو القلم الذي أطلق عليه أهل الأخبار "القلم المسند" أو "قلم حمير". وهو قلم يباين القلم الذي نكتب به الآن. ثم تبين أنهم صاروا يكتبون في الميلاد بقلم آخر, أسهل وألين في الكتابة من القلم المسند, أخذوه من القلم النبطي المتأخر وذلك قبيل الإسلام على ما يظهر. كما تبين أن النبط وعرب العراق وعرب بلاد الشأم كانوا يكتبون أمورهم بالإرمية وبالنبطية, وذلك لشيوع هذين القلمين بين الناس, حتى بين من لم يكن من "بني إرم" ولا من النبط, كالعبرانيين الذين كتبوا بقلم إرمي إلى جانب القلم العبراني, ولاختلاط العرب الشماليين ببني إرم واحتكاكهم بهم, مما جعلهم يتأثرون بهم ثقافيًّا, فبان هذا الأثر في الكتابات القليلة التي وصلت إلينا مدونة بنبطية متأثرة بالعربية. ويظهر من عثور الباحثين على كتابات مدونة بالمسند في مواضع متعددة من جزيرة العرب, ومنها سواحل الخليج العربي, بعض منها قديم وبعض منها قريب من الإسلام, إن قلم المسند, كان هو القلم العربي الأصيل والأول عند العرب. وقد كتب به كل أهل جزيرة العرب, غير أن التبشير بالنصرانية الذي دخل جزيرة العرب, وانتشر في مختلف الأماكن, أدخل معه القلم الإرمي المتأخر, قلم الكنائس الشرقية, وأخذ ينشره بين الناس؛ لأنه قلمه المقدس الذي به كان يكتب رجال الدين. ولما كان هذا القلم أسهل في الكتابة من المسند, وجد له أشياعًا وأتباعًا بين من دخل في النصرانية وبين الوثنيين أيضًا, لسهولته في الكتابة, غير أنه لم يتمكن مع ذلك من القضاء على المسند إذ بقي الناس يكتبون به. فلما جاء الإسلام, وكتب كتبة الوحي بقلم أهل مكة لنزول الوحي بينهم. صار قلم مكة هو القلم الرسمي للمسلمين, وحكم على المسند بالموت عندئذ, فمات ونسيه العرب, إلى أن بعثه المستشرقون, فأعادوه إلى الوجود مرة أخرى, ليترجم لنا الكتابات العادية التي دونت به. وهناك أقلام عثر عليها المستشرقون في أعالي الحجاز, تشبه القلم المسند شبهًا كبيرًا, لذلك رأى الباحثون أنها من صلب ذلك القلم ومن فروعه للشبه المذكور؛ ولأنها متأخرة بالنسبة له, فلا يمكن أن تكون هي الأم. وقد سمي قلم منها بالقلم الثمودي نسبة إلى قوم ثمود, وسمي قلم آخر بالقلم اللحياني, نسبة إلى

"لحيان". وعرف القلم الثالث بـ"الكتابة الصفوية", نسبة إلى أرض "الصفاة" الأرض التي عثر بها على أول كتابة مكتوبة بهذا القلم. وقد عرف علماء العربية القلم المسند, ومنهم حصل هذا القلم على اسمه. ولكنهم لم يعرفوا من أمرة شيئًا يذكر. وكل ما عرفوه عنه أنه خط أهل اليمن القديم, وأنه خط حمير, وأن قومًا من أهل اليمن بقوا أمدًا يكتبون به في الإسلام ويقرءون نصوصه. كما عرفوا القلم الذي دوّن به القرآن الكريم. ودعوه "القلم العربي" أو "الخط العربي" حينًا و"الكتاب العربي" أو "الكتابة العربية" حينًا آخر تمييزًا له عن المسند1. ولم يشيروا إلى أسماء خطوط جاهلية أخرى. وقد تكلم "الهمداني" ومشايخه من قبله عن المسند, كما أشار إلية "ابن النديم", وذكر أن نماذج منه كانت في خزانة "المأمون". غير أن علمهم به لم يكن متقنًا على ما يظهر من نقولهم عنه. كما تحدثت عن ذلك في أثناء كلامي عن "الهمداني". ولم يكن لهم إدراك عن كيفية تطوره. وقد دعوه بالخط الحميري. وعرّفوه بأنه خط مخالف لخطنا هذا, كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. قال "أبو حاتم": هو في أيديهم إلى اليوم باليمن2. هذا ولم أجد في المؤلفات الإسلامية المعروفة في هذا اليوم ما يفيد بأن أحدًا من العرب الإسلاميين كان على علم متقن بالعربيات الجنوبية, أو كان له علم بتأريخ العربية الجنوبية القديم, وفي الذي ذكروه عن الخط المسند وعن لغات العرب الجنوبيين وتأريخهم تأييد لما أقوله. والعرب تسمي "الكتاب العربي" أي: خطنا: "الجزم", وذكروا أنه إنما سمي جزمًا؛ لأنه جزم من المسند, أي: قطع منه, وهو خط حمير في أيام ملكهم3 ولا أستبعد احتمال كون كلمة "الجزم" تسمية ذلك القلم في الجاهلية, وأما تفسير

_ 1 الفهرست "ص6 فما بعدها", صبح الأعشى "3/ 11", الصاحبي في فقه اللغة, لابن فارس "ص7 وما بعدها", تأريخ الخط العربي وآدابه, تأليف محمد بن طاهر بن عبد القادر الكردي الخطاط, مكة, 1939م, البلاذري, فتوح "476 وما بعدها", الجهشياري, الوزراء "1, 12 وما بعدها", السجستاني, كتاب المصاحف "4 وما بعدها الصولي, أدب الكتاب "28-31", القاهرة 1341هـ", الأبحاث, السنة 1952م, الجزء الأول "ص11 وما بعدها", العقد الفريد "4/ 240 وما بعدها". 2 تاج العروس "2/ 382", "سند". 3 اللسان "12/ 97 وما بعدها", "جزم", تاج العروس "8/ 228", "جزم".

أهل الأخبار لسبب التسمية, فهو من نوع التفاسير المعروفة المألوفة عن أهل الأخبار, يضعونها حينما يجابههم شخص يريد معرفة سبب تسمية شيء بالاسم الذي عرف به. ودليل ذلك ما ذكره "البطليوسي" من أن أهل الأنبار كانوا يكتبون المشق, وأن أهل الحيرة كانوا يكتبون "خط الجزم" وهو خطهم, وهو الذي صار خط المصاحف1. و "المشق" في تفسير علماء العربية مد حروف الكتابة2, ومعنى هذا أن خط أهل الأنبار, كان متصل الحروف ممدودها, بينما غلب على القلم الحيري الشكل التربيعي الجاف ذو الزوايا للحروف. وهو شكل تكون الكتابة به أبطأ من الكتابة بالقلم المشق. ونظيره هو القلم الكوفي في الإسلام, الذي اختص بأنواع معينة من أغراض الكتابة, ومنها الكتابة على الأحجار والخشب. ونظرًا لبطء الكتابة به على الغالب لم يستعمل بكثرة في الكتابة. ولعل سبب اختلاف قلم الأنبار عن قلم أهل الحيرة, هو في المنبع الذي استقى كل من أهل المدينتين قلمه منه. فقد استعمل نصارى العراق في كتبهم الطقوسية القلم "السطرنجيلي", المشتق من القلم التدمري. وكتبوا به الأناجيل والكتب المقدسة وأحجار المباني, مثل الأحجار التي توضع فوق أبواب المعابد كالكنائس أو البيوت أو القبور وما شاكل ذلك. وهو خط ثقيل يحتاج إلى بذل وقت في نقشه وإلى جهد في حفره على الخشب أو الحجر, بل وفي الكتابة به أيضًا. واستعملوا قلمًا آخر أسرع منه وأسهل وأطوع في الكتابة به من "السطرنجيلي", كتبت به الأعمال التجارية والمخابرات والرسائل والكتب, كتبوا به بقلم القصب وبالحبر. فكان منه خط النسخ3. هذا وقد كتب النبط بقلمين كذلك: قلم قديم, ثقيل في الكتابة تكثر فيه الخطوط المستقيمة والزوايا والتربيعات فهو على شاكلة "السطرنجيلي", والخط الكوفي. كتبوا به على الأخشاب والحجارة والمعادن والصخور, حيث حفروا الكتابة حفرًا, كما استعملوه في ضرب نقودهم. وهو ثقيل في الكتابة لذلك لم يستعمل في الأغراض اليومية كتدوين المعاملات التجارية والمراسلات وما شاكل

_ 1 الاقتضاب "89". 2 تاج العروس "7/ 70", "مشق". 3 الأبحاث, السنة 1952م, الجزء الأول "ص15".

ذلك من أمور تستدعي السرعة, بل استخدم الكتاب قلمًا آخر لهذه الأغراض, هو القلم المدوّر الذي يشبه النسخ, والذي نستطيع أن نسميه "المشق", قلم أهل الأنبار. وهو قلم متأخر ظهر عندهم بعد القلم الأول1. ونجد أكثر شعوب الشرق الأدنى على هذه العادة في اتخاذ قلم خاص يكتبون به الكتب المقدسة والأحجار التذكارية, التي توضع فوق أبواب المعابد وفي داخلها أو على القبور للذكرى والتأريخ. لذلك يجتهد فيه أن يكون مزوقًا ذا زوايا وتربيعات وزخرف ونقوش, باعتبار أنه إنما يدوّن للتخليد ولتدوين شيء مقدس ثمين. ومن هذه النظرة تولدت طريقة رسم الحروف الأولى لكلمات الجمل أو عنوان الفصول بحروف بارزة مغايرة للحروف الأخرى التي تدوّن بها الكلمات التالية. واتخذوا أقلامًا أخرى راعوا فيها السهولة والليونة في الكتابة. لتدوين الكتب الأخرى التي لا صلة لها بالدين ولتدوين الأعمال اليومية. جعلوا حروفها مدوّرة أو مقوسة, ليمكن الكتابة بها بسهولة بدون حاجة إلى بذل عناية في رسم خطوطها المستقيمة والمربعة والزوايا التي تكوّن الحروف. وقد تحدث "الجاحظ" عن الخط, فقال: "وليس في الأرض أمة بها طرق أو لها مسكة, ولا جيل لهم قبض وبسط, إلا ولهم خط. فأما أصحاب الملك والملكة والسلطان والجباية, والديانة والعبادة, فهناك الكتاب المتقن, والحساب المحكم, ولا يخرج الخط من الجزم والمسند المنمنم كذا كيف كان, قال ذلك الهيثم بن عدي وابن الكلبي"2. فالخط العربي الجاهلي, قلمان: جزم ومسند, ولا ثالث لهما. المسند خط العربية الجنوبية وخط من كتب بهذا القلم من بقية أنحاء جزيرة العرب, والجزم, خط أهل مكة والمدينة وعرب العراق وغيرهم من العرب الشماليين. ولما كان عرب العراق قد خالطوا بني إرم وأخذوا من ثقافتهم, ومنهم من اعتنق دينهم, فدخل في النصرانية. فلا أستبعد استعمالهما قلمين, أو أكثر في الكتابة. قلم رُوعي فيه ما رآه نصارى العراق في "السطرنجيلي", والمسمى أيضًا

_ 1 الأبحاث, 1952, "جـ1 ص14 وما بعدها". 2 الحيوان "1/ 71" البلاذري, فتوح "476 وما بعدها", السجستاني, المصاحف "4 وما بعدها", خليل يحيي نامي, أصل الخط العربي وتأريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام, مجلة كلية الآداب, بجامعة القاهرة, مايو 1935م.

بالخط الرهاوي, وقلم آخر استعملوه للكتابات السريعة. ولا أستبعد احتمال كتابة أهل الأنبار أو أهل الحيرة أو غيرهم من عرب العراق بالقلمين معًا. القلم الذي دعاه البطليوسي بالمشق, وهو على حد قوله قلم أهل الأنبار, والقلم الحيري, وهو الجزم على رأيه أيضًا. ويذكر أن القلم السطرنجيلي قد استنبط في مطلع القرن الثالث للميلاد. وقد استنبطه "بولس بن عرقا" أو "عتقا الرهاوي". وشاع استعماله بين الناس1. هذا وللعلماء المسلمين مؤلفات في تأريخ الخط العربي وتطوره, ولهم نظريات وآراء في منشأ الخط, منها آراء تنسب إلى "ابن الكلبي", وهو في مقدمة علماء الأخبار في هذا الباب, وإلية يرجع أكثر من جاء بعده في رواية أخباره عن منشأ الخط, وعن كيفية تطوره حتى بلغ مبلغه هذا في الإسلام. ومنها آراء تنسب إلى غيره كابن عباس2. ونستطيع تلخيص وجهات نظرهم في منشأ الخط العربي في الملخصات الآتية: 1- كان منشأ الخط في اليمن, ثم انتقل منه إلى العراق حيث تعلمه أهل الحيرة, ومنهم تعلمه أهل الأنبار, ومنهم تعلمه جماعة نقلوه إلى الحجاز. فالأصل, على رأي هؤلاء, هو القلم المسند وكان كما يقولون بالغًا مبلغ الإتقان والجودة في دول التبابعة, لما بلغت من الحضارة والترف3. 2- أول من كتب الخط العربي حمير بن سبأ, وكانوا قبل ذلك يكتبون بالمسند, سمي بذلك لأنهم كانوا يسندونه إلى "هود"4. 3- أول ما ظهرت الكتابة العربية بمكة من قبل "حرب بن أمية" وقد

_ 1 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق, "1959م", "ص421". 2 راجع أدب الكتاب للصولي "28 وما بعدها", والفهرست لابن النديم "وما بعدها" وحكمة الإشراق إلى اختراق الآفاق, للسيد مرتضى الزبيدي, نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة "ص50 وما بعدها", البلاذري فتوح البلدان "476 وما بعدها" والجهشياري, الوزراء "ص251 وما بعدها", صبح الأعشى "3/ 9 وما بعدها", السجستاني, المصاحف "4 وما بعدها", العقد الفريد "3/ 203" المزهر "2/ 349" مقدمة ابن خلدون "ص349". 3 المزهر "2/ 349", مقدمة ابن خلدون "ص349". 4 صبح الأعشى "3/ 9".

أخذها من طارئ طرأ على مكة من اليمن. وقد أخذ ذلك الطارئ علمه بالكتابة من كاتب الوحي لهود1. 4- أول من كتب بالعربية إسماعيل2. كتب على لفظه ومنطقه موصولًا, حتى فرق بينها ولده هميسع وقيذر3. 5- أول من وضع الكتاب العربي نفيس, ونضر, وتيماء, ودومة. هؤلاء ولد إسماعيل, وضعوه موصولًا, وفرقه قادور بن هميسع بن قادور4. 6- إن نفيس, ونضر, وتيما, ودومة؛ بني إسماعيل, وضعوا كتابًا واحدًا وجعلوه سطرًا واحدًا غير متفرق, موصول الحروف كلها, ثم فرقة نبت, وهميسع, وقيذار, وفرقوا الحروف وجعلوا الأشباه والنظائر5. 7- كان قلم "الجزم" في نظر بعض العلماء أساس القلم العربي وقد سمي بالجزم؛ لأن مرامر بن مرة, وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة, وهم من طيء من بولان, سكنوا الأنبار واجتمعوا فوضعوا حروفًا مقطعة وموصولة. فأما مرامر فوضع الصور, وأما أسلم ففصل ووصل, وأما عامر فوضع الإعجام. وقد اقتطع مرامر الخط من المسند فسمي الجزم؛ لأنه جزم, أي: اقتطع, ولذلك قيل له: الجزم قبل وجود الكوفة, فتعلمه منهم أهل الأنبار, وتعلمه منهم أهل الحيرة وسائر عرب العراق, وتعلمه من أهل الحيرة بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل, وكان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في بلاد العراق, فتعلم حرب منه الكتابة, ثم سافر معه بشر إلى

_ 1 صبح الأعشى "3/ 10". 2 صبح الأعشى "3/ 10", المزهر "2/ 342", "وعنه -عليه الصلاة والسلام- أنه أول من كتب بالعربية إسماعيل", الروض الأنف "1/ 10", الجهشياري, كتاب الوزراء والكتاب "أو ما بعدها". 3 المزهر "2/ 342", "كان ابن عباس يقول: أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل –علية السلام-وضعه على لفظه ومنطقه", الصاحبي "34". 4 الفهرست "ص13", "الكلام على القلم العربي". 5 حكمة الإشراق, نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة "ص64", صبح الأعشى "3/ 9".

مكة فتعلم منه جماعة من أهلها, فلهذا أكثر الكتّاب من قريش1. 8- أول من وضع الخط العربي "أبجد هوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت", وهم قوم من الجيلة الأخيرة, وقيل: إنهم بنوا المحصن بن جندل بن يصعب بن مدين, وكانوا نزولًا مع عدنان بن أدد, فكان "أبجد" ملك مكة وما يليها من الحجاز, وكلمن وسعفص وقرشت ملوكًا بمدين, وقيل ببلاد مضر, فوضعوا الكتاب على أسمائهم, ثم وحدوا بعد ذلك حروفًا ليست من أسمائهم, وهي الثاء والخاء والذال والظاء والضاد والغين فسموها الروادف2. 9- أول من وضع الخط العربي وألف حروفه ستة أشخاص من طسم, كانوا نزولًا على عدنان بن أدد, وكانت أسماؤهم: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت, فوضعوا الكتابة والخط على أسمائهم, فلما وجدوا في الألفاظ حروفًا ليست في أسمائهم ألحقوها بها, وسموها الروادف, وهي ثخذ ضظغ3. 10- أول من خط هو: مرامر بن مرة من أهل الأنبار, وقيل: إنه من بني مرة. ومن الأنبار انتشرت الكتابة في الناس. ذكروا أن قريشًا سُئِلوا: من أين لكم الكتابة؟ فقالوا: من الأنبار4. 11- تعلم بشر بن عبد الملك الكتابة من أهل الأنبار وخرج إلى مكة وتزوج "الصهباء بنت حرب بن أمية". وتعلم منه حرب, ومنه ابنه سفيان, ومنه ابن أخيه معاوية بن أبي سفيان, ثم انتشر في قريش, وهو الخط الكوفي الذي استنبطت منه الأقلام5.

_ 1 الفهرست "ص6" منتخبات في أخبار اليمن من كتاب شمس العلوم "ص98", المزهر "2/ 346", نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة, حكمة الإشراق "ص65", صبح الأعشى "1/ 421" الجهشياري, الوزراء "1", تاج العروس "3/ 90", "جدد". 2 المزهر "2/ 348", الفهرست "ص12", "الكلام على القلم العربي", العقد الفريد "4/ 242", نزهة الجليس "2/ 63". 3 نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة, حكمة الإشراق "ص64", صبح الأعشى "3/ 9", نزهة الجليس "2/ 63 وما بعدها", الفهرست "12", الكلام على القلم العربي. 4 نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة, حكمة الإشراق "ص65", ابن خلكان, "1/ 346", عيون الأخبار "1/ 43" "الكتب والكتابة". 5 نوادر المخطوطات, المجموعة الخامسة, حكمة الإشراق "ص64 وما بعدها", صبح الأعشى "3/ 10", الجهشياري, كتاب الوزراء والكتاب "2 وما بعدها".

12- كان الكتاب العربي قليلًا في الأوس والخزرج, وكان يهودي من يهود ماسكة قد علمها, فكان يعلّمها الصبيان, فجاء الإسلام وفيهم بضعة عشر يكتبون, منهم سعد بن زرارة, والمنذر بن عمرو, وأُبي بن كعب, وزيد بن ثابت, يكتب الكتابين جميعًا العربية والعبرانية, ورافع بن مالك, وأسيد بن حضير, ومعن بن عدي. وأبو عبس بن كثيم, وأوس بن خولي, وبشير بن سعد1. 13- أول من وضع الحروف العربية ثلاثة رجال من بولان, وبولان قبيلة من طيء, نزلوا مدينة الأنبار, وهم: مرامر بن مرة, وأسلم بن سدرة, وعامر بن جدرة, اجتمعوا فوضعوا حروفًا مقطعة وموصولة, ثم قاسوها على هجاء السريانية. فأما مرامر, فوضع الصور, وأما أسلم ففصل ووصل, وأما عامر فوضع الإعجام, ثم نقل هذا العلم إلى مكة وتعلمه من تعلمه وكثر في الناس وتداولوه2. 14- أول من كتب الكتاب العربي, رجل من بني النضر بن كنانة, فكتبته العرب حينئذ3. 15- رأى نفر من العلماء أن أهل مكة إنما تعلموا الكتابة من إياد أهل العراق وكانوا يكتبون, ورووا في ذلك شعرًا زعموا أن "أمية بن أبي الصلت" قائله, منه: قوم لهم ساحة العراق إذا ... ساروا جميعًا والخط والقلم4 16- أول من وضع حروف أب ت ث نفر من أهل الأنبار من إياد القديمة, وعنهم أخذت العرب5.

_ 1 صبح الأعشى "3/ 11". 2 صبح الأعشى "3/ 8", العقد الفريد "4/ 242". 3 صبح الأعشى "3/ 9", "رجل من بني مخلد بن النضر بن كنانة", الفهرست "13". 4 بلوغ الأرب "3/ 369", الروض الأنف "1/ 43". 5 الفهرست "ص13".

17- الذي حمل الكتابة إلى قريش بمكة, أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة" وقيل حرب بن أمية1. 18- من حمير تعلمت مضر الكتابة العربية2. 19- أصل الخط العربي من الأنبار, وإنما سكن الأنبار والحيرة بقايا العرب العاربة وكثير من المستعربة فنقلوا ذلك3. 20- وضع الكتاب العربي عبد ضخم وبيض ولد أميم بالحجاز, ولهم يقول حاجز الأزدي: عبد بن ضخم إذا نسبتهم ... وبيض أهل العلو في النسب ابتدعوا منطقًا لخطّهم ... فبين الخط لهجة العرب4 21- أول من كتب الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها, آدم –عليه السلام – قبل موته بثلاثمائة سنة, كتبها في طين وطبخه, فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابًا فكتبوه, فأصاب إسماعيل –عليه السلام – الكتاب العربي5. 22- أول من كتب بالعربية مرامر بن مرة, رجل من أهل الأنبار. ومن الأنبار انتشرت في الناس. 23- تعلمت قريش الكتابة من الحيرة, وتعلم أهل الحيرة الكتابة من الأنبار6, وذكر بعض علماء العربية أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها, وأنهم لم يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا رفعًا ولا نصبًا ولا همزًا7. وهذه هي آراء علماء العربية في أصل الخط عند العرب, وفي كيفية منشئه وظهوره.

_ 1 الفهرست "ص13". 2 مقدمة ابن خلدون "ص349". 3 الإكليل "1/ 78 فما بعدها". 4 الإكليل "6/ 78". 5 الصاحبي "34", المزهر "2/ 341". 6 ابن رستة, الأعلاق "192". 7 الصاحبي "35".

وقد ذكر "ابن النديم" مختلف الروايات التي كانت شائعة في أيامه عند القلم العربي. وذكر منابعها أحيانًا وأهمل ذكرها أحيانًا أخرى. وفي جملة من أشار إليهم "ابن عباس", فنسب إلية قوله: إن أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان على نحو ما ذكرت قبل قليل1. و"محمد بن إسحق" و"ابن الكلبي", و"ابن الكوفي" و"كعب الأحبار" و"مكحول" و"عمر بن شبة" في كتاب مكة, و"ابن أبي سعد"2. وذكر أنه كان في خزانة المأمون كتاب بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد أدم. فيه حق عبد المطلب على رجل من حمير, عليه ألف درهم فضة كيلًا بالحديدة. وكان خطّه شبه خط النساء. وذكر أن من كتاب العرب أسيد بن أبي العيص. وأن الناس عثروا على حجر كان على قبره كتب عليه اسمه3. ولدينا رأي آخر يقول: "كانت الكتّاب في العرب من أهل الطائف, تعلموها من رجل من أهل الحيرة, وأخذها أهل الحيرة عن أهل الأنبار"4. وهو رأي نبع من المنابع المتقدمة. وقد جزم قوم من العلماء أن أول من كتب بالعربية "مُرامر بن مرّ", "مُرامر بن مُرّة", وذهب قوم أن أول من كتب بخطنا "عامر بن جدرة", وتوقف قوم هل هو خلاف أو يمكن التوفيق. وذهب آخرون إلى أن أول من كتب بالخط العربي عامر بن جدرة ومرامر بن مرة الطائيان, ثم "سعد بن سبل"5. وقال "شرقي بن القطامي": إن أول من وضع خطنا هذا رجال من طيء منهم مرامر بن مرة. قال الشاعر: تعلمت باجاد وآل مرامر ... وسودت أثوابي ولست بكاتب وإنما قال وآل مرامر؛ لأنه كان قد سمى كل واحد من أولاده بكلمة من أبجد, وهي ثمانية. وأول من كتب بالعربية مرامر بن مرة من أهل الأنبار,

_ 1 الفهرست "ص12". 2 الفهرست "ص12 وما بعدها". 3 الفهرست "ص12 وما بعدها". 4 اللسان "12/ 34", "أمم". 5 تاج العروس "3/ 90", "جدر", حكمة الإشراق "65", ابن خلكان, وفيات "1/ 346".

ويقال من أهل الحيرة. ويقال: إنه سئل المهاجرون من أين تعلمتم الخط؟ فقالوا: من الحيرة. وسئل أهل الحيرة من أين تعلمتم الخط؟ فقالوا: من الأنبار1. والذين يذكرون أن "بشر بن عبد الملك" أخو "أكيدر بن عبد الملك" الكندي صاحب "دومة الجندل", الذي تعلم الكتابة من أهل الأنبار, وخرج إلى مكة, فتزوج "الصهباء بنت حرب بن أمية" أخت "أبي سفيان", وعلّم جماعة من أهل مكة الكتابة, فلذلك كثر من يكتب بمكة من قريش, يروون شعرًا لرجل من أهل دومة الجندل, زعموا أنه قاله إظهارًا لمنة قومه على قريش, هو: لا تجحدوا نعماء بشر عليكمو ... فقد كان ميمون النقيبة أزهرا أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو ... من المال ما قد كان شتى مبعثرا وأتقنتمو ما كان بالمال مهملاً ... وطامنتمو ما كان منه منفرا فأجريتم الأقلام عودًا وبدأة ... وضاهيتمو كتّاب كسرى وقيصرا وأغنيتمو عن مسند الحي حمير ... وما زبرت في الصحف أقيال حميرا2 فبشر بن عبد الملك, هو الذي نقل "الجزم" إلى "مكة". والجزم هو الخط الذي دوّن به القرآن, أي: القلم الذي نكتب به اليوم. فأغنى به أهل مكة عن الكتابة بقلم المسند قلم حمير الثقيل, وصاروا يكتبون بالقلم وبالحبر, على طريقة الفرس والروم يدوّنون به أموالهم. ويظهر من ذلك أن القلم المسند, كان ثقيلًا في الكتابة, ولهذا وجد أهل مكة صعوبة في تدوين أمورهم به, فعدلوا عنه إلى القلم الجزم. ولو صح هذا الشعر, فإن البيت الأخير منه يدل على أن أقيال حمير وغيرهم كانوا يكتبون بخطهم: المسند على الصحف, وأنه قد كانت عندهم كتابات دوّنوها به بالحبر والقلم على الصحف والأدم ومواد الكتابة الأخرى, ولم يكونوا يكتفون بالكتابة به على الأحجار فقط؛ لأننا نجد أن كتاباتهم الواصلة إلينا إنما

_ 1 تاج العروس "3/ 540", "مرر", المزهر "2/ 347". 2 المزهر "2/ 347".

قد كتبت بهذه الطريقة حسب. وسبب عدم وصول هذه الصحف إلينا, أنها من مادة سريعة العطب, لذلك لم تتمكن من المحافظة على حياتها فذهبت مع أهلها, وقد يعثر على شيء منها مدفون تحت الأرض بصورة يمكن أن يستفاد منها كما استفيد من المسند المنقوش على الحجر. وورد أن رجلًا قال لابن عباس: "معاشر قريش, من أين أخذتم هذا الكتاب العربي قبل أن يبعث محمد -صلى الله عليه وسلم- تجمعون منه ما اجتمع, وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام؟ قال: أخدناه من حرب بن أمية. قال: فممن أخذه حرب؟ قال: من عبد الله بن جدعان, قال: فممن أخذه ابن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار, قال: فممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من أهل الحيرة, قال: فممن أخذه أهل الحيرة؟ قال: من طارئ طرأ عليهم من اليمن من كندة. قال: فممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال: الخفلجان بن الوهم كاتب الوحي لهود, عليه السلام"1. وذكر بعض العلماء أن أول من وضع الخط العربي وألّف حروفه وأقسامه ستة أشخاص من طسم, كانوا نزولًا عند عدنان بن أدد, وكانت أسماؤهم: أبجد, هوز, حطي, كلمن, سعفص, قرشت, فوضعوا الكتابة والخط على أسمائهم, فلما وجدوا في الألفاظ حروفًا ليست في أسمائهم ألحقوها بها, وسموها الرّوادف, وهي: ثخذ ضظغ2. وذكر بعض أهل الأخبار أن "كلمن" كان رئيس ملوك مدين الذين وضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم, وقد هلكوا يوم الظلة, فقالت ابنة كلمن ترثي أباها: كلمن هدم ركني ... هلكه وسط المحله سيد القوم أتاه الـ ... حتف نارًا وسط ظله جعلت نار عليهم ... دراهم كالمضمحله3

_ 1 المزهر "2/ 349". 2 حكمة الإشراق "64", "ستة أشخاص من طفيم", نزهة الجليس "2/ 63". 3 نزهة الجليس "2/ 63", المزهر "2/ 348". كلمون هد ركني ... هلكه وسط المحله

ويوم الظلة غيم تحته سموم, أو سحابة أظلتهم, فاجتمعوا تحتها مستجيرين بها مما نالتهم من الحر, فأطبقت عليهم1. وقد أشير إلى عذاب يوم الظلة في القرآن الكريم2. وذكر أن هذا العذاب أصاب قوم "شعيب" لتكذيبهم رسالته, فرفع الله غمامة فخرجوا إليها ليستظلوا بها فأصابهم عذاب عظيم. التهبت عليهم وأحرقتهم3. ولما كان أبجد هوز ملوك مدين, وأهل مدين هم قوم شعيب, ربط أهل الأخبار مصيرهم بمصير قوم شعيب, وجعلوا نهايتهم يوم الظلة. فالكتابة على رأي هؤلاء تعود إلى هؤلاء الملوك, الذين هلكوا بذلك اليوم. ورويت الأبيات على هذه الصورة: كلمن هدّم ركني ... هُلكهُ وسط المحله سيد القوم أتاه الـ ... حتف تحت ظله كونت نارًا, وأضحت ... دار قومي مضمحله4 ووردت على هذه الصورة: كلمن هدّم ركني ... هلكه وسط المحله5 سيد القوم أتاه الـ ... حتف نارًا وسط ظله جعلت ناراً, عليهم ... دارهم كالمضمحله6 وقد تعرض "المسعودي" لموضوع الحروف, فقال: "وقد كانوا عدة ملوك تفرقوا في ممالك متصلة ومنفصلة, فمنهم المسمى بأبي جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت, وهم ما ذكرنا بنو المحض بن جندل, وأحرف

_ 1 "تاج العروس "7/ 427", "ضلل". 2 الشعراء, 26, الآية 189. 3 تفسير الطبري "19/ 66 وما بعدها". 4 اليعقوبي, مروج "2/ 129", "دار الأندلس", كلمون هد ركنى ... هلكه وسط المحله المزهر "2/ 348". 5 "ابن أمي هد ركني", تاج العروس "2/ 294", "بجد". 6 تاج العروس "2/ 294", "بجد".

الجمل على أسماء هؤلاء الملوك, وهي التسعة والعشرون حرفًا التي يدور عليها حساب الجمل". "وكان أبجد ملك مكة وما يليها من الحجاز, وكان هوز وحطي ملكين ببلاد وج, وهي أرض الطائف, وما اتصل بذلك من أرض نجد, وكلمن وسعفص وقرشت ملوكًا بمدين, وقيل: ببلاد مصر, وكان كلمن على ملك مدين, ومن الناس من رأى أنه كان ملكًا على جميع من سمينا مشاعًا متصلًا على ما ذكرنا, وأن عذاب يوم الظلة كان في ملك كلمن منهم"1. وأورد "المسعودي" أبياتًا زعم أن "المنتصر بن المنذر المديني" قالها في هؤلاء الملوك, هي: ألا يا شعيب قد نطقت مقالة ... أتيت بها عمرًا وحيّ بني عمرو هُمُ ملكوا أرض الحجاز بأوجهٍ ... كمثل شعاع الشمس في صورة البدر ملوك بني حُطّي وسعفص ذي الندى ... وهوّز أرباب البنيّة والحجر وهم قطنوا البيت الحرام ورتبوا ... خطورًا وساموا في المكارم والفخر2 وقد وردت في "تاج العروس" على هذا النحو, وقد نسب قولها إلى رجل من أهل مدين، ذكر أنه قالها يرثيهم: ألا يا شعيب قد نطقت مقالة ... سبقت بها عمرًا وحيّ بني عمرو ملوك بني حطي وهوّز منهم ... وسعفص أهل في المكارم والفخر هم صبحوا أهل الحجاز بغارة ... كمثل شعاع الشمس أو مطلع الفجر3 وروى أن "عمر بن الخطاب" لقي أعرابيًا فسأله هل تحسن القراءة؟ فقال: نعم. قال: فاقرأ أم القرآن؟ فقال الأعرابي والله ما أحسن البنات فكيف الأم! فضربه عمر بالدرة وأسلمه إلى الكتاب ليتعلم. فمكث حينًا ثم هرب, ولما رجع لأهله أنشدهم:

_ 1 مروج, للمسعودي "2/ 128", "دار الأندلس". 2 المسعودي, مروج "2/ 129", "دار الأندلس", حنفي بك ناصف "47", "أورد الأبيات مع بعض الاختلاف", المزهر "2/ 348". 3 تاج العروس "2/ 294", "بجد".

أتيت مهاجرين فعلموني ... ثلاثة أسطر متتابعات كتاب الله في رقٍ صحيح ... وآيات القرآن مفصلات فخطّوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلم سعفصًا وقريشات وما أنا والكتابة والتهجي ... وما حظ البنين مع البنات1 ويرجع أهل الأخبار "الروادف", أي: الحروف: الثاء, والخاء, والذال, والضاد, والظاء, والغين إلى أيام الملوك المذكورين في بعض الروايات. وهي حروف لم ترد في تركيب الأبجديات السامية القديمة؛ لأنها غير واردة في أكثر لهجاتها, لذلك وضعها أهل الأخبار في آخر الأبجدية, فأكملوا بذلك الأبجدية العربية. وقد ألحقها الكتاب بها بعد أن تبين لهم بالطبع أن في العربية حروفًا غير موجودة في الأبجدية المذكورة, فأوجدوها بوضع علامات على الحروف المذكورة التي لم تكن معلمة, فعبرت عن أسماء الحروف الناقصة واستعملوها في الكتابة دون أن يعملوا على إيجاد حروف جديدة للتعبير عن الحروف الناقصة. ولعلماء العربية مثل "سيبويه" والمبرد والسيرافي وغيرهم آراء في الأسماء المذكورة يفهم منها أن منهم من جعل بعض تلك الأسماء مثل: "أبا جاد" و"هواز" و"حطيا" أسماء عربية, وبعضًا منها مثل: سعفص وكلمن وقرشنات أعجميات: ومنهم من جعلها أعجميات2. ويظهر من مراجعة آرائهم هذه أنهم كانوا قد عرفوا ترتيب حروف الأبجدية على النحو المتقدم, فلما قرءوها على أنها كلمات, كما كان يفعل "بني إرم" وغيرهم في تعليمهم الكتابة والقراءة للمبتدئين تولد عندهم هذا القصص, الذي قد يكون مصدره قصص قديم. ثم تولد لديهم قصص كونهم ملوكًا من مدين, أو رجالًا من أهل الأنبار إلى آخر ما رأيناه من قصص عن منشأ الحروف, ليجدوا بذلك مخرجًا في تعليل تلك المسميات. وذكر بعض أهل الأخبار أن أول من أتى أهل مكة بكتابة العربية "سفيان بن أمية بن عبد شمس", ثم انتشرت3.

_ 1 تاج العروس "2/ 294", "بجد". 2 نزهة الجليس "2/ 64", المزهر "2/ 347". 3 نزهة الجليس "2/ 64".

وترجع أسانيد الروايات المذكورة إلى "عبد الله بن عباس", و"كعب الأحبار", و"الشعبي" و"أبي ذر", و"عوانة", و"ابن الكلبي", و"الشرقي بن القطامي", و"الأصمعي" و"الهيثم بن عدي"1. ويظهر من هذه الروايات ومن روايات أخرى أن رأي علماء العربية أن الخط العربي لم يكن أصيلًا في الحجاز, وإنما دخله من اليمن, أو من العراق أو أرض مدين. وأن أهل مكة إنما تعلموه من الأماكن المذكورة, في وقت غير بعيد عن الإسلام, لا يمكن أن يرتقي عنه بأكثر من قرن, إن لم يكن أقل من ذلك, وفقًا لرواياتهم هذه. وأن أقدم من كتب به هم أهل مكة. ولذلك قدم أهل الأخبار خط أهل مكة على سائر الخطوط التي عرفت في الإسلام. وجعلوه أول الخطوط العربية وبعده المدني, أي: خط أهل المدينة2. أما أن أصله من اليمن فدعوى لا يمكن الأخذ بها؛ لأن أهل اليمن كانوا يكتبون بالمسند, والمسند بعيد عن هذا القلم الذي يسميه أهل الأخبار: القلم العربي أو الكتاب العربي أو الخط العربي بعدًا كبيرًا. وقد بقوا يكتبون بقلمهم هذا زمنًا في صدر الإسلام. ثم إن الروايات التي ترجع علم مكة بالخط إلى اليمن, هي آحاد بالنسبة إلى الروايات الأخرى التي تنسب أخذ الخط من العراق. وأما دعوى مجيئه من مدين, أي: من أعالي الحجاز إلى مكة, فدعوى أراها غير مستبعدة؛ لأن أهل هذه المنطقة كانوا قبل الميلاد وبعده من النبط. والنبط هم عرب. وقد سبق أن تحدثت عنهم. وكانوا يكتبون بخط أخذ من قلم "بني إرم", حروفه منفصلة ومتصلة, وترتيب أبجديته هو ترتيب "بني إرم", أي: "أبجد هوز". وقد طوّروه بعض التطوير, فصار الكاتب بكتب به بالحبر بسرعة, وهو سريع وسهل أيضًا عند حفره على الحجر أو المعدن أو الخشب, ويناسب التاجر والكاتب ورجل الفكر. وقد وصلتنا كتابات كثيرة كتبت به. وفي ضمنها الكتابات الخمسة التي اعتبرها العلماء النموذج الأول والأقدم للكتابات المدونة بلغة قوم كانوا يتكلمون بالعربية, غير أن عربيتهم كانت متأثرة بالنبطية عند الكتابة. أو أنهم كانوا يكتبون بالنبطية, غير أن نبطيتهم لم تكن صافية

_ 1 المزهر "2/ 341", "النوع الثاني والأربعون: معرفة كتابة اللغة". 2 الفهرست "14", "الكلام على القلم الحميري".

نقية, بل كانت متأثرة بلغتهم اليومية العربية. وفي ضمنها كتابة "النمارة" التي يعود عهدها إلى سنة "328" للميلاد, وكتابة "حرّان اللجا" التي هي أقرب هذه الكتابات إلى عربيتنا. ونظرًا إلى ما نجده من تشابه في رسم الحروف بين أقدم الكتابات العربية وبين الخط النبطي, وفي قواعد الإملاء وترتيب الأبجدية, فلا يستبعد أن يكون أهل مكة قد أخذوا هذا الخط فكتبوا به. باحتكاكهم بأهل أعالي الحجاز وبلاد الشأم حيث كانوا يتاجرون معهم, أو بمجيء النبط إليهم للاتجار تعلمه أهل مكة منهم. وذهب الدكتور "خليل يحي نامي", إلى أن أصل الكتابة العربية من الحجاز, لما كان للحجاز من مكانة روحية عند العرب ولاشتغالهم بالتجارة. والمكانة الروحية والتجارة تستدعيان القراءة والكتابة, أخذوها من التجار النبط الذين كانوا يتوافدون عليهم للاتجار أو من اختلاطهم بالنبط أثناء ذهابهم إلى بلاد الشأم. فهو يرى أن الخط النبطي هو والد الخط العربي, ودليله أن ترتيب الحروف على طريقة أبجد هوز, وترتيبها من حيث حساب الجمل, أي: جعل كل حرف من حروف أبجد هوز في مقابل رقم حسابي, يردان في عربيتنا على نحو ما ورد عند النبط. مما يدل على أن الخط العربي أخذ من ذلك الخط, أضف إلى ذلك تشابه رسم الحروف المنفصلة والمتصلة في القلمين1. وأما موضوع أخذ أهل مكة خطهم المذكور من العراق, فرأي لا أستبعده أيضًا, فقد كان عرب العراق يكتبون, ولهم مدارس لتعليم الكتابة ملحقة بالكنائس والأديرة, وقد كان بين أهل مكة وبين عرب العراق ولا سيما الأنبار والحيرة اتصال تجاري وثيق, وكان تجار مكة يأتون بتجارتهم إلى الحيرة ويقيمون بها, فلا يستبعد تعلمهم أو تعلم بعضهم الخط من أهل الحيرة ومن أهل الأنبار. كما كان للتبشير يد في نقل هذا الخط إلى الحجاز وربما إلى مواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد كان هؤلاء المبشرون يكتبون بقلم نبطي أو بقلم إرمي متأخر, وهو والد القلم العربي الذي نكتب به. وقد كان المبشرون من أهل العراق نشطون في التبشير في جزيرة العرب, فلا يستبعد أن يكون من بينهم مبشرون حيريون

_ 1 خليل يحي نامي, مجلة كلية الآداب, الجامعة المصرية, 1935م, مجلد3, جزء1 "ص102 وما بعدها".

نقلوا الكتابة إلى "دومة الجندل" والحجاز ومواضع أخرى من جزيرة العرب. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن كتبة الوحي, إنما كتبوا بخط أُخذ من "الجزم", أي: من خط أهل الحيرة. وذلك بحكم اتصال أهل مكة بالحيرة, اتصالًا تجاريًّا, فتعلموه منهم1. فهم يوافقون بذلك بعض الروايات العربية التي ترجع علم أهل مكة بالكتابة إلى الحيرة. وقد بقي أهل الحيرة يكتبون للولاة, ويقرءون عليهم مايرد إليهم من رسائل أهل العراق وبلاد الشأم, وذلك لحسن خطهم وإتقانهم الكتابة. فكان لأبي موسى الأشعري كاتب, ولما سأله "عمر" عن سبب اتخاذه كاتبًا من النصارى أجابه: "له دينه ولي كتابته". ولما أراد "عمر" اختيار كاتب حاذق حافظ ذكر له غلام نصراني من أهل الحيرة2. ومما يلفت النظر ويسترعي الانتباه, هو أن المنطقة التي يذكر أهل الأخبار أنها كانت الأرض التي نبت بها الخط العربي, وهي الأنبار والحيرة, لم تعط الباحثين حتى الآن أي نص مكتوب. كما أن مكة المدينة الآخذة للخط لم تعطنا أيضًا أي نص جاهلي مكتوب. مع أن نصوص هذه الأرضين تهمنا بصورة خاصة, لما لها من علاقة بالخط العربي الذي نتكلم عنه, وباللغة التي نزل بها القرآن الكريم ونظم بها الشعر الجاهلي, وبالأدب الجاهلي. فلم لم تصل نصوص إلينا من العراق ولا من مكة مع أن أهل مكة كانوا يكتبون عند ظهور الإسلام, وكذلك أهل الحيرة كانوا يكتبون, ولهم دواوين في أخبارهم, رجع إليها ابن الكلبي, كما نص على ذلك. هل سبب عدم وصولها, أن الذين كتبوا بهذا القلم إنما كتبوا على مواد سريعة التلف وبالحبر, ولذلك تلفت, ولم تتمكن من العيش طويلًا, كما تلفت مخطوطات أهم منها شأنًا مثل: النسخ الأولى للقرآن الكريم, والنسخ الأصلية من رسائل وكتب الرسول إلى الملوك والأمراء وإلى أصحابه. وكذلك خطوط الخلفاء الراشدين وسجلات دواوينهم وما شاكل ذلك من وثائق. قد يكون ما ذكرته هو السبب في عدم وصول نص من هذه الأرضين إلينا, وقد تكون هنالك أسباب أخرى. على كل, علينا ألاّ نيأس من المستقبل, فلعل

_ 1 "Die Araber, II, S. 357.". 2 عيون الأخبار "1/ 43".

الباحثين سينقبون في باطن الأرض وينبشون الأماكن الأثرية فيجدون أشياء, هي تحت قشرة الأرض في الوقت الحاضر. فيكون من يأتي بعدنا سعداء بالطبع لوقوفهم على أشياء حرمنا من رؤيتها نحن فصرنا في جهل من أمرها, وصاروا هم في نعيم من العلم. وقد ذهب "جرجي زيدان" إلى أن المضريين الذين تحضروا وأقاموا في العراق وفي بلاد الشأم, اقتبسوا الكتابة من جيرانهم, فكتب منهم من كتب بالعبرانية وكتب منهم من كتب بالسريانية, ولكن القلمين النبطي والسرياني ظلا عندهم إلى ما بعد الفتوح الإسلامية, فتخلف عن الأول الخط النسخي "الدارج" وعن الثاني الخط الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة. وكان الخط الكوفي يسمى قبل الإسلام الحيري نسبة إلى الحيرة, وهي مدينة عرب العراق قبل الإسلام, وابتنى المسلمون الكوفة بجوارها. ومعنى ذلك أن السريان في العراق كانوا يكتبون ببضعة أقلام من الخط السرياني, في جملتها قلم يسمونه "السطرنجيلي" كانوا يكتبون به أسفار الكتاب المقدس, فاقتبسه العرب في القرن الأول قبل الإسلام, وكان من أسباب تلك النهضة عندهم وعنه تخلف الخط الكوفي. وهما متشابهان إلى الآن1. ثم تعرض إلى ناقل الخط إلى مكة, فقال: "واختلفوا فيمن نقله إلى بلاد العرب, والأشهر أن أهل الأنبار نقلوه, وذلك أن رجلا منهم اسمه بشر بن عبد الملك الكندي أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل, تعلم هذا الخط من الأنبار وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان والد معاوية, فعلم جماعة من أهل مكة, فكثر من يكتب بمكة من قريش عند ظهور الإسلام, ولذلك توهم بعضهم أن أول من نقل الخط إلى العرب سفيان بن أمية2. ولما أراد ابداء رأيه في أصل الخط العربي جمع بين الرأيين: الرأي القائل أن أصل الخط العربي من العراق, والرأي القائل أن أصله من حوران, فقال: "والخلاصة على أي حال أن العرب تعلموا الخط النبطي من حوران في أثناء

_ 1 تأريخ التمدن الإسلامي "3/ 58", "الخط العربي". 2 تأريخ التمدن الإسلامي "3/ 58", السجستاني, المصاحف "4".

تجاراتهم إلى الشأم, وتعلموا الخط الكوفي من العراق قبل الهجرة بقليل, وظل الخطان معروفين عندهم بعد الإسلام. والأرجح أنهم كانوا يستخدمون القلمين معًا: الكوفي لكتابة القرآن ونحوه من النصوص الدينية, كما كان سلفه السطرنجيلي يستخدم عند السريان لكتابة الأسفار المقدسة النصرانية, والنبطي لكتابة المراسلات والمكاتبات الاعتيادية. ومما يدل على تخلف القلم الكوفي عن السطرنجيلي –فضلا عن شكله– أن الألف إذا جاءت حرف مدّ في وسط الكلمة تحذف, وتلك قاعدة مطردة في الكتابة السريانية, وكان ذلك شائعا في الإسلام, وخصوصا في القرآن, فيكتبون "الكتب" بدل "الكتاب", و"الظلمين" بدل "الظالمين"1. والقلم الكوفي هو من أقدم الأقلام العربية الإسلامية. وهو كما ذكرت قبل صفحات, قريب الشبه بالقلم السطرنجيلي, قلم المصاحف عند نصارى العراق, ومن أجلّ أقلامهم لاستخدامه في كتابة الكتابات الدينية, ومنها الأناجيل. وقد أُخذ من القلم الحيري على ما يظهر؛ لأن أهل الحيرة كانوا يكتبون "الجزم", والجزم وليد السطرنجيلي؛ ذلك لأن الكوفة نشأت في خلافة "عمر", فانتقل إليها في جملة من انتقل إليها أهل الحيرة, الكتاب بالقلم الجزم. ولهذا صار قلم الكوفة ثقيلا في الكتابة ذا زوايا مربعة وحروفًا مستقيمة, والكتابة تميل إلى التربيع2. وقد أخذ من "الجزم"3, ونسب إلى الكوفة لظهوره لأول مرة بها في الإسلام. ولا يستبعد أيضا أخذ أهل مكة خطهم المدور المسمى "النسخ" من "حوران" أو من "البتراء" و "العلا" فبين مكة والمكانين المذكورين اللذين سكن بهما النبط اتصال وثيق. أو من الحيرة والأنبار. فالخط المدور هو قلم النبط المتأخر, وقلم كتبة العراق أيضًا, وهو والد القلم "النسخ". ومن الخطأ اعتبار "النسخ" وليد الخط الكوفي4؛ لأن الخط الكوفي هو الجزم أو قلم آخر مثله اشتق من القلم المربع الزوايا "السطرنجيلي", بينما النسخ وليد القلم المدور الذي أستطيع تسميته

_ 1 تأريخ التمدن الإسلامي "3/ 59". 2 الأبحاث, 1952م, "جـ1 ص15". 3 مجلة المجمع العلمي العربي, بدمشق, 1952م, "ص421". 4 الأبحاث, 1952م "جـ1 ص15".

بالمشق مجاراة للبطليوسي, الذي شخصه بأنه قلم أهل الأنبار. ويرى بعض الباحثين أن القلم العربي قد أخذ من قلم بني إرم. وذلك أن السريان الذين هم من "بني إرم" كانوا قد طوروا القلم الإرمي, وكتبوا بقلمين: قلم قديم كتبت به الأناجيل والكتب المقدسة, وهو المربع, ذو الحروف المستقيمة ذات الزوايا المربعة, الذي هو الخط "السطرنجيلي", وقلم سهل ذو جروف مستديرة, أي على شكل أقواس, هو قلم النسخ. وقد عرف العرب القلمين وكتبوا بهما, فسموا السهل النسخ والآخر الكوفي1. وحجتهم في ذلك أن القلم العربي أخذ بترتيب "أبجد هوز حطي", وهو ترتيب وجد في لغة "بني إرم", كما أخذ بهذا الترتيب بحساب الجمل. وهو ترتيب موجود عند بني إرم أيضًا. كما أخذ بقواعد من قواعد رسم الحروف في الإملاء موجودة في خط "بني إرم", مثل قاعدة ربط أو فصل الحروف عند تدوين الكلمة, وقاعدة حذف الألف عند وقوعه في وسط الكلمة, في رحمان ومساكين ويتامى ومساجد وكتاب وإبراهيم وإسحاق وإسماعيل, فإنها كتبت في خط المصاحف بدون ألف. ومثل حذف ألف فاعل وتفاعل في السريانية وفي العربية أيضًا, كما في بارك حيث كتبت "برك" في خط المصاحف, ومثل حذف الألف من ضمير الجمع المتكلم "نا", كما في "أرسلنك" و"اصطفينه" و"بشرنه", في موضع "أرسلناك" و"اصطفيناه" و"بشرناه", وذلك في خط المصاحف, وحذف ألف جمع المؤنث السالم في السريانية وفي العربية, كما "صدقت" و"طيبت", بدلا من صدقات وطيبات. ومن هذا القبيل أيضًا, تدوين "شهد" و"كفرين", بدلا من شاهد وكافرين. ومثل حذف ياء المتكلم في السريانية وفي القلم العربي القديم, كما في كتابة يرب في موضع يا ربي2. ورأيي أن القول الجزم في أصل قلم أهل مكة, هل هو من العراق أو من بلاد الشأم, يجب أن يكون للكتابات. فمتى عثرنا على كتابات مدونة بالعربية

_ 1 الدراسات الأدبية, العدد الأول, السنة الثانية, 1960م "ص76 وما بعدها", "مقال الدكتور أنيس فريحة". 2 الدراسات الأدبية, السنة الثانية, العدد الأول "ص76 وما بعدها".

بالحيرة أو بالأنبار أو بالأماكن الأخرى من العراق تعود إلى الجاهلية وإلى صدر الإسلام وعلى كتابات مثلها من حيث الزمن يعثر عليها في بلاد الشأم وفي الحجاز أو نجد أو أي مكان آخر من جزيرة العرب, وقارناها بعضها ببعض, وطابقنا فيما بين خطوطها ورسم حروفها وما شاكل ذلك, جاز لنا حينئذ القول بأصل قلم مكة والأقلام الأخرى المشابهة له. وبأصل اللغة التي دونت به, ومزاياها والأماكن التي كانت تتكلم بها. وعندئذ نحل مشكلة أصل اللغة العربية الفصحى أيضًا, وهي من أهم مشكلات تأريخ الأدب الجاهلي ولا شك. وأما جمهرة المستشرقين المعاصرين الذين عنوا بدراسة تطور الخطوط السامية, ومنشأ الخطوط العربية, فقد رأوا أن الخط العربي الذي دوّن به القرآن أخذ من الخط النبطي المتأخر الذي كان يستعمله النبط, وهو خط تولد من القلم الإرمي المتفرع من الفينيقية على رأي المستشرق "هومل"1. وقد استعمل في تيماء وبين النبط الذين كانوا يقيمون في أعالي الحجاز وفي سيناء2. وقد عثر على كتابات دونت به في مواضع مختلفة من الحجاز واليمن. وسند القائلين بهذا الرأي ودليلهم هو عدد من الكتابات عثر عليها السياح, كتبت بلهجة غير بعيدة عن اللهجة العربية التي نزل بها القرآن, وبحروف مرتبطة, وبالقلم النبطي المتأخر الشبيه جدّا بأقدم الخطوط العربية ولا سيما الكوفية منها. ومن مميزاته ارتباط بعض حروفه ببعض وكتابة بعض الحروف في نهاية الكلمة بشكل يختلف عن رسم الحروف التي من نوعها المستعملة في أوائل الكلمة أو أواسطها. ولهذه الكتابات على قلة عددها أهمية كبيرة لدى العلماء, لما لها من خصائص ومميزات لغوية تفيد في دراسة تطور اللهجات العربية, وفي دراسة تطور القلم العربي. وقد تكون مقدمة لعدد آخر من الكتابات المكتوبة بهذا الخط.

_ 1 Ency. Brita., I. p. 684, Grundriss, I, S. 154. ناصر النقشبندي, منشأ الخط العربي وتطوره لغاية عهد الخلفاء الراشدين, مجلة سومر, كانون الثاني 1947م, "129 وما بعدها", خليل يحيى نامي, أصل الخط العربي وتأريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام, مجلة كلية الآداب, المجلد الأول, الجزء الأول, مايو 1935. 2 Ency. Brita., I, p. 684.

وأقدم هذه الكتابات الكتابة التي يقال لها: كتابة "أم الجمال" الأولى ويعود تأريخها إلى سنة "250" أو "270" للميلاد. وقد وضعت شاهدا على قبر "فهر برسلي" "فهر بن سلي" مربي "جديمت" "جدمت" "جديمة" جذيمة ملك "تنوح" "تنوخ", وعثر عليها في موضع يقال له: "أم الجمال", في جنوب حوران من أعمال شرق الأردن1. ويعتقد "ليتمان", أن تأريخ هذا النقش لا يبعد كثيرا عن تأريخ كتابة أخرى هي كتابة النمارة "ن م ر ت". ونجد في هذه الكتابة حروفا غير مرتبطة وحروفا مرتبطة مشابهة لبعض حروف الخط الكوفي. وقد كتبت بالإرمية, ومع ذلك فإن لها أهمية لوجود أسماء عربية فيها؛ ولأن القبائل العربية الشمالية كانت تستعمل الإرمية في الكتابة2. وقد عثر الباحثون على كتابات معدودة سبقت هذه الكتابة, دُوّنت بالقلم النبطي أيضًا, هي كتابة عثر عليها في "وادي المكتب" في طور سيناء, يعود تأريخها إلى سنة "106" من سقوط "سلع", المقابلة لسنة "210" للميلاد, وكتابة ثانية يعود تأريخها إلى سنة "126" من سقوط "سلع", أي: سنة "230" للميلاد. وقد وجدت في وادي فران بطور سيناء كذلك, وكتابة ثالثة هي من كتابات "طور سيناء" أيضًا, وقد أرخت بسنة "148" من سقوط "سلع", أي: سنة "253" للميلاد, وكتابة رابعة عثر عليها في الحجر, وتأريخها سنة "162" من سقوط "سلع", أي: سنة "267" للميلاد. ولكن هذه الكتابات بعيدة بعض البعد عن القلم العربي, وأما لغتها فنبطية, ونجد نص "الحجر" "مدائن صالح", وقد حوى كلمات كتبت بقلم ثمودي. ولذلك فإن له ميزة من هذه الناحية على الكتابات الأخرى, ومنطقة الحجر من

_ 1 السامية "139", "سنة270", خليل يحيى النامي: أصل الخط العربي وتطوره إلى ما قبل الإسلام, مجلة كلية الآداب, مايو 1935. De Vogue, Syrie Centrale, Inscriptions Sémitique, PL. 15,11. 2 السامية "140", مجلة سومر "م3, جـ1, كانون الثاني 1947, ص130", Nabia, 4, Littmann, Nabataen Inscriptions from the Southern Hauran, Princeton Universty Expeditions to Syria, in 1904-905, and 1909, p. 37, Cantinean , Nabateen et Arabe, pp. 72-79, Institut d'Etudes Orientales, Annales, I, 1934-1935.

المناطق التي عثر فيها على عدد من كتابات قوم ثمود. ونظرا إلى أن خط نص "أم الجمال" أقرب إلى الخط العربي من الكتابات المذكورة التي سبقته, لذلك قدمته عليها. وتلي كتابة أم الجمال الأولى في الزمن كتابة النمارة, وقد عثر عليها المستشرق الفرنسي "دوسو" "M. René Dussaud" في النمارة في الحرة الشرقية من جبل الدروز, و"النمارة" قصر صغير كان للروم. وجدها على قبر امرئ القيس الأول بن عمر ملك العرب المتوفى في يوم 7 بكسلول من سنة 223, المقابلة لسنة 328 للميلاد, وقد دونت سنة الوفاة, وهي سنة تأريخ الكتابة كذلك وفقا لتقويم "بصرى" وهو التقويم الذي كان يستعمله عرب هذه الأطراف ونبطها. وتعدّ هذه الكتابة أول كتابة وأقدم كتابة عثر عليها حتى الآن مدونة باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن, وإن كتبت بالقلم النبطي المتأخر وبأسلوب متأثر بالإرمية1. وعثر على كتابة في خرائب "زبد" بين قنسرين ونهر الفرات جنوب شرقي حلب, كتبت بثلاث لغات: اليونانية والسريانية والعربية, يرجع تأريخها إلى سنة "612" للميلاد "823" للتقويم السلوقي2. والمهم عندنا هو النص العربي, ولا سيما قلمه العربي. أما من حيث مادته اللغوية, فإن أكثر ما ورد فيه أسماء الرجال الذين سعوا في بناء الكنيسة التي وضعت فيها الكتابة3. وقد قرأ العالم "ليدزبارسكي" الكلمة الأولى منه "بسم". أما الكلمة الثانية, فهي "الإله" فأصبح مطلع النص: "بسم الإله", فإذا كانت القراءة هذه صحيحة, تكون لكلمة "بسم الإله" أهمية كبيرة في موضوع الفكرة الدينية. أما العالم "ليتمن" فقد قرأ الكلمة الأولى منه "بنصر", فتكون فاتحة النص: "بنصر الإله"4.

_ 1 Fritz Hommel Grundriss der Geographie und Geschichte des Alten Orients, Munchen, 1904, BD, I, S. 155, Dussaud, Les Arabes en Syrie, P. 34, Nabia, p. 4, Revue Archeologique 31 Serie, XLI, 1911, p. 411. 2 Grondriss, I, S. 156, E. Sachau, Eine Dreisprachige Inschrift Aus Zebed: Monatsberichte der Preussiche Akademi der Wissenschaften, Berlin 10 Febr. 1881, S. 169, Zur Trilinguis Zebedaes, in ZDMG, 36, 1882, s. 345-352. 3 السامية "191". Lidzbarsky, Handbuch der nordsemit. Epigraphik, Weimar, 1898, s. 484, Ephemeris, Glessen, 1902, BD, 2, S. 35. 4 السامية "191". "A. Littmann, in Rivista degli Studi Orientail, 1911, p. 195.".

وقد دوّن النص العربي على هذه الصورة: 1-.. م الإله سرحو بر امت منفو وهنى برمر القيس. 2- وسرحو بر سعدو وسترو وشريحو بتميمى. ومعناه: بسم الإله. سرحو بن أمت منفو, وهيء بن امرئ القيس, وسرحو بن سعدو, وستر "ستار" "ساتر" وشريح. أتمّوا. والنص العربي, ليس ترجمة للنص السرياني أو اليوناني, لذلك ذهب بعض الباحثين إلى احتمال كونه متأخرا بالنسبة إلى النصين المذكورين, أي: إنه كتب بعدهما. وهو يتناول تخليد عمل المذكورين في بناء الكنيسة. وعثر المستشرقون في حرّان اللجا في المنطقة الشمالية من جبل الدروز على كتابة أخرى مدونة باليونانية والعربية قيل لها: "نقش حَرّان", وقد وضعت فوق باب كنيسة, وصاحبها "شرحيل بر ظلمو" "شراحيل بن ظالم" "شرحيل بن ظالم", ويعود تأريخ الكتابة إلى عام "463" من الأندقطية الأولى", وتقابل سنة "568" للميلاد1. أما النص العربي, فقد أرخ بسنة "463" أيضًا, وأضيف إلى هذا التأريخ عبارة "بعد مفسد خيبر بعم", أي: "بعام". ومعنى هذا أن حدثا تأريخيًّا كان قد وقع قبل هذا التأريخ بسنة صار الناس هنالك يؤرخون به, فأرخ النص به. ويرى "ليتمن" أن ذلك يعني وقوع غزو على خيبر ربما قام به أحد ملوك غسان2. وهذا النص هو من أهم النصوص المتقدمة وأكثرها قيمة بالنسبة لمؤرخ اللغة العربية؛ لأنه نص دوّن بلهجة القرآن الكريم, باستثناء أثر سهل للنبطية برز عليه. ولأهميته هذه أدوّنه على نحو ما جاء في النص العربي: "انا شرحيل بر "بن" ظلمو بنيت ذا المرطول "سنت" سنة 463 بعد مفسد خيبر "بعم" "بعام". فأنت أمام نص عربي واضح, تفهمه من دون صعوبة ولا مشقة.

_ 1 السامية "192". Nabia p. 5. Dussaud, Mission, P. 324, Grundriss, S. 156, Schroder, in ZDMG. 38, 1884, p. 530. 2 السامية "192". A. Littmann, In Revist, 1911, p. 95 Nabia, p. 5, Littmann, in ZEitschrift Fur Semitistik und Verwandte, Gebiete, Leipzig, 1922, VII, S. 197.

على حين نجد النصوص الأخرى وقد كتبت بنبطية متأثرة بالعربية الشمالية بعض التأثر. ولهذا فإني أفرّق بين هذا النص وبين النصوص السابقة له, وأعدّه أول نص وصل إلينا حتى هذا اليوم كتب بلهجة عربية القرآن الكريم. وتعد الكتابة التي عثر عليها في موضع "أم الجمال" وقيل لها: كتابة "أم الجمال الثانية" تفريقًًا لها عن كتابة أم الجمال الأولى, أحدث ما عثر عليه من كتابات بهذا القلم الذي نتحدث عنه, وباللهجة النبطية المتأثرة بلهجة القرآن, أو باللهجة العربية الشمالية القريبة من لهجة القرآن. وهي لا تحمل تأريخًا. غير أن من عالج أمرها من المستشرقين يرى أنها تعود إلى القرن السادس للميلاد1. ولغتها قريبة من اللغة العربية المعروفة, كما أنها متحررة من النبطية والإرمية إلى حد كبير. وعثر في اليمن على بعض كتابات نبطية لعلها من آثار التجار النبط الذين كانوا يذهبون إلى اليمن بقصد التجارة, ولا سيما في القرنين الأولين للميلاد, أو من آثار تجار أهل الحجاز أو من أهل اليمن, كانوا قد تعلموا الكتابة بهذا القلم الذي أخذ ينتشر بعد الميلاد؛ لأنه أسهل في الاستعمال من المسند الذي يحتاج إلى دقة في الرسم, وإلى بطء في الكتابة. ولوحظ أنه إحدى هذه الكتابات كتبت بالقلم النبطي المتأخر الذي يشبه القلم الذي استعمل في نقش "فهر بن سلي"2. ولكن العلماء لم يتمكنوا من العثور على عدد كاف من الكتابات المدونة بهذا القلم, تكفي لإصدار حكم علمي عن وقت دخول القلم النبطي المتأخر إلى الحجاز واليمن ومدى انتشاره بين الناس. ولما كان القلم النبطي المتأخر قد ظهر بعد الميلاد على رأي أكثر العلماء, يكون هذا الخط قد وصل الحجاز واليمن بعد الميلاد بالطبع بالاتصال التجاري والقوافل التي كانت تقوم برحلاتها بين اليمن وبلاد الشأم, وبواسطة النصرانية التي وجدت لها سبيلًا إلى اليمن. ويلاحظ أن الذين كتبوا بالقلم العربي الشمالي, الذي أخذ منه قلم مكة, هم من العرب النصارى في الغالب, فأهل الأنبار, والحيرة, وعين شمس,

_ 1 Nabia, p. 5, PL. 15, Littmann, in Zeitschrift fur Semitistik und Verwandte Gebiete, 1922, VII, 197-204. 2 Nabia, p. 5, PL. 15, Littmann, in Zetschrift fur Semitistik und Verwandte Gabiete, 1922, VII, S. 197-204.

ودومة الجندل, وبلاد الشأم, كانوا من النصارى, فلا أستبعد احتمال استعمال رجال الدين للقلم السرياني المتأخر, الذي كوّن القلم النبطي في كتابة العربية, لحاجتهم إلى الكتابة في تعليم أولاد النصارى الكتابة, وتثقيفهم ثقافة دينية, فكانوا يعلمونها في المدارس الملحقة بالكنائس, وربما نشروها في البحرين, أي: في سواحل الخليج حيث كانت هنالك جاليات نصرانية, وفي الأماكن الأخرى من جزيرة العرب التي كانت النصرانية فيها قد وجدت سبيلًا لها بينها, ولا أستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات مطمورة كتبت بهذا القلم. وتفيدنا دراسة شكل خط هذه النصوص فائدة كبيرة في الوقوف على تطور الخط العربي, فبين رسم هذه الخطوط وبين رسم أقدم الخطوط العربية الإسلامية تقارب كبير, يشير إلى اشتقاق القلم الذي دوّن به الوحي من هذا القلم, وهو القلم الذي كان يكتب به عرب العراق كذلك على ما أرى. وهو قلم وصل بين حروفه, وفصل في مواضع أخرى. وهو يختلف بذلك عن القلم المسند الذي استعمل حروفًا منفصلة فقط, ولم يعرف الحروف المتصلة, كما أن شكل حروفه بعيد جدًّا عن شكل حروف هذا القلم, وهو أسهل وأسرع في الكتابة على الكاتب من المسند. ونرى في هذه الصورة التي تضم رسم الحروف في الخط النبطي المتأخر والقلم العربي القديم, تشابهًا كبيرًا في الشكل, ينبئك بوجود نسب بين القلمين, وأن القلم العربي القديم, قد تولد منه. ولا أستبعد أن يكون قلم أهل الحيرة هو هذا القلم نفسه, استعملوه في تدوين العربية. وقد رأينا أن النصوص القليلة المكتوبة بنبطية متأثرة بالعربية, قد كتبت بهذا القلم, وبينها نص "النمارة" الذي هو شاخص قبر "امرئ القيس" أحد ملوك الحيرة. وإني لا أستبعد احتمال عثور المنقبين والباحثين في المستقبل على كتابات عربية قديمة تعود إلى الجاهلية الملاصقة للإسلام وإلى أيام الرسول بكثرة تمكن العلماء من وضع رأي واضح عن منشأ وتطور الخط العربي القرآني. وقد استعملتُ جملة "الخط العربي القرآني"؛ لأن القرآن هو في الواقع صاحب الفضل على هذا الخط في تخليده وتثبيته لأمر الرسول بتدوين الوحي به, أي: بهذا القلم العربي القديم الذي أتحدث عنه, الذي أخذه أهل مكة من أهل

"الحيرة", أو عن "بشر بن عبد الملك" السكوني, من "دومة الجندل" على رواية أهل الأخبار. وإني أرى أن للبحث عن الكتابات العربية القديمة في الحجاز وفي "دومة الجندل" و"الحيرة" و"الأنبار" و"عين التمر", وفي القرى العربية الأخرى التي أقيمت على الفرات وفي بلاد الشأم أهمية كبيرة بالنسبة لبحثنا في تأريخ نشوء وتطور الخط العربي القرآني؛ لأني أكره الطرق التي يأخذ بها بعض الباحثين من اللجوء إلى الحدس والظن في وضع آراء علمية قاطعة ومهمة, مثل الخط ومنشئه وتطوره وما شابه ذلك, لمجرد رأي ورد عند أهل الأخبار, أو ظن مال إليه عالم, وعندي أن آراءًا مثل هذه يجب ألا تقال إلا باستناد على دليل مادي ملموس, مثل أثر, أو مصدر تأريخي قديم محترم. والصورة التي نراها في الصفحة المقابلة تمثل نماذج من القلمين: القلم النبطي المتأخر, والقلم العربي القديم, مأخوذة من مختلف الصور الأصلية التي عثر عليها العلماء في مختلف الأنحاء من العراق وبلاد الشأم وجزيرة العرب. ويرى المستشرق "وايل" Weil أن الترتيب الذي يرد للحروف العربية على طريقة: "أبجد هوز حطي.... إلخ", هو ترتيب أخذه العرب من النبط أو اليهود, وقد أخذه النبط والعبرانيون من القلم الإرمي. وتشير هذه الطريقة بكل جلاء إلى اشتقاق القلم العربي من القلم النبطي المتفرع عن الخط الإرمي1. أما الترتيب الذي عند الكنعانيين, فهو هذا الترتيب مع زيادة الأحرف التي اقتضى وجودها في طبيعة لغتهم. ويرى بعض العلماء أن العبرانيين أخذوا ترتيبهم هذا من الكنعانيين2. ونجد هذا الترتيب عند الفينيقيين أيضًا, ولهذا يرى بعض الباحثين أن العبرانين والآراميين أخذوا الكتابة من الفينيقيين, وأخذوا منهم استعمال الحروف للعدد أيضًا, على نحو ما نجده في العربية من استعمالها في حساب الجمل3. وقد وضع علماء العربية بعد "قرشت" التي يمثل حرف "التاء" فيها آخر حروف الأبجدية التي بلغ عدد حروفها اثنان وعشرون حرفًا, الحروف التي لم ترد

_ 1 "Ency. I, p. 68.". 2 السامية "102". 3 الأبحاث "1952م" "جـ1 ص5 وما بعدها".

القلم العربي القديم القلم النبطي المتأخر نماذج من القلمين: النبطي المتأخر والقلم العربي القديم يمثل العمود "1" نماذج من الحروف العربية المستعملة في القرن الأول للهجرة ويمثل العمود "2" نماذج من حروف كتابتي زبد وحران. وأما العمودان "3" و"4" فيمثلان نماذج من كتابة النمارة وبطرا.

في هذه الأبجدية, ولكنها ترد في العربية, ودعوها بـ"الروادف"1. وضعوها بصورة ينفي عنها كل نشاز قد يظهر بين رسمها ورسم الحروف الأخرى, وذلك باعتمادهم على تكرار الحرف, وبذلك أولدوا الروادف المذكورة2. ويظهر من الروايات العربية القديمة أن كتّاب الجاهلية المتصلة بالإسلام وكتّاب صدر الإسلام كانوا يسيرون في تعلم الكتابة على طريقة "أبجد هوز", أي: على طريقة الآراميين والنبط والعبرانيين. وقد ورد في الأخبار أن الناس في أيام "عمر بن الخطاب", كانوا يتعلمون الكتابة على طريقة "أبجد هوز" قال "القلقشندي": "وقد جاء أنها كانت تُعلم في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ويشهد لذلك قول الأعرابي في أبياته: أتيت مهاجرين فَعَلَّمُوني ... ثلاثة أسطر متتابعات وخطّوا لي أبا جاد وقالوا ... تعلّم سعفصًا وقريشات3 والترتيب الذي يعمل به الآن في البلاد العربية من الابتداء بالألف ثم بالباء, فالتاء, فالثاء, فالجيم, فالحاء, فالخاء.... هو ترتيب وضع في زمن "عبد الملك بن مروان", عمل به "نصر بن عاصم", و"يحيى بن يعمر" العدواني. وقصد به ضم كل حرف إلى ما يشبهه في الشكل, وقد ساد هذا الترتيب ومشى. وجرى عليه أصحاب الصحاح ولسان العرب والقاموس, وتاج العروس, وأصحاب معاجم اللغة في هذا اليوم4. أما ما ورد في بعض الروايات من أن "أبا ذر الغفاري" سأل رسول الله عن الحروف, فقال له: "إنها تسعة وعشرون, وإنها نزلت على ترتيب: "اب ت ث ج", أي: على الترتيب الذي نسير عليه في الوقت الحاضر, وإنه عجب من قول الرسول له إنها تسعة وعشرون؛ لأن حروف العربية هي ثمانية وعشرون,

_ 1 Ency. I,p68.. 2 مجلة المجمع العلمي العربي, بدمشق 1959م, "ص576". 3 صبح الأعشى "3/ 19". 4 حفني بك ناصف, تأريخ الأدب أو حياة اللغة العربية, "القاهرة 1958م", "الطبعة الثانية", "الكتاب الأول", "ص27".

ومن تأكيد الرسول له إنها تسعة وعشرون, نزلت كلها على آدم1. فخبر غير صحيح ولا يُعوّل عليه, وهو موضوع, لما ذكرته من أن الترتيب المذكور إنما ظهر في الإسلام. هذا وإن مما يؤسف له كثيرًا أننا لا نملك اليوم كتابة واحدة من الكتابات المدونة في أيام الرسول, ولا نملك أي نسخة من نسخ القرآن أو من صحفه المدونة في أيامه. فلا نملك اليوم نسخة حفصة للقرآن الكريم, ولا نسخة "عثمان بن عفان"2 ولا النسخ التي دونت بأمره لتوزع على الأمصار, ولا أية نسخ أخرى من النسخ التي دوّنها الصحابة لأنفسهم. ولا نملك النسخ الأصلية للمراسلات التي كان يأمر الرسول بتدوينها لترسل إلى الملوك أو سادات القبائل والأمراء. نعم يقال: إن هناك نسخًا من المصاحف ترجع إلى أيام الخلفاء, وقد دوّن بعض منها بأقلام أجلّة الصحابة, وأن هناك بقية من رسائل الرسول وأن هناك كتابات يرجع تأريخها إلى أيام الرسول3, ولكن المتبحرين في العلم العارفين بكيفية تثبيت أعمار الوثائق لم يتمكنوا من البت في صحة هذه الدعاوى, ولم يقطعوا بصحة هذه الوثائق. لذلك فليس لنا أمام هذه الحجج التي أبديت عن هذه الآثار سوى التحفظ والتوقف عن إبداء رأي فيها, فلعل الأيام تهيئ للقادمين من بعدنا وثائق جديدة تعود إلى الأيام التي نبحث فيها. هذا وإن من الممكن التثبت في الوقت الحاضر من صحة الوثائق المنسوبة إلى أيام الرسول أو أيام من جاء بعده, بعرضها على الفحوص المختبرية الحديثة, التي باستطاعتها تقدير أعمارها, وتثبيت أسنانها, ولكني لا أعلم أن أحدًا عرض هذه الوثائق لمثل هذه الفحوص. هذا وللمادة التي دونت عليها تلك الكتابات ولندرة الورق إذ ذاك ولغلاء ثمنه, ولعدم إدراك الناس في ذلك الوقت لأهمية حفظ الوثائق, ولتعرض تلك الوثائق إلى عوامل عديدة من عوامل التلف والبلى مثل: الحريق والماء والأرضة وما شاكل

_ 1 صبح الأعشى "3/ 7 وما بعدها", "المسلك الثاني في وضع الحروف العربية". 2 ليس فيما يقال عن وجود نسخة عثمان من مصحف عثمان في "استانبول" أو في أماكن أخرى أساس من الصحة, وإنما هو زعم من غير دليل. 3 M. Hamidullah, Some Arabic Inscriptions of Medinah of The Early Rears of Hijrah, Islamic Culture, vol. 13, NUM: 4, 1939, P. 427.

الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته

الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته مدخل ... الفصل الثاني والعشرون بعد المائة: المسند ومشتقاته والمسند من الأقلام العتيقة، وهو أعتق من القلم النبطي المتأخر، وهو أقدم الأقلام التي عرفت في جزيرة العرب حتى الآن. وقد أظهرت الاكتشافات الحديثة أن استعماله لم يكن قاصرًا على اليمن فحسب، بل لقد كان القلم المستعمل في كل أنحاء بلاد العرب. وقد استعمله العرب في خارج بلادهم أيضًا؛ لأنه قلمهم الوطني الذي كانوا به يكتبون فعثر في موضع قصر البنات على طريق "قنا" على كتابات بهذا القلم1، كما عثر على كتابة بهذا القلم كذلك بالجيزة كتبت "في السنة الثانية والعشرين من حكم بطلميوس بن بطلميوس". وهي ليست بعد سنة "261" قبل الميلاد بأي حال من الأحوال2. وعثر على كتابات بالمسند في جزيرة "ديلوس" من جزر اليونان3.

_ 1 Le Muséon, LXII, 1-2, "1949", p. 56, M. A. S. Tritton. Nous Signale deux Graffites, Publiés par A. E. P., Weigall, Travels in the upper Egyptian Deserts, London and Edinbourg, 1909, PL. IV. Fig. 13, 14, H.A. Winckler, Rock Drawings of Southern Upper Egypt. I, London, 1928, Site I, p. 4, Ryckmans, in Le Muséon, XLVIII. "1935", p. 228, J. Leibovich, Les Inscriptions Protosinaitiques, Le Caire, 1934. 2 F. V. Winnett; "The Place of the Minaeans in the History of Pre-Islamic Arabia"; in BOASOOR; Num: 73, February; 1939. 3 المصادر المذكورة.

وذكر السائح الإنكليزي "وليم كنت لوفتس" William Kennett Loftus أنه لاحظ فجوة في "وركاء" Uruk في العراق؛ فبحث فيها فتبين له أنها كانت قبرًا وجد في داخله حجر مكتوب بالمسند، فيه: إن هذا قبر "هنتسر بن عيسو بن هنتسر"1. ولهذه الكتابة المدونة بالمسند، أهمية كبيرة جدًّا؛ لأنها أول كتابة وجدت بهذا الخط في العراق. وهي تشير إلى الروابط الثقافية التي كانت بين اليمن والعراق، وإلى وجود أشخاص في هذا المكان يستعملون المسند، سواء أكانوا عراقيين أم يمانيين. وقد عثر على كتابات بالمسند في مواضع من الحجاز، ويظهر أنه كان قلم الحجازيين قبل الميلاد. وقد وصل هذا القلم إلى بلاد الشأم. فقد عثرت بعثة علمية قامت بأعمال الحفر في ميناء "عصيون كبر" عصيون جابر" Ezion Geber على جرار عليها كتابات بحروف المسند, رأى بعض العلماء أنها معينية، تفصح عن الأثر العربي في هذا الميناء المهم الذي حاول سليمان أن يجعله ميناء إسرائيل على البحر الأحمر2. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن غير أهل اليمن، لم يكونوا يستعملون المسند في كتابتهم، ولا يتعاطونه، كالذي يستفاد من قصة "قيسبة بن كلثوم السكوني"، وكان ملكًا وقع في أسر بني عامر بن عقيل، فذكر أنه كتب بالسكين على مؤخرة رجل أبي الطمحان حنظلة بن الشرقي أحد بني القين بالمسند، يخبر قومه بوقوعه في الأسر. ولم يكن أحد من غير أهل اليمن يكتب بالمسند،

_ 1 Travels and Researches in Chaldaea and Susiana, by W. K. Loftus, London, MDCCCLVII, p. 233, Corpus Inscriptionum Semiticarum, IV, As NUM: 699.". 2 لم يعين موضع المكان بالضبط ولا يبعد كثيرًا عن "أيلة" على خليج العقبة, ومنهم من يظن أنه كان عند موضع "عين الغديان" الذي هو على بعد عشرة أميال من البحر في قعر "وادي العربة". وكان "خليج العقبة" على ما يظن بعض العلماء يمتد قديمًا إلى هذا الموضع، قاموس الكتاب المقدس "2/ 106". Ency. Bibli., p. 1472, BOASOOR, NUM: 75, p. 19. NUM: 71, p. 15, Revue Biblique, XLVIII, 1939, p. 247, Asia, May, 1939. p. 294.".

فلما قرأه القوم، ساروا إلى بني عامر، وفتكوا بهم، وأنقذوا قيسبة منهم1. ورواية أهل الأخبار هذه لا يمكن أن تكون دليلًا على عدم وقوف غير أهل اليمن على المسند في العهود البعيدة عن الإسلام. ولا على عدم استعمالهم لذلك القلم في حياتهم اليومية؛ لأن علم أهل الأخبار بأحوال الجاهليين لا يرتقي كما سبق أن قلت إلى عهود بعيدة عن الإسلام، ولأن في أكثر الذي ذكروه عنهم، قصص ونسج خيال، يستوي في ذلك حتى ما ذكروه عن الجاهلية الملاصقة للإسلام، ثم إن في الذي عثر عليه السيّاح من كتابات مدوّنة بالثمودية أو بأقلام أخرى مشتقة من قلم المسند ما يفند الرواية المذكورة في عدم استعمال غير أهل اليمن للمسند وفي عدم وقوفهم عليه. ويمكن حمل كلامهم في عدم استعمال أهل الحجاز أو غيرهم للمسند على أيام الجاهلية القريبة من الإسلام. حيث ظهر القلم العربي الشمالي. والرواية لا يمكن أن ترتقي إلى زمن بعيد عن الإسلام. فنحن نعلم أن "حنظلة بن شرقى" المعروف بالطمحان، وهو من "بني القين بن جسر"2 كان شاعرًا فاسقًا من المخضرمين، وكان نديمًا للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية، ثم أدرك الإسلام3، ولو صدقنا الرواية المذكورة وأخذنا بها، وجب أن تكون الكتابة قد وقعت قبيل الإسلام، ومعنى ذلك أن "قيسبة" وهو من "بني السكون" كان يكتب بها، أي إن المسند كان معروفًا ويكتب به خارج اليمن في هذا العهد، ولهذا يكون قول "الأصبهاني": "وليس يكتب به غير أهل اليمن"، مغلوطًا؛ لأن "قيسبة" لم يكن من أهل اليمن، حتى يصح قوله. وكشفت العروض ونجد وأماكن أخرى عن سر كان العلماء يبحثون عنه في شوق، فقدّمت للعلماء عددًا من الكتابات المدونة بالمسند، وبذلك ثبت علميًّا أن "المسند" كان معروفًا قبل الإسلام في كل جزيرة العرب، وربما كان القلم العام للعرب قبل المسيح، أي: قبل ظهور أقلام أخرى ولدت على ما يظن بعد الميلاد، ففي سنة 1911 للميلاد عثر "الكابتن شكسبير4" "Capt. W. H. Shakespear" على

_ 1 "وليس يكتب به "أي بالمسند" غير أهل اليمن"، الأغاني "11/ 125". 2 الاشتقاق "317". 3 الخزانة "3/ 426"، الشعر والشعراء "1/ 304"، المؤتلف "149"، الأغاني "11/ 125"، السرط "332". 4 BOASOOR, Nub. 102, "1946", p. 4.

كتابتين بالمسند في موضع "حنا" "الحنأة"1 وفي خرائب "ثج" "ثأج" التي تبعد خمسين ميلًا تقريبًا عن ساحل الخليج وزهاء مائة ميل من شمال غربي القطيف2. وقد نشر ترجمة الكتابتين "ماركليوث"3. وعثر بعد ذلك على كتابة أخرى في موضع "ثج" "ثأج" دخلت في ملك أمير الكويت، وقد نشر ترجمتها "ركمنس"4. وهي حجر قبر لشخص من قبيلة "شذب". وعثر على كتابة أخرى في هذا الموضع، وقد بلغ عدد ما عثر عليه في هذا المكان أربع كتابات5. وعثر عُمال البترول العربية السعودية الأمريكية "أرامكو" في أثناء الحفر على مقبرة من "عين جوان" "جون" "جاوان"6 عام 1945 للميلاد على حجر مكتوب تكسرت بعض أطرافه بالمعاول قبل معرفته، اتضح بعد أنه حجر قبر لامرأة يقال لها "جشم بنت عمرت" "عمرت" بن تحيو من أسرة "عور"

_ 1 حنا: لعل صوابها الحنأة، واحدة الحنأة بتسهيل الهمزة كما هي عادة عرب هذا الزمان في الكلمات المهموزة. والحنأة: موضع يقع غرب بلدة الجبيل – المعروفة قديمًا باسم "عينين" الواقعة على البحر الشرقي "الخليج الفارسي". وتبعد الحنأة عن الجبيل 83 كيلومترًا، وتقع على ممر الطريق منه ومن الظهران والأحساء ولمن يقصد الكويت أو العراق أو نجدًا"، كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950م، "عينين"، البلدان "6/ 258". 2 "ثأج بالجيم: قال الغوري: يهمز ولا يهمز عين من البحرين على ليال. وقال محمد بن إدريس اليمامي: تاج قرية بالبحرين"، البلدان "3/ 2"، "ثج"، وهي التي وردت في الشعر العربي القديم. وفي ياقوت مهموزة. ولكن العرب في هذا العهد لا يهمزونها. وثأج: موضع فيه سكان وزروع قليلة، يقع بقرب الحنأة في الجنوب الغربي منها بمسافة لا تتجاوز عشرة كيلومترات"، كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950، البكري، معجم "1/ 333". 3 Douglas Crruthers, "Captin Shakespear's Last Journy", in the Geographical Journal, LIX, "1922", 321 -323, Corpus Inscriptionum Semiticarum, Nos. 984 -985. 4 Ryckmans, in Le Muséon, L, p. 239, Ryckmans 155. 5 Le Muséon, L, p. 237, Ryckmans 155. 6 "عين جوان - الصواب: جاوان". ويقع موضع جاوان في داخل الرأس المعروف حديثًا باسم "رأس تنورة" في الجهة الشمالية منه على ساحل البحر، بعد مدخل الرأس ببضعة كيلومترات، وكانت عينه تسقي نخيلًا وزروعًا ولكن ماءها قل، حتى زالت مزروعاتها. كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950م.

"آل عور" من قبيلة شذب1. واستخرج "كورنول" P. B. Cornwall لوحًا مكتوبًا بالمسند كان مدفونًا في أحد بساتين القطيف، دفنه أصحاب البستان، وقد ذكر أنه نقل من جزيرة "ثاروت" أو من موضع لا يبعد كثيرًا عن القطيف، وقد وجد أن هذا اللوح هو مثل الألواح التي عثر عليها قبلاً، شاهد قبر، وضع على قبر رجل يقال له: "إيليا بن عيي بن شصر من أسرة سمم من عشيرة ذال من قبيلة شذب"2. ويرى بعض الباحثين أن صاحب القبر كان نصرانيًّا، عاش في القرن الخامس أو السادس للميلاد. وعثر على شاهد قبر آخر مدّون بالمسند، هو شاهد قبر "شبام بنت صحار بن عنهل بن صامت" من قبيلة "يدعب"، وجد على مقربة من القطيف3. و"يدعب" بطن من بطون قبيلة "شذب". ويظهر أن قبيلة "شذب" كانت من القبائل المعروفة في العروض، وكانت ذات عدد من البطون، ولا تحمل الكتابة تأريخًا، ويرى الذين درسوها أنها تعود إلى القرن السادس للميلاد. وأما الرقم الذي ذكر في نهاية النص وهو رقم "90"، فالظاهر أنه يشير إلى عمر صاحبة القبر4. هذا ما عثر عليه من كتابات بالمسند في العروض. وأما في أواسط جزيرة العرب وفي باطنها وفي الأماكن التي لم يكن يتصور العثور فيها على أثر لحضارة، فقد عثر فيها على كتابات بهذا القلم كذلك، ولهذه الكتابات أهمية كبيرة؛ لأنها أول وثيقة تأريخية لا يتطرق إليها الشك، ترد إلينا عن هذه المناطق التي لم يرد لها ذكر مفصل عند المؤرخين السابقين؛ لأنها أول دليل عملي يثبت انتشار هذا الخط في أواسط جزيرة العرب. عثر "فلبي" في هذه المناطق على فخار وآثار

_ 1 BOASOOR, NUM: 102, April 1946, p. 4, "A Himjaritic Inscription from the Persian Gulf Region", by F.V. Winnett. BOASOOR, Supplementary Studies Nos. 7-9, "The Early Arabian Necropolis of-Ain Jawan", by Richard Lebron, 1950. 2 Geographical Journal, Vol. CVII. 1-2, 1946, "Ancient Arabia: Explorations in Hasa, 1940- 1941", by P.B. Cornwall, p. 44. 3 المصدر نفسه "ص45". 4 المصدر نفسه.

أرسلها إلى المتحف البريطاني ظهر أنها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد. ويظن من فحصها أنها من آثار السبئيين1. كما عثر على كتابات وصور، وبقايا مقابر وعظام. وقد صور "فلبي" بعض الكتابات، وصور بعضًا آخر رجال شركة البترول العربية السعودية الذين وصلوا إلى هذه المواضع للبحث عن البترول. وقد وصلت تصاوير عدد منها إلى العلماء فنشروا نصوصها وترجماتها. مثل كتابات "القرية" أو "قرية الفأو" التي سبق أن تحدثت عنها. وقد وجد اسم الصنم "ودّ" مكتوبًا بحروف كبيرة بين تلك الكتابات2، وحيث إن هذه الكنوز الثمينة إنما عثر عليها ظاهرة على سطح الأرض، وحيث إن الباحثين لم يفحصوا الكهوف فحصًا دقيقًا، ولم ينظفوها من الأتربة والرمال التي في داخلها، فإننا نأمل العثور على أشياء ثمينة ذات بال بالنسبة للتأريخ الجاهلي إذا اهتمت الحكومة العربية السعودية بهذا الأمر، وقامت بتجهيز بعثة علمية من المتخصصين بالأثريات العربية، أو سهلت للعلماء وللبعثات سبل الوصول إليها، وحافظت على تلك الآثار من التلف وعبث العابثين. ووجد "فلبي" كهوفًا ومقابر في مواضع أخرى من "وادي الفأو"، وقد وجدت حيطان بعض الكهوف "سردب" "سرداب" مكسوة بالكتابات "والوسم" والتصاوير المحفورة. ويظهر أن أبنية ضخمة كانت في هذه الأماكن3. وعثرت شركة "أرامكو" على رأس نحت من الحجر في "القرية" كتب عليه بالمسند أنه "ثار ونفسي علزن بن قلزن غلونين"4، أي: "أثر وقبر علزان بن قلزان الغلوني". كما وجدت كتابات بهذا القلم عند جبل عبيد وفي حصن ناطق وفي شمال موضع "خشم كمدة" على مسافة "100" كيلومتر من شمال قرية

_ 1 A Further Journey across the Empty Quarter", by W. Thesiger, in Geographical Journal, CXIII, "1949". P. 21. 2 Geographical Journal, CXIII, "149", p. 91. 3 Geographical Journal, CXIII, "1949", p. 90, Le Muséon, LXII, 1-2, "1949", p. 87. 4 Le Muséon, LXII, 1-2, "1949", p. 87, Qariya, I, Philby 221a.".

الفاو في وادي الدواسر1، وفي "وادي هبن" "حبن"2 على "120" ميلًا شمال شرقي عدن3. وفي "عين قرية" على "30" ميلًا تقريبًا من شمال "زفر" وفي "منخلى" في جنوب خشم العرض حيث يعتقد البدو أن هذا الموضع هو بئر من آبار عاد4. ولم يفسر علماء العربية سبب تسمية "المسند" مسندًا، وقد قرأت لإسرائيل ولفنسون تعليلًا لتسمية هذا القلم مسندًا، فقال: "والخط المسند يميل إلى رسم الحروف رسمًا دقيقًا مستقيمًا على هيئة الأعمدة. فالحروف عندهم على شكل العمارة التي تستند إلى أعمدة. وعلى العموم فإن لحضارة جنوب بلاد العرب عقلية تنحو نحو الأعمدة في عمارة القصور والمعابد والأسوار والسدود وأبواب المدن. ومن أجل ذلك يوجد عندهم ميل شديد لإيجاد حروف على هيئة الأعمدة، أي إن الحروف كلها عبارة عن خطوط تستند إلى أعمدة. وقد تنبه علماء المسلمين إلى شكل هذه الكتابات وأطلقوا عليها لفظة المسند؛ لأن حروفها ترسم على هيئة خطوط مستندة إلى أعمدة"5. وهو رأي سبقه إليه "ليدزبارسكي" Lidzbarski إذ أشار إلى أثر العمارة والأعمدة في شكل هندسة حروف الخط المسند6 وهو تفسير يشبه تفاسير الأخباريين واللغويين للأسماء والأعلام التي لا يعرفون من أمرها شيئًا، فيلجئون إلى الخيال ليبتكر لهم سببًا وتعليلًا يناسب الكلمة، ويتصورون عندئذ أنهم قد أوجدوا السبب, وأن من يأتي بعدهم سيكتفي بذلك ويأخذ به. وكذلك كوّنت كلمة "المسند" في مخيلة "إسرائيل ولفنسون" ولدى "ليدزبارسكي" فكرة استناد خطوط الحروف وقيامها بعضها إلى بعض استناد المباني،

_ 1 Le Muséon, LXII, 1-2, "1949", p. 99, Philby, Wadi Dewasir, I,. 2 هكذا ورد في مجلة "Le Muséon" "هبن" "Haban" بدون نقطة أو علامة تحت حرف H تدل على أنه "حاء". ولعل الكلمة "الحبن"، وهو موضع ذكره الهمداني في صفة جزيرة العرب "ص68". 3 Le Muséon, LXII, 1-2, "1949", p. 103. 4 Geographical Journal, CXIII, "1949", p. 31, 34. 5 تأريخ اللغات السامية "243 وما بعدها". 6 Lidzbarski, Ephemeris, I, S. 114, Hommel, Grundriss, Erste Halfte, S. 146.

وقد وجدا من مباني اليمن وقصورها ما قوّى هذا الخيال عندهما، مع أن كلمة "المسند" التي تطلق في المؤلفات العربية الإسلامية على خط أهل اليمن قبل الإسلام لا علاقة لها بالقصور والمباني، واستناد أجزاء الحرف الواحد بعضها إلى بعض. وإنما تعني شيئًا آخر، تعني خط أهل اليمن القديم لا أكثر ولا أقل. وكلمة "مسند" "مزند"1 في العربية الجنوبية تعني "الكتابة" مطلقًا، وقد وردت في مواضع متعددة من الكتابات والنقوش، فورد في نص أبرهة مثلًا "سطرو ذن مزندن"، وترجمتها: "سطروا هذه الكتابة"، وتؤدي كلمة "سطرو" المعنى نفسه الذي يرد في لغتنا، وهو: "سطروا"، أي: كتبوا ودوّنوا، فكلمة "مزندن" التي صارت "المسند" في عربيتنا تعني في العربية الجنوبية ما تعنيه كلمة الخط أو الكتابة في لغة القرآن، ولم تكن مخصصة عند اليمانيين بخط حمير، أو غير حمير، وإنما حدث هذا التخصيص في المؤلفات الإسلامية فصار فيها "المسند" اسم علم لخط حمير وحده. ولا ندري متى حدث ذلك: أحدث في الجاهلية المتصلة بالإسلام أم في الإسلام؟ وإذا كان هذا التخصيص قد وقع في الإسلام، فإننا لا نستطيع أيضًا التكهن عن الوقت الذي ظهر فيه هذا التخصيص؛ لأننا لا نملك مصادر إسلامية تشير إلى هذا ولا مؤلفات من صدر الإسلام يمكن أن نجد فيها ما نبحث عنه. ويتألف المسند من تسعة وعشرين حرفًا. وأبجديته مثل الأبجديات السامية الأخرى من حيث إنها تتألف من الحروف الصامتة ولا حركة في الكتابة فيها ولا ضبط في أواخر الكلمات ولا علاقة للسكون أو للتشديد. ويفصل بين الكلمة والكلمة التي تليها فاصل هو خط مستقيم عمودي. وقد يكتب الحرف المشدّد مرتين كما في اللغات الأوروبية. ومما يلاحظ على الكتابات المعينية أنه لم يطرأ عليها تغيير كبير في العهود التي مرت بها. أما الكتابات السبئية، فيمكن التمييز بين القديم منها والمتأخر في الأسلوب، وفي شكل الكتابة2.

_ 1 بحرف الزاي في لغة أهل اليمن لا السين. 2 غويدي: المختصر في علوم اللغة العربية الجنوبية القديمة، القاهرة، 1930، "ص3". Hofner, Altsudarabische Grammatik, Leipzig, 1943, Weber, S. 12, Pfannmuller. S. 86. Mordtmann. Beitrage zur Minaischen Epigraphik, Weimar, 1896.".

وللمسند ميزات امتاز بها عن القلم العربي، فحروفه منفصلة، وهي بشكل واحد لا يتغير بتغير مكان الحرف من الكلمة. فإذا جاء الحرف في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها، كتب بشكل واحد. وقد جعلت هذه الخاصية لهذا القلم ميزة أخرى، هي ميزة الكتابة به من أي جهة شاء الكاتب أن يبدأ بها. فله أن يكتب من اليمين إلى اليسار وله أن يكتب من اليسار إلى اليمن، وله أن يمزج بين الطريقتين، بأن يكتب على الطريقة الحلزونية، من اليمن إلى اليسار، ثم من اليسار إلى اليمن، ثم من اليمين الي اليسار، أو العكس، وله أن يكتب من أعلى إلى أسفل أو العكس وهكذا، ثم إن حروفه غير متشابهة لذلك لم يعرف المسند الإعجام، ولو كتب له أن يكون قلم المسلمين ليسر لنا اليوم وقتًا ومالًا في موضوع الطباعة به. ولكنه أبطأ في الكتابة نوعًا ما من الخط العربي لشكل حروفه الضخمة بالنسبة إلى الحروف العربية المختزلة، فالخط العربي يمتاز عليه بهذه الناحية فقط. أما موضوع الشكل، فالمسند غير مشكول، بل يكتب بحروف صامتة فقط. وفي القرن التاسع عشر وما بعده كشف المستشرقون النقاب عن أقلام أخرى لم يعرفها علماء العربية، هي: القلم الثمودي، والصفوي، واللحياني. وكتابات أخرى كتبت بلهجات محلية عثر عليها في الجوف، وفي الحجر وفي العلا، وفي مناطق أخرى كجبل شيحان، وكوكبان، وجبل شمر، لها بعض الخصائص والمميزات اللغوية. والظاهر أن خط هذه الكتابات كان مستعملًا بين السواد في الأمور الشخصية1. أما القلم الثمودي، فقد عثر على كتاباته في العربية الغربية، وفي الجمهورية العربية السورية وفي المملكة الأردنية الهاشمية وفي الحجاز، فقد عثر على كتاباته في مواضع متعددة من الحجاز، فيما بين المدينة ومكة وعلى مقربة من الوجه والطائف، وفي "ريع الزلالة" عند السيل الكبير على طريق الطائف

_ 1 Grundriss, I, S. 147, Transaction of the 9th Inter. Congr. of Orientalists, Vol. I, p. 86, "London", 1893, Uber die Protoarabischen Inschriften, in Aufs und Abh., S. 41, 161, Saudarabische Chrestom., S. 6, Lady A. Blunt, A Pilgrimage to Nejd, London, 1881, Vol. 2.

مكة1. وعثر على كتابات ثمودية في "حائل" وأماكن أخرى من نجد وفي اليمن. وفي هضبات شبه جزيرة سيناء2. هذا وقد عثر على كتابات ثمودية كثيرة في "ريع الزلالة" "سيل الغربان"، إلى الشمال من الطائف على مسافة أربعين كيلومترًا منها3. وفي وادي "ألاب"4، وفي مواضع أخرى من الحجاز ونجد، مما يدل على انتشار الثموديين في مواضع واسعة من جزيرة العرب. وأما القلم الصفوي، فقد عثر عليه في منطقة الصفاة شرقي الشأم، وفي بادية الشأم، ولا يعني هذا أن هنالك قبائل كانت تُسمى قبائل صفوية، بل هو اصطلاح أطلقه المستشرقون على الخطوط التي وجدت في ناحية الصفاة، وهي تشتمل على كتابات قريبة من كتابة لحيان وثمود. كما عثر على كتابات صفوية في مواضع من بادية العراق، ويوجد عدد منها في ملك مديرية الآثار القديمة العامة في العراق5. كما عثر على عدد كبير منها في المملكة الأردنية الهاشمية. وقد نشرت نصوص بعض منها في جريدة الآثار للمملكة الأردنية الهاشمية6. والمواطن الرئيسي للكتابات اللحيانية هو منطقة العلا، ولا سيما موضع "الخريبة" والصخور الواقعة إلى شرقه، حيث عثر فيها على مئات من الكتابات التي تعود

_ 1 "عقبة الزلالة، الواقعة بين مكة وبين الطائف، وهي تنية ينحدر منها القادم من الطائف على السيل الكبير"، الموضع المعروف قديمًا باسم "قرن المنازل" وتبعد عن هذا الموضع خمسة كيلومترات تقريبًا وتقع في شرقه، وتسمى الآن "الريع الصغير". وقد شاهدت بقربها بينها وبين السيل الكبير جبلًا فيه كتابات كوفية قديمة. وحدثت بأن "فلبي" رأى في تلك الجهة تمثالًا من الصخر منحوتًا في الجبل يمثل رجلًا واقفًا، وأنه اطلع على كتابات قديمة في تلك الجهة"، كتاب من السيد حمد الجاسر، تأريخه 13 نوفمبر 1950م. 2 نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب، القاهرة، 1943م، "ص109"، E. Littmann. Entzifferung der Thamudenischen Inschriften, 1904, Hubert Grimme, Die Losung des Sinaischriftproblems, Die Altthamudischische Schrift. Munster, 1926.". 3 A. Grohmann, Arabic Inscriptions. Louvain. 1962, p. 2. 4 كتابات من الأدب، للدكتور عبد الرحمن الأنصاري، مجلة كلية الآداب بجامعة الرياض، المجلد الأول، السنة الأولى "1970"، "ص 113 وما بعدها". 5 راجع نشرات مديرية الآثار القديمة في العراق ومجلة سومر. 6 Annual of the Department of Antiquities of Jordan.".

إلى شعب لحيان1. والأقلام الصفوية والثمودية واللحيانية، مثل المسند، ليس لها علامات لا للفتح ولا للكسر ولا للضم ولا للإشباع ولا لاتحاد الفتحة والواو والباء "أي الإمالة Diphthong" إلخ ... كما أن حروفها تأخذ صورًا متعددة، فيرد الحرف الواحد في كل قلم من الأقلام المذكورة بصور مختلفة، ولذلك تجابهنا صعوبات كبيرة في محاولتنا قراءة الكلمات والجمل قراءة صحيحة. ويحتاج القارئ إلى مران طويل ودراسات للهجات العربية الأخرى لضبط الكلمات في هذه اللهجات، ومعرفة معانيها. وقد لاحظ المستشرقون مشابهة كبيرة بين الأقلام المذكورة وبين المسند، كما وجدوا هذه المشابهة بين عدد من الأقلام التي استعملت في غير جزيرة العرب والمسند، وبعد مقابلات بينها ودراسات ذهبوا إلى تفرعها من المسند. وهذه الأقلام المذكورة كلها متأخرة عن المسند، وتعود تواريخ قسم منها إلى ما قبل الميلاد، ومنها ما يعود تأريخه إلى ما بعد الميلاد. ومما يلاحظ على هذه الأقلام اختلاف صور أكثر الحروف فيها، فقد تكون للحرف صورتان، وأحيانًا ثلاث صور أو أكثر، غير أن هذا الاختلاف ليس كبيرًا في الغالب بحيث يتعذر معه تمييز أشكال الحرف الواحد، ولا نجد فيها الوضوح والبساطة التي نجدها في المسند، كما لا نجد فيها هذه الخطوط المستقيمة المنقوشة بدقة وعناية في الكتابات المعينية أو السبئية أو الحضرمية أو القتبانية أو الحميرية. فكأن كتّابهم كانوا يرون العجلة في الكتابة والإسراع في التسطير لضيق الوقت. لذلك لم تكن حروفهم دقيقة واضحة. وأما الأقلام التي تشبه حروفها المسند. واستعملت عند أقوام عاشوا في أقطار لم تكن من جزيرة العرب، فمنها القلم الحبشي القديم، وقد عثر على كتابات به في منطقة "يحا" "بها" Jeha، وهي تمثل أقدم نماذج الكتابات الحبشية، وقلمها هو القلم السبئي القديم. وفي "أكسوم" وتعود إلى القرن الرابع للميلاد2،

_ 1 Ency. Vol. 3, p. 26, Muller, Epigraphic Denkmaler aus Arabien, XXXVII, 1889, Jaussen and Savignae ,Mission Archeologique en Arabie, I, Paris, 1909, p. 263, Vol. II, p. VIII-XIV, 27-77, 361-534, Lidzbarski, Ephemeris fur Semit. Epigraphic, II, 23-48, 345-361, III, 214-217, F.V. Winnet, A Study of Lihyanite and Thamudic Inscriptions, Toronto, 1937. 2 السامية "257"، Grundriss, I, S. 148.

وكتابات نصرانية كتبت باللهجة "الجعزية" وتعود إلى القرن الخامس للميلاد1. وقد استعملت في هذه الكتابات الجعزية الأصوات مع الحروف، وبذلك اختلفت عن الأبجديات السامية التي استخدمت الحروف الصامتة فحسب, وذلك بإضافة شيء يشبه الحركات في صلب الحروف يقرأ معها ولا تفهم هي بدونها2. ومع ذلك احتفظت بالأشكال الأصلية للحروف العربية الجنوبية، ولم تبتعد عنها كثيرًا. ويمكن إدراك أثر المسند في الكتابة الحبشية المستعملة في الوقت الحاضر دون كبير عناء. وذهب كثير من المستشرقين إلى أثر المسند نفسه أو بالواسطة في عدد من الأقلام الأخرى، منها كتابات عثر عليها في إفريقيا Meroitische Schrift في إحدى اللهجات الكوشية أو النوبية3. والخط البربري القديم الذي يعود إلى أيام قياصرة روما. والقلم البراهمي "Brahma Script –Devanagari Alphbet"، حيث نلاحظ شبهًا كبيرًا بين حروف هذا القلم والمسند ولا يستبعد أثر المسند فيه؛ لأن العلاقات بين العربية الجنوبية والهند كانت قديمة جدًّا4. يظهر أن المسند كان القلم الرئيسي في جزيرة العرب قبل الاسلام، وأن جزيرة العرب كانت تكتب به قبل المسيح. وأن أقلامًا تفرعت منه قبل المسيح وبعد المسيح، لأسباب لا تزال غير واضحة، وقد تكون لأشكال الحروف التي تتطلب دقة في الرسم علاقة بذلك، فمال الكتّاب إلى ابتكار أشكال مرنة لا تحتاج إلى عناية في الرسم، فاستخدموها في الكتابة لسهولتها. فتولدت منه الكتابات المذكورة.

_ 1 Grundriss, I, S. 148, D.H. Muller, Epigr. Denkmaler aus Abessinien, Wien, 1894, Tafel, II, IV. 2 السامية "256"، Grundriss, I, S. 148, Glaser, Die Altabess. Inschr. von Marib, in ZDMG., Bd.,50, "1896", S. 468. Die Abessinier In Arabien und Afrika. Munchen, 1895, S. 168. 3 R. Lepsius, Denkmaler aus Aegypten und Aethiopien, VI, Bd., I-II in Bd., XI, Grundriss, I, S. 149. 4 Grundriss, I, S. 149, Isaac Taylor, The Alphabet, Vol. 2, p. 314, Georg Buhlets, Indian Brahma Alphabet, Wien, 1895, p. 2, Ency. Brit. I, p. 683.

أصل القلم المسند

أصل القلم المسند: ذكرت أن أكثر المشتشرقين رأوا أن القلم العربي الذي دوّن به القرآن الكريم، أخذ من القلم النبطي المتأخر. أما المسند، فقد رأى كثير منهم أنه اشتق من الأبجديات السامية الشمالية كذلك1. وذهب بعضهم أن أنه تفرع من الأبجديات السينائية, ومنهم من قال: إن الأبجدية العربية الجنوبية تفرعت من نفس الأصل الذي أوجد الخط الفينيقي، فهي لذلك من أقدم الأبجديات المعروفة2. ونحن إذا أمعنا النظر في شكل الأبجدية الطورسينائية والمسند، نجدهما لا تتشابهان إلا في رسم حرفين أو ثلاثة3. وتتكون الأبجدية الطورسينائية من اثنين وعشرين حرفًا كالفينيقية والعبرانية. أما الأبجدية العربية الجنوبية فتتألف من تسعة وعشرين حرفًا، أي بزيادة سبعة أحرف عن أبجدية طور سيناء. وحجة القائلين أن المسند قد أخذ من القلم الفينيقي، وأن الأبجدية الفينيقية هي أقدم الأبجديات وأم الأبجديات4. ولكننا إذا أمعنا النظر في رسم حروف الأبجديتين، نجد التشابه بينهما في هيئة الحروف ورسمها ليس كبيرًا، كما أن الأبجدية العربية الجنوبية تزيد عليها في سبعة أحرف، وهذه الأحرف الزائدة لا تختلف عن الأحرف المشتركة بين الأبجديتين في هندسة الرسم والشكل. فلعل الأبجديتين قد تفرعتا من أصل واحد5، فلا يعد المسند لذلك فرعًا نبت من الفينيقية. وزعم نفر من الباحثين في تطور الخط أن المسند مشتق من القلم الكنعاني، ولكن بعض علماء العربية الجنوبية ينكر هذا الرأي. إذ يرى أن المسند أقدم عهدًا من الأبجدية الكنعانية، وأن الكتابات العربية الجنوبية أقدم زمنًا من أقدم الكتابات الكنعانية، فلا يصح إذن القول بأن المسند مشتق من القلم الكنعاني. ومما يلاحظ على الأبجديتين أن الأبجدية الكنعانية يعوزها من الحروف: ذ، ض، ظ، س، "سامخ"، ث، غ. ولكن الأبجديتين تشتركان اشتراكًا تامًّا في الحروف: ج، ط، ل، ن, ع، ش، ق، ت، و. وتختلفان في بعض الحروف

_ 1 BOASOOR, NUM:118, April 1950, p. 13.". 2 Background, p. 11. 3 Ency. Brita. I, p. 680. 4 Lidzbarskl, Ephemeris, I, S. 109, The Art of Writing, p. 11. 5 Grundriss, I, S. 145.

اختلافًا كبيرًا، وليس بمستبعد أن تكون الأبجديتان قد تفرعتا من أصل واحد. والرأي عندي أن من الصعب البت في الوقت الحاضر في موضوع أصل المسند؛ لأن صور الأبجديات القديمة الواصلة إلينا لا تزال قليلة، ولا نجد بين صورها وبين صور المسند تشابهًا كبيرًا بحيث يمكن أن نستنبط من هذا التشابه حكمًا يفيدنا في تعيين أصل المسند. والتشابه بين حروف قليلة لا يمكن أن يكون سببًا للحكم باشتقاق خط من خط. وعندي أن الأبجدية العربية الجنوبية تمثل مجموعة خاصة، تفرعت من أصل لا نعرف من أمره اليوم شيئاً؛ لأن شكل حروف المسند لا يشبه شكل حروف الأبجديات المعروفة، فلننتظر فلعل المستقبل يكشف للعلماء النقاب عن أبجديات مجهولة1. ولا يعقل بالطبع أن يكون أهل العربية الجنوبية قد أوجدوا خطهم من العدم، من غير استعانة بعلم مسبق عن الحروف والأبجديات، بل لا بد أن تكون أبجديتهم قد أخذت من أبجدية أخرى، ومن فرع من فروع الخط الذي أوجدته البشرية، ودليل ذلك أن أسماء الحروف الأساسية التي ترد في كل أبجدية هي واحدة، وفي وحدة الأسماء دلالة على وجود أصل واحد، تفرعت منه الخطوط. والمسند بالنسبة لنا، هو خط قائم بذاته، يشابهه الخط الحبشي، ومن فروعه الأبجدية اللحيانية والثمودية والصفوية. فكل هذه الأبجديات هي من فصيلة واحدة رأسها المسند، أما ما فوق المسند، فلا نعرف من أمره أي شيء. وفي المسند حرف لا وجود له في أبجديتنا يكون على هذا الشكل: وهو بين الزاي والسين، ولذلك يجعله البعض سينًا حين ينقلون نص كتابة عربية جنوبية إلى عربيتنا، أو إلى اللغات الأوروبية. كما يقرأ حرف الجيم "6" "كيما" في المسند على نحو نطق المصريين بهذا الحرف في لسانهم. ومن القلم المسند أخذ الأحباش قلمهم الذي يكتبون به، نقله إليهم السبئيون

_ 1 السامية "242 فما بعدها".

الذين هاجروا إلى الحبشة قبل الميلاد وأقاموا لهم حكومة هناك وأثروا في الأحباش، فكان من تأثيرهم فيهم هذا القلم الحبشي. وحروف المسند منفصلة غير متصلة، أعني أنها ليست كحروف الأبجدية التي نكتب بها، بل الحروف فيها مستقل بعضها عن بعض غير متصل به. ولتمييز الكلمات بعضها عن بعض، وضع الكتّاب خطوطًا مستقيمة عمودية تشير إلى انتهاء الكلمة وإلى ابتداء كلمة جديدة. وتبدأ الكتابة عندهم من اليمين في العادة، وتنتهي في اليسار، غير أنهم قد يكتبون من اليسار أيضًا، وينتهون بالسطر في اليمين. وقد يمزجون بين الطريقتين فيبتدئون في اليمين مثلًا وينتهون بالسطر في اليسار، ثم يبدءون في السطر الذي يليه من اليسار، وينتهون في اليمين، ويبدءون بالسطر الذي يليه من اليمين لينتهي باليسار، ويبدءون في الثالث من اليسار وينتهون باليمين، وهكذا حتى تنتهي الكتابة. أما إذا ابتدءوا بالكتابة من اليسار، فينتهون بالسطر في اليمين، ثم يبدءون في السطر الثاني باليمين لينتهوا به في اليسار, وليبدءوا بالسطر الثالث من اليسار ولينتهوا به في اليمين, وهكذا يسيرون على هذا المنوال حتى تنتهي الكتابة. ويلاحظ أن لشكل حروفهم خاصية جعلتها تصلح لأن يكتب بها في أول الكلمة أو في وسطها أو في أواخرها من دون حاجة لإجراء أي تعديل على جسم الحرف العام؛، لأنها حروف منفصلة غير مربوطة. وهي تمتاز من هذه الناحية عن حروف أبجديتنا، التي ترتبط فيها الحروف، فتستعمل حرف العين مثلًا في أول الكلمة بصورة تختلف عن صورة هذا الحرف إذا استعمل في الوسط, وتستعمل هذا الحرف في آخر الكلمة بصورة تختلف عن استعماله في أول اللفظة أو في وسطها، أي إنها تحدث تغييرًا على جسم الحرف. ولهذه الخاصية صار في الإمكان الابتداء بحروف المسند من أية جهة أراد أراد الكاتب أن يكتب بها من ناحية اليمين أو من ناحية اليسار. أو بالجمع بين الطريقتين من غير أي تأثير في قابلية القارئ على القراءة، كما صار من السهل على المبتدئ بالكتابة والقراءة تعلم الخط بالمسند بكل سهولة. لوجود شكل واحد لا يتغير للحروف. فهو لهذا صار أسهل تعلمًا من الخط الذي نكتب به الآن ذي الأشكال المتعددة الحروف، كما أنه خال من التنقيط الموجود في عربيتنا لتمييز الحروف المتشابهة في هذا الشكل بعضها عن بعض، وهو مما سبب لنا مشاكل خطيرة في كيفية ضبط الحروف والألفاظ، عند وقوع التصحيف، بسقوط نقطة من الكتابة سهوًا، أو بوضع

النقطة في موضع يجب ألا توضع فيه، أو بوقوع سهو في عدد النقط. وقد راعى الكتاب استعمال الخطوط العمودية للفصل بين الكلمات مراعاة تامة؛ لأنها هي العلامة الوحيدة التي ترشد القارئ إلى انتهاء لفظة وابتداء لفظة جديدة، ولم يخطر ببالهم وضع فراغ بين نهاية كلمة وابتداء كلمة جديدة، أو لأنهم لأمر ما لم يستعملوا هذا الفراغ خشية حصول التباس قد يفسد على القارئ قراءته، وقليلًًا ما خالف كتابهم هذه الطريقة فأغفلوا وضع هذه الأعمدة الفاصلة. ولم يستعمل كتّابهم علامة ما دالة على انتهاء جملة وابتداء جملة أخرى جديدة أو انتهاء فصل وابتداء فصل جديد، كذلك لم يستعملوا ما نستعمله نحن في الزمن الحاضر من علامات فواصل لأداء معاني خاصة يقتضيها الكلام وعلامات استفهام؛ لأن هذه الأشياء من الأمور المتأخرة التي أدخلت على الكتابات الغربية، ولم تكن معروفة عند الأقدمين. وحروف المسند حروف غير مشكلة، فليس فوقها أو تحتها حركات كما هي الحال في عربيتنا حين نرغب في تحريك الحروف. وهي غير منقطة كذلك فلا نقط فوق بعض الحروف أو تحتها لتمييزها عن غيرها من الحروف المشابهة لها كما هي الحال في أبجديتنا أيضًا، ولم يرمز عن الحركات بحروف أو برموز تستعمل مع الحروف الصامتة داخل الكلمة ليتمكن بها القارئ من النطق بالكلمة النطق الصحيح كما حدث ذلك في الأبجديات اللاتينية، وفي الأبجديات الأخرى التي سارت على نهجها وسبيلها، ولم يرمزوا عن حرف المد بشيء ولا عن السكون أو التشديد. وهذا مما جعلنا في حيرة من النطق بكلماتهم نطقًا صحيحًا مضبوطاً، وجعل القارئ الحديث يذهب مذاهب مختلفة في كيفية ضبط الكلمة وفي كيفية النطق بها. فلفظة مؤلفة من حروف صامتة وحدها، لا يمكن أن ينطق بها النطق الصحيح المضبوط ولا يمكن معرفة معانيها بسهولة، وقد ولدّت هذه الطريقة مشكلات كثيرة لنا من حيث التوصل إلى معرفة نحو تلك اللهجات وصرفها1. ولا توجد في المسند علامة لتشديد الحرف، وقد يكتب الحرف مرتين كما هي الحال في الأبحديات الأوروبية للدلالة على أن الحرف مشددٌ، ويكون ذلك في الكتابات المعينية2.

_ 1 غويدي، المختصر "ص3". 2 المصدر نفسه.

واقتصار الكتَّاب على استعمال الحروف الصامتة وحدها، جعل من العسير علينا البت في كيفية النطق بالكلمات والتعرف بسهولة على مواضع الكلم من الإعراب. ولولا الاستعانة باللهجات العربية الباقية المستعملة في اليمن، وبلغة القرآن الكريم، وبالمعجمات، وباللغة الحبشية، لكان من الصعب على القارئين للكتابات العربية الجنوبية التوصل إلى فهم معانيها وإلى قراءتها قراءة مضبوطة أو قريبة من القراءة الصحيحة، والتوصل إلى استخراج القواعد منها. فبفضل هذه المواد المساعدة، تمكنا من الوصول إلى ما توصلنا إليه عن تلك اللهجات المكتوبة بالقلم المسند1. ومن جملة المسائل التي جعلت فهم النصوص العربية الجنوبية أمرًا صعبًا على الباحث في بعض الأحيان، اشتمالها على اصطلاحات غير موجودة في العربية، وعلى كلمات غير موجودة في اللغات السامية الأخرى, ثم إن بعضها قد كتب كتابة موجزة صيرتها غامضة غير مفهومة، ولهذا اضطر علماء العربيات الجنوبية إلى تلخيص معناها على وجه التقريب2. ومما يؤسف عليه كثيرًا أن كتبة المسند لم يتركوا لنا كتابة تشير إلى ترتيب حروف الهجاء عندهم، وأسمائها التي كانت تعرف بها عند قرّائهم وكتّابهم. وعدم وصول كتابة بهذا الموضوع منهم إلينا، خسارة كبيرة، إذ أصبح من الصعب التحدث عن كيفية ظهور الخط بين العرب الجنوبيين وعن صلاته بالخطوط الأخرى، وبنا أشد الحاجة إلى معرفة كيفية توصل الإنسان إلى هذا الاختراع العظيم الذي غيَّر تأريخ البشرية وأحدث فيها انقلابًا لا يدركه المرء إلا إذا تصور البشرية وهي جاهلة لا تحسن قراءة ولا كتابة، فما الذي كان يمكن أن نعرفه لولا وجود هذه العلامات الصغيرة المحدودة التي نسميها حروفًا والتي نكتب بها وندوّن بها كل ما يجول في خواطرنا من آراء دون أن نعرف عظم قيمة هذه العلامات التي ميزت الإنسان عن الحيوان، ورفعته عنه إلى أعلى الدرجات! ولو قدر للعلماء الحصول على ألواح فيها الأبجديات مرتبة بحسب الطريقة التي تسير عليها الشعوب القديمة في تعلمها. وخاصة إذا كانت مقرونة بأسمائها التي كانت تعرف بها، لصار في وسع العلماء التوصل إلى نتيجة علمية مقبولة

_ 1 Hofner, 8. 15. 2 ولفنسون، السامية "246".

بشأن نشأة الخط وتطوره. فإن في استطاعتهم عند ذاك الحكم –من نظرهم إلى أقدم هذه الكتابات وإلى أصول كلمات المسميات –عل أقدم مكان ظهرت فيه تلك الكتابة، وعلى تعيين اسم الشعب الذي كان له شرف هذا الاختراع. وهو اختراع لم يظهر بالطبع فجأة إلى العالم، أي: إنه لم يكن من ابتكار رجل واحد فاجأ الناس به، بل هو اختراع مرت عليه قرون حتى بلغ ما بلغه من شكل الحروف. مرّ في مراحل كثيرة بدائية في بادئ الأمر، ثم انتقل من تلك الأشكال إلى أشكال أرقى منها، حتى اهتدى عقل الإنسان إلى معرفة الحروف. ولم يتوصل بالطبع إلى هذه المرحلة بسهولة، إذ يقتضي ذلك وجود علم عند الإنسان عن تكون الكلمات من حروف، وهو لم يتوصل إلى هذا العلم إلا بعد تعب استمر قرونًا، وبتعاون كتّاب مختلف الشعوب لتحليل كلمات الإنسان إلى عناصرها الأولى، وعناصرها الأولى هي هذه الحروف. وقد كان من الضروري وضع أسماء للحروف، ليميز بها حرف عن حرف آخر. وقد وضع مخترعو الحروف تلك الأسماء، وهي أسماء لا تزال البشرية تعيدها مع شيء من الاختصار والتحريف، وقد يمكن التوصل من تلك الأسماء إلى أسماء تلك الشعوب القديمة التي ساهمت وعملت في ترقية ذلك الاختراع العظيم. فإن لتلك الأسماء علاقة وصلة بمسميات مادية، وبالإمكان تشخيص مواطن تلك المسميات بالرجوع إلى الأماكن التي عرفت واشتهرت بها، ومن ثم نتوصل إلى تعيين تلك الشعوب على وجه التقريب. وتختلف أشكال حروف المسند اختلافًا كبيرًا عن حروفنا المألوفة التي نكتب بها. ولما كانت هذه الحروف حروفًا منفصلة غير متصلة كما هي الحال في حروفنا، فهي لذلك في أثناء كتابة الكلمات لا تتصل ببعضها ولا يلتقي فيها حرف بحرف آخر. ولهذا السبب كان شكل الحرف في المسند لا يتبدل ولا يتغير بتغير موضعه في الكلمة، بل يحافظ على وضعه في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها، إلا في بعض الأحيان حين يكتبون من اليسار نحو اليمين، فيغيرون اتجاه الحرف بأن يجعلوه نحو اليمين. وقد يتحد حرف النون الساكن مع الحرف الذي يليه ويسقط من الكتابة، ففي كلمة "بنت" أسقط الكتّاب حرف النون من الكلمة، واكتفوا بهذا الشكل: "بت", أي: بالحرفين الباء والتاء1.

_ 1 غويدي "ص4".

وإلى القارئ أشكال حروف المسند مرتبةً على ترتيب حروف الهجاء التي نسير عليها في زمننا:

ولا توجد في المسند تاء قصيرة، أي: التاء التي نكتبها تاء قصيرة في أواخر الكلم. فالتاء هي تاء طويلة أبدًا، وردت في أول الكلمة، أو في وسطها، أو في آخرها، فلفظة "سنة" تكتب "سنت"، و"عمرة"، اسم امرأة يكتب "عمرت"، وهكذا.

وهناك كتابات برزت حروفها, وذلك أن كاتبها خطها على الحجر أولًا, ثم حفر ما حولها وفي باطنها بمزبر صلد, أو يسكن أو بآلة حادة, فظهرت الكتابة بارزة, وقد استخدمت مثل هذه الكتابات لتوضع على أبواب المعابد وعلى واجهات الدور وفي المناسبات التذكارية, كما فعل الإسلاميون في كتاباتهم التخليدية التي وضعوها على واجهات القصور والمساجد والأبنية المهمة, أما الكتابات المحفورة فقد استخدمت في الأعمال الاعتيادية في الغالب, وهي أسهل في الكتابة من الكتابة البارزة, ولا تحتاج إلى وقت طويل يصرفه الكاتب على الحفر لإبراز الحروف: وأما الفاصل الذي يفصل بين الكلمات, فهو على هذا الشكل: ويعبر عن العدد من الواحد إلى الأربعة بخطوط عمودية, فيرمز الخط العمودي الواحد عن "الواحد", ويرمز الخطان العموديان المتوازيان عن الرقم "2", وإذا أرادوا كتابة الرقم "3" وضعوا ثلاثة خطوط عمودية متوازية للدلالة عليه. أما الرقم "4", فيمثل بأربعة خطوط عمودية متوازية. وأما الرقم "5" فيرمز عنه بالحرف "خ" الذي هو الحرف الأول من كلمة "خمس". وإذا أرادوا الإشارة إلى الرقم "6" وضعوا خطًّا عموديًّا على الجانب الأيسر لحرف "الخاء" الذي يرمز عن الخمسة, ومن هذا الحرف والخط العمودي الكائن مكانه في موضع العشرات بالقياس إلى حسابنا يتكوّن الرقم "6". وإذا أرادوا الرقم "7" وضعوا خطين عموديين على الجانب الأيسر للحرف خمسة, فيعبر عن هذا المجموع المكون من الخاء ومن الخطين العموديين المستقيمين عن الرقم "7". وإذا أرادوا الرقم "8", وضعوا على الجانب الأيسر من الحرف خاء ثلاثة خطوط تشير إلى الرقم "3", فيتكون بذلك من حرف الخاء الذي يرمز عن الخمسة ومن الثلاثة, المجموع ثمانية, وهو الرقم المطلوب. أما الرقم "9", فيتكون من مجموع رقم "5" الذي يرمز عنه الخاء ومن الرقم "4" الذي تمثله خطوط عمودية أربعة. وأما الرقم عشرة, فيرمز عنه بحرف العين الذي يمثل الحرف الأول من كلمة عشرة, وأما الرقم "100" فيرمز عنه بالحرف الأول من الكلمة مائة, أي: بحرف الميم. وأما الرقم "1000" فرمز عنه بالحرف ألف, أي: بالحرف الأول من الكلمة أيضًا, فيلاحظ

من هنا أن العرب الجنوبيين استعملوا الحروف الأولى من أسماء بعض الأرقام عوضًا عن الأرقام نفسها, ولم يتبعوا الطرق التي نتبعها اليوم في كتابة أمثال هذه الأعداد. والظاهر أن استعمالهم حرف الخاء مقام العدد "5", جعلهم يحارون بعض الحيرة في التعبير عن العدد "50" الذي يبدأ مثل العدد "5" بحرف الخاء, فتخصيص هذا الحرف بالعدد "5" جعل من غير الممكن تخصيصه بالعدد "50" كذلك. ولما كان من الصعب كتابة الـ"5" عشر مرات للتعبير عن العدد "50" الذي هو حاصل جمع عشر خمسات خاصة لأن هذا العدد يتضاعف ويتكرر, فكروا في حل آخر يحل لهم هذه المشكلة. مشكلة إيجاد حرف أو علامة ترمز عن الرقم "50" هو نصف الـ"100" كما هو معلوم. ولما كان حرف الميم يرمز عن المائة, والمائة هي حاصل جمع خمسين مع خمسين, فيكون حرف الميم هو حاصل جمع خمسين مع خمسين. ولما كان حرف الميم في المسند هو على شكل خط عمودي يرتكز عليه مثلثان قاعدتهما ملتصقة على ذلك العمود, فإن كل مثلث من ذينك المثلثين يعبر في الواقع عن الرقم "50", فهداهم تفكيرهم هذا إلى رفع المثلث الأسفل ليبقى مثلث واحد هو المثلث الأعلى مرتكزًا على الخط العمودي, ليعبر عن قيمته المتبقية وهي خمسون, وصار هذا الرمز الذي هو نصف حرف الميم رمزًا عندهم للعدد "50". وبذلك أوجدوا لهم حلًّا لتلك المشكلة التي لا بد أنها شغلت بال كتابهم مدة من الزمن. وأما الأعداد التي تلي العشرة فيبدأ بها بحرف العين أولًا ومعناه عشرة, ثم تليه بقية الزيادة أي مقدار زيادة ذلك العدد عن العشرة. فإذا أرادوا الرقم "11" مثلًا بدأوا بحرف العين, ثم وضعوا بعده أي على يساره خطًّا عموديًّا واحدًا بمعنى واحد, ويكون المجموع أحد عشر. أما إذا أرادوا الرقم "12", فإنهم يضعون مستقيمين عموديين على يسار حرف العين ليدل ذلك على عشرة زائد اثنين وهو اثنا عشر. وإذا أرادوا "13" وضعوا ثلاثة خطوط عمودية, ليكون مجموعها مع العشرة أربعة عشرة. أما إذا أرادوا "15", فإنهم يكتبون حرف العين ثم يضعون من بعده وعلى جهة يساره حرف الخاء الذي هو بمعنى خمسة. وإذا أرادوا "16" وضعوا بعد حرف العين ما يرمز عن الستة, وهكذا بقية الأعداد

إلى العدد "19". أما العدد "20" فإنهم يكنون عنه بكتابة حرف العين مرتين، ومعنى ذلك عشرة مضافًا إليها عدد عشرة والجمع عشرون، وإذا أرادوا الرقم "21" كتبوا حرف العين مرتين ليرمز عن العشرين ثم وضعوا خطًّا عموديًّا واحدًا على جهة يساره ليرمز عن الرقم "1"، فيكون المجموع عشرين وواحدًا، وهكذا يكتبون بقية الأعداد ابتداء بالعشرين أي: بحرفي العين مضافًا العدد المقصود حتى الرقم "30" فيضعون له ثلاثة أحرف من حرف العين. أما الـ"40" فيضعون له أربعة أحرف من حرف العين، ثم يستمرون على طريقتهم في العدد بعد الأربعين على الطريقة المألوفة في الابتداء بالعدد العشرات، ثم كتابة الرقم المقصود الذي هو دون العشرة من بعده إلى الرقم التاسع والأربعين. فإذا أرادوا الرقم "50" وضعوا الرمز الخاص الذي تحدثت عنه، وهو نصف حرف الميم. أما الرقم "60" فيرمز عنه بهذا الرمز, أي: نصف حرف الميم مضافًا إليه الحرف عين رمز العشرة ليشير إلى مجموع العددين وهو ستون. أما الرقم "70" فيتكون من هذا الرمز مضافًا إليه حرفان للعين. وأما الرقم "80" فيكون بإضافة ثلاثة أحرف عين على الجهة اليسرى للرقم "50". وأما الرقم "90"فيتكون من رمز "50" مع إضافة أربعة أحرف عين إليه. وتكتب الأرقام ما بعد المائة إلى الألف على الترتيب الآتي: يكتب الحرف رمز المائة في الأول، ثم يوضع الرقم الذي يلي المائة على جهة يساره على النحو الذي شرحته إلى حد الرقم "199" فإذا أرادوا كتابة "200" كتبوا حرفي ميم، وإذا أرادوا "300" وضعوا ثلاثة أحرف من حروف الميم، وإذا أرادوا "400" وضعوا أربعة أحرف من حروف الميم, وإذا أرادوا "500" وضعوا خمسة أحرف من حروف الميم، وهكذا تزاد كتابة الميم بزيادة عدد المئات حتى تصل إلى تسع، ويكون الرقم عندئذ تسع مائة. أما الألف فيرمز عنه بحرف الألف كما ذكرت. وطريقة التعبير عن الأعداد في حالة الآحاد وفي العشرات وفي المئات هي طريقة واضحة مفهومة بعض الفهم كما رأينا، إذ عبر عن الأرقام من واحد إلى أربعة بخطوط مستقيمة، وعبر عن الخمسة بحرف الحاء تزاد عليه خطوط بزيادة الأرقام المطلوبة، حتى تصل إلى الرقم "10"، فيعبر عنه بحرف عين. وفي باب العشرات يقدم حرف العين الذي هو عشرة على الأرقام المقصودة التي هي دون العشرة، وتتبع هذه الطريقة إلى المائة. أما في حالة المئات إلى الألف فيبتدئ العدد بالمئات،

ثم تليه العشرات، فالآحاد، فهو في نفس المبدأ الذي وضعه علماء الرياضيات عندهم للعشرات، أي: على قاعدة تفضيل العدد الأكبر من ناحية العدّ على العدد الأصغر، فقدموا العشرات على الآحاد، وقدموا المئات على العشرات، ثم الآحاد. أما في حالة الأعداد الألوف، فلم يتقيد كتّاب حسابهم بهذه القاعدة، بل ساروا على طرق أخرى، فكتبوا حروف الألف بعد الأعداد الألوف التي أرادوا كتابتها. فللتعبير عن ألفين وضعوا حرفي ألف، وهما مجموع ألف مع ألف أخرى، وللتعبير عن ثلاثة آلالف وضعوا ثلاثة أحرف ألف، وهكذا ساروا في كتابة بقية الأعداد الآلاف. غير أنهم ساروا على طريقة أخرى في كتابة العدد ستة عشر ألفًا مثلًا. فوضعوا ستة أحرف ألف، ووضعوا إلى الجانب الأيسر من الحرف الألف الأخير الحرف عين رمز العشرة، وقد رمزت العشرة هنا عن العدد "10000"، ورمزت الحروف الستة عن "6000"، ومن مجموع الستة آلاف والعشرة آلاف يتكون العدد "16000". وفي كتابة العدد "31000" كتبوا حرفًا واحدًا من حروف الألف ليدل على الرقم ألف, ووضعوا على الجهة اليسرى منه ثلاثة أحرف عين وتعني ثلاثين ألفًا. ومن الألف والثلاثين ألفًا يتكون العدد "31000". أما في حالة كتابة الرقم "40000"، فقد اكتفوا بكتابة أربعة أحرف من حروف العين، مع أن هذه الأحرف تعني مجموع أربع عشرات، أي: أربعين، بينما أرادوا بهذه الأحرف العدد "40000" في هذا الموضع. أما في رقم "45000"، فقد كتبوا خمسة أحرف من حروف الألف أولًا، ثم وضعوا أربعة أحرف من العين في أيسر آخر ألف، والمجموع هو خمسة آلاف وأربعون ألفًا. وفي الرقم "63000" وضعوا ثلاثة أحرف من "الألف" لتعني ثلاثة آلاف، ووضعوا نصف حرف ميم وهو رمز الخمسين، وفي أيسره حرف العين رمز العشرة، وبذلك عبروا عن الستين. ولورود هذا الرقم بعد عدد آلاف قصدوا به ستين ألفًا. ومن مجموع ثلاثة آلاف والستين ألفًا، يتكون العدد ثلاثة وستون ألفًا. وقد اكتفوا في كتابة الرقم "150000" بكتابة الرمز الخمسين وهو نصف حرف ميم، ووضعوا إلى الأيسر منه حرف ميم رمز المائة، وقصدوا بذلك خمسين ومائة ألف. ولو كانوا قد كتبوا حرف الميم أولًا، ثم وضعوا نصف حرف الميم إلى يساره، لكان حاصل جمع العددين خمسين ومائة. وبتقديم نصف حرف الميم وبتغيير إتجاه مثلثي حرف الميم ومثلث نصف حرف الميم يجعله نحو اليمين،

عبروا عن الرقم "150000". أما في كتابتهم الرقم 200000، فقد كتبوا ميمين، وقد عبر كل ميم في هذا الموضع عن مائة ألف. ويرى بعض المتخصصين بقراءة النصوص العربية الجنوبية أن كتّاب المسند لم يتركوا كتابة حروف الألف التي تشير إلى الأعداد الآلاف إلا إذا كان العدد مدورًا، وآلافًا خالية من الأرقام الآحاد، كما رأينا في الرقم "40000"، و"150000"، و"200000"1. وقد سار كتّاب المسند على قاعدة كتابة الرقم لفظًا، أي: كتابة مقداره بالكلمات، وتدوين المقدار المكتوب بعد الرقم، وقد حملهم على اتباع هذه الطريقة خوفهم من الوقوع في الخطأ في قراءة الأرقام والرموز التي خصصوها بالأرقام، كما أنهم اصطلحوا على رسم مستطيل تتخلله خطوط تجعله على هيئة شباك تقريبًا، يوضع في أيمن الرقم، أي: قبل ابتدائه، ومستطيل آخر يوضع في يسراه أي: في نهاية الرقم تمامًا للدلالة على أن ما هو مكتوب بين هذين الرقمين هو عدد، وبذلك تسهل قراءته. ولم يصل إلينا أن كتّاب المسند استخدموا علامات خاصة بكسور الأعداد، كالأنصاف أو الأرباع أو الأثلاث أو الأخماس أو ما شاكل ذلك، أو أنهم استعملوا علامات خاصة للجمع أو الطرح أو القسمة أو الضرب أو علامات للتربيع أو للجذور وأمثال ذلك من العلامات المستعملة في معلو الرياضيات. وقد عبروا عن كسور الأعداد بذكر ألفاظها. وإذا لم تصل إلينا كتابات في موضوعات رياضية، فلا نستطيع أن نجزم في موضوع أمثال هذه العلامات عند العرب الجنوبيين. فلعل الأيام تكشف لنا عن كتابات رياضية ترينا أن رياضي العرب الجنوبيين كانوا أرقى كثيرًا مما نظن الآن. وللوقوف على صور الأعداد عند العرب الجنوبيين أدون نماذج من الأرقام، مقرونة بما يقابلها من الأرقام التي نستعملها عندنا في الحساب:

_ 1 Hofner S. 15.

وأما الفواصل التي تشير إلى الأرقام وتوضع في أول الرقم وعند منتهاه، فهي على هذا الشكل: ومادة الكتابة عند العرب الجنوبيين، هي الحجارة والصخر والخشب والمعادن، يكتبون عليها بالحفر، ولم أسمع أن أحدًا من الآثاريين حتى الآن عثر على كتابات بالمسند مدوّنة بالحبر على القراطيس والجلود والرق أو على ورق البردي على نحو ما كان يفعله المصريون وغيرهم. والظاهر أنهم لم يكونوا يتبعون طريقة كتّاب بابل في الكتابة على ألواح الطين التي تجفف بعد ذلك بالشمس أو بالنار، فتكون كتابة ثابتة مدوّنة على مادة صلبة؛ لأن الباحثين لم يعثروا على كتابات بالمسند مدوّنة على هذه الطريقة. غير أن عدم وصول كتابات بالمسند مدونة على القراطيس أو الجلود، لا يعني أن العرب الجنوبيين لم يكونوا يعرفون الكتابة عليها وعلى مواد مشابهة لها، إذ لا يعقل عدم وقوف العرب الجنوبيين على استعمال الجلود والقراطيس وعظام الحيوانات مادة للكتابة، وقد كان استعمالها في العالم يومئذ شائعًا معروفًا. ومردُّ السبب في عدم وصول شيء من الكتابات المدونة على تلك المواد، إلى قابلية هذه المواد للتلف، وحاجتها إلى العناية الشديدة، بدليل عدم وصول شيء ما من الكتابات المدونة على الجلود وعلى جريد النخل وعلى اللخاف والعظام والقراطيس من صدر الإسلام ومن أيام الرسول خاصة مع أهميتها وقدسيتها. وليس في استطاعة أحد أن ينكر أن القرآن الكريم قد كتب على هذه المواد المذكورة، وأن الرسول قد أمر فكتبت له عدة كتب وعقود ومواثيق، ولكن بادت أصولها. والبحث في أصل المسند مثله في أصل الخط، ما زال موضع جدل بين العلماء الباحثين في العربيات الجنوبية. فمنهم من يرجع أصله إلى الخط الفينيقي, ومنهم من يرجعه إلى كتابات سيناء حيث عثر فيها على كتابات قديمة جدًّا يعدها الباحثون أقدم عهدًا من الكتابات العربية الجنوبية، وقد وجد بين بعض حروف هذه الكتابات وحروف المسند شبه جعلهم يذهبون إلى اشتقاق المسند من خطوط سيناء1.

_ 1 Driver, Semitic Writing From Pictograph To Alphabet, London, 1954, pp. 123.

ومنهم من يذهب إلى اشتقاق المسند من الخط الكنعاني، للتشابه بين بعض حروف الخطين. وللتوصل إلى معرفة منشأ الخط المسند، لا بد من تعيين تأريخ لأقدم كتابة مدونة بالمسند، ولم يتفق العلماء على تأريخ ثابت معين. إنما يرجع بعضهم تأريخ أقدم الكتابات إلى سنة 1500 أو 1300 قبل الميلاد، على حين لم يرتفع آخرون بتأريخ أقدم كتابة عثر عليها بالمسند إلى أكثر من 700 أو 800 قبل الميلاد. ولضبط هذا التأريخ أهمية جد عظيمة في البحث عن أصل منشأ ذلك الخط. ثم إنه لا بد في تعيين أصل الخط المسند من النص على أسماء الحروف نصًّا ليس في أمره شك، ثم لا بد أيضًا من النص على نظام ترتيب حروف المسند عند العرب الجنوبيين. وكل هذه الأمور غير متفق عليها، وإذن فليس من الممكن في مثل هذه الظروف التوصل إلى حل علمي يوافق عليه جميع الباحثين في العربيات الجنوبية. وإذا كان أغلب الكتابات في موضوع واحد، هو التقرب إلى الآلهة بهدايا وبنذور، كان أسلوبها يكاد يكون واحدًا، فهي تبدأ عادة باسم المهدي أو بأسماء المهدين، ثم يعقب ذلك فعل يشير إلى التقديم مثل: استعمال فعل قدم أو أهدى وما شاكل ذلك من أفعال مناسبة، ثم اسم الإله أو أسماء الآلهة التي قدمت لها الهدايا، يليها بيان السبب الذي من أجله قدمت، مثل: شفاء من مرض أو وفاء لنذر، أو طلبًا من الإله أو الآلهة أن تطيل عمر المهدي، أو تشفيه من مرضه، أو لتحل له مشكلًا وقع فيه أو مشكلات تحيط به.

القلم اللحياني

القلم اللحياني: ومن القلم المسند اشتق القلم اللحياني، والقلم الثمودي، والقلم الصفوي؛ وذلك لأن القلم المسند متقدم في الوجود على هذه الأقلام، فلا يمكن أن يكون قد أخذ منها. ثم إن المناطق التي وجدت فيها الكتابات اللحيانية والكتابات الثمودية، كانت في حكم المعينيين والسبئيين، بدليل عثور العلماء على كتابات معينية فيها. وهذه الكتابات أقدم عهدًا من الكتابات اللحيانية والثمودية، ولذلك ذهب الباحثون في اللحيانيات والثموديات إلى اشتقاق خطها من الخط المسند. ولم ينقل أهل أعالي الحجاز القلم المسند نقلًا تامًّا، بل عدّلوا بعض حروفه

وغيّروا فيها بعض التغيير، فظهر من ذلك القلمِ القلمُ اللحياني والقلم الثمودي، غير أننا نجد أن كتابات القلم اللحياني تختلف بعض الاختلاف. وقد قسّمها "ورنر كاسكل" إلى نوعين: كتابات لحيانية متقدمة، وكتابات لحيانية متأخرة. وقد بني تقسيمه هذا على أساس قدم الكتابات وتأخرها في التأريخ. والواقع أننا نجد الكتّاب قد تحرروا في كتابة حروفهم في جميع العهود، في العهد المتقدم وفي العهد المتأخر، بحيث لم يتركوا لنا مجالًا للأخذ بهذا التقسيم. فنراهم وقد كتبوا بعض الحروف بأوضاع قد تزيد على الخمسة. غير أننا إذا ما تصفحنا هذه الحروف المختلفة الأشكال، لا نجدها تختلف اختلافًا بينًا، إنما يرجع هذا الاختلاف في الواقع إلى ضعف وقوة يد الكاتب الذي حفر تلك الكتابات على الحجارة أو الخشب أو المواد الأخرى التي حفر الكتابة فيها. فمنهم من كان قويًّا في حفره للحروف، ومنهم من كان ضعيفًا، فبان هذا الاختلاف في هيئات رسم الحروف. ومن هنا أرى أن اختلاف صور الحروف، لا يدل حتمًا على تطور الخط، بقدر ما يدل على مهارة أو ضعف الكاتب في الكتابة. والقلم اللحياني مثل المسند خالٍ من الشكل، وخالٍ من الرموز أو الحروف التي تشير إلى المدّ أو التشديد أو الإشباع أو الإشمام أو الإمالة وما شابه ذلك. وقد أوجد هذا النقص لقراء الكتابات اللحيانية مشكلات كثيرة في فهمها وفي ضبط الكلمات والأسماء فيها. فلفظة "زد" مثلًا المكتوبة بحرفين، قد تقرأ على أشكال مختلفة، قد تقرأ "زَد" و"زِد" و"زُد" و"زاد" و"زيَدْ" و"زود"، إلى غير ذلك من أشكال. وهي قد تكون اسمًا، كما قد تكون فعلًا أو مصدرًا، وعلى القارئ استخراج نوعها من موقعها في الجملة ومن مقتضى الحال. ومثل ذلك عن "شم" التي تعني "شيم" اسم رجل، "وكتب" بمعنى "كاتب" اسم رجل أيضًا، مع أن للكلمة عدة معانٍ يفهمها الإنسان من موقع اللفظة في النص. ولم يتقيد كتّاب الكتابات اللحيانية تقيدًا تامًّا بكتابة الفواصل العمودية التي تستعمل للفصل بين الكتابات، كما تقيد بها كتّاب المسند. غير أنهم لم يسيروا في كتاباتهم على وتيرة واحدة، فنراهم يخالفونها أحيانًا فيفصلون الألفاظ بفواصل. وقد رفعت الفواصل عن الألفاظ المؤلفة من مقطع واحد، مثل مع، وكتبت مع اللفظة التي تليها. أما إذا اجتمعت لفظتان، كل واحدة منهما ذات مقطع

واحد مثل "و" حرف عطف و"لِ" فالكتاب يكتبونهما على طريقة كتّاب المسند, أي: ممزوجتين، على هذا الشكل: "ول"1. وتجد في هذه الصورة كتابة لحيانية متأخرة، يظهر منها وكأن صاحبها قد كتبها على عجل، فالخط فيها سريع ضعيف يدل على عجلة، والحروف غير واضحة، وقد كتبت بطريقة الحفر بقلم من حديد أو سكين أو آلة حادة أخرى على الحجر، حفرًا سريعًا، كما نكتب بسرعة في القلم. ومن هنا يختلف القلم اللحياني عن القلم المسند، يختلف عنه في عدم تمسك كتّابه بكتابة الحروف بصورة واضحة بينة وبخط قوي واضح يقرأ بسهولة. ولعل لموقع اللحيانيين ولموقع من كتب مثلهم بسرعة وبغير نظام ثابت وتقيد بهندسة الحروف وأشكالها، فيما بين الأبجديات الشمالية، والأبجدية العربية الجنوبية أثرًا في هذا التغير، إذ نكاد نلمس من قراءتنا لهذه الخطوط أنها تحاول الهروب من نظام المسند، المستند على الشكل الهندسي المرتب للحروف، الذي يفصل بين الحروف، والذي يحتاج الكاتب فيه إلى التأني في كتابة الحرف، فيضيع بعض الوقت بسبب ذلك، كما يحتاج إلى إشغال مكان واسع للحروف. بينما نرى الأبجديات الشمالية تقلص من حجم حروفها وتحاول جهد إمكانها ربطها بعضها ببعض اختصارًا في الوقت وفي المكان وفي الجهد. وحروف هذه الأبجديات وإن بقيت محافظة على استقلالها وعلى أشكالها الدالة على أنها من نبت المسند، إلا أنها اتخذت صورًا متعددة، كما أنها لم تتقيد بما تقيد به المسند في نظامه من السير على طريقة السطور، وهو نظام يسهل على القارئ قراءة الكتابة من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار نحو اليمين، أو بطريقة "حلزونية"، بل خرجت على هذا النظام، ولا سيما في حالة الكتابات الثمودية والصفوية، فكتبت بصور غير منتظمة، على صورة هلال، أو كرة، أو نسيج العنكبوت، مما جعل من الصعب على القارئ فهم الكتابة، ويظهر أن ذلك إنما وقع سبب أن الكتبة كانوا من الرعاة أو الفلاحين، وأن الكتابات التي عثر عليها هي من

_ 1 W.CaskeI, S. 60.

كتاباتهم، وقد كتبوها تعبيرًا عن خاطر عنَّ لهم، فهي لا تمثل إذن كتابات رسمية أو كتابات جماعة من المثقفين الذين يعتنون بحسن الخط، وإنما هي خواطر دوّنت على أي حجر وجده الكاتب، ودونها بالشكل الذي وجده يناسب ذلك الحجر. وهذه الكتابة التي تراها في هذه الصورة هي كتابة محفورة على لوح من الحجر، وهي من الكتابات اللحيانية المتأخرة، المحافظة على نظام السطور. وخطّها وإن كان ضعيفًا غير أنه واضح نوعًا ما ونجد الشبه كبيرًا بينه وبين المسند. كتابة لحيانية متأخرة "من كتاب: CaskeI, Nr,2"

كتابة لحيانية قديمة من كتاب: Caskel, Nr. 1 أما هذه الصورة، فتمثل كتابة لحيانية قديمة, وقد تفنن في كتابتها كاتبها، وحفر الحروف فيها حفرًا جعلها بارزة، وقد حافظ فيها على نظام السطور، ونرى الشبه بين أشكال هذه الحروف وأشكال المسند بينًا، إذ لم تكن الكتابات اللحيانية القديمة قد ابتعدت بَعْدُ بعدًا كبيرًا عن الخط العربي الجنوبي.

الخط الثمودي

الخط الثمودي: والخط الثمودي مثل الخط المسند والخط اللحياني والخط الصفوي، خالٍ من الشكل ومن التشديد ومن الإشباع ومن علامات للحركات تكتب مع الحروف في صلب الكلمة. ولهذا يلاقي قارئه من الصعوبات ما يلاقيه قارئ القلم المسند والقلم اللحياني. فكلمة "بت" يمكن أن تقرأ بأوجه متعددة كأن تقرأ "باتَ" فعلًا ماضيًا، و"بيت" اسمًا. ولفظة "عف"، تكتب بهذه الصورة، ويقصد بها "عوف" إن كتبت مع الأسماء. ولفظة "زد" هي "زيد"، ولفظة "تم" هي "تيم", ولفظة "منت" هي "مناة"، وقد يراد بها "منيت"، أي: المنية. وجملة "قنص اسد" تحتمل أن تكون على هذا النحو: "قَنَص أسدٌ"، وقنص اسم رجل، وهو مبتدأ خبره "أسدٌ". ويحتمل أن تكون على هذه الصورة: "قنص أسدًا" فتكون جملة فعلية "قنص" فيها فعل ماضٍ، والفاعل مستتر تقديره هو، وأسدًا مفعول به. غير أن بعض الكتابات قد استعملت حروف العلة: الواو والألف والياء، في بعض الأحيان لسد النقص الحاصل من عدم وجود الحركات، كما في "نور"، و"اموت" "أموت" حيث قامت "الواو" بأداء واجب الـ"او" "u" وكما في لفظة "دين"، وعظيم, حيث قامت الياء بأداء الحركة "إي" i" "ي"، وكما في "موت" "بيت" و"عليت" بمعنى كنت معتلًا، و"رضو "اسم" الإله، و"مو" بمعنى ماء، و"لى" بمعنى "لي"، و"ذى" بمعنى "هذا"، و"اتا" بمعنى "أتى"، وأمثال ذلك. غير أن هذا الاستعمال لم يكن عامًّا، وإنما كان خاصًّا يرد في بعض الكتابات. ونجد هذه الكلمات التي ذكرتها، خالية من الحروف المذكورة، في نصوص أخرى، مما يدل على أن هذه حالات كتابية خاصة، ولم تكن قاعدة عامة متبعة في كل الكتابات. ومن مميزات القلم الثمودي أنه لم يتقيد باستعمال الخطوط العمودية للفصل بين الكلمات، ولهذا نجد الحروف والكلمات متصلة بعضها ببعض في كثير من الكتابات لا يفصل فاصل بينها. وقلما نجدها تستعمل بعض العلامات مثل النقط أو الخطوط الصغيرة لتحديد الجمل. ثم إنه أطلق لنفسه العنان في اتباع الجهة التي يسير عليها

الخط، فتراه تارة يسير سيرنا في الخط، أي: من اليمين إلى اليسار وباتجاه أفقي، وتارة أخرى يتجه من اليسار إلى اليمين. وأحيانًا من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى في أحيان أخرى، كما تراه يتخذ شكل قوس في بعض الأحيان، أو أشكالًا أخرى، كأن يمزج بين هذه الطرق بحسب رغبة الكاتب وشكل المادة التي يكتب عليها. وعلى قارئ النص لذلك الانتباه إلى هذه الاتجاهات، لمعرفة مبدأ الكلام من منتهاه. ونجد بعض الكتابات الثمودية، وكأنها رموز أو طغراء، إذ نجد حروفها وقد تداخل بعضها في بعض، أو بعض حروف منها، وقد تشابكت بحيث يصعب على القارئ حلها. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها نوع من "الوسم"، غير أن من المهتمين بالثموديات من لا يوافقونهم على هذا الرأي، وإنما يرون أنها تمثل رموزًا دينية، أو الأحرف الأولى من أسماء كاتبيها، أو أسماء بعض الآلهة، أو ما شاكل ذلك مما كان له معنى معروف في نفوس أصحابه، وقد خفي ذلك علينا، لعدم وجود مفاتيح لدينا تحل لنا هذه الكتابات المتخذة طابع الرموز والإشارات. ونجد الكتابات الثمودية تعاف بعض حروف الكلمات أحيانًا وتختزلها، كما في "ب"، التي تعني "ابن"، فقد تركت حرف النون واكتفت بالباء. ويستطيع القارئ إدراك معنى "ب" من القراءة. وكما في "ل" بمعنى "لنا" و"لي"، و"ب" بمعنى "بي"، أي: إنها تقطع الضمير اللاحق بحرف الجر في بعض الأحيان1.

_ 1 Grimme, S. 34. ff.

الأبجدية الصفوية

الأبجدية الصفوية: والأبجدية الصفوية مثل الأبجدية اللحيانية والأبجدية الثمودية، أصلها من القلم العربي الجنوبي، وهي تتألف من ثمانية وعشرين حرفًا، غير أن كتّاب هذا القلم قد تلاعبوا به كما تلاعب كتاّب القلم اللحياني والثمودي بحروف المسند، وأوجدوا لهم منها أشكالًا أخرى ميزتها عن الأصل، فأخذ الحرف الواحد أشكالًا

متعددة، تباعد أشكال بعضها تباعدًا كثيرًا عن الأصل، حتى عسرت على القارئ قراءة النص، وهذا مما أوجد مشاكل لقراء هذه النصوص في قراءتها قراءة صحيحة. و"هاليفي" الذي هو أول من تمكن من تشخيص الأبجدية الصفوية، وأول من سمّاها بهذه التسمية لم يتوفق في الواقع إلا في معرفة "16" حرفًا من الحروف الثمانية والعشرين التي تتكون منها الأبجدية الصفوية. أما الحروف الباقية، فقد أخطأ في تشخيصها، حتى جاء "بريتوريوز" فتمكن من تشخيص خمسة أحرف أخرى، كما تمكن الأستاذ "ليتمان" من تشخيص هوية سبعة أحرف، فاكتمل العدد ثمانية وعشرين حرفًا1. ومن الصعوبات التي تعترض قارئ الكتابات الصفوية في قراءة هذه الكتابات وفي فهمها أن للحروف فيها كما قلت آنفًا جملة رسوم، وأن بعض رسوم الحرف الواحد هي رسوم لحرف آخر. فبعض صور الباء هي أيضًا صور للظاء، ولهذا قد تقرأ "باء"، كما تقرأ "ظاء". ويتشابه كذلك رسم الخاء مع التاء، واللام مع النون، والهاء مع الصاد، وكذلك رسوم حروف أخرى, فكانت من هذا كله صعوبات كبيرة تعترض الباحث في قراءة هذه النصوص وفي تثبيت معناها. ولا سيما أن هذه الأبجدية هي كالأبجديات الأخرى خالية من الشكل ومن التشديد ومن حروف العلة في أكثر الأحيان ومن المقاطع، فلا فرق فيها في الكتابة بين الفعل والاسم والفاعل والمفعول به، وفيها مصطلحات وتراكيب نحوية غير معروفة في عربيتنا أو في اللهجات السامية الأخرى. وعلى الباحث إعمال ذكائه في كشف المعاني ومواقع الكلم في هذه النصوص. وهناك صعوبة أخرى تعترض الباحث في قراءة النصوص الصفوية تكمن في عدم وجود قاعدة معينة للابتداء في الخط. فالكاتب بهذا القلم حر كما يظهر من

_ 1 Semitisk, Dritter Band, Zwiter und Dritter Abschnitt, 1945, S. 213. رينه ديسو، العرب في سوريا قبل الإسلام "ص65 وما بعدها"، "تعريب عبد الحميد الدواخلي".

الكتابات في اختيار الجهة التي يبدأ بها في الكتابة، فله أن يبدأ بكتابته من اليمين إلى اليسار، أي على نحو ما نفعله نحن في كتابتنا وعلى نحو ما فعله أكثر كتّاب المسند، وله أن يكتب من اليسار إلى اليمين، أي: على نحو ما يفعله الكاتبون بالأبجدية اللاتينية، وله أن يمزج بين الطريقتين كما رأينا ذلك في بعض كتابات المسند، كما أن له أن يبدأ بالكتابة من أعلى إلى أسفل، وله أن يعكس الوضع فيكتب من أسفل إلى أعلى، وله أن يبدأ بالكتابة من أيسر الجهة السفلى للحجر ويتجه إلى اليمين، ثم إلى اليسار وفي أي اتجاه أحبّ واشتهى، وله أن يختار العكس، أو أية جهة شاء، حتى إنك لترى بعض الكتابات وكأنها خيوط متداخلة، وعلى القارئ أن ينفق جهدًا طويلًا في استخراج رأس الخيط واستلاله للوصول إلى منتهاه. والكتابات الصفوية مثل الكتابات الثمودية واللحيانية هي في أمور شخصية، فهي إما في بيان ملكية شيء، أو في تعيين قبر أي كتابات قبورية، أو في رجاء وتوسل إلى الآلهة. وإما تسجيل خاطر، مثل تذكر أهل أو صديق أو حبيبة أو نزول في مكان أو في تعليق على كتابة قديمة. وكتابات مثل هذه تكون قصيرة في الغالب، وقد تكون من كلمة واحدة في بعض الأحيان. ولما كان معظمها في هذه الأمور، صارت أساليبها في الإنشاء متشابهة، لا تختلف أحيانًا إلا في أسماء أصحابها. وهي لذلك لا تفيدنا كثيرًا من ناحية الدراسات اللغوية، غير أنها مع ذلك أفادتنا فائدة كبيرة في نواحٍ أخرى، من مثل الكشف عن أسماء آلهة العرب الجاهليين، أو أسماء القبائل والأشخاص والنبات والحيوان وبعض العادات وغير ذلك مما يتصل بحياة العرب قبل الإسلام.

وترى في هذه الصورة كتابة صفوية وقد كتبت على شكل ثعبان، إذ لم يسر كاتبها على طريقة الكتابة بالسطور، تكتب بعضها فوق بعض. وهي من الكتابات المؤرخة، وترى بعض الحروف مشابهة لحروف المسند، أما البعض الآخر، فقد ابتعد كثيرًا عن الأصل. كتابة صفوية أرخت بسنة 24 المقابلة لسنة 129 للميلاد، ويرى الرقم على الجانب الأيمن من الكتابة. من كتاب: Safaitic وفي هذه الصورة الثانية كتابة صفوية، وقد كتبت على النحو الذي نراه في الصورة، وقد تصرف كاتبها في الحروف، تصرفًا تظهر عليه روح الاختزال وتصغير حجم الحرف وهي من الكتابات المؤرخة. يوجد هنا رسمة بالصفحة كتابة صفوية يعود تأريخها إلى سنة 42. وقد رقمت برقم 162 في كتاب: Safaitic "ص36".

والصفوية مثل اللهجات العربية الأخرى في خلوّها من الشكل، لذلك تجابه الباحث في قراءة كتاباتها ما يجابهه قارئ اللهجات الأخرى من مشكلات في فهم الكتابات فهمًا صحيحًا واضحًا، فلا بد من الاستعانة بعربية القرآن الكريم وباللهجات السامية لفهمها فهمًا صحيحًا. ولم يحفل الكتاب بتثبيت الحروف في صلب الكتابة باعتبارها تعبيرًا عن الحركات، ولم يستعملوا المقاطع المعبرة عن الأصوات، لضبط النطق. وقد يكتب فيها الحرف مرتين في مواضع نستعمل لها الشدّة في عربيتنا. ومادة الكتابات الصفوية، هي الحجارة الطبيعية بأشكالها المختلفة، يأخذها الكاتب فيحفر عليها بآلة ذات رأس حاد الكلمات التي يريد تدوينها. أما الورق أو المواد المشابهة الأخرى المستعملة في الكتابة، فلم يعثر على شيء منها مكتوب بهذه الأبجدية. ويجب أن أبين أن هذه الكتابات اللحيانية والثمودية، والصفوية، لا تعني أنها خطوط "بني لحيان"، و"قوم ثمود" بالضرورة، فبين الكتابات المنسوبة إلى مجموعة من هاتين المجموعتين ما لا يمكن عده من كتابة قوم من "بني لحيان" ولا من قوم ثمود، وإنما هي من كتابات قبائل أخرى, وقد أدخلت في الخط اللحياني أو في القلم الثمودي، لمجرد تشابه الخط. وقد ذكرت أن الكتابة الصفوية، إنما عرفت بهذه التسمية، بسبب عثور العلماء عليها في "الصفاة" في الغالب، فنسبوها إلى هذا الأرض، مع أنها قبائل وعشائر مختلفة. ويلاحظ أن التباين في أشكال الحروف داخل المجموعة الواحدة مثل اللحيانية، والثمودية والصفوية، لا يقل عن التباين الذي نراه بين صور الحروف المكونة لهذه المجموعات. فأنت ترى في هذه الصورة وقد كتب حرف الألف في الصفوية بصور متباينة، تكاد تجعل من الصعب التوصل إلى أنها تمثل كلها هذا الحرف، ثم ترى الحرف نفسه في "الثمودية"، وقد كتب بصور متباينة، ويقال نفس الشيء بالنسبة لهذا الحرف في الكتابة اللحيانية. ونجد هذا التباين في كل الحروف الباقية كذلك. أما المسند، فلا نجد فيه هذا التباين، مما يحملنا على إرجاع سببه إلى ضعف وقوة يد الكتاب، وإلى تباين القلم الذي يكتب به. فالمسند قلم، استعمل في تدوينه قلم حاد قوي، حفر الكتابة على الحجر حفرًا وبعناية، بسبب أنها وثائق وكتابات ذات أهمية بالنسبة لكاتبها، أما الأقلام الأخرى, فقد استعملت في التعبير عن خواطر في الغالب، لذلك سجلها كاتبها بأي أداة وجدها أو

كانت عنده تؤدي إلى إحداث خدش أو حفر على المادة التي وجدها أمامه صالحة للكتابة، فنقش عليها رأيه بسرعة وبغير تأنق، فظهرت الخطوط متباينة متغايرة لهذا السبب، كما ترى في هذه الصورة: الأقلام الصفوية والثمودية واللحيانية والعربية الجنوبية والعبرانية

الترقيم

الترقيم: لقد تحدثت عن الترقيم عند الصفويين، وذكرت أنهم ساروا فيه من الواحد إلى الخمسة على أساس وضع خطوط عمودية، يمثل كل خط منها العدد "1". فإذا أرادوا كتابة الرقم "1"، وضعوا خطًّا واحدًا يمثله. وإذا أرادوا كتابة "2"، وضعوا خطين عموديين. وإذا أرادوا العدد "3"، وضعوا ثلاثة أعمدة. وإذا أرادوا العدد "4"، كتبوا أربعة خطوط عمودية. وأما إذا أرادوا الرقم "5" وضعوا خمسة خطوط. وكتابة الأرقام من المسائل العويصة التي جابهت الكتّاب في الأزمنة القديمة. وقد كان كتّابهم يكتبون بالحروف، ولكنهم كانوا إذا أرادوا تدوين الأرقام تحيروا: هل يكتبونها كتابة بالحروف أو يجعلون لها رموزًا خاصة تشير إلى الأعداد. وقد وجدنا أن العرب الجنوبيين كانوا قد اختاروا الخط العمودي لتمثيل الرقم "1"، فإذا أرادوا الرقم "2"، وضعوا خطين، وإذا أرادوا الرقم "3"، وضعوا ثلاثة خطوط، وإذا أرادوا الرقم "4"، وضعوا أربعة خطوط. ولصعوبة الاستمرار على هذه الطريقة، بسبب كبر الأعداد، اختاروا الحرف الأول من لفظة خمسة وهو الخاء لتمثيل العدد "5"، واختاروا الحرف "ع" وهو الحرف الأول من العدد عشرة لتمثيل هذا العدد، واختاروا رموزًا أخرى كما رأينا لمعالجة مشكلة العدد عندهم، فحلوا بذلك عقدة الترقيم بعض الحل، ولم يبلغوا منه التمام. وقد اختارت بعض الشعوب النقط، بدلًا من الخطوط. فالرقم "7" مثلًا تمثله سبع نقط، والرقم "3" تمثله ثلاث نقط. وسارت شعوب أخرى على طريقة الخطوط فرمزوا عن الرقم "5" بخمسة خطوط، وعن الرقم "10" بعشرة خطوط عمودية, وعن الرقم "15" بخمسة عشر خطًّا عموديًّا. ودفعتهم صعوبة كتابة الأرقام الكبيرة بهذه الطريقة، إلى التفكير في طريقة أخرى تكون مختصرة بعض الاختصار وسهلة في التعبير عن قيم الأرقام، فاختار بعضهم النقطة رمزًا عن العدد "10"، واختار بعض آخر خطًّا أفقيًّا ليكون ذلك الرمز، وبذلك سهلت عليهم كتابة الأرقام الآحاد مع العشرات، فإذا أرادوا كتابة الرقم "10"، وضعوا نقطة واحدة "0" أو خطًّا أفقيًّا على هذا الشكل - ليشير إلى الرقم "10"، وإذا أرادوا الرقم "11"، كتبوه على هذه الصورة: "10" أو "-1".

وإذا أرادوا الرقم "15"، كتبوه على هذا الشكل "1110 11" أو على هذا الشكل: "-111 11". وغيّر الفينقيون وبنو إرم وأهل تدمر بعض التغيير في شكل الخط الأفقي الدال على العدد "10"، بأن جعلوا في طرفه الأيمن خطًّا ممتدًّا إلى الأسفل قليلًا على شكل زاوية متجهة نحو اليسار. ثم أجرى النبط تعديلًا يسيرًا في هذه العلامة الجديدة بأن جعلوا رأسها متجهًا إلى أعلى اليمين، أي: نحو الزاوية اليمنى للمادة التي يكتب عليها. أما مؤخرتها، فقد وجهوها نحو الجهة الجنوبية اليسرى1. وقد سار الفينقيون وبنو إرم على طريقة الترقيم بالخطوط العمودية للأعداد من "1" إلى العدد "9". ولتسهيل قراءة الأعداد التي تزيد قيمتها العددية على ثلاثة، جعلوا كل ثلاثة خطوط متقاربة، بحيث تظهر في شكل مجموعة واضحة، وتمثل هذه المجموعة الرقم "3"، ووضعوا على يسار هذه المجموعة ما يكملها لتكوين العدد المطلوب. فكانوا إذا أرادوا مثلًا كتابة الرقم "5"، كتبوه على هذه الصورة: "111 11" أي: الرقم "3" الذي تمثله ثلاثة خطوط عمودية منضمة بعضها إلى بعض، ثم الرقم "2" الذي يمثله خطان منضمان، وبين هذين الرقمين فراغ قليل يفصل بين العددين. وإذا أرادوا الرقم "6" كتبوه مجموعتين متجاورتين، كل مجموعة ذات ثلاثة خطوط منضمة، وبين المجموعتين فراغ صغير. غير أن بعض الكتابات كتبت الرقم "6" على هذا الشكل: 111 111 أي: إنها وضعت الرقمين ثلاثة: أحدهما فوق الآخر، ليشير هذا الوضع إلى حاصل جمع العددين، وهو ستة2. وقد اصطلح النبط على اتخاذ علامة خاصة بالعدد "4" جعلوها على هيئة التاء في المسند، أي: على هذا الشكل: "×"، كما اصطلحوا على اتخاذ علامة أخرى خاصة بالرقم "5"، شكلها قريب من شكل الرقم "5" في الحروف اللاتينية، أي: على هذا الشكل تقريبًا: "5". على حين رمز غيرهم مثل أهل تدمر عن الرقم "5" برمز يشبه حرف الـ"Y" في الأبجدية الاتينية. فإذا أرادوا كتابة

_ 1 Mark Lidzbarski, Handbuch der Nordsemitischen Epigraphik, Weimer 1898, S. 198. المصدر نفسه "ص199".

الرقم "6"، وضعوا الرقم الذي يرمز عن العدد "5"، ووضعوا خطًّا على يساره ليشير بذلك إلى العددين خمسة زائدًا واحدًا "5+1" "1Y" ومجموعهما ستة. وإذا أرادوا الرقم "7"، كتبوا خمسة زائدًا خطين يوضعان على يسار الرقم "5"، ليتكون من العددين العدد "7"، "11Y"، وهكذا إلى العدد "9". وقد سار الكتّاب في ترقيم الأعداد التي بعد العشرة على طريقتهم التي اتبعوها في السير أفقيًّا في الترقيم، إلا في حالات قليلة ساروا على طريقة وضع الأرقام بعضها فوق بعض، وجعلوا للرقم "20" علامة تتألف من نقطتين إحداهما فوق الأخرى، أو من خطين أفقيين أحدهما فوق الآخر على شكل علامة مساو "=" في علم الحساب، أو من علامة تشبه حرف الشين في المسند "4"، أو من علامة تشبه حرف الـ"N" في اللاتنية. ووضع النبط للعشرين علامة تشبه الـ"3" اللاتيني في بعض الأحيان، وتشبه الرقم "&" اللاتيني في أحيان أخرى، غير أنهم فتحوا النهاية السفلى من الرقم "&" جعلوها مفتوحة في الغالب1. وتكتب الأعداد الآحاد على الجهة اليسرى من العشرات، فإذا أردنا كتابة الرقم "11"، كتبنا الرقم "10" أولًا ثم العدد "1" من بعده ويكتب إلى يسار الرقم "10". فإذا أردنا كتابته على الطريقة الفينيقية أو الإرمية، كتبناه على هذه الصورة: "- 1". وإذا أردنا كتابته على طريقة أهل تدمر أو طريقة النبط، وضعنا العلامة التي وصفتها الخاصة بالعشرة، ووضعوا إلى يسارها خطًّا واحدًا يمثل العدد "1"، وإذا أرادوا العدد "12"، وضعوا خطين بعد الرقم "10"، وإذا أرادوا "13" وضعوا ثلاثة خطوط. وإذا أرادوا "14"، وضعوا أربعة خطوط. أما إذا أرادوا الرقم "15"، فإن منهم من وضع خمسة خطوط بعد الرقم عشرة كما كان يفعل الفينيقيون، ومنهم من اتبع هذه الطريقة وطريقة تمثيل العدد بخطوط، فوضع خمسة عشر خطًّا لهذا العدد. ومنهم من وضع بعد العلامة الخاصة بالرقم "10" العلامة الخاصة بالرقم "5" كالنبط وأهل تدمر. أما مكررات العشرة، فتكتب على هذه الصورة. إن كان العدد العشرات من الأعداد الزوجية فيكتب العدد بقدر احتواء العدد المراد تسجيله على العدد عشرين. فإذا أردنا كتابة الرقم "40"، كتبنا الرقم "20" مرتين. وإن كان

_ 1 M.Lidzbarske, Handbuch, I, S. 199.

العدد "60"، كتبنا العدد "20" ثلاث مرات. وإن كان العدد "80"، كتبناه أربع مرات. أما إذا كان العدد العشرات من غير الأعداد الزوجية كما في مثل ثلاثين، فإننا نكتب العدد "20" أولًا ثم نضع الرقم "10" على يساره، فيتكون من مجموع قيمة العددين "30". أما إذا أردنا الرقم "70" مثلًا، كتبنا العدد "20" ثلاث مرات، ثم العدد "10" على الجهة اليسرى من الأرقام الثلاثة. وقد كتب هذا العدد في بعض الكتابات الإرمية بست نُقط: ثلاث نقط في أعلا وثلاث نقط في أسفلها، ونقطة على الجهة اليسرى من المجموعتين وفي مقابل الموضع الوسط الذي يكون الحد الفاصل بين المجموعتين وعلى هذا الشكل " ... "1 أما العدد مائة، فقد رمز عنه بعلامات متعددة، منها هذه العلامات: " ْ1" و"" و"". ونرى أن العلامة الأولى هي توسيع للرقم الذي رمز إليه عن العشرة. وقد اتخذ النبط علامة تشبه الرقم "9"، أو الحرف "P" في اللاتينية. وقد سبق أن ذكرت أن العرب الجنوبيين كانوا قد اتفقوا على اعتبار الحرف الأول وهو الميم من لفظة مائة هو الرمز الذي يشير إلى العدد، واعتبروا نصف هذا الحرف رمزًا على العدد "50" باعتبار أن الخمسين نصف المائة، فنصف الحرف ميم هو رمز عن هذا العدد. أما العدد الألف، فقد وجدت له في بعض الكتابات علامات خاصة. وقد رمز عنه الفينيقيون وبنو إرم بعلامة هي عبارة عن خط مائل يتصل به ما يشبه نصف القوس من جهة اليمين، ورأس الخط مائل إلى اليمين، أما أسفله فمتجه نحو اليسار2. ولم ترد في الكتابات الصفوية أرقام كثيرة، لذلك لا نستطيع أن نحكم على طريقتهم في الترقيم وفي العدّ. غير أن في استطاعتنا القول، استنادًا إلى هذه النماذج القليلة التي وصلت إلينا: إنهم اتبعوا في الترقيم الطريقة النبطية وطريقة أهل تدمر، ولم يتبعوا طريقة العرب الجنوبيين في تدوين العدد. ويمكن إرجاع سبب ذلك إلى اتصالهم اتصالًا مباشرًا بالنبط وبأهل تدمر، وإلى تأثرهم بثقافتهم.

_ 1 راجع الألواح الخاصة الملحقة بكتاب: M. Lidzbarski والخاصة بالنصوص. 2 راجع آخر المصور الملحق بكتاب M. Lidzbarski اللوح الخاص بالأرقام.

جدول الأرقام

ولما كانوا محتاجين إلى تدوين الأرقام اضطروا إلى اقتباس طريقة النبط وأهل تدمر في كتابة الأعداد بالأرقام. وتجد في الجدول المقابل كيفية تدوين الأرقام في الفينيقية والآرامية، والتدمرية، والنبطية. وهي تختلف اختلافًا بينًا عن صور الأرقام التي نستخدمها اليوم في عربيتنا. ونلاحظ أن من بين الترقيم في المسند، وبين الترقيم في هذه الأبجديات تشابه كبير إلى حد الرقم "4"، ثم يختلف، فقد أخذ العرب الجنوبيون الحرف الأول من لفظة "خمسة"، وجعلوه رمزًا إلى العدد "5"، بينما اتبع الباقون طريقة التخطيط بالرقم "1" إلى العدد "9" في الفينيقية، ثم بدلوا الطريقة، وسلكت هذا المسلك الأبجدية الآرامية، أما الأبجدية التدمرية والأبجدية النبطية، فقد اتبعتا سبيلًا آخر، فيه اختلاف في بعض الأعداد، ولكن بينهما تجانسًا بوجه عام. مما يدل على أنهما أخذا الترقيم من منبع واحد.

الفصل الثالث والعشرون بعد المائة: الكتابة والتدوين

الفصل الثالث والعشرون بعد المائة: الكتابة والتدوين لا خلاف في أن التدوين كان معروفًا عند العرب قبل الإسلام، بدليل ما تحدثنا عنه من وجود الألوف من النصوص الجاهلية التي عثر عليها في العربية الجنوبية وفي العربية الغربية وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب. كتبت بلهجات عربية متنوعة، تختلف عن عربية القرآن الكريم، اختلافًا متباينًا، أقربها إلى عربيتنا الكتابة التي وسمت بـ"نص النمارة" أو كتابة النمارة، التي هي شاهد قبر "امرئ القيس" المتوفى سنة "328" للميلاد، والكتابات الأخرى التي كتبت بعده1. ولا خلاف بين العلماء في أنهم لم يتمكنوا حتى الآن من العثور على أي نص جاهلي مكتوب بهذه اللهجة التي نزل بها القرآن، والتي ضبط بها الشعر الجاهلي، لا من الجاهلية البعيدة عن الإسلام، ولا من الجاهلية القريبة منه، مع أنهم تمكنوا من العثور على كتابات جاهلية مدونة بلهجة عربية أخرى، تعود إلى عهد لا يبعد كثيرًا عن الإسلام، مثل النص المعروف بنص "حران" المدوّن سنة "568م". وإذا صح أن الكتابة المعروفة بـ"أم الجمال" الثانية، هي كتابة جاهلية

_ 1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 189 وما بعدها".

أصيلة، تكون أو نص يمكن أن نعتبره بحق وحقيقة من النصوص المدونة بلغة القرآن والشعر الجاهلي. ويرجع العلماء الذين درسوه تأريخه إلى أواخر القرن السادس للميلاد. وقد جاء فيه: 1- الله غفرا لاليه. 2- بن عبيده كاتب. 3 الخليدا على بنى. 4- عمرى كتبه عنه من. 5- يقروه1 ولكن عبارة وأسلوب تدوين الكتابة، يوحيان للمرء، أنها من الكتابات المدونة في الإسلام. وأنا أشك في كونها من مدونات أواخر القرن السادس للميلاد، حتى إذا ذهبنا أن صاحبها كان نصرانيًّا، وأن لفظة "غفرا" من الألفاظ الدينية التي كان يستعملها النصارى، فلا غرابة من ورودها في نص جاهلي؛ لأنها كتابة نصرانية. وحجتي أن أسلوبها يفصح عن أسلوب الكتابات الإسلامية القديمة التي دوّنت في صدر الإسلام. وقد تكون في القراءة بعض الهفوات والشطحات، على كلٍّ فإن الزمن بين العهدين غير بعيد، ثم إن استعمال "التاء القصيرة" في "عبيدة" الاسم الوارد في السطر الثاني من النص لم يكن معروفًا في هذا العهد ولا في صدر الإسلام، لذلك أرى أنها من الكتابات الإسلامية. وفيها هفوات. وبناء على ما تقدم نقول: إننا لم نتمكن من الحصول على نص جاهلي مدوّن بلغة عربية قرآنية، لا شك في أصالته، ولا شبهة في كونه جاهليًّا. وأن أقدم ما عثر عليه من كتابات بهذه العربية، هي كتابات دونت في الإسلام. في رأسها الكتابات التي عثر عليها مدوّنة على جبل "سلع" قرب المدينة، يرى "الدكتور حميد الله" أنها ترجع إلى السنة الخامسة للهجرة2. ثم الكتابة التي كتبت على شاهد قبر رجل اسمه "عبد الله بن خير"، أو "عبد الله بن جبر" الحجازي أو الحجري، المحفوظة في دار الآثار العربية بالقاهرة

_ 1 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "الشكل رقم 5 مقابل الصفحة 73". 2 H. Hamidullan, Some Arabic Inscriptions of Medinah of the Early Years of Hjrah, in Islamic Culture, vol 13, No. 4, 1939, p. 427.

ويعود عهدها إلى "جمادى الآخرة" من سنة إحدى وثلاثين1. ولا خلاف بين الباحثين في أن كل ما وصل إلينا من نصوص جاهلية إنما هو بلغة النثر، إذ لم يعثر حتى الآن على نص مكتوب شعرًا. ونظرًا إلى وجود التدوين عند أصحاب هذه النصوص، ونظرًا لأن الشعر، شعور، لا يختص بإنسان دون إنسان، وبعرب دون عرب، فأنا لا أستبعد احتمال تدوين الجاهليين الشعر أيضًا، مثل تدوينهم لخواطرهم وأمورهم نثرًا. دوّنوه بلهجاتهم التي كتبوا بها. وهي بالنسبة لهم لهجاتهم الفصيحة المرضية. أما سبب عدم وصول شيء مدوّن منه إلينا، فقد يعود حسب رأيي، إلى أن تدوين الشعر والنثر يكون في العادة على مواد قابلة للتلف، مثل الجلود والخشب والعظام وما شاكل ذلك, وهي لا تستطيع مقاومة الزمن, لا سيما إذا طمرت تحت الأتربة، ثم هي معرضة لالتهام النار لها عند حدوث حريق، أو للتلف إن أصابها الماء، أضف إلى ذلك أنهم كانوا يغسلون الجلد المكتوب، للكتابة عليه مرة أخرى، لغلاء الجلود، وهو ما حدث عند غير الجاهليين أيضًا. ونجد في المؤلفات الإسلامية أمثلة كثيرة على غسل الصحف المكتوبة للكتابة عليها من جديد. ورسائل النبي وكتبه وأوامره إلى عماله ورسله على القبائل، فقد فقدت وضاعت مع ما لها من أهمية في نظر المسلمين، وقل مثل ذلك عن كتب الخلفاء، فلا نستغرب إذن ضياع ما كان مدونًا من شعر جاهلي، فقد نص مثلًا على أن الشاعر "عدي بن زيد" العبادي، وكان كاتبًا مجودًا بالعربية وبالفارسية حاذقًا باللغتين قارئًا لكتب العرب والفرس، كان يدوّن شعره وهو في سجن النعمان ويرسل به إلى الملك، يتوسل إليه فيه أن يرحم به، وأن يعيد إليه حريته، وكان الشعر يصل إلى الملك، فلما طال سجنه صار يكتب إلى أخيه أُبي بشعر2، لم تبق من أصوله المكتوبة أية بقية، وقد ضاعت أصول شعره المكتوب المرسل إلى النعمان كذلك، حتى إننا لا نجد أحدًا من رواة شعره يروى أنه رجع إليها فنقل منها، مما يبث على الظن أنها فقدت منذ عهد بعيد عن بداية عهد التدوين. ويدفعنا موضوع التدوين إلى البحث عن تدوين الأدب والعلم عند الجاهليين،

_ 1 ولفنسون، السامية "202". 2 الطبري "2/ 197 وما بعدها"، "ذكر خبر ذي قار".

وعما إذا كان للجاهليين أدب منثور وعلم مدوّن؟ لقد ذهب بعض الباحثين إلى وجود هذا الأدب عند أهل الجاهلية، وتوقف بعض آخر، فلم يبد رأيًا في الموضوع، وتوسط قوم، فقالوا باحتمال وجود تدوين أو شيء منه عندهم، إلا أنهم أحجموا عن الحكم على درجة تقدمه واتساعه في ذلك العهد. لعدم وجود أدلة ملموسة يمكن اتخاذها سندًا لابداء رأي واضح علمي في هذا الموضوع. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أنه لو كانت هنالك مدوّنات في الأدب، لما خفي ذكرها وطغى اسمها حتى من ذاكرة أهل الأخبار، ومن أحاديث الرواة. أنه لو كان أهل الجاهلية قد زاولوا التأليف وتدوين العلم، لما اقتصر علم أهل الأخبار في الأدب على ذكر قطع من الحكم، يشك في صحتها، وعلى إيراد الشعر رواية وعلى رواية بعض القصص والأمثال، وسردهم كل شيء يتعلق بأمر الجاهلية رواية. وإنه لو كان لديهم تأليف منظم، لسار على هديهم من جاء بعدهم في الإسلام، ولسلكوا مسلكهم في التدوين: تدوين الكلام المنثور وتدوين الكلام الموزون المقفى، وحيث إن أحدًا لم يذكر اسم مدوّن من مدوّنات أهل الجاهلية، وحيث إن المسلمين لم يشرعوا بالتدوين إلا بعد حين، فلا يمكن لأحد النص بكل تأكيد على وجود تدوين عند الجاهليين1. ولم نعثر على خبر في كتب أهل الأخبار يفيد أن أحدًا من الرواة والعلماء أخذ نص كلام حكيم من حكماء الجاهلية، أو خبر أو شعر من صحف جاهلية، أو من كتب ورثوها من ذلك العهد. أو خبر أو شعر من صحف جاهلية، أو من كتب ورثوها من ذلك العهد. هذا "قس بن ساعدة" الإيادي، مع ما قيل عنه من أنه كان كاتبًا قارئًا للكتب، واقفًا على كتب أهل الكتاب، خطيبًا عاقلًا حكيمًا، وأن العرب كانت تعظمه وضربت به شعراؤها الأمثال، وأنه كان خطيب العرب قاطبة، نجدهم يختلفون في خطابه المعروف، ويروونه بمختلف الروايات، حتى ذكر أن الرسول كان قد سمعه، وسمع خطابه، فلما جاء ذكره، وأراد أن يتذكر خطابه، وجد بين الصحابة اختلافًا في تلاوته؛ لأنه لم يكن مدوّنًا، ولو كان مدوّنًا لم يختلف فيه2.

_ 1 هاملتون جب، دراسات في حضارة الإسلام "294 وما بعدها"، "دار العلم للملايين". 2 الإصابة "3/ 264"، "رقم "7342".

وليس في الأخبار عن الجاهلية خبر يفيد أن السدنة أو غيرهم من الساهرين على الأصنام والأوثان وبيوتها، ألفوا كتبًا في الوثنية وفي أحكامها وقواعدها. أما اليهود والنصارى، فقد كان لهم علماء يشرحون للناس في معابدهم أحكام دينهم، ويعلمونهم الكتابة والقراءة وما في كتبهم المقدسة من أوامر ونواه. فكان "أبو الشعثاء، وهو رجل ذو قدر في اليهود، رأس اليهود التي تلي بيت الدراسة للتوراة"1. وهو من يهود بني ماسكة. وكان آخرون بينهم يعلمونهم أحكام دينهم في بيت المدارس. وفي لغة الجاهليين مفردات تستعمل في القراءة والكتابة، مثل: قلم، وقرطاس، ودواة، ومداد، ولوح، وصحف، وكتاب، ومجلة، وغير ذلك لا يشك في استعمال الجاهليين لها، لورودها في القرآن الكريم. وورودها فيه، دليل على استعمالهم لها. وورد بعضها أيضًا في الحديث النبوي وفي الشعر الجاهلي. ويفيدنا حصر هذه الألفاظ وضبطها في تكوين رأي علمي صحيح سديد في الكتابة والقراءة عند الجاهليين، والمؤثرات الخارجية التي أثرت في العرب في هذا الباب، وفي تكوين رأي قاطع في الجهة التي أمدت العرب كثيرًا أو قليلًا بعلمهم في قلمهم العربي الشمالي الذي يكتب به إلى هذا اليوم. وأعتقد أن من واجب علماء العربية في هذا اليوم، العمل على حصر ألفاظ العلوم والحضارة والثقافة التي ثبت لديهم استعمال الجاهليين لها، وتعيين تأريخ استعمالها وأصولها التي وردت منها إن كانت أعجمية دخيلة, والاستشهاد بالأماكن التي وردت فيها، ففي هذا العمل العلمي, مساعدة كبيرة للباحثين على تشعب علومهم وموضوعاتهم في الوقوف على تطور الفكر العربي قبل الإسلام. ولا أقصد الإحاطة بالمفردات الواردة في الشعر الجاهلي أو القرآن الكريم أو الحديث النبوي أو معجمات اللغة وغيرها من الموارد الإسلامية وحدها، بل لا بد من إضافة المفردات الواردة في الكتابات الجاهلية التي عثر والتي سيعثر عليها إلى تلك المادة؛ لأنها مادة العصر الجاهلي وجرثومة اللغة، وبدونها لا تسعنا الإحاطة بلغة أهل الجاهلية وبتطور فكرهم أبدًا. ومن يراجع الموارد العربية وعلى رأسها المعجمات، يدرك الصعوبات التي يلاقيها

_ 1 الأغاني "16/ 15".

المرء في الحصول على مادة ما، لعدم وجود الفهرسة للألفاظ والمواد في معظم هذه الموارد، فعلى المراجع قراءة صفحات وأجزاء أحيانًا للحصول على شيء زهيد. ولهذا زهد معظم المؤلفين في مراجعة ما هو مطبوع مع أهميته ودسم مادته؛ لأن الصبر قاتل، والإكثار من المراجعة عمل شاق مرهق، والحياة تستلزم السرعة والإنتاج بالجملة. وقد ماتت همم الماضين، وحلت محلها عجلة المستعجلين الذين يريدون الإنتاج السريع الخفيف الجالب للاسم والمال. وبعض الألفاظ الخاصة بالكتابة والقراءة، هي ألفاظ معربة، وإن وردت عند الجاهليين واستعملت قبل الإسلام بزمن طويل، عرّب بعضها عن اليونانية، وعرّب بعض آخر عن الفارسية أو السريانية أو القبطية، وذلك بحسب الجهة التي ورد منها المعرب ووجد سبيله إلى العربية، ويمكن التعرف عليه بمقابلة اللفظ العربي مع اللفظ المقابل له عند الأمم المذكورة، وبضبط الزمن الذي استعمل فيه والظروف المحيطة به، للتأكد من أصله، فقد يكون عربيًّا أصيلًا انتقل من العرب إلى تلك الأقوام، وقد يكون العكس، نتمكن من الحصول على دراسة علمية قيمة في باب المعربات والتبادل الفكري بين الجاهليين والأعاجم. والقلم، هو من أدوات الكتابة المذكورة عند الجاهليين. وقد ذكر في القرآن الكريم. أقسم به في سورة "ن والقلم"، وعظم وفخم شأنه في سورة العلق1. يكتب به على الورق والرق والجلود والقراطيس والصحف ومواد الكتابة الأخرى، وكان يتخذ من القصب في الغالب، فتقطع القصبة قطعًا يساعد على مسكه باليد، ثم يبرى أحد رأسيها، ويشق في وسطه شقًّا لطيفًا خفيفًا يسمح بدخول الحبر فيه، فإذا أريدت الكتابة به، غمس في الحبر، ثم كتب به. ويعرف هذا القلم بقلم القصب، تمييزًا له عن الأقلام المستعملة من مواد أخرى. ولفظة "القلم" من الألفاظ المعربة عن أصل يوناني، فهو "قلاموس" في اليونانية، ومعناها القصب؛ لأن اليونان اتخذوا قلمهم منه2.

_ 1 سورة العلق، الآية 4، سورة القلم، الآية 1، لقمان، الآية 27، المفردات "ص422"، شرح القاموس "9/ 31"، صبح الأعشى "2/ 434 وما بعدها". 2 الأب رفائيل اليسوعي "ص366"، فرائد اللغة "293" Ency. II, p. 675.

وينبت القصب في مواضع من جزيرة العرب حيث تتوافر المياه. وقد أشار "بلينيوس" Pliny، في تأريخه إلى قصب KaIamus عربي، وقصب ينمو في الهند، وذكر أنهم يستعملونه في عمل الأنسجة. وهناك نوع من القصب قوي متين، يطول فيستعمل في أغراض متعددة، يقال له: "قنا"، ومنه "القنى" و"القناة" التي يستعملها المحاربون، وتعرف بـ"قنة" في العبرانية. وكانوا يستوردونه من "صور"1. وقد وردت لفظة "القلم" و"قلم" في شعر عدد من الشعراء الجاهليين في شعر لبيد وعديّ بن زيد العبادي والمرقش وأمية بن أبي الصلت وغيرهم ممن وقفوا على الكتابة وكانت لهم صلات بالحضارة وبأصحاب الديانات. وذكر أن الخط يكون بالقلم2. ويعرف القلم بـ"المِزْبَر" كذلك، من أصل زبر بمعنى كتب. وقد ذكر في الحديث النبوي3. ويعرف بـ"المِرقَمْ" أيضًا4، إذ هو أداة للرقم، أي: الكتابة. ويقطّ القلم بمقطة5، وتستعمل السكين في بريه أيضًا. ويعتنى بذلك حتى يكون القلم جيدًا سهلًا في الكتابة6. ويقال للسكين: المدية على بعض لهجات العرب7. والقلم قبل أن تبريه: أنبوبة، فإذا بريته، فهو قلم. وما يسقط منه

_ 1 Smith, Dictionary of the BibIe, I, p. 241. 2 قال عدي: ما تبين العين من آياتها ... غير نؤى مثل خط بالقلم الأغاني "2/ 119"، سمط اللآلي "876". وورد في شعر لأمية بن أبي الصلت: قوم لهم ساحة العراق إذا ... ساروا جميعًا والخط والقلم سيرة ابن هشام "1/ 48"، بلوغ الأرب "3/ 369"، المرزباني، معجم "201"، الأغاني "6/ 127"، النقائض"106"، شرح المعلقات، للتبريزي "128". 3 صبح الأعشى "2/ 434"، المفردات "ص210"، الفائق "1/ 522"، تاج العروس "3/ 231"، "زبر". 4 بلوغ الأرب "3/ 372"، تاج العروس "8/ 316"، "رقم". 5 شرح القاموس "5/ 207". 6 السمعاني، أدب الإملاء والاستملاء "ص161". 7 صبح الأعشى "2/ 455 وما بعدها".

عند البري: البُرايةُ. والمِقطُّ: ما يقط عليه. والقط: القطع عرضًا، والقدّ: أن يقطع الشيء طولًا1. وهناك أنواع أخرى من الأقلام غير قلم القصب، صنعت من الحديد. وقد استعمل العبرانيون وغيرهم أقلامًا من حديد ذات رءوس من الماس، ليكتب بها على صفائح من الحجر أو من المعدن، كما استعملوا القلم الحديد أو القلم الرصاص وأقلامًا من معادن أخرى للكتابة بها على صفائح من الخشب مغطاة بشمع. ولهذا القلم رأسان: رأس محدد للكتابة، ورأس مفلطح لمحو الغلطات وتسوية سطح الشمع ثانية، كما استعملت الفرشاة لرسم الحروف2. واستعمل أيضًا ريش الطيور. وقد عرف القلم المصنوع من الحديد بـ"عيت" ET عند العبرانيين3. وذكر أن "زيد بن ثابت" دخل على رسول الله وهو يملي في بعض حوائجه، فقال: "ضع القلم على أذنك فإنه أذكر للمملي به"4. وقد استعملوا السكين والآلات الحادة في الكتابة على الخشب أو الحجر، كما استخدموا الفحم وكل ما يترك أثرًا على شيء، مادة للكتابة. وذلك حين يعنّ لهم خاطر أو حين يريدون إبلاغ رسالة أو تقييد أمر هام، مثل وقوع اعتداء على شخص، فيكتب ما وقع له، وهو لا زال متمكنًا من الكتابة، على ما قد يكون عنده، حتى يعلم بمصيره من قد يمر به ميتًا5. وقد حفر "قيسبة بن كلثوم السكوبي" على رحل "أبي الطمحان القيني" رسالة، دونها بسكين6. ودوّن أحدهم، وهو يحتضر، خبر قتله على راحلة قاتله، بعد أن غافله، ذكر فيها اسم قاتله7. وهناك أمثلة أخرى من هذا القبيل، توسل فيها كاتبوها بمختلف الوسائل لإيصال رسائلهم إلى من يريدون وصولها لهم. وقد وصلت بعضها وجاءت بالنتائج التي كان يريدها أصحابها منها.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 370 وما بعدها". 2 قاموس الكتاب المقدس "2/ 223"، HASTINGS, p. 981. 3 Hastings,p. 981. 4 عيون الأخبار "1/ 42". 5 ابن سعد، الطبقات "3/ 3 ص151"، المفضليات "459 وما بعدها". 6 الأغاني "11/ 131". 7 المفضليات "459 وما بعدها".

وأما المادة التي يكتب بها، فهي عديدة، أهمها: الحبر، ويعرف أيضًا بالمداد1. ويصنع من مواد متعددة تترك أثرًا في المادة التي يكتب عليها. من ذلك الزاج وسخام المصابيح، يمزج مع مادة لزجة مثل صمغ العفص أو صمغ آخر، فيكتب به. ولما كان الحبر أسود، قيل له: "ديو" في العبرانية، وقد عرف بهذا المعنى, أي: "سواد" في اليونانية كذلك2 وعرف بـAtramentum في اللاتينية، وهي في المعنى نفسه3. وقيل للمداد: "نقس"، وقد وردت اللفظة في بيت شعر للشاعر "حميد بن ثور" حيث قيل إنه قال: لمن الديار بجانب الحبس ... كخط ذي الحاجات بالنقس4 وأشير إلى "المداد" في شعر لـ"عبد الله بن عنمة"، حيث يقول: فلم يبق إلا دمنة ومنازلٌ ... كما رُدّ في خط الدواة مدادها5 وقد ذكر "المداد" في القرآن: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} 6، "يقول عز ذكره لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- قل يا محمد لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي يكتب به كلمات ربي لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات ربي"7. فالمداد إذن من الألفاظ التي كانت مستعملة قبل الإسلام. وقد صُنع الحبر من مواد مختلفة، صنعه العبرانيون من سخام المصابيح، أما المصريون فصنعوه من مواد متعددة، فصار أتقن من المداد العبراني، ولذلك حافظ على بريقه ولونه، كما أنه لا يُمحى بسهولة، بينما كان الحبر العبراني

_ 1 شرح القاموس "2/ 498"، "3/ 117"، المفردات "ص104". 2 بلوغ الأرب "3/ 372"، Smith, A Dict, III, p. 1802. 3 Hastings, A Dictionary, II, p. 472. 4 مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التأريخية، للدكتور ناصر الدين الأسد "ص100". 5 المفضليات "743". 6 الكهف، الآية 109. 7 تفسير الطبري "16/ 31"، صبح الأعشى "2/ 471".

قابلًا للغسل بل سهولة1. ولا نجد بين العلماء اتفاقًا في أصل معنى "الحبر"، مما يدل على أن اللفظة2 من المعربات. أما المداد. فذكر علماء اللغة, أنه ما مددت به السراج من زيت ونحوه, ثم خص بالحبر. والظاهر أنها أخذت من سخام الزيت الذي يحترق في السراج، وأنها تعني "سواد"، على نحو ما نجده في لفظة MeIan اللاتينية، التي تعني السواد، سواد السراج، وخصصت بالحبر3. وليست لدينا أخبار عن كيفية صنع الحبر عند الجاهليين، ولم يصل إلينا نص جاهلي مدوّن بالحبر نتمكن بتحليل مادته من الوقوف على تكوينه. ولكننا نستطيع أن نقول: إن حبر الجاهليين لم يكن يختلف عن أنواع الحبر المستعملة عند الشعوب الأخرى في ذلك العهد وأبسطها الحبر المصنوع من الفحم المسحوق، مضافًا إليه الماء وقليل من الصمغ في بعض الأحيان. والحبر المصنوع من بعض المواد المستخرجة من زيوت بعض الأشجار وعصاراتها، أو من مسحوق عظام الحيوانات المحروقة أو من بعض الأوراق المؤكسدة بالحديد وببعض المعادن. ويراد بالحبر، الحبر الأسود في الغالب، غير أن القدماء كانوا يستعملون أصباغًا مثل: الأحمر والأخضر، في تدوين الشروح والملاحظات والأمور المهمة التي تلفت النظر، كما استعملت في التصوير وفي رسم بعض الرسوم التوضيحية، كما يظهر ذلك من الأوراق القديمة التي عثر عليها في مصر وفي اليونان وغير ذلك من الأماكن. وقد ورد في كتب الحديث النبوي وموارد إسلامية أخرى، أن الجاهليين كانوا يستعملون الصور والنقوش. ويريدون بالنقش تلوين الشيء بلونين أو عدة ألوان. ويقولون له: النمنمة كذلك4. وكان منهم مصورون يصورون الإنسان والحيوان والأشجار وغير ذلك. وقد نهى الرسول عن تصوير كل ما هو ذو روح5. وهذا التحريم هو دليل شيوع التصوير واستعمال الصور عند الجاهليين. ويحفظ الحبر في أداة، يقال لها "الدواة" و"المحبرة"6، يحملها الكاتب

_ 1 Hastings, p. 383. 2 تاج العروس "2/ 498"، "مدد". 3 Hastings, p. 383. 4 شرح القاموس "4/ 358 وما بعدها". 5 تاج العروس "10/ 133"، تفسير ابن عباس "451". 6 تاج العروس "3/ 117".

معه، فيعلقها بحزامه، أو يضعها تحت ثيابه، ويكون لها غطاء يمنع الحبر أن ينساب منها، ويكون بها تجويف تخزن فيه الأقلام والمقطة. وقد تكون المحبرة كأسًا صغيرة ذات غطاء يخزن الحبر فيها. وقد عرفت لذلك بـ"كست هسفر" "كاست هاسيفر", أي: "كأس الكتاب" في العبرانية1. وقد بقي الكتّاب وطلاب العلم والعلماء يستعملون تلك المحابر القديمة إلى عهد قريب، إذ حلت محلها الأقلام الحديثة المحملة بالحبر، وما زال بعض رجال الدين ومن يعنون بجمال الخط وتحسينه يستعملون أقلام القصب والحبر القديم على الطريقة القديمة المذكورة. وقد عرفت المحبرة الكبيرة التي يحفظ فيها الحبر والأقلام والمقطة ومواد الكتابة الأخرى بـ"قلمارين" "قلماريون" "ق ل م ر ي ن" في "المشنا", أي: المقلمة في العربية, تمييزًا لها عن أداة أخرى عرفت بـ"ترنتوق", وهي مقلمة توضع فيها الأقلام والمبراة. وهناك لفظة أخرى، هي "لبلرين" وتقابل LibeIari في اللاتينية يطلقها المتأدبون على المقلمة2. وقد أشير إلى الدوي، أي: المحابر في بيت شعر ينسب لأبي ذؤيب: عرفت الديار كخط الدويـ ... ي حبّره الكاتبُ الحميري3 وذكر أن من أسماء المحبرة "ن" وأن "ن والقلم" بمعنى الدواة والقلم4. وقد كان من عادة الكتّاب ترميل الكتابة لتجف، وكانوا يضعون الرمل في إناء خاص ثم يذرون منه شيئًا على الكتابة. وأما المواد التي يكتب عليها، فعديدة، تتوقف على ظروف المكان ومقدرة أهله المالية، منها الحجر والخشب ومختلف أنواع المعادن والطين وورق الشجر والجلود والقراطيس وأكتاف الإبل واللخاف والعسب والقضم وغير ذلك5. وإلى الحجر المكتوب، يعود الفضل الأكبر في حصولنا على معارفنا عن عرب اليمن

_ 1 Smith, A Diction., I, p. 1802. 2 Smith, A Dictio., III, p. 1789. 3 اللسان "14/ 279". 4 اللسان "13/ 427"، تنوير المقياس من تفسير ابن عباس، للفيروزآبادي "451". 5 الفهرست "ص31 وما بعدها"، صبح الأعشى "2/ 475"، الفائق "2/ 150".

قبل الإسلام، وعرب بلاد الشأم وأعالي الحجاز. فلولاه لكان علمنا بهم نزرًا يسيرًا. والعسب، جريد النخل، وهي السعفة مما لا ينبت عليه الخوص. ولوفرته في الحجاز استعمله كتاب الوحي وحفظة القرآن في تدوين الوحي عليه. وقد رجع إليه زيد بن ثابت في جملة ما رجع إليه من مواد يوم كُلِّف جمع القرآن الكريم1. وقد ورد "عسيب يماني" في شعر لامرئ القيس، هو قوله: لم طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبورٍ في عسيب يماني2 وقد ورد عن "زيد بن ثابت"، أن "أبا بكر" لما أمره بجمع القرآن، أخذ يتتبعه من "الرقاع والعسب واللخاف"، واللخاف: حجارة بيض. وورد في حديث "الزهري": "قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقرآن في العسب والقضيم والكرانيف"3. وذكر "لبيد" العسب في شعره حيث ورد: متعود لِحنٌ يعيد بكفه ... قلمًا على عسب ذبلن وبان4 والجريد من مادة التدوين عند أهل الحجاز. والجريدة السعفة، بلغة أهل الحجاز، وفي الحديث: كتب القرآن في جرائد، جمع جريدة5. واستعمل "الكرناف" "الكرانيف" و"الكرب" مادة للكتابة كذلك. وقد ورد أن كتبة القرآن استعملوا الكرانيف مادة لتدوين الوحي6. والكرانيف والكرب، أصول السعف الغلاظ العراض التي تلاصق الجذع، وتكون على هيئة الأكتاف7. قال الطبري قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم "ولم يكن

_ 1 صبح الأعشى "2/ 475"، تاج العروس "1/ 381"، "عسب". 2 ديوان امرئ القيس "120"، تاج العروس "5/ 129". 3 الفائق "2/ 150". 4 الأمالي "1/ 5". 5 اللسان "3/ 118 وما بعدها"، "جرد". 6 تفسير الطبري "1/ 63"، الفائق "2/ 150". 7 تفسير الطبري "1/ 63".

القرآن جمع، وإنما كان في الكرانيف والعسب"1. واستعمل الجاهليون كتف الحيوان أيضًا، وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان للكتابة عليه، وقد كتب عليه كتبة الوحي. وفي الحديث: "ائتوني بكتف ودواة أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده". أو "ائتوني باللوح والدواة والكتف"2. ولما كانت العظام مادة مبذولة ميسورة في استطاعة الكاتب الحصول عليها بغير ثمن، وهي صالحة للكتابة بكل سهولة على شكلها الطبيعي أو بعد صقل وتشذيب قليلين، لذلك استعملها الكتّاب بكثرة. فكانت مادة مهمة استعملها كتبة الوحي في تدوين القرآن. وقد ذكر "ابن النديم" أن في جملة العظام التي كتب عليها العرب: أكتاف الإبل3. وكانوا إذا كتبوا في الأكتاف حفظوا ما كتبوه في جرة أو في صندوق حتى يحفظ، ويكون في الإمكان الرجوع إليه. وقد كانت الأكتاف في جملة المواد المكتوبة التي استنسخ "زيد بن ثابت" منها ما دوّن من القرآن. واستعملوا الجلود مادة من مواد الكتابة: الجلد المدبوغ والجلد الغير المدبوغ. وقد كانوا يدبغون الجلد أحيانًا ويصقلونه ويرققونه حتى يكون صالحًا مناسبًا للكتابة. وقد يدبغونه ويصبغونه، وقد ذكر علماء اللغة أنواعًا من أنواع الجلود التي استعملوها في كتابتهم، منها: القضم، جمع قضيم، الجلد الأبيض يكتب فيه. وقيل: الصحيفة البيضاء، أو أي أديم كان. وقد أشير إليه في شعر للنابغة: كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمقته الصوانع4 وأشير إلى "القضيم" و"القضيمة" في شعر "زهير بن أبي سلمى"5، وفي شعر "امرئ القيس"6.

_ 1 تفسير الطبري "1/ 63". 2 تاج العروس "6/ 229"، الطبري "3/ 193" "حوادث السنة الحادية عشرة". 3 الفهرست "ص31". 4 تاج العروس "9/ 29"، "قضم"، الفائق "2/ 150". 5 ديوان زهير "231". 6 ديوانه "ص86".

ويظهر من تفسير العلماء للكلمة، أن "القضيم" الصحف البيضاء المستعملة من الجلد. وذلك بأن تقطع وتصقل حتى تكون صالحة للكتابة. وقد ورد أن كتبة الوحي استعملوا القضم في جملة ما استعملوه من مواد الكتابة1. وأما الأدم، وهي الجلود المدبوغة، فقد كانت مثل القضم من مواد الكتابة الثمينة. وقد استعان بها كتبة الوحي في تدوين القرآن2. كما كانت مادة لتدوين المراسلات والعهود والمواثيق3. وقد أشير إلى "الأديم" في شعر للمرقش الأكبر4. وذكر أن بعضه كان أديمًا أحمر، أي: مدبوغ بمادة حمراء، ومن أنواعه "الأديم الخولاني". والظاهر أنه كان من أوسع مواد الكتابة استعمالًا في أيام الجاهلية وصدر الإسلام، لوجوده عندهم، ولرخص ثمنه بالنسبة إلى الورق المستورد من مصر أو من بلاد الشأم5. وقد جاء في بعض الأخبار أن بعض مكاتبات الرسول كانت في الأدم6. وكان الدباغون يدبغون الأهب ويصلحونها بصقلها، فإذا دبغ الإهاب صار أديمًا. وقد ذكر أن أهل مكة كانوا يشترون قطع الأديم، ويكتبون عليه عهودهم ومواثيقهم وكتبهم. ولما توفي "سعيد بن العاص" جاء فتى من قريش يذكر حقًّا له في كراع من أديم بعشرين ألف درهم على "سعيد"، بخط مولى لسعيد كان يقوم له على بعض نفقاته، وبشهادة "سعيد" على نفسه بخطه. فأعطي حقه على ما كان مدوّنًا في قطعة الأديم7. وذكر بعض علماء اللغة أن القرطاس: الكاغد، يتخذ من بردي يكون بمصر. وذكر بعض آخر أن القرطاس الصحيفة من أي شيء كانت، يكتب فيها،

_ 1 الفائق "2/ 150". 2 تفسير الطبري "1/ 59"، السجستاني، كتاب المصاحف "23 وما بعدها". 3 نسب قريش، للزبيري "177 وما بعدها". 4 الدار وحش والرسوم كما رقش في ظهر الأديم قلم المرزباني، معجم "201"، الأغاني "6/ 127". وورد: الدارقفر"، عوضًا عن "الدار وحش"، المفضليات "ص111" "بقلم السندوبي" "القاهرة 1926م"، البيان والتبيين "375". 5 تقييد العلم "252/ 72"، مسند أحمد "4/ 141"، الطبقات "7/ 54"، نسب قريش "177 وما بعدها"، المصاحف "23 وما بعدها". 6 صبح الأعشى "2/ 475". 7 نسب قريش "177 وما بعدها".

والجمع قراطيس1. وقد وردت لفظة "قرطاس" و"قراطيس" في القرآن الكريم2. وورود اللفظة في القرآن الكريم دليل على وقوف العرب عليها. وهي من الألفاظ التي دخلت إلى العربية من مصر أو من بلاد الشأم، حيث استورد أهل مكة والعربية الغربية مختلف التجارة منها، ومنها القراطيس، ويعرف القرطاس في اليونانية بـKhartis.3 ويظهر أن أهل بلاد الشأم كانوا قد استعملوا اللفظة اليونانية، فلما نقل الجاهليون القرطاس منهم وتعلموه عنهم، استعملوا المصطلح اليوناني بشيء من التحريف والتحوير ليناسب النطق العربي، وقد نص بعض علماء اللغة على أن اللفظة من الألفاظ المعربة4. وتقابل لفظة "قرطاس" لفظة Papyri في اللغة الإنكليزية. وقد كان القدماء في مصر وفي حوض البحر المتوسط يكتبون على القراطيس. وهي على صورة لفّات تلف كالأسطوانة تحفظ في غلاف حذر تلفها وتمزقها. وأسفار اليهود هي على هذه الصورة5. ولا زالت معابدهم تستعمل توراتهم المكتوبة على هيئة "سفر", أي: مكتوبة على هيئة صفحات متصلة بعضها ببعض على شكل أسطوانة. بسحب أحد طرفيها الذي يوصل بأسطوانة أخرى، ثم يقرأ من السفر. وذكر علماء اللغة أن "الرقاع"، هي القرطاس6. ووردت لفظة "رق" في القرآن الكريم: {وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} 7. وقد فسر العلماء الرق بأنه ما يكتب فيه شبه الكاغد، أو جلد رقيق

_ 1 المفردات "ص409"، تاج العروس "4/ 215"، صبح الأعشى "2/ 474"، الجواليقي "ص276"، شفاء الغليل "ص159"، ابن خلدون، مقدمة "470 وما بعدها". Ency., II, p. 1036. 2 {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} ، الأنعام، الآية 7، {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} ، الأنعام، الآية 9، صبح الأعشى "2/ 485". 3 غرائب اللغة "ص264"، فرائد اللغة "ص277". 4 الجواليقي "276"، الخفاجي، شفاء الغليل "ص159". 5 Hastings, p. 676, 978. 6 تاج العروس "5/ 360". 7 سورة الطور، الآية 2 وما بعدها".

يكتب فيه، أو الصحيفة البيضاء1. وقد اشتهرت جملة مواضع في الحجاز وفي اليمن بترقيق الجلد ودباغته، ليصلح للعمل، وفي جملته الرق المستعمل في الكتابة. ويعرف الرق بـ"رقو" Raqo و"رق" Raq في الإرمية. وتؤدي اللفظة في هذه اللغة المعنى نفسه المفهوم منها في عربيتنا، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن اللفظة من أصل إرمي2. ومن أجود أنواع الرق، الرق المعمول من جلد الغزال. وذكر أن الصحابة أجمعوا على كتابة القرآن في الرق، لتيسره عندهم، ولطول بقاء الكتابة فيه3. وقد كان الكتّاب يستعملون الرق في المراسلات وفي السجلات وفي الكتب الدينية. فقد استعمل الفرس جلود البقر المدبوغة لكتابة كتبهم الدينية عليها، واستعمل العبرانيون جلود الغنم والمعز والغزال لكتابة التوراة والتلمود عليها. وقد اشترطوا في الجلود أن تكون من جلود الحيوانات الطاهرة. استعملوها صحائف منفصلة، واستعملوها صفائح على هيئة الكتب، كما استعملوها مدورة ملفوفة قطعة واحدة يتصل كل رأس منها بقضيب، فتكون لفتين متصلتين، وذلك بربط قطع الجلود بعضها ببعض وتثبيتها لتكون صحيفة واحدة طويلة مستطيلة، يقال لها: "مجلوت" "م ج ل وت"، أي: المجلة، من أصل "جلل" بمعنى لف وأدار4. وفي الشعر الجاهلي إشارات إلى استعمالهم "الرق" في كتاباتهم. وقد أشار بعضهم إلى سطور الرق، وكيف رقشها كاتبها ونمق الكتابة مسطرها. وكيف خط مملي الكتاب ما أريد إملاؤه في الرق. وقد عبر عن الخطاط الذي خط السطور على الرق بالمرقش وبالكاتب5. ومن أنواع الرق الجيد، الرق المصنوع بـ"خولان" والذي عرف بـ"الأديم الخولاني"6.

_ 1 المفردات "ص200"، شرح القاموس "6/ 358"، صبح الأعشى "2/ 474" بلوغ الأرب "3/ 378". 2 برصوم "ص73"، غرائب اللغة "ص183". 3 صبح الأعشى "2/ 475". 4 Smith, A Dictio., III, p. 1802. 5 ديوان الهذليين "3/ 70"، الآمدي، المؤتلف والمختلف "27"، ديوان طرفة "68"، ديوان حاتم الطائي "23". 6 تقييد العلم "72".

ونجد الشاعر المخضرم "معقل بن خويلد" الهذلي، يشير إلى "مملي كتاب" يملي على كاتب، يخط على رق، وذلك بقوله: فإني كما قال مملي الكتا ... ب في الرق إذ خطه الكاتب يرى الشاهد الحاضر المطمئن ... من الأمر ما لا يرى الغائب1 ومعقل من سادات قومه، ومن شعرائهم المعروفين، وكان أبوه رفيق "عبد المطلب" إلى "أبرهة"2. وأما "القتب"، فالإكاف الصغير الذي على قدر سنام البعير3. ويصنع من الخشب. وقد كتب الناس على "القتب". وقد استخدم "الرحل" مادة للكتابة عليها، عند الحاجة والضرورة4. وقد استعملت الألواح مادة للكتابة، ومن هذه الألواح ما صنع من الحجر، بنشر الحجر وصقله، ومنها ما صنع من الخشب، ومنه من لوح الكتف, أي: العظم الأملس منه. واللوح كل صفيحة عريضة خشبًا أو عظمًا5. وأشير في القرآن الكريم إلى اللوح. فورد: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 6. وورد {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً} 7 وغير ذلك. فيظهر من ذلك أن الألواح كانت تكتب فيحفظ بها ما يراد حفظه من آراء وأفكار. وقد كان بعض الصحابة والتابعين يستعملون الألواح لتقييد ما يريدون حفظه وتقييده من أقوال الرسول ومن سيرته أو غير ذلك. فذكر أن "ابن عباس" كان يأتي "أبا رافع" ويسأله: ما صنع رسول الله يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها. وأن مجاهدًا كان يسأل "ابن عباس" عن تفسير القرآن

_ 1 ديوان الهذليين "3/ 70". 2 الإصابة "3/ 425"، "رقم 8137". 3 تاج العروس "1/ 430 وما بعدها"، "قتب"، السجستاني، المصاحف "20". 4 ابن سعد، الطبقات "3/ 2 ص151"، تقييد العلم "102". 5 المفردات "ص472"، تاج العروس "2/ 218"، صبح الأعشى "2/ 472 وما بعدها"، شمس العلوم "1/ 34". 6 البروج، الآية 21 وما بعدها. 7 الأعراف، الآية 145.

ومعه ألواحه، يكتب فيها ما يمليه عليه1. وعرف اللوح بـ"السبورجه"، وهي لفظة فارسية الأصل2. وقد ورد في حديث زيد بن ثابت عن جمع القرآن أنه جمعه من الرقاع واللِّخاف والعُسُب. وقصد باللخاف حجارة بيضًا رقاقًا، واحدها لخفة3. كان يكتب عليها أهل مكة. والحجارة هي المورد الرئيسي الذي استخرجنا منه علمنا بتأريخ العرب الجنوبيين وبتأريخ أعالي الحجاز وأماكن أخرى من جزيرة العرب, ويضاف إلى ذلك الصخور الصغيرة والحصى الكبيرة، فقد نقش عليها الجاهليون أوامرهم وأحكامهم وخواطرهم ورسائلهم وذكرى نزولهم في مكان، فالفضل يعود إلى هذه الكتابات في حصولنا على أخبار الجاهليين المذكورين. وقد كتبوا على الخزف، وبقي الناس يكتبون على الحجارة والخزف إلى الإسلام. فقد كان "أبو الطيب" اللغوي، وهو "عبد الواحد بن علي"، يعلق عن "أبي العباس" ثعلب على خزف، ثم يجلس فيحفظ ما دوّنه عليه4. ويقال لما يكتب في الحجارة وينقش عليها "الوحي". والوحي الكتابة والخط. وبهذا المعنى ورد في شعر شعراء جاهليين وإسلاميين، مثل شعر "لبيد"، حيث قال: فمدافع الريّان عُرّي رسمها ... خلقًا كما ضمن الوحي سلامها5 وشعر "زهير" حيث يقول: لمن الديار غشيتها بالفدفد ... كالوحي في حجر المسيل المخلد6

_ 1 "تفسير الطبري "1/ 31"، البغدادي، الخطيب، تقييد العلم، "تحقيق يوسف العش"، "دمشق 1949" "ص91 وما بعدها". 2 تقييد العلم "72". 3 تاج العروس "6/ 244"، الفهرست "31". 4 رسالة الغفران "63". 5 اللسان "15/ 379" "صادر"، البرقوقي "ص14". 6 ديوان زهير "126، 150".

وأما الورق، فأريد به جلود رقاق يكتب فيها، ومنها ورق المصحف1.ويظهر أنهم أطلقوا اللفظة على القطع الرقيقة من الجلود أو من المواد الأخرى التي كانوا يكتبون عليها، تشبيهًا بورق الشجر. ولذلك فإنها لا تعني نوعًا معينًا من الورق. كما يجوز أن يكون المراد من الورق المستورد من بلاد الشأم أو من مصر، أو المصنوع من صقل الكتان ونسيج القطن وغير ذلك. ولقلة وجود القصب الصالح لصنع الورق في جزيرة العرب، لا نستطيع أن نذهب إلى وجود صناعة ورق من هذه المادة في هذه البلاد، بل كانوا يستوردونه من مصر مصدر الورق المصنوع من القصب، والمعروف بـ"البابيروس". والصحيفة المبسوط من الشيء، والتي يكتب فيها، والكتاب، وجمعها صحائف وصحف، ومنها {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} 2، و {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} 3. وقد أشير إلى الصحيفة في كتب السيرة حين اتفقت قريش على مقاطعة بني هاشم، وكتبت بذلك صحيفة، كتبها "بغيض بن عامر بن هاشم"، أو "منصور بن عبد شرحبيل" المعروف بأبي الروم على بعض الروايات4. والمصحف ما جعل جامعًا للصحف المكتوبة بين الدفتين. والتصحيف قراءة المصحف وروايته على غير ما هو لاشتباه حروفه5. وقد قيل للقرآن، المصحف، وإنما سُمي المصحف مصحفًا؛ لأنه أصحف, أي: جُعل جامعًا للصحف المكتوبة بين الدفتين6. ونقرأ في الأخبار أن بعضًا من الصحابة والتابعين كانوا يملكون صحيفة أو صحفًا دوّنوا فيها حديث الرسول أو أمرًا من أمور الشعر وأخبار العرب وأمثال ذلك. فكان "عبد الله بن عمرو بن العاص" قد كتب حديث الرسول في صحيفة؛ وقد أذن الرسول له أن يكتب حديثه فيها7.

_ 1 تاج العروس "7/ 86"، المغرب "2/ 246"، صبح الأعشى "2/ 476". 2 سورة الأعلى، الآية 18 وما بعدها. 3 سورة البينة، الآية 2 وما بعدها. 4 نسب قريش "ص254 وما بعدها"، ابن هشام "1/ 375 وما بعدها". 5 المفردات "ص276"، المغرب "ص298"، تاج العروس "6/ 161"، صبح الأعشى "2/ 474 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 371". 6 اللسان "9/ 186" وما بعدها. 7 تذكرة الحفاظ "1/ 5".

وقد أشير إلى الصحيفة في شعر "المتلمس"1، ويظهر من الشعر الذي ذكرت اللفظة فيه، أنه قصد بها رسالة، أي: كتابًا أمر ملك الحيرة "عمرو بن هند" بتدوينه، وأعطاه إليه، ليحمله إلى عامله على البحرين على نحو ما ورد في خبره. كما أشير إلى الصحيفة في شعر شعراء آخرين2. ويقال للصحيفة: طرس، ويجمع على طروس3. ويقال إن الطرس: الصحيفة المكتوبة4، وقيل: الكتاب الممحو الذي يستطاع أن تعاد فيه الكتابة. والتطريس: فِعْلك به. وطرّس الباب سوّده، والطلس: كتاب لم ينعم محوه، فيصير طرسًا. والتطريس إعادة الكتابة على المكتوب الممحو5. ورأى بعض العلماء أن الصحف ما كان من جلود6. وذهب بعض آخر، إلى أنها من جلد أو قرطاس. وأن القرطاس والصحيفة، هما في معنى واحد، وهو الكاغد7. وذكرت "الصحيفة" في شعر للقيط بن يعمر الإيادي، هو قوله: سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد وذلك في قصيدته التي كتبها إليهم، يخبرهم فيها بمسير "كسرى" عليهم، ويحذرهم من قدومه8.

_ 1 أودى الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حياته المتلمس ألق الصحيفة، لا أبا لك إنه ... يخشى عليك من الحبا النقرس ورهنتني هندًا، وعرضك في ... صحف تلوح كأنها خلل الشعر والشعراء، لابن قتيبة "ص132"، الأغاني "21/ 135". 2 الشعر والشعراء "1/ 152"، ديوان قيس بن الخطيم "19"، ديوان الهذليين "1/ 64"، المرزباني، معجم "304"، الأصمعيات "63". 3 صبح الأعشى "2/ 476". 4 فرائد اللغة "ص277"، ورد في شعر للبيد: فأجازني منه بطرس ناطق ... وبكل أطلس جوبه في المنكب شرح ديوان لبيد "ص155". 5 بلوغ الأرب "3/ 371"، الاقتضاب "93"، الفائق "2/ 81"، اللسان "6/ 121"، تاج العروس "4/ 177"، "طرس". 6 بلوغ الأرب "3/ 371" مبادئ اللغة "ص90"، "مطبعة السعادة 1325هـ". 7 صبح الأعشى "2/ 474". 8 الشعر والشعراء "1/ 129"، الأغاني "20/ 23".

كما ذكرت في شعر لعدي بن زيد العبادي، وصف فيه قصة "الزّباء" و"جذيمة" و"قصير"، حيث يقول: ودست في صحيفتها إليه ... ليملك بُضعها ولأن تدينا1 وكان من عادة أهل الجاهلية تدوين أحلافهم في صحف، توكيدًا للعهد، وتثبيتًا له. وقد أشير إلى ذلك في الشعر وفي الأخبار. ورد في شعر قيس بن الخطيم: لما بدت غُدوة جباههم ... حنت إلينا الأرحام والصحف2 وأشير إليها في شعر ينسب لدرهم بن زيد الأوسي، يخاطب الخزرج بما كان بينهم من عهود ومواثيق، إذ يقول: وإن ما بيننا وبينكم ... حين يقال الأرحام والصحف3 ولما قاطعت قريش "بني هاشم وبني المطلب"، كتبت بذلك كتابًا عرف بـ"صحيفة قريش"، وختموا عليها ثلاثة خواتيم، وعلّقوها في سقف الكعبة، وقيل: بل كانت عند أم الجلّاس مخربة الحنظلية، خالة أبي جهل، وقيل: عند هشام بن عبد العزى4. وترد الصحف بمعنى الوثائق، وكل تسجيل يراد الاحتفاظ به للرجوع إليه عند الحاجة، فالديون تسجل في صحف وكتب، والأمور الهامة تسجل فيها كذلك، هذا "علباء بن أرقم بن عوف" الشاعر اليشكري، يذكر دَيْنًا دوّن في صحيفة، فيقول: أخذت لدين مطمئن صحيفة ... وخالفت فيها كل من جار أو ظلم5

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 152"، الأغاني "2/ 101". 2 ديوان قيس "19". 3 مصادر الشعر الجاهلي "66". 4 إمتاع الأسماع "1/ 25". 5 الأصمعيات "63"، الخزانة "2/ 304"، "4/ 365، 384"، المرزباني، معجم "169"، "فراج".

وقد ورد ذكر صحف الدين هذه في كتاب الرسول إلى ثقيف، إذ جاء فيه: "وما كان لثقيف من دين في صحفهم اليوم الذي أسلموا عليه في الناس فإنه لهم"1. وذكر أن الناس كانوا يكتبون بالمهارق قبل القراطيس في العراق. وقد ذكر "المهرق" في شعر حسان: كم للمنازل من شهر وأحوال ... كما تقادم عهد المهرق البالي2 وكانوا يغسلون الصحف المكتوبة للاستفادة منها، بكتابة شيء جديد يراد كتابته عليها، وذلك لغلاء مادة الكتابة وصعوبة الحصول عليها، فيطمسون معالم الكتابة السابقة بغسلها بالماء مثلًا، فإذا جفت كتبوا عليها. وقد تسبب هذا الغسل إلى وقوع خسارة كبيرة بالنسبة لتدوين العلم، إذ غسل هذا الماء مادة علمية ثمينة كانت ستفيدنا كثيرًا بالطبع لو بقيت مدونة على الصحف. فخسرنا نحن خسارة ثمينة ولا شك لا تعوض. واستعمل الجاهليون السبورة في الكتابة. ويريدون بها جريدة من الألواح من ساج أو غيره، يكتب عليها. فإذا استغنوا عنها محوها، وهي معربة. وقد رواها جماعة من أهل الحديث "ستورة". وبهذا المعنى وردت السفورة، وهي معربة كذلك3. والمهارق من الألفاظ المعربة، ويرى علماء اللغة أنها من الفارسية، وأن أصلها "مهركُرده" "مهركرد"، أي: صُقلت بالخرز، وقد عرفها بعض علماء اللغة بأنها ثياب بيض أو حرير أبيض، تسقى بالصمغ وتصقل، ثم يكتب عليها. وقيل: هي الصحائف، الواحد مهرق. وذكر الجاحظ أن الكتب لا يقال لها: مهارق، حتى تكون كتب دين، أو كتب عهود، أو ميثاق وأمان4.

_ 1 الدكتور محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية "160". 2 تاج العروس "7/ 95"، "هرق". 3 شرح القاموس "3/ 253، 270". 4 قال الحارث بن حلزة اليشكري: لمن الديار عفون بالحبس ... آياتها كمهارق الفرس المعرب "ص303 وما بعدها، الحيوان "1/ 70" "تحقيق عبد السلام هارون"، صبح الأعشى "2/ 476"، المفضليات "ص53" "طبعة السندوبي"، غرائب اللغة "ص246"، شرح ديوان الحماسة "4/ 130", شرح القصائد العشر "268" "الطبعة المنيرية"، المخصص "4/ 340"، "آياتها كمهارق الحبش"، تاج العروس "7/ 95 وما بعدها"، "هرق"، الحيوان "1/ 70"، اللسان "10/ 368"، "هرق".

ويظهر من الشعر المنسوب للحارث بن حلزة اليشكري، أن أصل المهارق من الفرس ولهذا عبر عنها بقوله: "كمهارق الفرس". ولعله قصد كتبًا وصحفًا دينية من ديانتهم المجوسية. وقد وردت اللفظة في شعر ينسب للأعشى1 وفي شعر آخر ينسب للحارث بن حلزة اليشكري المذكور2. قال "الجاحظ": "والمهارق، ليس يراد بها الصحف والكتب، ولا يقال للكتب مهارق حتى تكون كتب دين، أو كتب عهود، وميثاق وأمان" وقال قبل ذلك: "لولا الخطوطُ لبطلت العهود والشروط والسجلات والصُّكاك، وكل إقطاع، وكل إنفاق، وكل أمان، وكل عهد وعقد، وكل حوار وحلف، ولتعظيم ذلك، والثقة به والاستناد إليه، كانوا يدعون في الجاهلية من يكتب لهم ذكر الحلف والهدنة، تعظيمًا للأمر وتبعيدًا من النسيان، ولذلك قال الحارث بن حلزة، في شأن بكر وتغلب: واذكروا حلف ذي المجاز وما ... قدّم فيه، العهود والكفلاء حذر الجور والتعدي وهل ... ينقض ما في المهارق الأهواء3 وقد أشار "الحارث بن حلزة" اليشكري إلى "مهارق الفرس"، وذلك في قوله: لمن الديار عفون بالحبس ... آياتها كمهارق الفرس4 ونوع آخر من "المهارق" عمل من الكرابيس، أي: من الثياب المصنوعة من الكرباس وهو القطن الأبيض، وذلك بسقي الكرباس، بصمغ أو بإطلائه بشيء آخر يسد المسامات، ثم يصقله بالخرز5. فهو إذن من النوع الجيد الغالي بالنسبة

_ 1 ربي كريم لا يكدر نعمة ... وإذا يناشد بالمهارق أنشدا ديوان الأعشى "229" "القاهرة 1950هـ"، أدب الكتاب "106"، "وإذا تنوشد"، اللسان "10/ 368"، "هرق". 2 حذر الجور والتعدي وهل ينقض ما في المهارق الأهواء؟ شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص167"، المفضليات "25"، شرح المعلقات, للتبريزي "268 وما بعدها". 3 الحيوان "1/ 69 وما بعدها". 4 المفضليات "132". 5 شرح المعلقات "200 وما بعدها، 268 وما بعدها".

إلى مواد الكتابة، ولذلك كانوا يستعملونه في الأمور الكتابية الجليلة. وقد أشير في شعر "الأسود بن يعفر" إلى سطور يهوديين في مهرقيهما مجيدين في الكتابة، هما من أهل "تيماء" أو من "أهل مدين"1. ولم يشر إلى نوع القلم الذي كتبا به، وأغلب الظن أنه قلم عبراني. وقد استعمل الجاهليون "الصكوك" في تعاملهم. وذكر علماء اللغة أن "الصك" الذي يكتب للعُهدة، وكانت الأرزاق تُسمى صكاكًا؛ لأنها كانت تخرج مكتوبة. ومنه الحديث في النهي عن شراء الصكاك، وذلك أن الأمراء كانوا يكتبون للناس بأرزاقهم وأعطياتهم كتبًا، فيبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها معجلًا، ويعطون المشتري الصك ليمضي ويقبضه، فنهوا عن ذلك لأنه بيع ما لم يقبض. وذكروا أن اللفظة من الألفاظ المعربة، أصلها فارسي2. واستعملت الصكوك في الدين. فورد "صك دين"3. وقد أمدتنا جزيرة العرب بحجارة كثيرة مكتوبة، ولكنها لم تمدنا باللبن المكتوب أو الطين المكتوب المشوي بالنار إلى في النادر. مع أن الكتابة على الطين أسهل من الكتابة على الحجر. ولعل وجود الحجر بكثرة في العربية الغربية والجنوبية ومقاومة الحجر للبلى والتلف هما اللذان دفعا أهل هذه البلاد على تفضيل الحجر في الكتابة على الطين. ولا يستبعد عثور الآثاريين والمنقبين في المستقبل على كتابات جاهلية مسجلة على الطين ولا سيما في المناطق الماحلة أو التي يقل فيها وجود الحجر، هي الآن مطمورة في باطن الأرض. وأعطوا للصحف أسماء إذا كانت قد كتبت في أغراض خاصة. فإذا كانت الصحيفة إعطاء أرض لشخص، كإقطاعه أرضًا، يعطي الشخص صحيفة مدونة بذلك، تثبت له تسجيل الأرض المقطعة باسمه, يقال لها: "الوصر" و"الأصر". وقد ذكر علماء اللغة أن الأصر: العهد والعقد. وقيل: العهد الثقيل4. وأن

_ 1 سطور يهوديين في مهرقيهما ... مجيدين من تيماء أو أهل مدين مصادر الشعر الجاهلي "82". 2 اللسان "10/ 457"، "صكك"، مفاتيح العلوم "ص38". 3 مجالس ثعلب "27". 4 تاج العروس "3/ 14"، "أصر".

"الوصر" الصك الذي تكتب فيه السجلات. والأصل أصر، سمي به لأن الأصر العهد, ويُسمى كتاب الشروط كتاب العهد والوثائق، ويطلق غالبًا على كتاب الشراء. قال عدي بن زيد: فأيكم لم ينله عرف نائله ... دثرًا سوامًا وفي الأرياف أوصارًا1 أما إذا كانت الصحيفة صحيفة جوائز، كان يعطي الملك جوائز لأصحابه وأتباعه، قيل للصحف التي يدون قدر الجائزة أو نوعها عليها القطوط والمفرد: القط. وقد ذكرها الأعشى في شعره: ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بإمته يعطي القطوط ويأفق2 وورد ذكرها في شعر المتلمس، إذ قال: وألقيتها بالثنى من جنب كافر ... كذلك ألقى كل قط مضلل3 وقد عرفت "القذ" أنها الصك بالجائزة، وهي الصحيفة للإنسان بصلة يوصل بها. وقيل القط: الصحيفة المكتوبة وكتاب المحاسبة. قيل: سميت قطوط؛ لأنها كانت تخرج مكتوبة في رقاع وصكاك مقطوعة4. وقد كانت الحاجة تدفع الكتّاب إلى تدوين ما يريدون تقييده وكتابته على ملابسهم وعلى راحة أيديهم، بل على نعالهم أحيانًا. روي عن "سعيد بن جبير" أنه قال: "كان ابن عباس يملي علي في الصحيفة حتى أملأها وأكتب في نعلي حتى أملأها"5. وقد كانوا يكتبون على الهودج أو على أي شيء يجدونه أمامهم، مثل الرحل، لندرة الورق عندهم ولحاجتهم إلى تسجيل ما يسمعونه، أو إبلاغ قومهم بسر أو برسالة، فيغافل المرسل من يعرف أنه قاصد الجهة التي يريدها

_ 1 تاج العروس "3/ 602"، "الوصر". 2 تاج العروس "5/ 209"، "قطط". 3 البطليوسي، الاقتضاب "93"، مصادر الشعر "70 وما بعدها". 4 تاج العروس "5/ 209"، "قطط". 5 تقييد العلم "102".

فيحفي بسكينه على الراحلة ما يريد تبليغه من سر1. وورد عن "سعيد بن جبير" قوله: "كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفتي حتى أملأها، ثم أكتب في ظهر نعلي، ثم أكتب في كفي". وروي أنهم كانوا يكتبون على أكفهم بالقصب عند البراء، وأن "الزهري" ربما كتب الحديث في ظهر نعله مخافة أن يفوته2. ولفظة: "كتب" التي نستعملها اليوم، ومن أصلها اشتقت لفظة "كتابة" و"كتاب" وكاتب وأمثالها، هي من الألفاظ العربية الشمالية المعروفة المتداولة عند الجاهليين. وقد وردت لفظة "كتاب" بمعانٍ متعددة. منها هذا المعنى المعروف، ومنها الصحيفة مع المكتوب فيها. وقد قصد بها التوراة في مواضع من القرآن الكريم. وأريد بـ"أهل الكتاب" اليهود والنصارى، أهل التوراة والإنجيل3. وقد استعملت اللحيانية لفظة "كتب" أيضًا، فوردت في عدد الكتابات. وعبرت عن "الكتابة" و"الخط" بلفظة "هكتب"4. والهاء أداة للتعريف عندهم، ويجوز أنهم كانوا ينطقون بها على هذه الصورة: "هكتاب"، أو "هاكتاب"، أي: "الكتاب" و"الكتابة". ومتى فكر الإنسان في الكتابة تذكر "القراءة". فالكتابة التدوين، والقراءة قراءة الشيء المدوّن. ولهذا يقال: القراءة والكتابة، كما يقال: قارئ كاتب، أي يحسن ويجيد الحالتين. فقد كان البعض يقرءون ولا يكتبون. روي أن "عائشة" كانت تقرأ المصحف، ولا تكتب، وأن "أم سلمة" كانت مثلها تقرأ ولا تكتب5. ونجد لفظة "كتاب" في شعر عدد من الشعراء الجاهليين. وقد استعمل "عدي بن زيد العبادي" "كتاب الله" في شعره6، ولما كان هذا الشاعر نصرانيًّا،

_ 1 المفضليات "459 وما بعدها"، الطبقات "3/ 2ص151"، تقييد العلم "102"، المصاحف "20". 2 تقييد العلم 102، 105، 107. 3 المفردات "ص434 وما بعدها". 4 راجع النصين 48 و49 من كتاب: Lihyanisch, S. 99. 5 فتوح البلدان "458"، "أمر الخط". 6 وناشدتنا بكتاب الله حرمتنا ... ولم تكن بكتاب الله ترتفع شعراء النصرانية "ص472".

يكون قصد بـ"كتاب الله" الإنجيل ولعله قصد التوراة والإنجيل معًا. وجاءت جملة: "آيات الله" في شعر "تميم بن أُبي بن مقبل العامري"1. أما زهير، فقد استعمل لفظة "كتاب" أيضًا في معنى الشيء الذي يكتب ويدوّن عليه ليحفظ لوقت الحساب2. وتؤدي لفظة "كتاب" معنى رسالة. فقد كانوا يطلقون على الرسالة لفظة "كتاب"، والجمع "كتب". ومن ذلك ما ورد في خبر "كتب رسول الله إلى الملوك"3 و"خبر كتاب مسيلمة إلى رسول الله والجواب عنه"4. ولفظة "دفتر"، في معنى جماعة الصحف المضمومة، وهي الكراريس5. وفي قول عمرة: "ولو انطبق عليكم الدفتر"، يعني ولو أن تكتبوا آخر الناس6. ولا أظن أن اللفظة قد دخلت العربية في أيام عمر، بل لا بد وأن تكون من الألفاظ المستعملة في الجاهلية. وذكر أن الدفتر جريدة الحساب والكراسة7. والكراسة الجزء من الصحيفة والكتاب. يقال: "هذا الكتاب عدة كراريس"، و"كرّاس أسفار"8. وترد اللفظة في لغة بني إرم، بمعنى "كتيب" وجزء من كتاب يحتوي في الغالب ثماني ورقات9. وكانوا يسجلون عقودهم وأخبارهم في كتب، أي: صحف، من ذلك ما ورد في قصة النعمان مع "الحارث بن ظالم"، فقد ورد أنه كتب إليه كتابًا وكان يومئذ بمكة يؤمنه إن عاد إليه، فلما جاء إلى "النعمان"، وقال له: أنعم صباحًا أبيت اللعن، انتهره الملك بقوله: لا أنعم الله صباحك. فقال الحارث: هذا كتابك! قال النعمان: كتابي والله ما أنكره أنا كتبته10. وكان "عبد الرحمن بن عوف"، قد كاتب "أمية بن خلف" في أن يحفظه في صاغيته بمكة.

_ 1 جمهرة أشعار العرب "318". 2 يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم ديوان زهير "18". 3 تأريخ الطبري "2/ 644 وما بعدها". 4 الطبري "3/ 146 وما بعدها". 5 اللسان "4/ 281"، "دفتر". 6 تاج العروس "3/ 209"، "دفتر". 7 تاج العروس "3/ 209"، "دفتر". 8 تاج العروس "4/ 232"، "كرس". 9 غرائب اللغة "203". 10 الأغاني "11/ 120".

وأن يحفظه في صاغيته بالمدينة، وكتبا هذه المكاتبة في كتاب1. وترد لفظة "كتاب" بمعنى إعلان وإحقاق حق، كالذي ورد في خبر "رؤيا" "عاتكة بنت عبد المطلب"، عن مصير معركة "بدر"، وقول قريش للعباس: "يا بني عبد المطلب! أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا من ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقًّا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء، نكتب عليكم كتابًا أنكم أكذب أهل بيت في العرب"2. ويعبر عن الكتابة بالخط، وتعني لفظة خطَّ، كتب. في القرآن الكريم: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} 3. وقد عبر عنها بالقلم كذلك، فقيل: القلم العربي، والقلم الحميري. ويراد بالقلم الحميري المسند، ويقولون له: الخط المسند كذلك. وقد بقي ناس من أهل اليمن يكتبون به في الإسلام4. وقد وردت لفظة "هخطط"، أي: الخط والرسم، في النصوص الصفوية5. وهذا يدل على أن هذه اللفظة هي من الألفاظ التي كان يستعملها العرب الشماليون. والهاء في "هخطط" أداة التعريف "ال" في عربيتنا. وتعبر كلمة "سطر" عن معنى خط وكتب. و"السطر" الخط والكتابة. ووردت لفظة "يسطرون" في القرآن الكريم في سورة "ن" بمعنى يكتبون6. ووردت لفظة "سطر" في نص "أبرهة" بهذا المعنى أيضًا. كما نجدها في نصوص عربية جنوبية أخرى، مما يدل على ورودها في اللهجات العربية الجنوبية كذلك. وتقابلها لفظة "سرتو" Serto" و"سورتو" Sourto من الفعل "سرت" Srat في الإرمية. ومن هنا ذهب بعض الباحثين في الإرمية إلى أن "سطر" العربية هي

_ 1 الزمخشري، الفائق "2/ 26". 2 ابن هشام "2/ 62"، "حاشية على الروض". 3 سورة العنكبوت، الآية 48، المفردات "ص150". 4 تاج العروس "2/ 382"، "سند". 5 CIH, Pars Quinta, I, p. 27, NU: 141, Dunand, 1249a, p. 385, NU: 3943, J. Ryckmans' Inscriptions Safaitiques, Louvain, 1951, p. 3, Littmann, Safa, p. 80, 82. 6 سورة القلم، الرقم 68، الآية 1 وما بعدها.

"كلمة سريانية الأصل"1. وهو رأي يمثل وجهة نظر طائفة من الباحثين ترجع أصول أكثر المصطلحات الحضارية والثقافية الواردة في العربية إلى أصل سرياني. وفيه تسرع وبعد عن العلم. والسطر، الصف من الشيء. والتسطير، كتابة بسطور، أي: الخط والكتابة2. وقد كان معظم الجاهليين يجعلون كتابتهم سطورًا سطرًا فوق سطر، ليكون من الممكن تتبع الكتابة إلا بعض الكتابات الصفوية والثمودية واللحيانية التي اتخذت أشكالًا مختلفة، تارة على هيئة هلال، وتارة أخرى على شكل دائرة، وحينًا على شكل غير منسق ولا منظم، إذ كان أصحابها رعاة في الغالب متنقلين، فلم تكن كتابتهم متقنة، كما أنهم لم يكونوا يملكون ورقًا وقرطاسًا، فكتبوا على أية حجارة وجدوها، فاختلف شكل الخط لذلك. والتسطير التخطيط. أي: تدوين السطور وتخطيطها على شكل خطوط. ومن المجاز خططت عليه ذنوبه، أي: سطرت3. ووردت لفظة "اسطرن "الأسطر" بمعنى الوثيقة والسطور في كتابات المسند4. ونجد في شعر للشاعر "الشماخ"، وصفًا للخط، كتبه حبر بتيماء من أسطر، عرض فيها وأثبج. إذ يقول: أتعرف رسمًا دارسًا قد تغيرا ... بذروة أقوى بعد ليلى وأقفرا كما خط عبرانية بيمينه ... بتيماء حبر ثم عرض أسطرا "والتعريض أن يثبج الكاتب ولا يبين الحروف ولا يقوم الخط"5. وترد لفظة" "النقش" بمعنى الكتابة والتدوين والتخطيط. ورد: رجّع النقش، والوشم، والكتابة: ردد خطوطها، وترجيعها أن يعاد عليها السواد مرة بعد أخرى. ومنه رجع الواشمة. قال لبيد:

_ 1 برصوم "ص83"، الأب رفائيل نخلة اليسوعي، غرائب اللغة العربية "بيروت 1907" "ص187"، Smith, A Dictio. III, p. 1789. 2 تاج العروس "3/ 296 وما بعدها"، "سطر". 3 تاج العروس "5/ 131"، "خط". 4 Le Museon, 1953, 1-2 p. 114. 5 تاج العروس "5/ 50"، "عرض".

أو رجع واشمة أسف تؤورها ... كففًا، تعرض فوقهن وشامها وقول زهير: مراجيع وشمٍ في نواشر معصم1 وفي هذا المعنى أيضًا لفظة "زَبَر". و"الزبر" الكتابة. ويذكر علماء اللغة أنها تعبر عن معنى النقش في الحجارة كذلك. وأما "المزبر"، فهو "القلم" كما ذكرت ذلك قبل قليل. وقد ورد في حديث وفاة الرسول أنه دعا بدواة ومزبر، أي: قلم2. وذكر أن الزبور الكتاب3. وقد وردت اللفظة في القرآن الكريم. فلفظة "زبر" بالفتح إذن فعل ماضٍ بمعنى كتب، وفي هذا المعنى أيضًا لفظة "ذَمَرَ". فنقول "ذمرتُ الكتابَ"، أي: زبرته وكتبته4. وقصد بـ"الزبور" في القرآن الكريم، المزامير، أي: "مزامير داوود". وتقابل لفظة "زمره" "زمراه" في العبرانية5. ويظهر من البيت المنسوب إلى لبيد: فنعاف صارة فالقنان كأنها ... زبر يرجعها وليد يمان6 ومن البيت المنسوب إلى "أبي ذؤيب": عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزبرها الكاتب الحميري7 أن أهل اليمن كانوا قد اشتهروا بالكتابة والقراءة بين الجاهليين, وأن ولدان أهل اليمن كانوا يرجعون, أي: يقرءون ويكررون ما هو مزبور أمامهم لحفظه. وأن "الكاتب الحميري"، أي: كاتب أهل اليمن كان معروفًا مشهورًا، يحمل

_ 1 اللسان "8/ 115"، "رجع". 2 تاج العروس "3/ 231"، "زبر". 3 بلوغ الأرب "3/ 371". 4 الاشتقاق "ص30". 5 A Dictionary of IsIam, p. 698. 6 ديوان لبيد "138". 7 ديوان الهذليين "1/ 64".

الدواة ويكتب بها على مادة الكتابة. "قال أعرابي حميري: أنا أعرف تزبرتي, أي: كتابتي1. وأشير إلى "خط زبور" في شعر امرئ القيس: أتت حجج بعدي عليها فأصبحت ... كخط زبورٍ في مصاحف رهبان2 وذكر علماء اللغة أن "الزبور" الكتاب، وفي هذا المعنى ورد قول لبيد: وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زبر تحد متونها أقلامها وذكروا أن الزبور قد غلب على كتاب "داود"، أي: "المزامير"، وكل كتاب زبور. وقيل: هو الكتاب المقصور على الحكمة العقلية دون الأحكام الشرعية3. واستعمل "الهمداني" جملة: "زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية"، وقال: إن "أبا نصر" الحنبصي، كان قد قرأها وكان بحاثة عالمًا بها. وقد فرّق بين "الزبر" وبين "المساند"4، مما يدل على أنه قصد بالزبر شيئًا آخر يختلف عن المساند، ربما أراد بالزبر صحفًا أو مجموعة صحف، أو كتاب، أما المساند، فالكتابات المدوّنة على الحجر. ومن المصطلحات المعبرة عن معنى كتب ونقش وختم لفظة "رقم". و {كِتَابٌ مَرْقُوم} ، بمعنى مكتوب، وأما المِرقم فالقلم؛ لأنه يرقم به5. وذكر بعض علماء اللغة أن الرقم: الخط الغليظ، وقيل: تعجيم الكتاب. وقد ورد في القرآن الكريم: {كِتَابٌ مَرْقُوم} 6. وذكر أن: "الرقيم"، الكتاب. والكتابة والختم7.

_ 1 الأمالي، للقالي "2/ 172". 2 ديوان امرئ القيس "125". 3 تاج العروس "3/ 231"، "زبر"، راجع معلقة لبيد. 4 الإكليل "1/ 13". 5 تاج العروس "8/ 315 وما بعدها"، "رقم"، التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون "1/ 652". 6 سورة المطففين، الآية 9، المفردات "201". 7 بلوغ الأرب "3/ 371"، اللسان "12/ 248 وما بعدها".

"وفي الحديث أنه كان يسوي الصفوف حتى يدعها مثل القدح أو الرقيم، أي: مثل السهم أو سطر الكتابة". وليس بين الرقوم والخطوط فرق1. يقول علماء العربية: "ورقم الكتاب: أعجمه وبينه، أي: نقطه وبيّن حروفه. وكتاب مرقوم: قد بينت حروفه بعلاماتها من التنقيط"2. وإن الإعجام التنقيط بالسواد، مثل التاء عليها نقطتان3. وإن التنقيط بمعنى وضع النقط على الحروف، أي: إعجامها4. ويحملنا قولهم هذا على الذهاب إلى أن الإعجام كان معروفًا بين الجاهليين. وفي هذا المعنى، أي: الرقم والترقيم والرقيم ترد لفظة "الترقين"، و"الرقن"، و"المرقون"، و"الرقين". و"ترقين الكتاب: المقاربة بين السطور. وقيل نقط الخط وإعجامه ليتبين، وأيضًا تحسين الكتاب وتزيينه"5. "والترقين تسويد مواضع في الحسبانات لئلا يتوهم أنها بيضت كيلا يقع فيه حساب"6. وقد وردت لفظة "المنمق" وجملة "الكتاب المنمق" في شعر ينسب لسلامة بن جندل، هو: لمن طللٌ مثل الكتاب المنمق ... خلا عهده بين الصُّليب فمطرق7 وذكر علماء اللغة أن معنى "نمق" كَتَب. فيقال: نمق الكتاب ينمقه، أي: كتبه وحسّنه وزيّنه بالكتابة وجوده8. وفي هذا المعنى نبق، فيقال: نبق الكتاب ونمقه إذا سطره9. أما لفظة، دبج، فتعني النقش والتزيين10.

_ 1 اللسان "2/ 556"، الحيوان "1/ 70". 2 تاج العروس "8/ 315"، "رقم". 3 تاج العروس "8/ 390"، "عجم". 4 تاج العروس "5/ 234"، "نقط". 5 تاج العروس "9/ 218"، "رقن". 6 المصدر نفسه. 7 الأصمعيات "146"، "دار المعارف". 8 قال النابغة: كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمقته الصوانع تاج العروس "7/ 81"، "نمق". 9 تاج العروس "7/ 74"، "نبق". 10 تاج العروس "2/ 37"، "دبج".

وذكر علماء العربية أن "الرقش" الخط الحسن، وأن الرقش والترقيش: الكتابة والتنقيط، وأن "رقش"، بمعنى نقط الخطوط والكتاب. وأن الترقيش: التسطير في الصحف1. ويظهر أن للكلمة علاقة بتنميق الخط وتحسينه وتجويده، وأن الخط المرقش، هو الخط المنمنم المزوّق المنقط المعتنى به. قالوا: ومن هنا سُمي الشاعر "المرقش" مرقشًا. وهو المرقش الأكبر عم "المرقش الأصغر". ويدل هذا التفسير لمعنى "الترقيش" على أن التنقيط كان معروفًا عند الجاهليين. ورووا له قوله: الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم2 وقد وردت لفظة "رقش" في شعر ينسب للأخنس بن شهاب التغلبي، هو: لابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب3 كما وردت في شعر لطرفة، هو: كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشمه4 و"اللمق" الكتابة في لغة "بني عقيل"، وسائر "قيس" يقولون: اللمق: المحو، وقال بعضهم: "لمقه بعدما نمقه، أي: محاه بعدما كتبه". فهو ضد. يقال: لمقه إذا كتبه ولمقه إذا محاه5. و"النبق" الكتابة، مثل النمق. ونبق الكتاب ونمقه إذا سطره6. و"القرمطة" في الخط دقة الكتابة وتداني الحروف والسطور، وقرمط الكاتب إذا قارب بين كتابته، وكان الإمام "علي"، يقول للكاتب: "فرج ما بين السطور وقرب بين الحروف"7.

_ 1 اللسان "6/ 305"، تاج العروس "4/ 314"، "رقش". 2 الأصمعيات "237"، "دار المعارف"، تاج العروس "4/ 314"، "رقش". 3 الخزانة "3/ 165". 4 الأمالي، للقالي "2/ 246". 5 تاج العروس "7/ 63"، "لمق". 6 تاج العروس "7/ 74"، "نبق". 7 تاج العروس "5/ 204"، "قرمط.

و"النمنمة"، خطوط متقاربة قصار، وكتاب منمنم، منقش، ومرقش ومزخرف، أي: به زخرفة، ولك وشيٍ نمنمة. فيظهر من ذلك أن بعض صحف وكتب أهل الجاهلية كانت منمنمة ذات رقوش ونقوش ووشي. وقد نعت "الجاحظ" الخط المسند بـ"المنمنم"1. ويعبر عن الكتابة بلفظة "النقر" على سبيل المجاز وقد ورد "نقر في الحجر" بمعنى كتب2، وذلك لأن الحجر المكتوب، هو حجر منقور، ظهرت الكتابة عليه بطريقة النقر. وكل ما ورد إلينا من الكتابات الجاهلية قد كتب على الحجر أو الخشب بالنقر والحفر. والمشق السرعة في الكتابة. وقيل مشق الخط يمشقه مشقًا: مدَّه. فالمشق الخط الممدود الذي كتب بسرعة وبعجلة. ولذلك عبّر عن القلم السريع الجري في القرطاس بـ"قلم مشاق"3. وورد أن أهل الأنبار كانوا يكتبون بالمشق. وهو خط فيه خفة4. ويعبر عن الكتابة الفاسدة المكتوبة بخط رديء فاسد بـ"كتابة مخربشة" وبـ"كتاب مخربش"5. وبهذا المعنى أيضًا "الخرمشة". فالخربشة والخرمشة في معنى واحد6. وقد كانوا يستنسخون الكتب والصحف والأسطر كما نفعل. فقد ورد أن منهم من استنسخ كتبًا في الجاهلية والإسلام، أي: ينقلون الكتابة نقلًا بنصها وحروفها حرفًا حرفًا حتى تكون عند الناقل نسخة كاملة تامة للكتابة التي نقل عنها. والكاتب ناسخ ومنتسخ. والاستنساخ اكتتاب كتاب عن كتاب حرفًا حرفًا. وفي هذا المعنى ورد في القرآن: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} , أي: نستنسخ ما تكتب الحفظة7.

_ 1 اللسان "12/ 592 وما بعدها"، "نم"، تاج العروس "9/ 85"، "نم"، الحيوان "1/ 71". 2 تاج العروس "3/ 580"، "نقر". 3 اللسان "10/ 344 وما بعدها"، "مشق"، تاج العروس "7/ 70"، "دمشق". 4 الاقتضاب "89"، المصاحف، للسجستاني "134". 5 اللسان "6/ 295"، تاج العروس "4/ 304 وما بعدها"، "خربش"، "خرمش". 6 اللسان "6/ 295". 7 الجاثية، الآية 29، تفسير القرطبي "16/ 175"، "قال ابن عباس: هل يكون النسخ إلا من كتاب", تاج العروس "2/ 282"، "نسخ".

وترد لفظة "الترقين"، بمعنى ترقين الكتاب وهو تزيينه، وقيل: "رَقَّن الكتاب" قارب بين سطوره، والترقين في كتاب الحسبانات. والمرقن: الكاتب1. وقال بعضهم: "الترقين خط يخط في التأريخ أو العريضة إذا خلا باب من السطر، لكي يكون الترتيب محفوظًا به. وهو بمنزلة الصفر في حساب الهند وحساب الجمل، واشتقاقه من "رقان" وهو بالنبطية الفارغ"2. وقيل الترقين: نقط الخط وإعجامه ليتبين، وتسويد مواضع في الحسبانات لئلا يتوهم أنها بيضت كيلا يقع فيه حساب3. ولفظة "قرأ" من الألفاظ الجاهلية المعروفة. وهي أصل لمعان عديدة ذوات صلة بالقراءة. وتعبر جملة "قارأه مقارأة وقراء" عن معنى دراسة. ومن الأصل المتقدم قارئ وقرّاء وقراءة4. ولفظة "اقرأ"، هي أول لفظة نزل بها الوحي، وأول كلمة من القرآن. كما ذكر ذلك أكثر المفسرين وأصحاب كتب السير والأخبار5. كما وردت لفظة "قارئ" في حديث أول نزول الوحي على الرسول. وفي تفسير سورة "اقرأ". وأما "المقارئ" فبمعنى الذي قرأ الكتب6. وتؤدي لفظة "تلا" معنى قرأ، والتلاوة القراءة7. وترد لفظة مبروز بمعنى منشور، استشهد على ذلك بشعر للبيد، هو: الناطق المبروز والمختوم8 ومن أصل "درس" المدرس ودارس ومدارس ومدراس، وهي تقابل "درش" في العبرانية والسريانية. وقد ذكر علماء اللغة أن المدارس الموضع الذي يدرس فيه كتاب الله، ومنه مدارس اليهود، وأن المدارسة والدارسة القراءة، وأن المدراس

_ 1 اللسان "13/ 185"، "صادر"، "رقن". 3 مفاتيح العلوم "39". 3 تاج العروس "9/ 218"، "رقن". 4 تاج العروس "1/ 101"، "قرأ". 5 راجع تفسير سورة: اقرأ باسم ربك. 6 تاج العروس "4/ 150"، "درس". 7 تاج العروس "10/ 52 وما بعدها"، المفردات "ص74". 8 شمس العلوم "1/ 146".

صاحب دراسة اليهود، كما ذكروا أن الآية: {وَلِيَقُولُوا دَرَسْت} في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، معناها "قرأت على اليهود وقرءوا عليك"، وتعني دارس النبي اليهود. وقيل: دارست ذاكرتهم1. و"المِدرْاس"، من "مدراش" في العبرانية، وتعني المدارسة بالمعنى العام. وخصصت بالشروح والتفاسير التي وضعها الأحبار على الأسفار2. وتؤدي لفظة "درس" و"درش" الدراسة العميقة للفهم والتعلم، فهي أعمق غورًا من معنى قرأ. وقد كان العبرانيون يعبرون بها عن دراسة الشريعة والتوراة. وقد كان "عمرو" من "بني ماسكة"، وهو المعروف بـ"أبي الشعثاء" قد رأس اليهود التي تلي بيت الدراسة للتوراة. وكان ذا قدر فيهم3. وقد أشار علماء اللغة إلى كتب كانت عند الجاهليين ذكروا أنها عرفت عندهم بالرواسيم جمع روسم4، ولم يذكروا محتوياتها ومضامينها. و"الراشوم" في السريانية لوح منقوش تختم به البيادر من "رشمو" Rouchmo بمعنى العلامة. والآلة "رشمه" Rshme كما أن "رشم" Rshme معناها رسم، ومنها الراسم والمرسوم المستعملتان في النصرانية في رسم الأسقف5. ولا أستبعد أن يكون مراد تلك الكتب كتبًا دينية مستعملة عند النصارى الجاهليين. وعرفت لفظة "الوضائع" عند الجاهليين، فذكر علماء اللغة أن الوضيعة كتاب فيه الحكمة. وقد ورد في الحديث: إنه نبي وإن اسمه وصورته في الوضائع6. وقد ذكر علماء اللغة أن "السفر" الكتاب الذي يسفر عن الحقائق. وقيل الكتاب الكبير، والجزء من أجزاء التوراة. وأما "السَّفَرة" فبمعنى الكتبة، وسفر الكتب كتبها. وقد ذكر علماء اللغة أن السِّفر، يقابلها "سافرا" بالنبطية7.

_ 1 تاج العروس "4/ 150" "درس"، أساس البلاغة "1/ 268"، برصوم "ص61". 2 A ReIigious Ency. III, p. 1504. 3 الأغاني "16/ 15". 4 تاج العروس "8/ 312". 5 برصوم "ص73 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص183". 6 تاج العروس "5/ 545"، اللسان "8/ 399"، "صادر"، "وضع". 7 تاج العروس "3/ 271"، "سفر".

وقصد بـ "أسفار" الواردة في القرآن الكريم، التوراة. وبـ"سفرة" كتبة1. وقد قال السيوطي: إن الأسفار الكتب، والكتاب بالنبطية يُسمى سفرًا2. وقد وردت لفظة "هسفر", أي: "السفر" في اللهجة الصفوية بمعنى الكتابة. فورد في أحد النصوص "وعور لذ يعور هسفر"3، ومعناها "وعِورٌ للذي يُعَوّرُ الكتابة"، وبعبارة أوضح "وعور للذي يوذي هذه الكتابة". والعور في اللهجة الصفوية بمعنى عوارة, أي: أذية وأذى. ولا بد أن يكون مدلول "سفر" عندهم كمدلول كتب في عربيتنا. وقد وردت لفظة "سفر" بمعنى كتابة وخط في نصوص أخرى، إذ ورد فيه: "ووجد سفر دده"4، أي: "ووجد كتابة أبيه". و"ووجد خط أبيه". وترد اللفظة في العبرانية أيضًا. فلفظة "س ف ر" "سافور" تعني يخط ويكتب ومن هذا الأصل "سيفير" Sepher ويراد بها كتاب, كتاب يلف فيكون على هيئة شيء ملفّف، أو أوراق تجمع بعضها إلى بعض وتربط5. ومن العبرانية أخذ السريان لفظة "سفرو" Sefro بمعنى سِفْر. ومن هذا الأصل "سفر" Sfar بمعنى درس وكتب وتفقه وتعلم. وأما Sofro فبمعنى الكُتّاب، أي: المسجلون والفقهاء والأساتذة ورؤساء، والجمع "سوفرة" Sofre. وأما Sofroutho في الكتابة، أي: حرفة الكاتب والفقه والعلم والحذاقة6. وعرف علماء اليهود حملة الشريعة بـ"سوفيريم Sopherim؛ لأنهم يكتبون الشريعة7.

_ 1 المفردات "ص233". 2 المتوكلي فيما ورد في القرآن باللغة الحبشية والفارسية والهندية والتركية والزنجية والنبطية والقبطية والسريانية والعبرانية والرومية والبربرية، دمشق 1348 "ص11". 3 CIS, Pars Quinta, Tome, I, P. 13, NUM: 58, p. 23, P. 23, NUM: 105, Dunand, 1229. 4 CIS, Pars Quinta, Tome, I< p. 19, NUM: 93, p. 19, NUM: 93, p. 1, NUM: 94, 95, Littmann, Saf. P. 27. 5 Hastings p. 981. 6 برصوم "ص84 وما بعدها" غرائب اللغة "ص187". 7 Smith, A Dictio, III, p. 1162.

و"السفسير" الكتاب، "السفاسره" أصحاب الأسفار، وهي الكتب: وبه فسر قول "أبي طالب" عم النبي: فإني والسوابح كل يوم ... وما تتلو السفاسرة الشهود1 وقد وردت في القرآن الكريم لفظة "السجل"2، وذهب بعض المفسرين إلى أنها بمعنى الصحيفة والكتاب3. وذهب بعض آخر إلى أنها حجر يكتب فيه، أو كل ما يكتب فيه4. ولكنهم لم يذكروا شكل السجل وهيئته. وقد جعلها بعض العلماء من الألفاظ المعربة. ورجع السيوطي أصلها إلى الحبشية، فقال: إنها عندهم بمعنى الرجل5. وذهب بعض آخر إلى أنها من أصل فارسي6. ولا تزال اللفظة حية مستعملة في الدوائر، وتطلق على الأضابير والأوراق المحفوظة بين دفتين في دوائر الحكومات والشركات والأعمال الأخرى، كما تؤدي لفظة "مسجل" و"يسجل" معنى مكتوب ويكتب. فلفظة سجَّل إذن بمعنى كتب ودوّن. واللفظة من الألفاظ المعربة عن اللاتينية، محرفة من SigiIIum بمعنى ختم، أي: ختم العقود والوثائق وأمثال ذلك7. ولا علاقة لها بالحبشية أو الفارسية. وقد تعني عند العرب كتاب العهد8. وذكر بعضهم أن "السجيل"، اسم كاتب للنبي9. وروي أن السجل: الكتاب يكتب للرسول أو المخبّر أو الرحّال أو غيرهم بإطلاق نفقته حيث بلغ, فيقيمها له كل عامل يجتاز به. والسجل أيضًا المحضر يعقده القاضي بفصل القضاء10. وهذه المعاني، هي من المعاني المتأخرة التي عرفت وشاعت في الإسلام. والظاهر أن أهل مكة لم يكونوا على علم تام بمعنى اللفظة،

_ 1 تاج العروس "3/ 272"، "سفر". 2 الأنبياء، الآية 104. 3 الطبرسي "7/ 66"، الإتقان "1/ 236"، تفسير الطبري "17/ 78". 4 المفردات "ص223"، الأب هنريكوس لامنس اليسوعي، فرائد اللغة في الفروق المطبعية الكاثوليكية "بيروت 1889" "ص120" مادة 462. 5 المتوكلي "ص5"، الإتقان "1/ 236". 6 الإتقان "1/ 236". 7 غرائب "ص278"، فرائد اللغة في الفروق "ص130"، Ency., IV, p. 403. 8 بلوغ الأرب "3/ 371". 9 تاج العروس "7/ 370"، "سجل". 10 مفاتيح العلوم "38 وما بعدها"، تفسير القرطبي "11/ 347" سورة الأنبياء "104".

لذلك اختلفوا في تفسيرها اختلافًا يرد في كتب التفسير في تفسير معنى "السجل". ولا أستبعد استعمال الجاهليين للكتب التي تلف لفًّا، وذلك لسهولة المحافظة عليها ونقلها، كالذي كان يفعله العبرانيون ولا يزالون يفعلونه في كتبهم المقدسة. ولا أستبعد أن يكون السجل المذكور في القرآن الكريم على هذا الشكل إذ يُطوى ويُلف لفًّا، وتوضع الكتب داخل غلاف للمحافظة عليها، وقد زيّن أهل الكتاب أغلفة كتبهم المقدسة مبالغة في احترامها وتقديسها وتعظيمها. وإذا أرادوا فتحها، أخذوها باحترام وتبجيل وقبَّلوها، ثم تلوا منها على المتعبدين ما شاءوا. وإذا ثبت أن لفظة "مصحف"، هي من الألفاظ الجاهلية، فإن ذلك يدل على أن المصاحف، أي: الكتب المؤلفة من صحائف منضدة ومجلدة بين دفتين، كانت معروفة عند الجاهليين. وأنا لا شك لديّ في وجودها بهذا المعنى في أيام الرسول. غير أننا نلاحظ أن المسلمين خصصوا "المصحف" بالقرآن الكريم. و"المصاحف" بالقرائين جمع قرآن. وحين يقولون: "خطوط المصاحف"1، فإنهم يقصدون كتابة القرائين. ولفظة "القرآن"، و"قرأان"، نفسها تدل على وقوف الجاهليين على المعنى المفهوم من اللفظة، وهو القراءة، ولا بد أن يكون منهم من سمع من اليهود لفظة "مقرا" التي تعني القراءة و"قرآن"، أي: تلاوة الكتاب المقدس وقد كانوا يتداولونها فيما بينهم، ومنهم يهود اليمن والحجاز. وترد لفظة "الفهرس" في العربية، وهي من الألفاظ المعربة. ذكر بعضهم أنها الكتاب الذي تجمع فيه الكتب2. وعرفت كلمة "الفهرست"، بـ"ذكر الأعمال والدفاتر تكون في الديوان، وقد يكون لسائر الأشياء"3, وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية، بمعنى جدول، ومواد كتاب أو نحوه4. ولكننا لا نستطيع إثبات أنها من الألفاظ التي عرفت بهذا المعنى عند الجاهليين. وذكر أن "الديوان"، مجتمع الصحف، وأنها لفظة فارسية معربة. وفي

_ 1 الفهرست "ص15"، تاج العروس "6/ 161"، "تصحف". 2 اللسان "6/ 167"، "فهرس" "صادر"، تاج العروس "4/ 211"، "فهرس". 3 مفاتيح العلوم "39". 4 غرائب اللغة "240".

الحديث: "لا يجمعهم ديوان حافظ". وقيل: الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء. وأول من دوّن الدواوين عمر. وذكر بعض العلماء أن الديوان الدفتر ثم قيل لكل كتاب. وقد يخص بشعر شاعر معين وبمجموع الشعر1. و"التأريخ" و"الإراجة"" شيء من كتب أصحاب الدواوين، و"الأوارجة" من كتب أصحاب الدواوين في الخراج ونحوه2. وقيل: التأريخ لفظة فارسية، معنها النظام؛ لأن التأريخ يعمل للعقد لعدة أبواب يحتاج إلى علم جملها؛ لأن التأريخ يعمل للعقد شبيهًا بالأوراج، فإن ما يثبت تحت كل اسم من دفعات القبض يكون مصفوفًا ليسهل عقده بالحساب, وهكذا يعمل التأريخ3. والدفتر جماعة الصحف المضمومة، وواحد الدفاتر4. وهي من الألفاظ المعربة عن الفارسية, ومعناها في الفارسية كتاب وسجل وحساب. ومن هذا الأصل لفظة "دفتر خانة"، أي: البيت الذي تحفظ فيه الدفاتر والوثائق ونحوها، ولفظة "دفتر دار"، بمعنى الخازن، وخازن الدفاتر5. وهما مصطلحان استعملا في الإسلام. والكراسة واحدة الكراس والكراريس من الكتب6. فهي مجموعة صحف وجزء من كتاب؛ لأن الكراسة من الكتاب، والكتاب مجموع كراريس. وقد ذكر علماء اللغة أن المجلة، الصحيفة يكتب فيها شيء من الحكمة7. وقال أبو عبيدة: كل كتاب عند العرب، فهو مجلة8. وقد وردت هذه اللفظة في شعر للنابغة، هو: مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب9

_ 1 اللسان "13/ 166"، "دوّن"، تاج العروس "9/ 204"، "دوّن". 2 اللسان "2/ 208"، "صادر"، "أرج". 3 مفاتيح العلوم "37". 4 اللسان "4/ 289"، "صادر"، "دفتر". 5 غرائب اللغة "228". 6 اللسان "6/ 193"، "كرس". 7 تاج العروس "4/ 232"، "كرس". 8 شمس العلوم "الجزء الأول - القسم الثاني"، "ص281". 9 برصوم "ص163"، بلوغ الأرب "3/ 371"، ويروى محلتهم بالحاء, أي: إنهم يحجون فيحلون مواضع مقدسة"، تاج العروس "7/ 261"، "جلل".

وقد قال النابغة ذلك في مدح الغساسنة. ولما كان الغساسنة نصارى، فالمراد من المجلة إذن في هذا المكان، الكتب المقدسة. وتخصيص علماء اللغة المجلة بالصحيفة التي يكتب فيها الحكمة، هو تفسير نشأ عن عدم فهمهم للكلمة. وذلك أنها من الألفاظ المستعملة عند أهل الكتاب بمعنى كتاب ملفوف على طريقة تلك الأيام في استعمال الكتب الملفوفة، فظنوا أنها نوع خاص من الكتب خصص بالحكمة، لوجود مواعظ وحكم فيها، يستعملها رجال الدين في مواعظهم، ففسروها بهذا التفسير. وقد أشير في كتب السير والأخبار إلى "مجلة لقمان"، وقيل: إنها حكمة لقمان. وأشير إلى أمثال لقمان1. والمجلة هي "مكلوت": و"مكلتو" MagaItho في العبرانية والسريانية2. ويراد بها كرّاس ملفوف وملف مخطوطات، وكتاب من أصل GoIo بمعنى لف3. وقد ذكر أن "سويد بن الصامت" كان يملك "مجلة لقمان"، "حكمة لقمان" وأنه لقي الرسول يومًا، فدعاه الرسول إلى الإسلام فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي. وكانت معه "مجلة لقمان" "حكمة لقمان". فقال له الرسول: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أحسن منه وأفضل4. و"سويد بن الصامت" المذكور، رجل مثقف مهذب، ذو علم وفهم في أيامه وبين قومه. وقد عرف عندهم بالكامل، للخلال الحميدة التي كانت فيه. ولا يلقب بـ"الكامل" في الجاهلية إلا من كانت له صفات معينة. وصفه صاحب كتاب الأغاني، فقال: "وكان يقال له الكامل في الجاهلية. وكان الرجل في الجاهلية إذا كان شاعرًا شجاعًا كاتبًا سابحًا راميًا سمّوه الكامل. وكان سويد أحد الكملة"5. وكان كما يذكر أهل الأخبار حكيمًا كثير الحكم في شعره، حتى قيل: إن قومه إنما سمّوه "الكامل" لحكمة شعره وشرفه فيهم. وقد رووا له شعرًا في ذلك.

_ 1 Ency., II, p. 53. 2 برصوم "ص163". 3 غرائب اللغة "ص177". 4 البلاذري "1/ 238"، الروض الأنف "1/ 265". 5 الأغاني "2/ 164"، "طبعة الساسي".

هذا ويشك في إسلام "سويد بن الصامت بن خالد بن عقبة" الأوسي، إذ ذكر أنه لما انصرف من مقابلة الرسول له، عاد إلى قومه بيثرب فقتل1. قتله "المجذر" في الجاهلية2. وأنا لا أستبعد احتمال قدوم يوم، قد يعثر فيه الباحثون على وثائق تبين أن عرب العراق كانوا قد وضعوا أسسًا لقواعد العربية، وكانوا أصحاب رأي في أساليب الكتابة وصوغ الكلام بنوعيه: من نثر وشعر. إذ لا يعقل في نظري أن يكون ظهور علوم العربية في العراق قبل الأمصار الإسلامية الأخرى، طفرة من غير سابقة ولا أساس. وأن يكون تفوق الكوفة والبصرة على المدن الإسلامية الأخرى, وفي ضمنها مدن جزيرة العرب في علوم العربية صدفة وفجأة ومن غير علم سابق ولا بحث في هذه الموضوعات قبل الإسلام, إنني اعتقد أن علم العروض وعلم النحو وعلم الصرف وسائر علوم العربية الأخرى لم تظهر في العراق إلا لوجود أسس لهذه العلوم فيه تعود إلى أيام ما قبل الإسلام، وهذه الأسس القديمة الجاهلية هي التي صيرت العراق الموطن الأول لهذه العلوم في الإسلام. وإنني لا أستطيع أن أتصور أن في مقدور إنسان مهما أوتي من العلم والذكاء, استنباط أوزان الشعر وبحوره من نقرات مطارق النحاسين أو من التأمل والتبصر، فشخص مثل هذا، لا بد وأن يكون قد وقف على البحور وأوزان الشعر وعلى مقدمات وبحوث في موضوع الشعر، منها استنبط علم العروض، وقلْ هذا الشيء عن علم النحو وعن سائر علوم العربية الأخرى. وقد كان العبرانيون يكتبون التوراة على جلود البقر، ثم يلفونها لفًّا على قضيب أو قضيبين تكوّن لفة واحدة أو لفتين متصلتين بعضها ببعض، ويطلقون عليها "مجلوت" "مكلوت". وتعني لفظة "كلل" لفَّ ودوَّر3. وقد كانت كتب ذلك العهد تُكتب وتُلف بهذه الطريقة، فلا يستبعد وجود هذه المجلات، أي: الكتب الملفوفة عند الجاهليين. وقد أورد الأخباريون نصوص رسائل نسبوها إلى بعض الملوك الجاهليين وسادات القبائل، وهي رسائل مسجعة في الغالب موجزة. وفي أثناء حديثهم عن رسائل

_ 1 الإصابة "2/ 132"، "3818". 2 الإصابة "3/ 343 وما بعدها"، "رقم 7728". 3 Smith, A Diction. I, p. 1802.

الرسول إلى قيصر وكسرى ذكروا أن الصحابة أشاروا على الرسول أن يتخذ خاتمًا يختم به كتبه؛ لأن الروم لا يقرءون كتابًا غير مختوم. ويظهر من كلامهم هذا أن أهل مكة لم يكونوا يختمون رسائلهم بخاتم، وإنما كانوا يكتفون بتدوين الاسم. والذي يتبين له من ملاحظتهم هذه عن الروم أنهم قصدوا بالخاتم الختم، على الكتب، إضافة إلى الاسم، وهو ما يقال له SigiIIum عندهم، كما أشرت إلى ذلك آنفًا. وهو يقابل ختم الدوائر في الزمن الحاضر، وطبع شعار الدائرة على الورق، ليكون ذلك تعبيرًا عن صفة الورقة الحكومية. فالغاية من إشارة الصحابة على الرسول بختم كتابه، هو إكسابه صفة رسمية، ليكون ذلك متفقًا مع طريقة الروم. ولا بد أن يكون رؤساء مكة قد راعوا هذا الأسلوب في مراسلاتهم مع البيزنطيين. وقد استعمل الخاتم في الغالب لتصديق الأوراق الشخصية والمعاملات الحكومية. فإذا أريد تصديق معاملة أو إرسال كتاب أو ختم صندوق، ختم بالخاتم، على الخاتم شيء من الكتابة يأمر صاحب الخاتم بحفرها، كي يظهر أثرها على الورق أو الشمع أو الطين. وكان منح الخاتم لموظف دليلًا على منحه الثقة وتعيينه في وظيفته التي اختير لها1. وقد كان رجال التجارة والأعمال وأصحاب المصالح يثبتون أعمالهم وعقودهم في صحف وكتب. وإذا أرادوا عقد عقد، مثل اتفاق على شيء أو تدوين ميثاق، دوّنوه على صحيفة وأشهدوا على ذلك، ليكون أوثق وأثبت للعقد. وقد عرف كتاب الشراء بالعهدة2. وأما كتاب العهد، فهو ما يعهد به. وقد وردت في القرآن الكريم إشارة إلى الكاتب بالعدل. أي: الكاتب الذي يتولى كتابة العهود والمواثيق بين الناس. وقد ورد في كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ: أن الرسول قال: "إذا كتب أحدكم فليترب كتابه"3، أي: إن الكاتب إذا انتهى من كتابة كتابه، فليضع التراب عليه، ليجفف حبره.

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 405"، Smith, A Diction., III, p. 1188. 2 بلوغ الأرب "3/ 371". 3 البيان "3/ 204".

الفصل الرابع والعشرون بعد المائة: الدراسة والتدريس

الفصل الرابع والعشرون بعد المائة: الدراسة والتدريس الكتاتيب: وفي العربية لفظة "الكتّاب"، ويراد بها في عرف هذا اليوم المدرسة التي يتعلم فيها الأطفال القراءة والكتابة ومبادئ المعرفة. وهي من الألفاظ العربية المستعملة في العهود الأولى من الإسلام. وعندي أنها من الألفاظ العربية التي كانت مستعملة في الجاهلية، وهي في معنى بيت "ها سيفر" Beth Ha- Sepher, أي: "بيت الكتّاب" في العبرانية. وقد كان العبرانيون يطلقونها على المدارس التي تدرس القراءة والكتابة ومبادئ المعرفة، تمييزًا لها عن المدارس التي تعلم الديانة والعبرانية والمعارف التي لها علاقة بالديانة ويطلقون عليها "بيت هامدراش" Beth Ha- Midrash, أي: "بيت المدراش"، و"بيت ها تلمود"، أي: "بيت التلمود" في بعض الأحيان1. وقد ذكر بعض أهل الأخبار أسماء جماعة ذكروا أنهم كانو من المعلمين في الجاهلية وكانوا من أصحاب الوجاهة والمكانة، منهم على سبيل المثال: "بشر بن عبد الملك السكوني"، أخو "أكيدر" صاحب "دومة الجندل، و"سفيان بن أمية بن عبد شمس"، و"أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة"

_ 1 Hastings, A Dictionary of Christ. And the GospeIs, I, p. 222.

و"عمرو بن زرارة بن عدس بن زيد"، وقد كان يُسمى "الكاتب، و"غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي" وهو مخضرم1، مما يدل على وجود المدارس والتعليم عند الجاهليين. وقد ورد أن الرسول أمر "عبد الله" واسمه الحكم بن سعيد بن العاص بن أمية، بأن يعلم في الكتّاب بالمدينة2. كما ورد أن "جفينة"، وهو من نصارى الحيرة، جاء المدينة فصار يعلم الكتابة بها3. وورد في رواية أن "علي بن أبي طالب" اختلف إلى الكتّاب، فتعلم الكتابة به وله ذؤابة وهو ابن أربع عشرة سنة4. وورد أن رجلًا نزل بوادي القرى، وعلّم الخط بها5. وورد أن غلامًا جاء "يبكي إلى أبيه، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث!! يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبدًا"6. وإذا صح هذا الخبر، نكون قد عثرنا على كلمة "المعلم" المفهوم منها في الوقت الحاضر في الأيام الأولى من ظهور الإسلام. وورد أن "عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية"، كان ممن أُسر يوم بدر، فأمره الرسول أن يعلم عشرة من غلمان الأنصار الكتابة، ويخليه لسبيله، فيومئذ تعلم الكتابة زيد بن ثابت في جماعة من غلمان الأنصار. وكان كاتبًا محسنًا7. غير أن الموارد الأخرى، تذكر أنه كان قدم على رسول الله مهاجرًا، فقال له: ما اسمك؟ فقال: الحكم. فقال: أنت عبد الله. فغيّر رسول الله اسمه8. وتذكر أنه أمره أن يعلم الكتاب بالمدينة وكان كاتبًا. وتذكر أنه قتل يوم بدر شهيدًا. أي: إن إسلامه كان قبل يوم بدر, ولكن أكثر الروايات تذكر أن وفاته تأخرت9. وذكر بعض أهل الأخبار، أن المدينة كانت متأخرة بالنسبة إلى مكة في الكتابة

_ 1 المحبر "ص475"، الأعلاق النفيسة، لابن رستة "216". 2 ابن حزم، جمهرة "73". 3 الطبري "5/ 42"، ابن سعد, طبقات "3 القسم الأول ص258". 4 الفصول المختارة من العيون والمحاسن، للشيخ المفيد، النجف "2/ 66". 5 فتوح البلدان "477". 6 إمتاع الأسماع "1/ 101". 7 المشرق، السنة العاشرة "478". 8 الاستيعاب "1/ 312"، "حاشية على الإصابة". 9 الإصابة "1/ 343"، "رقم 1777".

والقراءة. بل ذهب بعضهم إلى أنه لم يكن في الأنصار من يحسن الكتابة1. وكلامهم هذا يصطدم مع ما ذكروه أنفسهم من أن "سويد بن الصامت" الأوسي، وسعد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأُبي بن كعب، وغيرهم ممن أشرت إليهم في مواضع أخرى من هذا الكتاب، كانوا من الكتّاب. ويفهم من قول "الشّماخ": كما خط عبرانية بيمينه ... بتيماء حَبْرٌ ثم عرض أسطرًا أن هذا الشاعر كان قد زار تيماء، وقد وقف على خط اليهود، ورأى أحدهم وقد عرض أسطر الكتابة ودونها بيمينه2. وقد وصف غيره كتابة اليهود وتعلمهم الخط في مدراسهم بالمستوطنات اليهودية. وكانوا يستعينون بصبيان الكتّاب في بعض الأحيان لكتابة جملة نسخ مما يراد نشره وإذاعته أو حفظه. فورد أن النجاشي الشاعر، لما هجا "بني النجار" من الأنصار شكوا ذلك إلى حسان، فقال قصيدة في هجائه وفي هجاء قومه، ثم "قال اكتبوها صكوكًا وألقوها إلى صبيان المكاتب، فما مرّ بضع وخمسون ليلة حتى طرقت بنو عبد المدان حسّان بالنجاشي موثقًا معهم"، وذلك للاعتذار إليه واسترضائه3. وقد كان للديانتين اليهودية والنصرانية فضل كبير على أهلهما في نشر الكتابة والعلوم بينهم إذ صارت معابدهم مدارس يتعلم فيها الناس أصول ديانتهم ومبادئ المعرفة والكتابة والقراءة لمن يرغب من الأطفال، كما أدت حاجة الديانتين إلى رجال دين يقومون بتثقيف الناس وتعليمهم أصول دينهم ونشر ديانتهم بين الوثنيين، أو بين أصحاب الديانات الأخرى، إلى تكوين معاهد خاصة لتخريج هؤلاء الرجال، ألحقت بالمعابد، درسوا فيها الكتب المقدسة وما وضع عليها من تفاسير وشروح، ومما يتعلق بشرحها من دراسة للغات وفلسفة وجدل وأمور أخرى لها علاقة وصلة بالديانات. وقد كان من بين هؤلاء الرجال أناس أذكياء ذوو نظر واسع، فلم

_ 1 إمتاع الأسماع، للمقريزي "1/ 101". 2 ديوان الشماخ "16"، ديوان زهير "5". 3 شرح ديوان حسان "ص213 وما بعدها" "البرقوقي".

يكتفوا بحفظ ما ورد إليهم، وبالتعصب لكل ما تلقنوه، بل تتبعوا ثقافات غيرهم وعلومهم، ودرسوا اللغات والفلسفات الأخرى، وكوّنوا لهم آراء خاصة اعتمدت على استعمال العقل والمنطق، فظهر النقد عندهم، والنقد يخلق الرأي. والبيت هو المدرسة عند الجاهليين وعند غيرهم من شعوب ذلك الزمن، فيه يتعلم الطفل، وإليه يرد المعلم لتعليم أولاد الموسرين ما يحتاجون إليه من كتابة وعلم بأجرة تدفع إليه، وفيه قد يتعلم الطفل الكتابة من الرقيق المجلوب الذي كان له حظ من العلم. وفيه تشرف أمه على تربيته وإدارته ما دام صغيرًا، ثم يشرف عليه أبوه فيلقنه شئون الصنعة وأمور الحياة متى تجاوز الخامسة أو السابعة من عمره. وفي البيوت والطرقات والأزقة يلعب الأطفال، أما الشبان، فقد كانوا يتبارون بالألعاب في الساحات العامة خارج المدن، والقرى في الغالب. يتسابقون بركوب الخيل وبالمصارعة وبالجري وبرمي السهام. وقد يخرجون إلى الصيد ولا يزال أطفال جزيرة العرب يلعبون بعض الألعاب التي كان أطفال الجاهلية وشبانهم يلعبونها قبل الإسلام. وقد قامت المعابد بدور فعّال ناشط في نشر القراءة والكتابة. وإذا كنا نجهل اليوم موقف معابد الوثنيين من تعليم القراءة والكتابة بها، فإننا لا نستطيع أن ننكر موقف "الكنيس" و"المدراش" "المدارس" عند اليهود، و"الكنائس" عند النصارى من تنشيط التعليم وتهيئة الأطفال لتعلم القراءة والكتابة، لخدمة الدين، أو للأغراض التثقيفية والشئون الخاصة بالحياة. وقد قام "المدراش" وقامت الكنيسة بدور فعال في تعليم الناس أمور دينهم وشرح ما ورد في التوراة وفي الإنجيل إلى المؤمنين بهما. فقد كان أحبار يهود "يثرب" وقرى "وادي القرى" يجلسون في المعابد ليفسروا للناس أحكام شريعة يهود. والمدراس، لفظة عبرانية الأصل، هي "مدرش" Midrash، وتعني بحث وشرح نص1. وقد أطلقت على المكان الذي تدرس فيه التوراة. فصار بمثابة المدرسة، يقصده اليهود للتفقه فيه والتعلم، وقد قصده الجاهليون أيضًا ليسمعوا ما عند يهود. كما قصده المسلمون. وقد كانت لليهود جملة بيوت عبادة يجلس فيها أحبارهم للإفتاء ولشرح الكتب المقدسة لتلامذتهم وللناس. فكانت بيوت عبادة ومدارس للتعليم.

_ 1 Hastings, p. 149.

وقد كان الجاهليون يسألون اليهود عن تواريخ الماضين وقصص الأولين والأنبياء والمرسلين. وعن بعض المشكلات الدينية مثل الحياة بعد الموت وأمثال ذلك مما تعرضت له اليهودية. وقد لجأ إليهم أهل مكة الوثنيون يسألونهم عن أشياء عويصة لليهود علم بها، ليمتحنوا بها الرسول1. وقد ورد في الأخبار أن "بعض اليهود قد علم كتاب العربية. وكان يعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول، فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون"2. وقياسًا على ما نعرفه من تخصيص الكنائس مواضع خاصة ملحقة بالكنائس لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، فإننا نستطيع أن نقول: إن الكنائس التي كانت في جزيرة العرب في نجران مثلًا أو في صنعاء أو في عدن أو في قطر، لم تكن مستثناة من هذه العادة. وإن كنا لا نملك دليلًا نستند إليه في إثبات قيام الكنائس في جزيرة العرب بتعليم الأطفال القراءة والكتابة. أما بالنسبة لكنائس العرب في العراق، فإن لدينا شواهد بينة تثبت قيام الكنائس بتعليم الأطفال القراءة والكتابة ومبادئ الدين. وتثبت وجود مكان خاص خصص بالأطفال ليتعلموا فيه. فقد جاء في أخبار "عين التمر" أن خالد بن الوليد لما دخل حصن عين التمر وغنم ما فيه وجد في بيعتهم أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل عليهم باب مغلق، فكسره عنهم3. وذكر أن تلك البيعة كانت في النقيرة من أطراف عين التمر4. وورد في الأخبار أن من أهل الحيرة من كان يتعلم العربية، يقرأ بها ويكتب ويتفقه ويتأدب، كالذي حدث لزيد والد "عدي بن زيد العبادي"، ولابنه "عدي"، وأن منهم من كان يتعلم الفارسية، إذ فيها جماعة من الفرس، ومنهم من يتعلم الإرمية، لغة "بني إرم"، ومنهم من تعلم العربية والفارسية وأجاد بها كتابة ونطقًا، وتولى الكتابة بهما عند الفرس مثل "عدي بن زيد

_ 1 ابن هشام "1/ 274". 2 فتوح البلدان "479"، المعارف "192"، الطبري "3/ 377"، "دار المعارف"، البلدان "4/ 807 وما بعدها"، الأغاني "2/ 101"، المجدل لعمرو بن متى "31، 35، 41، 44، 49، 71،". 3 الطبري "3/ 377" "دار المعارف بمصر". 4 البلدان "4/ 807 وما بعدها".

العبادي" وابنه "زيد بن عدي" وغيرهما من آل "زيد" والعباديين نصارى الحيرة1. ولما فتح خالد "الأنبار": "رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قومٍ من العرب قبلنا، فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها، فقال: ممن تعلمتم الكتابة؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشده قول الشاعر: قومي إيادٌ لو أنهم أممٌ ... أو لو أقاموا فتهزل النعم قوم لهم باحة العراق إذا ... ساروا جميعًا والخط والقلم2 وهو شعر نسب قوله إلى الشاعر "أمية بن أبي الصلت"، ذكر أنه مدح به بني إياد3. ومعنى هذا، أن "بني إياد" كانوا قد عُرفوا بالكتابة في العراق، ولهذا وضعوا هذه القصة في كيفية نشوء الكتابة العربية، وإياد من القبائل العربية القديمة التي نزحت من البحرين إلى العراق. وقد كان العرب في الأنبار، والحيرة، وعين التمر والمواضع الأخرى يحتمون بأبنية محصنة، يقيم بها ساداتهم، وتكون مواضع دفاعهم أيام الخطر، يقولون لها: "القصور". وقد كانت الحيرة مؤلفة من جملة "قصور"، ولا يزال عرب الفرات يطلقون لفظة "القصر" على المواضع الحصينة المقامة في البادية، لصد غارات المهاجمين، مثل "قصر الأخيضر"، و"قصر العين"، في ناحية "عين التمر". وتحتمي الكنائس وبيوت الناس بهذه القصور، ولما فتح "خالد بن الوليد" "عين التمر"، بعث إلى "كنيسة اليهود، فأخذ منهم عشرين غلامًا وصار إلى الأنبار"4، وهو خطأ؛ لأن الذي نجده في الموارد الأخرى، أن "خالد بن الوليد"، لما فتح حصن "عين التمر" وجد في كنيسة جماعة يتعلمون سباهم، فكان من ذلك السبي: "حمران بن أبان بن خالد" التمري،

_ 1 الأغاني "2/ 101". 2 الطبري "3/ 375"، "حديث الأنبار". 3 ابن هشام، سيرة "1/ 48". 4 اليعقوبي "2/ 123"، "النجف 1964".

و"سيرين" أبو "محمد بن سيرين" المشهور بتفسير الأحلام، و"أبو عمرة" جدّ "عبد الأعلى" الشاعر، و"يسار" جدّ "محمد بن إسحاق" صاحب "السيرة"، و"نصير" أبو "موسى بن نصير"1، وذكر "الطبري" أن "خالد بن الوليد" وجد "في بيعتهم أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم، وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسمهم في أهل البلاد2. وقد كان كل هؤلاء من الكتّاب القارئين للإنجيل الدارسين لعلوم الدين، فأسلموا وبرز أبناؤهم في المجتمع الإسلامي. وفي خبر "وفد نجران" الذي قدم على الرسول، إفادة بوجود مواضع لتعليم أمور الدين، وتثقيف الناس بما يلزم من ثقافة، فقد ورد أن أسقف نجران كان حبرهم، وإمامهم، وصاحب مدارسهم "صاحب مدراسهم"3، أي: الموضع الذي يتدارسون فيه، والغالب أن يكون ذلك المكان في الكنيسة على الطريقة المتبعة في ذلك العهد، كما صار المسجد موضعًا للتعليم. وقد كان يهود الحجاز والمواضع الأخرى من جزيرة العرب يلحقون بكنيسهم كتّابًا يعلمون به أطفالهم أصول القراءة والكتابة، كما كان أحبارهم يتخذون به مجلسًا لتعليم اليهود أمور دينهم وللإفتاء بينهم في أمور الشرع، وفضّ ما قد يقع بينهم من خلاف. وكذلك كان شأن نصارى العرب اتخذوا من كنائسهم مواضع للتدريس ولتعليم القراءة والكتابة كالذي رأيناه بين نصارى العراق. ولا أستبعد احتمال اتخاذهم مدارس في قرى البحرين، التي كانت بها جاليات نصرانية كبيرة وكذلك في اليمامة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة وأصول الدين.

_ 1 البلاذري، فتوح "248". 2 الطبري "3/ 377". 3 طبقات ابن سعد "1/ 357" "طبعة صادر".

مواد الدراسة

مواد الدراسة: لم نعثر على أي نص جاهلي فيه شيء عن التدريس وعن مواد الدراسة عند الجاهليين لنستنبط منه مادة عن الدراسة عند عرب الجاهلية، غير أننا إذا ما

أخذنا بما جاء في الموارد النصرانية الشرقية عن التربية والتعليم عند نصارى العراق وعن مواد المعرفة التي كانوا يعلمونها للتلاميذ ولطلاب المدارس العالية، فإننا نستطيع أن نقول إن مدارس الأنبار والحيرة والقرى العربية الأخرى، لا بد وأن تكون قد سارت وفقًا لمنهج أهل العراق في تعليم أبنائهم في ذلك الوقت. من تعليم مبادئ القراءة والكتابة وإجادة الخط وشيء من الحساب والأمثال والحكم ومبادئ الدين. وهي المواد الرئيسية التي كانت تعلم في الكتاتيب في بلاد الشرق الأوسط في ذلك الوقت، والتي لا تزال تدرس في الكتاتيب القديمة حتى اليوم. والعادة في الكتاتيب حتى الآن في تعليم الخط للأطفال، أن يخط المعلم أو "خليفته" أو من يقوم مقامه من التلامذة المتقدمين، سطرًا من الحكم والأمثال أو من الكتب السماوية، لينقش التلميذ سطورًا مثلها على لوح يحاول الإجادة جهد إمكانه في كتابتها لتقوية يده على الخط. وقد كان العبرانيون يعلمون الآية: "رأس الحكمة مخافة الرب"، "رأس الحكمة معرفة الله"، "مخافة الرب رأس الحكمة"1، في أول ما كانوا يعلمونه لتلامذتهم2. ويعلمونهم أمثال ذلك من الحكم والأمثال الواردة في التوراة. ولا يستبعد أن تكون هذه الأمثال والحكم في مقدمة ما كان يدرسه المعلمون اليهود في مستوطناتهم في بلاد العرب بتيماء ووادي القرى وقرى المدينة. وورد أن نصارى العراق، درسوا في مدارسهم لغة بني إرم، لغة الثقافة والعلم آنذاك، درّسوا مفردات اللغة وقواعدها وأصولها، وعلّموا معها مبادئ العربية وقواعدها وآدابها في الأرضين التي كانت غالبية سكانها من العرب3. ونجد في الموارد النصرانية إشارات تشير إلى تدريس العربية في الأنبار وفي الحيرة، ولا يعقل أن يكون المراد من العربية، الكتابة والقراءة بها فقط، بل لا بد وأن يُعلم معها شيء من أصول الكتابة من كيفية قط القلم ورسم الحروف، وأنواع الخطوط، ثم الأمثال والحكم، وقواعد اللغة وآدابها، أي: منهج المدارس المقرر في الشرق الأدنى في ذلك العهد. وقد كان رجال الدين يسيرون عليه ويتبعونه في مدارسهم. وكان لهم علم بقواعد وبلغة بني إرم.

_ 1 سفر الأمثال، الإصحاح الأول، الآية 7. 2 Hastings, p. 204. 3 تأريخ كلدو وآثور "2/ 7".

أما عن تعليم الأطفال في جزيرة العرب، فلا نستطيع التحدث عنه بصورة جازمة لعدم ورود شيء عن ذلك في الكتابات الجاهلية أو في روايات أهل الأخبار. ويمكن أن نقول باحتمال تعليم الأطفال في المواضع التي وجدت النصرانية إليها سبيلًا، مثل مدينة "نجران" وبعض مواضع من سواحل الخليج، على النمط الذي كان متبعًا عند نصارى العراق وبلاد الشأم من تعليم مبادئ القراءة والكتابة وتحسين الخط ومبادئ أمور الدين. ثم المعارف العالية مثل اللغة والعلوم اللاهوتية والطب وما شاكل ذلك، للمتفوقين من الطلاب من أصحاب المواهب والقابليات، وذلك لأن الكنيسة كانت تتبع نظامًا واحدًا في التعليم؛ ولأن الذين كانوا يبشرون بالنصرانية بين العرب، كانوا من أهل العراق في الغالب، وقد درّسوا عرب العراق وعرب مواضع أخرى في جزيرة العرب، وقد درسوهم على طريقة تدريس الكنيسة الشرقية، فيحتمل لذلك أن يكون التدريس على نمط واحد في مدارس الكنيسة، ولا أستبعد احتمال تدريس السريانية لهؤلاء الطلاب، باعتبار أنها لغة الدين وتساعد في فهم الأناجيل والكتب النصرانية والعلوم. وقد ورد أن: عمر بن الخطاب، كان يقول في تربية الأولاد وتثقيفهم: "علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثبًا، وروّوهم ما يجمل من الشعر"1. وذكر أنه كتب إلى الأمصار: "أما بعد، فعلموا أولادكم العوم والفروسية، ورووهم ما سار من المثل وحَسُنَ من الشعر"2، وأن الرسول دعا لمعاوية، فقال: "اللهم علمه الكتاب والحساب" 3. ويظهر أن هذا التوجيه في تربية النشء كان معمولًا به عند الجاهليين. ويظهر أن الحث على تعلم السباحة، إنما ظهر في الإسلام، بعد الفتوح، وذلك بعد أن اتصل العرب، بالأنهار الواسعة العميقة وبالبحار، فأجبرهم الواقع على تعلم العوم. ونجد "الحجاج" يقول لمعلم ولده: "علِّم ولدي السباحة قبل الكتابة، فإنهم يصيبون من يكتب عنهم ولا يصيبون من يسبح عنهم"4.

_ 1 المبرد، الكامل "1/ 155". 2 البيان "2/ 180"، "2/ 116"، "القاهرة 1932م". 3 البيان "2/ 116"، "1932م". 4 البيان "2/ 179".

وقد كان "عمر" يتهيب البحر، فأوصى قواد جيشه بالتأني في ركوب البحر، خشية غرق المسلمين. والمثل والشعر من أهم المواد التي كان يعتني بها الجاهليون. وكان أهل الكتاب يعتنون بالمثل وبما ورد في الكتب المقدسة من حكم، وبالشعر كذلك في تعليم أطفالهم في الكتاتيب. وذكر "الهمداني"، أن "عمر بن الخطاب"، قال: "تعلّمون من النجوم ما تهتدون به، ومن الأنساب ما تعارفون به وتواصلون عليه، ومن الأشعار ما تكون حِكَمًا، وتدلكم على مكارم الأخلاق"1. ويقوم بالتعليم معلمون، امتهنوا التعليم واتخذوه حرفة لهم. ومنهم من اتخذه حرفة رئيسية له، إذ كان يمارس حرفًا أخرى، ليتمكن بذلك من إعاشة نفسه. ولما كان التعليم الابتدائي الذي يقوم على تعليم الخط والقراءة والكتابة وبعض المبادئ الأخرى شيئًا بسيطًا لا يحتاج إلى علم كبير ومعرفة، لذلك لم يشترط في متعاطيه أن يكون من أصحاب العلم، بل قام به من وجد في نفسه قابلية تعليم الأطفال من رجال الدين ومن غيرهم، على نحو ما نجده في المدارس القديمة التي تقوم بتعليم الأطفال القراءة والكتابة لهذا اليوم. ولم يرد في الكتابات الجاهلية شيء يتعلق بأسماء المعلمين الجاهليين. لذلك لا نستطيع أن نذكر اسم معلم من معلمي الجاهلية بالاستناد إليها. أما أهل الأخبار، فقد تعرض نفر منهم لذكر بعض المعلمين الذين عاشوا قبل الإسلام، والذين أدرك بعض منهم الإسلام. فذكر "محمد بن حبيب" في الفصل الذي سماه: "أشراف المعلمين وفقهاؤهم"، اسم "بشر بن عبد الملك السكوني" أخو "أكيدر بن عبد الملك" صاحب "دومة الجندل"، فذكر أنه كان في جملة المعلمين2. وإليه ينسب أهل الأخبار نشر الكتابة بمكة على نحو ما بينت ذلك في موضوع تأريخ الخط. وأشار "ابن حبيب" إلى "أبي قيس بن عبد مناف بن زهرة"، وهو جاهلي، على أنه من أشراف المعلمين. كما أشار إلى "عمرو بن زرارة بن عدس

_ 1 الإكليل "1/ 6 وما بعدها". 2 المحبر "475".

ابن زيد"، وهو جاهلي كذلك في جملة من أشار إليهم من المعلمين. وذكر أنه كان يُسمى "الكاتب". وأشار أيضًا إلى "غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي"، وهو من المخضرمين. على أنه كان من أشراف المعلمين1. وهو من الشعراء الحكماء، إذ كان أحد حكام "قيس" في الجاهلية. وكان أحد وجوه ثقيف، وقيل إنه أحد من نزل فيه: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ، وإنه كان صاحب تجارة، وقد سافر في قوم من تجار ثقيف وقريش وعلى رأسهم "أبو سفيان" إلى العراق، للتجارة، فوصلوا إلى "كسرى" فتكلم معه باسم التجار، فأعجب به، واشترى منه التجارة بأضعاف ثمنها وبعث معه من بنى له أطمًا بالطائف، فكان أول أطم بني بها. وذكر أن كسرى لما كلمه ووقف على حكمته قال له: "هذا كلام الحكماء، وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم فما غذاؤك؟ قال: خبز البر، قال: هذا العقل من البر لا من اللبن والتمر"2. في حديث يقصه أهل الأخبار وكأنهم كانوا شهود عيان. ولا بد وأن يكون في ثقيف قوم كانوا مهرة في الكتابة، لهم خط حسن وإملاء صحيح، وذلك فيما إذا أخذنا بصحة الأخبار الواردة عن تدوين القرآن وجمعه من قولهم إن الخليفة "عمر" أو "عثمان"، قال: "اجعلوا المملي من هذيل والكاتب من ثقيف"، إذ لا يعقل النص على أن يكون الكاتب من ثقيف من غير سبب، اللهم إذا اعتبرنا الخبر من الموضوعات التي صنعت في أيام الحجاج، للتقرب إليه، ولرفع شأن ثقيف، بعد أن ظهرت أخبار في أيامه، رجعت نسب ثقيف إلى قوم ثمود، وصيرت "أبا رغال" خائن العرب إلى غير ذلك من أخبار تحدثت عنها في أثناء حديثي عن ثمود وعن قبيلة ثقيف. وكان "جفينة" العبادي من أهل الحيرة، وكان نصرانيًّا، قدم المدينة، وأخذ يعلم بها الكتابة في أيام الخليفة "عمر". وكان ظئرًا لسعد بن أبي وقاص. فاتهمه "عبد الله بن عمر" بمشايعة "أبي لؤلؤة" على قتل أبيه فقتله3.

_ 1 المحبر "475". 2 الإصابة "3/ 186 وما بعدها"، "رقم 6926"، الاستيعاب "3/ 186 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 3 فتوح البلدان "460"، "أمر الخط"، ابن سعد، الطبقات "3 القسم الأول ص258"، الطبري "5/ 42".

وورد في كتب الحديث "عن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، أنه قال: أتانا معاذ بن جبل -رضي الله عنه- باليمن معلمًا وأميرًا"1. وقد أرسل الرسول معاذًا إلى اليمن ليعلمهم الفرائض وأحكام الدين. وإذا صح النص، صار دليلًا على شيوع لفظة "معلم" في ذلك العهد. ووردت لفظة "المعلم" في رسائل "عمر" إلى عماله، ففي رسالة له "إلى أهل الكوفة": "إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا، وعبد الله بن مسعود معلمًا ووزيرًا"2. وأراد بلفظة المعلم، من يعلم الناس ويرشدهم ويفقههم في أمور الدين. وكانوا يطلقون على من يعلم الكتابة في "الكتّاب": معلم كتّاب. والكتّاب والمكتب، الموضع الذي يتعلم به. ولست أعلم شيئًا عن مدى تقدم علم الحساب عند الجاهليين. وكل ما أستطيع أن أقوله، هو أنهم كانوا يعلّمون أولادهم مع الخط مبادئ الحساب والمعرفة، وهي الجمع والطرح والضرب والتقسيم، وذلك لحاجتهم إليها في حياتهم اليومية، ولا سيما بالنسبة إلى التجار أصحاب المصالح الكبيرة، إذ تدفعهم الحاجة إلى ضبط أعمالهم وحسابهم. وقد ذكر أهل الأخبار أن الجاهليين استعملوا حساب عقود الأصابع في حسابهم، فوضعوا كلًّا منها بإزاء عدد مخصوص، ثم رتبوا لأوضاع الأصابع آحادًا وعشرات ومئات وألوفًا، ووضعوا قواعد يتعرف بها حساب الألوف فما فوقها بيد واحدة. وقد أشير إلى حساب اليد في الحديث، كما استعملوا العدّ بالحصى، وبه يحسبون المعدود3. والعدّ برسم خطوط، فيدل كل خط على عدد، ومجموع الخطوط هو المعدود. وورد في الأخبار أن الرسول دعا لمعاوية بقول: "اللهم علّمه الكتاب والحساب"4، وقد نعت بأنه كان من الكتبة الحسبة الفصحاء5، والحديث المذكور من أحاديث أهل الشأم6، ولهم أحاديث أخرى في الثناء على "معاوية"، وهي

_ 1 إرشاد الساري "9/ 429". 2 خورشيد أحمد فاروق، حضرت عمر "116"، "رقم 207، 208، 209". 3 بلوغ الأرب "3/ 379 وما بعدها". 4 البيان والتبيين "2/ 116". 5 الإصابة "3/ 412" "رقم 8070". 6 الاستيعاب "3/ 381" "حاشية على الإصابة".

من الأحاديث التي أوجدتها العصبية السياسية، على نحو ما نجد من أحاديث في "عبد الله بن عباس" وفي العلويين. وقد روي الحديث المذكور في حق أشخاص آخرين. وقد وضعت أحاديث في مدح معاوية وبني أمية. وأرى أن الحديث المذكور وضع في مقابل حديث "اللهم علمه الحكمة"، الذي روي أن الرسول قاله في "ابن عباس"، وحديث: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" أو "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب"، و "اللهم بارك فيه وانشر منه"، وأحاديث أخرى ذكر أنها قيلت فيه1. وأما ما نسب إلى الرسول من قوله: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا" فإنه حديث ضعيف، وقد ورد أيضًا أن رجلًا قال: ما كنت أظن أن عددًا يزيد على ألف2، وهو قول ينطبق على حالات فردية لأعراب، ولا يمكن أن ينطبق بالنسبة للحضر، ولا سيما لأهل مكة الذين كانت لهم تجارة ضخمة وقوافل تذهب إلى مختلف الأنحاء، تحمل تجارة تقدر أثمانها بعشرات الألوف، فهل يعقل صدور مثل هذا الحديث من الرسول؟ وقد كان الجاهليون يتراسلون بينهم، فيكتبون كتبًا إلى من يريدون مراسلته. والكتاب هو صحيفة قد تكون من جلد، أو من مادة أخرى. وقد ذكر أن الرسول كتب كتابًا إلى "بني حارثة بن عمرو بن قريظ"، فأخذوا الكتاب وغسلوه، ثم رقعوا به دلوهم3. ويدل هذا على أن الكتاب كان صحيفة من جلد. والرسائل من حقول التدوين المهمة عند الجاهليين. وهي رسائل قد تكون في أمور خاصة، كرسائل أب إلى ابنه أو العكس ورسائل أصدقاء وأقارب من ذوي الأرحام، وهي تتناول مسائل شخصية خاصة تهم المتكاتبين. وقد تتناول الأحداث التي يكون لها شأن عند الناس وخطر، فيكتب المتكاتبون عنها، لما فيها من أهمية ولذة بالنسبة لهم. وقد تكون الرسائل إخبارية، كأخبار عن تجارة ومعاملة أو عن حدث وقع أو غزو أو قرب وقوع حرب أو إخبار بهجوم عدو ومقدار قوته وما شاكل ذلك من أمور، ذات أهمية خاصة، بالنسبة للمرسل إليهم.

_ 1 الإصابة "2/ ... ". 2 الأحكام السلطانية "192". 3 إمتاع الأسماع "1/ 441".

ونجد في كتب أهل الأخبار صور رسائل في أمور ذات طابع إخباري. منها رسائل دوّنت بعبارات واضحة صريحة، يظهر أن أصحابها كانوا مطمئنين من عدم إمكان سقوطها في أيدٍ عدوةٍ فتقف على ما جاء فيها، لذلك كتبوها بعبارات مفهومة مكشوفة. ومنها ما كتبت شعرًا كالذي روي من إرسال شعر كتبه "لقيط بن يعمر الإيادي" لقومه يحذرهم فيه من كسرى1. أو نثرًا وقد كتبها أصحابها على شيء لا يلفت النظر، كحدوج الجمال المسافرة إلى جهة معينة، لتقرأ هناك، أو رسائل لا تلفت النظر ولكنها ذات معانٍ مفهومة عندما ترسل إليه، وقد تحمل الرسالة لرسول لينقلها شفاهًا إلى من يراد إخبارهم خبرًا، وذلك في الأمور الهامة بالطبع، التي لا يمكن الإفصاح عنها، لما لها علاقة بحروب أو غزو أو وضع أسير واقع في عذاب أسر آسريه، ويريد إبلاغ أهله بذلك ليخلصوه من وضعه السيئ. ومن رسائل الإخبار، الرسائل التي كتبها المسلمون المتخفون أو المشركون الميالين للمسلمين على قريش، يخبرون فيها الرسول وأصدقاءهم المسلمين بأمر قريش وعورتهم واستعدادهم ليكونوا على حذر منها، والرسائل التي كتبها بعض المسلمين الذين لم يكن الإسلام قد تمكن بعد من قلوبهم، أو كتبوها شفقة لبعض أصدقائهم من المشركين عن الإسلام والمسلمين. ومنها كتاب "حاطب بن أبي بلتعة" إلى صفوان بن أمية وسهل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل. يقول فيه: "إن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن يكون لي عندكم يد بكتابي إليكم". وأعطى الكتاب إلى امرأة من مزينة، وجعل لها مبلغًا من الدنانير على أن تبلغه قريشًا. وقال: أخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق فإن عليه حرسًا. فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها وسلكت على غير نقب، فبلغ الرسول أمرها، فأرسل من قبض على الرسالة. وتوسل حاطب إلى الرسول، بأن يعفو عنه؛ لأنه كان رجلًا ليس له في القوم أصل ولا عشيرة، فصاروا له أهلًا واعتبروه ولدًا فصانعهم فعفا عنه. ونزل الوحي في شأنه في سورة الممتحنة2.

_ 1 ابن قتيبة، الشعر "97 وما بعدها" الأغاني "20/ 23 وما بعدها". 2 الآية 1، إمتاع الأسماع "363".

وفي كتب السير والتواريخ إشارات إلى مخابرات أرسلها مسلمون إلى ذوي رحمهم، يطلبون إليهم الدخول في الإسلام، وبأن الرسول سيعفو عنهم ويغفر لهم ما بذر منهم من إساءة إليه إن جاءوا إليه مسلمين، من ذلك، ما كتبه "بجير" إلى أخيه "كعب بن زهير بن أبي سلمى"، يطلب منه الدخول في الإسلام، والتوبة، وإلا فمصيره كمصير "ابن خطل" الذي كان يمعن في هجاء الرسول، فقتل1. ومن ذلك كتاب "الوليد بن الوليد" إلى أخيه "خالد بن الوليد"، يدعوه إلى الإسلام، فجاء مسلمًا2. ويذكر أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كانوا يستفتحون كتبهم بجملة: "باسمك اللهم"، ويذكر بعضهم أن أمية بن أبي الصلت كان هو الذي ابتدع هذه البدعة. فمشت بين الناس. وصارت سنة لأهل مكة في تدوين رسائلهم. فجعلوها في أول كتبهم. فكانت قريش تكتب بها. وبها افتتح الرسول كتبه في بادئ أمره، ثم أبدلت باسم الله بعد نزول سورة هود, ثم باسم الرحمن، بعد نزول سورة إسرائيل، ثم بسم الله الرحمن الرحيم، بعد نزول سورة النمل3. وكان من رسم الجاهليين إذا كتبوا أن يبدءوا بأنفسهم من فلان إلى فلان. ونجد هذا الأسلوب في كتب رسول الله4. وتختم الرسالة بخاتم كاتبها أو بتدوين اسمه في نهايتها. كأن يقول: "وكتب فلان" أو "كتب فلان". وقد ورد في كتب السير، أن الرسول حين همّ بتوجيه الكتب إلى قيصر وكسرى وغيرهما، قيل له: إن الروم لا يقرءون كتابًا غير مختوم بختم صاحب الرسالة، فأمر بصنع خاتم له، ختم به كتبه، وورد أن قريشًا حين ائتمرت بمقاطعة بني هاشم وبني المطلب، وكتبت بذلك صحيفة، ختمت عليها ثلاثة خواتيم، وعلقوها في سقف الكعبة5.

_ 1 الإصابة "3/ 279"، "7413". 2 نسب قريش "324". 3 الجهشياري "12 وما بعدها"، الاقتضاب، للبطليوسي "103 وما بعدها"، أدب الكتاب، للصولي "31"، الأغاني "3/ 123"، تفسير الطبري "19/ 59 وما بعدها"، تفسير الطبري "15/ 121 وما بعدها". 4 القرطبي، الجامع "13/ 192 وما بعدها". 5 إمتاع الأسماع "1/ 25".

وأشير إلى الخاتم في شعر لامرئ القيس. فورد فيه: ترى أثر القَرْح في جلده ... كنقش الخواتم في الجرجس والجرجس: الشمع، وقيل هو الطين الذي يختم به، وقيل هو الصحيفة. وبكل من ذلك فسر قول الشاعر المذكور1. ومن معاني "الجرجس" البعوض الصغير2. ويظهر أن اللفظة من المعربات، عُربت عن الإرمية. فهي تعني البعوض الصغير، إذا قيل Gargso، وهي تعني الصلصال والطين الذي يختم به إذا قيل3 Garguechto. ويذكر بعض أهل الأخبار أن أول من ختم رسائله "عمرو بن هند"4. وذكر علماء اللغة أن خاتم الملك الذي يكون في يده يُسمى "الحِلق" وأنشدوا في ذلك: وأُعطيَ مِنَّا الحِلْقَ أبيضُ ماجِدٌ ... رديفُ مُلوكٍ ما تَغبُّ نوافِلُهْ كما أنشدوا بيتًا للشاعر جرير، ذكر فيه "الحلق": حلق المنذر بن محرق إذ قال: ففاز بحلق المنذر بن محرق ... فتى منهم رخو النجاد كريم5 وذكر أيضًا أن الحلق خاتم من فضة بلا فص6. ويظهر من ذلك أن الملوك كانوا يصطنعون خاتمًا لهم، يكون دليلًا على صدق رسائلهم وأوامرهم، يحملونه معه، أو يودعونه عنه كاتم أسرارهم، وعلى ذلك جرى الأمر في الإسلام. فقد سار الخلفاء على سُنَّة الرسول من اتخاذه خاتمًا يختم به الرسائل، والكتب والأوامر، وبقي الأمر كذلك عند من جاء بعده من الخفاء.

_ 1 ديوان امرئ القيس "102"، "سندوبي"، الاقتضاب، للبطليوسي "97" برواية أخرى، تاج العروس "4/ 118"، "الجرجس". 2 تاج العروس "4/ 118"، "الجرجس". 3 غرائب اللغة "176". 4 الاقتضاب، للبطليوسي "104". 5 تاج العروس "6/ 324"، "حلق". 6 تاج العروس "6/ 324"، "حلق".

والخاتم ما يوضع على الطينة وما يختم به. والختام الطين أو الشمع أو الحبر أو أي مادة أخرى تترك أثرًا يختم بها على الشيء1. وختم الأوراق والرسائل من العادات القديمة المستعملة عند الشعوب. ويقوم الخاتم مقام التوقيع في وقتنا الحاضر وختم رسالة معناه المصادقة عليها وتصديقها. واستعمل الخاتم في ختم الأوراق العامة والأوراق الشخصية والعقود والمعاملات. وكان الشخص إذا أراد إرسال رسالة ختمها، ولذلك كانوا يحملون خواتمهم معهم، إما في جيوبهم وإما في أصابعهم وقد يضعونها في سلسلة يعلقونها حول أعناقهم2. وقد صنع الخاتم من مواد مختلفة. صنع من ذهب ومن فضة ومن معدن آخر ومن الحجر. وقد كتب على بعض الخواتم اسم صاحبه، ونقشت أمثلة وحكم وعبارات دينية أو أسماء الآلهة على بعض الخواتم. كما حفرت على بعض منها صور ترمز إلى رموز مقدسة أو صور حيوانات. وعثر على خواتم في العربية الجنوبية، وبها فصوص من أحجار ثمينة من أحجار اليمن الشهيرة. وقد كان يستعملها الناس إذ ذاك في التوقيع على رسائلهم ومخابراتهم ومعاملاتهم. ولا زال الناس يعثرون على خواتم جاهلية في اليمن وفي بقية العربية الجنوبية، فيستعملونها لتزيين أصابعهم بها. وبعد أن تختم الرسالة، توضع داخل ظرف، حتى لا يطلع عليها أحد ثم يغلق، ثم يختم على موضع فتحه بالطين أو على المواضع التي يحتمل أن يفتح منها حتى تكون في مأمن تام. فلا يقف عليها إلا من أرسلت له. فإذا وصلته، ووجد أن خاتمها سليم، كسره، ليستخرج الرسالة من ظرفها. وكانت الكتب هلى هيئة لفائف. وكان من عادة الشعوب القديمة أن المكتوب إذا أريد إرساله إلى شخص من طبقة أدنى من طبقة الكاتب، أي: صاحب الرسالة، أرسل المكتوب إليه منشورًا، أما إذا كان المكتوب إلى شخص مكافئ لصاحب الكتاب أو أعلى منزلة منه، أرسل مختومًا وموضوعًا في كيس3. ولحماية الأشياء من التطاول والتجاوز عليها لجئوا إلى طبعها وختمها، فختموا

_ 1 تاج العروس "8/ 266"، "ختم"، اللسان "12/ 163"، "ختم". 2 Hastings, p. 833. 3 نحميا، الإصحاح السادس، الآية 5، قاموس الكتاب المقدس "2/ 253".

الأكياس التي تملأ بالنقود أو بأي شيء آخر، وختموا زق الخمرة حتى لا يتطاول عليه متطاول. قال الأعشى: وصهباء طاف يهوديها ... وأبرزها وعليها خَتَمْ1 كما ختموا الطعام بالروسم، وهو خشبة مكتوبة بالنقر. أو لويح فيه كتاب منقور، تختم به الأكداس2. وقيل له "الروشم" أيضًا في لغة السواد3. وكلمة "رشم"، تعني "كتب" في الإرمية. و"راشوم"؛ بمعنى لوح منقوش تختم به البيادر في لغة بني إرم، Rouchmo، وتعني علامة4. وكان من عادتهم ختم الأمور المهمة أيضًا خشية ضياعها أو التطاول عليها أو لحفظها. فلما كتب أهل مكة فيما بينهم كتابًا يتعاقدون فيه ألا يناكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا يبايعوهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم حتى يُسلّموا إليهم محمدًا. كتبوا بذلك صحيفة ختموا عليها ثلاثة خواتيم، وعلقوها في سقف الكعبة5. ويظهر أنهم بعد أن كتبوا الصحيفة وضعوها في ظرف ثم سدّوه وختموا عليه ثلاثة خواتيم، حتى لا يفتح الظرف. أو أنهم طووها بعد أن كتبوها ثم ختموا عليها حتى لا تفتح، فلما أرادوا فتحها وجدوا أنها قد تهرأت وتلفت من فعل لعب الأرضة بها. ويجوز أنهم ختموا عليها ثلاثة خواتيم. بخواتيم الكتبة الثلاثة الذين نسبت كتابتها إلى كل واحد منهم، بحسب اختلاف الروايات. وهم: منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، أو النضر بن الحارث، أو بغيض بن عامر بن هاشم.

_ 1 مصادر الشعر الجاهلي "76". 2 تاج العروس "8/ 312"، "رسم". 3 تاج العروس "8/ 313"، "رشم". 4 غرائب اللغة "183". 5 إمتاع الأسماع "1/ 25".

الكاتب

الكاتب: والكاتب في اصطلاحنا هو الذي خصص نفسه بالكتابة، أو من يقوم بعمل

كتابي، أو من اشتهر وعرف بحذقه في فن الكتابة. وذكر علماء اللغة أن الكاتبين، هم الكتبة وحرفتهم الكتابة. وذكروا أن الكاتب في أيام الجاهلية: العالم. "وفي كتابه إلى أهل اليمن: قد بعثت إليكم كاتبًا من أصحابي. أراد عالمًا سُمي به لأن الغالب على من كان يعرف الكتابة أن عنده العلم والمعرفة"1. والواقع أن نسبة العلم للكتاب، لم تكن نظرة أهل الجاهلية وحدهم بالنسبة إلى كتّابهم، بل كانت وجهة نظر شعوب العالم كلها إلى الكتبة في ذلك العهد؛ لأن أكثر كتّاب تلك الأيام كانوا من أبناء العوائل المتمكنة ومن أبناء طبقة رجال الدين, وكانوا يتعلمون إلى جانب الكتابة في الغالب علم اللسان، كالعربية بالنسبة إلى العرب والإرمية بالنسبة إلى بني إرم، وشيئًا من الأدب من منظوم ومنثور وحساب وأمثال وحكم، لذلك يخرج المتعلم، وقد تثقف بثقافة تجعله فوق مستوى أقرانه، فيكون بعلمه هذا أعلم من غيره وأدرك منهم بشئون الحياة. ومن هنا صار أعلم من بقية الناس. ونظر إليه نظرة تقدير وتبجيل. ومن هنا نجد أن الأحناف، وهم الدعاة إلى الإصلاح وإلى رفع مستوى الحياة في الجاهلية، كانوا كلهم من الكتّاب بالعربية. وقد نسب إليهم أنهم كانوا يكتبون ويقرءون بالعبرانية أو بالسريانية أو باللغتين أيضًا، كما عرف عن بعض الخطباء والشعراء أنهم كانوا يقرءون ويكتبون، ومنهم من كان له اطلاع على الثقافات واللغات الأعجمية حتى بان ذلك على كلامه المنظوم أو المنثور، وخير مثال على هؤلاء: عدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبي الصلت والأعشى ولبيد. وقد عرفت حرفة احتراف الكتابة بين الجاهليين أيضًا، كالذي كان من أمر "زيد" والد "عدي بن زيد العبادي" مع الفرس، وكالذي كان من أمر ابنه عدي نفسه مع الفرس أيضًا، ثم ما كان من أمر ابن عدي معهم. وكالذي كان من أمر "لقيط بن يعمر الإيادي"، وغيرهم. وقد رأينا أن الناس أطلقوا على "حنظلة بن الربيع"، كاتب الرسول "الكاتب"، حتى عرف بـ"حنظلة الكاتب"، لأنه كان قد قضى معظم وقته في الكتابة للرسول، فكان يكتب له إذا غاب كاتب من كتّابه عنه. فهؤلاء إذن، هم كتّاب، صارت الكتابة حرفتهم، ولا بد وأن نتصور أنهم كانوا قد أتقنوا حرفتهم لطول مرانهم بها

_ 1 تاج العروس "1/ 445"، "كتب".

وخبروها على خير وجه. ومن المؤسف، أننا لا نملك نماذج من رسائلهم ولا من خطوطهم في هذا اليوم. كما لا نملك من خطوط غيرهم شيئًا، وسبب ذلك هو ندرة مواد الكتابة وغلائها بالنسبة لذلك الوقت، فكانوا يغسلون الصحيفة المكتوبة ويمحون ما كتب عليها، ليكتبوا عليها من جديد، ثم عدم إدراك الناس إذ ذاك لأهمية وقيمة الوثائق، حتى بالنسبة إلى الوثائق المهمة كرسائل الرسول وأوامره وأحاديثه وأمثال ذلك، فضاعت الأصول بسبب هذا الإهمال، وهي أصول سريعة التلف؛ لأنها كتبت على الجلود وعلى مواد تبلى بسرعة، وتحتاج إلى عناية وحرص كي تحافظ على حياتها مدة طويلة. وقد سار الكتّاب الجاهليون على الجادة التي سلكها الكتّاب الآخرون الكاتبون بالأقلام السامية من عدم وضع علامات للحروف المتشابهة مثل الباء والتاء والثاء، بحيث إنهم كانوا إذا كتبوها، لم يضعوا عليها نقاطًا لتمييز حرف منها عن حرف مشابه له أو علامة أخرى فارقة، تفرق هذا الحرف عن الحرف الآخر. كما ساروا على الجادة التي سار عليها غيرهم من عدم وضع علامات خاصة بالحركات. فكتبوا ما كتبوا من غير إعجام ولا حركات. تاركين أمر القراءة الصحيحة وفهم المكتوب إلى علم القارئ وفهمه وذكائه وحذقه باللغة وبالمهنة. ولعلهم فعلوا ذلك محاكاة لغيرهم مثل: الكتبة النبط والآراميين والعبرانيين، الذين تمسكوا بهذا الأسلوب، على اعتبار أنه سُنَّة قديمة ورثت عن الآباء، وقد كتبت بها الكتب المقدسة. أو لأن القارئ يجب أن يكون عالمًا بفنه بارعًا به، فلا يكتب له بما يشعره أن مستواه في فهم المكتوب، هو مثل مستوى سائر الكتبة، ممن تعلموا القراءة والكتابة وكفى. فكتبوا من غير إعجام ولا حركات. وقد جعلوا ذلك خاصة في مخاطبة ذوي المكانة والحكم، أما إذا كان الإنسان المكتوب إليه من سواد الكتّاب القرّاء، فكانوا يبيحون لأنفسهم حرية إعجام الكتابة وتحريكها. ومن هنا أيضًا، ظهرت نماذج من الخطوط، خصصت بكتّاب العامة. وكانوا يميزون بين الخطوط، ويرجحون الخط القوي السوي على الخط الضعيف. والخط الجيد هو الخط الذي يجود فيه. ولا يستبعد أن تكون لهم مدارس في كيفية تدوين الخط. فقد أطلقوا على خط أهل الأنبار المشق. وقد عرفوا هذا الخط، بأنه فيه خفة. ولا يعقل بالضبط أن يكون هذا الخط خطًّا رديئًا ولهذا سُمي مشقًّا، بل هو طريقة خاصة من طرق رسوم الخطوط التي امتازت بمدِّ

الحروف وبخفتها في الكتابة, أي: سهولتها، ولا تزال هذه الطريقة المعروفة بـ"خط المشق" معروفة. وهي تستعمل عند الخطاطين في كتابة بعض الأمور التي يناسبها هذا الخط. ذكر أن الخليفة "عمر" ذكره فقال: "شرّ الكتابة المشق وشر القراءة الهذرمة"1. لما في الاثنين من السرعة والتسرع. فالهذرمة السرعة. وذكر أيضًا أن "ابن سيرين" كره كتابة المصاحف بالمشق2. والنوع الثاني الذي نعرفه من أنواع الخطوط، هو الجزم، وهو خط أهل الحيرة. وهو خط المصاحف3. ويجب أن نضيف إلى هذين القلمين قلم أهل مكة، الذي دعاه "ابن النديم" بـ"الخط المكي"، ثم الخط المدني. وقد ذكر أن ما بعدهما الخط البصري ثم الكوفي. وهما خطان إسلاميان، وإن كنت لا أستبعد من كونهما قد أخذا من خط عرب العراق في الجاهلية، ولعلهما قد طعما بشيء من قلم أهل مكة أو المدينة. وقد وصف "ابن النديم" بعض خصائص القلم المكي والقلم المدني، فقال: "فأما المكي والمدني، ففي ألفاته تعويج إلى يمنة اليد وأعلى الأصابع وفي شكله انضجاع يسير4. ويمكن استخراج بعض خواص رسم خطوط أهل الحجاز في القرن الأول للهجرة من الكتابات التي عثر عليها بعض الباحثين في مواضع متعددة من الحجاز، والتي قد يعثر عليها في المستقبل. والصفة التي يذكرها "ابن النديم" عن ألفات أهل مكة وأهل المدينة، تدل على أن أهل المدينتين قد أخذوا خطهم من أهل العراق والنبط؛ لأن الصورة المذكورة هي صورة كتابة الألف في الخط الشمالي، ولم يعدل الألف، بحيث صير مستقيمًا إلا في الإسلام. وأنا لا أستبعد احتمال تدريس مبادئ اللغات وبينها مبادئ اللغة العربية في الحيرة وفي الأنبار وفي مواضع حضرية أخرى؛ فليس يعقل اقتصار التعليم في هذه المواضع على تعليم الخط والقراءة ثم لا يتجاوزهما إلى مراحل أخرى ومراقي أرفع. خاصة وأن السريانيين كانوا قد اقتبسوا من اليونان أجرومية النحو وأصول

_ 1 الصولي، أدب الكتاب "56". 2 تاج العروس "9/ 101"، "هذرم"، المصاحف، للسجستاني "134". 3 الاقتضاب، للبطليوسي "89". 4 الفهرست "14".

الشعر وفلسفة قواعد اللغات بترجماتهم الكتب اليونانية إلى اللغة السريانية. وأن جماعة من النصارى العرب كانوا يزورون القسطنطينية وبلاد الشأم ويقرءون الكتب الدينية من آرامية ويونانية للتعلم والتثقف، وهؤلاء هم الذين تولوا تثقيف أبنائهم العرب وتعليمهم. وأناس من هذا الطراز لا بد وأن يكونوا قد تأثروا بما تعلموه من اليونان ومن السريانية فطبقوه على العربية، ووضعوا القواعد لصيانة الألسنة ولتقويمها، وسلكوا سبلًا في البيان ترتفع فوق مستوى تفكير السواد والسوقة بدرجات. وترجموا الموضوعات الدينية ولا سيما الكتب الدينية إلى الناس لتفقيههم بأمور دينهم. ورجل مثل "عدي بن زيد العبادي"، ولِّي ديوان الرسائل والإنشاء عند كسرى وهو ديوان مهم، لم يكن الفرس يسلمون أمره إلا لرجل أديب حاذق، لا يعقل أن يكون مجرد قارئ خطاط ناقش للحروف، لا بد وأن يكون صاحب فن وحذق, له أسلوب في تنميق الكلام والتحبير، قوي البيان، يكتب وفوق قواعد اللغة وأصولها. درس القواعد والأدب وأساليب العرب والعجم في التعبير والبيان، فصار من ثم كاتبًا بالعربية وبالفارسية كما يذكر أهل الأخبار.

الفصل الخامس والعشرون بعد المائة: الكتاب والعلماء

الفصل الخامس والعشرون بعد المائة: الكتاب والعلماء مدخل ... الفصل الخامس والعشرون بعد المائة: الكتاب والعلماء والعلم المعرفة. ورجل عالم وعليم، صاحب معرفة، وأصحاب المعرفة والعلم هم العلماء. ويقال في جمع عالم: علّام، كجهّال في جاهل. قال يزيد بن الحكم: ومسترق القصائد والمضاهي ... سواء عند علام الرجال1 وذكر علماء اللغة أن "الناخع" العالم، وقيل: هو المبيّن للأمور، وقيل: هو الذي قتل الأمر علمًا. قال شقران السلاماني: إن الذي ربّضتما أمره ... سرًّا وقد بين للناخع لكالتي يحسبها أهلها ... عذراء بكرًا وهي في التاسع2 والعلّامة، والعلّام، والتعلمة، والتعلامة: العالم جدًّا، وذلك للمبالغة في سعة علم العالم. وذكر علماء اللغة أن "العلامة والعلام: النسابة"3، ويظهر أنهم إنما قالوا ذلك، بسبب أن النسب كان عند الجاهليين من أهم علومهم التي

_ 1 تاج العروس "8/ 405"، "علم". 2 تاج العروس "5/ 520". 3 تاج العروس "8/ 406"، "علم".

برعوا وتخصصوا بها، حتى صار النسب مرادفًا للعلم عندهم. وفي القرآن: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1، و"علماء بني إسرائيل"2، وألفاظ كثيرة لها صلة بالتعلم والعلم، وفي ورودها فيه دلالة على وقوف الجاهليين على العلم والتعلم وعلى وجود العلماء عندهم. وترد لفظة "الكاتب" بمعنى العالم. قال الله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} 3، "وفي كتابه إلى أهل اليمن: قد بعثت إليكم كاتبًا من أصحابي، أراد عالمًا، سُمي به لأن الغالب على من كان يعرف الكتابة أن عنده العلم والمعرفة"، والكاتب عندهم العالم. والإكتاب الإملاء. تقول: أكتبني هذه القصيدة، أي: أملاها علي 4، و"الكاتب" عند الشعوب الأخرى، بمعنى العالم كذلك، وقد كانت للكتاب منزلة كبيرة في مجتمعهم، إذ كانوا يعدون من الطبقات العالية الممتازة؛ وذلك لأن الكاتب لا يكون كاتبًا إذ ذاك, ولا ينال العلم, إلا إذا كان من الطبقة العالية المتمكنة ومن أسرة عرفت بالعلم. والعلم إذا ذاك محصور في العواثل، وفي رجال الدين وفي الطبقة التي تتولى الكتابة في قصور الملوك. ونجد في القرآن لفظة: "كتب" و"كَتَبَتْ"و"كَتَبْتَ"و"كَتَبْنا"، و"كتبناها"، و"فسأكتبها"، و"تكتبوه"، و"نكتب"، و"يكتب"، و"يكتبون" و"أكتب"، و"فاكتبها"، و"فاكتبوه"، و"كُتِبَ" و"ستكتب"، و"اكتتبها"، و"فكاتبوهم"، و"كاتب"، و"كاتبًا" و"كاتبون"، و"كاتبين"، و"الكتاب"، و"كتابًا"، و"كتابك"، و"بكتابهم"، و"كتابنا"، و"كتابه"، و"كتابها"، و"كتابي"، و"كتابيه"، و"كُتُبٌ"، و"كُتُبِهِ"، و"مكتوبًا". وفي ورود هذه الألفاظ فيه معبرة عن معان مختلفة لها صلة بالكتابة وبالعلم دلالة على أن الجاهليين كانوا على علم، وأنهم كانوا يكتبون في أغراض مختلفة من أغراض الحياة، وأنهم لم يكونوا على نحو ما يقص عنهم أهل الأخبار من الجهل والأمية.

_ 1 فاطر، الآية 28، تفسير الطبري "22/ 86"، تفسير الألوسي "22/ 176". 2 الشعراء، الآية 197. 3 الطور، الآية 41، القلم، الآية 47. 4 تاج العروس "1/ 445"، "كتب".

وذكر علماء اللغة أن "الشهر" وجمعها "شهور" بمعنى العالم، واسشهدوا على هذا المعنى ببيت شعر ينسب إلى أبي طالب، هو: فإني والضوابح كل يوم ... وما يتلو السفاسرة الشهود1 قال الصاغاني: هكذا أنشده الأزهري لأبي طالب، ولم أجده في شعره2. ولكن الرواة يروونه على هذا النحو: فإني والسوابح كل يوم ... وما تتلو السفاسرة الشهود3 والسفاسرة أصحاب الأسفار، وهي الكتب، والشهود أنسب في تفسير الشعر من الشهور؛ لأننا لا نعلم أن أحدًا قال إن الشهر: العالم، وأرى أن تصحيفًا قد وقع في البيت حول حرف "الدال" "راء"، ففسرت لفظة الشهور بالعلماء، لعدم تصادم هذا التفسير مع المعنى، وفي العربية مئات الأمثلة على مثل هذا التصحيف. وترد لفظة "الفقه" بمعنى العلم بالشيء والفهم له. ويظهر أن الجاهليين كانوا يستعملون لفظة "فقه" ومشتقاتها في معان لها صلة بالعلم. ودليل ذلك ما ورد في القرآن الكريم من قوله {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} 4، ومن ورود "تفقهون"، و"تفقه"، و"يفقهوا"، و"يفقهون"، و"يفقهوه" في مواضع منه. وورد في كتب اللغة والأدب والأخبار: "فقيه العرب: عالم العرب"، و"فقهاء من العرب"5. وورد في الحديث: "أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون" 6، أي: الثرثارون المدّعون العلم والفقه. ويفهم أيضًا من روايات أهل الأخبار، أنه قد كان للجاهليين أئمة وفقهاء يقضون بينهم، ويفتون في دينهم، ويحافظون على دينهم. فهم عندهم سدنتهم وأمناؤهم. وقد ذكر "ابن حبيب" أسماء نفر من "تميم" تولوا الموسم والقضاء

_ 1 تاج العروس "3/ 272، 320" "سفر"، "شهر". 2 تاج العروس "3/ 320"، "شهر". 3 تاج العروس "3/ 372"، "سفر". 4 التوبة الرقم 9، الآية 122. 5 اللسان "13/ 522", "فقه". 6 شمس العلوم, الجزء الأول, القسم الأول "ص242".

بعكاظ. فكانوا يجلسون في مكان من السوق، بين المتخاصمين وللإفتاء فيما يشكل عليهم من أمر دينهم. وكان منهم من تخصص بالإجازة بالموسم. ومنهم من تخصص بالفتيا والقضاء. ومنهم من جمع بين الاثنين1. وأنا لا أستطيع أن أتحدث عن كتب ومؤلفات نقول: إن الجاهليين كتبوها بالعربية على نمط اليونان واللاتين والفرس والسريان في الكتابة والتأليف، ذلك لقصور علمنا في الموضوع، ولعدم وصول أي خبر إلينا عنه حتى الآن. نعم، لقد أشرت إلى وجود ما يُسمى "مجلة لقمان" و"حكمة لقمان" وإلى كتب امتلكها بعض الجاهليين، إلا أن الأخباريين لم يصفوا كيف كانت مجلة لقمان، ولم يتطرقوا إلى ما كان فيها، كما أن الظواهر تشير إلى أن تلك الكتب هي مؤلفات جيء بها من بلاد الشأم والعراق واليمن، أغلبها في موضوعات دينية وتأريخية وقصص. وأما لغتها، فيظهر أن بعضها بعربية القرآن الكريم، كمجلة لقمان، وبعضها بلغة بني إرم. أما ما قيل له "الأساطير" أو "كتب الأساطير"، فهو كتب قصص وسمرٍ وحكايات وتواريخ. وتدل التسمية على أنها من أصل يوناني، هو: Historia و Storia في اللاتينية، وتعني التأريخ، عرّبت فصارت "أسطورة" وجمعت على أساطير، واستعملها الجاهليون استعمال اليونان واللاتين، أي: أرادوا بها تواريخ الماضين وحكاياتهم وقصصهم. وأما ما قيل له "السفاسرة"، فالسفسير الحاذق بالشيء. والسفاسرة أصحاب الأسفار، وهي الكتب. والكلمة من أصل "إرمي" على رأي علماء اللغة. و"سفسير" بمعنى "سمسار" في لغة "بني إرم"، أي: المساوم2. والظاهر أن "السفاسرة"، من "سفر"، و"سفر" "سيفير" بمعنى كتاب في عدد من اللغات السامية. وتقابل "سفرو" في لغة بني إرم، بمعنى كتاب3. وقد كان بمكة وبغيرها رجال يتلون الكتب ويقرءون أسفار أهل الكتب من دينية وغيرها قبل الإسلام وفي الإسلام. "وفي الحديث: لا تعلموا أبكار أولادكم كتب

_ 1 المحبر "أئمة العرب". "ص181 وما بعدها". 2 غرائب اللغة "ص187". 3 غرائب اللغة "ص187".

النصارى: يعني أحداثكم"1. وفي هذا الحديث إن صح دلالة على أن قراءة الكتب كانت منتشرة في ذلك العهد. ولا تعني جملة "كتب النصارى" الكتب الدينية بالضرورة، إذ قد تعني كل ما كان يتداوله النصارى من كتب في ذلك العهد. وقد يكون من بينها مؤلفات في الفلسفة وفي الطب وفي فروع المعرفة الأخرى التي كان الناس يتدارسونها إذ ذاك. وفي الآية: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا, قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 2، دلالة صريحة على وجود الكتب والأساطير عند الجاهليين. فلما نزل القرآن، قال المشركون: "إن هذا إلا إفك افتراه محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأولين، يعنون أحاديثهم التي كانوا يسطرونها في كتبهم. اكتتبها محمد -صلى الله عليه وسلم- من يهود، فهي تملى عليه، يعنون بقوله: فهي تملى عليه، فهذه الأساطير، تقرأ عليه، من قولهم أمليت عليك الكتاب، وأمليت بكرة وأصيلًا، يقول وتملى عليه غدوة وعشيًّا. وقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بآيات الله من مشركي قومك ما الأمر كما تقولون من أن هذا القرآن أساطير الأولين، وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، بل هو الحق أنزله الرب الذي يعلم سر من في السموات ومن في الأرض ولا يخفى عليه شيء"3. وزعموا أن الرسول اكتتب القرآن من "أساطير الأولين"، وهي أحاديث سطرها المتقدمون كأخبار الأعاجم، "فهي تقرأ عليه أو كتبت له"4، وقالوا: "ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين وأحاديثهم"5. وكانوا يروون الأساطير وأحاديث الخلق، وهي الخرافات من الأحاديث المفتعلة، فرمى المشركون الرسول بهذه القرية6.

_ 1 تاج العروس "3/ 57"، "بكر". 2 الفرقان، الآية 5. 3 تفسير الطبري "18/ 137 وما بعدها". 4 تفسير النيسابوري "18/ 125 وما بعدها"، "حاشية على تفسير الطبري"، تفسير الألوسي "18/ 213". 5 تفسير الطبري "19/ 60"، تفسير الألوسي "19/ 100". 6 اللسان "10/ 88"، "خلق".

وقد ذهب "شبرنكر" -وهو من الزاعمين أن الرسول كان يكتب ويقرأ- إلى أن النبي قرأ كتابًا في العقائد والأديان وأخبار الماضين، وقد زعم أن اسم هذا الكتاب هو: "أساطير الأولين"1. وقد أخذ رأيه هذا من الآية: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 2. وهذه السورة هي من السور المكية. فهي تشير إلى زعم قريش في أن القرآن، هو شيء اكتتبه الرسول، وقد أملي عليه من الأساطير. وقد سبق أن قالوا: إنه يتعلمه من أناس عاونوه وساعدوه عليه. قالوا: إن هذا القرآن "إفك افتراه محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأولين, يعني أحاديثهم التي كانوا يسطرونها في كتبهم، اكتتبها محمد -صلى الله عليه وسلم- من يهود، فهي تُملى عليه. يعنون بقوله: فهي تُملى عليه، فهذه الأساطير تقرأ عليه، من قولهم أمليت عليك الكتاب وأمليت، بكرة وأصيلًا. يقول وتملى عليه غدوة وعشيًّا"، "وأعانه عليه قوم آخرون. يقول: وأعان محمدًا على هذا الإفك الذي افتراه يهود"3. وقد رد على هذا الرأي "نولدكه" في كتابه: "تأريخ القرآن"، وعدّه قولًا لا أهمية له4. وقد ذكر علماء اللغة أن الأساطير هي الأباطيل والأكاذيب والأحاديث لا نظام لها، وهي جمع "أسطار" و"أسطير" و"أسطور"5. واللفظة من الألفاظ المعربة. وهي Istoriya "استوريا" في اليونانية، وHistoria في اللاتينية، وقد أطلقت عندهم على كتب الأساطير والتأريخ. ويظهر أن الجاهليين قد أخذوها من الروم قبل الإسلام، واستعملوها بالشكل المذكور وبالمعنى نفسه، أي: في معنى تأريخ وقصص. ولا أستبعد وجود الكتب التأريخية باليونانية وباللاتينية في مكة، فقد كان في مكة وفي غير مكة رقيق من الروم، كانوا يتكلمون بلغتهم فيما بينهم وينطقون

_ 1 Noldeke l, S. 16, Ency, of lslam vol. IV, p. 1016. 2 الفرقان، الآية 5. 3 تفسير الطبري "18/ 137 وما بعدها"، أسباب النزول، للنيسابوري "160". 4 Noldeke, l, S. 17. 5 تاج العروس "3/ 297"، المفردات "231"، البيضاوي، تفسير "1/ 144"، تفسير الطبرسي "7/ 32"، "14/ 66".

بها إذا تلاقوا، كما كانوا يحتفظون بكتبهم المقدسة، وبكتب أخرى مدوّنة بلغتهم. وقد ذكر علماء التفسير اسم رجل زعمت قريش أنه كان هو الذي يعلم الرسول ويلقنه القرآن. وإليه الإشارة في الآية: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} 1. وهي في سورة النحل، وسورة النحل من السور المكية. "كانوا يزعمون أن الذي يعلم محمدًا هذا القرآن عبد رومي"، "وكان صاحب كتب، عبد لابن الحضرمي"، "فكان المشركون يرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يدخل عليه وحين يخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلمه"2. وقد ذهب "شبرنكر" إلى وجود "صحف إبراهيم" عند الجاهليين، زعم أن الرسول قرأها وأخذ منها. وقد رد على رأيه هذا "نولدكه"، بقوله: لو فرضنا أن محمدًا أخذ من هذه الصحف، ونسبه لنفسه وادعاه، على أنه وحي أوحى الله به إليه، لو فرضنا ذلك، فإن من غير المعقول عندئذ ذكر محمد لتلك الصحف في القرآن؛ لأن ذكرها فيه معناه إرشاد الناس إلى المورد الذي أخذ منه واتهام نفسه، ولهذا فلا يعقل الأخذ بكلام "شبرنكر"3. وورد في كتب أهل الأخبار أن "الأحناف" كانوا يقرءون الكتب، وتبحروا في التوراة والإنجيل، ومنهم من وقف على لغة "بني إرم" وعلى العبرانية. ومن هؤلاء "ورقة بن نوفل بن أسد"، "الشاعر صاحب العلم في الجاهلية. وكان قد قرأ الكتب وتبحر في التوراة والإنجيل، وهو الذي لقيته خديجة في أمر النبي"4. وورد في بعض الأخبار في تفسير الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} 5 أن هذه الآية إنما نزلت في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السمر والأحاديث القديمة، ويضاهون بها القرآن، ويقولون: إنها أفضل منه6. وفي هذا الخبر دلالة على وقوف الجاهليين

_ 1 النحل، الرقم 16، الآية 103. 2 تفسير الطبري "14/ 119 وما بعدها". 3 Noldeke, l, S. 17, Sprenger, Lebens Muhammad, II, S. 367. 4 الاشتقاق "102". 5 سورة لقمان، الآية 6. 6 العقد الفريد "6/ 9".

على الكتب واستعمالهم لها، وخاصة كتب السمر والأحاديث القديمة، إذ لا يعقل أن يكون شراؤهم لها حادثًا طارئًا، ظهر عندهم بنزول القرآن. وذكر بعض المفسرين أن الآية المذكورة نزلت في حق "النضر بن الحرث وكان يتجر إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم: رستم واسفنديار فيحدث بها قريشًا. وقيل: كان يشتري المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول أطعميه وأسقيه وغنّيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك محمد إليه من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه"1. وإذا صح ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن هذه الآية قد نزلت بحق "النضر" لأنه كان يعاند الرسول ويعارضه وقت يكون مجتمعًا بنفر من الناس يلقي عليهم مبادئ الإسلام، فيقرأ عليهم من كتب الأعاجم ومن قصص: رستم واسفنديار فإن ذلك يدل على أنه كان يتقن الفارسية، وأنه كان يمتلك كتب الفرس ويقرأ بها وهو بمكة، ويترجم ما جاء فيها لمن يتجمع حوله. وأنه اشترى جملة كتب خلال تجاراته مع العراق. فنحن إذن أمام أقدم مترجم يصل إلينا خبره من مترجمي العرب قبل الإسلام بمكة. يقوم بترجمة كتب من الأعجمية إلى العربية. ويكون بذلك قد سبق المسلمين بزمن طويل في ترجمة كتاب رستم واسفنديار إلى العربية. غير أننا يجب أن نتحفظ ونحترز كثيًرا في قولنا هذا. فنحن لا نقصد أنه ترجم كتاب رستم واسفنديار ترجمة تدوين وتحبير، وبالتمام والكمال. فقول مثل هذا يكون قولًا جزافًا، لا يستند إلى علم أو دليل إن قلته. وإنما أقصد ترجمة شفوية على نحو ما ذكره وأورده المفسرون وأصحاب السيرة. وقد ترجم هذا الكتاب في الإسلام. ترجمه جبلة بن سالم2. ولا أعتقد أن رجلًا مثل الحارث بن كَلَده الثقفي، أو ابنه النَّضر، وهما من العلماء بالطب، لم يرجعا إلى مؤلفات في الطب مدوّنة بلغة من اللغات الأعجمية، للحصول على علمهما في الطب، وكيف يمكن ذلك، وقد درسا في مدرسة لم تكن

_ 1 تفسير النيسابوري، حاشية على تفسير الطبري "21/ 52"، سيرة ابن هشام "1/ 383 وما بعدها"، تفسير القرطبي "14/ 52". 2 الفهرست "438".

مدرسة عربية، هي مدرسة "جنديسابور"، عرفت واشتهرت في الطب. وقد كان عماد دراستها في الطب ما ألفه اليونان، وما نقله منها علماء السريان. ولا أعتقد أنهما كانا في جهل بمؤلفات أبقراط وجالينوس وغيرهما ممن بنوا صنعة الطب، ووضعوا فيها المؤلفات. بل لا أعتقد أن رجالًا في مكة أو في يثرب أو الطائف كانوا على جهل بأسماء مشاهير حكماء اليونان، وبينهم من كان له اتصال ببلاد الثقافة والعلم وبالأجانب على نحو ما ذكرت، وإن أغفل عن ذكرهم أهل الأخبار. ويظهر من روايات أهل الأخبار-مثل رواية ابن الكلبي عن وجود دواوين فيها ما مدح به آل لخم وما قيل فيهم من شعر ومقدار ما حكم كل واحد منهم، وروايات غيره عن تدوين الشعر قبل الإسلام- أن الجاهليين كانوا قد شرعوا في تدوين الأخبار والشعر وما لفت انتباههم قبل الإسلام، وقد يكون ذلك قبيل الإسلام بعهد غير بعيد، وأن التدوين كان بهذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، أن بلهجات قريبة منها. ومعنى هذا أن هذه اللهجة كانت قد اكتسبت قوة في هذا العهد، حملت الناس على التدوين وعلى نظم الشعر بها. ولكن الذي رفعها وجعلها لغة للعرب أجمعين، هو القرآن الكريم من غير شك، فبفضله صارت هذه اللغة لغة للعرب كلهم ولغة المسلمين الدينية. ويظهر من القرآن الكريم أن هذه اللغة كانت قد عرفت ألفاظ الحضارة والفكر في يوم نزوله، لورودها فيه. ولورودها فيه أهمية كبيرة في إعطاء فكرة عن مستوى أهل الحجاز العقلي في ذلك اليوم، ففيه ألفاظ مثل العلم والعلماء والحكمة والأساطير والأمثال إلخ ... وألفاظ ذات صلة بالكتابة والتدوين تحدثت عنها ومصطلحات أخرى، ولا يمكن ورود مثل هذه الكلمات في لغة قوم ما، ما لم يكن لهم أو لجماعة منهم على الأقل، حظ من ثقافة وتفكير وعلم. ولا أقصد أن الجاهليين استعملوا تلك الألفاظ بمدلولها المفهوم في الزمن الحاضر، أو بالمعاني المفهومة منها عند اليونان. فلفظة "علم" مثلًا، لا تعني علمًا بالمصطلح الحديث, أي: في مقابل Science في الإنكليزية، وإنما تعني المعرفة عامة. ولفظة "علماء"، لا تعني المشتغلين بالعلوم خاصة أي ما يقال لهم Scientist في الإنكليزية، وإنما يراد بهم العارفون أصحاب المعرفة والفهم. وقد صار للفظتين مدلولان خاصان في العصر العباسي، ولكن هذا لا يعني أن لفظة "علم" أو "علماء"، لم تكن تعني معنًى خاصًّا عند الجاهليين، وإلا ما استعملت للتعبير

عن معان معينة في القرآن الكريم، وما يميز القرآن الكريم والحديث النبوي العارفين بلفظة علماء، لتمييزهم عن السواد. وبهذا المعنى وردت لفظة "عالم" وعلم عند العبرانيين1. ولا أستبعد تأثر المثقفين الجاهليين ومن كان على اتصال بالعجم وباليهود والنصارى بالآراء الفلسفية والدينية وبالجدل الذي وقع بين المذاهب النصرانية في أمور عديدة. فقد خالط الجاهليون، ولا سيما في بلاد العراق وبلاد الشأم، أقوامًا عديدة ذات ثقافات متباينة، واحتكوا بها، وأخذوا منها، فلا يعقل ألا يتأثروا ببعض آرائهم في الكون وفي الحياة وفي سائر نواحي التفكير. وقد وردت في شعر للأعشى وفي شعر لبيد، فكرتان متناقضتان عن الجبر والاختيار، فذهب الأعشى في هذا البيت. استأثر الله بالوفاء وبالعد ... ل وولى الملامة الرجلا مذهب القائلين بالاختيار، أي: إن الإنسان مختار قادر على أفعاله. أما الأعشى فذهب مذهب الجبرية القائلين بأن الإنسان مُجْبر، مسير، وذلك في قوله: إن تقوى ربنا خير نقل ... وبإذن الله ريثي وعَجَل من هداه سُبُل الخير اهتدى ... ناعم البال، ومن شاء أضل2 وقد سبق أن ذكرت في مواضع متعددة من هذا الكتاب أن أكثر من نُسِب إلى التوحيد، أي: من ينعتهم أهل الأخبار بالحنفاء، كانوا يقرءون ويكتبون، وكانت عندهم كتب أهل الكتاب، وأن أكثرهم كانوا أصحاب رأي وفكر في الخلق. وفي هذا العالم. ولكنهم لم يدخلوا في يهودية ولا في نصرانية؛ لأنهم لم يجدوا في الديانتين شيئًا يُفرِّج ويُرفِّه عما كان يجول في رءوسهم من آراء ومقالات عن الخالق والكون. وقد جالس هؤلاء رجال اليهود والنصارى، وتكلموا معهم في أمور عديدة من أمور الفكر والدين في جزيرة العرب وفي بلاد العراق وبلاد الشأم. وينسب لجندب بن عمرو بن حممة، وهو من دوس، أنه كان يقول في الجاهلية:

_ 1 Hastings, Dict. Of the Bible, p. 831. 2 العقد الفريد "2/ 378".

إن للخلق خالقًا لا أعلم ما هو. ثم جاء إلى الرسول، فأسلم. وقد ذكر أن ورقة بن نوفل، وهو واحد من المذكورين، كان قد قرأ الكتب وكتب بالعبراني أو السرياني، وأنه كتب بالسريانية "العبرانية" من الإنجيل ما شاء أن يكتب. وكان قد امتنع عن أكل ذبائح الأوثان1. وذكر أيضًا: أن زيد بن عمر بن نفيل، وهو ممن كان على الحنيفية، كان ينتقد قريشًا، ولا يأكل ذبائحها؛ لأنه ذبحت للأصنام والأوثان2؛ وأن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الله بن غفار المعروف بآبي اللحم الغفاري كان يأبى أن يأكل اللحم، ولهذا سُمي: "آبي اللحم". وكان شريفًا شاعرًا. وقد أسلم: وشهد حنينًا3. وكان لكل هؤلاء وقوف على كتب أهل الكتاب، ولهم علم بأقلامهم. وقد ذكر أهل الأخبار أن وهب بن منبه وأخاه كانا يستوردان الكتب القديمة من بلاد الشأم. ويرد مصطلح "الكتب القديمة" في كتب السير والأخبار4. ووهب بن منبه وأخوه من الإسلاميين، ولكن استيرادهما للكتب لم يكن بدعًا واكتشافًا منهما، بل لا بد أنه كان قديمًا معروفًا عند الجاهليين. وقد ذكر أهل الأخبار عبد عمرو بن صيفي النعمان المعروف بأبي عامر الراهب في جملة من كان يناظر أهل الكتاب، ويتتبع الرهبان، ويألفهم، ويكثر الشخوص إلى الشأم. ومن هنا قيل له: الراهب5. وقد علم بذلك علم أهل الكتاب. وورد أن أهل الكتاب، وهم اليهود، كانوا يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام. فقال رسول الله, صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" 6، وورد جواز تفسير التوراة والإنجيل باللغة العربية7. وكان اليهود يجادلون رسول الله في أمور الدين، وقد أشير إلى جدالهم له في القرآن الكريم: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا

_ 1 الأغاني "3/ 14"، "3/ 120"، "12/ 52". 2 الأغاني "3/ 15 وما بعدها". 3 الإصابة "1/ 13"، الاستيعاب "1/ 111" "حاشية على الإصابة". 4 شرح القاموس "5/ 421". 5 نسب قريش "ص281". 6 إرشاد الساري "10/ 466". 7 المصدر نفسه "ص465".

مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 1، وكانوا يستعينون في جدلهم بالتوراة، يفسرونها بالعربية للمسلمين2. وقد فسر بعضهم الآية: "ليقولوا دارست"، "بقوله: قرأت على اليهود وقرءوا عيك"، وفسرها بعضهم بذاكرتهم، أو قرأت كتب أهل الكتاب3، فنحن إذن أمام أقدم أخبار تشير إلى ترجمة العهد القديم إلى العربية، ليفهمها العرب المشركون. وقد كان جدال اليهود مع النبي على أمور واردة في التوراة، فلا بد وأنهم كانوا يستعينون بالترجمة في هذا الجدال. وفي أخبار أهل الأخبار هذه مواضع تثير التساؤل وتوجه الانتباه إلى قضية وقوف أهل الجاهلية وصدر الإسلام على كتب أهل الكتاب، ونقلهم عنها وشرحهم لبعض ما نقلوه باللغة العربية. فقد وقفنا توًّا على ما ورد عن بعض الأحناف من وقوفهم على كتب أهل الكتاب ومن معرفتهم بالعبرانية والسريانية، وقد وقفنا من أخبارهم على أن "عبد الله بن عمرو بن العاص" كان قد قرأ "الكتاب الأول"4.وأنه كان يقرأ بالسريانية5، وأنه استأذن رسول الله في أن يكتب ما سمعه منه، فأذن له، فدوّنه في صحيفة سماها: "الصادقة"6، وروي أنه كان يقرأ الكتابين: التوراة والإنجيل7. وأنه "كان فاضلًا عالمًا قرأ الكتاب واستأذن النبي في أن يكتب حديثه، فأذن له، فكتب عنه حديثه وحفظ عنه ألف مثل8. وروي أنه كان على علم بالمثناة، و"المثناة" "المشنا" في تفسير التوراة، وأنه جمع كتبًا حصل عليها يوم "اليرموك"، وكان له علم بها"9. وروي أن "عمر" انتسخ كتابًا من كتب أهل الكتاب ووضعه في أديم، وجاء به إلى رسول الله، فقال له: "ما هذا في يدك يا عمر؟ قال: يا رسول الله

_ 1 العنكبوت، الآية 46. 2 تفسير الطبري "21/ 2 وما بعدها". 3 تاج العروس "4/ 150"، "درس". 4 الطبقات "4/ 267" "صادر". 5 الطبقات "4/ 266" "صادر"، المعارف "287". 6 الطبقات "4/ 262" "صادر". 7 الإصابة "2/ 343"، "رقم "4847". 8 الاستيعاب "2/ 339"، "حاشية على الإصابة". 9 تاج العروس "10/ 61"، "ثنى".

الله كتاب استنسخته لنزداد به علمًا إلى علمنا. فغضب رسول الله حتى احمرّت وجنتاه". وورد أيضًا أن رجلًا من "بني عبد القيس" سكه بالسوس، كان قد نسخ "كتاب دانيال"، وكان يقرأه ويفسره للناس، وذلك في أيام عمر، فنهاه عن ذلك، وشدد عليه في وجوب محو ما كتبه1. وورد أن "عمر" كتب إلى عامله "أبي موسى الأشعري" كتابًا نسخته: "اغسلوا دانيال بسدر وماء الريحان"2. وورد أن "عمر بن الخطاب"، قال للنبي: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فنهى الرسول عن ذلك3. ويرد اسم "كتاب دانيال" في خبر آخر، فقد ورد عن "عمرو بن ميمون الأودي"، أنه كان جالسًا مع قوم، فجاء رجل ومعه كتاب، فقالوا له: ما هذا الكتاب: قال: كتاب دانيال4. ولم يرد اسم "دانيال" في القرآن ولا في الحديث، ولكنه معروف جدًّا عند المسلمين، بأنه نبي، وله قصص في أخبار الرسل والأنبياء5. وقد وصلتهم قصصه ممن أسلم من يهود ومن اليهود الذين عاشوا بين الجاهليين وبين المسلمين. حيث اكتسبت رؤيا "دانيال" وتنبوءاته وتفسيره لحلم "نبوخذ نصر" شهرة خاصة عند يهود، وانتقلت منهم إلى المسلمين. ويعد "دانيال" أحد الأنبياء الأربعة الكبار، وتولى مناصب عالية عند البابليين والميديين "الماديين"، وقد اشتهر بتعبير الرؤيا وبالتنبؤ عن المستقبل6. والظاهر أن شهرته هذه عند أهل الكتاب، أكسبته منزلة خاصة عند المسلمين. وورد أن "ابن قرة" جاء بكتاب من بلاد الشأم إلى "عبد الله بن مسعود"، وكان قد أعجب به، فأمر "عبد الله بن مسعود" بطست فيه ماء، محا به أثر الكتابة7.

_ 1 الخطيب البغدادي، تقييد العلم "51". 2 كنز العمال "6/ 310"، خورشيد أحمد "132"، القسم العربي "رقم 241". 3 الفائق "3/ 218". 4 تقييد العلم "56 وما بعدها". 5 راجع قصص الأنبياء "ص231". 6 قاموس الكتاب المقدس "1/ 432 وما بعدها". 7 سنن الدارمي "1/ 123"، تقييد العلم "53".

وذكر أن "عمر بن الخطاب" قال: "أيها الناس، إنه قد بلغني أنه ظهرت في أيديكم كتب، فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحدٌ عنده كتاب إلا أتاني به، فأرى فيه رأيي. فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها، ويقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف؛ فأتوه بكتبهم. فأحرقها بالنار"1. ويظهر أن هذه الكتب هي من كتب أهل الكتاب، فعندنا أخبار عديدة تذكر حصول الصحابة على كتب كثيرة وقعت إليهم في الغزوات والحروب التي جرت في بلاد الشأم. وقد ورد في شعر بعض الشعراء الجاهليين ما يفيد وقوف أصحاب ذلك الشعر على كتب أهل الكتاب. كالزبور و"خط زبور" و"مصاحف الرهبان" و"التوراة" و"المجلة", أي: الإنجيل وأمثال ذلك، مما يدل على أنهم كانوا قد وقفوا على خبرها وشأنها، وأن اليهود والنصارى وهم عرب على اليهودية والنصرانية كانوا يتداولونها فيما بينهم، باعتبار أنها كتبهم المقدسة2. وقد وجد المسلمون مصاحف لليهود في مستوطناتهم فيها التوراة وفيها كتبهم الأخرى. فذكر أن المسلمين لما فتحوا "خيبر" "وجمعت مصاحف فيها التوراة، ثم ردت على اليهود"3. وأنا لا أستبعد احتمال ترجمة الكتاب المقدس بقسميه، كلًّا أو جزءًا منه إلى العربية، فقد كان اليهود -كما سبق أن قلت- يفسرون ليهود يثرب ولعربها التوراة وكتبهم الدينية بالعربية، كما كان المبشرون يفسرونه بالعربية، وقد رأيت أن قريشًا اتهموا الرسول بأنه كان يستمع إلى رجل نصراني، ويأخذ منه. وأنهم ذكروا أن الأحناف كانوا يقرءون التوراة والإنجيل، وأن عرب العراق كانوا يدرسون في الكنائس والأديرة بالعربية، فلا أستبعد احتمال وجود ترجمات عربية للكتب الدينية قبل الإسلام، تلفت لأسباب عديدة، منها أنها لم تكن إسلامية، ولأسباب أخرى، فلم تصل إلينا لذلك. وقد ورد في بيت شعر يُنسب إلى "بشر بن أبي خازم"، ذكر كتاب كان عند بني تميم، إذ جاء فيه.

_ 1 تقييد العلم "52". 2 خزانة الأدب "3/ 11"، ديوان السموأل "12"، اللسان "12/ 113" "صادر". 3 إمتاع الأسماع "1/ 323".

وجدنا في كتاب بني تميم ... أحق الخليل بالركض المعار1 ولو أخذنا بظاهر العبارة، دل البيت على وجود كتاب عند بني تميم، قد يكون صحيفة وقد يكون كتابًا مؤلفًا من صفحات. ولو أخذنا بالتأويل وقلنا معناه: وجدنا هذه اللفظة مكتوبًا، أن أحق الخيل بالركض المعار، انتفى وجود كتاب لديهم2. وقد نسب هذا البيت إلى "الطرماح بن حكيم"، وهو شاعر إسلامي. وإذا صح أن هذا البيت هو من شعر الطرماح، جاز أخذ لفظة "كتاب" بالمعنى الحقيقي، إذ كانت الكتب معروفة في هذا الوقت. وجاء في كتاب "إمتاع الأسماع"، أن الرسول "كتب هذه السنة المعاقل والديات، وكانت معلقة بسيفه"3. وأشار الطبري إلى هذه الصحيفة بقوله: "وقيل: إن هذه السنة كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المعاقل فكان معلّقًَا بسيفه"4، والسنة المشار إليها هي السنة الثانية من الهجرة. والخبر أشبه ما يكون بخبر "الصحيفة" المنسوبة إلى "علي بن أبي طالب"، فقد ورد في "صحيح البخاري": "عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فَهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر". وورد أنها "كانت معلقة بقبضة سيفه. إما احتياطًا أو استحضارًا", وورد "فأخرج كتابًا من قراب سيفه"5. ويكاد يكون الخبر واحدًا، فالصحيفة صحيفة المعاقل والديات، وموضعها في الخبرين السيف، معلقة به، أو في قرابه. ويظهر من روايات أخرى أن فيها أحاديث عن الرسول: مثل: المدينة حرام ما بين عاثر إلى كذا، فمن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس

_ 1 المفضليات "98"، الموشح "179"، تاج العروس "3/ 434"، "عبر". 2 "فمعناه وجدنا هذه اللفظة مكتوبة"، المرزباني، الموشح "179". 3 المقريزي، إمتاع الأسماع "1: 107". 4 الطبري "2/ 486". 5 إرشاد الساري "1/ 203 ومابعدها".

أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل". وورد أنه كان فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل1. ولم نجد في الأخبار ما يفيد أن الصحابة كانوا على علم بصحيفة النبي، ولو كانت للرسول صحيفة فيها أحكام المعاقل والديات، كان الرسول قد علقها على سيفه، دلالة على اهتمامه بها، لما سكت عنها الصحابة، مع ما لها من الأهمية بالنسبة لإصدار الأحكام؛ ولأنها يجب أن تكون المرجع المطاع الثاني بعد القرآن. ولذلك فإنا أشك في أمر هذه الصحيفة، وفي صحيفة الإمام كذلك المأخوذة من كلام الرسول، ولو كانت صحيفة الإمام، هي صحيفة الرسول نفسها، صارت إليه بعد وفاته، لما سكتت الأخبار من الإشارة إليها وعن انتقالها إلى "عليّ" لما لها من أهمية، ولا سيما بالنسبة إلى الشيعة الذين يفتشون عن هذه الأمور باعتبارها منقبة تضاف إلى مناقب الإمام، وحجة في إثبات إمامته واعتماد الرسول عليه وحده. ولو كانت الصحيفة صحيفة الإمام، دوّنها بنفسه، معتمدًا على حديث الرسول، وكانت عنده معلقة بسيفه، حرصًا عليها، لتكون معه وتحت متناول يده، يراجعها متى شاء، فلا يعقل أن تكون مقتصرة على المعاقل والديات وأسنان الإبل، وهي أمور يعرفها الإمام، وهو فقيه، ومرجع من مراجع الإفتاء، دون حاجة إلى أن يكتبها في صحيفة يحرص على حملها معه معلقة بسيفه، ثم إنها إذا كانت على هذه الأهمية بالنسبة للإمام، لما تركها أصحابه، فلم ينقلوها بالنص والحرف، وهي أخطر وثيقة، مع أنهم رووا عنه أحاديث كثيرة، حتى نسب الناس له خطبًا وأشياء لا يصح صدورها منه. ومنها صحيفة تسمى: "الصحيفة الكاملة، أو زبور آل محمد وإنجيل أهل البيت"2. ورأيي: أن ما ورد من أن الخليفة "أبو بكر" كان يمتلك صحيفة فيها حديث الرسول3، هو خبر غير صحيح كذلك، ولو كانت لديه صحيفة، لما خفي أمرها عن الصحابة، فلم يحفظوها ولم ينقلوا عنها. وأما ما ورد من أمر صحيفة

_ 1 الكافي للكليني "85"، الإرشاد "258"، أبو رية، أضواء على السُّنة المحمدية "94 وما بعدها". 2 بروكلمن "1/ 183". 3 الذهبي، تذكرة الحفاظ "1/ 5".

"عبد الله بن عمرو بن العاص"، المسماة بالصحيفة الصادقة، وما كتب فيها من حديث الرسول، ومن إنه قد جمع ألف مثل من أمثال الرسول1، وما ورد من صحيفة "همام بن منبه"، المسماة بالصحيفة الصحيحة، فقد بحث في أمر هذه الصحف العلماء2. وقد عدّ "الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان" التميمي المجاشعي، في جملة علماء العرب وحكامهم. قال عنه بعض العلماء: "وكان عالم العرب في زمانه"3. كان عالمًا بالنسب وبأخبار الناس، ولهذا كانوا يتنافرون إليه. وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام. وقد حكم في المنافرة التي وقعت بين "جرير بن عبد الله" البجلي، وبين "خالد بن أرطاة" الكلبي. وكان "خالد" زعيم "قضاعة" يومئذ، فنفر "الأقرع" جريرًا على خالد، بمضر وربيعة4. وكان من المؤلفة قلوبهم5. والنسب هو من أهم المعارف التي عرف بها أهل الجاهلية. وهو علم يرتقي إلى عهد بعيد عن الإسلام من دون شك، لما له من تماس مباشر بحياتهم الاجتماعية وبنظمهم السياسية؛ ولأنه الحماية بالنسبة إلى الجاهلي في تلك الأيام. وأستطيع أن أدخل في علم النسب، العلم بأنساب الخيل، فقد عنوا بالخيل عناية كبيرة، وحفظوا أنسابها، ووضعوا شجرات أنساب لها. كما عنوا بأنساب الإبل، لما هذا النسب من صلة بالأصالة وبسعر بيعها وشرائها. ونجد في الأخبار ما يشير إلى وجود أناس تخصصوا بحفظ نسبها. والنسّاب: العالم بالنسب، وهو النسّابة. أدخلوا الهاء للمبالغة والمدح. "وفي حديث أبي بكر، رضي الله عنه: وكان رجلًا نسّابة، النسّابة: البليغ العالم بالأنساب"6.

_ 1 الإصابة "2/ 343"، "رقم 4847"، الاستيعاب "2/ 338 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 2 مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق, المجلد الثامن والعشرين "1953". 3 الخزانة "3/ 296"، "بولاق". 4 الخزانة "3/ 296 وما بعدها"، "بولاق". 5 الإصابة "1/ 72"، "رقم 231". 6 اللسان "1/ 756"، "نسب".

والنسب: نسب القرابات. يكون بالآباء، ويكون بالقبائل، ويكون إلى البلاد، ويكون في الحرف والصناعة1. وقد نبغ بين القبائل والقرى أناس تخصصوا بحفظ النسب، منهم من برع في حفظ نسب قبيلته، ومنهم من برع في حفظ أنساب جملة قبائل، وممن اشتهر وعرف من قريش بحفظ النسب وبالعلم به، "أبو بكر". وكان علمه بعلم الأنساب، ثم بأمور الناس، ثم الشعر. قيل: إنه "كان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بما كان منها من خير أو شر"، وقيل: إنه كان أنسب العرب، وأعلم قريش بأنسابها، وأنسب هذه الأمة2. و"كانت قريش تألف منزل أبي بكر -رضي الله عنه- لخصلتين: العلم والطعام"3. ولما أمر الرسول حسّان بن ثابت بالردّ على شعراء قريش قال له: "إئت أبا بكر، فإنه أعلم بأنساب القوم منك". فكان يمضي إلى أبي بكر ليقفه على أنسابهم". فلما سمعت قريش شعر "حسّان"، قالت: "إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة"4. ولما مرّ بالناس في معسكرهم بالجرف، جعل ينسب القبائل5. وكان "جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف"، وهو أحد أشراف قريش وحلمائها من علماء النسب في قريش، وكان ممن أخذ النسب من أبي بكر. وكان ممن يؤخذ عنه النسب لقريش وللعرب عامة6. وعرف "أبو جهم بن حذيفة" القرشي العدوي بعلمه بالنسب، وكان من المعمرين في قريش. عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام. وكان من مشيخة قريش وصحب النبي7. وكان أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب8.

_ 1 اللسان "1/ 755"، "نسب" تاج العروس "1/ 483"، "نسب". 2 الإصابة "2/ 334"، "رقم 4817"، البيان والتبيين "1/ 318". 3 البيان والتبيين "4/ 76". 4 الاستيعاب "1/ 335"، "حاشية على الإصابة". 5 الفائق في غريب الحديث "1/ 184". 6 الإصابة "1/ 277"، "رقم 1091"، الاستيعاب "1/ 232"، "حاشية على الإصابة"، كتاب نسب قريش "201"، البيان والتبيين "1/ 318"، تاج العروس "6/ 44"، "ألف". 7 نسب قريش "369". 8 الإصابة "4/ 35"، "رقم 207".

ومنهم: "مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف". وقد أخذ عنه النسب. وكان عالمًا بأنصاب الحرم1. قال عنه "أبو عبد الله المصعب بن عبد الله الزبيري": "وكان له سر وعلم، وكان يؤخذ عنه النسب"2، وقد أرسله "عمر" مع "سعيد بن يربوع"، و"أزهر بن عبد عوف"، و"حويطب بن عبد العزى" لتجديد أنصاب الحرم، فجددوها، ويقال: إن "عثمان" بعثهم كذلك. وهو راوي خبر قصة استسقاء "عبد المطلب"، وما ورد فيه من الشعر3. قال "الجاحظ": "أربعة من قريش كانوا رواة الناس للأشعار، وعلماؤهم بالأنساب والأخبار: مخرمة بن نوفل بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة، وأبو الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف، وحويطب بن عبد العزى، وعقيل بن أبي طالب. وكان عقيل أكثرهم ذكرًا لمثالب الناس، فعادوه لذلك، وقالوا فيه وحمقوه"4. و"حويطب" من مسلمة الفتح ومن المؤلفة قلوبهم5. ومات زمان معاوية، وهو ابن عشرين ومائة سنة وباع من معاوية دارًا بالمدينة بأربعين ألف دينار6. وتوفي سنة "54هـ"7. وروي أن غنائم الحيرة لما وصلت الحيرة وفيها سيف النعمان بن المنذر، استدعى "عمر" "جبيرًا"، فسأله عن نسب "النعمان" فقال له: إنه أشلاء قنص بن معد. فأعطاه سيفه، وذكر أنه كان أنسب العرب، وعنه أخذ "سعيد بن المسيب" النسب8. ومن نسابي قريش "عقيل بن أبي طالب". ولما وضع "عمر" الديوان، استعان بعقيل ومخرمة، وجبير في ترتيب عطاء الناس على منازلهم، فبدءوا ببني هاشم9. وعقيل هو أخ "علي بن أبي طالب"، ذكر أنه "كان عالمًا بأنساب

_ 1 الإصابة "3/ 370"، "رقم 7842". 2 نسب قريش "262". 3 الإصابة "3/ 370"، نكث الهميان "287". 4 البيان والتبيين "2/ 323". 5 البيان والتبيين "2/ 323". 6 نسب قريش "425 وما بعدها". 7 الإصابة "1/ 363"، "رقم 1882". 8 الإصابة "1/ 227"، "رقم 1091"، الاستيعاب "1/ 232 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الفائق "1/ 608 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 303". 9 ابن سعد، المجلد الثالث، الجزء الأول "212".

قريش ومآثرها ومثالبها، وكان الناس يأخذون ذلك عنه بمسجد المدينة"، فهو من شيوخ العلم الذين نصبوا أنفسهم لتعليم الأنساب والمآثر والمثالب. قيل: "كان في قريش أربعة يتحاكم الناس إليهم في المنافرات: عقيل، ومخرمة، وحويطب، وأبو جهم. وكان عقيل يعد المساوي، فمن كانت مساويه أكثر يقر صاحبه عليه، ومن كانت محاسنه أكثر يقره على صاحبه"1، ونظرًا لتكلمه مع الناس وتحدثه عن مساويهم فقد عودي وحمق2. وقد صار مسجد الرسول في المدينة موضع دراسة للمسلمين، فقد رأينا "حسان بن ثابت"، هو ينشد الشعر فيه، وهذا "عقيل" يعلم الناس الأنساب فيه، وهناك غيرهما من كان يعلم الناس في هذا المسجد. وممن عرف واشتهر بعلم النسب، وأخذ النسب عن الجاهليين، دغفل السدوسي من بني شيبان، وعميرة أبو ضمضم، وابن لسان الحمرة من بني تيم اللات، وزيد بن الكيس النمري، والنخار بن أوس القضاعي، وصعصعة بن صوحان، وعبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان، وعبيد بن شريه وغيرهم3. وذكر عن "دغفل بن حنظلة" النسّابة السدوسي الشيباني، أنه كان عالمًا بالعربية والأنساب والنجوم، وقد اغتلبه النسب. وقد أعجب به "معاوية" لما سأله أمورًا كثيرة في هذه العلوم4. ولا بد وأن يكون قد أخذ علمه ممن أدرك الجاهلية من رجال، وممن عاصر الرسول. وذكر أنه و"زيد بن الكيس" النمري، كانا ممن أثارا أحاديث عاد وجرهم، ولذلك قال فيهما الشاعر: أحاديث عن أبناء عادٍ وجرهم ... يثورها العضان زيد ودغفل5 وروي أن معاوية "قال لدغفل بن حنظلة النسّابة. بمَ ضبطت ما أرى؟

_ 1 الإصابة "2/ 487"، "رقم 5630". 2 البيان والتبيين "2/ 324"، نكث الهميان "200". 3 الإصابة "1/ 464"، "رقم 2399"، البيان والتبيين "1/ 118"، بلوغ الأرب "3/ 196"، التمدن الإسلامي "3/ 40 وما بعدها"، الفهرست "137 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 322 وما بعدها". 4 الإصابة "1/ 464"، "رقم 2399"، الاستيعاب "1/ 467". 5 العسكري، جمهرة "2/ 113"، "رقم 1358"، الميداني "2/ 24".

قال: بمفاوضة العلماء. قال: وما مفاوضة العلماء؟ قال: كنت إذا لقيت عالمًا أخذت ما عنده، وأعطيته ما عندي"1. وذكر أن "أبا بكر"، سأل قومًا من "ربيعة" عن نسبهم، وفيهم "دغفل"، وكان غلامًا إذ ذاك، فلما انتهى أبو بكر من استجوابهم، سأله "دغفل" عن نسبه، فأفحمه2. وقد اشتهر "دغفل" في النسب، حتى ضرب به المثل في النثر وفي الشعر بسعة علمه به، وقد ذكره "الفرزدق" بقوله: أوصى عشية حين فارق رهطه ... عند الشهادة في الصحيفة دغفل أن ابن ضبّة كان خير والدًا ... وأتم في حسب الكرام وأفضل3 ونجد اسمه في شعر شعراء آخرين4. وكان ممن أدرك النبي، ولم يسمع منه. واسمه "الحجر بن الحارث" الكناني، ودغفل لقب له5. وكان "صحار" العبدي من النسابين البلغاء، وله مع "دغفل" محاورات. وكان من المقربين إلى معاوية ومن المطالبين بدم "عثمان"6. و"صعصعة بن صوحان" العبدي، وكان مسلمًا في عهد رسول الله ولم يره. وشهد صفين مع "علي"، وكان خطيبًا فصيحًا، له مع معاوية مواقف. "قال الشعبي: كنت أتعلم منه الخطب"7. وله إخوة، منهم "سيحان بن صوحان" العبدي، كان أحد الأمراء في قتال في أهل الردة8 ومنهم "زيد بن صوحان" وكان سيدًا في قومه، وقد شهد الجمل مع "علي"9.

_ 1 الفائق "2/ 304". 2 الفائق "3/ 84". 3 النقائض "1/ 198". 4 ديوان القطامي "31"، البيان والتبيين "1/ 322 وما بعدها". 5 الفهرست "137"، "المقالة الثالثة". 6 الإصابة "1/ 170"، "رقم 4041". 7 الإصابة "2/ 192"، "رقم 4130". 8 الإصابة "2/ 102"، "رقم 3630". 9 الإصابة "1/ 565 وما بعدها"، "رقم 2997".

ومن نسابي "كلب": "محمد بن السائب" الكلبي، وابنه "هشام بن محمد بن السائب"، و"شرقي بن القطامي"1، و"الشرقي بن القطامي"، اسمه "الوليد بن الحصين"، وقد اتهم بالكذب2. وقد ذكر "الجاحظ" و"ابن النديم" أسماء عدد ممن عرفوا باشتغالهم بالأنساب. وقد برز بعض النسابين في ذكر مثالب الناس، وقد كان "عقيل بن أبي طالب" منهم، كما ذكرت. ويذكر أن "زياد بن أبيه" كان أول من ألّف كتابًا في المثالب، ودفعه إلى ولده، قائلًا لهم: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم3. ومن طلاب المثالب وناشرها بين الناس "أبو عبيدة معمر بن المثنى" التيمي، من تيم قريش. وكان مكروهًا فلما مات لم يحضر جنازته أحد؛ لأنه لم يكن يسلم منه شريف ولا غيره4. وعدّ الشعر عند أهل الجاهلية علمًا من علومهم، يقوم عندهم "مقام الحكمة وكثير العلم"، "ولم يكن لهم شيء يرجعون إليه من أحكامهم وأفعالهم إلا الشعر. فيه كانوا يختصمون وبه يتمثلون، وبه يتفاضلون ويتقاسمون، وبه يتناضلون، وبه يمدحون ويعابون"5. وقد أوردوا أسماء أشخاص عرفوا بسعة علمهم وبتبحرهم بالشعر.

_ 1 البيان والتبيين "1/ 322". 2 الفهرست "138". 3 الفهرست "137"، "المقالة الثالثة"، تهذيب الأسماء واللغات للنووي "1/ 259" كتاب المعارف لابن قتيبة "176"، بروكلمن "250". 4 الفهرست "85". 5 اليعقوبي "2/ 230"، "النجف 1964م".

الملاحن والألغاز

الملاحن والألغاز: ومما أثر عن أهل الجاهلية مما يتعلق باستعمال الذكاء والفطنة واختبار العلم، الملاحن والألغاز. واللحن عند العرب الفطنة. وقد وضع "ابن دريد" كتابًا في الملاحن، سماه: "كتاب الملاحن"1 وقد كانت العرب تتعمد الملاحن وتقصدها، إذا أرادت التورية أو "التعمية"2. وقد ذكر أهل الأخبار أنهم

_ 1 المزهر "1/ 567 وما بعدها". 2 المصدر نفسه.

استعملوها استعمال "الشفرة"، أو الرسائل السرية المعماة في نقل الأخبار، كالذي رووه من أن طيئًا أسرت رجلًا شابًّا من العرب، فقدم أبوه وعمه ليفدياه، فاشتطوا عليهما في الفداء، فأعطيا لهم به عطيّة لم يرضوها، فقال أبوه: لا والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبلي طيء لا أزيدكم على ما أعطيتكم، ثم انصرفا. فقال الأب للعم: لقد ألقيتُ إلى ابني كليمة، لئن كان فيه خير لينجون. فما لبث أن نجا وأطرد قطعة من إبلهم، فكأن أباه قال له: إلزم الفرقدين على جبلي طيء فإنهما طالعان عليهما لا يبغيان عنه1. ورووا قصصًا أخرى من هذا القبيل2، تحلل تحايل الناس إذ ذاك في كيفية إبلاغ خبر، أو إيصال رسالة من أسير وقع في أسر، أو من شخص اعتدى عليه. أو من رجل طعن، فأراد إبلاغ قومه باسم طاعنه. فيعمد الشخص إلى الكلام المعمى الدال على سذاجة، لإيصاله إلى أهله، لعلمه بأن في وسع أهله استنباط ألغازه وحل معماه. وأما الألغاز، فهي لامتحان الذكاء في الغالب، ولتمضية الوقت والتسلية. وتكون شعرًا كما تكون نثرًا3. و"الأُلغوزة" ما يعمى به من الكلام4.

_ 1 المزهر "1/ 567". 2 المزهر "1/ 568 وما بعدها". 3 المزهر "1/ 578 وما بعدها". 4 تاج العروس "4/ 78"، "اللغز".

الفصل السادس والعشرون بعد المائة: الفلسفة والحكمة

الفصل السادس والعشرون بعد المائة: الفلسفة والحكمة مدخل ... الفصل السادس والعشرون بعد المائة: الفلسفة والحكمة أما مؤلفات في العلوم والفلسفة، منقولة عن اليونانية أو اللاتينية إلى العربية، فلا أدري أن أحدًا من أهل الأخبار ذكر وجودها عندهم بلغة بني إرم، أو بلغة اليونان، ذلك لأن المثقفين وأصحاب الرأي والعزم كانوا على اتصال بالعالم الخارجي، وكانوا يدارسون الأعاجم ويأخذون عنهم، وقد درس بعضهم في مدارس الفرس والعراق وبلاد الشأم، ولغة الدراسة في تلك البلاد السريانية واليونانية والفارسية، فلا يستغرب أن يكون مِنْ هؤلاء مَنْ درس بلغة من هذه اللغات في الحجاز أو في اليمن. أما في بلاد العراق وبلاد الشأم، فالأمر لا يحتاج فيها إلى نظر، فقد رأينا أن عربهما أسهموا في الحركة العلمية قبل الإسلام لكنهم أسهموا بلغة السريان، لا باللغة العربية؛ لأن العربية لم تكن عربية واحدة يومئذ، إنما كانت جملة لهجات، ثم إنها كلها، لم تكن قد وصلت إلى درجة من الاستعمال والانتشار تجعلها لغة للترجمة والتأليف.

بعض ما نسب إليهم سجع قصير، وبعضه كلام منظوم وبعضه مثلٌ زعم أنهم ضربوه فسار بين الناس. وقد اشتهر الشرق بالحكمة، وهو ما زال على حبه لها باعتبارها أداة للتعليم والتثقيف. والحكيم، هو "حكيمو" Hakimo في الإرمية، بمعنى عالم1. ونرى في التوراة إصحاحات مثل: الأمثال وأيوب ونشيد الأنشاد وغيرها، ملئت حكمة. والحكيم هو "حكميم" عند العبرانيين. وأما الحكمة، فهي: "حوكماه" "حوكمه2" Hokhmah. و"الحكيم" في تعريف علماء اللغة: العالم وصاحب الحكمة، المصيب برأيه، الذي يقضي على شيء بشيء، فيقول: هو كذا وليس بكذا. وهو الذي يحسن دقائق الصناعات ويتقنها. وقد ورد في الحديث: إن من الشعر لحكمًا، أي: إن في الشعر كلامًا نافعًا يمنع من الجهل والسفه وينهى عنهما، قيل: أراد به المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس. ويروى إن من الشعر لحكمة. وقد سُمي الأعشى قصيدته المحكمة حكيمة، أي ذات حكمة، فقال: وغريبة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها3 وقالوا إن من معاني: الحكيم الحاكم، وهو القاضي، أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها، وإن الحكمة: العدل ورجل حكيم، عدل حكيم. وإن "المُحكّم" هو الشيخ المجرب المنسوب إلى الحكمة، ولذلك يقال للرجل إذا كان حكيمًا: قد أحكمته التجارب. والحكيم: المتقن للأمور4. وفي هذه التعاريف دلالة على أنهم كانوا يسمون الحكمة بالتبصر في الأمور، وباستقراء الحوادث ودراستها لاستخراج التجارب منها، والحكم بموجبها، ومن هنا أدخلوا الحكم بين الناس، والنظر في الأحكام في جملة أمور الحكمة. وليس هذا الرأي، هو رأي العرب وحدهم، فقد كان هذا الرأي معروفًا

_ 1 غرائب اللغة "ص179". 2 Hastings, Diction, I, p. 64, A. Dictionary of Christ, and the Gospels, vol, II, p. 825. ff, B.W Ardeon, understanding the old Testament, p. 467. 3 تاج العروس "8/ 255"، "حكم". 4 اللسان "12/ 140 وما بعدها".

عند غيرهم أيضًا. فنجد الحكماء عندهم حكامًا يحكمون في الخصومات وفي المنازعات: بفضل ما أوتوا من فطنة وصبر وذكاء وعلم، وهي من أهم صفات الحكم. ونجد في أدب الشرق الأدنى القديم أشخاصًا مثل "أحيقار" الشهير، يجمعون بين الحكم والحكمة، وقد ضرب بهم المثل في نجاحهم في إصدار الأحكام. والحكيم في الشرق بمنزلة الفيلسوف عند اليونان. وما "أرسطو" الفيلسوف اليوناني الشهير وكذلك أفلاطون، غير حكماء في نظر الشرقيين. ولذلك أدخلوا في "الحكماء". والحكيم هو مؤدب ومرشد وواعظ يعظ الناس ويرشدهم في هذه الحياة، وهو خير مستشار في كل شيء؛ لأنه بفضل ما يملكه من عقل ومن تجربة يستطيع أن يفصل بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ. ولذلك كان الحكماء هداة قومهم وأساتذتهم وفلاسفتهم، أقوالهم حكمة للناس ودرس في كيفية السير في العالم. ولكننا لا نستطيع أن نرادف بين "الحكمة" وبين "الفلسفة". فبين الاثنين فرق كبير في المفهوم. ولا يمكن أن نقول: إن الفلسفة بالمعنى اليوناني، هي في مفهوم "الحكمة" عند شعوب الشرق الأدنى؛ لأن بين الفيلسوف وبين "الحكيم" تباين كبير في أسلوب البحث وفي كيفية التوصل إلى النتائج والمعرفة وفي مفهوم كل واحد منهما لهدف الآخر، وفي الغاية المقصودة من كل منهما. فالغاية من الحكمة العبرة والاتعاظ والأخذ بما جاء فيها من حكم، أي: غايات عملية وتأديبية، بينما الغاية من الفلسفة البحث عن معنى الحكمة وعما يكون وراء الطبيعة من خفايا غير مكتشفة وأسرار1. وقد وردت لفظة "الحكمة" في القرآن الكريم2. وقد ذكر العلماء أن الحكمة اسم للعقل، وإنما سُمي حكمة لأنه يمنع صاحبه من الجهل3. فالحكمة إذن، هي بمعنى العلم والتفقه. وهي بذلك ذات حدود واسعة، بل لا نكاد نجد لها حدودًا معينة فاصلة، فقد شملت أمورًا كثيرة، أطلقت على رجال اشتهروا بالحكم بين الناس. أي: بالبت فيما ينشأ بينهم من شجار وخصومة. وأطلقت على أناس ذكر

_ 1 Hastings, p. 975. 2 وردت في مواضع متعددة من القرآن الكريم، راجع المعجم المفهرس "ص213 وما بعدها". 3 غريب القرآن، للسجستاني "ص118"، "سنة 1924".

أنهم كانوا كهانًا، وأطلقت على جماعة عرفت بأن لها رأيًا في الدين، وأطلقت على نفر كان لهم رأي في المعالجة والتطبيب، وأطلقت على نفر عرفوا بقراءة الكتب القديمة، أي: الكتب السماوية وغيرها مما كان عند يهود والنصارى وعند الروم والفرس، وأطلقت على غير ذلك، فهي إذن كما ترى ذات معان واسعة شاملة. ويلاحظ أن القرآن الكريم، قد أورد لفظة "الحكمة" بعد لفظة "الكتاب" وفي حالة العطف، أي: على هذه الصورة: "الكتاب والحكمة"، واستعملها بعد لفظة "الملك" في الآية: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} 1. واستعملها مفردة كما في {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} 2. وفي مواضع أخرى. وقد ذهب المفسرون إلى أن المراد من الكتاب القرآن، ثم اختلفوا في معنى الحكمة، فمنهم من قال: إنها السُّنة، ومنهم من قال المعرفة بالدين والفقه، ومنهم من قال: الحكمة العقل في الدين أو الإصابة في القول والفعل، إلى غير ذلك من أقوال3، تدل على أن تفسيرها بمعنى السُّنة والتفقه في الدين من التفسيرات التي ظهرت في الإسلام. أما معناها عند الجاهليين، فكان بمعنى الخبرة المكتسبة من الملاحظات العميقة إلى الأشياء، أو المستخلصة من التجارب، وبمعنى العلم والرأي الصائب. وبهذا المعنى جاءت الحكمة عند الساميين. فقد كان الحكيم عندهم العالم الذكي الفطن الذي ينظر بعين البصيرة إلى أعماق الأمور بتؤدة وتبصر وأناة، فيبدي رأيه في كل شيء في هذه الحياة، من سياسة واقتصاد، ومن أمور تخص السلم أو الحرب، أو الخدع، والحكم بين الناس. ولهذا كان الحكماء في أعلى الدرجات في مجتمعهم من ناحية الثقافة والرأي. ويظهر من دراسة ما ورد في المؤلفات الإسلامية عن الحكمة والحكماء أن الجاهليين أرادوا بالحكمة حكايات وأمثلة فيها تعليم ووعظ للإنسان، يقولونها ليتعظ بها في حياته وليسير على وفق هدى هذه الحكم. وهي حكم حصلت من تجارب عملية، ومن ملاحظات وتأملات في هذه الحياة. ولهذا نسبوا الحكمة إلى

_ 1 البقرة، الرقم2، الآية 251. 2 البقرة، الآية 269. 3 تفسير الطبري "1/ 436".

أناس مجربين أذكياء لهم صفاء ذهن وقوة ملاحظة مثل: "أكثم بن صيفي" و"قس بن ساعدة الإيادي" وغيرهما ممن سيأتي الكلام عليهم. روي أن "عمر بن الخطاب" قال لكعب الأحبار وقد ذكر الشعر: "يا كعب، هل تجد للشعراء ذكرًا في التوراة؟ فقال كعب: أجد في التوراة قومًا من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم، ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب"1. فالعرب هم أصحاب حكمة وأمثال على رأي "كعب الأحبار" إن صح أن هذا القول المنسوب إليه هو من أقواله حقًّا، والأمثال باب من أبواب الحكمة. بل تكاد تؤدي معناها عند الجاهليين، فالحكيم عندهم هو الذي ينطق بالحكم يقرنها بالأمثال، وبالقصص والنوادر. وإذا بحثت عن الحكمة في العهد القديم تجدها في الأمثال، وفي سفر أيوب، وفي نشيد الأنشاد، وفي سفر الجامعة والحكمة وفي "سيراخ"، وفي حكمة "سليمان" التي هي في المزامير2. وهي أمثال في الغالب نبعت من تجاربٍ أَخَذَ العبرانيون بعضها من غيرهم، ونبع بعض آخر من تجاربهم الخاصة، وظهرت عندهم أمثال إنسانية عامة تخطر على بال كل إنسان، فهي عامة مشتركة، لم يأخذها قوم من قوم، وإنما هي خاطرات وتجارب تظهر لكل إنسان، فضرب بها المثل في كل لسان. ونحن لا نملك في هذا اليوم كتابة جاهلية، فيها حكم من حكم الجاهليين. وكل ما ورد إلينا من حكمهم مأخوذ من موارد إسلامية. ولذلك صار كلامنا على الحكمة في الجاهلية مثل كلامنا على سائر معارف الجاهليين، ضيقًا محدودًا، منبعه ما ورد عنها عند المسلمين. ويظهر من بعض الحكم المنسوبة إلى الجاهليين، أنها ترجع إلى أصل يوناني، حيث نجدها مدوّنة في كتب فلاسفتهم مثل: سقراط وأفلاطون وأرسطو، مما يدل على أنها دخلت إلى العربية عن طريق الترجمة من اليونانية أو من السريانية، وعن طريق بلاد الشأم في الأغلب، حيث كانت الثقافة اليونانية قد وجدت لها سبيلًا هناك، بحكم خضوعها لليونانيين قبل الميلاد وبعد الميلاد، وبحكم وجود جاليات يونانية كبيرة هناك.

_ 1 العمدة "ص25"، القاهرة 1963م. 2 Hastings, p. 975.

ويظهر من دراسة بعض آخر من الحكم المنسوبة إلى الجاهليين أنها من أصل فارسي. ولا يستبعد أن تكون قد دخلت من الأدب الفارسي القديم إلى عرب العراق، وقد عاشوا قبل الإسلام في اتصال وثيق مع الفرس. وكان بعض العرب قد أتقنوا الفارسية وأجادوا فيها، كما أن من الفرس من كان قد تعلم العربية وبرع فيها. ثم إن بين ذوقي العرب والفرس تشابه في نواح من الأدب، ولهذا كان أثر الأدب الفارسي في الأدب العربي أكبر وأظهر من أثر الأدب اليوناني فيه. ونجد في الحكم المنسوبة إلى "أحيقار"، شبهًا لها في الحكم العربية القديمة، وترجمة أصيلة لبعض حكمه أحيانًا. خذ قوله: "يا بني إذا أرسلت الحكيم في حاجة، فلا توصه كثيرًا؛ لأنه يقضي حاجتك كما تريد. ولا ترسل الأحمق، بل امض أنت واقض حاجتك"1. ولو درست بقية حكمه، وما ورد في الحكم المنسوبة إلى الجاهليين، ترى شبهًا كبيرًا في المعنى بل وفي اللفظ في الغالب، مما يدل على أنها ترجمة أخذت من السريانية فعربت ونسبت إلى الجاهليين، أو أن الجاهليين وقفوا عليها فصاغوها بلسانهم، فنسبت إليهم. وأكثر حكمه موجهة إلى ابن أخته "نادان"، حيث يعظه فيقول: "يا بني ... ". غير أن علينا ألا ننسى، بأن من الحكم، ما هو عام، يرد على خاطر أغلب الشعوب، وعلى لب أكثر الناس، حتى وإن لم يكونوا من المثقفين الدارسين؛ لأنه مما يتشارك فيه العقل الإنساني، فيكون عالميًّا إنسانيًّا. ولهذا، فنحن لا نستطيع أن نردّه إلى أحد، ولا أن نرجعه إلى مرجع معين. ولا نستطيع أن نقول: إن العرب أخذوه من غيرهم، أو إن الأعاجم أخذوه من العرب. بسبب ما ذكرته من كونه من نتاج عقل واحد، هو القاسم المشترك بين عقول الإنسان. وإذا صح ما روي من أن "سويدًا بن الصامت" المعروف بـ"الكامل"، كان يملك "مجلة لقمان"، وقد أراها الرسول مقدمة عليه بمكة، وما ذكر من أنها كانت في الحكمة2. فتكون هذه المجلة، أو الكتاب، أقدم شيء يصل اسمه إلينا من الكتب التي تداولها أهل الجاهلية. ولم يذكر الرواة -ويا للأسف-

_ 1 أغناطيوس إفرام الأول برصوم، اللؤلؤ المنثور في تأريخ العلوم والآداب السريانية "67"، "حمص 1943"، تأريخ كلدو وآثور "1/ 113 وما بعدها"، "2/ 40". 2 الروض الأنف "1/ 265".

محتويات تلك المجلة ونوع الحكم التي احتوتها. فقد روي "أن سويد بن صامت قدم مكة حاجًّا أو معتمرًا، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشرفه ونسبه ... فتصدى له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "وما الذي معك؟ " قال: مجلة لقمان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أعرضها عليَّ"، فعرضها عليه، فقال له: إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله عليَّ، هو هدًى ونور. فتلا عليه رسول الله القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه. وقال: إن هذا لقول حسن. ثم انصرف عنه، فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج" وكان قتله قبل يوم بعاث1. والمجلة: الصحيفة فيها الحكمة، وكل كتاب عند العرب مجلة2، وقيل: "كل كتاب حكمة عند العرب مجلة". قال النابغة: مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب3 وبالنظر إلى اشتهار لقمان في الأدب العربي بالحكمة عن طريق ضرب الأمثال, ونظرًا لظهور أمثال كثيرة في الإسلام نسبت إليه، فإن من المحتمل أن تكون تلك المجلة التي زعم أنها كانت عند "سويد" مجموعة من حكم وأمثال. لا ندري من جمعها فنسبها إليه، لعدم إشارة أهل الأخبار إلى ذلك، ولا يستبعد أن تكون هذه الأمثال من الأمثال المنتزعة من التوراة أو من الإنجيل أو من كليهما، فدوّنت في مجلة, أي: في كراسة أو كتاب فنسبها أهل الأخبار إليه. نظرًا لما جاء في القرآن الكريم من نسبة الحكمة إليه. وقد تكون تلك المجلة من حكم الحكيم "أحيقار"، الحكيم الشهير صاحب الأمثال الذي كان مقربًا إلى الملك "سنحاريب" ومستشارًا له. فله في أدب "بني إرم" ذكر خاص، وله أمثال في الإرمية طبعت وترجمت إلى جملة لغات. وعرفت أمثاله في العربية كذلك. في أيام

_ 1 ابن هشام، سيرة "1/ 265 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الفائق "1/ 206". 2 تاج العروس "7/ 261"، "جلل". 3 الفائق "1/ 206".

الجاهلية، فأشار "عدي بن زيد العبادي" إليه وإلى قصته1. ولقمان: شخصية ذكرت في القرآن، وفي القرآن الكريم سورة سميت باسمه. ووروده في كتاب الله، دليل على وقوف الجاهليين بقصصه وشيوع خبره وأمره بينهم. ونجد في كتب التفسير والأدب والأخبار وكتب المعمرين قصصًا عنه2. وقد عرف بـ"لقمان الحكيم" وقد بحث عنه المستشرقون، وحاولوا تحليل القصص الوارد عنه وإرجاعه إلى أصوله. وقد بحث في ذلك المحدثون في مصر وفي غير مصر من البلاد العربية3. قال "الجاحظ": "وكانت العرب تعظم شأن لقمان بن عاد الأكبر والأصغر لقيم بن لقمان في النباهة والقدر، وفي العلم والحكم، وفي اللسان والحلم. وهذان غير لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقوله المفسرون. ولارتفاع قدره وعظيم شأنه، قال النمر بن تولب: لُقيم بن لقمان من أخته ... فكان ابن أخت له وابنما ليالي حمق فاستحضنت ... عليه فغُرّ بها مظلمًا فغرّ بها رجل محكم ... فجاءت به رجلًا محكمًا4 وقد أشار "المسيب بن علس" إلى "لقمان" في شعره5، كما ذكره "لبيد بن ربيعة" الجعفري في شعره كذلك6، وأشار إليه "يزيد بن الصعق" الكلابي في شعر هو:

_ 1 الحماسة، للبحتري، "86"، "بيروت 1910م". 2 "لقمان بن عاد"، مجمع الأمثال "1/ 303". 3 فجر الإسلام "1/ 78 وما بعدها"، الدكتور عبد المجيد عابدين، الأمثال في النثر العربي القديم مع مقارنتها في الآداب السامية الأخرى "ص43 وما بعدها"، مجمع الأمثال، للميداني "1/ 37". 4 البيان والتبيين "1/ 184". 5 البيان والتبيين "1/ 188". 6 البيان والتبيين "1/ 189".

إذا ما مات ميت من تميم ... فسرّك أن يعيش فجيء بزادِ بخبز أو بلحم أو بتمرٍ ... أو الشيء الملفّف في البجادِ تراه يطوف الآفاق حرصًا ... ليأكل رأس لقمان بن عادِ وقيل: إن هذا الشعر هو لأبي مهوش الفقعسي1. وورد ذكر "لقمان" في شعر "أفنون" التغلبي2، وفي شعر "سليمان بن ربيعة بن دباب بن عامر بن ثعلبة"3، وفي شعر شعراء آخرين. وعرف لقمان عند الجاهليين كذلك بالنباهة والذكاء وبالعلم وبقوة اللسان والحلم وبخلال أخرى يرون أنها من سجايا الحكماء، حتى زعم أن أختًا له، وكانت مُحَمَّقة، تحايلت عليه، فاتصلت به اتصال الزوجات، طمعًا في الحصول على ولد ذكي حكيم منه يكون على شاكلته، فأحبلها بولد عرف بـ"لقيم"، ذكر في شعر ينسب إلى النمر بن تولب. ولأهل الأخبار قصص عنه وعن أخت لقمان4. وذكر "الجاحظ" أن "لقمان" قتل ابنته، وهي صحر أخت لقيم، وقال حين قتلها: ألست امرأة! وذلك أنه كان قد تزوّج عدّة نساء، كلهن خنّه في أنفسهن، فلما قتل أخراهن ونزل من الجبل، كان أول من تلقاه صحر ابنته، فوثب عليها فقتلها5 وقال: وأنت أيضًا امرأة! وللجاحظ قصص عنه6. وفي سورة "لقمان"، {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ, وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 7. فلقمان إذن حكيم من الحكماء، وُهِب الحكمة وصواب الرأي. له ولد وعظه ونصحه.

_ 1 المرزباني، معجم "480"، البيان والتبيين "1/ 190"، الخزانة "3/ 129"، الاقتضاب "388"، العقد الفريد "3/ 142". 2 البيان والتبيين "1/ 190". 3 المصدر نفسه "1/ 190". 4 بلوغ الأرب "3/ 212 وما بعدها". 5 الحيوان "1/ 21". 6 المحاسن والأضداد "133". 7 الآية 13 وما بعدها.

وفي كتب قصص الأنبياء وكتب الأخبار والأدب وصايا للقمان وعظ بها ابنه، وأدبه، هي قطع في التأديب وفي قواعد السلوك1. وفي جملة ما رواه أهل الأخبار من حكمه أن مولاه قال له يومًا: "اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها. قال: أخرِج أطيب مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب. ثم مكث ما شاء الله، ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها. فقال: أخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب. فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها، فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما. فقال له لقمان: إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا"2. وقد ذكر أهل الأخبار امرأة يقال لها: "صحر بنت لقمان"، قالوا: إنها اشتهرت بالعقل والكمال والفصاحة والحكمة، وإن العرب كانت تتحاكم عندها فيما ينوبهم من المشاجرات في الأنساب وغيرها. وقالوا: إنها كانت ابنة لقمان، ومنهم من زعم أنها أخته لا ابنته3. وذكر أهل الأخبار أن "لقمان" هو ممن آمن بـ"هود"، وأما لقمان المذكور في القرآن، فهو غيره. وكان لقمان القرآن ابن أخت أيوب، أو ابن خالته، وقيل: كان من ولد "آزر"، وأدرك داوود وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داوود، فلما بُعث قطع الفتوى، وكان قاضيًا في بني إسرائيل، وكان حكيمًا ولم يكن نبيًّا. وورد أنه كان راعيًا أسود، فرزقه الله العتق، وقيل: كان أسود من سودان مصر خيّاطًا، وقيل: كان نجارًا4. وذكر "الجاحظ": أن "لقمان" من السودان، وهو الذي يقول: ثلاثة لا تعرفهم إلا عند ثلاثة: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الخوف، والأخ عند حاجتك. وقال لابنه: إذا أردت أن تخالط رجلًا فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك وإلا فأحذره.

_ 1 العقد الفريد "3/ 152". 2 تفسير الطبري "21/ 43 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "1/ 342". 4 الخزانة "2/ 78"، "بولاق".

ولم يرووا ذلك عنه إلا وله أشياء كثيرة. وأكثر من هذا مدح الله إياه وتسميته الحكيم، وما أوصى به ابنه"1. ويشبه قصص "لقمان" وما يضرب على لسانه من أمثال، قصص "أيسوب" عند الأوروبيين. وهو الباحث عن الحكمة عن طريق ضرب الأمثال وقول الألغاز والقصص2. وقد رأى بعض الباحثين أن لأمثال لقمان وحكمه صلة بـ"أحيقار". وذهب بعض المستشرقين إلى وجود صلة بين لقمان وبين بعض الشخصيات القديمة التي يرد اسمها في الأدب القديم مثل Prometheusو Alkmaionو Lucian و"سليمان"، وبلعام. وقد ضرب "أبو الطّمحان حنظلة بن الشرقي القيني" المثل بتشتت حي لقمان، وبتفوقهم أفراقًا إذ يقول: أمست بنو القين أفراقًا موزعة ... كأنهم من بقايا حي لقمان3 وقد اشتهر "سليمان" عند العرب بالحكمة أيضًا، فعرف عندهم بـ"سليمان الحكيم"، وقد أشير إليه في القرآن الكريم. وكان اليهود والنصارى هم نقلة أخبار هذه الحكمة إلى الوثنيين. وكان يهود المدينة مصدر هذه الأخبار بالدرجة الأولى، فقد كانوا بحكم اختلاطهم بأهل يثرب قد أذاعوا بينهم قصصًا إسرائيليًّا، ومنه قصص داود وسليمان. و"سليمان" أحكم الحكماء عند اليهود. يذكرون "أن حكمته فاقت حكمة جميع العلماء في عصره. وكان أحكم من جميع الناس"4. ويذكرون أنه ألّف الأمثال. ونطق بثلاثة آلاف مثل، وألف خمس نشائد5. ووضع نشيد الأنشاد والجامعة. وذاعت حكمة سليمان وانتشر خبرها في كل الأنحاء بحيث أتى الناس من الأباعد ليشاهدوها وكانوا يمتحنونه بمسائل عسرة6، في جملتهم ملكة سبأ

_ 1 رسائل الجاحظ "1/ 179"، "فخر السودان على البيضان". 2 Shorter Ency., p. 290. 3 البيان "1/ 887 وما بعدها"، الخزانة "3/ 426". 4 قاموس الكتاب المقدس "1/ 579"، "سليمان". 5 الملوك الأول، الإصحاح الرابع، الآية 32. 6 الأيام الثاني، الإصحاح التاسع، الآية 6، قاموس الكتاب المقدس "1/ 579"، "سليمان".

التي سمعت بحكمته فجاءت تمتحنه كما جاء ذلك في التوراة. وتقترن لفظة "مجلة" عادة بالحكمة. قال علماء العربية: "والمجلة، بفتح الميم، الصحيفة فيها الحكمة"1، وقد تتألف من "صحف". و"الصحيفة" الكتاب. وذكر علماء اللغة أن "الوضيعة: كتاب تكتب فيه الحكمة.. وفي الحديث أنه نبي وأن اسمه وصورته في الوضائع"2. وقد ذكر أهل الأخبار أن "قيس بن نشبة"، كان منجمًا متفلسفًا في الجاهلية. وهو ممن أدرك أيام الرسول3. وذكر أنه من "بني سُلَيم"، وأنه كان يعرف الرومية والفارسية ويقول الشعر4. وأنه جاء إلى الرسول "بعد الخندق فقال: إني رسول من ورائي من قومي، وهم لي مطيعون وإني سائلك عن مسائل لا يعلمها إلا من يُوحى إليه! فسأله عن السموات السبع وسكانها وما طعامهم وما شرابهم، فذكر له السموات السبع والملائكة وعبادتهم، وذكر له الأرض وما فيها فأسلم ورجع إلى قومه، فقال: يا بني سليم! قد سمعت ترجمة الروم وفارس وأشعار العرب والكهان ومقاول حمير، وما كلام محمد يشبه شيئًا من كلامهم فأطيعوني في محمد فإنكم أخواله فإن ظفر تنتفعوا به وتسعدوا وإن تكن الأخرى، فإن العرب لا تقدم عليكم. فقد دخلت عليه وقلبي عليه أقسى من الحجر، فما برحت حتى لان بكلامه. وقيل عنه: إنه كان يتأله في الجاهلية وينظر في الكتب، فجاء إلى الرسول لما سمع به، وسأله، فآمن به. ولعلمه سماه رسول الله: "حبر بني سُلَيم"، وكان إذا افتقده يقول: يا بني سُلَيم أين حبركم. وهو عم الشاعر العباس بن مرداس، أو ابن عمه. ولما أسلم قال هذه الأبيات: تابعت دين محمد ورضيته ... كل الرضا لأمانتي ولديني ذاك امرؤ نازعته قول العدا ... وعقدت فيه يمينه بيميني قد كنت آمله وانظر دهره ... فالله قدر أنه يهديني أعني ابن آمنة الأمين ومن به ... أرجو السلامة من عذاب الهون

_ 1 تاج العروس "7/ 261"، "جلل". 2 تاج العروس "5/ 545"، "وضع". 3 تاج العروس "8/ 95"، "كحل". 4 البلدان "2/ 250".

وذكر أنه كان قد قدم مكة في الجاهلية فباع إبلًا له فلواه المشتري حقه، فكان يقوم فيقول: يا آل فهر كنت في هذا الحرم ... في حرمة البيت وأخلاق الكرم أظلم لا يمنع مني من ظلم فسمع به عباس بن مرداس، فكتب إليه أبياتًا منها: وائت البيوت وكن من أهلها وددًا ... تلق ابن حرب وتلق المرء عباسًا فقام العباس بن عبد المطلب وأخذ له بحقه. وقال: أنا لك جار ما دخلت مكة، فكانت بينه وبين بني هاشم مودة1. وذكر أن "أبا العاصي بن أمية بن عبد شمس"، كان حكيمًا. وقد عدّ من حكماء قريش وشعرائهم2. كما ذكر أن "الحكم بن سعيد بن العاص بن أمية" الأموي، وكان من الكتّاب بمكة في الجاهلية، والذي علّم الكتابة بالمدينة بأمر الرسول، كان يعلم الحكمة3. وذكر "ابن حبيب"، أن "الحكم بن سعيد" كان من أمراء الرسول "على قرى عربية"4، وذكر أيضًا أن الرسول سمّاه "عبد الله وجعله يعلّم الحكمة"، وقد استشهد يوم مؤتة5. ويظهر أن الحكمة المنسوبة إلى "قيس بن نشبة"، أو إلى "الحكم بن سعيد" كانت نوعًا من العلوم التي يدرسها الفلاسفة والحكماء في ذلك الوقت، أي: علومًا يونانية، وتأملات وملاحظات عن هذا العالم، فهي دراسة منظمة تختلف في طرازها عن الحكمة القائمة على القصص وضرب الأمثال. وقد تكون قد أخذت من الكتب اليونانية أو السريانية، أو الفارسية، فقد رأينا أهل الأخبار يذكرون أن "قيس بن نشبة" كان يعرف الرومية والفارسية، كما ذكروا مثل ذلك عن النضر بن حارث بن كلدة وعن الأحناف، وأنا لا أستبعد احتمال ذلك؛ لأن

_ 1 الإصابة "3/ 249 وما بعدها"، "رقم 7244". 2 كتاب نسب قريش "99"، المعارف "73". 3 الإصابة "1/ 343 وما بعدها"، "رقم 1777". 4 المحبر "126". 5 المحبر "460".

بعضهم كان قد وصل العراق وبلاد الشأم وخالط الأعاجم، كما كان من الأعاجم من سكن مكة والقرى العربية الأخرى لأغراض مختلفة، ومنهم من كان على فقه بعلوم قومه، ومعرفة علمية بلغتهم، فلا يستبعد إذن تعلم من كان فيه ميل من العرب إلى العلم والثقافة، العلم والفلسفة والنظر من تلك البلاد التي زاروها، ومن هؤلاء. وذكر أن "النضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف" العبدري القرشي كان من حكماء قريش. وقد استشهد يوم اليرموك في رجب سنة خمس عشرة. وكان أخوه "النضر بن الحارث"، شديد العداوة للرسول، فقتله عليٌّ يوم بدر كافرًا، قتله بالصفراء1. وروى "عُمران بن حصين"، "عمران بن الحصين"، حديثًا عن رسول الله، هو: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، فقال "بشير بن كعب، وكان قد قرأ الكتب: إن في الحكمة: أن منه ضعفًا. فغضب عمران، وقال: أحدثك بما سمعت من النبي، وتحدثني عن صحفك هذه الخبيثة"2. ويظهر أن "بشيرًا" هذا كان ممن طالع كتب أهل الكتاب ووقف على الحكمة. وقد ذكر الأخباريون أسماء أناس آخرين عرفوا بالحكمة كذلك، مثل: أكثم بن صيفي التميمي، من رؤساء تميم ومن "حكام العرب"3. ويلاحظ أن الأخباريين يخلطون في الغالب بين الحكيم والحاكم، فيجعلون "حكّام العرب" من "حكماء العرب" ويذكرون أحكامهم في باب الحكم. كذلك نسبوا معظم خطباء الجاهلية إلى الحكمة كذلك، مما يدل على أن للحكمة عند الأخباريين معنًى واسعًا، يشمل كل ما فيه عظة وتعليم. وقد كان العبرانيون وبقية الساميين يجعلون الحكام من طبقة الحكماء؛ لأن الحاكم لا بد وأن يكون حكيمًا، أي: مدركًا فطنًا نافذًا إلى بواطن الأمور، يحكم عن عقل ناضج وعن رأي مصيب، فهم أولى وأقدر على إبداء الأحكام الصحيحة من غيرهم، ولهذا نجد ارتباطًا كبيرًا في المعنى وفي اللفظ بين لفظتي حاكم وحكيم.

_ 1 الاستيعاب "3/ 535 وما بعدها"، الإصابة "3/ 525"، "رقم 8713". 2 مصادر الشعر الجاهلي "168 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "3/ 172 وما بعدها".

ومن حكام العرب الذين ذكرهم أهل الأخبار، ونسبوا إليهم الحكم والإصابة في الرأي وصدق الأحكام "عامر بن الظرب العدواني" حكيم قيس، وقد عدوه "من حكماء العرب، لا تعدل بفهمه فهمًا ولا بحكمه حكمًا". وقالوا: إنه هو المراد في قول العرب: "إن العصا قُرعت لذي الحلم". أما "ربيعة"، فتقول: إنه "قيس بن خالد بن ذي الجدّين". وأما تميم، فتنسب هذا الفخر إلى رجل منها هو "ربيعة بن مخاشن أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم". وأما اليمن، فتقول: إنه "عمرو بن حممة الدوسي"، ويذكر بعض آخر أنه "عمرو بن مالك بن ضبيعة، أخو سعد بن مالك الكناني"1. وفي كتاب "العقد الفريد"، قصة اجتماع وقع بين عامر بن الظرب العدواني وحممة بن رافع الدوسي وبين ملك من ملوك حمير، ورد فيها: أن الملك قال لهما: تساءلا، حتى أسمع ما تقولان؟ ودوّن رواة هذه القصة ما جرى في الاجتماع من أسئلة وأجوبة. ومدارها خاطرات عن الحياة وعن الناس وعن الأدب، بالسجع المألوف2. ومما جاء فيها أن أحكم الناس "من صمت فاذّكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر"، وأن أجهل الناس من رأى الخُرق مغنمًا، والتجاوز مغرمًا"3. وذكر أنه كان قد جمع قومه "عدوان"، فنصحهم بقوله: "يا معشر عدوان: الخير ألوف عروف، وإنه لن يفارق صاحبه حتى يفارقه، وإني لم أكن حكيمًا حتى صاحبت الحكماء، ولم أكن سيدكم حتى تعبدت لكم4. وكان كما يقول "ابن حبيب"، آخر حكام العرب وقضاتهم وأئمتهم قبل انتقال الحكومة إلى "بني تميم" بعكاظ5، وروي له حكم في "الخنثى"، وأيد الإسلام حكمه6. ورووا له شعرًا في الخمر، يقول فيه:

_ 1 "إن العصا قرعت لذي الحلم"، مجمع الأمثال "1/ 39 وما بعدها"، الآمدي، المؤتلف "ص154". 2 العقد الفريد "2/ 255 وما بعدها". 3 الأمالي "2/ 276 وما بعدها". 4 الأمالي "2/ 157"، البيان والتبيين "1/ 401"، "2/ 199". 5 المحبر "181". 6 المحبر "236".

إن أشرب الخمر أشربها للذتها ... وإن أدعها فإني ماقت قال لولا اللذاذة والفتيان لم أرها ... ولا رأتني إلا من مدى الغال سئّاله للفتى ما ليس يملكه ... ذهّابة بعقول القوم والمال مورثة القوم أضغاثًا بلا احنٍ ... مزرية بالفتى ذي النجدة الحال أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يفرق ترب القبر أوصالي1 وفيه يقول ذو الأصبع العدواني: ومنّا حكم يقضي ... فلا ينقضي ما يقضى2 ومن حكمه: "الرأي نائم، والهوى يقظان، فمن هنالك يغلب الهوى الرأي"3. وله جواب على خطاب "صعدة بن معاوية" حين جاء إليه يخطب ابنته4. وكانت له بنت عدت من حكيمات العرب، حتى جاوزت في ذلك مقدار "صحر بنت لقمان"، و"هند بنت الخس"، و"جمعة بنت حابس بن مُليل" الإياديين5. وذكر أهل الأخبار أن من حكام تميم في الجاهلية: أكثم بن صيفي، وحاجب ابن زرارة، والأقرع بن حابس، وربيعة بن مخاشن، وضمرة بن ضمرة. ويذكرون أن "ضمرة" حكم، فأخذ رشوة، فغدر. والغدر عيب كبير، ومن أذم الصفات عند الجاهليين6. وقد نسب أهل الأخبار حكمًا وأمثلة لأكثم بن صيفي، منها المثل: "مقتل الرجل بين فكّيه" يعني لسانه7، ومن الأقوال المنسوبة إليه، قوله: "تناءوا في الديار، وتواصلوا في المزار"8، وقوله: "تباعدوا في الديار تقاربوا في

_ 1 المحبر "239". 2 البيان والتبيين "1/ 264"، "حاشية 3". 3 البيان والتبيين "1/ 264". 4 البيان "2/ 77". 5 البيان والتبيين "3/ 38". 6 مجمع الأمثال "1/ 41". 7 خلق الإنسان "ص195". 8 البيان والتبيين "3/ 255".

المودة"1. وقد عدّ أسلوب كلامه من أرشق أساليب الفصحاء، ومن أحكم كلام، فيه نصائح وحكم مع بلاغة متناهية وفصاحة. ونسبوا له خطبًا منمقة2، هو في نظري من هذا النثر المصنوع، الذي وضع على لسانه في الإسلام. وقد اشتهرت "تميم" بكثرة حكمائها3، ونلاحظ أن هؤلاء الحكماء كانوا حكامًا كذلك، يحكمون بين الناس فيما يقع بينهم من شجار. ومعنى هذا أن بين الحكمة والحُكم عند العرب الجاهليين صلة متينة. وقد رأيت أن تميمًا كانت قد احتكرت لنفسها الحكومة في سوق عكاظ على ما يذكره أهل الأخبار. وهم من القبائل المتقدمة بالنسبة إلى القبائل الأخرى التي كانت عند ظهور الإسلام، انتقلت إليها هذه الحكومة من "بني عدوان"، الذين كان آخر حكامهم "عامر بن الظرب" العدواني. وقد كان لاتصال أهل الأخبار بتميم، دخل ولا شك في كثرة أسماء حكمائها التي وصلت إلينا من خلال دراستنا لكتبهم، فقد كان اتصالهم بها أكثر من اتصالهم بأية قبيلة أخرى، لوجودها على مقربة من الكوفة والبصرة، ولذلك أكثروا اللغة عنها، حتى صرنا نعرف نعرف من أمور نحوها ولغتها ما لا نكاد نعرفه عن نحو ولغة أية قبيلة أخرى. ولرجال تميم خطب طويلة، في الحكم، هي تأملات وخاطرات وضعت على ألسنتهم في الإسلام، إذ لا يعقل كما سبق أن قلت في مواضع متعددة من هذا الكتاب وصول نصوص نثر، بهذا النوع من الضبط والتحري عن أهل الجاهلية حتى نحكم بصحة نصوص ما نسب إلى حكماء تميم. نعم قد يقول قائل: إن الشاعر "بشر بن أبي خازم" كان قد أشار إلى "كتاب بني تميم"4، فلا يستبعد أن يكون "بنو تميم" قد سجلوا خطب وأشعار سادتهم فيه، ولكني أقول: إن من العلماء من نسب هذا العشر إلى "الطرماح بن حكيم" وهو شاعر إسلامي، توفي في حوالي السنة "105"، وإننا حتى لو فرضنا أن ذلك الشعر هو للطرماح، وأنه يدل على وجود كتاب قديم عند

_ 1 البيان "2/ 70". 2 بلوغ الأرب "3/ 172". 3 Goldziher, History of classical Arabic Literature, p. 7. 4 المفضليات "98"، الأمثال، للميداني "1/ 137"، العسكري، جمهرة الأمثال "289".

"بني تميم"، فإننا لا نستطيع أن نأخذ بالظن، ونقول بصحة مثل هذه الخطب المنسوبة إلى خطباء وحكماء تميم لمجرد وجود إشارة إلى كتاب عندهم لا نعرف من أمره شيئًا، غير إشارة إلى اسمه وردت في شعر، لا ندري مبلغ درجته من الصحة والأصالة. وممن نسبت إليه الحكمة "الأفوه الأودي"، وهو شاعر اسمه "صلاءة بن عمرو" من "أود". وله قصيدة دالية، فيها رأيه في الحكم وفي الناس وفي الخير والشر1. وذكر أنه هو القائل: ملكنا ملك لقاح أول ... وأبونا من بني أود خيار2 والعادة أن تنسب الحكم إلى المسنين، وقلما نجد حكمًا صادرة من شبان وأحداث وذلك أن العقل لا يكتمل إلا بتكامل العمر وبتقدم الإنسان في السن، وبتقدمه في السن تزيد تجاربه واختباراته في هذه الحياة، فيكون عندئذ أهلًا للنطق بالحكمة. ولم يكتف أهل الأخبار ببلوغ الحكماء سن الشيخوخة الطبيعية، بل صيروا عمر معظم المعمرين فوق المائة، بل جعلوها مئات. وعمر مثل هذا كفيل بأن يكون مصدرًا للحكم والأمثال. ونجد في "كتاب المعمرين من العرب" للسجستاني أمثلة من عمر هؤلاء الحكماء.

_ 1 الأغاني "11/ 44"، الشعر والشعراء "110"، ديوانه، الأمالي، للقالي "2/ 228"، تأريخ آداب اللغة العربية، لزيدان "1/ 134 وما بعدها". 2 تاج العروس "2/ 292"، "أود".

الحكمة

الحكمة: وأما "الحكمة"، فقد ذكر أهل الأخبار أمثلة عديدة منها زعموا أنها لحكماء جاهليين، أوردوا أسماءهم، ولكنهم لم يفيضوا في بيان سيرهم وتراجم حياتهم،

الفصل السابع والعشرون بعد المائة: الأمثال

الفصل السابع والعشرون بعد المائة: الأمثال و"المثل" لون من ألوان الحكمة. وهو يقابل "مشل" في العبرانية، ومعنى آخر هو الحكمة والأساطير والقصص ذو المغزى. ولا يشترط في المثل أن يكون نثرًا، فقد يكون شعرًا. وفي الموارد الإسلامية أمثلة جاهلية كثيرة من النوعين، لم يصل أي مَثَلٍ منه مدونًا في نص جاهلي1. وللحكماء المذكورين أمثلة كثيرة ترد في كتب الأدب والمواعظ والأمثال. وقد شرح غرضها أصحاب الموارد التي ذكرتها، وتعرض الرواة للقصص المروي عنها. غير أن من الصعب التثبت من صحة نسبة تلك الأمثال إلى أولئك الحكماء والتثبت من صحة هذا القصص المروي عنها. وكلمة المثل من المماثلة. وهو الشيء المثيل لشيء يشابهه، والشيء الذي يضرب لشيء مثلًا، فيجعل مثله2، والأصل فيه التشبيه، ويقابله "مشل" "مشال" Mashal في العبرانية، وParabole في اليونانية، ومعناها المماثلة والمشابهة، أي: المعنى الوارد للفظة في العربية. والغاية من الاهتداء بما فيه من حكمة ومن

_ 1 "والمثل: الشيء يضرب لشيء مثلًا فيجعل مثله"، اللسان "11/ 610 وما بعدها" "صادر"، نهاية الأرب "3/ 2 وما بعدها"، كتاب جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري، "القاهرة 1964م"، "1/ 7". 2 اللسان "11/ 610 وما بعدها"، "مثل".

حسن توجيه، ومثل أخلاقية للسير على هديها في الحياة1. وقد ضربت التوراة الأمثال للناس للاتعاظ بها والأخذ بما فيها من عبر. ورد في سفر "حزقيال": "هو ذا كل ضارب مثل يضرب مثلًا عليك قائلًا: مثل الأم بنتها"2، وجاءت الأمثال في الأناجيل فورد: "في هذا يصدق القول: إن واحدًا يزرع وآخر يحصده"3. وقد لخص الإصحاح الأول من سفر "الأمثال" الغاية من ضرب الأمثال بقوله: "لمعرفة حكمةٍ وأدبٍ، لإدراك أقوال الفهم، لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة، لتعطي الجهال ذكاء والشاب معرفة وتدبرًا، لفهم المثل واللغز وأقوال الحكماء وغوامضهم: مخافة الرب رأس المعرفة. أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب"4. فالأمور المذكورة، تمثل الغاية التي يتوخاها ضراب الأمثال من الأمثال: وقد جعلت أسفار الأمثال المثل: مخافة الرب رأس المعرفة أول أمثالها: وهو في العربية: رأس الحكمة مخافة الله. ونجد في سفر "أمثال" كلامًا للحكماء، هو مزيج من أمثلة وحكم وألغاز، دون أن يشير إلى أسماء أصحابه5، ونجد مثل ذلك في الأدب العربي. وقد اشتهر أبناء الشرق بالحكمة عند العبرانيين. والمثل بعد، هو عقل ضاربه، وثقافة البيئة التي ظهر فيها. ولهذا نجد الأمثال متباينة مختلفة حسب تنوع القوم الذين ظهر بينهم. ففي البيئة التجارية يكون المثل من هذه البيئة في الأغلب، وفي البيئة الزراعية يكون المثل مشربًا بروح المزارعين، وفي البادية تكون الأمثال ذات طبيعة بدوية. ومن هنا اختلفت أمثال قريش عن أمثال الأعراب، وأمثال عرب العراق عن أمثال أهل العربية الجنوبية، وهكذا. ولهذا فإن للمثل في نظر المؤرخ قيمة كبيرة من حيث إنه يرشده إلى مظاهر تفكير من ضرب بينهم، ويعرفه بمبلغ ثقافة قائليه. ولما كانت الأمثال مرآة لعقلية زمانها ولعقلية من ينسب قول المثل إليه، أو من

_ 1 Hastings, p. 767. 2 حزقيال، الإصحاح السادس عشر، الآية 44. 3 إنجيل يوحنا 4، الآية 37. 4 أمثال، الإصحاح الأول، الآية الأولى وما بعدها. 5 أمثال، الإصحاح الثاني والعشرون، والإصحاح الرابع والعشرون.

ضرب به المثل. تباينت في البلاغة وفي قوة التعبير وعمق المعنى، وفي الفكرة، فصار بعضها آية في الحكمة وفي قوة البيان وفي عمق المغزى والمعنى، وصار بعض منها بسيطًا تافهًا. ونجد هذه الحالة في أمثال كل الأمم. إذ إن المثل لا يصدر عن طبقة معينة، بل قد يأتي من رجل جاهل بسيط، وقد ينسب إلى غبي بليد أو إلى شخص من سواد الناس اتخذ رمزًا للتعبير عن ناحية من نواحي الحياة، أو نموذجًا يعبر عن طبقة من الطبقات. وإنما المهم في رواج المثل وفي بقائه، أن يكون منبعثًا عن واقع حال، معبرًا عن رأي سديد، قصير قدر الإمكان مركزًا له وقع حسن على السمع، يصلح أن يكون مثلًا لكل زمان ومكان. فيروج ويدوم، وقد يتخذ مثلًا من أمثلة الحكمة، وهو كلما قصر، سهل حفظه وطال عمره. وأفضل المثل السائر: أوجزه، وأحكمه: أصدقه، وقولهم: مثل شرود، وشارد، أي: سائر لا يرد كالجمل الصعب الشارد الذي لا يكاد يعرض له ولا يرد. وقد تأتي الأمثال محكمة إذا تولاها الفصحاء من الناس، وإذا جاءت في الشعر، سهل حفظها1. والأمثال مادة مهمة غنية في الأدب الجاهلي والإسلامي. وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة ضربت للناس للتفكر والتعقل، وهي تدل على ما لها من أهمية تعليمية في العقل العربي. والأمثال المضروبة مرجع لمن يريد الوقوف على بعض الأمثلة التي استعملها الجاهليون. وفي الحديث النبوي مادة مهمة تمدّ هذا الباحث بمادة غزيرة عن المثل عند الجاهليين2. و"الأمثال من حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها، فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في النطق بكناية بغير تصريح، فيجتمع لها بذلك ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه"3. فالأمثال إذن عند الجاهليين نوع من أنواع الحكمة السائرة بين الناس. يقولها السيد والمسود، البارز والخامل، وهي تحفظ بسهولة ولا يحتاج المرء لتعلمها إلى

_ 1 العمدة "1/ 280 وما بعدها". 2 المستطرف في كل فن مستظرف "1/ 27 وما بعدها". 3 المزهر "1/ 234".

مهارة وذكاء. وكان لحفّاظ الأمثال مقام عندهم؛ لأنهم ممن وهبوا بيانًا ناصعًا وقوة في اللسان، تمكن صاحبه من ضرب المثل في موضعه، ومن قوله في مكانه. والعادة أن يكثر الحكيم من الأمثال في كلامه؛ لأنها المادة التي يستعين بها في إظهار حكمته وعقله، يضيف عليها أمثالًا من عنده، هي من وحي تجاربه وقوة ملاحظته. وقد وردت كلمة "مثل" و"أمثال" في مواضع كثيرة من القرآن، وفي ورود الكلمتين بهذه الكثرة دلالة بالطبع على ما كان للمثل من أهمية كبيرة عند الجاهليين. وفيه أمثلة كثيرة ضربت للعبرة والتذكر، لتكون درسًا يتعظ به أولو الألباب. ويلاحظ أن العرب يضعون لفظة "ضرب" قبل كلمة المثل في الغالب، ورد في القرآن الكريم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} 1، و {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} 2، وورد {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} 3، و {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال} 4، و {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} 5، وفي مواضع أخرى منه. وضرب المثل إيراده ليتمثل به ويتصور ما أراد المتكلم بيانه للمخاطب. يقال: ضرب الشيء مثلًا وضرب به وتمثله وتمثل به. وضرب المثل اعتبار الشيء بغيره وتمثيله به6. وقد أشاد العلماء بما للأمثال من أهمية في الحث على إصلاح النفس، فقال بعضهم: "إنما ضرب الله الأمثال في القرآن تذكيرًا ووعظًا"، وقال بعض آخر: "ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد من العقل، وتصويره بصورة المحسوس ... إلخ". وروي أن الرسول قال: "إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال" 7. وجعل "الماوردي" الأمثال من أعظم علم القرآن8.

_ 1 إبراهيم، الرقم 14، الآية 24. 2 النحل، الرقم 16، الآية 75 وما بعدها، ومواضع أخرى. 3 إبراهيم، الرقم 14، الآية 45. 4 النحل، الرقم 16، الآية 74. 5 الحشر، الرقم 59، الآية 21. 6 تاج العروس "1/ 347"، "ضرب". 7 السيوطي، الإتقان "4/ 38". 8 المصدر نفسه.

وللرسول أمثال كثيرة، وذكر عن "عمرو بن العاص"، أنه حفظ عن النبي ألف مثل1. ونجد في كتب الأمثال أمثالًا نسبت إلى الرسول. منها: "إن من البيان لسحرًا"2، و"إن مما ينبت الربيعُ لما يقتل حبطًا أو يلم"3. و"إياكم وخضراء الدمن"4، و"من كثر كلامه كثر سقطه"5، و"انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"، ويروى أنه من أمثلة أهل الجاهلية6. وقد نسبت أمثلة جاهلية أخرى إلى الرسول. والأمثال أقوال مختصرة، يراعى في وضعها الإيجاز والبلاغة والتأثير. وقد يكون المثل كلمتين، وقد يكون أكثر من ذلك. ولكن العادة ألا يكون طويلًا؛ لأن طول المثل يفقده روعته وتأثيره، فلا يكون مثلًا، ولا يمكن حفظه عندئذ فيضيع. ويراعى أن يكون سجعًا أو طباقًا. وأن يرتب في جمل متوازية بسيطة العبارة، أو مزدوجة أو أكثر من ذلك قليلًا. وأن تكون هنالك مناسبة بين الجمل حتى يبدو المثل جميلًَا متناسقًا. والقاعدة في الأمثال ألا تغيّر، بل تجري كما جاءت. وقد جاء الكلام بالمثل وأخذ به وإن كان ملحونًا؛ لأن العرب تجري الأمثال على ما جاءت، ولا تستعمل فيها الإعراب7. والأمثال قد تخرج عن القياس، فتُحكى كما سُمعت، ولا يطرد فيها القياس، فتخرج عن طريقة الأمثال. "قال المرزوقي: من شرط المثل ألا يغيّر عما يقع في الأصل عليه"8. وقال المرزوقي "في شرح الفصيح: المثلُ جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول، وتشتهر بالتداول، فتنقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها من غير تغيير يلحقها في لفظها، وعما يوجبه الظاهر إلى

_ 1 الاستيعاب "2/ 339"، "حاشية على الإصابة". 2 العسكري، جمهرة الأمثال "1/ 13". 3 المصدر نفسه "1/ 16". 4 العسكري، جمهرة "1/ 17"، الميداني "1/ 21"، المستقصي "180". 5 العسكري، جمهرة "1/ 19". 6 العسكري، جمهرة "1/ 58"، الميداني "2/ 194"، الفاخر "147"، السيوطي، الجامع الصغير "1/ 188". 7 المزهر "1/ 487"، "النوع الخامس والثلاثون. معرفة الأمثال". 8 المزهر "1/ 487 وما بعدها".

أشباهه من المعاني، فلذلك تُضرب وإن جُهلت أسبابها التي خرجت عليها، واستجيز من الحذف ومُضارع ضرورات الشعر فيها ما لا يستجاز في سائر الكلام"1. ويلاحظ أن العرب قد أجازت لضارب المثل الخروج فيه على قواعد اللغة، كما أجازت ذلك للشاعر بدعوى ضرورات الشعر، ليستقيم الشعر مع القوافي والوزن. أجازته في المثل لأنه قد يصدر شعرًا، وقد يصدر سجعًا، وقد يصدر من أفواه أناس جهلة لا يبالون بالقواعد، أو ليس لهم علم بها، وقد يصدر من قبيلة لا تتبع في لغتها قواعد الإعراب. ونجد في كتب الأمثال وفي كتب الأدب أمثالًا وضعت لأغراض مختلفة، يغلب عليها الطابع التعليمي، أي: تعليم من يقرأها حكمة الحياة، وتجارب الماضين حتى يُستفاد ويُتعظ. بعض منها نابع من محيط البداوة ومن الطبيعة الأعرابية، وبعض منها تجارب عملية عامة تنطبق على كل الناس وتصلح لكل الأوقات2. والأمثال عند بعض الشعوب صنف من أصناف الشعر، لما فيها من الخصائص المتوفرة في الشعر عندهم. وقد روعي في المثل بصورة عامة أن يكون قصيرًا موجزًا وبليغًا معبرًا عن حكمة، فيه نغمة وترنيم. ليؤثر في النفوس. ويحمل الطبع قائل المثل على مراعاة هذه الأمور من غير تفكير ولا تصنع، وهو إذا كان صادرًا من قلب وسجية، ومعبرًا عن نفس جياشة وعن حس بشري عام، يشعر به كل إنسان تقبله الناس بسرعة، ووجد له مجالًا من الانتشار، وعمر عمرًا طويلًا. والأمثال، هي في صدر المؤلفات التي وضعها المسلمون، فقد روي: أن عبيدًا بن شَرْيَةَ الجُرهُمي، وهو من أهل "صنعاء" باليمن، من أوائل المؤلفين في الأخبار وملوك العرب والعجم، ألّف كتاب "الأمثال" وقد رآه "ابن النديم" في نحو خمسين ورقة. كذلك ألّف صحار بن العباس العبدي، وهو من بني عبد القيس، وممن أدرك الرسول، "كتاب الأمثال"3. وذكروا

_ 1 المزهر "1/ 486 وما بعدها". 2 الأمالي "2/ 11، 28، 51، 77 ومواضع أخرى"، المستطرف "1/ 27 وما بعدها"، المزهر "1/ 488 وما بعدها". 3 الفهرست" ص138"، ابن الأثير "1/ 149".

أن "عِلّاقة الكلابي" جمع الأمثال في عهد يزيد بن معاوية1، وأن "المفضل الضبي" "168هـ" من مشاهير علماء الكوفة في الشعر واللغة ألّف كتابًا في الأمثال دعاه: كتاب الأمثال2، وأن أبا عبيد القاسم بن سلام "223هـ" "224"هـ"، ألّف كتابًا في الأمثال كذلك3. وألّف "يونس بن حبيب" "183هـ" كتابًا دعاه "كتاب الأمثال"4، وألف "أبو المنهال" كتابًا في الأمثال، عرف بـ "كتاب الأمثال السائرة" وقف عليه "ابن النديم"5، ولأبي عبيدة "209هـ" "210هـ" "211هـ" كتاب في الأمثال، عرف بكتاب الأمثال6، وللأصمعي "217هـ" كتاب في الأمثال كذلك7، وللشورى، وهو ممن أخذ عن الأصمعي كتاب في الأمثال8. ولأبي إسحاق إبراهيم بن سفيان, من تلامذة الأصمعي, كتاب في الأمثال9. وألّف غير هؤلاء من العلماء كتبًا في هذا الموضوع طبع بعض منها فنال شهرة, مثل كتاب جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري "395هـ", وكتاب مجمع الأمثال للميداني "518هـ"10، وقد أخذ "أبو هلال العسكري" أمثالًا وردت في كتاب لحمزة الأصبهاني في الأمثال، وهو كتاب توجد نسخة خطية منه في القاهرة11. وبين المؤلفات في الأمثال رسالة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي

_ 1 الفهرست "90"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 261"، فجر الإسلام "ص61" "الأمثال"، "الطبعة العاشرة". Wustenfeld, Geschichtschr., ll, Goldziher, Muh. Stud, ll, 204. 2 الفهرست "108". 3 الفهرست "112". 4 الفهرست "69" 5 الفهرست "78". 6 الفهرست "85". 7 الفهرست "88". 8 الفهرست "91". 9 الفهرست "92". 10 كارلو نلينو، تأريخ الآداب العربية "96". 11 العسكري، جمهرة "1/ 6"، "حاشية رقم 5".

"395 هـ"، طبعت بعنوان: "كتاب أبيات الاستشهاد"1، دوّن فيها بعض الشعر الذي استشهد به الناس في أمثالهم. ورسالة أخرى ألّفها "أبو العباس محمد بن يزيد المبرد" الأزدي "285هـ"، بعنوان: "رسالة في أعجاز أبيات تغني في التمثيل عن صدورها"2. وهنالك مؤلفات عديدة أخرى، وضعت في الأمثال. وفي إقبال المؤلفين على التأليف بها بهذه الكثرة، دلالة على ما كان للمثل من أهمية، وعلى ما كان له من قيمة في نظر أهل الجاهلية. حفظوه حفظهم للشعر، بل أكثر من الشعر؛ لأنه يرد على كل لسان، يرد على لسان الحكيم البليغ كما يرد على لسان الغبي والجاهل، ثم إنه توجيه وتربية وتعليم، فلا نستغرب إذن إذا ما وجدنا كتب الأمثال في صدر الكتب التي ظهرت في الإسلام. وقد رأيت أنها ظهرت في عهد "معاوية" وبأمره، فهي بحق من أوائل المؤلفات التي وصلت إلينا بالعربية. وكان معاوية مولعًا بسماع الأمثال والقصص وأخبار الماضين والشعر. والأمثال، هي أيضًا مادة مهمة لفهم التأريخ الجاهلي. فقد تعرض جامعوها لأصل المثل وللأسباب مضربه، وجاءوا بشروحهم هذه بمادة تأريخية استعنا بها على فهم مواضع من ذلك التأريخ. ولكنا يجب أن نأخذ هذه الأمثال وشروحها بحذر. ففي أكثر الشروح تكلف وضعف، يدلان على عدم إمكان الاعتماد عليها في تكوين حكم علمي. ونجد في الأمثال الجاهلية أمثالًا ضربت بالناس، مثل: أسخى من حاتم، وأشجع من ربيعة بن مكدم، وأدهى من قيس بن زهير، وأعز من كليب وائل، وأوفى من السموأل، وحجام ساباط، وقوس حاجب، وغيرها. ونجد أمثالًا تمثل فيها بالبهائم، وغير ذلك. ولكل مثل قصة تروي منشأ ضرب ذلك المثل وما وراءه من خبر. وهي تعبير عن روح الزمان الذي قيل فيه وعن نفسية المتمثلين به. وكثير من الأمثال الجاهلية ما زالت دائرة على ألسنة الناس. وفي وجودها دلالة على أن الأحوال التي قيلت فيها لا تزال قائمة، ودليل ذلك اعتبار الناس بها والاستشهاد بها في المناسبات.

_ 1 سلسلة نوادر المخطوطات "المجموعة الثانية"، "137 وما بعدها"، "تحقيق عبد السلام هارون"، "القاهرة 1951م". 2 نوادر المخطوطات "المجموعة الثانية"، "63 وما بعدها".

وبين أمثال العرب أشعار جاهلية الأصل صارت مثلًا، ولا يزال بعض منها حي يضرب به مثل، لما فيه من حكمة ومن ملاءمة لكل وقت وزمان1. وضرب المثل بعجز البيت أحيانًا أو بجزء منه، كما في المثل: "بعض الشر أهون من بعض". فهو من بيت ينسب لطرفة هو: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض2 ومن الأمثلة القديمة المشهورة حتى اليوم: "آخر الدواء الكي"، و"آخر الطب الكي"، زعم أنه من أمثلة "لقمان بن عاد". وقد ذكر "الزمخشري" سبب ضرب "لقمان" له، وأورد له كلامًا مع امرأة خانت زوجها، وكلامًا مع زوجها وكيف عرفه فأرشده إلى خيانتها له3. وأورد مثلًا ضرب بكثرة أكل "لقمان"، هو: آكل من لقمان. وكانوا يزعمون أنه كان يتغدى بجزور، ويتعشى بأخرى، ويتخلل بحوار. وأنه ضاجع امرأته يومًا، وقد أكل جزورًا، وأكلت فصيلًا، فما قدر على الإفضاء إليها، فقال: كيف أفضي إليك وبيني وبينك بعيران4. ويظهر من القصص المنسوب إليه، أنه قد انتزع من قصص قديم، كان معروفًا عند الجاهليين، مرويًّا بينهم. فإذا أعدنا قصته المذكورة مع المرأة، وقد رواها "ابن الكلبي" عن "عوانة"5 نجدها وقد غصت بالأمثلة، وبطريقة الجاهليين في التفسير والتعليل، مما يجعل الإنسان يرى أنها من القصص الجاهلي القديم، الذي احتفظ بمعناه ومضمونه، وإن صيغ بلغة حاكيه. ورووا لقس بن ساعدة الإيادي، أمثالًا، منها: إذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاصدق، ولا تستودعن سرك أحدًا، فإنك إن فعلت لم تزل وجلًا، وكان بالجيار، إن جنى عليك كنت أهلًا لذلك، وإن وفى لك كان الممدوح

_ 1 المستطرف "1/ 30 وما بعدها". 2 العسكري، جمهرة "1/ 67". 3 الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب "1/ 3"، "حيدر آباد الدكن 1962م"، العسكري، جمهرة "1/ 97، 426". 4 المصدر نفسه "ص7". 5 العسكري، جمهرة "1/ 424 وما بعدها".

دونك. وكن عف العيلة، مشترك الغنى تسد قومك. إلى غير ذلك من أمثال نسبوها إليه1. وفي "كتاب الجوهرة في الأمثال" من "العقد الفريد"، باب خاص عنوانه: "أمثال أكثم بن صيفي وبزرجمهر الفارسي"2. وهي تستحق الدرس والنقد، لمعرفة أصولها وعلاقة هذه الأمثال بالأدبين العربي والفارسي. ونجد في كتب الأدب طائفة من الأمثال في الأدب والحكمة، نسبت إلى "أكثم بن صيفي"، منها: ربّ عجلة تهب ريثًا، وادرعوا الليل فإن الليل أخفى للويل، والمرء يعجز لا المحالة، ولا جماعة لمن اختلف، ولكل امرئ سلطان على أخيه حتى يأخذ السلاح فإنه كفى بالمشرفية واعظًا، وأسرع العقوبات عقوبة البغي، وشر النصرة التعدي، ورب قول أنفذ من صول، والحر حر وإن مسه الضر، والعبد عبد وإن ساعده الجد، وإذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد، وربّ كلام ليس فيه اكتتام، وحافظ على الصديق ولو في الحريق، وليس من العدل سرعة العذل، وليس بيسير تقويم العسير، وإذا بالغت في النصيحة هجمت بك على الفضيحة، ولو أنصف المظلوم لم يبق فينا ملوم3. وليس في إمكان أحد إثبات أن هذه الأمثال وغيرها هي لأكثم بن صيفي حقًّا، وبينها أمثال إنسانية عامة نجدها عند مختلف الأمم، وبينها أمثال قيلت في اليونانية وفي بعض اللغات الأخرى قبل أيام "أكثم" بزمان طويل. إلا أن نسبة هذه الأمثال إليه، تشير إلى أنه كان من حكماء الجاهلية البارزين ومن ذوي الرأي والحكمة عند قومه. والأمثال النابعة من صميم الحياة الإنسانية ومن التجارب العملية، والاختبارات الطويلة، تكون ذات طبيعة حكيمة عامة، فتظهر لذلك عند كل الناس، وتخرج على كل لسان، فلا يمكن أن يقال: إنها من مخترعات الأمة الفلانية، ومن مبتكرات العقل الفلاني؛ لأنها كما قلت خواطر إنسانية، تخطر على بال كل

_ 1 العسكري، جمهرة "1/ 249"، الميداني "1/ 73". 2 العقد الفريد "3/ 63 وما بعدها"، ومن أمثاله: "مقتل الرجل بين فكيه"، و"ربما أعلم فأذر"، يريد أنه يدع ذكر الشيء وهو به عالم لم يحذر من عاقبته، العقد الفريد "3/ 81". 3 المزهر "1/ 50 وما بعدها".

شخص، له رأي سديد، وفكر صائب. وإن نسبت إلى شخص معين، لذلك يصعب علينا إرجاع الأمثال الإنسانية العامة إلى جماعة معينة. قال "الجاحظ": وقد كان الرجلُ من العرب يقف الموقف فيرسل عدة أمثلة سائرة، ولم يكن الناس جميعًا ليتمثلوا بها إلا لما فيها من المرفق والانتفاع، ومدار العلم على الشاهد والمثل"1. ومن أمثال أهل الجاهلية: إن من البيان لسحرًا، وإن الجواد قد يعثر، وإن البلاء موكل بالمنطق، وإن أخا الهيجاء من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفعك. وأنف في السماء وأنف في الماء. وأَجِع كلبك يتبعك، واشتدى أزمة تنفرجي، وربّ رمية من غير رام، وربّ أكلة تمنع أكلات، واستراح من لا عقل له، وسبق السيف العذل، إلى غير ذلك من أمثلة2. ومن الأمثال الجاهلية الباقية حتى اليوم المثل: مواعيد عرقوب، مثل يضرب لمن يعد ولا يفي. فقد ورد في شعر المتلمس، إذ قال: الغدر والآفات شيمته ... فافهم فعرقوبٌ له مثل وورد في شعر كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لها مثلًا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل قيل: عرقوب رجل من خيبر، كان يهوديًّا وكان يعد ولا يفي، فضربت به العرب المثل. وقيل: رجل من العماليق أتاه أخ له يسأله فقال له عرقوب: إذا أطلعت هذه النخلة فلك طلعها. فلما أطلعت أتاه للعدة، فقال: دعها حتى تصير بلحًا، فلما أبلحت قال: دعها حتى تصير زهوًا، فلما أزهت قال: دعها حتى تصير رُطبًا، فلما أرطبت قال: دعها حتى تصير تمرًا، فلما أتمرت عمد إليها عرقوب من الليل فجذّها، ولم يعطِ أخاه منه شيئًا، فصار مثلًا، وفيه يقول الأشجعي: وعدتَ وكان الحلف منك سجيةً ... مواعيد عُرقُوب أخاه بيثرب

_ 1 البيان والتبيين "1/ 271". 2 المستطرف "1/ 28 وما بعدها".

وقال آخر: وأكذب من عرقوب يثرب لهجةً ... وأبين شؤمًا في الحوائج من زُحل1 وذكر أن اسمه "عرقوب بن صخر"، أو "عرقوب بن معبد "معيد" بن أسد"، رجل من العمالقة على القول الأول. قاله ابن الكلبي، وعلى القول الثاني، فهو رجل من "بني عبد شمس بن سعد"، وقيل: إنه كان من الأوس. كان أكذب أهل زمانه، ضربت به العرب المثل في الخلف، فقالوا: مواعيد عرقوب2. ومن الأمثال القديمة: صحيفة المتلمس، روي أن الرسول كتب كتابًا لعيينة بن حصن، فلما أخذه، قال: "يا محمد أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا كصحيفة المتلمس". هي إحدى الصحيفتين اللتين كتبهما "عمرو بن هند" لطرفة والمتلمس، إلى عامله بالبحرين في إهلاكهما، وخيّلهما أنهما كتابا جائزة، فنجّى المتلمس عملُه على الخرم وهربُه إلى الشأم، وسارت صحيفته مثلًا في كل كتاب يحمله صاحبه يرجو منه خيرًا وفيه ما يسوءه3. ومن الأمثلة القديمة "عنقاء مغرب"، والمثل به، "طارت به عنقاء مُغرِبٌ" زعموا أنه طائر كان على عهد "حنظلة بن صفوان الحميري" نبي أهل الرس عظيم العنق، وقيل: كان في عنقه بياض ولذلك سُمي عنقاء، اختطف غلامًا فأغرب به، ولذلك سُمي المغرب، فدعا عليه حنظلة فرمي بصاعقة. وقد ذكر المثل في الشعر4. ومن الأمثال الجاهلية الحية التي لا تزال ترزق، المثل: "تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه". يضرب مثلًا لمن خبره خير من مرآه. ذكر "ابن الكلبي" أن هذا المثل ضُرب "للصقعب بن عمرو" النهدي. قاله له النعمان بن المنذر وقال "المفضل": المثل للمنذر بن ماء السماء، قاله لشقة بن ضمرة سمع بذكره، فلما رآه اقتحمته عينه فقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فأرسلها مثلًا

_ 1 المزهر "1/ 494 وما بعدها". 2 تاج العروس "1/ 378"، "عرقب". 3 الفائق "2/ 13". 4 الزمخشري، المستقصي "2/ 150".

فقال: له شقة: أبيت اللعن! إن الرجال ليسوا بجُزر يراد منهم الأجسام، وإنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه فذهب مثلًا، وأعجب المنذر بما رأى من عقله وبيانه، ثم سمّاه باسم أبيه فقال: أنت ضمرة بن ضمرة. وقيل: إن المثل للنعمان بن المنذر، قاله لشقة بن ضمرة1. وقد أورد "ابن الكلبي" قصة تأريخ المثل على هذا النحو: قال: وفد "الصقعب بن عمرو" النهدي في عشرة من "بني نهد" على "النعمان بن المنذر" وكان "الصقعب" رجلًا قصيرًا دميمًا تقتحمه العين، شريفًا بعيد الصوت، وكان قد بلغ النعمان حديثه، فلما أخبر النعمان بهم قال للآذن: إئذن للصقعب، فنظر الآذن إلى أعظمهم وأجملهم، فقال: أنت أنت الصقعب؟ قال: لا. فقال: الذي يليه في العظم والهيئة: أأنت هو: فقال: لا. فاستحيا فقال: أيكم الصقعب؟ فقال الصقعب: هأنذا! فأدخله إلى النعمان، فلما رآه قال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! فقال الصقعب: أبيت اللعن! إن الرجال ليسوا بالمسوك يستقى فيها، إنما الرجل بأصغريه بلسانه وقلبه، إن قاتل قاتل بجنان، وإن نطق نطق ببيان. فقال له النعمان: فلله أبوك! ثم سأله أسئلة امتحنه بها، ليرى عقله، فكان يجيبه أحسن جواب. فقال له النعمان: أنت أنت! فأحسن صلته وصلة أصحابه2. وينسب المثل: "ألوى بَعيد المستمر"، إلى "النعمان بن المنذر"، وأخوه "طُفيل الغنوي" فأدخله شعره3. ومن الأمثلة الشهيرة القديمة قولهم: "على أهلها جنت براقش"، يضرب مثلًا للرجل يهلك قومه بسببه4. وينسب المثل: "إن الشقي وافد البراجم" لعمرو بن هند، ملك الحيرة، حلف ليقتلن مائة من تميم، فقتل تسعة وتسعين رجلًا منهم إحراقًا بالنار، وبقي واحد، فلما دنا رجل من البراجم من الملك، وسأله عن أهله، فقال: من

_ 1 الخزانة "1/ 151"، "بولاق". 2 المزهر "1/ 495 وما بعدها"، العمدة "1/ 285". 3 ألفيتني ألوى بعيد المستمر ... أحمل ما حملت من خير وشر العسكري، جمهرة "1/ 32 وما بعدها". 4 العمدة "1/ 285".

البراجم، قال: إن الشقي وافد البراجم، وأمر به فألقي في النار1. ومن الأمثال المشهورة قولهم: "عند جهينة الخبر اليقين". وقيل: "عند جفينة الخبر اليقين" "حُفينة". وكان من حديثه أن "حصين بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن كلاب" خرج، ومعه رجل من "جهينة" يقال له: "الأخنس" فنزلا منزلًا، فقام الجهني إلى الكلابي فقتله، وأخذ ماله، وكانت أخته "صخرة" بنت "عمرو" تبكيه في المواسم، وتسأل عنه فلا تجد من يُخبرها، فقال الأخنس فيها: كصخرة إذ تسائل في مِراح ... وفي جَرْمٍ وعلمهما ظنونُ تسائل عن حصينٍ كل ركب ... وعند جهينة الخبر اليقين2 ومن أمثالهم المشهورة قولهم: بمثل جارية فلتزن الزانية، وذلك أن "جارية بنت سليط بن الحرث بن يربوع بن حنظلة" كان أحسن الناس وجهًا وأمدهم قامة، وأتى سوق عُكاظ فأبصرته فتاةٌ من خثعم فأعجبها فتلطفت له، حتى وقع عليها، فعلقت منه، فلما ولدت أقبلت هي وأمها وخالتها تلتمسه بعكاظ، فلما رأته الفتاةُ قالت: هذا جارية! فقالت أمها: بمثل جارية فلتزن الزانية سرًّا أو علانية، فذهب مثلًا3. ونسب المثل: "أرسل حكيمًا ولا توصه" إلى "الزبير بن عبد المطلب"4، ونسب المثل "استنوق الجمل" لطرفة بن العبد5. ومن الأمثلة القديمة: "على أهلها دلت براقش"، و"عش رجبًا تر عجبًا"6، و"العصا من العصية" و"أعز من كليب وائل"، و"أعزّ من بيض الأنوق" و"أعز من

_ 1 العسكري، جمهرة "1/ 121"، "يذكر 98 شخصًا، ثم يتم العدد، بذكر هذا الرجل، ثم أكمله بالحمراء بنت خمرة، حيث أحرقها، وتحلل من يمينه، وتذكر الموارد الأخرى خلافه. وقد تحدثت عن هذا المثل". 2 المزهر "1/ 498 وما بعدها"، العسكري، جمهرة "2/ 44". 3 المزهر "1/ 499". 4 العسكري، جمهرة "1/ 98". 5 العسكري، جمهرة "1/ 54"، الأغاني "1/ 132"، الشعر والشعراء "1/ 135". 6 العسكري، جمهرة "2/ 52 وما بعدها"، الميداني "1/ 310"، الحيوان "1/ 260"، العقد الفريد "3/ 54".

الغراب الأعصم"، و"أنصف القارة من راماها". والمثل: "أرسل حكيمًا ولا توصه"، هو في الواقع مَثَل قديم، لا بد وأن يكون قد وضع في العربية، قبل أيام "الزبير"، إذ ينسب إلى الحكيم "أحيقار"، وربما نقل من السريان إلى العرب. وقد ضرب المثل بشخصيات جاهلية، تركت أثرًا في أيامها، فضرب بها المثل. مثل: "أبلغ من قس"، ويراد به قس بن ساعدة الخطيب الشهير، وأعيا من باقل. وهو رجل من إياد، وقيل: من ربيعة. اشترى ظبيًا بأحد عشر درهمًا، فمرّ بقوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي؟ فمدّ يديه وأخرج لسانه يريد أحد عشر، فشرد الظبي حين مد يديه، وكان تحت إبطيه1. وضرب المثل ببخل مادر، فقيل: أبخل من مادر، وبفصاحة سحبان، فقيل: أخطب من سحبان، وهو القائل: لقد علم الحي اليمانون أنني ... إذا قلت أمّا بعد أني خطيبها2 وضرب الجاهليون الأمثال بكل ما وجدوه حولهم من حيوان ومن نبات وصخور. ولذا نجد على أمثالهم طابع محيطهم، فالحيوان الذي ضربوا به المثل، هو من حيوان جزيرة العرب، ومن النوع المألوف عندهم، مثل الضب والحية والعنز والإبل وما إلى ذلك. ومن هنا اختلفت أمثلة الأعراب أهل البادية عن أمثلة الحضر، أهل المدر، لاختلاف طبيعة البادية عن طبيعة الريف، ولوجود أشياء في أحدهما يندر وجودهما في المحيط الآخر. وفي شعر "عدي بن زيد" العبادي أمثلة كثيرة، تميز شعره عن شعر بقية الشعراء الجاهليين. ولو درسنا شعره، نجد أن فيه ما يشير إلى مواعظ ترد في النصرانية كما ترد على خاطر كل إنسان يصاب بنكبة, فتهز مشاعره فتجعله ينظر إلى الدنيا نظرة زاهد فيها، ولا أستبعد احتمال تأثره بالكتب التي كان قد وقف عليها، فقد كان نصرانيًّا "وقد قرأ كتب العرب والفرس"3. ولم يذكر أهل

_ 1 المزهر "1/ 503". 2 المزهر "1/ 504". 3 الطبري "2/ 193"، "دار المعارف".

الأخبار شيئًا عن "كتب العرب"، هل أريد بها كتب دينية وضعت في العربية، أم قصد بها كتب في القصص والأمثال وفي الشعر والأخبار وما شابه ذلك، ولعلهم أرادوا بكتب الفرس، الكتب التي تبحث عن قصص ملوكهم. وقد ترجم قسم منها في الإسلام، وقصص الأساطير. وقد رأينا أنها كانت معروفة عند العرب وأن "النضر" كان يقص منها لأهل مكة، وكانوا يسمونها الأساطير. ونجد في شعر الشعراء الآخرين أمثلة عديدة دخلت شعرهم، أخذوها من المثل السائر، ومن الحكم التي كانت شائعة في أيامهم، أو من القصص، أو من مبتكراتهم ومخترعاتهم، ولا تزال بعض الأمثال الشعرية حية ترزق، يضرب بها الناس المثل فيما يريدون التمثيل به. ومن الموارد التي أمدّت الأدب الجاهلي بالمثل، الكهان، وكلام الكهان قصير مسجع يميل إلى الرمز والألغاز، يتجنب الصراحة، لتكون فيه قابلية التفسير والتأويل وإعطاء كثير من الاحتمالات، وذلك لما تقتضيه طبيعة الكهانة من تأويل التكهن حسب الأحوال والمناسبات. ونجد في كتب الأدب أمثلة عديدة منسوبة إلى هؤلاء الكهان. ولما كان كلامهم مسجوعًا، قيل له: "سجع الكهان". وقد جاء في الحديث النبوي: "هذا من سجع الكهان"1. وفي الكهان جماعة من الكاهنات، عرفن بالتكهن، مثل: الشعثاء الكاهنة، وطريفة، ويذكرون أنها هي التي أنذرت عمرو بن عامر أحد ملوك اليمن بزوال ملكه، وأخبرته بخراب سد مأرب2، وزبراء الكاهنة3، وسلمى الهمدانية الحميرية4، وعفيراء الكاهنة الحميرية5، وفاطمة بنت مر الخثعمية، وقد ذكروا أنها كانت قد قرأت الكتب6. ومن الأمثلة الواردة في كتب الأدب: "إن العصا من العُصية"، وهو مثل ينسب إلى "الأفعى الجرهمي"، وهو من الكهّان. قاله لما احتكم إليه أولاد "نزار" بمدينة النجران7. و"الصيف ضيعت اللبن"، وأول من قاله "عمرو

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 272". 2 بلوغ الأرب "3/ 283 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "3/ 288 وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "3/ 295 وما بعدها". 5 بلوغ الأرب "3/ 296 وما بعدها". 6 بلوغ الأرب "3/ 305 وما بعدها". 7 نهاية الأرب "3/ 7 وما بعدها".

ابن عدس"1، والمثل "أوسعتهم سبًّا وأودوا بالإبل" وينسب إلى "كعب بن زهير بن أبي سلمى"2، والمثل "أن الشقي وافد البراجم"3. إلى غير ذلك من أمثلة تجدها في كتب الأمثال والأدب. ولا يزال بعضها حيًّا يتمثل الناس به, وبعض منه يرد على لسان كل إنسان. أي: أمثلة تنطبق على كل البشر؛ لأنها صادرة من نفس إنسانية عامة، فلا تعدّ من الأمثلة المحلية أو القومية، أي: أمثلة نبعت من محيط أمة معينة. لذلك نجد لها شبهًا عند أمم أخرى. ولا نستطيع أن نقول: إن الأمة أخذتها من تلك.

_ 1 نهاية الأرب "3/ 13 وما بعدها". 2 نهاية الأرب "3/ 17". 3 نهاية الأرب "3/ 18".

فهرس الجزء الخامس عشر

فهرس الجزء الخامس عشر: الفصل السادس عشر بعد المائة الفن الجاهلي 5 الفصل السابع عشر بعد المائة القصور والمحافد والآطام 34 الفصل الثامن عشر بعد المائة الخزف والزجاج والبلّور 58 الفصل التاسع عشر بعد المائة الفنون الجميلة 66 الفصل العشرون بعد المائة أميّة الجاهليين 91

الفصل الحادي والعشرون بعد المائة الخط العربي 144 الفصل الثاني والعشرون بعد المائة المسند ومشتقاته 202 الفصل الثالث والعشرون بعد المائة الكتابة والتدوين 248 الفصل الرابع والعشرون بعد المائة الدراسة والتدريس 291 الفصل الخامس والعشرون بعد المائة الكتاب والعلماء 313 الفصل السادس والعشرون بعد المائة الفلسفة والحكمة 336

الفصل السابع والعشرون بعد المائة الأمثال 354 الفهرست 371

المجلد السادس عشر

المجلد السادس عشر الفصل الثامن والعشرون بعد المئة: القصص ... الفصل الثامن والعشرون بعد المائة: القصص والقصص، مظهر من مظاهر الفكر الجاهلي، أشير إليه في القرآن الكريم، وكان شائعًا عند الجاهليين. ودراسته تمكن الدارس من تحليل عقلية صاحب القصص، وفهم عقلية الزمن الذي شاع فيه. وقد ورد في المؤلفات الإسلامية شيء منه، وفي بعضه ملامح يمكن إرجاعها إلى عناصر أعجمية: دينية، وغير دينية، تسرب إلى الجاهليين من اتصالهم بالأعاجم، واتصال الأعاجم بهم. والقصص البيان، والقاص من يأتي بالقصة على وجهها، كأنه يتتبع معانيها وألفاظها. وقيل: القاص يقص القصص لأتباعه، خبرًا بعد خبر وسوقه الكلام سوقًا. وقد كان القص شائعًا متفشيًا بين الجاهليين والإسلاميين، وكانوا يقبلون عليه إقبالًا شديدًا، ومن هنا ورد في الحديث "إن بني إسرائيل لما قصوا هلكوا. وفي رواية لما هلكوا قصوا، أي: اتكلوا على القول وتركوا العمل، فكان ذلك سبب هلاكهم، أو بالعكس، لما هلكوا بترك العمل أخلدوا إلى القصص"1. ولما نزل القرآن: "قالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا، قال: فنزلت: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} 2. وذكر أن أصحاب رسول الله سألوه أن يقص عليهم؛ فنزل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ،

_ 1 تاج العروس "4/ 422"، "قصص". 2 سورة يوسف، الآية 3، تفسير الطبري "12/ 90".

"من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم". وورد أنهم قالوا له: "يا رسول الله، حدثنا فوق الحديث ودون القرآن، يعنون القصص" فأنزل الله الآية المذكورة1. وفي هذا الإلحاح على الرسول بأن يقص عليهم، دلالة على مدى حب الجاهليين وإعجابهم بالقصص. وللجاهليين غايات من الاستماع إلى القصص، منها: العبرة والاتعاظ. وإلى ذلك أشير في القرآن الكريم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} 2. وقد كان في مكة وفي غيرها قوم يقصون على الناس ويعظونهم، ولما جاء الإسلام كانوا على عادتهم يقصون لإثارة العقول إلى أنباء الماضين وأخبار السالفين، ولإثارة تفكيرهم في الكون وفي الخلق وفي شئون الحياة، كالذي يظهر من القرآن الكريم: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 3 و {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} 4 و {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} 5. ويدخل في هذا النوع القصص الذي يدخلونه في باب "الحكمة"، ومعناه القصص التعليمي، الذي يتعظ به، ويستفاد منه، إذ يعد دروسًا تعلم الإنسان في حياته وترشده إلى النجاح، ويشمل قصص الماضين، ما قاموا به من خير، وما عملوا في أيامهم من شر، فأصابهم من أجله الهلاك وسوء المصير، وقصص الأشخاص، أما القصص المروي على ألسنة الحيوانات على نمط قصص "كليلة ودمنة"؛ فإننا لا نجد منه مادة غزيرة في القصص المروي عن الجاهليين، وهو قليل المادة أيضًا في الأدب الإسلامي ولا سيما في القصص الطويل. وقد نجد بقايا قصص على ألسنة الحيوانات مرويًّا في كتب الأدب، لكنه من النوع القصير الذي لا يمثل نفسًا طويلًا في القصّ. وأغلب الظن أنه منتزع من قصص قديم، فقد طوله، بسبب قدمه، فبقيت منه هذه البقايا. ومن أبواب القصص، المقال على ألسنة الحيوانات، كالقصص المقال على لسان "النعامة"، من أنها ذهبت تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين. والقصص

_ 1 تفسير الطبري "12/ 90". 2 يوسف، الآية 111. 3 الأعراف، الآية 176. 4 يوسف، الآية 3. 5 الأعراف، الآية 101.

الذي وضعوه عن الغراب، وعن الضفدع، والهدهد، والهديل، وغير ذلك مما يميل إليه العامة بصورة خاصة، لما يتركه من أثر في نفوسهم1. ومن القصص، قصص الملوك والأبطال وسادات القبائل والأيام، ويلعب قصص الأيام الدور الأول في هذا القصص، لما له من أثر في العصبية. وكان هذا القصص من أحب القصص إلى نفوسهم، وقد زوّق ونمق، وتولى قصه قصاصون كانت لهم مواهب خاصة وقابلية على القص والتأثير في النفوس، وكان أصحاب الرسول حين يتسامرون يتناشدون الشعر ويتذاكرون الأيام، جريًا على سنتهم في الجاهلية، وقد استمر هذا القصص إلى عهد قريب، ولا زال معروفًا في القرى وفي بعض الأقطار العربية، لا سيما في أيام رمضان، حيث تقرأ قصص أبو زيد الهلالي وقصة عنترة وغيرها في المقاهي، يقرأها قصاصون متخصصون بأسلوب مؤثر جذاب، يتلاعبون به في عقول السامعين، ويثيرون فيهم الحماس، ينصتون بكل خشوع إلى صوت القاص، يريدون منه سماع المزيد من الأخبار. وفي قصص أهل الأخبار المنسوب إلى الجاهلية، قصص عن الأسفار وعن مشقات السفر وعن الأهوال التي كان يلاقيها المسافرون في ذلك العهد من الجن والسعالي والغيلان، وقد رصع بأبيات من الشعر وبقصائد أحيانًا، في وصف تلك المخلوقات الرهيبة المفزعة، ولم ينس بعض هذا القصص من إيراد شعر لها في محاورة الأشخاص الذين تعرضوا لها، تجد فيه الجن والسعالى والغيلان، تنظم الشعر بلسان عربي مبين، وتجيب فيه الشعراء بشعر مثل شعرهم، قد تظهر رقة وأدبًا فيه، مع ما عرف عن هذه القوى من الميل إلى الأذى والشر. دوفي قصصهم قصص لهم أصل تاريخي، لكنه لم يحافظ على نقاوته وأصله، وإنما غلب عليه عنصر الخيال فحوله إلى أسطورة، رصعت بالشعر في الغالب، وبالجنس، لتثير الغرائز، فتقبل الأنفس على سماعها، ومن هذا القبيل قصص طسم وجديس2. وقصص الزباء، والتبابعة، والأقوام الغابرة، حيث تجد قصصهم في كتب الأخبار والأدب. وفي أبواب القصص، باب للمجون والخلاعة، وأحاديث الهوى والتشبب.

_ 1 فجر الإسلام "66"، "1965م". 2 المحاسن والأضداد "138".

وهو باب يقدم على سماعه الشبان، طلاب هذا الفن في هذا الدور من أدوار الحياة، أما الشبيبة ومن تقدمت بهم السن، فإن الجنس، يكون قد ابتعد عنهم وتركهم في الغالب، وما تمسكهم به وهم في أرذل العمر، إلا من باب التذكر بأيام الزمان، وذكريات الشباب، لتطرية العمر، والترويح عن كربة التقدم في السن. والقاص من الشخصيات المحببة إلى نفوس الجاهليين، يقص على أبناء حيه القصص المسلية، مستمدًا مادته من الأساطير والخرافات السائرة المتنقلة بين الأمم، ومن الأخبار والحاديث الخرافية والتاريخية المأثورة عن العرب، أو عمن جاورهم. ومن ذلك قصص الأقوام القديمة التي بقيت ذكرياتها في أذهان الجاهليين، وقصص الملوك مثل الزباء، التي كيفت قصتها، وابتعدت عن التاريخ وقصص جذيمة الأبرش، وقصير، وعمرو بن عدي، والتبابعة وغير ذلك من قصص، له أصل تاريخي، لكنه تغير وتبدل حتى صار من الأساطير. وهو يصلح أن يكون اليوم موضع دراسة خاصة للوقوف على مقدار عناصر الابتكار والخيال فيه، ومقدار التحوير الذي ألمَّ به، وسببه ومن أدخله عليه من جاهليين أو مسلمين. وقصص النوادر والنكات من القصص المعروف عند أهل الجاهلية. وقد اتخذ الملوك والأشراف لهم ندماء عرفوا بإغراقهم في قول الملح والنوادر والأمور الغريبة المضحكة، حتى اشتهر أمرهم بين الناس، وحتى بالغ الناس في نسبة النوادر إليهم، وحولوا بعضهم إلى شخصايت أسطورية، من كثرة ما تقولوا عليهم وما نسبوه إليهم. ومنهم من سجلت كتب أهل الأخبار والأدب أسماءهم، لما حصلوا عليه من شهرة بين الناس في أيامهم. منهم "سعد" المعروف بـ"سعد القرقرة" هازل "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة، كان يضحك منه1. ذكر أنه كان من أهل "هجر"، فدعا النعمان بفرسه اليحموم، وقال له: اركبه واطلب الوحش، فقال سعد: إذن والله أصرع. فأبى النعمان إلا أن يركبه. فلما ركبه سعد نظر إلى بعض ولده قال: وا بأبى وجوه اليتامى، ثم قال: نحن بغرس الودي أعلمنا ... منا بركض الجياد في السدف2

_ 1 تاج العروس "3/ 489"، "قرر". 2 تاج العروس "6/ 136"، "سدف".

وفيه قال الشاعر "أبو قُردُودة"، وكان "سعد القرقرة" قد أكل عند النعمان بن المنذر مسلوخًا بعظامه: بين النعامِ وبين الكلب منبته ... وفي الذئب له ظئر وأخوال1 ومنهم "النعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحرث" من "بني النجار" من يثرب، المتوفى في أيام "معاوية". كان هازلًا ومازحًا لطيفًا، ذكر أنه كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها ثم جاء بها إلى النبي، فيقول: ها أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها أحضره إلى النبي، وقال: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: "أولم تهده لي! " فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه. ودخل أعرابي على النبي، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلى اللحم. ففعل. فخرج الأعرابي وصاح وا عقراه يا محمد! فخرج النبي، فقال: "من فعل هذا؟ " فقالوا: النعيمان فاتبعه يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب واستخفى تحت سرب لها فوقه جريد. فأشار رجل إلى النبي حيث هو فأخرجه، فقال له: "ما حملك على ما صنعت؟ " قال: الذين دلوك علي يا رسول الله، هم الذين أمروني بذلك. فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للأعرابي. وروي أن "مخرمة بن نوفل". كان قد كبر وقد عمي، فقام في المسجد يريد أن يبول، فصاح به الناس المسجد المسجد! فأخذه نعيمان بيده وتنحى به، ثم أجلسه في ناحية أخرى من المسجد فقال له: بل ههنا. فصاح به الناس. فقال: ويحكم فمن أتى بي إلى هذا الموضع! قالوا: نعيمان. قال: أما إن لله علي إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت. فبلغ ذلك نعيمان. فمكث ما شاء الله، ثم أتاه يومًا وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد. فقال لمخرقه: هل لك في نعيمان. قال: نعم. فأخذه بيده حتى أوقفه على عثمان، وكان إذا صلى لا يلتفت. فقال: دونك هذا نعيمان فجمع يده بعصاه فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به ضربت أمير المؤمنين2.

_ 1 الحيوان "1/ 147". 2 الإصابة "3/ 540"، "رقم 8790".

وروي أن "أبا بكر" خرج تاجرًا إلى "بصرى" ومعه "نعيمان" و"سويبط بن حرملة"، وكان "سويبط" على الزاد، فجاءه "نعيمان"، فقال: أطعمني. فقال: لا، حتى يجيء "أبو بكر"، فقال: لأغيظنك، فذهب إلى ناس جلبوا ظهرًا. فقال: ابتاعوا مني غلامًا عربيًّا فارهًا، وهو ذو لسان ولعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوه لا تفسدوا عليّ غلامي. فقالوا: بلى نبتاعه منك بعشر قلائص، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال: دونكم هو هذا. فجاء القوم. فقالوا: قد اشتريناك، فقال سويبط: هو كاذب أنا رجل حر. قالوا: قد أخبرنا خبرك، فطرحوا الحبل في رقبته فذهبوا به. وجاء أبو بكر، فأخبر. فذهب هو وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه. فضحك النبي وأصحابه من ذلك حولًا1. وبعض القصص الشائع المتواتر عن الجاهليين، مثل قصة يومي البؤس والنعيم، وقصة "شريك" مع الملك "المنذر"، وقصة "سنمار" وأمثال ذلك، قصص وإن اقترن بأسماء جاهلية، إلا أن أصوله غير عربية، دخلت العرب من منابع خارجية، من منابع يونانية وفارسية، ونصرانية، وهو أيضًا من القصص الواردة عند شعوب أخرى، بدليل وجود شبه ومثيل له في أساطير الأعاجم، وفي حكايات النصارى2. وقاص ذلك اليوم، هو أديب الحي، وأديب القوم، وهو لا بد أن يكون من أصحاب المواهب والفطنة، وممن رزق موهبة التأثير على القلوب بفضل ما رزق من حسن عرض الكلام وتخريج القصص، وتنسيقها، وإظهار الأدوار البارزة للأبطال، وعرضها بأسلوب مشوق مرغب، تنسي السامع كل شيء إلا تتبع الحكاية. ولا بد وأن يُملّح القاص قصصه بإدخال شيء من الشعر فيها، لا سيما شعر الفرسان والحروب والمغامرات. ولا نعرف من أسماء قصاص الجاهلية أسماء كثيرة، وأشهر اسم نعرفه هو اسم "النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف"، "النضر بن الحارث

_ 1 الاستيعاب "3/ 543 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 2 فجر الإسلام "67"، "1965م".

ابن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي"1، وكان من "شياطين قريش"، أي: أذكيائهم، وممن يؤذون الرسول، وكان يحدث قريشًا بأحاديث رستم واسفنديار وما تعلم في بلاد فارس من أخبارهم2، ويزعم أنّ في استطاعته أن يأتي بمثل ما أتى به الرسول من أمر القرآن، فأشير إليه في الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3، وذكر أن كل ما ذكر في القرآن من "الأساطير"، فإنما قصد به "النضر"،وقد نزلت في حقه ثماني آيات4، تدل على أنه كان يتحدى الرسول ويخاصمه ويقول في القرآن: إنه من صنع محمد، وكان يأتي بقصص يزعم أنه يضاهي بها كتاب الله. وقد أرسلته قريش مع "عقبة بن أبي معيط" إلى يهود "يثرب" ليأخذا منهم من أمور التوراة والدين ما يجادلا به الرسول، فعلموهما ما يجب أن يسألا به، فجاءا وسألا الرسول وحاججاه، وقد أشير إلى هذه المحاججة في القرآن5. وقد أمر الرسول بقتل "النضر"، فقتله "عليّ" وهو بالصفراء، فقالت فيه "ليلى" ابنته، أو "قتيلة" ابنته، وهي ابنته في رواية، أو أخته في رواية أخرى، شعرًا تبكيه وتتوجع فيه على قتله. أوله: يا راكِبًا إنَّ الأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ ... مِنْ صُبْحِ خامِسَةٍ وأَنتَ مُوَفَّقُ أبلِغْ بها مَيْتًا بأنَّ قصيدةً ... ما إنْ تَزالُ بها الرّكائِبُ تَخْفُقُ فليَسْمَعَنَّ النَّضْرُ إنْ نادَيْتُه ... إنْ كانَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ لا يَنْطِقُ ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيه تَنُوشُهُ ... للهِ أَرْحامٌ هُناكَ تشققُ قَسرًا يُقادُ إلى المَنِيّةِ مُتعَبًا ... رَسفُ المقيد وهو عانٍ موثقُ أَمحمّد ها أَنْتَ ضَنُ نَجِيبَةٍ ... في قَوْمِها والفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ

_ 1 الاشتقاق "99"، كتاب نسب قريش "255"، ابن هشام "1/ 188 وما بعدها"، "حاشية على الروض". 2 الروض الأنف "1/ 188". 3 الأنعام، الرقم6، الآية93، الروض الأنف "1/ 189"، ابن هشام "1/ 189 وما بعدها"، "حاشية على الروض". 4 ابن هشام "1/ 190"، "حاشية على الروض". 5 ابن هشام "1/ 190"، "حاشية على الروض".

ما كانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ ورُبَّما ... مَنَّ الفَتَى وهوَ المَغيطُ المُحْنَقُ فالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ تركت قرابة ... أَحَقُّهُمْ إنْ كانَ عتقٌ يُعْتَقُ1 وورد اسم رجل أدخل للمسلمين القصص الديني، هو "تميم بن أوس بن خارجة" الداري2، ذكر أنه أسلم سنة تسع من الهجرة، وأنه كان نصرانيًّا، وأنه لقي النبي، فقص عليه قصة الجساسة والدجّال. وذكر أنه كان يترهب ويسلك مسلك رجال الرهبانية حتى بعد إسلامه، وأنه استأذن الخليفة "عمر" أو الخليفة "عثمان" في أن يذكر الناس في يوم الجمعة، فأذن له، فكان يقص في مسجد الرسول. وكان بذلك أول من قص في الإسلام. وروي أنه أول من أسرج السراج في المسجد3. وكان قد قدم مع أخيه "نعيم" الداري في وفد الداريين على الرسول منصرفه من تبوك4. وكان مقامه في الشام، وربما وضع القصص على اسمه5. وهذا النوع من التذكير والوعظ والإرشاد، القائم على الترغيب والترهيب، بذكر أساطير الأولين والقصص والحكايات والغرائب والعجائب، والقصص المتعلق بالحيوانات أو المدون على ألسنتها، هو نوع من الوعظ الذي كان يقوم به رجال الدين اليهود والنصارى في تهذيب أبناء دينهم وفي إرشادهم إلى سواء السبيل، على نحو ما كانوا يتخيلونه ويتصورونه. ومن مدرستهم في الوعظ، تعلم صاحبنا تميم علمه هذا على ما يظهر. ويمكن الوقوف على طبيعة قصص "تميم" ونوعيته وعلى درجة ثقافته ومقدار عقليته بالرجوع إلى ما نسب إليه من قصص، وما ورد على لسانه من وعظ. ولكننا لا نجد في الكتب مادة من قصصه تكفي للحكم بموجبها على نوعيته، ولكننا

_ 1 البيان "4/ 43 وما بعدها"، الحصري، زهر الآداب "1/ 27"، الأغاني "1/ 9"، العمدة "1/ 30". 2 "تميم بن أوس بن حارثة، وقيل: خارجة بن سود، وقيل: سواد بن جذيمة بن دراع بن عدي بن الدار، أبو رقية الداري"، الإصابة "1/ 186"، "رقم837". 3 الإصابة "1/ 191"، أسد الغابة "2/ 215"، ابن سعد، الطبقات "1/ 75". 4 الإصابة "3/ 536"، "رقم8770"، صحيح مسلم، شرح النووي، "5/ 420 وما بعدها". 5 مسالك الأبصار "1/ 172"، البخلاء "313". The Jorunal of the Palestine Oriental Society, vol. XIX, No. 3-4, 1941.

لا نستبعد أن يكون قد خلط بين القصص النصراني وبين الأساطير العربية. فقد كان نصرانيًّا، يسمع أقوال وعاظ الكنائس، فتعلم منهم، وطبق ما تعلمه في الإسلام. وذكروا أن "الأسود بن سريع بن حمير "خمير" بن عبادة بن النزال" التميمي السعدي، كان قاصًّا، وكان شاعرًا مشهورًا، وهو من الصحابة، وكان أول من قص في مسجد البصرة. قيل: إنه مات سنة اثنتين وأربعين1. ولعله كان من النصارى كذلك. ويجب أن نشير إلى قاص آخر هو "عبيد بن شرية الجرهمي"، وإن كان من المتأخرين. فقد كان في أيام "معاوية"، وقد كان من الملازمين له. وكان الخليفة يحنّ إليه، ويتلذذ بسماع قصصه عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد. وهو شخص لا نعرف من أمره شيئًا يذكر. وذكر "ابن النديم" أنه عاش إلى أيام "عبد الملك بن مروان"، وأن معاوية أمر غلمانه بتدوين ما كان يقصه وينسب إليه وله من الكتب: كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين2.

_ 1 الإصابة "1/ 59 وما بعدها"، "رقم161"، الاستيعاب "1/ 72"، البيان والتبيين "1/ 67". 2 الفهرست "ص138".

الفصل التاسع والعشرون بعد المئة: الطب والبيطرة

الفصل التاسع والعشرون بعد المئة: الطب والبيطرة ... الفصل التاسع والعشرون بعد المائة: الطب والبيطرة والطب من العلوم المطلوبة في كل زمان ومكان، لما له من صلة بحياة الإنسان. ولعلماء اللغة آراء في معنى "الطب" وقد ذكروا أن من المجاز: الطب بمعنى السحر، قال ابن الأسلت: ألا من مبلغ حسان عني ... أطب كان داؤك أم جنون1 فوجدوا أن بين الطب والسحر صلة. وهو تعبير عن مداواة الأمراض في السابق بالسحر، فقد كان الساحر طبيبًا، يداوي المرض ويشفي المريض بسحره، وكذلك كان الكهان يداوون المرضى، ولا زال الناس يعتقدون بأثر السحر في مداواة المرض، فيراجعون من يدعي العلم بالسحر لنيل الشفاء2. وكان الطب، في ذلك الزمان، شرف، فللطبيب مكانة كبيرة عند الجاهليين. قال "المرتضى" في حديثه عن زهير بن جناب: "كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم. والطب في ذلك الزمان

_ 1 وورد: "أسحر كان طبك"، تاج العروس "1/ 351"، "طب". 2 إرشاد الساري "8/ 360".

شرف، وحازي قومه، والحُزاة الكهان"1. فهو قد جمع خلالًا كثيرة وفي جملتها الطب والكهانة. وقد كان الكهان يداوون المرضى، فكان كهنة مصر يعالجون المرضى ويطببونهم، لاعتقادهم أن الأمراض هي من الآلهة، تصيب الإنسان فلا تشفيه منها إلا التوسلات إليها بإشفائه، وحيث أن المقربين إليها هم الكهنة، لذلك لجأ المرضى إليهم لإشفائهم. ونجد في النصوص العربية الجنوبية توسلات كثيرة وتضرعات إلى الآلهة، لأن تمنّ على المتوسلين إليها بالصحة والعافية، وبالشفاء من الأمراض التي نزلت بهم، وأن تحميهم من الأوبئة التي تفشت بين الناس، فأخذت تميتهم. ولا بد وأن يكون السحرة والحزاة والكهنة في الجاهلية، هم الذين مارسوا الطب، وعالجوا المرضى، بالسحر وبالأدعية، أو بالأدوية التي أخذوها عمن سبقهم ومن تجاربهم الخاصة. ونحن نأسف لأن نقول إن النصوص الجاهلية لم تعطنا حتى الآن نصوصًا طبية، أو نصوصًا فيها وصفات أدوية الشفاء من الأمراض. والطب، هو من فروع العلم المحظوظة بالنسبة إلى فروع العلم الأخرى عند الجاهليين. فقد أشير إليه، وأشير إلى اسم نفر من الأطباء، هم: الحارث بن كلدة الثقفي، والنضر بن الحارث، و"ابن أبي رمثة التميمي" و"ضماد" وكلهم ممن عاصر الرسول وأدرك زمانه، وبفضل هذه المعاصرة، ذكرت أسماؤهم في كتب الحديث والسير والأخبار، ولولاها لكان شأنهم شأن غيرهم ممن لم يصل اسمهم إلى أحد، فصاروا نسيًا منسيًّا. وذكر أن رجلًا جاء إلى النبي، فرأى بين كتفيه خاتم النبوة. فقال: إن أذنت لي عالجتها فإني طبيب. فقال له النبي، طبيبها الذي خلقها، معناه العالم بها خالقها الذي خلقها لا أنت2. أما الحارث بن كلدة الثقفي، فإنه من ثقيف ومن أهل الطائف. ذكر أنه سافر إلى البلاد، وتعلم الطب بناحية فارس على رجل من أهل جُنْدَيْسابور، وغيرها.

_ 1 أمالي "1/ 238". 2 اللسان "1/ 553"، "طبب"، تاج العروس "1/ 352"، "طبب"،"فان يك بك طب داويتك، فإني أطب العرب"، الطبري "2/ 297".

وتمرن هناك، وطب بأرض فارس، وعالج وحصل له بذلك مال، وعرف الداء والدواء. وكان صاحب حسّ مرهف، وموسيقيًّا يضرب بالعود. تعلم ذلك بفارس واليمن. قيل: إن سعد بن أبي وقاص مرض بمكة، فعاده رسول الله، فقال له: "ادع الحارث، فإنه يتطبب". فعاده الحارث وداواه فشفاه. ونسبوا له كلامًا مع كسرى أنوشروان. وقيل: إنه هو القائل: "الطب: الأزم، والبطنة بيت الدواء، والحِميَةُ رأس الدواء، وعودوا كل بدن ما اعتاد"، وأشياء أخرى تنسب إلى فلاسفة متقدمين، ولحكماء من العرب غير الحارث1. وقيل: إن من حكمه: "خير الدواء الأزم، وشرّ الدواء إدخال الطعام على الطعام". وقيل: إنه وصى ولده بقوله: "يا بني عوّد نفسك الأثرة ومجاهدة الشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدمن الأكل إدمان النعاج، ولا تلقم لقم الجمال. إن الله جعلك إنسانًا فلا تجعل نفسك بهيمة، واحذر سرعة الكظة وسرف البطنة، فقد قال بعض الحكماء: إذا كنت بطينًا فعد نفسك مع الزمنى"2. ومن حكمه قوله: "لا تنكحوا من النساء إلا الشابة، ولا تأكلوا من الحيوان إلا الفتى، ولا من الفاكهة إلا النضيج"3. وقد نسبوا إلى الحارث كتابًا، هو كتاب المحاورة في الطب بينه وبين كسرى أنوشروان4، ولم يشيروا إلى مضمونه ومحتوياته وحجمه. والظاهر أنه هذه المحاورة التي دبجوها في ترجمته، ونسبوها إليه، وزعموا أن كسرى أمر بتدوين ما نطق به5.

_ 1 عيون الأنباء لابن أبي اصيبعة "1/ 109 وما بعدها"، أخبار الحكماء "ص111 وما بعدها"، ابن صاعد "ص47"، ابن جلجل "ص54 وما بعدها"، ابن القفطي تاريخ الحكماء "ص161 وما بعدها"، ابن العبري "ص156 وما بعدها"، ابن حجر، الإصابة "1/ 288"، بلوغ الأرب "3/ 328 وما بعدها"، شرح ديوان لبيد "ص102". 2 الجمان في تشبيهات القرآن "256". 3 المحاسن والأضداد "110". 4 عيون الأنباء "1/ 110 وما بعدها". 5 ابن أبي أصيبعة "1/ 112"، بلوغ الأرب "3/ 328 وما بعدها"، العقد الفريد "6/ 373".

وقد ذكر أن الحارث بن كلدة كان شاعرًا ذا حكمة في شعره، وقد أورد الآحدي له أبياتًا في أثناء ترجمته له1 وذكره "أبو العلاء المعري" في "رسالة الغفران"، ونسب له قوله: فما عسل ببارد ماء مزنٍ ... على ظمأُ لشاربه يُشاب بأشهى من لقيكم إلينا ... فكيف لنا به ومتى الإياب2 وذكر الأخباريون، أن "الحارث" هذا، كان قد داوى الملك "أبا جبر" الكندي، وكان ملكًا شديد البأس، فخرج إلى كسرى يستجيشه على قومه فأعطاه جيشًا من الأساورة، فلما بلغوا "كاظمة" سمّوه، ثم تركوه وعادوا، فسار "أبو جبر" إلى "الطائف"، ليداويه "الحارث بن كلدة" ويشفيه، فداواه فبرئ وارتحل يريد اليمن فنكس ومات. فرثته عمته "كبشة"3. وقد عاصر رسول الله، وفي بعض الروايات أنه أسلم ومات مسلمًا في خلافة "عمر"، وأنه أكل مع "أبي بكر" وأنه شهد أن "أبا بكر" مات مسمومًا4 وأنه خرج مع النساء حينما حاصر المسلمون الطائف سنة تسع للهجرة. وأنه عاش إلى أيام معاوية في رواية. وأن "آل نافع" و"آل أبي بكرة" كانوا يزعمون أنهم من نسله5. وأما النضر بن الحارث بن كلدة الثقفي فهو ابن خالة الرسول. وكان النضر قد سافر البلاد أيضًا كأبيه، واجتمع بالأفاضل والعلماء بمكة وغيرها، وعاشر الأخبار والكهنة، واشتغل وحصل من العلوم القديمة، واطلع على علوم الفلسفة وأجزاء الحكمة، وتعلم من أبيه ما كان يعلمه من الطب وغيره وكان يؤاتي أبا سفيان في عداوة النبي، ويحسده، ويكثر الأذى له، ويتكلم فيه بأشياء كثيرة، ويحط من قدره عند أهل مكة. فلما كانت وقعة بدر، كان على رأس

_ 1 المؤتلف والمختلف "ص172". 2 "166"، "تحقيق بنت الشاطئ". 3 نزهة الجليس "1/ 484". 4 الطبري "3/ 419" "ذكر مرض أبي بكر ووفاته". 5 الاشتقاق "ص185"، مختصر ابن العبري "ص156"، أخبار الحكماء، لابن القفطي "161"، Die Araber IV, S. 33

المشركين، فوقع أسيرًا، ولما كان الرسول بالصفراء أو الأثيل، أمر بقتله، فقتل1. وقد نسب بعض أهل الأخبار "النضر بن الحارث" على هذه الصورة: "النضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار"2، وقالوا: إنه من أشراف قريش وأسيادها، وكان من مطعمي "بني عبد الدار"3، ونصوا أنه "كان من كفار قريش شديد العداوة لرسول الله"4، وأنه كان ابن خالة الرسول، ولهذا فلا يمكن أن يكون هذا النضر ابنًا للحارث بن كلدة الثقفي، الذي هو "الحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج" على رواية من ضبط نسبه من أهل الأخبار5. ثم إن "الحارث بن كلدة الثقفي"، لم يخلف إلا ابنة يقال لها: أزدة، على ما ذكره "أبو عبيدة"6، لذلك فلا يمكن أن يكون "النضر بن الحارث" ابنًا له، كما ذهب إلى ذلك "ابن أبي أصبيعة" وغيره7، لا سيما وأن "ابن أبي أصبيعة" نفسه قد جعله في عداد المشركين من قريش الذين آذوا الرسول، وذكر أنه ابن خالة النبي، وأنه آذاه وساهم مع المشركين في معركة بدر، فأسر. وأن أخته "قتيلة" قد رثته بشعر دوّنه، كما دوّنه غيره8. وما دوّنه عنه، دوّنه غيره من ترجمة "النضر بن الحارث بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار" القرشي، وتجده مذكورًا مع شعر الرثاء في كتاب "نسب قريش"

_ 1 عيون الأنباء "1/ 113 وما بعدها"، البلاذري "1/ 141"، شمس العلوم "1/ 79" بلوغ الأرب "3/ 335 وما بعدها"، الاشتقاق "ص99". شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد "3/ 348"، البيان والتبيين "2/ 236"، "4/ 43"، "عبد السلام هارون"، البلدان "1/ 112"، شرح ديوان الحماسة، للتبريزي. حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي "4/ 41". 2 نسب قريش، للزبيري "255"، ابن هشام، سيرة "1/ 320"، "النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف". 3 سيرة ابن هشام "1/ 320"، "2/ 320". 4 الاشتقاق "99". 5 الاشتقاق "185". 6 الاشتقاق "185". 7 عيون الأنباء "167"، "النضر بن الحارث بن كلدة الثقفي". 8 عيون الأنباء "167 وما بعدها"، سيرة ابن هشام "2/ 297 وما بعدها".

للزبيري1. وهو من العلماء بنسب قريش ومن المتقدمين على "ابن أبي أصبيعة"2. وفي رواية يرجع سندها إلى "الكلبي" و"مقاتل"، أن في حق "النضر ابن الحارث"، نزلت الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيث} 3. فقد قيل: "إنه كان يخرج تاجرًا إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشًا، ويقول لهم: إن محمدًا، عليه السلام، يحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن"4. وقد نزلت في حقه ثماني آيات5، يفهم من تفسير علماء التفسير لها، أنه كان ذكيًّا لبقًا و"شيطانًا" من شياطين قريش، له علم بالشعر وبأخبار الأمم، يراجع أحبار اليهود وعلماء النصرانية، ليزيد بذلك علمًا على علمه، وكان يعتقد لذكائه وعلمه أنه أحق بالدعوة من النبي، وحسده وصار يعاكسه في كل مكان. ووصف بأنه صاحب أحاديث ونظر في كتب الفرس. كان يحدث، ثم يقول: أينا أحسن حديثًا: أنا أم محمد؟ ويقول: إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين. وقيل: إنه كان يقول: إنما يعينه على ما يأتي به في كتابه هذا جبر، غلام الأسود بن المطلب، وعداس غلام شيبة بن ربيعة، ويقال: غلام عتبة ابن ربيعة، وغيرهما. فأنزل الله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 6، وكذلك {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 7، وروي أنه كان يحدث قومه أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار8. وعلى هذا، فلم يكن النضر، في عداد الأطباء، وإنما كان في عداد الواقفين

_ 1 "ص255". 2 "156- 236هـ". 3 سورة لقمان، الآية6. 4 أسباب النزول "259"، "سورة لقمان". 5 سيرة ابن هشام "1/ 320 وما بعدها". 6 النحل، الآية 103. 7 الفرقان، الآية 4 وما بعدها، البلاذري "1/ 141". 8 ابن هشام "1/ 320".

على أساطير الفرس ولغتهم، ولا تستبعد مع ذلك عنه مزاولة الطب، لأن المثقفين في ذلك الوقت، كانوا يعالجون ويدرسون مختلف العلوم والمعرفة. وأما ابن أبي رمثة التميمي، فكان طبيبًا على عهد الرسول مُزاولًا لأعمال اليد وصناعة الجراح1. ولم يذكروا عنه شيئًا غير هذا المذكور. وذك من الأطباء طبيب يقال له: ابن حديم، من تيم الرباب. قيل: إنه حاز على شهرة واسعة بين الجاهليين، وأنه ذكر في شعر لأوس بن حجر، هو: فهل لكم فيها إليّ فإنني ... طبيب بما أعيا النطاسي حِذيما2 وزعم أنه كان أطب العرب، وأنه كان أطب من الحارث بن كلدة، حتى ضرب بطبّه المثل، فقيل: أطب من حذيم. وذكر أنه كان بارعًا في الكي، فقيل: أطب في الكي من ابن حذيم3. وقيل: هو أنه كان من "تيم الرباب" وكان متطببًا عالمًا، وهو أقدم من الحارث بن كلدة. وقد جعله بعضهم "ابن حذام" "ابن حمام" الشاعر المذكور في شعر "امرئ القيس"، وهو خطأ ورد من باب التصحيف4. ويظهر من كتب الحديث والأخبار والتراجم، أن هناك نفرًا آخرين مارسوا التطبيب في أيام النبي. فقد أشير إلى نفر من قبيلة أنمار، زاولوا الطب في أيام الرسول5. وذكر أن النبي بعث إلى أُبي بن كعب طبيبًا، فقطع له عرقًا، وكواه عليه6. وأشير إلى اسم طبيب آخر، عرف بـ"ضماد بن ثعلبة الأزدي"، ذكر أنه كان يداوي، وأنه جاء إلى رسول الله7. وأنه كان صديقًا للنبي في الجاهلية،

_ 1 عيون الأطباء لابن أبي أصيبعة "1/ 116"، ابن جلجل "ص57"، ابن صاعد "ص47"، ابن القفطي "436"، تهذيب التهذيب "12/ 97"، مسند ابن حنبل "4/ 163"، اللسان "6/ 232". 2 تاج العروس "8/ 338"، "حذم". 3 بلوغ الأرب "3/ 337". 4 الخزانة "2/ 232"، "بولاق". 5 ابن جلجل "ص54". 6 ابن جلجل "ص58"، زاد المعاد "3/ 84". 7 نهاية الأرب "18/ 7 وما بعدها"، "17/ 350".

وكان من أزد شنوءة. وكان رجلًا يتطبب ويرقي ويطلب العلم، ويداوي من الريح. وقد أسلم. وكان محترمًا مقدرًا. ذكر أن بعثًا بعثه رسول الله أو أبو بكر، مرّ ببلاد ضماد، فلما جاوزوا تلك الأرض. وقف أميرهم، فقال: أعزم على كل رجل أصاب شيئًا من أهل هذه الأرض إلا ردّه، لمكانة هذا الرجل ولشرفه ولصداقته للرسول1. "وروي أنه قدم مكة معتمرًا، فسمع كفار قريش يقولون: محمد مجنون، فقال: لو أتيت هذا الرجل فداويته. فجاءه فقال له: يا محمد إني أداوي من الريح، فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك، فتشهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وتكلم بكلمات فأعجب ذلك ضمادًا، فقال: أعدها علي، فأعادها عليه فقال: لم أسمع مثل هذا الكلام قط، لقد سمعت الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط"2. ولا يستبعد تعلم هؤلاء الأطباء في جنديسابور مركز الطب والعلوم في الامبراطورية الساسانية أو في أماكن من بلاد الشأم، فقد كان الطبيب الحاذق محتاجًا في هذا اليوم إلى تعلم هذا العلم في أماكن متعددة للاستفادة من تجارب الأطباء. وقد كان السفر متصلًا غير منقطع، فلا يستبعد قدوم الأطباء وطلاب الطب من جزيرة العرب إلى هذه الأماكن للتعلم فيها. واشتغلت النساء بالمعالجة والتطبيب أيضًا. فقد قامت "رفيدة" تداوي جرحى المسلمين يوم ذهابهم إلى "بني قريظة"3. وكانت امرأة تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. وكانت لها خيمة في المسجد، مسجد الرسول بيثرب تداوي بها الجرحى. ولما جرح "سعد بن معاذ" يوم الخندق، قال رسول الله: "اجعلوه في خيمة رفيدة التي في المسجد حتى أعوده من قريب"، وكان الرسول يزوره في خيمتها في الصباح وفي المساء4. واشتهرت "زينب"، وهي من "بني أود" بالطب. كانت تطبب وتعالج العين والجراح5.

_ 1 الإصابة "2/ 202"، "رقم 4177"، الاستيعاب "2/ 209"، حاشية على الإصابة. 2 ابن سعد، طبقات "4/ 241". 3 نهاية الأرب "17/ 191". 4 الإصابة "4/ 295"، "رقم 424". 5 زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية "1/ 40"، "1957م".

والوجع المرض المؤلم1، والعرب تسمي كل مرض وجعًا2، ويعبر عنه بالمقام كذلك3. وذكر أن "الوعك" الحمّى أو ألمها وأذاها ومغثها في البدن، وذكر أن الوعك لا يكون إلا من الحمى دون سائر الأمراض4. وقد عالج الأطباء الجروح بوضع الخرق بعضها فوق بعض على الجرح، أي: بتضميده بها، ويقال لذلك: "الغميل". وكانوا إذا أرادوا تعريق المريض، غملوه5، أي: غطوه بالثياب ليعرق، فيشفى من البرد والزكام. والضماد العصابة أوالخرقة تشد فوق الجرح أو الرأس. أو أي موضع من الجسم يشتكى من وجود ألم به، فكانوا يضمدون الرأس للصداع، كما كانوا يضمدون العين، بوضع الدواء في العين، أو على الخرقة ثم تضميد العين بها، ورد أن "طلحة" ضمد عينيه بالصبر، كذلك كانوا يضعون الأدهان على الضماد، لتضميد الجروح، أو الأورام أو موضع الألم6. ويذكر علماء اللغة أن "النطاسي"، العالم الشديد النظر في الأمور7، فهي بمعنى الحاذق. ويقال: طبيب نطيس ونطاسي، وورد: نطس الأطباء. وهي أكثر ما ترد مع الأطباء، للدلالة على الحذق والفهم في هذه الصناعة. وذكر علماء اللغة أن اللفظة من المعربات، عربت من أصل "نسطاس"، وهي من لغة الروم. والنُطس الأطباء الحذاق، والعالم بالطب بالرومية8. ولعدم وصول كتب أو صحف أو أحجار لها علاقة بالطب عند الجاهليين، اضطررنا إلى أخذ معارفنا في الطب من الموارد الإسلامية، مثل كتب التفسير والحديث والأدب، ففيها إشارات إلى بعض الأمراض، وفي بعضها إشارات إلى معالجة بعض منها. هذا، وتفيدنا الموارد الأعجمية في هذا الباب كثيرًا،

_ 1 تاج العروس "5/ 533"، "وجع". 2 إرشاد الساري "8/ 343". 3 تاج العروس "8/ 336"، "سقم". 4 إرشاد الساري "8/ 343"، تاج العروس "7/ 192"، "وعك". 5 تاج العروس "8/ 50"، "غمل". 6 تاج العروس "2/ 405 وما بعدها"، "ضمد". 7 بلوغ الأرب "3/ 338". 8 تاج العروس "4/ 258"، "نسطاس"، "نطس"، "6/ 310"

لورود أمراض فيها وطرق معالجة، كانت معروفة وشائعة في الشرق الأوسط قبل الإسلام. ونجد في المعجمات الخاصة بالعهدين القديم والجديد وفي تواريخ الطب القديم معلومات ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلينا، لأنها تعيننا على تكوين رأي في الطب عند الجاهليين. والمذكورون، هم أطباء نشأوا في المدن، وأقاموا في الحضر، وتعلموا من أطباء محترفين. أما الأعراب، فقد كان لهم أطباء، ولكن طبهم، هو طب العرف والعادة. طب موروث، يداوي بالوصفات التي داوى بها الآباء والأجداد، دون تغيير وتبديل وجدل ونقاش. ولهذا، فهو طب بدائي تقليدي موروث، يعتمد في مداواته على قدرة القبيلة، وعلى ما يجده الطبيب حوله من نبات وأعشاب وحيوان ونار فيداوي بها. وما زال الأعراب على طبهم هذا، يداوون به على نحو ما داوى أجدادهم وأجداد أجدادهم في الإسلام وقبل الإسلام. وليس لطب البادية اتصال بالطب الخارجي، إلا ما كان من طب القبائل القاطنة على مقربة من الحواضر، أو القبائل التي كان لها اتصال مباشر منتظم أو غير منتظم بالعالم الخارجي. فقد تسرب إلى علم "العوارف" فيها نفح من الطب الغريب، عالج به "عوارف" القبيلة، واستمروا على المعالجة به، حتى صار سنة لهم وطبًّا قبليًّا. ومن أهم صفات الطب القبلي، أنه طب لا يثق إلا بنفسه، ولا يرى الشفاء إلا من أطبائه وبأدويته المتعارفة عنده والمريض الأعرابي لا يعمل إلا بطب أصحاب الخبرة من الشيبة والعجائز الذين عرفوا بممارستهم معالجة المرضى وللسن عندهم قيمة في نجاح المعالجة والحصول على الشفاء، فالسن تجربة وعلم. ولذلك فللمسن المعالج الذي يرجع إليه عند الشكاية من الألم والمرض، تأثير كبير على المريض من الناحية النفسية، لاعتقاده بأن السنين تزيد في خبرة الإنسان وتضيف إلى علمه القديم علمًا جديدًا. لذلك يثق المرضى به، مع أن طب الأعراب، لا يعرف البحث والمطالعة لزيادة العلم، ولا يركن إلى التجديد بالحصول على معارف طبية جديدة، بدراسة أثر أعشاب البادية بصورة مستمرة في شفاء المرضى واستخلاف النتائج من مراقبة تأثير الدواء على حالة المريض. وقد عرف طب البادية بـ"طب الأعراب" وبطب البادية، وعرف دواء الأعراب بدواء أهل البادية. وهو دواء نابت من محيطهم يستند على المعالجة بالأعشاب وبالرماد وبالألبان وبأبوال الإبل وبالخرز. ومن أدويتهم "النهاء" دواء

يكون بالبادية يتعالجون به ويشربونه. ويظهر أنه من حجر يقول له "النهاء"، وهو حجر أبيض أرخى من الرخام، يكون بالبادية، ويجاء به من البحر. وضرب من الخرز1. و"العقار" و"العقاقير" الأدوية. وقيل: ما يتداوى به من النبات أو أصولها والشجر2. و"العُقار" في الآرامية ما يتداوى به من النبات، أي: دواء3. وطب مثل هذا، لا يمكن أن يأتي بنتائج إيجابية في معالجة الأمراض الصعبة العسيرة، وفي حالات مرضية مهمة جدًّا في نظر بعض الناس، ولا سيما مشايخ القبائل، كالعقم وتقوية الشهوة الجنسية، ولهذا كانوا يلجأون إلى أطباء الحضر. وقد أدرك الرهبان والمبشرون أثر هذه الحالات المرضية، ولا سيما الأمراض النفسية منها في نفوس أولئك الرؤساء، وجلهم ممن درس الطب وقرأ الكتب المؤلفة فيه ومارسه عمليًّا، فذهبوا بأنفسهم إلى القبائل للتبشير، وعالجوا الرؤساء معالجة نفسانية في الغالب، وأثروا فيهم، ونجحوا في مثل هذه الحالات في كسب عطفهم عليهم وتأييدهم لهم، وفي الدخول في جوارهم، للقيام بالتبشير. ونجد في النتف الباقية عن حياة المبشرين الذين بشروا بين العرب قصصًا من هذا النوع روي في معالجة بعض الرؤساء، يذكر أنهم نجحوا في معالجتهم وأن نجاحهم هذا هو كرامة ومعاجز قد تمت بفضل الله ومنّة المسيح. ويكون الشفاء عند العرب في ثلاثة: شربة عسل وشرطة محجم وكية نار. وإذا عجز الطبيب من إشفاء مريضه بما عنده من وسائل لجأ إلى "الكي"، ولذلك جاء: "آخر الدواء الكي". وكان أهل الجاهلية يرون أنه يحسم الداء بطبعه فيبادرون إليه قبل حصول الاضطرار إليه ويعالجون به أكثر الأمراض. وروي في الحديث قوله: "الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي ثمن الكيّ" 4. والعسل من الأدوية والصفات التي أمر بها الأطباء في معالجة بعض الأمراض، ولا سيما أمراض المعدة، عولج به وحده، وعولج به ممزوجًا بمواد أخرى،

_ 1 تاج العروس "10/ 382"، "نهى". 2 تاج العروس "3/ 417"، "عقر". 3 غرائب اللغة "196". 4 إرشاد الساري "8/ 361" "كتاب الطب".

لتكوين عجائن ولصقات منه1. واستعملت العجائن المكونة من الدقيق والتمر والسمن في معالجة أمراض الجلد وآلام المفاصل، والنزلات. كذلك استعملت لصقات كونت من مواد أخرى في معالجة مثل هذه الأمراض. والمناقيع هي من طرق المعالجة أيضًا، ومنها مناقيع الخل والزيوت. وقد ورد في رواية: أن الرسول أرسل عكّة عسل إلى لبيد الشاعر الشهير حين علم بمرضه، فشرب منها، وبرئ2، وفي هذا الخبر دلالة على تداويهم بالعسل. وقد أقام أهل مكة والحجاز وزنًا كبيرًا للمداواة بالعسل. ونجد في كتب الحديث وفي كتب الأدب والأخبار إشارات إلى هذه المداواة. وقد استعملوا العسل في مداواة "المبطون" الذي يشتكي بطنه من الإسهال المفرط، ومن سوء الهضم، لإخراج الفضول المجتمعة في المعدة وفي الأمعاء3. وفي جملة معالجات الأطباء ووصفاتهم للمرضى، استعمال الحجامة، أي: استخراج مقدار من الدم بكأس يسحب هواؤها بالمص، فيخرج الدم من الشروط التي عملت في ظهر الرقبة. وقد استخدموها في معالجة الرأس والشقيقة والصداع4 والفصد، واستعمال ديدان خاصة لامتصاص الدم5. والشقيقة: صداع يصيب شقي الرأس، وإن أصاب الصداع قنة الرأس أحدث داء البيضة. وأما الصداع فهو عام6. والفصد: هو شق العرق لإخراج مقدار من الدم للمعالجة من بعض الأمراض.

_ 1 عمدة القاري "21/ 232"، "عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل" العقد الفريد "6/ 273". 2 شرح ديوان لبيد "ص25 مقدمة". 3 إرشاد الساري "8/ 378، 363". 4 عمدة القاري "21/ 242 وما بعدها"، "أن عيينة بن حصن دخل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يحجم في فأس رأسه فقال: ما هذا؟ قال: هذا خير ما تداويتم به الحجامة والكي"، العقد الفريد "6/ 275 وما بعدها"، إرشاد الساري "8/ 370". 5 عمدة القاري "21/ 230 وما بعدها". 6 إرشاد الساري "8/ 370".

وقد عرف عند العرب كما عرف عند غيرهم1. وقد داووا الصبيان بـ"الفصيدة". تمر يعجن ويُشاب، أي: يخلط بدم2. والظاهر أن هذا الدم، هو من دم الفصد. وقد كان الجاهليون يأكلون دم الحيوان، يجففونه بعد خلطه مع مادة أخرى، أو وضعه في أمعاء ليجف فيؤكل، أو مع الشعر ثم يأكلونه، ومنهم من كان يشرب الدم، للقوة. و"وفي حديث عكرمة: كان طعام أهل الجاهلية العلهز. قال ابن الأثير: هو طعام من الدم والوبر". وذلك أن يخلط الدم بالوبر، أو الصوف ينفش ويشرب بالدماء ويشوى ويؤكل. وقد نسب أكله إلى الفقراء وإلى أيام المجاعة، وزعم أنهم كانوا يخلطون فيه القردان، أو دم الحلم. ونسب أكله إلى القحطانيين، وذلك في شعر هجاء، هو: وإن قرى قحطان قرف وعلهز ... فأقبح بهذا ويح نفسك من فعل3 وهو من الشعر المنبعث عن عاطفة العصبية ولا شك. وكان الفصد عند العرب من جملة وسائل القتل التي تستعمل في قتل الملوك والأشراف. تمييزًا لهم عن السوقة وسواد الناس الذين يقتلون بحد السيف. فقد كان الشريف إذا سقط في أيدي عدوه ووجد نفسه أنه مقتول لا محالة، أوصى بإسقائه الخمر، حتى يسكر، فيخف بذلك ألمه ثم يفصد عرق اليد فيخرج منه الدم حتى يموت ميتة الأشراف. واستعمل الكي في معالجة أمراض المفاصل، مثل الرَثْيَة "الروماتزم"، وقد برع في ذلك الأعراب بصورة خاصة وهو معالجة أخذ بها أطباء أهل الوبر أيضًا، وطريقتهم هي كي الجزء المريض بحديدة محماة، أو بحجر محمى. وقد استعمل الكي أيضًا في معالجة الجروح والقروح ووجع الرأس. وفي العربية مثل قديم، له علاقة به، هو: آخر الدواء الكي. فالكي إذن معالجة يلجأ إليها حينما يعيا الدواء عن الشفاء. واستعمل في معالجة الاستسقاء، بالكي على البطن4. وينسب أهل الأخبار المثل المذكور إلى "لقمان بن عاد"5، وفي نسبتهم هذه المعالجة إليه

_ 1 اللسان "3/ 336"، "فصد". 2 اللسان "2/ 336"، "فصد"، تاج العروس "2/ 453"، "فصد". 3 تاج العروس "4/ 61"، "العلهز". 4 الفاخر "ص58، 126". 5 الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب "1/ 3"، "حيدر آباد الدكن 1962م".

دلالة على قدمها عند العرب. وهي معالجة لا زال الأعراب يستعملونها في مداواة أمراض عديدة عندهم، لا سيما في معالجة أمراض الروماتزم. وقد ورد أن "خباب بن الأرت" اكتوى في بطنه سبع كيات1. و"الرِثية" وجع المفاصل واليدين والرجلين، وقيل: وجع الركبتين والمفاصل، أو ورم وظلاع في القوائم، أو هو كل ما منعك من الالتفات أو الانبعاث من كبر أو وجع2. وقد استعملوا "الكي" للشوكة. والشوكة حمرة تظهر في الوجه وغيره من الجسد. وقد كوي "أسعد بن زرارة" من الشوكة3. وقيل: الشوكة داء كالطاعون، وكانوا يسكنون الشوكة بالرقى كذلك4. والبصل والثوم والكمون والكرفس والخردل هي من النباتات التي عولج بها، فاستعمل البصل لمعالجة النزلات الصدرية وبعض أنواع الحميات وللقضاء على الديدان في داخل الجسم. واستعمل الثوم لمعالجة أمراض المعدة والديدان أيضًا، وفي معالجة أمراض القلب5. واستعمل الكمون في معالجة النزلات الصدرية كذلك. وهو من الأدوية المعروفة عند غير العرب أيضًا، فقد كان العبرانيون يستطبون به6، وكانوا يحصلون عليه بواسطة الفينيقيين والعرب. وأحسنه هو الكمون المستورد من "سيلان"7. وعالجوا به في الأدرار، وفي مطاردة الريح في المعدة وللهضم8. وعولج بالسنا بالشبرم وبالزبيب، ويرون أن الزبيب يُذهب النّصب، ويشد العصب، ويطفئ العصب، ويصفي اللون، وبالسفرجل ويرون أنه يشد القلب، ويطيب النفس ويذهب بطخاء الصدر9. وعالجوا بالتين، استعملوه لمعالجة الإمساك والكبد والطحال10، وعالجوا بالرمان11.

_ 1 إرشاد الساري "8/ 356". 2 تاج العروس "10/ 144"، "رثى". 3 الطبري "2/ 398"، النهاية لابن الأثير "4/ 240 وما بعدها". 4 تاج العروس "7/ 152"، "شوك"، اللسان "10/ 455"، "شوك". 5 "الثوم: ويسمى ترياق البدو"، شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول "ص270". 6 The Bible Dictinary, I, P. 257 7 تاج العروس "9/ 322"، "كمن". W. Smith, A Dictionary of the Bible, I, P. 330 8 تاج العروس "9/ 322"، "كمن". 9 العقد الفريد "6/ 271 وما بعدها". 10 تاج العروس "9/ 154"، "التين". 11 تاج العروس "9/ 219"، "رمان".

و "الحُلْبَة" من النبات الذي عولج به في أمراض كثيرة، فعولج به أمراض الصدر مثل الربو والسعال والبلغم، وعولج به الكبد والمثانة والبواسير وآلام الظهر. وذكر أن "الحلبة" طعام أهل اليمن عامة، وبالغوا في فوائدها حتى رووا أن حديثًا ورد فيها: "لو يعلم الناس ما في الحلبة لاشتروها ولو بوزنها ذهبا"1. وتطيب بالسعوط والنشوق. وقد استعملوا لذلك جملة مواد، منها: دهن الخردل، ودهن البان، والقسط الهندي والبحري، وبالعود الهندي والكافور. وقد استخدم العود الهندي في معالجة ذات الجنب2. ويرى بعض الباحثين أن النشوق من أصل آرامي هو "نسكو Nosko" من Nsk بمعنى أسال في شيء، أي: دواء يسكب في الأنف3. واستخدم "السُنبل"، وهو نبات طيب الرائحة في التداوي كذلك، ويعرف بـ"سنبل" في السريانية أيضًا4. وذكر أن "السعوط" اسم الدواء يصب في الأنف. وذلك بأن يوضع الدواء في إناء يجعل فيه السعوط ويصب منه في الأنف، ويقال للإناء: المسعط والسعيط والمُسعط5. ويستعمل السعوط من مختلف الدهون. وقد استعمل في مداواة "العذرة"، وهو وجع يأخذ الطفل في حلقه، يهيج من الدم أو في "الخرم" الذي هو بين الأنف والحلق، وهو سقوط اللهاة. وقيل: قرحة تخرج بين الأنف والحلق تعرض للصبيان غالبًا عند طلوع العذرة. وهي خمس كواكب تحت الشعرى. أي العبور وتطلع وسط الحر6. و"القسط" عود يجاء به من الهند، فعرف لذلك بالقسط الهندي، وعود يؤتى به من اليمن، ويعرف بالقسط البحري. وعود عرف بـ"قسط أظفار" وقسط عرف بـ"القسط المر" وهو كثير ببلاد الشأم. ويقال للقسط: "الكست" و"كشط". وذكر أن الرسول أشار إلى "القسط" فقال: "عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية: يستعط به من العذرة ويلد به من ذات

_ 1 تاج العروس "2/ 312"، "طبعة الكويت"، "1/ 222"، "حلب". 2 عمدة القاري "21/ 238 وما بعدها"، العقد الفريد "6/ 275". 3 غرائب اللغة "ص207". 4 غرائب اللغة "ص189". 5 اللسان "7/ 314 وما بعدها"، "سعط". 6 إرشاد الساري "8/ 367".

الجنب1. وقد استعمل القسط بخورًا ودواء. وهو من نبات أصله من الهند، يقال له: "قسطس"، وهو معروف عند غير العرب أيضًا ويداوى به2. وعالجوا بـ"العيد"، شجر جبلي ضمدوا بلحائه الجرح الطري فيلتئم3. وبـ"السنى"، نبت يتداوى به. وقد جاء ذكره في الحديث. وقد خلطوه بالحناء لتقوية اللون وتسويده4. وداووا بـ"السعتر" "الصعتر"5، وبالقرطم، في معالجة أمراض عديدة6. وقد كانت النساء تعالج الصبيان من العذرة بالغمز، وذلك أن المرأة كانت تأخذ خرقة فتفتلها فتلًا شديدًا وتدخلها في حلق الصبي وتعصر عليه، فينفجر منه دم أسود وربما أقرحته7. وعرف "الدرياق" "الترياق" في التطبيب به. استعمل لدفع السم من الأدوية والمعاجين، والعرب تسمي الخمر "ترياقًا" و"درياقًا" لأنها تذهب بالهم. و"الترياق"، فارسي معرب ويقال: درياق. بالدال أيضًا وفي الحديث: "إن في عجوة العالية ترياقًا". الترياق ما يستعمل لدفع السُمّ من الأدوية والمعاجين"8. والبلسم، من المواد المهمة في المعالجات الطبية، وقد اشتهر كثيًرا في الطب القديم، ليس عند العرب فقط، ولكن عند أكثر الأمم الأخرى. اشتهر في معالجة الجروح خاصة، إذ هو مادة صمغية تضمد بها الجراحات. ووطنه بلاد الحبشة، واشتهر من أنواعه الجيدة "بلسم جلعاد" عند العبرانيين، وهو ذو رائحة عطرة. وقد مدحه الأطباء وأثنوا عليه في معالجة الأمراض والجروح9. وذكر علماء اللغة أن "البلسم"، هو "البلسام" وهو البرسام، والموم.

_ 1 إرشاد الساري "8/ 367"، اللسان "7/ 379". 2 غرائب اللغة "265". 3 تاج العروس "2/ 438"، "عود". 4 تاج العروس "10/ 185"، "سنى". 5 تاج العروس "3/ 269"، "السعتر". 6 تاج العروس "9/ 24"، "قرطم". 7 إرشاد الساري "8/ 369". 8 اللسان "10/ 32"، "ترق". 9 قاموس الكتاب المقدس "1/ 245". Hastings, P. 872, f

والبلنسم: القطران1. و"البلسم" هو "بلسمون"، و"بلسان" Valsamor2. وقد استعمل لحاء "العقد" لتضميد الجرح الطري، فيلتحم لخاصية فيه3. وعالجوا بـ"البان"، وهو شجر معروف، ذكر في شعر "امرئ القيس"، ولحب ثمره دهن، وحبه نافع للبرش، والنمش، والكلف، والحصف، والبهق، والسفعة، والجرب، وتقشر الجلد، واستعمل في الإسلام لمداواة أمراض عديدة4. و"السفوف" كل دواء يؤخذ غير معجون، مثل سفوف حب الرمان وغيره5. وترد اللفظة في الآرامية بالمعنى نفسه، وهي من المعربات عنها6. واستعملت الزيوت في معالجة عدد من الأمراض والجروح، فاستعملت في معالجة البطنة مثلًا. وقد تخلط بغيرها، كالخمر أو الخل أو الملح، وقد تغلى ثم توضع على الجرح لقطع النزيف منه ولتعقيمه. والمعالجة بالزيوت، قديمة معروفة عند المصريين والعبرانيين واليونان وغيرهم، أشير إليها في كثير من الموارد القديمة7 وعولج "الباسور" بدهنه بزيت الزيتون8. وعالجوا باستعمال "الحبّة السوداء". استعملوها قليلًا، وأكلًا ولطوخًا، كما سحقوها وخلطوها بالزيت لاستعمالها قطرات في معالجة أمراض الأنف. وقد كانوا يبالغون في منافعها، فاستعملوها في معالجة أمراض كثير باطنية وخارجية9 وذكرو أن الرسول قال: "إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السام"، والسام: الموت10. وعولج بالألبان، ولا سيما ألبان الإبل. وهم يفضلون لبن الإبل على سائر

_ 1 تاج العروس "8/ 206"، "بلسم". 2 غرائب اللغة "255". 3 تاج العروس "2/ 427"، "عقد"، "2/ 438"، "عود". 4 تاج العروس "8/ 147"، "بون". 5 تاج العروس "6/ 139"، "سف". 6 غرائب اللغة "187". 7 The Bible dicti., Vol., II, P. 154 8 العقد الفريد "6/ 274". 9 عمدة القاري "21/ 235 وما بعدها". 10 إرشاد الساري "8/ 365 وما بعدها".

الألبان1. وقد عولج به مختلف الأمراض، ومن ذلك "السقم"2. وعالجوا بأبوال الإبل أيضًا. وورد في شعر "لبيد بن ربيعة العامري" أنهم عالجوا ببول الإبل وكانوا يغلونها أحيانًا ليشربها المريض3. وعولج بـ"التلبينة"، حساء من نخالة ولبن وعسل، وقيل: حساء يتخذ من ماء النخالة فيه لبن. وذكر أنها تُجم فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن وتنظف المعدة4. وعالجوا بالحساء لغسل البطن وتنظيفها من سوء الهضم5. وعولج بإهراق الماء على المريض، وذلك في أمراض الحمى، وفي الأمراض التي يشعر المريض بأن في جمسه حرارة والتهابًا، فيجلس على كرسي ويصب الماء عليه، حتى يخفف من شدة حرارة المريض6. كما عولجت الحمى بنصح المريض بالإكثار من شرب الماء البارد وغسل الأطراف7. وللمحافظة على الأسنان ولظهورها بيضاء نظيفة، استعملوا السواك وبعض الأعواد لاستخراج الفضلات التي تتخلل الأسنان، وما زال الحجاج يستوردون المساويك من مكة. وقد اشتهرت مكة منذ الجاهلية بالسواك، يستخرج من أغصان أشجار تنبت هناك، لأغصانها رائحة طيبة، وتساعد على تبييض الأسنان. ومن المواد التي عملت منها المساويك: البشام، والضرو، والعثم، والأراك، والعُرجون، والجريد، والإسحل8. وقد حث الإسلام على تنظيف الأسنان بالمسواك. ورد في الحديث: "السواك مطهرة للفم" أي: يطهر الفم. وأشير إلى المسواك في الشعر، إذ ورد: وكأن طعم الزنجبيل ولذة ... صهباء ساك بها المسحر فاها

_ 1 عمدة القاري "21/ 234 وما بعدها". 2 إرشاد الساري "8/ 364". 3 شرح ديوان لبيد "ص116"، عمدة القاري "21/ 234 وما بعدها"، إرشاد الساري "8/ 364 وما بعدها". 4 إرشاد الساري "8/ 366 وما بعدها"، اللسان "13/ 376"، "لبن". 5 إرشاد الساري "8/ 366 وما بعدها". 6 إرشاد الساري "8/ 377". 7 إرشاد الساري "8/ 381". 8 البيان "3/ 114".

وهو للشاعر "عدي بن الرقاع"، وورد في شعر آخر: إذا أخذت مسواكها ميحت به ... رضابًا كطعم الزنجبيل المعسل1 واستعمل الإثمد والكحل في معالجة الرمد2، كما استعملوا قطرات من أدوية استحضروها مثل ماء الكمأة في معالجة أمراض العين3. وذكر أن الإثمد يحدّ البصر، ويقوي النظر4. والكحل، من جملة مواد تطبيب العيون، ومن جملة وسائل الزينة كذلك. يستعمله الرجال والنساء. وقد كان معروفًا عند الشعوب الأخرى، يصنع من حرق اللبان أو قشور اللوز، ومن السخام المتبقي من حرق بعض الدهون والزيوت5. وقد عرفت مكة بصنع الكحل قبل الإسلام، ولا تزال مشهورة به. وقد كان الناس يحملون المكاحل في جيوبهم ويحتفظون بها في بيوتهم، يعملونها من القرون أو المعادن، ويبالغ الأغنياء منهم في زخرفتها وفي تزيينها للتبجح بها عند إخراجها أمام الناس6. ونصحوا بتنقيط نقط من ماء بارد في العين عند النهوض من النوم، لجلائها وإزالة الغشاوة عنها، كما نصحوا بوضع القدمين واليدين في ماء بارد أو حار، وذلك لمعالجة العين، ولمعالجة القدمين واليدين أيضًا. وقد عرف العبرانيون هذه المعالجة كذلك7. وكانوا يعالجون الماء الأسود الذي يحدث في العين بالنقب، أي: القدح. وقد ورد في حديث "أبي بكر" أنه اشتكى عينه فكره أن ينقبها8. و"الناقب".

_ 1 تاج العروس "7/ 146"، "سوك". 2 عمدة القاري "21/ 245"، إرشاد الساري "8/ 373". 3 عمدة القاري "21/ 248"، "أن الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين، وهي شفاء من السم"، العقد الفريد "6/ 272". 4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الأول، "ص261"، "عليكم بالإثمد عند النوم، فإنه يحد البصر، وينبت الشعر، العقد الفريد "6/ 273". 5 The Bible diction, vol, II, p. 234. 6 Hastigns, Dict, vol, I, p. 814. 7 Ency. Of Relig. Konwledge, vol, III, p. 1456. 8 تاج العروس "1/ 493" "نقب".

و"الناقبة" داء يعرض للإنسان من طول الضجعة، وقيل: هي القرحة التي تخرج بالجنب1. وعالجوا الماء الأبيض باستعمال الأشياء الرفيعة الحادة مثل السكين أو العاقول، لرفع الغشاء الرقيق وسحبه عن العين، بعد اكتمال نزول الماء بها. ولقطع نزيف الدم المنبعث من الجروح، استعملوا الرماد2، والزيوت المغلية تسكب على الجرح، لقطع نزيف الدم. أما النزيف النازل من الأنف، وهو الرعاف، فقد استخدموا الماء البارد لقطعه. وقد عرفوا كذلك ربط الجروح بشدة حتى يقف الدم فينقطع، واستعملوا الضماد والمناديل لمنع الدم من الخروج، ومن ذلك قولهم: ضمد الجرح، أي: شده3. واستعملوا حرق الحصير والمواد القابلة للاشتعال لاستعمال رمادها لقطع النزيف4، أو وضع الملح على الجرح لإيقاف نزيف الدم منه. ولمعرفة عمق الجروح ومقدار غورها، استعملوا آلة يسمونها المسبار5. والسِّبار6، فتيل يجعل في الجرح7. ويعبرون عن مداواة الجرح بقولهم: أسَا الجُرحَ، أي: داواه وشفاه8. وقد عولج الإمساك بالحقن، أي: حقن المريض، وباستعمال المسهلات لتليين المعدة9. والباسور من الأمراض المعروفة عند الجاهليين، وقد أشير إليه في كتب الحديث10. "وفي حديث عمران بن حصين، وكان مبسورًا، أي: به بواسير". واللفظة معربة. والبواسير جمع "باسور"11. والناسور علة تحدث في حوالي المقعدة، وعلة تحدث في المآفي، وفي اللثة12.

_ 1 تاج العروس "1/ 493"، "نقب". 2 عمدة القاري "21/ 253"، صحيح مسلم "5/ 178". 3 غرائب اللغة "ص193". 4 إرشاد الساري "8/ 380". 5 المغرب "240". 6 ككتاب، المعاني الكبير "2/ 983". 7 شرح القاموس "3/ 253". 8 غرائب اللغة "ص172". 9 المغرب "133"، تاج العروس "9/ 182"، "حقن". 10 صحيح البخاري "2/ 481"، الجمهرة "1/ 255"، المعرب للجواليقي "58". 11 تاج العروس "3/ 42"، "بسر". 12 تاج العروس "3/ 564"، "نسر".

وعولجت الأورام التي تصيب الجلد بالمناقيع واللصقات، ولا سيما اللصقات الحارة، كي تعجل في إخراج الصديد من العضو المتورم. واستعملت هذه اللصقات من سحق بعض الحبوب ذات المادة الدهنية، مثل حب الكتان أو حب البخور، وبعد سحقها توضع على النار ثم تفرغ في قماش لتوضع فوق الورم لإزالته، وتحويله إلى صديد. واستعملت من مواد أخرى مثل التمر مع الزبد وأمثالها، وكلها على أساس أن الدفء الذي يكون فيها يسبب زوال الورم وتحوُّل الدم الفاسد إلى صديد يخرج أو يجف. واستعمل "الزقوم" في معالجة الجروح. وهو مرّ شديد المرارة، وأشير إلى "شجرة الزقوم" و"شجر من زقوم" في القرآن الكريم1، ولما نزلت الآية لم تعرف قريش معنى الكلمة، "فقال أبو جهل: إن هذا الشجر ما ينبت في بلادنا، فمن منكم يعرف الزقوم؟ فقال رجل قدم علهم من أفريقية: الزقوم بلغة أفريقية: الزبد بالتمر. فقال أبو جهل: يا جارية، هاتي لنا زبدًا وتمرًا نزدقمه، فجعلوا يأكلون منه ويقولون: أفبهذا يخوفنا محمد في الآخرة! "2. والزقوم نبات بالبادية له زهر ياسميني الشكل. وقيل: شجرة غبراء صغيرة الورق مدورتها لا شوك لها ذفرة مرة لها كعابر في سوقها كثيرة ولها وريد ضعيف جدًّا يجرسه النحل ونورتها بيضاء ورأس ورقها قبيح جدًّا. وفي أريحا شجرة يقال لها: الزقوم لها ثمر كالتمر حلو عفص، ولنواه دهن عظيم المنافع في تحليل الرياح الباردة وأمراض البلغم وأوجاع المفاصل والنقس وعرق النسا، وذكر أن أصلها من الهند، جاءت به بنو أمية من أرض الهند وزرعته بأريحا3. وعولجت كسور العظام بالجبائر، وبالدلك، ووضع المناقيع فوق العضو المصاب عظمه بالكسر، والجبيرة: العيدان التي تجبر بها العظام، وذلك بعد جبر المجبر لها4. ومن المصطلحات الطبية المتعارفة عند الجاهليين: "البطنة"، وهي التخمة.

_ 1 الصافات، الآية62، الدخان، الآية43، الواقعة، الآية52. 2 تاج العروس "8/ 326"، "زقم". 3 تاج العروس "8/ 326"، "زقم". 4 شمس العلوم، الجزء الأول، القسم الثاني "ص297".

وتعالج بالحمية وبالمنتقعات والحقن. وقد عرف الجاهليون أثر المعدة في الصحة العامة، فعدت بيت الداء، والحمية رأس كل دواء. والأمراض التي تعرض لها الجاهليون عديدة، منها: العمى، والعَوَر، والتهاب العيون، والرمد، ومنها: ما يصيب الجلد، مثل البرص والوضح، والبهق، والحكة، والدمامل، والبثور، والجرب، والقرح، ومنها أمراض داخلية، مثل أوجاع المعدة والكبد واليَرَقان والصداع والشقيقة، وذات الجنب وأوجاع المفاصل والعظام، والفالج، والسل، والحمى، وأمراض أجهزة البول والحمى والبُرَداء. وأمراض القلب والرعشة والجنون والأمراض العصبية الأخرى وغير ذلك من أمراض لا تزال معروفة. ومن الأمراض المعروفة عند الجاهليين البرص، وهو مرض يصيب الجلد، وهو غير الجذام ويطلقون عليه "الوضح" كذلك، لبياض يظهر في ظاهر البدن1 ومنه قيل لجذيمة الأبرش: جذيمة الوضاح2. وقد كان معروفًا في الشرق الأدنى، وأشير إليه في التوراة، وهو نوع من "البسورياس" Psoriasis أو "اللبرا"3 Lepra, Leprosy. ويظهر أنه كان كثير الانتشار، ومن أصيب به "الحرث ابن حلزة اليشكري"4، وجماعة آخرون من الأشراف والمعروفين ذكرهم أهل الأخبار5. وقد نعت البرص ببعض النعوت، فقيل لمن به برص: "المحجل"6، و"الوضاح"، و"الوضح" البرص. وقد كان الناس يكرهون مجالسة البُرْص خشية العدوى، فكان الملك "عمرو بن هند" يتجنب مؤاكلة البُرص، ويأمر بنضح الأمكنة التي يجلسون عليها حذر العدوى7. وكانت قريش قد أخرجت "أبا عزة، عمرو

_ 1 تاج العروس "4/ 373". 2 "ويكنى به عن البرص، ومنه قيل لجذيمة الأبرش: الوضاح. وسيأتي الكلام عليه وفي الحديث: "رجل بكفه وضح"، أي: برص" تاج العروس "2/ 247". 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 220 وما بعدها". The Univer. Jewish Ency., 7, P. 434 4 شرح المعلقات السبع، للزوزني "دار صادر" "ص154". 5 المحبر "ص299 وما بعدها". 6 المحبر "ص301". 7 شرح المعلقات السبع، للزوزني "ص154".

ابن عبد الله بن عمير بن وهيب بن حذافة"، وهو من البُرص، من مكة مخافة العدوى، فكان يكون بالليل في شُعَف الجبال، وبالنهار يستظل بالشجر1. وأما الجذام، فإنه من الأمراض المعدية، وقد كان معروفًا بين الجاهليين، وقد ورد النهي عن الاختلاط بالمجذومين في حديث: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" مما يدل على شدة عدواه واختلاط المجذومين بين الناس في ذلك العهد. وذك علماء اللغة أن الجذام علة تحدث من انتشار السوداء في البدن كله، فيفسد مزاج الأعضاء وهيأتها، وربما انتهى إلى تقطع الأعضاء وسقوطها عن تقرح2. و"البهق"، هو مرض جلدي أيضًا، يترك بياضًا في الموضع المصاب من الجسد، وهو "زرعة" في العبرانية. ويدعى3 Laprosy. وقد كانت أمراض الجلد من الأمراض المتفشية بالنسبة إلى تلك الأزمنة، لقلة العناية الطبية وللفقر وعدم توفر وسائل النظافة والتظيف بين معظم الناس. ولسوء تغذيتهم بسبب فقرهم العام. و"السفعة" من أمراض الجلد، وهي سواد أو حمرة يعلوها سواد أو صفرة، تظهر في الوجه. وقد علل حدوثها بإصابة العين4. والثؤلول، بثر صغير صلب على صور شتى تصيب الجسد5. وقد مات "أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب" من ثؤلول كان برأسه، حلقه حلاق فقطعه فمات منه6. ومن الأمراض الخطيرة التي أشير إليها في كتب الحديث والأخبار: الحمى، وقد كانت شديدة الانتشار في المدينة7، حتى أضعفت أجسام معظم أهل المدينة والمهاجرين. وهي علة يستحر بها الجسم وقد أهلكت كثيرًا من الناس، ولذلك

_ 1 المحبر "ص300 وما بعدها". 2 تاج العروس "8/ 223"، تفسير الطبري "30/ 200". 3 Hastings, A Dictinary of Chirst and The Gospels, II, p. 24. 4 إرشاد الساري "8/ 390". 5 تاج العروس "7/ 243"، "تثألل". 6 الإصابة "4/ 90"، "رقم 538". 7 "والحمى والحمة: علة يستحر بها الجسم من الحمم، قيل: سميت لما فيها من الحرارة المفرطة، ومنه الحديث: الحمى من فيح جهنم"، تاج العروس "8/ 261" "حمم".

قيل: الحُمى رائد الموت، أو بريد الموت، وقيل: باب الموت1. وقد اشتهرت خيبر بنوع خاص من الحمى عرف باسمها، فقيل: حمى خيبرية وحمى خيبر وحمى خيبري2. وذكر علماء اللغة أسماء للحمى تحكي صفاتها وكيفية ظهورها وتحكمها في البدن، فقالوا: حمى الغب، وذلك إذا أخذت المريض يومًا وتركته يومًا3، وحمى الربع، وحمى الصالب، وهي الحمى التي يكون معها صداع، والنافض، والراجف التي تكون معها رعدة ونفضة، وحمى مغبطة ومردمة، أي: دائمة عليه لا تقلع، وتسمى الحمى المطبقة أيضًا، والوعك الحمى، وحمى الروح، وحمى الدِقّ أن يغمى عليه في الحمى، والورد هو يوم الحمى. ويقال للعرق الذي يتصبب من الحمى: الرُحَضاء، ولأول ما يحس بالحمى: المسّى4. ويقال في السريانية للحمى: "حمتو" Hemto بمعنى حرارة5. وذكر أن "حمى صالب"، أو "الصالب" حمى معها حرّ شديد وليس معها برد. وقال بعض علماء اللغة: الصالب من الحمى الحارة خلاف النافض. وقيل: هي التي فيها رعدة وقشعريرة6. و"الحمة" في تعريف العلماء علة يستحر بها الجسم، سميت لما فيها من الحرارة المفرطة، وإما لما يعرض فيها من الحميم، وهو العرق. ورد في الحديث: الحمى من فيح جهنم7. وقد لاقى الرسول8 والصحابة شدة من "حمى" المدينة وقد ذكر أن "أبا بكر" كان إذا أصابته الحمى –وكانت تزوره مناوبة- قال: كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله

_ 1 تاج العروس "8/ 261"، "حمم". 2 "قال الشاعر الأخنس بن شهاب: كما اعتاد محمومًا بخيبر صالب" تاج العروس "3/169". 3 تاج العروس "1/ 403"، "غب". 4 بلوغ الأرب "3/ 339 وما بعدها". 5 غرائب اللغة "ص179". 6 تاج العروس "1/ 338"، "صلب". 7 تاج العروس "8/ 261"، "حمم". 8 إرشاد الساري "8/ 349 وما بعدها".

وكان بلال، أقلعت عنه الحمى، يقول: ألا ليتَ شعري هل أبيتن ليلة ... بوادٍ وحولي اذخر وجليل وهل أردن يومًا مياه مجنة ... وهل تبدون لي شامة وطفيل وكان عامر بن فهيرة، يقول: قد وجدت الموت قبل ذوقه ... كل امرئ مجاهد بطوقه كالثور يحمي جسمه بروقه1 إلى غير ذلك مما يخبر عن شدة وقع تلك الحمى في أجساد المهاجرين، ولما رأى الرسول ما حل بصحابته من هذه الحمى ومن ضجرهم من الإقامة بيثرب بسببها توسل إلى الله أن يخفف عنهم أذاها وأن يزيل عنها هذا المرض وأن يبرأها منه2. ويقسم العرب الحمى إلى نوعين: حمى يشعر الإنسان فيها بحرارة شديدة تصيب الجسم، قد تجعله يتصبب عرقًا من شدة وقع الحمى على الجسم، ولا يكون معها برد، وقد يصاب المريض بها بصداع ووجع شديد في الرأس، وحمى يشعر الإنسان فيها بنفضة ورعدة وقشعريرة، يقال لها: "نافض" و"النافض"، و"حمى نافض"3، وهي: حمى الرعدة، لوجود رعدة وقشعريرة بها تصيب الجسم4. ويقول العرب لقرة الحمى ومسها في أول، عدتها: "العرواء"، وقيل: أول ما تأخذ من الرعدة5. ويقال لهذه الحمى: "الراجف"؛ لأنها ذات رعدة ترجف مفاصل من هي به6. و"القعقاع"، وهي حمى نافض تقعقع الأضراس7. و"القفة"8.

_ 1 إرشاد الساري "8/ 347". 2 "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم وصححها وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل حماها فاجعلها بالجحفة" إرشاد الساري "8/ 347". 3 تاج العروس "5/ 92"، "نفض". 4 تاج العروس "2/ 354"، "رعد". 5 تاج العروس "10/ 239"، "عرى". 6 تاج العروس "6/ 113"، "رجف". 7 تاج العروس "5/ 477"، "قع". 8 تاج العروس "6/ 225"، "قف".

وقد كانت الحمى منتشرة في المواضع التي تكون فيها الينابيع والمستنقعات والمياه الآسنة الواقفة وما شاكل ذلك من أمكنة، ولما كان العرب في حاجة شديدة إلى الماء، كانوا يشربون منها اضطرارًا، فأصيبوا بسبب ذلك بأنواع من الأمراض. وقد كانت وسائل مقاومة البعوض الناقل للحمى غير معروفة، كما أن وسائل العناية بالصحة وتنظيف الجسم لم تكن متوفرة عندهم بسبب فقر أكثرهم، لذلك صارت أجسامهم معرضة لمختلف الأمراض، ولا سيما أهل المدر الذين لم تكن بيوتهم صحية، ولا مياههم نقية، وكانت بيوتهم ضيقة غير صحية، فكانوا يصابون بالسل وبالأمراض الأخرى، أكثر من الأعراب المتباعدين في السكن، والذين لا يعرفون البعوض، ويستنشقون الهواء النقي، وتقيهم الشمس من شر الجراثيم. والذبحة: وهي داء يأخذ بالحلق، وقد كان معروفًا بين الجاهليين، وكانوا يعالجونها بالكي. ذكر أن الرسول كوى "أسعد بن زرارة" في حلقه من "الذبحة"، وقيل: "الشوكة"1. وأنه عاد "البراء بن معرور"، وأخذته الذبحة، فأمر من لعطه بالنار2. وقد أشير إلى مرض عرف بـ"خبط" في نصوص المسند، وقد فسر أنه برد شديد في الرأس3. وقد كانت الأوبئة تفتك بالناس فتكًا، فكان الأغنياء والموسرون يفرون من الأماكن المزدحمة إلى أماكن بعيدة، ويلجأون إلى الصحارى ابتعادًا عن المصابين بها. وكانوا يرجعون أسبابها وأسباب الأمراض عمومًا إلى غضب الآلهة على الناس، وإلى أرواح شريرة تصيب الجسم من الأكل والشرب، وإلى أنواع من الهوام والحشرات. ومن أشهر أنواع هذه الأوبئة الطاعون والجدري والهيضة. والطاعون المرض العام والوباء، وقد أشير إليه في كتب الحديث. ويظهر أنه كان منتشرًا معروفًا في الحجاز وفي سائر أنحاء جزيرة العرب آنئذ4. وقد جعل

_ 1 اللسان "2/ 438"، "ذبح"، الإصابة "1/ 50"، "رقم 111". 2 اللسان "2/ 438"، "ذبح". 3 Mahran, P. 437 4 تاج العروس "9/ 269"، "طاعون عمواس" في أيام عمر، إرشاد الساري "8/ 483 وما بعدها".

بعض العلماء الطاعون نوعًا من أنواع الوباء، وفرَّق بينهما بعض علماء اللغة، وجعلوا الوباء المرض العام عامة، مهما كان، مثل انتشار الحمى والجدري والطاعون والنزلات والحكة والأورام. وقد ذكرت الأوبئة في كتب الحديث1. و"الدبل" الطاعون2. ونسب الجاهليون حدوث الطاعون إلى "وخز الجن"، فهو يقع لأن الجن تطعن الشخص وتخزه فيصاب بالطاعون. وقد أشار إلى هذا الرأي "حسان بن ثابت"، أشار إليه في أثناء حديثه عن أعاصير نزلت بـ"بصرى" وبـ"رمح" وعن "دخان نار"، حتى أثرت في كل قصر ومنزل في ذينك المكانين، ثم أعقب ذلك "وخز جن بأرض الروم"3، أي: بلاد الشأم وفيها المكانان المذكوران إذ كانت تحت حكم الروم، كما أشار إلى هذه الفكرة شاعر آخر اسمه "الغساني"4. ونجد في كتابات المسند إشارات إلى أوبئة تكتسح البلاد فتفني عددًا كبيرًا من الناس. فنجد فيها أن فلانًا يحمد آلهته لأنها منت عليه بالعافية وأنقذته من الوباء الذي تفشى في أيامه فأهلك الناس. وقد كان القدراء من الناس يهربون من الأرضين الموبوءة إلى أرضين أخرى بعيدة سالمة ليتخلصوا من الوباء. ونجد في الكتابة الموسومة بـ"CIH 343" رجلًا اسمه "يحمد" يشكر إلهه "تألب ريام"، لأنه من عليه بالعافية وشفاه من المرض الذي نزل به في وباء انتشر فيما بين "هوزن" "هوزان" "هوازن" و"سهرتن" "سهرت". وقد كانت الأوبئة تكتسح المناطق الواقعة عند قواعد الجبال وفي المناطق الحارة الرطبة، ولا سيما التهائم. وتقع "هوزن" "هوزان" "هوازن" عند مرتفعات "حراز"5. وقد كانت الحروب من المصادر التي غذت العربية الجنوبية بمادة دسمة من الأوبئة. فقد كانت تأتي على عدد كبير من الناس، فتتركهم جثثًا تتعفن على ظاهر الأرض، كما كانت تأتي على مواطن السكن ومواضع المياه وتأتي على كل

_ 1 شرح القاموس "1/ 130". 2 تاج العروس "7/ 317"، "دبل". 3 فأعجل القوم عن حاجاتهم شغل من وخز جن بأرض الروم منكور البرقوقي "ص219". 4 البرقوقي "ص219"، ديوان حسان "ص79"، "هرشفلد". 5 Beitrage

ما يملكه الناس، وتزيد في مشكلة الفقر مشكلة، وتبعد الناس عن النظافة، فتهيء بذلك للأوبئة أمكنة جيدة، لتلعب بها كيف تشاء. ودليل ذلك ما نجده في كتابات المسند من إشارات إلى أمراض وأوبئة تعم المناطق المنكوبة بالحروب، حيث تكتسح من الأحياء، ما لم يتمكن السيف من اكتساحه منهم. وذكر الأخباريون نوعًا من البثور يخرج بالبدن، دعوه: العدسة، عرفوه أنه: بثرة صغيرة شبيهة بالعدسة، تخرج بالبدن مفرقة، كالطاعون، فتقتل غالبًا، وقلما يسلم منها. وقد رمي بها أبو لهب فمات. والظاهر أن هذا المرض كان منتشرًا بمكة، فقد روي أن قريشًا كانت تتقي العدسة، وتخاف عدواها1. وقد كان الجاهليون يعرفون عدوى بعض الأمراض، فكانوا يتجنبونها ولا يقتربون من المريض المصاب بها، ويطلقون عليها العدوى2، فكانوا إذا أصيبوا بأوبئة، فروا إلى أماكن بعيدة سليمة تهربًا منها، وحجروا على المريض، لئلا يقرب منهم، فينتقل المرض إليهم. وذلك لما كانت الجاهلية تعتقده في بعض الأمراض من أنها تعدي بطبعها، مثل الجذام3. والحصبة: من الأمراض المعروفة عند الجاهليين4. وكذلك الجُدَري. وقد ذكر بعض الأخباريين أن أول جدري ظهر هو ما أصيب به أبرهة5. وهو قول من هذه الأقوال المعروفة عند الأخباريين، فالجدري من الأمراض القديمة المعروفة عند الجاهليين قبل أبرهة بزمان. وذكر أن العرب عالجت الحصبة والجدري بمرار الشجر، وبالحنظل والحرمل6. و"السل" من الأمراض المعروفة بين الجاهليين. ذكر بعض أهل الأخبار أنه عرف بـ"داء الياس"، لأن "الياس بن مضر" أول من مات من السل، فسمي بذلك، وسمي بـ"ياس"7.

_ 1 تاج العروس "4/ 186"، الاشتقاق "ص143". 2 شرح القاموس "10/ 234". 3 إرشاد الساري "8/ 373". 4 شرح القاموس "1/ 214". 5 شرح القاموس "3/ 89". 6 الاشتقاق "ص101". 7 الروض الأنف "1/ 7"، تاج العروس "7/ 378"، "سلل".

ومن العلل: اليرقان، والصداع، و"الشقيقة"، وهو وجع يكون في شق الرأس، و"السعال" وجع في الصدر، والزكام، والزحير، والحصر وهو انقباض البطن، والأسر وهو احتباس البول والحصى في مجرى البول، والحكة، والحصف، والحمرة، والشرى، والحماق، والقُوَباء، والثؤلول، والعُرّ وهو الجرب الأبيض، وداء الثعلب ويصيب الشعر، وداء الفيل ويعتري الرجلين، والدوار، والهيفة، وتسمى الفضجة، والنملة، وهي بثور صغار مع ورم يسير ثم تتقرح فتسعى وتتسع، وتسمى أيضًا الذباب، والجنون والخدر، والفالج، والحزاز وهي القشرة التي تصيب الرأس، والحدبة، والطرش، والطلق، والجشاء، والباسور، والناسور، والبهق، والكلف، والمغس، والمغص، والاستسقاء، والإغماء، والاختلاج، والبخر، والفواق، والجشاءة، والقلس1. وعرفت القُوبَاء بأنها الحزازة، وذكر أنه كانت بوجه أبيض بن حمال بن مرثد بن ذي لحيان المأربي السَّبئي حزازة، توسعت فالتقمت أنفه2. والقوباء هوالذي يظهر في الجسد ويخرج عليه، يتقشر ويتسع، يزعمون أنه يعالج بالريق. وقالوا: يا عجبًا لهذه الفليقة ... هل تغلبن القوباء بالريقة3 ودم الملوك، دواء ينفع ويفيد في معالجة من يعضه كلب كَلِب في نظر الجاهليين. فإذا أصيب إنسان بداء الكلب، فشفاؤه بمعالجته بدم الملوك. وقد عرفه "ابن دريد" بقوله: "والكلب داء يصيب الناس والإبل شبيه بالجنون. وكانت العرب في الجاهلية إذا أصاب الرجل الكلب، قطروا له دم رجل من بني ماء السماء، وهو عامر بن ثعلبة الأزدي، فيسقى، فكان يشفى منه. قال الشاعر: دماؤهم من الكلب الشفاء"4. وكانوا إذا خافوا على المرأة الحامل، ووجدوا أن ولدها ميت في بطنها،

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 339 وما بعدها". 2 الإصابة "1/ 17". 3 تاج العروس "1/ 441"، "قوب". 4 الاشتقاق "ص14".

استخرجوه منها. وجوزوا قيام الرجل بذلك. وعبروا عن ذلك بـ"السطو"1. ويلعب التطبيب بالسحر والرقي والتعويذ دورًا خطيرًا في حياة الجاهليين، كما يظهر ذلك من الأخبار الواردة في كتب الحديث والأدب، حتى عد السحر نوعًا من الطب2. وقد منع الإسلام أكثرها وحرمها، ومع ذلك بقية حية مستعملة بين الأعراب والجهلة من أهل القرى الذين لا تساعدهم أحوالهم المعاشية على مراجعة الأطباء. ويقوم هذا التطبيب على التأثير في المريض، واستعمال بعض الحرز أو عظام بعض الحيوانات والسحر، بحجة وجود علاقة بين المرض والأرواح، وأن هذا النوع من التطبيب يطرد الروح الخبيثة التي تدخل الجسم فتصيبه بالمرض من ذلك الجسم. وهذا الرأي في المرض، رأي شرقي قديم، سيطر على كل الشعوب القديمة. فقد كان في رأي الأطباء، أن المرض روح شريرة تستولي على الجسم المريض بدخولها فيه، وأن واجب الطبيب العمل بعلمه وبفنه لإخراج الروح الشريرة من الجسم3. وفي جملة الوسائل التي استعملت لمكافحة المرض والتغلب على الأرواح الشريرة أو النظر، أي: إصابة الإنسان بالعين من حاسد تصيب عينه إصابة مؤذية، الاستعانة بالرقى والتعاويذ. وقد كان العبرانيون يطلقون على التعاويذ لفظة "حرط"4، وهي أنواع، بعضها على هيئة قلب يعلق بسلسلة في العنق، ويتهدل القلب إلى الصدر، فيكون من جملة وسائل الزينة، وبعضها يربط بالعضد وفي مواضع أخرى من الجسم. ولم يقتصر الجاهليون في اتخاذ هذه الوسائل على حماية أنفسهم فقط، بل اتخذوها لحماية ما يملكونه أيضًا من حيوان وزرع وملك، فعلقوا العظام أو المعادن أو نعل الحيوان مثل نعل الفرس، ورسموا العين واليد على الجدر وفوق الأبواب، لحمايتها من العيون المؤذية ومن حسد الحاسدين، ولا يزال الناس يستعملونها لحماية أنفسهم ومقتنياتهم من الإصابة بأذى العين وبحسد الحاسدين.

_ 1 تاج العروس "10/ 177"، "سطا". 2 عمدة القاري "21/ 263 وما بعدها" شرح القاموس "1/ 351. 3 A. Jeremias, Altorientalische Geisteskultur, S. 55. FF, The Universal Jewish Ency, vol, 7 pp. 434. 4 Hastigns Dict, vol. I, p. 88.

والجنون وسائر الأمراض العصبية معروفة بين الجاهليين أيضًا، وهم يعدونها من الأمراض التي تحدث للإنسان بسبب دخول الجنون والشياطين في جسد الإنسان فتتملكه، ولا يمكن شفاء من إصابة مس من الجنون أو لوثة في العقل، إلا بإخراج الأرواح المسيطرة على المريض من جسده، ولذلك كان علاج هذه الأمراض من واجب الكهان والسحرة في الغالب، بسبب كونها أمراضًا لم تقع من آفة في الجسد، وإنما وقعت من عارض خارجي، هو دخول الأرواح إلى الأجساد، ومهمة إخراج تلك الأرواح من وظائف المذكورين. وقد عالج العرب الجنون والخيل بشرب دماء من دماء الملوك. ومن أقوالهم: دماء الملوك شفاء من عضة الكَلِب الكلب والجنون والخبل. ومعالجة داء الكلب، بلعق دم الملوك أو الأشراف من الأدوية المشهورة عند الجاهليين في مداواة هذا المرض. ونسب إلى "الخليل بن أحمد" "أنه قال: دواء عضة الكَلْب الكَلِب الذراريح والعدس والشراب العتيق. وقد ذكر كيف صنَعته وكم يُشرب منه وكيف يتعالج به"1. وذكر أهل الأخبار أن "الأسود بن أوس بن الحُمرة" أتى "النجاشي" فعلمه دواء الكَلَب، وقد ورث ولده هذا الدواء. ومن ولده "المحل". وقد داوى "عتيبة بن مرداس" فأخرج منه مثل جراء الكلب2. و"الأسود بن أوس"، هو من "بني الحمرة"، وهم من "ثعلبة بن يربوع". وقد ذكر "ابن دريد"، أن "الأسود بن أوس" تعلم من "النجاشي"، دواء الكلب، وأن نسله يداوون به العرب إلى اليوم، أي: إلى يومه، وقد صار منهم اليوم إلى "بني المحل"، فهو فيهم أيضًا3. وقد ظن الجاهليون أن النوم يؤدي إلى امتداد السم في جسد اللديغ، فكانوا يعلقون الجلاجل والحلي على اللديغ ثم تحرك لئلا ينام فيدب السم في جسده4. ويقولون: إنه إذا علق عليه أفاق، فيلقون عليه الأسورة والرعاث، ويتركونها عليه سبعة أيام ويمنع من النوم. قال النابغة:

_ 1 عيون الأخبار "2/ 79". 2 عيون الأخبار "2/ 80". 3 الاشتقاق "138". 4 المعاني الكبير "2/ 1008".

يسهد في وقت العشاء سليمها ... لحلى النساء في يديه قعاقع1 وفي جملة داووا به الخدر الذي يصيب الرجل، أنهم كانوا يذكرون أحب الناس إلى الشخص، فيذهب الخدر عنه2. وزعموا أنه إذا ظهرت بشفة الغلام بثور، يأخذ منخلًا على رأسه ويمر بين بيوت الحي، وينادي: الحلأ الحلأ، فيلقى في منخله من ههنا ثمرة، ومن ههنا كسرة، ومن ثم بضعة لحم، فإذا امتلأ، نثره بين الكلاب، فيذهب عنه البثر، وذلك البثر يسمى: الحلأ3. وإذا أراد أحدهم دخول قرية، فخاف وباءها، أو جنها، فله سبيل سهل يحميه ويقيه، هو أن يقف على باب القرية والموضع الذي يريد دخوله، ثم ينهق نهيق الحمار، ثم يعلق عليه كعب أرنب، فيدخل عندئذ الموضع دون خوف. فقد فعل ما يتقي به الأذى والسوء ويسمون ذلك التعشير قال عروة بن الورد. لعمري لئن عشرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إنني لجزوع4 وإذا أرادت المرأة المقلاة أن يعيش ولدها، ففي إمكانها ذلك إذا تخطت القتيل الشريف سبع مرات، وعندئذ يعيش ولدها. وفي ذلك يقول بشر بن أبي خازم: تظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يُلقى على المرء مئزر5 والجاهليون، مثل غيرهم من شعوب ذلك الزمن، وفي جملتهم العبرانيون، كانوا يرون أن الأمراض هي غضب يسلطه الآلهة على الإنسان لتنتقم منه، لسبب ما، مثل عدم قيام المريض بواجباته تجاهها، ولهذا كانوا يسرعون بتقديم النذور والقرابين إليها ترضية لها. ويرد المرض إليهم، بتسلط الهوام وبعض الديدان والأرواح الشريرة على الإنسان، فتصيبه بالمرض. ولهذا كان الطب من واجب

_ 1 نهاية الأرب "3/ 124". 2 نهاية الأرب "3/ 125". 3 نهاية الأرب "3/ 125". 4 نهاية الأرب "3/ 125"، بلوغ الأرب "2/ 315". 5 نهاية الأرب "3/ 124".

الكهان ورجال الدين بالدرجة الأولى، هم يداوون المريض ويعطونه الوصفات التي يعتقدون أن فيها الشفاء للمريض، كما كانوا يعتقدون بالنظر، أي: بإصابة الإنسان، فيلحقه المرض1. وقد مارس التطبيب بين العرب المبشرون، وذلك بعد الميلاد بالطبع، وأكثرهم من الأعاجم، وكانوا قد درسوا الطب وتعلموه على الطريقة اليونانية في الغالب، فلما أرسلوا إلى بلاد العرب أو جاءوا هم أنفسهم للتبشير، مارسوا تطبيب المرضى، وقد شفوا جماعة من سادات القبائل، وأثر شفاؤهم هذا عليهم فاعتنقوا النصرانية. واشتهر "العباديون" بالتطبيب كذلك2، ولعل ذلك بعامل تنصرهم، فقد كان أكثر رجال الدين النصارى يدرسون مختلف العلوم، وفي جملة ذلك الطب، ومنهم من ترجم كتب العلوم اليونانية إلى السريانية، فدرس العباديون هذه العلوم. وكان طبهم مبنيًّا على العلوم والتجارب السابقة، ومتقدمًا جدًّا بالنسبة إلى طب أهل البادية، لذلك نجح المبشرون والنصارى في معالجة أمراض الأعراب، ولا سيما سادتهم، الذين صاروا يقصدونهم لنيل الشفاء على أيديهم. ومن ثم اشتهر النصارى بالطب، ولما جاء الإسلام، كان أكثر الأطباء من النصارى، وعلى أيديهم تخرج الأطباء المسلمون. وقد استخدم الجاهليون النساء لتمريض الجرحى في غزوهم وغاراتهم، وقد فعل المسلمون فعلهم. قالت "بنت معوذ بن عفراء": "كنا نغزو مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة"3. وقد كان في مسجد الرسول موضع يعالج فيه المرضى والجرحى، وكان الرسول والصحابة يتفقدون المرضى النازلين به4. وليس في الموارد المتوفرة لدينا ما يدل على إقدام الأطباء الجاهليين على التشريح، للاستفادة منه في زيادة علمهم بالطب. وقد كانت شعوب الشرق الأدنى تنفر من تشريح الإنسان، وتعده مثلة وإهانة للمتوفى. وعملًا مخالفًا لأحكام الدين،

_ 1 Hastings. Dict. Of. The Bible, P. 597. ff. 2 الفاخر "ص58". 3 إرشاد الساري "8/ 361". 4 كتاب الجهاد.

ولذلك نهت عنه1. والجاهليون لا يختلفون من هذه الناحية عن غيرهم إن لم يزيدوا عليهم في هذه الأمور التي يعدونها حرمة وكرامة للإنسان. وتشريح الميت وتقطيع بعض أجزاء جسمه، اعتداء على حرمة الميت، وإهانة له ولأهله الأحياء، ولهذا لا نطمع في الحصول على موارد قد تفيد بوجود خبرة علمية عند الأطباء الجاهليين ناتجة من تجاربهم وبحوثهم التي حصلوا عليها من التشريح. ولم يرد إلينا أي شيء مفيد في الكتابات الجاهلية عن الطب والأطباء، وإن أملنا الوحيد في الحصول على معارف عن الطب، متوقف على المستقبل يوم يقوم علماء الآثار بالتنقيب تنقيبًا علميًّا عميقًا في باطن الأطلال الأثرية، للكشف عن تاريخ الماضين. وعندئذ يكون من الممكن العثور على نصوص قد تكشف النقاب عن الطب الجاهلي وعن العلوم الأخرى وعن مختلف نواحي الثقافة عند الجاهليين. ويقال للمرض "مرضم" أي: مرض في الكتابات الجاهلية2. وتؤدي لفظة "حلصم" "حلظم" "حلظ" معنى مرض وباء3. ويتبين من بعض الكتابات أن أوبئة شديدة وأمراضًا مهلكة كانت تقع في بعض الأحيان، فتفتك بالناس. وقد كانوا يتجنبونها بالتضرع إلى الآلهة للرحمة بهم وتخليصهم من الضر، كما كانوا يتركون المدن والأماكن المزدحمة إلى محلات بعيدة مكشوفة غير موبوءة حتى ينكشف الوباء. وفي جملة هذه الأوبئة الطاعون. ويعبر عن المرض في المسند بلفظة أخرى هي "شين"، وهي في معنى "شعين" sha'en في الأثيوبية و"سيعون" Se'on في العبرانية و"شينو" Shenu في البابلية4، وذلك كما في هذا النص السبئي: "تشين شين ارجلهو"5، أي

_ 1 Hastings, Dict, p. 598. 2 Rhodokanakis, Katab. Texte, II, S. 33, Jamme, Sabaen Inscriptions, p. 441. 3 خليل يحيى نامي، نشر نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب وشرقها، "ص36"، السطر السادس من النص رقم22. Rhodokanakis, Kata. Texte, II, S. 33, CIH, 407, Mardtmann und Mittwoch, alt. Inscri, S. 47. 4 Repe. Epi. Semi, Tome VII, Prjm. Livr, p. 30. F. Num. 3991. 5 المصدر نفسه، الفقرة: 7

المرض الذي مرض أرجله، و"تشين" بمعنى المرض. وكما في هذه الجملة: "بن هوت تشين"1، أي: "في هذا المرض" و "من هذا المرض". وتعني "شين" أذى ومكروه ومعنى سوء كذلك، وهي في عربيتنا العراقية "الزين" أي: الحسن، فنقول: زين وشين، أي: حسن وقبيح، أو جيد ومكروه. ووردت لفظة "عوس" بمعنى وباء أو طاعون. وأما "خوم"، فنؤدي معنى "وخم" و"خامة"، ويراد بها انتشار الأمراض والأوبئة، أي: وباء. جاء في بعض النصوص "عوس ذكون بأرضن"، أي: "الأوبئة التي انتشرت بالأرضين"2. وورد "خوم وعوس وموت كون بأرضن"3، أي: "الوخامة" "الوخم" والأوبئة والوَفَيات التي تفشت في الأرض. ورد "كن ضلم وعوسم باشعبن وهكرن"، أي: "وكانت أو وتفشت أمراض وأوبئة بالقبائل والمدن"4. وورد "خوم ذكين بكل أرضن"، أي: "الوخامة "أوبئة" تفشت في كل أرض"5. ويفهم من هذه النصوص أن العربية الجنوبية، كانت معرضة لأوبئة عامة، تأتي فتكتسح البلاد اكتساحًا، تميت الأعراب، أبناء القبائل، كما تميت أهل المدن، فتشمل مناطق واسعة من البلاد. وقد كانت تظهر خاصة بعد الحروب التي كانت تفني القرى والمدن، وتدمر مواضع المياه، وتترك الجثث ملقاة على سطح الأرض حتى تنتن وتجيف، فتتفشى منها الأمراض، وتظهر الأوبئة، وتتسرب إلى مواضع نائية لتضيف إلى خسائر الحرب خسائر أخرى فادحة في الأرواح. وقد وردت في نصوص ثمودية إشارات إلى أمراض كانت معروفة في ذلك الوقت6.

_ 1 المصدر نفسه، الفقرة: 12. 2 خليل يحيى نامي، نقوش عربية جنوبية، مجلة كلية الآداب، القاهرة 1937، "ص1، 13 قسم2، 16"، "1954" "ص21 وما بعدها". CIH 81, 4, Jamme 645, Ma. Mb. 275. 3 Ja 645, 13-14. 4 CIH 541, 72-73. 5 Rep. Epig, 4138, 4-5. 6 Grimme, S. 40.

وفي العربية ألفاظ عديدة تعبر عن الأوجاع والآلام والأمراض والأسقام التي تصيب الإنسان، وتستعمل للتعبير عن منزلة ودرجة من درجات الأمراض التي تصيبه، من نفسية وغير نفسية. وتحديد مدلولاتها وحدودها، يفيدنا كثيرًا في تكوين رأي في مدى تأثر الجاهليين بالنواحي الطبية والنفسية في ذلك العهد. وقد كان الختان شائعًا بين العرب، ويستعمل "الموسى" للختان، ولوقف الدم تستعمل أدوية خاصة من مراهم ومواد، كما يستعمل الضماد أيضًا. ولم يكن الختان من أعمال الطبيب. إنما يقوم به الختّان، والحلاقون والحجامون. وقد عرف الجاهليون طريقة تغطية بعض العيوب أو الإصابات التي تلحق بأعضاء الجسم، بالاستعانة بالوسائل الصناعية. فشدوا الأسنان وقووها بالذهب، وذلك بصنع أسلاك منه تربط الأسنان، أو بوضع لوح منه في محل الأسنان الساقطة1. واتخذوا أنوفًا من ذهب، لتغطية الأنف المقطوع، كالذي روي عن عرفجة بن أسعد من أنه اتخذ أنفًا من ذهب، وكان قد أصيب أنفه "يوم الطلاب" في الجاهلية2. وتخصص نفر من الجاهليين بمعالجة الحيوان، وهم البياطرة، يعالجون أمراضها فيصفون الأدوية، يقال للواحد منهم: البطير والبيطر والبيطار، وقد أشير إليهم في أشعار الجاهليين3. ويعالجون الجروح التي تصيبها وفي جملة ما كانوا يعالجون به الكي والمعالجة باستعمال القطران، وذلك بطلي الحيوان المريض به4. ومن هذه الأمراض الجرب. ويقال للحيوان المطلي بالقطران "المقطور" أما إذا كان أنثى، مثل ناقة، فيقال: "مقطورة"5. ويقال: إن الجرب، هو العُرّ. والعُرّ بثر في الإبل، ويعالج بالقطران. قال علقمة الفحل: قد أدبر العر عنها وهي شاملها ... من ناصع القطران الصرف تدسيم6

_ 1 المعارف "ص82". 2 العقد الفريد "6/ 354"، الطبقات، لابن سعد "7/ 45". 3 تاج العروس "3/ 51"، "بطر". 4 تاج العروس "3/ 500"، "قطر". 5 شرح ديوان لبيد "ص122". 6 الفاخر "ص66".

وكان بعضهم إذا وقع العُرّ في إبلهم، "اعترضوا بعيرًا صحيحًا من تلك الإبل، فكووا مشفره وعضده وفخذه، يرون أنهم إذا فعلوا ذلك ذهب العُرّ عن إبلهم". ويقال: إنهم كانوا يفعلون ذلك، ويقولون: تؤمن معه العدوى قال النابغة: وكلفني ذنب امرئ وتركته ... كذي العُرّ يكوى غيره وهو راتع1 والهناء: ضرب من القطران تطلى به الإبل، لمعالجة الجرب وغير ذلك. ويقال للجرب عند أول ظهوره: النقب2. ويقال للبعير المهنوء بالقطران "المشوف"3. وعالجوا أمراض الجلد التي تصاب بها الإبل بطليها بالنفط. ويقال لذلك: "الكحيل"4. ومن الأمراض التي تصيب "الإبل" مرض "الدبرة"، يظهر في سنام الإبل؛ فلا يزال يأكل سنامه حتى يُحَبَّ، أي: يقطع، وإلا نزل على السناسن فيصيبها ويموت الحيوان. وإذا كان السنام مكشوفًا، فإن الطيور تنقره فيتأذى الحيوان ويتألم وقد يموت، ولعل ذلك هو الذي حمل الجاهليين على التشاؤم من "الأخيل" وبعض الطيور الأخرى التي كانت تحط على ظهور الإبل فتنقر سنامها. ويقال للجمل الذي يقطع سنامه: "الأجب"5. ومن الأمراض التي كانت تصيب الإبل "السواف"، وقد عرف بأنه داء يصيب الإبل فتهلك6. و"الجارود"، وهو مرض معد، إذا فشا أهلك الإبل. وقد ظهر في "بكر بن وائل"، فأهلك إبلها وهم يعلمون أنه من

_ 1 نهاية الأرب "3/ 123"، اللسان "6/ 230 وما بعدها"، صبح الأعشى "1/ 398 وما بعدها"، بلوغ الأرب 2/ 306". 2 البيان "1/ 107". 3 شرح ديوان لبيد "ص115". 4 تاج العروس "1/ 332"، "صبب". 5 شرح ديوان لبيد "ص1". 6 الاشتقاق "2/ 311".

الأمراض التي تعدي، وتنتقل بالعدوى1. وذكر أهل الأخبار أن "الجارود العبدي"، وهو رجل من الصحابة من عبد القيس، إنما سمي "جارودًا" لأنه فر بإبله إلى أخواله من "بني شيبان" وبإبله داء، ففشا ذلك الداء في إبل أخواله فأهلكها، وفيه يقول الشاعر: لقد جرّد الجارودُ بكر بن وائل ولذلك سمي المشئوم جارودًا2 ومن أمراض الدواب مرض يقال له: "العقل"، يصيب رِجل الدابة، إذا مشت ظلعت، وأكثر ما يعتري في الشاء3. ومرض "الحلمة"، دودة تقع في جلدة الشاة الأعلى وجلدها الأسفل، وقيل: دودة تقع في الجلد فتأكله، فإذا دبغ وهي موضع الأكل وبقي رقيقًا. وقيل: القراد أول ما يكون صغيرًا قمقامة، ثم يصير حمنانة، ثم يصير قرادًا، ثم حلمة4. وكانوا ينقون رحم الفرس أو الناقة من النطف، ويخرجون الولد من بطن الفرس أو الناقة ويعبر عن ذلك بلفظة "مسى"5. ويذهب بعض الباحثين إلى أن لفظة "بيطار"، هي من أصل يوناني، هو6 Ippiyatros. ومن الذين عرفوا بين الجاهليين بمعرفتهم بالبيطرة "العاص بن وائل"، وكان يعالج الخيل والإبل7. وقد برع البياطرة بمعرفتهم خاصة بالخيل والإبل؛ لأنها أثمن أموال العرب. وعناية العرب بالخيل، هي التي حملت الإسلاميين على وضع مؤلفات خاصة فيها. ومن جملة من ألف في الخيل "أبو عبيدة".

_ 1 الاشتقاق "ص198". 2 اللسان "3/ 116"، "صادر"، "جرد". 3 اللسان "11/ 463"، تاج العروس "8/ 28"، "عقل". 4 تاج العروس "8/ 256"، "حلم". 5 تاج العروس "10/ 342"، "مسى". 6 غرائب اللغة "ص256". 7 المعارف "576"، "إخراج ثروت عكاشة".

و"أبو زيد الأنصاري" و"الأصمعي" وآخرون1. وللأصمعي كتاب في الإبل2، ولأبي عبيدة كتاب في الإبل كذلك3. ولأبي زيد الأنصاري كتاب في هذا الموضوع أيضًا. ولأحمد بن حاتم مثله، وقد ألف غيرهم في الإبل وفي حيوانات أخرى4. وقد طبعت بعض هذه الكتب.

_ 1 الفهرست "ص85 وما بعدها". 2 الفهرست "ص88". 3 الفهرست "ص86". 4 الفهرست "ص87 وما بعدها".

الفصل الثلاثون بعد المئة: الهندسة والنوء

الفصل الثلاثون بعد المئة: الهندسة والنوء مدخل ... الفصل الثلاثون بعد المائة: الهندسة والنوء ولا بد أن يكون للجاهليين علم بطرق السيطرة على المياه، وبطرق استنباطها والاستفادة منها. ففي مواضع من اليمن والحجاز والعربية الجنوبية آثار سدود مثل سد مأرب، لا يمكن أن تكون قد أنشئت بغير علم ودراية وخبرة. ففيها فن في كيفية جمع المياه في خزاناتها، وفن في كيفية تصريفها وتوزيعها وقت الحاجة بقدر، وفيها أبواب تتحكم في سير الماء. كذلك كان لهم علم في حفر الآبار وإنشاء الصهاريج لجر المياه إلى الأماكن التي تحتاج إليها. وقد اشتهرت ثقيف بعلمها بطرق استنباط المياه. واشتهرت قبائل أخرى بهذا العلم أيضًا، وذكر أن بعضها كانت تتفرس وتحدس بوجود الماء من نظرها إلى لون التربة ومن شمها ومن علامات أخرى عرفوها وأدركوها بالتجربة. ونجد اليوم بقايا سدود استخدمت لحبس "السيول" للاستفادة منها في الشرب وفي الزراعة. وتقع أكثر هذه السدود في الأودية التي تكون مسايل تسيل منها الأمطار المتساقطة في موسمي المطر في العربية الجنوبية. فتعمل الأحباس بين طرفي الوادي لتحبس الماء، فلا يندفع إلى المواضع المنخفضة فيذهب عبثًا، وبذلك يرتفع مستواه، فيسقي الزرع على جانبيه، وتعمل سواقي لتسيل منها المياه إلى الأماكن المنخفضة التي تقع تحت هذه الأحباس، وهكذا تسقى بقية المزارع. وتختلف هذه الأحباس من حيث جودة العمل والإتقان، فبعضها أحباس بدائية بسيطة،

عملت من الأتربة، أو من الأحجار والصخور، على شكل "سكر"، يمنع الماء من المرور، وبعضها عملت بصورة فنية متقنة من الحجر الموضوع بعضه فوق بعض، مع استخدام مواد ماسكة لشد الحجر بعضه إلى بعض، وقد يطلى السد بمادة تمنع الماء من اللعب به. وتعمل به منافذ ذات أبواب، تسد وتفتح حسب الحاجة للتحكم بالماء. وتلاحظ بقايا هذه السدود اليوم في وادي مبلقه، وفي وادي بيحان، وفي وادي حريب، وفي أودية أخرى عديدة. أما أهل المواضع المرتفعة مثل الهضاب والجبال، فقد عمدوا إلى عمل حواجز وحوائط منخفضة، لمنع المطر من الانحدار، إذ تحصره هذه الحواجز، فيسيل إلى المزارع ليسقيها، وقد تعمل له مجار ليسيل الزائد منه والذي لا يحتاج إليه إلى أسفل، فلا يغرق الزرع. وقد يوجّه إلى كهوف وآبار محفورة وكهاريس، لتمتلئ بالماء، للاستفادة منه في مواسم انحباس الأمطار. وتوجد في المعابد فوهات تدفع مياه الأمطار حين سقوطها إلى مجاري بنيت تحت الأرض تؤدي إلى صهاريج تخزن فيها مياه الأمطار. وقد عثرت بعثة "وندل فيلبس" الأميركية على مواضع خزن الماء في معبد مأرب المعروف في الكتابات بمعبد "اوم"، "اوام" المخصص لعبادة "المقه" إله سبأ الرئيس. ونجد مثل هذه المخازن في المعابد الأخرى أيضًا. وخزن الماء على هذه الطريقة، أسلوب متبع في فلسطين وفي المواضع الأخرى ذات الأرض الصلدة الحجرية، حيث تنقر الأرض وتعمل بها كهوف كبيرة تخزن فيها المياه1. وقد تخصص قوم وتفرسوا بمعرفة مواطن المياه واستنباطها وساعدوا في حفر الآبار وفي حفر القني وإنشائها. وفي كتب اللغة ألفاظ أطلقت على الأدلاء الخبراء أصحاب العلم بمواضع وجود الماء في باطن الأرض، مثل جوّاب الفلاة، وذلك لأنه كان لا يحفر صخرة إلا أماهها، والقناقن، هو الدليل الهادي البصير بالماء تحت الأرض في حفر القني، والعيّاف، وقد تحدثت عنها وتطلق أيضًا على الدليل الذي يعرف موضع الماء من الأرض2. والماء في الأرضين الجافة القاحلة، نعمةكبرى وحياة لأهلها، فكانوا يفرحون

_ 1 Archaeological Discoveries in South Arabia. P. 226. 2 المخصص "12/ 35 وما بعدها".

ويشكرون آلهتهم ويتقربون إليها بالذبائح والنذور عند عثورهم على الماء في الأرضين التي يحفرون فيها الآبار. ولهذا قدسوا الآبار وأسبغوا عليها القدسية، وتقربوا لها بالنذو والهدايا، وعدوُّا مياهها شافية نافعة مقدسة. والبئر ثروة تدر على أصحابها المال. وقد يبارك الكهان والرؤساء تلك الآبار، لتنعم على أصحابها بالماء الغزير. وقد كان "المحققون" "محققيم"، وهم الرؤساء عند العبرانيين، يحضرون الاحتفالات، ويشكرون إله إسرائيل عند ظهور الماء في الآبار، على نحو ما يفعله العرب في مثل هذه الأحوال1. وقد لجأ الجاهليين إلى التحايل في استصلاح الماء الأجاج أو الكدر، للاستفادة منه في الشرب، فذكر إذا كانت بهم حاجة ماسة إلى الماء، ولم يجدوا إلا ماء البحر أو الماء الأجاج الملح، وضعوه في قدر، ووضعوا فوق القدر قصبات وعليها صوف منفوش، ثم يوقد تحت القدر، حتى يرتفع البخار، فيدخل مسامات الصوف، ويمتلئ به. فإذا كثر، عصر في إناء، ولا يزال على هذا الفعل حتى تتجمع كمية من الماء العذب، وتترسب الأملاح في القدر. وذكر أيضا أنهم كانوا يحفرون في الشاطئ حفرة واسعة، ليترشح إليها ماء البحر، ثم إلى جانبها وقريب منها حفرة أخرى يترشح إليها الماء من الثانية، ثم تحفر حفرة ثالثة، وهكذا حتى يعذب الماء. أما الماء الكدر، فقد كانوا يتخلصون من كدرته بإلقاء مواد فيها لتعلق الكدرة بها، فإذا رسبت، رسبت الكدرة معها، وبذلك يتنقى الماء. وفي جملة المواد التي استعملوها الجمر الملتهب، يلقى به في الماء، فإذا انطفأ وتحول إلى فحم، أخذ معه ما يجده من الكدرة، فيصفو بذلك الماء، واستعملوا نوعًا من الطين وسويق الحنطة2. وقد عرفت هذه الفراسة، فراسة استنباط الماء من الأرض، بالأمارات الدالة على وجوده، على نحو ما ذكرت من شم التربة، أو برائحة بعض النباتات فيه، أو بمراقبة حركات الحيوان، ويقال لها: الريافة3.

_ 1 Ency. Bibli, Vol., I., P. 515 2 بلوغ الأرب "1/ 396". 3 بلوغ الأرب "3/ 343".

وتوجد اليوم آبار قديمة في مواضع مختلفة من جزيرة العرب عميقة جدًّا، ولا زال الناس يستقون منها الماء. وهي عادية، أي: قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام. وكانت عليها مستوطنات تعيش على ماء هذه الآبار. ولهذا فلا غرابة إذا ما وجدنا القدماء يقدسون الآبار ويعتبرونها من مصادر الحياة بالنسبة لهم؛ لأنها تمدهم وتمد إبلهم، وكل ماشيتهم بعرق الحياة وروحها. ويدل عمقها على مقدار ما بذله الحفارون من جهد حتى توصلوا إلى تلك الأعماق بوسائلهم البدائية التي كانت متوفرة عندهم في ذلك العهد. والآبار هي من مصادر الحضارة والتخضر في جزيرة العرب، فلولا ولولا موارد الماء الأخرى، لما ظهرت المستوطنات، ولما ظهر زرع، ولما عاش ضرع. ولهذا صارت البوادي أرضين قفرًا لا يسكنها ساكن إلا إذا استنبط ماء فيها، أو سقط غيث عليها. ولقيمة الماء في حياة جزيرة العرب نجد نصوص المسند تذكرها وتشير إلى الأرضين التي تسقى منها، وتعتبرها من مصادر النعمة والثراء. ولأهمية الماء، كانوا يتقربون إلى آلهتهم بالقرابين وبالأدعية والتوسلات، لأن تمنحهم المطر، وتسقي أرضهم على أحسن وجه، وقد كان من واجب رجال الدين الاستسقاء، وذلك بأن يتوسلوا إلى آلهتهم بأن تمنَّ على عبيدها بالمطر، يقومون به بإجراء طقوس دينية خاصة، وربما استعانوا بالسحر في هذا الاستسقاء. وقد كانت الشعوب الأخرى تستسقي كذلك، وتستعين بالسحر في إرضاء الآلهة لكي تنزل الغيث على المحتاجين إليه. وقد عرف الاستسقاء بمكة وعند سائر العرب، كما تحدثت عن ذلك في مواضع من هذا الكتاب. والأغلب أن الكهنة كانوا هم الذين يقومون بالاستسقاء؛ لأنه من صميم أعمالهم وواجباتهم1. وقد سبق أن تحدثت عن شق الطرق في الهضاب وفي جبال اليمن، لإيصال القرى والمدن بعضها ببعض. وقد أبدع المهندسون في ذلك الوقت في شق الطريق في المناطق الجبلية، ويسمونها "مسبا"2، ولا تزال آثار بعض منها موجودة حتى اليوم. ووردت لفظة "مذهب" في نصوص المسند، بمعنى الممر والطريق والمعبر3.

_ 1 Rhodokanakis, Katab. Texte, II, S. 53, amm. 2, 5, r. Smith, Rellgion der Semiten, S. 59, goldziher, im Festschrift fur Th. Noldeke, s. 309. 2 راجع النص رقم4624 المنشور في الصفحة276 من كتاب: REP. EPIG, VII, II, 3 Jamme 618, 16, Mahram, p. 119.

وقد قام المهندسون بإصلاح الطرق، ونجد لفظة "درك" Derek في العبرانية بمعنى "الطريق"1. والدرك في العربية أسفل كل شيء، ومراتب الهبوط2، ولعلها في الأصل الطريق المنحدر إلى أسفل. وأما السبيل، فالطريق. وتقابل هذه اللفظة لفظة "شبيل" في العبرانية3. و"السراط" "الصراط" الطريق الممهد المعبد، واللفظة من الألفاظ المعربة عن اللاتينية، من أصل Strata، بمعنى طريق مبلط، وطريق كبير واضح4.

_ 1 Hastings, extra volume, p. 368 2 تاج العروس "7/ 127"، "درك". 3 Hastings, extra volume, p. 368 4 غرائب اللغة "278".

النوء والتوقيت

النوء والتوقيت: ومعارفنا بالأنواء والتوقيت عند الجاهليين قليلة ضحلة. وهي مبعثرة في كتتب اللغة والأدب وفروع المعرفة الأخرى، مثل كتب الجغرافيا والأنواء. ولم يصل إلينا شيء منها في نصوص المسند. غير أن ما نجده في المؤلفات المذكورة على قلته وضآلته يدل على أن الجاهليين كانوا أصحاب عناية ودراية بالأنواء والتوقيت وأنهم كانوا على علم أو شيء من العلم بالأنواء عند غيرهم، مثل أهل العراق أو أهل بلاد الشام. ولعلهم كانوا على اتصال مباشر أو بالواسطة بعلم اليونان واللاتين بالأنواء. وعدم وصول شيء -في كتابات المسند- من علم النجوم والأنواء وما يتعلق بعلم الفلك، لا يمكن أن يكون دليلًا بالطبع على عدم وجود علم لأهل العربية الجنوبية الجاهليين بالفلك، ولا يعقل ألا يكون لهم علم به. فقد كان العرب الجنوبيون أصحاب زراعة وتجارة، وكانوا يركبون البحر. وركوب البحر يحتاج إلى علم بالنجوم وبتقلبات الجو كما كانت ديانتهم تقوم على أساس تقديس النجوم. ولهذه الملاحظات لا بد أن يكون لأهل اليمن وغيرهم من أهل العربية الجنوبية علم بالأنواء. وقد يعثر في يوم ما على نصوص مدونة بلهجاتهم فيها شيء ما من أمر هذا العلم.

والنوء عند الجاهليين هو النجم إذا مال للغروب، أو هو سقوط النجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه، وهو نجم آخر يقابله من ساعته في المشرق. وإنما سُمي نوءًا لأنه إذا سقط الغارب ناء الطالع، وذلك الطلوع هو النوء. وبعضهم يجعل النوء هو السقوط. وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، فتقول: مطرنا بنوء كذا1. قال الشاعر: ينعى امرءًا لا تغب الحي جفنته ... إذا الكواكب أخطا نوءها المطر2 وذكر أن من طلوع كل نجم إلى طلوع رقيبه، وهو النجم الآخر الذي يليه ثلاثة عشر يومًا، وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة، ما خلا الجبهة، فإن لها أربعة عشر يومًا، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وذلك لتكمل السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا. وذكر بعض العلماء أن العرب لا تستنبئ بالنجوم كلها، إنما يذكر في الأنواء بعضها وقال "ابن الأعرابي": "لا يكون نوء حتى يكون مطر معه، وإلا فلا نوء"3. وقد زعموا أن لكل نوء أثر في هذا الكون وفي الإنسان. فإذا حدث شيء ووقع أمر نسبوه إلى نوئه. وفي جملة ما نسبوا أثره إلى الأنواء: حدوث المطر، فإذا أمطرت السماء نسبوا المطر إلى أثر النجم الطالع في ذلك الوقت. فيقولون مطرنا بنوء كذا. وقد ذهبوا إلى أن الأنواء "28" نوءًا أو نجمًا اعتقدوا أنها علة الأمطار والرياح والحر والبرد4. وقد ذكروا الأنواء الممطرة ومواسم المطر5. ونظرًا إلى أن السنة أربعة أجزاء، لكل جزء منها سبعة أنواء، لكل نوء ثلاثة عشر يومًا، إلا نوء الجبهة فإنه أربعة عشر يومًا، فيكون مجموع أيام السنة "365" يومًا، وهو المقدار الذي تقطع الشمس فيه بروج الفلك الاثني عشر6. ونظرا لأهمية المطر في حياة جزيرة العرب، اهتموا بمراقبة مظاهر الأنواء

_ 1 تاج العروس "1/ 472 وما بعدها"، المخصص "9/ 13 وما بعدها، العمدة "2/ 253". 2 الخزانة "1/ 93"، "بولاق". 3 تاج العروس "1/ 473" "الكويت"، العمدة "2/ 253". 4 زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية "1/ 202". 5 تاج العروس "2/ 473". 6 العمدة "2/ 253".

وألوان السحب، وقد علمتهم تجاربهم أن السحب البيضاء، لا تكون ممطرة، وأن السحب السوداء تكون هطلة، تهطل الأمراض وتغيث الناس1. هذا وتجد للسحب أسماء كثيرة من حيث ترتيبها وأوصافها وقربها أو بعدها عن الأرض ومن حيث لونها واحتمال وجود الغيث فيها2. وفي كثرة هذه الأسماء دلالة على شدة اهتمام العرب بالسحاب لما له من أثر في حياتهم، لا سيما بالنسبة إلى نزول الغيث. فقد كانوا يستسقون بالنوء، ويرجعون سبب سقوط المطر إليه. ولتعارض عقيدة الجاهليين هذه مع عقيدة الإسلام في الخلق والأسباب، جاء النهي عنها في الإسلام. ورد في الحديث: "من قال: سقينا بالنجم، فقد آمن بالنجم وكفر بالله"3. وجعلت الأنواء من الأمور الثلاثة التي عرفت بالجاهلية والتي نهى عنها الإسلام: الطعن في الأنساب والنياحة والأنواء4. وكانوا يكرهون نوء السماك، ويقولون فيه داء الإبل، قال الشاعر: ليت السماك ونوءه لم يخلقا ... ومشى الأفيرق في البلاد سلما5 والسماك، سماكان: الأعزل والرامح وهما نجما نيران: وسمي أعزل؛ لأنه لا شيء بين يديه من الكواكب، كالأعزل الذي لا رمح معه. ويقال: لأنه إذا طلع لا يكون في أيامه ريح ولا برد، وهو أعزل منها. وهو من منازل القمر، والرامح ليس من منازله ولا نوء له، وهو إلى جهة الشمال. والأعزل من كواكب الأنواء وهو إلى جهة الجنوب. وهما في برج الميزان. ويقول الساجع: إذا طلع السماك، ذهب العكاك، فأصلح قتاك، وأجد حذاك، فإن الشتاء قد أتاك6. وقد تخصص قوم بالنوء، ورد أن "عمر بن الخطاب" "نادى العباس: كم بقي من نوء الثريا فقال: إن العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعًا

_ 1 الميداني "7/ 109". 2 نهاية الأرب "1/ 72 وما بعدها". 3 تاج العروس "1/ 474" "الكويت". 4 الأنواء "ص13 وما بعدها". 5 نهاية الأرب "3/ 126". 6 تاج العروس "7/ 144 وما بعدها".

بعد وقوعها. فوالله ما مضت تلك السبعُ حتى غيث الناس"1. وكانوا إذا أرادوا الوقوف على ظواهر الجو لجأوا إلى العالمين بالأنواء، وكانوا إذا أرادوا التعبير عن خبير بها، قالوا مثلًا: "ما بالبادية أنوأ منه، أي: أعلم بالأنواء منه"2. وذكر أهل الأخبار أن "الحارث بن زياد بن ربيع"، لم يكن في الأرض عربي أبصر منه بنجم3. واعتقاد راسخ مثل هذا في الكواكب والنجوم، لا بد أن يحمل الجاهليين على تتبع ما ورد عند الأمم الأخرى من علم الأنواء، للاستفادة منه في حياتهم العملية، وقد عاش بينهم عدد كبير من اليهود، ولهؤلاء علم أيضًا بالأنواء، ولهم اهتمام بهذا العلم، لما له من علاقة بشئونهم الدينية. ثم كان بينهم نصارى وقفوا على هذا العلم أيضًا، وكان هؤلاء قد هضموا علم الشرقيين به وطعّموا علمهم وعلم الشرقيين بما ورد في كتب اليونان واللاتين من علم به. وقد اتخذ الجاهليون النجوم دليلًا لهم يهتدون بها في ظلمات البر والبحر. وقد أشير إلى ذلك في سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 4. ولا بد للاهتداء بها من الوقوف عليها، ووضع أسماء لها، وتعيين البارز منها، ووضع معالم لها، ليكون في الإمكان معرفتها ومعرفة الاتجاه المؤدي إلى المكان المراد. فكانوا إذا سألهم سائل عن طريق قالوا: "عليك بنجم كذا وكذا"، أو "خذ بين مطلع سهيل ويد الجوزاء اليسرى العاقد لها ... "5 إلى آخر ذلك من إشارات تفيد استدلالهم بالنجوم والكواكب وبالمطالع لمعرفة الطرق. وفي الشعر الجاهلي أبيات تشير إلى اهتداء الناس في سيرهم بالنجوم فورد في شعر لسلامة بن جندل في المسير ليلًا: ونحن نعشو لكم تحت المصابيح

_ 1 تاج العروس "1/ 474". 2 تاج العروس "1/ 474". 3 الاشتقاق "239". 4 الأنعام، سورة رقم97. 5 البيروني، الآثار الباقية "238"، تاريخ التمدن الإسلامي "3/ 15".

ويقصد بالمصابيح الكواكب1 وقد سار أهل الجاهلية مثل غيرهم من الأمم القديمة على فكرة تقسيم السماء إلى "بروج". وقد أشير إلى البروج في القرآن في سورة الحجر: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} 2 وفي سورة البروج {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} 3. وقد قسم اليونان واللاتين السماء إلى "بروج". وعرف كل برج عندهم بلفظة: "بركس"، Burgus. ومن هذا الأصل أخذت لفظة "البرج" و"البروج". أخذت إما من اللاتينية أو اليونانية مباشرة، وإما من السريانية بالواسطة4، وذلك قبل الإسلام بأمد، فتعربت وصارت من الألفاظ العربية الأعجمية الأصل، مثل ألفاظ أخرى دخلت العربية من أصل يوناني ولاتيني قبل الإسلام بسنين. وللكواكب أفلاك تدور فيها، وقد أشير إليها في القرآن، فورد: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 5. وهي عندهم مدارات دائرية على هيئة حجر الرحى، تدور الشمس والقمر والكواكب بها، كل في فلك مقدر له6. ويرى "نالينو"، أن ما ورد في القرآن الكريم عن "البروج"، وكذلك ما ورد في الخطبة المنسوبة إلى قس بن ساعدة الإيادي من قوله: "وسماء ذات أبراج" لا يعني بالضرورة وقوف الجاهليين على البروج الاثني عشر، وأخذهم بهذه النظرية الفلكية، وذلك لأمور ذكرها، وحجج أوردها. وفي جملتها أن أسماء كل البروج، ما عدا الجوزاء مترجمة من أسمائها اليونانية والسريانية. ثم إن هذه البروج لم تكن ذات فائدة عملية للجاهليين، ولهذا لا يحتمل اهتمامهم بها، وأخذهم بها، ولا سيما أن معارفهم الفلكية لم تكن واسعة عميقة. ولهذا ذهب إلى أن ما ورد في القرآن عن البروج، لا يراد به الصورة المعروفة الموجودة عند

_ 1 الأنواء "ص186". 2 السورة رقم16. 3 سورة البروج. 4 كتاب صور الكواكب الثمانية والأربعين، تأليف عبد الرحمن بن عمر الرازي الصوفي، المطبعة العثمانية 1954م، كتاب الأنواء "ص ط"، المخصص "9/ 12" Ency, I, p. 796, Frankel, Die Aramaische Fremdworter in Arabisch, S. 235. 5 الأنبياء، الآية 33، تفسير الطبري "17/ 16 وما بعدها". 6 تفسير الطبري "17/ 16 وما بعدها"، الجمان في تشبيهات القرآن "202".

اليونانيين والتي وقف عليها العرب في عصور الترجمة، وإنما هي مجرد نجوم. وقد استشهد ببعض مقطفات من كتب التفسير، في تفسير لفظة "البروج"1. وقد ذكر "الطبري" أن "البروج" الواردة في "سورة البروج"2 الكواكب، والنجوم، والأصوب: منازل الشمس والقمر، "وذلك أن البروج جمع برج، وهي منازل تتخذ عالية عن الأرض مرتفعة، ومن ذلك قول الله: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} . وهي منازل مرتفعة عالية في السماء. وهي اثنا عشر برجًا، فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث، فذلك ثمانية وعشرون منزلًا، ثم يستسر ليلتين. ومسير الشمس في كل برج منها شهر"3. ونسب إلى أمية بن أبي الصلت علم بالبروج والكواكب، وقد ورد في الأخبار: أن الرسول أنشد قوله: زُحَلٌ وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث يرصد4 وفي هذا البيت، إن صح قول الرواة، أن الرسول أنشده دلالة على وقوفه على شيء من هذا بالفلك. ويذكر العرب أن القمر يأخذ كل ليلة في منزل من المنازل حتى يصير هلالًا، وقد أشير إلى المنازل في القرآن: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 5. والمنازل ثمانية وعشرون منزلًا في كل شهر ينزلها القمر6. وكل من الشمس والقمر يجريان في فلكهما، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 7 والعرب تزعم أن الأنواء المنازل، وتسميها نجوم الأخذ، لأن القمر يأخذ كل ليلة في منزل منها حتى يصير هلالًا، وهي منسوبة إلى البروج الاثني عشر. وفي كل برج من

_ 1 نالينو "ص108 وما بعدها". 2 البروج، الرقم 85. 3 تفسير الطبري "30/ 81"، تفسير النيسابوري "30/ 59"، "حاشية على تفسير الطبري"، تفسير ابن كثير "4/ 491". 4 الإصابة "1/ 129". 5 سورة يسن الآية39. 6 الجمان في تشبيهات القرآن "201". 7 تفسير الطبري "23/ 5 وما بعدها".

البروج منزلان وثلث من منازل القمر، وهي نطاق الفلك، والفلك مدار لها. وإنما سُمي فلكًا لاستدارته1. وأول ما يعد العرب من "المنازل" "الشَرطان"، وهما كوكبان يقال هما قرنا الحمل، ويسميّان النطح والناطح، وبينهما في رأي العين قاب قوس، وأحدهما في جهة الشمال والآخر في جهة الجنوب وإلى جانب الشمال كوكب صغير يعد معهما أحيانًا فيقال: الأشراط، وقد يعرف بـ"الأشرط". و"الشرطان" نجمان من الحمل، وهما قرناه، وإلى جانب الشمالي منها كوكب صغير2. ومن العرب من يسمي هذه النجوم الثلاثة الأشراط. وقيل: هما أول نجم الربيع، ومن ذلك صار أوائل كل أمر يقع أشراطه3، والربيع أول الأزمنة للعرب، فيه الخير والبركة لهم. وإذا نزلت الشمس بهذا المنزل فقد حلت برأس الحمل، وهو أول نجوم فصل الربيع، وعند ذلك يعتدل الزمان، ويستوي الليل والنهار فإذا استوى الزمان، يليه نهاية الربيع، وعودةالعرب إلى الأوطان. "يقول ساجع العرب: إذا طلع الشرطان استوى الزمان وحضرت الأوطان، وتهادت الجيران. أي: رجع الناس إلى أوطانهم من البوادي بعد ما كانوا متفرقين في النجع"4. ثم "البطين"، وهو ثلاثة كواكب خفية، ويقال: هي بطن الحمل، ثم "الثريا"، وهي أشهر منازل القمر، ويسمونها: النجم. وقد أكثر الشعراء من التشبيه بها5. ولهم في فعلها أسجاع منها: "إذا طلع النجم، فالحر في حدم، والعشب في حطم، والعانة في كدم"، و"إذا طلع النجم عشاء، ابتغى الراعي كساء"، و"إذا طلع النجم غدية ابتغى الراعي شكية"6. وعرفت "الثريا" بـ"كيمه" Kimah عند العبرانيين وعند السريان، وعرفت

_ 1 الجمان في تشبيهات القرآن "201". 2 الجمان في تشبيهات القرآن "202". 3 تاج العروس "5/ 166 وما بعدها"، "شرط". 4 الجمان "202 وما بعدها". 5 المصدر نفسه "203 وما بعدها". 6 الجمان "206 وما بعدها".

بـ"النجم" كذلك1. وقد ذكرت بـ"النجم" وبـ"النجم الثاقب" في القرآن الكريم. وقد ذكرت الثريا في شعر امرئ القيس2، وفي شعر "قيس بن الأسلت"، و"قيس بن الخطيم"، و"أحيحة بن الجلاح"3، كما ذكرت في شعر شعراء آخرين من جاهليين وإسلاميين. ويرى العرب أن لها أثرًا في الصحة وفي وقوع الأوبئة. وأوبأ أوقات السنة عندهم ما بين مغيبها إلى طلوعها. "قال طبيب العرب: اضمنوا ما بين مغيب الثريا إلى طلوعها، وأضمن لكم سائر السنة. ويقال: ما طلعت ولا نأت إلا بعاهة في الناس والإبل وغروبها أعوه من شروقها". وفي الحديث: "إذا طلع النجم لم يبق في الأرض من العاهة شيء إلا رفع. فإنه يريد بذلك عامة الثمار، لأنها تطلع بالحجاز وقد أزهى البسر، وأمنت عليه الآفة وحل بيع النخل"4. ثم الدبران، وهو كوكب أحمر منير يتلو الثريا ويسمى تابع الثريا، ثم الهقعة، وهي ثلاث كواكب صغار، يقال: إنها رأس الجوزاء، ثم الهنعة، وهي كوكبان أبيضان، ومنها الشعرى العبور، التي ذكرت في القرآن: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} 5، وكان من العرب من يتعبد لها، وأول من عبدها "أبو كبشة"، الذي كان المشركون ينسبون الرسول إليه. والغميصاء، والنثرة6، ثم الطرف، ثم الجبهة، ثم الزبرة، ثم الصرفة، ثم العواء، ثم السماك الأعزل، ثم الغفر، ثم الزباني، ثم الإكليل، ثم القلب، ثم الشولة، ثم العولة، ثم النعائم، ثم البلدة، ثم سعد الذابح، ثم سعد بُلَع، ثم المرع، ثم سعد السعود، ثم سعد الأخبية، ثم الحواء، ثم الفرغ المقدم، ثم الفرغ المؤخر، ثم بطن الحوت7. وقد جعلوا لكل منزل من المنازل المذكورة أثرًا في حياة الناس، يتمثل في أسجاعهم المروية في كتب الأدب وفي كتب الأنواء. أخذوها من الظروف والأحوال

_ 1 Hastings, Dict., Vol., I, P. 192 2 إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل الجمان في تشبيهات القرآن "204". 3 الجمان في تشبيهات القرآن "204". 4 الجمان "207". 5 النجم، الآية: 49. 6 الجمان "211 وما بعدها". 7 الجمان "211 وما بعدها".

والتجارب العملية التي كانت تقع لهم عند طلوع الكواكب المذكورة. فنسبوا الفعل إليها، من جفاف ورطوبة وحر وبرد، وهطول مطر أو انحباسه ومن حصول أوبئة إلى غير ذلك من أثر. ويظهر من دراسة ما ورد عن أنواء أرباع السنة وعن عدة المنال وصفاتها ومن الأسماء التي أطلقت عليها على أن الجاهليين كانوا على علم بها وبالبروج1. فالمصطلحات المستعملة في هذه الأنواء وكذلك الأسماء هي مصطلحات أخذها المسلمون من لغة أهل الجاهلية، وأخذهم لها عنهم، كلًّا أو بعضًا، هو دليل على وجود علم للجاهليين بالأنواء والفلك. ولا يستبعد ذلك عنهم؛ لأن الجاهليين كانوا في حاجة شديدة إلى معرفة الأنواء وعلم الفلك، وقد كان لأهل العراق ولأهل بلاد الشأم علم بهما، يعود بعضه إلى البابليين ويعود بعض آخر إلى اليونان، وقد كان السريان يدرسون الفلك، والعرب على اتصال بهم، ولا سيما عرب النصارى مثل أهل الحيرة، حيث درسوا علوم تلك الأيام، ولما كانت معارف الأنواء والفلك ضرورة لهم، فلا يستبعد أخذ الجاهليين معرفتهم بهما من المكانين. والأجرام السماوية هي كواكب ونجوم، وقد أشير إليها في القرآن الكريم. و"الكوكب" من التسميات التي ترد في اللهجات السامية الأخرى فهي "كوكب" "كوكاب" في العبرانية، و"كوكبا" في السريانية، و"كوكب" في الحبشية، و"ككبو" Kakkabu في الأشورية2. ويراد بالكوكب النجوم المتحركة التي تتغير مواضعها. أما الأجرام التي تبدو ثابتة لا تترك محلاتها، فهي النجوم. وقد اشتهرت مجموعة من النجوم باسم "بنات نعش" عند العرب ولا تزال هذه التسمية دائرة على ألسنة الناس يطلقونها على المجمة نفسا المعروفة بهذه التسمية عند الجاهليين، وللأخباريين قصص أوردوه عن هذه التسمية يرجع إلى ما قبل الإسلام. وتعرف بنات نعش بـ"عيش" "عاش" و"عيش" عند العبرانيين3. وعرفت مجموعة أخرى من النجوم باسم "جبار". وتسمى "جبارا" Gabbara

_ 1 العمدة "252" "باب ذكر منازل القمر". 2 Hastings, Dict., vol., I, P. 191 3 Hastings, Dict., Vol., I, p. 191

في السريانية وبـ"نفله" Nipgla في الكلدانية، و"فسيل" في العبرانية. ويظهر أنها من الأبراج السماوية القديمة المعروفة عند الساميين1. وعرفت "زُحَل" و"سهيل" عند الجاهليين كذلك. وكذلك "عثتار" معبودة العرب الجنوبيين. و"العقرب" أحد البروج. وقد وردت في سفر "أيوب"2 جملة "حدرى تيمان"، ومعناها "الخادر الجنوب" أو "مخادع الجنوب"3، مما يدل على أن المراد بها نجوم تقع في الجنوب، أي: في جنوب فلسطين. وقد ورد في العربية "وسهيل يمان"، أي: جنوبية، وذلك بالنسبة إلى أهل الحجاز. و"الزهرة"، هي من الكواكب الظاهرة البارزة التي تعرف بسهولة. وهي "هيلل" عند العبرانيين. وهناك كوكب اسمه Kaawanu عند الأشوريين. ويراد به "كيون" Kiyyun عند العبرانيين. ويقابل "كيوان" في العربية. وهو معروف عند المنجمين. ومن المعربات4. والساطرون، من الكواكب المعبودة عند بعض الشعوب السامية5. أما الشمس، فهي أعرف الأجرام السماوية، وبها استدل على الوقت على الساعات والأيام والسنين والمواسم. وفي القرآن الكريم آيات توضح لنا رأي الجاهليين في الشمس. وأما القمر، فمن آلهة العرب الجنوبيين البارزة. ويعرف عندهم بـ"هلل" أي: "هلال". والقمر من التسميات العربية الشمالية. وأما الهلال، فإنه القمر في أيامه الأولى عند أهل الحجاز. وللقمر أسماء نطقت بها العرب. فمنها: الطوس والباهر والغاسق والزبرقان والواضح والزمهرير والسنمار والساهور6. والساهور هو: القمر في الآرامية، من Sahro7.

_ 1 Hastings, Dict, vol. I, p. 192. 2 أيوب، الإصحاح التاسع، الآية التاسعة: 3 Hastings, Dict, vol. I, p. 192. 4 Hastings, Dict, vol. I, p. 193. 5 Hastings, Dict, vol. I, p. 193. 6 نهاية الأرب "1/ 51 وما بعدها". 7 غرائب اللغة "189".

وقد اشتهر بعض الجاهليين بعلمهم بمواقع النجوم، منهم: "بنو مُرّة بن همام الشيباني" و"بنو مارية بن كلب"1.

_ 1 البيروني "241"، زيدان: آداب اللغة "1/ 206".

الكسوف والخسوف

الكسوف والخسوف: والكسوف والخسوف من الظواهر المعروفة عند الجاهليين. وقد عد وقوعهما من الأمارات التي تشير إلى وقوع حوادث جسيمة في العالم. شأنهم في ذلك شأن شعوب العالم الأخرى في ذلك العهد. فقد كان بعض الجاهليين يرى أن كسوف الشمس آية دالة على موت رجل عظيم. فقد ورد أن الشمس كسفت في عهد رسول الله، ووافق ذلك موت إبراهيم بن رسول الله، فقال الناس: إنما كسفت الشمس لأجله. فقال النبي: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى يخوّف بهما عباده، وأنهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته"1. وقد حدث ذلك في المدينة. وورد في الأخبار أن الأنصار كانوا يقولون في النجم الذي يرمى به: مات ملك، ولد مولود2. وكانوا يتصورون أن الكهان كانوا يستعينون على معرفة المغيبات والخفايا بواسطة شياطينهم الذين كانوا يصعدون إلى السماء فيأخذون أخبارهم. وأن الرعد صوت الموكل بالسحاب يزجر السحب من أن تخالف أمره، حيث يسوقها من بلد إلى بلد كما يسوق الراعي إبله3. ويظهر من الموارد الإسلامية أن الجاهليين كانوا يثبتون الوقت بموقع ظل الشمس. ويستعين أهل البادية بالظل، ظل إنسان أو عصا أو ظل خيمة، ويدركون من هذا الظل مقدار الوقت بصورة تقريبية. وعلى هذا المبدأ قدر الفقهاء أوقات الصلاة ولا يستبعد استعانة أهل القرى والمدن بمزاول ثابتة في تقدير الوقت. وذلك بأن تخطط درجات على جدار ثابت أو على أرض، أو تعمل فتحات في

_ 1 نهاية الأرب "1/ 48". 2 نهاية الأرب "1/ 87". 3 نهاية الأرب "1/ 88 وما بعدها".

جدار، ويعين الوقت برؤية ظل قضيب أو عمود مثبت على الدرجة المرسومة أو الفتحة، ويستدل من الظل على منزلة الساعة من النهار. وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب يلجأون إلى المتفرسين في دراسة الأجرام السماوية لمعرفة الأمور الخافية عليهم من حاضر ومستقبل، وذلك بالاستدال عليها من ظواهر الكواكب والنجو. والكهان، هم المتخصصون بهذه المعرفة عند الجاهليين، فكانوا يتنبئون لهم بما سيقع من أمور وأحداث بالاستدلال بحركات تلك الأجرام، وبما تجمع عندهم من فراسات وتجارب ورثوها في هذا الشأن. وقد كان الجاهليون يبالغون في ذلك كثيرًا ويؤمنون بالتنجيم وبتأثير الطالع في حياة الإنسان، ولهذا ذم الإسلام المنجمين وكذبهم ومنع المسلمين من التصديق بهم. وكان لأهل الجاهلية رأي في تساقط الشهب والنيازك، ويرون أن لتساقط النجوم أثر في الإنسان وفي العالم. ذكر أنهم كانوا يرون أنه إذا انقض شيء من البروج الاثني عشر، فهو ذهاب الدنيا، وإن لم ينقض منها شيء، بل رأوا انقضاض النجوم وسقوطها، فإن ذلك يدل على حدوث أمر عظيم في الدنيا1.

_ 1 تفسير القرطبي، الجامع "17/ 82 وما بعدها"، "سورة النجم".

التوقيت

التوقيت: وقد اهتم الجاهليون بأمر التوقيت، أي: تعيين الأوقات وضبط الأزمنة، لعوامل ضرورية عديدة. فالزراعة خاضعة لتقلبات الجو وتبدل المواسم، والأعياد وكثير من الشعائر الدينية وأمور العبادة لها علاقة بالتوقيت كذلك، كما أن للتجارة وللسير في البر والبحر صلة كبيرة بمعرفة الأنواء. ولهذا عنوا بتتبع سير الكواكب ودراسة ملامح السماء وظواهر الطبيعية التي لها علاقة بالرياح والأمطار وبأمثال ذلك للاستفادة منها في الحياة العملية. ويحدثنا الجاحظ في كتاب الحيوان عن حاجة الأعرابي إلى معرفة حال السماء وتقلبات الجو، فيقول: "عرفوا الآثار في الأرض والرمل، وعرفوا الأنواء ونجوم الاهتداء، لأن كل من كان بالصحاصح الأماليس، حيث لا أمارة ولا هاوي مع حاجته إلى بعد الشقة، مضطر إلى التماس ما ينجيه ويؤيده. ولحاجته

إلى الغيث، وفراره من الجدب وضنه بالحياة، اضطرته الحاجة إلى تعرف شأن الغيث، ولأنه في كل حال يرى السماء وما يجري فيها من الكواكب، ويرى التعاقب بينها والنجوم الثوابت فيها، وما يسير منها مجتمعًا وما يسير منها فاردًا، وما يكون منها راجعًا ومستقيمًا"1. وفي هذا وفي غيره تفسير لسبب اهتمام الجاهليين بالتوقيت ودراسة الأنواء2. وقد اعتبر القدماء أمر التوقيت من واجبات رجال الدين، فكان رجال المعابد والكهان هم الذين يقومون بضبط الوقت وتثبيت الأعياد وأوقات العبادة. ظلوا على ذلك أمدًا طويلًا، ولا تزال آثار ذلك باقية حتى اليوم. وكان هؤلاء الرجال قد احتكروا المعرفة والعلم لاعتقاد الناس أنهم أقرب البشر إلى الآلهة، وأن ما يتكلمون به إنما هو وحي منها، يوحى إلى هؤلاء، فعلمهم إذن نابع من مصدر صادق لا يتطرق إليه الشك. وإذا كانت كتابات المسند لم تتحدث عن الموقتين ضباط الزمن في العربية الجنوبية، فإننا لا نعتقد بشذوذ العرب الجنوبيين عن غيرهم في هذا الباب، خاصة وأننا نرى أن الكهان وسدنة الكعبة ومن لهم صلة بالأصنام، كانوا هم الذين يقومون في الحجاز بضبط المواقيت والنسيء. فليس بمستبعد أن يختص رجال الدين في العربية الجنوبية بالتوقيت.

_ 1 مقدمة كتاب الأنواء في مواسم العرب، لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، سنة 1956م "ص1 وما بعدها"، وسيكون رمزه: الأنواء. 2 العمدة، لابن رشيق "2/ 252" القاهرة 1964م".

الفصل الحادي والثلاثون بعد المئة: الوقت والزمان

الفصل الحادي والثلاثون بعد المئة: الوقت والزمان مدخل ... الفصل الحادي والثلاثون بعد المائة: الوقت والزمان يقول علماء العربية: الوقت مقدار من الزمان، وكل شيء قدرت له حينًا، فهو موقت. والوقت تحديد الأوقات كالتوقيت1. واختلفوا في الزمان، فقالوا: الزمان الدهر، وعارضه آخرون. إذ قالوا: يكون الزمان شهرين إلى ستة أشهر والدهر لا ينقطع. والزمان يقع على الفصل من فصول السنة وعلى مدة ولاية الرجل وما أشبهه2، ويظهر أن بين العلماء خلافًا في تحديد المراد من اللفظتين ثم في تحديد معنى كل لفظة منهما، وفي معنى "الدهر"، وذلك بسبب مسألة القدم والحدوث، وما للتفاسير من صلة بهما، وأثر ذلك في مسائل ذات صلة بعلم الكلام. وروي عن الرسول قوله: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر"، وفي رواية أخرى: "فإن الله هو الدهر"، وورد في الحديث عن "أبي هريرة"، "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وإنما أنا الدهر. أقلب الليل والنهار"3. فالدهر الزمان الطويل، أو الدائم. وقد عبر عنه في الإسلام بالأبدية، التي هي الله. ويقاس الوقت بالسنين. والسنة أطول وحدة قياسية له. وتنقسم إلى أجزاء.

_ 1 تاج العروس "1/ 594"، "وقت". 2 تاج العروس "9/ 227"، "زمن". 3 تاج العروس "3/ 218"، "دهر".

ولفظة "سنة" من الألفاظ العربية القديمة، وترد في جميع لهجات الجاهليين، وهي من الألفاظ السامية التي ترد في كل لغاتها، مما يدل على أنها من الكلمات السامية القديمة. ويعبر عن كثرة السنين بمصطلحات، مثل: "عصر"، وهو كل مدة ممتدة غير محدودة تحتوي على أمم تنقرض بانقراضهم، وفي القرآن الكريم: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} 1. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن "العصر" الدهر2. وتقابل لفظة "العصر" لفظة "دور" Dor في العبرانية. ومنها جملة "دور وآدهور" Dor Wadhor، بمعنى الدهر والدهور، أي: الزمان الدائم. وذلك بالنسبة لله3. لأن الزمن لا شيء بالنسبة له. "لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعد ما عبر وكهزيع من الليل"4، و"أن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد"5. وقد أيد القرآن الكريم هذا المعنى، فذكر أن الوقت لا شيء بالنسبة إلى أبديته: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 6. ولفظة سنة لفظة عربية شمالية، ترد في عربية القرآن الكريم، كما ترد في النصوص العربية الشمالية، مثل نص النمارة الذي يعود عهده إلى سنة "328" للميلاد، ونص "حران" الذي يعود تاريخه إلى سنة "568" للميلاد، أي: إلى عهد لا يبعد كثيرًا عن أيام مولد الرسول. وقد كتبت لفظة "سنة" على هذه الصورة "سنت"، أي: بالتاء المبسوطة. وقد وردت هذه اللفظة في الكتابات الصفوية وفي اللهجات العربية الشمالية الأخرى أيضًا7. ولدينا لفظة أخرى مرادفة للسنة هي العام، فيقال: لعامنا هذا، أي: لسنتنا.

_ 1 سورة: العصر، تاج العروس "3/ 404"، "عصر". 2 تفسير الطبري "30/ 187". 3 "من دور إلى دور"، Hastings, p. 288 المزمور العاشر، الآية6، "وخلاصي إلى دور الأدور"، أشعياء، الإصحاح51، الآية8، المزمور التسعون، الآية1. 4 المزمور التسعون، الآية4. 5 رسالة القديس بطرس الثانية، الإصحاح الثالث، الآية6. 6 سورة الحج، الرقم22، الآية47. 7 "سنت حرب نبط"، "سنة حرب النبط" "سنة محاربة النبط"، تاريخ اللغات السامية "ص180".

وذكر علماء اللغة أن العام أخص مطلقًا من السنة، فتقول: كل عام سنة، وليس كل سنة عامًا. وذكر بعض العلماء أن العام كالسنة، لكن كثيرًا ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الجدب والشدة، ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، والعام فيما فيه الرخاء والخصب. وقال بعض آخر: السنة أطول من العام، وهي دورة من دورات الشمس، والعام يطلق على الشهور العربية بخلاف السنة. وذكر بعضهم أن العام لا يكون إلا شتاءً وصيفًا، وإنك إذا عددت اليوم إلى مثله فهو سنة1. وقد وردت لفظة "عوم" في نص واحد من نصوص المسند، بمعنى سنة، أي: في معنى "عام" في لساننا2. ولكن الغالب أن يعبر عن السنة بلفظة "خرف"، أي: "الخريف"، ويظهر أنهم أطلقوا على السنة "الخريف"، لأن الخريف هو من أبرز المواسم في العربية الجنوبية وله أهمية خاصة بالنسبة لهم، ولذلك غلبوا التسمية على كل العام. و"الحول" السنة اعتبارًا بانقلاب الشمس ودوران الشمس في مطالعها ومغاربها. وقد وردت في القرآن الكريم. ويظهر أنها من الألفاظ الجاهلية القديمة. والحولي: ما أتى عليه حول من ذي حافر وغيره، ويقال: جمل حولي ونبات حولي3. وذكر علماء اللغة أن "الخريف" السنة والعام، أي: بالمعنى المفهوم من اللفظة في كتابات المسند. وذهب بعض العلماء إلى أن الخريف هو الفصل المعروف. وأما ورود اللفظ بمعنى السنة والعام في أحاديث الرسول، فلأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة، ولذلك قصد باللفظة المسافة تقطع من الخريف إلى الخريف، وهو السنة4. ويستعمل العرب الجنوبيون لفظة "خرف" "خريف" في مكان سنة في لغتهم. وترد في النصوص المؤرخة، حيث تفيد توريخ حادث ما، وتثبيته بذكر السنة التي وقع بها من سني الملك أو الرئيس الذي أرخ الحادث به. فيكتب:

_ 1 تاج العروس "8/ 412". 2 Le Museon, 66, p. 119, Beeston, p. 20, 44, CIH. 575, 8, Rep, Epig. 2958 A. 3 تاج العروس "7/ 293". 4 تاج العروس "6/ 83".

"بـ خرف" "بخرف"، أي: "بسنة"، ثم يذكر بعدها اسم المؤرخ به. كما ترد بمعنى الخريف، الفصل المعلوم من السنة. وتؤدي لفظة "كبر" معنى سنة في بعض الأحيان، وقد رأينا أن اللفظة تعني "كبير"، وهي كناية عن وظيفة كبيرة في الحكومة، والظاهر أن الناس قد تجووزوا في الاصطلاح، فأطلقوه بمعنى السنة، لأنهم كانوا يؤرخون بسني حكم الكبراء، فصاروا يطلقونها على السنة أيضًا، ويفهم معناها عندئذ من الجملة. كما في جملة: "عد ورخ وكبر نجو ذت هقنيتن"1، ومعناها: "إلى شهر وسنة إعلان ذلك التمليك"2. وتؤدي لفظة "الحقبة" معنى السنة عند بعض علماء اللغة، وتجمع على حقب، وذكر أن الحقب ثمانون سنة، وقيل: أكثر، والجمع أحقاب، وتؤدي لفظة "الحجة" معنى السنة كذلك3. وتتألف السنة عند العرب وسائر العجم من اثني عشر شهرًا4، وأيام السنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يومًا، تنقص عن السرياني أحد عشر يومًا وربع يوم، لأن أيام السنة عند السريان ثلاثمائة وخمسة وستون يومًا وربع يوم. وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهرًا وتسميه النسيء وهو التأخير5.

_ 1 M. Tawfik, Les Monuments de Main, Plate, 32, fig. 65. Cairo 1951. 2 Beston, p. 20 3 المخصص "9/ 66 وما بعدها". 4 مروج الذهب "2/ 177". 5 مروج الذهب "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها".

الفصول الأربعة

الفصول الأربعة: وتقسم السنة إلى فصول أربعة بحيث يتكون كل فصل من هذه الفصول من ثلاثة أشهر، تكون ربع السنة. وهذه الفصول هي: الشتاء، والربيع، والصيف، والخريف. ويقال للصيف القيظ أيضًا6. ويظهر من هذه التسميات ومن هذا النوع من التقسيم أنه تقسيم بني على أساس التقويم الشمسي، لا التقويم

_ 1 M. Tawfik, Les Monuments de Main, Plate, 32, fig. 65. Cairo 1951. 2 Beston, p. 20 3 المخصص "9/ 66 وما بعدها". 4 مروج الذهب "2/ 177". 5 مروج الذهب "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها". 6 Reste, S. 95

القمري، وهو تقسيم بقي مستعملًا في الإسلام، مع أن التقويم الرسمي الإسلامي هو تقويم قمري، لأنه تقسيم طبيعي مبني على طبيعة التغير الذي يطرأ على شهور السنة. ولو بني تقسيم الفصول على الشهور القمرية، لما كان في الإمكان السير عليه بالقياس إلى الحياة العملية المبنية على الزرع والتجارة والتنقل في المراعي، وكل هذه لها علاقة بتبدل طبيعة الشهور. والتقسيم المذكور قائم على أساس ملاحظات الإنسان للطبيعة ودراسته لها، وعلاقة البرد والحر بحياته وبزرعه وحيوانه. فقسم السنة إلى موسمين: موسم زرع يبذر فيه ويزرع، وموسم حصاد يحصد فيه زرعه ويجني ثمره. وهو موسم يبدأ فيه الزرع بالأفول وبالذبول، حتى إذا ما جاء البرد، تساقط فيه الورق، وتعرت الأشجار من الخضرة ويقابل هذا البرد الحر، وهو موسم واضح ظاهر في جزيرة العرب حياته فيها أطول من بقية الفصول. فأدرك الإنسان من تأثير الطبيعة عليه وجود أربعة فصول. وقد عبرت التوراة عن هذه الفصول بقولها: "مدة كل أيام الأرض زرع وحصاد وبرد وحر وصيف وشتاء ونهار وليل"1 ولكن الواضح من الفصول في بلاد العرب: الصيف. ويستأثر بالنصيب الأكبر من السنة، لامتداد حره، ثم الشتاء ولذلك نجد الناس يقسمون السنة إلى نصفين: صيف وشتاء. ونجد هذه الفكرة عند العبرانيين كذلك، فالصيف والشتاء هما الفصلان الواضحان البارزان عندهما. ويسمى الصيف بـ"قيز" "قيض" عندهم، أي: بالتسمية الواردة عند العرب، أما الشتاء، فهو "خرف" في العبرانية2. وبعض العرب يقسم السنة نصفين: شتاء وصيفًا، ويقسم الشتاء نصفين، فيكون الشتاء أوله، والربيع آخره. ويقسم الصيف نصفين، فيجعل الصيف أوله، والقيظ آخره3. وذكر أهل الأخبار وعلماء اللغة أن العرب تبتدئ بفصل الخريف وتسميه

_ 1 التكوين، الإصحاح الأول، الآية14،الإصحاح الثامن، الآية22، قاموس الكتاب المقدس"2/ 478". 2 W. Smith, A Dictionary of the Bible, I, P. 315 3 الأنواء "ص104"، بلوغ الأرب "3/ 244".

الربيع، لأن أول الربيع، وهو المطر، يكون فيه، ثم يكون بعده فصل الشتاء ثم يكون بعد الشتاء فصل الصيف، وهو الذي يسميه الناس الربيع، وقد يسميه بعضهم الربيع الثاني، ثم يكون بعد فصل الصيف فصل القيظ، وهو الذي يسميه الناس الصيف1. وذكر "اليعقوبي" أن العرب اختلفت "في أسماء الأزمنة الأربعة: فزعمت طائفة منها أن أولها الوسمي، وهو الخريف، ثم الشتاء، ثم الصيف، ثم القيظ، ومنهم من يعد الأول من فصول السنة الربيع، وهو الأشهر والأعم، والعرب تقول: خرفنا في بلد كذا، وشتونا في بلد كذا، وتربعنا في بلد كذا، وصفنا في بلد كذا"2. وأول وقت الربيع عندهم، وهو الخريف، ثلاثة أيام تخلو من أيلول. وأول الشتاء عندهم ثلاثة أيام تخلو من كانون الأول. وأول الصيف عندهم، وهو الربيع الثاني، خمسة أيام تخلو من آذار. وأول وقت القيظ عندهم أربعة أيام تخلو من حزيران. والخريف عندهم المطر الذي يأتي في آخر القيظ، ولا يكادون يجعلونه اسمًا للزمان3. وهناك أسماء أخرى لهذه الفصول، فـ"الصفرية" هو الجزء الأول من السنة وسمي مطره الوسمي، والشتاء هو الجزء الثاني منها. أما الصيف فهو الجزء الثالث. وأما الجزء الرابع، فهو القيظ، وسموا مطره الخريف، وقد حددوا مبدأ كل فصل ومنتهاه بالفصول. وهناك كما يتبين من روايات علماء اللغة اختلاف في تشخيص الربيع، منهم من يذهب إلى أنه الفصل الذي يتبع فيه الشتاء، ويأتي فيه الورد والنَّور، "ومنهم من يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف وفصل الشتاء بعده. ثم فصل الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامة الربيع، ثم فصل القيظ بعده وهو الذي تدعوه العامة الصيف. ومن العرب من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف الربيع الأول، ويسمى الفصل الذي يتلو الشتاء ويأتي فيه الكمأة والنور الربيع الثاني. وكلهم مجمعون على أن الخريف هو الربيع"4.

_ 1 الأنواء "ص104 وما بعدها"، المخصص "9/ 79 وما بعدها". 2 مروج "2/ 192". 3 الأنواء "ص104 وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "3/ 243 وما بعدها"، صبح الأعشى "2/ 414 وما بعدها".

وهناك من يجعل السنة ستة أزمنة: الوسمي، والشتاء، والربيع، والصيف، والحميم، والخريف1.وحصة كل زمن من هذه الأزمنة شهران. وذكر بعض العلماء أن السنة عند العرب ستة أزمنة: شهران منها الربيع الأول وشهران صيف وشهران قيظ وشهران الربيع الثاني، وشهران خريف وشهران شتاء. وذكر بعضهم أن السنة أربعة أزمنة: الربيع الأول وهو عند العامة الخريف، ثم الشتاء، ثم الصيف وهو الربيع الآخر، ثم القيظ. وهذا هو قول العرب في البادية. والربيع جزء من أجزاء السنة، وهو عند العرب ربيعان: ربيع الشهور وربيع الأزمنة. فربيع الشهور شهران بعد صفر. سميا بذلك لأنهما حدا في هذا الزمن فلزمهما في غيره. ولا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر. وأما ربيع الأزمنة. فربيعان: الربيع الأول وهو الفصل الذي يأتي فيه النور والكمأة، وهو ربيع الكلأ. والربيع الثاني، وهو الفصل الذي تدرك فيه الثمار. ومن العرب من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار، وهو الخريف: الربيع الأول، ويسمى الفصل الذي يتلو الشتاء ويأتي فيه الكمأة والنور الربيع الثاني. وكلهم مجمعون على أن الخريف هو الربيع2. وقسم بعضهم الشتاء إلى ربيعين: ربيع الماء والأمطار وربيع النبات لأن فيه ينتهي النبات منتهاه. والشتاء كله ربيع عند العرب لأجل الندى3. ويظهر من المسند أن العرب الجنوبيين كانوا يقسّمون السنة إلى فصول كذلك، وأنهم كانوا مثل غيرهم يقسمونها إلى فصول أربعة: الشتاء والربيع والصيف والخريف. ولا يعني هذا التقسيم الرباعي أن الجو في العربية الجنوبية أو في أي مكان آخر في جزيرة العرب كان يختلف اختلافًا واضحًا بينًا من حيث التطرف أو الاعتدال باختلاف هذه الفصول الأربعة، وأن شهور الفصول هي متساوية بالفعل، وأن عدة كل فصل ثلاثة أشهر، بل هو في الواقع تقسيم علمي نظري. أما من الناحية العلمية، فإن فصلي الصيف والشتاء هما أبرز الفصول وأوضحها

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 244"، صبح الأعشى "2/ 405". 2 تاج العروس "5/ 340 وما بعدها"، "ربع"، صبح الأعشى "2/ 415 وما بعدها". 3 تاج العروس "5/ 340"، "ربع".

في جزيرة العرب كلها. ولا سيما فصل الصيف الذي يعد أطول الفصول وأوضحها فيها. وهذا الذي دفع العرب ولا شك إلى تقسيم السنة إلى نصفين، شتاء وصيف يبتدئون بالشتاء ويجعلونه النصف الأول، ويبتدئ عندهم بابتداء النهار في القصر وابتدائه في الزيادة. وأما الصيف، فيبدأ عند انتهاء النهار بالطول وابتدائه بالنقصان1. والشتاء هو "صربن" في المسند. أما الربيع، فهو "دثا". وأما الصيف، فـ"قيضن"، أي: القيظ، وأما الخريف، فـ "خرفن"، أي: الخريف2. ويذكر علماء اللغة أن القيظ هو أشد الحرّ، وأن الخريف ليس في الأصل باسم للفصل، إنما هو اسم لمطر القيظ، ثم سمّي الزمان به فجرى3. وترتبط مسميات الفصول ارتباطًا متينًا مع مواسم الحصاد ففي أحد النصوص: "صربم وقيضم"4، ومعناه "شتاء وصيف"، ويظهر أن صاحبه قصد من لفظة "صريم" الحصاد الذي يتم في أول موسم الشتاء5. وأما "قيض"، فهو الصيف، حيث تشتد الحرارة فيه. وفي نص آخر: "قيض ودثا وصرب وميلم"6 وكلمة "ميلم" يجب أن تؤدي معنى الخريف، إذ القيض، هو الصيف و"دثا" الربيع و"صرب" الشتاء فتكون لفظة "ميلم" بمعنى الخريف إذن، وربما الحصاد، أي: الحصاد الذي يجمع في آخر الشتاء، قبل هطول أمطار الربيع7. وفي الربيع والخريف تتساقط الأمطار الفصلية في العربية الجنوبية، تتساقط الأمطار الربيعية في شهري آذار ونيسان وأما أمطار الخريف القوية الثقيلة، فتهطل في تموز "جولاي" وآب "أغسطس" وأيلول "سبتمبر". وتعرف أمطار الخريف فتسمى بـ"خرف" "خريف". دعيا بذلك لنزولهما في هذين الموسمين. وإلى هذين الفصلين أشار "بلينيوس" Pliny حين قال: إن العرب الجنوبيين

_ 1 المخصص "9/ 79"، الأنواء "ص104 وما بعدها". 2 Mitt., S. 62, 65, 71, Rep. Epi., 4250 3 المخصص "9/ 80". 4 Rep. Epig. 4230/8. 5 Beeston, p. 20. 6 CIH 174/4. 7 Beeston, p. 20.

يسمّون غلة البخور التي يجمعونها في فصل الخريف باسم Dathiathum، ويسمون الغلة التي تجمع من هذه المادة في فصل الصيف بـCarfiathum. والكلمة الأولى هي تحريف للفظة "خريف". وأما الثانية، فتحريف للفظة "دثا"، أي: الربيع1. وقد دخلت التسميتان بواسطة التجارة والتجار إلى اليونان، ولا شك. وهما تسميتان واضحتان صحيحتان. وتؤدي لفظا "دثا" و"خرفن" معنى الأمطار الموسمية في الغالب، أي: أمطار الربيع وأمطار الخريف في بعض الكتابات2. وقد تؤديا معنى "الغلات" أي: "فرع"، التي تجمع في موسمي الربيع والخريف3. ولدينا نص طريف يفيد أن أصحابه قد أذنبوا بعدم إيفائهم بما نذروه لآلهتهم وكان عليهم الوفاء به في "ذ موصبم" كما عاهدوا آلهتهم. ولمخالفتهم عهدهم هذا، أرسلت الآلهة عليهم سيلًا جارفًا من أمطار شديدة سقطت في موسمي الربيع والخريف، فأتلفت زرعهم وأصابتهم بضرر كبير، واعترافًا منهم بتقصيرهم هذا وبذنبهم، كتبوا النص المذكور، وقدموا نذرهم كاملًا، راجين من الآلهة الصفح عن ذنبهم والعفو عنهم، وأن تبارك في زرعهم، وأن تعوضهم عن خسارتهم التي أصابتهم بغلة وافرة وحاصل غزير4.

_ 1 Pliny, Hist. Nat, XII, 60, Beesten, p. 19, CIH 540. 2 CIH 547, 540. 3 CIH 2. 4 CIH 547, Beeston, p. 20 f.

الشهور

الشهور: وتتألف السنة عند العرب الشماليين من اثني عشر شهرًا، وقد أشير إلى ذلك في القرآن: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} 1. وهو التقسيم الشائع المعروف عند بقية الساميين واليونان وغيرهم. والمعمول به حتى اليوم. ولم ترد إشارة إلى هذا التقسيم في نصوص المسند، ولكن ورود ذكر السنين والشهور في كتابات

_ 1 التوبة، رقم9، الآية37، ابن الأجدابي "30".

المسند، واستعمال العرب الشماليين وغيرهم التقسيم الاثني عشري للسنة، يحملنا على القول إن العرب الجنوبيين كانوا يقسمون السنة إلى اثني عشر شهرًا أيضًا، وإن لم ينص على ذلك في النصوص. وقد لاحظ "رودوكناكس" أن المزارعين المحدثين في العربية الجنوبية يسيرون بموجب تقويم فلكي Sidereal Calender، يقسم السنة إلى ثمانية وعشرين شهرًا، مدة كل شهر ثلاثة عشر يومًا، فاستنتج من ذلك احتمال كون هذا التقويم من بقايا تقويم عربي جنوبي كان العرب الجنوبيون يسيرون عليه قبل الإسلام. ولهذا رأى أن "ذ فرغ" و"ذا جبي" "ذا جبو"، لا يمثلان شهرين من شهور السنة، وإنما يمثلان وقتًا من أوقات العمل والزرع، بالمصطلح المستعمل الآن في العربية الجنوبية، أي: جزءين من "28" جزءًا من أجزاء السنة1. وذهب "بيستن" إلى احتمال تقسيم العرب الجنوبيين للشهر إلى ثلاثة أقسام، يتكون كل قسم منها من عشرة أيام2. ويرى "رودوكناكس" أن سنة العمل عند القبائل تبدأ باليوم الأول من شهر "ذ فرغم" "ذو فرعم" "ذو الفرع"، وتمتد إلى اليوم السادس من "ذ فقحو"، ويرى أن السنة عند الفلاحين، تتكون من "360" يومًا، أما الأيام الباقية وهي ما بين "5"، "6"، فتضاف إلى أحد الأشهر وتأخذ اسمه، فتكون السنة بهذا العمل سنة شمسية كاملة. ويحتفل الفلاحون عند انتهاء تقويمه الزراعي بانتهاء السنة، حيث يعيدون عبدًا يسمونه "مصب"، "مصوب"، ويعد شهر "فرعم" الشهر الأول من السنة الزراعية، حيث تزهر الأشجار، وتظهر الأوراق. وتختلف هذه السنة عن سني التقويم الرسمي الذي تسير عليه الحكومة في جباية استحقاقها من حاصل الزرع3. والإهلال هو المبدأ الذي سار عليه الجاهليون في تعيين أوائل الشهور4. فإذا اختفى القمر في آخر الشهر ولم يظهر، خرجوا لمراقبة الهلال وتثبيت مبدأ الشهر.

_ 1 Beeston, p. 4, R.B. Serjeant, Star Calendero and and Almanac from South West Arabia, in Anthropos, in Anthropos, Bd. 49, 1954, s. 433. 2 Beeston, p. 5. 3 Rhodokanakis, Katab. Texte II, s. 19 ff. 4 صبح الأعشى "2/ 369"، نهاية الأرب "3/ 156".

وقد كانوا يعدون الرؤية من الحوادث المؤثرة في حياة الشخص. من حيث جلب النحس والسعادة للمستهل. ولهذا كانوا ينظرون إلى المناظر الجميلة حين الاستهلال، لاعتقادهم أن ذلك يجلب لهم البركة والخير. والشهر كما جاء في الحديث: "مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين"1، أي: يومًا. ويعبر عن الشهر بلفظة "ورخ" في العربيات الجنوبية. والجمع "أورخم" "أورخ". ولفظة "ورخ" تعني القمر في عربية القرآن الكريم. وهي من الألفاظ السامية القديمة، وتؤدي معنى "أرخ" وتأريخ أيضًا2. فكان العرب الجنوبيون إذا أرادوا التأريخ بالأشهر، قالوا: "ورخ كذا"، أي: "شهر كذا". والتوريخ بالشهور لا يعني أن العرب الجنوبيين أو غيرهم من العرب، كانوا لا يؤرخون إلا بالتقويم القمري، وأنهم لم يكونوا يستعملون غير هذا التقويم. فقد كان غيرهم يؤرخون بالشهور القمرية كذلك، وكانوا مع ذلك يؤرخون بالتقويم الشمسي، أو بالتقويمين. ولا تعني لفظة "ورخ" التي هي "الشهر" أن العرب الجنوبيين كانوا يتبعون تقويمًا قمريًّا، بسبب أن لفظة "ورخ" تعني "قمر" في الأصل، فالانكليز يستعلمون لفظة Month بمعنى الشهر، وهي من أصل Moon أي: القمر، ومع ذلك فإن شهورهم شمسية، ولفظة "الشهر" نستعملها في عربيتنا، هي في معنى "ورخ" في الأصل. فالشهر: القمر، والهلال3. أي مرادف "ورخ" تمامًا. وقد سمي الشهر به، لأنهم كانوا يوقنون به، فالمدة التي تمضي بين هلال وهلال جديد، هي شهر. نسي المعنى الأصلي للكلمة، وبقي الاصطلاح ومن ذلك قولهم: أشهروا، بمعنى أتى عليهم شهر، وشاهره مشاهرة وشهارًا، استأجره للشهر4. ووردت لفظة "شهر" بمعنى هلال في العربيات الجنوبية، وذلك كما في هذه الجملة: "بيوم شهرم ويوم ثنيم ذنم"5، أي: "بيوم الهلال، وبيوم

_ 1 إرشاد الساري "3/ 359". 2 نص ابنة Rhodokanakis, Stud. II, S. 48, Bruno Meissner Supplement nyu den Assyrischen Worterbuchetn, Leiden, 1891, S. 16. 3 تاج العروس "3/ 321"، "شهر". 4 تاج العروس "3/ 321"، "شهر". 5 Jamme 651, 19

المطر الثاني"، أو بعبارة أخرى "يوم الإهلال، وزمان سقوط المطر الثاني". وقد وردت في كتابات المسند أسماء عدد من الأشهر، يتبين من دراستها أن بعضها وارد في نصوص لهجتين مثل لهجة معين وسبأ، ولهجة سبأ وقتبان، مما يدل على أنها كانت مشتركة ومستعملة عند المعينين والسبئيين، أو عند السبئيين والقتبانيين. ولكن الأغلب انفراد كل لهجة بتسمية شهر، بدليل ما نجده في كتابات كل لهجة من اللهجات التي نعرفها من أسماء أشهر لا ترد في الكتابات الأخرى ومن الأشهر المشتركة التي ورد اسمها في كتابات سبئية ومعينية، شهر "ذ دثا" وشهر "ذ سحر"، وقد ورد اسمه في كتابات سبئية وقتبانية، و"ذا أبهى" "ذ أبهو"، وقد ورد في كتابات معينية وسبئية وقتبانية كذلك1. وعثر على أسماء هذه الشهور في النصوص المعينية: "ذ أبهى" "ذو أبهى"، و"ذ أبرهن"، و"ذ أثرت"، "ذو عثيرة"، و"دثا"، و"ذ حضر"، و"ذ طنفت"، و"ذ نور"، و"ذ سمع"، و"ذ شمس"2. ومن الشهور الواردة في كتابات السبئيين المتقدمة: "ورخ ذا بهي"، أي: شهر ذو أبهى، و"ورخ ذ دنم"3، و"ورخ دثا"، "ذ دثا"، و"ورخ ذ نيلم"، و "ورخ ذ نسور"، و"ورخ ذ سحر"، و"ورخ ذ فلسم"، و"ورخ ذ قيضن"، و"ورخ صربن"، و"ورخ صر"، و"ورخ ذ الالت"، و"ملت"4، و"ذ عثتر"، و"ذ موصبم"، و"ذ مخضدم"5. وشهور أخرى. أما الشهور: "ورخن ذ الألت"، و"ورخ ذ داون" و"ورخو ذ حجتن" و"ورخ ذ خرف" و"ورخو ذو مذران" و"ورخن ذ مهلتن" و"ورخن ذ محجتن" و"ورخ ذ معن" و"ورخ ذ صرين" و"ورخو

_ 1 تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي "5/ 234 وما بعدها". 2 Rohdokanakis, Kataba. I, S. 133, Beeston, p. 10, Rhodokanakis, Studi. II, S. 141, Sab. Denkm. 21, CIH 380. Beeston, p. 10. 3 "بو رخ ذ دو نم" Rhodokanakis, Studi, II, S. 75 ZDMG. 29. 4 Beeston, p. 12 f. 5 CIH 547.

ذو قيضن" و"ورخ ذ ثبتن"، فإنها من الشهور الواردة في الكتابات السبئية المتأخرة1. ويظهر من اسم الشهر "ورخن ذ اللات" "ذ ال ال ت"2، و"ورخن ذ حجتن"، أن لهما صلة بالحياة الدينية عندهم. فورخن ذ الالت معناه شهر الآلهة. فالظاهر أنه شهر خصص بالآلهة، كانوا يتقربون فيه إليها بالنذور مثلًا أو العبادة. فهو شهر مقدس، ربما يكون مثل شهر "رمضان" في الإسلام. وأما "ورخن ذ حجتن"، فمعناه "شهر الحج"، فهو شهر يحج فيه إلى الأصنام، على نحو "شهر ذي الحجة" في الإسلام. أما الشهور القتبانية التي وردت أسماؤها في كتاباتهم، فهي: "ورخس ذ أبهو" و"ورخس ذ برم" و"ورخس ذ بشمم" و"ورخس ذ مسلعت" و"ورخس ذ سحر" و"ورخس ذ عم" و"ورخس ذ تمنع" و"ورخس ذ فرعم"، و"ورخ ذ فقهو"3. ويلاحظ أن اللهجة القتبانية تضع حرف "و" في نهاية "أبهى" "فقهى"، فتقول: "ذ أبهو"، و"ذ فقهو" بدلًا من "ذا أبهى" و"ذ فقهي"، فتقول: "ذ أبهو"، و"ذ فقهو" بدلًا من "ذ أبهى" و"ذ فقهي" كما هو الحال في اللهجات الأخرى، مما يدل على أن هذا الحرف، هو من خصائص هذه اللهجة4. وذكر "بيستن" أن الكتابات الحضرمية لم تذكر من أسماء الشهور إلا اسم شهر واحد، هو "ورخس ذ صيد"5. ويلاحظ ورود لفظتي "قد من" و"اخرن" مع أسماء بعض الأشهر كما في هذه الجمل: "ورخ ذ نسور قد من" و"ورخ ذ نسور أخرن"، و"ورخس ذ برم قد من"، و"ذ برم أخرن"6. ومعناها: "شهر

_ 1 Beeston, p. 13 f. 2 Jamme 642, 6, Mahram, p. 141. 3 Rhodokanakis, Katab. I, S. 96, II, S. 5, Glaser, 1396, 1310, Die Inschri. An der Mauer von Kohlan – Tamma' 1924, S. 15, SE80, Beeston, p. 11 f. 4 Beeston, p. 41, note: 4. 5 Beeston, p. 15. 6 Rhodokanakis, Die Inschri. An der Maner von Koblan – Timma' 1924, S. 52 ff, Glaser 1609, Beeston, pp. 11, 13, REP. 3688, 3879.

ذو نسور الأول" و"شهر ذو نسور الثاني" و"ذو نسور الآخر"، و"شهر ذو برم الأول" و"شهر ذو برم الآخر". وذلك أن لفظة: "قد من" تعني "الأقدم" و"الأول". وأما "أخرن"، فتعني "المتأخر والثاني والآخر". وذلك كما نفعل نحن اليوم إذ نقول "شهر ربيع الأول" و"شهر ربيع الآخر" و"جمادى الأولى" و"جمادى الآخرة" في التقويم الهجري، و"كانون الأول" و"كانون الثاني" في التقويم الميلادي. ويتبين من استعمال اللفظتين المذكورتين أن بعض العرب الجنوبيين، ويجوز أن يكونوا كلهم، كانوا كالعرب الشماليين ومثل بعض الساميين، قد استعملوا اسمًا واحدًا لشهرين، وللتفريق بينهما أطلقوا لفظة "قد من" بعد اسم الشهر الأول، لتمييزه عن سميّه الشهر التالي له، ولفظة "أخرن" أي: المتأخر والتالي أو الثاني بعد اسم الشهر الثاني لتمييزه عن الأول المتقدم عليه. ويظن أن شهر "ذ برم أخرن"، "ذ برم الآخر" "ذ برم التالي" أو "الثاني" إنما هو من شهور "الكبس"، ولهذا فهو لا يكون في كل سنة، بل في السنين المكبوسة فقط1. ويظهر من دراسة بعض الأسماء أن لبعضها معاني ذات علاقة بالجو، ولبعض آخر بالحياة الدينية أو بالناحية الزراعية. ومن النوع الأول: "ذ دثا"، "ذو دثا" وله معنى الربيع، وهو مثل شهر "ربيع الأول" أو "ربيع الآخر" في التقويم الهجري فـ"دثا" هو الربيع في المسند2. وأما شهر "ذ خرف" فإن له صلة بموسم الخريف، وقد يكون من شهور هذا الموسم. و"خرف" بمعنى "الخريف" الموسم المعروف بلغتنا، وبمعنى سنة3. وأما شهر "ذ قيضن" فإنه من أشهر القيظ، والقيظ هو الحر، فهو شهر من أشهر الصيف. و"القيض"، بمعنى الصيف كذلك، والموسم الذي تنضج أثمار الصيف فيه4. ومن الشهور التي لها علاقة بالزراعة، شهر "ذ مذرن"، "ذ مذران".

_ 1 Beeston, p. 12. 2 Jamme 610, 615, 618, 623, 627, 628, 650, 661, 666, 704. 3 Mahram, p. 437. 4 Mahram, p. 447.

"ذو مذران"، ومعناه شهر البذر، ولعله دعي بذلك؛ لأن الزراع كانوا يبذرون بذورهم للزرع فيه. وشهر "ذ صربن"، "ذو صربن". وهو من أشهر الخريف، قد يكون في أوله وقد يكون في أواخره، أي: في ابتداء الشتاء، وهو يقابل شهر "صراب" من الأشهر المستعملة في العربية الجنوبية في أيامنا هذه. و"صربن" "صراب"، بمعنى أثمار الخريف وحاصل الخريف، أي: غلة الخريف1. ويرى بعض الباحثين أن لشهر "ذ ثبتن" علاقة بالزراعة كذلك، وأنه يعني الشهر الذي تتهاطل فيه الأمطار، وتجمع فيه السيول لخزنها في السدود، وأن لشهر "ذ مهلتن" علاقة بالزراعة كذلك، وأن في معناه "المهلة" أي: التأخير في عمليات الزرع أو جمع الحاصل2. ويظن أن للشهرين "ذ دونم" "ذ دنم"3 و"ذ نيلم" علاقة بالزراعة كذلك. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن معنى "دونم" "دينم" الدين، وأن المراد بها الشهر الذي تجمع فيه ديوان المعبد. أي: ضرائب المعبد. وذهب بعض آخر إلى أن اللفظة من أصل "دون"، ومعناها الإرواء والإسقاء، وأن لهذا الشهر علاقة إذن بشئون الري. وأما "ذ نيلم"، فإنه شهر حصاد الغلات وجمع الحبوب4. ومن الشهور التي لها علاقة بالحياة الدينية، "ذ عثتر" و"ذ الالت" و"ذ حجتن" و"ذ محجتن" و"ذ شمسي" وغيرها. وشهر "ذو عثتر" منسوب إلى الإله "عثتر"5. وأما "ذ الالت"، فبيّن الدلالة على المعنى الديني كذلك. فإنه يعني شهر الآلهة. وأما "ذ حجتن" و"ذ محجتن"، فهو مثل شهر "ذي الحجة في التقويم الهجري وفي معناه. وأما "ذ شمسي" "ذو شمس" فيجوز أن يكون نسبة إلى الآلهة الشمس من الناحية الدينية، ويجوز أن يكون نسبة إلى الشمس من ناحية تأثيرها في الجو، أي: من ناحية تأثير حرارة

_ 1 Jamme 594, 617, 631, 651, 655, 719. 2 Beeston, p. 17. 3 "ورخ ذ دنم". Jamme 633, 16' 4 Beeston, p. 17. 5 Jamme 611, 7-8, Mahram, p. 108.

أشعتها في الناس وفي المزروعات. وذلك بكونه من أشد الشهور حرًّا. فيكون هذا الشهر بذلك من أشهر الصيف. ويفهم من جملة: "ورخ ذ هبس وعثتر"، أن هناك شهرًا اسمه شهر "هوبس وعثتر"، أو شهرًا اسمه "هوبس"، نسبة إلى الإله "هوبس" وشهرًا آخر اسمه "عثتر"، نسبة إلى الإله "عثتر"1. وورد اسم الشهر "ورخ ذ عثتر" في جملة نصوص2. والأشهر التي لها صلة بالحياة الدينية، هي: "شهر الآلهة" "ورخ ذ ال الـ ت" "ذ الالت"، و"شهر ذ حجتن"، "ورخ ذ حجتن"، و"شهر ذ محجتن"، "ورخ دمحجتن"، أي: شهر المحجة. ويصعب في الوقت الحاضر علينا تثبيت أوقات هذه الأشهر المقدسة بالنسبة للمواسم ولترتيب الشهور، لعدم وجود أدلة يمكن أن نستخرجها من النصوص لتثبيت زمن الحج عندهم مثلًا، أو زمن الشهر المخصص للآلهة. ونجد أسماء بعض الشهور مثل: "ذ سمع"، تمثل صفة من صفات الآلهة. فـ"ذ سمع" يعني: "ذو السمع"، فالآلهة تسمع الناس تجيب دعواتهم. كما نجد أسماء شهور أخرى تشير إلى أمور دينية وطقوس. مثل شهر "ذ حضر"، فإنه شهر الأضاحي، من "حضر" بمعنى ضحى، أي: ذبح ذبيحة للآلهة، ومثل شهر "أبر"، ومعناه "شهر حرق البخور"، أو تقديم النذور، أو النذور التي تقدم لمحارق الآلهة. وربما أدى اسم شهر "ذ نور" هذا المعنى أيضًا. فـ"نور" بمعنى نار. فيكون المعنى شهر النيران. وقد ورد اسم الشهر "ورخ ذ ملت"، "ورخ ذ مليت" في عدد من النصوص3. وهو من الأشهر التي لها صلة بموسم الزرع والمواسم. وهذه الأشهر هي: "ذ دثا"، و"ذ ملت" "ذ مليت"، و"ذ قيضن"، و"ذ دنم" "ذ دونم"، و"ذ نيلم". ومن الشهور الواردة في نصوص "هرم"، شهر "ذ سلام" "ور خ ذ س ل ام".

_ 1 راجع السطر 7-8 من النص: Jamme 611, MaMB 277. 2 Jamme 567, 6-7, 607. 3 Jamme 613, 10, 653, 10, 14.

وهناك احتمال بأن: "ذ مو ص ب م"، و"ذ عثتر"، و"ذ مخضدم"، هي أسماء شهور كذلك. وقد ورد: "حين ذ مخضد قد متن"، مما يدل على أن اسم هذا الشهر هو مؤنث، وهو الشهر الأول، لوجود لفظة "قد متن" وأن هنالك شهرًا آخر، يمكن تسميته بـ"حين مخضدم الثاني"1. ويظهر من أسماء هذه الشهور المتقدمة، أن العرب الجنوبيين، كانوا يسمون بعض أشهرهم بما يقع فيها من حوادث مهمة، مثل موسم جمع الديون أو التعبد للآلهة أولإله معين، أو للحج إلى المعابد، أو بالظواهر الطبيعية التي تمتاز بها مثل الحر أو البرد، أو بموسم الصيد. وقد حاول "بيستن" تثبيت بعض شهور العرب الجنوبيين بالنسبة إلى المواسم وإلى الأشهر المستعملة في الوقت الحاضر، فذهب إلى أن شهر "ذ ثبتن" قد يكون هو شهر آذار أو شهر نيسان، وأن شهر "ذ قيضن"، أي: شهر القيظ، بمعنى الحر، الذي يقابل "رمضان" قد يكون شهر "مايس" أو حزيران، وأن شهري "ذ خرف"، و"ذ مذرن" قد يكونا تموز إلى أيلول، وأن شهر "ذ داون"، قد يكون شهر "أكتوبر" "تشرين الأول"، وأن شهر "ذ صربن" قد يكون شهر "نوفمبر" "تشرين الثاني"، وأن شهر "ذ معن" قد يقابل شهر "دسمبر"، أي: "كانون الأول"2. وليس في إمكاننا في الزمن الحاضر وضع تقاويم ثابتة كاملة للشهور في العربية الجنوبية. نعم، يمكننا تثبيت بعضها استنادًا إلى معاني أسمائها كما رأينا ذلك فيما تقدم، وذلك بأن نجعل الشهر الفلاني في الفصل الفلاني من فصول السنة مثلًا. ولكننا عاجزون عن ترتيب كل الشهور الاثني عشر ترتيبًا زمنيًّا صحيحًا لنقص في علمنا بالشهور. ومن أجل الوصول إلى ذلك، لا بد من أن نتريث حتى تتهيأ لنا نصوص كثيرة جديدة، قد تكون من بينها نصوص فلكية، أو نصوص أخرى ترد فيها أسماء شهور جديدة، وأسماء شهور مرتبة ترتيبًا زمنيًّا يساعدنا على ترتيبها وتنظيمها في تقاويم منتظمة لمختلف القبائل العربية الجنوبية ودويلاتها. ولا بد لي هنا من الإشارة إلى وجوب الاستعانة بالتقاويم المستعملة عند بقية الساميين

_ 1 Beeston, p. 12. 2 Beeston, p. 24.

وعند القبائل العربية الشمالية، وعند القبائل الإفريقية التي كانت لها صلات بالعرب الجنوبيين، لمطابقة شهورها على شهور التقاويم العربية الجنوبية وتثبيتها عندئذ على هذا الأساس. ولم ترد في كتابات المسند أسماء الشهور المستعملة عند الشعوب السامية الشمالية، وهي: نيسان ومايس وحزيران وتموز وآب وأيلول وتشرين الأول وتشرين الثاني وكانون الأول وكانون الثاني وشباط وآذار. ويظهر أن سنة العرب الجنوبيين، كانت تتكون من "360" يومًا، مقسمة على اثني عشر شهرًا، ولأجل جعل هذه السنة سنة طبيعية كاملة، متفقة مع الدورة السنوية الحقيقية للأرض، كانوا يعالجون ذلك بالكبس. إما بكبس بقية الأيام على السنة نفسها، ويتم ذلك في كل سنة، وإما بإضافة شهر إضافي على التقويم في نهاية كل ثلاث سنين1. وربما يدل اسم الشهر "ذ برم اخرن"، "ذو برم الآخر"، وهو من شهور قتبان، على أنه شهر كبس، يضاف إلى سنة الكبس لتكون سنة شمسية تامة. وربما أدى اسم الشهر: "ذ نسور أخرن"، وهو من شهور السبئيين هذا المعنى كذلك. وهناك شهر اسمه "بين خرفنهن" أي: "بين الشهرين"، ربما يدل على الكبس، وإضافة شهر بين الشهرين، لتكون السنة كاملة، أي: كبس شهر على السنة الاعتيادية، فتكون عدتها ثلاثة عشر شهرًا، وذلك بعد السنين اللازمة، لإصلاح التقويم، حتى يكون مطابقًا لدورة الأرض حول الشمس2. وقد كان العبرانيون يضيفون شهرًا على تقويمهم بسبب أن الشهور الاثني عشر القمرية لم تكن إلا "354" يومًا وست ساعات، فنقصت بذلك السنة اليهودية أحد عشر يومًا عن الرومانية، ولسبب ذلك أدخل اليهود شهرًا ثالث عشر كل ثلاث سنوات، سموه "فيادارا"، أي: "آذار الثاني، وهكذا جعلوا طول السنة القمرية يعادل الشمسية تقريبًا3. وقد ورد في النصوص اللحيانية اسم "منر"، يظهر أنه اسم شهر، يقال

_ 1 Beeston, P. 18 2 Beeston, p. 18 3 قاموس الكتاب المقدس "1/ 639 وما بعدها".

له "منر"، أي "منير"1. واسم آخر هو "سمر"، يظهر أنه اسم شهر كذلك. أما النصوص العربية الشمالية، فهي بخيلة كل البخل في إيراد أسماء الشهور، فلم يرد في النصوص العربية الخمسة المدونة بعربية قريبة من عربية القرآن الكريم من أسماء الشهور، إلا اسم شهر واحد، هو "كسلول". وقد ورد اسمه في "نص النمارة". ويقابل هذا الشهر، كانون الأول. ويدل استعمال النص لهذه التسمية على أن العرب الشماليين، كانوا يستعملون التقويم البابلي في التاريخ. و"كسلول"، هو الشهر التاسع من الشهور المتداولة في العراق وفي بلاد الشأم. وأصله "كسلو"، وهو بابلي. وهذه الشهور هي: نيسان، وزيو، وسيوان، وتموز، وآب، وأيلول، وأيثانيم، وبول، وكسلو، وطيبيت، وشباط، وآذار. وهي الشهور المقدسة عند العبرانيين2. ويقال لشهر نيسان: شهر "أبيب"، ولشهر "زيف" "أيارا"، وأما "سيوان" فهو "سيوان" وتموز هو تموز، وآب هو آب، وأما أيلول فهو أيلول، وأما إيثانيم فهو تشري "تسري" و"تشرينو"، وأما "بول" فهو مرشوان، وكسلو هو "كسلو"، و"طيبت" هو "تبت"، ويسمى بـ"تمطرو" أيضًا. وأما "شباط" فهو "سبت" "شبات"، وأما "أذار" فهو آذار3. وقد ذكر الأخباريون أسماء أشهر ترك استعمالها في الإسلام، ذكروا أنها كانت مستعملة عند قدماء الجاهلية، وهم العرب العاربة، كما ذكروا أسماء شهور قالوا: إنها كانت أسماء الشهور عند ثمود، وأسماء شهور قالوا: إنها الشهور التي كان يستعملها العرب عند ظهور الإسلام. أما الشهور التي زعموا أنها كانت شهور العرب العاربة، فهي: المؤتمر، وقد زعموا أنه في مقابل المحرم، وناجر، وهو في موضع صفرن وخوان "وروي حوّان" ويقابل ربيعا الأول، ووبصان "ويقال: صوان وبصان"، وهو في مقابل ربيع الآخر، والحنين أو شيبان، وهو جمادى الأولى، وملحان وهو

_ 1 Caskel, Lihyan, S. 129, 127 2 قاموس الكتاب المقدسي "1/ 639"، "شهر"، Hastings, p. 936 3 The Bible Dictionary Vol. II, P. 182

جمادى الآخرة، والأصم، وهو شهر رجب، وعاذل "عادل"، وهو شعبان، وناتق، وهو شهر رمضان، ووعل وهو شوال، ورنة، وهو ذو القعدة، وبرك وهو ذو الحجة. وذكر بعضهم أن خوانًا اسم يوم من أيام الأسبوع، وأن شيبان اسم كانون الأول، وأن ملحانًا هو كانون الثاني. وهذا الترتيب الذي ذكرته هو كما جاء في رواية ابن سيدة1. وذكر الفراء أن من العرب من سمى المحرم المؤتمر، وصفر ناجرًا، وربيع الأول خوانًا، وربيع الآخر بصان أو وبصان أو بوصان، وجمادى الأولى الحنين2، وجمادى الآخرة ورنة "ورنى"، ورجب الأصم، وشعبان وعلًا، ورمضان ناتقًا، وشوَّال عاذلًا، وذو القعدة هُواعَا، وذ الحجة بركا3. وذكرها غيره على هذا النحو: المؤتمر وهو المحرم. وناجر وهو صفر. وخوّان، وهو ربيع الأول، ووبصان وهو ربيع الآخر، وحنين وهو جمادى الأولى. وربي وربة لجمادى الآخرة. والأصم وهو رجب. وعادل وهو شعبان وناتق وهو رمضان. ووعل وهو شوال، وورنة وهو ذو القعدة، وبرك وهو ذو الحجة4. ورتب المسعودي أسماء الشهور الجاهلية على هذا النحو: ناتق، وثقيل، وطليق، وناجر، وسماح "أسلخ"، وأمنح "أميح"، وأحلك، وكسع، وزاهر، وبرط، وحرف، ونعس وجعلها في مقابل المحرم، وصفر، فبقية الشهور. وذكر أن "نعسًا" هو ذو الحجة5. ورتبها البيروني على هذا النحو: المؤتمر، وناجر، وخوان "حوان"، وصوان، وحنتم أو حنين، وزبّاء، والأصم، وعادل، ونافق، وواغل، وهواع أو رنة، وبُرك6.

_ 1 المخصص "9/ 43"، الأيام والليالي والشهور، للفراء، القاهرة، 1956م "ص 18"، المزهر "1/ 219". 2 بالفتح وبالضم، المرزوقي "1/ 279 ومابعدها"، المزهر "1/ 220"، نزهة الجليس "1/ 218". 3 الأيام والليالي والشهور، للفراء، "ص17 وما بعدها". 4 صبح الأعشى "2/ 378 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 20"، "أمر". 5 مروج الذهب "2/ 110"، "2/ 191"، "دار الأندلس". 6 الآثار الباقية "1/ 60" "طبعة سخاو"، "لا يبزك 1876م"، التقاويم "ص167".

ورتبها آخرون على هذا النحو: مؤتمر، وناجر، وحوّان "بالحاء المهملة والخاء المعجمة"، وصوان ويقال فيه: وبصان، ورُبى، وأيدة، والأصم، وعادل، وناطل، وواغل، وورنة، وبرك1. أو على هذا النحو: ناتق، ونقيل، وطليق، واسنح، وانخ، وحلك، وكسح، وزاهر، ونوط، وحرف، ويغش. وذكرها بعض آخر على هذا النحو: مؤتمر، وناجر، وخوّان، وصوان، أو "وبصان"، و"حنين" ورُبيّ، وأيدة، والأمم، وعادل، وناطل، وواغل، وورنة، وبرك، أو هي: ناتق، ونقيل، وطليق، وأسنح، وأنخ، وحلك، وكسح، وزاهر، ونوط، وحرف، ويغش. وهناك من يقول: مؤتمر، وناجر، وخوان، وصوان، وحنتم، وزبا، والأصم، وعادل، وناقق، وواغل، وهواع، وبرك، وما شاكل ذلك وهناك آراء أخرى في ترتيب هذه الشهور وفي ضبط هذه الأسماء2. وذكر علماء اللغة أن الخالص من الشتاء عند العرب شهران، يطلقون عليهما "قماحًا"، ويقال للشهرين: ملحان وشيبان3. ويسمّون شهري القيظ الذي يخلص فيهما حره، شهري ناجر، وذكر أنهما: وقدة وعكان. وهذان الشهران هما بيضة الصيف4. وذكر علماء اللغة كذلك، أن شهرا "قماح" شهرا الكانون؛ لأنهما يكره فيهما شرب الماء إلا على ثقل. قال مالك بن خالد الهذلي: فتى ما ابن الأغر إذ شتونا ... وحب الزاد في شهري قماح5 و"ملحان" اسم شهر جمادى الآخرة، سمي بذلك لابيضاضه، قال الكميت:

_ 1 نهاية الأرب "1/ 157". 2 وسيان وبصان إذا ما عددته وبرك لعمري في الحساب سواء صبح الأعشى "2/ 368 وما بعدها"، تاج العروس" 4/ 444"، اللسان "8/ 374". 3 الأنواء "ص105 وما بعدها"، المرزوقي "1/ 279". 4 الأنواء "ص106 وما بعدها". 5 تاج العروس "2/ 209".

إذا أمست الآفاق حمرًا جنوبها ... لشيبان أو ملحان واليوم أشهب شيبان جمادى الأولى، وقيل: كانون الأول، وملحان كانون الثاني1. وورد أن "شيبان"، شهر فيه برد وغيم وصراد، و"قماح" أشد الشهور بردًا. وهما اللذان يقول من لا يعرفهما: كانون الأول وكانون الثاني2. ويتبين من البيت المنسوب إلى "الكميت" أنهما كانا معروفين في أيامه. وأما شهور ثمود على حد زعم الأخباريين، فهي: موجب، وموجر، ومور "مورد"، وملزم، ومصدر، وهوبر، وهوبل، وموها، وذيمر "ديمر"، ودابر "دابل"، وحيقل، ومسيل "مسل"3. وضبطها بعض آخر على النحو: موجب، وموجز، ومورد، وملزج، ومصدر، وهوبر، ومويل، وموهب، وذيمر، وجيقل، ومحلسن ومسبل4. وموجب هو المحرم وموجر هو صفر. ويذكرون أنهم كانوا يبدأون في تقويمهم بذيمر، وهو شهر رمضان، فيكون أول شهور السنة عندهم5. وذكر أن "مُصْدِر" من أسماء جمادى الأولى6. ونحن لا نستطيع في الوقت الحاضر التأكيد على أن هذه الشهور، هي شهور "ثمود"، كما لا نريد أن نقف منها موقفًا سلبيًّا، فنقول: إنها من مخترعات أهل الأخبار، وضعوها على لسانهم وضعًا. وعندي أن من الخير لنا في الوقت الحاضر وجوب البحث عن كتابات ثمودية علنا نجد فيها أسماء أشهرهم. أما الشهور التي ذكر الأخباريون أنها كانت مستعملة عند العرب حين ظهور الإسلام، فهي: المحرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الثاني، وجمادى

_ 1 تاج العروس "2/ 230"، "ملح". 2 وقد أعاد ذكر بيت الكميت ولكن على هذه الصورة: إذا أمست الآفاق حمرًا جنوبها ... بشيبان أو ملحان واليوم أشيب تاج العروس "1/ 328"، "شاب". 3 بلوغ الأرب "3/ 76 وما بعدها"، الآثار الباقية "1/ 63"، صبح الأعشى "2/ 368". 4 المرزوقي "1/ 283". 5 بلوغ الأرب "3/ 76 وما بعدها". 6 اللسان "4/ 450"، "صدر".

الأولى، وجمادى الآخرة، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة. زعموا أن أسماءها وضعت على هذه الصورة باتفاق حال وقعت في كل شهر منها، فسمي الشهر بها عند ابتداء الوضع. وذكروا التعليل الذي رووه عن كل تسمية. وذكروا أيضًا أن أول من سماها بهذه الأسماء هو كلاب بن مرة. ومن هذه الشهور أربعة حرم لا يجوز فيها غزو ولا قتال1. وقال "الطبري": "وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة2. ويذكر الأخباريون أن الاسم القديم للمحرم هو صفر، وأنه كان يعرف عندهم بـ"صفر الأول"، ثم قيل له: "المحرم". وقد عرف الشهران: المحرم وصفر لذلك بـ"الصفرين"3. ويظن أن هذه التسمية الجديدة: أي المحرم لصفر الأول إنما ظهرت في الإسلام4. وذهب بعض علماء اللغة إلى أن لفظة "موجب" هي الاسم العادي للمحرم. أي التسمية القديمة لهذا الشهر عند قدماء العرب5. فلفظة "محرم" إذن، لم تكن تسمية لذلك الشهر، وإنما كانت صفة له، لحرمته، ثم غلبت عليه، فصارت بمنزلة الاسم العلم عليه. وأما اسمه عند الجاهليين، فهو: صفر، أي: صفر الأول، تمييزًا له عن صفر الثاني، الذي اختص بهذه التسمية أي: "صفر" بعد تغلب لفظة "المحرم" على صفر الأول. بحيث صار لا يعرف إلا به، فصار صفر لا يعرف بعد ذلك إلا بـ"صفر". وقد تغلبت لفظة "محرم" عليه، لأنه شهر من الأشهر الحرم، فهو "صفر"

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 78"، صبح الأعشى "2/ 364 وما بعدها"، نهاية الأرب "1/ 158". 2 تفسير الطبري "10/ 92"، صبح الأعشى "2/ 374 ومابعدها". 3 "اللهم إني قد أحللت لهم أحد الصفرين. الصفر الأول، ونسأت الآخر العام المقبل" ابن هشام "1/ 45"، "أول من نسأ الشهور"، اللسان "6/ 133"، البخاري "2/ 257"، تاج العروس "3/ 336". 4 تاج العروس "3/ 336". Reste, S. Raccolta, vol, V, p. 169, Winckler, zur Altarabischen Zeitrechnaung, in Altorientalische Farschugen, II, Reihe Bd. 2, S. 324, 1900, Arabisch-Orientalish, Berlin, 1901, S. 81, in MVG, VI, 4-5, 1901. 5 تاج العروس "1/ 502".

المحرم، تمييزًا له عن "صفر" الثاني، الذي لم يكن من الأشهر الحرم. ثم غلب المحرم عليه، وماتت لفظة صفر منه. قال "السخاوي": "إن المحرم سمي بذلك لكونه شهرًا محرمًا، وعندي أنه سمي بذلك تأكيدًا لتحريمه؛ لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عامًا وتحرمه عامًا"1. وذكر أن المحرم لم يكن معروفًا في الجاهلية، "وإنما كان يقال له ولصفر: الصفرين، وكان أول الصفرين من أشهر الحرم، فكانت العربُ تارة تحرّمه، وتارة تقاتل فيه، وتحرم صفر الثاني مكانه"، "فلما جاء الإسلام، وأبطل ما كانوا يفعلونه من النسيء، سماه النبي، صلى الله عليه وسلم، شهر الله المحرم"2. ويتبين من دراسة أسماء هذه الشهور أن منها ما هو تكرار للاسم الواحد، وهي ربيع الأول وربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخرة، ومجموعها أربعة أشهر، فهي ثلث السنة إذن. وتقع في النصف الأول من السنة وعلى التوالي، تليها أشهر مفردة، ثم شهران يبتدئ اسماها المركبان بكلمة "ذو"، وهما: ذو القعدة وذو الحجة، وهما آخر شهور السنة. وإذا صحت رواية من قال: إن الاسم القديم للمحرم هو صفر الأول، كانت الأشهر المكونة للنصف الأول من السنة أشهرًا مزدوجة تتألف من ثلاثة أزواج، هي: صَفَران ورَبيعان وجماديان3. وإذا درسنا أسماء هذه الشهور الجاهلية التي ذكرها أهل الأخبار، وجدنا أنها لا تشبه أسماء الشهور البابلية ولا الشهور السريانية والعبرانية. وهي لا تشبه كذلك أسماء الشهور الواردة في المسند. فليس في الذي بين أيدينا من أسماء للشهور العربية الجنوبية على اختلافها ما يشبه هذه الشهور. وقد انتبه علماء العربية إلى أن أسماء بعض الأشهر التي استعملت في الإسلام، مثل رمضان، لا تنطبق مع المعاني التي يفهم منها، فرمضان من الرمض، وهو الحر الشديد، مما يدل على أنه من أشهر الصيف، بينما هو شهر متنقل، يأتي في كل المواسم، فلجأوا إلى تعليل مصطنع، على عادتهم عند وقوفهم على اسم لا يعرفون عن أصله شيئًا، قالوا: "يقال: إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة.

_ 1 تفسير ابن كثير "2/ 354". 2 المزهر "1/ 300". 3 Reste, S. 95, Shorter, P. 409

القديمة سمّوها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق شهر رمضان أيام رمض الحر، فسمي بذلك"1، ولم يعرفوا أن ذلك بسبب اتباع الإسلام التقويم القمري، مما دعا إلى تحرك الشهور وتنقلها في الفصول، لكون الشهور القمرية غير ثابتة على نمط الشهور الشمسية. ويبدأ الجاهليون بالمحرم، فهو أول السنة عندهم2، وهو أيضًا الشهر الأول من شهور السنة الهجرية في الإسلام. وأرى أن اتخاذ المسلمين للمحرم، مبدءًا للسنة الأولى من الهجرة، وجعله الشهر الأول من التقويم الهجري، هو من الأمور التي أبقاها الإسلام من أمور الجاهلية، لأن هجرة الرسول إلى المدينة لم تكن في شهر "محرم" حتى نقول: إن المسلمين جعلوا "المحرم" الشهر الأول من السنة الهجرية، لهذه المناسبة، إذ كانت الهجرة في شهر ربيع الأول، وأرخ بها3، لذلك يكون الابتداء بشهر محرم، هو إقرار لما كان عليه الجاهليون من ابتدائهم بـ"محرم"، مبدءًا لشهور السنة. وقد قيل: إن وصوله المدينة كان يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول، وقيل: لثنتي عشرة منه، وقيل: دخل لهلال ربيع الأول، وقيل: غير ذلك4. وقد أورد العلماء شروحًا وتفسيرات لمعاني الشهور المتقدمة الجاهلية، والشهور التي استعملت في الإسلام واقترنت بالتقويم الهجري. فذكروا مثلًا أن المؤتمر معناه أن يأتمر بكل شيء مما تأتي به السنة من أقضيتها. وناجر من النجر، وهو شدة الحر، وخوان من الخيانة، وصوان من الصيانة، والزباء بمعنى الداهية العظيمة المتكاثفة سمي بذلك لكثرة القتال فيه وتكاثفه، والبائد سُمي لأنه كان يبيد فيه كثير من الناس، وكانوا يستعجلون فيه ويتوخون بلوغ ما كان لهم من الثأر والغارات قبل دخول شهر رجب وهو شهر حرام، والأصم لأنهم كانوا يكفون فيه عن القتال فلا يسمع فيه صوت سلاح. والواغل الداخل على شراب ولم يدعوه، وذلك لهجومه على شهر رمضان، وكان يكثر في رمضان شربهم

_ 1 المزهر "1/ 220". 2 مروج الذهب "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها وتسمية أيامها ولياليها". 3 تاريخ الطبري "4/ 38"، اليعقوبي "1/ 135"، "أيام عمر بن الخطاب"، ابن هشام، سيرة "2/ 15"، "حاشية على الروض". 4 إمتاع الأسماع "1/ 44".

للخمر، لأن ما يتلوه شهور الحج، وناطل مكيال للخمر، سمي لإفراطهم في الشرب وكثرة استعمالهم لذلك المكيال، والعادل من العدل، لأنه من أشهر الحج، وكانوا يشتغلون فيه عن الناطل، والرنة كانت الأنعام ترن فيه لقرب النحر، وبرك سمي لبروك الإبل إذا أحضرت المنحر1. وعللوا تسمية المحرم بهذا الاسم، لكونه من جملة الحرم، وصفر بالأسواق التي كانت باليمن تسمى الصفرية، وشهري الربيع للزهر والأنوار وتواتر الأندية والأمطار، وهو نسبة على طبع الفصل الذي نسميه نحن الخريف، وكانوا يسمونه ربيعًا، وشهري جمادى لجمود الماء فيهما، ورجب لاعتمادهم الحركة فيه، لا من جهة القال، أو لخوفهم إياه، يقال: رجبت الشيء، إذا خفته، وشعبان لتشعب القبائل فيه، ورمضان للحجارة ترمض فيه من شدة الحر، وشوال لارتفاع الحر وادباره، وذي القعدة للزومهم منازلهم، وذي الحجة لحجهم فيه2. وعلل بعضهم تسمية الأشهر بقوله: سمي المحرم محرمًا تأكيدًا لتحريمه، لأن العرب كانت تتقلب به، فتحله عامًا وتحرمه عامًا، وسمي صفر بذلك، لخلو بيوتهم منهم حين يخرجون للقتال والأسفار. وشهر ربيع الأول، سمي بذلك، لارتباعهم فيهم، والارتباع الإقامة في عمارة الربع، وربيع الآخر كالأول. وجمادى: سمي بذلك لجمود الماء فيه. ورجب من الترجيب، وهو التعظيم. وشعبان من تشعب القبائل وتفرقها للغارة. ورمضان من شدة الرمضاء، وهو الحر. وشوال من شالت الإبل بأذنابها للطراق، وذو القعدة، لقعودهم فيه عن القتال والترحال، وذو الحجة. لإيقاعهم الحج فيه3. ويظهر من تفسير أسماء بعض الأشهر وتعليلها أن لتسمياتها علاقة بالمواسم وبالعوارض الطبيعية الجوية مثل البرد والحر والاعتدال في الجو، وأن مسمياتها، أي: الشهور المسماة بها، كانت شهورًا ثابتة في الأصل، وإلا فلا يعقل تفسيرها

_ 1 الآثار الباقية "1/ 61"، المرزوقي "1/ 275 وما بعدها". 2 الآثار الباقية "1/ 60"، الفراء "ص9 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 78"، المسعودي، مروج "2/ 188 وما بعدها"، "سني العرب وشهورها وتسمية أيامها ولياليها"، وتجد تفسيرات عديدة أخرى في تعليل تسمية هذه الأشهر، تدل على أنها مما وضعه الرواة فيما بعد، حينما احتاج الناس إلى التعرف على سبب التسميات، صبح الأعشى "2/ 375 وما بعدها". 3 ابن كثير "2/ 254"، المسعودي، مروج الذهب "2/ 188 وما بعدها".

بغير هذا التفسير. فكيف يسمى رمضان رمضان مثلًا لرمض الحجارة من شدة الحر فيه، إن لم يكن ثابتًا وشهرًا من أشهر الصيف الحارة؟ وكيف يسمى جمادى بجمادى لجمود الماء فيه، إن لم يكن هو والشهر التالي له والمسمى بجمادى الآخرة ثابتين، ومن أشهر الشتاء؟ وهكذا يجب أن يقال عن بقية الشهور، وإلا لم يصح ما قيل فيها من التفاسير1. وقد فطن "المسعودي" إلى ذلك فقال: "وجمادى، لجمود الماء فيهما في الزمان الذي سميت به هذه الشهور؛ لأنهم لم يعلموا أن الحر والبرد يدوران فتنتقل أوقات ذلك"2. فأدرك أن شهور العرب في الجاهلية كانت أشهرًا تمثل ظواهر طبيعية مثل الحرارة والبرودة في الأصل، لكنه لما وجد -كما وجد غيره أيضًا- أن أوقات الشهور هي متغيرة، بحيث لا تستقر على قرار في المواسم، ذهب إلى أن الجاهليين لم يكن لهم علم بأن الحر والبرد يدوران، مع أنهم كانوا على علم تام بذلك، فكانت أشهرهم ثابتة، ولم يفطن المسعودي إلى ذلك، لأنه أخذ حكمه من الوضع الذي كانت عليه الأشهر في الإسلام، ولم يفطن إلى أن إبطال النسيء في الإسلام، هو الذي أطلق هذه الحرية للأشهر فصارت تدور بحرية وتدخل في كل المواسم، ولم تتقيد بالوقت الذي خصصت به. ولما تكلم "المسعودي" عن الشهور قال: "شهور الروم مرسومة على فصول السنة دون شهور العرب: وشهور العرب ليست مرتبة على فصول السنة ولا على حساب سنة الشمس، بل المحرم وغيره من الشهور العربية قد يقع تارة في الربيع وتارة في غيره من فصول السنة"3. ويعد شهر شوال أول شهر من أشهر الحج، وكانت العرب تتطير من عقد المناكح فيه، وتقول: إن المنكوحة تمتنع من ناكحها، ولذلك كانت الجاهلية تكره التزويج فيه لما فيه من معنى الإشالة والرفع إلى أن جاء الإسلام بهدم ذلك4.

_ 1 الآثار الباقية "1/ 62". 2 المسعودي، مروج "2/ 189"، تفسير ابن كثير "2/ 354 وما بعدها". 3 مروج "2/ 192". 4 تاج العروس "7/ 401"، "شول"، صبح الأعشى "2/ 376".

الأسبوع

الأسبوع: ويقسم الشهر إلى أربعة أقسام، كل قسم منها هو أسبوع، ويتكون من

سبعة أيام. وتعزى فكرة هذا التقسيم إلى البابليين. ولكن ضبط الأسابيع وتتابعها على النحو المعروف حتى اليوم هو نظام ظهر بعدهم بأمد1. وقد ذكر الأسبوع "شبوعة" Shagu'a في التوراة، في سفر التكوين2. وعلى أساس الجمع بين السبت اليهودي وقصة الخلق، نظم الأسبوع بحسب العرف الشائع اليوم3. ولا أعرف للأسبوع اسمًا في المسند، إذ لم ترد لفظة "أسبوع" أو أية لفظة أخرى مرادفة لها في تلك النصوص4. غير أن هناك نصًّا من نصوص قوانين البيع والشراء، ذكر أن إنسانًا إذا اشترى حيوانًا، ثم مات ذلك الحيوان بعد سبعة أيام من يوم البيع، فلا يكون البائع مسئولًا عن وفاته، ولا يتحمل أي ضرر عنها5. فلعل النص على هذه الأيام السبعة، يشير إلى وجود فكرة الأسبوع عند العرب الجنوبيين. وقسم الجاهليون الشهر إلى عشرة أقسام يتألف كل قسم منها من ثلاث ليال. هي: غرر والغُرر: ثلاث ليال من أول كل شهر. وغرة الشهر ليلة استلال القمر6. ونفل أو شهب وتسع أو بهر. وهي الليلة السابعة والثامنة والتاسعة7 وعشر وبيض ودرع وظلم وحنادس أودهم ودادئ "دادأ" ومحاق8. ويذكر أهل الأخبار "أن العرب في الجاهلية إذا كان يوم المحاق من الشهر بدر الرجل إلى ماء الرجل إذا غاب عنه فينزل عليه ويسقي به ما له، فلا يزال قيم الماء ذلك الشهر وربه حتى ينسلخ، فإذا انسلخ كان ربه الأول أحق به. وكانت العرب تدعو ذلك المحيق"9.

_ 1 Universal Jewish Encyclopaedia, vol. 10, p. 482. 2 التكوين الاصحاح السابع، الآية4 وما بعدها، والاصحاح الثامن الآية10 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "1/ 79". 3 Universal Jewish Encylopaedia, 10, p. 482. 4 Beeston, P. 3 5 Rep. Epigr. 3910 6 اللسان "5/ 15"، "غرر". 7 اللسان "4/ 81"، "بهر". 8 اللسان "6/ 58"، "حندس"، اللسان "10/ 339"، "محق"، "أسماء أيام الأسبوع وأسماء العدد وتفسير معانيا"، لأنيس فريحة، الأبحاث، السنة "11" الجزء الأول "1958م" "ص32". 9 اللسان "10/ 339"، "محق".

وذكر بعض أهل الأخبار، أن العرب كانت "تسمي الثلاث الأولى من ليالي الشهر، فتقول: ثلاث غرر، والثلاث التي تليها ثلاث سَمَر، والثلاث التي تليها ثلاث زهر، والثلاث التي تليها ثلاث درر، والثلاث التي تليها ثلاث قمر، وثلاث بيض، وتقول في النصف الثاني من الشهر في الثلاث الأول: ثلاث درع، وفي الثلاث التي تليها ثلاث ظلم، وفي الثلاث التي تليها ثلاث حناديس، وفي الثلاث التي تليها ثلاث دواري، وفي الثلاث التي تليها ثلاث محاق. وقيل: إنه يقال لليالي الشهر: ثلاث هلل، وثلاث قمر، وست نقل، وثلاث بيض، وثلاث درع، وثلاث بهم، وست حناديس، وليلتان داريتان، وليلة محاق1.

_ 1 مروج "2/ 195"، وتختلف هذه التسميات باختلاف روايات أهل الأخبار، صبح الأعشى "2/ 370 وما بعدها".

الأيام

الأيام: واليوم في عرف علماء اللغة من طلوع الشمس إلى غروبها1. ولكنهم يتوسعون في معناه أيضًا، فيقصدون به معاني أخرى، مثل الدهر. أما في الاصطلاح فإنه جزء من أيام الأسبوع والشهر والسنة. وهو ليل ونهار، وهما مجتمعان يكونان اليوم. فاستعمل اليوم على وجهين: أحدهما أن يجعل اسمًا للنهار خاصة. والوجه الآخر أن يكون اليوم اسمًا للمدة الجامعة للزمانين جميعًا، أعني: الليل والنهار2. واعتبر الجاهليون مبدأ اليوم من وقت غروب الشمس. وأما انتهاؤه فبابتداء الغروب التالي له. فصار اليوم عندهم بليلته من لدن غروب الشمس عن الأفق إلى غروبها من الغد، فصارت الليلة عندهم قبل النهار3. ولهذا السبب غلبت العرب الليالي على الأيام في التاريخ؛ "لأن ليلة الشهر سبقت يومه، ولم يلدها، وولدته، ولأن الأهلة لليالي دون الأيام، وفيها دخول الشهر"4. والعرب تستعمل الليل في الأشياء التي يشاركه فيها النهار، فيقولون:

_ 1 اللسان "12/ 649" "صادر" "يوم"، صبح الأعشى "2/ 339". 2 الأزمنة والأنواء، لابن الأجدابي "ص28"، "الدكتور عزة حسن"، "دمشق 1964م". 3 الآثار الباقية "1/ 5 وما بعدها"، ابن الأجدابي "28". 4 بلوغ الأرب "3/ 216".

أدركني الليل بموضع كذا، وصمنا عشرًا من شهر رمضان، وإنما الصوم للأيام، ولكنهم أجازوه إذ كان الليل أول شهر رمضان1. أما اليونان، فقد عدّوا مبدأ اليوم عند شروق الشمس، وأما منتهاه فابتداء شروق آخر، وذلك بخلاف الرومان الذي عدوا منتصف الليل هو ابتداء اليوم. ومنتهاه عند منتصف ليل تال له2. وقد عدّ التقويم العبراني "لوح"، مبدأ اليوم من وقت غروب الشمس. وأما انتهاؤه فابتداء الغروب التالي له3. وذكر أن العرب خصصوا من الشهر ليالي بأسماء مفردة كآخر ليلة منه، فإنها تسمى "السرار" لاستسرار القمر فيها، وتسمى "الفحمة" أيضًا لعدم الضوء فيها، ويقال لها: البراء، وكآخر يوم من الشهر، فإنهم يسمونه النحير، وكالليلة الثالثة عشرة، فإنها تسمى السواء، والرابعة عشرة ليلة البدر4. وقد عرف اليوم بـ"يوم" في نصوص المسند كذلك. كما وردت فيها لفظة "ليلم"، أي: "ليل" للتعبير عن الليل، أي: اللفظة ذاتها التي تستعملها عربية القرآن الكريم. ووردت فيها لفظة "صبحم" بمعنى صبح وصباح. ولا بد أن تكون في لهجات العرب الجنوبيين مسميات لأقسام الليل والنهار على نحو ما نجده في عربية القرآن الكريم. ولا يستبعد أن يظفر بها الباحثون بعد قيام العلماء بحفريات علمية منظمة في العربية الجنوبية. وقد أوردت كتب اللغة والأخبار أسماء الأيام التي كان يستعملها بعض الجاهليين، ويتبين منها أن الجاهليين كانوا يسمون الأيام بأسماء مختلفة متباينة بحسب تباين الأماكن والقبائل. وقد ماتت تلك الأسماء الجاهلية، وحلت محلها أسماء متأخرة لم تكن معروفة عند قدماء الجاهليين. فأسماء الأيام عند بعض الجاهليين ممن أخذ علماء اللغة عنهم، هي كما زعموا: "شيار" ويراد به السبت، وأول ويراد به الأحد، وأهون، وأوهد ويراد بها يوم الاثنين، وجُبار ويراد به الثلاثاء، ودبار ويراد به الأربعاء، ومؤنس ويراد به الخميس، وعَرُوبة أو العَرُوبة

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 216". 2 Dictionary of Classical Antiquities, p. 110. 3 The Jewish Encyclopaedia, III, p. 501. 4 الآثار الباقية "1/ 64".

أي بالتعريف ويراد به الجمعة1. وقد جمعت أسماء الأيام القديمة المذكورة في هذين البيتين: أؤمل أن أعيش وأن يومي ... بأول أو بأهون أو جبار أو التالي دبار فإن أفته ... فمؤنس فالعروبة أو شيار وهي أبيات يرى بعض علماء اللغة أنها موضوعة2. وقد زعم "ابن كثير" أن البيتين المذكورين من شعر العرب العرباء المتقدمين3. وقد نسب بعض هذه الأخبار هذه الأيام إلى العرب العاربة من بني قحطان وجرهم الأول4. ويذكر علماء اللغة أن أيام الأسبوع المعروفة والمتداولة عندنا في الزمن الحاضر، وهي: الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت، هي أسماء إنما عرفت وظهرت في الإسلام5. ولكنهم لم يذكروا، ويا للأسف، متى كان ظهورها ولا في أية سنة كان ذلك، أكان ذلك في مكة -أي: قبل الهجرة أم بعد الهجرة إلى المدينة؟ - وقد ذكر "المسعودي" هذه الأيام، ثم قال: "وكانت العرب تسميها في الجاهلية: الأحد أول، والاثنين أهون، والثلاثاء جبار، والأربعاء دبار، والخميس مؤنس، والجمعة عروبة، والسبت شيار"6.

_ 1 المخصص "9/ 42"، "أسماء الأيام في الجاهلية"، نهاية الأرب، للنويري "1/ 142"، مروج الذهب "2/ 110"، الآثار الباقية "1/ 64"، الأيام والليالي والشهور للفراء "ص6"، شرح القاموس "2/ 549"، "5/ 306"، صبح الأعشى "2/ 354"، نهاية الأرب "1/ 148"، بلوغ الأرب "1/ 273"، المزهر "1/ 219"، Ency. Iv. P. 1210 2 اللسان "1/ 593"، "عرب"، المسعودي، مروج "2/ 191"، تفسير ابن كثير "2/ 355"، صبح الأعشى "2/ 365"، اللسان "4/ 275"، "دبر"، نزهة الجليس "1/ 291"، وتجد بعض الاختلاف في النص. 3 تفسير ابن كثير "2/ 355". 4 صبح الأعشى "2/ 364". 5 الآثار الباقية "1/ 63 وما بعدها"، بلوغ الأرب "1/ 273 وما بعدها"، الأبحاث "1958م" "حـ1 ص33"، نهاية الأرب، للنويري "1/ 142". 6 المسعودي، مروج "2/ 191".

وهناك من اللغويين والأخباريين من يرى أن هذه الأسماء المتداولة مروية عن أهل الكتاب، وأن العرب المستعربة لما جاورتهم أخذتها عنهم، وأن العرب العاربة لم تكن تعرف هذه الأسماء1. وذكر بعض أهل الأخبار، أن الأيام المذكورة، هي ما نطقت به العرب المستعربة من ولد إسماعيل، وهي مروية عن أهل الكتاب، وأن العرب المستعربة لما جاورتهم أخذتها عنهم، وأن الناس قبل ذلك لم يكونوا يعرفون إلا الأسماء التي وضعتها العرب العاربة، وهي أبجد هوز حطي كلمن سفعص قرشت2. ولا يملك الأخباريون دليلًَا مقنعًا يثبت لنا بجلاء أن أيام الأسبوع المعروفة اليوم إنما وضعت في الإسلام. وفي رواياتهم عن يوم الجمعة ما يخالف زعمهم هذا. ثم إن كلمة "السبت" وردت في آية مكية3. وورودها في آية مكية دليل على وقوف أهل مكة عليها ومعرفتهم بها. أما لفظة "الجمعة"، قد ودت في سورة مدنية، أي: أنها نزلت بعد الهجرة4. وعندي أن أسماء أيام الأسبوع المستعملة عندنا كانت معروفة في يثرب وفي مكة قبل الإسلام. وقد تعلمها أهل يثرب من اليهود، من اختلاطهم بهم. فإن هذا الترتيب للأسبوع مبني على قصة الخلق الواردة في التوراة. ولا بد لذلك لمستعملي هذا الترتيب من أن يكونوا قد تعلموه من مصدر يهودي أو من مصدر له صلة باليهود، أو من النصارى الساكنين بيثرب أو بمكة. فإننا نعرف أن العبرانيين كانوا لا يسمون أيام الأسبوع بأسماء خصوصية، ولكنهم كانوا يعدونها بحسب ترتيبها، فيقولون اليوم الأول والثاني والثالث كما هو في العربية، إلا يوم الجمعة والسبت، فقد كانوا يسمون الجمعة "عريب شبات" Ereb Shabat، ومعناه "مساء السبت" و"عشية السبت". وأما السبت، فهو "شبت" "شبات" ومعناه الراحة Rest، وذلك لاعتقادهم ولما ورد في سفر التكوين: أن الله خلق العالم في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع. فسموا هذا اليوم:

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 275". 2 صبح الأعشى "2/ 365". 3 النحل: الآية 124. 4 الجمعة: الآية9.

"يوم الراحة" "يوم ها -شبات" Yom ha – Shabbat. واختصرت بـ"شبات" أي: السبت1. ولست أعرف نصًّا من نصوص المسند، ورد فيه اسم معين ليوم من أيام الأسبوع، مثل الجمعة أو السبت أو الأحد وغير ذلك. وكل ما نعرفه من النصوص أن العرب الجنوبيين كانوا يذكرون موقع اليوم من الشهر، فيكتبون في اليوم السابع من الشهر الفلاني، أو في اليوم الخامس عشر منه، أو في اليوم العشرين منه، وهكذا. وذلك لتعيين مكان اليوم من الشهر. وطريقتهم هذه طريقة معروفة عند الساميين وعند غيرهم، وهي لا تزال مستعملة حتى في هذه الأيام كتابة وفي الاستعمال الاعتيادي وفي التوريخ، وذلك للسهولة والاختصار. ولا نستطيع أن نتحدث عن اليوم المهم في الأسبوع مثل يوم السبت عند اليهود أو يوم الأحد عند النصارى وعند الوثنيين، وإن كان في بعض الروايات ما يفيد أن يوم الجمعة كان من الأيام المعظمة في نظر قريش، وقد عرف عندها بـ"يوم العروبة"، وكانت تجتمع في كل جمعة إلى كعب بن لؤي بن غالب فيخطب فيها، وأنه هو الذي سمى يوم العروبة يوم الجمعة، وذلك لتجمع الناس حوله في ذلك اليوم2. وقيل: إن يوم الجمعة لم يعرف بهذا الاسم إلا في الإسلام3. وأن الأنصار هم الذين بدلوا اسم "يوم العروبة" فجعلوه "الجمعة"، ذلك أنهم نظروا فإذا لليهود يوم في الأسبوع يجتمعون فيه، وللنصارى يوم يجتمعون فيه هو الأحد، فقالوا: ما لنا لا يكون لنا يوم كيوم اليهود أو النصارى، فاجتمعوا إلى سعد بن زُرارة، فصلى بهم ركعتين وذكرهم، فسموا ذلك اليوم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، وأنزل الله سورة الجمعة، فهي على حد قول أصحاب هذه الرواية أول جمعة في الإسلام4. وقد انتبه بعضهم إلى خطل رأي من ذهب إلى أن يوم الجمعة إنما سمي بهذه التسمية في الإسلام، فقال: إن يوم الجمعة كان يسمى بهذا

_ 1 The Jewish Encyclopdia, vol, II, p. 502, Art: Calender. 2 تاج العروس "5/ 306"، بلوغ الأرب "1/ 273". 3 الأيام والليالي "ص6". 4 صبح الأعشى "2/ 363"، بلوغ الأرب "1/ 274".

الاسم قبل أن يصلي الأنصار الجمعة1. وقد انتبه علماء العربية إلى اسم "يوم عروبة"، فقالوا: هو اسم قديم للجمعة. "وكأنه ليس بعربي"2. و"عروبة" بمعنى غروب في السريانية وفي العبرانية، وقد سمي اليوم السابق للسبت "عروبة"؛ لأنه غروب، أي: مساء نهار مقدس3. وذكر أهل الأخبار، أن كل أربعاء يوافق أربعًا من الشهر، مثل أربع خلون، وأربع عشرة خلت، وأربع عشرة بقيت، وأربع وعشرين، وأربع بقين، فهي: "أيام نحسات"4. ونظرًا لورود الإشارة إلى هذه الأيام في كتب أهل الأخبار، ولاعتقاد الجاهليين بالنحس، وبوجود نجمين للسعد وللنحس، كما في قول الشاعر: يومين غيمين ويومًا شمسًا ... نجمين بالسعد ونجمًا نحسًا5 فإن في استطاعتنا القومل بوجود الأيام النحسات عند الجاهليين. ويقسم النهار والليل إلى اثني عشر قسمًا، كل قسم منها ساعة، فيكون مجموع ساعات اليوم أربعًا وعشرين ساعة. وساعتنا المعروفة مأخوذة من الساعة السومرية البابلية، فقد قسّم البابليون الليل والنهار إلى ساعات متساوية هي اثنتا عشرة ساعة لكل من الليل والنهار، وجرى الناس على هذا التقسيم حتى اليوم6. وذكر بعض علماء اللغة أن "الآناء" الساعات. وكان الجاهليون إذا شغلوا إنسانًا بالساعات، قالوا لذلك: "المساوعة"7. ويروي الأخباريون أن العرب وضعت لساعات النهار والليل أسماء غير مستعملة عندنا، فأما ساعات النهار، فهي: "الذرور" "الدرور" ثم البزوغ "البزاغ"، ثم الضحى، ثم الغزالة، ثم الهاجرة، ثم الزوال، ثم الدلوك، ثم العصر، ثم الأصيل، ثم الصبوب، ثم الحدود، ثم الغروب. ويقال فيها أيضًا: البكور

_ 1 صبح الأعشى "2/ 363". 2 اللسان "1/ 593"، "عرب". 3 الأبحاث، السنة "1958م"، "جـ1 ص48". 4 المسعودي، مروج "2/ 191". 5 تفسير الطبري "4/ 67". 6 Alfred Jeremias, Handbuch derAltorientalischen Geisteshultur, Leipzig, 1929, S. 29. 7 المخصص "9/ 44".

ثم الشروق، ثم الإشراق، ثم الرأد، ثم الضحى، ثم المتوع، ثم الهاجرة، ثم الأصيل، ثم العصر، ثم الطَّفل، ثم العشي، ثم الغروب1. وأما ساعات الليل، فهي على حد قولهم: الشاهد2، ثم الغسق، ثم العتمة، ثم الفحمة، ثم الموهن، ثم القطع، ثم الجوسر "الجوس" "الجوشن"، ثم العبكة، ثم التباشير، ثم الفجر الأول، ثم المعترض، ثم الإسفار. وأسماء أخرى يذكرها اللغويون3، حيث يروون أن الجاهليين كانوا يقسمون اليوم إلى أربع وعشرين ساعة. غير أن من الصعب العثور على دليل يفيد وجود هذا التقسيم عندهم4. ويقول أهل مكة بوجود فجرين، أحدهما قبل الآخر. فالفجر الأول هو الفجر الكاذب، ويسمى "ذنب السرحان" لدقته. والفجر الثاني هو الفجر الصادق، ويقال له: "المستطير"، ومنه الحديث" ليس بالمستطيل، يعني الفجر الأول، ولكن المستطير" يريد المنتشر الضوء. ومع طلوعه يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود5. وهناك شفقان، أحدهما قبل الآخر: الشفق الأحمر، والشفق الأبيض. وهو يغرب في نصف الليل6. ويقال لليوم الذي يسبق اليوم الذي نحن فيه. يوم أمس، أو الأمس، ونهار أمس. أما البارحة، فيراد بها أقرب ليلة مضت، أي: الليلة الماضية. وأما اليوم الذي يلي اليوم الذي نحن فيه، هو نهار الغد، والغد، وبكرة.

_ 1 بلوغ الأرب "1/ 274"، صبح الأعشى "2/ 348"، نهاية الأرب "1/ 147". 2 "الشاهد يوم الجمعة وصلاة الشاهد صلاة المغرب"، تاج العروس "2/ 392". 3 بلوغ الأرب "1/ 274"، "الهتكة"، صبح الأعشى "2/ 348". 4 Ency., IV, P. 1210 5 الأنواء "ص143". 6 الأنواء "ص143 وما بعدها".

الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم

الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم مدخل ... الفصل الثاني والثلاثون بعد المئة: الأشهر الحرم قسم الجاهليون شهور السنة إلى قسمين: أشهر اعتيادية هي ثمانية شهور وأشهر أربعة حرم مقدسة خصت بآلهتهم، لا يجوز فيها قتال ولا بغي ولا انتهاك لحرمات. وكانوا يقاتلون في الشهور الثمانية يغزون بعضهم بعضًا، ويغيرون بعضهم على بعض. ثم يتوقفون عن القتال في الأشهر الحرم الباقية. والأشهر الحرم هي أربعة: ثلاث متواليات سرد، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وشهر منفرد هو شهر "رجب"1. فهي ثلث السنة إذن. وكان الجاهليون يعظمونها، ولا يستبيحون القتال فيها، حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه، استعظامًا لحرمة هذه الأشهر التي هي هدنة تستريح فيها القبائل فتنصرف إلى الكيل والامتياز والذهاب إلى الأسواق، وهي آمنة مستقرة لا تخشى اعتداء ولا هجوًا مفاجئًا. وتحريم هذه الأشهر ضرورة من الضرورات استوجبتها طبيعة الحياة في البادية، فأهل البادية بما هم فيه من فقر وضنك عيش يتنافسون فيما بينهم ويتقاتلون على الكلإ والماء وعلى أخذ حق المرور من القوافل وعلى الغزو والغارات يعيشون. وحياة عاصفة هذا شأنها لا بد لها من فترة تستريح

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 82"، روح المعاني "10/ 90"، كتاب الأزمنة والأمكنة للمرزوقي "1/ 221 وما بعدها"، "طبع حيدر آباد الدكن 1332هـ"، تفسير الطبري "10/ 88"، تفسير ابن كثير "2/ 355".

فيها، وتمتار فيها، وتصفي فيها حسابها بدفع أثمان الديات بهدوء وبتسوية المشكلات بالمساومة والمفاوضة، وتلك الفترة هي الأشهر الحرم. هذا ما يذكره ويرويه العلماء عن الشهور بصورة عامة. ويجب حمل كلاهم هذا على قريش ومن والاها، وعلى القبائل التي كان للعلماء اتصال بها وعلم بأخبارها أما القبائل البعيدة عنهم، والقبائل التي لم يتصلوا بها اتصالًا وثيقًا، فنحن لا نستطيع أن ندخلهم في هذا الكلام فنقول أنهم كانوا يحرمون أشهرًا ويحرمون أخرى، لعدم وجود دليل لدينا يثبت ذلك، وسنبقى على رأينا هذا حتى يظهر لنا دليل يؤيده أو ينفيه. والمذكورون قوم يحرمون إذن شهورًا ويحلون أخرى، لا يقاتلون ولا يغزون في شهور، حرمة وتقديسًا لها، إلا عن ضرورة ولجاجة، ويقاتلون ويغرون في الأشهر الأخرى المتبقية من السنة، فيقصرون نشاطهم في الغزو وفي الأخذ بالثأر على أشهر الحل فقط. قال "الطبري" في تفسيره الآية: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 1: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم، وهي الأربعة التي عددت لك، يعني عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيعًا الأول، وعشرًا من شهر ربيع الآخر. وقال: قائلو هذه المقالة: قيل لهذه الأشهر: الحرم؛ لأن الله عز وجل حرم على المؤمنين فيها دماء المشركين والعرض لهم إلى بسبيل خير"2. وقال "النيسابوري" في تفسيرها: "واختلفوا في الأشهر الأربعة، فعن الزهري أن براءة نزلت في شوال، والمراد: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر. وكانت حرمًا لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو سميت حرمًا على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها. وقيل: ابتداء المدة من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان.

_ 1 التوبة، الرقم9، الآية5. 2 تفسير الطبري"10/ 56".

ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة"1. فدخل صفر وربيع الأول وربيع الآخر في الأشهر الحرم، حسب هذه الروايات. مع أنها ليست من الأشهر الحرم المقررة المعروفة عند الجاهليين. وقد رأيت تعليل ذلك في تفسير "النيسابوري" لها، وهو فعل عامل النسيء. ولما وصل "الطبري" إلى الآية: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم} 2، قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} . منها أربعة حرم متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. وهو قول عامة أهل التأويل"3. وقال "النيسابوري": "منها أربعة حرم: ثلاثة سرد، أي: مسرودة: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد هو رجب"4. وورد في خطبة الوداع: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرًا. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"5. فهذه هي الشهور الحرم. أما ما تقدم، فقد كانت محرمة بموجب ما كان قد وقع عليها بفعل النسيء. فقد كانت العرب قد نسأت النسيء، فكانوا يحجون في كثير من السنين، بل أكثرها في غير ذي الحجة6. وعرف المحرمون للأشهر الحرم بـ"المحرمين"، وبـ"البسل" أيضًا. ذكر أن من معاني "البسل": الحرام والشجاعة، وهي معاني نجدها في لفظتي "حمس" و"حرم". وذكر علماء اللغة، أن "البسل ثمانية أشهر حرم كانت لقوم لهم صيت. وذكر أنهم من غطفان وقيس. يقال لهم: الهباآت"7. وذكر أن البسل: "بني عامر بن لؤي"8، أو"عوف بن لؤي"، أو "مرة بن

_ 1 تفسير النيسابوري "10/ 37"، "حاشية على تفسير الطبري". 2 التوبة، رقم9، الآية26. 3 تفسير الطبري "10/ 88". 4 تفسير النيسابوري "10/ 79"، "حاشية على تفسير الطبري". 5 تفسير ابن كثير "2/ 353". 6 تفسير ابن كثير "2/ 354". 7 تاج العروس "7/ 227"، "بسل". 8 تاج العروس "7/ 227"، "بسل".

عوف بن لؤي". وكانوا يحرمون ثمانية أشهر من السنة. وقد امتنعت بعض القبائل من الإغارة عليهم في هذه الأشهر1. فالبسل إذن جماعة تعظم ثمانية أشهر من السنة، وتحرمها فلا تقاتل فيها فهم يختلفون إذن عن "المحرمين" من قريش ومن دان بدينهم في أنهم يحرمون ثمانية أشهر من أشهر السنة ويحلون الأربعة الباقية، أي: على العكس منهم، يفعلون ذلك تعمقًا وتشديدًا2. والبسل كما يتبين من تفسير علماء اللغة لها: الحرام. ولهذا قالوا: الإبسال: التحريم. ومن ذلك قيل للأشهر الحرم: "البسل". وهي الأشهر الثمانية التي حرمها قوم من "غطفان" و"قيس". وبهذا المعنى وردت في قول الأعشى: أجارتكم بسل علينا محرم ... وجارتنا حلّ لكم وحليلها3 وذكر أنها تعني الحرام وأيضًا الحلال. وهي من الأضداد4. فنحن إذن أم طائفتين من العرب المحرمين للشهور. طائفة اقتصرت على تحريم أربعة أشهر من السنة، جعلتها أشهرًا حرمًا. وطائفة جعلت عدة الشهور الحرم ثمانية، وعدة الشهور الحل أربعة، وهم أقل عددًا من الطائفة الأولى. ولكننا نجد طائفة أخرى من الجاهليين، استهترت بحرمة كل الأشهر، فلم تحرم أي شهر من شهور السنة، ولم تعترف لها بقدسيته، وساوت بين جميع أشهر السنة، بأن أحلتها كلها، فعرفوا بالمحلين وهم عكس "المحرمين". فقد نص أهل الأخبار على وجود قوم من العرب هم: خثعم وطيء، ذكروا أنهم كانوا يستحلون الأشهر الحرم فيقاتلون فيها، ولايقدسونها ولا يرعون للحرم ولا للأشهر الحرام حرمة. وذكر بعضهم أن أحياء من قضاعة ويشكر والحارث بن كعب كانوا على مذهب هؤلاء5. فهم لا يفرقون بين الأشهر، ولا يميزون

_ 1 أبو ذر، شرح السيرة "1/ 78"، ابن كثير، البداية "2/ 204"، القلاعي، الاكتفاء "1/ 78"، Kister, P. 141 2 تفسير ابن كثير "2/ 355". 3 تاج العروس "7/ 227"، "بسل". 4 المصدر نفسه. 5 تاج العروس "8/ 241"، "حرم"، الجاحظ، الحيوان "7/ 216 وما بعدها"، النجيرمي "12"، المحبر "319"، الأزرقي "1/ 341".

بينها، وهي كلها في نظرهم سواء. فلا يؤمنون بوجود أشهر حرم مقدسة، ولا بوجود أشهر حل، بل الأشهر عندهم كلها حلال. ولا يمتنعون من القتال في أي يوم أو شهر من السنة. فهم إذن على نقيض "المحرمين" للأشهر المعظمين للحرم وللأشهر الحرم، قوم لا عهد لهم ولا ذمة بالنسبة إلى شهور السنة. والظاهر أن "المحلين" كانوا يتحارشون بالمحرمين وبغيرهم في الأشهر الحرم، ولما كان من شرع "المحرمين" الامتناع عن القتال في تلك الأشهر، فللدفاع عن النفس أباح النسأة لمقلديهم المحرمين مقاتلة المحلّين إذا تعرضوا لهم. إذ جاء: "كان الذين ينسأون الشهور أيام الموسم يقولون: حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين. فكانت العرب تستحل دماءهم في هذه الشهور"1. وجاء: "وإني قد أحللتُ دماء المحلين من طيء وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا عرضوا لكم"2. ويجب أن نضيف على هؤلاء طائفة من العرب من ذي البانة والصعاليك وأصحاب التطاول، وأمثالهم ممن كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للأشهر الحرام قدرًا3. فكانوا يغيرون في هذه الأشهر ويحلون القتال فيها وفي كل وقت، كما كانوا لا يؤمنون على الحرم. فإذا وجدوا فرصة سرقوا في الحرم وأخذوا ما يقع في أيديهم دون استحياء ولا مبالاة بحرام وحلال، نظرًا لما هم فيه من جوع وفاقة وحاجة، دفعتهم إلى الكفر بكل قانون وعقيدة وعرف. ويجب أن نضيف إلى المحلين العرب الذين لم يكونوا على دين أهل الشرك، مثل النصارى واليهود. فقد كانت النصرانية قد وجدت سبيلها بين تغلب، وشيبان، وعبد القيس، وقضاعة، وغسان، وسلبح، والعباد، وتنوخ، وعاملة، ولخم، وجُذام. وكثير من بلحارث بن كعب4، وبعض طيء وتميم. فهؤلاء لم يكونوا على شرك، لذلك لم يراعوا حرمة تلك الأشهر ولم يحجوا إلى محجات المشركين، وإنما كانوا يتقربون إلى قبور شهداء الكنيسة وإلى أضرحة القديسين،

_ 1 تاج العروس "8/ 244"، "حرم". 2 نقلًا عن مخطوطة أنساب الأشراف على رواية: Kister, P. 142 3 ثمار القلوب "88"، Kister, P. 143 4 الحيوان "7/ 216".

ولهم أعيادهم الخاصة بهم لا يقاتلون فيها إلا دفاعًا عن نفس، ولم يقم اليهود كذلك لتلك الأشهر المقدسة حرمة، إذ كان السبت، يوم راحة بالنسبة لهم، لا يحل فيه قتال، وكذلك كانت أعيادهم أيام حرمة، لا يجيزون فيها قتال، أي مهاجمة أحد، إلا إذا هوجموا، فيحل عندئذ لهم القتال دفاعًا عن نفس، ولما وقعت المناوشات بينهم وبين المسلمين كانوا يتجنبون فيها القتال أيام السبت والأعياد. وذكر أن قريشًا، كانت لا تتاجر إلا من ورد إليها في مكة في الأشهر الحرم. لا تبرح دارها ولا تتجاوز حرمها. وذلك لتحمسها في دينها والحب لحرمها. وكانت تخاف على تجارتها من لصوص الطرق وصعاليك الأعراب وطلاب الطلائب وذؤبان العرب، لأنهم كانوا يرون للشهور الحرم حرمة، ولا للشهر الحرم قدرًا، ولا للحرم حرمة، فاعطت الإيلاف، وألفت القبائل، وقاومت بذلك المحلين. وقد قسّم "المرزوقي" العرب إلى ثلاثة أهواء بالنسبة إلى أشهر الحج. منهم المحلون، الذين كانوا يستحلون الكعبة والأشهر الحرم ويسرقون ويقتلون في "الحرم"، ومنهم من يحرم الشهور الحرم، ومنهم "أهل هوى" على شرع "صلصل"، وهو "صلصل بن أوس بن مخاشن بن معاوية بن شريف" من بني عمرو بن تميم"1. وهو الذي أحلّ للعرب قتال المحلين في الأشهر الحرم2. وكان من حكام العرب ومفتوهم وممن اجتمع له الموسم والقضاء في عكاظ. والمحرمون هم: الحمس والحلة. أما "المحلّون"، فالقبائل التي لم تحترم حرمة الكعبة ولا الأشهر الحرم، أي: أولئك الذين أباح النسأة دمهم، وجوّزوا قتالهم في الأشهر الحرم. وأما أولئك الذين كانوا على شرع "صلصل"، فلا ندري مذهبهم وهواهم، فلم يتحدث "المرزوقي" عنهم3. وقد كان "صلصل" ممن اجتمع له الموسم وقضاء عكاظ من بني تميم4. ولم يذكر "ابن حبيب" الأمور التي أوجدها وأحدثها، حتى كون له طائفة خاصة لها رأي في الحرم وفي الأشهر الحرم.

_ 1 المرزوقي، الأمكنة "2/ 166"، المحبر "182 وما بعدها"، Krster, P. 143 2 Kister, P. 143 3 Krster, P. 144 4 المحبر "182 وما بعدها".

وتجويز مقاتلة "المحلين" في الأشهر الحرم، هو دفاع عن النفس، وضرورة واجبة. لذلك نص عليه النسأة في أمرهم السنوي الذي يعينون فيه "النسيء" في الموسم، ليقف الناس على موعد الأشهر الحرم ومكانها من السنة في السنة المقبلة. إذ لا يعقل بالنسبة للمحرمين الامتناع من قتال مقاتل في الأشهر المذكورة؛ لأنها أشهر حرم مقدسة. وإلا عرضوا أنفسهم وأهلم وأموالهم إلى التهلكة، خاصة وأن المقاتلين هم من أهل عقيدة مخالفة لعقيدتهم تمام المخالفة، فشرعة الدفاع عن النفس أباحت لهم حق قتال المحلين. ويلاحظ أن شهري ذي القعدة وذي الحجة هما الشهران الأخيران من السنة، يليهما في الحرمة الشهر الأول من السنة الجديدة وهو المحرم، فهذه الأشهر الثلاثة هي في الواقع زمن واحد متصل. أما "رجب"، فهو الشهر الوحيد المنفرد بالحرمة. ولذلك عرف بـ"رجب الفرد"، و"بالفرد". وقد علل أهل الأخبار سبب ذلك بقولهم: "وإنما كانت الأشهر المحرمة: أربعة. ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهرًا، وهو ذو القعدة، لأنهم يقعدون فيه عن القتال. وحرم شهر ذي الحجة، لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك. وحرم بعده شهرًا آخر، وهو المحرم، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره، ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا"1. ولكن تعليل أهل الأخبار لحرمة "رجب" التعليل المذكور لا يتناسب مع تعليلهم لحرمة الأشهر الثلاثة المحرمة، فإذا كانوا قد حرموا ذا القعدة والمحرم بسبب الاستعداد للحج، وبسبب العودة منها إلى ديارهم كما زعموا، فإن تحريم "رجب" بسبب مجيء العرب فيه من أقصى جزيرة العرب للعمرة فيه، يستوجب أيضًا إعطاء المعتمرين مدة مناسبة قبله وبعده للاعتمار فيه، حتى يضمنوا ذهابهم إلى مكة وعودتهم منها بأمان، فالسفر سفر واحد لا يتغير من حيث الطول أو القصر في موسم الحج أو في موسم العمرة، لأن المسافات لا تتبدل بتبدل الطقوس الدينية، ولو عللنا سبب إطالة تحريم الأشهر الثلاثة بسبب الحج ووجود الأسواق،

_ 1 تفسير ابن كثير "2/ 355".

أي لعوامل اقتصادية ومنافع مادية، جاز قبول هذا التعليل، ولكن لِمَ لم يفعلوا هذا الفعل بالنسبة لرجب، الذي تحتاج العمرة فيه إلى مدة أطول من الشهر للوصول في خلالها من أقصى مكان في جزيرة العرب إلى مكة، وللعودة منها إلى مواطنهم، إذ لا يعقل أبدًا بلوغ مكة والعودة إليها سالمين إلى مواطنهم في العربية الجنوبية أو الخليج أو العراق في خلال في شهر واحد. بل هو في نظري زعم من مزاعم أهل الأخبار. وما كان الحج إلى مكة إلا من القبائل القريبة منها، وإنما صار الحج إليها عامًا ومن كل مكان في الإسلام وبفضله وحده. وعندي أن شهر رجب، كان شهرًا مقدسًا محرمًا، تعتر فيه العتائر، عند قبائل مضر وقبائل ربيعة، وهما حلفان في الأصل، وقد تناول قبائل متجاورة، ثم انفصل فصار ربيعة ومضر. وفي هذا الشهر كانوا يتقربون إلى "الله" بالعتائر، ومنهم من يعتمر، فيبقى بمكة ما يشاء، ولم تكن العمرة على شاكلة الحج من حيث العدد والكثرة، بل كانت قاصرة على المتمكنين الذين لهم عهود ومواثيق مع أهل مكة وغيرها من سادات قبائل مضر وربيعة، فلا خوف على أمثال هؤلاء من الرجوع إلى وطنهم في أي وقت شاءوا، إذ لا يطمع فيهم طامع بسبب ما كانوا يحملونه من تجارة، كالذي كان يفعله التجار الذين يذهبون إلى الاتجار بالأسواق وفي جملتها سوق مكة في موسم الحج الذي هو تجارة وحج، لأنهم كانوا من عامة القبائل ومعهم تجارة، فكان من الضروري تطويل الموسم ليكون أمنًا لهم يحميهم من الأذى إلى عودتهم إلى مواطنهم. وفي هذه الأشهر الحرم تعقد الأسواق مثل سوق عكاظ وذي المجاز وذي المجنة ودومة الجندل وغيرها، فيقصدها الناس من مواضع بعيدة، وتكتظ أرضها بجموع غفيرة لم تكن تقصدها في غير هذه "المواسم". وقد عرف شهر "ذو القعدة" بهذا الاسم، لأن الناس –كما يقول علماء اللغة- كانوا يقعدون فيه عن الأسفار والغزو والميرة وطلب الكلأ ويحجون في ذي الحجة1. وهو تفسير أخذ من ظاهر التسمية، ودليل ذلك قولهم: "لقعودهم فيه عن القتال والترحال"2. فالقعود فيه عن القتال جائز بالنسبة للمحرمين،

_ 1 تاج العروس "2/ 469"، "قعد"، تفسير ابن كثير "2/ 354". 2 تفسير ابن كثير "2/ 354".

ولكن قعودهم عن الترحال خطأ، إذ كانوا على العكس يتهيأون فيه للأسفار إلى الاتجار والحج، فهو شهر ترحال لا شهر قعود وجلوس. وأما "ذو الحجة"، فقد عرف بذلك لإيقاعهم الحج فيه. وقد رأينا أن في نصوص المسند اسم شهر عرف بـ "ذ حجتن"، أي: "ذي الحجة"، وبـ"ذ محجتن"، أي: "ذي المحجة"، مما يدل على أن له صلة بالحج1. ولم تعين نصوص المسند موسم حج العرب الجنوبيين، ولم تذكر اسم محجتهم، ولكننا نستطيع أن نقول أنها كانت إلى محجات آلهتهم المعروفة المنصوص عليها في نصوصهم، وهي غير آلهة أهل مكة من غير شك. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن العرب كانت تسمي شهر رجب "رجب الأصم" و"المحرم"، وذكر بعض آخر أن المحرم لم يكن يعرف بهذا الاسم إلا في الإسلام، فقد كان الجاهليون يسمونه صفرًا. ولذلك كان في تقويمهم صفران، كما كان عندهم شهران باسم ربيع الأول وربيع الآخر، وشهران باسم جمادى الأولى وجمادى الآخرة. وصفر الأول هو المحرم في عرفنا، وصفر الآخر هو صفر في اصطلاحنا اليوم. وقد كان الجاهليون يؤخرون المحرم إلى صفر في تحريمه، فيكون شهرًا حرامًا2. ويظهر أن لدخول "ال" أداة التعريف على "المحرم" أهمية في تثبيت هذا الشهر فإن للفظة "محرم" دلالة دينية، يراد بها كل شهر من الأشهر الحرم. فكل شهر من هذه الشهور الحرم هي محرم وحرام، ومن ضمنها "المحرم". وقد دخلت "ال" على هذه اللفظة لتخصيصها وجعلها علمية خاصة بهذا الشهر. وإلا دخلت على الشهور الأخرى العلمية، مثل رجب وشعبان ورمضان وصفر، فلا يقال فيها: الرجب والشعبان والرمضان والصفر، بل يقال: قدم شهر رجب. وقدم شعبان وشهر رمضان وصفر. وهذا يفسر قول ""ابن كثير": "وعندي

_ 1 Rep. Epig. 4176/7 2 تاج العروس "3/ 236"، "8/ 240 وما بعدها"، "حرم"، قال حميد بن ثور: رعين المرار الجون من كل مذنب ... شهور جمادى كلها والمحرما وقال آخر: أقمنا بها شهري ربيع كلاهما ... وشهري جمادى واستحلوا المحرما تاج العروس "8/ 241" "حرم".

أنه سُمي بذلك، تأكيدًا لتحريمه؛ لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عامًا وتحرمه عامًا"1 أي: أنه كان قلقًا متنقلًا، ولم يكن ثابتًا، ثم ثبت في الإسلام. وقد ورد في كتب الحديث أن قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء، كما كان اليهود يصومون ذلك اليوم. ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم. وأن الرسول حين قدم المدينة وجد اليهود يصومونه. وأن الرسول كان يصومه في الجاهلية أيضًا. ولما قدم المدينة، كان يصومه، وأمر بصيامه. فلما فرض رمضان، ترك عاشوراء، فن شاء صامه، ومن شاء تركه2. وورد "أن قريشًا كانت تعظم هذا اليوم، وكانوا يكسون الكعبة فيه، وصومه من تمام تعظيمه. ولكن إنما كانوا يعدون بالأهلة، فكان عندهم عاش المحرم. فلما قدم المدينة، وجدهم يعظمون ذلك اليوم ويصومونه، فسألهم عنه، فقالوا: هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون"3. وذكر أيضًا: أن رسول الله، كان يتحرى يوم عاشوراء على سائر الأيام، وكان يصومه قبل فرض رمضان. فلما فرض رمضان، قال: "من شاء صامه، ومن شاء تركه"، وبقي هو يصومه تطوعًا، فقيل له: "يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال، صلى الله عليه وسلم: "إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله"4. ويرجع حديث صيام قريش يوم عاشوراء إلى "عائشة"، وقد رواه عنها "عروة بن الزبير بن العوام" فقد روي أنها "قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه. فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان، ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه"5 ويروى أيضًا عن معاوية، فقد ورد عن "حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، يوم عاشوراء،

_ 1 ابن كثير، تفسير "2/ 354". 2 جامع الأصول "7/ 199 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 400"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "1/ 726 وما بعدها". 3 زاد المعاد "1/ 164 وما بعدها". 4 الطبري "2/ 417 وما بعدها"، إمتاع الأسماع "1/ 60"، زاد المعاد "1/ 164". 5 إرشاد الساري "3/ 421".

عام حج على المنبر، يقول: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر"1. وقد حاول شراح حديث "عائشة" إيجاد مخرج له، فقالوا في شرح: "كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية"، "يحتمل أنهم اقتدوا في صيامه بشرع سالف، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة البيت الحرام فيه". وقد وضع بعضهم بعد "وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يصومه" جملة "في الجاهلية". وحاولوا إيجاد مخرج آخر لحديث "معاوية"، بقولهم: "والظاهر أن معاوية قاله لما سمع من يوجبه أو يحرمه، أو يكرهه، فأراد إعلامهم بنفي الثلاثة، فاستدعاؤه لهم تنبيهًا لهم على الحكم أو استعانة بما عندهم على ما عنده". وقالوا: "إن معاوية من مسلمة الفتح، فإن كان سمع هذا بعد إسلامه، فإنما يكن سمعه سنة تسع أو عشر، فيكون ذلك بعد نسخه بإيجاب رمضان، ويكون المعنى لم يفرض بعد إيجاب رمضان، جمعًا بينه وبين الأدلة الصريحة في وجوبه، وإن كان سمعه قبله فيجوز كونه قبل افتراضه"2. ثم ذكروا بعد هذين الحديثين، حديثًا يناقضهما تمامًا، وهو أن النبي حين قدم المدينة فرأى اليهود تصوم، فقال: "ما هذا الصوم؟ " قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال النبي: "فأنا أحق بموسى منكم فصامه، وأمر صيامه"3. وهو حديث للعلماء عليه كلام. وحديث معاوية لا يدل على صوم قريش ليوم عاشوراء في الجاهلية، وقد استدل به "ابن الجوزي" على أن صوم عاشوراء لم يكن واجبًا، ولا يفهم منه أبدًا أن قريشًا كانوا يصومونه قبل الإسلام. ولو كان معروفًا لما خفي أمره عليه وعلى غيره من قريش، وحديث "عائشة" حديث مفرد، ويجوز أن يكون قد وضع على لسانها، ولا يعقل انفرادها به وعلمها وحدها بصيام قريش في ذلك اليوم، وخفاء أمره على غيرها من الرجال والنساء ممن عاش معظم حياته في الجاهلية.

_ 1 إرشاد الساري "3/ 422". 2 إرشاد الساري "3/ 422". 3 إرشاد الساري "3/ 422".

ويوم "عاشوراء" هو يوم "ع ش ور" Ashura "عشور" "عشورا" عند العبرانيين، ويقع في اليوم العاشر من شهر "تشرى"1. وهو يوم خاص بيهود. وأنا أشك في صحة رواية أهل الأخبار القائلة أن قريشًا كانوا يصومونه في الجاهلية، إذ ما هي صلة قريش الوثنيين الذين لم يكونوا من أهل الكتاب بصيام يوم هو من صميم أحكام ديانة يهود. ومما يؤيد رأيي، هو أن أهل الأخبار أنفسهم يذكرون أن الرسول "حين قدم المدينة، رأى يهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم، فأخبروه أنه اليوم الذي غرّق الله فيه آل فرعون، ونجى موسى ومن معه منهم، فقال: "نحن أحق بموسى منهم"، فصام، وأمر الناس بصومه. فلما فرض صوم شهر رمضان، لم يأمرهم بصوم يوم عاشوراء، ولم ينههم عنه"2. فلو كان الصيام معروفًا عند قريش، لما سأل الرسول يهود يثرب عن صومهم صيام عاشوراء، وما جاء من قوله: "نحن أحق بموسى منهم"، فصام، وأمر الناس بصومه" إلى أن فرض رمضان، فرفع عنهم صومه، وجعلهم أحرارًا إن شاءوا صاموه وإن شاءوا أفطروا، أي: صار تطوعًا، وهو حديث يشك فيه العلماء كذلك. وهذه الرواية تناقض تمامًا رواية صيام قريش يوم عاشوراء. ثم إننا لا نجد في القرآن ولا في الحديث –غير حديث عائشة- ما يشير إلى وجود ذلك الصوم بمكة قبل الهجرة، ولو كان معروفًا لما سُكت عنه. ويرجع بعض المستشرقين دعوى صيام قريش لذلك اليوم إلى محاولة إرجاع الأصول الإسلامية إلى الحنيفية القديمة وإلى قدماء العرب ثم إلى إبراهيم، فصيروا قريشًا تصوم عاشوراء لإرجاع الصيام إلى أصل قديم3. ولا يعقل وجود الصيام عند المشركين، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، وإنما كان الصيام معروفًا عند الأحناف لاتصالهم بهم، وتأثرهم بكتبهم وبما كان عندهم من أحكام، ومن ذلك ترهبنهم وزهدهم، وقد كان الرهبان يكثرون من الصوم والاعتكاف. وأنا لا أستبعد أن لفظة "محرم" هي نعت لهذا الشهر لا اسمًا له، عرف بها لكونه شهرًا حرامًا. تقع عليه الحرمة، ومن حرمته أن الجاهليين كانوا يبتدئون

_ 1 Shorter Ency., P. 47 2 الطبري "2/ 417". 3 Shorter Ency. P. 48

سنتهم به. فالمحرم، هو أول شهر من شهور السنة في حسابهم، ولابتدائهم به، فقد تكون له حرمة خاصة عندهم. وقد نسب أهل الأخبار شهر رجب إلى مضر، فقالوا: رجب مضر، وقد أشير إلى ذلك في الحديث أيضًا، مما يدل على أن هذا الشهر هو شهر مضر خاصة. وقد ذكر العلماء أنه إنما عرف بذلك؛ لأنهم كانوا أشد تعظيمًا له من غيرهم، وكأنهم اختصوا به1. وذكروا أيضًا أنهم كانوا يرجبون فيه، فيقدمون الرجبية، وتعرف عندهم بالعتيرة، وهي ذبيحة تنحر في هذا الشهر. ويقال عن أيامه هذه أيام ترجيب وتعتبر2. ويذكر علماء الأخبار أن تأكيد الرسول على "رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" في خطبة حجة الوداع، هو أن ربيعة كانت تحرم في رمضان وتسميه رجبًا، فعرف من ثم بـ"رجب ربيعة"، فوصفه بكونه بين جمادى وشعبان تأكيد على أنه غير رجب ربيعة المذكور الذي هو بين شعبان وشوال. وهو رمضان اليوم3. فرجب إذًا عند الجاهلين رجبان: رجب مضر ورجب ربيعة، وبين الطائفتين اختلاف في مسائل أخرى كذلك. ومما يؤيد أن شهر "رجب" كان شهر مضر المحرم عندهم بصورة خاصة، ما ورد في أقوال علماء التفسير من أن "الشهر الحرام" الوارد في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} 4، هو شهر "رجب"،وهو شهر كانت مضر تحرم فيه القتال5. وما ورد في الآية:

_ 1 "رجب مضر: إنما أضيف رجب إلى هذه القبيلة، لأنهم كانوا يحافظون على تحريمه، أشد من سائر العرب"، عمدة القاري "18/ 42"، تاج العروس "1/ 266 وما بعدها"، روح المعاني "10/ 90". 2 تاج العروس "3/ 72". 3 الروض الأنف "2/ 351" "حجة الوداع"، بلوغ الأرب "3/ 72"، تفسير الطبري "10/ 88 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "2/ 355"، "وأن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"، ابن هشام، سيرة "2/ 351"، "حاشية على الروض". 4 المائدة، الرقم5، الآية. 5 تفسير الطبري "6/ 36 وما بعدها"، روح المعاني "6/ 47".

{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} 1، وإجماع علماء التفسير والأخبار على أنه شهر "رجب"، وأن الآية نزلت في أمر قتل "ابن الحضرمي" في آخر يوم من جمادى الآخرة، وأول ليلة أو يوم من رجب. وقد كان المسلمون يهابونه ويعظمونه، وكان النبي يحرم القتال في الشهر الحرام، حتى نزلت الآية في حق القتال فيه وفي بقية الشهور. وقد ذهب المفسرون أيضًا إلى أن "الشهر الحرام"، هو كل شهر حرام من هذه الأشهر الأربعة، وأن الآية لا يراد بها التخصيص، وإن ما ذكر من أنه شهر رجب، فلأجل وقوع الحادث المذكور فيه2. وعرف "رجب" بـ"متصل الألّ" والألة والألال في الجاهلية. أي: مخرج الأسنة من أماكنها. كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام إبطالًا للقتال فيه، وقطعًا لأسباب الفتن بحرمته، فلما كان سببًا لذلك سمي به، إعظامًا له، فلا يغزون ولا يغير بعضهم على بعض3. وعرف أيضًا بـ"منزع الأسنة" للسبب المذكور. ومن دلائل حرمة شهر "رجب" ومكانته العظيمة عند أهل الجاهلية، تقديمه العتائر فيه والأضاحي التي عرفت عندهم بـ"الرجبية"، ووقوع أكثر المناسبات الدينية فيه. وقد نعت هذا الشهر بـ"الأصم"، فقيل له: "رجب الأصم"، لعدم سماع استغاثة أو قعقعة سلاح فيه4، لأن العرب كانت لا تقرع فيه الأسنة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه، فلا يهيجه، تعظيمًا له5. وعرف بـ"رجب الفرد" وبـ "الفرد"، لانفراده وحده من بين الأشهر الحرم الأخرى6. ويرى "ولهوزن"، استنادًا إلى بعض الموارد اليونانية وغيرها أن العرب كانوا يحرمون شهرًا واحدًا منفردًا، هو "رجب الفرد"، وهو من شهور الربيع، وشهرين آخرين متصلين يقعان في القيظ، أي: في أوج الصيف. أما الشهر الثالث

_ 1 البقرة، الرقم2، الآية 217. 2 تفسير الطبري "2/ 201 وما بعدها". 3 تاج العروس "8/ 137"، "نصل". 4 تاج العروس "3/ 380"، "عتر"، اللسان "4/ 537"، المعاني الكبير "2/ 113". 5 تفسير الطبري "2/ 201". 6 تاج العروس "8/ 241"، "حرم"، الأزمنة والأمكنة، للمرزوقي "1/ 85".

الذي ألحق بالشهرين، فصات به ثلاثة أشهر حرم متسلسلة متداخلة، فقد حرم في عهد متأخر لا يبعد كثيرًا عن الإسلام، وهو المحرم1. ويلاحظ أن الموارد الإسلامية قد وضعت بعض الأحداث المهمة في شهر محرم مثل صوم يوم عاشوراء، ومثل اختيار القدس قبلة للمسلمين، فقد ذكروا أن ذلك كان في اليوم السادس عشر من المحرم، ومثل ذكرهم أن وصول حملة الفيل إلى مكة كان في اليوم السابع عشر منه، وأن ابتداء السنة الهجرية، كان في أول المحرم2، مع أننا لو دققنا ذلك تدقيقًا عميقًا، وجدنا أن أكثر هذا المروي لم يثبت وقوعه في هذا الشهر. ونجد في كتب الحديث والأخبار ما يفيد بأن الجاهليين كانوا يعظمون شهري شعبان ورمضان تعظيمًا يكاد يضاهي تعظيمهم للأشهر الحرم. وسبب ذلك في نظري، هو بفعل النسيء في الشهرين، وتلاعبهم بالأشهر وتسميتهم لها تسميات كيفية، ووقوع ذلك التلاعب على الشهرين المذكورين دون بقية الشهور. وقد يكون بسبب أن العرب كانوا يقدسون الشهرين ويحرمونهما أيضًا، وأن قريشًا كانت تحترمهما أيضًا، ومن هنا فضل شعبان ورمضان على بقية الأشهر الثانية مع أنهما من الأشهر الاعتيادية على حسب رواية أهل الأخبار. ولم يدخلوهما في جملة الأشهر الحرم. ونجد للشهرين حرمة كبيرة في الإسلام. وقد كان عرب العراق وبادية الشام يتجنبون أيضًا مثل عرب الحجاز القتال في أشهر معينة، لأنها أشهر مقدسة حرم عندهم، كما يفهم ذلك من مؤلفات الروم والسريان. فقد أشار المؤرخ "أفيفانوس" Epiphanius إلى وجود شهر عند العرب، قال: إن العرب تحتفل فيه، وهو عندهم شهر مقدس، ويقع في شهر تشرين الثاني، ويريد به شهر "ذي الحجة" على ما يظن. وقد دعي بـ"حجت" في بعض الموارد اليهودية3. كما ذكر "بروكوبيوس" Procopius أن عرب المناذرة لم يكونوا ليحاربوا في شهورهم المقدسة، وقال: إنهم كانوا قد جعلوا شهرين في السنة حرمًا لآلهتهم لا يغزون فيها ولا يقاتلون

_ 1 Reste, S. 100. 2 Shorter, p. 410. 3 Aboda Zara, II, b., Epiphanius, Haer, 51, 24.

بعضهم بعضًا، ويقعان في تموز وآب1. وذكر "فوتيوس" أن العرب يحجون إلى معبدهم مرتين في السنة: مرة في وسط الربيع عند اقتران الشمس ببرج الثور، وذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف، وذلك لمدة شهرين2. وفي هذه الإشارات معلومات قيمة، تشير إلى وجود الأشهر الحرم عند العرب الشماليين. ويفهم منها أن الأشهر الحرم كانت ثابتة لا تتغير، فلا يقع حجهم مرة في شتاء ومرة في صيف، وأخرى في ربيع، ومرة في خريف. فحجهم ثابت، وأشهرهم ثابتة. ومما يؤسف له أن أولئك المؤرخين لم يشيروا إلى أسماء المواضع التي كانوا يحجون إليها.

_ 1 Reste, s. 100. F, De Bello Persi, 11, 16, Photius, Bibl. Cod, 3. 2 Reste, S. 101, Winckler, Alt. Orient. Forsch, II, Reihe, I Band, S. 336.

الشهور الحل

الشهور الحل: وأما الشهور الثمانية الأخرى، غير الحرم، فهي: صفر، وشهر ربيع الأول، وشهر ربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، وشعبان، وشهر رمضان، وشوال. وقد استحل فيها القتال والغزو. وقد عرفت هذه الشهور: الحرم منها والشهور الحل بشهور معدّ1. وكان أهل مكة يستعملونها عند ظهور الإسلام. والظاهر أن القبائل المجاورة لمكة كانت تستعملها أيضًا. وبهذه الأشهر أرخت رسائل الرسول وأوامره، وصارت باستعمال الرسول لها الشهور الرسمية في الإسلام، عليها يسير كل المسلمين على اختلاف ألوانهم حتى اليوم لما لها من صلات بأمور دينهم في مثل الصوم والحج. وصفر، هو الشهر الذي يلي المحرم. "قال بعضهم: أنا سمي لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع، وقيل: لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا، وروي عن رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرًا لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفرًا من المتاع، وذلك أن صفرًا بعد المحرم، فقالوا: صفر الناس منا

_ 1 قال قائل من بني كنانة: ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما تاج العروس "4/ 22".

صفرًا"1. وكانوا إذا جمعوا المحرم مع صفر، قالوا: صفران. وفي ذلك قول أبي ذؤيب: أقامت به كمقام الحنيف ... شهري جمادى وشهر صفر2 وكان أهل مكة يفتتحون سنتهم بالمحرم. فهو أول شهر عندهم من أشهر السنة. وقد أقر الإسلام هذا المبدأ، فجعل المحرم أول شهر من شهور السنة الهجرية3. ويذكر أهل الأخبار أن أول من سمى الشهور المحرم وما بعده بأسمائها هذه هو "كلاب بن مرة"4.

_ 1 تاج العروس "3/ 336"، "صفر". 2 المصدر نفسه. 3 "قال أبوجعفر: فإذا كان الأمر في تاريخ المسلمين كالذي وصفت، فإنه وإن كان من الهجرة، فإن ابتداءهم إياهم قبل مقدم النبي، صلى الله عليه وسلم، المدينة بشهرين وأيام، هي اثنا عشر، وذلك أن أول السنة المحرم، وكان قدوم النبي، صلى الله عليه وسلم، المدينة، بعد مضي ما ذكرت من السنة، ولم يؤرخ التاريخ من وقت قدومه، بل من أول تلك السنة"، الطبري "2/ 388 ومابعدها"، "ذكر الوقت الذي عمل فيه التاريخ"، روح المعاني "10/ 90 وما بعدها"، الأيام والليالي والشهور "ص9"، القاهرة، 1956م، المرزوقي "1/ 283"، Reste, S. 97 4 بلوغ الأرب "3/ 78".

الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء

الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء مدخل ... الفصل الثالث والثلاثون بعد المئة: النسيء عرف علماء العربية النسيء بقولهم: "والنسيء المذكور في قول الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 1. شهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية، فنهى الله عز وجل عنه في كتابه العزيز حيث قال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} ، الآية، وذلك أنهم كانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة، فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهرًا، أي: أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم"2. وعرف النسيء بأنه تأخير بعض الأشهر الحرم إلى شهر آخر. وذلك من "نسأ". والنسء تأخير الوقت3. وجعله بعضهم بمعنى "الكبس"، المعروف4. وقد ذهب العلماء إلى أن النسيء كل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه نسيء5. فالنسيء تأخير حرمة المحرم إلى صفر، وجعل المحرم شهرًا حلالًا، يجوز لهم القتال فيه؛ لأنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر حرم، لا يغيرون فيها

_ 1 التوبة، الآية37، تفسير الطبري "10/ 91"، روح المعاني "10/ 38"، تاج العروس "1/ 456"، "طبعة الكويت"، اللسان "1/ 167"، الكشاف "2/ 23"، صبح الأعشى "2/ 366"، "صادر"، المختار من صحاح اللغة "520". 2 اللسان "1/ 167"، "صادر"، "تاج العروس "1/ 456"، "الكويت". 3 المفردات "511"، الروض الأنف "1/ 41، 85". 4 ابن الأجدابي "30". 5 تفسير الطبري "10/ 91"، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "8/ 137".

ولا يغزون، ومعاشهم على الغارات والغزو. ففعلوا النسيء، لإحلال ذمتهم من حرمة محرم، ولتجويز القتال فيه، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانًا، ثم يزول التحريم إلى المحرم، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة1. وقد عرف بعض العلماء النسيء بأنه تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر2. و"العرب تقول: نسأ الله في أجلك، وأنسأ الله أجلك، أي: أخر الله أجلك"3. فهم كانوا يستحلون ترك الحج في الوقت الذي هو واجب فيه، ويوجبونه في الوقت الذي لا يجب فيه، وجوزوا ذلك عليهم حتى ضلوا باتباعهم هذا التجويز. بأن جعلوا الشهر الحرام حلالًا، إذا احتاجوا إلى القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حرامًا، ويقولون: شهرًا بشهر، وإذا لم يحتاجوا إلى ذلك لم يفعلوه4. فكانوا "يحجون في كثير من السنين، بل أكثرها في غير ذي الحجة"5، ومن هنا تلاعبوا بالأشهر وأخرجوها عن حقيقتها، بأن جعلوا الشهر الحرام حلالًا والشهر الحلال حرامًا، فخالفوا بذلك ما اتفق عليه من تحريم أشهر بعينها هي من الأشهر الحل، ومن تحليل أشهر هي الأشهر الحرم. وإذا أخذنا بما جاء على لسان بعض الشعراء عن النسيء، مثل قولهم: ألسنا الناسئين على معدّ ... شهور الحل نجعلها حراما وقول أحدهم: وكنا الناسئين على معد ... شهورهم الحرام إلى الحليل

_ 1 تفسير الطبرسي "5/ 9"، "طبعة طهران"، الأمالي، للقالي "1/ 4". 2 تفسير الرازي "16/ 55"، تفسير البيضاوي "1/ 253 وما بعدها"، الكشاف "2/ 38"، التسهيل لعلوم التنزيل، لمحمد بن أحمد بن جزي الكلبي "2/ 75"، تفسير القاسمي "8/ 3143". 3 الأمالي، للقالي "1/ 4". 4 تفسير الطبرسي "5/ 29"، "طهران". 5 تفسير ابن كثير "2/ 354".

وقول الآخر: نسئوا الشهورَ بها1 وكانوا أهلها ... من قبلكم والعز لم يتحول2 واعتبرناه صحيحًا، نستنتج منه أن النسيء كان خاصًّا بحج "مكة"، وبالقبائل التي عرفت بقبائل "معد". وقد عرفنا قبائل وعشائرها وفي جملتها قريش. وإذا أخذنا النسيء بهذا المعنى، صار معناه مجرد تبديل شهر بشهر، وتأخير حرمة شهر إلى الشهر الذي يليه. وليس هذا بزيادة، أي: زيادة أيام أوشهر على شهور السنة، وهي الأيام التي تتخلف فيها السنة. القمرية عن السنة الشمسية، لتساوى بها، فتثبت الأشهر في مواضعها من الفصول، وهو ما يعبر عنه بالكبس فليس هذا النسيء كبسًا إذًا وقد تعرض "البيروني" لموضوع النسيء عند العرب، فقال: "وكانوا في الجاهلية يستعملونها على نحو ما يستعمله أهل الإسلام. وكان يدور حجهم في الأزمنة الأربعة. ثم أرادوا أن يحجوا في وقت إدراك سلعهم من الأدم والجلود والثمار وغير ذلك، وأن يثبت ذلك على حالة واحدة، وفي أطيب الأزمنة وأخصبها. فتعملوا الكبس من اليهود المجاورين لهم. وذلك قبل الهجرة بقريب من مئتي سنة. فأخذوا يعملون بها ما يشاكل فعل اليهود من إلحاق فضل ما بين سنتهم وسنة الشمس شهرًا بشهورها إذا تم.. ويسمون هذا من فعلهم النسيء، لأنهم كانوا ينسأون أول السنة في كل سنتين أو ثلاث شهرًا، على حسب ما يستحقه التقدم"3. وتعرض "ابن الأجدابي" لموضوع "الكبس" والسنة "الكبيسة" عند العبرانيين واليونانيين كذلك، فقال: "وقد كانت العرب في الجاهلية تفعل مثل هذا، وتزيد في كل ثالثة من سنيها شهرًا، على نحو ما ذكرناه عن العبرانيين واليونانيين. وكانوا يسمون ذلك النسيء. وكانت سنة النسيء ثلاثة عشر شهرًا قمرية. وكانت

_ 1 مرجع الضمير فيه "مكة". 2 الأمالي، للقالي "1/ 4". 3 الآثار الباقية "11، 12، 62، 325"، ابن الأجدابي "32"، القانون المسعودي "92، 131"، التفسير الكبير، للرازي "4/ 447"، روح المعاني "10/ 91 وما بعدها".

شهورهم حينئذ غير دائرة في الأزمنة، كان لكل شهر منها زمن لا يعدوه. فهذا كان فعل الجاهلية حين أحدثوا النسيء، وعملوا به. فلما جاء الله تعالى بالإسلام بطل ذلك وحرم العمل به. فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر} 1. وقال عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} 2. فسنة العرب اليوم اثنا عشر شهرًا قمرية دائرة في الأزمنة الأربعة"3. والنسيء الذي ذكره "البيروني" و"ابن الأجدابي"، هو كبس صحيح، وليس مجرد تقديم شهر وتأخير آخر على نحو ما رأيت. غايته تثبيت الأزمنة، وجعل الحج في موسم ثابت معين، فلا يكون في شتاء مرة، وفي صيف مرة أخرى، وفي ربيع مرة، وفي خريف مرة أخرى، بجعل السنة سنة قمرية شمسية على نحو فعل يهود بسنتهم. وهو بهذا المعنى في رواية "المسعودي". فقد قال: "وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهرًا وتسمية النسيء وهو التأخير، وقد ذم الله تبارك وتعالى فعلهم بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 4. وكان النسيء الأول للمحرم، فسمي صفر به. وشهر ربيع الأول باسم صفر ثم والوا بين أسماء الشهور. وكان النسيء الثاني لصفر، فسمي الذي كان يتلوه بصفر أيضًا. وكذلك حتى دار النسيء في الشهور الاثني عشر، وعاد إلى المحرم، فأعادوا بها فعلهم الأول. وكانوا يعدون أدوار النسيء، ويحدّون بها الأزمنة، فيقولون: قد دارت السنون من زمان كذا إلى زمان كذا دورة. فإن ظهر لهم مع تقدم شهر عن فصله من الفصول الأربعة لما يجتمع من كسور سنة الشمس وبقية فضل ما بينهما وبين سنة القمر الذي ألحقوه بها، كبسوه كبسًا ثانيًا. وكان يبين لهم ذلك بطلوع منازل القمر وسقوطها حتى هاجر النبي عليه السلام، وكانت نوبة النسيء كما ذكرت بلغت شعبان، فسمي محرمًا، وشهر رمضان صفرًا، فانتظر النبي، صلى الله عليه وسلم، حينئذ حجة الوداع، وخطب بالناس، وقال فيها: "ألا، وإن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السموات

_ 1 سورة التوبة، الآية37. 2 التوبة، الآية36. 3 ابن الاجدابي "33". 4 مروج الذهب "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها".

والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي يدعى شهر مضر الذي جاء بين جمادى الآخرة وشعبان، والشهر تسعة وعشرون وثلاثون"1. ومنذ ذلك الحين ترك النسيء. "وعني بذلك أن الشهور عادت إلى مواضعها، وزال عنها فعل العرب بها. ولذلك سميت حجة الوداع الحج الأقوم. ثم حرم ذلك، وأهمل أصلًا"2. وقد ذكر "المسعودي" إن عدة الشهور عند العرب وسائر العجم اثنا عشر شهرًا3. وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهرًا، هو تقسي قديم يعود إلى ما قبل الميلاد. وذُكر أن نسيء العرب كان على ضربين: أحدهما تأخير شهر المحرم إلى صفر. لحاجتهم إلى شن الغارات وطلب الثارات، والآخر تأخير الحج عن وقته تحريًّا منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يومًا، حتى يدور الدور فيه إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته4. وهذا الرأي يلخص ما أورده أهل الأخبار في النسيء. ويتلخص في شيئين: النسيء: تأخير الشهور، وذلك بإحلال شهر في مكان شهر آخر، للاستفادة من ذلك في التحليل والتحريم، والنسيء بمعنى الكبس، وهو إضافة الفرق الذي يقع بين السنة الشمسية والسنة القمرية إلى الشهور القمرية لتلافي النقص الكائن بين السنتين، ولتكون الشهور القمرية بذلك ثابتة لاتتغير، تكون في مواسمها المعينة، فلا يقع حادث في شهر من شهورها في الشتاء، ثم يتحول بمرور السنين، فيقع بعد أمد في الصيف أو في الربيع، كما يقع ذلك في الشهور القمرية الصرفة المستعملة في الإسلام. وتسمى الطريقة الثانية، وهي إضافة فرق الأيام بين السنتين الشمسية والقمرية إلى السنة القمرية، "الكبس" في اصطلاح العلماء. وقد كانت شهور اليهود، وهي شهور قمرية، تساوي "354" يومًا وست ساعات، فهي لذلك أنقص بأحد

_ 1 إمتاع الأسماع "1/ 531"، ويختلف هذا النص في مختلف الموارد، راجع عمدة القاري "18/ 41"، مجالس ثعلب "121"، سيرة ابن هشام "2/ 351"، "حاشية على الروض الأنف"، "2/ 351". 2 الآثار الباقية "1/ 62 وما بعدها"، روح المعاني "10/ 91 وما بعدها". 3 مروج الذهب "2/ 177"، "ذكر سني العرب والعجم وشهورها". 4 بلوغ الأرب "3/ 71"، نهاية الأرب "1/ 166 وما بعدها".

عشر يومًا عن السنة الرومانية، فأدخلوا شهرًا ثالث عشر في كل ثلاث سنوات، سموه "فيادرا" أو "آذار الثاني"، وبهذه الطريقة جعلوا السنة القمرية مساوية للسنة الشمسية1. وقد ذكر "المسعودي"، أن أيام السنة "ثلثمائة وأربعون وخمسون يومًا، تنقص عن السرياني أحد عشر يومًا وربع يوم، فتفرق في كل ثلاث وثلاثين سنة، تنسلخ تلك السنة العربية ولا يكون فيها نيروز، وقد كانت العرب في الجاهلية تكبس في كل ثلاث سنين شهرًا، وتسميه النسيء وهو التأخير"2. وذكر "القلقشندي"، أنهم كانوا يؤخرون في كل عام أحد عشر يومًا، حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته، فلما كانت سنة حجة الوداع، وهي تسع من الهجرة، عاد الحج إلى وقته اتفاقًا في ذي الحجة كما وضع أولًا، فأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيه الحج، ثم قال في خطبته التي خطبها يومئذ: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض"، بمعنى أن الحج قد عاد في ذي الحجة"3. وذكروا أن المشركين كانوا "يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور كلها حتى وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع ذا القعدة من السنة التاسعة، ثم حج النبي، صلى الله عليه وسلم، في العام المقبل حجة الوداع فوافقت ذا الحجة، فذلك قوله في خطبته: "إن الزمان قد استدار ... " الحديث. أراد بذلك أن أشهر الحج رجعت إلى مواضعها، وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء4. وورد في خبر يرجع سنده إلى "إياس بن معاوية"، أن المشركين كانوا "يحسبون السنة اثني عشر شهرًا وخمسة عشر يومًا، فكان الحج يكون في رمضان وفي ذي القعدة، وفي كل شهر من السنة بحكم استدارة الشهر بزيادة الخمسة عشر يومًا، فحج أبو بكر سنة تسع في ذي القعدة بحكم الاستدارة، ولم يحج النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما كان في العام المقبل وافق الحج ذا الحجة في العشر، ووافق ذلك الأهلة"5. وقد ورد في الحديث: "الشهر هكذا وهكذا"، يعني

_ 1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 639 وما بعدها". 2 مروج "2/ 188"، "ذكر سني العرب وشهورها وتسمية أيامها ولياليها". 3 صبح الأعشى "2/ 397". 4 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن "8/ 137". 5 المصدر نفسه "8/ 138".

مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين"1، كما ورد: "شهران لا ينقصان شهرًا عيد رمضان وذو الحجة"2. فإذا أخذنا بذلك، كان الفرق بين أيام السنة القمرية وأيام السنة الشمسية، هو ما يجب إضافته على السنة القمرية لتكون سنة شمسية، ذات أشهر ثابتة. وإذا صحت رواية بعض الأخباريين عن إضافة الجاهليين أحد عشر يومًا، إلى السنة القمرية، ليضمنوا بذلك ثبات الأشهر، وعدم تغير أوقاتها. فإن ذلك يكون كبسًا صحيحًا بالمعنى المفهوم من الكبس، مؤديًا للغاية المتوخاة منه. وعندئذ تكون سنة أولئك الجاهليين المستعملين للكبس سنة قمرية شمسية. وأنا لا أستبعد شيوعها عند أهل المدينة، بسبب اختلاطهم باليهود، ولا أستبعد كذلك اتفاقهم مع يهود يثرب في استعمال السنة المستعملة عند اليهود نفسها، وابتدائهم بالشهر الذي كان يبدأ به أولئك اليهود. ويؤيد هذه الرواية ما ذكره أهل الأخبار كلهم من أن الغاية التي حملت العاملين بالنسيء على استعمالهم له "أنهم كانوا يحبون أن يكون يوم صَدرَهم عن الحج في وقت واحد من السنة، فكانوا ينسئونه. والنسيء التأخير، فيؤخرونه في كل سنة أحد عشر يومًا، فإذا وقع في عدة أيام من ذي الحجة، جعلوه في العام المقبل لزيادة أحد عشر يومًا من ذي الحجة، ثم على تلك الأيام يفعلونه كذلك في أيام السنة كلها. وكانوا يحرمون الشهرين اللذين يقع فيهما الحج، والشهر الذي بعدهما، ليواطئوا في النسيء بذلك عدة ما حرم الله وكانوا يحرمون رجبًا كيف وقع الأمر. فيكون في السنة أربعة أشهر حرم"3. أما التفسير الأول للنسيء، وهو تفسيره بمعنى تحليل شهر محرم، وتحريم شهر حلال، وتأخير شهر وتقديم شهر، فإنه لا يحقق ما ذكر من رغبة الناس يومئذ في حجهم في وقت ثابت لا يتغير ولا يتبدل، لأن الحج يتغير فيه، فيكون أحيانًا في الصيف، وأحيانًا في الشتاء، وأحيانًا في الربيع، وأحيانًا في الخريف. وهذا لا يتفق مع زعم أهل الأخبار في السبب الذي دعا إلى الأخذ بالنسيء. والنسيء بهذا التفسير، لا يفيد إلا من ناحية التحايل والتلاعب في إيجاد حيل

_ 1 إرشاد الساري "3/ 359". 2 المصدر نفسه. 3 تاج العروس "1/ 125"، "نسأ".

مشروعة في تجويز القتال في بعض الأشهر الحرم، وذلك كأن تكون قبيلة قوية تريد القتال في شهر محرم، لاستعدادها له فيه فتعمد إلى هذا الحل، والتحايل على العرف بالتوسل إلى"القلمس" لتغيير الشهور، فيصير الشهر الحرام حلالًا، وبذلك يتاح لها القتال فيه. وإني أرى في هذا التفسير تكلفًا ظاهرًا، وهو يعارض مع ما ذكر من الغاية من النسيء. وإذا جاز إحداثه في سنة ما للغايات المذكورة، فلا يعقل إحداثه في كل سنة بانتظام. وإلا لم يبق له معنى ما ولا فائدة ترجى عندئذ منه. وقد جاء معنى النسيء في الآية: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 1. فقال بعض علماء التفسير: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرًا، فيجعلون المحرم صفرًا، فيستحلون فيه الحرمات، فأنزل الله {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} 2. "وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة، يحجون فيه مرة ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفر صفر. ثم يسمون رجب جمادى الآخر، ثم يسمون شعبان رمضان، ثم يسمون رمضان شوالًا، ثم يسمون ذا القعدة شوالًا، ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا بمثل هذه القصة، فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجة أبي بكر، رضي الله عنه، الآخر من العامين في ذي العقدة، ثم حج النبي، صلى الله عليه وسلم، حجته التي حج، فوافق ذا الحجة، ذلك حين يقول النبي، صلى الله عليه وسلم، في خطبته "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" 3. فالنسيء هو المحرم، وكان يحرم المحرم عامًا، ويحرم صفر عامًا، وزيد صفرًا في آخر الأشهر الحرم، وكانوا يؤخرون الشهور

_ 1 التوبة، الآية37. 2 تفسير الطبري "10/ 93". 3 تفسير الطبري "10/ 92 وما بعدها"، تفسير النسفي "2/ 125 وما بعدها". تفسير ابن كثير "2/ 353 وما بعدها"، تفسير القرطبي "8/ 137 وما بعدها".

حتى يجعلوا صفر المحرم، فيحلوا ما حرم الله. وكانت هوازن، وغطفان، وبنو سليم، يعظمونه، وهم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية1. وهكذا كانوا يجعلون سنة المحرم صفرًا، فيغزون فيه، فيغنمون فيه ويصيبون ويحرمونه سنة2. وذكر أنهم كانوا يسكتون عن المحر ولا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفرًا3. وقد تحدث "الطبرسي" عن النسيء فقال: "قال مجاهد: كان المشركون يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور حتى وافقت الحجة التي قبل حجة الوداع في ذي القعدة، ثم حج النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في العام القابل حجة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فذلك حين قال النبي، صلى الله عليه وسم، وذكر في خطبته: "ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض. السنة اثنا عشر شهرًا. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" أراد عليه السلام الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء"4. وهذا الفعل الذي هو النسيء، هو الذي جعل العلماء يقولون: إن الصفر النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، وهو تأخيرهم المحرم إلى صفر في تحريمه ويجعلون صفرًا هو الشهر الحرام5. فهم يدخلون شهرًا جديدًا على السنة بعد ذي الحجة، يكون مقامه بين هذا الشهر وبين شهر صفر الأول، الذي هو المحرم من الأشهر الحرم. وبذلك يكونون قد فصلوا بين الأشهر الحرم الثلاثة، بأن جعلوا شهرًا حلالًا جديدًا بين الشهرين المحرمين: ذو القعدة وذو الحجة، وبين الشهر الثالث المتصل بهما، وهو المحرم، ففصل عن الشهرين، وصار وحيدًا. فعلوا ذلك ليحافظوا على وقت الحج، بجعله ثابتًا، ولما كان ذلك معناه

_ 1 تفسير الطبري "10/ 92 وما بعدها". 2 تفسير الطبري "10/ 92". 3 تفسير ابن كثير "2/ 357". 4 تفسير الطبرسي "5/ 29". 5 تاج العروس "3/ 336"، "صفر".

تغيير حرمة الأشهر الحرم الثلاثة بجعل الشهر الحلال شهرًا حرامًا، والشهر الحرام حلالًا، حرم النسيء في الإسلام. فابتعدت السنة بذلك عن السنة الشمسية، وصار الحج يدور باختلاف المواسم، لأن السنة صارت سنة قمرية. وبذلك تغير وقت الحج عما كان عليه في الجاهلية، فلم يعد ثابتًا على نحو ما كان عليه عند الجاهليين. وفرارًا من اسم النسيء، الذي هو زيادة في الكفر، كانوا في صدر الإسلام يسقطون عند رأس كل ثلاث وثلاثين سنة عربية، سنة ويسمونها: سنة الازدلاق لأن كل ثلاث وثلاثين سنة عربية تساوي اثنتين وثلاثين سنة شمسية تقريبًا1.

_ 1 صبح الأعشى "2/ 398".

مبدأ النسيء

مبدأ النسيء: ويرجع أهل الأخبار مبدأ إدخال النسيء إلى الجاهليين إلى "عمرو بن لحي" أو إلى "القلمس"، وهو "حذيفة بن فقيم بن عامر بن الحارث"، أو "حذيفة بن عبد بن فقيم"1، أو "نعيم بن ثعلبة"2، أو "قلع بن حذيفة بن عبد بن فقيم"، أو آخرون3. وذلك أن العرب كانوا لا يكبسون، إلى أن جاورتهم اليهود في يثرب، فأرادوا "أن يكون حجهم في أخصب وقت من السنة وأسهلها للتردد في التجارة، ولا يزول عن مكانه، فتعلموا الكبس من اليهود"4. فصار النسيء عادة من عادات العرب منذ ذلك الحين إلى منعه في الإسلام. وكانت النَّسَأة في بني مالك بن كنانة، وكان أولهم القلمس حذيفة بن عبد بن فُقيم بن عديّ بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، ثم ابنه قلع بن حذيفة، ثم عباد بن قلع، ثم "قلع بن عبّاد قلع" ثم أمية بن قلع

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 71"، نهاية الأرب "1/ 165"، "حذيفة بن عبد بن نهم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة"، المحبر "157"، تاج العروس "4/ 222"، تفسير الطبرسي "5/ 29"، "طبعة طهران". 2 الروض الأنف "1/ 41"، تفسير الطبرسي "5/ 29"، "طهران"، تفسير الخازن "2/ 221"، تفسير القاسمي "8/ 3143"، البحر المحيط "5/ 39". 3 تاج العروس "1/ 456 وما بعدها"، "الكويت". 4 بلوغ الأرب "3/ 71".

ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن أمية بن عوف بن قلع1. وذكر أن أول من نسيء قلع، نسأ سبع سنين، ونسأ أمية إحدى عشرة سنة2. وذكر عن "ابن إسحاق" أن أول من نسأ عند العرب "القلمس"، وهو "حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة"، ثم قام بعده على ذلك ابنه "عباد"، ثم من بعد عباد ابنه "قلع بن عباد"، ثم ابنه "أمية ابن قلع"، ثم ابنه "عوف بن أمية" ثم ابنه "أبو ثمامة" "جنادة بن عوف"، وكان آخرهم وعليه قام الإسلام3. وذكر "القرطبي" عن "ابن الكلبي" أن "أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة، يقال له: نعيم بن ثعلبة، ثم كان بعده رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدركه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقال الزهري: حيّ من بني كنانة ثم من بني فُقيم منهم رجل يقال له: القلمس، واسمه حذيفة بن عبيد. وفي رواية مالك بن كنانة. وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه. وفي ذلك يقول شاعرهم: ومنا ناسئ الشهر القلمس وقال الكميت: ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما4 وذكر "اليعقوبي"، أن أول من نسأ الشهور: "سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة". وهو والد "هند" التي تزوجها "مرة بن كعب"، فولدت له "كلابًا" وشرف "كلاب بن مرة" وجلّ قدره واجتمع له شرف الأب، وهو "كعب بن لؤي"، الذي كان أول من سمى يوم الجمعة بالجمعة، وكانت العرب تسميه "عروبة"، وشرف الجد من قبل الأم، لأنهم كانوا

_ 1 تاج العروس "1/ 457" "1/ 125"، "نسأ"، مروج الذهب "1/ 367 وما بعدها"، بلوغ الأرب "3/ 72"، نهاية الأرب "1/ 166"، "حذيفة بن عبد بن نهم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة"، المحبر "157". 2 تاج العروس "1/ 456"، تفسير الطبرسي "5/ 29 وما بعدها"، تفسير سورة التوبة، الآية36 وما بعدها، تاج العروس "1/ 124"، "نسأ". 3 تفسير ابن كثير "2/ 357". 4 تفسير القرطبي "8/ 138"

يجيزون الحج ويحرمون الشهور ويحللونها، فكانوا يسمون النسأة والقلامس1 وذكر "الزبيري"، أن "سريرًا" أول من نسأ الشهور، وقد انقرض سرير، ونسأ الشهور بعده ابن أخيه القلمس، واسمه عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن كنانة. ثم صار النسيء في ولده. وكان آخرهم جنادة بن عوف2، وهو "أبو ثمامة". وورد في رواية أخرى، أن آخرهم هو "فقيم بن ثعلبة"، أو هو غيره. وقد ذكروا أن "أبا ثمامة"، وهو "جنادة بن أمية" من بني "المطلب بن حدثان بن مالك بن كنانة"، من نسأة الشهور على معد، كان يقف عند "جمرة العقبة، ويقول: اللهم إني ناسئ الشهور وواضعها مواضعها ولا أعاب ولا "أحاب" أجاب: اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخر، وكذلك في الرجبين، يعني: رجبًا وشعبان. ثم يقول: انفروا على اسم الله تعالى. وفيه يقول قائلهم: ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما3 وذكر أن أول من نسأ بعد "القلمين" القلسين: "حذيفة بن عبد نعيم بن عدي"، و"زيد بن عامر بن ثعلبة" "وهو القلمين بن عامر بن ثعلبة" "عياد بن حذيفة"، ثم "قلع بن عياد"، ثم "أمية بن قلع"، ثم "عوف بن أمية"، ثم "جنادة" فأدركه الإسلام4. وذكر "الطبري"، "أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب، ألا وإن صفر العام الأول حلال، فيحله الناس، فيحرم صفر عامًا ويحرم المحرم عامًا"5. ودعاه بـ"أبي ثمامة صفوان بن أمية"، أحد "بني فقيم

_ 1 اليعقوبي "1/ 207"، "طبعة النجف". 2 نسب قريش "ص13". 3 تاج العروس "4/ 222"، "القلمس"، تاج العروس "1/ 125"، "نسا"، ينسب هذا البيت إلى "عمير بن قيس بن جذل الطعان"، اللسان "1/ 167"، "صادر"، نهاية الأرب "1/ 166". 4 الإصابة "1/ 248"، "رقم 1207". 5 تفسير الطبري "10/ 91".

ابن الحارث، ثم أد بني كنانة"1. وذكر أنه "كان رجل من بني كنانة، يأتي كل عام في الموسم على حمار له، فيقول: أيها الناس، إني لا أعاب ولا أحاب، ولا مردّ لما أقول. إنا قد حرمنا المحرم، وأخرنا صفر. ثم يجييء العام المقبل بعده، فيقول مثل مقالته. ويقول: إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّه} 2. وكان هذا الرجل يقال له: القلمس3. وكان آخر النسأة، "جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عيّاد "عباد" بن حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن زيد بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة"، أبو "ثمامة"4 "أبو أمامة" الكناني. نسأ الشهو أربعين سنة، وأدرك الإسلام. وكان أبعد النسأة ذكرًا، وأطولهم أمدًا. وذكر أن اسمه "أمية بن عوف بن جنادة بن عوف بن عياد بن قلع بن فقيم بن عدي بن عامر بن الحارث بن ثعلبة"5، وذكر أيضًا أنه "القلمس بن أمية بن عوف بن قلع بن حذيفة بن عبد بن فقيم"6. ووردت في خبر ينسب إلى "ابن عباس"، أنه قال: النسأة في كندة7. وأنهم كانوا النسأة الأول، قبل المذكورين8. وذهب "الجاحظ" إلى أن النسيء كان في كنانة، وأما السدانة، فكانت في "مر بن أُدّ" "من رهط صوفة والرُّبيط منها أصحاب المزدلفة، وكانت عدوان وأبو سيارة عميلة بن أعزل، تدفع الناس"9 ويكاد يكون الإجماع على أن النسيء كان من حق "كنانة"، لم يتولَّه غيرهم. وذكر أن الناسئ، كان يحل للمحرمين قتال "خثع" و"طيء"، "لأنهم كانوا لا يحرمون الأشهر الحرم، فيغيرون فيها ويقاتلون. فكان من نسأ الشهور

_ 1 تفسير الطبري "10/ 92". 2 تفسير الطبري "10/ 92". 3 تفسير الطبري "10/ 93"، تفسير ابن كثير "2/ 356 وما بعدها". 4 تاج العروس "1/ 124"، "نسأ"، "1/ 456"، "طبعة الكويت"، نهاية الأرب "1/ 166"، الروض الأنف "1/ 42". 5 الإصابة "1/ 248"، "رقم 1207". 6 نهاية الأرب "1/ 166"، تاج العروس "1/ 124"، "نسأ". 7 اللسان "1/ 167"، "صادر". 8 الأزرقي "1/ 118". 9 الحيوان "7/ 215".

من الناسئين يقوم، فيقول: إني لا أحاب ولا أعاب، ولا يرد ما قضيت به، وإني قد أحللت دماء المحللين من طيء وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا عرضوا لكم"1. ويذكر أهل الأخبار أن أولئك الناسئين كانوا نابهين في قومهم، لهم مركز عظيم وشأن. فكان "القلمس"، مثلًا ملكًا في قومه، وهو من بني كنانة2، وكان عالم قومه وفقيههم في الدين، وكان الذي يلي النسيء يظفر بالرياسة لتريس العرب إياه3. ويظهر أنهم كانوا أصحاب علم ونظر ومكانة محترمة، في أمور الدين، في قومهم وفي القبائل التي تحج إلى مكة. وكلمة "قَلَمّس" على ما يتبين من روايات الأخباريين، لم تكن اسم علم، وإنما هي لفظة يراد بها عند الجاهليين ما يراد من معنى الفقيه والمفتي في الإسلام4. وقد ذكر علماء اللغة أن من معاني القلمس: السيد العظيم، والرجل الخيّر المعطاء والمفكر البعيد الغور، والداهية من الرجال، ونحو ذلك من معان تشير إلى صفات عالية في الرجل الذي أطلقت عليه، وقد تكون بمعنى العالم العارف، وقد أطلقت بصورة خاصة على هذه الجماعة، لسعة علمها بهذا الموضوع وغيره، ولوقوفها على التوقيت وعلى الفلك في تلك الأيام5. وقد تكون لفظة من جملة الألفاظ المعربة التي دخلت العربية قبل الإسلام. وطريقة الناسئ في إعلانه النسيء على الناس في الحج، أن يقوم رجل من كنانة فيقول: أنا الذي لا يردّ لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهرًا، أي: أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم"6. وهذا الرجل هو الناسئ، أو أن يدعو الناسئ الناس في آخر موسم الحج إلى الاجتماع حوله، فإذا اجتمعوا ارتقى موضعًا مرتفعًا ظاهرًا، أو قام على ظهر جمله ليراه الناس ثم يقول بأعلى

_ 1 تاج العروس "1/ 125"، "نسأ". 2 المعاني الكبير "3/ 1171"، المحبر "156 ومابعدها"، بلوغ الأرب "3/ 72". 3 تفسير القرطبي "8/ 138". 4 المحبر "ص156"، تاج العروس "4/ 222"، "القلمس"، تفسير الطبري "10/ 93". 5 راجع معنى "القلمس" في اللسان "6/ 182". 6 تاج العروس "1/ 456" "الكويت".

صوته: "اللهم إني لا أعاب ولا أحاب، ولا مرد لما قضيت. اللهم، إني أحللت شهر كذا "ويذكر شهرًا من الأشهر الحرم، وقع اتفاقهم على شن الغارة فيه"، وأنسأته إلى العام القابل، أي: أخرت تحريمه، وحرمت مكانه شهر كذا من الأشهر البواقي، فكانوا يحلون ما أحل ويحرمون ما حرم" فإذا انتهى من هذا الخطاب وأمثاله، أباحوا لأنفسهم الغارة في ذلك الشهر، وغزوا من نووا غزوه. فإذا جاء العام القابل، نهض الناسئ ليقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم الشهر الفلاني، وهو الشهر الذي أحله في العام الماضي فحرموه، فيحرمونه1. وورد في بعض الروايات، أنه كان يقوم فيقول: "إني لا أحاب ولا أعاب ولا يرد ما قضيت به، وإني قد أحللت دماء المحللين من طيء وخثعم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا عرضوا لكم". وذلك لما ذكر من عدم تحريم طيء وخثعم للشهور الحرم، فكانوا يغيرون ويقاتلون فيها، ولذلك استثناهم القلامسة من عدم مقاتلتهم في تلك الشهور، وذلك لضرورات الدفاع عن النفس2. وقد نسب إلى بعض القلامسة شعر، قيل: إنهم قالوه يفتخرون فيه باحتكارهم النسيء، وبإرشادهم الناس إلى مناسك دينهم، وقيادتهم الحجاج، يسيرون تحت لوائهم، يبينون لهم شهور الحل والشهر الحرم، كما ورد شعر منسوب إلى بعض كنانة يفتخر فيه بأن قومه ينسئون الشهور على معد، فيجعلون شهور الحل حراما والشهور الحرام حلالًا3. وقد قال "عمير بن قيس بن جذل الطعان"، شعرًا افتخر فيه وتعرض لأمر النسيء، فكان مما جاء فيه قوله: ألسنا الناسئين على معدّ ... شهور الحل نجعلها حراما4

_ 1 المعاني الكبير "3/ 1171"، بلوغ الأرب "3/ 73"، نهاية الأرب "1/ 166"، "أنا الذي لا أعاب ولا أخاب؟ ولا يرد لي قضاء فيقولون: نعم، صدقت أنسئتنا شهرًا، أو أخر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر وأحل المحرم، فيفعل ذلك"، تفسير الطبرسي "5/ 29"، "طهران". 2 تاج العروس "1/ 457"، "الكويت"، مادة: "نسأ". 3 تاج العروس "1/ 457". 4 اللسان "1/ 167"، ونسبه "الطبرسي" إلى الكميت، تفسير الطبرسي "5/ 29"، "طهران"، تفسير ابن كثير "2/ 356"، سنن ابن ماجة "5/ 180"، السنن الكبرى "5/ 165".

وقال بعض بني أسد: لهم ناسئ يمشون تحت لوائه ... يحل إذا شاء الشهورَ ويُحْرِمُ1 وقال آخر: نسوء الشهور بها وكانوا أهلها ... من قبلكم والعز لم يتحول2 وقد نسب "القرطبي" البيت: ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحلّ نجعلها حراما إلى الكميت3 وقد استمرت طريقة النسيء هذه إلى أيام الإسلام، فحج أبو بكر في السنة التاسعة من الهجرة، فوافق حجه ذا القعدة، ثم حج رسول الله في العام القابل الموافق للسنة العاشرة للهجرة، المصادفة لسنة "631" للميلاد، فوافق عود الحج في ذي الحجة. ثم نزل الحكم بإبطال النسيء في الآيات: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 4. وخطب الرسول في جموع الحجاج خطبته الشهيرة التي بين فيها مناسك الحج وسننه وأمورا أخرى أوضحها لهم، فكان مما قاله لهم: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض،

_ 1 تاج العروس "1/ 457"، "الكويت". 2 تفسير بحر المحيط "5/ 39". 3 تفسير القرطبي "8/ 138". 4 سورة التوبة: الآية 36 وما بعدها، راجع تفسير الطبري "10/ 91 وما بعدها"، تفسير الرازي "4/ 446 وما بعدها"، تفسير الطبرسي "3/ 23 وما بعدها"، الكشاف "2/ 150 وما بعدها".

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} 1. فألغى الإسلام منذ ذلك الحين النسيء، وثبت شهور السنة وجعل التقويم القمري هو التقويم الرسمي للمسلمين. وروي كلام الرسول عنه على هذه الصورة: "أيها الناس، {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} . وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم. ثلاثة متوالية، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"2. فألغى الإسلام منذ ذلك الحين النسيء، وجعل التقويم القمري الخاص هو التقويم الرسمي للمسلمين. ويظهر من القرآن الكريم أن سبب تحريم النسيء في الإسلام هو تلاعب القلامسة بالشهور، بتحريمهم شهرًا حلالًا في عام، ثم تحليلهم له في العام القابل. فأزال الإسلام ذلك التلاعب بتحريم النسيء، واتخاذ السنة سنة قمرية ذات اثني عشر شهرًا لا غير. كما صيرها الجاهليون ثلاثة عشر أو أربعة عشر شهرًا3. ولما كان الزرع يعتمد على المواسم الطبيعية، وعلى الشهور الشمسية، لذلك صار اعتماد المزارعين في الزرع وفي الحصاد على الشهور الشمسية، أي على السنة الشمسية. أما الأمور الدينية، مثل الحج والصيام، فالاعتماد بالطبع على الشهور القمرية4. واتخاذ التقويم القمري تقويمًا رسميًّا للإسلام، هو من السمات التي امتاز بها الإسلام عن الجاهلية، واعتبر من التقاط الفاصلة التي فصلت بين الجاهلية والإسلام. وهكذا زال الكبس كما زال النسيء عن السنة القمرية وعن الشهور لتحويلها إلى سنة شمسية على نحو ما رأينا من فعل الجاهليين. ويرى بعض المستشرقين أن النسيء والناسئ من الألفاظ المعربة عن العبرانية.

_ 1 ابن الأثير "2/ 126"، الواقدي "431" "طبعة ولهوزن"، ابن كثير "2/ 353 وما بعدها"، وقد رويت خطبة الرسول بصورة مختلفة، اختلافًا يدل على أن الرواة لم يكونوا قد دونوا النص، وإنما رووا عن ذاكرة وحفظ، فاختلفوا من ثم في رواية النص. 2 ابن هشام "1/ 351"، "حاشية على الروض الأنف". 3 بلوغ الأرب "3/ 71"، روح المعاني "10/ 93 وما بعدها". 4 Caetani, I, 356, Bubi, Muhammed, S. 350, H. Winckler, in Arabisch Semitisch Orientallsh, 85. ff, Berlin, 1901.

وقد دخلت إلى العربية بتأثير يهود يثرب. والناسئ عن اليهود هو الرئيس الديني. وكان يقوم عندهم بتقديم وتأخير الشهور، ويعين مواعيد الأعياد والصيام، ويذيع النتيجة بواسطة وفود إلى الطوائف اليهودية المختلفة1. والناسئ يقابل رئيس قبيلة عند بني إسرائيل2، وهذا التعريف ينطبق تمامًا مع ما ذكره أهل الأخبار عن "الناسئ" عند الجاهليين. وقد بحث عدد المستشرقين في حساب السنين عند الجاهليين وفي النسيء، فجاءوا بآراء متباعدة غير متفقة، لكل واحد منهم رأي ومذهب في طريقة العرب قبل الإسلام في حساب الشهور وفي السنين القمرية والشمسية والكبس والنسيء. وقد ناقشها ولخصها "نالينو" في كتابه: "علم الفلك تأريخه عند العرب في القرون الوسطى". وهو ممن يرون أن البحث في هذا الموضوع صعب عسير، وأن البت فيه غير ممكن في الزمن الحاضر، لقلة الموارد وعدم وجود أخبار وروايات واضحة صريحة يمكن أن يستند إليها في إبداء رأي علمي ناضج في الموضوع3. والذي أراه أن أهل الحجاز كانوا يتبعون التقويم الشمسي مع مراعاة الإهلال، أي: تقويمًا شمسيًّا قمريًّا، بدليل أن لأسماء الأشهر علاقة بالجو من برد وحر، وربيع وخريف. فقد ذكر علماء اللغة أن الربيع أنا سمي ربيعًا، لارتباعهم فيه والارتباع الإقامة في عمارة الربع، وأن "جمادى" سمي بذلك لجمود الماء فيه، أي: أنهما من أشهر الشتاء. قال الشاعر: وليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر العبد في ظلمائها الطنبا لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلف على خرطومه الذنبا4 وأن رمضان من شدة الرمضاء، وهو الحر. ولا يعقل أن تكون هذه التسميات قد جاءت عفوًا ومن غير ارتباط بحالة من حالات الطبيعة. وقد انتبه المتقدمون

_ 1 ولفنسون: تأريخ اليهود في بلاد العرب "ص81". 2 الخروج، الإصحاح 34، الآية31، العدد، الإصحاح7، الآية32، تأريخ اليهود في بلاد العرب "ص81". 3 "ص94 وما بعدها". 4 تفسير ابن كثير "2/ 354".

إليها، فقال بعضهم: "وكانت الشهور في حسابهم لا تدور"، ولكن بعضهم لم يقبل بذلك إذ قال: "وفي هذا نظر، إذ كانت شهورهم بالأهلة، فلا بد من دورانها"، وقال في تفسير اسم جمادى: "فلعلهم سموه أول ما سمي عند جمود الماء في البرد"1. والذي أراه أن تلك الأشهر كانت ثابتة لا تدور، بمعنى أنها كانت ثابتة في مواسمها، يسيرون بموجبها في زراعتهم وفي أسفارهم، ولكنهم كانوا يسيرون على الإهلال، أي: الشهور القمرية في أمورهم الإعتيادية وفي الأعمال المالية، مثل الديون، حيث يسهل تثبيت المدة بعدد الأهلة، ومن هنا اختلط الأمر على أهل الديون، حيث يسهل تثبيت المدة بعدد الأهلة، ومن هنا اختلط الأمر على أهل الأخبار فخلطوا بين التقويمين، بسبب عدم وضوح الروايات. وكان شأنهم في ذلك شأن العرب الشماليين الذين كانوا يحجون في وقت واحد ثابت، هو في شهر "ذي الحجة"، الذي تحدثت عنه في مكان آخر، وشأن العرب الجنوبيين الذين كانوا يحجون في شهر "ذي الحجة" الذي كان وقته ثابتًا أيضًا، فلا يكون في صيف، ثم يكون في ربيع أو في خريف أو في شتاء، ولا يعقل خروجهم على هذا الإجماع الذي نراه عند العرب الشماليين، أي: عرب بلاد العراق وعرب بلاد الشأم، وينفردون وحدهم باتخاذ تقويم قمري بحت. ما ذكرناه عن النسيء وعن الكبس يخص عرب الحجاز، وأهل مكة بصورة خاصة، ولا يتناول العرب الجنوبيين. ولا عرب بقية أنحاء جزيرة العرب، لعدم وجود أخبار لدينا عنهما تتناول المواضع الأخرى، لا في النصوص الجاهلية ولا في أخبار أهل الأخبار. ولكن الذي يظهر من النصوص العربية الجنوبية المتعلقة بالزراعة ومن أسماء الشهور، أنها كانت شهورًا ثابتة، أي: شهورًا شمسية لا قمرية، وأن السنة التي كانوا يسيرون عليها سنة شمسية، غير أن هذا لا يمنع مع ذلك من سيرهم على مبدأ الإهلال في حياتهم الاعتيادية، أي: على الشهور القمرية، بحيث تكون الرؤية مبدءًا للشهور. وذلك لوضوح الأهلة وإمكان رؤيتها بسهولة وتثبيت الأوقات بموجبها، بمعنى أنهم كانوا يسيرون على التقويمين: التقويم الشمسي في الزراعة وفي دفع الغلات، والتقويم القمري في الأمور الاعتيادية.

_ 1 تفسير ابن كثير "2/ 354".

ولا نستطيع أن نتحدث عن كيفية احتساب العرب الجنوبيين للسنة الشمسية، ولا عن الكبس عندهم، لعدم ورود شيء عنهما في النصوص. ويظن أن سنة العرب الجنوبيين كانت من "360" يومًا، مقسمة إلى اثني عشر قسمًا، أي: شهرًا، نصيب كل شهر منها "30" يومًا. وحيث أن هذا المقدار من الأيام، وهو "360" يومًا هو دون الأيام التي تمضيها الأرض في دورانها الحقيقي حول الشمس، لذلك كانوا يعوضون عن الفرق إما بإضافة الأيام اللازمة على أيام السنة لتكبسها فتجعلها مساوية للسنة الطبيعية، وذلك في كل سنة، وإما بإضافة شهر كبيسة مرة واحدة في نهاية كل ست سنوات1. ويظن "بيستن"، أن القتبانيين قد أخذوا بالطريقة الثانية: طريقة إضافة شهر زائد كامل على التقويم في كل ست سنوات، لتتعادل السنة بذلك مع السنة الطبيعية، وأن ذلك الشهر المضاف هو الشهر المسمى بـ"ذ برم اخرن"، أي بـ"ذي برم الآخر"، أو "ذي برم الثاني"، عند القتبانيين وبشهر "ذنسور اخرن"، أي: "ذي نسور الآخر"، أو "ذي نسور الثاني" عند السبئيين. ووردت في إحدى الكتابات جملة "بين خرفهن"، أي: بين السنتين. وقد رأى "ونكلر"، أنها تعني الأيام التي تضاف إلى نهاية السنة لكبسها حتى تكون سنة طبيعية كاملة. أي: سنة شمسية، ولذلك عبر عنها بـ"بين السنتين"، أي: الإضافة التي توضع فيما بين السنتين. السنة المتقدمة والسنة التالية لها2. وذهب "كريمه" إلى أنها تعني شهرًا، هوالشهر الذي يضاف على التقويم لكبس السنين، ويرى "بيستن"، أن هذا الرأي يصعب قبوله، لأنه لو كانت شهرًا كاملًا، لسموه باسم معين، أو لرمزوا إليه برمز يميزه عن شهور السنة الأخرى، كأن يقولوا له: "اخرن"، أي: الآخر، أو الثاني3. أما اليهود، يهود جزيرة العرب، فقد كانوا يسلكون طريقتهم الخاصة في

_ 1 Beeston, p. 18. 2 Winckler, Altorientaliscne Forschungen, II, 1900, S. 351. 3 Beeston, p. 43.

التوقيت، ويسلكون منهجهم في تعيين الشهور، كما يتأيد ذلك من الأخبار التي نجدها عنهم في كتب الأخباريين. وأما النصارى العرب، فقد كانوا يتبعون التقاويم الشرقية، ويسيرون على الشهور السريانية المعروفة، وعلى وفق شعائر الكنيسة، ويحتفلون بأعيادهم على وفق ما ثبت عندهم في كنيستهم. وقد أشير إليها في بعض الشعر الجاهلي وفي كتب الأخباريين.

الفصل الرابع والثلاثون بعد المئة: التقاويم والتواريخ

الفصل الرابع والثلاثون بعد المئة: التقاويم والتواريخ التقاويم: هناك نوعان من السنين: سنين بنيت على أساس الشهور القمرية التي تثب بمراقبة القمر، وسنتها سنة قمرية Lunar Year. والتقويم الذي يقوم عليه تقويم قمري. وسنون بنيت على أساس شمسي Solar. والتقويم القائم عليها، تقويم شمسي، شهوره ثابتة لا تتغير. وعدة الشهور عند العرب اثنا عشر شهرًا، سواء كانت السنة شمسية أم قمرية1. ولقد قلت فيما سبق: يظهر من النصوص الجاهلية، أن أهل العربية الجنوبية كانوا يعملون بالتقويم الشمسي، وفقًا للمواسم الزراعية، لأننا نراهم في هذه النصوص يزرعون ويبذرون ويحصدون في شهور معينة، ويدفعون الضرائب في مواسم ثابتة، كما نرى أن أسماء الشهور، عندهم ذات معان متصلة بالطبيعة، مثل الجفاف، والمطر، والحر، والبرد، والربيع، والخريف، ولو كانت سنتهم سنة قمرية محضة، لما سمّوا أشهرهم بأسماء اشتقت من الحر والبرد واعتدال الجو وحلول الخريف، إذ لا يعقل وقوع المعاني المذكورة مع تغير الشهور وعدم استقرارها على حال من الأحوال. إلا أن تواريخهم بالسنة الشمسية،

_ 1 اليعقوبي "1/ 177".

لم يمنعهم من التوريخ بالتقويم القمري في أمورهم الاعتيادية، كما في وفاء الديون، وأخذ الديات، والبيع والشراء، والأسفار، لوضوح الشهر القمري، وإمكان حساب الأهلة وضبط عددها بسهولة ويسر، فيسهل على المتعاقدين التعاقد بموجب عدد الأهلة، أما الزراعة، وتربية الحيوان ودفع الضرائب وما شابه ذلك، فلا صلة لها بالأهلة، وإنما صلتها بالمواسم والفصول، وهي من مكونات السنة الشمسية. إذن كان العرب الجنوبيون يؤرخون ويعملون بتقويمين: تقويم قمري، وآخر شمسي. استعمل العرب الجنوبيون التقوم الشمسي في الزراعة، واستعملوا التقويم القمري للأغراض التي ذكرتها، والتقويم النجمي أي: التقويم الذي يقوم على رصد النجوم لأغراض دينية وللوقوف على الأنواء الجوية لما لها من صلة بالزراعة وبالحياة العامة1. ويتبين من النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية، ومن النصوص النبطية، ومن نص النمارة، أن أصحابها كانوا يتعاملون وفقًا للتقويم الشمسي في الأمور التي لها اتصال مباشر بالطبيعة، ووفقًا للتقويم القمري في الأمور الأخرى، لسهولة ضبط الأهلة، وتحقيق العقود بموجبها. وإذا كان الحال على هذا المنوال عند هؤلاء وعند العرب الجنوبيين، فبإمكاننا القول أن بقية الجاهليين، ممن لم يتركوا لنا نصوص، كانوا يتبعون التقويمين كذلك، جريًا على سنة الناس في ذلك العهد، ومنهم الأعاجم، من اتباعهم التقويمين المذكورين في تنفيذ العقود والالتزامات وفي ضبط الأزمنة. ومما يؤيد اتباع العرب الشماليين للتقويم الشمسي، ما ذكره الكتاب اليونان واللاتين، من أن العرب كانوا يقيمون طقوسهم الدينية ويؤدون شعائرهم المقدسة كالحج إلى المحجات في أوقات ثابتة، فقد ذكر "أفيفانيوس"، أن للعرب شهرًا يحجون فيه إلى محجاتهم، ويقع ذلك في شهر "تشرين الثاني"2، كما

_ 1 Rhokokanakis, Studien zur Lexikographie und. Grammatik des Altsudarabischen, Band, 2 S. 145, Sab. Denkm, S. 21, Glaser, Zwei Inschriften, s. 47, Note 7, ZDMG, 46, 322, Glasser, Die Sternkunde der Sudarabischen Qabylen in SBWA, Winckler, AOF, 2, S, 351. 2 Epiphanius, Haer, 51, 24, Reste, S. 85, 100, Ency. Religi, 10, p. 10.

ذكر "بروكوبيوس"، أن العرب كانوا قد جعلوا شهرين في السنة حرمًا لآلهتهم لا يغزون فيهما ولا يهاجم بعضهم بعضًا، ويقعان في تموز وآب1، وذكر "فوثيوس"، أن العرب كانوا يحتفلون مرتين في السنة بالحج إلى معبدهم المقدس: مرة في وسط الربيع عند اقتران الشمس ببرج الثور، وذلك لمدة شهر واحد، ومرة أخرى في الصيف، وذلك لمدة شهرين2. وفي هذه الإشارات إلى الأشهر المقدسة، وإلى كونها ثابتة لا تتغير بتغير المواسم، دلالة على سير العرب في تقويمهم، وفقًا للتقويم الشمسي. وقد عرف التاريخ عند الجاهليين، بدليل عثور الباحثين على نصوص كثيرة مؤرخة. وقد زعم علماء اللغة "أن التأريخ الذي يؤرخه الناس ليس بعربي محض، وأن المسلمين أخذوه من أهل الكتاب"3، وفي كلامهم صحة، إذا كان قصدهم التأريخ العام للعالم، الذي يبدأ وفقًا لما جاء عند أهل الكتاب من الخلق ظهور آدم فالأنبياء والرسل والملوك إلى أيامهم، وفيه خطأ، إذا قصدوا به، التأريخ مطلقًا، أي: تثبيت الوقت، على نحو ما نفهم من قولنا: أرخ الحادث، وأرخت الكتاب، فقد عرف التأريخ عند الجاهليين، بدليل وروده في نصوصهم. واستعمالهم لفظة "بورخ"، للتأريخ. وكلمة "ورخ"، من الكلمات الواردة بكثرة في النصوص، ومنها لفظة "توريخ" و"ورّخ" بمعنى أرخ في عربيتنا. ولفظة "أرخ" نفسها هي من هذا الأصل. وقد عرف "الجاحظ" أن الجاهليين كانوا يؤرخون إذ قال: "وكانوا يجعلون الكتاب حفرًا في الصخور، ونقشًا في الحجارة، وخلقة مركبة في البنيان؛ فربما كان الكتاب هو الناتئ، وربما كان الكتاب هو الحفر، إذا كان تأريخًا لأمر جسيم، أو عهدًا لأمر عظيم، أو موعظة يرتجى نفعها، أو إحياء شرف يريدون تخليد ذكره، أو تطويل مدته، كما كتبوا على قبة غمدان. وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقر، وعلى الأبلق الفرد يعمدون إلى الأماكن المشهورة، والمواضع المذكورة، فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور، وأمنعها من الدروس،

_ 1 Procopius, II, P. 16 2 Reste, 101. Winckler, Alt. Orient. Faroch, II, Reibe, 1 Band, S. 336. 3 تاج العروس "2/ 250"، "أرخ".

وأجدر أن يراها من مرّ بها، ولا تنسى على وجه الدهر"1. ثم قال: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها ثم إن العرب أحبت أن تشارك العجم في البناء، وتنفرد بالشعر، فبنوا غمدان، وكعبة نجران وقصر مارد، وقصر مأرب، وقصر شعوب، والأبلق الفرد، وفيه وفي مارد، قالوا: تمرد مارد وعز الأبلق، وغير ذلك من البنيان"2. ثم تعرض لأهمية الكتب ولشأنها في تخليد الذكرى، فقال: "والكتب بذلك أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر، لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب أكثر المدن وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في أيام الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان، وكما هدم الآطام التي كانت بالمدينة، وكما هدم زياد كل قصر ومصنع كان لابن عامر، وكما هدم أصحابنا بناء مدن الشامات لبني مروان"3. وتتناسب أساليب التأريخ مع درجة عقلية المؤرخ ومستواه العقلي، لذلك نجد التواريخ بالأمور العادية البسيطة بين الرعاة والأعراب والسوقة من الناس، بينما نجد غيرهم ممن هم فوقهم درجة في العقل والثقافة يؤرخون بمناسبات لها شأن وأهمية، مثل التقاويم العامة المهمة، المثبتة بمبدأ، حيث يؤرخ بموجبها. وقد تبين لنا من دراسات نصوص المسند، أن أصحابها استعملوا جملة طرق في تأريخهم للحوادث، وتثبيت زمانها، فأرخوا بحكم الملوك، فكانوا يشيرون إلى الحادث بأنه حدث في أيام الملك فلان، من غير تعيينه بسنين، وذلك كما في هذا المثل: "بيوم اليفع يشر ملك معنم"4، أي "يوم اليفع يشر ملك معين"، و"بيوم يذمر ملك وترال"5. ومعناهما في "أيام حكم اليفع يشر ملك معين"، أو "وكان ذلك في حكم اليفع يشر ملك معين" بالنسبة للفقرة الأولى و"في أيام يذمر ملك وترايل"، أو" في حكم يذمر ملك ووتر ايل"،

_ 1 الحيوان "1/ 68 وما بعدها"، المحاسن والأضداد "3"، "مجلس الكتابة والكتب". 2 الحيوان "1/ 72". 3 الحيوان "1/ 73". 4 REP. EPI. 2869 5 المصدر نفسه الرقم 2740، Beeston

أو "وكان ذلك في أيام حكم يذمر ملك وترابل" بالنسبة للجملة الثانية. فلم يذكرالنص السنة التي دون فيها النص، أو أرخ فيها النص من سني حكم الملك المذكور. وهي سنون قد تكون قصيرة، وقد تكون طويلة. ولفظة "يوم" هو بمعنى" "حكم" و"أيام". وقد يؤرخ بحكم موظف من كبار موظفي الحكومة من حملة درجة "كبر" "كبير"، مثلًا، أو غيرها من الدرجات العالية في الحكومة أو في المجتمع. كما أرخوا بأيام الرؤساء والسادات وأرباب الأسر. وليس العرب الجنوبيون بدعًا في هذا الباب، فقد كان غيرهم يؤرخ بهذه الطرق. وذلك قبل توصلهم إلى اتخاذ تقويم واحد ثابت له بداية معينة تؤرخ به. والغالب ذكر اسم الشهر مع حكم الكبير أو الرئيس أو إنسان آخر، كما في هذا المثال: "بورخ ذ طنفت ذ كبر ايتم ذ عرقن"1، ومعناها "بشهر ذو طنفت من كبارة أيتم ذو عرقن"1، وبعبارة أوضح "بشهر ذو طنفت من حكم الكبير أيتم ذو عرقن"، و"ذو طنفت"، اسم شهر من الشهور. والكتابات المؤرخة بهذه الطريقة، على أنها أحسن حالًا في نظرنا من الكتابات المهملة التي لم يؤرخها أصحابها بتأريخ، إلا أننا قلما نستفيد منها فائدة تذكر. إذ كيف يستطيع مؤرخ أن يعرف زمانها بالضبط، وهو لا يعرف شيئًا عن حياة الملك الذي أرخت به الكتابة، أو حكمه، أو زمانه، أو زمان الرجال الذين أرخ بهم؟ لقد فات أصحاب هذه الكتابات أن شهرة الإنسان لا تدوم، وأن الملك فلانًا، أو رب الأسرة فلانًا، أو الزعيم فلانًا سينسى بعد أجيال، وقد يصبح نسيًا منسيًّا، لذلك لا يجدي التأريخ به شيئا، وذاكرة الإنسان لا تعي إلا الحودث الجسام. لهذا السبب لم نستفد من كثير من هذه الكتابات المؤرخة على وفق هذه الطريقة، إن استفدنا منها في أمور أخرى لا صلة لها بتثبيت تواريخها. وقد تجمعت لدينا أسماء أشخاص أرخ الناس بأيامهم لأنهم كانوا أصحاب جاه ونفوذ، لكننا لا نعرف اليوم من أمرهم شيئًا، لأن النصوص لم تذكر شيئًا.

_ 1 REP. EPI. 3609, 3, Beeston, P. 26

عنهم، وعن أيامهم، منهم: "عم علي" من "آل رشم" من عشيرة "قفعن"1، و"موهم ذ ذرحن"، أي "موهب ذو ذرحان"2. و"غوث إيل" من "آل بيحان" "بيحن"3. و"شهر يجر"4، و"ذران" ذرءان"5، و"أب علي بن شحز"، أي "أبو علي" من قبيلة" شحر"6. وكل هؤلاء الذين أرخ بهم هم من قتبان. ومن الأسر التي أرخ بأيامها أسرة "نبط" و"مبحظ"7 و"حزفرم كبر خلل" "حزفر كبير خليل" و"حذمت" و"فضحم"8. كما تجمعت لدينا أسماء عدد من الأشهر في اللهجات العربية الجنوبية المختلفة، تحتاج إلى دراسة لمعرفة ترتيبها بالنسبة للمواسم والسنة. ويظهر أنهم كانوا يستعملون أحيانًا مع التقويم الذي يؤرخ بحكم الرجال، تقويمًا آخر هو التقويم الحكومي، وتختلف أسماء شهور هذا التقويم عن أسماء شهور التقاويم التي تؤرخ بالرجال9. وقد تغير الحال في كتابات المسند منذ سنة "115" قبل الميلاد، على رأي غالبية الباحثين، أو السنة "109" على رأي "ريكمنس"، إذا أرخت بتقويم ثابت أرخت بموجبه إلى قبيل الإسلام. مبدأه سنة سقوط حكومة سبأ وتكوين حكومة "سبأ وذي ريدان"، على رأي بعض علماء العربيات الجنوبية، فأرخ

_ 1 السطر الثاني والعشرون من النص المنشور في: Rep. Epig, VI, I, p. 218, Glaser, Alt. Nachr, s. 162. ff. Grundriss, S. 33, Glaser 2566. 2 راجع نهاية الفقرة 6 وأول الفقرة 7 من النص. Glaser 1601 Rhodokanalds, K.T.B., I, S. 8. If. 3 Rep. Epig., 3693, Tome VI, II, p. 275. 4 Rhodokanalds, K.T.B. I, S. 122. f., Rip. Epig. 36fl3, Tome VI, II ,p. 259. 5 SE. 80a, Glaser 1398, 1609, Rep. Epig. 3879, Vol., VI, II, p. 334. 6 Halevy 504, Rhodokanalds, K. T.B., I, S. 34, II, S. 7. 7 7AJP.L. Beeston, Eplgraphic South Arabian Calenders and Datlngs, London, 1956, A.G. Lundin, Eponymat Sabeen et Chronologle Sabfiene, 26, Congr. Intern, des Orientalistes, Conf. Pres. par la delegation de 11JRSS, Moseou, 1963, Le Mus6on, 1964, 3-4, p. 429. 8 Le Museon, 1964, 3-4, p. 496. 9 Rhodokanakis, KTB., I, S. 81. f.

بهذا الحادث، ولا سيما في الكتابات الرسمية المتأخرة1. ويرى "بيستن" أن مبدأ هذا التقويم غير مضبوط، وأن مبدأه فيما بين السنة 118- 110 قبل الميلاد. ويرى أيضًا أن العرب الجنوبيين لم يؤرخوا به في هذا العهد؛ لأن النصوص التي تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد كانت لا تزال تؤرخ بالتأريخ القديم، أي: بالتواريخ الغير الثابتة، مثل التأريخ بأيام الملوك والكبراء والكهنة وأمثالهم، فلو كانوا يؤرخون به لما أهملوه. ويرى أنهم إنما أرخوا به بعد ذلك، في حوالي القرن الثالث للميلاد. وقد ساعدنا هذا التقويم على تثبيت تواريخ عدد من النصوص أرخت بموجبه، وعلى معرفة تأريخ هذه الحقبة التي أرخت بها. ولكن النصوص المؤرخة قليلة العدد، ثم إننا لا نملك نصًّا واحدًا منها من ابتداء العهد بالتأريخ به، كذلك لا نملك نصوصًا مؤرخة يعود عهدها إلى قبيل الميلاد، أو إلى القرن الأول أو الثاني منه. وأقدم نص مؤرخ بهذا التقويم، هو النص الموسوم بـCIH، وتأريخه سنة "385" من هذا التقويم، وهو يساوي السنة "270" أو "276" للميلاد. وهو من أيام الملك "يسرم يهنعم" "ياسر يهنعم" ملك سبأ وذي ريدان وابنه "شمر يهرعش". ويراد بهما "ياسر يهنعم" الثاني و"شمر يهرعش" الثالث على رأي "فون وزمن"2. ونص آخر للملك "ياسر يهنعم"، تأريخه سنة "274" أو "280" للميلاد. والنص الموسوم بـ CIH 448 = MM 150، وهو يساوي سنة "281" أو "287" بعد الميلاد. وهناك نصوص مؤرخة أخرى من أيام الملك "شمر يهرعش"، ونصوص من بعد أيامه حتى أيام تملك الحبشة لليمن. أما ما بعد أيام الحبشة في اليمن، أي: أيام استيلاء الفرس عليها ثم أيام دخولها في الإسلام، فلم يصل إلينا منها نص، لا مؤرخ ولا غير مؤرخ3.

_ 1 Mordtmann und Eugen Mitwoch, Sabaische Inschriften, Hamburg, 1931, S. I. 2 Le Museon 1946, 3-4, P. 484, Jamme, Sabaean Inscription, P. 353. 3 Mordtmann und Eugen Mittwoch, Sabaishe Inschriften, Hamburg, 1931, s. L.

وآخر هذه النصوص المؤرخة، هو النص الموسوم بـ CIH 525، وتاريخه سنة "669" من التأريخ الحميري، وهو يقابل سنة "554" للميلاد. ويمكن أن نقول إن هذا النص هو آخر نص مؤرخ عثر عليه لا في المسند وحده، بل في كل اللهجات العربية الأخرى، وهو أقرب تلك الكتابات عهدًا بالإسلام. ويلاحظ أن بعض الكتابات المؤرخة تذكر لفظة "بورخ" أو "ورخسن" "ورخ"، ثم تذكر بعدها اسم الشهر الذي أرخ النص به، ثم عدد السنين بالنسبة للتقويم. ويراد بها معنى "شهر"، وذلك كما في هذه العبارة: "ورخس ذو سحر"، أي: "في شهر ذو سحر"، و"بورخ ذو خرف"، أي: "بشهر ذو الخريف"، أو "بورخ ذ معن"، أي: "بشهر ذي معان" "بشهر ذي معين"، "بشهر ذي معون"، وهناك كتابات مؤرخة استعملت لفظة "ورخهو" بمعنى "وتأريخه". كما في هذه الجملة: "ورخهو ذ لثني وسثي وسث ماثم"1، أي: "وتأريخه لاثني وستين وست مئة"، وبعبارة أوضح: "وتأريخه لسنة اثنين وستين وست مئة". فاستعملت لفظة "ورخهو" إذن، بالمعنى العلمي الذي نستعمله اليوم حين نؤرخ عهودنا ووثائقنا، فتقول: "أرخت بـ" أو "تأريخها". وترد لفظة "خرفن"، أي: سنة، قبل عدد السنين في بعض النصوص، مثل: "خرفن ذ لثلئت وأربعي وخمس ماتم"2، ومعناها: "السنة الثالثة والأربعين بعد الخمس مائة"، وقد تلحق لفظة "خرفتم"، بعد عدد السنين. كما في هذا المثال: "ورخهو ذ حجتن ذل أربعي وسث ماتم خرفتم"3. ومعناه: "تأريخه أو شهره ذو الحجة لأربع وستمائة سنة". وتقابل هذه السنة سنة "489" أو "495" للميلاد. ويلاحظ أن النصوص السبئية المؤرخة قد أرخت بتقويمين: تقويم عرف بـ"خريفتم بن خريف نبط"، "خرفتم بن خرف نبط"4، أي: بـ "سنين

_ 1 CIH 541, Glaser 618. 2 Ryckmans 534, Beeston, p. 57. 3 CIH 621, Beeston, p. 37, Glser, Die Abessinier in Arabien und Afrika, 1896, S. 152 Zwei Inschriften, S. 86. 4 REP. EPIGR. 4196.

من سنة نبط"، ومعناه أن هذه السنين المذكورة، هي وفقًا للتقويم الجاري على سني "نبط"، أو تقويم "نبط"، وتقويم آخر قدرت السنين فيه وفقًا لسني "مبحض بن أبحض"، "ذ بخرفن ذل بن خرف مبحض بن أبحظ"1. ويشير ذلك إلى وجود مبدأين للتأريخ عن السبئيين: التأريخ بتقويم "نبط"، والتأريخ بتقويم "مبحض بن أبحض". وذلك في الكتابات التي تعود إلى القرن الثالث ونهايته لما بعد الميلاد. كالكتابات التي تعود إلى أيام "ياسر يهنعم" و"شمر يهرعش"، أما الكتابات المتأخرة، فقد اختفت منها هاتين التسميتين، ويظن أنهم أخذوا بالتأريخ بتقويم "مبحض" ولذلك أهملوا الإشارة إلى الاسم. لأنه كان معلومًا عندهم. ويرى "بيستن" أن الفرق بين التقويمين هو قرابة نصف قرن أو ثلاثة أرباع قرن2. وأسلوب التوريخ في النصوص السبئية المتأخرة هو أن تذكر لفظة "ورخن" أولًا، ثم اسم الشهر من بعده، ثم السنة، كأن تقول: "ورخهن ذ مذرن ذل 316 خرفتم بن خرف نبط"3، أي "وبشهر ذ مذران لـ316 سنة من سنة نبط"، أو "وبتأريخ ذ مذران من سنة 316 من سني نبط"، أو مثل "ورخهو ذ داون ذ لخرفين ذل أربعت وسبعي وخمس ماتم"، أي: "وشهره ذ داوان للسنين التي هي 574"4، أو وتأريخه ذ داوان للسنة 574"، ومثل: "خرفن ذل ثلثت وأربعي وخمسمس ماتم"، أي: "سنة 543"5، ومثل: "وخرفهو ذ حجتن ذل أربعي وسث ماتم خرفتم"6، أي: "وشهره ذو الحجة لأربعين وستمائة سنة"، أو "وتأريخه ذوالحجة الموافق لـ640 سنة مضت"، ومثل: "وخرفهو ذل ثني وسثي وسث ماتم"7، أي: "وتأريخه لاثنين وستين ومائة"8.

_ 1 CIH 46, 448, REP. EPIGR. 3866, Beeston, p. 36. 2 Beeston, p. 36. 3 REP. EPIG. 4196. 4 Ryckmans 520. 5 Ryckmans 534. 6 CIH 621. 7 Ryckmans 506. 8 Beeston, p. 73.

ومن الغريب أن أهل الأخبار قد أغفلوا الإشارة إلى هذا التقويم فلم يذكروا عنه شيئًا، ولم يشيروا إلى أن العرب الجنوبيين كانوا يؤرخون به، مع أهميته وكونه تقويمًا رسميًّا. هذا، وإن في استطاعتنا القول بأن اليمن لم تسر رسميًّا على التقويم العبراني أو التقويم النصراني، حتى في أيام احتلال الحبش الأخير لليمن، أو في أيام استيلاء الفرس عليها، وذلك بدليل توريخ أبرهة عامل الحبشة على اليمن، وهو نصراني، نصوصه بالتقويم اليماني المستعمل في اليمن الذي تحدثت فيما سلف عن مبدئه، مع أنه حاكم اليمن وممثل الحبش فيها وهو نصراني. وبدليل توريخ عدد من كتابات المسند المتأخرة من عهد لا يبعد كثيرًا عن الإسلام بهذا التقويم. وليس بالتقويمين المذكورين، أو بأي تقويم آخر من التقاويم المستعملة عند الشرقيين. ولكن ما أذكره لا يعني بالطبع عدم احتمال توريخ يهود اليمن أو نصاراها أو غيرهم بتقاويم أخرى، مثل التقويم العبراني أو الميلادي، أو غيرهما. وما أقوله هو عن التقويم الرسمي المدون في المسند، وربما سيعثر في المستقبل على نصوص تعود إلى عهد احتلال الحبش لليمن، يرد فيها التأريخ بأيام الحبش فيها، أو بالتأريخ الرسمي الذي كان يتبعه الأحباش في مملكتهم. أما العرب الشماليون، عرب العراق وبادية الشام وبلاد الشام، فلم يرد إلينا من نصوصهم المؤرخة إلا عدد محدود، منها نص النمارة الذي يعود عهده إلى السنة "328" للميلاد. وهو مؤرخ بتقويم بصرى، وبصرى مركز مهم، كان يقصده عرب الحجاز للاتجار وقد وصل إليه النبي. وكان عرب هذه المنطقة يؤرخون به. ويبدأ هذا التقويم بدخول بصرى في حوزة الروم سنة "105" أو "106" للميلاد، أي: السنة التي تم فيها القضاء على حكومة النبط وإلحاق "بترا" بـ"الكورة العربية"1. ولهذا فإذا أردنا تحويل سنة من السنين التي أرخ بها وفقًا لتقويم بصرى، فعلينا إضافة الرقم "105" أو "106" على سني تقويم بصرى، فيكون حاصل

_ 1 Die Araber, II, S. 319.

الجمع السنة وفقًا للتقويم الميلادي تقريبًا. فتأريخ نص النمارة هو سنة "223" من تقويم بصرى، وقد أضفنا إليه الفرق وهو "105"، فصار الحاصل "328"، وهو ما يقابلها من سني الميلاد. وقد أرخت كتابة "حرّان" اليونانية بسنة أربع مئة وثلاث وستين من الأندقطيّة الأولى، وهي تقابل سنة 568 للميلاد، والأندقطية هي دائرة ثماني سنين عند الرومانيين، وكانت تستعمل في تصحيح تقويم السنة. أما النص العربي فقد أرخ بسنة "463"، بعد مفسد خيبر بعام. ويراد بجملة: "بعد مفسد خيبر بعم"، غزوة قام بها أحد أمراء غسان أو غيره لخيبر، وذلك في رأي الأستاذ "ليتمان"1. وعندي أن السنة "463"، التي أرخ بها النص العربي، هي من سني تقويم بصرى، بدليل أننا لو أضفنا إليها الرقم "105" المذكور، صار الحاصل "568"، وهو كناية عن سني الميلاد، المقابلة لسني بصرى. وعلى ذلك يكون تدوين هذا النص قد تم بعد غزو خيبر بعام، أي: أن هذا الغزو قد وقع سنة "567" للميلاد. وقد كان "الحارث بن جبلة" يحكم "غسان" آنذاك، فتصدق رواية "ابن قتيبة" حينئذ التي تذكر أنه غزا خيبر، وسبا أهلها ثم أعتقهم بعدما قدم الشام2. وقد استعمل التقويم الذي يؤرخ بحكم "الإسكندر" تقويمًا عند اليونان وفي بلاد الشأم، وعند عرب بلاد الشأم أيضًا. ومبدأه الأول من شهر نيسان لسنة "311" قبل الميلاد3، ونجد أثر التأريخ بهذا التقويم في الروايات التي يرويها أهل الأخبار عن عرب بلاد الشأم والعراق. وقد بقي الناس يؤرخون به إلى أن حل التقويم الميلادي محله، فنسي ذلك التقويم. وذكر "المسعودي" أن ما بين الإسكندر إلى المسيح ثلاثمائة سنة وتسع وستون4. وقد كان الصفويون مثل غيرهم يؤرخون بالحوادث التي يكون لها شأن عندهم،

_ 1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 18"، السامية "192"، Rivista degli stud. Orientali, 1911, p. 195. 2 المعارف "642". 3 Die Araber, II, S. 236, Hastings, extra Volume, 1904, p. 483. 4 مروج الذهب "2/ 183 وما بعدها"، "ذكر شهور السريانيين".

مثل حروبهم بعضهم مع بعض، أو حروبهم مع غيرهم مثل النبط أو الروم. وقد أرخ بعضها بحوادث ذات صفة خاصة وعائلية، مثل "سنة قتله خاله"، أو "سنة وفاة والده". وهي حوادث لا يمكننا الاستفادة منها في استنباط تأريخ منها؛ لأننا لا نعرف من أمرها شيئًا. غير أن هنالك نصوصًا مؤرخة أفادتنا بعض الإفادة في الوقوف على التوقيت عند الصفويين. ففي نص لرجل اسمه "أنعم بن فخش"، ما يفيد أنه استولى على غنائم "سنة الحرب مع النبط". ويقصد بسنة الحرب مع النبط، السنة التي قضى فيها الرومان على مملكة النبط، وهي سنة "105" أو "106" للميلاد. وقد صارت هذه السنة مبدءًا للتأريخ في "بصرى"، وعند العرب الصفويين1. ولدينا نص صفوي آخر، أرخ بـ"سنت حرب همدي ال روم"، أي: "سنة محاربة الميديين الروم"، أو "سنة حرب الميدين الروم". ويرى "ليمان" أنه قد توصل إلى ضبط تأريخ هذه الحرب. هناك نص أرخ بـ "سنت قتل ال حمد"، ويظن أنه يشير إلى معركة دارت على قبيلة تسمى "آل حمد". وصاحب النص رجل من قبيلة تسمى "الرحبة"2، ولا زال الأعراب يؤرخون بأيام قتالهم بعضهم مع بعض. ونحن لا نعلم اليوم كيف كان يؤرخ أهل الحيرة أو الغساسنة، لعدم ورود نصوص مدونة عن ذلك سوى ما ذكرته من نص النمارة المؤرخ بموجب تقويم بصرى. ولا أستبعد احتمال استعمال أهل الحيرة التقاويم العراقية أو الفارسية التي كانت شائعة عندهم في ذلك العهد أساسًا للتأريخ. وقد يكون من بينها التقويم النصراني بالنسبة للنصارى، وينطبق ذلك على نصارى الغساسنة أيضًا، كما لا أستبعد استعمال الغساسنة لتقويم الروم. وللتقاويم العربية المألوفة التي تستعمل الأساليب المحلية في تثبيت التواريخ. ويظهر من تأريخ "ابن الكلبي" لحوادث الحيرة وعرب العراق بتقويم الساسانيين لتواريخ ملوكهم، أن أهل الحيرة كانوا قد دونوا تواريخهم بموجبها، ولكن هذا لا يمنع من احتمال أخذ ابن الكلبي أقواله في تواريخهم من تواريخ الفرس ومن رواتهم رأسًا، فلا يكون عندئذ ذكره

_ 1 رينيه ديسو، العرب في سوريا قبل الإسلام "ص103". 2 العرب في سوريا قبل الإسلام "ص105".

لتواريخهم دليلًا على تأريخ أهل الحيرة بتقويم الفرس. ويروي أهل الأخبار أن العرب كانوا يؤرخون بالحوادث العظام التي تحدث لهم، من ذلك عام الحُنان. وهو عام وقع فيه كما يقولون مرض خطير عضال فتك بالناس وبالإبل، فأرخوا به، ورووا في ذلك شعرًا للنابغة الجعدي1. وقد وقع زمن الخنان في عهد المنذر بن ماء السماء، وماتت الإبل منه. فصار ذلك تأريخًا لهم2. ويظهر أنه كان وباء فتك بالناس وبالإبل، وانتشر في العراق وفي نجد، فأرخ به لأهميته بالنسبة لهم، والتأريخ بالأوبئة شيء مألوف، وأهل بغداد كانوا يؤرخون بطاعون وقع عندهم في عهد العثمانيين وقبل الحرب العالمية بسنوات ولا زال الشيبة يؤرخون به. وكان أهل مكة يؤرخون بما يقع عندهم من أحداث جسيمة، فإذا أرخوا بحادث ومضى عهد عليه، ووقع له حادث آخر أكثر أهمية وشعبية منه، أرخوا به. فتوالت لهم عدة تواريخ، نسخت بعضها بعضًا، فأرخوا كما يذكر أهل الأخبار بعام رئاسة عمرو بن ربيعة المعروف بعمرو بن لحي، وهو الذي يقال: إنه بدل دين إبراهيم، وحمل من مدينة البلقاء صنم هُبَل، وعمل إسافًا ونائلة، وذلك كما يقال في زمن "سابور ذي الأكتاف". وأرخوا بعام موت كعب بن لؤي إلى عام الغدر، وهو الذي نهب فيه بنو يربوع ما أنفذه بعض ملوك حمير إلى الكعبة من الكسوة، ووثب بعض الناس على بعض في الموسم. ثم أرخوا بعام الغدر إلى عام الفيل الذي أرخوا به3. قال "الجاحظ": "ومن الخبطاء القدماء كعب بن لؤي، وكان يخطب على العرب عامة، ويحض كنانة على البر، فلما مات أكبروا موته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل"4.

_ 1 فمن يحرص على كبري فإني ... من الشبان أيام الخنان بلوغ الأرب "3/ 214 وما بعدها". 2 تاج العروس "9/ 193" "خنن"، بلوغ الأرب "3/ 214"، اللسان "13/ 143" "صادر"، "خنن". 3 الآثار الباقية "1/ 34". 4 البيان والتبيين "1/ 351".

وذكر "اليعقوبي". أن قريشًا كانوا يؤرخون بالسنين، يؤرخون بموت "قصي" لجلالة قصي عنده، فسنة وفاته هي مبدأ تاريخهم إلى أن كان عام الفيل، فأرخوا به لاشتهار ذلك العام1. وذكروا أنهم أرخوا بعام وفاة هشام بن المغيرة المخزومي، وهو والد أبي جهل، وكان من رؤساء بني مخزوم، وله صيت عظيم بمكة، كما كان سيد قريش في زمانه2. وقد مات بالرعاف، ذكر أنه كان آخر من مات به من سادة قريش. وزعموا أن الرعاف من منايا "جرهم" أيام جرهم، وأنه أهلكهم، فأرخوا به قال بشير بن الحجير الإيادي: ونحن إياد عبادُ الإلَه ... ورهط مناجيه في سُلم ونحن ولاة حجاب العتيق ... زمانَ الرعاف على جرهم3 وورد "زمان النخاع" في موضع "زمان الرعاف"، وهو داء أيضًا، زعم أنه فتك بجرهم، فهلك منهم ثمانون كهلًا في ليلة واحدة سوى الشبان4. فهو وباء أيضًا زعم أن الناس أرخوا به. وأرخوا بعام الفيل، بقوا يؤرخون به إلى أن أرخ بالهجرة5. وقد ترك الحادث أثرًا مهمًّا في ذاكرة قريش، ولهذا ذكروا به في القرآن، حتى يتعظوا به. ويجعلون عام الفيل في الثانية والأربعين من ملك كسرى أنوشروان، وقبل ولاية النعمان بن المنذر المعروف بـ"أبي قابوس" بنحو من سبع عشرة سنة،

_ 1 اليعقوبي "2/ 4"، "مولد رسول الله". 2 بلوغ الأرب "3/ 215"، "واتخذت قريش موته تأريخًا. وله يقول بجير بن عبد الله بن عامر بن سلمة بن قشير: فأصبح بطن مكة مقشعرًا ... كأن الأرض ليس بها هشام المحبر "139". 3 الحيوان "6/ 151" 4 الحيوان "6/ 151" 5 بلوغ الأرب "3/ 215".

وهي إحدى وثمانين وثمانمائة لغلبة الإسكندر على دارا، وهي ستة ألف وثلاثمائة وستة عشر لابتداء ملك بخت نصر1. وهو العام الذي ولد فيه الرسول على أغلب الروايات. وأرخت قريش بيوم الفجار وبحلف الفضول. وكانوا يسمون السنين بالحوادث الخطيرة الجليلة التي تقع فيها. وقد فعل ذلك المسلمون أيضًا في صدر الإسلام، فسموا كل سنة مما بين الهجرة والوفاة باسم مخصوص بها مشتق مما اتفق فيها للنبي. فسموا السنة الأولى للهجرة سنة الأذن، والثانية سنة الأمر بالقتال، والثالثة سنة التمحيص، والرابعة سنة الترفئة، والخامسة سنة الزلزال، والسادسة سنة الاستئناس، والسابعة سنة الاستغلاب، والثامنة سنة الاستواء، والتاسعة سنة البراءة، والعاشرة سنة الوداع، فكانوا يستغنون بذكرها عن عددها من لدن الهجرة2. وأما الأعراب، فتواريخهم برئاسة ساداتهم، وبالأحداث التي تقع لهم من أفراح وأتراح، ومن غزو أو نكبة، وبالعوارض الطبيعية، مثل سقوط مطر غزير، أو انحباسه مدة طويلة، أو هزة أرضية، أو ظهور جراد، أو وقوع وباء، وما أشبه ذلك من أمور. وهم على هذا النوع من التأريخ حتى اليوم. وليس في الذي رواه أهل الأخبار عن أهل الجاهلية ما يشير إلى وقوف العرب على كتب في التأريخ يونانية أو لاتينية أو سريانية أو عبرانية، أو على معربات لها. وليس في كل الذي ذكروه اسم مؤرخ من المؤرخين الذين نجلتهم الشعوب المذكورة. غير أن هذا لا يمكن أن يكون دليلًا على عدم وقوفهم على تواريخ تلك الأمم وأخبارهم، ففي القصص المنسوب إلى الجاهليين، قصص يدل على أنه مأخوذ عن تلك الأمم مستورد منها. ثم أن أهل الأخبار أنفسهم أشاروا إلى نفر ذكروا عنهم أنهم نظروا في كتب الأساطير ورووا منها أخبار العجم، وإلى نفر ذكروا عنهم أنهم نظروا في الكتب القديمة وحذقوا لغات أهل الكتاب، ورووا في شعرهم أو في كلامهم شيئًا مقتبسًا من قصص أهل الكتاب، يضاف

_ 1 إمتاع الأسماع "1/ 4". 2 الآثار الباقية "1/ 34".

إلى ذلك وجود الكنائس والنصرانية في بلاد العرب. والتأريخ، ولا سيما تأريخ الكنيسة موضوع مهم من الموضوعات التي استعان بها المبشرون ورجال الدين في الوعظ والإرشاد. ولا يستبعد أن تكون كتب التأريخ التي كتبها آباء الكنيسة، مثل "أوسبيوس القيصري" وأمثاله، في جملة الكتب التي استعانت بها الكنيسة لإفهام الناس تأريخها وتطورها وتطور العالم على نحو ما دنوه بالاستناد إلى التوراة والإنجيل.

الفصل الخامس والثلاثون بعد المئة: اللغات السامية

الفصل الخامس والثلاثون بعد المئة: اللغات السامية اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، وهي التي يقال لها: اللغة العربية الفصحى، وكذلك سائر لهجات العرب الأخرى، هي فروع من مجموعة لغات عرفت عند المستشرقين بـ "اللغات السامية". وقد أولع بعض المستشرقين بدرس هذه اللغات، فألفوا فيها كتبًا وأبحاثًا، وأنشأوا مجلات عدة تفرغت لها، وما زالوا يسعون في توسيعها وتنظيمها وتبويبها، وقد عرفت دراساتهم هذه عندهم بالساميات "Senitistik". وهي تتناول بالدرس كل اللغات التي يحشرها علماء الساميات في مجموعة اللغات السامية: تتناولها بغض النظر عن وجود اللغة أو عدمه في هذا اليوم، فالبحث علم، والعلوم تبتغي المعرفة دون قيد بزمان أو مكان. وينفق علماء الساميات مجهودًا كبيرًا في المقارنة بين اللغات السامية وفي معرفة مميزات كل لغة، وما بينها وبين اللغات الأخرى من فروق أو تطابق أو تشابه، ومجال بحثهم في تقدم وتوسع، خاصة بعد أن أخذ هؤلاء العلماء بأساليب البحث الحديثة التي تعتمد على الفحوص والاختبارات والملاحظات والنقد1. وقد جاءت نظرية "اللغات السامية" من التسمية التي أطلقها "شلوتسر" "Schlo.er" على العبرانيين والفينيقيين، والعرب والشعوب المذكورة في التوراة على أنها من نسل "سام بن نوح"2. ولم تقم نظرية التوراة في حصر أولاد

_ 1 Theodore Noldeke, sketches from Eastern History, Beirut, 1963, p. 1. 2 الإصحاح العاشر من سفر التكوين.

سام على أساس عرقي، بل بنيت على عوامل جغرافية وسياسية، ولهذا أدخلت العيلاميين واللوديين "Lud" في أبناء "سام"، مع أنهما ليسا من الساميين، ولا تشابه لغتهما لغة العبرانيين1. والقرابة بين اللغات السامية واضحة وضوحًا بينًا، وهي أوضح وأمتن وأوثق من الروابط التي تربط بين فروع طائفة اللغات المسماة باللغات الهندوأوروبية "Indoeurpaichen Sprachen" أو الهندوجرانية "Indogermanischen Spraden" على حد تعبير بعض العلماء2.وقد أدرك مستشرقو القرن السابع عشر بسهولة الوشائج التي تربط بروابط متينة ما بين اللغات السامية، وأشاروا إليها، ونوهوا بصلة القربى التي تجمع شملها. بل لقد سبقهم إلى ذلك علماء عاشوا قبلهم بمئات السنين هداهم ذكاؤهم وعلمهم إلى اكتشاف تلك الوشائج وإلى التنويه بها. فقد تحدث عالم يهودي اسمه: "يهودا بن قريش" "Jehuda ben Koraish"، وهو ممن عاشوا في أوائل القرن العاشر، عن القرابة التي تجمع بين اللغات السامية، وعن الخصائص اللغوية العديدة المشتركة بين تلك الألسن، كما أبدى ملاحظات قيمة عن الأسس اللغوية التي تجمع شمل تلك اللغات3. والأساس الذي بني عليه رأي العلماء في حشر من يرون حشره في عائلة الساميات، أوإخراج من يرون إخرجه منها، هو قرب لغة من يرون فحصه لترشيحه لعضوية تلك العائلة من اللغات السامية، أو بعد لغته عنها، ثم قرب عقلية من يرون إدخاله في السامية من العقلية العامة التي رسمت حدودها لعقلية الساميين، من دين وأساطير وحياة اجتماعية وأدب ونحو ذلك مما يحدد عقليات الناس. وبهذه الطريقة يبحث العلماء اليوم موضوع الساميات4.

_ 1 Theodore Noldeke, Die Semltischen Sprachen, Leipzig, 1899, 8. I, Richard J.H. Gottheil, Semite! literatures, p. 1, The Columbia University Press, 1911. 2 Theodore Nbldeke, Die Semltlschen Sprachen, S. n, وسيكون رمزه: Sprachen Carl Brockelmann, Grundrlss der Vergleichenden Grammatlk der Semltlschen Sprachen, Bd. I, S. I. 3 Sprachen, S. 2, Grundriss, I.., S. I, Gelger, Ursprung der Sprache, 1869, 22. Richard Hartmann und Helmuth Schell, Beitrage Zur Arablstlk, Semitlstlk 4 und lelamvrissenschafts, Leipzig, 1944, S. 3 If.

وقد حملت الخصائص المشتركة والألفاظ المهمة الضرورية لشئون الحياة التي ترد في كل اللهجات السامية بعض العلماء على تصور وجود لغة أم، في الأيام القديمة، تولدت منها بعوامل مختلفة متعددة مجموعة "اللغات السامية". ويؤدي تخيل وجود هذه الأم إلى تخيل وجود موطن قديم للساميين كان يجمع شملهم، ويوحد بين صفوفهم، إلى أن أدركتهم الفرقة لعوامل عديدة، فاضطروا إلى الهجرة منه إلى مواطن جديدة، وإلى التفرق، فكانت هذه الفرقة إيذانًا بتبليل ألسنة البابلين، وسببًا إلى تفرق ألسنتهم وظهور هذه اللغات. ولا يعني تصور وجود لغة سامية أم "Ursemitish" على رأي بعض العلماء ضرورة وجود لغة واحدة بالمعنى المفهوم من اللغة الواحدة، كانت أمًّا حقيقية لجميع هذه اللغات البنات. بل الفكرة في نظرهم مجرد تعبير قصد به شيء مجازي هو الإفصاح عن فكرة تقارب تلك اللغات وتشابهها، واشتراكها في أصول كثيرة اشتراكًا يكاد يجمعها في أصل واحد، ويرجعها إلى شجرة واحدة هي الشجرة الأم. فالسامية الأولى أو السامية الأم، أو السامية الأصلية، هي بهذا المعنى تعبير مجازي عن أقدم الأصول المشتركة التي جمعت بين اللهجات السامية القديمة في الأيام القديمة، أيام كان المتكلمون بها يعيشون في أمكنة متجاورة وفي اتصال وتقارب عبر عنه بفكرة النسب المذكور في التوراة1. وليس من السهل علينا أن نتصور كيف كانت اللغة السامية الأولى. ولكننا لا نستطيع -بسبب قدم زمان هذه اللغة إن كانت هناك لغة سامية أولى وبسبب الأحوال البدائية التي كانت تحيط بالمتكلمين بها شأن البشرية جمعاء في ذلك العهد ولقلة مستلزمات المعيشة يومئذ وانخفاضها- أن نتصور أن هذه اللغة كانت واسعة جدًّا بمفرادتها غنية بمسمياتها، وفي قواعد صرفها ونحوها وفي أساليب بيانها؛ لأن ما نذكره لا يمكن أن يتوفر إلا في مجتمع متطور متقدم، وإلا بعد تطور استمر أمدًا طويلًا، ولم يكن الساميون الأولون في ذلك العهد على درجة كبيرة من التطور والتقدم حتى تكون لغتهم الأولى على نحو ما نذكره من اتساع وارتقاء. وتسوقنا إشارتنا العابرة هذه إلى السامية الأم إلى الإشارة إلى الوطن السامي الأول الذي عاش فيه الساميون. أيام اجتماعهم وتكتلهم في وطن واحد، وأيام

_ 1 جواد على تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 166 وما بعدها"، "7/ 10 وما بعدها".

تكلمهم بلسان واحد أو بألسنة متقاربة متشابهة، يفهم أحدهم الآخر بيسر وسهولة. ثم عن الأيام التي نزلت فيها المكاره على أولئك الساميين القدماء فأجبرتهم على ترك ذلك الوطن في دفعات وفي هجرات متعددة والارتحال عنه إلى مواطن أخرى جديدة. وقد اختلف العلماء في تعيين الموطن الأصلي للساميين، وذهبوا في ذلك مذاهب، يخرجنا الحديث عنها عن صلب موضوعنا هذا. والمفروض في هذا الوطن أن يكون المهد الأول الذي ضم الشعوب السامية، والمكان الذي اتصلت فيه تلك الشعوب بعضها ببعض، الأثر الذي نراه في اللغة وفي الدين وفي النواحي العقلية وما شاكل ذلك. وبما أن من غير الممكن التعرف على اللغة السامية الأم، لأن الكتابة لم تكن معروفة في ذلك العهد، فكّر المستشرقون في دراسة أقرب اللغات السامية إلى الأصل، فذهب بعضهم إلى أن العبرانية هي أكثر تلك اللغات شبهًا بالسامية الأولى، وهي لذلك أقرب بنات سام إليها. وذهب آخرون إلى تقديم لغة بني إرم على غيرها جاعلين إياها البنت الأولى التي اجتمعت فيها الخصائص السامية الأصلية أكثر من اجتماعها في أية لغة أخرى، ولهذا استحقت في رأيهم هذا التكريم والتقديم. وذهب آخرون إلى تقديم العربية على سائر اللغات الأخرى، لمحافظتها أكثر من بقية اللغات السامية على الخصائص السامية الأولى وعدم تنصلها منها وتركها لها. كالذي نراه من استعمالها للمقاطع القصيرة الصامتة ومن كثرة تعدد قواعدها التي زالت من قواعد بقية اللغات. غير أن هذه الامتيازات والحصانات التي تتمتع بها هذه اللغة، يقابلها من جهة أخرى مميزات في العربية لا نجدها في اللهجات السامية الباقية، مما يبعث على الظن أنها طرأت عليها فيما بعد، وأن اللغة العربية قد مرت بأدوار تطورت فيها كثيرًا، والتطور هذا معناه ابتعاد هذه اللغة عن الأصل. ثم إننا نجد في العبرانية وفي لغة بني إرم قطعات من الكلام قديمًا جدًّا لا نجد له مثيلًا في العربية، وهذا مما يدعو إلى حسبان اللغتين المذكورتين أقدم عهدًا من اللغة العربية. غير أننا لا نستطيع مع كل ذلك أن ننكر أن معرفتنا وإحاطتنا باللغة العربية لا تكاد تدانيها معرفتنا وإحاطتنا ببقية اللغات السامية. ومن هنا صارت اللغة العربية بلهجاتها المتعددة حقلًا مهمًّا لإجراء التجارب والاختبارات في ميدان

مقارنات اللغات السامية ودراستها، فيه من الإمكانيات والقابليات ما لا نجده في بقية الحقول1. وقد ذهب "نولدكه" إلى أن من الضروري في دراسة مقارنات اللغات السامية البدء باللغة العربية، وذلك بأن نأخذ في تسجيل خصائصها ومميزاتها وقواعدها وكيفية النطق بألفاظها وما إلى ذلك، ثم نقارن ما سجلناه بما يقابله في بقية اللغات السامية، لنقف بذلك على ما بين هذه اللغات من مفارقات ومطابقات. ولا بأس في رأيه من الاستعانة باللهجات الحالية أيضًا، لأنها مادة مساعدة جدًّا ومفيدة كثيرة في الكشف عن خصائص اللغات السامية وعن مميزاتها وتطورها في مختلف العصور. وفي رأيه أن دراسة من هذا النحو ليست بالأمر اليسير، فإنها تتطلب جلدًا وعلمًا وإحطاة باللغات السامية كلها وبآثارها القديمة، وأن يقوم بها علماء لغويون متخصصون، على جانب كبير من العلم والذكاء والإحاطة بالساميات2. وليس بين اللغات السامية لغة واحدة تستطيع أن تدعي أنها سامية صافية نقية، وأنها لم تتأثر قط باللغات الأخرى التي تنتمي إلى مجموعات لغوية غير سامية وقضية صفاء لغة ما من لغات العالم وخلوها من الألفاظ والكلمات الغريبة، قضية لا يمكن أن يقولها رجل له إلمام بعلوم اللغات ولو يسيرًا جدًّا. وإذا كانت اللغات السامية قد تأثرت باللغات الأخرى بسبب اختلاط الشعوب واتصال ألسنتها بعضها ببعض نتيجة ذلك الاختلاط، فإن من الطبيعي أن تكون اللغات السامية قد أثرت بعضها في بعض، ولهذا نجد في كل لغة من اللغات السامية ألفاظًا أخذتها من لغة ما من لغات أبناء سام. وخير ما يمكن أن نفعلها الآن في موضوع اللغة السامية وأقرب اللغات السامية إليها، هو أن نقوم باستخلاص القديم المشترك من كل اللغات السامية، ثم نكون من هذا المجتمع لغة نعدها أقرب اللغات السامية صورة إلى اللغة السامية الأولى. وتعدّ للضمائر وأسماء العدد وأسماء أعضاء الجسم الأساسية المهمة وجملة ألفاظ تخص الحياة الإنسانية الأساسية، مثل بيت وسماء وأرض وجمل وكلب وحمار وعدد

_ 1 Sprachen, S. 5 ff. 2 Sprachen, s. 7.

من حروف الجرّ، من جملة القديم المشترك في جميع اللغات السامية أو في أكثرها، وهو لذلك يفيدنا من هذه الناحية كثيرًا في تكوين فكرة عن اللغة السامية القديمة وعن أقرب اللغات السامية إلى الأصل. ويقسم علماء الساميات اللغات السامية إلى قسمين: لغات سامية شمالية، ولغات سامية جنوبية. ويقسم بعض العلماء اللغات السامية الشمالية إلى مجموعتين: مجموعة شرقية، ومجموعة غربية. ويقصدون بالمجموعة الشرقية اللغات السامية المتركزة في العراق، ويقصدون بالمجموعة الغربية اللغات السامية المتركزة في بلاد الشأم. وقد تأثرت كل مجموعة من المجموعتين بالمؤثرات اللغوية والحضارية للمكان التي عاشت فيه، ومن هنا حدث بعض الاختلاف بين الجماعتين. ومن أهم الخصائص التي امتازت بها اللغات السامية من غيرها من اللغات: اعتمادها على الحروف الصامتة "Konsonanet" = "Consonant" أكثر من اعتمادها على الأصوات "Vocal" = "Vokale"، فنرى أن أغلب كلماتها تتألف من اجتماع ثلاثة أحرف صامتة. أما الأصوات، فلا نجد لها حروفًا تمثلها في اللغات السامية. وهي بذلك على عكس اللغات الآرية التي اهتمت بالأصوات، فدونتها مع الحروف الصامتة وقد اضطرت اللغات السامية نتيجة لذلك إلى الاستزادة من الحروف، فزادت في عددها عن العدد المألوف في اللغات الآرية، وأوجدت لها حروفًا للتفخيم والترقيق وإبراز الأسنان والضغط على الحلق1 ويتولد في اللغات السامية من تغير حركات الأحرف الثلاثية الصامتة وتبديلها، معان جديدة. ولهذا كان من أهم واجبات الأصوات في اللغات السامية تغيير حركات الحروف لتوليد معان جديدة. فالأحرف الثلاثة الصامتة إذن هي التي تكون مفهوم الكلمة وهيكلها، ولكن مفاهيم هذه الأصول الثلاثية لا تبقى على حالها متى تغيرت حركات هذه الحروف. فكلمة "فعل" المؤلفة من ثلاثة أحرف صامتة، هي حروف الفاء والعين واللام، هي أصل، غير أن هذا الأصل غير ثابت. بل هو عرضة للتغيير، ويكون تغيره بتغيير حركات أحرفه، فإذا تغيرت

_ 1 ولفنسون، تأريخ اللغات السامية "ص14". Brockelmann, Grundriss, I, S. 5

حركات هذه الأحرف تغيرت معانيها حتمًا. فكل تغيير إذن في حركات أحرف الأصل يعقبه تغير في معنى ذلك الأصل. فلفظة "فَعَلَ"، تختلف في المعنى عن لفظة "فِعْلٍ"، واللفظتان "فَعَلَ" و"فِعْل" تختلفان أيضًا في المعنى عن معنى لفظة "فُعِلَ". وقد تولد هذا الاختلاف من تغير حركات حروف الأصل وتبدلها. ومن الممكن إحداث معان جديدة في اللغات السامية، وذلك بإضافة زوائد تتألف من حرف أو أكثر إلى الأصول الثلاثية، فيتبدل بذلك معنى الأصل. فإذا أضفنا حرف الألف بين حرفي الفاء والعين من "فعل"، تغير المعنى، وصارت اللفظة "فاعل"، وإذا وضعنا حرف الواو بين حرفي العين واللام من فعل، تغير المعنى، وصارت اللفظة "فعول"، وهكذا. فنرى مما تقدم أن المعاني المشتقة من الكلمات ذات الأصل الثلاثي مهما تغيرت وتولدت نتيجة لتغير حركات تلك الحروف الثلاثة الصامتة، فإنها لا تتصل من هذه الحروف ولا تتركها، بل تبقى في صلب كل كلمة، مهما صار معناها. فكلمة "قتل" العربية مثلًا المؤلفة من ثلاثة أحرف صامتة، يمكن أن نولد منها معاني جديدة، أي: كلمات جديدة، بتغيير هذه الأحرف الثلاثة، أو بإدخال زوائد عليها، أو بتشديد بعض حروفها كما ذكرت، غير أننا لا نستطيع أن نترك حرفًا من هذه الأحرف الثلاثة التي هي الأصل. فألفاظ مثل قاتل، وقتيل، وقتال، ومقتول، وقَتْل، وقَتَّلَ، وقُتِلَ، وكلها مشتقة من الأحرف الصامتة الثلاثة: القاف والتاء واللام، لم نتمكن من الاستغناء عن حرف من هذه الأحرف الثلاثة، بل اضطررنا إلى إبقائها كلها فيها. إلا أنا أجبرنا على التفريق بينها بسبب دخول الزيادات1. وليس في اللغات السامية إدغام للكلمات، أي: وصل كلمة بأخرى، لتكون من الكلمتين كلمة واحدة يكون لها معنى مركب من معنى الكلمتين المستقلتين كما في اللغات الآرية. وأما ما نراه من عد كلمتين مضافتين كلمة واحدة تؤدي معنى واحدًا، فإن هذا النوع من التركيب بين الكلمتين شيء جديد في اللغات

_ 1 Semitistik, Dritter Band, Erster Absschnitt, 1953, s. 10 ff.

السامية، لم يكن معروفًا عند أجدادهم القدماء1. وهو معروف في اللغات الآرية، كما في حالة الـ "Genitive" في اللاتينية حيث تتولد معان جديدة بإضافة لفظة إلى لفظة أخرى، فتتولد من هذا التعاقب دلالة جديدة لمعنى جديد. هذا، ونجد أن بين اللغات السامية وبين اللغات الآرية اختلافات في كثير من الأمور، فاللفظة في اللغات السامية ذات مدلول عام، وقد يكون لها جملة مدلولات تدل على معان عامة مطلقة، أما اللغات الآرية، مثل السنسكريتية، واليونانية، والألمانية، فكل جذر فيها هو كلمة ذات معنى مقيد محدود، أخذت منه المصادر والنعوت. وهناك اختلافات أخرى في موضوع الـ "Conjuctions" والـ "Substansive" والـ "Syntax"، والـ "Interdependence of sentences" وغير ذلك من أمور يعرفها علماء اللغات والنحو والصرف. ويرى العلماء أن الفعل قد تطور في اللغات السامية تطورًا خطيرًا، استغرق قرونًا طويلة، وأن ما نعرفه من تقسيم الأفعال إلى ماض ومضارع وأمر، لم يكن معروفًا على هذا النحو عند قدماء الساميين. ويرى بعضهم أن الصيغة الأصلية للفعل إنما كانت صيغة الأمر، فهذه الصيغة هي أقدم صيغ الأفعال عند الساميين. وقد كانت هذه الصيغة تستعمل للدلالة على جميع صيغ الفعل من الماضي والمضارع والأمر، ثم تخصصت فصارت تشير إلى حدوث الفعل في صيغة الأمر، وذلك بعد ظهور صيغتي المضارع والماضي. ومن صيغة فعل الأمر، اشتق فعل المضارع. وذلك بزيادة حرف على أول لفظة فعل الأمر، لتدل على حالة الإسناد إلى الفاعل أو الضمير مثلًا، وقد سبقت هذه الزيادة الزيادة التي لحقت آخر الفعل، فمن فعل "قم" مثلًا تولد الفعل "أقوم" و"يقوم" و"نقوم" و"تقوم" ثم يقومون وتقومون2. ومن علماء اللغات من يرى أن صيغة المضارع كانت أمدًا تدل على جميع الأزمنة، وأن هذا الأداء كان مستعملًا عند قدماء الساميين استعمال اللغة الصينية

_ 1 Brockelmann, Grundriss, I, S. 5 2 ولفنسون، السامية "ص15"، The Bible Dictionary, Vol. II, P. 429

واللغة الهندوجرامانية الأصلية له1. ونجد اليونانية تغير معاني الفعل بإدخال حرف الجر عليه، فإذا دخل حرف جر على الفعل تغير معناه. ويظن أن الكلمات المؤلفة من حرفين صامتين، أي: الألفاظ الثنائية الأصل مثل أب وأم وأخ ويد، كانت أقدم من الأفعال المشتقة من ثلاثة أحرف مثل فعل، صنع، أكل، ذهب، وأن الأفعال الثلاثية أقدم من الأفعال الرباعية. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الأفعال الرباعية المؤلفة من أربعة أحرف كانت مؤلفة في الأصل من حرفين اثنين، ثم تطورت بالاستعمال في خلال العصور الطويلة حتى صارت رباعية الأصل2. وفي العبرانية صيغتان للفعل الماضي: الصيغة المألوفة للماضي، وصيغة ثانية مشتقة من المضارع مع إضافة واو العطف، وهي صيغة قديمة جدًّا. وهي موجودة في البابلية القديمة وفي الكنعانية العتيقة. ولعلها كانت صلة بين المضارع وبين الماضي. وليس لهذه الصيغة وجود في العربية الشمالية وفي العربية الجنوبية والحبشية وفي لغة بني إرم3. ويلاحظ أن العبرانية تشارك اللهجات العربية الجنوبية في أمور عديدة غير معروفة في عربية القرآن الكريم، كما توجد أوجه شبه بين ألفاظ حبشية وعبرانية4. وللدلالة على الجمع استعملت العبرانية حرفا "يم" للمذكر، و"واو وتاء" للمؤنث. أما الآرامية، فاستعملت حرفا "ين" علامة للجمع، وأما العربية فاستعملت "الواو والنون" للجمع المذكر السالم، و"الألف والتاء" في الجمع المؤنث السالم، وهناك جموع تكسير كثيرة كثرة لا نكاد نرى لها مثيلًا في اللغات السامية الأخرى5. وذلك بسبب أن هذه الجموع هي في الواقع جموع وردت في لهجات عربية متعددة، وردت سماعًا، فلما جمعها علماء العربية ودونوها

_ 1 المصدر السابق "ص16". 2 ولفنسون، السامية "17". 3 ولفنسون، السامية "16". 4 ولفنسون، السامية "19". 5 ولفنسونن السامية "19".

في كتب اللغة والمعاجم، لم يشيروا إلى أسماء من كان ينطق بها، فظن أنها جموع استعملت في هذه العربية التي نزل بها الوحي. ومن أهم الاختلافات التي نراها بين اللغات السامية. اختلافها في التعريف. فبينما نرى بعض اللغات كالآشورية والبابلية والحبشية لا أداة للتعريف فيها، نرى العبرانية وبعض اللهجات العربية مثل الثمودية واللحيانية تستعمل حرف الـ"هـ" أداة له، تضعه في أول الكلمة، وبينما نرى السبئية واللهجات العربية الجنوبية الأخرى تستعمل أداة أخرى للتعريف هي حرف "النون"، تضعها في آخر الكلمة المراد تعريفها، نجد العربية الفصحى تستعمل "ال" أداة للتعريف، تضعها في أول الكلمة. وتشارك السريانية العربيات الجنوبية في مكان أداة التعريف، فمكانها عندها في نهاية الكلمة أيضًا، غير أنها تختلف عنها في استعمالها أداة أخرى هي حرف الـ "هـ" أو الواو. وقد درس بعض المستشرقين أوزان الأسماء في اللغات السامية، كما درسوا اشتقاقها وأصولها التي أخذت منها، وبحثوا في حالات التصغير أي في الأسماء المصغرة وطرق التصغير عن جميع الساميين، والأسماء البسيطة والأسماء المركبة، ليستخرجوا منها قواعد قدماء الساميين في كيفية تكوين الأسماء، ولا سيما تلك الأسماء التي ترد في جميع اللغات السامية. ففي اللغات السامية أسماء مشتركة ترد في كل اللغات، منها ما هو بسيط مؤلف من كلمة واحدة، ومنها ما هو مركب، أي: أسماء مؤلفة من أكثر من كلمة بطريقة الإضافة. ودراسة هذه الأسماء بأنواعها، تفيدنا كثيرًا في الوقوف على العقلية السامية وعلى الخواص المشتركة التي كانت تربط بين الساميين. ونجد الإعراب في اللغة العربية الفصحى، ويذهب العلماء إلى أن الإعراب كان موجودًا في جميع اللغات السامية، ثم خف حتى زال من أكثر من تلك اللغات. ونرى له أثرًا يدل عليه في العبرانية في حالتي المفعول به وفي ضمير التبعية، وفي السريانية والبابلية في ضمير التبعية، فإن هاتين الحالتين تدلان على وجود الإعراب في أصولها القديمة1.

_ 1 ولفنسون، السامية "ص15".

ونجد العربية ذات حروف يزيد عددها على حروف اللغات السامية الأخرى. ولعلّ اللغات الأخرى كانت تملك حروفًا أخرى، ثم قلّ استعمالها فزالت من أبجديتها، ولم تبق لها حاجة بها. فالعبرانية لا تمتلك الحروف: "ذ"، و"ع"، و"ظ"، و"ض". والبابلية لا تمتلك أيضًا الحروف: العين والحاء والغين والهاء وهي من أحرف الحلق، ولا الأحرف: الطاء والظاء والصاد، وهي من أحرف التضخيم والتفخيم، ولا القاف. ونجد يهود السامرة لا يستعملون حرف السين1. وهناك أمثلة أخرى تثبت حدوث تطور في عدد الحروف في اللغات السامية، مما سبب حدوث اختلاف في عددها، ولهذا حدث هذا الاختلاف الذي نراه ونلاحظه بين أبجديات تلك اللغات. ونجد العربية الجنوبية تمتلك حروفًا لا تمتلكها العربية الفصحى، وذلك بسبب اختلاف طبيعتي اللهجتين. ولا بد أن تكون هنالك عوامل عديدة دعت إلى حدوث تغيير في عدد الحروف في لغات الساميين. وقد عزا بعض الباحثين سقوط الأحرف التي ذكرتها من الكتابة البابلية إلى استعمال البابليين للكتابة المسمارية2. غير أن هذا رأي يجب أن يدرس بعناية، وأن يكون مبنيًّا على دراسات عديدة أصيلة، ليكون في الإمكان تكوين رأي صحيح في هذا الموضوع. واللغة العربية اليوم، هي من أعظم اللغات السامية الباقية، بكثرة من يتكلم ويكتب بها، وبكثرة ما ألف ودون بها. وهي تستعمل اليوم قلمًا اشتق من قلم سامي شمالي، وكان لها في الماضي قلم قديم كان مستعملًا عند العرب من أيام ما قبل الميلاد إلى ظهور الإسلام، مات بسبب اتخاذ الإسلام القلم الجزم قلمًا للوحي، دون به القرآن الكريم، فصار بذلك القلم الشرعي الرسمي، وأمات بذلك الأقلام الجاهلية الأخرى المشتقة من القلم "المسند". ونجد في المعاجم اللغوية مئات الألوف من الألفاظ المعبرة عن معان، وقد قدر بعض العلماء عدد ألفاظ العربية بنحو من "12305052" كلمة3. ويعود سبب غناها في الألفاظ إلى

_ 1 ولفنسون، السامية "19 وما بعدها، 39". 2 ولفنسون، السامية "39". 3 The Bible Dictionary, Vol. I, P. 101

كثرة وجود المترادفات فيها، التي هي من بقايا لغات قبائل، وإلى خاصية جذور الكلم فيها في توليد الألفاظ الجديدة بتحريك هذه الجذور. وهناك لهجات تستحق الدراسة، فهي من اللهجات السامية المتفرعة عن لهجات قديمة، وهي لهجات منبوذة لم يحفل بها علماء اللغة، مثل اللهجة "الأمهرية" واللهجة "الهررية" لغة أهل "هرر". وهي من بقايا لهجات لم يعتن بها العلماء إلا منذ احتكاك الغربيين بالمتكلمين بها. ومع ذلك فلا تزال البحوث العلمية عنها قليلة.

الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة

الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة مدخل ... الفصل السادس والثلاثون بعد المئة: العربية لسان آدم في الجنة رأى علماء العربية أن العربية قديمة، وهي في نظرهم أقدم من العرب أنفسهم، فلما كان آدم في الجنة كان لسانه العربية، ولما عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد الله عليه وعلى بعض أحفاده العربية. ونظرية أن اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة كان عربيًّا، فلما بعد العهد وطال، حرف وصار سريانيًّا، وكان يشاكل اللسان العربي، إلا أنه محرف، وهو كان لسان جميع من في سفينة نوح إلا رجلًا واحدًا يقال له: جرهم، فكان لسانه لسان العرب الأول، فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته، فمنهم صار اللسان العربي في ولد عَوْص أبي عاد وعبيل، وجاثر أبي ثمود وجديس، وسميت عاد باسم جرهم؛ لأنه كان جدهم من الأم، وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشذ بن سام، إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذريته وكان باليمن، فنزل هناك بنو إسماعيل، فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي1. وقد تحدث "المعري" على لسان "آدم" في موضوع لسانه، وما روى من شعر نسب إليه، فجعله يقول: "أبيتم إلا عقوقًا وأذية، إنما كنتُ أتكلم

_ 1 "عن ابن عباس، أن آدم عليه السلام، كان لغته في الجنة العربية، فلما عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد الله عليه العربية" المزهر "1/ 30".

بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض، نقل لساني إلى السريانية، فم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله -سبحانه وتعالى- إلى الجنة، عادت على العربية فأي حين نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ "1. وذلك ردًّا على من زعم أن آدم كان يعرف الشعر العربي، وقد نظم شعره بالعربية، ورووا له شعرًا زعموا أنه قاله لتأييد صحة دعواهم. وقد ذهب قوم من العلماء إلى أن لغة العرب، هي أول اللغات، وكل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفًا أو اصطلاحًا، واستدلوا بأن القرآن كلام الله هو عربيّ، وهو دليل على أن لغة العرب أسبق اللغات2. ومنهم من قال: لغة العرب نوعان: أحدهما: عربية حمير، وهي التي تكلموا بها من عهد هود ومن قبله، وكانت قبل إسماعيل. والثانية: العربية المحضة التي نزل بها القرآن، وأول من أنطق لسانه بها إسماعيل، على هذا القول يكون توقيف إسماعيل على العربية المحضة يحتمل أمرين: إما أن يكون اصطلاحًا بينه وبين جرهم النازلين عليه بمكة، وإما أن يكون توقيفًا من الله3. والعربية المحضة هي العربية الخالصة، وهي العربية الأصيلة عربية إسماعيل، وقد نعتت بالعربية المتينة. قالوا: أول من فتق لسانه بالعربية المتينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة4. روي "أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تلا: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} ، ثم قال: "ألهم إسماعيل هذا اللسان إلهامًا" 5. والعربية التي تكلم بها "إسماعيل" والتي نزل بها القرآن وما تكلمت به العرب على عهد النبي، تختلف عن عربية حمير وبقايا جرهم6، وذكر أن "عمر بن الخطاب"،

_ 1 رسالة الغفران "361 وما بعدها". 2 المزهر "1/ 28". 3 المزهر "1/ 28". 4 المزهر "1/ 34". 5 المزهر "1/ 33". 6 المزهر "1/ 33".

قال للرسول: يا رسول الله؛ مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال رسول الله: "كانت لغة بني إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها، فحفظتها" 1. والعربية بعد، في اصطلاح أئمة العربية: العربية المتينة. أما عربية أهل اليمن: عربية أبناء قحطان فعربية أخرى. وعلى هذا فنحن أمام عربيتين: عربية قحطانية، وعربية عدنانية إسماعيلية. وبالعربية المتينة تكلم عرب الحيرة، كما يظهر ذلك من خبر دونه "الجاحظ" في كتابه "البيان والتبيين"، والطبري في تأريخه، فقد ذكر "الجاحظ" أن "خالد بن الوليد" سأل "عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة": "أعرب أنتم أم نبط؟ قال: عرب استنبطنا، ونبط استعربنا. قال: فحرب أنتم أم سلم؟ قال: سلم"2، أو أنه قال لهم: "ويحكم! ماأنتم! أعرب؟ فما تنقمون من العرب! أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل! فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية"3. فلسان أهل الحيرة عربي، ليس لهم لسان سواه. بها كانوا ينظمون الشعر وبها كتبوا. فهذه العربية هي عربية الحيرة وعرب العراق. وساير كثير من المستشرقين علماء العربية في تقسيم اللهجات العربية إلى عربيتين: عربية جنوبية، هي العربية القحطانية. وعربية شمالية، هي عربية القبائل العدنانية. ولكل مجموعة لهجات محلية، لم تكن تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا، وتتباين بونًا شاسعًا، وإنما اختلفت في أمور بسيطة من الفروق اللسانية، بحيث لا نستطيع أن نضعها في مجاميع لغوية جديدة4. ومن الكتابات الجاهلية التي يعود عهد بعض منها إلى ما قبل الميلاد، حصل الباحثون على علمهم بلغة العرب الجنوبيين وبحضارتهم، وقد تبين لهم منها أن تلك الكتابات تمثل لغة متطورة ذات قواعد نحوية وصرفية، وأنها كانت لغة التدوين

_ 1 المزهر "1/ 35". 2 البيان والتبيين "2/ 148"، أمالي المرتضى "1/ 261". 3 الطبري "3/ 361 وما بعدها". 4 Ignace Goldziher, History of Classical Arabic Literature, p. 2, 1966.

عندهم، وقد استعملت مصطلحات فنية تدل على وجود حضارة لدى الكاتبين بها، وقد دام التدوين بها إلى ظهور الإسلام1. أما علمنا بقواعد نحو وصرف اللغة العربية الشمالية، التي نسميها اللغة الفصحى، فمستمد من الموارد الإسلامية فقط، لعدم ورود نصوص جاهلية مدوّنة بها. ولهذا اقتصر علمنا بها على ما جاء عنها في الموارد الإسلامية ليس غير. أما النصوص المعدودة القصيرة، التي تبدأ بنص النمارة، وتنتهي بكتابة "حران اللجا" التي يعود عهدها إلى سنة "463" من سقوط "خبر" "خيبر"، المقابلة لسنة "568" للميلاد، فإنها وإن كانت قد كتبت بعربية قريبة من العربية المحضة، إلا أنها تمثل في الواقع لهجة من اللهجات العربية الشمالية، متأثرة بالإرمية "النبطية" ولذلك لا أستطيع اعتبارها نصوصًا من نصوص العربية الفصحى الخالصة، ثم إنها قصيرة أطولها نص النمارة، المدون بخمسة سطور فقط. ويعود عهده إلى سنة "328" للميلاد. ولهذا لم نتمكن من استنباط شيء مهم منها، يفيدنا في تعيين صرف ونحو العربية الفصحى، أو هذه العربية التي دونت بها. ولهذه الأسباب علمنا اليوم بقواعد وبنحو كتابات المسند، والكتابات الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية، مستمد من موارد هي أقدم جدًّا من الموارد الإسلامية، يعود تأريخ بعض منها إلى ما قبل الميلاد. ووثائق هذه العربيات جاهلية أصيلة، لا يشك أحد في أصالتها، أما العربية الفصحى فنصها الوحيد، الذي لا يشك أحد في أصالته هو القرآن الكريم، فلا نص بها قبله، وهو أطول نص ورد إلينا بهذه العربية وبسائر العربيات الأخرى بغير استثناء. هذا وقد سبق لي أن تحدثت في الفصل الأول من هذا الكتاب عن تحديد لفظة العرب، وعن معانيها، وعن ورودها في مواضع من القرآن، مثل: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 2. وفيه {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3. وفيه: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ

_ 1 Ignace Goldziher, History of Classical Arabic Literature, p. 2. 2 النحل، الرقم 16، الآية 103. 3 الشعراء، الرقم 26، الآية 193 وما بعدها.

قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} 1. وفيه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2. و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} 3. و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} 4. و {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 5. و {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 6. و {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 7. و {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 8. و {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 9. فاللسان الذي نزل به القرآن، هو اللسان العربي "الفصيح الكامل الشامل ليكون بينًا واضحًا ظاهرًا قاطعًا للعذر مقيمًا للحجة دليلًا إلى المحجة"10. وقد نزل "محكمًا معربًا"11. وذلك تمييزًا لهذا اللسان عن ألسنة الأمم الأخرى التي نسبت إلى العجمة، فصارت ألسنتها ألسنة أعجمية12. فاللغة العربية إذن، هي لغة "العرب"، وبهم سميت وعرفت فأخذت تسميتها من اسمهم. وقد عرفنا أن المدلول الأول للفظة "العرب" هو البداوة والأعرابية، ثم توسع في مدلولها، حتى شمل كل سكنة جزيرة العرب من بدو وحضر، فأهل المدر عرب، وأهل الوبر عرب كذلك، وعرف أهل البوادي بالأعراب، تمييزًا لهم عن أهل القرى، أي: الحضر، وصارت اللفظة سمة خاصة بهم. أما لسانهم ولسان الحضر، فهو اللسان العربي وكفى. ووسمت هذه العربية بسمة أخرى، صارت ترادفها حتى اليوم، هي "العربية الفصحى" و"اللغة الفصحى"، يريدون بها هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم.

_ 1 فصلت، الرقم41، الآية44. 2 يوسف، الرقم12، الآية2. 3 الرعد، الرقم13، الآية37. 4 طه، الرقم20، الآية113. 5 الزمر، الرقم39، الآية28. 6 فصلت، الرقم41، الآية3. 7 الشورى، الرقم42، الآية7. 9 الأحقاف، الرقم46، الآية12. 10 تفسير ابن كثير "3/ 347"، "تفسير سورة الشعراء". 11 تفسير ابن كثير "2/ 518"، "تفسير سورة الرعد". 12 الجزء الأول "ص13 وما بعدها" من هذا الكتاب، والجزء الأول من كتابي القديم: تاريخ العرب قبل الإسلام.

تمييزًا لها عن بقية اللغات واللهجات. والفصح والفصاحة البيان1. وبما أن اللغة العربية بينة بليغة قيل لها ذلك. وهي في معنى {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، أي: لسان عربي فصيح أو بين. وبذلك لا ينصرف الذهن إلى لغات العوام ولا إلى لهجات القبائل في الجاهلية أو لغات أهل العربية الجنوبية، لأنها لا تتصف بصفة الفصاحة في نظر علماء اللغة. واللغة العربية التي نكتب بها، لغة واسعة، ما في سعتها من شك: ألفاظها كثيرة، حتى لتجد فيها مئات وعشرات من المسميات وضعت كلها لمسمى واحد على ما يذكره أهل اللغة. فللأسد وللفرس وللجمل وللسيف وما يتعلق بها ألفاظ كثيرة، تجدها في كتب اللغة والمعجمات. ونحن لا نريد الشك في ذلك، ولكننا إذا أردنا أن نبحث بأسلوب علمي حديث مستند إلى لهجات القبائل، وإلى ما ورد في النصوص الجاهلية، فإننا سنضطر إلى القول بأن هذه الكثرة من الألفاظ ليست مسميات لشيء واحد في لغة واحدة، هي لغة القرآن الكريم، وإنما هي مسميات لذلك الشيء في لهجات عربية أخرى، جمعها علماء اللغة في الإسلام من أفواه أناس ينتمون إلى قبائل متعددة، أشاروا إلى أسماء القبائل التي تكلمت بها أحيانًا، ولم يشيروا إليها في أغلب الأحيان. فذهبت بين الناس على أنها مسميات لمسمى واحد في لغة واحدة، هي هذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم، أي: أنهم جعلوها من الألفاظ المترادفة. ولم تعين الموارد الأعجمية شكل اللغة العربية، ولم تنص على لسان واحد من ألسنة العرب، على أنه اللسان العربي الفصيح العام الذي كان يتكلم به كل العرب. ولم يعين القرآن هوية اللسان العربي، ولم يخصصه بلسان معين من ألسنة العرب المتعددة، وإنما جاءت التسمية فيه عامة شاملة، لا تخص لسانًا واحدًا، ولا لغة معينة محددة. قال المفسرون في تفسير الآية: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ، "فأنزلنا هذا القرآن عربيًّا إذ كانوا عربًا"2، وقالوا في تفسير الآية: {وكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} ، "كذلك أيضًا أنزلنا الحكم والدين حكمًا عربيًا" وجعل ذلك عربيًّا ووصفه به لأنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي

_ 1 تاج العروس "2/ 197"، "فصح". 2 تفسير الطبري "16/ 159".

فنسب الدين إليه، إذ كان عليه نزل فكذب به الأحزاب"1، وقالوا في تفسير الآية: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} : "يقول تعالى ذكره وهكذا أوحينا إليك يا محمد، قرآنًا عربيًّا بلسان العرب؛ لأن الذين أرسلتك إليهم قوم عرب فأوحينا إليك هذا القرآن بألسنتهم ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره لأنا لا نرسل رسولًا إلا بلسان قومه ليبين لهم، لتنذر أم القرى وهي مكة وما حولها"2. وقال "الطبري" في مقدمة تفسيره "فإن كان ذلك كذلك، وكان غير مبين منّا عن نفسه من خاطب غيره مما لا يفهمه عنه المخاطب، كان معلومًا أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحدًا من خلقه إلا ما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولًا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه، لأن المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواء، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئًا كان به قبل ذلك جاهلًا. والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطابًا أو يرسل رسالة لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه، لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث والله تعالى عن ذلك متعال. ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} . وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . فغير جائز أن يكون به مهتديًا من كان بما يهدي إليه جاهلًا. فقد تبين إذن بما عليه دللنا من الدلالة أن كل رسول لله جل ثناؤه أرسله إلى قوم، فإنما أرسله بلسان من أرسله إليه، وكل كتاب أنزله على نبي ورسالة أرسلها إلى أمة فإنما أنزله بلسان من أنزله أو أرسله إليه. واتضح بما قلنا ووصفنا أن كتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بلسان محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ كان لسان محمد صلى الله عليه وسلم عربيًّا، فبين أن القرآن عربي. وبذلك نطق محكم تنزيل، فقال جل ذكره: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا

_ 1 تفسير الطبري "13/ 110". 2 تفسر الطبري "25/ 6 وما بعدها".

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1. وقد تعرض علماء العربية لمعنى "العجم" والعرب، فقالوا: "العجم" خلاف العرب، والأعجم من لا يفصح ولا يبين كلامه وإن كان من العرب، ومن في لسانه عجمة وإن أفصح بالعربية، "وفي التنزيل: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} 2". وكل من لم يفصح بشيء فقد أعجمه، وأعجم الكتاب خلاف أعربه، أي: نقطه بالنقط، وورد في شعر قيل هو لرؤبة ويقال للحطيئة: الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به إلى الحضيض قدمه ومنه: والشعر لا يطيعه من يظلمه ... يريد أن يعربه فيعجمه أي: يأتي به أعجميًّا، يعني: يلحن فيه، وقيل: يريد أن يبينه فيجعله مشكلًا لا بيان له3. وقالوا: العرب خلاف العجم، ورجل معرب، إذا كان فصيحًا وإن كان عجمي النسب. والإعراب الإبانة والإفصاح عن الشيء. وأن يعرب بن قحطان هو أول من تكلم بالعربية، وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، وبه سمي العرب عربًا. وقيل: "إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تلا {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} ثم قال: "ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهامًا"، وقيل: إن يعرب أول من نطق بمنطق العربية، وإسماعيل هو أول من نطق بالعربية الخالصة الحجازية التي أنزل عليها القرآن4. إلى غير ذلك من أقوال تحاول ربط لفظة "العرب" بالإعراب والإفصاح والإبانة، وربط العربية -أي: لسان العرب- بقحطان، وبإسماعيل، ووراء كل هذه الأقوال المصطنعة عصبية تتحزب لقحطانية

_ 1 تفسير الطبري "1/ 5 وما بعدها". 2 الشعراء، الرقم26، الآية198، تفسير الطبري "19/ 69 وما بعدها". 3 تاج العروس "8/ 390"، "عجم". 4 تاج العروس "1/ 376"، "عرب".

أو لعدنانية، التي هي اصطنعت هذه الأقوال في الإسلام، وحذلقة مصطنعة باردة استغلت المجانسة اللفظية بين عرب ويعرب وأعرب، لإيجاد صلة بين معاني هذه الألفاظ وفي جذورها. وتشمل لفظة "العجم" كل من ليس بعربي، وهي في مقابل لفظة: "Barbarian" في اللغة الانكليزية المأخوذة من أصل يوناني، وهي لا تعني المتوحشين وإنما "أعاجم" و"غرباء" بتعبير أصح، الذين كانوا لا يحسنون التكلم بلغة المهذبين، بل كانوا يرطنون في كلامهم، ويتكلمون بلهجات رديئة، ثم أطلقها الليونان على كل من لا يحسن التكلم باليونانية وعلى كل من يتكلم بلغة غير يونانية. ولما دخل اليونان في حكم الرومان، صارت الكلمة تطلق على كل الشعوب الأخرى التي لا تتكلم باليونانية، أو اللاتينية1. ولا أستبعد احتمال مجيء هذه النظرية عند العرب من اليونان، وإن كان اليونان، لم ينفردوا بها وحدهم، فقد كانت الشعوب القديمة تعرف مثل هذه المصطلحات، ومصطلح: "كوييم" "Goim" العبري، الذي يعني "Gentile" في الانكليزية، وغرباء، وشعوب، ومشركين عبدة أصنام2، يعبر عن هذه النظرة. فكل الشعوب باستثناء "العبرانيين" هم "كوبيم"، والعبرانيون هم المتكلمون بالعبرانية، وغيرهم هم الذين لا يتكلمون بها. ولفظة "العجم"، وإن كانت لفظة عامة، قصد بها كل من هو ليس بعربي، لكنها أطلقت في الغالب على الفرس واليونان، وهم أرقى الشعوب التي احتك بها العرب في ذلك الوقت. وأطلقت على الفرس بصورة خاصة، لما كان للساسانيين من اتصال خاص بالعرب قبيل الإسلام. أما سكان إفريقية، فلم تطلق عليهم هذه اللفظة إلى قليلًا؛ لأن العرب لم ينظروا إليهم نظرة احترام؛ ولهذا عرفوا عندهم بالعبيد، وبالحبش، وبالسودان. وقد نعتوا بالطمطمانية، فورد "طمطم حبشيون"، بالنظر إلى لغتهم، وعدم تمكنهم من الإفصاح بالعربية. وقد ورد في معلقة "عنترة": "أعظم طمطم"، في هذا البيت: تأوى له قلص النعام كما أوت ... حزق يمانية لأعجم طمطم3

_ 1 Hastings, P. 84 2 Hastings, p. 303 3 البيت الـ "25" من المعلقة.

ومن القرآن واللغة استنبط علماء اللغة قولهم في أن العربية من الإبانة والإفصاح، وأنها إنما دعيت بذلك لأن "يعرب بن قحطان" كان أول من أعرب بلسانه فنسب هذا اللسان إليه. فقد رأينا أن الآيات المتقدمة التي أشرت إليها، ذكت أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وقد جعلته في مقابل اللسان الأعجمي، فاستنتجوا منها أن العربية بمعنى الإفصاح والإبانة، وأن التسمية إنما جاءت من هذا القبيل، مع أن الوصف راجع للغة القرآن، لا للعربية نفسها، ثم وجدوا أن الإعراب في اللغة بمعنى الإفصاح والإبانة، فربطوا بين هذه اللفظة وبين لفظة "العرب"، وقالوا: إن "عرب" بمعنى فصح، وأن "العرب" من هذا الأصل، مع أنهم يذكرون أيضًا أن تعرب معناها أقام بالبادية، وأن تعرب واستعرب، بمعنى رجع إلى البادية بعد ما كان مقيمًا بالحضر فلحق بالأعراب. وأن تعرب بمعنى تشبه بالعرب وتعرب بعد هجرته، أي: صار أعرابيًّا، وأن في الحديث: ثلاث من الكبائر، منها التعرب بعد الهجرة، وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب، بعد أن كان مهاجرًا، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد1، ومعنى هذا أن صلتها بالأعرابية وبـ"العرب" بمعنى البدو أهل البادية، أقرب إلى المنطق والمعقول من صلتها بالإبانة والفصاحة، أي: الإعراب. وقد سبق أن ذكرت أن معنى اللفظة في النصوص الأشورية وفي كتب اليونان واللاتين والعبرانيين والسريان، وفي المسند، هو "البداوة" والأعرابية لا غير، ثم أطلقت على جمع سكنة جزيرة العرب، لغلبة الحياة الأعرابية عليها حتى صارت لفظة "العربية" بمعنى بلاد العرب، تدخل فيها مواطن أهل المدر وأهل الوبر، وصارت لفظة "العرب" علمًا على جنس وقوم. وإذا أخذنا بهذا التفسير التأريخي المستمد من النصوص، لزم علينا القول إن العربية من "عرب" "العرب"، أهل العربية، وهم "الأعراب"، وقد أطلقت على ألسنتهم جميعًا من غير تمييز، فكل لهجات العرب: لهجات بدو أو لهجات حضر، هي لهجات عربية، لأنهم عرب ومن سكنة بلاد العرب، ولهذا عرفت "جزيرة العرب" كلها "بالعربية" في كتب اليونان واللاتين على نحو ما تحدثت عن ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، لا نستثني منها لهجة من اللهجات، مهما كان قربها أو بعدها من العربية التي نزل بها الوحي.

_ 1 تاج العروس "1/ 377"، "عرب".

فما ذكره علماء اللغة من تخريج في وجه تسمية العرب بهذا الاسم، من اشتقاق اللفظة من "عربة" التي قالوا: إنها باحة العرب، أو من "يعرب"، أو من أعراب لسانهم، أي: إيضاحه وبيانه، لأنه أوضح الألسنة وأعربها عن المراد بوجوه من الاختصار، أو بما شاكل ذلك، هو كله تخريج متكلف، يمثل تخبطهم فيه، كتخبطهم في تفسير الأسماء التي لم يعرفوا من أصلها شيئًا، فوضعوا لها تخريجات أوجدوها لإظهار علمهم بها، ووقوفهم عليها، وعلى كل شيء قديم1. وفي العربية الحالية: الإعراب. وهو تغير أواخر الكلمات بتغير العوامل الداخلة عليها بالرفع والنصب والجر والسكون. احتفظت العربية به على حين فقدته معظم اللغات السامية، باستثناء البابلية القديمة2. ويظهر من القرآن ومن الشعر الجاهلي، أن الإعراب كان من سمة هذه اللغة التي نزل بها الوحي. ويرى بعض المستشرقين أن الإعراب كان موجودًا في جميع اللغات السامية، ثم خف حتى زال من أكثر تلك اللغات. ونرى له أثرًا يدل عليه في العبرانية في حالتي المفعول به وفي ضمير التبعية، وفي السريانية والبابلية في ضمير التبعية، فإن هاتين الحالتين تدلان على وجود الإعراب في أصولها القديمة3. ولعلماء العربية بحوث مستفيضة في "الإعراب"4، كما أن للمستشرقين بحوثًا فيه. وقد ذهب بعض منهم إلى أن بعض اللهجات العربية القديمة، مثل لهجة قريش لم تكن معربة، أو أنها لم تكن على هذا النحو من الإعراب الذي ثبته وضبطه علماء العربية في الإسلام، حتى ذهب "كار فولرس" إلى أن القرآن لم يكن معربًا في أول أمر نزوله، لأنه نزل بلسان قريش، وهو لسان غير معرب، وإنما أعرب حين وضع علماء اللغة والنحو قواعد العربية على وفق لغة.

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 43". 2 العربية، ليوهان فك "ص3"، السيوطي، الأشباه والنظائر "1/ 72 وما بعدها"، الخصائص "1/ 34"، السيوطي، الحاوي للفتاوى، "2/ 269 وما بعدها". 3 تأريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي "7/ 31". 4 راجع الفهرست لابن النديم، وكشف الظنون "1/ 121"، حيث تقف على أسماء بعض المؤلفات التي ألفت في إعراب القرآن.

الأعراب المعربة، التي أخذوها من تتبعهم الشعر الجاهلي وكلام الأعراب1. وقد لمس "كاله" هذا الموضوع كذلك، وتطرق إلى ما ورد في الرواية من أخبار تحث المسلم على وجوب مراعاة قواعد الإعراب عند قراءته القرآن. فاستنتج منها أن كتاب الله لم يكن عند نزوله معربًا، فلما جعل الإعراب من سمات العربية، أعرب وفقًا لقواعده. وساق دليلًا على رأيه من آراء بهذا الموضوع للفراء "207هـ". وهو يرى أن علماء العربية استنبطوا قواعد الإعراب من الشعر ومن لغات الأعراب، ثم ضبطوا بها النص القرآني بموجبها، وبذلك سعوا لخدمة القرآن2. وقد خالف "كابر" "R. Geyer" و"نولدكه" "Th. Noldeke" رأي "فولرس"، وذهبا إلى أن ما ذهب إليه من أن القرآن لم يكن معربًا، ثم أعرب، رأي لا يؤيده دليل، لا من حديث ولا من خبر أو لغة، وذهبا إلى احتمال حدوث اختلاف في القراءات، بسبب كون الحروف صامتة، فلما كان الرسول يتلو القرآن، وكان الصحابة يدونونه بحروف صامة، لا حركات فيها ولا علامات تميز الحروف المتشابهة بعضها من بعض، وقع اختلاف في التلفظ بسبب عدم وجود الحركات، ووقع اللحن من بعضهم في القراءة، ولكن القرآن معرب، وآية ذلك وجود آيات عديدة لا يمكن فهم معانيها إلا بقراءتها معربة3. ففي القرآن آيات لا تترك مجالًا للشك في أنه نزل معربًا، ففي آية {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 4، وفي آية {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 5، وآية {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ} 6، وآية {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} 7، وغيرها، براهين واضحة تفيد أن موقع الكلم فيها كان معربًا، وأن هذا التركيب الذي تختلف معانيه باختلاف تحريك أواخر كلمه، لا بد وأن يكون كلامًا معربًا

_ 1 K. Vollers, Volkssprache und Schriftsschprache in Alten Arbien Srtassburg, 1906, Shorter Ency, p. 276. 2 يوهان فك، العربية "5 حاشية". 3 Shorter Ency., P. 267 4 سورة فاطر، الآية 28 5 التوبة، الآية3. 6 البقرة، الآية124. 7 النساء، الآية8.

في أصله، وليس من التراكيب التي أصلحت فيما بعد وفقًا لقواعد الإعراب1. وروي أن أعرابيًّا سمع إمامًا يقرأ: "وَلا "تَنْكِحُوا" الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا"، بفتح تنكحوا، فقال: سبحان الله هذا قبل الإسلام قبيح فكيف بعده! فقيل له: إنه لحن والقراءة: {وَلا تُنْكِحُوا} ، فقال: قبحه الله، لا تجعلوه بعدها إمامًا، فإنه يحل ما حرم الله2. والعربية المحضة، هي عربية معربة، فيها كل خصائص الإعراب، غير أن الإعراب يتباين فيها بعض التباين بحسب تباين اللهجات، نقول ذلك استنادًا إلى ما ضبطه علماء اللغة من وجوه الاختلاف بين لغات العرب. ونرى أثر الأعراب في النص المعروف بنص "حران" لصاحبه "شرحيل بن ظلمو" "شراحيل بن ظالم"، ففي جملة "بنيت ذا المرطول" الواردة فيه، والمكتوبة بصيغة المفعولية بنصب لفظة "ذا" لوقوع الفعل عليها، دلالة على وجوب الإعراب في لغة هذا النص. أما جملة "أنا شرحيل بر ظلمو"، فقد دونت وفقًا لقواعد النبطية لا العربية الفصيحة، مما يدل على تأثير الكاتب باللهجة النبطية. أما بالنسبة إلى عربية المسند، فإننا لا نستطيع أن نتحدث عن وجود من يتكلم بها على نحو ما كانت في الجاهلية من الصفاء والأصالة، ولأن المسند لا يستعمل الحركات في الكتابة ولا أية علامة تدل على تغير أواخر الكلمات، فلا ندري كيف كانوا يحركون أواخر الكلم، وعلى معرفة هذه الحركات يتوقف بالطبع معرفة وجود الإعراب من عدم وجوده في لهجة من اللهجات. وأما بالنسبة إلى النبطية، وهي لهجة عربية شمالية، أقرب إلى العربية الفصحى من العربيات الجنوبية، فقد ذهب الباحثون في قواعدها، إلى أن أواخر الكلمات فيها، تتغير فيها بحسب مواقعها من الإعراب، حتى ذهب بعضهم إلى وجود الحركات فيها، وهي الضمة في حالة الرفع، والفتحة في حالة النصب، والكسرة في حالة الجر، غير أنهم لم يكونوا يعقبون هذه الحركات بالنون. والإعراب وإن سقط اليوم من لغاتنا الدارجة، ومن لهجات الأعراب، غير أن هنالك قبائل في جزيرة العرب، لا تزال تتكلم بلهجة عربية معربة، إعرابها

_ 1 يوهان فك، العربية "3 وما بعدها". 2 عيون الأخبار "2/ 160".

موافق لإعراب هذه العربية الفصحى، ونحن نأسف لأن علماء العربية في هذا اليوم، لم يهتموا حتى الآن بدراسة لهجات هذه القبائل، ودراسة أصولها وأنسابها، ولم يعتنوا بوضع خريطة بمواضع القبائل موزعة على حسب لهجاتها وخصائص ألسنتها، في الماضي وفي الحاضر، مع أن في وضع هذه الخرائط أهمية كبيرة في تعيين لغات العرب، وفي كيفية تثبيت المناطق التي انتشرت فيها العربية الفصحى، والمناطق التي لا تزال تتحدث بها بطبيعتها، لا عن دراسة وتمرين. والعربية لغة واسعة، "قال بعض الفقهاء: كلام العرب لا يحيط به إلا نبي"1. و"أن الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقل، ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شعر كثير وكلام كثير"2. وفي كلام علماء اللغة هذا حق، فالألفاظ وهي مادة اللغة وسداها ولحمتها لا يمكن أن يساير عمرها عمر اللغة، فمنها ما يموت، لذهاب الحجة إليه، وقد تتبدل معاني الألفاظ وتتغير، إلى غير ذلك من أمور تطرأ على الألفاظ بحث عنها علماء اللغة، وهي لا تدخل في موضوعنا هذا، في هذا المكان. هذا وليس من السهل على أحد التحدث في هذا الوقت عن مبدأ نشوء العربية الفصحى، وعن الأدوار التي مرت عليها حتى بلغت المرحلة التي وصلت إليها بتثبيتها في القرآن الكريم. وذلك بسبب عدم وجود نصوص جاهلية مدونة بهذه اللهجة؛ فالقرآن الكريم هو الذي ثبتها وعرفنا عليها، وبفضل كونه كتابًا مقدسًا أقبل العلماء على دراسة لغته، واضطروا على جمع قواعدها، فصارت لغتنا الفصحى، أما الشعر الجاهلي، فمع أنه أقدم عهدًا من القرآن، لكنه ثبت ودون بعده، إذ لم يصل إلينا حتى الآن أي أثر منه مدون تدوينًا جاهليًّا، ولهذا فالقرآن والشعر هما أقدم ما عندنا من نصوص بهذه العربية في النثر وفي النظم، ولولاهما لما كان في وسعنا الوقوف عليها. ولعربيتنا بعد، في نظر علماء العربية خصائص ومميزات، ميزتها كما يقولون عن بقية اللغات منها: اتساعها من حيث المفردات، ومنها تخصصها دون غيرها

_ 1 المزهر "1/ 64"، الصاحبي "47". 2 المزهر "1/ 66".

على حدّ قولهم بالإعراب، ومنها، تفردها بالمترادفات، وبالأضداد، أضف إلى كل ذلك اتساع حجم قواعد نحوها وصرفها. قال "ابن فارس": "فلما خص –جل ثناؤه- اللسان العربي بالبيان عُلم أن سائر اللغات قاصرة عنه وواقعة دونه. فإن قال قائل: فقد يقع البيان بغير اللسان العربي، لأن كل من أفهم بكلامه على شرط لغته فقد بين، قيل له: إن كنت تريد أن المتكلم بغير اللغة العربية قد يعرب عن نفسه حتى يفهم السامع مراده فهذا أخس مراتب البيان، لأن الأبكم قد يدل بإشارات وحركات له على أكثر مراده، ثم لا يسمى متكلمًا، فضلًا عن أن يسمى بينًا أو بليغًا. وإن أردت أن سائر اللغات تبين إبانة اللغة العربية فهذا غلط، لأنا لو احتجنا إلى أن نعبر عن السيف وأوصافه بالفارسية لما أمكننا ذلك إلا باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرة، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء المسماة بالأسماء المترادفة. فأين هذا من ذاك؟ وأين لسائر اللغات من السعة ما للغة العرب؟ "1.

_ 1 الصاحبي "40 وما بعدها".

المترادفات

المترادفات: وفي العربية ألفاظ عديدة يراد بها معنى واحد، فللعسل "80" اسمًا، وللأسد "350"، وقيل: "500"، وقيل: "670"، وللحية "200"، وقيل: "500"، وللداهية "400"، وقيل: أربعة آلاف، وللحجر "70"، وللكلب "70"، وللسيف "30"، وقيل: "1000"، وللناقة "255"، وللبعير "1000"، وللشمس "52"، وللخمر "110"، وقيل: "200"، وللبئر "88"، وللماء "170" وغير ذلك، وخاصة ما يدخل في باب الصفة، وما يدخل في باب الميل الجنسي، فلا تكاد تتصفح مادة في معجم، حتى تصيب من مترادفاته لفظًا أو أكثر1. ويقال لهذه الألفاظ التي تدل على شيء واحد: "المترادفات". والمترادف.

_ 1 الرافعي "1/ 193"، المزهر "1/ 407"، "جمعت للأسد خمسمائة اسم وللحية مائتين" "حفظت للحجر سبعين اسما"، الصاحبي "44".

أن تكون أسماء لشيء واحد، وهي مولدة ومشتقة من تراكب الأشياء1. وعرف بعض العلماء المترادف، بأنه الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد2. ولعلماء اللغة كلام في المترادفات. منهم من يقول بالمترادفات، وبأن الألفاظ وإن اختلفت فإنها ترجع إلى معنى واحد، ومنهم من أنكر الترادف، وزعم أن كل ما يظن من المترادفات، فهو من المتباينات التي تتباين بالصفات3، وإن في كل واحدة معنى منها معنى ليس في الأخرى4. ومن قال بالترادف، نظر إلى اتحاد دلالتها على الذات، ومن يمنع نظر إلى اختصاص بعضها بمزيد معنى، فهي تشبه المترادفة في الذات والمتباينة في الصفات. وجعل بعضهم هذا قسمًا آخر، سماه المتكافئة5. والذين ينكرون الترادف، يقولون: إن كثرة الألفاظ للمعنى الواحد إذا لم تكثر بها صفات هذا المعنى كانت نوعًا من العبث تجل عنه هذه اللغة. ويرون أن كل لفظ من المترادفات فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة، وأن كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد ففي كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه6. وهم يعتبرون المترادفات أسماء تزيد معنى الصفة، ويختلفون بذلك عن غيرهم ممن أنكر الترادف، وقالوا: إن الموضوع للمعنى الأصلي اسمًا واحدًا والباقي صفات له لا أسماء، فأسماء السيف كلها أصلها السيف وسائرها صفات له، كالمهند، والصارم والعضب وغيرها7، ثم تنوسيت هذه الأحوال بالتدريج، وكادت تتجرد هذه الألفاظ من تلك الفروق والأوصاف بالاستعمال، وغلبت عليها الاسمية8. ومذهب آخر يرى إثبات الترادف، لكنه يخصه بإقامة لفظ مقام لفظ آخر لمعان متقاربة يجمعها معنى واحد. كما يقال أصلح الفاسد، ولمّ الشعث، ورتق

_ 1 تاج العروس "6/ 116"، "ردف". 2 المزهر "1/ 402". 3 المزهر "1/ 403". 4 المزهر "1/ 405". 5 المزهر "1/ 405". 6 الرافعي "1/ 190". 7 الرافعي "1/ 190". 8 محمد هاشم عطية، الأدب العربي "37".

الفتق، وشَعَب الصدع، ونحوها. أما إطلاق الأسماء على المسمى الواحد، فيسمونه المتوارد: كالخمر، والعقار، والليث، والأسد. ومنهم من أثبت الترادف مطلقًا بدون قيد ولا اعتبار، ولا تقسيم؛ وعليه أكثر اللغويين والنحاة1. ومن أهم أسباب الترادف في العربية، أن العرب كانوا قبائل لها لهجات وألسنة مختلفة، فتباينت بتباين ألسنتها أسماء الأشياء. فالسكين لغة في المدية والمدية لغة في السكين عند دوس. وفي حديث أبي هريرة: "والله لم أكن سمعتها يومئذ"، وذلك حين قدم من دوس ولقي الرسول، وقد وقعت من يده السكين، فقال له: ناولني السكين، فلم يفهم ما المراد باللفظ، فكرر القول ثانية وثالثة، فقال: آلمدية تريد؟ وأشار إليها فقيل له: نعم، فقال: أو تسمى عندكم السكين، والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ2. فقد تكون قبيلة استعملت كلمة لم تستعملها الأخرى، أو استعملت غيرها، خصوصًا وأن بعض البيئات الطبيعية والاجتماعية لقبيلة قد تخالف ما للقبيلة الأخرى، فقبيلة على الساحل وأخرى في جبل، وثالثة في بادية، وقد تأخذ قبيلة اسمًا من الأعاجم لشيء لم يعرف اسمه عندها فتعربه، فيكون اسمًا له، وقد تأخذ قبيلة اسمًا أو أسماء توجد في لسانها من لسان قبيلة أو ألسنة قبائل أخرى، فلما جمع علماء اللغة ألفاظ العربية ودونوها، ولم يفطنوا إلى أصلها ولا إلى القبائل التي استعملتها، ولا إلى تأريخها، لعدم وجود هذا النحو من البحث عندهم في ذلك الوقت، فدونت على أنها مترادفات، وهم في ذلك على صواب، ولكنهم كانوا على خطأ، من حيث أنهم لم يدركوا أنها كانت لغات قبائل، وأن جمعهم للألفاظ، وإهمالهم الإشارة على أسماء القبائل المتكلمة بها، جعلها مترادفات بالمعنى الذي ذهبوا هم إليه. وبذلك اتسعت مادة مفردات المعجم العربي اتساعًا كبيرًا، وهو في حقيقته حاصل جمع لهجات، أخذ من اختلاف الألسنة ومن مختلف اللهجات، فضم كله إلى معجم العربية، وظهر على أنه مفردات هذه العربية، لعدم إفصاح علماء اللغة

_ 1 الرافعي "1/ 191". 2 تاج العروس "9/ 238"، "سكن"، الإصابة "4/ 200 وما بعدها"، "رقم 1190"، الاستيعاب "4/ 200 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، فجر الإسلام "52"، جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 214".

عن أصل كل مترادف وعن اللسان الذي نطق به في الغالب، فعمي الأمر علينا، وصرنا نعتبر هذه الألفاظ التي تقصد مسمى واحد من المترادفات. ويرى بعض علماء اللغة أن من أسباب وقوع الترادف أن الصفات قد تتحول بتفشي الاستعمال وبكثرة ورودها على الألسنة فتنزل هذه الصفات منزلة الحقائق العُرفية1. وقد تضخمت كتب اللغة كثيرًا بكلمات استعملها الشعراء وصفًا لأشياء، فذكرها اللغويون على أنها أسماء لتلك الأشياء، "فمثلا إذا أطلق شاعر كلمة الهَيْصم على الأسد من الهصم وهو الكسر، وأطلق عليه آخر الهرّاس من الهرس، وهو الدق، وضع أصحاب المعاجم الكلمتين على أنهما اسمان مرادفان للأسد"2. ولا يعد ثراء لغة بكثرة مفردفاتها ومتردافاتها دليلًا على ثراء تلك اللغة، ولا أمارة على تقدمها من الناحية العقلية، فإن اللغة تستمد مادتها من جميع محصولات اللغة الخاصة بالحرف، والمهن، وبالحياة الروحية، كما تستمدها من جميع لهجات القبائل، وما نجده من كثرة مفردات ومترادفات في العربية، لا يعود إلى كون هذه العربية لغة قبيلة واحدة، أو عرب من العرب، وإنما بسبب كونه حاصل جمع لغات، جمعه العلماء من ألسنة متعددة فدونوه، فظهر الشيء الواحد وقد يكون له عشرة أسماء أو أكثر من ذلك أو أقل حسب كثرة أو ندرة استعماله بين العرب، فما كان مألوفًا عندهم، وكانوا في حاجة ماسة إليه، وكان استعمالهم له كثيرًا، وفوائده بالنسبة لهم عديدة، كثرت مسمياته، بل مسميات أجزائه كما كثرت عندهم صفاته، التي تتحول بمرور الزمن إلى أسماء، ولهذا نجد في العربية كثرة من الأسماء والألفاظ، هي في الأصل صفات ونعوت لخصائص أشياء3. ومن أمثلة المترادفات في العربية: القمح، والبُر، والحنطة، قال علماء اللغة: القمح: البر، لغة شامية، "وأهل الحجاز قد تكلموا بها، وقد تكرر ذكره في الحديث. وقيل: لغة قبطية"4، والبر بالضم الحنطة، قال المتنخل الهذلي:

_ 1 المزهر "1/ 402 وما بعدها"، الرافعي "1/ 192". 2 فجر الإسلام "54". 3 بروكلمن "1/ 43". 4 تاج العروس "2/ 208"، "قمح".

لا درّ دريّ إن أطعمت نازلكم ... قرف الحتى وعندي البر مكنوز قال ابن دريد: "البُر أفصح من قولهم: الحنطة. واحدته بُرة"1، "والحنطة بالكسر البُر الحب المعروف"2. وهي في الواقع ألفاظ وردت في لغات، حين ضبطها علماء اللغة، فات عليهم أنها لم تكن مستعملة في كل لغات العرب، وإنما هي في لغات بعض منهم. فالقمح مثلًا، لفظة وردت في لغات عرب الشام والحجاز، لأنها من أصل آرامي، هو "قمحو"3، وقد كان أهل الحجاز في الجاهلية يستوردون القمح من بلاد الشام، فأبقوا التسمية الآرامية على حالها، بعد أن أجروا عليها بعض التعديل. وأما "الحنطة"، فنجد لها مقابلًا في العبرانية هو "Chittah" في العبرانية4، مما يدل على أن اللفظة كانت مستعملة في العربية الغربية. وأما لفظة "بُر"، فهي من الألفاظ التي وردت في نص "أبرهة"، فهي لغة يمانية وحجازية، وقد نص علماء اللغة على ورودها في لغة أهل الحجاز، وربما أخذوها من أهل اليمن، الذين عرفوا بزراعتهم للبر قبل الإسلام. ووردت لفظة "بُر" بمعنى حنطة في النص الموسوم بـ"Jamme 670" إذ ورد فيه: "برم وشعرم عدى ارضهمو"5، أي: "حنطة وشعير في أرضهم" "حنطة وشعير من أرضهم". ومما يكثر في هذه العربية "المشترك"، وحده: اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة. ولعلماء اللغة بحوث فيه، فمنهم من يؤيد وقوعه ومنهم من ينكر. ومن المشترك: العم، فالعم أخو الأب، والعم: الجمع الكثير، ومشى، فمشى يمشي من المشي، ومشى إذا كثرت ماشيته، وللنوى مواضع، وللروبة والرؤبة معان، وللأرض معان، وللفظة الهلال معان، وللفظ العين معان كثيرة ومواضع عديدة، إلى غير ذلك من ألفاظ تجدها في كتب اللغة6.

_ 1 تاج العروس "3/ 38"، "برر". 2 تاج العروس "5/ 121"، "حنط". 3 غرائب اللغة "202". 4 راجع سفر التكوين، الإصحاح30، الآية14، سفر الخروج، الإصحاح34، الآية22، الأصل "العبري". 5 السطر 26 – 27 من النص. 6 المزهر "1/ 369"، "النوع الخامس والعشرون".

وفي العربية: الأضداد. وهو أن يكون للكلمة معنى، ثم يكون لها معنى آخر مضاد له. وهو ما اتفق لفظه واختلف معناه، مثل جلل للكبير والصغير، وللعظيم وللحقير. ومثل الجون، للأسود والأبيض. والقوي، للقوي والضعيف، والرجاء للرغبة والخوف. والبسل للحلال وللحرام. والناهل للعطشان، والناهل، الذي قد شرب حتى روي. والسدفة في لغة تميم: الظلمة، والسدفة في لغة قيس: الضوء واللمق: الكتابة في لغة بني عقيل، والمحو في سائر قيس. والجادي: السائل، والمعطي. والرسُّ: الإصلاح بين الناس، والإفساد أيضًا. والشرى: رُذال المال، وأيضًا خياره. إلى غير ذلك من أمثلة ذكرها علماء العربية1. ولبعض علماء العربية قصة يضربونها مثلًا على الأضداد، فيقولون: "خرج رجل من بني كلاب، أو من سائر بني عامر بن صعصعة، إلى ذي جدن، فأطلع على سطح، والملك عليه، فلما رآه الملك اختبره، فقال له: ثِبْ -أي: اقعد- قال: ليعلم الملك إني سامع مطيع، ثم وثب من السطح: فقال الملك: ما شأنه؟ فقالوا له: أبيت اللعن! إن الوثب في كلام نزار الطّمر. فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم؛ من ظفر حمر. أي: من أراد أن يقيم بظفار فليتكلم العربية"2. ورواها "السيوطي" في كتابه "المزهر" الذي أخذت منه القصة بهذا الشكل أيضًا: "وروي أن زيد بن عبد الله بن دارم، وفد على بعض ملوك حمير، فألفاه في متصيد له على جبل مشرف، فسلم عليه وانتسب له، فقال له الملك: ثِبْ -أي: اجلس- وظن الرجل أنه أمر بالوثوب من الجبل، فقال: ستجدني أيها الملك مطواعًا؛ ثم وثب من الجبل فهلك. فقال الملك: ما شأنه؟ فخبروه بقصته وغلطه في الكلمة. فقال: أما إنه ليست عندنا عربيَّت، من دخل ظفار حَمّر. أي: فليتعلم الحميرية"3. وذكر أن "عامر بن الطفيل" قدم على الرسول، فوثبه وسادة، والوثاب الفراش بلغة حمير.

_ 1 المزهر "1/ 387"، "النوع السادس والعشرون: معرفة الأضداد". 2 المزهر "1/ 396 وما بعدها". 3 المزهر "1/ 256 وما بعدها"، تاج العروس "1/ 499"، "وثب"، الصاحبي "51"، الفائق "3/ 144".

وهم يسمون الملك إذا كان لا يغزو موثبان، يريدون أنه يطيل الجلوس ولا يغزو1. ومن الأضداد ألفاظ قليلة، واضحة الضدية يطلقها الناس على الضد لاعتبارات لديهم، مثل إطلاق لفظة "البصير" على الأعمى، و"السليم" على اللديغ. ولعلماء العربية بحوث وآراء في علة ظهور الأضداد. منهم من يرى أن الحرف إذا وقع على معنيين متضادين، فالأصل لمعنى واحد، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع، فمن ذلك الصريم، يقال لليل: صريم، وللنهار: صريم؛ لأن الليل ينصرم من النهار، والنهار ينصرم من الليل، فأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع. وقال آخرون: إذا وقع الحرف على معنيين متضادين، فمحال أن يكون العربي أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما، ولكن أحد المعنيين لحي من العرب والمعنى الآخر لحي غيره2، فلما سجل علماء اللغة مفردات الألفاظ لم يسجلوا في الأكثر اسم القبيلة أو القبائل التي كانت تنطق بها، فظن أن هذا التضاد هو مما وقع هذه العربية، وإنما هو في الأكثر حاصل جمع لغات. وقد أنكر ناس مذهب الأضداد، ومذهبهم أن الشيء لا يمكن أن يدل على الشيء وضده، وأن النقيضين لا يوضع لهما لفظ واحد، ومن هؤلاء: "أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه"، "توفي نيف وثلاثين وثلاثمائة"، وهو من علماء البصرة ومن المتعصبين لأهل البصرة، وهو صاحب مؤلف في الأضداد، ذكره "ابن النديم"3، فهو ممن ذهب إلى انكار الأضداد4، وأثبته آخرون قائلين: يجوز أن يوضع لهما لفظ واحد من قبيلتين. وأن المشترك يقع على شيئين ضدين، وعلى مختلفين غير ضدين5. ومن المثبتين له: قطرب، وابن الأنباري، و"ابن فارس"، وغيرهم6. وقد ألف في الأضداد قوم من العلماء، منهم: أبو علي محمد بن المستنير، ويقال: أحمد بن محمد، ويقال: الحسن بن محمد، المعروف بقطرب المتوفى سنة

_ 1 الصاحبي "51". 2 المزهر "1/ 400 وما بعدها". 3 الفهرست "99 وما بعدها"، المزهر "1/ 387". 4 المزهر "1/ 396". 5 المزهر "1/ 387". 6 المزهر "1/ 387 وما بعدها".

"206" للهجرة، فله كتاب في هذا الموضوع، يسمى: كتاب الأضداد، كما أن له كتابًا مهمًّا في علل النحو، اسمه كتاب العلل في النحو، وله مؤلفات أخرى ذكرها "ابن النديم"1. ومنهم "الأصمعي"2، و"التوزي"، وهو "أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون" المتوفى سنة "240هـ"3، و"ابن السكيت"4، و"السجستاني"5، وابن الأنباري، أبو بكر محمد بن القاسم المتوفى سنة "328هـ"، صاحب مؤلف في الأضداد دعاه "ابن النديم" كتاب الأضداد في النحو. وهو ممن اشتغل بجمع دواوين من أشعار العرب الفحول6، وغيرهم. وعد علماء اللغة القلب، والإدغام، والإبدال من خصائص العربية التي امتازت بها على اللغات الأخرى7. وهي أمور تحتاج إلى دراسة عميقة، لأن دراسة علماء اللغة لها، لم تنبعث عن دراسات علمية لبقية اللهجات، ثم إنها ملاحظات سطحية أخذت من أشخاص، وليس من دراسة لقبيلة كلها، إذ كان ذلك إذ ذاك أمرًا غير ميسور ولا ممكن. ولو درسنا الأمور المذكورة، نجد أنها حاصل لهجات، لا من تبديل شخص لحرف أو قلبه حرفًا أو ما شاكل ذلك، واتباع الناس بعد ذلك له. ومما يلاحظ في هذه العربية هو كثرة ما فيها جموع التكسير. وقد نجد فيها لفظة واحدة، وقد جمعت في عدة جموع، وهو دليل في نظري على أنه من بقايا اللهجات. فلما شرع العلماء بالتدوين، وراجعوا الشعر والأخبار، والأعراب، وجدوا أمامهم جموعًا لكلمة واحدة، فسجلوها دون أن يشيروا إلى الجهة التي أخذوا الجمع منه، وإلى قبيلة الأعرابي الذي نطق لهم به، فظن أنها جموع هذه العربية، ولا يعقل أن تكون كل هذه الجموع حاصل لغة واحدة. وهي

_ 1 الفهرست "84"، المزهر "1/ 397". 2 الفهرست "88"، المزهر "1/ 397". 3 المزهر "1/ 397". 4 الفهرست "114"، المزهر "1/ 397". 5 الفهرست "93"، المزهر "1/ 397". 6 الفهرست "118"، المزهر "1/ 397". 7 الصاحبي "40 وما بعدها".

سماعية سمعت من أبناء القبائل فجمعت، وهي لم تخضع لذلك لأحكام القياس والقواعد المألوفة. ومن هذا القبيل بعض الجموع الملحقة بجمع المذكر السالم، مثل: أرضون، وأهلون، وعالمون، وسنون، ومئون، وعضون، وعزون، فهذه من بقايا قواعد قديمة، ترجع إلى لهجات، حين شرع علماء اللغة في تدوينها لم يفطنوا إلى تدوين اسم اللسان الذي نطق بها. وطبيعي أن تكون العربية فقيرة في الألفاظ التي لا تدخل معانيها في ضمن حياة أهلها، كألفاظ الترف التي ينعم بها المنغمسون في الحضارة، والألفاظ المستعملة في الحكومات وفي أنواع الدواوين والصناعات وما شاكل ذلك مما يكون عند الحضر، ولا يألفه أهل الوبر، لعدم وجوده عندهم، ولكن العربية، إذا شعرت بالحاجة إليها، أو اضطرت إلى استعمالها، أخذ أهلها أسماءها عمن يعرفها، واستعملوها معربة أو بأصولها في لغتهم، ومن هنا كثر الدخيل في العربية في الإسلام1. وحيث أن للّغة دلالة على طراز حياة الأمة وعلى مقدار درجة حياتها العقلية، نجد العربية غنية غنى مفرطًا في الحدود التي رسمتها لهم بيئتهم، فهم أغنياء في الجمل، يعرفون كل جزء منه، وقد وضعوا ألفاظًا لكل عضو من أعضائه مهما دق فيه. وهم أغنياء فيما يتعلق بالصحراء وفي المطر، وفي كل شيء يتصل بحياتهم، فهي من هنا لغة تمثل عقلية المتكلمين بها، غلبت مصطلحات البداوة فيها على مصطلحات الحضارة، سنة كل أمة تكون حياتها على هذا النمط من المعيشة. وليست اللغة العربية غنية بمفرداتها فحسب، بل بقواعد نحوها وصرفها أيضًا، فجموع التكسير وأحيانًا الأفعال كثيرة كثرة زائدة عن الحاجة2. وهي "غنية باشتقاقها وتصريف كلماتها، فوضع صيغة فعلية لكل زمن، والمشتقات العديدة للدلالة على أنواع مختلفة من المعاني والأشخاص، كل هذا يشعرنا شعورًا تامًّا بغنى اللغة وصلاحيتها للبقاء"3.

_ 1 فجر الإسلام "55". 2 فجر الإسلام "54". 3 فجر الإسلام "55".

وليس غنى العربية بالمفردات بدليل حتمي على سعة هذه اللغة. وإنما هو غنى نتج من حاصل لغات العرب ومن كثرة تعدد لهجاتهم. فلما كانت القبائل تتصل بعضها ببعض وتكوِّن مجموعات وكتل وأحلاف سياسية، للدفاع عن نفسها وللغزو، ولما كان الشعراء وسادات القبائل وغيرهم، يزورون غيرهم ويتنقلون من مكان إلى مكان، وقد يقيمون إقامة طويلة في مكان ما، يجاورون ويوالون، اشتبكت ألسنتهم، فأخذت وأعطت، وزاد هذا الاشتباك حدة، تنافس المناذرة والغساسنة على الزعامة، وتدخل الروم والفرس والحبش في شئون جزيرة العرب، ومجيء المبشرين النصارى إلى القبائل للتبشير بينها، واختلاط اليهود بالعرب، وهم أصحاب دين، واختلاط التجار الأعاجم بالعرب في السواحل وفي البواطن، وسفر أهل القرى وسادات القبائل إلى الشام والعراق للتجارة وللزيارة وللترويح عن النفس، وأمثال ذلك، فكان أن أوجد كل هذا المذكور وغيره وعيًا وحسًّا وشعورًا بوجوب التكتل والتجمع وبأنهم من أمة واحدة، وبأن في حياتهم التي يحيونها من جميع نواحيها ما يحتاج إلى إصلاح وتغيير ونظر. وقد تجسد هذا الوعي في لغاتهم التي تقاربت، وفي آراء الأحناف وأصحاب الرأي، وفي أقوال الحكماء ولا سيما المتألهين والمتعقلين منهم، وفي الشعر الجاهلي، ولا سيما في شعر أولئك الشعراء الذين زاروا الحضر واتصلوا بأهل الحضارة، وجالسوا أهل الديانات واطلعوا على مقالاتهم وآرائهم وكتبهم، فنجد فيه أثر الأخذ والتأثر، حتى في استعمال الألفاظ، إذ سمحوا لأنفسهم باستعمال الألفاظ الأعجمية، كما في شعر الأعشى وأمية بن أبي الصلت، الذي أدخل ألفاظًا في شعره غير مألوفة عند العرب. ثم جاء الإسلام، بكتاب سماوي، صار لسانه لسان المسلمين، فظهرت الحاجة إلى التدوين والبحث والتنقيب لشرح كتاب الله وحديث رسوله وتفسير أحكام الله. فكان حاصل ذلك علوم اللسان. من مفردات جمعت من القرآن ومن الحديث ومن الشعر ومن ألسنة العرب، ضبطت في كتب اللغة والمعاجم، وكوّنت بذلك هيكل العربية الفصيحة. وهو بناء عملاق لم يعمل من مادة واحدة، وإنما من مواد أساسية عديدة، هي لهجات القرآن والشعر ولغات القبائل التي رجع علماء اللغة إلى أفرادها وإليها للأخذ منها، فهذا الغنى الملحوظ في مفردات العربية الفصحى، إذن هو غنى سببه كونه حاصل لغات قبائل، لا حاصل لغة واحدة أو لسان عربي معين.

وتولدت في الإسلام معان خاصة لألفاظ جاهلية غلبت عليها واختصت بها، وإلى معانيها الجديدة قصد في الإسلام، كما ماتت ألفاظ جاهلية أماتها الإسلام، بسبب أنها كانت تؤدي معاني خاصة بالنسبة لذلك الوقت، فقد روي أن النبي قال: "لا تقولوا دعدع ولا لعلع، ولكن قولوا: اللهم ارفع وانفع. فلولا أن للكلمتين معنى مفهومًا عند القوم ما كرههما النبي"1، وروي أنه نهى عن قول: خبثت نفسي، واستأثر الله بفلان2. ومن الألفاظ الإسلامية: المؤمن، والمسلم، والكافر، والمنافق3، ومخضرم، وصلاة، وصوم، وغير ذلك. ومن الألفاظ التي كانت فزالت بزوال معانيها: المرباع، والنشيطة، والفضول، والإتاوة، والحلوان، وأبيت اللعن، والنوافج، للإبل تساق في الصداق، وحجرًا محجورًا، لمعنيين: الحرمان، إذا سئل الإنسان قال: حجرًا محجورًا، والوجه الآخر الاستعاذة4، وأنعم صباحًا، وأنعم مساءً، وأنعم ظلامًا، وعموا صباحًا، وعموا ظلامًا، إذ حل السلام محلها في الإسلام5. وظهرت الحاجة في الوقت نفسه إلى وضع قواعد في نحو وصرف هذه اللغة، لصيانة اللسان من الخطأ، وليتعلم الأعاجم بها كيفية النطق بفصاحة وسلامة بهذا اللسان الجديد عليهم. فكان ما كان من وضع النحو مستعينين بالأسس النحوية "الغراماطيقية"، التي كانت قد وجدت سبيلها إلى العراق من أصول قديمة، ثم بتتبع كلام العرب وبالاستقراء، وقياس القواعد بعضها على بعض وبالتعليل، يعللون النحو ويعتبرون به كلام العرب، ثم لم يكتفوا بذلك كله، فأخذوا من هؤلاء ومن هؤلاء علمًا كثيرًا باللغة وبالشعر وبالغريب وبالنوادر وبكل ما يتصل بالعربية من أسباب حتى جمعوا ما جمعوه من تراث هذه اللغة الخالد في بطون الكتب.

_ 1 الصاحبي "70". 2 الصاحبي "92 وما بعدها". 3 الصاحبي "79". 4 الصاحبي "89 وما بعدها". 5 المزهر "1/ 294 وما بعدها"، "النوع العشرون: معرفة الألفاظ الإسلامية".

الفصل السابع والثلاثون بعد المئة: لغات العرب

الفصل السابع والثلاثون بعد المئة: لغات العرب قال "الطبري" في تفسيره: "كانت العرب وإن جمع جميعها اسم أنهم عرب، فهم مختلفوا الألسن بالبيان متباينو المنطق والكلام"1. وأن ألسنتهم كانت كثيرة كثرة يُعجز عن إحصائها2. وقد ذكر غيره مثل ذلك، ذكر أن لغات العرب كانت متباينة، وأن بعضها كانت بعيدة بعدًا كبيرًا عن عربيتنا، كالألسنة العربية الجنوبية ومنها الحميرية. قال "ابن جني": "وبعد فلسنا نشك في بُعد لغة حمير ونحوها عن لغة بني نزار"3، وقال "أبو عمرو بن العلاء": "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا". وذكر "ابن فارس"، أن ولد "إسماعيل"، يريد بهم العدنانية "يعيرون ولد قحطان أنهم ليسوا عربًا ويحتجون عليهم بأن لسانهم الحميرية، وأنهم يسمون اللحية بغير اسمها مع قول الله -جل ثناؤه- في قصة من قال: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، وأنهم يسمون الذئب القلوب مع قوله: وأخاف أن يأكله الذئب وما أشبه ذلك"4. وقد عرف ذلك الكتبة "الكلاسيكيون" وغيرهم. فذكر مؤلف كتاب

_ 1 تفسير الطبري "1/ 9"، "بولاق". 2 تفسير الطبري "1/ 15". 3 الخصائص "1/ 392"، "وقال أبو عمرو بن العلاء: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"، ابن سلام، طبقات "4 وما بعدها". 4 الصاحبي "55".

"الطواف حول البحر الأريتري" "Periplus mare Erythrae" أن سكان سواحل البحر الأحمر الذين كانوا يقيمون بين مدينة "Leuke Kome"، وميناء "Muza" يتكلمون بلهجات مختلفة ولغات متباينة، قلّ منهم من يفهمها عن الثاني، وبعضها بعيد عن بعض بعدًا كبيرًا1. وقد عاش مؤلف هذا الكتاب في القرن الأول للميلاد، والساحل الذي ذكره هو ساحل الحجاز. وأصبح اليوم من الأمور المعروفة أن أهل العربية الجنوبية كانوا يتكلمون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، بدليل هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها في تلك الأرضين، وهي بلسان مباين لعربيتنا، حيث تبين من دراستها وفحصها أنها كتبت بعربية تختلف عن عربية الشعر الجاهلي، وبقواعد تختلف عن قواعد هذه اللغة2. وهي لو قرئت على عربي من عرب هذا اليوم، حتى إن كان من العربية الجنوبية، فإنه لن يفهم منها شيئًا، لأنها كتبت بعربية بعيدة عن عربية هذا اليوم، وقد ماتت تلك العربية بسبب تغلب عربية القرآن عليها. كما عثر في العربية الغربية وفي مواضع أخرى من جزيرة العرب على نصوص معينية ولحيانية وثمودية وغيرها، وهي مختلفة بعضها عن بعض، ومختلفة أيضًا عن "العربية" لغة القرآن الكريم. ومع إدراك الرواة وعلماء اللغة وجود الخلاف في ألسنة العرب، فإنهم لم يدونوا اللهجات على أنها لهجات مستقلة ذات طابع لغوي خاص، لها قواعد نحوية وصرفية، تختلف اختلافًا متباينًا عن نحو وصرف عربية القرآن الكريم، وإنما "تناقلوا من ذلك أشياء كانت لعهد الإسلام، وأشياء أصابوها في أشعار العرب مما صحت روايته قبيل ذلك. أما سواد ما كتبوه، فقد شافهوا به العرب في بواديها وسمعوه منهم، وهو بلا ريب من بقايا اللهجات التي كانت لعهد الجاهلية"3. على أنهم لم يدونوا من كل ذلك إلا كفاية الحاجة القليلة في تصاريف الكلام أو ما تنهض به أدلة الاختلاف بين العلماء المتناظرين من شواهد في الغريب والنادر وفي القواعد. أما تدوين اللهجات على أنها أصل من أصول اللغة، وأما تسجيل

_ 1 The Periplus of the Erythrean Sea, 24 2 الصفة "134". 3 الرافعي، تاريخ آداب العرب "1/ 123 وما بعدها".

قواعد صرف ونحو تلك اللهجات، فهذا ما لم يحفل به أحد، ولم يقدم عليه عالم فيما نعلم من أخبار الكتب التي وصلت إلينا، لأن أكبر غرضهم من جمع اللغة وتدوينها يرجع إلى علوم القرآن والحديث، ولغتهما اللغة الفصحى، اللغة التي تعلو على اللغات، أما ما دونها فلغات دونها في المنزلة والفصاحة، وألسنة شاذة غير فصيحة، ليس من اللائق بالعالم إضاعة وقته في البحث عنها، وفي التنقيب في قواعد نحوها وصرفها، وهي فوق ذلك لغات بطون وعشائر وقبائل ومواضع، ليس لها أتباع كثيرون، وقد أقبلوا على استعمال عربية الإسلام، وفي إحياء العربيات الأخرى إحياء للجاهلية1. "رأينا علماء اللغة وأهل العربية قد طرحوا أمثلة اختلاف اللغات في كتبهم، فلا قيمة لها عندهم إلا حيث يطلبها الشاهد وتقتضيها النادرة في عُرض كلامهم، لأنهم لم يعتبروها اعتبارًا تأريخيًّا، فقد عاصروا أهلها، واستغنوا بهذه المعاصرة عن توريث تأريخها لمن بعدهم، ولو أن منهم من نصب نفسه لجمع هذه الاختلافات وإفرادها بالتدوين بعد استقصائها من لهجات العرب، وتمييز أنواعها بحسب المقاربة والمباعدة، والنظر في أنساب القبائل التي تتقارب في لهجاتها والتي تتباعد، وتعيين منازل كل طائفة من جزيرة العرب والرجوع مع تأريخها إلى عهدها الأول الذي يتوارث علمه شيوخ القبيلة وأهل أنسابها لخرج من ذلك علم صحيح في تأريخ اللغة وأدوار نشأتها الاجتماعية، يُرجع إليه على تطاول الأيام وتقادم الأزمنة، ولكان هذا يعد أصلًا فيما يمكن أن يسمى تأريخ آداب العرب، يفرعون منه ويحتذون مثاله في الشعر وغيره من ضروب الأدب. ولكن القوم انصرفوا عن هذا وأمثاله لاعتقادهم أصالة اللغة، وأنها خلقت كاملة بالوحي والتوقيف، وأن أفصح اللهجات إنما هي لهجة إسماعيل عليه السلام، وهي العربية القديمة الجيدة كما قال سيبويه"2. "وعلى هذا اعتبروا لهجات العرب لعهدهم كأنها أنواع منحطة خرجت عن أصلها القرشي بما طرأ عليها من تقادم العهد وعبث التأريخ، فلم يجيئوا ببعضها إلا شاهدًا على الفصاحة الأصلية في العربية وخلوها من التنافر والشذوذ، وتمامًا

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 123 وما بعدها". 2 الرافعي "1/ 133 وما بعدها".

على الذي جمعوه من أصول العربية، وتفصيلًا لكل شيء إلا التأريخ"1 "ومع أن الرواة قد وضعوا كتبًا كثيرة ومصنفات ممتعة في قبائل العرب ومنازلها وأنسابها وأسمائها واشتقاق الأسماء وألقابها ومدحها وأشعارها وفرسانها وأيامها، ونحو ذلك مما يرجع إلى التأريخ المتحدد، فلو أنهم اعتقدوا اللغات بسبب من ذلك ولم يعرفوها بالوصف الديني الثابت الذي لا يتغير في حقيقته، لأجروها مجرى غيرها من آثار التأريخ، ولكن ذلك الزمن قد طوي بأهله، ولحق فرعه بأصله، فبقي ذلك الخطأ التأريخي كأن صوابه من بعض التأريخ الذي هو حديثُ الغيب! "2. ويستمر "الرافعي" في حديثه هذا، فيقول: "نقول هذا وقد قرأنا ما بين أيدينا من كتب الفهرست والتراجم والطبقات على كثرتها، وتبينا ما يسرد فيها من أسماء الكتب والأصناف، عسى أن نجد من آثار أحد الرواة أو العلماء ما يدل على وضع كتاب في تأريخ لهجات العرب وتمييز لغاتها على الوجه الذي أومأنا إليه، أو ما عسى أن نستدل به على أنهم كانوا يعتبرون ذلك اعتبارًا تأريخيًّا؛ ولكنّا خرجنا منها على حساب ما دخلنا فيها: صفر في صفر؛ ولم يزدنا تعدادُ أسماء الكتب علمًا بموت هذا العلم وأنه لا كتب له، للسبب الذي شرحناه من اعتبارهم أصالة العربية"3. وفي كتاب "الفهرست" لابن النديم، وفي المؤلفات الأخرى أسماء كتب وضعها علماء اللغة في اللغات، من ذلك "كتاب اللغات" ليونس بن حبيب "183هـ" من علماء العربية، وكان أعلم الناس بتصاريف النحو4، و"كتاب اللغات" لأبي زيد الأنصاري "215هـ"5، و"كتاب اللغات" للأصمعي "213هـ"، "217هـ"6، و"كتاب اللغات" لابن دريد "321هـ"7، و"كتاب

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 134". 2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 134". 3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 134 وما بعدها". 4 الفهرست "ص69". 5 الفهرست "87". 6 الفهرست "88". 7 الفهرست "97".

اللغات" لأبي عمرو الشيباني "213هـ"1، و"كتاب مجرد الغريب" على مثال العين وعلى غير ترتيبه، "وأوله هذا كتاب ألفه في غريب كلام العرب ولغاتها على عدد حروف الهجاء الثمانية والعشرين"، وهو لعلي بن الحسن ويكنى أبا الحسن الهنائي2 و"كتاب الاستعانة بالشعر وما جاء في اللغات" لعمر بن شبة "262هـ"3، إلى غير ذلك من مؤلفات دونت في هذا الباب. لكننا لا نستطيع أن نتحدث عما عالجته من موضوعات وعما ورد فيها من بحوث، بسبب أننا لا نملك نسخًا منها، فلا ندري إذا كانت قد وضعت في خصائص لغات العرب من نحو وصرف ومفردات، أم أنها ألفت في الشواذ والنوادر وفي الأضداد واختلاف الألفاظ، وما يتعاور الأبنية من الاختلاف الصرفي والنحوي، لأن كل وجه من ذلك إنما هو أثر من لغة. والأصح، أنها لم توضع في خصائص لغات الجاهليين وفي قواعد نحوها وصرفها لضبطها، كالذي فعلوه في دراسة عربية القرآن الكريم، فهذا عمل كبير، يحتاج إلى استقراء وتتبع لألسنة العرب في الجاهلية وعند ظهور الإسلام، وإنما كانت قد ألفت فيما جاء في الشعر الجاهلي وفي نوادر الأعراب وكلامهم من اختلاف وتغير وشواذ، مما يغاير لغة القرآن الكريم. ودليل ذلك، أننا نرى أن المؤلفات التي نقلت من تلك الكتب في باب لغات العرب، لم تتحدث بشيء عن أصول نحو وصرف تلك اللغات، وإنما تحدثت عن أمور ذكرت أنها خرجت فيها على قواعد العربية الفصحى، وشذت بها عنها، مما يدل على أن علماء اللغة لم يوجهوا عنايتهم نحو تلك اللغات لدرسها بذاتها دراسة مستقلة، كما فعلوا بالنسبة للعربية الفصحى وإنما أرادوا إظهار بعض مواضع خلافها مع العربية، أو مواضع الاتفاق معها لإثبات قاعدة نحوية أو صرفية، أو لإظهار سمو هذه العربية وعلوها على العربيات الأخرى من حيث السليقة والذوق والسلامة. وقد بني سبب إهمالهم اللهجات الأخرى، على اعتقادهم أنها لهجات رديئة فاسدة، وأن اللغة الفصحى هي اللغة الوحيدة التي يجب حفظ قواعدها والعناية بها، لأنها لغة القرآن الكريم، وأن البحث في اللهجات الأخرى يؤدي إلى تثبيت

_ 1 الفهرست "107". 2 الفهرست "130". 3 الفهرست "169".

لغات فاسدة إلى جانب لغة الوحي، ولم يكن هذا عملًا مطاقًا ولا مقبولًا بالنسبة إلى ذلك الوقت. ولذلك انحصر عملهم في المجال اللغوي على التوسع والتبسط في هذه اللغة التي أسموها اللغة العالية أو الفصحى، وعلى ما تحتها من لهجات، وما اختلفت فيه بعضها عن بعض، وهي لهجات كانت قريبة من مواطن علماء اللغة، أما اللهجات البعيدة عنهم، فلم تنل منهم أية رعاية أو عناية، ونجد مواضع الاختلاف مسجلة في كتب اللغات والنحو وشواهده وفي كتب النوادر والغريب، ومجالس العلماء، حيث كانوا يتباحثون في أمور اللغة والشعر وأيام العرب وما كان يتلذذ بسماعه الخلفاء والحكام الذين كانوا يثيبون من يستمعون إليه، مما حمل العلماء وأهل الأخبار على تطلب الغريب والتنقير عن الشارد والهارب للتفوق به على أصحاب الحرفة المتنافسين فيما بينهم في عرض بضاعتهم على أصحاب الحكم والمال. وأجمل ما ذكره هنا علماء العربية من مواضع اختلاف العربيات الأخرى عن العربية المحضة في الأمور الآتية: أحدها الاختلاف في الحركات، نحو نَسْتعين ونِستعين بفتح النون وكسرها. فهي مفتوحة في لغة قريش، وأسد وغيرهم يكسرها، ونحو الحَصاد والحِصاد. والوجه الآخر، الاختلاف في الحركة والسكون نحو مَعَكم ومَعْكم. ووجه آخر هو الاختلاف في إبدال الحروف، نحو: أولئك وأولالِك. ومنها قولهم: أن زيدًا وعنَّ زيدًا. ومن ذلك: الاختلاف في الهمز والتليين نحو مستهزئون ومُسْتهزوْن. ومنه: الاختلاف في التقديم والتأخير، نحو: صاعقة وصاقعة. ومنها: الاختلاف في الحذف والإثبات، نحو استحييت واستحيت، وصددت وأصددتُ. ومنها: الاختلاف في الحرف الصحيح يبدل حرفًا مُعْتلًّا، نحو أمّا زيد، وأيما زيد. ومنها: الاختلاف في الإمالة والتفخيم، مثل: قضى ورمى، فبعضهم يفخّم وبعضهم يميل. ومنها: الاختلاف في الحرف الساكن يستقبله مثله فمنهم من يكسر الأول، ومنهم من يضم، نحو اشتروا الضلالة.

ومنها: الاختلاف في التذكير والتأنيث؛ فإن من العرب من يقول: هذه البقر، وهذه النخل، ومنهم من يقول: هذا البقر، وهذا النخل. ومنها: الاختلاف في الإدغام نحو: مهتدون ومُهَدّون. ومنها: الاختلاف في الإعراب نحو: ما زيدٌ قائمًا، وما زيد قائم، وإن هذين، وإن هذان. وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب. ومنها: الاختلاف في التحقيق والاختلاس نحو: يأمرُكم ويأمرْكم، وعُفِيَ له، وعُفْى له. ومنها: الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل: هذه أمَّهْ، وهذه أمّت. ومنها: الاختلاف في الزيادة نحو: أنظُرُ، وأنْظُورُ. ومن الاختلاف اختلاف التضادّ، وذلك كقول حمِير للقائم: ثب، أي: اقعد، وثب بمعنى اقفز1. ومنها الاختلاف في الكلمة، فقد يقع فيها ثلاث لغات، نحو: الزُّجاج، والزَّجاج، والزِّجاج. وقد يقع في الكلمة أربع لغات، نحو الصِّداقِ، والصَّداق، والصُّدقة، والصَّدقة. ويكون فيها خمس لغات، نحو: الشَّمال، والشَّمْلَ، والشَّمْأل، والشَّيْمَل، والشَّمَل. ويكون فيها ستُ لغات، نحو: قُسْطاس، وقِسْطاس، وقَسْطاس، وقستاط، وقِستاط، وقُستاط، وقِسَّاط، ولا يكون أكثر من هذا2. ومنها الاختلاف في صورة الجمع، نحو أسرى وأسارى، ومنها الاختلاف في التحقيق والاختلاس، نحو يأمرُكم ويأمرْكم، وعُفي وعفي له. ومنها الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل: هذه أمه وهذه أمت. ومنها الاختلاف في الزيادة نحو: انظر انظور3. وقد أشار "أبو العلاء" المعري في رسالة الغفران إلى أن "عدي بن زيد" العبادي، كان يجعل "الجيم1" "كافًا"، فيقول: "يا مكبور" يريد "يا مجبور"، وهي لغة رديئة يستعملها أهل اليمن. وجاء في بعض الأحاديث

_ 1 المزهر "1/ 255 وما بعدها"، الصاحبي "43، 48 وما بعدها". 2 المزهر "1/ 260". 3 الصاحبي "50"، المزهر "1/ 256".

إن الحارث بن هانئ بن أبي شمر بن جبلة الكندي، استلحم يوم ساباط، فنادى: يا حُكْر يا حُكْر، يريد يا حجر بن عدي الأدبر، فعطف عليه فاستنفذه، ويكب في موضع يجب"1. و"الحارث بن هانئ" من كندة، وهو من الصحابة، وكندة من العربية الجنوبية في الأصل2، فلا يستبعد منه نطق الجيم كافًا على الطريقة المصرية في الوقت الحاضر، إذ يقول العرب الجنوبيون "هكر" في موضع "هجر"، ولكن "عدي بن زيد" من "تميم"، وليست "تميم" من العربية الجنوبية، ثم إن "المعري"، يقول عنه: "فيقول عدي بعباديته يا مكبور لقد رزقت ما يكب أن يشغلك عن القريض"3، أي: "يا مجبور لقد رزقت ما يجب أن يشغلك عن القريض" فجعل قلب الجيم كافًا من سمات لغة العباديين. ولخص بعض العلماء الوجوه التي تتخالف بها لغات العرب، في سبعة أنحاء لا تزيد ولا تنقص: الوجه الأول إبدال لفظ بلفظ كالحوت بالسمك وبالعكس، وكالعهن المنفوش، قرأها "ابن مسعود" كالصوف المنفوش. الثاني: إبدال حرف بحرف كالتابوت والتابوه. الثالث: تقديم وتأخير ما في الكلمة، نحو: سلب زيد ثوبه، وسلب ثوب زيد. وأما في الحروف نحو: أفلم ييأس الذين، وأفلم يايس. الرابع زيادة حرف أو نقصانه نحو: ماليه وسلطانيه، وفَلا تَكُ في مِرْية. الخامس: اختلاف حركات البناء نحو تحسين بفتح السين وكسرها. السادس: اختلاف الأعراب نحو ما هذا بشر بالرفع. السابع: التفخيم والإمالة. وهذا اختلاف في اللحن والتزيين لا في نفس اللغة. والتفخيم أعلى وأشهر عند فصحاء العرب. فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغات العرب4. وجمع "مصطفى صادق الرافعي" أنواع الاختلاف الواردة في كتب اللغة، فحصرها في خمسة أقسام:

_ 1 رسالة الغفران "201". 2 الإصابة "1/ 292"، "رقم 1502". 3 رسالة الغفران "1/ 200". 4 تفسير النيسابوري "1/ 22"، "حاشية على تفسير الطبري. بولاق".

1- لغات منسوبة ملقبة. 2- لغات منسوبة غير ملقبة تجري في إبدال الحروف. 3- لغات من ذلك في تغير الحركات. 4- لغات غير منسوبة ولا ملقبة. 5- لغة أو لثغة في منطق العرب1. النوع الأول: وقد عدّه علماء اللغة من مستبشع اللغات، ومستقبح الألفاظ، ولذلك أطلقوا على اللغات التي تمارسها: اللغات المذمومة2، من ذلك: "الكشكشة" وهي إبدال الشين من كاف المخاطب للمؤنث خاصة، كعليش ومنش وبش، في عليكِ، ومنكِ، وبكِ، في موضع التأنيث، أو زيادة شين بعد الكاف المجرورة. تقول عليكش، واليكش، وبكش، ومنكش، وذلك في الوقف خاصة. ولا تقول عليكش بالنصب. وقد حكى كذا كش بالنصب. وإنما زادوا الشين بعد الكاف المجرورة لتبين كسرة الكاف فتؤكد التأنيث، وذلك لأن الكسرة الدالة على التأنيث فيها تخفى في الوقت فاحتاطوا للبيان أن أبدلوها شيئًا، فإذا وصلوا حذفوا لبيان الحركة، ومنهم من يجري الوصل مجرى الوقف فيبدل فيها أيضًا. وربما زادوا على الواو في الوقف شيئًا حرصًا على البيان أيضًا، فإذا وصلوا حذفوا الجميع وربما ألحقوا الشين فيه. وذكر أن "الكشكشة" في بني أسد وفي ربيعة. "وفي حديث معاوية تياسروا عن كشكشة تميم، أي: إبدالهم الشين من كاف الخطاب مع المؤنث"3. "والكشكشة في ربيعة ومضر. يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شينًا. فيقولون: رأيتكش ومررت بكش. والكسكسة فيهم أيضًا، يجعلون بعد الكاف أو مكانها سينًا في المذكر"4. وورد: "والكسكسة لغة لتميم لا لبكر، كما

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 137 وما بعدها". 2 الصاحبي "53"، المزهر "1/ 222 وما بعدها". 3 تاج العروس "4/ 345"، "كشش"، الصاحبي "53"، المزهر "1/ 222 وما بعدها". 4 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس"، تأريخ آداب العرب "1/ 138"، "لمصطفى صادق الرافعي"، المزهر "1/ 221".

زعمه ابن عباد، وإنما لهم الكشكشة بإعجام الشين. هو إلحاقهم بكاف المؤنث سينًا عند الوقف دون الوصل. يقال: أكرمتكس ومررت بكس، أي: أكرمتك ومررت بك. ومنهم من يبدل السين من كاف الخطاب، فيقول أبوس وأمس، أي: أبوك وأمك. وبه فسر حديث معاوية رضي الله عنه تياسروا عن كسكسة بكر. وقيل: الكسكسة لهوازن"1. "ومنهم من يجلعها مكان الكاف ويكسرها في الوصل ويسكنها في الوقف؛ فيقول: مِنْش وعَلَيْش"2. والديش بالكسر: الديك، لغة فيه عند من يقلب الكاف شيئًا، شبه كافه بكاف المؤنث لكسرتها3. وذكر "السيوطي" أن الكسكسة في ربيعة ومضر، يجعلون بعد الكاف أو مكانها في خطاب المذكر سينًا4. وذكر بعضهم أن الكشكشة في لغة تميم، والكسكسة في لغة بكر. وذكر بعضهم أن الكسكسة لبكر لا لربيعة ومضر، وهي زيادة سين بعد كاف الخطاب في المؤنث لا في المذكر5. "والوتم في لغة اليمن، بجعل الكاف شينًا مطلقًا. كلبيش اللهم لبيش. ومن العرب من يجعل الكاف جيمًا كالجعبة يريد الكعبة"6. وقيل: "الوتم في لغة اليمن، تجعل السين تاء كالنات في الناس"7. "والشنشنة في لغة اليمن، تجعل الكاف شينًا مطلقًا كلبيش اللهم لبيش، أي: لبيك"8. وقد استشهد علماء اللغة على الوتم بشعر نسبوه إلى "علباء بن أرقم" هو: يا قبح الله بني السعلات ... عمرو بن يربوع شرار الناتِ ليسوا أعفاء ولا أكيات

_ 1 تاج العروس "4/ 234"، "كسَّ"، الصاحبي "53". 2 المزهر "1/ 221"، "النوع الحادي عشر". 3 تاج العروس "4/ 312"، "الديش". 4 المزهر "1/ 221". 5 الرافعي "1/ 138". 6 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس". 7 المزهر "1/ 222". 8 المزهر "1/ 222".

فاستعمل النات بدل الناس، والأكيات بدل الأكياس. ولكن الشاعر من "بكر" لا من حمير1. و"الفحفحة في لغة هذيل، يجعلون الحاء عينًا. والوكم والوهم كلاهما في لغة بني كلب. من الأول يقولون: عليكِمِ وبكِمِ، حيث كان قبل الكاف ياء أو كسرة في موضع عليكم وبكم، ومن الثاني يقولون: منهِم وعنهِم وبينهِم، وإن لم يكن قبل الهاء ياء ولا كسرة"2. "وهم يكمون بكسر الكاف من يكمون، أي يقولون: السلام عليكم بكسر الكاف"3. ومن أمثلة الفحفحة قولهم: عياة في موضع حياة، وعلى لغتهم قرأ "ابن مسعود" عَتّى عِين في قوله تعالى: {حَتَّى حِين} . فكتب إليه "عمر" إن القرآن لم ينزل على لغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش4. ومن الفحفحة قولهم: العسن في الحسن، واللعم في اللحم. وذكر أن ثقيفًا كانت تفحفح في كلامها، فتقول: عتى في موضع حتى. وقد ورد في "تاج العروس"، أن "الوكم" "لغة أهل الروم الآن"5، ولعل هذه اللغة إنما جاءتهم من "كلب"، وهم من عرب بلاد الشأم القدماء. "قال الفرّاء: حتى لغة قريش وجميع العرب إلا هذيلًا وثقيفًا، فإنهم يقولون: عتى. قال: وأنشدني بعض أهل اليمامة: لا أضع الدلو ولا أصلّي ... عتى أرى جلّتها تولي صوادرًا مثل قباب التلِّ قال أبو عبيدة: من العرب من يقول: أقم عنّي عتى آتيك، وأتى آتيك؛ بمعنى حتى آتيك، وهي لغة هذيل"6. و"العجعجة" في قضاعة كالعنعنة في تميم. يحولون الياء جيمًا مع العين.

_ 1 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "123". 2 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس"، المزهر "1/ 222". 3 تاج العروس "9/ 69"، "وكم". 4 الفائق "2/ 113". 5 تاج العروس "9/ 69"، "وكم". 6 الفائق "2/ 114".

يقولون: هذا راعج خرج معج، أي: راعي خرج معي1. وقيل: "العجعجة في قضاعة. يجعلون الياء المشددة جيمًا. يقولون في تميمي: تميمج"2. وكانت قضاعة إذا تكلموا غمغموا، فلا تكاد تظهر حروفهم. وقد سمى العلماء ذلك غمغمة قضاعة3. والاستنطاء، قول أنطى بدل أعطى. "قال الجوهري: هي لغة اليمن وقال غيره: هي لغة سعد بن بكر. والجمع بينهما أنه يجوز كونها لهما"، وقيل: "هي لغة سعد بن بكر، وهذيل، والأزد، وقيس، والأنصار يجعلون للعين الساكنة نونًا إذا جاورت الطاء وهؤلاء من قبائل اليمن، ما عدا هذيل. وقد شرفها النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى الشعبي أنه صلى الله عليه وسلم، قال لرجل: "أنطه كذا وكذا"، أي: أعطه. وفي حديث آخر أن مال الله مسئول ومنطى. أي: معطى. وفي حديث الدعاء: لا مانع لما أنطيت. وفي حديث آخر: اليد المنطية خير من اليد السفلى. وفي كتابه لوائل: وأنطوا الثبجة. وفي كتابه لتميم الداري: هذا ما أنطى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره. ويسمون هذا الانطاء الشريف. وهو محفوظ عند أولاده. وقرئ بها شاذًّا: إنّا انطيناك الكوثر"4. وعرفت لغة "بهراء" بوجود "التلتلة" بها. وتلتلة بهراء كسرهم تاء تفعلون. مثل كسر تاء تعلم، في موضع الفتح. وكسر التاء من "تكتب"5. وذلك أنهم يكسرون أحرف المضارعة مطلقاز "ونسب ابن فارس في فقه اللغة هذا الكسر لأسد وقيس، إلا أنه جعله عامًّا في أوائل الألفاظ، فمثل له يقوله: مثل تِعلمون وتِعلم وشِعير وبِعير"6. وعرفت "القطعة في لغة طيء: وهي قطع اللفظ قبل تمامه، فيقولون في

_ 1 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس"، "2/ 71"، "عج"، المزهر "1/ 222". 2 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس"، المزهر "1/ 222". 3 الرافعي "1/ 139". 4 تاج العروس "10/ 372"، "نطا"، المزهر "1/ 222". 5 تاج العروس "7/ 241"، "تل". 6 الرافعي "1/ 140".

مثل: يا أبا الحكم، يا أبا الحكا. وهي غير الترخيم المعروف في كتب النحو؛ لأن هذا مقصور على حذف آخر الاسم المنادى، أما القطعة فتتناول سائر أبنية الكلام"1 ومن لغة تميم كسر الشين في شهيد، وكذا كل فعيل حلقي العين سواء كان وصفًا كهذا، واسمًا جامدًا كرغيف وبعير. "قال الهمداني في إعراب القرآن: أهل الحجاز وبنو أسد يقولون: رحيم ورغيف وبعير بفتح أوائلهن. وقيس وربيعة وتميم يقولون: رحيم ورغيف وبعير بكسر أوائلهن. وقال السهيل في الروض: الكسر لغة تميم في كل فعيل عين فعله همزة أو غيرها من حروف الحلق، فيكسرون أوله كرحيم وشهيد. وفي شرح الدريدية لابن خالويه: كل اسم على فعيل ثانية حرف حلق يجوز فيه اتباع الفاء العين كبعير وشعير ورغيف ورحيم. وحكى الشيخ النووي في تحريره عن الليث أن قومًا من العرب يقولون ذلك، وإن لم يكن عينه حرف حلق ككبير وكريم وجليل ونحوه. قلت: وهم بنو تميم كما تقدم"2. ومما اختلفت به تميم عن قريش أنها تذكر السوق والسبيل والطريق والزقاق والصراط والكلاء، وهو سوق البصرة، أما أهل الحجاز فيذكرون الكل3. ومن ميزات لهجة تميم، أنها تنطق بالهمزة إذ وقعت في أول الكلمة عينًا. فيقولون في أسلم: عسلم ويسمي العلماء ذلك "العنعنة". "وعنعنة تميم إبدالهم العين من الهمزة. يقولون: عن موضع أن". "قال الفراء: لغة قريش ومن جاورهم أن، وتميم وقيس وأسد ومن جاورهم يجعلون ألف أن إذا كانت مفتوحة عينًا. يقولون: أشهد عنك رسول الله، فإذا كسروا رجعوا إلى الألف. وفي حديث قيلة: تحسب عين نائمة، وفي حديث حصين بن مشمت أخبرنا فلان عنّ فلانًا حدثه. أي: أن فلانًا حدثه. قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: كأنهم يفعلونه لبحح في أصواتهم. والعرب تقول: لأنك ولعنك، بمعنى لعلك. قال ابن الأعرابي لعنك لبني تميم، وبنو تيم الله بن ثعلبة يقولون: رعنك. ومن

_ 1 الرافعي "1/ 140". 2 تاج العروس "2/ 391"، "شهد". 3 تاج العروس "6/ 371، 387"، "زق"، "ساق".

العرب من يقول: رغنك بمعنى لعلك"1. "قال الفراء: العنعنة في قيس وتميم. تجعل الهمزة المبدوء بها عينًا، فيقولون في أنك: عنك وفي أسلم: عسلم"2. وذكر أن العنعنة في كثير من العرب، في لغة قيس وتميم، وقيل: في لغة قضاعة أيضًا، وفي لغة أسد ومن جاورهم، يجعلون الهمزة المبدوء بها عينًا، فيقولون في أنك: عنك، وفي أسلم عسلم، وفي أُذُن عُذن، وفي ظننت أنك ذاهب، ظننت عنك ذاهب3. ومن مواضع الاختلاف بين لغة أهل الحجاز، ولغة تميم، الاختلاف في عمل ما وليس النافيتين. وتردد الكلمة بين الإدغام والفك، وبين الإتمام والنقص، أو بين الصحة والإعلال والإعراب والبناء، فمثلًا أهل الحجاز يفكون المثلين من المضارع المجزوم بالسكون وأمره. وتميم تقولهما بالإدغام، وخثعم وزبيد تنقص نون من الجارة، فيقولون: خرجت ملبيت في قولهم: خرجت من البيت وغيرهم يتمها4. و"ضللت" بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع. وهذه هي اللغة الفصيحة، وهي لغة نجد. و"ضللت تضل مثل مللت تمل، أي: بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، وهي لغة الحجاز والعالية. وروى كراع عن "بني تميم" كسر الضاد في الأخيرة أيضًا. قال اللحياني: وبهما قرئ قوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} الأخيرة قراءة أبي حيوة، وقرأ يحيى بن وثاب أضل بكسر الهمزة وفتح الضاد. وهي لغة تميم. قال ابن سيده: وكان يحيى بن وثاب يقرأ كل شيء في القرآن ضللت وضللنا بكسر اللام. ورجل ضال تال"5. و"الضلالة والتلالة"6. واللخلخانية العجمة في المنطق، وهو العجز عن أرداف الكلام بعضه ببعض. ورجل لخلخاني غير فصيح. ويعرض ذلك في لغة أعراب الشحر وعمان. كقولهم

_ 1 تاج العروس "9/ 283"، "عنن". 2 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس في بيان الأفصح". 3 المزهر "1/ 221"، الصاحبي "53". 4 محمد هاشم عطية، الأدب العربي وتأريخه "39". 5 تاج العروس "7/ 411"، "ضلل". 6 تاج العروس "7/ 241"، "تل".

في ما شاء الله مشا الله1. والطمطمانية تعرض في لغة حمير، كقولهم طابم هوا، أي: طاب الهواء2. "وطمطمانية حمير بالضم ما في لغتها من الكلمات المنكرة، تشبيهًا لها بكلام العجم. وفي صفة قريش ليس فيهم طمطمانية حمير، أي: الألفاظ المنكرة المشبهة بكلام العجم"3. وذكر أن الطمطمانية كانت أيضًا عند بعض عشائر طيء، "وهي إبدال لام التعريف ميمًا. فيقولون في السهم والبر والصيام: امسهم، وامبر، وامصيام، وهذا ليس إبدالًا، وإنما هي لهجة يمنية، إذ كانوا يُعرّفون بالألف والميم، ولعل في ذلك ما يدل على صحة ما ذهب إليه النسّابون من أن طيء قبيلة يمنية"4. ولكن حمير لا تعرف بالألف والميم، وإنما تعرف بـ"أن" "ن"، تضع هذه الأداة في آخر الكلمة التي يراد تعريفها ولهذا، أخطأ من ذهب إلى أن هذه الطمطمانية إبدالًا، أو "ليس إبدالًا، وإنما هي لهجة يمنية، إذ كانوا يعرفون بالألف والميم"5، لما ذكرته من أن التعريف يلحق في الحميرية أواخر الكلم، ولا يكون في أولها، ويكون بالأداة "ن" "أن"، لا بالألف واللام، كما هو الحال في عربيتنا، وأن التنكير عندهم يكون بإلحاق حرف "الميم" أواخر الألفاظ التي يراد تنكيرها، ولم يصل إلى علمي أن أحدًا من الباحثين عثر على نص جاهلي في العربية الجنوبية عرف بـ"ال" أداة التعريف في عربية القرآن الكريم. ومن الشائع بين الناس، أن الرسول قال: "ليس ممبرم صيامم فم سفر"، أي: "ليس من البر الصيام في السفر" 6، وعندي أن هذا الحديث من الأحاديث الضعيفة أو المكذوبة، وقد وضع ليكون شاهدًا على "الطمطمانية" المذكورة، جاءوا به شاهدًا على تكلم الرسول بلسان حمير، ولكن لسان حمير لم يكن يعرّف الغير معرف بهذه الأداة من التعريف، وقد يكون لهجة من لهجات بعض القبائل على نحو ما نسب إلى بعض عشائر طيء، كما ذكرت ذلك قبل قليل.

_ 1 تاج العروس "2/ 277"، "لخ"، المزهر "1/ 223". 2 تاج العروس "1/ 8"، "المقصد الخامس"، "طاب امهواء: أي: طاب الهواء"، المزهر "1/ 223"، "معرفة الرديء المذموم من اللغات". 3 تاج العروس "8/ 381"، "طم". 4 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "123". 5 شوقي ضيف "123". 6 تاج العروس "3/ 37"، "برر".

ومن العرب من يجعل الكاف جيمًا كالجعبة يريد الكعبة. ومنهم من يستعمل الحرف الذي بين القاف والكاف كما في لغة تميم، والذي بين الجيم والكاف في لغة اليمن، وإبدال الياء جيمًا في الإضافة نحو غلامج، وفي النسب نحو بصَرج وكوفج1. ومن ذلك الحرف الذي بين الباء والفاء، مثل بور إذا اضطروا قالوا: فور2. ومن النوع الثاني، وهو الخاص بلغات منسوبة غير ملقبة عند العلماء: إبدال "فقيم" الياء جيمًا، ولغتهم في ذلك أعم من لغة قضاعة التي مرت في النوع الأول، لأنها غير مقيدة، فيقولون في بُختي: وعليّ؟ بُختجّ وعلجٌّ. وحجتج في حجتي، وبج في موضع بي. "وقال ابن فارس في فقه اللغة: إن الياء تجعل جيمًا في النسب عند بني تميم، يقولون: غلامج، أي: غلامي، وكذلك الياء المشددة تحول جيمًا في النسب، يقولون: بَصرِّج وكوفِّج في بصريّ وكوفي. وعكس هذه اللغة في تميم -على ما نقله صاحب المخصص- وذلك أنهم يقولون: صِهْرِيٌ والصهاري، في صهريج والصهاريج"3. في لغة مازن يبدلون الميم باء والباء ميمًا، فيقولون في بكر: مكر، وفي اطمئن اطبئن، ويقولون: با اسمك؟ مكان ما اسمك؟. وفي لغة طيء يبدلون تاء الجمع هاء إذا وقفوا عليها، إلحاقًا لها بتاء المفرد؛ وقد سمع من بعضهم: دفن البناه من المكرماه، يريد: دفن البنات من المكرمات. وحكى قول بعضهم: كيف البنون والبناهن وكيف الإخوه والأخواه؟ وفي لغة طيء أيضًا يقلبون الياء ألفًا بعد إبدال الكسرة التي قبلها فتحة، وذلك من كل ماضي ثلاثي مكسور العين، ولو كانت الكسرة عارضة كما لو كان الفعل مبنيًّا للمجهول، فيقولون في رضى وهدى: رضا وهُدى، بل ينطقون بها قول العرب: فرس حَظِيّة بظيّة فيقولون: حظاة بظاة، وكذلك الناصاة، في الناصية. ومن لغتهم أنهم يحذفون الياء من الفعل المعتل بها إذا أُكّد بالنون، فيقولون

_ 1 المزهر "1/ 222 وما بعدها". 2 الصاحبي "54". 3 الرافعي "1/ 141 وما بعدها".

في اخشَينَّ وارمين: اخشنّ وارمنَّ. وجاء في الحديث على لغتهم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء تنطحها". وتنسب هذه اللغة إلى فزارة أيضًا. وورد في بعض الروايات أنهم يبدلون الهمزة في بعض المواضع هاء، فيقولون: هِنْ فعلت، يريدون: إن فعلت1. وورد أن بعض "طيء" كان يقلب "العين" همزة، فيقول: دأني بدلًا من دعني. وفي لغة تميم أنهم يجيئون باسم المفعول من الفعل الثلاثي إذا كانت عينه ياء على أصل الوزن بدون حذف، فيقولون في نحو مَبيِع: مبيوع، ولكنهم لا يفعلون ذلك إذا كانت عين الفعل واوًا إلا ما ندر، بل يتبعون فيه لغة الحجازيين، نحو: مقول، ومصوغ. وفي لغة هذيل لا يبقون ألف المقصور على حالها عند الإضافة إلى ياء المتكلم، بل يقلبونها ياء ثم يدغمونها، توصلًا إلى كسر ما قبل الياء، فيقولون في عصاي وهواي: عَصِيّ وهَويّ. ولا يفعلون ذلك إذا كانت الألف في آخر الاسم للتثنية، كما في نحو "فَتَياي"، بل يوافقون اللغات الأخرى. وفي لغة فزارة وبعض قيس، أنهم يقلبون الألف في الوقف ياء، فيقولون: الهُديْ وأفعى وحبلى، في مكان الهدى وأفعى وحبلى. ومن تميم من يقلب هذه الألف واوًا، فيقول: الهُدّوْ، وأفعو، وحُبلَو. ومنهم من يقلبها همزة، فيقول: الهُدأ وأفعأ وحُبلأ. في لغة خثعم وزَبيد يحذفون نون "مِنْ" الجارة إذا وليها ساكن. وقد شاعت هذه اللغة في الشعر واستخفها كثير من الشعراء فتعاوروها2. في لغة "بلحرث" "بلحارث" يحذفون الألف من "على" الجارة واللام الساكنة التي تليها، فيقولون في على الأرض: علأرض. في لغة قيس وربيعة وأسد، وأهل نجد من بني تميم، يقصرون "أولاء" التي يشار بها للجمع ويلحقون بها "لامًا"، فيقولون: أولالِك.

_ 1 الرافعي "1/ 142". 2 الرافعي "1/ 143 وما بعدها".

في لغات أسماء الموصول: بلحرث بن كعب وبعض ربيعة يحذفون نون اللذين واللتين في حالة الرفع. وتميم وقيس يثبتون هذه النون ولكنهم يشددونها، فيقولون: اللذانّ واللتانّ، وذلك في أحوال الإعراب الثلاث. وطيء تقول في الذي: ذو، وفي التي ذات، ولا يغيرونهما في أحوال الإعراب الثلاث رفعًا ونصبًا وجرًّا1. وقد عرفت بـ"ذي" الطائية. وترد "ذ" "ذو" هذه بهذا المعنى في الصفوية واللحيانية والثمودية. في لغة ربيعة يقفون على الاسم المنون بالسكون في كل أحوال الإعراب، فيقولون: رأيت خالدْ، ومررت بخالدْ، وهذا خالدْ، وغيرهم يشاركهم إلا في النصب. وفي لغة الأزد يبدلون التنوين في الوقف من جنس حركة آخر الكلمة، فيقولون: جاء خالدو، ومررت بخالدي. وفي لغة سعد يضعفون الحرف الأخير من الكلمة الموقوف عليها إلا إذا كان هذا الحرف همزة أو كان ما قبله ساكنًا، فيقولون: هذا خالدّ، ولا يضعفون في مثل رشأ وبكر. في لغة بلحرث وخثعم وكنانة، يقلبون الياء بعد الفتحة ألفًا، فيقولون في إليك وعليك ولديه: إلاكَ، وعلاك، ولداه، ومن لغتهم أيضًا إعراب المثنى بالألف مطلقًا، رفعًا ونصبًا وجرًّا، وذلك لقلبهم كل ياء ساكنة انفتح ما قبلها ألفان فيقولون: جاء الرجلان، ورأيت الرجلان، ومررت بالرجلان. وورد في بعض الروايات أن بني سعد بن زيد مناة، ولخم ومن قاربها، يبدلون الحاء هاءً، فيقولون في مدحته، مدهته. وأن بني أسعد بن زيد مناة ومن وليهم يبدلون من الهاء فاء، فيقولون: فودج في موضع هودج. وورد أن أزد شنوءة تقول: تفكهون، وتميم يقولون: تفكنون، بمعنى تعجبون2. وورد أن "الكلابيين" يلحقون علامة الإنكار في آخر الكلمة، وذلك في

_ 1 الرافعي "1/ 144". 2 الرافعي "1/ 145 وما بعدها".

الاستفهام إذا أنكروا أن يكون رأي المتكلم على ما ذكر في كلامه أو يكون على خلاف ما ذكر. فإذا قلتَ: رأيت زيدًا، وأنكر السامع أن تكون رأيته، قال: زيدًا إنيه! بقطع الألف وتبيين النون، وبعضهم يقول: زيد نيه! كأنه ينكر أن يكون رأيك على ما ذكرت1. وذكر "الرافعي" الأمور التالية على النوع الثالث، من تغيير الحركات في الكلمة الواحدة حسب اختلاف اللهجات: هَلُمّ في لغة أهل الحجاز تلزم حالة واحدة بمنزلة رويد، على اختلاف ما تسند إليه مفردًا أو مثنى أو جمعًا، مذكرًا أو مؤنثًا؛ وتلزم في كل ذلك الفتح؛ وفي لغة نجد من بني تميم تتغير بحسب الإسناد، فيقولون: هلمَّ يا رجل، وهلمي، وهلما، وهلمّوا، وهلمُمْنَ؛ وإذا اسندت لمفرد لا يكسرونها. فلا يقولون: هَلِمَّ يا رجل، ولكنها تكثر في لغة كعب وغنى. وفي لغة تميم يكسرون أول فَعِيل وفَعِل إذا كان ثانيهما حرفًا من حروف الحلق الستة، فيقولون في لئيم ونحيف ورغيف وبخيل: لِئيم، ونحيف بكسر الأول، ويقولون: هذا رجل لِعِبٌ، ورجل مِحِكٌ، كل ذلك بالكسر وغيرهم بفتحه. في لغة خزاعة يكسرون لام الجر مطلقًا مع الظاهر والضمير، وغيرهم يكسرها مع الظاهر ويفتحها مع الضمير غير ياء المتكلم؛ فيقولون: المال لِكَ ولِهُ. هاء الغائب مضمومة في لغة أهل الحجاز مطلقًا إذا وقعت بعد ياء ساكنة، فيقولون: لَدَيْهُ وعَلَيْهُ؛ ولغة غيرهم كسرها. في لغة الحجازيين يحكوم الاسم المعرفة في الاستفهام إذا كان علما كما نُطق به، فإذا قيل: جاء زيد، ورأيت زيدًا، ومررت بزيد، يقولون: من زيدُ؟ ومن زيدًا؟ ومن زيد؟ أما إذا كان غير علم: كجاءني الرجل، أو كان علمًا موصوفًا: كزيد الفاضل، فلا يستفهمون إلا بالرفع، يقولون: من الرجلُ؟ ومن زيدٌ الفاضل؟ في الأحوال الثلاث.

_ 1 الرافعي "1/ 146 وما بعدها".

وإذا استفهموا عن النكرة المعربة ووقفوا على أداة الاستفهام، جاءوا في السؤال بلفظة "مَن" ولكنهم في حالة الرفع يُلحقون بها واوًا لمجانسة الضمة في النكرة المستفهم عنها، ويلحقون بها ألفًا في حالة النصب، وياء في حالة الجر، فإذا قلت: جاءني رجل، ونظرت رجلًا، ومررت برجل، يقولون في الاستفهام عنه: مَنُو؟ ومَنا؟ ومني؟ وكذلك يلحقون بها علامة التأنيث والتثنية والجمع. فيقولون: مَنَه؟ في الاستفهام عن المؤنثة، ومنان؟ ومنين؟ للمثنى المذكر، ومَنَتان؟ ومَنتين؟ للمثنى المؤنث: ومنون؟ ومنين؟ للجمع المذكر، ومنات؟ للجمع المؤنث. وهذا كله إذا كان المستفهم واقفًا، فإذا وصل أداة الاستفهام جردها عن العلامة، فيقول: مَن يا فتى؟ في كل الأحوال. وبعض الحجازيين لا يفرق بين المفرد وغيره في الاستفهام، فيقول: مَنو، ومنا، ومَني، إفرادًا وتثنية وجمعًا في التذكير والتأنيث. وحفظ عن أهل الحجاز أنهم يعاقبون أحيانًا بين الواو والياء، فيجعلون إحداهما مكان الأخرى، فيقولون في الصواغ: الصياغ، وقد دوخوا الرجل وديخوه. وسمع عن بعض أهل العالية قولهم: لا ينفعني ذلك ولا يضورني، أي: يضيرني، وسمع عن قوم قولهم: في سريع الأوبة: سريع الأيبة. ومنهم من يقول في المصايب: مصاوب، ويقول حكوت الكلام، أي: حكيته. وأهل العالية يقولون: القصوى، ويقول أهل نجد: القصيا. وقد وردت أفعال ثلاثية تُحكى لاماتها بالواو والياء، مثل عزوت وعزيت، وكنوت وكنيت. وهي قريب من مائة لفظة. في لغة بكر بن وائل وأناس كثير من بني تميم، يسكنون المتحرك استخفافًا، فيقولون في فَخِذ، والرّجُل، وكَرُمَ، وعَلِمَ: فَخْذن وكرْم، والرّجْل، وعَلْمَ. وهذه اللغة هي في كثير من تغلب. ثم إذا تناسبت الضمتان أو الكسرتان في كلمة خففوا أيضًا، فيقولون في العُنُق والإبلِ، العُنْق، والإبْل. وحكي أن في لغة أزد السراة تسكين ضمير النصب المتصل1.

_ 1 الرافعي "1/ 151 وما بعدها".

ولبعض القبائل لغات في كلمات: فتميم نجد يقولون نِهرٌ، للغدير، وغيرهم يفتحها. والوَتر في العدد حجازية، والوِتر بالكسر في الذّحل: الثأر، وتميم تكسرهما جميعًا، وأهل العالية يفتحون في العدد فقط. ويقال وَتِدْ، ووتَدْ، وأهل نجد يدغمونها فيقولون: وَدٌ. وبعض الكلابيين يقولون: الدِّواء، وغيرهم يفتحها. والعرب يقولون: شُواظٌ من نار، والكلابيون يكسرون الشين. والحجازيون يقولون: لعمري، وتميم تقول: وعملي. واللص في لغة طيء، وغيرهم يقول: اللِّصت1. وهناك لغات في الإعراب: فتستعمل "هذيل" "متى" بمعنى "مِنْ" ويجرون بها، سمع من بعضهم قوله: أخَرَجها متى كُمَّه، أي: من كُمه. وفي لغة تميم ينصبون تمييز "كم" الخبرية مفردًا، ولغة غيرهم وجوب جره وجواز إفراده وجمعه، فيقال: كم درهم عندك، وكم عبيد ملكت! وتميم يقولون: كم درهمًا، وكم عبدًا!. في لغة الحجازيين ينصب الخبر بعد "ما" النافية نحو: ما هذا بشرًا، وتميم يرفعونه. في لغة أهل العالية ينصبون الخبر بعد إن النافية، سمع من بعضهم قوله: إن أحدٌ خيرًا من أحدٍ إلا بالعافية. الحجازيون ينصبون خبر ليس مطلقًا، وبنو تميم يرفعونه إذا اقترن بإلا، فيقول الحجازيون: ليس الطيب إلا المسكَ، وبنو تميم: إلا المسكُ. في لغة بني أسد يصرفون ما لا ينصرف فيما عِلّة منعه الوصفية وزيادة النون، فيقولون: لست بسكران، ويلحقون مؤنثه التاء، فيقولون: سكرانة. في لغة ربيعة وغنم يبنون "مع" الظرفية على السكون، فيقولون: ذهبتُ مَعْهُ، وإذا وليها ساكن يكسرنها للتخلص من التقاء الساكنين، فيقولون: ذهبت معِ الرجلِ.

_ 1 الرافعي "1/ 152".

في لغة "بني قيس بن ثعلبة" يعربون "لَدُن" الظرفية، وعلى لغتهم قرئ "من لدنِه علمًا"، وغيرهم يبنْيها. الحجازيون يبنون الأعلام التي على وزْن فعَال: كحذام، وقطام، على الكسر في كل حالات الإعراب؛ وتميم تعربها ما لم يكن آخرها راء وتمنعها من الصرف للعَلَمية والعدل، فإذا كان آخرها راء كوبار، اسم قبيلة وظفار اسم مدينة فهم فيها كالحجازيين. وتعرب هذيل "الذين" اسم الموصول إعراب جمع المذكر السالم، فيقولون: نحن الَّذون صبحوا الصّباحا ... يوم النخيل غارة ملحاحا ومن لغة هذيل أيضًا، فتح الياء والواو في مثل بَيْضات، وهيآت، وعَورات، فيقولون: بَيَضات، وهَيآت، وعَوَرات، وبقية العرب على إسكانها1. وذكر "الرافعي" بعض الأمثلة على المثال الرابع من قبيل: إبدالهم أواخر بعض الكلمات المجرورة ياء، كقولهم في الثعالب والأرانب والضفادع: الثعال والأراني والضفادي. وقد يبدلون بعض الحروف ياء كقولهم في سادس: سادي، وفي خامس: خامي2. ومن العرب من يجعل الكاف جيمًا، فيقول مثلًا: الجعبة، في الكعبة، وبعضهم ينطق بالتاء طاء: كأفلطني، في أفلتني، وهي لغة تميمية. وتقول بعض العرب: أردت عَنْ تفعل كذا، وبعضهم يقول: لألّني، في "لعلّني" وفي لعل لغات يقولها بعض العرب دون بعض، وهي: لعلي، ولعلني، وعلّي، وعلّني، ولعنّي، ولفني، ورَعَنَ، ورعنّ، وعنّ، وأن، ولعاء. وورد تلعثم وتلعزم في لغة بعض الناس، وتضيفت الشمس للغروب، وتصيفت3. وفي "عند" لغات، هي: عِندي، وعُندي، وعَندي، وفي لدن ثماني

_ 1 الرافعي "1/ 153 وما بعدها". 2 الرافعي "1/ 155". 3 الرافعي "1/ 157".

لغات، وهي لَدُن، ولُدُن، ولَدَى، ولَدُ، ولَدْن، ولُدْن، ولَدْ، ولَدَى؛ وفي "الذي": الذين واللِذ، واللّذ، واللذيُّ، وفي التثنية اللذانِ، واللذانَ، واللذا، وفي الجمع: الذين، والذون، والملاءون، واللاءو، واللائي -بإثبات الياء في كل حال- والألى؛ وللمؤنث اللائي، واللاء، واللاتي: واللتِ، واللتْ، واللتان، واللتا، واللتانِّ، وجمع التي اللاتي، واللات، واللواتي، واللوات، واللوان واللاء، واللاتِ1. ومن لغات "هو" و"هي": هُوْ، وهِيْ، وهُوّ، وهِيّ وهُ، هِـ. ومن لغات لا جرم: لا جرَ، ولا ذا جرم، ولا ذاجر، ولا إن ذا جرم، ولا عِنْ ذا جرم. ومن لغات نعم، حرف الإيجاب: نَعِمْ، ونِعِم، ونَحَم. وبعض العرب يبدل هاء التأنيث تاء في الوقف، فيقول: هذه أمت، في أمة، وبقرت في بقرة، وآيت في آية2. وذكر "الرافعي" أن النوع الخامس، هو النوع الخاص باللثغة من المتكلم. كالألفاظ التي وردت بالراء والغين وبحروف أخرى3. ومن مواضع الاختلاف التي ذكرها "الرافعي"، والتي وقعت في القرآن بسبب القراءات: تحقيق الهمز وتخفيفه، والمد والقصر، والفتح والإمالة وما بينهما، والإظهار والإدغام، وضم الهاء وكسرها من عليهم وإليهم وإلحاق الواو فيهما وفي لفظتي منهُمُو وعَنهُمُو، وإلحاق الياء في إليه وعليه وفيه، ونحو ذلك، فكان كل أهل لحن يقرءونه بلحونهم4. والتضجيع: الإمالة، وكانت تميم وقيس وأسد تميل إلى إمالة الألف، وكان الحجازيون ينطقونها بتفخيم فلا يُميلون، ويظهر أن ذلك لم يكن عامًّا في القبيلة الواحدة، فقد كان بعض منها يميل وبعض منها لا يميل، وفي ذلك قول سيبويه:

_ 1 الرافعي "1/ 157 وما بعدها". 2 الرافعي "1/ 159". 3 الرافعي "1/ 159 وما بعدها". 4 الرافعي "2/ 49".

"اعلم أنه ليس كل من أمال الألفات وافق غيره من العرب ممن يميل، ولكنه قد يخالف كل واحد من الفريقين صاحبه، فينصب بعضٌ ما يميل صاحبه، ويميل بعضٌ ما ينصب صاحبه. وكذلك من كان النصب في لغته لا يوافق غيره ممن ينصب، ولكن أمره وأمر صاحبه كأمر الأولين في الكسر "الإمالة" فإذا رأيت عربيًّا كذلك فلا ترينه خلط في لغته ولكن هذا من أمرهم"1. وذك "ابن فارس"، إن من اختلاف العرب في لغاتهم، اختلافهم "في التذكير والتأنيث، فإن من العرب من يقول: هذه البقر، ومنهم من يقول: هذا البقر، وهذه النخيل، وهذا النخيل"، واختلافهم "في الإعراب، نحو: ما زيد قائمًا، وما زيد قائم، وإن هذين، وإن هذان، وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب"، واختلافهم "في صورة الجمع، نحو أسرى وأسارى"2. وفي هذه اللغة فسر المفسرون الآية: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَان} ، إذ قالوا: إنها نزلت على لغة بني الحارث بن كعب ومن جاورهم، "وهم يجعلون الاثنين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف وقد أنشدني رجل من الأسد عن بعض بني الحارث بن كعب: فأطرق أطراق الشجاع ولو يرى ... مساغًا لناباه الشجاع لصمما3 ويظهر من اختلاف العلماء -الذي رأيناه- في نسبة الأمور المذكورة إلى ألسنة القبائل وفي عدم اتفاقهم في كثير من الحالات في تثبيت اللغات المذكورة إلى قبيلة معينة أو حصرها في قبائل وترددهم في أقوالهم، إن ما ذكروه من اختلاف لم يكن حاصل دراسة استقرائية عميقة، وإنما هو حاصل اتصال بأفراد أو بعدد قليل من الأعراب ومن المدعين بالعلم في ألسنة العرب، ولهذا نجد التناقض باديًا في أقوالهم، وصارت دراساتهم المتقدمة ناقصة غير كاملة، لا تتناول إلا أمورًا جانبية لا تمس صلب اللغة ولا تنال قواعدها في الصميم. وعلى علماء اللغة في الوقت الحاضر واجب الخروج على الجادة القديمة التي يسيرون عليها اليوم في دراسة

_ 1 العصر الجاهلي، دكتور شوقي ضيف "122". 2 الصاحبي "49 وما بعدها". 3 تفسير الطبري "16/ 136".

اللغة، بالذهاب بأنفسهم من جديد إلى مواطن اللغة، للأخذ من أحجارها المكتوبة إن وجدت ومن ألسنة الأحياء الباقين، أخذًا علميًّا مقرونًا بدراسات حديثة مبنية على تسجيل الأصوات، للاستعانة بها في الكشف عن لغات العرب بأسلوب علمي حديث. ويلاحظ أيضًا أن علماء اللغة، قد جمعوا بعض الملاحظات التي ظهرت لهم، من دراساتهم للغة أهل الحجاز، وللغة تميم. فسجلوها في كتب اللغة والقواعد، وقد أشرت إليها فيما تقدم بإيجاز. وإذا قلت أهل الحجاز، فلا أعني لغة قريش وحدها، وإنما لغات القبائل الحجازية، التي تكوّن مجموعة القبائل الساكنة في الحجاز. فإن العلماء حين شرعوا بتدوين اللغة، وجدوا أن لغة أهل مكة لم تعد صافية نقية بسبب اختلاط أهلها بالأعاجم، وظهور الفساد على لسانهم، لذلك، لا نجد لهم ذكرًا بارزًا عند علماء اللغة، وإنما حل محلهم مصطلح: أهل الحجاز. ويظهر أن عرب "تميم" من علماء اللغة، ووجود عدد من عشائرها في العراق على مقربة من المصريين، ونزول رجال منها البصرة والكوفة، ثم اشتهار رجال من تميم بالفصاحة والبلاغة والخطابة قبل الإسلام، كل هذه وأمور أخرى مكّنت العلماء من تسجيل ملاحظات كثيرة عن لغة تميم، زادت بكثير عن الملاحظات التي دونتها عن القبائل الأخرى، وقد ذكر العلماء في مقابلها ما كان يختلف فيه أهل الحجاز عنهم، فتجمعت لدينا بذلك ملاحظات لغوية ونحوية ميزت لهجات تميم عن لهجات "أهل الحجاز"، وبعض القبائل الأخرى. وقد دخلت هذه الفروق في قراءة القرآن، فقرأ بعض القراء على لغة الحجازيين وقرأ بعض آخر الآيات نفسها على لهجة تميم. كل قرأ على لسانه وتمسك بقراءته، وقد ساعد ذلك عدم وجود الحركات الضابطة للحروف، ولو كانت هناك حركات في مبدأ التدوين تضم الحرف أو تكسره أو تفتحه، لضاق نطاق هذا الاختلاف إذ كان على الناس القراءة وفقًا للمصحف المحرك المشكل الذي اتخذ إمامًا لهم، ولكن عدم وجود مصحف إمام استعمل الشكل والإعجام، سهّل ظهور القراءات. والخلاف بين "أهل الحجاز" "لغة أهل الحجاز" وبين "تميم"، هو خلاف في إطار مجموعة واحدة من القبائل، هي مجموعة "مضر". فالقبائل الحجازية التي ذكروها هي قبائل مضرية، و"تميم" من قبائل مضر كذلك،

في عرف أهل الأنساب. وكان بين أهل مكة، أي: "قريشا"، وبين "تميم" اتصال وثيق قبل الإسلام، وكانت بينهم مصاهرة، وقد عرفت "تميم" واشتهرت بالفصاحة، ولو أخذنا برأي أهل الأخبار، وبما ذكروه عن فصاحة "تميم" وعن كثرة وجود الخطباء والشعراء فيهم، وعن حكومتهم في "عكاظ"، وبما ذكروه عن "قريش" فإننا نخرج بنتيجة هي أن "تميمًا"، كانت أكثر شهرة في بضاعة الكلام من "قريش"، وهي نتيجة تناقض زعمهم أن قريش كانت أصفى العرب لغة، وأن لسانها هو اللسان العربي الفصيح الذي نزل به القرآن، وأنها كانت تجتبى أحسن الألفاظ وأعذبها من بين سائر لغات العرب حتى صار لسانها أفصح الألسنة، وذلك بدليل استشهاد علماء اللغة بلغة تميم من نثر وشعر في شواهدهم وأدلتهم على قواعد اللغة، كثرة لا تقاس بها الشواهد التي استشهد بها العلماء على ضبط اللغة والقواعد، المنتزعة من لسان قريش. ولو استقصينا ما دوّنه علماء اللغة عن مواطن الاختلاف بين لغات العرب نصل إلى نتيجة أخرى، هي أن لغات كثير من القبائل تميل إلى ترجيح كفة "لغة تميم" على لغة أهل الحجاز، ففي الفتح والكسر، كما في "الوتَر" و"الوتر"، نجد الفتح لغة أهل الحجاز، والكسر لغة تميم وأسد وقيس1. وقد قرأ بالقراءتين في سورة: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} 2. قال "الطبري": "واختلف القراء في قراءة قوله: والوتر، فقرأته عامة قراء المدينة ومكة والبصرة وبعض قراء الكوفة بكسر الواو. والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان معروفتان في قراءة الأمصار، ولغتان مشهورتان في العرب فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب"3. فنرى من رواية "الطبري" المذكورة أن غالبية القراء، إنما قرأت بقراءة تميم وأسد وقيس، وإن كانت القراءة الثانية التي هي بالفتح لغة مكة صحيحة. والقبائل: "تميم" و"قيس" و"أسد"، هي من القبائل التي أكثر علماء العربية أخذ اللغة عنها، ونصوا على اسمها بالذات، فقالوا: "والذين

_ 1 الأمالي، للقالي "1/ 13". 2 سورة الفجر، الرقم 89، الآية3. 3 تفسير الطبري "30/ 110"

عنهم نُقلت اللغة العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي، من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"1. فهي في مقدمة القبائل التي ركن إليها علماء اللغة في أخذ اللغة عنهم، يليهم هذيل، فكنانة، وبعض الطائيين. ومعنى هذا أن بناء العربية، الذي قام به علماء اللغة، إنما أخذ معظم مادته من لغات القبائل الثلاث المذكورة، وهي قبائل أقامت في مواضع متجاورة منذ القدم، وكانت بطونها قد توغلت في بوادي العراق في الجاهلية القريبة من الإسلام وفي الإسلام، وفي البحرين ونجد وبعض مناطق اليمامة. فهي تكوّن جزءًا كبيرًا من جزيرة العرب والعراق. ولتجاور القبائل الثلاث المذكورة في القديم، أثر كبير في تشابك اللغات وفي تقاربها، لأن للجوار أثرًا خطيرًا في تطور اللغة ونموها. ونحن في حاجة اليوم إلى وضع صورة مضبوطة لتوزع القبائل في الجاهلية في جزيرة العرب وبادية الشام على مر الأدوار، لنتمكن بواسطتها من تتبع الأثر السياسي والثقافي لهذه القبائل وذلك فيما قبل الإسلام، ومن دراسة ما ذكره علماء اللغة من فروق بين اللغات بصورة علمية دقيقة مضبوطة، بتسجيل كل ما ذكروه وإحصائه بالضبط، ثم تطبيق ما ذكروه على مواطن هذه القبائل التي ضبطت ضبطًا صحيحًا على هذه الصورة. ونجد في كتب اللغة والمعاجم أمورًا لغوية كثيرة، مبعثرة لم يشر إليها العلماء إلا عرضًا، مثل قول بني أسد "ييجع" بكسر أوله، مع عدم قولهم "يِعلم" استثقالًا للكسرة على الياء وأمثال ذلك2، مما يحتاج إلى جمع وتصفية للوقوف على قديم اللغات. وقد عرفت "بنو أسد" ببروزها في شقي الكلام: الشعر والنثر. "قال يونس بن حبيب: ليس في بني أسد إلا خطيب، أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر أو رام،

_ 1 المزهر "1/ 211". 2 تاج العروس "5/ 533"، "وجع".

أو شديد العدو1"1. وهي قبيلة شهيرة. أرى أنها قبيلة "Asateni" المذكورة في جغرافية "بطلميوس"، بين "Iodistae" التي تقع أرضها شمال "Asateni"، وهي "جديس"، وقبيلة "Mnasemanes" التي تقع منازلها في شمال غربها في خريطة بطلميوس، وبين "Laeeni" و"Thaemae" الواقعتين إلى الشرق منها، وموضع "Baeti fi. Fontes" الواقع إلى الجنوب وقبيلة "Thanuitae" التي تقع منازها جنوبي هذا الموضع، ثم موضع "Salma"، وهو في الخريطة موضعان: موضع يقع شمالي "Mnasaemanes"، وموضع يقع جنوب غربي2 "Baeti fl. Fontes". وأما "هذيل"، فمواطنهم "جبال هذيل"3، وهم جيران "سعد بن بكر"4 وجيران "كنانة"5، و"هوازن"، وهي كلها من القبائل التي أثنى العلماء على لغتها. وهذيل من قبائل مضر، ومن القبائل التي أعرقت في الشعر6، وقد استشهد العلماء بشعر شعرائها في اللغة وفي القواعد، ومن هنا عدت في القبائل التي أخذ علماء العربية اللغة منها. وأما "سعد بن بكر"، و"كنانة"، و"هوازن" فهي مثل "قريش" و"هذيل" من مجموعة "خندف" من "مضر". وأما "بعض الطائيين" الذين أخذ عنهم علماء العربيةِ العربيةَ، فقد نص العلماء على أسمائهم حين استشهدوا بشعر شعرائها. وطيئ، من القبائل اليمانية في عرف النسابين. وهم من القبائل القديمة التي كان لها شأن يذكر قبل الإسلام، بدليل أن "بني إرم" والفرس، أطلقوا على العرب عمومًا كلمة "طيايه" "طيايو" من أصل "طيء" اسم هذه القبيلة. وأن العبرانيين أطلقوا "طبعًا" "ط ي ي ع ا"، "طيايا" "طياية" في مرادف "عرب" مما يدل على أنها كانت أقوى قبائل العرب

_ 1 البيان والتبيين "1/ 174". 2 راجع خريطة "بطلميوس"، جواد علي تأريخ العرب قبل الاسلام "3/ 371". 3 بلاد العرب، للأصفهاني "14 وما بعدها، 20 وما بعدها، 23 وما بعدها، 25 وما بعدها، 32". 4 المصدر نفسه "ص13 وما بعدها". 5 كذلك "ص19 وما بعدها، 21 وما بعدها". 6 تاج العروس "8/ 166".

قبل الإسلام بزمن طويل1، وربما كان هذا شأنهم قبل الميلاد. ولا يفهم من أقوال علماء اللغة عن لغتهم، أنها كانت ذات صلة بالعربيات الجنوبية، وأما ما ذكروه من "ذي" التي نعتوها بـ"ذي" الطائية، فليس لها صلة بـ"ذ" الواردة في العربيات الجنوبية، وإنما هي سمة خاصة بلهجة "طيء" التي هي من العربية الشمالية، أو من مجموعة عربية "ال" في اصطلاحي الذي أطلقته على العربية الشمالية، لامتيازها بأداة التعريف هذه عن بقية اللهجات العربية التي استعملت أداة أخرى للتعريف. ولهذا فإن قبيلة "طيء" هي قبيلة عربية من القبائل المتكلمة بعربية "ال"، وإن عدّ النسابون نسبها من الجنوب. وما ذكرته من فروق واختلاف، فإنما هو مما يتناول الاختلاف الكائن بين اللهجات العربية الشمالية، وأكثره مما يتناول لهجات القبائل في عهد التدوين، في الأيام التي ظهر فيها الوعي بوجوب تسجيل علوم اللغة وضبطها، فكان أن أخذ علماء اللغة من الفصحاء وممن اشتهر بالعلم باللغة من الصحابة والتابعين، كما أخذوا من الأعراب الذين كانوا يفدون على البصرة والكوفة، وهم من قبائل مختلفة، لكنهم على الأكثر من أعراب البوادي القريبة من العراق، ومن القبائل الضاربة في البادية، فقد ذهب قوم من علماء اللغة إلى البادية معدن اللغة للأخذ من ألسنة أهلها مباشرة، ولاستقراء لهجاتها للتوصل بذلك إلى معرفة اللغة والقواعد. فكان من هذا الجمع ومن مراجعة القرآن والشعر والحديث، هذا المدون في الكتب من علوم العربية. فهو كله إذن تدوين ظهر في الإسلام. ولكننا لا نستطيع أن نتحدث عن ذهاب عدد كبير من العلماء إلى البوادي لدراسة لهجات القبائل، كما لا نستطيع التحدث عن الطرق والأساليب التي سلكوها في جمع اللغة وفي البحث عنها وأخذها من أفواه أصحابها، لعدم وجود شيء من ذلك في الموارد الموجودة لدينا الآن. نعم لقد ذكروا أن أقدم من ذهب إلى البادية: يونس بن حبيب "183هـ"، و"خلف الأحمر" "180"، و"الخليل بن أحمد" "175هـ"، و"أبو زيد" الأنصاري "215هـ"، و"الكسائي" "189هـ" الذي ذهب إلى وادي الحجاز ونجد وتهامة، ورجع وقد أنفد خمس

_ 1 الجزء الأول من هذا الكتاب "ص31".

عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ1، ولكننا لا نعرف شيئًا عن بحوثهم وعن استقراءاتهم ولا عن طرقهم التي اتبعوها في بحثهم وتنقيرهم عن اللغة، والأغلب أنها تناولت الغريب والشعر، ثم إننا لا نستطيع التحدث عن هذه الرحلات بشيء من الاطمئنان والثقة، لما قد يكون في كلام رواتها من المبالغة والإضافة والافتعال بسبب العصبية إلى المدينة وإلى العلماء. ويلاحظ أن معظم الملاحظات المدونة عن اللغات تناولت قبائل ألِف علماء العربية الأخذ عنها والاستشهاد بكلامها، وهي قبائل يرجع النسابون نسبها على طريقتهم إلى "معد"، ويظهر من ملاحظات العلماء عن لهجاتها أنها كانت تتكلم بلهجات متقاربة، ترجع إلى المجموعة التي تستعمل "ال" أداة للتعريف. أما القبائل التي رجع أهل النسب نسبها إلى قحطان، والتي استشهد بشعرها فهي: الأزد، وحمير، وبعض طيء، وخثعم. أما كندة، ومنها الشاعر "امرؤ القيس"، فلا نجد لها ذكرًا في هذه اللغات، وإن استشهد بشعر شاعرها وبشعر غيره من شعراء هذه القبيلة، وقد أشير إلى اليمن، ولكنهم لم يذكروا قصدهم منها، ويظهر أنهم أرادوا بهم أعراب اليمن، وهم مهاجرون في الأصل هاجروا من باطن الجزيرة إلى اليمن بعد أن ضعف الحكم فيها على أثر تدخل الحبش في شئون اليمن وتقاتل الملوك بعضهم مع بعض، مما أفسح المجال للأعراب بدخول العربية الجنوبية، فكوّنوا قوة خطيرة فيها، أشير إليها في كتابات المسند بـ"وأعربهم". "وأعربهمو" كما أشرت إلى ذلك في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب. ولا تزال بعض اللهجات باقية، تتكلم بها القبائل على سليقتها الأولى، وآسف لأن أقول: إن علماء العربية في الوقت الحاضر، لم يوجهوا عنايتهم نحوها لدراستها قبل انقراضها وزوالها، مع أن دراستها من الأمور الضرورية بالنسبة لهم، لأنها تساعد في تعيين أصول العربيات وفي تثبيت المجموعات اللغوية العربية، وقد نستنبط منها أمورًا علمية كثيرة فات على علماء العربية القدامى يومئذ تسجيلها، لأنها لا تزال باقية، فبواسطة الطرق الحديثة في البحث يمكن العثور على ما فات على أولئك العلماء من أمور.

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 344 وما بعدها".

وقد لاحظ "فؤاد حمزة"، أن أهل نجد أصرح في الوقت الحاضر لغة من أهل الحجاز، لقرب هؤلاء من الحرمين واختلاطهم بالأجانب، وبعد أولئك عن كل تلك العوامل. ولكن أفصح اللهجات وأقربها إلى الفصحى هي اللهجات اليمانية الواقعة ما بين جنوبي الحجاز واليمن. وقد ذكر أنهم يتكلمون الألفاظ من مخارجها الصحيحة، ويتكلمون بما هو أقرب إلى الفصيح من سواه. ويتكلم بعض البداة منهم بكلم معرب فصيح1. ولاحظ أن لغات القبائل لا تزال مختلفة، فمنهم من يقلب "الجيم" ياء فيقول: "المسيد"، بدلًا من "المسجد" وهم قوم من اليمن والنمور في وادي محرم، ومنهم من يقلب القاف والكاف "تس"، فيقول: "حكى" "حتسى"، وهم من أهل نجد، ومنهم من يقلب "الكاف" "تش"، فيقول: "بكى" "بتش"، ومنهم من يقلب "القاف" "كافًا" مفخمة، فيقول: "كال" في موضع "قال"، وهي من لغات أهل نجد، ومنهم من يقلب "الكاف" "سينًا"، فيقول: "عبيسي"، في موضع "عبيكي" ومنهم من يقلب "القاف" "جيمًا"، فيقول: "العجير" في موضع "العقير"، ومنهم من يقلب "الظاء" "لامًا"، فيقول: "اللهر" في موضع "الظهر"، ومنهم من يقلب "الضاد" "لامًا"، فيقول: "الليف" في موضع "الضيف"، ومنهم من يجعل "الياء" بين الألف والياء، فيقول: "امطاير" في موضع "مطير"2. ويلاحظ أن قبائل العراق لا تزال تستعمل مثل هذه اللهجات وغيرها، فيستعمل بعضها حرف العين في موضع الهمزة، فيقولون: "سعال" في موضع "سؤال" وتستعمل بعض القبائل حرف "الياء" في موضع "الميم"، فتقول: "يومن"، في موضع "مومن"، أي: "مؤمن"، وغير ذلك، وتستعمل بعضها الياء في موضع "الجيم"، فتقول: "ريال" في موضع "رجَّال"، أي: "رجل". وذكر أن أهل اليمن يستعملون "الميم" في موضع "ال" أداة التعريف، فيقولون: "أم بيت" في موضع "البيت"3. وقد أشير في الحديث إلى هذه

_ 1 قلب جزيرة العرب "99". 2 قلب جزيرة العرب "100". 3 قلب جزيرة العرب "100".

اللغة، ويظهر أنها لغة خاصة، ربما كانت حاصل إدغام حرف الجر "من" في الكلمة التي دخلت عليها، فـ "أم بيت"، هي "من البيت" أو أنها لهجة من اللهجات التي تكلم بها أهل اليمن الشماليون، جعلت "الميم" أداة للتعريف. لأننا نعلم -كما سبق أن ذكرت- أن حرف "الميم" أداة للتنكير في اللهجات العربية الجنوبية، فيقال: "بيتم" في موضع "بيت"، وتلحق آخر الاسم. أما أداة التعريف فحرف "ن" يلحق آخر الكلمة كذلك، ولا يدخل على أولها كما في "ال"، يقال: "بيتن" في موضع "البيت"، و"ملكن" في مقابل "الملك". وذكر "فؤاد حمزة" أن قبيلة "فهم"، وتقع منازلها اليوم بين بني ثقيف شمالًا والجحادلة غربًا، تتكلم بعربية قريبة جدًّا من العربية الفصحى، وهي مشهورة بالفصاحة1. وفي العربية الجنوبية قبائل تتكلم اليوم بلهجات يرجع نسبها إلى اللهجات العربية الجنوبية القديمة؛ لأن في ألفاظها وفي تراكيب جملها، ودراستها في هذا اليوم، ضرورة لازمة لمن يريد الوقوف على تأريخ اللغة العربية قبل الإسلام، ومن الضروري كذلك وجوب دراسة اللهجات "الشحرية" و"المهرية" و"السواحلية" و"السقطرية"، ولهجات السواحل الأفريقية المقابلة لجزيرة العرب للوقوف على تطور اللغات العربية الجنوبية، وعلى حل رموزها التي لا تزال مغلقة غير معروفة عند علماء هذا اليوم. لما لهذه اللهجات من صلات بالعربيات المذكورة. وأرى من الضروري دراسة اللهجات العربية الحالية في كل مكان من أمكنة جزيرة العرب، ولا سيما في المواضع التي استخرج العلماء من باطنها نصوصًا مدونة بلهجات عربية قديمة، مثل أعالي الحجاز لنتمكن بهذه الدراسة من حل معضلات تلك الكتابات ومن تكوين رأي علمي واضح عن تطوّر تلك اللهجات فيما قبل الإسلام. وأرى من الضروري في هذا اليوم وجوب تأليف معجم لغوي، يضم اللهجات العربية القديمة، أي: اللهجات الجاهلية التي وردت في النصوص الجاهلية، للوقوف عليها، ولا سيما على اللفظ الغريب منها، ومقارنتها بالألفاظ التي ترد في اللهجات

_ 1 قلب جزيرة العرب "178".

العربية الأخرى لإحياء ما يمكن إحياؤه من الميت منها، واستعماله في هذا اليوم، للأشياء التي قصرت العربية الفصحى عن وضع مسميات لها، أو أن مسمياتها حوشية، لا تنسجم مع الذوق، وإدخال الألفاظ الواردة في النصوص في المعاجم الموسعة العلمية التي تؤرخ الألفاظ، بأن تشير إلى ورودها لأول مرة في الشعر أو في النصوص الجاهلية. كما أرى من الضروري وجوب العناية بدراسة ما ذكره العلماء عن اللهجات دراسة علمية نقدية تقوم على المقابلة والمطابقة والمقارنة باللغات الأخرى مع تسجيل قواعدها حسبما أمكن.

الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن

الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن مدخل ... الفصل الثامن والثلاثون بعد المئة: لغة القرآن ولتشخيص لغة القرآن صلة كبيرة في تعيين وتثبيت المراد من العربية الفصيحة -أي: العربية المبينة- ولهذا فأنا مضطر إلى التعرض لها، وإن كان الموضوع بحثنا إسلاميًّا، فأقول نزل القرآن منجمًا {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} . ولكن العرب كانوا ولا زالوا يتكلمون بلهجات، فبأية لهجة من لهجاتها نزل القرآن الكريم؟ لقد تطرق "الطبري" في مقدمة تفسيره إلى هذا الموضوع بعد أن تعرض لرأي من زعم أن في القرآن كلمًا أعجميًّا، وأن فيه من كل لسان شيئًا، فقال: "قال أبو جعفر: قد دللنا على صحة القول بما فيه الكفاية لمن وفق لفهمه، على أن الله جل ثناؤه أنزل جميع القرآن بلسان العرب دون غيرها من ألسن سائر أجناس الأمم، وعلى فساد قول من زعم أن منه ما ليس بلسان العرب ولغتها. فنقول الآن: إذا كان ذلك صحيحًا في الدلالة عليه، فبأي ألسن العرب أنزل؟ أبألسن جميعها أم بألسن بعضها؟ إذ كانت العرب وإن جمع جميعها اسم أنهم عرب، فهم مختلفوا الألسن بالبيان، متباينو المنطق والكلام. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله جلّ ذكره قد أخبر عباده أنه قد جعل القرآن عربيًّا، وأنه أنزل بلسان عربي مبين، ثم كان ظاهره محتملًا خصوصًا وعمومًا، لم يكن السبيل إلى العلم بما عنى الله تعالى ذكره من خصوصه وعمومه إلا ببيان من جعل إليه بيان القرآن، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك كذلك،

وكانت الأخبار قد تظاهرت عنه، صلى الله عليه وسلم، بما حدثنا خلاد بن أسلم، قال: حدثنا أنس بن عياض عن أبي حازم عن أبي سلمة، قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف، فالمراء في القرآن كفرٌ -ثلاث مرات- فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه" 1. واستمر الطبري بعد ذلك في تعداد الطرق التي ورد فيها هذا الحديث: حديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، ورواية بعض الأخبار الواردة في حدوث اختلاف بين الصحابة في حفظ بعض الآيات وقراءتها. ثم خلص بعد هذا السرد إلى نتيجة، هي أن القرآن "نزل بألسن بعض العرب دون ألسن جميعها، وأن قراءة المسلمين اليوم ومصاحفهم التي بين أظهرهم هي ببعض الألسن التي نزل بها القرآن دون جميعها"2، فلم يجزم بتعيين اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم. وحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" حديث معروف مشهور، يرد في كتب التفاسير وفي كتب المصاحف والقراءات. ورد بطرق متعددة، وبأوجه مختلفة وهذه الطرق والأوجه، وإن اختلفت في سرد متن الحديث وفي ضبط عباراته، قد اتفقت في الفكرة، وخلاصتها نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف. ويقصدون بالحرف وجهًا من أوجه الألسنة، أي: لهجة من اللهجات3. أما رجال سند هذا الحديث، فعديدون، وفي حال بعضهم كابن الكلبي وأبي صالح مغمز4. وهم جميعًا يرجعون سندهم إلى جماعة من الصحابة، هم نهاية سلسلة السند، قالوا: إنهم سمعوا الحديث من الرسول، ويعنون بهم: عمر بن الخطاب، وعثان بن عفّان، وابن عبّاس، وابن مسعود، وأُبي بن كعب، وأنسًا، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وسمرة بن جندب، وسليمان بن صرد، وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن أبي سلمة، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وهشام بن حكيم، وأبا بكرة، وأبا جهم، وأبا سعيد.

_ 1 تفسير الطبري "1/ 9 وما بعدها" 2 تفسير الطبري "1/ 25". 3 تفسير الطبري "1/ 9"، تاج العروس "6/ 68"، "حرف"، ابن كثير، فضائل القرآن "53 وما بعدها"، الصاحبي "57". 4 تفسير الطبري "1/ 23".

الخدري، وأبا طلحة الأنصاري، وأبا هريرة، وأبا أيوب، وجملتهم واحد وعشرون صحابيًّا على بعض الروايات1. وورد في الحديث، حديث آخر يرجع سنده إلى "ابن عباس" فيه تأييد له، نصه أن رسول الله قال: "أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف"، وحديث آخر، نصه: "إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف، فرددتُ إليه: أن هوّن على أمتي، فأرسل إلي أن أقرأه على سبعة أحرف"، وحديث ثالث نصه: "إن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري؛ فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف"، "وفي حديث أبي بكرة عنه: "فنظرت إلى ميكائيل فسكت. فعلمت أنه قد انتهت العدة" 2. وهناك أحاديث أخرى بهذا المعنى3. ونجد في كتب التفسير والحديث والأخبار أحاديث وأقوالًا تشير إلى أن بعض الصحابة كانوا يقرأون قراءات متباينة وكانوا يتعززون بقراءتهم ويتمسكون بها، ومنهم من كان يقرأها على الرسول فلم يعترض عليها، بل روي أنه قال: "اقرأوا كما علمتم" 4. وروي أنه "جاء رجل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: أقرأني عبد الله بن مسعود سورة أقرأنيها زيد وأقرأنيها أُبي بن كعب، فاختلفت قراءتهم، فبقراءة أيهم آخذ؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وعليٌّ إلى جنبه، فقال علي: ليقرأ كل إنسان بما عَلِمَ كلّ حسن جميل". ورووا على لسان عمر بن الخطاب قوله: "سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يُقْرِئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلّم. فلما سلّم، لببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرؤها؟ قال: أقرأنيها

_ 1 السيوطي، الإتقان في علوم القرآن "1/ 131". 2 السيوطي، الإتقان "1/ 131 وما بعدها"، ابن كثير، فضائل القرآن "54". 3 الزرقاني، مناهل العرفان "132 وما بعدها". 4 تفسير الطبري "1/ 9".

رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: كذبت، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها. فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان! قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله يا عمر. اقرأ يا هشام". فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرؤها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا عمر". فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منها" 1. وكالذي ذكروه من أن رجلًا قرأ عند "عمر" فغير عليه، "فقال: لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يغير عليّ. فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله ألم تقرئني آية كذا وكذا؟ قال: "بلى" فوقع في صدر عمر شيء فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك في وجهه فضرب صدره وقال: أبعد شيطانًا! قالها ثلاثًا. ثم قال: "يا عمر: إن القرآن كله صواب، ما لم تجعل رحمة عذابًا، أو عذابًا رحمة" 2. وروي "أن رجلين اختصما في آية من القرآن وكل يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه، فتقارءا إلى أُبيّ فخالفهما أُبي فتقارأوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله اختلفنا في آية من القرآن وكلّنا يزعم أنك أقرأته! فقال لأحدهما: "اقرأ"، قال: فقرأ، فقال: "أصبت". وقال للآخر: "اقرأ"، فقرأ خلاف ما قرأ صاحبه، فقال: "أصبت". وقال لأبي: "اقرأ"، فخالفهما. فقال: "أصبت"، قال أبي: فدخلني من الشك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دخل فيّ من أمر الجاهلية. قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي في وجهي، فرفع يده فضرب صدري، وقال: "استعذ بالله من الشيطان الرجيم". قال: ففِضتُ عرقًا، وكأني أنظر إلى الله فَرقَا، وقال:

_ 1 تفسير الطبري "1/ 10"، ابن كثير، فضائل القرآن "72 وما بعدها"، الإصابة "3/ 571"، "3/ 571"، "رقم 8965". 2 تفسير الطبري "1/ 10".

"إنه أتاني آت من ربي، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد. فقلت: ربّ، خفف عن أمتي. قا: ثم جاء، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلتُ: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاء الثالثة، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد فقلت: رب خفف عن أمتي. قال: ثم جاءني الرابعة، فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة" ... إلخ1". ورُوي عن زيد بن وهب، قال: أتيت ابن مسعود أستقرئه آية من كتاب الله، فأقرأنيها كذا وكذا. فقلت: إن عمر أقرأني كذا وكذا خلاف ما قرأها عبد الله. قال: فبكى حتى رأيت دموعه خلال الحصى، ثم قال: اقرأها كما أقرأك عمر، فوالله لهي أبين من طريق السيلحين2. وأورد العلماء أحاديث أخرى بهذا المعنى، تظهر كلها وقوع الخلاف بين الصحابة في قراءة القرآن، وعلم الرسول به، وتجويزه لهم القراءة بقراءتهم كل إنسان بما علم3. وقد اختلف العلماء في معنى هذه السبعة الحرف وما أريد منها على أقوال. جمعها القرطبي على خمسة وثلاثين قولًا4، وجعلها "السيوطي" على نحو أربعين قولًا5، تحدث هو وغيره عنها، والحديث عنها في هذا الكتاب يخرجنا من حدود بحثنا المرسومة، وهو التأريخ الجاهلي، لذلك فسوف لا أتكلم في هذا المكان إلا عن الأقوال التي عينت تلك الأحرف ونصت على أسمائها بالنص والتعيين، فأقول: قد رأينا الأحاديث المذكورة والأخبار المروية، وهي عامة، لم تنص على أن المراد من الأحرف السبعة حرفًا معينًا، ولسانًا خاصًّا من ألسنة العرب، غير أننا نجد أخبارًا، نصت على تلك الأحرف وعينتها وشخصتها، إذا تتبعنا سندها

_ 1 تفسير الطبري "1/ 14". 2 ابن سعد "1/ 270". 3 تفسي الطبري "1/ 9 وما بعدها"، ابن كثير، فضائل القرآن "55 وما بعدها". 4 ابن كثير، فضائل القرآن "74 وما بعدها"، السيوطي، الإتقان "1/ 138". 5 السيوطي، الإتقان "1/ 131".

ورجالها نجدها تنتهي بـ"ابن عباس". وأكثر القائلين بها هم من علماء العربية مثل "أبو عبيد" و"أبو عمرو بن العلاء" وثعلب، والأزهري، وسند هذه الأخبار "الكلبي" عن "أبي صالح" عن "ابن عباس"، أو عن "قتادة" عن ابن عباس، وأمثال ذلك من طرق. فقد ورد عن "ابن عباس" قوله: نزل القرآن على سبع لغات، منها خمس بلغة العجز من هوازن، قال أبو عبيد: والعجز، هم بنو سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، وهؤلاء كلهم من هوازن. ويقال لهم: عليا هوازن. ولهذا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم، يعني بني دارم1، "وأخرج أبو عبيد من وجه آخر، عن ابن عباس، قال: نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش وكعب خُزاعة. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن الدار واحدة، يعني أن خزاعة كانوا جيران قريش، فسهلت عليهم لغتهم"2. "وقال أبو حاتم السجستاني: نزل بلغة قريش وهُذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر"3. وذكر بعض آخر أنه نزل بلغة قريش، وهذيل، وثقيف، وهوازن، وكنانة، وتميم، واليمن4 وسعد بن بكر، هم من عليا هوازن5. ومعنى هذا أنه نزل بلغات عدنانية ولغات قحطانية، أي: بجميع ألسن العرب. وقد تعرض "الطبري" للأقوال المذكورة، قال: "وروي جميع ذلك عن ابن عباس، وليست الرواية عنه من رواية من يجوز الاحتجاج بنقله، وذلك أن الذي روى عنه أن خمسة منها من لسان العجز من هوازن: الكلبي عن أبي صالح، وأن الذي روى عنه أن اللسانين الآخرين لسان قريش وخزاعة: قتادة، وقتادة لم يلقه ولم يسمع منه"6. وقد ضعف "ابن الكلبي"، ورفض علماء

_ 1 تفسير الطبري "1/ 23"، ابن كثير، فضائل القرآن "67"، السيوطي، الإتقان "1/ 135"، الصاحبي "57". 2 تفسير الطبري "1/ 23"، السيوطي، الإتقان "1/ 135". 3 السيوطي، الإتقان "1/ 135". 4 الزرقاني، مناهل العرفان "173". 5 المزهر "1/ 210 وما بعدها". 6 تفسير الطبري "1/ 23".

الفقه والحديث الأخذ عنه1 وضعف "أبو صالح" كذلك واتهم بالكذب: "قال ابن معين: إذا روى عنه الكلبي فليس بشيء2". وأما "قتادة"، فذكر "الطبري" عنه أنه لم يلق "ابن عباس"، ولم يسمع منه3 فحديثه عن ابن عباس إذن مما لا يجوز الأخذ به. فروايته: "نزل القرآن بلسان قريش ولسان خزاعة"، رواية لا يعتمد عليها لهذا السبب. ولقتادة رواية أخرى بهذا المعنى نسبها إلى "أبي الأسود الدؤلي"، زعم أنه قال: "نزل القرآن بلسان الكعبين: كعب بن عمرو، وكعب بن لُؤي". وقد علق "خالد ابن سلمة" على هذا الكلام فقال: "ألا تعجب من هذا الأعمى يزعم أن القرآن نزل بلسان الكعبين؟ وإنما نزل بلسان قريش" قال مخاطبًا به "سعد بن إبراهيم"4. وقد رمي قتادة بالتدليس5. وينتهي سند هذا الحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" إلى "أبي هريرة"6، وقد كثر القول عن أبي هريرة، وأكثر "أبو هريرة" الحديث عن رسول الله، حتى قال الناس: أكثر أبو هريرة الحديث عن رسول الله، وكان يقول لهم: "إني كنت امرءًا مسكينًا، أصحب رسول الله صلى الله عليه سلم على ملء بطني. وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم"، وذكر أن مسند "تقي بن مخلد، احتوى من حديث أبي هريرة على خمسة آلاف وثلثمائة حديث وكسر"7، وقد يكون بعض ما أسند إليه مما أكثر عليه، أكثره عليه من جاء بعده، ثم إن علينا نقد حديثه، فليس هو بمشرع ولا معصوم، حتى قبل منه كل ما روي عنه8. بل روي أن "عمر بن الخطاب" قال له: "أكثرت يا أبا هريرة من الرواية، وأحر

_ 1 ميزان الاعتدال "3/ 256"، لسان الميزان "6/ 196". 2 ميزان الاعتدال "1/ 137 وما بعدها". 3 وقد تحدثت عنه بالمناسبة في بحث "موارد تأريخ الطبري" المنشور في مجلدات مجلة المجمع العلمي العراقي، تفسير الطبري "1/ 23". 4 تفسير الطبري "1/ 23". 5 ميزان الاعتدال "2/ 345". 6 تفسير الطبري "1/ 9 وما بعدها". 7 الإصابة "4/ 202"، "رقم1190". 8 محمود أبو رية، أضواء على السنة المحمدية، وكتابه شيخ المضيرة.

بك أن تكون كاذبًا على رسول الله. ثم هدده وأوعده إن لم يترك الحديث عن رسول لله فإنه ينفيه إلى بلاده. وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس"1. وهناك رأي ثالث يقول: إنه نزل بلغة مضر، لقول "عمر": نزل القرآن بلغة مضر وعيّن بعضُهم -فيما حكاه- ابن عبد البرّ السبع من مضر، أنهم هذيل، وكنانة، وقيس، وضبّة، وتيم الباب، وأسد بن خزيمة، وقريش. فهذه قبائل مضر، تستوعب سبع لغات"2. وذكر أن "عمر" لما أراد "أن يكتب الإمام، أقعد له نفرًا من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر"3. ولما كانت القبائل المذكورة من مجموعة "مضر"، تكون لغة القرآن، وفقًا لهذا الرأي لغة مضر، لا لغة قريش، وروي عن "عبد الله بن مسعود"، أنه كان يستحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر4. وعندنا أخبار أخرى تفيد أن القرآن إنما أنزل بلغة قريش. من ذلك ما روي من قول عمر: "لا يملين في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش، أو غلمان ثقيف"5 وفسروا ذلك بأنه يعني أن القرآن إنما نزل بلغة قريش. وما روي من قول "عثمان" للرهط القرشين الذين أوكل إليهم جمع القرآن وكتابته: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم. ففعلوا"6، وما روي عنه أيضًا، من أنه لما استفتى في اختلاف

_ 1 أضواء على السنة المحمدية "200 وما بعدها". 2 السيوطي، الإتقان "1/ 136". 3 ابن كثير، فضائل القرآن "20". 4 الصاحبي "57". 5 ابن كثير، فضائل القرآن "20"، "وقال عمر: لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"، الصاحبي "57 وما بعدها"، السجستاني، المصاحف "11"، السيوطي، إتقان "1/ 59". 6 ابن كثير، فضائل القرآن "31"، "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، إن القرآن أنزل بلسانهم"، المصاحف "20".

"زيد" مع الرهط في كتابة "التابوت" أيكتبونه بالتاء أو الهاء، وقال الثلاثة القرشيون: إنما هو التابوت، وقال زيد: إنما هو التابوه، قال: "اكتبوه بلغة قريش، فإن القرآن نزل بلغتهم"1، وما روي عنه أيضًا من قوله للرهط الذين أمرهم بكتابة القرآن: "إذا اختلفتم أنتم وزيد في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن نزل بلسانهم ففعلوا"2. واستنكر "ابن قتيبة" قول من قال: إن القرآن نزل بلغات أخرى، فقال: "لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش"، واحتج بالآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 3. واحتج آخرون بقول "عمر" لعبد الله بن مسعود: "إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل، فأقرئ الناس بلغة قريش"4. وروي في "البخاري"، أن القرآن نزل بلسان قريش والعرب. وقريش خلاصة العرب5. وذكر بعض العلماء أنه نزل "بلغة الحجازيين إلا قليلًا، فإنه نزل بلغة التميميين كالإدغام في: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} ، وفي: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} ؛ فإن إدغام المجزوم لغة تميم، ولهذا قل، والفك لغة الحجاز ولهذا كثر"6. وذكر بعض العلماء "أن في القرآن من أربعين عربية وهي: قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج، وأشعر، ونمير، وقيس عيلان، وجرهم، واليمن، وأزد شنوءة، وكندة، وتميم، وحمير، ومدين، ولخم، وسعد العشيرة، وحضرموت، وسدوس، والعمالقة، وأنمار، وغسان، ومذحج، وخُزاعة، وغطفان، وسبأ، وعمان، وبنو حنيفة، وثعلب، وطيء، وعامر بن صعصعة، وأوس، ومزينة، وثقيف، وجذام، وبليّ، وعذرة، وهوازن، والنمر، واليمامة7.

_ 1 ابن كثير، فضائل القرآن "35"، تفسير النيسابوري، غرائب القرآن ورغائب الفرقان "1/ 24"، "حاشية على تفسير الطبري". 2 ابن كثير، فضائل القرآن "19"، إرشاد الساري "6/ 8 وما بعدها". 3 السيوطي، الإتقان "1/ 135". 4 الفائق "2/ 113". 5 ابن كثير، فضائل القرآن "1/ 19 وما بعدها". 6 السيوطي، الإتقان "2/ 103". 7 الزرقاني، مناهل العرفان "174"، السيوطي، الإتقان "2/ 102"، الصاحبي "58 وما بعدها".

وذكروا أن مما وقع في القرآن من غير العربية: الفرس، والروم، والنبط، والحبشة، والبربر، والسريانية، والعبرانية، والقبط1. وقال بعض العلماء: "أنزل القرآن أولًا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرأوه بلغاتهم التي جرت عادتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال عن لغته إلى لغة أخرى للمشقة، ولما كان فيهم من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد"2. وذهب "الباقلاني" إلى أن "معنى قول عثمان: إنه نزل بلسان قريش، أي: معظمه، ولم يقم دليل على أن جميعه بلغة قريش كله، قال الله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ، ولم يقل قرشيًّا، قال: واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولًا واحدًا يعني حجازها ويمنها، وكذا قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر، قال: لأن لغة غير قريش موجودة في صحيح القراءات كتحقيق الهمزات فإن قريشًا لا تهمز، وقال ابن عطية: قال ابن عباس: ما كنت أدري معنى {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} ، حتى سمعت أعرابيًّا يقول: لبئر ابتدأ حفرها: أنا فطرتها"3. وسند القائلين: إن القرآن نزل بلسان قريش، كون الرسول من مكة، ومكة موطن قريش. فلا بد من نزول كتاب الله بلسانهم، ليكون حجة عليهم وإعجازًا لفصائحهم، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 4، فعلى هذا تكون لغة القرآن لغة قريش5، ولما جاء في الأخبار التي رويت عن "عمر" و"عثمان" من أنه نزل بلسان قريش. ومن حججهم أيضًا ما رووه عن "أبي عبيد الله" من قوله: "أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالتهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة. وذلك أن الله -جل ثناؤه- اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته. فكانت وفود العرب من

_ 1 السيوطي، الإتقان "1/ 102"، الصاحبي "61". 2 السيوطي، الإتقان "1/ 136". 3 ابن كثير، فضائل القرآن "77". 4 سورة إبراهيم، الآية4. 5 السيوطي، الإتقان "1/ 135".

حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم. ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم، وتسميها أهل الله؛ لأنهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام، ولم تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلة من الله جل ثناؤه، لهم وتشريفًا، إذ جعلهم رهط نبيه الأدنين وعترته الصالحين. وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طُبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب. ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولاعجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا الكسر الذي تسمعه من أسد وقيس"1. وروي عن "قتادة" قوله: "كانت قريش تجتبي -أي: تختار- أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتهم لغتهم، فنزل القرآن بها"2. ثم إنها كانت بعيدة عن الأعاجم، فصان بعدها عنهم لسانها عن الفساد، وحفظها من التأثر بأساليب العجم، حتى إن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية3. ولكننا نجد خبرًا يذكر أن "عثمان" قال للرهط الذين أمرهم بجمع القرآن وكتابته: "اجعلوا المملي من هذيل، والكاتب من ثقيف"4، وليست هذيل ولا ثقيف من قريش. ونجد خبرًا آخر يذكر أنه كانت غمغمة في لغة قريش، والغمغمة من اللغات الرديئة التي أخذها علماء اللغة على اللغات العربية الأخرى5، فكيف تتفق الغمغمة مع ما ذكره من صفاء ونقاء وسهولة وبيان لغة قريش! ثم نجد خبرًا يذكر أن الخليفة "أبو بكر"، لما هم بجمع القرآن، بعد إلحاح

_ 1 الصاحبي "52 وما بعدها"، "باب القول في أفصح العرب"، المزهر "1/ 210"، غريب القرآن "1/ 10". 2 اللسان "2/ 77"، "1/ 588"، "صادر"، "عرب". 3 مقدمة ابن خلدون، الفصل الثامن والثلاثون من القسم السادس، الهلال، السنة 26، "أكتوبر 1917م"، "1/ 43". 4 الصاحبي "58". 5 تاج العروس "9/ 6"، "غمم".

"عمر" عليه بذلك، "أجلس خمسة وعشرين رجلًا من قريش، وخمسين رجلًا من الأنصار، وقال: اكتبوا القرآن، واعرضوا على سعيد بن العاص، فإنه رجل فصيح"1، ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش، لما اختار هذا العدد الكثير من الأنصار، وهم من غير قريش، ومن منافسي مكة في الجاهلية والإسلام، إن صح هذا الخبر، الذي أشك في صحته. ثم نجد خبرًا آخر يناقض الخبر المتقدم، يقول: "لما كُتبت المصاحف عُرضت على عثمان، فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيّروها؛ فإن العرب ستغيرها –أو قال ستعربها- بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل، لم توجد فيه هذه الحروف"2. وهو خبر أشك في صحته، وللعلماء فيه آراء. وأما ما قالوه من اختلاف "زيد" مع النفر القرشيين الذين أشركوا معه في جمع القرآن من كتابة "التابوت" بالتاء أو بالهاء، وكان من رأيه كتابتها "التابوه"، ومن رأي "عثمان" "التابوت"3، فقد ذكر العلماء أن "التابوه" لغة في التابوت أنصارية4. واللفظة هي من المعربات، أخذها الأنصار من العبرانية، فهي عندهم "ت ب هـ" "ط ب هـ" "Tabh" "Teba" بمعنى صندوق5. وقد كتبت في القرآن بالتاء. وقد وردت اللفظة في سورة "طه"، وهي مكية6، ووردت في سورة البقرة وهي مدينة7. وأقرب الأقوال المذكورة إلى المنطق، هو قول من قال: إنه نزل بلسان عربي وكفى. فاسم العرب يتناول جميع القبائل تناولًا واحدًا، يعني حجازها ويمنها وكل مكان آخر من جزيرة العرب8، ثم ما بالنا نفسر ونؤول، ونلف وندور في تفسير: "أُنزل القرآن على سبعة أحرف"، وهو حديث، روي بروايات

_ 1 اليعقوبي "1/ 125"، "خلافة أبي بكر". 2 السيوطي، الإتقان "2/ 270". 3 الزينة "1/ 146". 4 تاج العروس "1/ 532" "تبت". 5 غرائب اللغة "211". 6 السورة رقم20، الآية39. 7 السورة رقم2، الآية 248. 8 ابن كثير، فضائل القرآن "77".

تحتاج إلى نقد، وفيها ضعف، وأخبار ضعيفة، لا تقف على قدميها، ثم نترك كتاب الله القائل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1، و {هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 2 و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3، و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} 4، و {كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} 5، و {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 6، و {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 7، و {كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 8، و {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 9، {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 10، ولم يقل قرشيًّا11، ولو نزل بلغة قريش لما سكت الله تعالى عن ذلك، لما في التنويه بلسانهم إن كان أفصح ألسنة العرب من حجة على العرب في فصاحته وبيانه وكونه معجزة بالنسبة لقريش، أفصح الناس وألسنهم، وليس بكلام العرب عامة الذين هم على حد قول أهل الأخبار دون قريش في اللغة والكلام. وما آية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 12، إلا دليلًا وحجة على نزول القرآن بلسان العرب، لا بلسان قريش، أو بلسان قبيلة معينة، أو قبائل خاصة. فالآية تقول: "ما أرسلنا إلى أمة من المم يا محمد من قبلك ومن قبل قومك رسولا إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليه ولغتهم، ليبين لهم. يقول: ليفهمهم ما أرسله الله إليهم من أمره ونهيه وليثبت حجة الله عليهم

_ 1 الشعراء، الرقم26، الآية 195. 2 النحل، الرقم16، الآية 103. 3 يوسف، الرقم12، الآية2. 4 الرعد، الرقم13، الآية 37. 5 طه، الرقم20، الآية113. 6 الزمر، الآية28. 7 فصلتن الرقم41، الآية3. 8 الشورى، الرقم42، الآية7. 9 الزخرف، الرقم43، الآية3. 10 الأحقاف، الرقم46، الآية12. 11 ابن كثير، فضائل القرآن "77". 12 سورة إبراهيم، الآية4.

ثم التوفيق والخذلان بيد الله"1. ولما كان النبي عربيًّا، وقد نعت في القرآن بأنه "النبي الأمي"2، الذي أرسله الله إلى الأميين، رسولًا منهم"3، والأميون هم العرب، العرب كلهم، ولما كان الله قد أرسله إلى قومه العرب، وجب أن يكون الوحي بلسانهم المفهوم بينهم، بلسان طافة منهم، يؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم نفسه من أنه نزل بلسان عربي مبين. "قال الأزهري: وجعل الله، عز وجل، القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا؛ لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها، العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا لأنه من صريح العرب"4. وقال "ابن خلدون": "إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه"5. وقال "الطبري" في تفسيره للآية: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 6، "يقول تعالى ذكره: إنا أنزلنا هذا الكتاب المبين قرآنًا عربيًّا على العرب؛ لأن لسانهم وكلامهم عربي، فأنزلنا هذا الكتاب بلسانهم ليعقلوه ويفقهوا منه. وذلك قوله عز وجل: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} "7. "قال ابن أبي داود في المصاحف: حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا أُبي، حدثنا سعيد بن عبد العزيز: أن عربية القرآن أقيت على لسان سعيد بن العاص، لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن8. ونعت أنه كان أحد أشراف قريش ممن جمع السخاء والفصاحة" وفي هذه الإشارة دلالة على أن لهجة الرسول، لم تكن لهجة عاة قريش، وإنما كانت بالعربية التي نزل بها القرآن، ولهذا نص على أن لهجة "سعيد" كانت

_ 1 تفسير الطبري "13/ 121". 2 الأعراف، الآية 157 وما بعدها. 3 الجمعة، الرقم62، الآية2. 4 اللسان "1/ 588"، "عرب". 5 المقدمة "367"، "1930م". 6 سورة يوسف، الآية2. 7 تفسير الطبري "12/ 89". 8 الإصابة "2/ 45"، "رقم 3268".

مشابهة للهجة الرسول، وكان من أفصح رجال قريش، ولو كانت عربية القرآن عربية قريش، لما كان هنالك معنى لقولهم: إن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد، لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله، إذ لو كانت عربية القرآن عربية قريش، لنص عليها، ثم لكان في وسع أي رجل كاتب من قريش، تدوينه، لفصاحة قريش، ولكن سعيدًا كان من فصحاء قريش، لأنه كان يتكلم بعربية فصيحة، هي العربية التي نزل بها القرآن، والتي عرف فصحاء قريش فصاحتها، فاعترفوا لذلك بنزوله بأفصح لغة وأبين بيان. وقد ذهب "نولدكه" إلى أن القول بنزول القرآن بلسان قريش، إنما ظهر في العصر الأموي، لإظهار عصبيته منها على الأنصار. ونظرًا لكون القرآن كتاب الله فلا دعاء نزوله بلغة قريش أهمية كبيرة بالنسبة لهم، ولتأييد سياستهم المناهضة للأنصار وللقحطانيين1. ويلفت حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" النظر إليه حقًّا، فقد حصر القراءات في "سبعة أحرف". والأحرف الألسنة، مع أن العلماء يذكرون أن في القرآن من كل لغة، وأن فيه خمسين لغة2. فإذا كان فيه هذا العدد أو نحوه، فما بال هذا الحديث يحصرها في سبعة فقط لا تزيد ولا تنقص وهي أحرف ثبتها العلماء ونصوا على أسمائها نصًّا. هل أخذوا هذا الحديث من "السبع المثاني" في القرآن الكريم، من قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 3. أو أخذوه من عدد سبعة الذي يرد في مواضع عديد من القرآن الكريم؟ مثل سبع سماوات4، وسبع سنابل5، وسبع سنبلات6، وسبع بقرات7، وسبع سنين8،

_ 1 ولفنسون، السامية "207". 2 "وقال أبو بكر الواسطي في كتابه: الإرشاد في القراءات العشر: في القرآن من اللغات خمسون لغة: لغة قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعم، والخزرج ... إلخ"، السيوطي، الإتقان "2/ 102". 3 الحجر، الرقم15، الآية87، تفسير الطبري "14/ 35 وما بعدها". 4 البقرة، الآية29. 5 البقرة، الآية261. 6 يوسف، الآية43. 7 يوسف، الآية43. 8 يوسف، الآية47.

وسبع شداد1، والسماوات السبع2، وسبع ليال3، وسبعًا شدادًا4، وسبعة أبواب5 وسبعة أبحر6، والعدد سبعة هو عدد الأيام التي أتم الله فيها الخلق كله، وعدد أيام الأسبوع، ونحو ذلك. والعدد سبعة عدد لعب دورًا خطيرًا عند الشعوب القديمة، فالأرض سبع طبقات، والسموات سبع طباق، وأنغام الموسيقى سبعة، والعدد سبعة عدد مقدس، لعب دورًا في الرياضيات القديمة وفي نظريات "فيثاغورس"، وعيون الشعر الجاهلي هي سبعة، هي القصائد السبع الطوال، أو المعلقات السبع، فهل اقتصر الحديث على هذا العدد لسبب من هذه الأسباب أو ما شابهها، من أسباب؟ وقد ذهب بعض العلماء إلى أن العدد سبعة لا يمثل حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة. ولفظ "السبعة" يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات والسبعمائة في المئين، ولا يراد العدد المعين. ويرده ما في كتب الحديث والأخبار من النص على العدد سبعة بصورة لا تقبل الشك في أن المراد منه حقيقة العدد وانحصاره، ثم تعيين هذا الكتب اللهجات السبع بالأسماء7، وقد ألف "الصفدي" كتابًا في عدد السبعة، سماه "عين النبع على طرد السبع" قال فيه: إن السبعة جمعت العدد كله، وهذا العدد يمثل الكمال، فأنا لا أستبعد أن يكون هذا الحديث قد جاء من هذه الفكرة8.

_ 1 يوسف، الآية48. 2 الإسراء، الآية44، المؤمنون الآية86، فصلت، الآية12، الملك، الآية3، نوح، الآية15. 3 الحاقة، الآية7. 4 النبأ، الآية12. 5 الحجر، الآية44. 6 لقمان، الآية27. 7 السيوطي، الإتقان "1/ 131 وما بعدها". 8 الرافعي "2/ 54".

القراءات السبع

القراءات السبع: ومن الأحرف السبعة ظهرت نظرية القراءات السبع، القراءات المعتبرة المعتمدة عند القراء، وهي ترجع إلى أئمة ارتبطت القراءات بأسمائهم، وعليها يقتصر في

القراءات. وهي نتيجة تطور سابق لقرّاء سبقوا هؤلاء الأئمة الذين اعتمد عليهم في القراءات1، وعلى قراءاتهم يقرأ من يستحق لقب "مقرئ" أو "قارئ"2، وإن كانت هنالك روايات تزيد بعض الزيادات على هذه القراءات. ولأجل تكوين فكرة علمية صحيحة عن هذه الأخبار وعن درجة سعة هذا الاختلاف ومقدارها وما يجب أن يقال فيها، لابد من نقد كل ما ورد في هذا الباب من حديث وروايات، وغربلته غربلة دقيقة. وتكون أول هذه الغربلة في نظري بنقد سلسلة رجال السند، أي: الرواة، لمعرفة الروابط التي كانت تربط بينهم وصلة بعضهم ببعض وملاقاتهم، وما قيل وورد فيهم؛ إذ نسبت أحاديث إلى أشخاص قيل: إنهم رووها عن أناس ثقات، ثبت من النقد أن بعض رجال السند لم يلتقوا في حياتهم بمن حدثوا عنهم كما في حديث قتادة عن ابن عباس، أو أنهم رووا ما رووه تسرعًا وبدون سند أو إجازة لمجرد سماعهم برواية أولئك الأشخاص لتلك الروايات3. ثم إن هذا النقد لا يكفي وحده، بل لا بد من نقد متن الحديث من حيث لغته وأسلوبه ومضمونه وروحه، ومن حيث انطباق بعض الروايات على جوهر القرآن الكريم وما عرف عن الرسول. فبهذا النقد للمتن، نتمكن من الحكم على إمكان صدور الحديث عن الرسول أو عدمه. وبعد كل ما تقدم، علينا حصر أمثلة الاختلاف التي ذكرها العلماء، وضبط كل ما ورد في الأخبار من هذا القبيل، لنتمكن من الحكم على مقدار ما اختلف فيه وسعته ودرجة موافقته لما جاء في ذلك الحديث وفي تلك الأخبار، ثم دراسة هذه الكلمات التي قيل: إنها تمثل لهجات قبائل وأنها حرف من هذه الأحرف السبعة المذكورة في الحديث. لقد لخص "ابن قتيبة" الأحرف السبعة بالأوجه التي يقع بها التغاير: فأولها: ما تتغير حركته، ولا يزول معناه ولا صورته، مثل: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ} بفتح الراء وضمها.

_ 1 ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله "121"، النشر "1/ 31 وما بعدها". 2 كولدزيهر، المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن "37". 3 تفسير الطبري "1/ 23"، "25/ 72"، المذاهب الإسلامية "81 وما بعدها".

وثانيها: ما يتغير بالفعل مثل بَعّدَ وباعد، بلفظ الطلب والماضي. وثالثها: ما يتغير باللفظ مثل: نُنشزها ونُنْشرها بالراء المهملة. رابعها: ما يتغير بإبدال حرف قريب المخرج مثل طلح منضود وطلع منضود. خامسها: ما يتغير بالتقديم والتأخير مثل: وجاءت سكرة الموت بالحق، وجاءت سكرة الحق بالموت. وسادسها: ما يتغير بالزيادة والنقصان، مثل: وما خلق الذكر والأنثى، والذكر والأنثى، بنقص لفظ ما خلق. سابعها: ما يتغير بإبدال كلمة بأخرى، مثل: كالعهن المنفوش، وكالصوف المنفوش1. وأجمل "ابن الجزري" الأوجه السبعة بـ: 1- وذلك إما في الحركات بلا تغير في المعنى والصورة نحو: البخل بأربعة أوجه، ويحسب بوجهين. 2- أو بتغير في المعنى فقط نحو: فتلقى آدم من ربه كلمات، برفع آدم ونصب لفظ كلمات وبالعكس. 3- وأما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو: تبلو، وتتلو. 4- وعكس ذلك، نحو بصطة وبسطة، ونحو الصراط والسراط. 5- أو بتغيرهما نحو فامضوا، فاسعوا. 6- وإما في التقديم والتأخير، نحو فيقتلون، ويقتلون، بفتح ياء المضارعة مع بناء الفعل للفاعل في إحدى الكلمتين، ويضمها مع بناء الفعل للمفعول في الكلمة الأخرى. 7- أو في الزيادة والنقصان. وقد أوجز "أبو الفضل" الرازي، الحروف السبعة في: 1- اختلاف الأسماء من إفراد، وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث. مثل: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، قرئ هكذا جمعًا، وقرئ لأمانتهم بالإفراد.

_ 1 الزرقاني، مناهل "152".

2- اختلاف تصريف الأفعال من ماض، ومضارع، وأمر. مثل: فقالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} ، قرئ هكذا بنصب لفظ ربنا على أنه منادى، وبلفظ باعد فعل أمر، وبعبارة أنسب بالمقام فعل دعاء. وقرئ هكذا: ربُّنا بَعَّد. برفع رب على أنه مبتدأ وبلفظ بعَّد، فعلًا ماضيًا مضعف العين جملته خبر. 3- اختلاف وجوه الإعراب. مثل: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} . قرئ بفتح الراء وضمها، فالفتح على أن لا ناهية، فالفعل مجزوم بعدها، والفتحة الملحوظة في الراء هي إدغام المثلثين. أما الضمّ فعلى أنّ لا نافية، فالفعل مرفوع بعدها. 4- الاختلاف بالنقص والزيادة. مثل: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} ، قرئ بهذا اللفظ. وقرئ أيضًا والذكَرِ والأنثى، بنقص كلمة ما خلق. 5- الاختلاف بالتقديم والتأخير. مثل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَق} ، وقرئ: وجاءت سكرة الحق بالموت. 6- الاختلاف بالإبدال. مثل: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} ، بالزاي، وقرئ ننشرها بالراء. ومثل: {وَطَلْحٍ مَنْضُود} ، بالحاء، وقرئ طلع بالعين. فلا فرق في هذا الوجه أيضًا بين الاسم والفعل. 7- اختلاف اللغات، أي: اللهجات، كالفتح والإمالة، والترقيق والتفخيم، والإظهار، والإدغام ونحو ذلك1. ونحن إذا تعمقنا في درس مواضع الاختلاف، وهي أهم ما يتصل بلهجة القرآن الكريم، وسجلناها تسجيلًا دقيقًا شاملًا، نجد أنها ليست في الواقع اختلافًا في أمور جوهرية تتعلق بالوحي ذاته، وإنما هي في الغالب مسائل ظهرت بعد نزول الوحي من خاصية القلم الذي دوّن به القرآن الكريم. فرسم أكثر حروف هذا القلم متشابه، والمميز بين الحروف المتشابهة هو النقط، وقد ظهر النقط بعد نزول الوحي بأمد كما يقول العلماء، ثم إنّ هذا القلم كان خاليًا في بادئ

_ 1 الزرقاني، مناهل العرفان "148 وما بعدها"

أمره من الحركات، وخلوّ الكلم من الحركات يحدث مشكلات عديدة في الضبط من حيث إخراج الكلمة، أي: كيفية النطق بها، ومن حيث مواقع الكلم من الإعراب1. كل هذه الأمور وأمور أخرى تعرض لها العلماء، أحدثت في الغالب القسم الأعظم مما يعدّ اختلافًا في القراءات. ويعود القسم الباقي من مواضع الاختلاف إلى سبب أراه لا يتعلق أيضًا بمتن النص، وإنما هو، كما يتين من الإمعان في دراسته ومن تحليل الآيات المختلف فيها، زيادات وتعليقات من ذهن الحفاظ والكتاب على ما أتصور، لعدم وضوح المعنى لديهم، لعلها كانت تفسيرًا أو شرحًا لبعض الكلم دوّنت مع الأصل، فظنت فيما بعد من الأصل. وإثبات التفسير مع المتن، جائز على بعض الروايات2. ويعود قسم آخر منه إلى استعمال كلمات قد تكون مخالفة لكلمة من حيث شكلها، ولكنها متفقة معها في معناها، وإلى استعمال كلمات متباينة في الشكل وفي المعنى. وهذا القسم هو، ولا شك، أهم أقسام الاختلاف، وإليه يجب أن توجه الدراسة. هذه الأمور المذكورة، تحصر جميع ما ورد من اختلاف في كلمات أو آيات من القرآن الكريم. أما ما ذكره العلماء من الأوجه التفسيرية للحديث: حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومن جعلها خمسة وثلاثين وجهًا أو سبعة أوجه أو أقل من ذلك أو أكثر3، فإنها تفاسير متأخرة، وأوجه نظر قيلت لإيجاد مخارج مسوغة لتفسير هذا الحديث. ويصعب في هذا الموضع ذكر أمثلة لهذه الأمور، فهي عديدة كثيرة، ذكرت في كتب المصاحف وفي كتب التفسير، وأورد شواهد منها "كولدتزيهر" في كتابه عن "المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن"، يمكن الاطلاع عليها في الصورة

_ 1 الهمداني، الإكليل "8/ 122"، المذاهب الإسلامية "4 وما بعدها". 2 "جواز إثبات بعض التفسير على المصحف، وإن لم يعتقده قرآنًا"، المذاهب الإسلامية "11 وما بعدها"، الزرقاني على الموطأ "1/ 255". 3 النشر "1/ 21 وما بعدها"، السيوطي، إتقان "1/ 78 وما بعدها"، تفسير القرطبي "1/ 16".

العربية له المطبوعة بمصر1. فمن أمثلة الاختلاف الحادث من الخط "تستكبرون" بالباء الموحدة و"تستكثرون" بالثاء المثلثة في الآية: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} 2. و"بشرًا" أو "نشرًا" في الآية: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} 3. وكلمة "إياه" في الآية: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} ، إذ وردت أيضًا "أباه" بالباء الموحدة4. وأمثال ذلك مما كان سببه النقط. وبعد ملاحظة ما تقدم، وحصر كل ما ورد في المصاحف وما قرأه القراء من قراءات، نجد أن ما يختص منه باللهجات وباللغات قليل يمكن تعيينه، ومعظمه مترادفات في مثل: أرشدنا واهدنا، والعهن والصوف، وزقية وصيحة، وهلم وتعال وأقبل، وعجل وأسرع5، والظالم والفاجر، وعتى وحتى6، وأمثال ذلك. وهذه الأمثلة هي كلمات مختلفة لفظًا، ولكنها في معنى واحد. وهي كما ترى مفردات لا دخل لها في قواعد اللهجات. وأما الاختلاف في الإظهار، والإدغام، والإشمام، والتفخيم، والترقيق، والمدّ، والقصر، والإمالة، والفتح، والتحقيق، والتسهيل، والإبدال. فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى؛ لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظًا واحدًا7، وليس هو من قبيل الاختلاف المؤثر في قواعد اللهجة، إنما هو اختلاف في الصور الظاهرة لمخارج حروف الكلمات، فلا يصح أن يعد فارقًا كبيرًا يمكن أن يكون حدًّا يفصل بين اللهجات، بحيث يصيرها لغة من اللغات، ثم إن بعضه يعود إلى الخط، وبعضه إلى التجويد.

_ 1 "القاهرة 1944م"، "علي حسن عبد القادر". 2 الأعراف، آية48. 3 الأعراف، آية57. 4 التوبة، آية114. 5 النشر "1/ 29 وما بعدها"، القرطبي "1/ 16"، السيوطي، إتقان "1/ 79 وما بعدها". 6 مباني "9"، Noldeke, Geschichte, I, 51 7 النشر "1/ 26 وما بعدها".

أي طريقة التلاوة والأداء1. وللحكم على أصل المترادفات، تجب مراجعة سلسلة السند للوصول إلى صحة تسلسل الأخبار من جهة، وإلى معرفة راوي الخبر والقبيلة التي هو منها لمعرفة القراءة التي قرأها، وهل هي من لهجة قبيلته، أم هي مجرد كلمة من اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم نفسها، تلقّاها القارئ على الشكل الذي رواها في قراءته. لقد أشار العلماء إلى أمثلة من كلمات غير قرشية وردت في القرآن الكريم، ذكروا أنها من لهجات أخرى، ومنها: الأرائكُ، ولا وَزَرَ، و"حور"، وأمثال ذلك رجع بعضهم أصولها إلى خمسين لهجة من لهجات القبائل، كما أشاروا إلى وجود كلمات معربة أخذت من لغات أعجمية مثل الرومية، والفارسية، والنبطية، والحبشية، والسريانية، والعبرانية وأمثال ذلك2، وألّفوا في ذلك كتبًا، منها: كتاب لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفى سنة "223هـ" "838م"، واسمه: "رسالة في ما ورد في القرآن من لغات القبائل"3، وكتاب لغات القرآن، لأبي زيد الأنصاري المتوفى سنة "214هـ" "829م"4، وغيرهما. ثم إن الذين تناولوها لم يكن لهم علم بأكثر اللغات التي رجعوا أصولها إليها، ولا سيما اللغات الأعجمية مثل الرومية، والسريانة، والنبطية، والحبشية. غير أن من الجائز أن يكون هؤلاء قد سمعوا عنها من الأعاجم الذين دخلوا في الإسلام. ولكن طريقة السماع هذه لا تكفي لإعطاء حكم على أصل لغة، بل لا بد من وجود علم ومعرفة بقواعد تلك اللغة وتأريخها وتطورها، والإحاطة بالعلاقات التأريخية بين العرب وغيرهم قبل الإسلام لمعرفة كيفية دخول تلك الكلمات إلى العرب، وإيجاد وجه صحيح للمقارنة بين اللغتين وهذا ما لم يحدث في تلك الأيام.

_ 1 راجع بعض الأمثلة في "ص7" من كتاب المصاحف: للسجستاني "تحقيق أرثر جفري"، "القاهرة 1936م". 2 السيوطي، إتقان "1/ 229 وما بعدها". 3 طبع مع كتاب الديريني المسمى "التيسير في علم التفسير"، في القاهرة سنة 1910هـ، ومع تفسير الجلالين المطبوع في القاهرة كذلك سنة 1356هـ. 4 الفهرست "55".

ولما كانت قراءة عبد الله بن مسعود من القراءات المشهورة المعروفة، وكان عبد الله بن مسعود من قبيلة هُذيل1، وجب علينا البحث في لهجة هذيل لمعرفة خصائصها ومميزاتها وما انفردت به عن غيرها من اللهجات. وهذيل من القبائل التي عرفت بجودة لهجتها، في تدوين القرآن الكريم2. ولذلك رأى الخليفة عثمان أن يكون المملي من هذيل والكات من ثقيف. وقد ذكرت لهجتها في جملة اللهجات التي نص عليها في الحديث المذكور على نحو ما أشرت إليه، كما أخرجت عددًا من الشعراء جمع بعض العلماء أشعارهم في ديوان، وقد طبع في القاهرة ديوان شعراء هذيل3. ويفيدنا شعر هؤلاء الشعراء بالطبع في الوقوف على لهجة هذه القبيلة. ولكن هذا الشعر هو مثل شعر سائر الشعراء الجاهليين الآخرين، مصقول مهذب، هذّب على وفْق قواعد اللغة العربية التي ضبطت في الإسلام، ثم هو مضبوط برواية رواة هم في الأغلب من غير هذيل. ولهذا قلما نجد في شعر هؤلاء الشعراء وغيرهم ما يختلف عن قواعد اللهجة العربية، حتى أننا لا نستطيع في هذه الحالة أن ندعي أن هذا الشعر هو بلهجة هذيل. وقد حرمنا العقلُ الوقوفَ على لهجات القبائل التي أخرجت أولئك الشعراء ومعرفة مؤثراتها في شعر أولئك الشعراء. ومن أهم الأمثلة التي أوردها العلماء في قراءة "ابن عباس" مما له علاقة باللهجات، قراءته كلمة "حتى" "عتى" في الآية: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} 4. وقد ذكر المفسرون وعلماء اللغة أن هذه القراءة هي بلهجة هذيل5، وأن "عتى" هي "حتى" عند هذه القبيلة؛ ذلك لأن هذه القبيلة تستعمل حرف العين بدلًا من الحاء في لهجتها6. ولم يشر

_ 1 طبقات ابن سعد "1/ 15"، "3/ 105"، عيون الأخبار "373". Ency., 2, 403, Goldziher, Vorlessungen, S., 65 2 الصاحبي "28"، "وقال عمر: لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف. وقال عثمان: اجعلوا المحلي من هذيل، والكاتب من ثقيف"، Rain, P. 79 3 الخصائص "1/ 130"، ديوان الهذليين: القاهرة 1945، مطبعة دار الكتب المصرية. 4 سورة يوسف الرقم12، آية35. 5 البيضاوي "1/ 460"، ابن مالك، التسهيل "57". 6 المزهر "1/ 133"، "1/ 222"، "القاهرة 1958م"، "الباب الحادي عشر"، Rabin, P. 84

العلماء إلى موضع أخرى استعمل "ابن مسعود" فيها كلمة "عتى" في موضع "حتى" الواردة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كما أننا لم نجد في كتب اللغة المتقدمة إشارة إلى استبدال هذيل حرف العين بحرف الحاء. ونظرية "فحفحة" هذيل، رأي متأخر لم يقرن بأدلة وأمثلة، فهو رأي لا يمكن الأخذ به1. وأظن أن هذه القراءة المنسوبة إلى "ابن مسعود"، هي من القراءات المتولدة من حدوث اشتباه في القراءة، من جراء عدم حصول التمييز بين "العين" و"الحاء" في "حتى". ووقوع الاشتباه بين الحرفين في ابتداء الكلمات، أمر ليس بصعب، وإلا فَلِمَ انفرد ابن مسعود في هذا الموضع فقط، باستعمال "عتى"، ولم يستعملها في المواضع الأخرى وهي كثيرة في القرآن الكريم؟ نعم، لقد ورد في روايات أن ابن مسعود قرأ "نحم" بدلًا من "نعم" في القرآن الكريم2،وأنه قرأ "بُحثرَ" عوضًا عن "بُعْثرَ"3. وهذه الروايات تناقض الروايات السابقة التي تزعم أنه قرأ "عتى" في موضع "حتى" في الآية المذكورة، إذ نجده في هذه الروايات يقرأ "العين" حاء، أي: عكس تلك القراءة المنسوبة إليه. ثم إنّ المفسرين وعلماء القراءات، لم يشيروا إلى قراءات أخرى له من هذا النوع قلب فيها حرف العين حاء مع تعدّد ورود حرف العين في القرآن الكريم. وهناك روايات تفيد أن أسدًا وتميمًا استعملوا حرف الحاء في موضع العين في بعض الحالات، فقالوا: "مَحَهُمْ" بدلًا "معَهُم" و"أأحهد" في موضع "أأعهد"4. ولكنها لم تشر إلى أمثلة أخرى من هذا القبيل. وهذان المثالان لا يكفيان بالطبع لإعطاء حكم في هذا الإبدال عند القبيلتين. ولكن هنالك رواية متأخرة لا نعرف مرجعها تفيد أن هذا الإبدال واقع في لهجة سعد بن بكر، وهي قبيلة تقع مواطنها في شمالي المدينة5. ولكن ما صلة ابن مسعود بهذه القبيلة وهو

_ 1 Rabin, P. 85 2 المغني "2/ 25". 3 {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور} ، العاديات، الرقم100، الآية9، Rabin, p. 85. Beck, in Orientalia, vol., XV, 182 4 Rabin, P. 85 5 المصدر نفسه.

من هذيل؟ هل نفترض أنه أخذ قراءته تلك من أفواه رجال هذه القبيلة؟ إذا أخذنا بهذا الظنّ، وجب علينا إثبات ذلك بدليل، وذكر أسماء الصحابة الذين أخذ ابن مسعود منهم قراءته. ويجب حينئذ رَجعُ تلك القراءة إلى أولئك الصحابة لا إلى ابن مسعود. والواقع أننا لا نستطيع أبدًا الإتيان بدليل ما يثبت استعمال هذيل حرف العين في كلامها في موضع الحاء وبالعكس. ورأيي أن ما نسب إلى ابن مسعود في هذه القراءة أو القراءات الثلاث، سببه وهمٌ وقع فيه مَنْ نسب تلك القراءة إليه، وهو ناتج من كتابة المصحف المنسوب إليه. وإلا، فلا يعقل أن يقتصر ابن مسعود على هذه القراءة أو القراءات التي هي ليست من لهجة أهل مكة ولا أهل يثرب ولا هذيل، ثم يترك سائر المواضع. ولا يعقل كذلك تلفظ الرسول بهذه اللهجة الشاذة التي لا نعرف من كان يستعملها على وجه ثابت، وقد نزل القرآن بأفصح اللهجات. وإلى أمثال هذه القراءات الشاذة، التي يجب نقدها وتمحيصها بعناية، استند "كارل فولرس" في نظريته القائلة بحدوث تغيير في نص القرآن الكريم. وهي نظرية لم يُقرّها عليه بعض كبار المستشرقين. ولو فحصت ودققت لتبين أنها بنيت على روايات لا تثبت أمام التمحيص، أخذها لمجرد ورودها في الكتب. ولكن ليس كل ما يرد في الكتب بأمر مسلم به. وقد بحث العلماء في اللغات التي وقعت في القرآن بغير لغة قريش، وفي جملتها لغة حمير، ورجعت إلى بحوثهم، فوجدت أن ما نسب إلى الحميرية من كلمات، لا يحمل طابع الحميرية، وليس من لغة العرب الجنوبيين بشيء. وقل مثل ذلك عن لغة "جرهم"، فقد دوّنوا ألفاظًا زعموا أنها وردت بلغة "جرهم"، ونحن نعلم من أقوال أهل الأخبار أنفسهم أن "جرهمًا" كانوا من الشعوب العربية البائدة التي هلكت قبل الإسلام بزمن طويل. وقد ماتت لغتهم معهم بالطبع، فكيف تمكن العلماء من تشخيص هذه الألفاظ ومن إرجعاها إلى جرهم؟ وقد وجدت أيضًا أن ما ذكروه من أمثلة أخرى على لغات القبائل التي وردت ألسنتها في القرآن هو من هذا القبيل، ولا سيما القبائل الهالكة مثل "مدين"، فالعلماء الذين شخصوا تلك اللهجات التي زعموا أنها وردت في القرآن، يذكرون أن بعض أصحاب هذه اللهجات هم من العرب البائدة، فهم ممن ماتوا وبادوا، وماتت

لغتهم بموتهم، فما يذكرونه من ألفاظ لغاتهم الواردة في القرآن، هو مما لا أصل له إذن. ثم إنهم نسبوا ألفاظًا إلى "حمير"، وجدنا أنها ليست حميرية أبدًا، أضف إلى ذلك أنهم لم يدرسوا العربيات الجاهلية دراسة علمية، ولم يكن لهم علم بها، ولهذا فما ثبتوه ودوّنوه عن اللغات العربية في القرآن، لا يمكن الأخذ به، لأنه لا يستند على علم بالموضوع، ولا على دراسات لتلك اللهجات. ومن أمثلة ما ذكروه على أنه من لسان "حمير"، الأرائك، ولا وزر، بمعنى لا جبل، وحور، ولهو، بمعنى: المرأة، ولا تفشلا، وعثر، وسفاهة، وزيلنا، ومرجوا، وإمام. وغير ذلك1، وذكروا أن "باءوا"، وشقاق، وخيرًا وكدأب، وأراذلنا، ولفيفا، وغير ذلك من لغة جرهم2، وهي كلها من تخرصات من نسبها إلى جرهم، لما قالوه أنفسهم من هلاك جرهم قبل الإسلام بزمان طويل، فمن أبلغهم إذن أن هذه الألفاظ من ألفاظ جرهم، ولِمَ نزلت في القرآن، وقد نزل الوحي للأحياء وليس للأموات! وقد ذهب البعض مذهبًا بعيدًا في اللغات الواردة في القرآن، فذهب إلى أن "غساق"، بمعنى المنتن بلسان الترك، وهو بالطخارية3، وأن "سيدها" زوجها بلسان القبط، وأن "الأرائك" بالحبشية، وأن "سبحى" بلسان الحبشية، وأن "الجبت" الشيطان بلغة الحبش، وأن "حرم" بمعنى وجب بالحبشة، وأن "سكر"، بمعنى الخَلّ بلغة الأحباش، وأن "سينين" بمعنى الحسن بلسان الحبشة، وأن "شطر" حبشية، وأن "العرم" حبشية، وأن "قنطار" بلسان أهل إفريقية، إلى غير ذلك من ألفاظ4. ونجد رواية تذكر أن الصحابة لما تشاوروا في أمر تسمية القرآن، ما يسمونه؟ "فقال بعضهم: سموه السفر، قال: ذلك اسم تسمية اليهود، فكرهوه، فقال: رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف"5، فجعلوا اللفظة حبشية.

_ 1 المزهر "2/ 93 وما بعدها". 2 المزهر "2/ 95 وما بعدها". 3 الإتقان "2/ 115". 4 الإتقان "2/ 109 وما بعدها". 5 السيوطي، الإتقان "1/ 166".

ولو درسنا الألفاظ المعربة المذكورة، نجد أن العلماء قد أخطأوا في تشخيصها وخلطوا في الغالب بين أصولها، بسبب أنهم لم يكونوا يحسنون اللغات الأعجمية، ما عدا الفارسية، وأنهم لم يراجعوا أهل العلم والتخصص في اللغات الأعجمية، من رجال الدين من أهل الكتاب، أو المتبحرين بالأدب من الروم والسريان، بل اكتفوا بمراجعة أيًا كان ممن كانوا يعرفونهم من نصارى ويهود، وحيث أنه لم يكن لدى هؤلاء علم المتبحرين في الدين والأدب، جاءت أجوبتهم فجة أو مغلوطة، ودوّنت على هذه الصورة. ونظرًا لعدم وقوف العلماء على اللغات العربية الجنوبية، جعلوا ألفاظًا عربية واردة في القرآن مثل "العرم" لفظة حبشية1، مع أنها لفظة عربية جنوبية، مدوّنة في النصوص، وجعلوا ألفاظًا أخرى من هذا القبيل، من الألفاظ المعربة عن لغات أعجمية. وقد اتخذ بعض العلماء حديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، دليلًا على نزول القرآن بلغة قريش، فقد قالوا: إن الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن واقعة كلها في لغة قريش، ذلك أن قريشًا كان قد داوروا بينهم لغات العرب جميعًا وتداولوها، وأخذوا ما استملحوه من هؤلاء وهؤلاء في الأسواق العربية ومواسمها، وأيامها ووقائعها، وحجها وعمرتها، ثم استعملوه وأذاعوه، بعد أن هذبوه وصقلوه. وبهذا كانت لغة قريش مجمع لغات مختارة منتقاة من بين لغات القبائل كافة، وكان هذا سببًا من أسباب انتهاء الزعامة إليهم، واجتماع أوزاع العرب عليهم، ومن هنا شاءت الحكمة أن يطلع عليهم القرآن من هذا الأفق، وأن يطل عليهم من سماء قريش2. وهو استنتاج غير مقنع، لما أورده العلماء أنفسهم من أقوال وتفسير للحديث المذكور، ولما أوردوه من أن الصحابة من قريش، كان يشكل عليهم اللفظ من القرآن مثل "أبا" فيسألون عنه، لأنه لم يكن من لغة قريش. فقد ذكروا أن "عمر"، قرأ {عَبَسَ وَتَوَلَّى} حتى أتى على هذه الآية: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} ، فقال: قد علمنا الفاكهة فما الأب. ثم قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا

_ 1 الإتقان "2/ 109". 2 الزرقاني، مناهل العرفان "183".

لهو التكلف. وذهب البعض إلى أن المراد من اللفظة ما أنبتت الأرض للأنعام، وذكر بعض العلماء أنها بلغة الحبش1. وذكروا أشياء أخرى من هذا القبيل، تعارض قبول هذا الاستنتاج. والذي أراه أن نص القرآن يعارض حديث الأحرف السبعة، ففيه: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 2، وفيه: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 3 وفيه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فليس للرسول أن يغير أو يبدل ما نزل به الوحي عليه، ثم إنه كان لا ينتهي من الوحي، حتى يأمر من يكون عنده بتدوينه بلسانه حال نزوله عليه، وإذا لم يكن هناك كاتب أمر من يستدعي له كاتبًا ليدونه، فكيف يتفق ذلك مع هذا الحديث، ومع الأمثلة التي ذكروها في القراءات؟ ورد أن الرسول علم "البراء بن عازب" دُعاء فيه: "ونبيك الذي أرسلت"، فلما أراد البرّاء أن يعرض ذلك الدعاء على رسول الله قال: "ورسولك الذي أرسلت"، فلم يوافقه النبي على ذلك، موضع لفظة نبي، مع أن كليهما حق لا يحيل معنى، إذ هو رسول ونبي معًا، فكيف كان يُجيز أن يوضع في القرآن مكان عزيز حكيم، غفور رحيم، أو سميع عليم، وكيف نقبل هذه الرواية التي تذكر أن "عبد الله بن مسعود" أقرأ رجلًا كلمة "الفاجر" بدلًا من كلمة الأثيم في الآية: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ، طَعَامُ الْأَثِيمِ} 4، مع ورود المنع عن تغيير أي حرف من حروف القرآن، وهل يعقل قيام "ابن مسعود" بذلك وسكوت الصحابة عن عمله، لو صحّ أنه فعل ذلك. ولو كان القرآن قد نزل بلغة قريش وحدها، فلمَ كان الصحابة من قريش مثل "أبو بكر" و"عمر" وغيرها، يتحيرون في تفسير ألفاظ وردت فيه، أو يلجأون إلى الشعر يستعينون به في تفسير القرآن، والشعر هو شعر العرب، لا شعر قريش وحدها. قال "ابن عباس" "إن الشعر ديوان العرب"، وكان

_ 1 عبس، الآية31، تفسير الطبري "30/ 38"، الإتقان "2/ 108". 2 البروج، 85، الآية22. 3 يونس، 10، الآية15. 4 الزرقاني، مناهل العرفان "181 وما بعدها".

إذا سئل عن عربية القرآن أنشد الشعر1، وقال: "إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله، فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعرًا"2. قال "ابن قتيبة": "العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه بل لبعضها الفضل في ذلك على بعض، والدليل عليه قول الله عزّ وجلّ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} 3 ويدل عليه قول بعضهم: يا رسول الله: إنك لتأتينا بالكلام من كلام العرب ما نعرفه، ونحن العرب حقًّا. فقال: "إن ربي علمني فتعلمت".

_ 1 مقدمتان في علوم القرآن "198 وما بعدها". 2 العمدة "1/ 30". 3 القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية.

الفصل التاسع والثلاثون بعد المئة: العربية الفصحى

الفصل التاسع والثلاثون بعد المئة: العربية الفصحى نطلق اليوم على العربية التي ندوّن بها أفكارنا: "العربية الفصحى"، وهي كما نعلم لغة الفكر والإدارة في العالم العربي. والعربية الفصحى، هي لغة الفصاحة والبيان، ومدار تركيب الفصاحة على الظهور والإبانة. يقال: أفصح، إذا تكلم بالفصاحة. وفصح الأعجمي فصاحة، إذا تكلم العربية وفهم منه1. وهي اللغة العربية العالية التي لا تدانيها لغة عربية أخرى من اللغات العربية الباقية، واللسان الذي يحاول أن ينطق به كل مثقف مهذب، وأن يؤلف ويعبر عن مراده به. وعرفت العربية الفصيحة بالعربية العالية، وكان علماء اللغة إذا وسموا كلمة بسمة الفصاحة، قالوا: كلمة فصيحة، وكلمة عالية، وإذا وسموها بالضعف وبالركاكة، قالوا: ليست بعربية فصيحة، أو ليست بالعالية. "قال ابن سيده: أشكد لغة ليست بالعالية"2. وقالوا في "لغة رديئة"، وقالوا: "وهي لغة أهل العالية"3. "والعالية ما فوق أرض نجد إلى تهامة وإلى ما وراء مكة، وهي الحجاز وما والاها وقيل: عالية الحجاز، أعلاها بلدًا وأشرفها موضعًا وهي بلاد واسعة، والمسمى بالعالية: قرى بظاهر المدينة المشرفة، وهي العوالي،

_ 1 تاج العروس "2/ 197"، "فصح". 2 تاج العروس "2/ 390"، "شكد". 3 تاج العروس "2/ 228"، "ملح".

وأدناها من المدينة على أربعة أميال وأبعدها من جهة نجد ثمانية، والنسبة إليها عالي على القياس، ويقال أيضًا: علوي بالضم، وهي نادرة على غير قياس"1. وعرفت هذه العربية العالية بالعربية المبينة، دعيت بذلك، لأن "إسماعيل" أول من فتق لسانه بها، فأبان وأفصح2، وأرى أنها إنما نعتت بذلك، من القرآن الكريم، ففيه {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3، و {هَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 4. وقصد العلماء من قولهم: "ليست بالعالية"، بمعنى ليست بفصيحة، ولم يقصدوا النسبة إلى "العالية" التي هي الأرض المذكورة. غير أننا نجدهم أحيانًا يقصدون بها أهل العالية، فنرى "الطبري" يذكر في تفسيره في قراءة "فيسحتكم": "والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. غير أن الفتح فيها أعجب إليّ، لأنها لغة أهل العالية وهي أفصح، والأخرى وهي الضم في نجد"5. والعالية ما فوق أرض نجد إلى أرض تهامة وإلى ما وراء مكة. وهي الحجاز وما والاها "وقيل: عالية الحجاز أعلاها بلدًا وأشرفها موضعًا، وهي بلاد واسعة، والمسمى بالعالية قرى بظاهر المدينة المشرفة، وهي العوالي". "وعليا مضر بالضم أعلاها، وقيل: قريش وقيس، وما عداهم سفلى مضر"6. ونجد علماء العربية يستعملون مصطلح: "وليس بالعالي"، أو "ليس في اللغة العالية"، و"الفصيح"، أو"والفصحاء يقولون"7، في تقييم الكلم، كما استعملوا: "وليس بالمعروف"، أو"والأول أعلى"، و"لغة مجهولة"، أو "متروكة"، أو و"يحتمل أن يكون من أمثلة المنكر"، و"كلام قديم قد ترك"، و"وهذا لا يعرف في أصل اللغة، أو و"المعروف"8، وأمثال ذلك من مصطلحات للتعبير عن درجة الكلمة ومكانتها

_ 1 تاج العروس "10/ 250"، "علا". 2 المزهر "1/ 81". 3 الشعراء، الرقم 26، الآية195. 4 النحل، الرقم16، الآية103. 5 تفسير الطبري "16/ 136". 6 تاج العروس "10/ 250 وما بعدها"، "علو". 7 المزهر "1/ 215 وما بعدها". 8 المزهر "1/ 214 وما بعدها".

في مقاييس علماء اللغة من حيث الفصاحة والركاكة وما بينهما من درجات. والفصيح في نظر علماء العربية "ما كثر استعماله في ألسنة العرب ودار في أكثر لغاتهم، لأن تكراره على الألسنة المستقلة بطبيعتها في سياسة المنطق دليلٌ على تحقيق المناسبة الفطرية فيه"1. ويسوقنا البحث في موضوع اللغة العربية الفصحى إلى التفكير في موضوع له صلة وثيقة بهذا الموضوع، بل هو في الواقع جزء منه، هو: لغة الأدب عند الجاهليين، وهل كان لأهل الجاهلية لسان عربي واحد مبين، استعملوه في التعبير عن عواطفهم شعرًا أو نثرًا؟ وإذا كان لهم ذلك اللسان، فهل كان فوق سائر لهجاتهم المحلية أو لهجات القبائل المتعددة؟ أو أنه كان لهجة خاصة؟ وإذا كان لهجة عالية خاصة، فلهجة من يا ترى كانت هذه اللهجة؟ وبأي موطن ولدت؟ وهل كانت لهجة عامة مستعملة عند العرب عامة، من عرب جنوبيين وعرب شماليين، أو أنها كانت لهجة خاصة بالعرب الشماليين؟ ثم هل كانت هذه اللهجة هي العربية التي نزل بها القرآن، أم كانت عربية أخرى لا صلة لها بها؟ أماتها الإسلام كما أمات أمورًا من أمور الجاهلية لصلتها بالوثنية، وأحل محلها لغة القرآن، لغة قريش؟ ثم هل كانت هذه العربية، هي عربية الشعر، بمعنى أن الشعراء كانوا إذا أرادوا النظم، نظموا شعرهم بهذه اللغة العالية، متجاهلين لغتهم القبلية، لأنها لغة الأدب الرفيع، وبها كان يخطب الخطباء؟ لقد عُني عدد من المستشرقين بالإجابة عن أمثال هذه الأسئلة. فكتب "نولدكه"، رأيه في الموضوع في كتابه: تأريخ القرآن في باب القراءات واللهجات التي نزل بها القرآن الكريم، كما تطرق إليه أيضًا في أثناء كلامه على الشعر الجاهلي ولغة الأدب عند الجاهليين، وخلاصة رأيه أن الفروق بين اللهجات في الحجاز ونجد ومناطق البادية المتاخمة للفرات لم تكن كبيرة، وأن اللهجة الفصيحة شملت جميع هذه اللهجات2. وذهب "غويدي" إلى أن اللغة الفصحى هي مزيج من لهجات تكلم بها أهل نجد والمناطق المجاورة لها، ولكنها لم تكن لهجة معينة لقبيلة معينة3.

_ 1 المزهر "1/ 126". 2 Noldeke, Geschichte des Korans. Zweite Auflage, Erste Teil, S. 42, Neue Beitrage zur Semitischen Sprachwissenschaft, Strassburg, 1910, s. I -14. 3 Guidi, Mix. Ling, Torino, 1901, p. 323.

ورأى "نلينو"، أن العربية الفصحى تولدت من إحدى اللهجات النجدية، وتهذبت في مملكة كندة وفي أيامها، فأصبحت اللغة الأدبية السائدة. وعزا سبب ذلك إلى ملوك هذه المملكة الذين أغدقوا على الشعراء وشجعوهم مما كان له وقع في نفوسهم، ثم إلى توسع رقعة هذه المملكة التي ضمت أكثر قبائل معدّ، وكان لها فضل توحيد تلك القبائل وجمع شتاتها، فشاعت هذه اللهجة على رأيه في منتصف القرن السادس للميلاد، وخرجت خارج نجد، وعمّت معظم أنحاء الجزيرة ولا سيما القسم الجنوبي من الحجاز الذي فيه يثرب ومكة والطائف، مع بقاء اللهجات العامية في منطق الناس المعتاد، وكان للعواصم المشهورة ولملوك الحيرة وغسان شأن لا ينكر في هذا الانتشار السريع العجيب1. وذهب "هارتمن" "Hartmann" و"فولرس" "Vollers" إلى أن العربية الفصحى هي لهجة أعراب نجد واليمامة، غير أن الشعراء أدخلوا عليها تغييرات متعددة2. وذهب "لندبرك" "Landburg" إلى أن الشعراء هم الذين وضعوا قواعد هذه اللهجة، وعلى قواعدهم سار المتأخرون، ومن شعرهم استخرجت القواعد، ومن قصائدهم تلك استنبط العلماء أصول النحو. وزعم "فولرس"، أن القرآن لم ينزل بلغة أعراب نجد واليمامة، وإنما نزل بلغة أهل مكة، أي: لغة قريش، وهي لغة لم تكن معربة، وإنا كانت لغة محلية، فلما دوّنت قواعد العربية وثبتت طبق الإعراب على القرآن، وصقلت لغة قريش وفقًا لهذه القواعد. ولم يعين "فيشر" اللهجة التي نبعت منها العربية الفصحى، غير أنه رأى أنها لهجة خاصة3. ولـ "بروكلمن" و"ويتزشتاين" آراء في نشوء هذه اللغة وتطورها، ولكنهما لم يتحدثا عن علاقتها ببقية اللهجات4. ذهب "بروكلمن" إلى أن لغة الشعر الجاهلي لا يمكن أن يكون الرواة والأدباء

_ 1 الهلال، السنة السادسة والعشرون، أكتوبر 1917، "ص47 وما بعدها"، جواد علي، في كتاب الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة. 2 Vollers, Volkssprache, S. 184. 3 Rabin, p. 17. 4 Rabin, p. 17.

اخترعوها على أساس كثرة من اللهجات الدارجة، ولكن هذه اللغة لم تكد تكون لغة جارية في الاستعمال العام، بل كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات، وإن غذتها جميع اللهجات1. وذهب "برجيه" إلى أن العربية كانت لهجة قبلية صغيرة وصلت في وقت من الأوقات بفضل ظروف محلية إلى درجة من الكمال خارقة للعادة، هي مدينة بانتشارها إلى الإسلام2. و"ريجيس بلاشير" من المستشرقين الذين أيدوا رأي من ذهب إلى وجود لغة عالية عند أهل الجاهلية، فقال: "إن وجود لهجات ولغة عليا ليس فيه شيء مخالف للعادة، كما أن نموّ لهجة شعرية ليس فيه أيضًا شيء خارق"3. واللغة المذكورة لهجة شعرية تنطبق على اللهجات المحلية، بل هي امتداد لها، "وهي في الجملة موضوعة للأغراض النبيلة والتعبير الفني عن بعض أنواع التفكير"، لها خصائص اللهجات في وسط الجزيرة وشرقيها، ولم تكن هذه اللهجة العالية قاصرة في الاستعمال على أهل جزيرة العرب، بل كانت لغة الشعر أيضًا عند عرب العراق وعرب بلاد الشأم. ولهذا كان الشعر مفهومًا عند جميع الجاهليين، أينما كانوا: سواء كانوا في جزيرة العرب، أم في العراق وفي بلاد الشام. وكانت الفوارق بين هذه اللهجة وبقية اللهجات تختلف تبعًا للمجموعات اللغوية. فالفارق ضئيل بينها وبين لهجات أواسط جزيرة العرب وشرقيها، ولها خصائص الأقسام الشرقية والوسطى من جزيرة العرب. وكان الشاعر، ينزع دومًا إلى الابتعاد عن مؤثرات لهجته القبلية، والارتفاع عنها، إلى لغة الشعر المتعارفة بين الجاهليين آنذاك، لكونها اللغة الرفيعة في نظر أهل الجاهلية، وكانت تدل على تهذيب الشاعر وسمو مداركه وثقافته4. ويرى "بلاشير" أن علماء اللغة والنحو حين أخذوا بضبط قواعد اللغة، غربلوا اللهجات، وتوغلوا بين الأعراب مدفوعين بعقلية تنهيج وتنقية اللغة مما أدى بهم

_ 1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 42". 2 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "86". 3 تأريخ الأدب العربي "88"، "تعريب إبراهيم كيلاني". 4 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "87 وما بعدها".

إلى توحيد لغتي القرآن والشعر الجاهلي، في الوقت الذي نظموا فيه واستخرجوا قواعد العربية الفصحى، مما أدى إلى إضاعة أشياء قليلة من اللهجة الشعرية الجاهلية في سبيل التوفيق بينها وبين لغة القرآن. وما العربية الفصحى الحالية إلا لهجة ولدت من لغة الشعر ولغة القرآن، والقرآن والشعر الجاهلي المضبوط في شكله الحاضر لا يمثلان اللغة الشعرية في شكلها القديم، وإنما يبتعدان بعض الابتعاد عن تلك اللهجة، بسبب ما فعله علماء النحو والصرف، في تلك اللهجة من تشذيب وتهذيب لتلتئم مع لغة القرآن ومع قواعدها وقواعد لغة الشعر التي رسخها علماء اللغة. وأما رأي علماء العربية، فخلاصته أن لغة قريش هي الأصل، "وإنما صارت لغتهم الأصل، لأن العربية أصلها إسماعيل عليه السلام، وكان مسكنه مكة"1. وعندهم أن العربية قحطانية وحميرية وعربية محضة، وبهذه الأخيرة نزل القرآن، وقد انفتق بها لسان إسماعيل2، وهي العربية الفصحى، لسان إسماعيل، ألهم بها إسماعيل إلهامًا3. رووا عن "عمر" أنه قال: "يا رسول الله، ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: "كانت لغةُ إسماعيل قد دَرست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها، فحفظتها" 4. وهم يقولون: إن "أول من تكلم بالعربية إسماعيل بن إبراهيم"، أو أن "أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيل بن إبراهيم"، بل تجاوز بعض منهم، وبالغ حتى زعم أن "العرب كلها ولد إسماعيل، إلا حمير وبقايا جرهم"، وأن العربية الصحيحة الفصيحة هي العربية التي نزل بها القرآن، أما لسان حمير وأقاصي اليمن، فليس "بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"5. ورأيهم أن قريشًا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وأنقاهم لسانًا، "وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قطّان حرمه، وولاة بيته، فكانت وفود العرب من

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 80". 2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 80". 3 المزهر "1/ 32 وما بعدها". 4 المزهر "1/ 34 وما بعدها". 5 ابن سلام، طبقات "4 وما بعدها".

حُجّاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش، مع فصاحتها وحسن لُغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم؛ فاجتمع ما تخيّروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها؛ فصاروا بذلك أفصح العرب. ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عَنعَنة تميم، ولا عجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا كَسْر أسد وقيس"1. "وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف: كانت قريش أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عمّا في النفس"2. وقال ابن خلدون: كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، فصانها بعدها عن الأعاجم من الفساد والتأثر بأساليب العجم، حتى عن سائر العرب على نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية3. وروي أن "معاوية" قال يومًا: "من أفصح الناس؟ فقال قائل: قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات، وتيامنوا عن عنعنة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليست لهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. قال: من هم؟ قال: قريش"4. وقال "ثعلب": "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، وعجرفية ضبّة، وتلتلة بهراء"5. وورد كلام "معاوية" مع الأعرابي على هذه الصورة: أن "معاوية" قال: أي الناس أفصح؟ فقام رجل فقال: قوم ارتفعوا عن فراتية العراق،

_ 1 المزهر "1/ 209 وما بعدها"، "الفصل الثاني في معرفة الفصيح من العرب"، الصاحبي في فقه اللغة "52"، "تحقيق مصطفى الشويمي". 2 المزهر "1/ 211". 3 ابن خلدون، مقدمة "409"، "الفصل الثاني والثلاثون من الفصل السادس". 4 البيان والتبيين "3/ 213". 5 مجالس ثعلب "81"، المزهر "1/ 211"، ابن جني، الخصائص "411"، الصاحبي "44"، الخزانة "4/ 595 وما بعدها.

وروي: لخلخانية العراق، وتياسروا عن كشكشة بكر، وتيامنوا عن كسكسة تميم، ليست فيهم غمغمة قضاعة، ولا طمطمانية حمير. قال: من جرم"1. واللخلخانية اللكنة في الكلام، والغمغمة: ألا يبين الكلام، والطمطمانية: العجمة. "قال الأصمعي: وجرم: فصحاء العرب. قيل: وكيف وهم من اليمن؟ فقال: لجوارهم مضر"2 فمضر هم أهل الفصاحة على رأيه. ورووا "عن أبي بكر الصدِّيق، رضي الله عنه، أنه قال: قريش هم أوسط العرب في العرب دارًا، وأحسنه جوارًا، وأعربه ألسنة. وقال قتادة: كانت قريش تجتبي -أي: تختار- أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتها لغتها، فنزل القرآن بها"3. وقد استدلوا نزول القرآن بلغة قريش بأدلة أخرى، منها قول عمر: "لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف"4. وزعموا أن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردّوه منها كان مردودًا، فقدم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم. فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته: طحا بك قلبٌ في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر"5. فما كان علقمة ولا غيره ليكلف نفسه مشقة الذهاب إلى قريش، وإلى سوق عكاظ، لو لم تكن لغتها أفصح لغات العرب وأعذبها وأسلسها، ولو لم يكن لها علم بالشعر يفوق علم غيرها به. وزعموا أيضًا أن العرب كانوا في جاهليتهم يقول الرجل منهم الشعر فلا يعبأ به ولا ينشده أحد، حتى يأتي مكة في موسم الحج، فيعرضه على أندية قريش فإن استحسنوه روى، وكان فخرًا لقائله وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى

_ 1 الفائق "2/ 459". 2 المصدر نفسه. 3 اللسان "1/ 588"، "عرب". "طبعة دار صادر"، تاج العروس "1/ 374"، "عرب". 4 الصاحبي "57 وما بعدها". 5 الأغاني "12/ 112".

ينظر إليه، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما يذهب. وقال "أبو عمرو بن العلاء: كانت العرب تجتمع في كل عام، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش1. وكان العرب يعلقون أشعارهم بأركان الكعبة، كما فعل أصحاب المعلقات السبع، وإنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من له قدرة على ذلك بقومه وبعصبيته ومكانه في مضر2. فقريش أفصح العرب، ومعدن الفصاحة ومركزها وينبوعها، ثم من جاورهم وقاربهم، ثم من جاء بعد هؤلاء، فكلما بعد قوم عن قريش، بعدت لغتهم عن الفصاحة، ولهذا كان احتجاج علماء اللغة بلغات العرب على نسبة بعدهم عن قريش، "فاعتبروا لغة قريش أفصح اللغات وأصرحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف، وهذيل، وخزاعة، وبني كنانة، وغطفان، وبني أسد، وبني تميم. ثم تركوا الأخذ عمن بعُد عنهم من ربيعة، ولخم، وجذام، وغسان، وإياد، وقضاعة، وعرب اليمن، لمجاورتهم الفرسَ، والروم، والحبشة"3. وأما رأي المحدثين من علماء العربية عندنا، فهو رأي الموافق المؤيد. هذا الدكتور "طه حسين" يقول في كتابه: "في الأدب الجاهلي": "أما أن هذه اللغة العربية الفصحى التي نجدها في القرآن والحديث وما وصل إلينا من النصوص المعاصرة للنبي وأصحابه لغة قريش، فما نرى أنه يحتمل شكًّا أو جدلًا؛ فقد أجمع العرب على ذلك بعد الإسلام، واتفقت كلمة علمائهم ورواتهم ومحدثيهم ومفسريهم على أن القرآن نزل بلغة قريش، أو قل على أن هذا الحرف الذي بقي لنا من الأحرف السبعة إنما هو حرف قريش. وقد يكون من التكلف والتحذلق أن يجمع العرب كافة على أن لغة القرآن هي لغة قريش. وألا يظهر في العصر الإسلامي الأول ولا في أيام بني أمية ولا في أيام بني العباس من ينكر هذا أو يجادل فيه رغم ما كان من الشعوبية الأعجمية ومن الشعوبية الحميرية ومن الخصومات السياسية بين قريش وغيرها من قبائل مضر، ثم يزعم زاعم أن هذه

_ 1 خزانة الأدب "1/ 87". 2 مقدمة ابن خلدون "1/ 509"، "115". 3 الرافعي "1/ 259".

اللغة ليست لغة قريش، وإنما هي لغة قبيلة أخرى مهما تكن هذه القبيلة"1. ثم يمضي قائلًا: "فنحن مضطرون أمام هذا الإجماع من جهة، وأمام قرشية النبي من جهة أخرى، وأمام نزول القرآن في قريش من جهة ثالثة، وأمام فهم قريش للفظ القرآن في غير مشقة ولا عنف من جهة رابعة، وأمام اتفاق القرآن في اللغة واللهجة مع ما صح من حديث النبي القرشي ومن الرواية عن أصحابه القرشيين من جهة خامسة، إلى أن نسلم بأن لغة القرآن إنما هي لغة قريش. ستقول: ولكن هذه اللغة قد كانت تفهم في غير قريش من قبائل الحجاز ونجد، ومن هذه القبائل المضري كقيس وتميم، ومنها اليمني كخزاعة والأوس والخزج، بل منها قبائل لم تكن عربية بوجه من الوجوه وهي هذه اليهودية التي كانت تستعمر شمال الحجاز. ولكنك تعرف رأينا في النسب وفي انتماء هذه القبائل إلى اليمن أو إلى مضر. ومع هذا فقد قلنا: إن لغة قريش سادت قبيل الإسلام. ونحن إن فكرنا عرفنا أن سيادة اللغات إنما تتصل عادة بالسيادة السياسية والاقتصادية. فلنبحث عن البيئات الممتازة من الوجهة السياسية والاقتصادية في شمال البلاد العربية قبيل الإسلام. الحق أننا لا نستطيع أن نفكر في هذه السيادة الفارسية في الحيرة أو هذه السيادة الرومية في أطراف الشأم، فقد كانت هناك أسر عربية تمثل هذه السيادة، وكانت لهذه الأسر ضروب من السلطان، ولكن هذه الأسر لم تكن فيما يظهر حجازية، ولم تكن بيئاتها بيئات عربية خالصة، إنما كانت بيئات مختلطة أقرب إلى الأعجمية منها إلى أي شيء آخر. فلم تبق إلا بيئات أربع: بيئة كندية في نجد، ولكن هذه البيئة كانت يمنية إن صح ما زعم الرواة والمؤرخون. وسيادتهم لم تطل ولم يكن لها من الضخامة ما يمكنها من أن تسلط سلطانها السياسي والاقتصادي والديني على شمال البلاد العربية. وبيئة أخرى قرشية في مكة، كان لها سلطان سياسي حقيقي، ولكنه قوي في مكة وما حولها، وهذا السلطان السياسي كان يعتز بسلطان اقتصادي عظيم، فقد كان مقدار عظيم جدًّا من التجارة في يد قريش، وكان هذا السلطان يعتز بسلطان ديني قوي مصدره الكعبة التي كان يحج إليها أهل

_ 1 طه حسين في الأدب الجاهلي "105".

الحجاز وغير أهل الحجاز من عرب الشمال. فقد اجتمع لقريش إذن سلطان سياسي واقتصادي وديني. وأخلق بمن تجتمع له هذه السلطات أن يفرض لغته على من حوله من أهل البادية. وبيئة ثالثة هي بيئة الطائف، كان لها شيء من السلطان الاقتصادي ولكنها لم تكن تداني البيئة المكية. وبيئة رابعة في شمال الحجاز، هذه هي البيئة العربية في يثرب وما حولها. ولكنا نظن أن أحدًا لا يفكر في أن يقول: إن هذه العربية الفصحى كانت لغة هؤلاء الناس من اليهود أو من الأوس والخزرج فضلًا عن أن هذه البيئة على ثروتها وقوتها لم تكن تداني قريشًا فيما كان لها من سلطان. لغة قريش إذن هي هذه اللغة العربية الفصحى، فرضت على قبائل الحجاز فرضًا لا يعتمد على السيف وإنما يعتمد على المنفعة وتبادل الحاجات الدينية والسياسية والاقتصادية. وكانت هذه الأسواق التي يشار إليها في كتب الأدب، كما كان الحج، وسيلة من وسائل السيادة للغة قريش"1. وبعد أن انتهى "الدكتور طه حسين" من إصدار قراره، قال: "ولكن ما أصل لغة قريش؟ وكيف نشأت؟ وكيف تطورت في لفظها ومادتها وآدابها حتى انتهت إلى هذا الشكل الذي نراه في القرآن؟ ". وكان جوابه على هذه الأسئلة قوله: "كل هذه مسائل لا سبيل إلى الإجابة عليها الآن، فنحن لا نعرف أكثر من أن هذه اللغة لغة سامية تتصل بهذه اللغات الكثيرة التي كانت شائعة في هذا القسم من آسيا. ونحن نكاد نيأس من الوصول في يوم من الأيام إلى تاريخ علمي محقق لهذه اللغة قبل ظهور الإسلام. وكيف والقرآن أقدم نص صحيح وصل إلينا في هذه اللغة، ونحن نرى اللغة فيه كاملة متقنة تامة التكوين قد تجاوزت الوجود الطبيعي إلى هذا الوجود الفني الراقي الذي يظهر في الآداب"2. وخلاصة رأي "الدكتور طه حسين" أن عربية قريش هذه، التي نزل بها القرآن الكريم، إنما سادت قبيل الإسلام، ولم تكن سيادتها تتجاوز الحجاز. إذ يقول: "فالمسألة إذن هي أن نعلم: أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده؟ أما نحن

_ 1 في الأدب الجاهلي "106 وما بعدها". 2 في الأدب الجاهلي "107".

فنتوسط ونقول: إنها سادت قبل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين أخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية. ولكن سيادة لغة قريش قبيل الإسلام لم تكن شيئًا يذكر ولم تكد تتجاوز الحجاز. فلما جاء الإسلام عمت هذه السيادة وسار سلطان اللغة واللهجة مع السلطان الديني والسياسي جنبًا إلى جنب"1 وكان المرحوم "مصطفى صادق الرافعي"، قد تعرض لهذا الموضوع وبحث فيه قبل "الدكتور طه حسين"، في كتابه: "تأريخ آداب العرب"، الذي طبعه سنة "1911م"، فذهب مذهب الأسلاف في أن العربية بدأت بـ"إسماعيل" فلما خرج أولاده من ديارهم وانشعبت قبائلهم، تنوعت لهجاتهم، وتباينت ألسنتهم، حتى ظهرت قريش من بينهم، فأخذت وأعطت، وهذبت الألسنة واستخلصت منها أعذبها وأسماها، ثم لا تزال تهذب في اللغة وتشذب حتى بلغت بها الكمال عند ظهور الإسلام، بنزول الوحي بها. وكانت القبائل: "بطبائعها متباينة اللهجات، مختلفة الأقيسة المنطقية المودعة في غرائزها، فكان قريش يسمعون لغاتهم ويأخذون ما استحسنوه منها فيديرون به ألسنتهم ويجرون على قياسه ولو كانوا بادين كسائر القبائل ما فعلوه، ولكن نوع الحضارة الذي اكتسبوه من تأريخهم ألان من طباعهم وكسر من صلابتهم، فاتفقت في ذلك حياتهم اللغوية وحياتهم الاجتماعية القائمة بالتجارة وتبادل العروض مع أصناف الناس. فلما اجتمع لهم هذا الأمر ارتفعت لغتهم عن كثير من مُستبشع اللغات ومستقبحها، وبذلك مرنوا على الانتقاد حتى رقّت أذواقهم، وسمت طبائعهم، وقويت سلائقهم، وحتى صاروا في آخر أمرهم أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس"2. فهذا دور من أدوار تهذيب اللغة وتنقيتها، قامت به قريش، قامت به في مسكنها وموطنها مكة، وقامت بدور آخر، كان آخر الأدوار التي قامت فيها قريش في تهذيب العربية، هو الدور العُكاظي، وهو "حالة من أحوال الحضارة، ولذلك اقتضى الصناعةَ اللسانية، فكان العرب يرجعون إلى منطق قريش، كما

_ 1 في الأدب الجاهلي "105". 2 الرافعي تأريخ آداب العرب "1/ 85 وما بعدها".

كان هؤلاء يبالغون في انتقاد اللهجات وانتقاء الأفصح منها. وهذا هو الدور الأخير من أدوار التهذيب اللغوي إذ يدخل في حالة عامة يشيع فيها المنطق الفصيح وتبلغ بها اللغة درجة عالية من النشوء ليس بعدها إلا موت الضعيف وتحوله إلى شكل أثري لا منفعة منه للمجموع المكوّن على هذه الطريقة، ولكنه يدل على أصل التكوين"1. ثم توّج عمل قريش في تهذيب اللغة بنزول القرآن بلسانها "فإن هذا القرآن لو لم يكن بلسان قريش ما اجتمع له العرب البتة ولو كانت بلاغته مما يميت ويحيي، ثم كانوا لا يُعدون في اعتبارهم إياه أنه ضرب من تلك الضروب التي كانت لهم من خوارق العادات: كالسحر والكهانة وما إليهما، وهو الذي افترته قريشٌ ليصرفوا به وجوه العرب ويميلوا رؤوسهم عن الإصغاء إلى النبي"2. ثم "إن القرآن لو نزل بغير ما ألفه النبي صلى الله عليه وسلم، من اللغة القرشية وما اتصل بها، كان ذلك مغمزًا فيه، إذ لا تستقيم لهم المقابلة حينئذ بين القرآن وأساليبه، وبين ما يأثرونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيهوّن ذلك على قريش، ثم على العرب، فيجدون لكل قبيلة مذهبًا من القول فيه، فتنشق الكلمة، ثم يصير الأمر من العصبية والمشاحنة والبغضاء، إلى حال لا يلتئم عليه أبدًا، ولو أن شاعرًا من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان في الرجاء والاحتمال أن يستجيبوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة غير لغة قبيلته"3. ومجمل حجج الباقين القائلين إن العربية الفصحى هي عربية قريش، أن قريشًا "كانت مهوى أفئدة العرب في الجاهلية، وكان لها عليهم نفوذ واسع بسبب مركزها الديني الروحي والاقتصادي المادي، إذ كانت حارسة الكعبة بيت عبادتهم، وكانت قوافلها تجوب أنحاء الجزيرة العربية، وكان العرب يجتمعون إليها في أعيادها الدينية وفي أسواقها القريبة والبعيدة. ومعنى ذلك أن هنالك أسبابًا دينية واقتصادية أعدت لهجة مكة لتسود اللهجات

_ 1 تأريخ آداب العرب "1/ 87 وما بعدها"، "أسواق العرب". 2 تأريخ آداب العرب "1/ 46". 3 المصدر نفسه "1/ 47".

القبلية في الجاهلية، وقد تداخلت فيها أسباب سياسية، فإن القبائل العربية كانت ترى تحت أعينها هجوم الدول المجاورة من الفرس والروم والحبش على أطرافها، كما كانت ترى هجوم الديانتين المسيحية واليهودية على دينها الوثني، فتجمعت قلوبها حول مكة، وهوت أفئدتها إليها. وبذلك كله تهيأ للهجة القرشية أن يعلو سلطانها في الجاهلية اللهجات القبلية المختلفة، وأن تصبح هي اللغة الأدبية التي يصوغون فيها أدعيتهم الدينية وأفكارهم وأحاسيسهم. وقد تدل على ذلك بعض الدلالة سوق عكاظ، فقد كانت سوقًا أدبية كما كانت سوقًا تجارية، وكان الخطباء يرتجلون فيها خطبهم وينشد الشعراء قصائدهم، ولم يُرْوَ ذلك عن سوق سواها، ومما يدعم هذا الدليل ما قاله الرواة من أن العرب "كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردّوه منها كان مردودًا فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم. فقالوا: هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم قصيدته: طحا بك قلبٌ في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر. وإذن فنحن لا نعدو الواقع إذا قلنا: إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية شمالًا وغربًا وشرقًا، وفي اليمامة والبحرين، وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبني الحارث بن كعب في نجران. ومما يؤكد ذلك أن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يحدثنا رواة الأخبار والسيرة النبوية أنها كانت تجد صعوبة في التفاهم معه، وأيضًا فإنه كان يرسل إليهم دعاة يعظونهم ويعلمونهم الشريعة الإسلامية من مثل معاذ بن جبل، ولو أنهم لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى لكان إرسال هؤلاء الدعاة عبثًا. وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسعة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام. أما في الشمال فقد كانت الفصحى معروفة في كل مكان، وكان الشعراء يتخذونها لغة لشعرهم، ومما يدل على ذلك دلالة قاطعة سرعة استجابتهم للقرآن الكريم ودعوته، فإنهم كانوا يفهمونه بمجرد سماعه، فإذا عرفنا أنه نزل بلغة قريش تحتم أن تكون هي اللغة الأدبية التي كانت سائدة"1.

_ 1 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "133 وما بعدها".

وبعد، فلقد عرضت عليك رأي المستشرقين في العربية العالية: عربية القرآن الكريم، وعربية الشعر الجاهلي. ثم عرضت عليك رأي علماء العربية فيها من متقدمين ومن معاصرين، وقد رأينا أن المستشرقين وعلماء العربية معًا، لم يستندوا كلهم على سند جاهلي مكتوب، ولا على نص مدون بهذه العربية، لسبب واحد مفهوم معقول، هو عدم ورود نصوص جاهلية مدوّنة بهذه اللغة فلم يكن أمامهم من سبيل سوى اللجوء إلى الموارد الإسلامية للاستعانة بهديها في استنباط رأي علمي بهذا الموضوع، وهذا ما فعلوه. أما قول علماء العربية إن عربية القرآن الكريم عربية "إسماعيلية"، بمعنى أنها عربية أخرى تختلف عن عربية العرب الجنوبيين، فرأي مقبول، على شرط أنه اصطلاح يعبر عن معنى اصطلح عليه. فقد أشير إلى "الإسماعيليين" في التوراة. وهم -كما سبق أن قلت- قبائل عربية شمالية كانت تقطن في القسم الشمالي الغربي من جزيرة العرب، وكانت حدودهم الغربية على اتصال بالعبرانيين. ولا أعتقد أن أحدًا من أصحاب الفقه في العربية، يركبه الشطط فيقول: إنه نزل بلغة عربية جنوبية، أو بلغة ثمود أو لحيان أو الصفويين، أو يقول: إن الشعر الجاهلي، قد نظم بلهجة من هذه اللهجات، فكلام مثل هذا، حتى لو صدر من أحد، فإنه هراء يدل على جهل قائله بأبسط الأشياء. وأما دعوى أن هذه العربية وحدها هي العربية الفصيحة الصحيحة، وأن ما عداها من عربيات، فلغات فاسدة رديئة، فدعوى يمكن قبولها والتسليم بصحتها، لو أن في وسع القائلين بها إثباتها بالأدلة المادية الملموسة، أي: بأدلة النصوص الجاهلية المكتوبة، مع إثبات أن هذه اللغة الفصيحة كانت وحدها لغة الأدب والتدوين عند جميع العرب، وأن الجاهليين كانوا لا يكتبون إلا بها، وأن ما سواها من اللهجات، كانت لهجات كلام، أي: لغات العامة والسواد، تكلموا بها كما نتكلم نحن اليوم فيما بيننا بلهجات محلية، نسميها لهجات عامية، فإذا كتبوا كتبوا بالعربية الفصيحة. ولكنهم عاجزون عن إثبات ذلك، ثم أن النصوص الجاهلية تناهض دعواهم هذه، فكل ما لدينا من نصوص جاهلية، مكتوب بلهجات عربية أخرى، خلا خمسة نصوص كتبت بعربية نبطية، أي: بعربية فيها ألفاظ واردة في العربية الفصحى، ولكن الإرمية أو النبطية متحكمة في أسلوبها وفي قواعدها وفي الكثرة الغالبة من كلماتها بحيث تمنعها من أن تعدّ في عداد العربية

الفصيحة. لذا، فنحن لا نخالف المنطق والعلم، إن أظهرنا اعتراضنا عليها ورفضناها، وما كان لنا لنعترض عليها، لو أن الأمر كان على العكس، لو أن غالبية النصوص الجاهلية كانت بهذه اللغة، أو أن بعضًا منها على الأقل، ولو بعضًا قليلًا، كان بهذه العربية الخالصة، أو أننا لا نملك نصًّا جاهليًّا بتاتًا، بأية عربية كانت، لا بهذه العربية، ولا بالعربيات الأخرى، أما وأن لدينا اليوم الألوف من النصوص الجاهلية، وهي كلها بلهجات عربية أخرى، ولا نملك نصًّا واحدًا مدونًا بهذه العربية الخالصة، لذا، فنحن لا نظلم أنفسنا، ولا نظلم غيرنا، إن رفضنا دعواهم المذكورة، وقلنا: إن اللغات التي موّنتنا بالنصوص المذكورة، هي لغات فصيحة بالنسبة للناطقين بها، وفي نظرنا أيضًا، وهي لغة أدب بالنسبة لأصحابها الكاتبين بها. والقول بأن العربية الفصيحة هي وحدها العربية الصحيحة السليمة الفصيحة، وأن ما عداها من لغات عربية فلغات رديئة فاسدة، أو أنها دونها في الفصاحة، قول يمكن قبوله بالنسبة لأيام الإسلام، حيث صارت هذه العربية لغة الدين والحكم والفكر، بها تُقوّم الألسنة، وبها يدوّن الناس آراءهم. أما بالنسبة إلى أيام الجاهلية، فإننا لا نستطيع التسليم به، لسبب بسيط، هو أن أهل العربية الجنوبية مثلًا، كانوا يكتبون وينطقون بلغاتهم، فلغاتهم هي لغة التدوين والأدب عندهم، بقوا يكتبون بها، إلى أن دخلوا في الإسلام، فأبدلوها عندئذ بهذه العربية، بحكم الدين. ودليل ذلك، هذه النصوص المتأخرة المكتوبة بالمسند، والتي لا يبعد تأريخها عن الإسلام كثيرًا. فلو كانوا يرون أن هناك عربية أفصح منها، أو أنهم كانوا يعلمون أن هناك عربية أرفع من عربيتهم شأنًا، يدوّن ويكتب بها بقية عرب الجزيرة وأنها لغة الثقافة والعلم، لما نبذوها وعدلوا عنها إلى عربيتهم، وشذوا عن بقية إخوانهم العرب، بتمسكهم بالكتابة بها وحدها. وينطبق هذا القول على قوم ثمود والصفويين والحيانيين والنبط، فقد كتب كل قوم منهم بلغتهم، ولم يكتبوا بهذه العربية، وتدوينهم بلغاتهم، دليل على ثبوت فصاحتها عندهم، وليس في قول "أبو عمرو بن العلاء": "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"1، ما يدل على ازدراء شأن الحميرية. أو

_ 1 طبقات ابن سلام "4 وما بعدها".

الغض منها، وإنما هو تعبير عن حقيقة تأريخية، هي أن الحميرية عربية أخرى، وهي حقيقة لا يجادل على صحتها أحد، كما أن الثمودية واللحيانية والصفوية والنبطية عربيات أخرى. وكل هذه العربيات، هي عربيات فصيحة بالنسبة لأصحابها؛ لأنها لغة التدوين عندهم، حيث لم يكن لأهل جزيرة العرب، لغة أدب واحدة، دوّن بها جميع الجاهليين، حتى نقول: إن النصوص الخارجة عليها، أي النصوص المدوّنة بلهجات أخرى، هي نصوص عوام وسواد، كتبوا بلغاتهم كما يكتب العامة بلغاتهم هذا اليوم، مع وجود العربية الفصيحة. وأما قولهم: إن هذه اللغة العربية الفصحى هي لغة قريش، لإجماع العرب كافة على أن لغة القرآن هي لغة قريش، وعدم ظهور أحد أنكر هذا الإجماع، أو جادل فيه، رغم ما كان من الشعوبية الأعجمية ومن الشعوبية الحميرية، ومن الخصومات السياسية بين قريش وغيرها من قبائل مضر1، فقول لا يستند إلى حجج تأريخية جاهلية، بل هو يصطدم مع واقع النصوص الجاهلية الواصلة إلينا، وبعضها نصوص لا تبعد عن الإسلام بكثير، وقد كتبت كلها بلهجات تختلف عن هذه اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن، وفي اختلافها عنها دلالة، على أن الشعوب التي تثبت تلك النصوص لم تكن تكتب بعربية القرآن. وفي هذه الدلالة تفنيد لقول من قال: "إن لهجة قريش هي الفصحى التي عمت وسادت في الجاهلية لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية شمالًا وغربًا وشرقًا، وفي اليمامة والبحرين، وسقطت إلى الجنوب وأخذت تقتحم الأبواب على لغة حمير واليمن، وخاصة في أطرافها الشمالية حيث منازل الأزد وخثعم وهمدان وبني الحارث بن كعب في نجران"2، ثم إني لم أتمكن من العثور على هذا الإجماع الذي أجمع العرب كافة عليه، والذي لم يعارضه أحد حتى من الشعوبيين والحاقدين على قريش، وإنما وجدت القرآن، وهو خير الشاهدين يقول: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} 3. و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 4.

_ 1 طه حسين: في الأدب الجاهلي "105". 2 العصر الجاهلي، شوقي ضيف "134". 3 النحل، الرقم16، الآية103. 4 يوسف، الرقم12، الآية2.

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} 1 {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 2 إلى غير ذلك من آيات نصت نصًّا صريحًا على أن لسان القرآن هو اللسان العربي، فعينته بذلك وثبتته، ولم أجد في القرآن آية واحدة ذكرت أنه نزل بلسان قريش ولو كان قد نزل بلسانهم وكان لسانهم خير الألسنة وأفصحها، لما سكت عن ذلك، لما في النص عليه من أهمية، بالنسبة إلى العرب وإلى قريش المكابرين المناهضين للرسول، ثم إني وجدت أن العلماء يذكرون أن في القرآن لغات أخرى ليست من لغة قريش، وأن فيه ألفاظًا هي بلغة تميم، أو بلغات أخرى مخالفة للغة قريش وأهل الحجاز، وأن لهم آراء في الأخبار الواردة في أنه نزل بلغة قريش، مثل أخبار تنسب إلى "عمر" تارة، وتنسب إلى "عثمان" وإلى غيره تارة أخرى، وهي أخبار لا ندري مبلغ درجتها من الصحة أو الباطل، يظهر أنها وضعت تحت تأثير من العصبية السياسية التي ظهرت منذ أيام الرسول فيما بين الأنصار والمهاجرين، ثم صارت عصبية قحطانية يمانية. جعلت العرب عربين: فإما إلى قحطان وإما إلى عدنان، وليس بينهما جد ثالث. ثم إنه لو كان قد نزل بلسان قريش، وكان لسان قريش أفصح ألسنة العرب وأبينها وأبلغها وأكملها، ولذلك كان نزوله بها حجة للخصوم وإفحامًا للمشركين وإحراجًا لهم وإعجازًا لهم، فلِمَ لم يذكر القرآن ذلك، ولم يبين أنه نزل بلسان قريش أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء، وإنه إنما نزل بلسانهم ليكون حجة عليهم وإعجازًا لهم في أن يأتي أبلغهم بآية مثل آياته، وفي ذكر قريش إذن إفحام لكل العرب. ولكنا نجده على العكس يخاطب قريشًا والعرب بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} 3، و {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه} 4 فهو يحاججهم على أن يأتوا بمثله، وباللسان الذي نزل به. وهو لسان عربي مبين، لا لسان بعض منهم، أي: بلسان قريش. ولو كان لسان هذا البعض هو أكمل الألسنة وأبلغها وأعضبها وأسلسها وأنقاها كان من الضروري ذكر ذلك إفحامًا للخصوم،

_ 1 الرعد، الرقم13، الآية37. 2 الشورى، الرقم42، الآية7. 3 البقرة، الرقم2، الآية23. 4 الإسراء، الآية88.

فعدم النص على ذلك اللسان، هو أبلغ جواب على أنه لم ينزل به، وعلى أن لسانهم المذكور لم يكن أكمل لسان عربي. وأما العوامل التي أوجدها المحدثون في تفسير سبب سيادة لغة قريش على غيرها من اللغات عند ظهور الإسلام، وهي: السيادة السياسية، والسيادة الاقتصادية والسيادة الدينية، وهي عوامل تتصل بها عادة سيادة اللغات1، فهي عوامل وضعوها وضعًا وتخيلوها من غير سند أو دليل، أقاموها على تصورات أخذوها من أقوال لأهل الأخبار، لا يركن إليها، ولا يعتمد عليها. وقد حاولت جهدي أن أعثر في مؤلفات القائلين بها على سند واحد يثبت سيادة قريش السياسية على غيرها من القبائل عند ظهور الإسلام، سيادة قوة وفتح، أو سيادة نفوذ واعتبار فلم أجد فيها دليلًا واحدًا يمكن أن يكون حجة لإثبات تلك السيادة. وكل ما وجدته فيها أحكام عامة مطلقة لم تقم على حجة ولا دليل2. ثم راجعت الموارد القديمة علني أجد فيها شيئًا، يثبت هذا التفوق، فلم أجد فيها أي شيء أيضًا يدل عليه، بل وجدت العكس، وجدت أن سادات مكة مثل عبد المطلب وغيره كانوا يراجعون حكام اليمن ويتقربون إليهم، لينالوا منهم العطف والرعاية، والهبات والألطاف، وكانوا إذا سمعوا بتبوء ملك منهم كرسي الحكم، ركضوا إليه يهنئونه، داعين له بالعمر الطويل، وبالتوفيق في الحكم، ثم وجدت فيها أن سادتها كانوا يراجعون حكام العراق وبلاد الشأم واليمن والحبشة، ويتوددون إليهم بالهدايا، لكسب عطفهم، ولحصول على مساعدات منهم، لتيسير سبل الاتجار مع الأرضين التي كانوا يحكمونها، وأنهم كانوا يصانعون سادات القبائل ويؤالفونهم، لضمان حق مرور تجارتهم بأرضهم بأمن وسلام، في مقابل إتاوات تدفع لهم، أو هدايا تحمل إليهم، ثم رأيت ما كان من أمر "هاشم" وأخوته من عقدهم الإيلاف الذي أشير إليه في القرآن3. ثم وجدت أن أهل الأخبار يقولون: إن "قيصر" أعان قصيًّا على خزاعة4، وأن "عثمان بن الحويرث"

_ 1 في الأدب الجاهلي "106 وما بعدها". 2 في الأدب الجاهلي "105 وما بعدها"، شوقي ضيف "131 وما بعدها". 3 سورة قريش، الرقم 106. 4 المعارف "640"، جواد علي. المفصل "4/ 39".

قد توسط لدى البيزنطيين لتنصيب نفسه ملكًا على مكة1. ورأيت أن أهل الجاهلية، كانوا يعيرون قريشًا بأنها لا تحسن القتال، وأنها تجاري وتساير من غلب، وأنها لا تخرج إلا بخفارة خفير، وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصة بن حية الطائي" ابن عم "قبيصة بن إياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة، بـ"سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل: "رجل من قريش، فقال: أما إذا كان قرشيًّا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"2، فهل في هذا الكلام بعد –إن صح بالطبع- ما يشير إلى نفوذ سياسي. بل وجدت أن أهل الأخبار يذكرون أن "قصي بن كلاب"، وهو مجمع قريش وموطد حكمها على مكة إنما بسط نفوذه عليها بمساعدة الروم له، حيث يقولون: "وجاء قصي بن كلاب، فجمع معدًا -وبذلك سُمّي مجمعًا- واستعان ملكَ الروم فأعانه، وحارب الأزدَ فغلبهم واستولى على مكة"3. وكان الأزد على حدّ قول هذه الرواية قد طردوا جرهم عن مكة واستولوا عليها، فجاء "قصي" وأزاحهم عنها، بمعونة "ملك الروم"، فما كانت قريش لتزيحهم عنها لولا هذه المعونة، وقوم يستعينون بالأجانب للاستيلاء على قرية فقيرة هي كل ما ملكوا هل يعقل بعد أن يكون لهم نفوذ سياسي على النحو الذي تصوروه وذكروه! وقد وجدت أنهم كانوا يصطنعون الأحابيش والقبائل، للدفاع عن مدينتهم، وأنهم استعانوا بالقبائل يوم "الأحزاب" في قتالهم المسلمين. وليس في هذا الاصطناع دلالة على سيادة سياسية، وإنما هو دليل الضعف وشراء القلوب وتأليفها بالمال. فإذا كان في هذا الشراء معنى السيادة معنى السيادة السياسية، فهو إذن أمر آخر. وقد رأينا أنهم كانوا يصانعون الصعالي والخلعاء، للاستفادة منهم، وللاستعانة بهم في حماية أنفسهم4، ورأينا أن قريش الظواهر كانوا يفخرون على قريش مكة

_ 1 المفصل "4/ 39". 2 الطبري "3/ 572 وما بعدها"، "دار المعارف"، المفصل "4/ 37". 3 الخزانة "2/ 324"، "هارون". 4 رسائل الجاحظ "70". "السندوبي". جواد علي، المفصل "4/ 68".

بأنهم أصحاب قتال، وأنهم يقاتلون عنهم في البيت1، ثم رأينا أشياء أخرى من هذا القبيل، تدل كلها على أن قريشًا كانوا ضعفاء غير محاربين، شأن كل الحضر، بالنسبة إلى الأعراب، وأنهم عمدوا لضعفهم هذا إلى رشوة سادات القبائل بالهدايا وبالمال وبإشراكهم برأسمال قوافلهم، لتأمين مرور أموالهم وتجاراتهم بأرضهم بأمن وسلام. فهل يقال بعد كل هذا: إنه قد اجتمع لقريش سلطان سياسي، صار في جملة عوامل سيادة لغة قريش في جزيرة العرب قبيل الإسلام؟ 2 ونحن نعلم، أن من أهم مقومات السيادة السياسية، ضرورة وجود القوة العسكرية، فالقوة العسكرية، هي التي بسطت اللغة اليونانية في العالم القديم، وهي التي نشرت اللغة اللاتينية في أنحاء الانبراطورية الرومانية، وهي التي أوصلت اللغة العربية في آسية إلى حدود الصين، وفي أوروبا إلى الأندلس وسواحل المحيط، وهي التي جعلت الانكليزية اليوم لغة عالمية، كيف نتصور إذن خضوع العرب الشماليين قبل الإسلام أو قبيلة، للغة قريش، مع ما نعرفه من ضعف قريش في قدرتها على القتال، ولا سيما في ذلك العالم الذي كان القتال فيه شيئًا مألوفًا، بل هو عنده من مستلزمات الحياة، لأنه من وسائل الرزق بالنسبة للأعراب المساكين الذين حرمتهم الطبيعة من خيراتها، بل حتى من ضروريات الحياة، عالم لا يحترم فيه إلا القوي الجبار. ونحن إذا أخذنا بأثر السلطان السياسي في سيادة اللغات، وجب علينا حينئذ البحث عن البيئات التي جمعت بين القوة والرهبة العسكرية والنفوذ السياسي، وهي بيئات توفرت في اليمن، وفي مملكة الحيرة، التي بلغت حدودها في أيام "امرئ القيس" صاحب نص النمارة، المتوفى سنة "328م" حدود نجران، والتي هيمنت على اليمامة والبحرين. وملوك الحيرة عرب، لغتهم ولغة أتباعهم العربية. ففي مثل هؤلاء، الذين كان لهم سلطان سياسي وسلطان عسكري، يجب التفكير لا في أناس حضر مسالمين قليلين مثل قريش، ونحن نعلم أن قريشًا كانوا يتوددون إلى ملوك الحيرة، وإلى ساداتها، وأن شعراء جزيرة العرب كانوا يقصدونهم من مختلف أنحائها، باستثناء العربية الجنوبية، لإنشادهم شعرهم في مدحهم،

_ 1 جواد علي، المفصل "4/ 28". 2 طه حسين، في الأدب الجاهلي "106"

رجاء تحقيق مطلب. أو نيل جائزة، كما كانت الوفود تقدم إليهم، وتخطب أمامهم، وكان لهم ديوان بالعربية وبالفارسية، لكتابة الرسائل إلى عمالهم على الأمصار وإلى سادات القبائل بالعربية، وإلى الفرس بالفارسية، كما كان الفرس يكتبون إليهم بالعربية، كما أجمعت على ذلك الموارد العربية والموارد الفارسية التي نقل منها المؤرخون أخبار الحيرة إلى العربية، وكان لهم -كما يقول أهل الأخبار- ديوان شعر فيه أشعار الفحول وما مدح به النعمان بن المنذر وأهل بيته1، وكانت لهم مدارس تدرس الأطفال العربية، وكذلك كانت لأهل الأنبار ولأهل عين التمر مدارس تدرس العربية، كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب، ولما جاء "خالد بن الوليد" إلى الحيرة وسأل سادتها: "ويحكم! ما أنتم! أعرب؟ فما تنقمون من العرب! أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل! فقالوا له: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقالوا له: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقتم2. فقال تكلم "خالد" معهم بالعربية، وتفاهم معهم وأيدهم في أن لسانهم هو اللسان العربي الذي لا لسان لهم غيره. كما أن لسانه هو اللسان العربي. وبهذا اللسان كان يتكلم ملوك الحيرة ويسمعون الشعر، ويخاطبون الوفود وأتباعهم. وبه كانوا أنفسهم ينظمون أشعارهم، لم يجدوا صعوبة في التفاهم مع أحد، ولم يجد أهل مكة ولا غيرهم من كان يأتي الحيرة، صعوبة في التخاطب والتفاهم مع أهلها، فهل يعني هذا أن أهل الحيرة، كانوا يتكلمون بلغة قريش وأنهم بفضل تكلمهم بهذه اللغة كانوا يتفاهمون مع الوافدين إليهم من مكة وغيرها من أنحاء جزيرة العرب! وأنهم لو لم يكونوا يعرفون عربية قريش، لكان أمر التفاهم معهم صعبًا! إذن فعربية أهل الحيرة، هي عربية قريش، أخذوها منهم بسبب نفوذهم السياسي، وغلبة لسانهم على ألسنة العرب! ولكن لو كان الأمر كذلك، فلِمَ كان جواب أهل الحيرة لخالد حين سألهم: ويحكم ما أنتم! أعرب؟ نحن عرب عاربة وأخرى متعربة، وليدلك على ما نقول، إنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، ولم يقولوا له، إنه ليس لنا لسان إلا

_ 1 ابن جني. الخصائص "1/ 392 وما بعدها" ابن سلام، طبقات "23". 2 الطبري "3/ 361". "حديث يوم المقر وفم فرات بادقلي".

بالقرشية، أو بعربية قريش أو بعربية قومك، وأمثال ذلك من عبارات يقتضيها الموقف للتقرب من القائد المنتصر، ولإثبات أنهم مثله، وهو قرشي يتكلمون بعربيته القرشية المبينة! فهل يعتزون بتكلمهم بلسان قريش، أفصح ألسنة العرب ويتباهون به! ولو كان ذلك اللسان لسان الأدب الرفيع عندهم لما سكتوا من تسميته بلسان قريش أبدًا! ثم خذ ما ذكره أهل الأخبار عن فتح "الأنبار" تراهم يقولون: "ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا، فكانت أوائلهم نزلوها أيام بختنصر حين أباح العرب، ثم لم تزل عنها، فقال: ممن تعلمتم الكتاب؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوه قول الشاعر: قومي إياد لو أنهم أمم ... أو لو أقاموا فتهزل النعم قوم لهم باحة العراق إذا ... ساروا جميعًا والخط والقلم1 ولو كان أهل الأنبار يكتبون بلغة قريش، لما قال أهل الأخبار أن "خالد" وجدهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، ولقالوا حتمًا أنهم كانوا يكتبون بلسان قريش. ثم إن نصهم دومًا على أن لسانهم كان عربيًّا، وديوان أهل الحيرة أنما كان بالعربية، وأن كتابتهم إنما كانت بالعربية، دليل في حد ذاته على أن المراد بالعربية، العربية المطلقة، لا المقيدة، أعني عربية قريش. الحق أقول: أنني إذا فكرت تفكير علماء العربية المحدثين، الذين نسبوا تفوق اللغات على اللهجات إلى السيادة السياسية والسيادة الاقتصادية وأمثال ذلك من سيادات، فإني لن أفكر في موطن أينعت فيه العربية في تلك الأيام سوى بلاد الشأم والعراق، فقد أمدتنا بلاد الشأم بنصوص وإن كانت -كما سبق أن قلت- قد دونت بلهجة نبطية، ولكنها لم تتمكن مع ذلك من التستر على لهجة أصحابها الأصلية ففي نص "النمارة" مثلًا الذي يعود تأريخه إلى سنة "328م"، عبارات مثل: "ملك العرب كله"، و"ملك الأسدين ونزرا وملوكهم".

_ 1 الطبري "3/ 375"، "حديث الأنبار".

و"هرب مذحجو"، و"مدينة شمر"، و"ملك معدو"، و"نزل بنيه الشعوب"، و"فلم يبلغ ملك مبلغه"، و"هلك سنة"، يفهم منها بكل جلاء ووضوح أن أصحابها كانوا يتكلمون بلهجة عربية شمالية، هي هذه اللهجة التي نسميها العربية الفصيحة، والتي تستخدم "ال" أداة للتعريف. وفي نص "شرحيل بن ظالم"، الذي يعود تأريخه إلى سنة "568" للميلاد الذي هو: "أنا شرحيل بر ظلمو بنيت ذا المرطول سنت 463 بعد مفسد خيبر بعام"، وهو نص لا يبعد عن ميلاد الرسول إلا بسنتين، نرى عربية "ال" واضحة ظاهرة طاغية على هذا النص، بحيث تشعرك أن النص وإن كان كالنص السابق قد دوّن بلهجة متأثرة بالنحو النبطي، غير أن أصحابه كانوا يتكلمون بعربية شمالية، فهم إذن ممن كانوا يتكلمون بعربية "ال" بكل تأكيد، بدلالة هذه النصوص. وعربية "ال" هي عربية الشعر الجاهلي. وحيث أن صاحب نص "النمارة" هو الملك "امرؤ القيس"، من ملوك الحيرة، وقد كتب أصحابه شاهد قبره، باللغة التي بينتها، ووضعوه على قبره، فلغة أصحابه إذن، هي لغة "ال"، أي: العربية الفصيحة. فنحن نستطيع أن نستنبط من ذلك، أن عرب الفرات في العراق كانوا يتكلمون بهذه اللغة في القرن الرابع للميلاد، أي: قبل أن تظهر سوق "عكاظ"، وقبل أن يولد "النابغة" الذبياني، حاكم هذه السوق على زعم أهل الأخبار، وقبل أن تقوم قريش بالغربلة المزعومة للغة، وقبل بروز قريش وولادة "قصي" بزمن طويل. ثم إن ملوك الحيرة على الأخص ثم ملوك الغساسنة كانوا كعبة الشعر والشعراء، إليهم كان يذهب الشعراء، إليهم كان يذهب الشعراء، يقفون على أبوابهم ساعات وأيامًا ليسمح لهم "الحاجب" بالدخول على الملك لإنشادهم أشعارهم أمامهم، وقد كانوا قد اتخذوا -كما يقول أهل الأخبار- أيامًا يسمح فيها للشعراء بالتباري في إنشاد أشعارهم أمامهم، وعرض ما عندهم من بضاعة نفيسة في الشعر ليراها الشعراء المجتمعون عنده، ولم نسمع أن الشعراء كانوا يقصدون تجار قريش للتباري أمامهم بإنشاد الشعر، أو أنهم كانوا قد اتخذوا موسمًا يقصده الشعراء من سائر أنحاء جزيرة العرب للتباري بقول الشعر، لا في موسم الحج ولا في غيره. إن سادة مكة تجار، والتاجر لا يعرف إلا الكسب وجمع المال، وما شأنه وبضاعة الشعر! لقد كان ملوك الحيرة وملوك الغساسنة قدوة لملوك بني أمية ولبني العباس في تبنّيهم الشعر والشعراء،

وفي ترويج سوقه وتنشيطه. وإعطائه قوة وصولة، قد يكون عن طبيعة فيهم وطبع، وقد يكون عن سياسة وغرض، لاتخاذ الشعراء محطات إذاعة أو صحف للترويج بسياسة ملك، وللحط من شأن خصمه ومنافسيه، وللرد على الشعراء المعارضين. على كل فقد كانوا يستذوقون الشعر ويميزون الجيد منه من الفاسد، ويظهرون عيوبه أمام الشعراء. ويحسنون إلى الشعراء من أجاد منهم، ومن لم يجد، فكان هذا التشجيع في جملة العوامل المشجعة على نظم الشعر. وإذا كان لبني أمية فضل على الشعر الجاهلي بالاستماع إليه من أفواه الرواة، وبالحث على حفظه وتدوينه. وإذا كان لبني العباس فضل على الشعر والعربية والعلوم بتشجيعهم العلماء واستدعائهم إلى مجالسهم للاستماع إليهم، فصاروا بذلك جميعًا حماة العربية، فإن ملوك الحيرة وملوك عرب الشام، كانوا قد مهدوا الجادة قبلهم لمن ذكرت، ورفعوا بعملهم المذكور من مستوى العربية، وعملوا عملهم في صقلها وفي توحيدها، وفي تقريب الألسنة بعضها من بعض والناس على دين ملوكهم، وأكثر شعراء الجاهلية كانوا على اتصال إما بهؤلاء الملوك، وإما بأولئك. وإذا أضفنا إلى هذا التشجيع، والسيادة السياسية التي كانت لملوك الحيرة على نجد والبحرين، عامل التقدم الثقافي الذي كان لعرب الحيرة والأنبار والقرى العربية في العراق وفي بلاد الشأم على أهل البوادي، بل وعلى أهل مكة كذلك، الذين تعلموا خطهم من أهل الحيرة، لزم علينا القول أن العربية المبينة التي درّست في مدارس عرب العراق، كانت قد تقدمت في العراق أكثر من أي مكان آخر في جزيرة العرب بالنسبة لأيام الجاهلية، ولعل هذا التقدم هو الذي أكسب العراق شرف وضع علوم العربية، وتفرده من بين سائر الأقطار الإسلامية، يجمع الشعر الجاهلي وقواعد العربية وعلوم الشعر واللغة، وإلا فلا يعقل ظهور هذه العلوم في هذه الأرضين من غير ماض ولا علم سابق، ولا أسس بنى عليها المسلمون بناءهم الجديد. وأما أن تلك السيادة السياسية، كانت في حدود ضيقة، في حدود القبائل القريبة من قريش، والمواضع التي كانت لها مصالح بها، فذلك موضوع آخر، له ما يبرره، فقد كان لسادات مكة مصالح اقتصادية في الطائف، وكان لهم أملاك وبساتين، ولهم بيوت يقضون بها صيفهم، كما كانت لهم مصالح مشابهة مع المواضع الأخرى ومع القبائل، لا مجال لنكرانها أبدًا. ولكن ما صلة هذه

الأمور باللغة، ومن قال من القدماء إن قريشًا فرضت لغتها على أهل تلك المواضع والقبائل فرضًا، أو أن أدباء تلك المواضع أو تلك القبائل، أخذوا لغة أدبهم من قريش؟ أو أن سياسة قريش كانت ذات نفوذ واسع عميق، تركت أثرًا كبيرًا في النفوس جعلت العرب من أجل ذلك يمجدون لغة أهل مكة، ويعتبرونها اللغة العالية، أما لغاتهم فلغات رديئة دونها في المنزلة والمكانة، مع أننا نعلم ما للعصبيات القبلية من أثر في التعصب إلى اللهجات، ثم إننا نرى أن كتب أهل الأخبار واللغة، تذكر أن القبائل التي كانت تجاور مكة، كانت تتكلم بلهجاتها الخاصة بها، وأن أهل الطائف، أي: ثقيف، كان لهم لسانهم الخاص، وأن "أهل الحجاز"، أي: قريش وغيرهم، كانوا يتكلمون بلهجات خاصة، سمّاها علماء اللغة لغات "حجازية"، ولم يسموها "قرشية"، ولو كانت تلك اللهجات، لغة قريش لما دعاها العلماء "لغة أهل الحجاز"، أو "حجازية"، وقالوا: "ما الحجازية"، وعلى "لغة أهل الحجاز"، ولقالوا: "لغة قريش" وعلى "لغة قريش"، وهكذا، أضف إلى ذلك أننا قلما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة قريش عن بقية لغات العرب، وإنما نقرأ أمثلة على اختلاف لغة أهل الحجاز مما يدل على وجود فرق بين اللغتين، وأن لغة قريش، لهجة من لهجات أهل الحجاز، لا أنها الأصل. وقد رأينا وجود "الغمغمة" في لغة قريش، وقد نص علماء اللغة أنفسهم على وجودها في تلك اللغة1. ثم من في استطاعته اليوم إثبات أن عرب اليمامة أو عرب نجد، أو عرب البوادي، كانوا تحت تأثير لغة قريش، أو تحت تأثيرها السياسي، ولذلك كانوا ينظمون شعرهم بها، ويخطبون بها، والنصوص التي عثر عليها في اليمامة وفي مواضع من نجد تثبت خلاف ذلك، تثبت بالدليل القاطع أن لهجة نصوصهم لم تكن على شاكلة لغة قريش، فكيف نصدق رأي من يرى أن أعراب باطن جزيرة العرب، كانوا ينظمون الشعر بلسان قريش! مع وجود هذه النصوص الجاهلية التي عثر عليها، والتي لا يزال العلماء يعثرون عليها إلى يومنا هذا، لا في نجد واليمامة والبحرين فقط، وإنما في أرض الحجاز نفسها، وعلى مسافات غير بعيدة من يثرب ومن مكة، ومن الطائف، وهي بلهجات تختلف عن لهجة

_ 1 "الغمغمة: الكلام الذي لا يبين، ومنه صفة قريش فيهم غمغمة"، تاج العروس "9/ 6"، "غمم".

القرآن الكريم، وبخط يختلف عن الخط الذي دوّن الوحي به! وليست هذه النصوص مغرقة في القدم، حتى يعترض معترض، فيقول: إننا نقول: إن لغة قريش، صارت لغة الشعر، ولغة الأدب، مع ظهور الشعر الجاهلي، أو قبله بزمن غير بعيد، لأن بين هذه النصوص، نصوص لا يرتقي عهدها عن الإسلام إلا بزمن يسير! وأما ما يقصونه علينا من نفوذ السلطان الاقتصادي الذي كان لقريش وعن أثره في سيادة لهجة قريش على لهجات العرب، فأنا أقرأ أن مكة كانت مدينة تجار وتجارة، وبيع وشراء، واستيراد وتصدير، وليس من حق أحد أن ينكر ذلك، بعد أن نص القرآن على إتجارهم، وعلى وجود رحلتين لهم: رحلة الشتاء، ورحلة الصيف. وبعد أن زخرت كتب الأخبار والتأريخ بأخبار تجارة رجالها. ولكن هل كانت مكة، المدينة المتاجرة الوحيدة في جزيرة العرب؟ والجواب: كلا، فقد كانت لأهل اليمن تجارة مع مختلف أنحاء جزيرة العرب، وكان سادات اليمامة والبحرين من الأثرياء الثقال في بلادهم، وكانوا أصحاب تجارات، وكانت اليمامة خاصة، ريف مكة تمونها بالميرة والمنافع، وكان ساداتها إذا غضبوا عليها قطعوا الميرة عنها، فيصيبها من ذلك غم كبير، وتضطر عندئذ إلى مصالحتهم. فلما جاءهم ثمامة بن أثال الحنفي، سيد أهل اليمامة، وقالوا له: "يا ثمامة، صبوت وتركت دين آبائك، قال: لا أدري ما تقولون، إلا أني أقسمت بربّ هذه البنية لا يصل إليكم من اليمامة شيء ما تنتفعن به حتى تتبعوا محمدًا من آخركم. وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة، ثم خرج فحبس عنهم ما كان يأتيهم منها من ميرتهم ومنافعهم، فلما أضرَّ بهم، كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحض عليها، وأن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلي بيننا وبين ميرتنا فافعل، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن خل بين قومي وميرتهم" 1. وكان تجار البحرين يحملون تجارتهم من أقمشة ومن تجارة البحر إلى مكة، كما كان ملوك الحيرة يبعثون بلطمائهم إلى الأسواق ومنها سوق عكاظ، وكان الحضر وأهل القرار في كل جزيرة العرب تجارًا، ومنهم أهل

_ 1 الاستيعاب "1/ 206 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

يثرب، ويهودها ويهود وادي القرى، ويعود سبب اشتهار مكة بالتجارة دون غيرها من قرى ومدن جزيرة العرب، إلى القرآن الكريم، فإليه وحده يعود فضل اشتهارها بالتجارة، لما جاء فيه من ذكر عن قساوة تجار قريش وغلظهم تجاه الفقراء، ومن أكلهم أموال اليتامى والأرامل والبنات، ومن تعاطيهم الربا، ومن اتجارهم برحلتي الشتاء والصيف إلى غير ذلك من أمور حملت علماء التفسير والأخبار على التنقير عن أخبار تجارة مكة وعلى جمع ما حصلوا عليه في كتبهم، ولو نزل في القرآن الكريم شيء عن تجارة وتجار مواضع أخرى مسماة باسمها لخصت تلك المواضع بعنايتهم من دون شك ولا ريبة، ثم إن مدينة الرسول، وقد اشتغل الرسول نفسه بالتجارة، وكان والده وبقية عشيرته تجارًا، وكانت زوجه خديجة تاجرة، فحمل كل هذا علماء السيرة على البحث عن تجار مكة وعن تجارتها قبل الإسلام، وعن المواضع التي تاجروا معها. فظهرت مكة من ثَمَّ وكأنها المدينة الوحيدة التاجرة في جزيرة العرب! وأما ما يذكرونه عن النفوذ الديني الذي كان لقريش على العرب، فالذي أعرفه من أمر الدين عند أهل الجاهلية، أنهم كانوا بين مشرك، وهم الكثرة الكاثرة، وبين يهود، وهم قلة، وبين نصارى، وهم أكثر من اليهود عددًا، وبين جالية مجوسية، قلدها في دينها نفر من العرب لا يعبأ بعددهم. أما الشرك، فقد تتبعناه في الجزء السادس من هذا الكتاب، فوجدنا أن لكل قبيلة صنمًا، كانت تتقرب إليه وتنذر له وتستعين به في حربها وغزوها، ولم تكن العرب تحج إلى صنم واحد، هو صنم قريش، بل كانت تحج إلى أصنامها، ووجدنا أن "هبل" هو صنم أهل مكة وكفى. ثم رأينا أن لأهل نجران كعبة، ولأهل يثرب محجة، ولإياد كعبة، ولثقيف محجة، وللقبائل الأخرى محجات، وللنبط محجة، ولأهل العربية الجنوبية معابدهم، ولم نقرأ في أي نص من نصوص أهل الجاهلية أنهم حجوا إلى مكة، أو أن أحدًا منهم ذهب إليها لغرض من الأغراض الدينية أو أي غرض آخر، ولم يرد اسم مكة في أي نص من هذه النصوص. ولم نسمع في أخبار أهل الأخبار، أن قوافل من عرب العراق أو عرب بلاد الشأم أو نجد أو العروض، كانت ترحل في موسم الحج إلى مكة لفرض تأدية الحج، أو أداء العمرة في رجب، ولم أقف على اسم ملك من ملوك الحيرة قيل إنه حج إلى مكة، ولم أقف على اسم ملك من ملوك كندة أو بقية العرب ذكر أنه حج

في جاهلية إلى مكة، اللهم إلا ما زعموه من حج التبابعة إليها، وقد تعرضنا لطبيعة أمثال هذه الدعاوى القحطانية التي وضعتها العصبية إلى اليمن في الإسلام، وكلها أساطير وخرافات. ولو كان الحج إلى مكة عامًا عند كل مشركي جزيرة العرب، لما سكتت الأخبار عن ذكر من كان يفد إلى الحج من الأماكن البعيدة، ولظهر أثره في الشعر على الأقل. وأما اليهود والنصارى والمجوس، فقد كانوا على دينهم، لا يحجون البيت ولا يتقربون إليه. فلهم عبادتهم الخاصة بهم. فلا نفوذ لقريش إذن عليهم من ناحية الدين. نعم، قد يقال لي: ولكن ما قولك في هذا الإجماع الذي نراه في كتب التواريخ والأخبار من حج التبابعة إلى مكة ومن تقربهم إلى الكعبة بالكسوة والألطاف، وقد كانوا أول من كساها من العرب؟ ثم ما قولك في هذا الشعر الذي قالوه في مدح البيت وفي التقرب إليه وفي الإيمان بالله وبرسوله قبل ظهوره بل قبل مولده بمئات من السنين؟ ثم ماذا تقول من إشادة "عدي بن زيد" العبادي بالبيت وقسمه به في شعره، وهو يخاطب النعمان بن المنذر، الملك الغاضب عليه1؟ وماذا تقول في قول القائلين، من الشعراء الجاهليين الآخرين في تعظيم البيت وفي التقرب إليه، وقسمهم به2؟ ومن مجيء العرب إلى مكة من كل حدب وصوب للعمرة أو للحج؟ ثم ماذا ستقول في أشياء أخرى من هذا القبيل تفند كلها قولك، وتثبت وجود نفوذ قريش على القبائل وخضوع القبائل لها في أمور الدين؟ أما حج التبابعة البيت، فهو حج ولد في الإسلام، أولدته العصبية القحطانية العدنانية، التي تحدثت عنها، وأما الكسوة، فهي من مولدات ومخترعات هذه العصبية أيضًا. وأما الشعر الذي نسب إلى التبابعة، فهو من فصيلة الشعر الذي روي على لسان آدم وهابيل وقابيل والجنّ، وأما المحجات، فقد بحثت عنها في الجزء السادس من هذا الكتاب3. وقد سبق لي أن تحدثت عن مخترعات أخرى

_ 1 تاج العروس "5/ 534"، "ودع". 2 مثل زهير، والنابغة، وعوف بن الأحوص، جواد علي، المفصل "6/ 430". 3 "ص444 وما بعدها".

كثيرة غير هذه، أوجدتها العصبية القحطانية العدنانية، منها خلق أنبياء قحطانيين وجعل العربية الأولى عربية قحطانية، وجعل العرب العدنانيين عربًا مستعربة، إلى غير ذلك من ابتكارات أوجدها القحطانيون، بعد أن ذهب الحكم منهم، وصاروا تبعًا لقريش في الإسلام، فأخذوا ينبشون الماضي ويبحثون في الدفاتر العتيقة، ويضعون ويفتعلون، للغض من خصومهم، ولإظهار أنهم كانوا هم اللب والأصل، وأن خصومهم جاء إليه الحكم عفوًا، من غير أصالة ولا مجد تليد، فهم أصل كل مجد وفخار. وقد تعرض العلماء لهذا الموضوع القائم على العصبية، فقال "ابن فارس": "فأما من زعم أن ولد إسماعيل -عليه السلام- يعيرون ولد قحطان أنهم ليسوا عربًا ويحتجون عليهم بأن لسانهم الحميرية فليس اختلاف اللغات قادحًا في الأنساب. ونحن وإن كنا نعلم أن القرآن نزل بأفصح اللغات فلسنا ننكر أن تكون لكل قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرب العاربة وأن مَنْ سواهم العرب المتعربة، وأن إسماعيل -عليه السلام- بلسانهم نطق، ومن لغتهم أخذ، وإنما كانت لغة أبيه صلى الله عليه وسلم، العبرية"1. فأنت أمام رأيين متناقضين، يدعي أصحاب كل رأي منهما أنهم هم العرب، وأن لسانهم هو اللسان العربي الفصيح المبين، وأن من سواهم فغم، وأصحاب ألسنة فاسدة رديئة. وأما ما زعموه وحكوه عن أدوار تهذيب اللغة، ومن انفتاق العربية بلسان إسماعيل إلى اختتامها بالدور العكاظي، وهو آخر التهذيب اللغوي، فأقول أنها أقوال بنيت على أخبار صنعتها العواطف والمشاعر العصبية الضيقة التي ظهرت بأجلى مظاهرها في صدر الإسلام. عصبية قبلية قديمة كانت بين يثرب ومكة. أو بين اليمن ومكة، ازدادت شدة وقوة في الإسلام، بسبب استيلاء قريش على الحكم، فاستغلت العواطف الدينية لتأييد هذه العصبية السياسية. بجعل قريش تاجرة جزيرة العرب، وزعيمتها في اللغة، وموطن الفصاحة والبلاغة، ومجمع علماء اللغة الذين كانوا يأخذون ويعطون ويقررون كل ما هو سلس من الكلم وما هو بليغ وفصيح، حتى جعلوا كلام الله المنزل على رسوله بلسان عربي مبين، لسانَ قريش، والله تعالى يقول: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ولم يقل قرشيًّا"2.

_ 1 الصاحبي "56". 2 ابن كثير، فضائل القرآن "77".

العربية عربية العرب جميعًا من أنصار ومهاجرين، أهل بادية وقرى. "قال الأزهري: وجعل الله عز وجلّ، القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا؛ لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها العربية، وجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا لأنه من صريح العرب"1. فلسان القرآن، لسان العرب جميعًا من مهاجرين وأنصار، لا لسان قريش خاصة، والنبي وإن كان من قريش، لكنه كان عربيًّا من صريح العرب، ودعوته، لم تكن دعوة ضيقة خاصة بقريش، إنما كانت دعوة عامة جاءت إلى كل العرب، قوم النبي، ولهذا نزل بلسانهم وبهذا جاءت الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 2، ثم إلى الناس عامة لحديث: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" 3. وأما ما زعموه من تخير قريش وانتقائها أفضل لغات العرب، حتى صار لسانها أعرب الألسنة، فزعم بني علي خبر "روي عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه قال: قريش هم أوسط العرب في العرب دارًا، وأحسنه جوارًا، وأعربه ألسنة"4، وعلى خبر ينسب إلى قتادة نصه: "كانت قريش تجتبي -أي: تختار- أفضل لغات العرب، حتى صار أفضل لغاتها لغتها، فنزل القرآن بها"5. وهو خبر لا زال يردد ويكرر يوضع بين أقواس تارة وبغير أقواس تارة أخرى، استشهادًا به حتى وكأنه صار آية نزلت من السماء، مع كون "قتادة" من الضعفاء، وقد تحدث عن "ابن عباس" مع أنه لم يلتق به، ونسب له أقوالًا شاعت بين الناس، مع أنه لم يره ولم يسمع منه، فهل يؤخر بعد بقوله على أنه حجة، أو كأنه آية نزلت من السماء! وهل نقبل خبره عن

_ 1 اللسان "1/ 588"، "عرب". 2 سورة إبراهيم، الآية4، تفسير الطبري "13/ 121"، تفسير الألوسي "13/ 166". 3 تفسير ابن كثير "2/ 523"، "سورة إبراهيم". 4 اللسان "1/ 588". "عرب". 5 اللسان "1/ 588". "عرب".

اجتباء قريش أفضل لغات العرب، على أنه حجة يستدل بها على أدوار التهذيب! وأنت لو رجعت إلى خبر: "أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشًا أفصح العرب وأصفاهم لغة. وذلك أن الله -جل ثناؤه- اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبي الرحمة محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قطان حرمه وجيران بيته الحرام وولاته. فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم. وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم ... إلخ"1، تجده منقولًا نقلًا حرفيًّا في كل موضع تعرض إلى أفصح العرب، أو العربية الفصحى، أو اللغة التي نزل بها القرآن، بسند أحيانًا وبغير سند أحيانًا أخرى، حتى ظهر وكأنه خبر متواتر، وإجماع لم يخرج عليه عالم من العلماء، فأخذ به المحدثون، وقالوا قولهم المذكور، ولكنك لو تتبعت الخبر، وعملت رأيك في حرفية نصه في كل الموارد، ثم وقفت على آخر مورد قديم ذكره، ترى أنه خبر آحاد، ورواية واحدة ليس غير، اكتسب هذا الإجماع بسبب وروده بالحرف في تلك المؤلفات، فهو لا يفيد قطعًا، وإنما حكمه حكم الأخبار الآحاد. ثم عن ما ذكروه من صفاء لهجة قريش ومن فصاحتها، يعارضه قولهم بوجود "غمغمة" في لغتها. فقد قالوا: الغمغمة: "الكلام الذي لا يبين، ومنه صفة قريش فيهم غمغمة"2، كما يعارضه قولهم بوجود التضجع في لغة قريش، فلما تحدث "ثعلب" عن معايب اللغة، قال: "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وتلتلة بهراء، وكسكسة ربيعة، وكشكشة هوازن، وتضجع قريش، وعجرفية ضبة"3، مما يدل على أنه قصد بـ"تضجع قريش"، عيبًا من العيوب في الفصاحة وفي وصف لغة قريش بالتضجع مناقضة لابتداء كلامه بـ"ارتفعت قريش في الفصاحة عن...."، كما لا يخفى وعلماء العربية والأخبار يناقضون أنفسهم بأنفسهم، وهو شيء مألوف عنهم، لأنهم كانوا يعمدون إلى الرواية والإملاء عن ظهر قلب في الغالب، لا عن كتاب مدوّن وصحف مكتوبة، فلا غرابة إن ظهر هذا التباين في كلامه في هذا المكان

_ 1 الصاحبي "52". 2 تاج العروس "9/ 6"، "غمم". 3 المزهر "1/ 211".

ثم إن علماء العربية، حين يبحثون في النحو أو في الصرف، أو في مفردات اللغة عن الغريب والشاذ، يذكرون فيما يذكرون لغة قريش، ولغة أهل الحجاز، فيقولون: "لغة قريش"1، و"بلغة قريش"، كما يقولون: "لغة تميم"، ولغة طيء، ولغة يمانية، ولغة أسد، وغير ذلك. ولكنهم يقولون أيضًا: "يقول أهل الحجاز: قَتَر يَقْتِر، ولغة فيها أخرى يقتُر بضم التاء، وهي أقل اللغات"2، وجاء: "وفي أمالي القالي: لغة الحجاز ذَأي البقْل يذأى، وأهل نجد يقولون: ذوي يذوي"3 إلى غير ذلك، وفي ذكرهم لغة قريش ولغة أهل الحجاز، مع اللغات الأخرى في مثل هذه المواضع دلالة بينة على أن العربية الفصحى ليست عربية قريش، وإنما عربية أخرى، هي العربية التي نص عليها في القرآن، أي: العربية التي نزل بها الوحي، وإلا كان من السخف ذكر لغة قريش، حين الإشارة إلى الغريب والشاذ ومواضع الاختلاف. وأما استشهادهم بحديث: "أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش" أو "أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد"، أو "أنا أفصح من نطق بالضاد، بيد أني من قريش"4، لإثبات أن قريشًا كانوا أفصح العرب، بل أصل الفصاحة، فالحديث من الأحاديث، الغريبة الضعيفة، رواه أصحاب الغريب، كما نص على ذلك العلماء5، فهو لا يفيد حكمًا علميًّا لضعفه هذا، ولا يصلح أن يكون أساسًا لاستشهاد. وقد يكون من موضوعات العصبية العدنانية القحطانية، وقد يكون من الأحاديث التي رويت من باب الإشادة بقريش لكونهم قوم الرسول، وبالإشادة بذكرهم وتعظيمهم في كل شيء وجعل لسانهم أفصح الألسنة خدمة في رأيهم للإسلام وللرسول وللقرآن الكريم. وليس هذا بشيء غريب، فقد عهدنا أهل الأخبار يروون شعرًا ونثرًا على ألسنة التبابعة والأقوام الماضية بل والجن والكهان في الحث على الإيمان بالرسول، قبل ميلاد

_ 1 تاج العروس "9/ 174"، "حزن"، المزهر "1/ 215". 2 المزهر "1/ 215 وما بعدها". 3 المزهر "1/ 215". 4 المزهر "1/ 209 وما بعدها"، مجالس ثعلب "11"، "عبد السلام محمد هارون"، وورد "مَيْدَ أني"، "من أجل أني"، أنا أفصح العرب، "تربيت في أخوالي بني سعد، بيد أني من قريش". 5 المزهر "1/ 209 وما بعدها".

الرسول بزمن، وقبل ظهور الإسلام. وهو مقبول عندهم، ودليل ذلك تسطيره في كتبهم وروايتهم له. ولو تجوزنا وقبلنا بالحديث، واعتبرناه حديثًا صحيحًا، فإننا لا نستطيع مع ذلك أن نفهم منه ما فهموه هم من أنه عني أن قريشًا أفصح العرب، وأنه صار أفصح العرب، من أجل أنه من قريش، لأن معنى "بَيْد" على تفسير علماء العربية هو: "غير" و"على"، والأول أعلى. "يقال: رجل كثير المال، بيد أنه بخيل. معناه غير أنه بخيل"1، ولو أخذنا بالتفسيرين المذكورين قلنا: يجب أن يكون معنى الحديث على هذا النحو: "أنا أفصح العرب، غير أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد"، أو "أنا أفصح العرب، على أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد"، ومعناه بعبارة مبسطة أنا أفصح العرب، وإن كنت من قوم منهم، هم قريش، لهم لسانهم، وقد نشأت في بني سعد. وقريش كما نعلم بعض العرب، لا كل العرب. وليس في هذا المعنى أية دلالة على تخصيص قريش بالفصاحة، وعلى أن لسانها أفصح الألسنة. وكل ما فيه إشادة بفصاحة الرسول وحده، وإفادة بأنه أفصح العرب، فلا أحد أفصح وأنطق منه، فهو حديث يفيد التخصيص لا التعميم، وهو خاص بفصاحة الرسول. وهو لذلك لا يمكن أن يكون حجة على تفضيل لسان قريش على الألسنة الأخرى، ولأجل تحويله إلى حجة فسّروا لفظة "بيد" تفسيرًا جعل الفصاحة للرسول ولقومه فقالوا: "ويأتي بيد بمعنى: من أجل. ذكره ابن هشام"2، فصار معنى الحديث: "أنا أفصح العرب، من أجل أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد بن بكر". فالرسول وفق تفسيرهم هذا، أفصح العرب من أجل أنه من قريش، ففصاحته مستمدة منهم ومن "بني سعد بن بكر"، وصارت قريش في نظرهم أفصح العرب لسانًا، وأصفاهم لغة. مع أنهم يذكرون فيما يذكرون عن كلام الرسول، أن "عمر بن الخطاب" قال للرسول يومًا: "يا رسول الله، ما لك أفصحنا ولم تخرج من ظهورنا ... "3، وأن رجلًا آخر سأله بقوله: "يا رسول الله، ما أفصحك! فما رأينا الذي هو أعرب منك.

_ 1 تاج العروس "2/ 308"، "باد". 2 تاج العروس "2/ 308"، "باد". 3 المزهر "1/ 209".

قال: حق لي، فإنما أنزل القرآن عليَّ بلسان عربي مبين. وقال الخطابي: اعلم أن الله لما وضع رسوله موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه، اختار له من اللغات أعربها، ومن الألسن أفصحها وأبينها، ثم أمده بجوامع الكلم. قال: ومن فصاحته أنه تكلم بألفاظ اقتضبها لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها، كقوله: "مات حتف أنفه، وحمي الوطيس ... إلخ"1. وفي حديث "عمر" إن صح: "ولم تخرج من بين أظهرنا"2 صراحة بتعجب عمر من هذه الفصاحة التي كانت للرسول مع أنه لم يخرج من بين أظهرهم، أي: من مكة، ولو كان لسان قريش أفصح الألسنة لما قال عمر للرسول قوله المذكور، الذي يدل على أن الفصاحة في خارج قريش، وعند الأعراب. وفي جواب الرسول على الرجل من قوله: "حق لي، فإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين" 3، -إن صح هذا الحديث- تفنيدًا لقول القائلين بنزوله بلغة قريش، ولو كان قد نزل بلغتهم لقال: "بلسان قرشي مبين" ولم يقل أحد من العلماء: إن اللسان العربي، هو لسان قريش، بل نجدهم يقولون دائمًا: لسان قريش، ولغة قريش ونزل بلسان قريش، ويذكرون هذا اللسان مع الألسنة الأخرى، مثل لسان تميم، وهذيل، وبني سعد بن بكر. وأما ما قالوه من أن الوفود اليمنية التي وفدت على الرسول، لم تجد صعوبة في التفاهم معه، وأن الرسول حين أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن ليعظهم ويعلمهم ما وجد صعوبة في التفاهم معهم، وأنهم لو لم يكونوا يعرفون العربية الفصحى، لكان إرسال هؤلاء الدعاة عبثًا، "وكل هذه دلائل تدل على أن حركة تعريب واسعة في الجنوب حدثت قبيل الإسلام"4، فيعارضه ما ذكروه من أنه "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه -رضوان الله عليهم- ومن يفد عليه من

_ 1 المزهر "1/ 209". 2 المزهر "1/ 35". 3 المزهر "1/ 35". 4 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "122 وما بعدها"

وفود العرب الذين لا يوجه الخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره! فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه عما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الاختلاف فطريًّا في العرب فلم يلتفتوا إليه"1. وفي هذا الخبر -إن صح- دلالة على الضد، دلالة على أن العرب كانت على سجيتها ولسانها في كلامها، وأنها لم تكن تنطق بلسان قريش بل بألسنتها، وإلا لما تعجب علي وغيره من كيفية تفاهم الرسول مع القبائل وعدم تمكنهم هم من فهم كلامهم، مع أنه وإياهم من أب واحد، أي من قريش. ثم من أكد لنا أن معاذ بن جبل، وهو من الأنصار لم يجد صعوبة في تفاهمه مع أهل اليمن، وأن وفود اليمن لم تجد صعوبة في تفاهمنا مع الرسول، ومن أين جاء هذا التأكيد؟ والذي نعلمه أن الموارد لم تتحدث عن ذلك، بل الذي رأيناه هو العكس، وهو ما ذكرته في خبر علي مع النبي. أما لو أخذنا بما نجده في الموارد من كلام الوفود مع الرسول وجواب الرسول على كلامهم، وكله بهذه العربية المبينة، فقد قلت مرارًا: إن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ولا كلام الوفود مع الرسول بل ولا كلام الرسول وحده، أي: حديثه، وإن ما نقرأه من نصوص لا يمثل الأصل، وربما مثل المعنى، وقد يكون لا هذا ولا ذاك، وإنما روايات موضوعة، قد يحتمل أن يكون مع الوفود أناس يحسنون التكلم بالعربية المبينة، وأن بين أصحاب النبي من كان من العربية الجنوبية ومن القبائل التي كانت تتكلم بلهجات متباينة، فكانوا يقومون له بدور التفاهم والتقريب بين كلام الرسول وكلام الوفود. وأما ما زعموه من دور "عكاظ" في تهذيب اللغة، وأثر قريش فيه، فلئن كان لعكاظ أثر في تباري العرب في النثر وفي الشعر، فإنك لا تستطيع إرجاع هذا الأثر إلى عمل وفعل جماعة معينة، وليس في الذي تحدث به الرواة من أخبار عن "عكاظ" ما يحصر فعل هذا التهذيب بقريش، وما قريش إلا كغيرهم من

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 335"، "رواية اللغة".

قصاد هذا المكان من حيث المجيء للبيع والشراء والإتجار. لم تكن الحكومة لهم بعكاظ، وإنما كانت لتميم، وتميم من أشهر الناس في فنون الخطابة والكلام. ودليل ذلك، ما يورده أهل الأخبار عن خطبائهم وحكمائهم من كلام، وما ينسبونه إليهم من حكم وخطب بليغة، ثم إن هذه السوق لم تظهر إلا في أيام الرسول وقبل خمس عشرة سنة من الإسلام. وقيل: إنها اتخذت سوقًا بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وتركت عام خرجت الحرورية بمكة مع "المختار بن عوف" سنة تسع وعشرين ومائة1. وقد ذكر أهل الأخبار أن "عكاظ" سوق "كانت تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون، أي: يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ثم يتفرقون"، وأنهم كانوا "يقيمون شهرًا يتبايعون ويتفاخرون ويتناشدون شعرًا، فلما جاء الإسلام هدم ذلك"2، وذكروا أن الشاعر النابغة الذبياني كان يأتيها فينشد الناس من شعره، "وكان النابغة تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأنشده الأعشى أبو بصير، ثم أنشده حسان بن ثابت، ثم الشعراء، ثم جاءت الخنساء السلمية3 فأنشدته"4، وذكروا أن في شعر "أمية بن خلف" الخزاعي، إشارة إلى مكانة هذه السوق عند الشعراء، حيث يقول: ألا من مبلغ حسان عني ... مغلغلة تدب إلى عكاظ فأجابه "حسان" في أبيات تشير أيضًا إلى هذه الأهمية، وذلك بقوله: أتاني عن أميّة زور قول ... وما هو في المغيب بذي حفاظ سأنشر إن بقيت لكم كلامًا ... ينشر في المجنة مع عكاظ قوافي كالسلاح إذا استمرت ... من الصم المعجرفة الغلاظ4 فلم يشر حسان إلى أثر قريش في هذه السوق، ولم يشر أمية إلى قريش كذلك، والذي يفهم من الشعرين أن ذكر عكاظ فيهما، هو بسبب تجمع الناس في هذه

_ 1 الخزانة "2/ 503 وما بعدها"، "بولاق". 2 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ"، اللسان "7/ 448"، "عكظ". 3 الشعر والشعراء "1/ 261"، "خنساء بنت عمرو". 4 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ".

السوق، فما يقال فيها ويصرخ على رءوس الأشهاد ينتشر في كل مكان، ويأخذ صداه بين الحاضرين، ثم يذهب إلى الغائبين، ولهذا كانت أيضًا الموضع الذي يعلن فيه الناس خلع من يريدون خلعه للتبرؤ من جرائره، شأنها في ذلك شأن "سوق مجنة"، وهي أيضًا من أسواق الجاهلية وكانت على أميال من مكة1، وأنت ترى أن "حسان" قد ذكر أنه سينشر شعره فيها وفي عكاظ. مما يدل على أنها كانت ذات أهمية أيضًا من حيث النشر والإعلان، وأنها مثل عكاظ، ومثل أي سوق أخرى كبير من حيث تجمع الناس فيها والإعلان عما يقع لهم من أحداث. وأما ما ذكروه من إنشاد حسان للنابغة شعره: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ومن رد النابغة عليه بقوله: أنت شاعر، ولكنك أقللت جفناتك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك. فحكاية شك فيها العلماء، وإن كان هذا الشاهد من شواهد سيبويه. لأن الاعتراض لا يدور على الشاهد، وإنما على القصة. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها خبر مجهول لا أصل له. وهناك قوم أنكروا هذا البيت أصلًا، ومنهم من روى ملاحظة النابغة المزعومة بشكل آخر2" وفي الشكلين ما يوحي إلى أن القصة مفتعلة، وضعها الرواة لإيجاد مخرج للبيت. ولم أجد في المراجع المعتبرة القديمة نصًّا، يفيد أن الأمر كان لقريش في الحكم بين الشعراء أو الخطباء في سوق عكاظ. والنابغة الذي جعلوه حكمًا يحكم في أمر الشعر لم يكن من قريش، بل هو من "بني ذبيان"، وهو الحكم الوحيد الذي نص أهل الأخبار على اسمه، وزعموا أنه كانت له قبة حمراء من أدم، وكان ينشد شعره، وإليه تتحاكم الشعراء في أيهم أشعر، وكل الشعراء الذين ذكروهم هم: الأعشى، والخنساء، وحسان في قصة منمقة طريفة3. ولم أعثر حتى الآن على اسم حاكم آخر، آلت إليه حكومة الشعر في عكاظ، لا من قريش ولا من غير قريش. فأين إذن موقع قريش في هذه السوق من الإعراب.

_ 1 تاج العروس "9/ 164"، "جنن". 2 خزانة "3/ 430 وما بعدها". 3 المزهر "1/ 89".

وأما ما زعمه بعض أهل الأخبار من أن العرب في الجاهلية كان يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يُعْبأ به حتى يأتي مكة فيعرضه على قريش، فإن استحسنوه روي وكان فخرًا لقائله، وإن لم يستحسنوه طُرح وذهب فيما ذهب؛ وما روي عن "أبي عمرو بن العلاء" من قوله: كانت العرب تجتمع في كل عام بمكة، وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش"1. فروايات من نوع الروايات التي لا تتمكن من الوقوف على أرجلها، ولم نجد في كتب التأريخ والأخبار ما يؤيدها، وضعت لتبرير القصص الذي نسجوه عن أسطورة تعليق المعلّقات. ثم إننا لم نسمع بحبر الشعر الذي استحسنوه وأجازوه، غير شعر المعلقات، ولو كان ما نسب إلى "أبي عمرو بن العلاء" أو غيره حقًّا، من استحسان شعر وطرح شعر، لما سكت رواة الشعر من الإشارة إلى الشعر الذي استحسنه أهل مكة فنال بذلك شرف الاختيار والسيادة والرفعة، ولما غضوا النظر غضًّا تامًّا عن الإشارة إلى الشعر الذي لم يستحسنوه فسقط وذل، وفي ذكر الشعر الفاشل أهمية كبيرة في نظر الشعراء الخصوم، وفي نظر القبائل التي كانت تبحث وتتجسس على الهفوات والسقطات لاتخاذها مغمزًا تنال بها القبائل بعضها بعضًا! ثم كيف سكتت قريش عن هذا الشرف الذي كان لها قبل الإسلام، وقد رووا أنها نظرت فإذا حظها في الشعر أيام الجاهلية قليل، فاستكثرت منه في الإسلام، وأنها أضافت كثيرًا إلى شعر "حسان" للإساءة إليه، ولو كان هذا الشرف المزعوم، لما سكتوا عنه، ولما سكت من تبسط في تأريخ مكة، أو كتب في السيرة عن الإشارة إليه، لما فيه من أهمية كبيرة بالنسبة للتأريخ، ثم إننا لا نجد في القرآن الكريم شيئًا يشير إلى ذلك، مع تعرضه للشعراء، كما لا نجد في كتب الحديث أي شيء يدل على وجوده، مع أنها تعرضت للشعر، ولسماع الرسول له، وقد ذكرت أنه كان يسأل الصحابة أن ينشدوا شعر الشعراء له، إلى غير ذلك مما هو مدوّن في بطون هذه الكتب. وأما ما زعموه من أن العرب كانت تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولًا، وما ردوه منها كان مردودًا، فقدم عليهم علقمة بن عبدة التميمي، فأنشدهم قصيدته: هل ما علمت وما استودعت مكتوم، فقالوا:

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب اللغة "1/ 186".

هذا سمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل، فأنشدهم قصيدته: طحا قلب في الحسان طروب، فقالوا: هاتان سمطا الدهر"1. فخبر آحاد، وإن تواتر في الكتب، لم يروه "ابن سلام" ولا "ابن قتيبة"، وهو من نوع خبر تعليق المعلقات من الموضوعات التي أولدها أهل الأخبار. وفي الجدل الذي وقع بين علماء النحو وغيرهم في جواز أو عدم جواز الاحتجاج بالشعر على غريب القرآن ومشكله، دلالة بينة على إجماع الطرفين على أن كتاب الله إنما نزل بلسان عربي مبين، ولم ينزل بلسان قريش، الذي هو حرف من اللسان العربي. فقد قال المنكرون للاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر، إن معنى ذلك جعل الشعر أصلًا للقرآن، مع أن الشعر مذموم في القرآن والحديث، فردّ عليهم القائلون به بقولهم: "ليس الأمر كما تزعمون من أنا جعلنا الشعر أصلًا للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر، لأن الله تعالى قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 2، وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3. وقال ابن عباس: "الشعر ديوان العرب؛ فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه4". ولو كان القرآن قد نزل بلسان قريش، لما احتاج الناس إلى الشعر للاستشهاد به على فهم المشكل والغريب، وكان عليهم الرجوع إلى شعر قريش ونثرهم للاستشهاد به في توضيح ما فيه من مشكل وغريب، لا إلى شعر العرب وكلامهم من غير قريش، ثم إن في قولهم بوجود مشكل وغريب فيه، وحروف خفي أمر فهمها على العلماء، هو دليل في حد ذاته على أنه لم ينزل بلسان قريش، وإنما بلسان عربي مبين، فلو كان قد نزل بلسانهم لما خفي أمره على رجالهم، من مثل أبي بكر وعمر وغيرهما من رجال قريش. ونجد في المسائل المنسوبة إلى "نافع بن الأزرق"، التي سألها على ما يذكر الرواة "ابن عباس" في تفسير القرآن بالشعر، دلالة على أنه كان يرى أن

_ 1 الأغاني "21/ 112". 2 الزخرف، الآية2. 3 النحل، الآية 103. 4 السيوطي، الإتقان "2/ 55".

القرآن إنما نزل بلسان عربي، لا بلسان قريش، فقد روي أن "نافع بن الأزرق" قال لـ "نجدة بن عويمر": "قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنّا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا؛ وتأتينا بمصادقة من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فقال: ابن عباس: سَلاني عما بدا لكما، فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِين} 1، قال: العزون: الحلق الرقاق، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم؛ أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول: فجاءوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا2 وهي أسئلة مهمة اقترن جواب كل سؤال منها بشعر، من شعر شعراء الجاهلية والمخضرمين مثل: "عبيد بن الأبرص"، و"عنترة"، و"أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، و"لبيد"، و"طرفة بن العبد"، و"مالك بن عوف"، و"عبد الله بن الزبعرى"، و"حسان بن ثابت"، و"عديّ بن زيد" العبادي، و"أمية بن أبي الصلت"، و"أبو ذؤيب"، و"أبو محجن الثقفي"، و"امرؤ القيس"، و"الأعشى"، و"النابغة"، و"حمزة بن عبد المطلب"، و"زيد بن عمرو"، و"عبد الله بن رواحة"، و"زهير بن أبي سلمى"، و"عمرو بن كلثوم"، و"عبيد بن الأبرص"، و"كعب بن مالك"، و"أحيحة الأنصاري"، و"بشر بن أبي خازم"، و"مالك بن كنانة"، و"أبو طالب" و"مهلهل"، و"الحطيئة"، و"أوس بن حجر"، وشعر آخر لشعراء لم يشر إلى أسمائهم، وإنما كان يقول: "أما سمعت قول الشاعر"، وقد أمكن تشخيص بعضه، ولم يهتد إلى قائل البعض الآخر، كما استشهد بشعر نسبه إلى التبابعة3. وهي أجوبة مهمة، إن صح بالطبع أنها صحيحة، وأنها من أسئلة "نافع" وأجوبة "ابن عباس"، تفيد في تشخيص ذلك الشعر: وفي تثبيته، وإن كان من الصعب علينا التصديق

_ 1 المعارج، الآية37. 2 السيوطي. الإتقان "2/ 55 وما بعدها". 3 السيوطي، الإتقان "2/ 59-90".

بصحة هذه الأسئلة والأجوبة، التي أرى أنها وضعت في أيام العباسيين، ويمكن بالطبع التوصل إلى تثبيت زمان وضعها، بالبحث عن أقدم مورد وردت إشارة فيه إليها، فحينئذ يمكن تعيين الزمان الذي وضعت فيه بوجه تقريبي. وفي تفسير الغريب والمشكل من القرآن بالشعر، وقول علماء التفسير إن اللفظة من ألفاظ قبائل أخرى غير قرشية، وفي استفهام رجال قريش، وفي جملتهم رجال كانوا من أقرب الناس إلى الرسول، مثل "أبي بكر" و"عمر" عن ألفاظ وردت في القرآن لم يعرفوا معناها، مثل "أبّا"1، وفي رجوع "ابن عباس" إلى الأعراب، يسألهم عن ألفاظ وردت في القرآن أشكل عليه فهم معناها، وفي اعتماده في تفسيره للقرآن على الشعر، أقول في كل هذا وأمثاله دلالة واضحة على أن القرآن لم ينزل بلسان قريش، وإنما نزل بلسان العرب، ولو كان قد نزل بلغة قريش، كان استشهاد العلماء بالشعر وبلغات العرب في تفسير القرآن شيئًا عبثًا زائدًا، وكان عليهم تفسيره وتبيين معناه وتوضيحه بالاستشهاد بلغة قريش وحدها، لا بالشعر الجاهلي الذي هو شعر العرب، وبكلام العرب. ولو رجعنا إلى كتب التفسير والسير، نجد أنها قد فسرت الغامض من ألفاظ القرآن بالشعر. فقد استعان قدماء المفسرين في تفسير لفظة "سجى" بالشعر، فأورد "الطبري" مثلًا بيتًا من شعر "أعشى بني ثعلبة" في تفسيرها معناها، هو قوله: فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكم ... وبحرك ساج ما يوارى الدعامصا وبقول أحد الرجاز: يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج2 واستعان "ابن هشام" ببيت شعر لأمية بن الصلت، في تفسيرها، وهو قوله: إذ أتى موهنًا وقد نام صحبي ... وسجا الليل بالظلام البهيم3

_ 1 {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} سورة عبس، الآية31، الإتقان "2/ 4". 2 تفسير الطبري "30/ 145". 3 سيرة "1/ 161"، "حاشية على الروض".

وفسّر "الطبري" "عائلًا" بقول الشاعر: فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل1 ونجد في تفسير الطبري، وفي كتب التفسير الأخرى أمثلة لا تعد ولا تحصى من هذا القبيل، فسر فيها العلماء غريب ألفاظ القرآن وما صعب فهمه من الألفاظ بالشعر، حتى لا تكاد تقرأ صفحة أو جملة صفحات من كتب التفسير، إلا وتجد فيها شعرًا، استشهد به في تفسير كلمة أشكل فهمها على العلماء، فاستعانوا بالشعر لتوضيح معناها2. ولم يقف الاستشهاد بالشعر الجاهلي على الناحية المذكورة وحدها، بل استعين به في تفسير وتعليل أمور أخرى وردت في القرآن أشكل فهمها على العلماء، من ذلك أوجه العربية وقواعد النحو، فلما استقرى علماء العربية الشعر الجاهلي ولغات العرب، واستنبطوا منها القواعد، وجدوا أن بعضها لا يتماشى مع ما جاء في كتاب الله، فعمدوا إلى التأويل والبحث عن مخرج يوجهون ما جاء فيه وفق قواعد النحو التي قرروها، ولا سيما المواضع التي اختلف علماء النحو فيها، وجاءوا فيها بآراء مختلفة، في التوفيق بين القراءات في القرآن مثلًا، أو في الأمور المعضلة منه بالشعر، فقد اختلف قراء مكة، وقراء البصرة، والكوفة والشأم في الآية: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} 3. وأورد "الطبري" آراء علماء اللغة والنحو، ثم استشهد بقول طرفة بن العبد: ألا أيها الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي4 وأورد "الطبري" بيتين من الشعر للنابغة في تأويل الآية: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} ، اختلف

_ 1 تفسير الطبري "30/ 149". 2 أورد "الطبري" آراء المفسرين المختلفة في تفسير لفظة: "عضين"، وللتوكيد على المعنى جاء بالشعر في تفسيرها، راجع تفسيره "14/ 45"، "بولاق". 3 سورة البلد، رقم90، الآية11 وما بعدها. 4 تفسير الطبري "30/ 130"، بولاق.

في تأويلها علماء النحو1. وأورد بيتًا شاهدًا على جواز وضع "افعل" في موضع "فعيل" الوارد في تفسير كلمة واردة في سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} 2. وهناك مواضع كثيرة اختلف علماء النحو في تأويلها بالنسبة لمذاهبهم في أوجه النحو، فاستشهد كل عالم منهم بشاهد من الشعر، لتأييد رأيه في صحة ما ذهب إليه على زعمه، وقلما استشهد المفسرون والعلماء بشعر من شعراء قريش، أو بكلام من كلامهم، في تفسير القرآن، فلو كان كتاب الله قد نزل بلغتهم لكان من اللازم، إيجاد مخارجه بالاستشهاد بلغة قريش، لا بالشعر الجاهلي وبكلام القبائل الأخرى. وأنا لا أبتعد عن الصواب، إذا ما قلت: إن القرآن قد ساعد في جمع الشعر الجاهلي وفي حفظه، بسبب اضطرار العلماء على الاستعانة به، في دراسة كتاب الله وفهمه، وفي تثبيت قواعد اللغة التي وضعت لتحصين العربية، وجعلها في متناول يد مَن لا علم له بها، يستعين بها على النطق بها، وفقًا لمنطق العرب، وربما حمل ذلك البعض على انتحال الشعر للاستشهاد به في إيجاد مخرج في تأويل آية أو تفسير كلمة وردت في كتاب الله. إذن فقول من يقول: إن لغة قريش هي العربية الفصحى، وأنها لغة الأدب عند الجاهليين، قول بعيد عن الصواب، ولا يمكن أن يأخذ به من له أي إلمام بتأريخ الجاهلية ووقوف على نصوص الجاهليين، أخذ من روايات آحاد، وجدت لها انتشارًا في الكتب القديمة بنقلها بعضها عن بعض من غير نص على اسم السند والمرجع، فصارت وكأنها أخبار متواترة صحيحة أضاف المحدثون عليها عامل النفوذ السياسي والاقتصادي، والديني، لإكساء الفكرة القديمة ثوبًا جديدًا يناسب العصر الحديث، لتأخذ شكلًا مقبولًا. أما لو سألتني عن لغة القرآن الكريم، فأقول: إن القرآن قد ضبطها وعينها، إذ سماها {لِسَانًا عَرَبِيًّا} ،واللسان العربي هو لسان كل العرب، لا لسان بعض منهم، أو لسان خاصة منهم، هم قريش، ولو كان هذا اللسان، هو لسان قريش لنزل النص عليه في كتاب الله.

_ 1 والليل، الرقم92، الآية "19 وما بعدها"، تفسير الطبري "30/ 146"، "بولاق". 2 تفسير الطبري "30/ 145

إن قريشًا قوم من مضر في رأي علماء الأنساب، فلسانهم على هذا لسان من ألسنة مضر. وقد ورد "عن ابن مسعود: أنه كان يُستحب أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر"1، وورد عن "الأصمعي" قوله: "جرم: فصحاء العرب. قيل: وكيف وهم اليمن؟ فقال: لجوارهم مضر"2. فإذا كانت الفصاحة والعربية في مضر، فحري إذن نزول القرآن بلغة مضر، لا بلسان قريش. لقد تمسك علماء اللغة بقول بعضهم: "أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم أن قريشًا أفصحُ العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فجعل قريشًا قُطان حرمه، وولاة بيته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش، وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب"3. كما تمسكوا بقولهم: "كانت قريشٌ أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس، والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ من غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ من حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة، وغسان، وإياد، لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر

_ 1 المزهر "1/ 211". 2 الفائق "2/ 459". 3 المزهر "1/ 210".

لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عمان، لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم، والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها عِلمًا وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب"1. وعلة ذلك "ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل، ولو علم أن أهل المدينة باقون على فصاحتهم، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر، وكذا لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاص عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها، ترك تلقي ما يرد عنها"2. "وقد شك بعضهم في هذا القول؛ لأن قريشًا كانت تسكن مكة وما حولها وهم من أهل المدر، وقريش تجار، والتجارة تفسد اللغة، وكان هذا مما عيب على اليمن من ناحية لغتهم؛ لأن رسول الله نشأ في بني سعد بن بكر بن هوازن واسترضع فيهم، فتعلم الفصاحة منهم، وأن كثيرًا من غلمان قريش في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، كان يُرسل إلى بني سعد لعلم اللغة والفصاحة، ومن أجل هذا ظنوا أن هذا الرأي موضوع لإعلاء شأن قريش في اللغة؛ لأن رسول الله منهم. والذي يظهر لي أن سلامة اللغة من دخول الدخيل فيها أمر غير الفصاحة، وأن سلامة اللغة كانت في بني سعد خيرًا مما هي في قريش لأنهم أهل وبر، وأبعد عن التجارة وعن الاختلاط بالناس، وعلى العكس من ذلك قريش فهم أهل مدر، وكثير منهم كان يرحل إلى الشأم ومصر وغيرهما ويتاجر مع أهلها، ويسمع لغتهم، فهم من ناحية سلامة اللغة ينطبق عليهم ما انطبق على غيرهم ممن خالط الأمم الأخرى"3.

_ 1 المزهر "1/ 211 وما بعدها، 343". 2 الخصائص "1/ 405". 3 ضحى الإسلام "2/ 247".

فما قالوه من أن الاتصال والاختلاط بالأعاجم، يولد الفساد في اللغة، يتناول قريشًا قبل غيره من العرب نظرًا لما كان لهم في الجاهلية من اتصال ببلاد الشأم واليمن، وبالعراق وبالحبشة، ولوجود جاليات أعجمية، وعدد كبير من الرقيق بينهم، وما وجود المعربات في لغتهم إلا حجة على تأثر لسانهم بالأعاجم وأخذهم منهم، فهل يمكن أن يكون لسان قريش إذن أصفى ألسنة العرب وأنقاها مع وجود هذه الأمور التي أخذناها من ألسنة أهل الأخبار؟

الفصل الأربعون بعد المئة: اللسان العربي

الفصل الأربعون بعد المئة: اللسان العربي مدخل ... الفصل الأربعون بعد المئة: اللسان العربي والآن فلسان من، هو هذا اللسان العربي، لقد علمنا أنه لم يكن لسان العرب الجنوبيين، ولا لسان قوم ثمود أو اللحيانيين، أو الصفويين؛ لأن نصوصهم تثبت أنه قد كان لهم لسان آخر، يختلف عن هذا اللسان. وذكرنا أنه ليس بلسان قريش، وإنما قريش كغيرهم عرب من العرب، فهل هو لسان العدنانيين؟ وجوابنا: كلا، فقد علمنا أن العدنانية عصبية ظهرت في الإسلام، وأنها مضرية سميت عدنانية، وقلنا: إن الثقات من الرواة وقفوا في ذكر النسب عند "عدنان" ورووا أن النبي نهى عن الانتساس إلى ما بعده، وقلنا: إن اسمه لم يرد في شعر شاعر جاهلي، خلا ما نسب إلى الشاعر "العباس بن مرداس"، من قوله: وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بمذحج حتى طردوا كل مطرد1 وما نسب إلى لبيد، وهو من المخضرمين، من قوله: فإن لم تجد من دون عدنان والدًا2 وقلنا أشياء أخرى تثبت، "العدنانية" لم تظهر إلا في الإسلام، وأن اسم

_ 1 وفي رواية بغسان، مكان "بمذحج"، ابن هشام "1/ 6"، ابن سلام، طبقات "5". 2 طبقات ابن سلام "5".

"عدنان" لم يكن معروفًا في الجاهلية، وربما ظهر قبيل الإسلام، ولهذا فلا يعقل أن تكون العربية، عربية العدنانيين. إذن، فهل هي عربية مضر؟ فقد ورد في الأخبار أن "عمر بن الخطاب"، "لما أراد أن يكتب الإمام، أقعد له نفرًا من أصحابه، وقال: إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر، فإن القرآن نزل بلغة رجل من مضر"1، ونجد أهل الأخبار يذكرون أنه قال: "لا يملين في مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش، أو غلمان ثقيف"2. وليس بين الخبرين تناقض، لأن قريشًا من مضر، فيمكن حمل الخبرين على أنهما قصدا شيئًا واحدًا، هو أن القرآن نزل بلسان قريش، وقريش من مضر، ولكن مضر قبائل عديدة، سبق أن تحدثت عنها في الجزء الأول من هذا الكتاب، فيجب أن يكون نزول القرآن إذن بلغات هذه القبائل على هذا التفسير، وتكون العربية الفصحى إذن عربية "مضر"، أي: عربية القبائل التي يرجع أهل الأخبار نسبها إلى "مضر"، أو حلف مضر بتعبير علمي أصح، وليست عربية جماعة معينة منها، مثل قريش. ولكن أهل الأنساب، يجعلون لمضر أخًا هو "ربيعة"، وأخوين آخرين، هما "إياد" و"أنمار" على رأي من جعل "أنمارًا" ابنًا من أبناء نزار، فما هو حال لسانهم؟ هل يعد لسانهم لسان مضر، أم كانت لهم ألسنة أخرى؟ أما النصوص الجاهلية، فلا جواب فيها على هذا السؤال؛ لأنها لا تعرف عن لسان هؤلاء الأخوة شيئًا، ولم يرد فيها أي شيء من أسمائهم وأسماء قبائلهم، ثم إن هذه القبائل لم تترك لنا كتابة نستنبط منها شيئًا عنهم، إذن فنحن لا نستطيع أن نتحدث عنهم ولا عن لسانهم بأي شيء يستند إلى دليل جاهلي مكتوب. وأما الموارد الإسلامية، فتجعل لسانهم لسان مضر، وكيف لا تجعل لسانهم مثل لسان مضر، وهم أخوة من أب واحد. فإذا قلنا: إن لسان مضر، هو اللسان العربي الفصيح، وجب علينا القول بأن لسان إخوته كان مثل لسانه، وإذن فاللسان العربي الفصيح، هو لسان هذه المجموعة المكونة من ولد "نزار" وهي من ولد إسماعيل في النهاية على رأي أهل النسب والأخبار.

_ 1 ابن كثير، فضائل القرآن "20". 2 ابن كثير، فضائل "20"، المزهر "1/ 211".

إذن فنحن أمام مجموعتين من العربيات، مجموعة تكوِّن العربية الجنوبية، ومجموعة تكوِّن العربية الشمالية، وهي عربية الإسماعيليين، وذلك على مذهب أهل الأخبار. أما أنا، فأسمي هذه العربية، عربية "ال"، من سمة "ال" أداة التعريف التي تنفرد وتتميز بها عن بقية المجموعات اللغوية العربية: مجموعة "ن" "أن"، أي: المجموعة العربية الجنوبية، ومجموعة "هـ" "ها"، أي: المجموعة التي تعرِّف الأشياء بهذه الأداة: "هـ" "ها"، وتشمل اللحيانية، والثمودية، والصفوية. فكل منا استعمل "ال" أداة للتعريف، هو في نظري من الناطقين بهذه اللغة مهما كان نسبه وفي أي مكان كانت إقامته، ولذلك فالعربية الفصحى هي عربية مضر وعربية ربيعة، وعربية إياد وعربية أنمار وعربية كلب وكندة والأزد وكل المستعملين لهذه الأداة، حتى يظهر المستقبل نصوصًا جديدة، قد تأتي بأداة أخرى لتكوّن مجموعة جديدة من المجموعات اللغوية. نعم إن عربية "ال" لهجات، لها خصائص ومميزات، تحدث عن بعضها في فصل "لغات العرب"، ولكن الفروق بينها لا تختلف عن الفروق التي نجدها بين لهجات مجموعة "ن"، أو بين لهجات مجموعة "هـ"، لأنها فروق ليست كبيرة بحيث ترتفع إلى مستوى الاستقلال عن بقية اللهجات.

العربية الشمالية والعربية الجنوبية

العربية الشمالية والعربية الجنوبية: وقد اصطلح المستشرقون على رجع اللغات التي ظهرت في جزيرة العرب إلى أصلين: أصل شمالي يقال للغات التي تعود إليه: اللغات أو اللغة العربية الشمالية، وأصل جنوبي يقال للغات التي ترجع إليه: اللغات أو اللغة العربية الجنوبية1. وهذا التقسيم التقليدي للهجات العرب إنما خطر ببال المستشرقين من النظرية العربية الإسلامية التي ترجع العرب إلى أصلين: أصل عدناني، وأصل قحطاني. ونظرًا إلى عثورهم على كتابات عربية جنوبية تختلف في لغتها وفي خطها عن العربية القرآنية، رسخ في أذهانهم هذا التقسيم، وقسموا لغات العرب إلى مجموعتين لسهولة البحث حين النظر في اللغات واللهجات.

_ 1 Ignace Goldzlher, History of Classical Arabic Literature, P. 2

وبين العربيتين تباين واختلاف، ما في ذلك من شك. من ذلك أن الفعل في العربيات الجنوبية وليد المصدر، وأن أداة التعريف فيها تكون في أواخر الكلم، لا في أوائلها كما هو الحال في عربيتنا، وأن حرف "الميم" هو أداة التنكير في العربيات الجنوبية، إلى فروق أخرى، تحدثت عنها في الجزء السابع من كتابي القديم "تأريخ العرب في الإسلام". وإذا كنا لا نزال في جهل عن حقيقة اسم "عدنان"، الذي لم نعثر عليه حتى اليوم في نص من نصوص المسند، فإن في وسعنا التحدث عن "قحطان"، الذي سبق أن أشرت إلى أن أهل الأنساب أخذوه من التوراة. فهو اسم مهما قيل فيه، فقد أخذ من مصدر قديم يعود إلى ما قبل الميلاد. ثم أنه أورد في النص العربي الجنوبي الذي وسم بـ "Jamme 635"، الذي دونه قائد الجيش "أبكرب أحرس بن أبلم"، "أبكرب أحرس بن أبل"، أو "أبكرب أحرس" من "آل أبل" "آل أبال"، وذلك لمناسبة عودته سالمًا من حرب قادها بأمر ملكه وسيده الملك "شعر أوتر" ملك سبأ وذي ريدان، ابن الملك "علهان نهفان" ملك سبأ وذو ريدان. وقد شمل القتال أرضًا واسعة، هي "أشعران"، أرض الأشعريين و"بحر"، والقبائل القاطنة حول مدينة "نجران"، ثم الأحباش الذين كانوا يحاربون معهم ويؤازرونهم في قتالهم ضد السبئيين، ثم سكان مدينة "قريتم" "قرية" الذين كانوا من "كاهل" "كهلم"، ثم في الصدامين اللذين وقعا مع "ربعت" "ربيعة" "ذ آل ثور"، "ربيعة" من "آل ثور"، ملك "كدت" "كندة" وقحطان "قحطن"، وكذلك ضد "أبعل" أي: سادة مدينة "قريتم"1. ويفهم من النص أن "ربعت ذ الثورم"، هو اسم رجل، اسمه "ربيعة" من "آل ثور". وكان كما يقول النص ملكًا على "كندة" و"قحطان"2. ويذكر أهل الأخبار، أن "كندة" اسم قبيلة وأبو حي من اليمن، وهم من نسل "ثور بن مرة بن أدد بن زيد"، وقيل: "بنو مرتع بن ثور"، أو

_ 1 الأسطر 22-29 من النص. 2 السطر 26-27 من النص، "ربعت ذا الثورم ملك كدت وقحطن"، REP. EPIG. 4304

"كندة بن ثور"، وقيل: إن ثورًا هو مرتع، وكندة هو أبوه، إلى غير ذلك من آراء1، تريك أن شيئًا من الواقع كان عند أهل الأخبار عن هذه القبيلة، غير أنهم لم يكونوا يعرفون شيئًا واضحًا عنه. وترى من هذا النص أن "آل ثور" اسم أسرة كانت تحكم قبيلتي "كدت" "كندة" و"قحطان"، وأن رئيسها إذ ذاك هو "ربيعة" الذي لم يرد اسم والده. وقد جعل أهل الأخبار من "آل ثور" رجلًا جعلوه أبًا لقبيلة كندة، ثم حاروا في نسبه. ويتبين من هذا النص أن "قحطان" كانوا في هذا العهد تحت حكم "ربيعة" الذي هو من "آل ثور". وقد جعل "جامة" حكم "شعر أوتر" الذي سبق أن تحدثت عنه بتفصيل في الجزء الثاني من هذا الكتاب2 في حوالي السنة "65" قبل الميلاد3، وقد بنيت آراء بقية الباحثين في وقت حكمه، فنكون بذلك قد وقفنا على اسم قحطان وكندة في نص يعود عهده إلى حوالي القرن الأول قبل الميلاد. وقد كانتا مثل أهل "قرية" وأهل "نجران" في حرب مع السبئين. وهذا النص هو أقدم نص عربي جنوبي وصل فيه اسم "قحطان" و"كدت" "كندة" إلينا حتى الآن. ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن لهجة "قحطان" و"كدت" "كندة"، وذلك بسبب عدم وصول كتابات منهما إلينا، ولكننا لا نستبعد احتمال كون لغتهما من مجموعة اللغات العربية الجنوبية؛ لأن مواطنهما كانت في العربية الجنوبية في هذا العهد، أما بطون "كندة" التي نزلت "نجدًا" والتي ذهب بعضها إلى العراق، فنحن لا ندري إذا كانت لهجتهما قد تغيرت، فصارت عربية شمالية، بدليل نظم "امرئ القيس" الكندري وبقية شعراء الكندة الشعر بهذه العربية، أم أنها كانت تتكلم بالعربيتين، إلا أن شعراءها كانوا ينظمون الشعر بالعربية المعهودة مجاراة للقبائل الشمالية التي كانت تجاورها والتي احتكت بها، وقد تكون هذه البطون قد هاجرت من العربية الجنوبية قبل الميلاد، فأقامت بنجد، وتعربت من ثم بالعربية الشمالية، وقد تكون "كدت" قبيلة عربية جنوبية غير "كندة"،

_ 1 تاج العروس "2/ 487"، "كند". 2 "ص369 وما بعدها". 3 JAMME, Sabaean Inscriptions from Mahram Bilgts, P. 391

بقيت في اليمن إلى الإسلام، إذ ورد اسمها في نص "أبرهة" أيضًا، ونظرًا إلى التشابه فيما بين "كدت" "كدة" و"كندة" ربط النسابون بين الاثنين، وجعلوا نسب كندة "كدت". فتكون "كندة" بذلك من القبائل العربية الشمالية، و"كدت" من القبائل العربية الجنوبية، أقول هذه الآراء على سبيل الاحتمالات لأني من الأشخاص الذين يكرهون البت في الأمور العلمية لمجرد حدث أو ظن، ومن غير دليل علمي مقنع. والبت في مثل هذه الأمور لا يكون مقبولًا عندي إلا إذا استند على نص جاهلي، أو بدليل معقول مقبول، وحيث إننا لا نملكه الآن، فأترك هذه الاحتمالات إلى المستقبل علّه يتمكن من العثور على نصوص جاهلية تكشف القناع عنها، تأتي إلينا بالجواب الواضح الصحيح. ولكننا نجد في الوقت نفسه -وكما سبق أن ذكرت- أن هنالك لهجات عربية مثل الثمودية والصفوية، تستعمل "الهاء" أداة تعريف بدلًا من الألف واللام في عربيتنا، فيقال: "هملك"، و"هدار" بمعنى "الملك" و"الدار". وذلك كما في العبرانية، إذ تستعمل الهاء فيها أداة للتعريف، ويقوم "ذ" فيها مقام الاسم الموصول كما عند طيء في قديم الزمان، إلى خصائص أخرى تجعلها مجموعة أخرى لا هي عربية جنوبية ولا هي عربية شمالية. كما تبين من دراسة بعض الكتابات الجاهلية، مثل الكتابات التي عثر عليها في "القرية" وفي جبل "عبيد"، وفي شمال خشم كمدة أن لها خصائص انفردت بها عن المجموعتين، وقد وردت فيها أسماء كثيرة لم ترد في الكتابات العربية الجنوبية وفي عربية "هـ"، مما يجعلها أهلًا لأن تكون موضع دراسة خاصة في المستقبل، لعلها تكون مجموعة لغوية جديدة قائمة بذاتها، أو حلقة مفقودة بين اللغات الجاهلية المندثرة. ووجود مثل هذا التباين الذي اكتشف من الكتابات، هو الذي دفعني إلى التفكير في إعادة النظر في تقسيم اللغات العربية إلى مجموعتين، وعلى التفكير بتقسيمها إلى مجموعات ذات خصائص لغوية متشابهة، تستنبط بالدرجة الأولى من أداة التعريف التي هي المميز الوحيد الذي يميز بين لهجات الجاهليين. ونلاحظ أن عربية الـ"ن" "ان" مصطلحات غير موجودة في العربية الفصيحة لكنها موجودة في العبرانية. وفيها عدد غير قليل من الكلمات المجهولة في اللغات

السامية الأخرى، صعب على العلماء إدراكها بسبب ذلك، فاكتفوا باستخلاص معناها من وضعها في الجمل، وذلك بصورة تقريبية1. كما نلاحظ أن الأسماء فيها، تختلف عن الأسماء المعروفة عند العرب الشماليين، وأن الأسماء الواردة في كتابات المسند المتأخرة، تختلف بعض الاختلاف عن الأسماء الواردة في النصوص القديمة، فقد تغلبت البساطة على الأسماء المتأخرة، حتى صارت تشاكل أسماء العرب الشماليين المألوفة عند ظهور الإسلام. وقد لاحظ "الهمداني" هذه الظاهرة، فعبر عنها بقوله: "فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل فخففتها العرب وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة. فإذا سمعوا منها الاسم الموفر، خال الجاهل أنه غير ذلك الاسم وهو هو2. وخير ما يمكن أن نفعله في نظري لمعرفة المتكلمين بالعربية الفصحى، هو أن نقوم بالبحث عن الخصائص النحوية والصرفية واللفظية التي تميزها عن بقية العربيات، فإذا ضبطناها استطعنا تعيين من كان يتكلم بها. ولما كنّا لا نملك نصوصًا جاهلية مدوّنة بها، صار من الصعب علينا التوصل إلى نتائج علمية إيجابية مرضية، تحدد القبائل والأماكن التي تكلمت بها تحديدًا صحيحًا مضبوطًا، غير أن المثل العربي يقول: ما لا يدرك كله لا يترك جله، فإذا عسر علينا الحصول على نتائج كلية مقنعة، فلا بأس من الرضا بالحصول على جزء أو بعض من نتائج قد تقدم لنا معرفة وعلما. ونحن إذا سرنا وفق حكمة هذا المثل، ودرسنا خصائص هذه العربية، نجد أن من أولى ميزاتها استعمالها "ال" أداة للتعريف، تدخلها على أول الأسماء النكرة، فتحيلها إلى أسماء معرفة، بينما نجد العربيات الأخرى التي عثر على نصوص جاهلية مدوّنة بها تستعمل أدوات تعريف أخرى. ولما كنّا نعرف المواضع التي عثر فيها على هذه النصوص، صار في إمكاننا حصرها، وبذلك نستطيع التكهن عن المواضع التي كان يتكلم أهلها بالعربية التي تستعمل "ال" أداة للتعريف، أي: هذه العربية الفصحى. ولما كانت العربية الجنوبية قد استعملت الـ "ن" "ان" أداة للتعريف، تلحقها في أواخر الأسماء المنكرة، وحيث أننا لم نتمكن حتى الآن من الحصول على نص في هذه الأرضين استعمل "ال" أداة للتعريف فباستطاعتنا القول: إن سكانها لم يدوّنوا بالعربية القرآنية،

_ 1 ولفنسون، السامية "246 وما بعدها". 2 الإكليل "1/ 13".

بل كان تدوينهم وكلامهم بالعربية الجنوبية التي كانت تضم جملة لهجات. ولما كان آخر نص عثر عليه مدوّن بالمسند، يعود تأريخه إلى سنة "554" للميلاد1، صار في إمكاننا القول بأن العربية الجنوبية كانت وبقيت لسانًا للعرب الجنوبيين إلى ظهور الإسلام. ونظرًا لعثور الباحثين على كتابات مدوّنة بالمسند، في "القرية" أو "قرية الفأو" وفي مواضع أخرى من "وادي الفأو"، وفي مواضع من "وادي الدواسر"، وفي مواضع تقع جنوبي خشم العرض، فإن في استطاعتنا القول إن أهل هذه الأرين كانوا يكتبون بالمسند2، ويتكلمون بلغات عربية جنوبية، اختلفت بعض الاختلاف عن العربيات الجنوبية المستعملة في العربية الجنوبية. فهي إذن من المناطق التي لم يتكلم أهلها بالعربية القرآنية. ونظرًا لما نجده من وجود بعض الاختلاف بين عربية هذه المنطقة وعربية العربية الجنوبية، فإننا نستطيع القول بأنها تكون مرحلة وسطى بين العربيات الجنوبية والعربية القرآنية، وحيث أن كثيرًا من هذه الكتابات لم يكتب لها النشر، ولوجود كتابات أخرى لم يتمكن الباحثون من نقشها أو تصويرها، فمن المحتمل في رأيي مجيء يوم قد يعثر فيه على لهجات جديدة، قد تزيح الستار عن أسرار اللغات عند الجاهليين، وقد تكون مجموعات لغوية جديدة من مجموعات اللغات العربية عند أهل الجاهلية. وقد عثر في العربية الشرقية على كتابات جاهلية مدوّنة بالمسند هي وإن كانت قليلة، إلا أنها ذات أهمية كبيرة بالنسبة للباحث في تأريخ تطور الكتابة عند العرب، وللباحث في اللهجات العربية الجاهلية. فقد ثبت منها أن أصحاب هذه الكتابات كانوا يتكلمون بلهجات غير بعيدة عن اللهجة العربية القرآنية، وإن كتبوا بالمسند. ويلاحظ من النص الذي هو شاهد قبر رجل اسمه "إيليا بن عين بن شصر" أنه استعمل لفظة "ذ" بمعنى "من" ونأسف لأن هذه النصوص القليلة قصيرة، وفي أمور شخصية قد خلت من أداة التعريف؛ لذلك لا نستطيع تثبيت لهجتها بصورة أكيدة3.

_ 1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 22". 2 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 195 وما بعدها". 3 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 193 وما بعدها".

واستنادًا إلى النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية، التي استعملت الـ"هـ" "ها" أداة للتعريف، نستطيع أن نقول: إن أصحاب هذه اللهجات يكوّنون مجموعة من اللغات قائمة بذاتها، تختلف عن العربية الجنوبية وعن العربية القرآنية. وهي تشارك العبرانية في استعمال الأداة المذكورة في التعريف، ولكنها تقارب عربية "ال" في استعمال المفردات. وأما النبط، وهم عرب من العرب الشماليين، فقد استعملوا أداتين للتعريف، أداة هي حرف الألف الممدود اللاحق بآخر الاسم، مثل "ملكا" بمعنى "الملك"، و"مسجدا"، بمعنى "المسجد"، وأداة أخرى، هي أداة "ال" التي نستعملها في عربيتنا. وفي استعمال النبط لأداتين للتعريف، دلالة على تأثرهم بالآراميين وبالعرب المتكلمين باللغة العربية القرآنية، أو العرب المستعملين لأداة التعريف "ال" بتعبير أصح. والنبطية نفسها، لغة وسط، جمعت بين الآرامية والعربية، فبينما نجدها تستعمل الآرامية، إذا بها تخلط معها ألفاظًا وتراكيب عربية فصيحة. وذلك بسبب اختلاط النبط بالآراميين وتأثرهم بثقافتهم، واحتكاكهم بالأعراب، وكونهم عربًا في الأصل1. ومعنى هذا أن العرب الذين كانوا يجاورون النبط، وهم عرب البوادي كانوا من المتكلمين بأداة التعريف "ال"، سمة العربية الفصيحة. وأما النصوص المدونة بنبطية مشوبة بمصطلحات عربية، وأهمها نص "حرّان" الذي يعود تأريخه إلى سنة "328" للميلاد، فإنه يفصح عن قوم عرب أو نبط لاستعمالهم "ال" أداة للتعريف في الألفاظ: "التج" بمعنى "التاج"، وفي "الأسدين"، بمعنى "أسد"، وفي "الشعوب". وأرجح كونهم عربًا، لاستعمالهم جملًا عربية فصيحة بينة في هذا النص، مثل: "ملك العرب"، و"مدينة شمر"، و"نزل بنيه الشعوب"، و"فلم يبلغ ملك مبلغه"، فهذه جمل عربية، أصحابها عرب، وإن كتبوا بالنبطية، وقد تفصح عن عربية أهل الحيرة في ذلك الوقت؛ لأن الملك المتوفى، وهو "امرؤ القيس"، هو من ملوك الحيرة، والنص المكتوب، هو شاخص قبره، فمن المعقول تصور أن الكتابة كتبت بلغة أهل الحيرة في ذلك العهد2.

_ 1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "7/ 305 وما بعدها". 2 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "7/ 273 وما بعدها".

ويظهر من استعمال كتابة "زبد" التي يعود عهدها إلى سنة "512" للميلاد، لجملة "بسم الإلَه"، أن صاحبها وأن كتب بالنبطية، غير أنه كان من النبط المستعملين لـ"ال" أداة للتعريف. وأما الكتابة المعروفة بكتابة "حران"، فإنها أقرب هذه النصوص إلى العربية القرآنية. كما يتبين ذلك من نصها العربي، وهو: أنا شرحيل بر ظلمو، بنيت ذا المرطول سنت 463، بعد مفسد خيبر بعم. أي: "أنا شرحيل" "شراحيل" بن ظالم، بنيت هذا المرطول سنة 463، بعد خراب "غزو" خيبر بعام. ويقابل تأريخ هذا النص سنة "568" للميلاد1. وعربية هذا النص، عربية واضحة، ليس فيها ما يحاسب عليه بالقياس إلى عربيتنا، إلا جملة "بر ظلموا" المكتوبة على وفق القواعد النبطية. ويلاحظ أنها استعملت "ال" أداة للتعريف، ولاحظت قواعد النحو في جملة: "بنيت ذا المرطول" المستعملة في عربيتنا، مما يدل على أن صاحبها كان يراعي الإعراب في لسانه. وأنه من قوم كانوا يراعون قواعد الإعراب في كلامهم. إذن فنحن أمام قوم عرب، نبط، لسانهم العربي من مجموعة "ال"، أي: من العربية المستخدمة لـ"ال" أداة للتعريف، منازلهم أطراف بلاد الشأم، وشواطئ الفرات العربية. وإذا تذكرنا أن السريان كانوا على الحيرة "حبرتا دي طياية"، وأنهم كانوا يطلقون لفظة "طياية" في مرادف "عرب"، عرفنا إذن، أن أهلها كانوا من العرب2، ولما كان نص "النمارة" قد كتب بنبطية متأثرة بعربية "ال"، نستطيع أن نقول: إن عرب الحيرة كانوا من المتكلمين بهذه العربية. يتبين لنا مما تقدم، أن العرب الذين كانوا يقطنون الحيرة والأنبار، أو عرب العراق بتعبير أصح، ثم عرب بلاد الشام، وعرب البوادي، وجزيرة العرب باستثناء المواضع التي أمدتنا بالكتابات، كانوا يتكلمون بعربية "ال" أي: العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ودوّن بها الشعر الجاهلي. وهي عربية أساسية، جمعت شمل لغات ولهجات، على نحو ما وجدنا في العربية الجنوبية من اشتمالها على جملة لهجات، وما وجدناه في اللهجة العربية الشمالية الغربية، المستعملة لـ"هـ" "ها" أداة للتعريف.

_ 1 جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "7/ 280". 2 المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 156".

فأهل نجد وبادية الشأم، وعرب العراق وبلاد الشأم والحجاز، كانوا هم المتكلمين بهذه العربية التي تعرّف النكرة بأداة التعريف "ال"، وذلك قبل الإسلام، أما المواطن الأخرى، فلها لهجاتها الخاصة، وبينها لهجات تأثرت بخصائص مجموعة "ال". وقد غلب الإسلام هذه العربية على اللهجات الأخرى، فصارت الأكثرية تتكلم بها، إلا في المواضع المنعزلة، التي بقيت شبه مستقلة، حيث احتفظت ببعض خصائص لهجاتها القديمة، كالذي نراه اليوم في مهرة وفي الشحر وفي مواضع أخرى من العربية الجنوبية التي تتكلم بلهجات لا نفهمها عنهم هي من بقايا اللهجات الجاهلية. وللوقوف على خصائص اللهجات المكونة لعربية الـ"ن" "ان"، أرى أن من الضروري وجوب إرسال بعثات علمية إلى العربية الجنوبية لدراسة اللهجات المحلية، وهي عديدة وتسجيلها على الأشرطة من أفواه المتكلمين بها، ولدراسة قواعدها النحوية والصرفية وأصول نظم الشعر عند المتكلمين بها، وتفيدنا دراسة نظم الشعر خاصة عند العرب الجنوبيين الحاليين فائدة كبيرة في الوقوف على أسس نظم الشعر عندهم أيام الجاهلية، وعلى الفروق الكائنة بين نظمهم قبل الإسلام، ونظم بقية العرب الجاهليين. ولا بد أيضًا من مقارنة نظمهم في الوقت الحاضر، بنظم الأعراب في المملكة العربية السعودية، للوقوف على الفروق بين النظمين، وستكون هذه الفروق هاديًا لنا في الوقوف على الفروق التي كانت بين النظم عند شعراء الجاهلية في بلاد الشام والعراق ونجد والبحرين واليمامة والحجاب والعربية الجنوبية. وسوف تساعدنا دراسة لهجات المملكة الأردنية الهاشمية، المملكة التي كانت تعرف بـ"ادوم" في التأريخ، وكذلك لهجات أعالي الحجاز في الوقت الحاضر، فائدة كبيرة في الوقوف على خصائص لهجة عربية الـ"هـ" "ها"، وفي استنباط قواعدها منها. فلا بد وأن تكون في اللهجة "البلقاوية"1، وفي اللهجات المحلية الأخرى بقايا من تلك اللغة، مندمجة مع عربية "ال" التي تغلبت على لسانهم منذ الفتح الإسلامي الذي بدأ لتلك البلاد عام "633" للميلاد2. ولا بد من دراسة

_ 1 نسبة إلى البلقاء. 2 Andrzej Czapkiewicz, Sprachproben Aus Madaba, Polska Akademia Nauk, Krakow, 1960.

أصول نظمهم في لغاتهم الدارجة هذه للاهتداء بها على أصول النظم عندهم قبل الإسلام، وعلى المؤثرات التي أثرت على نظمهم وما يمتاز به عن أصول النظم عند بقية العرب في الوقت الحاضر أيضًا. ولما كنا لا نملك نصوصًا جاهلية بعربية "ال" غير ما ذكرته من النصوص النبطية المشوبة بعربية "ال". ولما كانت هذه العربية ذات لهجات ولغات، عرفت أسماؤها وضبطت في الإسلام، وبينها فروق ومميزات، كما بينت ذلك في الملاحظات البسيطة السطحية التي جمعها عنها علماء العربية، ولما كنا لا نملك عن هذه اللهجات غير تلك الملاحظات التي أوجزتها في فصل: لغات العرب، فإن من اللازم ضم دراسة ما سيقوم به علماؤنا في المستقبل عن اللهجات الحالية في مختلف أنحاء جزيرة العرب إلى دراسة العلماء المتقدمين، لتكمل إحداهما الأخرى، وستتولد منهما ولا شك دراسة علمية قيمة، تفيدنا في الاهتداء إلى معرفة خصائص اللغات العربية قبل الإسلام. لقد توصلت من دراسة ملاحظات أولئك العلماء، إلى أن هذه اللهجات لم تكن تختلف في كيفية النطق بالحروف، وفي القواعد الصرفية فقط، لكنها كانت تختلف فيما بينها في القواعد النحوية أيضًا، مثل حذف الياء من الفعل المعتل بها إذا أُكد بنون في لغة طيء وفزارة1، ومثل "ذو" الطائية التي يلازم إعرابها بالواو في كل موضع2، ومثل إعراب المثنى بالألف مطلقًا، رفعًا ونصبًا وجرًّا، في لغة بلحرث، وخثعم، وكنانة3، ومثل "هَلُمَّ" في لغة أهل الحجاز التي تلزم حالة واحدة على اختلاف ما تسند إليه مفردًا أو مثنى أو جمعًا، مذكرًا أو مؤنثًا، وتلزم في كل ذلك الفتح، بينما تتغير بحسب الإسناد في لغة نجد من بني تميم4، إلى غير ذلك من أمور تحدثت عنها في فصل: لغات العرب، وهي لو جمعت في مكان واحد ودرست بعناية ودقة، دلت على أن الفروق بين هذه اللهجات في القواعد هي أعمق بكثير مما يظن.

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 142". 2 المصدر نفسه "1/ 144". 3 كذلك "1/ 145". 4 أيضًا "1/ 148".

ومع وجود هذه الاختلافات والفروق، كان بإمكان المتكلمين بهذه اللغات الثانوية المتفرعة من المجموعات اللغوية، التفاهم فيما بينهم، كما يتفاهم العراقيون والمصريون وأهل المغرب بعضهم مع بعض مع تكلمهم بألسنة ذات لهجات مختلفة. فكان في استطاعة أهل نجد التفاهم مع عرب الحيرة، وفي استطاعة أهل مكة التفاهم مع أهل الحيرة، والعكس بالعكس، مع وجود صعوبات بالطبع في فهم النطق باللهجة، وفي إدراك مخارج بعض الحروف واختلاف القبائل في النطق بها، ووجود كلمات غريبة في لغة، قد لا توجد في لغة أخرى. إلا أن هذه الفروق لم تكن شديدة عميقة، بحيث جعلت فهم العرب بعضهم بعضًا أمرًا صعبًا، أو صيرت اللغات وكأنها لغات أعجمية، لا يفهم المتخاطبون بها أحدهم الآخر. ودليل ذلك أننا نجد الوفود التي وفدت إلى المدينة، لمبايعة الرسول على الإسلام، تكلم الرسول وتتفاهم معه ومع أصحابه، وتخطب أو تنشد الشعر أمامه، وهو يفهمهم، وهم يفهمونه من دون صعوبة ولا كلفة كبيرة، لأن أمر هذه اللغات لم يكن على نحو ما تصوره بعضهم من التباين والاختلاف، والبعد بين الألسنة. اللهم إلا ما كان من أمر أهل العربية الجنوبية، فقد كانوا يرطنون، بدليل ما جاء في كتاب رسول الله إلى "عياش بن أبي ربيعة المخزومي" حين أرسله برسالة إلى أبناء "عبد كلال" الحميري، فقد قال له فيها: "وهم قارئون عليك، فإذا رطنوا، فقل: ترجموا" 1. وربما كان منهم من لا يفقه عربية المسلمين، الناطقين بعربية "ال"، فكان يترجم لهم بعض من لهم علم وفقه بالعربيات الجنوبية وبعربية القرآن. وبدليل ثان، هو أن المسلمين لما حاصروا القصر الأبيض من قصور الحيرة، سمعوا أهل القصر، يصرخون: "عليكم الخزازيف"، "فقال ضرار: تنحوا لا ينالكم الرمي، حتى ننظر في الذي هتفوا به، فلم يلبث أن امتلأ رأسُ القصر من رجال متعلقي المخالي، يرمون المسلمين بالخزازيف، وهي المداحي من الخزف"2، فلم يفهم المسلمون معنى "الخزازيف" في بادئ الأمر لكنهم عرفوا أنهم يعنون شيئًا له صلة بالدفاع عن القصر، ثم عرفوه، بعد نزول سيل من "الخزف" عليهم. وكان أهل "الحيرة" ينطقون بالعربية، فلما قال

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 282"، "بيروت 1957م". 2 الطبري "3/ 360 وما بعدها".

"خالد بن الوليد" لأصحاب عدي بن العبادي: "ويحكم! ما أنتم! أعرب؟ فما تنقمون من العرب! أو عجم؟ فما تنقمون من الانصاف والعدل! فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عديّ: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت"1. وقد كانت لهم مدارس تدرس العربية، كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، ومنهم أخذ أهل مكة كتابتهم، كما يذكر ذلك أهل الأخبار. فنحن نجد أن العرب كانوا يتكلمون على مقتضى سجيتهم التي فطروا عليها، ومع ذلك فقد كانوا يتفاهمون ويدركون المعاني، ولو كانوا من قبائل متباعدة، ومن أماكن متنائية. "قال ابن هشام في شرح الشواهد: كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن ههنا كثرت الروايات في بعض الأبيات"2. ولما حاصر "خالد بن الوليد" الأنبار، "تصايح عرب الأنبار يومئذ من السور، وقالوا: صبح الأنبار شرٌ"3. ولما اطمأن بالأنبار "وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب. نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا"4. فأهل الأنبار مثل أهل الحيرة عرب، كانوا يتكلمون العربية، وهي عربية فهمها خالد ومن كان معه من رجال قبائل، ولو كانت عربيتهم عربية قريش، لما سكتوا من النص عليها، لما في ذلك من تقرب إلى قريش. قال الأزهري: "وجعل الله -عزّ وجل- القرآن المنزل على النبي المرسل محمد، صلى الله عليه وسلم، عربيًّا؛ لأنه نسبه إلى العرب الذين أنزله بلسانهم، وهم النبي والمهاجرون والأنصار الذين صيغة لسانهم لغة العرب، في باديتها وقراها العربية، جعل النبي، صلى الله عليه وسلم عربيًّا؛ لأنه من صريح العرب، ولو أن قومًا من الأعراب الذين يسكنون البادية حضروا القرى العربية وغيرها، وتناءوا معهم فيها، سمّوا عربًا ولم يسمّوا

_ 1 الطبري "3/ 361"، "حديث يوم المقر وفم فرات بادقلي". 2 المزهر "1/ 261". 3 الطبري "3/ 374". 4 الطبري "3/ 375".

أعرابًا". "والعربية هي هذه اللغة". "والعرب: هذا الجيل"1. أما لو سألتني رأيي في هذه الخطب التي دوّنها أهل السير والتواريخ والأخبار للوفود التي وفدت على الرسول لمبايعته، أو عن حديث الصحابة معه قبل الهجرة أو بعدها، فأقول لك بكل صراحة، إن هذه النصوص: نصوص كلام الرسول مع الصحابة، ونصوص كلام الصحابة معه، هي نصوص وردت إلينا بأفواه الرواة، كلامها كلامهم، وعباراتها عباراتهم، أما المعاني -أي: المضامين- فهي التي أخذت بالرواية، وفي بعضها زيادات أو نقصان، ظهرت بسبب طبيعة الاعتماد على الذاكرة لا الكتابة والتدوين. فنحن إذن أمام نصوص، لا يمكن أن نقول: إنها أصيلة؛ لأنها لم تؤخذ من محاضر جلسات، ولا من كتّاب كانوا يكتبون كل ما كان يقع ويحدث، وينقلون الكلام نقلًا أمينًا صادقًا، كما ينقل الشريط المسجل للأصوات، أصوات المتكلمين، وإنما رويت بعد الحادث بأمد، قد يكون قصيرًا وقد يكون طويلًا، وبعضها أحاديث شخصية، ليست مهمة، وقد تكون من الموضوعات، ولا غرابة في ذلك فكتب التراجم والحديث والسير، مليئة بتكذيب كثير من هذه الأمور، التي افتعلت، إما من الرواة أنفسهم، وإما من آلهم، وإما عصبية، أو عن مذهب وعقيدة.

_ 1 اللسان "1/ 586 وما بعدها"، "عرب".

أفصح العرب

أفصح العرب: وموضوع أفصح العرب موضوع لا أرى أنه قد كان لأهل الجاهلية علم به، إذ كان لكل قوم منهم لسان يستعزون به ويتعصبون له، يرون أنه لسانهم العزيز. ولا يكون فصاحة إلا إذا كان هنالك لسان أدب رفيع، يكوّنه رجال الأدب من ناثرين وشعراء، يكون لسانًا مقررًا محترمًا يتبعه الجميع، تعقده وحدة شاملة وشعور بوجود أواصر دم وتأريخ واحد وثقافة واحدة، وقلم يكتب به، فإذا اجتمعت كل هذه وأمثالها وأضيفت إليها وجود حكومة كبيرة تتخذ ذلك اللسان لسانًا عامًّا لها، ثم تقوم بتشجيع الأدباء والعلماء وتحسن إليهم، صار ذلك اللسان اللسان المحظوظ المأثور المقدم على سائر الألسنة، وصارت اللهجات الأخرى،

ألسنة ثانوية بعده، تعدّ دون اللغة المذكورة في الرتبة والمنزلة والفصاحة، كما حدث في الإسلام، حيث اعتبر اللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم، لسان الإسلام والمسلمين، لسان الدين والدولة، به تكتب دواوين الدولة، وبه يؤلف العلماء ويكتب الأدباء، وينظم الشعراء، وبموجب قواعده المقررة يتعلم اللسان كيفية الكتابة والنطق، من خالفها أو أخذ بألفاظ خارجة على قواعد نحوها وصرفها عدّ عاميًّا جلفًا من سواد الناس وسوقتهم. ومدار الفصاحة في نظر علماء العربية كثرة استعمال العرب للكلمة. سئل "أبا عمرو بن العلاء": "كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة؟ فقال: أحملُ على الأكثر، واسمي ما خالفني لغات. فما أكثرت العرب من استعماله من غيره، فهو فصيح. وأما الفصاحة في المفرد: فخلوصه من تنافر الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة القياس اللغوي. والتنافر ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعُسر النطق بها، مثل "الهعخ" و"مستشزر"1. والغرابة أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفتها إلى أن ينقر عنها في كتب اللغة، أو أن تكون قليلة الاستعمال، وأضاف بعضهم إلى ما تقدم: ألا تكون الكلمة مبتذلة2. وآراء أخرى لا مجال للبحث عنها في هذا الكتاب، لعدم وجود مكان في حدوده. وقد وضعت هذه الحدود في الإسلام، أما ما قبله فلا علم لنا برأي الجاهليين في الفصاحة وفي الفصيح، ولكننا نستطيع بالقياس إلى ما عندنا من كتابات، أن نقول: إن العرب الجنوبيين كانوا يدونون بلهجاتهم المعروفة، وهي: المعينية والسبئية والحضرمية والقتبانية، وفقًا لقواعد لهجاتهم وبألفاظهم، فهي بالنسبة لهم لغاتهم الفصيحة، لغة التدوين والكلام، ولما قضى السبئيون على استقلال حكومات معين وحضرموت وقتبان وأوسان، وتكونت منها حكومة واحدة، ضعفت الخصائص اللغوية التي ميزت لهجات هذه القبائل بعضها عن بعض، واندمجت

_ 1 من قول امرئ القيس: غدائره مستشزرات إلى العلا المزهر "1/ 185". 2 المزهر "1/ 184 وما بعدها".

بلغة السبئيين التي صارت لغة الحكومة، وصار العرب الجنوبيون يكتبون بها إلى ظهور الإسلام. فهذه اللغة، هي اللغة الفصحى عندهم وقلمها هو المسند. أما بالنسبة إلى العرب الآخرين، فالظاهر أن عربية "ال"، كانت قد تغلبت عند ظهور الإسلام على العربيات الأخرى، وفي ضمنها عربية الـ"هـ" "ها"، وذلك بقوة وضخامة القبائل المتكلمة بها، وباستعمال حكومة الحيرة وحكومة الغساسنة وحكومة كندة لها، مما حمل الخطباء والشعراء والكهنة والسحرة على النطق بها، وبلهجاتهم الخاصة بهم، وهي لهجات كانت متقاربة لكنها تختلف فيما بينها في استعمال بعض الألفاظ وفي كيفية النطق بالكلم، أي: في مخارج الحروف، وفي خصائص نحوية وصرفية، إلا أن هذه الفروق والاختلافات لم تخرجها مع ذلك عن وحدة اللغة، وهي كلها في نظر أصحابها عربية فصيحة، وقد كانت تتقارب باحتكاك القبائل بعضها ببعض، وبتوسع نفوذ ملوك الحيرة في جزيرة العرب، وبتنقل الشعراء والخطباء بين القبائل، يدعونهم إلى النصرانية التي كانت قد جاءت من الحيرة، بنصرانية شرقية عربية، متأثرة بالإرمية، لكنها اضطرت إلى التعرب بالتدريج، وبقي الحال على هذا المنوال إلى أن ظهرت كلمة الإسلام بلغة "ال"، فصارت بنزول الوحي بها أفصح ألسنة العرب، وصار قلمها قلم الإسلام المقرر. وبذلك نبذ المسند، وماتت الكتابة به منذ ذلك الحين، ومات التراث العربي الجنوبي بموت لسانه وقلمه. وبانتصار الإسلام على الشرك، والإسلام دين ودولة، دعوته إلى "أمة"، المواطنون فيها أخوة، وله لسان، هو اللسان الذي نزل به القرآن، صار هذا اللسان أفصح منذ ذلك الحين، بل لسان أهل الجنة، وصار من الواجب على المسلمين تثبيت قواعده ودراسته لفهم كتاب الله المنزل به، خدمة لدين الله الذي شرف هذا اللسان باتخاذه لسانًا له. ورعاية قلمه الذي ثبت كتاب الله، وقام العلماء بضبط قواعده وجمع مفرداته، والبحث في كل ما يتعلق باللسان من علم. قام بهذه المهمة علماء المصرين: البصرة والكوفة، وكان لا بد لهم من رسم حدود، ومن وضع قواعد في كيفية تثبيت العربية، وفيمن يصح أخذ هذه القواعد من ألسنتهم، إلى غير ذلك من أمور اتبعوها في جمع علوم العربية.

وحين شُرع بوضع قواعد العربية، كان الإسلام قد حطم حدود جزيرة العرب، وتخطاها، قد غلب الساسانيين، وأبعد الروم عن بلاد الشأم ومصر وما وراءها، وقد جمع العرب بالأعاجم، والعجم بالعرب، وشبك ألسنة الأعاجم بلسان العرب، ولسان العرب بألسنة العجم، واضطر العلماء إلى وضع قواعد فيمن يجب أخذ لسان العرب منهم من العرب، وفيمن لا يجوز الأخذ منهم، بسبب اتصالهم بالعجم، وما طرأ على لسان بعضهم من خبث نتيجة لهذا الاتصال. فكانت تعاليمهم ألا تؤخذ العربية إلا من عرب بقوا بمعزل عن الأعاجم، فلا "يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا من لخم ولا من جذام، لمجاورتهم أهل الشأم، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن؛ فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس، ولا من عبد القيس وأزد عُمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز، لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم، والذي نقل اللغة واللسان العربية عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها علمًا وصناعة هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب"1. وذكر أن قريشًا كانوا أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة، وأجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ، أما الذين نقل عنهم اللسان العربي من "قبائل العرب، هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمة، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"2. وروي أن أفصح العرب عُليا هوازن، وسفلى تميم3. وروى "الجاحظ" أن "معاوية" قال يومًا: "من أفصح العرب؟ فقال

_ 1 المزهر "1/ 212". 2 المزهر "1/ 211". 3 المصدر نفسه.

قائل: قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفُرات، وتيامنوا عن عنعنة تميم وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس لهم غمغمة قضاعة ولا طمطمانية حمير. قال: من هم؟ قال: قريش"1. وقد تحدث "الجاحظ" عن أثر المحيط في تكوين اللغة، فقال: "وكاختلاف ما بين المكّي والمدني، والبدويّ والحضري، والسهلي والجبلي، وكاختلاف ما بين الطائي الجبلي والطائي السهلي، وكما يقال: إن هذيلًا أكراد العرب، وكاختلاف ما بين من نزل البطون وبين من نزل الحُزون، وبين من نزل النجود وبين من نزل الأغوار. وزعمت أن هؤلاء وإن اختلفوا في بعض اللغة، وفارق بعضهم بعضًا في بعض الصور، فقد تخالفت عُليا تميم، وسفلى قيس، وعجز هوازن وفصحاء الحجاز، في اللغة، وهي في أكثرها على خلاف لغة حمير، وسكان مخاليف اليمن، وكذلك في الشمائل والأخلاق. وكلهم مع ذلك عربي خالص، غير مشوب ولا معلهج ولا مذرّع ولا مزلج. ولم يختلفوا اختلاف ما بين بني قحطان وبني عدنان، من قبل ما طبع الله عليه تلك البرية من خصائص الغرائز، وما قسم الله تعالى لأهل كل جيزة من الشكل والصورة ومن الأخلاق واللغة"2. فرأى "الجاحظ" أن بين العدنانيين والقحطانيين فروقًا كبيرة في اللغة، غير أن بين كل مجموعة من هاتين المجموعتين فروقًا لغوية، كالذي أورده من أمثلة على الفروق التي تكون بين من ينزل الجبال، أو من ينزل السهول، وبين من ينزل النجود، ومن ينزل الأغوار، ثم الخلافات التي تقع بين بطون القبائل عند تشتتها وتفرقها. ثم تحدث عن لغة عليا تميم، وسفلى قيس، وعجز هوازن، ولغات أهل الحجاز، وهي قبائل تحدث عنها علماء اللغة. وقد ذكر "الرافعي" أن "الفصاحة اشتهرت في مضر، حتى عُرفت اللغة بالمضرية، ومن أشهر قبائلها كنانة -ومن بطونها قريش- ثم تميم، وقيس، وأسد، وهذيل، وضبّة، ومزينة"3. وقال أيضًا: "وأفصح القبائل الذين

_ 1 الجاحظ "3/ 213". 2 رسائل الجاحظ "1/ 10 وما بعدها"، "مناقب الترك". 3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 125".

هم مادة اللغة فيما نص عليه الرواة: قيس، وتميم، وأسد، والعجز من هوازن الذين يقال لهم: عليا هوازن، وهم خمس قبائل أو أربع، منها سعد بن بكر، وجُشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف. قال أبو عبيدة: وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، وأني نشأت في بني سعد بن بكر"، وكان مسترضعًا فيهم، وهم أيضًا الذين يقول فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم"1. "وتلك القبائل كلها كانت تسكن في بوادي نجد والحجاز وتهامة، وقد بقيت معادن الفصاحة زمنًا بعد الإسلام، وإليها كان يرحل الرواة، حتى إن الكسائي لما خرج إلى البصرة فلقي الخليل بن أحمد، وجلس في حلقته، قال له رجل من الأعراب: تركت أسدًا وتميمًا وعندهما الفصاحة وجئت إلى البصرة! فقال للخليل: من أين أخذت علمك؟ قال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة. فخرج إليهم ولم يرجع حتى أنفد خمس عشرة قنينة حبرًا في الكتابة عن العرب. ولم تزل هوازن وتميم وأسد متميزة بخلوص النية وفصاحة اللغة إلى آخر القرن الرابع للهجرة"2. وقد ترك الأخذ عن "حاضرة الحجاز" أي: مكة "لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم"3، فلم يأخذوا منهم. وقد قرأنا قبل قليل أسماء القبائل التي أدخلها علماء اللغة في القائمة السوداء المقاطعة التي لم يجوّزوا الأخذ منها، وذلك حين شروعهم بتدوين اللغة أيضًا للسبب المذكور وهو اتصالها بالأعاجم، وتأثر ألسنتها بلغات من اتصلت بهم من عجم. واللغات في نظر "ابن جني" على اختلافها كلها حجة "ألا ترى أن لغة الحجاز في إعمال ما، ولغة تميم في تركه، كل منهما يقبله القياس، فليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها، لأنها ليست أحق بذلك من الأخرى، لكن

_ 1 الرافعي، تاريخ آداب العرب "1/ 127 وما بعدها". 2 المصدر نفسه "1/ 128". 3 المزهر "1/ 212".

غاية مالك في ذلك أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها، وأشد نسبًا بها، فأما رد إحداهما بالأخرى فلا"1. أعود الآن فأكرر ما سبق أن قلته من أننا اليوم في حاجة ماسة، إلى وجوب تسجيل كل ما أورده علماء اللغة عن لغات العرب ولهجاتها، فصيحة كانت تلك اللغة أو رديئة، ولا سيما في الأمور التي شذت فيها هذه اللهجات بعضها عن بعض، في الشعر أو في النثر، تسجيل كل الأسماء الجاهلية التي عرف بها العرب قبل الإسلام، مع بيان أسماء الرجال الذين تسمّوا بها وأسماء القبائل التي هم منها، والمواضع التي كانوا بها، لنتعرف بذلك على أصول هذه القبائل، والأماكن التي جاءت منها، والثر الذي تأثرت به من القبائل المجاورة لها، فنحن نعرف اليوم، أن أهل العربية الجنوبية، كانت لهم أسماء وردت في المسند لم تكن شائعة بين العرب الشماليين، وقد كانت خاصة بهم، ثم نعرف اليوم أن الأسماء الواردة في النصوص العربية الجنوبية المتأخرة المقاربة للإسلام، اختلفت بعض الاختلاف عن الأسماء القديمة المركبة المضافة، مما يدل على وقوع تغير في الذوق اللغوي عند العرب الجنوبيين قبيل الإسلام، وعلى الميل إلى اختزال الأسماء وتبسيطها، على نحو ما كان عند العرب الشماليين، ومثل هذه الدراسة، تكون ذات قيمة كبيرة في الوقوف على التطورات السياسية والثقافية والاجتماعية التي مرت على جزيرة العرب قبيل ظهور الإسلام، وهذا التغير الذي أشير إليه هو شيء طبيعي، وقع قبل الإسلام، كما وقع في الإسلام، فقد ماتت الأسماء الجاهلية، مثل "امرؤ القيس"، و"معدي كرب"، "شرحبيل"، و"شرحئيل"، و"عبد عوف"، و"عبد مناة"، و"عبد أسد"، في الإسلام، وحلت محلها أسماء إسلامية، وماتت ألفاظ جاهلية، بسبب إماتة الإسلام لها، أو إعراضه عن استعمالها، أو بسبب تغير الذوق، فلم تعد تصلح للاستعمال، وولدت ألفاظ إسلامية لم تكن معروفة عند الجاهليين، ونشأت معان جديدة لألفاظ جاهلية قديمة لم تكن تعبر عن هذه المعاني قبل الإسلام. كذلك، نحن في حاجة إلى تدوين شعر الشعراء على حسب القبائل التي ينتمي إليها قالة الشعر، لنتمكن بذلك من دراسة خصائص شعر كل قبيلة، وما ورد

_ 1 المزهر "1/ 257".

فيه من لغتها، على أن نهتم بصورة خاصة، بالأصول الأولى لهذا الشعر، أي: بأقدم الروايات التي ورد فيها، ثم ندون إلى جانبها الروايات المختلفة التي ورد فيها على ألسنة علماء الشعر واللغة، والتعديلات التي أدخلها العلماء عليه، لنرى ما فعله العلماء في الشعر الجاهلي، وطبيعة ذلك الشعر بالنسبة إلى اللغات، وخصائص كل شعر. ونجد في كتاب "الإكليل" ملاحظات ثمينة تفيدنا كثيرًا في دراسة اللهجات العربية الجنوبية، وقد أخذها من كلام الناس في أيامه. من ذلك ما ذكره في كتابه "الإكليل" من قوله نقلًا عن كلام "أبي نصر": إن "حمير تطرح مثل هذه الألف في كلامها، فنقول: إذا أردت أن تقول للرجل: اسمع واذهب: سِمَع وذِهَب، وغِضَب في أغضب وشرب في أشرب"1. وهي لغة لا تزال تستعمل في بعض القبائل اليمانية2. ومن ذلك استعماله لفظة "القدمان" في قوله: "وقرأ زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية، فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل فخففتها العرب وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة. فإذا سمعوا منها الاسم الموفر، خال الجاهل أنه غير ذلك الاسم، وهو هو"3. ولفظة "القدمان" من الألفاظ العربية الجنوبية التي ترد بكثرة في كتابات المسند، ترد مع أسماء بعض الأشهر التي يتكرر اسمها، على نحو قولنا في العربية: "ربيع الأول" و"ربيع الثاني"، و"جمادى الأولى" و"جمادى الآخرة"، فيستعملون "قدمن" "قدمان" للأول، أي: الأقدم والمتقدم، ويستعملون "اخرن" "اخران" للثاني، أي: الآخر والمتأخر، وتعني "قدمان" القدامى والقدماء كذلك. ونجد في ثنايا كتابه مصطلحات وألفاظًا أخرى من هذا القبيل استعملها هو، أو نقلها عن غيره، أو من الكتب، وهي ترجع إلى اللهجات العربية القديمة، وقد لا نجد لها وجودًا في معاجم اللغة. كذلك يجب البحث في كتب "سعيد بن نشوان" الحميري وفي كتب غيره من المؤلفين من أهل العربية الجنوبية إلى يومنا هذا، لنلتقط ما قد يكون في ثناياها من كلم عربي جنوبي قديم، ومن

_ 1 الإكليل "2/ 48". 2 المصدر نفسه "هامش رقم4". 3 الإكليل "1/ 13".

أمثلة وجمل، وأسماء أشهر وغير ذلك، إضافة إلى دراسة لهجات الأحياء منهم، ووجوب الحفر حفرًا علميًّا في مواضع الآثار لاستخراج ما فيها من نفائس مكتوبة أو غير مكتوبة لتعيننا في الوقوف على أصول لغة العرب الجنوبيين قبل الإسلام. ولا بد لنا اليوم من وجوب القيام بمسح لغوي جغرافي، للغات جزيرة العرب ولقبائل العراق وبلاد الشأم، لمعرفة ما تبقى عندها من أثر للهجاتها القديمة. مسح عام لكلامها الذي تنطق به، ولشعرها الذي تنظمه في الوقت الحاضر، وللأسماء الغريبة التي تتسمى بها، ومسح مثل هذا سيعين الباحثين كثيرًا في الوقوف على أسرار اللهجات العربية قبل الإسلام.

الفصل الحادي والأربعون بعد المئة: المعربات

الفصل الحادي والأربعون بعد المئة: المعربات مدخل ... الفصل الحادي والأربعون بعد المئة: المعربات والاختلاط بين الأمم، بمختلف وسائله، ومن ذلك الاتصال التجاري، يؤدي إلى حدوث تفاعل في اللغة، فقد يولد هذا الاحتكاك ألفاظًا جديدة يطلقونها على أشياء لم يكن لأهل تلك اللغة علم بها، وقد يضطر أصحابها إلى استعمال المسميات الجنوبية كما هي، أو بشيء من التبديل والتغيير ليناسب النطق بتلك اللغة. وقد وقع ما أقوله في كل اللغات، ويقع الآن أيضًا، وسيقع في المستقبل إلى ما شاء الله، لا استثناء في ذلك، ولا تفاضل، ولا امتياز. فاللغات كلها، ومنها اللغة العربية في جاهليتها وإسلاميتها، تخضع لهذا الحكم والقانون. وليس الأخذ والعطاء دليلًا على وجود نقص في لغة ما، أو وجود ضعف في تفكير المتكلمين بها. فكل اللغات مهما بلغت من النمو والكمال والسعة، لا بد لها من أن تأخذ وأن تطور مدلول مفرداتها أو تضع مفردات جديدة لأمور لم تكن معروفة ومودودة عندها. ولا نعرف لغة ما من اللغات الميتة أو الحية، انفردت بنفسها انفرادًا تامًّا، فلم تأخذ شيئًا ولم تعط شيئًا. والعربية بجميع لهجاتها وألسنتها مثل اللغات الأخرى، وفي جملتها اللغات السامية أخذت وأعطت، قبل الإسلام وبعد الإسلام، ولا تزال تأخذ وتعطي ما دام أصحاب اللسان العربي باقين في هذا الكون. والأخذ والعطاء ووضع مفردات جديدة في لغة ما، هما من دلائل الحيوية ومن أمارات القوة والتكامل في تلك

اللغة. ومن دلائل هذا الأخذ والعطاء، ما حدث في العصور الإسلامية: من أخذ وعطاء بين العربية واللغات الأعجمية، فطعمت العربيةُ الفارسيةَ والتركية والرومية وغيرها بمادة غزيرة من الكلمات، كما أخذت هي حاجتها منها. ومن دلائله أيضًا ما يقع اليوم من وضع المصطلحات لمعاني لا عهد للعربية بها من قبل كمخترعات تظهر دومًا ومعاني علمية ليس للعلماء عهد بها، ولا بد من وضع ما يقابلها في العربية، بوضع لفظ عربي، أو تعريب المصطلح وتكييفه وفق النطق العربي إن كان من غير الممكن إخضاعه للمفردات العربية. وقد يزعج هذا الرأي فريقًا من الناس يذهبون إلى أن العربية لغة نقية صافية لم تتأثر بغيرها من اللغات، فلم تأخذ من اللغات شيئًا، ولم يدخل إليها لفظ أجنبي، أو أن ما دخل إليها من دخيل معرب هو قليل، وهم في منطقهم هذا محافظون متزمتون لا يعترفون بنظرية الأخذ والعطاء في اللغات. فإذا قلت لهم: إن اللفظة الفلانية لفظة معربة وأصلها أعجمي، أجابوك: ولكنها وردت في القرآن الكريم، ووردت في شعر فلان، وفلان من الشعراء الجاهليين. وإذا قلت لهم: ولكن دخولها العربية كان قبل الإسلام بزمن، وقبل ذلك الشاعر بزمن طويل، وأن الجاهليين نسوا أصلها واستعملوها استعمال الألفاظ العربية، فحكمها إذن حكم الألفاظ العربية في أيام ذلك الشاعر، وعند نزول الوحي، أجابوك أيضًا: وكيف نؤمن أنها معربة، أفلا يجوز أن تكون عربية في الأصل، وقد أخذها الأعاجم أنفسهم من العربية، ومن أين لك الدليل على العكس؟ وإذا ذكرت لهم أن اللفظة الفلانية عبرانية في الأصل أو سريانية أو كلدانية، قالوا: وكيف تثبت ذلك، وهذه اللغات والعربية كلها من أصل واحد ودوحة واحدة، فلمَ تحكم بأنها من أصل سرياني أو عبراني أو كلداني أو غير ذلك، ولا تحكم بأنها عربية أصيلة، وأن وجودها في تلك اللغات، هو بسبب اشتراكها والعربية في الأصل السامي. فهي في العربية أصيلة إذن، وهي في تلك اللغات أصيلة أيضًا وقديمة بسبب مشاركتها للعربية في الأصل السامي. وقد فات مثل هؤلاء أن القدامى من العلماء لم يفتهم أمر هذه المعربات، فأشاروا إليها، ومنهم جمهور أصحاب كتب التفاسير والحديث والمعجمات، وأن من العلماء من ألّف في هذا الموضوع، فألّف أبو منصور المعروف بالجواليقي كتابًا في هذا

الباب دعاه: "المعرب من الكلام الأعجمي"1. ولم ينتقده مع ذلك علماء يومه، ولا من جاء بعده لإقدامه على تأليف كتابه هذا، ولم يقل أحد أنه كان جاهلًا أو متحاملًا على العربية، مسيئًا إليها، لأنه أنكر أصول الألفاظ المذكورة في مؤلفه، فعدّها أعجمية معربة مع أنها عربية أصيلة، لا شك في عربيتها ولا شبهة. قال "الجاحظ": "ألا ترى أن أهل المدينة لمّا نزل فيهم ناس من الفرس في قديم الدهر علقوا بألفاظ من ألفاظهم، ولذلك يسمّون البطيخ الخربز، ويسمون السميط الرزدق، ويسمّون المصوص المزور، ويسمّون الشطرنج الاشترنج، في غير ذلك من الأسماء"2. ونجد في تفسير "الطبري"، وهو من العلماء الثقات المحققين وفي تفاسير غيره من العلماء المدققين إشارات إلى أصول ألفاظ وردت في كتاب الله ذكروا أنها من المعربات، وقد نصوا على أصولها التي أخذت منها، حسب علمهم واجتهادهم في ذلك الوقت، لم يجدوا في ذلك بأسًا ولا انتقاصًا لحرمة القرآن، أو مسًا به. وفي القرآن -كما يذكر العلماء- أكثر من مائة لفظة معربة، نصوا على أصولها حسب علمهم واجتهادهم واستفسارهم من الأعاجم، وهي كلمات دخل بعضها العربية قبل الإسلام بعهد طويل لعدم وجود مثيل لها في لغة العرب، فأخرجتها العرب على أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها، فصارت بذلك عربية، وإنما وردت في القرآن لأنها كانت قد تعربت وجرت عند العرب مجرى الفصيح، ولم تكن لديهم ألفاظ غيرها3. وفي بعض هذه المعربات ألفاظ لم تكن مألوفة أو معروفة عند الوثنين؛ لأنها من ألفاظ أهل الديانات، ونظرًا لكونها تعبر عن أمور دينية ضرورية لا مثيل لها في العربية، وكان من اللازم تعليم الناس إياها، لذلك وردت في القرآن. وقد رجع العلماء أصول المعربات الواردة في القرآن إلى لغات كانت شائعة آنذاك ومعروفة للعرب، أخذها العرب منها باحتكاكهم بأهلها، مثل اليونانية، والفارسية، والسريانية، والعبرانية، والحبشية، والهندية، والقنبطية، والنبطية،

_ 1 المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، لأبي منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي، تحقيق أحمد محمد شاكر، القاهرة 1361. 2 البيان والتبيين "1/ 19". 3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "2/ 58".

حتى ذهب "أبو ميسرة"، وهو من العلماء التابعين إلى أن "في القرآن كل لسان"، وروي مثله عن "سعيد بن جبير"، و"وهب بن منبه"1. ولو راجعنا أقوال العلماء في هذه المعربات التي درسوها وتحدثوا عنها لوجدنا أنهم قد أخطأوا في تشخيص الكثير منها، فلم يتمكنوا من الوقوف على أصولها، لعدم معرفة أكثر علماء العربية اللغات الأعجمية. نعم تمكن العارفون منهم بالفارسية من تشخيص المعربات عن الفارسية، غير أن منهم من زاد عليها وبالغ فيها، فأدخل في المعرب عن الفارسية ما ليس من الفارسية بشيء. وأدخل ألفاظًا عربية أصيلة في طائفة المعربات، مع أنها عربية جاهلية، وردت في نصوص المسند وفي النصوص الأخرى2، وسبب إدخالهم لها ضمن المعربات، هو عدم إحاطتهم باللهجات العربية الجنوبية، وباللهجات الجاهلية الأخرى. فتخبطوا في تعيين الأصول، فترى بعض منهم يرجع معربًا إلى أصل عبراني، وتجد آخر يرجعه إلى أصل يوناني، بينما يرجعه ثالث إلى أصل حبشي، وقع ذلك بسبب عدم وقوف العلماء على اللغات الأجنبية واكتفائهم بالاستفسار من الأعاجم، ممن لم يكن لهم علم بعلوم اللغات، وإنما كانوا يعرفون الكلام بها، إذ لم يكونوا من أصحاب التضلع والتخصص، كما أن عصبية البعض منهم للسانهم دفعتهم أحيانًا إلى الاختراع وصنع الأجوبة الكاذبة، يضاف إلى ذلك عامل الادعاء بالعلم والفهم، مما يحمل صاحبه على الوضع والكذب. وبين الباحثين في المعربات الواردة في القرآن جدل في وجود المعرب فيه، منهم من قال بوجوده، ومنهم من رد القول به ومنعه، فقال: "إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية، فقد أعظم القول، ومن زعم أن كذا بالنبطية، فقد أكبر القول"، وقالوا: "ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك، إنما اتفق فيها توارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد". وبالغ بعضهم في نفي المعربات، حتى قال: "كل هذه الألفاظ عربية صرفة، ولكن لغة العرب متسعة جدًّا، ولا يبعد أن تخفى على الأكابر

_ 1 السيوطي، الإتقان في علوم القرآن "2/ 106"، "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم". 2 راجع الإتقان "2/ 108 وما بعدها"، حيث تجد أمثلة عديدة على ما أقول.

الجلة، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح"1. والذين ذهبوا إلى وقوعه فيه، يرون بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربيًّا. وعلل بعضهم سبب وقوعه في القرآن بقوله: "إن حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن، أنه حوى علوم الأولين والآخرين، ونبأ كل شيء، فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن ليتم إحاطته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالًا للعرب"، "وأيضًا النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلٌ إلى كل أمة، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه} ، فلا بد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم، وإن كان أصله بلغة قومه هو"2. وقال "ابن سلام": "والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعًا، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحوّلتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية؛ فهو صادق، ومن قال: أعجمية؛ فصادق. ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون"3. وقال "ابن النقيب": "من خصائص القرآن على سائر كتب الله تعالى المُنزلة، أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، ولم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم، والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير"4. فهو من الذين يرون أن في القرآن كل لسان. ولا يقوم جدل المانعين من وقوع المعرب في القرآن، أو القائلين به على أساس اختلافهم في وقوع المعرب في العربية، وإنما انصب كل اختلافهم على وقوع المعرب في كتاب الله. فالمانعون يقولون -كما رأينا- إن الله يقولو: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 5 و {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ

_ 1 السيوطي، الإتقان "2/ 105 وما بعدها". 2 السيوطي، الإتقان "2/ 106 وما بعدها". 3 المصدر نفسه "2/ 108". 4 السيوطي، الإتقان "2/ 108". 5 يوسف، الآية2.

وَعَرَبِيٌّ} 1، فكل ما فيه هو عربي إذن، والذين يجيزونه، يقولون: إن هذه الأحرف أصولها أعجمية، لكنها وقعت للعرب، فعربتها بألسنتها وحوّلتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: أعجمية؛ صادق2. فالخلاف إذن عقائدي لا صلة له باللغة، وبوقوع المعرب أو عدم وقوعه في العربية. وهناك فريق آخر جماعته من المحدثين في الغالب ومن غير العرب، ذهب مذهبًا معاكسًا لمذهب من ذكرت تمامًا. تطرف في رأيه تطرفًا مسرفًا وبالغ في أحكامه مبالغة منكرة. رَجَع ألفاظًا عربية استعملها الجاهليون إلى أصول أعجمية، وادعى أنها من الألفاظ المعربة عن السريانية أو اليونانية أو اللاتينية أو العبرانية أو الفارسية، لمجرد ورودها أو ورود مشابه لها في تلك اللغات، وحجته في ذلك أن الجاهليين أميون أعراب وثنيون، وأن الألفاظ التي رأوا عجمتها هي ألفاظ حضارة لها مدلولات دينية أو سياسية أو اجتماعية أو حرفية أو غير ذلك، ولهذا لا يمكن أن تكون من صميم العربية، بل لا بد أن تكون طارئة عليها دخيلة في الأصل، ثم عربت، وفي هؤلاء المتعصب لجنسيته، مثل أن يكون سريانيًّا أو يهوديًّا، لهذا رجع تلك الألفاظ إلى لغته لتعصبه لها، والمتأثر بنظرية جهل الجاهليين وعدم وجود أي علم أو ثقافة لديهم، والمتعصب على الإسلام، لهذا رجع أكثر الألفاظ الحضارية إلى النصرانية أو اليهودية أو الفارسية، لإثبات أخذ الإسلام منها، وتعلم الرسول ديانته من تلك الديانات. أما البحث العلمي الخالص، فهو ما كان بعيدًا عن كل الميول والاتجاهات والنزعات ودوافع التعصب، قائمًا على الحقائق والوقائع وفكرة البحث عن الحق للتوصل إليه. فالرأيان في نظري باطلان، بعيدان عن جادة العلم. وواجب الباحث في مثل هذه الأمور أن يتريث أولًا، وألا يبت في قرار إلا إذا كان متأكدًا من سلامة السبل التي سار عليها في الوصول إلى قراره، ولا سيما أن العربية والعبرانية والسريانية كلها من هذا الأصل الذي يطلق علماء الأجناس واللغات عليه:

_ 1 فصلت، 44. 2 السيوطي، الإتقان "2/ 108".

الأصل السامي، وتشترك كلها أو أكثرها في كثير من الألفاظ، والحكم بأن هذه أخذت من هذه أو تلك، حكم فج ناقص إذ لم يستند إلى موارد ونصوص مرتبة ترتيبًا تأريخيًّا. ثم إن العربية ليست عربية واحدة؛ فإن هناك ألسنة عربية أخرى، مثل عربيات اليمن، وهي لهجات عربية قديمة ذات نصوص يعود تأريخ بعضها إلى ما قبل الميلاد، فلا يجوز التعميم بالاستناد إلى لغة القرآن الكريم وحدها، بل لا بد من تتبع ما جاء في اللغات العربية الأخرى. أضف إلى ذلك أن أهل اليمن كانوا أصحاب حضارة وحضارتهم أرقى وأعلى درجة من حضارة بعض الساميين. ولذلك يدفعنا الواجب إلى دراسة ما جاء في نصوصهم من ألفاظ ومسمّيات وآراء ومقارنتها بما جاء في النصوص الواردة في اللغات السامية الأخرى، للحصول على رأي علمي في هذه الأمور. ولكننا مع ذلك نحن في وضع لا نتمكن فيه من البت في هذه الأمور، لأن ما لدينا من نصوص جاهلية أغلبه من النوع الذي عثر عليه على ظاهر الأرض، لأن الظروف لم تمكن العلماء حتى الآن من التنقيب تنقيبًا علميًّا عميقًا في باطن مواطن الآثار، لاستخراج المطمور من الكتابات والآثار الأخرى، والغالب أن يكون المطمور ذا أهمية كبيرة، وسيعين المؤرخين في كتابة الأجزاء المفقودة من تأريخ العرب قبل الإسلام. وقد يكون من بين ما يعثر عليه ما هو أقدم من النصوص التي بين أيدينا. وعلى هذه النصوص أن رتبت ترتيبًا زمنيًّا يوثق به، يمكن أن يكون اعتمادًا في تثبيت المفردات وفي تعيين زمن استعمالها في العربية وفي كونها عربية أصيلة أو معربة. إن وجود المعربات دليل على اتصال الجاهليين بغيرهم، واتصال غيرهم بهم. وعلى الروابط الفكرية التي كانت بين العرب وبقية الساميين، وبين العرب والشعوب الأخرى وجمعها وتصنيفها لذلك في مجموعات حسب الموضوعات يعطينا رأيًا عن النواحي التي تأثر بها الجاهليون في أمور الحياة. غير أن هذا العمل عمل شاق، ويجب أن يستند إلى معجمات جامعة مرتبة ترتيبًا تأريخيًّا، تذكر الكلمة، ثم تذكر أصلها ومن أي أصل أخذت وفي أي زمن كان ذلك، وأول من استعملها أو أقدم نص عربي وردت فيه، وفي أي معنى استخدمت، وهكذا. ولكننا لا نملك، ويا للأسف، مثل هذه المعجمات. وكل ما لدينا معجمات قديمة، لم تنته لهذه الأمور، ولم تميز الجاهلي من الإسلامي، ولا اللفظ الوارد في عربية القرآن الكريم من اللفظ الوارد في اللهجات العربية الأخرى. فذكرت الألفاظ.

الواردة في اللهجات العربية الأخرى على أنها مرادفات، ترد في عربيتنا على حين أنها مسميات للشيء ذاته في اللغات العربية الأخرى. والذين يقولون بعدم وقوع المعرب في كلام العرب، كأنهم يتصورون أن العرب كانوا بمعزل عن العالم وانقطاع عن الناس. ولهذا لم يتأثروا بغيرهم، ولم يؤثروا في غيرهم، وأن عرقهم لذلك بقي صافيًا نقيًّا سليمًا، لم تدنسه أعراق أعجمية، ولم يمازج دمهم دمٌ غريب، ولم تدخل لغتهم لفظة غريبة، بل بقيت نقية صافية على ما خلقها الله يوم خلق اللغات. وقد تكون في اللغات الأخرى، كلمات دخيلة، أما العربية فحاشاها من ذلك! وهؤلاء لا يدرون أنه قد كانت في سواحل جزيرة العرب قبل الإسلام مستوطنات يونانية، نشأت في مواضع عديدة من سواحل البحر الأحمر وسواحل البحر العربي والخليج العربي، وقد بقي أصحاب تلك المستوطنات في مستوطناتهم فلم يعودوا على ديارهم، ونسوا أصولهم وعاداتهم، وصاروا عربًا مثل سائر العرب، يرجعون أنسابهم إلى أصول عربية على عرف العرب والأعراب. وأن منهم من بقي عرقه الدساس يحنّ إلى أصله، فقد ذكر المؤلفون اليونان أن بعض القبائل العربية الساكنة على السواحل، كانوا يرحبون ببعض اليونان، لاعتقادهم أنهم يجمعهم وإياهم صلب واحد. يضاف إلى ذلك الرقيق من الجنسين، وقد كانت بلاد العرب تجلب عددًا كبيرًا منه في كل عام، تشتريه من أسواق العراق ومن أسواق بلاد الشأم، وتوكل إليه القيام بأعمال مختلفة، ولا سيما الأعمال التي تحتاج إلى خبرة ومهارة فنية ودراية. ونحن نعلم أن العربي الصريح يأنف من الاشتغال بالحرف وزراعة الخضر، ولذلك وُكِلَ إلى هذا الرقيق أمر القيام بها، فأدخل إلى العربية كثيرًا من الألفاظ الخاصة بالزراعة وبالحرف، لم تكن معروفة في العربية، كما سأتحدث عن ذلك فيما بعد. يضاف إلى ذلك أيضًا، التجارة. فقد كان التجار من عرب وغرباء يتعاطونها في جزيرة العرب وفي خارجها، يصدرون منها حاصلاتها وما تجمع فيها من سلع مستوردة من سواحل أفريقية الشرقية والهند، ويأتون إليها بما تحتاج إليه قبائلها وأهل مدرها وأهل إفريقية من بضائع مصنوعة أو منسوجة من حاصل الانبراطوريتين

الساسانية والرومية والأرضين المصاقبة لهما. ومن الطبيعي أن يؤدي ذهاب التجار العرب إلى أسواق العراق وبلاد الشأم، واحتكاكهم بالفرس والروم، إلى الوقوف على أحوالهم والاتصال بهم والأخذ منهم والتأثر بثقافتهم وحضارتهم واقتباس ما يلائمهم منهم؛ ومن الطبيعي أن يؤثر التجار الروم والفرس بعض التأثير في نفوس زملائهم العرب في الأماكن التي ولجوها من جزيرة العرب، وأن ينقلوا إليهم شيئًا من آرائهم وأفكارهم وتجاربهم في الحياة، وأن يعطوهم شيئًا من مصطلحات لغتهم التي لا تعرفها العربية، ومن الأسماء الخاصة بالتجارة وبالبضائع التي يأتون بها إلى جزيرة العرب لبيعها في أسواقها. وكان للمبشرين شأن مهم في نقل التراث اليوناني والإرمي إلى جزيرة العرب في أيام الجاهلية، وبجهادهم المضني المتواصل وعملهم المتوالي، دخلت النصرانية في أماكن متعددة قاصية من بلاد العرب، حتى تمكنوا من تنصير قبائل وأمراء ورؤساء قبائل، بطريقتهم الخاصة في الإقناع والتأثير، وبالتطبيب، وبالتقرب إلى ضعاف الحال من الناس. وقد اتبعوا في التبشير وفي إدارة المؤسسات التبشيرية النظم الإدارية والدينية المتبعة في الكنيسة، فجعلوا "بيث قطرايا"، أي "قَطَرًا" الموضع المعروف اليوم على ساحل الخليج، كرسيًّا لـ "مطرابوليطي"، يقيم فيه، ويشرف على إدارة خمسة أساقفة، يقيمون في "ديرين" و"مشمهيغ" أي: "سماهيج" وهجر وبلاد "مازون" و"حطا" المسماة "يبط أردشير"1، وهي الخط. وفي موضع مثل نجران غلبت النصرانية على أهله، نظمت الكنيسة شئون المدينة، فتول رئيسها الديني، وهو بدرجة "أسقف"، الأمور الدينية، وتولى "السيد" أمور الحرب وإدارة المسائل الخارجية المتعلقة بعلاقة نجران بغيرها، وتولى "العاقب" الأمور الداخلية، وهم جميعًا يؤلفون معًا مجلس المدينة فيديرون معًا أمور الناس، وينظرون في كل ما يحدث بينهم من نزاع وخصومات. وهكذا نظمت العلاقات بين كنيسة المدينة وحكامها، وانسجم الحكم بين الجماعتين. وقد أدخل التبشير ألفاظًا يونانية وسريانية ترد في الديانة وفي الحياة اليومية إلى

_ 1 أدي شير، تأريخ كلدور وآثور، المجلد الثاني، "المقدمة".

اللغة العربية، ولا سيما المصطلحات الخاصة بتنظيم الكنيسة وبالحياة النصرانية، كما كان لبعض الشعراء الجاهليين يد في إدخال بعض المصطلحات النصرانية إلى العربية، كالذي نجده في شعر "امرئ القيس" والأعشى وعدي بن زيد العبادي وغيرهم من كلمات ترد بكثرة عند النصارى، نتيجة اتصالهم واحتكاكهم بهم، فصارت بذلك تلك الكلمات من المعربات. ويضاف إلى من ذكرنا اليهود. فقد كان لهم أثر في الجاهليين، في يهود العربية الغربية خاصة -أي: في الحجاز- في البقعة الممتدة من "يثرب" حتى بلاد الشأم، وفي اليمن. فقد سكن اليهود في هذه المواضع، وبنوا لهم مستوطنات فيها، واختلطوا بعربها، واحترفوا الحرف كما ذكرت ذلك في الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب. وقد كانت "مدراشات" اليهود في يثرب وفي المستوطنات اليهودية الأخرى تلقن اليهود أحكام دينهم، وتعلم أطفالهم القراءة والكتابة. وقد قصدها العرب وجلسوا فيها يستمعون إلى يهود، وقد شاهدها الرسول بعد هجرته إلى المدينة، وحضر جدلًا كان قد وقع بين جماعة من يهود، كما حضرها أبو بكر ونفر آخرون من الصحابة. وكان أحبارهم يدرسون فيها ويفتون، كما كانوا يقيمون الصلوات واحتفالات الأعياد في "الكنيس". ومن هؤلاء اليهود ومن "مدراشاتهم" انتقلت الألفاظ العبرانية إلى العربية فعربت، وفي جملة ذلك لفظة "مدراس"، و"سفر"، و"توراة"، و"تابوت"، و"حبر"، و"كاهن" وغير ذلك من مصطلحات، لأكثرها صلة بشئون الدين. إن الحاجة، هي التي تحمل الناس على الأخذ والعطاء، وبها نفسر اقتباس العرب للمعربات، فأسماء بعض الآلات والأدوات والطرق الفنية والأنسجة الدقيقة المصنوعة من الحرير وأسماء المأكولات النفيسة وأسماء النبات التي هي من أصل شمالي وبعض المشروبات وما شابه ذلك، إنما دخلت العربية وعربت لأسباب عديدة، أهمها أن الحياة في جزيرة العرب حياة عادية، تكاد تجري على وتيرة واحدة، فلم تساعد على ظهور الأمور المذكورة، فاضطر الناس بحكم الحاجة إلى أخذها من غيرهم واستيراد أشياء مادية وغير مادية من جيرانهم، حتى في الأمور الفكرية والروحية، مثل المعربات الدينية، فإنها خضعت لحكم الحاجة، فالنصارى

العرب استعملوا معربات من أصل سرياني؛ لأنهم اضطروا إلى استعمالها؛ لأنها تعابير دينية لا وجود لها عند العرب الوثنيين أولًا، ثم هي مصطلحات رسمية كنسية، لم تتساهل الكنيسة في تغيير أسمائها، ولهذا استعملها العرب على النحو المرسوم، كما يستعمل الأعاجم المسلمون المصطلحات العربية؛ لأنها مصطلحات إسلامية ليس لها مقابل في لغتهم، أو لأنها مصطلحات دينية نحب المحافظة على تسميتها وإن وجد لها مقابل في لغات الأعاجم. وأكثر المعربات الجاهلية، هي من أصل يرجع إلى لغة بني إرم أو إلى لغة الفرس، ثم تليها المعربات المأخوذة من لغات أخرى مثل اليونانية والعبرانية واللاتينية والحبشية والقبطية، وكثير من الألفاظ اليونانية إنما دخل إلى العربية عن طريق السريانية، فقد كان السريان قد أدخلوها في لغتهم؛ لأنها لم تكن معروفة عندهم، ومن لغتهم هذه تعلمها الجاهليون. والمعربات السريانية الأصل، هي في الزراعة في الغالب، وفي التوقيت، ثم في موضوعات دينية وصناعية وتجارية وفي أمور أخرى. أما المعربات عن الفارسية فهي في موضوعات زراعية كذلك وفي أسماء المأكول والملبوس وأمور اجتماعية. وأما المعربات عن العبرانية، ففي أمور خاصة بسكناهم بين العرب وبأمور دينهم وشئونهم. وأما المقتبس عن اليونانية فهو في أمور حِرْفية، وفي مصطلحات دينية ومصطلحات زراعية ومصطلحات تستعمل في شئون البحر وما شاكل ذلك. وتفسير وجود المعربات السريانية والفارسية بنسبة تزيد على نسبة وجود المعربات الأخرى، هو أن المتكلمين بلغة بني إرم كانوا مزارعين في الغالب، وكانوا على اتصال بالعرب، وقد خالطهم العرب وعاشوا بينهم، واقتبسوا منهم، حتى أنهم كتبوا بلسانهم، ودخل الكثير منهم في دينهم، دين النصرانية، ولا سيما قبيل الإسلام. وقد كانت أحوالهم الاجتماعية مشابهة للأحوال الاجتماعية عند العرب، ولا سيما عرب بلاد الشأم والعراق، ووضع مثل هذا يؤدي بالطبع إلى الاقتباس والأخذ والعطاء. وأما الفارسية، فقد كان الفرس يحتلون بلاد العراق وكان لهم نفوذ على العربية الشرقية، وقد استولوا على اليمن قبيل الإسلام، ولهم تجارة مع أهل مكة وأماكن أخرى، وبحكم هذه الصلات دخلت في العربية ألفاظ فارسية وصارت في عداد المعربات.

ونحن إذا تتبعنا صورة توزع المعربات بين العرب، نجد أن توزيعها يختلف باختلاف الأمكنة، فهناك أمكنة تأثرت بالمعربات الفارسية بالدرجة الأولى، وهناك مواضع تأثرت بالمعربات السريانية في الأكثر، وهناك أقاليم تأثرت بالمعربات عن اليونانية أو الحبشية بالدرجة الأولى. ثم نجد ظاهرة أخرى في كيفية توزع المعربات وظهورها، هي ظاهرة الحاجة والظروف السائدة في مكان ما. فيمكننا إذن إرجاع تأثر لهجات العرب الجاهليين بالمؤثرات اللغوية الأعجمية إذن إلى عاملين: عامل الاختلاط بالأعاجم عن طريق الجوار أو السكن معهم في موضع واحد، واستخدامهم لهم ومجيء الأجانب من تجار ومبشرين إليهم، وعامل الحاجة التي كانت تدفع إلى أخذ أشياء غير معروفة في بلاد العرب، فتدخل العربية بأسمائها الأعجمية، فإذا انقضى زمن عليها، تدخل في ضمن اللسان العربي وتعرب، حتى ليخيل إلى من لا يعرف أصلها أنها عربية الأصل والنجار. ولما تقدم نرى أن المعربات عن السريانية والفارسية هي أظهر وأبرز في لهجات عرب العراق من المعربات الأخرى، وأن المعربات عن السريانية واليونانية، اللاتينية أبرز وأوضح في لغة عرب بلاد الشأم من المعربات المنقولة عن الفارسية أو الحبشية. وأن المعربات عن الحبشية واللهجات الإفريقية، هي أوضح وأكثر ظهورًا في لهجات العرب الجنوبيين من المعربات الأخرى، وذلك بسبب اختلاط العرب الجنوبيين بأهل الساحل الإفريقي الشرقي ووجود جاليات إفريقية في العربية الجنوبية وجاليات عربية جنوبية في السواحل الإفريقية المقابلة منذ أيام ما قبل الميلاد، فأدى هذا الاختلاط والتجاور إلى الأخذ والعطاء في اللغة. كما نجد المعربات عن الهندية والفارسية والإرمية ظاهرة بارزة على ألسنة أهل الخليج، لاتصالهم بالهند وبفارس وبالعراق. وأما مثال ظهور المعربات بسبب الحاجة، فهو ما نجده في لهجة أهل يثرب وما حولها من مؤثرات فارسية وسريانية في الزراعة بصورة خاصة وفي نواح أخرى من نواحي الحياة الاجتماعية، فقد استعمل أهل المدينة ألفاظًا فارسية في لهجتهم، بسبب حاجتهم وظروفهم. فأرضهم أرض خصبة ذات آبار ومياه، ولما كانوا في حاجة إلى أيدي عاملة لتشغيلها لاستغلال مواردها استعانوا بالرقيق، وكان معظم الرقيق الذي جيء به، من رقيق العراق الذي يرجع إلى أصل فارسي، أو نبطي متأثر بالفارسية، لرخص ثمنه بالنسبة إلى رقيق الروم، ولفطنته ولمهارته في الحرف

بالنسبة لرقيق أفريقية، وعن طريق هذا الرقيق دخلت المعربات الفارسية والنبطية المستعملة في الزراعة وفي أمور أخرى عرف بها الفرس والنبط لى "يثرب"1. أما أهل مكة، فلم تظهر المعربات الزراعية عندهم، لعدم وجود حاجة لهم إليها، بل استخدموا معربات أخرى في الأمور التي كانوا بحاجة إليها، والتي لم يكن لها وجود عندهم، وقد دخلت إليهم من أماكن مختلفة، كان لهم تعامل معها، ومن الرقيق والتجار الغرباء الذين كانوا يعيشون بها. ولبعض المحدثين بحوث في الدخيل من السريانية على العربية، من جملتها بحث للمستشرق "فرنكل" Frankel، دعاه "الألفاظ الآرامية الدخيلة على العربية" Die Aramaischen Fremdworter im A rabischen وكتابه هذا هو أشهر كتاب ألّفه المستشرقون في هذا الباب. كما أن لآباء الكنيسة الشرقيين مؤلفات وبحوثًا في الألفاظ السريانية في العربية، وضعوها بالعربية، نشر بعضها في مجلة المشرق، ونشر بعض آخر في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ونشر بعضه في كتب، مثل كتاب: "غرائب اللغة العربية"، تأليف الأب رفائيل نخلة اليسوعي، وفيه باب خاص بالكلمات الدخيلة في العربية الداخلة فيها من الآرامية والعبرانية والفارسية واليونانية ومن التركية واللاتينية والإيطالية والفرنسية ومن لغات أخرى2. وفي بعض هذه البحوث تسرع في الأحكام، إذ فيها ألفاظ نسبت إلى أصل سرياني، وهي من الألفاظ الواردة في اللهجات العربية القديمة، وفيها مما يرد في العربية وفي اللغات السامية الأخرى، لأنه من المشترك الذي يرد في أصول الساميات. وقد رأيت اختيار ألفاظ في الزراعة أو ألفاظ لها علاقة بها، من القائمة التي أوردها "الأب رفائيل نخلة اليسوعي"، للألفاظ الآرامية الداخلة في العربية، وذلك للوقوف عليها، ولتكوين فكرة عنها، وبعض هذه الألفاظ هو في رأيي مما استعمله العرب قبل الإسلام، ووارد في النصوص الجاهلية، فمن الصعب إرجاعه إلى أصل آرامي من غير نص أو دليل منطقي مقبول وبعضه من النوع الوارد في العربية وله أصل عربي، فلا يمكن أن يقال: إنه من أصل آرامي،

_ 1 البيان والتبيين "1/ 10". 2 المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1960.

لمجرد وجود مرادف له أو لفظ مقارب له، وبعض آخر هو من الألفاظ التي ترد في كثير من اللغات السامية فلا يجوز تخصيصه بالسرياني، وإرجاع أخذ العرب له من هذا الأصل. ومن اللهجات في الزراعة وما يتعلق بها وبالفواكة والحبوب والأزهار وما شاكل ذلك: "آس" وهو من أصل سرياني هو "أسو"، و"أب" بمعنى ثمرة من "أبو"، و"أرف"، و"أرفي" من أصل سرياني كذلك بمعنى قسم الأرض وحددها، ومن يمسح الأرض ويحددها. و"أكّار" بمعنى حرّاث، أي: من يحرث الأرض من أصل Akoro، و"أنبوب"، من "أبوبو" Aboubo بمعنى قصبة وأنبوب أجوف وما بين عقدتين من القصب، و"أندر" بمعنى بيدر، من "ادرو" Edro و"باسور" بمعنى عنب غير ناضج، و"باكورة" ويراد بها أول الثمر من "Bakorto" و"بطيخ"، أي: البطيخ من Fatiho، و"بور" صفة للأرض من "بورو" Bouro و"بيب"، بمعنى قناة ومجرى الماء إلى الحوض من أصل "بيبو" bibo، و"بيدر" من bay-edro و"تبن" من "تبنو"، و"تخم" بمعنى حدّ من أصل "تحومو" thoumo و"ترعة"، بمعنى قناة عميقة من "ترعتو" و"توت" من "توتو" touto و"ثوم" من toumo و"جبن" من أصل goubno والجريب من gribo، و"جرام" بمعنى نواة من أصل garmo، و"الجرن" ويراد به حجر منقور للماء وغيره من Gourno، و"الحب" بمعنى الجرة الكبيرة من "حبو" Houbo و"حمص" من "حمصو" Hemso و"حندقوق" من Handqouqo، و"خبيص"،بمعنى حلوى مخبوصة، من طحين وسمن وعسل وأصلها "حبيصو" Habiso، و"الخردل" من "حردلو" Hardlo، و"خس" من "خسو" Haco، و"الخوص" الذي يكون على السعف من "حوصو" Houso، والخوخ من Hougo و"الدبرة" البقعة المزروعة، أي: الحقف من "دبرو" dabro و"دبس" أي: الدبسن من debcho و"دبق" من debeq و"درس"، كأن نقول: درس الحنطة من drach و"دقلة" أي: نخلة من deqlo و"رُب" وهو ما يخثر من عصير الثمار من أصل Raubo و"رحى" من Rahyo و"رمّان" من أصل Roumono و"ريحان" من Rihno و"زبن" بمعنى باع الثمر على شجره، Zaban بمعنى باع

و"زبون" بمعنى مشتري من Zobouno و"زفت" من أصل Zefto و"زق" من Zeqo و"زمارة"، قصبة يزمر بها Zamorto و"زيت" من Zayto و"زيتون" من Zaytouno و"سكة" مثل سكة المحراث من Sekto و"سكر" ما يسد به النهر، من Chakro و"سلاء" أي: شوك النخل من Salwo و"سمّاق" من أصل Sawmoqo، وسنبل الحنطة من Seblo و"سنبل" بمعنى نبات طيب الرائحة من Sanboul و"شتلة" ما قلع من النبات ليغرس في مكان آخر من أصل Chetlo، و"شرعوف" نبات وثمر من أصل Sour'afo و"شالم" و"شولم" و"شيلم" من Chaylmo و"صعتر" من Setro و"صفصاف" من Safsofo و"مطمورة"، وهي حفرة تحفر في الأرض يوسع أسفلها لحفظ الحبوب. من Matmourto و"عذق" أي: عنقود عنب أو نخل من "عدق" daq و"عفص" من 'afso، و"عقار" خمر ونبات يتداوى به، وقد سمى العرب الخمر دواء من أصل egro، و"عنب" من enbo، و"عنقر" جذر القصب من eqoro بمعنى جذور و"عود" وهو العود الذي يتبخر به من ouda و"غابة" من أصل obto بمعنى غابة كثيرة الأشجار، وغدير بمعنى نهر وبركة يتركها السيل من gadiro، و"غرب" نوع من الحور من أصل "arbo" و"فجل" من fouglo، وفدان من أصل fadno، و"فرث"، من ferto و"الفروج" من Farougo، و"الفرخ" من farahto و"فرع" بمعنى غصن من "فرعو" Fer'o، و"فقح" مثل "فقح النبات" بمعنى: أزهر من أصل "فقح" fqah، و"فقاح النبات" أي: زهره من أصل "فقحوا" fagho، و"فُل" وهو زهر يشبه الياسمين من "فلو" Falo، و"قثاء" من qtouto، و"قش" من Qecho، و"قصر" وهو ما يبقى في الغربال من النفاية، من أصل "قصرو" qisro أي: قشرة الحنطة، و"القطران" وهو سائل زيتي يستخرج من بعض الأشجار من أصل "قطرون" qotron، و"القفيز" وهو مكيال من "قفيزو" qfizo، و"قفص" من "قفسوا" Qafso، و"قلة" بمعنى جرة كبيرة من "قلتو" qoulto، و"قمح" أي: حنطة، من "قمحو" qamho، و"كاث" وهو ما ينبت مما انتثر من الزرع المحصود من koto و"كدّاس" الحب المحصود المجموع من

"كديخو" qdicho، و"كرّ" بمعنى حمل ستة أوقار حمار، أو ستون قفيزًا من "كورو" kouro، و"كرب" من أصل "كرب" krab، و"كُراث" من karoto، و"كرخ" بمعنى أجرى وحول من "كرخ" krak، و"كرفس" من "كرفسو"، krafso و"كزبرة" من "كوزبرتو" kouzbarto، و"كمثرى" من "كومترو" Komatro، و"معين" نعت للماء الجاري على وجه الأرض من "مينو" m'ino، و"نجر" من "نجر" Nagr ومنها النجار، و"نشوق" من "نسكو" Nosko و"نطر" بمعنى حرس من "نطر" Ntar ومنها الناطور أي: الحارس، و"نُطّار" وهو ما يكون على هيأة رجل ينصب بين الزرع لإخافة الطيور وإبعاد الحيوانات المضرة به من "نوطورو" notoro، و"نيطل" بمعنى دلو من "نطلو" notlo، ونعناع من mon'o، و"نورج" سكة المحراث من "نورجو" Norgo، و"نير" وهي خشبة معترضة في عنقي ثورين يجران محراثًا من "نيرو" Niro، و"هرطمان" من qourtomo، وبل ووابل بمعنى المطر الشديد من "يبل" Yiabl، و"ورد" من "وردو" Wardo، و"وسق" بمعنى حمل بغير من "وسقو" Wasqo، و"يتوع"، كل نبات له لبن، أي: سائل أبيض في داخله يشبه اللبن من "يتوعو" Yatou'o1. وقد وردت لفظة "الأب" في القرآن الكريم" {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ} 2. وقد ذكر أن "عمر" قال: "قد عرفنا الفاكهة فما الأب؟ قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف"3، وقد اختلف المفسرون في المراد منها، مما يدل على أن اللفظة لم تكن معروفة عندهم معرفة واضحة، وفي كلام عمر: "إن هذا لهو التكلف"، أو قوله: "ما كلفنا أو ما أمرنا بهذا"4 دلالة على عدم وضوح معناها عنده وعند الناس. وهي بمعنى "ثمرة" في الإرمية من

_ 1 غرائب اللغة "من الصفحة 172 إلى الصفحة 210". 2 عبس، الآية31. 3 تفسير الطبري "30/ 38"، تفسير الألوسي "30/ 47"، تفسير ابن كثير "4/ 472 وما بعدها". 4 تاج العروس "1/ 142"، "أب".

Ebo، وقد ذهب العلماء إلى أن "الأبَّ" ما تنبت الأرض للأنعام والماشية1، فهي في معنى آخر، يخص العشب والكلأ وما تنبته الأرض ليعلفه الحيوان في رأي غالبية العلماء، غير المعنى الوارد لها في السريانية. وأما "الأرف"، فبمعنى تقسيم الأرض وتحديدها، ويقال لمن يمسح الأرض ويعين حدودها "أرفوا" Arfo في الآرمية2، وقد ذكر علماء اللغة أن الأرف الحدود بين الأرضين، أو معالم الحدود بين الأرضين. "وفي حديث عثمان رضي الله عنه، الأرف تقطع الشفعة، وهي المعالم والحدود. هذا كلام أهل الحجاز، وكانو لا يرون الشفعة للجار"3. وأما "الأكار" فيذكر علماء اللغة أنها من أصل "أكر"، بمعنى "حفر"، والأكار بمعنى الحفار والحرّاث والزراع. ومن ذلك حديث "أبي جهل: فلو غير أكار قتلني"، أراد به احتقاره وانتقاصه4. وتقابل هذه اللفظة لفظة "أكورو" Akoro في الأرمية التي هي "أكار"5. وبين الألفاظ التي ذكرتها ألفاظ لا يوجد دليل على أنها معربة من أصل إرمي لأننا نجد أن لها جذرًا عربيًّا، وهي ليست من المسميات التي لم يعرفها العرب حتى نقول: إنها استوردت من الخارج، أو أن الحاجة حملت العرب على تعلمها من الرقيق الذي كان عندهم أو من المبشرين أو التجار الغرباء. وأما المعرب عن الفارسية مما يخص الزراعة، فأكثره في أسماء أثمار أو أزهار أو روائح وعطور، مثل "الخربز" بمعنى البطيخ، من أصل "خربوزة". وفي الحديث عن أنس قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الخربز والرطب". وفي حديث عن عائشة: "يأكل البطيخ بالرطب"6. و"السيسنبر"

_ 1 الموارد المذكورة. 2 غرائب اللغة "172". 3 تاج العروس "6/ 39"، "أرف". 4 تاجر العروس "3/ 17"، "أكر". 5 غرائب اللغة "173". 6 الجواليقي: المعرب "ص137"، فتح الباري "9/ 496"، عون المعبود "3/ 427 وما بعدها".

نوع من الريحان1، و"الجل" بمعنى الورد2، و"الجلاب" أي: ماء الورد. وقد وردت اللفظة في حديث عائشة عن الرسول3. وذلك دليل على أن اللفظة كاتب معروفة قبل أيام الرسول. ويلاحظ أن لفظة "بطيخ" هي من الألفاظ المعربة كذلك، عربت من أصل "فطيخو" بلغة بني إرم4. وقليل منه ما يخص آلات الزراعة أو الأرض، مثل "بستان" والجمع "بساتين"5، وذلك لأن غالبية الذين كانوا يفلحون الأرض ويزرعونها في العراق وفي بلاد الشام، هم من بني إرم أو من المتكلمين بلغتهم، وباحتكاك العرب بهم تعلموا أسماء الآلات والأدوات وطرق الاستفادة من الأرض، فدخلت إلى العربية. أما الفرس في العراق، فلم يكونوا يباشرون زراعة الأرض وفلاحتها في العراق، وإنما كان "مرازبتهم" وأثرياؤهم يمتلكون الأرضين الواسعة، ويسخرون أهل البلاد في استغلالها لهم، ولهذا لم تترك لغتهم أثرًا كبيرًا يشبه الأثر "الإرمي" من ناحية الزراعة في العربية. أما المعربات في الزراعة عن اليونانية، فأقل عددًا، إذ لم يكن العرب على اتصال مباشر بالمزارعين اليونان، لهذا لم يأخذوا عنهم كثيرًا. والمعروف من المعربات في هذا الباب هو في أسماء نمر نبات أو بذور، أو ما يتعلق بحاصل عنب، مثل الخمور، فقد كان أهل الحجاز يستوردون الخمور من بلاد الشأم، وقد تعلمها أهل هذه البلاد من الروم بأسمائها اليونانية. ولما أخذها العرب من بلاد الشام، حرفوا الأسماء بعض التحريف لتلائم المنطق العربي. ومن هذه المعربات: "الاسفنط": وهي أجود الخمر المطيب من عصير العنب، من أصل "افسنتين" Apsinthion، كان الخمر يطيب به6. و"خندروس"، ويراد بها نوع حنطة، أو حنطة مجروشة من أصل7 Khandhros، و"خندريس" ويراد بها خمر معتقة، ونعت لخمر مصنوعة من

_ 1 الجواليقي "ص80، 105"، غرائب اللغة "ص235". 2 الجواليقي "ص115"، غرائب اللغة "ص223". 3 الجواليقي "ص106" فتح الباري، لابن حجر "1/ 317"، المزهر "1/ 276". 4 غرائب اللغة "174". 5 الجواليقي "ص53". 6 الجواليقي "ص18"، غرائب اللغة "ص252". 7 غرائب اللغة "ص257"، "وأخبرنا عن يعقوب أن "الخندرس": القديمة، يقال: حنطة خندرس، أي: قديمة"، الجواليقي "ص125".

الكرم اسمه1 Kantharios. و"زنجبيل"، وهي من أصل zinguiveri. ومن الألفاظ الواردة في القرآن الكريم. وقد ذكرت في شعر منسوب إلى الأعشى2. و"القرنفل"، من أصل3 Kariofillon. و"كافور" من Kafoura. وفي السريانية4 qafouro. و"المسطار"، ويراد بها الخمر التي اعتصرت من أبكار العنب حديثًا5، وأصلها "مسطس6 " Moustos. و"نرجس" من أصل7 Narkisos. وبلاد الشام أكثر شهرة من العراق في الأعناب، وهي مادة صالحة لصنع أنوع متعددة من الخمور. أما أهل العراق، فقد استخرجوا خمرهم من التمر، فلم يعرف لهذا السبب بتنويع الخمور. وقد استغل سكان جزيرة العرب التمور أيضًا لاسخراج الخمور منها، وذلك في الأماكن التي تكثر فيها النخيل، وتقل أشجار الكروم. ولاتصال الحجاز ببلاد الشام بالقوافل الكبيرة، كانت الخمور من أهم السلع التي تستوردها القوافل من تلك البلاد. ومن الألفاظ الآرامية التي دخلت في العربية، ولها معان دينية لفظة "أبل" بمعنى تنسك من "ebal"، و"تأبل" بمعنى "حزن" من "etebal"، و"أبيل" بمعنى راهب من "أبيلو" "abilo" الإرمي بمعنى ناسك وراهب8. وقد جعلها "الجواليقي" فارسية الأصل9، وهو خطأ منه. و"الباعوث"، صلاة لثاني عيد الفصح في بعض الطوائف من أصل "bo' outo" بمعنى صلاة وطلب10. و"برخ" بمعنى زيادة ونماء من "يرختو" bourhto بمعنى بركة وعطية11. و"البيعة" من "بيعتو"12 Bi'to. و"الدنح"، ويراد بها عيد الغطاس،

_ 1 غرائب اللغة "ص257". 2 الجواليقي "ص174"، غرائب اللغة "ص259". 3 غرائب اللغة "ص265". 4 غرائب اللغة "ص267"، الجواليقي "ص285 وما بعدها". 5 الجواليقي "ص321". 6 غرائب اللغة "ص269". 7 غرائب اللغة "ص271". 8 غرائب اللغة "ص172". 9 الجواليقي "ص30". 10 الجواليقي "ص57"، غرائب اللغة "ص173". 11 الجواليقي "ص81 وما بعدها"، وغرائب اللغة "ص174". 12 الجواليقي "81"، غرائب اللغة "ص175".

من أصل "دنحو"1 denho. و"دير" أي: بيت الرهبان، من أصل دار2. و"ديراني" نسبة إلى "دير"، من أصل3 Dayronoyo. و"ربّاني"، بمعنى عالم بشريعة اليهود، وحاخام أي: معلم من أصل "ربونو"4 Rabono. و"روح القدس" من "روح قدشو"5 Rouhqoudcho. و"مزمور" من "مزمورو"6 Mazmouro. و"سُلاق" عيد صعود السيد المسيح، من Souloqo أي: صعود7. و"صلاة" من "صلوتو"8 slouto. و"قس" "قسيس" من "قشيشو"9 Qachicho. و"القوس" ويراد بها الصومعة، من أصل kaucho، بمعنى عزلة10. و"ناقوس" من أصل11 noqoucho. وهناك ألفاظ أخرى لها معان دينية، لم تكن شائعة معروفة إلا بين النصارى، لذلك لم أرَ حاجة إلى الإشارة إليها، ثم إن من الصعب البرهنة على أنها كانت مستعملة عند النصارى الجاهليين. وبعض الألفاظ المذكورة معروف، وقد ذكر في الحديث، وهذا مما يدل على شيوعه عند أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، وبعضه مما ورد في القرآن الكريم من آيات تعرضت للنصرانية في ذلك العهد. وباتصال العرب باليهود في الحجاز، دخلت في العربية ألفاظ ومصطلحات دينية، عُربت، مثل: "آمين" من أصل "آمن"12، و"إسرائيل" و"إسرائين" من "يسرائيل" "ي س ر ال"13، و"تابوت" "ت ب 5"14

_ 1 الجواليقي "ص144"، الآثار الباقية "ص292 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص181". 2 الجواليقي "ص187"، غرائب اللغة "ص182". 3 غرائب اللغة "ص182". 4 غرائب اللغة "ص182". 5 غرائب اللغة "ص184". 6 غرائب اللغة "ص185". 7 الجواليقي "ص196"، غرائب اللغة "ص188". 8 غرائب اللغة "ص193". 9 غرائب اللغة "ص201". 10 الجواليقي "ص278"، غرائب اللغة ص202". 11 الجواليقي "ص339"، غرائب اللغة "ص208". 12 غرائب اللغة "ص211". 13 الجواليقي "ص13 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص211". 14 غرائب اللغة "ص211.

بمعنى صندوق خشب و"تلمود"1 و"توراة" من "تورا" بمعنى تعليم وشريعة2، و"جهنم" من "جي هنم"، بمعنى وادي هنم، وهو جنوب أورشليم، أي: القدس، وقد كثر فيه قبل الميلاد إحراق الأطفال تضحية لإله العمونيين3. و"حبر" من "حبر" "ح ب ر" بمعنى "الرفيق" في الأصل، ثم خصصت4 بعالم. و"إسرافيل" من "سرافيم" "س ر ف ي م"، ملك من الملائكة الكبار5. و"سبت" اسم يوم، من "شبث" بمعنى يوم الراحة، واستراح6. و"سبط"، قبيلة من قبائل اليهود الاثني عشر، من "شبط"7، و"مِدراس"، بمعنى عهد تدرس فيه التوراة، من "مدرش"، "مدراش"، أي بحث وشرح نص8. ولفظ "نبي" "نابي" Nabi المستعملة في عربيتنا من الألفاظ الواردة في التوراة، وردت "300" مرة في مواضع مختلفة منها9. وترد في لغة بني إرم أيضًا، حيث وردت على هذه الصورة:10 Nbiyo. وقد ذكر علماء اللغة أنها من المعربات11. وأخذت العربية من العبرانية ألفاظًا قليلة ذات صلة بالحرف، مثل "تابوت" بمعنى صندوق من "تبا" Teba، ويراد بها معنى صندوق في العبرانية12. و"فطيس" من "بطيش" Pattich بمعنى مطرقة13. و"قدوم" من "قردم" "قردوم" qardom بمعنى فأس، و"كرزن" من "كرزن" بمعنى فأس كبيرة14.

_ 1 غرائب اللغة "ص211". 2 غرائب اللغة "ص211". 3 الجواليقي "ص107"، غرائب اللغة "ص211". 4 ولفنسون، اليهود في جزيرة العرب "ص20". 5 الجواليقي "ص8"، غرائب اللغة "ص212". 6 غرائب اللغة "ص212". 7 غرائب اللغة "ص212". 8 غرائب اللغة "ص213". 9 Hastings, p. 767 10 غرائب اللغة "206". 11 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 205". 12 غرائب اللغة "ص211". 13 غرائب اللغة "ص212". 14 المصدر نفسه.

وقد احترف اليهود الحدادة والصياغة والنجارة في الحجاز، وتكسبوا منها، ورآهم الجاهليون، وهم يعملون بآلاتهم، فتعلموا منهم أسماء الآلات المذكورة وغيرها، واستعملوهاعلى النحو المذكور. ويلاحظ أن الباحثين في المعربات من المستشرقين والشرقيين، رجعوا أصول ألفاظ يهودية إلى السريانية، وهي يهودية في الأصل، وقد أخذتها السريانية من العبرانية بواسطة النصرانية، بدليل ورودها في اليهودية قبل ظهور النصرانية بزمن. أما المجوسية، ديانة الفرس، فلم نترك أثرًا يذكر في العربية من ناحية المعربات ذات المعاني الدينية، لقلة اتصال العرب بها، وعدم اهتمام المجوس بنشر دينهم، وقلة عددهم في جزيرة العرب. ولهذا كانت أكثر الألفاظ الدينية التي عرفها الجاهليون، قد دخلت فيهم من اليهودية والنصرانية، بسبب اتصال اليهودية والنصرانية بالجاهليين اتصالًا مباشرًا. ولفظة "المجوسية" نفسها هي من الألفاظ المعربة، فهي من أصل Magush في الفارسية القديمة، Mugh في الفارسية الحديثة، و Maghos في اليونانية، وقد انتقلت من الإرمية إلى العربية1. وفي الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يمجسانه -أي: يعلمانه دين المجوسية"2. وذكر أن اللفظة قد وردت في بيت شعر جاهلي هو: أحار أريكَ برقًا هبَّ وهنًا ... كنار مجوس تستعر استعارا يقال: إن صدر البيت لامرئ القيس وعجزه للتوأم اليشكري، "قال أبو عمرو بن العلاء: كان امرؤ القيس مِعَنّا عريضًا ينازع كل من قال: إنه شاعر، فنازع التوأم اليشكري، فقال له: إن كنت شاعرًا فملّط أنصاف ما أقول وأجِزها، فقال: نعم، فقال امرؤ القيس: أصاح أرك برقًا هب وهنًا فقال التوأم: كنار مجوس تستعر استعارا

_ 1 Shorter Ency., P. 298 غرائب اللغة "269". 2 تاج العروس "4/ 245"، "مجس".

فقال امرؤ القيس: أرِقت له ونام أبو شريح فقال التوأم: إذا ما قلتُ قد هدأ استطارا" على آخر الشعر1. وإذا صح هذا التمليط، تكون هذه اللفظة قد وردت فيه لأول مرة في شعر جاهلي. ومن الألفاظ التي لها صلة بالمجوسية لفظة "موبذ" و"موبذان"، بمعنى الرئيس الديني للمجوس. من أصل "موبد"، بمعنى كاهن ورجل دين عند الفرس القدماء2. وفي باب المأكولات والمشروبات وما يتعلق بهما، نجد المعربات عن الفارسية أبرز وأظهر من المعربات المأخوذة من لغة بني إرم، أو من لغة الروم واللغات الأعجمية الأخرى فـ"الباذق"، وهو ضرب من الأشربة، من أصل فارسي، هو "باذه" "باده" بمعنى خمر، أي: شراب مسكر3. ولفظة "باطية" ويراد بها إناء زجاج للشراب، من أصل "بادية" أي: جرة4. و"البالغاء"، بمعنى الأكارع من أصل "بابها" بمعنى أرجل5. و"الجلاب" أي: ماء الورد، من أصل "كُلْ آب"، و"كُلْ" بمعنى ورد، و"آب" بمعنى ماء6. و"الجوزينج" "الجوزينق" من الحلاوات، وتعمل من الجوز. من أصل "كوزينة"7. و"الخربز" البطيخ، من أصل "خربوزة"8 و"الخشكنان"9، و"الخشكار"،

_ 1 اللسان "6/ 213 وما بعدها"، "مجس". 2 غرائب اللغة "246". 3 المعرب، للجواليقي "ص81"، غرائب اللغة "ص217"، الخفاجي، شفاء الغليل وما دخل في كلام العرب من الدخيل. 4 المعرب "ص83"، غرائب اللغة "ص218"، الدراسات الأدبية، 1953، الجزء "2 و3"، "ص9"، التبادل اللغوي بين العربية والفارسية، لجلال الدين همايوني، السنة الثانية 1961م، "ص375"، "صور من التعريب ونقل المعاني من الفارسية إلى العربية". 5 المعرب "ص51"، غرائب اللغة "ص218". 6 المعرب "ص106"، ابن حجر، الفتح "1/ 317"، غرائب اللغة "ص223". 7 المعرب "ص99"، غرائب اللغة "ص224". 8 المعرب "ص137"، "غرائب اللغة "ص225". 9 المعرب "ص134".

أي خبز مصنوع من قشر الحنطة والشعير، من أصل "خشك"، بمعنى يابس وآرد، بمعنى طحين1. و"خوان" بمعنى مائدة2، و"دوق" بمعنى لبن استخرج زبده، من أصل "دوغ"، بمعنى لبن حامض3 و"فالوذج" "الفالوذ" "الفالوذة"، نوع من الحلواء، من أصل "فالوده" "بولاد"4. ويذكر أهل الأخبار: أن عبد الله بن جدعان كان يطعم العرب هذا الطعام، فمدح5. و"القند"، السكر6، و"الكعك"، من أصل "كاك"7. و"اللوزينج" نوع من الحلواء، من أصل لوزينه"8، و"الأنبار" أهراء الطعام، واحدها "نَبْرٌ"، و"أنابير" جمع الجمع9، من أصل "أنباشتن" بمعنى خزن10. و"الدّرمك"، وهو الدقيق الأبيض، أي: لباب الدقيق، و"الجردق"، و"السميذ"11. و"السكباج"، وهو لحم يطبخ بخل، من أصل "سركه باجة"، و"السكبينج" دواء، وصمغ شجرة بفارس، و"السكرجة" قصاع يؤكل فيها صغار12، و"الزيرباج"، و"الإسفيداج، و"الطباهج"، و"النفرينج" من ألوان الطبيخ13. وسبب ذلك أن الفرس كانوا أرفع مستوى من بني إرم في الحياة الاجتماعية، وأكثر تقدمًا في الحياة البيتية منهم، فتفننوا في المأكل والملبس، وتنوعوا في المطبخ وافتنّوا في تنويع الأكل، وأوجدوا لكل طعام اسمًا، لم تعرفه لغة بني إرم،

_ 1 غرائب اللغة "ص226". 2 المعرب "ص129"، غرائب اللغة "ص226"، الخفاجي "ص87 وما بعدها". 3 المعرب "ص155"، غرائب اللغة "ص229". 4 المعرب "ص247"، غرائب اللغة "ص239". 5 مجمع الأمثال "2/ 73". 6 المعرب "ص261"، غرائب اللغة "ص241". 7 المعرب "ص297"، غرائب اللغة "ص243". 8 المعرب "ص299"، غرائب اللغة "ص244". 9 المعرب "ص20"، غرائب اللغة "ص217". 10 غرائب اللغة "ص217". 11 المزهر "1/ 275". 12 تاج العروس "2/ 59"، "سكبج". 13 المزهر "1/ 276".

لأنهم لم يكونوا يعرفون تلك الأطعمة، وباحتكاك العرب بالفرس وببني إرم الذين اقتبسوا من الفرس بعض تلك المأكولات تعلموا منهم أنواع الأطعمة، وأخذوا منهم أسماءها أيضًا، ودخلت على بعضها الصنعة، لتحويلها وفق قواعد النطق العربي. وينطبق ما قلته عن المعربات الفارسية في الأكل والمشروبات وما يتعلق بهما، على المعربات من الفارسية في العطور والروائح والطيب وما يتعلق بها، وعلى بعض العوائد الاجتماعية، ولا سيما بين العرب الذين كانوا على اتصال مباشر بالفرس. فقد تأثروا بحكم هذا الاتصال بهم، واقتبسوا منهم بعض عوائدهم، مثل استخراج ماء الورد المسمى "جلاب"، وهو "ماء الورد" للتطيب به1. وقد وردت لفظة "الجل"، ومعناها الورد في بيت شعر للأعشى2. وكذلك "الجلسان"، وقد ذكر أن "الجلسان" من "كلشان" "كلشن"، أي: ما ينثر من الورد على الحاضرين في العرس، وذكر أنها الورد، أو قبة يجعلون عليها الورد3. و"القمقم"، قنينة لماء الزهر أو نحوه "قمقمة"4. وتعني لفظة كوكوميون Koukkoumion، وهي "قمقم" وعاء من نحاس لتسخين الماء في اليونانية5. ولعل إحدى اللغتين قد استعارتها من الأخرى. وقد رجع بعض علماء اللغة اللفظة إلى الرومية، أي: اليونانية، وذكر أن اللفظة وردت في بيت شعر لعنترة6. و"مسك" من "مشك"7. و"نافجة" وعاء المسك، من أصل "نافه" من "ناف" بمعنى سرة8. واستعارت العربية من الفارسية ألفاظًا من الألبسة والأنسجة والخياطة، وذلك

_ 1 المعرب "ص106". 2 وشاهدنا الجل والياسمين والمسمعات بقصابها. المعرب "ص115". 3 المعرب "ص105 وما بعدها، غرائب اللغة "ص223". 4 المعرب "ص260"، غرائب اللغة "ص241". 5 غرائب اللغة "ص226". 6 وكأن ربا أو كحيلا معقدا ... حش الوقود به جوانب قمقم المعرب "ص260". 7 المعرب "ص325"، غرائب اللغة "ص245". 8 المعرب "ص341"، غرائب اللغة "ص246".

مثل "إبريسم" وهي من أصل "أبريشم"1 و"استبرق" من أصل "استبرك"، أي: ثوب حرير مطرز بالذهب2. وقد ذكر علماء اللغة أنها من "استفره" و"استروه"3. و"بركان" "برنكان"، كساء، من "برنيان"4. و"تخريص" "دخريص" من أصل "تبريز"5، وورد أن "البنيقة" معربة كذلك من أصل "بنيك" في معنى "التخريص" و"الدخريص"6. و"جربان" ويراد بها جيب القميص من أصل "كريبان"7، و"الجوالق"، من أصل "كوال" "جوال"، ومعناها عدل كبير منسوج من صوف أو شعر8. و"الخسرواني"، وهو الحرير الرقيق الحسن الصنعة، وهو منسوب إلى الأكاسرة، أي: الملوك9. و"الدخدار" وهو الثوب، من أصل "تخت دار"10. و"الديباج" من أصل "ديوباف" أي: نساجة الجن11، و"السبيج"، وهو قميص بلا كمين ولا جيب، من أصل شبي"، أي: ليلى12. و"سربال"، من أصل "سر بال"13. و"سروال"14. و"الشوذر" الملحلفة والإزار، من أصل "جادر"15. و"الطيلسان" من "طيلسان" "تالسان"16. و"الفرند"، الحرير من "برند"17. و"الكرباس"، ثوب خشن من "كرباس"18.

_ 1 غرائب اللغة "ص216"، المعرب "ص27". 2 غرائب اللغة "ص216". 3 المعرب "ص15". 4 المعرب "ص56"، غرائب اللغة "ص218". 5 المعرب "ص87، 143"، غرائب اللغة "ص221". 6 المعرب "143". 7 المعرب "ص99"، غرائب اللغة "ص222". 8 المعرب "ص110"، غرائب اللغة "ص224". 9 المعرب "ص135"، غرائب اللغة "ص225". 10 المعرب "ص141"، غرائب اللغة "ص227". 11 المعرب "ص140"، غرائب اللغة "ص229". 12 المعرب "ص182 وما بعدها"، غرائب اللغة "ص233". 13 غرائب اللغة "ص233". 14 المعرب "ص196"، غرائب اللغة "ص234". 15 المعرب "ص205"، غرائب اللغة "ص237". 16 المعرب "ص227"، الجمهرة، لابن دريد "3/ 413"، غرائب اللغة "ص239". 17 المعرب "ص243"، غرائب اللغة "ص239 وما بعدها". 18 المعرب "ص294"، غرائب اللغة "ص242".

وقد عرف الجاهليون ألقاب بعض القادة العسكريين والإداريين في الانبراطوريتين اليونانية والفارسية، فأدخلوها في العربية؛ لأنها ألقاب رسمية نعت بها أولئك الموظفون الكبار، وعرفوا بعض الرتب الكنسية كذلك. فمما دخل إلى العربية من اليونانية واستعمل عند الجاهليين لفظة "بطريق"، من أصل1 Patrikios. وقد وردت في بعض الرسائل المنسوبة إلى الغساسنة، ويراد بها درجة قائد في الانبراطورية البيزنطية. ولفظة "أسقف"، وقد ورد في كتب السير: إن وفد نجران حين قدم على الرسول، كان يتألف من رؤساء المدينة أصحاب الحل والعقد، ويلقبون بـ"السيد" و"العاقب" و"الأسقف". والسيد عندهم صاحب رحلتهم، والعاقب أميرهم وصاحب مشورتهم الذي يصدون عن رأيه، والأسقف حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم2. ولفظة "أسقف" هذه من أصل يوناني هو3 Episkopos. وأما "قيصر" التي يراد بها في العربية "انبراطور" الروم، أي: ملكهم، فإنها من أصل لاتيني هو "سيسر" Casar. وترد في كتب السير في معرض الكلام على الكتب التي أرسلها الرسول إلى الروم والفرس والحبشة وبعض الأمراء4. ومن المصطلحات المأخوذة من الفارسية في هذا الباب، "الأسوار"، وهو الرامي، وقيل: الفارس، وقائد الفرسان5، من أصل "أسب سوار"، و"اسب" الحصان، و"سوار" على ظهر أي راكب، ومعناها راكب الحصان أي: فارس6، وتجمع "أسوار" على "أساورة". وترد في الكتب أحيانًا مضافة "أساورة الفرس"، وتجمع على "أساور" و"أساورة" أيضًا، وقد وردا جميعًا في الشعر7. وأما "الأشائب"، ومفردها "أشابة"، فمعناها الأخلاط من الناس من

_ 1 غرائب اللغة "ص255". 2 طبقات ابن سعد "1/ 257". 3 غرائب اللغة "ص252". 4 طبقات ابن سعد "1/ 259". 5 الجواليقي "ص20 وما بعدها"، الجمهرة "2/ 215"، اللسان "7/ 51". 6 غرائب اللغة "ص216". 7 الجواليقي "ص20 وما بعدها".

أصل "آشوب". وذكر أنها عربية خالصة، من "أشب الشيء" بمعنى خلطه1. وترد لفظة "أنبار" و"الأنبار"، وتعني: أهراء الطعام ويقال للواحد: "نبر" أيضًا وأما "الأنابير" جمع الجمع. وقد اشتهر موضع "الأنبار" على نهر الفرات على مقربة من الفلوجة، وكان مأهولًا بالعرب عند ظهور الإسلام، وقد ذكرت في الجزء الأول من هذا الكتاب أن بعض أهل الحجاز ينسب أخذ أهل مكة الكتابة إلى قوم منهم ذكروا أنهم تعلموها من أهل الأنبار2. و"الإيوان" في العربية، الرواق. وهو مكان متسع من بيت تحيط به ثلاثة حيطان، من أصل "أيوان"3 eyvan. وأما "الدهقان"، فحاكم إقليم، من "ده" بمعنى ضيعة و"خان" بمعنى رئيس قبيلة، وذلك في الفارسية القديمة. وقد وردت اللفظة في بيت شعر للأعشى. وتجمع على "دهاقين"4. وأما "كسرى"، فملك من ملوك الفرس، وهو "خسرو" Khosrw في الفارسية. ولكن الجاهليين جعلوا اللفظة لقبًا لملوك إيران، يقابل "شاه" أي: الملك، وصارت عندهم مثل: "قيصر" للروم، وتُبَّع لليمن، والنجاشي للحبشة5. وأما "المرزبان"، فالرئيس من الفرس، وتفسيرها "حافظ الحدّ" في مقابل حاكم ووالي ولاية، وتجمع على "المرازبة"6. وأما لفظة "الهربذ" وتجمع على "الهرابذة"، فخادم النار عند المجوس. وقيل: رئيس خدام النار الذين يصلون بالمجوس، وقد تكلمت بها العرب قديمًا. وقد وردت هذه اللفظة في بيت شعر لامرئ القيس7. وأما "موبذ" و"موبذان" فحاكم المجوس، بمثابة القاضي عند المسلمين، من "موبد" وهو الكاهن ورجل دين عند المجوس8.

_ 1 الجواليقي "ص27". غرائب اللغة "ص216". 2 الجواليقي "ص20، 29". غرائب اللغة "ص217". 3 الجواليقي "ص19"، غرائب اللغة "ص217". 4 الجواليقي "ص146"، اللسان "17/ 21"، غرائب اللغة "ص229". 5 الجواليقي "271، 282"، غرائب اللغة "ص242". 6 الجواليقي "ص317"، غرائب اللغة "ص245". 7 الجواليقي "ص351"، غرائب اللغة "ص248". 8 غرائب اللغة "ص246".

أما أسماء النقود، فإنها معربات يرجع أصلها إلى الفارسية أو اليونانية أو اللاتينية. فقد كان الجاهليون يتعاملون مع الفرس والأرضين الخاضعة للإنبراطورية الرومية، ولهذا تعاملوا بنقود هاتين الإنبراطوريتين. وهي نقود مضروبة من المعادن. وتعاملوا بها في بلادهم أيضًا كما نتعامل نحن بالنقود الأجنبية فـ"النّمّيّ" مثلًا هي فلوس رصاص كانت تتخذ أيام ملك بني المنذر، يتعاملون بها في الحيرة، هي من أصل رومي، أي: يوناني، هو noummiyon. وقد وردت في بيت للنابغة: وقارفت وهي لم تجرب وباع لها ... من الفصافص بالنّمّيّ سفسير1 وقد نسب هذا البيت لأوس بن حجر أيضًا2. فيظهر من ذك أن "بني المنذر" كانوا قد أخذوا اللفظة من اليونانية، أي: من نقود نحاس ضربها الروم، فضربوها هم في الحيرة، وتعامل بها الناس. وأما "الدينار"، وهو نقد كان معروفًا متداولًا بين الجاهليين، مستعملًا في أسواق مكة وبقية مواضع الحجاز وجزيرة العرب عند ظهور الإسلام. وقد ذكر في القرآن الكريم3، فإنه نقد روماني يساوي عشرة دراهم، ويعرف بـ denarius في اللاتينية4. وأما "الدرهم" فاسم نقد يوناني، يسمى دراخمي dhrakhmi في اليونانية، وقد شاع استعماله إذ ذاك. وقد وردت التسمية في بيت شعر هو: وفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم5 ويفيد هذا البيت أن الحكومة كانت تأخذ إتاوة من الأسواق من التجار والباعة، وأن ما يباع يدفع عنه مكس، قدره درهم6.

_ 1 الجواليقي "ص185"، اللسان "15/ 343"، غرائب اللغة "ص271". 2 الجواليقي "ص185، 330". 3 آل عمران، الآية 75 {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَار} . 4 الجواليقي "ص139"، غرائب اللغة "ص278"، "وقيل: أصله بالفارسية دين آراي: الشريعة جاءت به"، المفردات في غريب القرآن "ص171". 5 الجواليقي "ص148". 6 "الدرهم الفضة المطبوعة المتعامل بها"، المفردات في غريب القرآن "ص168".

ولفظة "مكس"، هي أيضًا من الألفاظ المعربة، عربت من أصل "مكسو" Makso في لغة بني إرم1. و"الدانق" نقد أخذت تسميته من الفارسية، من "دانك"2. وقد بقي مستعملًا في الإسلام. وقد عرف الخليفة "أبو جعفر المنصور" بـ "الدوانيقي" نسبة إلى هذا النقد. وأما "الفلس" وتجمع على "فلوس"، فإنه نقد من نحاس، وأصله في اليونانية "فولس"3 follis. وقد عبر عنه بمعنى نقود أيضًا، فقيل في العامية: "فلوس"، وقصد بها نقود. ومن المعربات المستعملة في تقويم النقد وفصحة، لفظة "شقل" بمعنى الوزن4، أي: وزن النقد لمعرفة مقدار معدنه المؤلف منه. ولفظة "قسطار"، ومعناها ناقد الدراهم، أي: الناقد الماهر العارف بالنقد، من أصل لاتيني هو5 quaestor. وتظهر هذه المعربات أن أهل الحجاز ونجد والعرب الشماليين كانوا قد استعملوا النقد البيزنطي والساساني في أسواقهم وفي تجارتهم، وكانوا عالة على الأعاجم في استعمال النقد. وذلك مما يدل على أن تعاملهم التجاري مع الإنبراطوريتين كان وثيقًا. وقد بقيت هذه النقود الأعجمية مستعملة في الإسلام كذلك، وبقيت أسماؤها حية حتى بعد تعريب النقد، ولا يزال اسم الدينار والدرهم والفلس إلى هذا اليوم. أما العرب الجنوبيون، فكان لهم نقد خاص بهم. تحدثت عنه في الجزء الثامن من كتابي: تأريخ العرب قبل الإسلام. وقد ذكرت أن بعض العلماء رجع تأريخ أقدم نقد عربي جنوبي عثر عليه سنة "400" قبل الميلاد6. ويظهر أن أهل الحجاز لم يتعاملوا به كثيرًا، بدليل عدم وجود ذكر له في المؤلفات الإسلامية، وفي الأخبار الواردة عن أيام الرسول. وقد ذكرت أن أسماء تلك النقود أسماء

_ 1 غرائب اللغة "ص206". 2 الجواليقي "ص145"، غرائب اللغة "ص227". 3 غرائب اللغة "ص263". 4 غرائب اللغة "ص191". 5 الجواليقي "ص263"، غرائب اللغة "ص279". 6 الجزء الثامن "ص200 وما بعدها".

عربية جنوبية لا صلة لها بأسماء النقود التي تحدثت عنها، ومن تلك الأسماء: "بلط" ويجمع على "بلطات"، وهو اسم نقد من ذهب. و"خبصت" "خبصة"، نقد من نحاس، و"رضى"، قيل: إنها اسم نقد، وقيل: إنها صفة للنقد. بمعنى رضية وصحيحة غير مزيفة ولا منقوصة، لأن النقد كان على أساس الوزن والنوع في ذلك العهد. وذكرت أيضًا بعض الألفاظ التي استعملوها في الصيرفة وفي نقد النقود. ومن الألفاظ اللاتينية التي دخلت إلى العربية "لبرجد"، وهو ثوب مزدان بالذهب، وثوب غليظ مخطط من أصل1 Paragauda. و"برذون" من أصل burdo وBurdonis2، و"دينار" من أصل denarius، وهو نقد من المعدن3، و"سجل" وقد تحدثت عنها4 و"سجلاط" من أصل "سجلاّطس" sigillatun، ثياب كتّان موشاة، وكأن وشيها خاتم وتزدان بصورة صغيرة5. و"سجنجل"، وتعني المرآة، أو سبيكة فضة مصقولة، استعملت استعمال المرآة، من أصل sexaangulus التي تعني "المسدس الزوايا" في اللاتينية. وقد وردت في بيت لامرئ القيس6. و"الصراط"، بمعنى الطريق، من أصل لاتيني هو strata بمعنى طريق كبير مبلط7. وقد عرف الرومان ببراعتهم في شق الطرق العسكرية لاستعمالها في التجارة وفي الأغراض العسكرية. و"الصاقور" الفأس لكسر الحجارة، من أصل لاتيني هو8 securis. ويظهر أثر الأخذ من اليونانية واللاتينية والفارسية والآرمية في المكاييل والموازين كذلك، وذلك عند عرب الحجاز ونجد والعراق وبلاد الشأم. أما عرب الجنوب فقد كانت لهم أسماء للمكاييل والموازين خاصة بهم، اختلفت عن الأسماء المستعملة عند العرب الشماليين المذكورين وذلك كما تحدثت عنها في الموضوع الخاص بالمكاييل

_ 1 غرائب اللغة "ص277". 2 غرائب اللغة "ص277". 3 الجواليقي "ص139"، غرائب اللغة "ص278". 4 "والسجيل، حجر وطين مختلط، وأصله فيما قيل فارسي"، المفردات في غريب القرآن "ص223". 5 الجواليقي "ص184"، غرائب اللغة "ص278". 6 الجواليقي "ص179"، غرائب اللغة "ص278". 7 غرائب اللغة "ص278". 8 غرائب اللغة "ص278".

والموازين عند الجاهليين في الجزء الثامن من كتابي: تأريخ العرب قبل الإسلام1. ومن هذه المعربات "المُدّ"، وهو نوع مكيال للحبوب، وهو من أصل لاتيني هو2 Modius و"الجريب"، من أصل إرمي هو "جريبو"3 Gribo. و"الرطل" من أصل يوناني هو:4 Litra، و"الأوقية" من أصل يوناني هو5 Uncia, Ounguiya، و"مثقال" من أصل matqolo، وهو وزن في الإرمية6. و"قيراط"، وهو جزء من أربعة وعشرين من أجزاء شيء، أو حبة واحدة من أربعة وعشرين حبة وكان القدماء يزنون بالحب. واللفظة من أصل يوناني هو7 keration. و"قنطار"، وهو مئة رطل، من أصل لاتيني هو8 Centenarum pondus. و"الكر"، وهو ستة أوقار حمار، وهو مكيال لأهل العراق، وقد ورد ذكره في الحديث، هو "كرو" Keureo في لغة بني إرم9. وغير ذلك من أسماء ذكرتها في الجزء الثامن من هذا الكتاب. ولا حاجة بنا إلى إعادة ذكرها. وأخذت العربية من اللغة "السنسكريتية" بعض الألفاظ الخاصة بالمحاصيل الخاصة بالهند، مثل الفلفل وبعض الأسماء المتعلقة بالتوابل والعقاقير والأطياب والجواهر10. وقد أشار علماء اللغة إلى ألفاظ شائعة على الألسنة، لكنها أعجمية الأصل تأتي في نوع المعرب. ذكر "الثعالبي" أمثلة منها في كتابة "فقه اللغة"، وقال عنها: إنها "أسماء فارسيتها منسية وعربيتها محكية مستعملة، هي: الكف،

_ 1 "الصفحة 410 وما بعدها". 2 غرائب اللغة "ص280". 3 غرائب اللغة "ص176". 4 غرائب اللغة "ص258". 5 العرب قبل الإسلام "8/ 414"، Ency. Islam, II, P. 1025 6 غرائب اللغة "ص176". 7 غرائب اللغة "ص267". 8 غرائب اللغة "ص279". 9 العرب قبل الإسلام "8/ 419". غرائب اللغة "ص203". 10 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 205".

الساق، الفرش، البزّاز، الوزّان، الكيّال، المسّاح، البيّاع، الدلاّل، الصرّاف، البقال، الجمّال، الحمّال، القصاب، البيطار، الرائض، الطرّاز، الخراط، الخياط، القزّاز، الأمير، الخليفة، الوزير، الحاجب، القاضي، صاحب البريد، صاحب الخبر، السقّاء، الساقي، الشرّاب، الدخل، الخرج، الحلال، الحرام" إلى غير ذلك من ألفاظ تجدها في كتابه وفي كتب اللغة التي نقلت منه1. وفي بعض الذي ذكره، ما هو فارسي حقًّا، أو من مصدر أعجمي آخر، لم يعرفه "الثعالبي"؛ لأنه لم يعرف من اللغات الأعجمية غير الفارسية، فنسب أصل تلك الألفاظ إليها، ولكن البعض الباقي هو عربي، ما في أصله العربي من شك، ولا يمكن أن يكون من المعربات. ونجد في المعاجم وفي كتب اللغة كلامًا عن هذه المعربات، ففي كتاب "المزهر" وكتب اللغة المعتبرة صفحات نص فيها على الألفاظ المعربة من مختلف اللغات2. فلا أرى بي حاجة هنا إلى ذكر تفاصيل أخرى عن الألفاظ المعربة بتفصيل كل ما نص عليه العلماء من المعربات. ولكني أود أن أبين أن علماء اللغة لم يكونوا على علم باللغات الأعجمية، ولذلك لم يتمكنوا من رجع المعربات إلى أصولها الحقيقية، فأخطأوا في ذكر الأصول. ونظرًا إلى أن فيهم من كان يتقن الفارسية فقد رجع أصول كثير من الألفاظ إلى أصل فارسي، لأنه وجد أن الفرس نطقوا بها، ولم يعلموا أنهم أخذوها هم بدورهم من غيرهم، فصارت من لغة الفرس، أو أنهم وجدوا بعض الألفاظ قريبة من أوزان الفارسية للكلمات، فظنوا أنها فارسية، مع أنها من أصل آخر. وفعل بعض منهم ذلك عصبية منهم إلى الفارسية؛ لأنهم من أصل فارسي، فتمحلوا لذلك تكثيرًا لسواد المعربات من لغة الفرس وتعصبًا لهم3. وفي شعر الأعشى معربات عديدة مقتبسة من الفارسية، قد يكون أخذها من عرب الحيرة وبقية عرب العراق، وقد يكون أخذها من الفرس مباشرة لاتصاله

_ 1 المزهر "1/ 123". 2 المزهر "1/ 275 وما بعدها". 3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 206".

واختلاطه بهم في العراق، واقتبسها إما ليحكي عما شاهده ورآه في العراق، فاستعمل الألفاظ الفارسية الشائعة هناك، وإما أن يكون قد تعمد إدخالها في شعرها لُيري الناسَ أنه حاذق بثقافة الفرس واقف على حضارتهم ولغتهم، كالذي يفعله بعض من يدرس في بلاد الغرب من استعماله ألفاظًا أعجمية في لغته ليلمح للناس بأنه قد تثقف بثقافة الأجانب، وتلك في نظره ميزة يفتخر بها على الناس. وقد زعم أن الأعشى رحل إلى بلاد بعيدة، فبلغ عمان وحمص وأورشليم وزار الحبشة وأرض النبيط وأرض العجم، وقد ذكر ذلك في بيتين من الشعر1. وإلى زيارته هذه للعراق ولأرض العجم ينسب أهل الأخبار ورود الألفاظ الفارسية في شعره. وفي بعض المعجمات وكتب اللغة مثل لسان العرب والمعرب للجواليقي، أبيات للأعشى يرد فيها وصف لأحوال الفرس وعرب العراق، وقد استعمل فيها ألفاظًا فارسية لها مناسبة وصلة بذلك الوصف. منها ما يتعلق بالملابس، ومنها ما يتعلق بالأشربة والخمور والأفراح، ومنها ما يتعلق بالمناسبات مثل الغناء والأعياد2. وشاعر آخر نجد في شعره معربات فارسية، هو "عدي بن زيد العبادي". وهو من أهل الحيرة، المقربين إلى ملوكها وإلى الفرس، الحاذقين بالعربية وبلغة الفرس. وقد كان كاتبًا باللغتين، كما كان أبوه بليغًا باللسانين، وتولى رئاسة ديوان العرب عند الأكاسرة. وهو نصراني، ولهذا استعمل في شعره ألفاظًا نصرانية اقتبست من السريانية، وأشار بحكم نصرانيته على عادات نصرانية، كما كان حضريًّا مترفًا غنيًّا أدخل إلى بيته وسائل الترف والراحة المعروفة في ذلك اليوم، ولهذا فإن لجمع شعره جمعًا تامًّا ونقده وتحليله واستخراج صحيحه من منحوله أهمية كبيرة في إعطاء رأي عن الحياة الفكرية والثقافية لعرب العراق قبيل الإسلام. وبعد، فإن اللغة التي بحثت عن وجود المعربات فيها، هي اللغة العربية التي

_ 1 وطوفت للمال آفاقه ... عمان فحمص فأوريشلم أتيت النجاشي في داره ... وأرض النبيط وأرض العجم راجع ديوان الأعشى، المعرب "ص32". 2 المعرب "ص16، 18، 53، 72، 79" ومواضع أخرى.

نزل القرآن بها. أما اللهجات والألسنة العربية الجنوبية، فإن أثر هذه المعربات فيها كان قليلًا، ونجد في كتاباتها ألفاظًا عربية جنوبية، مكان تلك المعربات. ومعنى هذا بُعد تلك اللهجات عن المؤثرات الأعجمية الشمالية. وسبب ذلك رقي المتكلمين بها، وتقدمهم في الحضارة بالقياس إلى بقية سكان جزيرة العرب وإلى ابتكارهم أنفسهم لكثير من الأشياء، فكان من الطبيعي أن تكون أسماؤها بلغة الصانعين لها. ولدي ملاحظة، هي أن وجود المعربات في العربية الحجازية، يدل دلالة صريحة واضحة، على أن المتكلمين بها كانوا قد تأثروا بالحضارات الشمالية أكثر من تأثرهم بإخوانهم العرب الجنوبيين، وأن اتصالهم الفكري كان بالشمال أكثر منه بالجنوب، ولا يقتصر هذا التأثر على المعربات فقط، بل يشمل كل المؤثرات الثقافية الأخرى، كالذي رأيناه في مواضع متعددة من الأجزاء المتقدمة من هذا الكتاب. فكأننا أمام ثقافتين مختلفتين وشعبين متباينين، بالرغم من اتصال حدود الحجاز باليمن، وقرب المسافة بينهما، حتى اللغة نجد بونًا شاسعًا بينها وبين اللغات العربية الجنوبية، وهذا ما حمل بعض العلماء على القول: ما لغة حمير بلغتنا، ولا لسانهم بلساننا، ففرق بين اللسانين. أما "أمية بن أبي الصلت" فقد وردت في شعره معربات من أصل سرياني في الغالب، يظهر أنه أخذها من المنابع النصرانية التي قيل: إنه وقف عليها. فقد ذكر أنه كان قد قرأ كتب أهل الكتاب، ووقف على أخبارهم وعقائدهم، وإن اتصاله بهم أثر في رأيه الذي كونه لنفسه في الأديان. وأرى أن من اللازم توجيه العناية لدراسة ما تبقى من شعره للوقوف على أصوله، وعلى درجة تأثره بالتيارات الفكرية والآراء الدينية لأهل الكتاب، وعلى الألفاظ المعربة عن السريانية أو غيرها التي ترد في شعر هذا الشاعر، وذلك بعد التأكد من صحة الشعر. ومن المعربات الواردة في شعر "أمية" لفظة "تلاميذ" جمع تلميذ، وذلك في هذا الشعر المنسوب إليه: والأرض معقلنا وكانت أمّنا ... فيها مقامتنا وفيها نولد وبها تلاميذ على قذفاتها ... حُبسوا قيامًا فالفرائص ترعد

وفي هذا الشعر: صاغ السماء فلم يخفض مواضعها ... لم يتنقص علمه جهل ولا هرم لا كشفت مرة عنّا ولا بليت ... فيها تلاميذ في أقفائهم دغم وذكر أن "المتلمد" الواردة في شعر ينسب له أيضًا، بمعنى متلمذ، وأن لفظة "التلاميذ" قد ترخم في الشعر على "تلام"، كما جاء في شعر "الطرماح"، و"غيلان بن سلمة" الثقفي، وهو من الشعراء المخضرمين1. ووردت لفظة "التلاميذ" في شعر لبيد، في هذا البيت: فالماء يجلو متونهن كما ... يجلو التلاميذ لؤلؤًا قشبا2 وقد ذكر علماء اللغة أن التلاميذ: غلمان الصاغة. وهي فارسية3.

_ 1 رسالة التلميذ، للبغدادي، نوادر المخطوطات "المجموعة الثانية" "ص221 وما بعدها". 2 شرح ديوان لبيد "ص31"، القصيدة رقم4، البيت20. 3 شرح ديوان لبيد "31"، رسالة التلميذ "221".

معرفة المعرب

معرفة المعرب: قال علماء العربية: تعرف عجمة الاسم بوجوه: 1- النقل بأن ينقل ذلك أحد أئمة العربية. 2- خروجه عن أوزان الأسماء العربية نحو إبريسم، فإن مثل هذا الوزن مفقود في أبنية الأسماء في اللسان العربي. 3- أن يكون أوله نون ثم راء نحو نرجس، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية. 4- أن يكون آخره زاي بعد الدال، نحو مهندز، فإن ذلك لا يكون في كلمة عربية. 5- أن يجتمع فيه الصاد والجيم، نحو الصولجان والجص.

6- أن يجتمع فيه الجيم والقاف نحو المنجنيق، والجردقة، والجرموق، والجوسق، والجلاق، وجلنبق. 7- أن يكون خماسيًّا أو رباعيًّا عاريًا عن حروف الذلاقة، وهي: الباء، والراء، والفاء، واللام، والميم، والنون. فإنه متى كان عربيًّا، فلا بد أن يكون فيه شيء منها. نحو سفرجل، وقِرطَعْب، وجحمرش. هذا وقد تتبع بعض علماء العربية كلام العرب، فوجدوا بعض حالات إذا اجتمعت فيها حروف معينة دلت على أصل أعجمي، من ذلك قولهم: 1- الجيم والتاء لا تجتمعان في كلمة من غير حرف ذي لقيّ، ولهذا ليس الجبت من صميم العربية. 2- الجيم والطاء لا تجتمعان في كلمة عربية، ولهذا كان الطاجن والطيجن مولدين، لأن ذلك لا يكون في كلامهم الأصلي. 3- لا تجتمع الصاد والطاء في كلمة من لغتهم، أما الصراط، فصاده من السين. 4- يندر اجتماع الراء مع اللام إلا في ألفاظ محصورة: كوَرَل ونحوه. 5- قال "البطليوسي": لا يوجد في كلام العرب دال بعدها ذال إلا قليل، ولذلك أبى البصريون أن يقولوا: بغداذ. 6- ليس في كلام العرب شين بعد لام في كلمة عربية محضة، الشينات كلها في كلام العرب قبل اللامات1.

_ 1 المزهر "2/ 268 وما بعدها"، الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 202 وما بعدها".

أقسام الأسماء الأعجمية

أقسام الأسماء الأعجمية: "قال أبو حيان في الارتشاف: الأسماء الأعجمية على ثلاثة أقسام: قسم غيرته العربُ وألحقته بكلامها فحكم أبنيته في اعتبار الأصل والزائد والوزن حكم

أبنية الأسماء العربية الوضع، نحو درهم وبهرج. وقسم غيرته ولم تلحقه بأبنية كلامها، فلا يعتبر فيه ما يعتبر في القسم الذي قبله، نحو آجر وسفسير. وقسم تركوه غير مغير، فما لم يلحقوه بأبنية كلامهم لم يعد منها، وما ألحقوه بها عدّ منها؛ مثال الأول خراسان، لا يثبت به فُعالان، ومثال الثاني: خُرَّم ألحق بسُلّم، وكُركُم ألحق بقُمقُم1.

إبدال الحروف

إبدال الحروف: وهناك حروف لا تتكلم بها العرب إلّا ضرورة، فإذا اضطروا إليها حوّلوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف إلى مخارجها، وذلك كالحرف الذي بين الباء والفاء مثل "بور" إذا اضطروا قالوا: "فور". لأن "بور" ليس من كلام العرب. وحرف "ب" حرف غير عربي. وقد يحولون الـ "ب" إلى "ب"، كما في "سابور"، وأصله "شابور". وقد يحول حرف الـ "ب" إلى "P" إلى "ف" عند تحويل الأعلام الأجنبية إلى عربية. مثل Platon، اسم الفيلسوف اليوناني، "427-347 ق. م" الذي حول إلى"أفلاطون". وذلك بتحويل حرف "الباء" إلى "ف"، وبتحويل حرف "التاء" إلى "طاء". وقد اتبع المعربون قاعدة تحويل "التاء" الواردة في الأعلام الأعجمية إلى حرف "طاء". في الغالب، فحول Aristoteles "384 – 322 ق. م" إلى "أرسطوطاليس". وPlotinos الإسكندري "205 – 270م"، إلى "فلوطين" ولو زالت هذه الطريقة معروفة فـ"تهران" عاصمة إيران، هي "طهران". والعرب يعربون الشين سينًا، فيقولون: نيسابور، وهي نيشابور. وقد أبدلو بالإضافة إلى حرف "الشين" حرف "الياء" "باء". فالأصل "نيشايور"، ومثل ذلك: "سابور"، فالأصل هو "شايور". "وقال بعضهم: الحروف التي يكون فيها البدل في المعرب عشرة: خمسة يُطرد إبدالها، وهي: الكاف، والجيم، والقاف، والباء، والفاء. وخمسة

لا يطرد إبدالها، وهي: السين، والشين، والعين، واللام، والزاي. فالبدل المطرد: هو في كل حرف ليس من حروفهم كقولهم: كُرْبج، الكاف فيه بدل من حرف بين الكاف والجيم، فأبدلوا فيه الكاف؛ أو القاف نحو قربق. أو الجيم نحو جَوْرب، وكذلك فِرند هو بين الباء والفاء فمرّة تبدل منها الباء ومرّة تبدل منها الفاء. وأما ما لا يطرد فيه الإبدال، فكل حرف وافق الحروف العربية كقولهم إسماعيل أبدلوا السين من الشين، والعين من الهمزة، وأصله إشمائيل. وكذلك قفشليل أبدلوا الشين من الجيم واللام من الزاي، والأصل قفجليز. وأما القاف في أوله فتبدل من الحرف الذي بين الكاف والجيم"1.

_ 1 المزهر "1/ 274".

الفصل الثاني والأربعون بعد المئة: النثر

الفصل الثاني والأربعون بعد المئة: النثر مدخل ... الفصل الثاني والأربعون بعد المئة: النثر النثر هو الكلام المرسل الذي لا يتقيد بالوزن والقافية، وهو الجزء المقابل للشعر، من أجزاء الكلام. وهو أقدر من الشعر على إظهار الأفكار وعلى التعبير عن الرأي، وعلى الإفصاح عن علم ومعرفة، لكونه كلامًا مرسلًا حرًّا لا يتقيد بقيود، خاليًا من الوزن والقافية ومن المحافظة على القوالب، إلا أنه دون الشعر في التأثير في النفوس وفي اللعب بالعواطف، لما في الشعر من سحر الوزن والقافية، والإنشاد بأنغام متباينة مؤثرة، لا سيما إذا ما اقترن بعزف على آلات طرب. ولوجود القافية والوزن في الشعر، ولكونه أبياتًا، سهل حفظه، وصار من الممكن خزنه في الذاكرة أمدًا طويلًا، ومن هنا امتاز على النثر، الذي لا يمكن حفظه بسهولة، ولا خزنه في الذاكرة، لعدم وجود مقومات الخزن المذكورة فيه. والنثر الذي نقصده ونعنيه، هو النثر الذي يبحث عنه مؤرخ الآداب، لكونه قطعة فنية، تعبر عن عاطفة إنسانية، وعن مظاهر الجمال والذوق والتأثير في النفوس، فيه صياغة وفن في حبك القول، وتفنن في طرق العرض، وإغراء في تنميق الكلم ودبج الكلمات، وحلاوة وطراوة وسحر وبيان، فهو كلام عال لا يشبه كلام العامة، ولا مما يتخاطب به الناس، ولا مما يتعامل به في التجارة والمكسب أو في الدوائر، وإنما هو من قبيل كتب الأدب، ومن قبيل الأمثال والخطابة والمراسلات الأدبية وما شاكل ذلك من وجوه. ولهذا، نستبعد من هذا النثر، ما وصل إلينا من نصوص جاهلية، لأنها كتبت في أغراض أخرى،

كتبت في تقديم نذور، وفي معاملات: من بيع وشراء، وتثبيت ملك، أو تحديد حدود، أو في قوانين وأوامر، ولم تكتب في أغراض أدبية خالصة. وبين أيدينا خطب طويلة ومتوسطة وقصيرة، نسبها الرواة إلى خطباء جاهليين، زعموا أنهم كانوا في أيامهم آية في الفصاحة والبلاغة والبيان، وأساطير وقصص زعم أهل الأخبار أنها أخبار صحيحة وروايات مروية، وأصول منافرات ومفاخرات ومعاتبات ومشاتمات، زعموا أنها جرت في الجاهلية، وانتقلت أصولها بنصها وفصها وحروفها وكلمها من رواتها إلى الإسلاميين، فدوّنت في كتبهم، كما رووا حكمًا وأمثالًا وأقوالًا، زعموا أنها لحكماء من أهل الجاهلية حفظها الناس حفظًا، ورووها رواية رجلًا عن رجل، وجيلًا عن جيل، حتى وصلت مرحلة التدوين. وكل هذا المسجل الذي نتحدث عنه، هو من مدوّنات أهل الإسلام، ليس فيه من مدوّنات أهل الجاهلية أي شيء. وبين هذا النثر، خطب منمقة مزوّقة، نسبت إلى ملوك وسادات العرب البائدة، الذين بادوا قبل الإسلام بعهد طويل، ومات معهم أدبهم بالطبع، وخطب نسبت إلى التبابعة، وقد هلكوا أيضًا قبل الإسلام، وكلام نسب إلى أنبياء جاهليين، وإلى الجن أيضًا، رواه أهل الأخبار، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة الإفصاح عن كيفية وصول تلك الخطب وذلك الكلام إليهم، مع أنهم كرروا القول بأن كلام بعضهم كان كلامًا آخر يخالف كلامنا، وأن عربيتهم لا تشاكل عربيتنا، فكيف نقلوها ودوّنوها إذن في الإسلام؟ إن نثرًا من هذا النوع هو نثر مصطنع بالطبع صنع على لسان أولئك الماضين، من غير شك ولا شبهة، فهو من هذه الناحية مكذوب مرفوض. وأما النثر المنسوب إلى العرب الذين عاشوا قبيل الإسلام، أو أدركوا الإسلام، فالصحيح فيه أقل من المصنوع، خاصة نصوص الخطب والحكم والمواعظ، والقصص والأيام، والوفادات والخطب الطويلة؛ لأن من المستحيل على الذاكرة، حفظ الكلام المنثور بالحروف والكلمات حفظ أشرطة التسجيل له أو للغناء أو الموسيقى، مهما وهب الله تلك الذاكرة من قوة في قدرة الأخذ والحفظ. ثم هي إذا حفظته اليوم، فلا بد وأن تتعثر به غدًا، ثم يزداد تعثرها به بعد ذلك. هذا رسول الله يذكر "قس بن ساعدة الإيادي"، فيقول: "رحم الله قسًّا كأني أنظر

إليه على جمل أورق، تكلم بكلام له حلاوة لا أحفظه"1، وإذا راجعت نص خطبة "قس" في الموارد، تجد الرواة على اختلاف شديد فيما بينهم في ضبط نصها2، وهذا حديث رسول الله التام، أي: المروي بالنص، وبالطرق الصحيحة تراه يرد أحيانًا بعبارات مختلفة مع اتحاد المعنى، مما يدل على أن رواته قد أجهدوا أنفسهم جهد طاقتهم في حفظه، لكنهم عجزوا عن حفظه حفظ الكتاب للمكتوب. خذ صيغ التشهد في الصلاة مثلًا، وهي قصيرة العبارة، لا طول فيها، تجد الصحابة والفقهاء يختلفون مع ذلك في ضبطها، فترى نص تشهد "ابن مسعود" يختلف بعض الاختلاف عن نص تشهد "ابن عباس"، وعن نص تشهد "عمر"، وعن نص تشهد "أبي سعيد الخدري"، وعن تشهد "جابر"، مع قول "ابن مسعود": "علمني رسول الله التشهد وكفّي بكفّه، كما يعلمني السورة من القرآن"، وقول "أبي سعيد الخدري": "وكنّا لا نكت إلا القرآن والتشهد"، وقول "جابر": "كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"، وقول "جابر": "كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن"3، بل خذ القرآن، وهو كتاب الله المحفوظ المدوّن، الذي حفظه بعض الصحابة، وتلوه على الرسول، وحرصوا على المحافظة على نصه حرصهم على حياتهم، بل أشدّ منها، ودوّنوه ساعة الوحي، وأمام الرسول، ظهرت مع ذلك فيه قراءات، بسبب اختلاف مدارك الصحابة في فهمه وفي حفظه، وبسبب اللهجات وعيوب الخط، فإذا كان هذا ما حدث في أيام الرسول وبعد وفاته بقليل، وقد وقع في أعز كلام بالنسبة للمسلمين، فهل يعقل بعد، التصديق بصحة النصوص المروية لخطب طويلة، زعم أنها قيلت في قصور كسرى، أو بحضرة ملوك الحيرة، أو الغساسنة، أو تبابعة اليمن، أو الكلام المروي عن قوم عاد وثمود، وقوم لوط، وغيرهم وغيرهم ممن هلكوا وبادوا قبل الإسلام بزمن طويل. ثم كيف نصدق بخطب زعم أنها قيلت في الجاهلية، مثل خطبة "النعمان بن المنذر" أمام كسرى، أو خطب الوفد الذي أرسله هذا الملك إلى "كسرى" ليكلمه في أمر العرب4، وهي خطب طويلة منمقة، على حين يذكر العلماء أن

_ 1 الإصابة "3/ 265"، "رقم 7343". 2 الجزء السادس من هذا الكتاب "ص464 وما بعدها". 3 أبو رية، أضواء على السنة المحمدية "82 وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "1/ 147 وما بعدها".

"الأحاديث لم تنقل كما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما رويت بالمعنى". وسبب ذلك، أنهم وجدوا أن من غير الممكن إثبات النص بالرواية من غير تبديل ولا تغيير قد يقع عليه، وخشية وقوع هذا الخطأ في كلام الرسول، وهو أعز كلام، وعليه تترتب الأحكام في الحلال والحرام، جوّزوا الرواية بالمعنى. ولهذا تركوا الاستشهاد بالحديث "على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب1"، ولو وثق العلماء من أن لفظ الحديث، هو لفظ الرسول حقًّا "لجرى مجرى القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية. وإنما كان ذلك لأمرين: أحدهما أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم لم يقل بتلك الألفاظ جميعها، نحو ما روي من قوله: زوجتكها بما معك من القرآن، ملكتكها بما معك من القرآن، خذها بما معك من القرآن، وغير ذلك من الألفاظ الواردة، فتعلم يقينًا أنه صلى الله عليه وسلم، لم يتلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا يجزم بأنه قال بعضها، إذ يحتمل أنه قال لفظًا مرادفًا لهذه الألفاظ، فأتت الرواة بالمرادف، ولم تأت بلفظه إذ المعنى هو المطلوب، ولا سيما تقادم السماع وعدم ضبطها بالكتابة والاتكال على الحفظ. والضابط منهم من ضبط المعنى. وأما من ضبط اللفظ فبعيد جدًّا، لا سيما في الأحاديث الطوال. وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت، فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم يروون بالمعنى"2. "وفي سنن الترمذي، عن مكحول عن واثلة بن الأسقع قال: إذا حدثناكم على المعنى فحسبكم، ورواية الذهبي في سير أعلام النبلاء: إذا حدثتكم بالحديث على معناه فحسبكم"3. لقد وجد الصحابة أن من الصعب عليهم حفظ كلام الرسول بالنص والحروف، وهم معه في كل وقت، يحدثهم ويحدثونه، فيشق عليهم ضبط كلامه، وهم لا يكتبونه ولا يكررونه عليه، وليس من الممكن أن يجلس رسول الله، ثم يطلب من أصحابه إعادة كل كلام كلمهم به، فسأله أحدهم: "يا رسول الله، إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمعه منك، يزيد حرفًا أو ينقص

_ 1 خزانة الأدب "1/ 5"، "طبعة بولاق". 2 خزانة الأدب "1/ 5 وما بعدها"، "بولاق"، أعلام النبلاء، للذهبي "3/ 259". 3 أبو رية، أضواء على السنة المحمدية "81".

حرفًا. فقال: إذا لم تحلّوا حرامًا ولم تحرموا حلالًا وأصبتم المعنى فلا بأس"1. وكان من الصحابة من يروي حديثه تامًّا، ومنهم من يأتي بالمعنى، ومنهم من يورده مختصرًا، وبعضهم يغاير بين اللفظتين ويراه واسعًا إذا لم يخالف المعنى. وروي عن "مكحول"، "قال: دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع، فقلنا له: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله ليس فيه لا تزيد ولا نسيان! فقال: هل قرأ أحد منكم من القرآن شيئًا؟ فقلنا: نعم، وما نحن له بحافظين جدًّا. إنا نزيد الواو والألف وننقص، فقال: هذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألونه حفظًا، وأنكم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون، فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عله وسلم، عسى ألا يكون سمعنا لها منه إلا مرة واحدة؟ حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى. وكان ابن أبي ليلى يروي الشيء مرة هكذا ومرة هكذا بغير إسناد، وإنما جاء هذا من جهة حفظه، لأن أكثر من مضى من أهل العلم كانوا لا يكتبون، ومن كتب منهم فإنما كان يُكتب لهم بعد الساع، وكان كثير منهم يروي بالمعنى فكثيرًا ما يعبر عنه بلفظ من عنده فيأتي قاصرًا عن أداء المعنى بتمامه، وكثيرًا ما يكون أدنى تغيير له محيلًا له وموجبًا لوقوع الإشكال فيه، وقد أجاز الجمهور الرواية بالمعنى"2. ولتجويزهم رواية الحديث بالمعنى، لم يحتج أئمة النحو المتقدمين من المصرين بشيء من الحديث في النحو، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب "ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث، لكان الأولى في إثباته فصيح اللغة كلام النبي، صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب"3. جرى على ذلك الواضعون الأولون لعلم النحو المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، والخليل، وسيبويه من أئمة البصرة، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفة. فعلوا ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى

_ 1 العراقي، فتح المغيث بشرح ألفية الحديث "3/ 50". أبو رية "78". 2 أبو رية، أضواء على السنة المحمدية "81". 3 الخزانة "1/ 4 وما بعدها".

القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية1. وإذا كان هذا موقف ذاكرة الصحابة من كتاب الله ومن حديث رسوله، فهل يعقل أن تكون حافظتهم أقوى وأشد حفظًا وأكثر دقة في رواية كلام هو دون كلام الله وكلام رسوله، فنصدق قول من قال: إن "سلمة بن غيلان" الثقفي مثلًا دخل في ناس من العرب على كسرى، فطُرح لهم مخادُّ عليها صورته، فوضعوها تحتهم، إلا سلمة بن غيلان فإنه وضعها على رأسه، فقال له: ما صنعت؟ قال: ليس حق ما عليه صورة الملك أن يبتذل، وما أجد في جسدي عضوًا لا أكرم ولا أرفع من رأسي فجعلتها فوقه. فقال له: ما أكلك؟ فقال: الحِنطة. فقال: هذا عقل الحنطة2. أو أن نصدق بكلم وفد "طي" إلى "سواد بن قارب" الدوسي، وامتحانهم إياه، ثم جوابه المسجع على سجعهم3، أو كلام الكاهنة "عفيراء" الحميرية4، أو كلام "ابنة الخس"5، أو كلام "عبد المطلب"، وغيره من سادات قريش مع تبابعة اليمن وحكامها الحبش، وهو كلام مضبوط بالحروف والكلمات، ترويه كتب أهل الأخبار على أنه كلام صحيح صادق، لم ينله تغيير ولا اعتراه تبديل، وكأنه قد سجل على شريط "تسجيل"، أو على أسطوانة، لم تلعب بها يد إنسان. جاء في "لسان العرب": "قيل لسيدنا محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأمي لأن أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب، وبعثه الله رسولًا وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة، لأنه، صلى الله عليه وسلم، تلا عليهم كتاب الله منظومًا، تارة بعد أخرى، بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه، وكان الخطيب من العرب، إذا ارتجل خطبة ثم أعاده زاد فيها ونقص"6، فإذا كان هذا شأن الخطيب،

_ 1 الخزانة "1/ 5". 2 المصون "198". 3 بلوغ الأرب "3/ 299 وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "3/ 296". 5 في جملة كتب "ثعلب": كتاب: تفسير كلام ابنة الخس، الفهرست "117"، "الفن الثاني من المقالة الثانية من كتاب الفهرست في أخبار العلماء". 6 اللسان "12/ 34".

هو مرتجل الخطبة، وصاحبها لا يستطيع إعادة نصها، فكيف يكون حال السامع الذي يسمعها سماعًا، ولا يكتبها على صحيفة، فهل يجوز إذن التصديق بصحة نصوص هذه الخطب وما يروونه عن الجاهليين من أدب منثور!

السجع

السجع: وقد جعل "الجاحظ" كلام العرب أنماطًا، جعله "في الأشعار، والأسجاع، والمزدوج، والمنثور"1. والسجع في تعريف العلماء له: الكلام المقفى، أو موالاة الكلام على رويّ واحد. وقيل: السجع أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تأتلف القوافي. وسجع يسجع سجعًا: نطق بكلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن2. وقد ألِف "الكهان" النطق بالسجع، حتى غلب على كلامهم، واختص بهم، كما اختص الشعر بالشعراء، فعرف لذلك بـ"سجع الكهان". "ولما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، في جنين امرأة ضربتها الأخرى، فسقط ميتًا بغرة على عاقلة الضاربة، قال رجل منهم: كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح، فاستهل. ومثل دمه يطل. قال صلى الله عليه وسلم: "أسجع كسجع الكهان". وفي رواية: "إياكم وسجع الكهان". وفي الحديث أنه، صلى الله عليه وسلم، نهى عن السجع في الدعاء. قال الأزهري: إنما كره السجع في الكلام والدعاء لمشاكلة كلام الكهنة وسجعهم فيما يتكهنونه، فأما فواصل الكلام المنظوم الذي لا يشاكل السجع، فهو مباح في الخطب والرسائل"3. وروي الحديث على هذه الصورة: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله أن دية جنينها غُرّة، عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثتها ولدها ومن معهم. فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطلّ، فقال رسول

_ 1 الحيوان "7/ 216 ومابعدها"، "عبد السلام محمد هارون". 2 تاج العروس "5/ 376"، "سجع". 3 تاج العروس "5/ 376"، "سجع".

الله، صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه الذي سجع" 1. قال الجاحظ في معرض كلامه على السجع وقول الرسول: "أسجع كسجع الجاهلية"2. "وكان الذي كره الأسجاعَ بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدّعون الكهانة، وأن مع كل واحد منهم رئيًا من الجن، مثل حازي جهينة، ومثل شقّ وسطيح، وعُزى سَلمَة، وأشباههم: كانوا يتكهنون، ويحكمون بالأسجاع، كقول بعضهم: والأرض والسماء والعُقاب الصقعاء، واقعة بيقعاء، لقد نفر المجد بني العُشراء، للمجد والسناء. وهذا الباب كثير. ألا ترى أن ضمرة بن ضمرة، وهرم بن قطبة، والأقرع بن حابس، ونفيل بن عبد العزى، كانوا يحكمون، وينفرون بالأسجاع؟ وكذلك ربيعة بن حذار. قالوا: فوقع النهيُ في ذلك الدهر، لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها في صدور كثير منهم، فلما زالت العلة، زال التحريم. وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في تلك الخُطب أسجاع كثيرة فلا ينهونهم3. وقد كان الكهّان حكّامًا كذلك، يفصلون في الخصومات بين الناس. يأتي إليهم المتخاصمون، وبعد أن يؤكدوا لهم رضاهم وقناعتهم بحكمهم، يحكمون بينهم فيما يرونه. وينسب الناس إلى الكهان إدراك الغيب برئي يأتي إليهم فيلقي لهم بما يراه، ويعلمهم من المغيبات عما يسألون، ولذلك ورد: أن الكهانة هي ادعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع، وورد: الكاهن القاضي بالغيب، وكل من أدل بشيء قبل وقوعه4.

_ 1 شرح الإمام النووي على صحيح مسلم "7/ 196"، "حاشية على إرشاد الساري"، صحيح مسلم "5/ 110". 2 البيان والتبيين "1/ 287"، "لجنة". 3 البيان "1/ 289 وما بعدها" "لجنة"، "1/ 229"، "عبد السلام هارون". 4 بلوغ الأرب "3/ 269".

ويفهم من روايات أهل الأخبار ومن كتب الحديث والموارد الأخرى، أن الكهانة كانت شائعة في الناس، فكانوا يقصدونهم في كل شيء لاستشارتهم وللأخذ برأيهم وللفصل في الخصومات والمنازعات. وقد منعها الإسلام، حتى ورد في كتب الحديث: إن من أتى كاهنًا أو عرافًا فقد كفر1. ونجد في بطون الكتب أمثلة من سجع الكهان. وهو يستحق الدرس والبحث، لتحليل عناصره، وبيان صدقه من كذبه، وصحيحه من فاسده. وفي بعضه مثل ما نسب إلى "زبراء الكاهنة"، محاكاة لأسلوب السور القصيرة من القرآن الكريم2. وهو مرحلة مهمة من مراحل تطور أسلوب الكلام عند العرب، وهو حري إذن بالدراسة وبالبحث. وقد أشير إلى قول الكهان في القرآن الكريم في آية: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} 3 و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 4. فقد زعموا أنه كاهن، وزعموا أنه مجنون5، فوبخوا لزعمهم هذا، وقيل لهم: إن "محمدًا ليس بكاهن؛ فتقولوا: هو من سجع الكهان"6. "وكانت قريش يدعون أنهم أهل النهى والأحلام"7، "فقال الله: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} أن يعبدوا أصنامًا بكمًا صمًّا، ويتركوا عبادة الله، فلم تنفعهم أحلامهم حين كانت لدنياهم"8، فانزعجوا منه وقالوا عنه: إنه كاهن، وإنه شاعر، وإنه مجنون. وفي اتهامهم الرسول بأنه كاهن، وبأن القرآن "هو من سجع الكهان"9، دلالة على وجود السجع عند الجاهليين، وأنه كان من نمط الكلام الذي اختصوا به. لا مجال إذن للشك في وجود السجع عندهم، وإن كنا نشك في صحة نصوص السجع المنسوب إليهم.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 270". 2 راجع كلامها لجماعة من قضاعة في بلوغ الأرب "3/ 288 وما بعدها". 3 الطور، الرقم52، الآية29. 4 الحاقة، الرقم69،الآية42، تفسير الطبري "29/ 41". 5 تفسير الطبري "27/ 19". 6 تفسير الطبري "29/ 41 وما بعدها". 7 تفسير النيسابوري "27/ 25"، "حاشية على الطبري". 8 تفسير الطبري "27/ 19". 9 تفسير الطبري "29/ 41".

ويذكر أهل الأخبار، أن "ضمادًا" لما قدم مكة معتمرًا، "سمع كفار قريش يقولون: محمد مجنون. فقال: لو أتيت هذا الرجل فداويته، فجاءه فقال له: يا محمد، إني أداوي من الريح، فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك. فتشهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وتكلم بكلمات فأعجب ذلك ضمادًا فقال: أعدها عليّ، فأعادها عليه، فقال: لم أسمع مثل هذا الكلام قط، لقد سمعت كلام الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط"1. فالكهنة والسحرة والشعراء هم طبقة خاصة، كانوا يؤثرون في عواطف السامعين باستعمالهم أسلوبًا خاصًّا من الكلام، هو أسلوب السجع، بالنسبة إلى الكهنة والسحرة، والشعر بالنسبة إلى الشعراء. أما الخطباء، فقد كانوا سجاعًا في الغالب، لكنهم كانوا يستعملون المرسل من النثر أيضًا بأساليبه المختلفة. وقد ذكر "الجاحظ" أن "الكهان" كانوا "يتكهنون ويحكمون بالأسجاع"2، هذه "زبراء" تنذر "بني رئام"، عن أنباء ستقع، فتقول "واللوح الخافق والليل الغاسق، والصباح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق، إن شجر الوادي ليأدوا خَتْلا، ويحرق أنيابًا عُصلا، وإن صخر الطود لينذر ثُكلا، لا تجدون معه معلا، فوافقت قومًا أشارى سكارى، فقالوا: يرح خجوج، بعيدة ما بين الفُرُوج، أنت زبراء بالأبلق النتوج. فقالت زبراء: مهلًا يا بني الأعزة، والله إني لأشم ذفر الرجال تحت الحديد، فقال لها فتى منهم يقال له هذيل بن منقذ: يا حذاق، والله ما تشمين إلا ذفر إبطيك، فانصرفت عنهم وارتاب قوم من ذوي أسنانهم، فانصرف منهم أربعون رجلًا وبقي ثلاثون فرقدوا في مشربهم، وطرقتهم بنو داهن وبنو ناعم فقتلوهم أجمعين"3. وهذا كاهن "بني أسد" "عوف بن ربيعة"، يأتيه "رئيه"، فيتكهن لقومه قائلًا: "يا عبادي، قالوا: لبيك ربنا، قال: من الملك الأصهب، الغلاب غير المغلب، في الإبل كأنها الربرب، لا يعلق رأسه الصخبن هذا دمه ينثعب، وهذا غدًا أول من يُسلب، قالوا: من هو يا ربنا؟ قال:

_ 1 ابن سعد، طبقات "4/ 241"، "الطبقة الثانية من المهاجرين والأنصار". 2 البيان والتبيين "1/ 289 وما بعدها". 3 الأمالي للقالي "1/ 126 وما بعدها".

لولا: أن تجيش نفس جاشية، لأخبرتُكم أنه حجر ضاحية. فركبوا كل صعب وذلول فما أشرق لهم النهار حتى أتوا على عسكر حُجر فهجموا على قبته"1. وهذا "خنافر بن التوءم" الحميري الكاهن، وكان قد أوتي بسطة في الجسم، وسعة في المال، وكان عاتيًا، يأتيه "رئيه" بعد غيبة طويلة، فيقول: "خُنافر" فيجيبه: "شصار؟ "، فقال: "اسمع أقل"، قال خنافر: قل أسمع، فقال: عه تغنم، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية. قال خنافر: أجل، فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتسخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنست بأرض الشأم، نفرًا من آل العُذام، حكامًا على الحكام، يذبرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلفت، فقلت: بمَ تهيمنون، وإلام تعترون؟ قالوا: خطابٌ كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنج من أوار النار، قلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مضر، من أهل المدر، ابتُعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجًا قد دَثَر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مضر؟ قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشبر، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشابع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق، قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإحرَّين، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: الحق يثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهناك أهل الطول والفضل، والمواساة والبذل، ثم أملس عني. فبت مذعورًا أراعي الصباح، فلما برق لي النور امتطيت راحلتي، وآذنت أعبدي، واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقابها، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميرًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبايعته على الإسلام وعلّمني سورًا من القرآن، فمن الله علي بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة".

_ 1 الأغاني "9/ 84".

وهكذا أسلم -على حد قول أهل الأخبار- والفضل يعود في ذلك إلى "رئيه" "شصار" الذي أسلم قبله، وهو من الجن، والجن مثل البشر، منذ ظهر الإسلام بين مسلم وكافر. ولما أسلم "خنافر"، قال شعرًا يحمد الله فيه على أن منّ عليه بالإسلام، ويذكر "رئيه" "شصار" بالخير، إذ لولاه لكان في نار جهنم1. وأسندوا له قوله: ألم ترَ أن الله عاد بفضله ... وأنقذ من لفح الجحيم خنافرا دعاني شصار للتي لو رفضتها ... لأصليت جمرًا من لظى الهون جائرًا وهو خبر يرجع سنده إلى "ابن الكلبي". وقد ذكر في الأخبار المنثورة لابن دريد. وقد ذكر أنه أسلم على يد معاذ بن جبل باليمن2. لا أدري كيف حفظه "ابن الكلبي" ورواه عن والده، الذي صنعه ووضعه، إلا أن يكون والده قد حضر المحاورة فكان يسجلها، وهو ما يعد من المستحيلات. وقد أمات الإسلام "الكهانة"، فقد اجتثها وحاربها، وحث على نبذ سجع الكهان وأساليب الكهان في الملبس، فكان منهم من قاوم، ثم انخذل، بدخول قومه في دين الله، فدخل معهم في. وفي كتب أهل الأخبار قصص على نمط قصة إسلام "خنافر"، وكلام دار بينهم وبين "رئيهم"، دوّنه أهل الأخبار بالحروف والكلم، لم يتركوا منه حرفًا، وكأنهم كانوا كتاب ضبط محضر جلسات أمروا بتدوين كل محضر ساعة وقوعه. وتجد أخبار الكهان، وما لاقوه من عنت من "رئيهم" حين أدركوا الإسلام، وما أخبروا به من قرب ظهور الرسول كأخبار العراف اللهبي "العائف"3، و"الغيطلة" الكاهنة4، والكاهن "خطر"5"،

_ 1 الأمالي "1/ 134 ومابعدها". 2 الإصابة "1/ 457"، "2342"، الاستيعاب "1/ 459 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 3 ابن هشام، سيرة "1/ 118"، "حاشية على الروض"، "1/ 135 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة، "أخبار الكهان". 4 ابن هشام "1/ 137"، الروض الأنف "1/ 137". 5 ابن هشام "1/ 138".

والكاهن "سواد بن قارب" الدوسي1، و"ابن الهيبان"2، والمأمور الحارثي3، وغيرهم وغيرهم. ولسجع الكهان، طريقة خاصة به، ميزته عن سجع غيرهم، فهو قصير الفقرات، يلتزم التقفيه وتساوي الفواصل من كل فقرتين أو أكثر، يعمد إلى الألفاظ العامة المبهمة المعماة، وإلى تكوين الجمل الغامضة، ليمكن تأويلها تأويلات متعددة، وتفسيرها بتفاسير كثيرة، لا تلزم الكاهن، فيقع في حرج، كالذي يقع لو تكلم بكلام واضح صريح. فيظهر بمظهر الجاهل الكاذب. أما السجع المنسوب إلى الخطباء، ففقره أطول، وكلمه أوضح، طويل النفس، متحرر نوعًا ما من قيود سجع الكهان، بين الفقر تطابق في الطول، وفي فقره بيان مشرق، فواصله كفواصل الشعر من دون وزن. جهد صاحبه أن يجعل الفواصل واضحة صافية، ذات مقاطع مستقلة في الغالب بمعناها، وينتهي الكلام بانتهائها من غير التزام قافية، وقد يكون مرسلًا، خالصًا من تساوي الجمل والتزام القافية، فهو بين سجع وازدواج وترسل. وقد يكون مزدوجًا، فهو سجع خفيف مقبول. وبالإضافة إلى السجع، واستعمال الألفاظ الغامضة المبهمة، والإيماءة والرموز والتكنية عن الأشياء، تهربًا من التصريح، وحذر افتضاح الأمر، كان الكاهن يلحف في الأسئلة ويمعن في الاستفسار، حتى يستنبط من ذلك بفطنته وذكائه ما يريد السائل، فيعطيه جوابًا مائعًا، شأن جواب السحرة والعرافين، كما كان يعمد إلى القسم بظواهر الطبيعة من كواكب ونجوم، وشمس وقمر، ورياح وعواصف وسحب، وليل ونهار، وشجر وحجر، وأمثال ذلك مما نجده في خطبهم وأقوالهم، وهو شيء يلفت النظر، ويبعث على التعجب من قسم القوم بهذه الأمور. ولكن المتتبع الدارس لعقائد القوم في الجاهلية، ولحياتهم الاجتماعية لا يعجب من ذلك كما لا يعجب من قسمهم بالخبز، والملح، واللبن، والقوس، والعصا، فإن لهذه الأمور وأمثالها معانٍ عميقة عند أهل الجاهلية، فقدت أكثريتها معانيها في

_ 1 ابن هشام "1/ 140". 2 ابن هشام "1/ 141". 3 الأمالي "1/ 276"، الأغاني "15/ 70".

الإسلام، بسبب إبطاله لتلك العقائد، وإن بقي حشد منها في نفوس الناس إلى هذا اليوم، بسبب رسوخه في العقل والدم. وفي القرآن قسم بالسماء، وبالعاديات، وبالتين والزيتون، وبغير ذلك1، ذهب المفسرون في سبب القسم بها مذاهب، ففسروا وتأولوا، ولو فكروا أن هذا النوع من القسم، هو أسلوب من أساليب العرب في القسم قبل الإسلام، وأن القرآن إنما نزل بلسان العرب، ولذلك اتبع طريقتهم في القسم، لأنه خاطبهم على قدر عقولهم وبلغتهم، عرفوا السبب، ولا زال الأعراب على سجيتهم القديمة في القسم بهذه الأشياء، يقسمون بها كما يقسم المتحضر بأعز شيء عنده. والسجع في الواقع باب من أبواب الشعر، والمرحلة الأولى من مراحله، والبذرة التي أنبتت الشعر العربي. ويتكون من فقرات، وإذا أخذنا الشعر البدائي الذي يكون المرحلة الأولى من الشعر، نرى أنه لا يختلف اختلافًا كبيرًا عن السجع. و"الكلام المسجع"، هو ضرب من ضروب الشعر عند غير العرب. وقد طوّر الشعراء السجع، وأوجدوا منه الشعر، وإذا درسنا أول الشعر العبراني، أو أوليات الشعر عند الشعوب السامية، وعند الشعوب الآرية، نجد أنه نمط من أنماط هذا الكلام الذي نسميه "السجع"2. وهو لا زال يعد شعرًا عند كثير من شعوب هذا اليوم. والمزاوجة والازدواج بمعنى واحد. وازدوج الكلام وتزواج أشبه بعضه بعضًا في السجع أو الوزن3، والازدواج لون من ألوان الإفصاح عن الشعور بأسلوب من أساليب الأدب المنثور، أخف على النفس من السجع، وأسهل انقيادًا لأنامل الكتاب منه. وهو على كل حال لون من ألوانه، خفت قيود قوافيه، حتى صار على هذا الشكل. ومن الازدواج قول أحد بني أسد يخاطب رجلًا شيخًا مات ابن له: "اصبر أبا أمامة، فإنه فرط افترطته، وخير قدمته، وذخر أحرزته". فقال مجيبًا له: "ولد دفنته، وثكل تعجلته، وغيب وُعِدته، والله لئن لم أجزع النفس، لا أفرح بالمزيد"4.

_ 1 تفسير الطبري "30/ 153 وما بعدها". 2 Goldziher, History of classical Arabic Literature, P. 8 3 تاج العروس "2/ 55"، "زوج". 4 البيان والتبيين "2/ 116".

وقد تحدث "الجاحظ" في أثناء حديثه عن الشعوبية ومطاعنها على خطباء العرب عن أساليب الجاهليين في الكلام في أمورهم الجليلة مثل المنافرة والمفاخرة، وعقد المعاقدة والمعاهدة وأمثال ذلك، ثم عن أخذهم المخصرة، عند مناقلة الكلام، فقال: "وبمطاعنهم على خطباء العرب: بأخذ المخصرة عند مناقلة الكلام، ومساجلة الخصوم بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لم يُقفّ، وبالأرجاز عند المنح، وعند مُجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادة والمحاورة. وكذلك الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعمال المنثور في خطب الحمالة، وفي مقامات الصلح وسلّ السخيمة، والقول عند المعاقدة والمعاهدة، وترك اللفظ يجري على سجيته وعلى سلامته، حتى يخرج على غير صنعة ولا اجتلاب تأليف، ولا التماس قافية، ولا تكلف لوزن. مع الذين عابوا من الإشارة بالعصي، والاتكاء على أطراف القسي، وخدّ وجه الأرض بها، واعتمادها عليها إذا اسحنفرت في كلامها، وافتنت يومَ الحفل في مذاهبها، ولزومهم العمائم في أيام الجمُوع، وأخذ المخاصر في كل حال، وجلوسها في خطب النكاح، وقيامها في خطب الصلح وكل ما دخل في باب الحمالة، وأكد شأن المحالفة، وحقق حُرمة المجاورة، وخطهم على رواحلهم في المواسم العظام، والمجامع الكبار، والتماسح بالأكف، والتحالف على النار، والتعاقد على المِلح، وأخذ العهد الموكّد واليمين الغموس، مثل قولهم: ما سرى نجم وهبت ريح، وبل بحر صوفة، وخالفت جرةٌ درة"1. فنحن إذن أمام طرق من الكلام، كل طريق منها يؤدي إلى نوع من الكلام، يستخدم في حالة من الحالات، فمساجلة الخصوم، تكون بالموزون والمقفى، والمنثور الذي لا يقفى، أي: المرسل، أما في حالة الشدة والعمل، مثل المتح، أي: الاستقاء من البئر، وفي حالات البناء ورفع الحجر، وفي القتال، فتستعمل الأرجاز، لتنشيط المهمة. وأما السجع، فيستعمله الكهان، ويستخدم في المنافرة والمفاخرة، وأما المنثور، أي: الكلام المرسل، الخالي من السجع والازدواج، فيستعمل في الحمالة، أي: تحمل ديات قوم لا مال لهم، فيقوم غيرهم بتحمل مبلغ الدية، وفي مقامات الصلح، ودفن الأحقاد والضغائن، إلى غير ذلك من حالات. فالسجع، إذن غير النثر، وغير

_ 1 البيان والتبيين "3/ 5 وما بعدها".

المزاوجة، وغير الرجز. وقد جعل "الجاحظ" الكلام المنثور: أسجاعًا، وأزواجًا، ومنثورًا1. هذه في نظره أساليب النثر. وأنا إذ أصف أسلوب النثر عند الجاهليين، لا أعني أني أثق بصحة هذا النثر المنسوب إليهم، وأثبت صحة نصه، وإنما أنا أصفه مستندًا في وصفي هذا على المدون المعمول عليهم، الوارد إلينا في بطون الكتب؛ لأنه وإن كان في نظرنا مصنوعًا موضوعًا، لكنه صيغ على كل حال وفق أسلوب الجاهليين، وعلى نمط كلامهم، إذ لا يعقل أن يكون الرواة قد اخترعوا تلك الأنماط من الكلام اختراعًا، وأوجدها من العدم إيجادًا، فهم إذ وضعوا على ألسنة أهل الألسنة من العرب، فإنما وضعوا عن تقليد ومحاكاة، وعلى نمط كلام سابق كان مألوفوًا عند أهل الجاهلية الذين أدركوا الإسلام. ودليل ذلك أثره في خطب الخطباء الذين خطبوا أمام الرسول، وفي خطب الخطباء الذين عاشوا في صدر الإسلام. فأنا حين أرفض النصوص، لا أزعم أنه لم يكن لهم نثر، وأن النثر إنما ظهر وعرف في الإسلام، بل أقر أنه قد كان لهم نثر، وكانت لهم خطب وكان لهم كلام، ولكن أقول إن هذه النصوص المثبتة المدوّنة، هي نصوص لا يجوّز العقل أن تكون صحيحة أصيلة مضبوطة؛ لما قلته من عدم قدرة الذاكرة على المحافظة على أصالة النثر. وأود أن أستثني الأمثال الجاهلية من هذا التعميم الذي عممته على نصوص النثر الجاهلي، فالأمثال بحكم إيجازها وكثرة انتشارها على الألسنة، ولكونها أداة تعليمية تحفظها الذاكرة، ولا تخطئ فيها كثيرًا، حافظت لذلك على أصلها ونصها، ودليل ذلك أننا لا نزال نضرب الأمثال بها حتى اليوم، ثم إن منها ما قد ضرب به مثلًا في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي، وفي خطب الخلفاء الراشدين وكتبهم، ولهذا فنحن لا نتعد عن العلم إن قلنا بصحتها من حيث النص والمعنى، أي: من حيث الضبط بالكلم ومن حيث المحافظة على المعنى2. أما بقية النثر، فأنا على رأيي من عدم إمكان القول بصحة نصوصه، وإن كنت أوافق على جواز بناء بعض النصوص على معان جاهلية، فيكون النص في هذه الحالات من وضع

_ 1 البيان والتبيين "4/ 28". 2 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 129".

الروة، أما المضمون فجاهلي، تطور وتزوق حسب الأفواه التي روته ودبجته، بحيث ظهر على الصورة التي وصلت إلينا. وإذا كان الحال على هذا المنوال، فأين يا ترى نجد النثر؟ وجوابي أنك لا تجد النثر الصحيح المنثور بهذه العربية البينة الفصيحة إلا في القرآن الكريم. فالقرآن الكريم، لكونه كتاب الله وقد دوّن ساعة نزوله، دوّنه كتبة عند نزول الوحي، وأخذه عنهم كتبة آخرون وحفظه الحفاظ، وقرأ الكثير منهم ما كتبه من آي أو ما حفظه منها ومن السور على الرسول، فأيد قراءتهم وثبت كتابتهم، فهو لهذا الكتاب الوحيد المنزل بلسان عربي مبين. لا شبهة في ذلك ولا شك. أرشدنا إلى أساليب الجاهليين في فنون القول، بمخاطبته لهم بلسانهم وبطرق بيانهم، وبأسلوب محاججتهم. وضرب لهم الأمثال بأمثالهم، كي تكون عبرة مقبولة عندهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، بلسان عربي مبين، يفهمه كل العرب، ففيه إذن نجد نثر العرب، وإن كان هو أبلغ النثر، وفيه نجد حياة الجاهليين وعقليتهم. وقد وصف "الجاحظ" أسلوب القرآن بقوله: "خالف القرآن جميع الكلام الموزون والمنثور، وهو منثور غير مقفى على مخارج الأشعار والأسجاع، وكيف صار نظمه من أعظم البرهان، وتأليفه من أكبر الحجج"1. ثم نجد هذا النثر في الحديث، في الحديث النبوي، وفي الحديث موضوع وضعيف، إلا أن فيه ما لا يشك في صحته. وفيه ما روي بالمعنى، لتجويزهم الرواية عن الرسول بالمعنى، خشية الخطأ في النص، والتقول عليه، ومن تقوَّل على رسول الله متعمدًا، تبوأ مقعده في النار. وقد روي الحديث رواية، أي: مشافهة، غير أن من العلماء من ذكر أن "عبد الله بن عمرو بن العاص"، كان قد كتب حديث الرسول، وذلك أنه استأذنه في أن يكتب حديثه فأذن له. وروي عنه أنه قال: حفظت عنه ألف مَثَل، وروي عن "أبي هريرة" قوله: "ما أجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر حديثًا مني. إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب"2. ولكننا لم نسمع بما حل

_ 1 البيان والتبيين "32"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت 1959م". 2 الاستيعاب "2/ 339"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "2/ 343"، "رقم 4847".

بالصحف التي دوّن بها "عبد الله" حديث الرسول، ولا أدري إذا كان ما روي عنه في المساند، مثل مسند "أحمد بن حنبل" قد نقل من تلك الصحيفة نقلًا أم رواية1. وهناك روايات تذكر أن "همام بن منبه"، أخذ عن "أبي هريرة"، حديث رسول الله، وكتب ما أخذه في صحيفة عرفت بـ"الصحيفة الصحيحة" في مقابل "الصحيفة الصادقة" المنسوبة لعبد الله بن العاص، ونجد نقولًا منها في البخاري، وفي مسند "أحمد بن حنبل"2. وقد نشرت هذه الصحيفة في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق3. وهذه الصحيفة، إن صح أنها من وضع "همام بن منبه" وأنها أصيلة، ذات أهمية كبيرة بالطبع؛ لأنها أقدم صحيفة نعرفها في الحديث بعد صحيفة "عبد الله بن عمرو بن العاص"، وإن كانت دونها في المنزلة؛ لأنها أخذت عن لسان "أبي هريرة"، وأخذ "عبد الله" حديثه من فم الرسول، ومن الجائز أن يكون حديث أبي هريرة بلسانه، أما حديث "عبد الله"، فربما كان بلسانه أيضًا، غير أنه كان ينقله من فم الرسول فيحفظه ثم يدونه، فهو أقرب إلى الصحة من صحيفة "همام". وربما كان "عبد الله"، قد دوّن حديثه بحضرة الرسول، فإن هذا الموضوع، لا زال مجهولًا، لم يبحث بحثًا علميًّا صحيحًا، وهو ينتظر من الباحثين من يقوم بالبحث عنه. ويظهر من أحاديث تنسب إلى الرسول مثل حديث: "لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه" 4، ومن أخبار تنسب إلى "أبي بكر" و"عمر" في النهي عن كتابة الحديث، مثل ما نسبوا إلى "عمر" من أنه كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء من الحديث فليمحه، ومن أنه أنشد الناس أن يأتوه بصحف الحديث، فلما أتوه بها أمر بتخريقها، ثم قال:

_ 1 راجع في موضوع الحديث: أبو رية، أضواء على ألسنة المحمدية. 2 مسند الإمام أحمد بن حنبل "2/ 312 وما بعدها"، لقد تحدثت عن "همام بن منبه" في أثناء حديثي عن "موارد تاريخ الطبري"، المنشور في مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد الأول فما بعده. 3 المجلد الثامن والعشرين "1953"، "الجزء الثاني والثالث"، مصادر الشعر الجاهلي "146". 4 أبو رية، أضواء "46".

مثناة كمثناة أهل الكتاب!. ومثل ما نسب إلى "علي" من قوله: "اعزم على كل من عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم"1، وأمثال ذلك مما نسب إلى الصحابة في النهي عن كتابة الحديث، وفي الحث على تحريق ما قد كان عندهم من صحف وكتب أو إمحائه، أنه قد كان عند الصحابة صحف فيها حديث رسول الله كتبت في أيام الرسول وبعده، كانوا يراجعونها ويستعزون بها، وكان في بعضها ما يشك في صحته وفي صدوره من الرسول، ولخوف الرسول وصحابته من أن يأتي يوم تكون فيه تلك الصحف مرجعًا للناس مثل رجوعهم للقرآن، يتخذونها سندًا لهم، اتخاذ اليهود للمثناة، أي: "المشنا"، أمروا بإتلافها وبالنهي عن التدوين. والاكتفاء بالحديث مشافهة، وبنشره بالرواية. وهي طريقة غير مأمونة أيضًا، فالتدوين أضمن منها وأسلم، ولكنها طريقة كانت متبعة في ذلك الحين، لأسباب لا أستطيع أن أتحدث عنها في هذا المكان، لأن الحديث عن تدوين حديث رسول الله وعن ورود النهي عن تدوينه يخرجنا عن الحدود المرسومة لهذا الكتاب. "على كل" فإن أخذ المحدثين بمبدأ رواية حديث الرسول بالمعنى، كان هو السبب الذي حمل علماء النحو واللغة على عدم الاستشهاد به في شواهد القواعد واللغة، كما بينت ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب. وفي رسائل الرسول وكتبه ووصاياه وخطه وأوامره، وفي خطب الوفود التي كانت تفد عليه، وفي خطب الصحابة، أمثلة على طبيعة وأسلوب الخطب عند الجاهليين، ولا سيما القديم من تلك الخطب الذي ألقاه الخطاء أمام الرسول قبل دخولهم في الإسلام، فهو في الواقع استمرار لأسلوب الخطب في الجاهلية، ألقي بالطريقة المألوفة عندهم التي تمثل التفكير الجاهلي، والعقلية الجاهلية أيام ظهور الإسلام. وإن كنت أشك في صحة كثير من الخطب والرسائل المنسوبة إلى الرسول ذلك لأننا إذا درسنا نصوص هذه الرسائل، نجد أصحاب السير والتواريخ يروونها بصور مختلفة، وفي اختلافهم هذا، دلالة على أن الرواة لم ينقلوها من أصل مكتوب، وإنما أخذوا النص بطريق المعنى والرواية، فوقع من ثَمّ هذا الاختلاف. أضف إلى ذلك فعل التزوير، فقد نص المؤرخون وأرباب السير على أن بعض

_ 1 المصدر نفسه "46 وما بعدها".

أهل الكتاب وسادات القبائل والرجال، قدموا للخلفاء كتبًا مزورة فيها إقرار قرار وإحقاق حق، للمطالبة بتنفيذ ما جاء فيها، وفي حديث: "من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار" 1، وحديث آخر يشبهه هو: "إن الذي يكذب عليّ يبني له بيتًا من النار"، وأحاديث أخرى من هذا القبيل2، دلالة على وقوع الكذب على الرسول في حياته وبعد وفاته. وقد ورد أن الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين أن أصحابه رضوان الله عليهم ومن يفد عليه من وفود العرب الذين لا يُوجّه إليهم الخطاب كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة: حتى قال له علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره؟ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات، ولكنهم كانوا يرون هذا الاختلاف فطريًّا في العرب فلم يلتفتوا إليه"3. فإذا كان الأمر من اختلاف لغات العرب على هذا النحو، وإذا كان الصحابة ومنهم الخلفاء، وهم على ما هم عليه من فصاحة وبلاغة، لم يفهموا كلام الوفود، فهمًا صحيحًا، حتى كان الرسول يفسر لهم ما كان يقوله للوفود، وما كانت الوفود تقوله له، فكيف نصدق بصحة نصوص خطبهم وكلامهم، وقد ألقيت بلهجاتهم الخاصة، ولم يكن هناك كتبة ولا مدوّنون، يدونون محاضر جلسات الرسول مع الوفود، ومحاضر كلامه معهم، وما كان يقع بحضرته من نقاش وكلام؟ وأنت إذا راجعت خطب الرسول التي خطبها في "حجة الوداع" تجدها وقد

_ 1 خليفة بن خياط، كتاب الطبقات "122"، "تحقيق أكرم ضياء العمري"، "من كذب علي، فليتبوأ مقعده من النار"، "والله ما قال متعمدًا، وأنتم تقولون متعمدًا"، أبو رية، أضواء "62". 2 أبو رية، أضواء "59 وما بعدها". 3 الرافعي "1/ 325".

رويت بصورة مختلفة1، وفي هذا الاختلاف دلالة بينة على أنها لم تنقل من أصول مكتوبة، وإنما أخذت من الأفواه، وإلا لما جاز عقلًا وقوعه أبدًا. وسبب ذلك، أن الناس في ذلك الوقت، لم يكونوا قد تعودوا لا في الجاهلية ولا في الإسلام اتخاذ كتّاب لتدوين ما كان يقع لهم من أحداث، ولم يكن عندهم مراسلون يرافقون الملوك والحكّام وسادة القبائل والوفود، لوصف مواكب الملوك ومشاهدهم وحروبهم، وخطبهم ومفاوضاتهم مع سادات القبائل. وكذلك كان الحال في الإسلام، بل ولا رواة لهم ذاكرة قوية، لحفظ أحاديث المجالس والأحداث، وإذاعتها بين الناس؛ لأن العناية بحفظ الأحداث والتواريخ وتخليدها تقتضي وجود وعي بأهمية تدوين التأريخ، ولم يكن هذا الوعي معروفًا آنذاك. ولهذا جاءت أخبار الحوادث عن طريق شهود عيان رووا ما شاهدوه لأصحابهم، كما يروي أي إنسان ما قد يقع له من أمور لأصدقائه، وهؤلاء قصوا تلك المرويات على أصحابهم وعلى من جاء بعدهم بلغتهم، وبهذه الطريقة وصلت الأخبار إلى المدوّنين عندما بُدئ بالتدوين وليس من المعقول بالطبع محافظة الذاكرة على النصوص الأصلية للخطب وللكلام، ولقول الراوي الأول للأحداث. وليس من المعقول أيضًا وصولها سالمة نقية من كل تغيير أو تبديل أو تحريف، ولا سيما في الأمور العاطفية التي تضرب على أوتار العصبية. ولهذه الأسباب وغيرها فنحن لا نستطيع الاطمئنان إلى صحة هذه الأخبار المروية من الأفواه، لما يحتمل أن يكون قد وقع فيها من زيف أو من تحريف عن عمد أو من غير عمد. ولو كانت الذاكرة تعي كل كلام وتحفظ كل حديث بالحرف والكلمة، لما أجاز العلماء رواية حديث الرسول بالمعنى، إذ كان من الصعب حفظه بالحرف. ولا أظن أن أحدًا يقول: إن حفظ أخبار الجاهلية ونصوص كلام رجالها، أهم عند العرب من حفظ حديث الرسول. وأنا أشك في صحة أكثر ما نسب إلى "مسيلمة" من كلام وقرآن. وهو "مسيلمة بن حبيب الحنفي"، المكنى بـ"أبي ثمامة"، والمنعوت بين

_ 1 راجع كتب السير والتواريخ في خطبة الوداع، الطبري "3/ 149 وما بعدها"، البيان والتبيين "2/ 31"، ابن الأثير "2/ 146".

المسلمين بـ "الكذاب"1. واسمه الصحيح "مسلمة"، وقد صغر في الإسلام، ازدراء بشأنه. فقد روي أنه صنع قرآنًا مضاهاة للقرآن، غير أنهم لم يتحدثوا بشيء عن قرآنه. وإذا صح ما ذكره أهل الأخبار من أنه ادعى الوحي بمكة أو باليمامة قبل الإسلام، وأنه نزل على نفسه آيات زعم أنها تنزيل من الرحمان، فيكون قد باشر بتأليف قرآنه قبل الوحي2. وذكر أن في حقه نزلت الآية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3. فقد ذكر علماء التفسير أن عبارة: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} ، نزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به. {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّه} نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخي بني عامر بن لؤي، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما يملي: عزيز حكيم، فيكتب: غفور رحيم فيغيره، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل، فيقول: نعم سواء، فرجع عن الإسلام، ولحق بقريش. وقال لهم: لقد كان ينزل عليه عزيز حكيم، فأحوله ثم أقول لما أكتب، فيقول: نعم سواء"4. وكان من حديث "مسيلمة" أن قريشًا قالت للرسول: "بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة، يقال له: الرحمان، وإنا والله ما نؤمن بالرحمان أبدًا"5، وذكر أهل الأخبار أن قريشًا "حين سمعت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال قائلهم: دق فوك" إنما تذكر مسيلمة رحمان اليمامة"6، لأنهم كانوا قد سمعوا بدعوته إلى عبادة الرحمان، قبل نزول الوحي على الرسول. وورد "أنهم لما

_ 1 "وهو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هفان بن ذهل، بن الدول بن حنيفة. يكنى أبا أمامة، قيل: أبا هارون، وكان يسمى بالرحمان فيما روي عن الزهري قبل مولد عبد الله والد النبي"، الروض الأنف "2/ 340"، الاشتقاق "209"، "كذاب اليمامة"، مروج الذهب "2/ 303"، المعارف "97، 170، 267، 271، 405، 424، 454"، اليعقوبي "2/ 120"، "النجف 1964م". 2 تحدثت عنه بتفصيل في الجزء السادس من هذا الكتاب في فصل: أنبياء جاهليون. 3 الأنعام، الرقم6، الآية93. 4 تفسير الطبري "7/ 181". 5 تفسير الطبري "15/ 111". 6 اليعقوبي "1/ 120"، الروض الأنف "2/ 340".

سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن قالت قريش: أتدرون ما الرحمن؟ هو كاهن اليمامة! ". وقد قالوا لمسيلمة: رحمان، وقالوا أيضا فيه: رحمان اليمامة1. وأنا لا أستبعد احتمال مجيئة إلى مكة قبل الإسلام. فقد ذكر أنه تزوج "كبشة" "كيسة بنت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس"2، وهي من مكة، فلا يعقل عدم مجيئة إلى مكة وإقامته بها بعض الوقت، ومجيئه إليها بين الحين والحين. ومن هنا كان لأهل مكة علم بدعوة مسيلمة إلى عبادة "الرحمان". وقد زعم أنه "كان يقول: أنا شريك محمد في النبوة، وجبريل عليه السلام ينزل عليّ كما ينزل عليه، وكان رَجّال بن عنفوة من رائشي نبله، والحاطبين في حَبله، والساعين في نصرته. وكان مسيلمة يقول: يا بني حنيفة، ما جعل الله قريشًا بأحق بالنبوة منكم، وبلادكم أوسع من بلادهم، وسوادكم أكثر من سوادهم، وجبريل ينزل على صاحبكم مثل ما ينزل على صاحبهم. ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد الناس يتذاكرونه وما يبلغهم عنه، قوله وقول بني حنيفة فيه، فقام يومًا خطيبًا، قال بعد حمد الله والثناء عليه. أما بعد، فإن هذا الرجل الذي تكثرون في شأنه كذّاب في ثلاثين كذّابًا قبل الدجال، فسماه المسلمون مسيلمة الكذاب، وأظهروا شتمه وغيبه وتصغيره، وهو باليمامة يركب الصعب والذّلول في تقوية أمره، ويعتضد برجال بن عنفوة، وهو ينصره ويذب عنه ويصدق أكاذيبه، ويقرأ أقاويله التي منها: والشمس وضحاها، في ضوئها ومن جلاها. والليل إذا عداها، يطلبها ليغشاها، فأدركها حتى أتاها وأطفأ نورها فمحاها"3. "ومنها: سبح اسم ربك الأعلى، الذي يسر على الحُبلى، فأخرج منها نسمة تسعى، من بين أحشاء ومعى، فمنهم من يموت ويدس في الثرى، ومنهم

_ 1 الخزانة "2/ 285"، "هارون". 2 كتاب نسب قريش "20"، الروض الأنف "2/ 198، 341"، المحبر "440"، إمتاع الأسماع "1/ 247"، كتاب نسب قريش "147"، الجزء السادس من هذا الكتاب "ص96". 3 ثمار القلوب "146 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 359"، المعارف "178"، التنبيه، للمسعودي "247".

من يعيش ويبقى إلى أجل ومنتهى، والله يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه الآخرة والأولى. ومنها: اذكروا نعمة الله عليكم واشكروها؛ إذ جعل لكم الشمس سراجًا، والغيث ثجاجًا، وجعل لكم كباشًا ونعاجًا، وفضة وزجاجًا، وذهبًا وديباجًا، ومن نعمته عليكم أن أخرج لكم من الأرض رمّانًا، وعنبًا، وريحانًا، وحنطة وزؤانًا. وكان أبو بكر إذا قرع سمعه هذه الترهات يقول: أشهد أن هذا الكلام لم يخرج من إله"1. "وكان رجّال بن عنفوة صاحب مسيلمة قدم المدينة مرارًا، وقرأ القرآن وأظهر الإيمان، وأسرّ الكفر. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم، بينما هو جالس في أصحابه، إذ سمع وطئًا من خلفه، فقال: "هذا وطء رجل من أهل النار"، فإذا هو رجّال بن عنفوة. فلما قدم وفد حنيفة على النبي صلى الله عليه وسلم -وفيهم مسيلمة إلا أنه لم يلقه- وأظهروا الإسلام وأرادوا الانصراف، أمر لهم عليه الصلاة والسلام بجوائز كعادته في الوفود، وقال: "هل بقي منكم أحد؟ " قالوا: لا، إلا رجل منا يحفظ رحالنا -يعنون مسيلمة- فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس بشرِّكم مكانًا". فلما رجع الوفد إلى مسيلمة وقد بلغه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: قد سمعتم قول محمد في: ليس بشرِّكم مكانا، وقد أشركني في الأمر بعده، فعليكم به. ولما انصرفوا إلى اليمامة أعلن مسيلمة النبوة، وادعى الشركة، وفتن أهل اليمامة، وانقسموا بين مصدّق ومكذّب، وراض وساخط. وكتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كتابًا قال فيه: إلى النبي محمد رسول الله من مسيلمة رسول الله، أما بعد، فإني قد أُشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا قومٌ يعتدون ولا يعدلون. وختم الكتاب وأنفذه مع رسولين، فلما قرئ الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهما: "ما تقولان؟ " قالا: نقول ما قال أبو ثمامة، فقال: "أما والله لولا أن الرسل لا يقتلون لقتلتكما".

_ 1 ثمار القلوب "147 وما بعدها".

وأملى في الجواب: "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين". ولما صدر الرسولان إلى مسيلمة الكذاب افتعل كتابًا يذكر فيه أنه جعل له الأمر من بعده، فصدّقه أكثر بني حنيفة. وبلغ من تبركهم به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو لمريضهم، ويبارك لمولودهم، وجاءه قوم بمولود لهم فمسح رأسه فقرع. وجاءه رجل يسأله أن يدعو لمولود له بطول العمر، فمات من يومه. وكان ثمامة بن أثال الحنفي يقشعر جلده من ذكر مسيلمة، وقال يومًا لأصحابه: إن محمدًا لا نبي معه ولا بعده، كما أن الله تعالى لا شريك له في ألوهيته، فلا شريك لمحمد في نبوته. ثم قال: أين قول مسيلمة: يا ضفدع نِقي نقي، كم تنقين! لا الماء تكدرين، ولا الشِربَ تمنعين، من قول الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: {حم?، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . فقالوا: أوقح بمن يقول مثل ذلك مع مثل هذا! "1. وقد روي قول "مسيلمة" في الضفدع على هذا النحو: "يا ضفدع بنت ضفدعين: نقي ما تنقين. نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين"2. وروي أن وفد اليمامة لما قدم على "أبي بكر" بعد مقتل مسيلمة، "قال لهم: ما كان صاحبكم يقول؟ فاستعفوه من ذلك، فقال: لتقولن. فقالوا: يا ضفدع نقي كم تنقين، لا الشارب3 تمنعين، ولا الماء تكدرين في كلام من هذا كثير. فقال أبو بكرك: ويحكم! إنّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ ولا بر، فأين ذهب بكم"4؟، أو أنه قال: هذا كلام ما أتى من عند إل، أي: من عند الله. وهو في الأسماء الأعجمية إيل، مثل إسرافيل، وجبريل، وميكائيل، وإسرائيل، وإسماعيل"5. وقيل: الإلّ:

_ 1 ثمار القلوب "148 وما بعدها". 2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "2/ 180". 3 في الأصل "الشراب"، وفي الموارد الأخرى الشارب. 4 الفائق "3/ 122". 5 الإكليل "2/ 7".

الربوبية، والأصل الجيد والمعدن الصحيح، أي: لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن. ويجوز أن يكون بمعنى النسب والقرابة، من قوله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} ، وقول حسّان: لعمرك إن إلّك من قريش ... كإلِّ السقب من رأل النعام1 وقد ذكر "الطبري" في مقدمة تفسيره، أن القرآن لما نزل على الرسول،"أقر جميعهم بالعجز وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسهم بالنقص، إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه غير قادر عليه، فأبدى من ضعف عقله ما كان مستورًا ومن عيّ لسانه ما كان مصونًا، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، فالخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا ونحو ذلك من الحماقات المشهبة دعواه الكاذبة"2. والطبري وإن لم يصرح باسم قائل هذه الحماقات، لكنه قصد به مسيلمة من غير شك. أما أن تلك الآيات آيات قالها "مسيلمة" حقًّا، فتلك قضية لا يمكن إثباتها، فلما قتل، وضع أصحابه عليه أمورًا كثيرة، قد يكون في جملتها هذه الآيات. أما قرآنه الذي قيل: إنه وضعه يضاهي به القرآن، فقد هلك هلاكه، ولم أجد أحدًا ذكر أنه وقف عليه، ونقل منه، ولعلّه كان كلامًا لم يسجل في حياة مسيلمة، وإنما كان محفوظًا في صدر صاحبه وفي صدور أتباعه، ودخل من دخل من أصحابه في الإسلام طمس أثر ذلك القرآن. وقد دوّن "الرافعي" الآيات التي أخذتها من تفسير الطبري، على هذه الصورة: "والمُبذرات زَرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، والثاردت ثردا، واللاقمات لَقما، إهالة وسمنا لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفكم فامنعوه،

_ 1 الفائق "3/ 123". 2 تفسير الطبري "1/ 5".

والمُعتر فآووه، والباغي فناوئوه"1. ونسب "الرافعي" له قوله: "والشاءِ وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حم المذق فما لكم لا تمجعون. وقوله: "الفيلُ ما الفيل، وما أداك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل". وروي أنه "جعل يسجع لهم الأساجيع ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى"2، أو أنه قال: "ألم ترَ على ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى"3. روي أنه قال هذه الآيات لسجاج لما أراد الدخول بها، فقالت: "وماذا أيضًا؟ قال: أوحى إليّ: أن الله خلق النساء أفراجا، وجعل الرجال لهن أزواجا، فنولج فيهن قُعسا إيلاجا، ثم نخرجها إذا نشاء إخراجا، فينتجن لنا سخالا انتاجا. قالت أشهد أنك نبي، قال: هل لك أن أتزوجك فآكل بقومي وبقومك العرب! قالت: نعم، قال: ألا قومي إلى النيك ... فقد هُيي لك المضجع وإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع وإن شئت سلقناكِ ... وإن شئت على أربع وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع قالت: بل به أجمع. قال بذلك أوحى إليّ. فأقامت عنده ثلاثًا ثم انصرفت على قومها، فقالوا: س ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجته، قالوا: فهل أصدقك شيئًا؟ قالت: لا، قالوا: ارجعي إليه، فقبيح بمثلك أن ترجع بغير صداق! فرجعت، فلما رآها مسيلمة أغلق الحصن، وقال: مالك؟ قالت: أصدقني صداقًا، قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي

_ 1 تأريخ آداب العرب "2/ 179". 2 سيرة ابن هشام "2/ 341"، "حاشية على الروض"، ابن كثير، البداية "6/ 326"، الباقلاني، إعجاز "240". 3 الباقلاني، إعجاز "240".

الرياحي، قال: علَّي به، فجاء، فقال: ناد في أصحابك أن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما أتاكم به محمد: صلاة العشاء الآخر وصلاة الفجر1". وأما "سيف" فذكر أنه صالحها "على أن يحمل إليها النصف من غلات اليمامة، وأبت إلا السنة المقبلة يسلفها، فباح لها بذلك، وقال: خلفي على السلف من يجمعه لكِ، وانصرفي أنت بنصف العام، فرجع فحمل إليها النصف، فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة"2. وذكر أن "سجاح" لما دخلت قبة "مسيلمة"، "قالت له: أخبرني بما يأتيك به جبريل؟ فقال لها: اسمعي هذه السورة: انكن معشر النساء خلقن أمواجًا، وجعل الرجال لكن أزواجًا، يولجن فيكن إيلاجًا، لا ترون فيه فتورا ولا إعوجاجا، ثم يخرجونه منكن إخراجا، فقالت له: صدقت، والله إنك لنبيّ مرسل"، وهي قصة أخذت من موارد سابقة، مثل الطبري، غير أنها غيرت فيها بعض التغيير، تنتهي بأنه رفع عن قومها صلاة العشاء والصبح لأجل المهر3. وزعم أن "من قرآن مسيلمة الذي يزعم أنه نزل عليه، لعنه الله عليه: والنازعات نزعا، والزارعات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات ذروا، فالطاحنات طحنا، والنازلات نزلا، فالجامعات جمعا، والعاجنات عجنا، فالخابزات خبزا، والثاردات ثردا، فالآكلات أكلا، والماضغات مضغا، فالبالعات بلعا"4. وقد اتخذ قتل "مسيلمة" فخرًا، فادعى قتله بنو عامر بن لؤي، وادعى بعض الخزرج قتله، وادعى "بنو النجار" قتله، وادعى "حبشي" قاتل حمزة قتله، وكان "معاوية يدعي قتله" ويدعي ذلك له "بنو أمية". وذكر أن "عبد الملك بن مروان" قضى لمعاوية بقتل مسيلمة5، وهو قضاء سياسي لا أصل له بالطبع.

_ 1 الطبري "3/ 273 وما بعدها". 2 الطبري "3/ 275". 3 نزهة الجليس "1/ 473 وما بعدها" 4 نزهة الجليس "1/ 474". 5 البلاذري، فتوح "99".

ويظهر أن بني حنيفة بقوا على تعلقهم بمسيلمة، حتى بعد مقتله وذهاب أمره. ففي خبر ينسب إلى "ابن مُعَيْز" السعدي أنه مر على مسجد بني حنيفة، فسمعهم يذكرون "مسيلمة"، ويزعمون أنه نبي، فأتى "ابن مسعود" فأخبره، فبعث إليهم الشرط، فجاءوا بهم فاستتابوا فخلي عنهم، وقدم "ابن النواحة" فضرب عنقه1. هذا، ويدل تعلق "بني حنيفة" وغيرهم من عرب اليمامة بمسيلمة، واستماتتهم في الدفاع عنهم، وتذكرهم له حتى بعد هلاكه، على أنه كان شخصية مؤثرة قوية، سحرت أتباعها، حتى انقادوا له هذا الانقياد. وقد نص "ابن حجر" على قتل "ابن مسعود" لابن النواحة، إلا أنه لم يذكر أن ذلك كان بسبب اعتقاده بنبوة "مسيلمة"، وإنما ذكر أنه "كان قد أسلم ثم ارتد فاستتابه عبد الله بن مسعود، فلم يتب فقتله على كفره وردّته"2. واسم "ابن النواحة" "عبادة بن الحارث" أحد بني عامر بن حنيفة3. ويروى أن "الأخطل" الضبعي، قال في مسيلمة: لهفًا عليك أبا ثمامة ... لهفًا على رُكْنَىْ شمامة كم آية لك فيهمُ ... كالبرق يلمع في غمامة وكان "الضبعي" شاعرًا، زعم أنه ادعى النبوة، وكان يقول: لمضر صدر النبوة، ولنا عجزها، وقد ضرب عنقه "عمر بن هبيرة"، ومن شعره لنا شطر هذا الأمر قسمة عادل متى جعل الله الرسالة تُرتبا4 أي راتبة في واحد. وسئل "الأحنف بن قيس" رأيه في مسيلمة، فقال: "ما هو بنبي صادق ولا بمتنبئ حاذق"5.

_ 1 الفائق "1/ 603"، الإصابة "3/ 143"، "رقم 6651". 2 الإصابة "3/ 143"، "رقم 6651". 3 البلاذري، فتوح "97". 4 المؤتلف "22". 5 أمالي المرتضى "1/ 292".

وأنا لا أستبعد ما نسب إلى "مسيلمة" من دعوى نزول الوحي عليه، وتسمية ذلك الوحي "قرآنًا" أو كتابًا أو سفرًا، أو شيئًا آخر، ولكني استبعد صحة هذه الآيات التي نسبتها الكتب إليه، وأرى أن أكثرها ورد بطريق آحاد، فلما نقلها الخلف عن السلف، وكثر ورودها في الكتب ظهرت وكأنها أخبار متواترة، وصارت في حكم ما أجمع عليه. وقد رويت بعض الآيات مثل: آية الضفدع، بصور متعددة مختلفة، مع أنها أشهر وأعرف آية أو آيات نسبت إليه، فما بالك بالآيات الأخرى، ثم إننا نجد الرواة يناقضون أنفسهم كثيرًا فيما نسبوه إليه، وبعضه مما لا يعقل صدوره من مسيلمة، مثل شعره الذي قاله لسجاح، حين أراد الدخول بها، وهل يعقل أن يقول إنسان يدعي النبوة مثل هذا الكلام الفاحش أمام الناس، ليدون ويسجل عليه! وقد ذكر "ابن النديم" أن لابن الكلبي مؤلفًا خاصًّا ألفه في مسيلمة دعاه: "كتاب مسيلمة الكذاب"، لم يصل إلينا، وله كتاب آخر في بني حنيفة اسمه: "كتاب أيام بني حنيف"، وهم قوم مسيلمة، وكتاب دعاه: "كتاب أيام قيس بن ثعلبة"1. وزعم أن من كلام "طليحة" الأسدي الذي قاله لأصحابه: "والحمام واليمام، والصرد والصَّوَّام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام"2. وروى "الطبري" سجعا من سجع "سجاح"، وكانت نصرانية راسخة في النصرانية، قد علمت من علم تغلب، هو قولها لأتباعها: "عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة"، فلما جاءت مع قومها اليمامة، قال لها مسيلمة: "لنا نصف الأرض، وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردت قريش، فحباك به، وكان لها لو قبلت. فقالت: لا يرد النصف إلا من حنف، فاحمل النصف إلى خيل تراها كالسهف. فقال مسيلمة: سمع الله لمن سمع، وأطمعه بالخير إذ طمع، ولا زال أمره في كل ما سرّ نفسه يجتمع. رآكم ربكم فحياكم، ومن وحشة

_ 1 الفهرست "ص148". 2 الطبري "3/ 260"، "دار المعارف".

خلاكم، ويوم دينه أنجاكم، فأحياكم علينا من صلوات معشر أبرار، لا أشقياء ولا فجّار، يقومون الليل ويصومون النهار، لربكم الكبار، رب الغيوم والأمطار. وقال أيضا: لمّا رأيت وجوههم حسُنت، وأبشارهم صفت، وأيديهم طفلت، قلت لهم: لا النساء تأتون، ولا الخمر تشربون، ولكنكم معشر أبرار تصومون يومًا، وتكلفون يومًا، فسبحان الله! إذا جاءت الحياة تحيون، وإلى ملك السماء ترقون! فلو أنها حبة خردلة، لقام عليها شهيد يعلم ما في الصدور، ولأكثر الناس فيها الثبور. وكان مما شرع لهم مسيلمة أن من أصاب ولدًا واحدًا عقبًا لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن فيطلب الولد، حتى يصيب ابنًا ثم يمسك، فكان قد حرّم النساء على من له ذكر"1. وبلاغة الكلام معروفة عند الجاهليين، فقد كانوا ينعتون المتكلم الجيد بالبليغ، وفي القرآن الكريم: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} 2.والبليغ الفصيح الذي يبلغ بعبارته كنه ضميره ونهاية مرامه3. سأل "معاوية" "صحار بن عياش" العبدي4، ما البلاغة؟ فقال: لا تخطئ ولا تبطئ. أو أنه قال له: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز. قال: ما الإيجاز؟ قال: أن لا تبطئ ولا تخطئ. وكان قد دهش من فصاحته وبلاغته، فقال له: ما هذه البلاغة فيكم؟ قال: شيء يختلج في صدورنا فنقذفة كما يقذف البحر بزبده5. وقد ميز "الطبري" وغيره من العلماء بين الخطباء وبين الفصحاء والبلغاء، فالخطباء هم من جماعة صناع الكلام، وصناعتهم صناعة الخطب، وذكر بعدهم "البلغاء"، صناع البلاغة، ثم "الشعر" والفصاحة، فجعل للشعر في مقابل الفصاحة، ثم السجع والكهانة، وقال: "كل خطيب منهم وبليغ، وشاعر منهم

_ 1 الطبري "3/ 271 وما بعدها". 2 النساء، الرقم4، الآية62. 3 تاج العروس "6/ 4"، "بلغ". 4 "صحار بن عباس؟ ". 5 تاج العروس "6/ 5"، "بلغ"، الإصابة "2/ 170"، "رقم 4041".

وفصيح"1، فالخطيب هو الذي يخطب باسم الوفد أو القوم، وله لذلك عندهم مقام جليل، لأنه عقل من يتكلم باسمهم ولسانهم، والبليغ من يتحدث ويتكلم في المجالس والأندية، بكلام بليغ رصين، والفصيح من يفصح ويعرب بلسانه، ونجدهم يقولون أحيانًا: خطيب فصيح، وشاعر فصيح، فالفصاحة صفة تلحق بالمتكلم ناثرًا كان أو كان شاعرًا. وللبيان عند العرب مقام كبير. وقد أشاد القرآن بالبيان، فقال: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} 2. فجعل البيان في جملة ما علمه الله الإنسان. ونعت القرآن بأنه نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3، ووصف القرآن بقوله: {طس، تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} 4. وينسب إلى الرسول قوله: "إن من البيان لسحرا" 5، وورد في المثل: "جرح اللسان كجرح اليد". هو في شعر امرئ القيس". يضرب في تأثير الوقيعة6، وفي أثر القول في فعل الناس. وروي أن ذوي الفهم والعلم من قريش تأثروا ببلاغة القرآن وفصاحته، فروي أن "الوليد بن المغيرة"، وكان من بلغاء قريش وفصائحهم ومن علمائهم بالشعر، لما دخل على "أبي بكر" يسأله عن القرآن "فلما أخبره خرج على قريش. فقال: يا عجبًا لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر، ولا بسحر، ولا بهذي من الجنون"، أو أنه قال لما سمع القرآن: "والله لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر"، أو أنه قال: "سمعت قولًا حلوًا أخضر مثمرًا، يأخذ بالقلوب. فقالوا: هو شعر. فقال: لا والله ما هو بالشعر، ليس أحد أعلم بالشعر مني، أليس قد عرضت عليّ الشعراء شعرهم! نابغة وفلان وفلان. قالوا: فهو كاهن. فقال: لا والله ما هو بكاهن، قد عرضت

_ 1 تفسير الطبري "1/ 5". 2 سورة الرحمن، تفسير الطبري "27/ 67". 3 النحل، الآية 103، الشعراء، الآية195. 4 النمل، الآية1. 5 البيان والتبين "1/ 349"، العسكري، جمهرة "1/ 13". 6 الزمخشري، المستقصى "20/ 50"، "رقم187".

عليّ الكهانة. قالوا: فهذا سحر الأولين اكتتبه. قال: لا أدري إن كان شيئًا فعسى هو إذا سحر يؤثر"1، أو أنه قال أشياء أخرى من هذا القبيل، اتفقت في المعنى والمقصد، واختلفت في العبارات. كما روي أن قومًا من قريش ومن غيرهم، أسلموا بتأثير بيان القرآن عليهم، فقد روي أن "عمر بن الخطاب" أسلم على ما يقال حين سمع القرآن. روي عنه أنه قال: "خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن. فقلت: هذا والله شاعر، كما قالت قريش. فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} فقلت: كاهن. قال: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} حتى ختم السورة. قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع"2. وهي رواية تخالف ما جاء في خبر إسلامه، من أنه كان قد خرج يريد قتل الرسول، فتلقاه "نعيم بن عبد الله" النحّام، وكان من المسلمين، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال له: "أريد محمدًا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفّه أحلامها، وعاب دينها وسب آلهتها، فأقتله"، فقال له "نعيم": "أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطّاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدًا على دينه فعليك بهما"، فرجع عمر عامدًا إلى أخته وختنه وعندهما "خباب بن الأرت" معه صحيفة فيها "طه" يقرئها إياها، فلما سمعو حس عمر، أخذت "فاطمة" الصحيفة. فلما دخل "عمر"، قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا: ما سمعت شيئًا، ثم قال لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأونها أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. فأبت أخته إعطاءها إلا أن يغتسل، فاغتسل عمر، فأعطته الصحيفة وفيها "طه" فقرأها وتأثر بها فأسلم3.

_ 1 تفسير الطبري "29/ 98 وما بعدها"، سورة المدثر. 2 الإصابة "2/ 512"، "رقم 5738"، الروض الأنف "1/ 218"، ورووا له شعرًا، ذكروا أنه قال بعد إسلامه، رواه "ابن إسحاق" الروض الأنف "1/ 218". 3 ابن هشام "1/ 216 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "1/ 216".

ورووا أن "سويد بن الصامت"، صاحب صحيفة لقمان، كان ممن أعجب بالقرآن ورووا أن "جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل"، وكان من أكابر قريش ومن علماء النسب، قدم على النبيّ، فسمعه يقرأ "الطور"، فأثرت القراءة فيه، وقد أسلم فيما بعد، بين الحديبية والفتح، وقيل: في الفتح1. والفصاحة في معنى البلاغة، فهي مرادف لها في الاستعمال. والفصيح هو البين في اللسان والبلاغة، ولسان فصيح، أي: طلق2. وقد اشتهر "قس بن ساعدة الإيادي" في الفصاحة حتى ضرب به المثل فيها، فقيل: أفصح من قس وأنطق من قس3، وأبين من قس، أي: أفصح4، وأبلغ من قس وقد ذكره "الأعشى" بقوله: وأبلغ من قسّ وأجرأ من الذي ... بذي الغيل من خفان أصبح خادرًا كما ذكره الحطيئة بقوله: وأبلغ من قس وأمضى إذا مضى ... من الريح إذ مسّ النفوس نكالها5 ونسبوا إلى "قس" قوله ينصح ولده: "إنّ المِعا تكفيه البقلة. وترويه المذقة، ومن عيّرك شيئًا ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، ومتى عدلت على نفسك عَدَل عليك من فوقك، وإذا نَهَيْتَ عن شيء فإنْهَ نفسك، ولا تجمع ما لا تأكل، ولا تأكل ما لا تحتاج إليه، وإذا ادخرت فلا يكونَنَّ كنزك إلا فعلك. وكن عف العيلة، مشترك الغنى، تسد قومك. ولا تشاورن مشغولًا وإن كان حازمًا، ولا جائعًا، وإن كان فهمًا، ولا مذعورًا وإن كان ناصحًا ولا تضعنّ في عنقك طوقًا لا يمكنك نزعه إلا بشق نفسك. وإذا خاصمت فاعدل،

_ 1 الإصابة "1/ 227"، "رقم1091"، الاستيعاب "1/ 232 وما بعدها". 2 تاج العروس "2/ 197"، "فصح". 3 الزمخشري، المستقصى "1/ 393"، "رقم 1677". 4 المصدر نفسه "1/ 32"، "رقم99"، العسكري، جمهرة "1/ 249"، "رقم 336". 5 المستقصى "1/ 29"، "رقم88".

وإذا قلت فاقتصد. ولا تستودعن أحدًا دينك وإن قربت قرابته، فإنك إذا فعلت ذلك لم تزل وجلًا، وكان المستودَع بالخيار في الوفاء والغدر، وكنت له عبدًا ما بقيت. وإن جنى عليك كنت أولى بذلك، وإن وفى كان الممدوح دونك"1. وقد اشتهرت "إياد" بالفصاحة والبيان، وبقدرة في اللسان. وقد ظهر منهم جملة خطباء2. واشتهرت "بنو أسد" بالخطابة كذلك، قال "يونس بن حبيب": "ليس في بني أسد إلا خطيب، أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس. قال: وليس في هذيل إلا شاعر أو رام، أو شديد العدو"3. والآن، وبعد أن انتهينا من الكلام على النثر. نقول: هل كان للجاهليين أدب منثور؟ أي: مدونات من الأدب المنثور. لقد ذهب البعض إلى أنه لو كان للجاهليين أدب منثور مدون، لعدّ عجيبًا اختفاء آثاره هذا الاختفاء الكلي، حتى من أحاديث العرب المنقولة4. والواقع أن من غير الممكن في الوقت الحاضر البت علميًّا في هذا الموضوع، لأننا لا نملك أدلة علمية، لنستنبط منها أحكامًا تؤيد أو تنفي وجود التدوين في الجاهلية. أما مسألة عدم ورود نصوص أدبية منثورة إلينا، أو عدم ورود إشارات إلى وجودها في الجاهلية، فإنها أمور لا يمكن أن تكون حجة على إثبات عدم وجود التدوين عند الجاهليين، إذ لا يجوز أنها كانت، ولكنها تلفت، بسبب كونها كانت مكتوبة على مواد سريعة التلف، فهلكت، كما هلكت مدونات صدر الإسلام، حيث لم يصل من أصولها إلا النزر اليسير، وهو نزر يشك في أصالته وصحته. وذهب بعض إلى وجود أدب منثور، إذ لا يعقل وجود أدب منظوم، ثم لا يكون للعرب أدب منثور. ويتجلى طراز هذا الأدب في الأمثلة والحكم المنسوبة

_ 1 أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري، المصون في الأدب "الكويت 1960"، "ص179 وما بعدها". 2 البيان والتبيين "1/ 42 وما بعدها". 3 البيان والتبيين "1/ 174". 4 هاملتون جب، دراسات في حضارة الإسلام "ص294 وما بعدها"، "دار العلم للملايين"، "بيروت 1964".

إلى الجاهليين. أما مؤلفات وكتب، وصحف مدونة فلم يصل منها إلينا أي شيء. ولكن ذلك لا ينفي عدم وجودها عند أهل الجاهلية. وقد تحدثت عن موضوع التدوين عند الجاهليين في موضع آخر من هذا الكتاب. وللجاحظ رأي في كلام العرب، فهو يرى أن "كل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناةٌ ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام "فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده"، على حين يكون كلام العجم "عن طول فكرة وعن اجتهاد رأي، وطول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكير ودراسة الكتُب1. وقد حصر أصناف البلاغة عند العرب بالقصيد والرجز، وهما من الشعر، وبالمنثور، وهو الكلام المرسل، وبالأسجاع، وبالمزدوج وما لا يزدوج من الكلام2. أما موضوع وجود ترجمات جاهلية عربية للتوراة والإنجيل والكتب الشرعية الأخرى المعتبرة عند أهل الكتاب، فموضوع لم يتفق عليه الباحثون حتى الآن. نعم ورد في الأخبار أن الأحناف كانوا قد وقفوا على كتب الله، وقرأوها بالعبرانية وبالسريانية، وأنهم كتبوا بهما وبالعربية3، ولكن هذه الأخبار غامضة غير واضحة، يجب أخذها بحذر، كما ورد أن بعض الرقيق من أهل الكتاب ممن كان بمكة كان يقرأ كتاب الله، وكانت قريش ترى رسول الله يمرّ عليه ويجلس عنده ويستمع إليه، فقالت: إنما يتعلم "محمد" منه4، ولكن الأخبار الواردة عن هذا الموضوع لا تشير إلى أن هذا الذي زعم أنه كان يعلم الرسول، كان قد دوّن ترجمة كتب الله، أو تفاسيرها بالعربية، وأن الناس قد وقفوا عليها. وأما ما ورد من أمر "عمرو بن سعد بن أبي وقاص" "عمرو بر سعد

_ 1 البيان والتبيين "3/ 28 وما بعدها". 2 البيان والتبيين "3/ 29". 3 Georg Graf, Geschichte der Christlischen Arabischen Literatur, I, S. 34. 4 النحل، الآية 103، تفسير الطبري "14/ 119 وما بعدها".

بر أبي وقاص" المذكور في تأريخ "ميخائيل السوري" "المتوفي سنة 1169 للميلاد" البطريق "البطريارك يوحنا" بطريق اليعاقبة، ترجمة "الإنجيل" من السريانية إلى العربية ثم ما جاء من وقوع خلاف بين "عمرو" وبين "البطريارك" بشأن الترجمة، ثم من استعانة "البطريارك" بعد ذلك برجال من "تنوخ"، و"عاقولا"، و"طيء"، كانوا يتقنون العربية والسريانية للقيام بالترجمة. ولترجمة التوراة، مع رجل يهودي، فإنه خبر غير مؤكد، وقد شك فيه بعض الباحثين، وربما وضع للطعن في "البطريارك"، وضعه خصومه عليه1. ولم تأت جهود "بومشتارك" وتلامذته بنتائج مؤكدة مقبولة عن إثبات وجود كتب للصلاة بالعربية، ترجمت من السريانية إليها قبل الإسلام2. ومن المحتمل أن رجال الدين كانوا يعظون نصارى العرب في الجاهلية بالعربية، أما نصوص الصلاة، فكانوا يلقونها بالسريانية. وربما كان الحال على هذا المنوال بالنسبة إلى رجال الدين المتنقلين مع الأعراب، فقد كانوا يتنقلون معهم، يعلمونهم ويرشدونهم بالعربية، ولكنهم لم يكونوا قد ترجموا كتب الصلوات ترجمة مدونة بلغتهم. وقد ورد أن رجال الدين كانوا يحملون "الدفة" معهم، حيث تحل القبائل، لترتيل الصلوات على المذابح المتنقلة، فعل ذلك رجال الدين مع "بني ثعلب" وقبائل من اليمن وغيرها3. وينطبق ما أقوله على العرب الجنوبيين أيضًا، فلم يعثر حتى الآن على دليل يثبت وجود ترجمات بعربيات جنوبية للتوراة أو الإنجيل أو الكتب الدينية الأخرى. ولكن هناك أخبارًا يذكرها أهل الأخبار تشير إلى وجود مثل هذه الترجمات، غير أننا لا نتمكن من التسليم بها، لما فيها من عناصر تدعو إلى الشك في أمرها وعدم إمكان الأخذ بها في الوقت الحاضر.

_ 1 Michael der Syrer, chronique de Michel le Syrien, II, p. 326, Paris, 1855, Georg Graf, I, 35, f. Nau, un Lollaque du Partiarche Jean Avec l'emir des Agareene in Jounal Asiatque, II, Ser, 5, 1915, 5, 1915, 225-279. وقد جعله "عمرو بن العاص"، وجعله "لامانس" "سعيد بن عامر". 2 Islamic, 4 1931, 562, f. 3 Georg Graf, I, s. 38.

وقد ورد أن عرب بلاد الشام من لخم وجذام وغسان وقضاعة وتغلب وكلب وغيرهم، "وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية"1، وقُصد بالعبرانية السريانية، ولهذا لم يأخذ علماء اللغة عنهم. غير أنهم لم يشيروا إلى ما كانوا يقرأون، ويظهر أنهم قصدوا بذلك الصلوات والكتب المقدسة، يقرأونها عليهم بالسريانية وربا ترجموا ما قرأوه عليهم إلى العربية.

_ 1 المزهر "1/ 212"

الفصل الثالث والأربعون بعد المئة: الخطابة

الفصل الثالث والأربعون بعد المئة: الخطابة والخطابة وجه آخر من أوجه النشاط الفكري عند الجاهليين. وقد كان للخطيب عندهم، كما يقول أهل الأخبار، مقام كبير للسانه وفصاحته وبيانه وقدرته في الدفاع عن قومه والذبّ عنهم والتكلم باسمهم، فهو في هذه الأمور مثل الشاعر، لسان القبيلة ووجهها. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء جماعة من الخطباء، اشتهروا بقوة بيانهم وبسحر كلامهم، وأوردوا نماذج من خطبهم. ومنهم من اشتهر بنظم الشعر، وعدّ من الفحول، مثل عمرو بن كلثوم1. قال "الجاحظ": "وكان الشاعر أرفع قدرًا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرًا من الشاعر"2. وذكروا أن الشعراء كانوا في أرفع منزلة عند العرب، وما زال الأمر كذلك حتى أفضى الشعر إلى قوم اتخذوه أداة للتكسب وسعوا به في كل مكان، فوضعوه أمام الملوك والسوقة، سلعة في مقابل ثمن، واستجداء لأكف الناس، فأنف منه الأشراف وتجنبه السادة، ونبهت الخطابة. وصار للخطيب شأن كبير، ارتفع على شأن الشاعر. ولخص "الجاحظ" ذلك بقوله: "كان الشاعر في الجاهلية يقدم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 174". 2 البيان والتبيين "114"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".

الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهوّل على عدوّهم ومن غزاهم، ويهيّب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر"1. وكانوا يحبّون في الخطيب أن يكون جهير الصوت، ويذمون الضئيل الصوت. وأن يكون مؤثرًا شديد التأثير في نفوس سامعيه حتى يسحرهم ويأخذ بألبابهم. وكانوا يجعلون مثل هؤلاء الخطباء ألسنتهم الناطقة إذا تفاخروا أو حضروا المجالس أو تفاوضوا في أمر، أو أرادوا تأجيج نيران الحروب، أو عقد صلح، أو البت في أي أمر جلل. ولذلك صارت الخطابة من أمارات المنزلة والمكانة، فصارت في ساداتهم وأشرافهم الذين يتكلمون باسمهم في المحافل والمجامع العظام. وقد ذكر "الجاحظ"، أن حمل العصا المخصرة دليل على التأهب للخطبة. والتهيؤ للإطناب والإطالة، وذلك شيء خاص في خطباء العرب، ومقصور عليهم، ومنسوب إليهم. حتى أنهم ليذهبون في حوائجهم والمخاصر بأيديهم، إلفًا لها، وتوقعًا لبعض ما يوجب حملها: والإشارة بها"2. ولا يخطب أحدهم إلا وعنده عصًا أو مخصرة، جرى على ذلك عرفهم حتى في الإسلام. "قال عبد الملك بن مروان: لو ألقيت الخيزرانة من يدي لذهب شطر كلامي"، وأراد معاوية سحبان وائل على الكلام، فلم ينطق حتى أتوه بمخصرة3. وكانوا يعتمدون على الأرض بالقسي، ويشيرون بالعصا والقنا، ومنهم من يأخذ المخصرة في خطب السلم، والقسي في الخطب عند الخطوب والحروب. وذكر أن من عوائدهم أن يكون الخطيب على زيّ مخصوص في العمامة واللباس4. وأن يخطب الخطيب وعلى رأسه عمامة، علامة المكانة والمنزلة عند الجاهليين. وذكر أيضًا أن من عوائدهم ألا يخطب الخطيب وهو قائد إلا في خِطبة النكاح. كما ذكر أن منهم من كان

_ 1 البيان والتبيين "1/ 241". 2 البيان والتبيين "61"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت، المطبعة الكاثوليكية 1959م"، البيان والتبيين "3/ 117"، "هارون". 3 البيان والتبيين "3/ 119 وما بعدها". 4 بلوغ الأرب "3/ 152 وما بعدها"، البيان "1/ 370 وما بعدها".

يخطب وهو على راحلته1. وذكر "الجاحظ" أن الشعوبية طعنت على "أخذ العرب في طبها المخصرة والقناة والقضيب، والاتكاء والاعتماد على القوس، والخدّ من الأرض، والإشارة بالقضيب". وذكر أن من المستحسن في الخطيب أن يكون جهوري الصوت، قليل التلفت، نظيف البزة، وأن يخطب قائمًا على نشر من الأرض، أو على راحلته، وأن يحتجز عمامته، ويكمل هذه الخصال شرف الأصل وصدق اللهجة2. وقد كان بين الخطباء من كان يقول الشعر بالإضافة إلى علو شأنه بالنثر. غير أن العادة، أن الشعراء لم يبلغوا في الخطابة مبلغ الخطباء، وأن الخطباء دون الشعراء في الشعر. "ومن يجمع الشعر والخطابة قليل"3. ومن الشعراء الخطباء: "عمرو بن كلثوم" التغلبي، و"زهير بن جناب"، و"لبيد"4، و"عامر ابن الظرب العدواني"5. وذكر "الجاحظ" أن العرب استعملت الموزون، والمقفى، والمنثور في مساجلة الخصوم، والرجز، في الأعمال التي تحتاج إلى تنشيط وبعث همة، وعند مجاثاة الخصم، وساعة المشاولة، وفي نفس المجادلة والمحاورة، واستعملت الأسجاع عند المنافرة والمفاخرة، واستعملت المنثور في الأغراض الأخرى6،وقال أيضًا: "وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحد من ولده. وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر،

_ 1 البيان "1/ 118"، "2/ 20". 2 البيان والتبيين "22"، "بيروت1959م"، "انتقاء الدكتور جميل جبر، المطبعة الكاثوليكية"، البيان والتبيين "3/ 6 وما بعدها". 3 البيان والتبيين "1/ 45". 4 ومن شعر لبيد، قوله: وأخلف قسا ليتني ولو أنني ... وأعيا على لقمان حكم التدبر البيان والتبيين "1/ 189، 365". 5 البيان والتبيين "1/ 365". 6 البيان والتبيين "3/ 6 وما بعدها، 28".

وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، ويحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد، ولا تحفظ ولا طلب"1. ويظهر أن من الخطباء من استعمل السجع في خطبه، ولا سيما في المفاخرات والمنافرات وأمور التحكيم2، وهو في الغالب. ومنهم من كان يستعمل الكلام المرسل وذلك في الأمور الأخرى. ولغلبة السجع على الخطب، قال بعض علماء اللغة: "الخطبة عن العرب: الكلام المنثور المسجع ونحوه"3. وقسم "الجاحظ" الخطب على ضربين، فقال: "اعلم أن جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر والبدو والحضر على ضربين، منها الطوال، ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به، وموضع يحسن فيه. ومن الطوال ما يكون مستويًا في الجودة، ومتشاكلًا في استواء الصنعة، ومنها ذات الفِقر الحسان والنتف الجياد. وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ، وإنما حفظه التخليد في بطون الصحف. ووجدنا عدد القصار أكثر، ورواة العلم إلى حفظها أسرع"4. وقد اقتضى النظام الاجتماعي والسياسي في الجاهلية أن يقيم العرب للخطابة وزنًا خاصًّا في المفاوضات التي تكون في داخل القبيلة للنظر في أمورها وفي شئونها الخاصة بها في أيام السلم وفي أوقات الغزو والغارات، في حالتي الهجوم والدفاع. وأقاموا لها وزنًا خاصًّا بالمناسبة للمفاوضات التي جرت بين القبائل، أو بين القبائل والملوك. ثم في المفاخرات وفي المنافرات. فكل هذه الأمور وأشباهها استدعت ظهور أناس بلغاء اعتمدوا على حسن تصرفهم في تنظيم الكلم وفي تنسيق الجمل وفي التلاعب بالألفاظ للتأثير على القلوب والأخذ بمجامع الألباب. فربَّ كلمة كانت تقيم قبيلة وتقعدها لتلاعب الخطيب بقلبها بسحر بيانه وفي كيفية اختيار ألفاظه واستخدامه مواضع الإثارة التي يعرف أنها ستثير النار الدفينة في أفئدة سامعيه.

_ 1 البيان والتبيين "3/ 82 وما بعدها". 2 البيان والتبيين "1/ 290". 3 تاج العروس "1/ 238"، "خطب". 4 البيان والتبيين "2/ 7".

ولهذا كانوا لا يختارون لمن يتكلم باسم قومه إلا من عرف بسحر لسانه وقوة بيانه، ليتمكن بما وهب من مرونة وتفنن في كلامه من التغلب على خصمه وإفحامه، ولما مات "أبو دليجة" "فضالة بن كلدة" رثاه "أوس بن حجر" بكلمة مؤثرة تعبر عن مبلغ شعوره وشعور قومه للفاجعة الأليمة التي جعلت قوم الخطيب في لبس وبلبال، لعدم وجود من سيحل محله في الدفاع عنهم، إذ حفلوا لدى الملوك، فيقول: أبا دليجة من يكفي العشيرة إذ ... أمسوا من الخطب في لبس وبلبال أم من يكون خطيب القوم إذ حفلوا ... لدى الملوك ذوي أيد وأفضال1 وندخل في الخطباء جماعة عرفت بإلقاء المواعظ والنصائح في أمور الدين والأخلاق والسلوك وفي التفكير، وهم قوم تأثروا بالمؤثرات الثقافية التي كانت في أيامهم بسبب وجود اليهود والنصارى بينهم، وبسب اتصالهم بالرهبان والمبشرين في داخل جزيرة العرب وفي خارجها، فأخذوا يحثون قوهم على التعقل والتأمل والتفكر في أمور دينهم ودنياهم، وترك ما هم عليه من عبادة الأصنام والتقرب إلى الأوثان، وهي حجارة صلبة، أو من خشب أو معدن لا يسمع ولا يجيب. وينسب إليهم، أنهم كانوا على دين إبراهيم، على ألسنة العربية الأولى دين الفطرة دين التوحيد. وينسب إليهم أيضًا، أنهم كانوا يقرأون ويكتبون، لا بالعربية وحدها، بل بالعبرانية والسريانية أيضًا، وأنهم كانوا يتدارسون التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء، إلى غير ذلك من دعاوى قد تكون وضعت عليهم. وهم قوم سبق أن تحدثت عنهم، وقلت عنهم أنهم الأحناف. وإذا درسنا الأغراض التي توخاها أهل الجاهلية من الخطابة، نجدها تكاد تتجمع في الأمور الآتية: التحريض على القتال، وإصلاح ذات البين، ولمّ شعث، لكثرة ما كان يقع بينهم من تنافر وتشاحن، ثم السفارات إلى القبائل أو الملوك، لأغراض مختلفة، مثل التهنئة والتعزية، أو طلب حاجة، وحلّ معضل، أو إنهاء خصومة، ثم الجلوس لحل الديات وإنهاء نيران الثأر، ثم التفاخر والتنافر والتباهي بالأحساب والأنساب والمآثر والجاه والمال، ثم في الوفادات حيث تقتضي

_ 1 كارلو نالينو "98"، ديوان أوس "103"، نقد الشعر لقدامة "35".

المناسبة إلقاء الخطب، أو في الحث على التعقل والتفكر وتغيير رأي فاسد، كما في خطب قس بن ساعدة الإيادي وفي خطب الأحناف، ثم في المناسبات الأخرى مثل تعداد مناقب ميت، أو خطب الإملاك وما إلى ذلك. ومن أشهر الخطب المنسوبة إلى الجاهليين، الخطب التي زعم أن "أكثم بن صيفي"، و"حاجب بن زرارة"، وهما من "تميم"، و"الحارث بن ظالم"، و"قيس بن مسعود"، وهما من "بكر"، و"خالد بن جعفر"، و"علقمة بن علاثة"، و"عامر بن الطفيل" من "بني عامر"، قالوها في مجلس كسرى، يوم أرسلهم "النعمان بن المنذر" إليه، ليريه درجة فصاحة العرب ومبلغ بيانهم وعقلهم، مما أثار إعجاب "كسرى" بهم، حتى عجز عن تفضيل أحدهم على الأخر، مما جعله يقر ويعترف بذكاء العرب وبقوة بيانهم وبقوة عقلهم، فقدرهم لذلك حق قدرهم وأكرمهم. وهي خطب مصنوعة موضوعة، قد تكون من وضع جماعة أرادت بها الرد على الشعوبيين الذين كانوا ينتقصون من قدر العرب، ومن لسان العرب، ومن دعوى الإعجاز في لغتهم، فصنعت هذا المجلس، وعملت تلك المحاورة والخطب في الرد عليهم، وهي تتناول صميم ذلك الجدل. وأكثر ما نسب إلى زيد وأمثاله من الأحناف مختلق، وضع عليهم فيما بعد وأكثر ما ورد عنهم في شرح حياتهم هو من هذا النوع الذي يحتاج إلى إثبات. وقد ذكر أهل الأخبار أسماء نفر من الجاهليين قالوا عنهم: إنهم كانوا من خطباء الجاهلية المشهورين المعروفين، وقد أدخلوا بعضهم في المُعَمرين. والمُعَمَّر في عرفهم من بلغ عشرين ومئة سنة فصاعدًا، وإلا، لم يعدوه من المعرمين1. وعلى رأس من ذكروا: "دويد بن زيد بن نهد بن ليث بن أسود بن أسلم الحميري"، فهو إذن من حمير. وقد ذكر أنه عاش أربع مئة سنة وستًّا وخمسين سنة، ونسبوا إليه وصية أوصى بها بنيه2. ولكنهم لم يذكروا متى عاش، وفي أي زمان مات، وكيف أوصى بنيه بهذه اللهجة الحجازية، لهجة القرآن الكريم، وهو من حمير، وحمير لها لسانها وكتابتها.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 157 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "3/ 157وما بعدها".

وذكر أهل الأخبار اسم "زهير بن جناب بن هبل" في ضمن المشهورين في البيان والفصاحة والمنطق عند الجاهليين، ويذكرون أنه كان على عهد "كليب بن وائل"، وأنه كان لسداد رأيه كاهنًا، ولم تجتمع قضاعة إلا عليه وعلى "رزاح بن ربيعة"، وقالوا إنه: "كان سيد قومه وشريفهم، وخطيبهم، وشاعرهم، وأوفدهم إلى الملوك، وطبيبهم، وحازي قومه، وفارس قومه، وله البيت فيهم والعدد منهم"1. وقد ذكروا له وصية أوصى بها بنيه، وأبيات شعر، زعموا أنه نظمها. وذكروا أيضًا "مرثد الخير بن ينكف بن نوف بن معد يكرب بن مضحى"، زعموا أنه كان قيلًا حدبًا على عشيرته، محبًّا لصلاحهم. وكان من أفصح الفصحاء وأخطب الخطباء، وزعموا أيضًا أنه أصلح بين القيلين: "سبيع بن الحرث" و"ميثم بن مثوب بن ذي رعين"، وأوردوا ما دار بينهم من نقاش وحوار2 ضبطوه وسجلوه، حتى لكأن كاتب ضبط كان حاضرًا بينهم كُلِّفَ تسجيلَ محضر ذلك الحديث. وعدّ "الحارث بن كعب المذحجي" من هذه الطبقة البليغة التي اشتهرت بسحر البيان. وقد زعم أهل الأخبار أنه كان على دين "شعيب" النبيّ، وهو دين لم يكن قد دخل فيه غيره وغير "أسد بن خزيمة" و"تميم بن مرّ". وقد ذكروا له وصيّة لأبنائه، أوصاهم بها حين شعر بدنو أجله، بعد أن عاش على زعمهم ستين ومئة سنة3. ولم يذكر أهل الأخبار شيئًا عن هذا الدين، دين شعيب. وليس في الوصية المنسوبة إليه ما يميزه عن غيره من الخطباء، مثل قس بن ساعدة الإيادي أو غيره من المتألهين الرافضين لعبادة الأوثان. وعدّ علماء الأخبار كعب بن لؤي في جملة الخطباء القدماء، وذكروا أنه كان يخطب على العرب عامة، ويحض كنانة على البر. وكان رجلًا طيبًا خيرًا،

_ 1 الأغاني "21/ 93 وما بعدها". بلوغ الأرب "3/ 159". 2 بلوغ الأرب "3/ 161 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "3/ 164".

فلما مات، أكبروا موته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل1. وكان ابن عمار عمرو بن عمار الطائي خطيب مذحج كلها، وكان شاعرًا كذلك، فبلغ النعمان حسن حديث، فاستدعاه، وحمله على منادمته. وكان النعمان أحمر العينين والجلد والشعر، وكان شديد العربدة، قتالًا للندماء، فنهاه أبو قردودة الطائي عن منادمته، ولكنه لم ينته، فلما قتله النعمان، رثاه أبو قردودة، وهجا النعمان2. وعدّوا "عبد المطلب" في جملة خطباء قريش، الذين كانوا يخطبون في الملمات وفي الأمور العظيمة، وكان وافد أهل مكة على ملوك اليمن، فإذا مات ملك منهم، أو تولى ملك منهم العرش، ذهب إلى اليمن معزيًّا ومهنئًا. فهو خطيب القوم إذن3. ومن خطباء "غطفان" في الجاهلية: "خويلد بن عمرو"، و"العُشَراء بن جابر" من "بني فزارة"، وخويلد خطيب يوم الفجار4. وأما بقية من ذكر أهل الأخبار من خطباء الجاهلية، فهم: "أبو الطَّمَحان القني"، واسمه حنظلة بن الشرقي من "بني كنانة بن القين"5، و"ذو الأصبع العدواني" وهو من حكام العرب كذلك6، و"أوس بن حارثة"7، و"أكثم بن صيفي التميمي"، وهو من حكام العرب أيضًا. وقد ذكر أن "يزيد بن المهلب" كان يسلك طريقته في خطبه ووصاياه8، و"عمرو بن كلثوم"، وهو من الخطباء الشعراء البارزين في الفنين. وقد ذكروا له خطبة نصح ووصية ذكروا أنه أوصى بها بنيه، في الأدب والسلوك9، و"نعيم بن ثعلبة الكناني".

_ 1 البيان "1/ 351"، "هارون". 2 البيان "1/ 222 وما بعدها، 349"، البيان والتبيين "1/ 349"، "هارون". 3 الاشتقاق "43". 4 البيان والتبيين "1/ 351". 5 بلوغ الأرب "3/ 168 وما بعدها". 6 بلوغ الأرب "3/ 169 وما بعدها". 7 بلوغ الأرب "3/ 170 وما بعدها". 8 بلوغ الأرب "3/ 172 وما بعدها". 9 بلوغ الأرب "3/ 174".

وكان ناسئًا، ينسئ الشهور، وقيل: إنه أول من نسأها. وكان يخطب في الموسم1، و"أبو سيّارة العدواني"، واسمه "عميلة بن خالد الأعزل"2، و"الحارث بن ذبيان بن لجأ بن منهب اليماني"3. وفي الملمات والأوقات العصيبة وفي الوفدات على الملوك يُختار خيرة الخطباء المتكلمين المعروفين بأصالة الرأي وبسرعة البديهة والجواب، ليبيضوا الأوجه، ويؤدوا المهمة على أحسن وجه. ولما قدم النعمان بن المنذر الحيرة، بعد زيارته لكسرى، وتفاخره عنده بقومه العرب، وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العر وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين، وإلى الحارث بن عباد "الحارث بن ظالم"، وقيس بن مسعود البكريين، وإلى خالد بن جعفر وعلقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل العامريين، وإلى عمرو بن الشريد السلمي، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المريّ، وهم خيرة من عرفهم في أيامه بالأصالة في الرأي وبقوة البيان، وطلب منهم الذهاب إلى كسرى والتكلم معه، ليعرف عقل العرب وصفاء ذهنها. فذهبوا وتكلموا، فأعجب بهم، وقدرهم حق تقدير4. وذكر عن حاجب بن زرارة: أنه وفد على كسرى لما منع تميمًا من ريف العراق، فاستأذن عليه، وتحدث معه، فأرضاه، وأذن عندئذ لتميم أن يدخلوا الريف. وقد وفد ابنه عُطارد على كسرى أيضًا بعد وفاة والده5. وأدرك "الربيع بن ضبيع الفزاري" الإسلام كذلك، ويذكر أهل الأخبار أنه أدرك أيام عبد الملك بن مروان6. وإذا كان هذا صحيحًا، فيجب أن يكون قد عاش معظم أيامه في الإسلام. أما في الجاهلية، فقد كان طفلًا، أو شابًّا، وإن ذكر أهل الأخبار أنه كان من المعمرين.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 175 وما بعدها". 2 بلوغ الأرب "3/ 176". 3 بلوغ الأرب "3/ 177 ومابعدها". 4 العقد الفريد "2/ 4 وما بعدها" "وفود العرب على كسرى". 5 العقد الفريد "2/ 20". 6 بلوغ الأرب "3/ 166"، أمالي المرتضى "1/ 183"، الاقتضاب "369"، الدرر اللوامع "1/ 210".

ومن الخطباء عطارد بن حاجب بن زرارة، وقد خطب أمام الرسول1. ومن خطباء غطفان في الجاهلية: خويلد بن عمرو، والعشراء بن جابر بن عقيل2. وكان الأسود بن كعب، المعروف بالكذاب العنسي، الذي ادعى النبوة من الخطباء كذلك3. وذكر أهل الأخبار اسم: "قيس بن عامر بن الظرب"، و"غيلان بن سلمة الثقفي" في جملة حكام العرب. وذكروا أنه كان قد خصص يومًا له يحكم فيه بين الناس، ويومًا ينشد فيه شعره. وذكروا من حكام قريش عبد المطلب، وهاشم بن عبد مناف، وأبا طالب والعاص بن وائل4. وعدّوا "قيس بن زهير العبسي" من خطباء الجاهلية المعروفين، وقد ذكروا عنه أنه جاور "النمر بن قاسط" بعد "يوم الهباءة"، وتزوج منهم. ثم رحل عنهم إلى "غمار"، فتنصر بها، وعف عن المآكل، حتى أكل الحنظل إلى أن مات5. وله أمثلة مذكورة في كتب الأمثال6. وقيل فيه: "أدهى من قيس بن زهير"، ومن أقواله: "أربعة لا يطاقون: عبد ملك، ونذل شبع، وأمة ورثت، وقبيحة تزوجت"، وله أمثال عديدة7. وذكر أنه طرد إبلًا لبني زياد، وباعها من عبد الله بن جدعان، وقال في ذلك شعرًا8. وأما "سحبان بن زفر بن إياس" المعروف بـ"سحبان بن وائل الباهلي"، فإنه خطيب ضرب به المثل في الفصاحة فيقال: "أخطب من سحبان وائل"، و"أفصح من سحبان وائل"، و"أنطق من سحبان"، و"أبلغ من سحبان"، لمن يريدون مدحه وإعطاءه صفة البيان. وذكر أنه عاش في الجاهلية

_ 1 البيان "1/ 328". 2 البيان "1/ 350 وما بعدها". 3 البيان "1/ 359". 4 مجمع الأمثال "1/ 41". 5 بلوغ الأرب "3/ 165 وما بعدها". 6 أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال "1/ 268، 299". 7 جمهرة الأمثال "1/ 457". 8 جمهرة الأمثال "1/ 344".

وعاش في الإسلام حتى أدرك أيام معاوية1. وقد عرف بخطبته "الشوهاء"، قيل لها ذلك لحسنها. وذلك أنه خطبها عند معاوية فلم ينشد شاعر ولم يخطب خطيب2. "وكان إذا خطب لم يعد حرفًا ولم يتلعثم، ولم يتوقف، ولم يتفكر بل كان يسيل سيلًا"3. وقد ورد أنه توفي سنة "54هـ"4. ذكر أنه دخل على معاوية وعنده خطباء القبائل، فلما رأوه خرجوا، لعلمهم بقصورهم عنه، فقال: لقد علم الحي اليمانون أنني ... إذا قلت أما بعد أني خطيبها فقال له معاوية: أخطب، فطلب عصًا، فلما أحضرت له خطب جملة ساعات، فقال معاوية: أنتَ أخطب العرب، قال: أو العرب وحدها، بل أخطبُ الجن والإنس5. وقد اشتهرت إياد وتميم بالخطابة وبشدة عارضة خطبائها وبقوة بيانهم6. وقد ذكر أن معاوية ذكر تميمًا، فقال: "لقد أوتيت تميم الحكمة، مع رقة حواشي الكلم"7. وهناك قبائل أخرى أخرجت خطباء مشهورين، نسبت إليهم خطب بليغة. وقد يكون من الأعمال المفيدة النافعة، وضع دراسة خاصة بعدد الخطباء الذين نبغوا في القبائل، وبدراسة خطبهم، وبمساكن أولئك الخطباء ومهاجر قبائلهم، فإن دراسة علمية مثل هذه تعيننا كثيرًا على الوقوف على تطور هذه اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، والقبائل التي تكلمت بها سليقة وطبعًا. وذكر "الجاحظ" أن شأن "عبد القيس" عجب "وذلك أنهم بعد

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 156"، تاج العرس "1/ 294"، "سحب"، ثمار القلوب "102 وما بعدها". 2 البيان "1/ 348"، "لجنة"، وعرفت خطبة قيس بن خارجة بالعذراء. 3 الإصابة "2/ 108"، "رقم 3663". 4 كارلو نالينو "118". 5 أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال "1/ 248 وما بعدها". 6 البيان والتبيين "1/ 53". 7 البيان والتبيين "1/ 54".

محاربة إياد تفرقوا فرقتين: ففرقة وقعت بعمان وشق عمان، وهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين، وهم من أشعر قبيل في العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي معدن الفصاحة. وهذا عجب"1. وذكر "الجاحظ" أن "معاوية" كان يعجب من فصاحة "عبد القيس"، ولما اجتمع بـ "صحار بن العباس" "صحار بن العياش"، المعروف بـ"صحار العبدي"، عجب من بلاغته وفصاحته، فقال له: ما هذه البلاغة فيكم؟ قال: شيء يختلج في صدورنا، فنقذفه كما يقذ البحر بزبده. قال: فما البلاغة؟ قال: أن تقول فلا تبطئ، وتصيب فلا تخطئ2. وورد في "كتاب الحيوان"، للجاحظ، أنه قال له: "ما الإيجاز؟ قال: أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطئ"3. وله كلام فيما يجب أن يقال عند تذكر الأحسان4. وكان نسابة، وله مع "دغفل" النسابة محاورات5. وقد ذكر "ابن النديم"، أن له من الكتب: "كتاب الأمثال"6، وقد أشاد "الجاحظ" بعلمه في الأنساب، وذكره فيمن ذكر ممن ألف في كتب النسب، من أمثال "ابن الكلبي"، و"الشرقي بن القطامي"، و"أبي اليقظان"، و"أبي عبيدة"، و"دغفل بن حنظلة" النسابة، و"ابن لسان الحمرة"، و"ابن النطاح" اللخمي7. وكان لبني عبد القيس، اتصال بمكة قبل الإسلام، لهم معها تجارة. يرسلون إليها التمر والملاحف والثياب والتجارة المستوردة من الهند. وقد أشير إليها في خبر إسلام "الأشج": "أشج" عبد القيس، واسمه "المنذر بن عائذ بن الحارث بن المنذر بن النعمان" العبدي. فقد أرسل ابن أخته "عمرو بن عبد القيس".

_ 1 البيان والتبيين وأهم الرسائل، انتقاء الدكتور جميل جبر، "بيروت 1959م"، "المطبعة الكاثوليكية"، "ص24". 2 الإصابة "2/ 170"، "رقم 4041"، البيان والتبيين "1/ 96"، المصون "139". 3 الحيوان "1/ 90 وما بعدها". 4 الحيوان "3/ 367". 5 الإصابة "2/ 170"، "رقم4041". 6 الفهرست "128"، "المقالة الثالثة". 7 الحيوان "3/ 209".

إلى مكة عام الهجرة، ومعه تجارة من تمر وملاحف، فلقيه النبي، وهداه إلى الإسلام، وكان مثل قومه نصرانيًّا، فأسلم، وتعلم سورة الحمد واقرأ باسم ربك. فلما باع تجارته وعاد، أخبر خاله "الأشج" بإسلامه، فأسلم وكتم إسلامه حينًا، فلما كان عام الفتح، خرج مع وفد من أهل "هجر" وعبد القيس، وصل المدينة، وقابل الرسول، وأعلنوا إسلامهم، فقدموا بلادهم، وحوّلوا "البيعة" مسجدًا1. وممن اشتهر من "بني عبد القيس" بالخطابة والفصاحة: "صعصعة بن صوحان" العبدي، وأخواه: "سيحان" و"زيد". وقد شهد "صفين" مع "علي"، وكانت له مواقف مع معاوية، وقد مات في خلافته. "وقال الشعبي: كنت أتعلم منه الخطب"، وله شعر2. وذكر في أثناء تحدث أهل الأخبار عن "الردة" وادعاء "لقيط بن مالك" الأزدي النبوة، أن "الحارث بن راشد"، و"صيحن بن صوحان" العبدي جاءا على رأس مدد من "بني ناجية" و"عبد القيس"، لمساعدة "عكرمة" و"عرفجة"، و"جبير"،و"عبيد"، فاستعلاهم، فلما وصل المدد انهزم "لقيط"، وقتل ممن كان معه عشرة آلاف3. ولعل "صيحان" هذا هو أخ "صعصعة بن صوحان". ومن منازل "عبد القيس" "دارين" و"الزارة"، وكان بها رهبان وبيع4، ويظهر أن النصرانية كانت متفشية بين "عبد القيس"،وردت إليها من العراق. وكان "بنو عبد القيس" من العرب المتحضرين بالنسبة إلى أعراب البوادي، ولهم اتصال بالعالم الخارجي، وقد قام المبشرون بنشر الكتابة بينهم، ولا بد وأن تكون كتابتهم بالقلم العربي الشمالي، الذي كان يكتب به النصارى العرب. ونجد في قرى البحرين أناسًا من مختلف الأجناس، بسبب اتصالها بالبحر.

_ 1 الإصابة "2/ 171"، "رقم4041"، "3/ 5"، "رقم5903". 2 الإصابة "2/ 192"، "رقم4130"، البيان "1/ 96"، جمهرة الأمثال "2/ 144". 3 الإصابة "2/ 193"، "4133". 4 الإصابة "2/ 171"، "رقم4041".

ومجيء الأقوام إليها من الهند وإيران والعراق، فظهرت فيها ثقافة، امتصت غذاءها من مختلف الثقافات. وهناك من اشتهر بالخطابة وكان قريب عهد من الإسلام، أو أدركه وأسلم، منهم: "قس بن ساعدة الإيادي". وقد رآه الرسول، وسمعه يتكلم، وهو راكب على جمل أورق. ويذكر أن الرسول قال: "يرحم الله قسًّا، إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة وحده"1. وقد عدّه بعض الباحثين من النصارى، ولكن معظم أهل الأخبار يرى أنه كان على الحنيفية، أي: على التوحيد، لا هو من يهود، ولا هو من النصارى2. وقد ذكر أهل الأخبار أنه "كان من حكماء العرب وأعقل من سمع به منهم، وهو أول من كتب من فلان إلا فلان، وأول من أقر بالبعث من غير علم، وأول من قال: أما بعد، وأول من قال: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"3. وأنه أول من خطب على شرف، وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصا4. وكان أحكم حكماء العرب، وأبلغ وأعقل من سمع به من إياد. وبه ضرب المثل في الخطابة والبلاغة5. روي أن الرسول سمع كلام "قس بن ساعدة" الإيادي ورواه، ذكر "الجاحظ" أن رسول الله "هو الذي روى كلام "قس بن ساعدة" وموقفه على جمله بعُكاظ وموعظته، وهو الذي رواه لقريش والعرب، وهو الذي عجب من حسنه وأظهر من تصويبه"6. وذكر في موضع آخر من كتابه "البيان والتبيين" أن الرسول قال: "رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعُوا. من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت".

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 155"، نزهة الجليس "1/ 429". 2 المصدر نفسه. 3 مجمع الأمثال "1/ 117"، جمهرة الأمثال "1/ 249". 4 الأغاني "14/ 40 وما بعدها"، الخزانة "2/ 90"، "عبد السلام محمد هارون". 5 ثمار القلوب "121 وما بعدها، 127". 6 البيان والتبيين "1/ 52".

وهو القائل في هذه: آياتٌ محكمات، مطرٌ ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ضوء وظلام، وبر وآثام، ولباس ومركب، ومطعم ومشرب، ونجوم تمور، وبحور لا تغور، وسقف مرفوع، ومهاد موضوع، وليل داج، وسماء ذات أبراج. مالي أرى الناس يموتون ولا يرجعون، أرضوا فأقاموا، أم حبسوا فناموا. وهو القائل: يا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد. أين المعروف الذي لا يشكر، والظلم الذي لم يذكر، أقسم قس قسمًا بالله، إن لله دينًا هو أرضى له من دينكم هذا. وأنشدوا له: في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردًا ... للموت ليس لها بصائر ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر أيقنت أنّي لا محالة ... حيث صار القوم صائر1 وقد اشتهر قس بخطبته التي خطبها بسوق عكاظ، وبأبيات من الشعر رويت عن "أبي بكر الصديق". وبفصاحته وبلاغته ضرب المثل، فقيل: "أبلغ من قس"2. وقد استشهد ببعض شعر "قس" في كتب الشواهد3. وذكر أنه أول من قال: أما بعد. في العرب. وفي رواية من روايات أهل الأخبار: أن أول من قال: "أما بعد"، هو كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة4. زعيم قريش، وأحد خطبائها المشهورين.

_ 1 البيان والتبيين "1/ 308". 2 مجمع الأمثال "1/ 117"، البيان والتبيين "1/ 309". 3 الخزانة "1/ 263"، "بولاق". 4 المرزباني، معجم الشعراء "ص341"، الخزانة "4/ 347"، "بولاق"، "الشاهد السابع والستون بعد الثمانمائة".

وذكر بعض أهل الأخبار: أنه قيل لقُس بن ساعدة: ما أفضل المعرفة: قال: معرفة الرجل نفسه، قيل له: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه. قيل له: فما أفضلُ المروءة؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجه1. وقد وردت في الخطة المنسوبة إلى قس بن ساعدة الإيادي هذه الجملة: "إن في السماء لخبرا". ويلاحظ أن العبرانيين كانوا يراقبون السماء لأخذ الأخبار عما سيقع لهم من أحداث منها. وقد تخصص بذلك نفر منهم، عرفوا بـ "خبرى شمايم"، أي: المخبرون عما يقع في السماء؛ و"قيرى شمايم"، أي: قراءة السماء2. وكان العرب يراقبون السماء كذلك، استطلاعًا للأخبار، وفي الجملة المنسوبة إلى "قس" تعبير عن ارتقابه وقوع أمرهم. و"قس" من المعمرين، زعم بعض أهل الأخبار أنه عمر سبعمائة سنة، وزعم بعض آخر أنه عاش ثلاثمائة وثمانين سنة، "وقال المرزباني: ذكر كثير وجعله بعضهم في الصحابة، وأماته بعضهم قبل البعثة. وقال قوم: إنه أول من آمن بالبعث من أصل الجاهلية3. وفي الذي يرويه أهل الأخبار عن خطبة قس ورواية النبي لها تصادم في الروايات. وقد ذكر ذلك العلماء4، وإني أرى أن القصة موضوعة، وهي من هذا النوع الذي وضع للتبشير بقرب ظهور دين جديد. وقد أشير إلى قس في أبيات نسبت إلى الحطيئة والأعشى ولبيد. وقد ضرب الحطيئة به المثل في البيان، وبقوة تأثيره في نفوس السامعين. أما الأعشى فقد وصفه بالحلم، وأما لبيد فقد قال فيه: وأخلفن قسًا ليتني ولعلني ... وأعيا على لقمان حكم التدبر

_ 1 العقد الفريد "2/ 254". 2 Hastings, Dict., Vol, I, P. 194 3 الخزانة "2/ 89 وما بعدها"، "عبد السلام محمد هارون"، البيان والتبيين "1/ 52"، "عبد السلام محمد هارون"، الخزانة "1/ 263"، "بولاق". 4 السيرة الحلبية "1/ 210"، اللآلئ "1/ 95".

ويقولون: وإنما قال ذلك لبيد، لقول قس: هل الغيب معطي الأمن عند نزوله ... بحال مسيء في الأمور ومحسن وما قد تولى فهو لا شك فائت ... فهل ينفعني ليتني ولعلني ونسبوا إليه أبياتًا من الشعر1. وورد أن "الجارود بن عبد الله" من "بني عبد القيس"، وكان سيدًا في قوه لما قدم على رسول الله، وأسلم مع قومه، قال له الرسول: "يا جارود هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قسًّا؟ " قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله، وأنا من بين يدي القوم كنت أقفو أثره. كان من أسباط العرب فصيحًا، عمَّر سبعمائة سنة، أدرك من الحواريين سمعان، فهو أول من تأله من العرب، كأني أنظر إليه يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله وليوفين كل عامل عمله، ثم أنشأ يقول: هاج للقلب من جواه ادّكار ... وليالٍ خلا لهنّ نهارُ في أبيات آخرها: والذي قد ذكرتُ دل على الله ... نفوسًا لها هدى واعتبار فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل أورق، وهو يتكلم بكلام ما أظن أني أحفظه". فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، فإني أحفظه: كنت حاضرًا ذلك اليوم بسوق عكاظ فقال في خطبته: يا أيها الناس، اسمعوا وعوا، فإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إلى آخر ما أورده من الوعظ"2. و"الجارود"، هو "بشر بن عمرو بن حنش بن النعمان"، وقيل: هو

_ 1 المرزباني، معجم "ص338". 2 الخزانة "2/ 89"، سيرة ابن سيد الناس "1/ 69".

"أبو المُعلى"، "الحارث بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة"1، وقيل: "الجارود بن المعلى"، ويقال: ابن عمرو بن المعلى، وقيل: الجارود بن العلاء، وقيل: الجارود بن عمرو بن حنش، وقيل: اسمه بشر بن حنش، إلى غير ذلك من أقوال تدل على اضطراب أهل الأخبار في معرفته، وكان نصرانيًّا، وكان شاعرًا، وأوردوا له شعرًا يعلن إيمانه بالرسول، وبأنه حنيف حيث كان من الأرض. قيل: إنه قتل بفارس في أيام عمر سنة "21"، وقيل: بقي إلى خلافة عثمان2. وذكر "الجاحظ" أن من خطباء العرب: "الصباح بن شفي" الحميري، زعم أنه كان من أخطب العرب، وقيس بن شمّاس، وثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي، فقد أوكله الرسول بالردّ على خطاب من كان يخطب أمامه من الوفود، فهو الناطق باسمه بالنثر، كما كان "حسان" الناطق باسم الرسول شعرًا. وذكر أن من خطباء العرب "الأسود العنسي"، وطليحة بن خويلد" الأسدي، تنبأ في خلافة أبي بكر في بني أسد بن خزيمة، وعاضده "عيينة بن حصن" الفزاري، فوجه "أبو بكر" إليه خالد بن الوليد، فهزمه، وأسر "عيينة" سنة "11" للهجرة، وقد أسلم "طليحة" واستشهد بنهاوند سنة "11" من الهجرة3. وذكر "الجاحظ": "مسيلمة" بعد "طليحة"، فقال: "وكان مسيلمة الكذّاب، بعيدًا عن ذلك كله"4، أي أنه نفى الخطابة عنه. ومن الخطباء الناهين أصحاب الرأي والبيان، خطيب عاش في الجاهلية والإسلام وقد أسلم وحسن إسلامه، هو: سهيل بن عمرو الأعلم، أحد بني حِسْل بن معيص. يقال: إنه كان مؤثرًا جدًّا، أخاذًا يأخذ بعقول الناس، حتى ذكر أن عمر قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، انزع ثنيتيه السفليتين حتى يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبًا أبدًا. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:

_ 1 خليفة بن خياط، كتاب الطبقات "61". 2 الإصابة "1/ 218"، "رقم1042". 3 البيان والتبيين "1/ 359". 4 البيان والتبيين "1/ 359".

"لا أمثل، فيمثل الله بي، وإن كنت نبيًّا. دعه يا عمر، فعسى أن يقوم مقامًا تحمده". فلما هاج أهل مكة عند الذي بلغهم من وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قام خطيبًا، فقال: "أيها الناس، إن يكن محمد قد مات، فالله حي لم يمت، وقد علمتم أني أكثركم قتبًا في بَرّ، وجاريةً في بحر، فأقروا أميركم وأنا ضامن، إن لم يتم الأمر، أن أردها عليكم". فسكن الناس1. وهو الذي قال يوم خرج آذن عمر، وبالباب عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وفلان، وفلان، فقال الآذن: أين بلال؟ أين صهيب؟ أين سلمان؟ أين عمار؟ فتمعرت وجوه القوم، فقال سهيل: لم تتمعر وجوهكم؟ دُعُوا ودعينا، فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمر، لا أعدّ الله لهم في الجنة أكثر2. وفي هذا الجواب دلالة على عقل فاهم للواجب مدرك لمهمات رئيس الدولة، ولما يجب أن تقوم الحكومة عليه، لا يبالي بالعنعنات القديمة وبالعرف القبيلي الجاهلي. وروي "أنه لما ماج أهل مكة عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد من العرب، قام سهيل بن عمرو خطيبًا. فقال: والله إني لأعلم أن هذا الدين سيمتد امتداد الشمس في طلوعها إلى غروبها، فلا يغرنكم هذا من أنفسكم -يعني: أبا سفيان- فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، ولكنه قد جثم على صدره حسد بني هاشم. وأتى في خطبته بمثل ما جاء به أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالمدينة"3. وقد كان مخلصًا في عقيدته مطيعًا لأمر الحاكم، ذكر أنه حضر "الناس باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو

_ 1 البيان "1/ 317"، "من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" الإصابة "2/ 29"، "رقم3573"، الاستيعاب "2/ 107 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 58"، "عبد السلام محمد هارون". 2 البيان "1/ 317" "لجنة". 3 الاستيعاب "2/ 109"، "حاشية على الإصابة"، البيان والتبيين "1/ 317".

وأبو سفيان بن حرب، وأولئك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه. فجعل يأذن لأهل بدر، لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم. وكان قد أوصى بهم. فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط! أنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس، لا يلتفت إلينا! فقال سهيل بن عمرو، وقال الحسن: ويا له من رجل، ما كان أعقله، أيها القوم إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابًا، فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم. أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتًا من بابكم هذا الذي تتنافسون فيه. ثم قال: أيها القوم! إن هؤلاء القوم قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم والله إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه عسى الله -عز وجل- أن يرزقكم شهادة، ثم نفض ثوبه وقام ولحق بالشام"1. فالرجل مؤمن، صاحب مبدأ، يرى الفضل لأصحابه بأعمالهم، لا بالرئاسة والنسب والجاه، كما كان يريد أبو سفيان وقومه. وقد نعت بـ"خطيب قريش"2، لفصاحته وقوة بيانه، ولهذا اختارته قريش ليكون لسانها حين فاوضت الرسول على الصلح في الحديبية. وقد تكلم فأطال الكلام وتراجع مع الرسول حتى وافق على تدوين كتاب الصلح3. وكان هو لسان قريش يوم وضع الرسول يده على عضادتي باب الكعبة، فقال: "ما تقولون"؟ فقال سهيل: "نقول خيرًا ونظن خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت4. وتعد "ابنة الخس هند الإيادية"، وهي بنت "الخس بن حابس"، رجل من إياد، من النساء المعروفات بالفصاحة. وقد رووا عنها الأمثال. وذكر أن والدها هو "خس بن حابس بن قريط" الإيادي. وقال بعض أهل الأخبار: إن ابنة الخس من "العماليق". والإيادية هي "جمعة بنت حابس" الإيادي،

_ 1 الاستيعاب "2/ 109 وما بعدها". 2 الإصابة "2/ 92"، "رقم2573". 3 الطبري "2/ 633 وما بعدها". 4 الإصابة "2/ 92"، "رقم3573".

وكلتاهما من الفصاح. وذكر بعض آخر، أن الصواب أن ابنة الخس المشهورة بالفصاحة واحدة، وهي من "بني إياد". واختلف في اسمها، فقيل: هند، وقيل: جمعة. ومن قال إنها بنت حابس، فقد نسبها إلى جدها1. وممن ضرب به المثل في الفصاحة "سحبان بن زفر بن إياس" الوائلي، وائل باهلة. خطيب مفصح يضرب به المثل في البيان، أدرك الجاهلية وأسلم، ومات سنة "54هـ"2. شهرته في الإسلام، كشهرة "قس" في الجاهلية. واشتهر "هيذان بن شيخ" "هيدان بن سنح"، بكونه خطيب "عبس"، وذكر أن النبي قال للنابغة الجعدي: لا يفضض الله فاك، وقال لهيذان: رب خطيب من عبس3. والخطابة عند الجاهليين حقيقة لا يستطع أحد أن يجادل في وجودها، ودليل ذلك خطب الوفود التي وفدت على الرسول، وهي لا تختلف في أسلوب صياغتها وطريقة إلقائها عن أسلوب الجاهليين في الصياغة وفي طرق الإلقاء. ثم إن خطب الرسول في الوفود وفي الناس وأجوبته للخطباء، هي دليل أيضًا على وجود الخطابة بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة عند الجاهليين. بل نجد أن الخطابة كان لها شأن في الحياة العربية في الجاهلية وفي الإسلام. ففي المناسبات مثل عقد زواج، لا بد للخاطب من خطبة يخطبها أمام العروس والحاضرين، يذكر فيها مناقب موكله ومناقب الأسرة التي رغب العروس في مصاهرتها ولعلها هي التي حملت الناس على نعت هذه المناسبة بـ "الخِطْبة" و"بخطبة العروس"، حتى قيل: "جاء يَخْطِبُ فلانة لفلان"، وإن فرق العلماء بين "الخُطبة" التي هي الموعظة والكلام، وبين "الخِطبة" التي هي طلب المرأة، بالحركة، فذكروا أن الأولى هي بضم الخاء والثانية بكسرها4.

_ 1 تاج العروس "4/ 137"، "خس". 2 الخزانة "4/ 346 وما بعدها"، "بولاق". 3 البيان والتبيين "1/ 273"، الإصابة "3/ 581"، "رقم9028". 4 المفردات، للراغب الأصفهاني "ص150".

ونجد في كتب الأدب والأخبار نصوص خطب نسبت إلى خطباء جاهليين، يخرج المرء من قراءتها ومن قراءة ما ذكره أهل الأخبار عنها، بأنها نصوص دقيقة تمثل الأصل تمام التمثيل، أو كأنها نسخ استنسخت عن نسخ أصلية كتبها الخطباء بأنفسهم، أو دونها كتاب شهود كانوا حضورًا وقت إلقاء الخطب. ونحن وإن تعودنا على اعتبار هذه الخطب، وكأنها خطب أصيلة لا شك عندنا في أصالتها ولا شبهة. لكننا لا نستطيع إقناع أنفسنا ولا غيرنا بصحة رأينا هذا. وإذا كنا قد قبلنا ما قيل لنا عن الشعر الجاهلي، فإننا لا نتمكن من قبول ما يذهب إليه الأدباء المقلدون من أن الخطب المنسوبة إلى خطباء الجاهلية، هي نصوص دقيقة صحيحة، أو أن أكثرها صحيح لا شك لأحد في صحته، وذلك لأسباب: منها ما ذكره أهل الأخبار أنفسهم من قولهم: "وكان الخطيبُ من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها زاد فيها ونقص"1، ثم ما نجده من اختلاف في رواية خطبة "قس بن ساعدة"، ومنهم أناس حضروا خطابه، فكيف نصدق صحة نصوص خطب لأناس جاهليين تبلغ عدة صفحات. وكيف يصدق إنسان بصحة ما ينسب إلى الجاهليين من خطب وأقوال، وهو يعلم أن خطبة "حجة الوداع"، قد اختلف الرواة في رواية نصها اختلافًا كبيرًا2، وإذا كانوا قد اختلفوا في ضبط نص خطبة تعد من أهم خطب الرسول، لما جاء فيها من بيان وأحكام، وكلام الرسول أفضل كلام للمسلم، فهل يعقل أخذ موضوع صحة نصوص خطب الجاهليين، على أنه كلام صحيح بالنص والحرف والمعنى! وإذا كان المسلمون قد جوزوا رواية حديث رسول الله بالمعنى، لصعوبة الرواية بالحرف والكلم والنص، فهل يعقل ضبط الناس لخطب الجاهليين، ضبطًا تامًّا كاملًا بالحرف والمعنى، مع أن كلام أهل الجاهلية لا يقاس بكلام الرسول في نظر المسلمين من دون شك.

_ 1 اللسان "12/ 34"، "أمم". 2 راجع نصها في تاريخ اليعقوبي "2/ 99 وما بعدها"، "طبعة النجف".

والأمر بالنسبة للشعر الجاهلي من حيث الصنعة والافتعال أهون أمرًا في نظري من موضوع الخطب الجاهلية، فالشعر كلام موزون مقفى وهو غير طويل، يمكن حفظه بسهولة، ويمكن خزنه في الذهن أمدًا طويلًا، أما النثر، فليس من السهل حفظه حرفيًّا؛ وإذا حفظ، فلا يمكن للذاكرة مهما كانت قوية أن تحافظ على صفائه إلى أجل طويل، لا سيما إذا كانت الخطب طويلة، لا تعاد قراءتها إلا في المناسبات. وللسبب المذكور ولخوف المسلمين من التقول على الرسول بما لم يقله من حروف وألفاظ وجمل، جوّزوا رواية حديثه بالمعنى، لصعوبة حفظ النص، فهل تعد خطب الجاهليين أكثر أهمية من حديث الرسول، حتى نقول: إنها نصوص مضبوطة صحيحة، لا غبار على صحتها، ولا شك من نصها! وطابع الخطب، السجع وقصر الجمل والإكثار من الحكم والأمثال، والتفصيل والازدواج. ويرد غالب السجع في كلام الكهان لذلك وسم بهم، فقيل: "سجع الكهان". والسجع في كلام العرب أن يأتلف أواخر الكلم على نسق كما تأتلف القوافي، وأن يكون في الكلام فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. وذكر أن الرسول قال لأحدهم وكان يتكلم سجعًا: "أسجع كسجع الكهان! " وفي رواية "إياكم وسجع الكهان"، وفي الحديث أنه نهى عن السجع في الدعاء. وإنما كره السجع في الكلام لمشاكلته كلام الكهنة1. قال "الجاحظ": "وكان الذي كرّه الأسجاع بعينها وإن كانت دون الشعر في التكلف والصنعة، أن كهّان العرب الذين كان أكثر الجاهلية يتحاكمون إليهم، وكانوا يدعون الكهانة وأن مع كل واحد منهم رئيًا من الجنّ، مثل حازي جُهينة، ومثل شق وسطيح، وعزى سلمة وأشباههم، كانوا يتكهنون ويحكمون بالأسجاع؛ كقوله: والأرض والسماء، والعقاب الصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجدُ بني العشراء، للمجد والسّناء". "فوقع النهي في ذلك الدهر لقرب عهدهم بالجاهلية، ولبقيتها فيهم

_ 1 تاج العروس "5/ 376"، "سجع".

وفي صدور كثير منهم، فلما زالت العِلّة زال التحريم". وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين، فيكون في ذلك الخطب أسجاع كثيرة، فلا ينهونهم1. واتبع الخطباء في الإسلام وبعض الكتاب أسلوب السجع في خطبهم وفي كتبهم، ولا زال السجع محبوبًا عند كثير من الناس، ولهذا فهم يكتبون به. وأغلب الخطباء هم سادات قبائل وأشراف من أهل القرى ومن أصحاب المكانة والجاه والكهنة والحكام. ومنازلهم تحتم عليهم الخطابة في المناسبات، لأنهم ألسنة قومهم، فللكلام أثر في نفوس العرب، يثير الحرب ويهدئ الأعصاب ويعقد السلم، ويفض المشكل، فصار من ثم للخطيب أثر كبير في الجاهلية. وكانت القبائل تفتخر بكثرة ما عندها من خطباء. وذكر "الجاحظ" أن رجلًا من حمير قام في مجلس لمعاوية اجتمع فيه الخطباء، فقال: إنا لا نطيق أفواه الكِمال، عليهم المقال، وعلينا الفعال2. ومعناه: إنا لا نستطيع الكلام كما يفعل غيرنا، ولذلك فأنا لا أريد أن أتسابق معهم، ثم أننا معشر عمل لا قول. و"الكمال"، بمعنى الجمال، جمع جمل، نطق بها بالكاف على لغة أهل اليمن القديمة، لأن لسان حمير ينطق الجيم كافًا مفخمة. ويلاحظ أن أكثر الذي ذكره أهل الأخبار من كلام الخطباء، هو وصايا زعم أهل الأخبار أن أولئك الخطباء أوصوا بها أبناءهم، وذلك حين تقدمت بهم السن، وحين شعروا بدنوا أجلهم. وهي تمثل خلاصة تجارب الموصى ومجمل ما حصل عليه من اختبارات في هذه الحياة. وهي على الجملة حكم، وآراء في الدنيا، ومواعظ، لا تخطر إلا على بال رجل سئم من الحياة ويئس منها، أو من زاهد متصوف متدين يؤمن بإلَه وبحساب وكتاب، وجد أن الحياة مدبرة، وأنها زائلة فانية، لا تدوم لأحد، لذلك يريد أن يوصي أبناءه بما وجده فيها وخبره ورآه. ولم يهمل أهل الأخبار ذكر أهل العي والبلادة، وهم على قلتهم وضآلة

_ 1 البيان والتبيين "1/ 290". 2 البيان والتبيين "1/ 398".

عددهم مجتمع خاص قائم بذاته، فأشاروا إلى نوادرهم وبعض قصصهم، وجعلوا رأسهم وحامل لوائهم في الجاهلية شخصًا ضربوا به المثل في العي، دعوه "باقلًا" وجعلوه من قيس بن ثعلبة. وقالوا: إن من حماقته وعيّه أنه اشترى عنزًا من الظباء بأحد عشر درهمًا، فقيل: بكم اشتريتها؟ فأطلق كفّيه ومدّ أصابعه وأخرج لسانه، أي: يعده بلسانه وأصابعه، فنفرت العنز، فعُير بذلك. وفيه يقول الشاعر: يلومون في حمقه باقلًا ... كأن الحماقة لم تخلق1

_ 1 شمس العلوم "الجزء الأول، القسم الأول "ص179".

فهرس الجزء السادس عشر:

فهرس الجزء السادس عشر: الفصل الثامن والعشرون بعد المائة القصص 5 الفصل التاسع والعشرون بعد المائة الطب والبيطرة 14 الفصل الثلاثون بعد المائة الهندسة والنوء 53 الفصل الحادي والثلاثون بعد المائة الوقت والزمان 70 الفصل الثاني والثلاثون بعد المائة الأشهر الحرم 105

الفصل الثالث والثلاثون بعد المائة النسيء 122 الفصل الرابع والثلاثون بعد المائة التقاويم والتواريخ 143 الفصل الخامس والثلاثون بعد المائة اللغات الساميّة 159 الفصل السادس والثلاثون بعد المائة العربية لسان آدم في الجنّة 171 الفصل السابع والثلاثون بعد المائة لغات العرب 196 الفصل الثامن والثلاثون بعد المائة لغة القرآن 229

الفصل التاسع والثلاثون بعد المائة العربية الفصحى 258 الفصل الأربعون بعد المائة اللسان العربي 305 الفصل الحادي والأربعون بعد المائة المعربات 328 الفصل الثاني والأربعون بعد المائة النثر 367 الفصل الثالث والأربعون بعد المائة الخطابة 405 الفهرست 430

المجلد السابع عشر

المجلد السابع عشر الفصل الرابع والأربعون بعد المئة: الأعراب والعربية واللحن الاعراب والعربية ... الفَصْلُ الرَّابعُ والأربعونَ بعدَ الْمِائَةِ: الإعْرَابُ والْعَرَبِيَّةُ واللَّحْنُ الإعراب والعربية: ولا بد لنا وقد تحدثنا عن لغات العرب وعن العربية الفصحى من التحدث عن "الإعراب" لما له من صلة بها. فأقول الإعراب في تعريف علماء اللغة: الإبانة والإفصاح عن الشيء. يقال للعربي: أعرب لي أي بَيِّنْ لي كلامك. وأعرب الكلام وأعرب به بَيَّنَهُ. روي عن النبي أنه قال: "الثيب تعرب عن نفسها"، أي تفصح. وفي رواية أخرى: "الثيب يعرب عنها لسانها، والبكر تستأمر في نفسها". وإنما سمي الإعراب إعرابًا لتبيينه وإيضاحه. ومن هنا يقال أفصح وأبان. وعَرَّبَهُ: علمه العربية. "وفي حديث الحسن أنه قال له البتي: ما تقول في رجل رُعِفَ في الصلاة؟ فقال الحسن: إن هذا يعرب الناس، وهو يقول رُعِفَ، أي يعلمهم العربية، إنما هو رعف". وتعرب واستعرب: أفصح، قال الشاعر: ماذا لقينا من المستعربين ومن ... قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا1 وعرف الإعراب، بأنه أن لا تلحن في الكلام. يقال أعرب كلامه إذا لم

_ 1 اللسان "1/ 588 وما بعدها"، "عرب"، تاج العروس "1/ 370 وما بعدها".

يلحن في الإعراب1. فربطوا هنا بين الإعراب واللحن. وذكروا أيضًا "أن الإعراب الذي هو النحو، إنما هو الإبانة عن المعاني والألفاظ"2، "وإنما سمي الإعراب إعرابًا، لتبيينه وإيضاحه"3، "وعرَّب منطقه أي: هذَّبه من اللحن"4. وروي عن أبي هريرة قوله: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه"، والمراد بالغريب أن تكون اللفظة حسنة مستغربة في التأويل، لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس. وقد عدُّوا من ذلك في القرآن كله سبعمائة لفظة أو تزيد قليلا 5. ورد في تأريخ "الطبري" أن رجلا من العباديين مَرَّ بجمع من المسلمين أصابوا جرابًا من "كافور" فحسبوه ملحًا، فأخذوا يلقون منه طعامهم، فقال لهم: "يا معشر المعربين، لا تفسدوا طعامكم، فإن ملح هذه الأرض لا خير فيه"6 فاستعمل المعربين في معنى العرب، ولعل العبادين، وهم نصارى الحيرة كانوا يطلقون على العرب الخلص معربين، لوضوح لسانهم بالنسبة لغيرهم ممن كان لا يعرب على طريقة العرب الخلص من أهل البوادي. وقد ذهب "ابن فارس" إلى وجود "الإعراب" عند العرب العاربة، إذ يقول: "وزعم قوم أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وأنهم لم يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا نصبًا ولا همزًا"7. وقد رد على من أنكر وجود الإعراب عن العرب قبل الإسلام8، وأورد حديثًا في ذلك، إذ قال: "وقد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أعربوا القرآن"9. وقد ورد أن عمر بن الخطاب، وجَّه كتابًا إلى أبي موسى الأشعري، عامله على البصرة فيه: "أما بعد، فتفقهوا في السُّنَّة، وتفقهوا في العربية،

_ 1 تاج العروس "1/ 372"، "عرب". 2 تاج العروس "1/ 371"، "عرب"، اللسان "1/ 589"، "صادر"، "عرب". 3 اللسان "1/ 588"، "عرب". 4 المصدر نفسه "1/ 589"، "عرب". 5 الرافعي "2/ 57". 6 الطبري "3/ 497". 7 الصاحبي "35". 8 الصاحبي "37" وما بعدها. 9 الصاحبي "66"، "أعربوا القرآن، فإنى عربي"، الزينة "117" وما بعدها.

وأعربوا القرآن، فإنه عربي، وتمعددوا فإنكم معديون"1، ووجه إليه كتابًا آخر فيه، "أما بعد، فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفقهوا في العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"2. غير أن من العلماء من فسر الإعراب في القرآن بأن المراد به معرفة معاني ألفاظه، وليس المراد به الإعراب المصطلح عليه عند النحاة وهو ما يقابل اللحن3. وعرف الإعراب، بأنه: "الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يعرف الخبر الذي هو أصل الكلام، ولولاه ما ميز فاعل من مفعول، ولا مضاف من منعوت، ولا تعجب من استفهام، ولا صدر من مصدر، ولا نعت من تأكيد. وذكر بعض أصحابنا أن الإعراب يختص بالإخبار. وقد يكون الإعراب في غير الخبر أيضًا، لأنَّا نقول: أزيدٌ عندك؟ وأزيدًا ضربت؟ فقد عمل الإعراب وليس هو من باب الخبر"4، فبالإعراب تميز المعاني ويوقف على أغراض المتكلمين5. وأنواع الإعراب رفع، ونصب، وجر، وجزم، فالإعراب عبارة عن الحركات6. وقد جعل الإعراب من العلوم الجليلة التى اختصت بها العرب7. والإعراب في الواقع، هو التعرب، أي التكلم بالعربية وفق طريقة العرب الخلص في مراعاة أواخر الكلم، ومراعاة التصرف الإعرابي. والإعراب في نظري، أن يتكلم الإنسان بطريقة العرب في كلامهم، وذلك بأن يبين وفقًا لقواعد لسانهم، وقد عرفنا ورود لفظة "عرب" و "عربية" في النصوص الآشورية واليونانية والسريانية، فالإعراب إذن من هذا الأصل، أي من العربية، ثم أطلق على النطق وفقًا لأساليب العرب في كلامهم ووفقًا لقواعد لسانهم.

_ 1 كنز العمال "5/ 228"، خورشيد أحمد فارق، حضرت عمر "135"، "القسم العربي". 2 حضرت عمر "139 وما بعدها"، "القسم العربي". 3 السيوطي، الإتقان "2/ 3". 4 ابن فارس، الصاحبي "66، 77". 5 الصاحبي "190 وما بعدها". 6 السيوطي، الأشباه والنظائر "1/ 72 وما بعدها". 7 المزْهِر "1/ 327".

وللوقوف على معنى: "العربية"، يجب الرجوع إلى ما ورد عنها في الأخبار. فقد ورد أن الرسول "دخل المسجد فرأى جمعًا من الناس على رجل، فقال: ما هذا؟ قالوا: يا رسول الله، رجل علَّامة، قال: وما العلَّامة؟ قالوا: أعلم الناس بأنساب العرب، وأعلم الناس بعربية، وأعلم الناس بشعر، وأعلم الناس بما اختلف فيه العرب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر" 1. وهو خبر يرجع سنده إلى أبي هريرة. ووردت اللفظة في روايات أخرى يرجع الرواة زمانها إلى أيام الخليفة "عمر بن الخطاب". فقد روي عن "عثمان المهري"، أنه قال: "أتانا كتاب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ونحن بأذربيجان يأمرنا بأشياء، ويذكر فيها: تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة"2. وقد روي أن أعرابيًا سمع قارئًا يقرأ: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} بجر رسوله، فتوهم عطفه على المشركين. فقال: أَوَ بَرِئ الله من رسوله؟ فبلغ ذلك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأمر أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية"3. وروي أن الخليفة المذكور، كتب إلى "أبي موسى الأشعري"، يوصيه، فكان مما قاله له: "خذ الناس بالعربية، فإنه يزيد في العقل ويثبت المروءة"4. ونسبت إلى "عمر" رسائل أخرى، ذكر أنه وجهها إلى عاملة المذكور فيها: "أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي وتمعددوا فإنكم معديون"5. و"أما بعد: فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"6، أو أنه قال: "تفقهوا في الدين، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وتعلموا العربية"7. وفسر "الحسن" العربية، بأنها التنقيط، أي

_ 1 ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين "1/ 87". 2 صبح الأعشى "1/ 168". 3 صبح الأعشى "1/ 169". 4 اللسان "1/ 155"، "مرأ"، تاج العروس "1/ 117"، "مرأ"، خورشيد أحمد فارق "141"، "النص العربي". 5 كَنْزُ العُمَّال "5/228"، خورشيد أحمد فارق "139"، "النص العربي". 6 القِفْطي، إنباه "1/ 16"، خورشيد أحمد فارق "139". 7 السجستانى، المصاحف "142".

أن ينقط المصحف بالنحو1. وذكر أن النبي قال: "عليكم بتعلم العربية، فإنها تدل على المروءة وتزيد في المودة"2. وروي أن عمر كتب: "أما بعد: فإني آمركم بما أمركم به القرآن، وأنهاكم عنه محمد، وآمركم باتباع الفقه والسنة والتفهم في العربية"3، و "مُرْ من قبلك بتعلم العربية، فإنها تدل على صواب الكلام، ومُرْهم برواية الشعر، فإنه يدل على معالم الأخلاق"4. وورد أن "عبد الله بن مسعود" كان يتعاطى العربية والشعر، وقد كان يسأل في ذلك "زر بن حُبَيش"، وكان من أعرب الناس5. "قال عاصم: كان من أعرب الناس. وكان ابن مسعود يسأله عن العربية"6. وورد: "كان بعض اليهود قد علم كتاب بالعربية، وكان تعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول"7. وورد أن أهل الحيرة كانوا يتعلمون "العربية" في الكتاتيب، وأن لهم ديوانًا يكتب بالعربية، كما كان للفرس ديوان يدون الرسائل إلى العرب بالعربية، وأن أهل الأنبار كانوا يكتبون بالعربية ويتعلمونها. وبعد، فما هي تلك العربية التى كان "العلَّامة؟ " المزعوم يعلمها في المسجد وكان من أعلم الناس بها؟ وما هي تلك العربية التى كان الخليفة يوصي حكامه وأصحابه بأخذ الناس بها؟ أو العربية التى علمها اليهود بيثرب؟ عربية بمعنى الإبانة والإفصاح وتحريك الفم تحريكًا كفيلا بإخراج الحروف من مخارجها إخراجًا واضحًا؟ أم عربية أخرى؟ أم عربية الكتابة أي: تقليم الخط، أم بالمعنى الذي دفع "أبا الأسود" على وضع العلامات لضبط الحركات ولصيانة الألسنة من الوقوع في اللحن. ولو سألتني رأيي، لقلت لك حالا: إنها العربية الثانية. العربية الكفيلة بضبط الألسنة وتعليمها كيفية النطق الصحيح وفقًا لقواعد العربية، أي الإعراب وتفسير معانى الألفاظ، أي اللغة، وأوضح دليل على ما أقوله، ما جاء في الرواية المتقدمة من أن "عمر بن الخطاب" لما سمع خطأ الأعرابي

_ 1 السجستاني، المصاحف "142". 2 الفائق "3/ 153". 3 خورشيد أحمد فاروق "140"، "النص العربي". 4 كنز العمال: "5/ 241"، خورشيد أحمد فارق "140". 5 ابن سعد "6/ 71". 6 الإصابة "1/ 560"، "رقم2971". 7 فتوح البلدان، للبلاذري "459"، المعارف لابن قتيبة "192".

الفاحش في قراءة الآية أَمَر "أن لا يقرأ القرآن إلا من يحسن العربية"، ومن وصيته بأخذ الناس بالعربية، ومن قوله أيضًا: "تعلموا الفرائض والسنن واللحن كما تعلمون القرآن"، و"تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب في القرآن"، أو "تعلموا اللحن والفرائض فإنه من دينكم"1. فلم يكن خطأ "الأعرابي" هو خطأ في كيفية إخراج الحروف من مخارجها، ولا في كيفية الإفصاح وإبانة الكلم، وإنما في جره رسوله، وتوهمه عطفها على المشركين، مما أخرج الآية إلى عكس ما أراده الله منها. أي غلطه في اللغة، ولهذا فزع الخليفة فحثَّ الناس على تعلم العربية، لتكون دليلا لمن يتعلمها وهاديًا له في صون لسانه من الوقوع في الخطأ، وفي هذا الحث دلالة على وجود علم سابق عند العرب بكيفية حفظ الألسنة من الوقوع في الخطأ ومجانبة القواعد العامة. ويعود هذا العلم إلى ما قبل الإسلام. أضف إلى ذلك ما ذكرته سابقًا من قول عمر: "أما بعد: فتفقهوا في الدين، وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"2. فإذا صح هذا الخبر دل على وجود الإعراب في زمن عمر، وعلى أن المراد من الإعراب الذي كلف "أبا الأسود" أن يعلم أهل البصرة به، هو النحو، أي قواعد صيانة اللسان من الوقوع في الخطأ في الكلام. ولو تساهلنا فأخذنا "العربية" الواردة في قول "عمر" وغيره بالمعنى اللُّغوي الظاهر في اللفظة، وهو الإفصاح والإبانة وإخراج الكلم حسب أصول النطق عند العرب، فإن هذا المحمل يحملنا على الذهاب إلى وجود علم سابق، كان الناس يراعونه ويسيرون بمقتضى اعتباراته وقواعده في كيفية النطق بالكلم، ويسمونه: العربية. ويتبين مما ذكره أهل الأخبار من أن "أبا الأسود" "كان أول من وضع العربية"3، أن مرادهم من العربية المذكورة هذه العلامات التى تدل على الرفع

_ 1 اللسان "13/ 381"، "لحن"، صبح الأعشى "1/ 148". 2 القفطي، إنباه "1/ 16"، خورشيد أحمد فارق "139". 3 المعارف "434"، الصاحبي "37".

والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون، تلك العلامات التى استعملها في المصحف، وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسَمَّوا كلامهم نحوًا سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود 1. وبهذا المعنى نستطيع فهم ما ورد في الحديث والأخبار من وجوب الإعراب في القرآن. أي إظهار حركات الكلم عند القراءة. فالعربية، تعنى النحو. "ولما وضع أبو الأسود النحو وأطلق عليه لفظ العربية"2، كان يقصد منه صيانة اللسان من الخطأ، والنطق بصحة. فقد ورد أن الرسول قال: أعربوا القرآن، أو أعربوا القرآن فإنه عربي، وأن "عمر بن الخطاب" "قال: تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه3"، وروي أنه قال: "تعلموا النحو كما تعلمون السنن والفرائض"4. وبهذا المعنى وردت "العربية" في حديثهم عن الشاعر عدي بن زيد العبادي، فقد ذكروا أنه تعلم "العربية" في كتاب بالحيرة حتى غدا من أكتب الناس بها، فلما حذق ومهر فنه بالعربية، أرسل إلى كتاب الفارسية، فتعلم مع أولاد المرازبة5. وذكروا أنه "قرأ كتب العرب والفرس"6، إذ لا يعقل أن يكون مرادهم تعلم حروف الهجاء وحدها، أو الخط، أو مجرد معاني الألفاظ. وقد تحدثت عن التنقيط عند أهل الكتاب في أثناء حديثي عن نشأة الخط العربي. ويظهر أن كتاب المصاحف، لم يكونوا على اتفاق في موضوع العواشر، أي تعشير القرآن، والتنقيط والخواتم، والفواتح، والألفاظ المفسرة في المصحف، بدليل ما ورد عنهم من اختلاف رأي في هذا الموضوع، فمنهم من كان يأمر بتجريد القرآن من كل ذلك ومنهم من جوَّز، ومنهم من كره نقط القرآن بالنحو7.

_ 1 ضحى الإسلام "2/ 287". 2 الرافعي، تاريخ آداب العرب "1/ 326". 3 الزينة "117 وما بعدها". 4 البيان والتبيين "2/ 219". 5 الأغاني "2/ 96 وما بعدها"، "دار الكتب المصرية"، شعراء النصرانية "1/ 441". 6 الطبري "2/ 193"، "دار المعارف". 7 السجستاني، المصاحف "138 وما بعدها".

وقد اختلف العلماء في تفسير معنى جملة "يريد أن يعربه فيعجمه" الواردة في شعر ينسب لِرُؤْبَة ويقال للحُطَيئة، هو: الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به إلى الحضيض قدمه وقوله: والشعر لا يسطيعه من يظلمه ... يريد أن يعربه فيعجمه فذهب بعضهم إلى أن مراد الشاعر أنه يأتى به أعجميًّا، يعنى يلحن فيه، وقيل يريد أن يبينه فيجعله مشكلا لا بيان له، وقيل أزال عجمته بالنقط1. والذي أراه أن قول العلماء: "العجم النقط بالسواد مثل التاء عليها نقطتان، يقال: أعجمت الحرف والتعجيم مثله"، وقولهم: "معجم الخط هو الذي أعجمه كاتبه بالنقط، تقول: أعجمت الكتاب أعجمه إعجامًا"2، هو تعريف يجب أن يكون قد وضع بعد وضع الإعجام، أي التنقيط، فإذا كان الإعجام من وضع "أبي الأسود" الدؤلي، فيجب أن يكون ظهوره منذ أيامه فما بعد، أما إذا كان قبله فيجب أن يكون من مصطلحات الجاهليين. ويذكر علماء اللغة أن "أعجم الكتاب خلاف أعربه، أي نقطه" فأزال الكاتب عجمة الكتاب بالنقط3. ومعنى هذا أن النقط قد أزال الغشاوة عن الحروف المعجمة، أي المتشابهة في الشكل، بوضع النقط فوقها، فصارت حروفًا معربة واضحة. ولولا الإعجام لما استبان الكلام، ولوقع سوء الفهم واللبس في كثير من الألفاظ التى ترد فيها الحروف المعجمة، ففي الإعجام لبس ووقوع في خطأ، وفي اللحن مثل ذلك أيضًا، ولهذا أرى وجود صلة كبيرة بين اللحن، الذي هو الخطأ في الكلام، بسبب الجهل بالإعراب. وقد رأيت قول العلماء: "أعجم الكتاب خلاف أعربه"، أي وضحه وصححه بالنقط. فبين الاثنين ترابط في. الأصل، فالإعجام خلاف الإعراب، واللحن خلاف الإعراب كذلك.

_ 1 تاج العروس "8/ 390"، "عجم". 2 تاج العروس "8/ 390"، "عجم". 3 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".

وقد صار النقط، أو وضع الحركات على الحروف لإرشاد القارئ إلى القراءة الفصيحة الصحيحة، ضرورة لازمة، بدونها قد يخطئ الإنسان فهم المعنى، وقد يقع في أخطاء جسيمة لو أخليت الكتابة من النقط والإعجام. وقد ضرب العلماء الأمثال على أخطاء وقع بها الناس بسبب طريقة الكتابة القديمة التي لم تكن تنقط الحروف ولا تعجمها، فكان القارئ يقع في أخطاء. والإعراب بعد، لا يختص بالعربية وحدها، بل نجد آثاره في لغات سامية أخرى، وإنما ظهر وعرف في عربيتنا، لأن اللغات الأخرى قد ماتت في الغالب، فلم يبق أحد من الناطقين بها، لنتبين كلامه، ولأن نصوصها غير مشكلة، وهي خالية من الحروف التي تدل على الشكل والحركات، لذلك لا نستطيع التحدث عن وجود الإعراب بها. ولكن بعض النصوص البابلية تشير إلى وجود الإعراب بها، واللاتينية مع أنها من اللغات الآرية فهي لغة معربة، يراعي الكاتبون والمتكلمون بها خصائص الإعراب، واليونانية القديمة هي معربة كذلك. ويخيل لي أن معظم لغات الأدب في العالم القديم كانت تراعي الإعراب، لترتفع بذلك عن ألسنة العامة، ولتكون اللسان الرفيع الذي يخاطب الإنسان به أربابه، ثم خفت حدة الإعراب فيما بعد، مجاراة لتطور العقل الإنساني. ونجد معظم الشعوب في الوقت الحاضر، تبسط لغتها وتختزل قواعدها وجمل كلامها ليتناسب الكلام مع عقلية السرعة التي أخذت تسيطر على الإنسان الحاضر. وما قلته عن اللغات الأخرى من صعوبة التكلم عن إعرابها، بسبب عدم وجود نصوص مشكلة عندنا تشير إلى طرق الإعراب بها، ينطبق كذلك على اللغات العربية الجنوبية، وعلى اللغات الأخرى، مثل الصفوية، والثمودية واللحيانية، لعدم وجود الحركات بها أو العلامات الدالة على الإعراب. وخلو هذه اللغات من العلامات التي تقوم الإعراب، لا يمكن أن يُتَّخذ دليلا على عدم وجوده في تلك اللغات، لأن العماد في الإعراب، هو بالنطق في اللسان، وهو ما لا يمكن استخراجه من الكتابة العربية الجنوبية، فاللسان هو الذي يشكل ويحرك الألفاظ وفق مقتضيات قواعد الألسنة: أما النبطية، وهي من اللهجات العربية الشمالية، ففيها ظواهر بارزة تشير إلى أنها كانت لغة معربة، وهي في نظري أقرب اللغات العربية الجاهلية إلى عربية القرآن الكريم، فالأسماء في النبطية، معروفة في عربيتنا قليلة في العربيات الأخرى، وهي قريبة من هذه العربية في أمور أخرى نحوية وصرفية.

اللحن

اللَّحْنُ: من معاني اللحن: اللغة. "روي أن القرآن نزل بلحن قريش، أي بلغتهم، وفي حديث عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض والسنة واللحن، بالتحريك، أي اللغة"1، ومنه قول "عمر": "تعلموا الفرائض والسنن واللحن، كما تعلمون القرآن"2. ومن معانيه الخطأ في الكلام. "قال أبو عبيد في قول عمر -رضي الله تعالى عنه: تعلموا اللحن -أي الخطأ في الكلام- لتحترزوا منه"، وورد: "وأما قول عمر رضي الله عنه: تعلموا اللحْن والفرائض، فهو بتسكين الحاء، وهو الخطأ في الكلام. قال أبو عدنان: سألت الكلابيين عن قول عمر: تعلموا اللحن في القرآن كما تعلمونه، فقالوا: كُتِب هذا عن قوم ليس لهم لغوٌ كلغونا، قلت: ما اللَّغو؟ فقال: الفاسد من الكلام. وقال الكلابيون: اللحن اللغة. فالمعنى في قول عمر: تعلموا اللحن فيه، يقول: تعلموا كيف لغة العرب فيه الذين نزل القرآن بلغتهم"3، "وجاء في رواية تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب بإعرابها"4، ووردت اللفظة بمعان أخرى. وقد أجمل العلماء ما جاء فيها من معانٍ بستة معانٍ: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى5. وقد ذكر أن الرسول لما أرسل "سعد بن معاذ"، وهو يومئذ سيد الأوس و"سعد بن عبادة"، وهو يومئذ سيد الخزرج إلى "كعب بن أسد"، وكان قد نقض عهده الذي عهده للرسول وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله، قال لهما:"انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقًّا فالحنوا إلى لحنًا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس"، فلما أتياهم وجداهم على أخبث ما بلغهما

_ 1 اللسان "13/ 380 وما بعدها"، "لحن"، تاج العروس "9/ 331"، "لحن"، الفائق "2/ 99"، "2/ 457". 2 الأمالي، للقالي "1/ 5". السيوطي، الإتقان "2/ 260". 3 اللسان "13/ 380 وما بعدها" "لحن". تاج العروس "9/ 331"، "لحن". 4 اللسان "13/ 381"، "لحن". تاج العروس "9/ 331"، "لحن". 5 اللسان "13/ 381"، "لحن". تاج العروس "9/ 331"، "لحن".

عنهم، نالوا من رسول الله، "وقالوا: من رسول الله! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد"، فلما عادا إلى رسول الله قالا: "عضل والقارة. أي كغدر عضل والقارة"، فاللحن هنا بمعنى الإيماءة والإشارة والرمز1، فاللحن هنا أن تريد الشيء فتوري عنه2. والذي أريده من اللحن، الخطأ في الكلام، والزيغ عن الإعراب، وهو معنى لا نستطيع فهمه من النصوص الجاهلية، لخلو تلك النصوص من الحركات، ومن الإشارة إلى قواعد لغاتها. ولذلك فلا مناص لنا لفهمه إلا بالرجوع إلى الموارد الإسلامية. وهي تذكر أن اللحن بهذا المعنى، لم يظهر إلا في الإسلام، ظهر بسبب دخول الأعاجم في دين الله، واختلاطهم بالعرب، وأخذهم لغتهم واتصال العرب بهم، ففسدت الألسنة، وظهر اللحن بين الموالي وبين العرب. وقد عيب ظهوره في العربي، حتى عُيِّرَ من ظَهَر اللحن على لسانه، فلما فشا وكثر، صار شيئًا مألوفًا حتى غلب على ألسنة الناس. وهم يذكرون أن العربي القُحُّ الأصيل، لم يكن يخطئ في كلامه، لأنه يتكلم عن طبع وسجية، ومن كان هذا شأنه، لا يقع اللحن في كلامه، أو لأنهم كانوا يتأملون مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة3. يقول العلماء: وكان أول لحن ظهر بين العرب على عهد النبي، فقد رووا أن الرسول سمع رجلا يقرأ فلحن، فقال: ارشدوا أخاكم4، أو ارشدوا أخاكم فإنه قد ضل5، ثم فشا وانتشر في مواضع الاختلاط خاصة، حيث اختلط العجم بالعرب، كالعراق وبلاد الشام ومصر، حتى دخل أعمال الحكومة، فأخطأ الكتاب في النحو، وأفحشوا في الإعراب، فكتب كاتب من كتاب "أبي موسى" الأشعري كتابًا فيه، "من أبو موسى ... " أو ما شابه ذلك من خطأ في القول، فكتب "عمر" إلى عامله: "سلام عليك. أما بعد

_ 1 الروض الأُنُف "2/ 190"، ابن هشام، سيرة "2/ 190"، "حاشية على الروض". 2 الأمالي: للقالي "1/ 6". 3 الرافعي "1/ 240"، "وبهذا الاعتبار نقطع بأن اللحن لم يكن في الجاهلية البتة". الرافعي "1/ 242". 4 كنز العمال "1/ 151". 5 ابن جني: الخصائص "2/ 8"، "دار الكتب".

فاضرب كاتبك سوطًا واحدًا، وأخر عطاءه سنة"1: أو "إذا أتاك كتابي هذا، فاجلده سوطًا واعزله عن عملك"2، أو "قنع كاتبك سوطًا"3، أو: "إن كاتبك الذي كتب إلى لحن، فاضربه سوطًا"4، وذكر "الجاحظ"، أن "الحصين بن أبي الحر" كتب إلى "عمر" كتابًا "فلحن في حرف منه، فكتب إليه عمر: أن قنع كاتبك سوطًا". وسبب ذلك أنهم كانوا يرون أن اللحن عيب مشين. قال "عبد الملك بن مروان": اللحن هجنة على الشريف، والعُجْب آفة الرأي. وكان يقال: اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه"5. ولا يمكن تفسير قول القائل أن "اللحن بمعنى الخطأ محدث، لم يكن في العرب العاربة الذين تكلموا بطباعهم السليمة"6، إلا أن يكون مراده أن الجاهليين كانوا يتكلمون بطباعهم السليمة بلغاتهم، كل يتكلم بلغته، ووفق سجيته ولسانه الذي أخذه من بيته، فهو ينطق وفق ما سمع وحفظ، فلا يلحن في الكلام بلسانه الذي أخذه من أهله، وهو رأي أقول إنه على الجملة مقبول معقول. أما إذ أريد به، أن العرب كانوا جميعًا يتكلمون بلسان واحد، فلا يخطئ أحدهم فيه ولا يلحن، فإن ذلك يتعارض مع قولهم بوجود اللغات، وبأن تلك اللغات كانت تتباين في أمور كثيرة في جملتها قواعد في النحو والإعراب، كما في "ذي" الطائية، وفي إعراب المثنى بالألف مطلقًا، رفعًا ونصبًا وجرًّا وذلك في لغة "بلحرث" و "خثعم" و "كنانة"، فيقولون: جاء الرجلان، ورأيت الرجلان، ومررت بالرجلان7، وكما في "كم" الخبرية، حيث ينصب "بنو تميم" تمييز "كم"، ولغة غيرهم وجوب جره وجواز إفراده وجمعه، وكما في إعراب "الذين" من أسماء الموصول إعراب جمع المذكر السالم في لغة

_ 1 مراتب النحْويين "6"، الرافعي "1/ 243". 2 كنز العمال "5/ 224"، حضرت عمر "137"، "القسم العربي". 3 أدب الكتاب، للصولي "129"، حضرت عمر "138". 4 حضرت عمر "138". 5 البيان والتبيين "2/ 216". 6 ابن فارس، معجم مقاييس اللغة "5/ 239". 7 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 144 وما بعدها".

"هذيل"، أو "عقيل" وفي قول بعضهم: هذه النخيل. وقول بعض آخر: هذا النخيل إلى غير ذلك من مواطن خلاف وتباين بحث فيها العلماء1، لا مجال للبحث فيها في هذا المكان، ووجود هذا الاختلاف، هو دليل في حد ذاته على خروج القبائل على قواعد اللغة، والخروج على القواعد هو اللحن. لقد أقر علماء العربية بوجود خلاف بين القبائل المتكلمة بلهجات عربية شمالية، وقد أشرت إلى مواضع ذكروها في هذا الباب، وكشف علماء النحو عن خلاف في قواعد النحو في مثل اختلاف القبائل في التذكير والتأنيث، كما في مثل الطريق والسوق والسبيل والتمر، فهي ألفاظ مؤنثة عند أهل الحجاز، وهي مذكرة عند قبائل أخرى، وكشفوا عن أمور أخرى، إن تكلم المتكلم أو كتب بها عَدَّ صدور ذلك لحنًا منه، فهل يعد العربي المتكلم بلهجة من هذه اللهجات المخالفة مخالفًا لقواعد العربية، أي لَحَّانًا، كما نعدُّ الأعجمي الذي يقع في الخطأ نفسه، أم نعده فصيحًا، عربي اللسان والسليقة؟ أما الأعجمي الذي يقع في الخطأ ذاته فنعده لحانًا لحنة! لقد ذكروا أن الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يخاطبهم جميعًا على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم، وعلى ما في لغاتهم من اختلاف الأوضاع وتفاوت الدلالات في المعاني اللُّغوية، على حين أن أصحابه -رضوان الله عليهم- ومن يَفِدُ عليه من وفود العرب الذي لا يوجه إليهم الخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي بن طالب -كرم الله وجهه- وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره؟ فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات"2، فهل يعقل بعد، أن يقال إن العربي كان لا يلحن ولا يخطئ في كلامه ولا يزيغ عن العربية المبينة، والعرب هم على ما هم عليه من اختلاف اللهجات، الذي يدفع حتمًا على وقوع اللحن، لو تكلموا بالعربية القرآنية، أي هذه العربية التي يسميها علماء اللغة لغة قريش، والتي هي اللسان العربي المبين على تسمية القرآن لها.

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 120 وما بعدها". 2 المزهر "1/ 325".

ثم كيف نفسر حديث: "أرشدوا أخاكم"، أو "أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل" مع قولهم إن العربي لا يخطئ في كلامه ولا يلحن، لأنه يتكلم عن طبع وسليقة، ولم يكن هذا الذي لحن أمام الرسول، أعجميًّا، وإنما كان عربيًّا، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف وقع اللحن إذن؟ ثم كيف نفسر خبر سماع الإمام "علي" أعرابيًّا، وهو يلحن في القرآن ويقرأ: "لا يأكله إلا الخاطئين"1، أو خبر ذلك الأعرابي الذي قرأ "أن الله بريء من المشركين ورسولِه" بالجر، لأن رجلا من أهل المدينة أقرأه إياها على هذا النحو، فبلغ ذلك "عمر"، فأمر ألا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو2، والأعراب هم لب العرب، وصفوتهم في الكلام، فكيف وقع هذا الأعرابي في اللحن يا تُرَى؟ ثم كيف نفسر قول من زعم أن في القرآن آيات فيها لحن، مثل: "إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ"3 {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 4، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} 5، ومواضع أخرى تحتاج إلى تأويل ليستقيم إعرابها6، أو إلى إصلاح إملائها لتنجو من اللحن7. ثم كيف اختلف قراء القرآن في نصب "الطير" في الآية: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} أو رفعها8، واختلافهم في ضم الفاء أو فتحها في الآية: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 9، واختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} 10، وغير ذلك من مواضع اختلاف، اختلف فيها القراء، مع كونهم من العرب الأَقْحَاح. ثم كيف نفسر اضطراب العلماء وذهابهم مذاهب في قراءة الآية: {قَالُوا

_ 1 نزهة الألباء "8"، "محمد أبو الفضل إبراهيم". 2 المصدر نفسه. 3 [طه، الآية: 63] . 4 [النساء، الآية: 162] . 5 [المائدة، الآية: 69] . 6 السيوطي، الإتقان "2/ 269". 7 السيوطي، الإتقان "2/ 271". 8 [سبأ: 34، الآية: 10] . تفسير الطبري "22/ 46" وما بعدها". 9 [التوبة، الآية: 128] ، تفسير الطبري "11/ 55"، تفسير الآلوسي "11/ 47". 10 [سورة الروم، الرقم: 30، الآية: 1 وما بعدها] .

{إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} 1، وتأويلهم القراءة جملة تأويلات، لأن القاعدة النحوية تقول: "إنَّ هذين" بينما القراءة: "إنَّ هذان"، فعلَّلوها جملة تعليلات، منها أن هذه القراءة نزلت بلغة "بني الحارث بن كعب" ومن جاورهم يجعلون الاثنين، أي المثنى في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف، كما في قول بعض "بني الحارث بن كعب": فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغًا لناباه الشجاع لصمما وقيل إن القراءة، هي قراءة بلحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد ومن وليهم من اليمن2. ونسبها "الزجاج" إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة3. ثم ما ورد في خبر آخر عن سعيد بن جبير، من قوله: "في القرآن أربعة أحرف لحن: {الصَّابِئُون} 4، {وَالْمُقِيمِين} 5، {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} 6، {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} 7" إلى غير ذلك من أخبار. ثم ما ورد من قول "عثمان": "إن في القرآن لحنًا، وستقيمه العرب بألسنتها"، وأمثال ذلك8، وما ذكر من أن "أبا بكر"، كان يستحب أن يسقط القارئ الكلمة من قراءته على أن يلحن فيها9، أفلا يدل هذا الخبر، على أن اللحن كان معروفًًا ومتفشيًا في عهد "أبي بكر"، وما روي في رواية تقول: "لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان -رضي الله عنه- فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها، أو قال ستعربها بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف

_ 1 [سورة طه، الرقم: 20، الآية: 63] . 2 تفسير الطبري "16/ 136 وما بعدها". 3 تفسير النيسابوري "6/ 118"، "حاشية على تفسير الطبري". السيوطي، الإتقان "2/ 273". 4 [المائدة، الرقم: 5، الآية: 72] . 5 [النساء، الرقم: 4، الآية: 161] . 6 [المنافقون، الرقم: 63، الآية: 10] . 7 [سورة طه، الرقم: 20، الآية: 63. السيوطي، الإتقان "2/ 273". 8 المصاحف "33"، السيوطي، الإتقان "2/ 273 وما بعدها". 9 الرافعي "1/ 240".

والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه"1، ثم ما ورد من وقوع اللحن من عرب أقحاح، ومنهم من ولي الحكم وإدارة أمور المسلمين2، ومنهم ابنة "أبي الأسود الدؤلي" التي لحنت أمامه، فعمل باب التعجب على ما يزعمه الرواة3. وتوحي الأحاديث الواردة في الحث على إعراب القرآن، والكتب التي ألفها العلماء في إعرابه، أن من العرب: من أهل مدر وأهل وبر، من كان يقرأ القرآن بغير إعراب، إما لأن لغته لم تكن معربة، وإما لأن إعرابها كان لا يتجانس مع إعراب القرآن، وسببه أن الجاهليين لم يكونوا يتقيدون جميعًا بقواعد الإعراب، فمنهم من كان يتحلل منه، ومنهم من يعمل به وفق قواعد لغته ولهجته، ودليل ذلك قراءة الصحابة القرآن بألسنتهم، مما سبب في ظهور مشكلة القراءات، وهذا ما أخاف الصحابة، وجعلها تخشى من احتمال ظهور قَرَائِين مختلفة، مما حمل "عثمان" على توحيد لغة القرآن، وتدوين كتاب الله حسب التوصيات التي أعطاها إلى اللجنة التي كلفها بتدوينه. أضف إلى ذلك ما نجده في الكتب من إجازة إصلاح اللحن والخطأ في الحديث. من مثلما نسب إلى الأوزاعي من قوله: "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقوله: "أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عربًا"، ومثل ما نسب إلى "يحيى بن معين" من قوله: "لا بأس أن يقوم الرجل حديثه على العربية" وإلى "ابن أبي رباح" حين سئل عن الرجل يحدِّث بالحديث فيلحن، هل يحدث به كما سمع منه أم يعرِب، فقال لسائله: لا، بل أعربه. وما ورد في أقوال العلماء في جواز أو عدم جواز إصلاح اللحن في الحديث، واختلافهم فيه4، هو دليل على أن من العرب من كان يقع في اللحن أيضًا، وإن اللحن لم يقع من الأعاجم وحدهم.

_ 1 مفتاح السعادة "2/ 277". 2 "وزعم المدائني أن خالد بن عبد الله قال: إن كنتم "رجبيون" فإنا رمضانيون، ولولا أن تلك العجائب قد صحت عن الوليد ما جوزت هذا على خالد". البيان والتبيين "2/ 216". 3 "كان الذي حداه على ذلك أن ابنته قالت له: يا أبت ما أشدُّ الحر، وكان في شدة القيظ، فقال ما نحن فيه! فقالت: إنما أردت أنه شديد. فقال: قولي: ما أشدَّ، فعلم باب التعجب"، الإصابة "2/ 233"، "رقم4329". 4 محمود أبو ريَّة، أضواء على السنة المحمدية "108 وما بعدها".

ثم إن من غير المعقول إلا يقع اللحن من أهل اليمن ومن بقية عرب العربية الجنوبية، الذين كانوا يتكلمون بألسنة عربية جنوبية، رأينا أنها تختلف عن عربيتنا في مفردات الألفاظ وفي وقواعد النحو والصرف. إن كل من صدر منهم اللحن، ممن أشرت إليهم وممن لم أشر، كانوا من العرب، منهم من كان من أهل الْمَدَر، ومنهم من كان من أهل الوَبَر، بهم بدأ اللحن، أما لحن العجم، فقد بدأ بعد اللحن الذي ظهر في أيام الرسول، وفي أيام "عمر" بدأ بالطبع بالفتوح، فلحن العرب إذن أقدم عهدًا من لحن العجم، يؤيد ذلك ما يرويه العلماء من وقوع الشعراء الجاهليين في أخطاء نحوية، هي لحن وخروج على القواعد في نظرهم. والشعراء الجاهليون عرب، ومن لسانهم استمد علماء النحو نحوهم وصرفهم. قد زعموا أن "النابغة" أخطأ في قوله: "في أنيابها السم ناقع"، ولحن لحنًا شنيعًا، وكان عليه أن يقول: "في أنيابها السم ناقعًا"1، أخطأ ولحن على زعمهم، مع أن كلامه حجة عندهم، واستشهدوا به في قواعد النحو والصرف. وأخذ "حفص بن أبي بردة"، وهو من أهل الكوفة ومن أصحاب "حماد" الراوية على "المرقش" أنه كان يلحن، زعم أنه لحن في شعره، وقد أشير إلى زعمه هذا في شعر هجاء هجوه به، هو: لقد كان في عينيك يا حفص شاغل ... وأنف كثيل العود عما تتبع تتبعت لحنًا في كلام مرقش ... وخلقك مبني على اللحن أجمع فعيناك إقواء وأنفك مكفأ ... ووجهك إبطاء فأنت المرقع2 وزعم علماء الشعر، أن "امرأ القيس" حامل لواء الشعر، ومن جاء بعده من الشعراء، مثل: "النابغة"، و"بشر بن أبي خازم"، و"الأعشى"، أقووا في شعرهم، والإقواء: هو اختلاف إعراب القوافي، وهو أن تختلف حركات الروي، فبعضه مرفوع وبعضه منصوب أو مجرور. ويكثر وروده في

_ 1 ضحى الإسلام "2/ 288". 2 الشعر والشعراء "2/ 601". المرزباني، معجم "280"، السمط "3/ 39". يوهان فك "64"، "فعينك أقواء". البيان والتبيين "2/ 215"، الشعر للشاعر "البردخت"، وهو "علي بن خالد الضبي العكلي"، العقد الفريد "2/ 481".

اجتماع الرفع مع الجر، وأما الإقواء بالنصب فقليل. وهو في نظرهم عيب1. وزعموا أن بعضًا من شعراء الجاهلية أكفأوا في شعرهم. والإِكفَاء، المخالفة بين حركات الروي رفعًا ونصبًا وجرًّا، أو المخالفة بين هجائها، أي القوافي: فلا يلزم حرفًا واحدًا تقاربت مخارج الحروف أو تباعدت، ومثله أن يجعل بعضها ميما وبعضها طاء، وقال بعضهم: الإكفاء في الشعر هو التعاقب بين الراء واللام والنون. وهو أحد عيوب القافية الستة التي هي: الإيطاء، والتضمين، والإقواء، والإصراف، والإكفاء، والسناد2. وقد روى أهل الأخبار قصة زعموا أنها وقعت للنابغةن وكان لا يعرف شيئًا عن إقوائه بشعره، فلما وقعت له عرف به فعافه، ذكروا أن الناس خافوا تنبيه الشاعر إلى إقوائه، وبقي هو عليه، حى دخل يثرب، فأرادوا إظهار عيبه له فأمروا قينة لهم أن تغنيه شعره، فغنته: أمن آل مية رائج أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزود زعم البوارح أن رحلتنتا غدًا ... وبذاك حدثنا الغراب الأسود3 ففطن إليه ولم يعد إلى إقواء. "قال أبو عمرو بن العلاء: فَحْلان من الشعراء كانا يُقْوِيان، النابغة وبشر بن أبي خازم، فأما النابغة فدخل يثرب فغني بشعره ففطن فلم يعد للإقواء، وأما بشر فقال له أخوه سوادة: إنك تقوي، قال: وما الإقواء؟ قال: قولك: ألم تر أن طول الدهر يسلي ... وينسي مثل ما نسيت جذامُ ثم قلت: وكانوا قومنا فبغوا علينا ... فسقناهم إلى البلد الشآمِ فلم يعد للإقواء"4.

_ 1 تاج العروس "10/ 307"، "قوي". 2 تاج العروس "1/ 108"، "كفأ". 3 الشعر والشعراء "1/ 106"، "دار الثقافة". 4 الشعر والشعراء "1/ 190"، "دار الثقافة"، الخزانة "2/ 262".

ورويت قصة إقواء "بشر بن أبي خازم" بشكل آخر، فقد زعم أن أخاه "سوادة" قال له: إنك تُقْوِي، قال: وما الإقواء؟ قال: قولك: ألم تر أن طول الدهر يُسلي ... وينسي مثل ما نسيت جذامُ ثم قلت: وكانوا قومنا فبغوا علينا ... فتقناهم إلى البلد الشآم فلم يعد للإقواء"1، أو أن أخاه "سمير"، قال له: "أكفأت وأسأت. فقال: وما ذاك؟ "2. وقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن المصاحف لما كتبت "عرضت على عثمان، فوجد فيها حروفًا من اللحن، فقال: لا تغيروها، فإن العرب ستغيرها -أو قال ستعربها- بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل توجد هذه الحروف"3، وقد كان كل من اختارهم الخليفة لكتابة القرآن من خالص العرب، ولم يكن من بينهم من هو من المولدين أو الموالي، وقد كانوا من الفصحاء الألباء، فكيف وقع منهم اللحن إذن؟ بل زعموا أن "عمر ضرب أولاده لما لحنوا، وأن "معاوية "كلم "عبيد الله بن زياد"، فوجده كيسًا عاقلا على أنه يلحن فكتب إلى والده بذلك4، وزعموا أن "الحجاج" كان يلحن، زعموا أنه لحن في القرآن، فقرأ: "إنا من المجرمون منتقمون"5، وزعموا أنه لحن في آيات أخرى6، والحجاج من ثقيف، ولم يكن أعجميًّا، حتى يظهر اللحن منه، مع إنهم جعلوه أحيانًا من أفصح العرب، ومن لم يلحن في حياته في جد ولا هزل. قال "الأصعمي": "أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 190"، الموشح 59، الخزانة "2/ 262 وما بعدها". 2 مصادر الشعر الجاهلي "49". 3 السيوطي، الإتقان "3/ 270". 4 الفائق "2/ 99"، البيان والتبيين "2/ 210". الخزانة "3/ 14". "بولاق". 5 البيان والتبيين "2/ 218"، "عبد السلام هارون". 6 ابن سلام، طبقات "6"، نزهة الألباء "16 وما بعدها".

يوسف، وابن القرية. والحجاج أفصحهم"1. وزعموا أن "الوليد بن عبد الملك"، وأخاه "محمد بن عبد الملك" كانا لحانين2. ذكر أن "الوليد"، خطب الناس يوم عيد، فقرأ في خطبته "يا ليتُها كانت القاضية" بضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحنا منك3. ورووا قصصًا عن لحنه. وذكر أن "عبد الملك" قال: "أضر بالوليد حبنا له فلم نوجهه إلى البادية، يقصد أنه كان يلحن بسبب عدم إرساله إلى الأعراب ليأخذ عنهم اللسان الفصيح. وقد كان أخوه محمد لحانًا كذلك، وذكر أنه لم يكن في ولد عبد الملك أفصح من هشام ومسلمة4. قال "الجاحظ": "وكان الوليد بن عبد الملك لحنة، فدخل عليه أعرابي يومًا، فقال: أنصفني من ختني يا أمير المؤمنين. فقال: ومن ختنك؟ قال: رجل من الحي لا أعرف اسمه. فقال عمر بن عبد العزيز: إن أمير المؤمنين يقول لك: من ختنك؟ فقال: هو ذا بالباب. فقال الوليد لعمر: ما هذا؟ قال: النحو الذي كنت أخبرتك عنه. قال: "لا جرم فإني لا أصلي بالناس حت أتعلمه"5. وذكر "الجاحظ" أمثلة على اللحن6. وروى أن كتب "الوليد" كانت تخرج ملحونة. فسأل "اسحاق بن قبيصة" حد موالي "الوليد" ما بال كتبكم تأتينا ملحونة وأنتم أهل الخلافة؟ فأخبره المولى بقولي، فإذا كتابٌ قد ورد علي: أما بعد فقد أخبرني فلان بما قلت، وما أحسبك تشك أن قريشًا أفصح من الأشعرين، والسلام"7. وقد ورد في شعر "مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري" قوله: وحديث الذّهُ هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنًا منطق صائب وتلحن أحيا ... نًا وخير الحديث ما كان لحنا وقد ذكر أنه لم يُرِد اللحن في الإعراب الذي هو ضد الصواب، وإنما أراد

_ 1 القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "58". 2 البيان والتبيين "2/ 205". 3 الرافعي "1/ 246". 4 البيان والتبيين "2/ 204 وما بعدها، 216". 5 المحاسن والأضداد "6". 6 المصدر نفسه. 7 البيان والتبيين "2/ 205".

الكناية عن الشيء والعريض بذكره، والعدول عن الإفصاح عنه. قيل: تكلمت " هند بنت أسماء بن خارجة"، أخت الشاعر المذكور فلحنت، وهي عند الحجاج، فقال لها: أتلحنين وأنت شريفة في بيت قيس؟! فقالت: أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصارية؟ قال: وما هو؟ قالت: قال: منطق صائب وتلحن أحيا ... نًا وخير الحديث ما كان لحنًا فقال لها الحجاج: إنما عني أخوك اللحن في القول، إذا كَنَّى المحدث عما يريد، ولم يعن اللحن في العربية، فأصلحي لسانك. غير أن منهم من رأى أن المراد بهذا اللحن، اللحن المخالف لصواب الإعراب1. وقد ذكر "السهيلي"، أن الجاحظ قد أخطأ حين قال في كتابه "البيان والتبيين"، أن الشاعر لم يقصد اللحن الذي هو الخطأ في الكلام وإنما أراد استملاح اللحن من بعض نسائه، وخطَّأه في هذا التأويل2، قال: فلما حدث الجاحظ بحديث "الحجاج"، "قال: لو كان بلغني هذا قبل أن أُؤَلف كتاب البيان، ما قلت في ذلك ما قلت! فقال له: أفلا تغيره؟ فقال: كيف وقد سارت به البغال الشهب، وانجدَّ في البلاد وغار". و"قال السيرافي: ما عرفت حقيقة معنى النحو إلا من معنى اللحن الذي هو ضده، فإن اللحن عدول عن طريق الصواب، والنحو قصد إلى الصواب"3. وذكروا أن بعض شعراء الدولة الأموية كان يلحن، وممن وقع منه اللحن "الفرزدق". رووا أن "عبد الله بن يزيد الحضرمي" البصري، كان ينتقده ويتعقب لحنه، فهجاه الفرزدق، بقوله: فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى المواليا فقال له الحضرمي: لحنت. ينبغي أن تقول مولى موالٍ4.

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 15". الأمالي، للقالي "1/ 5". 2 البيان والتبيين "1/ 147". 3 الروض الأنف "2/ 190". 4 الرافعي "1/ 256".

"وقالوا: تربع ابن جؤية في اللحن، حين قرأ: "هؤلاء بناتي هنَّ أَطْهَرَ لكم"، وجعلوه حالا، يعني: أطهر. وليس هو كما قالوا"1. و"تكلم معاوية بن صَعْصَعَة بن معاوية يومًا، فقال له صالح بن عبد الرحمن: لحنت. فقال له معاوية: أنا ألحن يا أبا الوليد، والله لنزل بها جبريل من الجنة"2. وقد فشا اللحن وانتشر حتى بين العلماء، وبين علماء النحو واللغة أيضًا، حتى غلط بعضهم بعضًا، ونسب بعضم اللحن إلى البعض الآخر، قال "ابن فارس": "وقد كان الناس قديمًا يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرءونه اجتنابهم بعض الذنوب. فأما الآن فقد تجوزوا حتى إن المحدث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب! وإنما نحن محدثون وفقهاء"3. ولما كثر اللحن في الحديث، جوزوا إعرابه. قال "الأوزاعي": "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقال أيضًا: "أعربوا الحديث فإن القوم كانوا عربًا" وقال النضر بن شميل: "كان هشيم لحانًا، فكسوت لكم حديثه كسوة حسنة، يعني بالإعراب"4. وبعد، فقد رأيت من روايات أهل الأخبار أنفسهم، أن اللحن لم يكن قاصرًا على العجم، بل كان قد عرف بين العرب كذلك، وعلى هذا يجب ألا نلقي مسئولية ظهوره على الأعاجم، بل على العرب أولا، لأنهم هم الذين بدءوا باللحن، بدءوا به قبلهم بأمد طويل، لحنوا في الجاهلية، أي قبل دخول العجم في الإسلام. فنحن نظلم الأعاجم إذن، إن ألقينا على عاتقهم مسئولية إشاعة اللحن بين العرب. ولكن هل يعقل وقوع اللحن من عرب كالجاهليين، ومن شعراء فحول، استمد علماء اللغة قواعد النحو والصرف من شعرهم مثل "النابغة" الشاعر المعظم، أو من غيره؟ لقد سبق أن ذكر علماء اللغة أن العربي، لا يزال في كلامه وحاشا له أن يلحن أو يخطئ في لسانه، لأنه إذا تكلم تكلم عن سليقة وطبع، وقد حماه الله من الوقوع في زلل الكلام! إذن فكيف

_ 1 مجالس ثعلب "43". 2 مجالس ثعلب "47". 3 الصاحبي "66". 4 أبو رية، أضواء على السنة المحمدية "108 وما بعدها".

نفسر ما ذكروه من وقوع النابغة في اللحن، ومن وجود الإقواء في شعره وفي شعر غيره، ومن ظهور اللحن في أيام الرسول؟ هل نرجع ذلك إلى خطأ الرواة في رواية شعر النابغة وأمثاله، أو نرجع ذلك على التزوير، فنقول إن ذلك الشعر مفتعل، وإنه ليس من شعر النابغة، وإنما هو شعر منحول وضع عليه، ومن ثم وقع الخطأ. ولكن الذي نعرفه أن من كان ينحل العرب الشعر وينسبه للجاهليين، كان من أتقن الناس لشعر الجاهلية ومن أعرف الناس بالعربية، ومن البارعين الحاذقين بقواعدها، وأناس على هذا الطراز من الفهم والعلم، هل يعقل وقوع مثل هذا الغلط منهم؟ أو هل نرجع ذلك إلى الخطأ في التدوين والاستنساخ، ولكن كيف غفل العلماء من النص على ذلك؟ وجوابي أن القول بأن اللحن بمعنى الخطأ في الكلام، يستوجب وجود لغة فصيحة ذات قواعد نحوية وصرفية مقدرة ومقننة وثابتة تعد اللغة الفصيحة العالية في نظر أصحابها، من يخالف قواعدها يعد لحانًا لا يحسن القول ولا الكلام. وهو قول لا يعارضه أحد بالنسبة إلى وجوده في الإسلام، بعد أن فرض الإسلام دين الله على المؤمنين به كتابًا سماويًّا ولسانًا عربيًا مبينًا، تثبتت قواعد نحوه وصرفه في الإسلام. فمن سار عليها عدَّ فصيحًا، ومن خالفها عدَّ لحانًا عاميًّا. أما بالنسبة لأهل الجاهلية، فالقول بوجود اللحن عندهم، يقتضي التسليم بوجود لغة فصيحة عُليا لديهم، لها قواعد مقررة، من تكلم وِفْقَهَا عدَّ فصيحًا، حسب درجة إعرابه وملكته في اللغة، ومن خالفها عدَّ عاميًّا جلفًا. وقد أكد علماء اللغة، وجود هذه العربية الفصيحة، التي هي عندهم عربية قريش، عند ظهور الإسلام، وقالوا: إن بها كان نزول عربية القرآن، وبها نظم الشعر الجاهلي، وبها نثر الكلام الجاهلي المنثور. أما اللحن، فقد أنكروا وجوده، ولم يسلموا بوقوعه، وحجتهم ما ذكرته من أن العربي فصيح بطبعه، إذا تكلم تكلم عن سجية فيه وسليقة، لم يلحن ولم يخطئ في كلامه في الجاهلية، إلى أن كان الإسلام، فاختلط العرب بالأعاجم، ودخل الغرباء بين العرب، ففسد الطبع وظهر الخطأ في اللسان، وفشا اللحن. وقد يعقل تصور وجود هذه العربية الفصحى، إذا افترضنا -مع المفترضين الأخباريين- أن تلك العربية، هي عربية أهل مكة ومن عاش حولهم، وأنها كانت عربية قريش، وأن المتكلمين بها كانوا بشرًا عصموا عن الخطأ في اللسان

وجبلوا على التكلم بها على الفطرة، ولكننا لا نستطيع القول أنها كانت عربية كل عرب جزيرة العرب، إذ رأينا العرب الجنوبيين، وقد كانوا يتكلمون بلغات أخرى، ووجدنا عرب أعالي الحجاز، ولهم ألسنة تباين عربية القرآن، ورأينا للقبائل لهجات، تختلف بدرجات عن هذه العربية. فكيف يتصور إذن اتفاق العرب كلهم على التكلم بلسان قريش، وبغير خطأ أو زلل في اللسان. وفي نفي علماء اللغة وجود اللحن عند الجاهليين تعارض مع رواياتهم القائلة بوجود الإقواء والإكفاء في شعر بعض الشعراء الجاهليين، وبلحن "النابغة" في قوله: "في أنيابها السم ناقع"، وبلحن الأعرابي في حضرة الرسول، وبتباين لغات العرب، تباينًا تحدثت عنه في فصل "لغات العرب" وقد وقع في كثير من صميم خصائص اللغات، ومن بينها أمور تخص قواعد الإعراب، وفيه تعارض أيضًا مع القراءات الشهيرة والشاذة للقرآن، وبينها أمور تخص قواعد النحو والصرف والإعراب، وفيه تعارض مع ما ذكروه من أن "أطراف الجزيرة لم تكن خالصة العروبة في القديم، بل كان أهلها مغلوبين على أمرهم، فلم يكن لهم من معنى اللغة إلا تعاور المنطق والاستبداد بالكلمات يتلقفونها ممن حولهم، لأن ملكات الوضع العربي فيهم غير صحيحة، وشروطه غير تامة، وليس كل عربي الجنس عربي اللسان، وإلا فما بال الحميريين ومن قبلهم من الأمم السالفة؟ "1. وكيف يعقل نفي اللحن عن العرب مع وجود اللغات، ووجود التعارض والاختلاف البين بين قواعد هذه اللهجات، هل يعقل أن يتكلم العربي الجنوبي، باللغة العربية الفصيحة من غير خطأ ولا لحن، ولسانه غير لساننا، وعربيته غير عربيتنا، وقواعده على خلاف قواعدنا، وإعرابه على خلاف إعرابنا، كما أثبت ذلك بالبرهان القاطع من الكتابات الجاهلية، وبأقوال علماء العربية أنفسهم، وفي مقدمتهم "أبو عمرو بن العلاء"، القائل: "ما لسان حمير بلساننا، ولا لغتهم بلغتنا". ثم إننا إذا أخذنا القراءات المتنوعة التي قرئ بها القرآن، والشواهد الشعرية الكثيرة التي أوردها علماء العربية والنحو على الشواذ، وما يذكره العلماء من خلاف في النحو، فإننا لا يمكن تفسير خروجها على القواعد إلا بأنها أثر من أثر بقايا اللهجات. وخروجها على القواعد، هو لحن. ومن خرج على

_ 1 الرافعي "1/ 258".

القواعد عدَّ لحانًا، مهما كان عصره أو جنسه، جاهليًّا كان أم مسلمًا، عربيًّا كان أم أعجميًّا، لأن اللحن لا يختص بعصر أو جنس. إن ما دعوه باللحن، وما أخذوا الأعاجم عليه، من عدم تمكنهم من التعلق ببعض الحروف، أو من وقوعهم في أخطاء نحوية، نراه قد وقوع للعرب الفصحاء في الجاهلية وفي الإسلام، فما كان ينطقه بعض العرب من إشمام الصاد صوت الزاي، أو من النطق بالجيم "كافًا" على اللهجة المصرية، يعد لحنًا، إن صدر من أعجمي، أما إن صدر من عربي، فلا يقال لذلك لحنًا، بل يقال إنه لغة من لغات العرب. وإذا تصورنا أن عربية الجاهليين، كانت عربية عالية واحدة، على نحو مايراه أهل الأخبار وعلماء اللغة، وجب اعتبار هذه اللغات لغات عامية، المتكلم بها خارج على قواعد اللغة، فهو ممن يلحن ويخطئ سواء كان عربيًّا، أم أعجميًّا، جاهليًّا أم إسلاميًّا، فنحن نتكلم هنا عن أسلوب كلام، لا عن رس وأصل. أننا حين نقول أن اللحن لم يكن معروفًا بين أهل الجاهلية، نكون قد حصناهم بالعصمة: بعصمة اللسان، ونكون قد جعلناهم بذلك شعبًا مختارًا، فضل بعصمة لسانه على ألسنة سائر البشر، ولكن العلم لا يعرف عصمة ولا حصانة في لسان، وهو يرى أن اللحن لا بد وأن يقع عند أي شعب، أو قوم، أو قبيلة، حتى أن كانت القبيلة في سرة البادية، وفي معزل ناء، لأن الطبيعة توجد من اختلاف قابليات أفراد القبيلة ومن اختلاف مستوى عقلياتهم وثقافاتهم وتباعد سكنهم بعضهم عن بعض، خروجًا على اللسان، فيظهر اللحن الشاذ، ويبرز النشاز في اللغة، مهما كان موطن هذه القبائل، في جزيرة العرب أو في أي موضع آخر من العالم، فاللحن، أي التبلبل في الألسنة من الأمور الطبيعية، التي توجدها طبيعة البشر وطبيعة الأقاليم، وأمور أخرى بحث فيها علماء اللغة والاجتماع، ولا يمكن أن يكون العرب بمنجاة منها! لقد تحير "السيوطي" وغيره في تفسير خبر ورد عن "سيعد بن جبير" من أنه "كان يقرأ: والمقيمين الصلاة، ويقول: هو لحن من الكتاب". فقل: "وهذه الآثار مشكلة جدًا، وكيف يظن بالصحابة أولاً أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن، وهم الفصحاء واللد! ثم كيف يظن بهم ثانيًا في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنزل، وحفظوه، وضبطوه، وأتقنوه

ثم كيف يظن بهم ثالثًا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته! إلخ! وفي بعض هذه القراءات خطأ حصل من الكتابة، قال "هشام بن عروة عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله تعالى: {إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} 2، وعن قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 3. وعن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} 4 فقالت: يا أخي، هذا عمل الكتاب أخطئوا في الكتاب"5، أي من الرسم، وهو في الأكثر، فهذا الخطأ في الرسم القديم للكتابة، هو الذي جعل العلماء يسمونه لحنًا، وهو ليس بلحن في الأصل، وإنما جاء اللحن من قراءة القراء بألحانهم، أي على حسب لغاتهم، وإلا فلا يعقل تطاولهم على القرآن بقراءاتهم له قراءة مخالفة للإعراب ولما نزل به الوحي. وهكذا كان الأمر بالنسبة للمواضع الأخرى مثل: {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} 6، فقد قرئ بسكون الشين وهي لغة تميم، وكسرها وهي لغة الحجاز، وفتحها وهي لغة7، ومثل "الصراط"، فقد قرأت بالسين وبالصاد، والقراءتان لهجتا قبائل، ومثل"حتى"، فقد قرئت "عتى"، قرأها "ابن مسعود" على لسانه، إذ كان من هذيل. وقد ذكر "المعري" أمثلة على قراءات في القرآن قرأها علماء مشهورون مثل "حمزة بن حبيب"، هي منكرة في نظر غيره من العلماء، "ينكرها عليه أصحاب العربية، كخفض الأرحام في قوله تعالى: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ"، وكسر الياء في قوله تعالى: "وما أنتم بمصرحيِ"، وكذلك سكون الهمزة في قوله تعال: "استكبارا في الأرض ومكر السيئ"، وجاء بأمثلة أخرى من قراءات غيره للقرآن8. والخلاف الذي نلاحظه في أمور النحو بين علماء أهل البصرة وعلماء أهل الكوفة، في مثل عمل الأسماء والأدوات: أدوات الجر، أو الخفض، وأدوات النصب، وأدوات الجزم، وأمثال ذلك، هو في حد ذاته دليل على وجود إعراب متعدد

_ 1 السيوطي، الإتقان "2/ 270". 2 [طه: 63] . 3 [النساء، الآية: 162] . 4 [المائدة، الآية: 69] . 5 السيوطي، الإتقان "2/ 269". 6 [البقرة، الآية: 60] . 7 السيوطي، الإتقان "2/ 277". 8 رسالة الغفران "367 وما بعدها".

للعرب، وقف العلماء على شيء يسير منه، فوقعوا من ثم في بلبلة من أمره، بسبب عدم اهتمامهم بأمر تلك اللغات، واقتصارهم في جمعهم قواعد النحو على لهجات الأعراب الذين اتصلوا بهم، فظهر لهم وكأنه نشاز، ولو فطنوا يومئذ إلى أنه من إعراب لغات، لكان حكمهم حكمًا آخر ولا شك. ومن هؤلاء الأعراب الذين أخذ عنهم البصريون: قيس، وتميم، وأسد، "فإن هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتُّكل في الغريب، وفي الإعراب، والتصريف. ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم"1، والقبائل المذكورة باستثناء الطائيين، هم من مجموعة "مضر"، وليس فيها قبيلة من "ربيعة"، لذلك نستطيع القول أن العربية قد بنيت على لهجات مضر، وحيث أن علماء اللغة أهملوا لغات القبائل الأخرى وبينها قبائل من مضر كذلك، فلم يأخذوا منها إلا عرضًا، تولد من عملهم هذا بناء العربية على تلك اللهجات وبموجب اجتهاد واستقصاء أولئك العلماء، فظهر من أجل ذلك الغريب والنشاز، والاختلاف في الإعراب، الذي أشار إلى قسم منه العلماء وهو الذي احتاجوا إليه للاستشهاد به في الشواهد والمناظرات وأكثره من لغات مضر، وأهملوا الباقي، ولو هم سجلوا كل ما عرفوه من نشاز لتجمع من ذلك تراث كبير كثير من تراث اللغات الجاهلية من اختلاف في لغة وقواعد إعراب وصرف. لقد تمسكت القبائل بقواعد ألسنتها حتى في الإسلام، فكان أفرداها ينطقون بلهجتهم، من ذلك ما ذكره "الزجاجي" من اختلاف "عيسى بن عمر" الثقفي، و"أبي عمرو بن العلاء" في رفع أو نصب: "ليس الطيب إلا المسك"، ومن احتكامهما إلى "أبي المهدي"، فلما ذهبا إليه وجداه لا يرفع، فلما حاولا إقناعه بالرفع، أبى عليهما ذلك وقال: "لا، ليس هذا من لحني ولا من لحن قومي"، فلما ذهبا إلى "المنتجع" التميمي، وجداه لا ينصب وأبى إلا الرفع، وذكر "الزجاجي": "ليس في الأرض حجازي إلا وهو ينصب، ولا في الأرض تميمي إلا وهو يرفع"2. وقع ذلك في الإسلام وبعد تثبيت القواعد، وكان هذا حال قبائل الحجاز، وحال تميم في الجاهلية ولا شك،

_ 1 السيوطي، الاقتراح "19". 2 مجالس العلماء "1" وما بعدها".

فهل يعد هذا الاختلاف دلالة على عدم وجود اللحن عند أهل الجاهلية، أم يعد دليلاً على وجوده عندهم؟ لقد أدى اقتصار العلماء في أخذهم العربية عن القبائل التي ذكروها وفي تمسكهم برأيهم في أن تلك القبائل، هي صاحبة اللغة الفصيحة، إلى نبذ اللهجات العربية الأخرى، لاعتبارهم أياها لهجات مستقبحة، ولغات حشوية، فخسرت العربية بذلك خسارة كبرى، وظهر بسبب ذلك التنابذ في مذاهب علماء العربية، بسبب اعتمادهم على لغات معينة محدودة، وليس على كل اللغات العربية القريبة من لغة القرآن، ليتمكنوا بذلك من استقرائها كلها واستنباط القواعد الكلية منها. ومن جملة الأمور التي يجب أن نشير إليها وننتبه إليها، هو أن علماء العربية حين كانوا يشيرون إلى لهجة من اللهجات، مثل لهجة أهل الحجاز، أو لهجة هذيل، أو تميم، وأمثالها، كانوا يشيرون إليها بالتعميم، مثل: جاء هذا على لغة أهل العالية، أو على لغة أهل الحجاز، أو على لغة تميم، مع أن حكمهم هذا لم يؤخذ من دراسة لغة القبيلة المشار إليها، وإنما أخذ من لسان أعرابي أو أكثر، بينما الحكم على منطق إنسان واحد أو اثنين أو ثلاثة، لا يمكن أن يتخذ حجة للحكم على منطق قبيلة بأكملها، أضف إلى ذلك أن القبائل الكبيرة، كانت موزعة منتشرة، والحجاز، وحده ذو قبائل كثيرة، متعارضة اللغات، فكيف يقال: جاء هذا على لغة أهل الحجاز، وكان أسد وتميم متجزئة منتشرة في مناطق واسعة، وهذا مما جعل لهجاتها تتأثر بالإقليمية وبالجوار، فلم يكن لها لسان واحد، غير أن علماء العربية لم يفطنوا إلى هذه الأمور، فوقعوا من ثم في أخطاء، فأخذوا من بعض تميم، ونسبوا ما أخذوه على كل تميم مثلا. ثم إنهم لم يستخلصوا النحو من القرآن رأسًا، وقد كان عليهم الاعتماد عليه أو لأنهم إنما اتخذوا النحو لصيانة اللسان من الخطأ في القرآن وفي لغة التنزيل، وإنما مالوا عنه إلى الشعر، وإلى كلام أعراب من قبائل معينة وثقوا بصحة كلامهم وزاد ابتعادهم عن الأسلوب العلمي، بأخذهم بالعصبية العلمية، فهرت الآراء المتعصبة للمدن وللعلماء، فهذا رجل محب للبصرة، مفرط في حبها، لا يقدم على علمائها عالم، وهذا كوفي متعصب لنحو الكوفة، لا يقدم على أهل الكوفة أحدًا. ثم زاد هذا التعصب للعلماء، فهذا تلميذ عالم يُتعصب له، ويُأخذ برأيه كأنه رأي نزل من السماء، وهذا عالم كبير يعيب علم عالم

منافس له، ويتهجم هو وتلامذته عليه، وهذا نحوي يعيب نحو الآخرين، وقد دفعت هذه العصبية، بعض العلماء إلى الابتعاد عن العلم، باللجوء إلى الوضع والافتعال والاتهام، لإقحام الخصوم، حتى جاء بعضهم بشواهد نحوية وصرفية مفتعلة، وبشهود من الأعراب، تكلموا باطلا لتأييد عالم على عالم، وفي المسألة الزنبورية التي وقعت بين سيبويه والكسائي، وفي مجالس الجدل التي تجادل فيها العلماء في محضر الخلفاء في قضايا النحو واللغة والشعر أمثلة عديدة على ما أقول1. وعندي أن ما نسب إلى بعض الشعراء الجاهليين من وقوعهم في أغلاط نحوية أو لغوية أو شعرية، لم يكن خطأ بالنسبة لهم، وإنما بان الخطأ عند علماء العربية، حين قاسوا الشعر بمقياس واحد، هو العربية التي جمعوا قواعدها ودونوها في الإسلام، والعروض الذي ضبطه "الخليل" ومن جاء بعده، ولو كانوا قد درسوا لهجات القبائل، وعلموا أن الشعراء، كلهم أو بعضهم كان ينظم شعره بلسانه، وأن الشعر الجاهلي، جاء بألسنة متعددة، لعلموا إذن سر وقوع هذا الاختلاف في الشعر، ولأراحوا أنفسهم من دراسة كثير من هذا الغريب والشاذ الذي أدخلوه كتب النحو واللغة، بعد صقل الشعر وتهذيبه. وقد فطن إلى ذلك "المعري"، فاعتذر عما نسب إلى "امرئ القيس" من خروج عن القواعد بسوء الرواية وبالتصحيف2، وبأنهم في الجاهلية كانوا لا يعدون ذلك خروجًا على قاعدة، وإنا كان ذلك شيئًا مألوفًا عندهم، فملا جاء "المعلمون في الإسلام" "غيروه على حسب ما يريدون"3، وجعله يقول عن "الأقوياء": "لا نكرة عندنا في الإقواء4 واعتذر عما نسب إلى غيره من الشعراء من عيوب أحصاها علماء الإسلام عليهم، بأن قال إن هذه لم تكن من العيوب في أيامهم، وإنما هي صارت عيوبًا في الإسلام. لقد اعتمد علماء العربية على الشعر الجاهلي وعلى لغات العرب التي وثقوا منها في جمع قواعد العربية وتثبيتها، كما استشهدوا بالقرآن، الذي نزل بلسان عربي مبين، والذي ثبت العربية. أما"الحديث"، فقد اختلفوا في جواز الاستشهاد

_ 1 راجع مجالس العلماء. 2 رسالة الغفران "313 وما بعدها". 3 رسالة "317 وما بعدها". 4 رسالة "220".

به، وذلك لأن الحديث لم ينقل كما سمع من النبي وإنما روي بالمعنى، ولهذا فإن أئمة النحو المتقدمين من المصرين: البصرة والكوفة لم يحتجوا بشيء منه، وقد جوز بعض العلماء الاستشهاد به على تقدير التسليم بأن النقل كان بالمعنى، إنما كان في الصدر الأول، وقبل تدوينه في الكتب وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لفظ بلفظ، ولهذا يجوز الاحتجاج به، لأن السلائق العربية لم تكن قد فسدت بعد. وموضوع الخلاف، هو أن النقل لم يكن بالحرف، وإنما بالمعنى، ولو كان بالأول لما وقع الخلاف في وجوب الاستشهاد به، ولجرى ذلك مجرى القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية بموجبه. قال "سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت، فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين إنهم يروون بالمعنى"1. وقد وقع اللحن كثيرًا فيما روي من الحديث لأن كثيرًا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع ويتعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون، ودخل في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب، فدخل من ثم هذا اللحن في الحديث، ولهذا امتنع علماء المصرين من الاستشهاد بالحديث في النحو. وقد جوز بعض المتأخرين الاستشهاد بالأحاديث والأمثال النبوية الفصيحة، ولم يجوزوا الاستشهاد في غير ذلك2 للسبب المذكور. هذا وقد ألف العلماء كتبًا عديدة في إعراب القرآن وفي معانيه وغريبه، وصل بعض منها إلينا. وقد أشار "ابن النديم" إلى أسماء عدد من تلك المؤلفات3. وهي مرجع هام بالنسبة لعلماء العربية، لورود آراء لغوية ونحوية قيمة فيها، تفيد في شرح النحو العربي.

_ 1 الخزانة "1/ 5 وما بعدها". 2 الخزانة "1/ 6 وما بعدها". 3 الفهرست "60".

الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو

الفصل الخامس والأربعون بعد المئة: النحو والنحو في اللغة الطريق والجهة والقصد، ومنه نحو العربية. وهو إعراب الكلام العربي. أُخِذ من قولهم: انتحاه إذا قصده. وهو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره ليلحق به من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة فينطق بها، وإن لم يكن منهم أو إن شذَّ بعضهم عنها رد به إليها. وهو في الأصل مصدر شائع، أي نحوت نحوًا، كقولك قصدت قصدًا ثم خص به انتحاء هذا القبيل مع العلم. وقيل لقول علي بن أبي طالب بعدما علم الأسود الاسم والفعل وأبوابًا من العربية: "انح هذا النحو"1. أو لأن أبا الأسود لما وضع ما وضع في النحو وعرضه على "علي"، قال"علي" له: "ما أحسن هذا النحو الذي نحوت! ولذلك سمي النحو نحوًا"2. ولكننا نجد "الجاحظ" يشير إلى وجود اللفظة في أيام "عمر"، إذ يقول: "وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا النحو كما تعلَّمون السنن والفرائض"3، ويشبه هذا الخبر خبرًا آخر نسب

_ 1 اللسان "15/ 310"، "نحا". تاج العروس "10/ 360"، "نحا". الفهرست "ص65"، "المقالة الثانية من كتاب الفهرست". "ابن الانباري نزهة" "3 وما بعدها"، المثل السائر "7". الجمحي، طبقات "ص5"، ابن خلكان "1/ 240". إرشاد "1/ 280". 2 ابن الأنباري، نزهة "4 وما بعدها"، "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم"، "القاهرة 1967م". 3 البيان والتبيين "2/ 219".

إليه أيضًا، فقد ذكروا أنه قال: "تعلموا إعراب القرآن تعلمون حفظه"1، وأنه قال: "تعلموا الفرائض والسنن واللحن، كما تعلمون القرآن"2. ويظهر أن الكتاب قد صحفوا في خبر "عمر"، فخلطوا بين "اللَّحن" و"النحو"، وعلى تلك فإن بين اللفظين صلة. وإذا صح خبر "الجاحظ"، واعتبرنا لفظة "النحو" لفظة صحيحة غير محرفة، دلت على وجود هذه التسمية علمًا لهذا العلم في أيامه، وقبل أيامه، أي في أيام الجاهليين. والجمهور من أهل الرواية أن النحو علمٌ ظهر في الإسلام. ظهر بظهور الحاجة الماسة إليه لضبط اللسان وصيانته من الخطأ، ولتعليم الأعاجم نمط الكلام بالعربية. ورجع أكثرهم مصدره وأساسه إلى الإمام "علي بن أبي طالب"، ويقولون إن أبا الأسود الدؤلي "69هـ" أخذ هذا العلم عنه. وأن الإمام ألقى عليه شيئًا من أصول النحو. فاستأذن التلميذ أستاذه أن يصنع نحو ما صنع، فأذن له به، فسمى ذلك نحوًا 3. وذكر بعضهم أن الإمام دفع إلى أبي الأسود رقعة مكتوبًا فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى. وأعلم أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس فيما ليس بظاهر ولا مضمر. ثم وضع أبو الأسود بابي العطف والنعت ثم بابي التعجب والاستفهام، إلى أن وصل إلى باب إن وأخواتها ما خلا "لكن" فلما عرضها على عليٍّ أمره بضم "لكن" إليها، وكلما وضع بابًا من أبواب النحو عرضه عليه"4. وذكر بعض آخر أن أول من أسس العربية وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، أبو الأسود الدؤلي، وضع العربية "حين اضطرب كلام العرب فغلبت السليقة، فكان سراة الناس يلحنون، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب،

_ 1 الزينة "117 وما بعدها". 2 الأمالي، للقالي "1/ 5"، الإتقان "2/ 260". 3 الفهرست "66"، الروض الأنف "1/ 69" ابن خلِّكان "1/ 662"، الحلبي، الزبيدي، طبقات "13 وما بعدها"، الفائق "1/ 611"، طبقات، ابن سلام "5". ياقوت إرشاد "4/ 280"، المثل السائر "7". 4 ضحى الإسلام "2/ 285"، "القاهرة 1961"، ابن الأنباري، نزهة "4 وما بَعْدَهَا".

والْجَزْم"1. وقال ابن قتيبة: "وهو أول من وضع العربية"2. وذكر ابن حجر، أنه أول من وضع العربية ونقط المصاحف3. وروى ابن النديم أن أربع أوراق، وجدت فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود الدؤلي، وكانت بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا خط علان النحوي، وتحته هذا خط النضر بن شميل4. ففي هذه الأوراق دلالة على أن هذه الأوراق من كلام أبي الأسود، وأنه كان صاحب علم النحو. وروى ابن النديم رواية أخرى، ذكر فيها أن الطبري قال: "إنما سمي النحو نحوًا لأن أبا الأسود الدؤلي قال لعلي -عليه السلام- وقد ألقى عليه شيئًا من أصول النحو. قال أبو الأسود: واستأذنته أن أصنع نحو ما صنع، فسمي ذلك نحوًا. وقد اختلف الناس في السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو، فقال أبو عبيدة أخذ النحو عن علي بن أبي طالب أبو الأسود، وكان لا يخرج شيئًا أخذه عن علي -كرم الله وجهه- إلى أحد، حتى بعث إليه زياد أن اعمل شيئًا يكون للناس إمامًا ويعرف به كتاب الله، فاستعفاه من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئًا يقرأ: "أنَّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِه" بالكسر، فقال: ما ظننت أن أمر الناس آل إلى هذا فرجع إلى زياد، فقال: افعل ما أمر به الأمير فليبغني كاتبًا لقنًا يفعل ما أقول، فأتى بكاتب من عبد القيس فلم يرضه فأتى بآخر. قال أبو العباس المبرد أحسبه منهم، فقال أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فِيَّ بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، وإن ضممت فِيَّ فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف. فهذا نقط أبي الأسود. قال أبو سعيد -رضي الله عنه- ويقال: إن السبب في ذلك أيضًا أنه مر بأبي الأسود سعد، وكان رجلا فارسيًّا من أهل زندخان، كان قدم البصرة مع جماعة من أهله فدنوا من قدامة بن مظعون وادَّعوا أنهم أسلموا على يديه، وأنهم بذلك من مواليه. فمر سعد هذا بأبي الأسود وهو يقود فرسه. قال: مالك يا سعد لم لا تركب؟ قال: إن فرسي ضالع أراد

_ 1 ضحى الإسلام "2/ 287". 2 المعارف "ص334". 3 الإصابة "2/ 233"، "رقم4329". 4 الفهرست "ص67 وما بعدها".

ظالعًا. قال فضحك به بعض من حضره. فقال أبو الأسود هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا إخوة، فلو عملنا لهم الكلام. فوضع باب الفاعل والمفعول"1. "وقيل لأبي الأسود: من أين لك هذا العلم؟ -يعنون النحو- فقال: لقنت حدوده من علي بن أبي طالب –عليه السلام- وكان أبو الأسود من القراء، قرأ على أمير المؤمنين عليه السلام"2. وتذكر رواية أخرى، أن أبا الأسود دخل على "علي" فوجده مطرقًا مفكرًا، فسأله عن سبب ما به، فذكر له أمر اللَّحن وما فشا من الخطأ في ألسنة الناس، وأنه يريد أن يصنع كتابًا في أصول العربية، فانصرف عنه، وهو مغموم، ثم عاد إليه بعد أمد، فألقى الإمام عليه رقعة كتب فيها: "الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى"، ثم أمره أن ينحو نحوه، وأن يزيد عليه، فجمع أبو الأسود أشياء وعرضها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكر منها: إن، وأن، وليت، ولعل، وكأن، ولم يذكر لكن، فأشار الإمام عليه بإدخالها عليها3. وذكر "ابن الأنباري 577هـ"، "أن من وضع علم العربية، وأسس قواعده، وحدَّد حدوده، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأخذ عنه أبو الأسود. "وسبب وضع علي -رضي الله عنه- لهذا العلم، ما روى أبو الأسود، قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء -يعني الأعاجم- فأردت أن أضع لهم شيئًا يرجعون إليه، ويعتمدون عليه، ثم ألقى إلي الرقعة، وفيها

_ 1 الفهرست "65 وما بعدها"، القِفْطي، إنباهالرواة "1/ 6"، "ذكر أول من وضع النحو". أخبار النحْويين، للسيرافي "16 وما بعدها"، الإصابة "2/ 233". "4329". 2 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 15". 3 القِفْطي "1/ 4"، "ذكر أول من وضع النحو"، معجم الأدباء "14/ 49"، ابن الأنباري، نزهة الألباء "5".

مكتوب: الكلام كله اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما جاء لمعنى. وقال لي: أُنْحُ هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك، وأعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس يا أبا الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر، وأراد بذلك الاسم المبهم. قال أبو الأسود: فكان ما وقع إلي: إن وإخوانها ما خلا لكن فلما عرضتها على علي -رضي الله عنه- قال لي: وأين لكن؟ فقال ما حسبتها منها، فقال: هي منها فألحقها، ثم قال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت، فلذلك سمي النحو نحوًا؟ 1. وتذكر رواية أن أبا الأسود وضع بابي العطف والنعت، ثم بابي التعجب والاستفهام؛ إلى أن وصل إلى باب إن وإخواتها2. وهناك رواية تنسب إلى الأصمعي تذكر أنه قال: "سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: جاء أعرابي إلى علي -عليه السلام- فقال، السلام عليك يا أمير المؤمنين، كيف تقرأ هذه الحروف؟ "لا يأكله إلا الخاطون" كلنا والله يخطو، قال: فتبسم أمير المؤمنين عليه السلام، وقال: يا أعرابي: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُون} . قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ما كان الله ليظلم عباده، ثم التفت أمير المؤمنين إلى أبي الأسود الدؤلي، فقال: إن الأعاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئًا يستدلون به على صلاح ألسنتهم، ورسم له الرفع والنصب والخفض"3. وروي من حديث علي -رضي الله عنه- مع الأعرابي الذي أقرأه المقرئ: "إن الله برئ من المشركين ورسوله" حتى قال الأعرابي: برئت من رسول

_ 1 ابن الأنباري، نزهة "4 وما بعدها". 2 ابن الأنباري، نزهة "5"، "حاشية رقم 2". 3 الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية، لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي "72". "تحقيق حسين بن فيض الله الحرازي"، "دار الكتاب العربي"، "1957"، عبد العال سالم مكرم، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "52"، ابن الأنباري نزهة "8".

الله، فأنكر ذلك علي -عليه السلام- ورسم لأبي الأسود من عمل النحو ما رسمه ما لا يجهل موضعه"1. ونجد رواية أخرى تذكر أن أبا الأسود كان أول من وضع العربية، وأول من أملى في الفاعل والمفعول به، والمضاف، والنصب، والرفع، والجر، والجزم، وكان قد أخذ العلم من "علي بن أبي طالب". وحدث أن ابنته لحنت في فعل التعجب، فقالت لأبيها وكان اليوم حارًّا شديد الحر: "ما أشد الحرُّ"، وكانت تقصد "ما أشد الحرَّ"، أي على باب التعجب. فلما علم أبو الأسود بخطئها، نبهها إلى موضع الخطأ. ثم ذهب إلى "زياد" والي البصرة، وطلب منه السماح بوضع علم النحو، فلم يسمح له. ولما أخطأ رجل أمام زياد كبر عليه ذلك فوضع أبو الأسود قواعد النحو فأخذ عنه "الليثي" هذا العلم ووسعه، ثم وسع "عيسى بن عمر" في كتابيه الجامع والمكمل2. ورويت قصة وضع النحو بشكل آخر، روي أيضًا أن زياد بن أبيه بعث إلى أبي الأسود، وقال له: يا أبا الأسود، إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئًا يصلح به الناس كلامهم، ويعرب به كتاب الله تعالى! فأبى أبو الأسود، وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجَّه زياد رجلا وقال له: اقعد على طريق أبي الأسود، فإذا مر بك، فاقرأ شيئًا من القرآن، وتعمد اللحن فيه. فقعد الرجل على طريق أبي الأسود، فلما مر به رفع صوته فقرأ: "أنَّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِهِ" بالجر، فاستعظم أبو الأسود ذلك، وقال: عز وجهُ الله أن يبرأ من رسوله! ورجع من حاله إلى زياد، وقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إلي ثلاثين رجلا، فأحضرهم زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلا من عبد القيس، فقال:

_ 1 الخصائص "2/ 9". 2 القِفْطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة "1/ 16"، "تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم"، "مطبعة دار الكتب المصرية 1950م"، الزبيدي، طبقات النحويين واللغات "13"، "القاهرة 1954". طبقات، لابن سلام "5". العسكري، المصون"118". John A. Haywood, Arabic Lexicography, Leiden, 1965, p. 12. f.

خذ المصحف وصبغًا يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف. وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإذا أتبعت شيئًا من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين"1. "وقيل: إنه دخل إلى منزله، فقالت له بعض بناته: ما أحسن السماءُ! قال: أي بنية نجومها، فقالت: إني لم أرد أي شيء منها أحسن؟ وإنما تعجبت من حسنها، فقال: إذًا فقولي ما أحسن السماءَ! فحينئذ وضع كتابًا"2. و"قيل: وأتى أبو الأسود عبد الله بن عباس، فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت؛ فأردت أن أضع شيئًا لهم يقومون به ألسنتهم. قال: لعلك تريد النحو؛ أما إنه حق، واستعن بسورة يوسف"3. و"قال أبو حرب بن أبي الأسود: أول باب رسم أبي من النحو باب التعجب. وقيل: أول باب رسم باب الفاعل والمفعول، والمضاف، وحروف الرفع والنصب والجر والجزم"4. "ومن الرواة من يقول: إن أبا الاسود هو أول من استنبط النحو، واستخرجه من العدم إلى الوجود، وأنه رأى بخطه ما استخرجه، ولم يعزه إلى أحد قبله"5. وكان"أول من أسس العربية وفتح بابها وأنهج سبيلها ووضع قياسها"6. وروي عن أبي سلمة موسى بن إسماعيل عن أبيه، قال: "كان أبو الأسود أول من وضع النحو بالبصرة"7. وتذكر رواية أن أبا الأسود الدؤلي إنما وضع النحو بأمر من الخليفة "عمر"، روت أن أعرابيًّا قدم المدينة في خلافته، فقال: "من يقرئني شيئًا مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأقرأه رجل سورة براءة فقال: "أن الله بريء من المشركين ورسوله" بالجر، فقال الأعرابي: أو قد برئ الله من رسوله! إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه! فبلغ عمر -رضي الله عنه- مقالة الأعرابي، فدعاه فقال: يا أعرابي: أتبرأ من رسول الله!

_ 1 ابن الأنباري، نزهة "9"، الإصابة "2/ 233"، "رقم4329". 2 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 16"، الإصابة "2/ 233"، "رقم4329". 3 المصدر نفسه. 4 كذلك. 5 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 7". 6 المصدر نفسه "1/ 14". 7 ابن الأنباري، نزهة "10".

فقال: يا أمير المؤمنين، إني قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرأني، فأقرأني هذا سورة براءة، فقال: "إن الله بريء من المشركين ورسولِهِ"، فقلت: أو قد برئ الله تعالى من رسوله! إن يكن برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فقال له عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر -رضي الله عنه- ألا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو"1. وذكر أن عمر بن الخطاب كتب إلى "أبي موسى" الأشعري، كتابًا فيه: "أما بعد: فتفقهوا في الدين وتعلموا السنة، وتفهموا العربية، وتعلموا طعن الدرية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو الأسود أهل البصرة الإعراب"2. ويفهم من هذا الكتاب، أن أبا الأسود كان على علم بالنحو وبالإعراب قبل أيام "علي"، ولهذا طلب الخليفة من عامله أن يكلف أبا الأسود بتعليم أهل البصرة الإعراب. ويظهر من الرواية التي ذكرتها عن التقاء أبي الأسود بعبد الله بن عباس، وقوله له: أني أرى ألسنة العرب قد فسدت، فأردت أن أضع شيئًا لهم يقومون به ألسنتهم، ومن رد عبد الله بن عباس عليه بقوله له: "لعلك تريد النحو"3، إن ابن عباس، كان على علم بالنحو، ودليل على ذلك نصه على اسمه، مما يدل على أنه كان معروفًا. وذكل إن جاز لنا التصديق بصحة هذه الروية، التي أرى أنها من المصنوعات. وكان أبو الأسود مثل غيره من العرب الفصحاء يكره اللحن واللحانين. روي عنه أنه ذكر اللحن، فقال: "إني لأجد للحن غمزًا كغمز اللحم"4. ولأبي الحسن أحمد بن فارس المتوفى سنة 395 للهجرة، وهو كما نعلم من مشاهير علماء اللغة، رأي طريف في منشأ هذا العلم خلاصته: أن أبا الأسود كان

_ 1 ابن الأنباري، نزهة "8"، الكشاف، للزمخشري "2/ 191". 2 القِفْطي، إنباه الرواة على أنباه النحاة "1/ 16"، خورشيد أحمد فارق، حضرت عمر كي سر كاري خطوط "دهلي1959"، "ص139 وما بعدها"، "القسم العربي"، John A. Haywood, Arabic Lexicography, p. 14. 3 القِفْطي "1/ 16". 4 عيون الأخبار "2/ 158".

أول من وضع العربية، لكن هذا العلم قد كان قديمًا، وأتت عليه الأيام، وقلَّ في أيدي الناس، ثم جدده هذا الإمام1. فأبو الأسود الدؤلي هو مجدد هذا العلم وباعثه، وليس موجده ومخترعه. فنحن إذن أمام رأي جديد، رأي يرجع علم العربية إلى ما قبل الإسلام وكفى لكنه لم يفصل ولم يشرح ولم يتعرض لموضوع متى كان ظهور هذا العلم في القديم وكيف وجد وهل كان للألسنة الأعجمية كاليونانية أو السريانية أثر في ظهوره ونشوئه؟ ثم إنه لم يتعرض للأسباب التي جعلت الأيام تأتي عليه حتى قل في أيدي الناس، إلى أن ظهر أبو الأسود فأعاده إلى الوجود، ولم يذكر كيف عثر أبو الأسود على هذا العلم ومن لقنه به حتى بعثه وجدده؟ تعرض "ابن فارس" لبحث منشأ علم النحو في أثناء كلامه على الخط العربي فقال: "وزعم قوم أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وأنهم لم يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا رفعًا ولا نصبًا ولا همزًا"2. وهو يرى أن رأيهم باطل، وأن بين العرب من كان يقرأ كما كان بينهم من كان أميًّا، وجاء بأمثلة في تفنيد دعواهم، ثم خلص إلى هذه النتيجة: "فإذا لم نزعم أن العرب كلها -مدرًا ووبرًا- قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم، فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة"3. ثم قال: "والذي نقوله في الحروف، هو قولنا في الإعراب والعروض والدليل على صحة هذا وأن القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أوَّلها: شاقتك أظعان لليلى ... دون ناظرة بواكر فنجد قوافيها كلها عند الترنم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها، لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقًا من غير قصد لا يكاد يكون. فإن قال قائل: فقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية،

_ 1 الصاحبي "ص37 وما بعدها". 2 الصاحبي "ص35". 3 "ص36".

وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول: إن هذين العلمين قد كانا قديْمًا وأتت عليهما الأيام وقلَّا في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان. وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب1. وقال "ابن فارس": "ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم العربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء، والهمزة، والمد، والقصر، فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنًا في مثل: الخبء، والدفء، والملء"2. وقد استخدم ابن عباس لفظة "العربية" في معنى: الإعراب، وذكر لفظة "النحو" قبل كلمة: "الإعراب"، حيث قال كما ذكرت ذلك قبل قليل: "وإنهم لم يعرفوا نحوًا ولا إعرابًا ولا رفعًا ولا نصبًا ولا همزًا". وذكر غيره أيضًا أن أبا الأسود "أول من وضع العربية"، و"أول من نقط المصحف ووضع العربية"3. وقد استنتج المرحوم أحمد أمين من ذلك الاستعمال أنهم يعنون بالعربية هذه العلامات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم "نحوًا" سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود وقالوا: إنه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتًا"4. ففرق "أحمد أمين" بين "العربية" و"النحو" وجعل للعربية سابقة على علم النحو، وجعل النحو وليدًا ولد من العربية. وهو رأي لا يتفق مع رأي "ابن فارس"، الذي نص على النحو بذكر اسمه، كما نص على الإعراب من بعده. هذا هو المشهور المعروف المتداول بين أكثر الناس عن منشأ علم النحو. وقد تعرض "ابن النديم" لهذا الموضوع فقال: "قال محمد بن إسحاق: زعم أكثر العلماء أن النحو أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وأن أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -عليه السلام- ثم روى روايات أخرى،

_ 1 الصاحبي "ص37 وما بعدها". 2 الصاحبي "39". 3 ضحى الإسلام "2/ 287"، الإصابة "2/ 233"، "رقم 4329". 4 ضحى الإسلام "2/ 387".

تذكر أن غيره قام برسم النحو، إذ قال: "وقال آخرون رسم النحو نصر بن عاصم الدؤلي، ويقال الليثي. قرأت بخط أبي عبد الله بن مقلة عن ثعلب، أنه قال: روى ابن أبي لهيعة عن أبي النضر، قال: كان عبد الرحمن بن هرمز أول من وضع العربية، وكان أعلم الناس بأنساب قريش وأخبارها وأحد القراء"1. وقد رد "ابن الأنباري" على من ذهب إلى أن علم النحو من صنع رجل آخر غير "أبي الأسود"، إذ قال: فأما زعم من زعم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ونصر بن عاصم فليس بصحيح، لأن عبد الرحمن بن هرمز، أخذ النحو عن أبي الأسود، وكذلك أيضًا نصر بن عاصم أخذه عن أبي الأسود، ويقال عن ميمون الأقرن"2. وكان قد ذكر ما ورد في الأخبار من قيام أبي الأسود به، ثم رجحها على غيرها بقوله: "والصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فإنه روي عن أبي الأسود أنه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه"3. ويلاحظ أن الذين رجعوا سبب وضع النحو إلى الخطأ في قراءة الآية: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 4، قد اختلفوا فيما بينهم في العهد الذي لحن فيه قارئ الآية في قراءتها، فمنهم من جعله في عهد عمر 5، ومنهم من صيره في عهد علي6، ومنهم من رجعه إلى أيام "زياد بن أبيه"، فأنت أمام رواية واحدة، لكنك تراها وقد نسبت إلى ثلاثة عهود، ومثل هذا الاختلاف أمر غير غريب بالنسبة إلى مراجعي الموارد الإسلامية، إذ نجد فيها أمثلة كثيرة من أمثاله، ويظهر أن الرواة تلاعبوا في الخبر، فنسبه كل واحد منهم إلى عهد لغاية أرادها، من هذا التحريف والتغيير.

_ 1 الفهرست "ص65". 2 نزهة الألباء "10"، "تحقيق محمد أبي الفضل إبرهيم". 3 المصدر نفسه"11". 4 [التوبة، الآية: 3] . 5 نزهة "8". 6 الخصائص "2/ 9".

وقد رجح "أحمد أمين" نسبة النحو إلى أبي الأسود، إذ يقول: "ويظهر لي أن نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك أن الرواة يكادون يتفقون على أن أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وأنه ابتكر شكل المصحف. وواضح أن هذه خُطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود، وواضح كذلك أن هذا يلفت النظر إلى النحو. وعلى هذا فمن قال إن أبا الأسود وضع النحو، فقد كان يقصد شيئًا من هذا، وهو أنه وضع الأساس بضبط المصحف حتى لا تكون فتحة موضع كسرة، ولا ضمة موضع فتحة، فجاء بعد من أراد أن يفهم النحو على المعنى الدقيق، فاخترع تقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، والاسم إلى ظاهر ومضمر، وغير ظاهر ولا مضمر، وباب التعجب وباب إن"1. وقال: "فالذي يظهر أنهم يعنون بالعربية هذه العلامات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون والتي استعملها أبو الأسود في المصحف، وإن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد وسموا كلامهم نحوًا سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود، وقالوا: إنه واضع النحو للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا، وربما لم يكن هو يعرف اسم النحو بتاتًا. فالظاهر أن عمله كان في أول الأمر ساذجًا بسيطًا، وهو وضع علامات الرفع والنصب وما إليهما ولم يزد على ذلك، فلما سمى العلماء بعدُ بعضَ ضروب الرفع فاعلا وبعض ضروب النصب مفعولا قالوا: إن أبا الأسود وضع باب الفاعل والمفعول، وإن كان أبو الأسود نفسه لم يعرف فاعلا ولا مفعولا، بل ربما لم يعرف أيضًا رفعًا ولا نصبًا، فإنهم يروون أنه8 قال لكاتبه: إذا رأيتني قد فتحت فِيَّ بالحرف فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت في فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت. وهو تعبير ساذج يتفق وزمن أبي الأسود"2. ولإبراهيم مصطفى، رأي قريب من رأي "أحمد أمين". فهو يرى أن المصطلحات والقواعد التي ذكر أن أبا الأسود وضعها بأمر "علي" لا يمكن

_ 1 ضحى الإسلام "2/ 286 وما بعدها". 2 ضحى الإسلام "2/ 287 وما بعدها".

أن تتفق وزمنه، لأن المصطلحات النحوية إنما ظهرت في وقت متأخر، ويذكر أن الآراء النحْوية، لم تظهر أيضًا في عهده، بدليل أننا لا نجد في كتاب سيبويه ولا في كتب النحو الأخرى رأيًا له. ويستنتج من ذلك أن عمل أبي الأسود كان وضع الإعراب وضبط المصحف1. وقد درس المستشرقون موضوع نشأة علم النحو وأصله، فمنهم من قال إنه نقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون برأي علماء العربية، من أنه عربي الأصل والنجار، وقد نبت كما تنبت الشجرة في أرضها. وتوسط آخرون، فقالوا: إنه كان من إبداع العرب، ولكن لما تعلم العرب الفلسفة اليونانية من السريان في بلاد العراق، وتعلموا أيضًا شيئًا من النحو، وهو النحو الذي كتبه "أرسطوطاليس"، وبرهان هذا أن تقسيم الكلمة مختلف، قال "سيبويه": "فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل"، وهذا تقسيم أصلي، أما الفلسفة فيقسم فيها الكلام إلى اسم وكلمة ورباط، أي الاسم هو الاسم، والكلمة هي الفعل، كما يقال له في اللغات الأوروبية VERB، والرباط هو الحرف، كما يقال له في اللغة الأوروبية conjunction أي ارتباط، وهذه الكلمات اسم وفعل ورباط، ترجمت من اليوناني إلى السرياني، ومن السرياني إلى العربي، فسميت هكذا في كتب الفلسفة لا في كتب النحو، أما كلمات اسم وفعل وحرف فإنها اصطلاحات عربية ما ترجمت ولا نقلت2. ثم أن "القياس" هو من أهم الأسس والأصول في المنطق اليوناني، وحيث إنه كان من أهم أدوات علماء النحو في تفريع علم النحو، حتى صار من مميزات مدرسة البصرة، والبصرة غير بعيدة عن "جنديسابور" وعن مدارس نصرانية، كان فيها علماء يدرسون علوم اليونان، ومنها المنطق والنحو، فلا يستبعد تأثر أبي الأسود الدؤلي ومن جاء بعده بهذه الدراسات، ودليل ذلك، هو ظهور هذا العلم في البصرة دون سائر المدن الأخرى، ومنها مدن الحجاز مهد الإسلام. ويرى "فون كريمر" أن ما يقال من أن ظهور اللحن، كان السبب

_ 1 مجلة كلية الآداب، المجلد العاشر "ص71"، "دسمبر 1948م". 2 ضحى الإسلام "2/ 292 وما بعدها".

وضع النحو، دعوى لا يعوَّل عليها، ولا أساس لها، وإنما هو وليد الحاجة التي أحس بها الأعاجم من آراميين وفرس، لتعلم العربية، وللتكلم بها على وجه صحيح1. وقد ألف بعض المستشرقين بحوثًا في موضوع النحو العربي ومدارسه، منهم المستشرق "فلوكل"2، و"هول"3، و"رايت"4، وغيرهم، وقد تطرقوا فيها إلى قواعد العربية وآراء علمائها فيها. وقد ذهب بعض المحدثين مذهب المستشرقين القائلين بتأثر النحو العربي بالنحو اليوناني، وذلك لأمور، منها: أن تقسيم الكلم المألوف المتبع في النحو، هو تقسيم يوناني، واعتبار القياس أصلا من أصول النحو، ووجود مدارس سريانية كانت تدرس علوم النحو في مدارسها عند ظهور الإسلام، ووجود يونان وأديرة في العراق، فهذه الأسباب وأشباهها تحمل الإنسان على القول إن النحو العربي قد تأثر بالنحو اليوناني وبمنطق أرسطو خاصة، ولا سيما وأن النحو قد ظهر في العراق، وهو ملتقى الحضارات. وقد تأثر خاصة في عهد "الخليل بن أحمد" الذي كانت له صلات وثيقة مع العلماء السريان، مثل حنين بن إسحاق وأضرابه، حتى ذهب بعض الباحثين إلى وقوف الخليل على اللغة اليونانية. وقد ذهب "مصطفى نظيف" إلى أن يعقوب الرهاوي، كان من معاصري أبي الأسود الدؤلي، وكان من تلامذة سويرس سيبخت، ومن البارعين في الفلسفة والنحو والتأريخ، ومن المؤلفين في النحو السُّرياني، ومن الذين أدخلوا التنقيط والحركات. وكان في البصرة، والبصرة ملتقى الثقافة، وحولها أديرة ومدارس، وهي غير بعيدة عن "جندبابور"، فلا يستبعد إذن تأثر أبي الأسود بهذه التيارات اليونانية التي كانت هناك5.

_ 1 فون كريمر، الحضارة الإسلامية. "90"، "تعريب مصطفى بدر". 2 Flugel G, Die Grammatischen Schulen der Araber, 1862. 3 M. S. Howell, Grammer of the Classical Arabic Language, 7 Vols, Allahabad, 1880-1911. 4 W. Wright, Arabic Grammer, Cambridge, 1896-8. 5 مجلة المجمع اللُّغوي، المجلد السابع "ص248"، عبد العال سالم مكرم، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النَّحْويَّة "55".

وأنا على رأي ابن فارس القائل إن الإعراب كان قديمًا عند العرب، قدم معرفتهم بالحروف، وإن علم العربية كان قديمًا، ثم جدده أبو الأسود الدؤلي على نحو ما حكيته من قوله في ذلك قبل قليل1. وعندي أن علم "العربية" كان معروفًا في العراق، وأنه كان يدرس في مدارس الحيرة وعين التمر والأنبار وربما في مواضع أخرى، كان غالبية سكانها من العرب النصارى، كان يدرسه لهم رجال الدين، الذين كانوا يتقنون الإرمية، وكانوا قد أخذوا علومهم في النحو من اليونان، بتأثير النصرانية ودراسة الأناجيل والكتب الدينية المؤلفة باليونانية. ولما كان أهل المواضع المذكورة من العرب، فلا يستبعد ظهور جماعة من رجال الدين النصارى العرب، اتخذت من مبادئ النحو التي وضعت للسريانية والمنقولة عن اليونانية، قواعد لضبط العربية بموجبها، كما ضبطوا الكتابة بها بالأبجدية التي صارت الأبجدية التي انتشرت بين أهل مكة ويثرب وأماكن أخرى. وبين هذه الأبجدية وبين العربية، من حيث هي قواعد صلة متينة. فلا يستبعد قيام رجال الدين بتعليم العربية والخط للعرب، لأنهم كانوا يقومون بالتبشير، وكان من مصلحتهم نشر الكتابة بين من يبشرون بينهم، وتعليمهم أصول اللغة، ليكون في وسع من يعتنق النصرانية تثقيف المشركين، وكانت هذه طريقتهم في التبشير في المواضع الأخرى من العالم. وأنا لا استبعد احتمال وقوف علي بن أبي طالب، أو أبو الأسود الدؤلي على تقسيم الكلم إلى اسم وفعل وحرف. وقفًا عليه باتصالهم بالحيرة أو بعلماء من أهل العراق كانوا على علم النحو وعلوم اللغة في ذلك العهد، وقد كان ذلك في الأسس والمبادئ، فلما جاء الإسلام، وأخذ المسلمون علم العربية عن المتقدمين، زادوا فيه وفرَّعوا واستقصوا وقاسوا، وأخذوا من كلام العرب ومن الشعر، حتى تضخم النحو فبرز على الصورة التي نجدها في "كتاب" سيبويه وفي الكتب التي وضعت بعده. ومما يؤسف له كثيرًا أن المؤرخين اليونان واللَّاتين والسُّريان لم يذكروا أي شيء عن علوم العربية عند العرب، وفي ضمنهم المؤرخون الذي أرَّخوا تأريخ الكنيسة والنصرانية، بسبب أنهم لم يكونوا يحفلون كثيرًا بأمور العرب، وأكثر ما ذكروه

_ 1 الصاحبي "38 ومابعدها".

عنهم إنما تناول الغزوات التي كانت تقوم بها القبائل على حدود الإمبراطوريتين، فأضاعوا علينا بذلك فوائد كبيرة، كان يمكن الاستفادة منها في تديون تأريخ ظهور الكتابة وعلوم العربية عند العرب. أما الموارد الإسلامية، فقد رأينا رأيها في أول ظهور النحو، وقد رأينا حاصل روايات مضطربة، يكتنفها غموض، ثم هي عاجزة في النهاية عن بيان كيفية توصل الإمام "علي" أو أبي الأسود إلى استنباط هذا التقسيم الثلاثي للكلم، ثم البحث في "العطف" و"النعت" والتعجب والاستفهام، وباب إن وأخواتها، والفاعل والمفعول، ونحو ذلك من قواعد، لا يمكن لإنسان استنباطها بمفرده من غير علم سابق له بقواعد اللغات، مهما أوتي ذلك الإنسان من ذكاء خارق وقوة إبداع! وأنا لا أستطيع أن أتصور أن إنسان يستطيع أن يجلس بمفرده ثم يجيل النظر في محيط اللغة التي تكلَّم بها قومه، وهو غير مسلح بعلم سابق باللغات ولا بمعرفة مسبقة بقواعدها. ثم تنثال عليه المعرفة ويستخرج منها بنفسه القواعد المذكورة، ثم يضع لأبوابها تلك الأسماء التي لا يمكن لأحد وضعها إلا إذا كان ذا علم بقواعد اللغات عند الأمم الأخرى، لأنها مصطلحات علمية منطقية، لا يمكن أن تخرج من فم رجل لا علم له بمصطلحات علوم اللغة والمنطق، ولأنها ليست من الألفاظ الاصطلاحية البسيطة التي يمكن أن يستخرجها الإنسان من اللغة بكل سهولة وبساطة حتى نقول إنها حاصل ذكاء وعقل متقد. وكيف يعقل أن يتوصل رجل إلى استنباط أن الكلمة إما اسم، أو فعل، أو حرف، ثم يقوم بحصرها هذا الحصر الذي لم يتغير ولم يتبدل حتى اليوم، بمجرد إجالة نظر وإعمال فكر من دون إن يكون له علم بهذا التقسيم الذي تعود جذوره إلى ما قبل الميلاد، ثم كيف يتوصل إلى إدراك القواعد المعقدة الأخرى التي لم يبتدعها إنسان واحد، وإنما هي من وضع أجيال وأجيال، إذا لم يكن له علم بفلسفة الفعل وعمل الفاعل وما يقع منه الفعل على المفعول، وكذلك الأبواب المذكورة التي لا يمكن أن يتوصل إليها عقل إنسان واحد أبدًا. لقد كان للبابليين ولغيرهم من أهل العراق علم باللغات، وكان لهم أساس في النحو وفي دراسة اللغة، كما كان لليونان ولغيرهم علم بالمنطق والنحو واللغات، وصل إلى العراقيين قبل النصرانية وبعدها، بطرق لا مجال للتحدث عنها في هذا المكان. وبقي هذا العلم العراقي اليوناني إلى الإسلام، ومنه جاء في نظري علم

النحو وعلوم العربية، وبسببه صار العراق القطر الإسلامي الأول الذي نبت فيه علم العربيات والنحو، لا بسبب لحن وقع من أعاجم أو من أعراب جهلاء، ولا بسبب تلك القصص التي ساقوها في أسباب اختراع النحو، وإنما بسبب وجود علم سابق في العربية عند أهل الحيرة والأنبار والقرى العربية الأخرى، وبسبب ظهور الحاجة إليه، لتعليم العرب وغيرهم أصول لغتهم وكيفية صيانة اللسان من الوقوع في الخطأ، فكان ما كان من وقوف علي أو أبي الأسود وهما من أصحاب الذكاء الخارق والتعطش إلى البحث والاستقصاء، فأخذا به، وتوسع من جاء بعدهما في تفريعه وفي تثبيته في كتب، كملت وتمت بالتدريج، فهي من حاصل ذلك التراث العربي الجاهلي. ولسابقة العراق هذه في الجاهلية بَزَّ سائر الأقطار الإسلامية في علوم العربية، حتى يثرب ومكة، وهما موطنا الإسلام ومهبطه، لم ينافساه فيها. قال السيوطي: "فأما مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا نعلم بها إمامًا في العربية. قال الأصمعي: أقمت بالمدينة زمانًا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة. وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلامًا ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه، وخفيت روايته"1. "وممن كان بالمدينة أيضًا علي الملقب بالجمل، وضع كتابًا في النحو لم يكن شيئًا2. وأما مكة، فكان بها رجل من الموالي يقال له: ابن قسطنطين، شدا شيئًا من النحو ووضع كتابًا لا يساوي شيئًا". وفي انفراد العراق، وتفوقه على غيره من الأمصار في هذه العلوم، دلالة على وجود البذور القديمة لها في هذه الأرض قبل الإسلام، فلما دخل العراق في الإسلام أينعت واتسعت، فكان ما كان من ظهورها فيه. وقد تأثر النحاة والمناطقة في الإسلام بمنطق أرسطو. هذا الإمام الشافعي يشير إلى تأثير القوم بمنطقه، إذ قال: "ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس"3. وقد توفي الشافعي سنة "204"

_ 1 المزهر "2/ 413 وما بعدها". 2 المزهر "2/ 414". 3 السيوطي، صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام "15"، "علي سامي النشار"، "مطبعة السعادة".

للهجرة1، فلا بد من أن يكون ميل الناس إلى هذا المنطق قد كان هذا العهد. ولعله قصد بـ"لسان أرسطوطاليس" العلوم اللسانية التي كان قد برع بها اليونان. فتكلموا عن أقسام الكلمة وعن بناء التركيب القياسي وعن الموضوع والمحمول وأنواع الإعراب بحسب لغتهم وعن النعت والضمائر والأفعال وما إلى ذلك من قواعد. وأبو الأسود الدؤلي، هو ظالم بن عمرو بن سفيان، أو "عمرو بن ظالم بن سفيان" أو "عويمر بن ظليم"، من أشياع علي بن أبي طالب ومن أصحابه. استعمله عمر وعثمان على البصرة، ثم استعمله علي عليها بعد ابن عباس. وقد ذكر أبو عبيدة، أنه كان كاتبًا لابن عباس على البصرة، وكان ابن عباس يكرم أبا الأسود لما كان عاملا بالبصرة لعلي ويقضي حوائجه. وقد اشترك مع علي في وقعة صفين. ويذكر أنه توفي في وباء سنة تسع وستين، وقيل مات بعد ذلك، توفي بالبصرة. قال عنه الجاحظ: "أبو الأسود الدؤلي، معدود في طبقات الناس، وهو فيها كلها مقدم، ومأثور عنه الفضل في جميعها. كان معدودًا في التابعين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحْويين، والحاضري الجواب، والشيعة، والبخلاء، والصلع الأشراف"2. وله أجوبة مسكتة مع معاوية، ومع أشخاص آخرين أرادوا التحرش به3"، تدل على بديهة وذكاء. ولأبي الأسود الدؤلي شعر، وقد طبع شعره في ديوان، وقد استشهد به في شواهد اللغة والنحو، ونجد نتفًا منه في الكتب التي تعرضت لسيرته4، وليس

_ 1 الفهرست "309". 2 وقد اختلف في اسمه، فقيل أيضا "عمرو بن عمران"، و"عثمان بن عمرو"، الإصابة "2/ 233"، رقم 4329. أدب الكاتب، لابن قتيبة "611". الخزانة "1/ 136" "بولاق". الأغاني "11/ 105 وما بعدها". إنباه الرواة "1/ 12 وما بعدها". المرزباني، معجم "240". السمط "66". تهذيب ابن عساكر "7/ 104"، الشعر والشعراء "1/ 615". 3 أمالي المرتضى "1/ 293 وما بعدها". 4 السيوطي، شرح شواهد "2/ 542 وما بعدها، 934"، الخزانة "1/ 136 وما بعدها". كتاب خلق الإنسان، لأبي محمد ثابت بن ثابت "241"، "الكويت 1965". "عبد الستار أحمد فراج"، خلق الإنسان، للأصمعي "212". المخصص "2/ 18".

شعره على مستوى رفيع من الوجهة الفنية، ولا يتعرض للأحداث التأريخية التي وقعت في أيامه1. وقد أخذ عن أبي الأسود جماعة من التلامذة، صاروا من مؤسسي علم النحو عند العرب، ومن مبوبيه ومصنفيه. منهم ابنه عطاء. وكان قد بعج العربية وبرز بها2. ومنهم يحيى بن يعمر وهو من عدوان بن قيس، وكان عدده في بني ليث بن كنانة، ولقي ابن عباس وابن عمر، وروى عنه قتادة. ومنهم عنبسة بن معدان، المعروف بـ"عنبسة الفيل"، ويقال إن نصر بن عاصم أخذ عن أبي الأسود3، وأخذ عن نصر "أبو عمرو بن العلاء" البصري، وأخذ عن أبي عمرو "الخليل بن أحمد"، وأخذ عن الخليل "سيبوبه"، وأخذ عن سيبويه "الأخفش"4. وممن أخذ عن أبي الأسود: ميمون الأقرن، وعبد الرحمن بن هرمز 5. وفي رواية: أن الذي برع بعد أبي الأسود ميمون الأقرن، وبعد ميمون عنبسة الفيل، وبعده عبد الله بن أبي إسحاق، فقاس وأكثر، ثم برع بعده أبو عمرو بن العلاء، ولحقه الخليل بن أحمد، إلا أن نظر أبي عمرو أقدم من نظر الخليل. ثم أتى الخليل في النحو بما لم يأت بمثله أحد قبله في تصحيح القياس، واللطافة والتصريف. وكان يونس في عصر الخليل، وبقي بعده مدة طويلة، ويقال إن سيبويه مات قبل يونس. وكان عيسى بن عمر في عهد أبي عمرو وعهد الخليل وكان بارعًا أيضًا6. وكان عنبسة الفيل، من أبرع أصحاب أبي الأسود الذين كانوا

_ 1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 172". 2 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 21". 3 الفهرست "68"، "تسمية من أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي". 4 القِفْطي "1/ 6". 5 ابن الأنباري، نزهة "11"، طبقات، لابن سلام "5". 6 العسكري، المصون "119".

يتعلمون منه العربية1. وذكر أن الناس اختلفوا إليه بعد أبي الأسود، وكان من بينهم ميمون الأقرن الذي كان من أبرع أصحابه. وقد ذكرت رواية تنسب إلى أبي عبيدة اسم "ميمون الأقرن" قبل عنبسة2. وأما نصر بن عاصم الليثي 89هـ، 90هـ، فإنه كان فقيهًا عالِمًا بالعربية، فصيحًا قرأ القرآن على أبي الأسود، وقرأ أبو الأسود على "علي"، فكان أبو الأسود أستاذه في القراءة3. وابن أبي اسحاق الحضرمي، هو أبو بحر عبد الله بن أبي إسحاق 117هـ، وكان قيمًا بالعربية والقراءة، شديد التجريد للقياس. ويقال إنه كان أشد تجريدًا للقياس من أبي عمرو بن العلاء، وكان أبو عمرو بن العلاء أوسع علمًا بكلام العرب ولغاتها وغريبها. ويقال إنه أول من علل النحو. وكان قد قرأ على يحيى بن يعمر، وعلى: نصر بن عاصم، وزعم أنه كان أول من بعج النحو ومد القياس والعلل4. وأما يحيى بن يعمر العدواني "129هـ"، فكان عالمًا بالعربية والحديث، لقي عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس وغيرهما من الصحابة. وكان يستعمل الغريب في كلامه5. وقد لحق بخراسان، وكتب ليزيد بن المهلب، ألحقه بها الحجاج6. وكان عيسى بن عمر الثقفي "149هـ"، ثقة عالمًا بالعربية والنحو والقراءة، وصنف كتابين في النحو، يسمَّى أحدهما: الجامع، والآخر الإكمال، وقد ذكرهما الخليل بن أحمد بقوله:

_ 1 ابن الأنباري، نزهة "12 وما بعدها"، إنباه الرواة "2/ 381 وما بعدها"، بغية الوعاة "2/ 233". 2 ابن الأنباري، نزهة "13، 406". 3 ابن الأنباري، نزهة "14"، إنباه الرواة "3/ 343"، بغية الوعاة "3/ 313 وما بعدها". 4 ابن الأنباري، نزهة "18 وما بعدها"، إنباه الرواة "2/ 104 وما بعدها"، بغية الوعاة "2/ 40"، المزهر "2/ 398، 423". طبقات، لابن سلام "6". 5 بغية الوعاة "2/ 345"، المزهر "2/ 398 وما بعدها"، ابن الأنباري، نزهة "16 وما بعدها". 6 طبقات، لابن سلام "6".

ذهب النحو جميعًا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر1 وبلغ النحو درجة كبيرة من التقدم، حين انتقلت الزعامة فيه إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي كان غاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس"2. "فهو الذي بسط النحو ومد أطنابه وسبب علله، وفتق معانيه، وأوضح الحجاج فيه حتى بلغ أقصى حدوده. ثم لم يرض أن يولِّف فيه حرفًا ويرسم منه رسمًا. واكتفى في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، وألف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم قبله، وامتنع على من تأخر بعده"3، وقد كان علم الخليل، في جملة المنابع التي غرف منها سيبويه في كتابه: الكتاب. وقد ذكر سيبويه اسمه في "410" مواضع من كتابه، وأشار إلى آرائه دون أن يذكر اسمه في "174"، مكانًا آخر، وهو وأن لم يشر إلى اسمه، لكن العلماء ذكروا أنه قصده 4. وأورد سيبويه له في كتابه آراء أستاذه في إعراب آيات القرآن الكريم، وتأويلها، كما جاء له بشواهد من الشعر في شرح قواعد نحوية، منها أشعار نص على أسماء قائليها، مثل أمية بن أبي الصلت، وطرفة والنابغة والأعشى، وغيرهم. ومنها أشعار لشعراء محضرمين وإسلاميين، ومنها أشعار لم يذكر أسماء أصحابها5. ونعت بأنه "نحوي عروضي، استنبط من العروض وعلله ما لم يستخرجه أحد، ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم. وقيل إنه دعا بمكة أن يرزق

_ 1 ابن الأنباري، نزهة "21 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 237 وما بعدها". 2 الفهرست "70". 3 كلما قال سيبويه سألته، أو قال: "قال" من غير أن يذكر قائله، فهو الخليل، ابن الأنباري. نزهة "55". السيوطي، بغية "244" Wofgang Reuschel, Al-Halil ibn Ahmad der Lehrer Sibawaih's, Als Grammatiker, Berlin, 1959, S. 9. وسأرمز إليه بـ: Reuschel.

علمًا لم يسبق إليه أحد، ولا يؤخذ إلا عنه، فرجع من حجه، ففتح عليه بالعروض"1. وذكر أنه كان الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله، وكان أول من حصر أشعار العرب. دخل عليه ولده وهو يقطع العروض، فأخبروه بما قال ابنه، فقال له: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ماتقول عذلتكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذلتكا3 ويظهر من دراسة كتاب سيبويه أن أثر الخليل عليه كان كبيرًا، لا يدانيه أثر أي عالم آخر عليه، وأن علم الخليل بالنحو، كان غزيرًا جدًّا، يؤيده استشهاد سيبويه بآرائه أكثر من استشهاده برأي أي عالم آخر من علماء هذا العلم، مثل أبي عمرو بن العلاء "154هـ"، وعيسى بن عمر الثقفي "149هـ"، ويونس بن حبيب "182هـ". ويظهر أن الخليل لم يدوِّن علمه بالنحو في رسائل أو كتب، وإنما كان يعلم من يقصده مشافهة3، فكان تلامذته يسمعونه ويحملون العلم عنه، وذلك على طريقة أكثر العلماء في ذلك العهد. وللخليل بعد، آراء خاصة في النحو، ونجد الخوارزمي يتكلم في الفصل الثاني من فصول النحو، بقوله: "في وجوه الإعراب وما يتبعها على ما يحكى عن الخليل بن أحمد"4، مما يشير إلى وجود آراء خاصة له به، أشير إليها في كتب النحو، وربما وضعها بعضهم في مؤلفات خاصة بآرائه في النحو. ومن آرائه استعماله مصطلح الرفع في الاسم المضموم المنون، ومصطلح الخفض في الاسم المجرور المنون، والنصب في الاسم المفتوح المنون، على حين يسمي بقية الحركات

_ 1 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 342". 2 ابن الأنباري، نزهة "45 وما بعدها"، إنباه الرواة "1/ 341 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 557 وما بعدها"، المزهر "2/ 401 وما بعدها"، مراتب النحويين "37 وما بعدها". 3 Reuschel, S. 63. f, John Sib, Sibawaihs Buch uber die Grammatik, Berlin 1884-1900, Bd, I, 2, I, 2. 4 مفاتيح العلوم "30".

العارية من التنوين في الأحوال والصيغ المختلفة بأسماء الحركات العامة، أي: الضم، والكسر، والفتح، كما أنه يسمَّى بالجر حركة الكسر التي تربط بين آخر الصيغة الفعلية وبين همزة الوصل. ولا يوجد عنده ما يدل على تأثير النظرية القائلة بأن اختلاف حركات الكلمات المتصرفة متوقف على العامل النحوي، إلا في التفرقة التي جعلها بين التوقيف، أي عدم الحركة في أواخر الحروف وما شاكلها، والجزم، أي سكون الفعل المجزوم1. وكان سند علماء العربية ومنبعهم الذي أخذوا منه علمهم في وضع قواعد العربية كتاب الله والشعر وكلام العرب. ويكون كلام العرب، المنبع الأول الذي استمدا منه علمهم في اللغة وفي وضع القواعد، وهو ما أخذ عن القبائل والأفراد، ونجد للهجات أهل الحجاز وتميم أهمية كبرى في كتب الشواهد والقواعد2. ونظرًا لاعتماد العلماء على هذا المورد أكثر من غيره، وقعوا في مشاكل، جعلتهم يتحايلون في حلها، ويرجعون إلى التأويل والتفسير، من ذلك ما وقعوا فيه من عدم تمكنهم من التوفيق بين القواعد التي وضعوها، وبين ما جاء في القرآن أو الشعر من أمور لا تنسجم مع هذه القواعد. وكل هذ الموارد المذكورة، هي موارد أخذ منها بالسماع، وهناك قواعد وضعها العلماء قياسًا على كلام العرب، استنبطوها بطريق القياس، والقياس من أهم الميزات التي ميزت البصرة على الكوفة في وضع قواعد اللغة. والقياس ركن من ركنين مهمين، قام عليهما علم النحو. أما الركن الأول، فهو السماع. وللدور الخطير الذي قام به القياس في تكوين أصول وقواعد النحو، قال المستشرقون وغيرهم بتأثر النحو العربي بمنطق أرسطو وممن أخذ وعمل به في النحو عبد الله بن أبي إسحاق الخضرمي، قيل عنه: وكان شديد التجريد للقياس. ويقال إنه كان أشد تجريدًا للقياس من أبي عمرو بن العلاء"3. وفرع النحو وقاسه4، وكان أول من بَعَجَ النحو ومدَّ القياس والعلل5.

_ 1 مفاتيح العلوم "30"، يوهان فك، العربية "11". 2 reuschel, s,63. 3 نزهة "18"، مراتب النحويين "18"، بغية "2/ 40". 4 المزهر "2/ 398", 5 ابن سلام، طبقات "6 وما بعدها".

وكان الخليل بن أحمد رأس العاملين بالقياس في فتاوي النحو. كان قياسًا بارعًا فيه. قيل عنه: إنه سيد قومه، وكاشف قناع القياس في علمه1. وقد تأثر سيبويه بقياس الخليل، فاستعمله في تثبيت العربية. فتجد في كتابه جملا مثل: وللقياس كذا أو والقياس يأباه، وسألت الخليل عن قول العرب ما أميلحه، فقال: لم يكن ينبغي أن يكون في القياس لأن الفعل لا يحقر، وإنما تحقر الأسماء"2. وقد انقسم علماء اللغة والنحو إلى فئتين بالنسبة لاستعمال القياس في اللغة والنحو. ولكن الأغلبية معه، وقد وقع فعلا، وأثَّر في وضع القواعد أثرًا خطيرًا. فبه أوجد النحاة كليات القواعد. "قال ابن الأنباري: اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق لأن النحو كله قياس، فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو، ولا يعلم أحد من العلماء أنكره. وينسب إلى الكسائي أنه قال: إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل أمر ينتفع3 ولعلماء اللغة، كلام طويل في مدى جواز استعمال القياس، وفي حالة ورود السماع لأن اللغة في نظر بعض منهم سماع، فإذا كانت سماعًا، وجب الأخذ بالسماع، فإذا ورد السماع بطل القياس4. وقد تحدث العلماء عنه. قال ابن فارس: "أجمع أهل الغة -إلا من شذ عنهم- أن للغة العرب قياسًا، وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض". غير أنه قال: "وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه، لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها، ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسًا نقيسه الآن نحن"5. ولابن جني رأي في القياس. قال: "واعلم أنه إذا أدَّاك القياس إلى شيء ما، ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره، فدع ما كنت

_ 1 الخصائص "1/ 366 وما بعدها". 2 ضحى الإسلام "2/ 292". 3 ضحى الإسلام "2/ 281". 4 البَغْدادي، خزانة "3/ 559". أحمد تيمور باشا، السماع والقياس "11". 5 الصاحبي "67"، المزهر "1/ 345 وما بعدها".

عليه ما هم عليه، فإن سمعت من آخر مثل ما أجزته، فأنت فيه مخير، تستعمل أيهما شئت، فإن صح عندك أن العرب لم تنطق بقياسك أنت كنت على ما أجمعوا عليه البتة وأعددت ما كان قياسك أداك إليه لشاعر مولد، أو لساجع، أو الضرورة، لأنه على قياس كلامهم"1. والإجماع أن النحو لم يجمع ولم يرتب ترتيبًا علميًّا إلا في الإسلام، وإلا في أيام العباسيين، حيث أظهر علماء العربية نشاطًا عظيمًا في تتبع القواعد واستنباطها من المظان التي أشرت إليها. وقد استقر وثبت، بعد أخذٍ وردٍّ بين علمائه في المسائل الفرعية التي أثارت الاختلاف فيما بينهم، فكانت ردود وتخطئة بعض منهم لبعض، ثم استقر في كتب تمثل اليوم ثروة قيمة تقدر في هذه اللغة الواسعة الثرية بألفاظها وبقواعدها. ولا بد في نظري لمن يريد فهم النحو العربي فهمًا صحيحًا واضحًا، من دراسة نحو اللغات الجاهلية من عربية جنوبية ومن ثمودية ولحيانية وصفوية ونبطية، لأنها وإن فارقت العربية القرآنية في أمور إلا أنها عربية في النهاية، ودراستها تفيدنا فائدة كبيرة في الوقوف على تأريخ تطور عربيتنا والعربيات البعيدة عن الإسلام، وهي كما نعلم من أقدم اللهجات العربية التي أفادتنا في تقديم كتابات مدونة في تلك الأيام، يعود تأريخ بعض منها إلى ما قبل الميلاد. وقد تحدثت عن نحو اللهجات العربية الجاهلية وعن أمور من صرفها في الجزء السابع من كتابي الأول المعروف بتأريخ العرب قبل الإسلام، المطبوع ببغداد. هذا وقد عثر حديثًا على آثار في إمارة أبي ظبي وفي مواضع أخرى من سواحل الخليج، قد تقدم لنا علمًا جديدًا عن لهجات عربية قديمة لا نعرف اليوم من أمرها شيئًا، وبذلك يتسع علمنا عن لهجات العرب قبل الإسلام، وقد نستطيع بواسطتها الوقوف على كيفية تطور اللغة العربية القرآنية وعلى حصر المواضع التي كان سكانها يتكلمون بها، أو بلهجات قريبة منها. بل أرى ضرورة دراسة اللغات السامية للاستفادة من هذه الدراسة المقارنة في فهم خصائص اللغة العربية ولحل بعض مشاكلها في النحو والصرف والألفاظ. وقد بذل المستشرقون -والحق يقال- جهودًا يشكرون عليها في دراسة هذه اللغات دراسة مقارنة. ولدينا اليوم مؤلفات كثيرة في هذه الدراسة، تعرضت

_ 1 الخصائص "1/ 126".

للحروف بنوعيها: الحروف الصامتة the consonant sounds"، والحروف المتحركة "the vowels"، والضمائر، وللأسماء الموصولة وأدوات الوصل، وللأسماء، وللجموع وللأفعال، ولحروف الجر، وغير ذلك من الموضوعات التي تجدها في الكتب التي بحثت عنها1. ومن أهم الموضوعات التي يجب توجيه العناية إليها، موضوع: علم الأصوات "phonology" بالنسبة إلى اللغات السامية، مثل دراسة مخارج الحروف، والحركات، والإمالة، والتفخيم، والإشمام في العربية على وجه خاص، ثم دراسة صرف هذه اللغات "morphology" مثل جذور الألفاظ التي يغلب عليها الطابع الثلاثي "triconsonantal" المكون من الحروف الصامته، بينما تقل فيها الجذور المكونة من حرفين صامتين أو من أربعة حروف صامتة. ومثل دراسة كيفية تكون الأسماء، وأبنيتها، ودراسة الجنس في هذه اللغات، والعلامات التي تميز الجنس: المؤنث عن المذكر، ثم العدد: المفرد، والمثنى، والجمع. جموع التذكير وجموع التأنيث، وجموع التكسير، ثم الظرف، وحروف الجر، والعطف، ودراسة الأفعال بأنواعها، وحالات الجمل، وغير ذلك من أمور تخص علم اللغات2.

_ E. Renan, Histoire Generale des Langues Semitigues, Paris, 1855, William Wiight, Lectures on the Comparative Grammar of the Semitic Languages, Amsterdam, 1966, Zimmern Verleichende Grammer D. Semltischen Sprache, Berlin, 1898, De Lacy O'leary, Comparative Grammar the Smltlc Languages,London, 1923. وللوقوف على أسماء المؤلفات الموضوعة في مثل هذه الدراسات أرجح الرجوع إلى المصادر الآتية: H Zimmern, Vergleichende Grammatic der Semitischen Sprachen, Berlin, 1898, Barth J., Sprachwlssenschaltliche Untersuchungen zum Semitischen, Lelp2ing, 1907-11, G. Bergstrasser, Elnfuhrung in die Semitischen Sprachen, Munchen, 1928, C. Brockelmann, Grundriss der Vergleichenden Grammatit der Semitischen Sprachen, 2 Bande, Semitlsche Sprachwlssenschaft 2 Aufiage, Leipzig, 1916, P. Dhonne, Langues et Ecritures Semltiques, Paris, 1930, Fleisch, Introduction ft l'6tude des Langues S6mitiques, Paris, 1947, 1. H. Gray, Introduction to Semitic Comparative Linguistics, New YorK, 1934, B. Spuler, Handbuch der Orii ntallstifc, III, Semitistik, Leiden, 1953-54, J. H. Kramers, De Semletische Talen, Leiden, 1949, LevI Delia Vlda, Unguistica Semitlca, Roma, 1961, Noldeke, Beitrage zur Semitischen Sprachwissenschaft, Strsbourg, 1904, Neue Beitrage zur Semitischen Sprach-wlssenschaft, Strasbourg, 1910, G. Kolandi, Le Lingue Semitiche, Torino, 1954, Sabatino Moscti, An Introduction to the Comparative Grammer of the Semitic Languages, Phonology and Morphology, Wiesbaden, 1964.

وقد عالج بعض العلماء موضوعات خاصة من موضوعات النحو والصرف، مثل موضوع الفعل في اللُّغات السامية1. وموضوع الصلة بين العربيات الجنوبية وبين اللغة الحبشية2. والصلة بين العربية وبين اللغات السامية الأخرى، أو بين لغة سامية ولغة سامية أخرى من حيث قواعد النحو والصرف3.

_ 1 G Bertin, Suggestions on The Voice-Formation of the Semitic Verb, In Journal of the Royal Asiatic, vol. XV, 4. Prlthlof Rundgren, Erneurung des Verbal aspekts.htm' im Semltlschen Funktlonell-Diachronische Studlen zur Semltlschen Verblehre, Upsala, 1963, G. R. Castellino, The Akkadian Personal Pronouns and Verbal System in the light of Semitic and Hamltlc, 1962, Barth J., Die Nomlnalbldung in den Semitlschen Sprache, Leipzig, 1894, Hurwltz, Root Determinatives In Semitic Speech, New York, 1913. 2 A. Murtonen, Early Semitic, A Dlachronlcal Inquiry Into the Relationship of Ethlopic to the other So-called South-East Semitic Languages, Leiden,1937. 3 De Lagarde, Ubersicht XJber ule im Aramalschen, Arablschen und Hebralschen Ubliche Bildung der Nomlna, Gottlngen, 1889 Barth, Die Nominalbildung in den Semltischen Sprachen, Leipzig, 1889.

الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر

الفصل السادس والأربعون بعد المائة: الشعر مدخل ... الفَصْلُ السَّادِسُ والْأَرْبعونَ بَعْدَ المائةِ: الشِّعْرُ الشعر والْحِكَم والكَهَانة والخطابة وأضرابها، هي أهم المظاهر التي تحدد لنا معالم العقلية الجاهلية، وتعطينا فكرة عامة عن العقل الجاهلي. أما الشعر الجاهلي، فلم يصل إلينا من الجاهلية مدونًا قطُّ، وإنما وصل إلينا مدونًا في الإسلام. وأقصد أننا لم نعثر حتى الآن على أي شيء منه مكتوبًا بقلم جاهلي، أو محفورًا على نص جاهلي. ولك ما نحفظه ونعرفه من ذلك الشعر، هو مما وصل إلينا بنقول الإسلاميين. وللعلماء، من إسلاميين قدامى ومحدثين، ومن مستشرقين، آراء في هذا الشعر. منهم من يبالغ في اليقين، فيرى أن كل ما وصل إلينا منه صحيح، ومنهم من يبالغ في الشك، فيرى أن أكثر ما وصل هو شعر منتحل فاسد موضوع، وضع لأغراض عديدة يذكرونها: دينية وسياسية وجنسية وغير ذلك، ومنهم من يتوسط فيرى أن فيه الصحيح وفيه الفاسد المدسوس، وإن من الخير البحث فيه من نواحٍ متعددة ودرسه دراسة علمية حديثة ونقده نقدًا علميًّا لتمييز صحيحه من فاسده، ولكل فريق حجج وأدلة مدوَّنة، وكتب أفردوها، فيها رأيهم وحججهم، إليها أَسْتَحْسِنُ رجوع من يريد الوقوف على تلك الآراء. ومن الكتب المؤلفة في الأدب الجاهلي، واشتهرت خاصة بين أدباء العربيات بنقد الشعر الجاهلي وبتوجيه الشك إلى صحة أكثره، فأثارت لذلك ضجة كبيرة

كتاب ألَّفَهُ الدكتور طه حسين في العربية بعنوان: "في الأدب العربي". وقد رد عليه أدباء عديدون في مصر وغيرها من البلاد العربية الأخرى. وقد أوضح الدكتور في كتابه العوامل التي حملته على تكوين رأيه المذكور في الأدب الجاهلي. وليس مرجع هذا الاختلاف هو في حقيقة وجود شعر جاهلي أصلا، أو في عدم وجوده. فوجود شعر للجاهليين، حقيقة لا يُشَك فيها أبدًا، لأن الجاهليين هم مثل سائر الناس، لهم حسٌّ ولهم شعور، وما دام الحسّ موجودًا، فلا بد أن يظهر على شكل شعر أو نثر. وإنما الاختلاف هو في هذا الشعر المروي لنا، والمدون في بطون الكتب. هل هو جاهلي حقًّا، أو هو منحول فاسد محمول على الجاهليين؟ أو وسط بَيْنَ بَيْن، وفي كمية الصحيح منه، بالنسبة إلى مقدار الفاسد منه؟ هذا موضع الاختلاف بين العلماء. وقد وصف القديس "نيلوس" المتوى حوالي السنة 430 للميلاد غارة بدوية على دير سيناء، وقعت سنة410م، وتحدث عن تغني الأعراب بأشعارهم وهم يستقون الماء1. كما أشار المؤرخ "سوزيموس" إلى تغني العرب بأشعارهم وذلك في المعارك التي وقعت بينهم وبين الروم في حوالي سنة "440م"، وهي أغانٍ تشبه الأشعار التي كان يتغنى بها الأعراب في حروبهم وغزواتهم، مثل يوم ذي قار2، والمعارك التي وقعت في فتوح العراق والشأم. ولا زال الأعراب يترنمون بالشعر عند غزوهم بعضهم، لأن الشعر عندهم سلاح مهم من أسلحة القتل. ثم إن شعر المخضرمين، هو في حدِّ ذاته دليل على وجود شعر سابق جاهلي، فشعر مثل هذا لا يمكن أن يكون قد ظهر فجأة من غير شعر سابق ومن غير شعراء ماضين مهدوا الجادة لمن جاء بعدهم ووضعوا لهم البحور المعروفة، وقد وجدها المخضرمون، فنظموا عليها. وفي القرآن الكريم سورة تسمَّى "سورة الشعراء"3، وهي تدل على كثرة الشعراء، وعلى تأثر الناس بهم، وعلى تأثير شعرهم في النفوس وتلاعبه بأفئدة

_ 1 غرونباوم "133". 2 غروبناوم "134". Die araber, II,s, 330. 3 رقم السورة "26".

الجاهليين، وتجاسر بعض الكفار على الرسول، فوصفوه بأنه شاعر. ووصفه بهذه الصفة دليل على ما كان الشعر من أثر في نفوس القوم. وقد ورد في الحديث: أن الرسول قال: "إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمًا"، أو "إن من الشعر لحكمة"1. وفي الأخبار أنه كان يرفع أُنَاسًا ويذل آخرين، وأن من الناس من كان يشتري ألسنة الشعراء. وورد في الحديث، أن الرسول ذكر الشعر فقال: "إن من الشعر لحكمة، فإذا ألبس عليكم شيء من القرآن فالتمسوه في الشعر، فإنه عربي"2. ووردت عنه أحاديث أخرى في حق الشعر3. وورد في خبر آخر أن "العلاء بن الحضرمي"، لما وفد على رسول الله، قال له الرسول: أتقرأ شيئًا من القرآن؟ فقرأ سورة عبس، ثم زاد فيها من عنده: "وهو الذي أخرج من الحبلى نسمة، تسعى بين شراسيف وحشى، فقال رسول الله كفَّ فإن السورة كافية، ثم قال: أتقول شيئًا من الشعر؟ فأنشده: وحي ذوي الأضغان تسب قلوبهم ... تحيتك الأدنى فقد يدبغ النَّعلُ فإن دحسوا بالكره فاعفُ تَكَرُّمًا ... وإن أخنسوا عنك الحديثَ فلا تسل فإن الذي يؤذيك منه استماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل فقال النبي: "إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكما 4 ". وورد أن الرسول كان يسأل الصحابة أن يسمعوه شعرًا، سأل مرة "الشريد بن سويد الثقفي" أن ينشده شيئًا من شعر أمية بن أبي الصلت، فأنشده مائة بيت، فقال الرسول: كاد أمية بن أبي الصلت أن يُسْلِم، أو أن كاد ليسلم5. وكان الرسول يقول: أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: أَلَا كُلُّ شَيءٍ

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 134". 2 اللسان "4/ 410"، "شعر". العمدة "ص27"، "إذا اشتبه عليكم شيء من القرآن فاطلبوه في الشعر"، مجالس ثعلب "317". 3 العمدة "ص27". 4 بلوغ الأرب "3/ 133 وما بعدها"، "إن من الشعر حكمًا، وإن من البيان سحرًا". وفي هذه الأبيات روايات متباينة، عيون الأخبار "2/ 18"، "طبعة دار الكتب المصرية"، كَنْزُ العُمَّالِ "2/ 178". 5 إرشاد الساري "9/ 100 وما بعدها"، الإصابة "2/ 146"، "رقم3892"، المزهر "2/ 309"، "مائة قافية"، ابن سعد "5/ 376"، صحيح مسلم "7/ 48"، "كتاب الشعر".

ما خلا الله باطل، أو أن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل1. وورد أنه استشهد ببيت شعر لطَرَفَةَ بن العبد، هو: ستبدي لك الأيامُ ما كانت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوَّدِ2 وورد أنه جلس في مجلس من الخزرج، فاستنشدهم شعر: قيس بن الخطيم، فأنشدوه بعض شعره3. وللرواة أخبار عديدة تشير إلى سماع الرسول الشعر وإلى وقوفه عليه وعلمه به، وأنه كان يكلف الصحابة بأن ينشدوه من شعر الشعراء، وذكر أنه نهى من رواية رثاء أمية بن أبي الصَّلت قتلى قريش في معركة بدر، لما فيها من رثاء لمشركين ومن تحريض على الإسلام4. وورد أن الشاعر العباس بن مرداس"، شهد مع النبي حنينًا على فرسه "العُبيد"، فأعطاه النبي أربع قلايص، فقال: أتجعل نهبي ونهب العبيـ ... ـد بين عيينة والأقرع وكانت نهابًا تلافيتها ... بكري على المهر في الأجرع فقال الرسول: اقطعوا عنَّا لسانه5. ولسانه هو شعره. وروي عن عمر قوله: "نعم ما تعلمته العرب الأبيات من الشعر يقدمها الرجل أمام حاجته فيستنزل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم، مع ما للشعر من عظم المزية، وشرف الأبية، وعز الأنفة، وسلطان القدرة6". وقديمًا قال ابن عباس: "إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله، فاطلبوه في

_ 1 إرشاد السَّاري "9/ 101 وما بعدها"، صحيح مسلم "7/ 49"، "كتاب الشعر". 2 معجم الشعراء "202". 3 الأغاني "3/ 7". 4 الأغاني "4/ 122 وما بعدها"، الفائق "3/ 52"، الأغاني "8/ 243"، ابن سعد "5/ 376"، المزهر "2/ 309". 5 الشعر والشعراء "2/ 634"، الاشتقاق "188". 6 بلوغ الأرب "3/ 82".

الشعر، فإنه ديوان العرب"1. وقيل إنه -أي ابن عباس- ما فسَّر آية من كتاب الله، إلا نزع فيها بيتًا من الشعر. وروي أن غيره كان يحفظ شيئًا وافرًا من الشعر، الشعر المروي عن أناس عاشوا قبل الإسلام وأناس أدركوا الإسلام، وأنهم كانوا يتداولونه ويتطارحونه ويحفظونه لصلته بكل فرد منهم. ففيه أخبار القبائل وأيام العرب وما قيل فيهم من مدح أو ذم، والحق أننا بفضل هذا الشعر حصلنا على كثير من هذا القصص المنسوب إلى أهل الجاهلية، وبفضله عرفنا الشعراء والقبائل والأيام والحروب، فهو كما قلت في الجزء الأول من هذا الكتاب مورد مهم رئيسي يرد منه المؤرخ في تدوينه تأريخ العرب قبل الإسلام. ونحن لا نكاد نقرأ قصة من قصص "أيام العرب"، إلا ونجد فيها شعرًا، ينسب إلى بطل من الأبطال الذين ساهموا فيها، أو من شاعر يذكر قومه أو خصوم قومه أو خصومه بالأيام التي انتصروا فيها على خصومهم. وقد ساعد هذا الشعر على تثبيت تلك الأيام في ذاكرة رواتها، حتى وصلت إلى أيام التدوين فدونت، على نحو ما نقرأها في هذا اليوم. ثم إن كتب الأدب بأنواعها مملوءة بأخبار المساجلات والمطارحات التي وقعت بين الشعراء قبيل الإسلام وفي أيام الرسول والخلفاء. وقد رويت فيها أشعار وقصائد لشعراء جاهليين، ولشعراء مخضرمين. وقد تحدث معظم المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام عن ذكرياتهم في الجاهلية، ورووا ما نظموه فيها من أشعار وما وعوه من المناسبات التي نظموا فيها. ثم إن هذه الكتب مملوءة أيضًا بأخبار مجالس سمر تناولت الحوادث والأيام والشعر والشعراء، وفيها نقد ومفاضلات لما ذكر في تلك المجالس من شعر، وقد روي: أن الرسول كان يجالس أصحابه ويتحدث معهم ويصغي إليهم، ويستمع إلى ما يرْوُونه وما يتذاكرونه من الشعر2. وروي أن الْحُطَيئةَ، وهو شاعر معروف، كان يتذاكر الشعراء ويحفظ أشعارهم3. وقيل للحسن البصري: "أكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

_ 1 المزهر "2/ 470"، الأخبار الطوال "332"، طبقات الشعراء، للجُمَحِي "ص10"، بلوغ الأرب "3/ 83". جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 36"، العمدة "30"، التبريزي، شرح الحماسة "1 وما بعدها". 2 الأغاني "15/ 55". 3 الأغاني "15/ 94".

يمزحون؟ قال: نعم ويتقارضون، أي يقولون القَرِيضَ وينشدونه. والقريض الشعر"1. وروي أن أصحاب رسول الله، كانوا يتناشدون الأشعار ويذكرون أمر جاهليتهم، وأن رسول الله كان يجالسهم في المسجد، وهم يتناشدون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسَّم2. وعن أبي سلمة: "لم يكن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- متحزقين ولا متماوتين، كانوا يتناشدون الأشعار، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من أمر دينه دارت حمَاليق عينيه كأنه مجنون"3. وقد ذكر أن من الأعاجم من تعلم الشعر العربي ورواه وعشقه، فزعم ابن الكلبي مثلا أن "خرحسرة"، وهو ابن المروزان، كان قد تعرب، أعجبته العربية فتعلمها وروى الشعر، وكان واليًا على اليمن في عهد كسرى، ثم بلغ كسرى تعربه، وروايته الشعر، وتأدبه بأدب العرب، فعزله، وولَّى باذان4. وللشعر أثر خطير في نفوس العرب كان يهز عواطفهم هزًّا، ويفعل فيهم فعل السحر، فلا عجب إذا ما قرن "رؤبة" الشعر بالسحر، وجعله مثله في التاثير لتلك العلة: لقد خشيت أن تكون ساحرا ... راوية مرا ومرا شاعرا 5 قال الجاحظ: "وكان الشاعر أرفع قدرًا من الخطيب، وهم إليه أحوج لرده مآثرهم عليهم وتذكيرهم بأيامهم، فلما كثر الشعراء وكثر الشعر صار الخطيب أعظم قدرًا من الشاعر6. وقد بقي أثر هذا في نفوس الناس حتى بعد زوال الجاهلية ودخول الناس في الإسلام. فكان مدح الشاعر لقوم، من المآثر والمفاخر، وكان ذمه

_ 1 اللسان "7/ 219"، الفائق "2/ 339". 2 ابن سعد، الطبقات "1/ 2 ص95 وما بعدها". 3 الفائق "1/ 257". 4 الطبري "2/ 215"، "دار المعارف". 5 العمدة "1/ 27". 6 البيان والتبيين "4/ 83".

مما يشين ويسيء إلى المهجو. لما هجا جرير "بني نمير" بقوله: فغضَّ الطَّرْفَ إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغتَ ولا كِلابا أخذ بنو نمير ينتسبون إلى عامر بن صَعْصَعَة، ويتجاوزون أباهم نميرًا إلى أبيه، هربًا من ذكر نمير وفرارًا مما وسم به من الفضيحة والوصمة. مع أنهم كانوا قبل ذلك إذا سئل أحدهم ممن الرجل فخم لفظه ومد صوته وقال: من بني نمير، وكانوا جمرة من جمرات العرب. وكان أحدهم إذا رأى نميريًّا وأراد نبزه والإساءة إليه قال له: غمِّض وإلا جاءك ما تكره، وهو إنشاد هذا البيت1. وصار الرجل من بني نمير إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني عامر2! قال الجاحظ: "وفي نمير شرف كثير. وهل أهلك عنْزَة، وجرمًا، وعُكلا، وسلولَ، وباهلة وغنيًا، إلا الهجاء؟! وهذه قبائل فيها فضل كثير وبعض النقص، فمحق ذلك الفضل كله هجاء الشعراء. وهل فضح الحبطات، مع شرف حسكة بن عتاب، وعبَّاد بن الحصين وولده، إلا قول الشاعر: رأيت الحمر من شر المطايا ... كما الحبطات شر بني تميم3 وقد هجيت فزارة بأكل أير الحمار، وبكثرة شعر القفا. وكان حذف الفزاري قد أطعم جُردان الحمار، فقتل الذي أطعمه. وقال: طاح مرقمه، فذهبت مثلا. ففزارة تعير بذلك إلى اليوم. قال الشاعر: إن بني فزارة بن ذبيان ... قد سبقوا الناسَ بأكل الجردان وقال آخر: أصيحانية علت بزبد ... أحب إليك أم أير الحمار4؟

_ 1 الخزانة "1/ 35 وما بعدها"، "بولاق"، البيان والتبيين "4/ 35". 2 البيان والتبيين "4/ 35، 38". 3 البيان والتبيين "4/ 36 وما بعدها". 4 الاشتقاق "1/ 173 وما بعدها"، البيان والتبيين "4/ 38 وما بعدها"، الخزانة "1/ 395"، سمط اللآلي "860".

وبين الشعر والسحر صلة، حتى ذهب بعض الباحثين في الشعر إلى أن الشعر هو فن من الفنون التي كان يمارسها السَّحرة في التأثير في مشاعر الناس، إذ كانوا يتخذونه وسيلة من وسائل التأثير في النفوس، لما يستعملونه فيه من كلام مؤثر ساحر يترك أثرًا خطيرًا في نفس سامعه. ولهذا عدُّوا السحرة في جملة أوائل من كان ينظم الشعر من القدماء، كما ذهب بعض الباحثين إلى أن الشعراء كانوا "أهل المعرفة" والفهم، لما كان لهم من ذكاء وصفاء ذهن في فهم تجارب الحياة، وفي نظم خلاصة تلك التجارب على شكل علم أو حكم تفيد في التهذيب وفي التوجيه وفي وعظ الناس، ولهذا كان لهم رأي في السياسة في السلم وفي الحرب. وفي كتب الأدب والأخبار أمثلة كثيرة عن أثر الشعر في القبائل وفي الأشخاص من مدح وذم، يرينا كيف كان العرب يتأثرون به، وكيف كان يلعب دورًا خطيرًا في حياتهم، والعرب قوم عاطفيون، تلعب العاطفة دورًا خطيرًا في حياتهم، وما الشعر إلا نتيجة لهذا الطبع المتوارث في العربي. وقد كان أثر الشعر في المغازي وفي الحروب أثر السيف في الخصوم، يحرض المقاتلين على الاستبسال في الحروب ولما وقعت الوقائع بين المسلمين والفرس، لعب الشعر والنثر دورًا خطيرًا ففي يوم "أرماث" مثلا، أرسل سعد إلى قادة الكلام، من رجال والشعر، يدعوهم إلى استخدام سلاحهم في هذه المعارك، فكان ممن حضر عنده طليحة، وقيس بن هبيرة الأسدي، وحذيفة، وغالب، وعمرو بن معديكرب، وابن الهذيل الأسدي، وعاصم بن عمرو، وربيع بن البلاد السعدي، وربعي بن عامر وهم من الخطباء، والشماخ، والحطيئة، وأوس بن مغراء، وعبدة بن الطيب وأمثالهم، وهم من الشعراء، فلما تجمعوا، قال لهم سعد: "قوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق عليهم، عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس، فذكروهم وحرضوهم على القتال"1. فالشعر سلاح ماضٍ عند العرب، مثل الأسلحة الأخرى وربما كان أمضى منها أثرًا في نفوسهم لما كان يفعله فيهم، وكذلك النثر من أثر في النفوس يحملهم

_ 1 الطبري "3/ 533".

على الإقدام وعدم التهيب من الموت. ونحن لا نعرف حربًا أو غزوًا وقع للعرب، ثم لم يقترن خبره بشعر أو بأبيات منه، فقد كان المحاربون، يحاربون خصومهم بألسنتهم وبسيوفهم وبسهامهم ورماحهم في الوقت نفسه، وقد رأينا أنه قد كان للشعر الفضل الأكبر في كثير من الأحايين في حفظ أخبار الحروب وبقاء ذكرها إلى هذا اليوم. ونستطيع القول بأن قسطًا كبيرًا من الشعر الجاهلي، هو من شعر القتال. ولذلك نستطيع جعله صنفًا قائمًا بذاته نسميه شعر القتال والحروب. ومن هذا الأثر الذي كان يعرفه الشعراء حق المعرفة، كانوا يستعملون ويترفعون به عن غيرهم، كتب هوذة بن عليّ الحنفي، إلى النبي يجيبه على رسالته التي أرسلها إليه: "ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتَّبِعُك"1، فهو شاعر قومه وخطيبهم، وله مكانة في العرب، فهو يرى أن يميز عن غيره بميزات تمنح له، وكان الشعراء يمنون على قومهم بأنهم ألسنتهم المخرسة الناطقة المهاجمة المدافعة، فهم من الطبقة المثقفة الممتازة التي حظيت بالتقدير ونالت الاحترام، بسبب قدرة اللسان، وأثر الشعر في الناس. ولا زال الشاعر ينال مكانة محترمة عند أهل الحضر وعند أهل الوبر، فهو لسان القبيلة حتى اليوم، يدافع عنها، ويهجوا أعداءها، ويرد على شعرائها، ويشيد بفعال قومه. وللهجاء عندهم مكانة، إلا أنها أخذت تتزلزل عن مكانها، بفعل التحضر الذي أخذ يغزو البوادي، وتغير العقلية، وعدم الاهتمام بالقيل والقال، مما أثر على مكانة الشعر والشاعر أيضًا، فلم يعد الناس يخشون لسان الشاعر، كما كانوا يخشونه أيام الجاهلية، يوم كانوا يسترضون الأعشى والحطيئة، خوفًا من لسانيهما السليطين. ويطلق على الشعر الذي قيل قبل الإسلام: الشعر الجاهلي، لأنه قيل في الجاهلية التي شرحنا معناها في الجزء الأول من هذا الكتاب، وأصحابه كلهم ممن عاشوا وماتوا قبل الإسلام. أما الذين أدركوا الإسلام وأسلموا، فهم الشعراء المخضرمون

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 262"، "ذكر بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرسل بكتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام".

لأنهم أدركوا عهدين، فعاشوا رِدْحًا من عمرهم في الجاهلية، وقضوا البقية الباقية من حياتهم في الإسلام. وإذا قلنا الشعر الجاهلي، أو شعر الجاهليين، فلا نريد أو يريد أحد منا الغض من شأنه أو الحطُّ من قدره، فإننا على العكس، نجد علماء الشعر والأدب، يرفعون من قدره، ويرون أنه الأوج الذي بلغه العرب في الشعر، ولا سيما الشعر المختار منه مثل المعلقات، فقد بلغ القمة في نظرهم، وقد بلغ من تقدير بعضهم للشعر الجاهلي، أنهم كانوا أحيانًا يذهبون بعيدًا في تدقيقهم إلى حدِّ التهوين من قيمة شاعر لا يمكن إنكار تفوقه، لمجرد أن ولادته كانت بعد ظهور الإسلام"1. وروي أن عمر قال: "الشعر علم قوم لم يكن لهم علمٌ أعلم منه" وأنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "مُرْ من قِبَلَكَ بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب"2. ولقد قال الجاحظ: "وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفَّى وكان ذلك هو ديوانها وعلى أن الشعر يفيد فضيلة البيان، على الشاعر الراغب، والمادح، وفضيلة المأثرة، على السيد المرغوب إليه، والممدوح به"3. وقال العسكري: "لا تعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارها، فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها"4، والشعر هو ديوان تسجيل من لا تسجيل له، لجأت إليه الشعوب القديمة حين لم تعرف الكتابة، ليقوم مقام الكتابة في تخليد المآثر والأحدث وما يستجد لها من أمور عظام، بما فيه من أثر على القلب، ومن نغم يساعد على الحفظ، فقام الشعر عند العرب مقام الكتابة، قبل أن تتفشى الكتابة بينهم5. والواقع أن هذا الشعر الجاهلي قد أفاد المؤرخ الباحث في تأريخ الجاهلية فائدة

_ 1 بروكلمن "1/ 36". 2 العمدة "38". 3 الحيوان "1/ 72. "عبد السلام محمد هارون"، المحاسن والأضداد "3". 4 كتاب الصناعتين "104". 5 كارلو نالينو "95 وما بعدها".

لا تقدر بثمن، وربما زادت فائدة هذا الشعر من الوجهة التأريخية على فائدته من الوجهة الأدبية، لأنه حوى أمورًا مهمة من أحداث العرب الجاهليين، لم يكن في وسعنا الحصول عليها لولا هذا الشعر1. ولكن كثيرًا من هذا التراث الذي أريد تخليد عمل العرب به قد ضاع، قبل الإسلام، بسب عدم تدوينه وتخليده في كتاب واعتماد الناس في روايته على الحافظة وحدها، والحافظة لا تحفظ المحفوظ لأمد طويل، فضاع منه ما ضاع، ووصل بعض منه بصورة يرتاب منها، وآفة كل ذلك هو المرض الذي يصيب الذاكرة: مرض النسيان. قال ذو الرُّمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أحب إليَّ من الحفظ. لأن الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلامًا بكلام"2. والشعراء الجاهليون كثيرون، ونجد في كتب اللغة والمعاجم، أسماء شعراء، لم يرد لهم خبر في موارد أخرى، ذكروا لمناسبة الاستشهاد بشعرهم، ونجد في كتب السير والرجال أسماء رجال لهم شعر، لم يرد اسمهم في كتب الشعر. قال ابن قتيبة: "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم؛ واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها"3. وأنت إذا قرأت بعض الكتب مثل كتاب: "الاشتقاق"، و"المحبر"، وكتب المجالس والأمالي والشواهد، تجد أمامك أسماء عدد كثير من الشعراء الجاهليين، لم يرد اسمهم في كتب الشعر الجاهلي، ولم يحفل بهم علماء الشعر مع أنهم كانوا في أيامهم من الشعر المعروفين، وقد نص على أنهم كانوا من الشعراء.

_ 1 Charles James Lyall, Ancient Arablan Poetry, London, 1930, p. Introduction. 2 الحيوان "1/ 41"، "نعت الكتاب". 3 الشعر والشعراء "1/ 8".

ولا أَجِدُ في كلام قدماء العلماء القائل أن الذي وصل إلينا من أمر الشعر الجاهلي والشعراء الجاهليين، هو قليل جدًّا من كثير جدًّا، وأن الذي فات عن علم العلماء من أمر الشعراء الجاهليين أكثر بكثير مما بقي، أية مبالغة أو تهويل، لأننا نجد في الموارد التي تتحدث عن الصحابة أو عن الأخبار، أسماء رجال كانوا شعراء، لا نجد لها وجودا في كتب الشعر، ثم إن علماء الشعر أنفسهم يعترفون في كتبهم ودفاترهم، أنهم لم يدونوا من أسماء الشعراء إلا من اشتهر أمره وعرف بغزارة شعره، أما من كان دون هؤلاء، فإنهم لم يتحرشوا بهم، إذ لو تعرضوا بهم لاحتاجوا إلى تدوين كتب ضخمة في الشعر والشعراء، أضف إلى ذلك موت ذكر كثير من الشعراء، بسبب عدم وجود التدوين قبل أيام التدوين وعجز الذاكرة عن المحافظة على أسماء الشعراء وعلى شعرهم إلى أمد طويل. ثم أن الشعر سليقة عند العرب، وبديهة، وقلما نقرأ اسم رجل من أهل الجاهلية، إلا وقد نسب له أهل الأخبار البيت أو البيتين، أو أكثر من ذلك من الشعر. ونحن لا نذكر هنا من الشعراء إلا من نبه منهم، وترك أثرًا في الأدب العربي إلى يومنا هذا. وقد جرت العادة بأن يدرس الشعر الجاهلي على أسلوب الجادة القديمة، بالاعتماد على الروايات المدونة عنه في الموارد الإسلامية القديمة، وهي روايات لاقت رواجًا كبيرًا بين المعنيين في الشعر الجاهلي، حتى صارت في درجة القضايا البديهية المسلم بصحتها، مع أنها في الواقع أخبار آحاد، وردت في كتب إسلامية قديمة نقلها عنها المؤلفون المتأخرون عن المؤلفين القدماء مع أن الصحيح هو في وجوب درس الشعر الجاهلي، على ضوء شعر المخضرمين والشعراء الإسلاميين الذين عاشوا في صدر الإسلام، وعلى ضوء الدراسات المعروفة عن الشعر عند الساميين، مثل شعر السريان الذي يأخذ أيضًا بالوزن والقافية وله مصطلحات قديمة في الشعر تعود إلى ما قبل الإسلام، ثم الشعر العبراني والشعر البابلي وشعر بقية الساميين. وفي دراسة شعر القبائل الحاضرة المنزوية في جزيرة العرب، فائدة كبيرة في تشخيص الشعر الجاهلي، لأنها -ولاسيما القبائل القابعة في العربية الجنوبية- لا زالت تنظم الشعر متأثرة بالقوالب القديمة وببحور جاهلية لم يحفل بها "الخليل" أو أنه لم يقف عليها، ففات أمرها على العلماء، وعدت من الشعر العامي المبتذل.

الذي لا يليق بالعالم المتزن أن يحفل به. وقد تفيدنا دراسة شعر القبائل العربية، الناطقة بلهجات بعيدة عن عربيتنا بعض البعد، فائدة كبيرة في الحكم على طبيعة ونوع الشعر عند العرب الجنوبيين قبل الإسلام، فألسنة هذه القبائل هي من وحي الألسنة العربية الجنوبية الجاهلية، ونظم الشعر بها بأسلوب خاص وببحور متميزة، هو دليل قاطع على وجود الشعر عند العرب الجنوبيين، وهو شعر لا نعرف اليوم من أمره أي شيء، لعدم وصول نماذج مدونة منه إلينا حتى الآن، ولعدم اهتمام العلماء القدامى به، لاختلافه عن عربية القرآن الكريم، وفي الشعر اليماني القديم الذي نجد نماذج منه في المؤلفات اليمانية، مثل مؤلفات "الهمداني"، فائدة في تشخيص الشعر اليماني الجاهلي، وإن كان هذا الشعر قد صبغ وفقًا للشعر العربي القرآني، بفعل دخول أهل العربية الجنوبية في الإسلام، وأخذهم بلغة القرآن الكريم. ولا أستبعد احتمال ترك علماء الشعر واللغة كثيرًا من الشعر الجاهلي، لأنه شعر لم ينظم وفق عربية القرآن الكريم أو وفق البحور "الكلاسيكية" المعروفة التي اعتبرت الصور الرفيعة لبحور الشعر العربي الصحيح، نبذوه لأنه كان في أعينهم من الشعر العامي المبتذل الذي لا يليق بالعالم المدقق توجيه عنايته إليه، على نحو ما فعلوه بالنسبة إلى اللهجات العربية الأخرى التي كانت تختلف عن العربية المألوفة التي أخذوها من أفواه القبائل التي اعتبروا لسانها هو اللسان العربي الفصيح، وأما ما سواها فألسنة رديئة لا يؤخذ بها ولا يحتج بما ورد فيها من نثر أو نظم.

خبر شعراء الجاهلية

خبر شعراء الجاهلية مدخل ... خبرُ شعراءِ الجاهليةِ: وقد حصلنا على أسماء شعراء الجاهلية من الموارد الإسلامية، فقد ذكرتُ أن النصوص الجاهلية لم تتعرض لأمر الشعر الجاهلي ولا للشعراء الجاهليين. ونجد أسماء هؤلاء الشعراء في مختلف الموارد، في كتب الأدب وفي ضمنها دواوين الشعر، وفي كتب النثر الباحثة عن الشعر، وفي كتب التفسير والحديث واللغة والمعاجم، بل وفي الشعر الجاهلي كذلك، إذ ذكر بعض أسماء الشعراء، ونجد في شعر بعض الشعراء الذين ظهروا في العصر الأموي أسماء شعراء جاهليين، فنجد في شعر للفرزدق أسماء جاهليين، إذ يقول:

وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا ... وأبو يزيد وذو القروح وجرولُ والفحل علقمة الذي كانت له ... حلل الملوك كلامه لا ينحلُ وآخو بني قيس وهن قتلنه ... ومهلهل الشعراء ذاك الأولُ والأعشيان كلاهما ومرقش ... وأخو قضاعة قوله يتمثلُ وأخو بني أسد عبيد إذ مضى ... وأبو داود قوله يتنخل ُ وابنا أبي سلمى زهير وابنه ... وابن الفريعة حين جد المقولُ والجعفري وكان بشر قبله ... لي من قصائده الكتاب المجملُ ولقد ورثت لآل أوس منطقًا ... كالسم خالط جانبيه الحنظلُ والحارثي أخو الحماس ورثته ... صدعًا كما صدع الصفاة المعولُ1 ونجد في شعر "جرير" الذي نقض على الفرزدق قصيدته المذكورة، وفي شعر سراقة البارقي، ذكرًا لأسماء بعض الشعراء إذ يقول: ولقد أصبت من القريض طريقة ... أعيت مصادرها قرين مهلهل بعد امرئ القيس المنوه باسمه ... أيام يهذي بالدَّخول فَحَومَل وأبو داود كان شاعر أمة ... أفلت نجومهم ولما يأفل أبو ذؤيب قد أذل صعابة ... لا ينصبنَّك رابض لم يذلل وأرادها حسان يوم تعرضت ... بردى يصفق بالرحيق السلسل ثم ابنه من بعده فتمنعت ... وإخال أن قرينه لم يخذل وبنو أبي سلمى يقصر سعيهم ... عنا كما قصرت ذراعًا جرول وأبو بصير ثم لم يبصر بها ... إذا حل من وادي القريض بمحفل واذكر لبيدًا في الفحول وحاتما ... يلومك الشعراء إن لم تفعل ومعقِّرًا فاذكر وإن ألوى به ... ريب المنون وطائر بالأخيل وأمية البحر الذي في شعره ... حكم كوحي في الزبور مفصل واليذمري على تقادم عهده ... ممن قضيت له قضاء الفيصل

_ 1 ديوان الفرزدق "720". النقائض "1/ 189 وما بعدها".

واقذف أبا الطمحان وسط خوانهم ... وابن الطرامة شاعر لم يجهلِ لا والذي حجت قريش بيته ... لو شئت إذ حدثتكم لم آثل ما نال بحري منهم من شاعر ... ممن سمعت به ولا مستعجل1 وجمع رواة الشعر شعر شعراء الجاهليين وأخبارهم من موارد متعددة، من الشعراء أنفسهم، مثل الحطيئة الذي أدرك الإسلام، ومثل حسان وبقية الشعراء المخضرمين، فقد أمدوا الخلفاء وعشاق الشعر بأخبار من تقدم عليهم من الشعراء. وبما حفظوه من شعرهم، وبما استحسنوه من أشعارهم، كما مونوهم بأخبارهم التي بقيت عالقة في أذهانهم عن الجاهلية، وعن أيامهم في الإسلام. كما جمعوا أخبارهم من أبناء الشعراء الجاهليين من ذوي رحمهم وآلهم، ونجد في كتب الأخبار والأدب أخبارًا كثيرة من شعراء جاهليين، نقلها الرواة من أبناء أولئك الشعراء، أو من ذوي قرابتهم، فقد جاء قسط كبير من شعر الشاعر" تميم بن مقبل" عن ابنته أم شريك، وجاء من شعر "حاتم" وأخباره عن ابنه "عدي"2. وأخذ الرواة شعر الشعراء الجاهليين من قبائلهم كذلك، فقد كان في القبيلة من يحفظ شعر شعرائها أو شعر المبرزين منهم. وقد رأينا كيف استعزت تغلب بقصيدة "عمرو بن كلثوم" فكانت ترددها دومًا حتى عيبت على ذلك3، وكان في القبائل الأخرى من حفظ شعر شعرائها ونجد كتب الأدب والأخبار تنص على أسمائهم فتذكر اسم الشخص، وتنص على اسم قبيلته، وقد تذكر جملا مثل "سمع أشياخًا من طيء"4، أو "حدثني الطائيون"5، وأمثال ذلك، من جمل تنص على اسم المورد الذي استقى منه الراوية خبره أو شعر الشاعر من القبيلة. ونجد في كتاب طبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي "231هـ"، وفي

_ 1 ديوان سراقة "64 وما بعدها". 2 ديوان حاتم "31". 3 الأغاني "11/ 54". 4 المعمرون "72". 5 ديون حاتم "30".

كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة "276هـ"، أسماء شعراء جاهليين، وقد أخذا علمهما بهم ممن تقدم عليهم فألف قبلهم في موضوع الشعر والشعراء، ودوَّن "اليعقوبي" في تأريخه جريدة بأسماء شعراء العرب، وقد جعل أولهم "امرئ القيس"، وذكر النابغة الذبياني بعده، وانتهى بالمخضرمين1، ولكنه لم ينص على اسم المورد الذي أخذ تلك الأسماء منه. ولا نجد بين أسماء الشعراء الجاهليين اسم شاعر واحد نظم شعره وعاش في العربية الجنوبية أو نظم بلهجة متأثرة باللهجات العربية الجنوبية، فأكثر من ذكروهم من الشعراء إنما هم من الشعراء الذين قضوا أكثر حياتهم خارج العربية الجنوبية، وقد كان في هذه العربية شعراء ولا بد، فليس من المعقول خلوها من الشعر والشعراء، ولكن علماء العربية لم يعتنوا إلا بشعراء القبائل التي احتكوا بها والتي أخذوا العربية عنها، والتي اعتبروا لسانها من أفصح ألسنة العرب، فضاع بسبب ذلك شعر القبائل التي كانت بعيدة عنهم أو التي كان لسانها بعيدا بعض البعد عن العربية التي ارتضوها والتي نزلت بها القرآن الكريم. ولا نجد في الشعر الجاهلي الواصل إلينا شعرًا نظم في أغراض دينية وثنية، أي في عبادات القوم قبل الإسلام، اللهم إلا ما نسب إلى بعض الشعراء الأحناف من شعر فيه تحنف، وإلا ما نسب إلى بعض آخر من شعر فيه اشارات عابرة إلى عقائد يهودية أو نصرانية، أما شعر وثني خالص، من شعر فيه ترنيم بالأصنام والأوثان، وتحميد لها وتقديس، أو وصف لطقوس دينية وثنية، فهو شعر لم يصل إلينا منه شيء، وسبب عدم وصوله إلينا هو الإسلام، الذي اجتث كل ما يمت إلى الوثنية بصلة قريبة، وقضى عليه، فامتنع المسلمون من رواية هذا النوع من الشعر.

_ 1 اليعقوبي "1/ 230 وما بعدها"، "شعراء العرب".

الشاعر

الشَّاعِرُ: والشاعر متعاطي الشعر ومحترفه ومن يقوله، أو يكثر القول منه. ذكر علماء اللغة أنه إنما سمي شاعرًا، لانه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم، أو لفطنته1.

_ 1 تاج العروس "3/ 301"، "شعر". العمدة "1/ 116".

ومن هنا قال البعض أن الشعراء في الجاهلية كانوا أهل المعرفة، يعنون أنهم كانوا من أثقف أهل زمانهم، وأنهم كانوا على مستوى في الفكر والرأي وفي فهم الأمور1. وجعلوا للشعراء مزايا، ومنحهم العلماء امتيازات خاصة، وقالوا عنهم: "الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدد، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويؤشرون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون. فأما لحن في إعراب، أو إزالة كلمة عن نهج صواب، فليس لهم ذلك"2. وفي كتب أهل الأخبار تدل على اعتداد الشعراء بأنفسهم من ناحية الرقي العقلي، وعلى تقدير الناس لمدارك الشعراء. جاء أن "الطفيل الدوسي قدم مكة ورسول الله بها، فحذره رجال من قريش من سماع النبي حتى لا يتأثر بقوله: قال الطفيل: فما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئًا، ثم قلت في نفسي: وا ثكل أمي! والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحا تركته"3، وجاء في خبر آخر، "أن الطفيل لما قدم مكة، ذكر له ناس من قريش أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وسألوه أن يختبر حاله فأتاه فأنشده شعره، فتلا النبي الإخلاص والمعوذتين فأسلم"4. وفي هذا الخبر أن صح دلالة على تقدير الناس لفطنة الشاعر ولسمو مداركه. وقد رأينا ما كتبه "هوذة بن علي" الحنفي، للرسول من أنه شاعر قومه وسيدهم، ونجد في خبر "جلاس بن سويد" الصامت الأنصاري، أن قومه أتوا عليه "فقالوا: إنك امرؤ شاعر ... "5، وفي هذه الأخبار وغيرها دلالة على أن الشعراء كانوا يرون أنفسهم فوق الناس في اللفظة والفهم، وأن الناس كانوا يرون هذا الرأي فيهم، لما يجدونه فيهم من فطنة وذكاء.

_ 1 فجر الإسلام "55 وما بعدها". 2 المزهر "2/ 471". 3 ابن هشام، سيرة "1/ 235"، فجر الإسلام "56". 4 الإصابة "2/ 217"، "رقم4254"، الاستيعاب "2/ 223"، "حاشية على الإصابة". 5 الإصابة "1/ 243"، "رقم1176".

ولا يعني هذا أن الشعراء كانوا كلهم من أرقى الناس عقلا، ومن أفهم الناس إدراكًا، ومن أعلمهم بالأمور وأبصرهم بالمعرفة، فبينهم ولا شك تفاوت في الإدراك، وفي مجتمعهم من هو أرقى منهم عقلا وأكثر منهم إدراكا، وهم مع ذلك لا يقولون الشعر أو لا يمارسونه، مثل الحكام والكهنة، وأصحاب الآراء، وإنما الشعر، ملكة، لا تكون إلا عند صاحب حس مرهف، ولا تظهر إلا في إنسان ذكي فطن لبيب، يذل الألفاظ والأبيات، لتنصاع لإرادته، فيخرجها أبياتًا وقصائد تعبر عن مشاعره ومداركه. فالشاعر من هنا من أذكى الناس، ومن أهل الإدراك والمعرفة. والشعر ككل المبرزين من طبقات مختلفة تباينت في السويات، منهم من نبت من عائلة شريفة، ومنهم من نبت من عائلة أعرابية، ومنهم من نبغ من بيت فقير. وقد سمى أهل الأخبار شعراء بأسمائهم كانوا من أشراف قومهم، وسموا شعراء كانوا من أوساط أقوامهم، أو من النابتة، فالنبوغ لا يختص بجماعة دون جماعة، ولا بطبقة دون طبقة. وشعر الشاعر هو دليل عقليته ومقدار مداركه، ولهذا تباين واختلف، فنجد في شعر شعراء البادية الروح الأعرابية والخشونة تتجسم في المعاني وفي الألفاظ، ونجد في شعر الحضر أثر النفس الحضرية، ونرى في شعر الجوابين القاصدين للملوك، والذاهبين إلى الحضر والأعاجم، أثر اختلاطهم بهم في شعرهم، كما هو في شعر الأعشى. والشعراء الجاهليون، هم من قبائل متعددة ذات لهجات وحروف في الكلام مختلفة، ولكننا نرى أن لغة شعرهم وطريقة نظمهم واحدة، لا فرق فيها بين قحطاني وعدناني، ولا بين شاعر من عرب العراق أو بلاد الشأم وشاعر من أهل اليمن أو الحجاز أو نجد. ومعنى هذا أن الشعراء كانوا إذا نظموا شعرا، نظموه ببحور معروفة مقررة، وبلغة عالية، سمت فوق لهجات القبائل، على نحو ما نفعل في الزمن الحاضر من استعمال لغة عربية فصيحة هي لغة القرآن الكريم في النظم والنثر والإذاعة وما شابه ذلك من وسائل الإيضاح والإعلان، ومن استعمال لهجات محلية في الحياة اليومية الاعتيادية في مثل البيت والسوق والتفاهم بين الناس ولكن هذا لا يعني أن الشعراء لم يكونوا ينظمون الشعر بألسنتهم القبلية،

ووفق قواعد منطقهم، فقد ثبت من أقوال علماء الشعر، ومن أخبار أهل الأخبار أن الجاهليين كانوا ينظمون بلهجاتهم، وكان نظمهم مفهومًا عند غيرهم، وقد تحتاج الأذن إلى تأمل وتفكير، لإدارك كلمات ومعاني ذلك الشعر. قال "ابن هشام" في شرح الشواهد: "كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها، ومن هنا كثرت الروايات في بعض الأبيات"1. فالشاعر التميمي، ينظم بلهجته، والشاعر الأسدي ينظم بلهجة بني أسد قومه الذين ولد بينهم، والشاعر الثقفي ينظم بلهجة ثقيف، ولكنه إذا أنشده في غير قومه، فهم وعرف معناه، وإن احتيج إلى ترقيع أو تعديل في بعض الأحيان. ودليل ما أقول: هو ما نجده في شعر الشواهد من اضطراب في القواعد، وخروج على أصول النحو والصرف، وورود ألفاظ في الشعر الجاهلي دعاها علماء اللغة غريبة أو وَحْشِيَّة، أو ألفاظ خاصة ذكروا أنها وردت في شعر الشاعر، لأنها من ألفاظ قبيلته، التي انفردت بها دون سائر القبائل، ولو كان نظم الشعر بغير لغة القبائل، لما شاهدنا فيه هذه الخصائص اللسانية التي وجدها علماء اللغة في شعر بعض الشعراء، ولجاء الشعر كله بلا خصائص قبلية وبلا ألفاظ غريبة، أما وقد صقل العلماء الشعر وحسنوا في بعض ألفاظه، ونقحوا منه ما نقحوه، فإن ذلك دليل في حد ذاته على أن الشعراء كانوا ينظمون الشعر بألسنتهم، وهي غير متباينة تباينًا كبيرًا، فلما ضبطه العلماء، ودونوه، هذبوا ما شذ منه وفق القواعد التي تثبتت في الإسلام، ففي الأخبار أن رواة الشعر، كانوا يجرون تغييرًا في نصوص الشعر، لتحسين الشعر وتصليحه، فقد رووا أن "الأصمعي" رفع لفظة "زنديه" من هذا البيت المنسوب إلى "امرئ القيس": رب رام بني ثعلٍ ... مخرج زنديه من ستره فجعله كفيه2، ورووا إجراء إصلاحات أخرى، أدخلها علماء اللغة على شعر امرئ القيس وغيره، اقتضتها قواعد الإعراب أو البلاغة والبيان3

_ 1 المزهر "1/ 261"، "النوع السادس عشر". 2 الموشح "22". 3 الموشح "22، 28، 85، 95". مجالس ثعلب "481".

ونجد في "رسالة الغفران" ملاحظة طريفة عن التغيير الذي كان يجريه "المعلمون" في نصوص الشعر، فقد تصور أن "امرئ القيس" قد سئل عن كيفية وجود "الزحاف" في شعره، ثم أجاب على لسانه بقوله: "فيقول امرؤ القيس: أما أنا فما قلت في الجاهلية إلا بزحاف: لك منهن صالح وأما المعلمون في الإسلام، فغيَّروه على حسب ما يريدون"1. وورد أن رواة الشعر كانوا ينقحون حتى في شعر الشعراء الإسلاميين، وحجتهم في ذلك أن "الرواة قديمًا تصلح من أشعار القدماء"2. وقد يقوم بذلك رواة الشاعر نفسه. ورد أن رواة الفرزدق كانوا "يعدلون ما انحرف من شعره"، وأن رواة جرير، فعلوا مثل فعلهم في إصلاح شعر صاحبهم3. والتصحيح المذكور، وإن كان جزئيًا، تناول ألفاظا في الأكثر، لكنه في الواقع تحريف وتزييف، وتغيير للنصوص وتبديل لها، حرمنا من الوقوف على قواعد اللهجات العربية عند الجاهليين، بسبب أن المعدلين المصححين، لم يشيروا في كثير من الأحايين إلى المواضع التي غيروها وأجروا التصحيح فيها، ولو فعلوا ذلك، لكان الأمر علينا سهلا هينًا، إذ يكون في وسعنا إرجاع الأمور إلى نصابها والوقوف على النصوص، وإن كان عملهم هذا هو عمل مخالف للذمة وللحق، حتى في هذه الحالة، لأن من قواعد الأمانة وجوب المحافظة على الأصل. وعندي أن اللغة التي نظم بها الشعر الجاهلي هي لغة الأعراب، وهي أصل اللغة العربية، ولغة أهل البوادي والقرى التي غذتها البادية بالسكان، ولهذا قال "الجاحظ": "ومن تمام آلة الشعر أن يكون الشاعر أعرابيًّا"4، دلالة على ما للبادية والبداوة من صلة به. ولهذا أيضًا جعل العلماء مقياس الشعر أن يكون عربيًّا بألفاظ نجدية، أي أعرابية خالصة، وهذه العربية كانت تمتد فتشمل لغة أعراب بادية الشأم، بما في ذلك قرى الفرات العربية، التي جاء سكانها العرب

_ 1 رسالة الغفران "318". 2 الموشح "125". 3 الأغاني "4/ 258". 4 البيان والتبيين "1/ 94".

من البادية. ولهذا أيضًا حفلوا بالشعر الصلب الصلد، المنظوم بألفاظ بدوية صميمة تمثل الغلظة والشدة والمتانة، ولم يميلوا إلى شعر شعراء أهل القرى، لأنه شعر سهل سلس، خال من صلابة البوادي ومن غلظة الشعر الأعرابي. وشعراء الجاهلية بعد، إما شعراء ظهروا بين أهل الوبر، فهم شعراء أعراب يمثل شعرهم نفس البادية، وطبيعة البداوة وعقليتها، وإما شعر أهل مدر، وهم الحضر، المستقرون، وسكان القرى. ولشعر شعرائهم طابع خاص يمثل الطبيعة الحضرية حسب درجاتها ومراتبها واختلاط أهلها بالأعاجم، أو انعزالهم في مستوطنات حضرية ظهرت في البادية، فمن سافر من شعرائهم واختلط بالأعاجم، وشاهد بلاد الشأم والعراق، تأثر بما شاهده، فبان ذلك الأثر في شعره، كما يظهر ذلك في شعر الأعشى، وعدي بن زيد العبادي، وأمية بن أبي الصلت. وطبيعي أن يكون بين الشعراء تنافس وتحاسد وتقديم وتأخير وتفضيل. وفي كتب الأدب أمثلة على منافرات ومناظرات جرت بين شعراء، لبيان رأيهم في شعر شعراء آخرين. وطبيعي أيضًا أن يكون بين شعراء الجاهلية كالذي وقع في كل زمان ومكان، شعراء فحول، وشعراء دونهم في المنزلة والدرجة وفي القدرة في الشعر. وذكر أن شعراء الجاهلية كانوا يتفاخرون بعضهم على بعض، ويتعارضون في قول الشعر، ويمالطون. والممالطة: أن يقول رجل نصف بيت ليتمه الآخر، ويقال لذلك التمليط، وأن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيمًا وهذا قسيمًا، لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه1، وهو نوع من التفاخر والتنافر والتعجيز وإظهار النفس بالتغلب على المنافس. وللشعراء بعد منازل في قول الشعر، فمنهم الشاعر الفحل، الذي لا يبارى، ذكر أنهم كانوا لا يسمون الشاعر فحلا، إلا إذا كانت له حكمة. ومنهم الشاعر الخنذيذ. والخنذيذ: الفحل، والشاعر المجيد المفلق، وتطلق اللفظة أيضًا على الخطيب البليغ المفوَّه الْمِصْقَع وعلى العالم بأيام العرب وأشعارهم2. وقيل:

_ 1 العمدة "1/ 202"، "2/ 91"، "مالط فلان فلانًا إذا قال هذا نصف بيت وأتمه الآخر بيتًا، يقال ملط له تمليطًا"، اللسان "7/ 409"، "ملط". 2 تاج العروس "8/ 561"، "الخنذيذ"، المزهر "2/ 489".

الشاعر الخنذيذ، هو الذي يجمع إلى جودة شعره رواية الجيد من شعر غيره، والمفلق، هو الذي لا رواية له، إلى أنه مجود كالخنذيذ في شعره، وقيل: هو الذي يأتي في شعره بالفلق، وهو العجب. ثم يليه الشاعر فقط، وعرفوا الشاعر، أنه الذي لم ينعته علماء الشعر بنعت من هذه النعوت ومن كان فوق الرديء بدرجة. وأما الشعرور، فهو لا شيء، والشويعر، هو من كان دون الشاعر في الشعر1. ويذكرون أن الشعراء أربعة. ذكروا في شعر ينسبه بعضهم إلى الحطيئة، هو: الشعراء فاعلمن أربعة ... فشاعر لا يرتجى لمنفعةْ وشاعر ينشد وسط المعمعةْ ... وشاعر آخر لا يجرى معه وشاعر يقال خمر في دعه وقالوا: رابع الشعراء، إزدراء وتحقيرًا: يا رابع الشعراء كيف هجوتني ... وزعمت أني مفحم لا أنطق2 وقسم بعض العلماء الشعراء: ثلاث طبقات: شاعر، وشويعر، وشعرور3. ورووا: أن امرأ القيس بن حجر أطلق لفظة "الشويعر" على "محمد بن حمران بن أبي حمران"، وهو ممن سمي محمدًا في الجاهلية، وهو شاعر قديم، فقال فيه: أبلغا عني الشويعر أني ... عمد عين نكبتهن حزيما فسمى بهذا البيت الشويعر4. قال "الجاحظ": "والشعراء عندهم أربع طبقات. فأولهم: الفحل الخنذيذ. والخنذيذ هو التام. قال الأصمعي: قال رؤبة: الفحولة هم الرواة. ودون الفحل

_ 1 العمدة "1/ 114 وما بعدها". 2 العمدة "1/ 114 وما بعدها"، البيان والتبيين "2/ 9"، المزهر "2/ 490 وما بعدها". 3 البيان والتبيين "2/ 10"، الخزانة "1/ 130". 4 البيان والتبيين "2/ 10" الآمدي، المؤتلف "141"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 26".

الخنذيذ الشاعر المفلق، ودون ذلك الشاعر فقط، والرابع الشعرور. ولذلك قال الأول في هجاء بعض الشعراء: يا رابع الشعراء كيف هجوتني ... وزعمت أني مقحم لا أنطق فجعله سكيتًا مخلفًا ومسبوقًا مؤخرًا. وسمعت بعض العلماء يقول: طبقات الشعراء ثلاث: شاعر، وشويعر، وشعرور. قال: والشويعر مثل محمد بن حمران بن أبي حمران، سماه بذلك امرؤ القيس بن حجر"1. ويظهر من القول المنسوب إلى "رؤبة"، أن الشعراء الرواة، كانوا في نظره أرفع منزلة من بقية الشعراء، ولعل ذلك بسبب طول حفظهم للشعر، مما أكسبهم علمًا وخبرة ومرانًا به، فصارت صياغتهم له أعلى من صياغة الشعراء الذين لم يكونوا يحفظون شعر غيرهم من الشعراء، ولم يكن لهم علم بأساليب غيرهم من الشعراء. فبسبب الحفظ، طوعوا الشعر والكلم وركبوا ظهره بكل سهولة، حتى صار طوع أيديهم. والتقسيم المذكور هو تقسيم إسلامي، كما أن تقسيمهم الشعراء إلى سبع طبقات هو تقسيم إسلامي كذلك. فقد قسموهم إلى أصحاب المعلقات، وأصحاب المجمهرات، وأصاب المنتقيات، وأصحاب المذهبات، وأصحاب المرائي، وأصحاب المشوبات، وأصحاب الملحمات2.

_ 1 البيان والتبيين "2/ 9 وما بعدها". 2 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 79 وما بعدها".

عدد الشعراء

عَدَدُ الشُّعَرَاءِ: وقد أحصى بعض الباحثين عدد أسماء الشعراء الجاهليين الذين ذكروا في كتب الأدب، فبلغ عدد ما أحصوه "125" شاعرًا1. وهناك أسماء جاهليين استشهد الرواة ببيت أو بأبيات من شعرهم في كتب الأدب واللغة، لو أحصوا

_ 1 زيدان، "1/ 77" تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 75".

واعتبرناهم من ضمن الشعراء، لاضطررنا إلى تغيير هذا الرقم، بإضافة هؤلاء عليهم. ومع ذلك، فإننا لا نستطيع القول أن هذا الرقم هو رقم نهائي ومضبوط لشعراء الجاهلية، فالمنطق يحملنا على تصور وجود عدد آخر من الشعراء فات خبرهم عن رواة الشعر، لأسباب عديدة، منها قدم أولئك الشعراء، بحيث لم تتمكن ذاكرة حفظة الشعر من استيعابهم، ثم بُعد بعضهم عن الأَرَضِين التي حصر علماء الشعر فيها نشاط بحثهم عن الشعر الجاهلي وعن شعرائه، ثم كون قسم منهم من الشعراء المحليين، أو الشعراء المقلِّين الذين لم ينتشر شعرهم بين الناس. وقد فطن إلى ذلك القدماء فقال "أبو عمرو بن العلاء": "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير"1. وذكر غيره أن العلماء على حرصهم على العناية بجمع شعر الشعراء، لم يتمكنوا مع ذلك من جمع أشعار قبيلة واحدة، فكيف بشعر كل القبائل2! والواقع أن في العرب قابلية على قول الشعر، وبين الصحابة عدد كبير نظموا شعرًا روي في الكتب، ومع ذلك، فلم يعدُّهم العلماء في جملة الشعراء، وكذلك الحال بالنسبة إلى أهل الجاهلية، فقد كان بينهم عدد كبير ينظم الشعر.

_ 1 المزهر"2/ 474"، ابن سلام، طبقات "23". 2 الشعر والشعراء "1/ 8 وما بعدها".

إنشاد الشعر

إنشاد الشعر مدخل ... إِنْشَادُ الشِّعْرِ: وللشعراء طريقة خاصة في إنشاد الشعر. يذكرون أن الشاعر منهم كان إذا أراد إلقاء شعر، تهيأ لذلك واستعد له، وأظهر للناس أنه يريد إلقاء شعر. ومن أصولهم في الإلقاء أن ينشد الشاعر شعره وهو قائم1. وأن يلبس الوشي والمقطعات والأردية السود وكل ثوب مشهر2. وذكر أن من عادة الشعراء في الهجاء، أن أحدهم كان إذا أراد الهجاء

_ 1 العمدة "1/ 26". 2 البيان والتبيين "60"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت، المطبعة الكاثوليكية 1959م"، البيان والتبيين "3/ 115"، "هارون".

"دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلا واحدة"1. وقد ذكر "المرتضي"، في خبر وفود العامريين على النعمان بن المنذر، وكان فيهم "لبيد بن ربيعة"، وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان القيسيون قد صدوا وجه النعمان عنهم، فأرادوا تقديم "لبيد" ليرجز بالربيع بن زياد رجزًا مؤلِمًا ممضًّا، وكان هو الذي صرف الملك بالطعن فيهم وذكر معايبهم، فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين وألبسوه حلة وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان. فقام وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلا واحدة على فعل شعراء الجاهلية إذا أرادت الهجاء، ثم أنشد رجزه الذي أثر في النعمان، حتى صار سببًا في إبعاد "الربيع بن زياد" عنه2. وإذا أراد شاعر إنشاد شعر، وقف وأنشد شعره، بأسلوبه الخاص في الإنشاد3. وقد يترنمون في إنشادهم ليكون الإلقاء أوقع أثرًا في نفوس السامعين. وقد يلقي راوية الشاعر شعر شاعره إذا كان أقدر منه على الإنشاد. وذكر أن "النشيد" هو الشعر المتناشد بين القوم ينشد بعضهم بعضًا، ومنه نشد الشعر وأنشده، إذا رفعه. وأنشد بهم، هجاهم، "وفي الخبر أن السليطين قالوا لغسان: هذا جرير ينشد بنا، أي يهجونا"4. لا يخلو الإنشاد من الترنم على اللحن الذي يتسمح به الطبع، ومن مد الصوت، ليكون للشعر وقع على نفوس سامعيه، وتأثير جميل على المنصتين له. وذكر أن الشعراء كانوا لا ينشدون إلا قيامًا، وقد يعلو أحدهم موضعًا مشرفًا، أو يركب ناقته، ليدل على نفسه، ويعلم أنه المتكلم دون غيره، وكذلك كان يفعل الخطيب5. وقد استدل بعض المستشرقين من هذا الوصف على أن الشعراء إنما أخذوا تقليدهم هذا من السحرة: الشعراء الأوائل ومن الكهنة، لأن السحرة والكهنة كانوا ينظمون الشعر وينشدونه على هيئة خاصة، يلبسون فيها أَرْدِيَة خاصة ويقفون في وضع خاص حين إنشاد الشعر.

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 191". 2 أمالي المرتضى "1/ 191"، الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 23". 3 العمدة "1/ 26". 4 اللسان "3/ 422 وما بعدها"، "نشد". 5 العمدة "1/ 26".

وذكر أن الملوك كانوا يجلسون خلف الستور حين يستمعون إلى شاعر. فروي أن "عمرو بن هند" كان يسمع الشعراء من وراء سبعة ستور1. وأن الشاعر "الحارث بن حِلِّزَة اليشكري" لما طلب قومه منه إنشاد قصيدته أمام "عمر بن هند" قال لهم: "والله إني لأكره أن آتي الملك فيكلمني من وراء سبعة ستور، وينضح أثري بالماء. إذا انصرفت عنه، وذلك لبرص كان به". فلما سمع قصيدته أمر برفع الستور سترًا سترًا، حتى صار مع الملك في مجلسه، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء" "وأمره أن لا ينشد قصيدته إلا متوضئًا"2. ولكن العادة أن الشاعر يقف أمام الملك، الذي قد يكون جالسًا على سرير، فينشده شعره بعد أن يكون قد أستأذنه بذلك. وقد يكون في المجلس جملة شعراء، أذن لهم بالدخول عليه جملة واحدة، لينشدوا الملك شعرهم وما جاءوا به من شعر في مديحه. ويكون المجلس عامرًا بأهل الحظوة من المقربين إلى الملك ومن الشعراء الملازمين له. وكانت مجالس ملوك الحيرة، عامرة بهذه المناسبات، أكثر بكثير من مجالس الغساسنة، لغلبة النزعة الأعرابية على ملوك الحيرة وقلة تأثرهم بالحضارة، وتغلب الحياة الحضرية على الغساسنة وتأثرهم بالحياة اليومية لأهل الشأم، وبنزعة الروم في الحكم وفي آداب السلوك، حتى إنهم كانوا يتلذذون في الاستماع إلى غنائهم، ولهم قيان في قصورهم وبيوتهم يغنين لهم بغناء الروم. وكان من عادة الأعراب الطواف حول قبة الملك مع رفع الصوت بالرجز، ليسمع الملك صوت الراجز، فإذا عرفه أو أعجبه رجزه، إذن له بالدخول. وكان الملوك يضربون قبة على أبوابهم، يقعد فيها الناس حتى يؤذن لهم3 وقد يكون هذا الرجز مقدمة لدخول الشاعر على الملك حتى يلقي عليه ما يكون نظمه في مدحه وفي مدح آله من شعر. وكان من عادة الملوك وسادات القوم والأشراف إنهم إذا سمعوا الشاعر، واستحسنوا شعره، طربوا حتى يظهر الطرب عليهم وأظهروا استجادتهم لشعره، وربما شربوا إذا كانوا في مجلس الشرب، وأدنو الشاعر إليهم، وأسقوه من

_ 1 شرح المعلقات، للزوزني "154"، "صادر". 2 شرح القصائد العشر، للتبريزي "ص379 وما بعدها"، "معلقة عمرو بن كلثوم التَّغلبي". 3 الخزانة "4/ 158"، "بولاق"، "الشاهد الثامن والثمانون بعد السبعمائة".

شرابهم حتى يطرب، وقد يطلبون من الشاعر إعادة إنشاد الأبيات المستجادة. وكان الشاعر يستأذن صاحب المجلس أولا ليسمح له بإنشاده شعره. ولما استأذن "النابغة" الجعدي رسول الله، أن ينشده شعره، قال له الرسول: أجدت لا يفضض الله فاك، أي لا يكسر أسنانك، والفم هنا الأسنان1. ولا زال الناس يرددون هذه العبارة عبارة: أعِدْه أحسنت وأجدت، أو أَعِدْ أَعِدْ، يقولونها بحماس وبصوت مرتفع ارتفاعًا يتناسب مع حس الاستحسان إذا قال الشاعر قولا يستجيده العارفون بالشعر.

_ 1 تاج العروس"5/ 69"، "فض".

سوق عكاظ

سُوقُ عُكَاظٍ: ومن مرويات أهل الأخبار، أن الشعراء الجاهليين كانوا يفدون إلى عكاظ، "فيتعاكظون، أي يتفاخرون ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر، ثم يتفرقون"1. وذكر أن "النابغة" الذبياني، كان ممن يأتيها، فتضرب له قبة حمراء من أدم، تأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وكان ممن تحاكم إليه، الأعشى، وأبو بصير، فأنشده ثم أنشده حسان بن ثابت ثم الشعراء ثم جاءت الخنساء "فأنشدته، فقال لها "النابغة": والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلت إنك أشعر الجن والإنس. فقال حسان: والله لأنَا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك. فقبض النابغة على يده، ثم قال: يابن أخي، إنك لا تحسن أن تقول مثل قولي: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع ثم قال للخنساء: أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيت ذات مثانة أشعر منك، فقالت له الخنساء: والله ولا ذا خصيين"2.

_ 1 تاج العروس "5/ 254"، "عكظ"، معجم البلدان "6/ 203"، البلدان "3/ 704، اللسان "7/ 447"، "عكظ". 2 الشعر والشعراء "1/ 261"، الأغاني "8/ 194"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 256" وما بعدها. تاج العروس "5/ 255".

وروي أن "حسان" كان قد أنشده شعره: لنا الجفناتُ الغرُّ يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما ولدنا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما فقال له "النابغة" أنت شاعر، ولكنك أقللت جفناتك وسيوفك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك1. وهو خبر مصنوع، شك فيه العلماء، "قال أبو على: هذا خبر مجهول لا أصل له"2. وقد روي عن الآمدي قوله: "أجمعت العرب على فضل النابغة الذبياني، وسألته أن يضرب قبة بعكاظ، فيقضي بين الناس في أشعارهم لبصره بمعاني الشعر، فضرب القبَّة وأتته وفود الشعراء من كل أوب". ثم ذكر القصة، وروي أن الذي فنَّد حسانًا وعاب عليه بيته، هو الخنساء3. والقصة مطعون فيها. "حكى ابن جني عن أبي على الفارسي، أنه طعن في صحة هذه الحكاية"4. فالقصة موضوعة، وما هذا القصص المروي عن "عكاظ"، إلا من روايات أهل الأخبار، وضعوه مع قصصهم الموضوع عن اختيار قريش للغة، وتخيرها أحسن الألفاظ، وتحكيمها في الشعر. وذكر أن "عمرَو بن كلثوم" كان ممن حضر سوق عكاظ، وقد أنشد فيها قصيدته الشهيرة: إلا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا وهي معلقته الشهيرة، وهي قصيدة طويلة، ذهب الكثير منها، قيل إنها كانت تزيد على ألف بيت. وقد ذكر أن الرسول سمع الشاعر ينشد قصيدته هذه بسوق عكاظ5.

_ 1 العسكري، المصون "3 وما بعدها"، خزانة الأدب "3/ 430 وما بعدها"، ديوان حسان "371 وما بعدها"، الأغاني "7/ 180". 2 خزانة الأدب "3/ 431". 3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 256 وما بعدها". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 257". 5 الأغاني "11/ 54"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 122".

ولم نسمع أن أحدًا من الشعراء حكم في الشعر في سوق عكاظ قبل "النابغة" ولا بعده، وسوق عكاظ سوق لم تقم إلا قبيل الإسلام، ولعل هذا التحكيم من القصص الذي أوجده أهل الأخبار، وقد يكون "النابغة" قد نظر حقًّا في شعر "حسان"، ولكن ذلك لا يمكن أن يعد حكومة دائمة لسوق عكاظ، اختصاصها النظر والتحكيم في شعر الشعراء الجاهليين، وإذا كان "النابغة" حاكم سوق عكاظ حقًّا، فلم لم نسمع بأحكام أخرى له في حق شعر شعراء آخرين، ما دام كان يحضرها في كل عام، وتضرب له قبة من أدم، يجعلها مقرًّا له ولحكومته، ولمن يحضر إليه من الشعراء رجاء النظر في شعره. وذكر أن القبائل كانت تَفِد إلى "عكاظ" وتبحث عن مختلف الأشياء وتتداول أشياء قبيحة أو محمودة، وأن الرسول حضرها، للدعوة إلى الإسلام1. ولم نسمع بأن الشعراء كانوا يتوافدون إلى مكة موسم الحج، لإنشاد شعرهم، على نحو ما ذكر عن سوق عكاظ، مع أن موسم الحج من المواسم المعهودة بالنسبة إلى قريش وإلى من كان يعيش حولها من قبائل، وشرف إلقاء الشعر في موسم الحج أسمى ولا شك من شرف إلقائه بسوق عكاظ وفي الأسواق الأخرى، فلو كان الشعراء كما زعم أهل الأخبار يقيمون وزنًا كبيرًا لحكم قريش في أشعارهم، فلم لا نجد في أخبارهم خبرًا يشير إلى تجمع الشعراء في مكة للتباري في إنشاد الشعر وفي الحصول على شرف التقدير والتقييم من قريش، ليتباهى الفائز بالتقدير على سائر أقرانه الشعراء؟ ثم لِمَ لَمْ نسمع بأسماء القصائد التي نالت منهم شرف التقدير والتعظيم، خلا المعلقات السبع، التي شك في صحة تعليقها حتى المحافظين من أمثال المرحوم "الرافعي"!

_ 1 التأريخ الكبير "1/ 323"، البداية والنهاية "3/ 141"، معجم البلدان "3/ 704"، الأغاني "11/ 6"، المرزوقي، شرح ديوان الحماسة "3/ 1514 وما بعدها"، "القاهرة 1952".

يثرب

يَثْرِبُ: وإذا كانت سوق عكاظ موضع تحكيم على النحو الذي رأيناه، وإذا كانت مكة، قد نظرت في شعر شاعر، أو شاعرين، فقد كانت يثرب موضع تقدير

وتقييم للشعر كذلك. فقد ذكر أهل الأخبار أن "النابغة قدم المدينة، فدخل السوق، فنزل عن راحلته، ثم جثا على ركبتيه، ثم اعتمد على عصاه ثم أنشأ يقول: عرفت منازلا بعريتنات ... فأعلى الحزع للحي المبين حتى إذا انتهى من شعره، قال ألا رجل ينشد؟ فتقدم "قيس بن الخطيم" فجلس بين يديه وأنشده قصيدته التي مطلعها: "أتعرف رسمًا كاطراد المذهب" حتى فرغ منها، ثم استمع إلى شعر حسان. وذكر أنه قال لكل واحد منهما: "أنت أشعر الناس"1. وروي أن "النبي" وضع لحسان منبرًا في المسجد يقوم عليه قائمًا يهجو الذين كانوا يهجون النبي2، وذلك لما كان للشعر من أثر في نفوس الناس آنذاك. وقد تخصص أناس بإنشاد الشعر، كانوا رواة شعر، ينشدون شعر غيرهم أو شعرهم بأسلوب مؤثر، ذكر أن منشدًا أنشد يومًا رسول الله: لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني فالخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان3

_ 1 الأغاني "3/ 10"، "دار الثقافة". 2 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704". 3 الفائق "3/ 52".

تطواف الشعراء

تَطْوَافُ الشُّعَرَاءِ: وكان الشعراء يتنقلون من مكان إلى مكان، فكان "الأسود بن يعفر"، "يكثر التنقل في العرب يجاورهم، فيذم ويحمد"1، وجاب "الأعشى" معظم أنحاء جزيرة العرب والعراق وبلاد الشأم، وكان النابغة يتنقل، فيزور ملوك الحيرة والغساسنة، ويسافر إلى مكة وسوق عكاظ، وكان "عمرو بن كلثوم" من المتنقلة كذلك، وقد علمت أمر "امرئ القيس" وتنقله بين القبائل، وأمر

_ 1 ابن سلام، طبقات "33".

"الصعاليك"، الذين كانوا يتنقلون من مكان إلى مكان للحصول على رزقهم، وأمر "حسان" وقصده ملوك الغساسنة ووصوله إلى الحيرة، بل إننا لا نكاد ندرس حياة شاعر جاهلي، حتى نراه جوَّابًا، متنقلا من مكان إلى مكان، حتى صار التنقل من سيماء الشاعر عند الجاهليين، وكان هدفهم في الدرجة الأولى ملوك الحيرة ثم ملوك الغساسنة، أما ملوك اليمن، فقلما نجد في أخبار الشعراء وصولهم إليهم وإنشادهم شعرهم أمامهم، وذلك بسبب أن لسانهم كان لا يشاكل لسان الشعراء، وأما ما نسب إليهم من شعر، وما قيل من مدح بعض الشعراء لهم، فهو من القصص الذي لا يرجع إلى أصل، إلا ما ذكر من شعر في مدح بعض أذواء اليمن، فإن هؤلاء لم يكونوا ملوكًا، وإنما كانوا سادة مواضع وقبائل تقع شمال اليمن في الغالب، وقد كانت على صلة بالعرب الشماليين، وبلغة "آل" في ذلك الحين، ومع ذلك فإن صلتهم بهم لم تكن على نمط صلة الشعراء بسادات العرب الشماليين. كان الشاعر يتنقل بين القبائل، فينزل على ساداتها ويحل في ضيافتهم، يقصد ملوك الحيرة خاصة، لما كان لهم من نفوذ في جزيرة العرب، ولينال عطاياهم، أو ليتوسط في حل ما بين الملوك وما بين قبيلة الشاعر، أو قبائل أخرى من أمور معقدة ومشكلات مستعصية، كما كان يزور الريف والقرى للميرة ولنيل هبات ساداتها من تمور أو دقيق أو أي شيء آخر يكون عند الحضر. فيمدح ويذم، وينشد شعره في أسواق القرى وفي نواديها ومجتمعاتها، فكان سوق "يثرب"، وهو المحل الذي يتجمع فيه الناس للبيع والشراء الموضع الذي يقصده الشاعر لإنشاد شعره به، ثم حل مسجد الرسول محله في الإسلام. وقد ورد في الشعر الجاهلي ذكر بعض المواضع التي نزل بها الشاعر، أو التي ارتحل إليها ليزورها، وقد طمست أسماء بعض منها، وبقيت أسماء بعض آخر. وقد أمدتنا هذه الأسماء بمادة طيبة، أفادتنا في الحصول على معارف تأريخية وجغرافية عنها. ففي شعر "الأعشى"، وهو من الشعراء المتنقلة الذين أكثروا من الأسفار، وتنقلوا من مكان إلى مكان نجد أسماء أماكن عديدة وردت في شعره مثل "عانة"، و"بابل"، و"الحيرة"، ومواضع في اليمامة وفي اليمن، وتطرق في شعره هذا إلى أحوال من مر بهم، وذكر أسماءهم وأسماء قبائلهم فصار شعره لذلك موردًا هامًّا بالنسبة لنا، أفادنا في الوقوف على

نَوَاحٍ مُهِمَّةٌ منَ التَّأريخِ الجاهِلِي. رحل "الأعشى" إلى الغساسنة ملوك عرب الشأم، وإلى المناذرة ملوك عرب العراق، وإلى "قيس بن معد يكرب"، وإلى "ذي فائش" في اليمن، وإلى "بني الحارث بن كعب" في نجران، فمدحهم ونال عطاءهم، وأقام عندهم يسقونه الخمر ويسمعونه الغناء الرومي1، مما يدل -إن صح هذا الخبر- على تأثر سادة نجران بالثقافة الرومية، التي ربما أخذوها عن طريق ارتباطهم بالروم بروابط النصرانية، وعلى وجود جالية من الروم في نجران أو رجال دين من الروم، عينتهم الكنيسة لتعليم الناس أمور الدين، فقد كان الروم يرسلون رجال دينهم إلى هذه المواضع وإلى غيرها للتبشير، ولأغراض سياسية في الوقت نفسه. ونجد في شعر "الصعاليك" أسماء المواضع التي غزوها، والطرق التي سلكوها في طريقهم إلى الغارات، أو في طرق عودتهم منها إلى دارهم، ونظرًا إلى كثرة تنقلهم وخبرتهم بالمواضع، وبأبعادها وبأصحابها، لما في هذه الخبرة من العلاقة بنجاح سوقهم وتجارتهم، أفادتنا إشارتهم إلى المواضع والقبائل فائدة كبيرة إذا حصلنا بواسطتها على معارف عن أحوال أهل الجاهلية، ساعدتنا في سد بعض الثلم الكثيرة من ثلم بنيان التأريخ الجاهلي.

_ 1 الأغاني "6/ 30".

طباع الشعراء

طِبَاعُ الشُّعَرَاءِ: والشعراء في الطبع مختلفون، منهم من يسهل عليه المديح ويعسر عليه الهجاء، ومنهم من تتيسر له المرائي ويتعذر عليه الغزل، ومنهم من يحسن الوصف، فإذا صار إلى المديح والهجاء، أو إلى الحكم والموعظة، خانه الطبع، وتأخر عن غيره من الفحول2. ومن هنا لم يبرز فحول الجاهلية، ومن عد في الطبقة العليا من طبقات الشعراء في كل درب من دروب الشعر وطرقه وفنونه. بل ظهروا وبرزوا في أمور، وتأخروا أو لم يبرزوا في أمور أخرى، فذكروا مثلا أن "النابغة" الجعدي، كان أوصف الناس لفرس3. وورد عن "ابن الأعرابي" قوله:

_ 1 الأغاني "6/ 30". 2 الشعر والشعراء "1/ 37"، "الثقافة". 3 ابن سلام، طبقات "27".

"لم يصف أحد قط الخيل إلى احتاج إلى أبي داود، ولا وصف الْحُمُر إلا احتاج إلى أوس بن حجر، ولا وصف أحد النعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة، ولا اعتذر أحد في شعره إلا احتاج إلى النابغة الذبياني1. وقد قال من قدَّم "امرأ القيس" على غيره من الشعراء، أنه "سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء، منه استيقاف صحبه والبكاء في الديار، ورقة النَّسيب، وقرب المأخذ، وشبَّه النساء بالظباء والبيض والخيل والعقبان والعصي، وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى، وكان أحسن طبقته تشبيها"2، فهذه هي المزايا التي ميزت شعره عن شعر غيره من الجاهليين. وقال علماء الشعر الذي قدَّموا النابغة على غيره، أنه كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثره رونق كلام، وأجزلهم بيتًا، كأن شعره كلام ليس فيه تكلُّف3. وأما الذين قدَّموا "زهيرًا" على غيره، فقالوا: "كان زهير أحكمهم شعرًا وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح"4. وقلما نجد الشاعر يعنى بوصف الطبيعة أو مظاهرها بشعر خاص، كأن يصف المطر وحده، أو الشمس والكواكب والأجرام السماوية، أو الجبال أو السهول أو الحيوانات أو النبات، وصفًا خاصًّا لا يهرب منه إلى أمور أخرى لا صلة لها بهذا الوصف، ثم إنه قلما يتعمق في الوصف، فيصف الأجزاء والفروع وكل ما في الموصوف من مميزات، وهو إذا وصف الطبيعة، أو تعرض لوصف مشهد بارز بحيث يكون شعره وصفيًّا خاصًّا بالطبيعة، وإنما يقحم الوصف في القصيدة جريًا على العرف الشعري الذي سار عليه الشعراء، وليس عن عمد وتقصد لوصف ما يراد وصفه بالذات. ثم هو لا يصف من الشيء الموصوف ككل، وإنما يصف منه ما يلفت نظره، وما يؤثر على حسه وبصره. فهو إذا وقف

_ الأغاني "15/ 93". 2 ابن سلام، طبقات "16 وما بعدها". 3 ابن سلام، طبقات "17". 4 ابن سلام، طبقات "18".

أمام شجرة لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، وإذا كان أمام بستان لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة تطير من زهرة إلى زهرة فيرتشف من كل رشفة. هذه الخاصية في العقل العربي هي السر الذي يكشف لك ما نرى في أدب العرب -حتى في العصور الإسلامية- من نقص، وما ترى فيه من جمال. فأما النقص فما تشعر به حين تقرأ قطعة أدبية –نظمًا أو نثرًا- من ضعف المنطق، وعدم تسلسل الأفكار تسلسلا دقيقًا، وقلة ارتباطها بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا، حتى لو عمدت إلى القصيدة -وخاصة في الشعر الجاهلي- فحذفت منها جملة أبيات أو قدمت متأخرًا أو أخرت متقدمًا، لم يلحظ القارئ أو السامع ذلك -وإن كان أديبًا- ما لم يكن قد قرأها من قبل1. "وهذا النوع من النظر هو الذي قصَّر نفس الشاعر العربي، فلم يستطع أن يأتي بالقصائد القصصية الوافية، ولا أن يضع الملاحم الطويلة كالإلياذة والأوديسا. أما ما أفادهم هذا النوع من التفكير، وخلع على آدابهم جمالا خاصًّا، فذلك أن هذا النظر لما انحصر في شيء جزئي خاص جعلهم ينفذون إلى باطنه، فيأتون بالمعاني البديعة الدقيقة التي تتصل به، كما جعلهم يتعاورون على الشيء الواحد، فيأتون فيه بالمعاني المختلفة من وجوه مختلفة، من غير إحاطة ولا شمول، فامتلأ أدبهم بالحكم القصار الرائعة والأمثال الحكيمة، وأتقنوا هذا النوع إلى حد بعيد، غَنِيَ به عقلهم، وانطلقت به ألسنتهم، حتى لينهض الخطيب فيأتي بخطبته كلها من هذه الأمثال الجيدة القصيرة، والحكم الموجزة الممتعة، فلكل جملة معانٍ كثيرة تركزت في حبة، أو بخار منتشر تجمع في قطرة. ولما جاء الإسلام تقدم هذا النوع من الأدب، واقتبسوا كثيرًا من حكم الفرس والهند والروم"2. وأكثر الوصف الوارد في الشعر الجاهلي، وصف لم يرد لأن، الشاعر قصده وأراده، وإنما هو وصف ورد عرضًا في القصيدة على النسق الذي زعموا أن "امرأ القيس" وضعه وحاكاه فيه غيره ممن عاصره أو جاء بعده من الشعراء.

_ 1 فجر الإسلام "42 وما بعدها"، "الطبعة العاشرة 1965". 2 فجر الإسلام "43 وما بعدها".

فالشاعر يبدأ بتذكر الديار وبالبكاء على الأحبة وعلى من فارقهم، فيدفعه ذلك إلى الوصف، بأبيات يجعلها مقدمة لغرض آخر، فهي إذن مقدمة، وليست غاية، ثم هو إذا افتخر وأراد الإشادة بنفسه وبما قام به من عمل بطولي، لم يصف نفسه وصفًا شاملا عامًّا، وإنما يصف من نفسه بعض ما يعجبه وما يريد التبجح به، من مغامرات عجيبة قام بها، ومن صبر وتحمل للجوع وللمشقات وللأهوال ومن عدم تهيب من اقتحام الصحاري الموحشة المخوفة، وحده، لأنه لا يرهب أحدًا، ولا يخشى وحشًا، فإذا جابهه وحش، وصفه وصفًا، لا يتعدى النوحي الخاصة التي يراها تظهر شخصيته وتبرز شجاعته ثم يبالغ في وصف المخاطر والمهالك التي لم يبال بها، للوصول إلى هدفه1. وهو إذا اصطاد صيدًا، بالغ في الجهد الذي صرفه في صيده، ونوَّه بجودة حصانه، وبالطريقة التي صاد بها فريسته. وهو إذا أراد مدح إنسان، قدم لمدحه مقدمة تزيد على شعر المدح في الغالب، يذكر فيها الأهوال والمخاطر وحر الشوق، والتلهف الشديد وما شاكل ذلك من أمور، لتكون شرح حال له يبين مبلغ حبه له وإخلاصه لمن سيمدحه، ذي الجود والكرم والسخاء، الذي يجود بماله وبما عنده، ولا يحسب لنفسه ولأهله حسابًا، يجود خاصة في السنة الجماد، وفي مواسم القحط والبرد الشديد حيث تموت الماشية والأنعام، ومع ذلك فإن الممدوح، لا يعبأ بكل ذلك، ويسخر من الخوف من العواقب السيئة التي ستحيق به إن بذل ماله. وقد يبالغ الشاعر نفسه، ويشيد بسخائه وجوده، ويتخذ من ذلك قصص شجار يقع بينه وبين زوجه في الغالب، يشاركها ولدها فيه، بسبب تبذير الرجل لما عنده من مال، وعدم اهتمام بما سيحيق بأهله من جوع وفقر. وهو إذا تغزل، فوصف محبوبته، فإنما يصف منها ما يلفت نظره، من أجزاء في الجسد، أو لون أو ما شاكل ذلك مما يلفت نظره، وقد يقارن بينها وبين بعض الحيوانات التي تعجبه مثل المها والظباء، والخيل والعقبان، وقد زعم

_ 1 غرونباوم "160 وما بعدها". G. E. Von Grunebaum, Die Wirklichkelte der Fruh-arabisch Dichtung, Wien, 1937, s. 148. f.

أهل الأخبار أن "امرأ القيس" كان قد سبق العرب إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب واتبعه فيها الشعراء، منها أنه شبه النساء بالأمور المذكورة، فصار تشبيه هذا لهن سنة لمن جاء بعده من قالة الشعر1. وقد يصف الليل وشدة طوله وسهره فيه ومبلغ ما ألَمَّ به من أرق لفراق محبوبته، أو من شدة تذكره لها، وقد يذكر حزنه على فراقها وكيف أنه كان يقضي لياليه ساهرًا يناجي نجوم السماء، ويعدها، ينتظر ذهاب كابوس ليله عنه حتى يتراءى له نور الصباح، وفيه الأمل والرجاء. ووصفه كله، ليس وصفًا كليًّا عامًّا محيطًا، وإنما وصف جزئي، جاء تعبيرًا عن خاطر الشاعر ومحاكاة للطريقة التقليدية التي توارثها الشعراء بعضهم عن بعض. وقد برز بعض الشعراء في وصف بعض الحيوانات، كما أشرت إلى ذلك في مواضع سابقة، فقد اشتهر "أبو دؤاد" بوصف الخيل، حتى صيِّر بطل الشعراء في هذا الميدان، واشتهر النابغة الجعدي بوصف الفرس، واشتهر أوس ابن حجر بوصف الخمر، وعرف علقمة بن عبدة بوصف النعامة2. وقد وصف غيرهم من الشعراء هذه الحيوانات وغيرها، كما نجد ذلك في الأشعار المنسوبة إليهم. ومن أبرز المواضيع التي تطرَّق إليها الشعراء في وصفهم لمظاهر الطبيعة: المطر، والنخيل، والسحب، ومشاهد من فصول الشتاء، والغدران ومواضع المياه وللسيول والنحل والعسل البري، وبعض الصخور الغريبة، والطيور، أما البحر والسفن، فيردان على لسان الشعراء الساكنين على السواحل، حيث يرون البحر وسفنه3. ولكننا لا نجد وصفًا خاصًّا بهما، يظهر فيه تأثر الشاعر وإحساسه بالبحر، أو بالسفن، من حيث هي سفينة، وإنما ذكر وهمًا عرضًا على سبيل الفخر، ولأمور عرضية أخرى. فالوصف الجاهلي لعناصر الطبيعة خاليًا من المشاعر الخاصة، ومن التصورات المعبرة عن إلهام الشاعر الذاتي4. وذكر أن من الشعراء من كان يتأله في جاهليته ويتعفف في شعره، ولا يستبهر بالفواحش ولا يهتم في الهجاء، ومنهم من كان ينعي على نفسه ويتعهر،

_ 1 ابن سلام، طبقات "16 وما بعدها". 2 ابن سلام، طبقات "27"، الأغاني "15/ 93". 3 غرونباوم "162". 4 غرونباوم "61".

ومنهم امرؤ القيس والأعشى1، وأن منهم من كان يأتي بالحكم في شعره، مثل: زهير والأفوه الأودي، وعلقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، وعدي بن رعلاء الغساني وغيرهم. والحكمة عندهم، هي خلاصة تجارب الشاعر في هذه الحياة، وما حصل عليه من رأي استوحاه من الواقع أو من أفواه الناس وتجاربهم. وهي بديهة من البديهيات صيغت شعرًا. قد يبدع في صياغتها الشاعر فتسير بين الناس مثلا، كقول "عدي بن رعلاء" الغساني: ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميتُ الأحياءِ2 ويظهر من بيت ينسب إلى "زهير"، هو: ما أرانا نقول إلا مُعارًا ... أو معادًا من لفظنا مكرورا إن شعراء الجاهلية كانوا قد وصلوا إلى حالة جعلتهم يقلدون من سبقهم في الشعر ويحاكون طرقهم في النظم، فهم يعيدون ويكررون ما قاله الشعراء قبلهم. وهو كلام يؤيده قول علماء الشعر في القصيدة، من أنها كانت تسير على هدي الشعراء السابقين في نظمها من بدء بذكر الديار والبكاء على الأحبة والأطلال إلى غير ذلك من وصف، حتى صارت هذه الجادة، جادة يسير عليها كل شاعر، مما أثر على البراعة والابتكار وجعل الشعر قوالب معروفة معينة، يختار الشاعر قالبًا منها ليعبر به عما يريد أن يقوله نظمًا. ومن هنا ثار "أبو نُوَاس" وأضرابه من الشعراء الإسلاميين على "التقليد" في النظم، لتبدل العقلية وتغير الزمن، وإن كنت أجد في هذه الثورة مبالغة وإفراطًا في الاتهام. فالقصيدة الجاهلية وإن غلب عليها التقليد والمحاكاة، مما ضيق عليها المعاني، إلا أنها لم تكن كلها على نمط واحد على نحو ما يقوله علماء الشعر والأدب، كان الشعراء يراعون الوزن والقافية والروي، وهي أمور ميزت الشعر العربي عن غيره، ولكنهم كانوا يتحللون فيما عدا ذلك، فيأتون بالمعاني التي تدركها عقولهم، وهي معانٍ استمدت من المحيط، وهو محيط واحد، ألهم الشعراء شعرهم، فمن ثم تقارب الإلهام وقربت المعاني، ولو تعددت طبيعته، لما غلب على شعر أولئك الشعراء ما نأخذه عليهم وقد كان تغير وتنوع معاني الشعر في الإسلام، نتيجة حتمية لتغير المحيط.

_ 1 ابن سلام، طبقات "14". 2 الأصمعيات "171".

المغلبون

المغلبون: ومن الشعراء من كان لا يستطيع الوقوف أمام خصمه، فيغلب، فذكر أن "النابغة" الجعدي، كان مختلف الشعر مغلبا. وكانت العرب إذا قالت مغلبا فهو مغلوب، وإذا قالب غَلََبَ، فهو غالب، وقد غلبت عليه "ليلى الأخيلية" و"أوس بن مغراء" القريعي1. وذكروا أن "تميم بن أبي مقبل" وهو شاعر "خنذيذ" مغلَّب عليه النجاشي، ولم يكن إليه في الشعر، وقد قهره في الهجاء، ثم هاجى النجاشي عبد الرحمن بن حسان فغلبه عبد الرحمن، وكان "ابن مقبل جافيًا في الدين. وكان في الإسلام يبكي أهل الجاهلية ويذكرها، فقيل له تبكي أهل الجاهلية وأنت مسلم، فقال: وما لي لا أبكي الديار وأهلها ... وقد زارها زوار عكٍّ وحميرا وجاء قطا الأجباب من كل جانب ... فوقع في أعطاننا ثم طيرا2 ومن المغلبين: الزبرقان، غلبه عمرو بن الأهتم، وغلبه المخبل السعدي، وغلبه الحطيئة، وقد أجاب الاثنين ولم يجب الحطيئة3. والهجاء فن، لا يستطيع كل شاعر أن يبرز فيه، لما يجب أن يكون في الشاعر من ذكاء وسرعة خاطر وقابلية على إسكات الخصوم. ولهذا كان يخشى جانب الهجاء فلا يتعرض له إلى من وهب قابلية على الهجاء. وإلا غلب على أمره، وصار من المغلبين4، وهو من أهم أبواب الشعر عند الجاهليين، لما له من أثر في حياتهم، حيث يغض من منزلة المهجو. وذكر أن الشعراء كانوا ينازعون بعضهم بعضًا على التقدم في الشعر، فذكر أن "امرأ القيس" نازع "الحارث بن التوأم" اليشكري، فقال: إن كنت

_ 1 ابن سلام، طبقات "26 وما بعدها"، العمدة "1/ 104". 2 ابن سلام، طبقات "34". 3 العمدة "1/ 107". 4 العمدة "1/ 111 وما بعدها".

شاعرًا، فأجز أنصاف ما أقول فأخذا يتسابقان في ذلك1. وذكر أن عبيد بن الأبرص الأسدي، لقي "امرأ القيس" يومًا، فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال له: إلق ما شئت، وأخذا يتسابقان. وكان آخر ما أجاب به "امرؤ القيس" هذا البيت: تلك الموازين والرحمن أنزلها ... رب البرية بين الناس مقياسًا2 وهو بيت مفضوح، يحدثك عن أصله وفصله، وعن هذه القصة، وقد فات وضَّاع القصة أن هذا الشعر لا يمكن أن يقع من شاعر جاهلي، لاسيما إذا كان على شاكلة امرئ القيس. والأبيات الجيدة من الشعر، في نظر نقدة الشعر هي الأبيات التي إذا سمعت صدر البيت فيها، عرفت قافيته3.

_ 1 الشنقيطي، شرح المعلقات العشر "16 وما بعدها". 2 المصدر نفسه "17 وما بعدها". 3 البيان والتبيين "1/ 116".

بدء الشاعر

بَدْءُ الشَّاعِرِ: يبدأ الشاعر بالشعر بعد إحساسه بوجود ميول له إلى الشعر، تدفعه دفعًا على الإقبال عليه، فيبدأ بحفظ الشعر المقال، وبنظمه، ويكون هذا النظم نظمًا تجريبيًّا غير متقن في بادئ أمره، ويقال لهذه المرحلة "الغرزمة". و"الغرزمة" أن يقول الشاعر الشعر قبل أن يستحكم طبعه وتقوى قريحته1. فإذا قوي به وتمكن منه صار من الشعراء المجيدين. وقد كان الشاعر الجاهلي مثل الشاعر الإسلامي، يبدأ لكي يكون شاعرًا بحفظ شعر غيره، ولاسيما شعر المشهورين من الشعراء المتقدمين عليه، حتى يرويه رواية، وقد يتصل بشاعر يعجبه من شعراء قبيلته أو من غيرهم فيلازمه ويأخذ عنه شعره حتى يصير راوية له، ومتى شعر هذا الراوية الحافظ لشعر غيره، أن عوده قد استوى، وأن له قابلية في النظم، أظهر شعره للناس، وربما بعد

_ 1 الخزانة "1/ 220".

أن يكون قد وجد التشجيع ممن اتصل بهم من الشعراء ومن المتذوقة للشعر، العارفين به، ولما كانت الشاعرية موهبة يصقلها المران ومرور الزمن، فإن كثيرًا من الشعراء نظموا الشعر وهم صغار، ولاسيما أولئك الذي نشئوا في بيت برز به شاعر، أو في بيوت عرفت بنبوغ جماعة من أفرادها بنظم الشعر، فهناك بيوت معرقة توارثت الشعر أبًا عن جد. وقد سبق أن ذكرت قول "رؤبة": "الفحولة هم الرواة"1، أي أن فحول الشعراء هم الذين كانوا في بادئ أمرهم رواة شعر. فحفظ الشعر وروايته هو مران كان لا بد منه لتهيئة شاعر فحل: وقد وجدت هذه النظرة عند الفرس كذلك، قال صاحب "جهار مقالة": "ولا يبلغ الشاعر هذه المنزلة إلا أن يحفظ في عنفوان الشباب وريق العمر عشرين ألف بيت من أشعار المتقدمين ويجعل نصب عينه عشرة آلاف كلمة من آثار المتأخرين ويديم القراءة في دواوين الأئمة ويلتقط منها ليعلم كيف تصرفوا في مضايق القول ودقائق الكلام حتى يرتسم في طبعه صور الشعر وطرائقه، ويتجلى له مزايا الشعر ونقائصه، فيرتقي قوله ويعلو طبعه. فإذا رسخ طبعه في نظم الشعر، وانقاد له الكلام عمد إلى علم الشعر وقرأ العروض. وقرأ نقد المعاني والألفاظ والسرقات والتراجم وأنواع هذه العلوم على أستاذ يحذقها ليكون جديرًا بالأستاذية"2. وهذا الرأي الفارسي الإسلامي، يمثل ولا شك رأي قدماء الفرس كذلك. ولم يكن الشاعر الجاهلي يعرف بالطبع هذه العلوم والقيود التي عرفت وشاعت في الإسلام، بل لم يكن الشاعر العربي الإسلامي ليحفل بالعروض وبعلوم البيان والبديع، لأن الشعر طبع وموهبة، وإذا لم تكن الموهبة موجودة في إنسان فلن يكون هذا الشخص شاعرًا موهوبًا مرموقًا مهما حفظ من الشعر، وبلغ من علم العروض ومن علوم الصناعة الأخرى التي لها مساس بالشعر. فقد برز شعراء جاهليون قالوا شعرًا وهم بعد أحداث، واشتهروا به بين قومهم وهم بعد شباب. وطَرَفَةُ الشاعر المشهور، كان ولازال شابًّا حين قتل، ومع ذلك، نجد ترتيبه بعد امرئ القيس في ترتيب المعلقات، وفي ترتيبه هذا دلالة على تقدير قصيدته، واشتهار أمره بالشعر. وقد نظم "الخليل بن أحمد" شعرًا، وهو صاحب

_ 1 البيان والتبيين "2/ 9 وما بعدها". 2 غرونباوم "48".

العروض، ونظم غيره من فحول هذا العلم، ومن فحول اللغة شعرًا، لم يعد من عيون الشعر العربي، ونظم الفقهاء شعرًا عرف بين نقاد الشعر، وأهل البصر به بـ"شعر الفقهاء" ازدراء به. بل نجد الشعراء الإسلاميين يهزءون من قواعد العروض.

ألقاب الشعراء

أَلْقَابُ الشُّعَرَاءِ: ويذكر أهل الأخبار ويؤكدون أن أهل الجاهلية لقبوا شعراءهم بألقاب، مثل: المهلهل، والمرقش، وذا القروح، والمثقب، والمنخل، والمتنخل، والأفوه، والنابغة قيل عن المهلهل، أنه إنما سمي مهلهلا لهلهة شعره، أي رقته وخفته، وقيل لاختلافه، وقيل: بل سمي بذلك لقوله: لما توقل في الكراع شريدهم ... هلهلت أثأر جابرًا أو صنبلا وقيل لأنه كان أول من هلهل الشعر وأرقه وألان ألفاظه1. وذكر أن "المرقش" الأكبر، إنما عرف بذلك، بقوله: الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم أو لأنه كان قد عني بتنميق شعره ورقشه2. وروي أن لقب "المثقب" العبدي، إنما جاءه من قوله: رددن تحية وكَنَنَّ أخرى ... وثقبن الوصاوص للعيون3. وعرف المتلمِّس بهذا الاسم بقوله: فهذا أوان العِرض حيًّا ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمِّس4

_ 1 العمدة "86"، "ويروى: لما توغر" و"لما توعر في الكلاب هجينهم"، و"توعر"، المزهر "2/ 434"، الأغاني "5/ 57". 2 الشعر والشعراء "1/ 138"، تابع العروس "4/ 314"، "رقش"، البيان والتبيين "1/ 375"، المفضليات "1/ 410، 485". 3 الشعر والشعراء "1/ 311". 4 الشعر والشعراء "1/ 114"، البيان والتبيين "1/ 375".

وعرف الممزِّق بهذا اللقب لقوله: فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق1 وعرف "النابغة" بالنابغة بقوله: وحلت في بني القين بن جسر ... وقد نبغت لنا منهم شئون2 وذكر أن "منبه بن سعد"، إنما عرف بـ"أعصر"، بقوله: أعمير إن أباك غيَّر لونه ... مر الليالي واختلاف الأعصر وأن معاوية بن تميم، إنما عرف بـ"الشقر" بقوله: قد أحمل الرمح الأصم كعوبه ... به من دماء القوم كالشقرات3 وأن "خالد بن عمرو بن مرة"، إنما قيل له "الشريد"، بقوله وأنا الشريد لمن يعرفني ... حامي الحقيقة ما له مثل وأن صريم بن معشر الغلبي، إنما عرف بـ"أفنون" بقوله: منيتنا الود يا مضنون مضنونا ... أزماننا إن للشباب أفنونا4 وأن معاوية بن مالك، سمي معود الحكام لقوله: أعوّد مثلها الحكام بعدي ... إذا ما الأمر في الأشياع نابا5 وذكر "الجاحظ" أن "عمرو بن رباح" السُّلمي أبا خنساء ابنة عمرو، غلب عليه الشريد، لقوله: تولي إخوتي وبقيت فردًا ... وحيدًا في ديارهم شريدا6.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 314"، البيان والتبيين "1/ 375". 2 الشعر والشعراء "1/ 98"، المزهر "2/ 432، 436". 3 المزهر "2/ 434". 4 المزهر "2/ 435". 5 المزهر "2/ 436". 6 البيان والتبيين "1/ 375".

وعرف "خداش بن بشر"، "خداش بن لبيد بن بيية"، "خداش بن بشر بن خالد بن بيبة" من بني مجاشع بالبعيث، لقوله: تبعث مني ما تبعث بعدما ... أمرت حبالي كل مرتها شزارا1 وذكروا أن "الفند"، واسمه "شهل بن شيبان"، إنما سمي الفند، لأنه قال يوم "قضة": ما ترضون أن أكون لكم فندًا. وأن طفيلا الغنوي، إنما عرف بالمحبر، لتحسينه الشعر2، وأن علقمة بن عبدة، إنما لقب بالفحل، لأنه تزوج امرأة امرئ القيس، بعد أن حكمت له بتفوقه على زوجها في الشعر أو لأنه كان في قومه علقمة آخر عرف بـ"علقمة" الخصي، وأن "الأعشى" إنما عرف بصناجة العرب، لكثرة ما تغنت العرب بشعره 3، وأن عنترة إنما لقب بالفلحاء لفلحة كانت به4. وأما الأغربة من الشعراء، فهم عنترة، وخفاف بن ندبة السلمي، وأبو عمير بن الحباب السلمي، وسُلَيك بن السُّلَكَة، وتأبَّط شرًّا، والشَّنْفَرى، وكلهم من الشعراء الجاهليين5. إلى آخر ما ذكروه من تعليلات عن أسباب تلقيب الشعراء الجاهليين بألقابهم التي عرفوا بها، تجد بقيتها مدونة في كتب الأدب واللغة والأخبار6. ولعلماء الشعر بعد، آراء في أحسن وأجود ما قيل من شعر في فن واحد من فنون الشعر، فقيل أرثى بيت قيل في الجاهلية، قول أوس بن حجر: أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا

_ 1 وقيل: سمي البعيث لقوله: تبعث مني ما تبعث بعدما استمر فؤادي واستمر عزيمي البيان والتبيين "1/ 204، 374"، المؤتلف "56". 2 المزهر "2/ 430". 3 المزهر "1/ 431". 4 المزهر "2/ 432". 5 المزهر "2/ 431". 6 المزهر "2/ 436 وما بعدها".

وهذا على رأي الأصمعي1، وقدم غيره قول عبدة: فما كان قيسٌ هُلْكَهُ هلْكَ واحدٍ ... ولكنه بنيانُ قومٍ تهدَّما2 ومنهم من قدم شعر الخنساء3. وقيل إن قول امرئ القيس في الماء، هو أحسن ما قيل فيه4. وإن وصف "أوس بن حجر" للسحاب، هو أحسن ما قيل فيه5، وإن أهجى بيت قالته العرب، قول الأعشى: تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصًا6 وأن أمْدَحَ بيت قالته العرب قول زهير: تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك معطيه الذي أنت سائلُه وبيت النابغة: بأنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب7 ولكنك لو أطلت النظر في كتب الأدب، تراها تختلف في هذا الاختيار وفي اسم الشاعر، وسبب ذلك اختلاف أمزجة العلماء، واختلاف وجهات نظرهم في نقد الشعر8. وللعلماء كلام في أَوْصَفِ الشعراء للدِّرع، أو للفرس، أو للنجوم والكواكب، أو الدنيا إلى غير ذلك من أشياء9

_ 1 ديوان أوس "13"، المصون "16" 2 المصون "16". 3 المصون "17". 4 المصون "18"، ديوان امرئ القيس "111". 5 المصون "19". 6 ديوان الأعشى "19". 7 "كأنك"، "لأنك"، ديوان النابغة "13"، المصون "21 وما بعدها". 8 راجع المصون "22 وما بعدها"، ترى العلماء يختلفون في أمدح بيت ورد في شعر الجاهليين. 9 المصون "ص24 فما بعدها".

وقد عرفت القصائد التي يكون الشاعر فيها منصفًا في شعره، بالمنصفات، والمنصفة هي القصيدة التي يكون الشاعرفيها قد أنصف من تحدث عنه، فإذا كان في فخر واستعلاء على قوم فخر بقومه، وذكر في الوقت نفسه فضائل خصوم قومه، وشجاعتهم واستبسالهم في معاركهم مع قومه. ومن المنصفات قصيدة "العباس بن مرداس" السينية التي قالها في يوم "تثليث"، حيث غزت "سليم" مرادًا، فجمع لهم "عمرو بن معديكرب"، فالتقوا بتثليث، فصبر الفريقان، ولم تظفر طائفة منهما بالأخرى، فصنع العباس بن مرداس قصيدته المذكورة1. وزعم علماء الشعر، أن الشعراء الجاهليين كانوا في سرقة الشعر مثل الشعراء الإسلاميين، فقد كان منهم من يسطو على شعر غيره، فيدخله في شعره، وينحله نفسه، أو يضمِّن شعره من معانيه، ولهم في ذلك بحوث. وذكروا أن من الشعراء الإسلاميين من سطا على شعر الشعراء الجاهليين، أو أخذ منه2.

_ 1 العمدة "2/ 217". 2 المصون "66 وما بعدها".

الشهرة بالشعر

الشُّهْرَةُ بالشِّعْرِ: يقول الرواة والعلماء بالشعر: من أراد الغريب فعليه بشعر هذيل، ومن أراد النسيب والغزل من شعر العرب الصلب، فعليه بأشعار عذرة والأنصار، ومن أراد طرف الشعر وما يحتاج إلى مثله عند محاورة الناس وكلامهم فذلك في شعر الفرسان. وأشعر الفرسان: دريد بن الصمة، وعنترة، وخفاف بن ندبة، والزبرقان بن بدر، وعروة بن الورد، ونهيكة بن إساف، وقيس بن زهير، وصخر بن عمرو، والسُّلَيك بن سُلَكَة، وأنس بن مدركة، ومالك بن نُوَيرَة، ويزيد بن الصعق، ويعدُّ من الفرسان الأشراف، ويزيد بن سنان بن أبي حارثة1.

_ 1 المصون "173 وما بعدها".

التكسب بالشعر

التَّكَسُّبُ بالشِّعْرِ: يذكر أهل الأخبار أن العرب كانت لا تتكسب بالشعر، أنفة وتعززًا، وإنما يصنع أحدهم ما يصنع مكافاة عن يد لا تستطيع على أداء حقها إلا بالشكر إعظامًا لها. بقوا على ذلك دهرًا، حتى نشأ النابغة الذُّبياني فمدح الملوك، وقبل الصلة على الشعر، وخضع للنعمان بن المنذر، وقد كان أشرف بني ذُبْيَان، وكان قادرًا على الامتناع منه بمن حوله من عشيرته، وله مال يكفيه، فسقطت منزلته، وكسب مالا جزيلا حتى كان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضَّة وأوانيهما من عطايا الملوك. وذكر عنه من التكسب بالشعر مع النعمان بن المنذر ما فيه قبح من مجاعلة الحاجب ومجاملته والتودد إليه تقربًا وتزلفًا ليوصله إلى النعمان، ومن دس الندماء على ذكره بين يديه، وما أشبه ذلك1. هذا، وإنما امتدح ملكًا، فكيف بشاعر يمدح من هم دون الملوك والأشراف من السوقة وسواد الناس، طمعًا في صلة وعطاء2! وتكسب زهير بن أبي سلمى يسيرًا مع "هَرِم بنِ سِنَان"، ونال أمية بن أبي الصَّلت عطايا عبد الله بن جدعان لمدحه إياه، فلما جاء الأعشى جعل الشعر متجرًا يتجر به نحو البلاد، وقصد حتى مَلِكِ العجم فأثابه، لعلمه بقدر ما يقول عند العرب، واقتداء بهم فيه، على أن شعره لم يحسن عنده حين فسر له، بل استخف به واستهجنه لكنه حذا حذو ملوك العرب3. ثم إن الْحُطَيئة أَكْثَرَ من السؤال بالشعر وانحطاط الهمة فيه، حتى مقت وذل أهله، واستصغر شأنه، وعرف بتكسبه بشعره 4. وقد عيب "من تكسب بشعره والتمس به صلات الأشراف والقادة، وجوائز الملوك والسادة، في قصائد السماطين"5. وإنما المقبول ما جاء بما لا يزري بقدر ولا مروءة، مثل الفلتة النادرة، والمهمة العظيمة، وعن باب التودد والتلطف

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 91 وما بعدها"، العمدة "1/ 80"، 2 العمدة "1/ 40 وما بعدها". 3 بلوغ الأرب "3/ 91"، العمدة "1/ 81". 4 العمدة "1/ 81". 5 البيان والتبيين "2/ 13 وما بعدها".

والتذكر، فأما من وجود الكفاف والبلغة فلا وجه لسؤاله بالشعر1. ومن هنا زعم أهل الأخبار أن أشراف أهل الجاهلية، كانوا يأنفون من قول الشعر، وكانوا ينهون أولادهم من قوله، فلما خالف امرؤ القيس وهو شريف وابن مَلِكٍ، أمر والده من وجوب ترك الشعر، واستمر على قوله، طرده بسببه من بيته، وأخرجه من داره، فصار من الضليلين، وهو زعم عارضه ابن رشيق ورد عليه بقوله: "وقد غفل أكثر الناس عن السبب، وذلك أنه كان خليعًا، متهتكًا، شبب بنساء أبيه، وبدأ بهذا الشر العظيم، واشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرياسة، فكان إليه من أبيه ما كان، ليس من جهة الشعر، لكن من جهة الغي والبطالة، فهذه العلة، وقد جازت كثيرًا من الناس ومرت عليهم صفحًا"2. فلم يكن طرد امرئ القيس من بيت أبيه أذن بسبب قوله الشعر، وإصراره عليه، وإنما بسبب أعماله من خلاعة وتهتك واستهتار، وهي أعمال تنافي أخلاق الأشراف. وقد قيل في الشعر إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وأنه أسنى مروءة الدني، وأدنى مروءة السري. وقيل إن الشريف كان يتحاشى قول الشعر، ويمنع أولاده من قوله. لأن قول الشعر مثلبة للرجل الشريف. وقد فسر هذا الزعم بعض العلماء بقوله: "إن الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثل ما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسبًا، كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشرف بني ذبيان، هذا، وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم"3. مدحه ولم يكن في حاجة إليه، وكان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة وأوانيه من عطاء الملوك. وبين الشعراء الجاهليين من كان من السادة الأشراف، ولم يجد مع ذلك غضاضة في قوله الشعر،

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 91 وما بعدها". 2 العمدة "1/ 43". 3 في قول "ابن رشيق" "وصاحب البؤس والنعيم، هفوة، لأن صاحب البؤس والنعيم، هو "المنذر بن ماء السماء"، وصاحب النابغة هو "النعمان بن المنذر"، العمدة "1/ 41"، البيان والتَّبْيِينُ "1/ 241".

ومن غُضَّ من قَدْرِه، هو من اسْتَجْدَى بشعره، واتخذ شعره سببًا من أسباب التَّكَسُّب. وما يقوله أهل الأخبار عن التكسب بالشعر يمثل وجهة نظرهم فحسب، وهو رأي لا أساسَ له، بسبب أن علمهم بالشعر لا يستند إلى دليل جاهلي مكتوب، وإنما هو من رواية ولدت في الإسلام لَاكَتْهَا الألسن، وتناولتها الكتب، حتى صارت في حكم الإجماع، يردده الْخَلَف عن السلف إلى هذا اليوم. والشعراء في نظرنا قبل النابغة وبعده بشر، فيهم المترفع وفيهم المستجدي الذليل، الذي لا يبالي أن تُمْتهن كرامته في سبيل الحصول على مال. وإذا كان في هذا اليوم شعراء يمدحون ويذمون لغاية الكسب والحصول على مَغْنَم، فلم نجعل شعراء ما قبل أيام النابغة الذُّبياني ملائكة، لا يمدحون إلا الشريف المستحق للمدح، ولا يذمون إلا الحقير الذي يستحق الذَّم، وما شعراء تلك الأيام، إلا كشعراء أيام النابغة، وما بعده، فيهم الشاعر المترفع، وفيهم الشاعر المترذل، وفيهم من لا يبالي بشعره، يمدح اليوم، ثم لا يبالي من ذمه بعد حين. وفي حقهم جميعًا جاء في القرآن: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 1، ونحن نظلم النابغة إن جعلناه أول المتكسبين بالشعر، ونخرج عن المنطق إن ذهبنا هذا المذهب. وذكر أن ممن رفعه الشعر من القدماء الحارث بن حِلِّزة اليَشْكُرِيُّ، وكان أبرص، فلما أنشد الملك عمرو بن هند قصيدته: آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاوٍ يَمَلُّ منه الثواء وبينه وبينه سبعة حجب، فما زال يرفعها حجابًا فحجابًا لحسن ما يسمع من شعره حتى لم يبقِ بينهما حجاب، ثم أدناه وقربة. وأمثاله ممن رفع من قدرهم الشعر كثير2. ورووا أن المحلق كان ممن رفعه الشعر بعد الخمول، وذلك أن الأعشى قدم مكة

_ 1 [سورة الشعراء، الرقم: 26، الآية: 224 وما بعدها". 2 العمدة "1/ 43 وما بعدها".

وتسامع الناس به، وكانت للمحلق امرأة عاقلة، وقيل بل أم، وكان المحلق فقيرًا خامل الذكر، ذا بنات، فأشارت عليه، أن يكون أسبق الناس إليه في دعوته إلى الضيافة، ليمدحهم، ففعل، فلما أكل الأعشى وشرب، وأخذت منه الكأس، عرف منه أنه فقير الحال، وأنه ذو عيال، فلما ذهب الأعشى إلى عكاظ أنشد قصيدته: أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق ثم مدح المحلق، فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جريًا يخطبون بناته، لمكان شعر الأعشى1. هذا ما يرويه أهل الأخبار عن أثر الشعر في الناس. وروي أن الأعشى أنشد قصيدته المذكورة كسرى، فقال: "إن كان سهر من غير سقم ولا عشق فهو لص"2. "قال أبو عمرو بن العلاء: كان الشاعر في الجاهلية يَقْدُمُ على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر، ولقد وضع قول الشعر من قدر النابغة الذبياني، ولو كان في الدهر الأول ما زاده ذلك إلا رفعة البيان"3. ويذكر الرواة أن القبيلة كانت إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به، وفرحت بنبوغه، وأتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر، وتباشروا به لأنه حماية لهم، ولسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم وأحسابهم وشرفهم بين الناس. وكانوا لا يُهَنِّئُون إلا بغلام يولد أو فرس تنتج

_ 1 العمدة "1/ 49". 2 الشعر والشعراء "1/ 180". 3 البيان والتبيين "1/ 241، العمدة "1/ 82 وما بعدها".

أو شاعر ينبغ فيهم1. فالشاعر هو صحيفة القبيلة ومحطة إذاعتها، وصوته يحطُّ ويرفع ويخلد لا سيما إذا كان مؤثرًا، فيرويه الناس جيلا بعد جيل. وكان أثره في الناس أثر السيف في الحروب، بل استخدمه المحاربون أول سلاح في المعارك. فيبدأ الفارس بالرجز، ثم يعمد إلى السيف أو الرمح أو آلات القتال الأخرى، ولأثره هذا، ورد في الحديث عن الرسول قوله: "والذي نفسي بيده، لكأنما تنضحونهم بالنبل بما تقولون لهم من الشعر"2 مخاطبًا بذلك شعراء المسلمين، الذين حاربوا الوثنيين بهذا السلاح الفتاك، سلاح الشعر، وقد كان الوثنيون قد أشهروه أيضًا وحاربوا به المسلمين. وطالما قام الشعراء بدور السفارة والوساطة في النزاع الذي كان يقع بين الملوك وبين القبائل، أو بين القبائل والقبائل، فلما أَسَرَ الحارثُ بن أبي شمر الغساني "شأس بن عبدة" في تسعين رجلا من بني تميم، وبلغ ذلك أخاه "علقمة بن عبدة"، قصد الحارث، فمدحه بقصيدته: طحا بك قلب بالحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب فلما بلغ طلبه بالعفو عن أخيه وعن بقية المأسورين، قال الحارث: نعم وأذنبة، وأطلق له شأسًا أخاه، وجماعة أسرى بني تميم، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم3. ولم يقلّ أثر الشاعر في السلم وفي الحرب عن أثر الفارس، الشاعر يدافع عن قومه بلسانه، يهاجم خصومهم ويهجو سادتهم، ويحث المحاربين على الاستماتة في القتال، ويبعث فيهم الشهامة والنخوة للإقدام على الموت حتى النصر، والفارس يدافع عن قومه بسيفه، وكلاهما ذابٌّ عنهم محارب في النتيجة. بل قد يقدم الشاعر على الفارس، لما يتركه الشعر من أثر دائم في نفوس العرب، يبقى محفوظًا في الذاكرة وفي اللسان، يرويه الخلف عن السلف، بينما يذهب أثر السيف،

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 84"، العمدة، "1/ 49، 65"، المزهر "3/ 236"، العقد الفريد "3/ 93". 2 الأغاني "15/ 26". 3 العمدة "1/ 57"، "أسرة الحارث بن أبي شمر الغساني مع سبعين رجلا من بني تميم"، الشعر والشعراء "1/ 147 وما بعدها".

بذهاب فعله في المعركة، فلا يترك ما يتركه شعر المديح أو الهجاء من أثر في النفوس، يهيجها حين يذكر، وكان من أثره أن القبائل كانت إذا تحاربت جاءت بشعرائها، لتستعين بهم في القتال. فلما كان يوم أُحُد، قال صفوان بن أمية لأبي عمرو بن عبد الله الجمحي: "يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر فأعنا بلسانك، فاخرج معنا. فقال: إن محمدًا قد من عليَّ فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: فأعنَّا بنفسك فلك الله عليَّ أن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة شعرًا إلى السير مع قريش لمحاربة المسلمين1. وكان الرسول شاعره حسان بن ثابت يدافع عن الإسلام والمسلمين، وكان للمشركين من أهل مكة شاعرهم "عبد الله بن الزبعري" يرد عليه ويهاجم المسلمين في السلم وفي المعارك، وقد دوَّنت كتب السير والأخبار والتواريخ أشعارهم وما قاله أحدهم في الآخر، وقد فات منه شيء كثير، نص رواة الشعر على أنهم تركوه لما كان فيه من سوء أدب وخروج على المروءة. وكان إلى جانب الشاعرين شعراء آخرون، منهم من ناصر المسلمين لأنه كان منهم، ومنهم من ناصر المشركين لأنه كان منهم، بل كان المحاربون إذا حاربوا، فلا بد وأن يبدءوا حربهم بتنشيطها وبتصعيد نارها برَجَزٍ أو بقَرِيْضٍ. ومن خوفهم من لسان الشاعر، ما روي من فزع أبي سفيان، لما سمع من عزم الأعشى على الذهاب إلى يثرب ومن إِعْدَادِه شعرًا في مدح الرسول، ومن رغبته في الدخول في الإسلام. فجمع قومه عندئذ، وتكلم فيما سيتركه شعر هذا الشاعر من أثر في الإسلام وفي قريش خاصة إن هو أسلم، ولهذا نصحهم أن يتعاونوا معه في شراء لسانه وفي منعه من الدخول في الإسلام بإعطائه مائة ناقة فوافقوا على رأيه وجمعوا له ما طلبه، وتمكن أبو سفيان من التأثير عليه، فعاد إلى بلده "منفوحة" وما بها دون أن يسلم2. قال الجاحظ: "ويبلغ من خوفهم من الهجاء ومن شدة السب عليهم، وتخوفهم أن يبقى ذكر ذلك في الأعقاب، ويسبّ به الأحياء والأموات، أنهم

_ 1 الروض الأنف "2/ 126 وما بعدها"، "غزوة أحد". 2 الشعر والشعراء "136 وما بعدها"، زيدان، آداب "1/ 119".

إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدُّوا لسانه بنسعة، كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص الحارثي حين أسرته بنو تيم يوم الكلاب1. وعبد يغوث بن وقاص، شاعر قحطاني، كان شاعرًا من شعراء الجاهلية، فارسًا سيد قومه من بني الحارث بن كعب، وهو الذي قادهم يوم الكلاب الثاني فأسرته بنو تيم وقتلته، وهو من أهل بيت شعر معروف في الجاهلية والإسلام، منهم اللجلاج الحارثي، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه مسهر فارسٌ شاعرٌ، ومنهم من أدرك الإسلام: جعفر بن علية بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث"، وكان شاعرًا صعلوكًا2. ولما مدح الحطيئة "بغيض بن عامر بن لاي بن شماس بن لاي بن أنف الناقة"، واسمه جعفر بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وهجا "الزبرقان"، واسمه الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن عوف بن كعب، صاروا يفخرون ويتباهون بأن يقال لهم "أنف الناقة"، وكانوا يعيرون به ويغضبون منه، ويَفْرَقُون من هذا الاسم، حتى إن الرجل منهم كان يسأل مِمَّن هو فيقول من "بني قريع" فيتجاوز جعفرًا أنف الناقة، ويلغي ذكره فراراً من هذا اللقب، إلى أن قال الحطيئة هذا الشعر فصاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به أصواتهم في جهارة، إذ قال: قوم هم الأنفُ والأذنابُ غيرهمُ ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا3 وقد تعزز الأعشى على قومه، وبين مكان فضله عليهم، إذ كان لسانهم الذاب عنهم المدافع عن أعراضهم، الهادي لأعدائهم بشعر هو كالمقراض يقرض أعداء قومه قرضًا. وأدفع عن أعراضكم وأعيركم ... لسانًا كمقراض الخافجي ملحبا4

_ 1 البيان والتبيين "4/ 45". 2 الخزانة "1/ 317"، "بولاق". 3 قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا البيان والتبيين "4/ 38"، "هارون"، الاشتقاق "156"، زهر الآداب "1/ 19". الخزانة "1/ 567"، العمدة "1/ 50". 4 ديوان الأعشى "117"، القصيدة "14" البيت "31".

وذكر أن بني تغلب كانوا يعظمون معلقة عمرو بن كلثوم ويروونها صغارًا وكبارًا، حتى هجاهم شاعر من شعراء خصومهم ومنافسيهم: بكر بن وائل، إذ قال: ألهي بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يروونها أبدًا مذ كان أولهم ... يا للرجال لشعر غير مسئوم1 ولسلاطة ألسنة بعض الشعراء، ولعدم تورع بعضهم من شتم الناس ومن هتك الأعراض، ومن التكلم عنهم بالباطل، تجنب الناس قدر إمكانهم الاحتكاك بهم، وملاحاتهم والتحرش في أمورهم، خوفًا من كلمة فاحشة قد تصدر منهم، تجرح الشخص الشريف فتدميه، وجرح اللسان كجرح اليد، كما عبر عن ذلك امرؤ القيس أحسن تعبير2. ولأمر ما قال طرفة: رأيت القوافي تتلجن موالجا ... تضايق عنها أن تولجها الإبر وفي هذا المعنى دون الجاحظ هذه الأبيات: وللشعراء ألسنة حداد ... على العورات موفية دليله ومن عقل الكريم إذا اتقاهم ... وداراهم مدارة جميلة إذا وضعوا مكاويهم عليه ... وإن كذبوا- فليس لهن حيله3 وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عالمًا بالشعر، قليل التعرض لأهله: استعْدَاهُ رهط تميم بن أبي مقبل على النجاشي لما هجاهم، فأسلم النظر في أمرهم إلى حسان بن ثابت، فرارًا من التعرض لأحدهما، فلما حكم حسان أنفذ عمر حكمه على النجاشي كالمقلد من جهة الصناعة، ولم يكن حسان -على علمه بالشعر- أبصر من عمر -رضي الله عنه- بوجه الحكم، وأن اعتل فيه بما اعتل"4.

_ 1 الأغاني "11/ 54"، الاشتقاق "204"، وقد روي هذا الشعر بأوجه مختلفة، البيان والتبيين "4/ 41". 2 العمدة "1/ 78". 3 العمدة "1/ 78". 4 العمدة "1/ 52، 76"، "باب تعرض الشعراء".

"وكذلك صنع في هجاء الحطيئة الزبرقان بن بدر: سأل حسان، ثم قضى على الحطيئة بالسجن"1، وقد كان عمر قد كره أن يتعرض للشعراء، فاستشهد حسان، فلما بين حسَّان رأيه في الشعر، أنفذ حكمه، فتخلص "عمر" بعرضه سليمًا2. وتميم بن مقبل بن عوف بن حنيف العجلاني، من الشعراء الذين أدركوا الإسلام فأسلم، وكان يهاجي النجاشي، فهجاه النجاشي يومًا، فاستعدى تميم عمرَ عليه، فلما قرأ النجاشي على عمر ما قاله في تميم أمر بضربه وحبسه. وكان يبكي أهل الجاهلية3. "وسئل أبو عبيدة أي الرجلين أشعر: أبو نواس، أم ابن أبي عيينة؟ فقال: أنا لا أحكم بين الشعراء الأحياء، فقيل له: سبحان الله كأن هذا ما تبين لك! فقال: أنا ممن لم يتبين له هذا؟! "4 وذلك خوفًا ولا شك من لسان الشاعر الحي. "ولسير الشعر على الأفواه هذا المسير تجنب الأشراف ممازحة الشاعر خوف لفظة تسمع منه مزحًا فتعود جدًّا"5. وكانوا يهابون الشاعر الهجَّاء البذيء اللسان المتمكن من شعر الهجاء، أكثر من غيره من بقية الشعراء، لما كان يتركه هجاؤه من أثر فيهم، حتى الشعراء المبَرَّزين كانوا يتقون شر الشاعر الهجاء ويبتعدون عنه. فلما هجا عبدُ الله بن الزبعري بني قصي، خاف قومه من هجاء الزبير بن عبد المطلب، فرفعوه برمته إلى عتبة بن ربيعة، فلما وصل إليهم أطلقه حمزة بن عبد المطلب وكساه، وكان الزبير غائبًا بالطائف، فلما وصل مكة وبلغه الخبر هجا قوم ابن الزبعري هجاء مرًّا6، بقوله: فلولا نحن لم يلبس رجال ... ثياب أعزة حتى يموتوا

_ 1 العمدة "1/ 76"، ابن سلام، طبقات "25". 2 "البيان والتبيين "1/ 240". 3 الإصابة "1/ 189"، "رقم 862"، البيان "1/ 239"، الخزانة "1/ 113". 4 العمدة "1/ 76". 5 العمدة "1/ 77". 6 العمدة "1/ 65 وما بعدها".

ثيابهم سمالٌ أو طمارٌ ... بها دسم كما دسم الحميت ولكننا خلقنا إذ خلقنا ... لنا الحبرات والمسك الفتيت وكان عبد الله بن الزبعري قد قال حين أطلقه حمزة: لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي ... وإن صالحت إخوانها لا ألومها فود جناة الشرّ أن سيوفنا ... بأيماننا مسلولة لا نشيمها فإن قصيًّا أهل عزّ ونجدة ... وأهل فعالٍ لا يُرامُ قديمها هم منعوا يومي عُكاظ نساءنا ... كما منع الشول الهجان قرومها1 ونظرًا لأثر شعر الهجاء في الناس، من أفراد وقبائل، صاروا يصطنعون الشعراء ويحسنون جهدهم إليهم خشية ألسنتهم، يفعلون ذلك بشعرائهم وبشعراء القبائل الأخرى ممن يخشون سلاطة ألسنتهم. يفعلون ذلك حتى إذا كان الشاعر قد أساء إليهم، على أمل التكفير عن ذنبه، بمدحهم بشعر ينفي أثر ما قاله فيهم من هجاء. حتى إنهم كانوا يعفون عن شاعر قد يقع أسيرًا في أيديهم، إذا أعطاهم العهود والمواثيق ألا يعود إلى هجوهم، وألا يقول شعرًا في ذمهم. وقد يغدقون عليه بالهدايا والألطاف تأليفًا للسانه، وأملا في مدحه لهم، والقاعدة عندهم أن أثر الهجاء يمحوه المدح. وبين الشعر الجاهلي والشعر والإسلامي فروق واضحة في الأسلوب وفي الاتجاه وفي الجزالة واختيار الكلمات، اقتضتها طبيعة اختلاف الزمان وتغير الحال واتصال العرب بغيرهم، وخلود أكثرهم إلى الحضارة، إلى غير ذلك من أسباب. ومما امتاز فيه الشعر الجاهلي عن الشعر الإسلامي، هو أن شعراءه كانوا من العرب، إلا بضعة شعراء، كانوا من أصل خليط، مثل الأغربة، الذين كانت أمهاتهم من أصل إفريقي ولا أعلم اسم شاعر جاهلي، يرجع أصله إلى فارس أو الروم، إلا ما ذكره ابن الكلبي من أمر "خرخسرة". أما في الإسلام فقد زاحم الفرس بصورة خاصة العرب على تراثهم التليد، وهو الشعر، برز منهم فيه فحول، طوروا الشعر ولونوه، وأضافوا إليه معاني جديدة، اقتضتها

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 84 وما بعدها".

طبيعة الامتزاج بين العقليتين والتطور الاجتماعي الجديد الذي ظهر في المجتمع الجديد، مجتمع العرب والموالي. ولعلماء الشعر آراء في الشعر الجاهلي وفي شعراء الجاهلية، وفي شعرهم وفي الاستشهاد بالشعر الجاهلي. ولهم آراء في ذلك دونوها في كتبهم. من ذلك أن العرب كانت لا تروي شعر شاعر، أو لا تعجب به إذا كانت ألفاظه ليست نجدية، ذكروا أن "العرب لا تروي شعر أبي داود وعدي بن زيد. وذلك لأن ألفاظهما ليست بنجدية"1. وذكروا عن شعر عدي بن زيد العبادي، أن "العرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية. وكان نصرانيًّا من عباد الحيرة قد قرأ الكتب"2. وقالوا عنه أيضًا "وكان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جدًّا، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة"3. وجزالة الألفاظ وشدة وقعها على الأسماع وغرابتها، هي من أهم المعايير التي اتخذها علماء الشعر في تقدير قيم الشعر الجاهلي، والقصيدة الجيدة الحسنة هي القصيدة الجزلة الفخمة الألفاظ التي لا تتسم بالسهولة واللِّيونة، والتي لا تفهم إلا بالرجوع إلى الشروح والتعليقات والإيماءات والإشارات. ومن هنا فَوَّقُوا شعر الأعراب على شعر الحضر، لوجود لين في شعر أهل المدر، ولسهولته، ومن هنا قالوا: إن في شعر قريش لينًا وسهولة، وفي شعر أهل الحيرة وأهل القرى مثل ذلك. وقد تعرض ابن رشيق لموضوع الشعر الجاهلي القديم والشعر الإسلامي المحدث، فقال: "إنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين ابتدأا: هذا بناه فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه فالكلفة ظاهرة على هذا وأن حسن، والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن"4.

_ 1 الشعر والشعراء "121". 2 الشعر والشعراء "115"، الأغاني "15/ 93". 3 الشعر والشعراء "111". 4 العمدة "1/ 57".

الخمر والشعر

الْخَمْرُ والشِّعْرُ: وقد كان الشعراء يقبلون على شرب الخمر، إقبال أكثر الجاهليين على شربها

لتُنْسِيهم همومهم وفقرهم، حتى إن منهم من كان يبيع ما عنده ليشتري الخمر. وقد كان الشعراء يشربون ليستوحوا الوحي من الشرب، حتى إن الأعشى لما قدم ليسلم، فقيل له: إن الإسلام يحرم الخمر، توقف، ولم يسلم، إذ شق عليه هذا التحريم، ولم يتمكن بعضهم من تركها، فحدُّوا على شربها. وقد هرب ربيعة بن أمية بن خلف الجحمي، من بلاد الإسلام ولحق بالروم، لأن عمر جلده الحد في الخمر، وكان من آنف العرب وأسخاهم، فحلف أن لا يقيم بأرض حد فيها ولا يدين من حده، فحمله الأنف إلى أن آتى الروم فمات بها نصرنيًّا1. ويروى أنه قال: لحقت بأرض الروم غير مفكر ... بترك صلاة من عشاء ولا ظهر فلا تتركوني من صبوح مدامة ... فما حرم الله السُّلاف من الخمرِ إذا أمرت تيم بن مرة فيكم ... فلا خيرَ في أرضِ الحجازِ ولا مصر فإن يك إسلامي هو الحق والهدى ... فإني قد خليته لأبي بكر ويذكر المعري أنه قد جرى له مع أبي بكر خَطْب، فلحق بالروم2.

_ 1 الاشتقاق "80 وما بعدها"، الأغاني "13/ 112". 2 رسالة الغفران "440 وما بعدها".

شيطان الشاعر

شَيطَانُ الشَّاعِرِ: ولا بد لي من أن أشير إلى ما كان يعتقده الجاهليون من أن الشعراء كانوا يستلهمون وحيهم بالشعر من شيطان، كنوا عنه بـ"شيطان الشاعر". فقالوا: "لكل شاعر شيطان". وهم يعبرون بذلك عن الحس الذي يصيب كل إنسان حساس شاعر عندما يهز مشاعره وإحساسه شيء ما يؤثر عليه فيستولي على عقله وشعوره ويستهويه، ولا يتركه يستقر ويهجع حتى يعبر عن شعوره هذا الذي يسطر عليه وملكه، بشعر يأتيه وكأنه وحي ينزل عليه تنزيلا، وعندئذ فقط يستقر ويهجع، بعد أن يكون قد نسب هذا الشعور المرهف الذي ألَمَّ به إلى وحي شياطين الشعر.

وكان الكهناء، يقولون في الجاهلية: إن الشياطين كانت تأتيهم1، فهم مثل الشعراء يعتقدون بأن وحيًا يوحي إليهم بما يقولونه للناس، يتجلى لهم على صورة "رئي"، الرئي يقول سجعًا، والشيطان ينظم شعرًا. وقد بلغ من اعتقاد بعضهم بوجود شياطين الشاعر أن رووا قصصًا تذكر كيف أن شياطين الشعر كانوا يعلمون الشعراء قول الشعر حين ينحبس الشعر عنهم وحين تقف قريحتهم حتى ليصعب على الشاعر أن ينظم بيتًا واحدًا، حتى إذا حار في أمره، استجار بشيطانه وتوسل إليه لإنقاذه من محنته، فيرِقَّ شيطانه عليه، ويلقي عليه الشعر إلقاء فيأتي على لسان الشاعر وكأنه سيل متدفق. ولاعتقاد الشعراء هذا بوجود قرين لهم من الشياطين، أو من الجن، سموا شياطينهم بأسماء، فكان اسم شيطان الأعشى "مسحلا"، وقيل هو تابعه وجنِّه الذي كان يوحي إليه بالشعر. كما أشار هو إليه في شعره: دعوت خليلي مسحلا، ودعوا له ... جهنام، جدعًا للهجين المذمم2 وللأعشى أشعار أخرى ذكر فيها فضل شيطانه عليه في قول الشعر. من ذلك قوله: وما كنت ذا قول ولكن حسبتني ... إذ مسحل يبري لي القول أنطق خليلان فيما بيننا من مودة ... شريكان جني وإنس موفق3 وجنّه هو الذي حباه بموهبة الشعر، وبفيض الخواطر، ينظمه كلامًا محبوكًا، فهو يشكره ويفديه بنفسه: حباني أخي الجني نفسي فداؤه ... بأفيح جياش العشيات مرجم4. واسم هاجس الأعشى وشيطانه "مسحل بن أوثاثة"، وكان هو الذي يلقي الشعر على لسان الأعشى. وقد رآه الأعشى ودخل خباءه وهو من شَعْر،

_ 1 مجالس ثعلب "20". 2 اللسان "11/ 331"، ثمار القلوب "70"، "جهغام جدعا" الحيوان "6/ 226". 3 ثمار القلوب "70". 4 ثمار القلوب "70"، الحيوان "6/ 226".

وكان الأعشى في أول أرض اليمن يريد الذهاب إلى قيس بن معديكرب بحضرموت، فضل طريقه، فابصر هذا الخباء، فذهب إليه، وسأله الشيخ أن ينشده شعرًا، فكان إذا تلا عليه مطلع القصيدة أوقفه، واستدعى جارية من جواريه لتتلو عليه بقية القصيدة، حتى سُقِط في يدي الأعشى وتحيَّر، واغتشته رعدة، فلما رأى الشيخ ما حلَّ به، قال: "ليفرج روعك أبا بصير، أنا هاجسك مسحل بن أوثاثة الذي ألقي على لسانك الشعر". ثم ودَّعه وأرشده الطريق1. وكان للأعشى شيطان، اسمه جهنَّام، وهو تابعة، أي شيطانة أنثى. وكان لقب عمرو بن قطن من بني سعد بن قيس بن ثعلبة، وكان يهاجي الأعشى، وقال فيه الأعشى: دعوت خليلي مسحلا ودعوا له ... جهنام جدعًا للهجين المذلل2 وقيل إن جهنام كان شيطان الأعشى الأول، ثم اتخذ الأعشى مسحلا بعده 3. وزعم أن امرئ القيس كانت له قصائد ومطارحات مع عمرو الجني. وأن اسم شيطان امرئ القيس هو لافظ بن لاحظ. وأن اسم شيطان عبيد بن الأبرص هو هبيد، وهو اسم شيطان بشير بن أبي خازم؟ بشر بن أبي خازم كذلك. وأن اسم شيطان النابغة الذبياني، هو هاذر بن ماهر، وأن اسم شيطان المخبل السعدي، هو عمرو4. وقد بقي هذا الاعتقاد في شياطين الشعراء إلى الإسلام، فكان الشيطان الذي يلقي الشعر إلى جرير هو إبليس الأباليس، وكان اسم شيطان الفرزدق عمرًا، واسم شيطان بشار بن برد شنقناق. وكان جني حسان وصاحبه الذي يوحي إليه الشعر من بني شيصبان، "وكانت الشعراء تزعم أن الشياطين تلقي على أفواهها الشعر، وتلقنها إياه، وتعينها عليه، وتدعي أن

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 968 وما بعدها". 2 تاج العروس "8/ 235"، "جهنام". 3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 50". 4 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 51". الشنقيطي، شرح المعلقات العشر "8".

لكل فحل منهم شيطانًا يقول الشعر على لسانه، فمن كان شيطانه أمرد كان شعره أجود"1، وورد أن الفرزدق كان يرى أن للشعر شيطانين، يدعى أحدهما: الهوبر، والآخر: الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره2. وقد زعم أبو النجم أن شيطانه الذي يوحي إليه الشعر شيطان ذكر، أما شياطين بقية الشعراء فإناث: إني وكل شاعرٍ من البشرِ ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر فما يراني شاعرٌ إلا استتر ... فعل نجوم الليلِ عاين القمر3 وقال آخر: إني وإن كنت صغير السن ... وكان في العين نبو عني فإن شيطاني أميُر الجنّ ... يذهب بي في الشعر كل فن4 وروي أن السعلاة لقيت حسان بن ثابت في بعض طرقات المدينة، وهو غلام قبل أن يقول الشعر، فبركت على صدره، وقالت أنت الذي يرجو قومك أن تكون شاعرهم؟ قال: نعم. قالت: فأنشدني ثلاثة أبيات على روي واحد وإلا قتلتك، فقال: إذا ماترعرع فينا الغلام ... فما أن يقال له من هوه إذا لم يسد قبل شد الإزار ... فذلك فينا الذي لا هوه ولي صاحب من بني الشيصبان ... فحينًا أقول وحينًا هوه5 فخلت سبيله. فهذا الأبيات هي على زعم أهل الأخبار أول شعر حسان. قالها بوحي من شيطانه الشيصبان.

_ 1 ثمار القلوب "69 وما بعدها". 2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 51". 3 الحيوان "6/ 229"، ثمار القلوب "71"، ديوان المعاني "1/ 113"، الراغب، محاضرات "1/ 280". 4 ثمار القلوب "72"، الخصائص "1/ 225". 5 الخزانة "1/ 418 وما بعدها"، "بولاق".

وليس هذا الشيطان الذي تصوره الجاهليون، يلهم الشعراء وحيهم ويلقي إليهم الشعر إلقاء بقذفه في قلوبهم، ليخرج على ألسنتهم، هو من وحي الجاهليين ومن تخيلاتهم وتخرصاتهم وحدهم، بل هو شيء معروف عند غيرهم أيضًا. فقد تصور اليونان أن للشعر آلهة تقذف الشعر في نفوس الشعراء، فينطلق على ألسنتهم1. والرئي الذي يوحي إلى الكاهن علمه بالكهانة، هو ضرب من هذه الشياطين التي تخيلوها للشعراء، فبفضل الرئي يقول الكاهن سجعه لمن يطلب منه أن يتكهن عن أمر سأله عنه، وهو يجيب السائل بما يلقيه رئية عليه، يلقيه سجعًا، أما شيطان الشاعر، فيلقيه على شاعره شعرًا، ومن هنا وقع الفرق بين قول الشاعر وبين قول الكاهن. وكانوا يسمون الشعراء كلاب الحي، وهم الذين ينبحون دونهم، ويحمون أعراضهم. وفي ذلك يقول عمرو بن كلثوم: وقد هرَّت كلاب الحي منَّا ... وشذبنا قتادة من يلينا2 وأما كلاب الجن، فشعراؤهم، وهم الذين ينبحون دونهم ويحمون أعراضهم3.

_ 1 B. Snell, Die Entdeckung des Geistes, Hamburg, 1946, S. 117. ff. 2 الحيوان "1/ 350". 3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 52".

الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر

الفصل السابع والأربعون بعد المائة: حد الشعر مدخل ... الفَصْلُ السَّابِعُ والأرْبَعونَ بَعَدَ المائَةِ: حَدُّ الشِّعْرِ عرف علماء العربية الشعر بقولهم: "والشعر: منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعرًا من حيث غلب الفقه على علم الشعر". وعرَّف الأزهري الشعر بقوله: "الشعر القريض المحدود بعلامات لا يجاوزها، والجمع أشعار، وقائله شاعر، لأنه يشعر ما لا يشعر غيره، أي يعلم"1. وعرفه ابن خلدون بقوله: "الشعر هو الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والرَّوي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العربية المخصوصة به". فهو يجعل التقفية والوزن من شروط الشعر، ويشترط أيضًا استقلال كل بيت منها بغرضه2. وعرف بأنه الكلام المقفى الموزون قصدًا، والتقييد بالقصد مُخْرِج ما وقع موزونًا إتفاقًا، فلا يسمى شعرًا3. وقد قصد بهذا التعريف الإسلامي، إخراج من قال الشعر اتفاقًا لا عن قصد واحتراف. بل عفوًا وسجية. ولما جاء في القرآن الكريم، من رمي المشركين للرسول بأنه شاعر بقول الشعر، فنزل الوحي

_ 1 اللسان "4/ 410"، "صادر"، "شعر"، الصاحبي، "273". 2 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 59". 3 إرشاد الساري "9/ 88".

بنفي ذلك عنه. وحدد العلماء صفة الشاعر بأنه الذي يحترف الشعر ويقوله قصدًا، حتى لا تنطبق هذه الصفة على من يقول سطرًا بوزن اتفاقًا من غير قصد1. وقد عرفه بعضهم بقوله: "الشعر كلام موزون مقفى، دالٌّ على معنى، ويكون أكثر من بيت"2. وهو تعريف وضعه علماء الشعر في الإسلام، وهو لا ينطبق بالطبع على وصف الشعر عند الأعاجم من الآريين والساميين، لأن للشعر عند هذه الأمم مفاهيم آخرى، تختلف باختلاف وجهة نظرها إلى الشعر. فقد يكون الشعر سجعًا عند الأمم الأخرى، وتعد الأمثال عند بعض الشعوب في جملة أبواب الشعر3، كما أنه لا يمكن أن ينطبق على الشعر الجاهلي القديم، إذ ليس في استطاعة أحد حق التحدث عن الشعر الجاهلي المتقدم على شعر أقدم من وصل اسمه إلينا من الشعراء الجاهليين، لعدم وجود نصوص مدونة أو مروية عن ذلك الشعر، وما دمنا لا نملك نصوصًا منه، فلا حق لنا إذن في التحدث عنه. وعندي أن الشعر الجاهلي المروي والمدون في المؤلفات الإسلامية ببحوره المعروفة إنما يمثل المرحلة الأخيرة من مراحل تطور هذا الشعر، أي مرحلة الكلام الموزون المقفى الدال على معنى، ولكننا لا نستطيع كما قلت سابقًا الزعم بأن الشعر الجاهلي الأقدم كان على نفس هذه البحور، أي أنه كان متمسكًا بالوزن والقافية إذ من الجائز أن يكون قد كان على شاكلة الشعر القديم الذي نظمه الشعراء الساميون، من عدم تقيد بالقافية وبوزن الأبيات، كما نجد ذلك في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى وإنما كانوا يراعون فيه النغم، بحيث يتغنى به، أو التأثير في العواطف، بمراعاة نسق الكلام المبني على البلاغة. ولهذا عد السجع نوعًا من أنواع الشعر، لأن في السجع من الوصف والعاطفة والحس ومعالجة الموضوع، ما يجعله شعرًا، وفي بعضه نغم يجعله صالحًا لأن يتغنى به، وبين الغناء والشعر صلة ونسب. وقد جعل بعض العلماء الشعر وليدًا من أولاد الغناء، لأن الشعوب القديمة كالبابليين، والمصريين، واليونيين والعبرانيين، كانت تقرن شعرها بالموسيقى، وعرف هذا الشعر بالإنشاد، وقد كان الإنشاد في المعابد، نوعًا من

_ 1 الصاحبي "273". 2 المزهر "2/ 469"، "النوع التاسع والأربعون، معرفة الشعر والشعراء". 3 The Bible Dictionary, II, p. 305.

التراتيل الموجهة الآلهة، كما كان يستخدم في الحروب. ولهذا رأى العلماء أن الموسيقى، أولدت الإنشاد، والإنشاد هو والد الشعر. والشعر معروف عند كل شعوب العالم، معروف موجود حتى عند الشعوب البدائية، لأنه نوع من أنواع التعبير عن الحس. والإنسان مهما كانت ثقافته ومنزلته لابد له من التعبير عن إحساساته بمختلف الصور، وبشتى الوسائل، من كلام أو تدوين أو نقش أو صراخ أو غناء أو رمز، إلى غير ذلك من الأنواع وفي جملتها الشعر. فهو لا يخص إذن شعبًا معينًا، ولا جنسًا خاصًّا، وإنما هو تعبير إنساني، يؤديه كل إنسان، متى كانت عنده المواهب ووجد عنده الحس المرهف الذي يدفعه إلى تأليف الشعر دفعًا، يؤديه على نحو ما يتأثر به إحساسه وذوقه، في أسلوب يختلف عن الكلام المعتاد المألوف، ولكنه ليس على نمط واحد عند جميع البشر، فقد يكون الشعر شعرًا عند أمة، وهو ليس شعرًا عند أمم أخرى، والمصطلح العربي الذي ذكرته للشعر، يختلف عن المصطلح المفهوم للشعر عند اليونان مثلا أو عند الرمان أو عند البابليين، كما أن أبوابه وأنواعه قد تختلف بين أمة وأخرى. فقد كان العبرانيون يحبون الشعر، حب العرب له، ويقولون له: "هـ - ش"، أي الشعر وكانوا ينظمون أشعارًا رتلوها في مختلف المناسبات، في الأفراح وفي الأتراح في المدح وفي الهجاء، وفي الغزل وفي الوصف، وفي تمجيد الرب، وكانوا يستعينون بالشعر في القتال، ينشدونه في قتالهم ويجعلونه عونًا لهم في شحذ الهمم وفي تقوية العزائم للنصر، كما نرى ذلك في أسفار التوراة1. ونجد ثلث التوراة شعرًا، لا سيما في أسفار أيوب والمزامير والأمثال والجامعة ونشيد الإنشاد. وفي مواضع من "التكوين" وكتب الأنبياء. ولكن شعرهم ليس وزنًا وقافية، على نمط الشعر العربي، بل هو شعر من طراز آخر. هو شعر بالنسبة للعبرانيين، وهو ليس بشعر بالنسبة لمصطلحنا المحدد للشعر. وقد بدأ الشعر بداية متحررة، فلم يكن الإنسان في بادئ أمره بالشعر يتقيد بالوزن والقافية، وإنما كان يميز بينه وبين النثر بالنغم الذي يجعله فيه، وبالنبرات

_ 1 الخروج، الإصحاح 15، والقضاة، الإصحاح الخامس وفي المزامير.

التي يخرجها مخارج الغناء، ولهذا نجد المقطوعات الشعرية القديمة التي وصلت إلينا مدونة في كتابات مختلف الشعوب لا تشبه الشعر المعروف، إذ فيه تحرر، وفيه اعتماد على الترنم والإنشاد وعلى فن الإلقاء، أما الاعتبارات الفنية المعروفة، فهي من عمل الشعراء المتأخرين الذين أحلُّوا الوزن محل الإلقاء، ووضعوا قواعد فنية في نظم الشعر. فلم تكن الأبيات الشعرية في الشعر القديم متساوية، ولم تكن هناك قوافي بالضرورة، حتى إنك لا تستطيع تمييز القطعة الشعرية عن غيرها، إلا بالإنشاد 1. والشعر من أقدم الأحاسيس التي عبر بها الإنسان عن نفسه، فهو يعبر عن عواطفه وعن أحاسيسه، من سرور أو حزن، أو ألم, عن اهتمامه بالأمور وعن تصوراته، وعن كل ما يدور في رأسه من أمور تسترعي حسه، فيشعر عندئذ بالترفيه عنه بإخراجها كلامًا فيه نغم "Rhythm"، أي إيقاع ووزن، وفيه توازن ونظام بين أجزائه، على غرار ما يفعله الراقص في رقصه، من إقران رقصه بحركات موزونة. وهو من العواطف المولودة في الإنسان. ولهذا تعد العواطف التي يعبر بها الإنسان عن نفسه شعرًا، وإن خرجت بغير بحور، وبدون وزن ولا قافية ففي كلام سارة: "وقالت سارة قد أنشأ الله لي فرحًا فكل من سمع يفرح لي، وقالت من كان يقول لإبراهيم إن سارة سترضع ابنًا، فقد ولدت ابنًا في شيخوخته"2، وفي الآيات: "ثم أخذت مريم النبية أخت هارون الدف في يدها وخرجت النساء كلهن وراءها بدفوف ورقص. فجاوبتهم مريم: سبحوا الرب، لأنه قد تعظم بالمجد. الفرس وراكبه طرحهما في البحر"3، وفي مباركة يعقوب أبناءه عند شعوره بدنو أجله، وفي كلام موسى حين قهر فرعون، معانٍ شعرية، وتعد من أقدم أنواع الشعر السامي التصويري. وذلك لأن الشعر السامي القديم، لم يكن يتقيد بالقافية "phyme"، ولا بالتفعيلات "feets" أو بالمقاطع القصيرة "short syllables"، وإن حاول ولا سيما

_ 1 Hastings, dictionaryof the Bible, Vol, IV, p. 7. 2 التكوين، الإصحاح الحادي والعشرون، الآية "6 وما بعدها". 3 الخروج، الإصحاح الخامس عشر، الآية "20 وما بعدها".

فيما بعد، أن يضع في كل شطر أو بيت عددًا من الكلمات أو المقاطع، يعادل ما يضعه في الشطر أو البيت الثاني منها، ليتولد من ذلك الوزن1. ويقسم الغربيون الشعر عادة إلى "Epic"، وهو شعر الملاحم، حيث يمتاز بطول قصائده وفخامة أسلوبه، وبقصصه الذي يدور حول أبطال الملحمة والأحداث التي تعرض لها هذا النوع من الشعر. وشعر يقال له "Dramatic"، وهو شعر مسرحي، أي تمثيلي. وشعر يقال له "Lyric"، وهو شعر غنائي. وشعر يقال له "Didactic"، وهو شعر تعليمي، أريد به التعليم ووعظ الإنسان. ونجد النوع الأول منه عند اليونان والرومان والهنود والفرس والألمان وهم من الشعوب الهندو أوروبية، أي الشعوب الآرية. ولا نجد من شعر الملاحم، ومن شعر "الدراما" في التوراة، ولكننا نجد ما يشبه "الدراما" "Semi Dramatic" في سفر أيوب، ويكثر الشعر الغنائي المعد للترتيل Lyric فيه. ففي كلمات موسى على البحر الأحمر، التي تمثل غناء النصر "Triumphal Odes"، وفي غناء "دبوره" "Deborah"، وفي المزامير، أشعار غنائية معدة للتراتيل2. وقد أشير إلى إنشاد الشعر جماعة في التوراة، فلما وصل العبرانيون إلى البئر التي قال الرب فيها لموسى اجمع الشعب حتى أعطيهم ماء، وحينئذ ترنم اسرائيل بهذا النشيد: اصعدي يا بئر تجاوبوا لها. بئر احتفرها الرؤساء، احتفرها أشراف الشعب بمخصرة عصيهم"3. وقد لازم الترنم الشعر منذ أوائل أيامه، ففي الترنم به تقوية له. وما النغم سوى إيقاع يجعله نوعًا من أنواع الغناء "نوطته" التفعيلات التي تكوِّن بحوره في الأدب العربي. ولهذا نجد الشعر قد رافق الغناء بل هو نوع منه منذ نشأته. ونجد القديس نيلوس "Nilus" "المتوفى حوالي سنة 430م"، يصف غارة بدوية على دير سيناء وقعت سنة 410م، وتحدث في أثناء حديثه عنها عن إنشاد الأعراب أناشيد بترانيم عندما كانوا يأخذون الماء، وهي ترانيم لم يشر

_ 1 John D. Davis A Dictionaryof the Bible, London, 1958, p. 616. 2 John D. Davis, A Dictionary of the Bible, p. 616. 3 العدد، الإصحاح 21، الآية 16 وما بعدها.

القديس إلى نوعها، ولكني لا أستبعد أن تكون من الرجز، الذي يقال في المناسبات، في استنباط الماء، وفي حفر الآبار. أو رفع الأثقال، أو في بناء، وأمثال ذلك مما لا يزال مألوفًا، ويشاهد حتى بين أهل القرى. وإن كان بعضها ترانيم غير فنية ولا مصقولة، ولكنها ذات إيقاع على كل حال1. ومن هذا القبيل الأشعار التي أنشدها العرب في انتصارهم على الرومان سنة 372م، والتي أشار إليها المؤرخ "سوزومن" في كتابه "تأريخ الكنيسة"، فقد ذكر أن العرب كانوا ينشدون الشعر في قتالهم هذا مع الرومان2. والواقع أننا لا نكاد نقرأ خبر معركة إلا ونجد الشعر فيها في مقدمة الأسلحة التي تستخدم فيها، وقد يسبق السيف في الضرب، حيث يخرج الفارس وهو يرتجز رجزًا يشيد بنفسه، وبقومه، مهونًا من أمر من سينازله ثم يقابله من يتبارى معه برجز آخر، يشيد فيه بنفسه، ردًّا على خصمه. والشعر العبراني القديم نوعان: النوع المعد للترتيل، والنوع التعليمي. ومن النوع الأول المزامير، ومن النوع الثاني الأقسام الشعرية من كتب الأنبياء. والمزامير "Psalms" هي من أفصح الأشعار الدينية في التوراة، وهي تعبر عن الحس الديني عند الإنسان، وعن شعور البشر تجاه خالقهم، وهي تمجيد وحمد له، واعتراف بضعف الإنسان تجاه خالقه، فهو يرتل فيها حمد الله والثناء عليه. أما الأمثال والجامعة، وبعض أقسام كتب الأنبياء، فهي وإن كانت دينية في الأصل، إلا أنها وضعت لغايات تعليمية، لإرشاد الناس وتقديم النصح لهم. ولا توجد القوافي والبحور في هذا الشعر، ومع أن بعض الأشعار العبرانية قد نظمت أحيانًا على الحروف الأبجدية، لكن أشطرها لم تتضمن عددًا مماثلا من المقاطع، ليتولد منها الوزن، أي النغم. وإنما نظمت على مقابلة الأفكار في الشطر الأول والثاني، أو في الشطرين الأولين والثالث، وقد يشرح فكر الشاعر على نوع مقابلة فكرين، إما لوجه المشابهة بينهما، وإما لوجه المخالفة بينهما. ومن أمثلة أوجه المشابهة:

_ 1 غرونباوم"133وما بعدها". 2 غرونباوم "134".

فمن هو الإنسان حتى تذكره ... أو ابن آدم حتى تفتقده1 وما جاء في المزمور التاسع عشر من قوله: السموات تحدث بمجدِ اللهِ ... والفلك يخبر بعمل يديه يوم إلى يوم يذيع كلاما ... وليل إلى ليل يبدي علما2 ومن أوجه المخالفة بينهما: لأن عاملي الشر يقطعون ... والذين ينتظرون الرَّب هم يرثون الأرض3 وما جاء في الأمثال: الجواب اللين يصرف الغضبَ ... والكلام الموجعُ يهيج السخط لسان الحكماء يحسن المعرفة ... وفم الجهال ينبع حماقة4 وقد ذهب بعض العلماء إلى وجود "التفاعيل، feet" و"الوزن، metre" في الشعر العبراني، وذهب بعض آخر إلى عدم وجود التفاعيل فيه وذهب بعض إلى وجود القافية "Rhyme" والوزن "Rhythm" في الشعر العبراني. وهو شعر يختلف عن شعرنا المألوف، وهو وإن أمكن تقسيمه إلى أشطر وأبيات، إلا أن له خصائص يختلف بها عن الشعر العربي. فنرى مثلا أن الأبيات في

_ 1 المزامير، المزمور الثامن، الآية4. 2 الآية: 1 وما بعدها. 3 المزمور 37، الآية: 9. 4 الأمثال. الإصحاح الخامس عشر، الآية: 1 وما بعدها".

القصيدة العبرانية غير متساوية، فقد يطول فيها بيت، وقد يقصر فيها بيت آخر. وقد ترتب الأبيات على ترتيب حروف الهجاء، كما في الأمثال وفي المزامير1. ومن أهم أبواب الشعر العِبْرَاني، باب يقال له: "parallelism" في الإنكليزية، أي التطابق، وهو أنواع. وقد بحث فيه العلماء2. وقد يكون الشعر على صورة أفكار متسلسلة متتابعة، فتتقدم الفكرة تدريجيًّا، وتوضح الأبيات التالية السابقة مثل: قاموس الرب كامل يرد النفس ... شهادات الرب صادقة تصير الجاهل حكيمًا وصايا الرب مستقيمة تفرح القلب ... أمر الرب طاهر ينير العينين خوف الرَّب نقي ثابت إلى الأبد ... أحكام الرب حق عادلة كلها أشهى من الذهب والإبريز الكثير ... وأحلى من العسل وقطر الشهاد3 ومن أنواع الشعر في التوراة، ما نقول له "ترادف المتطابقات"Synonymous parallelism"، وذلك أن تكون فكرة الشطرين مترادفة، وكذلك المصطلحات الورادة فيهما، فترتبط فكرة الشطر الأول بالشطر الثاني من البيت، مثل: "وقال لآمك لامرأته عادة وصلة: اسمعا قولي يا امرأتي لآمك واصغيا لكلامي، إنني قتلت رجلا لجرحي وفتى لشدخي"4، فالشطر الأول هو: "وقال لآمك ... إلخ"، والشطر الثاني المتمِّم هو: "أنني قتلت رجلا لجرحي"، ومثل: "أنقذ من السيف نفسي. من يد الكلب وحيدتي، خلصني من فم الأسد ومن قرون بقر الوحش استجب لي"5. ومثل:

_ 1 The Bible Dictionary, vol, II, p. 305. ff. 2 John D. Davis, A Dictionary of the Bible, p. 616. 3 المزمور 19، الآية 7- 10، قاموس الكتاب المقدس "1/ 621". 4 التكوين، الإصحاح الرابع، الآية: 23". 5 المزامير، المزمور 22، الآية: 20 وما بعدها".

كيف ألعن من لم يلعنه الله ... وكيف أشتم من لم يشتمه الرَّب1 وما نقول له بـ"تناقض المتطابقات"، أو "تضاد المتطابقات،Antithetic parallelism". وذلك أن يكون الشطر الثاني مثل الشطر الأول في احتوائه على الحقيقة، أي الفكرة، ولكنه جاء بها بصورة أخرى، أي متضادة Contrast. فالشكل مُتَطابق تمامًا، وأحد جزئي الشطر مترادف، أما الجزءان الآخران، فمتعارضان، وأكثر ما يقع ذلك في المثل: الابن الحكيم يسر أباه ... والابن الجاهل حزن أمه2 ونوع آخر يقال له "الإيقاع المتصاعد"، أو "الوزن الصاعد"، "Ascending Rhythm" "Stair-like"، وهو شعر يرد في الشطر الثاني، منه جزء مما ورد في الشطر الأول، أو مختصر الشطر الأول، ليضاف عليه شيء جديد. مثل: حتى يعبر شعبك يا يهوه ... حتى يعبر الشَّعب الذي اقتنيته3 ونوع يقال له "المتطابقات المركبة" "Synthetic Parallelism" أو "Constructive" وذلك بأن يكون ما يرد في الشطر الثاني مخالفًا، أو على الأكثر لما وَرَدَ في الشطر الأول: على أن المتطابقات في الشطرين تكون موجودة. مثل: لا تجاوب الجاهل حسب حماقته ... لئلا تعدله أنت جاوب الجاهل حسب حماقته ... لئلا يكون حكيمًا في عيني نفسه4

_ 1 العدد، الإصحاح 23، الآية: 8. 2 الأمثال، الإصحاح العاشر، الآية: 1. 3 الخروج، الإصحاح الخامس عشر، الآية: 16. 4 الأمثال، الأصحاح 26، الآية: 4.

ومثل: ارفعن أيتها الأرتاج رءوسكن وارفعنها أيتها الأبواب الدَّهريات فيدخل ملك المجد. من هو هذا ملك المجد، رب الجنود هو ملك المجد. سلاه 1. ومن النوع المعروف بـ"Progressive parallelism"، ما ورد في "أيوب" من قوله: "هناك يَكُفُّ المنافقون عن الشغب وهناك يستريح المتعبون. الأسرى يطمئنون جميعًا، لا يسمعون صوت المسخر. الصغير كما الكبير، والعبد حر من سيده"2. وقد جاء الشطر الثاني بمعانٍ إيضاحية جديدة، لها صلة بما ورد في الشطر الأول من معنى3. ومن النوع الذي يقال له: "Climatic parallelism"، ما ورد في "المزامير": "صوت الرَّب يولد الأيل، ويكشف الوعور وفي هيكله الكل قائل المجد، الرب بالطوفان جلس ويجلس الرب ملكًا إلى الأبد. الرب يعطي عزًّا لشعبه، الرب يبارك شعبه بالسلام"4، وقوله: صوت الرب بالقوة. صوت الرب بالجلال. صوت الرب مكسر الأرز ويكسر الرب أرز لبنان، ويمرحها مثل عجل. لبنان وسِرْيون مثل غرير البقر الوحشي"5. حيث تعاد الألفاظ فيه حسب سلم ارتفاع المعاني. ويتكون الـ"Parallelism" في العادة من بيتين، أو شطرين، فهو من نوع "Distich"، غير أنه يتكون أحيانًا من ثلاثة أبيات "Tristichs"، ومن أربعة أبيات "tetrastichs"، ومن خمسة أبيات "Pentastichs". ولا يرد الشعر العبراني على صورة مقطوعات أو قصائد بالضرورة، ومع ذلك فقد ورد في بعض المزامير على شكل قصيدة مكونة من ثلاثة أقسام متساوية يربط بين أجزائها رابط، هو بيت مكرر "Recurring verse". ونرى أن أحد المزامير قد تألف من ثلاث مقطوعات، كل قطعة منها بثلاثة أبيات، وفي

_ 1 المزامير، المزمور 24، الآية: 9 وما بعدها". 2 أيوب، الإصحاح الثالث، الآية: 17 وما بعدها". 3 Jond D. Davis, A Dictionary of the Bible, p. 616 4 المزامير، المزمور 29، الآية: 9 وما بعدها". 5 المزامير، المزمور 29، الآية: 5 وما بعدها".

نهاية كل مجموعة علامة "سلاه" "Selah". وقد تنتهي المجموعتان بعبارة تتكرر على نحو موصول في قصيدة أو أغنية "Refrain" ونجد في المزامير شعرًا ورد منظومًا على ترتيب الأبجدية، فقد ورد مكونًا من اثنتين وعشرين قطعة، أي بعدد حروف الهجاء، تكونت كل قطعة منها من ثمانية أبيات "Verses"، وتبدأ كل قطعة بالحرف العددي. ونجد أن الـ"Lamentations"، قد رتب على الحروف2، وهي مقاطع شعرية حزينة ومراثي "Elihies" تمثل شعر المراثي الأصيل "Threnody" في العبرانية. ويتوفق وزنها على بناء كل بيت ولكن البيت فيها لا يشبه بيت الشعر في اللغة اللاتينية من نوع الأبيات المكونة من ستة تفاعيل "Hexameter"، أو من الخماسي التفاعيل "Pentameter"، وإنما يتكون من خمسة ألفاظ أو ستة أو سبعة، مكونة ما يعادل أحد عشر مقطعًا "SyllabLes". يتكون كل بيت منها من شطرين غير متساويين أحدهما من ستة، والآخر من خمسة، أو من أربعة والآخر من ثلاثة، يفصل بينهما الإحساس والقواعد النحْوية3. ونجد Sirach من أسفار "الأبوكريفا" "apocrypha"، وقد نظم على هيئة "دوبيت" Stichoi من حيث الوزن وعدد المقاطع. وهو من الشعر التعليمي: "Diadactic". وقد قسَّم بعض العلماء الشعر العِبْراني الوارد في التوراة إلى أقسام: شعر يتمثل بما ورد منه في أسفار "أيوب" "Job" وفي نشيد "سليمان"، ونوع يتمثل بما جاء في "المزامير" وهو شعر غنائي، أي يتغنى به، وقد ينشد على إيقاع "المزمار"، وهو يقال له "Lyric" في الإنكليزية، وشعر ثالث يتمثل في "الأمثال" وفي أسفار الحكمة "Ecclesiaticus" التي هي في التهذيب وفي تعليم الإنسان "Didactic"، وفي الحكم الموجزة المفيدة "Sententious". والنوع الأول هو شعر فني، وأما النوع الثاني فمختصر موجز، نظم لينشد، ولكل قسم طرق وبحور5.

_ 1 المزامير، المزمور الرابع والعشرون، المزمور السادس والثلاثون. 2 Jond D. Davis, A Dictionary of the Bible, p. 616 3 Hastings, p. 527. 4 Hastings, vol, 4, p. 7. 5 The Bible Dictionary, Vol, II, p. 305.

ولأجل إحلال الإيقاع أو النغم في الشعر، فقد يضطر أحيانًا إلى مزج كلمتين قصيرتين، ليتلفظ بهما ككلمة واحدة. كما يفعل ذلك لأسباب أخرى منها مراعاة "القافية" التي يقال لها "ميفق، مقف، Maqqeph" في العبرانية. أما إذا كان العكس، وذلك بأن تكون الكلمة ثقيلة وطويلة، فقد تقرأ وكأنها ذات مقطعين، أو جزءين. وإذا كان الشعر مؤلفًا من أبيات عديدة، تكون وِحْدة واحدة، فيطلق عليها "مقطوعة شعرية" "strophe". ولكن المراد بها في الغالب القطعة الكبيرة من الشعر، أي "القصيدة". وأما الشعر القصير، المؤلف من بيتين، أي من "دوبيت" وهو يقال له: "Couplet" أو "Distich" في الإنكليزية، فإنه يكون الطابع الغالب على الشعر في هذه اللغة. يتكون من "Parallelism"، أي "موازنات" أو "متطابقات". وقد نظمت الأشطر والأبيات، بحيث تتناسب فيما بينها في الألفاظ والجمل والمعاني. فيرد في الشطر الثاني جزء مما ورد في الشطر الأول بنصه أو باختيار لفظة منه، لتذكير القارئ بالشطر المتقدم، فيتخرط مراد ذلك الشطر1. ونجد في التوراة قطعاً عدَّها العلماء مقطعات شعرية، بينما هي خالية من النغم، أي الوزن، ونجد قطعًا ذات نغمة موسيقية، أي ذات وزن، فهي من الشعر الصحيح، المقرون بنغم. والنوع الأول هو نثر "Prose" خالص، لكنه يمتاز عن النثر المألوف باستعماله المجاز والاستعارة والكتابة والتعابير الفنية والألفاظ المؤثرة في التعبير عن الرأي. فهو يعبر عن شعور عميق كامن في النفس بأسلوب أدبي رفيع لذلك عدَّ من الشعر، مع أنه نثر في الواقع. ويتكون البيت من شطرين. ومن مقاطع "Stanza" ومن "Strophe"، أي مقطوعة. ويتكون الشطر والبيت من مقاطع، أي من ألفاظ نظمت بعضها إلى بعض بحيث إذا ما قرئت بصوت مرتفع، فإنها تقرأ بنغمة، وبموسيقى مؤثرة. ويتقضى ذلك تنظيم الألفاظ والمقاطع بشكل منسق ذي نغم، لتتولد منه موسيقية الشعر. فللشعر ارتباط وثيق بالموسيقى والغناء. ونجد موسيقى الأشطر والأبيات متناسبة ومن إيقاع واحد، أي من بحر واحد، وتحافظ القطعة الشعرية،

_ 1 Hastings, p. 737, "Poertry"

على هذه الموسيقى، حتى لا يقع تنافر فيها، فتبدو متنافرة نابية على السمع، فلا تعدُّ شعرًا من صميم الشعر. ويدخل "الترنيم" في باب الشعر الذي يقرأ مع الموسيقى، وتعد الأمثال في جملة أنوع الشعر. ونظرًا لعدمِ وجود نصوص شعرية في العبرانية، وفي اللغات السامية، مدوَّنة بصورة واضحة تبين مقاطعها كيفية التغني أو النطق بها، ونظرًا لجهلنا أصول الإيقاع عند القدماء وطرق الغناء التي تغنى بها، ليس من السهل علينا في الوقت الحاضر إبداء رأي واضح عن الشعر عن قدماء الساميين، وفي جملتهم العرب بالطبع. فنحن لا نعرف اليوم عن الشعر العربي القديم، الذي سبق الإسلام بعصور كثيرة، أي شيء. وليس في النصوص الجاهلية التي وصلت إلينا، نص فيه شعر أو فيه تلميح عنه. وكل ما يقال عنه، هو حدس وتخمين وظن وقياس قيس على ما نعرفه عن الشعر عند بقية الساميين، وما نعرفه عن ذلك الشعر هو بحد ذاته شيء قليل. وما لم يعثر على نصوص شعرية جاهلية، فإن من غير الممكن التحدث عنه بشيء ذي بال. والشعر هو شعور وتعبير عن أحاسيس وخواطر قائله، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن يتناسب مستواه من الرقي أو السَّذَاجة مع مستوى الشاعر العقلي. ومعنى هذا أنه بدأ ساذَجًا بسيطًا، ثم نما وتطور بنمو وتطور عقل قائله. وعلى هذا فشعر كل أمة بدأ كما يبدأ كل مولود ساذجًا بسيطًا، ثم نما وتطور، وهو لا يزال يتطور ما دام العقل الإنساني خاضعًا لسنة التطور، وما دام الإنسان حيًّا. ولد من هذا الكلام الاعتيادي المرسل المنثور، بأن ميز عنه بعض التمييز، ثم زادت هذه الميزات أو العلامات الفارقة، حتى صار صنوًا للنثر، بحيث صار الكلام نثرًا ونظمًا. وقد أشير إلى الشعراء في العهد الجديد، أي في الإنجيل. ورد في "أعمال الرسل" "لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد. كما قال بعض شعرائكم أيضًا"1 مما يدل على أهمية الشعراء في ذلك العهد.

_ 1 أعمال الرسل، الإصحاح السابع عشر، الآية: 28".

والشعر أوقع أثرًا على النفس من النثر، لما فيه من سحر النغم ومن جاذبية في الموسيقى، ومن توازن وتطابق في بنائه، ومن انسجام في تكوين أجزائه، بحيث إذا أسقط جزء من شطر بيت أو وضع جزء غريب في موضع الساقط، وهو ليس في وزنه اختلَّ التوازن فيه أي النغم: ولهذا اقترن الشعر بالغناء، لوجود النغم فيه، والنغم من أساس الغناء. فكان الشاعر يترنم بشعره ويتغنى به، ويقرأه بنغمة خاصة ليؤثر بذلك على سامعيه، وقد يقرن ترنيمه هذا بتحريك رأسه أو يديه أو جسمه من شدة انفعاله وتأثره بشعوره، ليؤثر بذلك في السامعين فيشبه موقفه هذا موقف السَّحرة في الأيام القديمة. ونظرًا لتغني اليونان والرومان عند تلاوتهم أشعارهم، قالوا: غنَّى شعرًا، بمعنى نظم شعرًا1، أو قال شعرًا أو صنع شعرًا. ونحن نقول في عربيتنا "أنْشَدَ شعرًا، نريد: قال شعرًا، وقرأ شعرًا، وأنشد الشعر، قرأه, وأنشد بهم، أي هجاهم. "وفي الخبر أن السليطيين قالوا لغسان هذا جرير ينشد بنا، أي يهجونا. وتناشدوا أنشد بعضهم بعضا"2. و"النشيد رفع الصوت. قال أبو منصور: وإنما قيل للطالب ناشد لرفع صوته بالطلب، وكذلك المعرّف يرفع صوته بالتعريف يسمى منشدًا. ومن هذا إنشاد الشعر، وإنما هو رفع الصوت"3. وفي هذا التفسير دلالة على أن الشعراء كانوا يرفعون صوتهم عند قولهم الشعر ويترنمون به، والترنيم والترتيل والإنشاد من ألوان الغناء. ولا استبعد كون قدماء الشعراء الجاهليين كانوا يترنمون في أشعارهم، أي أنهم كانوا ينشدونها إنشادًا، بطريقة غنائية، قد تصاحب بآلة موسيقية، وربما كانوا يتغنون بالشعر أمام الأصنام، تمجيدًا لها وتقربًا إليها، ومن هنا جاء مصطلح: "أنشد شعرًا" ولا استبعد أن يكون هذا شأن العرب الجنونبيين في معابدهم، نظرًا لما كان لهم من معابد ضخمة وطقوس دينية وتقرب إلى الأصنام. ولا يستبعد احتمال ترنيم بعض الشعراء الجاهليين شعرهم على نغم آلة من آلات الطرب، على نحو ما يفعله اليوم بعض الشعراء الذين ينشدون أشعارهم بالعامية على "الرباب" "الربابة"، ينشدونه عند أبواب البيوت في الأعياد وفي المناسبات،

_ 1 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 64". 2 تاج العروس "2/ 514"، "نشد". 3 تاج العروس "2/ 514"، "نشد".

يستجدون به أصحاب البيت والناس الذين قد يجتمعون حولهم لسماع الغناء. وقد يكون هؤلاء من ترسبات أولئك الشعراء الجاهليين. وقد بدأ الشعر بداية أي شعر آخر، بدأ بداية بسيطة، بدأ جملا مُقَفَّاة، الكلام فيه يوالي بعضه بعضًا على روي واحد. أي سجعًا1. أو كلامًا يشبهه، فيه نغم وإيقاع وتعبير عن إحساس. ثم تَفَنَّن فيه، وزيدت أنغامه، أي بحوره وأغلبها من الأنغام البسيطة السهلة، المتناسبة مع الحياة الأولية، ثم تقدم بتقدم الحياة، واتخذ صورًا متعددة تتناسب مع حياة الأمم وظروفها وعقلياتها، وماتت أوزان، وتولدت أوزان، وظهرت فيه أساليب عند أمة، لم تعرف عند أمم أخرى، لاختلاف الحياة والأذواق والأجواء التي يولد فيها الإنسان. والشعر الجاهلي الواصل إلينا، إما أبيات، نسبت إلى شعراء، وقد لا تنسب، وإما جملة أبيت يقال لها: قطعة، Fragment"، وإما "قصيدة" "Ode" وهي ما زاد عدد أبياتها على حدود القطعة التي رسمها لها علماء الشعر. وقد لعب السجع دورًا هاًًّا في حياة الجاهليين، تكلم به الكهان بصورة خاصة. ولهذا اشتهر وعرف باسمهم فقيل: سجع الكُهَّان، ونطق به الخطباء، وقد تعمقوا فيه فاستعملوا أقصى ما ملكته بلاغتهم من أساليب التأثير على النفوس، لسحر عقول المستمعين لهم. فصار نوع من أنواع الكلام المقفى، ظاهره القافية والروي، وباطنه سحر معاني الشعر. فهو في الواقع شعر مقفى ينقصه الوزن ليكون شعرًا تامًّا. والروي حرف القافية، الحرف الذي تبنى عليه القصيدة، ويلزم في كل بيت منها في موضع واحد2. فلما أضيف إليه النغم، أي الوزن صار شعرًا، له أوزان وبحور، عل نغمها ينظم الشاعر شعره. والسجع، وإن ظهر في عربيتنا كلام مقفى خالٍ من الوزن، إلا أنه في الواقع كلام موزون، روعي فيه، أن يكون الشطر الثاني من الجملة موازٍ أي مساوٍ للشطر الأول منها، بحيث يكون بوزنه وبقافيته. ومن هنا عدَّ شعرًا عند الأمم الأخرى لأنك إذا قرأت السجع الأصيل المعتنى به، أو السجع الذي استرسلت به السليقة، والخارج من قلب إنسان ذي حس مرهف، تجد فيه الميزان الصحيح

_ 1 تاج العروس "5/ 375"، "سجع". 2 تاج العروس "10/ 159"، "روي".

والمقابلة التامة والمطابقة الصحيحة بين الأجزاء. كل كلمة فيه تقابل كلمة مثلها، وكل عيار فيه يقابله عيار في وزنه وثقله. وفي معانيه معانٍ شعرية وسحر بيان، ثم إنك إذا قرأته بصوت مرتفع، وبحركات صوتية ذات ترنم، بنغم فيه حركات وسكنات، صار شعرًا. ومن هنا رمت قريش الرسول بقول الشعر، وبأنه شاعر لما سمعت القرآن. فرد عليهم بقول تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} 1. و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وما كانت قريش لترمي الرسول بقول الشعر، وتزعم أن القرآن شعر أو أن فيه شعرًا، لو أنها كانت تعتبر الشعر الكلام الموزون المقفى حسب ولا غير ولا تدخل التخيل فيه، أي المعنى الشعري. ومن هنا قال المفسرون: "لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبين المحسوس. أما من حيث اللفظ فظاهر، لأن الشعر كلام موزون مقفى، وألفاظ القرآن ليست كذلك، إلا ما هو في غاية الندرة بطريق الاتفاق من غير تعمد. وأما من جهة التخيل، فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق والبراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدق ولا يعاند. وانتفاء الكهانة عنه أمر يفتقر إلى أدنى تأمل يوقف على أن كلام الكهان أسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها"3. وهذا المذهب الذي ذهبت قريش فيه في تفسير الشعر، هو الذي حمل علماء التفسير على الاحتراس كثيرًا في تفسير معنى الشعر وفي تحديده، وتحديد مفهوم الشاعر. فقالوا: "الشعر وهو الكلام المقفى الموزون قصدًا. والتقييد بالقصد مخرج ما وقع موزونًا اتفاقًا، فلا يسمى شعرًا، وما يجوز من الرجز، وهو نوع من الشعر عند الأكثر"4. على أن علماء العربية لم يغفلوا أو لم يشاءوا أن يخفوا حقيقة واقعة، هي أن

_ 1 سورة يس، الآية: 69، تفسير الطبري "23/ 18"، ابن كثير، تفسير "3/ 578 وما بعدها". 2 الحاقة، الآية: 40 وما بعدها"، تفسير الطبري "29/ 41". 3 تفسير النيسابوري، "29/ 37"، "حاشية على تفسير الطبري"، "بولاق". "وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة ولا مفتعل ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال"، تفسير ابن كثير "3/ 578"، "في تفسر سورة يس". 4 إرشاد الساري "9/ 88".

في القرآن آيات، إذا تأملت فيها وجدتها وكأنها شعر منظوم، أو من قبيل الشعر المنثور. مثل سورة الانفطار: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} 1 والجواب على ذلك، أن ما نجده في القرآن من آيات تبدو وكأنها شعر موزون، هو من قبيل ما يقع في كلام الناس عفوًا ومن غير تعمد من كلام، أو تأملت فيه وجدته كلامًا موزونًا، ولكن لم يقصد به أن يكون شعرًا، والشعر لا يعدُّ شعرًا إلا إذا كان قد صدر عن تفكر وعمل خاطر، وإعمال رأي، ومن رجل اتخذ الشعر صنعة له. وليس لدى أحد علم بكيفية تطور الشعر العربي من حالته البدائية إلى بلوغه درجة البحور. ولا يستطيع أحد إثبات أن هذه البحور التي ثبتها الخليل والأخفش، وحدَّداها، هي كل بحور الشعر الجاهلي، فربما وجدت بحور أخرى لم يصل خبرها إلى علم هذين العالمين أو غيرهما، ولا سيما في الشعر القبلي الذي لم يشتهر أمره، ولم يعرف إلا بين السواد، ومنه الشعر العامي، أي الشعبي، أو المحلي، المنظوم باللهجات الخاصة، إذ لا يعقل عدم وجود شعر شعبي في ذلك العهد، نظمه سواد الناس، على غرار الشعر العامي الذي يقال له الشعر النبطي في جزيرة العرب، فالشعر هو شعور، ولا يقصر الشعور على طبقة من الناس دون أخرى. ونحن لا نملك في الوقت الحاضر تعريفًا علميًّا للشعر، نستطيع أن نقول بجزم وبتأكيد أنه من تحديد الجاهليين له. والتعريف المألوف له، هو كما ذكرت تعريف إسلامي محض. وقد رأينا كيف احترس علماء التفسير في تعريفه، فقيدوه بكونه "الكلام المقفى الموزون قصدًا" لإخراج ما وقع موزونًا من الكلام اتفاقًا

_ 1 [سورة الانفطار، 82، الآية: 1- 5] .

من الشعر، وهو ما وقع في القرآن وفي كلام الرسول، مما يدل على أن العرب في أيام الرسول كانوا أوسع إدراكًا لمفهوم الشعر من الإسلاميين، وأنهم كانوا يدخلون فيه ما أخرجه من جاء بعدهم في الإسلام منه، بسبب فرية قريش على القرآن والرسول. وبسبب هذه الفرية، وقع جدل فيما بين الإسلاميين في موضوع الرجز، هل هو شعر، أو هو باب خاص من أبواب الكلام لا يدخل في باب الشعر، لثبوت ورود الرجز على لسان الرسول! وقد أدرك العلماء أن هنالك فروقًا بين العرب وبين العجم في نظرتهم إلى الشعر. قال الجاحظ في معرض كلامه على ميزات اللسان العربي وتفوقه على ألسنة الأعاجم: "والأمثال التي ضربت فيها أجود وأسبر. والدليل أن البديهة مقصورة عليها، وأن الارتجال والاقتضاب خاص فيها، وما الفرق بين أشعارهم وبين الكلام الذي تسمية الروم والفرس شعرًا، وكيف صار النسيب في أشعارهم وفي كلامهم الذي أدخلوه في غنائهم وفي ألحانهم إنما يقال على ألسنة نسائهم، وهذا لا يصاب في العرب إلا القليل اليسير، وكيف صارت العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزونًا على موزون، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونًا على موزون على غير موزون"1. فهذا رأي الجاحظ في الشعر العربي وفي الشعر عند الأعاجم. وللشعر أوزان، هي بحوره. ضبطها: الخليل بن أحمد الفراهيدي في الإسلام ثم من جاء بعده. استنبطت من الشعر المألوف الذي كان سائدًا في أيامه، وضبطت بأوزان هي التفعيلات. بيد أننا لا نستطيع أن نقول: إن الأوزان التي ضبطها الإسلاميون، تمثل جميع بحور الشعر الجاهلي، وأن علماء الشعر كانوا قد استعرضوا كل ذلك الشعر، وحصروه حصرًا، ودرسوه درسًا، فوجدوه لا يخرج خارج هذا الحصر، فلم يفتهم منه ولا بحر واحد. فقول مثل هذا لا يمكن أن يقال وهل هنالك من دليل يؤيده ويسنده؟ وأنا لا استبعد احتمال عدم وقوف علماء الشعر على بحور أخرى، لم يصل علمها إليهم بسبب موتها قبل الإسلام، أو لقلة من كان ينظم بها، إلا لأنها كانت من الأشعار التي لم يصل علمها إلى علماء الشعر؛ لكونها من أشعار العرب الجنوبيين الذين كانوا يتكلمون

_ 1 البيان والتبيين "33"، "بيروت المطبعة الكاثوليكية 1959م"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".

باللهجات العربية الجنوبية، أو لكونها أشعار مناطق بعيدة لم يألف علماء اللغة والشعر الذهاب إليها، أو لأنها من الشعر "العامي"، البعيد عن العربية المصطفاة، ولأسباب أخرى. ونجد في خبر لهيب بن مالك اللهبي، المعروف بلهب، سجعًا ورجزًا، نستطيع أن نقول إنه -إن صح- يمثل مرحلة من مراحل الشعر عند الجاهليين، تفيدنا دراستها فائدة كبيرة في الوقوف على تطور الشعر الجاهلي. فقد ذكر أنه سمع الكاهن خطر بن مالك، وكان من أعلم كهان بني لهب، يقول: عودوا إلى السحر ... ائتوني بسحر أخبركم الخبر ... ألخير أم ضرر أم لأمن أو حذر وذكر أنه سمع الكاهن يقول: أصابه أصابه ... خامره عقابه عاجله عذابه ... أحرقه شهابه زايله جوابه ... يا ويله ما حاله بلبله بلباله ... عاوده خباله فقطعت حباله ... وغيرت أحواله ثم أمسك طويلا، وهو يقول: يا معشر بني قحطان ... أخبركم بالحق والبيان أقسمت بالكعبة والأركان ... والبلد المؤمن والسدان قد منع السمع عتاة الجان ... بثاقب بكف ذي سلطان من أجل مبعوث عظيم الشان ... يبعث بالتنزيل والقرآن وبالهدى وفاصل الفرقان ... تبطل به عبادة الأوثان ثم قال خطر: أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير نبي الإنس برهانه مثل شعاع الشمس1

_ 1 الإصابة "3/ 312"، "رقم 7564"، الاستيعاب "3/ 312 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

وهو كلام مصنوع، لكنه يفيدنا مع ذلك في الوقوف على نماذج من الشعر، روعي في صنعه محاكاة طريقة الكهان في نظم الكلام. فهو يفيدنا من هنا في الوقوف على أسلوب من أساليب نظم الكهان في أيام الجاهلية، كما أنه يفيدنا في دراسة موضوع صلة الكهانة والسحر بالشعر. والشعر بعد، تعبير عن الخواطر والأحاسيس وخوالج النفوس، فلا يمكن أن تنحصر أغراضه في غرض واحد، لأن التعبير عن الحياة العامة للإنسان يحتاج إلى ألوان كثرة من ألوان التعبير الشعري، والشعر الجاهلي على كونه ضيقًا، لضيق أفق الحياة الجاهلية وبساطتها، فقد تنوعت فنونه، تنوعًا انبثق من صميم حياة الجاهليين، وأدى بذلك المعاني التي كانت تتطلبها حياتهم أداء يتناسب مع درجة عقليتهم ومستواهم المعاشي وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. وقد استعرض الإسلاميون تلك الأغراض التي قيل الشعر فيها فحصرها أبو تمام وهو نفسه من مشاهير الشعراء في الإسلام في عشرة أبواب: هي الحماسة، والمراثي، والأدب، والتشبيب "النسيب"، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومعرفة النساء. وجعلها غيره: الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والخمريات، والأهديات، والمراثي، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والتحريض، والملح، وباب مفرد للسؤال والجواب1. وحصرها ابن رشيق في النسيب، والمديح، والافتخار، والرثاء، والاقتضاء، والاستنجاز، والعتاب، والوعيد، والإنذار، والهجاء، والاعتذار2. وورد في ديوان المعاني أن "أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح، والهجاء، والوصف، والتشبيه، والمراثي، حتى زاد النابغة فيها قسمًا سادسًا وهو الاعتذار، فأحسن فيه"3. وقد تعرض أبو العباس ثعلب، لهذه الأغراض فجعلها الأمر والنهي، والإخبار، والاستفهام. وهذه الأغراض الأساسية للشعر تتفرع إلى المديح، والهجاء، والرثاء، والاعتذار، والغزل، والتشبيه، والوصف4. وجعل

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب"3/ 71". 2 العمدة "2/ 113 وما بعدها"، "باب في أغراض الشعر وصنوفه". 3 ديوان المعاني "1/ 91". 4 جوستاف فون جرونباوم، حضارةُ الإسْلامِ "333".

أبو هلال العَسْكَرِيّ أغراض الشعر: المديح، والهجاء، والفخر، والغزل، وجعلها: المديح، والهجاء، والرثاء، والغزل، والوصف، في موضع آخر1. ونلاحظ أن بعض هذه الأبواب مثل الفخر والمدح، والهجاء، عامرة، وبعضًا منها فقيرة، حتى لا نكاد نجد فيها مما يخص الشعر القصصي Epique غير نزر يسير، وفي هذا القليل ما هو مشكوك في صحته، وأما الشعر الديني الخاص بالأصنام والأوثان، فلا نجد منه في الشعر الواصل إلينا لا قطعة ولا قصيدة. ولا يعقل بالطبع ألا يكون للجاهليين شعر في هذا الباب، إذ كانوا يتوسلون ويلوذون بها ويتقربون إليها بالنذر، فلا يعقل ألا يكون لهم شعر في آلهتهم. ولا يعقل أيضًا قول من قال: إن الجاهلي رجل مادي، لم يحفل بالدين ولا بالمعاني الروحية ولا بالآلهة، وهو من أبعد الناس عن الدين والتدين، لذا لم يحفل بها في شعره. فلو كان الجاهلي على هذا النحو المذكور من الابتعاد عن الدين والتدين، لما تقرب إليها بالنذور وبالقرابين أحد، لورود ذكرها في النصوص الجاهلية، وفي القرآن الكريم، والذي أراه أن سبب عدم وصول شيء من الشعر الديني الوثني الجاهلي إلينا، لا يعود إلى تقصير الجاهليين في هذا الباب، بل إلى انصراف الرواة عنه، وامتناعهم من تدوينه بسبب الإسلام، لأنه من صميم ديانة أهل الجاهلية التي اجتثها الإسلام، إلا أن يكون ذلك الشعر من النوع الذي يتفق مع مبادئ الإسلام، أو لا يتعارض معها، فلم يجدوا غضاضة من روايته، ولذلك رووه. وقد ذكر علماء الشعر "أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدِّمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الرِّبع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك النسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه". وذكر أن امرأ القيس أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف

_ 1 ديوان المعاني "1/ 31، 91"، حضارة الإسلام "333". 2 الشعر والشعراء "1/ 20".

ما فيها، ثم قال: دع ذا -رغبة عن المنسبة- فتبعوا أثره، وهو أول من شبه الخيل بالعصا، واللقوة والسباع والظباء والطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف". وكان أول من بكى الديار1. والشاعر المجيد عندهم من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمِلّّّّّّ السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد"2، "وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج على مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزل عامر، أو يبكي عند مشيَّد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يَرِد على المياه العِذَاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشبح والحنوة والعرارة"3. وقد جعل علماء الشعر النسيب بابًا من أبواب الشعر، ودعاه بعضهم التشبيب، وجعل بعضهم الغزل بابًا من أبواب الشعر، بأن أدخل النسيب فيه4. وطالما نجد الناس يخلطون بين الغزل والنسيب والتشبيب. والغزل في رأي بعض علماء اللغة اللهو مع الناس، وقيل محادثة النساء، وقيل: الغزل والنسيب هو مدح الأعضاء الظاهرة من المحبوب أو ذكر أيام الوصل والهجر أو نحو ذلك، وذكر بعضهم أن الغزل والنسيب والتشبب كلها بمعنى واحد، وقيل: إن النسيب والتشبيب، والغزل ثلاثتها متقاربة، ولهذا يعسر الفرق بينها حتى يظن أنها واحدٌ 5. وذكر أن النسيب التغزل، وأن قول الرجل نسب الشاعر بالمرأة، بمعنى شبب بها في الشعر وتغزل وذلك في أول القصيدة، ثم يخرج إلى المديح، والنسب هو الغزل في الشعر والنسيب في الشعر، هو التشبيب فيه6، والتشبيب: ذكر أيام الشباب واللهو والغزل، ويكون في ابتداء القصائد، وسمي ابتداؤها

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 68"، دار الثقافة". 2 الشعر والشعراء "1/ 21". 3 الشعر والشعراء "1/ 22". 4 العمدة "1/ 120 وما بعدها". 5 تاج العروس "8/ 43"، "غزل". 6 تاج العروس "1/ 483"، "نسب".

مطلقًا وإن لم يكن فيه ذكر الشباب. وقيل تشبيب الشعر ترقيق أوله بذكر النساء1. ولو دققنا النظر في معاني هذه المصطلحات، نجد أن هناك فرقًا بين الغزل وبين النسيب، والتشبيب في الأصل، غير أن الناس خلطوا بين معانيها، فلم يفرقوا بينها. فالنسيب مصطلح استعمل في الشعر للتعبير عن ذكر الدِّيار والأحبة في ابتداء القصيدة، فكأنه أخذ من النسب، حيث يقص الشعر نسب أحبته ومكانهم، ومرابع الأحباب ومنازلهم واشتياق المحب إلى لقائهم ووصالهم وغير ذلك مما فصلوه وسموه التشبيب2، فهو ليس بغزل إذن، فقول امرئ القيس: قفا نبكِ من ذِكرَى حبيبٍ ومنزلِ ... بسقط اللِّوى بين الدَّخُول فَحَوْمَل لا يعد غزلا بالمعنى المفهوم من الغزل، وإنما هو تذكر وتوجع على الأحبة والأصدقاء، لمفارقته الدِّيار، وتركه الأحباب. أما الغزل، فهو شيء آخر، يمثل عاطفة الحب نحو المرأة، وما يتعلق بها، وهو ما يقال له: love poem في الإنكليزية. وأما التشبيب، فهو تذكر أيام الصبا والشباب، والغزل فيه لما فيه من المغازلة والمنادمة3، ونظرًا لما بين هذه الأمور من تداخل، تداخلت المعاني في الإسلام، وأخذت تعني معاني متقاربة، أو شيئًا واحدًا. وشعر الهجاء "lampoon"، هو من أهم أبواب الشعر المهمة عند الجاهليين. ويتناول هجاء الأشخاص وهجاء القبائل. ونظرًا لما كان يتركه الهجاء من أثر في النفوس؛ كان قوم الشاعر يَرْوُونه ويحفظونه للحطِّ من شأن المهجو. ولهذا الأثر الخطير الذي كان يتركه الهجاء في المهجو من كسر في الاسم وتحطيم في المنزلة، فسَّر "كولدزيهير" لفظة قافية بمعنى تحطيم القفى، أي تحطيم الجمجمة. وذهب إلى أن القافية، كانت بهذا المعنى في الأصل، ثم فسرها العلماء بعد ذلك تفسيرها المألوف، وهو تفسير مخالف للأصل4. قال أهل الأخبار: "وليس في العرب قبيلة إلى وقد نيل منها، وهجيت،

_ 1 تاج العروس "1/ 308"، "شبب". 2 تاج العروس "1/ 16"، "نسب". 3 تاج العروس "1/ 483"، "نسب". 4 Goldziher, Historyof Classical Arabic Literature, p. 9.

وعيرت، فحطَّ الشعر بعضًا منهم بموافقة الحقيقة، ومضى صفحًا عن الآخرين لما لم يوافق الحقيقة، ولا صادف موضع الرمية. فمن الذين لم يُحْكَ فيهم هجاء إلا قليلا على كثرة ما قيل فيهم: تميم بن مُرَّة، وبكر بن وائل، وأسد بن خزيمة، ونظراؤهم من قبائل اليمن. ومن الذين شقوا بالهجاء، ومزقوا كل مُمَزَّق -على تقدمهم في الشجاعة والفضل- أحياء من قيس: نحو غنى وباهلة، ونحو محارب بن خصفة بن قيس عيلان، وجسر بن محارب، "ومن ولد طابخة بن إلياس بن مضر: تيم وعُكَل ابنا عبد مناة، بن أد، "وعدي بن عبد مناة"، كانوا قطينًا لحاجب بن زرارة، وأراد أن يستملكهم ملك رق بسجل من قبل المنذر، والحبطات". ولم تمدح قبيلة قط في الجاهلية من قريش كما مدحت مخزوم1. وقد تعرض الجاحظ لهجاء الشعراء للأشراف، فقال: "وإذا بلغ السيد في السؤدد الكمال، حسده من الأشراف من يظن أنه الأحق به، وفخرت به عشيرته، فلا يزال سفيه من شعراء تلك القبائل قد غاظه ارتفاعه على مرتبة سيد عشيرته فهجاه. ومن طلب عيبًا وجده. فإن لم يجد عيبًا وجد بعض ما إذا ذكره، وجد من يغلظ فيه ويحمله عنه. ولذلك هُجي حِصن بن حذيفة، وهجي زُرَارة بن عدس، وهجي عبد الله بن جدعان، وهجي حاجب بن زرارة"2. فالحسد في نظر الجاحظ من جملة عوامل الهجاء. فالنباهة والشرف والظهور في المجتمع من العوامل التي تكون سببًا دافعًا إلى الهجاء، بسب داء الحسد، ولهذا أمن الخامل من هجاء الهجائين، وسلم من أن يضرب به المثل في قلة ونذالة وبخل، إذ ليس فيه ما يحمل الشاعر على النيل منه وعلى ما يغيظه، ولا يحسده حاسد، حتى يدفع الشاعر على التحرش به وهجائه. وقد هجيت قبائل بأقذع أنواع الهجاء مع ما لها من شرف وفضل ومكانة وخير عميم، بسبب حسد الحساد، وغيظ القبائل الضعيفة، أو التي لا خير فيها منها، فتحرَّش شعراؤها بها، ودفع الحسد الهجائين إلى هجائها، على كونهم من غمار الناس ومن الخاملين في الحسب والنسب3.

_ 1 العمدة "2/ 182 وما بعدها". 2 الحيوان "2/ 93". 3 الحيوان "1/ 357 وما بعدها".

وقد هجيت الملوك، فتناولتهم ألسنة الهجائين، ولا سيما أولئك الملوك الذين رزقوا طبعًا حادًّا، وعصبًا حساسًا متوترًا، مثل عمرو بن هند، والنعمان بن المنذر الذي نال أكبر نصيب من الهجاء. ومما قيل فيه: ملك يلاعب أمه وقطينَهُ ... رخو المفاصل أيره كالمرود وقد نسب قوله إلى النابغة الذبياني، ويمكن أن يكون قد صنعه غيره ودسه عليه حسدًا له، للإيقاع به عند الملك. ونسب إليه قوله: قبح الله ثم ثنَّى بلعن ... وارث الصائغ الجبان الجهولا من يضر الأدنى ويعجز عن ضر ... الأقاصي ومن يخون الخليلا يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا1 وقيل إن قائل تلك الأبيات هو عبد قيس بن خفاف التميمي، قاله على لسانه للإيقاع بينه وبين النعمان2. وللهجاء عند الجاهليين وقع شديد. ولقد بكى قوم من الأشراف من شدة هول الهجاء عليهم3. ولما أمعنت قريش في هجاء الرسول والمسلمين، وجندت الشعراء للنيل من الإسلام، أعدَّ الرسول حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة للرد عليهم، وقد قال الرسول لحسان: "اهجهم -أو هاجمهم- وجبريل معك"4، وقال: "إن قوله فيهم أشد عليهم من وقع النَّبْل"5. "وكان حسان وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم في الوقائع والأيام والمآثر ويذكران مثالبهم. وكان عبد الله بن رَوَاحة يعيرهم بالكفر وعبادة ما لا يسمع ولا ينفع، فكان قوله يومئذٍ أهون القول عليهم. وكان قول حسان وكعب أشد القول عليهم. قلما أسلما وفقهوا، كان أشد القول عليهم،

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 99"، "لعن الله ثم ثنى بلعن"، الحيوان "4/ 379". الأغاني "9/ 158". 3 الشعر والشعراء "1/ 99"، الحيوان "4/ 379". 3 الحيوان "1/ 357 وما بعدها". 4 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704". 5 الاستيعاب "1/ 337"، "حاشية على الإصابة".

قول عبد الله بن رواحة"1. وورد أن الرسول قال لحسان: "هيج الغطاريف على بني عبد مناف، والله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام، في غبش الظلام"2: وفي هذا المعنى ورد في شعر عبد قيس بن خفاف البرجمي: فأصبحت أعددت للنائبا ... ت عرضًا بريئًا وغضبًا صقيلا ووقع لسان كحد السنان ... ورمحًا طويلا القناة عسولا3 وفي هذا المعنى ورد أيضًا قول طَرَفَة: بحسام سيفك أو لسانك والكلـ ... ـم الأصيل كأرغب الكلم4 وقول امرئ القيس الكندي: ولو عن نثًا غيره جاءني ... وجرح اللسان كجرح اليد5 وقول طرفة: رَأَيتُ القَوافي يَتَّلِجنَ مَوالِجًا ... تَضَايقُ عَنها أَن تَوَلَّجَها الإِبَر6 وعكس الهجاء هو شعر الفخر والمدح، وله أهمية عند العرب لا تقل عن أهمية الهجاء، لما له من مكانة في المجتمع. وقد لعب دورًا خطيرًا في السياسة كذلك، ولا زال يلعب دوره هذا فيها إلى هذا اليوم. ولا يعني هذا المدح أن الشاعر كان صادق اللهجة في مدحه، مخلصًا في مدحه لمن مدحه، إنما المدح هو في مقابل إحسان أو طلب إحسان في الغالب، فإذا قطع المحسن إحسانه عن الشاعر أو إذا حرض إنسان الشاعر على من مدحه وأعطاه ليهجوه، هجاه، وقد يهجوه بأقذع هجاء، ومن هنا كان الأشراف وأصحاب التستر، يبتعدون عن الشعراء، لا يريدون مدحهم ولا حمدهم، لأنهم لا يعلمون متى ينقلب الشاعر عليهم،

_ 1 الاستيعاب "1/ 337"، "حاشية على الإصابة". 2 البيان والتبيين "1/ 273". 3 المفضليات "386". 4 الحيوان "1/ 156"، ديوان طرفة "61". 5 الحيوان "1/ 156". 6 الحيوان "1/ 158".

149 فيهجوهم بأشد هجاء، أو ينهش أعراضهم، لتقصيرهم في إعطائه المال. ومن هنا نعتوا بالتلون وبالكذب: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 1. وسبب هذا التلون عامل اقتصادي، فقد كان الشاعر مثل غيره من الناس يتعيش بشعره، يبذله لمن يعطيه، ويحجبه عمن لا يعطيه، وإذا مدح أمل الإثابة، ليعيش عليها، وإن حرم منها، أو وجد أن شاعرًا آخر نال من ممدوحه أكثر مما أعطاه غضب، وقلب مدحه ذمًّا، فيشتمه ويتنقص من شأنه وأن كان قد أغرق بالأمس في مدحه له. وقد يثيره حساد الممدوح، بأن يعطوه أكثر مما أعطاه ممدوحه، فيغريه المال، ولا يجد عندئذ رادعًا أخلاقيًّا يمنعه من التهجم عليه ومن هجائه بأقبح هجاء، فالموضوع موضوع مال، ولو كان للشعراء ثراء وغنى أو سوق رائجة تباع فيها دواوينهم، لما ركب الشاعر ولا شك هذا المركب، ولما تزلف وتقرب، ولكان حاله حال الشعراء الغربيين. يعتمدون على الرأي والفكرة والإبداع والفن، فيشتري الناس شعرهم للاستمتاع به، فما يهمهم لذلك مدح هذا أو ذاك. ويرى "بروكلمن" أن "كثيرًا ما كان الشاعر يتجه بفنه أيضا إلى مدح بطل أو أمير من قبيلته، ولكنه لم يكن يفكر قديمًا في الجائزة الرنانة، التي نزلت بمكانة شعراء المديح المحترفين في بعض الأحيان -منذ عهد النبي- إلى دَرَك المتسولين بالغناء"2. وهو يجاري بذلك أهل الأخبار القائلين بأن الشعراء المتقدمين لم يكونوا يمدحون طمعًا في مغنم ومال، وإنما كانوا يمدحون عن رأي، وأن أول من تسول بشعره الأعشى، فحط بعمله هذا من قدر الشعراء، ثم أفرط الحطيئة في ذلك، حتى أهان نفسه، فصيروا المتقدمين من الشعراء ملائكة، ورموا الأعشى بخطيئة التسول، بأن جعلوه رأس المتسولين، وما الأعشى إلا بشر، وما المتقدمين عليه إلا بشر مثله، فإن تسول الأعشى، فمن يثبت أنه كان أول من تسول، وأن خطيئة التسول لم تكن معروفة بين المتقدمين عليه. والرثاء Elegy من سنن الجاهليين القديمة، يقال رثيت الميت رثيًا ورثاء

_ 1 سورة الشعراء، رقم 26، الآية 224 وما بعدها. 2 بروكلمن "1/ 57".

ورثاية، ومرثاة، ومرثية، بمعنى بكيته وعدَّدت محاسنه، أو نظمت فيه شعرًا، والمراد به المدح1. وهو من أبواب الشعر المهمة كذلك، لما كان لرثاء الميت من أهمية كبيرة عند أهل الجاهلية. وقد كانوا يوصون أهلهم بأن يقيموا النياحة عليهم، ليقال فيما يقال من الشعر في حقهم2. ونجد في الشعر الجاهلي قصائد وأشعارًا في الرثاء. وقد نبغت النساء الراثيات في هذا الباب، واستنبطن فيه أساليب بديعة لم يتنبه لها الفحول لما طبعن عليه من رقة الطباع وشدة الجزع في المصائب، وصدق الحس، ورقة العاطفة3. وقد جمع الأب لويس شيخو مراثي الشاعرات الجاهليات، في كتاب، جمع فيه مراثي إحدى وستين شاعرة عدا شعر الخنساء. والخنساء، هي من أشهر شاعرات الرثاء، اشتهرت برثاء أخويها: صخر ومعاوية4. وشعر الرثاء وإن كان من واجب النساء النائحات في الغالب، وقد بلغ الغاية في شعر "الخنساء"، إلا نه كان من واجب الشعراء كذلك. فلكثير من الشعراء رثاء لآبائهم ولإخوانهم ولأقاربهم ولأصدقائهم ولذوي الفضل عليهم، وقد ترك أوس بن حجر جملة مراثي رائعة، وترك غيره قصائد في رثاء الملوك وسادات القبائل والآباء والأخوة، ويلاحظ أن رثاء الشعراء إنما كان في رثاء الأموات الرجال في الغالب، وذلك نابع عن طبيعة المجتمع، التي تمجد الرجل، ولا ترى ذكر النساء الحرائر إلا في المدح والفخر. أما شعر التوجع والتألم "elegies" و"threnody" الذي نجده في كتاب "المراثي" "Lamentations Book"، المنظوم في الكارثة التي أنزلها "بختنصر" في اليهود عام "586" قبل الميلاد، فلا نجد مثله في الشعر الجاهلي، إنما نجد أبيات في النكبات التي كانت تحل بالقبائل بسب الغارات والغزوات، وأروعه ما جاء في رثاء قتلى بدر. وهو ذو طابع شخصي في أكثر الأحيان، إذ يدور حول انفعال الشاعر وتأثره لمصرع شخص كان يحبه أو يقدره. ويدخل ما وضع

_ 1 تاج العروس "10/ 144"، "رثي". 2 Goldziher, Historyof Classical Arabic Literature, p. 9. 3 لويس شيخو، رياض الأدب في مرائي شواعر العرب "ص1"، "بيروت 1897م"، 4 كارلو نالينو "81".

من شعر حول تخرب سد مأرب، وأمثال ذلك في هذا الباب بالطبع. وقد رثي بعض الشعراء أنفسهم حين شعروا بدنو أجلهم، ونجد في كتب الشعر والأدب شعرًا من هذا النوع، فكأن الشاعر أراد أن يفتتح به رثاء الراثيات والنائحات، ليكون لهن مقدمة ينسجن عليها شعرهن في رثائه. وتعد المراثي من عيون الشعر والتراث الخالد عند الشعوب القديمة، ولازال الناس يقيمون للرثاء وزنًا كبيرًا، لأنه تخليد وتقدير لشأن الميت. ونجد في الأدب القديم مكانة كبيرة له فيه. وفي التوراة وصف لرثاء الناس لموتاهم. وهو سجع أو رجز يناسب ظروف الميت وحاله ومكانته، يرنم بأنغام حزينة مؤثرة، ومنه جاء شعر المراثي. ويلاحظ أن شعر الرثاء في العربية لا يختلف من حيث الوزن عن بقية الشعر، فهو يقال في كل البحور، والفرق بينه وبين غيره هو في المعنى، وفي غلبة التوجع والألم فيه على المعاني الأخرى. ولم يصل إلينا شعر جاهلي طويل، مؤلف من مئات أو آلاف من الأبيات، مثل الشعر القصصي الذي نجده عند الشعوب الآرية في سرد حكايات الآلهة والأبطال والحروب ونحو ذلك، ومثل الشعر الغنائي "Lyrique"، ومثل الشعر التمثيلي "Dramatique"، الذي يستند على التمثيل والحوار والغناء، وشعر الجاهليين شعر قصير في الغالب، لا تتجاوز القصيدة فيه، وهي أطول قطعة من الشعر مائة بيت. أما القصة الشعرية القصيرة، فنجدها في قصيدة الأعشى التي وصف فيها وفاء السموأل. ونجد في شعر عدي بن زيد قصصًا قصيرة عن أحداث تأريخية، أوردها في شعره على سبيل العظة والاعتبار، كما نجد في شعر أمية بن أبي الصَّلت قصصًا، أخذ بعضه من قصص أهل الكتاب، وأخذ بعضًا آخر منه من أساطير العرب القديمة. وكل هؤلاء هم ممن نستطيع أن نقول عنهم: إنهم من الحضر، أو من المتأثرين بعقلية أهل القرى والحضارة. ويمكن عد قصة الأعشى عن السموأل من هذا النوع المسمى "Ballad" في الإنكليزية. ويرى بروكلمن أن محاولة الأعشى إنشاء شعر القصة La ballade واختراع أسلوب الملحمة، في إشادته بوفاء السموأل، فقد بقيت عملا فذًّا لم ينسج أحد على منواله"1.

_ 1 بروكلمن "1/ 62".

ونجد في شعر للنابغة قصة زرقاء اليمامة، وقصة الحية، إذ يقول: تذكر أني يجعل الله فرصة ... فيصبح مال ويقتل واترهْ فلما وقاها الله ضربة فأسه ... وللبر عين لا تغمض ناظرهْ فقالت: معاذ الله أعطيك إنني ... رأيتك غدَّارًا يمينك فاجره أبى لي قبر لا يزال مقابلي ... وضربة فأسٍ فوق رأسي فاقرهْ والقصة: أن بلدة امتنعت على أهلها بسبب حية غلبت عليها، فخرج أخوان يريدانها، فوثبت على أحدهما فقتلته، فتمكن لها أخوه في السلاح، فقالت: هل لك أن تؤمنني فأعطيك كل يوم دينارًا؟ فأجابها إلى ذلك حتى أُثري، ثم ذكر أخاه، فقال: كيف يهنؤني العيش بعد أخي؟ فأخذ فأسًا وصار إلى جحرها، فتمكن لها، فلما خرجت ضربها على رأسها، فأثر فيه ولم يمعن، ثم طلب الدينار حين فاته قتلها! فقالت: إنه ما دام هذا القبر بفنائي وهذه الضربة برأسي فلست آمنك على نفسي! وكان العرب تضرب أمثالا على ألسنة الهوام1. وللحية قصص عند الشعوب القديمة، وقد صوروها بصور مختلفة، وأشير إليها في التوراة. وقد جعلت رمزًا للحيل والإغراء والشر والغدر2، والأرجح أن واضع القصة التي نظمها شعرًا على لسان النابغة، إنما أخذها من أهل الكتاب. ونجد لعمرو بن آلة بن الخنساء شعرًا حكى فيه قصة سابور، والحضر، منه: ألم ينبئك والأنباء تنمي ... بما لاقت سراة بني العبيد ومصرع ضيزن وبني أبيه ... وأحلاس الكتائب من شريد أتاهم بالفيول مجللات ... وبالأبطال سابور الجنود فهدم من أواسي الحضر صخرًا ... كأن ثقاله زبر الحديد3

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 96". 2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 400". 3 الروض الأنف "1/ 59".

وقد لعبت قصة فتح "سابور" "شابور" للحضر، دورًا خطيرًا في قصص الجاهليين. فقد وردت في شعر أبي دؤاد، الذي يقول: وأرى الموت قد تدلى من الحضر ... على رب أهله الساطرون صرعته الأيام من بعد ملك ... ونعيم وجوهر مكنون1 ونجد عدي بن زيد العبادي، يذكر قصة الحضر في شعره كذلك، ذكرها في القصيدة التي تنسب إليه ومطلعها: أرواح مودع أم بكور ... فانظر لأي ذاك تصير ثم يذكر القصة، ويصف قصر الحضر، ثم يذكر قصصًا آخر أورده على سبيل العظة والاعتبار، قالها وهو في سجنه، للتأثير على النُّعمان لحمله على العفو عنه2. وذكر عدي بن زيد الحضر في شعر ينسب إليه، منه: والحضر صابت عليه داهية ... من فوقه أيد مناكبها ربية لم توق والدها ... لحينها إذ أضاع راقبها إذ غبقته صهباء صافية ... والخمر وهل يهيم شاربها فكان حظ العروس إذ جشر الصـ ... بح دماء تجري سبائبها وخرب الحضر واستبيح وقد ... أحرق في خدرها مشاجبها3 وقد ورد في هذه القصيدة: ما بعد صنعاء كان يعمرها ... ولاة ملك جزل مواهبها رفعها من بني لدى قزع الـ ... مزن وتندى مسكًا محاربها محفوفة بالجبال دون عرى ... الكائد ما ترتقي غواربها يأنس فيها صوت التهام إذا ... جاوبها بالعشي قاصبها ساقت إليه الأسباب جند بني ... الأحرار فرسانها مواكبها

_ 1 الروض الأنف "1/ 56". 2 الروض الأنف "1/ 58". 3 ابن هشام، سيرة "1/ 59"، "حاشية على الروض".

وفوزت بالبغال توسق بالـ ... حتف وتسعى بها توالبها حتى رآها الأقوال من ... طرف المنقل مخضرة كتائبها يومًا ينادون آل بربر ... واليكسوم لا يفلحن هاربها وكان يومًا باقي الحديث ... وزالت أمة ثابت مرتبها وبدل الفيح بالزرافة ... والأيام جون جمّ عجائبها بعد بني تبع نخاورة ... قد اطمأنت بها مرازبها1 والأعشى، ممن أدخل قصة الحضر في شعره أيضًا، تطرق في شعره إلى محاصرة المدينة، وكيفية عشق نضيرة بنت الضيزن لسابور لما أبصرته، فقال: أقفر الحضر من نضيرة فالـ ... مرباع منها فجانب الثرثار2. ثم تطرق إلى إقامة "شاهبور" "شابور" "سابور" حولين في الحضر، ثم إلى ما لاقته نضيرة من جزاء، بسبب خيانتها لوالدها، وذلك بقوله: ألم ترَ للحضر إذا أهلُهُ ... بنعمى وهل خالد من نعم أقام به شاهبور الجنو ... د حولين تضرب فيه القدم فلما دعا ربه دعوة ... أناب إليه فلم ينتقم3 ونجد قصة الغار مسجلة في شعر ومجمل القصة أن رجلا من"بني ضبة" كان له في الجاهلية سبعة بنون، فخرجوا بأكلب لهم يقتنصون، فأووا إلى غار فَهَوتْ عليهم صخرة فأتت عليهم جميعًا، فلما استراث أبوهم أخبارهم اقتفى آثارهم حتى أتى إلى الغار فانقطع الأثر، فأيقن بالشر، فرجع وأنشأ يقول: أسبعة أطواد وسبعة أبحرٍ ... أسبعة آسادٍ أسبعة أنجم رزئنهم في ساعة جرّعتهم ... كئوس المنايا تحت صخر مرضم وتأتي أبيات بعدهم في وصف حزنه، ثم لم يلبث أن مات كمدًا4.

_ 1 ابن هشام، سيرة "1/ 53 وما بعدها". 2 الروض الأنف "1/ 56". 3 سيرة ابن هشام "1/ 59". 4 الأمالي، للقالي "1/ 61".

ويجب ألا ننسى شعر المعارك والحروب، وهو شعر نستطيع أن نسميه شعر "الحماسة"، فالعادة عند العرب أنهم ينشدون الشعر عند الغزو وفي أثنائه، وفي المعارك والحروب. فالمقاتل حين يندفع بين المحاربين ليقاتل خصمه، ينشد شعرًا يفتخر فيه بنفسه وبعشيرته وبقبيلته، ويكون في الغالب من الرجز، لأنه شعر سهل مطاوع، يصلح لمثل هذه المواقف، ونجد في أخبار الأيام وفي الفتوح الإسلامية شعرًا وافرًا من شعر المعارك من الرجز ومن بحور الشعر الأخرى. ومن أبواب الشعر عندهم شعر الوصايا والحكم. فنجد بين الشعر المنسوب إلى الجاهليين شعرًا فيه وصايا يوصي الشاعر بها ولده وأقاربه أو عشيرته بخلاصة ما حصل عليه ذلك الشاعر في حياته من تجارب. كما نجد بينه حكمًا عرف بها بعض الشعراء مثل زهير بن أبي سُلْمَى، والأفوه الأودي وآخرون. وقد تغنى الجاهليون بشعرهم، فكانوا ينشدونه بنغم خاص، قد يصحب بآلة موسيقية، وقد يشربون ويغنون، أو يسمعون مغنيًا يغنيهم بشعر فلما انتهى "خالد بن الوليد" إلى "سوى" وأهله من بهراء، وجد ناسًا منهم يشربون خمرًا لهم في جفنة قد اجتمعوا عليها، ومغنيهم يقول: ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايانا قريب وما ندري1 ونجد في الأخبار أن ملوك الحيرة والغساسنة والأثرياء كانوا يستمعون إلى الغناء وهو شعر ينشد على نغم، توقعه قينة على آلة من آلات الموسيقى، مثل الصنج والبربط، والدُّف، والْمِزْهَر، وآلات أخرى أخذت من الروم والفرس، وقد سبق أن تحدثت عن وجود قينتين بمكة كانتا لعبد الله بن جدعان، تغنيان له، واتخذ غيره من الموسرين والشعراء قِيانًا، يغنين لهم الأغاني، وأكثرهن من الموالي من روم وفرس. والغناء كلام يجب أن يتماشى من النغم، ولهذا ينظم نظمًا يتناسب مع الإيقاع. ونجد عند اليونانيين شعرًا ينظم للغناء خاصة، يقال له: الشعر الغنائي "Lyric"،

_ 1 الطبري "3/ 417"، فتوح البلدان "118"، "ذكر شخوص خالد بن الوليد إلى الشام وما فتح في طريقه".

وهو يختلف عن الشعر المألوف الذي لا يمكن أن يتغنى به دائمًا لثقله، وعدم اتساقه مع الإيقاع. ونجد في التوراة شعرًا نظم خصيصًا للإنشاد والتغني به، وهو يختلف في نظمه عن الشعر المألوف. ولم يُشِر أهل الأخبار إلى وجود شعر من هذا النوع عند الجاهليين، وإن ذكروا أن الجاهليين كانوا يتغنون بالشعر، وكانت قيانهم يتغنين بشعر الشعراء. ومعنى هذا أنهم كانوا يغنون ببحور الشعر المألوفة، لا بشعر غنائي خاص. ونجد في خبر "أحد" أن "هندًا" قامت في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضرب خلف الرجال ويحرضونهم، فقالت "هند" فيما تقول: إن تقبلوا نُعانق ... ونفرش النمارق أو تدبروا نُفَارق ... فراق غيرِ وامق وتقول: ويهًا بني عبد الدار ... ويهًا حماة الأدبار ضربًا بكل بَتَّار1 فهذا شعر، ينسجم التغني به مع الإيقاع على الدُّفوف، ووزنه يناسب ذلك النغم، لكنه ليس من شعر الغناء الخالص، الذي يتناسب مع الألحان المبنية على ارتفاع وانخفاض الصوت، وعلى التغيير في النَّبرات، وعلى الجرِّ والمطِّ، والقصر والجزم، وما شاكل ذلك من حركات يقتضيها إيقاع اشتراك جملة آلات دفعة مع الشعر الذي يتغنى به في وقت واحد، وربما اشترك في الغناء جملة مغنين. ويذكر أهل الأخبار أن الغناء قديم في الفرس والروم، ولم يكن للعرب إلا الحداء والنشيد، وكانوا يسمونه "الركبانية"، "وأول من نقل الغناء العجمي إلى العربي من أهل مكة سعيد بن مسجح، ومن أهل المدينة سائب خاثر، وأول من صنع الهزج طويس"2، وهو كلام قصد به أن الغناء العربي

_ 1 الطبري "2/ 512". 2 نهاية الأرب "4/ 239".

قبل الإسلام لم يكن كثير التنويع، وإنما كان مقصورًا على طرق معينة، ثم تطور في الإسلام بدخول الأعاجم فيه، وباحتكاك العرب بهم. فالشعر الجاهلي إنما كان يتغنى به بتلك الطرق المحدودة، ونحن لا نستطيع البت في هذا الموضوع، لأنه من أخبار أهل الأخبار، ولكن لا يعقل في نظري أن يقتصر غناء الحضر على هذه الأنغام البدوية، وبينهم مغنون أعاجم وقيان استوردن من فارس والروم، وكن يحسن الغناء، ويتغنين بالشعر، فكان لعبد الله بن جدعان قينتان أعجميتان، تغنيان له ولضيوفه، وكان لغيره قيان، وقد ورد أن بعضهن كنَّ يغنين بهجاء الرسول. ثم إن ملوك الحيرة كانوا على اتصال بغناء الفرس وغناء بني إرم والنبط، فلا يعقل ألا يتأثروا بدروب غناء الأعاجم، فيدخلوها في غنائهم، وينوعوا في التغني بالشعر، وألا يبرز بينهم من يضع أشعارًا تنسجم مع ألحان الغناء وكان من غناء العرب "النصب"، وقد عرف به الأعراب، وهو غناء يشبه الحداء، إلا أنه أرق منه. وهو العقيرة، يقال: رفع عقيرته إذا غنى النصب1.فهو غناء يتغنى به بشعر على طريقة معلومة، اشتهرت بها العرب، أهل البوادي. وقد لعب الجمل دورًا خطيرًا في الشعر الجاهلي، وكيف لا يستأثر بمكانة مهمة في الشعر الجاهلي وهو مرافق الأعرابي، والحيوان الوحيد الذي رضي مصاحبته ومرافقته في الصحاري الموحشة المتعبة، ولهذا نال حقه من المدح والثناء عليه، كما ألهب مشاعر الأعراب فجعله يصفه في شعره، وصفًا كاد يحيط بجميع أجزاء جسمه2، وحظيت الخيل بمكان مرموق أيضًا في مملكة الحيوان المذكورة في الشعر، فالفارس لا يكون فارسًا إلا بفرسه، وكان يقدم فرسه على نفسه وأهله في الطعام، لأهمية الفرس في حياته، فلا عجب إذا ما أبدع الشاعر الجاهلي في وصف الفرس، وأشاد بذكر الخيل في شعره. وحظيت الحيوانات الوحشية مثل المها والظباء، والحمار الوحشي، والأسود، على مكانة في الشعر الجاهلي كذلك، لما لها من صلة بحياة العربي. يقول بروكلمن: "والقصيدة، المؤلفة على نظام دقيق، ينبغي استهلالها

_ 1 اللسان "1/ 761 وما بعدها"، "نصب". 2 بروكلمن "1/ 56".

بالنسيب، والحنين إلى الحبيبة النائية، ذلك الحنين الذي يعتري الشاعر عند رؤية أطلالها الدائرة وهو راكب في القفار. ثم يتحول الشاعر في تخلص نموذجي من موطن لوعته وذكرياته إلى وصف مسيره في المفاوز دون انقطاع، وهو وصف قد يخرج أحيانًا إلى مجرد تعداد لأسماء ما يجتازه من أماكن. ثم يخلص من ذلك إلى وصف راحلته، فإذا هو عمد في هذا الوصف إلى تشبيه راحلته ببعض حيوان الوحش استطرد أحيانًا إلى وصف هذا الحيوان وصفًا شاملا. ثم لا يتجه الشاعر إلى التعبير عن حقيقة قصده إلا في آخر القصيدة. هذا المنهج لا بد أن يكون قد رسخ منذ زمن طويل. وقد ذكر امرؤ القيس سلفًا له في الشكوى والبكاء على الإطلال، يدعى ابن خذام، وإن لم يستطع أدباء العصر العباسي تعيين هذا الشاعر، وتبع المتأخرون هذا المنهج ولم يكادوا يجسرون على تغييره"1. وقد أكثر الشعراء من استعمال بعض الجمل في افتتاح شعرهم، مثل "بانت سعاد". ذكر أن "بندر الأصبهاني" كان يحفظ تسعمائة قصيدة أول كل منها "بانت سعاد"2. والشعر الجاهلي، شعر صلد متين، يميل إلى الرَّصَانة وإلى استعمال اللفظ الرَّصين، الذي يغلب عليه طابع البداوة، وشعر هذا طابعه، لا يمكن أن يتحرر، وأن يعبر عن المعاني بحرية، إذ يكون الشاعر مقيدًا بقيود الخضوع للعرف وللشكليات التي اصطلح عليها الشعراء والناس، ولهذا لم يتمكن الشعراء من التطرق إلى مختلف المعاني والتصورات الإنسانية، وصار الطابع الغالب عليه هو الطابع اللغوي، فخشونة الشعر، وجزالته وغرابته، من مميزات هذا الشعر ومن محبباته إلى النفوس، وكلما كان الشعر غريبًا وبألفاظ غريبة، نال التقدير والاستحسان، ولقد عمل الأصمعي قطعة كبيرة من أشعار العرب، لكنها لم تنل الاستحسان ولم يَرْضَ عنها العلماء لقلة غربتها واختصار روايتها"3. والشعر الذي ينال التقدير، هو الشعر الخشن، الذي روي بألفاظ نجدية، ولذلك لم يحفل العلماء بشعر عدي بن زيد،

_ 1 بروكلمن "1/ 60". 2 السيوطي، شرح شواهد "2/ 529". 3 الفهرست "89".

لأن فيه ليونة1، والعلماء يبحثون عن الشعر الخشن، الذي على العالم أن يفكر فيه ويعمل رأيه فيه طويلا، ويفكر ويغوص فيه حتى يجد معناه. واشتهر بعض الشعر بشهرة عرف ونعت بها، مثل قصيدة سويد بن أبي كاهل، واسمه عطيف بن حارثة اليَشْكُري ويقال الوائلي، ويقال الغطفاني، التي عرفت باليتيمة، وهي قصيدة عينية. قيل عرفت بذلك لما اشتملت عليه من الأمثال. وهو من الشعراء المخضرمين2. وعرفت القصيدة التي نظمها خداش بن زهير، في هشام والوليد ابني المغيرة المخزوميين، وفي عبد الله بن جدعان بالمنصفة3. وذلك لإنصافه خصومه في شعره. ومن المنصفات قول المفضل النُّكْري: كأن هزيزنا يوم التقينا ... هزيز أباءة فيها حريق وكم من سيد منَّا ومنهم ... بذي الطرفاء منطقة شهيق4 لقد مر الشعر بمراحل، سنة كل شيء في هذه الدُّنيا. بدأ بدائيًّا لبداءة أصحابه، ثم تطور بتطور الناس، تطور من حيث معانيه وأفكاره، وتطور من حيث قوالبه وأشكاله، أي بحوره. واقتضى هذا التطور ومرور الزمن وتغير الإنسان، ظهور أوزان جديدة، أوجدها الشعراء هروبًا من التقليد، وخروجًا على التقاليد، وابتداعًا من الشاعرية، لتقدم لعشاق الشعر لونًا جديدًا من ألوان النظم، يمتاز على المعروف المألوف المتوارث، بنفس جديد، وموسيقية حديثة تناسب الزمان والمكان، كما هو شأن الشعر عند كل أمة، فتعددت ألوانه وبحوره، حتى إذا كان الإسلام ضبطت ألوانه في بحور جمعها علم العروض المعروف. أما أسماء أولئك المجددين في الشعر الجاهلي، فقضية لا يمكن البتُّ بها، ولا إصدار حكم فيها. فنحن لا نعرف من أمر الشعر الجاهلي إلا هذا الذي يرويه أهل الأخبار عنه، وهو لا يستند -كما قلنا- إلى سند جاهلي مدون، ولا إلى كتاب من كتب أهل الجاهلية ولا إلى ديوان من دواوينهم، بل روي رواية وحكى

_ 1 الشِّعر والشُّعراء "1/ 150"، "دار الثقافة". 2 الأغاني "11/ 165"، الإصابة "2/ 117"، "رقم 3721". 3 ابن سلام، طبقات "33". 4 الأصمعيات "233".

حكاية، وأقام الإسلاميون على هذا المروي قواعد نظرياتهم في الشعر الجاهلي، ولم يرد في هذا المروي أي شيء عن كيفية ظهور بحور الشعر الجاهلي، ولا عمن جدد وأوجد هذه البحور. وليس لنا أي أمل في إمكان الحصول في المستقبل على علم جديد عن تطور ذلك الشعر وعن ابتكار رجاله الجاهليين فيه، ما دام سند علمنا هذا المورد القائم على الرواية القديمة. أما إذا عثر على نصوص مدفونة عربية جاهلية أو أعجمية فيها بحوث عن الكلام المنظوم عند العرب، فذلك شيء آخر بالطبع. ومثل هذه النصوص هي التي يكون في وسعها وحدها تقديم صورة علمية واضحة عن الشعر الجاهلي. ومن رأي بعض أهل الأدب، أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدِّمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الرِّبع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب، وضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل. فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل، فيمل السامعين، ولم يقطع بالنفوس ظمأ إلى المزيد"1. وزعموا أن هذا كان نهج شعراء الجاهلية في نظم شعرهم، ونهج شعراء صدر الإسلام، حتى اختلط العرب بالعجم، وانتقل العرب من حياة إلى حياة، وظهر الشعراء الأعاجم الذي لم يتمكنوا من غسل أدمغتهم من المعاني الأعجمية، ومن التفكير الأعجمي، فنظموا الشعر بالعربية، ولكن بمعانٍ أعجمية جديدة، وجاءوا

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 20 وما بعدها"، "دار الثقافة".

ومن تأثر بالحضارة العربية الجديدة التي ظهرت في البلاد المفتوحة بآراء مستجدة، وظهرالتجديد في الشعر العربي وابتعد بذلك عن أسلوب الشعر الجاهلي. ويتوقف طول الشعر وقصره على نَفْسِ الشاعر، أي على الظروف النفسية التي تحيط بالشاعر حين ينظم شعره، وبالمؤثرات التي أثرت عليه. وقد سئل أبو عمرو بن العلاء "هل كانت العرب تطيل؟ قال: نعم ليسمع منها. قيل: هل كانت توجز؟ قال: نعم ليحفظ عنها. ويستحب عندهم الإطالة عند الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب والإصلاح بين القبائل كما فعل زهير والحارث بن حِلِّزة ومن شابههما، وإلا فالقطع أطير في بعض المواضع والطوال للمواقف المشهورة"1. وقد ذهب "غرونباوم" إلى إمكانية تقسيم الشعر الجاهلي إلى مدارس أدبية متميزة، جعلها ستة مدارس أو اتجاهات أو مذاهب بتعبير أصح. تضم الشعراء الذين ولدوا ما بين سنة 440 و530م على وجه التقريب. "وليس معنى هذا أنه ليس هنالك شعراء تتجافى طبيعتهم نفسها عن مثل هذا التقسيم وتشذ عنه. فإن الشاعرين الصعلوكين الشهيرين تَأَبَّطَ شرًّا والشَّنْفَرَى، هما الْمِثْلان البارزان على مثل هذا المواهب الفردية. ولعل من أمتع الأمور، ما يتجلى في آثار تلك الفئة من الشعراء، الذين عاشوا في بلاط الحيرة، من مظاهر الحضارة الساسانية. فأبو دؤاد الإيادي حوالي "480- 550م" والشاعر النصراني عدي بن زيد حوالي "545- 585م" يتجلى في شعرهما خليط من العقلية البدوية والتفكير الحضري. وطرفة "حوالي 535- 538م" وكذلك الأعشى، ينقلان إلى العراق سياقًا فنيًّا آخر لمدرسة أخرى ينتمي أعلامها إلى قبيلة قيس بن ثعلبة، من بني بكر بن وائل؛ هذا وليس من شك في أن الأعشى هو أكبر مالك لأزمة اللغة بين شعراء الجاهلية، وأن المشاهد البهجة في قصائده تنم عن تأثير الشعراء الساسانيين. ثم إن امرأ القيس بن حجر الأمير الكندي "حوالي 500- 540م" أشهر شعراء العرب الجاهليين وأبعدهم أثرًا، قد كان نظير طَرَفَة، صاحب إحدى القصائد النموذجية المعروفة بالمعلقات. ومعاصره عبيد بن الأبرص يمثل قمة مدرسة أخرى من هذه المدارس.

_ 1 العمدة "1/ 124"، بلوغ الأرب "3/ 83".

وقبل أن يتجرم القرن السادس، كانت وحدة اللغة واتساق الأسلوب، قد قطعا مرحلة واسعة نحو التبلور. وقد تداخلت هذه المدارس عن طريق تجمع المفردات وتوارد الصور الشعرية، لكن هذا التطور لم يتسع فيشمل جماعات الشعراء التي عاشت إلى جانب التيار الرئيسي الذي جرى فيه الشعر العربي. وأهم مدارس هذا العصر المتأخر هي مدرسة الشعراء الهذليين التي برزت آثارها ما بين سنة 550- 700م. وكان من الموضوعات التي اختصت بها هذه الجماعة وصف النحل والعسل. ومثل هذه الأوصاف قد استتبعت ضربًا من الخصوبة في مشاهد الطبيعة لاسيما حيث ألحت بالشاعر الرغبة في جمع العسل البري. ويشتمل ديوان الهذليين على قصائد كثيرة لأفراد ما نظموا الشعر إلا لمامًا. ولا بد ههنا من التأكيد أنه كان إلى جانب الشعراء المحترفين، عدد عظيم من الشعراء الهواة والذين عمدوا، بين الفَيْنَةِ والفينة، إلى التعبير بالشعر عن عواطفهم ورغباتهم. وهذا يعلل لنا ما نجده دائمًا من أبيات هي من حيث التأريخ وليدة عصر واحد، لكنها ليست كذلك من حيث درجة الإتقان. فشعر غير المحترفين يغلب أن يكون دون شعر المحترفين بنحو من جيل على أقل تقدير. ولما لم تكن هذه الظواهر قد أخذت حتى الآن بالاعتبار الكافي، فقد ساعد ذلك على استمرار الاعتقاد بجمود الشعر القديم في سياقه الموحد. وقد بقي في مؤخرة الركب -لكن ثقافيًّا لا فنيًّا- الرجز الذي هو أقرب إلى الأدب الشعبي. على أن الفاصل ما بين الرجز والقَرِيض -وهو الشعر بالمعنى المعروف- قد ظل حادًّا إلى عهد متأخر جدًّا"1. وبعد، فهناك مسائل تتصل بتطور الشعر الجاهلي أرى أن من المستحيل حلها في الوقت الحاضر، لعدم وجود أدلة علمية مقبولة يمكن أن يركن إليها لحل ما عندنا من عقد مستعصية، مثل نشأة وتطور الشعر العربي، وكيف نشأت القصيدة، وعدد الأوزان والبحور العروضية التي سار عليها الجاهليون في وزن الشعر، والتزام القافية أو عدم التقيد بها في الشعر، ومتى نشأت القصيدة، ثم هل كانت لغة الشعر لغة واحدة، خاصة كما نراها في الشعر الجاهلي المدون، أم لم تكن، وإنما كان الشعراء ينظمون بلهجاتهم من الوجهة اللفظية والنحوية والصرفية، ولكن علماء

_ 1 غرونباوم "140 وما بعدها".

الشعر في الإسلام، هذَّبوا تلك الأشعار حتى جعلوها بهلجة واحدة، هي اللهجة التي وصلت إلينا، وإذا كان هذا هو ما جرى، فما هي نسبة التحوير التي أوقعها العلماء على ذلك الشعر؟

القديم والحديث

الْقَدِيمُ وَالْحَدِيثُ: مشكلة القديم والحديث، وتصادم الحديث مع القديم، وتفضيل الناس القديم على الحديث، من المشاكل التي شغلت الإنسان منذ ظهوره على سطح الأرض حتى اليوم. فالحديث ينافس القديم، ليحل محله، والقديم يصر على حقه في البقاء وفي جدارته في الخلود. والجيل الجديد يريد أخذ القيادة من الجيل القديم، والجيل القديم لا يريد إعطاءها لأحد إلا إذا كان من جيله، لأنه أقدر في نظره على إدراك الأمور، وأكثر تجاربًا وخبرة وحكمة من الأحداث جماع الجيل الجديد، مع أن كل قديم هو محدث في زمانه الإضافة إلى من كان قبله، وكل جديد سيصير قديمًا بالنسبة إلى من يأتي بعده، ولسبب آخر، هو أن القديم، هو الحاكم المتنفذ، فلا يهون عليه التنازل عن حقه لمستجد. وقد شغلت هذه المشكلة أذهان الجاهليين ولا شك، كما شغلت أذهان الإسلاميين، فشعراء العصر الأموي، كانوا يرون في شعرهم إبداعًا لم يكن عند من سبقهم من المخضرمين والجاهليين غير أن الناس في أيامهم، لم يكونوا يعطون شعرهم من التقدير ما أعطوه للشعر القديم، كانوا يرونه مولدًا بالإضافة إلى شعر الجاهلية والمخضرمين، وكان لا يعد الشعر إلا ما كان للمتقدمين1. وكان الشعر القديم، هو الشعر الممتاز المقدم عند علماء الشعر واللغة، فكان أبو عمرو بن العلاء يقول: "لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته" لكنه لم يستشهد به، ولم يجعل الجيد الممتاز من الشعر المولد في منزلة الشعر القديم، لسبب واحد هو قدم الشعر الجاهلي. وقال الأصمعي: جلست إليه ثماني حجج فما سمعته يحتج ببيت إسلامي، وسئل عن المولدين، فقال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم،

_ 1 العمدة "1/ 90".

ليس النمط واحدًا، ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح، وقطعة نطع. هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه: الأصمعي، وابن الأعرابي، أعني أن كل واحد منهم يذهب في أهل عصره هذا المذهب، ويقدم مَنْ قبلهم، وليس ذلك الشيء إلا لحاجتهم إلى الشاهد، وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون ثم صارت لجاجة"1. وقد رجع الجاحظ سبب هذا الركض وراء الشعر الجاهلي إلى لجاجة علماء اللغة في البحث عن كل شعر يستفاد منه في الشواهد، إذ يقول: "ولم أَرَ غاية النَّحْويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أَرَ غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل"2. ويقول: "طلبت علم الشعر عند الأصمعي، فوجدته لا يعرف إلا غريبه، "الألفاظ والمعاني العربية"، فسألت الأخفش، فلم يعرف إلا إعرابه، فسألت أبا عبيدة فرأيته لا ينفذ إلا فيما اتصل بالأخبار، ولم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب، كالحسن بن وهب وغيره"3. لقد كان القدم، هو المقياس الأول في تقدير الشعر في ذلك الحين. فالشعر القديم محبوب مطلوب مقدم على الحديث، مهما كان في الشعر الحديث من إبداع في المعنى وفي القالب. قال عبد الله التميمي، "كنا عند ابن الأعرابي، فأنشده رجل شعرًا لأبي نواس أحسن فيه فسكت. قال له الرجل: أما هذا من أحسن الشعر؟ قال: فقال: بلى، ولكن القديم أحب إلي"4. وقد بلغ من تعظيم بعضهم للقديم، أنهم كانوا يرون المعاني على مقادير أصحابها من الشعراء، فالمعنى الذي يكون لامرئ القيس يكون كامرئ القيس في اعتباره وإجلاله وتحاميه أن يتلقى بالرد والمواجهة، ولذا فشا الغلط بينهم في تفسير الشعر وأخذ منه التصحيف كل مأخذ5. فالقدم وحاجة العلماء إلى الشعر القديم للاستشهاد به، والبحث عن الغريب، كانت كلها من العوامل التي أعطت للشعر القديم منزلة لم ينلها شعر المعاصرين،

_ 1 العمدة "1/ 90 وما بعدها"، الخزانة "1/ 3 وما بعدها". 2 البيان "4/ 24". 3 الرافعي "1/ 421" 4 الموشح، للمرزباني "384". 5 الرافعي "1/ 420".

فأغاظ ذلك الشعراء المحدثين، وجعلهم يحنقون على علماء اللغة، ويسخرون منهم ومن عروضهم ونحوهم، ولم يخفف من غلواء هؤلاء العلماء إلا تغير الزمن، وبروز الأدباء الذين نظروا إلى الأدب نظرة أخرى، نظرة تقدر الجيد من الشعر من غير نظر إلى زمانه أو قائله. ولابن قتيبة رأي في الشعر يخالف رأي أبي عمرو بن العلاء وأصحابه، رأيه في قيمة الشعر رأي الجاحظ الذي ذكرته، وقد عرضه بقوله: "رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرَّصين، ولا عيب له عنده إلى أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثًا في عصره، وكل شرف خارجية في أوله". وقال: "ولم أسلك، فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختارًا له سبيل من قلد، أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كلا حظه، ووفرت عليه حقه"1. قال خلف الأحمر: قال لي شيخ من أهل الكوفة: أما عجبت من الشاعر قال: أنبت قيصومًا وجثجاثا ... فاحتمل له، وقلت أنا أنبت إجاصًا وتفاحًا ... فلم يحتمل لي؟ "2 ومن شدة عجب الناس بالشعر الجاهلي أنهم جعلوه أنموذجًا لشعرهم ودليلا لهم

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 10 وما بعدها"، "دار الثقافة". 2 الشعر والشعراء "1/ 22".

وهاديًا في أصول نظم الشعر، من محافظة على مظهر القصيدة وعلى "عمود الشعر". وجعلوا الشكل الخارجي، الذي رسم للقصيدة من ذكر الديار والدِّمن والآثار إلى آخر ما قالوه عن ترتيب المراحل التي يجب أن تمر بها القصيدة، ثم عمود الشعر مقياسين، قاسوا بموجبهما الشعر الجيد من الشعر الرديء، وميزوا بينهما بهذين المقياسين. "فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعلوا واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنقوس ظمأ إلى المزيد"1. وكان "الجاحظ" وهو من شيوخ الأدباء، يرى مذهب الأديب في تقدير الشعر وتثمينه، يرى أن الشعر بمواضع الحسن منه، وبالمعاني الجليلة التي فيه، وعلى الألفاظ العذبة التي تشتمله، وفي ذلك يقول: "وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين، ومن لم يرو أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الأحاديث والقصائد والفقر والنتف من كل شيء، ولقد شهدتهم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب عباس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهدهم في نسيب العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب، ثم رأيتهم منذ سنيات وما يروي عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر أو فتياني متغزل. وقد جلست إلى أبي عبيدة والأصمعي ويحيى بن نجيم وأبي مالك عمرو بن كركرة مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده، وكان خلف يجمع ذلك كله. ولم أر غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب، ولم أر غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج، ولم أر غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه الشاهد والمثل، ورأيت عامتهم -فقد طالت مشاهداتي لهم- لا يقفون على الألفاظ المتخيرة والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة والمخارج السهلة والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 21".

الجيد وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إن صارت في الصدور عمَّرتها وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حِسَانِ المعاني. ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى ألسنة حذاق الشعر أظهر، ولقد رأيت أبا عمرو الشيباني يكتب أشعارًا من أفواه جلسائه ليدخلها في باب التحفظ والتذاكر، وبما خيل إلي أن أبناء أولئك الشعراء لا يستطيعون أن يقولوا شعرًا جيدًا، لمكان إغراقهم في أولئك الآباء، ولولا أن أكون عيابًا ثم للعلماء خاصة، لصورت لك في هذا الكتاب بعض ما سمعت من أبي عبيدة، ومن هو أبعد في وهمك من أبي عبيدة"1. وكانت نظرة المبالغة هذه في تقدير الشعر القديم من جملة العوامل التي حملت جهابذة العلماء الخبراء بأساليب الشعر الجاهلي المتقنين له على وضع الشعر على ألسنة الجاهليين وعلى إذاعته ونشره بين الناس. فقد وجدوا أن سوقه رائجة، وأن ما يقدمونه منه لطلابه يقدر تقديرًا عظميًا، وأن ما ينظمونه هم وينشرونه باسمهم لا ينال مثل ذلك التقدير. وقد يحفل به. وأن بعض خلفاء بني أمية كان لهم عشق خاص بشعر الجاهلية، وأنهم كانوا يبحثون عنه، وإذا سمعوا بوجود راوية عرف بحفظه ذلك الشعر، أرسلوا إليه، ليتحفهم بما عنده، ثم يجزلون له العطاء، على حين كانوا لا يعطون على الشعر الذي ينظمونه أو ينظمه الشعراء الأحياء إلى قليلا، وإلا إذا كان مدحًا لهم وتزلفًا إليهم. فدفعهم حرصهم المادي هذا على صنع الشعر وإسناده إلى الشعراء الجاهليين. وهم لو نسبوه إليهم لصار فخرًا لهم، يثمنه لهم من يجيء بعدهم، ولكنهم ما كانوا ليحصلوا عليه شيئًا مغريًا، ففضلوا المادة على الشهرة التي تأتي إليهم بعد الموت. وقد اتخذ بعض علماء الشعر ورجال الأدب موقفًا وسطًا بين المحدثين، من الشعراء الذي قيل لشعرهم: المولد، وبين الشعراء المتقدمين، فقال "ابن رشيق": "ليس التوليد والرقة أن يكون الكلام رقيقًا سفسافًا، ولا باردًا غثًّا، كما ليست الجزالة والفصاحة أن يكون حوشيًا خشنًا، ولا أعرابيًّا جافًّا، ولكن حال بين حالين.

_ 1 البيان والتبيين "4/ 23 وما بعدها". الرافعي "1/ 423 وما بعدها".

ولم يتقدم امرؤ القيس والنابغة والأعشى إلا بحلاوة الكلام وطلاوته، مع البعد من السخف والركاكة، على أنهم لو أغربوا لكان ذاك محمولا عنهم، إذ هو طبع من طباعهم، فالمولد المحدث -على هذا- إذا صح كان لصاحبه الفضل البين بحسن الاتباع، ومعرفة الصواب، مع أنه أرق حوكًا، وأحسن ديباجة1.

_ 1 العمدة "1/ 93".

الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد

الفصل الثامن والأربعون بعد المئة: القريض والرجز والقصيد مدخل ... الفَصْلُ الثَّامِنُ وَالأَرْبَعونَ بَعْدَ المائة: الْقَرِيضُ والرَّجَزُ والقَصِيدُ ويقال للشعر: القريض وهو الاسم كالقصيد، والقرض: قول الشعر خاصة، والتقريض صناعته. وقد فرَّق الأغلب العجلي بين الرَّجز والقَرِيض بقوله: أرجزًا تريد أم قريضًا؟ ... كليهما أجدُ مستريضا1 وقد ورد أن أصحاب رسول الله كانوا يتقارضون، أي يقولون القريض وينشدونه. وورد أن المنذر ملك الحيرة حين أراد قتل عبيد بن الأبرص قال له: أنشدني من قولك، فقال عبيد: حال الجريض دون القريض، فذهب قوله مثلا2. و "قال النحاس: القريض عند أهل اللغة العربية الشعر الذي ليس برجز"3. ويلاحظ أن العرب وإن قالوا: "نظمت الشعر ونظمته"، وقصدوا

_ 1 اللسان "7/ 218 وما بعدها. أرجزًا تريد أم قصيدًا لقد طلبت هينًا موجودا الأغاني "14/ 97"، تاج العروس "5/ 75"، "قرض". 2 اللسان "7/ 218 وما بعدها". "قرض" 3 العمدة "1/ 184".

بالنظم الشعر، وعرفوا الشعربأنه "منظوم الكلام"1، غير أنهم كانوا يقولون أيضًا: "قال شعرًا"، و"هو يقول الشعر"، وفي القرآن: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُون} 2، و {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} 3. ويقولون: قول شاعر. والشعر في تعريف علمائه: "منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية"، وهو "الكلام المقفى الموزون قصدًا"4، ومن صيروا الكلام نوعين: كلام منظوم، وكلام منثور. والفرق بينهما هو في وجود الوزن والقافية في الشعر، وفي عدم وجودهما في الكلام المنثور. وتوجد هذه النظرة عند أفلاطون، وفيتاغورس، وهي تختلف بعض الاختلاف عن رأي أرسطو في الشعر5. "وزعم الرواة أن الشعر كله إنما كان رجزًا أو قطعًا، وأنه إنما قُصِّد على عهد هاشم بن عبد مَنَاف، وكان أولَ من قصَّده مهلهلُ وامرؤُ القيس، وبينهما وبين مجيء الإسلام مائة ونَيِّف وخمسون سنة. ذكر ذلك الجمحي وغيره. وأول من طول الرجز وجعله كالقصيد الأغلب العجلي شيئًا يسيرًا، وكان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم أتى العَجَّاج فافتَنَّ فيه فالأغلب العجلي والعجاج في الرجز كامرئ القيس ومهلهل في القصيدة"6. والقصيدة من الشعر ما تمَّ شطر أبياته، سمي بذلك لكماله وصحة وزنه. قال ابن جني: "سمي قصيدًا لأنه قصد واعتمد وإن كان ما قصر منه واضطرب بناؤه نحو الرَّمَل والرَّجَز شعرًا مرادًا مقصودًا. وذلك أن ما تَمَّ من الشعر وتوفر آثر عندهم وأشد تقدمًا في أنفسهم مما قصر واختلَّ، فسموا ما طال ووفر قصيدًا، أي مرادًا مقصودًا، وإن كان الرمل والرجز أيضًا مرادين مقصودين،

_ 1 اللسان "0/ 578". 2 [الحاقة، الآية 41] . 3 [الشعراء، الآية 224 وما بعدها] . 4 اللسان "4/ 410"، "شعر". الصاحبي "273"، إرشاد السَّاري "9/ 88". 5 إنحليزي 6 بلوغ الأرب "3/ 83"، العمدة "1/ 89 وما بعدها"، طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد".

والجمع قصائد"1. وذكر علماء الشعر: "سمي الشعر التام قصيدًا، لأن قائله جعله من باله قصدًا ولم يحتسه حسيًا على ما خطر بباله وجرى على لسانه، بل روَّى فيه خاطره واجتهد في تجويده، ولم يقتضبه اقتضابًا، فهو فعل من القصد". "وقالوا شعر قصيد إذا نُقِّح وجوِّد وهذِّب"2. جاء في قول شاعر: قد وردت مثل اليماني الهزهاز ... تدفع عن أعناقها بالأعجاز أعيت على مقصدنا والرُّجَّاز يقال: أقصد الشاعر وأرمل وأهزج وأرجز، من القصد والرمل والهزج والرجز3. والرجز عند العرب كل ما كان على ثلاثة أجزاء، وهو الذي يترنمون به في عملهم وسوقهم ويحدون به. هذا هو تعريفه عند بعض العلماء. وعرفه بعضهم: أنه بحر من بحور الشعر معروف ونوع من أنواعه يكون كل مصراع منه مفردًا، وتسمى قصائده أراجيز، واحدتها أرجوزة، وهي كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر، ويسمى قائله راجزًا كما يسمى قائل بحور الشعر شاعرًا. وعرَّفه آخرون أنه الشعر ابتداء أجزائه سَبَبَان ثم وَتِد، وهو وزن يسهل في السمع ويقع في النفس4. وذكر أن كل شعر تركب تركيب الرجز سمي رجزًا5. والرجز في الوقع سجع موزون. ونجد شبهًا في التوراة، حيث ورد على ألسنة الحكماء العبرانيين في سِفْر الأمثال6 وعلى لسان بلعام الحكيم7، الذي جعله بعض العلماء لقمان الحكيم المذكور في القرآن.

_ 1 تاج العروس "2/ 467". 2 المصدر نفسه "2/ 468". 3 تاج العروس "2/ 466". 4 اللسان "5/ 350 وما بعدها"، "رجز"، البيان والتبيين "2/ 184"، "1313"، العمدة "1/ 121 وما بعدها"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "186". 5 اللسان "5/ 351". 6 الأمثال، الإصحاح 21، الآية 27 وما بعدها. 7 العدد، الإصحاح 22، الآية 5 وما بعدها.

وذكر بعض العلماء أن الرجز إنما سمي رجزًا لأنه تتوالى فيه في أوله حركة وسكون ثم حركة وسكون إلى أن تنتهي أجزاؤه، يشبه بالرجز في رجل الناقة ورعدتها، وهو أن تتحرك وتسكن ثم تتحرك وتسكن1، وقيل سمي بذلك لتقارب أجزائه واضطرابها وقلة حروفه، وقيل لأنه صدور بلا أعجاز. وقيل الرجز ضرب من الشعر معروف وزنه: "مُسْتَفْعِلُنْ" ست مرات، فابتداء أجزائه سببان ثم وتد، ولذلك جاز أن يقع فيه المشطور وهو الذي ذهب شطره، والمنهوك، وهو الذي قد ذهب منه أربعة أجزاء وبقي جزءان2. وذهب بعض العلماء إلى أن الرجز ثلاثة أنواع غير المشطور، والمنهوك، والمقطع3. وهو تام ومختصر. والمختصر أنواع: المجزوء والمشطور والمنهوك. وذكر أن الذي جرى على لسان الرسول من الرجز ضربان: المنهوك والمشطور4. والأرجوزة القصيدة من الرجز، وهي كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر، والجمع أراجيز. ويسمى قائله راجزًا ورجَّازًا، ورجازة، ومرتجز5.وقد فرق علماء الشعر بين الشاعر والراجز، فأطلقوا لفظة "الشاعر" على من ينظم الشعر، أي "القصيدة"، وأطلقوا كلمة "الراجز" على من يرتجز الرجز. فنجدهم يقولون: الأغلب الراجز، والعجاج الراجز، وأبو الزحف الراجز ودكين الراجز وغيرهم6. وقد اختلف العلماء في طبيعة الرجز، فمنهم من جعله شعرًا صحيحًا، وضربًا من الشعر، معروف وزنه، ومنهم من جعله صنفًا من أصناف الكلام قائمًا بنفسه ليس بشعر، ولا بسجع، وإنما مجازه مجاز الشعر. ونسب إلى الخليل قوله: الرجز شعر صحيح في رواية، وقوله: إنه ليس بشعر، وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث في رواية أخرى7. ومردُّ اختلافهم فيه هو ما ورد على لسان الرسول من الرجز المنهوك والمشطور، وما ورد في القرآن الكريم من قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاه

_ 1 اللسان "5/ 351"، "رجز". 2 تاج العروس "4/ 36"، "رجز". 3 العمدة "1/ 182". 4 اللسان "5/ 351". 5 تاج العروس "4/ 37"، "رجز". 6 الشعر والشعراء "2/ 493، 508، 511، 578". 7 تاج العروس "4/ 36"، "رجز"، اللسان "5/ 350"، "رجز".

الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} 1، و {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 2. وما ورد في كتب الحديث والأخبار من أن الرسول لم يكن ينشد الشعر ولا يقوله وينظمه، لأنه لم يكن شاعرًا وما كان له أن يقوله، وأنه إذا استشهد بالشعر، لم يقمه على وزنه، وإنما كان ينشد الصدر أو العجز، ثم يجيء بالنصف الثاني على غير تأليف الشعر، لأن نصف البيت لا يقال له شعر ولا بيت، ولو جاز أن يقال لنصف البيت شعر، لقيل لجزء منه شعر. وقد جرى على لسان النبي: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. فلو كان شعرًا لم يَجْرِ على لسانه3. وجاء على لسانه. هل أنت إلا أصبعٌ دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت4 فالرجز إذن ليس بشعر. وقد رد من يقول إن الرجز شعر على قول من يقول إنه ليس بشعر، بقوله: "معنى قول الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاه الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، أي لم نعلمه الشعر فيقوله ويتدرب فيه حتى ينشئ منه كتبًا، وليس في إنشاده صلى الله عليه وسلم البيت والبيتين لغيره ما يبطل هذا لأن المعنى فيه أنا لم نجعله شاعرًا"5، مطبوعًا على نظم الشعر وقوله، ولهذا فلا صلة لموضوع أصل الرجز، هل هو نوع من الشعر، أو ليس بنوع منه مع ما جاء من نفي الشعر عن الرسول. وورد في الحديث، أن الرسول كان يرتجز برجز عبد الله بن رواحة الأنصاري، الشاعر النقيب، وهو ينقل التراب يوم الخندق ويقول:

_ 1 [سورة يس، الآية: 69] ، تفسير الطبري "23/ 18"، تفسير الآلوسي "23/ 43". 2 [الحاقة، الآية: 40 وما بعدها] ، تفسير الطبري "29/ 41"، تفسير الآلوسي "29/ 52". 3 تاج العروس "4/ 36"، "رجز"، إرشاد الساري "9/ 88"، اللسان "5/ 350"، "رجز". 4 العمدة "1/ 185". 5 تاج العروس "4/ 36 وما بعدها"، "رجز"، اللسان "5/ 350 وما بعدها"، تفسير القرطبي "15/ 52 وما بعدها".

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأعداءَ قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا1 ورويت الأبيات بصورة أخرى. فقد رُوي أنه "لما خرج عامر بن الأكوع إلى خيبر جعل يرجز بأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يسوق به الركاب، وهو يقول: تا الله لولا الله ما اهتدينا ... وما تصدقنا ولا صلينا الكافرون قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا2 وموضوع أصل الرجز إذن موضوع ظهر في الإسلام، لما ورد في الأخبار من ارتجاز الرسول بعض الرجز، ولما ورد في القرآن الكريم وفي الحديث من نفي قول الشعر ونظمه عنه. فرأي فريق من العلماء إخراج الرجز من الشعر، لما بينته من أسباب. ورأي فريق آخر، أن الرجز جزء من الشعر، وأن ارتجاز الرسول الرجز، لا يتعارض مع ما جاء في القرآن الكريم، لأن الرسول لم يتدرب عليه ولم يتعلمه ولم ينشأ منه أراجيز، وإنما ارتجز منه قليلا من غير قصد ولا عمد، ولا علاقة لذلك بالانكباب على تعلم الشعر والتخصص به. والدليل على أن الرجز نوع من أنواع الشعر، هو ما يرويه أهل الأخبار أنفسهم من أن قريشًا اجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة وكان ذا سن فيهم، ليتدبروا أمر الناس إذا حضر الموسم، ولإيجاد جواب موحد لهم في أمر القرآن وفيما يجب قوله فيه. فلما قالوا هل: نقول إنه قول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه

_ 1 إرشاد الساري "5/ 157"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 286 وما بعدها". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 287".

ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر"1. فالرجز -إن صح هذا الخبر- هو مثل الهزج والقريض والمقبوض والمبسوط صنف من أصناف الشعر، ولون من ألوانه، ومن هذه الأصناف المذكورة تكون الشعر في نظر الجاهليين. فالرجز إذن صنف من أصناف الشعر، وبحر من بحوره، له وزن وإيقاع، هكذا كانت نظرة أهل الجاهلية إليه. وهو في الواقع شعر. و"الرجاز شعراء عند العرب وفي متعارف اللسان"2. "وليس يمتنع الرجز على المقصد امتناع القصيد على الراجز، ألا ترى أن كل مقصد يستطيع أن يرجز وإن صعب عليه بعض الصعوبة، وليس كل راجز يستطيع أن يقصد، واسم الشاعر وإن عمَّ المقصد والراجز فهو بالمقصد أعلق، وعليه أوقع، فقيل لهذا شاعر، ولذلك راجز، كأنه ليس بشاعر، كما يقال خطيب أو مرسل أو نحو ذلك"3. ولسهولة الرجز على اللسان لم ينظر إليه نظرة إكبار مثل نظرتهم إلى الشعر، هذا أبو العلاء المعري، يجعل جنة الشعراء جنة سامقة، لها بيوت عالية، أما جنة الرجز، فجنة أبياتها ليس لها سموق أبيات الجنة، جُعل فيها: أغلب بني عجل، والعجاج، ورؤبة، وأبو النجم، وحميد الأرقط، وعُذافر بن أوس، وأبو نخيلة، ثم يقول: "تبارك العزيز الوهاب! لقد صدق الحديث المروي: "إن الله يجب معالي الأمور ويكره سفاسفها". وإن الرجز لمن سفساف القريض، قصرتم أيها النفر فقصر بكم"4. ويعد الرجز من أقدم أنوع الشعر، ومن أبسطه وأيسره على الإنسان، ثم هو خفيف على النفس، فيه طرب وتأثير، وهو مطاوع يؤدي أغراضًا مختلفة، ويصلح لأن يعبر عن أحاسيس متنوعة، حتى يكاد أن يكون مطية الشعراء، يركبها كل من له طبع وذوق وحس مرهف، ومن هنا صار شعر من كان لا يقول الشعر أو لا يحضره إلى في الملمات والأزمات.

_ 1 الروض الأنف "1/ 173"، اللسان "5/ 350". 2 العمدة "1/ 185". 3 العمدة "1/ 186". 4 رسالة الغفران "373 وما بعدها".

وهو في نظري أقدم من القصيد، لأنه أبسط منه وأسهل على النظم، فهو يمثل المرحلة الأولى من مراحل الشعر المألوف. وقد تكون سهولته في النظم، هي التي جعلت كبار الشعراء يأنفون من النظم به، فهو باب يمكن أن يلجه الشعراء الصغار، وربما يتغلبون به على كبار أهل القصيد، ولعل سهولته هذه قصرت في عمره، إذ جعلت الذاكرة تنساه بسرعة، لسهولته هذه، كما يسرع نسيان السجع والكلام الاعتيادي من الذاكرة فضاع بسبب ذلك الرجز الجاهلي، ولم تبق منه غير بقية قليلة. واستعمل الرجز في أحوال البديهة والارتجال، وقد ارتجز في القتال، وفي الحداء والمفاخرة، وما جرى هذا المجرى، واستعمل في الأعمال التي تحتاج إلى تنشيط وإثارة همم، لما فيه من ملاءمة لذلك. فلما بنى المسلمون مسجد الرسول بالمدينة، وكان الرسول يحمل اللَّبن معهم، كان الصحابة يرتجزون الرجز لإثارة الهمم وللتخفيف من وطأة العمل. قال "أبو عبيدة: إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك، إذا حارب أو شاتم أو فاخر، حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده، ونسب فيه، وذكر الديار، واستوقف الركاب عليها ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، ووصف الراحلة، كما فعلت الشعراء بالقصيد. فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء. وقال غيره: أول من طوَّل الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم، وزعم الجمحي وغيره أنه أول من رجز، ولا أظن ذلك صحيحًا، لأنه إنما كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك"1. وبعد "الأغلب بن جشم بن عمر بن عبيدة بن حارثة العجلي" أول من نحا بالرجز منحى القصيد، فأسبغه وأطاله. وهو من المخضرمين. وقد قتل بنهاوند سنة "21هـ". وهو الذي جاء إلى "المغيرة بن شعبة"، فقال له: أرجزًا تريد أم قصيدًا ... لقد طلبت هينًا موجودا وكان الخليفة "عمر" -على ما يذكره أهل الأخبار- كتب إلى المغيرة وهو

_ 1 العمدة "1/ 89 وما بعدها"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، الأغاني "18/ 164".

على الكوفة أن استنشد من قبلك من الشعراء عما قالوه في الإسلام مكان الشعر، فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه أن أنقص من عطاء الأغلب خمسمائة فزدها في عطاء لبيد1. وروي أن العجاج، وهو عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كثيف بن عمرو أبو الشعثاء التميمي، والد الشاعر رؤبة، هو أول من رفع الرجز وشبهه بالقصيد، وجعل له أوائل2. وهو من شعراء الإسلام، وكان يفد على ملوك بني أمية من أمثال الوليد بن عبد الملك3، وسليمان بن عبد الملك4. وهو قليل الورود في شعر الشعراء الجاهليين، فقلما استعمل "نوابغ الشعراء في زمان الجاهلية" الرجز، كأنه ليس أهلا لمنزلتهم. ففي ديوان امرئ القيس لا نعثر إلا على أربع مقطعات صغيرة منه. أعني اثنتين من المشطور واثنتين من غير المشطور. وأكثر من امرئ القيس ارتجازًا لبيد بن ربيعة من الذين أدركوا الإسلام تنسب إليه خمس عشرة مقطعة في الرجز المشطور، تدور على المفاخرة والحكمة والمعاتبة والمديح والرثاء، وتشتمل إحداهما وهي أطولها على ستة عشر بيتًا. أما دواوين النابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد، وعلقمة الفحل، فلا شيء فيها من الرجز. وعلى كل حال لم يكن الارتجاز في زمان الجاهلية إلا بصفة قطع صغيرة يقولها الناس غالبًا في الهجاء أو في الحرب وعند اللقاء. أما في القرن الأول للهجرة، فأخذ بعض الشعراء من الفحول ينظمون الشعر في ذلك البحر المحتقر فإلى هذا التغير أشار ابن رشيق القيرواني في كتاب العمدة حين قال: قال أبو عبيدة إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك إذا حارب أو شاتم أو فاخر حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده ونسب فيه وذكر الديار واستوقف الركاب عليها ووصف ما فيها

_ 1 المؤتلف والمختلف "22"، طبقات الشعراء "148 وما بعدها"، الأغاني "18/ 164 وما بعدها"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 225"، الشعر والشعراء "2/ 511"، الإصابة "1/ 71"، "رقم 225"، الخزانة "1/ 223"، أسد الغابة "1/ 105". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 49". 3 بروكلمن "1/ 226". 4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاء "2/ 493".

وبَكَى على الشباب ووصف الراحلة كما فعلت الشعراء بالقصيد، فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء، وقال غيره أول من طوَّل الرجز الأغلب العجلي، وهو قديم. وزعم الجمحي وغيره أنه أول من رجز، ولا أظن ذلك صحيحًا، لأنه إنما كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نجد الرجز أقدم من ذلك. ولكن لا شك في وقوع سهو في آخر كلام ابن رشيق، لأنه من الواضح أن الجمحي إنما أراد بقوله استعمال بحر الرجز في نظم الشعر مثل القصائد، فليس من الممكن أن رجلا عالمًا بتأريخ الشعر ودقائقه مثل الجمحي جهل ما هو متداول عند كل العلماء أن الرجز من أقدم فنون الشعر عند عرب الجاهلية. وقول الجمحي صواب تؤيده عدة نصوص منها شهادة العجاج من أشهر شعراء الأراجيز الذي قال مفتخرًا: وإن يكن أمسي شبابي قد حسر ... وفترت مني البواني وفتر إني أنا الأغلب أضحى قد نشر يعني أنه أحيا طريقة شعر الأغلب. وهو الأغلب بن جشم العجلي عاش في الجاهلية مدة وأدرك الإسلام وأسلم وله شعر في سجاح لما تزوجت مسيلمة الكذاب"1. والهزج نوع من أعاريض الشعر، من الأغاني وفيه ترنم2. وهو باب معروف من أبواب الشعر عند الجاهليين، كباب الرجز، بدليل جعل الوليد بن المغيرة إياه صنفًا من أصناف الشعر. وقد عرف من كان يقول الهزج بالهزاج. وأهزج إذا هزج الهزج، أي قال به. والهزاجون طبقة امتازت عن غيرها بقولها الهزج، وكانوا يرددونه ترديد الغناء، ولذلك عد من الأغاني، وقالوا: الهزج صوت مطرب. قيل سمي بذلك تشبيهًا بهزج الصوت، وقيل لطيبه لأن الهزج من الأغاني3. فهي إذن من الشعر الغنائي "Lyric"

_ 1 كارلو ناليو، تأريخ آداب اللغة العربية "186 وما بعدها". 2 اللسان "2/ 390 وما بعدها"، "هزج". 3 تاج العروس "2/ 116"، "هزج".

وقد استعمل العرب الهزج في أناشيد التنشيط للقتال، وفي المناسبات العامة، مثل الأفراح، والتجمعات، حيث يترنم القوم جماعةً بأنغام الهزج، فالهزج شعر مقرون بغناء وترنيم. والرَّمَل من الشعر كل شعر مهزول غير مؤتلف البناء. قال بعض العلماء عنه: "وأما الرمل فإن العرب وضعت فيه اللفظة نفسها، عبارة عندهم عن الشعر الذي وضعه أهل الصناعة، لم ينقلوه نقلا علميًّا ولا نقلا تشبيهيًّا. وبالجملة فإن الرمل كل ما كان غير القصيد من الشعر وغير الرجز"1. وقد أخذ علماء العروض اللفظة والمعنى كما سمعوها من العرب ولم يحدثوا عليهما أي تغيير. مما يدل على أنه كان من الأبواب المميزة المعروفة عند الجاهليين. وذلك مثل الرجز والقصيد2، والمقبوض والمبسوط، على نحو ما ذكرت قبل قليل. وأما "القصيد" من الشعر، فما تم شطر أبياته أو شطر أبنيته، سمي بذلك لكماله وصحة وزنه. سمي قصيدًا لأنه قصد واعتمد، وإن كان ما قصر منه واضطرب بناؤه نحو الرمل والرجز شعرًا مرادًا مقصودًا، وذلك أن ما تم من الشعر وتوفر آثر عندهم وأشد تقدمًا في أنفسهم مما قصر واختل، فسموا ما طال ووفر قصيدًا، أي مرادًا مقصوداً، وإن كان الرمل والرجز أيضا مرادين مقصودين3. وقيل "القصيد من الشعر المنقح المجود المهذب الذي قد أعمل فيه الشاعر فكرته ولم يقتضبه اقتضابًا كالقصيدة"4. والقصيد، جمع القصيدة، وقيل: الجمع قصائد وقصيد. سمي قصيدًا لأن قائله احتفل له فنقحه باللفظ الجيد والمعنى المختار، وقالوا: سمي الشعر التام قصيدًا لأن قائله جعله من باله فقصد له قصدًا ولم يحتسه حسيًا على ما خطر بباله وجرى على لسانه، بل روى فيه خاطره واجتهد في تجويده ولم يقتضبه اقتضابًا5. ويقال قصد الشاعر وأقصد، إذا أطال وواصل عمل القصائد. والذي في العادة أن يسمى ما كان على ثلاثة أبيات أو عشر أو خمس عشرة قطعة، فأما ما زاد

_ 1 اللسان "11/ 296"، تاج العروس "7/ 351"، "رمل". 2 اللسان "11/ 296". 3 اللسان "3/ 354"، "قصد"، تاج العروس "2/ 467"، "قصد". 4 تاج العروس "2/ 468". 5 اللسان "3/ 354"، "قصد".

على ذلك فإنما تسميه العرب قصيدة1. "وقيل: إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة، ولهذا كان الإيطاء بعد سبعة غير معيب عند أحد من الناس. ومن الناس من لا يعد القصيدة إلا ما بلغ العشرة وجاوزها ولو ببيت واحد. ويستحسنون أن تكون القصيدة وِترًا، وأن يتجاوز بها العقد، أو توقف دونه"2. فالقصيدة إذن كلمة طويلة بالنسبة إلى القطعة فيها وحدة أطول هي وحدة القصيدة، التي تعرف بفتافيتها3. ويعبر عنها بلفظة "كلمة" "الكلمة" مجازًا، كما عبر عنها في المؤلفات القديمة4. وينسب إلى الأخفش قوله: "القصيد من الشعر هو الطويل، والبسيط التام، والكامل التام، والمديد التام، والوافر التام، والرجز التام، والخفيف التام، وهو كل ما تغنى به الركبان، ولم نسمعهم يتغنون بالخفيف"5. و"القصد" مواصلة الشاعر عمل القصائد وإطالته كالإقصاد. قال الشاعر: قد وردت مثل اليماني الهزهاز ... تدفع عن أعناقها بالأعجاز أعيت على مقصدنا والرجاز6. وكلمة "قصيدة" من الكلمات المستعملة في الشعر الجاهلي. جاء أن أحد شعراء "بكر بن وائل" سخر من تغلب لما كانت تتباهى به من ترديدها لقصيدة شاعرها عمر بن كلثوم في مدح نفسه وقومه، فقال: ألهي بني تغلب عن كلمة مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يروونها أبدًا مذ كان أولهم ... يا للرجال لشعر غير مسئوم7 وورد في شعر للمسيب بن علس قوله: فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع8

_ 1 اللسان "3/ 355"، تاج العروس "2/ 467"، "قصد". 2 العمدة "1/ 189". 3 بروكلمن "1/ 58". 4 الآمدي، المؤتلف "106"، ابن سلام، طبقات "27"، ابن سعد "3/ 176". 5 تاج العروس "2/ 467"، "قصد". 6 تاج العروس "2/ 466"، "قصد". 7 الأغاني "11/ 54". 8 الْمُفَضَّلِيَّات "62".

فاللَّفظة إذن من الألفاظ التي استعملها الجاهليون، بمعناها المفهوم. وقد بحث في أصلها علماء اللغة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب1. وللمستشرقين كلام في أصلها وفي معناها. ذهب بعض منهم إلى أنها من القصد والغرض، وأنها قيلت في شعر الطلب أولا، ثم أطلقت على كل شعر آخر، ولهذا اقترح بعضهم ترجمتها بشعر الطلب أو شعر التسول، وعارض هذا التفسير بعض آخر، لأن التسول في رأيهم لم يكن الغرض الأول من نظم الشعر، وإنما كان غرضًا من أغراضه، ثم إن أقدم الشعراء الذين قصدوا القصائد لم يكونوا من الشعراء المتسولين، وإنما كانوا من المترفعين المتعالين، ولهذا رفضوا تفسير القصيد بشعر التسول والطلب1، وقال "بروكلمن": "إن صح أن لفظ القصيد بعيد القدم، فمن الممكن أن يكون الغرض والقصد بحسب الأصل غرضًا من أغراض السحر، وكثيرًا ما صار غرضًا سياسيًّا في وقت متأخر، ثم صار يستعمل بأوسع معاني الكلمة في جميع أغراض الحياة الاجتماعية، وإن كان من الحق أنه استعمل أيضًا منذ عهد قديم في أغراض أنانية محضة"2. وتعرف القصيدة بالقافية كذلك. واستشهد العلماء على ذلك بقول الخنساء: فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء وبقول آخر: نبئت قافية قيلت تناشدها ... قوم سأترك في أغراضهم ندبا وذكروا أن القافية في قول حسان بن ثابت: فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء قد تعني القصيدة، وقد تعني البيت منها. "قال الأزهري: العرب

_ 1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 59". Goldziher, Historyof Classical Arabic Literature, p. 10. 2 بروكلمن "1/ 59".

تسمي البيت من الشعر قافية، وربما سموا القصيدة قافية، ويقولون رويت لفلان كذا وكذا قافية1. والقافية هي "ميقف" في العبرانية. وأطلقت على القصيدة لفظة "كلمة"، وقد استعملها ابن سلام في مواضع من كتابه "طبقات الشعراء"، فتجده يقول: "ومن شعر حسان الرائع الجيد ما مدح به بني جفنة من غسان ملوك الشأم في كلمة"، ثم ذكر القصيدة، ثم يقول: "وقوله في الكلمة الأخرى الطويلة"2، و"قال في يوم أحد كلمة قال فيها"3، ويقول "وكان أبو الصلت يمدح أهل فارس حين قتلوا الحبشة في كلمة قال فيها"4، و"السموأل بن عادياء يقول في كلمة له طويلة"5، ووردت في مواضع عديدة أخرى بهذا المعنى وفي بقية كتب الشعر والأدب. وتتألف القصيدة من أبيات. والبيت هو بيت الشعر6. ويتكون البيت من شطرين. والشَّطْرُ نصف الشيء. فشطر البيت نصفه7. والبيت في القصيدة الجاهلية وحدة معنوية مستقلة قائمة بذاتها، إذا انتزعت بيتًا منها، أو تركت بيتًا، أو قدمت فيها بيتًا على بيت، أو أخرت في أبياتها، فإنك لا تكاد تفصم عرى القصيدة ولا تؤثر على ترابط معناها في الغالب، لأن كل بيت منها وحدة قائمة بذاتها لا تتصل بما قبلها أو بما بعدها إلا بسبب الوزن والقافية. وقد عرفت بعض الأبيات بالأوابد. والأوابد من الشعر: الأبيات السائرة كالأمثال8. وذكر أن الأوابد الشوارد من القوافي9، ورد في كتب اللغة: "ومن المجاز أبد الشاعر يأبد أبودًا، إذا أتى العويص في شعره. وهي الأوابد والغرائب وما لا يعرف معناه على بادئ الرأي"10.

_ 1 تاج العروس "10/ 300"، "قفو". 2 "ص53، 54". 3 طبقات "58". 4 طبقات "66". 5 طبقات "71". 6 تاج العروس "1/ 530"، "بيت". 7 تاج العروس "3/ 298"، "شطر". 8 العمدة "2/ 185". 9 اللسان "3/ 69"، "أبد". 10 تاج العروس "2/ 286 وما بعدها"، "أبد".

وتكون القصائد طويلة في الغالب، أما القطع، فهي أقصر من القصيدة، وفيه كان "ابن الزبعري"، لا ينظم القصائد الطوال، ويميل إلى القطع، وكان عذره "أن القصار أولج في المسامع، وأجول في المحافل". وللشعراء الطوال والقصار، كل حسب المناسبة1. وقد اختتمت بعض القصائد الجاهلية بالحكم والأمثال وبالأقوال المأثورة. وللقصائد الطوال المحبوكة حبكًا حسنًا، والمنظومة نظمًا جيدًا، سابقة وقدم على مثيلاتها من القصائد الوسط أو القصيرة، ومن هنا اختار حماد الراوية "السبع الطوال" "السبع الطول" من الشعر الجاهلي، وزعم في أصلها ما زعم. ونظم القصيدة الطويلة، يحتاج إلى نفس طويل، وإلى تمكن من الشعر، وإلا أصابها الوهن والعجز، ومن هنا عد أصحاب المطولات الجيدة من أحسن الشعراء. وقد ذهب "غرونباوم" إلى أن القصيدة العاشرة من القصائد المنسوبة إلى "عمرو بن قميئة"، ربما تكون أقدم قصيدة تامة وصلت إلينا من الشعر الجاهلي، "على أنها لم تكن بعد تفي بجميع مقتضيات النقاد النظريين، لأنها لا تشمل، في الأبيات التسعة عشر التي تلي النسيب، إلا على وصف سحابة ممطرة، ومدح رجل يدعى امرأ القيس بن عمرة. ولو أن هذه القصيدة تأخرت عن العصر، بوقت قصير، لاعتبرت أثرًا غثًّا. وليس السبب في ذلك أن عدد أبيات القصيدة من بعد قد ازداد إلى ضعفين أو ثلاثة أضعاف، أو بلغ أو جاوز المائة، وإنما هو في كثرة المشاهد التي حشدت حتى تحققت هذه المنظومات الرائعة. ومن شواهد ذلك قصيدتان للأعشى "حوالي 565- 629م" هما الأول والسادسة من ديوانه، وأولى قصائد أبي ذؤيب الهذلي "ت حوالي 650م"، وفيها تصوير لسلطة القدر المحتوم في ثلاثة مشاهد مؤثرة تمثل مصرع حمار الوحش القوي وثور الوحش الهائج، والفارس الشاكي السلاح المستجن بدرعه. وإذ كان الحافز لقول القصيدة هو وفاة ابن الشاعر، فقد جمعت هذه القصيدة جمعًا موفقًا بين مزايا المرثية وخصائص القصيدة"2. وقد بلغ الشعر الجاهلي ذروته عند ظهور الإسلام. كان الشعراء في هذا العهد ينظمون القصيد ببحوره التي ضبطت وثبتت في الإسلام، في مقاصد أشرت إليها

_ 1 العمدة "1/ 186 وما بعدها". 2 غرونباوم "139".

في موضع آخر من هذا الجزء من الكتاب، كما كانوا قد طوروا الرجز وتفننوا فيه. وقد أدى ظهور الإسلام إلى إحداث تغير في نمط نظم القصائد، لأن الإسلام حدث تأريخي جاء برأي في شئون الحياة جديد، فكان لا بد للشعراء من مجاراة هذا التيار الفكري، لا سيما بعد خروج العرب من جزيرتهم وانتشارهم في أرضين جديدة غنية، وحكمهم لأقوام كانت لهم حضارة، فكان لا بد من تأثر النفس بالوضع الجديد، والشعر تعبير عن النفوس والأحاسيس. والقافية من الشعر الذي يقفوا البيت، سميت قافية لأنها تقفوه، أو لأن بعضها يتبع أثر بعض. وقيل: هي آخر كلمة في البيت، أو الحرف الذي تبنى عليه القصيدة، وهو المسمى رويًّا. وعرف الخليل القافية بقوله: "القافية من آخر حرف ساكن فيه، أي في البيت، إلى أول ساكن يليه مع الحركة التي قبل الساكن"1. وأرى أن هذا التعريف قد أخذه الخليل من أهل الكتاب. فالقافية بهذا التعريف تقابل Maqqeph "مقف" "مقيف" عند العبرانيين2، و"المقيفات" هي التي تحدد الشعر، وتجعل من الكلام المؤلف من "مقيفات" شعرًا، ولا يستبعد استعمال الجاهليين لهذا المصطلح استعمال العبرانيين والسريان له، لما دوَّن الخليل علم العروض أخذ هذا المصطلح منهم، ودليل ذلك ورود لفظة "قافية" و"القوافي" في الشعر قبل أيام الخليل3، ثم اختلاف العلماء وتباين آرائهم في معنى القافية4. ويذكر أهل الأخبار أن مهلهل بن ربيعة، وهو خال امرئ القيس الشاعر، وجد عمرو بن كلثوم هو أول من قصد القصائد. وقد قال الفرزدق فيه: ومهلهل الشعراء ذاك الأول5 فهو أول شعراء القصائد، وهو متقدم على امرئ القيس.

_ 1 تاج العروس "10/ 300"، "قفو". 2 Hastings, p, 737. 3 تاج العروس "10/ 300"، "قفو". 4 نزهة الجليس "1/ 120". 5 العمدة "87"، الشعر والشعراء "164".

ويرى "فون غرونباوم" أن الشعراء حرصوا منذ حوالي السنة 500م على التصريع في المطلع، ثم التزام قافية واحدة في جميع أبيات القصيدة، من أولها إلى آخرها، بحيث يسوغ القول: إن القافية الواحدة أدل على وحدة القطعة الشعرية من المعاني الواردة فيها. "ويتجلى في أقدم المحفوظ من الشعر العربي تنويع عظيم في الوزن، وصقل بارع في التعبير اللغوي. وهذا يعني أنه كان قد نشأ، قبل ذلك، مذهب شعري ينص على التنويع والصقل المشار إليهما. وأخذت الأقطار المختلفة تؤثر أوزانًا مختلفة، ويكاد يكون من المرجح أن الفرس قد تركوا، في شعر الأقدمين من شعراء العراق، تأثيرًا بالغًا في الطريقة الفنية. فهنالك وزنان على الأقل، امتاز بهما هؤلاء الشعراء هما الرمل والمتقارب، وربما زدنا إليهما الخفيف. ويبدو أنها جميعًا اقتبست من أصول فارسية بهلوية، وحورت بما يلائم الأوضاع العربية. وربما كان للسريان فضلٌ ما في وضع المصطلحات الفنية الأولى مثل كلمة "البيت" أي "الخيمة" لتدل على الوحدة الجزئية من القصيدة. لكن كان لنظرية الفن العروضي، على العموم نشأة مستقلة، فالخليل بن أحمد "ت175هـ- 791م"، وضع قواعد العروض العربي بعد ذلك بزمن طويل، وقد بقيت قواعده معتمد الأدباء عبر القرون. فقد أقر الخليل ستة عشر وزنًا، واطرح بعض الأوزان الهزيلة التي كان القدماء قد استنبطوها. ثم إنه جرى على طريقة، جرى عليها النحاة من بعد في الرمز إلى صيغة اللفظة، فأشار إلى وحدة الإيقاع الشعري بصيغة مشتقة من فعل"1. وقد تكلف الناس كثيرًا، وحملوا أنفسهم حملا ثقيلا، باعتذارهم عن أمور متكلفة وردت في شعر زعم أنه كان للقدماء من الشعراء، فالتصريع مثلا، إذا كثر استعماله في القصيدة دل في نظر العلماء بالشعر على التكلف، إن كان من المحدثين، أما إذا كان من المتقدمين، لا يعد متكلفًا في نظرهم، واعتذروا عنه بأنه جرى على عادة الناس، لئلا يخرج عن المتعارف. ومن هذا القبيل التصريع المنسوب إلى امرئ القيس:

_ 1 غرونباوم "134 وما بعدها".

تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا عليك بأن تنتظر أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر وشاقك بين الخليط الشطر ... وفيمن أقام من الحي هر1 ونسبوا إلى امرئ القيس "المسمط" من الشعر. والشعر المسمط الذي يكون في صدر البيت أبيات مشطورة أو منهوكة مقفاة، وتجمعها قافية مخالفة لازمة للقصيدة حتى تنقفى. وقيل: أبيات مشطورة تجمعها قافية واحدة، وهو الذي يقال له عند المولدين "المخمس". ومن أنواعه المسبع والمثمن، وقيل المسمط من الشعر أبيات تجمعها قافية واحدة مخالفة لقوافي الأبيات. وقيل المسمط من الشعر ما قفي أرباع بيوته وسمط قافية مخالفة. يقال: قصيدة مسمطة وسمطية. ومن الشاعر المسمط المنسوب إلى امرئ القيس قوله: ومستلثم كشفت بالرمح ذيله ... أقمت بعضب ذي سفاسق ميله فجعت به في ملتقى الخيل خيله ... تركت عتاق الطير تحجل حوله كأن على أثوابه نضح جريال ونسب له قوله: توهمت من هند معالم أطلال ... عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي مرابع من هند خلت ومصايف ... يصيح بمغناها صدى وعوازف وغيرها هوج الرياح العواصف ... وكل مسف ثم آخر رادف بأسحم من نوء السماكين هطال2 وتعرض المعري للتسميط في رسالة الغفران، حين التقى بامرئ القيس، فسأله: "أخبرني عن التسميط المنسوب إليك، أصحيح هو عنك؟ وينشده الذي يرويه بعض الناس:

_ 1 العمدة:1/ 174". 2 تاج العروس "5/ 161"، "سمط"، "كأن على سرباله، نفح جريال"، اللسان "7/ 322 وما بعدها"، "سمط".

يا صحبنا عرِّجوا ... نقف بكم أسج مهرية دُلُج ... في سيرها مُعج طالت بها الرحل فعرجوا كلهم ... والْهَمّ يشغلهم والعيس تحملهم ... ليست تعللهم وعاجت الرمل يا قوم إن الهوى ... إذا أصاب الفتى في القلب ثم ارتقى ... فهد بعض القوى فقد هوى الرجل فيجيب المعري على لسانه بقوله: "لا والله ما سمعت هذا قط، وإنه لقرى لم أسلكه، وإن الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إليّ! أبعد كلمتي التي أولها: ألا أنعم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل ينعمن من كان في العصر الخالي وقولي: خليليّ مرّا بي على أم جندب ... لأقضي حاجات الفؤاد المعذب يقال لي مثل ذلك؟ والرجز من أضعف الشعر، وهذا الوزن من أضعف الرجز"1. ونسبوا إليه كثرة التصريع في غير أول القصيدة، وكثرة استعمال الضرب المقبوض في الطويل، وكثرة الأقواء في القافية2. ويعد الأقواء من عيوب الشعر، غير أننا لا نستطيع مجاراة علماء العروض في هذا الرأي، إذ يجوز ألا يكون الاقواء عيبًا عند أهل الجاهلية، وإنما صار عيبًا في الإسلام، بعد تثبيت قواعد اللغة والبحور. ونجد هذا الرأي مثبتًا في رسالة الغفران.

_ 1 رسالة الغفران "319 وما بعدها". 2 بروكلمن "1/ 99".

ولا يمكن أن نتصور أن القصائد الجاهلية الطويلة قد نظمت على نحو ما يرويها أهل الأخبار، دون إجراء أي تغيير أو تحوير عليها. فقد كان الشاعر ينفصل فيتعلم قصيدته ويحفظها راويته ويذيعها بين الناس، ثم يحدث أن تخطر له خواطر أو يسمع نقدًا لبعض أبياتها، أو توجيهًا يبديه له بعض أصدقائه أو يسمع تنبيهًا موجهًا إليه بوجود شيء في قصيدته غفل عنه، فيجري بعض التغيير عليها من تعديل أو زيادة أو نقصان، قد يحفظ ويروى، وقد يهمل ويترك، ولهذا فنحن لا نستطيع الادعاء: أن نظم القصائد كان نظمًا تامًّا، لم يشمله أي تعديل أو تبديل وأن الشاعر لم يكن ينشد قصيدته إلا بعد أن يكون قد اطمأن منها وضبطها ضبطًا تامًّا. "ومن الشعراء من يحكم القريض ولا يحسن من الرجز شيئًا، ففي الجاهلية منهم: زهير، والنابغة، والأعشى. وأما من يجمعهما فامرؤ القيس وله شيء من الرجز، وطرفة وله كمثل ذلك، ولبيد وقد أكثر"1. وليس في مستطاع أحد إثبات أن البحور المدونة في علم العروض، هي كل بحور الشاعر الجاهلي وأوزانه، لم يهمل منها وزن، ولم ينس منها بحر، لأن على من يدعي هذه الدعوى، إثبات أن الإسلاميين الذين جاءوا بعد الجاهليين قد أحاطوا علمًا بكل الشعر الجاهلي، وأنهم أحصوه عددًا، فلم يتركوا منه بيتًا ولا قطعة ولا قصيدة. وعلماء الشعر ينفون ذلك ويقولون: "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط، أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها"2. ويرى "غرونباوم" أن الشعر الجاهلي قد تطور: "وتتجلى فيه معالم التطور بصورة واضحة: فمن ذوبان اللهجات المتعددة في لغة واحدة، تجمَّع فيها تراث المدارس المختلفة واللهجات المتباينة بصورة متزايدة حتى تحقق حوالي سنة 600، إلى زيادة القيود في نظام العروض الفني، فإن ظفر بعض الفئات باستنباط تعابير

_ 1 البيان والتبيين "4/ 84". 2 الشعر والشعراء "7 وما بعدها"، "دار الثقافة".

جديدة لم تلبث أن شاعت تدريجيًّا في أوساط أخرى، وأخيرًا إلى اتجاه سياق الشعر نحو الاتساع وعدد أبيات القصيدة إلى الازدياد. إن تحليل هذا النمو السريع نسبيًّا، على ضوء ما نعرفه عن المخلفات القديمة ليحملنا على الاعتقاد بأن وضع تأريخ معين يحدد بدء الشعر العربي الفني أمر متعذر، ولكن الغالب على الظن أن أوائل هذا الشعر لا تتخطى أقدم المدونات التي بلغتنا بزمن طويل. وهذا الحكم إنما ينطبق على الطبقة الشعرية الثالثة والأخيرة لا غير. ولئن تعاصرت هذه الطبقات الشعرية الثلاث معًا في الفترة الجاهلية المذكورة، فمن البدهي أنها لم تبرز إلى الوجود في وقت واحد"1.

_ 1 غرونباوم "135وما بعدها".

التمليط

التمليط: وهو أن يتساجل الشاعران فيصنع هذا قسيمًا وهذا قسيمًا لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه1، وفي الحكاية أن امرأ القيس قال للتوأم اليشكري: إن كنت شاعرًا كما تقول فملط أنصاف ما أقول فأجزها، قال نعم. فقال امرؤ القيس: أحار ترى بريقًا هب وهنا فقال التوأم اليشكري: كنار مجوس تستعر استعارا فقال امرؤ القيس: أرقت له ونام أبو شريح فقال التوأم: إذا ما قلت قد هدأ استطارا فقال امرؤ القيس: كأن هزيمه بوراء غيث

_ 1 اللسان "7/ 409"، "ملط".

فقال التوأم: عشار وإله لاقت عشارا فقال امرؤ القيس: فلما أن علا كتفي أضاخ فقال التوأم: وهت أعجاز رييِّه فحارا فقال امرؤ القيس: فلم يترك بذات الشر ظبيًا وقال التوأم: ولم يترك بجهلتها حمارا فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ذلك الحرس من يمانته، آلى ألا ينازع الشعر أحدًا آخر الدهر. وذكر أن شعر التوأم في هذا التمليط، أقوى من شعر امرئ القيس، لأن امرأ القيس مبتدئ ما شاء، وهو في فسحة مما أراد، والتوأم محكوم عليه بأول البيت، مضطر في القافية التي عليها مدارها جميعًا، ومن ههنا عرف له امرؤ القيس من حق المماتنة ما عرف. ونازع أيضًا علقمة بن عبدة، فكان من غلبة علقمة عليه ما كان1. والمماتنة المعارضة في جدل أو خصومة، والمباهاة في الجري أو في الشعر، بأن يتماتن شاعران أو أكثر ليتبين أيهم أشعر2. وقد يمتحن الشعراء بعضهم بعضًا قول الشعر، كأن يقول أحدهم بيتًا أو نصف بيت، ثم يقول لصاحبه: أجز، ليقدم مثله، قيل: قال زهير بن أبي سلمى بيتًا ثم أكدى، ومر به النابغة الذبياني، فقال له: يا أبا أمامة، أجز، قال: ماذا؟ قال:

_ 1 العمدة "1/ 202 وما بعدها"، "2/ 91". 2 تاج العروس "9/ 240"، "متن".

تزال الأرض إما مت خفا ... وتحيا ما خييت بها ثقيلا نزلت بمستقر العز منها ... .................... فماذا قال؟ فأكدى النابغة أيضًا، وأقبل كعب بن زهير، وهو غلام، فقال له أبوه: أجز يا بني، فقال: ماذا؟ فأنشده البيت الأول ومن الثاني قوله: نزلت بمستقر العز منها، فقال كعب: فنمنع جانبيها أن يزولا1 ومن الإجازة قول حسان بن ثابت: متاريك أرباب الأمور إذا اعترت ... أخذنا الفروع واجتنبنا أصولها وأجبل، فقالت ابنته: يا أبت، ألا أجيز عنك، فقال: أو عندك ذاك؟ قالت: نعم، قال: فافعلي، فقالت: مقاويل للمعروف خرس عن الخنا ... كرام يعاطون العشيرة سولها فحمى حسان عند ذاك، فقال: وقافية مثل السنان ردفتها ... تناولت من جو السماء نزولها فقالت ابنته: يراها الذي لا ينطق الشعر عنده ... ويعجز عن أمثالها أن يقولها2

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 97 وما بعدها". 2 العمدة "2/ 98".

الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض

الفصل التاسع والأربعون بعد المئة: العروض ... الفَصْلُ التَّاسِعُ والأربعون بعدَ المائةِ: الْعَرُوضُ والعروض ميزان الشعر، سمي به لأنه به يظهر المتزن من المنكسر عند المعارضة بها. وذكر الأخباريون جملة تفسيرات لسبب تسميتهم العروض عروضًا، منها أنه علم الشعر، ألهم الخليل به بمكة، ومكة من العروض، فقيل لهذا العلم عروضًا1، ومنها: أنه إنما سمي عروضًا لأن الشعر يعرض عليه، ومنها: أنه إنما عرف بعروض الشعر، بقولهم: فواصل أنصاف الشعر، وهو آخر النصف الأول من البيت. فالنصف الأول عروض؛ لأن الثاني يبنى على الأول والنصف الأخير الشطر أو لأن العروض طرائق الشعر وعموده مثل الطويل، فيقال هو عروض واحد. واختلاف قوافيه يسمى ضروبًا2. أو لأنه إن عرف نصف البيت، وهو العروض سهل تقطيع البيت حينئذ، ولذلك قيل له العروض3. وذهب البعض إلى أنه إنما عرف بذلك من العرض، لأن الشعر يعرض على هذه الأوزان فما وافق كان صحيحًا وما خالف كان سقيمًا. وقيل من العروض، أي الطريق التي في الجبل، والمراد الطريق التي سلكتها العرب، وقيل لما شبهوا البيت من الشعر ببيت الشعر، شبهوا العروض الذي يقيم وزنه بالعروض، وهي الخشبة المعترضة

_ 1 تاج العروس "5/ 41"، "عرض". 2 اللسان "7/ 184"، "عرض". 3 الخوارزمي، مفتاح العلوم "51".

في سقف البيت، كما شبهوا الأسباب بالأسباب والأوتاد بالأوتاد، والفواصل بالفواصل1. وعلم العروض، هو علم الشعر والقافية، ويرادفه علم الوزن: وزن الشعر، ويدل اختلافهم الشديد في تعريفه على عدم وجود رأي واضح عند العلماء عن منشئه وعن كيفية ظهوره2. وعندي أن في اختلاف العلماء هذا الاختلاف الشديد في سبب تسمية العروض عروضًا، دلالة على أن اللفظة من الألفاظ التي كانت مستعملة قبل الإسلام، وأنها لم تكن من وضع "الخليل" وإنما كانت لفظة قديمة جاهلية قصد بها النظر في الشعر والبصر بدروبه وأبوابه وطرقه، فلو كانت الكلمة إسلامية ومن وضع "الخليل" لما وقع بينهم هذا الاختلاف، وما كان "الخليل" ليهمل السبب الذي حمله على اختيار هذه التسمية، ولسأله العلماء حتمًا عن السبب الذي جعله يسمي هذا العلم عروضًا، فقد عودنا العلماء، أنهم إذا وقفوا أمام أمر قديم جاهلي، وهم لا يعرفون من خبره شيئًا، جاءوا بآراء متباينة وبتعليلات مختلفة، لبيان العلل والأسباب. ولو كان العروض من العلوم أو المسميات التي وضعت في الإسلام، لما اختلفوا في تعريفه هذا الاختلاف، وفي اختلافهم هذا الاختلاف في تعريفه، دلالة على قدمه قياسًا على ما عرفناه عنهم، من اختلافهم في تفسير المصطلحات والمسميات القديمة. وقد قال قوم في الإسلام لا حاجة إلى العروض، لأن من نظم بالعروض شق ذلك عليه وأتى به متكلفًا، ومن نظم بالطبع السليم والسليقة جاء شعره طبيعيًّا سليمًا3. ولا بد وأن تكون هذه المعارضة قد ظهرت بعد ظهور علم العروض وتدوينه وتثبيت قواعده، ومحاولة العروضيين فرض سلطان قواعدهم على الشعر والشعراء، ولما كان الشعراء ينظمون الشعر بسليقتهم وفق عرفهم الذي ألفوه وتعودوا عليه، وعن طبع وموهبة فيهم، لم يحفلوا بالعروض، وصار العروض علمًا يحفظه من لا يقرض الشعر الرفيع العالي المنبعث عن شاعرية وعاطفة وهيجان خاطر، وصار شعر العروضي شعرًا متكلفًا في الغالب، لا يداني شعر الشعراء

_ 1 نزهة الجليس "1/ 115". 2 Ency, Vol. i. p, 463. 3 نزهة الجليس "1/ 116".

الذين يقولون الشعر، وهم أحرار طلقاء، لعدم وجود الموهبة الشعرية فيهم، والبصر بالعروض يجعل من حافظه شاعرًا. والمعروف بين الناس أن العروض في الإسلام، وضعه "أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم" الفراهيدي الأزدي اليحمدي "100- 170، 175"1. استخرج الأوزان، ودون البحور، "وكان غاية في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس. وهو أول من استخرج العروض وحصن به أشعار العرب"2. وقد عرف بـ"صاحب العروض"3. وقيل عنه: كان "الغاية في تصحيح القياس، واستخراج مسائل النحو وتعليله"4، "وهو أول من استخرج علم العروض، وضبط اللغة. وكان أول من حصر أشعار العرب. روي عنه أنه كان يقطع العروض فدخل عليه ولده في تلك الحالة فخرج إلى الناس وقال: إن أبي قد جن. فدخل الناس عليه وهو يقطع العروض فأخبروه بما قال ابنه، فقال له: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما أقول عذلتكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذلتكا5 و"الخليل" نفسه من الشعراء، وقد أورد العلماء له شعرًا6. وقد أورد "ابن قتيبة" له أبياتًا، عقب عليها بقوله: "وهذا الشعر بَيِّن التكلف رديء الصنعة. وكذلك أشعار العلماء، ليس فيها شيء جاء عن إسماح وسهولة، كشعر الأصعمي، وشعر ابن المقفع، وشعر الخليل، خلا خلف الأحمر، فإن كان أجودهم طبعًا وأكثرهم شعرًا7. وقد تعرض "أبو الحسين أحمد بن فارس" لموضوع نشأة النحو والعروض في الإسلام، فقال: "فإنا لم نزعم أن العرب كلها -مدرًا ووبرًا- قد عرفوا

_ 1 الفهرست "69 وما بعدها"، "المقالة الثانية"، القِفْطِي، إنباه الرواة "1/ 342"، 2 الفهرست "70". 3 السيوطي، بغية "243"، ياقوت، إرشاد "4/ 181"، ابن الأنباري، نزهة "55". 4 نزهة الألباء، لابن الأنباري "29"، "بغداد 1959م". 5 نزهة الألباء "29 وما بعدها"، "بغداد 1959م". 6 المحاسن والأضداد "50"، الشعر والشعراء "1/ 16"، "2/ 630". 7 الشعر والشعراء "1/ 16".

الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم: فما كل يعرف الكتابة والخط والقراءة، وأبو حية كان أمس، وقد كان قبله بالزمن الأطول من يعرف الكتابة ويخط ويقرأ، وكان في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كاتبون". "أفيكون جهل أبي حية بالكتابة حجة على هؤلاء الأئمة؟ والذي نقوله في الحروف، هو قولنا في الإعراب والعروض. والدليل على صحة هذا وأن القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة التي أولها: شاقتك أظعان للي ... ى دون ناظرة بواكر فنجد قوافيها كلها عند الترنم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقًا من غير قصد لا يكاد يكون. فإن قال قائل: فقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول إن هذين العلمين قد كانا قديمًا، وأتت عليهما الأيام، وقلَّا في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان، وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب. وأما العروض فمن الدليل على أنه كان متعارفًا معلومًا اتفاق أهل العلم على أن المشركين لما سمعوا القرآن قالوا -أو من قال منهم- إنه شعر. فقال الوليد بن المغيرة منكرًا عليهم، لقد عرضت ما يقرأه محمد على أقراء الشعر: هزجه ورجزه وكذا وكذا، فلم أره يشبه شيئًا من ذلك. أفيقول الوليد هذا وهو لا يعرف بحور الشعر؟ وقد زعم ناس أن علومًا كانت في القرون الأوائل والزمن المتقادم، وأنها درست وجددت منذ زمان قريب، وترجمت وأصبحت منقولة من لغة إلى لغة. وليس ما قالوا ببعيد"1. "ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء والهمز والمد والقصر. فكتبوا ذوات

_ 1 الصاحبي "ص36 وما بعدها".

الياء بالياء، وذوات الواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنًا في مثل "الخبء" و"الدفء" و"الملء" فصار ذلك كله حجة، وحتى كره العلماء ترك أتباع المصحف من كره"1. فابن فارس إذن من الذين رأوا أن العرب الجاهليين كانوا على علم بالعربية وبعروض الشعر، قبل أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي. وأن فضل الرجلين على العلم، إنما هو في جمع علم الأوائل وتثبيته وتدوينه، وهو فضل لا ينتقصه عليهما منتقص. وهو استنتاج يتفق مع قواعد المنطق تمام الاتفاق. لأن من غير المعقول أن يضع إنسان قواعد لغة أو قواعد شعر، من غير أن يكون له علم سابق بأنواع الكلام وباختلاف الإقراء وبالأسس اللغوية والنحوية التي لا بد من تعلمها حتى يتمكن المرء من بناء قواعد أساسية عليها ومن حصر دائرة العلم والإحاطة بأغصان شجرة ذلك العلم، ويكاد يكون من المستحيل وضع قواعد العربية، أو علم العروض على النحو الذي يعرضه علينا علماء اللغة والشعر، من رجل لا علم مسبق له بقواعد اللغة وبأمور الشعر. وفي خبر أن رسول الله دخل المسجد فرأى رجلا يحدث الناس بأنساب العرب وأيامها وبالأشعار، والعربية، فقال رسول الله: "ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه، وإنما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة وما خلاها فهو فضل"2. والأمور المذكورة هي مما كان يتحدث به أهل العلم والثقافة من الجاهليين. والشعر في طليعة تلك الموضوعات، ولا يراد به إنشاده فقط، بل كانوا ينشدونه ويذكرون المناسبات المتعلقة به ومزاياه وعيوبه، ولا أعتقد أن المراد بالعربية مجرد تفسير المفردات، بل كل ما يخصها من أمور. وفي جملة ذلك أخطاء القول، وقواعد العرب في القول. ويذكر أهل الأخبار أن الذي حمل الخليل على وضع العروض، هو أنه مر بسوق الصفارين أو بحارة القصارين، فسمع الدق بأصوات مختلفة، فأعجبه، وقال: والله لأضعن على هذا المعنى علمًا غامضًا، فصنع هذا العروض على حدود

_ 1 الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها "38 وما بعدها". 2 الكليني "12".

الشعر وجعل بحورها ستة عشر بحرًا1. وهي قصة باردة من قصص أهل الأخبار، فقد كانوا يضعون مثل هذا القصص حين يسألون عن أمور، لا يكون لهم علم بها، وهل يعقل أخذ الخليل بحوره من دق مطارق الصفارين المزعجة، التي تخرش الأذن، وتبعد الإنسان عن التفكير، وتطير من الدماغ ما قد يكون فيه من علم. فالقصة من مخترعات أهل الأخبار وضعوها في إيجاد سبب لوضع هذا العلم، فربطوا بين دق مطارق الصفارين وبين تقطيع الشعر. ولا يعقل في نظري أن يكون الخليل قد وضع العروض من غير علم مسبق بأصول نظم الشعر عند أهل الجاهلية. إذ لا يمكن للحس المرهف وحده أن يبتكر العلم ابتكارًا من غير علم مسبق وقواعد سابقة وأصول مقررة معروفة. ولا يعقل أن يكون الخليل قد وضع الأسماء والمصطلحات والتعاريف بنفسه من غير رجوع إلى علم سبق للشعراء الجاهليين أن وضعوه، ومن رجوع إلى قواعد ومصطلحات سبق أن كانت مقررة، ففي أخبار أهل الأخبار أن أهل الجاهلية كان لهم علم بالشعر، كالذي ذكرته من مثل "حال الجريض دون القريض"، وما روي على لسان الوليد بن المغيرة من قوله في اتهام قريش للرسول من أنه شاعر: "لقد عرفت الشعر ورجزه وهزجه وقريضه فما هو به"2. وما روي عن إسلام أبي ذر الغفاري ومن قول أخيه أنيس له: "لقيت رجلا على دينك يزعم أن الله أرسله" فلما سأله أبو ذر "فما يقول الناس؟ قال: "يقولون ساحر كاهن شاعر. وكان أنيس أحد الشعراء، فقال: والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلا يلتئم على لسان أحد، أي على طريق الشعر وبحوره"3. وقد ورد أن أهل يثرب كانوا يعرفون الإقواء والإكفاء في الشعر، وكانوا يعدونهما من عيوب الشعر4. وقد علمنا أن مصطلح الرجز والهزج والرمل والقصيد، وأمثال ذلك هي من مصطلحات أهل الجاهلية. ثم إن أكثر مصطلحات العروض هي مصطلحات كانت معروفة في الجاهلية، وقد أخذت

_ 1 نزهة الجليس "1/ 124". 2 اللسان "5/ 350". 3 الطبقات "4/ 220"، "صادر، تاج العروس "1/ 371"، "الكويت"، الفائق "1/ 518"، تاج العروس "1/ 103"، "قرأ"، الإصابة "1/ 88"، "رقم 289". 4 الموشح "59".

من حياتهم، فهي ليست بمصطلحات مبتكرة، حتى نقول إن الخليل أوجدها من عنده، وإن علم العروض علم مستحدث نتيجة لذلك، أوجده الخليل بملاحظاته وذكائه من دون علم سابق بأصول الشعر. وورد أيضًا، أن عتبة بن ربيعة لما مدح القرآن، لما تلاه رسول الله، قالت له قريش: هو شعر، قال: لا لأني عرضته على أقراء الشعر، فليس هو بشعر. أقراء الشعر: طرائقه وأنواعه1. وسئل الحطيئة عن زهير بن أبي سلمى، فقال: "ما رأيت مثله في تكفيه على أكتاف القوافي، وأخذه بأعنتها حيث شاء"2. وكلام مثل هذا لا يمكن أن يصدر إلا من رجال لهم علم بالشعر وبدروبه وبحوره وأنواعه. والذي أراه، أن شعراء الجاهلية كان لهم علم سابق بالشعر وضعوه قبل الإسلام، ولهم قواعد ورثوها من أسلافهم القدماء في كيفية نظم الشعر ببحور. كانوا يعرفون البحور، وربما كانوا قد وضعوا لها أسماء، على نحو ما يفعله شعراء الشعر العامي في هذا اليوم، وأكثرهم ممن لا يحسن الكتابة والقراءة، غير أنهم يعرفون طرق الشعر العامي ودروبه، سموها بأسماء، وعرفوها، ووضعوا لها أوزانًا وزنوا بها شعرهم، وحكموا بموجبها حكمهم على الشعر، فتراهم ينتقدون شاعرًا فيرفعون شعره، أو يذمونه، يزنون حكمهم بميزان علمهم المتوارث والمتعارف عليه عن الشعر. وقد وضع بعض المحدثين كتبًا في هذا الشعر، وفي ضبط دروبه وتسجيل قواعده. والذي فعله الخليل لا يخرج عن هذا العمل: حصر وسجل ما كان معروفًا بين الشعراء عن بحور الشعر وأبوابه وقواعده، ثم جمعه في كتاب فعد بعمله هذا مؤسس علم العروض. وإنما هو في الواقع جامع شتات هذا العلم ومسجل قواعد الشعر وبحوره. فهو بذلك أول من فعل هذا الفعل على ما أعلم. وهو عمل يشكر بالطبع عليه. والذي أعانه وساعده على هذا الحصر والجمع، هو وجوده في العراق، وكان أهل العراق يتدارسون النحو والشعر واللغة قبل الإسلام. كانوا قد نقلوا إلى

_ 1 اللسان "15/ 175"، "قرأ"، "أقراء الشعر: أنواعه وطرقه وبحوره"، تاج العروس "1/ 103"، "قرأ"، الفائق "1/ 518"، ابن سعد، طبقات "4/ 1 ص116 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "1/ 81".

السريانية -لغة الثقافة والعلم- علم اليونان باللغة والنحو والشعر، فساعدهم هذا النقل على تهذيب ما ورثوه من رجالهم من علم بهذه المعارف، وقاسوه بأقيسة ونظموه تنظيمًا علميًّا، وظلوا يتداولونه، فلما دخل منهم من دخل في الإسلام، أو احتك بالمسلمين، وكان عند العرب كلام في اللغة وفي الشعر، ولا سيما عند عرب العراق النصارى، فلا يستبعد عرض هؤلاء ما كان عندهم من علم اللغة والشعر إلى من كان له ميل لمثل هذه الدراسات، كأبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد، فصار هذا العرض سببًا لظهور الأسس في النحو وفي العروض. وقد أدرك ذلك العلماء، فقال الصفدي: "إن الشعر اليوناني له وزن مخصوص ولليونان عروض لبحور الشعر. والتفاعيل عندهم تسمى الأيدي والأرجل، قلت ولا يبعد أن يكون وصل إلى الخيل بن أحمد شيء من ذلك أعانه على إبراز العروض إلى الوجود"1. فهو من ثم "أول من استخرج علم العروض وحصر أشعار العرب فيها"2، ولكنه لم يكن مخترع هذا العلم وموجده من العدم. وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن عروض"Prosody أرسطو هو الذي علم الخليل طريقة وضع العروض واستنباط تفاعيل الشعر وبحوره3. ولابن خلِّكان رأي طريف في المنبع الذي استمد منه الخليل علم العروض، تراه يتحدث عنه فيقول: "وله معرفة بالإيقاع والنغم، وتلك المعرفة أحدثت له علم العروض، فإنهما متقاربان في المأخذ"4. وكان الخليل صاحب علم بالموسيقى، ومن بين كتبه "كتاب النغم"، فرجل ذو علم بالموسيقى، وبتقاطيعها وأوزانها، يكون له ميل إلى الشعر وأوزانه، خاصة وأن بين الشعر والغناء والموسيقى روابط قديمة. فقد "كانت العرب تغني النصب، وتمدّ أصواتها بالنشيد، وتزن الشعر بالغناء. فقال حسان: تغن بالشعر إما أنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار5

_ 1 نزهة الجليس "1/ 116". 2 نزهة الجليس "1/ 124". 3 Freytag, Darstellung d. Arabi, Verskunst, S. 18, William Lindsay Alexander, A Cyclopaedia of Biblical Literature, vol, I, p. 188. 4 ابن خلكان "1/ 216 وما بعدها". 5 المرزباني، الموشح "39".

وروي أن الخليفة عمر قال يومًا للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من غنائك. فأسمعه كلمة له، قال له: وإنك قائلها؟ قال: نعم. قال: لطالما غنيت بها خلف جِمَال الخطاب"1. فإذا كان العرب قد وزنوا الشعر بالغناء، فلا يستبعد أن يكون الخليل قد ألهم من فعل العرب هذا قبله. وقد ذكرت في الجزء الخامس من هذا الكتاب2، أنه قد كان للشعر علاقة كبيرة بالغناء، فالغناء هو التغني بالشعر، ولذلك قالوا: تغنى بالشعر، وفلان يتغنى بفلانة إذا صنع فيها شعرًا. وله علاقة بالحداء أيضًا. قال: حدا به، إذا عمل فيه شعرًا3. فالغناء نغم ووزن ويكون لذلك بكلام موزون. وهو الشعر الذي يناسب نغم الغناء. قال الجاحظ: "العرب تقطع الألحان الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في الوزن اللحن، فتضع موزونًا على غير موزون4. وقال ابن رشيق: "وزعم صاحب الموسيقى أن ألذ الملاذ كلها اللحن، ونحن نعلم أن الأوزان قواعد الألحان والأشعار معايير الأوتار لا محالة، مع أن صنعة صاحب الألحان واضعة من قدره، مستخدمة له، نازلة به مسقطة لمروءته. ورتبة الشاعر لا مهانة فيها عليه، بل تكسبه مهابة العلم، تكسوه جلالة الحكمة"5. ولا يستبعد تغني الشعراء الجاهليين بشعرهم، واستعمالهم آلات الموسيقى مثل الرباب لترافق غناهم بشعرهم، كما يفعل شعراء البادية في هذه الأيام. وقد ذكر أن الشاعر عروة بن أذينة، وهو من شعراء العصر الأموي "كان شاعرًا لبقًا في شعره، غزلا. وكان يصوغ الألحان والغناء على شعره في حداثته وينحلها المغنين"6. وكان من شعراء المدينة7.

_ 1 العقد الفريد "4/ 90". 2 "ص105 وما بعدها". 3 اللسان "15/ 135"، "غنى"، تاج العروس "10/ 272". 4 رسائل الجاحظ "2/ 158". 5 العمدة "1/ 26". 6 العقد الفريد "4/ 96". 7 الأغاني "31/ 105 وما بعدها"، الشعر والشعراء "2/ 483 وما بعدها"، المرتضى، أمالي "1/ 408 وما بعدها"، السمط "236"، درة الغواص "135"، المعارف "492".

ومن آيات علم الجاهليين بصناعة الشعر وبفنونه وحذقهم بأساليبه، استعمالهم بحور الشعر حسب المواقف والمناسبات واتخاذهم الإيقاع والنغم وجرس الألفاظ أساسًا في النظم ليكون الشعر مطابقًا للمناسبة التي سينظم لها. فللغناء بحور، وللقتال بحور تثير القلوب وتلهبها، وللسفر وزن، والمناسبات المؤلمة مثل الرثاء والتوجع وزن يناسبها، وكل ذلك ناتج عن طبع وتطبع وعلم بالمناسبة، وقد أشير على هذا الاستعمال في الأخبار. وهذه المناسبات هي التي خلقت تلك البحور. ومن آيات علم الجاهليين بالشعر، ما نقرأه في الأخبار عن علم أهل الجاهلية بطرائق الشعر وأبوابه وبعيوبه وضعفه، ومن أخذهم على الشعراء في أيام الجاهلية وقوعهم في الأخطاء، أو مخالفتهم لأصوله ونغمه وخروجه على ما هو متعارف عليه. وأمثال ذلك مما يدل على أن الشاعر وإن كان ينظم الشعر عن طبع وسليقة، وعن موهبة كامنة فيه، لكنه كان يراعي في نظمه قواعد موروثة معلومة، وأصولا محفوظة، على نحو ما نراه اليوم عند الشعراء الشعبيين، الذين ينظمون الشعر العامي "الشعر النَّبطي"، المقال باللهجات العامية، وفق قواعد مقررة عندهم معروفة، وأبواب مسماة عندهم موسومة، يحفظونها حفظًا، لأنها هي غير مدونة، ثم إن أكثرهم ممن لا يقرأ ولا يكتب. ومما يؤيد هذا الرأي ما جاء في "لسان العرب": "قال أبو الحسن الأخفش: النصب في القوافي، أن تسلم القافية من الفساد، وتكون تامة البناء، فإذا جاء ذلك في الشعر المجزوء، لم يسمَّ نصبًا، وإن كانت قافيته قد تمت، قال: سمعنا ذلك من العرب، قال: وليس هذا مما سمى الخليل، وإنما تؤخذ الأسماء عن العرب"1. فالأسماء والأصول أخذت من العرب، ومعنى هذا أنه قد كان للعرب علم سابق بأصول الشعر وبقواعده، وقد تمكن "الخليل" بذكائه وبتتبعه للعلوم من جمع تلك القواعد، في العروض ومن أخذ ما كان عند الشعراء والعارفين بفنونه من مصطلحات وعلم، فكوَّن من كل ذلك: العَرُوض. هذا وإن المعلوم أن "أرسطو" كان قد ألَّف كتابًا في الشعر وفي العروض "Prosody" وقد تطرق فيه إلى الوزن "Metre" أي وزن الأبيات والقصيدة، كما تلكم عن "التفعيلات"، وعن أنواع النظم، وقد درس كتابه علماء ذلك الوقت.

_ 1 اللسان "1/ 761"، "نصب".

ووقف عليه السريان قبل الإسلام، ونقل إلى العربية في الإسلام، قال "ابن النديم": "الكلام على أبوطيقا: ومعناه الشعر، نقله أبو بشر متى من السرياني إلى العربي، ونقله يحيى بن عدي"1. وتوجد ترجمة كتاب "الشعر" في العربية مطبوعة في هذا اليوم، وثبت أيضًا أن البابليين وغيرهم من أهل العراق، كانوا قد وضعوا قواعد في نظم الأشعار وفي تأليف أبياتها، وفي أصول نظمها، فلا استبعد وصولها إلى المتأخرين من العراقيين الذين عاشوا إلى أيام الإسلام، فوقف عليها الخليل، واستنبط منها فكرته في وضع العروض. والذي أراه أن للبت في منشأ علم العروض، لا بد من البحث عن المصطلحات العربية الجاهلية التي كانت شائعة عند العرب في الجاهلية وعند ظهور الإسلام، عن تكوين الشعر وأصول نظمه، ثم تتبع مصطلحات الشعر عند الساميين، مثل الكلدانيين والعبرانيين ومقارنة مسمياتها بالمسميات العربية المنسوبة إلى الخليل، لمعرفة صلتها بعضها ببعض. ومن دراسة البحور، وتفاعليها، وأصول نظمها، فقد ثبت أن لتلك الشعوب قواعد في نظم الشعر، راعاها الشعراء في نظمهم شعرهم2. ولفظة "بحر" و"البحور" المستعملة في العروض، هي من الألفاظ المعروفة عند الجاهليين. ورد في كتب اللغة أن الشاعر إذا اتسع في القول، قالوا استبحر3. ولما جاء الحارث بن معاذ بن عفراء على حسان بن ثابت؛ ليستحثه في هجاء النجاشي الذي هجا الأنصار، ألقى عليه حسان ثمانية أبيات، ثم توقف ومكث طويلا على الباب يقول: والله ما أبحرت4. وذكر أن أبا بكر كان يقدم النابغة على غيره من الشعراء، فلما سئل عن ذلك قال: "هو أحسنهم شعرًا، وأعذبهم بحرًا، وأبعدهم قعرًا"5. ومن هذا المعنى أخذ مصطلح "بحر" و"بحور الشعر" و"بحور العروض". وكان الجاهليون أصحاب علم إذن بطرق الشعر وببحوره وبمقاصده وإنحائه،

_ الفهرست "ص263 وما بعدها". 2 Otto Weber, Die Literatur der Babylonter und Assyrer, Leipzig, 1907, S. 35. 3 اللسان "4/ 44". 4 خزانة الأدب "4/ 55 وما بعدها"، ديوان حسان "131 وما بعدها". 5 العمدة "ص95، 136 وما بعدها".

وكانوا يطلقون على أنواع وعلى ما ذكرت "أقراء الشعر"1. وكانوا ينقحونه ويحكون به حتى يرضون عنه. ويقال للشعر الذي لم يُحْكم ولم يجود "شعر خشيب" و"شعر مخشوب"، عكس الشعر المنقح المجود. ورد على لسان "جندل بن المثنى" قوله: قد علم الراسخ في الشعر الأرب والشعراء أنني لا أختشب حسرى رذاياهم ولكن اقتضب2 والإقراء في الشعر طرائقه وأنواعه، واحدها قرو وقرى3. والإكْفاء أحد عيوب القافية الستة التي هي: الإيطاء، والتضمين، والإقواء، والإصراف، والإكفاء، والسِّناد. وقد عرفه العرب الفصحاء، بأنه الفساد في آخر البيت والاختلاف. وكانوا يقولون لمن يخالف بين حركات الروي: أكفأ أو أكفأ الشاعر. وقد كان النابغة يكفئ في شعره. وقد نبَّه إلى ذلك، فتجنب بعضه وهذَّبه4. والإقواء عيب آخر من عيوب الشعر. وللنابغة في هذا خبر. فلما دخل يثرب، وأنشد داليته المشهورة، عيب عليه فيها فلم يفهم موطن العيب فيه، وهو الإقواء، فلما غنته المغنية بالقصيدة مطلت واو الوصل، فأحس بالإقواء واعتذر منه وغيره فيما يقال إلى قوله: وبذاك تنعاب الغراب الأسود ثم قال: "دخلت يثرب وفي شعري صنعة، ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب"5. وكان بشر بن أبي خازم يقوي في شعره كذلك6. وذكر أن

_ 1 تاج العروس "1/ 371" "الكويت". 2 تاج العروس "2/ 354". 3 تاج العروس "10/ 293"، "قرو". 4 تاج العروس "1/ 396" "الكويت"، العمدة "1/ 164 وما بعدها"، الموشح "60". 5 اللسان "15/ 209 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 39، 190"، "دار الثقافة"، الموشح "59 وما بعدها". 6 الموشح "60".

أخاه قال له: إنك تقوي1. وبينما نرى أهل الأخبار يرمون النابغة بالوقوع في الإكْفاء وفي الإقواء، وبعدم إدراكه للإقواء مع تلميح الناس له، حتى دبَّر أهل يثرب حيلة، أظهرت إقواءه له، فعلمه، وخرج، وهو يقول: "دخلت وفي شعري صنعة، ثم خرجت منها وأنا أشعر العرب"، يذكرون أن أبا ذكوان، وهو من العلماء بالشعر يقول: "ما رأيت أعلم بالشعر منه. ثم قال: لو أراد كاتب بليغ أن ينشر من هذه المعاني ما نظمه النابغة ما جاء به إلا في أضعاف كلامه. وكان يفضل هذا الشعر على جميع أشعار الناس"2. والإقواء أن تختلف حركات الروي، فبعضه مرفوع وبعضه منصوب أو مجرور، وقيل نقصان الحرف من الفاصلة يعني من عروض البيت. وأقوى في الشعر، خالف بين قوافيه. وقيل هو رفع بيت وجر آخر. وذكر أن الإقواء كثير في كلام العرب، لكن ذلك في اجتماع الرفع مع الجر وأما الإقواء وإن كان عيبًا لاختلاف الصوت، فإنه قد كثر في كلامهم"3، وكان أبو عمرو بن العلاء يذكر أن الإقواء: هو اختلاف الإعراب في القوافي، وذلك أن تكون قافية مرفوعة، وأخرى مخفوضة. كقول النابغة: قالَت بَنو عامِرٍ خالوا بَني أَسَدٍ ... يا بُؤسَ لِلجَهلِ ضَرّارًا لِأَقوامِ وقال فيها: تبدو كواكبه والشمسُ طالعةٌ ... لا النور نور ولا الإظلام إظلامُ"4 "وبعض الناس يسمي هذا الإكْفاء: ويزعم أن الإقواء نقصان حرف من فاصلة البيت، كقول حجل بن نضلة، وكان أسر بنت عمرو بن كلثوم وركب بها المفاوز، واسمها النوار:

_ 1 الشعر والشعراء "146". 2 إنباه الرواة "3/ 10"، ديوان المعاني "1/ 17"، المصون "156"، بغية الوعاة "375". 3 تاج العروس "10/ 307"، "قوو". 4 الشعر والشعراء "1/ 39"، "دار الثقافة".

حنَّت نوار ولات هنا حنت ... وبدا الذي كانت نوار أجنَّت لما رأت ماء السلا مشروبًا ... والفرث يُعصرُ في الإناء أرنت سمي إقواء لأنه نقص من عروضه قوة". "وكان يستوي البيت بأن تقول: متشربًا"1. وقد تعرض المعري لموضوع الإقواء وأمثاله في رسالة الغفران، إذ يسأل امرأ القيس عنه، ثم يجيب على لسانه. يقول للشاعر: "كيف ينشد: جالَت لِتَصرَعَني فَقُلتُ لَها اِقصِري ... إِنّي امرُؤٌ صَرعي عَلَيكِ حَرام أتقول: حرامُ فتقوي؟ أم تقول: حرامِ فتخرجه مخرج حذامِ وقطامِ؟ وقد كان بعض علماء الدولة الثانية يجعلك لا يجوز الإقواء عليك. فيقول امرؤ القيس: لا نكرة عندنا في الإقواء"2. فهو يرى أن الإقواء لم يكن منكرًا عند أهل الجاهلية: وإنما عيب عليه في الإسلام. ومن مصطلحات علماء الشعر: "الإيطاء"، قال العلماء: أطأ كرر القافية لفظًا ومعنى مع الاتحاد في التعريف والتنكير، فإن اتفق اللفظ واختلف المعنى فليس بإيطاء، وكذا لو اختلفا تعريفًا وتنكيرًا. وقال بعضهم الإيطاء رد كلمة قد قفيت بها مرة نحو قافية على رجل وأخرى على رجل فهذا عيب عند العرب، لا يختلفون فيه، وقد يقولونه مع ذلك. ووجه استقباح العرب الإيطاء، أنه دال عندهم على قلة مادة الشاعر ونزارة ما عنده حتى اضطر إلى إعادة القافية الواحدة في القصيدة بلفظها ومعناها فيجري هذا عندهم مجرى العي والحصر، وأصله أن يطأ الإنسان في طريقه على أثر وطئ قبله فيعيد الوطء على ذلك الموضع، وكذلك إعادة القافية من هذا. وقال أبو عمرو بن العلاء: "الإيطاء ليس بعيب عند العرب، وهو إعادة القافية مرتين"، أما إذا كثر الإيطاء في قصيدة مرات فهو عيب عندهم3.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 39 وما بعدها". 2 رسالة الغفران "320". 3 اللسان "1/ 200"، "وطئ"، تاج العروس "1/ 135"، "وطئ"، الشعر والشعراء "1/ 41".

والمضمن من الشعر ما لا يتم معناه إلا في البيت الذي بعده. وقد اختلف العلماء فيه، فمنهم من عدَّه عيبًا، ومنهم من لم يعده عيبًا، ويراه مذهبًا أجازه العرب لسببين: السماع، والآخر القياس. أما السماع فلكثرة ما يرد عنهم من التضمين، وأما القياس فلأن العرب قد وضعت الشعر وضعًا دلت به على جواز التضمين عندهم، وحجة من قال بتقبيح التضمين أن كل بيت من القصيدة شعر قائم بنفسه فمن هنا قبح التضمين. وقد أوردوا للنابغة ولغيره من الشعراء أمثلة من التضمين1. وهو بهذا المعنى معروف عند غير العرب من الساميين والآريين، إذ إن الأبيات عندهم ترتبط معانيها بعضها ببعض، فلا يفهم معنى بيت إلا بالبيت الذي يليه. ولهذا تكون أبيات القطعة أو القصيدة مرتبطة بعضها ببعض، ولا سيما في أشعار الملاحم والغناء. والإصراف في الشعر، إذا أقوى فيه وخولف بين القافيتين2. وأما السِّناد، فاختلاف الأرداف. وقال "الأخفش" أما ما سمعت من العرب في السناد، فإنهم يجعلونه كل فساد في آخر الشعر ولا يحدون في ذلك شيئًا وهو عندهم عيب". وقد أشير إليه في قول الشاعر: فيه سناد وإقواء وتحريد3 ... وتحريد الشيء تعويجه وقيل: السناد: هو أن يختلف أرداف القوافي، كقولك علينا في قافية وفينا في أخرى4. وقد تحدث الجاحظ عن الأوتاد، والأسباب، والخرم والزحاف، فقال: "وكما وضع الخليل بن أحمد لأوزان القصيد وقصار الأرجاز ألقابًا لم تكن العرب تتعارف تلك الأعاريض بتلك الألقاب، وتلك الأوزان بتلك الأسماء، وكما ذكر الطويل، والبسيط، والمديد، والوافر، والكامل، وأشباه ذلك، وكما ذكر

_ 1 اللسان "13/ 258 وما بعدها"، "ضمن"، تاج العروس "9/ 265"، "ضمن"، العمدة "2/ 84"، "باب التضمين والإجازة". 2 اللسان "9/ 193". 3 اللسان "3/ 223". 4 الشعر والشعراء "1/ 40".

الأوتاد، والأسباب، والخرم، والزحاف. وقد ذكرت العرب في أشعارهم السناد، والإقواء، والإكفاء، ولم أسمع بالإيطاء. وقالوا في القصيد، والرجز، والسجع، والخطب، وذكروا حروف الروي والقوافي، وقالوا هذا بيت وهذا مصراع"1. وقد أباح علماء الشعر للشاعر ما لم يبيحوه للناثر من ضرورة دعوها: "ضرورة الشعر". وقد جاءوا بأمثلة على ذلك، اعتذروا عن بعضها، وأوجدوا لها مخارج في الإعراب، وعدوا بعضًا منها من "العيب في الإعراب"2، وورد: "الشعراء أمراء الكلام، يقصرون الممدود، ويمدون المقصور، ويقدمون ويؤخرون، ويومئون ويشيرون، ويختلسون ويعيرون ويستعيرون. فإما لحن في إعراب، أو إزالة كلمة عن نهج صواب فليس لهم ذلك"3. وقد تعرض بروكلمن لموضوع "العروض"، فقال: "وعلى الرغم من أنه لا تزال تعوزنا بحوث شاملة لفن العروض عند قدامى الشعراء، يمكن أن نقرر اليوم بحق أن هذا الفن كان يعتمد عندهم على قواعد ثابتة. نعم نجد في بعض قصائد الشعراء الأقدمين أبياتًا خارجة عن العروض الذي وضعه الخليل بن أحمد، وما وضعه سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط في كتابه العروض، كما في قصائد المرقش الأكبر، وعبيد، وعمرو بن قميئة، وامرئ القيس، وسلمى بن ربيعة. ويبدو أن هذه الظواهر آثار قليلة لمرحلة من النمو لم نقف على كنهها بعد. وبذل الشعراء المتأخرون محاولات للتخلص من قوانين العروض العربي ولكنهم قلما خرجوا عليه4. وقد تعرض الهمداني لموضوع الشعر العربي وقواعد العروض، وخروج الشعر على سلطة هذا العلم، فقال: "أنشدني سعيد بن أبحر الهمداني، وكان شاعرًا بدويًّا مطبوعًا:

_ 1 البيان والتبيين "1/ 139". 2 الشعر والشعراء "1/ 42 وما بعدها". 3 المزهر "2/ 471". 4 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 54".

يا سمع يا بصري لو جاءكم خبري ... لكان في عذر ناع على كور وفي بني عامر ناع على خاطرٍ ... وفي قرى صافر حزن وتثبير وكان للجاهلية الجهلاء مذهب في الشعر من الأزحاف وغيره ما يستنكره الناس اليوم كقول علقمة: ومنا الذي نودي بسبعة آلاف ... غلامًا صغيرًا ما يشد إزارا وكقوله: كأن به سيد حلاحل ... تصر من دونه الطروق وقول بعض حمير في أيام جديس، النصف الأول من رَوِي والنصف الآخر من روي، قصيدته: لله عينا من رأى حسان ... قتيلا في سالف الأحقاب ومن ذلك شعر مالك بن الحصيب اللعوي، وهو قديم في حلف ربيعة، وأوله: أنا مالك وأنا الذي جددت حلفا ... لكندة قبلنا قد كان سلفا الشعر، وفي وزنه زيادة حرفين"1. وقد يحسن العلماء في المستقبل بدراستهم لما ورد في مؤلفات الهمداني وغيره من شعر قديم ينسب إلى قدماء شعراء اليمن وإلى الشعراء اليمانيين والعرب الجنوبيين عامة الذين نظموا بأسلوبهم الخاص، لما في هذه الدراسة من فائدة كبيرة في إعادة بناء نظريات العلماء الحالية عن الشعر الجاهلي. وفي الدواوين وكتب الأدب أمثلة على أمور خرج فيها الشعر على قواعد العروض أو النحو. من ذلك قول امرئ القيس: كأن أبانًا في أفانين وَدْقه ... كبير أناس في بجاد مزمَّلُ

_ 1 الإكليل "2/ 49 وما بعدها".

فقد ضم اللام في نهاية البيت، وهي مكسورة في المعلقة جميعها1. ورووا أمورًا أخرى وقعت في شعره أيضًا2، وفي قصيدة "عبيد بن الأبرص": أقفر من أهله ملحوبُ ... فالقطبيات فالذنوبُ فهي من مخلع البسيط، قلما يخلو بيت منها من حذف في بعض تفاعيله أو زيادة3. وفي قصيدة المرقش الأكبر: هل بالديار أن تجيب صمم ... لو كان رسم ناطقًا كلمْ فهي من السريع، وقد خرجت شطور أبياتها على هذا الوزن، كالشطر الثاني من هذا البيت: ما ذنبنا في أن غزا ملك ... من آل جفنة حازم مرغم فإنه من الكامل4. ورووا اضطرابًا وقع في شعر عدي بن زيد العبادي، على النحو المذكور، خرج فيه من السريع إلى وزن المديد5، وفي شعر غيره كذلك مثل نونية سلمى بن ربيعة: إن شواء ونشوة ... وخبب البازل الأمون فهي خارجة عن عروض الخليل6. ورووا وقوع مثل ذلك في قصيدة عدي بن زيد العبادي: تعرف أمس من لميس الطلل ... من الكتاب الدارس الأحول

_ 1 دكتور شوقي ضيف: العصر الجاهلي "185". 2 راجع قصيدته: عيناك دمعهما سجال كأن شأنيهما أوشال ديوان 189، العصر الجاهلي "184". 3 العصر الجاهلي "184". 4 المصدر نفسه. 5 كذلك. 6 كذلك "ص185".

فهي من وزن السريع، وخرجت بعض شطورها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذا البيت: أنعم صباحًا علقم بن عدي ... أثويت اليوم أم ترحلْ فإنه من وزن المديد1. وتستحق هذه الأمور وأمثالها أن تكون موضع دراسة خاصة، لما لها من أهمية في تكوين رأي علمي دقيق عن تطور العرض في الجاهلية. ولا يعقل في نظري أن يكون الشعر الجاهلي قد كان بغفلة عن تلك الأمور التي عدها الإسلاميون من مواطن الاضطراب والخروج عن القواعد وإذا قسنا هذا الخروج في الوزن على مقاييس وزن الشعر عند الساميين، نرى أنه لم يكن خروجًا، لعدم تقيد ذلك الشعر بالوزن في كل القطعة أو القصيدة، وإنما كانوا يتقيدون بوزن البيت فالقطعة أو القصيدة عندهم منسجمة ذات نغم ووزن وإن تكونت من بحر أو من جملة بحور، وربما كان هذا شأن القصيدة عند الجاهليين كذلك. ثم إنه في هذه الاضطرابات دلالة على أن في العروض الجاهلي ما فات أمره عن علم الخليل، وأن العروض الإسلامي لا يمثل كل عروض الشعر الجاهلي. وللخليل كتاب في العروض، اسمه "كتاب العروض" لا أعرف من أمره شيئًا، وهو أول كتاب ألف في هذا الباب، وحمل هذا الاسم، على ما أعلم، وله كتاب اسمه: "كتاب النغم"، وكتاب آخر اسمه "كتاب الإيقاع"، وكتاب اسمه: "كتاب الشواهد"، وكتاب اسمه "كتاب النقط والشكل"، وكتاب باسم "كتاب فائت العين"2. ولأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش "215هـ"، "221هـ"، وهو أحد أصحاب سيبويه، كتاب في العروض، اسمه: "كتاب العروض"3.

_ 1 شوقي ضيف، العصر الجاهلي "185". 2 الفهرست "71". 3 الفهرست "84".

وعرف الخليل بسعة علمه باللغة، وإليه ينسب وضع أول معجم في اللغة العربية، هو كتاب "العين". وقد نظمت حروفه على ما يخرج من الحلق واللهوات1. وهو ترتيب يرى بعض المستشرقين احتمال أخذ الخليل له من ترتيب الأبجدية السنسكريتية وذلك عن طريق "خراسان" التي لها صلة وثيقة بثقافة الهند2. وقد نسب بعض العلماء كتاب العين إلى غيره، نسب إلى الليث بن نصر بن سيار الخراساني، ومنهم من زعم أن الخليل عمل قطعة من كتاب العين من أوله إلى حرف الغين وكمله الليث ولهذا لا يشبه أوله آخره3. وقد كان للهنود حب شديد للشعر، وقد نظمت كتبهم الدينية شعرًا، وقد أدرك البيروني الواسع الاطلاع بأحوال الهند هذا الحب الشديد له، فقال: "أكثر الهنود يهترون لمنظومهم ويحرصون على قراءته، وإن لم يعرفوا معناه، ويفرقعون أصابعهم فرحًا به، واستجادة له، ولا يرغبون في المنثور وإن سهلت معرفته". وقد كانوا يزنون شعرهم بميزان، فـ"عملوا من التفعيلات قوالب لأبنية الشعر، وأرقامًا للمتحرك منها والساكن، يعبرون بها عن الموزون، فكذلك سمى الهند لما تركب من الخفيف والثقيل" أسماء يشيرون بها إلى الوزن المفروض4. فإذا كانت للهنود تفعيلات وزنوا بها شعرهم، وهي أقدم عهدًا من تفعيلات الخليل، أفلا يجوز أن يكون الخليل قد اقتبس تفعيلاته من تلك التفعيلات، وبين الهندي و "الإبلة" التي حلت البصرة محلها في الإسلام اتصال جد قديم، وقد كان بين سكانها عدد كبير جاءوا قبل الإسلام من الهند. وحيث إن العلماء ينصُّون على أن الخليل، هو موجد البحور المعروفة في العروض، وهو وازنها، وحيث إن أساس المعايير التي قيست بها الأبيات، للوقوف على البحور هي "فعل" فيجب أن تكون هذه التسمية من ابتكاراته إذن. ولم أجد أحدًا وضح كيف اهتدى الخليل إلى إيجاد هذا المعيار، ولِمَ

_ 1 الفهرست "70 وما بعدها". 2 John A. Haywood, Arabic Lexicography, p. 8.. 3 القِفْطِي، إنباه الرواة "1/ 343"، المزهر "1/ 76". 4 البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة "66".

سماه بهذه التسمية، إن من المستحسن في نظري الاهتمام بهذا الموضوع، ودراسة موازين الشعر عند الهنود، لمعرفة أسماء معايير الشعر عندهم، للوقوف عليها، فقد تكون لهذه التفعيلات صلة بتفعيلات شعر الهنود. ويلاحظ أن ابن جني، كنى بالتفعيل عن تقطيع البيت الشعري، لأنه إنما نزنه بأجزاء مادتها كلها "فعل"1.

_ 1 تاج العروس "8/ 65"، "فعل".

الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة

الفصل الخمسون بعد المئة: البصرة والكوفة ... الفَصْلُ الخمْسونَ بَعْدَ المائةِ: البَصْرَةُ والكُوفَةُ لا بد لنا من التعرض لأثر البصرة والكوفة في عمل القواعد وفي وراية الشعر الجاهلي، إن أردنا فهم هذا الشعر وكيف جمع ودوِّن، وكيف نحل المنحول منه، فقد كان للمدينتين الأثر الأكبر في جمع هذا الشعر وفي تدوينه ونحله. ولا بد من التحدث أولا عن أثر العصبية القبلية في هاتين المدينتين. فقد بنيتا على أساس هذه العصبية. فلما بنيت الكوفة، جعلت قسمين: قسم لليمن، وقسم لنزار، وكانت الأغلبية لليمن. ووزعت المحلات والسكك حسب القبائل1، وكذلك كان الأمر بالبصرة حين شرع ببنائها، فقد روعي في بنائها، توزيع أحيائها على حسب النسب والقبائل2، فكانت عصبية الحي للعشيرة أولا، وللقبيلة ثانيًا، ثم للمدينة ثالثًا. وهكذا غرست بذور العصبية في أرض المدينتين، منذ شرع بوضع أساس التأسيس. وتجمعت العصبية القبلية في العصبية للمدينة، فتعصب عرب الكوفة ومواليها للكوفة، وتعصب عرب البصرة ومواليها للبصرة، "يفخر كل منهما بطبيعة الأرض وموقعها الجغرافي، ويفخر كل بما كان على يده من فتوح البلدان، ويفخر كل ممن نزل عندهم من صحابة رسول الله، ويعير كل الآخر بما نبت عنده من

_ 1 البلاذري، فتوح البلدان "274"، "تمصير الكوفة"، "طبعة رضوان محمد رضوان". 2 البلاذري "341"، "تمصير البصرة".

دعاة للضلالة، وأخيرًا كانوا يتفاخرون بالعلم. وظهرت هذه المفاخرات العلمية والمناظرات وتعصب كل مدينة لعلمائها، ظهورًا بينًا في كثير من فروع العلم، فالبصريون والكوفيون في المذاهب الدينية وعلم الكلام، والبصريون والكوفيون في الأدب؛ يقول أعشى همدان: اكسع البصري إن لاقيته ... إنما يكسع من قلّ وذلّ واجعل الكوفي في الخيلِ ولا ... تجعل البصريَّ إلا في النفل وإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكم يوم الجمل بين شيخ خاضبٍ عثنونه ... وفتى أبيص وضاح رفل جاءنا يخطر في سابغة ... فذبحناه ضحى ذبح الحمل وعفونا فنسيتم عفونا ... وكفرتم نعمة الله الأَجَل"1 والكوفة بظاهر الحيرة. المدينة التي كان يقصدها الشعراء والتجار، وفيهم تجار مكة وأشرافها، مثل عبد الله بن جدعان، وأبو سفيان. ومنه انتقل الخط إلى مكة، على حد قول أهل الأخبار، ومنها انتقلت النسطورية إلى العرب النساطرة، وقد اشتهرت برجال برزوا فيها في العلوم الدينية النصرانية وبالعلوم اللسانية في لغة بني إرم، وبكنائسها وبأديرتها التي كانت تعلم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة، وتهيئ الطلاب للتبحر في علوم الدين وفي العلوم الدنيوية المعروفة في ذلك الوقت، ولما أُنشئت الكوفة انتقلت إليها بأبنيتها وأناسها، فقد هدمت منازلها ونقلت حجارتها إلى الكوفة، لتبني بيوتها بها، وانتقل أهلها إلى الكوفة، لأنها أخذت مكانها في الحكم، وصارت مقر الولاة، فشايع أهلها أهل الكوفة في السكن وفي الالتفاف حول قصر الوالي، وانتقل ما كان قد تبقى من بقية علم من الحيرة إلى الكوفة كذلك، وتجسم في هذا الذي نسميه بعلم أهل، أو بمدرسة الكوفة. وقد كان في أهل الحيرة قوم من النبط، أي من بني إرم أهل العراق، وقوم من الفرس، فتأثر لسان أهلها العرب بلسان النبط ولسان العجم، كما تأثروا بحياة الحضارة والاستقرار، فَلَانَ لسانهم وسهل منطقهم2؛ وثقل نطقهم بالعربية،

_ 1 فجر الإسلام "181"، البلدان، لابن الفقيه "163 وما بعدها". 2 ابن سلام، طبقات "31".

فلم يعد ينطق لسانهم نطق الأعراب من حيث الوضوح والإفصاح1. والذي عند علماء العربية أن في لسان الأعراب جفاء وشدة وغلظة، دخلت عليه من خشونة البادية ومن طباعها، فإذا خالط أهل البادية البلديين والأعاجم، لان جفاؤهم وسهل لسانهم، فيبتعد بذلك عن اللسان العربي القُحّ، ولهذا طلب علماء اللغة جفاة الأعراب وأهل الطبائع المتوقحة، وأخذوا عن القبائل التي بعدت عن أطراف الجزيرة، وبقيت في سرة البادية أو فاضت حواليها، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف2. أما البصرة، فأخذت مكانة "الأبلة" المدينة الشهيرة المعروفة باسم "أبولم" Ubulum في الكتابات الأكادية، وبـ Apologus "أبولوكس" في النصوص الكلاسيكية3، وهي أقرب إلى جزيرة العرب من الكوفة، ولها اتصال ببلاد الخليج وبالهند، فكانت سفن الهند وسيلان تأوي إليها، وسكن قوم من الهند بها، كما سكن بها قوم من الفرس، خالطوا العرب، ولعلي لا أخطئ إذا قلت إن شأن الموالي بالبصرة كان أقوى منه بالكوفة، لاتصال البصرة بالهند وببلاد فارس، وبعد الكوفة عنهما، وقد أثر هذا الاتصال في لسان عرب البصرة، مما أدى إلى ظهور اللحن في الكلام، وظهور أثر اللغات أهل الهند في لسان أهل "الأبلة" ثم البصرة، بسبب نزوح جاليات كبيرة من الهند إلى "الأبلة"، وذلك قبل الإسلام. وأما "بغداد" التي ظهرت بعد المدينتين بأمد، فقد أسسها أبو جعفر المنصور العباسي، فإنها كانت مدينة ملك، ولم تكن مدينة علم، وما فيها من العلم، فمجلوب للخلفاء وأتباعهم، "قال أبو حاتم: أهل بغداد حشو عسكر الخليفة، لم يكن بها من يوثق به في كلام العرب، ولا من ترتضى روايته، فإن أدعى أحد منهم شيئًا رأيته مخلطًا صاحب تطويل وكثرة كلام ومكابرة"4. وللأصمعي كلام يستهزئ به على علم أهل بغداد. قال "خرجت إلى بغداد وما فيها أحد

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 150"، "وكان عدي بن زيد يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه". 2 الرافعي "1/ 343". 3 كتابي هذا، الجزء الثاني "ص20". 4 المزهر "2/ 414".

يحسن شيئًا من العلم، لقد جاءني قوم يسألوني عن الجعطرى، فأخبرتهم أنه المكتل. قالوا: وما المكتل؟ قلت: هو المعضل! قالوا: وما المعضل؟ وكان بقربي بقال ضخم، فقلت: هو مثل ذلك البقال! فرووا عني"1. ونجد المعري يتهم رواة بغداد بعدم الفهم في الشعر، ترى رأيه هذا فيهم في رسالة الغفران، حيث يسأل امرأ القيس: "يا أبا هند، إن رواة البغداديين ينشدون في قفا نبك، هذه الأبيات بزيادة الواو في أولها، أعني قولك: وكأن ذرى رأس المجيمر غدوة وكأن مكاكي الجواء وكأن السباع فيه غرقى فيقول: أبعد الله أولئك! لقد أساءوا الرواية. وإذا فعلوا ذلك فأي فرق يقع بين النظم والنثر؟ وإنما ذلك شيء فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنه المتأخرون أصلا في المنظوم، وهيهات هيهات"2. وأما المدن الأخرى، فلم تبلغ في العلم شأو البصرة والكوفة ثم بغداد. فلم يعترف أحد من علماء العربية بوجود إمام في العربية بدمشق أو يثرب أو مكة. وقد زعم الأصمعي، أنه أقام بالمدينة زمانًا ما رأى بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة، وكان بها عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب المعروف بابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكان شاعرًا وعلمه بالأخبار أكثر. وكان بها علي الملقب بالجمل، وضع كتابًا في النحو لم يكن شيئًا. "وأما مكة فكان بها رجل من الموالي، يقال له: ابن قسطنطين، شدا شيئًا من النحو، ووضع كتابًا لا يساوي شيئًا"3. وقد دفعت العصبية إلى المدن، أهل المدينتين على التحاسد والتفاخر والتنافر، فادعى أهل كل مدينة أنهم أرسخ علمًا من أهل المدينة الثانية، وأنهم أكثر إحاطة

_ 1 الرافعي "1/ 404". 2 رسالة الغفران "313 وما بعدها". 3 المزهر "2/ 413 وما بعدها".

به من خصومهم، ومن ثم صار أهل الكوفة يتمرءون بخصومهم، فينتقصونهم ويلصقون بعلمهم وبعلمائهم التهم، ويغمزون فيهم، وصار أهل البصرة يكيدون لأهل الكوفة وينتقصونهم، وكانوا "يرون أن أصحابهم لو ركبوا في نصاب رجل واحد ما بلغوا أن يعدلوا أضعف رجل في البصرة، وقد رموهم في باب الكذب بقمص الحناجر، والأخذ عن كل بر في الرواية وفاجر، وجعلهم من علماء الأسواق، وتلامذة الأوراق"1. ووجدت هذه المنافسة أرضًا صالحة في قصور الخلفاء والوزراء والأكابر ببغداد، حتى تحولت إلى مؤامرات ومهاترات، ابتعدت عن أدب العلم والعلماء، حتى نزلت أحيانًا إلى درك مهاترات العامة. وإلى التزوير، والاستعانة بالشهود الزور لتأييد عالم على عالم، كالذي وقع في المسألة الزنبورية في الخلاف الذي كان بين سيبويه والكسائي. وقد وقعت العصبية بين المدينتين حتى في قراءة القرآن ففضل أهل كل مدينة قارئ مدينتهم، واعتبروا قراءة صاحبهم أحسن القراءات، فأهل الكوفة يتعصبون لقراءة عبد الله بن مسعود ويرون أن مصحفه أصح المصاحف، وأهل البصرة يتعصبون لأبي موسى الأشعري، ويأخذون بقراءته وبلحنه، "وكأنما يسمون مصحفه لباب القلوب"2. والكوفيون يكتبون "والضحى" بالياء، وأهل البصرة يكتبونها بالألف3. وكانت أولية العربية بالبصرة، "لأن أبا الأسود الدؤلي قد نزل بها وأخذ عنه جماعة هناك، فكان كل أصحابه الذين شققوا العربية بعده بصريين، ثم انتقل النحو إلى الكوفة". ثم استفاض نحو الكوفيين، فنبغ فيه من سكنة الكوفة أبو جعفر الرؤاسي، ومعاذ الهراء، واضع التصريف، والكسائي، والفراء4. وذكر أنه لم يعلم أن أحدًا من علماء البصريين أخذ شيئًا من النحو واللغة عن أحد من أهل الكوفة، بينما أخذ الكوفيون عن أهل البصرة، وما من أساتذتهم أحد إلا وقد تلمذ لبصري5. وقد قدم ابن سلام أهل البصرة على غيرهم في

_ 1 الرافعي "1/ 429". 2 الرافعي "2/ 17". 3 المقتنع "35"، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "35". 4 الرافعي "1/ 430 وما بعدها". 5 الرافعي "1/ 432 وما بعدها".

العربية، قال: "وكان لأهل البصرة في العربية قدمة بالنحو وبلغات العرب والغريب عناية"1. وابن سلام نفسه من علماء البصرة، ومن المتعصبين لها على أهل الكوفة. وروي أن أبا الخطاب المعروف بالأخفش، وهو من علماء البصرة، كان أول من فسر الشعر تحت كل بيت، وما كان الناس يعرفون ذلك قبله، وإنما كانوا إذا فرغوا من القصيدة فسروها2، فلأهل البصرة قدمة على أهل الكوفة في هذا المضمار. ومن أهم ميزات أهل البصرة، هو استعمالهم القياس في النحو، فقد سبقوا به أهل الكوفة. أما أهل الكوفة، فقد أخذوا بالقياس في الفقه. فالقياس من أهم وسائل استنباط الأحكام الشرعية في فقه أبي حنيفة، وهو من علماء الكوفة. كان علماء البصرة يطبقون القياس على النحو واللغة، فما يسمعونه يقيسونه على ما جمعوه من قواعد استنبطوها من القرآن ومن الشعر ومن لغة العرب، ثم يحكمون حكمهم عليه. أما أهل الكوفة، فقد تحرروا منه، وكانوا على ما قيل عنهم، يأخذون بالشاذ والغريب، ولو خالف القياس. ومن هنا اتهموا بالضعف، وبعدم التروي في البحث والاستقصاء، وبالأخذ بالخبر من غير نقد ولا تمحيص. وهو اتهام، قد يكون للعاطفة يد فيه. وقد صار هذا القياس سببًا في إخضاع اللغة إلى حكم قواعد ثابتة اتفق عليها، استنبطت من الاستقراء، ومن تطبيق حكم القياس عليها، إلا أنه صار في الوقت نفسه سببًا في إهمال اللهجات المخالفة التي سماها العلماء لغات شاذة أو غريبة، وتركها لعدم استحقاقها في نظرهم شرف التسجيل والتثبيت، ولم يقدروا آنذاك أهميتها بالنسبة لمن يريد تتبع تأريخ لغات العرب وتطورها منذ الجاهلية إلى الإسلام. وكان لأهل البصرة ميزة قربهم من أعراب نجد والبوادي، فكانوا يأخذون منهم القواعد واللغة، أما أهل الكوفة، فقد اعتمدوا على أشباه الأعراب من المقيمين في أطراف البادية، وهم ممن رفض أهل البصرة الأخذ عنهم، لأنهم

_ 1 طبقات "5". 2 الْمُزْهِرُ "2/ 400".

مِمَّنْ خالط أهل الريف، وأقاموا على أطراف الحواضر1. كما أن قياس أهل البصرة في النحو، بني على قواعد بنوها هم وأقاموها، وفق دراساتهم، وأخذهم عن الأعراب من نثر وشعر، ولهذا سخروا من علم أهل الكوفة ومن علم علمائهم في النحو، وتتجلى سخريتهم في أشعار نظموها في أهل الكوفة وفي شيخهم "الكسائي". ترى استهزاء أهل البصرة بعلم وبقياس وبعلماء أهل الكوفة في مثل هذا الشعر: كنا نقيس النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأول فجاء أقوام يقيسونه ... على لغي أشياخ قطربل فكلهم يعمل في نقض ما ... به يصاب الحق لا يأتلي إن الكسائي وأشياعه ... يرقون في النحو إلى أسفل2 وتراه في شعر آخر، هو: وقل لمن يطلب علمًا ألا ... ناد بأعلى شرف ناد يا ضيعة النحو، به مغرب ... عنقاء أودت ذات إصعاد أفسده قوم وأزروا به ... من بين أغتام وأوغاد ذوي مراء وذوي لكنة ... لئام آباء وأجداد لهم قياس أحدثوه هم ... قياس سوء غير منقاد فهم من النحو، وإن عمروا ... أعمار عاد، في أبي جاد والكسائي، الذي طعن البصريون في علمه، وقدموا صاحبهم سيبويه عليه، ناظر خصمه بحضرة الرشيد أو في مجلس البرامكة على رواية، وغلبه بمؤامرة يقال إنها حكيت، للإيقاع به. وذلك في المسألة التي عرفت بـ"المسالة الزنبورية" في كتب العلماء3. وكان الكسائي قد أخذ النحو عن أبي جعفر الرؤاسي، وهو أول من وضع من الكوفييين كتابًا في النحو، وقيل إن كل ما في كتاب سيبويه: "وقال الكوفي كذا.." إنما عنى به الرؤاسي هذا، وكتابه يقال

_ 1 نزهة الألباء "108". بغية، للسيوطي "336"، إرشاد "7/ 290"، يوهان فك "62". 2 السيرافي، أخبار النحويين "23"، يوهان فك "62". 3 مجالس العلماء "8 وما بعدها"، السيوطي، الأشباء والنظائر "3/ 15".

له الفيصل، وكان له عم يقال له معاذ بن مسلم الهراء، وهو نحوي مشهور، وهو أول من وضع التصريف. وقد طعن رواة البصرة في علم الرؤاسي. قال أبو حاتم: "كان بالكوفة نحوي يقال له: أبو جعفر الرؤاسي، وهو مطروح العلم ليس بشيء، وأهل الكوفة يعظمون من شأنه، ويزعمون أن كثيرًا من علومهم وقراءتهم مأخوذ عنه"1. وسبقت الكوفة البصرة في رواية الشعر، وقد خاطب علي بن أبي طالب أهل الكوفة بقوله: "إذا تركتكم عدتم إلى مجالسكم حلقًا عِزِينَ، تضربون الأمثال، وتناشدون الأشعار"2، فالأمثال والشعر من أهم الموضوعات التي كان يتدرسها أهل الكوفة في أيام نشأتها الأولى، فهم على سنن الجاهليين في ضرب الأمثال ورواية الشعر. روي أن المفضل كان يروي للأسود بن يعفر ثلاثين ومائة قصيدة، وكان أهل الكوفة يروون له أكثر من غيرهم، ويتجوزون فيه أكثر من غيرهم3، وقد انفردوا برواية شعر امرئ القيس، خلا نتف أخذت من أبي عمرو بن العلاء وبعض الرواة الأعراب4. وروي أن "الشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بيِّنٌ في دواوينهم"5. وقد زعم أهل الكوفة، أن علمهم بالشعر القديم، إنما ورد إليهم من "الطنوج"، وهي الكراريس التي أمر النعمان بن المنذر بتدوين أشعار العرب عليها، وما مدح به هو وأهل بيته، ثم أمر بدفنها في القصر الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد، احتفرها، "فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة"6. وكان حماد الراوية رأس أهل الكوفة في رواية الشعر وتدوينه، فقد بلغ الغاية في العلم بشعر الجاهليين، يقابله فيه خلف الأحمر عند أهل البصرة، وكان خلف أول من أحدث السماع في البصرة، "وذلك أنه جاء إلى حماد الرواية فسمع

_ 1 المزهر "2/ 400". 2 الرافعي "1/ 382". 3 ابن سلام، طبقات "34". 4 الرافعي "1/ 432". 5 المزهر "2/ 407". 6 الخصائص، لابن جني "1/ 392".

منه الشعر، ثم تابعه البصريون فأخذوا عن حماد بعد ذلك، لانفراده بروايات من الشعر، فإنه هو الذي أخذ عنه كل شعر امرئ القيس، إلا شيئًا أخذوه عن أبي عمرو بن العلاء"1. وذكر أن الخثعمي، و"أبا البلاد" كانا من رواة أهل الكوفة في الشعر قبل "حماد، وكانا في خلافة عبد الملك بن مروان2. ونسب إلى بعض العلماء إضافتهم البيت أو الأبيات على ألسنة الشعراء، لتوجيه الحجة وتزيين الخبر، والاستشهاد على قاعدة نحوية أو صرفية. وذكر أن بعضًا منهم قد اعترف بذلك، وأقر الوضع3. وفي هذه الاعترافات المنسوبة إليهم، ما هو باطل مصنوع. صنعه عليهم حاسدهم ومنافسوهم في الصنعة، ورموه بين الناس على أنه إقرار من أولئك العلماء بالوضع، ولا يعقل صدور مثل هذه الاعترافات منهم، لشهرتهم ولمكانتهم بين الناس، ولخوفهم من السمعة السيئة، واشتهارهم بالكذب والانتحال. وليس معنى هذا أنهم لم يضعوا ولم يصنعوا شيئًا على الشعر الجاهلي، إنما أشك في صحة ما قيل على ألسنتهم من اعترافهم بالدس والوضع. وذكر أن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأن أهل الحجاز والبادية يقدمون زهيرًا والنابغة4. وقد كان من اللازم أن يتعصب أهل الكوفة لامرئ القيس، فقد روى أكثر شعره حماد ورواة آخرون من أهل الكوفة. وقد كان يونس بن حبيب، وهو من البصريين ومن المتعصبين لمدينته يقول: "يا عجبًا للناس، كيف يكتبون عن حماد وهو يصحف ويكذب ويلحن ويكسر"5. وقد اتهم الكوفيون بأنهم كانوا أكثر الناس وضعًا للأشعار التي يستشهد بها، "لضعف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولا يقاس عليها". "وأول من سنَّ لهم هذه الطريقة شيخهم الكسائي، قال ابن درستويه: كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلا ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك". و"قال الأندلسي في شرح المفصل: والكوفيون لو سمعوا

_ 1 الرافعي "1/ 423". 2 المصدر نفسه. 3 الرافعي "1/ 383 وما بعدها". 4 طبقات، ابن سلام "16". 5 رسائل الجاحظ "1/ 226"، "كتاب البغال".

بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلا وبوبوا عليه، بخلاف البصريين"1. واتهموا أنهم كانوا يصنعون الشاهد من الشعر فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كانت العرب على خلافهم، ولذلك تجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله، بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر2، وربما أخذوا من العرب المتحضرة، "ومن أجل هذا وأمثاله كان البصريون يغتمزون على الكوفيين فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز والكوامخ3. ومن الأعراب الذين أخذ الفراء -عالم الكوفة بعد الكسائي- عنهم اللغة، أبو الجراح، وأبو مروان، وأهل البصرة يمتنعون من الأخذ عن أمثال هؤلاء الأعراب، ولا يرون في قولهم حجة. وقال أبو حاتم: إذا فسرت حروف القرآن المختلف فيها، وحكيت عن العرب شيئًا، فإنما أحكيه عن الثقات منهم، مثل أبي زيد. والأصمعي، وأبي عبيدة ويونس وثقات من فصحاء الأعراب وحملة العلم، ولا التفت إلى رواية الكسائي، والأحمر والأموي، والفراء، ونحوهم"4. واتهموا بأنهم كانوا يكثرون من الشعر، يقولونه على ألسنة الشعراء، قال ابن سلام في أثناء حديثه عن الأسود بن يعفر الشاعر الجاهلي: "وذكر بعض أصحابنا أنه سمع المفضل يقول: له ثلاثون ومائة قصيدة، ونحن لا نعرف له ذلك ولا قريبًا منه. وقد علمت أن أهل الكوفة يروون له أكثر مما نروي، ويتجوزون في ذلك أكثر من تجوزنا"5. وكان الأسود، يكثر التنقل في العرب يجاورهم، فيذم ويحمد. وله في ذلك أشعار. له قصيدة جيدة، طويلة رائعة تعد من أول الشعر، وهي: نام الخلي فما أحس رقادي ... والهم محتضر لدي وسادي6

_ 1 الرافعي "1/ 370". 2 الرافعي "1/ 370 وما بعدها". 3 الرافعي "1/ 371". 4 المزهر "2/ 410"، 5 ابن سلام، طبقات "33 وما بعدها". 6 ابن سلام، طبقات "33".

ونسمع قصصًا عن تغليط علماء البصرة والكوفة بعضهم البعض، فنجد خلفًا الأحمر، وهو شيخ البصرة في الشعر، يذكر أنه أخذ على المفضل الضَّبِّي في يوم واحد تصحيف ثلاثة أبيات1. ونجد الأصمعي وهو من علماء البصرة كذلك، يحمل على علم الضبي في الشعر، ويرميه بعدم الفهم2. وتجد قصصًا روي عن علماء مشاهير مثل ثعلب وغيره، يحمل فيه أولئك العلماء بعضهم على بعض، وينتقص بعضهم على البعض الآخر3. ونحن إذا أردنا الوقوف موقفًا علميًّا، فلا نستطيع إلا أن نقول: إننا لا نستطيع تبرئة أهل الكوفة من الصنعة والوضع، كما لا نستطيع تبرئة أهل البصرة منهما، لأن في كل مدينة من المدينتين منافسات بين العلماء، وتزاحم على الرئاسة، وحسد يدفع الإنسان على الوضع والصنعة والأخذ بالخبر مهما كان شأنه لإقحام الخصوم، والتغلب عليهم. فإذا كان حماد عالم الكوفة في الشعر من الوضاعين، وكان يصحف ويكذب ويلحن ويكسر4، فقد كان خلف الأحمر وهو عالم البصرة، مثله في الصنعة والوضع والكذب. وكان "شوكر" وهو من أهل البصرة، ومن رجال المائة الثانية، ممن يضع الأخبار والأشعار، وفيه يقول خلف الأحمر: أحاديث ألفها شوكر ... وأخرى مؤلفة لابن دأب5 وقد نقح علماء الشعر من المدرستين والمدارس الأخرى ما أخذوه من الشعر الجاهلي، وأجروا على ما لا يتفق منه والقواعد التي ثبتوها للنحو وللعروض تهذيبًا وتشذيبًا، وعابوا منه أمورًا مثل الإقواء والزحاف، واختلال الوزن، وما شاكل ذلك. وقد تحدث عن ذلك المعري في رسالة الغفران، وهو شاعر ومن نقدة

_ 1 المصون "191 وما بعدها". 2 المصون "192 وما بعدها". 3 المزهر "1/ 202 وما بعدها". 4 رسائل الجاحظ "1/ 226"، "كتاب البغال". 5 لسان الميزان "3/ 158"، "4/ 409"، رسائل الجاحظ "1/ 225"، "كتاب البغال".

الشعر، في أحاديثه التي وضعها على ألسنة الشعراء في الجنة أو في النار، وفي أسئلته التي وجهها إليهم، أو وجهها غيره إليهم. كما في استفساره من امرئ القيس عن رواة أهل بغداد في إنشادهم أبياتًا من قصيدته: "قفا نبك" بزيادة الواو في أولها، فوضع الجواب على لسانه، بقوله: "باعد الله أولئك! لقد أساءوا الرواية. وإذا فعلوا ذلك فأي فرق يقع بين النظم والنثر؟ وإنما ذلك شيء فعله من لا غريزة له في معرفة وزن القريض، فظنه المتأخرون أصلا في المنظوم، وهيهات هيهات! "1. ثم يقول: "لو شرحت لك ما قال النحويون في ذلك لعجبت"2. ونرى المعري يوجه أسئلة إلى امرئ القيس، فيقول له: "أخبرني عن كلمتك "الصادية"، و"الضادية"، و"النونية" التي أولها: لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عسيب يمان لقد جئت فيها بأشياء ينكرها السمع، كقولك: فإن أمس مكروبًا فيا ربَّ غارةٍ ... شهدت على أقب رخو اللبانِ وكذلك قولك في الكلمة الصادية: على نقنق هيقٍ له ولعرسه ... بمنقطع الوعساء بيض رصيص وقولك: فأسقى به أختي ضعيفة إذ نأت ... وإذ بَعُدَ المزدارُ غير القريضِ في أشباه لذلك، هل كانت غرائزكم لا تحس بهذه الزيادة؟ أم كنتم مطبوعين على إتيان مغامض الكلام وأنتم عالمون عما يقع فيه؟ كما أنه لا ريب أن زهيرًا كان يعرف مكان الزحاف في قوله:

_ 1 رسالة الغفران "313 وما بعدها". 2 رسالة الغفران "314".

يطلب شأو َامرأين قدّما حسبًا ... نالا الملوك، وبذَّا هذه السوقا فإن الغرائز تحس بهذه المواضع"1. ثم يجيب المعري على لسان امرئ القيس بقوله: "أدركنا الأولين من العرب لا يحفلون بمجيء ذلك، ولا أدري ما شجن عنه "فأما أنا وطبقتي فكنا نمر في البيت حتى نأتي إلى آخره، فإذا فنى وقارب، تبين أمره للسامع"2. ثم نراه يسأل امرئ القيس عن قوله: ألا رب يوم لك منهن صالحٍ ... ولا سيما يوم بدارة جلجل أتنشده: لك منهن صالح؟ أم تنشده على الرواية الأخرى. فيجيب على لسانه بقوله: "أما أنا فما قلت في الجاهلية إلا بزحاف: لك منهن صالح وأما المعلمون في الإسلام، فغيروه على حسب ما يريدون"3. وقد سأله المعري عن الشعر المسمط المنسوب إليه، فأنكر على لسانه أن يكون قد سمع به قط، قائلا "وإنه لقرى لم أسلكه، وإن الكذب لكثير، وأحسب هذا لبعض شعراء الإسلام، ولقد ظلمني وأساء إلي"4. ولما سأله عن الإقواء في شعره، قائلا له: "وقد كان بعض علماء الدولة الثانية يجعلك لا يجوز الإقواء عليك"، أجاب على لسانه: "لا نكرة عندنا في الإقواء"5. وقد كان من أصعب الأشياء على بعض رجال المدرستين ألا يجيبوا على أسئلة توجه إليهم إجابة تفيد بوجود علم لهم عنها، ولهذا كانوا يعمدون إلى الصنعة والافتعال. نجد ذلك عند أهل الأخبار، وعلى رأسهم ابن الكلبي، كما نجد ذلك عند رواة الشعر مثل حماد الراوية، وخلف الأحمر، كما نجد عند علماء

_ 1 رسالة الغفران "315 وما بعدها". 2 رسالة الغفران "317". 3 رسالة الغفران "317 وما بعدها". 4 رسالة الغفران "319". 5 رسالة الغفران "320".

اللغة. وقد أشرت في صفحات هذا الكتاب إلى أمثلة عديدة من هذا القبيل، اضطر فيها المجيب على افتعال جواب وصنعه، ليظهر نفسه بمظهر العارف بكل شيء. ويجب الانتباه إلى أن علماء البصرة أو الكوفة أو غيرهم، مهما سموا في العلم وارتفعوا، فإنهم بشر، لم يرزقوا العصمة، وهم في التأثر والانفعال مثل أي كائن حي، فقد يتأثر عالم من عالم متقدم عليه، فيحاول الغمز في علمه أو الطعن به. قال علي بن العباس: "رآني البحتري ومعي دفتر، فقال: ما هذا؟ فقلت شعر الشنفرى. قال: وإلى أين تمضي؟ قلت أقرأه على أبي العباس أحمد بن يحيى. قال: رأيت أبا عباسكم هذا منذ أيام، فلم أرَ له علمًا بالشعر مرضيًا، ولا نقدًا له، ورأيته ينشد أبياتًا صالحة ويعيدها، إلا أنها لا تستوجب الترديد والإعجاب فيها"1. وروى أحمد بن يحيى ثعلب، خبر مناظرات وقعت بين أبي عمرو الشيباني، والأصمعي، ترينا مبلغ التنافس الذي كان بين العالمين، واستهتار الأصمعي بخصمه، استهتارًا تجاوز الحد2. وقد حاول السيوطي إيجاد عذر لغمز العلماء بعضهم في بعض، بأن قال: "فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به من المصرين كثيرًا ما يهجن بعضهم بعضًا، فلا يترك له في ذلك سماء ولا أرضًا؟ قيل: هذا أدل دليل على كرم هذا الأمر ونزاهة هذا العلم، ألا ترى أنه إذا سبق إلى أحدهم ظنة، أو توجهت نحوه شبهة سبَّ بها، وبرئ إلى الله منه لمكانها، ولعل أكثر ما يرمى بسقطة في رواية، أو غمزة في حكاية، محمي جانب الصدق فيها، برئ عند الله من تَبِعَتها؛ لكن أخذت عنه إما لاعتناق شبهة عرضت له، أو لمن أخذ عنه، وإما لأن ثالبه ومتعيبه مقصر عن مغزاة، مغموض الطرف دون مداه، وقد عرض الشبهة للفريقين، ويعترض على كلا الطريقين" ثم أخذ يعتذر عن ذلك، بأنه وقع في سبيل العلم والحق، ثم قال: "وإذا كانت هذه المناقضات والمنافسات موجودة بين السلف القدي ... جاز مثل ذلك أيضًا في علم العرب"3.

_ 1 المصون "4". 2 المصون "193 وما بعد". 3 المزهر "2/ 416 وما بعدها".

ومن هنا يجب الاحتراس كثيرًا حين قراءتنا الطعون التي ترد على ألسنة العلماء يطعن فيها بعضهم ببعض، فأكثر هذا المروي عنهم، صادر عن طبيعة بشرية، تظهر بين الزعماء نتيجة التنافس الذي يقع بينهم على الزعامة والصدارة، ولو في زعامة العلم. ولا تقتصر هذه الطعون والمغامز على طعن علماء البصرة بعلماء أهل الكوفة، أو العكس، بل نجدها بين علماء المدينة الواحدة أيضًا، لأن الموضوع موضوع زعامة ورئاسة، والتحاسد بين المتحاسدين لا ينحصر بقوم دون قوم، وقد يقع بين الإخوة الأشقاء.

الفصل الحادي والخمسون بعد المئة: العصبية والشعر

الفصل الحادي والخمسون بعد المئة: العصبية والشعر مدخل ... الفَصْلُ الْحَادِي والخمسونَ بَعْدَ المائةِ: العَصَبِيَّةُ والشِّعْرُ رأيت أن أهل الكوفة كانوا يفضلون بعض الشعراء الجاهليين على غيرهم وأن أهل البصرة كانوا يرجحون غيرهم عليهم، فلا يرون التقدمة لمن اختارهم أهل الكوفة، ورأيت أن أهل الحجاز يقدمون شعراء آخرين على الشعراء الذين قدمهم أهل الكوفة أو أهل البصرة. وموضوع من هو أشعر شعراء أهل الجاهلية، موضوع تضاربت فيه الآراء كثيرًا، وكثرت فيه الأقوال، لما له من تماس بروح العصبية، والعصبية إذا دخلت قضية أفسدتها. ثم إنه قائم على أحكام الأذواق، وأذواق الناس في الشعر وفي الذوق والتذوق متفاوتة متباينة، ثم هو لا يستند إلى أسس مقررة تعود إلى أيام الجاهلية، كنقد علمي ودراسة عامة شاملة قام بها الجاهليون في أيامهم، وإنما مرجعه أقوال قيل إنها صدرت من خبراء الشعر وعلمائه، لا أدري مقدار ما فيها من صدق أو كذب. وكل ما أستطيع أن أقوله: إنها آراء دونت في الإسلام، وهي مرسلة، محمولة على المبالغة في الاستحسان لقصيدة أو لقطعة أو لبيت، بل ولنصف بيت أحيانًا، وهي تمثل تذواقًا شخصيًّا، لحالة من الحالات، لا لغالب شعر الشاعر وعامة ما روي عنه، ولما فيه من فن وإبداع، ثم إنك تجدها أحيانًا متناقضة متضاربة، تجد رواية تقول إن الشاعر الفلاني، أو عالم الشعر فلان قال: أشعر الناس فلانًا ثم تجد رواية ثانية تذكر أنه قدم شاعرًا آخر محله فجعله أشعر الشعراء، ثم لا تلبث أن تجد رواية ثالثة، تذكر

أنه اختار شاعرًا غيرهما، فجعله أشعر شعراء الجاهلية، وأشعر الناس، فتحتار في أمر هذا التناقض، كيف وقع، وكيف حدث والحاكم رجل واحد؟ هل وقع هذا حقًّا، أو أنه كان من وضع المتعصبين للشعراء، أرادوا تقديم شاعر لهم على سائر الشعراء، فاحتاجوا إلى حجة وسند وإثبات، لإثبات دعواهم، وتأكيدها، فاختلقوا قولا نسبوه إلى عالم معروف وصنع قوم غيرهم مثل ما صنعوا، فاختلقوا قولا نسبوه إلى هذا العالم أيضًا، فمن ثم تعددت الأقوال وتصادمت، فليس للعماء إذن يد في هذا التناقض أو أي ذنب، وإنما الذنب هو ذنب المختلقين الذي دسوا دسهم على العلماء. وقد لا يكون للاختلاق يد في ظهور هذا التناقض، وإنما سببه، أن شخصًا يسأل عن شاعر، فيخطر بباله خاطر عن شعره، جعله يستعذبه أو يستعذب جزءًا منه، يراه أنه أحسن ما قيل من نحوه، فيرجحه على الجميع، ويحكم من هذه الناحية على أنه أشعر الناس، ثم يمضي وقت، ينسى فيه ما قال، فيسأله أشخاص: من أشعر الناس: فيتخطر خاطرًا، أو يحمله المجلس الذي كان يدور فيه الحديث إذ ذاك على خاطر، يحمله على الحكم بتفوق شاعر آخر، وهكذا ومن هنا كان سبب هذا التناقض والاختلاف في الرأي. وقد كان من السهل وقوع مثل هذا التناقض، لأن العلم كان بالمشافهة، ولم يكن عن تدوين وقراءة كتب، وكان بالذاكرة والتذكر، وكان حكمهم بنصف البيت وبالبيت وبالقطعة وبالقصيدة، أو بجملة قصائد، لا بمراجعة شعر كل شاعر، وبمقابلته بشعر الشعراء الآخرين، واستنباط ما في مجموع شعر كل شاعر من مزايا، للمقابلة بينهما، ثم الحكم للمتفوق الأجود، فذلك أمر لم يكن من الممكن حدوثه، لعدم وجود التدوين عندهم، ثم إنه لم يكن معروفًا عندهم، فلما وقع التدوين، وأخذ علماء الشعر في التنقير في كل جهة بحثًا عن الشعر وما قيل فيه، ظهر ذلك التناقض وبان، ودون كل ما أمكن تدوينه، بعد أن ضاع من الشعر ومن الآراء التي قيلت عنه ما ضاع، وكانت الخلاصة هذا الواصل إلينا. وقد أشار أهل الأخبار إلى ما كان للعصبية من أثرها في تفضيل الشعراء بعضهم على بعض: عصبية قبلية، وعصبية محلية، وعصبية منافسة وتراكض على الزعامة. فالقبائل تقدم شعراءها على شعراء غيرها وتجعل في أيديهم ألوية الشعر، وقيادة الشعراء في معارك القصيد، وأهل العصبية إلى عدنان، يقدمون شعر ربيعة وأولهم

المهلهل على غيره، ويرون أنه مفتق الشعر ومهلهله، وأول من قصد القصائد1، وأهل اليمن يرون تقدمة الشعر لليمن، يزعمون أنه بدأ في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت، وفي المولدين بالحسن بن هانئ، وأصحابه: مسلم بن الوليد، وأبي الشيص، ودعبل، وكلهم من اليمن، وفي الطبقة التي تليهم بالطائيين: حبيب، والبحتري، ويختمون الشعر بأبي الطيب، وهو خاتمة الشعراء لا محالة، ويرجعون نسبه إلى اليمن2. قال ابن رشيق في "العمدة": "والشعراء أكثر من أن يحاط بهم عددًا، ومنهم مشاهير قد طارت أسماؤهم، وسار شعرهم، وكثر ذكرهم، حتى غلبوا على سائر من كان في أزمانهم، ولكل أحد منهم طائفة تفضله وتتعصب له، وقل ما يجتمع على واحد، إلا ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في امرئ القيس: "أنه أشعر الشعراء ... "3. وكان علماء البصرة يقدمون امرأ القيس، أما أهل الكوفة فكانوا يقدمون الأعشى، وأما أهل الحجاز والبادية، فقدموا زهيرًا والنابغة. وكان أهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحدًا، كما أن أهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحدًا. وهذا ما أتت به الرواية عن يونس بن حبيب النحوي4. ولكنك إذا تتبعت وأحصيت ما قيل على ألسنة أهل البصرة أو الكوفة أو الحجاز من أقوال، ترى تناقضًا بين هذه الرواية وبين ما حصلت عليه من دراسة تلك الأقوال، تناقضًا ينبئك أن هذا المروي، هو وجهات نظر وآراء أشخاص، ولا يمثل إجماع أهل الكوفة، أو إجماع أهل البصرة ولا إجماع أهل الحجاز، أو إجماع أهل البادية، ثم هو كله آراء وردت في الإسلام، وإن حاولت إرجاع أصلها إلى الجاهلية. ويذكر من يقدم امرأ القيس على غيره، أن الرسول ذكره يومًا، فقال: "ذلك رجل مذكور في الدنيا، منسي في الآخرة، يجيء يوم القيامة وبيده

_ 1 العمدة "1/ 86 وما بعدها"، "باب تنقل الشعر في القبائل". 2 راجع رأي علماء الشعر في أصل نسب المتنبي، العمدة "1/ 89 وما بعدها". 3 العمدة "1/ 94"، المزهر "2/ 478". 4 ابن سلام، طبقات "16"، العمدة "1/ 98"، المزهر "2/ 482".

لواء الشعراء يقودهم إلى النار"1. أو أنه قال: "إنه أشعر الشعراء، وقائدهم إلى النار. يعني شعراء الجاهلية والمشركين"2. وروي أن عمر بن الخطاب كان يفضل امرأ القيس على غيره، ذكر أنه قال للعباس بن عبد المطلب، "وقد سأله عن الشعراء: امرؤ القيس سابقهم: خَسَفَ لهم عين الشعر، فافتقر عن معانٍ عور أصح بصر"3. "يريد أنه أول من فتق صناعة الشعر وفنَّن معانيها واحتذى الشعر على مثاله"4. وذكر أن علي بن أبي طالب كان يرى له التقدم على غيره، وذلك بقوله "رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة"5. فأنت ترى أن الرسول وعمر وعلي، قدَّما امرأ القيس على غيره، وهم من أهل الحجاز. ولكننا نجد في الوقت نفسه رواية تذكر أن ابن عباس قال: قال لي عمر: أنشدني لأشعر شعرائكم. قلت من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير، قلت: ولِمَ كان ذلك؟ قال: كان لا يعاضل بين الكلام، ولا يتتبَّع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه"6. فهو يفضل في هذه الرواية زهيرًا على غيره، بما فيهم امرئ القيس، إذ لم يشر إليه باستثناء. تم نجد رواية أخرى تذكر أن عمر بن الخطاب قال: أي شعرائكم يقول: ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب قالوا: النابغة. قال هو: أشعرهم"7. "وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يقدم النابغة، ويقول: هو أحسنهم شعرًا، وأعذبهم بحرًا، وأبعدهم قعرًا"8. فأبو بكر وعمر في هذا الموقف سواء، فَضَّلا النابغة على سائر الشعراء.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 93"، المزهر "2/ 478". 2 العمدة "1/ 94". 3 العمدة "1/ 94"، الفائق "1/ 343". 4 تاج العروس "3/ 475"، "فقر". 5 العمدة "1/ 41 وما بعدها، 94"، تاج العروس "7/ 412"، "ضلل". 6 طبقات ابن سلام "18"، العمدة "1/ 98"، الفائق "2/ 165"، الشعر والشعراء "1/ 76". 7 ابن سلام، طبقات "17"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 79 وما بعدها". 8 العمدة "1/ 95".

ولو استعرضنا رأي الشعراء في أشعر الشعراء، وجدناه غير متفق، فقد يفضل شاعرٌ شاعرًا، وقد يخالفه فيه شاعر آخر، وقد ينسب لشاعر رأي، ثم ينسب له رأي مخالف. سئل "لبيد": "من أشعر الناس؟ قال: الملك الضليل، قيل: ثم من؟ قال: الشاب القتيل، قيل: ثم من؟ قال: الشيخ أبو عقيل -يعني نفسه". و"روى الجمحي أن سائلا سأل الفرزدق: من أشعر الناس؟ قال: ذو القروح، قال: حين يقول ماذا؟ قال: حين يقول: وقاهم حدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب وأما دعبل فقدمه بقوله في وصف عقاب: ويلمَّها من هواء الجو طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب وهذا عنده أشعر بيت قالته العرب"2. وقد سئل الفرزدق مرة: "من أشعر العرب؟ فقال: بشر بن أبي خازم، قال: بماذا؟ قال: بقوله: ثوى في ملحدٍ لا بدَّ منه ... كفى بالموت نأيًا واغترابا ثم سئل جرير فقال: بشر بن أبي خازم قال: بماذا؟ قال بقوله رهينُ بِلَى، وكلُّ فتى سيبلى ... فَشُقِّي الجيب وانتحبي انتحابا فاتفقا على بشر بن أبي خازم كما ترى"3. وقد رأيت أن الفرزدق كان قد سئل السؤال نفسه: من أشعر الناس؟ فأجاب: ذو القروح، أي امرئ القيس. بسبب بيت فوَّقه به على غيره من الشعراء. بينما هو يقدم بشر بن أبي خازم في هذه الرواية. وينسب أهل الأخبار لجرير رواية أخرى تزعم أنه سئل من أشعر الناس، فقال: النابغة4. فخالفت هذه الرواية ما جاء في الرواية الأخرى.

_ 1 العمدة "1/ 95"، المزهر "2/ 479"، ابن سلام، طبقات "16". 2 العمدة "1/ 95"، ابن سلام، طبقات "16"، المزهر "2/ 481". 3 العمدة "1/ 96". 4 العمدة "1/ 97".

"وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم يسأله عن أشعر الشعراء في الجاهلية وأشعر شعراء وقته، فقال: أشعر شعراء الجاهلية امرؤ القيس، وأضربهم مثلا طَرَفَة. وأما شعراء الوقت، فالفرزدق أفخرهم، وجرير أهجاهم، والأَخْطَل أوصفهم"1. "وفضل النقاد العرب طَرَفَة على سائر الشعراء بإجادته وصف الناقة في معلقته على نحو لم يسبق إليه، ويميل بعضهم إلى عَدِّه أشعر شعراء الجاهلية"2. "وقيل لكثير أو لنصيب: من أشعر العرب؟ فقال: امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب"3. فهو رأي قدم الشعراء المذكورين على غيرهم في حالات معينة، ولم يقدم امرأ القيس على غيره بصورة مطلقة. وزعم ابن أبي الخطاب أن أبا عمرو كان يقول: أشعر الناس أربعة: امرؤ القيس، والنابغة، وطرفة، ومهلهل"4. "وقالت طائفة من المتعقبين: الشعراء ثلاثة: جاهلي: وإسلامي، ومُوَلَّد، فالجاهلي امرؤ القيس، والإسلامي ذو الرُّمة، والمولد ابن المعتز. وهذا قول من يفضل البديع وبخاصة التشبيه على جميع فنون الشعر"5. وحجة من قدم امرأ القيس على غيره "أن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء، واتبعوه فيها، لأنه أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيد، وقرَّب مأخذ الكلام، فقيَّد الأوابد وأجاد الاستعارة والتشبيه"6، "وكان أحسن طبقته تشبيهًا"7.

_ 1 العمدة "1/ 96"، المزهر "2/ 481". 2 بروكلمن "1/ 92". 3 العمدة "1/ 95". 4 العمدة "1/ 97"، المزهر "2/ 481". 5 العمدة "1/ 100". 6 الشعر والشعراء "1/ 478 وما بعدها"، العمدة "1/ 94"، ابن سلام، طبقات "16 وما بعدها"، الرواية ترجع إلى "يونس" وقد دونها ابن سلام وابن قتيبة المتوفى بعده "276هـ"، مع شيء يسير من الاختلاف في النص. 7 ابن سلام، طبقات "16 وما بعدها".

ووجد زهير له أنصارًا وأعوانًا، من المعجبين به في الإسلام بالطبع، قدَّموه على غيره من شعراء الجاهلية. وقد سبق أن شارت إلى رواية زعمت أن عمر فضله على غيره من شعراء أهل الجاهلية1. وذكر أن عكرمة بن جرير سأل أباه جريرًا: من أشعر الناس؟ قال: أعن الجاهلية تسألني أم الإسلام؟ قال: ما أردت إلا الإسلام؟ فإذا ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها، قال: زهير شاعرهم"2. وزعم أن ابن عباس سأل الحطيئة عن أشعر الناس، فقال: الذي يقول: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ون لا يتسق الشَّتمَ يشتمِ وليس الذي يقول: ولست بمستبق أخًا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب بدونه، ولكن الضراعة أفسدته، كما أفسدت جرولا، والله لولا الجشع لكنت أشعر الماضين، وأما الباقون فلا شك أني أشعرهم. قال ابن عباس: كذلك أنت يا أبا مُلَيكة"3. وقائل البيت الأول زهير، وقائل البيت الثاني هو النابغة. ولكنَّا نقرأ في رواية أخرى ما يخالف هذا الرأي، نقرأ فيها أن سائلا سأل الحطيئة عن أشعر الناس، فقال أبو دؤاد حيث يقول: لا أعدُّ الإقتار عدمًا، ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام وهو رأي لم يقبل به أحد من النقاد4. وجعل بعده عُبَيدًا5. ورجح بعضهم الأعشى على غيره، رجحه الشاعر الأخطل مثلا، فزعم أنه قال: "الأعشى أشعر الناس"6. وكان خلف الأحمر يقول: الأعشى

_ 1 العمدة "1/ 98". 2 العمدة "1/ 96". 3 العمدة "1/ 97"، المزهر "2/ 481". 4 العمدة "1/ 97"، المزهر "2/ 481". 5 الشعر والشعراء "1/ 242"، "دار الثقافة، بيروت". 6 العمدة "1/ 97"، المزهر "2/ 481".

أجمعهم. وقال أبو عمرو بن العلاء مثله مثل البازي يضرب كبير الطير وصغيره، وكان أبو الخطاب الأخفش يقدمه جدًّا، لا يقدِّم عليه أحدًا"1. "وقال بعض متقدمي العلماء: الأعشى أشعر الأربعة"2، والأربعة هم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، أو زهير، والنابغة، والأعشى، وعنترة3. "حكى الأصمعي عن ابن أبي طرفة: كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب. وزاد قوم: وجرير إذا غضب"، "وقيل لكثير، أو لنصيب، من أشعر العرب؟ فقال: امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب"4. وحجة من قدَّم الأعشى، أنه كان "أكثرهم عروضًا وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة، وأكثرهم مدحًا وهجاءً ونظرًا وصفة كل ذلك عنده"5. ووجد النابغة من فضله على غيره من شعراء الجاهلية، وفيهم الخليفة أبو بكر الذي كان يقول عنه "هو أحسنهم شعرًا، وأعذبهم بحرًا، وأبعدهم قعرًا"6 و"عمر"7 والشاعر "جرير"8، وحجة من قدم النابغة على غيره أنه: "كان أحسنهم ديباجة عشر، وأكثره رونق كلام، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة، ومدحًا، وهجاء، وفخرًا، وصفة"9، و"أجزلهم بيتًا. كان شعره كلام ليس فيه تكلُّف"10. وزعم أن الكُمَيت كان يقول: "عمرو بن كلثوم أشعر الناس"،

_ 1 العمدة "1/ 95". 2 العمدة "1/ 99". 3 العمدة "1/ 95". 4 العمدة "1/ 95". 5 ابن سلام، طبقات "1/ 18". 6 العمدة "1/ 95". 7 ابن سلام، طبقات "17" 8 "وقال جرير: النابغة أشعر الناس"، المزهر "2/ 481". 9 العمدة "1/ 99". 10 ابن سلام، طبقات "17".

وأن الشاعر ذا الرُّمَّة" فضل لبيدًا على كل الشعراء1. وكان ابن أبي إسحاق، وهو عالم، ناقد، ومتقدم مشهور، يقول: "أشعر الجاهلية مرقش"، وسأل عبد الملك بن مروان الأخطل: من أشعر الناس؟ فقال: العبد العجلاني، يعني تميم بن أبي مقبل"2، وهو من المخضرمين3، "وقيل لنصيب مرة: من أشعر العرب؟ فقال: أخو تميم، يعني علقمة بن عبدة، وقيل أوس بن حجر، وليس لأحد من الشعراء بعد امرئ القيس، ما لزهير والنابغة، والأعشى في النفوس"4. وذكر ابن سلام أن أبا عمرو بن العلاء كان يرى أن خداش بن زهير أشعر في قريحة الشعر من لبيد، وأبى الناس إلا تقدمة لبيد. وكان يهجو قريشًا"5. ولعل هذا الهجاء هو الذي جعل الناس يأبون تقديمه في الشعر. وروي عن الأصمعي، أن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: "كان أوس بن حجر فحل العرب، فلما أنشأ النابغة طأطأ منه"، وذكر عنه أيضا، وقد سئل عن النابغة وزهير، أنه قال: "ما كان زهير يصلح أن يكون أخيذًا للنابغة، يعني روايًا عنه". وروي أن أهل البصرة أجمعوا على امرئ القيس وطرفة بن العبد، وأجمع أهل الكوفة على بشر بن أبي خازم والأعشى الهمداني، وأجمع أهل الحجاز على النابغة وزهير6. وليونس النحوي رأى في أشعر الشعراء، قيل إنه سئل "عن أشعر الناس فقال: لا أومئ إلى رجل بعينه، ولكني أقول: امرؤ القيس إذا غضب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا غضب"7. فربط الشاعرية بحالة من الحالات النفسية. وورد التفضيل على هذا النحو: "أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب،

_ 1 المزهر "2/ 481". 2 العمدة "1/ 97"، ابن سلام، طبقات "16". 3 الشعر والشعراء "1/ 366". 4 العمدة "1/ 97 وما بعدها". 5 ابن سلام، طبقات "32 وما بعدها". 6 السيوطي، شرح شواهد "1/ 80". 7 ياقوت، إرشاد "7/ 310".

وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب. وكان زهير أجمع الناس للكثير من المعاني في القليل من الألفاظ، وأحسنهم تصرفًا في المدح والحكمة"1. ترى مما تقدم أن موضوع من كان أشعر شعراء الجاهلية موضوع حساس، لما كان للعصبية وللذوق الشخصي دخل فيه، ثم إنهم لم يكونوا يحكمون من دراسة الكل، أي بدارسة كل ما ينسب إلى الشاعر من شعر، وإنما كانوا ربما حكموا على الشاعر ببيت أو ببيتين، وحكم مثل هذا يمكن أن يتخذ حكمًا علميًّا، أضف إلى ذلك أنهم لم يميزوا بين ما نسب إلى الشاعر من شعر، وبين ما صح له من شعر، ولا يكون الحكم في المثل هذا الأمور حكمًا علميًّا، إلا بدراسة عميقة لشعر كل شعر، بعد تمييز صحيحه من فاسده، ثم مطابقته ومقابلته بشعر الشعراء الآخرين. إلى أمور أخرى من هذا القبيل، يطرقها نقاد الشعر والأدب، بمقاييس ثابتة، أما مقاييس تلك الأيام فقد اختلفت، وخضعت للعواطف والأهواء، والسيوطي على حق حين يقول في هذا الموضع: "وهذا يدلك على اختلاف الأهواء وقلة الاتفاق"2. وقد يعمد علماء الشعر إلى بيت من شعر، فيجعلونه أحسن بيت قيل في الجاهلية، أو عند العرب، فقد قالوا: أن الاتفاق قد وقع على أن أمدح بيت للجاهلية، هو قول زهير: نراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائلُهُ3 ولكنهم قالوا إن الشاعر "دعبل" قال: إن أمدح بيت قالته العرب في الجاهلية قول أبي الطمحان القيني: وإن بني أوس بن لأم أرومة ... علت فوق صعب لا ترام مراقبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه4

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 98". 2 المزهر "2/ 482". 3 بلوغ الأرب "3/ 99". 4 بلوغ الأرب "3/ 128".

وروي عن الأصمعي قوله إن بيت أبي ذؤيب الهذلي: والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع هو أبرع بيت قالته العرب1. وقد كان بشار بن برد حذرًا حين سئل: أخبرنا عن أجود بيت قالته العرب؟ فقال: إن تفضيل بيت واحد على الشعر كله لشديد، ولكن قد أحسن كل الإحسان لبيد في قوله: وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل وإذا رمت رحيلا فارتحل ... وأعصى من يأمر توصيم الكسل2 وقد ذهب علماء الشعر إلى أن أشعر أهل المدر، أهل يثرب، ثم عبد القيس ثم ثقيف، وأن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصَّلْت. أما أشعر أهل يثرب، فهو حسان بن ثابت في نظر كثير من رواة الشعر. وورد في بعض الأخبار أنه أشعر أهل المدر3.

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 140". 2 بلوغ الأرب "3/ 131". 3 الأغاني "3/ 180"، "4/ 3"، العمدة "1/ 89"، "باب تنقل الشعر في القبائل".

نقد الشعر

نَقْدُ الشِّعْرِ: وذكر أن الشعراء الجاهليين، كانوا يراجعون شعر بعضهم بعضًا، وينقدونه لما كان بينهم من تسابق على نيل الشهرة والاسم، أو لما كانوا يجدونه في شعر الشاعر من هنة أو غفلة أو هفوة، كالذي ذكروه من أمر الشاعر المتلمس، ذكر أن طرفة بن العبد سمع قوله: وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناج عليه الصيعرية مكدم وكان إذ ذاك صبيًّا، فقال: استنوق الجمل فصار مثلا1.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 115"، ونسب هذا البيت خطأ إلى المسيب بن علس، الموشح "76"، الأغاني "23/ 559".

أو أنهم كانوا ينقدونه عند التحكيم. ليقتنع الشعراء بصحة حكم الحكم، كالذي كان من أمر النابغة في سوق عكاظ، وكالذي روي من تنازع امرئ القيس مع علقمة الفحل على الشعر، وقول كل واحد منهما لصاحبه: "أنا أشعر منك"، ومن قبولهما بتحكيم أم جندب، زوج امرئ القيس بينهما. وقبول أم جندب الحكم بينهما. فذكر أنها قالت لهما: "قُوْلا شعرًا تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة، فأنشداها، ثم حكمت بترجيح شعر علقمة على شعر زوجها، وأظهرت لهما العوامل التي حملتها على هذا الترجيح، فغضب امرؤ القيس عليها وطلقها، فخلف عليها علقمة1. وهي قصة من هذا القصص الموضوع على امرئ القيس. ويقتضي ذلك أن الشعراء كانوا يحفظون شعر غيرهم، فقد كان منهم من إذا قابل شاعرًا، وجادله في شعره، أنشده شعره، وبين له ما يراه فيه من عيوب. وقد رأيت كيف زعموا أن النابغة لما جاء يثرب، أراد أهلها أن يظهروا له ما في شعره من إقواء، وهو من عيوب الشعر، فأمروا قينة فغنت به، وأبانت له مواطن الإقواء، فأحس به، ويقال له إنه تركه من يومئذ. أما استحسان العلماء لشعر شاعر، أو تخبيثه أو تسخيفة ونقده، فقد خضع عندهم لعوامل عديدة، قامت في بادئ أمرها على الذوق والمزاج، فهذا يستحسن شعرًا لورود بيت فيه أستحسنه واستعذبه على حين يري آخر أنه لا يساوي شيئًا، وليس فيه ما يدعو إلى المدح والثناء عليه، ثم على العروض، فنرى العسكري يعترض على اختيار الأصمعي لميمية المرقش، وقد سبق لابن قتيبة أن اعترض على اختيار الأصمعي القصيدة أيضًا، وقال الآمدي: إنه ليس بحاجة إلى ذكر العيوب العروضية فيها لكثرتها2، ثم على النحو والبيان والبديع وغير ذلك من علوم الصناعة التي وضعت في الإسلام، وقد كان عليهم ملاحظة أن هذه العلوم إنما وضعت أو ثبتت في الإسلام، وأن الذوق الجاهلي يختلف عن الذوق الإسلامي، وإن

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 146 وما بعدها"، "علقمة بن عبدة"، الأغاني "21/ 225 وما بعدها"، الموازنة "1/ 37". 2 الصناعتين "4" غرونباوم "112".

الخليل لم يجمع كل بحور الشعر الجاهلي، بل طرح بعض الأوزان الهزيلة التي كان القدماء قد استنبطوها1، ولعله لم يتمكن من الوقوف على أوزان أخرى؛ لأنها لم تكن مألوفة بين عرب العراق، أو لأنها صيغت بلهجات قبائل لم يرتح من شعرها، لأنه من الشعر القبلي الخاص. وفضل العلماء الشعر الذي يكون فيه البيت تامًّا مستغنيًا بمعناه عن غيره، وقالوا لذلك: البيت المقلد. لأنه قائم بذاته غني عن غيره، يضرب به المثل2. ولهذا رأوا في القصيدة الجيدة، أن تكون أبياتها مقلدة، إذا قدمت بيتًا منها على بيت أو أبيات، أو إذا أوت بيتًا منها، أو حذفت بيتًا منها أو أكثر، فإنها لا تتأثر بهذا التغيير والتبديل، ولعل لهذا الرأي صلة بقولهم: "ومقلدات الشعر وقلائده البواقي على الدهر"3. وقد أورد الجاحظ رأيًا في القصيدة لخلف الأحمر، فقال: "أما قول خلف الأحمر: وبعض قريض القوم أولاد علة فإنه يقول: إذا كان الشعر مستكرهًا، وكانت ألفاظ البيت من الشعر لا يقع بعضها مماثلا لبعض، كان بينها من التنافر ما بين أولاد العَلَّات. وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضيًا موافقًا، كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤونة. قال: وأجود الشِّعر ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغًا واحدًا، وسبك سبكًا واحدًا، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان"4. وقد رأينا أمثلة كثيرة في استحسان شعر شاعر، أو في المفاضلة بين شعر الشعراء، والموازنة بينهم، ,قد بنيت على أبيات، أعجبت الناقد المفاضل،

_ 1 غرونباوم "135". 2 ابن سلام، طبقات "127 وما بعدها"، "دار المعارف"، الجرجاني، الوساطة "33". 3 تاج العروس "2/ 475"، "قلد". 4 البيان والتبيين "66 وما بعدها".

ففضل شاعره الذي جعله أشعر على غيره، ثم رأيناه نفسه، لكن في موقف آخر يفضل غيره عليه، بسبب بيت أو أبيات أعجبه أو أعجبته. وقد تبدلت هذه النظرة في أيام العباسيين، فنجد لابن سلام مقاييس جديدة في النقد، وفي وضع الشعراء وتصنيفهم إلى طبقات. ونجد لابن قتيبة رأيًا في النقد يستند على آراء من تقدم عليه وعلى ملاحظاته الشخصية في النقد والموازنة بين الشعراء، وقد يخالف غيره على رأيه، خذ ما قله من نقد مرير في الأصمعي حيث يقول: "ومن هذا الضرب أيضًا قول المرقش: هل بالديار أن تجيب صمم ... لو أن حيًّا ناطقًا كلم يأبى الشباب الأقورين ولا ... تغبط أخاك أن يقال حكم والعجب عندي من الأصمعي إذ أدخله في متخيره، وهو شعر ليس بصحيح الوزن، ولا حسن الروي، ولا متخير اللفظ، ولا لطيف المعنى، ولا أعلم فيه شيئًا يستحسن إلا قوله: النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم1 ويذكر أهل الأخبار أن من الشعراء من كان يستحسن بيت شاعر، فيسطو عليه. ونجد ابن قتيبة يذكر في كتابه "الشعر والشعراء" ما أخذه الشعراء بعضهم من بعض، فذكر مثلا أن طرفة، والنابغة الجعدي، والشماخ، وأوس بن حجر، والنجاشي، وزهير، والمسيب، وزيد الخيل أخذوا من شعر امرئ القيس، فنظموه في شعرهم2. وإذا صح ذلك، كان معناه أن أولئك الشعراء كانوا قد حفظوا شعر امرئ القيس، وأنهم كانوا يحفظون أشعار غيرهم من الشعراء المتقدمين عليهم أو المعاصرين لهم وبذلك سطوا على ذلك الشعر أو على معناه. غير أننا لو درسنا الأمثلة التي ذكرها ابن قتيبة وغيره على أنها من سرقات الشعر، نرى أن أكثرها لا يمكن أن يعد سرقة، لأن للسرقة الشعرية علامات،

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 18 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "1/ 68 وما بعدها".

ولا نكاد نلمس من هذه العلامات شيئًا في الشعر المتهم بأنه شعر مسروق. وإنما نجده من قبيل توارد الخاطر لا غير، أسرع نقاد الشعر، فجعلوه سطوًا وسرقة. ونحن لا نعلم من أمر نقد الشعر عند الجاهليين إلا ما جاء في الموارد الإسلامية وهو شيء قليل، وهو شيء لا ندري أيضًا مكانه من الصحة، وكل ما لدينا من تقسيم للشعراء إلى طبقات ومن تفضيل شاعر على شاعر، ومن تفضيل شعر على شعر هو مما عمل في الإسلام، صنع وفق قواعد نقد دونها العلماء. وقد ظهرت بواكير النقد العلمي للشعر الجاهلي عند علماء اللغة والنحو والعروض، ثم تولاها علماء راعوا أصول البيان والبلاغة والبديع في نقد الشعر، ولما كان هذا النقد لا يخص موضوعنا بالذات، وقد كتب عنه المتخصصون، فأنا أترك أمره إليهم، وقد وضعت فيه مؤلفات حديثة، وضعها عرب ومستشرقون.

أشعر الناس حيا

أَشْعَرُ النَّاسِ حيًّا: ويروي أهل الأخبار أن أشعر الناس حيًّا هذيل. وقيل: "أفصح الشعراء لسانًا وأعذبهم أهل السروات، وهن ثلاث وهي: الجبال المطلَّة على تهامة مما يلي اليمن، فأولها هذيل، وهي تلي السهل من تهامة، ثم بجيلة في السراة الوسطى وقد شركتهم ثقيف في ناحية منها، ثم سراة الأزد، أزد شنوءة، وهم: بنو الحارث بن كعب بن الحارث بن نصر بن الأزد. وقيل: أفصح الناس: عُلْيَا تميم وسُفْلى قيس، وقيل: سافلة العالية وعالية السافلة، يعني: عجز هوازن، وأهل العالية: أهل المدينة ومن حولها ومن يليها ودنا منها، ولغتهم ليست بتلك عند "أبي زيد"1". ويلاحظ أن هنالك قبائل كثيرة لم يروِ علماء الشعر لها شعرًا، أو أنهم رووا شعرًا قليلا لها، بينها قبائل كبيرة معروفة، كان لها تقدم ونفوذ، مثل: الغساسنة وتنوخ ولخم وبهراء، وكلب، ولا يعقل أن يكون الله قد حرم هذه القبائل من قول الشعر، فلم ينبت في أرضها شاعر، ولم يقم بينها من جاري القبائل الأخرى في قول الشعر، وهم عرب مثل غيرهم،

_ 1 العمدة "1/ 88 وما بعدها".

لهم حس وشعور، فلا يعقل عدم ظهور شعراء بينهم، ويظهر أن سبب إهمال رواة الشعر لشعر هذه القبائل هو اعتبارهم هذه القبائل دون القبائل الأخرى في اللغة والفصاحة، لأنهم كانوا على اتصال بالحضر، فلم يسائلوهم، ولم يقيموا لشعورهم وزنًا، ولهذا لم يصل منه إلينا شيء، أو إلا القليل منه، فظهرت تلك القبائل في جملة القبائل المقلة في الشعر. وقد روي لبعض الشعراء شعر كثير، فيه قصائد طويلة، وصل لنا في دواوين، أو في كتب الشعر والأدب، فوقفنا بذلك على شعرهم. وهناك شعراء اشتهر أمرهم وعرف ذكرهم، إلا أن معظم شعرهم قد ذهب معهم، فلم يبق منه إلا القليل، بحيث لا يتناسب هذا الباقي منه مع الشهرة التي أحاطت بهم. وقد عرف هؤلاء بالشعراء المقلِّين1. ومن المقلِّين في الشعر: طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل، وعدي بن زيد، وطرفة أفضل الناس واحدة عند العلماء. وهي المعلقة: لخولة أطلال بِبُرْقة ثَهْمَد وله سواها يسير. ومن المقلين المحكمين سلامة بن جندل، وحصين بن الحُمَام المرِّي، والمتلَمِّس، والمسيب بن علس، ومنهم عنترة، والحارث بن حِلِّزة، وعمرو بن كلثوم، وعمرو بن معدي كرب، والأسعر بن أبي حمران الجعفي، وسويد بن أبي كاهل، والأسود بن يعفر2.

_ 1 المزهر "2/ 485"، "المقلُّون من الشعراء". 2 العمدة "1/ 102 وما بعدها".

الشعر والإسلام

الشِّعْرُ والإِسْلامُ: ورد في الحديث: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحًا يريه، خير من أن يمتلئ شعرًا"، وورد أن رسول الله بينا كان بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد. فقال رسول الله: "خذوا الشيطان، أو امسكوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف الرجل قيحًا، خير له من أن يمتلئ شعرًا"1. وفي القرآن: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ

_ 1 صحيح مسلم "7/ 50"، "كتاب الشعر"، زاد المسلم "1/ 350 وما بعدها"، كتاب خلق الإنسان "275 وما بعدها"، "لابن أبي ثابت".

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} 1، و {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} 2، و {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} 3، و {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} 4، و {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} 5، و {الشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} 6. وورد عن عائشة قولها، وقد قيل لها: "هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه. غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس، فيجعل آخره أوله، وأوله آخره. فقال له أبو بكر: إنه ليس هكذا! فقال نبي الله: إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي"7. وورد في تفسير: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} . "بل قال بعضهم هو أهاويل رؤيا رآها في النوم. وقال بعضهم: هو فرية واختلاق افتراه واختلقه من قبل نفسه، وقال بعضهم: بل محمد شاعر. وهذا الذي جاءكم به شعر"8. وورد في معنى {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، أن قريشًا قالوا: "أنترك عبادة آلهتنا لشاعر مجنون، يعنون بذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم"9. وقالوا في معنى {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} ، "قال ذلك قائلون من الناس: تربصوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعر بني فلان وشاعر بني فلان، و"قال قائل منهم احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى

_ 1 [سورة يس، الرقم: 36، الآية: 69] . 2 [الأنبياء، الرقم: 21، الآية: 5] . 3 [الصافات، الرقم: 37، الآية: 36] . 4 [الطور، الرقم: 52، الآية: 3] . 5 [الحاقة، الرقم: 69، الآية: 41] . 6 [الشعراء، الرقم: 26، الآية: 224 وما بعدها] . 7 تفسير الطبري "23/ 19"، "بولاق"، صحيح مسلم "7/ 48 وما بعدها". 8 تفسير الطبري "17/ 3". 9 تفسير الطبري "23/ 33".

يهلك كما هلك من قبله الشعراء زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم"1. وفسر قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} ، بـ"ما هذا القرآن بقول شاعر، لأن محمدًا لا يحسن قيل الشعر فتقولوا هو شعر"2،وقوله: {والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ، "الغاوون الرواة"، وذكر أنهم في كل لغو يخوضون، وأن الله استثنى منهم شعراء المؤمنين3. وقد كره ناس الشعر لما ورد عنه في القرآن الكريم وفي الحديث، وامتنع بعض الشعراء من قوله كالذي ذكروه من ترك لبيد الشعر بعد دخلوه في الإسلام، ومن قوله للخليفة عمر أو لعامله على الكوفة، وقد سأله عما قاله من الشعر في الإسلام، "ما كنت لأقول شعرًا بعد إذ علمني الله سورة البقرة وآل عمران"4. وأهمل بعض الصحابة رواية الشعر، لما فيها من تذكير بأمر الجاهلية وبأيامها، وأقبل آخرون على القرآن يحفظونه بدلا من الشعر الجاهلي ورأى آخرون أن في حفظه وفي إنشاده إثارة لنعرة الجاهلية بعد أن حرمها الله، كراهية وقوع الفتنة، وحدوث القتال كالذي كان يقع في الجاهلية، لا سيما ما يتعلق منه بالمدح وبالهجاء وبالأيام، ولهذا قال عمر لحسان بن ثابت يوم مرَّ به وهو ينشد الشعر بمسجد رسول الله: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فما يغيِّر علي ذلك، فقال عمر: صدقت"5. فهذا الشعر المفرق المسبب للقتن أو الثالب للأعراض، هو الشعر الذي كره الناس روايته أو نظمه، ولهذا كان عمر يحاسب الهجائين، فملا هجا الحطيئة الزبرقان بن بدر، وشكاه الزبرقان عليه، حكم عمر حسان بن ثابت فيه، فحكم عليه أنه "لم يهجه، ولكن سلح عليه"، فهو أشد إيلامًا من الهجاء، فحبسه عمر، وقال: "يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين"6،

_ 1 تفسير الطبري "27/ 29". 2 تفسير الطبري "29/ 42". 3 تفسير الطبري "19/ 79 وما بعدها"، الصاحبي "273 وما بعدها". 4 الشعر والشعراء "1/ 195 وما بعدها"، "الثقافة". 5 العمدة "1/ 28". 6 الشعر والشعراء "1/ 244"، "الحطيئة"، "قال: ذرق عليه"، ابن سلام، طبقات "25".

ولما هجا النجاشي بني العجلان، فشكوه إلى عمر، حكم عمرُ حسان بن ثابت، والحطيئة في أمر هذا الهجاء فلما حكما بأنه هجاهم قال له عمر: إن عدت قطعت لسانك"1. وروي أن رجلا مر بباب رجل، وقد كان فتمثل: هل ما عملت وما استودعت مكتوم فاستعدى رب البيت عليه عمر، فأمر به عمر فحدّ2. وذكر أن النبي قال: "من قال في الإسلام هجاء مقذعًا فلسانه هدر"3. وأنه لما بلغه هجاء الأعشى علقمة بن علاثة العامري، نهى أصحابه أن يرووا هجاءه4. وروي أن المنع عن رواية الشعر، كان خاصًّا بالشعر الذي هجي به النبي5. ولما هجا ضابئ بن الحارث وكان رجلا بذيا كثير الشر، وكان بالمدينة صاحب صيد وصاحب خيل، قومًا من بني نهشل استعدوا عليه عثمان فحبسه6. فكان حبسه لهجائه لا لشعره. ومع ذلك، فقد تهاجى الشعراء في أيام الأمويين وتنازعوا فيما بينهم، وتطاول بعضهم على بعض، وجرأت السياسة هذا الهجاء وأمدته بوقود يزيد في حدته حدة، لعصبيات وسياسة، وتجرأ البعض في هجاء الحكومة وفي هجاء المعارضين حرض يزيد بن معاوية الشاعر الأخطل على هجاء الأنصار، وفي محيط مثل هذا المحيط، انقسم إلى أحزاب وفرق، متخاصمة شديدة عنيفة في الخصومة، لا بد وأن يجد الشعر فيه أرضًا طيبة، ومنبتًا خصبًا مساعدًا. فكانت للشعراء حرية في النيل بعضهم من بعض، واستفاد خلفاء بني أمية من ذلك، بتحريض شعرائهم على عض خصومهم، مما لا مجال للبحث عنه في هذا المكان.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 248"، "النجاشي". 2 ابن سلام، طبقات "36". 3 العمدة "1/ 170". 4 الفائق "1/ 664". 5 الفائق "2/ 389". 6 ابن سلام، طبقات "40".

وكان عمر قد نهى الشعراء عن ذكر النساء في أشعارهم، لما في ذلك من الفضيحة، وكان الشعراء يكَنُّون عن النساء بالشجر وبالنخلة، لئلا تشهر المرأة، وخوفًا من أهلها وقرابتها1. أما الشعر الآخر، الذي لم يكن ينال الناس، ولا يتذكر الأصنام والأوثان وأمور الجاهلية التي حرمها الإسلام، فلم يتعرض له الإسلام بسوء، بل كان الرسول نفسه يسمع الشعر، ويطلب من الصحابة إنشاده له، وقد ورد أن الرسول سمع عمرو بن كُلْثُوم، وهو بعكاظ ينشد معلقته الشهيرة2، وسمع شعر أمية بن أبي الصَّلت كما تحدثت عن ذلك في موضع آخر، واستمع إلى شعر قيس بن الخطيم، وإلى شعر شعراء آخرين، وكان يستملحه ويستعذبه، ولا سيما شعر الحكمة والإرشاد. "جاء النابغة الجعدي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: هل معك من الشعر ما عفا الله عنه؟ قال: نعم. قال: أنشدني منه، فأنشده: وإنا لقوم ما نعوِّد خيلنا ... إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا فلما أنشده قوله: ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا قال رسول الله: "لا فضَّ الله فَاك" 3. ومن سيماء اهتمام الإسلام بأمر الشعر، أن الشعر الجاهلي إنما دون وثبت في أيامه، وأن الصحابة كانوا يحفظونه ويروونه، وأن دواوينه، إنما ظهرت في أيام الأمويين. فلم يحرِّم الإسلام الشعر، ولم يظهر كرهه له، وإنما كره الشعر الوثني الذي مَجَّد الوثنية، فطرح ولم يروَ، ولعل هذا هو السبب الذي يجعلنا، لا نقرأ في كتب الأدب والأخبار شعرًا فيه إشادة بصنم، أو بأمر من أمور

_ 1 الخزانة "2/ 193 وما بعدها". 2 الأغاني "9/ 171 وما بعدها"، "ساسي"، "11/ 54". 3 رسائل الجاحظ "1/ 363 وما بعدها"، "كتاب فصل ما بين العداوة والحسد".

الجاهلية المناهضة للإسلام. وقد روي عن النبي قوله: "إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمة، أو قال: حكما"1، وأنه أمر حسان بن ثابت، وعبد الله بن رَوَاحة، وكعب بن مالك بهجاء قريش. وأنه قال لحسان: "اهجوا قريشا، فإنه أشد عليها من رشْقِ النَّبْل"2. وقد اعتذر العلماء عن سبب نفي الشعر عن الرسول، بأن الشاعر، لا يكاد يكون إلا مادحًا ضارعًا، أو هاجيًا ذا قذع، وهذه أوصاف لا تصلح للنبي، ثم إن فيه إيقاعًا، والإيقاع ضرب من الملاهي، ومنها لم يصلح الشعر للرسول3. وقد بحث القرطبي في موضوع نفي الشعر عن الرسول، فرجع ذلك إلى أربع مسائل: الأولى: أنه كان لا يقول الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا كسر وزنه، وإنما كان يحرز المعاني فقط، وذلك ردًّا لقول من قال من الكفار: إنه شاعر، وإن القرآن شعر. وقد كان ربما أنشد البيت المستقيم في النادر4. الثانية: إصابته الوزن أحيانًا لا يوجب أنه يعلم الشعر، وكذلك ما يأتي أحيانًا من نثر كلامه ما يدخل في وزن، كقوله يوم حنين وغيره: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت وقوله: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وفي كل كلام، وليس ذلك شعر ولا في معناه، كقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وقوله: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} ، وقوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} إلى غير ذلك من الآيات5.

_ 1 الصَّاحبي "274". 2 السيوطي، شرح شواهد "2/ 852". 3 المزهر "2/ 469 وما بعدها". 4 تفسير القرطبي "15/ 51 وما بعدها". 5 تفسير القرطبي "15/ 52 وما بعدها".

الثالثة: أن ما روي من عدم قوله الشعر، لا يعني عيب الشعر، وإنما لنفي الظنة عنه من أنه كان يقول الشعر. الرابعة: أن قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، يعني نفي الشعر عنه، لئلا يظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر1. فالرسول لم يكره الشعر لكونه شعرًا، ولم يعبه أو نهى عن قوله، وإنما كان النهي خاصًّا به. قال "الخليل بن أحمد: كان الشعر أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له"2.

_ 1 المصدر نفسه "15/ 54 وما بعدها". 2 كذلك "15/ 52".

الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي

الفصل الثاني والخمسون بعد المئة: تدوين الشعر الجاهلي مدخل ... الفَصْلُ الثَّانِي والْخَمْسونَ بَعْدَ المائةِ: تَدْوِينُ الشِّعْرِ الجَاهِلِيِّ ليس في الشعر الجاهلي بيت واحد يستطاع أن يثبت أنه كان مدونًا في الجاهلية وأن رواة الشعر وحفظته وجدوه مكتوبًا بأبجدية جاهلية، فنقلوه عنها. ولم يتجاسر -على ما أعلم- أحد من رواة الشعر أو حافظ من حفاظه على الادعاء بأنه نقل ما عنده من شعر جاهلي من ديوان جاهلي، أو من قراطيس جاهلية، أو من مادة مكتوبة أخرى تعود أيامها إلى الجاهلية. فكل ما وصل إلينا من هذه البضاعة، إنما هو من عهد الكتابة والتدوين، وعهد التدوين لم يبدأ إلا في الإسلام، وأول تدوين للشعر، إنما كان في عهد الأمين. وعدم وصول شعر جاهلي إلينا مدون في أيام الجاهلية، أو منقول عن مكتوبات جاهلية، ثم عدم ادعاء أحد من قدماء الرواة أنه قد نقل من دواوين أو قراطيس جاهلية، يحملنا على القول بعدم تدوين الجاهليين لشعرهم وبعدم اهتمامهم بتسجيله. فلِمَ وَقَع ذلك؟ ولِمَ أحجم الجاهليون عن تدوين شعرهم، وهو تراثهم الخالد وسجلهم وديوانهم الذي به حفظت الأنساب وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله، وآثار أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأن العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب

مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتال، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم كثير"1. "قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير"2. ومعنى هذا أن الشعر الجاهلي لم يكن مدونًا، وإنما كان محفوظًا في الصدور، وقد ورد رواية باللسان، فكانوا يتلونه حفظًا لا عن صحيفة أو كتاب، ويؤيد ذلك ما ورد في الأخبار من أن بني أمية، وقد كانوا شغوفين جدًّا بالشعر القديم، ربما اختلف الرجلان منهم في بيت شعر، فيرسلان راكبًا إلى قتادة يسأله، عن خبر، أو نسب، أو شعر، وكان قتادة أجمع الناس، ولقد قدم عليه رجل من عند بعض أولاد الخلفاء من بني مروان، فقال لقتادة: من قتل عمرًا وعامرًا التغلبيين يوم قضة؟ فقال: قتلهما جحدر بن ضبعية بن قيس بن ثعلبة". قال فشخص بها ثم عاد إليه. فقال: أجل قتلهما جحدر، ولكن جميعًا؟ فقال: اعتوراه فطعن هذا بالسنان، وهذا بالزج فعادى بينهما3. وعلى ما في هذا الخبر من أثر الصنعة والتكلف، فإن فيه دلالة على شغف الأمويين بسماع أخبار الأيام الماضية، وبعدم وجود مدونات في ذلك الوقت، تضم الشعر والأخبار والنسب، لذلك، كانوا يرسلون إلى خاصتهم ومن يرون فيه العلم بهذا الأمور للاستفسار منهم عما يريدون الوقوف عليه. ويؤيد ذلك أيضًا ما ورد من أن الرسول كان إذا أراد سماع شعر شاعر، سأل من كان في حضرته من يحفظ من شعر فلان؟ فينشده عليه من قد يكون حافظًا له، ثم ما يروى من أن الصحابة كانوا يحفظون الشعر، ومن أنهم كانوا إذا أرادوا الوقوف على شعر شاعر لم يحفظوا شعره، سألوا غيرهم ممن يحفظه عنه. ولم نسمع في الأخبار، أن أحدًا من الصحابة، كان يملك ديوانًا، أو كتابا فيه شعر، أو خبر، أو نسب، وأنهم كانوا يرجعون إلى المدونات، في مثل هذه الحالات. ولكن ما ذهبنا إليه من عدم وجود تدوين للشعر الجاهلي ولأخبار الجاهلية،

_ 1 المزهر "2/ 473 وما بعدها"، "ذهاب الشعر وسقوطه" 2 المزهر "2/ 474"، "ذهاب الشعر وسقوطه" 3 العسكري "التصحيف والتحريف" "4"، مصادر الشعر الجاهلي "198".

تنفيه روايات تزعم أن الجاهليين كانوا يدونون أشعارهم، فقد روي أن النعمان بن المنذر، أمر "فنسخت له أشعار العرب في الطنوج وهي الكراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن عبيد الثقفي، قيل له: إن تحت القصر كنزًَا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة"1. وروايات تذكر أنه "قد كان عند آل النعمان بن المنذر ديوان فيه أشعار الفحول، وما مدح به هو وأهل بيته، فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه"2. وروايات تقول إن العرب كانت شديدة العناية بشعرها، مبالغة في المحافظة على الجيد منه، فأمرت بكتابتها بماء الذهب على القباطي وبتعليقها على الكعبة، إعجابًا بها وإشادة بذكرها. وقد عرفت تلك القصائد بالمذهبات وبالمعلقات وبالسموط3. وروايات تذكر أن الملك كان إذا استجديت قصيدة يقول: "علقوا لنا هذه لتكون في خزانته"4. وتنفيه أيضًا روايات أخرى تفيد أن بعض الشعراء الجاهليين كانوا يقرءون ويكتبون، كالذي جاء عن عدي بن زيد العبادي، عن المرقش الأكبر، من أنه كان قد تعلم الكتابة من رجل من أهل الحيرة، فصار يكتب أشعاره، وكالذي يظهر من بيت لابن مقبل يفيد أن عرب أواسط جزيرة العرب كانوا يدونون أشعار الشعراء5. وقد ذكر أن سعد بن مالك والد المرقش، أرسله وأخاه إلى رجل من أهل الحيرة فعلمهما الكتابة6. وروي أنه كان يكتب بالحميرية7، فلا يعقل إذن أن يدون أمثال هؤلاء الشعراء الكتاب القراء شعرهم، أو بعض شعرهم المستجاد على الأقل! وتنفيه الرواية القائلة إن لقيط بن يعمر الإيادي، كتب قصيدة وأرسلها

_ 1 المزهر "1/ 249"، "النوع الخامس عشر. معرفة المفاريد"، ابن جني، الخصائص "1/ 392 وما بعدها"، تاج العروس "2/ 70"، "الطنوج"، 2 المزهر "2/ 474"، "ذهاب الشعر وسقوطه"، تاج العروس "2/ 70"، الجمحي طبقات "10". 3 المزهر "2/ 480"، "مشاهير الشعراء". 4 المزهر "2/ 480"، "مشاهير الشعراء"، العمدة، لابن رشيق "1/ 96". 5 جواد على، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 13"، مجلة المجمع العلمي العراقي "المجلد الرابع، الجزء الثاني"، "1956م"، "ص522". 6 الأغاني "6/ 130"، المفضليات "459 وما بعدها". 7 الشعر والشعراء "1/ 139".

إلى قومه إياد يحذرهم فيها من مجيء جيش كسرى إليهم للإيقاع بهم، وذلك في قصيدته التي استهلها بقوله: سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى مَنْ بالجزيرة من إيادِ1 وتنفيه روايات أخرى تشير إلى أن العرب في صدر الإسلام، كانوا يدونون الشعر ويوزعونه بين الناس لينتشر بينهم، فلما هجا النجاشي الأنصار، اجتمع سادتهم وتذاكروا أمره، ثم ذهب قوم إلى حسان، فنظم شعرًا في هجائه، كتبه غلمان الكتاب2، وما كانت الغاية من تدوين الغلمان له، إلا إذاعته ونشره بين الناس. وروي أن عبد الله بن الزبعري، وضرار بن الخطاب الفهري، قدما المدينة فتلاحيا مع حسان، في أمر الشعر، وقالا شعرًا مما كانا قالاه في الأنصار، وكان عمر قد نهى عن رواية شعر الهجاء حذر الفتنة، فغضب حسان منهما، وذهب إلى عمر، فأخبره بما وقع، فارسل وراءهما، وطلب من حسان أن ينشدهما مما قاله لهما، فأنشدهما، فلما انتهى من إنشاده كتب ذلك، وحفظ مع شعر الأنصار، وكانوا يكتبونه حذر بلاه3. وروي أن طلحة أنشد قصيدة، فما زال شانقًا ناقته حتى كتبت له4. غير أننا إذا ما تتبعنا تأريخ ورود هذا الذي ذكرته عن وجود التدوين في الحيرة وارتفعنا به حتى نصل به إلى أصله، نجد أنه جاء كله نقلا، وقد أخذه المتأخرون عن المتقدمين، والمتقدمون عن طبقة أقدم، حتى نصل إلى مرجع واحد هو آخر سلسلة السند، الذي ينتهي بحماد الرَّاوِية وابن الكلبي. فحماد هو صاحب الزعم المتقدم، القائل إن النعمان بن المنذر، أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج5، وابن الكلبي هو صاحب الخبر القائل إن العرب علقت القصائد السبع على الكعبة، وإن العرب اخترتها من بين القصائد الجاهلية الكثيرة فوضعتها على أركان الكعبة، إعجابًا بها وإشادة بذكرها!

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 129"، الأغاني "20/ 23". 2 مصادر الشعر الجاهلي "125". 3 الأغاني "4/ 140 وما بعدها". 4 الزمخشري، الفائق "677". 5 المزهر "1/ 249: "النوع الخامس عشر".

وهناك رواية أخرى مشابهة لرواية حماد عن تعليق المعلقات، يرجع سندها إلى ابن الكلبي، هذا نصها: "قال ابن الكلبي المتوفى سنة 204 وقيل سنة 206: أول شعر علق في الجاهلية شعر امرئ القيس، علق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى نظر إليه، ثم أحدر فعلقت الشعراء ذلك بعده، وكان ذلك فخرًا للعرب في الجاهلية، وعدوا من علق شعره سبعة نفر، إلا أن عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة"1. "وزاد بعضهم أنهم كانوا يسجدون لها كما يسجدون لأصنامهم"2. ولابن الكلبي زعم آخر له علاقة بهذا الموضوع، فقد ذكر أنه كان يقول: "كنت أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من ولي منهم لآل كسرى، وتأريخ نسبهم، من كتبهم بالحيرة"3. فنحن إذن أمام رجلين يرجع إليهما خبر وجود تدوين للشعر الجاهلي، كان أحدهما من أمرس الناس بالشعر الجاهلي، وكان ثانيهما من أشهر رجال الأخبار. ولا نعرف أحدًا تقدم عليهما زعم هذا الزعم، أو ادَّعى هذه الدعوى! ثم إننا لا نجد في مؤلف من المؤلفات الإسلامية التي وصلت إلينا ما يفيد أن أحدًا قد نقل شيئًا من مدون جاهلي، أو قرأ فيه، خلا ما ورد عن ابن الكلبي من أنه كان يستخرج أنساب آل نصر وتأريخ من حكم منهم ومدد أعمارهم وما إلى ذلك من بيع الحيرة4. ولا يعقل بالطبع تصور انفراد حماد وحده بمعرفة أمر ديوان النعمان بن المنذر، دون سائر الرواة وعشاق الشعر، وبينهم من كان لا يقل حرصًا ولا تتبعًا له عن حمَّاد. ولا يعقل أيضًا تصور بلوغ الحرص والأنانية بآل مروان درجة جعلتهم يضنون حتى بالتلويح أو بإراءة ذلك الديوان الجاهلي بعضهم بعضًا. ولو كان عند آل مروان ذلك الديوان حقًّا، لافتخروا بوجوده لديهم، ولعرضوه على الناس، ولأخذوا منه الشعر القديم، ولما استعانوا بالرواة من حماد وأمثاله ليروون لهم الشعر الجاهلي وليجمعوا لهم ذلك الشعر، وحماد نفسه شاهد على ذلك

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 187 وما بعدها". 2 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 186". 3 تأريخ الطبري "2/ 37". 4 تأريخ الطبري "2/ 37".

حيث كانوا يستدعونه من العراق ليسألوه أمر شعر، خفي عليهم، أو شعر لا يعرفون عنه شيئًا، ثم كيف يسكت رواة أهل الكوفة عن هذا الديوان، فلا يشيرون في أخبارهم ورواياتهم إليه، ولا يلحقون به سندهم في روايتهم للشعر؟ قال ابن النديم: "قال أبو العباس ثعلب: جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وردّ الديوان إلى حماد وجناد"1، فلو كان لدى آل مروان ديوان جاهلي قديم، فهل يعقل ترك الوليد ذلك الديوان وذهابه إلى حماد وجناد يستعين بما عندهما من دواوين شعر، أو من ديوان شعر ليجمع له ديوانًا بأشعار القدماء، فلما جمع له ديوانًا من ديواني حماد وجناد أعادهما عليهما! ولو فرضنا أنه كان قد استعان بهما، لأنهما كانا قد جمعا شعر شعراء لم يكن عنده شعرهم، فإن الرواة ما كانوا ليسكتوا هذا السكوت المطبق عن ذلك، ولقالوا على الأقل إنه قد كان عنده ديوان شعر جاهلي، لكنه لم يكن تامًّا، يضم كل أشعار الجاهليين، فاستعان بهما لسد هذا النقص. ولو كان ديوان حماد أو ديوان جناد من دواوين أهل الجاهلية، لما سكت العلماء عن ذلك، ولما سكت حماد نفسه، أو جناد من التنويه به، لما لهذا التنويه من أهمية بالنسبة لهما، ولإثبات أنهما كانا صادقين في رواية الشعر، وأنهما استقيا الشعر من منابع أصيلة لا يرتقي إليها الشك. ثم إنه لو كان لحماد أو غيره من أهل الكوفة ديوان جاهلي، أو أن أهل الكوفة كانوا قد وقفوا على ديوان النعمان بن المنذر أو على كتب من كتب أهل الحيرة في الشعر أو في التواريخ والأخبار، لما سكتوا عن ذلك أبدًا، ولأسندوا روايتهم إلى تلك المدونات، ردًّا بذلك على أهل البصرة الذين اتهموهم بالافتعال وبنحل الشعر على ألسنة الشعراء الجاهليين، وبأخذهم من أفواه أعراب لا يطمئن إليهم، على الأقل. إن سكوت الرواة وعلماء الشعر عن أمر هذا الديوان، واقتصار خبر وجوده على روايات حماد، يحملنا هذا السكوت الغريب، على الشك في هذا المروي عنه وعلى التريث ولو مؤقتا في تصديقه، حتى يقوم دليل جديد مقنع بوصول شيء من مكتوبات أهل الحيرة إلى الإسلاميين يمكننا من إبداء رأي علمي واضح في هذا الموضوع.

_ 1 الفهرس "140".

وقد سكتت كل الأخبار التي تحدثت عن طنوج النعمان بن المنذر، عن الجهة التي دخل الديوان في ملكها. كما سكتت عن مصيره النهائي. فأين ذهب يا ترى ذلك الديوان؟ ولِمَ لَمْ ينقل منه أحد؟ ولِمَ لم يُشِرْ إلى وجوده شخص آخر غير حماد؟ ولم أعثر حتى الآن على خبر يفيد علم أحد من المتقدمين على حماد بوجود ديوان شعر جاهلي مدوَّن، ولا بنقل أحد من الرواة وبضمنهم حماد نفسه من هذا الديوان أو من ديوان آخر يعود تأريخه إلى أيام الجاهلية. مع أن بين عشاق الكتب من كان يقتني الكتب والقراطيس القديمة، ويتهالك ويستهتر في المحافظة عليها وفي العناية بها، وبينهم من كان يملك ما شاء الله منها. وقد قص ابن النديم الورَّاق المتهالك في البحث عن الكتب قصصًا عن القراطيس والكتب القديمة وعن استهتار الناس بجمع الخطوط العتيقة، ولم يشر إلى عثوره هو أو غيره على صفحة واحدة مكتوبة قبل الإسلام في الشعر أو في النثر. ولو كان قد سمع بهذه الأوراق، لما تركها تمر سبيلها، فلا يراها أو يسمع عنها ممن وقف عليها ورآها على الأقل1. نعم: ذكر أنه "كان في خزانة المأمون كتاب بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد أدم فيه ذكر حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان ابن فلان الحميري من أهل وزل صنعا، عليه ألف درهم فضة كيلا بالحديدة، ومتى دعاه بها أجابه شهد الله والملكان. وكان الخط شبه خط النساء"2. وهو خبر تظهر عليه آثار الصنعة، والوضع. وقد يكو خبر الديوان، وخبر الطنوج من مفتعلات حماد وابن الكلبي، لإظهار سبب تفوق أهل الكوفة على أهل البصرة بالعلم بالشعر، كما يظهر ذلك جليًّا من نص الخبر، وهو "ومن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة3 ولإظهار سبب تفوق ابن الكلبي على غيره من أهل الأخبار في رواية أخبار ملوك الحيرة، غير أني لا أستبعد مع ذلك وجود دفاتر وكتب في خزائن ملوك الحيرة وفي قصورها وكنائسها، قد كان فيها شعر ونثر وأخبار

_ 1 الفهرست "67"، "المقالة الثانية من كتاب الفهرست". 2 الفهرست "ص13 وما بعدها"، "الكلام على القلم العربي". 3 الخصائص "1/ 392.

ومراسلات وسجلات بالأموال وما شابه ذلك لوجود حكومي عندهم تولاه عدي بن زيد، ووجود علماء ورجال دين عندهم ألَّفوا الكتب في أمور الدين وفي العلوم التي كانت سائدة في ذلك الوقت، لكنها تلفت وهلكت بسبب الأحداث التي وقعت في الحيرة أيام الفتح الإسلامي لها، وارتحال الناس عنها وفي جملتها رجال الدين، وتهدم كنائسها وبيوتها بسبب نقل حجارتها إلى الكوفة لبناء بيوتها بها، مما سبب تلف تلك المدونات المكتوبة على أدم وقراطيس سهلة التلف، والتي لا يمكن لها مقاومة مثل هذه الأحداث. ولا يستغرب ذلك، فقد تلفت نسخ القرآن الأولى مثل نسخة حفصة بنت عمر، ونسخة عثمان وهلكت رسائل الرسول وكتبه على أهميتها، وذهبت الصحف القديمة التي دون بها الحديث أو سيرة الرسول، وغير ذلك، في أيام الراشدين وبني أمية، فهل يستغرب بعد ذلك ذهاب ما دوِّن في أيام ملوك الحيرة وانطماس أثره! وقد تعرض بروكلمن لموضوع تدوين الشعر أو عدم تدوينه عند الجاهليين، فقال: "ومن ثم يعد خطأ من مركليوث وطه حسين أن أنكرا استعمال الكتابة في شمال الجزيرة العربية قبل الإسلام بالكلية، ورتبا على ذلك ما ذهبا إليه من أن جميع الأشعار المروية لشعراء جاهليين مصنوعة عليهم، ومنحولة لأسمائهم. ولكن بديهيًّا أن الكتابة لم تقضَ قضاءً كليًّا على الرواية الشَّفوية. فقد كان لكل شاعر جاهلي كبير على وجه التقريب راوية يصحبه، يروي عنه أشعاره، وينشرها بين الناس، وربما احتذى آثاره الفنية من بعده، وزاد عليها من عنده وكان هؤلاء الرواة يعتمدون في الغالب على الرواية الشفوية ولا يستخدمون الكتابة إلا نادرًا. وعن الرواة كانت تنتشر الدراية بالشعر في أوساط أوسع وأشمل، بعد أن يذيع في قبيلة الشاعر نفسه. ولهذا لم يمكن التحرز عن السقط والتحريف، وإن لاحظنا أن ذاكرة العرب الغضة في الزمن القديم كانت أقدر قدرة لا تحد على الحفظ والاستيعاب من ذاكرة العالم الحديث"1. وقد تعرض المستشرق "كرنكو" لموضوع الكتابة والتدوين عند العرب، وقد ذهب إلى أن نظم الشعر مرتبط بالكتابة، بدليل أن بعض القوافي تظهر حقيقتها

_ 1 بروكلمن "1/ 65".

للعيان أكثر منه للسمع، بحيث أن الحروف وليست الأصوات، هي التي تلعب دورًا هامًّا في الشعر1. غير أن رأيه هذا لم ينل تأييدًا من غالبية المستشرقين. وذهب "كو لدزيهر"، إلى احتمال تدوين العرب لشعر الهجاء، لما لهذا النوع من الشعر من أهمية عندهم، فإن في شعر الشاعرة ليلى الأخيلية: أتاني من الأنباء أن عشيرة ... بشوران يزجون المطي المذللا يروح ويغدو وفدهم بصحيفة ... ليستجلدوا لي، ساء ذلك معملا2 وفي شعر ابن مقبل: بني عامر، ما تأمرون بشاعر ... تخير بابات الكتاب هجائيًا3 غير أن بعضهم يرى صعوبة تصور ذلك، لعدم وجود أدلة مقنعة تثبت هذا الرأي4. وقد توقف "بلاشير" أيضًا في قضية تدوين الرواة لشعر الشاعر الذي تخصصوا به، أو برواية شعر أي شاعر كان. يرى احتمال تدوين بعض الرواة الحضر لبعض عُيُون الشعر، غير أنه يعود، فيرى أن ذلك مجرد احتمال، وأن من الصعب إثباته بأدلة مقنعة، ويذهب إلى أن رواية الرواة، كانت رواية شفوية كذلك5. ولا استبعد احتمال تدوين الشعراء الجاهليين الذين كانوا يحسنون الكتابة والقراءة لأشعارهم، كما لا استبعد احتمال تدوين رواة الشعر، ولا سيما ما نبه وشرف منه، غير أننا لا يمكن أن نقول إن الشاعر كان إذ ذاك يدون كل شعره، أو أن الرواة، كانوا يدونون كل ما حفظوه من الشعر، لأن هذا النوع من التدوين لم يكن مألوفًا عندهم، كما كان يكلف ثمنًا باهظًا، لا قِبَلَ للشاعر أو للراوية بتحمله، ثم إن القرطاس كان نادرًا عندهم، والتدوين على

_ 1 بلاشير، تأريخ الأدب العربي "94 وما بعدها". 2 المصدر نفسه "ص98". 3 العمدة "2/ 159 وما بعدها"، الحيوان "7/ 112"، ديوان ابن مقبل "410". 4 بلاشير "98 وما بَعْدَها". 5 بلاشير "101".

الأدم، غاليًا، ينوء بثمنه الشاعر أو الرَّاوِيَة، ويأخذ مكانًا، ولا سيما إذا كان الشاعر من الأعراب، وأنا لا أستبعد احتمال وجود مثل هذه المدونات عند الحضر، مثل أهل الحيرة، لانتشار الكتابة بينهم ولشيوع التدوين عندهم، ولكن الأحداث وعوامل الطبيعة أتلفت تلك المدونات، فلم تسقط لهذا السبب في أيدي رواة الشعر والأخبار. ولا تزال الرِّوَاية الشفوية مستعملة حتى اليوم، مع وجود التدوين وكثرة الورق، فلأغلب شعراء العراق اليوم -مثلا- رواة يدونون شعر الشاعر ويحفظونه في الوقت نفسه حفظًا، فإذا حضروا مجلسًا، وجاء ذكر الشعر، أو شعر شاعر يروون شعره تلوه حفظا على السامعين، وفي النجف رواة شعر، دونوا شعر شعرائها المحدثين مثل الحبّوبي وغيره في دواوين، وحفظوه في الوقت نفسه حفظًا في قلوبهم، ومنهم من حفظ شعره من غير تدوين له، وقد يزيد ما يحفظونه على ما هو مدون بسبب أن الشاعر قد يحضر مناسبة تهزة فيقول فيها شيئًا فيحفظه رواته والمعجبون به، وقد يفوت تسجيله على رواته الذين يلازمون الشاعر، فلا يقفون عل خبره، ويدفع الإعجاب بالشاعر المعجبين به على التقاط شعره وحفظه في أدمغتهم حتى كأنهم أشرطة تسجيل حساسة، لا يفوتها من التسجيل أي شيء. وبسبب عدم لجوء الجاهليين إلى تدوين شعرهم في الغالب، لأسباب عديدة، منها: ندرة الورق، وغلاؤه، واعتمادهم في حفظه على الذاكرة، هلك أكثره بموت حافظه، وأصيب قسم منه بتحريف وتغيير، وزيد بعض منه، ونقص منه بعض آخر، وصنع شعر على المتقدمين لأغراض مختلفة، ونسب الشعر إلى جملة شعراء، ورويت أبيات بروايات مختلفة، وما كان ذلك ليحدث، لو أنهم كانوا قد عمدوا إلى تدوينه وتثبيته. "قال أبو عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير. ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه، قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد، والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة. وإن كان ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة، ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، وغير أن الذي نالهما من ذلك أكثر. وكانا أقدم الفحول، فلعل ذلك لذلك، فلما قل كلامهما

حمل عليهما حمل كثير"1. وقد ذكر ابن سلام أن عبيد بن الأبرص قديم عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب لا أعرف له إلا قوله: أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب ولا أدري ما بعد ذلك"2. وذكر أنه قد سقط من شعر شعراء القبائل الشيء الكثير، وفات على علماء الشعر منه ما شاء الله، مما لم يحمله إلينا العلماء والنقلة. وقيل عن الأصمعي: "كان ثلاثة أخوة من بني سعد لم يأتوا الأمصار، فذهب رجزهم، يقال لهم: منذر ونذير ومنتذر، ويقال إن قصيدة رؤبة التي أولها: وقائم الأعماق خاوي المخترق لمنتذر"3. ونسب إلى أبي عمرو بن العلاء قوله: "لما راجعت العرب في الإسلام رواية الشعر بعد أن اشتغلت عنه بالجهاد والغزو، واستقل، واستقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار؟ فقالوا على ألسن شعرائهم. ثم كانت الرواية بعد فزادوا في الأشعار التي قيلت، وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضعوا ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعر أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال"4. وقال "ابن قتيبة": "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو انفد عمره في التنقير عنهم، واستفرغ مجهوده في البحث والسؤال.

_ 1 ابن سلام، طبقات "10". 2 ابن سلام، طبقات "36". 3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "9". 4 الْمُزْهِرُ "1/ 174 وما بعدها"، ابن سلام، طبقات "14".

261 ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولاقصيدة إلا رواها"1. وورد عن أبي عبيدة قوله: إن ابن دؤاد بن مُتَمِّم بن نُوَيرَةَ قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي من الجلب والميرة، فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته، فلما فقد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار، ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمِّم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علينا علمنا أنه يفتعله"2. وقد ينسب قوم شعرًا لشاعر، بينما ينسبه قوم لشاعر آخر، وقد يختلف في ذلك أهل البادية عن أهل الحاضرة، فقد روي مثلا أن أهل البادية من بني سعد يروون البيت: تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي مريض المستنفر الحامي للزبرقان بن بدر، بينما يرويه غيرهم للنابغة. وقد ذكر الرواة، أن من المحتمل أن يكون الزبرقان استزاده في شعره كالمثل حين جاء موضعه لا مجتلبًا له، وقد تفعل ذلك العرب، لا يريدون به السرقة3. وقد حدث مثل ذلك في بيت شعر هو لأبي الصلت بن أبي ربيعة، هو: تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا بينما ترويه بنو عامر لنابغة الجعدي4. ونسب: وبعد غد، يالهف نفسي من غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح إلى هدبة بن خشرم، وعزاه آخرون إلى أبي الطمحان من

_ 1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "8". 2 الْمُزْهِرُ "1/ 175"، ابن سلام، طبقات "14". 3 ابن سلام، طبقات "17". 4 ابن سلام، طبقات "17".

المخضرمين، ثرب الزبير بن عبد المطلب1. وروي أن البيت: الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما وهو بيت ينسب إلى أمية بن أبي الصلت، وكان معروفًا عند حفظة الشعر مثل الحسن بن علي بن أبي طالب أنه له، إلا أن الرواة يذكرون أن النابغة الجعدي، قال للحسن: "يابن رسول الله، والله إني لأول الناس قالها، وإن السروق من سرق أمية شعره"2. وروي أيضًا أن البيت: من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما هو من قصيدة للنابغة الجعدي، غير أن قسمًا من علماء الشعر يرويها لأمية بن أبي الصلت، وقسمًا آخر، كان متردًا، فقد ذكر أن راوية سأل خلف الأحمر عن القصيدة، فقال للنابغة، وقد يقال لأمية3. ويظهر من هذين المثلين، أن الرواة كانوا يخلطون بين شعري الشاعرين. ومن ذلك نسبة الشعر الذي فيه: دانٍ مسفٍّ فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمشتكي كمن يمشي بقرواح إلى عبيد بن الأبرص، أو أوس بن حجر4. ونسبة الشعر: والشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه إلى رؤبة وإلى الحطيئة5.

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 274 وما بعدها". 2 ابن سلام، طبقات "27". 3 ابن سلام، طبقات "27". 4 الحيوان "6/ 132". 5 تاج العروس "8/ 390"، "عجم".

ويقع من ذلك شيء كثير مذكور في كتب الشعر والأدب، وهو يدل على أن الشعر لم يكن مدونًا في بادئ أمره، وإنما كان يروى حفظًا، ولو كان قد أخذ من كتاب لما جاز عقلا وقوع مثل هذا الخطأ والاشتباه. ويحدث أن شاعرين يصنعان قصيدتين من بحر واحد وروي واحد، فيختلط أمرهما على الرواة، يدخلون أبياتًا من هذه في تلك، فتختلط نسبة الأبيات1. وقد وضع على لسان عدي بن زيد العبادي شعر كثير. وقد علل ابن سلام سبب ذلك بقوله: "كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فَلَان لسانُه، وسهل منطقه، فحمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد، واضطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر. وله أربع قصائد غرر وروائع مبرزات، وله بعده شعر حسن"2. وقد تكون للعصبية يد في هذا الوضع. فعدي من أهل الحيرة، وقد تعصب أهل الكوفة للحيرة، إذ انتقل أكثر أهل الحيرة إلى الكوفة فأقاموا بها، وتعصبوا لتأريخهم القديم، فلعل هذه العصبية هي التي حملتهم على وضع الشعر على لسانه لرفع شأن نصارى الحيرة في الشعر. ومع اشتهار الحيرة بالكتابة، واشتهار عدي بها خاصة، إذ كان من كتاب كسرى بالعربية، فإننا لم نعثر على خبر يفيد أن الرواة أخذوا شعر عدي عن ورقة جاهلية، أو ديوان جاهلي مدون. ولو كان لعدي ديوان مدون، لما وقع في شعره ما قاله ابن سلام. وقد يسأل سائل: كيف يعقل أن يضع شاعر مثل حمّاد الراوية شعرًا فخمًا جزلا يستعز به ثم ينسبه إلى الجاهليين ولو نسبه إلى نفسه لكان اليوم فخرًا له ولعد من أكابر الشعراء فأقول: كان طلب آل مروان للشعر الجاهلي شديدًا. وهذا ما صيَّر رواية الشعر من الحرف النافعة التي كانت تدر أرباحا طيبة لأصحابها تزيد على الأرباح التي يحصل عليها الشاعر من شعره. وقد كسب حماد من حرفته هذه مالا حسنًا. غير أن الإلحاح في طلب هذا الشعر والإغراء الذي أبداه عشاقه للرواة، أفسد الرواة، وحملهم على وضع الشعر وحمله على القدماء للحصول على الأجر، ولنيل الحظوة، ولإظهار العلم وسعة الحفظ. وقد زاد في هذا الوضع

_ 1 الحيوان "6/ 132"، "حاشية رقم3". 2 ابن سلام، طبقات "31".

المنافسة الشديدة التي كانت بين الرواة، فخلقت هذه الظروف وأمثالها شعرًا جديدًا منحولا حسب على ملاك شعر الجاهليين. ونجد في ثنايا كتب الأدب وفي كتب الشعر أشعارًا كثيرة منحولة وضعت قديمًا على ألسنة الجاهليين، وضعت لأن الناس كانوا يومئذ في شوق عظيم وتعطش إلى سماع أشعار من قبلهم، كانوا يقبلون عليها أكثر من إقبالهم على شعر معاصريهم من الشعراء، ويجزلون له العطاء أكثر من إجزالهم لسماع شعر شاعر معاصر، إلا ما قد يكون منه في المدح والذم. وكان ربح الراوية القدر المتبحر بالشعر الجاهلي المتجر به العارف بنظم الشعر لا يقل عن ربح الشاعر العظيم إن لم يزد عليه في أكثر الأحيان. والعادة أن مكافأة الشاعر المعاصر على شعر، لا تكون إلا في أمور لها صلة بالمجتمع، مثل المدح والهجاء والهزل والاستخفاف والتضحيك، أما في غير ذلك فتقديره إلى العلماء وأصحاب الذوق، وهم لا يثيبون على هذه الأمور إلا قليلا، ولهذا يكون تقدير الشاعر الذي لا يمدح ولا يهجو ولا يتقرب لأحد بالأمور المذكورة، بعد موته في الغالب، فلا ينال مثل هذا الشاعر من العيش ما يكفيه. ثم إن الراوية مطلوب في كل وقت، مرغوب فيه، وسوقه رائجة. فإذا غنت مغنية بيتًا قديمًا، أراد السامعون معرفة صاحبه، وأكثر الناس خبرة بأصحاب الشعر القديم هم الرواة، وهم قلة، لما يجب أن يكون في الراوية من خصائص تجعله من نوادر الرجال. فالذكاء الخارق، والعلم بالشعر وبأساليبه، والتمكن من العربية بمفرداتها وبلهجاتها وبالقبائل وبأيام العرب وبأمثال ذلك، هي من اللوازم التي لا تتهيأ لكل إنسان، ولذلك لم يكن أمثال هؤلاء الرواة إلا أفرادًا نص العلماء على أسمائهم نصًّا. وقد نالوا في أيامهم شهرة لم تكن أقل منزلة من شهرة أفذاذ الشعراء، وقد تدرب عليهم فحول الشعراء، وتخرج من مدرستهم أعاظم شعراء العرب في الإسلام. فرواية الشعر إذن وحفظه وصنعه، لم تكن حرفة سهلة يسيرة، ولا منزلة صغيرة بالنسبة إلى منزلة الشاعر، إنها لا تقل في السمو عن أرفع منزلة وصل إليها الشعراء في ذلك العهد. ولم يقل دخل الراوية من عطايا الملوك وهداياهم بأقل من دخل الشاعر، إن لم يزد عليه في بعض الأحيان، ولهذا فليس بغريب إذا ما رأينا الشاعر ينسب شعره للجاهليين، ويرويه على أنه من شعر شاعر جاهلي قديم، ولا ينسبه لنفسه. وآفة ما تقدم عدم التدوين والتقييد، ولو كان الشعر مدونًا في صحف وكتب،

ومقيدًا على حجر، لما ضاع هذا الضياع، ولما اعتوره هذا التغيير، الخطير، فحوّر فيه وغيَّر، وقد أدرك أثر هذا المرض على الشعر، شاعر إسلامي، هو ذو الرمة، فقال: لعيسى بن عمر: اكتب شعري، فالكتاب أحب إلي من الحفظ لأن الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهر في طلبها ليلته، فيضع في موضعها كلمة في وزنها، ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلامًا بكلام"1. وقد كان للشعراء الذين ظهروا في أيام الأمويين رواة، يروون شعرهم، كما كانوا يهذبونه وينقحونه ويدخلون بعض التغيير عليه، بعلم الشاعر وبموافقته، لعلة فاتت عليه، فقد كان لجرير رواته، وكان للفرزدق رواته، وكانوا يقوّمون ما انحرف من شعرهم وما قد يكون فيه من سناد وعيوب، خفي أمرها على الشاعر، فأدرك أمرها الرواة2.

_ 1 الحيوان "1/ 41"، "عبد السلام محمد هارون". 2 الأغاني "4/ 256 وما بعدها".

رواة الشعر

رُوَاةُ الشِّعْرِ: وقد ذكر علماء الشعر أن الشعراء في الجاهلية كانوا يتخذون لهم رواة يحفظونهم شعرهم حفظًا ويروونه رواية. ومعنى هذا أن أولئك الرواة كانوا يلازمون الشعراء، فإذا نظم الشاعر شعرًا تلاه على راويته ليحفظه فلا ينساه، وإذا غيّر الشاعر في شعره أو عدل فيه أشار على راويته بما غير وعدل حتى يعدل هو ويغير في الذي حفظه. فراوية الشاعر، هو نسخة ثانية حافظة لشعر الشاعر، أما النسخة الأولى، فهو الشاعر نفسه. وقد يتهيأ للشاعر جملة رواة، ويقال لمن يحفظ الكثير من الشعر، وللكثير الرواية هو "راوية للشعر"1. وأولئك الرواة، هم دواوين شعر ناطقة، تحفظ المتون، أي أصول الشعر، كما تحفظ المناسبات، أي الظروف التي قيل فيها الشعر. وهم أنفسهم ذوو حس مرهف، وفهم عالٍ للشعر. إذ لا يقبل على رواية الشعر وحفظه إلا أصحاب الحس المرهف الموهوبون، الذين لهم طبع شاعري، وميل غريزي فيهم إليه. ولهذا تنتهي الرواية بالراوية في الأغلب إلى قول الشعر ونظمه، فيكون في

_ 1 تاج العروس "10/ 158"، "روى".

عداد فحول الشعراء. والرواية هي تمرين وإعداد لقول الشعر، ولفهم دروبه، تساعد الموهوب في إظهار مواهبه. "فقد وجدنا الشاعر من المطبوعين المتقدمين يفضل أصحابه برواية الشعر، ومعرفة الأخبار، والتلمذة لمن فوقه من الشعراء، فيقولون: فلان شاعر راوية، يريدون أنه إذا كان راوية عرف المقاصد، وسهل عليه مأخذ الكلام، ولم يضق به المذهب، وإذا كان مطبوعًا لا علم له ولا رواية ضل واهتدى من حيث لا يعلم، وربما طلب المعنى فلم يصل إليه وهو مائل بين يديه، لضعف آلته كالمقْعَد يجد في نفسه القوة على النهوض فلا تعينه الآلة. وقد سئل رؤبة بن العجاج عن الفحل من الشعر، فقال: هو الراوية، يريد أنه إذا روى استفحل. قال يونس بن حبيب: وإنما ذلك لأنه يجمع إلى جيد شعره معرفة جيد غيره، فلا يحمل نفسه إلا على بصيرة. وقال الأصمعي: لا يصير الشاعر في قريض الشعر فحلا حتى يروي أشعار العرب"1 والشعراء جميعا، هم في أول أمرهم بالشعر رواة شعر، ولا يكون الشاعر منهم شاعرا حتى يحفظ الشعر ويرويه، لأن الحفظ يساعد على قول الشعر ونظمه، ويكون تمرينًا له، ولا زال أمر الشعراء عندنا على هذا النحو، فأكثر شعرائنا هذا اليوم هم رواة في الأصل، حفظوا من الشعر ما ساعدهم على النظم، يضاف عليه موهبة الشاعر وسليقته فيه. وقد يقال إن الشاعر الراوية أمكن في الشعر وأقدر عليه من الشاعر، الذي لا يروي من الشعر إلا يسيرًا، أو لا يحفظ منه شيئًا، لأن الشاعر الراوية يتعلم من فنون الأقدمين ومن خبرتهم وتجاربهم في النظم ما يخفى على من ليس له علم سابق به.

_ 1 العمدة "1/ 197 وما بعدها"، "باب في آداب الشاعر".

الشعراء الرواة

الشُّعَرَاءُ الرُّوَاةُ: وقد ذكر أهل الأخبار أسماء عدد من شعراء الجاهلية، بدءوا حياتهم في قول الشعر بروايته وحفظه، ثم صاروا من أكابر الشعراء. منهم زهير بن أبي سلمى، فقد بدأ حياته في الشعر راوية لشعر أوس بن حجر، وكان أوس راوية

الطفيل الغَنَوِيّ وتلميذه1. ومنهم: كعب بن زهير بن أبي سُلْمَى، فقد كان راوية لوالده، ثم الحطيئة، فقد بدأ الشعر برواية شعر زهير وآل زهير2. وكان زهير راوية طفيل الغنوي أيضا، وكان امرؤ القيس راوية أبي دواد الإيادي3، وكان الأعشى راوية لشعر المسيب بن علس، والمسيب خال الأعشى4. ولا نكاد نجد شاعرًا لم يحفظ شعر غيره من الشعراء المتقدمين عليه، أو من المعاصرين له. والشاعر العربي حتى اليوم، لا يكون شاعرًا فحلا في الشعر، إلا إذا حفظ من شعر غيره من الشعراء الفحول، فحفظ الشعر يدربه ويقويه على نظم الشعر، وكذلك كان أمر الشعراء الجاهليين. ويؤيد هذا الرأي ما نجده في الأخبار من حفظ الشعراء شعر غيرهم ومن مناقضتهم للشعراء في شعرهم، مما يدل بالطبع على حفظهم له. قال رؤبة: الفحولة هم الرواة، "يريد الذين يروون شعر غيرهم، فيكثر تصرفهم في الشعر ويقوون على القول"5، فروايتهم للشعر أكسبتهم علمًا بأبوابه وبفنونه، ومكنتهم منه حتى صار يخرج على ألسنتهم سهلا قويًّا جيدًا، لما صار لهم من علم به ومران في حفظه. ويكاد يكون لكل شاعر جاهلي راوية يصحبه، يروي عنه أشعاره، وينشرها بين الناس. وربما احتذى آثاره الفنية من بعده، وزاد عليها من عنده. وكان هؤلاء الرواة يعتمدون في الغالب على الرواية الشفوية ولا يستخدمون الكتابة إلا نادرًا"6. ومن رواة الأعشى، الراوية عبيد، وكان يصحب الأعشى ويروي شعره، وكان عالمًا بالإبل، وكان يسأله عن شعره وعن معانيه وألفاظه، وعنه أخذ الرواة مثل "سماك" أخبار الأعشى وشعره7. وسماك هو سماك بن حرب، وهو من مشاهير الرواة.

_ 1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 76"، بروكلمن "1/ 95". 2 الأغاني "2/ 165"، "دار الكتب"، "8/ 91". 3 العمدة "1/ 198"، بروكلمن "1/ 95". 4 الموشح "51"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 107". 5 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 9"، العمدة "1/ 114"، "باب في الشعراء والشعر". 6 بروكلمن "1/ 64 وما بعدها". 7 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 181".

وكان من رواة الأعشى يحيى بنُ متى، وهو من أهل الحيرة، وكان نصرانيًّا عباديًا معمرًا1، وله راوية آخر اسمه يونس بن متى2، وهو كما يظهر من اسمه من النصارى كذلك، وقد يكون هذا الشخص، هو الأول أي يحيى، حرَّف النساخ اسمه، فصار يونس3. ولما كان بعض الرواة من الكتبة، فلا استبعد أن يكون من بينهم من دوَّن شعر شاعره إلى جانب حفظه لشعره، وذلك ليرجع إليه فيما إذا خانته حافظته، أو شك في شيء منه، أو لإجراء تنقيح في شعر شاعره، وتوجد روايات تشير إلى وقوع مثل هذا التدوين، غير أننا لا نستطيع أن نسلم بتأكيدها أو أن نقوم بنفيها في الوقت الحاضر، فمثل هذه الأحكام تحتاج إلى أدلة قوية مقنعة، ولا يمكن لنا التسليم بصحة تلك الروايات أو بردها في الوقت الحاضر4. وقد تخصص بعض الناس برواية شعر جملة شعراء، وتخصص آخرون برواية شعر قبيلة، أو شعر جملة قبائل. ويظهر أن أسلوب الحفظ والتسجيل في الذاكرة، كان الأسلوب الشائع بين الجاهليين في ذلك الزمن في الإبقاء على النثر أو الشعر، وقد كان هذا الأسلوب متبعًا عند غير العرب في تلك الأيام، إذ كانوا يقيمون وزنًا كبيرًا للرواية، حتى إنهم كانوا يفضلون الحفظ على القراءة عن كتاب أو صحيفة، ولا سيما بالنسبة للكتب المقدسة والكتب الدينية الأخرى وفي الأمور النابهة مثل الشعر. يرون أن في القراءة ثوابًا وأجرًا عظيمًا، وتعظيمًا لشأن المقروء. ولا أستبعد أن تكون هذه النظرة هي التي جعلت أصحاب الرسول يحفظون القرآن ويتلونه تلاوة من غير قراءة عن كتاب ولا نظر في صحيفة، يتلونه أمام الرسول وبين أنفسهم وبين الناس، ولا يقرءونه عن كتاب، مع أن منهم من كان يقرأ ويكتب وقد جمع القرآن. وكان تقدير العالم آنذاك بحفظه، لا بما يكتبه من صحف وبما يؤلفه من مؤلفات، ولهذا اشتهر كثير من العلماء بسعة علمهم، مع أنهم لم يتركوا أثرًا مكتوبًا، لأن العلم بالحفظ لا بالتدوين، وقد ينتقص من شأن العالم إذا تلا علمه عن كتاب،

_ 1 الأغاني "9/ 112". 2 المعرب، للجواليقي "46". 3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "216 حاشية 1"، مصادر الشعر الجاهلي "240 وما بعدها". 4 بلاشير "101".

حتى إن كان ذلك الكتاب كتابه، لأن القراءة عن كتاب لا تدل على وجود علم عند القارئ، وشأنه إذن دون شأن الحافظ، الخازن للعمل في دماغه المملي للعلم إملاء، وكانوا إذا انتقصوا عالمًا قالوا: إنه يتلو عن صحيفة، أو يقرأ عن صحيفة أو كتاب، ومن هنا قيل للذي يقرأ في صحيفة ويخطئ في قراءتها المصحفون، قال ابن سلام: "فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق ومثل ما يروي الصحفيون ما كانت إليه حاجة، ولا كان فيه دليل على علم"1. وقد حمل ابن سلام على رواة الشعر الذي تداولوه من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وإنما العلم علم العلماء بالشعر وأهل الرواية الصحيحة، أما أهل الصحف، الذين يروون من صحيفة، فلا يروى عنهم، إذ لا يروى عن صحفي"2. وانتقصوا من علم القاسم بن محمد بن بشار الأنباري، ومن روى عنه مثل أحمد بن عبيد، الملقب أبا عصيدة، لأن هؤلاء "رواة أصحاب أسفار"، فهم لا يذكرون مع العلماء حفظة العلم3، والرواة أصحاب السفر، والصحفيون، إنما كانوا يعتمدون على الصحف، ويحلون منها، ولذلك فقد يقع اللحن أو الخطأ منهم سهوًا أما الرواة الحفاظ، فلا يقع ذلك منهم إلا في النادر، ثم إنهم ينشدون الشعر من مخارجه وحروفه، وهذا هو تفسير قول ابن سلام وأضرابه: "ليس لأحد أن يقبل من صحيفة، ولا يروي من صحفي"4. وفي جملة ما آخذ به ابن سلام الصحفيين، أي الذين يكتبون ويدونون ما يقال لهم، دون نقد، أنهم لم يكونوا أصحاب رأي وعلم، بل كانوا يقبلون كل ما يقال لهم، كما هو واضح من قوله في ابن اسحاق: "فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق، ومثل ما رواه الصحفيون، ما كانت إليه حاجة، ولا فيه دليل على علم"5. ولهؤلاء الرواة فضل كبير -ولا شك- على الشعر الجاهلي وعلينا أيضا، فبحفظهم لذلك التراث القيم وبإذاعته وبنشره بين أبناء زمانهم، أمكن وصوله إلى من جاء بعدهم من عشاق الشعر والمتيمين به، حتى وصل إلى أيدي المدونين فدونوه.

_ 1 الْمُزْهِرُ "1/ 174". 2 ابن سلام، طبقات "5 وما بعدها". 3 الْمُزْهِرُ "2/ 413". 4 طبقات "5 وما بعدها". 5 طبقات "11".

وصل بأفواه متعددة، ومن الصدور، ولهذا تعددت الروايات واختلفت القراءات وهذا شيء لا بد أن يحدث، وهو أمر غير مستغرب، فحفظ الصدور لا يكون كحفظ السطور. ولو كان الشعر قد دون في ذلك العهد، وسجل في صحف ودواوين لما اختلف الرواة الإسلاميون في تدوينه يوم شرعوا في جمع ذلك الشعر وتدوينه في دواوين. فنجد الرواة قد يختلقون في عدد أبيات القصيدة وفي ترتيبها وفي نص البيت، فترى روايات متعددة تمس بيتًا واحدًا، لا تمس شكل الكلمة، بحيث نرجع ذلك إلى خطأ النُّساخ، وإنما تمس اللفظة نفسها، أو جملة ألفاظ شطر البيت أو البيت نفسه، وكتب الشعر والأدب مليئة بأمثال هذه الأمور التي هي من حاصل الاعتماد على الرواية الشفوية في حفظ الشعر. ومتى أنشد شاعر شعره، وأذاع روايته بين الناس، حفظ وطار بين طلاب الشعر وعشاقه، لا سيما إذا كان مما يتصل بالناس. هذا عميرة بن جعل يهجو قومه، ثم يندم على ما قال، فيقول: ندمت على شتم العشيرة بعدما ... مضت واستتبت للرواة مذاهبه فأصبحت لا أسطيع دفعا لما مضى ... كما لا يرد الدَّر في الضرع حالبه1 وفي هذا المعنى جاء شعر المسيب بن علس. فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع ترد المياه فما تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع2 فالشعر تحمله الرياح وتنشره بين الناس، فيحفظ، ويرويه الرواة. وكما كان لهم فضل على الشعر في تدوينه وتخليده، فكذلك كان لهم يد في إفساده وفي غشه وتزييفه. فقد كان منهم من يخلط في الشعر، ومنهم من كان يضيف عليه أو ينقص منه، أو يصنع الشعر فينحله الشعراء، ولما قيل للحطيئة، وهو من المخضرمين أوصِ قال: "ويل للشعر من الرواة السوء"3. وفي قول

_ 1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 544"، المفضلية رقم63. 2 المفَضَّلِيَّات "62"، العصر الجاهلي "142". 3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 239"، "دار الثقافة، بيروت".

هذا الشاعر الخبير بدروب الشعر وفنونه، شهادة كافية على ما كان لرواة الشعر من أثر في رواية الشعر، غير أن منهم من كان يحسن الشعر ويقومه، ذكر عن "ابن مقبل" قوله: "إني لأرسل البيوت عوجًا، فتأتي الرواة بها قد أقامتها"1. وقد تحدث "الجاحظ" عن رواة الشعر في أيامه، وعن ألوان الشعر التي كان الرواة يبحثون عنها، فقال: "وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين ومن لم يرو أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة، فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الحديث والقصائد، والفقر والنتف من كل شيء. ولقد شهدتهم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب العباس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهوهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب. ثم رأيتهم منذ سنيات، وما يروي عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فتياني منعزل. وقد جلست إلى أبي عبيدة، والأصمعي، ويحيى بن المنجم، وأبي مالك عمرو بن كركرة مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده، وكان خلف يجمع ذلك كله. ولم أرَ غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب. ولم أرَ غاية رواة الأشعار إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج. ولم أرَ غاية رواة الأخبار إلى كل شعر فيه الشاهد والمثل"2.

_ 1 مجالس ثعلب "481". 2 البَيَانُ والتَّبْيينُ "3/ 23 وما بعدها".

التصحيف والتحريف

التَّصْحِيفُ والتَّحْرِيفُ: أصل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة، ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب. وقد وقع فيه جماعة من الأجلاء من أئمة اللغة

وأئمة الحديث، حتى قال الإمام أحمد بن حنبل: من يعرى من الخطأ والتصحيف؟! قال ابن دُرَيد: صحف الخليل بن أحمد، فقال: يوم بغاث بالغين المعجمة، وإنما هو بالمهملة. أورده ابن الجوزي. وهو شيء لا يمكن وقوعه من الخليل، صاحب العلم الغزير بأحوال العرب، وقد يكون من فعل النساخ، إن صح كلام ابن الجوزي، فنسب التصحيف إلى الخليل. وسببه الخط، أما لتشابه الحروف، وإما بسبب عدم وجود الحركات، فمن النوع الأول حديث ينسب إلى الرسول هو: "تسمعون جرش طير الجنة"، وكان الأصمعي قد سمعه في مجلس شعبة، فقال: "جرس" بالسين لا بالشين2. ومن هذا القبيل: ما وقع من تصحيف في شعر للحطيئة هو قوله: وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر أي كثير اللبن والتمر، وقد قرأ: وغررتني وزعمت أنك لا تني بالضيف تامر أي لا تتوانى عن ضيفك بتعديل القرى إليه. ومثل ذلك تصحيف الأصمعي في بيت لأوس: يا عام لو صادفت أرماحنا ... لكان مثوى خدك الأخرما فقرأه "الأحزما"، وإنما هو "الأخرما" بالراء، وهو طرف أسفل الكتف3. ومن ذلك ما وقع بين الأصمعي والمفضل عند عيسى بن جعفر، فقد ناظر المفضل الأصمعي، بأن أنشد بيت أوس بن حجر: وذات هدم عار نواشرها ... تصمت بالماء تولبًا جذعا فقال له الأصمعي: "هذا تصحيف، لا يوصف التولب بالإجذاع، وإنما

_ 1 الْمُزْهِرُ "2/ 353 وما بعدها". 2 الْمُزْهِرُ "2/ 354". 3 الْمُزْهِرُ "2/ 355".

هو جدعا. الجدع: السيِّئ الغذاء، قال: فجعل المفضل يشغب، فقلت له: تكلم كلام النمل وأصب. لو نفخت في شبور يهودي ما نفعك شيئًا"1. وقرئ يومًا على الأصمعي في شعر أبي ذؤيب: فقال أعرابي حضر المجلس للقارئ ضل ضلالك أيها القارئ! إنما هي ذات الدبر، وهي ثنيةٌ عندنا، فأخذ الأصمعي بذلك فيما بعد2. وقد أوردت الكتب أمثلة كثيرة على التصحيف، وقع فيه كثير من العلماء، من ذلك ما وقع لأبي عمرو وللأصمعي، ولأبي حاتم ولكبار علماء اللغة، ويعود سببه إلى التنقيط، فالحروف مثل الجيم، والحاء، والخاء، تميز بينها النقط، فإذا أخطأ الكاتب في وضع النقطة في محلها، وقع التصحيف. وقد يقع، ولا يقع خلل في القراءة، وإنما يتبدل المعنى، دون أن يشعر القارئ بوجود ارتباك في معنى المقروء، وقد يقع في الأعلام من أسماء الرجال والنساء والأمكنة، وقد وقع التَّصحيف في الكتب بسبب السهو في النسخ، أو جهل النُّسَّاخ، ومن ذلك ما وقع في كتاب "العين" وفي كتب لُغوية وأدبية ثمينة، أمكن رد بعضه إلى الصحيح، ولم يمكن تصحيح بعض آخر، لصعوبة تعيين المراد3. وقد روى العسكري قصة طريفة على التَّصحيف والتَّحْريف، ذكر أنه "كان حيان بن بشر قد ولي قضاء بغداد، وكان من جملة أصحاب الحديث فروى يوما أن عرفجة قطع أنفه يوم الكلاب، فقال له مستمليه: أيها القاضي، أنما هو يوم الكلام، فأمر بحبسه، فدخل إليه الناس، فقالوا: ما دهاك؟ قال: قطع أنف عرفجة في الجاهلية، وابتليت به أنا في الإسلام"4.

_ 1 مجالس العلماء، للزجاجي "14"، العسكري، التصحيف والتحريف "104"، الفاضل والمفضول "82"، المصون "192"، الحيوان "4/ 25"، إنباه الرواة "3/ 302". 2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 27". 3 الْمُزْهِرُ "2/ 353 وما بعدها"، النوع الثالث والأربعون، معرفة التصحيف والتحريف". 4 الْمُزْهِرُ "2/ 353".

الخلط بين الأشعار

الخَلْطُ بينَ الأَشْعَارِ: وبسبب اعتماد الرواة على الذاكرة في حفظ الشعر وروايته، وأنفة المتقدمين منهم من تدوينه، ومن الرجوع إلى الصحف وقع الخلط في شعر الشعراء، فصاروا ينسبون شعرًا لشاعر، بينما هو من شعر شاعر آخر. ونجد في كتب الأدب أشعارًا تنسب إلى شاعر، ثم تنسب إلى شاعر آخر، أو إلى شاعر ثالث في موضع آخر من الكتاب، أو في كتب أخرى. وما كان ذلك ليقع، لو كان القدماء قد أخذوا العلم بطريق الكتابة والتدوين. من ذلك مثلا الشعر: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا فإنه ينسب لأبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، وينسبه بنو عامر للنابغة الجعدي1. ومن ذلك قصيدة: تَطاوَلَ لَيلُكَ بالأَثمدِ ... ونامَ الخَليُّ ولم تَرقُدِ فقد نسبت لامرئ القيس الكندي، ونسبت لعمرو بن معدي كرب، ونسبت لامرئ القيس بن عانس2. وللسبب المتقدم وقع خلط في عدد أبيات الشعر، فقد زاد بعض الرواة في قصيدة شاعر، بينما نقص رواة آخرون عدد أبياتها، وقد يدخلون في القصيدة ما ليس منها بسبب اختلاط الشعر على الراوية، وما كان هذا ليقع لو ورد الشعر مدونًا منذ أيام الجاهلية. ومن ذلك أيضًا ورود الشعر بروايات وبأوجه مختلفة، فقد ورد الشعر المنسوب لأفنون التغلبي: لَو أَنَّني كُنتُ مِن عادٍ وَمِن إِرَمٍ ... غذى سخل ولُقمانا َوذا جَدَنِ بروايات مختلفة، كما قرئت بعض ألفاظه بأوجه مختلفة من أوجه الإعراب3،

_ 1 الْمُزْهِرُ "1/ 183". 2 السيوطي، شرح شواهد "2/ 731". 3 مجالس العلماء "42 وما بعدها".

وما كان ليقع هذا الاختلاف لو كان الشعر قد ورد مدوَّنًا أولا ومَشْكُولا ثانيًا، فلما جاء رواية بالألسن وقع فيه هذا الاختلاف. ونجد العلماء يغلط بعض بعضًا في إعراب ألفاظ الشعر، تتغير معانيه بقراءتها بأوجه متعددة من الأعراب، كما غلط بعضهم بعضًا وهاجم بعضهم بعضًا هجومًا عنيفًا خرج على حدود الأدب والياقة بسبب الإعجام، كما في "تعتر" و"تعنز" في بيت الحارث بن الحلِّزة: عنتا باطلا وظلمًا كما تعـ ـتر عن حجرة الربيض الظباء1 ونجد علماء الشعر والأدب يروون شعر شاعر بصور متباينة في كتبهم، فتجد الجاحظ مثلا، يروي أبيات شعر لشاعر، ثم يرويها بشكل يختلف عما ذكره لذلك الشاعر في موضع آخر من كتابه وذلك إما سهوًا، وإما باختلاف رواية، وإما من وقوع الزلل في اللسان. وتجد وقوع مثل ذلك في كتب اللغة، فقد ذكر ابن منظور بيتًا للأعشى هو: فأصبح لم يمنعه كيد وحيلة ... بساباط حتى مات وهو محرزق ثم ذكره بعد سطرين إلى هذه الصورة: هنالك ما أغنته عزة ملكه ... بساباط، حتى مات وهو محرزق2. وقد يقع ذلك عن تعمد، بسبب الاستشهاد في تأييد مسألة نحوية أو لغوية، فقد روي أن سائلا سأل أبا عمرو بن العلاء عن جمع يد من الإنسان، فقال: أيد، وأنكر أن تكون الأيادي إلا في النعم، وقال الأخفش: "أما إنها في علمه، غير أنها لم تحضره، ثم أنشد بيت عدي بن زيد العبادي: أنكرت ما تبينت في أياديـ ... نا واشناقها إلى الأعناق بينما يروي: ساءها ما بنا تبين في الأيدي ... واشناقها إلى الأعناق3

_ 1 مجالس العلماء "18" 2 اللسان "7/ 311"، "سبط". 3 مجالس العلماء، للزجاجي "162".

وقد كان العلماء يتحذلقون في مثل الأمور، ويبحثون جهدهم عن الشاذ والغريب في الشعر، بل أخذ بعضهم يفتعل الغريب، ويضع الشاذ، فينسبه إلى المتقدمين لإفحام الخصم، ولإظهار مقدرته العلمية وبراعته في علوم اللغة أمام الخلفاء والحاكم وهذا مما أساء بالطبع إلى العلم، إذا أدى إلى دخول المصنوع في الشعر، وإلى الإساءة إلى سمعة العلماء. وتجد في "مجالس العلماء" للزجاجي، مجالس فيها من استهتار كبار العلماء بعضهم ببعض، ومن وضع أحدهم على الآخر، ما يبعث على الشفقة على حال قسم منهم، لما بلغوه في كلامهم وفي تصرفاتهم من الإسفاف بسبب محاولتهم التقدم عند الحكام، بالمنزلة والجاه ونيل المال. على كل حال، فقد خفت فوضى الرواية، بعد إقبال الناس على التدوين، وتحبير الشعر وأمالي المجالس وأقوال العلماء وآرائهم على القراطيس، خاصة بعد شيوع الاستنساخ وظهور جملة نسخ للكتاب الواحد، فضبطت بهذه الطريقة الرواية بعض الضبط، وصرنا أمام روايات متعددة للقطعة أو للقصيدة، وقد سدد هذه الطريقة وزاد في تثبيتها إقبال العلماء على نشر المخطوطات نشرًا حديثًا بواسطة الطباعة فوفرت هذه الطريقة نسخ المخطوطات القديمة للباحثين، ويسرت لهم بذلك الوقوف عليها مما مكنهم من إبداء نظرهم على ما جاء فيها من روايات عن الشعر العربي القديم.

الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر

الفصل الثالث والخمسون بعد المئة: أشهر رواة الشعر مدخل ... الفَصْلُ الثَّالِثُ والخمسونَ بَعْدَ المائةِ: أَشْهَرُ رُوَاةِ الشِّعْرِ اشتهر مخرمة بن نوفل بن أهيب "وهيب" بن عبد مناف بن زهرة، وهو من قريش برواية الشعر وبالعلم به. "وكان من مسلمة الفتح، وله سر وعلم، كان يؤخذ عنه النسب1، ولا سيما نسب قريش إذ كان من العالمين به. وكان عالِمًا بأنصاب الحرم. فبعثه "عمر" هو وسعيد بن يربوع، وأزهر بن عبد عوف، وحويطب بن عبد العزى، فجددوها. وكانت أمه رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف شاعرة، وكانت لدة عبد المطلب2. وعُرف أبو الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عوف بالعلم بالشعر. وهو من بني عدي. وكان من معمري قريش ومن مشيختهم، وكان أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم النسب. وكان شديد العارضة، وكان "عمر" يمنعه حتى كف من لسانه. وكان من مسلمة الفتح، وكان مقدما في قريش معظمًا، وكانت فيه وفي بنيه شدة وعرامة3. وكان أبو بكر من الحافظين للشعر الراوين له، روى المطلب بن المطلب

_ 1 كتاب نسب قريش "262"، "وهيب"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 101". 2 الإصابة "3/ 370"، "رقم7842". 3 الإصابة "4/ 35 وما بعدها"، "رقم 207"، الاستيعاب "4/ 31 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، نسب قريش "369، 372".

ابن أبي وداعة عن جده قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر -رضي الله تعالى عنه- عند باب بني شيبة، فمر رجل وهو يقول: يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد الدار هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إقتار قال: فالتفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر فقال: أهكذا قال الشاعر؟ قال: لا والذي بعثك بالحق، لكنه قال: يا أيها الرجل المحول رحله ... الا نزلت بآل عند منف هبلتك أمك لو نزلت برحلهم ... منعوك من عدم ومن إفراف الخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يعود فقيرهم كالكافي ويكللون جفانهم بسديفهم ... حتى تغيب الشمس في الرجاف منهم علي والنبي محمد ... القائلون هلم للأضياف قال: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "هكذا سمعت الرواة ينشدونه" 1. وكان أبو بكر أحد العلماء بالنسب في قريش، وكانوا إذا أرادوا الوقوف على نسب رجل جاءوا إليه يسألونه، فهو عالم من علماء قريش فيه. وكان عمر بن الخطاب ممن يحفظون الشعر، ووصف بأنه كان عالمًا به2 وبأنه "كان أعلم الناس بالشعر"، وكان يحكم على الشعر وينتقده، ولا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر3، وأنه كان بصيرا به، حتى قيل عنه إنه كان "لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر"4، ورووا له أمثلة كثيرة من حفظه للشعر ومن حسن نقده له، ونفاذه في باطن معانيه ومحاسنه5.

_ 1 الأمالي، للقالي "1/ 241 وما بعدها". 2 العمدة "1/ 76"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 239". 3 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 241 وما بعدها". 4 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 241". 5 العِقْدُ الفريد "6/ 120 وما بعدها".

وذكر أنه كان يقدم امرأ القيس على بقية الشعراء1. وكانت عائشة من رواة الشعر، وكانت تحفظ منه ما شاء الله، قيل إنها قالت: "إني لأروي ألف بيت للبيد، وأنه أقل مما أروي لغيره2. وإنها كانت تحفظ من شعر كعب بن مالك شعرًا كثيرًا، منها القصيدة فيها أربعون بيتًا ودون ذلك3، وكان تتمثل بالأشعار، وربما دخل عليها رسول الله، فوجدها تنشد الشعر4. قال "أبو الزناد": "ما رأيت أحدًا أروى لشعر من عروة. فقيل له: ما أرواك، فقال: روايتي في رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا"، وورد عن عروة قوله: "ما رأيت أحدا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة"5. وروي أنها كانت تحث على تعلم الشعر وروايته، بقولها: "رووا أولادكم الشعر تعذب ألسنتهم"6. وكان ابن عباس من رواة الشعر وحفاظه. سأله عمر أن ينشده شعرًا، فطلب منه أن يذكر له اسم الشاعر لينشد له شعره، فقال زهير بن أبي سلمى، فأنشده "إلى أن برق الصبح"7، وزعم أنه كان يفسر كلمات كتاب الله بالشعر، قال أبو عبيد: "إنه كان يُسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر"8. وزعم أهل الأخبار أن نافع بن الأزرق، ونجدة بن عويمر، سألا ابن عباس عن كلمات واردة في القرآن، فجلس لهما بفناء الكعبة، وأخذ نافع يسأله الكلمة تلو الكلمة وهو يشرحها لهم بشعر، وقد دون نصها العلماء، أخرج بعضها ابن الأنباري في كتاب الوقف، والطبراني في معجمه الكبير، ويرجع سند ابن الأنباري إلى ميمون بن مهران، ويرجع سند الطبراني إلى الضحاك بن مزاحم، وقد أخذ السيوطي بالروايتين وسجلهما في كتابه

_ 1 الأغاني "8/ 199"، الفائق "1/ 343". 2 العِقْدُ "6/ 125". 3 الْمُزْهِرُ "2/ 309". 4 الأغاني "3/ 117". 5 الإصابة "4/ 349"، "رقم 704"، الاستيعاب "4/ 348 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 6 العِقْدُ "6/ 125". 7 الأغاني "10/ 291". 8 السيوطي، الإتقان "2/ 55".

"الإتقان في علوم القرآن"، بعد أن حذف منها نحو بضعة عشر سؤالا1. وقد وردت هذه الرواية الرواية بصورة مختلفة2، وذكر أن أبا عبيدة معمر بن المثنى، أخذ أسئلة نافع وأدخلها في كتابه في غريب القرآن3. وكان معاوية ممن يروي ويحفظ الشعر الجاهلي، وقد رووا عن حفظه للشعر الجاهلي واستشهاده به في كلامه شيئًا كثيرًا، فزعموا أنه كان يمتحن الناس بأشعار الجاهليين، فإذا وجد في أحدهم علمًا بها زاد في عطائه وقدمه عنده وأجزل عليه4. ورووا أنه كتب إلى زياد بشأن ابنه، وقد وجده عالما بكل ما سأله عنه إلا الشعر: "ما منعك أن ترويه الشعر؟ فوالله إن كان العاق ليرويه فيبر، وإن كان البخيل ليرويه فيسخو، وإن كان الجبان ليرويه فيقاتل5. ويروى أنه سأل عبد الله بن زياد: ما منعك من روايته؟ قال: كرهت أن أجمع كلام الله وكلام الشيطان في صدري، فقال: أعزب! والله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مرارًا، ما يمنعني من الإنهزام إلا أبيات ابن الإطنابة، وتمثل بها، ثم كتب إلى أبيه أن روِّه الشعر، فرواه فما كان يسقط عليه منه شيء6. وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع الشعر الجاهلي فقال: "والعرب أوعى لما تسمع، وأحفظ لما تأثر، ولها الأشعار التي تقيد عليها مآثرها، وتخلد لها محاسنها. وجرت من ذلك في إسلامها على مثل عادتها في جاهليتها، فبنت بذلك لبني مروان شرفًا كثيرًا ومجدًا كبيرًا وتدبيرًا لا يحصى"7. وقد كان لبني سفيان وآل مروان

_ 1 الإتقان "2/ 55- 88". 2 الكامل، للمبرد "566 وما بعدها". 3 السيوطي، الوسائل في مسامرة الأوائل "112"، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "243". 4 الأغاني "3/ 100 وما بعدها"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 333"، "3/ 9"، الفائق "1/ 240". 5 العِقْدُ الفريد "6/ 125". 6 الْمُزْهِرُ "2/ 310 وما بعدها"، وتروى هذه القصة بروايات أخرى، راجع المصون، للعسكر "136"، مجالس ثعلب "82" الأمالي، للقالي "1/ 158"، عيون الأخبار "1/ 126"، ديوان المعاني "1/ 114"، المرزباني، معجم "9"، "فراج"، عيون الأخبار "3/ 159"، مجالس ثعلب "67"، "عبد السلام محمد هارون". 7 البَيَانُ والتَّبْيينُ "88"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت 1959م، المطبعة الكاثوليكية".

عناية فائقة بالشعر الجاهلي، فقد كان "معاوية" كما ذكرت يحفظ كثيرًا من ذلك الشعر، وينقب عنه، وكان يسأل من يجد فيه العلم عنه، حتى زعم أنه ذكر قصيدتي عمرو بن كلثوم والحارث بن حِلِّزةَ اليَشْكُرِيّ، وقال: "كانتا من مفاخر العرب، وكانتا معلقتين بالكعبة دهرًا"1. وزعم أن بني أمية "كانوا ربما اختلفوا وهم بالشأم في بيت من الشعر، أو خبر، أو يوم من أيام العرب، فيبردون فيه بريدًا إلى العراق":2، وأنهم كانوا يسألون الوافدين عليهم من سادات القبائل ومن الأعراب ومن العارفين بالشعر عن الشعراء، وقد يذكرون بيتًا أو شعرًا حفظوه لا يدرون اسم قائله، فكانوا يستفسرون عن قائله، وعن المناسبة التي قال الشاعر شعره فيها، ويحسنون جائزة من له علم بالشعر والأخبار3. وكان عبد الملك بن مروان من العلماء بالشعر الجاهلي، قيل إنه كان يمتحن الناس به، ومنهم الحجاج بن أبي يوسف الثقفي4. وقد ذكر أنه استدعى إليه عامر بن شراحيل الشعبي، ليحدثه عن الحلال والحرام، وعن أشعار العرب وأخبارهم، وكان الشعبي من ذلك الطراز البارع في الشعر وفي أخبار العرب وفي الحلال والحرام5، وروي أن عبد الملك كان قد طرح أربعة من شعراء المعلقات، وأثبت مكانهم أربعة6، وإذا صح هذا الخبر دل على وجود القصائد المسماة بالمعلقات في ذلك العهد. وروي أنه كان يقول: إذا أردتم الشعر الجيد، فعليكم بالزرق من بني قيس بن ثعلبة، وبأصحاب النخيل من يثرب، وأصحاب الشعف من هذيل7. ويظهر أنه كان من المعجبين بشعر الأعشى، روي أنه قال لمؤدب ولده: "أدبهم برواية شعر الأعشى فإنه لكلامه عذوبة"8. والأعشى هو من بني قيس بن ثعلبة،

_ 1 الخزانة "3/ 162"، 2 العسكري، التَّصحيف والتَّحريف "4". 3 الأغاني "3/ 91". 4 ياقوت، إرشاد "1/ 27"، الأمالي، للقالي "1/15". 5 إرشاد "1/ 96 وما بعدها"، الخزانة "2/ 250"، "هارون". 6 الخزانة "1/ 61"، الخزانة "1/ 288"، "بولاق". 7 العِقْدُ "6/ 124". 8 جمهرة أشعار العرب "63".

وقد كان يقيم وزنًا كبيرًا للشعر في تأديب الأولاد. فكانت وصيته لمؤدب ولده: "روهم الشعر، روهم الشعر، يمجدوا وينجدوا"1. وروي أنه تمثل وهو بمرضه الذي مات فيه بشعر ابن قميئة، وذلك أمام الشعبي، فأنشده الشعبي شعرًا من شعر لبيد2. ونجد في الأخبار أن عبد الملك، كان إذا شك في شعر، أو أراد الوقوف عليه وعلى ظروفه، كتب إلى العلماء به، يسألهم عنه، أو يستدعي من يعرف أن له علمًا به، فيسأله عنه، أو يسأل آل الشعر أو أحد أفراد قبيلته عنه. وكان كثير الحفظ له، حتى كاد لا يدانيه فيه كثير من حفاظ الشعر، وكان يجمع إليه الشعراء في يوم، حتى يستمتع بإنشاد شعرهم، وشعر المتقدمين عليهم. وكان له ذوق في الشعر ونقد دقيق له، ذكر أنه قال يومًا للشعراء وقد اجتمعوا عنده: "تشبهوننا بالأسد والأسد أبخر، وبالبحر والبحر أجاج، وبالجبل مرة والجبل أوعر، أقلتم كما قال أيمن بن خريم" ثم ذكر شعره في بني هاشم3. وقال للأخطل، وقد كان قد قال له: "يا أمير المؤمنين، قد امتدحتك فاستمع مني" "إن كنت إنما شبهتني بالصقر والأسد فلا حاجة لي في مدحتك، وإن كنت كما قالت أخت بني الشريد4 لأخيها صخر فهات. فقال الأخطل: وما قالت يا أمير المؤمنين؟ قال: هي التي تقول: وما بلغت كف امرئ متناول ... من المجد إلا حيث ما نلت أطول5 ثم قرأ عليه الأبيات. ولما دخل "جرثومة" الشاعر على عبد الملك بن مروان، فأنشده والأخطل حاضر، "قال عبد الملك للأخطل: هذا المدح ويلك يابن النصرانية"6. وكان يجمع بين الشعراء، ويستمع إلى شعرهم، يجمعهم حتى إن كانوا

_ 1 العِقْدُ "6/ 125". 2 الخزانة "2/ 251"، "هارون ". 3 المصون في الأدب، لأبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري "ص62"، "تحقيق عبد السلام محمد هارون"، "الكويت 1960م". 4 يعني الخنساء. 5 المصون "63". 6 المصون "64".

متعادين متنافسين، فقد جمع بين جرير، والفرزدق، والأخطل، في مجلس واحد، وذكر أنه سأل أعرابيًّا شاعرًا عن أهجى بيت في الإسلام، وعن أرق بيت في الإسلام، فأشار إلى أبيات لجرير، وفضل جريرًا عليهما، فأيده عبد الملك في هذا الرأي1. وقد وصف عامر الشعبي، "عبد الملك بن مروان" وصفًا يدل على شدة إعجابه به؛ إذ يقول في وصفه له: "فلما فرغ من الطعام وقعد في مجلسه واندفعنا في الحديث، وذهبت لأتكلم، فما ابتدأت بشيء من الحديث إلا أستلبه مني فحدث الناس به، وربما زاد فيه على ما عندي، ولا أنشدته شعرًا إلا فعل مثل ذلك. فغمّني ذلك، وانكسر بالي له، فما زلنا على ذلك بقية نهارنا، فلما كان آخر وقتنا التفت إلي وقال: يا شعبي، قد والله تبينت الكراهية في وجهك لما فعلت، وتدري أي شيء حملني على ذلك؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين. قال: لئلا تقول: لئن فازوا بالملك أولا لقد فزنا نحن بالعلم، فأردت أن أعرفك أنَّا فُزنا بالملك وشاركناك فيما أنت فيه"2، ولهذا اجتمع إليه الشعراء وعلماء الأخبار ورواة الناس، حتى حفلت بهم مجالسه، وكان يذاكرهم ويحادثهم وينوه بهم ويدني مجالسهم3. وذكر أن عبد الملك أرسل إلى الحجاج أن يرسل إليه الشعبي، فأرسله إليه، فلما دخل عليه كان الأخطل عنده، فأخذ يسأله عن الشعر، ويسأل الأخطل عنه، حتى إذا انتهى، قال له: يا شعبي، إنما أعلمناك هذا، لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام ويقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة، فلن يغلبونا على العلم والرواية، وأهل الشام أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق"4. وكان الشعبي قد جعل الخنساء أشعر النساء أما عبد الملك ففضل ليلى الأخيلية عليها. فشق ذلك على الشعبي، فقال له ذلك القول، وردد عليه أبيات الأخيلية حتى حفظها. والرواية المتقدمة التي أخذتها من الرافعي هي هذه الرواية بشيء من التغيير. وكان يتمثل بالشعر الجيد، ويثني على الحسن منه، ويحسن نقده. تمثل بشعر

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 45 وما بعدها". 2 الزجاجي، مجالس العلماء "209". 3 الرافعي "1/ 407". 4 آمالي المرتضى "2/ 16 وما بعدها".

لهذيل بن مشجعة البولاني، وقال: "هذا والله شعر الأشراف. نفى عن نفسه الحسد واللؤم والانتقام عند الإمكان، والمسألة عند الحاجة:"1.وله مجالس كان يسأل فيها الناس عن الشعر، يمتحنهم، وذكر أنه سأل رجل وهو بالكوفة عن شعر ذي الأصبع العدواني" وعن أخباره، وكان من عدوان، فلما وجده جاهلا حط من عطائه2، وذكر أنه اجتمع بالربيع بن ضبيع الفزاري، وسأله عن أخباره3 وأنه كان يبدي ملاحظات قيمة على أشعار الشعراء الجاهليين والمعاصرين له4. وروي أنه كان يبحث عن شعر الشعراء بما فيهم الشعراء والمعاصرون له، فلما قدم الأجرد "الأحرد"، وهو من شعراء ثقيف في نفر من الشعراء، قال له: إنه ما شاعر إلا وقد سبق إلينا من شعره قبل رؤيته فما قلت"5. وكان الوليد وسليمان ابنا عبد الملك من المولعين بالشعر كذلك، وذكر أن الوليد كان يقدم النابغة على غيره من الشعراء، وكان سليمان يقدم امرأ القيس، فذكر ذلك لعبد الملك، فبعث إلى أعرابي فصيح، ليكون الحكم بينهما6.ورويت القصة بشكل آخر، ورد فيها أن الوليد بن عبد الملك تشاجر مع أخيه مسلمة في شعر امرئ القيس والنابغة الذبياني في وصف طول الليل أيهما أجود، فرضيا بالشعبي فأحضر، فصار الحكم بينهما7. وكان هشام بن عبد الملك من المولعين بالشعر كذلك، ذكر أنه كتب إلى عامله في أشخاص "حماد" الراوية إليه لبيت سمع لم يعرف اسم قائله. وكان الوليد بن يزيد من المتيمين بالشعر، وهو نفسه شاعر مجيد، وكان يستدعي حماد الرواية ليسأله عن الشعر، وقد قتل في سنة ست وعشرين ومائة. وكان منهمكًا في اللهو وشرب الخمر وسماع الغناء، ذكر أنه استفتح

_ 1 رسائل الجاحظ "1/ 362 وما بعدها"، "كتاب فصل ما بين العداوة والحسد". 2 أمالي المرتضى "1/ 249 وما بعدها". 3 أمالي المرتضى "1/ 253". 4 أمالي المرتضى "1/ 278". 5 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 620". 6 الزجاجي، مجالس العلماء "272". 7 الخزانة "2/ 325 وما بعدها".

القرآن، فخرج له: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيد} 1، فألقاه ونصبه غرضًا ورماه بالسهام، وقال: تهددني بجبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل: يا رب مزقني الوليد2 وكان إذا أراد الاستفسار عن شعر جاهلي خفي أمره عليه، أرسل إلى حماد يسأله عنه3، كما كان يسأل غيره عنه كذلك. وروي أنه نشر يومًا المصحف، وجعل يرميه بالسهام، وهو يقول: تذكرني الحساب ولست أدري ... أحقًّا ما تقول من الحساب فقل لله يمنعني طعامي ... وقل لله يمنعني شرابي وأنه قال: اسقياني وابن حرب ... واسترانا بإزار فلقد أيقنت أني ... غير مبعوث لنار واتركا من طلب الجنـ ... ـة يسعى في خسار سأسوس النسا حتى ... يركبوا دين الحمار4. إلى غير ذلك من أشعار وأخبار، وروايات تتهجم عليه، نسبت بعضها إلى أهله وأقاربه، بل زعم أن الرسول لعنه في حديثه5، ومثل هذه الأحاديث من الحديث الموضوع.

_ 1 إبراهيم، الآية: 15. 2 الخزانة "2/ 228"، "هارون"، الخزانة "1/ 328"، "بولاق". 3 الخزانة "4/ 129"، "بولاق"، وورد بصورة أخرى تختلف بعض الاختلاف عن هذه الرواية، أمالي المرتضى "1/ 130". 4 أمالي المرتضى "1/ 129"، ورويت بصورة أخرى، الأغاني "7/ 46"، رسالة الغفران "444". 5 أمالي المرتضى "1/ 129"، راجع رسالة الغفران حيث تجد بعض أشعاره "444 وما بعدها".

وفي شعر الوليد سلاسة وطبع، وعدم مبالاة، فالحياة في نظره، سماع غناء، وخمر طيب، أما الحكم والملك، فلا يساويان شيئًا: أنا الأمامُ الوليد مفتخرًا ... أجرّ بردي، وأسمع الغزلان أسحب ذيلي إلى منازلها ... ولا أبالي من لامَ أو عذلا ما العيش إلا سماع محسنة ... وقهوة تترك الفتى ثملا لا أرتجي الحور في الخلود وهل ... يأمل حور الجنات من عقلا؟ إذا حبتك الوصال غانية ... فجازها بذلها كمن وصلا ويقال إنه لما أحيط به، دخل القصر وأغلق بابه وقال: دعوا لي هندًا والرباب وفرتني ... ومسمعة، حسبي بذلك مالا خذوا ملككم، لا ثبت الله ملككم ... فليس يساوي بعد ذاك عقالا وخلُّوا سبيلي قبل عيرٍ وما جرى ... ولا تحسدوني أن أموت هزالا1 وكان ابن شهاب الزهري من رواة الشعر، وكان من المؤلفين، وقد توفي سنة "124هـ"2، وكان راوية للشعر، يحفظ الكثير منه، حتى كان الأمويون إذا أشكل عليهم أمر من أمور الشعر، أرسلوا إليه يسألونه عنه3. وكان عروة بن الزبير من رواة الشعر، ويعد من أشهر رواته عند أهل الحجاز، روى عن عائشة، وكان يقول: "روايتي في رواية عائشة"4، وقد روى عن أختها أسماء بنت أبي بكر، روى عنها شعرًا لزيد بن عمرو بن نفيل، ولورقة بن نوفل5 وكان يزور آل مروان، رآه الحجاج "قاعدًا مع عبد الملك بن مروان، فقال عروة: أنا لا أم لي! وأنا ابن عجائز الجنة! ولكن إن شئت أخبرتك من لا أم له يا ابن المتمنية! فقال عبد الملك: أقسمت عليك أن تفعل، فكف عروة. والمتمنية، هي الفريعة بنت همام، أم الحجاج

_ 1 رسالة الغفران "444 وما بعدها"، الأغاني "7/ 46، 73". 2 المعارف "472". 3 الأغاني "4/ 248". 4 الإصابة "4/ 349"، "رقم704". 5 الأغاني "3/ 124 وما بعدها".

وهي القائلة: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج1 وللمتمنية قصة، لا تخلو أن تكون من وضع أعداء الحجاج. وقد نسب أهل الأخبار إلى بعض رواة الشعر حفظ الشيء الكثير من ذلك الشعر، نسبوا إلى بعضهم حفظ آلاف القصائد عدا القطع والأراجيز، وذكروا مثلا أن حمادًا الرواية كان يحفظ "27" قصيدة على كل حرف من حروف الهجاء ألف قصيدة2. وأن الأصمعي كان يحفظ "16" ألف أرجوزة3، وأن أبا ضمضم كان يروي لمائة شاعر اسم كل منهم عمرو4، وأن أبا تمام حفظ "14" ألف أرجوزة من أراجيز الجاهلية غير القصائد والمقاطيع5، إلى أمثال ذلك من أرقام لا تخلو من مبالغات أهل الأخبار. وروي أن فتيانًا جاءوا إلى أبي ضمضم بعد العشاء، فقال لهم: ما جاء بكم يا خبثاء؟ قالوا: جئناك نتحدث، قال: كذبتم، ولكن قلتم كبر الشيخ فنتلعبه عسى أن نأخذ عليه سقطة! فأنشدهم لمائة شاعر، وقال مرة أخرى لثمانين، كلهم اسمه عمرو6. وقال الأصمعي: "فعددت أنا وخلف الأحمر فلم نقدر على ثلاثين. فهذا ما حفظه أبو ضمضم، ولم يكن بأروى الناس، وما أقرب أن يكون من لا يعرفه من المسمين بهذا الاسم أكثر ما عرف". ولما نشأ التدوين بالمعنى المفهوم من هذه اللفظة في الإسلام، كان الشعر في طليعة الموضوعات التي عني الناس بها في أيام الأمويين فما بعد. فجمعوا شعر الشعراء على انفراد، وجمعوا شعر جماعة منهم، أو شعر قبيلة أو قبائل، وجمعوا

_ 1 الفائق "3/ 52 وما بعدها". 2 النجوم الزاهرة "1/ 420"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية"1/ 77". 3 ابن خِلِّكَان "1/ 121"، طبقات الأدباء "151"، زيدان "1/ 77". 4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "4"، زيدان "1/ 77". 5 ابن خِلِّكَان "1/ 121"، زيدان "1/ 77". 6 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "9"، "الثقافة".

شعر طبقة من الطبقات الاجتماعية، كما عنوا بالاختيارات وغير ذلك1. وقد أخذ بعض رواة الشعر الجاهلي من منابعه، أي من القبائل، "قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: دخل أبو عمرو إسحاق بن مرار البادية ومعه دستيجان من حبر، فما خرج حتى أفناهما يكتب سماعه عن العرب"2. وأبو عمرو هذا، هو أبو عمرو الشيباني. وقد أشار ابن النَّدِيم والعلماء الذين عنوا بالشعر إلى أسماء نفر من العلماء عنوا واشتغلوا بجمع الشعر، وذكروا أسماء كتبهم واختياراتهم. وقد وصل إلينا بعض ما اشتغلوا فيه وجمعوه، فطبع، ومنه ما لا زال مخطوطًا محفوظًا في خزائن الكتب. وهو معروف يعرف الناس المواضع التي يوجد فيها، وقد يهيأ له من يقوم بطبعه وتيسيره بذلك للناس، غير أننا لا نزال نجهل مصير عدد كبير من الدواوين والأشعار والاختيارات التي ذكر ابن النَّدِيم وغيره أسماءها مع أسماء جامعيها، لا ندري إذا كانت اليوم في خزائن الكتب لا يعرف الناس من أمرها شيئًا، لعدم إحاطة المسئولين بأمر تلك الخزائن العلم بها، أو أنها عند أسر لا تعرف من أمرها المخطوطات شيئًا، لجهلها بها وبالعلم، أو أنها تلفت وولت لعوامل عديدة، فلا أمل إذن من بعثها ونشرها. وقد تحرش الجاحظ بنموذج من رواة الشعر بالبصرة، فقال: "وقد أدركت رواة المسجديين والمربديين ومن لم يروِ أشعار المجانين ولصوص الأعراب، ونسيب الأعراب، والأرجاز الأعرابية القصار، وأشعار اليهود، والأشعار المنصفة، فإنهم كانوا لا يعدونه من الرواة. ثم استبردوا ذلك كله ووقفوا على قصار الحديث والقصائد، والفقر والنتف من كل شيء. ولقد شهدتم وما هم على شيء أحرص منهم على نسيب العباس بن الأحنف، فما هو إلا أن أورد عليهم خلف الأحمر نسيب الأعراب، فصار زهدهم في شعر العباس بقدر رغبتهم في نسيب الأعراب. ثم رأيتهم منذ سنيات، وما يروى عندهم نسيب الأعراب إلا حدث السن قد ابتدأ في طلب الشعر، أو فتياني متغزل. وقد جلست إلى أبي عبيدة، والأصمعي، ويحيى بن المنجم، وأبي مالك

_ 1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 67". 2 نزهة الألباء "ص61 وما بعدها".

عمرو بن كركرة، مع من جالست من رواة البغداديين، فما رأيت أحدًا منهم قصد إلى شعر في النسيب فأنشده. وكان خلف يجمع ذلك كله"1. ولم يقتصر عمل الراوية على رواية الشعر وإنشاده للناس، بل كان يقوم أيضًا بشرح غامض ألفاظه وبإجلاء ما قد يكون في الشعر من معان خفية غامضة، كما كان يقوم بشرح الظروف والمناسبات التي نظم الشعر فيها، إلى غير ذلك من أمور تتعلق بالشعر. ولهذا فإن راوية الشاعر، هو ديوان حي للشاعر، فيه كل ما يتعلق بشعر ذلك الشاعر. ولم يقتصر الشعر على عشاقه ورواته والعلماء به، أو على الرواة الشعراء، بل ساهم فيه أناس تخصصوا بأمور أخرى، كان لاختصاصهم اتصال متين بالشعر، مثل علماء النسب وعلماء الأيام والأخبار. وفقد أمدنا هؤلاء بمادة لا بأس بها من الشعر الجاهلي في الجاهلية وفي الإسلام. وكانوا إذا تحدثوا عن نسب قبيلة أو عن نسب رجل معروف، ذكروا ما قيل في حقها أو في حقه من مدح أو هجاء، وكانوا إذا تكلموا عن أيام الجاهلية، اضطروا إلى سرد ما قال فيها أبطالها وفرسانها من شعر. فقد كان من عادة الأبطال إنشاد شعر التبجح بالنفس وبمفاخرها وبمفاخر القبيلة حين نزولهم ساحة القتال، وكان من عادة المنتصر تخليد نصره بأشعار ينشدها أبناء القبيلة، لتكون تسجيلا لمفاخره بني الناس. وساهم علماء العربية: علماء اللغة والنحو والتفسير والحديث مساهمة تذكر في تخليد الشعر الجاهلي، بما جمعوه من شواهد في اللغة وفي النحو وفي الصرف، وفي تفسير القرآن والحديث من أبيات وقطع بل قصائد أحيانًا. فقدموا لنا بفعلهم هذا مادة ساعدتنا في زيادة معارفنا عن شعر ما قبل الإسلام وفي ضبط الشعر الوارد في المصادر الأخرى، وتصحيح ما قد يكون قد وقع في الروايات المتضاربة من أوهام، كما أمدتنا بمادة لا بأس بها، بل جديدة ونادرة أحيانًا عن أصحاب الشعر وعن المناسبات التي قيل فيها. وقد تعرض الجاحظ لأمر هؤلاء في الشعر، فقال: "ولم أرَ غاية النحويين إلا كل شعر فيه إعراب. ولم أرَ غاية رواة الشعر إلا كل شعر فيه غريب أو معنى صعب يحتاج إلى الاستخراج. ولم أرَ غاية رواة الأخبار إلا كل شعر فيه

_ 1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "100"، "انتقاء الدكتور جميل جبر".

الشاهد والمثل"1. يقول بروكلمن: "ولم يبدأ جمع الشعر إلا في عصر الأمويين، وإن لم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا على أيدي العلماء في عصر العباسيين، بيد أن معنى التحري في وثوق الرواية، والتدقيق في النقل اللغوي على النحو الذي نعرفه في عصرنا هذا، كان أمرًا غريبًا بعد على جماع ذلك العصر. ولما كان كثير من هؤلاء الجماع أنفسهم شعراء، فقد ظنوا أنه ليس من حقهم فقط، بل ربما كان واجبًا عليهم أيضًا في بعض الأحيان أن يصلحوا ما رووه للشعراء القدماء أو يزيدوا عليه. فلا عجب إذا لم يبالوا أيضًا بالوضع والاختراع لتوثيق رواياتهم. وقد أراد حماد الراوية أن يفسر تفوقه، والتفوق المزعوم لأصحابه الكوفيين في الدراية بالشعر القديم، فزعم أنه وجد الشعر الذي كتب بأمر النعمان ودفن في قصره الأبيض بالحيرة، ثم كشف في أيام المختار بن أبي عبيد. لقد غير الرواة بعض أشعار الجاهلية عمدًا، ونسبوا الأشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الأولى، كما يمكن أن يكون وضع أشعار قديمة، منحولة على مشاهير الأبطال في الزمن الأول لتمجيد بعض القبائل، أكثر مما نستطيع إثباته. على أنه بالرغم من كل العيوب التي لم يكن منها بد في المصادر القديمة، يبدو أن القصد إلى التشويه والتحريف لم يلعب إلا دورًا ثانويًّا. وقد روى علماء المسلمين أشعارًا للجاهليين تشتمل على أسماء أصنام وعبادتها، وأن أسقطوا أيضًا أبياتًا أخرى لشبهات دينية، وذلك في حالات يبدو أنها قليلة، لأن الشعور الديني لم يكن غالبًا على نفوس العرب في الجاهلية"2. ويعود الفضل في جمع الشعر الجاهلي وتدوينه وتخليده إلى مدينتين اشتهرتا بالعلم، هما: الكوفة والبصرة، فقد كان علماء هاتين المدينتين في طليعة من عني بجمع الشعر الجاهلي وتقصِّيه، ولا نكاد نجد مدينة إسلامية، بلغت مبلغهما في هذه الناحية، أو تمكنت من مزاحمتهما في جمع شتات هذا الشعر وحصره في كتب مدونة صارت مرجعًا للعلماء ولعشاق هذا الشعر إلى يومنا هذا. ونكاد لا نجد كتابًا في الشعر أو في الأدب، إلا وهو عيال على علم علماء هاتين المدينتين.

_ 1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "101"، "انتقاء الدكتور جميل جبر"، "بيروت، المطبعة الكاثوليكية، 1959م". 2 بروكلمن "1/ 65 وما بعدها".

ولم تساهم مكة مدينة قريش، مساهمة الكوفة أو البصرة في جمع الشعر الجاهلي، الذي زعم أنه نظم بلغتهم، ولم تلحق يثرب بالمدينتين المذكورتين في هذا المضمار كذلك. ولم تبلغ دمشق التي صارت حاضرة العالم الإسلامي بعد مقتل "علي" وتولي "معاوية" الحكم، مبلغ المدينتين في هذا العلم وفي علوم العربية الأخرى، مع حب الأمويين للشعر الجاهلي، ورغبتهم في توفيق بلاد الشأم المؤيدة لهم، على العراق لمشاكسته لهم، ومعارضته للشأم منذ ما قبل الإسلام. ويظهر أن أرض دمشق لم تكن أرضًا خصبة بالنسبة للشعر الجاهلي لأن سكانها حتى الفتح كانوا بين سوريين، أي من بني إرم، وبين إغريق وعناصر أعجمية أخرى، بينما كانت الحيرة والأنبار وعين التمر وسائر القرى العربية الأخرى، تعلم العربية في مدارسها، وتدرس الخط العربي، وكان رجال الدين فيها، قد وقفوا على الثقافة اليونانية، ونقلوا كتبًا منها إلى السريانية، ولكونهم من النصارى الشرقيين، كانت لغة العلم والدين عندهم السريانية، ولكنهم كانوا يعظون ويعلمون بالعربية. أما عرب الشأم، فقد أقاموا في قرى ومضارب في أطراف بلاد الشأم، ومع احتفال سادات غسان بالشعراء، فإن عنايتهم بهم لم تبلغ مبلغ عناية آل لخم بهم، ولعل ذلك بسبب ارتباطهم الشديد بالروم، وهيمنة الروم عليهم، بحيث لم يكونوا يسمحون لهم بالتحرك إلا بعد استشارتهم، ولا أن يتصلوا بالعرب إلا بأمر منهم، ولهذا لم يجدوا لهم منفعة تذكر بالإغداق على الشعراء وبإغراء الشعراء بالمجيء إليهم لمدحهم، اللهم إلا إذا جاء الشعراء إليهم، ورموا بأنفسهم ضيوفًا عليهم، أما سادات الحيرة، فقد كانوا أكثر تحررًا في أمورهم وسياستهم من منافسيهم الغساسنة، وكان نفوذ الفرس خفيفًا عليهم، وقد بلغ حكمهم في أيام امرئ القيس "328م" أسوار نجران، وكانت البحرين تابعة للحيرة، يحكمها عامل بعينه ملك الحيرة، كما كان نفوذ الملوك يمتد إلى نجد فاليمامة، فلملوك الحيرة إذن مصالح سياسية خاصة في منطقة واسعة من جزيرة العرب، ولهم روابط مع سادات القبائل، ونظرًا إلى ما للشعر والشعراء من أهمية في التأثير بالرأي العام، اضطروا إلى مداهنة الشعراء من أهمية في التأثير بالرأي العام، اضطروا إلى مداهنة الشعراء والإغداق عليهم والترحيب بهم، لشراء ألسنتهم، أما من كان يوشى به عندهم، فيغضبون عليه، أو يجد أنه لم يكافأ على مدحه لهم، وقيامه بشعره بالدعاية لهم، مكافاة عادلة، فكان يهرب إلى أعداء آل لخم،

الغساسنة، ليجد له مأوى عندهم، كما فعل النابغة والمتلمس. ولما كان الغساسنة قد تأثروا بالحياة الحضرية، أكثر من ملوك الحيرة، وقد تشربوا بالثقافة البيزنطية، فعاشوا في بيوت بدمشق بين الحضر، وبنوا القصور الكبيرة في القرى التابعة لهم، وهي مواضع خصبة، وقد أثثوها على الطريقة الرومية، وكانوا يسمعون الغناء الرومي، وكانت مصالحهم بالأعراب وبجزيرة العرب -كما قلت- غير ذات بال، لم يحفلوا بالشعراء الوافدين عليهم احتفال ملوك الحيرة بهم، ولم يغدقوا إغداق المناذرة عليهم، فصار عدد الشعراء الوافدين عليهم قليلا إذا قيس بعدد من كان يذهب منهم إلى قصور الحيرة، كما يظهر ذلك جليًّا من كتب الأخبار والأدب التي تحدثت عن الشعراء الجاهليين، ولعل هذا الصدّ عن الشعراء هو الذي حمل النابغة على ألا يمكث عند الغساسنة طويلا، فحمل حمله، وعاد إلى الحيرة معتذرًا إلى النعمان عما بدر منه من خطأ، راميًا سبب ما وقع بينهما من قطيعة إلى عمل الوشاة الحساد. ولعله كان أيضًا في جملة العوامل التي جعلت العراق يتقدم على الشأم في رواية الشعر الجاهلي وفي نشره، فنحن لا نكاد نعرف رجلا من أهل الشأم الصميمين، قام بالشعر الجاهلي، أو بأمر شعراء العرب في الشأم من أهل الجاهلية، كما قام به أهل العراق. ولم تشتهر دمشق ولا غيرها من مدن بلاد الشأم بما قامت به مدن العراق من جمع الشعر الجاهلي على الرغم من تحمس الأمويين وكلفهم في جمعه وتدوينه. وقد تعرض العلماء لأمر المدينة، فقالوا: "فأما مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا نعلم بها إمامًا في العربية. قال الأصمعي: أقمت بالمدينة. زمانًا ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة. وكان بها ابن دأب، يضع الشعر وأحاديث السمر، وكلامًا ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخفت روايته، وهو عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب، يكنى أبا الوليد، وكان شاعرًا وعلمه بالأخبار أكثر1. وذكر أن في جملة ما صحفه من الشعر، قول الحارث بن حِلِّزةَ اليَشْكُرِيّ: أيها الكاذب المبلغ عنا ... عبد عمرو وهل بذاك انتهاء

_ 1 الْمُزْهِرُ "2/ 413 وما بعدها".

وإنما هو: عند عمرو1. وأقدم ما لدينا من مدونات الشعر الجاهلي، الاختيارات التي جمعها حماد الراوية، المعروفة بالمعلقات، والتي عرفت بالسموط. ولعلها الديوان الذي ذكر ابن النَّدِيم أنه أرسله إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فاستعان به مع ديوان آخر بعثه إليه جناد، ليجمع منهما ومن غيرهما ديوان العرب وأشعارها2، وقد يكون ديوانًا آخر أوسع من هذا المجموع. ويلي هذه الاختيارات، اختيارات أخرى جمعها رجل من أهل الكوفة أيضًا، ورواية من رواة الشعر المعروفين هو المفضل بن محمد بن يعلى الضبي، المتوفى سنة "164هـ" "780م"، أو "168"، أو "170هـ"، على اختلاف الروايات. وقد اتخذه المنصور مؤدبًا لابنه المهدي فعمل له الأشعار المختارة المسماة المفضليات، وهي مائة وثمانٍ وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص، وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عنه، والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي قال: وأول النسخة التي لتأبط شرًّا: يا عبد ما لك من شوق وإبراق ... ومر طيف على الأهوال طراق3 "هذا وقد وقع في الجزء الأول من هذا الكتاب سهو، إذا سقطت لفظة "مائة" من: "وهي مائة وثمان وعشرون قصيدة"، فصارت على هذا النحو: "وهي ثمان وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص"4، ولذلك أحببت أن ألفت نظر القراء لإصلاح هذه الهفوة" ويلي هذه الاختيارات اختيارات أخرى جمعها الأصمعي، سأتحدث عنها أثناء حديثي عنه بعد قليل، ثم اختيارات أخرى عرفت بـ"جمهرة أشعار العرب"، قد جمعت في أواخر المائة الثالثة للهجرة. "وهي مجموعة سباعية تشتمل على سبعة أقسام، أولها المعلقات السبع، وتحمل الأقسام الستة الباقية حلى من العناوين المختارة

_ 1 الْمُزْهِرُ "2/ 362". 2 الفِهْرِسْت "140". 3 الفِهْرِسْت "108"، الأغاني "5/ 125"، بروكلمن "1/ 73". 4 "68".

وهي: المجمهرات، المنتقيات، المذهبات، المراثي، المشوبات، الملحمات"1. ويسمى جامعها أبا زيد القرشي، وقيل إن سند رواية أبي زيد هذا، وهو المفضل، كان في المرتبة السادسة من سلالة الخليفة عمر بن الخطاب، وإذا فلا بد أن حياته كانت في أواخر القرن الثالث الهجري. على أن كلا الرجلين: أبي زيد والمفضل، مجهول بالكلية فيما عدا ذلك. ويبدو لنا أن تسميتها موضوعة على اسمي كل من أبي زيد الأنصاري النحوي المشهور وشيخه المفضل. ولكن لما كان كتاب الجمهرة معروفًا لابن رشيق "390- 456هـ/ 1000- 1046م"، فقد يكون تم تأليفه في القرنين الثالث والرابع للهجرة"2. وهناك مجموعات أخرى مثل ديوان الحماسة لأبي تمام "المتوفي 231هـ"، وديوان الحماسة للبحتري "205- 284هـ"، وحماسة "الخالديين"، أو كتاب الأشباه والنظائر، للأخوين: أبي عثمان سعيد "المتوفي حوالي 350هـ"، وأبي بكر محمد "المتوفي380هـ"، ومجموعات أخرى معروفة، مثل كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني، ذكرها "بروكلمن" و"جرجي زيدان"، وغيرهما ممن بحث عن الشعر الجاهلي، فلا حاجة إذن إلى ذكرها في هذا المكان. ولم يلزم رواة الشعر الأول وعلماء اللغة والنحو أنفسهم النص على اسم المنبع الذي عرفوا الشعر أو الخبر منه، فصار من الصعب علينا، بل من غير الممكن التعرف على السبيل الذي سلكه هذا الشعر الجاهلي من الجاهلية حتى وصل إلى حماد الراوية، أو خلف الأحمر، أو غيرهما من رواة الشعر، ولو كانوا قد نصوا عليه، لأمكن التثبت من صحة الشعر، بنقد سلسلة السند، أو المصدر المكتوب إن كان مكتوبًا، فيخفف بذلك من هذا الشك الذي يحوم حول صحة المصادر التي أخذ الرواة منها معينهم عن هذا التراث الخالد الجاهلي. وقد اكتفى الرواة أحيانا بذكر اسم أعرابي، نسبوا أخذ شعرهم أو خبرهم إليه، اتصلوا به أثناء قدومه البصرة أو الكوفة، أو في أثناء ذهابهم إلى البادية لجمع العلم بأخبار العرب وبشعرها القديم منها، ومعظمهم من قبائل مختارة

_ 1 بروكلمن "1/ 75". 2 بروكلمن "1/ 75".

نصوا على اسمها، مثل تميم، وأسد، وهي القبائل التي ارتضى علماء اللغة الأخذ عنها، وكان بعضهم ممن ترك البادية وعاش في الحاضرتين، وأظهروا مقدرة وكفاءة في الرد على أسئلة العلماء، واستوجبت توثيقهم وتقديمهم، حتى صار بعضهم من طبقة العلماء. ولم يشرِ العلماء أحيانًا إلى اسم الأعرابي، أو الأعراب الذين أخذوا عنهم، بل اكتفوا بالإشارة إلى أنهم سمعوا ما ذكروه من أعرابي، أو من أعرابي فصيح، أو من فصحاء الأعراب، أو فصحاء العرب. ولا ندري حال هؤلاء الأعراب وحظهم من العلم والمعرفة بعلوم اللغة، وبأمور القبيلة في الجاهلية، وقد يصح الأخذ منهم في أمور لغوية تخص لهجة قبيلتهم، أما في موضوع الشعر والأخبار، فهناك مشاكل شائكة تجعل من الصعب قبول روايتهم، لمجرد أنهم أعراب، وأنهم أعلم من الحضر بأمور قبيلتهم، فبينهم من كان لا يبالي من التحقق بإجابته، فيجيب حسب مزاجه وهواه. وقد اشتهر وعرف بعض الأعراب، حتى دخلت أسماؤهم في الكتب، وقد دون ابن النَّدِيم أسماء جماعة منهم في باب دعاه: "أسماء فصحاء العرب المشهورين الذي سمع منهم العلماء، وشيء من أخبارهم وأنسابهم"1. وقد ذكر أن من بين هؤلاء من كان معلما، يعلم الصبيان بأجرة، ويؤخذ منه العلم، وكان شاعرًا، مثل أبي البيداء الرباحي، وهو أعرابي نزل البصرة، وعلم بها، وأبي مالك عمرو بن كركرة، وكان يعلم في البادية ويورق في الحضر مولى بني سعد، راوية أبي البيداء، وكان عالما باللغة، وله رأي طريف: "يزعم أن الأغنياء عند الله أكرم من الفقراء"2، وأبي عرار، وهو أعرابي من بني عجل، قريب من أبي مالك، في غزارة علم اللغة، وكان شاعرًا، وكان ممن يتصل به جناد وإسحاق بن الجصاص"3. ولبعضهم مؤلفات، ذكر أسماءهم ابن النديم. وقد أقام معظمهم بين الحضر، في المدن المشهورة التي كانت تبحث عن أمثال هؤلاء، مثل البصرة والكوفة، ثم بغداد، وكان أكثرهم ينظم الشعر، ومنهم من كان كاتبًا قارئًا، طابت له الإقامة بين الحضر، ووجد له الرزق بينهم، ففضل وطلب المال على الإقامة في أرض الشح والفقر.

_ 1 الفِهْرِسْت "ص71 وما بعدها". 2 الفِهْرِسْت "ص72". 3 الفِهْرِسْت "ص72".

بعض رواة الشعر

بَعْضُ رُوَاةِ الشِّعْرِ: هناك رجال غلبت عليهم رواية الشعر، فاشتهروا بها، مثل حماد الراوية وخلف الأحمر. غير أن هناك رجالا، اشتغلوا بالعربية والنحو، لا يقل جهدهم في جمع الشعر الجاهلي عن جهد رواة الشعر، منهم من جمعه لتفسير كلام الله، ومنهم من حفظه للاستشهاد به في ضبط اللغة وقواعد النحو، حتى إنا لنجد في كتب اللغة والمعاجم وشواهد النحو، أبيات شعر وقطعًا لشعراء جاهليين فات خبرها عن رواة الشعر، ولهذا فنحن لا نستطيع فصل عمل هؤلاء عن عمل رواة الشعر، وعدم الإشارة إليهم في أثناء حديثنا عن العلماء الذين كان لهم فضل جمع الشعر الجاهلي. ومن أعرف رواة الشعر الجاهلي، عامر بن شراحيل الشعبي، المولود سنة "5" للهجرة والمتوفى سنة "104"، أو "105" للهجرة، وأبو عمرو بن العلاء المتوفى ما بين السنة "151" والسنة "159" للهجرة، وحماد الراوية، والمفضل الضبي، وخلف الأحمر، وأبو عمرو الشيباني، والمتوفى سنة "205"، أو "206"، أو "213" للهجرة، وأبو عبيدة، ومحمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة "146" للهجرة، وابنه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وابن الأعرابي، وابن السِّكِّيت، المتوفى سنة "244" أو "246" للهجرة، والطوسي، المتوفى في حوالي السنة "250" للهجرة، والسكري، المتوفى سنة "270" أو "275" للهجرة والمبرد، المتوفى سنة "282"، أو "285"، أو "286" للهجرة1، وغيرهم ممن تجد اسماءهم في الفِهْرِسْت لابن النَّدِيم وفي الموارد الأخرى. ويعد أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن العريان من خزاعي ابن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم" المتوفى سنة "154هـ"2. من أعلم زمانه في الشعر واللغة، وقد ذكر أن

_ 1 Ch. J. Lyall, Ancient Arabien Poetry, pp. XXXIX. 2 المعارف "540"، أخبار النحويين، للسيرافي "28 وما بعدها"، البداية والنهاية، لابن كثير "10/ 112"، تهذيب الأسماء واللغات "1/ 262".

اسمه زبّان بن العلاء بن عمار المازني1. وكان عالما بكلام العرب ولغاتها وغريبها، وكان مشهورًا في علم القراءة والحديث واللغة والعربية2. وقد أخذ الشعر عن أعراب أدركوا الجاهلية، وأثنى عليه الجاحظ، وأطرى على علمه، فقال: "كان أعلم الناس بأمور العرب، مع صحة سماع وصدق لسان حدثني الأصمعي، قال: جلست إلى أبي عمرو عشر حِجَج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي. قال: وقال مرة: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى لقد هممت أن آمر فتياننا بروايته. يعني شعر جرير والفرزدق وأشباههما. وحدثني أبو عبيدة قال: كان أبو عمرو أعلم الناس بالغريب والعربية، وبالقرآن والشعر، وبأيام العرب وأيام الناس"، "وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء، قد ملأت بيتًا له إلى قريب من السقف، ثم إنه تقرأ3 فأحرقها كلها، فلما رجع بعد إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه. وكانت عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية"4. وقد فسر بعض المستشرقين إحراق أبي عمرو بن العلاء لكتبه، على أنه كانت تحت تأثير أزمة دينية تدل "على أوساط التدين في العراق لا تنظر بعين الارتياح إلى التنقيب عن بقايا الوثنية"5. وأشار بعض منهم إلى أن الحرق تناول ما جمعه من الشعر الجاهلي، وأنه كان في أزمة زهدية لينصرف إلى دراسة القرآن6. وهو تفسير غريب، استنتجوه من لفظة "تقرأ"، أي "تنسك" على ما يظهر، وليس بهذه اللفظة صلة بالوثنية وبالشعر الجاهلي، ولو كان الشعر الجاهلي ممقوتا، وجمعه وحفظه مذمومين، لما حفظه الصحابة وترنموا واستشهدوا به، ثم إن غيرهم من الزهاد مثل أبي الأسود الدؤلي، كان يحفظ هذا الشعر ويستشهد به، وقد رأينا أن الرسول، كن يسمعه ويستشهد به، ثم إن خبر

_ 1 الْمُزْهِرُ "2/ 304"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 321"، الفِهْرِسْت "48"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 270". 2 نزهة الألباء "24"،المقتبس، للمرزباني "25 وما بعدها"، ابن خِلِّكَان "1/ 386 وما بعدها"، الذهبي، العبر "1/ 223". 3 تقرأ: تنسك. 4 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 320 وما بعدها"، ابن خِلِّكَان "1/ 376". 5 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "110". 6 المصدر نفسه "الحاشية رقم4".

إحراق الكتب، لا يشير لا تصريحا ولا تلميحًا إلى علاقته بالشعر، ولعله خير موضع، وضعه أبو عبيدة لغرض ما، كأنه كان يريد من وضعه المبالغة في علمه وفي زهده، أو أن حريقًا غير متعمد أصاب بعض كتبه، فضخمه ووسعه، وجعله إحراقًا متعمدًا، إذا لا يعقل أن يقوم هو بإحراق كتبه كلها، ثم إن قوله: "وكان كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء، قد ملأت له بيتًا على قريب من السقف، ثم إنه تقرأ فأحرقها كلها" لا يخلو من مبالغة فليس من السهل على رجل كتابة هذا القدر من الكتب بالنسبة لذلك الوقت، حيث كان الورق غاليًا، بحيث تملأ بيتًا إلى قريب من السقف، ثم قيامه بإحراقها كلها بمثل هذه البساطة والسذاجة، فهي في نظري قصة مصطنعة، لا حقيقة فيها. ومما يؤيد سذاجة هذه القصة، هو أن صاحبها عاد فقال إنه رجع بعد إلى علمه الأول، فلم يكن أمامه عنده إلا ما حفظه بقلبه1، مما يثبت أنه أراد من وضعها المبالغة في علمه، بزعمه أنه كان قد حفظ ما شاء الله من العلم، ومنه الشعر الجاهلي الذي كان يمجده، ويرى أنه وحده هو الشعر، ولهذا لم يستشهد أو يحتج ببيت إسلامي، مهما بلغ الشعر الإسلامي من الجودة والحسن لأنه شعر محدث، والمحدث لا يقاس بالشعر الجاهلي الأصيل، مهما بلغ من الإتقان. وقد زعم أنه قال: "ما زدت في شعر العرب إلا بيتًا واحدًا، يعني ما يروى للأعشى من قوله: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا2 ولا ندري بالطبع إذا كان هذا الكلام المنسوب إلى أبي عمرو هو من كلامه حقًّا، أو كان من الكلام المصنوع المنحول عليه. وإذا كان صحيحًا، فإن فيه تلميحًا إلى أن هناك من قد اتهمه بالوضع، جريًا على العادة التي كانت إذ ذاك من اتهام العلماء بعضهم بعضًا بالوضع، فروي هذا الخبر في تبرير ذمته من الوضع، وإنه لم يضع في حياته إلا البيت المذكور. وعوانة بن الحكم بن عياض الكلبي، ويُكَنَّى أبا الحكم، من هذا

_ 1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 321". 2 الْمُزْهِرُ "2/ 415"، الأغاني "3/ 143".

الرعيل الذي كان له فضل في جمع الشعر. كان من علماء الكوفة، راوية للأخبار عالما بالشعر والنسب، وكان فصيحًا ضريرًا. وله كتب منها: كتاب التأريخ وكتاب سيرة معاوية وبني أمية، وقد ذكر بعضهم أنه لمنجاب بن الحارث، غير أن ابن النديم، نص على أنه لعوانة، وليس لمنجاب. وذكر ابن النَّدِيم أنه قرأ بخط أبي عبد الله بن مقلة، قال أبو العباس ثعلب: جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها والوليد بن يزيد بن عبد الملك، وردَّ الديوان إلى حماد وجناد"1. مما يدل على أن الوليد كان قد استعار منهما ديوانًا كان عندهما في أشعار العرب. ولعل كل واحد منهما كان قد جمع ديوانًا خاصًّا به، فاستعان الوليد بهما في إخراج ديوان واحد يضم ما جاء في الديوانين من شعر. وكان وفاة عوانة سنة "147هـ". والمفضل بن محمد بن يعلى الضبي الكوفي، المتوفى سنة "164هـ"، "168هـ"، "170هـ"، هو من أصحاب العلم بالشعر، وكان قد انضم إلى جماعة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن العلوي، فظفر به المنصور، وعفا عنه، وألزمه ابنه المهدي، وجعله مؤدبًا له. وللمهدي عمل الأشعار المختارة المسماة المفضليات، "وهي مائة وثمانٍ وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية عنه. والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي. قال: وأول النسخة لتأبط شرًّا: يا عبد ما لك من شوق وإبراق ... ومر طيف على الأهواء طراق2 وذكر ابن النَّدِيم أن له من الكتب: "كتاب الاختبارات -وقد ذكرناه- كتاب الأمثال، كتاب العروض، كتاب معاني الشعر، كتاب الألفاظ"3. وكتاب الاختيارات هو المفضليات، ويظهر أنه عرف بالمفضليات نسبة إلى الجامع، فطغت هذه التسمية على الاسم الأصل4.

_ 1 الفِهْرِسْت "140". 2 الفِهْرِسْت "ص108"، الأغاني "5/ 125"، ياقوت، إرشاد "7/ 171"، بغية الوعاة "2/ 297 وما بعدها"، إنباه الرواة "3/ 298 وما بعدها"، ابن الأنباري نزهة "56"، المعارف "545". 3 الفِهْرِسْت "108". 4 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 72 وما بعدها".

وكان المفضل عالما بالشعر، وكان أوثق من روى الشعر من الكوفيين. ولم يكن أعلمهم باللغة والنحو، إنما كان يختص بالشعر. وقد روى عنه أبو زيد شعرًا كثيرًا1. وليست هذه القصائد التي يضمها كتاب المفضليات كلها من جمع المفضل وترتيبه على ما جاء في بعض الموارد، وليست في هذه القصائد المطبوعة في المفضليات إلا سبعون قصيدة هي من اختيار المفضل. أما بقيتها، فهي زيادات وإضافات وضعت على تلك القصائد2. وليس للمفضل منها على ما جاء في مرود آخر إلا ثمانون قصيدة هي التي أخرجها للمهدي. وأما ما تبقى منها، فهي من اختيارات الأصمعي، وهي أربعون قصيدة من مجموع عشرين ومائة3. فيكون ثلثاها على وفق هذه الرواية من اختيار المفضل. وأما الثلث الباقي، فمن اختيار الأصمعي4. ولم يذكروا شيئًا عن القصائد الثماني الباقية، وقد نص "ذيل الأماني" على أنها مائة وعشرون5. ويدل هذا الاختلاف على أن رواة المفضليات لم يعتمدوا في روايتهم للكتاب على النسخة الأم، وهي النسخة التي اختارها المفضل للمهدي. وإلا لما حدث اختلاف بين الرويات في ترتيب القصائد وفي عددها، أو أن المفضل نفسه لم يدون اختياراته تلك في كتاب، وإنما اختار ما اختاره دون تدوين، فكان يمليه على المهدي مجلسًا مجلسًا، حتى أكمل تلك الاختيارات، وأنه ألقى اختياراته هذه على من كان يحضر مجلسه طلبًا للشعر في مجالس أيضًا، فمن هنا وقع هذا الاختلاف. وقد كان يكتفي بإلقاء المختار على طلابه دون شرح. أما الشرح المطبوع، فليس من شرح الضبي وتفسيره، وإنما هو من عمل رواة آخرين ورد ذكرهم في مقدمة الكتاب، وليس للمفضل إلا الاختيارات6.

_ 1 الْمُزْهِرُ "2/ 405 وما بعدها". 2 مقاتل الطالبيين "119"، "طبعة طهران"، المفضليات "الترجمة الإنكليزية ". VOL,,II,p, xiv. 3 ذيل الأمالي "130"، "دار الكتب المصرية". 4 المفضليات "الترجمة الإنكليزية" VOL,II,p, xiv. 5 ذيل الأمالي "130". 6 راجع النص العربي للمفضليات "طبعة لايل"، "1".

والشرح المطبوع هو من صنع أبي محمد القاسم محمد القاسم بن بشار الأنباري وجمعه، وقد أخذه من موارد متعددة أشار إليها في الكتاب. وقد رواه عنه ابنه أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، وعنه أبو بكر أحمد بن محمد الجراح الخزاز. وفي جملة من اعتمد عليه أبو محمد صاحب هذا الشرح من شيوخه، عامر بن عمران أبو عكرمة الضبي، وقد أملى عليه القصائد المختارة المنسوبة إلى المفضل "إملاء، مجلسًا مجلسًا، من أولها إلى آخرها عن المفضل الضبي"1. كما كان في جملتهم أبو عمرو بندار الكرخي، وأبو بكر العبدي، وأبو عبد الله محمد بن رستم، والطوسي، وأبو جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح. من هؤلاء ومن أمثالهم جمع الأنباري هذا الشرح، وفيهم من هو من الكوفة وفيهم من هو من أهل البصرة وهم من أتباع الأصمعي، ولهذا نجدد رواياته تتداخل فيه من أبيات شعر أو قصائد لم يخترها المفضل، ومن شرح أو تفسير لكلم غريب. فالمفضليات وإن نسبت إلى المفضل، غير أنها في الواقع من جمع الأنباري المذكور، وقد جمعها من أفواه جملة رجال، كل واحد منهم له فيها عمل ويد. وفق الأنباري بين تلك القصائد والأشعار وبين هذه الروايات والمعارف الواردة عن الشعر، وأخرج منها هذا الكتاب الثمين الكبير2. وللمفضل أقوال حفظت في كتب أخرى غير هذا الكتاب، فنجد أبا زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي صاحب كتاب جمهرة أشعار العرب يذكره في مواضع من كتابه، ويذكر نتفًا من روايات مستندة إليه3، كما نجد الأصبهاني يورد له أخبارًا في الشعر في مواضع عديدة من كتابه الأغاني، ونجد غيرهما من رجال الأدب يشيرون إليه. وفي الموارد التي أشاروا إليها ما يدل على علم واسع له في الشعر وعلى إدراك في النقد. وإذا كان ما ذكره ابن النَّدِيم عن المفضليات من قوله: "هي مائة

_ 1 المفضليات "1" "طبعة لايل"، "النص العربي". 2 جواد علي، تدوين الشعر الجاهلي، مجلة المجمع العلمي العراقي "المجلد السابع" "الجزء الثاني ص520 وما بعدها "، "1956". 3 جمهرة أشعار العرب "القاهرة 1926م".

وثمانٍ وعشرون قصيدة، وقد تزيد وتنقص وتتقدم وتتأخر، بحسب الرواية، والصحيحة التي رواها عنه ابن الأعرابي، قال: وأول النسخة لتأبط شرًّا: يا عيد ما لك من شوق وإبراق ... ومر طيف على الأهوال طراق1. تكون هذه النسخة أصح الروايات إذن، وكان ابن الأعرابي المتوفى سنة "231هـ" قد سمع المفضل، وكان يذكر أنه ربيب المفضل، كانت أمه تحته2، فلا يستبعد أن تكون نسخته، هي النسخة الصحيحة، لاتصاله به. وقد ذكر أبو جعفر بن الليث الأصفهاني قال: أملى علينا أبو عكرمة الضبي المفضليات من أولها إلى آخرها، وذكر أن المفضل أخرج منها ثمانين قصيدة للمهدي، وقرئت بعد على الأصمعي فصارت مائة وعشرين، قال أبو الحسن3: أخبرنا أبو العباس ثعلب أن أبا العالية الأنطاكي والسدري، وعافية بن شبيب، وهؤلاء كلهم بصريون من أصحاب الأصمعي، أخبروه أنهم قرءوا عليه المفضليات ثم استقرءوا الشعر فأخذوا من كل شاعر خيار شعره، وضموه على المفضليات وسألوه عما فيه مما أشكل عليهم من معاني الشعر وغريبه فكثرت جدًّا"4. وروي عن أبي عكرمة قوله: "مرَّ أبو جعفر المنصور بالمهدي، وهو ينشد المفضل قصيدة المسيب التي أولها: أرحلت...... فلم يزل واقفًا من حيث لا يشعر به حتى استوفى سماعها، ثم صار إلى مجلس له وأمر بإحضارهما، فحدث المفضل بوقوفه واستماعه لقصيدة المسيب واستحسانه إياها، وقال له: لو عمدت إلى أشعار الشعراء المقلين واخترت لفتاك لكل شاعر أجود ما قال لكان ذلك صوابًا! ففعل المفضل"5. ويلاحظ أن الرواة مختلفون فيما بينهم في عدد قصائد وقطع المفضليات، فمنهم من جعلها مائة وثمانٍ وعشرين قصيدة وقطعة، كما هي رواية ابن النَّديم.

_ 1 الفِهْرِسْت "108". 2 الفِهْرِسْت "108 وما بعدها". 3 الأخفش. 4 ذيل الأمالي "130". 5 ذيل الأمالي "130 وما بعدها".

ومنهم من صيرها مائة وعشرين1. وأما جناد أبو محمد بن واصل الكوفي مولى بني أسد، فقد كان على حد وصف ابن النديم: "أعلم الناس بأشعار العرب وأيامها"، غير أنه "لم يكن له علم بالنحو"، و"كان يلحن كثيرًا"2. وهو يعد من الكوفيين، وقد ذكروا أنه كثير الحفظ في قياس حماد الراوية، وأن أهل الكوفة كانوا يلجئون إليه حين يشُكُّون في شعر وحين يعزب عنهم اسم شاعر فيجدونه حافظًا وبما أرادوه عارفًا. غير أنهم مجمعون على أنه كان لحانًا، كثير اللحن جدًّا، فوق لحن حماد. وقد ذكروا أمثلة على لحنه، وعلى عدم وقوفه على العروض، فكان يخطئ فيه ويخلط في الأشعار3. وممن كان ينتقض علمه ويرى قلة بضاعته في العربية وفي الشعر أيضًا يونس بن حبيب "183هـ" وهو كما رأينا من المتحاملين أيضًا على حماد، ومن المتعصبين للبصرة على الكوفة. ولهذا يكون لتحامله على جناد أثر من التعصب للبصريين. وقد أخذ الثوري على أهل الكوفة روايتهم عن حماد، وجنَّاد واتِّكالهم عليهما، وهما رجلان "كانا يرويان ولا يدريان، كثرت رواياتهما، وقل علمهما"، ومن ثم فسدت روايتهم عن الرجلين. غير أن علينا أن نكون حذرين في تقبل هذه المؤاخذة على الكوفيين في رواية الشعر، فقد كان الثوري من جماعة الأصمعي حتى كان ينسب إليه. وكان الأصمعي يحمل على حماد، وعلى أهل الكوفة، لأنه كان بصريًّا، فلا يستبعد تحمل التلميذ لأستاذه، وتأثره به، فقال ما قال جناد وحماد بِدَاعي العاطفة والتعصب للبصريين على الكوفيين. وقد أشرت إلى ورود رواية تنسب إلى ثعلب ذكرت أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها ولغاتها ... ورد الديوان إلى حماد وجناد"4 مما يدل وجود ديوان للشعر عند جناد لعله كان من جمعه.

_ 1 الفِهْرِسْت "108"، ذيل الأمالي "130". 2 "من رواة الأخبار والأشعار، لا علم له بالعربية، وكان يصحف ويكسر الشعر، ولا يميز بين الأعاريض المختلفة، فيخلط بعضها ببعض، ياقوت، إرشاد "2/ 425". 3 الإرشاد "2/ 425"، الفِهْرِسْت "141". 4 الفِهْرِسْت "140"، "أَخْبَارُ عوانة".

ويُونُس بن حبيب، وكني أبا عبد الرحمن، المتوفى سنة "182هـ" "183هـ" من رواة الشعر كذلك، وأن غلب النحو عليه1. ذكر أنه كان مولى لبني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وذكر أنه من موالي ضبة. وقيل عنه: "كان أعلم الناس بتصاريف النحو". وهو من أصحاب أبي عمرو بن العلاء، وكانت حلقته بالبصرة، ينتابها طلاب العلم وأهل الأدب وفصحاء الأعراب ووفود البادية2. وكان له مذاهب وأقيسة بها3. وذكر أن أبا عمر، وهو إسحاق بن مراد المعروف بالشيباني مولى بني شيبان، كان عالِمًا بشعر القبائل، "أخذ عنه دواوين أشعار القبائل كلها". ولما جمع أشعار العرب كانت نيفًا وثمانين قبيلة. وقد توفي سنة "206هـ"، وقيل سنة "213هـ"4. وكان قد خرج إلى البادية ليأخذ عن الأعراب، فكان يدون ما يأخذ منهم5. وأبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، هو من رواة الشعر وعلمائه، كما كان من علماء اللغة وأخبار العرب وأنسابها، وقد عرف بالطعن في أنساب الناس وبالبحث عن المثالب، لذلك كرهه الناس، فلما مات لم يحضر جنازته أحد، لأنه لم يكن يسلم منه شريف ولا غيره. وقد توفي سنة ثمانٍ وقيل تسع، وقيل عشر وقيل إحدى عشرة ومائتين وقيل ثلاث عشرة ومائتين "وكان ديوان العرب في بيته"6. وله كتب في الأخبار والحوادث والبيوت والنسب والشعر. وفي جملة مؤلفاته شرح ديوان المتلمس7. ونجد له أخبارًا عن أيام العرب، مشتتة في بعض كتب الأدب8، وآراء في الشعر مدونة في تلك الكتب أيضًا.

_ 1 المعارف "541"، بغية الوعاة "2/ 365"، مراتب النحويين "21 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 399، 423"، ابن خِلِّكان "2/ 416 وما بعدها". 2 الفِهْرِسْتُ "69". 3 ابن الأنباري، نزهة "49 وما بعدها". 4 الفِهْرِسْتُ "107 وما بعدها"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 82". 5 ابن الأنباري، نزهة "93 وما بعدها"، إنباه الرواة "1/ 221 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 439 وما بعدها". المُزْهِر "2/ 411 وما بعدها"، شذرات الذهب "2/ 23 وما بعدها". 6 الفِهْرِسْتُ "85"، المُزْهِر "2/ 402 وما بعدها"، المعارف "543"، إنباه الرواة "3/ 276 وما بعدها"، بغية الوعاة "2/ 294 وما بعدها". 7 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 94". 8 بروكلمن "1/ 128"، ابن الأنباري، نزهة "104 وما بعدها".

والأصمعي عبد الملك بن قريب بن عبد الملك، المتوفى سنة "213هـ" "216هـ"، "217هـ"، من العلماء الحفاظ للشعر، وقد بالغ مترجموه في الثناء عليه، فزعموا أنه كان يروي على روي كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة، وذكر ابن النَّديم أنه عمل "قطعة كبيرة من أشعار العرب، ليست بالمرضية عند العلماء لقلة غربتها واختصار روايتها"1. ولا تشتمل الأصمعيات إلا على "72" قصيدة وقطعة، ومجموع أبياتها "1163" بيتًا، لكثرة ما فيها من المقطوعات. وعدد شعرائها واحد وستون شاعرًا، لم يسمِّ ثلاثة منهم. وبقي خمسة مجهولين لا تعرف أسماؤهم في الموارد الأخرى. وأكثر الباقين من الجاهليين وليس فيها إلا أربعة عشر شاعرًا من المخضرمين والإسلاميين. وفيها قصيدة لكل من امرئ القيس وطَرَفَة2. وقد نسب ابن النَّديم له كتابًا دعاه: "مصادر كتاب القصائد الست"3. وربما كان هو الكتاب الذي نشره "آلورد" برواية الأعلم الشمنتري بعنوان: دواوين الشعر الستة4. وذكر أن الأصمعي جمع أشعار بني جعدة، وأشعار الأنصار5 وأنه جمع "ديوان المتلمس"6 وديوان امرئ القيس، وأنه روى شرح هذا الديوان لأبي عمرو الشيباني7. وجمع ديوان الفرزدق وجرير8. وروي أن الأصمعي كان "أتقن القوم باللغة، وأعلمهم بالشعر، وأحضرهم

_ 1 الفِهْرِسْتُ "88 وما بعدها"، ابن الأنباري، نزهة "112 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 112 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 404 وما بعدها". 2 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 74 وما بعدها"، المعارف "543"، "وقد بلغ عدد قصائدها ومقطوعاتها اثنتين وتسعين، وهي موزعة على "71" شاعرًا، منهم نحو "40" جاهليًّا"، العصر الجاهلي، لشوقي ضيف "178". 3 الفِهْرِسْتُ "88". 4 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 88". W Ahiward, The Diwan of the six ancient Arabic Poets, London, 1870. 5 الأغاني "5/ 171"، "19/ 82 وما بعدها"، بروكلمن "1/ 84". 6 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 94". 7 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 100". 8 المصدر نفسه "1/ 212، 213، 222".

حفظًا، وكان قد تعلم نقد الشعر من خلف الأحمر"1. وروي أنه كان يقول أحفظ عشرة آلاف أرجوزة، وأن الرشيد يسميه شيطان الشعر، وروي أنه كان يحفظ ستة عشر ألف أرجوزة2. وابن الأعرابي، أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، ممن سمع من المفضل الضبي، وكان يذكر أنه ربيب المفضل. كانت أمه تحته. ومات سنة "231هـ". فروايته للاختيارات، يجب أن تعد من أصدق الروايات، لاتصاله بالمفضل، ولصلته به. وكان له مجلس، يحضره طلاب العلم، يسألونه فيه ويقرأ عليه، فيجيب من غير كتاب. وكان ممن لازمه بضع عشرة سنة "أبو العباس" ثعلب. ويذكر ثعلب أن شيخه هذا "قد أملى على الناس ما يحمل على أجمال. لم ير أحد في الشعر أغزر منه"3. وقد أورد ابن النَّديم له جملة كتب، روى بعضها عنه جماعة من مشاهير العلماء، مثل الطوسي وثعلب4. وذكر أن روايته للمفضليات تعد من أصح الروايات5. وقد سمع من المفضل الدواوين وصححها، واعتبر رأسًا في كلام العرب، وكان من أكابر علماء اللغة المشار إليهم في معرفتها6. وقد رمي بعض من جمع الشعر بالوضع وبانتحال الشعر وإدخاله في شعر القدماء، واتهموا بدس القصائد عليهم، أو بزيادتها أو بتنقيص أبيات منها، أو بإجراء تغيير عليها. وقد تمكن بعض علماء الشعر من الإشارة إلى بعض الشعر المصنوع، أو المدخول، ولم يتمكنوا من الإشارة إلى البعض الآخر منه. ومن هؤلاء الذين عرفوا واشتهروا برواية الشعر وبعلمهم به، وبصنعهم له، ودسه بين الناس على أنه شعر قديم حماد الرواية وخلف الأحمر. فأما حماد الراوية فعلى راس مشاهير رواة الشعر الجاهلي وحفاظه. وقد كان هو نفسه شاعرًا مجيدًا يضع الشعر على ألسنة المتقدمين، لكنه اشتهر بالرواية

_ 1 المُزْهِر "2/ 403". 2 الرافعي "3/ 15". 3 الفِهْرِسْتُ "108 وما بعدها". 4 الفِهْرِسْتُ "109". 5 ابن الأنباري، نزهة "56". 6 ابن الأنباري، نزهة "150 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 105 وما بعدها"، المعارف "546"، المُزْهِر "2/ 411"، مراتب النحويين "149 وما بعدها"، ابن الأثير، الكامل "5/ 275".

أكثر من اشتهار بكونه شاعرًا. ولد سنة "75" للهجرة "694م" بالكوفة، وهو من "الديلم" في الأصل، وعرف بأبي القاسم. وعرف والده بسابور بن المبارك بن عبيد. سباه ابن عروة بن زيد الخيل، ووهبه لابنته ليلى فخدمها خمسين سنة، ثم ماتت فبيع بمائتي درهم، فاشتراه عامر بن مطر الشيباني وأعتقه. وقيل إن اسم أبي ليلى "ميسرة". وكان حماد ربما لحن في الشيء. وقيل إنه كان لصًّا في شبابه، يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص، فوجد في بعض سرقاته جزءًا من شعر الأنصار، فقرأه واستعذبه وحفظه، ثم اندفع في طلب الشعروأيام الناس ولغات العرب1. وأخذ ينظم الشعر يشبه به مذهب شاعر من الشعراء ويدخله في شعره، وكان هو بالشعر القديم بصيرًا، وحمل ذلك عنه في الآفاق، فاختلط شعره بشعر الشعراء الجاهليين، وذاع بين الناس على أنه لهم، حتى صار من الصعب حتى على نقاد ذلك الشعر والعالمين به، تمييز الفاسد منه من الصحيح2. وذكر أن حمادًا، هو حماد بن هرمز، وكان هرمز من سبي مكنف بن زيد الخيل وكان ديلميًّا، يكنى أبا ليلى3. وإذا أخذنا برواية ابن النَّديم من أن مولد حماد كان سنة "خمس وسبعين"، ومن أن وفاته كانت سنة ست وخمسين ومائة4، فيكون حينئذ قد عمَّر "81" سنة. ويذكر ابن النَّديم أن حمادًا كان في أيام الوليد بن عبد الملك، وعاش إلى سنة "156هـ"، وأنه كان يقول" "كنت أنشد الوليد الشعر الجيد، فيطلب مني السفساف فأنشده فيطرب، فأعلم أن الأمر مدبر، ثم أنشد المهدي السفساف، فيطلب مني الجيد الفحل، فأعلم أن أمرهم مقبل"5. وذكر عنه أنه كان يجالس المهدي. وذكر أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك

_ 1 الأغاني "6/ 87"، الخزانة "4/ 131 وما بعدها"، "بولاق". 2 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 245 وما بعدها"، الفهرست، لابن النَّديم "140"، الأغاني "5/ 163"، ابن خِلِّكان "1/ 205"، "في ترجمة حماد"، مجلة المجمع العلمي العراقي، تدوين الشعر الجاهلي، المجلد الرابع "جـ2/ 527 وما بعدها"، "1956م". 3 المعارف "541"، ابن الأنباري، نزهة "35 وما بعدها"، الأغاني "6/ 70 وما بعدها"، خزانة الأدب "4/ 129 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 406". 4 الفِهْرِسْتُ "ص140". 5 الفِهْرِسْتُ "ص140 وما بعدها".

جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ورد الديوان إلى حماد وجناد"1. ولم يشر ابن النَّديم الذي روى هذا الخبر نقلا عن رواية تنسب إلى ثعلب إلى ديوان حماد المذكور في أثناء تحدثه عنه. فلعله قصد "الاختيارات"، أي القصائد السبع، وقد يكون قصد ديوانًا آخر. ولم نسمع أي خبر عن مصير الديوان الذي جمعه الوليد بن يزيد. ويذكر ابن النَّديم أنه "لم يُرَ لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس وصنفت الكتب بعده"2. وهو خبر يظهر أن حمادًا لم يؤلف كتبًا، وإنما كان يروي الشعر رواية، ويمليه إملاء على طلاب الشعر، فيدونونه. أما أن تصنيف الكتب لم يكن معروفًا آنذاك، وإنما الناس صنفت الكتب بعده، فيناقضه ما قاله ابن النَّديم نفسه، من أن زياد بن أبيه، ألف كتابًا في المثالب، ودفعه إلى ولده، وقال: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم3، ومن أن عبيد بن شرية الجرهمي، ألف كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين4، وقد طبع له كتابًا في حيدر آباد بالهند، بعنوان: أخبار عبيد بن شرية الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها، وهو يشتمل على أسئلة لمعاوية وأجوبة عبيد عليها، وما قاله من أن "صحارًا" العبدي له كتاب اسمه كتاب الأمثال5، وما قاله من أن لعوانة بن الحكم بن عياض الكلبي، المتوفى سنة "147هـ" أي قبل حماد، من الكتب: كتاب التأريخ، كتاب سيرة معاوية وبني أمية6، أضف إلى ذلك ما ألفه وهب بن منبه المتوفى سنة "114هـ"7، وأبو مخنف، وابن شهاب الزُّهري، وابن سيرين وغيرهم8. وقد روى أهل الأخبار قصصًا عن مدى علم حماد بالشعر الجاهلي، وزعموا

_ 1 الفِهْرِسْتُ "ص140". 2 الفِهْرِسْتُ "ص140". 3 الفِهْرِسْتُ "137"، "المقالة الثالثة"، المعارف "176"، النووي، تهذيب الأسماء واللُّغات "1/ 259". 4 الفِهْرِسْتُ "ص138". 5 الفِهْرِسْتُ "ص138". 6 الفِهْرِسْتُ "140". 7 بروكلمن "1/ 251 وما بعدها". 8 راجع أخبارهم في بروكلمن "1/ 253 وما بعدها".

أن خلفاء بني أمية كانوا إذا أشكل عليهم مشكل في الشعر سألوه، وأنهم كانوا يكتبون إلى عمالهم بإرساله إليهم لاستفتائه في أمر شعر جاهلي أشكل خبره عليهم وعلى من عندهم من أهل العلم بالشعر. من ذلك ما رووه عن حماد قوله: "كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك بن مروان في خلافته. وكان أخوه هشام يجفوني لذلك، فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام خفته ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من أخواني سرًّا، فلما لم أسمع أحدًا ذكرني في السنة أمنت وخرجت وصليت الجمعة في الرُّصافة، فإذا شرطيَّان قد وقفا علي وقالا: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر الثقفي، وكان واليًا على العراق. فقلت في نفسي من هذا كنت أخاف. ثم قلت لهما تدعاني حتى آتي أهلي وأودعهم ثم أسير معكما! فقالا: ما إلى ذلك من سبيل. فاستسلمت في أيديهما، ثم صرت إلى يوسف بن عمر، وهو في الإيوان الأحمر، فسلمت عليه، فرد على السلام ورمى إيى بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر. أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الرواية من يأتيك به من غير ترويع، وادفع له خمسمائة دينار وجَمَلا مهريًّا يسير عليه ثنتي عشرة ليلة إلى دمشق. فأخذت الدنانير ونظرت، فإذا جمل مرحول فركبت وسرت حتى وافيت دمشق في ثنتي عشرة ليلة، فنزلت على باب هشام، واستأذنت فإذن لي فدخلت عليه وهو جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب من حرير أحمر وقد ضمخ المسك، فسلمت عليه، فردَّ علي السلام، واستدناني فدنوت منه حتى قبَّلت رجله، فإذا جاريتان لم أرَ أحسن منهما قط. فقال: كيف أنت وكيف حالك؟ فقلت بخير يا أمير المؤمنين. فقال: أتدري فيما بعثت إليك؟ فقلت: لا. قال: بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله. قلت: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق فقلت يقوله عدي بن زيد "؟ " العبادي في قصيدة. قال: أنشدنيها، فأنشدته: بكر العاذلون في وضح الصبـ ... ـح يقولون لي أما تستفيق ويلومون فيك يابنة عبد الله ... والقلب عنكم موثوق لست أدري إذا كثر العذل فيها ... أعذول يلومني أم صديق

قال حماد: فانتهيت فيها إلى قوله: ودعوا بالصبوح يومًا فجاءت ... قينة في يمينها إبريق قدمته على عقار كعين الـ ... ـديك صفى سلافها الرووق مرة قبل مزجها، فإذا ما ... مزجت لذَّ طعمها من يذوق قال: فطرب هشام، ثم قال: أحسنت يا حماد، سل حاجتك؟ قلت: إحدى الجاريتين. قال: هما جميعًا لك بما عليهما وما لهما، فأقام عنده مدة، ثم وصله بمائة ألف درهم"1. وكل من تحدث عن حماد من مبغض ومحب، مجمع على سعة حفظه للشعر وإحاطته به. وحفظه هذا الشعر هو الذي وسمه بسمة عرف بها طوال حياته وبعد وفاته، حتى صار لا يعرف إلا بها، هي الرواية، فقيل له حماد الرَّاوية. ولو جرد حماد من هذا النعت، لما صار في الإمكان التعرف عليه. قيل إن الخليفة الوليد بن يزيد قال لحماد الراوية: بم استحققت هذا اللقب، فقيل لك: الراوية؟ فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعرًا قديما ولا محدثًا إلا ميزت القديم منه من المحدث. فقال: إن هذا العلم وأبيك كثير! فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثيرًا، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام. قال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالإنشاد. فأنشد الوليد حتى ضجر، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسع مائة قصيدة للجاهليين، وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم2. وفي الأغاني خبر آخر من هذا النوع يطري علم حماد ويثني عليه، روي

_ 1 ثمرات الأوراق، لابن حجة الحموي "1/ 81"، "حاشية على المستطرف"، ابن الأنباري، نزهة "35 وما بعدها". الأغاني "6/ 70 وما بعدها". 2 الأغاني "6/ 71"، ابن خِلِّكان "5/ 120 وما بعدها"، الخزانة "4/ 129 وما بعدها"، "بولاق"، ياقوت، إرشاد "10/ 259".

عن الشاعر مروان بن أبي حفصة. زعم أنه رآه عند الوليد بن يزيد. وكان قد دخل عليه في جماعة من الشعراء، "وهو في فرش قد غاب فيها، وإذا رجل عنده، كلما أنشد شاعر شعرًا، وقف الوليد بن يزيد على بيت من شعره، وقال: هذا أخذه من موضع كذا وكذا، هذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان، حتى أتى على أكثر الشعر، فقلت: من هذا؟ فقالوا: حماد الراوية، فلما وقفت بين يدي الوليد أنشده، قلت: ما كلام هذا في مجلس أمير المؤمنين، وهو لحنة لحانة؟ فأقبل الشيخ علي وقال: يابن أخي، إني رجل أكلم العامة فأتكلم بكلامهم، فهل تروي من أشعار العرب شيئًا؟ فذهب عني الشعر كله إلا شعر ابن مقبل، فقلت له: نعم، شعر ابن مقبل قال: أنشد، فأنشدته قوله: سل الدار من جنبي حبر فواهب ... إذا ما رأى هضب القليب المفجع ثم جزت، فقال لي: قف فوقفت، فقال لي: ماذا يقول؟ فلم أدرِ ما يقول! فقال لي حماد: يابن أخي، أنا أعلم الناس بكلام العرب. يقال تراءى الموضعان إذا تقابلا"1. وقد كان الخليفة الوليد بن يزيد يعطف على حماد كثيرًا، ويشمله برعايته، ويجالسه، ويتباحث معه في الشعر. وقد كانت إحاطة حماد بالشعر هي السبب في تقديمه إلى الخليفة، إذ كان الوليد من العاشقين للشعر ومن الواقفين عليه المعروفين بسعة العلم، وكان هو نفسه شاعرًا مجيدًا2. وقد ذكر عنه أنه كان يمتلك ديوانًا فيه أشعار الفحول، أو جملة دواوين جمعت أشعار العرب، كما سبق أن أشرت إلى ذلك. ويروى عن حماد أنه كان ذا ذاكرة عجيبة، وحافظة قوية غريبة في سرعة الحفظ. روي أن الطِّرِمَّاحَ بنَ حَكِيمٍ قص على ابنه هذه القصة، قال:

_ 1 الأغاني "6/ 72"، الزجاجي، مجالس العلماء "27 وما بعدها". 2 جمع شعر الوليد بن يزيد ورتبه المستشرق الإيطالي "ف. جبريالي، ونشره المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1937م، بعنوان: ديوان الوليد بن يزيد، وقدم له المرحوم خليل مردم بك.

أنشدت حمادًا الراوية في مسجد الكوفة -وكان أذكى الناس وأحفظهم- قولي: بان الخليط بسحرة فتبددوا وهي ستون بيتًا: فسكت ساعة ولا أدري ما يريد، ثم أقبل علي فقال: أهذه لك. قلت: نعم، قال: ليس الأمر كما تقول، ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتًا زادها فيها في وقته، فقلت له: ويحك! إن هذا الشعر قلته منذ أيام، ما اطلع عليه أحد، قال: قد والله قلت أنا هذا الشعر منذ عشرين سنة، وإلا فعلي وعلي، فقلت: لله علي حجة حافيا راجلا إن جالستك بعد هذا أبدًا. فأخذ قبضة من حصى المسجد وقال: لله علي بكل حصاة من هذا الحصى مائة حجة إن كنت أبالي، فقلت، أنت رجل ماجن، والكلام معك ضائع، ثم انصرفت"1. وقد أخذ عن حماد أهل المصرين: الكوفة والبصرة، ومنهم: خلف الأحمر، وروى عنه الأصمعي شيئًا من شعره. ونسب إلى الأصمعي قوله: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس، فهو عن حماد الراوية إلا شيئًا بمعناه من أبي عمرو بن العلاء"2. وللهيثم بن عدي خبر يشيد فيه بعلم حماد وبسعة حفظه له. وهناك أخبار أخرى في سعة حفظ حماد للشعر، مدونة في كتب الأدب، قد يخرجنا سردها من صلب هذا الموضوع3. وقد عرف حماد كذلك بسعة علمه بالعربية، فقالوا إنه "كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها". وورد عن الهيثم بن عدي قوله فيه: "ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد"4، والهيثم راويته وصاحبه. وروي أن عمرو بن العلاء كان يقدم حمادًا على نفسه، وكان حماد يقدم عمرًا على نفسه5، وعمرو بن العلاء نفسه من شيوخ علماء العربية في ذلك العهد.

_ 1 الأغاني "6/ 94 وما بعدها". 2 المُزْهِر "2/ 406"، ابن الأنباري، نزهة "59". 3 الأغاني "2/ 209 وما بعدها"، "6/ 72"، "7/ 45، 56 وما بعدها". 4 الأغاني "6/ 70 وما بعدها" ياقوت، إرشاد "10/ 265". 5 الأغاني "6/ 73".

غير أن هنالك أخبارًا تزعم أنه كان قليل البضاعة من العربية، وأنه كان لَحَّانًا، وأنه "حفظ القرآن الكريم من المصحف في نيِّف وثلاثين حرفًا"1، وأنه قرأ "الغاديات ضبحًا" "بالغين المعجمة"، فسعى به إلى عقبة بن مسلم بن قتيبة الباهلي، فامتحنه بالقراءة في المصحف، فصحَّف في عدة آيات2. ولا استبعد وقوع اللحن منه، إذ كان من الموالي، بعد أن وقع اللحن من عرب خلص ومن أنبل الأسر العربية ومن بعض كبار رجال الدولة في ذلك العهد. غير أن في هذا الوارد عن قلة بضاعته في العربية وفي كثرة لحنه وتصحيفه في القرآن الكريم، مبالغات وزيادات، وضعها عليه حسَّاده ومنافسوه لا شك؛ إذ لا يعقل وقوع مثل هذه الأغلاط الشنيعة من رجل وصل إلى الخلفاء برواية الشعر وتفسيره وتفسير غريبه، وعرف بين العلماء بسعة علمه بلغات العرب، حتى كانوا يلجئون إليه في حل مُشْكِلها وغريبها. ولو كان على مثل ما ذكر من اللحن في الكلام والتصحيف فيه ومن قلة بضاعته في العربية، لما وصل إلى الوليد بن زيد وإلى هشام وإلى خلفاء آخرين، وقد كانوا لا يختارون في الشعر واللغة إلا الفطاحل القديرين، قال المدائني: "وكانت ملوك بني أمية تقدمه، وتؤثره، وتستزيده، فيفد عليهم، ويسأله عن أيام العرب وعلومها، ويجزلون صلته". ولم يكن حماد عند أهل البصرة ثقة ولا مأمونًا، وكانوا يضعفونه. ذكروا أنه كان يصنع الشعر ويقتني المصنوع منه وينسبه إلى غير أهله. ورووا أن أعرابيًّا جاء مجلس حماد فأنشده قصيدة لم تعرف، ولم يدر لمن هي، فقال حماد: اكتبوها، فلما كتبوها، وقام الأعرابي، قال: لمن ترون أن نجعلها؟ فقالوا أقوالا، فقال حماد: اجعلوها لطَرَفَة3. وروي أنه قدم البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال ما أطرفتني شيئًا، فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الْحُطيئة مديح أبي موسى. فقال: ويحك يمدح الْحُطيئة أبا موسى لا أعلم به وأنا أروي للحطيئة ولكن دعها تذهب في الناس4.

_ 1 ابن خِلِّكان "1/ 207". 2 ابن خِلِّكان "5/ 129"، "حاشية رقم1"، "طبعة الدكتور أحمد فريد رفاعي"، الموشح للمرزباني "195"، "القاهرة 1343". 3 المُزْهِر "2/ 406". 4 طبقات، لابن سلام "15".

وقد اتهم حماد بالوضع، قال محمد بن سلام الجمحي: "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، حماد الراوية، وكا غير موثوق به. وكان ينحل الشعر غيره، ويزيد في الأشعار"1 وقال: يونس بن حبيب: "إني لأعجب كيف أخذ الناس عن حماد، وكان يكذب ويلحن ويكسر الشعر، ويصحف ويكذب"2. وروي عن الأصمعي قوله: "جالست حمادًا الراوية، فلم آخذ عنه ثلاثمائة حرف، ولم أرضَ روايته وكان قارئًا"3. وروي عنه أيضًا قوله: "كان حماد أعلم الناس إذا نصح"، يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار، فإنه كان متهمًا بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب. وهؤلاء كلهم من رؤساء البصرة في العلم، وقد كان علماء هذه المدينة، يطعنون كما سبق أن قلت في علمه وفي أمانته، ولكنهم يعترفون مع ذلك بقابليته وبمواهبه في الشعر، حتى زعموا أنه كان إذا صنع الشعر على لسان شاعر جاهلي، صعب حتى على العلماء، استخراجه من الصحيح. وقد أدخله الشريف المرتضى في عداد الزنادقة الملحدين المتهمين في دينهم، ومنهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وحماد الرواية، وحماد بن الزبرقان، وحماد عجرد، وعبد الله بن المقفَّع، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وبشار بن برد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي، وصالح بن عبد القدوس الأزدي، وعلي بن خليل الشيباني، وقال عن حماد: "وأما حماد الراوية، فكان منسلخًا من الدين، زاريًا على أهله، مدمنًا لشرب الخمور وارتكاب الفجور"4. ونقل عن الجاحظ أنه كان يجتمع مع أمثاله "على الشرب وقول الشعر، ويهجو بعضهم بعضًا، وكل منهم متهم في دينه". وقال عنه "وكان حماد مشهورًا بالكذب في الرواية وعمل الشعر، وإضافته إلى الشعراء المتقدمين ودسه في أشعارهم، حتى إن كثيًرا من الرواة قالوا: قد أفسد حماد الشعر، لأنه كان رجلا يقدر على صنعته فيدس في شعر كل رجل منهم ما يشاكل طريقته، فاختلط لذلك الصحيح بالسقيم"5

_ 1 طبقات الشعراء "14". 2 طبقات ابن سلام "15"، المُزْهِر "2/ 406". 3 المعارف "541"، المُزْهِر "2/ 407". 4 آمالي المرتضى "1/ 128، 131 وما بعدها". 5 آمالي المرتضى "1/ 131 وما بعدها".

و"روي أن هارون الرشيد قال للمفضل بن محمد: كيف بدأ زهير بقوله: دع ذا وعد القول في هرم ولم يتقدم قبل ذلك شيء ينْصَرِفُ عنه. فقال المفضَّل: قد جرت عادة الشعراء بأن يقدموا قبل المديح نسيبًا، ووصف إبل وركوب فَلَوات، ونحو ذلك. فكأن زهيرًا همَّ بذلك، ثم قال لنفسه: دع هذا الذي هممت به مما جرت به العادة، واصرف قولك على مدح هَرِم. فهو أولى مِنْ صُرِف إليه القول ونُظِم، وأحق من بدئ بذكره الكلام وختم. فاستحسن الرشيد قوله. وكان حماد الراوية حاضرًا، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا أول الشعر، ولكن قبله: لمن الديار بقنة الحجر وذكر الأبيات الثلاثة. فالتفت الرشيد إلى المفضل وقال: ألم تقل إن "دع ذا ... " أول الشعر، فقال: ما سمعت بهذه الزيادة إلا يومي، ويوشك أن تكون مصنوعة. فقال الرشيد لحماد: أصدقني، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا زدت هذه الأبيات. فقال الرشيد: من أراد الثقة والرواية الصحيحة فعليه بالمفضل، ومن أراد الاستكثار والتوسع فعليه بحماد"1. والقصة بهذا الشكل مصنوعة، فالمعروف أن وفاة حماد كانت سنة "156هـ". فلا يعقل التقاء حماد بالرشيد أيام خلافته. ومخاطبته له بيا أمير المؤمنين. ثم إن من الصعب تصور اعتراف حماد بإضافة أشعار من عنده على شعر الجاهليين بمثل هذه الصورة والبساطة، وهو في حضرة خليفة. والأغلب أنها وضعت على حماد من خصومه، للطعن به، وللرفع من شأن المفضل بن محمد الضَّبي. وقد وردت هذه القصة بشكل آخر، وردت أنها وقعت في أيام المهدي، روي أن جماعة من العلماء "كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بـ"عيساباذ" وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب، فدعا بالمفضل الضبي الراوية، فدخل، فمكث مليًّا،

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 754".

ثم خرج إلينا، ومعه حماد والمفضل جميعًا، وقد بان في وجه حماد الإنكار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم معهما، فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادًا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفًا لصدقه وصحة روايته. فمن أراد أن يسمع شعرًا جيدًا محدثًا فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فسألنا عن السبب، فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده: إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال: دع ذا وعد القوم في هَرِمِ ولم يتقدم له قبل ذلك قول: فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئًا، إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله، أو يروى في أن يقول شعرًا، فعدل عنه إلى مدح هرم وقال: "دع ذا"، أو كان مفكرًا في شيء من شأنه فتركه وقال: "دع ذا"، أي دعْ ما أنت فيه من الفكر وعدّ القول في هرم، فأمسك عنه. ثم دع بحماد، فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل، فقال: ليس هكذا قال زهير يأمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ فأنشده: لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين مذ حجج ومذ دهر؟ قفر بمندفع النحائت من ... ضفوى أولات الضال والسدر دع ذا وعد القول في هرم ... خير الكهول وسيد الحضر قال: فأطرق المهدي ساعة، ثم أقبل على حماد فقال له: قد بلغ أميرَ المؤمنين عنك خبرٌ لا بد من استحلافك عليه. ثم استحلفه بإيمان البيعة وبكل يمين محرجة ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه، فحلف له بما توثق منه. قال له: أصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير، فأقر له حينئذ أنه قائلها. فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهرة أمرهما وكشفه"1.

_ 1 الأغاني "6/ 89 وما بعدها"، الخزانة "4/ 128 وما بعدها"، "بولاق".

فأنت ترى أن هذه القصة تكاد تكون القصة السابقة نفسها، لولا ما أدخل عليها من ذكر اسم المهدي بدل الرشيد ومن تزويقات، وهي أقرب إلى الواقع من حيث الزمن من الأولى، فقد أدرك حماد أيام خلافة المهدي. أما من حيث الصحة أو الكذب، فربما كانت من وضع أعداء حماد عليه، أو من وضع المتعصبين للمفضل الضبي المرجحين علمه على علم حماد. وفي القصة الثانية موطن شك أيضًا، فالمعروف أن خلافة المهدي كانت سنة "158هـ"، وأنه اتخذ داره بعيساباذ بعد تولِّيه الخلافة، وقد كان وفاة حماد سنة "156هـ"، أي قبل توليه إمارة المؤمنين. فيظهر أنها من الموضوعات التي وضعت على حماد، ربما وضعها أصحاب المفضل لتعظيم أمر صاحبهم، وللحط من شأن حماد. وقد كان المفضل يكره حمادًا الراوية، ويطعن في علمه، بسبب تنافس الرجلين على الزعامة في العلم. وأكثر هذه التهم التي وجهت إلى علم حماد وإلى جهله بالعربية، وبالعروض، إنما هي تهم وجهها إليه أهل البصرة، عصبية لمدينتهم ورجالهم، وما اتهام ابن سلام ويونس بن حبيب لحماد، بالتهم المذكورة، سوى ترديد لهذه العصبية الضيقة، وللخصومة على الزعامة التي كانت بين المدينتين. ويونس بن حبيب الذي يحمل على حماد، ويتهمه باللحن، قد أتهم نفسه بتهمة اللحن، اتهمه خصومه أهل الكوفة بالطبع، ونجد مثل هذه الاتهامات من تجهيل العلماء بعضهم بعضًا بقواعد العربية وبالوقوع في اللحن، في صفحات الكتب الباحثة في المناظرات وفي التراجم، وفي كتب الأخبار والأدب، حتى يكاد يكون من الصعب علينا العثور على عالم، نقول إنه سلم من سهم من سهام النقد والتجريح. ويظهر أن المنافسة على الزعامة في العلم بالشعر الجاهلي، جعلت المفضل الضبي ينال من حماد، ويظهر أثر هذه المنافسة فيما ينسب إلى الضبي من أقوال ذكر أنه قالها في حماد مثل قوله: "قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا" فقيل له: "وكيف ذلك أيخطئ في رواية أم لحن؟ قال: "ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم

ناقد، وأين ذلك؟ "1. وابن الأعرابي الذي يروي انتقاص المفضل الضبي لحماد، هو على ما يذكر ربيب المفضل، كانت أمه تحته2، فلا أستبعد تأثره بحنق الضبي على حماد، بسبب المنافسة التي كانت بينه وبين حماد. وقد اتهم حماد الزندقة، كما اتهم بها حماد عجرد، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، وعلي بن الخليل، وصالح بن عبد القدوس، وبشار، وأبو نُواس. وقد وصف الجاحظ الزنادقة بقوله: "ربما سمع أحدهم ممن لا معرفة عنده ولا تحصيل له، أن الزنادقة ظرفاء، وأنهم عقلاء وأدباء، وأنه عباد وأصحاب اجتهاد، وأن لهم البصائر في دينهم، والبذل لمهجهم، وأن هناك علمًا وتمييزًا، وإنصافًا وتحصيلا، فيسري إليهم مسرى المهر الأرن، ويحن إليهم حنين الواله العجول، ويتصبب فيهم صبابة العاشق المتيم، ويرى أنه متى اتهم بهم، فقد قضى لهم بذلك كله، فلا يزال كذلك حتى يسهل في طباعه، ويرجح عنده أن يزعم أنه زنديق". وذكر أنه "ما منهم في الظاهر إلا نظيف البزة، جميل الشكل، ظاهر المروءة، فصيح اللهجة، ظريف التفضيل والجملة، والله أعلم ببواطنهم وضمائرهم. قال أبو نواس، وكان أيضًا زنديقًا يعد فيهم: تيه مغنٍّ وظرف زنديق3 وكان حماد صديقًا لحمادين آخرين هما حماد عجرد، وحماد بن الزبرقان، وكانوا "يتنادمون على الشراب ويتناشدون الأشعار، ويتعاشرون معاشرة جميلة، وكانوا كأنهم نفس واحدة، وكانوا يرمون بالزندقة"4. وقد هجا حماد بن الزبرقان حمادًا الراوية، فقال: نعم الفتى لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلاته حمادُ هدلت مشافره الدنان فأنفه ... مثل القدوم يسنها الحداد

_ 1 ياقوت، إرشاد "4/ 140"، "تحقيق مركليوث"، الأغاني "6/ 89". 2 الفِهْرِسْتُ "108 وما بعدها". 3 ثمار القلوب "176 وما بعدها"، ديوان أبي نُواس "89". 4 الأغاني "6/ 74 وما بعدها"، الحيوان "4/ 447 وما بعدها".

وابيضَّ من شرب المدامة وجهُهُ ... فبياضه يوم الحساب سوادُ1 غير أن علينا باعتبارنا من المؤرخين أن نحترز احترازًا شديدًا في تقبل كل ما يرون من الأخبار، ولا سيما في المسائل الشخصية، وفي القضايا التي تكتنفها الخصومات في مثل هذه الحالة. فقد كان لحماد خصوم كثيرون من أهل هذا الشأن، وقد حسدوه على تقدمه وشهرته كما كان هو يحسد غيره ولا شك إن تقدم عليه. والإنسان مهما تقدم وترفع، فإنه لا يستطيع أن يرد نفسه من العاطفة، ولا سيما عاطفة الدفاع عن النفس وإثبات الشخصية والتنافس مع الآخرين. وقد كان المفضل الضبي -كما ذكرت- في جملة خصوم حماد، وهو من رءوس رواة الشعر في تلك الأيام، وهو نفسه لم يكن من الناجين من هذه التهمة التي اتهم بها حماد. غير أن لا يعني أن حمادًا كان صادقًا في كل ما قاله وفي كل ما رواه، فوضعه للشعر، وصنعه له، وحمله على القدماء من المسائل المتواترة التي لا سبيل إلى نكرانها. إنما أريد هنا أن أنبه على ضرورة التأني والتقصي في أثناء مجابهتنا لمثل هذه الأخبار، لنخرج ما قد بولغ أو زيد فيه، حتى يكون حكمنا حكمًا محايدًا، أو قريبًا من الواقع. وكما استدعى خلفاء بني أمية حمادًا للاستفادة منه في الشعر، كذلك استدعاه خلفاء بني العباس الأوائل، كالمنصور والمهدي، ليروي لهما ما كان يحفظه من الشعر والأخبار، وليتحدث إليهم فيما أشكل عليهم من غريب الشعر وقد استدعاه الخليفة المنصور مرة، فأحضر من البصرة. غير أن صِلاته بهم لم تكن -على ما يظهر- على نحو صلاته بالأمويين، حيث حسب عليهم. واستدعي إلى المهدي، كما ذكرت ذلك. ونقرأ في رواية أن حمادًا قال لإياس بن مطيع، وقد ذكر صِلاته بالعباسيين: "دعني فإن دولتي كانت في بني أمية، وما لي عند هؤلاء خير"2، مما يخبر أنه كان مجفوًا عند بني العباس، وذكر أنه قال لمروان بن أبي حفصة: "ذهب ويحك ما كنت تعهد"3. وقد يكون لتقدم حماد

_ 1 الحيوان "4/ 445". 2 الأغاني "6/ 81"، "8/ 253". 3 "ذهب ويحك ما كنت تعهد، ذاك زمان، وهذا زمان" الزجاجي، مجالس العلماء "28"، الخزانة "4/ 130"، "بولاق".

في العمر دخل في هذا البعد، فقد كان قد جاوز السبعين من العمر في أيام المهدي، والعمر يؤثر بالطبع في مثل هذه الاتصالات، التي تحتاج إلى همة ونشاط، وجواب حاضر وبديهة، ورد على منافسين وحساد. وعاش حماد فشهد سقوط دولة بني أمية، إذ توفي سنة "156هـ"، وذكر أنه أبطل روايته فيما دسه على غيره من الشعر1. ومن شعر حماد قوله: إذا سرت في عدل فسر في صحابة ... وكندة فاحذرها حذارك للخسف وفي شيمة الأعمى زيار وغيلة ... وقشب وإعمال لجندالة القذف وكلم شرٌ على أن رأسهم ... حميدة والميلاء حاضنة الكسف متى كنت في حيي بجيلة فاستمع ... فإن لهم قصفًا يدل على حتف إذا عتزموا يومًا على خنقِ زائرٍ ... تداعوا عليه بالنباح وبالعزف2 وقوله مخاطبًا الشاعر أبي عطاء السندي: فما صفراء تكنى أم عوف ... كأن رُجَيلتها منجلان وروي أن أبا العطاء أحس بدس حماد له، فأجابه: أردت زرارة وأزن زنا ... بأنك ما أردت سوى لساني أي: أردت جرادة، وأظن ظنًّا بأنك ما أردت إلا أن تستخرج رطانتي، وكان في لسانه لكنة شديدة ولثغة3. ويعد ابن كناسة أبو يحيى محمد بن عبد الله بن عبد الأعلى الأسدي "207هـ" في جملة الرجال الذين اتصلوا بحماد ورووا عنه. ونجد في الأغاني جملة أخبار رويت عن حماد في الشعر والأخبار. وابن كناسة نفسه من علماء

_ 1 إرشاد، لياقوت "4/ 137 وما بعدها"، شرح المفضليات "2/ 8"، "لايل"، "مقدمة"، الأغاني "5/ 164 وما بعدها"، الفِهْرِسْتُ "140"، بروكلمن "1/ 246". 2 الحيوان "2/ 266". 3 الحيوان "5/ 558".

أيامه بالعربية وأيام الناس والشعر، وقد سمع هشام بن عروة، وسلمان الأعشى، وروى عنه أحمد بن حنبل ومحمد بن إسحاق الصاغاني1. كذلك كان أبو أيوب المديني في جملة من رأى حمادًا وروى عنه2. ومن أصحاب حماد: سالم بن أبي السمحاء3، والشاعر عمار بن عمرو بن عبد الأكبر المعروف بذي كناز، وهو من الشعراء المجان المعاقرين للشراب المتهتكين القائلين للشعر الطريف المضحك المستخدمين لسخف فيه لأجل الإضحاك4، وابن عياش5، والحسين بن يحيى6، ومعاوية بن بكر الباهلي7. ومن أشهر رواة الكوفة بعد حماد خالد بن كلثوم الكلبي، وله صنعة في الأشعار المدونة على القبائل8. وكان لغويًّا راوية لأشعار القبائل وأخبارها، عارفًا بالنساب والألقاب وأيام الناس. له كتاب "أشعار القبائل" يحتوي على عدة قبائل9. وأما خلف الأحمر، الذي توفي بعد حماد، سنة "180هـ" على رواية، فذكر العلماء أنه "لم ير قط أعلم بالشعر والشعراء من خلف الأحمر. كان يعمل الشعر على ألسنة الفحول من القدماء فلا يتميز عن مقولهم، ثم تنسك فكان يختم القرآن كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك مالا جزيلا على أن يتكلم في بيت من الشعر شكُّوا فيه فأبى"10. وقيل عنه "كان من أمرس الناس لبيت شعر، وكان شاعرًا يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم ...

_ 1 الأغاني "1/ 135". 2 الأغاني "3/ 266". 3 الأغاني "5/ 262". 4 الأغاني "7/ 56 وما بعدها". 5 الأغاني "7/ 67". 6 الأغاني "8/ 285". 7 الأغاني "11/ 7". 8 الرافعي "1/ 383". 9 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 352". 10 المستطرف "1/ 60"، "وكان من أمرس الناس لبيت شعر، وكان شاعرًا، يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم"، الفهرست"80"، "أخبار خلف الأحمر"، إنباه الرواة "1/ 348 وما بعدها"، بغية الوعاة "1/ 554"، المُزْهِر "2/ 403".

وله من الكتب: كتاب العرب وما قيل فيها من الشعر"1. واسمه خلف بن حيان، وعرف بأبي محرز، وكان مولى لأبي موسى الأشعري، وقيل مولى بني أمية، وأصله من خراسان2. وقيل مولى أبي بردة بن أبي موسى الأشعري أعتقه وأعتق أبويه، وكانا فرغانيين3، وقد ذكر ابن قتيبة أن في شعر العلماء تكلف، وهو رديء الصنعة، ليس فيه شيء جاء عن إسماح وسهولة، كشعر الأصمعي، وشعر ابن المقفع، وشعر الخليل، خلا خلف الأحمر، فإنه كان أجودهم طبعًا وأكثرهم شعرًا4. وكان عالِمًا بالغريب والنحو والنسب والأخبار، شاعرًا كثير الشعر جيده، ولم يكن في نظرائه من أهل العلم أكثر شعرًا منه. وكان يقول الشعر وينحله المتقدمين، ويكثر قول الشعر في وصف الحيات، وأراجيزه في ذلك كثيرة5. وقد ذكر عنه أنه كان يتلاعب بالشعر الجاهلي، فيزيد فيه وينقص. يروى أنه زاد البيت الأول والثالث من قصيدة زهير بن أبي سلمى "رقم4" في الديوان6. ونسب بعضهم إليه صنع المرثية التي رثى تأبَّطَ شَرًّا بها أقاربه7. وقد نسب بعض العلماء إليه صنع لأمية الشَّنْفَرى8، والمشهورة بلامية العرب التي أولها: أقيموا بني أمي صدور مطيِّكم ... فإني إلى قومٍ سواكم لأميلُ وروي عن الأصمعي قوله: سمعت خلفًا يقول: أنا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها: خيلٌ صيامٌ وخيل غير صائمة ... تحت العجاج، وأخرى تعلك اللجما9

_ 1 الفِهْرِسْتُ "80"، المعارف "544"، تهذيب اللغة، للأزهري"40 وما بعدها"، "طبقات، لابن سلام "6". 2 الفِهْرِسْتُ "80". 3 المعارف "544"، المُزْهِر "2/ 403"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 673". 4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 16". 5 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 673 وما بعدها"، ياقوت، إرشاد "11/ 66"، نزهة الألباء "37"، الآمالي، للقالي "1/ 154"، الزبيدي، طبقات "113". 6 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 65". 7 المصدر نفسه "1/ 104"، "حاشية رقم1". 8 الأمالي، للقالي "1/ 157"، بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 106". 9 الرافعي "1/ 381".

وله قصائد أخرى نص على بعضها العلماء وبينوا أنها مصنوعة، وقد وضع شعراء عبد القيس شعرًا كثيرًا1، وقال الجاحظ: إنه هو الذي أورد على الناس نسيب الأعراب، وهذا النسب من أرق الشعر قاطبة وما أحراه أن يكون مصنوعًا2. ولما توفي خلف رثاه أبو نُواس بشعر فيه: أودى جميع العلم مذ أودى خلف ... من لا يعدّ العلم إلا ما عرف قليذمٌ من العيالم الخسف ... كنا متى نشاء منه نغترف رواية لا تجتنى من الصحف3. ... وهو أحد رواة الغريب واللغة والشعر ونقاده والعلماء به وبقائليه وصناعته. وله صنعة فيه. وهو أحد الشعراء المحسنين، ليس في رواة الشعر أحد أشعر منه. وكان يبلغ من حذقه واقتداره على الشعر أن يشبه شعره بشعر القدماء، حتى يشبه بذلك على جلّة الرواة، ولا يفرقون بينه وبين الشعر القديم، من ذلك قصيدته التي نحلها ابن أخت تأبَّط شرًّا، التي أولها: إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطل4 جازت على جميع الرواة، فما فطن بها إلا بعد دهر طويل بقوله: خبر ما نابنا مصمئل ... جلّ حتى دقَّ فيه الأجل فقال بعضهم: جل حتى دق فيه الأجل من كلام المولدين. فحينئذٍ أقر بها خلف"5.

_ 1 المُزْهِر "2/ 403". 2 الرافعي "1/ 381 وما بعدها". 3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 673"، الحيوان "3/ 154". 4 وتنسب أيضًا إلى تأبَّط شرًّا، ديوان الحماسة "2/ 312"، العقد الفريد "6/ 157"، الأغاني "6/ 87"، "إن بالشعب إلى جنب سلع"، الأمالي "1/ 156"، أمالي المرتضى "2/ 280"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 674". 5 القِفْطي، إنباه الرواة "1/ 348 وما بعدها".

كان خلف الأحمر رأس البصرة في رواية الشعر وفي البصر به. كما كان حماد زعيم الكوفة في هذا العلم. وكان خلف نفسه ممن أخذ هذا العلم عن حماد، فهو من أحد تلامذته ورواته وسامعيه. وكان المقدم عند أهل البصرة، حتى كانا لا يصدرون الرأي في شعر دونه، ,إذا اختلف علماؤهم في شيء منه، عرضوا خلافهم عليه للبت فيه1. وروي أنه كان أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية، فسمع منه2. وقيل عنه: إنه كان شاعرًا مجيدًا جيد الشعر كثيره، لم يكن في نظرائه أحد يقول مثله الشعر3. ووضع على شعراء عبد القيس شعرًا كثيرًا موضوعًا وعلى غيرهم، وأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة. وكان خلف أخذ النحو عن عيسى بن عمر، وأخذ اللغة عن أبي عمرو. "ولم ير أحد قط أعلم بالشعر والشعراء منه، وكان يضرب به المثل في علم الشعر، وكان يعمل على ألسنة الناس، فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه، ثم نسك فكان يختم القرآن في كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك مالا عظيمًا خطيرًا على أن يتكلم في بيت شعر شكُّو فيه، فأبى ذلك. وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم، وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية، لأن كان قد أكثر الأخذ عنه. وبلغ مبلغ لم يقاربه حماد. فلما نسك خرج إلى أهل الكوفة فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم"4. وروي عن خلف قوله: "كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب، وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني، ويدخله في أشعارها، وكان فيه حمق"5. ويصعب في الواقع تصديق هذه الرواية المنسوبة إلى خلف الأحمر، فلم يكن حماد بإجماع المنافسين له على شيء من الفضلة والحمق، حتى نصدق ما ورد في هذا الخبر الآحاد، الذي هو خبر من أخبار رواة البصرة، بل نرى من الأخبار

_ 1 الرافعي "1/ 381". 2 ابن الأنباري، نزهة "58 وما بعدها". 3 المعارف "544". 4 المُزْهِر "2/ 403". 5 الأغاني "6/ 92"، "9/ 124".

الواردة عنهم العكس، نرى فيه الفطنة والخبث إلى آخر أيامه. ثم إنه كان أقدم وأشهر وأعرف وأحفظ من خلف الأحمر، وهو في معرفة الشعر وتمييزه أمرس من صاحبه خلف، فلا يعقل فوات ما نحله خلف القدماء على حماد. وقد كان الرواة أنفسهم يتعجبون من مقدرة حماد على التمييز بين الصحيح والفاسد من الشعر، وعلى إحاطته بأساليب الجاهليين في نظم القريض، وعلى إتقانه تلك الأساليب، حتى صار من الصعب على عشَّاق الشعر التمييز بين ما كان يصنعه حماد على ألسنة الشعراء الجاهليين وبين ما كان من نظمهم حقًّا. ولهذه الأسباب يصعب التصديق بهذا الخبر، ورأى أنه من وضع أهل البصرة، وضعوه على حماد، كرهًا له وللكوفيين. ورواته هم من البصريين. وما خبر توبة خلف الأحمر، وخروجه إلى أهل الكوفة، ليعرفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس، والتي أدخلها أهل الكوفة في دواوينهم، وأَبَو إصلاحها، أو حذفها، سوى قصة فيها الطعن والسخرية بعلم أهل الكوفة وبفهمهم للشعر، وفيه مدح وتفخيم لعلم خلف بالشعر، وإن كان لا يخلو من تجريح لخلف نفسه، وفيه مدح لعلم أهل البصرة ولصدقهم في رواية الشعر والأخبار. استهزاء إذن وتعريض بأهل الكوفة، ليس فوقه استهزاء، وضعه رجل فيه دعابة وتعصب وتحامل على الكوفيين. وقد اختص خلف بالفروع التي اختص بها حماد بالكوفة، وبذلك جعل البصرة تنافس الكوفة فيها. اختص بالشعر القديم، وباللغة، وبشيء آخر مهم جدًّا هو وضع الشعر وحمله على ألسنة القدماء، فصار في هذا الباب بطل البصرة وممثلها، كما كان حماد بطل الكوفة وزعيم الوضَّاعين. وقد امتاز خلف على الأصمعي العالم البصري ومعاصره بقدرته على نظم الشعر، إذ كان هو نفسه شاعرًا متمكنًا في الشعر، متقنًا لفنونه، كان من حذقه واقتداره في الشعر أن يشبه شعره بشعر القدماء فلا يفرق بينه وبين القديم. أما الأصمعي، فلم يبلغ مبلغه فيه، وإن كان من علماء اللغة والأدب والنحو ومن حفظة الشعر ورواته. وهناك روايات تنسب الصدق إلى خلف، ثم لا تكتفي بذلك حتى تجعله أعرف الناس وأعلمهم بالشعر. وروايات تذكر أنه كان أول من أحدث السماع بالبصرة، وأنه تعلم ذلك من حماد1.

_ 1 ياقوت، إرشاد "4/ 179".

وكان الأصمعي، وهو من علماء البصرة، كما ذكرت، غير راضٍ عن خلف، إذ كان يغمز فيه، ويتهمه بالكذب. ويظهر أن ذلك بسبب المنافسة على الزعامة في العلم. روي عنه أنه قال في خلف: "رواة غير منقحين، أنشدوني أربعين قصيدة لأبي دواد الإيادي قالها خلف الأحمر. وهم قوم تعجبهم كثرة الرواية، إليها يرجعون، وبها يفتخرون"1. ويريد بهم أهل الكوفة، وذكر الأصمعي أيضًا أن خلفًا الأحمر "وضع على شعراء عبد القيس شعرًا موضوعًا كثيرًا، وعلى غيرهم، عبثًا بهم، فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة"2. وينسب إلى الأصمعي قوله أنه حضر مأدبة وأبو محرز خلف الأحمر، وابن مناذر معنا، فقال له ابن مناذر: يا أبا محرز أن يكن امرؤ القيس، والنابغة، وزهير ماتوا، فهذه أشعارهم مخلدة، فقس شعري إلى شعرهم. قال: فأخذ صفحة مملوءة مرقًا، فرمى به عليه فملأه، فقام ابن مناذر مغضبًا، وأظنه هجاه بعد ذلك"3. وهذه القصة -إن صحت- تشير إلى وجود غلظة في طبع خلف. وهناك أخبار أخرى تؤيد هذا الرأي4. وقد أشار ابن النَّديم إلى كتاب لخلف الأحمر، وأسماه: "كتاب العرب وما قيل فيها من الشعر"5. وذكر ياقوت الحموي له كتابين: ديوان شعر حمله عنه أبو نواس، وكتاب "جبال العرب"6. ومما يؤسف له حقًّا، هو أن حمادًا الراوية، أو غير حماد ممن رووا عنه، أو أخذوا عن غيره، لم يشيروا إلى الموارد التي أخذ حماد منها هذا الفيض من الشعر، كما أنهم لم يشيروا إلى الموارد التي استقى بقية رواة الشعر منها ما رووه

_ 1 الموشح "201 وما بعدها". 2 مراتب النحويين "75". 3 الموشح "296"، الأغاني "11/ 17"، ياقوت، إرشاد "4/ 179". 4 "حدثني عمر بن شبة، قال: أنشد أبو عبيدة خلفًا الأحمر شعرًا له، فقال له خلف: يا أبا عبيدة، أخبئ هذه كما تخبئ السنور خرءها، الموشح "366 وما بعدها". 5 الفِهْرِسْتُ "74". 6 ياقوت، إرشاد "4/ 179".

من الشعر الجاهلي. ولو ذكروه لأفادونا ولا شك بذلك كثيرًا، إذ يكون في مقدورنا التوصل إلى معرفة الأشخاص الذين كان لهم فضل حمل هذه الثروة العظيمة من ذلك الشعر. ومما يؤسف له أيضًا هو أن معظم دواوين الشعراء الجاهليين لا يرتفع سندها إلى رواة يتقدم عهدهم على عهد حماد. ولو ارتفعت لاستفدنا منها بالطبع كثيرًا في معرفة أسماء رواة الشعر الجاهلي وحفاظه وجامعيه وكتبته قبل أيام حماد، ولعرفنا بذلك شيئًا عن الموارد التي أخذ منها هذا الراوية ذلك الكنز الثمين. ولا بد من ذكر السكري في هذا المكان. وهو أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري اللغوي، المتوفى سنة "275هـ". فله مؤلفات عديدة عن الشعر، وشروح للدواوين. منها: شرح أشعار هذيل1، وديوان أبي كبير الهذلي بشرح السكري2، وكتاب أخبار اللصوص، جمع فيه أشعار اللصوص البدو المشهورين3، وأشعار اليهود4، وشرح ديوان زهير5، وديوان امرئ القيس، بروايته6، وشرح ديوان حسان، وقد نقل منه البغدادي7، وديوان الحطيئة، وهو روايته عن ابن حبيب8، وديوان أبي ذؤيب الهذلي9، وشرحه على ديوان عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات10، وديوان الأخطل، وهو روايته عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي11، وديوان الفرزدق12. وقد أخذ السكري من الموارد التي ألفت قبله؛ كما أخذ من علماء المصرين: البصرة والكوفة، دون تعصب أو تحزب، وكان راوية البصريين13.

_ 1 خزانة "2/ 317". 2 بروكلمن "1/ 84". 3 بروكلمن "1/ 85". 4 بروكلمن "1/ 84". 5 بروكلمن "1/ 96". 6 بروكلمن "1/ 100". 7 خزانة "3/ 333"، "4/ 44". 8 بروكلمن "1/ 168". 9 بروكلمن "1/ 169". 10 بروكلمن "1/ 193". 11 بروكلمن "1/ 208". 12 بروكلمن "1/ 213". 13 نزهة الألباء "144 وما بعدها".

الفصل الرابع والخمسون بعد المئة: تنقيح الشعر والدواوين

الفصل الرابع والخمسون بعد المئة: تنقيح الشعر والدواوين مدخل ... الفَصْلُ الرَّابعُ والخمسونَ بَعْدَ المائةِ: تَنقيحُ الشِّعْرِ والدَّواوينُ والذي يطالع كتب الأدب والأخبار، ويقرأ ما ورد فيها عن الشعراء الجاهليين، يخرج منها بانطباع خلاصته أن أكثر شعراء الجاهلية، لم يكونوا يهذبون شعرهم، ولم يكونوا يثقِّفونه، ولم يكونوا يُجْرون عليه تحويرًا أو تغييرًا أو تعديلا، بعد إنشادهم له، وأن أغلبهم كان يقول شعره ارتجالا من غير تحضير سابق ولا تهيئة، فهو من عفو الخاطر. جرت على ذلك سُنّة الشعراء في الجاهلية، فكان شاعرهم يرتجل شعره حسب الظروف والمناسبات. وتصدق دعوى أهل الأخبار هذه في شعر المناسبات وفي المفاجآت، أي في الحالات التي لا يكون الشاعر فيها على علم مسبق بأنه سيقول فيها شيئًا من الشعر فتضطره المناسبة إلى قول شيء منه، أما في الحالات الأخرى، فإن دعواهم هذه لا يمكن قبولها، بسبب أننا نجدهم يذكرون أن الشاعر كان يهيِّئ شعره قبل إلقائه، وأنه كان إذا نظم يحفظه رواته، أو يدونه على صحيفة، وقد ينقح فيه ويجوِّد، وأن من الشعراء من كان يحرص على ألا يذيع شعره إلا بعد أمد، وإلا بعد أن يعرضه على خاصته ليروا رأيهم فيه، فيغير فيه ويبدل، فإذا سمع آراءهم وملاحظاتهم ووجدها وجيهة، أخذ بها، وصقل شعره بموجبها، وعندئذٍ يذيعه ويعطيه راويته لينشره بين الناس. جاء في "طبقات الشعراء" أن الرسول سأل عبد الله بن رواحة: "كيف تقول الشعر إذا قلت؟ " فأجابه: "أنظر في ذلك ثم أقول". فأمره أن

يقول شعرًا تقتضيه الساعة، وأخذ ينظر إليه: فانبعث عبد الله يقول شعرًا، ثم قال: "ولم أكن أعددت شيئا"1 وجاء في كتاب "الشعر والشعراء" عن الحارث بن حِلِّزة، وهو القائل: آذنتنا ببينها أسماءُ ... ربَّ ثاوٍ يمل منه الثواء وقال إنه ارتجلها بين يدي عمرو بن هند ارتجالا" ثم قال: "قال الأصمعي: قد أقوى الحارث بن حِلِّزة في قصيدته التي ارتجلها، قال: فملكنا بذلك الناس إذ ما ... ملك المنذر بن ماء السماء قال أبو محمد: ولن يضر ذلك في هذه القصيدة، لأنه ارتجلها فكانت كالخطبة"2. فاعتذر عن الإقواء بالارتجال، ومعنى هذا أنه لو كان قد هيأها وأعدها من قبل، كما هي العادة لما وقع في الإقواء. وفي جواب عبد الله بن رواحة "لم أكن أعددت شيئًا"، وفي اعتذار المعتذر عن إقواء الحارث بن حِلِّزة، دلالة بيِّنة على أن الشعراء كانوا يهيئون شعرهم وينقحونه قبل إنشاده، وأنهم كانوا لا يقولون شيئًا منه إلى بعد أن يكون قد اختمر في رءوسهم ورضوا عنه، حتى يكون سديدًا، اللهم إلا في المناسبات وفي الظروف الحرجة التي تهز الشاعر فتحمله على نظم الشعر. وورد أن الحارث بن حِلِّزة اليشكري، قال لقومه، "وهو رئيس بكر بن وائل: إني قد قلت قصيدة، فمن قام بها ظفر بحجته وفلج على خصمه، فقروَّاها ناسًا منهم، فلما قاموا بين يديه لم يرضهم، فحين علم أنه لا يقوم بها أحد مقامه، قال لهم: والله إني لأكره أن آتي الملك فيكلمني من وراء سبعة ستور، وينضح أثري بالماء إذا انصرفت عنه، وكان لبرص كان به، غير أني لا أرى أحدًا يقوم بها مقامي، وأنا محتمل ذلك لكم"3، مما يدل على أنه كان قد أعدّها ونظمها بعد تروٍّ ودراسة، ثم ألقاها على الملك، مع أننا

_ 1 طبقات "55"، شرح شواهد، للسيوطي "1/ 293"، العمدة "1/ 210". 2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 127 وما بعدها"، العمدة "1/ 190". 3 الخزانة "1/ 519".

نرى الكتب، تذكر أنه ارتجلها ارتجالا، بمعنى أنها كانت من وحي الموقف والساعة، ولم تكن مهيأة من قبل. لأن الارتجال في الكلام، التكلم عن غير تدبر ولا تهيئة سابقة، وقيل من غير رويَّة ولا فكر1. ويظهر أنهم قصدوا بالارتجال إلقاء الكلام من غير نظر إلى صحيفة، وذلك أوقع في النفس عندهم من الإلقاء عن شيء مكتوب، على الرغم من كون صاحبه قد أعده من قبل وقد حفظه، كما يفعل شعراء هذا اليوم من إنشادهم شعرهم المنظوم سابقًا من غير نظر في صحيفة، ليظهر الشاعر وكأنه يرتجله ارتجالا. ولا يعقل أن يكون الشعر كله من نتاج المصادفة والمفاجأة، وأنه كان يحفظ على نحو ما قيل وأنشد، فلم يجر عليه قلم، ولم ينله تهذيب ولا تشذيب، ولا سيما بالنسبة للقصائد. فقد كان الشاعر ينظم شعره مقدمًا في الغالب، ثم ينشده رواته وجماعته، لئلا ينساه، ثم يرى رأيهم فيه، وقد يزيد هو عليه شيئًا، وقد ينقص منه شيئًا، ومن هنا نجد رواية أكثر القصائد لا تثبت على ترتيب واحد، وليست لها وحدة مستقلة ولا ترتيب متكامل، إلا في أحوال نادرة، ومن ثم اختلفت الرواية عن الشاعر، فقد يكون أحد الرواة، قد افترق عن الشاعر وابتعد عنه وهو يحفظ شعره على نحو ما سمعه منه، على حين يكون الشاعر قد أضاف على شعره شيئًا جديدًا، حفظه عنه غيره من الرواة، فتسبب ذلك في ظهور الاختلاف في القصيدة الواحدة، وتكون الرواية القديمة أقصر من الرواية الحديثة في العادة، لعدم دخول الزيادة التي ترد متأخرة بالطبع على الشعر2. روي عن ابن مقبل قوله: "إني لأرسل البيوت عوجًا، فتأتي الرواة بها قد أقامتها"3. فللرواة إن صح هذا الخير، يد في إصلاح الشعر، وفي تغييره، وفي إقامة ما قد يكون فيه من اعوجاج. ولا بد للشاعر من إعداد الشعر"القصيد" وتهيئته والنظر فيه قبل إنشاده، كما في شعر المدح والهجاء، لما يجب أن يتفنن فيه الشاعر، وهو على علم أن من سيقصده لمدحه، قد قصده غيره للغاية نفسها، وقد يصادف إنشاده لشعره

_ 1 تاجُ العَروسِِ "7/ 337"، "رجل". 2 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 61". 3 مجالس ثعلب "481".

-وهو ما يقع في الغالب- بحضور عدد آخر من الشعراء المحترفين للشعر: المتفننين فيه، فإذا هو لم يهيِّئ شعره من قبل ولم يعرضه على أحد ولم يتفنن فيه، ويأتي فيه بغرائب الفنون، ضاع شعره بين بقية الأشعار. فهو مضطر إذن على إعداد شعره إعدادًا حسنًا قبل إنشاده أمام الممدوح، وحكّه وتشذيبه لينال المكانة المرجوة بين بقية الشعر. ونجد في شعر ينسب إلى امرئ القيس، يذكر فيه أن المعاني كانت تنثال عليه، فكان يعمل رأيه فيها، فيؤخر ويقدم، ويتخير ما يستجاد من غرر الأبيات: أذود القوافي عني ذيادًا ... ذياد غلام جريء جرادا فلما كثرن وعنينني ... تخيرت منهن ستًّا جيادا فأعزل مرجانها جانبًا ... وآخذ من درها المستجادة1. وقد نسب بعض الرواة هذه الأبيات إلى غيره. ولا بد في شعر الهجاء من إعداد، ولا سيما في شعر الهجاء الذي يعد للرد على شاعر هجاء، أو على شعر هجاء سابق، إذ يجب في هذه الحالة إعداده بعناية لتحطيم الهاجي وإسقاطه وإخماله، ويستدعي ذلك عمل الروية فيه والتأمل طويلا، وإنشاد الشعر مرارًا وتَكْرارًا على الرواة والعارفين بالشعر لأخذ رأيهم فيه. وقد يزيدون عليه وقد ينقصون منه، فإذا رضي الشاعر عنه، وقنع به، أنشده أمام الناس، وقد يكون في المواسم ليسير بين القبائل، وقد يرسل مكتوبًا إلى من يهمهم الأمر ليصل إليهم ذلك الهجاء. وقد يكون الشاعر تميم بن مقبل تميم بن أُبيّ بن مقبل، قد عنى هذا المعنى في البيت المنسوب قوله إليه: بني عامر، ما تأمرون بشاعر ... تخير بابات الكتاب هجائيا2 وبابات الكتاب، سطوره وهو بيت لا يخلو من غموض، حتى إن علماء

_ 1 ديوان امرئ القيس "63". 2 ديوان "ص410"، "الدكتور عزة حسن"، "تخير آيات"، العمدة "2/ 167"، الحيوان "7/ 112".

اللغة اختلفوا في تفسيره، اختلافًا كبيرًا، وقد يفهم منه أن الشاعر كان قد تخير هجاءه ودونه في وجوه الكتاب، أي أن الهجاء كان مدونًا بسطور ومكتوبًا، وقد يكون قد أنذر به وتوعد، بأن من سيهجوهم إذا لم يكفوا عن سفههم، فإنه سيدوِّن هجاءه ويثبته في سطور وينشره بين الناس، فهو ينذرهم به ويتوعدهم وقد أدخله صاحب "العمدة" في "باب الوعيد والإنذار"، وقال: "كان العقلاء من الشعراء وذوي الحزم يتوعدون بالهجاء، ويحذورن من سوء الأحدوثة، ولا يمضون القول إلا لضرورة لا يحسن السكوت معها"1. وقد اتخذ "كولدتزيهر" هذا البيت دليلا على وجود التدوين في شعر الهجاء عن العرب، كما اتخذ من شعر ليلى الأخيلية: أتاني من الأنباء أن عشيرة ... بشوران يزجون المطي المذللا يروح ويغدو وفدهم بصحيفة ... ليستجلدوا لي، ساء ذلك معملا2. دليلا آخرعلى تدوين الهجاء. وتنقيحُ الشعر تهذيبُه. وأنقح شعره إذا حككه، أي أزال عيوبه. ولهذا قيل: خير الشعر الحولي المنقح3. فكان الشاعر إذا نظم شعرًا أجال بصره به، ليرى ما فيه من نشاز وعيوب، فيحك منه ما يحتاج إلى حك، ويجيل بصره به إلى أن يعجبه ويرضيه، فيقوله للناس. وقد ينقحه بعد إلقائه، إذ قد يسمع نقدًا يراه من شاعر أو من العارفين بالشعر، صائبًا، فينقح الموضع المنتقد. وقد ينتبه الشاعر وهو يقرأ شعره على الملأ، إلى أفكار لم تكن تخطر على باله ساعة نظم شعره، فينظمها ويضيفها إلى ما نظمه. وكان من الشعراء من يكتب ويقرأ ويدون شعره. ومن هؤلاء عدي بن زيد العبادي، الذي كان يتولى مكاتبة العرب عند كسرى، والذي كان قد حذق الكتابة بالعربية والفارسية4. وهو من شعراء الحيرة، والشاعر

_ 1 العمدة "2/ 167". 2 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "98". 3 تاجُ العَروسِِ "2/ 242"، "نقح"، "7/ 122"، "حك". 4 الأغاني "2/ 101 وما بعدها".

سويد بن صامت الأوسي، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك الأنصاري، وهم من شعراء يثرب1، ولهذا فلا يستبعد وقوع التدوين والتنقيح من هؤلاء الشعراء ومن أمثالهم الذي كانوا يقرءون ويكتبون، يكتبون شعرهم، ثم يجيلون النظر فيه، فيغيرون منه ما شاءوا ويبدلون ما لا يعجبهم منه حتى يستوي، فيذاع. ولو ذهبنا هذا المذهب وقلنا بصحة المذكور في هذه الروايات، حق علينا أن نقول إن الشعراء الجاهليين إن لم يكن أكثرهم فبعضهم على الأقل كانوا ينقحون شعرهم ويعدلون فيه ويجبرونه، حتى يستقيم في نظرهم ويستوي. فإذا رضوا عنه، أذاعوه عندئذ، وأنشدوه حين تدعو الداعية إلى الإنشاد. وقد يطول هذا التنقيح، وقد ينقص. قد يقع في أيام، وقد يقع في شهر أو شهور أو حول أو أكثر. ومثل هذا التنقيح والتحكيك، يستدعي وجود تدوين في الغالب، بأن يدون الشاعر أو راويته الشعر، ثم يجري التنقيح على المكتوب. ذكر ابن قتيبة، أن من الشعراء المتكلف والمطبوع. "فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر، كزهير والحطيئة. وكان الأصمعي يقول: زهير والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين. وكان الْحُطيئة يقول: "خير الشعر الحولي المنقح المحكك"، وكان زهير يسمى كبر قصائده: "الحوليات"2. وقد أشار بعض الشعراء إلى تنقيحه شعره وإلى تهذيبه له، وتحكيكه فيه. منهم الشاعر المخضرم سويد بن كراع من "عطل"3، وكان شاعرًا محكمًا4. فقال في أبيات يذكر تنقيحه شعره: أبيت بأبواب القوافي كأنما ... أصادي بها سربًا من الوحش نزعا أكالثها حتى أعرس بعدما ... يكون سحيرًا أو بعيد فأهجعا

_ 1 ابن سعد، الطبقات "3/ 2 ص79"، المحبر "271 وما بعدها"، الأغاني "3/ 25". 2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 22 وما بعدها"، "الثقافة"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 13، 204"، "لجنة"، البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 204"، "هارون". 3 الأغاني "11/ 121"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 530"، "الثقافة". 4 الإصابة "2/ 117"، "رقم3722".

إذا خفت أن تروى علي رددتها ... وراء التراقي خشية أن تطلعا وجشّمني خوف ابن عفان ردها ... فثقِّفها حولا جريدًا ومربعا وقد كان في نفسي عليها زيادة ... فلم أرَ إلا أن أطيع وأسمعا1 وكان هجا قومه، فاستعدوا عليه عثمان، فأوعده، وأخذ عليه ألا يعود2. فأخذ يهذب شعره ويثقفه خشية الوقوع فيما لا يحمد عليه. وذكر ابن قتيبة أن "المتكلف من الشعر وإن كان جيدًا محكمًا، فليس به خفاء على ذوي العلم، لتبينهم فيه ما نزل بصاحبه من طول التفكر، وشدة العناء، ورشح الجبين، وكثرة الضرورات، وحذف ما بالمعاني حاجة إليه، وزيادة ما بالمعاني غنى عنه"3. وقال: "والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه، وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة، وإذا لم يتلعثم ولم يتزحر"4. والتكلف في نظم الشعر شيء ممجوج ما في ذلك شك، لما فيه من تصنع وتنطُّع، وخروج على عفو الخاطر، وعلى الطبع. أما تهذيب الشعر مراجعته وتشذيبه، والتأني فيه، والنظر فيه، لتعبيده وتشذيبه، حتى يكون عذبا نقيا، نابعًا عن شاعرية وسليقة، خاليًا من الشطحات والنزوات، يعجب السامع، فأمر آخر، على ألا يتجاوز الحد، بحيث يخضع الشعور لاستبداد الصنعة، فهو عندئذ معيب. وقد رأى الأصمعي، وهو من نقدة الشعر وعلمائه، في تثقيف الشعر وحكه وتشذيبه عبودية للشعر، انتقد زهيرًا والحطيئة عليها، فقال: زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما، عبيد الشعر. وكذلك كل من جود في جميع شعره، ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة. وكان يقال: لولا أن الشعر قد كان استعبدهم واستخرج مجهودهم، حتى أدخلهم في باب التكلف وأصحاب الصنعة،

_ 1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 23"، "الثقافة". 2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "2/ 530"، "الثقافة". 3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 32"، "الثقافة". 4 المصدر نفسه "1/ 34".

ومن يلتمس قهرهم الكلام، واغتصاب الألفاظ، لذهبوا مذهب المطبوعين، الذين تأتيهم المعاني سهوًا ورهوًا، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالا، وإنما الشعر المحمود كشعر النابغة الجعدي؛ ولذلك قالوا في شعره: مطرف بآلاف، وخمار بواف. وقد كان يخالف في ذلك جميع الرواة والشعراء"1. وقد فسر ابن قتيبة الجملة الأخيرة المتعلقة بالنابغة الجعدي، بقوله: "وكان العلماء يقولون في شعره خمار بواف، ومطرف بآلاف. يريدون أن في شعره تفاوتًا، فبعضه حد مبرز، وبعضه رديء ساقط"2. وجاء في "العمدة" لابن رشيق: "وكان الأصمعي يقول: زهير والنابغة من عبيد الشعر، يريد أنهما يتكلفان إصلاحه، ويشغلان به حواسهما وخواطرهما"3، فوضع النابغة في موضع الْحُطيئة المذكور في "البيان والتبيين" وفي الموارد الأخرى. قال السيوطي: قال الجاحظ في البيان: كان الشاعر من العرب يمكث في القصيدة الحول، ويسمون تلك القصائد الحوليات والمنقحات والمحكمات، يصير قائلها فحلا خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا"4. فالقصيدة الحولية المنقحة المحكمة، هي القصيدة التي يتأنى بها صاحبها، فيهذب فيها ويشذب، حتى يحكمها، لتصير متماسكة بينه متينة، ومن هنا قال الحطئية: خير الشعر الحولي المنقح"، أو "خير الشعر الحولي المحكك"5. وكانوا يسمون تلك القصائد أيضًا المقلدات6؛ والحوليات، والمنقحات، والمحكمات، وقد أوجز السيوطي كلام الجاحظ، الذي أدرك ما كان يفعله الشاعر بشعره من تغيير وتبديل ومن تنقيح وتجويد، حتى يرضى عنه. فقال أكثر مما نقله السيوطي عنه، قال إن من الشعراء "من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا كريتًا وزمنًا طويلا، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله ويقلب فيها رأيه، إتهامًا لعقلة، وتتبعًا على

_ 1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 13"، "لجنة"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 22 وما بعدها"، "بيروت دار الثقافة"، "1/ 81 وما بعدها". 2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 210". 3 العمدة "1/ 133". 4 شرح شواهد "1/ 26"، باختلاف اللفظ، البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 13". 5 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 204"، "2/ 13". 6 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 26"، "2/ 9"، "لجنة".

نفسه، فيجعل عقله زمانًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره"1. يفعلون ذلك ليخرج شعرهم بليغًا بينًا، خالصًا نقيًّا، حتى ينالوا منه ما يريدون من التأثير في السامع، ومن استهواء الناس إليهم "وكانوا إذا احتاجوا إلى الرأي في معاظم التدبير ومهمات الأمور ميَّثوا الكلام في صدورهم وقيدوه على أنفسهم، فإذا قومه الثقاف وأُدخل الكير وقام على الخلاص أبرزوه محكمًا منقحًا ومصفًّى من الأدناس مهذبًا"2، وقال: "وكانوا يسمون تللك القصائد الحوليات والمقلدات والمنقحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلا خنذيذًا وشاعرًا مفلقًا"3. والحوليات، هي القصائد التي يحول عليها الحول. والمقلدات، البواقي من الشعر على الدهر وقلائده4. والمنقحات، القصائد المنقحة المهذبة المحككة. يقال: خير الشعر الحولي المنقح، وأنقح شعره إذا حككه، وأحسن النظر فيه، وأصلحه وأزال عيوبه5. وقد كان الشاعر يجيل النظر في شعره، ويفكر فيه ويصلح منه، قبل أن يعرضه على الناس، حتى لا يعاب عليه، فيغض من قدره، وتهبط منزلته بين الناس، وتطمع فيه الشعراء. فهؤلاء الشعراء، هم أصحاب فن، لا يهمهم الإخراج الكثير، بل الشعر المحكك المنسق المنقح، ولذلك يمكثون أمدًا يعيدون النظر فيه حتى يعجبهم نظمه، فيذيعونه عندئذ بين الناس. وقد عرف طفيل الغَنَوِيّ في الجاهلية بالمحبر، وذهب علماء الشعر إلى أنه إنما عرف بذلك لحسن شعره6، وكان مثل زهير والنابغة "في التنقيح وفي التثقيف والتحكيك"7. وقد عرف ربيعة بن سفيان الشاعر الفارس بالمحبر؛ "لتحبيره شعره وتزيينه كأنه حبر"8. والحطيئة، والنَّمر بن ثعلب من هذه الطبقة التي تأنقت في شعرها وثقفته9. وقد عرف النمر بن تولب بالكيس

_ 1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 9". 2 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 14"، "2/ 9"، "هارون". 3 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 14". 4 تاجُ العَروسِِ "2/ 475"، "قلد". 5 تاجُ العَروسِِ "2/ 242"، "نقح". 6 العمدة "1/ 133"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "3/ 364". 7 العمدة "1/ 133"، تاجُ العَروسِِ "3/ 119"، "حبر". 8 تاجُ العَروسِِ "3/ 119"، "حبر". 9 العمدة "1/ 133".

لحسن شعره1. وورد في رواية أخرى أنه إنما قيل له المحبر لقوله: سماوته أمال برد محبر ... وسائره من أتحمي معصب2 وكان طفيل بن عوف بن كعب "طفيل بن كعب الغنوي"، أحد نعَّات الخيل من الجاهليين، فعرف بطفيل الخيل لكثرة وصفه إياها، قيل إنه كان من أوصف الناس للخيل3، وقد أخذ عنه بعض الشعراء، مثل النابغة وزهير. وقيل إنه كان ثالث الشعراء الوصافين للخيل4. وقد نشر "كرنكو" ديواني طفيل والطِّرِمَّاح مع ترجمتهما إلى الإنكليزية، وذلك ضمن سلسلة منشورات "جب"5. ذكر أن أبا بكر قال يومًا للأنصار: زادكم الله عنّا يا معشر الأنصار خيرًا، فما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغَنَوِيّ: جزى الله عنا جعفرًا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبوا أن يملونا ولو أمّنا ... تلاقي الذي منا لَملّت وروي أن معاوية قال: دعوا لي طفيلا وسائر الشعراء لكم، وأن عبد الملك بن مروان، قال: من أراد أن يتعلم ركوب الخيل فليرو شعر طفيل. ومن جيد الشعر المنسوب له، قوله:

_ 1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 227"، العمدة "1/ 133". 2 الخزانة "3/ 643". 3 "طفيل بن عوف بن خلف بن ضبيس بن مالك بن سعد بن عوف بن كعب بن جلان بن غنى بن أعصر"، الخزانة "3/ 643"، الأغاني "16/ 85 وما بعدها"، "ساسي"، الشعر والشعراء، لابن قتيبة "275"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 362"، ديوان طفيل والطرماح، "كرنكو"، "لندن 1927"، بروكلمن تأريخ الأدب العربي "1/ 120"، الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 364 وما بعدها"، "الثقافة"، السمط "210"، المؤتلف "147". 4 بروكلمن "1/ 119". 5 The Poems of T.B. 'A. al-Gh. And at-Tirimmah, ed and transl. by F. Krenkow, London, 1927 E. J. W. Gibb Mem. XXV.

إني، وإن قلّ مالي لا يفارقني ... مثل النعامة في أوصالها طول أو قارح في الغرابيات ذو نسب ... وفي الجراء مسح الشد إجفيل إن النساء كأشجار نبتن معا ... منها المرار، وبعض النبت مأكولا إن النساء متى ينهينَ عن خلقٍ ... فإنه واجبٌ لا بد مفعول لا ينصرفن لرشدٍ إن دعين له ... وهن بعد ملائيم مخاذيل1 ومن شعره: وللخيل أيامٌ فمن يصطبر لها ... ويعرف لها أيامها الخير تعقب وقد شرح ديوانه يعقوب بن السِّكِّيت، وقد رجع إليه البغدادي2. وقد قسم ابن رشيق الشعر إلى مطبوع ومصنوع. والمطبوع هو الأصل الذي وضع أولا، وعليه المدار. والمصنوع وإن وقع عليه هذا الاسم، فليس متكلفًا تكلف أشعار المولدين، لكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة من غير قصد ولا تمثل، لكن بطباع القوم عفوًا فاستحسنوه ومالوا إليه بعض الميل، بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره، حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف يصنع القصيدة، ثم يكرر نظره فيها خوفًا من التعقب، بعد أن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة، وربما رصد أوقات نشاطه فتباطأ عمله لذلك، والعرب لا ينظر في أعطاف شعرها بأن تجنس أو تطابق أو تقابل، فتترك لفظة للفظة، أو معنى لمعنى، كما يفعل المحدثون، ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته، وبسط المعنى وإبرازه، وإتقان بنية الشعر، وإحكام عقد القوافي، وتلاحم الكلم بعضه ببعض حتى عدّوا من فضل صنعة الحطيئة حسن نسقه الكلام بعضه على بعض"3. ولم يعب علماء الشعر الشعر المنمق المحكك، إذا لم تؤثر فيه الكلفة، ولم يظهر عليه التعمل، ولم يخرج عن حدود الطبع. ومن هنا قال بعض الحذاق بالكلام: "قل من الشعر ما يخدمك، ولا تقل منه ما تخدمه. وهذا هو معنى قول

_ 1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 364 وما بعدها". 2 الخزانة "3/ 642". 3 العمدة "1/ 129"، "باب في المطبوع والمصنوع".

الأصمعي"1، وهو أيضًا معنى ابن رشيق وغيره من علماء الشعر، الذين يريدون شعرًا طبيعًا صدر من القلب وعن عفو الخاطر، لا تعمل فيه ولا تزويق يخرجه من الطبع إلى الصنعة، فيكون ثقيل الظل لا تستسيغه الطباع. ويرى "بروكلمن" أن "القصائد الطوال كالمعلقات، لم يتم نظمها دفعة واحدة. ومهما كانت القافية كثيرًا ما تهدي الشاعر في نظم شعره، فإنه يجدر بنا أن نتصور نشأة القصيدة في الزمن القديم على غرار ما وصفه "موزل" عند شعراء البادية المحدثين. وعلى ذلك فلا يستبعد بحال من الأحوال أن تكون القصيدة من نتاج حول كامل. ومن هنا وجدنا رواية أكثر القصائد لا تثبت على ترتيب واحد. فقد ينشد الشاعر شعرًا لرواته وأحبائه أول الأمر لئلا ينساه، ثم يزيد عليه، لا سيما إذا ذكَّره أحباؤه بشيء غفل عنه، وربما بدل بعض أبياته بعد ذلك بأخرى لم يسمعها ذووه الأولون، فتختلف الرواية عن الشاعر. ولا يأبى الشاعر نفسه أن يعترف بأن كل ذلك من بنات أفكاره. وقد يكون ذلك أيضًا هو السبب في أن كثيرًا من الشعر القديم لم تبق منه إلا قطع متفرقة"2. ولا يختلف الشاعر الجاهلي عن الشاعر الإسلامي في نظري في تهذيب شعره وتنقيحه. فقد كان الفرزدق الشاعر المشهور الذي حفظ وروى شعر عدد كبير من الشعراء المتقدمين رواة، كانوا يعدلون ما انحرف من شعره، ويهذبون ما يحتاج منه إلى تهذيب، وكانوا يروونه. وكان لجرير الشاعر الآخر، وهو خصم الفرزدق ومنافسه في قول الشعر، رواته ومعدلو شعره كانون يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السِّناد3. وإذا كان هذا شأن شعراء أيام الأمويين الذين ورثوا تقاليد الشعراء المخضرمين والجاهليين، وساروا على هديهم في الشعر، لا نستبعد إذن لجوء الشاعر الجاهلي ورواته إلى التحكيك والتعديل وإجراء التهذيب على شعره، لغفلة قد تكون وقعت له، وقد فاتت عليه، أو لمعنى فات عليه، أدركه رواته عند إنشاده له، أو غمز به خصومه فاضطر إلى إجراء تنقيح عليه لإخراجه بالشكل الذي رآه يصلح فيه.

_ 1 العمدة "1/ 133 وما بعدها". 2 بروكلمن "1/ 61". 3 الأغاني "4/ 256 وما بعدها"، "دار الكتب".

وقد حكك ونقح علماء الشعر ورواته، ما سمعوه وأخذوه من شعر، لأنهم وجدوا أنه في حاجة إلى تحكيك، أو أنهم رأوا أن فيه خللا، وأن عليهم واجب إصلاحه وتقويمه. أجروا مثل هذا التنقيح حتى في شعر الشعراء الإسلاميين، روي عن الأصمعي قوله: "قرأت على خلف شعر جرير، فلما بلغت قوله: فيا لك يومًا خيره قبل شره ... تغيب واشيه وأقصي عاذله فقال: ويله! وما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ قلت له: هكذا قرأته على أبي عمرو. فقال لي: صدقت وكذا قاله جرير، وكان قليل التنقيح، مشرد الألفاظ، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع. فقلت: فكيف كان يجب أن يقول؟ قال: الأجود له لو قال: فيا لك يومًا خيره دون شرِّه. فاروه هكذا فقد كانت الرواة قديمًا تصلح من أشعار القدماء، فقلت: لا أرويه بعد هذا إلا هكذا"1. وقد اضطر علماء الشعر إلى تنقيح ألفاظ في الشعر بسبب تصحيف أو تحريف وقع عليها بفعل النساخ، ومثل هذا التنقيح مستساغ الطبع، بل واجب لأنه فيه أعادة الشعر إلى الصواب، على أن ينص على الأصل الذي كان مكتوبًا به، والتصحيح الذي أدخل عليه، وعلى السبب الذي حمل العالم على إجرائه عليه.

_ 1 ديوان جرير "480"، المرزباني، الموشح "125"، بروكلمن "1/ 65".

دواوين الشعر الجاهلي

دَوَاوينُ الشِّعْرِ الْجَاهِلي: ودواوين الشعراء الجاهليين، الموجودة عندنا هي كلها وبغير استثناء من جمع علماء الشعر الإسلاميين. فلا يوجد من بينها ديوان واحد ذكر أنه كان من جمع أهل الجاهلية. وقد شرع بصنع هذه الدواوين في العصر الأموي. وبلغت العناية بها ذروتها في القرن الثالث للهجرة. وقد أبدى علماء العراق من موالي وعرب تفوقًا كبيرًا على غيرهم من علماء الأمصار الإسلامية في هذا الباب. وقد نسب إلى ابن عباس قوله: "إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله،

فاطلبوه في الشعر فإنه ديوان العرب"1. إذا صح أن هذا الكلام الذي رواه عكرمة عن عبد الله بن عباس هو من كلامه نكون قد حصلنا لأول مرة على لفظة "الديوان"، بالمعنى المفهوم من اللفظة في عرف علماء الشعر والناس. وذكر أن لفظة الديوان قد وردت في حديث: "لا يجمعهم ديوان حافظ"2. وإذ صح هذا الحديث وثبت، يكون ورود اللفظة فيه قبل ورودها في كلام ابن عباس، ومعنى هذا أنها كانت معروفة عند أهل الجاهلية، غير أن ورودها في هذا الحديث لا يعني ديوان شعر، وإنما الجمع والإحصاء، وبمعنى كتاب وسجل تدون فيه الأشياء. وروي أيضًا أن الخليفة عمر سأل الصحابة عن هذه الآية: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3، فخاضوا في معناها، فخرج رجل ممن كان حاضرًا فلقي أعرابيًّا، فقال التخوف: التنقص، وكان ذلك الأعرابي من هذيل، فقال له: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم قال شاعرنا أبو كبير الهذلي: تخوف الرحل منها تامكًا قردًا ... كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر: أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم4. ويقال لمجموع الشعر المدون في دفتر أو كتاب "ديوان الشعر". فيقال "ديوان الشاعر" و"دواوين الشعراء"، و"ديوان فلان"، و"ديوان طيء"، و"ديوان الأنصار"، و"ديوان الشعراء الجاهليين"، إلى غير

_ 1 "وأخرج أبو بكر الأنباري في كتاب الوقف من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب، المُزْهِر "2/ 302"، "2/ 470"، الأخبار الطوال "332"، "إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب فإن الشعر ديوان العرب، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعرا"، العمدة "1/ 30"، تاجُ العَروسِِ "9/ 204"، "دون". 3 [النحل الآية: 46] . 4 تفسير الطبري "14/ 77"، تفسير النيسابوري، "14/ 70 وما بعدها"، وورد فيه أن اسم الشاعر: زهير.

ذلك. ويقصدون بذلك مجموعة أشعار جمعت في مجموع. وذكر بعض علماء اللغة أن الديوانَ الدفتر، ثم قيل لكل كتاب، وقد يخص بشعر شاعر معين مجازًا حتى جاء حقيقة فيه. فمعانيه خمسة: الكتبة ومحلهم والدفتر وكل كتاب ومجموع الشعر". والديوان في الأصل الكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية. وأول من وضعه عمر، ويرى علماء اللغة أن اللفظة من الألفاظ المعربة عن الفارسية، وأن كسرى كان قد رتب الدواوين لكتّابه ولمعاملاتهم، فلما جاء الإسلام، وظهرت الحاجة إلى تنظيم العمل. أمر الخليفة عمر باتخاذ الدواوين1. وإذا حملنا قول أهل الأخبار أنه قد كان عند النعمان بن المنذر "ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته"2، وقولهم إن النعمان ملك العرب كان قد أمر فنسخت له أشعار العرب في الطنوج، وهي الكراريس، ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار3، على محمل الأخبار التي ظهرت في أيام الأمويين، التي صنعها وروَّجها بين الرواة حماد الرَّاوية وأضرابه فإننا نثبت بذلك وجود الدواوين بالمعنى المفهوم من الديوان في أيام حماد، وقبل أيامه. ولدينا أخبار أخرى تفيد أن الدواوين قد عرفت قبل أيام حماد. ويظهر من قول ابن سلام: "وكان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون وإليه يصيرون. وقال ابن عوف عن ابن سيرين، قال: قال عمر بن الخطّاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزوا فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب ... "4 أن الدواوين لم تكن موجودة، وأن الشعر لم يكن مكتوبًا في صدر الإسلام، ولهذا ضاع أكثر الشعر الجاهلي بسبب انهماك حفَّاظه في الحروب

_ 1 تاجُ العَروسِِ "9/ 204"، "دون "، غرائب اللغة "229". 2 طبقات الشعراء "10"، المُزْهِر "2/ 474". 3 الخصائص "1/ 393"، تاجُ العَروسِِ "2/ 70"، "طنج"، اللسان "3/ 142". "طنج". 4 ابن سلام، طبقات "10".

وهلاك بعضهم فيها، ومنها حروب الردة، التي هلك فيها جمع من حفاظ الشعر من مسلمين ومن مشركين. ويظهر مثل ذلك من رواية يرجع سندها إلى ابن سلام تذكر أنه "كان الرجلان من بني مروان يختلفان في الشعر فيرسلان راكبًا فينخ ببابه يعني قتادة بن دعامة، فيسأله عنه ثم يشخص"1، ويظهر من هذه الرواية إن صحت أن قتادة، كان من الحافظين للشعر، وقد عرف بأنه كان صاحب علم بأيام العرب وأنسابها وأحاديثها2، وله أخبار في تفسير القرآن3، ونعت بأنه كان من الحفاظ، قال عنه السيوطي: "ولم يأتِنا عن أحد من علم العرب أصح من شيء أتانا عن قتادة وهو من التابعين، روي عن أنس وابن المسيب، والحسن البصري، وروى عنه سعيد بن أبي عروبة5. وقد ضرب الجاحظ به المثل في الحفظ، إذ قال: "كان يقال، زهد الحسن، وورع ابن سيرين، وعقل مطرف، وحفظ قتادة، وكلهم من البصرة"6. ويظهر أنه كان يروي الإسرائيليات7. وجمع سليمان بن عبد الملك بين قتادة والزهري، فغلب قتادة الزهري، فقيل لسليمان في ذلك، فقال: إنه فقيه مليح. فقال القحذمي8: لا، ولكنه8 تعصب للقرشية، ولانقطاعه كان إليهم، ولروايته فضائلهم9. وقد عرف بالنسب10، وهو أحد رواة رسالة عمرو بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في أصول القضاء11.

_ 1 ابن سلام، طبقات "17 وما بعدها"، المُزْهِر "2/ 334". 2 ابن سلام، طبقات "18". 3 المُزْهِر "1/ 29". 4 المُزْهِر "2/ 334". 5 المصدر نفسه "حاشية1". 6 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 242"، ثمار القلوب "90". 7 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 104، 258"، عيون الأخبار "2/ 179". 8 القحذمي: أبو عبد الرحمن بن هشام بن قحذم القحذمي، من أهل البصرة توفي سنة "222"، لسان الميزان "6/ 227". 9 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 243". 10 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 356"، الحيوان "3/ 210". 11 البَيَانُ والتَّبْيينُ "2/ 48".

وروى الجاحظ "إن رجلا قتل أخوين في نقاب، أحدهما بعالية الرمح، والآخر بسافلته. وقدم في ذلك راكب من قبل بني مروان على قتادة يستثبت الخبر من قبله، فأثبته"1. وهو يروي عن ابن عباس2، وعن أبي موسى3، ويظهر من الأخبار المنسوبة إليه أنه من طراز القصاص والذين يروون الأخبار من دون نقد4. وورد أن الخطاط الشهير خالد بن أبي الهيجا، وهو أول من كتب المصاحف في الصدر الأول، وكان من أحسن الخطاطين في زمانه، كتب "المصاحف والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك"5. وإذا صح هذا الخبر، نكون قد وقفنا على جمع قديم للشعر وهو في مقدمة المجموعات القديمة للشعر. لكننا نجد في رواية تذكر أن حمادًا الراوية سرق جزءًا من أشعار الأنصار، فقرأه فاستحلاه وحفظه، فمن ثم صار يطلب الأدب ويحفظ الشعر6. وهي رواية أشك في صحتها، يظهر أنها من موضوعات أعداء حماد، ولو صحت لكانت دليلا على وجود ديوان شعر ضم شعر الأنصار. كما نجد في خبر استدعاء الوليد بن يزيد له وإرساله إليه بمائتي دينار، وأمره عامله يوسف بن عمر أن يحمله إليه على البريد، وقوله في نفسه: "لا يسألني إلا عن طرفيه: قريش وثقيف: فنظرت في كتابي قريش وثقيف. فلما قدمت إليه سألني عن أشعار بلى"7، دلالة على وجود ديوانين كانا عند حماد أحدهما ديوان شعر قريش، والآخر ديوان شعر ثقيف. غير أننا لا نستطيع التأكد من صحة هذا الخبر، وإن كنت لا أستبعده أيضًا، لظهور التدوين قبل هذا العهد، في أيام معاوية مثلا. وإذا صح ما ذكره ابن النَّديم من قوله: "قال أبو العباس ثعلب جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك ورد

_ 1 البَيَانُ والتَّبْيينُ "3/ 27". 2 الحيوان "1/ 180". 3 الحيوان "1/ 296". 4 الحيوان "5/ 536، 537"، "4/ 293 وما بعدها". 5 الفِهْرِسْتُ "15"، "خطوط المصاحف". 6 الأغاني "5/ 163". 7 الأغاني "6/ 94".

الديوان إلى حماد وجنّاد"1، فيكون معنى ذلك، أنه قد كان عند حماد وجناد ديوانان أو دواوين للشعر، استعارهما منهما الوليد، وجمع منهما ديوان العرب وأشعارهم، ثم أعاد الديوانين إلى صاحبيهما، وتكون بذلك قد وقفنا على وجود لفظة "ديوان" بالمعنى الاصطلاحي المعروف في أيام الأمويين ووثقنا من وجود دواوين الشعر في تلك الأيام. ولم أجد في الدواوين التي وصلت إلينا في كتب الأدب إشارات إلى اقتباس رواة الشعر وحفظته وجماعه والمعنيين به من هذا الديوان ولا وصفًا لمحتوياته ولما كان بين دفتيه من قصائد وأشعار. ولو وصل إلينا شيء من هذا، لأفادنا ولا شك كثيرًا في التعرف على ذلك الديوان الملكي الذي يجب أن نعده أول ديوان شعر عربي وصل خبره إلينا بكل تأكيد حتى الآن. ويذكر أن بعض شعراء العصر الأموي كانوا يملكون دواوين شعر لشعراء جاهليين. ذكر مثلا أن الفرزدق كان يمتلك نسخة من ديوان الشاعر زهير بن أبي سلمى"2. وقد أطلق القدماء مصطلح "دفاتر أشعار العرب" على مدونات الشعر. والدفتر جماعة الصحف المضمومة3، وقسم البغدادي هذه الدفاتر إلى قسمين: دواوين ومجاميع. فالدواوين هي دواوين الشعراء، والمجاميع مثل أشعار بني محارب للشيباني والمفضليات للمفضل الضبي وأشعار الهذليين للسكري، وأشعار لصوص العرب للسكري، ومختار شعر الشعراء الست: امرئ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة وشرحها للأعلم الشنتمري وغيرها4. ويظهر أن أول اختبار مدوّن للشعر عند العرب كان القصائد المعروفة بالمعلقات اختارها حماد الراوية، ثم سار من جاء بعده مثل المفضل الضبي، وأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، ثم من جاء بعدهما على منهجه في اختيار وانتقاء الشعر والقصائد وجمعها في مجموعات. وقد ذكر الجمحي أن حمادًا

_ 1 الفِهْرِسْتُ "140". 2 بلاشير "106". 3 تاجُ العَروسِِ "3/ 209"، "دفتر"، المصون "4". 4 خزانة الأدب "1/ 9 وما بعدها"، "بولاق".

"كان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها. وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار"1. ولم أجد في الكتب المطبوعة التي تحدثت عن حماد ما يفيد اشتغال حماد بتدوين الشعر وإثباته في دواوين. وفي الفِهْرِسْت عبارة تقطع بعدم ورود كتاب ولا ديوان كان من تأليف حماد أو جمعه، إذ يقول: ولم ير لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس، وصنفت الكتب بعده"2. ويفهم بالطبع من كلام ابن النَّديم هذا أن حمادًا كان راوية حسب، يروي للناس ما حفظه من شعر دون أن يعتني هو نفسه بإثباته لما يحفظه في حروف وكلمات. غير أنه يجب الاحتراز كثيرًا في الأخذ برواية ابن النَّديم هذه، إذ لا يعقل إهمال حماد ترتيب ما كان يحفظه من شعر كثير، وتدوينه وإملاءه. وقد أهمل ابن النَّديم أسماء كتب عديدة لمؤلفين معروفين، كما ذكر أسماء علماء لم يشر إلى مؤلفات لهم، مع أن غيره أشار إلى مؤلفاتهم، وقد وصلت بعض منها إلينا وطبعت، فلا أستبعد أن يكون قول ابن النَّديم هذا من القبيل. ومما يقوي هذا الرأي ويؤيده، ما ورد في مختارات ابن الشجري عن أبي حاتم السجستاني من وجود كتاب لحماد الراوية، إذ قال: "قال أبو حاتم هذا آخرها وفي كتاب حماد الراوية زيادة، وقوله: قال السجستاني: وفي كتاب حماد الراوية زيادة بعد هذا البيت أربعة أبيات، كتبتها ليعرف المصنوع"3. وقد أورد ابن الشجري قولَي السجستاني عند إيراده شعر الحطيئة. وكان السجستاني قد أشار إلى كتاب حماد هذا، لوجود أبيات فيه لم يجدها في رواية الأصمعي التي اعتمد عليها لشعر الحطيئة. وقد أورد تلك الزيادات، ذاكرًا أنها مع ذكره لها من المصنوعات المردودات4. وفي عبارة ابن النديم: "ولم يرَ لحماد كتاب، وإنما روى عنه الناس

_ 1 طبقات، لابن سلام "14". 2 الفِهْرِسْتُ "ص135"، "أخبار حماد". 3 مختارات ابن الشجري، القسم الثالث "ص12، 16"، "تحقيق حسن زناتي، "القاهرة 1926م". 4 الْمَورِدُ المذكورُ.

وصنفت الكتب بعده"1، هفوة، فقد ذكر ابن النديم نفسه حين كلامه عن "عوانة"، أن الخليفة "الوليد بن يزيد" "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها.... ورد الديوان إلى حماد وجناد"2، وفي هذه الإشارة دلالة على أنه كان لحماد ديوان، ثم نجده يذكر أنه كان لعوانة بن الحكم كتاب التأريخ، وكتاب سيرة معاوية وبني أمية، وقد توفي عوانة سنة "147هـ" أي قبل حماد المتوفى سنة "156م"3، ونجده يذكر لعبيد بن شرية الجرهمي كتاب الأمثال، ويذكر لصحار العبدي كتابًا في الأمثال كذلك، وقد عاشا قبل عوانة وحماد4. ودواوين الشعر أنواع: فقد يكون الديوان مجموع شعر شاعر واحد. وقد يكون مجموع شعراء قبيلة، أو مجموع شعر قبائل، أو شعر جماعة مثل الأنصار، وقد يكون مجموع شعر شعراء، جمعت أشعارهم على شكل طبقات، أو فن امتازوا به، أو اختيارات أو أسباب أخرى تذكر في مقدمة الدواوين. ومن النوع الأول دواوين بعض الشعراء الجاهليين، مثل ديوان امرئ القيس، وديوان النابغة الذبياني، وديوان عنترة، وديوان المتلمس وغيرهم. وقد يجمع ديوان شاعر واحد عدة علماء، فيرد الديوان بروايات مختلفة. وقد تختلف النسخ في ترتيب أبيات القصيدة، وفي عدد القصائد، وقد تزيد بعضها أشعارًا، وقد تنقص بعض منها أشعارًا، وقد تختلف نسخ الديوان الذي هو من جمع عالم واحد، بسبب أن العلماء كانوا يملون علمهم إملاء على تلامذتهم، في مجالس إملائهم، فيقوم تلامذتهم بتدوين ما يملى عليهم. ويحدث أن العالم يسمع كتابه من بعض طلابه أو من كتابه، فيصحح فيه، وقد يزيد عليه ما فات عن ذاكرته يوم إملائه في المرة الأولى، فيأمر بتدوينه، وقد يحذف منه شيئًا، لم يرض عنه، فتتعدد بذلك النسخ، ويحدث ذلك في الكتب الأخرى ومن هنا تتعدد الروايات للدواوين أو للكتاب، مع أن جامعه أو مؤلفه رجل واحد. وقد يأخذ الطالب هذا الديوان، ثم يزيد عليه ما يسمعه من شيوخ آخرين،

_ 1 الفِهْرِسْتُ "ص135"، "أخبار حماد"، "140"، "الاستقامة". 2 الفِهْرِسْتُ "140"، "أخبار عوانة". 3 الفِهْرِسْتُ "140". 4 الفِهْرِسْتُ "138".

وقد يعلق عليه ويزيد على شرحه، شروحًا سمعها من رجال آخرين، وبذلك تتولد نسخ جديدة، تختلف عن النسخ الأم1. وقد جمع العلماء دواوين الشعراء، وقد وصل بعض منها، وفقد البعض الآخر. وقد ذكر "العيني" أنه كان حصل على ما ينيف على مائة ديوان شعر، من بينها ديوان امرئ القيس، وديوان النابغة الذبياني، وديوان علقمة بن عبدة التميمي، وديوان زهير بن أبي سلمى، وديوان طرفة بن العبد، وديوان عنترة بن شداد العبسي، وديوان الأعشى ميمون، وديوان الحطيئة، وديوان أبي دؤاد، وديوان كعب بن زهير، وديوان لبيد العامري، وديوان الشنفرى، وديوان الحارث بن حلِّزة، وديوان أبي ذؤيب الهذلي، وديوان أبي كبير الهذلي، وديوان ساعدة بن جؤية الهذلي، وديوان أبي خراش الهذلي، وديوان أبي المثلم، وديوان صخر الغي، وديوان المتنخل، وديوان أبي العيال، وديوان السموءل بن عادياء، وديوان سحيم عبد بني الحسحاس، وديوان عمرو بن قميئة، وديوان عمرو بن كلثوم، وديوان أوس بن حجر، وديوان النمر بن تولب، وديوان أبي الطمحان القيني2، وغير ذلك من دواوين لم أشر إليها. ومما يؤسف له أنه لم يذكر أسماء رواة هذه الدواوين. ومن النوع الثاني، دواوين القبائل، أو أشعار القبائل، وقد ضمت شعر شعراء قبيلة أو شعر بعض من شعرائها، ممن اشتهر وعرف، وتحتوي الإضافة إلى الشعر كلامًا يتصل بالشعر وبالشاعر وبالمناسبة التي قيل الشعر فيها، وبنسب الشاعر وقبيلته، على نحو ما نجده في الدواوين الخاصة، فتكون بذلك وثائق مهمة جامعة لأمور شتى من حياة الجاهليين. وقد سميت هذه المجموعات بأشعار القبائل، مثل: أشعار الأزد، وأشعار حمير، وأشعار الرباب، وأشعار بني عامر بن صعصعة، وأشعار فهم، وشعر بني يشكر، وأشعار بني عوف بن همام، وشعر هذيل3. وأشعار تغلب للسكري، وقد رجع إليه البغدادي4.

_ 1 راجع في هذا الباب مصادر الشعر الجاهلي، الباب الخامس وما بعده. "ص479 فما بعدها". 2 "4/ 596"، "حاشية على الخزانة". 3 مصادر الشعر الجاهلي "ص543 وما بعدها". 4 خزانة "1/ 304".

وقد هلك أكثر ما جمع من أشعار القبائل، ولم يصل إلينا مطبوعًا من هذه المجموعات إلا ديوان هذيل، وأكثر شعراء هذا الديوان إسلاميون. وقد نال شعراء هذيل بذلك حظًّا من العناية، كما نشرت لشعراء هذه القبيلة جملة دواوين1. وقد أطلق ابن النديم جملة "أشعار العرب" على معنى ديوان أشعار العرب، فذكر مثلا أن الأصمعي، عمل "قطعة كبيرة من أشعار العرب ليست بالمرضية عند العلماء لقلة غربتها واختصار روايتها"2، وذكر أن خالد بن كلثوم الكلابي، كان من رواة الأشعار والقبائل، وله صنعة في الأشعار والقبائل، وله من الكتب كتاب الشعراء المذكورين وكتاب أشعار القبائل، ويحتوي على عدة قبائل3. وذكر أن أبا عمرو الشيباني "206هـ" كان عالمًا بأشعار القبائل، وقد أخذ العلماء عنه دواوين أشعار القبائل، وكان قد جمع أشعار نيف وثمانين قبيلة4. وذكر أيضًا أنه قد كان في بيت أبي عبيدة "210هـ" "211هـ" "208هـ" "ديوان العرب"5، ويظهر أنه قصد به ديوانًا ضم أشعار القبائل. فهو مجموع أشعار شعراء. ومن النوع الثالث، أي الكتب التي جمعت أشعار طبقة معينة من طبقات الشعراء أو المجتمع، ما ذكره ابن النديم من أن أبا العباس ثعلب، صنع قطعة من أشعار الفحول وغيرهم، منهم الأعشى والنابغتان وطفيل والطِّرِمَّاح6. ومن أن أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري، وهو ممن أخذ عن ثعلب، كان قد عمل عدة دواوين من أشعار العرب الفحول، منه شعر زهير، والنابغة، والجعدي، والأعشى7. وقد عمل محمد بن حبيب قطعة من أشعار العرب، وكتابًا سمّاه: "كتاب أخبار الشعراء وطبقاتهم"8، وألف ابن سلام "231هـ"

_ 1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 82 وما بعدها". 2 الفِهْرِسْتُ "89". 3 الفِهْرِسْتُ "104". 4 الفِهْرِسْتُ "107". 5 الفِهْرِسْتُ "85". 6 الفِهْرِسْتُ "117". 7 الفِهْرِسْتُ "118". 8 الفِهْرِسْتُ "161".

كتابًا في طبقات الشعراء، عرف بـ "طبقات الشعراء"، وهو مطبوع معروف، ولعمر بن شبة كتاب في الطبقات اسمه: "كتاب طبقات الشعراء"1. هذا ونقرأ في كتاب "الفهرست" لابن النديم، وفي مؤلفات أخرى أن من العلماء من ألف كتبًا في القبائل، مثل "كتاب الأوس والخزرج" لأبي عبيدة2. وكتاب إياد، وكتاب كنانة، وكتاب بني نهشل، وكتاب بني محارب، وكتاب بني الحارث، وكتاب بني مرة، وأشعار حمير، وكتاب بني القين بن حسر، وكتاب بني حنيفة وغيرها من كتب كان الآمدي قد رجع إليها وأخذ منها. وقد درست هذه الكتب، ولم يتحدث الآمدي بشيء عما احتوته، لذلك لا نستطيع أن نتحدث عن موضاعاتها، بيد أن الآمدي يشير أحيانًا، إلى مواضع اقتبس منها بعض الأشياء، لها صلة بالشعر والشعراء، مما يحملنا على القول بأن الكتب المذكورة كانت في الشعر: في شعر القبائل، وفيمن نبغ بينها من شعراء، كما يشير إلى أمور أخذها من هذه الموارد، التي لم يشر إلى أسماء مؤلفيها، تدل على أنها خاصة بأخبار القبائل وأنسابها، ونظرًا إلى ورود أسماء قسم من هذه المؤلفات التي لم يذكر الآمدي أسماء مؤلفيها في "الفهرست" لابن النديم، وفي موارد أخرى نقلت منها وأشارت إلى أسماء مؤلفيها، فإن في الإمكان التعرف بهذه الطريقة على أسماء مؤلفاتهم التي استقى أخباره منها في مواضع أخرى. وعلى كثرة ما ألف من دواوين، فإننا لا نملك منها سوى قسم قليل من ذلك الكثير. ويرى "بلاشير" أن الدواوين القديمة المهمة لا تحتوي وسطيًّا أكثر من عشرين صفحة، وأن أطولها كدواوين النابغة وزهير وامرئ القيس لا تتجاوز أبدًا الثلاثين صفحة في الأصل، غير أن المتأخرين زادوا فيها قصائد ومقطعات عثروا عليها في موارد أخرى، فتضخمت تلك الدواوين حتى صارت أضعاف ما كانت عليه في الأصل3. وجمع بعض علماء الشعر أشعار طوائف من المجتمعات مثل شعر اللصوص،

_ 1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 44". 2 الفِهْرِسْتُ "86". 3 ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "162".

فللسكري ديوان دعاه: أشعار لصوص العرب. ومثل شعر الصعاليك، وشعر الشعراء المغتالين، وأخبار من نسب إلى أمه من الشعراء، وأخبار المتيمين من الشعراء في الجاهلية وفي الإسلام، إلى غير ذلك من مؤلفات في أخبار الشعراء وفي شعرهم1. ويظهر أن مؤلفي الدواوين لم يحفلوا في أيامهم بموضوع شرح المناسبات التي من أجلها نظم الشعر، ولهذا جاءت خالية في الغالب من ذكر المناسبة، وهي إذا ذكرتها فإنما تذكرها بإيجاز واختصار. أما الشروح التي قد ترد في الديوان، فإنها شروح لغوية ونحوية في الغالب، لم تتمكن من تقديم صورة واضحة عن الشاعر وعن المناسبات التي من أجلها نظم الشعر. وقد انبرى علماء آخرون بشرح هذه الدواوين، إلا أن شروحهم لم تخرج أيضًا عن مألوف ذلك الزمن من الاهتمام باللغة والنحو وجمع الشواهد والنادر والغريب، فضاع التأريخ نتيجة لهذه الطريقة. وقد ذكر ابن النديم أن شعر "امرئ القيس" قد عمله جملة علماء، منهم أبو عمرو الشيباني، والأصمعي، وخالد بن كلثوم، ومحمد بن حبيب، وأبو سعيد السكري الذي صنعه من جميع الروايات. وقد صنعه أبو العباس الأحول ولم يتمه وعمله ابن السكيت. ويلاحظ أن جامعي هذه الدواوين لم يشيروا إلى المورد الذي استقوا منه شعرهم. صحيح أن منهم من ذكر السند، إلا أنه لم يذكر كيف حصل المرجع الذي ينتهي السند عنده على هذا الشعر. ولم يحفل الرجال الذين تنتهي الأسانيد بهم بذلك، مع أن لذكر السند كاملًا أهمية كبيرة بالنسبة للمؤرخ. إذ نتمكن بهذا التشخيص من الوقوف على معين هذا الشعر. وقد دوَّن ابن النديم جريدة بأسماء علماء الشعر الذين اشتغلوا بعمل دواوين الجاهليين. وقد استعمل لفظة "صنع" و "عمل", و "صنعة" في معنى "جمع" و "ألف" و "تأليف"، واستعمل جملة "صنعه من جميع الروايات" بعد اسم الجامع وقبل اسم الشاعر للإشارة إلى أن جامع الديوان قد اعتمد على المجموعات

_ 1 الخزانة "1/ 10"، "بولاق" راجع الفِهْرِسْت لابن النديم، حيث تراه يذكر أسماء مؤلفات عديدة بهذا الموضوع. 2 الفِهْرِسْتُ "229".

الشعرية التي صنعت قبله، وأوجد من مجموعها ديوانه. فقد تقدم رواية قصيدة على قصيدة، وقد تؤخر أخرى قصيدة متقدمة، فتقدم عليها قصيدة متأخرة، وقد يقدم ديوان بعض أبيات قصيدة، وقد يرتبها ديوان آخر ترتيبا آخر، لاعتماده على مورد آخر، روى القصيدة بصورة أخرى، وقد يذكر ديوان: شعرًا وقطعًا وقصائد أو قصيدة لا تكون موجودة في الدواوين الأخرى أو في بعض منها، ولهذا يأتي جامع جديد، تقع عنده تلك الدواوين، أو تكون عنده كتب شواهد ونوادر وأخبار، فيها من شعر الشاعر ما لم يرد في ديوانه فيضمه إليه، ويكون من المجموع ديوانًا جديدًا، برواية جديدة، تنسب إليه، كما فعل السكري بالنسبة لشعر امرئ القيس. ومن أعرف من اشتغل بجمع أشعار القبائل: أبو عمرو الشيباني، وخالد بن كلثوم، والطوسي، والأصمعي، وابن الأعرابي، ومحمد بن حبيب1. ونظرًا لحفظهم أشعار القبائل، حفظوا بالطبع أشعار الشعراء الجاهليين، وحملهم ذلك على جمع أشعارهم في دواوين خاصة. وقد أضاف ابن النديم عليهم، اسم ابن السكيت، وثعلب2. وكان الطوسي عدوًّا لابن السكيت، لأنهما أخذا عن نصران الخراساني، واختلفا في كتبه بعد موته. وكانت كتب نصران لابن السكيت حفظًا وللطوسي سماعًا3. ولم يرتب صناع الدواوين الشعر على حسب الترتيب الزمني، وإنما رتبوه على ترتيب القوافي، أي وفقًا لترتيب أبحدية القوافي. وقد يسر هذا الترتيب للقارئ الرجوع إلى الشعر الذي يريده، لكنه حرمه من شيء ثمين جدًّا، هو معرفة زمن نظم الشعر. وللزمن أثر كبير في الوقوف على تطور شعر الشاعر، وعلى مدى تقدمه أو تأخره في نظم الشعر، كما حرمه من الوقوف على العوامل التأريخية التي أثرت على الشاعر وعلى مجتمعه فدفعته إلى نظم شعره. ومع وجود بعض المراجع المساعدة من مثل كتب الأخبار والأدب والشواهد، فإن هناك أمورًا تأريخية تخص الشعراء الجاهليين والشعر الجاهلي، بقيت خافية علينا، بسبب عدم

_ 1 الفِهْرِسْتُ "229"، "المقالة الرابعة". 2 الفِهْرِسْتُ "230". 3 الفِهْرِسْتُ "112 وما بعدها".

اهتمام علماء الشعر آنذاك بموضوع الشعر ترتيبًا زمنيًّا، ولعدم اهتمامهم بذكر أسباب نظم كل بيت أو قطعة أو شعر، أو قصيدة، مع بيان الزمن الذي نظم الشاعر فيه شعره. وقد ظهر قوم دونوا الشعر في الصحف، وقرءوه منها، ونظرًا لمكانة الحفظ عند العلماء، ولقياسهم علم الإنسان بمقدار حفظه، لا بما كان يشرحه أو يفسره من الصحف والكتب، لذلك لم ينظر إلى مدوني الصحف نظرة تجلة وتقدير، لأنهم في نظرهم قراء صحف لا غير. قال ابن قتيبة: "يرويه المصحفون والآخذون عن الدفاتر"1، ذكر ذلك في معرض الاستخفاف بعلمهم، لكونهم لا يميزون بين الشعر الصحيح من الفاسد، والرديء من الجيد، لأنهم يقرءون عن صحف، وينطقون بحروف وكلم مكتوبة، لا عن فهم ودراية مثل رواة الشعر، الذين خزنوا علمهم في أدمغتهم، فإذا سئلوا عن شيء أجابوا عن روية وفكر، لا عن صحيفة مكتوبة. وقد ساعدت الكتب المؤلفة في أخبار القبائل مساعدة كبيرة في جمع الشعر الجاهلي، ونجد في كتاب "الفهرست" لابن النديم أسماء مؤلفات كثيرة، في القبائل، وفي أمور أخرى لها صلة بالشعر، ذكرها أثناء تحدثه عن الأشخاص الذين ذكرهم في كتابه. وقد هلكت أكثر المؤلفات المذكورة، ولكننا نجد نقولًا منها في بعض الكتب التي كتب لها البقاء والتي قدر لها أن تطبع. ولا أجد في نفسي حاجة إلى ذكر الموارد الأخرى التي أفادتنا كثيرًا في جمع الشعر الجاهلي وفي الوقوف عليه، لأن لقارئ هذا الكتاب إلمامًا بها، قد يزيد على إلمامي بها. وعلى رأس هذه الموارد كتب الأدب، مثل مؤلفات الجاحظ، وكتاب الأغاني للأصبهاني، وكتب الأمالي والمجالس وغيرها، ففي هذه الموارد مادة قد لا نجدها في كتب الشعر، وقد ذكرت أسماء مصادر قديمة نقلت منها لا نعرف اليوم من أمرها شيئًا. ولا بد من الإشارة أيضًا إلى كتب النحو والشواهد، فقد جاءت بأشعار جاهلية استشهد بها على إثبات قاعدة نحوية، أو شاهد رأي جاء به عالم لإثبات

_ 1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 28".

رأيه في موضوع لغوي أو نحوي، وقد نص على اسم أو أسماء الشعراء في بعض الأحيان، ولم ينص على الأسماء في أحيان أخرى. وقد يمكن معرفة بعض الأشعار التي لم ينص على اسم قائلها، بالرجوع إلى الموارد الأخرى التي نسبتها إلى قائليها، غير أن الحظ لا يساعد في أحيان أخرى على معرفة اسم قائل الشاهد، لعدم وجوده في موارد أخرى. وقد يكون شاهدًا مفتعلًا، فلا يمكن التوصل إلى أصله بالطبع.

الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع

الفصل الخامس والخمسون بعد المئة: الشعر المصنوع ... الفَصْلُ الخامِسُ والخمسونَ بَعْدَ المائةِ: الشِّعْرُ المصنُوعُ ليس البحث في معرفة المصنوع من الشعر، وفي أسباب وضعه، من البحوث الجديدة، التي أوجدها المستشرقون، أو من أخذ عنهم من الباحثين المحدثين، بل هو بحث قديم، أتقنه أهل الجاهلية، وأخذه عنهم أهل الإسلام. وفي هذا المعنى قال الشاعر الشهير الحطيئة: "ويل للشعر من الرواة السوء"1. فرواة الشعر، آفة بالنسبة للشعر وللشعراء، قد يزيدون فيه، وقد ينقصون، وقد يصحفون، وقد يفتعلون ويصنعون الشعر على ألسنة غيرهم، ولو لم يكن هذا المرض معروفًا في أيام الحُطَيئَة وقبلها لما ورد هذا القول عنه. ومعنى انتحله وتنحله ادَّعاه لنفسه، وهو لغيره. يقال: انتحل فلان شعر فلان أو قوله ادعاه أنه قائله، وتنحله ادعاه وهو لغيره. قال الأعشى: فكيف أنا وانتحال القوا ... في بعد المشيب كفى ذاك عارا وقيدني الشعر في بيته ... كما قيد الأسرات الحمارا "ويقال نحل الشاعر قصيدة، إذا نسبت إليه وهي من قبل غيره. ومنه حديث قتادة بن النعمان: كان بشير بن أبيرق يقول الشعر ويهجو به أصحاب

_ 1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 239"، "دار الثقافة، بيروت".

النبي -صلى الله عليه وسلم- وينحله بعض العرب"1. ولم يكن بشير أول من فعل ذلك بالطبع من العرب، فهناك غيره ممن سبقه وممن عاش في أيامه صنعوا صنيعه في نحل الشعر وإضافته إلى الشعراء لمآرب مختلفة. ويظهر من الشعر المتقدم المنسوب إلى الأعشى، أنه قد اتهم بانتحال الشعر، بأخذ شعر غيره وادعائه لنفسه، فنفى عنه تلك التهمة. ويروى أن النعمان بن المنذر، كان يرى به هذا الرأي، فقد ذكروا أنه قال له: "لعلك تستعين على شعرك هذا؟ فقال له الأعشى: احبسني في بيت حتى أقول، فحبسه في بيت، فقال قصيدته التي أولها: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطَّت على ذي هوى أن تزارا ثم ذكر فيها البيتين المتقدمين2. وورد أن الذي قال له ذلك، هو قيس بن معد يكرب الكندي3. وكان السطو على الشعر، معروفًا في الجاهلية كما كان معروفًا في الإسلام. قال الفرزدق: إذا ما قلت قافية شرودًا ... تنحلها ابن حمراء العجان وقال ابن هرمة: ولم أتنحل الأشعار فيها ... ولم تعجزني المدح الجياد4 يقال تنحل الشاعر قصيدة، إذا نسبها إلى نفسه، وهي من قبل غيره. قال يزيد بن الحكم: ومسترق القصائد والمضاهي ... سواء عند علام الرجال5.

_ 1 تاج العروس "8/ 129"، "نحل"، اللسان "11/ 651"، "نحل" 2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 180 وما بعدها"، ديوانه "رقم41". 3 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 180"، "حاشية رقم 6". 4 تاج العروس "8/ 129"، "نحل"، اللسان "11/ 651"، "نحل". 5 تاج العروس "8/ 405"، "علم".

ويقال: إن "الأعشى"، وضع في شعره أن "هرم بن قطبة" حكم لعامر بن الطفيل على علقمة بن علاثة، وتزيد بذلك على "هرم"، وأشاعه بين الناس1. والتزيد تكلف الزيادة في الكلام وغيره. وورد أن من الشعراء الجاهليين من كان ينتحل شعر غيره، أو يجتلب منه. قال الراجز: يا أيها الزاعم أني أجتلب ... وأنني غير عضاهي أنتجب كذبت إن شر ما قيل الكذب2 فهو ينكر أنه يجتلب الشعر من غيره. واجتلب الشاعر، إذا استوق الشعر من غير واستمده. قال جرير: ألم يعلم مسرحي القوافي ... فلا عيا بهن ولا اجتلابا أي لا أعيا بالقوافي ولا اجتلبهن ممن سواي، بل أنا في غنى بما لدي منها3. وقد نحل على الأعشى فنسب له الرواة ما ليس من شعره، مثل قصيدته التي قالها في مدح سلامة ذا فائش، فقد روى ابن قتيبة الأبيات الأربعة الأول منها، ثم قال: وهذا الشعر منحول، لا أعرف فيه شيئًا يستحسن إلا قوله: يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأسًا بكف من نجلا4 وروي عن الخليل قوله: "إن النحارير من العرب ربما أدخلوا على الناس ما ليس من كلام العرب، إرادة اللبس والتعنيت"5. وحمل الكلام على الغير شيء مألوف، كما أن أخذ شخص كلام غيره وادعائه لنفسه شيء مألوف كذلك. وقد أشار جهابذة العلماء إلى أن في الشعر مصنوعًا وفيه مفتعل موضوع. وهو كثير لا خير فيه ولا حجة في عربيته. وقد أنبرى له العلماء فنقدوا الشعر.

_ 1 مصطفى صادق الرَّافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 365 وما بعدها". 2 المصدر نفسه "1/ 366". 3 تاج العروس "1/ 184"، "جلب". 4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 15"، ديوان الأعشى "232 وما بعدها"، "القصيدة رقم 35". 5 المُزْهِرُ "1/ 171".

لاستخراج الصحيح منه من الفاسد، وتمكنوا قدر إمكانهم من ضبط بعض الفاسد المنحول ومن الإشارة إليه1. قال "ابن سلام: "وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم، أن يقول الرجل من أهل البادية من ولد الشعراء، أو الرجل ليس من ولدهم فيشكل ذلك بعض الإشكال"2. وقد ذكروا أن قومًا تداولوا هذا الشعر المصنوع "من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي"3. فمقياس الصحة في نظرهم، هو الرواية والأخذ عن أهل البادية، وقول علماء الشعر في الشعر، أما الشعر المدون والمنقول من الصحف، فلا قيمة له، مع أن التدوين أصدق وأكثر صحة من النقل والرواية، وإذا كانوا قد خافوا التزوير في التدوين، فإن التزوير في الرواية لا يقل خطرًا عن التزوير في التدوين. وقد عدُّوا الصحفيين، قومًا لا علم لهم بالشعر، وإنما هم نقلة، يقرءون ما هو مكتوب، وليس في القراءة دليل على علم4، وذلك لأنهم كانوا يصحفون في القراءة، ويلحنون، بينما الراوية الذي اعتمد على علمه وعلى حافظته وعلى ذوقه وطبعه، لا يصحف ولا يقع في اللحن، ولهذا قيل لهؤلاء الصحفيين المصحفين. "قال خلاد بن زيد الباهلي لخلف بن حيان أبي محرز -وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله- بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تروى؟ قال له: هل تعلم أنت منها ما أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم. قال: فلا تنكر أن يعرفوا من ذلك ما لا تعرفه أنت. وقال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك. فقال له: إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته،

_ 1 المُزْهِرُ "1/ 171". 2 طبقات "14". 3 المُزْهِرُ "1/ 171". 4 المُزْهِرُ "1/ 174".

فقال لك الصراف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟ "1. وقد افتخر رواة الشعر بأنفسهم، وزعموا أنهم أكثر فهمًا في النقد من رواة الحديث، قال يحيى بن سعيد القطان: "رواة الشعر أعقل من رواة الحديث، لأن رواة الحديث يروون مصنوعًا كثيرًا، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون: هذا مصنوع"2. يعيبون رواة الحديث على روايتهم الحديث المصنوع، مع أن وضعهم للشعر لا يقل عن وضع رواة الحديث للحديث على لسان الرسول، ونقدهم له لا يرتفع كثيرًا عن نقد رجال الحديث للحديث. وقد تعرض ابن سلام لموضوع إفساد الشعر ونحله، فقال: "وكان ممن هجن الشعر وأفسده وحمل كل غثاء: محمد بن إسحاق مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. وكان من علماء الناس بالسير، فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها. ويقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتى به، فأحمله ولم يكن ذلك له عذرًا، فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء فضلًا عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود. أفلا يرجع إلى نفسه فيقول من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ ألوف من السنين؟ والله يقول: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} . وقال في عاد: {فهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} . وقال: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} 3. فهو يتهم ابن إسحاق بالجهل بالشعر، وهو جهل استغله صناع الشعر فجاءوا إليه بشعر غثاء فاسد، وبشعر مصنوع، فأدخله، وبشعر مفتعل وضع على ألسنة الماضين فقبله. فكان جهله من عوامل إفساد الشعر. وهذا الشعر بيّن الفساد، يمكن لكل ذوي عقل رفضه، ولكن الذي أفسد الشعر وهجنه، هم علماء الشعر وصناعه من أصحاب الحرفة، الذين وضعوا على ألسنة الشعراء، شعرًا صعب حتى على نقدة الشعر رده إلى أصله، لأنهم وضعوه وصاغوه على ألسنة الشعراء صياغة محبوكة من نمط الشعر الصحيح المحفوظ عن أهل الجاهلية، ومن هنا هان عمل ابن إسحاق بالنسبة إلى عمل حماد الراوية وخلف الأحمر وغيرهما من صاغة الشعر.

_ 1 ابن سلام، طبقات "3 وما بعدها"، المُزْهِرُ "1/ 172 وما بعدها". 2 المُزْهِرُ "1/ 175"، ذيل الأمالي "105". 3 طبقات "3 وما بعدها"، المُزْهِرُ "1/ 173 وما بعدها".

وقال ابن سلام: "فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم، وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم. ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار، وليس يشكل على أهل العلم زيادة ذلك، ولا ما وضع المولدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل بادية من ولد الشعراء أو الرجل ليس من ولدهم، فيشكل ذلك بعض الإشكال"1. وروى ابن سلام خبرًا طريفًا من أخبار النَّحْل في الشعر، فقال: "أخبرني أبو عبيدة أن داود بن مُتَمِّم بن نُويرَة قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي في الجلب والميرة، فنزل النحيت، فأتيته أنا وابن نوح، فسألناه عن شعر أبيه متمم، وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته، فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار، ويضعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علينا علمنا أنه يفتعله"2. وتحاشيًا من الوضع، امتحنوا من كان يقدم عليهم، للأخذ منه، أو من كان يتصل بهم من الأعراب، حتى يتأكدوا من أمانتهم ومن علمهم بما سيسألونهم عنه. إذ ثبت عند العلماء بالشعر أن بعض الأعراب كانوا يفتعلون الشعر ويضعون الأخبار ويجيبون عن غير علم. وقد أفرد أبو العباس المبرد لبعض منهم بابًا خصصه بأكاذيب الأعراب. وبما كانوا يروونه من أساطير وخرافات3، ومع ذلك فقد فات عليهم الكثير من هذه الأكاذيب، ودخلت كتبهم، ويمكنك التعرف على البعض منه، من دون حاجة إلى بذل مشقة أو جهد. وقد أورد علماء الشعر أمثلة على المصنوع من الشعر من ذلك ما ذكره أبو عبيدة من أنه أنشد بشار بن برد، البيت: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا

_ 1 طبقات "14". 2 طبقات "14"، المُزْهِرُ "1/ 175". 3 المُزْهِرُ "2/ 504"، "أكاذيب الأعراب".

وهو بيت وضعه أبو عمرو الشيباني على لسان الأعشى، فقال بعلمه بالشعر وبألفاظ العرب: "كأن هذا ليس من لفظ الأعشى"1، وقد كان بشار الشاعر المعروف حاذقًا بأشعار العرب ملمًا بأساليبهم، فأدرك بسليقته وبعلمه بشعر الأعشى أن هذا البيت ليس من شعره، وقد روى الرواة أن أبا عمرو هو الذي وضعه على لسان الأعشى، وأنه اعترف بصنعه له. وقد جاء المعري في "رسالة الغفران" بأمثلة كثيرة من أمثلة الشعر المنحول الذي صنع على ألسنة الشعراء الجاهليين. كما أشار إلى التحوير والتغيير الذي أدخله "المعلمون في الإسلام" على الشعر "فغيروه على حسب ما يريدون"2. وروي أن قريشًا كانوا أول من وضع الشعر من القبائل في الإسلام. نظروا إلى أنفسهم، فإذا حظهم في الشعر قليل في الجاهلية، فاستكثروا منه في الإسلام. قال ابن سلام: "وقريش تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان"3. ولم يكتف القرشيون بإضافة الشعر إليهم، وباستكثاره، بل عملوا الشعر على لسان شعراء المدينة للغض منهم، وذلك لما كان بينهم وبين أهل يثرب من تحاسد يعود إلى ما قبل الإسلام. وقد ذكر أن "قتادة بن موسى" الجمحي هجا "حسان بن ثابت" ونحلها "أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"4، صنعوا الشعر الغث الضعيف وأضافوه إلى شعراء الأنصار للغض من منزلتهم في الشعر. وقد أشار السيوطي إلى أشعار، ذكر أن علماء الشعر يروون أنها من صنع خلف الأحمر، صنعها على ألسنة الشعراء الجاهليين. من ذلك اللامية المنسوبة إلى الشنفرى5، والقصيدة التي فيها: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

_ 1 الزجاجي، مجالس العلماء "235 وما بعدها". 2 رسالة الغفران "317 وما بعدها". 3 طبقات "62". 4 الإصابة "3/ 217"، "7077". 5 طبقات النحويين، للزبيدي "178 وما بعدها"، المُزْهِرُ "1/ 176".

وقد نسبها للنابغة1. والقصيدة التي فيها: قل لعمرو يا ابن هند ... لو رأيت القوم شنا لرأت عيناك منهم ... كل ما كنت تمنى2 كما روى أبياتًا ذكر أنها من صنع حماد. من ذلك قصيدة نسبها لهند بنة النعمان، من أبياتها: ألا من مبلغ بكرًا رسولا ... فقد جد النفير بعنقفير وقد قال الأصمعي، إنها مصنوعة، لم يعرفها أبو بردة، ولا أبو الزعراء، ولا أبو فراس، ولا أبو سريرة، ولا الأغطش، وهي مع نقيضة لها أخذت عن حماد الراوية3. وروي عن الأصمعي قوله: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية إلا نتفًا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء"4. ومرد نحل الشعر عند ابن سلام: إما إلى عصبية قبلية، وإما إلى رواة شعر. أما عصبية القبائل، فقد دوّنت رأيه في سببها. وأما عن رواة الشعر، فأول المزيفين للشعر في نظره حماد الراوية، الذي قال عنه: "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار. أخبرني أبو عبيدة عن يونس. قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، فقال: ما أطرفتني شيئًا! فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحُطَيئَة في مديح أبي موسى. فقال: ويحك يمدح الحُطَيئَة أبا موسى، لا أعلم به، وأنا أروي للحطيئة. ولكن دعها تذهب بين الناس. وأخبرنا ابن سلام، قال: سمعت يونس يقول: العجب لمن يأخذ عن حماد وكان يكذب ويلحن ويكسر"5. وحماد وأضرابه في نظر "ابن سلام"

_ 1 المُزْهِرُ "1/ 177". 2 المُزْهِرُ "1/ 179". 3 المُزْهِرُ "1/ 180". 4 مراتب النحويين "72"، شوقي ضيف، العصر الجاهلي "174". 5 طبقات "14 وما بعدها".

مزيفون ماهرون يزيفون الشعر ويصنعونه، فهم أصحاب صنعة محترفون للتزييف. أما محمد بن إسحاق، فإنه في نظره نمط آخر، نمط رجل جاهل بالشعر، دفع إليه الناس المصنوع من الشعر وكل غثاء منه، فحمله، وأدخله في السيرة، وحمل الناس عنه الأشعار، وكان عذره أنه لا علم له بالشعر، إنما يؤتى به إليه فيحمله ويدونه، ولكنه لامه على هذا الاعتذار بقوله: "ولم يكن له ذلك عذرًا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط. وأشعار النساء فضلا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ آلاف السنين، والله تبارك وتعالى يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} 1.....إلخ، وقد اتهمه غيره بأنه "كان يعمل له الأشعار ويؤتى بها ويسأل أن يدخلها في كتابه السيرة فيفعل فضمن كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر، وأخطأ في النسب الذي أورده في كتابه، وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتابه أهل العلم الأول "وأصحاب الحديث يضعفونه"2. وألحق بهذا الصنف من رواة الشعر ومدونيه جماعة الصحفيين، الذين لم يكونوا يميزون بين الشعر، ويحملون كل ما يعطى لهم، من شعر غث أو زائف، وقد يصحفون في تدوينه، لعدم وجود علم لهم به، فهم أيضًا في جملة من أفسد الشعر. وابن سلام الجمحي، من علماء البصرة، وأكثر حملة الشعر البصريين يتحاملون عليه عصبية، منهم لمدينتهم، لأنه من أهل الكوفة، وكان أهل الكوفة يغضون أيضًا من شأن رجال العلم البصريين ويتحاملون عليهم. وكلٌّ ينسب إلى خصمه التزييف ونحل الشعر على ألسنة الشعراء المتقدمين، وكل منهم يتهم الآخر بالتهمة التي يوجهها لخصمه من التزييف والجهل. ولم يكن ابن سلام أول من نبه إلى وجود النَّحْل في الشعر، ولم يكن هو أيضًا آخر من وضع رأيًا في النقد، فتوقف الناس بعده. فقد سبقه الأعشى وغيره إلى هذا الرأي. ثم جاء بعده علماء كانت لهم آراء قيمة في هذا الشعر وفي

_ 1 طبقات "14"، الفِهْرِسْتُ "142". 2 الفِهْرِسْتُ "142".

شعرائه، نجدها مدونة في كتبهم، وفي الكتب التي اعتمدت عليها، وقد نبهت ملاحظات أولئك العلماء المستشرقين الذين ظهروا في القرن التاسع عشر فما بعد، فعمدوا إلى دراستها وتحليلها، واستنبطوا منها آراءهم التي أبدوها عن الشعر الجاهلي. وقد نبه أبو العلاء المعري إلى وجود الشعر المصنوع في "رسالة الغفران" وأشار إليه وشخّص قسمًا منه، وذكر اسم صانعيه في بعض الأحيان، فذكر الشعر المنسوب إلى "آدم" مثلا: نحن بنو الأرض وسكانها ... منها خلقنا وإليها نعود والسعد لا يبقى لأصحابه ... والنحس تمحوه ليالي السعود وقال على لسانه: "إن هذا القول حق، وما نطقه إلا بعض الحكماء، ولكني لم أسمع به حتى الساعة"1. ويقول أبو العلاء مخاطبًا آدم: "وكذلك يروون لك -صلى الله عليك- لما قتل هابيلَ قابيلُ: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح وأودى ربع أهليها فبانوا ... وغودر في الثرى الوجه المليح وبعضهم ينشد: وزال بشاشة الوجه المليح2 ثم يضع الجواب على لسان آدم، فيقوّله: "أعزز عليّ بكم معشر أبيني! إنكم في الضلالة متهوّكون! آليت ما نطقت هذا النظيم، ولا نطق في عصري وإنما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله! كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض، ومآلكم في ذلك إلى الأرض"3.

_ 1 رسالة الغفران "360". 2 رسالة الغفران "362 وما بعدها". 3 رسالة الغفران "ص364".

وسأل المعري آدمَ عن لسانه، ثم أجاب عنه بقوله: "إنما كنت أتكلم بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض، نقل لساني إلى السريانية، فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله -سبحانه وتعالى- إلى الجنة، عادت عليَّ العربية، فأي حين نظمت هذا الشعر: في العاجلة أم الآجلة؟ "1. ثم تراه يتحدث عن الشعر المنسوب إلى الجن، وإلى أشعار أخرى، فتراه يردها وينتقدها، ويشير إلى وجود شعر مصنوع وضع على الإنس والجن. تراه يقول: "وكنت بمدينة السلام، فشاهدت بعض الوراقين يسأل عن قافية عدي بن زيد التي أولها: بكر العاذلات في غلس الصبـ ... ـح يعاتبنه أما تستفيق ودعا بالصبوح فجرًا فجاءت ... قينة في يمينها إبريق وزعم الوراق أن ابن حاجب النعمان سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخ من ديوان عدي، فلم توجد. ثم سمعت بعد ذلك رجلًا من أهل استراباذ يقرأ هذه القافية في ديوان العبادي، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم"2. وقد تحدث أبو العلاء المعري في "رسالة الغفران" عن القصيد التي أولها: ألِمّا على الممطورة المتأبدة ... أقامت بها في المربع المتجردة مضمَّخة بالمسك مخضوبة الشوى ... بدرٍّ وياقوت لها متقلدة كأن ثناياها -وما ذقت طعمها- ... مجاجة نحل في كُميت مبردة ليقرر بها النعمان عينًا فإنها ... له نعمة في كل يوم مجددة فقال إنها من الشعر المنحول، نحلت على النابغة ونسبت إليه. وقال على لسانه: "فيقول أبا أمامة: ما أذكر أني سلكت هذا القري قط. فيقول مولاي الشيخ زين الله أيامه ببقائه: إن ذلك لعجب، فمن الذي تطوع فنسبها إليك؟ فيقول إنها لم تنسب إلي على سبيل التطوع، ولكن على معنى الغلط والتوهم، ولعلتها

_ 1 رسالة الغفران "361 وما بعدها". 2 رسالة الغفران "146 وما بعدها".

لرجل من بني ثعلبة بن سعد1 فيقول نابغة بني جعدة: صحبني شاب في الجاهلية ونحن نريد الحيرة، فأنشدني هذه القصيدة لنفسه، وذكر أنه من ثعلبة بن عكابة، وصادف قدومه شكاة من النعمان فلم يصل إليه. فيقول: نابغة بني ذبيان: ما أجدر ذلك أن يكون! "2. فردّ هذا الشعر، وأنكر كونه من شعر النابغة، وبيّن بأسلوب جميل رأيه فيمن نحله عليه: وتحدث عن الكلمة الشينية المنسوبة للنابغة الجعدي، التي يقول فيها: ولقد أغدو بشرب أنف ... قبل أن يظهر في الأرض ربش معنا زقٌّ إلى سمّهة ... تسق الآكال من رطب وهش وبعد أن دوَّنها قال: "فيقول نابغة بني جعدة: ما جعلت الشين قط رويًّا، وفي هذا الشعر ألفاظ لم أسمع بها قط: ربش، وسمهة، وخشش"3. وتراه يتحدث عن قصيدة نسبت للأعشى، فيقول على لسان سائل يسأل أعشى قيس في الجنة عن قوله: أمن قتلة بالأنقاء ... دارٌ غير محلولةْ كأن لم تصحب الحي ... بها بيضاء عطبولةْ أناة ينزل القوسي ... منها منظر هوله إلى أن يكمل القصيدة، ثم يقول: "فيقول أعشى قيس: ما هذه مما رصد عني وإنك منذ اليوم لمولع بالمنحولات"4. وفي "رسالة الغفران" مواضع أخرى كثيرة تعرض فيها المعري لنقد الشعر، ولبيان الصحيح منه من الفاسد، تجعل الكتاب من الكتب الجيدة القديمة التي نبهت إلى وجود الصنعة والنحل في الشعر الجاهلي، والتي مهدت الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين والمحدثين فتكلموا عن هذا الموضوع بلغة العصر الجديد.

_ 1 رسالة الغفران "207". 2 رسالة الغفران "207 وما بعدها". 3 رسالة الغفران "208 وما بعدها". 4 رسالة الغفران "211 وما بعدها".

وما ذكره المعري في رسالته يمثل رأيه ورأي من تقدم عليه من علماء الشعر في مواضع الانتحال في الشعر الجاهلي وفي نقد الشعر. ونبه الجاحظ في كتبه إلى وجود شعر منحول، وقد نص عليه، وأشار إلى اسم من نسب له، من ذلك قوله: "وفي منحول شعر النابغة: فألقيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخون وليس لهذا الكلام وجه، وإنما ذلك كقولهم كان داود لا يخون، وكذلك كان موسى لا يخون"1. والنحل في الشعر ليس بأمر غريب، إذ وقع في غير الشعر كذلك، وقع ذلك طلبًا للغريب وللنادر، "ذكر بعض مشايخنا -رحمهم الله- أنه رأى مصحفًا منسوبًا إلى أُبي خالف بعض حروفه حروف هذا المصحف، لكنا لا نأمن أن يكون ذلك من جهة بعض من يحب الافتخار بالغريب، فإن هذه بلية قد أضرت بالدين وأخلت بمصالح المسلمين، وطرقت الملحدين إلى الطعن في أركان الإسلام، وسهلت عليهم الشغب في أمره، وقد نرى من المفتئتين نواب الملوك، وعبيد أرباب الأموال، وأبناء الدنيا إذا لم يجدوا للقرآن وعلوم الدين عندهم موقعًا فيتقربون إليهم بغرائب الكتب، وإذا أعوزهم الغريب الذي يستذرع به أخذوا بعض الكتب المعروفة يزيدون فيها وينقصون، ويقدمون ويؤخرون ويعنونونه بعنوان بعيد ليتسببوا بذلك إلى استخراج شيء منهم. فعلى هذا النحو لا يؤمن أحدهم أن يعمد إلى مصحف فيقدم منه سورًا ويؤخر أخرى، ويحرف ألفاظًا، ثم يزعم أنه مصحف علي أو عبد الله أو مصحف أبي، وليس غرض البائس من ذلك إلا أن يحمله إلى بعض الملوك فيقول: إن خزانة مثلك يجب ألا تخلو من نسخة من كل مصحف ليستخرج من حطامه شيئًا، ولا يبالي بما كان من جناية على الدين وأهله"2.

_ 1 الحيوان "2/ 246". 2 مقدمتان في علوم القرآن "47 وما بعدها"، "أرثر جفري"، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "15".

ولم يقع نحل الشعر عند العرب وحدهم، وإنما وقع عند غيرهم كذلك. فقد وقع عند اليونان وعند الرومان وعند الفرس والعبرانيين، وهو آفة لا تزال حية، منهم من يضع على ألسنة المتقدمين، ومنهم من يسرق قول غيره فينسبه نفسه، وقد ضيقت وسائل النشر والإذاعة من سرقة آراء وأقوال الغير، وتسجيلها باسم سارق نسبها لنفسه، غير أن مشكلة تعيين أصول الشعر الجاهلي والنحل القديم، لا تزال من المشاكل المستعصية، لأن الوسائل الحديثة لا تتمكن من إحياء من في القبور واستنطاقهم عن المنحول والمسروق! وقد وضع ابن سلام قاعدة في كيفية قبول الشعر والأخذ به، فقال: "قد اختلف العلماء في بعض الشعر، كما اختلفت في بعض الأشياء، أما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه" وبقوله: "وليس لأحد، إذا اجتمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه، أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي"1. وقد أبدى ملاحظات قيمة في نقد الشعر، فأشار إلى المزيف منه، وأظهر تحفظًا في قبول بعض الأشعار، لأنها منتحلة، فلما تطرق إلى شعر طرفة قال فيه: وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله: أقفر من أهله ملحوبُ ... فالقطبيَّات فالذنوبُ ولا أدري ما بعد ذلك"2. وذكر أن رواة الشعر وضعوا شعرًا كثيرًا على "طرفة" و "عبيد بن الأبرص"، وكانا من أقدم الفحول، وقد ضاع معظم شعرهما لذلك، فوضعوا عليهما الأشعار3. وأنكر أن يكون النابغة قد قال: فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لا يخونُ وذكر أن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يقل هذا الشعر4، وله ملاحظات أخرى

_ 1 طبقات "6". 2 طبقات "116". 3 طبقات "23". 4 ابن سلام "49 وما بعدها".

من هذا القبيل، تجدها في طبقاته، فقد شك في أكثر شعر عبيد بن الأبرص، ولم يثبت لديه من شعره إلا ثلاث قصائد1. وطريقة ابن سلام في قبول الشعر وفي صحته، هو إجماع علماء الشعر واجتهادهم، فإذا قرر علماء الشعر قبول شعر ووثقوا به وثبتوه، صار مقبولًا في نظره، لأنهم هم الذي يميزون بين الصحيح وبين الفاسد، "وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة، ولا ما وضعوا، ولا ما وضع المولدون". فالعلماء هم صيارفة الشعر يستطيعون نقده، واستخراج الزائف منه ورميه، وهو لا يبالي بعد ذلك بما روى ابن إسحاق وأمثاله من شعر "لا خير فيه ولا حجة في عربيته، ولا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب، ولا مديح رائع ولا هجاء مقذع، ولا فخر معجب، ولا نسب مستطرف"2. أما ما روي من شعر على ألسنة ملوك حمير وأقيال اليمن وأذوائها، فإن العارفين بالشعر الجاهلي وبأساليبه وبروايته، يرون أنه شعر لا يطمأنّ إلى صحته، وضع على ألسنة من نسب إليهم. وقد رواه أناس من أهل اليمن عرف معظمهم برواية القصص والأساطير وعرف بعضهم بروايتهم القصص الإسرائيلي. أما المعروفون بأنهم حملة الشعر ورواته من القدامى، فلم يرووا شيئًا يذكر من ذلك الشعر، وأما رجال العلم بالنحو وبقواعد العربية، فلم يستشهدوا به في شواهدهم، مما يدل على أن لهم رأيًا فيه. وقد ذكر أهل الأخبار أن ابن مفرغ يزيد بن ربيعة، وكان يزعم أنه من حمير، وضع سيرة تبَّع وأشعاره3. وكان أول من لفت الأنظار ومهد الجادة لمن جاء بعده من المستشرقين الراغبين في دراسة الشعر الجاهلي العالم الألماني "نولدكه" "Theodor Noldeke" في كتابه، Beitrage zur kenntniss der poesie der Alten Araber" الذي طبعه سنة "1864م". وقد تطرق في مقدمته إلى تأريخ ونقد الشعر الجاهلي، وإلى ما ورد عن مبدأ هذا الشعر، وعن ابتدائه بالرجز. وقد ذهب إلى أن هذا الشعر الجاهلي الواصل إلينا، والمحفوظ في الكتب، لا يمكن أن يرتقي إلى أكثر من السنة "500" للميلاد. ثم تطرق إلى التطور الذي أحاق بالأفكار والآراء والمعاني الواردة في

_ 1 ابن سلام "76 وما بعدها، 116". 2 ابن سلام "5 وما بعدها، 40". 3 الأغاني "17/ 52".

الشعر المقال في أيام الأمويين، فأبعده من هذه الناحية عن الشعر الجاهلي، فعزاه إلى الحياة الجديدة التي دخل فيها العرب في هذا العهد، وإلى التغير الروحي الذي ظهر بين العرب نتيجة خروجهم من البوادي ودخولهم أرضين خصبة، ذات عمران وحضارة، وهو تغير يفوق في نظره أثر الدين الجديد، أي الإسلام في العرب. فبينما كان الشعر الجاهلي، شعر بدوي، ظهر وترعرع بين الأعراب وفي البوادي، وكان أبطاله ورجاله، يراجعون الإمارتين الصغيرتين: إمارة المناذرة وإمارة الغساسنة، نرى هذا الشعر ينمو ويظهر في قصور الخلفاء والولاة والحكام، وهي كثيرة، فيها البذخ والمال والترف والنعيم، وحياة هذه طرازها لا بد وأن تؤثر على مشاعر الشاعر، فتجعل شعره يختلف في معانيه وفي شعوره عن معاني وشعور الشعر الجاهلي، وإن حاول الشعراء جهدهم المحافظة على القوالب الجاهلية للشعر، والتمسك بجزالة ذلك الشعر1. ثم تحدث في مقدمته هذه عن الصعوبات التي يواجهها المرء حين يريد فهم هذا الشعر، ثم أشار إلى عمل المستشرقين الذين سبقوه في نشر وترجمة ذلك الشعر إلى لغاتهم، ثم تحدث عن تضارب الروايات واختلافها في نصوصها وعن رواة الشعر الجاهلي وعن تداخل الشعر بعضه في بعض في بعض الأحيان، بحيث يدخل شعر شاعر في شعر غيره، أو ينسب شعر شاعر لغيره2، ثم عن تغيير وتحوير الأشعار المقالة بلهجات القبائل لجعلها موافقة للعربية الفصحى، وإن كانت هذه الفروق التي كانت بين اللهجات الشمالية لم تكن كبيرة عند ظهور الإسلام. وتحدث بعد ذلك عن الشعر الوثني وعن ورود أسماء الأصنام فيه، وعن تجنب الرواة إيرادها، أو تحويرها بعض التحوير، ثم تحدث عن تعمد الرواة نحل الشعر، وحمله على ألسنة الشعراء الجاهليين، وعلى ألسنة الماضين، وعلى ألسنة الجن والملائكة. وتطرق أيضًا إلى رأي علماء العربية في الشعر الجاهلي، وفي المعلقات، ورأي "النحاس" فيها، ثم تحدث عن تصنيف علماء الشعر للشعراء إلى طبقات، وعن

_ 1Beltrage, S. I. f.. 2 المصدر نفسه "صv111".

الأسس التي وضعوها في هذا التصنيف1. وبعد هذه المقدمة التي أخذت "24" صفحة من الكتاب، ترجم الصفحات الأول من كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، إلى باب "العيب في الإعراب"، وانتهى منه بقول القائل: قل لسُليمى إذا لاقيتها ... هل تبلغن بلدة إلا بزاد قل للصعاليك لا تستحسروا ... من التماس وسير في البلاد فالغزو أحجى ما خيلت ... من اضطجاع على غير وسادِ لو وصل الغيثُ أبناء امرئ ... كانت له قبة سحق بجادِ وبلدة مقفر غيطانُها ... أصداؤها مغرب الشمس تناد قطعتها صاحبي حوشية ... في مرفقيها عن الزور تعاد2 ثم تطرق في كتابه إلى شعر يهود جزيرة العرب، ثم إلى شعر مالك ومُتمِّم ابنا نُويرة، فشعر الخنساء، ودوَّن بعض النماذج من الشعر. وقد تهيأت للمستشرقين الذين جاءوا بعد "نولدكه" موارد جديدة لم تكن معروفة في أيامه، بفضل جهود العلماء الذين بعثوها، بإخراجها مطبوعة، بعد أن كانت مخطوطة، قابعة في زوايا النسيان، بعيدة عن متناول اليد، فزاد علمهم بالشعر الجاهلي، وأحاطوا بما فات وخفي عن علم ذلك المستشرق الكبير العالم، وكونوا لهم آراءهم عنه، نشروها في مقدمات الدواوين ومجموعات الشعر التي أخرجوها، أو في كتبهم التي وضعوها في الأدب الجاهلي، وفي مقالاتهم التي نشروها في المجلات. وقد ترجمت بعضًا منها إلى العربية، ولخصت بعض

_ 1 Beltrage, s, ix وما بعدها. 2 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "6/ 46". Beltrage, 1- 42.

منها، في الكتب العربية التي تناولت الأدب الجاهلي1. وللمستشرق "آلورد" "w. Ahlwardt" ملاحظات قيّمة عن الشعر الجاهلي من حيث الصحة والصنعة والأصالة2. وقد تعرض "بروكلمن" لموضوع الشعر المنحول فأشار إلى أثر الرواية الشفوية في الوضع، وإلى موضوع التدوين وعدم وجوده في الجاهلية، وأثره في فقدانه على انتحال الشعر، ثم قال: "ومن ثم يعد خطأ من مرجليوث وطه حسين أن أنكرا استعمال الكتابة في شمالي الجزيرة العربية قبل الإسلام بالكلية، ورتبا على ذلك ما ذهبا إليه من أن جميع الأشعار المروية لشعراء جاهليين مصنوعة عليهم، ومنحولة لأسمائهم. ولكن بديهيًّا أن الكتابة لم تقض قضاء كليًّا على الرواية الشفوية. فقد كان لكل شاعر جاهلي كبير على وجه التقريب راوية يصحبه، يروي عنه أشعاره، وينشرها بين الناس، وربما احتذى آثاره الفنية من بعده، وزاد عليها من عنده.

_ 1 للوقوف على آراء بعض المستشرقين راجع الفصل الثالث من كتاب: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التأريخية، تأليف الدكتور ناصر الدين الأسد "ص352 وما بعدها"، وكتاب تأريخ الأدب العربي: العصر الجاهلي، تأليف الدكتور ريجيس بلاشير، تعريب الدكتور إبراهيم كيلاني "بيروت: دار الفكر". Th. Nolde'ke, Die Semltischen sprachen, S. 47. Th. Noldeke, Punf Mo'allaqat, Wien, 1899, 1900, D. S. Margoliouth, The Origlne of Arabic Poetry, In Journal Royal Asiatic Society, 1925, pp. 417-449, Encyclopaedae of Religion and Ethics, Vol., 8, p. 874, G. Richter, Zur Ent-stehungs Geschlchte der Altarablschen Quaside, In ZDMG., XCII, 1938, W. Mulr, Ancient Arabic Poetry, In JRAS, 1875, Krenkow, The Use of the Writing for the Preservation of Ancient Arabic Poetry, Cambridge, 1022, E. Braunlich, Versuch elner Literargeschichtlichen betrachtungs-weise Altarabischer Poesien, In Der Islam, XXIV, 1937, S. 201-269, G. Von Grunebaum, Die Wirklichkeite der Fruharabischen Dlchtung, Wien, 1937, G. Von Grunebaum, Zur Chronologle der Friiharabischen Dictitung, In Orlentalla, VIII, 1939, py. 328 ?45, Ahlwardt, TLJ Diwans of the Six Ancient's Arabic Poets, London, 1870, R. Geyer, Beitrage zur Kenntnis Altarabischer Dichter, in Wiener Zeltschrift fur die Kunde des Morgenlandes, XVIII, 1904, S. 5, Delitzsch, Judisch-Arabische Poesien aus Vormuham- medanischer Zeit, Leipzig, 1874. 2 W Ahlwardt, Bemerkungen iiber die Echthelt der Alten Arabische Gedichte, Greifswald, 1872.

وكان هؤلاء الرواة يعتمدون في الغالب على الرواية الشفوية ولا يستخدمون الكتابة إلا نادرًا. وعن الرواة كانت تنتشر الدراية بالشعر في أوساط أوسع وأشمل، بعد أن يذيع في قبيلة الشاعر نفسه. ولهذا لم يكن التحرز عن السقط والتحريف، وإن لاحظنا أن ذاكرة العرب الغضة في الزمن القديم كانت أقدر قدرة لا تحدّ على الحفظ والاستيعاب من ذاكرة العالم الحديث. ولم يبدأ جمع الشعر العربي إلا في عصر الأمويين، وإن لم يبلغ هذا الجمع ذروته إلا على أيدي العلماء في عصر العباسيين، بيد أن معنى التحري في وثوق الرواية، والتدقيق في النقل اللُّغوي على النحو الذي نعرفه في عصرنا هذا، كان أمرًا غريبًا بعد على جماع ذلك العصر. ولما كان كثير من هؤلاء الجمَّاع أنفسهم شعراء، قد ظنوا أنه ليس من حقهم فقط، بل ربما كان واجبًا عليهم أيضًا في بعض الأحيان أن يصلحوا ما رووه للشعراء القدماء أو يزيدوا عليه. فلا عجب إذا لم يبالوا أيضًا بالوضع والاختراع لتوثيق رواياتهم. وقد أراد حماد الراوية أن يفسر تفوقه، والتفوق المزعوم لأصحابه الكوفيين في الدراية بالشعر القديم، فزعم أنه وجد الشعر الذي كتب بأمر النعمان ودفن في قصره الأبيض بالحيرة، ثم كشف في أيام المختار بن أبي عبيد. لقد غير الرواة بعض أشعار الجاهلية عمدًا، ونسبوا بعض الأشعار القديمة إلى شعراء من الجاهلية الأولى، كما يمكن أن يكون وضع أشعار قديمة، منحولة على مشاهير الأبطال في الزمن الأول لتمجيد بعض القبائل، أكثر مما نستطيع إثباته. على أنه بالرغم من كل العيوب التي لم يكن منها بد في المصادر القديمة، يبدو أن القصد إلى التشويه والتحريف لم يلعب إلا دورًا ثانويًّا. وقد روى علماء المسلمين أشعارًا للجاهليين تشتمل على أسماء الأصنام وعبادتها، وإن أسقطوا أيضًا أبياتًا أخرى لشبهات دينية، وذلك في حالات يبدو أنها قليلة، لأن الشعور الديني لم يكن غالبًا على نفوس العرب في الجاهلية"1. وقد جاء المستشرق "كارلو نالينو" في محاضراته التي ألقاها بالجامعة المصرية في سنة 1910-1911م، بشيء جديد في طريقة التحدث عن الأدب العربي

_ 1 بروكلمن "1/ 64 وما بعدها".

من الجاهلية حتى عصر بني أمية، فقد عرضه عرضًا جميلًا واضحًا، مستعملا ملاحظات أئمة العربية عنه، مع بيان ملاحظاته وآرائه فيه، وقد أحدثت محاضراته هذه أثرًا في كيفية دراسة الأدب العربي، لا بمصر وحدها، بل في الأقطار العربية التي كانت تتابع ما يحدث في مصر من تطور ثقافي1. وهو وإن لم يأت في كتابه برأي جديد مثير، إذ كانت أفكاره وسطًا في الواقع بين القديم وبين الجديد، إلا أن طريقة عرضه لآرائه وأسلوبه في بحثه وفي تحدثه عن الشعراء، كانت طريقة جديدة غريبة بالنسبة لدارسي الأدب العربي في ذلك الوقت، ولَّدت شوقا في نفوس الدارسين للأدب العربي في ذلك الوقت إلى السير على الطريقة الغربية في نقد الأدب وفي تقبله وتحليله، وأولدت الشك في الوقت نفسه في الروايات القديمة المروية عن الأدب العربي، التي كان يتمسك بها القدماء تمسكهم بنصوص كتاب سماوي مقدس، باعتبار أنها رويات تتعلق بالماضي وبالتراث، ومن التجني على العربية والإسلام التعرض لها بأي سوء، وفي جملة ذلك الشك في صحتها والنيل منها وإلحاق الأذى بها. وتطرق المستشرق الإنكليزي "مركليوث" في بحثه: "أصول الشعر العربي" "the Origins of Arabic poetry" إلى الشعر الجاهلي، وقد ذهب إلى أن أكثر هذا الشعر منحول، صنع في الإسلام ووضع على ألسنة الجاهليين. وقد أورد فيه الأدلة والبراهين التي استدل بها على إثبات رأيه. وقد لخصت آراؤه هذه ونقلت إلى العربية، فلا أجد حاجة إلى البحث عنها، ما دام غيري قد سبقني إلى هذا العمل2. وقد رأى بعض المستشرقين أن علماء اللغة أدخلوا تغييرًا على نصوص الشعر الجاهلي، لما وجدوا أن قواعدها لا تتفق مع القواعد التي استنبطوها من القرآن والحديث، أي من لغة قريش، ولذلك عدلوها ليكون إعرابها ملائمًا لما وضعوه من قواعد النحو، وهو رأي يتناقض مع رأي المستشرقين القائلين بأن القرآن إنما نزل بلغة عربية مبينة كانت فوق اللهجات وفوق اللغات، ولم ينزل بلهجة قريش،

_ 1 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية، "دار المعارف بمصر، سنة 1970م". 2 مصادر الشعر الجاهلي "352 وما بعدها"، ريجيس بلاشير، تأريخ الأدب العربي "177 وما بعدها".

ورأيهم أن ما ورد من نزول القرآن بلسان قريش، إنما هو رأي ظهر في الإسلام، ظهر ببروز النزاع الذي كان بين الأنصار والمهاجرين، أدى إلى التعصب لقريش وإلى تقديمهم على كل العرب بحجة أن الرسول منهم، وأنه ولد بينهم، فيجب أن تكون لغته لغتهم، وأن يكون نزول الوحي بلسانهم، فهو رأي برز عن نوازع دينية وسياسية، مجدت قريشًا، لأن في تمجيدهم تمجيد على رأيهم لرسالة الإسلام1. ونظرية وقوع التعديل والتغيير والإصلاح في أصول الشعر الجاهلي، رأي قال به علماء العربية قبل المستشرقين، إذ نجد في كتبهم إشارات إلى تعديل أو تهذيب أو تغيير أحدثه أبو عمرو، أو الأصمعي أو غيرهما على لفظة أو بيت، لاعتقادهم بعدم انسجام أصل ما غيروه مع المعنى أو مع قواعد اللغة، أو لمخالفته للعروض، أو لوقوع تصحيف، فصححوا ما صححوه، بدافع عدم إمكان صدوره من شاعر جاهلي قديم. وفي رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري، أمثلة كثيرة على ذلك، وقد خطأ الأقدام على التعديل، ودافع عن وقوع الزحاف والإقواء في الشعر الجاهلي، معتبرًا ذلك شيئًا لم يكن عيبًا في الشعر عند الجاهليين، لأنه كان أمرًا مألوفًا عندهم، وقد ذكرت رأيه في مواضع من هذا الكتاب. وتتبع المرحوم مصطفى صادق الرافعي، ما جاء في التراث العربي عن الأدب العربي، فدونه في كتابه "تأريخ آداب العرب" تدوينًا يدل على إحاطة جيدة بما جاء في كتب الأسلاف من أخبار عن الشعر وأصحابه وعن انتحاله والعوامل التي دعت إلى الغش فيه، وإدخال ما ليس منه فيه، وقد خالف رأي من قال بتعليق "المعلقات"، ومخالفته هذه تعد فتنة بالنسبة لرواد الشعر والمعجبين به بالنسبة لذلك اليوم2. ويعد كتابه من الكتب القيمة المدونة بالعربية بالنسبة لتلك الأيام، فهو رصين حوى خلاصة ما ذكره السلف عن أدب العرب، وإذا نظرنا إلى عمره يوم ألفه وإلى أسلوب دراسته، نجد أنه كان من نوادر المؤلفين في ذلك العهد. وأحدث كتاب الدكتور طه حسين: "في الشعر الجاهلي" رجة عنيفة

_ 1 Nicholson, A Literary History of The Arabs, p. 134. 2 تأريخ آداب العرب "1/ 365-391"، "3/ 186 وما بعدها".

في مصر وفي البلاد العربية، لما جاء فيه من آراء خالفت المألوف والمتعارف عليه عند علماء العربية آنذاك الذين كانوا يسيرون على الجادة القديمة في دراسة أدب العرب، ولما تضمنه من عبارات اعتبرت نابية فيها تهجم على المقدسات. فشكي إلى الحكومة، ورفع أمره إلى القضاء، فكان أن غيَّر عنوانه بعض التغيير فصار: "في الأدب الجاهلي"، وحذف منه فصل، وأثبت مكانه فصل، وأضيفت إليه فصول1. وقد لقي الكتاب نقدًا شديدًا في مصر وفي خارجها، من جانب المحافظين الحروفيين، إذ رأوا فيه هدمًا للتراث العربي وللمألوف المتوارث، بينما لقي قبولا حسنًا من جانب الشباب والجيل الجديد، الذين تأثروا بالمؤثرات الثقافية الحديثة وأخذوا يجاهرون بنقد الأوضاع القائمة الجامدة، وسرعان ما دخل هذا النقد ميدان العراك الذين كان قد وقع آنذاك بين المحافظين وبين المصلحين الذين كانوا يدعون إلى إصلاح المجتمع بصورة عامة وإيقاظ العقل من سباته، والذي كانوا ينادون بإصلاح كل ما يخص هذه الحياة من مادة وروح. ووجود شعر جاهلي منحول، أو وجود شعر منحول، صنع وصيغ على ألسنة الجاهليين بتعبير أصح، قول لا يختلف فيه أحد، لا يختلف فيه علماء العربية عن المستشرقين، ولا القدماء عن المحدثين، ولا المحافظون المتزمتون عن المدعين بالتقدمية والتجديد، فكلهم مجمعون على وجوده، وكل منهم أثبت وجوده بطرقه وبأساليبه التي كانت متبعة في زمانه في طرق النقد، فهم في هذه القضية متفقون تمامًا ولا خلاف بينهم فيه، اللهم إلا في شيء واحد، هو: سعة حجم المصنوع بالنسبة إلى حجم الصحيح من الشعر، فمنهم من يزيد في نسبة حجم المصنوع حتى يغلبه على الصحيح، بل يجعل الصحيح منه شيئًا ضئيلًا، بالنسبة إليه، ومنهم من يقلل هذه النسب إلى درجات قد يصيرها بعضهم دون الشعر الصحيح بكثير. وأول أسباب نحل الشعر: العصبية التي عبر عنها ابن سلام بقوله: "قال ابن سلام: فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها، استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وما ذهب من ذكر وقائعهم، وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسن شعرائهم،

_ 1 "مقدمة الطبعة الثانية"، "القاهرة 1927م".

ثم كانت الرواة بعد، فزادوا في الأشعار"1. من ذلك ما فعلته قريش، الذين كانوا -كما يذكر أهل الأخبار- أقل العرب شعرًا وشعراء، فلما نظروا فإذا حظهم من الشعر قليل في الجاهلية، استكثروا منه في الإسلام2. ومن هذا القبيل ما نسب إلى قدماء أهل اليمن من شعر، وما أضافوه من شعراء وشعر، فجعلوا للتبابعة شعرًا فيه تبجح بأعمالهم وبما قاموا به من فتوح هزت الدنيا في يومها امتدت من أقصى طرف من الأرض إلى أقصى طرفها الآخر من الصين إلى روما، وإلى آخر المعمور الممتد على البحر المظلم، وفيه إيمان بالله وبملائكته، وتبشير بظهور الرسول، وأسف شديد لأنهم ولدوا قبل زمانه، فلم يسعدهم الحظ بإدراكه، وهم لو أدركوه لكانوا أول المؤمنين به، وأول المدافعين عنه، وحيث حرموا من هذه النعمة، نعمة ملاقاته لإعلان إيمانهم به أمامه، فهم يدعون من يأتي بعدهم ممن سيدرك أيامه إلى الذب عنه والدخول في دينه. فيقول "الرائش" منهم، وهو الحارث، في شعر له، ذكر فيه من يملك منهم ومن غيرهم: ويملك بعدهم رجل عظيم ... نبي لا يرخص في الحرام يسمَّى أحمدًا يا ليت أني ... أعمر بعد مخرجه بعام3 وإذا عرفت أن هذا "الرائش"، كان قد حكم قبل "بلقيس"، وبلقيس معاصرة سليمان على زعم أهل الأخبار، وقد كان حكم سليمان في حوالي السنة "969"، قبل الميلاد4، أدركت كم سيكون إذن عمر هذا الشعر المنسوب إلى الحارث الرائش، الذي لقب بهذا اللقب، لأنه كان أول من راش الناس، أي أول من غزا من أهل اليمن، وأول من أصاب الغنائم والسبي، وأدخلها اليمن، فراش الناس5.

_ 1 طبقات "14". 2 ابن سلام، طبقات "62"، الرافعي "1/ 367"، في الأدب الجاهلي "122". 3 المعارف "627". 4 Hastings, p. 686. 5 المعارف "626".

وبالمعنى المتقدم نطق التبع "تبع بن كليكرب"، حيث قال: شهدتُ على أحمد أنه ... رسولٌ من الله باري النسم فلو مدَّ عمري إلى عمره ... لكنت وزيرًا له وابن عم ولم يكتف أهل الأخبار بكل هذا، بل زعموا أنه كان كسا البيت وأنه قال في ذلك: وكسوت بيت الله غير كسائه ... حذر العقاب ليرحم الرحمن ومقالة الحبرين واليوم الذي ... يتلى الكتاب وينصب الميزان1 وزعموا أن التبع "تبع بن حسان"، أو "تبع الأوسط" كسا البيت الحرام وأطعم الناس بمكة، وقوّلوه هذا البيت: فكسونا البيت الذي حرم اللـ ... ـه ملاء معضدًا وبرودا2 فالتبابعة هم أول من كسا البيت، وأول من آمن بالله وبرسوله، كانوا مسلمين قبل ظهور الإسلام، وقبل ميلاد الرسول بعشرات المئات من السنين. ونسبوا لذي جدن الحميري الملك شعرًا، ذكر فيه الموت، حيث يقول: لكل جنبٍ اجتبى مضطجع ... والموت لا ينفع منه الجزع اليوم تجزون بأعمالكم ... كل امرئ يحصد مما زرع لو كان شيء مفلتًا حتفه ... أفلت منه في الجبال الصدع ونسبوا له أشعارًا أخرى3. وذو جدن من أذواء اليمن، والأذواء بعضهم ملوك وبعضهم أقيال، والقيل دون الملك، والمقول: القيل أيضًا بلغة أهل اليمن. وقد ذكر صاحب "خزانة الأدب" أسماء عدد من الأقيال4. فذو جدن هذا شاعر، متفلسف يذكر الناس بالموت وبما بعد الموت، حيث تجزى كل نفس

_ 1 المعارف "631". 2 المعارف "635". 3 الخزانة "2/ 287 وما بعدها". 4 الخزانة "289 وما بعدها".

بما كسبت، ويحصد كل امرئ ما زرعه بيديه في دنياه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، ولن يفلت أحد من الموت، وهيهات له ذلك. ونجد في شعر التبابعة أشعارًا في الحكم وفي الحث على مكارم الأخلاق، وفي حروبهم وفتوحات الإسكندر والفتوحات الإسلامية فيما بعد، فتوحات سبقت الفتوحات الإسلامية بمئات من السنين، حاول صانعوها المبالغة فيها، حتى صيروا الفتح الإسلامي وكأنه ذيل لتلك الفتوح القحطانية التي زرعت "حمير" في الصين وفي تركستان، صنعوا ذلك في الإسلام، لما تبجح عليهم العدنانيون بالإسلام وبلوغه الصين والمحيط الأطلسي. وذكر أن الشاعر "يزيد بن ربيعة بن مفرغ" الحميري1، كان ممن أذاع أسطورة "تبع"، وكان يتعصب إلى اليمن2، ولعله هو الذي وضع أكثر الشعر المنسوب إلى التبابعة، وكان عبيد بن شريَّة الجرهمي، ممن صنع الشعر على ألسنة التبابعة وغيرهم، وأضافه إليهم3. ونجد في كتاب صفة جزيرة العرب للهمداني وفي الإكليل، وهو من كتبه أيضًا، شعرًا كثيرًا يرويه على أنه من شعر التبابعة، ومن شعر عاد وثمود، وسادات حمير، وهو مصنوع من دون شك، صنعه المتعصبون لليمن من اليمانية، وقد كانت العصبية قد أخذت مأخذها في الإسلام. والهمداني نفسه من المتعصبين لليمن قبله. وأدخله في كتبه دون أن يسائل نفسه عن كيفية وصول ذلك الشعر من أفواه قائليه إليه، مع بعد الزمن وتقادم العهد، وتكلم أهل اليمن في القديم بكلام لا يشابه كلام الشعراء. ويدخل في هذه العصبية الشعر المنسوب إلى الشعراء في هجاء قحطان أو عدنان أي في هجاء القحطانية أو العدنانية بتعبير أدق، من ذلك القصيدة التي صنعوها على لسان الأفوه الأودي الشاعر الجاهلي، الذي هو من مذحج، ومذحج من اليمن، التي أولها: إن ترى رأسي فيه نزع ... وشواي خلة فيها دوار4

_ 1 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 276"، الأغاني "17/ 51"، الخزانة "2/ 210، 514". 2 الأغاني "17/ 52". 3 von Kremer, Die Sudarabische Sage, S. VII, 78, Nicholson, A Literary History of the Arabs, p. 19. 4 الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ "1/ 149"، العيني "1/ 421"، الأغاني "11/ 41"، معاهد التنصيص "2/ 159".

وهي قصيدة فيها هجاء لبني نزار ولبني هاجر، صنعت ولا شك في الإسلام، وقد زعم أن النبي نهى عن روايتها. وإذا كانت القصيدة مصنوعة، أو أن أبيات الهجاء منها مصنوعة على الأقل، كان حديث النهي عن روايتها مصنوعًا أيضًا، لأن هذا الصنع إنما وقع في الإسلام. ومن فرسان العصبية اليمانية الشاعر حسان بن ثابت، فقد كان من المتحاملين على قريش، ومن المتعصبين ليثرب ولليمن على قريش ومعد. مع أن الرسول نهى عن أمر الجاهلية، فكان يجالس قريشًا وهو في إسلامه، وينشد الناس ما قالته الأوس والخزرج في قريش ليشفي بذلك غليله. وكان الخليفة عمر قد نهى أن ينشد الناس شيئًا من شعر الهجاء الذي كان بين الأنصار ومشركي قريش حذر تجديد الضغائن، ومع ذلك فإن عصبية حسان لمدينته ولليمن كانت تدفعه على مخالفة ما أمر به1. ومن هذا القبيل ما فعلته قريش بشعر حسان. فقد "حمل عليه ما لم يحمل على أحد، لما تعاضهت قريش واستبت، وضعوا عليه أشعارًا كثيرة لا تليق به"2، وقد وضعت قريش وأشياعها المتعصبون للعدنانية أشعارًا أخرى على ألسنة بقية شعراء يثرب، أرادت من وضعها الحط من شأنهم، وإلحاق السخف والركة بشعرهم وبهم، وفعل غيرهم فعلهم في إضافة الشعر إلى من كانوا يكرهونه، للنيل منه، فنسبوا إليهم شعرًا سخيفًا مشينًا، أو فيه تحامل وقدح على بعض الناس، للإساءة إليهم بظهور هذا الشعر وانتشاره. وقد ذكر ابن سلام أن قدامة بن عمر بن قدامة الجمحي، نحل شعرًا على أبي سفيان بن الحارث للنيل منه، وأن قريشًا تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان3. وورد أن قتادة بن موسى الجمحي هجا حسان بن ثابت بأبيات ونحلها أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب4. وكان الأنصار يقظون، واقفون لقريش بالمرصاد، وكانت قريش يقظة كذلك، إذا سمعت شاعرًا مدح الأنصار ولم يمدحها استاءت منه. فلما قدم كعب بن

_ 1 الاستيعاب "1/ 337 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 2 ابن سلام، طبقات "52". 3 ابن سلام، طبقات "62". 4 الإصابة "3/ 217"، "رقم 7077".

زهير يثرب معتذرًا عن كفره، معلنًا إسلامه أمام الرسول، مدح قريشًا وعرّض بعض التعريض بالأنصار لغلظتهم كانت عليه، تجهمته الأنصار وغلظت عليه، ولانت له قريش، غير أنها لم ترض عن مدحه، إذ وجدته قليلًا، وأنكرت عليه ما قال، إذ قالت له: "لم تمدحنا إذ هجوتهم، ولم يقبلوا ذلك منه"1. ولما قدم الحُطَيئَة المدينة أرصدت له قريش العطايا، فعلت ذلك ليخلص لها في المدح، وليصرف مدحه عن الأنصار2. وندخل في هذه العصبية، العصبية إلى البيوتات، فقد كان قوم سعيد بن العاص بن أمية يذكرون أن سعيدًا كان إذا اعتم لم يعتم قرشي إعظامًا له، وينشدون: أبو أحيحة من يعتم عمته ... يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد ويذكر الزبيريون أن هذا البيت باطل مصنوع3. ولم تتورع العصبية والخصومات من الكذب عمدًا على الناس ومن الطعن في الأنساب، فلما اعترض "مزرد" أخو الشمّاخ، وكان عريضًا، "كعب بن زهير" عزاه إلى "مزينة"، وكان "أبو سُلمى" وأهل بيته في غطفان، فقال كعب بن زهير شعرًا يثبت أنه من مزينة، "وقد كانت العرب تفعل ذلك، لا يعزى الرجل إلى قبيلة غير التي هو منها، إلا قال: أنا من الذين عنيت. كان أبو ضمرة يزيد بن سنان بن أبي حارثة لاحى النابغة فنمّاه إلى قضاعة"، فقال شعرًا يثبت أنه منها4. وهناك أمثلة عديدة من هذا القبيل، أدت إلى وقوع النسابين في أخطاء بسبب هذه الأكاذيب. وقد ساهم الخلفاء الأمويون في هذه العصبية، ساهموا حتى في التزام العلماء والشعراء. "جمع سليمان بن عبد الملك بن قتادة الزهري، فغلب قتادة الزهري، فقيل لسليمان في ذلك، فقال: إنه فقيه مليح. فقال "القحذمي": لا، لكنه

_ 1 ابن سلام، طبقات "20 وما بعدها". 2 ابن سلام، طبقات "24". 3 المُزْهِرُ "1/ 181". 4 ابن سلام، طبقات "21 وما بعدها".

تعصب للقرشية، ولانقطاعه كان إليهم، ولروايته فضائلهم"1. وكان معاوية يتعصب لليمن على قيس، وذلك بسبب زواجه من "كلبية"، مع أنه من عدنان. حتى صار من فرط تعصبه لليمن لا يفرض إلا لهم، ولم يزل كذلك حتى كثرت اليمن وعزت قحطان، وضعفت عدنان، فبلغ معاوية أن رجلًا من اليمن قال: هممت أن لا أحل حبوتي حتى أخرج كل نزاري بالشام، ففرض من وقته لأربعة آلاف رجل من قيس. وكان معاوية يغزي اليمن في البحر وتميمًا في البر، وفي ذلك يقول النجاشي شاعر اليمن: ألا أيها الناس الذين تجمعوا ... بعكا أناس أنتم أم أباعر أيترك قيسًا آمنين بدارِهم ... ونركب ظهرَ البحرِ والبحر زاخرُ فوالله ما أدري وإني لسائلٌ ... أهمدان تحمي ضيمها أم يحابرُ أم الشرف الأعلى من أولاد حمير ... بنو مالك أن تستمر المرائر أأوصى أبوهم بينهم أن تواصلوا ... وأوصى أبوكم بينكم أن تدابروا فرجع القوم جميعًا عن وجههم، فبلغ ذلك معاوية، فسكن منهم. وقال: أنا أغزيكم في البحر لأنه أرفق من الخيل وأقل مئونة، وأنا أعاقبكم في البر والبحر ففعل ذلك2. وأوجدت هذه العصبية كثيرًا من الشعر المصنوع، روي على أنه من شعر التبابعة، صنع ولا شك في الإسلام، حين بلغت العصبية العدنانية القحطانية ذروتها في أيام الأمويين فما بعد. فلما نظر اليمانيون إلى أنفسهم، وإذا بالحكم لغيرهم. وقد كانت لهم دولة قبل الإسلام، ثم إذ بهم يحكمهم من كان دونهم في الجاهلية، أخذتهم العزة، ودفعتهم العصبية على الاحتماء بالماضي، وإعادة ذكرياته، وما كان لهم من مآثر، ولأجل توكيد ذلك وتثبيته، لجئوا إلى الشعر، ولم يكن لهم شعر في الجاهلية بهذه العربية التي نعرفها، لأنها لم تكن عربيتهم، فصنعوا شعرًا كثيرًا بهذه العربية، نسبوه إلى التبابعة، وارتفعوا به إلى عهود جاوزت الحد المألوف الذي حدده علماء الشعر، لتأريخ ظهور "القصيد" عند

_ 1 البَيَانُ والتَّبْييُن "1/ 243". 2 الخزانة "1/ 466 وما بعدها".

الجاهليين، تجد الكثير منه مدونًا في الكتب التي تتعاطف مع اليمانية، مثل كتب الهمداني، ونشوان بن سعيد الحميري. ولما كان هذا الشعر هو ذكريات أيام اليمن الماضية وأحوالها القديمة، وفي أخبار ملوك حمير وأعمالهم، اتخذ أسلوب القص والفخر، فكثرت أبيات القصائد أحيانًا، وارتبطت الأبيات في المعاني بعضها ببعض، نظرًا لاقتضاء طبيعة القص والأساطير ذلك، وهو يفيدنا من ناحية الوقوف على الأساطير اليمانية القديمة التي أوجدتها مخيلتهم عن تأريخهم القديم، وفي تطور أسلوب القص في الشعر. ويظهر من عبارة الآمدي: "وهي أبيات تروى لامرئ القيس بن حجر الكندي، وذلك باطل، إنما هن لامرئ القيس الحميري، وهي ثابتة في أشعار حمير"1، أنه قد كان لحمير ديوان فيه أشعارهم، أو أن قومًا منهم أو من غيرهم جمعوا شعر حمير، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد من أن يكون هذا الجمع قد وقع في الإسلام، وأن ما فيه من شعر جاهلي، هو من الشعر والمصنوع. ومن العصبيات عصبية قريش على ثقيف. فقد كانت بين قريش وبين ثقيف خصومة، بسبب طمع أهل مكة في الطائف، وشراء سادات قريش الملك في الطائف لاستغلاله، مما جعل ثقيفًا يكرهون أهل مكة. ثم عامل آخر، ظهر في الإسلام، وهو كره أهل العراق للحجاج، مما جعلهم يذمونه ويذمون ثقيفًا معه. فزعموا أن قومه من بقايا ثمود، وذلك في أيام الحجاج. "رووا أن الحجاج قال على المنبر يومًا: تزعمون أنَّا من بقايا ثمود، وقد قال الله عز وجل: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} 2. وذكر "الجاحظ"، زعم الناس هذا في أصل ثقيف، وذكر أن مثل ثمود كمثل بني الناصور، فقد هلكوا في الجاهلية، كما هلك غيرهم من الأمم البائدة، وذكر أن هناك من قال إن أصل "بني الناصور" من الروم3. وقد وجدت العصبية مرتعًا خصبًا بين الموالي والعبيد، فساهموا فيها أيضًا، فلما رأى جرير "الحَيُقطان" يوم عيد في قميص أبيض وهو أسود، قال:

_ 1 المؤتلف والمختلف "9"، "عبد الستار أحمد فراج". 2 البَيَانُ والتَّبْيينُ "1/ 187 وما بعدها". 3 البَيَانُ والتَّبْييُن "1/ 187".

كأنه لما بدا للناس ... أير حمار لُفّ في قرطاس فلما سمع بذلك الحيقطان وكان باليمامة، دخل إلى منزله فقال شعرًا افتخر فيه بالنجاشي وبالسودان، وبلقمان وبأبرهة وذم قريشًا ومضر، وتحامل عليهما، ففرحت اليمانية به، وأخذت تحتج به على العدنانية، واحتج بها العجم والحبش على العرب1. ويلاحظ أن الحبش قد تعصبوا أيضًا على العرب في الإسلام، وتفاخروا بملوكهم وبأبرهة، وقد كان لازدراء الأغنياء لهم، وتسخير أصحاب المال لهم في أداء الأعمال الحقيرة، ونظرتهم إليهم نظرة ازدراء وتحقير، فلم يصاهروهم، ولم يروا أنهم أكْفَاء لهم، مثل العجم على الأقل، أثر في إثارة هذه الضغينة في نفوسهم وفي وقوفهم موقف الضد من العرب. وقد تعرض الجاحظ لذلك، فقال: "وقد قالت الزنج: من جهلكم أنكم رأيتمونا لكم أكْفَاء في الجاهلية في نسائكم، فلما جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسدًا". ثم روى على لسانهم ما قاله بعض الشعراء مثل النمر بن تولب، ولبيد من مدح أبرهة، ثم أعقب ذلك بذكر من برز وظهر من الزنوج2. ومن أسباب النَّحْل دوافع نشأت عن عاطفة دينية، رأت أن في نحل الشعر على ألسنة الجاهليين، عملًا ليس فيه ضرر ولا إساءة، بل فيه منفعة من ناحية التوعية الدينية والحث على التدين والتزهد، وعمل الخير والإيمان بدين الله، فروت الأشعار على ألسنة المتقدمين في التبشير بظهور الرسول، قبل ميلاده بأمد، وفي الحث على نبذ الوثنية والإيمان بإله واحد. نظم على لسان القحطانيين وعلى لسان العدنانيين، الذين عاشوا قبل الإسلام، كما نظم على ألسنة الجن والهواتف والكهنة. ومن هذا القبيل ما قيل من شعر في التوحيد وفي الذّبِّ عن الإسلام على لسان أبي طالب وغيره، وفي مدح قريش، وجعلها القبيلة المختارة التي اصطفاها الله من بين سائر العرب ففضلها على العالمين، بأن جعلها الصفوة، وجعل لسانها اللسان الذي نزل به القرآن، فعل أصحاب الصنعة ذلك لنوازع مذهبية، ولعصبية

_ 1 رسائل الجاحظ "1/ 182 وما بعدها"، "فخر السودان على البيضان". 2 رسائل الجاحظ "1/ 197 وما بعدها"، "فخر السودان على البيضان".

قبلية سياسية، ذات صلة بالعواطف الدينية، فلم يكن ليهون على أهل يثرب مثلا التسليم بسيادة قريش عليهم، فكان ما كان من وضع قريش الحجج التي تؤيد قريشًا في الجاهلية، وتجعلهم أفضل العرب على الإطلاق، وما كان الأنصار ليقبلوا ذلك بالطبع، فأوجد صناعهم فخرًا وسبقًا لهم على قريش، بأن قالوا إنهم الأنصار وأنهم نصروا رسول الله منذ سمعوا بالإسلام، فلما سمع أبو قيس بن الأسلت وهو من الأوس، مقالة أبي طالب: ولما رأيت القوم لا ودَّ فيهم ... وقد قطعوا كل العُرى والوسائل حين أرادوا منه تسليمهم النبي، وأرسل إليهم قصيدة ينهى فيها قريشًا عن الحرب، ويأمرهم بالكفِّ عن رسول الله، إذ يقول: يا راكبًا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب وهي قصيدة طويلة دوَّنها ابن هشام في سيرته1، إذا قرأتها خرجت منها أن صاحبها إنما أراد من صنعها على لسان ابن الأسلت إظهار أن أهل يثرب كانوا أول من من دافع عن الرسول والإسلام، وأنهم كانوا أول المؤمنين به، إذ كفرت قريش بدين الله. مع أنه مات مشركًا، ولم يثبت أنه دخل في الإسلام2. والقصيدة بعد من صنع أناس من الأنصار، لعلهم كانوا من صلبه، وجدوا أن من السهل وضع الشعر على لسانه، فقد كان شاعرًا معروفًا، وكان من سادة يثرب ومن الوافدين على مكة، وله فيها أصحاب ودالة، وفي صنع هذا الشعر فخر للأنصار عظيم، فنسبوا له تلك القصيدة، وجعلوها جوابًا لاستغاثة أبي طالب في قصيدته التي قال ما قال فيها في حق قريش وفي تعنتها تجاه الرسول والإسلام. ومن هذا القبيل، تطويلهم القصيدة المنسوبة إلى أبي طالب التي قيل إنه قالها في النبي، وهي:

_ 1 سيرة "1/ 180"، "حاشية على الروض". 2 الإصابة "4/ 160"، "رقم 944"، الاستيعاب "4/ 159 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل فقد زيد فيها وطوِّلت، بحيث صار لا يعرف أين منتهاها1. وقد أورد ابن هشام أشعارًا نسبها إلى أبي طالب منها قصيدته التي رد فيها على قريش حين عرضت عليه تسليم النبي لهم، على أن يعطوه في مقابله عمارة بن الوليد، وقد دوَّنها ابن هشام، وذكر أنه ترك منها بيتين أقذع فيهما2. ومنها قصيدة: ولما رأيت القوم لا ودَّ فيهم ... وقد قطعوا كل العُرى والوسائل وهي قصيدة طويلة، قال عنها ابن هشام: "وبعض أهل العلم ينكر أكثرها"3. ومن هذا القبيل ما وضع من شعر في الأحداث التي وقعت بين المسلمين والمشركين في أيام الرسول، مثل معركة بدر وبقية المعارك، فقد وضع الناس شعرًا كثيرًا على لسان المسلمين والمشركين، ونجد ابن هشام يقول في تعليقه على شعر لأبي أسامة معاوية بن زهير، وكان مشركًا، وقد مر بهبيرة بن أبي رهم، وهو منهزم: "وهذه أصح أشعار بدر"4، ونجد ابن هشام، يعلق ويصحح ويشكك في صحة بعض هذا الشعر الذي أخذه من ابن إسحاق وقد طعن على ابن إسحاق لأنه أخذ مثل هذا الشعر فأدخله في السيرة، مع أنه شعر مصنوع5. ومن هذا القبيل ما روي من أهل امرأة من حضرموت ثم من "تنعة" صنعت لرسول الله كسوة، أرسلتها مع ابنها كليب بن أسد بن كليب إلى رسول الله، فأتاه بها وأسلم، فدعا له، فقال حين أتى النبي: من وشَزِ برهوت تهوى بي عذافرة ... إليك يا خير من يحفى وينتعل تجوب بي صفصفًا غبرًا مناهله ... تزداد عفوًا إذا ما كلت الإبل

_ 1 ابن سلام، طبقات "60"، المُزْهِرُ "1/ 179". 2 ابن هشام "1/ 171 وما بعدها"، "حاشية على الروض". 3 ابن هشام "1/ 179"، "حاشية على الروض". 4 ابن هشام "2/ 115"، "حاشية على الرَّوض الأُنُف". 5 الرَّوضُ الأُنُفُ "2/ 107 وما بعدها".

شهرين أعملها نصًّا على وجل ... أرجو بذاك ثواب الله يا رجل أنت النبي الذي كنا نخبره ... وبشرتنا بك التوراةُ والرسل1 والذي نعرفه أن لسان أهل حضرموت لم يكن في هذا العهد على هذا البيان والعربية، وإنما كان على عربية حضرموت، ولا أدري إذا كان هذا الرجل يعرف شيئًا عن التوراة والرسل، أو سمع باسم التوراة وبالرسل حتى يذكرها ويذكر رسل الله في هذا الشعر. ومن هذا النوع ما روي من شعر الجن والهواتف: من مثل الشعر المبشر بقرب ظهور نبي، كما في قصة راشد بن عبد ربه السُّلمي التي رواها عن سبب إسلامه، وما سمعه من هاتف يصرخ من جوف الصنم، بظهور نبي2، أو من شعر آخر، قيل على ألسنة الجن، في أغراض مختلفة وهو كثير، من ذلك قولهم: وقبر حربٍ بمكانٍ قفر ... وليس قرب قبر حربٍ قبر وقائله مجهول. فلما رأوا أن من الصعب إنشاده ثلاث مرات في نسق واحد فلا يتتعتع ولا يتلجلج، قيل لهم: إنه من شعر الجن. فصدقوا بذلك3. وذكر أهل الأخبار اسم شاعر من الجن، قالوا له: "مالك بن مالك" الجني. فقد زعموا أن خريم بن فاتك الأسدي، خرج في بغاء إبل له، فأصابها بالأبرق، فقال: أعود بعظيم هذا الوادي، فإذا هاتف يهتف: ويحك عذ بالله ذي الجلال ... منزل الحلال والحرام فقال خريم: يا أيها الداعي فما تحيل ... أرشد عندك أم تضليل

_ 1 ابن سعد، طبقات "1/ 350"، "وفد حضرموت". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 317". 3 البَيَانُ والتَّبْييُنُ "1/ 65".

فقال الهاتف: هذا رسولُ الله ذو الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات محرمات ومحللات ... يأمرنا بالصوم والصلاة فقال خريم: من أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا مالك بن مالك، بعثني رسول الله على جن أهل نجد1. وروى أهل الأخبار شعرًا لشاعر آخر من الجن اسمه "مالك بن مهلهل بن إياد" ويقال "دثار"، زعموا أنه أحد من أسلم من الجن، رووا له قصة مع رافع بن عمير التميمي المعروف بـ "دعموص الرمل"، لأنه كان أعرف الناس لطريق وأسراهم بليل، وأهجمهم على هول، وقعت له برمل عالج، لما قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن أن أوذى أو أهاج. فهتف به هذا الجني الشاعر، وأمره أن يذهب إلى يثرب، ليسلم أمام الرسول2. ومن ذلك ما روي من حديث عن قُسّ بن سَاعِدة، وما رواه صاحب الحديث من صوت هاتف يقول: يا أيها الرَّاقدُ في الليل الأحم ... قد بعث الله نبيًّا في الحرم من هاشم أهل الوقار والكرم ... يجلو دجنات الليالي البهم ثم قول صاحب الحديث للهاتف: يا أيها الهاتف في دجى الظُّلم ... أهلا وسهلا بك من طيف ألم بين هداك الله في لحن الكلم ... من الذي تدعو إليه تغتنم ثم جواب الهاتف عن سؤاله بقوله: الحمد لله الذي ... لم يخلق الخلق عبثا ولم يخلنا سدى ... من بعد عيسى واكثرث أرسل فينا أحمدا ... خير نبي قد بعث صلى عليه الله ما ... حج له ركب وحثّ3

_ 1 الإصابة "3/ 333"، "رقم 7684"، "1/ 423"، "رقم 2246". 2 الإصابة "3/ 335"، "رقم 7692". 3 الخزانة "1/ 264"، "بولاق".

وللجن أشعار، ولها مع الإنس حوار. وللأعراب خاصة في الجن قصص وحكايات، وقد ذكر "الجاحظ" أن الأعراب يتزيدون في هذا الباب1. والحديث عن الجن من الأحاديث التي يميل لسماعها الناس لما فيها من غريب وطريف واختراع، مالوا إلى سماعها في الجاهلية وفي الإسلام، ونجد لأبي المطراد "المطراب" "عبيد بن أيوب العنبري"، وهو شاعر إسلامي، وكان لصًّا قد جنى جناية فنذر السلطان دمه وخلعه قومه، قصص وأشعار كثيرة عن الجن والوحوش، أخبر: "في شعره أنه يرافق الغول والسعلاة، ويبايت الذئاب والأفاعي، ويأكل مع الظباء"2. ونجد في كتاب "الحيوان" وفي كتب الأخبار والأدب والسير طرفًا من أشعار الجن والغيلان والسعالي، وطرفًا من أخبارهم وأحاديثهم مع الإنس. ومن هذا القبيل ما نسب إلى "جذع بن سنان" من شعر زعم أنه جرى له من الجن، وهو: أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا صباحًا نزلت بشعب وادي الجن لما ... رأيت الليلَ قد نشرَ الجناحا أتيتهم وللأقدارِ حتم ... تلاقي المرءَ صبحًا أو رواحا وجذع شاعر جاهلي قديم، من غسان، وهو الذي ضرب به المثل بقولهم: خذ من جذع ما أعطاك. والشعر المذكور من أكاذيب العرب3. وللأعشى إشارة إلى الجن، بقوله: وسخر من جن الملائك سبعة ... قيامًا لديه يعملون بلا أجر4 وفي شعره مواضع أخرى تعرض فيها إلى ذكر الجن. وقد تحدث المعري عن "شعر الجن"، تحدث عنهم في رسالة الغفران

_ 1 الحيوان "6/ 164". 2 الشِّعْرُ والشُّعرَاءُ "2/ 668"، الخزانة "3/ 213"، الحيوان "6/ 165". 3 وهي من قصيدة تجدها في الخزانة "3/ 6"، "بولاق". 4 الخزانة "2/ 6"، "بولاق".

فكلم أحدهم واسمه "الخيتعور"، أحد "بني الشيصبان"، فقال له: "أخبرني عن شعر الجن، فقد جمع منها المعروف بالمرزباني قطعة صالحة، فيقول ذلك الشيخ: إنما ذلك هذيان لا معتمد عليه، وهل يعرف البشر من النظيم إلا كما تعرف البقر من علم الهيئة ومساحة الأرض؟ وإنما لهم خمسة عشر جنسًا من الموزون قَلّمَا يعدوها القائلون، وإن لنا آلاف أوزان ما سمع بها الإنس"1. ثم يقول الجني له: إن في الجن شعراء، من لا يعدل "امرئ القيس" أضعفهم شعرًا، ثم يروي قصيدة للمتكلم معه، وهو "أبو هدرش"2. وروى حديثًا في رسالة الغفران عن قصص تأبَّط شَرًّا مع الغيلان، ثم أجاب على لسانه، قال له: "أحق ما روي عنك من نكاح الغيلان؟ "، ثم أجاب على لسانه بقوله: "لقد كنا في الجاهلية نتقوَّل ونتخرَّص، فما جاءك عنا مما ينكره المعقول، فإنه من الأكاذيب". ثم روى الشعر المنسوب إليه، وهو: أنا الذي نكح الغيلان في بلد ... ما طلّ فيه سماكيّ ولا جادا3 وقد كان الجاهليون مثل غيرهم من الشعوب يعتقدون بالجن، وقد تصوروهم -كما سبق أن تحدثت عن ذلك- مثلهم، قبائل وعشائر، لهم ملوك وسادات فما كانوا يروونه عنهم وعن اتصالهم بهم، يمثل حقيقة في نظرهم، وكما كان يضعه الوضاعون من شعر على ألسنتهم، يقبل ويصدق عندهم، ويسمع إليه بتلهف، ولا سيما القسم الغريب منه، إذ كانوا يتلذذون بسماعه، ويذكر معه في العادة قصص لشرح المناسبة التي قيل فيها الشعر، على طريقتهم في رواية أخبار "الأيام". فالقصص المتعلق بالجن، باب من أبواب التسلية التي كان يتسلى بها أهل الجاهلية، بل بقي من القصص المستملح المطلوب سماعه حتى اليوم. ومن هذا القبيل، ما ورد في أيام العرب من شعر، ففي هذا الشعر ما شاء الله من المنحول. نُحِلَ تمجيدًا لقبيلة أو لبطل من أبطالها، أو للغض من شأن قبيلة معادية، اشتركت معها في قتال، وفي أخبار هذه الأيام تعصب وتحزب، ولذلك يجب النظر إليها بحذر شديد.

_ 1 رسالة الغفران "291". 2 رسالة الغفران "295 وما بعدها". 3 رسالة الغفران "359".

وشعر الشواهد من الأبواب التي فتحت المجال لنحل الشعر. قال عنه الرافعي: "وهو النوع الذي يدخل فيه أكثر الموضوع، لحاجة العلماء إلى الشواهد في تفسير الغريب ومسائل النحو"1. وقد كانوا يستشهدون بأشعار الجاهليين والمخضرمين. ونظرًا لوجود عنصر التفوق والتغلب على الخصوم وإظهار العلم، ولوجود العصبية اندفع البعض إلى افتعال الشواهد والإتيان بالغريب وبما هو غير معروف. وقد اتهم الكوفيون بأنهم كانوا أكثر الناس وضعًا للأشعار التي يستشهد بها، لضعف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولا يقاس عليها. ولهذا وأشباهه اضطروا إلى الوضع فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كانت العرب على خلافهم، وتجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله، بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر. ومن أجل هذا كان البصريون يغتمزون على الكوفيين. فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز والكواميخ2. على أن البصريين، لم يكونوا ملائكة بالنسبة إلى افتعال الشواهد، فقد أدلوا فيه بدلوهم كذلك، وإن قيل: إنهم كانوا أقل فعلًا في ذلك من الكوفيين. ذكر أن سيبويه سأل اللاحقي هل تحفظ العرب شاهدًا على إعمال "فعل" الصفة؟ قال اللاحقي، فوضعت له هذا البيت: حذر أمورًا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأعداء3 ومن ذلك ما رواه الزجاجي في: "مجالس العلماء"، من نزاع وقع بين الطبري وبين أبي عثمان في السكين: مذكر أم مؤنث، ومن استشهاد أبي عثمان بشعر رواه الفراء، هو: فعيث في السنام غداة قر ... بسكين موثقة النصاب وجوابه: "لمن هذا ومن صاحبه؟ وما أراه إلا أُخرج من الكم، وأين صاحب هذا عن أبي ذؤيب حيث يقول:

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 370". 2 الرافعي "1/ 371". 3 المُزْهِرُ "1/ 180"، الرافعي "1/ 371 وما بعدها".

فذلك سكين على الحلق حاذق"1. ومن ذلك ما ذكره خلف الأحمر على ألسنة القدماء في ورود لفظة "عشار" في كلام العرب، إذ روى هذه الأبيات: قل لعمرو يا ابن هند ... لو رأيت اليوم سنا لرأت عيناك منهم ... كل ما كنت تمنى إذ أتتنا فليق شهـ ... ـبا من هنا وهنا وأتت دوسر والملـ ... ـحاء سيرًا مطمئنا ومشى القوم إلى القو ... م أحادى ومثنى وثلاثا ورباعًا ... وخماسًا فأطعنا وسداسًا وسباعًا ... وثمانًا فاجتلدنا وتساعًا وعشارًا ... فأصبنا وأصبنا لا ترى إلا كميا ... قائلا منهم ومنا "ودلائل الوضع في هذه الأبيات ظاهرة. وكان خلف الأحمر متهمًا بالوضع"2. ويدخل في باب نحل الشعر عامل آخر، هو الاستشهاد بالشعر لتأييد الخلافات القائمة بين المذاهب في إثبات رأي، أو في تفسير آية، تفسيرًا يؤيد رأي ذلك المذهب. فقد زعم أن المعتزلة، قالت في تفسير الآية: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} ، أي علمه، وأنهم جاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر: ولا بكرسي علم الله مخلوق3 وهو قول وإن روي عنهم وقيل، لا أدري، إذا كان قد صدر منهم، أو أنه صنع عليهم، وقد ورد في خبر أن عبد الله بن عباس، كان يقول: الكرسي: العلم. وأنه فسر الآية بهذا المعنى. على كل فقد فسر المفسرون لفظة

_ 1 مجالس العلماء "ص129"، "الكويت 1962"، "عبد السلام محمد هارون". 2 الخزانة "1/ 82"، "بولاق". 3 الرافعي "1/ 373".

"الكرسي" تفاسير مختلفة، وذلك تحاشيًا من الوقوع في التشبيه، من كونه تعالى يجلس على كرسي شبه كراسينا، ولذلك مالوا إلى التأويل. وذكر في رواية أخرى، أن "ابن عباس" كان يرى أن الكرسي موضع القدمين، "ومن روي عنه في الكرسي أنه العلم، فقد أبطل"1. ونظرًا إلى ما كان للمذهبية من أثر في الناس في ذلك العهد، فلا أستبعد احتمال الوضع على ألسنة المذاهب، لذا يجب الحذر من الإسراع في التصديق بصحة الشواهد المقالة على لسان مذهب، ونقدها نقدا علميًّا دقيقًا، بالتفتيش عنها في كتب أهل ذلك المذهب، فقد يجوز أن تكون قد وضعت عليهم وضعًا، ومثل هذا الوضع شيء معروف. ومن أبواب نحل الشعر ما قيل على لسان آدم فمن دونه من الأنبياء من شعر. فقد زعموا مثلا أن قابيل حين قتل أخاه هابيل رثاه أبوه آدم، فقال: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح فأجيب آدم: أبا هابيل قد قتلا جميعا ... وصار الحي كالميت الذبيح وجاء بشرة قد كانك منها ... على خوف فجاء بها يصيح2 ثم ما قيل على لسان الأمم البائدة، والشعوب الهالكة مثل عاد وثمود وقوم تبع، وطسم وجديس، وزرقاء اليمامة، من أشعار زعم أنهم قالوها، وهي من نظم القصاصين وأصحاب السمر والحكايات، وعشاق الأساطير والخرافات، لما وجدوا ميلًا عند الناس إلى الاستماع لمثل هذه الأشعار. فكانوا "يأتون بمثل تلك الأشعار على وهنها وتداعيها ويعزونها إلى القدماء، ثم يزعمون إنهم أخذوها من

_ 1 تاج العروس "4/ 232"، "كرس". 2 تأريخ الطبري "1/ 145"، تفسير الطبري "1/ 122"، "طبعة بولاق".

الصحف، ويروونها للأمم البائدة وغيرهم"1. من ذلك ما نسبوه من شعر إلى "معاوية بن بكر"، وكان في أيام عاد، مقيما بظاهر مكة خارجًا من الحرم، زعموا أنه قاله لما استثقل طول مكث وفد "عاد" وفيه "لقمان بن عاد" عليه، وألهمه إلى قينتيه لتغنيا به أمام الوفد، وهو: ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما فيسقي أرض عاد إنّ عادا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نسائهم عياما وإن الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لعادي سهاما وأنتم ههنا فيما اشتهيتهم ... نهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لُقُّوا التحية والسلاما فأجابه جلهمة بن الخيبري: أبا سعد فإنك من قبيل ... ذوي كرم وأمك من ثمود فإنا لن نطيعك ما بقينا ... ولسنا فاعلين لما تريد أتأمرنا لنترك آل رفد ... وزمل وآل صد والعبود ونترك دين آباء كرام ... ذوي رأي ونتبع دين هود2 ومن ذلك ما نسبوه من شعر إلى "مرثد بن سعد بن عفير" زعموا أنه قاله حين سمع خبر هلاك عاد، إذ قال: عصت عاد رسولهم فأمسوا ... عطاشًا ما تبلهم السماء وسير وفدهم شهرا ليسقوا ... فأردفهم من العطش العماء بكفرهم بربهم جهارًا ... على آثار عادِهِمُ العفاء ألا نزع الإله حلوم عاد ... فإن قلوبهم فقر هواء

_ 1 الرافعي "1/ 375 وما بعدها"، الخزانة "4/ 202"، "بولاق". 2 الطبري "1/ 220 وما بعدها"، "ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيم"، تفسير الطبري "8/ 154"، جمهرة أشعار العرب "41".

من الخبر المبيّن أن يعُوه ... وما تغني النصيحة والشفاء فنفسي وابنتايَ وأم ولدي ... لنفس نبينا هود فداء أتانا والقلوب مصمدات ... على ظلم وقد ذهب الضياء لنا صم يقال له صمود ... يقابله صداء والهباء فأبصره الذين له أنابوا ... وأدرك من يكذبه الشقاء فإني سوف ألحق آل هود ... وإخوته إذا جن المساء1 فلما هلكت هاد، فلم يبق منهم إلا "الخلجان"، قال: لم يبق إلا الخلجان نفسه ... يا لك من يوم دهاني أمسه بثابت الوطء شديد وطسه ... لو لم يجئني جئته أجسه2 ورووا شعرًا لأحد شعراء ثمود اسمه "مهوس بن عنمة بن الدميل" هو قوله: وكانت عصبة من آل عمرو ... إلى دين النبي دعوا شهابا عزيز ثمود كلهم جميعا ... فهم بأن نجيب ولو أجابا لأصبح صالح فينا عزيزا ... وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا ولكن الغواة من آل حجر ... تولوا بعد رشدهم ذنابا3 ويروي أهل الأخبار أنه قد كان لأهل الجاهلية شعر كثير قيل في عاد وثمود وأمورهم، يأتون به دليلًا على شهرة أمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام4. من ذلك ما أوردوه على لسان "أفنون" التغلبي، من قوله: لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... غذيّ سخْل ولقمان وذا جدان5 ومن هذا القبيل ما نسب إلى "عمرو بن الحارث بن مضاض" الجرهمي، وإلى "الحارث بن مضاض"، من شعر. وهو عند أهل الأخبار أحد المعمرين

_ 1 الطبري "1/ 223 وما بعدها". 2 الطبري "1/ 224". 3 تفسير الطبري "8/ 159"، "بولاق". 4 الطبري "1/ 232". 5 الزجاجي، مجالس العلماء "42".

القدماء، زعموا أنه قال شعرًا لما أجلت "خزاعة" "جرهم" عن الحرم، هو: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر وزعموا أنه مد في عمره إلى أن أدرك الإسلام1. ونجد في شعر "النمر بن تولب" ذكر "لقمان"2. ونجد في أشعار شعراء آخرين إشارات إلى هؤلاء وغيرهم ممن كانت تذكرهم الأساطير وتروي أخبارهم الناس، على نحو ما نسمعه من العجائز عن قصص الماضين، وقد أشرت إلى أسماء بعض منهم في ثنايا هذا الكتاب. وقد سبق أن ذكرت أن هذا النوع من الأساطير، لم يفت على بال بعض العلماء النقدة، وأنهم أشاروا إلى أنه من صنع جماعة من صناع الأساطير والقصص، فقد قال "ابن سلام": "وكان ممن هجن الشعر وأفسده وحمل منه كل غثاء محمد بن إسحاق بن يسار مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسير والمغازي، قبل الناس عنه الأشعار وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، إنما أوتى به فأحمله، ولم يكن له ذلك عذرًا، فكتب في السيرة من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قط، وأشعار النساء، فضلًا عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعارًا كثيرة وليست بشعر إنما هو كلام مؤلف معقود بقوافٍ، أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا الشعر؟ ومن أداه منذ ألوف من السنين؟ والله تعال يقول: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي لا بقية لهم. وقال أيضًا: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} . وقال في عاد: {هَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} . وقال: وقررنا بين ذلك كثيرًا"3. ولكن أوسع وأظهر أبواب نحل الشعر، هو ما وضعه رواة الشعر على ألسنة الشعراء الجاهليين، وهو ما دعاه "الرافعي": ب "الاتساع في الرواية".

_ 1 المرزباني، معجم "10"، ابن هشام، سيرة "1/ 82 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "1/80 وما بعدها". 2 الخزانة "4/ 441"، "بولاق". 3 المزهر "1/ 173"، "النوع الثامن: معرفة المصنوع".

ونقصد به ما صنعه الرواة من وضعهم قطعًا وقصائد على ألسنة الشعراء الجاهليين لم يقولوها، ومن إضافتهم أشعارًا على قصائد الجاهليين، أو إدخال شعر شاعر في شعر غيره: هوى وتعنتًا1. فهذا الباب هو أخطر أبواب نحل الشعر وأوسعها وأهمها، ويغطي معظم الشعر المنحول. صنعوه، لرواج سوق الشعر الجاهلي في تلك الأيام وللطلب الكثير الذي كان إذ ذاك عليه. وللربح الذي كان يجنيه حامله من روايته، مما حمل الرواة على وضع الشعر بصوغه على قوالب الشعر الجاهلي وعلى مضامينه وطرقه في التنقل في القصيدة، وقد أجاد فيه أساتذة الصنعة من أمثال "حماد" الراوية و "خلف" الأحمر، وليس في الرواة جميعًا من يدانيهما في الصنعة وإحكامها، فهما طبقة في التأريخ كله2. ومن أمثلة المصنوع أبيات مطلعها: قل لعمرو يا ابن هند ... لو رأيت القوم شنا أنشدها خلف الأحمر، وهي مصنوعة3. ومن أمثلة التطويل في الشعر، ما فعلوه بأبيات الطيرة للحارث بن حلزة، وهي أربعة أبيات، ولكنهم جعلوها قصيدة طويلة. والأبيات هي: يا أيها المزمع ثم انثنى ... لا يشك الحادي ولا الشاحج ولا قعيد أعضب قرنه ... هاج له من مربع هائج بينا الفتى يَسْعَى ويُسعى له ... تاح له من أمره خالج يترك ما رقح من عيشه ... يعيش منه همج هائج4 وروي أن قول الأعشى: كتميل النشوان ير ... فل في البقيرة وفي الأزارة

_ 1 الرافعي "1/ 379". 2 الرافعي "1/ 383". 3 المزهر "1/ 178 وما بعدها". 4 الرافعي "1/ 384".

هو من قصيدة مصنوعة1. وروى "أبو عبيدة" عن "أبي عمرو"، أنه قال: والله ما كذبت فيما رويته حرفًا قط، ولا زدت فيه شيئًا إلا بيتًا في شعر الأعشى، فإني زدته، فقلت: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا2 وروي أن "حمادًا كان يقول: ما من شاعر إلا وقد حققت في شعره أبياتًا فجازت عنه، إلا الأعشى، أعشى بكر، فإني لم أزد في شعره قط غير بيت. قيل له: وما البيت؟ فقال: وأنكرتني وما كان الذي نكرت"3. فأنت أمام روايتين متناقضتين، رواية تنسب وضع البيت إلى "أبي عمرو بن العلاء"، ورواية تنسب وضع ذلك البيت إلى "حماد". وسبب التناقض العصبية ولا شك. ويجب أن نضيف على الشعر المصنوع على ألسنة الجاهليين، الشعر الذي وضع على ألسنة الصعاليك واللصوص، فقد كان الناس يتسقطون أخبار هؤلاء ويتلذذون بسماع مغامراتهم وسطوهم، شأن الناس في كل وقت ومكان من الميل إلى التلذذ بسماع مثل هذه الأخبار، وهذا ما حمل صناع الأخبار والأساطير على وضع الشعر على ألسنة الصعاليك واللصوص لتزيين أخبارهم وترصيعها به، على طريقتهم في رواية أيام العرب وأخبارهم، وفي شعر هذه الطبقة شعر كثير مصنوع. وهناك شعر وضع للتسلية وللهو من ذلك شعر الفسق والمجون، من ذلك ما نسب إلى "ابنة الخس" من قول، هو: سلوا نساء أشجع ... أي الأيور أنفع أألطويل النعنع ... أم القصير المردع أم الذي لا يرفع ... أم الأسك الأصمع

_ 1 الزجاجي، مجالس العلماء "130". 2 الزجاجي، مجالس العلماء "235". 3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 383 وما بعدها".

في كل شيء يطمع ... حتى القريص يصنع1 وابنة الخس، في زعم أهل الأخبار، جاهلية قديمة من إياد، أدركت القلمس، أحد حكام العرب، "ولها أسجاع كثيرة وشعر قليل. وكانت تحاجي الرجال" إلى أن حاجها رجل، فقال لها قولًا بذيئًا أخجلها، فتركت المحاجاة2. وأورد الشريف "المرتضى" لها أجوبة عن أسئلة معضلة محيرة، لتحزر جوابها، وذكر أجوبتها، رواية عن "ابن الأعرابي"3. والشعر الذي نسبه "أبو محمد ثابت بن أبي ثابت" إليها، هو من الشعر المصنوع بالطبع، وضع على لسان "ابنة الخس"، وقد نص "تاج العروس" على أن قائله "جارية كانت جلعة"4، وهو من وضع المُجّان، الذين كانوا يتلذذون بسماع هذا النوع من المجون. وكان "ابن أبي كريمة"، يصنع الشعر وينحله بعض شعراء البادية، كما صنع في قصيدة له في وصف الفأر، نحلها "يزيد بن ناجية" السعدي، "وكان لقي من الفأر جهدًا، فدعا عليهن بالسنانير"، وكان يصطنع شعر الفكاهة، ويحاكي فيه "الحكم بن عبدل" الأسدي5. وهناك كثير من أضرابه، ممن وضع الشعر للتسلية وللتفكهة على ألسنة الأعراب والشعراء الجاهليين. وقد وضع "خلف الأحمر قصائد عدة على فحول الشعراء، ذكروا منها قصيدة الشنفري المشهورة بلامية العرب. وروي عن الاصمعي قوله: سمعت خلقًا يقول: أنا وضعت على النابغة هذه القصيدة التي فيها: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما6

_ 1 كتاب خلق الإنسان "279"، "لابن أبي ثابت"، المخصص "2/ 31"، اللسان "8/ 271"، "قرضع"، "لم يذكر اسم قائله"، "8/ 358"، "ولم يذكر اسم قائله كذلك"، تاج العروس "5/460"، "قرصع"، "قاله أبو عمرو، وأنشد لجارية كانت جلعة"، "5/ 527"، "نعنع". 2 بلوغ الأرب "1/ 239". 3 أمالي المرتضى "1/ 220". 4 تاج العروس "5/ 527"، "نعنع". 5 البخلاء "282 وما بعدها"، "الحكم بن عبدل" من شعراء أيام الأمويين. 6 الرافعي "1/ 381".

ومما يدخل في هذا الباب أننا نجد بيتًا أو أبياتًا تنسب في أحد الموارد لشاعر، بينما نرى ديوانه خاليًا منه أو منها، من ذلك ما رواه "المعري"، من أنه لما كان ببغداد، شاهد بعض الوارقين يسأل عن قافية "عدي بن زيد" التي أولها: بكر العاذلات في غلس الصبـ ... ـح يعاتبنه أما تستفيق وزعم الوراق أن بعض طلاب شعر هذا الشاعر سأل عن هذه القصيدة، وطلبت في نسخ من ديوان "عدي" فلم توجد. ثم سمع بعد ذلك رجلًا من أهل "استرباذ" يقرأ هذه القافية في ديوان "العبادي"، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم1. وذكر أشياء أخرى من هذا القبيل، تراها في كتاب أو في نسخة من نسخ ديوان الشاعر، بينما لا تراها في نسخ الديوان الأخرى، مما يدل على أن الدواوين لم تكن متفقة في النص، وأنها رويت بروايات مختلفة، وأن في بعضها ما يزيد على البعض الآخر2. ونحل الشعر، وإن وقع وحدث، غير أن أمره لم يفت على بال العلماء المهرة الحاذقين، ودليل ذلك، ما نجده في كتبهم من الإشارات إلى المنحول والمصنوع من الشعر، ومن نصهم عليه، وإن فات عليهم بعضه، ومن نصهم على المنحول ومن ملاحظاتهم تلك أخذ المستشرقون والمحدثون من العرب آراءهم في الشعر الجاهلي، فما أورده "ماركليوث" مثلا من نقد على الشعر الجاهلي، أو ما أورده "الدكتور طه حسين" من رأي فيه، ليس فيه شيء جديد، وجديده الوحيد، هو في التهويل بمقدار المغشوش من هذا الشعر، أما من حيث المبدأ، أي من حيث وجود شعر منحول فاسد، في الشعر الجاهلي، فالقدماء والمحدثون والمستشرقون متفقون في ذلك، وخلافهم الوحيد، هو في مقدار نسبة الفاسد من الشعر بالنسبة إلى الصحيح. فما قيل عن نحل الشعر إذن هو قول قديم. روي عن الأصمعي أنه قال: "كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس، فهو من حماد الراوية إلا نتفا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء"3. وروي عن "حماد" الراوية قوله:

_ 1 رسالة الغفران "146 وما بعدها". 2 رسالة الغفران "513". 3 مراتب النحويين، لأبي الطيب اللغوي "72".

"دخل علينا ذو الرمة الكوفة، فلم نر أحسن ولا أفصح ولا أعلم بغريب منه. فغم ذلك كثيرًا من أهل المدينة، فأرادوا الكيد له بامتحانه، فصنعوا شعرًا على ألسنة بعض الجاهليين، وأنشدوه إياه، فعلم ذلك "ذو الرمة" بعلمه وبمعرفته للشعر الجاهلي، أنه شعر مصنوع، فقال لهم: "ما أحسب أن هذا من كلام العرب"1. وقد زيد في شعر "امرئ القيس" كثيرًا، وقد عده علماء الشعر من المقلين، وجعل بعضهم الصحيح من شعره نيفًا وعشرين شعرًا بين طويل وقطعة2. وفي جملة ما نسب إليه القصيدة المسمطة، وهي: توهمت من هند معالم أطلال ... عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي مرابع من هند خلت ومصايف ... يصيح بمغناها صدى وعوازف وغيرها هوج الرياح العواصف ... وكل مسف ثم آخر مرادف بأسحم من نوء السماكين هطال3 ونرى "ابن سلام" يقول: "ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد. والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن، فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة، وإن كان ما يروى من الغثاء لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة. ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر. وكانا أقدم الفحول، فلعل ذلك لذلك. فلما قل كلامهما حمل عليهما حمل كثير، ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة"4. ولما تحدث عن "عبيد بن الأبرص" قال: "عبيد بن الأبرص، قديم عظيم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب، لا أعرف له إلا قوله: أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب

_ 1 الأغاني "16/ 117". 2 العمدة "1/ 105". 3 العمدة "1/ 176". 4 طبقات "10 وما بعدها".

ولا أدري ما بعد ذلك"1. فهو مع علمه الواسع بالشعر، واستشهاد العلماء بكلامه وبآرائه في الشعر، لا يعرف لعبيد غير هذا الشعر، مع العلم بأنه قد توفي سنة "231هـ"، وفي أيامه كان الناس يموتون في طلب الشعر الجاهلي. ونجد "ابن قتيبة" المتوفى بعده "270هـ"، يذكر له شعرًا مطلعه: يا عين فابكي بني ... أسد هم أهل الندامة2 ثم قوله مخاطبًا امرأ القيس: يا ذا المخوفنا بقتل أبيه إذلالا وحينا أزعمت أنك قد تلت سراتنا كذبا ومينا3 ثم قوله: هلا سألت جموع كندة يوم ولّوا هاربينا4 وقد ذكر "ابن سلام" أن الرواة قد وضعوا على "عدي بن زيد"شعرًا كثيرًا، وعلل ذلك بقوله: "وعبيد بن زيد، كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فلان لسانه، وسهل منطقه، فحمل عليه شيء كثير، وتخليصه شديد. واضطرب فيه خلف، وخلط فيه المفضل فأكثر. وله أبع قصائد غرر روائع مبرزات، وله بعدهن شعر حسن"5. ولابن قتيبة هذا الرأي فيه، حيث يقول: "وكان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جدًّا، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة. وله أربع قصائد غرر"6. وذكر نقلا عن "أبي عبيد" عن "أبي عمرو بن العلاء" أن "العرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية، وكان نصرانيًّا من عباد الحيرة، قد قرأ الكتب"7.

_ 1 طبقات "11، 31". 2 الشعر والشعراء "1/ 50"، ديوان عبيد "125". 3 الشعر والشعراء "1/52"، "ديوان عبيد "136". 4 الشعر والشعراء "1/58". 5 طبقات "31"، العمدة "1/ 104". 6 الشعر والشعراء "1/150". 7 الشعر والشعراء "1/ 154".

وقد تعرض القدماء لموضوع الشعر المقال على ألسنة الأمم القديمة وملوكها، فرفض "ابن سلام" ذلك الشعر، بقوله: "وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف، وذلك يدل على إسقاط عاد وثمود وحمير وتبع"1. إذن فما أضيف إلى هؤلاء وإلى أهل اليمن هو شعر منتحل. ومن أصحاب البصر والنظر في الشعر: "خلف الأحمر". "وقد كان أبو عمرو بن العلاء وأصحابه لا يجرون مع خلف الأحمر في حلبة هذه الصناعة، أعني النقد، ولا يشقون له غبارًا، لنفاذه فيها، وحذقه بها، وإجادته لها"2. وعلمه بالشعر، جعله من كبار الوضاعين له على ألسنة الجاهليين. وبعد، فإننا لا نستطيع بالطبع التصديق بصحة الشعر المنسوب إلى آدم والجن والتبابعة وأهل العربية الجنوبية وغيرهم ممن لا يعقل قولهم الشعر العربي، وإن نص على صحة ذلك الشعر، ورواه العلماء. أما سبب رفضنا قبول الشعر المنسوب إلى أهل العربية الجنوبية من ملوك وأقيال ورؤساء، فلأنهم كانوا يتكلمون ويكتبون كما هو ثابت لدينا من نصوصهم بلغة تختلف عن لغة الشعر المألوفة، ولو تصورنا أنهم كانوا ينظمون الشعر بلغة الشعر المعروفة، ويكتبون ويتكلمون بلغة أخرى، فإننا نكون قد قلنا برأي مخالف للمعقول وللمنطق، ونكون قد أوجدنا لهم لغة للشعر ولغة للنثر، وهو افتراض لا يمكن لأحد إثباته، ثم إن لغة التدوين تكون في العادة لغة الأدب عامة من شعر ومن نثر، لذا فإذا قفلنا بوجود شعر جاهلي للعرب الجنوبيين، قلنا يجب أن يكون هذا الشعر بلغتهم، لا بلغة هذا الشعر الجاهلي الذي نتحدث عنه. وبعد، فلعل قائلًا يقول: وما فائدة الشعر الجاهلي إذن، إذا كان هذا شأنه فيه المنحول والفاسد، وما يشك في أصله والجواب: إن العلماء، وإن اختلفوا فيه، مجمعون ومتفقون على أن رواة هذا الشعر وحملته كانوا من أعلم الناس بالجاهلية: بأخبارها وبأيامها وبأنسابها، وبأنهم كانوا من أمرس الناس بالشعر الجاهلي وبطرقه ودروبه، فهم إن وضعوا ولفقوا، أو كيفوا، فإنهم لا يضعون عن جهل وعمى، بل عن علم وفهم بالجاهليين وبمذاهبهم في نظم

_ 1 طبقات "11". 2 العمدة "1/ 117".

الشعر والتفسير، ولا سيما أن العهد بينهم وبين الجاهلية لم يكن طويلًا، وأن الأخذ عمن شهد الجاهلية أو أخذ منهم وسمع كان ممكنًا يسيرًا، ومن هنا كان ما رووه من شعر جاهلي مادة مهمة للمؤرخ مهما قيل في أمره. ثم إننا حين نروي الشعر الجاهلي، فلا نرويه أو ننشده، أو نحفظه لأنه شعر مقدس، لا يجوز أن يمسه أحد بسوء، وأنه تراث خالد، إذا تعرض له إنسان أو تحرش به، فإنما هو يتعرض لأثر تأريخي قديم من آثار هذه الأمة، وإنما نرويه على أنه من مرويات العلماء، وأنه مهما قيل فيه وفي أصله، فإنه يحاول أن يصور لنا أحوال زمن سبق الإسلام، وهو زمن مهم جدًّا بالنسبة لنا، لاتصاله بالإسلام، ولقيام الإسلام عليه، ولكونه فصولًا متقدمة مجهولة من كتاب ناقص، ضاعت فصوله الأولى، هو كتاب في تأريخ العرب منذ القدم إلى هذا اليوم، فإذا فقدنا الأصول، فلا بأس بالتسلي بما نسبه المتأخرون على الأقل إلى المتقدمين، مهما كان بعد هذا المنسوب عن الصحة والحق، ومهما كانت نسبة الباطل فيه كبيرة، وحتى إذا كانت النسبة مائة بالمائة، وهي نسبة نبالغ فيها بالطبع، لا أعتقد أن أحدًا سيراها، مهما بلغ به الشك والحذر بالنسبة إلى أصالة الشعر الجاهلي، ومن هنا فإن النزاع الجائر حول صحة الشعر الجاهلي، والذي سيبقى مثارًا قائمًا، حتى يظهر أثر جاهلي مكتوب، وعندئذ فقد يحسم شيئًا من مواضع الخلاف المؤلفة لهذا النزاع، يجب ألا يحملنا على الابتعاد عن هذا الشعر، باعتبار أنه لا يمثل الجاهلية تمثيلًا صحيحًا، وأنه شعر مكذوب منحول، وإنما يجب أن يدفعنا -على العكس- إلى الاهتمام به، باعتبار أنه من أقدم الآثار التي وصلت إلينا، المدون في الإسلام. وأنها إن كانت منحولة، فإن نحلها على ألسنة الجاهليين، نحل قديم، يعتبر تأريخيًا من أقدم المنحولات الواصلة إلينا في المدونات الإسلامية، وأنها تمثل صنعة وصناعة صناع، حاولوا تقليد الماضي، على ما وصل خبره إليهم، فصاغوه على تلك الصياغة، فهو أثر أصيل لأقدم مصنوعات ومحاكاة وتقليد لآثار قديمة لها صلة بتأريخ العرب القديم. وأرى في الوقت نفسه أن من الضروري وجوب تقصي الأخبار عن الشعر المصنوع، وتتبع المراجع للوصول إلى أقدم مرجع ورد فيه كل شعر مصنوع، وتسجيل الأبيات والقطع والقصائد التي ترد لأول مرة في أقدم مورد من الموارد، والنص على اسم المورد، وعلى سنده إن كان مذكورا، لنتمكن بهذه الدراسة

من الوصول إلى اسم صانع الشعر، أو الزمن الذي ظهر فيه ذلك الشعر إن كان الاسم مجهولًا، كما نقوم بتسجيل الموارد التي يرد فيها شعر الشعراء، وما اختلفت فيه بعضها عن بعض من حيث الألفاظ، أو ترتيب الأبيات، أو عددها، ثم أسماء من نسب إليهم تلك الأشعار، فقد ينسب الشعر الواحد إلى جملة شعراء، وتسجيل أسماء من روي ذلك، واسم المصدر، وبذلك نكون قد قمنا بدراسة علمية قيمة عن الشعر المصنوع وعن الشعر الأصيل الذي لم يشك في أصالته عالم من علماء الشعر، ثم نعرض النتائج للبحث بأساليب النقد الحديث لاستخراج الزائف منه، ولاستبعاد صدور بعضه من الشعراء الجاهليين، نفعل ذلك حتى في حالة عدم ورود رواية لعالم قديم تشك في صحة شعر، لأن سكوت العلماء عن الشك في شعر، لا يكون حجة على صحة ذلك الشعر.

الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي

الفصل السادس والخمسون بعد المئة: أولية الشعر الجاهلي مدخل ... الفَصْلُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمَائَةِ: أولية الشعر الجاهلي لا نملك نصوصًا جاهلية مدونة عن مبدأ الشعر عند العرب، وعن كيفية ظهوره وتطوره إلى بلوغه المرحلة التي وصلها عند ظهور الإسلام. ولم يعثر العلماء على شعر مدون بقلم جاهلي، ليكون لنا نبراسًا يعيننا في تكوين صورة عن ذلك الشعر وعن هيكله ومادته التي تكون منها. وكل ما نعرفه عن هذا الشعر مستمد من موارد إسلامية، أخذت علمها به من أفوه الرواة، فلما جاء التدوين دوّن ما وعته الذاكرة مما أخذته عن المتقدمين بالرواية، فثبت واستقر، بعد أن كان المروي عرضة للتغيير والتحريف كلما تنقل من لسان إلى لسان، ومن وقت إلى وقت. وقد تعرض "الجاحظ" لموضوع قدم الشعر العربي وتأريخه، فقال: "وأما امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة ... فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام"1. وذهب "عمر بن شبة" إلى أن "للشعر والشعراء أول لا يوقف عليه، وقد اختلف في ذلك العلماء، وادعت القبائل كل قبيلة لشاعرها أنه الأول. فادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد بن الأبرص، وتغلب لمهلهل، وبكر لعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دؤاد ... وزعم بعضهم أن

_ 1 الحيوان "1/ 74".

الأفوه الأودي أقدم من هؤلاء، وأنه أول من قصد القصيد، قال: وهؤلاء النفر المدعى لهم التقدم في الشعر متقاربون، لعل أقدمهم لا يسبق الهجرة بمائة سنة أو نحوها"1. وذهب "الأصمعي" إلى أن بين أول شاعر معروف، قال كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر، وهو "مهلهل"، وبين الإسلام أربعمائة سنة. "وكان امرؤ القيس بعد هؤلاء بكثير"2. وقال "الأصمعي" في رواية تنسب إليه، "إن أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر مهلهل، ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم ضمرة، رجل من بني كنانة، والأضبط بن قريع. قال: وكان بين هؤلاء وبين الإسلام أربعمائة سنة، وكان امرؤ القيس بعد هؤلاء بكثير"3. "زعم أبو عمرو بن العلاء: أن الشعر فتح بامرئ القيس وختم بذي الرمة"4. وذكر أنه "لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات التي يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد، وطول الشعر على عهد عبد المطلب، أو هاشم بن عبد مناف"5. وذكر "المرزباني"، أن "بكر بن وائل"، تزعم أن "عمرو الضائع" "أول من قال الشعر وقصد القصيد، كان امرؤ القيس بن حجر استصحبه لما شخص إلى قيصر يستمده على بني أسد، فمات في سفره ذلك فسمته بكر عمرًا الضائع"6. فعمرو الضائع، هو أول من قال الشعر وقصد القصيد على رأي بكر بن وائل على رواية "المرزباني". وقد أورد: "ابن إسحاق" شعرا نسبه إلى "عمرو بن الحارث بن مضاض" الجرهمي، زعم أنه قاله لما خرج بقومه من مكة إلى اليمن، أوله9: وقائلة والدمع سكب مبادر ... وقد شرقت بالدمع منها المحاجر كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر فقلت لها والقلب مني كأنما ... يلجلجه بين الجناحين طائر

_ 1 المزهر "2/ 477"، ابن سلام، طبقات "3"، المرزباني، الموشح "74". 2 المزهر "2/ 477". 3 المزهر "2/ 477". 4 البيان والتبيين "115"، "انتقاء الدكتور جميل جبر". 5 المزهر "2/ 477". 6 معجم "4".

إلى آخر القصيدة التي يتوجع فيها لمفارقته مع قومه مكة، ونسب له أبياتًا أخرى هي: يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا حثوا المطايا وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا وقد ذكر "ابن هشام" أن "هذا ما صح له منها" وأن بعض أهل العلم بالشعر يقول إن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب1. ودوّن "السهيلي" صاحب "الروض الأنف" شعرا أخذه من كتاب "أبي بحر سفيان بن العاصي" زعم أنه وجد في بئر باليمامة، وهي بئر طسم وجديس، في قرية يقال لها "معنق" بينها وبين الحجر ميل2، وكان مكتوبًا على ثلاثة أحجار، كتبها قوم من بقايا عاد، غزاهم تبع، كتب على الحجر الأول: يا أيها الملك الذي ... بالملك ساعده زمانه ما أنت أول من علا ... وعلا شئون الناس شانه أقصر عليك مراقًبًا ... فالدهر مخذول أمانه كم من أشمم معصب ... بالتاج مرهوب مكانه قد كان ساعده الزما ... ن وكان ذا خفض جنانه تجري الجداول حوله ... للجند مترعة جفانه وقد فاجأته منية ... لم ينجه منها أكتنانه وتفرقت أجناده ... عنه وناح به قيانه والدهر من يعلق به ... يطحنه مفترشا جرانه والناس شتى في الهوى ... كالمرء مختلف بنانه والصدق أفضل شيمة ... والمرء يقتله لسانه والصمت أسعد للفتى ... ولقد يشرفه بيانه

_ 1 ابن هشام، سيرة "1/ 82 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف". 2 الروض الأنف "1/ 82 وما بعدها".

وكتب على الحجر الثاني: كل عيش تعله ... ليس للدهر خله يوم بؤس ونعمى ... واجتماع وقله حبنا العيش والتكا ... ثر جهل وضلة بينما المرء ناعم ... في قصور مظله في ظلال ونعمة ... ساحبًا ذيل حله لا يروى الشمس ملغضا ... رة إذ زال زله لم يقلها وبدلت ... عزة المرء ذله آفة العيش والنعـ ... ـيم كرور الأهله وصل يوم بليلة ... واعتراض بعله والمنايا جواثم ... كالقصور المدله بالذي تكره النفـ ... ـوس عليها مطله ووجد في الحجر الثالث مكتوبًا: يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا حثوا المطي وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهرا فأنتم كما كنا تكونونا1 وقد أضاف "الأزرقي" زيادات على هذه الأبيات الأخيرة. والأبيات التي زعم أنها وجدت مدونة على الحجر الثالث، هي نفس الأبيات التي نسبها "ابن إسحاق" إلى "عمر بن الحارث بن مضاض" الجرهمي كما رأيت. ويظهر أن واضع هذه الأبيات قد استعان بالأبيات التي وجدت في سيرة "ابن هشام"، أو أنه أخذها من سيرة "ابن إسحاق". ويلاحظ أنها في الحث على الزهد والترغيب في الآخرة، ولو لم يكن هذا الشعر من النوع المصنوع، لكان من أقدم ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي ولا شك. و"العلماء من العرب الذين قالوا بمدة مائة وخمسين سنة تقريبًا للشعر الجاهلي،

_ 1 الروض الأنف "1/ 82 وما بعدها".

لم يبعدوا عن الصواب إذا فرضنا أنهم إنما أرادوا بذلك ما وصل إلينا من الأشعار القديمة"1، بمعنى أن أقدم ما وصل إلى علمنا من ذلك الشعر بصورة لا يرتاب بصحتها، لا يمكن أن يرتقي عهده أكثر من قرن أو قرن ونصف عن الهجرة على أكثر تقدير، وأن أقدم اسم شاعر جاهلي وصل إلى سمعنا لا يرتقي عهده عن هذا التقدير. أما إذا كان قصدهم أن نظم القصيد كان قد بدأ في هذا الوقت، وأن الشعر بالمعنى الاصطلاحي المفهوم منه لم يظهر عند العرب، إلا قبل قرن أو قرنين عن الإسلام، فذلك خطل في الرأي، وفساد في الحكم. فالشعر أقدم من هذا العهد بكثير، وقد أشار المؤرخ "سوزيموس" "ZOSIMUS" إلى وجود الشعر عند العرب، وهو من رجال القرن الخامس للميلاد، وإلى تغني العرب بأشعارهم، وترنيمهم في غزواتهم بها2، وفي إشارته إلى الشعر عند العرب دلالة على قدم وجوده عندهم، واشتهاره شهرة بلغت مسامع الأعاجم، فذكره في تأريخه. وفي سيرة القديس "نيلوس" "nilus" المتوفى حوالي السنة "430" بعد الميلاد، أن أعراب طور سيناء كانوا يغنون أغاني وهم يستقون من البئر. "حينئذ ترنم إسرائيلي بهذا النشيد: اصعدي أيتها البئر أجيبوا لها، بئر حفرها رؤساء، حفرها شرفاء الشعب بصولجان بعصيهم"3، والأشعار المروية في كتب التواريخ والأدب عن حفر آبار مكة وغيرها من هذا القبيل، فقد روي أن "عبد المطلب" لما حفر بئر "زمزم"، قالت "خالدة بنت هاشم": نحن وهبنا لعدي سجله ... في تربة ذات عذاة سهله تروي الحجيج زعلة فزعله وأن "عبد شمس" قال: حفرت خما وحفرت رما ... حتى أرى المجد لنا قد تما

_ 1 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "ص68 وما بعدها"، "الطبعة الثانية، القاهرة 1970م، دار المعارف بمصر". 2 إنحليزي 3 العدد، الإصحاح 21، الآية 17.

وأن "سبيعة" بنت "عبد شمس" قالت في الطوى: إن الطوى إذا شربتم ماءها ... صوب الغمام عذوبة وصفاء وأن "الحويرث بن أسد"، قال في "شفية": ماء شفية كماء المزن ... وليس ماؤها بطرق أجن وأن "أميمة بنت عميلة بن السباق بن عبد الدار" قالت في حفر بئر "أم أحراد": نحن حفرنا البحر أم أحارد ... ليست كبذر النذر والجماد فأجابتها "صفية بنت عبد المطلب": نحن حفرنا بذر ... تروي الحجيج الأكبر من قبل ومدبر ... وأم أحراد بشر فيها الجراد والذر ... وقذر لا يذكر ولما حفر بنو جمع "السنبلة"، وهي بئر "خلف بن وهب" الجمحي، قال قائلهم: نحن حفرنا للحجيج سنبله ... صوب سحاب ذو الجلال أنزله وحفر بنو سهم الغمر، وهي بئر العاصي بن وائل، قال ابن الربعي أو غيره: نحن حفرنا الغمر للحجيج ... تثج ماء أيما ثجيج وحفرت بنو عدي "الحفير" فقال شاعرهم: نحن حفرنا بئرنا الحفيرا ... بحرا يجيش ماؤه غزيرا1 وورد أن "قصيًّا" لما احتفر "العجول"، قال شاعرهم: نروي على العجول ثم ننطلق ... إن قصيًّا قد وفى وقد صدق

_ 1 البلاذري، فتوح البلدان "60 وما بعدها"، "ذكر حفائر مكة"، الروض الأنف "1/ 101 وما بعدها"، ويرد الشعر بروايات مختلفة بعض الاختلاف.

وأن قصيًّا لما احتفر "سجلة"، قال: أنا قصي وحفرت سجلة ... تروي الحجيج زغلة فزغلة وقيل بل حفرها "هاشم"، ووهبها "أسد بن هاشم" لعدي بن نوفل، فقالت: خلدة بنت هاشم: نحن وهبنا لعدي سجلة ... نروي الحجيج زغلة فزغلة ونجد في كتب السير شعرًا قيل في حفر بئر زمزم1، وفي آبار أخرى، مما يدل على أن العرب كانوا قبل هذا العهد، إذا حفروا بئرًا، قالو شعرًا فيها، وهو شعر يمكن أن نسميه شعر الآبار، وهو يعود ولا شك إلى عرف قديم، قد يتقدم على الميلاد بكثير، وهو يجب أن يكون من أقدم ما قيل من الشعر، لما للبئر من أهمية في حياة العرب. ولم يقتصر التغني بالشعر على حفر الآبار وحدها، وإنما تغني به عند بنائهم بناء أو حفرهم خندقًا، أو إقامتهم سورًا، أو قيامهم بزرع أو حصاد، وفي أعمال أخرى يناط القيام بها إلى جماعة في الغالب، وكذلك في الغارات وفي الحروب. ولما شرع المسلمون يبنون مسجد الرسول بالمدينة، قال قائل منهم: لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل فارتجز المسلمون وهم يبنون، يقولون: لا عيش إلا عيش الآخرة ... اللهم فارحم الأنصار والمهاجرة وقال "ابن هشام": هذا كلام وليس برجز2، وسبب ذلك كون قائله هو الرسول. وقيل إنه قال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة

_ 1 ابن هشام، سيرة "1/ 97"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "1/ 97". 2 ابن هشام، سيرة "2/ 12"، "حاشية على الروض".

وجعل يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر1 ويروي أهل الأخبار أن "المهلهل"، كان يتغنى في شعره حين قال: طفلة ما ابنه المحلل بيضا ... ء لعوب لذيذة في العناق2 ورووا أن من الشعراء الجاهليين من كان يتغنى بشعره، وأن حسان بن ثابت أشار إلى التغني بالشعر بقوله: تغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار3 وقد قصد بذلك، ترنيم الشعر وإنشاده على نغم مؤثر، وهو الغناء. وما زال الشعراء، يترنمون بشعرهم، وينشدونه بأسلوب خاص يميزه عن أسلوب إلقاء النثر. ونجد في أخبار غزوة أحد، أن هندًا بنت عتبة، زوجة أبي سفيان، ونسوة من قريش كن يضربن على الدفوف ويتغنين بالشعر، حيث يقولون: نحن بنات طارق ... إن تقبلوا نعانق ونبسط السمارق ... أو تدبورا نفارق فراق غير وامق وتقول: ويهًا بني عبد الدار ... ويهًا حماة الأدبار ضربا بكل بتار4 ولا بد وأن تكون في الأهازيج وفي أشعار الحج، أنغام يرنم على وقعها الشعر،

_ 1 ابن سعد طبقات "1/ 240"، "صادر". 2 الأغاني "5/ 51". 3 العمدة "2/ 241". 4 الطبري "2/ 5110، 512".

الذي هو شعر الغناء. فإننا نجد في النتف الباقية من الجمل التي كان يقولها الحجاج أثناء حجهم، آثار شعر قد كان مقرونا بالغناء. ونظرًا لوجود تماس مباشر بين هذا الشعر وبين الحياة العامة، فإن في استطاعتنا القول، إنه قد يكون من أقدم أنواع الشعر عند العرب، وهو شعر لم ينبع من ألسنة الشعراء والمحترفين، وإنما خرج على كل لسان، وساهم فيه كل شخص: رجل أو امرأة، مثقف أو جاهل، حكيم أو سوقي. وهو بعد نابع من صميم الحياة، ومن باطن القلب، للترفيه عن النفس، ولتخفيف التعب، ولا زال الناس يتغنون عند وقوع مثل هذه الأمور لهم، وهو غناء لم يحظ ويا للأسف بالرعاية والعناية، لذلك لا نجد له ذكرًا في الكتب إلا بالمناسبات. ويرى العلماء المشتغلون بموضوع الشعر من الغربيين، أن بين الشعر والسحر صلة كبيرة، بل رأى بعض منهم أن الغرض الذي قصد إليه من الشعر في الأصل هو السحر، ودليل ذلك أن الغناء عند الشعوب البدائية، ليس متسقا مع نغم العمل وإيقاع اليد العاملة، فنجد الغناء عند البناء أو الجر أو الحفر، أو الزرع لا يتسق مع نوع حركة العمل، وإنما كان يسلي العمال ويسعفهم بقوى سحرية، وهو الغرض من جميع فن القول عند البدائيين، أي تشجيع العمل بطريق سحري1. وقد ذهب "بروكلمن" و "كولدتزيهر" إلى أن هذا الأثر السحري لا يظهر في الشعر العربي القديم إلا في شعر الهجاء، "فمن قبل أن ينحدر الهجاء إلى شعر السخرية والاستهزاء، كان في يد الشاعر سحرًا يقصد به تعطيل قوى الخصم بتأثير سحري. ومن ثم كان الشاعر، إذا تهيأ لإطلاق مثل ذلك اللعن، لبس زيًّا خاصًّا شبيهًا بزي الكاهن. ومن هنا أيضا تسميته بالشاعر، أي العلم، لا بمعنى أنه كان علاما بخصائص فن أو صناعة معينة، بل بمعنى أنه كان شاعرًا بقوة شعره السحرية، كما أن قصيدته كانت هي القالب المادي لذلك الشعر"2. وكانت غاية الأغاني القصيرة، التي يرددها البدائي في المواقف الكبرى للحياة

_ 1 بروكلمن "1/ 45". K. Th. Preuss, Die Geistige Kultur der Naturvolker, Leipzeg – Berlin 1914,S. 85. 2 بروكلمن "1/ 46". I. Goldziher, Abhand. Zur Arab. Philologie, I, I.

الإنسانية، أن تحدث آثارًا سحرية، وكذلك كانت غاية الرثاء الأصلية أيضًا هي السحر، "فقد كان الغرض من المرثية أن تطفئ غضب المقتول وتنهاه أن يرجع إلى الحياة، فيلحق الأضرار بالأحياء الباقين، ولكن هذا المعنى تلاشى تقريبًا في الجزيرة العربية أمام الشعور الإنساني بالحزن الممض. على أن إظهار الحزن لم يكن يناسب رجال القبيلة كما كان لائقًا بنسائها، خاصة بالأخوات، ومن ثم بقي تعهد الرثاء الفني من مقاصدهن حتى عصر التسجيل التأريخي"1. وقد لعبت الأغاني دورًا كبيرًا في الصيد والحرب، فقد رافقتهما منذ أوائل انشغال الإنسان بهما، ولم يكن الصيد متعة وتسلية ورياضة عند العرب حسب، بل كان لسد حاجة وللتغلب على شظف العيش أيضًا، ونجد في الشعر الجاهلي شعرًا جعل الصيد، نوعًا من الرياضة والتسلية، وإظهار الرجولة في التغلب على الوحش الكاسر، والحيوان المتوحش، وأكثر أصحابه من المترفين والمتمكنين، من أصحاب الخيل السريعة، مثل الملوك وسادات القبائل، والشعراء الذي يرافقونهم في رحلات صيدهم، أو يقومون هم أنفسهم برياضة الصيد. ويلعب الغزو دورًا خطيرًا في حياة الجاهليين، فقد كان الغزو في الواقع نوعًا من أنواع الكفاح في سبيل الحياة، عليه معاشهم، وبواسطته يحافظون على حياتهم وأموالهم، وقد أنتج ضربًا من ضروب الشجاعة والمغامرة، يتجلى في الشعر الحماسي، الذي يقال قبل القتال وفي أثناء احتدامه. ونكاد لا نقرأ خبر يوم من أيام العرب أو غزو، أو قتال إلا ونجد للشعر فيه دورا ومكانا في هذه الأحدث. يستوي في ذلك شعر الجاهلية والشعر الذي قيل في الأحداث التي وقعت في صدر الإسلام. ونجد للنسيب، والغزل مكانة في الشعر الجاهلي، وقد نجد فيه وصفا للجمال الحسي لأعضاء الجسد. وقد آخذ العلماء امرأ القيس والأعشى على مجاهرتهما بالفحش وبالزنا في شعرهما. والمجاهرة بالاتصال الجنسي بصورة عارية مكشوفة من الأمور التي لا ترد بكثرة في الشعر الجاهلي2. ولا بد وأن يكون الشعر قد مر في مراحل، لعل أقدمها مرحلة السجع،

_ 1 بروكلمن "1/ 47 وما بعدها". 2 بروكلمن "1/ 49 وما بعدها".

أي النثر المقفى المجرد من الوزن، الذي تخصص فيه الكهان عند ظهور الإسلام وهو والد "الرجز"، أبسط الشعر، ومن الرجز نشأ بناء بحور العروض، التي يظهر أثر الموسيقى على صياغتها على رأي بعض المستشرقين1، وهو أثر يدل على ما كان للغناء من صلة بالشعر. ولعل هذه الصلة هي التي حملت العلماء على القول بأن بحور الشعر نشأت في الأصل من سير الإبل، من ترنيم الشاعر شعره على إيقاع سير الإبل. غير أن البحث عن هذا الموضوع وعن موضوع كيفية نشوء بحور العروض وصلتها بعضها ببعض لا تزال من الدراسات العويصة المشكلة الشائكة التي لا يمكن الاتفاق عليها، لعدم وجود أسس ثابتة يرتكز عليها الجدل القائم بين الباحثين في كيفية تطور الشعر الجاهلي2. أما أن هذه البحور، قد نشأت من سير الإبل3، فكلام لا يقوم على علم، وهو من باب حدس الحداس، فلدى الشعوب الأخرى شعر، له ترانيم وبحور، ومع ذلك فإنها لم تكن تركب الإبل، ولا تعرف إيقاع أرجلها عند المشي. وقد قام المستشرقون بدراسة البحور التي نظم الشعراء الجاهليون بها شعرهم، فوجود أن بحر الطويل يأتي في المرتبة الأولى من البحور، يليه الكامل، فالوافر، فالبسيط. أما المتقارب فيوجد عند امرئ القيس، كما يوجد عنده المنسرح قليلًا. واستعمل "طرفة" الرمل في قصيدة يبلغ طولها "74" بيتًا، ترتيبها الخامس في ديوانه4، كما استعمل السريع في قصيدتين5، واستعمل كل من امرئ القيس وطرفة المديد في قصيدة واحدة6، وأما الخفيف، فقد وجد في شعر المرقشين، وعبيد بن الأبرص، وعامر بن الطفيل، والأعشى، ولا يوجد الهزج إلا في قطعتين منحولتين، واحدة لطرفة، وأخرى لامرئ القيس7. وقد ذهب "غرونباوم" إلى أننا نجد تفننًا في شعر شعراء العراق وفي شعر من احتك بالحيرة من شعراء أكثر مما نجد في شعر أي مكان آخر. وذكر أن شعر

_ 1 بروكلمن "1/ 51 وما بعدها". 2 بروكلمن "1/ 51 وما بعدها". 3 G. Jacob, Studien in Arabische Dichtem, II, S. 106. 4 بروكلمن "1/ 53". 5 رقم 2 و 3 من الديوان. 6 بروكلمن "1/ 53". 7 بروكلمن "1/ 53".

"أبي دؤاد" الإيادي قد جاء على اثني عشر بحرًا، ثم يرى أن المدرسة العراقية قد أكثرت من بحر الرمل، ولا يستعمل هذا البحر في الشعر القديم إلا أبو دؤاد في ثلاث قصائد، وطرفة في ثلاث قصائد، وعدي في سبع قصائد، والمثقب في قصيدة واحدة، والأعشى في قصيدتين. واستعمله امرؤ القيس في قصيدة واحدة، ورأى في ذلك دلالة على تأثر امرئ القيس بأبي دؤاد، وتأييدًا للرواية التي ترى أنه كان راوية لأبي دؤاد1. ويجيء امرؤ القيس وعدي والأعشى بعد أبي دؤاد في تنويع البحور التي نظموا بها، فقد نظم كل واحد منهم في عشر أوزان. وتدل الدراسات التي قام بها "فرايتاك" على قلة ورود النظم في بحري الرمل والخفيف بالنسبة إلى البحور الأخرى2. ويظن أن الشعر الوارد في كتاب: "البخلاء" للجاحظ، وهو: واعلمن علما يقينا أنه ... ليس يرجى لك من ليس معك المنسوب لعبيد بن الأبرص3، هو من الموضوعات. ويرى "غرونباوم" أن من خصائص المدرسة العراقية نزوعها إلى بحر الخفيف، وعند أبي دؤاد الأيادي خمس عشرة قصيدة بهذا الوزن، وعند عدي سبع، وعند الأعشى خمس، "ولم يستعمل هذا البحر عند سائر الشعراء المعاصرين إلا على نحو عارض"4. فورد عند عمرو بن قميئة، وعند المرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وعامر بن الطفيل، والحارث بن حلزة اليشكري5. ويظهر مما أورده المفسرون وأهل السير من قول "الوليد بن المغيرة" في الرسول وفي القرآن: "ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله: رجزه وهزجه، وقريضه ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر"6، "فجعل الرجز والهزج من أوزان

_ 1 غرونباوم "265 وما بعدها". 2 E. Braunlich, in Der Islam, XXIV, 1937, S. 248. F, Freitag, Darstallung der Arabischen Verskunst, S. 15, J. Jacob, Altarabisches Beduinenleben, S. 190. f, 1897. 3 الجاحظ، البخلاء "190" "طه الحاجري"، غرونباوم "86". 4 غرونباوم "266". 5 غرونباوم "279"، بروكلمن "1/ 53". 6 ابن هشام، سيرة "1/ 173"، "حاشية على الروض الأنف".

الشعر، وقرن بهما أسماء غير محددة، ويبدو أن تحديد هذه المعاني كلها عند العرب كان مختلفًا عن اصطلاحات العروضيين، وإلا فإن القبض في العروض من عيوب الزحاف، وهو حذف الحرف الخامس الساكن"1. وورد في رواية عن "أبي ذر": "لقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فلا يلتئم على لسان"، وقد اختلفوا في المراد من الأقراء2، وفي هذين الخبرين وأمثالهما دلالة على أنه قد كان لأهل الجاهلية قواعد ثابتة بالنسبة للشعر، وأن الشعر كان يعتمد عندهم عليها. وأن علماء العروض: "الخليل بن أحمد" و "الأخفش" لم يتمكنا من ضبط كل بحور الشعر التي كانت عند الجاهليين، بدليل أننا نجد أبياتًا خارجة عن العروض الذي وضعاه، ويظهر أن هذا الخروج يمثل مرحلة من مراحل الشعر، لم نقف على كنهها بعد3. وقد وجد "العيني" أن في الأصمعية المرقمة ب "72" تشعيثًا، قال عنه "غرونباوم": "ومثل هذا لا يعد خطأ، بل هو مظهر من مظاهر التطور الفني في هذا الوزن، مظهر استنكر أو نسي مع الزمن، حين وضع علم العروض، بعد حوالي قرنين من وفاة أبي دؤاد"4، وقد ذهب "غرونباوم إلى أن "الخليل"، أقر "ستة عشر وزنًا، واطرح بعض الأوزان الهزيلة التي كان القدماء قد استنبطوها"5، والواقع أننا لا نستطيع الزعم، بأن الخليل قد أحاط علما بكل أنوع العروض العربي الجاهلي. ومن يفحص الشعر الجاهلي، يجد أن في بعضه اضطرابًا وخروجًا وشذوذًا على قواعد "العروض"، وقد وجد هذا الشذوذ في شعر شعراء يعدون من الفحول، مثل "امرئ القيس"، في القصيدة التي مطلعها: عيناك دمعهما سجال ... كأن شأنهما أوشال ومثل عبيد بن الأبرص في قوله: أقفر من أهله ملحوب ... فالقطبيات فالذنوب

_ 1 اللسان "9/ 80"، بروكلمن "1/ 53". 2 النهاية، لابن الأثير "3/ 238"، بروكلمن "1/ 53". 3 بروكلمن "1/ 54". 4 غرونباوم "368". 5 غرونباوم "235".

فقلما يخلو بيت من هذه القصيدة من حذف في بعض التفاعيل، أو زيادة، كما في الشطر الأول من هذا المطلع. ومثل ما نسب إلى المرقش الأكبر، وعدي بن زيد العبادي، وغيرهم، من خروج على الوزن في بعض الشطور، وإخلال في الوزن حتى زعم بعض العلماء، أن في نونية "سلمى بن ربيعة" خروجًا عن العروض: عروض الخليل1. وقد أشرت في مكان آخر إلى وقوع الإقواء والإكفاء والزحاف في شعر بعض الشعراء، مثل امرئ القيس، والنابغة، وبشر بن أبي خازم، وهي أمور تلفت النظر، لا ندري أكانت قد وقعت من الشعراء حقًّا، أم من الرواية والرواة، أم أنها لم تكن عيبًا بالنسبة لعروض الجاهليين، وإنما عدت من العيوب بالنسبة إلى العروض الذي ضبط في الإسلام، أو أنه وقع بسب تعديل أو تبديل أدخله العلماء على الأصل، ليلائم قواعد العربية، فوقع من ثم ما قيل له عيبًا. وإنني لا أستبعد وقوع السهو في نظم الشعر من شاعر مهما كان فحلًا، فقد روي أن بعض الفحول من شعراء العصر الأموي كالكميت والفرزدق والأخطل، قد وقعوا في أخطاء، وأن رواتهم كانوا يجرون تنقيحًا وتغييرًا على أشعارهم، ليقوّموا بذلك ما انحرف في شعرهم وما فيه من الفساد2، ولكن وقوع ما نشير إليه يدل على أن ما نعده اليوم عيبًا أو خروجًا على القواعد والعروض، لم يكن ينظر إليه هذه النظرة عند الجاهليين وفي صدر الإسلام، وإلا دل ذلك على جهل أولئك الشعراء بقواعد اللغة وعلم الشعر، وحاشا وقوع ذلك منهم، وشعرهم نفسه كان في جملة المواد الأساسية التي استعان بها علماء القواعد والعروض في بناء النحو والعروض. وقد قصر علماء الشعر فحولة الشعر في الجاهلية على الشعر المعروفين بالنظم بالبحور المشهورة، فيما عدا الرجز، أما قالة الرجز، فهم طبقة خاصة، عرفت عندهم بالرجاز. ويظهر من القول المنسوب إلى "الوليد بن المغيرة": "لقد عرفنا الشعر كله: رجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه"3، أن الشعر في نظر أهل مكة: رجز، أو هزج، أو قريض، أو مقبوض، أو مبسوط، وأن من يقول الرجز، فهو راجز ورجاز، ولم يكن الرجز كما

_ 1 العصر الجاهلي، شوقي ضيف "184 وما بعدها". 2 الأغاني "4/ 256". 3 ابن هشام "1/ 173"، "حاشية على الروض".

يقول علماء الشعر طويل النفس، وإنما كان أبياتًا، وقد بقي هذا حاله حتى أيام الأمويين، فطول ولقي عناية خاصة عند كثير من الشعراء، فأخذوا يذهبون به مذهب القصيد، فقصدوه، بأن جعلوه قصائد، وعمدوا إلى تخفيف ما تتركه بساطة العروض وسهولته في النفس من ملل، بأن لجئوا إلى استعمال العبارات البعيدة المأخذ، والألفاظ الغريبة، والاختراعات اللطيفة، حتى تمكنوا من إدخاله إلى قصور الخلفاء الأمويين، ومن نيل الجوائز والألطاف منهم1. ويعود الفضل في رفع مستوى الرجز في الإسلام، إلى رجلين من "بني عجل"، هما: "الأغلب بن عمرو" العجلي، "21هـ"، و "أبو النجم الفضل بن قدامة" العجلي، وإلى رجال من "تميم"، على رأسهم: "العجاج" "97هـ" وابنه "رؤبة": المتوفى سنة 145هـ" وقيل "147هـ"، و "عقبة" ابن "رؤبة" هذا، و "أبو المرقال الزفيان"، و "دكين بن رجاء" الفقيمي، و "محمد بن ذؤيب" الفقيمي العماني2. ولا نمك شعرًا يمكن أن يقال عنه إنه أقدم ما وصل إلينا من مراحل الشعر الجاهلي. حتى هذا الرجز، الذي ينظر إليه المستشرقون على أنه أول مرحلة من مراحل الشعر الجاهلي، لبساطته ولسهولته، ولكونه وسطا بين السجع والشعر، لا نملك نماذج منه، يمكن أن نطمئن إلى أنها كانت من الشعر القديم، الذي يصلح للاستشهاد به على أنه من قديم الشعر، إذ لم يحفل علماء الشعر بالرجز لاعتبارهم إياه دون الشعر، فلم يدونوا منه شيئا يذكر، ولذلك نجد نسبته بالنسبة إلى كمية الشعر الآخر "التقليدي" نسبة ضئيلة جدًّا، وهذا ما جعل علمنا بالرجز الجاهلي قليلًا جدًّا. ولسهولة الرجز، ولقابليته على الخروج على كل لسان، أرى أنه كان أكثر نظمًا من الشعر المألوف، ودليل ذلك أننا لو درسنا أخبار الأيام وأخبار الغزو والمعارك نجد للرجز فيها مكانة كبيرة، فالمحارب الذي يقرع خصمه ويتجالد معه يرتجز رجزًا في الغالب لسهولته على اللسان ولمناسبته لمقرعة السيوف، وللوقت القصير الذي يكون عنده ليقضي فيه المحارب على من يحاربه، ثم إن في استطاعة

_ 1 بروكلمن "1/ 225". 2 بروكلمن "1/ 228 وما بعدها".

غير الشعراء الارتجاز، وليس في استطاعتهم نظم الشعر، لذلك كان الرجز أكثر كمية من الشعر، ولكن كثرته هذه وسهولته، قصرتا في عمره، وربما صارتا من العوامل التي جعلت الناس لا تقدم على حفظه. ولما كان الشعر تعبيرًا عن عواطف جياشة وعن حس مرهف، وعن نفس حساسة تريد التعبير عن نفسها بأي أسلوب كان، فإن في استطاعتنا القول إنه لازم البشرية منذ عرفت نفسها، وأخذت تعبر عن إحساسها بأية طريقة كانت: بطريقة بدائية أو بطريقة متطورة. فبدأ الشعر كما بدأ الإنسان نفسه، بداية بسيطة ساذجة بدائية، ثم تطور بتطور مدارك الإنسان، وتعددت طرقه وبحوره، بتطور العقل والمدارك، وبارتفاع مستوى الحياة، فكان لذة يلتذذ بها المسافر، وهو يقطع الطرق الصعبة، والصحارى الموحشة، يعبر عنها بغناء ذي نغم، وبألفاظ تناسب ذلك الغناء، كما كان يعبر عنها ففي التشوق والتحبب إلى الآلهة والقوى الطبيعية التي كان يرى أنها تؤثر في حياته، وفي مناسبات التقرب إلى الملوك والحكام، لينال منهم لقمة عيش، وشيئًا من مال، كما عبر عنها في الأفراح وفي الأتراح، وفي الفخر والمدح والذم، وهو الهجاء، وفي الظروف التي تؤثر عليه، فتجعله يفرح من رؤيتها ويرتاح، مثل المناظر الطبيعية الجميلة، والأصوات الجميلة وجمال الإنسان. والشعر الجاهلي الصحيح، هو حاصل تطور طويل مستمر، لا يمكن تحديد أوله، إذ بدأ الشعر مذ بدأ الإنسان يشعر بالفرح وبالسرور بالتعبير عن عواطفه. وقد فقد القديم منه بسب عدم تدوينه في حينه، وبسب صعوبة بقائه في الذاكرة إلى أمد طويل، ولم يصل منه إلينا إلا هذا القليل الذي قيل في عهد لا يرتقي كثيرًا عن الإسلام، وهذا القليل الباقي، هو الصفحات القليلة الأخيرة من كتاب لا نستطيع أبدًا تقدير حجمه، هو كتاب الشعر الجاهلي، الذي ختم بتغلب الإسلام على الشرك، وبموت الجاهلية وظهور دين الله. أما قول القائلين إنه لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا أبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد في عهد مهلهل، أو هاشم، أو عبد المطلب، فرأي لا يقوم على دليل، وليس له سناد تأريخي، وإنما هو مجرد رواية رواها رواة الشعر في الإسلام. إذ لا يعقل أن تكون قريحة الجاهليين الذين عاشوا قبل

الإسلام بقرنين أو بقرن ونصف قرن، قريحة محبوسة محصورة، حددت بحدود لم تتعدها ولم تتخطها، فإذا هاجت وماجت بالأحاسيس وبالشعور المرهف، صاغت حسها هذا ببيت أو ببيتين أو ثلاثة، ثم توقفت عند هذا الحد لا تتجاوزه أبدًا. وإذا كان الشعر طبع في الإنسان كما يقولون ونقول، وهو نوع من أنواع التعبير عن الخاطر، وجب تصور أن صياغته في قوالب من أبيات شعر، إنما تكون صياغة منسجمة مع طول وعرض الخاطر صغيرًا، ضئيلًا، صيغ ببيت أو بأبيات، وإذا كان طويلًا مبعوثًا عن حس ملتهب جياش، صيغ بأبيات تزيد عن تلك يتناسب عددها مع حجم ذلك الخاطر. فمن هنا لا نستطيع أن نقول إن شعر قدماء الجاهليين كان أبياتًا لا تزيد على ثلاثة، وإنهم لم يكونوا يملكون القدرة على نظم ما يزيد على ذلك، إلى أن جاء "عدي بن ربيعة" التغلبي، الملقب بالمهلهل، فوسع الشعر وزاد الأبيات وقصد القصائد. نقول مثل هذا وإن قال به علماء هم أعلم منا بفنون الشعر وبدروبه، قول لا يمكن الأخذ به لما ذكرته. أفلم يكن للذين سبقوا المهلهل من العرب لسان مثل لسانه وحس مثل حسه؟ إذا كان لهم مثل ما كان له، فيفترض أن يكون تعبيرهم عن عواطفهم، مثل تعبيره عنها سواء بسواء، قد يكون قليلًا وقد يكون كثيرًا من غير تغيير أو تحديد ولا تفنين، لأن التحديد يتوقف على طول وقصر الحس الذي يستولي على الشاعر فيصوغه شعرًا. أما إذا قصدوا من قولهم المذكور معنى أن المهلل كان أول شاعر وصل شعره إلينا أبياتًا زاد عددها على عدد ما وصل إلينا من شعر أي شاعر تقدم عليه، وأنه أول من رويت له كلمة بلغت ثلاثين بيتًا1، فذلك أمر آخر لا صلة له بدعواهم أن الشعر كان قبل المهلهل رجزًا وقطعًا، فقصده مهلهل، ثم امرؤ القيس من بعده. وظل الرجز على قصره بمقدار ما تمتح الدلاء، أو يتنفس المنشد في الحداء حتى كان الأغلب العجلي، وهم على عهد النبي، فطوله شيئًا يسيرًا وجعله كالقصيد2. وهذا معناه عندي أن شعر "المهلهل"، هو أول شعر طويل وصل إلى علماء الأخبار من شعر قدماء الشعراء الجاهليين، وأما شعر من سبقه، فقد فقد وضاع معظمه،

_ 1 الرافعي "3/ 14"، المزهر "2/ 477". 2 الرافعي "3/ 15".

ولم تبق منه إلا بقية، هي بيت أو أبيات دون مرتبة القصيدة، لعدم تمكن الذاكرة من حفظ أكثر من ذلك لتقادم العهد. والشعراء الجاهليون كثيرون، "لأنه قل أحد له أدنى مسكة من أدب، وله أدنى حظ من طبع، إلا وقد نال من الشعر شيئًا، ولاحتجنا أن نذكر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلة التابعين، وقومًا كثيرًا من حملة العلم"1، ويكاد يكون قول الشعر سجية في نفوس الجاهليين، ولهذا كثر عدده، فصعبت الإحاطة بهم، واكتفى علماء الشعر بذكر النابهين البارزين منهم، "الذين يعرفهم جل أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو، وفي كتاب الله، وحديث رسول الله"2. وقال: "ابن قتيبة": "والشعراء المعروفون بالشعر عند عشائرهم وقبائلهم في الجاهلية والإسلام، أكثر من أن يحيط بهم محيط، أو يقف من وراء عددهم واقف، ولو أنفد عمره في التنقير عنهم واستفرغ جهده في البحث والسؤال. ولا أحسب أحدًا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها"3. وقال "أبو عمرو بن العلاء": "ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير"4.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 10". 2 الشعر والشعراء "1/ 7". 3 الشعر والشعراء "8". 4 ابن سلام "23".

تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل

تنقل الشعر وانتشاره بين القبائل: ذكر "أبو عبد الله محمد بن سلام" الجمحي، وغيره من المؤلفين أن الشعر كان في الجاهلية في ربيعة، ثم تحول في قيس، ثم استقر في "تميم"1. ومعنى هذا على لغة أهل الأنساب وعلماء الشعر، أن الشعر بدأ في ربيعة، ثم انتقل منها إلى "مضر"، فقيس من مضر، و "تميم" من مضر كذلك، وعن مضر نافست ربيعة في الشعر، وصار الحيان الشقيقان: ربيعة ومضر، أصحاب الشعر

_ 1 ابن سلام، طبقات "13"، العمدة "1/ 86 وما بعدها"، "باب الشعر في القبائل"، المزهر "2/ 476"، "تنقل الشعر في القبائل".

وموجدوه، أما "اليمن"، فإنهم قد ساهموا فيه أيضًا، حسب زعم أهل الأخبار والأنساب، لكنهم لم يبلغوا فيه مبلغ ربيعة ومضر. ويزعم أهل الأخبار، أن من شعراء ربيعة: "المهلهل"، والمرقشان، وسعد بن مالك، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس، والأعشى، والمسيب بن علس. وأن من شعراء "قيس" النابغتان، وزهير بن أبي سلمى، وابنه كعب، ولبيد، والحطيئة، والشماخ، وأخوه مرزد. وأن من شعراء "تميم" "أوس بن حجر" شاعر مضر في الجاهلية، ولم يتقدم منه أحد منهم، حتى نشأ "النابغة"، و "زهير" فأخملاه، وبقي شاعر "تميم" في الجاهلية غير مدافع1. ولا يمثل هذا التنقل المزعوم ترتيبًا زمنيًّا، بمعنى أن الشعر بدأ بربيعة أولا، ثم انتقل منها إلى قيس، ثم انتقل بعدها إلى تميم، إذ يتعارض ذلك مع ما يرويه أهل الأخبار وعلماء الشعر من تعاصر أكثر الشعراء، ومن نبوغ معظمهم في وقت واحد، وإنما هو قول من أقوال أهل الأخبار المألوفة، أصله رأي رجل واحد، حمل عنه بالنص بذكر اسمه أحيانًا، وبدون ذكره أحيانًا أخرى، فلما توافر في الكتب، صار في حكم الإجماع، يقال دون نقد ولا مناقشة على هذا اليوم. وما ذكرته عن تنقل الشعر يمثل رأي الرواة العدنانيين، أما اليمانية، فترى "تقدمة الشعر لليمن: في الجاهلية بامرئ القيس، وفي الإسلام بحسان بن ثابت". "وقال آخرون: بل رجع الشعر إلى ربيعة فختم بها كما بدئ بها"2. وهو رأي يتعلق بالنسبة إلى النسب الأكبر للقبائل، وترى في الرأيين أثر العصبية للعدنانية أو لليمانية، فقد صعب على القحطانية المناهضة للعدنانية، الاعتراف بالتفوق عليها حتى في الشعر، فزعمت أن الشعر بدأ بها، وأنه كان من مكارمها القديمة، وكل مكرمة إنما بدأت بقحطان، وما عدنان إلا مستعربة أخذت عربيتها من "يعرب بن قحطان"، وهي دون القحطانية في كل شيء. وحكم مثل هذا لا يمكن إصداره بالطبع إلا بسند علمي، وليس في يد أحد حتى يومنا هذا سند جاهلي، يؤيد رأي هذا أو ذاك، وقد لا يأتي يوم يمكن

_ 1 ابن سلام، طبقات "13"، العمدة "1/ 86"، المزهر "2/ 476". 2 العمدة "1/ 89".

إعطاء رأي علمي فيه. أما ما ذكرته، فهو نقل لآراء أهل الأخبار، ورأينا في آرائهم في هذه الأمور معروف، فنحن لا نأخذ آراءهم مأخذ الجد، ولا نثق بها، وكلها في نظرنا حاصل عصبية، وقد لعبت العاطفة القبلية دورًا خطيرًا في ظهرها، ونحن لا نستطيع تقديم ربيعة على مضر في الشعر، ولا تقديم مضر على ربيعة فيه، لعدم وجود دليل لدينا نتخذه سندًا ومستمسكًا في أيدينا لإثبات أي رأي من هذه الرأيين. أما أن يكون قد بدأ باليمن، فالمسند، يعارضه ويناقضه، إلا إذا اعتبرنا اليمن، القبائل الساكنة في الشمال، أي خارج العربية الجنوبية، والتي يرجع النسابون نسبها عادة إلى اليمن، وهي قبائل كانت تتكلم بلهجات عربية شمالية، فذلك أمر آخر، وأمرها عندنا حينئذ مثل أمر ربيعة ومضر، لا نستطيع تقديمها على ربيعة ولا على مضر، ولا نستطيع تقديم ربيعة أو مضر، للسبب المتقدم، وهو عدم وجود أدلة لدينا تعيننا في الحكم بتقديم فريق على فريق، وإعطائه الأولية في قول الشعر. والشعر في نظرنا موهبة إنسانية عامة، لم تختص بقوم دون قوم، ولا بأمة دون أمة، وهي على هذه السجية بين العرب، لم تختص بربيعة، حتى نقول إن الشعر بدأ أول ما بدأ بها، ولا بمضر حتى نقول إنه ظهر أول ما ظهر عندها ولا باليمن، حتى نقول إنه بدأ بها وختم بها. وإنما هو نتاج قرائح كل موهوب وذي حس شاعري من كل القبائل والعشائر. والشعر كما قلت مرارًا شعور وتعبير عن عواطف تخالج النفس، فكل إنسان يكون عنده حس مرهف، واستعداد طبيعي، وذوق موسيقي، يمكن أن يكون شاعرًا من أي حي كان، ولهذا كان الشعراء من قبائل مختلفة، وإذا تقدمت قبيلة على أخرى في كثرة عدد شعرائهم، فليس مرد ذلك أن تلك القبيلة كانت ذات حس مرهف واستعداد فطري لقول الشعر، وأن بقية القبائل كانت قبائل غبية بليدة الحس والعواطف، فلم ينبغ بينها مثل ذلك العدد من الشعراء، فقد تكون هنالك أسباب أخرى نجهلها في هذا اليوم جعلتنا نتصور أنها كانت متخلفة في الشعور، كأن تكون منازل تلك القبائل بعيدة منعزلة، لم يتصل بها أحد من جمّاع الشعر ورواته. وهم بين كوفي وبصري، فلم يصل شعرها إليهم، فانقطع نتيجة لذلك عنا، أو أن تلك القبائل كانت قبائل صغيرة، لم يكن لها شأن يذكر، فانحصر شعرها في حدودها ولم يخرج عنها، فخمل ذكره ولم ينتشر خبره بين القبائل الأخرى، فلما ظهر

الإسلام، كان قد خفي ومات. ودليلنا أننا إذا دققنا في هذا الشعر الجاهلي الواصل إلينا في الكتب، نجد أنه شعر قبائل كبيرة، لعبت في الغالب دورًا خطيرًا في مجتمع ذلك اليوم، مثل: كندة وبكر، وأسد، وتميم، وتغلب، ثم هو شعر شعراء كان لهم اتصال وثيق بالعراق في الدرجة الأولى، أي بملوك الحيرة، الذين كان نفوذهم يشمل أرضين واسعة، مثل البحرين ونجد واليمامة في بعض الأحيان، فكان لقبائل هذه الأرضين اتصال بحكام الحيرة، ولها مواقف معهم: حسنة أحيانًا وسيئة أحيانًا أخرى، وفي مثل هذ المواقف، يكون للشعراء دور خطير فيها، فهم بين مادح، أو ذام قادح، أو رسول قوم جاء إلى الملوك في وفادة لفك أسير، أو لإصلاح ذات بين، أو جاء لنيل عطاء، ونحن لا نكاد نجد شاعرًا من الفحول أو من الشعراء المشهورين، إلا وله صلة بملك أو أكثر من هؤلاء الملوك، حتى لا يكاد يفلت منهم شاعر. أما ملوك الغساسنة، فلهم بعد أولئك الملوك صلة بالشعراء، بل هم دونهم اتصالًا بالشعراء ومرجع ذلك في نظري أن حكم الغساسنة لم يتجاوز بادية الشام وحدود مملكة البيزنطيين، فلم يكن لهم لذلك اتصال بقبائل البادية البعيدة عن منطقة نفوذهم، ولا بقبائل الحجاز ونجد واليمامة والبحرين، فتقلص مجال اتصالهم بالشعراء، ولم يصل إليهم إلا الشعراء من أصحاب الحاجات، الذين كانوا يطوفون البلاد، ويقصدون الموسرين الكرماء أينما كانوا لنيل صلاتهم ثمنا لمدحهم لهم، وإلا الشعراء الذين غضب ملوك الحيرة عليهم، أو لم ينالوا منهم تحقيق مطمع وحل مشكل، أو فك أسير، فجاءوا لذلك إلى الغساسنة خصومهم نكاية بهم، وإلا بالشعراء الذين أغار قومهم على أرض الغساسنة، فوقع نفر منهم في أسرهم، فأرسلهم أهلهم وسطاء ورسلًا عنهم، للتوسل إليهم بفك أسراهم. ونحن لو ثبتنا أسماء مواطن شعراء الجاهلية على صورة جزيرة العرب نرى أنها كانت في الحجاز ونجد واليمامة، والبحرين والعراق. أما بلاد الشأم فقد كانت فقيرة جدًّا بهم، بل لا نكاد نجد فيها شاعرًا لامع الاسم، ترك أثرًا في الشعر. ويلفت هذا الجدب في الشعر النظر إليه حقًّا، فقد عاشت ببلاد الشأم قبائل كبيرة كان لها شأن كبير في تلك البلاد قبل الإسلام وفي الإسلام، مثل غسان، وبهراء، وكلب، وقضاعة، وتنوخ، وتغلب، وقبائل أخرى لعبت دورًا خطيرًا في الحروب مع عرب الحيرة، وفي مساعدة الروم، كما لعبت دورًا خطيرًا في

الفتوحات الإسلامية، فقد ساعدت الروم أولًا، ثم انضمت إلى المسلمين في قتالهم مع البيزنطيين، وقبائل هذا شأنها لا يعقل ألا يكون لها شعر وألا ينبغ من بينها شعراء لكثرة عددها ولمنافستها لعرب العراق، ولكون لسانها هذا اللسان العربي الشمالي، فهل كان عند تلك القبائل شعراء، لم يصل اسمهم إلى علماء الشعر، فلم يذكروهم لجهلهم بهم في عداد شعراء الجاهلية؟ فصرنا لذلك لا نعرف من أمرهم شيئًا! أو أنها كانت مجدبة حقًّا لأنها كانت بمنأى عن الشعر والشعراء، لتحضرها وتأثرها بالنصرانية وبثقافة بني إرم، فلم توائم تربتها الشعر، لذلك أجدبت فيه، ولم ينبت فيها شاعر لامع الاسم! يقول علماء اللغة: والذين عنهم نقلت العربية وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعد الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. بالجملة، فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، لا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطرافها بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم؛ فإنه لم يؤخذ من لخم، ولا من جذام، لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا من قضاعة وغسان، وإياد، لمجاورتهم أهل الشأم، وأكثرهم نصارى يقرءون بالعبرانية، ولا من تغلب1. فالقبائل المذكورة، وإن كانت من القبائل العربية الكبيرة المرموقة، إلا أن إقامتها ببلاد الشام إقامة طويلة ومجاورتها أهل الشأم، وتأثرها بلسانهم، واعتناقها النصرانية، وأخذها ديانتها بالسريانية التي سماها أهل الأخبار العبرانية، وتحضرها وقرارها والتهائها بالزرع والرعي، صيرت كل هذه الأمور ومثالها لسانها عربيًّا مشوبًا برطانة، ولهذا عرفت ب "العرب المستعربة" وب "مستعربة الشأم"، عند المسلمين، حتى صارت تلك الرطانة سببًا لإعراض علماء اللغة عن الاحتجاج بلغتها في شواهد القرآن والشعر على نحو ما رأيت. وقد يكون لتلك القبائل شعر، غير أن علماء اللغة قاطعوه للسبب المذكور، ولكني لا أستطيع الجزم بذلك، لعدم ورود إشارة إلى هذه الناحية في كتب أولئك

_ 1 المزهر "1/ 211 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 154".

العلماء ولا في كتب أهل الأخبار. ثم إني لاحظت أن أخبار فتوح الشأم لا تذكر شيئًا من شعر القبائل المستعربة التي حاربت مع الروم المسلمين، أو التي حاربت مع المسلمين الروم، وحيث إننا نعرف أن من عادة العرب الاستعانة بالشعر والرجز أثناء غزوها وقتالها، لذلك تلفت هذه الملاحظة الأنظار، وتحمل المرء على البحث في سبب وجود هذا الفقر في شعر القتال في فتوح الشأم، بينما نجد شعرًا غزيرًا وافرًا أنتجته قرائح المتقاتلين في حروب العراق نظمه المحاربون المسلمون، ومحاربو القبائل العراقية الوثنية والمنتصرة التي حاربت مع الفرس، أو التي حاربت مع المسلمين أو تلك التي انضمت إلى المسلمين فيما بعد. وسبب هذا الفقر في نظري، أن قبائل بلاد الشأم، كانت قد تأثرت بلغة وبثقافة أهل الشأم، وبالنصرانية المتأثرة بالسريانية وبالرومية وقد غلبت عليها نزعة الاستقرار، فاستقرت في حواضر حضرية كبيرة مثل دمشق وحمص وحلب، وقنسرين1، وغيرها، وهي حواضر معظم سكانها من السوريين والروم، لا من العرب، وكانت نصرانية، صلواتها بالسريانية، وثقافتها سريانية يونانية فتأثرت بثقافة من عاش بينهم، وانصرفت إلى الزراعة ورعي الماشية، وشابت لهجتها رطانة إرمية، ولم تحفل بالشعر احتفال بقية العرب به. لذلك لم يظهر من بينها شاعر فحل. أما عرب العراق، فقد كانوا عربًا وأعرابًا، عربهم في قرى عربية، حكامها من العرب ورجال دينها نصارى، ولكنهم نصارى عرب أو مستعربة، علموا العربية في كنائسهم، ونشروا الخط العربي في خارج العراق، وتفقهوا في علوم العربية، وفي جملة هذه العربية الشعر. وأما أعرابهم، فقد كان قوم منهم نصارى والباقون على الشرك وعلى سمة الأعراب منذ وجدوا من الميل إلى الاستقلال وعدم الخضوع لحكم أحد، ومن الاعتزاز بالنفس والتعبير عن الأحاسيس المرهفة بقول الشعر، وأما حكامهم، وهم ملوك الحيرة، فكانوا على سنة كبار سادات القبائل من استقبال الشعراء والاستماع إلى إنشادهم، وتلبية طلباته، وكان من صالحهم اصطناع الشعراء لامتداد ملكهم إلى نجد واليمامة أحيانًا وإلى البحرين وهي من أهم مواطن الشعر في الجاهلية، والشعراء أبواق الدعاية في ذلك العهد، وقد

_ 1 فتوح البلدان "150".

كان ملوك الحيرة شعراء، ينظمون الشعر، ولهم اطلاع ووقوف على شعر الشعراء، وكان من اتصل بهم من سادة الحيرة شعراء كذلك، لهم شعر مدوّن في كتب الأدب، وفيه ما قالوه في فتوح المسلمين للعراق، فمن هنا ظهر الشعر في العراق، على حين خمل في بلاد الشأم. ولم تكن القبائل سواء في الشعر وفي عدد شعرائها، وهذا شيء طبيعي، لا يختلف فيه اثنان. وقد لاحظ ذلك علماء الشعر، فأشاروا إلى أسماء قبائل أنجبت في الشعر وأخصبت في الشعراء، وكان "الجاحظ" الكاتب الذكي ممن لاحظ ذلك، فقال: "وبنو حنيفة مع كثرة عددهم، وشدة بأسهم، وكثرة وقائعهم، وحسد العرب لهم على دارهم وتخومهم وسط أعدائهم، حتى كأنهم وحدهم يعدلون بكرًا كلها، ومع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعرًا منهم. وفي إخوتهم عجل قصيد ورجز، وشعراء رجازون. وليس ذلك لمكان الخصب وأنهم أهل مدر، وأكالو تمر، لأن الأوس والخزرج كذلك، وهم في اشعر كما قد علمت. وكذلك عبد القيس النازلة قرى البحرين، فقد تعرف أن طعامهم أطيب من طعام أهل اليمامة. وثقيف أهل دار ناهيك بها خصبًا وطيبًا، وهم وإن كان شعرهم أقل، فإن ذلك القليل يدل على طبع في الشعر عجيب، وليس ذلك من قبل رداءة الغذاء، ولا من قلة الخصب الشاغل والغنى عن الناس، وإنما ذلك عن قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز، والبلاد والأعراق مكانها. وبنو الحاث بن كعب قبيل شريف، يجرون مجاري ملوك اليمن، ومجاري سادات أعراب أهل نجد، ولم يكن لهم في الجاهلية كبير حظ في الشعر. ولهم في الإسلام شعراء مغلقون. وبنو بدر كانوا مفحمين، وكان ما أطلق الله به ألسنة العرب خيرًا لهم من تصبير الشعر في أنفسهم. وقد يحظى بالشعر ناس ويخرج آخرون، وإن كانوا مثلهم أو فوقهم. ولم تمدح قبيلة في الجاهلية، من قريش، كما مُدحت مخزوم، ولم يتهيأ من الشاهد والمثل بالمادح في أحد من العرب، ما تيهأ لبني بدر. وقد كان في ولد زرارة لصلبه، شعر كثير، كشعر لقيط وحاجب وغيرهما

من ولده. ولم يكن لحذيفة ولا لحصن، ولا عيينة بن حصن، ولا لحمل بن بدر شعر مذكور"1. وقال "يونس بن حبيب" الضبي، "ليس في بني أسد إلا خطيب أو شاعر، أو قائف، أو زاجر، أو كاهن، أو فارس، وليس في هذيل إلا شاعر أو رام أو شديد العدو"2. وذكر "الجاحظ" أن "عبد القيس" بعد محاربة "إياد" تفرقوا فرقتين، ففرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين، وهم من أشعر قبيلة في العرب. ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية وفي عدن الفصاحة3. ولابن سلام رأي في هذا الموضوع إذ يقول: "وبالطائف شعر وليس بالكثير، وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء. والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان"4. وجاء أن أفصح الشعراء ألسنًا وأعربهم أهل السروات، وهن ثلاث، وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن، فأولها هذيل، وهي تلي السهل من تهامة، ثم بجيلة السراة الوسطى، وقد شركتهم يقيف في ناحية منها، ثم سراة الأزد. أزد شنوءة، وهم بنو الحارث بن كعب بن الحارث بن نضر بن الأزد5. وذكر أن قبيلة "هذيل" هي في طليعة القبائل عددًا في الشعراء، فقد روى العلماء لأربعين شاعرًا منهم في الجاهلية والإسلام، وهو عدد قياسي بالنسبة إلى عدد الشعراء الذين أنجبتهم القبائل الأخرى6، وقيل عنها إنها أعرقت في الشعر7. وروي أن سائلًا سأل "حسان بن ثابت": "من أشعر العرب؟ فقال: "أراحلًا أم حيًّا؟ قيل: بل حيًّا: قال: أشعر الناس هذيل"8. وكان "الشافعي" يحفظ

_ 1 الحيوان "4/ 381 وما بعدها". 2 الرافعي "3/ 20". 3 الرافعي "3/ 19". 4 ابن سلام "217". 5 الرافعي "3/ 18"، المزهر "2/ 483". 6 الرافعي "3/ 19". 7 تاج العروس "8/ 166"، "هذل". 8 المزهر "2/ 483".

عشرة آلاف بيت من شعر هذيل بإعرابها وغريبها ومعانيها"1. وقد عدت "هذيل" أشعر القبائل في رأي بعض العلماء2. وذكر الأخباريون أن العرب كانت تقر لقريش بالتقدم في كل شيء إلا في الشعر، فإنها كانت لا تقر لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرت له الشعراء بالشعر أيضًا ولم تنازعها3. وقالوا: إن قريشًا كانت أقل العرب شعرًا في الجاهلية، فاضطرها ذلك أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الإسلام4. وروي عن "معاوية" أنه كان يقول: فضل المزنيون الشعراء في الجاهلية والإسلام. وكان يقول: أشعر أهل الجاهلية زهير بن أبي سلمى، وأشعر أهل الإسلام ابنه كعب، و "معن بن أوس". و "معن" شاعر مجيد من مخضرمي الجاهلية والإسلام5. فبعض العرب مخصبين في الشعر، وبعضهم أقل خصبًا، وقد رجع "الجاحظ" سبب ذلك إلى الموهبة والطبع، فكما أن النبوغ يتفاوت بين إنسان وإنسان، كذلك يتفاوت الشعر بين قبيلة وقبيلة، ورجع "ابن سلام" ذلك إلى عامل البداوة، والحضارة، فالأعراب متشاجرون مكثرون من الغارات بغزو بعضهم بعضًا، والشعر يكثر بالحروب التي تكون بين الأحياء، أما الحضر، فإنهم لا يميلون إلى الحروب والمعارك، ولذلك يقل شعرهم على رأيه. ولهذا السبب قل شعر قريش لأنه لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا. فالحرب تهيج العواطف، وتحمل الناس على التحمس لها والدفاع عن أنفسهم وتكديس كل القوى للتغلب على العدو، والشعر من أهم وسائل تسعير نار الحرب. وقد أشار أهل الأخبار إلى بيوت ذكروا أنها اشتهرت بقول الشعر، وبظهور المعرقين فيها. وضربوا أمثلة عليها ببيت "أبي سلمى". فقد كان شاعرًا واسمه ربيعة، وابنه زهير بن أبي سلمى، وله خؤولة في الشعر: خاله بشامة بن الغدير، وكان كعب وبجير ابنا زهير شاعرين، وجماعة من أبنائهما.

_ 1 المزهر "1/ 160". 2 بلوغ الأرب "3/ 140". 3 الأغاني "1/ 35". 4 طبقات الشعراء "10". 5 الإصابة "3/ 475"، "رقم 8452".

وضربوا المثل ببيت "حسان بن ثابت"، فقد كان أبوه وجده وأبو جده شعراء، وابنه عبد الرحمن شاعر، وسعيد بن عبد الرحمن شاعر. ومن البيوت التي عرفت بالشعر: بيت "نهشل بن حري بن ضمرة بن جابر بن قطن"، ستة ليس يتوالى في بني تميم مثلهم شعرًا، وكذلك بيت "النعمان بن بشير"، وكانت أمه "عمرة بنت رواحة" شاعرة، وخاله "عبد الله بن رواحة" أحد شعراء الرسول1. ومن بيوتات الشعراء المعرقة في الجاهلية والإسلام، "آل الحارثي"، منهم "عبد يغوث بن الحارث بن وقاص" الحارثي. وكان شاعرًا من شعراء الجاهلية، فارسًا سيد قومه من "بني الحارث بن كعب"، وهو الذي كان قائدهم يوم "الكلاب" الثاني فأسرته "تيم" وقتلته. ومنهم "اللجلاج" الحارثي، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه "مسهر" فارس شارع، وهو الذي طعن "عامر بن الطفيل" في عينه يوم "فيف الربح". ومنهم ممن أدرك الإسلام "جعفر بن علبة بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث" وكان شاعرًا صعلوكًا، أخذ في دم فحبس في المدينة ثم قتل صبرًا2. وقد تعرض "جرجى زيدان" لموضوع تنقل الشعر في الأقاليم، فقال: "وإذا أحصبت شعراء الجاهلية الذين بلغنا خبرهم بالنظر إلى المواطن، رأيت نحو خمسيهم من نجد، والخمس الثالث من الحجاز، والرابع من اليمن والباقي من العراق، وفئة قليلة من البحرين واليمامة وتهامة"3، وذلك على اعتبار أن القبائل: "كندة"، و "أسد"، و "مزينة"، و "عبس"، و "سلم"، و "عامر"، و "طيء"، و "جشم"، و "ضبيعة"، و "سعد"، و "ضبة"، و "جعدة"، و "باهلة"، و "تميم"، و "عكل"، و "بكر"، و "مرة"، و "نبهان"، من قبائل نجد، وأن "ذبيان"، و "هذيل"، و "الأوس"، و "الأزد" من الحجاز، وأن "يشكر"، و "تغلب"، و "العباد"، و "تميم"، و "بكر"، و "إياد"،

_ 1 العمدة "2/ 306". 2 الخزانة "2/ 202 وما بعدها". 3 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 74".

من العراق، وأن "بكرًا"، و "ضبعًا"، من البحرين، وأن "بني ثعلبة" من اليمامة، وأن "فهمًا"، و "مزينة" من تهامة1. وهو تقييم لا يمكن الأخذ به في هذا اليوم، وفيه أخطاء، وقد بني على روايات لأهل الأخبار، تعارضها روايات أخرى لهم، لم يقابلها أو يطابق بعضها ببعض، فوقع لذلك في أوهام. ونلاحظ أنه سار على رواية أهل الأخبار في تنقل الشعر في القبائل، فجعل "ربيعة" أول من نبغ في الشعر، ثم حوله على قيس فتميم. ثم ظهر اشعر بعد ذلك على رأيه في بطون مدركة من مضر، وهي: هذيل، وقريش، وأسد، وكنانة، والدئل وغيرهم. وكلهم من أهل البادية، وأما أهل المدن، فقلما نبغ بينهم شاعر فحل، وأشعرهم "حسان بن ثابت"2. ومن أهم قبائل ربيعة وبطونها: بكر، وتغلب، وعبد القيس، والنمر بن قاسط، ويشكر، وعجل، و "جشم"، وحنيفة، وقيس بن ثعلبة، وضبيعة، وشبيان، وذهل، وسدوس. ومن أشهر شعراء هذه المجموعة المرقشان الأكبر والأصغر، وطرفة بن العبد، وعمرو بن قميئة، والحارث بن حلزة، والمتلمس، خال طرفة، والأعشى، والمسيب بن علس وآخرون. وقد جعل "زيدان" عددهم "21" شاعرًا3. وقد نزل بنو قيس بن ثعلبة وبنو حنيفة اليمامة. ومن بطون قيس بن ثعلبة: سعد بن ضبيعة، رهط الأعشى، ومن ديارهم "منفوحة". وكانوا بين الحياة الحضرية والحياة الأعرابية، يرعون الإبل والغنم، إلا أنهم أصحاب نخيل. أما حنيفة، فكانت تزرع وترعى، وقريتهم الكبرى "حجر"، وكانوا يزرعون الحبوب، ويمونون الأعراب ومكة بها. وكانت النصرانية قد وجدت سبيلها بينهم، وقد افتخر "الأعشى" بقومه على "إياد"، لأنهم أصحاب مال، أما "إياد"، فأصحاب زرع ينتظرون حصاد حبهم، وذلك في هجائه لهم بقوله:

_ 1 راجع "الصفحة 80 فما بعدها إلى انتهاء 84" من الجزء الأول. 2 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 74 وما بعدها". 3 العمدة "1/ 86 وما بعدها"، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 74 وما بعدها"، "تنقل الشعر في القبائل".

لسنا كمن جعلت إياد دارها ... تكريت تنظر حبها أن يحصدا جعل الإله طعامنا في مالنا ... رزقا تضمنه لنا أن ينفدا مثل الهضاب جزارة لسوفنا ... فإذا تراع فإنها لن تطرد ضمنت لنا أعجازهن قدورنا ... وضروعهن لنا الصريح الأجردا1 وقيس قبيلة كبيرة من بطونها: عبس، وذبيان، وعطفان، وعدوان، وهوازن، وسليم، وثقيف، وعامر بن صعصعة، ونمير، وجعدة، وقشير، وعقيل. وكانت هذه القبائل في نجد وأعالي الحجاز، وقد نبغ فيها جماعة من فحول الشعراء، منهم النابغتان، وزهير بن أبي سلمى، وكعب بن زهير ابنه، ولبيد، والحطيئة، والشماخ، وأخوه "مزرد"، وخداش بن زهير، وعنترة العبسي وغيرهم. وعندهم أن أشعر قيس الملقبون من بني عامر والمنسوبون على أمهاتهم من غطفان2. وقد جعل "زيدان" عدد شعراء الجاهلية بالنظر إلى القبائل، كانت قيس أكثرها شعراء، تلبها اليمن فرييعة، فمضر فقريش فقضاعة فإياد"3. وأما "تميم"، فقبائل كثيرة من مضر، وأشهرها: مازن، ومالك، وسعد، ودارم، وبهدلة، ويربوع، وكعب، ومجاشع، وزرارة. وكانت منازلها في القديم تهامة، ثم نزحت إلى مواضع أخرى من جزيرة العرب، فسكن بعض منها في اليمامة، وبعض في العربية الشرقية، وقسم بنجد، ونزح قوم منهم إلى العراق، وأقاموا في البادية. وقد لعبت تميم شأن القبائل الكبيرة دورًأ خطيرًا في أحداث الجاهلية القريبة من الإسلام. ومن شعرائها: أوس بن حجر4. وجعل "زيدان" عدد شعرائها "12" شاعرًا5. ولكنك لو سجلت أسماء الشعراء الذين وردت أسماؤهم في كتب الأدب والتأريخ، لوجدت أن عدد شعراء تميم

_ 1 ديوان الأعشى. القصيدة رقم 34، العصر الجاهلي "325". 2 الأغاني "2/ 92"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 75"، العمدة "1/ 88". 3 تأريخ اللغة العربية "1/ 75". 4 العمدة "1/ 88". 5 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 75".

يزيد على العدد المذكور بكثير. فتميم من القبائل المخصبة بالنثر وبالنظم ولكلامها رأي ومقام عند علماء اللغة. ومن مضر أيضًا: هذيل: وأسد، وكنانة، وقريش، والدئل. وهذيل من القبائل الساكنة في هضاب وجبال غير بعيدة عن مكة، وقد عد لسانها من الألسنة العربية الجيدة، واشتهرت بكثرة شعرها وبجودته، وقد جمعت في دواوين، وعني العلماء بجمعه وبشرحه، وبقيت منه بقية طبعت1. وأما القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى اليمن، فهي: كندة، وطيئ، والأشعر، وجذام، والأزد، ولخم، ومذحج، ,وخزاعة، وهمدان، وغسان والأوس والخزرج2. ولبعض منها شعر وشعراء وردت أسماؤهم في ثنايا هذا الكتاب. أما ميزات لغاتهم وخصائص نحوهم وصرفهم، فلا نعرف عنها غير قليل. لعدم تطرق علماء اللغة إلى هذه الميزات، خلا ما ذكروه من تفردهم في تفسير معاني بعض الألفاظ، مثل "التخوف" بمعنى التنقّص في لغة أزد شنوءة3. ولدراسة شعر هذه القبائل، دراسة لغوية مقارنة، أهمية كبيرة بالنسبة للباحث في لغة العرب، إذ يستطيع بها الوقوف على مزاياها ومفارقاتها بالنسبة إلى العربية المعهودة، ومن الوقوف على الروابط اللغوية التي تجمع بين هذه اللغات التي يرجع أهل الأنساب والأخبار أصل المتكلمين بها إلى اليمن. وأما مجموعة قضاعة، فجهينة، وضجعم، وتنوخ، وكلب4. وهي مجموعة لم تنجب عددًا كبيرًا من الشعراء، ولم يحفل علماء اللغة بلغتها، إذا لا نجد للهجتها ذكرًا خطيرًا في كتب اللغة، فلم يشيروا إليها في جملة القبائل التي ركنوا إلى الأخذ بلسانها للاستشهاد به في شواهد اللغة والنحو والصرف. ويظهر أن احتكاكها

_ 1 بروكلمن، تأريخ الأدب العربي "1/ 82 وما بعدها، 104". 2 تأريخ الآداب اللغة العربية "1/ 76". 3 تفسير الطبري "14/ 77"، "بولاق". 4 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 76".

بالنبط وبالآراميين وأمثالهم، قد عرض لسانها إلى الأخذ من ألسنتهم وإلى التأثر بهم، حتى بان ذلك عليه، وهذا ما حمل علماء اللغة على عدم الاستشهاد به في جملة الشواهد. وأنا لا أستبعد احتمال وجود خصائص به، ميزته عن العربية القرآنية، بدليل أن أعراب الصفا "الصفاة"، وهم من أعراب بلاد الشأم، كانوا يتكلمون ويكتبون بعربية مباينة لعربيتنا، وقد تكلمت عن عربيتهم في الجزء السابع من كتابي القديم: تأريخ العرب قبل الإسلام، وأرض الصفا هي من مواطن تلك المجموعة. وذهب "جرجي زيدان"، كما سبق أن قلت، إلى أن قيسًا أكثر القبائل عددًا في شعرائهم، تليها اليمن، فربيعة، فمضر، فقريش، فإياد. وقدر عدد شعراء الجاهلية الذين وصلتنا أخبارهم ب "125" شاعرًا، وزعهم على هذا النحو: ثلاثين شاعرًا في قيس، وثلاثة وعشرين شاعرًا في اليمن، وواحد وعشرين شاعرًا في ربيعة، وستة عشر شاعرًا في مضر، واثني عشر شاعرًا في تميم، وعشرة شعراء في قريش، وأربعة شعراء في قضاعة، وشاعرين في إياد. وشاعر واحد من أصل غير عربي، أي مولى1. وقد سمى "أبو الفرج" لمضر سبعة وستين شاعرًا، ولليمن أربعين، وربيعة ثلاثة عشر: وسمى شعراء آخرين، منهم من يتصل بجديس، ومنهم من يتصل بجرهم2. نرى مما تقدم أن الشعراء كانوا من مضر، ومن ربيعة، وهما من عدنان، كما كانوا في القبائل القحطانية ويذكر أهل الأخبار أن حظ القبائل المضرية من الشعر، كان أحسن حالًا من حظ ربيعة وقحطان، وأن حظ قبائل كل مجموعة من هذه المجاميع الثلاث كان متفاوتًا، فبينها المكثر، وبينها المقل. ولا نستطيع إرجاع سبب تفوق القبائل المضرية على قبائل ربيعة أو قحطان إلى اللغة، لأننا لا نملك حتى الآن صورة واضحة علمية عن اصل اللغة العربية التي نظم بها الشعر والتي نزل بها القرآن، حتى نستطيع البت بموجبها في موضوع هذا التفوق. وإذا جارينا أهل الأنساب في تقسيمهم العرب إلى عدنانيين وقحطانيين، جاز لنا حينئذ

_ 1 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 75". 2 طه حسين: في الأدب الجاهلي "256".

القول، بأن شعر القبائل القحطانية قد قل عن شعر عدنان من مضر وربيعة، بسبب استعراب هذه القبائل، أي أخذها لغة العدنانيين لغة لها، وتركها لغتها الأصلية لغة أهل اليمن، بسبب اتصالها بالقبائل العدنانية، فمن ثم قل شعرها بسبب هذا الاستعراب. ولكن ماذ يكون جوابنا عن تخلف ربيعة في الشعر عن مضر، وربيعة أخت مضر، في عرف النسابين، ولغتها مثل لغة مضر؟ والذي أراه، أن البت في مثل هذه المشكلات، هو أمر لا يمكن أن يكون علميًّا في الوقت الحاضر، فقد رأيت أن الأنساب حاصل تكتلات سياسية، وتجمعات قبلية، وأنها لم تكن حاصل نسب بالمعنى المفهوم من لفظة "نسب"، بمعنى الانحدار من صلب والدين، ورأيت أن العرب كانوا يتكلمون قبل الإسلام بلهجات متباينة، حصرناها في مجموعات استنبطناها من الكتابات الجاهلية، ولكننا لا نستطيع أن نقول إنها تشمل كل لهجات العرب، فقد عثر حديثًا على كتابات جديدة لم تدرس بعد دارسة علمية كافية حتى نقول رأينا فيها، وقد يعثر في المستقبل على كتابات أخرى، قد تزيد في عدد ما نعرفه من المجموعات اللغوية العربية الجاهلية، وفي ظروف كهذه يكون من الصعب علينا الموافقة على ما يذهب إليه أهل الأخبار وما يذهب إليه التابعون لهم من المحدثين من تنقل الشعر في القبائل ومن توزع الشعراء بين مضر وربيعة وقحطان. والرأي عندي أن من الواجب علينا في الوقت الحاضر لزوم إجراء مسح عملي دقيق للهجات العرب في جزيرة العرب، بالبحث في كل مكان عن الكتابات الجاهلية وعن كتابات صدر الإسلام، وبدارسة كل ما كتبه علماء اللغة عن اللغات العربية في الكتب المعروفة وفي الكتب التي قد تكون مؤلفة بلهجات أهل العربية الجنوبية أو غيرها في الإسلام، وبدراسة اللهجات الباقية، ولا سيما اللهجات المنعزلة المتميزة بمميزات خاصة، واستنباط مزاياها وعلاقتها باللهجات القديمة، ثم غربلة كل هذه الدراسات لاستخلاص المجاميع اللغوية منها، وتحديد المواضع التي كانت تتكلم بهذه المجموعات، وبذلك نستطيع تكوين رأي عن لغة الشعر، وعن القبائل التي كانت تتكلم بها، وصارت لهجتها لهجة الشعر عند ظهور الإسلام. وأغلب شعراء الجاهلية من أهل الوبر، أما شعراء أهل المدر فأقل منهم عددًا. ولم يظهر بين شعراء أهل المدر شاعر رفعه علماء الشعر وعشاق الشعر الجاهلي إلى

مرتبة الشعراء الفحول من رجال الطبقة الأولى1 من طبقات الشعراء الجاهليين. وهم يقدمون شعراء البادية على شعراء الأرياف، ولا سيما شعراء الريف المتصل بالنبط والأعاجم، ولهذه النظرة التي تحمل طابع الغمز في صحة ألسنة عرب الأرياف، تحفظ أكثر علماء العربية في موضوع جواز الاستشهاد بشعر شعراء الحيرة مثلًا، لاتصال أهلها بالنبط ولاختلاطهم بالأعاجم.

_ 1 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 75".

فهرس الجزء السابع عشر

فِهْرِسُ الْجُزْءِ السَّابِعَ عَشَرَ: الفصل الرابع والأربعون بعد المائة الإعراب والعربية واللحن 5 الفصل الخامس والأربعون بعد المائة النحو 35 الفصل السادس والأربعون بعد المائة الشعر 62 الفصل السابع والأربعون بعد المائة حدّ الشعر 123

الفصل الثامن والأربعون بعد المائة القريض والرجز والقصيد 169 الفصل التاسع والأربعون بعد المائة العروض 192 الفصل الخمسون بعد المائة البصرة والكوفة 213 الفصل الحادي والخمسون بعد المائة العصبيَّة والشعر 228 الفصل الثاني والخمسون بعد المائة تدوين الشعر الجاهلي 250

الفصل الثالث والخمسون بعد المائة أشهر رواة الشعر 277 الفصل الرابع والخمسون بعد المائة تنقيح الشعر والدواوين 328 الفصل الخامس والخمسون بعد المائة الشعر المصنوع 355 الفصل السادس والخمسون بعد المائة أولية الشعر الجاهلي 406 الفهرست 439

المجلد الثامن عشر

المجلد الثامن عشر الفصل السابع والخمسون بعد المئة: أوائل الشعراء ... الفصل السابع والخمسون بعد المائة: أوائل الشعراء يقول علماء الشعر: "لم يكن لأوائل الشعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة"1. ثم تزايد عدد الأبيات وتنوعت طرق الشعراء في نظم الشعر، بتقدم الزمان، وبازدياد الخبرة والمران، وبتقدم الفكر، فظهرت القصائد المقصدة الطويلة، التي توّجت بالمعلقات. قال الأصمعي: "أول من يروى له كلمة تبلغ ثلاثين بيتًا من الشعر مهلهل، ثم ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، ثم ضمرة، رجل من بني كنانة، والأضبط بن قريع". فهؤلاء هم أوائل الشعراء الجاهليين في نظر "الأصمعي"، ممن نظم كلمة بلغ عدد أبياتها ثلاثين بيتًا فما بعدها. "وقال ابن خالويه في كتاب ليس: أول من قال الشعر ابن خدام"2. وذكر بعض العلماء أن القصائد إنما قصدت، والشعر إنما طول في عهد "عبد المطلب" أو "هاشم بن عبد مناف"، وذلك يدل على إسقاط عاد وثمود وحمير وتبع3. ولم يذكروا اسم أول من قصد القصائد وطوّل الشعر، ولكن رأي معظم علماء الشعر أن المهلهل هو أول من قصد القصائد وأول من قال كلمة تبلغ

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 48"، "دار الثقافة"، المزهر "2/ 474"، "أولية الشعر". 2 المزهر "2/ 477". 2 المزهر "2/ 474".

ثلاثين بيتًا من الشعر. وزعم بعضهم أن "الأفوه الأودي" أقدم من المهلهل، وهو أول من قصد القصيد1. وإذا ذهبنا مذهب من يقول إن القصائد إنما ظهرت في أيام "عبد المطلب" أو "هاشم"، فيكون ذلك قبل الهجرة بمائة سنة على الأكثر1. وزعمت بكر بن وائل أن أول من قال الشعر وقصد القصيد، هو "عمرو بن قميئة"، وكان في عصر "مهلهل بن ربيعة"، وعمر حتى جاوز التسعين. وكان "امرؤ القيس"، قد استصحبه لمّا شخص إلى قيصر، فمات في سفره ذلك3. وذكر "ابن قتيبة" أن من قديم الشعر قول "دُويد بن نهد القضاعي": اليوم يبنى لدويد بيته ... لو كان للدهر بلى أبليته أو كان قرني واحدا كفيته ... يا رب نهب صالح حويته وربّ عبل خشن لويته وذكر من بعده اسم: "أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان"، ثم الحارث بن كعب4. ولم يكن المذكورون أول من قصد القصيد، وتفنن في أبواب الشعر، وإنما هم أقدم من وصل اسمه إلى مسامع علماء الشعر، فصاروا من ثم أقدم شعراء الجاهلية. وقد نسب إلى "زهير بن أبي سلمى" قوله: ما أرانا نقول إلا مُعارا ... أو معادًا من قولنا مكرورا وإذا صح أن هذا البيت هو من شعره حقًّا، دلّ على اعتقاد الشاعر ومن كان في أيامه بقدم الشعر، وبتقدمه وبتطوره، وبتفنن الشعراء الذين عاشوا قبله، في طرق الشعر وذهابهم فيه كل مذهب، حتى صار من جاء بعدهم من الشعراء عالة عليهم فلا يقول إلا معارًا، أو معادًا من الشعر مكرورًا. وإلى هذا المعنى ذهب "عنترة" في قوله:

_ 1 المزهر "2/ 477". 2 الرافعي "3/ 14". 3 المرزباني، معجم "3 وما بعدها". 4 الشعر والشعراء "1/ 48 وما بعدها".

هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم فقد سبق الشعراء "عنترة" في قول الشعر، وفي الإبداع والتفنن به، حتى لم يتركوا له شيئًا جديدًا ليقوله. ونجد الشاعر "لبيدًا"، يشير في شعره إلى الشعراء الذين تقدموا عليه، ويقول عنهم إنهم سلكوا طريق مرقش ومهلهل، حيث يقول: والشاعرون الناطقون أراهم ... سلكوا طريق مرقش ومهلهل1 ولقد تعرض "الفرزدق" في قصيد له إلى من تقدم عليه من الشعراء فقال: وهب القصائدَ لي النوابغُ إذ مضوا ... وأبو يزيد وذو القروح وجرولُ والفحل علقمةُ الذي كانت له ... حلل الملوك كلامه لا ينحل وأخو بني قيسٍ وهن قَتَلْنَهُ ... ومهلهل الشعراء ذاك الأول والأعشيان كلاهما ومرقش ... وأخو قضاعة قوله يتمثل وأخو بني أسد عبيدٌ إذ مضى ... وأبو دُؤاد قوله يتنخل وابنا أبي سُلْمى زهيرٌ وابنه ... وابن الفريعة حين جد المقول والجعفريُّ وكان بشر قبله ... لي من قصائده الكتابُ المجمل ولقد ورثتُ لآل أوسٍ منطقًا ... كالسّمّ خالط جانبيه الحنظل والحارثي أخو الحماس ورثته ... صَدْعا كما صدع الصّفاة المعول2 فهؤلاء هم من أقدم الشعراء العرب الذين وصل خبرهم إلينا على وفق هذه الأخبار والروايات. وهم ونفر آخر من أمثالهم قد عاشوا في أيام لا نستطيع أن نبتعد بها عن الإسلام بأكثر من قرن أو قرن ونصف قرن. وقد عسر على الذاكرة حفظ شيء عن أخبارهم وأيامهم، فلم تذكر عنهم غير أسمائهم وغير شيء يسير جدًّا عنهم، وخلا أبيات، لا ندري أهي من نظمهم حقًّا، أم هي من نظم

_ 1البيان والتبيين "2/ 183". 2 ديوان الفرزدق "720"، نقائض "200".

من تحدث عنهم! وعلى موجب روايات أهل الأخبار تكون تلك الأبيات أقدم ما عندنا من شعر عربي. وقد ولع بعض المحدثين بوضع سنين لتثبيت سنين مواليد ووفيات الشعراء، واكتفى بعضهم بوضع سنين لوفياتهم، وفعلهم هذا لا يستند إلى أساس علمي، لأننا لا نملك أدلة مقبولة صحيحة، تخولنا حتى وضع مثل هذه الأرقام، ثم إن في الكثير من هذا المروي عن حياة الشعراء ما هو غير صحيح، ولهذا فليس من المعقول أبدًا، وضع سنين لتحديد مواليد ووفيات أولئك الشعراء، والشيء الوحيد الذي نستطيع فعله هذا اليوم هو أن نشير إلى زمان من عاصروهم من الملوك كملوك الحيرة والغساسنة، فنحن على شيء من العلم بأوقات حكمهم، وأن نربط بين أيامهم وبين الحوادث الجسام التي أدركوها أو ساهموا فيها. ونحن لا نستطيع ترتيب الشعراء ترتيبًا زمنيًّا يستند على سنوات الوفيات، فنقدم شاعرا على شاعر آخر استنادا إلى سنة الوفاة، لأننا لا نملك نصوصا فيها سني الوفاة. ثم إن حياة أقدم شاعر جاهلي لا يمكن أن تتجاوز المائة والخمسين سنة عن الإسلام على أكثر تقدير، وإن أكثرهم قد كانوا متعاصرين، وإن بين حياة الشاعر القديم منهم، وبين الشاعر المتأخر، فترات غير طويلة، تتطاول على العشرة سنين أو العشرين، وهي أزمنة لا تعد شيئًا بالنسبة إلى تأريخ هذا الشعر القصير الأجل. ويجب ألا تخدعنا بعض العبارات التي نقرأها في كتب الأدب مثل قولهم: "وهو شاعر جاهلي قديم"، أو "هو شاعر قديم"، أو "هما قديمان"1، أو "وهو جاهلي قديم"2، وأمثال ذلك من تعابير تشير إلى قدم الشاعر أو الشعراء، فنأخذها على الصحة، ونقول بقدم الشاعر، أو الشاعرين، أو الشعراء، فإن أكثر من ذكر أهل الأخبار أنهم من الشعراء القدماء، هم من الذين كانوا في أيام حكم الملك "عمرو بن هند"، وقد كان حكم هذا الملك فيما بين السنة "554" والسنة "569" للميلاد. وإذا ما تذكرنا أن ميلاد الرسول كان في سنة "570" أو "571" للميلاد، عرفنا إذن أي قدم هو هذا القدم الذي توهموه

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 302". 1 الشعر والشعراء "1/ 192، 294".

خذ ما قاله "ابن قتيبة" مثلا عن "زهير بن جناب" سيد "كلب" وهو في نظره من الشعراء المعمرين، تراه يقول: "وهو جاهلي قديم. ولما قدمت الحبشة تريد هدم البيت خرج زهير فلقي ملكهم، فأكرمه ووجهه إلى ناحية العراق يدعوهم إلى الدخول في طاعته ... "1. ولو جاريناه وأخذنا بصحة الخبر المزعوم، نكون قد جعلناه حيًّا في النصف الثاني من القرن السادس للميلاد، فقدوم الحبشة تريد هدم البيت، كان في عام الفيل، أي سنة "570" أو "571" للميلاد، أي العام الذي ولد فيه الرسول، فهل يعد "زهير بن جناب" إذن "جاهلي قديم"؟ وقد أدرك على حد قول "ابن قتيبة" ميلاد الرسول؟ ثم خذ ما قاله عن "ابني خذاق"، تراه يقول: "وهما قديمان، كانا في زمن عمرو بن هند"2، ثم خذ ما قاله عن "سلامة بن جندل"، إذ قال عنه: "جاهلي قديم"، وجعل أيامه في عهد "عمرو بن هند"3، وقد عرفنا أيام حكم "عمرو بن هند". ثم خذ ما قاله عن "عبيد بن الأبرص"، تراه يقول: "وكان عبيد شاعرًا جاهليًّا قديمًا من المعمرين، وشهد مقتل حجر أبي امرئ القيس"4، أو خذ ما ذكره عن "عمرو بن قميئة"، حيث يقول: "وهو قديم جاهلي، كان مع حجر أبي امرئ القيس"5، بل خذ ما ذكره عن "امرئ القيس بن حارثة بن الحمام بن معاوية" المعروف بـ "ابن حمام" أو "ابن حزام"، أو "ابن خذام"، الذي يقول عنه الشعراء إنه أول من بكى الديار عند العرب، وأنه عاش قبل امرئ القيس6، ترى أهل الأخبار يذكرون أنه كان معاصرا للشاعر "المهلهل"7، خال "امرئ القيس" الكندي. وإذا علمنا أن حكم ملوك كندة للحيرة، كان ما بين السنة "525" والسنة "528" للميلاد، وأن وفاة "الحارث" والد "حجر" والد "امرئ القيس" الشاعر الكندي، أي

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 294". 2 الشعر والشعراء "1/ 302". 3 الشعر والشعراء "1/ 192". 4 الشعر والشعراء "1/ 187". 5 الشعر والشعراء "1/ 292". 6 الشعر والشعراء "1/ 68 وما بعدها". 7 الخزانة "2/ 235"، "بولاق".

جد الشاعر، قد كانت في سنة "528" للميلاد، وأن قتل "حجر" قد وقع بعده، استطعنا الحكم بأن أولئك الشعراء المذكورين قد عاشوا في النصف الأول من القرن السادس للميلاد، وأن حياة أقدم واحد منهم، لا يمكن أن تتجاوز قرنًا واحدًا قبل الإسلام، مهما بالغنا في التقدير. وأما ما زعمه أهل الأخبار عن بعض أولئك الشعراء، من أنهم كانوا من المعمرين، وأن منهم من عمّر أكثر من ثلاثمائة سنة، وأن المعمر في نظرهم لا يعدّ معمرًا إلا إذا زاد عمره على المائة والعشرين عامًا، فأترك أمر تصديقه إلى القارئ، إن شاء أخذ به، متمنيًا له أيضًا عمر المعمرين وزيادة، وإن شاء رفضه، أما أنا، فلست من حزب الذين يعتقدون برأي أهل الأخبار في العمر وفي المعمرين، ولا أريد أبدًا أن أكون من أولئك المعمرين. وقد قسم "محمد بن سلام" الجمحي المتوفى سنة "232" الشعراء إلى طبقات، ضمت كل طبقة جماعة من الشعراء، رأى أن بينها تشابهًا وتقاربًا فجمعهم لذلك في طبقة واحدة، أما "ابن قتيبة" فقد بدأ بأوائل الشعراء، وهم: "دويد بن نهد" القضاعي، ثم "أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان"، ثم "الحارث بن كعب"، وقد تحدث عنهم حديثا قصيرًا جدًّا، ثم تكلم عن بقية الشعراء وعلى رأسهم "امرؤ القيس" فزهير بن أبي سلمى، ولم يسر في كتابه على طريقة "ابن سلام" في عرضه الشعراء على طبقات، كما لم يسر على الترتيب الأبجدي لأسماء الشعراء أو على شهرتهم أو كناهم، كما سار غيره في مؤلفاتهم عن الشعراء. وقد سار "جرجي زيدان" على مبدأ تقسيم الشعراء على وفق الأغراض التي نظموا شعرهم بها والتي غلبت طبائعهم عليها. فجعلهم: أصحاب المعلقات، وعددهم "10"، والشعراء الأمراء، وجمعهم في "14" رجلًا، والشعراء الفرسان، ومجموعهم "28"، والشعراء الحكماء، وحاصلهم "4"، والشعراء العشاق وعددهم "8"، والشعراء الصعاليك وهم "7"، والمغنون، وهم "1"، والنساء الشواعر، وعددهن "4"، والوصافون للخيل، وعددهم "4" والموالي، وعددهم "1"، وسائر الشعراء ومجموعهم "26"، ومجموع الجميع "121" شاعرا1.

_ 1 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 102".

وقسم "كارلو نالينو" الشعراء الجاهليين إلى أربعة أصناف: الصنف الأول ما نسجه أهل البادية أو من تقرب منهم سواء كانوا وثنيين أم يهود من شعر، الثاني: أشعار الوثنيين الذين قصدوا ملوك الحيرة وبني غسان وجالسوهم، الثالث: أشعار النصارى بالحيرة أو في مملكة بني غسان، الرابع: أشعار أهل الحضر الوثنيين في مدن الحجاز1. وقد أدخل في الصنف الأول: تأبط شرًّا والشنفرى وأمثالهم، لأنهم رجال بادية عوائدهم أقرب للهمجية المحضة منها لأحوال أهل بلد ذات نظام اجتماعي، فسُمّوا "أولئك الرجال" الصعاليك2، وأدخل في هذا الصنف أيضًا أصحاب المعلقات، وحاتم الطائي، وعروة بن الورد، والأفوه الأودي، ودريد بن الصمة3. وأدخل في الصنف الثاني "زهير بن جناب" الكلبي، وطرفة بن العبد، وهو من أصحاب المعلقات، وأوس بن حجر، وبقية من كان لهم اتصال بملوك الحيرة والغساسنة4، وأدخل في الصنف الثالث: أبو دؤاد الإيادي، وعدي بن زيد العبادي، وأدخل في الصنف الرابع قيس بن الخطيم، وأمية بن أبي الصلت5. وأقدم من ذكرهم علماء الشعر من شعراء أهل الجاهلية: دويد بن نهد القضاعي، وأعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، والحارث بن كعب6، والعنبر بن عمرو بن تميم، والمستوغر بن ربيعة بن كعب بن نهد، وزهير بن جناب الكلبي، وجذيمة الأبرش، ولجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وابن حذام7، والأفوه الأودي، وذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم، وضمرة، رجل من كنانة، والأضبط بن قريع. وقيل: "أول من قال الشعر ابن حذام"8. ولهؤلاء البيت والبيتان والأبيات، ولم ترد لهم قصائد، لأن أول من قصد القصائد، ووضع القصيد هو المهلهل، على ما يزعمه أهل الأخبار.

_ 1 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "71". 2 المصدر نفسه "ص72". 3 كذلك "ص74 وما بعدها". 4 كذلك "ص81". 5 كذلك "ص92 وما بعدها". 6 الشعر والشعراء "1/ 48 وما بعدها". 7 المزهر "2/ 475 وما بعدها". 8 المزهر "2/ 477".

وقد قدم "ابن قتيبة" "دويد بن نهد" القضاعي على سائر الشعراء، وقال: "لم يكن لأوائل الشعراء إلا الأبيات القليلة يقولها الرجل عند حدوث الحاجة. فمن قديم الشعر قول دويد بن نهد القضاعي: اليوم يبنى لدويد بيته ... لو كان للدهر بلى أبليته أو كان قرني واحدًا كفيته ... يا رب نهب صالح حويته ورب عبل خشن لويته1 وقال بعد ذلك: وقال الآخر: ألقي علي الدهر رجلًا ويدا ... والدهر ما أصلح يومًا أفسدا يصلحه اليوم ويفسده غدا2 وهو رجز نسبه "ابن سلام" وغيره لدويد نفسه3. وزعم أهل الأخبار أنه لما حضرته الوفاة، جمع آله، وقال يوصيهم: "أوصيكم بالناس شرًّا، لا ترحموا لهم عبرة، ولا تقيلوهم عثرة، قصّروا الأعنة وطوّلوا الأسنة، واطعنوا شزرًا، واضربوا هبرًا.." إلى آخر وصيته، ثم قال: اليوم يبنى لدويد بيته ... يا رب نهب صالح حويته ورب قرن بطل أرديته ... ورب غيل حسن لويته ومعصم مخضب ثنيته ... لو كان للدهر بلى أبليته أو كان قرني واحدا كفيته4

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 48"، "الثقافة"، ابن سلام، طبقات الشعراء "27"، السجستاني، المعمرون "19"، ابن سلام، طبقات "11" "طبعة ليدن"، المزهر "2/ 475". 2 الشعر والشعراء "1/ 48"، "حاشية رقم 3"، وورد: يفسد ما أصلحه اليوم غدا أمالي المرتضى "1/ 237". 3 الشعر والشعراء "1/ 48"، "حاشية رقم 3". 4 أمالي المرتضى "1/ 237"، وروي على هذه الصورة: اليوم يبنى لدويد بيته ... لو كان للدهر بلى أبليته أو كان قرني واحدا كفيته ... يا رب نهب صالح حويته ورب غيل حسن لويته ... ومعصم مخضب ثنيته تاج العروس "2/ 347"، "داد"، المزهر "2/ 475".

وهو كلام يشعرك أنه نص لوصية الشاعر، ضبط ضبطًا، يشعرك أن ضابطه كان حاضرا إذ ذاك، وأنه سجله سجل المسجل للصوت، حتى وصل إلينا أصيلًا كاملًا لا تغيير فيه ولا تحوير، أما رأيي فيه، فهو أنه من هذه النصوص الكثيرة التي وضعها أهل الأخبار على ألسنة المتقدمين عليهم، والتي لا يمكن أن يركن إليها، ولا أن يؤخذ بها، ومن في استطاعته إثبات أنه نص أصيل، وليس لديه دليل قطعي يثبت تلك الإصالة. ومن قدماء الشعراء: "أعصر بن سعد بن قيس عيلان"، وهو "منبه بن سعد" أبو باهلة وغني والطفاوة. وهو القائل: قالت عميرة ما لرأسك بعدما ... نفد الزمان أتى بلون منكر أعمير إن أباك شيَّب رأسه ... كره الغداة واختلاف الأعصر1 وذكر "ابن قتيبة" بعد "أعصر" اسم "الحارث بن كعب" وقال عنه: "وكان قديمًا"، وروى له هذه الأبيات: أكلت شبابي فأفنيته ... وأفنيت بعد شهور شهورا ثلاثة أهلين صاحبتُهم ... فبانوا وأصبحت شيخًا كبيرًا قليل الطعام عسير القيا ... م قد ترك القيد خَطوي قصيرا أبيت أراعي نجوم السماء ... أقلب أمري بطونا ظهورا2 والحارث بن كعب، هو "الحارث بن كعب بن عمرو بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد" المذحجي، وهو من المعمرين، وقد نسبوا له وصية زعموا أنه لما حضرته الوفاة، جمع ولده، فخطبهم يوصيهم، وكان مما جاء فيها أنه على دين "شعيب" النبي، "وما عليه أحد من العرب غيري"، وغير "أسد بن

_ 1 المزهر "2/ 475"، الشعر والشعراء "1/ 48 وما بعدها"، "الثقافة"، ابن سلام، طبقات "28". قالت عميرة ما لرأسك بعدما ... نفد الشباب أتى بلون منكر أعمير أن أباك شيَّب رأسه ... مر الليالي واختلاف الأعصر الشعر والشعراء "1/ 49". 2 الشعر والشعراء "1/ 49".

خزيمة" و"تميم بن مرة"، ثم أوصاهم بوصية، على الطريقة المألوفة التي نراها في الوصايا التي تنسب في العادة إلى المعمرين، ثم ختمها بإنشاده الأبيات المذكورة1. "والمستوغر بن ربيعة بن كعب بن نهد"، من قدماء المعمرين، بقي بقاء طويلًا حتى قال: ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وازددت من عدد السنين مئينا مائة أتت من بعدها مائتان لي ... وازددت من عدد الشهور سنينا2 وذكر "ابن دريد" أن "المستوغر" عاش ثلاثماية وعشرين سنة، ولقّب "المستوغر" لقوله: ينش الماء في الرّبلاتِ منها ... نشيش الرضف في اللبن الوغير3 وذكر أنه أدرك الإسلام، أو كاد يدرك أوله. ونسبوا له قوله: إذا ما المرءُ صمَّ فلم يكلّم ... وأودى سمعه إلا ندايا ولاعب بالعشيّ بني بنيه ... كفعل الهرّ يحترش العَظايا يلاعبهم وودّوا لو سقوه ... من الذيفان مترعةً ملايا فلا ذاق النعيمَ ولا شرابًا ... ولا يشفي من المرض الشفايا4 وزعم "أن المستوغر مرّ مرة بعكاظ يقود ابن ابنه خرفًا، فقال له رجل:

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 232". 2 ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وازددت من عدد السنين مئينا مائة أتت من بعدها مائتان لي ... وازددت من بعد الشهور سنينا هل ما بقى إلا كما قد فاتني ... يوم يمر وليلة تحدونا الشعر والشعراء "1/ 300". المزهر "2/ 475"، "وهو عمرو بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن حر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر"، أمالي المرتضى، "1/ 234"، المعمرون "7"، المرزباني، معجم "313". 3 الاشتقاق "1/ 154"، الشعر والشعراء "1/ 300". 4 أمالي المرتضى "1/ 235"، ابن سلام، طبقات "30".

يا عبد الله أحسن إليه، فطالما أحسنَ إليك! قال: أوتدري من هو؟ قال: نعم هو أبوك أو جدك، قال: هو والله ابن ابني! قال الرجل: لم أرَ كاليوم في الكذب ولا مستوغر بن ربيعة!! قال: فأنا المستوغر بن ربيعة". "قال أبو عمرو بن العلاء: عاش المستوغر ثلاثمائة سنة وعشرين سنة"1. وقد ذكره "ابن حجر" في الصحابة، وقال عنه: "المستوعز، بعين مهملة ثم زاي، ابن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم السعدي، أبو بيهس، واسمه عمرو، والمستوعز لقب". وكان من فرسان العرب في الجاهلية، وقال "المرزباني" إنه عاش في أيام معاوية، ويقال مات في صدر الإسلام2. والأغلب أن وفاته كانت قبل الإسلام، وأنه لا يمكن لذلك عده في الصحابة. والأفوه الأودي، هو "صلاءة بن عمرو بن مالك" من "مذحج"، ومذحج من اليمن، فهو من اليمانيين، وكان من سادات قومه وقائدهم في حروبهم، وكانوا يصدرون عن رأيه، والعرب تعده من حكمائها، بما اشتمل عليه شعره من الحكمة3. وقد اشتهر بقصيدته: فينا معاشر لم يبنوا لقومهم ... وإن بنى قومُهم ما أفسدوا عادوا لا يرشدون ولن يرعوا لمرشدهم ... فالجهل منهم معًا والغيّ ميعاد أضحوا كقيل بن عمرو في عشيرته ... إذ أهلكت بالذي سدّى لها عاد أو بعده كقدارٍ حين تابعه ... على الغواية أقوامٌ فقد بادوا والبيت لا يُبتنى إلا له عمدٌ ... ولا عماد إذ لم ترس أوتاد فإن تجمع أوتادٌ وأعمدة ... وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا وإن تجمع أقوام ذوو حسب ... اصطاد أمرهم بالرشد مصطاد لا يصلح الناسُ فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا تبقي الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولت فبالأشرار تنقاد

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 301"، الإصابة "3/ 468"، "رقم 8407". 2 الإصابة "3/ 468"، "8407". 3 الشعر والشعراء "1/ 149"، الأغاني "11/ 41"، العيني "1/ 421"، تاج العروس "9/ 405"، "فوه"، معاهد التنصيص "2/ 159"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 117".

إذا تولى سراة القوم أمرهم ... نما على ذاك أمر القوم فازدادوا أمارة الغي أن يُلقى الجميع لذي ... الإبرام للأمر والأذناب أكتاد حان الرحيل إلى قوم وإن بعدوا ... فيهم صلاح لمرتاد وإرشاد فسوف أجعل بُعد الأرض دونكم ... وإن دنت رحمٌ منكم وميلاد إن النجاء إذا ما كنت ذا نفر ... من أجّة الغيّ إبعادٌ فإبعاد فالخير تزداد منه ما لقيت به ... والشر يكفيك منه قلما زاد وقد رويت بعض الأبيات بصور مختلفة. فلابن دريد قراءة، ولأبي بكر بن الأنباري قراءة. وقد نص "القالي" على القراءتين1 ومن أبياتها: كيف الرشاد إذا ما كنت في نفرٍ ... لهم عن الرشد أغلال وأقياد أعطوا غواتهم جهلًا مقادتهم ... فكلهم في حبال الغي منقاد2 وله قصيدة تعد من جيد شعره، أولها: إن ترى رأسي فيه نزعٌ ... وشواي خلّة فيها دُوار إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار ولياليه إلالٌ للقوى ... ومدى قد تجتليها وشفار وصروف الدهر في إطباقه ... خلفةٌ فيها ارتفاع وانحدار بينما الناس على عليائها ... إذ هَوَوا في هوة منها فغاروا حَتَم الدهر علينا أنه ... ظلفٌ ما نال منا وجبار3 وهو القائل: والمرءُ ما يُصلح له ليلةٌ ... بالسعد تُفْسُدُهُ ليالي النحوس والخير لا يأتي ابتغاء به ... والشر لا يفنيه ضرح الشموس4

_ 1 الأمالي "2/ 224 وما بعدها"، العقد الفريد "1/ 5"، الشعر والشعراء "1/ 149". 2 بلوغ الأرب "3/ 106". 3 بلوغ الأرب "3/ 105 وما بعدها". 4 الشعر والشعراء "1/ 149".

وله ديوان مطبوع1. وذكر أن النبي نهى عن إنشاد قصيدة الأفوه: إن ترى رأسي فيه نزع ... وشواي خلة فيها دوار وذلك لورود ذم فيها لبني هاجر مثل قوله: يا بني هاجر ساءت خطة ... أن تروموا النصف منا ونجار إن يجل مُهرى منكم جولة ... فعليه الكر فيكم والغوار نحن أود ولأود سنة ... شرف ليس لنا عنها قصار سنة أورثناها مذحج ... قبل أن ينسب للناس نزار2 وهي قصيدة يمانية، فيها تعصب ليمن، وتهجم على "نزار" أبناء هاجر، أي العدنانيين، ولهذا ذكر الرواة أن النبي نهى عن روايتها، وهي من موضوعات الصراع القحطاني النزاري المعروف، أرادت النزارية طمسها، فروت أن النبي نهى عن روايتها، والنهي والقصيدة -في نظري- من المصنوعات التي ظهرت بعد وفاة النبي، وأسلوب نظم القصيدة يتجسس على أصالتها، يتحدث أنه من النظم الإسلامي. وأورد "المعري" له هذا البيت: كشهاب القذف يرميكم به ... فارس في كفه للحرب نار وهو بيت من "رائيته" التي يعدونها من أجود الشعر العربي3. وهي قصيدة يقول عنها "الجاحظ": "وما وجدنا أحدًا من الرواة يشك في أن القصيدة مصنوعة"4. ونظرًا لإشارة "الجاحظ" إليها، فإن صنعها يجب

_ 1 طبعة عبد العزيز الميمني في الطرائف الأدبية، "القاهرة 1937م" بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 117". 2 راجع ديوانه، "القاهرة 1937م". 3 رسالة الغفران "297"، "رقم الحاشية 5". 4 الحيوان "6/ 280"، النوادر "1/ 169"، معاهد التنصيص "4/ 95".

أن يكون قبل أيامه، في الإسلام على أثر ظهور العصبية النزارية في أيام الأمويين، فوضعها أحدهم على لسان الأفوه في التعريض بالنزاريين. ونسب "الجاحظ" له قوله: أضحت قُرينةُ قد تغير بشرها ... وتجهّمت بتحية القوم العدا ألوت بإصبعها وقالت إنما ... يكفيك مما لا ترى ما قد ترى1 كما نسب له قوله: تهنا لثعلبة بن قيس جفنة ... يأوي إليها في الشتاء الجوع ومذانب لا تستعار وخيمة ... سوداء عيب نسيجها لا يرفع وكأنما فيها المذانب حلقة ... وذم الدلاء على دلوج تنزع2 وقد نسبت إليه أبيات ورد فيها ذكر "التبابعة والمثامنة وأولاد نوح: سام وحام ويافث"، هي: فلو دام الخلود إذن جدودي ... وأسلافي بنو قحطان داموا ودام لهم تبابعهم ملوكا ... ولم تمت المثامنة الكرام وعاش الملك ذو الأذعار عمرو ... وعمرو حوله اللجب اللهام وخلد ذو المنار وما تردى ... أبوه الرائش الملك الهمام ملوك أدت الدنيا إليها ... إتاوتها ودان لها الأنام ولما يعصها سام وحام ... ويافث حيث ما حلت ولام3 ونسبت إليه أبيات في مدح "مذحج"، وفي الإشادة بكرمها، أولها: نعظم النار إذ النار التي ... شبّها عنس خبت أو صعصعة4 والشعر المتقدم من الشعر المصنوع ولا شك، وضعه قوم من المتعصبين للقحطانية على النزاريين، أي العدنانيين.

_ 1 البيان والتبيين "1/ 197 وما بعدها". 2 البخلاء "223 وما بعدها". 3 تأريخ ملوك العرب الأولية "28 وما بعدها". 4 المصدر نفسه "ص137".

ومن الشعراء القدماء: "زهير بن جناب" الكلبي، سيد بني كلب وقائدهم، وكان شجاعًا مظفرًا ميمون النقيبة في غزواته1. ذكر أنه لما قدمت الحبشة تريد هدم البيت خرج "زهير" فلقي ملكهم، فأكرمه ووجهه ناحية العراق يدعوهم إلى الدخول في طاعته، فلما صار في أرض "بكر بن وائل" لقيه رجل منهم فطعنه، لكنه نجا وفر هاربًا، وعمر طويلًا. وقد مات منتحرًا. شرب الخمر صرفًا حتى قتلته. وفي الشعر المنسوب إليه ما يشك بصحة نسبته إليه. وقد ذكر أنه كان في أيام "داود بن هُبالة"، الذي كان أول ملك للعرب في بلاد الشام، فغلبه ملك الروم على ملكه، فصالحه داود على أن يقره في منازله ويدعه فيكون تحت يده، ففعل. فكان يغير بمن معه، ثم تنصر وكره الدماء وبنى ديرًا، سمي "دير اللثق"، وأنزله الرهبان، ثم إن ملك الروم طلب منه أن يغزو بمن معه من العرب، ففعل وكان معه في جيشه زهير بن جناب. فقتل زهير بن جناب "هداج بن مالك" سيد عبد القيس، فتواعد رجلان من قضاعة على قتل "داود"، وكان إذا سار ليلًا، سار وأمامه شمعة، فقتلاه2. "قال أبو حاتم: عاش زهير بن جناب مائتي سنة وعشرين سنة، وأوقع مائتي وقعة، وكان سيدًا مطاعًا شريفًا في قومه، ويقال: كانت فيه عشر خصال لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه، كان سيد قومه، وشريفهم، وخطيبهم وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم -والطب في ذلك الزمان شرف- وحازي قومه -والحزاة الكهان- وكان فارس قومه، وله البيت فيهم، والعدد منهم. ونسبوا له وصية، ذكروا أنه أوصى بها بنيه حين حضرته الوفاة، وذلك على طريقتهم عند تحدثهم عن المعمرين. وقد أورد أهل الاخبار له شعرًا، في العمر وفي النساء وفي مخاطبة أولاده1. وقد نسبوا له هذا الشعر:

_ 1 الأغاني "21/ 93 وما بعدها"، ابن سلام "30"، جمهرة ابن حزم "426"، المؤتلف "130"، المحبر "250"، المعمرون "24"، الشعر والشعراء "1/ 294 وما بعدها"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "82"، المزهر "2/ 475 وما بعدها". 2 أسماء المغتالين "127". 3 أمالي المرتضى "1/ 238 وما بعدها".

لقد عُمّرت حتى لاأبالي ... أحتفي في صباحي أو مسائي وحق لمن أتت مائتان عاما ... عليه أن يمل من الثواء شهدت الموقدين على خزاري ... وبالسلان جمعا ذا زهاء ونادمت الملوك من آل عمرو ... وبعدهم بني ماء السماء1 ومن جيد شعره قوله: ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوما فتدركه عواقب ما جنى يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى وهو شعر نسبه "ابن قتيبة" إليه، غير أن من العلماء من نسبه لورقة بن نوفل، ومنهم من نسبه لغريض اليهودي، وقيل لابنه "سعية"، ومنهم من نسبه لشعراء آخرين2. أما المهلهل، فهو امرؤ القيس بن ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير بن جشم، وإنما سمي مهلهلا لبيت قاله لزهير بن جناب الكلبي: لما توعر في الكراع هجينهم ... هلهلت أثأر جابرا أو صنبلا وقيل إن اسمه كان عديًّا، وقد ذكره "امرؤ القيس" في شعره3. ولقب مهلهلا لطيب شعره ورقته، أو لأنه أول من أرق المراثي، أو لأنه أول من قصد القصائد، وقال الغزل، فقيل: هلهل الشعر أي أرقه4. وفيه يقول الفرزدق:

_ 1 المعمرون "26 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "1/ 296"، "حاشية رقم 7". 3 رفعت رأسها إلي وقالت ... يا عديا لقد وقتك الأواقي ضربت صدرها إلي وقالت ... يا عديا لقد وقتك الأواقي "وقال الصاغاني في التكملة: وليس البيت لمهلهل وإنما هو لأخيه عدي، ويروى البيت: ضربت صدرها، "السيوطي شرح شواهد المغني 656"، "حاشية 4"، الخزانة "1/ 300"، "بولاق"، الأغاني "4/ 139". ضربت صدرها إليّ وقالت ... يا امرأ القيس حان وقت الفراق 4 السيوطي، شرح شواهد "2/ 656 وما بعدها".

ومهلهل الشعراء ذاك الأول1 وزعم أنه كان به خنث. وهو أخو "كليب وائل" الذي هاجت بمقتله حرب بكر وتغلب. وهو جدّ "عمرو بن كلثوم"، أبو أمه "ليلى"، وخال امرئ القيس الشاعر3. وقد تطرق "المعري" في "رسالة الغفران" إلى سبب اشتهار "المهلهل" بهذا النعت، فجعل أحد الأشخاص يسأله: "أخبرني لم سميت مهلهلا؟ فقد قيل: إنك سميت بذلك، لأنك أول من هلهل الشعر، أي رققه". فيقول: إن الكذب لكثير. وإنما كان لي أخ يقال له امرؤ القيس، فأغار علينا زهير بن جناب الكلبي، فتبعه أخي في زرافة من قومه، فقال في ذلك: لما توقل في الكراع هجينهم ... هلهلت أثأر مالكا أو صنبلا وكأنه باز علته كبرة ... يهدي بشكته الرعيل الأولا4 وقد أورد "المعري" له بيتا، هو أول بيت من قصيدة تنسب إليه، هو: أليلتنا بذي حسم أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري فإن يك بالذنائب طال ليل ... فقد أبكي من الليل القصير5 وأورد له بيتًا آخر هو: أرعدوا ساعة الهياج وأبرق ... نا كما توعد الفحول الفحولا وذكر أن "الأصمعي" كان ينكره ويقول: إنه مولد. وكان أبو زيد

_ 1 ديوان الفرزدق "72"، الشعر والشعراء "256"، "1/ 215"، "الثقافة"، ديوان الفرزدق "2/ 159". 2 الشعر والشعراء "1/ 215"، "الثقافة"، الخزانة "2/ 164"، "هارون". 3 الشعر والشعراء "1/ 215"، "الثقافة"، الخزانة "2/ 164"، "هارون"، ابن سلام، طبقات "33 وما بعدها"، الأغاني "4/ 140"، المرزباني، معجم "248"، اللآلئ "111"، الأغاني "5/ 34"، "دار الكتب"، الأصمعيات "174". 4 رسالة الغفران "354". 5 رسالة الغفران "353".

يستشهد به ويثبته1. "وزعم الرواة أن الشعر كله إنما كان رجزًا وقطعًا، وأنه إنما قصد على عهد هاشم بن عبد مناف، وكان أول من قصده مهلهل وامرؤ القيس، وبينهما وبين مجيء الإسلام مائة ونيف وخمسون سنة. ذكر ذلك الجمحي وغيره"2. وقيل إنه كان أول شاعر بلغت قصائده ثلاثون بيتًا من الشعر، فاحتذى من جاء بعده حذوه. وأن أول قصيدة قالها كانت في قتل أخيه كليب3. وأنه كان أول من كذب في شعره، بقوله: فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور ويذكرون أن هذا البيت هو من أول كذب العرب، وكانت العرب قبل ذلك لا تكذب في أشعارها، وكان بين الموضع الذي كانت فيه هذه الواقعة وهي بالجزيرة وبين حجر وهي قصبة اليمامة مسافة بعيدة، فأخرجه هذا الشاعر بقوة منّته ونفاذ فطنته إلى معنى أخر مستظرف في بابه4. وقد اتهمه البعض بأنه كان يتكثر ويدعي قوله بأكثر من فعله5. وزعم أنه أحد البغاة، لقوله: قل لبني حصن يردونه ... أو يصبروا للصيلم الخَنْفَقيق من شاء دلى النفس في هوة ... ضنكٍ ولكن من له بالمضيق6 أمرهم أن يردّوا كليبا وقد قتل، وأعلمهم أنه لا يرضى بشيء غير ذلك.

_ 1 رسالة الغفران "354". 2 العمدة "1/ 189"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 3 زيدان تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 67", ولولا الريح أسمع أهل حجر ... صليل البيض تقرع بالذكور الشعر والشعراء "1/ 216"، "الثقافة"، البيان والتبيين "1/ 124"، الحيوان "6/ 418"، العمدة "2/ 50"، الأغاني "4/ 146"، المرزباني، معجم "331"، نقد الشعر، لقدامة "84"، الموشح "74". 4 زهر الآداب "1/ 234"، الشعر والشعراء "1/ 216"، الأغاني "14/ 152"، خزانة الأدب "1/ 302 وما بعدها". 5 السيوطي، شرح "2/ 657". 6 الشعر والشعراء "1/ 216"، "الثقافة".

وهو أحد أصحاب المنتقيات السبع، المدونة في كتاب: "جمهرة أشعار العرب". وقد ذكره "لبيد" في شعره، فجعله و "مرقشا" من الشعراء الذين مهدوا السبيل لمن جاء بعدهم في نظم الشعر، فالشاعرون الناطقون الذين جاءوا بعدهما إنما سلكوا دروبهما في نظم الشعر: والشاعرون الناطقون أراهم ... سلكوا سبيل مرقش ومهلهل1 وكان مهلهل القائم بالحرب ورئيس تغلب، فلما كان يوم قضة، وهو آخر أيامهم، وكان على تغلب، أسر "الحارث بن عبّاد" مهلهلا وهو لا يعرفه، فقال له الحارث: تدلني على عدي بن ربيعة المهلهل وأنت آمن؟ فقال له "المهلهل": إن دللتك على عدي فأنا آمن ولي دمي؟ قال: الحارث: نعم، قال: فأنا عدي1 فجز ناصيته وخلاه، وقال: لم أعرف. وفي ذلك يقول الحارث بن عباد: لهف نفسي على عدي ... ولم أعرف عديا إذ أمكنتني اليدان طُلَّ من طُلَّ في الحرب ولم ... يطلل قتيل أبأته ابن أبان2 ثم خرج "مهلهل" فلحق باليمن، فنزل في "جنب"3، فخطب إليه رجل منهم ابنته، فقال: إني طريد غريب فيكم، ومتى أنكحتكم قال الناس اعتسروه، فأكرهوه حتى زوجها، وكان المهر أدما، فقال: أنكحَهَا فَقْدُها الأراقمَ في ... جنب وكان الحباء من أدم لو بأبانين جاء يخطبها ... رُمل ما أنف خاطبٍ بدم ثم انحدر، فلقيه "عوف بن مالك بن ضبيعة"، وهو أبو أسماء صاحبة

_ 1 ديوان لبيد "276"، "39"، البيان والتبيين "2/ 183". 2 الشعر والشعراء "1/ 216 وما بعدها". 3 حي من اليمن.

المرقش الأكبر، فأسره فمات في إساره1. وللأخباريين قصص عن كيفية موته2. ونسبوا له قصيدة رثى بها أخاه كليبًا، بقوله: أليلتنا بذي حُسُمٍ أنيري ... إذا أنتِ انقضيتِ فلا تحوري وفيها: على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا طرد اليتيم عن الجزور على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا رجف العضاة من الدبور على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا خيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلًا من كليب ... غداة تلاتل الأمر الكبير على أن ليس عدلًا من كليب ... إذا ما خام جار المستجير3 وأورد المرتضى "مرثية" لليلى الأخيلية رثت فيها: ثوبة بن الحمير، لها أسلوب خاص في الرثاء، حيث ترد جملة: "لنعم الفتى" و"نعم الفتى" في أوائل أربعة أبيات من القصيدة، تلتها "لعمري لأنت المرء أبكي لفقده" أربع مرات مكونة الأنصاف الأولى من الأبيات، ثم "أبى لك ذم الناس يا ثوب كلما" مرتين، ثم: "فلا يبعدنك الله يا ثوب إنما"، ثم "ولا يبعدنك الله يا ثوب إنها" مرة، ثم: "ولا يبعدنك الله يا ثوب والتقت". فخرجت من تكرار إلى تكرار لاختلاف المعاني4. وروى قصيدة أخري لابنة عم للنعمان بن بشير رثت فيها زوجها، أنصاف أبياتها الأولى: "وحدثني أصحابه أن مالكا"، أما القافية فهي على اللام.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 216 وما بعدها"، الخزانة "2/ 173". 2 أسماء المغتالين "208". 3 أمالي المرتضى "1/ 132 وما بعدها". 4 أمالي المرتضى "1/ 124 وما بعدها". 5 أمالي المرتضى "1/ 126".

ومن معاصري "مهلهل" الشاعر "امرؤ القيس بن حمام بن عبيدة بن هبل" ابن أخي "زهير بن جناب بن هبل"، وزعم بعضهم أنه الذي عنى "امرؤ القيس" بقوله: نبكي الديار كما بكى ابن حذام. وكان مهلهل تبعه "يوم الكلاب" ففاته ابن حمام بعد أن تناوله "مهلهل" بالرمح. وكان "ابن حمام" أغار على "بني تغلب" مع زهير بن جناب فقتل جابرًا وصنبلًا. وفيهما يقول مهلهل: لما توعر في الكلاب هجينهم ... هلهلتُ أثأر جابرًا أو صنبلًا و"امرؤ القيس بن حارثة بن الحمام بن معاوية"، أو "امرؤ القيس بن حارثة بن خذام بن معاوية" على رواية أخرى، أو "ابن خذام"، أو "ابن حذام"، هو شاعر سبق "امرأ القيس" الكندي في البكاء على الديار وتذكر الأطلال، استنتجوا ذلك من شعر ينسب لامرئ القيس، هو: يا صاحبيَّ قفا النواعجَ ساعة ... نبكي الديارَ كما بكى ابن حمام أو "ابن خذام" في رواية "أبي عبيدة". ومن بيت آخر هو: عوجا على الطلل المحيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام2 وابن "خذام"، و "ابن حمام"، و "ابن حزام" و "ابن حذام"، اسم الشاعر، وهو اسم واحد، تحرف بالرواية وبالنسخ، فصار على هذه الصور. ومن شعراء ربيعة "سعد بن مالك"، الذي يقول: يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا3

_ 1 الخزانة "2/ 235"، "بولاق". 2 الشعر والشعراء "1/ 68 وما بعدها"، المزهر "2/ 238". عوجا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام الآمدي، المؤتلف "109"، ديوان امرئ القيس "114"، المزهر "2/ 477"، بروكلمان "1/ 60". 3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 657".

قال هذا البيت في قصيدة يعرض فيها بـ "الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة" من حكام "ربيعة" وفرسانها المعدودين، وكان اعتزل حرب "بني وائل" وتنحى بأهله وولده وولد إخوته وأقاربه، وحل وتر قوسه، ونزع سنان رمحه، ولم يساهم في الحرب التي هاجت بين بكر وتغلب ابني وائل، وهي حرب البسوس. وسعد، هو "سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل". وكان أحد سادات بكر بن وائل وفرسانها في الجاهلية. وكان شاعرًا، وله أشعار جياد في كتاب بني قيس بن ثعلبة1. وفي رواية تنسب إلى "دغفل" النسّابة أنه كان جد "طرفة بن العبد"2. وطرفة، هو: "عمرو بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"3، وإذا أخذنا بهذا النسب نرى أن "سعد بن مالك"، هو جد "العبد" والد "طرفة". وإذا أخذنا برواية من جعل نسب الشاعر "عمرو بن قميئة" على هذه الصورة: "عمرو بن قميئة بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"، فيجب عده ابنًا من أبناء "سعد بن مالك"، أما إذا اعتبرنا نسبه على هذه الصورة: "عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك"، فنكون بذلك قد جعلناه حفيدًا له، ويكون "ذريح"، ابنًا من أبناء هذا الشاعر4. ويظهر من نسب المرقش الأكبر، وهو "ربيعة بن سعد بن مالك"، ويقال: "بل هو عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"5، أنه كان ابنًا، لسعد بن مالك، الشاعر الذي نتحدث عنه، وإذا ذهبنا مذهب من يقول إن المرقش الأصغر كان أخا للمرقش الأكبر، فيكون بذلك ابنًا من أبناء "سعد بن مالك"، وأما إذا أخذنا برواية من يذكر أنه كان ابن أخي المرقش الأكبر وأنه "عمرو بن حرملة"، أو "ربيعة بن سفيان" فيكون ابن ابن "سعد بن

_ 1 الخزانة "1/ 223 وما بعدها". 2 ذيل الأمالي "ص26". 3 شرح القصائد العشر "ص9"، "إخراج محمد محيي الدين عبد الحميد". 4 راجع نسبه في الخزانة "2/ 250" وفي المراجع الأخرى التي ذكرتها في أثناء حديثي عنه. 5 الشعر والشعراء "1/ 138"، "دار الثقافة".

مالك"، أي حفيده، ويكون المرقش الأكبر عمه إذن ويكون بيت "سعد بن مالك" من البيوت التي عرفت بالشعر. وروي أن الشاعر "خزز بن لوذان" السدوسي، كان قبل امرئ القيس. وقد نسب بعض أهل الأخبار له قوله: يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدًا سيفًا ورمحا ونسب هذا الشعر لغيره من الشعراء1. ونسب له قوله: كذب العتيق وماء شن بارد ... إن كنت سائلتي غبوقًا فاذهبي لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون لونك مثل لون الأجرب وكانت له فرس اسمها ابن النعامة، ورد ذكرها في هذا الشعر2. ويجب أن نضيف إلى الشعراء المتقدمين شاعرًا يظهر من روايات أهل الأخبار، أنه لم يكن من فحول الشعراء، ولا من أوساطهم وإنما كان "شويعرًا"، ولذلك عرف ب "الشويعر". ويذكر أهل الأخبار أنه كان أحد من سمي "محمدًا" في الجاهلية، وهم سبعة، واسمه الكامل: "محمد بن حمران بن أبي حمران". وهو قديم3. كان "امرؤ القيس" أرسل إليه في فرس يبتاعها منه، فأبى فقال فيه: أبلغا عني الشويعر أني ... عمد عين قلدتهن حربما وحربم، هو جد الشويعر4. فقال الشويعر مخاطبا امرأ القيس: أتتني أمور فكذبتها ... وقد نميت لي عامًا فعاما بأن امرأ القيس أمسى كئيبا ... على آله ما يذوق الطعاما

_ 1 ونسب لعبد الله بن الزبعرى الخزانة "2/ 231 وما بعدها". 2 تاج العروس "9/ 83"، "نعم". 3 المؤتلف "141 وما بعدها"، "208"، "فراج". 4 البيان "2/ 10"، الآمدي، المؤتلف "141".

لعمر أبيك الذي لا يهان ... لقد كان عرضك مني حراما وقالوا هجوت ولم أهجه ... وهل يجدن هاج فيك مراما1 وذكر الشاعر "ذؤيب بن كعب بن عمرو بن تميم"، بعد مهلهل في تقصيد القصائد، وهو "عمرو بن تميم"، وهو من تميم، قيل إنه كان شاعرًا قديمًا، وهو الذي يقول: يا كعب إن أباك منحمق ... إن لم تكن بك مرة كعب وهي أبيات قديمة يقول فيها: جانيك من يجني عليك وقد ... تعدى الصحاح مبارك الجرب2 والأضبط بن قريع، هو "الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم"، فهو من "بني تميم". وقد عدّ في المعمرين3. وقد أورد "الجاحظ" له شعرا منه: لكلّ همّ من الهموم سَعَه ... والمسي والصبح لا فلاح معه فصل حبالَ البعيد إن وصل الـ ... ـحبل وأقصِ القريب إن قطعه وخذ من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عينًا بعيشه نفعه لا تحقرن الفقير عَلَّكَ أن ... تركع يومًا والدهر قد رفعه قد يجمع المال غيرُ آكله ... ويأكل المالَ غير من جمعه4 وقد روي الشعر على هذا النحو: يا قوم من عاذري من الخدعه ... والمسي والصبح لا فلاح معه فصل حبال البعيد إن وصل الـ ... ـحبل واقص القريب إن قطعه

_ 1 تاج العروس "3/ 301"، "شعر". 2 الاشتقاق "124"، المزهر "2/ 477". 3 السجستاني، "8"، البيان والتبيين "3/ 341"، الأغاني "16/ 154 وما بعدها"، الأمالي "1/ 107"، الخزانة "4/ 589"، المثل السائر "1/ 26"، مجالس ثعلب "480". 4 البيان والتبيين "3/ 341".

واقنع من العيش ما أتاك به ... من قرّ عينًا بعيشه نفعه قد يجمعُ المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه ولا تهين الفقير علك أن ... تخشع يوما والدهر قد رفعه1 وقد أورد هذا الشعر القالي في أماليه عن "ابن دريد" عن "ابن الأنباري" عن ثعلب. وقد قال ثعلب: إنه قيل قبل الإسلام بدهر طويل. ورواه أيضا "ابن الأعرابي"، والجاحظ، وصاحب الحماسة البصرية، والشريف في حماسته، وابن قتيبة في كتاب الشعراء وصاحب الأغاني وغيرهم، بتقديم بعضها على بعض وطرح أبيات منها2. وقال "السيوطي": "عزاه ابن الأعرابي في نوادره للأضبط بن قريع من أبيات هي: لكل ضيق من الأمور سعة ... والمسي والصبح لا بقاء معه لا تهين الفقير علك أن ... تركع يومًا والدهر قد رفعه وصل حبال البعيد إن وصل الـ ... ـحبل واقص القريب إن قطعه واقبل من الدهر ما أتاك به ... من قرَّ عينا بعيشه نفعه قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه ما بال من غيُّه مصيبك لا ... تملك شيئا من أمره فدعه حتى إذ انجلت عمايته ... أقبل يلجي وغيّه فجعه أذود عن نفسه ويخدعني ... يا قوم من عاذري من الخدعه قيل إن هذه الأبيات قيلت قبل الإسلام بدهر طويل. وقال في الحماسة البصرية هي للأضبط بن قريع السعدي من شعراء الدولة الأموية"3. وزعم أن هذا الشعر قيل قبل الإسلام بخمسمائة عام. "فقد نقل الشيخ خالد في التصريح أن هذا الشعر قيل قبل الإسلام بخمسمائة عام. وكان سبب هذا الشعر

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 298 وما بعدها"، الأغاني "16/ 159"، اللآلئ "326"، السمط "326"، بلوغ الأرب "3/ 118". 2 الخزانة "4/ 589". 3 السيوطي، شرح شواهد "453"، "شواهد عل".

على ما في الأغاني عن أبي محلم: أن أم الأضبط كانت عجيبة "عجبة" بنت دارم بن مالك بن حنظلة، وخالته: الطموح بن دارم، فحارب بنو الطموح قومًا من بني سعد، فجعل الأضبط يدس إليهم الخيل والسلاح ولا يصرح بنصرهم خوفا من أن يتحزب قومه حزبين معه وعليه. وكان يشير عليهم بالرأي، فإذا أبرمه نقضوه وخالفوا عليه، وأروه مع ذلك أنهم على رأيه فقال في ذلك هذه الأبيات. وهو الأضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وقريع، بضم القاف وفتح الراء، هو أبو جعفر، الملقب بأنف الناقة" "وهو جاهلي قديم"1. وكان من فرسان العرب، "وكان أغار على بني الحارث بن كعب، فقتل منهم وأسر وجدع وخصى، ثم بنى أطمًا، وبنت الملوك حول ذلك الأطم مدينة صنعاء، فهي اليوم قصبتها"2. وهو شاعر قديم، يزعم بنو تميم أنه أول من رأس فيهم3. وروي أنه هو صاحب المثل: "بكل واد بنو سعد". وهو شبيه بالمثل: "بكل واد أثر من ثعلبة". الميداني "1/ 84، 94"، وكان الأضبط قد تأثر من قومه بني سعد، فتحول عنهم إلى آخرين، فلما رأى ظلمهم وعسفهم قال: "بكل واد بنو سعد"4، أو أنه قال: "أينما أوجه ألق سعدا". والمعمر في نظر العرب، هو من عاش فوق المائة. "ولا تعدّ العرب معمرًا إلا من عاش مائة وعشرين سنة فصاعدا"5. والعادة عندهم، أنهم إذا وصلوا إلى نهاية حياة المعمر ينصبون له مجلس توديع، يجمعون فيه ولده وآله وأقاربه وسادات قبيلته أحيانا، ليوصيهم بما حصل عليه من حكم الأيام وتجاربها، ثم قد يختمونها بشعر. وهي متشابهة في المعاني، لأنها في موضوع نصح وحكم،

_ 1 الخزانة "4/ 590". 2 الشعر والشعراء "1/ 298". 3 تاج العروس "5/ 175"، "ضبط". 4 البيان والتبيين "3/ 294"، والحيوان "1/ 358"، "3/ 104"، "4/ 394"، البخلاء "189"، والشعر والشعراء "1/ 298"، أمثال الضبي "6"، الأغاني "16/ 154"، شرح شواهد، للسيوطي "1/ 155"، الخزانة "4/ 588"، المحبر "182". 5 أمالي المرتضى "1/ 236".

أما أسلوبها فهو السجع، الأسلوب المتبع عند الكهان والخطباء، وهو وسط بين الكلام المرسل وبين الشعر. و"أوس بن حجر بن معبد بن حزن بن خلف بن نمير بن أسيد بن عمرو" التميمي من شعراء تميم كذلك، وقد جعله بعضهم من الطبقة الثالثة وقرنه بالحطيئة ونابغة بني جعدة. ذكر أنه كان شاعر بني تميم في الجاهلية غير مدافع، وكان فحل العرب فلما نشأ النابغة طأطأ رأسه. وله ديوان مشروح1. وورد عن "أبي عمرو بن العلاء" قوله: "كان أوس فحل مضر حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه"2. وقال عنه أبو ذؤيب: "وكان أوس عاقلًا في شعره كثير الوصف لمكارم الأخلاق، وهو من أوصفهم للحُمُر والسلاح ولا سيما للقوس، وسبق إلى دقيق المعاني وإلى أمثال كثيرة"3. وكان شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع4. وكان غزلًا مغرمًا بالنساء5، وكان قد بلغ الغاية في الصيد والقنص، يقضي الليل مع الوحش ليصطاد شيئًا منها، وفي ذلك يقول: قصيٌّ مبيت الليل للصيد مطعم ... لأسهمه غار وبار وراصف6 ويظهر من الشعر المنسوب إليه، أنه كان على اتصال بالحضر وبالنصارى، وقد جاء في شعره بمعان وبتعابير وألفاظ لم يستعملها غيره من الشعراء الجاهليين. فقد ذكر "الهر" والديك والخنزير في شعره، مثل قوله: كأن هرًّا جنيبًا عند غرفتها ... والتف ديكٌ برجليها وخنزير

_ 1 السيوطي، شرح الشواهد "1/ 113 وما بعدها، "399"، الموشح "63"، رسالة الغفران "274". 2 الشعر والشعراء "1/ 131"، الأغاني "10/ 5 وما بعدها"، الخزانة "2/ 235" الموشح "63"، "كان أوس شاعر مضر، حتى أسقطه النابغة وزهير"، الشعر والشعراء "1/ 134". 3 الشعر والشعراء "1/ 131". 4 الشعر والشعراء "1/ 134". 5 الخزانة "2/ 234 وما بعدها"، "بولاق". 6 ديوان أوس "ص71"، رسائل الجاحظ "1/ 72 وما بعدها، 76"، "مناقب الترك".

وجمع ثلاثة ألفاظ أعجمية في بيت واحد، فقال: وقارفت وهي لم تجرب وباع لها ... من الفصافص بالنمي سفسير وله أشعار جيدة. "قال الأصمعي: ولم أسمع قط ابتداء مرثية بأحسن من ابتداء مرثيته: أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا1 وله شعر في مدح "أبي دليجة"، وهو "فضالة بن كلدة". وكان قد جبر كسرًا ألم به لما صرعته ناقته، فآواه وداواه حتى برأ، فتذكر منته عليه2. ومن شعره في مدح "فضالة بن كلدة": أريب أديب أخو مأزق ... نقابًا يخبر بالغائب3 ولأوس شعر في "حليمة بنت فضالة بن كلدة" التي مرضته وعاونته مع والدها حتى شفي وبرأ. وهو من باب الشكر والحمد4. وورد البيت على هذه الصورة: نجيح مليح أخو مأقط ... نقاب يحدث بالغائب ولما توفي "فضالة" رثاه "أوس بن حجر" في قصيدة جعلها "أبو الفرج الأصبهاني": "من فاضل مراثيه إياه ونادرها". ومما جاء فيها: الألمعي الذي يظن لك الظـ ... ـن كأن قد رأى وقد سمعا6

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 135"، رسالة الغفران "339". 2 الخزانة "2/ 236"، "بولاق". 3 ديوان أوس "12"، رسائل الجاحظ "1/ 302"، "رسائل في نفي التشبيه". الحيوان "3/ 60". 4 الحيوان "3/ 71"، الأغاني "10/ 7"، البيان والتبيين "3/ 320"، ديوان أوس "27". 5 تهذيب الألفاظ "164". 6 ديوان أوس بن حجر "53"، البيان والتبيين "4/ 68"، الحيوان "3/ 59"، الأغاني "10/ 8"، رسائل الجاحظ "1/ 302"، "رسائل في نفي التشبيه"، رسالة الغفران "452".

وهذا البيت من نفس القصيدة التي قال "الأصمعي" عنها: لم أسمع قط ابتداء مرثية أحسن من ابتداء مرثيته: أيتها ا لنفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا1 ومن شعر أوس بن حجر، قوله: فانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا يخفى وأحيانا يلوح كما ... رفع المشير بكفه لهبا وقد علق الجاحظ عليه بقول: "وهذا الشعر ليس يرويه لأوس إلا من لا يفصل بن شعر أوس بن حجر، وشريح بن أوس"2. وشريح بن أوس، هو ابن هذا الشاعر، وقد ذكر الجاحظ له بيتًا يهجو فيه أبا المهوش الأسدي، وهو من الشعراء المخضرمين3، وهذا البيت هو: وعيّرتنا تمر العراق وبره ... وزادُك أير الكلب شيطه الجمر4 وقد ذكر: "المعري" قصيدة حائية، ذكر أنها تروى لعبيد مرة، ولأوس أخرى. وتختلف في رواية المعري في الترتيب عما جاء في الديوان. ومما جاء فيها: قاتلها الله تلحاني وقد علمت ... أني لنفسي إفسادي وإصلاحي أن أشرف الخمر أو أرزأ لها ثمنا ... فلا محالة يوما إنني صاح ولا محالة من قبر بمحنية ... أو في مليع كظهر الترس وضاح5 وجاء فيه ذكر "يهودي"، إذ يقول: قد نِمتَ عني وبات البرق يسهرني ... كما استضاء يهوديٌّ بمصباح6

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 135". 2 الجاحظ، الحيوان "6/ 274، 279". 3 الجاحظ، الحيوان "6/ 279"، بروكلمان "1/ 112". 4 الحيوان "1/ 268"، وورد "ونخله بدلا من وبره"، "1/ 319". 5 رسالة الغفران "274 وما بعدها"، ديوان عبيد "75"، الأمالي "1/ 177". 6 رسالة الغفران "276".

وقد خلط الرواة بين شعر "أوسط" و "عبيد بن الأبرص"، ولكنهم نبهوا على ذلك وأشاروا إليه1. وأوس بن حجر من معاصري الملك "عمرو بن هند"، وهو تميمي، قتل أبوه يوم "الحجار" المصادف لسنة "554م"، وكان مولده بالبحرين، وقد طاف بشعره نجدًا والعراق، فمدح ملوك الحيرة ونادمهم، ونال شعره شهرة في الصيد والسلاح2، وله وصف للصحارى والسهول المقفرة، ولمنابع المياه المتدفقة من الكهوف التي يكثر حولها ريش النعام، ولمسالك البادية4، والنجاد والروابي والجبال5، وللرياض6، كما اشتهر بوصفه للحمير: قال ابن الأعرابي: "لم يصف أحد قط الخيل إلا احتاج إلى أبي دؤاد. ولا وصف الحمر إلا احتاج إلى أوس بن حجر، ولا وصف أحد نعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة"7. ولأوس شعر وصف فيه. ثورًا وحشيًّا بقوله: فانصاع كالدُري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا8 ومن أمثاله السائرة قوله: فإنكما يا ابني جناب وجدتما ... كمن دبَّ يستخفي وفي الحلق جلجل وقوله: ولست بخابئ لغدٍ طعامًا ... حذار غد لكل غد طعام9 وقد أشار "أوس بن حجر" في شعره إلى "المنخّل" اليشكري، الذي اتهم بالمتجردة، فزعم أن النعمان قتله أو حبسه، ثم غمض خبره، فلم يعرف

_ 1 رسالة الغفران "274 وما بعدها"، ابن سلام "76 وما بعدها". 2 بروكلمان "1/ 112". 3 غرونباوم "179 وما بعدها". 4 غرونباوم "162، 183". 5 غرونباوم "163، 184". 6 غرونباوم "166، 186". 7 الأغاني "15/ 96"، غرونباوم "277". 8 رسالة الغفران "298". 9 بلوغ الأرب "3/ 104".

أمره، وضرب المثل به، فقيل: "حتى يئوب المنخل". يقال إن أوسًا قال: فجئت ببيعي موليا لا أزيده ... عليه بها حتى يئوب المنخل1 وإذا صح أن هذا الشعر، هو من شعر "أوس" حقًّا، وأن "المنخل" هو "المنخل" اليشكري الشاعر لا غيره، فيجب أن يكون أوس قد عاش بعده، وأن يكون من المتأخرين عنه. وإذا كان أوس بن حجر من شعراء مضر، ومن الوصافين، فقد كان: "علقمة بن عبدة" المشهور بالفحل من شعراء مضر كذلك، وهو مثل "أوس" من تميم، وقد اشتهر بوصف النعام، وكان ينادم "الحارث" الأصغر الغساني، والنعمان أبا قابوس اللخمي، وكان له أخ اسمه "شأس"، أسره "الحارث بن أبي شمر" الغساني المذكور مع سبعين رجلًا من تميم، فأتاه علقمة ومدحه بقصيدة أولها: طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي ... لكلكلها والقُصْرَيَين وجيب فلما بلغ هذا البيت: وفي كل حي قد خبطتَ بنعمة ... فحق لشأسٍ من نداك ذنوب فقال الحارث: نعم وأذنبة. وفك أسره ومن أسر معه من "بني تميم". ويقال إن شأسًا هو ابن أخي علقمة2. قيل إنه إنما لقب بـ "الفحل"، لأنه احتكم مع امرئ القيس، إلى امرأته "أم جندب" لتحكم بينهما في أيهما أشعر، فقالت: قولا شعرا تصفان فيه الخيل على روي واحد، وقافية واحدة، فلما قالا وانتهيا، حكمت لعلقمة بأنه أشعر من زوجها "امرئ القيس" فغضب عليها وطلقها، فخلف عليها علقمة،

_ 1 رسالة الغفران "340". 2 الشعر والشعراء "1/ 147 وما بعدها"، "رسالة الغفران".

فسمي بذلك: "الفحل"1. وهي أسطورة. وقيل إنه لقب بالفحل تمييزًا له عن "علقمة بن سهل" من رهطه، وكان يعرف بالخصي، ففرقوا بينهما بهذا الاسم. و "علقمة" الخصي ممن أدرك الإسلام. وكان يكنى "أبا الوضاح"، وقد أسلم، وكان شاعرا. وهو القائل: يقول رجال من صديق وصاحب ... أراك أبا الوضاح أصبحت ثاويا فلا يعدم البانون بيتًا يكنهم ... ولا يعدم الميراث مني المواليا وخفت عيون الباكيات وأقبلوا ... إلى بالهم قد بنت عنه بماليا حراصا على ما كنت أجمع قبلهم ... هنيئا لهم جمعي وما كنت آليا2 ومن شعره في النساء: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندن عجيب3 ومما ينسب إليه قوله: وكل حصن وإن دامت سلامته ... على دعائمه لا بد مهدود ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لا بد مشئوم ومعظم الغُنم يوم الغُنم مطعمه ... أنى توجه والمحروم محروم وكل قوم وإن عزوا وإن كثروا ... عريفهم بأثافي الشر مرجوم وقد اشتهر "علقمة" بثلاث قصائد قال فيهن "ابن سلام": "ولابن عبدة ثلاث روائع جياد لا يفوقهن شعر"5، منها قصيدته الميمية التي مطلعها: هل ما علمت وما استودعت مكتوم6

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 145"، ابن سلام، طبقات "116"، الأغاني "21/ 172"، الخزانة "1/ 565". 2 الخزانة "1/ 565". 3 رسالة الغفران "328"، الشعر والشعراء "1/ 146". 4 بلوغ الأرب "3/ 113". 5 ابن سلام، طبقات "31". 6 رسالة الغفران "142".

ومن الشعر المنسوب إليه قوله: ويلم أيام الشباب معيشة ... مع الكثر يعطاه الفتى المتلف الندى وقد نسبه بعضهم لابنه: خالد بن علقمة بن عبدة، ونسبه غيرهم لشعراء آخرين1. وقد ذكر "ابن حجر" في كتابه "الإصابة" اسم رجل دعاه "علي بن علقمة بن عبدة" التميمي، قال عنه إنه ولد "علقمة" الشاعر المشهور الذي يعرف بعلقمة الفحل. وكان من شعراء الجاهلية من أقران امرئ القيس، ولعلي هذا ولد اسمه "عبد الرحمن" ذكره المرزباني في معجم الشعراء، فيلزم من ذلك أن يكن أبوه من أهل هذا القسم، لأن عبد الرحمن لم يدرك النبي، وعبد الرحمن هو القائل: وشامت بي لا يخفي عداوته ... إذا حمامي ساقته المقادير فلا يغرنك جرّ الثوب معتجرا ... إني امرؤ لي عند الجد تشمير2 وعد "العنبر بن عمرو بن تميم" من قدماء الشعراء. وجعل "ابن سلام" قوله: قد رابني من دلوي اضطرابها ... والنأي في بهراء واغترابها أن لا تجئ ملأى يجيئ قرابها من قديم الشعر الصحيح3. وكان سعد ومالك ابنا زيد مناة بن تميم، ممن قالوا الشعر4، وكذلك "حجر بن معاوية" آكل المرار. وقد أورد "الجاحظ" بيتين من الشعر لسعد بن ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، ثم قال: "وهذا من قديم الشعر"، وذكر

_ 1 الخزانة "1/ 563". 2 الإصابة "3/ 111"، "رقم 6460"، الخزانة "1/ 566". 3 ابن سلام، طبقات "11". 4 ابن سلام، طبقات "11". 5 البيان والتبيين "3/ 328".

في موضع آخر أنه "من قديم الشعر وصحيحه"1. ومن شعراء تميم: "عبد القيس بن خفاف" "عبد قيس" البرجمي التميمي وكان معاصرًا لحاتم الطائي، فأتاه ذات يوم في دماء حملها عن قومه وعجز عنها، فأعطاه حاتم مرباعًا له من غارة على بني تميم2. ويقال إنه قال شعرا على لسان النابغة في هجاء النعمان بن المنذر أبي قابوس ملك الحيرة، ليكيد به إلى النابغة، حسدًا له، وقد فعل فعله في هذا الدس شاعر آخر هو "مرّة بن ربيعة" السعدي3. وينسب له قوله: فالله فاتقِهِ وأوف بنذره ... وإذا حرفت مماريا فتحلل واعلم بأن الضيف مكرم أهله ... بمبيت ليلته وإن لم يسأل والضيف أكرمه فإن مبيته ... حق ولا تك لعنة للنزل وصل المواصل ما صفا لك وده ... واحزز حبال الخائن المتبدل واترك محل السوء لا تحلل به ... وإذ نبا بك منزل فتحول دار الهوان لمن رآها داره ... أفراحل عنها كمن لم يرحل وإذا هممت بأمر شر فاتئد ... وإذا هممت بأمر خير فاعجل وإذا أتتك من العدو قوارص ... فاقرص هناك ولا تقل لم أفعل4 ومن شعراء تميم: "عوف بن عطية بن الخرع" التميمي. وكان سيد قومه يوم "رحرحان". ذكر "البغدادي" أنه كان له ديوان صغير موجود عنده5.

_ 1 البيان والتبيين "3/ 200، 341". 2 بروكلمان "1/ 116". 3 الشعر والشعراء "1/ 99 وما بعدها"، "النابغة الذبياني"، الأغاني"7/ 145"، المفضلية رقم 116 ورقم 117، الحيوان "4/ 379"، المرزباني، معجم "325"، الحماسة "1/ 113"، نوادر أبي زيد "13 وما بعدها، 126"، الأغاني "9/ 158"، "ساسي". 4 بلوغ الأرب "3/ 125". 5 الخزانة "3/ 83"، المرزباني "226"، بروكلمان "1/ 118".

و "سلامة بن جندل" من شعراء تميم، ويظهر من قصيدة رثا بها "النعمان أبا قابوس" أنه عاش بعده. قال عنه "ابن قتيبة": هو شاعر جاهلي قديم من فرسان تميم المعدودين. وأخوه "أحمر بن جندل" من الشعراء والفرسان. وكان "عمرو بن كلثوم" أغار على حي من بني سعد بن زيد مناة، فأصاب منهم، وكان فيمن أصاب "أحمر بن جندل"1. ويدل شعره في رثاء "النعمان" أنه مات في عهد قريب من الإسلام. وله ديوان صغير مطبوع، أكثره في الحماسة والفخر، مع شيء جميل من الوصف والتشبيه2. ومن قوله في الشيب: ولّى الشباب وهذا الشيب يطلبه ... لو كان يدركه ركض اليعاقيب3 ومن شعره قوله: ليس بأسفى ولا أقنى ولا سفل ... يعطي دواء قفي السكن مربوب4 وكان أحد من يصف الخيل، فيحسن، وأجود شعره قصيدته التي أولها: أودي الشباب حميدا ذو التعاجيب ... ولى وذلك شأو غير مطلوب5 وقد زعم "آلورد" أنه أسلم، "لأنه ذكر اسم الله: الرحمن. وهذا بعيد الاحتمال. كما ظنه لويس شيخو من أنه كان نصرانيا"6. وقد طبع "شيخو" ديوانه في بيروت سنة "1910". و"طريف بن تميم" العنبري، من الشعراء الفرسان، وكانت الفرسان لا تشهد عكاظ إلا مبرقعة مخافة الثؤرة، وكان طريف لا يتبرقع كما يتبرقعون،

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 192 وما بعدها"، الأصمعيات رقم 42، الخزانة "2/ 86"، بروكلمان" "1/ 119"، الأمالي للقالي "1/ 10". 2 كارلو نالينو "80"، طبعة "كليمان هوار"، في المجلة الأسيوية، وطبعة "لويس شيخو" في "بيروت" سنة 1921م. 3 الأمالي للقالي "1/ 185". 4 ذيل الأمالي "209"، ابن سلام، طبقات "131". 5 الشعر والشعراء "1/ 192 وما بعدها"، الخزانة "2/ 86". 6 بروكلمان "1/ 119".

وكان قد أغار في "بني العنبر" "عائذة" حلفاء لبني "أبي ربيعة بن ذهل"، فرماه "حمصيصة بن شراحيل" الشيباني، فقتله. وهو القائل: أوكلما وردت عكاظَ قبيلةٌ ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسم1 مفتخرا بشجاعته على أعدائه وعلي الذين كانوا يتعقبون خطاه لقتله، أخذا بالثأر منه. و"الأسود بن يعفر بن عبد القيس بن نهشل" النهشلي، من الشعراء المتقدمين في الجاهلية. وهو تميمي دارمي، وقد عدّت قصيدته التي أولها: نام الخلي وما أحس رقادي ... والهم محتضر لدي وسادي من أجود الشعر ومن مختار أشعار العرب. وقد عده "ابن سلام" في الطبقة الثانية من طبقات الشعراء2. وقد عرف بـ "ذي الآثار"، لما كان يتركه هجاؤه من أثر في المهجوين3. وقد وردت في قصيدته المذكورة شواهد نحوية وردت في كتب الشواهد، وتعد القصيدة من مختار أشعار العرب وحكمها المأثورة. وكان ينادم "النعمان بن المنذر"، وابنه الجرّاح وأخوه حطائط شاعران4، وكان يكنى بابنه، فعرف بـ "أبي الجرّاح"5. ومن شعره قوله: ومن الحوادث لا أبا لك أنني ... ضُرِبَت عليّ الأرض بالأسداد لا أهتدي فيها لمدفع تلعة ... بين العذيب وبين أرض مراد وفيها يقول: ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد

_ 1 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة"، "ص218 وما بعدها" تاج العروس "6/ 178"، "طرف". 2 الشعر والشعراء "1768"، الأغاني "11/ 129"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 553"، المعارف "646 وما بعدها". 3 المفضليات "رقم 55، و 125"، الأغاني "13/ 14 وما بعدها"، "دار الكتب". 4 الخزانة "1/ 195"، "بولاق". 5 الشعر والشعراء "1/ 176".

أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد نزلوا بأنقمة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وأبن أم دواد جرت الرياح على محلّ ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد1 وهو جيد العبارة، ليس بالمكثر، ينزع في شعره إلى الحكمة. يكثر التنقل في العرب، يجاورهم فيذم ويحمد2. ومن شعر "حطائط" قوله: أريني جوادا مات هزلا لعلني ... أري ما ترين أو بخيلا مخلدا ذريني أكن للمال ربًّا ولا يكن ... لي المال ربا تحمدي غبه غدا ذريني يكن مالي لعرضي وقاية ... ففي المال عرضي قبل أن يتبددا3 والشاعر "عمرو بن قميئة بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"، وقيل: "عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك"، ويكنى "أبا كعب"، هو من "بني سعد بن مالك"، رهط "طرفة بن العبد" وهو من "بني قيس بن ثعلبة". وكان في عصر "مهلهل بن ربيعة". وقد نعت بأنه قديم جاهلي. وتزعم "بكر"، أنه أول من قال الشعر وقصد القصيد، وذكر أنه كان أول من بكى على شبابه. وكان مع "حجر" أبي "امرئ القيس"، فلما خرج "امرؤ القيس" إلى بلاد الروم يستمد قيصر على بني أسد، استصحبه، فمات في سفره ذلك، فسمته "بكر" "عمرا الضائع". وإياه عنى امرؤ القيس بقوله:

_ 1 المحاسن والأضداد "88"،الشعر والشعراء "1/ 176 وما بعدها"، طبقات ابن سلام "123"، ويوجد اختلاف في رواية بعض ألفاظ هذا الشعر. 2 البخلاء "66، 339"، الأغاني "11/ 134"، الآمدي، المؤتلف "16 وما بعدها". 3 الخزانة "1/ 195 وما بعدها".

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا1 وهو ابن أخي المرقش الأكبر، وخال المرقش الأصغر، وجد طرفة لأمه. وذكر أنه عمر حتى جاوز التسعين، وقال: كأني وقد جاوزت تسعين حجة ... خلعت بها عني عذار لجام2 وذكر "الجاحظ" أنه هو القائل: شركم حاضر وخيركم د ... رّ خروس من الأرانب بكر3 وذكر قبله أبياتا هي: ليس طُعمي طُعم الأنامل إذ ... قلص در اللقاح في الصنبر ورأيت الإماء كالجعثن البا ... لي عكوفا على قرارة قدر ورأيت الدخان كالودع الأه ... جن ينباع من وراء الستر4 وذكر "ابن قتيبة"، أن "عمرو بن قميئة"، كان من خدم "حجر" والد "امرئ القيس"، وأنه بكى لما سار معه إلى بلاد الروم، وقال له: "غررت بنا"5. ولا يعقل أن يكون "عمرو" من خدم "حجر"، فهو وإن نشأ يتيما في كفالة عمه " مرثد بن سعد"، كما تذكر بعض الروايات6،

_ 1 المرزباني، معجم الشعراء "3 وما بعدها"، "القاهرة 1960"، "عبد الستار أحمد فراج"، الشعر والشعراء "1/ 292 وما بعدها"، الأغاني "16/ 158 وما بعدها"، طبقات الشعراء "59"، المؤتلف "868"، الجرجاني "129"، البيان والتبيين "2/ 18"، المعمرون للسجستاني "89"، الخزانة "2/ 249 وما بعدها"، البيان والتبيين "3/ 241". 2 المرزباني، معجم "3"، الشعر والشعراء "1/ 293"، المرزباني، معجم "ص200"، "القدسي 1354هـ"، بروكلمان "1/ 117"، أمالي المرتضى "1/ 45". 3 البخلاء "214" "الحاجري". 4 الحيوان "5/ 73"، "عبد السلام هارون". بسر يطعم الأرامل إذ ... قلص در اللقاح في الصنبر رسائل الجاحظ "2/ 357"، "كتاب البغال". 5 الشعر والشعراء "1/ 60"، "الثقافة". 6 الأغاني "16/ 158"، البخلاء "412"، "الحاجري".

إلا أن أسرته لم تكن من طبقة وضيعة، حتى يصير "عمرو" من خدم "حجر". بل روي أنه كان عاملا لحجر1. وورد أنه في شعراء ربيعة الذين ابتدأ الشعر بهم قبل أن يتحول في قيس، كالمرقشين وطرفة بن العبد والحارث بن حلزة2. و "عمرو" هو القائل يبكي شبابه: لا تغبط المرء أن يقال له ... أمسى فلان لعمره حكما إن يُمْس في خفض عيشه فلقد ... أخنى على الوجه طول ما سلما قد كنت في ميعة أسر بها ... أمنع ضيمي وأهبط العصما يا لهف نفسي على الشباب ولم ... أفقد به إذ فقدته أمما3 وأورد الجاحظ من شعره قوله: وأهون كف لا تضيرك ضيرة ... يد بين أيدٍ في إناء طعام يد من قريب أو غريب بقفرة ... أتتك بها غبراء ذات قتام وقد استشهد ببيت من شعر نسب إليه، هو: ولما رأت ساتيد ما استعبرت ... لله در اليوم من لامها والشعر هو: قد سألتني بنت عمرو عن ... الأرض التي تنكر أعلامها لما رأت ساتيد ما استعبرت ... لله در اليوم من لامها تذكرت أرضا بها أهلها ... أخوالها فيها وأعمامها5 وأما قصة رحيله مع "امرئ القيس" إلى قيصر، ووفاته، وهو في سفر

_ 1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 17". 2 طبقات الشعراء، لابن سلام "34"، "دار المعارف"، "1952"، البخلاء "412"، "الحاجري". 3 المرزباني، معجم "4"، "فراج". 4 البيان والتبيين "3/ 241". 5 الخزانة "2/ 247 وما بعدها".

معه، فجزء من أسطورة سفر "امرئ القيس" إلى الروم1. وكان "عبيد بن الأبرص" شاعر "بني أسد" من المعاصرين لامرئ القيس، وله شعر يخاطبه فيه، لما أظهره من تهديد ووعيد لبني أسد، ويرد فيه عليه2. وقد أنجبت "بنو أسد" جملة شعراء. وذكر أنه كان لدةً لـ "عبد المطلب" جد النبي، وأنه مات قبل "عبد المطلب" بعشرين سنة. قتله "المنذر" أبو "النعمان بن المنذر"3. وإذا أخذنا بهذه الرواية واعتبرناها صحيحة، ورجعنا إلى تأريخ وفاة "عبد المطلب" التي كانت بعد الفيل بثماني سنين4، وإذا جارينا المستشرقين واعتبرنا أن عام الفيل، يقابل السنة "570" للميلاد، تكون وفاة "عبد المطلب" في حوالي السنة "578" للميلاد، فيكون قتل "عبيد بن الأبرص" في حوالي السنة "558" للميلاد على هذا التقدير. ولكن الذي نعرفه من روايات أهل الأخبار أن "عبيد" هذا قد قتله "المنذر بن امرئ القيس" المعروف بالمنذر بن ماء السماء، الذي تولى الملك في حوالي السنة "508" للميلاد وقتل سنة "554" للميلاد5. فيجب أن يكون مقتل "عبيد" قبل السنة "554" للميلاد لا بعدها، على حسب تقدير الرواية السابقة. وهو "عبيد بن الأبرص بن عوف بن جشم" من "بني ثعلبة بن دودان" من "بني أسد". قال عنه "ابن قتيبة": "وكان عبيد شاعرًا جاهليًّا قديمًا من المعمرين، وشهد مقتل حجر أبي امرئ القيس. وهو القائل لامرئ القيس: يا ذا المخوفنا بقتـ ... ـل أبيه إذلالا وحينا أزعمت أنك قد قتلـ ... ـت سراتنا كذبا ومينا6 ويجب أن يكون مقتل "حجر" بعد السنة "528" للميلاد. وهي السنة التي توفي فيها "الحارث" والد "حجر" على غالب الروايات7. ولا نعرف متى

_ 1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 117". 2 الخزانة "1/ 222 وما بعدها"، "بولاق". 3 الروض الأنف "1/ 5". 4 تأريخ الطبري "2/ 277"، "ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسبابه". 5 الجزء الثالث "ص219" من هذا الكتاب. 6 الشعر والشعراء "1/ 187"، الخزانة "1/ 322". 7 الجزء الثالث من هذا الكتاب "ص342 وما بعدها".

قتل "حجر" على وجه صحيح، غير أننا نستطيع أن نقول إن حكمه لم يدم طويلا على "بني أسد" الذين انتهزوا فرصة وفاة "الحارث" وعودة الحكم إلى ملوك الحيرة، أيام "المنذر بن ماء السماء" الذي أخذ يتعقب آل الحارث، ليقتلهم، فثاروا على "حجر" وقتلوه. وذكر أن "المنذر بن ماء السماء" هو الذي قتل عبيدا، قتله يوم بؤسه. وكان يقتل فيه أول من يطلع عليه. فلما رآه المنذر، قال له: هلا كان هذا لغيرك يا عبيد! أنشدني، فربما أعجبني شعرك! فقال له عبيد: حال الجريض دون القريض. قال: أنشدني: أقفر من أهله ملحوب، فأنشده عبيد: أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد فسأله أي قتلة يختار؟ قال عبيد: اسقني من الراح حتى أثمل، ثم افصدني الأكحل، ففعل ذلك به، ولط بدمه الغريين. والغريان طربالان كان يلطخهما بدماء القتلى يوم بؤسه. وكان بناهما على نديمين له، وهما: خالد بن نضلة الفقعسي، وعمرو بن مسعود1. وذكر الرواة أن الملك قال لعبيد: أي قتلة يختار؟ أنشأ يقول: وخيرني ذو البؤس في يوم شؤمه ... خصالا أرى في كلها الموت قد برق كما خيرت عاد من الدهر مرة ... سحائب ما فيها لذي خيرة أنق سحائب ريح لم توكل ببلدة ... فتتركها إلا كما ليلة طلق2 وقد ذكر "ابن قتيبة" أن "قصيدته التي يقول فيها: أقفر من أهله ملحوب، وهي إحدى السبع"، هي من أجود شعره3.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 188"، وقد أخطأ "ابن قتيبة" إذ جعل قاتله "النعمان بن المنذر"، وقد ذهب إلى هذا المذهب أيضا في كتاب شمس العلوم "الجزء الأول، القسم الثاني ص320". 2 الخزانة "1/ 324". 3 الشعر والشعراء "1/ 188".

ومن أمثاله السائرة قوله: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب وكل ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يئوب وقوله: الخير يبقى وإن طال الزمانُ به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد وقوله: الخير لا يأتي على عجلٍ ... والشر يسبق سيله مطره1 ويعد "عبيد" في جملة المعمرين، فقد جعل "ابن قتيبة" عمره أكثر من ثلاثمائة سنة2، وجعل "السجستاني" عمره مائتي سنة وعشرين، ويقال بل ثلاثمائة سنة3. ولتأييد رأيهم في أنه عاش هذا العمر حقًّا، أوجدوا شعرا زعموا أنه قاله، هو: ولتأتينْ بعدي قرون جمة ... ترعى محارم أيكة ولدودا فالشمس طالعة وليل كاسف ... والنجم يجري انحسار سعودا حتى يقال لمن تعرق دهره ... يا ذا الزمانة هل رأيت عبيدا مائتي زمان كامل وبضعة ... عشرين عشت معمرا محمودا أدركت أول ملك نصر ناشئا ... وبناء شداد وكان أبيدا وطلبت ذا القرنين حتى فاتني ... ركضا وكدت بأن أري داودا ما تبتغي من بعد هذا عيشة ... إلا الخلود ولن تنال خلودا وليَفنين هذا وذاك كلاهما ... إلا الإله ووجهه المعبودا4 وهو شعر يجعل عمر "عبيد" أكثر من ألف عام، لا مائتي سنة وعشرين

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 107". 2 الشعر والشعراء "1/ 188"،الخزانة "1/ 323". 3 الخزانة "1/ 323". 4 الخزانة "1/ 323".

ويجعله فيمن ولد قبل الميلاد بزمان. وقد شاء صانعه أن يجعل شاعره من المؤمنين بالله الموحدين، على نحو ما ترى في البيت الأخير من الشعر المزعوم. ويجب أن نضيف إلى الشعراء المذكورين الشاعر المعروف بـ "مرة بن الرواع الأسدي"، أحد بني "حيي بن مالك". وهو شاعر قديم يقول أهل الأخبار إنه كان في عصر "امرئ القيس"، وأن "امرأ القيس" كان يعلم قيانه أشعار "ابن الرواع"1. وهو القائل: أشاقك من فكيهتك ادّلاج ... وبُتَّ الحبل وانقطع الخلاج من قصيدة طويلة. وقوله: إن الخليط أجدّوا البين وادّلجوا ... وهم كذلك في آثارهم لجج2 و"المنقذ بن الطمّاح" الأسدي، شاعر جاهلي من الفرسان المعدودين. وقد أغار على إبل المنذر بن ماء السماء3. وقد عرف بـ "الجميح"، وينسب إليه قوله: يأبى الذكاء ويأبى أن شيخكم ... لن يعطي الآن من ضرب وتأديب4 و"عبد يغوث بن صلاءة، وقيل ابن الحارث بن وقاص بن صلاءة بن المعقل" واسمه "ربيعة بن كعب" من شعراء الجاهلية فارس، سيد قومه من "بني الحارث بن كعب" من اليمن. وكان قائدهم في يوم الكلاب الثاني إلى بني تميم وفي ذلك اليوم أسر فقتل. وله قصيدة قالها وهو في أسره أولها: ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا ... فما لكما في اللوم خير ولا ليا

_ 1 المرزباني، معجم الشعراء "ص 382". 2 المرزباني، معجم الشعراء "294"، "عبد الستار فراج". 3 معجم الشعراء "329"، الأصمعيات "80" المفضليات "109"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 368". 4 المفضليات رقم 4 من القصيدة 4. بروكلمان "1/ 78".

ذكر أن الذي أسره غلام أهوج من "بني عمرو بن عبد شمس"، فانطلق به إلى أهله، فقالت له أم الغلام: من أنت؟ قال: أنا سيد القوم! فضحكت وقالت: قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج، وإلى هذا أشار بقوله: وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا1 وذكر أنه خاطب الشيخة بقوله: أيتها الحرة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: أعطي ابنك مائة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم، فإني أخاف أن تنتزعني سعد والرباب منه، فضمن لها مائة من الإبل، وأرسل إلى "بني الحارث" فوجهوا بها إليها فقبضها العبشمي، وانطلق به إلى الأهتم، فقال عبد يغوث: أأهتم يا خير البرية والدا ... ورهطا إذا ما الناس عدوا المساعيا فمشت سعد والرباب إلى الأهتم فيه، فقالت الرباب: قتل فارسنا، وهو النعمان بن جساس، ولم يقتل لك فارس فدفعه إليهم، فأخذه "عصمة بن أبير" التميمي، فانطلق به إلى منزله، فقال عبد يغوث: يا بني تيم، اقتلوني قتله كريمة. فقال عصمة: وما تلك القتلة؟ قال: اسقوني الخمر ودعوني أنوح على نفسي، فجاءه عصمة بالشراب، فسقاه، ثم قطع عرقه الأكحل، وتركه ينزف، ومضى وجعل معه رجلين، فقالا لعبد يغوث: جمعت أهل اليمن، ثم جئت لتصطلحنا، كيف رأيت صنع الله بك فقال هذه القصيدة: ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا ... فما لكما في اللوم خير ولا ليا2 ومما جاء في هذه القصيدة قوله: أقول وقد شدوا لساني بنسعة ... أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا وقد ذهب العلماء مذهبين في تفسيره، منهم من قال: إنه أراد افعلوا بي

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 676"، الخزانة "1/ 316"، "بولاق"، الأغاني "15/ 73"، زيدان تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 136 وما بعدها". 2 الخزانة "1/ 314".

خيرا لينطلق لساني بشكركم، وأنكم ما لم تفعلوا فلساني مشدود لا أقدر على مدحكم، لأن اللسان لا يشد بنسعة، ومنهم من قال: إنهم شدوه بنسعة حقيقة، بأنهم ربطوه بنسعة مخافة أن يهجوهم وكانوا سمعوه ينشد شعرا، فقال: أطلقوا لي عن لساني أذم أصحابي وأنوح على نفسي، فقالوا: إنك شاعر، ونحذر أن تهجونا، فعاهدهم على أن لا يهجوهم، فأطلقوا له عن لسانه. "قال الجاحظ: وبلغ خوفهم من الهجاء أن يبقى ذكرهم في الأعقاب، ويسبّ به الأحياء والأموات، أنهم إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق، وربما شدّوا لسانه بنسعة كما صنعوا بعبد يغوث"1. وكان "عبد يغوث" شاعرا من شعراء الجاهلية، من أهل بيت شعر معروف في الجاهلية والإسلام، منهم: اللجلاج الحارثي، وهو طفيل بن زيد بن عبد يغوث، وأخوه: مسهر، فارس شاعر، وهو الذي طعن "عامر بن الطفيل" في عينه يوم "فيف الريح"، ومنهم من أدرك الإسلام: "جعفر بن علية بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث"، وكان شاعرا صعلوكا، أخذ في دم فحبس بالمدينة، ثم قتل صبرا2. "قال الجاحظ في البيان والتبيين: وليس في الأرض أعجب من طرفة بن العبد، وعبد يغوث، فإن قسنا جودة أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما، فلم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية"3. ومن الشعراء المعمرين "ذو الإصبع العدواني"، واسمه "حرثان بن محرث بن الحارث" أو "حرثان بن الحارث بن عمرو بن عبادة بن يشكر" اليشكري العدواني، لقب بذي الإصبع لأن حية نهشته على إصبعه فشلت، فسمي بذلك. زعم أنه عاش مائة وسبعين سنة، واستقل هذا العدد "أبو حاتم"، فجعله ثلاثمائة سنة، وهو عمر لا بأس به! وكان أحد حكام العرب، وله قصة مع بناته الأربع، في موضوع الزواج، وصفات الزوج، ورغبة المرأة في الازدواج، رووا أن "عبد الملك بن مروان" كان يحفظ شعره، وأنه سأل رجلًا من

_ 1 البيان والتبيين "4/ 45"، "عبد السلام محمد هارون"، الخزانة "1/ 316". 2 الخزانة "1/ 317"، "بولاق"، الاشتقاق "2/ 239". 3 البيان والتبيين "2/ 268"، الحيوان "7/ 157"، الخزانة "1/ 317"، السيوطي، شرح الشواهد "2/ 676".

"عدوان" عن شعره وأخباره، فلم يعرف من أمره شيئا، فحط من عطائه ثلاثمائة" زادها في عطاء رجل آخر، كان يعرف شعره1. ومن شعره المزعوم في وصف حاله: أصبحت شيخا أرى الشخصين أربعة ... والشخص شخصين لما مسني الكبر لا أسمع الصوت حتى استدير له ... ليلا وإن هو ناغاني به القمر2 ومن شعر "ذي الإصبع" قوله: جلبنا الخيل من بقران قبا ... تجوب الأرض فجا بعد فج وقوله يذكر عدة من ديارهم: إن داري بمرهب فبصعر ... فمعور فوخدة فالمرار ولنا منزل برقبة لا ... يسمع فيه تهاذي الأخبار منزل أحرز الحواضن فيه ... كل قرمٍ متوج جبار ثم بالفرع قد نزلنا قبيلا ... دار صدق قليلة الأقذار ذات حرز وعزة ونجاة ... وامتناع من جحفل جرّار ماؤنا الفيض لا يُعذبنا القيظ ... ولا النزع بالرشاء المغار3 ومن شعره قوله: لي ابن عم ما كان من خلق ... مخالف لي أقليه ويقليني أزرى بنا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلته دوني

_ 1 "حرثان بن السموأل" "حرثان بن محارب" "حرثان بن الحارث بن محرث"، ابن الشجري "1/ 363". العقد الفريد "2/ 328، 363"، الأمالي للقالي "1/ 254"، الخزانة "3/ 222"، الأغاني "3/ 91 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 244 وما بعدها"، الاشتقاق "163"، المعمرون "90"، الخزانة "2/ 406 وما بعدها"، "بولاق"، "حرثان بن السموأل"، اللآلئ "289"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 430"، الأمالي "1/ 93". 2 الخزانة "2/ 408"، بولاق، المؤتلف، للآمدي "118"، الشعر والشعراء "2/ 597 وما بعدها". 3 الصفة "123".

إنك إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني إني لعمري ما بيتي بذي غلق ... على الصديق ولا خيري بممنون ولا لساني على الأدنى بمنبسط ... بالفاحشات ولا فتكي بمأمون عني إليك فما أمي براعية ... ترعى المخاض ولا رأيي بمغبون لا يخرج الكره مني غير مأبية ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني وله قوله: عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض علا بعضهم بعضا ... فلم يرعوا على بعض ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي إذا ما ولدوا أشبوا ... بسر الحسب المحض1 ومن شعراء "بني يشكر": "المنخل بن عبيد بن عامر"، "وهو قديم جاهلي، وكان يشبب بهند أخت عمرو بن هند،.وذكر أنه اتهم بـ "المتجردة" "امرأة النعمان بن المنذر"، وهو الذي وشى إلى "النعمان" بالنابغة، لما وصف المتجردة، وكان أيضا يتهم بامرأة "عمرو بن هند". وكان جميلا، وقد يكون جماله هذا هو الذي أولد هذا القصص المقال حوله من اتصاله بأخت "عمرو بن هند"، وبزوجته، وبزوجة النعمان. ويذكر "ابن قتيبة" أن "عمرو بن هند" قتله، وأنه قال قبيل قلته: طل وسط العباد قتلي بلا جر ... م وقومي ينتجون السخالا لا رعيتم بطنا خصيبا ولا زر ... تم عدوا ولا رزأتم قبالا2 وهذا الخبر، يناقض الأخبار التي تذكر أنه كان يتهم بالمتجردة، وأنه وشى بالنابغة عند النعمان، وأن "النعمان" خرج يتصيد، فعمدت إلى قيد فجعلت رجلها في إحدى حلقتيه، ورجل المنخل في الآخرى شغفا به، وجاء النعمان

_ 1 الشعر والشعراء "2/ 597 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "1/ 318"، المؤتلف "178"، الأغاني "9/ 166".

فألفاهما على حالهما، فأمر بالمنخل فقتل، فضربت به العرب المثل، فقال أوس بن حجر: فجئت ربيعي موليا لا أزيده ... عليه بها حتى يئوب المنخل1 وقد أشار ذو الرمة إلى المنخل بقوله: تقارب حتى يطمع النأي في الهوى ... وليست بأدنى من إياب المنخل2 وقد ورد اسمه على هذه الصورة في "تاج العروس": "والمنخل بن خليل اليشكري، كمعظم: شاعر. ومنه لا أفعله حتى يئوب المنخل. مثل للتأبيد، يضرب في الغائب الذي لا يرجى إيابه، كما يقال: حتى يئوب القارظ العنزي، واسمه عامر بن رهم بن هميم. وقال الأصمعي: المنخل رجل أرسل في حاجة، فلم يرجع، فصار مثلا في كل ما لا يرجى"3. وقد اشتهر بقصيدته: ولقد دخلت على الفتاة ... الخدر في اليوم المطير الكاعب الحسناء تر ... فل في الدمقس وفي الحرير فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير وعطفتها فتعطفت ... كتعطف الظبي الغرير فترت وقالت يا منخـ ... ـل ما بجسمك من فتور4 ومن المعمرين "معدي كرب" الحميري من آل "ذي رعين"، رووا له شعرا منه: أراني كلما أفنيت يوما ... أتاني بعده يوم جديد يعود بياضه في كل فجر ... ويأبى لي شبابي ما يعود5

_ 1 أسماء المغتالين "المجموعة السابعة من نوادر المخطوطات"، "239". 2 ديوانه "509"، الأغاني "18/ 153"، أسماء المغتالين "239". 3 تاج العروس "8/ 131"، "نخل". 4 الشعر والشعراء "1/ 317 وما بعدها". 5 أمالي المرتضى "1/ 253".

و "بشر بن أبي خازم" شاعر جاهلي قديم، من بني أسد، شهد حرب أسد وطيء، وشهد هو وابنه نوفل بن بشر الحلف بينهما. وكان في أول أمره يهجو "أوس بن حارثة بن لأم" الطائي، فأسرته بنو نبهان من طيء، فركب "أوس" اليهم فاستوهبه منهم، وكان قد نذر ليحرقنه إن قدر عليه، فوهبوه له، ثم شفعت له أم أوس، ففك أسره، فجعل بشر مكان كل قصيدة هجاء قصيدة مدح، لأن الهجاء لا يمحى عند العرب إلا بمدح، يمحو أثره، في قصة يروونها عن كيفية وقوعه في الأسر1. وروي أنه لما طعن، طعنه غلام من "بني وائلة" بسهم فأثخنه، وأخذ يجود بنفسه، قال قصيدة يخاطب بها ابنته عميرة: أسائلة عميرة عن أبيها ... خلال الجيش تعترف الركابا وهي قصيدة روى بعض أبياتها الشريف المرتضى في أماليه2. كان بشر قد أغار في مقنب من قوهم على "الأبناء" من بني صعصعة بن معاوية، وكل "بني صعصعة" إلا "عامر بن صعصعة" يدعون الأبناء، وهم وائلة، ومازن، وسلول، فلما جالت الخيل مر "بشر" بغلام من "بني وائلة" فقال له" بشر" استأسر، فقال له الوائلي: لتذهبن أو لأرشقنك بسهم من كنانتي، فأبي بشر إلا أسره، فرماه بسهم، فاعتنق بشر فرسه وأخذ الغلام فأوثقه، فلما كان في الليل أطلقه بشر من وثاقه وخلّى سبيله، وقال: أعلم قومك أنك قتلت بشرا، وهو قوله: وإن الوائلي أصاب قلبي ... بسهم لم يكن نكسا لغابا3 ومن هذه القصيدة قوله: تسائل عن أبيها كل ركب ... ولم تعلم بأن السهم صابا فرجي الخير وانتظري إيابي ... إذا ما القارظ العنزي آبا

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 190 وما بعدها"، المفضلية "98"، أسماء المغتالين "214"، "المجموعة السادسة من نوادر المخطوطات"، رسالة الغفران "166". 2 أمالي المرتضى "1/ 341"، الخزانة "2/ 262"، مختارات ابن الشجري "81 وما بعدها"، الأغاني "11/ 10"، المؤتلف "60". 3 الخزانة "2/ 262"، "بولاق".

والقارظان من عنزة، يقال إنهما خرجا في طلب القراظ يجتنيانه، فلم يرجعا فضرب بهما المثل فقالوا: "لا آتيك أو يئوب القارظان"، يضرب في انقطاع الغيبة. وفي هذا المثل قال أبو ذؤيب: وحتى يئوب القارظان كلاهما ... وينشر في القتلى كليب ووائل1 وقد رُمي "بشر" بالإقواء في شعره2، وقد نشر ديوانه3. ومن أمثاله السائرة قوله: ألم تر أن طول العهد يسلي ... وينسي مثلما نسيت جذام وقوله: يكن لك في قومي يد يشكرونها ... وأيدي الندى في الصالحين فروض4 وذكر أنه أوصى ابنته بأن تذري الدمع عليه، وأن تبكي عليه البكاء الذي يستحقه، وكان من عادة أهل الجاهلية، التأكيد بلزوم البكاء والنوح على الميت، ويؤكدون الوصية بفعله، وفي هذا المعنى قول طرفة بن العبد: فإن مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي عليّ الجيب يا أم معبد5 و"عمرو بن حممة بن رافع بن حارث" الدوسي، أحد حكماء العرب من الأزد، شاعر قديم، ذكروا أنه عاش ثلاثمائة وتسعين سنة، وذكروا له شعرا، قالوا إنه قال فيه إنه جاوز الثلاثمائة من العمر، وأنه قد كبر، ولا بد وأن يأتيه يوم يموت فيه6. وفي رواية أنه وفد على النبي، وهي خطأ لأنه مات في

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 105". 2 الشعر والشعراء "1/ 190". 3 نشره الدكتور عزة حسن بدمشق، سنة 1960م. 4 بلوغ الأرب "3/ 104 وما بعدها". 5 أمالي المرتضي "1/ 340 وما بعدها". 6 المرزباني، معجم "17"، "فراج".

الجاهلية1. وله ولد اسمه "جندب" أسلم، قتل يوم "أجنادين"2. وذكر أنه الذي كان يقال له: ذو الحكم، وضربت به العرب المثل في قرع العصا، لأنه بعد أن كبر صار يذهل فاتخذوا له من يوقظه فيقرع العصا، فيرجع إليه فهمه. وإليه أشار الحارث بن وعلة بقوله: إن العصا قرعت لذي الحكم ومن شعره الذي قاله في كبره: أخبر أخبار القرون التي مضت ... ولا بد يوما أن أطار لمصرعي3 وقد أنجبت "دوس" جملة شعراء، منهم: "وهب بن عبد الله بن دوس بن أبي خالد بن زهير" الشاعر في أول الإسلام، و "جندب بن طريف" الشاعر الذي يقال له ابن الغامدية، ومنهم: "أبو غُنيش" الشاعر، جاهلي من بني مبدول "مندول؟ "4. وقد اختلف في "جران العود" النميري، فذهب "كرنكو" إلى أنه من شعراء العصر الأموي، وأنه من معاصري عبد الملك بن مروان. وقد نص "البغدادي" على أنه شاعر جاهلي من "بني ضنة بن نمير بن عامر بن صعصعة". واسمه: "عامر بن الحرث بن كلفة"، وقيل "كلدة"، وإنما سمي "جران العود" لقوله يخاطب امرأتيه: عمدت لعود فالتحيت جرانه ... وللَكيس أمضى في الأمور وأنجح خذا حذرا يا ضرتيّ فإنني ... رأيت جران العود قد كان يصلح5 وجران العود أحد من وصف القوّادة في شعره6. وقد روى "السكري" ديوان هذا الشاعر، وقد تحدث في ديوانه عن "حمامة نوح"، وورد فيه شعر

_ 1 الإصابة "2/ 526"، "رقم 5821"، ابن دريد، الاشتقاق"2/ 296". 2 الإصابة "1/ 250 وما بعدها"، "رقم 1226". 3 الإصابة "2/ 527"، "رقم 5821". 4 الاشتقاق "2/ 296". 5 الخزانة "4/ 198"، الحيوان "1/ 40". 6 الشعر والشعراء "2/ 605 وما بعدها".

للرحال، وكان خدن جران، وتزوج كل واحد منهما امرأتين، فلقيا منهما مكروها1. وقد طبع الديوان مع شرح عليه2. ومن الشعر المنسوب إليه هذا الشعر: حملن جران العود حتى وضعنه ... بعلياء في أرجائها الجن تعزف وذكر "المعري" أنه ينسب أيضا "لسحيم"3. ونجد في شعر ينسب إليه إشارة إلى الكتاب وإلى الوشوم، تكون بأيدي الروم، إذ يقول: تُركْن برجلة الروحاء حتى ... تنكرت الديار على البصير كوحي في الحجارة أو وشوم ... بأيدي الروم باقية النئور4 وذكر "الجاحظ" له قوله: وكان فؤادي قد صحا ثم هاجه ... حمائم ورق بالمدائن هتف كأن الهديل الظالع الرجل وسطها ... من البغي شريب يغرد مترف5 وله شعر في وصف "الذئب"6، وفي أصوات الطيور والحمام وبقية الحيوانات7، وفي الطيرة، إذ يقول: جرى يوم رحنا بالجمال نزفها ... عقاب وشحاج من البين يبرح فأما العقاب فهي منها عقوبة ... وأما الغراب فالغريب المطوح8 وقد أورد "الجاحظ" له أشعارا نثرها في كتابه "الحيوان"9.

_ 1 الشعر والشعراء "2/ 605". 2 بروكلمان "1/ 116". 3 رسالة الغفران "277". 4 الحيوان "1/ 40". 5 الحيوان "2/ 209". 6 الحيوان "2/ 213". 7 الحيوان "2/ 297"، "3/ 240". 8 الحيوان "2/ 441". 9 الحيوان "2/ 386".

وقد وصف نفسه وعشيقته بقوله: فأصبح من حيث التقينا غدية ... سوار وخلخال ومرط ومطرف ومنقطعات من عقود تركنها ... كجمر الغضا في بعض ما تتخطرف1 ونجد شعره شعرا حضريا، فيه ذكر البقل، كما في هذين البيتين: فنلنا سقاطا من حديث كأنه ... جَنى النحل أو أبكار كرم يقطف حديثا لو أن البقل يُولى بمثله ... زها البقل واخضر العضاة المصنف2 ومن شعراء الجاهلية: "الحادرة" الذبياني، وهو "قطبة بن أوس بن محصن بن جرول" من "بني ثعلبة بن سعد" الغطفاني، وهو شاعر جاهلي مجيد مقل، كان يهاجي "زبان بن سيار" الفزاري، وقد بقيت أشعاره القليلة برواية "أبي عبد الله" اليزيدي، المتوفى سنة "310هـ"3. وكانت له صاحبة اسمها "سمية" تغزل بها في شعره: بكرت سمية غدوة فتمتع ... وغدت غدوَّ مفارق لم يربع4 ومن شعراء الجاهلية: "سويد بن عامر" المصطلقي. ينسب له قوله: لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... إن المنايا بكفَّي كل إنسان واسلك طريقا تمشى غير مختشع ... حتى تبيَّن ما يمني لك الماني فكل ذي صاحب يوما يفارقه ... وكل زاد وإن أبقيته فان والخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيك الجديدان5 ونسب البيت الأول والثاني والرابع إلى أبي قلادة الهذلي، من قصيدة أولها:

_ 1 البخلاء "233". 2 البيان والتبيين "1/ 281". 3 رسالة الغفران "282"، الأغاني "3/ 82 وما بعدها"، بروكلمان "1/ 110"، البيان والتبيين "3/ 320"، الحيوان "3/ 475". 4 رسالة الغفران "282، 401". 5 أمالي المرتضى "1/ 368".

يا دار أعرفها وحشًا منازلها ... بين القوائم من رهط فألبان مع اختلاف في روايتها وترتيبها1. ومن شعراء خزاعة: "مطرود بن كعب" الخزاعي، له شعر في رثاء عبد المطلب بن عبد مناف، أوله: يا أيها الرجل المحول رحله ... ألا نزلت بآل عبد مناف هبلتك أمك لو نزلت عليهم ... ضمنوك من جوع ومن إقراف الآخذون العهد من آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف والمطعمون إذا الرياح تناوحت ... ورجال مكة مسنتون عجاف والمفضلون إذا المحول ترادفت ... والقائلون هَلُمَّ للأضياف والخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمُحُّ خالصة لعبد مناف2 ومن شعراء هذيل "أبو كبير". وهو "عامر بن الحليس"، وقيل "ابن جمرة". وهو جاهلي، تزوج أم "تأبط شرا"، ثم تركها في قصة يرويها أهل الأخبار3. قال "ابن قتيبة": وله أربع قصائد، أولها كلها شيء واحد، ولا نعرف أحدا من الشعراء فعل ذلك. إحداهن: أزهير هل عن شيبة من مَعْدل ... أم لا سبيل إلى الشباب الأول والثانية: أزهير هل عن شيبة من مقصر ... أم لا سبيل إلى الشباب المدبر والثالثة: أزهير هل عن شيبة من مصرف ... أم لا خلود لباذل متكلف

_ 1 أمالي المرتضى "368 تعليق رقم 1". 2 أمالي المرتضى "2/ 268"، المرزباني، معجم "375"، ابن هشام "1/ 117"، "حاشية على الروض". 3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 231"، الخزانة "3/ 466"، السمط "387"، رسالة الغفران "334"، ديوان الهذليين"2/ 92".

والرابعة: أزهير هل عن شيبة من معكمِ ... أم لا خلود لباذل متكرم1 وتنسب له قصيدة فيها: ولقد سريت على الظلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مهبل ممن حملن به وهنَّ عواقد ... حبك النطاق فعاش غير مثقل ونسبها بعض العلماء إلى "تأبط شرا" وتتناول قصة حب، وقعت بين صاحب القصيدة وامرأة، كان لها ابن ذكي، هددها بقتلها إن بقيت تواصل الرجل، فأشارت المرأة على الشاعر قتله، لأنها تحبه، ولا تريد مفارقته، وفضلت قتله على فراق الشاعر، في قصة جميلة من قصص الحب2. فالقصيدة إذن من الشعر القصصي الذي يتعلق بالحب والغرام. وقد نسبها بعضهم إلى "أبي كبير"، وجعل الغلام "تأبط شرا" في قصة طريفة من قصص الحب3. وقد روي أنه أدرك الإسلام، ثم أتى النبي، فقال له "أحل لي الزنا. فقال: أتحب أن يؤتى إليك مثل ذلك؟ قال: لا. قال: فارض لأخيك ما ترضى لنفسك. قال: فادع الله لي أن يذهب عني"4. والأصح أنه جاهلي لم يدرك الإسلام. ولهذيل شعر جيد وشعراء مجيدين. وتعد من القبائل المخصبة في الشعر، ومن شعرائها: "المتنخل": "مالك بن عمرو بن عُثم بن سويد بن حنش بن خناعة" "مالك بن عويمر" من "لحيان"5. اشتهر بقصيدته التي يقول فيها:

_ 1 الشعر والشعراء "2/ 561"، الحماسة شرح التبريزي "1/ 42"، الأمالي "2/ 32". 2 الشعر والشعراء "2/ 562 وما بعدها"، "غير مثقل"، الخزانة "3/ 466". 3 الخزانة "3/ 467 وما بعدها"، شرح الحماسة، للتبريزي "1/ 42". 4 الخزانة "3/ 473"، "فقال: أحل لي الربا"، الإصابة "4/ 165 "، "رقم 961". 5 الشعر والشعراء "2/ 522"، الأغاني "20/ 145"، المؤتلف "178"، الخزانة "2/ 135"، السمط "724"، ديوان الهذليين "2/ 15".

يا ليت شعري وهمّ المرء ينصبه ... والمرء ليس له في العيش تحريز هل أجزينكما يوما بقرضكما ... والقرض بالقرض مجزيّ ومجلوز "قال الأصمعي: ما قيلت قصيدة على الزاي أجود من قصيدة الشمّاخ في صفة القوس، ولو طالت قصيدة المتنخل كانت أجود"1. وهو من الجاهليين. ومن شعره: لا ينسئ الله منا معشر شهدا ... يوم الأميلح لا عاشوا ولا مرحوا عقوا بسهم فلم يشعر له أحد ... ثم استفاؤوا وقالوا حبذا الوضح التعقية: الاعتذار. وأصل هذا أن يقتل رجلًا من قبيلته، فيطلب القاتل بدمه، فتجتمع جماعة من الرؤساء إلى أولياء المقتول بديه مكملة ويسألونهم العفو وقبول الدية، فإن كان أولياؤه ذوي قوى أبوا ذلك، وإلا قالوا لهم: بيننا وبين خالقنا علامة للأمر والنهي، فيقول الآخرون: ما علامتكم؟ فيقولون أن نأخذ سهما فنرمي به نحو السماء، فإن رجع إلينا مضرجا بالدم، فقد نهينا عن أخذ الدية، وإن رجع كما صعد، فقد أمرنا بأخذها، وحينئذ مسحوا لحاهم وصالحوا على الدية، وكان مسح اللحية علامة للصلح. قال الأشعر الجعفي: عقوا بسهم ثم قالوا ساهموا ... يا ليتني في القوم إذ مسحوا اللحى2 وأورد "المرتضى" له شعرا في رثاء أبيه وأخيه أوله: لعمرك ما إنْ أبو مالك ... بوان ولا بضعيف قواه ومنه: أبو مالك قاصرة فقره ... على نفسه ومشيع غناه3 ومن شعره في الضيف: ولا والله نادى الحي ضيفي ... هدوءا بالمساءة والعلاط

_ 1 الشعر والشعراء "2/ 522". 2 الخزانة "2/ 137". 3 أمالي المرتضى "1/ 306 وما بعدها".

سأبدؤهم بمشمعة وأثني ... بجهدي من طعام أو بساط1 ومن شعراء "هذيل" "خويلد بن مطحل" الهذلي، أحد "بني سهم بن معاوية"، وكان سيد هذيل في زمانه، وابنه من بعده، "معقل بن خويلد". وكان شاعرًا معدودًا في شعراء هذيل، ووفد إلى أرض الحبشة، فكلم ملكهم في من عنده من أسرى العرب، فأطلقهم له. وهو القائل: لعمرك لليأس غير المريث ... خير من الطمع الكاذب وللريث تحفزه بالنجا ... ح خير من الأمل الخائب يرى الحاضر الشاهد المطمئن ... من الأمر ما لا يرى الغائب2 وورد في "الإصابة" اسم "معقل بن خويلد بن وائلة بن عمرو بن عبد يا ليل" الهذلي، وكان شاعرا، وكان أبوه رفيق "عبد المطلب" إلى أبرهة، وكان بين أبي سفيان وبين معقل بن خويلد، خلاف في سلب رجل من قريش. فقال النبي: "يا معقل بن خويلد اتق معارضة قريش". وذكره "المرزباني" في الشعراء المخضرمين3. ومن بقية شعراء الجاهلية "ذو الخرق" الطهوي، وهو "دينار بن هلال". ويقال إن اسمه "قرط"، وإنما سمي بذي الخرق لقوله: جاءت عِجافًا عليها الريش والخرق4 وهو من الشعراء الفرسان5 و"سراج بن قرة" "سراج بن قوة" العامري، أحد بني الصموت بن عبد الله بن كلاب من الشعراء الجاهليين. ذكر "المرزباني" في معجم الشعراء له شعرا قاله في يوم من أيام الجاهلية، وقد نسب على هذه الصورة: "سراج

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 493". 2 الشعر والشعراء "2/ 556"، ديوان الهذليين "3/ 68 وما بعدها". 3 الإصابة "3/ 425"، "رقم 8137". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 162". 5 تاج العروس "6/ 329"، "خرق".

ابن قرة "قوة" بن ربعي بن زرعة بن الكاهن بن عمرو بن عوف بن أبي ربيعة بن الصموت بن عبد الله بن كلاب". وقد زعم أن له وفادة على النبي، ولا يوجد دليل يؤيده1. و"السندري بن يزيد الكلابي" شاعر كان مع علقمة بن علاثة، وكان "لبيد" الشاعر مع "عامر بن طفيل"، فدعى لبيدا إلى مهاجاته فأبى2. ومن شعراء تغلب في الجاهلية "المهلهل" و "عمرو بن كلثوم" التغلبي، و"أفنون" التغلبي، واسمه "ظالم"، وقيل: "صريم بن معشر بن ذهل بن تيم بن عمرو بن مالك" التغلبي. يقال إنه مات بموضع يقال له "إلاهة" بطريق الشأم، بلدغة حية، وأن كاهنا كان قد قال له: إنك تموت بمكان يقال له إلاهة، فمات به. ومما ينسب له من الشعر هذا البيت: مَنيتنا الود يا مضنون مضنونا ... أزماننا إن للشباب أفنونا3 وله مقطوعة أولها: أبلغ حُبيبا وخلل في سراتهم ... إن الفؤاد انطوى منهم على حزن قد كنت أسبق من جاروا على مهل ... من ولد آدم ما لم يخلعوا رسني قالوا عليّ ولم أملك فيالتهم ... حتى انتحين على الأرساغ والثنن لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... ربيت فيهم ولقمان ومن جدن4 ذكروا أنه إنما عرف بأفنون لقوله من قطعة: منيتنا الود يا مضنون مضنونا ... أيامنا إن للشباب أفنونا

_ 1 الإصابة "2/ 16"، "رقم 3101". 2 تاج العروس "3/ 281"، "السندرة"، ديوان لبيد "14"، "مقدمة". 3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 146"، وقيل اسمه "ظالم" المؤتلف "151"، السمط "684 "، ألقاب الشعراء "317"، الاشتقاق "2/ 203". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 144 وما بعدها"، المفضلية رقم "66"، الأمالي "2/ 51"، أمالي ابن الشجري "1/ 37"، البيان والتبيين "1/ 23"، الخزانة "4/ 455 وما بعدها".

وأنه لما قال له الكاهن تموت بمكان يقال له إلاهة، مكث ما شاء الله ثم سار إلى الشأم في تجارة، ثم رجع في ركب من "بني تغلب" فضلوا الطريق، ثم نزلوا "إلاهة"، قارة بالسماوة، فلما أتوها نزل أصحابه، وقالوا: انزل. فقال: والله لا أنزل! فجعلت ناقته ترتعي عرفجًا فلدغتها أفعى في مشفرها، فاحتكت بساقه والحية بمشفرها فلدغته في ساقه، فقال لأخ معه احفر لي قبرا فإني ميت، ثم رفع صوته بأبيات منها: لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا كفى حزنا أن يرحل الحي غدوة ... وأصبح في أعلى إلاهة ثاويا1 ومات من ساعته، فقبره هناك. وهو القائل: لعمرك ما عمرو بن هند إذا دعا ... لتخدم أمي أمه بموفق2 ومن شعراء تغلب: "الأخنس بن شهاب" التغلبي، فارس العصا3 وينسب له قوله: يظل بها ربد النعام كأنها ... إماء تزجى بالعشي حواطب4 وقد قال "الأخنس" في أول القصيدة: لابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب وذكر "الأعلم الشنتمري" قبله: فمن يك أمسى في بلاد مقامه ... يسائل أطلالا بها ما تجاوب فلابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب وفي جملة أبياتها: فوارسها من تغلب ابنة وائل ... حماة كماة ليس فيها أشائب

_ 1 الخزانة "4/ 460"، "بولاق". 2 الشعر والشعراء "1/ 159، 331 وما بعدها"، الحيوان "3/ 135"، شرح النقائض "886". 3 الاشتقاق "2/ 203". 4 الشعر والشعراء "1/ 102"، المفضلية رقم "141، الموشح "44".

وعدتها ما بين ثلاث وعشرين إلى ثلاثين بيتا، حسب اختلاف الروايات1. و"البرج بن الجلاء بن الطائي" من شعراء طيء، وكان خليلا للحصين بن الحمام ونديمه على الشراب. ذكر أنه وقع على أخت له وهو سكران فافتضها فلما أفاق ندم واستكتم ذلك قومه، ثم إنه وقع بينه وبين الحصين فعيّره بذلك في أبيات، وجرت بينهما الحرب، فأسره "الحصين" ثم منّ عليه لتقدم صداقته، فلحق ببلاد الروم، وقيل بل شرب الخمر صرفا حتى قتلته2. ومن شعراء "طيء" في الجاهلية: "عمرو بن عمّار" الطائي، وكان شاعرا خطيبا، فبلغ النعمان حسن حديثه فحمله على منادمته، وكان النعمان أحمر العينين والجلد والشعر، شديد العربدة، قتالا للندماء، فنهاه "أبو قردودة" عن منادمته، لكنه لم ينته، فغضب عليه النعمان وقتله، فرثاه "أبو قردودة" بقوله: إني نهيت ابن عمار وقلت له ... لا تأمنن أحمر العينين والشعره إن الملوك متى تنزل بساحتهم ... تطر بنارك من نيرانهم شرره يا جفنة كإزاء الحوض قد هدمت ... ومنطقا مثل وشي اليمنة الحبره3 وأبو "قردودة" الطائي، شاعر، رأى "سعد القرقرة" أكل عند النعمان مسلوخا بعظامه، فقال: بين النعام وبين الكلب منبته ... وفي الذئاب له ظئر وأخوال4 وله قصيدة أولها: كبيشة عرسي تريد الطلاقا ... وتسألني بعد وهن فراقا5 و"دريد بن الصمة" من سادات "جشم"، ويكنى "أبا قرة"، وهو أحد الفرسان الشجعان المشهورين، وذوي الرأي في الجاهلية، وشهد معركة "حنين"

_ 1 الخزانة "3/ 165"، "بولاق". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 280 وما بعدها". 3 الحيوان "4/ 243"، "5/ 332"، البيان والتبيين "1/ 222، 349"، المرزباني معجم "236"، محاضرات الراغب الأصبهاني "1/ 92". 4 الحيوان "1/ 147". 5 الحيوان "5/ 463".

مع "هوازن"، وهو شيخ كبير، فقتل مع من قتل من المشركين1. وقيل إنه قال في هذه المعركة: يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع ومن جيد شعره قوله: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد فلماعصوني كنت منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنني غير مهتدي وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وله أشعار أخرى، ذكر "ابن قتيبة" بعضا منها2. وأمه "ريحانة" بنت "معدي كرب"، أخت "عمرو بن معدي كرب"3. وله قصيدة في رثاء "معاوية" أخي الخنساء، مما جاء فيها: فإن الرزء يوم وقفت أدعو ... فلم يسمع معاوية بن عمرو رأيت مكانه فعطفت زورا ... وأي مكان زور يا ابن بكر على إرم وأحجار ومير ... وأغصان من السلمات سمر وبنيان القبور أتى عليها ... طوال الدهر من سنة وشهر ولو أسمعته لأتاك ركضا ... سريع السعي أو لأتاك يجري بشكة حازم لا عيب فيه ... إذا لبس الكماة جلود نمر فإما تمس في جدث مقيما ... بمسهكة من الأرواح قفر فعز عليّ هلكك يا ابن عمرو ... وما لي عنك من عزم وصبر4

_ 1 الأغاني "9/ 2 وما بعدها"، الخزانة "4/ 442 وما بعدها"، أسماء المغتالين "223"، المعمرون "20"، ابن هشام، سيرة "2/ 429"، المقريزي، إمتاع الأسماع "1/ 402"، عيون الأثر "2/ 188". 2 الشعر والشعراء "2/ 635 وما بعدها"، بروكلمان "1/ 164"، كارلو نالينو "80". 3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 938 وما بعدها". 4 الخزانة "4/ 444".

وقد وصف بأنه شجاع فحل: "أول شعراء الفرسان، أول الفرسان الشعراء غزوا وأكثرهم ظفرا وأيمنهم نقيبة عند العرب وأشعرهم"1. غزا نحو مائة غزوة وما أخفق في واحدة منها، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وخرج مع قومه يوم حنين مظاهرا للمشركين ولا فضل فيه للحرب، وإنما أخرجوه تيمنا به وليقتبسوا من رأيه، فقتل على شركه. وكان قد رأس قومه: "مالك بن عوف". فلما سأله "دريد" عن خطته في الحرب، سفه رأيه وأشار عليه بالرجوع فخالفه "مالك"، فلما التقوا بالمسلمين حلت الهزيمة بهم. وقتل "دريد"2. وكان "دريد" فارس بني "غطفان"، وقُتل أخوه "عبد الله"، فقَتَل به "ذوّاب بن أسماء بن زيد بن قارب"، وقال: قتلت بعبد الله خير لداته ... ذواب بن أسماء بن زيد بن قارب3 و"عامر بن الطفيل" من "بني عامر بن صعصعة" من الشعراء الذين أدركوا الإسلام، وقد وفد على الرسول، وهو يريد الغدر به، ثم رجع كافرا فمات وهو في طريقه إلى دياره بالطاعون4. ورد في رواية أنه قال للرسول: "تجعل لي نصف ثمار المدينة، وتجعلني ولي الأمر من بعد وأسلم!؟ "5. وهو الذي نافر "علقمة بن علاثة" إلى "هرم بن قطبة" الفزاريّ، حين أهتر عمه عامر بن مالك ملاعب الأسنة. وكان فارس قيس، أعور عقيما لا يولد له، ولم يعقب، مغرورًا فخورًا بنفسه: ومن شعره قوله: فإني وإن كنت ابن فارس عامر ... وسيدها المشهور في كل موكب

_ 1 الخزانة "4/ 446". 2 الخزانة "4/ 446 وما بعدها". 3 الاشتقاق "2/ 178". 4 الطبري "3/ 144"، "وفد بني عامر"، ابن هشام، سيرة "1/ 337 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الخزانة "1/ 473"، المعمرون "60"، ابن كثير، تأريخ "5/ 56". 5 الشعر والشعراء "1/ 252".

فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب1 وله شعر يفخر به بقومه قيس عيلان، يجعل الأرض قيس عيلان وحدهم، لهم السهول والحزوم، وقد نال مجدهم آفاق السموات، ولهم الصحو منها والغيوم2. وكان "عامر" شديدا قويا، يرى لنفسه الزعامة بفضل قبيلته، وبقوة شخصيته، وتذكر بعض الأخبار أنه لما وفد مع "بني عامر"، كان غليظا في كلامه، حتى إن الرسول امتعض منه، وكان يستهين أمر الرسول، ويقول: "لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأتبع أناعقب هذا الفتى من قريش؟ " يقولها لما كانوا يلحون عليه في الدخول في الإسلام، ولما سأل الرسول أن يجعل له ميزة فيتفق معه على أن يكون هو سيد أهل الوبر، وأن يكون الرسول سيد أهل المدر، وأبى الرسول ذلك عليه، خرج من يثرب غاضبا مهددا، قائلا للرسول: "لأملأنهاعليك خيلا جردا، ورجالا مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا"، مما جعل الرسول يدعو الله أن يكفيه شره. وكان الرسول يقول: "والذي نفسي بيده لو أسلم فأسلمت بنو عامر لزاحموا قريشا منابرهم"3. وبنو عامر بن صعصعة من القبائل القوية، وهي من "هوازن"، وقد كانت منازلها بنجد، وقد ساهمت في حروب عبس وذبيان، فساعدت عبس على ذبيان، ولعب عامر بن صعصعة دورا مهما فيها. وقد طبع ديوانه، طبعه المستشرق "لايل" في سلسلة "جب" التذكارية سنة "1913" مع ديوان عبيد بن الأبرص4. ومن شعراء "بني بارق": "معقر بن حمار" البارقي، واسمه "سفيان بن أوس بن حمار"، سُمّي معقرا بقوله:

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 253". 2 الشعر والشعراء "1/ 252". 3 الأغاني "15/ 131 وما بعدها". 4 بروكلمان "1/ 117".

له ناهض في الوكر قد مهدت له ... كما مهدت للبعل حسناء عاقر وقوم "معقر"، وهم "بارق" من اليمن في الأصل، ينتهي نسبهم بالأزد. وكانوا قد حالفوا "بني نمير بن عامر" لدم أصابوه منهم، وشهدوا يوم "جبلة". وهو يوم كانت فيه وقعة بين "بني ذبيان" و "بني عامر"، فظهرت "بنو عامر" على "بني ذبيان". وكان "معقر" من فرسان قومه ومن شعرائهم يوم "جبلة" وقد حدد ذلك اليوم بوقوعه قبل الإسلام بتسع وخمسين سنة، وبتسعة عشرة سنة قبل المولد النبوي1. ومن شعره: الشعرُ لبُّ المرء يعرضه ... والقول مثل مواضع النبل منها المقصر عن رميته ... ونوافذ يذهبن بالخصل2 ومن شعره المشهور: فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر3 ومن شعراء الجاهلية، شاعر لا نعرف من أمره شيئا يذكر، اسمه: "عمرو بن عبد الجن"4، "عمرو بن عبد الحق"5، وينسب له قوله: أما ودماء مائرات تخالها ... على قنة العزى وبالنسر عندما وما سبح الرهبان في كل بيعة ... أبيل الأبيلين المسيح بن مريما

_ 1 الخزانة "2/ 290 وما بعدها"، "ومعقر بن أويس" البارقي، كمحدث، شاعر. هكذا نسبه "ابن الكلبي". ويقال هو معقر بن حمار البارقي حليف بني نمير. وبارق هو سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو بن عامر، تاج العروس "3/ 418"، "عقر". 2 الحيوان "3/ 61 وما بعدها". 3 المؤتلف "92"، المرزباني، معجم "204". 4 المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية، للعيني "1/ 500"، "حاشية على الخزانة"، "بولاق"، اللسان "11/ 6 وما بعدها"، "أبل". 5 تاج العروس "7/ 198"، "أبل"، شيخو، النصرانية "2/ 1 ص186".

لقد ذاق منا عامر يوم لعلع ... حساما إذا ما هز بالكف صمّما1 ومن شعراء "قيس" المجيدين في الجاهلية: "خداش بن زهير بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن صعصعة"، قال "أبو عمرو بن العلاء": "خداش بن زهير أشعر في عَظْم الشعر، يعني نَفَس الشعر، من لبيد، إنما كان لبيد صاحب صفات".. وجده "عمرو بن عامر"، يقال له "فارس الضحياء"، والضحياء فرسه. وفيه يقول: أبي فارس الضحياء عمرو بن عامر ... أبى الذم واختار الوفاء على الغدر ومما يتمثل به من شعره قوله: ولن أكون كمن ألقى رحالته ... على الحمار وخلّى صهوة الفرس وقوله: فإن يكُ أوس حية مستميتة ... فذرني وأوسا إن رقيته معي2 وذكر أنه كان من الصحابة، وأنه شهد حنينًا مع المشركين، ثم أسلم بعد ذلك. ويرى "المرزباني" أنه جاهلي لم يدرك الإسلام، وأغلب أهل الأخبار على هذا الرأي. وينسب إليه قوله: يا شدة ما شددنا غير كاذبة ... على سخينة لولا الليل والحرم و"سخينة" قريش. وكانت تعير بإكثارها من أكلها السخينة3. ومن شعره: فيا راكبا أما عرضت فبلِّغن ... عقيلا إذا لاقيته وأبا بكر بأنكم من خير قوم لقومكم ... على أن قولا في المجالس كالهجر

_ 1 العيني "1/ 500"، واللسان "11/ 6 وما بعدها"، "أبل". 2 الشعر والشعراء "2/ 540"، المؤتلف "107"، السمط "701"، الخزانة "3/ 233""، "4/ 338". 3 الخزانة "3/ 233" الإصابة "1/ 455"، "2327".

دعوا جانبًا إنا سنترك جانبًا ... لكم واسعا بين اليمامة والظهر1 و"الحصين بن الحمام" المريّ، شاعر جاهلي، وهو من "بني مرة"، يعد من أوفياء العرب2، وهو أحد الشعراء المقلين. "قال أبو عبيدة" واتفقواعلى أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة: المتلمس، والمسيب بن علس، والحصين بن حمام المري"3. وقد أدخله بعضهم في الشعراء الجاهليين الذين أدركوا الإسلام. وقد احتجوا بإسلامه بما نسب إليه من الشعر من قوله: أعوذ بربي من المخزيات ... يوم تري النفس أعمالها وخف الموازين بالكافرين ... وزلزلت الأرض زلزالها والأصح أنه جاهلي لم يدرك الإسلام4. وأما "المفضل بن معشر بن أسحم"، فهو من "نُكرة" من "لكيز"، فضلته قصيدته التي يقال لها "المنصفة"، وأولها: ألم تَرَ أن جيرتنا استقلوا ... فنيتنا ونيتهم فريق5 وقد ولع بعض العلماء في وضع تواريخ للشعراء المتقدمين ولغيرهم، تحدد سني ميلادهم وسني وفاتهم، وسني الحوادث التي وقعت في أيامهم والمذكورة في أشعارهم. وهو ولع لا يستند على أسس علمية. لأن أغلب الروايات الواردة عن هؤلاء الشعراء هي غير ثابتة، وقد تتناقض أحيانا، وقد يثبت بطلانها بعد نقدها نقدا علميًّا، ثم إن فيها ما هو موضوع مصنوع ظاهر الصنعة، بيّن التكلف، ولهذا فأنا أحاول جهد إمكاني تجنيب نفسي من توريطها في وضع أرقام تمثل

_ 1 الخزانة "4/ 338". 2 الخزانة "1/ 9"، "بولاق"، الشعر والشعراء "1/ 115"، "2/ 542"، الخزانة "2/ 7"، "3/ 352"، الأغاني "12/ 118"، المؤتلف "91"، السمط "117". 3 الشعر والشعراء "1/ 115". 4 الإصابة "1/ 235"، "1732". 5 ابن سلام، طبقات "70".

مواليد الشعراء الجاهليين أو سني وفاتهم، أو تواريخ الحوادث المذكورة في شعرهم، لعدم إمكانية التثبت من ذلك، بل إني أرى لزوم الابتعاد جهد الإمكان عن وضع التواريخ لسني حكم الملوك ولسني وفاتهم لصعوبة إثبات ذلك، والاكتفاء جهد الإمكان بتقريب أيامهم إلينا بصورة تقريبية. ولهذاالسبب لم أحفل في هذاالفصل بترتيب الشعراء ترتيبا زمنيا على وفق ما ذهب إليه المولعون بتدوين التواريخ بالسنين، إذ أرى صعوبة الأخذ بهذا الرأي في التأريخ.

الفصل الثامن والخمسون بعد المئة: المعلقات السبع

الفصل الثامن والخمسون بعد المئة: المعلقات السبع ... الفصل الثامن والخمسون بعد المائة: معلقات السبع ومن الشعر الجاهلي قصائد عرفت بين الناس باسم "المعلقات السبع" وبـ "المعلقات" وبـ "المذهبات" وبـ "السموط"، لزعم الرواة أن العرب اختارتها من بين سائر الشعر الجاهلي، فكتبتها بماء الذهب على القباطي، ثم علقتها على الكعبة إعجابا بها وإشادة بذكرها، وقد بقي بعضها إلى يوم الفتح، وذهب ببعضها حريق أصاب الكعبة قبل الإسلام. والمعلقات السبع هي سبع قصائد طويلة اختيرت من الشعر الجاهلي، فعرفت لذلك بين الناس بـ "السبع" وبالسبع الطوال، وبالسبع الطول، وبالسبع الطول، وبالقصائد المختارة، وبالسبعيات، وعرفت أيضا باختيارات حماد، وبالسمط، وبالسموط، وبالمذهبات. ويظهر أن لفظة "السبع"، هي من الألفاظ القديمة التي أطلقت على اختيارات "حماد"، فقد ذكر "محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: أن أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمى السمط: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة. قال: وقال المفضل: من زعم أن في السبع التي تسمي السمط لأحد غير هؤلاء فقد

_ 1 المزهر "2/ 480"، الجزء الأول من تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 37"، العمدة "96"، العقد الفريد "6/ 169".

أبطل"1. ولما تحدث "ابن قتيبة" عن معلقة "عمرو بن كلثوم"، قال: "وهي من جيد شعر العرب القديم، وإحدى السبع"2. فالسبع، تسمية أخذت من حقيقة أن القصائد المذكورة المختارة كانت سبع قصائد. وأما تسمية المعلقات بـ "السبع الطوال" و "السبع الطول"، فلكون هذه القصائد السبعة، هي من أطول ما ورد في الشعر الجاهلي من قصائد. ونجد هذه التسمية واردة على لسان "المفضل" حيث نسب إليه قوله: "هؤلاء أصحاب السبع الطوال"3. وقد أطلقها "ابن كيسان" المتوفى سنة "299هـ" "911"4، "320هـ" "932"5، على شرحه لتلك القصائد حيث سماه بـ "شرح السبع الطوال الجاهلية"6، وأطلق "أبو جعفر احمد بن محمد" النّحاس "338" هذا العنوان عليها، إذ ذكرها بقوله: "إن حمادًا هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"7، وأطلقه على شرحه لها8. وعرفت أيضا بـ "القصائد السبع" وبـ "القصائد السبع الطوال" وبـ "القصائد"8. وبـ "القصائد التسع"، وبـ "القصائد التسع المشهورة"، وذلك بالنسبة لمن أضاف على القصائد المذكورة قصيدتين أخريين9، وبـ "القصائد العشر"، وذلك بالنسبة لمن أضاف ثلاث قصائد عليها10. ويظهر أن مصطلح "السبع الطوال"، هو أنسب المصطلحات تعبيراعن هذه القصائد، لأنها تمثل في الواقع أطول ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي. فإن عدد أبيات أقصر قصيدة من قصائدها هو "64" بيتًا، أما عدد أبيات أطول

_ 1 المزهر "2/ 480". 2 الشعر والشعراء "1/ 158"، "عمرو بن كلثوم". 3 الجمهرة "45". 4 بلاشير "155". 5 بروكلمان "1/ 70". 6 ياقوت، إرشاد "4/ 140"، جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "1/ 37". 7 بلاشير "155". 8 الأغاني "11/ 8، 42"، بلاشير "155"، "شرح القصائد السبع الطوال" للأنباري، "تحقيق عبد السلام محمد هارون"، "القاهرة 1962م"، "دار المعارف". 9 بروكلمان "1/ 68". 10 شرح القصائد العشر، للتبريزي، بروكلمان "1/ 71".

قصيدة منها، فهو "104"، ومعدل أبيات المعلقات "85" بيتا1. وعرفت هذه القصائد بـ "القصائد المختارة" لطبيعة كونها قصائد اختيرت من قصائد الشعر الجاهلي، وانتخبت منه انتخابا2. ونجد مجموعة أخرى عرفت بـ "شعر الشعراء الست"، وهم امرؤ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة. وقد أشار "البغدادي" إلى كتاب دعاه: "مختار شعر الشعراء الست: امرؤ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة. وشرحها للأعلم الشنتمري"3. ولم نجد في الكتب التي وصلت إلينا، الاسم الصحيح الأول الذي أطلقه جامع هذه القصائد ومختارها عليها. وقد ورد في مقدمة شرح التبريزي "502هـ" على "القصائد العشر": "سألتني -أدام الله توفيقك- أن ألخص لك شرح القصائد السبع، مع القصيدتين اللتين أضافهما إليها أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحوي، قصيدة النابغة الذبياني الدالية، وقصيدة الأعشى اللامية، وقصيدة عبيد بن الأبرص تمام العشر"4. فيظهر منها أن جملة "القصائد السبع"، كانت غالبة على تلك القصائد، من حقيقة كونها سبع قصائد في الأصل. ولانعلم اسم أول من أطلق مصطلح "المعلقات السبع" على هذه القصائد، وفي أي وقت أطلقه عليها. ولا يستطيع أحد إثبات أن "حمادا" الراوية هو الذي أطلقه على منتقياته. وقد ذكر "بلاشير" أن "ابن قتيبة" لما تكلم عن قصيدة "عمرو بن كلثوم" التي تدخل في المعلقات قال عنها إنها "إحدى السبع المعلقات"5. وقد رجعت إلى النص فوجدته يقول: "وهي من جيد شعر العرب القديم، وإحدى السبع"6، ولماكنت لا أملك النسخة الفرنسية لكتاب "بلاشير"، لذلك لا أدري إذا كانت تلك النسخة قد استخدمت جملة "إحدى السبع المعلقات، كما وردت في الترجمة العربية، أم أن الترجمة العربية هي التي استعملتها تصرفا،

_ 1 ch. j. lyall, ancient arabian poetry, p. xx 2 "شرح القصائد المختارة للتبريزي"، السيوطي، شرح شواهد المغني "1/ 11"، "مقدمة". 3 الخزانة "1/ 10"، "بولاق". 4 شرح القصائد العشر "ص45"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 5 بلاشير "154". 6 الشعر والشعراء "1/ 159".

وأنها لم ترد في النص الأصل. وإني استبعد احتمال أخذ "بلاشير" من نسخة أخرى استعملت جملة "إحدى السبع المعلقات" بدلًا من "إحدى السبع" الواردة في النص الذي اعتمدت عليه، المطبوع ببيروت سنة 1964م. والعلماء مختلفون في القصائد التي تعد من المعلقات وفي عددها، ولكنهم متفقون على خمس منها، هي معلقات امرئ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم. أما بقيتها، فمنهم من يعد من بينها معلقة عنترة والحارث بن حلزة، ومنهم من يدخل فيها قصيدتي النابغة والأعشى. وقد أضاف بعض العلماء القصيدتين اللتين اختارهما المفضل الضبي، وهما قصيدتا النابغة والأعشى، إلى المعلقات السبع التي هي من اختيار حماد، فجعلها تسع معلقات. ويرى "نولدكه" أن لولاء حماد لبكر بن وائل علاقة بإدخال حماد قصيدة الحارث بن حلزة اليشكري في جملة المعلقات، وذلك أن حمادا كان مولى لبكر بن وائل، وكانت هذه القبيلة في عداء مع تغلب، ولما كانت قصيدة "عمرو بن كلثوم" التغلبي قد لقيت شهرة واسعة، لم يسع حماد أن يعدل عن اختيارها، فاختارها، واختار معها قصيدة الحارث إرضاء لمن انتمى إليهم بالولاء، مع قلة شهرتها بالنسبة إلى القصائد الآخرى1. ونجد في "الفهرست" اسم كتاب ذكر "ابن النديم" أنه من مؤلفات "الأصمعي"، دعاه "كتاب القصائد الست"2. ولهذه التسمية أهمية كبيرة، لأنها تدل على أن "الأصمعي"، كان قد اختار من القصائد المعروفة ست قصائد، وضمها بين دفتي كتاب. ولم يشر "ابن النديم" إلى أسماء القصائد الست المختارة، ولكني لا استبعد احتمال إسقاطه قصيدة واحدة من بين القصائد السبع التي اختارها "حماد"، فصار العدد ست قصائد. كما أشار "البغدادي" إلى كتاب دعاه: "مختار شعر الشعراء الست: امرئ القيس، والنابغة، وعلقمة، وزهير، وطرفة، وعنترة"، وإلى شرحها للأعلم الشنتمري3. وأشار "السيوطي" أثناء حديثه في مقدمته لكتابه: "شرح شواهد المغني".

_ 1 Brockelmann, I, s. 18, char. Lyall, translations of ancient arabian poerty, london, 1885. 2 الفهرست "88"، "الأصمعي". 3 خزانة "1/ 10"، "بولاق".

إلى "شرح المعلقات السبع، وما ضم إليها للتبريزي ولأبي جعفر النحاس، وشرح السبع العاليات للكميت، وشرح القصائد المختارة للتبريزي"1. وتلفت جملة: "وشرح السبع العاليات للكميت" النظر، لأنها جاءت في أثناء تحدث "السيوطي" عن الكتب التي رجع إليها في جمع مادة كتابه، وفي أثناء تحدثه على المعلقات السبع وما ضم إليها للتبريزي ولأبي جعفر النحاس، مما يدل على أنه قصد بشرح السبع العاليات للكميت، قصائد سبعًا مختارة لها صلة بهذه المعلقات السبع، ولا سيما وقد ذكر بعد هذا الشرح اسم شرح القصائد المختارة للتبريزي، التي هي المعلقات العشر، وأنه لم يقصد بالقصائد السبع "الهاشميات"، "هاشميات" الكميت وهي أيضا سبع قصائد، من شعر هذا الشاعر، عرفت بالهاشميات. ولو كان قصدها بالذات لدعاها باسمها الذي عرفت به، وهو "الهاشميات"2، وإنما قصد كتابا آخر، اسمه: "شرح السبع العاليات"، ولفظة "العاليات" نعت للقصائد السبع. ولم يتحدث السيوطي ويا للأسف عن هذا الشرح بأي شيء، فهل يكون الكميت المتوفى سنة "126هـ"، أي قبل "حماد"، قد اختار سبع قصائد جاهلية وضمها في ديوان عرف بـ "السبع العاليات" وقف عليها "حماد" أو صارت إليه، فأملاها فنسبت إليه، على عادة القدماء في ذلك الوقت، من أخذهم الكتب والروايات القديمة، ثم إملاءها على تلامذتهم، فتنسب إليهم، فتكون المعلقات إذن من جمع الكميت، رواية حماد! ويفهم من خبر مذكور في "خزانة الأدب" أن الخليفة "عبد الملك بن مروان" أمر فطرح شعر أربعة من أصحاب المعلقات، وأثبت مكانهم أربعة. ومعنى هذا الخبر هو وجود المعلقات قبل أيام عبد الملك. وفي الكتاب خبر آخر هو أن بعض أمراء بني أمية أمر من أختار له سبعة أشعار، فسماها المعلقات3، وفي رواية أخرى: المعلقات الثواني ولم يعين المورد الشخص الذي أمر باختيار تلك الأشعار، ولا الشخص الذي قام بالاختيار. ولعله قصد الوليد وحمادا،

_ 1 السيوطي، شرح "11". 2 القصائد الهاشميات، للكميت "مطبعة الموسوعات بمصر، 1321هـ"، بروكلمان "1/ 243"، وطبعت بليدن سنة 1904م، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 316". 3 خزانة الأدب، للبغدادي "1/ 61". 4 الرافعي، تأريخ آداب العرب "3/ 187".

فإليهما ينصرف الذهن، لما للوليد من ولع بالشعر، ولما لحماد من علم به. ولم يشر "البغدادي" صاحب "خزانة الأدب" إلى اسم المورد الذي استقى منه خبره عن طرح "عبد الملك" شعر أربعة من أصحاب المعلقات، وإثباته أربعة مكانهم. كما أنه لم يشر إلى أسماء أصحاب المعلقات الذين طرحت معلقاتهم، ولا إلى أسماء الشعراء الأربعة الذين أثبتت قصائدهم مكان القصائد الأربع المطروحة. وروي أن "معاوية"، تذكر قصيدة "عمرو بن كلثوم"، وقصيدة "الحارث بن حلزة" فقال "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة، من مفاخر العرب، كانتا معلقتين بالكعبة دهرا"1. والمعروف اليوم، أن حمادا الراوية، هو الذي جمع القصائد السبع المذكورة، وأذاعها بين الناس. وهو من حفظة الشعر ورواته وممن اشتهروا وعرفوا برواية الشعر القديم. وكان من المتكسبين بالشعر. وقد اتهم بالوضع وبالدس على الجاهليين وبالكذب عليهم: وهو نفسه لم ينكر ذلك، ولم يبرئ نفسه من الدس على الجاهليين والوضع عليهم. ولكنه كان بإجماع أنصاره وخصومه من أفرس الناس بالشعر، ومن أعلمهم بالشعر الجاهلي وبطرقه ودروبه وأساليبه، ولعل علمه هذا بالشعر، ورغبته في التفوق والتصدر على أقرانه المتعيشين مثله على رواية الشعر، كانا في رأس الأسباب التي حملته على الوضع والدس والافتعال. ووضع "المفضل" الضبي قصيدتي النابغة والأعشى مكان قصيدتي عنترة والحارث بن حلزة اليشكري في الاختيارت الشهيرة للمعلقات. وضم "أبوجعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل" النحوي قصيدتي النابغة والأعشى على اختيارات "حماد" فصار العدد تسع معلقات، أضاف عليها بعض العلماء قصيدة "عبيد بن الأبرص" فصارت عشرا، وقد شرحها "التبريزي"2. وجعل بعضهم العدد ثمانية. ولكن المشهور المعروف بين علماء الشعر الجاهلي أنها سبع قصائد: وهي في رأيهم أفضل ما قيل من الشعر في زمان الجاهلية3. ولأهل الأخبار قصص وحكايات عن سبب تسمية المعلقات بالمعلقات. فذكر

_ 1 الخزانة "3/ 162". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 68"، شرح التبريزي "45"، "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد". 3 العقد الفريد "3/ 93"، ابن خلدون "1/ 509".

"أحمد بن عبد ربه" مثلا أن العرب كلفت بقصائد خاصة من الشعر الجاهلي وفضلتها على غيرها، وعمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها في أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امرئ القيس ومذهبة زهير، والمذهبات سبع، ويقال لها المعلقات1. وورد: يقال مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره. وقال "ابن رشيق": "وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك لأنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي بماء الذهب وعلقت على الكعبة، فلذلك يقال مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة الشاعر يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته"2. وذهب "السيوطي" هذا المذهب كذلك، إذ قال: "وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر، فكتبت في القباطي بماء الذهب، وعلّقت على الكعبة؛ فلذلك يقال: مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره. ذكر ذلك غير واحد من العلماء. وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة يقول: علقوا لنا هذه لتكون في خزانته"3. وهو رأي أخذه من "ابن رشيق"، من كتابه "العمدة". وكتاب العمدة من الموارد التي استقى منها "السيوطي"، يشير إليه أحيانا، ولا يشير إليه أحيانا أخرى، كما هو الحال في هذه الجمل، التي هي عبارة "ابن رشيق" بحروفها كما جاء في العمدة. وقد توفي "ابن رشيق" سنة "456هـ". وزعم بعض آخر أن العرب كانوا في جاهليتهم يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض، فلا يعبأ به ولا ينشده أحد، حتى يأتي مكة في موسم الحج فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه روي، وكان فخرا لقائله وعلق على ركن من أركان الكعبة حتى ينظر إليه، وإن لم يستحسنوه طرح وذهب فيما يذهب. وقال أبو عمرو بن العلاء: "كانت العرب تجتمع في كل عام وكانت تعرض أشعارها على هذا الحي من قريش4". وذهب "ابن خلدون" إلى أن العرب

_ 1 العقد الفريد "3/ 116"، "6/ 119"، "لجنة". 2 العمدة "1/ 96"، الخزانة "1/ 61". 3 السيوطي، المزهر "2/ 480". 4 خزانة الأدب "1/ 61".

كانوا يعلقون أشعارهم بأركان البيت كما فعل أصحاب المعلقات السبع، وإنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر1. وذكر أن "أول من علق شعره في الكعبة امرؤ القيس وبعده علقت الشعراء، وعدد من علق شعره سبعة. ثانيهم طرفة بن العبد. ثالثهم زهير بن أبي سلمى، رابعهم لبيد بن ربيعة، خامسهم عنترة، سادسهم الحارث بن حلزة، سابعهم عمرو بن كلثوم. هذا هو المشهور"2. وروي عن "معاوية" قوله: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة من مفاخر العرب كانتا معلقتين بالكعبة دهرا"3. وعن "ابن الكلبي" أنه قال: "أول شعر علق في الجاهلية شعر امرئ القيس علق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى نظر إليه، ثم أحْدِرَ فعلقت الشعراء ذلك بعده، وكان ذلك فخرًا للعرب في الجاهلية، وعدوا من علق شعره سبعة نفر، إلا أن عبد الملك طرح شعر أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة"4. ولا بد وأن يكون ظهور قصة التعليق قد حدث قبل أيام "ابن عبد ربه" المتوفى سنة "328 هـ"، لورودها في "العقد الفريد"5. و"ابن عبد ربه" من معاصري "أبي جعفر أحمد بن محمد" النحاس، المتوفى بعده بعشر سنوات، أي سنة "338هـ"، الذي ذكر القصة أيضا، لكنه أنكر تعليق المعلقات، فعنده "أن حمادا هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"6. وذكر أنه قال في شرحه على المعلقات ما نصه: "واختلفوا في جمع القصائد السبع، وقيل إن العرب كانوا يجتمعون بعكاظ فيتناشدون الأشعار، فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوا لنا هذه وأثبتوها في خزانتي"، وقال أبو جعفر: "وأما قول من قال إنها علقت بالكعبة فلا يعرفه أحد من الرواة"، "وهو يستند في رأيه هذا، إلى أن حمادا الراوية لما رأى زهد الناس في الشعر، جمع لهم هذه القصائد السبع، وقال هذه هي

_ 1 مقدمة ابن خلدون "511"، "1/ 509". 2 الخزانة "1/ 61". 3 الخزانة "1/ 519"، "بولاق". 4 الرافعي "2/ 187". 5 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 106". 6 ياقوت، إرشاد "4/ 140".

المشهورات! فسميت القصائد المشهورة"1. وقد مشت أسطورة التعليق هذه بين الناس، حتى صارت رأيا اعتقد به كثير من المحدثين، إلى درجة أن منهم من صار يغضب ويثور إذا قرأ رأيا يخالف هذا الرأي، لاعتقاده أن في هذا الإنكار غضا وتعريفا بأخلد تراث من تراث العرب القديم، وأن فيه انتقاصا من قدر الأدب العربي التليد. وقد تعرض المستشرقون منذ أيام "بوكوك" لموضوع المعلقات، وقد رأى كثير منهم أن قصة التعليق قصة مصطنعة وأن الموضوع مصنوع موضوع ويرى "نولدكه" أن اختلاف رواة الشعر في ضبط أبيات تلك المعلقات، دليل في حد ذاته على عدم صحة التعليق، إذ لو كانت تلك القصائد معلقة ومشهورة وكانت مكتوبة لما وقع علماء الشعر في هذا الاختلاف. ثم يرى سببا آخر يحمله على الشك في صحة ما يقال عن المعلقات. هو أن كل الذين كتبوا عن فتح مكة مثل الأزرقي وابن هشام والسهيلي وغيرهم وغيرهم، أشاروا إلى أن الرسول أمر بطمس الصور وكسر الأوثان والأصنام، ولم يشيروا أبدا إلى المعلقات، ولو كانت المعلقات موجودة كلا أو بعضا لما غض أهل الأخبار أنظارهم عنها، ولما سكتوا عن ذكرها، لأهميتها عند العرب. ثم يرى "نولدكه" أن هذه القصائد لو كانت معلقة حقا، وكانت على الشهرة التي يذكرها أهل الأخبار لما أغفل أمرها في القرآن الكريم وفي كتب الحديث وفي كتب الأدب مثل كتاب الأغاني وأمثاله، ولأشير إليها، ولهذا يرى أن ما يروى عن المعلقات هو من القصص الذي نشأ عن التسمية وعن اختيارات حماد لها، فلما أشاعها بن الناس، أوجد الرواة لها قصة التعليق3. وقد استدل "نولدكه" من عبارة: "وقال المفضل: القول عندنا ما قاله

_ 1 محمد هاشم عطية، الأدب العربي وتأريخه "124". 2 theodor noldeke, beiktrage zur kenntntss der poeste der poeste der alten araber hannover, 1884, s. xviii. f راجع وصف دخول الرسول الكعبة، وأمره بطمس الصور وكسر الأصنام والأوثان، إرشاد الساري "6/ 393 وما بعدها". 3 noldeke, beltrage, s. mvii, xx بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 67".

أبو عبيدة في ترتيب طبقاتهم: وهو أن أول طبقاتهم أصحاب السبع معلقات. وهم: امرؤ القيس وزهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد. قال المفضل: هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب بالسموط، ومن زعم غير ذلك، فقد خالف جمهور العلماء"1، على أن الأدباء أوجدوا قصة تعليق المعلقات في الكعبة، نظرا إلى ما يقال من تفاخر الشعراء بعكاظ، وتحكيم المحكمين فيما بينهم، فرأى رواة الشعر أن يجعلوا المختار من الشعر، وهو القصائد السبع الطوال سيد الشعر الجاهلي، ولما كانت مكة ذات قدسية، وجدوا أنها أصلح مكان لأن يربط بينه وبين هذا المختار من عيون الشعر، فأوجدوا حكاية التعليق2. وبين المستشرقين فريق ذهبوا مذهب "نولدكه" في رفض قصة التعليق، ورأوا أن القصة أسطورة لا أصل لها ولا فصل. وفريق أيد التعليق، وهم أقلية، وذهب مذهب المثبتين له من علماء الشعر الجاهلي. أما علماء العربية في أيامنا، فهم أيضا بين مؤيد وبين مخالف، ولكل رأي. وقد تعرض "الرافعي" لموضوع تعليق المعلقات، فذهب إلى أن قصة التعليق على الكعبة قصة مفتعلة، وأن "ابن الكلبي" هو الذي ذكر خبر تعليقها على الكعبة، وأن مَنْ عدا ابن الكلبي ممن هم أوثق في رواية الشعر وأخباره لم يذكروا من ذلك شيئا، بل جملة كلامهم ترمي إلى أن القصائد لم تخرج عن سبيل ما يختار من الشعر، وأن المتأخرين هم الذين بنوا على خبر التعليق ما ذكروه من أمر الكتابة بالذهب أو بمائه في الحرير أو في القباطي؛ وأن العرب بقيت تسجد لها "150" سنة حتى ظهر الإسلام، تسجد لها كما يسجدون لأصنامهم3. و "ابن الكلبي" على رأيه "هو أول من افترى خبر كتابة القصائد السبع المعلقات وتعليقها على الكعبة"4. وتعرض "الرافعي" أيضا إلى رأي من ينكر أن هذه القصائد صحيحة النسبة إلى قائليها، مرجحا أنها منحولة وضعها مثل حمّاد الراوية، أو خلف الأحمر،

_ 1 Bitrage, s. xx 2 Nldeke, beitrage, s. xxil 3 الرافعي "2/ 186، 192". 4 الرافعي "1/ 416"، "2/ 192".

فرأى أنه رأي فائل، لأن الروايات قد تواردت على نسبتها، وتجد أشياء منها في الصدر الأول، غير أنه مما لا شك فيه أن تلك القصائد لا تخلوا من الريادة وتعارض الألسنة، قلّ ذلك أو كثر، أما أن تكون بجملتها مولدة فدون هذا البناء نقض التأريخ1. ولم أجد بين الموارد التي وصلت إلينا من موارد مطبوعة أو مخطوطة موردا واحدا ذكر أن الرسول حينما فتح مكة، وأمر بتحطيم ما كان بها من أصنام وأوثان وبطمس ما كان بها من صور، وجد معلقة واحدة أو جزءا من معلقة أو أي شعر آخر وجد مكتوبا ومعلقا على أركان الكعبة أو على أستارها، كما أني لم أجد في أخبار بناء الكعبة خبرا يشير إلى أنهم علقوا المعلقات على الكعبة حينما أشادوها وبنوها من جديد. ولو كانت تلك القصائد قد علقت، لما سكت الرواة عنها وأغفلوا أمرها إغفالا تامًّا، ثم إن أهل الأخبار الذين أشاروا إلى الحريق الذي أصاب الكعبة، والذي أدي إلى إعادة بنائها، لم يشيروا أبدا إلى احتراق المعلقات كلها أو جزء منها في هذا الحريق، ولو كانت موجودة ومعلقة على الكعبة كما زعموا، لما سكتوا عن ذكر هذا الحدث الهام. ثم إني لم أسمع أن أحدا من حملة الشعر الجاهلي من الصحابة أو التابعين، ولا غيرهم من رواة شعر الجاهلية وحفظته، وكلهم كانوا يتلذذون بروايته وبسماعه، أشار إلى وجود معلقات ومذهبات وقصائد سبع مختارة، ولو كان لهم علم بها لما أخفوا ذلك عمن جاء بعدهم أبدا. وتعليق المعلقات قصة لا أستبعد أن تكون من صنع "حماد" جامعها، أو من عمل من جاء بعده، في تعليل سبب ذلك الاختيار. وأما ما زعم من أن معاوية قال: "قصيدة عمرو بن كلثوم، وقصيدة الحارث بن حلزة، كانتا معلقتين بالكعبة دهرا"2، فخبر لا يوثق به. ومن "السمط" جاءت فكرة تعليق المعلقات. فالسمط: خيط النظم لأنه يعلق، وقيل قلادة أطول من المخنقة، والخيط ما دام فيه الخرز، وجمعه "سموط"3. فالسمط يعلق، وقد دعيت القصائد المذكورة بـ "السمط"، وقالوا

_ 1 الرافعي "2/ 193". 2 الخزانة "1/ 519"، "بولاق". 3 اللسان "7/ 322".

من ثم بتعليق تلك القصائد، وتعليقها عل الكعبة أو على أستارها هو خير مكان يناسب المقام الذي وضعوه لتلك المنظومات. وتلفت جملة: "وقال المفضل: من زعم أن في السبع التي تسمى السمط لأحد غير هؤلاء، فقد أبطل" النظر حقًّا1. فقد استعمل لفظة "السمط"، فقط، وقصد بها المعلقات، وهذا الاستعمال يدل على نعت العلماء للقصائد المذكورة بأن كل قصيدة منها وكأنها خيط من اللؤلؤ منظوم يتلو بعضه بعضا، وأن تلك القصائد السبع قد اختيرت من بين قصائد الشعر الجاهلي، وأن من يزيد على ذلك العدد قصيدة، فقد أخطأ. وقد روي أن العرب كانت تسمي القصائد الطويلة الجيدة المقلدات والمسمطات2. و "مقلدات الشرع وقلائده البواقي على الدهر"3. "وسمط الشيء تسميطا علقه بالسموط، وهي السيور"، ومن هذا المعنى أخذ اختراع تعليق المعلقات في رأي بعض الباحثين. ويذكر علماء اللغة والشعر أن "المسمط" من الشعر، أبيات تجمعها قافية واحدة مخالفة لقوافي الأبيات. ويقال قصيدة مسمطة، شبهت أبياتها المقفاة بالسموط. وذكر بعضهم: الشعر المسمط الذي يكون في صدر البيت أبيات مشطورة أو منهوكة مقفاة وتجمعها قافية مخالفة لازمة القصيدة حتى تنقضي. وهو الذي يقال له عند المولدين: المخمس، والمسبع، والمثمن. وذكر بعض علماء الشعر أن لامرئ القيس قصيدتان سمطيتان5. وأرى أن الذي أوحى إلى أهل الأخبار بفكرة المعلقات السبع هو ما جاء في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبَعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 6 وما جاء في الحديث من قوله: "أوتيت السبع الطول" 7. وقد ذكر علماء التفسير أن "السبع الطول" من سور القرآن: سبع سور، وهي سورة البقرة وسورة آل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، واختلف في السابعة، فمنهم من قال السابعة

_ 1 العمدة "ص96". 2 البيان والتبيين "2/ 9". 3 تاج العروس "2/ 475"، "قلد". 4 تاج العروس "5/ 161"، "سمط". 5 تاج العروس "5/ 161"، "سمط". 6 "الحجر" الآية "87". 7 اللسان "11/ 410".

الأنفال، ومنهم من جعل السابعة يونس، ومنهم من قال إنها سورة "الفاتحة" وأنها "السبع المثاني"، لأنها تتألف من سبع آيات1. فمن السبع المثاني التي قصد بها السور السبع الطوال المذكورة، والتي ذكر المفسرون أنها خصت بهذه التسمية بسبب كونها أطول السور ولاحتوائها على أكثر الأحكام أخذ رواة الشعر في رأيي فكرتهم في المعلقات السبع، التي نعتوها أيضا بـ "الطوال" وبـ "السبع الطوال" وهو نعت جاء في الحديث وفي كتب التفسير للسبع المثاني، أي للسور المذكورة، إذ عبر عنها بـ "السبع الطوال"، وورد في الحديث: "أوتيت السبع الطوال". ويلاحظ أن علماء الشعر مغرمون بعدد السبعة، وأن نظام انتقائهم للأشعار قائم على سبع. فالمعلقات سبع، ومنتقيات العرب والمذهبات التي للأوس والخزرج خاصة سبع كذلك، وعيون المراثي سبع، ومشوبات العرب وهي التي شابهن الكفر والإسلام سبع كذلك، والملحمات سبع أيضا، ومجموع هذه الاختيارات تسع وأربعون. وهي حاصل هذه المجموعات السبع التي تتألف كل مجموعة منها من سبعة أشعار. وهذا التقسيم السبعي لا بد أن يكون له أساس، فليس من المعقول أن يكون اعتباطيا وعلى غير أساس. والمعروف أن التقسيم السبعي، أو النظام السبعي، تقسيم قديم يعود إلى سنين طويلة قبل الميلاد، فالسماوات والأرضون سبع، والكواكب السيارة سبعة، والأنغام الموسيقية سبعة، وأيام الأسبوع سبعة. والعدد سبعة هو عدد مقدس عند بعض الشعوب القديمة. وقد سبق لي أن تحدثت في مجلة المجمع العلمي العراقي عن المعلقات السبع، وذكرت الأسباب التي حملت العلماء على تسميتها بالمعلقات.

_ 1 تفسير الطبري "14/ 35 وما بعدها"، تفسير ابن كثير "2/ 557"، تفسير الطبرسي "3/ 334". 2 الرافعي "3/ 190 وما بعدها".

الفصل التاسع والخمسون بعد المئة: أصحاب المعلقات

الفصل التاسع والخمسون بعد المئة: أصحاب المعلقات ... الفصل التاسع والخمسون بعد المائة: أصحاب المعلقات أصحاب السبع الطوال، هم: امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وعنترة بن شداد، والحارث بن حلزة اليشكري. وهم الذين اختار "حماد" الراوية قصائدهم، فألف منها اختياراته. وقد رتبهم حسب الترتيب المألوف الذي يرد في دواوين المعلقات، وإن كان هذا الترتيب يتعارض مع الترتيب الزمني. فلبيد مثلا كان من الواجب علينا تأخيره، بجعله آخر الشعراء المذكورين، لأنه أدرك الإسلام، فهو من المخضرمين، وبعض منهم كان من اللازم تقديمه، ليأخذ مكانه المناسب له من الناحية الزمنية، بجعله في موضع من يؤخر لتأخره في الزمان. وسأضيف على ما ذكرت الأعشى والنابغة وعبيد بن الأبرص، مجاراة لمن زاد على ذلك العدد شاعرا أو شاعرين أو ثلاثة، أو طرح منه شاعرين، ووضع في محلهما شاعرين آخرين. كما جرى الحديث عن ذلك حين تكلمت عن المعلقات. وسأبدأ لذلك بالكلام على أولهم، وهو بإجماع علماء الشعر: امرؤ القيس. وامرؤ القيس، هو على رأس شعراء الجاهلية في الذكر والشهرة، وعلى رأس أصحاب "المعلقات السبع". وقد أوصله أهل الأخبار إلى "قيصر"، وجعلوا له معه حكايات ثم قبروه بـ "أنقرة" إلى جانب قبر ابنة بعض الملوك الروم1.

_ 1 نزهة الجليس "2/ 147 وما بعدها"، السيوطي شرح "21"، الأغاني "8/ 62 وما بعدها"، "بولاق"، الخزانة "3/ 632".

وختموا حياته بخاتمة مؤلمة مفجعة، وقالوا إنه عرف بـ "ذي القروح"، لأن ملك الروم كساه حلة مسمومة فقرحته1، أو لقوله: وبدلت قرحًا داميًا بعد صحة ... لعل منايانا تحوَّلن أبؤسا2 ويرى "بروكلمان" أن قصة موت "امرئ القيس"، بسبب الحلة المسمومة، أسطورة تشبه الأسطورة التي حصلت لهرقل البطل اليوناني الشهير3. ودعوه بـ "الملك الضلِّيل"، و "الملك المضلل"4. وذكروا أنه سعى وجدّ لإعادة ملك والده، ولكنه باء بالفشل، وكان آخر ما فعله في هذا الباب، أن ذهب إلى "القسطنطينية" لمقابلة "قيصر" لإقناعه بمساعدته في الحصول على حقه، وتقويته لينتقم من قتلة والده، وليعيد الحكم إلى كندة، فكان مصيره أن جاءه الموت وهو في طريقه، على نحو ما تقصه علينا قصص أهل الأخبار. وما قصة موته من قروح أصيب بها من لبسه الحلة المسمومة، إلا أسطورة. ويرى "بروكلمان" احتمال ظهورها من سوء فهم الأبيات 12-14 من القصيدة "30" من ديوانه. ولعل هذه القصة هي التي أوجدت له اللقب الذي لقب به، وهو "ذو القروح". وأنا لا أستبعد احتمال إصابته بدمامل أو بمرض جلدي آخر، قرحت جلده، ومات منها، فعرف لذلك بـ "ذي القروح"، وأوجدت له قصة الحلة المسمومة على نحو ما أوجدته مخيلة أهل الأخبار. ويذكر أهل الأخبار أن "امرأ القيس" لما احتضر بأنقرة، نظر إلى قبر فسأل عنه، فقالوا قبر امرأة غريبة، فقال:

_ 1 المستطرف "2/ 35"، سرح العيون، لابن نباتة "181"، "بولاق"، العمدة "1/ 41 وما بعدها، 97"، شرح القصائد العشر "7/ 46"، المؤتلف والمختلف، للآمدي "9 وما بعدها" قال الفرزدق: وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا ... وأبو يزيد وذو القروح وجرول ديوان الفرزدق "720 وما بعدها"، النقائض "200 وما بعدها". 3 شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها، للشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي "ص5" "طبعة دار الأندلس". 4 تاج العروس "7/ 412"، "ضلل"، الخزانة "1/ 160"، "بولاق".

أجارتنا إن الخطوب تنوب ... وإني مقيم ما أقام عسيب أجارتنا إنّا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب فإن تصلينا فالمودة بيننا ... وإن تهجرينا فالغريب غريب وورد في كتاب: مقاتل الفرسان لأبي عبيدة، أن صخر بن عمرو الشريد أخا الخنساء، قال لما أدركه الموت: أجارتنا إن الخطوب تنوب ... علينا وكل المخطئين مصيب أجارتنا لست الغداة بظاعن ... وإني مقيم ما أقام عسيب ومات فدفن بقرب عسيب. فلعلهما تواردا1. وتذكر قصة، أن "امرأ القيس" دخل مع القيصر الحمام، فإذا قيصر أقلف، فقال: إني حلفت يمينا غير كاذبة ... أنّك أقْلفُ إلا ما جنى القمر إذا طعنت به مالت عمامته ... كما تجمع تحت الفلكة الوبر وتذكر القصة أن ابنة القيصر نظرت إليه فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه، وطَبِنَ "الطمّاح بن قيس" الأسدي لهما، وكان حجر قتل أباه، فوشى به إلى الملك، فخرج امرؤ القيس متسرعا، فبعث إليه قيصر بحلة مسمومة، فتناثر لحمه وتفطر جسده. وكان يحمله "جابر بن حني" التغلبي، فذلك قوله: فإما تريني في رحالة جابر ... على حرج كالقر تخفق أكفاني فيا رب مكروب كررت وراءه ... وعان فككت الغلّ عنه ففداني إذا المرء لم يحزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بحزّان2 ولم ينس "ابن الكلبي" ذكر آخر كلمة قالها شاعرنا حين حضرته الوفاة، فقال إنه قال:

_ 1 السيوطي، شرح "715"، نزهة الجليس "2/ 147". 2 الشعر والشعراء "1/ 52 وما بعدها"، "الثقافة".

وطعنة مسحنفرة وجفنة متعنجرة تبقى غدا بأنقرة فكان هذا آخر شيء تكلم به، ثم مات1. ورويت كلماته الأخيرة على هذه الصورة: رب خطبة مسحنفره ... وطعنة مثعنجره وجعبة متحيره ... تدفن غدا بأنقره كما روى شعره الذي قاله يخاطب قبرا لامرأة زعم أنها من بنات ملوك الروم، على هذا النحو: أجارتنا إن المزار قريب ... وإني مقيم ما أقام عسيب أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب2 وهكذا نجد الرواة يختلفون فيما بينهم في رواية هذه الأشعار التي صنعت على لسان الشاعر، لتكون مادة مقومة للقصة. وكان آخر ما صنعوه لإتمام القصة، أن أوجدوا له قبرا بأنقرة، اتخذوه إلى جانب قبر منفرد منعزل، هو قبر إحدى بنات ملك من ملوك الروم، أوصاهم به "امرؤ القيس" نفسه لما رأى دنو أجله. فكانت الخاتمة مؤلمة، وكان الاختيار موفقا جدا، فالقبر قبر امرأة، وكان صاحبنا متيما بحب النساء، وكانت المرأة بنتا لملك من ملوك الروم، فهي من طبقته، وتصلح أن تكون جارة له، وهو ابن ملك، وكان صديقا حميما لقيصر الروم، يدخل معه الحمام ويراه عاريا تماما، أقلف. فابنة ملك من ملوك الروم تصلح لأن تكون له جارة وصاحبة لهذا القبر، وهكذا قبروا الاثنين في قبرين متجاورين. وقد زعموا أن امرأ القيس كان "مئناثا لا ذكر له، وغيورا شديد الغيرة، فإذا ولدت له بنت وأدها، فلما رأى ذلك نساؤه غيبن أولادهن في أحياء العرب، وبلغه ذلك فتتبعهن حتى قتلهن"3.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 53"، "الثقافة"، نزهة الجليس "2/ 153". 2 الشعر والشعراء "1/ 63"، "الثقافة". 3 الشعر والشعراء "1/ 63"، "الثقافة".

وزعموا أنه كان مع جماله ووسامته وحسنه "مُفركًا لا تريده النساء إذا جربنه. وقال لامرأة تزوجها: ما يكره النساء مني؟ قالت: يكرهن منك أنك ثقيل الصدر، خفيف العجز، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة. وسأل أخرى عن مثل ذلك فقالت: يكرهن منك أنك إذا عرقت فحت بريح كلب! فقال: أنت صدقتني، إن أهلي أرضعوني بلبن كلبة. ولم تصبر عليه إلا امرأة من كندة يقال لها هند، وكان أكثر ولده منها"1. وتزعم قصة أن قيصر وجه معه جيشا، ليعاونه على استعادة ملكه، فوشى به رجل من "بني أسد" يقال له "الطماح"، فهمّ بقتله، وأرسل إليه في أثره بحلة مسمومة مع رجل، أدخله الحمام وكساه إياها بعد خروجه، فلما لبسها تنفط بدينه2. وزعم "الجاحظ" أنه "راسل بنت قيصر وأراد أن يختدعها عن نفسها، وبلغ ذلك قيصر وأراد أن يقتله، فتذمم من ذلك، وأمر بقميص فغمس في السم، وقال لامرئ القيس: البس هذا القميص فإني أحببت أن أوثرك به على نفسي لحسنه وبهائه فعمل السم في جسمه وكثرت فيه القروح فمات منها، فسمي ذا القروح. وقد كان قيل لقيصر قبل ذلك إنه هجاه، فعندها يقول: ظلمت له نفسي بأن جئت راغبا ... إليه وقد سيرت فيه القوافيا فإن أك مظلوما فقدما ظلمته ... وبالصاع يجزى مثل ما قد جزانيا3 قال علماء الشعر: كان "امرؤ القيس" ممن يتعهر في شعره4، وقد سبق الشعراء إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتبعته عليها الشعراء، من استيقافه صحبه في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ. وله تشبيهات مستجادة، وإجادة في صفة الفرس، وفي الوصف5. "واجتمع عند "عبد الملك" أشراف من الناس والشعراء، فسألهم عن أرق بيت قالته العرب، فاجتمعوا على بيت امرئ القيس:

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 63"، "الثقافة". 2 نزهة الجليس "2/ 152". 3 المحاسن والأضداد "143". 4 الشعر والشعراء "1/ 53"، "الثقافة". 5 الشعر والشعراء "1/ 54"، "الثقافة".

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل1 وقال "أبو عبيدة معمر بن المثنى": "من فضله، أنه أول من فتح الشعر واستوقف، وبكى في الدمن، ووصف ما فيها، ثم قال: دع ذا -رغبة عن المنسبة- فتبعوا أثره، وهو أول من شبّه الخيل بالعصا واللقوة والسباع والظباء الطير، فتبعه الشعراء على تشبيهها بهذه الأوصاف"2. وقال أبو عبيدة: هو أول من قيد الأوابد، يعني في قوله في وصف الفرس "قيد الأوابد" فتبعه الناس على ذلك. وقال غيره: هو أول من شبه الثغر في لونه بشوك السيال فقال: منابته مثل السدوس ولونه ... كشوك السيال وهو عذب يفيص فاتبعه الناس. وأول من قال: "فعادى عداء" فاتبعه الناس. وأول من شبه الحمار "بمقلاء الوليد" وهو عود القُلة و "بكرّ الأندري"، والكر: الحبل. وشبه الطلل "بوحي الزبور في العسيب". والفرس بتيس الحلب3. وأورد له علماء الشعر أشياء ذكروا أنه انفرد بها ولم يتمكن أحد من مجاراته بها4، وعابوا عليه أشياء، دافع عنها بعض العلماء، وردوا العائبين عليها. ومما عابوه عليه تصريحه بالزنا والدبيب إلى حرم النساء، وفجوره بالمتزوجات، والشعراء تتوقى ذلك في الشعر وإن فعلته5. وقد فضله "لبيد بن ربيعة" على جميع الشعراء، إذ قال: "أشعر الناس ذو القروح، يعني امرأ القيس". وقد ذكر علماء الشعر أبيات شعر لامرئ القيس، قالوا إن غيره من الشعراء أخذوها أخذا، مع تغير بسيط وأدخلوها في شعرهم، أو أخذوا أكثر ألفاظها أو معانيها فأضافوا إلى شعرهم. ومن ذلك قول امرئ القيس: وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 56"، "الثقافة"، ديوانه "13". 2 الشعر والشعراء "1/ 68"، "الثقافة". 3 الشعر والشعراء "1/ 72 وما بعدها"، "الثقافة". 4 الشعر والشعراء "1/ 73 وما بعدها"، "الثقافة". 5 الشعر والشعراء "1/ 50"، "الثقافة".

أخذه طرفة فقال: وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد ومثل قول امرئ القيس: فلأيا بلأي ما حملنا غلامنا ... على ظهر محبوك السراة محنّب أخذه زهير، فقال: فلأيا بلأي ما حملنا غلامنا ... على ظهر محبوك ظماء مفاصله إلى غير ذلك من أمثلة ذكرها "ابن قتيبة" وغيره في مؤلفاتهم عن الشعر والشعراء1. إن صحت دلت على أن الشعراء الجاهليين كانوا يحفظون شعر من تقدم عليهم، وشعر المعاصرين لهم، وأنهم كانوا يتتبعونه ويستقصونه ليحفظوه، ولم يبالوا بعد ذلك إذا أخذوا شيئا من شعر غيرهم. وهذا يدل أيضا على أن الشعر الجاهلي كان محفوظا في الصدور، يحفظه الشعراء وغيرهم من عشاق الشعر، إلى أن جاء الإسلام فدون بالقراطيس. يقول علماء الشعر لم يتقدم امرؤ القيس الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، أو لأنه كان أول من ابتدأ بالشعر ووضع جادته ومهد سبيله ووضحه لمن جاء بعده من الشعراء، لكنه سبق إلى أشياء طريفة فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها، لأنه كان أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه2. وقد ثمن "الباقلاني" شعره بقوله: "وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس ولا ترتاب في براعته ولا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها من ذكر الديار والوقوف عليها إلى ما يتصل بذلك من البديع الذي أبدعه والتشبيه الذي أحدثه والتميح الذي يوجد في شعره والتصرف

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 69 وما بعدها"، "الثقافة". 2 الشعر والشعراء "1/ 69 وما بعدها".

الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه من صناعة وطبع وسلاسة وعلو ومتانة ورقة وأسباب تحمد وأمور تؤثر وتمدح. وقد ترى الأدباء يوازنون بشعره فلانا وفلانا" ثم هو يؤاخذ الشاعر على عيوب ذكر أنها عوار في معلقته1. ووضع أهل الأخبار "امرأ القيس" في رأس زمرة عشاق العرب والزناة. وذكروا له عشقه لـ "فاطمة بنت العُبيد بن ثعلبة" العذرية، وعشقه لـ "أم الحارث" الكلبية، وعشقه لـ "عنيزة"، وهي صاحبة يوم "دارة جلجل"2، ورووا له قصة طريفة حدثت له مع صاحبة يوم "دارة جلجل"، تبين كيف مكر بابنة عمه "عنيزة"، فأجبرها على أن تتجرد من لباسها، لينظر إليها وهي تخرج من الغدير مقبلة ومدبرة، حتى يمتع نظره برؤية جسدها العاري، ثم كيف نحر ناقته، وشوى لحمها، وأخذ يطعم به البنات، وكيف توسل إلى ابنة عمه "عنيزة" لتحمله على غارب بعيرها بعد أن ذبح ناقته وشوى لحمها ليتخذ ذلك حجة له في مشاركة "عنيزة" بعيرها. ثم تروي القصة، كيف أنه صار يجنح إليها فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها، ثم تنتهي القصة بذكر الشعر الذي قاله في هذه المناسبة. حيث يقول: ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من رحلها المتحمل يظل العذاري يرتمين بلحمها ... وشحم كهدّاب الدمقس المفتل ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ... فقالت لك الويلات إنك مرجلي تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل فقلت لها سيري وأرخي زمامه ... ولا تبعدينا من جناك المعلل3 وراوي هذه القصة هو "محمد بن سلام"، سمعها كما يقول من "أبي شفقل" راوية "الفرزدق" الشاعر الشهير، وقد ذكر هذا الراوي أنه لم ير رجلا كان أروى لأحاديث امرئ القيس وأشعاره من الفرزدق، وذلك لأن "امرأ القيس"

_ 1 إعجاز القرآن "74 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "1/ 64". 3 الشعر والشعراء "1/ 64"، الثقافة.

كان قد أقام في "بني دارم" رهط الفرزدق حينا، حين رأى من أبيه جفوة، فمن ثم أخذ "الفرزدق" علمه بأخبار "امرئ القيس" وأحاديثه وأشعاره1. ويكثر "امرؤ القيس" من ذكر أسماء المواضع التي نزل بها، وقد أفادنا بذلك في معرفة تلك المواضع. وفي جملة ما ذكره موضع "الخص"، وقد اشتهر بالخمر. وهو قرية من أسفل الفرات: كأن التجار أصعدوا بسبيئة ... من الخص حتى أنزلوها على يسر2 وقوله: لمن الديار عرفتها بسحام ... فعمايتين فهضب ذي أقدام فصفا الأطيط فصاحتين فعاسم ... تمشي النعاج بها مع الآرام3 وقد ذكر عشرة مواضع من أرض البحرين بقوله: غشيت ديار الحي بالبكرات ... فعارمة فبرقة العيرات فغول فحليت فنفي فمنعج ... إلى عاقل فالجب ذي الأمرات4 وله أشعار أخرى كثر فيها ورود أسماء المواضع5. ويذكر أن قوما من أهل اليمن أقبلوا يريدون النبي، فضلوا، ووقعوا على غير ماء، فمكثوا ثلاثا لا يقدرون على الماء، وأوشكوا على الهلاك، فأنشد أحدهم بيتين من شعر امرئ القيس، هما: لما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائصها دامي تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي فقال أحدهم: ضارج عندكم، وأشار إليه فمشوا على الركب، فإذا ماء غدق،

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 64"، "الثقافة". 2 الصفة "129". 3 الصفة "151، 226". 4 الصفة "225". 5 الصفة "229 وما بعدها".

وإذا عليه العرمض، والظل يفيء عليه، فشربوا وحملوا ولولا ذلك لهلكوا1. ولما بلغوا النبي، أخبروه خبرهم، فقال: "ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار"2. وروي عن "عمر" قوله في "امرئ القيس": "سابق الشعراء، خسف لهم عين الشعر"3. ونجد لهذا الشاعر ذكرا في كتب الحديث4. وذكر أن "امرأ القيس" أشار إلى "ابن مندلة" "ملك العرب" بقوله: فأقسمت لا أعطي مليكا ظلامة ... ولا سوقة حتى يئوب ابن مندلة وروي أن هذا البيت، هو لعمرو بن جوين5. وتذكر قصة رواها "أبو الحسين" النسابة، أن "حجرا" والد امرئ القيس نهى ابنه عن قول الشعر، فلما لم ينته عنه، أمر أحد غلمانه أن يقتله ويأتيه بعينيه، فانطلق به الغلام، فاستودعه جبلا منيفا، وعلم أن أباه سيندم على قتله. وعمد الغلام إلى جؤذر كان عنده فنحره وامتلخ عينيه، فأتي بهما حجرا، فانفجر حجر من الغضب والندم، حتى هم بقتل الغلام، فأخبره الغلام، أنه لم يقتله، وأنه لا زال حيا، وأنه كان يعلم أن والده سيندم على قتله. فأمره عندئذ بالذهاب إليه، والعودة به إلى بيته، فأتاه به. وكف امرؤ القيس عن قول الشعر حتى قتل أبوه6. وهي قصة نجد أمثالها في أساطير الأمم الأخرى. وإلى هذه القصة أشار "امرؤ القيس" بقوله: فلا تتركني يا ربيع لهذه ... وكنت أراني قبلها بك واثقا

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 55"، "الثقافة". 2 الشعر والشعراء "1/ 67 وما بعدها"، "الثقافة". 3 الشعر والشعراء "168"، "الثقافة". 4 أحمد بن حنبل، مسند "2/ 228"، طبقات الشافعية، للسبكي "1/ 256"، "1964م". 5 تاج العروس "8/ 132"، "ندل". 6 شرح شواهد المغني، للسيوطي "21"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 98"، "دعا مولى له يقال له ربيعة"، الشعر والشعراء، "1/ 51"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 160 وما بعدها".

وتذكر رواية أخرى أن أباه نهاه بعد عودته إليه من قول الشعر، ثم إنه قال: ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي فبلغ ذلك أباه فطرده1. والمشهور بين علماء الشعر، أن امرأ القيس إنما طرد، لأنه كان يقول الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك، فزجره أبوه ومنعه عن قوله، فلما لم ينته طرده. فكان يسير في أحياء العرب ومع أخلاط من شذاذ العرب من طيء وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام، فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى الصيد فيصيد ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمّون من أرض اليمن، فقال: ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر! ثم شرب سبعا، فلما صحا آلى أن لا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه حتى يدرك ثأره. وهكذا صيروا "امرأ القيس" من الصعاليك، وجعلوه في عدادهم، فاتكا كثير الغزل والولوع بالنساء، يتنقل في أحياء العرب ويغير بهم، فيصف الأوثان، ويبكي على الدمن، ويذكر الرسوم والأطلال وغير ذلك2. ويرجع سند أكثر الروايات المتقدمة والتي بعدها إلى "ابن الكلبي"، ولابن الكلبي كتاب يتصل بامرئ القيس اسمه: "كتاب تسمية ما في شعر امرئ القيس من أسماء الرجال والنساء"3، وله روايات مدونة في الأغاني وفي كتب أدب أخرى عن هذا الشاعر وعن ملوك كندة، ويظهر أنه قد اصطنع قصص امرئ القيس، وأضاف على القصص شعرا، ليكون له سندا وتفسيرا، وقد يكون أخذ القصص من أفواه الأعراب والرواة الذين حرفوا تأريخ امرئ القيس ووالده وحوروه وحولوه على طريقتهم المألوفة إلى قصص وأساطير، تميل نفوسهم إلى الاستماع إليها، فنقلها عنهم كما سمعها. غير أن "ابن الكلبي"، كان كما

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 52"، "الثقافة". 2 نزهة الجليس "2/ 147 وما بعدها". 3 الفهرست "148".

نعلم من الوضاعين، وكان من العارفين بدروب الشعر، وكان أيضا مثل والده ممن يضع الشعر على ألسنة الناس. وتذكر قصة "امرئ القيس" أنه انتقم من "بني أسد" قتلة والده، فقرت عيناه بأخذه الثأر منهم. وقد نظم ذلك في شعره1. وتذكر أنه خرج إليهم أول ما خرج مع بكر وتغلب، وهم الذين كانوامعه، فأدرك بين أسد ظهرا، فكثرت الجرحى والقتلى، وحجز الليل بينهم، وهربت بنو أسد، فلما أصبحت بكر وتغلب، أبوا أن يتبعوهم وقالوا له: قد أصبت ثأرك. قال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحدا؛ قالوا: بلى، ولكنك رجل مشئوم، وانصرفوا عنه، فمشى هاربا لوجهه، حتى أمده "مرثد الخير بن ذي جدن" الحميري، وتبعه شذاذ من العرب، واستأجر رجالا من القبائل، ثم خرج فظفر ببني أسد، وألح المنذر في طلب امرئ القيس ووجه إليه الجيوش، فتفرق من كان معه ونجا في عصبته، فكان ينزل على بعض العرب ويرحل حتى قدم على السموأل، ثم على قيصر، على نحو ما ذكرت. وتذكر رواية أن "امرأ القيس" لما مر ببكر بن وائل طالبا منهم النصرة، سألهم عن شاعر محسن فيهم، فأتوه بعمرو بن قميئة الضبعي، وقد أسن، فأعجب به "امرؤ القيس" فأخذه معه، حتى ذهب إلى "الحارث بن أبي شمر" الغساني، طالبا منه النجدة، فقال له: إني لست أقدر على المسير إلى العراق في هذا الوقت، ولكني أسير معك إلى الملك قيصر، فهو أقوى مني على ما سألت، وكانت للحارث وفادة على الملك، فأوفده معه3. فالذي أخذ "امرأ القيس" إلى الروم هو "الحارث"، على هذه الرواية. والمعروف من الروايات الأخرى أن هذا الملك طالب "السموأل" بأسلحة "امرئ القيس" التي أودعها عنده، فلما أبى السموأل إلا إعطاءها إلى "آل امرئ القيس" الشرعيين وورثته، حاصره، وقتل ابنه، فضرب العرب بالسموأل المثل في الوفاء.

_ 1 تأريخ ملوك العرب الأولية "ص126 وما بعدها". 2 الرافعي "3/ 195 وما بعدها". 3 الخزانة "3/ 613 وما بعدها"، "بولاق". 4 نزهة الجليس "2/ 151".

وكنية امرئ القيس "أبو يزيد"، ويقال: "أبو وهب"، ويقال: "أبو الحارث"، ويقال "أبو كبشة". وأما اسمه، فاختلف فيه، فقيل: "عدي"، وقيل "مليكة"، وقيل" حندج". وكان يقال له: "الملك الضلِّيل"، و"الضليل"، و "ذو القروح"1. ويذكر أهل الأخبار أن "امرأ القيس" كان معناعريضا ينازع كل من قال إنه شاعر، فنازع "التوءم اليشكري"، "الحارث بن التوءم"2 فقال له: "إن كنت شاعرا فملط أنصاف ما أقول وأجزها". ونازع "عبيد بن الأبرص"3. وإذا ما أخذنا بآراء بعض المستشرقين في سنة وفاة الشاعر "امرئ القيس" من أنها كانت بين السنة "530" والسنة "540" بعد الميلاد4، فيكون عصر أقدم شعر جاهلي وصل إلينا لا يزيد عمره على القرن السادس للميلاد، وأواخر القرن الخامس للميلاد. وهذا التقدير معقول يتناسب مع الأخبار المروية عن هذا الشاعر. روي أن رؤبة بن العجاج قال: حدثني أبي عن أبيه قال: حدثتني عمتي. قالت: سألت امرأ القيس، ما معنى قولك: كرك لأمين على نابل؟ فقال: مررت بنابل وصاحبه يناوله الريش لؤاما وظُهارا، فما رأيت أسرع منه ولا أحسن، فشبهت به5. ولو أخذنا بهذه الرواية وصدقناها، فلن نتمكن من الارتفاع بها من حيث الزمن إلى أكثر من هذا التقدير. وذكر أن "امرأ القيس" لما هرب من "المنذر بن ماء السماء" صار إلى جبلي طيء: أجأ وسلمى، فتزوج أم جندب. وصادف أن جاءه "علقمة بن عبدة التميمي"، فتذاكرا الشعر، فقال امرؤ القيس: أنا أشعر منك، وقال علقمة: بل أنا أشعر منك! فتحاكما إلى أم جندب، فأخذ كل واحد منهما يقول شعرا وهي تسمع، وتعلق عليه، ففضلت أم جندب "علقمة" عليه، فغضب امرؤ القيس وطلقها، فخلف عليها علقمة، فسمي علقمة الفحل1.

_ 1 السيوطي، شرح "21 وما بعدها". 2 "قتادة بن التوءم اليشكري، اللسان "6/ 213"، "مجس"، "لقي التوءم اليشكري، واسمه الحارث بن قتادة"، العمدة "1/ 202". 3 اللسان "6/ 214"، "مجس"، السيوطي، شرح "25"، العمدة "1/ 176"، "2/ 87". 4 تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 265". 5 التنبيهات على أغلاط الرواة "4". 6 السيوطي، شرح شواهد "92 وما بعدها".

وجاء في كتاب "الشعر والشعراء": "وكان امرؤ القيس في زمان أنو شروان ملك العجم، لأني وجدت الباعث في طلب سلاحه الحارث بن أبي شمر الغساني. وهو الحارث الأكبر. والحارث هو قاتل المنذر بن امرئ القيس الذي نصبه أنو شروان بالحيرة. ووجدت بين أول ولاية أنو شروان وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم، أربعين سنة، كأنه ولد لثلاث سنين خلت من ولاية هرمز بن كسرى، ومما يشهد لهذا، أن "عمرو بن المسبح" الطائي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة في وفود العرب وهو ابن مائة وخمسين سنة وأسلم، وعمرو يومئد أرمى العرب. وهذا الذي ذكره امرؤ القيس"1. و"عمرو بن المسبح" "المسيح؟ " الطائي، هو الذي عناه "امرؤ القيس" بقوله: رب رام من بني ثعلب ... مخرج كفيه من ستره وكان كما يزعم أهل الأخبار أرمى العرب يومئذ ومن فرسانهم المعروفين. ومن المعمرين. عمر على ما يقولون مائة وخمسين سنة، وجعلوه ممن أدرك أيام الرسول، بل زعموا أنه وفد عليه فأسلم. وجعل بعض أهل الأخبار وفاته في خلافة "عثمان". وتوقف "ابن قتيبة" في "المعارف"، فقال:"لا يدرى أقبض قبل النبي صلى الله عليه وسلم، أو بعده"2، "ولست أدري أقبض قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أم بعده"3. وذكروا أنه هو القائل: لقد عمرت حتى شف عمري ... على عمرو بن علة وابن وهب4 ولا يعقل خبر بقاء "عمر بن المسبح" الطائي إلى أيام النبي، ولا سيما خبر

_ 1 الشعر والشعراء "50 وما بعدها"، "1/ 66"، "الثقافة". 2 الإصابة "3/ 17"، "رقم 5964"، ابن دريد، الاشتقاق "232"، المعمرون "86"، الشعر والشعراء "1/ 67"، "الثقافة"، الاستيعاب "2/ 513"، "حاشية على الإصابة". 3 المعارف "314". 4 الإصابة "3/ 17"، "رقم 5964".

من جعل موته في خلافة عثمان ولعل شخصا كان اسمه مثل هذا الإسم، فاشتبه أمره على الرواة، فظنوه صاحب امرئ القيس. ولو كان هو صاحبه لما سكت عشاق الشعر والباحثون عن شعر صاحبه عنه، ولوجدنا له خبرا مع الرسول أو عمر عن حياة امرئ القيس. وقد أشير إلى "البريد" في شعر "امرئ القيس"، إذ ذكر أنه نادم "قيصر" وأركبه البريد: ونادمت قيصر في ملكه ... فأوجهني وركبت البريدا إذا ما ازدحمنا على سكة ... سبقت الفرانق سبقا بعيدا1 وكانت البرد منظومة إلى كسرى، من أقصى بلاد اليمن إلى بابه، أيام وهرز، وأيام قتل مسروق عظيم الحبشة، وكذلك كانت برد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان وآبائه، وكذلك كانت برده إلى البحرين: إلى المكعبر مرزبان الزارة، وإلى مشكاب، وإلى المنذر بن ساوى، وكذلك كانت برده إلى عمان، إلى الجلندى بن المستكبر، فكانت بادية العرب وحاضرتها مغمورتين ببرده، إلا ما كان من ناحية الشام، فإن تلك الناحية من مملكة خثعم وغسان إلى الروم، إلا أيام غلبت فارس على الروم2. ويرجع الفضل في تخليد شعر "امرئ القيس" إلى "حماد" الراوية، وإلى "أبي عمرو بن العلاء"3. وكان "أبو عمرو بن العلاء" يقول: "فتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي الرمة"4. وإلى "الفرزدق" الذي كان من أروى الناس لأحاديثه وأشعاره5، وإلى "ابن الكلبي" الذي نجد عنه نقولا في كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، تخص "امرأ القيس"6، وفي كتاب الأغاني، وهو من أهم الأخباريين الراوين لأخبار كندة.

_ 1 ديوان "262"، رسائل الجاحظ "1/ 275، 290 وما بعدها"، "كتاب البغال". 2 رسائل الجاحظ "1/ 291 وما بعدها"، "كتاب البغال". 3 المزهر "2/ 253"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 99". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 142". 5 الشعر والشعراء "1/ 64"، "الثقافة". 6 الشعر والشعراء "1/ 53، 59، 67، 68".

وذكر "الرياشي" أن كثيرا من الشعر الوارد في ديوان امرئ القيس، هو منحول عليه، وهو لجماعة من أصحابه، مثل عمرو بن قميئة1. وقد نص بعضهم على أنه لم يصح له إلا نيف وعشرون شعرا بين طويل وقطعة2. وقد عني علماء الشعر والأخبار بجمع أشعاره في ديوان، فجمعه غير واحد منهم، وشرحه كثيرون، وطبع جملة طبعات، وترجم إلى مختلف اللغات3. وقد اختلف رواة الشعر في ضبط عدد أبيات معلقة امرئ القيس كما اختلفوا في تقديم وتأخير الأبيات، "وفي رواية بعض الألفاظ، بحيث لا تجتمع اثنتان منها على صورة واحدة"4. وذكر "البغدادي": أن قصيدة امرئ القيس التي مطلعها: ألاعم صباحا أيها الطلل البالي هي من عيون شعره، وعدتها ستة وخمسون بيتا، وأكثرها وقعت شواهد في كتب المؤلفين، وفي كتب النحو والمعاني5. "وكان امرؤ القيس يروي شعر أبي دؤاد الإيادي ويتوكأ عليه. وهو فحل قديم كان أحد نعّات الخيل المجيدين". "ثم هو كان يعرف أن امرأ القيس بن حذام يبكي في شعره الطلول، فأخذ ذلك عنه كما أخذ صفة الخيل عن أبي دؤاد، وتراه يحاول أن يلحقه في إجادة نعتها والشهرة بذلك، حتى لا يخلو أكثر شعره من هذاالوصف"6. وقد كان يعاصره من الشعراء المعروفين: علقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص، والشنفرى، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شرًّا، والتوءم اليشكري.

_ 1 الموشح للمرزباني "34"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 99". 2 العمدة "1/ 67"، الرافعي "3/ 203". 3 راجع التفاصيل في بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 100 وما بعدها"، ودائرة المعارف الإسلامية. 4 الرافعي "3/ 199". 5 الخزانة "1/ 28"، "بولاق". 6 الرافعي "3/ 204".

وزعم أن "التوءم" اليشكري لقي "امرأ القيس" يوما فقال له: إن كنت شاعرا كما تقول فملط لي أنصاف ما أقول فأجزها: قال: نعم: فقال امرؤ القيس: أحار ترى بريقا هب وهنا فقال التوءم: كنار مجوس تستعر استعارا واستمرا على ذلك. ولما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في أيامه من يطاوله، آلى أن لا ينازع الشعر أحدا أبدا1. ونجد للباقلاني صاحب كتاب "إعجاز القرآن" آراء في بعض أشعار "امرئ القيس"، حيث ينتقد بعض الأبيات ويبين ما فيها من عيوب2. وكما نجد في كتب "النقد" آراء في شعره، وهي بين مستحسن ومستهجن لبعض الأبيات أو القصائد. "ومن الخصائص العروضية في شعره كثرة استعمال الضرب المقبوض في الطويل، وكثرة الإقواء في القافية، وكثرة التصريع في غير أول القصيدة"3. وللقدماء ملاحظات عن شعر "امرئ القيس"، وقد شك بعض منهم في كثير من شعره وذهبوا إلى أنه من الموضوعات، وقد أشاروا إليه، ثم جاء المستشرقون، فركنوا إلى ما قاله القدماء عنه، وأبدوا رأيهم فيه. وتحدث المحدثون من العرب عنه، وعلى رأسهم الدكتور طه حسين، حيث أنكر شعره لحجج أوردها في كتابه في الأدب الجاهلي4. وعاش في أيام "امرئ القيس" شاعر آخر عرف أيضا بامرئ القيس، هو "امرؤ القيس بن حمام بن عبيدة بن هبل بن أبي زهير بن جناب بن هبل"5. و"طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك"، من قيس بن ثعلبة. وهو ابن أخي "المرقش الصغير"، وكان من المقربين إلى "عمرو بن هند" ملك

_ 1 الرافعي "3/ 288". 2 الباقلاني، إعجاز القرآن. 3 بروكلمان "1/ 99". 4 راجع أيضا شوقي ضيف: العصر الجاهلي "ص248 وما بعدها". 5 السيوطي، شرح شواهد "1/ 26".

الحيرة، ومن المنادمين لأخيه "أبو قابوس". وهو ابن أخت "جرير بن عبد المسيح" المعروف بـ "المتلمس". وقد قال الشعر وهو صغير السن، ومات أبوه وهو وصغير، وأكل أعمامه ماله، وأبوا تقسيمه، فهجاهم، واشتهر بمعلقته التي عاتب فيها ابن عمه "مالكا" لأنه لم يعن أخاه "معبدا" في جمع شتات إبله. وقد قتل بالبحرين على ما يذكره أهل الأخبار في قصص متضارب، اختلف في سبكة الرواة1. واسم "طرفة" عمرو، وإنما سمي طرفة لقوله: لا تعجلا بالبكاء اليوم مطرفا ... ولا أميريكما بالدار إذ وقفا وقيل إن كنيته "أبو عمرو"2. وقد فضل بعض علماء الشعر شعره على شعر سائر الشعراء الجاهليين3. وكان "طرفة" أحدث الشعراء سنا وأقلهم عمرا، قتل وهو ابن عشرين سنة. فيقال له "ابن العشرين". وقيل بضع وعشرين سنة. وأمه"وردة" من رهط أبيه، وفيها يقول لأخواله وقد ظلموها حقها، بأن يعطوها حقها: ما تنظرون بمال وردة فيكم ... صغر البنون ورهط وردة غيب4 ويقال إن أول شعر قاله "طرفة" أنه خرج مع عمه في سفر، فنصب فخا، فلما أراد الرحيل قال: يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ماشئت أن تنقري ... قد رفع الفخ فماذا تحذري لا بد يوما أن تصادي فاصبري5

_ 1 الخزانة "1/ 413" "بولاق"، الأغاني "21/ 185"، الموشح "57"، المرزباني، معجم "201"، طبقات ابن سلام "115"، الشعر والشعراء "1/ 117 وما بعدها"، الخزانة "2/ 805"، المزهر "2/ 441". 3 المصدر نفسه. 4 الأبيات في ديوانه "11"، الشعر والشعراء "1/ 119"، "الثقافة". 5 الشعر والشعراء "1/ 120"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 417".

وروي أن أخته رثته بقولها: عددنا له ستًّا وعشرين حجة ... فلما توفاها استوى سيدا ضخما فجعنا به لما رجونا إيابه ... على خير حال لا وليدا ولا قحما1 ورغم قلة ما نسب إلى "طرفة" من الشعر، فقد قدمه علماء الشعر على غيره من الشعراء بأن جعلوا ترتيبه بعد امرئ القيس، ولهذا ثنوا بمعلقته. ذكر "ابن قتيبة" أنه أجود الشعراء قصيدة2. وقد ذكر "ابن سلام" أن معظم شعر "طرفة" قد ضاع حتى لم يبق منه بأيدي المصححين لشعره إلا بقدر عشر قصائد، مع أنه كان من أقدم الفحول، وقد حمل عليه كثير من الشعر3. وكان في حسب من قومه، جريئا على هجائهم وهجاء غيرهم. وكانت أخته عند "عبد عمرو بن بشر بن مرثد"، كان "عبد عمرو" سيد أهل زمانه، فشكت أخت طرفة شيئا من أمر زوجها إليه، فقال: ولا عيب فيه غير أن له غنى ... وأن له كشحا إذا قام أهضما وأن نساء الحي يعكفن حوله ... يقلن عسيب من سرارة ملهما فبلغ عمرو بن هند الشعر، فأبلغه إلى "عبد عمرو" وهو معه في صيد، فقال "عبد عمرو":أبيت اللعن، الذي قال فيك أشد مما قال في، قال: وقد بلغ من أمره هذا؟ قال نعم. فأرسل إليه، وكتب له إلى عامله بالبحرين فقتله. في قصة منمقة مدونة في أكثر كتب الأدب والأخبار. وقد تعرضت لها في مكان آخر من هذاالكتاب. ويقال إن الذي قتله "المعلى بن حنش العبدي"، والذي تولى قتله بيده "معاوية بن مرة الأيفلي"، حي من طسم وجديس4. وقيل "الربيع بن حوثرة" عامله على البحرين5. وقيل إن قاتله: "عبد هند

_ 1 الخزانة "1/ 416". 2 الشعر والشعراء "1/ 117 وما بعدها"، الخزانة "2/ 419"، "هارون". 3 طبقات "23". 4 الشعر والشعراء "1/ 117 وما بعدها". 5 الشعر والشعراء "1/ 121"، الخزانة "2/ 421 وما بعدها"، "هارون"، الأغاني "21/ 125"، نوادر المخطوطات "المجموعة السادسة" "ص212 وما بعدها".

ابن جرد بن جري بن جروة بن عمير" التغلبي، عامل "عمرو بن هند" على البحرين. وأن "عمرو بن هند"، كان قد جعل "طرفة" و"المتلمس" في صحابة "قابوس" أخيه، فكان "قابوس" يتصيد يوما، ويشرب يوما، فكان إذا خرج إلى الصيد خرجا معه، فنصبا وركضا يومهما، فإذا كان يوم لهوه وقفا على بابه يومهما كله، فلما طال ذلك عليهما، هجا طرفة "عمرو بن هند" وأخاه، فبلغ الهجاء الملك، فقرر قتلهما1. وورد أن "عمرو بن هند"، كان قد رشح أخاه "قابوس بن المنذر" ليملك بعده، وأنه جعل "طرفة" و "الملتمس" في صحابة "قابوس" وأمرهما بلزومه، فكان قابوس شابا يعجبه اللهو، وكان يركب للصيد، فيركض يتصيد، وهما معه يركضان حتى يرجعا عشية وقد تعبا، فيكون قابوس من الغداة في الشراب فيقفان بباب سرادقه إلى العشي، فضجرا منه فهجواه وهجوا عمرا معه، فبلغ ذلك الهجاء "عمرا" ففعل بهما ما فعل2. ويقال إن "طرفة" كان ينادم يوما "عمرو بن هند"، فأشرفت ذات يوم أخته، فرأى طرفة ظلها في الجام الذي في يده، فقال: ألا يا بأبي الظبي ... الذي يبرق شنفاه ولولا الملك القاعد ... قد ألثمني فاه فحقد ذلك عليه، وكان قال أيضا: وليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تدور لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير وقابوس هو أخو "عمرو بن هند". وكان فيه لين. ويسمى قينة العرس. فحقد "عمرو بن هند" عليه واستدعاه، وكتب له كتابا، وكتب بمثل ذلك "للملتمس"، وشكَّ المتلمس في أمر الصحيفة، ومزقها، ومضى "طرفة" إلى البحرين، فأخذه "الربيع بن حوثرة" فسقاه الخمر حتى أثمله، ثم فصد أكحله، فقبره بالبحرين. وكان لطرفة أخ يقال له "معبد بن العبد"، فطلب

_ 1 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة"، "ص112 وما بعدها". 2 الخزانة "1/ 412 وما بعدها".

بديته، فأخذها من الحواثر1. ويرى "بروكلمان" أن "طرفة" لم ينادم أبا قابوس، وإنما نادم "عمرو بن مامة" أخا الملك من أبيه، باليمامة. وكان قد التجأ إلى "مراد" من عداوة أخيه. فعاقب الملك "طرفة" بأخذ إبله التي تركها في "تبالة" من ديار "لخم"، فهجاه طرفة2. وقد ذكر "المرتضى" رواية تذكر أن صاحب المتلمس وطرفة هو "النعمان بن المنذر"، وذلك أشبه بقول طرفة: أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض وأبو منذر، هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح طرفة النعمان، فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان3. وذكر أن عائشة سئلت: "هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: لا، إلا لبيت طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود فجعل يقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزود. فقال أبو بكر: ليس هكذا. فقال: إني لست بشاعر، ولاينبغي لي"4. وينسب إلى طرفة قوله: عفا من آل ليلي السهـ ... ـب فالأملاح فالغمر فعرق فالرماح فالـ ... ـلوىمن أهله قفر وأبلي إلى الغرا ... ء فالماوان فالحجر

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 121" "الثقافة"، "فليت"، الخزانة "1/ 412 وما بعدها". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 92". 3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 804 وما بعدها".

فأمواه الدنافالنجـ ... ـد فالصحراء فالنسر فلاة ترتعيهاالعيـ ... ـن فالظلمان فالعفر وينسب للخرنق أيضا1. ويقدم علماء الشعر "طرفة" على غيره من الشعراء، بإجادته وصف الناقة في معلقته على نحو لم يسبق إليه2. وقد جعله "لبيد" بعد "امرئ القيس" في الشعر، وقال عنه "أبو عبيدة": "طرفة أجودهم واحدة، ولا يلحق بالبحور، يعني امرأ القيس وزهيرا والنابغة، ولكنه يوضع مع أصحابه: الحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم وسويد بن أبي كاهل". وقد ذكر علماء الشعر أبياتا جيدة لطرفة سبق بها غيره من الشعراء، فأخذهاعنه الشعراء وضمنوها أو ضمنوا معناها شعرهم. وممن اقتبس منه: "لبيد" و "الطرماح" و "عدي بن زيد" العبادي، وعبد الله بن نهيك بن إساف الأنصاري وغيرهم3. وتعد "معلقة" "طرفة" أطول المعلقات أبياتا، فهي تتألف من "105" أبيات في شرح القصائد العشر للزوزني4، وقد يزيد عليها بيت أو أكثر في بعض الروايات5. وتنتهي المعلقة بذكر الموت، وبالنصح، وبأن الأيام معارة فما استطعت من معروفها فتزود به، ثم ختمها بقوله: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي وهي حكم، لا تصدر في العادة إلا من شيخ شارف على الموت ومن حكيم عرك الأيام، ومن رجل خبير مجرب. والقصيدة نفسها من نفس رجل، يجب أن يكون قد خبر الحياة، ومارس الشعر زمنا، فهل تكون من نظم شاب هو ابن عشرين سنة، أو بضع وعشرين؟

_ 1 الصفة "225". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 92". 3 الشعر والشعراء "1/ 121"، "الثقافة". 4 "ص133 وما بعدها". 5 نزهة الجليس "2/ 158 وما بعدها".

وفي معلقة "طرفة" أبيات تشير إلى وقوفه على سفن الفرات ودجلة والبحر، إذ يقول فيها1: كأن حدوج المالكية غدوة ... خلايا سفين بالنواصف من دد عدولية أو من سفين ابن يامن ... يجور بها الملاح طورا ويهتدي يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفائل باليد ويقول فيها أيضا2: وأتلع نهاض إذا صعدت به ... كسكان بوصي بدجلة مصعد وزهير بن أبي سلمى، من هذا الرعيل الذي عدت إحدى قصائده من المعلقات. وكان على ما يقال راوية لأوس بن حجر زوج أمه، وكان أوس راوية للطفيل الغنوي، وهو والد "كعب بن زهير" الشاعر الشهير الذي كساه الرسول بردة له، بعد أن كان قد أمر بقتله لما بلغه من هجائه له. فلما سمع "كعب" بذلك جاء إلى المدينة فأسلم، وطلب العفو، وقال قصيدته الشهيرة بحضرة الرسول فعفى عنه وأعطاه البردة. أما والده "زهير"، فقد توفي قبل المبعث، ولا صحة لما ذكره البعض من أنه لقي الرسول3. وقد كان يكنى بـ "أبي بجير"4. وأتى "بجير" النبي وأسلم. وقد زعم أنه رأي رؤيا في منامه، أن سببا تدلى من السماء إلى الأرض وكان الناس يمسكونه، فأوله بنبي أخر الزمان، وأن مدته لا تصل إلى زمن بعثه، وأوصى بنيه أن يؤمنوا به عند ظهوره. ثم توفي قبل المبعث بسنة5. وهو "زهير بن أبي سلمى"، واسم "أبي سُلمى" ربيعة بن رياح المزني، من مزينة بن أد بن طابخة، وكانت محلتهم في بلاد "غطفان"، فظن الناس أنه من غطفان. وقد ذهب "ابن قتيبة" إلى أنه من "غطفان" ورد على

_ 1 المعلقة، البيت "3، 5". 2 المعلقة، البيت "28". 3 الأغاني "9/ 150"، الإصابة "3/ 279"، "رقم 7413"، الخزانة "1/ 436 وما بعدها". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 131". 5 الخزانة "2/ 325 وما بعدها".

من زعم أنه من مزينة1. وهو أحد الشعراء الثلاثة الفحول، المتقدمين على سائر الشعراء بالاتفاق، وإنما اختلف في تقديم أحدهم على الآخر، وهم امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني2. ويقال إنه لم يتصل الشعر في ولد أحد من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير3. وكان والد "زهير "شاعرا، وأخته "سلمى" شاعرة، وأخته "الخنساء" شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين وابن ابنه "المضرب بن كعب" شاعرا4، وقد عرف بأمه، وكان أخوه: "بشامة بن الغدير" شاعرا، كثير الشعر5. ويظهر من شعر ينسب إليه أنه عاش أكثر من مائة سنة، إذ نراه يتأفف من هذه الحياة، ومن مشقاتها، حتى سئم منها، إذ يقول: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم ويقول: بدا لي أن الله حق فزادني ... إلى الحق تقوى الله ما كان باديا بدا لي أني عشت تسعين حجة ... تباعا وعشرا عشتها وثمانيا أو: ألم ترني عمرت تسعين حجة ... وعشرا تباعا عشتها وثمانيا6 ويظهر أن بيت بدا لي أن الله حق فزادني، وما بعده من الشعر المنحول عليه، ولم يرد في رواية أبي العلاء، والأصمعي، والمفضل الضبي، والسكري7.

_ 1 الخزانة "2/ 332"، "هارون"، "والناس ينسبونه إلى مزينة، وإنما نسبه في غطفان"، الشعر والشعراء "1/ 76"، الأغاني "9/ 146". 2 الخزانة "2/ 332 وما بعدها". 3 الشعر والشعراء "1/ 76". 4 الخزانة "2/ 333". 5 من نسب إلى أمه من الشعراء، نوادر المخطوطات، "المجموعة الأولى"، "ص91". 6 رسالة الغفران "182 وما بعدها". 7 رسالة الغفران "182 رقم 1".

وفي شعر زهير، زهد ووعظ وتهذيب، حمل بعض الباحثين على اعتباره نصرانيا، ويشك "بروكلمان" في ذلك، إذ يرى أن أثر النصرانية وإن كان واسع الانتشار في جزيرة العرب في ذلك الوقت، بيد أنه لا توجد لدينا أدلة تحملنا على جعله نصرانيا1. وقد ذكر علماء الشعر أن "زهيرا" كان يتأله ويتعفف في شعره، ويدل شعره على إيمانه بالبعث وذلك قوله: يؤخر فيودع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم2 ومن جيد شعره في تحديد اليمين قوله: فإن الحق مقطعه ثلاث ... يمين أو نفار أو جلاء3 وقد ثمن شعره وقدره العلماء. قال "الثعالبي" فيه: "إنه أجمع الشعراء للكثير من المعاني في القليل من الألفاظ"4. وفي معلقته أبيات في نهاية الحسن والجودة، وقد جرت مجرى الأمثال الرائعة5. وورد أن "عمر بن الخطاب" كان لا يُقدّم عليه أحدا. وذكر أن "عمر" قال لابن عباس: أنشدني لأشعر شعرائكم. قلت: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير. قيل بم كان ذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل بما لا يكون في الرجال. قال: فأنشدته حتى برق الصبح. وورد أن عمر كان جالسا "مع قوم يتذاكرون أشعار العرب إذ أقبل ابن عباس، فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بالشعر، فلما جلس قال: يا ابن عباس، من أشعر العرب؟ قال: زهير بن أبي سلمى. قال فهل تنشد من قوله شيئا نستدل به على ما قلت، قال: نعم، امتدح قوما من غطفان يقال لهم بنو سنان فقال:

_ 1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 95". 2 الشعر والشعراء "1/ 78"، "الثقافة". 3 الشعر والشعراء "1/ 79"، "الثقافة". 4 خاص الخاص "75"، الإعجاز والإيجاز "37". 5 كارلو نالينو "77".

لو كان يقعد فوق الشمس من أحد ... قوم لأولهم يوما إذا قعدوا محسَّدُون على ما كان من نعم ... لا ينزع الله عنهم ما له حسدوا1 وورد في رواية أخرى، أن "عمر" قال لابن عباس: "أنشدني لشاعر الشعراء، الذي لم يعاظل بين القوافي، ولم يتبع وحشي الكلام، قال: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير"2. وكان زهير أستاذ الحطيئة. وسئل عنه "الحطيئة" فقال: ما رأيت مثله في تكفّيه على أكتاف القوافي، وأخذه بأعنتها، حيث شاء، من اختلاف معانيها، امتداحا وذما. قيل له: ثم من؟ قال: ما أدري، إلا أن تراني مسلنطحا واضعا إحدى رجلي على الأخرى رافعا عقيرتي أعوي في أثر القوافي. قال أبو عبيدة: يقول من فضل زهيرا على جميع الشعراء: إنه أمدح القوم وأشدهم أسر شعر. قال وسمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: الفرزدق يشبه بزهير. وكان الأصمعي يقول: زهير والحطيئة وأشبههما عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا به مذهب المطبوعين. قال: وكان زهير يسمي كُبْرَ قصائده الحوليات. وكان جيد شعره في هرم بن سنان المري. وقال عمر رضي الله عنه لبعض ولد هرم: "أنشدني بعض ما قال فيكم زهير، فأنشده، فقال: لقد كان يقول فيكم فيحسن، فقال: يا أمير المؤمنين إنا كنا نعطيه فنجزل! فقال عمر رضي الله عنه ذهب ما أعطيمتوه وبقي ما أعطاكم3" وقد عيب على "زهير" لأخذه عطايا "هرم بن سنان"، إذ عد أهل الأخبار ذلك نوعا من التكسب بالشعر، وهو مرذول عند العرب4. وقد قدمه "الأخطل" كذلك، وقال "ابن الأعرابي": "كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره، كان أبوه شاعرا وهو شاعر وخاله شاعر وأخته

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 131 وما بعدها" الشعر والشعراء "1/ 76". 2 الشعر والشعراء "1/ 81"، "الثقافة". 3 الشعر والشعراء "1/ 81 وما بعدها"، "الثقافة". 4 العمدة "1/ 49".

سلمى شعرة، وابناه كعب وبجير شاعران، وأخته الخنساء شاعرة"1. "ومن قدّم زهيرا قال: كان أحسنهم شعرا، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح، وأكثرهم امتثالا في شعره"2. وقيل إن أمدح بيت قالته العرب، هو بيت زهير: تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله ولزهير قصيدة أولها: ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا يقال إنه قالها لما طلب "كسرى" النعمان بن المنذر، ففر فأتى طيًّا، فسألهم أن يدخلوه جبلهم، فأبوا فلقيه بنو رواحة من عبس، فقالوا له: أقم فينا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فقال: لا طاقة لكم بكسرى، وأثنى عليهم خيرا. وورد أن "الأصمعي" أنكر كون هذه القصيدة لزهير. ونسبها بعضهم "لصرمة بن أبي أنس الأنصاري"، وهي لا تشبه كلام زهير4. ولزهير شعر سبق به غيره، فأخذه الشعراء منه وضمنوه شعرهم. وقد ذكر العلماء أمثلة على ذلك5. "ويروى أن لزهير سبع قصائد نظم كلا منها في عام كامل، ومن ثم سميت: الحوليات"6. ومن أولاد زهير بن أبي سلمى، كعب وبجير. وكان "بجير" قد أسلم قبل "كعب". فبلغ ذلك كعبا، فقال شعرا تعرض فيه للرسول فهدر الرسول دمه" فكتب "بجير" إليه شعرا يخوفه فيه ويدعوه إلى الإسلام، فجاء وأسلم7.

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 133". 2 المصدر نفسه "1/ 132". 3 الشعر والشعراء "1/ 77". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 282 وما بعدها"، ديوان زهير "283 وما بعدها"، الخزانة "2/ 588 وما بعدها"، "بولاق". 5 الشعر والشعراء "1/ 83 وما بعدها"، "الثقافة". 6 الخصائص، لابن جني "1/ 330"، بروكلمان "1/ 95". 7 السيوطي، شرح شواهد "2/ 524"، العمدة "1/ 165"، ابن هشام، سيرة "3/ 26"، الروض الأنف "2/ 305".

و "لكعب" ولد يقال له "المضرب بن كعب". كان شاعرا1، واسمه: "عقبة بن كعب بن زهير بن أبي سلمى" لقب بالمضرب، لأنه شبب بامرأة من بني أسد، فضرب، فسمي المضرب. روى له الشريف "المرتضى" شعرا2. وكانت لزهير بنت كانت شاعرة كذلك. ذكر أن بنت زهير دخلت على "عائشة"، وعندها بنت "هرم بن سنان"، فسألت بنت هرم: بنت زهير من أنت؟ قالت: أنا بنت زهير. قال: أوَمَا أعطى أبي أباك ما أغناكم؟ قالت: إن أباك أعطى أبي ما فني، وإن أبي أعطى أباك ما بقي، وأنشدت بنت زهير: وإنك إن أعطيتني فمن الغنى ... حمدت الذي أعطيت من ثمن الشكر وإن يفن ما تعطيه في اليوم أو غد ... فإن الذي أعطيك يبقى على الدهر3 والشاعر "لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب" العامري، ويكنى "أبا عقيل"، وهو من أشراف قومه في الجاهلية والإسلام، وكان سخيا من أسرة معروفة. وكان في شبابه من فرسان زمانه، وقد شارك قبيلته في غاراتها على أعدائها، وذب عنها بسيفه وبقلمه. وهو من الشعراء المترفعين الذين ترفعواعن مدح الناس لنيل جوائزهم وصلاتهم كما كان من الشعراء المتقدمين في الشعر4. وقد عرف والده بـ "ربيعة المقترين"، "أو "ربيع المقترين"، لسخائه، وقد ذكره "لبيد" ابنه في شعره بقوله: ولا من ربيع المقترين رزئته ... بذي علق فاقني حياءك واصبري وتحدث عن كرمه، فقال: وأبي الذي كان الأرا ... مل في الشتاء له قطينا5

_ 1 الخزانة "2/ 333"، المؤتلف "281". 2 أمالي المرتضى "1/ 458". 3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 754 وما بعدها". 4 الخزانة "2/ 246"، "هارون"، "1/ 337"، "بولاق". 5 شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامري "17"، "شرح الدكتور إحسان عباس"، "الكويت 1962".

وقد قتل والده وهو صغير السن، فتكفل أعمامه بتربيته. ويرى "بروكلمان" احتمال مجيء "لبيد" إلى هذه الدنيا في حوالي سنة "560م". أما وفاته، فكانت سنة أربعين، وقيل إحدى وأربعين، لما دخل معاوية الكوفة إذ صالح "الحسن بن علي" ونزل "النخيلة"، وقيل إنه مات بالكوفة أيام "الوليد بن عقبة" في خلافة عثمان، وقد رجح "ابن عبد البر" هذه الرواية، وورد أنه توفي سنة نيف وستين1. وقد عرفت أم "ربيعة بن مالك"، أي والد "لبيد" بـ "أم البنين"، وهي بنت "عمرو بن عامر بن صعصعة"، وكانت تحت "مالك بن جعفر بن كلاب"، فولدت له منه "عامر بن مالك" مُلاعب الأسنة، و"طفيل بن مالك" فارس قُرزل، وهو أبو "عامر بن الطفيل"، و"ربيعة بن مالك" أبا لبيد، وهو ربيع المقترين، و "معاوية بن مالك" معود الحكام "معود الحكماء"، وإنما سمي "معود الحكام" "معود الحكماء" بقوله: أعود مثلها الحكام بعدي ... إذا ما الحق في الأشياع نابا2 وقيل إنه لما مات دفن في صحراء "بني جعفر بن كلاب" رهطه، وأنه لما قدم الكوفة وأقام بها، رجع بنوه إلى البادية أعرابا3. وروي في خبر أنه مات بالكوفة أيام "الوليد بن عقبة" في خلافة "عثمان"، فبعث "الوليد" إلى منزله عشرين جزورا فنحرت عنه. وقد رجح "ابن عبد البر"، هذه الرواية. وورد في رواية أخرى أنه توفي في عهد "زياد" وفي خلافة معاوية4. وقد ذكر من ترجم حياته أنه كان فارسا شجاعا سخيًّا، وقد جعله "ابن قتيبة"

_ 1 الاستيعاب "3/ 307"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 152 وما بعدها". 2 أمالي المرتضى "1/ 193". أعود مثلها الحكماء بعدي ... إذا ما الحق في الحدثان نابا اللسان "14/ 399"، "سما"، وورد "معوذ الحكماء"، بالذال المعجمة، تاج العروس "2/ 440"، "عود". 3 المعارف "332". 4 الاستيعاب "3/ 309"، "هامش على الإصابة"، الإصابة "3/ 308"، "رقم 7543".

في جملة المائة فارس الذين وجههم "الحارث بن أبي شمر" الغساني، وهو "الأعرج" إلى "المنذر بن ماء السماء" لقتله، فلما صاروا إلى معسكر "المنذر"، أظهروا أنهم أتوه داخلين في طاعته، فلما تمكنوا منه قتلوه، فقتل أكثرهم، ونجا لبيد، حتى أتى ملك غسان فأخبره الخبر. فحمل الغسانيون على عسكر "المنذر" فهزموهم، وهو يوم "حليمة". وقد ذكر "ابن قتيبة" في كتابه "الشعر والشعراء" أن "الحارث" كان قد أمر "الوليد" على المائة فارس1، وذكر في كتابه "المعارف"، أنه كان غلاما إذ ذاك2. وقد وقعت معركة "يوم حليمة" سنة "554م"، فيجب أن يكون مولد "لبيد" قبل هذا العهد. ولو أخذنا برأي أهل الأخبار القائل إنه عاش فوق المائة، وأنه كان يوم توفي ابن مائة وثلاثين سنة، أو مائة وأربعين، أو مائة وسبع وخمسين أو مائة وستين3، جاز لنا تصور اشتراك "لبيد" في ذلك اليوم، غلاما أو شابا. ولم يذكر "ابن قتيبة" كيف جاء "لبيد" إلى "الحارث"، وهو في هذا العمر، ولم اشترك مع من اشترك في اغتيال "المنذر". ولكننا نجد "الميداني"، يسمي لبيدا الذي اشترك في اغتيال المنذر "لبيد بن عمرو"4، أي شخصا آخر، وهي رواية أدعى إلى القبول من رواية "ابن قتيبة". وتقول قصة يرويها أهل الأخبار عن سبب نظم لبيد لأرجوزته الشهيرة، التي أولها: يا رُبَّ هيجا هي خير من دعة ... إذ لا تزال هامتي مقزعة أن "لبيدا" كان غلاما آنذاك، وكان قد ذهب مع وفد "بني عامر" أبناء "أم البنين"، وعليه "أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب"، وقد وضعوه على رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم فيرعاها. وكان "النعمان" قد ضرب قبة على "أبي براء" وأجرى عليه وعلى من كان معه النزل، وكان

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 194"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 337"، "بولاق". 2 "فوجه إليهم مائة رجل، فيهم "لبيد" الشاعر، وهو غلام"، المعارف "642". 3 الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543"، الاستيعاب "3/ 306 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 4 الميداني، مجمع الأمثال "2/ 295 وما بعدها".

"الربيع بن زياد" العبسي ينادم النعمان ويتقدم على من سواه، وكان يدعى "الكامل"، وكان يعادي "بني جعفر"، فأوغر صدر "النعمان" عليهم، حتى صد عنهم ونزع القبة عن "أبي براء". فلما وقف "لبيد" على خبرهم، قال لهم: هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غدا حين يقعد الملك فأرجز به رجزا ممضا مؤلما، لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدا؟ قالوا وهل عندك ذلك؟ قال: نعم، قالوا: فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة، فقال فيها قولا أعجبهم. فلما أصبحوا قالوا: أنت والله صاحبه، فحلقوا له رأسه، وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه حلة، وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه "الربيع" ليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة بالوفد. فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريِّين فدخلوا عليه، والربيع إلى جانبه، فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترض الربيع في كلامهم، فقام لبيد: وقد دهن أحد شقي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلا واحدة، على عادة الشعراء في الجاهلية إذا أرادت الهجاء، ثم قال رجزه حتى إذا بلغ قوله: مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه ... إن استه من برص مُلمعه وإنه يدخل فيها إصبعه ... يدخلها حتى يواري أشجعه كأنه يطلب شيئا ضيّعه نفر "النعمان" من "الربيع" ورمقه شزرا، وكره مجالسته لتأثير هذه الأبيات فيه، وأعاد القبة على "أبي براء"1. وقد أيد "ابن رشيق" رواية من ذكر أن "لبيدا" كان غلاما يوم قال قصيدته المذكورة بقوله: "والربيع بن زياد، كان من ندماء النعمان بن المنذر" وكان فحاشا عيابا بذيًّا سبابا لا يسلم منه أحد ممن يفد على النعمان، فرمي بلبيد وهو غلام مراهق فنافسه"2. فجعل "لبيد" غلاما مراهقا. ويروي أهل الأخبار خبرا يؤيد الخبر المتقدم. يقول خبرهم: "نظر النابغة

_ 1 الفاخر "ص141 وما بعدها"، الأغاني "16/ 22"، نزهة الجليس "2/ 507 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 189 وما بعدها"، العمدة "1/ 27"، الخزانة "4/ 117"، مجالس ثعلب "449 وما بعدها". 2 العمدة "1/ 51".

إلى لبيد بن ربيعة وهو صبي مع أعمامه على باب النعمان بن المنذر، فسأل عنه فنسب له. فقال له: يا غلام، إن عينيك لعينا شاعر، أفتقرض من الشعر شيئا؟ قال: نعم يا عم، قال: فأنشدني شيئا مما قلته، فأنشده قوله: "ألم تربع على الدمن الخوالي" فقال له: يا غلام أنت أشعر بني عامر. زدني يا بني، فأنشده: طلل لخولة بالرسيس قديم. فضرب بيديه إلى جبينه وقال: اذهب فأنت أشعر من قيس كلها: أو قال: هوازن كلها". ويقال: إنه أنشده: عفت الديار محلها فمقامها، فقال: اذهب فأنت أشعر العرب1. وإذا أخذنا بالروايتين المذكورتين القائلتين إن "لبيدا" كان صبيا أو غلاما في أيام حكم الملك النعمان، وجب علينا افتراض أن ميلاده لم يكن بعيدا عن سنة "580" أو "581" أو "582م"، السنة التي تولى فيها "النعمان" الملك. ومعنى هذا أنه لم يعمر طويلا، وهو خلاف ما يذكره أهل الأخبار. وإن كل ما يمكن أن نتصوره من عمره، أنه كان في حوالي الثمانين حين داهمته منيته. وقد جعل "بروكلمان" مولده حوالي السنة "560م"، وجعل وفاته سنة "40هـ". حوالي السنة "660م"، ومعنى هذا أنه كان من أبناء المائة حين جاء أجله2. وللبيد شعر في "النعمان بن المنذر"، وصف فيه مجلسه. فذكر أنه كان قاعدا كعتيق الطير يُغضي ويُجل، والهبانيق قيام، بأيديهم الأباريق، تحسر الديباج عن أذرعهم، ينتظرون أمرا يصدره إليهم. وهو شعر مدون في ديوانه يعد من جيد شعره. وله قصيدة في رثاء "النعمان"، وتعرض فيها للموت ولزوال النعيم، ولعدم دوام الدنيا لأحد، ثم تحدث عن النعمان وعن أعماله وتجارته ختمها بقوله: وأمسى كأحلام النيام نعيمهم ... وأي نعيم خلته لا يزايل ترد عليهم ليلة أهلكتهم ... وعام وعام يتبع العام قابل4

_ 1 الأغاني "14/ 97"، شرح ديوان لبيد "21". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 145". 3 ديوان لبيد "195"، الشعر والشعراء "1/ 203"، "الثقافة". 4 القصيدة رقم "36" من الديوان، شرح ديوان لبيد "ص266"، الخزانة "1/ 339 وما بعدها"، "بولاق".

وقد ذكر فيها "الله" بقوله: أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ... بلى كل ذي لب إلى الله واسل ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل وكل امرئ يوما سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المحاصل1 وهي قصيدة أزيد من خمسين بيتا. وأولها: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل2 وروي أن لبيد أنشد النبي قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل فقال له صدقت، فقال: وكل نعيم لا محالة زائل فقال له: كذبت، نعيم الآخرة لا يزول. وروي أن ذلك كان مع "أبي بكر"، وروي في خبر آخر أنه كان مع "عثمان بن مظعون"3. وللبيد شعر يرثي به أخاه لأمه "أربد"، وكان قد أصابته صاعقة فقتل. وكان "أربد" أكبر منه سنا. وأبوه "قيس بن جزء بن خالد بن جعفر" "أربد بن قيس بن مالك بن جعفر"4، وكان يعطف على "لبيد" كثيرا وعلى ذوي رحمه، فارسا كريما، فلما أصابته الصاعقة تألم "لبيد" مما ألم بأخيه كثيرا، فرثاه برجز وبقصيدة وقد وجدت في النسخة العربية لتأريخ الأدب العربي لبروكلمان هذا النص: "ولما استقام السلطان للنبي بالمدينة، سار لبيد يحمل رسالة إليه من عمه: أربد: فأعجبه دينه"5. وهو وهم فأربد هو أخوه لا عمه. قال

_ 1 القصيدة رقم "36"، البيت "8" وما بعده. 2 الخزانة "2/ 252"، "هارون". 3 الخزانة "2/ 255 وما بعدها". 4 الطبري "3/ 144"، "وفد بني عامر بن صعصعة"، الخزانة "2/ 250 وما بعدها". 5 بروكلمان "1/ 145".

الطبري: "وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه"1. وكان من خبره أنه قدم مع وفد "بني عامر بن صعصعة" على الرسول، وفيه "عامر بن الطفيل" وثلاثون من رءوس القوم وشياطينهم، وفي رأس "عامر" الغدر بالرسول، بأن يشاغله في الحديث، فيعلو "أربد" النبي بالسيف، فلم يتجاسر "أربد" على ضربه، ورجع الوفد إلى بلاده. فلما كان "عامر" ببعض الطريق أصيب بالطاعون فمات، ومات "أربد" بعد ذلك بقليل بالصاعقة2. وذكر أن "عامر" لما مات نصبت "بنو عامر" نصابا ميلا في ميل حمى على قبره، لا تنتشر فيه راعية ولا يرعى ولا يسلكه راكب ولا ماش، وكان "جبار بن سلمى بن عامر بن مال" غائبا، فلما قدم قال: ما هذه الأنصاب؟ قالوا نصبناها حمى على قبر "عامر"، فقال ضيقتم على أبي علي. إن أبا علي بان من الناس بثلاث. كان لا يعطش حتى يعطش الجمل، وكان لا يضل حتى يضل النظم، وكان لا يجبن حتى يجبن السيل3. وفي إصابة "أربد" بالصاعقة يقول "لبيد" يبكيه: ما إن تعرى المنون من أحد ... لا والد مشفق ولا ولد أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السّماك والأسد فجّعني الرعد والصواعق بالفارس ... يوم الكريهة النجد4 وهي قصيدة دون أبياتها "ابن هشام"5. وله قصيدة أخرى في رثاء "أربد" مطلعها: ألا ذهب المحافظ والمحامي ... ومانع ضيمها يوم الخصام

_ 1 الطبرى "3/ 145"، ابن هشام، سيرة "2/ 372". 2 الطبرى "3/ 144 وما بعدها"، وروى "ابن سعد" خبر وفد "عامر بن صعصعة" بشكل آخر، ذكر أنه طلب من الرسول أن يجعل له ميزة على غيره إن أسلم، أو أن يجعل الأمر إليه من بعده فلما رفض الرسول ذلك، قال: لأملأنها عليك خيلا ورجالا، ابن سعد، الطبقات "1/ 310"، "وفد عامر بن صعصعة"، سيرة ابن هشام "2/ 337"، "حاشية على الروض الأنف"، "الروض الأنف "2/ 337". 3 الخزانة "1/ 474"، "بولاق". 4 الشعر والشعراء "198"، ابن هشام "2/ 338"، "حاشية على الروض الأنف"، تفسير الطبري "13/ 84 وما بعدها". 5 سيرة "2/ 338".

وقد رواها "ابن هشام"1. وقصائد أخرى عديدة2، تدل على شدة تأثره بوفاة "أربد". وقد اختلفت الروايات في زمن إسلام "لبيد". قيل إنه أسلم سنة وفد قومه "بنو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة" فأسلم3. وقيل إن "لبيد بن ربيعة" و "علقمة بن علاثة" كانا من المؤلفة قلوبهم4. وقيل إنه وفد على الرسول بعد وفاة أخيه "أربد" فأسلم5. وتجمع روايات أهل الأخبار وعلماء الشعر على إقبال "لبيد" على الإسلام من كل قلبه، وعلى تمسكه بدينه تمسكا شديدا، ولا سيما حينما بدأ يشعر بتأثير وطأة الشيخوخة عليه وبقرب دنو أجله، ويظهر أن شيخوخته قد أبعدته عن المساهمة في الأحداث السياسية التي وقت في أيامه، فابتعد عن السياسة وانزوى في بيته، وابتعد عن الخوض في الأحداث، ولهذا لا نجد في شعره شيئا، ولا فيما روي عنه من أخبار، أنه تحزب لأحد أو خاصم أحدا. وروي أن "لبيدا" ترك الشعر في الإسلام وانصرف عنه. فلما كتب "عمر" إلى عامله "المغيرة بن شعبة" على الكوفة يقول له: "استنشد من قِبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام"، أرسل إلى "الأغلب" الراجز العجلي، فقال له: أنشدني؟ فقال: أرجزا تريد أم قصيدا ... لقد طلبت هينا موجودا ثم أرسل إلى لبيد، فقال: "أنشدني ما قلته في الإسلام"، فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها وقال: "أبدلني الله هذا في الإسلام مكان الشعر" فكتب المغيرة بذلك إلى عمر، فنقص من عطاء "الأغلب" خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد6. وروي أن "عمر" كتب إلى عامله بالكوفة: سل لبيدا والأغلب

_ 1 سيرة "2/ 338". 2 ابن هشام، سيرة "2/ 338 وما بعدها". 3 الاستيعاب "3/ 306"، "حاشية على الإصابة". 4 الاستيعاب "3/ 306"، الخزانة "2/ 246"، "هارون". 5 الأغاني "14/ 90". 6 الأغاني "14/ 97"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 120 وما بعدها".

العجلي ما أحدثا من الشعر في الإسلام؟ فقال لبيد: أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران. فزاد عمر في عطائه1. وروي الخبر المتقدم بشكل آخر. روي أن "عمر بن الخطاب" قال للبيد: أنشدني، فقرأ سورة البقرة، وقال: ما كنت لأقول شعرا بعد إذ علمني الله سورتي البقرة وآل عمران. فزاد عمر في عطائه خمسمائة، وكان ألفين. فلما كان في زمن "معاوية" قال له معاوية: هذان الفودان فما بال العلاوة؟ وأراد أن يحطه إياها، فقال أموت الآن وتبقى لك العلاوة والفودان! فرق له، وترك عطاءه على حاله، ومات بعد يسير2. وورد في رواية أخرى أن "معاوية" كتب إلى "زياد" أن اجعل أعطيات الناس في ألفين، وكان عطاء "لبيد" ألفين وخمسمائة. فقال له" زياد": "أبا عقيل هذان الخراجان، فما بال هذه العلاوة؟ قال: ألحق الخراجين بالعلاوة، فإنك لا تلبث إلا قليلا حتى يصير لك الخراجان والعلاوة! فأكملها "زياد" ولم يكملها لغيره. فما أخذ لبيد عطاء آخر حتى مات"3. وقيل إن لبيدا لم يقل في الإسلام إلا بيتا واحدا، هو: ما عاتب الحر الكريم كنفسه ... والمرء ينفعه القرين الصالح4 في رواية. وورد على هذه الصورة: ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح5 في رواية أخرى. وقيل هو هذا البيت: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى كساني من الإسلام سربالا6

_ 1 الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543". 2 الشعر والشعراء "1/ 195 وما بعدها"، الاستيعاب "3/ 309"، "حاشية على الإصابة". 3 الإصابة "3/ 308"، "رقم 7543". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 155"، الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543". 5 الشعر والشعراء "1/ 195"، "الثقافة". 6 الشعر والشعراء "1/ 195"، "الثقافة".

وذكر بعض العلماء أن البيت: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا ليس للبيد، بل هو لـ "قردة بن نفاثة"1. ومن الشعر المستجاد المنسوب إلى لبيد، قصيدته: إن تقوى ربنا خير نقل ... وبإذن الله ريثي وعجل أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير من شاء فعل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل وقد زعم بعض العلماء أنها قيلت في الجاهلية، ولكنها لا يمكن أن تكون من شعر الجاهلية، لما فيها من آراء إسلامية، ثم إنها قيلت بعد موت "أربد"، وكان لبيد مسلما آنذاك على ما جاء في بعض الأخبار2. ومما جاء فيها: اعقلي إن كنت لمّا تعقلي ... ولقد أفلح من كان عقل إن تري رأسي أمسى واضحا ... سلط الشيب عليه فاشتعل وقوله: غير أن لا تكذبنها في التقى ... واخزها بالبر لله الأجل وهي قصيدة تبلغ عدتها "85" بيتا3، بعض أبياتها لشعراء آخرين، وقد نسبها بعض العلماء إليه، فأدخلت في القصيدة4.

_ 1 الإصابة "3/ 307"، "رقم 7543"، الاستيعاب "3/ 307"، "حاشية على الإصابة". 2 ديوان لبيد "174 وما بعدها"، أمالي المرتضى "1/ 21". 3 الخزانة "2/ 28"، "بولاق". 4 ديوان لبيد "199 وما بعدها".

ومما جاء فيها في حق "أربد" قوله: من حياة قد مللنا طولها ... وجدير طول عيش أن يمل وأرى أربد قد فارقني ... ومن الأرزاء رزء ذو جلل1 وقد عاب بعض العلماء عليه قوله: ومقام ضيق فرجته ... بمقامي ولساني وجدل لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زال عن مثل مقامي وزحل "وقالوا: ليس للفيال من الخطابة والبيان، ولا من القوة، ما يجعله مثلا لنفسه، وإنما ذهب إلى أن الفيل أقوى البهائم، فظن أن فياله أقوى الناس! قال أبو محمد، وأنا أراه أراد بقوله: لو يقوم الفيل أو فياله مع فياله، فأقام "أو" مقام الواو"2. وفي هذه القصيدة إشارة إلى صلاة اليهود، حيث يقول: يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل3 "قال أبو الحسن الطوسي: كأنه يهودي يصلي في جانب يسجد على جبينه. قال البغدادي: واليهودي يسجد على شق وجهه"4. وقد تعرض "كارلو نالينو" لهذه القصيدة: فقال: "ومن المشهور ما في ديوانه من العبارات الدينية، بل الشبيهة بالعقائد الإسلامية"، ثم كر أبياتا منها، ثم قال: "ولكن ليس كل ما ينسب إليه في ديوانه من هذا الباب صحيحا، بل لا اختلاف في بعض الأشعار أنها مصنوعة"5.

_ 1 البيتان "79-80". 2 الشعر والشعراء "1/ 200 وما بعدها". 3 البيت رقم "32" من القصيدة "26" في ديوانه "ص183". 4 ديوان لبيد "183". 5 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "78".

ونسب له قوله: من يبسط الله عليه إصبعا ... بالخير والشر بأيّ أولعا يملأ منه ذنوبا مترعا1 وقوله: وما الناس إلا كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وغدوا بلاقع وقوله: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر وفي هذه الأبيات إشارات إلى رأي لبيد في الدنيا وفي الموت، وهي آراء يقولها في العادة المعمرون، فإذا صح أنها له، فلا بد وأن تكون من شعره الذي قاله بعد تقدمه في السن. ويظهر أن الكبر هو الذي حمل "لبيدا" على ترك الشعر أو الإقلال منه، فالتقدم في السن يوقف القريحة ويجمد الذهن. فلما أرسل "الوليد بن عقبة" إليه شعرا، ومعه مائة بكرة، قال لبيد لابنته: أجيبيه فقد رأيتني وما أعيا بجواب شاعر4. وفي هذا الجواب دلالة على توقف قريحته عن قول الشعر، وأنه لم يعد باستطاعته نظمه، وليس السبب هو الإسلام. وكانت مناسبة إرسال "الوليد بن عقبة" الشعر والهدية إليه أنه "لبيد" كان آلى في الجاهلية ألا تهب الصبا إلا أطعم الناس حتى تسكن، وألزمه نفسه في إسلامه. فهبت الصبا، ولم يكن عند "لبيد" ما يعينه على الإطعام، فخطب "الوليد" الناس بالكوفة، وقال: إن أخاكم لبيدا آلى ألا تهب له الصبا إلا أطعم الناس حتى تسكن، وهذا اليوم من أيامه، فأعينوه، وأنا أول من أعانه.

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 319". 2 أمالي المرتضى "1/ 453". 3 أمالي المرتضى "1/ 55". 4 الشعر والشعراء "1/ 196 وما بعدها"، "الثقافة".

ونزل فبعث إليه بمائة بكرة وكتب إليه شعرا يمدحه فيه ويذكر له كرمه ونذره1. ويشك "بروكلمان" في صحة ما ورد من ترك "لبيد" الشعر بعد دخوله في الإسلام. ويرى أن كثيرا من شعره مطبوع بطابع إسلامي، ويبعد أن يكون مما صنع عليه، وإن زيد عليه بعض الزيادات2. ونجد في قصيدة "لبيد" الكبرى التي مطلعها: عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها3 أسماء مواضع كثرة من نجد والحجاز4. ولعلماء الشعر آراء في شعر لبيد، من ذلك ما قالوه في قوله: ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح فقالوا: إنه شعر جيد المعنى والسبك، لكن ألفاظه قصرت عن معناه. فإنه قليل الماء والرونق5. وقد ذكروا له أشعارا سبق بها غيره من الشعراء، أخذها غيره عنه، فأعادها علماء الشعر إلى أصلها. كما عابوا عليه بعض الأمور الصغيرة التي لا يمكن أن يفلت منها شاعر6. و"عنترة بن شداد العبسي"، هو "عنترة بن عمرو بن شداد بن قراد" العبسي. وشداد جده أبو أبيه في رواية لابن الكلبي، غلب على اسم أبيه فنسب إليه. وقال غيره: شداد عمه، وكان عنترة نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه. وكان يلقب بـ "عنترة الفلحاء" لتشقق شفتيه. وإنما ادعاه أبوه بعد الكبر، وذلك أنه كان لأمة سوداء يقال لها "زبيبة"،

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 196 وما بعدها"، "الثقافة"، الأغاني "15/ 298"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 155". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 145". 3 القصيدة رقم "48" في الديوان، شرح ديوان لبيد "ص297". 4 الإكليل "223". 5 الشعر والشعراء "1/ 114"، "الثقافة". 6 الشعر والشعراء "1/ 199 وما بعدها"، "الثقافة".

وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبده، وكان لعنترة إخوة من أمه عبيد. وكان سبب ادعاء أبي عن عنترة إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من "بني عبس"، فأصابوا منهم، فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم، وعنترة فيهم، فقال له أبوه أو عمه في رواية أخرى: كر يا عنترة! فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر. فقال: كر وأنت حر، فكر وقاتل يومئذ حتى استنقذ ما بأيدي عدوهم من الغنيمة، فادعاه أبوه بعد ذلك، وألحق به نسبه1. وورد في رواية أن إخوته قالوا له: اذهب فارع الإبل والغنم واحلب وصر. فانطلق يرعى وباع منها ذودا، واشترى بثمنه سيفا ورمحا وترسا ودرعا ومغفرا، ودفنها في الرمل. وكان له مهر يسقيه ألبان الإبل. وإن في الجاهلية من غلب سبا. وإنه جاء ذات يوم إلى الماء فلم يجد أحدا من الحي، فبهت وتحير حتى هتف به هاتف: أدرك الحي في موضع كذا، فعمد إلى سلاحه فأخرجه وإلى مهره فأسرج واتبع القوم الذين سبوا أهله فكر عليهم ففرق جمعهم وقتل منهم ثمانية نفر، فقالوا: ما تريد؟ فقال: أريد العجوز السوداء والشيخ الذي معها، يعني أمه وأباه، فردوهما عليه. فقال له عمه: يا بني كر، فقال: العبد لا يكر، ولكن يحلب ويصر. فأعاد عليه القول ثلاثا وهو يجيبه كذلك. قال له: إنك ابن أخي وقد زوجتك ابنتي عبلة. فكر عليهم فأنقذه وابنته منهم. ثم قال: إنه لقبيح أن أرجع عنكم وجيراني في أيديكم: فأبوا، فكر عليهم حتى صرع منهم أربعين رجلا قتلى وجرحى فردوا عليه جيرانه. فأنشد: هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم2 وروي أنه كان من معاصري "امرئ القيس"، وأنه اجتمع به3، وأن امرأة "شداد" أبي "عنترة" ذكرت لشداد أن عنترة أرادها عن نفسها، فأخذه أبوه فضربه ضرب التلف، فقامت المرأة فألقت نفسها عليه لما رأت ما به

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 171 ما بعدها"، "الثقافة"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 481 وما بعدها". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 479 وما بعدها". 3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 482".

من الجراحات، وبكته. وكان اسمها: "سمية"، فقال عنترة: أمن سمية دمع العين مذروف ... لو كان منك قبل اليوم معروف1 وذكر أنه كان من أشد أهل زمانه وأجودهم بما ملكت يده، وكان لا يقول من الشعر إلا البيتين والثلاثة، حتى سابّه رجل من عبس، فذكر سواد أمه وأخوته، وعيّره بذلك، وبأنه لا يقول الشعر، فاغتاظ منه ورد عليه، وهاجت قريحته فنظمت له قصيدة: هل غادر الشعراء من متردم وهي أجود شعره، وكانوا يسمونها "المذهبة"2. وله كأكثر الشعراء أبيات شعر، استحسنها علماء الشعر، وقالوا إنه أجاد فيها وأحسن، وما سبق إليه ولم ينازع فيه في بعض ذلك الشعر3. وهو أحد أغربة العرب، وهم ثلاثة: عنترة، وأمه زبيبة، سوداء، وخفاف بن عمير الشريديّ، من بني سلمى، وأمه ندبة، وإليها ينسب، وكانت سوداء، والسليك بن عمير السعدي "السيلك بن سلكة"، وأمه سلكة، وإليها ينسب، وكانت سوداء4. وذكر أنه كان يفخر بأخواله السود، رهط أمه، فدعاهم بـ "حام" حيث يقول: إني لتعرف في الحروب مواطني ... في آل عبس مشهدي وفعالي منهم أبي حقًّا فهم لي والد ... والأم من حام فهم أخوالي5 وإذا صح أن هذا الشعر هو لعنترة، دل على وقوف الجاهليين على اسم "حام"، الوارد في التوراة، على أنه جد السودان، ولا بد أن تكون التسمية قد وردت إلى الجاهليين عن طريق أهل الكتاب.

_ 1 المحاسن والأضداد "143". 2 الشعر والشعراء "1/ 172 وما بعدها"،"الزوزني "136"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 481". 3 الشعر والشعراء "1/ 174"، "الثقافة". 4 الشعر والشعراء "1/ 172"، "الثقافة". 5 الشعر والشعراء "1/ 175".

وذكر أنه كان قد أغار على "بني نبهان" فرماه "وزر بن جابر بن سدوس بن أصمع" النبهاني، فقطع مطاه، فتحامل بالرمية حتى أتى أهله فمات1. ويعد "عمرو بن كلثوم" التغلبي من كبار شعراء الجاهلية، وكان معاصرا للملك "عمرو بن هند" "544-568م"، وهو قاتله في خبر سبق أن تحدثت عنه. وهو من الشعراء الذين مالوا إلى الحكم في نظم الشعر2. وقد عرف بـ "أبي الأسود"3. ويقال إن أخاه "مرة بن كلثوم" التغلبي، هو قاتل المنذر بن النعمان بن المنذر. وكان "عمرو بن كلثوم" سيد قومه، سادهم وهو ابن خمس عشرة، ومات وله مائة وخمسون سنة4. وكان خطيبا حكيما وشاعرا، أوصى بنيه عند موته بوصية بليغة حسنة5، ضبط نصها الرواة فيما بعد، وكأنهم كتبوها بخط يدهم. وقصيدته الشهيرة التي هي إحدى السبع، هي من جيد شعر العرب القديم، ولشغف تغلب بها وكثرة روايتهم لها قال بعض الشعراء: ألهى بني تغلب عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مسئوم6 وفي قتل "عمرو بن كلثوم" "عمرا بن هند" يقول أحد شعراء تغلب، وهو "أفنون بن صريم" التغلبي: لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا ... لتخدم ليلى أمه بموفق فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتا ... وأمسك من ندمانه بالمخنق7 ويذكر في سبب نظم "عمرو بن كلثوم" قصيدته الشهيرة، أن قبيلة "تغلب"

_ 1 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة من نوادر المخطوطات"، "ص210 وما بعدها". 2 بروكلمان "1/ 103"، الأغاني "9/ 175"، الخزانة "1/ 52"، الشعر والشعراء "1/ 157 وما بعدها"، المرزباني، معجم "6/ وما بعدها". 3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 121"، الخزانة "1/ 517 وما بعدها". 4 الأغاني "9/ 175 وما بعدها"، المرزباني، معجم "7". 5 الأغاني "11/ 59"، "بولاق"، المرزباني، معجم "7". 6 الشعر والشعراء "1/ 159 وما بعدها"، "لشعر غير مسئوم"، الخزانة "1/ 517 وما بعدها"، الأغاني "11/ 54"، "دار الكتب"، الخزانة "1/ 519"، "بولاق". 7 المحبر "204"، الأغاني "9/ 175 وما بعدها"، "11/ 54"، "دار الكتب".

كانت من أشد الناس في الجاهلية، وكانت بينهم وبين "بكر" حزازة وعداوة، ويقال: جاء ناس من بني تغلب إلى بكر بن وائل يستسقونهم فطردتهم بكر للحقد الذي كان بينهم فرجعوا، فمات سبعون رجلا عطشا. فاجتمعت "تغلب" لحرب "بكر"، واستعدت لهم "بكر" حتى إذا التقوا، خافوا أن تعود الحرب بينهم كما كانت، فدعا بعضهم بعضا إلى الصلح، فتحاكموا في ذلك إلى "عمرو بن هند". فجاءت تغلب يقودها "عمرو بن كلثوم" وجاءت بكر، ومعها "الحارث بن حلزة اليشكري"، فألقى قصيدته: آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء وتأثر "عمرو بن هند" بها، فحكم لبكر، وأنشد: "عمرو" قصيدته: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا1 وفي جملة أبياتها: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا2 ويذكر بعض الرواة أن "عمرو بن كلثوم" ارتجل قصيدته الشهيرة ارتجالا، وأنها كانت تبلغ ألف بيت أو تزيد3. وأن ما وصل إلينا منها هو بعضها. وتبلغ "96" بيتا في كتاب "شرح القصائد العشر" للتبريزي4. يظهر من دراستها وإمعان النظر فيها أنها لم تنظم دفعة واحدة، وأنها لم تكن بهذا الطول يوم ألقاها الشاعر، بل زيدت فيما بعد حسب المناسبات، لأن فيها أبياتا تمس أمورا وقعت فيما بعد، في ظروف متأخرة. ويروى أن "عمرو بن كلثوم"، جاء سوق عكاظ، فألقى معلقته هناك. وروي أن "معاوية بن أبي سفيان" قال "إن قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حلزة، من مفاخر العرب، وكانتا معلقتين بالكعبة دهرا"5.

_ 1 التبريزي، شرح القصائد العشر "379 وما بعدها". 2 أمالي المرتضي "1/ 57، 327"، "2/ 147". 3 شعراء النصرانية "197 وما بعدها". 4 "طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"، "ص380-382". 5 الخزانة "1/ 517 وما بعدها"، "بولاق".

ويلاحظ أن في معلقة "عمرو بن كلثوم" أبياتا خرجت على روي القافية، مثل قوله: تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلدة أعنتها صفونا1 وقوله: ندافع عنهم الأعداء قدما ... ونحمل عنهم ما حملونا2 وقوله: نحز رءوسهم في غير بر ... فما يدرون ماذا يتقونا3 وقوله: إذا ما عَيَّ بالإسناف حي ... من الهول المشبه أن يكونا4 وقوله: برأس من بني جشم بن بكر ... ندق به السهولة والحزونا5 وقوله: إذا عض الثقاف بها اشمأزت ... وولتهم عشوزنة زبونا6 وقوله: علينا كل سابغة دلاص ... ترى فوق النجاد لها غضونا إذا وضعت عن الأبطال يوما ... رأيت لها جلود القوم جونا7

_ 1 البيت رقم "24" من المعلقة. 2 البيت رقم "31". 3 البيت رقم "36". 4 البيت رقم "39". 5 البيت رقم "45". 6 البيت رقم "50". 7 البيتان رقم "70 وما بعده".

وقوله: وأنا المانعون لما يلينا ... إذا ما البيض زايلت الجفونا1 ومواضع أخرى من هذا القبيل2. وكان من اللازم مسايرة القافية التى هي "الأندرينا". ولعمرو أشعار، فيها هجاء للنعمان بن المنذر. فقد ذكر أن النعمان توعد "عمرو بن كلثوم"، فبلغه ذلك، فدعا كاتبا من العرب، فكتب إليه: ألا أبلغ النعمان عني رسالة ... فمدحك حوليٌّ وذمك قارح متى تلقني في تغلب ابنة وائل ... وأشياعها ترقى إليك المسالح وهجاه في شعر آخر، ذكر فيه أمه، وعيره بها، وعيره في شعر آخر بأن خاله صائغ يصوغ القروط والشنوف بيثرب، ورماه فيه باللؤم3. وتنسب لعمرو أبيات نظمها في البذل والسخاء وفي إعطاء المال، أولها: لا تلومنّي فإني متلف ... كل ما تحوي يمني وشمالي لست إن أطرفت مالا فرحا ... وإذا أتلفته لست أبالي4 ولعمرو بن كلثوم ديوان صغير، نشر في مجلة المشرق. وقد ترجمت معلقته إلى الألمانية5. وفي معلقة "عمرو" أشعار مضطربة وتكرار، وعدم تجانس في وحدة الموضوع. وقد يكون ذلك بسبب تلاعب الأيدي في القصيدة. وإذا عثر على نصها القديم، الذي زعم أنه كان ألف بيت أو يزيد، فإنها ستكون أطول قصيدة في تأريخ الشعر العربي نسبها علماء الشعر إلى أحد من الجاهليين. وذكر أن "عمرو كلثوم"، أغار على "بني حنيفة" باليمامة، فأسره

_ 1 البيت رقم "77". 2 الأبيات "80-83"، "88". 3 الأغاني "9/ 175 وما بعدها"، "11/ 58"، "دار الكتب". 4 المرزباني، معجم "7". 5 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 57، 67 وما بعدها، 103"، المشرق "1922م"، "ص591 وما بعدها".

"يزيد بن عمرو الحنفي"، ثم سقاه الخمر في قصر بـ "حجر" اليمامة، حتى مات. وذكر أن "يزيد" أراد المثلة به، بربطه بجمل، ثم ضرب الجمل، ليركض به، فصاح: "يا آل ربيعة! أمثلة"1. وتذكر رواية أن نهاية "عمرو بن كلثوم" كانت انتحارا بشرب الخمر. وذلك أن الملوك كانت تبعث إليه بحبائه وهو في منزله من غير أن يفد إليها. فلما ساد ابنه "الأسود بن عمرو" بعث إليه بعض الملوك بحبائه كما بعث إلى أبيه. فغضب "عمرو بن كلثوم" وقال: "ساواني بولي، فحلف لا يذوق دسما حتى يموت. وجعل يشرب الخمر صرفا على غير طعام. فلم يزل يشرب حتى مات2. و"الحارث بن حلزة" اليشكري، هو من "بني يشكر"، من بكر بن وائل. وكان أبرص، وقد اشتهر بقصيدته التي هي إحدى المعلقات، كما اشتهر بمثلها "عمرو بن كلثوم" و "طرفة بن العبد". يذكر أنه ارتجلها بين يدي "عمرو بن هند" ارتجالا، في شيء كان بين بكر وتغلب بعد الصلح، وكان ينشده من وراء السجف، للبرص الذي كان به. وكان من عادة الملك أن يسمع الأبرص من وراء سبع ستور، وينضح أثره بالماء إذا انصرف عنه. فلما سمعت أم "عمرو بن هند" قصيدته، قالت: "تالله ما رأيت كاليوم قط رجلا يقول مثل هذا القول يكلم من وراء سبع ستور"، فقال الملك: "ارفعوا سترا وأدنوا الحارث"، كان كلما استحسن شيئا منها أمر برفع ستر، حتى رفعت الستور السبعة. وأقعده الملك قريبا منه استحسانا لها وتقديرا له. وكان الحارث متوكئا على عنزة فارتزت -كما يقول أهل الأخبار- في جسده وهو لا يشعر3. وقد زعم أنه قال قصيدته المشهورة وهو ابن مائة وخمس وثلاثين4. والقصيدة من قصائد الفخر والتبجح بالمفاخر والمآثر، وقد عرض فيها بقبيلة "تغلب"، وعرض بـ "عمرو بن هند" كذلك. وقد ضرب المثل بالفخر

_ 1 الشعر والشعراء "224 وما بعدها". 2 المحبر "470 وما بعدها". 3 الشعر والشعراء "1/ 127"، الخزانة "1/ 158"، "بولاق". 4 الخزانة "1/ 158"،"بولاق"، "1/ 519"، "بولاق".

فقيل: "أفخر من الحارث بن حلزة"1. ويرى "نولدكه" أن سبب اختيار "حماد" الراوية لهذه القصيدة وضمها إلى القصائد الأخرى المختارة، هو أن حمادا كان مولى لقبيلة "بكر بن وائل"، وكانت هذه القبيلة في عداء مع قبيلة "تغلب"، ولما كان "حماد" قد اختار قصيدة "عمرو بن كلثوم" التغلبي لشهرتها، لم يسع حمادا أن يعدل عن اختيارها، ولكنه اضطر إلى اختيار قصيدة أخرى إلى جانبها تشيد بمدح "بكر بن وائل" سادته، فاختار قصيدة "الحارث بن حلزة" الذي لم يبلغ في الشهرة شهرة الشعراء الآخرين2. ويزعم أهل الأخبار أنه ارتجلها أمام الملك، بينما يذكرون أنه كان قد قال لقومه قبل ارتجاله لها أمام الملك: "إني قد قلت قصيدة، فمن قام بها ظفر بحجته وفلج على خصمه فرواها ناسا منهم. فلما قاموا بين يديه لم يرضهم فحين علم أنه لا يقوم بها أحد مقامه"، احتملها وأنشدها أمام الملك3. وقد قالها لتكون حجة لقومه في نزاعهم السياسي مع قبيلة تغلب، ودفاعا عنهم أمام الملك4. ويرى "بروكلمان" أن شعر "الحارث" أقل أصالة من شعر "عمرو بن كلثوم". وهو قريب من شعر "زهير" في ميله إلى مذهب التعليم والتهذيب5. وقد قدم "أبو عبيدة" شعره وجعله أحد ثلاثة نفر اشتهروا بجودة قصائده، إذ قال: "أجود الشعراء قصيدة واحدة جيدة طويلة ثلاثة نفر: عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، وطرفة بن العبد"6. وللحارث بن حلزة شعر يذكر فيه "ابن مارية"، وهو "أبو حسان" "قيس بن شراحيل بن مرة بن همام"، وكان ممن سعى في الصلح بين بكر وتغلب. وفي جملة ما قاله فيه: وإلى ابن مارية الجواد وهل ... شروى أبي حسان في الأنس7

_ 1 زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 125". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 67 وما بعدها". 3 الخزانة "1/ 519". 4 كارلو نالينو "75". 5 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 103". 6 الخزانة "1/ 158"، "بولاق". 7 المفضليات "54".

وفي قصيدة "الحارث بن حلزة" أسماء مواضع من محالهم ومحال حلالهم. وهي قصيدته التي تبدأ بـ: آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء2 وللحارث بن حلزة ديوان صغير2، وأشعار منثورة في كتب الأدب والأخبار3. و"الأعشى" "ميمون بن قيس بن جندل" من "سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة"، ويكنى أبا بصير. وهو ممن عاش في الجاهلية وأدرك الإسلام. ذكر "ابن قتيبة" أنه كان أعمى4. وهو وهم، وإنما عمي في أواخر أيامه، كما يفهم ذلك من شعره، بعد أن لعب به الكبر، وتحكمت به الشيخوخة، وصار عاجزا، يقوده قائد، يوجهه أنّى يشاء، تسيره عصاه، وهو يخاف العثار5. وقد وصف شيخوخته هذه وصفا مؤلما، صادرا من قلب منفطر حزين يبكي أيامه الأولى، أيام اللذة والمتعة، أيام اللهو والخمرة والنساء، أيام مضت، حلت محلها أيام سوء، لا يفرق فيها الأبيض من الأسود ولا الليل والنهار، ثم هو وحده لا خمر ولا امرأة ولا لحم دسم، عافته المرأة، لذهاب ماله وشبابه، وتركه الزنا على رغم منه، ولم يعد يرى في هذه الأيام إلا الهم والحزن والألم. وأم الأعشى بنت "علس" أخت المسيب بن علس من بني "جُماعة"، ثم من بني "ضبيعة بن ربيعة بن نزار"، ولد بقرية باليمامة يقال لها "منفوحة"، وفيها داره وبها قبره. ويقال إنه كان نصرانيا، وهو أول من سأل بشعره6. ويسمى "صناجة العرب". لأنه أول من ذكر الصنج في شعره فقال:

_ 1 الصفة "220". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 103"، مجلة المشرق "1922م" "ص591 وما بعدها". 3 الأغاني "9/ 171 وما بعدها"، المفضليات رقم "25"، "62"، "127". 4 الشعر والشعراء "1/ 178"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 84 وما بعدها"، الأغاني "9/ 108"، رسالة الغفران "159". 5 القصيدة رقم "12" , "258" من ديوانه، المرزباني، معجم "401"، طبقات ابن سلام "15"، الأغاني "9/ 108"، المؤتلف "12"، رسالة الغفران "159". 6 المرزباني، معجم "325"، "فراج".

ومستجيب لصوت الصنج تسمعه ... إذا ترجع القينة الفضل1 وذكر أنه إنما عرف بصناجة العرب لكثرة ما تغنت العرب بشعره، أو لجودة شعره، أو لأن العرب كانت تتغنى بشعره على صوت الصنج، إلى غير ذلك من شروح وتفاسير2. وقد نشأ "الأعشى" راوية لشعر خاله "المسيب بن علس"، وهو من شعراء الجاهلية المقلين. ثم نبغ هو في الشعر، فعلا اسمه على اسم خاله، حتى حلق في سماء الشعر، ولا سيما في وصف الخمر، حيث حظي الخمر عنده بموقع ممتاز في شعره، فأجاد في وصفه وفي أثره في النفس. وتفنن في وصف الخمر، حتى سبق بوصفه هذا سائر شعراء الجاهلية، ولم يلحق به في هذه الناحية من الشعر أحد. وقد عدّه بعض علماء الشعر رابع الشعراء الأربعة، فهو يأتي بعد امرئ القيس، وزهير بن أبي سلمي، والنابغة الذبياني3. وقد أجاد أيضا في وصف القيان. قيل: كان الأعشى يفد على ملوك فارس، ولذلك كثرت الفارسية في شعره4، وزعم أن "كسرى" سمعه يوما ينشد، فقال: من هذا؟ آسْروذ كويذ تازى، أي مغني العرب، فأنشد: أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق فقال كسرى: فسروا لنا ما قال! فقالوا: ذكر أنه سهر من غير سقم ولا عشق! فقال كسرى: إن كان سهر من غير سقم ولا عشق فهو لص!! 5 إلى غير ذلك من قصص مصنوع.

_ 1 المرزباني، معجم "325"، "فراج"، الشعر والشعراء "1/ 179"، "الثقافة"، السيوطي، شرح شواهد "240". 2 المزهر "2/ 431"، الخزانة "1/ 85"، "بولاق". 3 المزهر "2/ 431"، الخزانة "1/ 85"، "بولاق". 3 رسالة الغفران "229"، "بنت الشاطئ". 4 الشعر والشعراء "1/ 179"، "الثقافة"، الخزانة "1/ 85". 5 الشعر والشعراء "1/ 180"، "الثقافة".

وكان يفد أيضا على ملوك الحيرة، ويمدح الأسود بن المنذر، أخا النعمان1. وقال له "النعمان بن المنذر": لعلك تستعين على شعرك هذا؟ فقال له الأعشى: احبسني في بيت حتى أقول، فحبسه في بيت، فقال قصيدته التي أولها: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوى أن تزارا وفيها يقول: وقيدني الشعر في بيته ... كما قيد الآسرات الحمار2 وورد في شعر الأعشى قوله: وكنت امرأ زمنا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغن3 وإذا كان ما نسب إلى الأعشى من قوله: لسنا كمن جعلت إياد دارها ... تكريت تنظر حبها أن يحصدا جعل الإله طعامنا في مالنا ... رزقا تضمنه لنا لن ينفدا مثل الهضاب جزارة لسيوفنا ... فإذا تراع فإنها لن تطردا ضمنت لنا أعجازهن قدورنا ... وضروعهن لنا الصريح الأجردا4 صحيحا، فإنه يشير إلى أرض يقال لها "تكريت". وقد ذكر بعض علماء اللغة أن "تكريت" بنواحي الموصل، سميت بتكريت بنت وائل، أخت "قاسط"5. ويظهر أن الساسانيين قد أبعدوا بعض بطون "إياد" إلى هذه الديار، فأجبروهم على الإقامة بها، وأما النسب المذكور، فقد وضع فيما بعد. ويظهر من هذا الشعر أن تلك البطون قد تعلمت الزراعة، فزرعت الحب، والزراعة مزدراة في نظر العرب، ولهذا تبجح الشاعر عليها وافتخر، بكون قومه أصحاب إبل

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 180"، "الثقافة". 2 الشعر والشعراء "1/ 180 وما بعدها"، "الثقافة". 3 أمالي المرتضى "1/ 31، 35"، ديوانه "22". 4 ديوان الأعشى رقم 34، تاج العروس "1/ 576"، "كريت". 5 تاج العروس "1/ 576"، "كريت".

ضخمة، يعقرونها لمن ينزل بساحتهم من ضيوف، أما إياد فهم أصحاب زراعة وحصاد. وكان الأعشى ينادم "هوذة بن علي" الحنفي، صاحب اليمامة، وكان نصرانيا على ما يقال. وذكر أن "الأعشى" كان نصرانيا كذلك، وكان يزور "الحيرة" كما كان يزور أسقف "نجران". وله راوية يروي شعره اسمه "يحيى بن متى" من عباد الحيرة، وقد أشار في شعره إلى أمور توراتية مثل حمامة نوح وأخبار سليمان. لا ندري إذا كان قد أخذها من التوراة، أو أنه سمعها من رجال الدين أو من قصص نصارى الحيرة1. وله أشعار كثيرة في مدح "هوذة" "هوذة بن علي بن ثمامة" الحنفي، منها قصيدته التي مطلعها: أحيتك تيًّا أم تركت بدائكا ... وكانت قتولا للرجال كذلكا وأقصرت عن ذكري البطالة والصبا ... وكان سفيها ضلة من ضلالكا إلى أن قال: إلى هوذة الوهاب أهديت مدحتي ... أرجي نوالا فاضلا من عطائكا تجانف عن جو اليمامة ناقتي ... وما عمدت من أهلها لسوائكا وهذه القصيدة تشبه أشعار المحدثين والمولدين في الرقة والانسجام2. ومن شعره في مدح "هوذة" قوله: له أكاليل بالياقوت زينها ... صواغها لا ترى عيبا ولا طبعا وقوله: وكل زوج من الديباج يلبسها ... أبو قدامة مجبورا بذاك معا3

_ 1 راجع قصائده 13، و34، و79 من ديوانه، وبروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 147"، الأغاني "16/ 76"، رسالة الغفران "174". 2 الخزانة "2/ 61 وما بعدها"، "بولاق". 3 أمالي المرتضى "2/ 172".

وكان يزور اليمن، ويقف بأبواب أقيالها، لينال منهم هداياهم. وفي خبر يرجع سنده إلى "الأعشى"، أنه قال: "أتيت سلامة ذا فايش "فائش" فأطلت المقام ببابه حتى وصلت إليه، فأنشدته: إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في شعر من مضى مثلا استأثر الله بالوفاء وبالـ ... ـعدل وولى الملامة الرجلا الشعر قلدته سلامة ذا ... فائش والشيء حيث ما جعلا قال: صدقت، الشيء حيث ما جعل، وأمر لي بمائة من الإبل وكساني حللا وأعطاني كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا، فبعتها في الحيرة بثلاثمائة ناقة حمراء"1. والشعر المذكور هو من قصيدة رقمت برقم "35" في ديوانه وتقع في "24" بيتا، وفي ترتيب بعض أبياتها اختلاف. وقد شكك "ابن قتيبة" في صحة نسبتها إلى الأعشى، كما شك غيره في صحة نسبتها إليه، لأسباب ذكروها2. وقد نسبها "الهمداني" إلى الأعشى3. ونسب "الهمداني" إلى الأعشى قصيدة أخرى في مدح "سلامة" أولها: رأيت سلامة ذا فائش ... إذا زاره الضيف حيا وبش وقال لهم مرحبا مرحبا ... وأهلا وسهلا بهم وابتهش4 وتنسب إلى الأعشى قصيدة أخري في مدح "سلامة ذو فائش"، وهو: "سلامة ذا فائش" بن يزيد بن مرة بن عريب بن مرثد بن حُريم الحميري5، وقد ذكر "الهمداني" أن "ذا فائش" هذا، هو "ذو فائش الأصغر"، واسمه "سلامة بن يهبر" القيل. وأورد أبياتا في مدحه أولها:

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 239"، الأغاني "6/ 124"، ديوان الأعشى الكبير "ص68، رقم القصيدة 8"، "شرح وتحقيق الدكتور محمد حسين"، رسالة الغفران "175". 2 ديوان الأعشى الكبير "232"، الأغاني"8/ 85"، الأمالي "2/ 99". 3 الإكليل "2/ 198". 4 الإكليل "2/ 195". 5 هي القصيدة التي رقمت برقم "8" في ديوانه، "ص68 وما بعدها"، ديوان الأعشى "19"، "أوروبا"، رسالة الغفران "218".

تؤم سلامة ذا فائش ... هو اليوم حم لميعادها وكم دون بيتك من صفصف ... ودكداك رمل وأعقادها وهي أبيات من القصيدة المرقمة برقم "8" في ديوان الأعشى، وتقع في "56" بيتا. ودون "الهمداني" أبيات شعر زعم أنها في مدح "ذي فائش"، الذي هو "سلامة بن يهبر" القيل، ذكر أن "إبراهيم بن المحابي"، أنشدها إياه، أولها: وذو فائش قد زرته في ممنع ... من النيق فيه للوعول مواردا1 وذكر "الهمداني" أبياتا من الشعر في مدح "زرعة بن عمرو" "زرع بن عمرو". وكان "زرعة بن عمرو" يتولى وآباؤه للتبابع أعمال "المعافر" و"مأرب" وحضرموت، وكان قد حارب "مذحجا"، وفيه يقول "الأعشى" وقد وفد على بعض أولاده ومدحهم، قصيدة أولها: تسنم في العلا زرع بن عمرو ... وشيد ما بنى عمرو وزادا2 ودون "الهمداني" أبيات شعر في مدح "حجر بن زرعة" ذكر انها للأعشى، وقال إنه كثيرا ما يفد إلى المعافر، ثم قال: وقيل إنها للمسيب بن علس. وأولها: حللت على حجر بن زرعة بعدما ... برى الجسم مني مشفقات العواذل3 ونسب "الهمداني" أبيات شعر في مدح "فهد بن النعمان"، وكان قيلا بالمعافر. وقد وفد عليه. وأول هذه الأبيات: ونادمت فهدا بالمعافر حقبة ... وفهد سماح لم تشبه المواعد

_ 1 الإكليل "2/ 195". 2 الإكليل "2/ 115". 3 الإكليل "5/ 117". 4 الإكليل "2/ 363".

ونسب الرواة إلى "الأعشى" قصيدة في مدح "مسروق بن وائل" الحضرمي. وهو ممن وفد إلى "النبي" في وفد حضر موت فأكرمه1. وهي قصيدة رقمت برقم "70" في ديوانه2. وفي "يزيد بن صهر بن أبي ثابت" الشيباني، من سادة بني شيبان، وذوي الرأي فيهم، يقول الأعشى: ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل وهي لاميته الشهيرة التي تعد من المعلقات3. ومما جاء فيها في وصف مجلس الشرب والخمر: نازعتهم قضب الريحان مرتفقا ... وقهوة مزة راووقها خضل لا يستفيقون منها إلا وهي راهنة ... إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا يسعى بها ذو زجاجات لها نطف ... مقلص أسفل السربال معتمل ومستجيب لصوت الصنج يسمعه ... إذا ترجع فيه القينة الفضل4 وكان يبغي من أسفاره هذه جمع المال للاستمتاع بلذة الحياة ولذة الحياة عنده: الخمر والطعام والنساء، وقد جمعها بقوله: إن الأحامرة الثلاثة أهلكت ... مالي وكنت بهن قدما مولعا الخمر واللحم السمين مع الطلى ... بالزعفران ولا أزال مردعا5 وهو من الشعراء الذين تعهروا في شعرهم، على شاكلة "امرئ القيس". وقد أبدع في وصف صاحبته "قتيلة". وهو لا يخشى من التصريح بأنه إنما يحب النساء، لأجل الاستمتاع بهن. فليست المرأة إلا أداة اللذة في هذه الحياة. فهو يبحث عنها، ولا يبالي من أي نوع كانت، جارية أم حرة، عاهرة أم

_ 1 الإصابة "3/ 338"، "رقم 7935". 2 شرح ديوان الأعشى "328 وما بعدها"، الإكليل "2/ 376". 3 طبقات ابن سلام "23"، الأغاني "8/ 100"، رسالة الغفران "174"، "حاشية". 4 رسالة الغفران "171 وما بعدها"، تهذيب الألفاظ، لابن السكيت "227". 5 ديوان الأعشى "ص"، "دكتور م. محمد حسين".

متزوجة، وهو على شاكلة "امرئ القيس" يطيب له أن يصور صاحبته متزوجة، تخون زوجها، وتقدم له الحب واللذة، لأن في الاتصال بالمتزوجة مجازفة من الرجل ومن المرأة، والمجازفة من سيماء العشاق الفرسان الشجعان. وقد تمكن الأعشى باتصاله بملوك الحيرة والغساسنة، وبقيس بن معد يكرب، وسلامة ذي فائش وبسادة نجران، وبهوذة، وبأمثالهم من حكام وسادة، من الحصول على مال طيب، ومن التمتع بمشاهدة مجالس أولئك السادة، ومن الشرب بصحاف الذهب والفضة، ومن أكل أكلات الحضر، التي لا يعرفها إلا أصحاب المال والترف، ومن الاستمتاع بسماع الغناء العربي والأعجمي، ومن التأثر بالحياة الرفيعة التي يحياها أهل الحضر. فأثرت تلك الحياة فيه. وصار يقبل عليها ويبحث عنها في كل مكان. وما الحياة تلك إلا اللهو بالخمر والنساء والطعام الطيب، حتى كان يتلف ماله في سبيلها، إن عسر الحصول عليها بغير ثمن. وهو في شعره صريح يعلن فيه حبه لجمع المال، لا يخشى من التصريح به أحدا، ولعله كان يريد الإعلان عن ذلك، ليرزقه الناس من عندهم، ويزيدوا في ماله. نراه يقول: وطوفت للمال آفاقها ... عمان وحمص فأوريشَلَم أتيت النجاشي في داره ... وأرض النبيط وأرض العجم فنجران فالسرو من حمير ... فأي مرام له لم أرم ومن بعد ذلك إلى حضر موت ... فأوفيت همي وحينا أهم1 ثم هو يعدد المواضع التي زارها فيقول: ألم ترني جولت ما بين مأرب ... إلى عدن فالشأم والشأم عاند وذا فائش قد زرت في متمنع ... من النيق فيه للوعول موارد ببعدان أو ريمان أو رأس سَلْيَة ... شفاء لمن يشكو السمائم بارد وبالقصر من أرياب لو بتَّ ليلة ... لجاءك مثلوج من الماء جامد ونادمت فهدا بالمعافر حقبة ... وفهد سماح لم تشبه المواعد

_ 1 الصفة "224"، ديوان الأعشى القصيدة رقم "4"، والقصيدة رقم 63.

وقيسًا بأعلى حضرموت انتجعته ... فنعم أبو الأضياف والليل واكد1 ويظهر من الشعر المتقدم أنه طاف بلادا كثيرة، فيها أرض العجم، وأرض النبط، وبلغ حمص و"أورشليم"، أي القدس، وعمان، وزار جزيرة العرب حتى وصل حضرموت واليمن، وعبر إلى "النجاشي" في داره. وهي أسفار بعيدة متعبة بالنسبة لذلك الوقت، وربما كان هذا الشعر مما أقحم عليه. وله أشعار كثيرة في مدح "قيس بن معد يكرب"2، الذي كان يرزقه ويغدق عليه المال، وهو لا يجد غضاضة من التصريح في مدحه له أن لا يحرمه من نداه الجزيل. ولهذا عده علماء الشعر أول من سأل بشعره، وابتذل نفسه في السؤال، وأسرف في الترحال من أجل جمع المال. ومن شعره في "قيس" وفي الاستجداء منه، قوله: ونبئت قيسا ولم أبله ... كما زعموا خيرا أهل اليمن فجئتك مرتاد ما خبّروا ... ولولا الذي خبروا لم ترن فلا تحرمني نداك الجزيل ... فإني إمرؤ قبلكم لم أهن وهي قصيدة نونية، موجودة في ديوانه3. وللأعشى قصيدة في مدح "أبي الأشعث بن قيس" الكندي. والأشعث اسمه "معد يكرب" كان أبدا أشعث الرأس فسمي الأشعث، وهو من الصحابة، وفد على النبي سنة عشرة وأسلم، وكان شريفا مطاعا جوادا شجاعا، وهو أول من مشت الرجال في خدمته وهو راكب، وكان من أصحاب "علي" في وقعة صفين. ومن شعر الأعشى في مدح "أبي الأشعث"، وهو "قيس بن معد يكرب" قوله:

_ 1 الصفة "100، 225" الإكليل "2/ 102". 2 تأريخ ملوك العرب الأولية "124". 3 ديوان الأعشى "15"، "أوروبا"، شرح ديوان الأعشى "ش"، رسالة الغفران "218"، وله قصيدة مطلعها: أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوى أن يزارا في مدحه أيضا، راجع ديوانه "ص35"، "أوروبا"، رسالة الغفران "227".

من ديار هضب كهضيب القليب ... فاض ماء الشئون فيض الغروب أخلفتني بها قتيلة ميعا ... دي وكان للوعد غير مكذوب وكان الأعشى، إذا زار اليمن تخرف بـ "أثافت"، وكان له بها معصر للخمر يعصر فيه ما أجزل له أهل "أثافت" من أعنابهم. وقد ذكرها "الأعشى" في شعره، إذ قال: أحب أثافت وقت القطاف ... ووقت عصارة أعنابها وكانت تسمى "درني" في الجاهلية. وإياها التي ذكرها الأعشى بقوله: أقول للشرب في درني وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل2 وذكر غير "الهمداني" أن "درني" المذكورة في شعر الأعشى، هي ناحية من شق اليمامة. قال الأعشى: حل أهلي ما بين درني فبادو ... لي وحلت علوية بالسخال فهي ليست بـ "أثافت"، كما ذكر ذلك "الهمداني"3. نجد الهمداني يذكر "درنا" في مواضع اليمامة. ولما كان "الهمداني" من العلماء بمواضع جزيرة العرب، فلا أعتقد أنه وهم حين ذكر قول "الرئيس الكباري"، إن "درني" هي "أثافت"، فلعل "درني" غير "درنا" اليمامة4. وقد هجا "الأعشى" "علقمة بن علاثة" من سادات "بني عامر" وأشرافهم. وكان سبب ذلك، أنه مدح "الأسود" العنسي، فأعطاه خمسمائة

_ 1 الخزانة "2/ 463 وما بعدها"، "بولاق". 2 ديون الأعشى "ف"، "دكتور م. محمد حسنين"، "وأثافت وتسمى أثافة بالهاء وبالتاء أكثر، وخبرني الرئيس الكباري من أهل أثافت قال: كانت تسمى في الجاهلية درني وإياها التي ذكرها الأعشى بقوله: أقول للشرب في درني وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل الصفة للهمداني "66". 3 تاج العروس "9/ 189"، "درن". 4 الصفة "137".

مثقال ذهبا وخمسمائة حللا وعنبرا، فخرج، فلما مر ببلاد "بني عامر" وهم قوم "علقمة" و"عامر بن الطفيل"، خافهم على ما معه، فأتى "علمقة بن علاثة"، فقال له: أجرني! قال قد أجرتك من الجن والأنس. قال الأعشى ومن الموت. قال: لا فأتى "عامر بن الطفيل"، فقال له: أجرني! قال: قد أجرتك من الجن والأنس. قال الأعشى: ومن الموت! قال عامر: ومن الموت أيضا. قال: وكيف تجيرني من الموت؟ قال: إن مت في جواري بعثت إلى أهلك الدية. قال: الآن علمت أنك قد أجرتني. فحرضه عامر على تنفيره على علقمة، فغلبه عليه بقصائد. فلما سمع علقمة نذر ليقتلنه إن ظفر به. فقال الأعشى قصيدة مطلعها: شاقك من قيلة أطلالها ... بالشط فالجزع إلى حاجر ولما نذر "علقمة" دم الأعشى جعل له على كل طريق رصدا. فاتفق أن الأعشى خرج يريد وجها ومعه دليل فأخطأ به الطريق، فألقاه على ديار بنى عامر بن صعصعة، فأخذه رهط "علقمة" فأتوه به. فقال له علقمة: الحمد لله الذي مكنني منك، فقال الأعشى: أعلقم قد صيرتني الأمور ... إليك وما أنت لي منقص فهب لي ذنوبي فدتك النفوس ... ولا زلت تنمي ولا تنقص في أبيات، فعفا عنه، فقال الأعشى ينقض ما قال أولا: علقم يا خير بني عامر ... للضيف والصاحب والزائر والضاحك السن على همه ... والغافر العثرة للعاثر1 وكان "عامر بن الطفيل" لما نافر "علقمة" خرج مع لبيد الشاعر والأعشى، فحكما "أبا سفيان"، فأبى أن يحكم بينهما، فأتيا "عيينة بن حصن" فأبى، فأتيا "غيلان بن سلمة" الثقفي، فردهما إلى "حرملة بن الأشعر" المرّي، فردهما إلى "هرم بن قطبة" الفزازي، فحكم بتساويهما في الشرف والمنزلة.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 182"، "الثقافة"، الخزانة "2/ 43 وما بعدها".

ولم يفضل فانصرفا على ذلك1. ويقال إن النبي قال لحسان: يا حسان أنشدنا من شعر الجاهلية ما عفا الله لنا فيه؟ فأنشده حسان قصيدة الأعشى في علقمة بن علاثة: علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر فنهى النبي حسان عن تلاوتها. وذكر أن النبي رخص في الأشعار كلها إلا هاتين الكلمتين: كلمة أمية بن أبي الصلت في أهل بدر، وكلمة الأعشى في علقمة بن علاثة2. وقد اختلفت الروايات في "علقمة" فرواية تذكر أنه أسلم وصحب الرسول، ورواية تذكر أنه لم يسلم، وأنه كان عند "قيصر"، وأنه أثنى أمامه على الرسول حين كان عنده، بينما تناول أبو سفيان منه، ورواية تذكر أنه أسلم ثم ارتد ولحق بالشام، ثم عاد إلى الإسلام، ورواية تذكر أن "عمر" استعمله على "حوران"، فمات بها. وقد رثاه "الحطيئة" بقصيدة، وكان قد ذهب إليه لنيل نواه، فوجده قد مات، وقد أوصى له بجائزة في حياته، فأعطاه ابنه مائة ناقة يتبعها أولادها. ولما كان الأعشى تاجرا من تجار الشعر، اتخذ الشعر متجرا يتاجر به، فيمدح من يعطيه، ويهجو من لا يحسن إليه ويصله، لذلك صار شعره في الرجال الذين اتصل بهم، بين مدح وبين هجاء. وقد أفادنا "الأعشى" فائدة كبيرة في ذكر أسماء المواضع التي مر بها في شعره. وقد اقتبس "الهمداني" بعض شعره التعلق بهذا الموضوع التي مر بها في شعره. وقد اقتبس "الهمداني" بعض شعره المتعلق بهذا الموضوع. كما أورد شعرا لغيره يتعلق بالمواضع، انفرد به في بعض الأحيان. ومما ذكره من شعر الأعشى في بعض مواضع اليمامة، قوله: قالوا نُمارٌ فبطن الخال جادهما ... فالعسجدية فالأبلاء فالرجل

_ 1 الإصابة "2/ 496 وما بعدها"، "5676". 2 الخزانة "2/ 43"، "بولاق"، الإصابة "2/ 496"، "رقم 5677". 3 الإصابة "2/ 497 وما بعدها"، "رقم 5677".

فالسفج يجري فخنزير فبُرْقته ... حتى تتابع فيه الوتر والحبل1 ونجد في شعر الأعشى قصصا من قصص أهل الجاهلية، من ذلك ما رواه عن سد "مأرب" في قصيدته التي يقول فيها: ففي ذلك للمؤتسي أسوة ... ومأرب قفّى عليه العرم رخام بنته لهم حمير ... إذا جاءه ماؤهم لم يرم فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم لم يرم2 وهي أبيات نظمت على طريقة ذلك الوقت في ذكر نكبات الماضي، وما حل بالقبائل والمدن والقرى من مصير سيئ، لاتخاذها درسا وعبرة للأحياء. وهي لذلك تكون ذات صبغة أدبية أخلاقية، لا يهتم فيها للتأريخ ولواقع الأحداث، وإنما للقص والتأثير في العواطف والقلوب. ومنها قصيدته التي ذكر فيها من أهلكه الدهر من الجبابرة ومطلعها: ألم تروا إرما وعادا ... أفناهم الليل والنهار وقبلهم غالت المنايا ... طسما فلم ينجها الحذار وحل بالحي من جديس ... يوم من الشر مستطار وأهل جو أتت عليهم ... فأفسدت عيشهم فباروا فصبحتهم من الدواهي ... نائحة عقبها الدمار وقد روى أهل الأخبار قصص هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم الأعشى في شعره، وقد رصعوها على عادتهم بالشعر، نسبوه إلى أبطال ذلك القصص3. وأشار "أبو العلاء" المعري إلى شعر نسب للأعشى أوله: أمن قَتْلَةَ بالأنقا ... ء دار غير محلوله كأن لم تصحب الحي ... بها بيضاء عطبوله

_ 1 الصفة "137". 2 ديوان الأعشى البيت "67" وما بعده من القصيدة رقم 4. 3 الخزانة "1/ 347 وما بعدها"، "بولاق".

أناة ينزل القوسى ... منها منظر هوله وما صهباء من عانة ... في الذارع محموله تولي كرمهاأصهـ ... ـب يسقيه ويغدو له ثوت في الخرس أعواما ... وجاءت وهي مقتوله بماء المزنة الغرا ... ء راحت وهي مشموله بأشهى منك للظمآ ... ن لو أنك مبذوله فنفى على لسان الأعشى أن يكون من شعره، أو أن يكون قد صدر عنه1. وقد ورد في بعض الأخبار أن الأعشى كان نصرانيا. ويرى "بروكلمان" أن من الجائز أن يكون نصرانيا، غير أن نصرانيته لم تكن مؤثرة عليه، وهو إذا كان قد تحدث عن الله وعن البعث، وعن الحساب ويوم الدين، فقد تحدث غيره عن هذه الأمور أيضا ولم يكن من النصارى2. ونحن لا نكاد نجد في شعره ما يؤيد كونه نصرانيا صحيحا قويم الدين، له علم بأحكام شريعته ونواهيها، ولعل نصرانيته الوحيدة البادية عليه، هي في حلفه برهان دير هند، وإشارته إلى عيد الفصح وإلى طوفان نوح، وزيارته "بني الحارث بن كعب" سادة نجران، وهم نصارى، وتشبيهه "قيس بن معد يكرب" بالرهبان في عدله وتقواه3. وقوله: وإني ورب الساجدين عشية ... وما صك ناقوس النصاري أبيلها4 وقوله: ربّي كريم لايكدر نعمة ... وإذا يناشد بالمهارق أنشدا5

_ 1 رسالة الغفران "211 وما بعدها". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 147 وما بعدها، القصيدة رقم 15 حيث يحلف بثوب راهب اللج. 3 ديوان الأعشى "دكتور م. محمد حسين"، راجع القصيدة رقم 5 من مدح قيس بن معد يكرب الكندي، والقصيدة رقم 15. 4 القصيدة رقم 23. 5 القصيدة رقم 34.

ولكننا نجده يقسم بالكعبة إذ يقول: إني لعمر الذي خطت مناسمها ... تخدى وسيق إليه الباقر الغيل1 ويقول: وإني وثوبي راهب اللّج والتي ... بناها قصيّ والمضاض بن جرهم ويقول: وما جعل الرحمن بيتك في العلا ... بأجياد غربي الفناء المحرم2 وورد أن الأعشى كان يقول بالقدر. ورد في كتاب "الأغاني": "قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى، وكان نصرانيا عباديا، وكان معمرا، قال: كان الأعشى قدريا، وكان لبيد مثبتا، قال لبيد: من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل وقال الأعشى: استأثر الله بالوفاء وبالعد ... ل وولى الملامة الرجلا قلت: فمن أين اخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبيل العبادين نصارى الحيرة، كان يأتيهم يشتري منهم الخمر فلقنوه ذلك"3. وقد جعله "المرتضى" في عداد من كان على مذهب أهل العدل من شعراء الطبقة الأولى لقوله البيت المذكور4. وقد نسب الأعشى هلاك الإنسان وموته إلى فعل الدهر، إذ يقول: فاستأثر الدهر الغداة بهم ... والدهر يرميني ولاأرمي يا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت في العظم

_ 1 القصيدة رقم "6". 2 قصيدة رقم "15". 3 الأغاني "8/ 79". 4 أمالي المرتضى "1/ 21"، ديوانه "155". 5 أمالي المرتضى "1/ 46".

ومن شعره قوله: وأرى الغواني لايواصلن امرأ ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا1 وهو شعر يظهر أنه قاله بعد أن عبث به الكبر، وفقد الشباب، فقاله على عادة الشعراء في ذمهم المرأة حين بلوغهم هذه المرحلة من العمر. وروي أنه مر بأبي سفيان بن حرب فسأله عن وجهه الذي قدم منه فعرّفه، ثم سأله: أين يقصد؟ فقال: أريد محمدا. فقال: إنه يحرم عليك الزنا والخمر والقمار، فقال له: أما الزنا فقد تركني ولم أتركه، وأما الخمر فقد قضيت منه وطرا، وأما القمار فلعلي أن أصيب منه خلفا. قال: فهل لك إلى خير؟ قال: وما هو قال: بيننا وبينه هدنة فترجع عامك هذا وتأخذ مائة ناقة حمراء، فإن ظهر أتيته، وإن ظهرنا كنت قد أصبت عوضا من رحلتك. قال: لا أبالي. فانطلق به أبو سفيان إلى منزله وجمع له أصحابه وقال: يا معشر قريش، هذا أعشى بني قيس بن ثعلبة، وقد عرفتم شعره، ولئن وصل إلى محمد ليضربن عليكم العرب بشعره، فجمعوا له مائة ناقة وانصرف، فلما كان بناحية اليمامة ألقاه بعيره فوقصه فمات2. ويذكر علماء الشعر، أن الأعشى كان قد هيأ قصيدة لينشدها أمام النبي، في صلح الحديبية، فلما صرفه "أبو سفيان" عن الذهاب إلى يثرب لم يقرأها. ومطلع القصيدة: ألم تغتمض عيناك ليلة أمردا ... وبتَّ كما بات السليم مسهدا3 وهي قصيدة نحلت عليه، ولا يمكن أن تكون من شعر هذا الشاعر الذي لم يتعود على التعمق في جزئيات أمور الدين، ثم إن القسم الخاص بمدح النبي من

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 612". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 240"، الخزانة "1/ 85"، رسالة الغفران "172 وما بعدها". 3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 576"، القطعة رقم 17 من ديوان الأعشى، الإكليل "2/ 259"، الخزانة "1/ 85 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 178 ما بعدها".

هذه القصيدة وبأحكام الإسلام ضعيف الحبك، لا يتناسب مع المطلع ولا مع شعر الأعشى الآخر، ولهذا ذهب أكثر المعاصرين إلى أنها من الشعر المصنوع1. وفيها أمور من المجرمات لايمكن أن يكون الأعشى قد وقف عليها. ومماجاء في هذه القصيدة: ألا أيهذا السائلي أين يممت ... فإن لها في أهل يثرب موعدا فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولامن حفى حتى تلاقي محمدا متى ما تُناخي عند باب ابن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله يدا أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبي الإله حين أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... وأبصرت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد لما كان أرصدا فإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا ولا تقربن جارة إن سرها ... عليك حرام فانكحن أو تأبدا نبي يرى ما لا يرون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا2 وأنت إذا قرأت هذه الأبيات والأبيات الأخرى التي لم أذكرها، فستخرج جازما أنها من الشعر المصنوع المنحول على الأعشى. ففيها نهي عن أكل الميتة، وعن عبادة الأوثان، والحث على الصلاة، وعلى إيصال السائل المحروم وغير ذلك من آراء إسلامية، تجد جذوبها في القرآن. وذكر أن الأعشى سمى قصيدته المحكمة حكيمة، أي ذات حكمة. فقال: وغريبة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها3 وقال بعض علماء الشعر: الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في

_ 1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 148"، طه حسين، في الأدب الجاهلي "258"، فؤاد أفرام البستاني، مجلة المشرق "المجلد 30"، "ص763 وما بعدها"، ديوان الأعشى "134"، "الدكتور م. محمد حسين". 2 وفي رسالة الغفران بعض الاختلاف عما جاءت في ديوانه وفي كتب الأدب، رسالة الغفران "178 وما بعدها". 3 تاج العروس "8/ 255"، "حكم".

بيت، وأشجع الناس في بيت، فأغزل بيت قوله: غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل وأخنث بيت قوله: قالت هريرة لما جئت زائرها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجل وأشجع بيت قوله: قالوا الطراد فقلنا تلك عادتنا ... أو ينزلون فإنا معشر نزل1 ومن جيد شعره قوله: عهدي بها في الحي قد درعت ... صفراء مثل الهرة الضامر لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر2 وكان الأعشى سليط اللسان، إذا هجا أقذع، شديدا في هجائه، لذلك كان الناس يخشون جانبه، ويرهبون لسانه، وكان مداحا، يمدح فينال عطاء الممدوحين. وله أسلوب خاص في نظم الشعر، وفي العرض والسبك، وموسيقى النظم، وفي شعره طلاوة، وفي أبياته حلاوة. وقد أبدع في أمور، منها وصف الخمر، ووصف الحمر الوحشية، ولا نجد في شعره مكانة للأطلال والديار، وهو يطيل في النسيب3. ومن أمثلة ما يروونه عن أثر شعره في الناس، أن رجلا بائسا مسكينا اسمه "المحلق"، كان والد ثمان بنات، ولايملك شيئا سوى ناقة، سمعت زوجته بذكر الأعشى وبمروره منهم في طريقه إلى سوق "عكاظ"، فأشارت على زوجها أن يركض إلى الأعشى ليستضيفه، لعله يمدحه، فيزوج بناته وينال شرف مديحه.

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 967 وما بعدها"، الخزانة "3/ 518"، "بولاق". 2 أمالي المرتضى "1/ 451". 3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 148 وما بعدها".

بين الناس. ففعل، وذبح ناقته الوحيدة وأكرمه مع بناته غاية الإكرام، فلما علم الأعشى بسوء حاله، أعد له قصيدة، ألقاها في عكاظ، مطلعها: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق فلما رأى الناس "المحلق"، وقد حياه الأعشى، أقبل الناس يخطبون منه بناته، فما قام من مقعده حتى خطبت بناته جميعا1. ولعل خفة عروض شعر الأعشى ومرونته، وما في شعره من ترنيم ورنين، وما فيه من سهولة، تدل على براعة في الشعر، هي التي حملت بعض علماء الشعر على تقديمه على غيره، أو على رفع مكانته بوضعه في طبقة الشعراء الفحول من الطبقة الأولى، غير أن من العلماء من انتقد شعره، وانتقد إكثاره من إدخال الألفاظ الأعجمية في نظمه2. وكان للأعشى راوية اسمه "عبيد"، كان يصحبه ويروي شعره، وكان عالما بالإبل. ومنه أخذ الرواة أخبار الأعشى وشعره. وكان "سماك" أحد الرواة المتصلين به، وعنه أخذ "حماد" الراوية أخباره عن الأعشى. وعنه أيضا أخذ "شعبة بن الحجاج" أخباره عن "الأعشى". وعن "شعبة" روى "مؤرج بن عمرو السدوسي" "أبو فيد" أحد علماء البصرة المتوفى سنة "195هـ". وعنه أخذ "الرياشي" أخباره عن "الأعشى". و "الرياشي" هو "أبو الفضل" العباس بن الفرج مولى سليمان بن علي الهاشمي. وكان عالما باللغة والشعر كثير الرواية عن "الأصمعي". وقد توفي الرياشي سنة "257هـ"3. وقد شك علماء الشعر في صحة نسب بعض الشعر إلى "الأعشى". فقد روى "أبو عبيدة" أن "أباعمرو بن العلاء" زاد بيتا على قصيدة: بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا ... واحتلت الغمر فالجدين فالفرعا وهو البيت الثاني من هذه القصيدة. وروى غيره أن "حماد" الراوية، هو

_ 1 الخزانة "3/ 211 وما بعدها"، "بولاق". 2 الموشح "49 وما بعدها"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 149". 3 الشعر والشعراء "1/ 181"، الفهرست "92".

الفصل الستون بعد المائة: الشعراء الصعاليك

الفصل الستون بعد المائة: الشعراء الصعاليك قال صاحب "اللسان": "الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري: ولا اعتماد. وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك، قال حاتم طيء: غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر1 "والتصعلك: الفقر. وصعاليك العرب: ذؤبانها. وكان عروة بن الورد يسمى: عروة الصعاليك لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه"2، وقيل: الصعلوك: الفقير، وهو أيضا المتجرد للغارات"3. والصعاليك، قوم خرجوا على طاعة بيوتهم وعشائرهم وقبائلهم، لأسباب عديدة، منهم عدم إدراك أهلهم أو قبيلتهم نفسياتهم، مما سبب نفورهم منهم، وخروجهم على طاعة مجتمعهم، وهروبهم منه، والعيش عيشة الذؤبان، معتمدين على أنفسهم في الدفاع عن حياتهم، وعلى قوتهم في تحصيل ما يعتاشون به، بالإغارة على الطرق والمسالك، وبمهاجمة أحياء العرب المبعثرة، أفرادا أو طوائف، وهم أبدا في خوف من متعقب يتعقبهم، لاسترداد ما أخذ أو سلب، أو متربص يتربص.

_ 1 اللسان "10/ 455 وما بعدها"، "صعلك"، "صادر". 2 اللسان "10/ 456"، "صعلك"، تاج العروس "7/ 153"، "صعلك". 3 جمهرة أشعار العرب "115".

بهم الدوائر ليأخذ منهم ما غنموه بالقوة من غيرهم أو ما قد يجده في أيديهم. ولهذا كانوا يتكتلون أحيانا، بانضمام بعضهم إلى بعض، مكونين جماعات، جمعت بينها وحدة الهدف، وغريزة حماية النفس، والمصلحة المشتركة بعد أن حرمهم أهلهم ومجتمعهم من تقديم أية مساعدة أو حماية لهم، وسحب منهم حق الأخذ بالثأر والانتقام ممن قد يعتدي عليهم، بحق "العصبية"، وبعد أن جعل دمهم هدرا، وتبرأ منهم ومن كل جريرة يرتكبونها، فلا يطالب أهلهم بدمهم، ولا يطالبونهم بأي دم قد يسفحه الصعلوك. ولا أستبعد أن تكون للمغامرة ولإثبات الشخصية، دخل أيضا في حدوث الصعلكة وفي تمرد الشباب على مجتمعهم، على غرار ما نجده اليوم من تمرد على مجتمعاتهم، لإثبات وجودهم وشخصيتهم في هذه المجتمعات، بطريقة البعث بالعرف والعادات وبعدم المبالاة لأوامر العائلة والمجتمع، مما يجعلهم يسيرون سيرة الصعاليك في ذلك الوقت، فلو نظرنا إلى حالة الصعاليك نجد أن منهم من كان من أسرة متمكنة أو لا بأس بأحوالها المالية، ومع ذلك عاش صعلوكا، لما وجد فيها من مغامرات ومجازفات ومطاردة وهجوم ودفاع. فحب المغامرة، وإثبات الشخصية، من أسباب الصعلكة في الجاهلية كذلك. والصعاليك بعد، حاقدون على مجتمعهم، متمردون عليه، للأسباب المذكورة، نبتت في أكثرهم عقد نفسية، تكونت عندهم من سوء معاملة المجتمع لهم، ومن سوء فعلهم وتصرفهم الخاطئ تجاه مجتمعهم، فهم حاقدون لا يبالون من شيء ولو كان ذلك سلبا ونهبا وقتل أبناء قبيلتهم وعشيرتهم، لأنهم خلعوا منها، وحرموا من حق الدم، فكان خلعها لهم سبب شقائهم وبؤس حياتهم، فأي حق بقي إذن يمنعهم من الحقد على القبيلة ومن مهاجمة العشيرة؟ ثم إنهم حاقدون على مجتمعهم، لأن منهم فقراء معدومين، لا شيء عندهم يعتاشون عليه، ولا ملابس لديهم تقيهم من الحر أو البرد أو المطر، وكل ما تقع أعينهم عليه، هو مفيد لهم نافع، ومن حقهم بحكم فقرهم انتزاعه من مالكه، وإن كان مالكه فقيرا معدما مثلهم، لأن النفس مقدمة على الغير، وهم يعيبون الخامل منهم الذي يعيش صعلوكا ذليلا قانعا بما كتب عليه من الذل والتشرد، عائشا على صدقات الناس، ويرون الخلاص من هذا الذل بالحصول على المال بالقنا وبالسيف، فمن استعمل سيفه نال ما يريد، لايبالي فيمن سيقع السيف عليه، وإلا عد

من "العيال". قال "السليك": فلا تصلي بصعلوك نَئوم ... إذا أمسى يعد من العيال ولكن كل صعلوك ضروب ... بنصل السيف هامات الرجال1 "ولذلك كان صعاليك العرب ولصوصهم وأرباب الإغارة منهم يرون أن ما يحوونه من النعم بالغارة، وينالونه بالسرق والسلة، إنما ذلك مال منعت منه الحقوق، ودفع عنه بالبخل والعقوق، فأرسلهم الله إليه وسببه لهم رزقهم إياه، كما قال عروة الصعاليك: لعل انطلاقي في البلاد وعزمتي ... وشدّي حيازيم المطية بالرحل سيدفعني يوما إلى رب هجمة ... يدافع عنها بالعقوق وبالبخل2 "وكما أن فيهم من يتمدح ببذل القرى ومعاناة الطوى، وتحمل الكلفة ومواساة ذوي الخلة، فكذلك فيهم البخيل الجامع، واللئيم الراضع، ومن يؤثر التفرد بناره والاستئثار بزاده دون ضيفه وجاره، وينشد لبعضهم: أعددت للأضياف كلبا ضاريا ... عندي وفضل هراوة من أرزن وقال الآخر: وإني لأجفو الضيف من غير بغضة ... مخافة أن يغري بنا فيعود وقال الأصمعي: مر ابن حمامة بالحطيئة، فقال: السلام عليك. قال: قلت ما لا ينكر. قال: إني أردت الظل. قال: دونك، والجبل حتى يفيء عليك. قال: إني خرجت من عند أهلي بغير زاد. قال ما ضمنت لأهلك قراك. قال: إني ابن حمامة. قال: كن ابن نعامة. فمضى عنه آيسا. قال: وخرج الحطيئة يوما من خبائه وبيده عصا، فقال له رجل: ما هذه؟ قال: عجراء من سلم. قال: إني ضيف. قال: للضيف أعددتها"3.

_ 1 الشعراء الصعاليك "235". 2 الجمان في تشبيهات القرآن "262 وما بعدها". 3 الجمان في تشبيهات القرآن "260 وما بعدها".

والحطيئة من الملحفين في السؤال المستجدين الذين لا يخجلون من الاستجداء. فكان يلح في شعره بالطلب، ويحاول بكل الطرق جمع المال، حتى أهان نفسه، ولم يترك رجلا معروفا إلا ذهب إليه يسأله أن يعطيه مما عنده، فلما عين "عمر" "علقمة بن علاثة" على حوران، قصده "الحطيئة"، فوجده قد مات، فقال: وما كان بيني لو لقيتك سالما ... وبين الغنى إلا ليال قلائل1 فأعطاه ولده مائة ناقة مع أولادها. وقد عاب "الأعشى" "علقمة بن علاثة"، بقوله: تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا2 وقد وجد الصعاليك في الأغنياء البخلاء، هدفا صالحا لهم. فهؤلاء أصحاب مال، وهم أصحاب جوع، ولا بد للجوعان من أن يعيش، فلم يجدوا في مباغتة الأغنياء أي حرج يمنعهم من السطو على أموالهم، لأنها زائدة عليهم، وهم في حاجة إليها، وبذلك يضمنون لأنفسهم ولإخوانهم الجياع الصعاليك أسباب الحياة، فالحاجة عندهم تبرر الواسطة، وإذا امتنع إنسان على صعلوك وأبى تسليم ما عنده إليه، فهو لا يبالي من قتله، فالقتل ليس بشيء في نظره، منظره مألوف، والفقر ذاته قتل للإنسان، بل أشد فتكا به من القتل، والصعلوك نفسه لا يدري متى يقتل، فلا عجب إذا ما رأى القتل وكأنه شربة ماء. وكان "أبو عبيدة"، لا يستأنس بسماع شعر الصعاليك، لأنهم فقراء، قال "أبو حاتم": "جئت أبا عبيدة يوما، ومعي شعر عروة بن الورد، فقال: فارغ حمل شعر فقير ليقرأه على فقير"3، فهو من المحبين للأغنياء، وما الذي يجنيه من الفقراء! وكان "أبو مالك عمرو بن كركرة" البصري، مثل "أبي عبيدة" في الابتعاد عن الفقراء، بل كان أشد منه تعصبا عليهم،

_ 1 الجمان في تشبيهات القرآن "288". 2 الجمان في تشبيهات القرآن "259". 3 أمالي المرتضى "1/ 638".

قال الجاحظ: "كان أحد الطياب، يزعم أن الأغنياء عند الله أكرم من الفقراء. ويقول إن فرعون عند الله أكرم من موسى"1. و "ابن كركرة" أعرابي، وكان مرجع الأعراب الوافدين إلى البصرة، وقد تحدث عنه "الجاحظ" في كتبه. وقد عرف الصعاليك بـ "الذؤبان" وبـ "ذؤبان العرب"، "وذؤبان العرب لصوصهم وصعاليكهم وشطارهم الذين يتلصصون ويتصعلكون، لأنهم كالذئاب"2. وعرفوا باللصوص لأنهم كانوا يتلصصون. واللص السارق، في لغة طيء3، وقيل لهم: "الشطّار". "والشاطر من أعيى أهله ومؤدبه خبثا ومكرا، جمعه الشطار كرمّان. وهو مأخوذ من شطر عنهم، إذا نزح مراغما. وقد قيل إنه مولد"4. وعرفوا بـ "الخلعاء"، والخليع الشاطر، "وهو مجاز سمي به، لأنه خلعته عشيرته وتبرأوا منه، أو لأنه خلع رسنه. ويقال: خلع من الدين والحياء"5. "وكان في الجاهلية إذا قال قائل مناديا في الموسم: يا أيها الناس! هذا ابني قد خلعته، وذلك إذا خاف منه خبثا أو خيانة، أو من هو بسبيل منه، فيقولون: إنا قد خلعنا فلانا، أي فإن جر لم أضمن، وإن جر إليه لم أطلب. يريد تبرأت منه. وكان لا يؤخذ بعد بجريرته وهو خليع"6. و "الخلعاء" جماعتهم. "واختلعوه إذا ذهبوا بماله"7. ولعل لهذا التفسير صلة بالصعلكة التي تعني الفقر، فالفقر والإملاق والجوع من أهم الملازمات التي لازمت ورافقت الصعاليك، وفي هذا المعنى أيضا ما جاء في كتب اللغة: "وشفر المال تشفيرًا: قل وذهب"8، ولعل للفظة "الشنفرى"، صلة بهذا المعنى، وقد تكون للفظة "الرجل" التي تعني البؤس والفقر9، صلة بهذا المعنى كذلك. فقد عرف الصعاليك بـ "الرجليين".

_ 1 الفهرست "72". 2 تاج العروس "1/ 248"، "ذاب"، الخزانة "3/ 532". 3 تاج العروس "4/ 432"، "لص". 4 تاج العروس "3/ 299"، "شطر". 5 تاج العروس "5/ 321"، "خلع". 6 تاج العروس "5/ 321"، "خلع". 7 تاج العروس "5/ 322"، "خلع". 8 تاج العروس "3/ 308"، "شفر". 9 تاج العروس "7/ 338"، "رجل".

وبـ "الرجيلاء"، وعرف الواحد منهم بـ "الرجليّ"1، وقد تكون للفظة "الخلع" صلة بالفقر والإملاق كذلك، بدليل ما ذكروه في تفسير "المعيل" من قولهم: "المعيل: الذي قصر ماله وعليه عيال"2. وقد عرف الصعاليك بـ "الرجليين" لاستعمالهم أرجلهم في الإقدام والهروب، لأنهم فقراء لا يملكون غير أرجلهم تحملهم إلى المواضع التي يريدون سرقتها، إذ لا خيل لهم يركبونها لعجز أكثرهم عن شرائها، فلا يكون أمامهم غير الاعتماد على الرجل. والجوع حليف ملازم للصعاليك، لم ينفر منهم، ولم يبتعد عنهم لذلك كثر الحديث عنه في شعرهم وفي أخبارهم. وقد كانوا يهربون منه، لكنهم لم يفلتوا منه. فقد كان ممسكا بهم، ملازما لهم، ما داموا صعالكة، فالجوع نفسه جزء من أجزاء الصعلكة. وفي شعر "عروة بن الورد" أن الجوع كان ينزل به، حتى يكاد يهلكه، أنزل به الهزال، وأراه الموت، لولا أنه كان يتهرب منه بالغارة، لينال منها البلغة، فالمنايا خير من الهزال المقيت المميت3. وفي شعر للسليك بن السلكة، أن الجوع كان يغشاه في الصيف، حتى كان إذا قام تولاه إغماء شديد، يريه الدنيا ظلاما من أثر الجوع4. وما دامت حياة الصعلكة جوع وفقر، وإملاق وهروب من متعقب، فالموت خير للصعلوك من حياة يعيشها فقيرا، لا أقارب له تعطف عليه، ولا أهل يشفقون عليه، ولا قوم يراجعونه ويتعهدونه بالحماية5، حياته موحشة قاسية، تفور بالأخطار والتهلكة والمغامرات، لايدري متى يأتيه الموت ومن أين يأتيه، إذا نام، خاف من غادر قد يغدر به، ومن متعقب يتعقب أثره، ومن طالب ثأر يريد الأخذ بثأره، ومن حيوان صعلوك مثله، يريد أن يقضي على

_ 1 تاج العروس "7/ 339"، "رجل"، "أجارت السليك بن السلكة السعدي، وكان رجليًّا"، المحبر "433". 2 تاج العروس "5/ 321"،"خلع". 3 أقيموا بني لبني صدور ركابكم ... فإن منايا القوم خير من الهزل ديوان عروة "106". 4 الأغاني "18/ 135". 5 إذ المرء لم يبعث سواما ولم يرح ... عليه ولم تعطف عليه أقاربه فللموت خير للفتى من حياته ... فقيرا ومن مولى تدب عقاربه ديوان عروة "150"، وينسبان لغيره، حماسة أبي تمام "1/ 166، 167".

جوعه بافتراسه، وهو معذور في ذلك لأنه جائع لا طعام له، ومن هنا هان الموت في نظر الصعلوك، فهو معه يتبعه مثل ظله وملازم له، وتولدت في نفسه فلسفة "الآجال": فلسفة أن لكل نفس أجل، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الإنسان مهما عاش وعمر، فلا بد من أن يلاقي الموت ويستجيب له، لن ينجيه منه قصر "ريمان"، ولا حرس أبوابه المدججون بالسلاح، يمنعون الناس من دخوله، فالموت لايعرف جرس القصور ولا يحول بينه وبين من يريد الوصول إليه حائل مهما كان. قال أبو الطمحان القيني: ولو كنت في ريمان تحرس بابه ... أرجايل أحبوش وأغضف آلف إذن لأتتني حيث كنت منيتي ... يخب بها هاد بامري قائف1 ولقرب الموت من الصعاليك، ولتعقب أصحاب الثأر دوما لهم، لازموا سلاحهم، فكانوا لا ينامون إلا وسيفهم معهم. كما لازمهم الرقاد والسهر بالليل، خشية مباغتة غادر لهم، والليل رفيق الغدر، لذلك كان ليلهم قصيرا، ونومهم قليلا، من شدة قلقهم ومن تحسبهم لتعقب طلاب الثأر لهم، ونجد في شعرهم إشارات إلى مظاهر القلق الذي كان يستولي عليهم، فيحول بينهم وبين النوم. ونجد في شعر للشنفرى توجع وتألم ومرارة، وإن صيغ بصورة الاستهتار بالموت وبالحياة، فهو إن جاءه الموت، فلن يبالي، ولمَ يبالي، وهو إنسان خليع بائس، إن مات لا يجد من يبكي عليه من أحد. فأي توجع أشد من هذا التوجع المصوغ في هذا البيت الساخر: إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها ... ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي2 ولكن الحياة على ما فيها من مرارة وشقاء، مطلوبة محبوبة، فرب لحظة فيها حبور تنسي كل ما كابده الإنسان من تعاسة وشقاء، والموت مكروه ممقوت، وإن تمناه المتمني، وما تمنيه له إلا لثورة طارئة في النفس ولضيق في الصدر، فإذا بان الموت لمتمنيه ضاق صدره، وتمنى لو مد في عمره، يدفعه الأمل إلى

_ 1 الأغاني "11/ 133". 2 الأغاني "21/ 139"، الشعراء الصعاليك "33".

التفكير في احتمال تغير الأوضاع، وتحسن الحال، والحصول على الغنى والمال، بشرط أن يسعى ويضرب في الأرض وأن يكون صادق العزيمة، لايخور أمام المصائب مهما كانت شديدة عاتية ولا ينهار منها: فسِرْ في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا1 وقد كان عماد الصعلوك في حياته، قوته الجسدية وسلاحه الذي يحارب به، وجماعته الذين يأوي إليهم، وكان يقاتل بضراوة، قتال المستميت، لأنه إن لم يدافع عن نفسه، هلك، إذ لا أمل له في وجود عصبية تدافع عنه، أو أهل يقومون بافتدائه وتخليصه من أسر إن وقع فيه، وسبيله الوحيد لخلاصه عند قيامه بغارة: المباغتة والهرب بما قد يحصل عليه بسرعة، كي يأمن العاقبة، وعمل الحيلة في التخلص من المأزق، لكيلا يقع في أيدي متعقبه، فيكون بذلك هلاكه، وفي جملة ذلك الفرار، للنجاة بالنفس من موت محتم. وهو فرار يؤدي به إلى معاودة الغارة والتلصص، إذ لا مورد له في هذه الحياة يتعيش منه غير هذين الموردين. فحاله في هذا الفرار حال "أبي خراش" الهذلي حيث يقول: فإن تزعمي أني جبنت فإنني ... أفر وأرمي مرة كل ذلك أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا ... وأنجو إذا ما خفت بعض المهالك2 ونظرا لفقر الصعاليك، وعدم وجود مال لديهم يكفل لهم شراء فرس يركبونها في غاراتهم، اعتمد أكثرهم على أرجلهم في طلب رزقهم، وفي الحصول على معاشهم، وعلى خفة حركاتهم، وسرعتهم في الهروب من تعقب المتعقبين لهم في حالتي الفشل أو النجاح. وكان من بينهم من ضرب به المثل في زمانه في شدة العدو، وفي سرعة الركض، ورويت عنه الأقاصيص في ذلك. منهم "سليك بن المقانب بن السلكة"، وهو عدّاء بالغ. يقال: أعدى من السليك3. وقد عرفوا لذلك بـ "العدائين" لشدة عدوهم4، جمع "عداء"، ومنهم أيضا

_ 1 ديوان عروة "191". 2 ديوان الهذليين "2/ 169"، الدكتور يوسف خليف، الشعراء الصعاليك "40". 3 تاج العروس "1/ 409"، "غرب". 4 الخزانة "2/ 17".

"الشنفرى": "شاعر عداء. ومنه المثل: أعدى من الشنفرى"1، وكان من العدائين. وفي المثل: أعدى من الشنفرى"2. كما عرفوا بـ "الرجليين" وبـ "الرجيلاء"، وهم "قوم كانوا يعدون. كذا في العباب. ونص الأزهري: يغزون على أرجلهم، الواحد رجليّ محركة أيضا ... وهم سليك المقانب، وهو ابن سلكة، والمنتشر بن وهب الباهلي، وأوفى بن مطر المازني"3، "والرجلة بالفتح وبالكسر: شدة المشي، أو بالضم القوة على المشي، وفي المحكم: الرجلة بالضم المشي راجلا"4. وقد صار العدو من أهم صفاتهم ومميزاتهم التي امتازوا بها عن غيرهم، حتى قيل إن الخيل لم تكن تلحق بهم. ونعتوا بأنهم كانوا أشد الناس عدوا، وأنهم "لا يجارون عدوا"، و "لا يلحقون"5. ومن العدائين: "تأبَّط شرًّا"، و"عمرو بن البراق"، و "أسيد بن جابر"6. وورد أن العرب كانت تضرب بالسليك المثل في العدو، وتزعم أنه والشنفرى أعدى من رئي7. وضرب المثل بسرعة عدوهم، واتخذ القصاص من شدة عدو الصعاليك مادة أدخلوها في قصصهم، وبالغوا فيها لتناسب طابع القص وأسلوبه، وقد وجد بعضه سبيلا إلى كتب الأخبار والأدب والعجائب والنوادر. وتؤلف المبالغات في سرعتهم وعدوهم أهم عنصر في القصص الذي يتحدث عنهم، نجد فيها أن الصعلوك يسابق الخيل، فيسبقها، هذا "أبو خراش" الهذلي، يدخل مكة، فوجد "الوليد بن المغيرة" المخزومي، يهم بإرسال فرسين له إلى "الحلبة" فيقول له: ما تجعل لي إن سبقتهما؟ قال: إن فعلت فهما لك، فأرسلا وعدا بينهما فسبقهما فأخذهما"8. وهذا "تأبط شرا" يوصف بأنه: كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين، وكان إذا جاع لم تقم له قائمة، فكان ينظر

_ 1 تاج العروس "3/ 318"، "الشنفيرة". 2 تاج العروس "3/ 308 "، "شفر". 3 تاج العروس "7/ 339"، "رجل"، ثمار القلوب "135". 4 تاج العروس "7/ 336"، "رجل". 5 الأغاني "12/ 49"، "18/ 133 وما بعدها"، المرزباني "468"، الخزانة "2/ 16". 6 تاج العروس "3/ 308، 318"، "شفر"، "شنفر". 7 ثمار القلوب "134". 8 الأغاني "21/ 57".

إلى الظباء، فينتفي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه، فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله"1. إلى غير ذلك من قصص وحكايات. وقد فخر العداؤون بشدة عدوهم، وتباهوا بمقدرتهم على العدو السريع، حتى إنهم نسبوا سبب نجاتهم من الموت إلى عَدْوهم هذا، لا إلى قتالهم وشجاعتهم، وبالغوا في شعرهم به، حتى ذكروا أنهم كانوا يسبقون الخيل والظباء بل الطير2. هو نوع من "البطولة" في مفهوم الصعاليك، حتى إنهم -كما قلت- فضلوه على الشجاعة، وإذا كانت الشجاعة ضرب من الإقدام وإظهار المقدرة والرجولية؛ فالركض فرارًا نوع من البطولة أيضا، فيه مقدرة وشجاعة في ضبط الأعصاب وفي التصميم والإقدام على السلامة والنجاة بالنفس وبقاء الحياة وهكذا وجدوا لفرارهم عذرا اعتذروا به، فهم إن اختاروا الفرار وفضلوه على المعاركة والقتال فإنما اختاروه لأنه فيه أمل المعاودة إلى قتال جديد، ثم إنهم لا يرون سببا يدعو الإنسان إلى أن يرمي نفسه في المهالك، وأن يكون طعاما للوحوش الكاسرة3. فليس في الهروب جبن، وليس في الإقدام شجاعة، والعاقل من اتعظ فنجى نفسه من الموت، وفي النجاة شجاعة. وقد كان لسرعة عدو الصعاليك العدائين فضل كبير عليهم في النجاة من المهالك المحتمة، هذا "تأبط شرا"، يذكر في شعر له أنه وقع في فخ في موضع "العيكتين"، وكاد يهلك، لولا استعانته بالركض، ولا أحد أسرع منه، وبذلك نجا وخلص من الوقوع في داهية4. فلا عجب إذن، إذا ما افتخروا بسرعة عدوهم، وجاهروا بما لأرجلهم من فضل ومنة عليهم. فلولا العدو لما خرج "أبو خراش" سالما من موت كان قد أحاق به، ولكنه غلب الموت بشدة عدوه وهروبه منه، فعاد سالما إلى حليلته، فاستقبلته ابنته بقولها: سلمت وما إن كدت بالأمس تسلم وأنقذ بذلك ابنة "خراش" من الوقوع في اليتم5.

_ 1 الأغاني "18/ 210". 2 الشعراء الصعاليك "209 وما بعدها". 3 الشعراء الصعاليك "209 وما بعدها". 4 المفضليات "7 وما بعدها"، الشعراء الصعاليك "42". 5 الأغاني "21/ 56 وما بعدها"، ديوان الهذليين "2/ 148".

فلا عجب إذن، إن رأينا"الحاجز الأزدي"، يفدي رجليه بأمه وخالته، وهو فداء في نظرنا غريب، لكنه ليس بغريب، بالنسبة إلى إنسان رجلاه رأسماله في هذه الحياة، بفضلهما سلم من المهالك، وحصل على قوته، ولولاهما لكان من الهالكين: فدى لكما رجلي أمي وخالتي ... بسعيكما بين الصفا والأثائب1 وكان الصعاليك يغيرون فرسانا كذلك، كانوا يجيدون ركوب الخيل والإغارة عليها، وعد بعضهم من خيرة فرسان الجاهلية، ولعروة بن الورد فرس يسمى "قرمل"2، وللسليك فرس يسمي "النحام"3، وللشنفرى فرس يسمى "اليحموم"4، وقد عرفت هذه الأفراس بشدة عدوها. والسلاح للصعلوك، هو الحماية التي يتقي بها أذى الناس، ويستعين بها في القضاء على خصمه، وهو السيف والقوس والرمح والدرع والمغفر، وكان لا يفارق سلاحه، لأنه لا يدري متى ينقض عليه عدو له فيقتله، فكان لا بد له من حمل سيفه معه، واعتناقه له حين نومه، وقد عد "عروة بن الورد"، و"عمرو بن براقة" السلاح رأسمالهما الذي يتكلون عليه في هذه الحياة5. ولصعوبة تصعلك الرجل بمفرده، تكتل الصعاليك كتلا، وكونوا لهم فرقا، تكونت من أشتات وأنماط من الرجال، فيهم الحر الثائر، وفيهم الضال الغاوي، وفيهم الأسود العبد، وفيهم القاتل الفاتك. وهم بالطبع من قبائل مختلفة ومن بطون متنافرة. فلا تجمعهم عصبية القبيلة، ولا نخوة العشيرة، ومع ذلك فبينهم رابطة قوية، ووحدة جمعت بينهم، هي وحدة الدفاع عن النفس، والذب عنها، والكفاح في سبيل المعيشة، بأي سبيل، وبأية طريقة وجدت ووقعت، حتى بالقتل. فمن وجد شخصا ومعه مال؛ لا يجد الصعلوك والقاتل سببا أخلاقيا

_ 1 الأغاني "12/ 52". 2 قال عروة: كليلة شيباء التي لست ناسيا ... وليلتنا إذ مَنَّ ما مَنَّ قرمل تاج العروس "8/ 79"، "القرمل". 3 ذيل الأمالي، للقالي "188". 4 ديوان الشنفرى، تحقيق الميمني، "لجنة" "ص40". 5 ديوان عروة "207"، الأغاني "21/ 175".

يمنعه من قتله للحصول على ماله. فلما كان "عروة بن الورد" في أرض "بني القين" يتربص المارة، فمرت به إبل، فيها ظعينة ورجل يحرسها، خرج إليه "عروة" فرمى الرجل بسهم في ظهره، أرداه قتيلا، واستاق الإبل والظعينة1. ولما خرج "الأخينس" الجهني فلقي "الحصين" العمري، وكانا فاتكين، وسارا حتى لقيا رجلا من كندة في تجارة أصابها من مسك وثياب وغير ذلك، طمعا به، فاغتره "الحصين" فضرب بطنه بالسيف فقتله، واقتسما ماله، ثم ركبا، وطمع "الأخينس" في مال "الحصين" فتربص به الفرص حتى أخذه على غرة فقتله واستولى على ما كان عنده، في حكاية تروى، وفيه يقول الأخينس على لسان "صخرة" أخت "الحصين": تساءل عن حصين كل ركب ... وعند جهينة الخبر اليقين2 فالفاتك لا يجد مانعا أخلاقيا يمنعه من الفتك بأي شخص إن وجد عنده المال ووجد له فرصة مواتية، ثم هو لا يمتنع من الفتك حتى بزميله وصاحبه وشريكه في الإغارة والفتك، والتاجر لا يأمن من حراسه ومن مرافقيه حتي يصل مقره، لأن الفقر لا يعرف أخا ولا صديقا وشريكا، قاتل الله الفقر ووقانا شره! ونجد "تأبط شرا"، يتبجح في شعر ينسب له، فيقول إنه لا يبيت الدهر إلا على فتى أسلبه، أو على سرب أذعره3. ونجد صاحب "لامية العرب"، إن صح أنها للشنفرى، يصف غارة ملأت الرعب في قلب من وقعت عليهم، قام بها في ليلة باردة، عاد منها سالما معافى بغنائم، وهو فرح بما تركه من قتل وسلب وألم في نفوس النساء والأطفال، إذ يقول: فأيمت نسوانا وأيتمت إلدة ... وعدت كما أبدأت والليل أليل4 ونجد "السليك" يخرج مع صعلوكين يريدون الغارة، فساروا حتى أتوا بيتا متطرفا، ووجد شيخا غطى وجه من البرد، وقد أخذته إغفاءة، ومعه إبله

_ 1 ديوان عروة "113"، "إخراج عبد المعين الملوحي". 2 عيون الأخبار "1/ 181 وما بعدها"، "طبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي". 3 الأغاني "18/ 217". 4 الشعراء الصعاليك "49".

ترعى، فأسرع إليه وضربه بسيفه فقتله، ونهبوا إبله، وعادوا بها مسرعين فرحين، خشية شعور الحي بأمرهم وتعقبهم لهم. قتله دون أن يشعر بوخزة ضمير، لقتله إنسانا نائما طاعنا في السن يرعى إبله، وإن وجدناه يبرر فعلته هذه، بأنه لم ينل هذه الإبل إلا بعد أن صكَّه الجوع، واستولى عليه الفقر، فهو قد قام به مضطرا1، والضرورات تبيح المحظورات. ونرى "صخر الغي" المزني، يقول في شعر له، إنه قتل رجلا من "مزينة" وسلبه ماله، ليقوى به مال رجل فقير، لا يملك مالا: في المزني الذي حششت به ... مال ضريك تلاده النكد2 وعلى الرغم من هذا العنف، ومن هذه القساوة العنيفة، التي تصل إلى الوحشية نرى عند بعضهم، روحا إنسانية، فيها العطف على الضعيف ومساعدة المحتاج وبذل المال والنجدة، والبر للأهل والأقارب بل وللغريب أيضا. بل نجد هذه الروح أحيانا حتى عند القساة منهم، وسبب ذلك أن الصعالكة في ثورات نفسية، يعيشون عيشة قلقة مضطربة، فإذا كانوا في ثورة جامحة من جوع وحاجة وتألم بما حلّ بهم وبما هم فيه من سوء حال، هاجوا فكفروا بكل شيء، وثاروا على كل شيء وعلي كل أحد، وصاروا لا يبالون بعرف ولا سنة، يقتلون لأتفه الأسباب، لأنهم معرضون أنفسهم في كل لحظة للقتل. ثم إن القتل لا شيء بالنسبة إلى تلك الأيام، وإن تعاظم في نظرنا، فهم في ذلك مثل الأسود الجائعة، لا تعبأ بشيء، وكل همها الحصول على فريسة لتأكلها فتعيش عليها، فإذا وجد الصعلوك غنيمة، وعاد إلى مقره سالما ارتخت أعصابه، وهدأت سورته، وتذكر نفسه وما يقاسيه من ألم وجوع، فيعود إنسانا آخر، بارا بأصحابه حنونا عليهم، نادما على حياة يعيشها جعلته يعيش مثل الوحوش الكاسرة، كريما يعطي مما ناله بقوته وبسلاحه وبذكائه. هذا "عروة بن الورد" و "أبو خراش" الهذلي

_ 1 وما نلتها حتى تصعلكت حقبة ... وكدت لأسباب المنية أعرف وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني ... إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف الشعراء الصعاليك "182 وما بعدها". 2 الشعراء الصعاليك "238".

وغيرهما، فنجد فيهم النقيضين، نجد فيهم القسوة بل الوحشية، ثم نجد فيهم العطف والشفقة والرحمة والإشفاق على الضعفاء، وما الجمع بين النقيضين إلا من واقع هذه الظروف النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية التي كانوا يعيشون فيها. وفي شعر ينسب إلى "أبي خراش" الهذلي، امتداح للكرم ولكرامة الإنسان في الحياة، وترفع عن المذلة وتباه بإيثار الغير على نفسه، مع أنه فقير صعلوك، فهو يقول: وإني لأُثوي الجوع حتى يملني ... فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي وأغتبق الماء القراح فأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم أرد شجاع البطن قد تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم مخافة أن أحيا برغم وذلة ... وللموت خير من حياة على رغمِ1 وقد عاش هؤلاء على المباغتة والغارات، فكانوا يتسترون في المواضع الوعرة، في مفارق الطرق وشعاب الجبال حتى إذا مر بهم مار، ووجدوا أن في إمكانهم الحصول على غنيمة، باغتوه، وأخذوا منه ما هو عنده. وقد يغيرون على الأحياء ليلا، فيأخذون ما يجدونه أمامه، ثم يجرون بسرعة حتى لا يدركهم أحد، ليصلوا إلى مواضع آمنة بعيدة عن التعقيب، مثل الكهوف والمغاور والآكام، يأوون إليها ويعشون بها عيشة الخائف المتشرد الهارب من مجتمعه، الحاقد عليه، لأن في قلبه حقدا عليه، لأنه لم يفهمه ولم يفهم سبب نقمته على مجتمعه. وأكثرهم من الشباب الذين خرجوا على طاعة أوليائهم أو على عرف مجتمعهم، أو عوملوا معاملة أشعرتهم أنها أذلتهم وجرحت كرامتهم، فانفصلوا بذلك عن أهلهم وعشيرتهم أو فصلهم أهلهم عنهم، فلم يبق أمامهم من سبيل سوى التصعلك والتشرد. وكان من هؤلاء مثل "عروة بن الورد" من جمع حوله الصعاليك، ولفّهم حوله، فكان يغزو بالقوي الجسر منهم، فإذا أصابوا مغنما جاءوا به إلى أصحابهم الضعفاء ممن لا يتمكنون أو لا يتجاسرون على الغارة، فيصيبونهم مما أصابوا ويعينونهم بما غنموا، وحياة على مثل هذا الطراز، هي حياة شديدة قاسية ولا شك.

_ 1 ديوان الهذليين "2/ 127"، "دار الكتب"، الأغاني "21/ 42".

وقد كانت المرتفعات الصعبة المشرفة على المسالك والطرق الضيقة من أهم الأماكن المحببة إلى نفوس الصعاليك وقطاع الطرق، يجتمعون بالمواضع المشرفة منها على الطرق لمراقبة المارة، من "مرقبة" تخفى معالمها لئلا يراها أو يفطن لوجودها سلاك الطرق، فإذا مروا بها انقضوا عليها منها، وكأنهم هبطوا عليهم من السماء. ونجد لها ذكرا في شعر الصعاليك واللصوص وقطاع الطرق1. وقد اشتهر جبل هذيل بمرقباته، ورد: "والمرقبة جبل كان فيه رقباء هذيل"2. ونجد في شعر "تأبط شرا" أنه كان يغير على "أهل المواشي" و "أهل الركيب" والحبّ، وعلى "أرباب المخاض"، فعند هؤلاء ما يطمع فيه الفقير الصعلوك من مال وحب يعتاش عليه، ومن نوق حوامل3. ونرى "الأعلم" الهذلي، يذكر أنه يغزو المترف السمين، الذي يعيش بين الستائر والكنيف، بينما هو وأمثاله لا يملكون شيئا، فإذا هاجموه، خاف وانهدّ كيانه4. ولهذا صار الساكنون في الأرضين الخصبة والتجار والسابلة من خيرة الأهداف التي كان يترصدها الصعالكة، لعلمهم بوجود شيء عند أصحابها، أكثر مما يجدونه عند الأعراف الضاربين في البوادي النائية المكشوفة. ويطمع الصعاليك أيضا بعضهم في بعض، فالحياة جوع وفقر، والفقر كافر لا يعرف عرف "المهنة" ولا مجاملات الصنف، ثم هم أبناء البادية، ومن طبع البادية، أن يغير أبناؤها بعضهم على بعض، للحصول على لقمة العيش، فكان الصعاليك تبعا لهذه السنة يغير بعضهم على بعض، خاصة إذا كانوا صعاليك متعادية. فكان بين صعاليك هذيل وصعاليك فهم، عداء شديد، وحقد دفين، بسبب العداوة بين الحيين5، عداوة مرجعها تجاور الحيين، واختلاف مصالحهما الحيوية، وطمع القبيلتين في "بجيلة"، و "بجيلة" في جوار "الطائف"، وهي غير

_ 1 الشعراء الصعاليك "186 وما بعدها". 2 تاج العروس "1/ 276"، "رقب". 3 فيوما على أهل المواشي وتارة ... لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل ولكن أرباب المخاض يشفهم ... إذا اقتفروه واحدا أو مشيعا الأغاني "18/ 217"، حماسة أبي تمام "2/ 28". 4 الشعراء الصعاليك "237". 5 شرح أشعار الهذليين "1/ 233 وما بعدها"، الشعراء الصعاليك "48".

بعيدة عن فهم، ولا تبعد منازلها بعدا كبيرا أيضا عن ديار هذيل1. وكان بين "صخر الغي" الهذلي و "تأبط شرا" عداء شديد. وقد سمى "الهذليُّ" "تأبط شرا" بـ "ابن ترني" ازدراء به. ونجد في الشعر الوارد في هجاء الشاعرين بعضهما لبعض لونا طريفا من ألوان هذا الصراع الذي كان يقع بين الصعاليك2، وهو صراع أسبابه عديدة، صراع متولد من عصبية قبلية، أو من تنافس وتحاسد في الحرفة وعلى الرئاسة والزعامة والصيت والشهرة، أو في طمع كل واحد منهم في الآخر للاستيلاء على ما حصل عليه من مال ليتعيش به. وقد انتشر الصعاليك في كل موضع من جزيرة العرب، ففي كل مكان منها جوع وفقر وصعلكة، حتى صاروا قوة مرعبة مخوفة، لشد بأسهم في القتال، ولمعرفتهم بالمسالك وبمنافذ الطرق وبمداخلها وبأسرار البوادي وخفايا النجاد والجبال، فكانوا أن اتخذوا من الكهوف والمنحدرات والمسترات المشرفة على الأودية والطرق، مواضع رصد واختفاء، يراقبون منها حركات المارة، فإذا وجدوهم دخلوا موضعا صعبا، يمكن حصرهم به، انقضوا عليهم، فأخذوا منهم ما يكون عندهم من متاع هذه الدنيا، ثم هربوا بما غنموا إلى مخابئهم حيث لا يصل إليهم أحد، وإن وجدوا أن السابلة أقوى منهم وأشد بأسا، اتخذوا من الفرار وسيلة للسلامة والنجاة، فلا يلحقهم متعقب، ولايطمع أحد في إصابتهم بمكروه، وهم على علم واسع وخبرة عالية بمجاهل البوادي وبخبايا الأرض وهكذا يكونون في نأي عن التعقيب وفي منجاة من التعقب. ولما سدت السبل في وجه "النعمان بن المنذر" بعد أن غضب كسرى عليه، وأخذ ينتقل من مكان إلى مكان، لجأ إلى "هانئ بن قبيصة" الشيباني، فأجاره وقال: "لزمني ذمامك، وإني مانعك مما أمنع نفسي وأهلي وأن ذلك مهلكي ومهلكك، وعندي رأي لست أشير به لأدفعك عما تريد من مجاورتي، ولكنه الصواب، فقال هاته، قال: إن كل أمر يجمل بالرجل أن يكون عليه، إلا أن يكون بعد الملك سوقة. والموت نازل بكل أحد، ولأن تموت كريما خير من أن تتجرع الذل أو تبقى سوقة بعد الملك. امض إلى صاحبك واحمل عليه هدايا ومالا وألق نفسك بين يديه،

_ 1 شرح أشعار الهذليين "1/ 233 وما بعدها". 2 الشعراء الصعاليك "192".

فإما أن يصفح عنك فعدت ملكا عزيزا، وإما أن يصيبك، فالموت خير من أن تتلعب بك صعاليك العرب ويتخطفك ذئابها"1، وفي نصيحة هانئ للنعمان، وإشارته فيها إلى "صعاليك العرب" دلالة على انتشارهم في كل مكان. وأنهم صاروا خطرا على الأمن، يحسب له كل حساب. ولما خلع "امرؤ القيس"، وصار ضليلا خليعا، "جمع جمعا من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها"2، وأخذ يغير بهم على أحياء العرب، وما كان "امرؤ القيس" ليجمع جمعهم ويحزبهم حزبه لو لم تكن في نفسه حاجة إليهم، فقد كانوا قوة، وقد صاروا رعبا يخيف الناس، كالذي كان في جبل "تهامة" من تكتل خليط من كنانة ومزينة والحكم والقارة والسودان، من تكتلهم وتحزبهم وأخذهم من كان يمر بالغارة والنهب والسلب، بقوا على ذلك أمدا ثائرين على مجتمعهم، حتى ظهر الإسلام، فكاتبهم الرسول، وأمنهم أنهم أن آمنوا وأقاموا الصلاة، وصدقوا، "فعبدهم حر، ومولاهم محمد، ومن كان منهم من قبيلة لم يردّ إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان"3. فهم قوم متمردون ثائرون لايعطون أحدا طاعة، إلا طاعة أنفسهم والمترئس فيهم. ولعل هذا هو الذي حدا بأهل النسب والأخبار أن يقولوا: "والخلعاء: بطن من بني عامر بن صعصعة ... كانوا لا يعطون أحدا طاعة"4. وهكذا وضع "الصعاليك" أنفسهم في خدمة من يريد استخدامهم لتحقيق أهدافه التي يريدها، مقابل ترضيتهم وإعاشتهم، كما يفعل الجنود المرتزقة هذا اليوم من خدمة الدول الأجنبية، بانضمامهم إلى الفرق الأجنبية، كما هو الحال في "فرنسا" مثلا لاستخدامهم في القتال. وقد جعلت حياة التشرد والغارات والهروب والفرار إلى مواضع بعيدة نائية وفي مجاهل البوادي، الصعاليك من أعلم الناس بدروب جزيرة العرب، وبالمواضع

_ 1 الأغاني "2/ 126"، الخزانة "1/ 185 وما بعدها". 2 الخزانة "3/ 532"، "جمع جمعا من بني بكر بن وائل وغيرهم من صعاليك العرب"، معاهد التنصيص "1/ 5". 3 ابن سعد، طبقات "1/ 278"، "صادر". 4 تاج العروس "5/ 321".

الصعبة منها بصورة خاصة. وقد وصف "السليك"، "البعيد الغارة" بأنه "أدل من قطاة"، ونعت الصعاليك جميعا بأنهم "أهدى من القطا"1، وافتخر الصعالكة أنفسهم بأنهم كانوا يعرفون عن خفايا البوادي والجبال ما لا يعرفه أحد غيرهم، وبذلك كانوا ينجون أنفسهم من تعقب المتعقبين لهم2. ونجد لشذاذ العرب، ذكرا في أخبار الغزو في أخبار الأخذ بالثأر، وفي أخبار من كان يريد الانتقام من أعدائه، فلما غزا "زيد الخيل" الطائي "بني عامر" ومن جاورهم من قبائل العرب من قيس، "جمع طيئا وأخلاطا لهم، وجمعوا من شذاذ العرب"3. ولما غزا "زهير بن جناب" الكلبي، بكرا وتغلب أخذ "من تجمع له من شذاذ العرب والقبائل" وغيرهم فغزا بهم4. وقد كان هؤلاء "الشذاذ" على استعداد لوضع أنفسهم في خدمة من يريد استخدامهم في مقابل أجر، أو يتكفل بإعاشتهم وإرزاقهم، أو من يرزقهم غنيمة من غارة يساهمون فيها، فلما أراد "أبو جندب" الهذلي، الأخذ بثأر جارين له قتلهما "بنو لحيان"، قدم مكة، فأخذ جماعة من خلعاء بكر وخزاعة، وخرج بهم على بني لحيان، وكان قد "قدم مكة، فواعد كل خليع وفتك في الحرم أن يأتوه يوم كذا وكذا، فيصيب بهم قومه"، ليثأر لأخيه5. وكانت مكة على ما يظهر من أخبار أهل الأخبار، مكانا أوى إليه ذؤبان العرب وخلعاؤهم وصعاليكهم، حتى كثر عددهم بها، لما وجدوه فيها من حماية ومعونة، وكان أحدهم إذا جاءها، نادى قريشا نداء النخوة لتؤويه وتجيره، فيقوم أشرافها بحمايته وتقديم الجوار له، ومن هنا نجد الفتاك وأهل الغي والضلال يجوسون خلالها في أمن وسلام، لحرمة المدينة ولحرمة حقوق الجوار، ولعل المصالح الاقتصادية التي كانت تجنيها قريش من هذا الإيواء، كانت السبب الأول في جعل سراتها يقدمون العون والجوار لأولئك الذؤبان الفتاك الذين كانوا لا يتورعون عن الإقدام على أي عمل مهما كان شأنه خطيرا، حتى وإن كان فيه هلاكهم،

_ 1 الأغاني "18/ 134"، المرزباني "468"، الشعراء الصعاليك "54". 2 الأصمعيات "1/ 35". 3 الأغاني "16/ 52". 4 الأغاني "21/ 96". 5 الأغاني "21/ 62 وما بعدها"، شرح أشعار الهذليين "1/ 83 وما بعدها".

أو جاء بالأذى على من أحسن إليهم وأجارهم، فهم قوم أصابهم طيش وركبهم التمرد والحقد على المجتمع، فهم لا يبالون بارتكاب أية موبقة ولو وقعت منهم في الحرم، فقد كان في وسع تجار قريش تأمين تجارتهم بالإحسان إلى هؤلاء الذين كان في استطاعتهم مهاجمة القوافل ونهب ما معها من أموال، كما كان بإمكانهم استخدامهم حراسا يخرجون مع قوافلهم لحراستها من بقية الصعاليك إلى وصولها إلى الأماكن التي تريدها، كما كان في استطاعتهم الاستفادة من الفتاك في الفتك بمن يناصبهم العداء، وفي القضاء على كل من يريد التحرش بقرشي أو بأموال قريش أو حلفائهم. وبذلك تمكنوا من حماية تجارتهم من الصعاليك ومن الأعراب الذين تمر تجارة قريش بهم، وإن كانت قريش قد أمنت جانبهم أيضا بعقد حبالها مع سادات القبائل بإيلاف عرف بـ "إيلاف قريش" في القرآن الكريم. وكان "البراض"، وهو "رافع بن قيس" وهو من الفتاك، قد لجأ إلى مكة، فحالف "بني سهم" من قريش، فعدا على رجل من هذيل فقتله، فخلعه "العاص بن وائل" فأتى "حرب بن أمية" فحالفه، فعدا على رجل من خزاعة فقتله وهرب إلى اليمن، فخلعه "حرب"، فلما ضاقت به السبل ذهب إلى الحيرة، وطلب من النعمان أن يجير له "لطيمته"، فقال له "الرحال بن عروة": "أنت تجيرها على أهل الشيح والقيصوم؟ وإنما أنت كلب خليع! " فأعطاها "النعمان" إلى "عروة"، فخرج "البراض" في أثره، فلما انتهي إلى "أوارة" قتله وانتهب اللطيمة، فكان بسببه حرب الفجار بين كنانة وقيس1. وبين الصعاليك قوم من "الغربان" "غربان العرب"، وأغربة العرب سودانهم. شبهوا بالأغربة في لونهم، وكلهم سرى إليهم السواد من أمهاتهم2. تصعلكوا لازدراء قومهم لهم، ولانتقاص أهلهم لشأنهم، وعدم اعتراف آبائهم ببنوتهم لهم، لأنهم أبناء إماء. أو لفقرهم، وظلم المجتمع لهم، وعدهم طبقة مملوكة، هم والحيوان المملوك سواء بسواء. ليس لأحدهم جسمه، ولا أهله ولا نسله، وكل ما يملكه وما يحصل عليه يكون ملك سيده، ومن خالف أمره منهم، جاز لسيده قتله، ولسيده حق الاستمتاع بمملوكته وبجواريه من غير

_ 1 المحبر "195 وما بعدها". 2 تاج العروس "1/ 409"، "غرب".

قيد ولا شرط. وهذا ما جعل بعض الرقيق يهرب من سيده، فرارا من ظلمه، لينضم إلى الصعاليك، أو ليكون عصابة تلجأ إلى الجبال والكهوف، تهاجم المارة، والأحياء، لتحصل على ما تتعيش به. ولما ظهر أمر الرسول، كتب لجماعة كانوا في جبل تهامة قد غصبوا المارة، وهم خليط من كنانة ومزينة والحكم والقارة، ومن فر من سادته من العبيد، كتابا، فيه أنهم "إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فعبدهم حر، ومولاهم محمد، ومن كان منهم من قبيلة لم يرد إليها، وما كان فيهم من دم أصابوه أو مال أخذوه، فهو لهم، وما كان لهم من دين في الناس رد إليهم، ولا ظلم عليهم ولا عدوان"1. وأغربة العرب، أو أغربة الصعاليك بتعبير أصدق، كثيرون، فقد كانت عادة اتصال العرب بالزنجيات منتشرة في الجاهلية، وقد أولدت طبقة من الهجناء امتازت بسرعة العدو وبالشجاعة، وبتحمل المشقات، وكلها من مولدات الظروف. ولكن أشهر أغربة الصعاليك: السليك بن السلكة، وتأبط شرا. وقد جعل "ابن قتيبة" أغربة العرب ثلاثة: عنترة، وخفاف بن عمير الشريدي، والسليك بن عمير السعدي2، ولكن عددهم أكثر من ذلك بكثير، يدخل فيهم الصعاليك وغيرهم. أما الباقون، فهم من شذاذ العرب، ومن الخلعاء المطرودين المنبوذين، الذين طردوا من أهلهم أو من عشيرتهم وقبيلتهم، وحرموا من "العصبية"، فلا أحد يسأل عنهم، ولا أحد يسأل عن جرائرهم وأعمالهم، فدمهم هدر، ومسئوليتهم على عاتقهم وحدهم. وهم من عشائر مختلفة، فلا ينتسبون إلى نسب واحد، ونسبهم الوحيد الذي يربط بينهم، هو الصعلكة، والتمرد على المجتمع والتشرد في البوادي والهضاب والجبال، ولهذا نجد الصعاليك من مختلف قبائل وعشائر جزيرة العرب، قد يتكتلون في مجموعات تضم صعاليك من قبيلة واحدة، وقد يتكتلون في جماعات مختلفة. وتكون الألفة بين صعاليك القبيلة الواحدة أشد وأقوى من الألفة التي تكون بين صعاليك القبائل المختلفة، لما يكون

_ 1 ابن سعد طبقات "1/ 278"، "ذكر بعثة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الرسل بكتبه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وما كتب به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لناس من العرب وغيرهم". 2 الشعر والشعراء "1/ 172"، "دار الثقافة"، "عنترة"، الأغاني "8/ 240".

للنسب والدم من أثر في نفوسهم، وإن كفروا بعرف القبيلة وخرجوا على طاعتها. ونجد في شعر شعرائهم إشادة بأخوة "الصنف" و "الحرفة" تحل محل أخوة العشيرة والقبيلة، إذا مات أحدهم وقتل، حزنواعليه، وإن مرض عالجوه، وإن جاع قدموا له ما عندهم من طعام1. وقد يستجير الخليع بمجير، فيقبل جواره، إلى حين أو بغير أجل محدد، أو على شروط، ففي حديث خروج "امرئ القيس" مطالبا بدم أبيه، أنه لجأ إلى "عامر بن جوين" أحد الخلعاء الفتاك، وعامر يومئذ خليع، تبرأ قومه من جرائره وتنصل أهله منه2، وفي حديث "البراض بن قيس" الكناني وكان خليعا فاتكا سكيرا، لا ينزل بقوم، إلا عمل منكرا فيهم، أنه لجأ إلى بني "الديل"، فشرب وجرّ جريرة، استوجبت خلعه فخلعوه، فأتى مكة، فنزل على حرب بن أمية، فحالفه وأحسن جواره، ثم شرب بمكة وأساء على عادته، حتى هم حرب أن يخلعه3، وفي حديث "أبي الطمحان" القيني، وكان خليعا فاسقا، متهتكا، لايعرف خلقا ولا أدبا، أنه نزل بمكة في جوار "الزبير بن عبد المطلب"، "وكان ينزل عليه الخلعاء"4، ونزل "مطرود بن كعب" الخزاعي، في جوار "عبد المطلب"، فحماه وأحسن إليه، وكان قد لجأ إليه لجناية كانت منه5. ووجد "قيس الحدادية" من يؤويه، مع أنه كان صعلوكا خليعا، عجز هو وأهله عن دفع دية قتيل قتلوه، فخلعته قبيلته خزاعة، فنزل عند بطن من خزاعة، يقال لهم: "عدي بن عمرو بن خالد"، فأحسنوا إليه، كما نزل في بجيلة على "أسد بن كرز" فأحسن إليه والى قومه6. ولا ينسى بعض الصعاليك ذكر من أحسن إليهم فأكرمهم ورعاهم وحماهم. هذا "أبو الطمحان" القيني، يثني على من آووه وساعدوه حتى صيروه واحدا

_ 1 الشعراء الصعاليك "203 وما بعدها". 2 الأغاني "9/ 95"، الخزانة "1/ 24". 3 الأغاني "19/ 75". 4 الشعر والشعراء "1/ 304"، الإصابة "1/ 381"، "رقم 2011"، الأغاني "11/ 125". 5 المرزباني، معجم "282". 6 الأغاني "13/ 2 وما بعدها".

منهم، لا تتحرش به كلابهم، لأنها عرفت ثيابه، وتأكدت أنه واحد منهم، فلا تهر عليه1. وهذا "حاجز" الأزدي، يفخر بانتسابه إلى "بني مخزوم" من قريش، وهم قوم لا يخذلون أحدا إذا استنصر بهم، وجعل حلفه فيهم، إذا أصاب حليفهم مكروه، هرعوا إليه لنجدته، فهم أهل النجدة والكرم2. وهذا "قيس بن الحدادية" يثني على "آل عمرو بن خالد" أحسن ثناء، ويدعو الله أن يجزيهم خيرا لما فعلوا من حميد الفعال لصعلوك خليع3. والصعاليك كثيرون، وقد خلدت أسماء جماعة منهم في كتب الأدب والأخبار، أشهرهم وأبزرهم: "عروة بن الورد"، و "الشنفرى"، و "تأبط شرا"، و "السليك بن السلكة"، وآخرون. وللصعاليك بعد قصص في الكتب، وقد بولغ في قصصهم لتؤثر في المسامع، ولتكون لذة للسامعين ومتعة يستمتعون بها أوائل الليل في أوقات سمرهم، وقد رصعت بشعر، على عادة العرب في رواية الأخبار. وفي بعض هذا القصص والشعر أثر الوضع المتعمد، الذي صنع ليمثل الحالة الاجتماعية في ذلك الوقت، حيث كان الأغنياء متخمين بالمال، بينما جيرانهم يموتون جوعا، فكأن هذا القصص قد وضع ليتحدث عن ذلك الوضع. وقد عرف هذاالقصص عند الغربيين كذلك، حيث كان الغنى وكان الفقر، فظهر الصعاليك، وظهر قصصهم وبولغ فيه، وما "روبن هود" الإنكليزي الذي آثر التصعلك وغزو الأغنياء، لإنفاق مايحصل عليه على الفقراء لإعاشتهم، إلا صورة من صور غارة "عروة بن الورد" وأمثاله من الصعاليك، وقد دونت أخبارهم في قصص، وصيغ بعض منها على صورة أشرطة "سينمائية" عرضت ولا تزال تعرض في دور "السينما" وفي "التليفزيون"، لما فيها من بطولة ومروءة ومساعدة ضعفاء واستهتار في الحياة.

_ 1 وقد عرفت كلابهم ثيابي ... كأني منهم ونسيت أهلي الحيوان "1/ 380"، الشعراء الصعاليك "229". 2 قومي سلامان إذ ما كنت سائلة ... وفي قريش كريم الحلف والنسب إني متى أدع مخزوما ترى عنقا ... لا يرعشون لضرب القوم من كثب الأغاني "12/ 49". 3 الشعراء الصعاليك "229".

وأما "عروة بن الورد"، فهو من "عبس" وكان شاعرا فارسا وصعلوكا مقدما، عرف بـ "عروة الصعاليك" "لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مايغنمه"1. وهو شاعر بدوي قح، وكان أبوه ممن كان له ذكر في حرب داحس والغبراء، وقد مدحه "عنترة"، وكانت أمه من "نهد"، ولم تكن من أهل البيوتات. وكان لشعره أثر في قومه: حتى كانوا يرون أنه أشعر الشعراء2. وذكر أنه إنما لقب بعروة الصعاليك لقوله: لحى الله صعلوكا إذ جن ليله ... مصافي المشاش آلفا كل مجزر يعدُّ الغنى من دهره كل ليلة ... أصاب قراها من صديق ميسر ينام عشاء ثم يصبح قاعدا ... يحث الحصى عن جنبه المتعفر ولله صعلوك صفيحة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور مطل على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر3 ويظهر من شعر لعروة، أنه كان نحيلا، شاحب الوجه هزيلا، فكانوا يعيرونه بذلك، وكان يجيبهم بقوله: وإني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى ... بجسمي شحوب الحلق والحق جاهد أفرق جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسوا قراح الماء والماء بارد4 ونحيف نحيل شاحب الوجه، لأنه يشرك الآخرين معه في أكله وشربه.

_ 1 تاج العروس "7/ 153"، "صعلك". 2 الأغاني "2/ 184 وما بعدها" "دار الكتب"، الخزانة "4/ 194"، بروكلمان، "1/ 109 وما بعدها". 3 الشعر والشعراء "2/ 566"، "الثقافة"، من قصيدة مطلعها: أقلي عليّ اللوم يا بنت منذر ... ونامي وإن لم تشتهي النوم فاسهري ديوان عروة بن الورد "66 وما بعدها"، "إخراج عبد المعين الملوحي"، "وزارة الثقافة والإرشاد. الجمهورية العربية السورية"، الأغاني "16/ 97 وما بعدها". 4 ديوان عروة "2"، الأغاني"3/ 72 وما بعدها"، الجمان في تشبيهات القرآن "257".

أما الهازئ به، فهو أناني، لا يشرك أحد معه في أكله، وإناءه واحد، لايأكل به أحد غيره، ولذلك سمن وثخن من التخمة، أما هو، وهو الوهاب فكان يقتر على نفسه، ويجوع، ليأكل غيره أكله، فأصابه من ثم هذا الهزال. فهو إنسان، يقسم ما عنده وما يأتيه على نفسه وعلى غيره، وقد يقدم غيره على نفسه. ومن هنا "كان يقال: من قال إن حاتما أسمح العرب، فقد ظلم عروة بن الورد"1. ويذكرون أنه أصاب في بعض غارته امرأة من كنانة فاتخذها لنفسه، فأولدها، فلقيه قومها، وقالوا: فادنا بصاحبتنا، فإنا نكره أن تكون سبية عندك قال: على شريطة، قالوا: وما هي؟ قال: على أن نخيرها بعد الفداء، فإن اختارت أهلها أقامت فيهم، وإن اختارتني خرجت بها. وكان يرى أنها لا تختار عليه، فأجابوه إلى ذلك، وفادوا بها، فلما خيروها اختارت قومها، وتركته فنظم في ذلك شعرا2. وذكر أن "معاوية" تذكر "عروة بن الورد"، فقال: "لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج منهم". وأن "عبد الملك بن مروان" تذكره يوما، فقال: "ما يسرني أن أحدا من العرب ممن ولدني لم يلدني إلا عروة بن الورد لقوله: وإني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد3 وهو بيت يمثل خلق هذا الشاعر ومروءته التي أبت عليه ألا يشرك غيره من الضعفاء والمحتاجين فيما يحصل عليه ويناله من المتمكنين بالإكراه والقوة. إناؤه مليء لبنا، حتى يفيض ويكثر، فإن طرقه إنسان وجد اللبن أمامه، يشرب منه وهو شريكه فيه، شريكه في كل شيء عنده قل أو كثر، وهو يفتخر بذلك ويتبجح بإشراكه غيره إنائه على من حرص على ماله، وبخل بما عنده، مثل "قيس بن زهير"، الذي استأثر بما عنده، فلم يعط لمحتاج شيئا منه. فصار

_ 1 الروض الأنف "2/ 180". 2 الشعر والشعراء "2/ 567". 3 ديوان عروة "2"، الأغاني "3/ 72 وما بعدها".

يسمن وغيره يجوع، على حين كان "عروة" يختار الجوع، ليأكل الجياع، لتعود إليهم القوة والحياة، ولا يبالي هو بنفسه إن جاع، وفي ذلك يقول: وإني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... بوجهي شحوب الحلق والحق جاهد أقسم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد وكان قد قال هذه الأبيات ردا على أبيات "قيس بن زهير" التي خاطب بها "عروة" بقوله: أذنب علينا شتم عروة خاله ... بغرة أحساء ويوما ببدبد رأيتك ألَّافا بيوت معاشر ... تزال يد في فضل قعب ومرفد1 وللأخفش حديث عن مروءة "عروة" وعن إنسانيته فيقول: "عن ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: حدثني أبو فقعس، قال: كان عروة إذا أصابت الناس سنة شديدة تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف؛ وكان عروة يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس، من عشيرته في الشدة، ثم يحفر لهم الأسراب، ويكنف عليهم الكنف، ويكسبهم، ومن قويَ منهم، إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوته، خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا، وذهبت السنة، ألحق كل إنسان بأهله، وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، وربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى، فلذلك سمي: عروة الصعاليك"2. ومن هنا عد من أصحاب الكرم والسماحة والسخاء. حتى قيل إن عبد الملك قال: "من زعم أن حاتما أسمح الناس، فقد ظلم عروة بن الورد"3. وقيل إنه بلغه عن رجل من بني "كنانة بن خزيمة"، أنه من أبخل الناس وأكثرهم مالا، فبعث عليه عيونا، فأتوه بخبره فشد على إبله فاستقاها ثم قسمها في

_ 1 ديوان عروة "51 وما بعدها". 2 ديوانه "8 وما بعدها"، الأغاني "3/ 78 وما بعدها"، التبريزي، شرح حماسة أبي تمام "2/ 9"، جمهرة أشعار العرب "114 وما بعدها". 3 ديوان عروة "3"، الأغاني "3/ 74".

قومه. فقال عند ذلك: ما بالثراء يسود كل مسود ... مثر ولكن بالفعال يسود بل لا أكاثر صاحبي في يسره ... وأصد إذ في عيشه تصريد فإذا غنيت فإن جاري نيله ... من نائلي وميسّري معهود وإذا افتقرت فلن أرى متخشعا ... لأخي غنى معروفه مكدود1 فالسيد بفعاله، وأعماله لا بالمال. وهو يقول في شعر له، إن فراشه فراش الضيف، وأن بيته بيت للضيوف، ويجالس الضيف ويحادثه، فالحديث جزء من القرى: فراشي فراش الضيف والبيت بيته ... ولم يلهني عنه غزال مقنع أحدثه إن الحديث من القرى ... وتعلم نفسي أنه سوف يهجع وفي خبر آخر، أن سنين شديدة أصابت الناس فأهلكتهم، وترك الناس الغزو لجدوبة الأرض، وكان عروة في تلك السنين غائبا، فرجع مخفقا، قد ذهبت إبله وخيله، وجاء "الكنيف"، أي الحظيرة والمأوى، فوجد أصحابه وقد سقطوا من الإعياء والشدة، فندب منهم رهطا، فنحر لهم بعيرا، وحملوا سلاحهم على بعير آخر، وقدد لهم بعيرا، فوزعه بينهم. وخرج بهم غازيا يلتمس الرزق. وهو يقول لهم: إن أصبنا رغبة فذلك الذي نريد، وإن رجعنا خائبين، كنا معذورين. قد أدينا ما علينا، ولن نقعد عن الطلب. فهو يحثهم على الرزق والطلب، دون تفكير في نجاح أو فشل، فالحياة: نجاح وفشل، ومن فشل، عليه المواظبة حتى ينجح ويستعيد قواه، وذلك قوله: وقلت لقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا عند ماوان رزح2 إلى آخر الأبيات: وهو يصف في أبيات حالة الفقير وما يلقى من ظلم، وحالة الغني وما يلقاه

_ 1 ديوان عروة "48"، شرح ديوان عروة "181". 2 ديوانه "20، 39 وما بعدها".

من إجلال. فيقول: دعيني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير ويقصيه النديُّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير ويلفى ذو الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير وله شعر يحث فيه الناس على السير في البلاد، التماسا للزرق، لأن من لم يطلب معاشا لنفسه، وقعد في داره دون أن يعمل شكا الفقر، وصار كلا على غيره، حتى على ذوي قرباه، فيقول: إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا وصار على الأدنين كلا وأوشكت ... صلات ذوي القربي له أن تنكرا وما طالب الحاجات من كل جهة ... من الناس إلا من أجد وشمرا فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا2 ومن شعره في المال والورثة قوله: متى ما يجئ يوما إلى المال وارثي ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر يجد فرسا مثل القناة وصارما ... حساما إذا ما هز لم يرض بالهبر3 ويقول في شعر آخر: أليس ورائي أن أدب على العصا ... فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي رهينة قعر البيت كل عشية ... يطيف بي الولدان أهوج كالرأل يعني: أليس ورائي إن سالمت الناس، وتركت مخاطر التصعلك، أن يلحقني الكبر فأهون ويضجر مني أهلى4. فهو يعتذر بذلك عن التصعلك واتخاذه الصعلكة حرفة له.

_ 1 ديوانه "91 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 234"، وقد روي برواية تختلف عن رواية الديوان. 2 ديوانه "89". 3 كتاب العصا "206"، "نوادر المخطوطات، المجموعة الثانية". 4 الحيوان "4/ 356".

وقد زعم أن "عبد الله بن جعفر بن أبي طالب"، قال لمعلم ولده: لا تروهم قصيدة عروة التي يقول فيها: دعيني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير ويقول: هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم"1. وهو يرى أن الموت خير للفتي من حياته فقيرا. وأن الأقارب إذا ضنواعليه ولم يساعدوه، فعليه بالرحيل عنهم، والتماس الفجاج فإنها عريضة، إذا ضاقت عليه السبل. وهو لا يترك إخوانه أبدا ما عاش، كما أن الإنسان لا يتمكن من ترك شرب الماء: إذا المرء لم يبعث سواما ولم يرح ... عليه ولم تعطف عليه أقاربه فللموت خير للفتى من حياته ... فقيرا ومن مولى تدب عقاربه وسائله أين الرحيل وسائل ... ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه مذاهبه أن الفجاج عريضة ... إذا ضن عنه بالفعال أقاربه فلا أترك الإخوان ما عشت للردى ... كما أنه لا يترك الماء شاربه2 وهو يحث على المخاطرة بالنفس، فإن القعود مع العيال قبيح، حث عليها في أبيات نسبت إليه، وقيل إنها ليست له، بل هي للنمر بن تولب، هذا نصها: قالت تماضر إذ رأت مالي خوى ... وجفا الأقارب فالفؤاد قريح ما لي رأيتك في الندى منكسا ... وصبا كأنك في النديّ نطيح خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ... إن القعود مع العيال قبيح المال فيه مهابة وتجلة ... والفقر فيه مذلة وفضوح3 والصعلوك الخامل، القعود الذي يعين نساء الحي، ولا يستعمل سيفه للحصول على رزقه، هو خليق أن يكون ممن يهان ويزدرى، والصعلوك العامل النشط،

_ 1 ديوانه "3". 2 ديوانه "29". 3 ديوانه "43".

هو الرجل الذي يستحق الحياة، ويصلح أن يكون أنموذجا للرجال، صحيفة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور، مطلا على أعدائه، يهابونه ولا يستطيعون الاقتراب منه، إن لقي منيته لقيها حميدا، وإن عاش واستغنى فنعمة كبرى، ينفق منها على من يحتاج إليه من الناس1. وتراه يقول في أبيات أخرى: إذا آذاك مالك فامتهنه ... لجادية وإن قرع المراح وإن أخنى عليك فلم تجده ... فنبت الأرض والماء القراح فرغم العيش إلف فناء قوم ... وإن آسوك والموت الرواح2 ومعناه: لاتبخل بمالك، ولا تحرص عليه، أعط منه السائل والمحروم والمحتاج، ولا تخش الفقر، فإن أخنى عليك، وقل مالك، وتركك الأصحاب فلا تيأس ولا تخنع لأحد، ولا تجزع، ففي الأرض رزق لكل أحد، ومتسع لكل نفس، وإن كان ذلك نبات الأرض وماؤها، ولا تهن نفسك، وتذل كرامتك، فتعيش على موائد غيرك، من اللؤماء الحقراء، فأكلك منهم، هو الموت الرواح، بل هو شر من الموت، فلا تقرب موائد أصحاب المنة، وإن آسوك وساعدوك، فمؤاساتهم كاذبة، عن مظاهر ونفاق. وفي أبيات شعر، يذكر"عروة" "أصحاب الكنيف" والتواءهم عليه، وكيف تمردوا عليه، مع فضله عليهم، وإشراكه لهم في كل ما كان يكسبه ويغنمه، فيقول: ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم ... كما الناس لما أخصبوا وتموّلوا وإني لمدفوع إليّ ولاؤهم ... بماوان إذ نمشي وإذ نتملل وإذ ما يريح الحي هرماء جونة ... ينوس عليها رحلها ما يحلل موقعة الصفقين حدباء شارف ... تقيد أحيانا لديهم وترحل عليها من الولدان ما قد رأيتم ... وتمشي بجنبيها أرامل عيل

_ 1 ديوان عروة "78 وما بعدها". 2 ديوانه "42".

وقلت لها يا أم بيضاء فتية ... طعامهم من القدور المعجل مضيغ من النيب المسان ومسخن ... من الماء نعلوه بآخر من عل بديمومة ما إن تكاد ترى بها ... من الظمأ الكوم الجلاد تنول تنكر آيات البلاد لمالك ... وأيقن أن لا شيء فيها يُقوَّل1 وهي أبيات، تعبر عن مرارة نفسه، وعن ألمه مما لاقاه من أصحاب الكنيف، مع أفضاله عليهم، وتقديمه لهم على نفسه، وهو يواسي نفسه فيها، فيقول إنهم ناس، ومن شأن الناس أنهم إذا أخصبوا وتمولوا وتحسنت أحوالهم، تنكروا لمن كان صاحب الفضل عليهم، وتجاهلوا كل ما قام به من صنيع نحوهم. أخرجتهم وأجسامهم هزال من شدة الجهد، لا يقدرون على المشي من شدة الضعف من الجوع، وقمت بأمرهم، حتى إذا قووا، ودنوا من بلادهم وعشائرهم، وأقبلت أقسم فيهم ما غنمته من إبل، فأعطيتهم بالتساوي، وأخذت لنفسي نصيب أحدهم، تنكروا لي وصاروا كالأباعد، ليس لهم شكر، خاصموه عارضوه. وكان من شأنهم: أنه خرج مع صعاليكه يبحثون عن غنائم، حتى نزل أرض "بني القين"، فأقام مع أصحابه يوما عند موضع ماء، بانتظار مجيء الرعاة لإسقاء إبلهم، ثم ورد عليهم فصيل، فقالوا: دعنا فلنأخذه، فلنأكل منه يوما أو يومين، فقال: إنكم إذن تنفرون أهله، وإن بعده إبلا. فتركوه ثم ندمواعلى تركه، وجعلوا يلومون عروة على الجوع الذي جهدهم. ثم وردت إبل بعده بخمس، فيها ظعينة ورجل، والإبل مائة، فخرج "عروة" ورمى صاحبها في ظهره بسهم، فخر ميتا، واستاق عروة الإبل والظعينة2. وأتى بالإبل الكنيف فجعل يحلبها لهم، ثم حملهم حتى إذا دنوا من بلادهم وعشائرهم، أقبل يقسمها فيهم، وأخذ مثل نصيب أحدهم، واستخلص المرأة لنفسه، فقالوا: لا والله لا نرضى حتى تجعل المرأة نصيبا فمن شاء أخذها من سهمه، فجعل عروة يهم أن يحمل عليهم فيقتلهم وينزع ما معهم، ثم يتذكر صنيعه بهم، وأنه إن فعل ذلك أفسد ما كان صنع، ففكر طويلا ثم أجابهم إلى أن يرد عليهم الإبل إلا راحلة يحمل عليها امرأته، فأبوا إلا أن يجعلوا الراحلة لهم،

_ 1 ديوانه "119 وما بعدها". 2 ديوانه "113 وما بعدها".

فانتدب رجل منهم فجعل الراحلة من نصيبه وأفقرها عروة، أي منحها إياه منيحة إذا استغنى عنها ردها؛ فقال عروة يذكر أصحاب الكنيف والتواءهم عليه تلك الأبيات المتقدمة1. فهو في الأبيات المتقدمة يذكر أن الإنسان ذليل كسير ما دام فقيرا، يتقرب إلى القوي ويتبصبص له، ويتظاهر بحبه وإخلاصه له، فإذا نال حاجته، أو اغتنى تبطر على من كان محتاجا إليه، وتعاظم عليه، ونال منه. وقد عرف "عروة" بـ "أبي الصعاليك" قيل إن الناس كانوا إذا أصابتهم السنة أتوه "فجلسوا أمام بيته حتى إذا بصروا به صرخوا وقالوا: يا أبا الصعاليك، أغثنا". فيخرج ليغزو بهم2. وقد كان يعد صعاليكه "عياله"3، وكان يرعاهم ويحدب عليهم حدب الوالد على عياله، ويخرج بالقوي منهم للغزو، بحثا عن غنيمة ينالها لإشباع أتباعه الجياع الصعاليك، بمال غني جمع غناه بالعقوق وبالبخل، لأنه لا يرضى أن يرى إخوانا له يهلكون من الجوع، ثم لا يجد ما يقدمه لهم لسد رمقهم4، وهو يطوف لذلك في البلاد باحثا عن غني ينفق منه على المعوزين وذوي الحاجات. وشر الناس في هذه الدنيا الفقير، يباعده القريب لفقره، وتزدريه حليلته، ولا يحترمه أحد؛ بينما يعظم الغني ويحترم، لا لسبب إلا لماله ولغناه، ذنبه قليل في نظر الناس، لأنه غني، وللغني رب غفور: ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير وأدناهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير يباعده القريب وتزدريه ... حليلته ويقهره الصغير ويلقى ذو الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد لاقيه يطير قليل ذنبه والذنب جم ... ولكن للغنى رب غفور5

_ 1 ديوانه "118"، الأغاني "3/ 79 وما بعدها". 2 الأغاني "3/ 81". 3 ديوان عروة "99"، حماسة أبي تمام "2/ 7"، الشعراء الصعاليك "322". 4 أيهلك معتم وزيد ولم أقم ... على ندب يوما ولي نفس مخطر ديوان عروة "83"، الشعراء الصعاليك "325". 5 العقد الفريد "3/ 29"، عيون الأخبار "1/ 241 وما بعدها"، البخلاء "183، 391"، البيان والتبيين "1/ 234"، وتختلف نصوص هذه القصيدة باختلاف الموارد.

وفي قصيدته: لحا الله صعلوكا إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفا كل مجزر يعد الغنى من دهره كل ليلة ... أصاب قراها من صديق ميسر ينام عشاء ثم يصبح طاويا ... يحبُّ الحصى عن جنبه المتعفر قليل التماس الزاد إلا لنفسه ... إذا هو أمسى كالعريش المجور يعين نساء الحي ما يستعنَّه ... فيمسي طليحا كالبعير المحسر ولكن صعلوكا صحيفة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور مطلا على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر فإن يعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المتنظر فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميدا وإن يستغن يوما فأجدر1 معان سامية، تعبر عن نفسية إنسانية، وعن عطف على الفقير والمحتاج والنساء "وصف فيها فضيلة الفقير الحر الباسل وذم الذي يستأجر شغله"2. وفي شعر "عروة" إشارة إلى الموت، فهو يرى أن الحياة أجل، وأن الإنسان غير خالد في هذه الدنيا، حياته قصيرة، ثم يكون أحاديث للناس. إذا جاء أجله خرجت منه هامة تعلو كل نشز: أحاديث تبقى والفتى غير خالد ... إذا هو أمسى هامة فوق صير تجاوب أحجار الكناس وتشتكي ... إلى كل معروف رأته ومنكر ثم تجاوب هذه الهامة أحجار الكناس، وتشتكي إلى كل معروف تراه ومنكر. أي تصوت في كل حال إذا رأت من تعرف ومن تنكر3. والموت ملازم للإنسان، وهو ثغر كل ثنية، ولامفر منه: وأن المنايا ثغر كل ثنية ... فهل ذاك عما يبتغي القوم محصر وغبراء مخشي رداها مخوفة ... أخوها بأسباب المنايا مغرر4

_ 1الخزانة "4/ 196"، "بولاق". 2 كارلو نالينو "79". 3 ديوانه "66 وما بعدها". 4 ديوان "77".

وقد نسبت له قصيدة مطلعها: لحا الله صعلوكا مناه وهمّه ... من الدهر أن يلقى لبوسا ومطعما ينام الضحى حتى إذا الليل جنّه ... تبين مسلوب الفؤاد مورما ولكن صعلوكا يساور همه ... ويمضي على الهيجاء ليثا مصمما فذلك إن يلق الكريهة يلقها ... حميدا وإن يستغن يوما فربما وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه القصيدة لحاتم الطائي، لأن قصيدة عروة رائية، وليست هذه، ولحاتم قصيدة على هذا الروي، وليس فيها هذه الأبيات، وفيها ما يشبهها، وهو: وليل بهيم قد تسربلت هوله ... إذا الليل بالنكس الضعيف تجهما ولن يكسب الصعلوك مالا ولا غنى ... إذا هو لم يركب من الأمر معظما يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة ... يبت قلبه من قلة الهم مبهما ولكن صعلوكا يساور همه ... ويمضي على الأيام والدهر مقدما يرى رمحه ونبله ومجنه ... وذا شطب بين المهذة مخذما وإحناء سرج قاتر ولجامه ... معدا لدى الهيجاء طرفا مسوما فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن يحي لا يقعد ضعيفا ملوما1 وفي كتاب "ذيل الأمالي والنوادر" للقالي، أبيات على هذا النمط غير معزوة لقائلها، أوردها على أثر تحدثه عن "الشيظم بن الحارث الغساني"، وكان قد قتل رجلا من قومه، فخافهم، فلحق بالحيرة متنكرا، وكان من أهل بيت الملك، فكان يتكفف الناس نهاره ويأوي إلى خربة من خراب الحيرة، فبينما هو ذات يوم في تطوافه إذ سمع قائلا يقول: لحا الله صعلوكا إذا نال مذقة ... توسد إحدى ساعديه فهوما مقيما بدار الهون غير مناكر ... إذا ضيم أغضى جفنه ثم برشما يلوذ بأذراء المثاريب طامعا ... يرى المنع والتعبيس من حيث يمما يضن بنفس كدر البؤس عيشها ... وجود بها لو صانها كان أحزما

_ 1 الخزانة "4/ 194 وما بعدها".

فذاك الذي إن عاش عاش بذلة ... وإن مات لم يشهد له الناس مأتما بأرضك فاعرك جلد جنبك إنني ... رأيت غريب القوم لحما موضما فهي أبيات في المعاني المتقدمة، لم يعرف اسم صاحبها1. وهو يزجر امرأته سلمى لأنها تلومه على غاراته وغزواته، لما تخشاه عليه من الوقوع في المهالك، ومن ملاقاته حتفه. ويقول لها: إنه إنما يجازف ويخاطر في سبيلها، حتى يغينها فلا تذل بعده أو تستجدي أحدا، ثم إن عليه حق الوفاء لأقاربه وللضعفاء ولإخوانه الصعاليك الذين يلوذون به، فعليه مساعدتهم، وهو لا يتمكن من تقديم المساعدات لهم، إلا بهذه الغارات2. وروي أن "عروة" كان يتردد على "بني النضير" فيستقرضهم إذا احتاج ويبيع منهم إذا غنم، فرأوا عنده "سلمى" فأعجبتهم، فسألوه أن يبيعها منهم فأبى، فسقوه الخمر، واحتالوا عليه حتى ابتاعوها منه وأشهدوا عليه، وفي ذلك يقول: سقوني الخمر ثم تكنّفوني ... عداة الله من كذب وزور وروي أيضا أن قومها افتدوها منه وكان يظن أنها لا تختار عليه أحدا ولا تفارقه، فاختارت قومها فندم وكان له بنون منها، ثم تزوجها بعده رجل من بني النضير. وفيها يقول عروة: أرقت وصحبتي بمضيق عمق ... لبرق في تهامة مستطير وهي قصيدة أشار فيها إلى "سلمى"، ومفارقتها له، عند "بني النضير"، حيث يقول: وآخر معهد من أم وهب ... معرسنا فويق بني النضير وفي هذه القصيدة البيت المتقدم، الذي يشير إلى أنهم سقوه الخمر، واحتالوا عليه، حتى ابتاعوها منه3.

_ 1 ذيل الأمالي "179"، الخزانة "4/ 195". 2 الأصمعيات "35". 3 الروض الأنف "2/ 180 وما بعدها".

وقد أشار "عروة" في شعر ينسب إليه إلى "التعشير"، وهو أن ينهق الإنسان عشر مرات إذا أراد دخول "خيبر" لكي لا تصيبه الحمى. فقال: وقالوا احب وانهق لا تضيرك خيبر ... وذلك من دين اليهود ولوع لعمري لئن عشرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إنني لجزوع1 وقد رفض عروة ذلك، وسخر من هذه الخرافة. قال "الجاحظ": وكانوا إذا دخل أحدهم قرية خاف من جن أهلها، ومن وباء الحاضرة، أشد الخوف، إلا أن يقف على باب القرية فيعشر كما يعشر الحمار في نهيقه، ويعلق عليه كعب أرنب. ولذلك قال قائلهم: ولا ينفع التعشير في جنب جرمة ... ولا دعدع يغني ولا كعب أرنب وقد قال عروة بن الورد، في التعشير، حين دخل المدينة فقيل له: إن لم تعشر هلكت: لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهاق الحمير إنني لجزوع2 ولعروة شعر في يوم "ساحوق"، وهو يوم لبني ذبيان على "بني عامر"، إذ يقول: ونحن صبحنا عامرا في ديارها ... علالة أرماح وعضبا مذكَّرا بكل رقيق الشفرتين مهند ... ولدن من الخطي قد طر أسمرا عجبت لهم إذ يخنقون نفوسَهم ... ومقتلهم عند الوغى كان أغدرا يشد الحليم منهم عقد حبله ... ألا إنما يأتي الذي كان حُذِّرا أي أنهم كانوا ذوي غدر بين، لو أنهم جاهدوا في الحرب وقتلوا، أما الآن فلا عذر لهم بين الرجال في خنقهم أنفسهم. وكان "الحكم بن الطفيل" وأصحابه قد خنقوا أنفسهم، بشد الحبل حول العنق3، وذلك تحت شجرة بالمروراة،

_ 1 ديوانه "95"، الحيوان "6/ 359". 2 الحيوان "6/ 359". 3 الحيوان "2/ 273"، الخزانة "4/ 218"، العقد الفريد "2/ 318".

خشية الوقوع في الأسر. و "الحكم بن الطفيل" هو أخو "عامر بن الطفيل"، وقد عرف يوم "المروارة" بيوم "التخانق"1. وقد عدت قصيدته التي تبدأ بـ: أقلي علي اللوم يا ابنة منذر ... ونامي فإن لم تشتهي النوم فاسهري من القصائد "المنتقيات"2. وأما شعر "عروة"، فقد عد أشعر شعر "بني عبس" في رأي أبناء قبيلته. روي أن "عمر بن الخطاب" قال للحطيئة: كم كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف حازم. قال: وكيف؟ قال: فينا قيس بن زهير، وكان حازما وكنا لا نعصبه، وكنا نقدم بإقدام عنترة، ونأتم بشعر عروة بن الورد، وننقاد لأمر الربيع بن زياد"3. ويرى "بروكلمان"، أنه كان بدويًّا قُحًّا، رويت له أشعار أكثر مما روى لتأبط شرا والشنفرى، لكنه كان دونهما في تصوير حياة الجاهلية4. ولعروة ديوان برواية "ابن السكيت" "243هـ" "244هـ"، طبع جملة طبعات. وقد ترجم إلى الألمانية والفرنسية5، وقد جمع "الأصمعي" شعره في ديوان لم يصل إلينا6. وفي شعر عروة شعر مصنوع، وضع عليه، وفيه كما رأينا ما ليس له، وقد نسبه بعض العلماء إلى غيره، ونجد في شعره شعرا يمثل طبيعة مجتمع حضري غلبت عليه التفرقة الطبقية، فيه غنى حضر، وفقر أهل مدن، يظهر أنه وضع على لسانه حكاية عن وضع الناس في ذلك الوقت، خشية ناظمه من تعرض الحكام

_ 1 الخزانة "4/ 216 وما بعدها". 2 الأغاني "2/ 190"، الشعر والشعراء "425"، الجمهرة. "114"، زيدان، تأريخ الأدب العربي"1/ 164". 3 ديوان عروة "3". 4 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 109". 5 راجع التفاصيل في بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 109"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 164". 6 الشعراء الصعاليك "158".

أو الأغنياء له بسوء، فيما لو نشره باسمه، فآثر نظمه باسم "عروة". و"الشنفرى"، وهو "ثابت بن أوس" الأزدي، وقيل بل "الشنفرى" اسمه لا لقب، وقيل: بل هو: "عمرو بن مالك" الأزدي، وقيل "عمرو بن براق"، وقيل غير ذلك، من "بني الأواس بن الحجر بن الهنء بن الأزد"1، من اليمانية في عرف أهل النسب. وهو من الصعاليك. ومن العدائين. وكان من المرافقين للشاعر "تأبط شرا" في كثير من غزواته. وكان أكبر منه سنًّا، وتوفي قبله. وذكر أنه حلف يمينا أن يقتل من "بني سلامان" مائة رجل فقتل تسعة وتسعين، فأمسك به رجل عداء، هو "أسيد بن جابر" وهو عداء من العدائين وقتله. فمر به رجل من بني سلامان فركل جمجمته، فدخلت شظية منها في رجله فمات. فوفى الشنفرى بقسمه، وأتم العدد وهو ميت2. ويلاحظ أن أهل الأخبار يزعمون أن "عمرو بن هند" كان قد حلف يمينا أن يقتل من "بني دارم" مائة رجل، وأن يلقي بهم في النار، فسار إليهم فقتل تسعة وتسعين وأحرقهم بالنار، وبقي عليه أن يبر بقسمه بقتل واحد آخر منهم حتى يكمل العدد، فمر رجل من البراجم شم رائحة حريق القتلى، فحسبه قتار الشواء، فمال إليه، فلما رآه "عمرو"، قال له: ممن أنت؟ قال: رجل من البراجم، فقال: إن الشقي وافد البراجم، وأمر فقتل وألقي في النار. فبرت به يمينه3. وقد يكون للقصتين ولقصص آخر من هذا النوع علاقة بطقوس أو بأساطير جاهلية قديمة، تجعل الأبطال، ينذرون نذورا تختلف عن نذور سائر الناس، هي قتل مائة نفس قربى إلى الآلهة، بدلا من تقديم الضحايا من الحيوانات. وكان "الشنفرى" يحقد على "بني سلامان" حقدا شديدا، وسبب حقده عليهم، أنه كان قد وقع أسيرا وهو صبي في "بني شبابة بن فهم"، فانتمى

_ 1 الخزانة "2/ 16 وما بعدها"، البيان والتبيين "3/ 224"، المفضليات "1/ 106 وما بعدها"، مجالس ثعلب "426"، الحيوان "3/ 108"، "6/ 244"، أمالي القالي "1/ 157"، رسالة الغفران "351 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "1/ 25 وما بعدها"، تاج العروس "3/ 308، 318"، "شفر"، "الشنيفرة"، الأغاني "21/ 87"، الخزانة "2/ 14" "بولاق"، ذيل الأمالي "208 وما بعدها"، زيدان، تأريخ آداب "1/ 161". 3 الجزء الثالث من هذا الكتاب "ص251".

إليهم، ثم وقع أحد "بني شبابة" أسيرا في "بني سلامان بن مفرج" من الأزد، ففدى "بنو شبابة" الأسير به. فصار "الشنفرى" فيهم، وحسب منهم، ثم إنه أراد الزواج من ابنة رجل منهم، فرده والدها ردا عنيفا، أثر فيه، فعاد إلى "بني فهم"، وأخذ يغير على "بنى سلامان" للإهانة التي لحقته من الرجل، والتي كانت سبب صعلكته1. ويروى أن الشنفرى أغار مع "تأبط شرا" و "عمرو بن براق" على "بجيلة"، فوجدوا بجيلة قد أقعدوا لهم على الماء راصدا، وقد علم "تأبط شرا" أنهم يريدونه، فتآمر مع الشنفرى وعمرو بن براق، على إنقاذه إن وقع في أيديهم، فلما جاء الماء قبضوا عليه، فعمد الشنفرى وابن براق إلى حيلة كانوا قد اتفقوا عليها لغش بجيلة، فأنقذوه، وهربوا ساخرين من بجيلة التي خدعت بها2. وللعرب قصص ترويه عن بساطة "بجيلة"، وسرعة انخداعها بالحيل. وهو كما سبق أن ذكرت، أحد أغربة العرب، ويظهر أن الملامح الإفريقية كانت بارزة عليه، بدليل تلقيبه بالشنفرى، و"الشنفرى" الغليظ الشفاه، ويظهر أنه أخذ ملامحه من أمه السوداء. وأخباره متناقضة متضاربة، يظهر منها أن أباه قد قتله قاتل من "الأزد"، قتله "حرام بن جابر"، وكان قد قدم "منى" فقيل له: هذا قاتل أبيك، فشد عليه فقتله3. فحقد على قتلة أبيه، وقرر الانتقام منهم شر انتقام، وأن لا يكف عنهم ما دام حيًّا، فكان يكثر من الغارة عليهم، يغير مع من معه من صعاليك، وقد يغير عليهم وحده4. ويروى في قتله، أنه قتل من "بني سلامان بن مفرج" تسعة وتسعين رجلا، فأقعدت له رجالا يرصدونه، فلما دنا من ماء ليشرب، قبض عليه رجلان من "بني البقوم" من الأزد، فقبضا عليه، وأصبحا به في "بني سلامان". فربطوه إلى شجرة، فقالوا: قف أنشدنا، فقال الإنشاد على حين المسرة، ثم قال:

_ 1 بروكلمان "1/ 105"، الأغاني "21/ 134". 2 الخزانة "2/ 17". 3 الأغاني "21/ 137"، الخزانة "2/ 16". 4 الأغاني "21/ 135".

فلا تدفنوني إن دفني محرم ... عليكم ولكن خامري أم عامر إذا حملوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري هنالك لا أرجو حياة تسرني ... سمير الليالي مبسلا بالجرائر1 وذكر "المرتضى" أن هناك من نسب هذا الشعر إلى تأبط شرا2. وقد نسبه "الجاحظ" إلى "تأبط شرا"، إذ قال: "وقال تأبط شرا: فلا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن خامري أم عامر إذا ضربوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري هنالك لا أبغي حياة تسرني ... سمير الليالي مبسلا بالجرائر3 ويختلف نص هذا الشعر بعض الاختلاف عن النصوص الأخرى4. ويذكر لما وقع بأيدي أعدائه، تفننوا في قتله، وأروه أصناف العذاب. قطعوا يده، وصاروا يسخرون منه، ويسألونه أين يدفنونه. فرد عليهم بمقطوعة رائعة، كما رثا يده بأرجوزة لما قطعوها، وقد ذكر أنه طلب منهم ألا يدفن، وإنما يلقى بجسده إلى الضباع. وروي أن رجلا من "بني سلامان" رماه بسهم في عينه فقتله، فقال "جزء بن الحارث" في قتله: لعمرك للساعي أسيد بن جابر ... أحق بها منكم بني عقب الكلب6

_ 1 الشعر والشعراء، لابن قتيبة "1/ 25"، "دار الثقافة". فلا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر إذا ضربوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري هنالك لا أبغي حياة تسرني ... سجيس الليالي مبسلا بالجرائر حماسة أبي تمام "2/ 24 وما بعدها بولاق"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "73"، الخزانة "2/ 18"، أمالي المرتضى "2/ 72 وما بعدها"، "إذا احتملت رأسي"، أسماء المغتالين "232"، "المجموعة السادسة". 2 أمالي المرتضى "2/ 72 وما بعدها". 3 الحيوان "6/ 450". 4 راجع العقد الفريد "1/ 53"، "4/ 219"، الحماسة "1/ 188"، المخصص "3/ 258". 5 الشعراء الصعاليك "335". 6 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة"، "ص232".

وقد ضاع أكثر شعر "الشنفرى". وقد طبعت لاميته، وللعلماء شروح وبحوث عليها. وهي في الفخر والحماسة، ولم يعرف كثير من قدماء علماء الشعر القديم هذه اللامية، ومن بينهم مؤلف كتاب "الأغاني". وقد تعرض "القالي" لموضوع "اللامية"، فقال: "حدثني أبو بكر بن دريد: أن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي أولها: أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل له، وهي من المقدمات في الحسن والفصاحة والطول، فكان أقدر الناس على قافية"1. ويعود الضمير "له" إلى خلف الأحمر. أي أن القصيدة هي من صنعه وعمله. وعدة القصيدة ثمانية وستون بيتا. وممن شرحها: الخطيب التبريزي، والزمخشري، وابن الشجري، وابن أكرم وغيرهم2. وقد ورد في "تأريخ الآداب العربية" لكارلو نالينو: "أما الشنفرى الأزدي فصاحب اللامية المشهورة التي يفتخر فيها بانفراده من قومه ووحشة عيشه في البراري كأنه لم يعاشر إلا السباع. وهي قصيدة غاية في الجمال تنطق بلسان حال الشاعر وإن كان بعض النحويين يزعمون أنها من مصنوعات حماد الراوية المتوفى سنة 155"3. وفي قوله: "وإن كان بعض النحويين يزعمون أنها من مصنوعات حماد الرواية" وهم، لا أدري أوقع منه، أم من الترجمة، لأن غالبية العلماء تنسبها إلى خلف الأحمر، لا إلى حماد. كما أن وفاته كانت سنة "156هـ"4. وقد ذهب بعض المستشرقين الذين بحثوا أمر هذه القصيدة، إلى أن القصائد التي نحلها "خلف الأحمر" احتفظت دائما بعمود الشعر القديم وطابعه، أما هذه القصيدة، فلها طابع خاص يجعل من الصعب تصور صدورها من "خلف الأحمر"5.

_ 1 الأمالي "1/ 156 وما بعدها"، الأغاني "21/ 84"، الخزانة "2/ 16"، زيدان، تأريخ أداب اللغة العربية "1/ 161 وما بعدها". 2 الخزانة "2/ 15"، "بولاق"، اللاميتان: لامية العرب ولامية العجم، من شروح الزمخشري والصفدي، علق عليهما وأعدهما: عبد المعين الملوحي، دمشق، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، رقم 13. 3 "ص73". 4 الفهرست "140". 5 بروكلمان "1/ 106 وما بعدها".

وذهب بعض آخر إلى جواز كونها من نظم "الشنفرى"1، وذكر أنها من مصنوعات "حماد" الراوية2. وفي "المفضليات" قصيدة طويلة له، هي قصيدة تائية، ومقطعات، وفي قصيدته وصف لحياته ولبعض غاراته، وكيف كان يقود صعاليكه في طرق وعرة، وهم على أرجلهم، ثم يصف حاله، فهي قصيدة فيها بعض تأريخ هذا الشاعر وقصص غزوه وتعامله مع رفاقه3. وقد طبع الأستاذ "عبد العزيز الميمني"، ديوان الشنفرى في "الطرائف الأدبية"4، وتوجد أشعاره أيضا في "ديوان الهذليين"5. وقد كان عند العيني ديوان للشنفرى في جملة دواوين عديدة كانت في حوزته6. وقد كتب عدد من المستشرقين عن الشنفرى وشعره بمختلف اللغات7. وأما "تأبط شرا"، وهو "ثابت بن جابر بن سفيان"، وقيل "ثابت بن عمسل" فهو من فهم، وكان من أغربه العرب، لأن أمه أمة سوداء. وكان من العدائين المعروفين عند العرب. وله أخبار كثيرة في ذلك، وله مغامرات تحمل طابع القصص والأساطير. وله قصيدة في وصف "الغول" ذكر فيها كيف طير بسيفه قحف ابنة الجن8. وكان أحد رآبيل العرب. وذكر علماء اللغة أن الرئبال هو الذي ولدته أمه وحده9، وبه سميت رآبيل العرب، ومن السباع الكثير اللحم الحديث السن، والذئب الخبيث، وترأبلوا: تلصصوا أو أغاروا على الناس

_ 1 بروكلمان "1/ 107". 2 تأريخ الآداب العربية "73"، الأغاني "13/ 5". 3 العصر الجاهلي "380 وما بعدها". 4 بروكلمان "1/ 105، 109"، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1937م. 5 الشعراء الصعاليك "159 وما بعدها". 6 العيني، كتاب المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية "48/ 596". 7 راجع بروكلمان "1/ 107". 8 الشعر والشعراء "174"، الأغاني "18/ 209"، "بولاق"، خزانة الأدب "1/ 66"، بروكلمان"1/ 104 وما بعدها"، شرح شواهد المغني، للسيوطي "19"، المفضليات "27 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 230 وما بعدها"، "دار الثقافة، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 104". 9 تاج العروس "5/ 100"، "أبط"، السيوطي، شرح شواهد المغني "1/ 50 وما بعدها"، "أحمد ظافر كوجان".

وفعلوا فعل الأسد، أو غزوا على أرجلهم وحدهم بلا وال عليهم1. وهذا المعنى هو أقرب المعاني وأقرب إلى الصحة في تفسير "رآبيل العرب". فهم الصعاليك الذين نبحث عنهم. ويظهر أن أباه مات وهو صغير، وأن أمه التي كانت أمة سوداء على أغلب الروايات، أو أمة حرة في رواية، تزوجت الشاعر "أبا كبير" الهذلي، وهو من الصعاليك، من صعاليك هذيل، وأن أبناء قبيلته كانوا يعيرونه بسواده، مما ترك أثرا في نفسه، فتصعلك، وأخذ يرافق الصعالكة، ومنهم صعلوك شهير آخر، هو "الشنفرى" الذي رافقه في كثير من غزواته. وقد نعت "تأبط شرا" بأنه كان شاعرا بئيسا، يغزو على رجليه2. ومما يروى من قصصه أنه كان يشتار عسلا من جبل ليس له غير طريق واحد، فأخذت لحيان عليه ذلك الموضع، وخيروه النزول على حكمهم أو إلقاء نفسه من الموضع الذي ظنوا أنه لا يسلم، فصب العسل الذي معه على الصفا وشد صدره على الزق ثم لصق على العسل، فلم يبرح ينزلق عليه حتى نزل سالما، فنظم في ذلك قصيدة مطلعها: إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر3 ولعلماء الشعر قصص في تفسير تسمية هذا الشاعر بـ "تأبط شرا"، فزعم بعض منهم أنه "إنما سمي تأبط شرا لأنه أخذا سيفا وخرج، فقيل لأمه أين هو؟ قالت: لا أدري، تأبط شرا وخرج. وقيل أخذ سكينا تحت إبطه وخرج إلى نادي قومه فوجأ بعضهم، فقيل تأبط شرا. وزعم بعض آخر أن أم تأبط شرا قالت له يوما: إن الغلمان يجنون لأهلهم الكمأة فهلا فعلت كفعلهم، فأخذ جرابه ومضى فملأه أفاعي وأتى متأبطا به، فألقاه بين يديها فخرجت الأفاعي منه

_ 1 تاج العروس "7/ 333"، "ربل"، الاشتقاق "162 ما بعدها"، اللآلئ "158 وما بعدها"، التيجان "242 وما بعدها"، أسماء المغتالين "215". 2 الشعر والشعراء "1/ 229"، "دار الثقافة"، الأغاني "18/ 215 وما بعدها"، BAUR. IN ZDMG, X, 7, 17, FF 3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 975"، الأغاني "18/ 215"، شرح ديوان الحماسة "1/ 38"، المحبر 197 وما بعدها"، الخزانة "3/ 357".

تسعى فولت هاربة. فقال لها نساء الحي: ما الذي كان ابنك متأبطا له؟ فقالت: تأبط شرا! وقيل: إنه رأى كبشا في الصحراء فاحتمله تحت أبطه، فجعل يبول عليه طول طريقه، فلما قرب من الحي ثقل عليه الكبش، فرمى به، فإذا هو الغول. فقال له قومه: ما كنت متأبطا يا ثابت؟ قال: الغول. قالوا: لقد تأبطت شرا، فسمي بذلك. وإنه قال في ذلك: تأبط شرا ثم راح أو اغتدى ... يوائم غنما أو يشيف على ذحل وقيل سمّي بهذا البيت. قال رجل لتأبط شرا: "بم تغلب الرجال وأنت دميم ضئيل؟ قال: باسمي، إنما أقول ساعة ما ألقى الرجل: أنا تأبط شرا، فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت"1. وقيل إنما سمي "تأبط شرا"، لأن أمه رأته وقد تأبط جفير سهام وأخذ قوسا، فقالت له: هذا تأبط شرا، أو تأبط سكينا فأتى ناديهم فوجأ بعضهم، فسمي به لذلك، وكان لا يفارقه سيفه. قتلته هذيل في رواية، وقالت أخته ترثيه: نعم الفتى غادرتم برخمان ... بثابت بن جابر بن سنان وكانت تسمى "ريطة". وذكر أن أمه هي التي رثته. وقد ذكر في أشعار هذيل2. وكان سبب قتله، أنه خرج غازيا في نفر من قومه، إذ عرض لهم بيت من هذيل، بين صدى جبل، فأراد مهاجمته، فمنعه من كان معه من مباغتته، لخروج ضبع اعتافوا منه، فلم يبال بتشاؤمهم، فلما قارب البيت رآه غلام، فهرب إلى الجبل، فهجم تأبط شرا مع جماعته على البيت، فقتلوا شيخا وعجوزا،

_ 1 الأغاني "21/ 146"، شرح حماسة أبي تمام "1/ 57"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 52". 2 تاج العروس "5/ 100"، "أبط" قال مليح الهذلي: ونحن قتلنا مقبلا غير مدبر ... تأبط ما ترهق بنا الحرب ترهق اللسان "7/ 254"، "أبط". ويل أم طرف قتلوا برخمان ... بثامت بن جابر بن سنان الشعر والشعراء "1/ 229"، "دار الثقافة"، الأغاني "18/ 209"، "بولاق"، المغتالين "215"، الخزانة "1/ 66".

وحاز جاريتين وإبلا، ثم أبصر تأبط شرا بالغلام، فاتبعه فرماه الغلام بسهم أصاب قلبه، وحمل على الغلام فقتله، ثم مات هو من السهم، وترك جثة، فاحتملته هذيل، وطرحته في غار يقال له غار "رخمان". فرثته أخته "ريطة" بقولها: نعم الفتى غادرتم برخمان ... ثابت بن جابر بن سفيان قد يقتل القِرن ويَروي الندمان1 وفي بيت شعر ينسب إلى تأبط شرا، هو: ولست أبيت الدهر إلا على فتى ... أسلبه أو أذعر السرب أجمعا2 معنى يفيد أنه كان يغير على القادم والآيب، يسلبه ويأخذ ما عنده، لا يبالي بشيء إلا بحصوله على غنيمة السلب، وهو إن قابل قافلة، فلم يتمكن منها، يكون قد رضي من فعله بما ألقاه من رعب وذعر في قلوب أصحابها، ويكون قد اشتفى بذلك منها. فهو رجل منتقم، يريد أن يفرج عما ولد في قلبه من غل، بأية طريقة كانت، غل، ولد فيه، من سواد لونه، ومن ازدراء قومه له، ومن فقره وسوء حاله في هذه الحياة، وذلك فيما لو صح أن هذا الشعر هو من قوله. ونسب قوم من الرواة إلى "تأبط شرا" قصيدة مطلعها: ولقد سريتُ على الظلام بمغشم ... جلد من التفيان غير مهبل وهي قصيدة نسبها غيرهم إلى "أبي كبير" الهذلي، ووضعوا حولها قصة في شرح السبب الذي حمل "أبا كبير" أو "تأبط شرا" على نظمها3. قال "الجاحظ" في كتابه "الحيوان ": "وقال تأبط شرا -إن كان قالها-:

_ 1 أسماء المغتالين "215 وما بعدها". 2 الأغاني "18/ 217". 3 الشعر والشعراء "2/ 562 وما بعدها"، "الثقافة".

شامس في القر حتى إذا ما ... ذكرت الشعرى فبرد وظل وله طعمان أريٌ وشريٌ ... وكلا الطعمين قد ذاق كل1 مما يدل على أنه في شك من أمر نسبة هذه القصيدة إليه. وأشعار "تأبط شرا" متناثرة في كتب الأدب. ولم يطبع له ديوان بعد. ومن شعره أبيات، يذكر فيها أن "عذّالة" لامته حتى أكثرت من لومه، فكادت تخرق جلده أي تخراق، وقد عبر عن ذلك بقوله: يا من لعذالة خذالة نشب ... خرقت باللوم جلدي أي تخراق تقول أهلكتَ مالا لو ضننت به ... من ثوب عز ومن بز وأعلاق سدد خلالك من مال تجمعه ... حتى تلاقي ما كل امرئ لاق عاذلتا إن بعض اللوم معنفة ... وهل متاع وإن بقيته باق2 وهذه هي مشكلة أولئك الصعاليك، كانوا يخاطرون بحياتهم، للحصول على مال، فإذا حصلوا عليه، ونجوا من تعقب الناس لهم، أهلكوه. يتلفونه على ملذتهم، أو على أصدقائهم. وإذا بهم في حاجة إلى مال، وفي عسر وضيق. ومن شعره قوله: لتقرعنَّ عليّ السن من ندم ... إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي3 وله شعر يصف فيه حاله، بقوله: قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك يظل بموماة ويمسي بغيرها ... جحيشا وبَعْرُورِي ظهور المهالك ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شدة المتدارك إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالئ من قلب شيحان فاتك

_ 1 الحيوان "3/ 68 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "1/ 230"، "دار الثقافة"، أبو تمام ديوان الحماسة "382 وما بعدها". 3 الحيوان "1/ 63".

ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلة من حد أخلق صائك إذا هزه في عظم قرن تهللت ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك1 وهي قصيدة مدح بها عمه "شمس بن مالك"2. وقد شك "الجاحظ" في نسبة هذه القصيدة إلى "تأبط شرا"، إذ قال: "ومن هذا الباب قول تأبط شرا، أو قول قائل فيه في كلمة له"3. وتنسب أيضا إلى "السليك بن السلكة" أحد غرابيب العرب4. وله قصيدة ذكر فيها أنه التقى بالغول، وصار جارا للغيلان، وقد وصف حاله معها، حيث قال: وأدهم قد جبت جلبابَه ... كما اجتابت الكاعب الخيعلا إلى أن حدا الصبح أثناءه ... ومزق جلبابه الأليلا على شيم نار تنورتها ... فبت لها مدبرا مقبلا فأصبحت والغول لي جارة ... فيا جارتا أنت ما أهولا وطالبتها بعضها فالتوت ... بوجه تهول فاستهولا وهي قصيدة ذكرها "ابن قتيبة"، وقد اكتفيت منها بالأبيات المتقدمة5. وقد عمل "ابن جني" ديوان "تأبط شرا"6، ونشرت بعض أشعاره وترجمت بلغات أعجمية7.

_ 1 الحماسة، لأبي تمام "1/ 46 وما بعدها"، "بولاق"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "73"، "إذا خاص"، "إذا خاط"، الحيوان "6/ 467". 2 كارلو نالينو، "73". 3 الحيوان "6/ 255"، وتجد اختلافا بين نص الجاحظ لها، وبين نصها في الموارد الأخرى. 4 الحماسة "1/ 22"، القالي، أمالي "2/ 138"، التيجان "242"، زهر الآداب "2/ 18"، الصناعتين "279، 310"، ثمار القلوب "204"، الحيوان "6/ 256". 5 الشعر والشعراء "1/ 230 وما بعدها". إعجاز القرآن، للباقلاني "22"، مروج الذهب "2/ 134 وما بعدها"، "ذكر أقاويل العرب في الغيلان والتغول". 6 بروكلمان "1/ 104 وما بعدها". 7 Ch. Lyell, Four Poems by T. Sh. the Poet, brigand JRAS, 1918, 211-227

وأما "السليك بن السلكة"، فهو من تميم. وأمه أمة سوداء، وكان يغير على القبائل، ولا سيما القبائل اليمانية وقبائل ربيعة. وكان من العارفين باقتفاء الأثر ومن العالمين بالمسالك وبالطرق وبالأرض. يذكرون أنه كان إذا جاء الشتاء استودع بيض النعام ماء السماء ثم دفنه، فإذا كان الصيف، وأغار واحتاج إلى الماء، جاء إلى مواضع البيض، فاستخرج البيض منها وشرب ما فيه من ماء1. وقد نسب "سليك" على هذا النحو: سليك بن يثربي بن سنان بن عمير بن الحرث، وهو مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن سلكة، وهي أمه. ولذا قيل: "ابن السلكة" وقيل اسم والده: "عمرو بن يثربي"، ويقال "عمير"، وهو شاعر لص فتاك عدّاء. يقال: أعدى من سليك"، ويقال له: "سليك المقانب". قال قران الأسدي، وقيل أنس بن مدرك: لَخُطّاب ليلى يالَ برثن منكم ... على الهول أمضى من سليك المقانب2 وقال أهل الأخبار عنه، إنه أحد أغربة العرب وهجنائهم وصعاليكهم ورجيلاتهم، وكان له بأس ونجدة. وكان أدل الناس بالأرض وأجودهم عدوا على رجليه، وكان لا تعلق به الخيل. وتذكر قصة أنه خرج رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر عليه، فيذهب بإبله، وبينما هو نائم، وإذا برجل يجثم عليه، ويقول له: أستأسر، فتمكن منه السليك، ووجده صعلوكا فقيرا جاء مثله لعله يصيب شيئا، فاتفق معه على أن يغزوَا معا، فلما سارا وجدا رجلا صعلوكا انضم إليهما، واتفقوا على الغزو، ولما كانوا في جوف "مراد"، وجدوا نعما، فطلب "سليك" من رفيقيه الانتظار والتربص ريثما يذهب إلى الرعاء فيلهيهما، ثم يغيرا على النعم. فلما وصل إلى الرعاء، تودد إليهم، ثم قال لهم: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى، فأخذ يغني:

_ 1 زيدان، تأريخ آداب "1/ 163"، الأغاني "8/ 133"، الشعر والشعراء "213". 2 اللسان "10/ 443"، "سلك"، تاج العروس "7/ 144"، "سلك"، "السليك بن سنان بن سلكة"، تحفة الأبيه فيمن نسب إلى غير أبيه "105 وما بعدها"، "نوادر المخطوطات، المجموعة الأولى".

يا صاحبي ألا لا حيّ بالوادي ... إلا عبيد وآم بين أذواد أتنظران قليلا ريث غفلتهم ... أم تعدوان فإن الريح للعادي فلما سمعا ذلك أطردا الإبل فذهبا بها1. وذكر أن "بكر بن وائل" سارت للإغارة على "تميم". ورأته طلائعهما، فأرادت القبض عليه، حتى لا يذهب إليهم فيخبرهم بزحفهم عليهم. ولكنه ركض مسرعا، ففلت منهم، وأخبر قومه بغزوهم، فكذبوه، فقال في ذلك شعرا، وجاءت "بكر بن وائل" فأغارت عليهم2. وقد وصفه "عمرو بن معدي كرب" في شعر منه: وسيريَ حتى قال في القوم قائل ... عليك أبا ثور سليك المقانب3 ومر "سليك" في بعض غزواته ببيت من "خثعم"، أهله خلوف، فرأى فيهم امرأة بضة شابة، فتسنّمها ومضى، فأخبرت القوم، فركب "أنس بن مدرك الخثعمي" في أثره فقتله، وطولب بديته، فقال: والله لا أديه ابن إفال، وقال: إني وقتلي سليكا يوم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر غضبت للمرء إذ نيكت حليلته ... وإذ يشد على وجعائها الثغر4 وقد ورد البيتان على هذه الصورة: إني وقتلي سليكا ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر أنفت للمرء إذ نيكت حليلته ... وإذ يشد على وجعائها الثغر5 ومن بقية الشعراء الصعاليك، "حاجز" الأسدي، و "قيس بن الحدادية"

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 282 وما بعدها"، "الثقافة"، الأغاني "18/ 134". 2 الشعر والشعراء "1/ 284"، "الثقافة"، الخزانة "2/ 17"، "بولاق". 3 الشعر والشعراء "1/ 284"، "الثقافة". 4 الشعر والشعراء "1/ 285"، "الثقافة" أسماء المغتالين "220، 226 وما بعدها"، الأغاني "18/ 133"، المؤتلف "137"، الخزانة "2/ 17". 5 الحيوان "1/ 18".

الأزدي، و "أبو الطمحان" القيني، و "أبو خراش" الهذلي، وصخر الغي الهذلي1، وأخوه الأعلم الهذلي2، وعمرو ذو الكلب3. فأما "قيس بن الحدادية"، فهو "قيس بن منقذ بن عبيد بن أصرم بن ضاظر بن حبشية بن سلول"، وله مع "عامر بن الظرب" حديث. وصفه "المرزباني" بـ "شاعر قديم كثير الشعر"4. وأمه من "بني حداد" كنانة، وقومها يجعلونها من حداد محارب. وكان صعلوكا خليعا5، ساهم مع جماعة من أهله في قتل رجل من قبيلتهم، وعجز قومه عن دفع ديته، فولوا هاربين، فنزلوا في "فراس بن غنم" ثم لم يلبثوا أن قتلوا منهم رجلا، فهربوا، فنزلوا على "أسد بن كرز" من "بجيلة"، فأحسن إليهم وتحمل عنهم ما أصابوه في خزاعة وفي فراس6. وقد نسب "قيس" إلى أمه الحدادية، وهي حضرمية من محارب7. وورد أن أمه من "محارب بن خصفة". و"حداد" من كنانة. ومن شعره: أنا الذي أطرده مواليه ... وكلهم بعد الصفاء قاليه8 ولا نجد في بطون الكتب شعرا كثيرا لقيس بن الحدادية، بحيث تنطبق عليه جملة "كثير الشعر" التي أطلقها "المرزباني" على شعر هذا الشاعر، مما يبعث على الاحتمال بضياعه منذ عهد طويل. وألف "قيس بن الحدادية"، عصابة ضمت "شذاذا من العرب وفتاكا

_ 1 شرح أشعار الهذليين "1/ 12"، الأغاني "20/ 19"، الشعر والشعراء "2/ 559"، ديوان الهذليين "2/ 57". 2 الشعر والشعراء "2/ 559". 3 الأغاني "20/ 19". 4 زيدان، تأريخ آداب "1/ 164". 5 المرزباني، معجم "202"، الأغاني "13/ 6". 6 الأغاني "13/ 2 وما بعدها"، الشعراء الصعاليك "96 وما بعدها". 7 كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء "86 وما بعدها"، "نوادر المخطوطات، المجموعة الأولى". 8 كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء "87"، الاشتقاق "277"، ألقاب الشعراء، لابن حبيب "139".

من قومه" وأخذ يغير على عشيرته بسبب خلعها له، وبقي شريدا متمردا يغزو بصعاليكه، إلى أن قتل صعلوكا1. وأما "أبو الطمحان" القيني، فهو "حنظلة بن الشرقي" من بني كنانة بن القين، وكان فاسقا، نازلا بمكة على الزبير بن عبد المطلب، وكان ينزل عليه الخلعاء، وكان نديما له في الجاهلية. اختلف فيه، فمنهم من قال إنه جاهلي، ومنهم من قال إنه أدرك الإسلام. وقد زعم بعضهم أنه عاش مائتي سنة، وأنه ندم على ما اقترفه من الذنوب كالزنا وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير والسرقة، ورووا له شعرا تبرأ فيه من الذنوب. ذكر أنه قيل له: ما أدنى ذنوبك؟ قال: ليلة الدير، قيل له: وما ليلة الدير؟ قال: نزلت بديرانية، فأكلت عندها طفشيلا بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها، ومضيت!؟ وكانت له ناقة يقال لها "المرقال"، وله إبل استقاها قوم نزلوا ضيوفا عليه وشربوا من ألبانها ثم أخذوها معهم، فقال في ذلك شعرا منه: وأني لأرجو ملحها في بطونكم ... وما بسطت من جلد أشعث أغبر2 وذلك أنه جاورهم. فكان يسقيهم اللبن؛ فقال أرجو أن تشكروا لي رد إبلي، على ما شربتم من ألبانها، وما بسطت من جلد أشعث أغبر، كأنه يقول: كنتم مهازيل فبسط ذلك من جلودكم3. وروي أنه كان من المعمرين، عاش على حد قول بعضهم مائتي سنة. فقال في ذلك: حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل أدنو لصيد قصير الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أني بقيد4

_ 1 الشعراء الصعاليك "97 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "1/ 304 وما بعدها"، الإصابة "1/ 381"، "رقم 2011"، الأغاني "11/ 125"، الخزانة "3/ 426"، المعمرون للسجستاني "62"، المؤتلف "149"، أمالي المرتضى "1/ 257 وما بعدها". 3 الحيوان "4/ 473". 4 أمالي المرتضى "1/ 257".

ونسب "المرتضى" له قوله: وإني من القوم الذين همُ همُ ... إذا مات منهم ميت قام صاحبه نجوم سماء كلما غاب كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه وما زال منهم حيث كان مسود ... تسير المنايا حيث سارت كتائبه1 وقد لاقى "أبو الطمحان" مصاعب عديدة، وكان لا يكاد يجد له مكانا يستقر فيه، حتى تقع له حادثة توقعه في مشكلات عويصة وفي شدة ومحنة، فكان ينتقل من جار إلى جار، ثم يهم بالعودة إلى أهله لولا خوفه من أداء الدية التي عليه أن يدفعها، فيحجم عن الذهاب إليهم، حتى استقر أخيرا في "بني فزارة" في جوار رجل يقال له "مالك بن سعد" أحد "بني شمخ"، وكان كريما، فآواه، وأعطاء إبلا لتكون دية جنايته وزاد عليها، وكان قد لمّح له أنه يريد العودة إلى أهله لولا هذه الدية، فلما وجد هذا السخاء من مالك، بقي عنده، وصار أحد عشيرته حتى هلك فيها، وهو طاعن في السن2. فذكره "السجستاني" لذلك في المعمرين، وأعطاه مائتي سنة من عمر مديد3! ونسب إلى "أبي الطمحان" قوله: إن الزمان ولا تفنى عجائبه ... فيه تقطع ألاف وأقران أمست بنو القين أفراقا موزعة ... كأنهم من بقايا حي لقمان4 وله شعر في مدح "مالك بن حمار" الشمخي، وكان شريفا من أشراف العرب قتله "خفاف بن ندمة" السلمي5، يقول فيه:

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 257". 2 الأغاني "11/ 132 وما بعدها". 3 المعمرون "62". 4 البيان والتبيين "1/ 187". 5 الاشتقاق "2/ 172"، والبيان والتبيين "3/ 235"، وقد أخطأ السيد عبد السلام محمد هارون في الجزء الأول من كتاب الحيوان الذي حققه، إذ قال: "وهو يمدح مالك بن حماد الشمخي"، ثم علق عليه برقم "4" حاشية، ثم قال في الحاشية: "هو قاتل خفاف بن ندبة"،"ص380"، الأغاني "13/ 134".

سأمدح مالكا في كل ركب ... لقيتهم وأترك كل رذل فما أنا والبكارة من مخاض ... عظام جلة سدس وبزل وقد عرفت كلابُكم ثيابي ... كأني منكم ونسيت أهلي نمتكم من بني شمخ زناد ... لها ما شئت من فرع وأصل1 وله أيضا: فكم فيهم من سيد وابن سيد ... وفيّ بعقد الجار حين يفارقه يكاد الغمام الغر يزعب إن رأى ... وجوه بني لأم وينهل بارقه2 وله في "بني نمير" قوله: مهلا نمير فإنكم أمسيتم ... منا بثغر ثنيّة لم تستر سودا كأنكم ذئاب خطيطة ... مطر البلاد وحرمها لم يمطر يحبون ما بين أجا وبرقة عالج ... حبو الضباب إلى أصول السخبر وتركتم قصب الشريف طواميا ... تهوى ثنيته كعين الأعور3 وله في الاتعاظ والاعتبار بدروس الغابرين، قوله: ألا ترى مأربا ما كان أحصنه ... وما حواليه من سور وبنيان ظل العبادي يسقي فوق قلته ... ولم يهب ريب دهر حق خوان حتى تناوله من بعد ما هجعوا ... يرقى إليه على أسباب كتان4 ولما في حياة الصعالكة من غرابة وطرافة ومغامرات، تستلذ لسماعها الآذان، وضع الوضاعون عليهم إخبارا كثيرة وأشعارا عديدة، تجد بعضها تحكي الأيام

_ 1 البيان والتبيين "3/ 235". 2 البيان والتبيين "3/ 237". كم فيهم من سيد وابن سيد ... وفي بعقد الجار حين يفارقه يكاد الغمام الغر يرعد إن رأى ... وجوه بني لام وينهل بارقه الحيوان "3/ 93". 3 الحيوان "6/ 113". 4 الحيوان "6/ 154".

التي وضع الوضاعون فيه تلك الأشعار، من حيث الطعن في الأغنياء، وتفضيل الفقراء عليهم، وترجيح الفقير على الغني، لشعوره بشعور إنساني حرم منه الغني الذي لم يكن يفكر إلا بنفسه، كما أن في كثير من الشعر المصنوع طابع حياة المغامرات. وهو يختلف نصا من مؤلف إلى مؤلف، مما يدل على تعدد الروايات، وأنه أخذ من ألسنة متعددة، فتعدد بعددها.

الفصل الحادي والستون بعد المائة: شعراء القرى العربية

الفصل الحادي والستون بعد المائة: شعراء القرى العربية والقرى العربية في نظر "ابن سلام" خمس هن: مكة والمدينة والطائف واليمامة والبحرين1. و "القرية" في تفسير علماء العربية المصر الجامع، وقيل كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا وتقع على المدن وغيرها2. وقد جاءت اللفظة في مواضع عديدة من القرآن. كما وردت فيه: "القريتين"، بمعنى مكة والطائف3، و"أم القرى"، بمعنى "مكة"4، و"أهل القرى"، و"القرى". ومكة والمدينة والطائف قرى، أما "اليمامة"، فمصر جامع، ضم قرى، وكذلك البحرين. ولم تدخل "الحيرة"، أو الأنبار، في القرى العربية لكونهما خارج حدود جزيرة العرب في عرف العلماء. وذكر "ابن سلام" أن أشعر أهل القرى الخمس، أهل قرية "المدينة"، أي "يثرب". وقد أخرجت خمسة من الفحول: ثلاثة من الخزرج واثنان من الأوس. فمن الخزرج من "بني النجار": "حسان بن ثابت"، ومن "بني سلمة": "كعب بن مالك"، ومن "بلحارث بن الخزرج": "عبد الله بن رواحة".

_ 1 طبقات "52". 2 تاج العروس "10/ 290"، "قرى". 3 "الزخرف"، الرقم "43"، الآية "31"، تفسير الطبري "25/ 39". 4 "الأنعام"، الرقم "6"، الآية "92"، تفسير الطبري "7/ 180".

ومن "الأوس": "قيس بن الخطيم"، من "بني ظفر"، و "أبو قيس بن الأسلت" من "بني عمرو بن عوف"1. وروي عن "أبي عبيدة" قوله: "اجتمعت العرب على أن أشعر أهل المدر: يثرب، ثم عبد القيس، ثم ثقيف، وعلى أن أشعر أهل المدر: حسان بن ثابت، ثم قال: "حسان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر اليمن في الإسلام، وهو شاعر أهل القرى". وروي أنه كان أشعر أهل الحضر2. وقال "ابن سلام" في حديثه عن مكة: "وبمكة شعراء"3 ووصف أشعار قريش بأنها أشعار فيها لين4، وهي سهلة سلسة إذا قيست بأشعار أهل البادية، يتغلب عليها طابع الحضارة، وكذلك شعر باقي القرى. وقال عن "الطائف"، وبها شعراء وليس بالكثير. وعلل ذلك بقوله: "وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يُغيرون ويغار عليهم. والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة، ولم يحاربوا. وذلك الذي قلل شعر عمان وأهل الطائف"5. وقال عن "البحرين": "وفي البحرين شعر كثير جيد وفصاحة"6. وقال عن "اليمامة": "ولا أعرف باليمامة شاعرا مشهورا"7. ولم تنفرد أشعار قريش وحدها باللين، وإنما الليونة والسهولة في الشعر من طبائع الشعر الحضري أجمع. ففي طبيعة الحياة في الحاضرة سهولة غير موجودة في حياة البداوة، وراحة ودعة واستقرار، وهي أمور لا توجد في البادية، ثم فيها اجتماع واحتكاك بعالم خارجي، وميل إلى جمع المال والاستمتاع به، والابتعاد عن الغزو والحرب، وهي هينة رخيصة عند الأعراب، وما الذي يجعل الأعرابي يحرص على حياته حرص أهل الحواضر، وكل ما عنده جوع وفقر وطبيعة قاسية

_ 1 ابن سلام، طبقات "52". 2 الاستيعاب "1/ 338"، "حاشية على الإصابة". 3 طبقات "57". 4 طبقات "60". 5 المصدر نفسه "65 وما بعدها". 6 كذلك "66". 7 كذلك "70".

تجعله لا يحصل على قوته إلا بالإغارة على غيره لاستلاب ما عنده من رزق. فلا غرابة إذا ما غلظ شعره وخشن شعوره المتمثل في نظمه، ولأن شعر الحضري في مقابله. ولم يذكر "ابن سلام" السبب الذي جعل "اليمامة" فقيرة في الشعر، حيث يقول: "ولا أعرف باليمامة شاعرا مشهورا"1، ولا الأسباب التي حملته على القول بعدم وقوفه على شاعر شهير فيها، مع أن "الأعشى" منها، وهو شاعر شهير، والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، وهما شاعران مشهوران من "قيس بن ثعلبة"، و"قيس بن ثعلبة" من القبائل النازلة باليمامة، وقد ذكرها "ابن سلام" في طبقاته، كما ذكر "المتلمس"، في طبقاته، وهو شاعر معروف من شعراء اليمامة كذلك. ويظهر أنه نسي أسماءهم، لأنه كان يعلم أن الغلبة كانت لبني حنيفة على اليمامة عند ظهور الإسلام، ولم يحفظ الرواة -لسبب لا نعرفه- شعرا لشعراء من بني "حنيفة"، فعمم قوله على كل اليمامة، والحكم بالتعميم شيء مألوف بين أهل الأخبار. وقد ذهب "الجاحظ" إلى أن "بني حنيفة" أهل اليمامة، كانوا أقل الناس شعرا، إذ يقول: "وبنو حنيفة مع كثرة عدهم، وشدة بأسهم، وكثرة وقائعهم، وحسد العرب لهم على دارهم وتخومهم وسط أعدائهم، حتى كأنهم وحدهم يعدلون بكرا كلها، ومع ذلك لم نر قبيلة قط أقل شعرا منهم. وفي إخوتهم عجل قصيد ورجز، وشعراء ورجازون". وقد أنكر أن يكون ذلك بسبب مكان الخصب وأنهم أهل مدر، أي حضر، وإنما رجع ذلك إلى الطبع، وإلى "قدر ما قسم الله لهم من الحظوظ والغرائز، والبلاد والأعراق مكانها"2. ويلاحظ أن علماء اللغة، جعلوا "اليمامة" في جملة الأرضين التي لم يرجعوا إلى لغاتها، فذكروا أنهم لم يأخذوا اللغة "لا من بني حنيفة وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف، لمجاورتهم تجار اليمن المقيمين عندهم"3، وذلك في الإسلام بالطبع، لأن تدوين اللغة لم يبدأ به إلا في هذا الحين. وهو رأي صحيح، لأن لغات أهل اليمامة متأثرة باللهجات العربية الجنوبية، كما كانت كتابتهم

_ 1 طبقات "70". 2 الحيوان "4/ 380 وما بعدها". 3 المزهر "1/ 212".

بالمسند، بدليل عثور المستشرقين على كتابات عديدة في مواضع من اليمامة، مدونة بهذا القلم، وبلغة عربية جنوبية متأثرة بلهجات خاصة بعض التأثر، ولهذا فنحن تستطيع أن نقول إن كتابات اليمامة التي عثر عليها الآن والتي سيعثر عليها في المستقبل، تكون مجموعة فريدة مهمة من الكتابات الجاهلية وقد تكون جسرا بين العربية الجنوبية القحة، وبين اللغات العربية الشمالية، وقد تكون هذه الخصائص اللغوية الفريدة هي التي جعلت "ابن سلام" يقول في طبقاته: "ولا أعرف باليمامة شاعرا مشهورا"1، إذ سمع أن شعراء اليمامة كانوا يقولون الشعر بلهجاتهم التي تختلف عن اللهجة التي نظم بها شعراء مجموعة "أل" فأهمل لذلك شعرهم، أو أن شعرهم لكونه شعرا محليا خاصا، لم ينتشر خارج قبائل اليمامة، فلم يصل إلى علمه منه شيء، فقال لذلك قوله المذكور، ولم يعده من الشعر المألوف، الذي تعورف عليه بين علماء الشعر، ولما كان "الأعشى" والمرقش الأكبر، والمرقش الأصغر، والمتلمس، قد نظموا الشعر باللهجة المألوفة، ولكونهم من المتنقلة الذين تنقلوا بين العرب، وقضوا أكثر أوقاتهم خارج اليمامة، لم يدخلهم لذلك في شعراء اليمامة، لا جهلا منه بأصلهم، وإنما لما بينته من أسباب. ولعل لكثرة وجود العبيد والموالي بها دخل في هذا الباب، فاليمامة أرض خصبة ذات مياه، استقر أهلها وأقاموا في القرى وزرعوا واستعانوا بالموالي وبالعبيد وبأهل اليمن لاستغلال أرضهم، فصاروا من أصحاب الزارعة في جزيرة العرب، كما استغلوا معادنها، واستعانوا في استغلالها بالأعاجم، فذكر أنه كان في معدن "شمام" ألف أو يزيد من المجوس، لهم بيت نار2. ولعل "آل كرمان"، و "الأحمر" في الحرملية، هم من الأعاجم الذين كانوا قد ولجوا هذه المواضع للعمل بها قبل الإسلام3، أضف إلى ذلك وجود عدد كبير آخر من الموالي في أكثر قرى اليمامة، شغلوا في الزراعة وفي استغلال المعادن وفي تصنيعها، وهي أمور يأنف منها الأعرابي ويزدريها. ولهذا قيل لهم أهل "ريف"، وقد وصفهم جرير بقوله:

_ 1 طبقات "70". 2 الصفة "142". 3 لغدة "302 وما بعدها، 356".

صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم ... من العبيد وثلث من مواليها1 وذلك تعبيرا عن كثرة من كان في اليمامة من العبيد والموالي الذين لعبوا دورا كبيرا في اقتصاد اليمامة، حيث شغلوا في الزراعة وفي الرعي وفي استغلال المعادن والصناعة، وإنشاء القرى، حتى صارت أرضها بين قري وأرض استغلت بزرعها سيحا، أي على مياه الأمطار. وأما القرى، فقد أقيمت على الآبار والعيون والمياه الجارية وعلي حافات الأودية. وقد حفر الرقيق أكثر هذه الآبار، كما استغلت الآبار العادية، أي الآبار القديمة التي تنسب إلى ما قبل مجيء قبائل "ربيعة" إلى اليمامة. ونجد في الكتب التي وصفت اليمامة ذكرا لمواضع كثيرة، توفرت بها المياه، فصارت أرضين خصبة، مونت اليمامة وغيرها بالحنطة والتمور والخضر. وكان جل أهل "اليمامة" عند ظهور الإسلام من "بكر بن وائل"، وبكر بن وائل من "ربيعة"، فهم ليسوا من "مضر" أذن، الذين أخذ عنهم علماء العربية اللغة في الإسلام. فقوم الأعشى، وهم "بنو قيس بن ثعلبة" من بكر بن وائل، وبنو حنيفة، وهم قوم "مسيلمة" من بني لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل"2، فإلى ربيعة كانت الغلبة في هذا العهد، وأما بطون "تميم" التي كانت تقيم في مناطق من اليمامة، فلم تكن تكوّن الكثرة إلى جانب ربيعة، وتميم من مضر في عرف أهل الأخبار. واليمامة إقليم مشهور عرف بعذوبة مياهه، وبخصبه وبكثرة قراه، وباشتغال أهله بالزراعة، وزراعة النخيل والأشجار المثمرة والحنطة، كما عرف بتربيته للإبل والبقر والغنم، ولذلك وفرت اللحوم به، وقد استقر أهله، وصاروا حضرا وأشباه حضر، ولعل لصلتهم باليمن ولنزوح أهلها القدامى من اليمن، وهم أهل زرع وضرع، ثم توفر الماء والتربة الخصبة في اليمامة، جعلت كل هذه الأمور أهلها حضرا على مستوى عال من الحياة بالنسبة إلى من كان يقيم في البوادي من القبائل، اعتمدوا في الدفاع عن أنفسهم على الحصون والبتل التي لا تزال آثار بعضها قائمة إلى هذا اليوم، فكانوا إذا بوغتوا بهجوم، أسرعوا إلى بتلهم وقصورهم، فتحصنوا بها. وهي من أهم ما يميز أهل الحضر عن

_ 1 الخزانة "2/ 300"، "بولاق". 2 تاج العروس "6/ 78"، "حنيف".

أهل الوبر. ولهذا نجد مستوطنات أهل المدر، مكونة من أطم كما تسمى في "يثرب"، وقصور كما تسمى في الحيرة وفي قرى عرب العراق، وبتل كما عرفت في اليمامة، وبفضل هذا النظام الدفاعي، حموا أنفسهم من هجمات الأعراب عليهم. ولطابع الاستقرار الغالب على أهل اليمامة أثر في شعر شعراء اليمامة. يظهر في أساليب شعرائها السهلة وفي البحور التي نظموا بها شعرهم، وهم يقربون بذلك من شعراء عرب العراق أو الشعراء الذين تأثروا بالشعر العراقي، كما يظهر هذا الطابع في المعاني التي تطرقوا إليها، وسبب قربهم في المعاني وفي الصياغة من أهل العراق، هو تشابه الحياة بين عرب الحيرة مثلا وبين أهل اليمامة. فأهل الحيرة حضر أو أشباه حضر، وأهل اليمامة حضر مثلهم أو أشباه حضر، لهم زراعة، ولهم حرف قد احترفوها منذ أمد طويل، ثم إن النصرانية كانت قد انتشرت بين عرب العراق، وقد انتشرت بين أهل اليمامة كذلك، وجذورها وإن لم تكن عميقة راسخة في المحيطين، لكنها كانت قد تأثرت بعقلية أهلهما على كل حال. ومن شعراء اليمامة المرقش الأكبر، وهو "ربيعة بن سعد بن مالك"، ويقال: بل هو عمرو بن سعد بن مالك، وقيل "عوف بن سعد بن مالك" من "بني قيس بن ثعلبة" من قبائل اليمامة المعروفة، وكان أبوه سيد قومه في حرب البسوس، وهو خال "عمرو بن قميئة"، وله صهر مع طرفة والأعشى ميمون1. ذكر أنه إنما عرف بالمرقش بهذا البيت: الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم2 ويعد "المرقش" الأكبر من الشعراء العشاق، وله قصة عن حبه ابنة عمه، وعن زواجها أثناء غيابه، ثم بحثه عنها، ونزوله كهفا أسفل "نجران"، ثم احتياله في الوصول إليها، ووفاته بعد ذلك، وهي قصة نجد لها مثيلا في قصص

_ 1 بروكلمان "1/ 102"، المزهر "2/ 476 وما بعدها، 481". 2 الشعر والشعراء "1/ 138"، "دار الثقافة"، المرزباني، معجم "201"، الأغاني "5/ 199"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 889"، اللسان "8/ 195" الأغاني "6/ 127"، المؤتلف"184"، المفضليات "111"، رسالة الغفران "337 وما بعدها، 351، 355، 560"، البيان والتبيين "1/ 374".

وحكايات الأمم الأخرى1. وقيل إن صاحبته "أسماء بنت عوف بن مالك"، كان أبوها زوّجها رجلا من مراد، والمرقش غائب، فلما رجع أخبر بذلك، فخرج يريدها ومعه عسيف له من "غفيلة" فلما صار في بعض الطريق مرض، حتى ما يحمل إلا معروضا، فتركه الغفيلي هناك في غار، وانصرف إلى أهله، فخبرهم أنه مات، فأخذوه وضربوه حتى أقر، فقتلوه، ويقال إن أسماء وقفت على أمره، فبعثت إليه فحمل إليها، وقد أكلت السباع أنفه. فقال: يا راكبا أما عرضت فبلغن ... أنس بن عمرو حيث كان وحرملا وقد وصف في هذه الأبيات ما لاقاه في سفره، وهروب الغفيلي منه، وذهاب السباع بأنفه، ويقال إنه كتبها على خشب الرحل بالحميرية، وكان يكتب بها، فقرأها قومه، فلذلك ضربوا الغفيلي حتى أقر2. وفي أكل السباع أنفه يقول: من مبلغ الفتيان أن مرقشا ... أضحى على الأصحاب عبئا مثقلا ذهب السباع بأنفه فتركنه ... ينهشن منه في القفار مجدلا3 ونسب له قوله: ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما أخوك الذي إن أحرجتك ملمة ... من الدهر لم يبرح لها الدهر واجما وليس أخوك بالذي إن تشعبت ... عليك أمور ظل يلحاك دائما4 وقد تعرض "المعري" لكلمة "المرقش": هل بالديار أن تجيب صمم ... لو كان حيا ناطقا كلم وقال بعد ذلك: "على أن مرقشا خلط في كلمته فقال:

_ 1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 102". 2 الشعر والشعراء "1/ 138 وما بعدها"، "الثقافة". 3 رسالة الغفران "355"، الأغاني "6/ 127". 4 بلوغ الأرب "3/ 107 وما بعدها".

ماذا علينا إن غزا ملك ... من آل جفنة ظالم مرغم وهذا خروج عما ذهب إليه الخليل"1. وتعرض بعد ذلك له، بأن تصور نفسه وهو يقول له وقد زاره في أطباق العذاب: إن قوما من أهل الإسلام كانوا يستزرون بقصيدتك الميمية التي أولها: هل بالديار أن تجيب صمم ... لو كان حيا ناطقا كلم وإنها عندي لمن المفردات. وكان بعض الأدباء يرى أنها والميمية التي قالها المرقش الأصغر ناقصتان عن القصائد المفضليات، ولقد وهم صاحب هذه المقالة. وبعض الناس يروي هذا الشعر لك: تخيرت من نعمان عود أراكة ... لهند ولكن من يبلغه هندا خليلي جورا بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا وقولا لها ليس الضلال أجارنا ... ولكننا جرنا لنلقاكم عمدا ولم أجدها في ديوانك فهل ما حكي صحيح عنك؟ فيقول: لقد قلت أشياء كثيرة، منها ما نقل إليكم، ومنها لم ينقل. وقد يجوز أن أكون قلت هذه الأبيات ولكني سرفتها لطول الأبد ولعلك تنكر أنها في هند، وإن صاحبتي أسماء، فلا تنفر من ذلك، فقد ينتقل المشبب من الاسم إلى الاسم، ويكون في بعض عمره مستهترا بشخص من الناس، ثم ينصرف إلى شخص آخر، ألا تسمع إلى قولي: سفه تذكُّره خويلة بعدما ... حالت ذرا نجران دون لقائها2 ومن القصيدة الميمية المنسوبة إليه قوله: النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكف عنم3

_ 1 رسالة الغفران "337 وما بعدها". 2 رسالة الغفران "355 وما بعدها". 3 رسالة الغفران "560، أمالي المرتضى "2/ 255، 257".

وقوله: ليس على طول الحياة ندم ... ومن مراء المرء ما يعلم1 ولم يبق من شعر المرقش الأكبر إلا "12" قطعة، وفي بعض شعره اضطراب، والقطعة "54" من الأصمعيات من بحر عروض لم يهتد المتأخرون إلى تحديده2. ونجد بحر الخفيف عنده3. وأما المرقش الأصغر، فهو "عمرو بن حرملة"، وقيل: "ربيعة بن سفيان"، وقيل "عمرو بن سفيان" وهو من بني سعد بن مالك بن ضبيعة، أحد عشاق العرب المشهورين. وورد في رواية أنه أخو المرقش الأكبر، ويقال إنه ابن أخيه، وقد اشتهر بقصة غرامه بفاطمة بنت المنذر الثالث ملك الحيرة4 وكانت لها خادمة تجمع بينهما، يقال لها "هند بنت عجلان"، وكان للمرقش ابن عم يقال له "جناب بن عوف بن مالك"، لايؤثر عليه أحدا، وكان لا يكتمه شيئا من أمره، فألح عليه أن يخلفه ليلة عند صاحبته، فامتنع عليه زمانا، ثم إنه أجابه إلى ذلك، فعلمه كيف يصنع إذا دخل عليها، فلما دنا منها أنكرت عليه مسه، فنحته عنها، وقالت: لعن الله سرا عند المعيدي. وجاءت الوليدة فأخرجته، فأتى المرقش فأخبره، فعض على إبهامه فقطعها أسفا وهام على وجهه حياء. وخلد القصة في شعر5. وكان هرب من المنذر وأتى الشام، فقال: أبلغ المنذر المنقب عني ... غير مستعتب ولا مستعين لات هنا وليتني طرف الز ... ج وأهلي بالشأم ذات القرون6

_ 1 أمالي المرتضى "2/ 78". 2 بروكلمان "1/ 102". 3 غرونباوم "279". 4 الشعر والشعراء، لابن قتيبة "105 وما بعدها"، الأغاني "5/ 193 وما بعدها"، للمرزباني "201"، بروكلمان "1/ 103"، "4 وما بعدها"، "فراج"، المؤتلف "184"، المفضليات "114"، الأغاني"6/ 136 وما بعدها"، رسالة الغفران "357". 5 الشعر والشعراء "1/ 143"، "الثقافة". 6 الشعر والشعراء "1/ 144"، "الثقافة".

وصاحبته بنت عجلان، أمة كانت لبنت "عمرو بن هند"، وفيه يقول: يا بنت عجلان ما أصبرني ... على خطوب كنحت بالقدوم ومن شعره المشهور هذا البيت: ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما1 ويعد المرقش الأصغر أشعر من عمه، ويغلب على شعره الغزل، وهو أكثر صقلا، وأقرب مطابقة لأسلوب المتأخرين2. ومن شعراء اليمامة: "المتلمس"، وهو "جرير بن عبد المسيح"، وقيل "جرير بن عبد العزى"، وقيل غير ذلك، وهو من بني ضبيعة، وأخواله "بنو يشكر". وهو خال" طرفة"، لقب بالمتلمس لبيت قاله، هو: فهذا أوان العرض حيا ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس وقيل إن اسم أبيه "عبد العزى"، وهو من أسماء الوثنيين، ويظهر أنه تنصر فسمى نفسه عبد المسيح3. وكان ينادم "عمرو بن هند" ملك الحيرة هو وطرفة بن العبد، فبلغه أنهما هجواه، فكتب لهما إلى عامله بالبحرين كتابين، أوهمهما أنه أمر لهما فيهما بجوائز، وكتب إليه يأمره بقتلهما، فاستراب "المتلمس" من الكتابين وعرض كتابه على غلام من أهل الحيرة، فقرأه فإذا فيه أمر بقطع يديه ورجليه، ودفنه حيا، فمزقه، ورماه في نهر الحيرة، وقال لطرفة: ادفع إليه صحيفتك يقرأها، فأبى وذهب إلى البحرين فقتله عامل "عمرو بن هند". وهرب المتلمس إلى بصرى

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 143 وما بعدها"، "فمن يلق خيرا"، أمالي المرتضى "2/ 246". 2 بروكلمان "1/ 103". 3 بروكلمان تأريخ الآداب العربية "1/ 93"، الشعر والشعراء "1/ 112 وما بعدها"، الخزانة "3/ 73"، "بولاق". فهذا أوان العرض جن ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس السيوطي، شرح شواهد "1/ 298"، الاشتقاق "1/ 193"، البيان "1/ 375".

واستقر هناك إلى أن مات بها. وضرب المثل بصحيفة المتلمس1. و"المتلمس" من "ضبيعة أضجم"، وقد نسبت إلى "الحارث الأضجم"، وكان قديم السؤدد فيهم، كانت تجبى إليه إتاوتهم2. وقد ذكر "العيني" أن البيت المنسوب إلى "المتلمس"، وهو البيت الذي ضرب به المثل، فقيل صحيفة المتلمس، ونصه: ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها ليس من نظم المتلمس، ولم يقع في ديوان شعره، وإنما هو لأبي مروان النحوي، قاله في قصة المتلمس حين فر من عمرو بن هند. وكان قد هجا "عمرو بن هند"، وهجاه أيضا طرفة بن العبد، فقتل طرفة وفر المتلمس. وبعد البيت المذكور: ومضى يظن بريد عمرو خلفه ... خوفا وفارق أرضه وقلاها3 ويحتمل على رأي "بروكلمان" أن تكون قصة الصحيفة مختلفة، وكذلك القصيدة التي ورد فيها ذلك البيت4. قال الشريف المرتضى: "ويقال إن صاحب المتلمس وطرفة في هذه القصة هو النعمان بن المنذر، وذلك أشبه بقول طرفة: أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض وأبو منذر هو النعمان بن المنذر، وكان النعمان بعد عمرو بن هند، وقد مدح

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 112 وما بعدها"، الأغاني"21/ 120"، الخزانة "1/ 446"، "بولاق"، الميداني، أمثال "1/ 270"، أمالي المرتضى"1/ 183 وما بعدها". 2 الاشتقاق "1/ 192". 3 العيني، المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية "4/ 134"، "حاشية على خزانة الأدب". 4 بروكلمان"1/ 94".

طرفة النعمان، فلا يجوز أن يكون عمرو قتله، فيشبه أن تكون القصة مع النعمان"1. وفي شعر المتلمس ما يتعلق بأخبار القبائل، وفيه هجاء لعمرو بن هند. وهو من الشعراء المقلين. "قال أبو عبيدة: واتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة: المتلمس، والمسيب بن علس، وحصين بن الحمام المري"2. وذكر أنه أخذ يهجو "عمرو بن هند" من منفاه، ويحرض قوم طرفة على الطلب بدمه. فمن جملة ما قاله قصيدته: إن العراق وأهله كانوا الهوى ... فإذا نأى بي ودهم فليبعد ولما تهدده "عمرو"، وحلف إن وجده بالعراق ليقتلنه وأن لا يطعمه حب العراق، قال المتلمس: آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس لم تدر بصرى بما آليت من قسم ... ولا دمشق إذا ديس الكراديس3 وبقى ببصرى حتى هلك بها، كان له ابن يقال له: عبد المدّان، أدرك الإسلام، وكان شاعرا، هلك ببصرى ولا عقب له4. وكان طرفة بن العبد وخاله المتلمس وفدا على "عمرو بن هند" فنزلا منه خاصة ونادماه، ثم إنهما هجواه بعد ذلك، فكتب لهما كتابين إلى البحرين وقال لهما: إني قد كتبت لكما بصلة، فاشخصا لتقبضاها. فخرجا من عنده، والكتابان في أيديهما، فمرا بشيخ جالس على ظهر الطريق منكشفا يقضي حاجته، وهو مع ذلك يأكل ويتفلى، فقال أحدهما لصاحبه: هل رأيت أعجب من هذاالشيخ؟ فسمع الشيخ مقالته فقال: ماترى من عجبي؟ أخرج خبيثا، وأدخل طيبا، وأقتل عدوا، وإن أعجب مني لمن يحمل حتفه وهو لا يدري. فأوجس المتلمس في نفسه خيفة وارتاب بكتابه. ولقيه غلام من الحيرة فقال: أتقرأ يا غلام؟

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 185". 2 الشعر والشعراء "1/ 115". 3 الخزانة "3/ 75"، "بولاق". 4 الشعر والشعراء "1/ 115"، "دار الثقافة".

قال: نعم. ففض خاتم كتابه ودفعه إلى الغلام فقرأه عليه، فإذا فيه: إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه واصلبه حيا. فأقبل على طرفة فقال: تعلم والله، لقد كتب فيك بمثل هذا. فلم يلتفت إلى قول المتلمس، وألقى المتلمس كتابه في نهر الحيرة وهرب إلى الشام، وأخذ يهجو "عمرو بن هند"1. ورويت القصة بشكل آخر خال من التزويق والتنميق نوعا ما. ذكرت أن "المتلمس وطرفة بن العبد هجوا عمرو بن هند، فبلغه ذلك، فلم يظهر لهما شيئا، ثم مدحاه فكتب لكل منهما كتابا إلى عامله بالحيرة "؟ "، وأوهم أنه كتب لهما فيه بصلة. فلما وصلا الحيرة، قال المتلمس لطرفة: إنا هجوناه، ولعله اطلع على ذلك، ولو أراد أن يصلنا لأعطانا! فهلم ندفع الكتابين إلى من يقرؤهما، فإن كان خيرا وإلا ندرنا. فامتنع طرفة، ونظر المتلمس إلى غلام قد خرج من المكتب فقال: أتحسن القراءة، قال: نعم. فأعطاه الكتاب ففتحه، فإذا فيه قتله. ففر المتلمس إلى الشام وهجا عمرا هجاء مقذعا. وأتى طرفة إلى عامل الحيرة بالكتاب فقتله"2. وقد حلت الحيرة في هذه القصة في محل البحرين، وصار العامل القاتل عامل الحيرة، وخلت من ذكر الشيخ. وطرفة هو القائل في قصيدة له: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وكان النبي إذا استراث الخبر يتمثل بعجز هذا البيت من هذه القصيدة3. ومن الشعر المنسوب إليه، قوله: قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير على الفساد وحفظ المال خير من بغاه ... وجولٍ في البلاد بغير زاد وقوله: ولا يقيم على ذل يراد به ... إلا الأذلان غير الحي والوتد هذا علي الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 295 وما بعدها"، المرزباني، معجم "5"، "فراج". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 371"، الشعر والشعراء "1/ 112". 3 المرزباني، معجم "6".

وقوله: ولو غير أخوالي أراد نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما وما كنت إلا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما1 وذكر أن النبي كتب لعيينة بن حصن كتابا، فقال: يا محمد أتراني حاملا إلى قومي كتابا كصحيفة المتلمس. أي لا أحمل إلى قومي كتابا لا علم لي بما فيه. وقد أشير إلى "صحيفة المتلمس" في شعر الفرزدق2، وفي شعر شعراء آخرين3. ونسب إلى "المتلمس" قوله: وأعلم علم حق غير ظن ... وتقوى الله من خير العتاد لحفظ المال أيسر من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد4 وله شعر في الأقارب ذكره له الجاحظ في كتاب الحيوان5. والمسيب بن علس، واسمه "زهير بن علس"، وإنما لقب بالمسيب بقوله: فإن سركم ألا تئوب لقاحكم ... غزارا فقولا للمسيب يلحق6 و"المسيب بن علس بن مالك بن عمرو بن قمامة"، هو من "جُماعة"، وهم من "بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار"، ويكنى "أبا فضة"، وهو خال الأعشى، وكان الأعشى راويته. واسمه: "زهير بن علس". وإنما سمي "المسيب" لبيت قاله، هو: فإن سركم ألا تئوب لقاحكم ... غزارا فقولوا للمسيب يلحق

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 112 وما بعدها". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 297". 3 الحيوان "2/ 85". 4 الحيوان "3/ 47". 5 "3/ 136". 6 الشعر والشعراء "1/ 108".

وهو جاهلي لم يدرك الإسلام، من شعراء بكر بن وائل المعدودين، وكان امتدح بعض الأعاجم، فأعطاه، ثم أتى عدوا له من الأعاجم يسأله، فسمه فمات، ولا عقب له1. وقد ذكر "الهمداني" أن الأعشى يحتذي في شعره على مثال "المسيب"، وكان الأعشى راويته2. وله قصيدة قالها في "القعقاع بن معبد بن زرارة"، فيها: فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع أنت الذي زعمت معد أنه ... أهل التكرم والندى والباع3 وقد أورد "الهمداني" له قصيدة زعم أنه قالها في مدح "زيد بن مرب"، أو في مدح ابن ابنه "زيد بن قيس بن زيد" أولها: كلفت بليلي خدين الشباب ... وعالجت منها زمانا خبالا لها العين والجيد من مغزل ... تلاعب في القفرات الغزالا4 وقد ذكر "الجاحظ" شعرا قال إنه لغيلان بن سلمة الثقفي، هو: في الآل يخفضها ويرفعها ... ريع كأن متونه السحل عقلا ورقما ثم أردفه ... كلل على ألوانها الخمل كدم الزعاف على مآزرها ... وكأنهن ضوامرا إجل وعقب عليه بقوله: "وهذا الشعر عندنا للمسيب بن علس"5. وقد نشر ديوان "المسيب بن علس" في سلسلة نشريات "كب" GIBB بلندن سنة "1928م"6.

_ 1 الاشتقاق "316"، الخزانة "1/ 545"، الشعر والشعراء "1/ 107"، ابن سلام، طبقات "36"، ألقاب الشعراء "315"، الخزانة "2/ 9"، "بولاق". 2 الإكليل "2/ 307"، الشعر والشعراء "1/ 108"، أمالي المرتضى "1/ 560". 3 ابن سلام، طبقات "36". 4 الإكليل "2/ 304 وما بعدها". 5 الحيوان "6/ 335". 6 بروكلمان "1/ 151". GIBB, MEMORIAL, LONDON 1928

ومن شعراء اليمامة: "ذو الكف الأشل"، واسمه "عمرو بن عبد الله بن حنيفة" من بني قيس بن ثعلبة، يكنى أبا جلان، فارس شاعر جاهلي، توعدته "بنو حنيفة" فقال فيها شعرا1. و"الفند"، هو "سهل بن شيبان بن ربيعة بن زمّان بن مالك بن صعب" الزماني من شعراء الجاهلية. وله قصيدة في حرب البسوس2. وهو من "بني حنيفة". وكان أحد فرسان ربيعة المشهورين، شهد حرب بكر وتغلب، أي حرب البسوس، فكتب بنو بكر بن وائل إلى بني حنيفة يستنصروهم، فأمدوهم بالفند الزماني في سبعين رجلا، وكتبوا إليهم أنا قد بعثنا إليكم ألف رجل3. ومن الشعر المنسوب إليه، قوله: كففنا عن بني هند ... وقلنا القوم إخوان عسى الأيام ترجعهم ... جميعا كالذي كانوا فلما صرح الشر ... وأضحى وهو عريان شددنا شدة الليث ... عدا والليث غضبان بضرب فيه تفجيع ... وتوهين وإرنان وطعن كفم الزق ... وهى والزق ملآن4 وقد وردت هذه الأبيات في "الخزانة" بشيء من الاختلاف5. و"عمرو بن عبد العزى بن سحيم بن مر بن الدئل" الحنفي، من بني حنيفة، وهو شاعر جاهلي6، وكذلك كان "عمرو بن الذراع" الحنفي من الشعراء الجاهليين7.

_ 1 المرزباني، معجم "14". 2 الحماسة "1/ 21"، الخزانة "2/ 57"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 944"، الأغاني "20/ 143 وما بعدها"، الاشتقاق "207"، الحماسة، للبحتري "74" الحماسة لأبي تمام "1/ 6". 3 الخزانة "2/ 57 وما بعدها". 4 الحيوان "6/ 415 وما بعدها"، الأمالي، للقالي "1/ 260". 5 الخزانة "2/ 58". 6 المعجم، للمرزباني "40". 7 المعجم، للمرزباني "41".

ومن شعراء اليمامة أيضا "موسى بن حابر بن أرقم بن سلمة بن عبيد" الحنفي اليمامي. وكان جاهليا نصرانيا، يلقب بـ "أزيرق" اليمامة. ويعرف بـ "ابن ليلى"، وهي أمه. وهو شاعر كثير الشعر1، وعرف أيضا بـ "ابن الفريعة"2. وورد أنه كان من الشعراء الإسلاميين3. ومن شعراء اليمامة: "مجاعة بن مرارة بن سلمى4 بن زيد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة" الحنفي اليمامي، وكان من رؤساء حنيفة، وأسلم ووفد، وأعطاه الرسول أرضا باليمامة يقال لها "العورة"، وكتب له كتابا بذلك، وكان بليغا حكيما، وكان ممن أسر يوم اليمامة، فأشير على "خالد" باستبقائه فأبقاه؛ وكان قد انضم إلى "مسيلمة"5. ومن شعراء اليمامة "ثمامة بن أثال"، وكان من سادتها، ولما أسلم قطع الميرة عن أهل مكة، وكانوا قد عتبوا عليه لدخوله في الإسلام، حتى شق عليهم ذلك، فكتبواإلى الرسول: إنك تأمر بصلة الرحم، وإنا قد هلكنا، فكتب إلى ثمامة أن خل إليهم الحمل، فخلاه إليهم. وكان قد ثبت على الإسلام، ولم يرتد مع مسيلمة. وتوفي سنة "12" للهجرة6. وذكر من شعره قوله: دعانا إلى ترك الديانة والهدى ... مسيلمة الكذاب إذ جاء يسجع فيا عجبا من معشر قد تتابعوا ... له في سبيل الغي والغي أشنع7 وأشير إلى شاعرة من شاعرات "بني عجل" اسمها "حسينة"، وكان "عمرو بن الحارث بن أقيش" العكلي، قد أسرها، في يوم العذاب في الجاهلية، وهو يوم أغارت فيه "بنو عبد مناة بن أد بن طابخة" على عجل وحنيفة بأرض

_ 1 المرزباني "285"، شرح الحماسة، للمرزوقي "326". 2 الخزانة "1/ 146"، "بولاق"، المؤتلف "165"، الأغاني "10/ 107"، الحيوان "4/ 280". 3 الحيوان "4/ 280"، "حاشية 5". 4 وقيل سليم. 5 الإصابة "3/ 242"،"رقم 7724"، المرزباني، معجم "442"، خليفة بن خياط كتاب الطبقات "66". 6 الإصابة "1/ 204 "، "رقم 961"، الجمان في تشبيهات القرآن، لابن ناقيا البغدادي "283". 7 الاستيعاب "1/ 208"، "حاشية على الإصابة".

جو باليمامة، ففاداها أخوها "أبجر بن جابر بن بجير بن شريط" العجلي بمائة من الإبل وخمسة أفراس1. وإذا تجوزنا فأدخلنا "الحيرة" في جملة هذه القرى، وجب اعتبار "عدي بن زيد" العبادي ممثلها الأول، إذ لم يبلغ أحد مبلغه في الشعر من بين رجال هذه المدينة. فهو المقدم على جميع شعراء الحيرة التي كان يفد إليها الشعراء، ولأكثرهم ذكريات مع ملوكها، الذين كانوا يجملون العطاء لمن يمدحهم ويكيل لهم الثناء، لا لمجرد حب الاستماع إلى المدح والثناء والإطراء، بل لما لشعر المديح ولشعر الهجاء من أثر كبير في حياة ذلك اليوم، فالشعر هو من أهم وسائل الإعلام في ذلك الوقت، وللدعاية والإعلام وجلب الناس نحو الممدوح أهمية كبيرة بالنسبة إلى رجال الحكم والسياسة في كل زمان ومكان، إن كذبا وإن صدقا، فالسياسي يريد تحقيق سياسته، بأية وسيلة كانت، حتى إن كانت بالكذب والغش والتزوير، فالشعر من وسائل الخدمة السياسية التي استعان بها ملوك الحيرة في بسط نفوذهم في جزيرة العرب. و"عدي بن زيد" العبادي هو ابن الحيرة، فهو لسان هذه المدينة، أما بقية الشعراء، فقد كانوا يأتون هذه المدينة، لنيل صلة أو لقضاء أمر، ثم يعودون إلى ديارهم، ومنهم من كان يطيل المقام بها، فيتأثر بثقافتها وبمحيطها حسب قابلياته وسرعة استجابته للمؤثرات الخارجية. ويظهر أنه كان لأهل الحيرة ولعرب العراق عامة ذوق خاص في الشعر، ولهم حب لتنويع البحور، والتزام البحور السهلة المؤثرة، وميل إلى التنوع في الوزن، والتعبير أحيانا عن بعض أفكار مستمدة من البداوة، والظهور بلون محدد من التراث المحلي2. يقول "غرونباوم": "وليس من الغريب أن نجد التفنن في الأوزان الشعرية في العراق أغنى مما كان عليه في أي مكان آخر، وذلك لأن أجيالا كثيرة هي التي عاشت في المدينة وفي البلاط، ونزعت بطبيعة وضعها إلى التحسين في تلك الفنون، ولكن الغريب المدهش حقا أن نرى أبا دؤاد يعرض علينا أغنى تنوع عروضي في الشعر العربي القديم، لأن شعره جاء على اثني عشر بحرا. وإذا

_ 1 المرزباني، معجم "37". 2 غرونباوم "264".

عدينا أمر التنويع في الأوزان، وجدنا هذه المدرسة قد أكثرت من بحر الرمل، ولا يستعمل هذا البحر في الشعر القديم إلا أبو دؤاد في ثلاث قصائد، وطرفة في ثلاث قصائد، وعدي في سبع قصائد، والمنقب في واحدة، والأعشى في اثنتين. ولا يستثنى من هذا الحكم أيضا إلا امرؤ القيس، القصيدة 18 وأقول إن هذه الحقيقة تقوي الرواية التي تقول إنه كان راوية لأبي دؤاد"1. وقد لفت نظره وجود هذا البحر: بحر الرمل في العراق، ونموه بالحيرة بصورة خاصة، وعلل ذلك بقوله: "إن الرمل استعير من الوزن البهلوي ذي الثماني مقاطع كما صوره "بنفينيسته" "المجلة الآسيوية 2: 221، 1930"، وأنه عدل على نحو يلائم العروض العربي. والحق أن ليس من عقبة داخلية تقف دون القول بوجود أثر فارسي في النسق الشعري العربي، في المناطق المجاورة للدولة الفارسية والتابعة لها، ولأؤيد هذه النظرية أحيل القارئ على بحر المتقارب، فقد أثبت "بنفينيسته" أنه مشتق من البحر البهلوي hendekaayllabic ذي الأحد عشر مقطعا اثباتا يكاد لا يقبل الشك"2. ولاحظ "غرونباوم" أن الخاصية العروضية الثانية لمدرسة الحيرة هي نزوعها إلى بحر الخفيف، وعند أبي دؤاد منه خمس عشرة قصيدة، وعند عدي سبع، وعند الأعشى خمس، ولم يستعمل هذا البحر عند الشعراء المعاصرين إلا على نحو عارض3. ولكننا نجد بحر الخفيف في شعر "عمرو بن قميئة"4، وفي شعر للمرقش الأكبر5، والمرقش الأصغر6، وفي شعر لعبيد7، وفي شعر ينسب لعامر بن الطفيل8، ومعلقة الحارث بن حلزة9. ويعتبر "شوارتز" بحري الرمل والخفيف نوعا من الإيقاع الفارسي، انتقل إلى العربية. أما تأثير الشعر الساساني في الأعشى فيشهد به قطعة "بهلفية" طبعها

_ 1 غرونباوم "265 وما بعدها". 2 غرونباوم "265 وما بعدها". 3 غرونباوم "266". 4 القصيدة 6 و9 "لايل". 5 المفضليات "48". 6 المفضليات "59". 7 عبيد "11" و "27". 8 القصيدة "5"، والقطعة "14"، "لايل". 9 غرونباوم "277".

"بنفينيسته" وترجمها، وقطعة أبي دؤاد "14"1، "18"2، وما فيهما من إشارة إلى البيزرة، تدلان على أثر الحضارة الساسانية في العراق. وقد تعرض "بروكلمان" لموضوع تأثر الشعر الجاهلي بمؤثرات أجنبية، فأنكر ذلك، إذ قال: "وأما ما زعمه بعض العلماء من أن مؤثرات أجنبية أثرت في فن الشعر القديم، فليس هناك ما يؤيده، نعم يريد بورداخ أن يرجع النسيب العربي إلى شعر القصور اليونانية بالإسكندرية، لأن أكثر النسيب العربي يقال في عشق النساء المتزوجات، كما هو الحال عند شعراء ملوك الإسكندرية، ويتصور انتقال هذه الصناعة إلى العرب عن طريق شعراء الملوك في الشام والعراق. ولكن مثل هذه الأبيات الغزلية، التي تشبه النسيب في مطلع القصائد وإن لم تبلغ بعد نموا كاملا، يعرفها أيضا شعر التكرية في أوائل القصائد المطولة وفي أواخرها. ولا شك أنه من قبيل المصادفة والاتفاق أن يبدو في قصيدة للمسيب بن علس، يتكرر فيها ست مرت هذ الخطاب: ولأنت، صدى ورنين لأسلوب الأنشودة القديم الذي يتميز به أكنوستوس تيوس. كما وضح ذلك الأستاذ نوردن3. ونرى في الشعر العراقي وفي شعر سواحل الخليج، أي العربية الشرقية، ذكرا للبحر وللسفين. وفي شعر طرفة قوله: كأن حدوج المالكية غدوة ... خلايا سفين بالنواصف من دد عدولية أو من سفين ابن يامن ... يجور بها الملاح طورا ويهتدي يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم الترب المفايل باليد4 وصف للبحر ولسفن رجل يظهر أنه كان يهوديا صاحب سفن، ولا نجد هذا الوصف أو الالتفاتة إلى البحر في شعر الشعراء القاطنين البوادي، أو الذين لم يروا النهرين الكبيرين في العراق أو ساحل الخليج. فهذا الوصف هو من خصائص

_ 1 فانتحى مثل ما انتحى باز دجن ... جوعته القناص للدارج الأغاني "15/ 95"، من الخفيف 2 إذا شاء فارسه ضمه ... كما ضم باز إليه الجناح غرونباوم "302". 3 بروكلمان "1/ 62". 4 البيت رقم "3" وما بعده من معلقته.

البلاد التي تكون على سواحل البحار. وليس وجود السهولة في الشعر العراقي مثل شعر "عدي بن زيد"، أو في شعر أهل القرى، بأمر غريب. وقد عبر عنها بالليونة كذلك. فالحضارة، أي الحياة في القرية أو في المدينة. وحياة أهل المدر، هي ليونة وسهولة في حد ذاتها بالنسبة إلى حياة البوادي والبراري، حيث الخشونة والغلظة في الحياة، ومن ثم صار الأعرابي غليظا فظًّا خشنا، يتكلم بعنجهية لا يفهمها أهل المدر والاستقرار، فيتصورونها فظاظة منه وغلظة، وإنسان على هذا النحو من الطبع أو التطبع، لا بد وأن يكون شعره خشنا مثله، فالشعر تعبير عن إحساس نفسي، وعن انعكاس لثقافة المرء ولتربيته الناتجة عن محيطه، ولهذا نجد شعر شعراء القرى يختلف عن شعر أهل البوادي، بألفاظه وبأسلوب نظمه وبمعانيه وبروحه الحضرية. وقد وصف شعر "عدي" بالليونة، ونسبوا ذلك إلى سكنه الحضر. "وأما عدي بن زيد فلقربه من الريف وسكناه الحيرة في حيز النعمان بن المنذر لانت ألفاظه فحمل عليه كثير، وإلا فهو مقل"1. وقالوا عنه "وعدي من الشعراء مثل سهيل في النجوم: يعارضها، ولا يجري معها. هؤلاء أشعارهم كثيرة في ذاتها، قليلة في أيدي الناس، ذهبت بذهاب الرواة الذين يحملونها"2. وقيل عن شعره: "والعرب لا تروي شعره، لأن ألفاظه ليست بنجدية، وكان نصرانيا من عباد الحيرة، قد قرأ الكتب"3. وقد أرادوا بالكتب، الكتب المقدسة التوراة والأناجيل والكتب النصرانية الأخرى. ولم يشيروا إلى لغتها، والأغلب أنها كانت بالآرامية التي كانت شائعة في العراق وبين نصارى المشرق، ولكني لا استبعد احتمال وجود بعض منها باللغة العربية، لأن غالبية أهل الحيرة كانت تتكلم بها، ولا سيما الطبقة الحاكمة التي هي من صلب عربي. فلا يستبعد احتمال ترجمة بعض الكتب لهم بالعربية، للوقوف عليها. قال "أبو عبيدة" إن العرب لاتروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد، لأن ألفاظهما ليست بنجدية، فلا بد أن يكون أساس الشعر عندهم على صميم العربية.

_ 1 العمدة "1/ 104". 2 العمدة "1/ 104"، الأغاني "2/ 18". 3 الشعر والشعراء "1/ 154"، "الثقافة".

من لسان مضر، وما عدا ذلك فهو مما تبعث عليه فطرة صاحبه، ولكن العرب لا يبالون به ولا يروونه، وعلى هذا مشى المتأخرون في الاحتجاج بالشعر العربي، فالعلماء لا يرون شعر عدي بن زيد حجة. لأنه كان يسكن بالحيرة ويدخل الأرياف، فثقل لسانه؛ وهذا الاعتبار يحدد لنا منشأ الشعر"1. ولكننا لو تصفحنا شعر الشواهد، نجد أن فيه شعرا من شعر عدي، استشهد به في القواعد2، وقد ذكر "الجاحظ" أن "أبا إياس" النصري، وكان أنسب الناس، كان يقول: "كانوا يقولون: أشعر العرب أبو دواد الإيادي، وعدي بن زيد العبادي"3. والواقع أن شعر "عدي" أقرب إلينا من شعر أهل البادية، وأسهل فهما، وفيه معان حضرية لا نعثر عليها في شعر شعراء أهل الوبر، ونجد في شعره ألفاظا معربة، استشهد بها "الجواليقي" في كتابه المعرب، وذلك دليل على تأثره بمحيطه وببلدته التي كانت عربية نبطية فارسية، تلعب بها تيارات ثقافية متباينة، وهو يخالف شعراء البوادي، فابتعاده عن الأعاريض الطويلة، وميله إلى الأعاريض القصيرة، ثم في أسلوب خمرياته الشبيهة بخمريات الأعشى وحسان بن ثابت، ثم يخالف شعراء نجد في أفكار الزهد والتصوف التي ترد في شعره، والتي لا ترد ولا تخطر على بال الشاعر الأعرابي4. وعدي بن زيد العبادي، هو "عدي بن زيد بن حماد بن أيوب"، وقيل: "عدي بن زيد بن حمار "حماز" بن زيد بن أيوب بن مجروف "محروف" بن عامر بن عصبة "عصية" بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم"، وقيل: عدي بن زيد بن أيوب بن حمار "حماد" "جمار"، أحد بني "امرئ

_ 1 الرافعي "2/ 8 وما بعدها"، الأغاني "15/ 97"، الشعر والشعراء "150 وما بعدها، 162". 2 شرح شواهد المغني، للسيوطي "2/ 658". 3 البيان والتبيين "1/ 323". 4 كارلو نالينو "90 وما بعدها".

القيس بن زيد مناة بن تميم"1. وكان كاتبا لكسرى على ما يجتبى من الغور، وكان سبب ملك النعمان بن المنذر. وكان كسرى مكرما له محبا، وكان عدي أنبل أهل الحيرة وأجودهم منزلة ولو أراد أن يملكه كسرى على الحيرة ملكه، ولكن كان يحب الصيد واللهو، ولم يكن راغبا في ملك العرب2. وعرف بـ "أبي سوادة"3. وجد عدي أول من سمي من العرب بأيوب، وجده "جمار" "حمار" "حماد" "حماز" أول من كتب من العرب، لأنه نزل الحيرة فتعلم الكتابة منها. وذكره الجمحي في الطبقة الرابعة من شعراء الجاهلية، وقال: هم أربعة رهط، فحول شعراء، موضعهم من الأوائل، وإنماأخل بهم قلة شعرهم بأيدي الرواة، طرفة وعبيد بن الأبرص، وعلقمة بن عبدة، وعدي بن زيد4. وذكر أن "حمازا"، كان أول من تعلم الكتابة "من بني أيوب" وكتب للنعمان الأكبر5. وكان لعدي بن زيد عدو من أهل الحيرة يقال له: "عدي بن أوس" من "بني مرينا". سبق أن تحدثت عنه، أوغر صدر "النعمان" على عدي حتى حبسه بالصنّين، سجن بظاهر الكوفة، فقال عدي بن زيد شعره كله أو أكثره في الحبس حتى مات به6. وكان موته من جملة أسباب القضاء على حكم النعمان7.

_ 1 وتجد اختلافا بين النسخ المطبوعة في ضبط الأعلام، في مثل "حماد" و "مجروف" و "عصبة"، وذلك بسبب، اختلاف النسخ الخطية الأصلية في ضبط هذه الأسماء لتحريف وقع بها من النساخ، فأخذ كل محقق ما وجده في نسخته، أو في النسخ، وبسبب الأخطاء المطبعية، راجع الشعر والشعراء "1/ 150، 153"، "الثقافة"، "حماد"، و"حمار" في معجم الشعراء، للمرزباني "80"، "إخراج عبد الستار أحمد فراج"، "حمار"، "كذا في أوهي إحدى روايتين في اسمه، وجعلها الشنقيطي "حماد" بالدال، ويروى "حماز" و"خمار"، أسماء المغتالين "140"، "تحقيق عبد السلام هارون"، طبقات ابن سلام "117"، الأغاني "2/ 17"، الخزانة "1/ 184"، الموشح "72". 2 المرزباني، معجم "80 وما بعدها"، "فراج"، طبقات ابن سلام "31"، رسالة الغفران "146 وما بعدها". 3 رسالة الغفران "186، 203". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 471 ومابعدها". 5 الشعر والشعراء "1/ 153". 6 كتاب أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام، لمحمد بن حبيب "140 وما بعدها"، "تحقيق عبد السلام هارون". 7 السيوطي، شرح شواهد "2/ 658 وما بعدها".

وقد ذكر عنه علماء الشعر، أنه كان نصرانيا هو وأهله، وليس معدودا من الفحول، وعيب عليه أشياء. "وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان: عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم، يعارضها ولايجري معها. وكذلك عندهم أمية بن أبي الصلت. ومثلهما عندهم من الإسلاميين الكميت والطرماح"1. وقيل عنه إنه "كان يسكن بالحيرة، ويدخل الأرياف، فثقل لسانه، واحتمل عنه شيء كثير جدا، وعلماؤنا لا يرون شعره حجة، وله أربع قصائد غرر إحداهن: أرواح مودع أم بكور ... لك فاعمد لأي حال تصير والثانية: أتعرف رسم الدار من أم معبد ... نعم فرماك الشوق قبل التجلد والثالثة: لم أر مثل الفتيان في غبن الـ ... ـأيام ينسون ما عواقبها والرابعة: طال ليلي أُراقب التنويرا ... أرقب الليل بالصباح بصيرا2 ومن شعره: عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كلمة نبي ألقيت على لسان شاعر: إن القرين بالمقارن مقتدي3 ومن الأخباريين من نسب القصيدة التي مطلعها: طال ليلي أراقب التنويرا ... أرق الليل بالصباح بصيرا

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 471"، الخزانة "1/ 184"، "بولاق". 2 الشعر والشعراء "1/ 150 وما بعدها"، "الثقافة". 3 المرزباني، معجم "82"، "فرج".

إلى "سوادة بن عدي" غير أن معظمهم يرى أنها لعدي1. وذكر "أبو العلاء" المعري، أنه شاهد بعض الوراقين ببغداد، يسأل عن قافية "عدي بن زيد" العبادي، التي أولها: بكر العاذلات في غلس الصبـ ... ـح يعاتبنه أما تستفيق وأن "ابن حاجب النعمان"، وهو أبو الحسين عبد العزيز بن إبراهيم، سأل عن هذه القصيدة وطلبت في نسخ من ديوان عدي، فلم توجد، ثم سمع بعد ذلك أن رجلا من أهل "استراباذ"، يقرأ هذه القافية في ديوان "العبادي"، ولم تكن في النسخة التي في دار العلم2. وقد أورد "المعري" قصائد من شعره في رسالة الغفران3، وأشار إلى بعض ما نحل عليه، وإلى بعض ما نسب إليه، ونسب إلى غيره4. "قال الأصمعي: كان عدي لا يحسن أن ينعت الخيل، وأخذ عليه قوله في صفة الفرس: فارها متتايعا. وقال: لا يقال لفرس "فاره" إنما يقال له جواد وعتيق، ويقال للكودن والبغل والحمار: فاره"5. ووصف الخمر بالخضرة، ولم يعلم أحد وصفها بذلك. وهو أول من شبه أباريق الخمر بالظباء6. وقالوا عنه إنه ممن أقر على نفسه بالزنا. وأوردوا له أبيات شعر في ذلك7. وفي شعر "عدي بن زيد"، زهد الرهبان وتصوف المتصوفين، فيه تذكير بالآخرة وتزهيد في الدنيا، ووعظ بمصير محزن يلحق المغرورين العتاة المتجبرين كالمصير الذي لحق الملوك الطغاة والأقوام الخالية، ولا سيما في القصيدة التي يقول فيها:

_ 1 الخزانة "1/ 183 وما بعدها". 2 رسالة الغفران "173 وما بعدها". 3 "ص186 وما بعدها". 4 رسالة الغفران "335". 5 الشعر والشعراء "1/ 154"، "الثقافة". 6 الشعر والشعراء "1/ 155"، "الثقافة". 7 الشعر والشعراء "1/ 156"، "الثقافة".

أين كسرى كسرى الملوك أنوشَرْ ... وان أم أين قبله سابور وبنو الأصفر الكرام ملوك الر ... وم لم يبق منهم مذكور وأخو الخضر إذ بناه وإذ دجـ ... ـلة تجبى إليه والخابور شاده مرمرا وجلله كلـ ... ـسا فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فبان الـ ... ـملك عنه فبابه مهجور وتبين رب الخورنق إذ أشـ ... ـرف يوما وللهدي تفكير سره ماله وكثرة ما يمـ ... ـلك والبحر معرضا والسدير فارعوى قلبه وقال فما غبـ ... ـطة حي إلى الممات يصير ثم بعد الفلاح والملك والنعـ ... ـمة وارتهم هناك القبور ثم صاروا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور1 وورد أن "هشام بن عبد الملك"، كان في مجلس فخم، فحدثه "خالد بن صفوان" بحديث ملك الحيرة الذي اغتر بهذه الدنيا، ثم أنشد قصيدة "عدي بن زيد"، التي منها: أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الأيـ ... ـام بل أنت جاهل مغرور حتى أتم إنشادها عليه، فبكى وتأثر2. وورد في رواية أخرى أن قائل هذا الشعر هو: أحد بني تميم "عدي بن سالم" المري العدوي. وقد ذكر ذلك "السهيلي"، لكنه عاد بعد ذكره الشعر، فقال: "والذي ذكره عدي بن زيد في هذا الشعر هو النعمان بن امرئ القيس جد النعمان بن المنذر. وأول هذا الشعر: أرواح مودع أم بكور ... لك فانظر لأي ذاك تصير قاله عدي وهو في سجن النعمان بن المنذر وفيه قتل"3. وروي أن "يونس

_ 1 العقد الفريد "3/ 191"، ابن هشام، سيرة "1/ 56"، "حاشية على الروض". 2 الجمان في تشبيهات القرآن "304 وما بعدها". 3 الروض الأنف "1/ 58".

النحوي"، كان يقول: "لو تمنيت أن أقول شعرا ما تمنيت إلا هذا"1، أي القصيدة المذكورة. وفي شعره الذي قيل إنه قاله للنعمان بن المنذر، وكان قد نزل معه في ظل شجرة مونقة ليلهو النعمان هناك، مثال على الحث على الزهد والابتعاد عن الدنيا والإقناع بنبذها والترهب في هذه الحياة، تحدث فيه على لسان الشجرة، مخاطبا الملك، قائلا له بعد أن رأى ما عليه من الأنس والحبور: أيها الملك؟ أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: وما الذي تقول؟ قال: تقول: من رآنا فليحدث نفسه ... أنه موف على قرن زوال وصروف الدهر لا يبقى لها ... ولما تأتي به صمُّ الجبال رب ركب قد أناخوا حولنا ... يمزجون الخمر بالماء الزلال إلى أن يقول: ثم أضحوا عصف الدهر بهم ... وكذاك الدهر حالًا بعد حال قالوا: فتنغص النعمان، ونزع ملكه، وخلعه عنه، وترهب إلى غير ذلك من أشعار له، فيها هذا المعنى من الترغيب في الزهد والإبعاد عن لذائذ الدنيا2. و"حكي عن النعمان بن المنذر، أنه خرج متصيدا ومعه عدي بن زيد العبادي فمر بآرام -وهي القبور-، فقال عدي: أبيت اللعن أتدري ما تقول هذه الآرام؟ قال: لا. قال: إنها تقول: أيها الركب المخفو ... ن على الأرض تمرون لكما كنتم فكنا ... وكما كنا تكونون3 والشعر المنسوب إلى "عدي" الذي أدى على حد قول علماء الأخبار إلى

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 119". 2 المبرد، الكامل "1/ 294"، العمدة "1/ 223"، الجمان في تشبيهات القرآن "308"، المحاسن والأضداد "36". 3 المحاسن والأضداد "35".

إعراض "النعمان" السائح عن ملكه، وهروبه إلى البراري ليعيش فيها عيشة الرهبان، هو شعر لا يمكن أن يكون من شعر "عدي"، لأن شاعرنا لم يكن كبير السن آنذاك حتى يصدر منه مثل هذا الشعر، كما أنه لم يكن على اتصال وثيق بذلك الملك في ذلك العهد، ولعله من الشعر المصنوع، الذي وضع عليه. وهو شيء كثير. ولو قالوا إنه نظمه، وهو في سجنه حكاية عن قصة قديمة، لكان كلامهم هذا أقرب إلى العقل وأسهل للتصديق، لأنه كان قد كبر في العمر، وفي موقف يمكن أن يصدر منه مثل هذا الشعر. وهو شعر سلس سهل جميل ذو معان عميقة لطيفة، تتحدث عن تجارب رجل خبر الأيام، وعاش في نعيم ورفاه، حتى وصل مركزا عاليا في بلده، وإذا به يجد طريقه إلى المقابر، فيقبر بها وكأنه لم يكن شيئا مذكورا، فمن رأى الثاوين فيها، ومن نظر إلى القبور، فليحدث نفسه، أنه سيكون مثلهم، وأنه موف على قرن زوال، وصروف الدهر لا يبقى لها، ولا تدوم حال على حال، وقد صار أسلوبه هذا نموذجا لمن مال إلى الزهد والتصوف في الإسلام، وربما كان الشاعر "أبو العتاهية" ممن تأثر بهذا الشعر المنسوب إلى "عدي". ولعل الأحداث التي وقعت له، والأيام التي قضاها في سجنه، حتى جاءته منيته، وهو فيه، قد أثرت في نفسيته فجعلته، يكثر من الزهد في هذه الحياة، ومن وعظ الإنسان، بأن يغتر ويتجبر ويتكبر، فالسعادة لا تدوم لأحد، والملك لا يخلد لملك أو مالك، والحياة مهما كانت سعيدة ناعمة، فإنها قصيرة تمر مر البرق خاطفة، فعلى المتجبر أن يتعلم العبر من حياة الماضين ومن الأمم العظيمة، ومن الجبابرة، من أمثال: الأكاسرة وملوك الروم، وصاحب الحضر، ومن حياة من شاد القصور، وإذا به يتركها لغيره، ثم يدفن في حفرة ضيقة، فيخاطب النعمان صاحبه والشامتين به، الحساد الذين وشوا به حتى أصابه ما أصابه، ويقول لهم جميعا، وهو قابع في سجنه1: أيها الشامت المعير بالدهـ ... ـر أأنت المبرأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الأيـ ... ـام بل أنت جاهل مغرور

من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان أين قبله سابور إلى أن ينتهي منها بقوله: ثم صاروا كأنهم ورق جف ... فألوت به الصبا والدبور وهي قصيدة نظمت بالبحر الخفيف. قال "الجاحظ": "وقال عدي بن زيد العبادي، وهو أحد من قد حُمِل على شعره الحمل الكثير، ولأهل الحيرة بشعره عناية، وقال أبو زيد النحوي: لو تمنيت أن أقول الشعر ما قلت إلا شعر عدي بن زيد: كفى زاجرا للمرء أيام عمره ... تروح له بالواعظات وتغتدي فنفسك فاحفظها من الغي والردى ... متى تغوها تغو الذي بك يقتدي فإن كانت النعماء عندك لامرئ ... فمثلا بها فاجز المطالب أو زد عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي ستدرك من ذي الجهل حقك كله ... بحلمك في رفق ولما تشدد وظلم ذوي القربى أشد عداوة ... على المرء من وقع الحسام المهند وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجر ... إذا خطرت أيدي الرجال بمشهد1 وورد أن "عمر بن الخطاب" تمثل بشعر عدي: كدمى العاج في المحاريب أو كالـ ... ـبيض في الروض زهره مستنير2 ومن شعراء الحيرة "ابن بقيلة"، وله شعر ذكر فيه حال الحيرة بعد فتح المسلمين لها، إذ يقول: أبعد المنذرين أرى سواما ... تروح بالخورنق والسدير وبعد فوارس النعمان أرعى ... قلوصا بين مرة والحفير

_ 1 الحيوان "7/ 150". 2 البيان والتبيين "1/ 45".

فصرنا بعد هلك أبي قبيس ... كجرب المعز في اليوم المطير تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور وكنا لا يرام لنا حريم ... فنحن كضرة الضرع الفخور نؤدي الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم من مساءة أو سرور1 فهو يتأسف على ما وقع للحيرة، من تسلط قبائل "معد" عليها، ومن دخولهم في حكمهم، بعد أن كانوا يحكمون تلك القبائل، ويجبون الجبايات، ويظهر من ذكر "قريظة" والنضير في هذا الشعر، أن حكم الحيرة قد بلغ أرض هاتين القبيلتين، وذلك إن صح بالطبع أن هذا الشعر هو من شعره، وأنه أصيل غير مصنوع. وهو "عبد المسيح بن بقيلة" الغساني، أو "عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة"، وبقيلة اسمه "ثعلبة"، وقيل: "الحارث". وقد حشر في جملة المعمرين الذين عاشوا ثلاثمائة سنة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام، فلم يسلم، وكان نصرانيا. وله حديث مع خالد، حين طلب من أهل الحيرة إرسال رجل من عقلائهم ليكلمه في أمر المدينة، فلما جاء إليه قال له: أنعم صباحا أيها الملك. فقال خالد: قد أغنانا الله عن تحيتك هذه، ثم سأله أسئلة أخرى، ثم قال له. أعرب أنتم أم نبيط؟ قال: عرب استنبطنا، ونبيط استعربنا2، في حديث منمق، يرويه أهل الأخبار، وكأنهم كانوا مع خالد وابن بقيلة يسجلون حديثهما بالكلم والحروف. وقد تطرق "الجاحظ" إلى خبر التقاء "عبد المسيح" بخالد بن الوليد، وروى حديثه معه3. وذكر "المرتضى" أنه لما بنى قصره المعروف بقصر ابن بقيلة قال:

_ 1 الطبري "3/ 362"، وتجد هذه الأبيات في أمالي المرتضى مع بعض الاختلاف "1/ 262". 2 الطبري "3/ 362"، أمالي المرتضى "1/ 260 وما بعدها"، البيان والتبيين "2/ 147 وما بعدها". 3 البيان والتبيين "2/ 147 وما بعدها".

لقد بنيت للحدثان حصنا ... لو أن المرء تنفعه الحصون طويل الرأس أقعس مشمخرا ... لأنواع الرياح به حنين1 وروى "المرتضى"، أن بعض مشايخ أهل الحيرة خرج إلى ظهرها يختط ديرا، فلما احتفر موضع الأساس، وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة البيت، فدخله فإذا رجل على سرير من رخام، وعند رأسه كتابة: أنا عبد المسيح بن بقيلة: حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى بلغ المزيد وكافحت الأمور وكافحتني ... فلم أحفل بمعضلة كئود وكدت أنال في الشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود2 ومن شعره في الناس وفي تهافتهم والتفافهم حول الغنى قوله: والناس أبناء علات فمن علموا ... أن قد أقل فمجفوٌّ ومهجور وهم بنون لأم إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومخفور وهذا يشبه قول أوس بن حجر: بني أم ذي المال الكثير يرونه ... وإن كان عبدا سيد الأمر جحفلا وهم لمقل المال أولاد علة ... وإن كان محضا في العمومة مخولا3 ومن شعراء "تنوخ" "عمرو بن عبد الجن بن عائذ الله بن أسعد بن سعد بن كثير بن غالب"، وكان فارسا في الجاهلية، و "بنو عبد الجن" أسرة معروفة، كان لها بقية في الكوفة. ومن شعره: أما والدماء المائرات تخالها ... على قنة العُزّى وبالنسر عندما

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 262". 2 أمالي "263". 3 أمالي المرتضى "1/ 262 وما بعدها".

ثم: وما سبح الرحمن في كل ليلة ... أبيل الأبيلين المسيح بن مريما1 وأدخلوا في هذه الطبقة "جذيمة" الأبرش، و "لجيم بن صعب بن على بن بكر بن وائل"، وهو القائل: من كل ما نال الفتى ... قد نلته إلا التحية2 وجذيمة الأبرش، هو "جذيمة بن مالك بن فهم بن عمرو" ملك الحيرة، والأبرش لقب له، ويقال له الوضاح3، وهو خال "عمرو بن عدي"، وكان ينادم عديًّا، وكان له نديمان هما: مالك، وعقيل، بقيا معه أربعين سنة، ثم قتلهما وندم، ويضرب بهما المثل لطول ما نادماه. وقد قتلت الزباء جذيمة4. وقد شاء أهل الأخبار عده شاعرا من الشعراء وأوردوا له شعرا، كما سبق أن تحدثت عنه في أثناء حديثي عن مملكة الحيرة، وعن أسطورة صلته بالزباء. ولو جعلناه شاعرا: لوجب علينا تقديمه على كل الشعراء الجاهليين. وقصة شعره أسطورة من أساطير أهل الأخبار، فلو كان له شعر، لوجب أن يكون بعربية أخرى، هي العربية التي دون بها شاهد قبر "امرئ القيس" ملك الحيرة، الذي توفي سنة "328" للميلاد أي بعد "جذيمة" بأمد، وشعره هو من شعر تبابعة اليمن وآدم والجن من صنع الرواة وأهل الأخبار. وترى في شعر الأعشى، وأمية بن أبي الصلت، و "عدي بن زيد"، وكلهم من شعراء القرى، قصصا، لا تجده في الشعر المنسوب إلى غيرهم من الشعراء. قصصا نصرانيا وقصصا يرد عند اليهود، وقصصا من قصص الأساطير والخرافات، أو مما يتعلق بالأشخاص، كالذي ينسب إلى الأعشى من سرده حكاية السموأل وقصره في قصيدته التي يقول فيها:

_ 1 الخزانة "3/ 340 وما بعدها"، "بولاق". 2 المزهر "2/ 476"، أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام، نوادر المخطوطات "المجموعة السادسة" "ص112 وما بعدها". 3 البيان والتبيين "1/ 262". 4 رسالة الغفران "170، 278".

كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار1 وقد وصف فيها السموأل وحصنه، وقصة وفائه، وما كان قد جرى من حوار بينه وبين الملك الغساني المطالب بأدرع الكندي، وترى من قراءتك لها أن النظم نمط غير مألوف في شعر غيره من الشعراء، الأبيات فيهما مكملة لما قبلها متصلة بعضها ببعض، بحيث لا يمكن أن تفصل بينها، وإلا اختل المعنى، وظهر فراغ فيه. وهو شيء غير مألوف عند غيره. فالبيت على حد قول علماء الشعر شعر مستقل قائم بنفسه، لا يؤثر حذفه أو تقديمه أو تأخيره على المعنى ولا على ارتباط الأبيات بعضها ببعض، أما في هذه القصيدة فكل بيت فيها تابع لسابقه، متصل معناه بمعناه، لأنه جزء منه، فلا يمكن حذف شيء من القصيدة دون أن يؤثر في معناها. ونجد في شعره قصصا عن سد مأرب، وعن تهدمه وإغراقه من كان يسكن عنده بالماء، ذكر ذلك ليكون عبرة وأسوة للمؤتسي، وهو قصص بني على حادث تهدم ذلك السد2. وفي شعر الأعشى قصص إرم وعاد وطسم وجديس، وأهل جوّ، ووبار3. وهو قصص رصعه الأخباريون بشعر نسبوه إلى "هزيلة" امرأة من "جديس"، وإلى "عميرة بنت غفار الجديسية"، في قصص عن الملوك القدماء، وكيف أنهم كانوا يدخلون على العذارى قبل إدخالهم على أزواجهم، في قصص ينسب إلى ملوك آخرين، مثل ملوك اليمن4. وهو قصص نجد له مشابه عند الأمم الأخرى. ومن شعراء "غسان": "الشيظم بن الحارث" الغساني، وهو من الأسرة الحاكمة، كان قد قتل رجلا من قومه، وكان المقتول ذا أُسرة، فخافهم

_ 1 الزمخشري، المستقصى في أمثال العرب "1/ 436". 2 راجع البيت "67 فما بعده" من القصيدة رقم "4"، وديوانه "ص43". 3 الخزانة "2/ 270 وما بعدها"، "هارون". 4 الخزانة "2/ 271 وما بعدها"، "هارون".

فلحق بالحيرة، فكان يتكفف الناس نهاره ويأوي إلى خربة من خراب الحيرة، فبينا هو ذات يوم في تطوافه إذ سمع قائلا يقول: لحا الله صعلوكا إذا نال مذقة ... توسد إحدى ساعديه فهوّما مقيما بدار الهون غير مناكر ... إذا ضيم أغضى جفنه ثم برشما يلوذ بأذراء المثاريب طامعا ... يرى المنع والتعبيس من حيث يمما يضنُّ بنفس كدَّر البؤس عيشها ... وجود بها لو صانها كان أحزما فذاك الذي إن عاش عاش بذلة ... وإن مات لم يشهد له الناس مأتما بأرضك فاعرك جلد جنبك إنني ... رأيت غريب القوم لحما موضما فكأنه نبهه من رقدة، فتحايل إلى صاحب خيل المنذر، وتقرب إليه، وأظهر له أنه رجل من أهل "خيبر"، أقبل إلى هذه البلدة بجارة فأصاب بها، وله بصر بسياسة الخيل، فضمه إلى بعض أصحابه، حتى إذا وافق غرة من القوم، ركب فرسا جوادا من خيل المنذر وخرج من الحيرة يتعسف الأرض، حتى نزل بحي من بهراء فأخبرهم بشأنه، فأعطوه زادا ورمحا وسيفا، وخرج حتى أتى الشام فصادف الملك متبديا، وكان إذا تبدى لا يحجب أحد عنه، فأتى قبة الملك فقام قريبا منه، وأنشأ يقول: يا صاحب الخيل الجياد المقربه ... وصاحب الكتيبة المكوكبه والقبة المنيعة المحجبه ... وواهب المضمرة المرببه والكاعب البهكنة المؤتبه ... والمائة المدفأة المنتخبه والضارب الكبش فويق الرقبه ... تحت عجاج الكبة المكتّبه هذا مقام من رأى مطَّلَبَه ... لديك إذ عمّى الضلال مذهبه وخال أن حتفه قد كربه فأذن له الملك، فدخل عليه، وقص قصته، ثم بعث إلى أولياء المقتول فأرضاهم عن صاحبهم1.

_ 1 ذيل الأماني "179 وما بعدها".

وفي شعر شعراء القرى، مزية امتازوا بها عن شعر شعراء أهل البوادي، هي أن أبيات القصيدة عندهم ليست على نحو أبيات القصيدة عند بقية الشعراء من استقلال الأبيات بنفسها، وقيامها بذاتها بحيث يمكن رفع الأبيات من مواضعها وتقديمها أو تأخيرها، أو حذفها، دون أن يؤثر ذلك على وحدة القصيدة أو المعنى. ففي شعر "الأعشى" مثلا، ترابط بين الأبيات واتصال بين البيت المتقدم والبيت الذي يليه، بحيث لا يمكن حذف أحدهما ورفعه، دون أن يؤثر حذفه على المعنى، كذلك يتعذر علينا في بعض شعره نقل البيت عن موضعه، وقد يأتي الأعشى بالفعل في بيت ثم يأتي بفاعله أو بمفعوله في البيت التالي، أو يأتي بفعل الشرط في بيت ويأتي بخبره بعد بيت أو بيتين1. ويرد التضمين في شعره، كما نجد "الاستدارة" فيه كذلك، والاستدارة توالي مجموعة متلاحمة من الأبيات تجري على نظام متسق، يقوم فيه كل بيت بنفسه في معناه، ولكن المعنى التام لا يتم إلا بالبيت الأخير منها. وهو أسلوب يثير السامع ويشوقه، ويجعله يتتبع الكلام حتى يبلغ منتهاه2. وأشعر شعراء "البحرين" الذين ذكرهم "ابن سلام": المثقب العبدي، والممزق العبدي، والمفضل بن معشر3. و"المثقب العبدي" واسمه "عائذ بن محصن بن ثعلبة"، من "بني عبد القيس"، من شعراء الجاهلية، وإنما سمي مثقبا لقوله: ظهرن بكلّة وسدلن أخرى ... وثقبن الوصاوص للعيون4 وذكر "ابن قتيبة" أن اسمه "محصن بن ثعلبة"5، وقيل اسمه شأس بن عائذ

_ 1 ديوان الأعشى، المقدمة "ص ظ". 2 ديوان الأعشى، "غ". 3 طبقات "69". 4 رددن تحية وكنن أخرى ... وثقبن الوصاوص للعيون الشعر والشعراء "356"، طبقات الشعراء "229"، الخزانة "4/ 431". السيوطي، شرح شواهد "1/ 190 وما بعدها". ظهرن بكلة وسدلن رقما ... وثقبن الوصاوص للعيون تابع العروس "1/ 166"، "ثقب"، ألقاب الشعراء "316". 5 الشعر والشعراء "1/ 311"، "طبعة دار الثقافة".

ابن محصن، وقيل اسمه نهار بن شأس، وكان يكنى أبا وائلة. وهو من شعراء البحرين1. "وكان أبو عمرو بن العلاء يستجيد هذه القصيدة له، ويقول: لو كان الشعر مثلها لوجب على الناس أن يتعلموه، وفيها يقول: أفاطم قبل بينك متعيني ... ومنعك ما سألتك أن تبيني ولا تعدي مواعد كاذبات ... تمر بها رياح الصيف دوني فإني لو تعاند في شمالي ... عنادك ما وصلت بها يميني إذا لقطعتُها ولقلت بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني فإما أن تكون أخي بحق ... فأعرف منك غثي من سميني وإلا فاطرحني واتخذني ... عدوا أتقيك وتتقيني فما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا ابتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني2 وتحدث عنه "ابن قتيبة"، فقال: "وهو قديم جاهلي، كان في زمن عمرو بن هند، وإياه عنى بقوله: إلى عمرو ومن عمرو أتتني ... أخي الفعلات والحلْم الرزين وله يقول: غلبت ملوك الناس بالحزم والنهى ... وأنت الفتى في سورة المجد ترتقي وأنجب به من آل نصر سميدع ... أغر كلون الهندوانيّ رونق3 ويرى "بروكلمان"، أن "ابن قتيبة" إنما أخذ رأيه المذكور من البيت المتقدم المذكور في المفضليات، ولكن الأصمعي يعارض ذلك، فقد مدح المثقب أبا قابوس النعمان بن المنذر4.

_ 1 المرزباني، معجم "167"، الخزانة "4/ 429 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "1/ 311 وما بعدها". 3 الشعر والشعراء "1/ 312"، المرزباني، معجم "303". 4 بروكلمان، "1/ 115"، البيت "41" من القصيدة "76"، المفضليات. فإن أبا قابوس عندي بلاؤها ... جزاء بنعمى لا يحل كنودها البيت "14" من القصيدة "28" في المفضليات.

وللمثقب العبدي ديوان مطبوع، كما يوجد له شرح1. ومن شعره: لا تقولن إذا ما لم ترد ... أن تتم الوعد في شيء نعم حسن قول نعم من بعد لا ... وقبيح قول لا بعد نعم إن لا بعد نعم فاحشة ... فبلا فابدأ إذا خفت الندم فإذا قلت نعم فاصبر لها ... بنجاح القول إن الخلف ذم2 واعلم بأن الذم نقص للفتى ... ومتى لا تتقي الذم تذم أكرم الجار وراع حقه ... إن عرفان الفتى الحق كرم لاتراني راتعا في مجلس ... في لحوم الناس كالسبع الضرم إن شر الناس من يكشر لي ... حين يلقاني وإن غبت شتم وكلام سيء قد وقرت ... عنه أذناي وما بي من صمم فتعديت خشاة أن يرى ... جاهل أني كما كان زعم ولبعض الصفح والإعراض عن ... ذي الخنى أبقى وإن كان ظلم3 وأما "الممزق" العبدي، فاسمه "شأس بن نهار بن أسود"، وإنما سمي "الممزق" ببيت قاله: فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق4 وهو ابن أخي المثقب العبدي، وكان معاصرا لأبي قابوس النعمان بن المنذر5. قال عنه "ابن قتيبة": "وهو جاهلي قديم، قال البيت المذكور في قصيدة قالها لبعض ملوك الحيرة6. وذكر أنه قالها للملك عمرو بن هند، حين هم بغزو عبد القيس، فلما بلغته القصيدة انصرف عن عزمه7. وقيل: إنه عرف بالممزق ببيته:

_ 1 حققه الشيخ محمد حسن آل يسين، "بغداد 1956م، بروكلمان "1/ 115". 2 الخزانة "4/ 431"، "بولاق". 3 بلوغ الأرب "3/ 124". 4 ابن سلام، طبقات "70"، الاشتقاق "330"، الآمدي، المؤتلف "185"، ألقاب الشعراء "316"، المفضليات "2/ 232". 5 بروكلمان "1/ 119"، ألقاب الشعراء "316"، المرزباني "495"، المزهر "2/ 435 وما بعدها"، الحيوان "2/ 298"، "5/ 441". 6 الشعر والشعراء "1/ 314"، المرزباني، معجم "481"، الأصمعيات رقم "50". 7 البيان والتبيين "1/ 375 وحاشية رقم 4"، جمهرة ابن حزم "282".

فمن مبلغ النعمان أن ابن أخته ... على العين يعتاد الصفا ويمزق1 وقد نسبه "السيوطي" على هذه الصورة: "شأس بن نهار بن الأسود بن جبريل بن عباس بن حي بن عوف بن سود بن عذرة بن منبه بن بكرة" العبدي، ثم البكري2. ومن شعره: أحقا أبيت اللعن إن ابن فرتنا ... على غير إجرام بريقي مشرقي فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق فأنت عميد الناس مهما تقل نقل ... ومهما تضع من باطل لا يحقق أكلفتني أدواء قوم تركتهم ... فإلا تداركني من البحر أغرق فإن يعمنوا أشئم خلافا عليهم ... وإن يتهموا مستحقبي الحرب أعرق3 ومما ينسب إليه: هل للفتى من بنات الدهر من واق ... أم هل له من حمام الموت من واق وقوله: هون عليك ولا تولع بإشفاق ... فإنما مالنا للوارث الباقي4 ونجده يذكر في شعره صراخ الديك، ولا نجد للديك ذكرا عند الأعراب؛ لأنهم لا يربون الدجاج، وتربية الدجاج من خصائص الحضر. تراه يقول: وقد تخذت رجلاي في جنب غرزها ... نسيفا كأفحوص القطاة المطرق أنيخت بجو يصرخ الديك عندها ... وباتت بقاع كادئ النبت سملق5 وذكر "المرتضى" أن من شعره قوله: ألا من لعين قد نآها حميمها ... وأرقني بعد المنام همومها

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 124". 2 شرح شواهد "2/ 680 وما بعدها". 3 الشعر والشعراء "1/ 314". 4 بلوغ الأرب "3/ 125". 5 الحيوان "2/ 298".

فباتت لها نفسان شتي همومها ... فنفس تعزيها ونفس تلومها وذكر أن من العلماء من ينسبه لمعقر بن حمار البارقي1. ومن شعراء "عبد القيس": "سويد" و "زيد" ابنا "خذاق". قال عنهما "ابن قتيبة": "وهما قديمان، كانا في زمن عمرو بن هند. ويزيد القائل: نعمان إنك غادر خدع ... يخفي ضميرك غير ما تبدي فإذا بدا لك نحت أثلتنا ... فعليكها إن كنت ذا جد وهززت سيفك كي تحاربنا ... فانظر بسيفك من به تردي وله شعر في الموت وفي ذم الدنيا، قال عنه "أبو عمرو بن العلاء" إنه "أول شعر قيل في ذم الدنيا"2. وكان يزيد قد هجا "النعمان بن المنذر" فبعث إليه النعمان كتيبته "الدوسر" فاستباحتهم، فقال أخوه سويد: ضربت دوسر فينا ضربة ... أثبتت أوتاد ملك فاستقر فجزاك الله من ذي نعمة ... وجزاه الله من عبد كفر3 ومن شعره قوله في "عمرو بن هند": أبى القلب أن يأتي السدير وأهله ... وإن قيل عيش بالسدير غزير به البق والحُمّى وأسد خفية ... وعمرو بن هند يعتدي ويجور وهو القائل أيضا: جزى الله قابوس بن هند بفعله ... بنا وأخاه غدرة وأثاما بما فَجَرا يوم العطيف وفرقا ... قبائل أحلافا وحيا حراما لعل لبون الملك تمنع درها ... ويبعث صرف الدهر قوما نياما وإلا تغاديني المنية أغشكم ... على عدواء الدهر جيشا لهاما4

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 325". 2 الشعر والشعراء "1/ 302". 3 الاشتقاق "2/ 200". 4 الشعر والشعراء "1/ 302 وما بعدها".

وكانت عبد القيس وتميم على اتصال بملوك المناذرة الذين كان نفوذهم يمتد إلى البحرين واليمامة في بعض الأحايين، فكانت جيوش الحيرة في نزاع مستمر مع هذه القبائل التي كانت تنفر من دفع الإتاوة ومن الخضوع لآل لخم. ونجد أخبار هذا النزاع في شعر شعرائها، وهي أخبار لا نجدها في كتب التواريخ المألوفة، التي لم تحفل بالشعر، فضاع عليها قسط كبير من تأريخ الحيرة، حصلنا عليه لحسن حظنا من كتب الشعر والأدب التي دونت أخبار الشعراء ودونت المناسبات التي قيل فيها هذا الشعر.

الفصل الثاني والستون بعد المائة: شعراء قريش

الفصل الثاني والستون بعد المائة: شعراء قريش ويزعم أهل الأخبار أن العرب كانت تقر لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر، فإنها كانت لا تقر لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرت لها الشعراء بالشعر أيضا ولم تنازعها1. وذكر أن قريشا كانت أقل العرب شعرا في الجاهلية، فاضطرها ذلك أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الإسلام. ويؤيد هذا الرأي أننا نجد أكثر من ذكر الرواة أسماءهم وأشعارهم من الشعراء الجاهليين إنما هم من غير قريش2. وذكر أهل الأخبار أن المنافسة التي كانت بين قريش والأوس والخزرج، أهل يثرب، دفعت أهل مكة إلى صنع الأشعار لتتغلب بها على الأنصار، "يروي الناس لأبي سفيان بن الحارث قولا يقوله لحسان: أبوك أبو سوء وخالك مثله ... ولست بخير من أبيك وخالكا وإن أحق الناس أن لا تلومه ... على اللوم من ألقى أباه كذلكا أخبرنا أبو خليفة، أخبرنا محمد بن سلام، قال: وأخبرني أهل العلم من

_ 1 الأغاني "1/ 25"، ابن سلام، طبقات الشعراء "10". 2 مجلة المجمع العلمي العراقي، جواد علي، لهجة القرآن الكريم "المجلد الثالث" "الجزء الثاني 1955م"، "ص278".

أهل المدينة أن قدامة بن موسى بن عمر بن قدامة بن مظعون الجمحي قالها ونحلها أبا سفيان. وقريش تزيد في أشعارها تريد بذلك الأنصار والرد على حسان"1. وهناك أخبار أخرى في هذا المعنى تفيد نحل الشعر وضمه إلى شعراء مكة، لتتباهى به على يثرب. ولا نجد بين الشعراء البارزين من أصحاب المعلقات شاعرا واحدا هو من قريش. كذلك لا نجد من بين شعراء الطبقات المتقدمة من فحول الشعراء الذين قدمهم علماء الشعر على غيرهم شاعرا هو من أهل مكة. وهذا هو تفسير قول أهل الأخبار المتقدم، الدال على تأخر قريش بالنسبة إلى باقي العرب في قول الشعر، أما لو أخذنا قولهم المذكور، وصرفناه على أهل القرى، فإننا نجد مكة متقدمة فيه، لأنها أنجبت عددا لا بأس به من الشعراء بالقياس إلى الطائف، التي اشتهرت بشعر شاعرها "أمية بن أبي الصلت"، ولكنها لا تداني مكة في عدد من ظهر بها من الشعراء، وبالقياس إلى "نجران" وإلى قرى اليمامة. أما بالنسبة إلى يثرب، فقد برز بيثرب شعراء، هم أكثر عددا وشهرة من شعراء مكة. وقد وصف "ابن سلام" شعر قريش بقوله: "وأشعار قريش أشعار فيها لينٌ يشكل بعض الإشكال"2. وذلك حين تحدث عن شعر "أبي طالب" وعن شعر "الزبير بن عبد المطلب"، وعما وضع الناس من شعر عليهما. ويذكر أهل الأخبار، أن قريشا كانت في الجاهلية دون غيرها من العرب، تعاقب شعراءها إذا هجا بعضهم بعضا، كما كانت ترمي من يروي المثالب ويقع في أعراض الناس بالحمق، فتسقط منزلته بين الناس، ولهذا قل فيها شعر الهجاء3. ويذكرون أن أهل مكة لما أصبحوا يوما وعلي باب الندوة مكتوب: ألهى قُصيا عن المجد الأساطير ... ورشوة مثل ما ترشي السفاسير وأكلها اللحم بحثا لا خليط له ... وقولها رحلت عير أتت عير أنكر الناس ذلك، وقالوا ما قالها إلا "ابن الزبعرى" وأجمع على ذلك

_ 1 ابن سلام، طبقات "62". 2 ابن سلام، طبقات "60 وما بعدها". 3 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 413".

رأيهم، فمشوا إلى "بني سهم"، وكان مما تنكر قريش وتعاقب عليه أن يهجو بعضها بعضا، فقالوا لبني سهم: ادفعوا إلينا نحكم فيه بحكمنا. قالوا: وما الحكم فيه؟ قالوا قطع لسانه، قالوا: فشأنكم. واعلموا والله أنه لا يهجونا رجل منكم إلا فعلنا به مثل ذلك. وكان "الزبير بن عبد المطلب" يومئذ غائبا نحو اليمن، فخاف بنو قصي أن يقول شيئا من هجاء، فيؤتى إليه مثل ما أتى إلى ابن الزبعرى، وكانوا أهل تناصف، فأجمعوا على تخليته فخلوه1. وقد أحصى "جرجي زيدان" عدد الشعراء الجاهليين بنحو من "120" شاعرا على اختلاف القبائل والبطون. وقد وجد أن عشرة شعراء منهم هم من قريش2. معظمهم إن لم نقل كلهم كان ممن عاش عند ظهور الإسلام، وقد اشتهر بالشعر وعرف به لموقفه المعادي من الإسلام، ولاضطراره إلى مهاجاة النبي والمسلمين دفاعا عن عقيدته، ولهذا كان معظم شعره في هجاء المسلمين، وفي الرد عليهم وفي الفخر بقومه وتعديد مآثرهم ومناقبهم والدفاع عنهم. قال "ابن سلام: "وبمكة شعراء، فأبرعهم شعرا عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي بن ربيعة بن سعد بن سهم، وأبو طالب بن عبد المطلب، شاعر، وأبو سفيان بن الحارث، شاعر، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، شاعر، وضرار بن الخطاب، شاعر، وأبو عزة الجمحي، شاعر، واسمه عمر بن عبد الله، وعبد الله بن حذافة السهمي الممزق، وهبيرة بن أبي وهب بن عامر بن عائذ بن عمران بن مخزوم"3. ونجد في كتب السيرة والأخبار شعرا لعبد المطلب، من جملته قوله: لا هم إن العبد يمـ ... ـنع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك إن كنت تاركهم وقبـ ... ـلتنا فأمرٌ ما بدا لك4

_ 1 ابن سلام، طبقات "57 وما بعدها". 2 تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 275 وما بعدها"، "شعراء العصر الأموي". 3 طبقات "57". 4 ابن هشام، سيرة "1/ 44 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الحيوان "7/ 198 وما بعدها"، ويختلف النص في الموارد.

ومن شعراء قريش "أبو لبيد بن عبدة بن جابر"، وكان أحد فرسانها في الجاهلية1. و"أبو طالب"، عم النبي، وقد أدخلناه في عداد الشعراء، لوجود شعر ينسب إليه، ورد أكثره في سيرة "ابن إسحاق"، ولوجود ديون مطبوع نسب إليه. واسمه "عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي"، وقيل اسمه "عمران"، وقيل اسمه كنيته2. وقال عنه "ابن سلام": "وكان أبو طالب شاعرا جيد الكلام، وأبرع ما قال قصيدته التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمة للأرامل3 ولد قبل النبي بخمس وثلاثين سنة، ولما مات "عبد المطلب" وصي بالنبي إليه، فكفله، وسافر به إلى الشام، وهو شاب، ولما بعث الرسول كان لا زال حيا، وقد اختلف في إسلامه4، وتوفي في السنة العاشرة من المبعث5. وقد ذكر "ابن هشام" قصيدة لأبي طالب، قال إنه قالها في "المطعم بن عدي" يعرض به، ويعم من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش منها قوله: ألا قل لعمرو والوليد ومطعم ... ألا ليت حظي من حياطتكم بكر من الخور حبحاب كثير رغاؤه ... يرش على الساقين من بوله قطر6 وأورد "ابن هشام" له قصيدة أخرى، ذكر أنه قالها في مدح قريش، لما رأى "أبو طالب" من قومه ما سره في جهدهم معه وحدبهم عليه. فقال:

_ 1 الاشتقاق "71". 2 الإصابة "4/ 115 وما بعدها"، "رقم 685". 3 ابن سلام، طبقات "60". 4 الخزانة "2/ 75"، "عبد السلام محمد هارون"، "1/ 251 وما بعدها"، "بولاق". 5 الخزانة "1/ 261"، "بولاق". 6 سيرة ابن هشام "1/ 171"، "حاشية على الروض الأنف".

إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها وصميمها فإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها1 ونسبت له قصيدة ذكر أنه قالها لما خشي "أبو طالب" دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، تعوذ بها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم الرسول ولا تاركه أبدا حتى يهلك دونه. إذ يقول: ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل2 وهي قصيدة طويلة، قال "ابن هشام" في آخرها: "هذا ما صح لي من هذه القصيدة وبعض أهل العلم ينكر أكثرها"3. ويظهر أنها وردت بصورة أطول في سيرة "ابن إسحاق"، إلا أن "ابن هشام" طرح منها ما شك في أصله وما لم يثبت عنده أنه من شعر "أبي طالب"، واكتفى بهذا القدر الذي دوّنه في سيرته. وفي جملة ما جاء في القصيدة المذكورة قوله: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل وقد ذهب "ابن سلام" إلى أن الرواة زادوا في قصيدة أبي طالب وطولوها فأبعدوا آخرها عن أولها. وتعرض لها "الرافعي" فقال: "وقد يزيدون في القصيدة ويبعدون بآخرها متى وجدوا لذلك باعثا، كقصيدة أبي طالب التي قالها في النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مشهورة أولها: خليلي ما أذني لأول عاذل ... بصغواء في حق ولا عند باطل4

_ 1 سيرة ابن هشام "1/ 172"، "حاشية على الروض". 2 سيرة ابن هشام "1/ 172 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الخزانة "2/ 57 وما بعدها"، وقد دون القصيدة وشرح أبياتها "عبد السلام محمد هارون". 3 سيرة ابن هشام "1/ 178 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف". 4 طبقات "60".

قال ابن سلام: زاد الناس في قصيدة أبي طالب وطولت بحيث لا يدرى أين منتهاها، وقد سألني الأصمعي عنها فقلت صحيحة، فقال: أتدري أين منتهاها قلت لا، قلنا: وإنما طولت هذه القصيدة معارضة للطوال المعروفة بالمعلقات حتى لا يكون من شعر الجاهلية ما هو خير مما قال عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في أصلها أبياتا هاشمية تفي بكثير من الطوال"1. وقد تعرض "ابن سلام" -كما قلت- لهذه القصيدة فقال: "وقد زيد فيها وطولت. رأيت في كتاب كتبه يوسف بن سعد صاحبنا منذ أكثر من مائة سنة: وقد علمت أن قد زاد الناس فيها، فلا أدري أين منتهاها. وسألني الأصمعي عنها، فقلت صحيحة. قال: أتدري أين منتهاها؟ قلت لا أدري"2. ونسب أهل الأخبار لأبي طالب شعرا زعموا أنه قال لأبي لهب يحرضه فيه على نصرته ونصرة الرسول، فيه: وإن امرأ أبو عتيبة عمه ... لفي روضة ما إن يسام المظالما3 ونسبوا له قصيدة "دالية" ذكروا أنه نظمها لما مزقت "الصحيفة": صحيفة قريش، التي كتبوها في مقاطعة "بني هاشم"، أولها: ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا ... على نأيهم والله بالناس أرود فيخبرهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد ترواحها إفك وسحر مجمع ... ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد4 وقد أورد "الزبيري" منها هذه الأبيات: جزى الله رهطا من لؤي تتابعوا ... على ملأ يهدي لحزم ويرشد قعودا لدى جنب الحطيم كأنهم ... مقاولة بل هم أعز وأمجد هم رجعوا سهل بين بيضاء راضيا ... فسر أبو بكر بها ومحمد ألم يأتكم أن الصحيفة مزقت ... وإن كان ما لم يرضه الله يفسد

_ 1 الرافعي، تأريخ آداب العرب "1/ 384 وما بعدها". 2 ابن سلام، طبقات "60 وما بعدها". 3 سيرة ابن هشام "1/ 230"، "حاشية على الروض". 4 سيرة ابن هشام "1/ 233 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف".

أعان عليها كل صقر كأنه ... شهاب بكفي قابس يتوقد جريٌّ على حل الأمور كأنه ... إذا ما مشى في رفرف الدرع أجود1 وهي من الشعر المصنوع. ونسبوا له قوله: ودعوتني وزعمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت قبل أمينا ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا2 وقوله: ألا أبلغا عني على ذات بيننا ... لؤيا وخصا من لؤي بن كعب ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... نبيا كموسى خط في أول الكتب وأن عليه في العبادة مودة ... وخير فيمن خصه الله بالحب3 ولأبي طالب شعر، رثى به "أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم"، وكان قد خرج تاجرا إلى الشام، فمات في موضع يقال له: "سرو سحيم". وكان "أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله" من "أزواد الركب" في قريش، وهم ثلاثة: هو و "مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس"، و "زمعة بن الأسود بن عبد المطلب"، وكانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد4. وله شعر في رثاء "مسافر"5. وفي الديوان المطبوع شعر يمكن أن يكون صحيحا، ولكن أكثره شعر منحول، ولا سيما القصيدة "اللامية" الطويلة. فإن القسم الأكبر منها، لا يمكن أن يكون من الشعر الأصيل. ويرى "بروكلمان" أن سبب الوضع، هو رغبة من وضعه في تزيين سيرة الرسول بمكة، وفي أوائل عهد النبوة، بكثير من الأشعار،

_ 1 نسب قريش "431". 2 الروض الأنف "1/ 221"، الخزانة "1/ 571 وما بعدها"، "بولاق"، "ودعوتني وزعمت أنك ناصح". 3 الروض الأنف "1/ 221"، الخزانة "2/ 76"، "عبد السلام محمد هارون". 4 الخزانة "3/ 446 وما بعدها"، "بولاق". 5 الخزانة "3/ 386 وما بعدها"، "بولاق".

بعد أن كثرت الأشعار في سيرته بالمدينة، كما أن للشيعة يدا في وضع هذا الشعر على لسان "أبي طالب" لإظهاره بمظهر المعاون للنبي المؤيد له، المؤمن بدعوته في قلبه ولسانه، تأييدا للإمام "علي"، الذي هو ابن "أبي طالب"1. ونسب "الجاحظ" له قوله: أمن أجل حبل لا أباك علوته ... بمنسأة قد جاء حبل وأحبل2 ويروى لعلي بن أبي طالب شعر كثير3. ولا يوجد شك في أن عليا كان مطبوعا على قول الشعر، وأنه كان ذا شاعرية، وله مواهب تؤهله لنظمه، كما كان من الحفاظ للشعر، وقد أورد له أهل الأخبار والأدب شعرا ذكروه في المواضع المناسبة، كما جمع بعض الأدباء شعره في ديوان، فهو صاحب شعر، نظم في المناسبات، غير أنه لم يكن شاعرا بمعنى أنه اتخذ الشعر صناعة له، وإنما كان يقوله في المناسبة، ثم إن في المنسوب إليه، شعرا كثيرا، هو موضوع. صنع وحمل عليه. وأكثر ما جاء في الديوان الذي يحمل اسمه هو من هذا القبيل4. ونظرا إلى ما لعلي بن أبي طالب من المكانة في نفوس المسلمين، ولوجود شيعة له، فقد اهتم الناس بأمر ديوانه، وشرحوه شروحا عديدة، وترجموه إلى لغات مختلفة، وطبع جملة طبعات، بحيث نستطيع أن نقول دون مبالغة، إن ديوان "علي" نال من المكانة والتقدير ما لم ينله أي ديوان آخر، ليس لما فيه من شعر أو من بلاغة، بل لحرمة ولمكانة صاحبه، ففي هذا الديوان غث كثير، وفيه ما لا يمكن إرجاعه إلى "علي" أبدا5. قال "أبو عثمان" المازني: لم يصح عندنا أن عليا تكلم من الشعر إلا هذين البيتين: تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما برّوا وما ظفروا فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات روقين لا يعفو لها أثر6

_ 1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 175". 2 البيان والتبيين "3/ 30". 3 المرزباني، معجم "130"، "عبد الستار أحمد فراج". 4 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 175 وما بعدها". 5 راجع التفاصيل في بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 175 وما بعدها". 6 الفائق "1/ 512".

ونسبوا لعلي قصيدة في الأيام السبعة منها: أرى الأحد المبارك يوم سعد ... لغرس العود يصلح والبناء وفي الاثنين للتعليم أمن ... وبالبركات يعرف والرخاء وإن رمت الحجامة في الثلاثا ... فذاك اليوم إهراق الدماء وإن أحببت أن تسقي دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء وفي يوم الخميس طلاب رزق ... لإدراك الفوائد والغناء ويوم الجمعة التزويج فيه ... ولذات الرجال مع النساء ويوم السبت إن سافرت فيه ... وقيت من المكاره والعناء وقد رويت القصيدة بروايات أخرى1. ونسبوا "لورقة بن نوفل" شعرا، زعموا أنه قال حين رآهم يعذبون بلالا على إسلامه. منه: لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد لا تعبدن إلاها غير خالقكم ... فإن دعيتم فقولوا دونه حدد سبحان ذي العرش لا شيء يعادله ... رب البرية فرد واحد صمد2 وورقة، هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، يجتمع مع النبي في جدّ جدّه. ذكر أنه كره عبادة الأوثان وطلب الدين في الآفاق وقرأ الكتب، وأنه كان حنيفا على ملة إبراهيم، وذكر أنه كان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس، ومات في فترة الوحي قبل نزول الفرائض والأحكام، وروى بعضهم أنه آمن بالرسول وجعله من الصحابة، وشدد الإنكار على من أنكر صحبته، وجمع الأخبار الشاهدة له بأنه في الجنة، وهكذا نجد الروايات تجمع على نبذه عبادة الأوثان، ثم تختلف في أنه كان حنيفا على ملة الأحناف، أو نصرانيا، أما زعم إيمانه بالرسول، وما رووه من الشعر من ذكره اسم الرسول وإيمانه به، ومن أخباره عنه، فإنه من الشعر الموضوع، الذي وضع على لسان غيره أيضا، بزعم إثبات نبوة الرسول، وفي أكثره ركة.

_ 1 نزهة الجليس "1/ 251". 2 الخزانة "2/ 37"، "بولاق"، نسب قريش "208".

وقد نسب بعضه مثل قوله: لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد إلى غيره، فقيل إنه لأمية بن أبي الصلت، وقيل إنه لزيد بن عمرو بن نفيل. غير أن "السهيلي"، و"أبا الربيع" الكلاعي، والبغدادي يرون أنه له1. ومن الشعر المنسوب إليه قوله: ارفع ضعيفك لا يَحُرْ بك ضعفه ... يوما فندركه العواقب قد نمى يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى وقد نسبا أيضا لزهير بن جناب2. ولزيد بن عمرو بن نفيل، وهو أحد الأحناف شعر، وهو من المتألهين الذين حاربوا عن مكة طالبا للعلم والمعرفة والدين، ذهب إلى بلاد الشام. وهناك احتك بالنصارى، فتعلم منهم أمور الدين. ولعله تعلم السريانية والرومية بها ونظر في كتب النصرانية، لما يذكره أهل الأخبار من تعلمه للغتين. وفارق شأن بقية الأحناف قومه، وعاب الأصنام والأوثان، ونسب أهل الأخبار إليه أنه كان يسند ظهره إلى الكعبة ثم يقول: يا معشر قريش، والذي نفسي بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري. وكان مثل بقية الأحناف أمثال ورقة بن نوفل، وعثمان بن الحويرث، وعبيد بن جحش وغيرهم، قد خالفوا قريشا، وقالوا: إنكم تعبدون ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام وعابوا عليهم ما هم عليه من التقرب إلى الحجارة. وقد أورد من ترجم حياته شيئا من شعره، واستشهدوا ببعضه في الشواهد3. ومن شعر "زيد بن عمرو بن نفيل" في الأصنام قوله: تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابتغيها ... ولا صنمي بني غنم أزور

_ 1 الخزانة "2/ 38 وما بعدها"، "بولاق". 2 نسب قريش "207 وما بعدها". 3 الخزانة "3/ 97 وما بعدها"، "بولاق".

ولا هبلا أزور وكان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي صغير1 و"سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل"، المعروف بـ "أبي الأعور"، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الصحابة الذين أسلموا قديما، من الشعراء وهو ابن "زيد بن عمرو" المذكور. وكان إسلامه قديما وقبل عمر، وكان إسلام "عمر" عنده في بيته، لأنه كان زوج أخته فاطمة، وقد توفي سنة خمسين، أو إحدى وخمسين، وقيل اثنتين وخمسين2. ومن شعره قوله: تلك عرساي تنطقان على عمـ ... ـد لي اليوم قول زور وهتر سالتاني الطلاق أن رأتا ما ... لي قليلا قد جئتماني بنكر فلعلّي أن يكثر المال عندي ... ويعرى من المغارم ظهري وترى أعبد لنا وأواق ... ومناصيف من خوادم عشر ونجر الأذيال في نعمة زو ... ل تقولان ضع عصاك لدهر وي كأن من لم يكن له نشب يحبب ... ومن يفتقر يعش عيش ضر ويجنب سر النجي ولكن أخا ... المال محضر كل سر3 وكان "نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب" شاعرا، وكان هو وأخوه "منبه" من وجوه قريش وذوي النباهة فيهم، وقتلا ببدر كافرين، وكانا من المطعمين يوم بدر. وقد رثاهما "الأعشى بن نباش بن زرارة" التميمي، حليف بني عبد الدار، وكان مداحا لنبيه بن الحجاج4. وقد أورد "الزبيري" له شعرا منه قوله: تلك عرساي تنطقان بهجر ... وتقولان قول زور وهتر تسألان الطلاق إذا رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر

_ 1 الخزانة "3/ 244 "، "بولاق". 2 الإصابة، "2/ 44"، "رقم 3261". 3 البيان "1/ 235"، الخزانة "3/ 99"، الشنتمري "2/ 170"، عيون الأخبار "1/ 242". 4 الخزانة "3/ 101"، "بولاق".

فلعلّي أن يكثر المال عندي ... وتخلى من المغانم ظهري وترى أعبد لنا وأواق ... ومناصيف من ولائد عشر1 وقال "الزبيري" إن له أشعارا كثيرة2. وقد رأينا أن هذا الشعر الذي نسب لنبيه، قد نسب أيضا لزيد. وقد نسب صاحب "الخزانة" الشعر لزيد، ثم عاد فنسبه لنبيه. وكان "أبو العاص" المعروف بـ "الأمين" من حكماء وشعراء قريش، ومما نسب إليه من شعر قوله: أبلغ لديك بني أمية ... آية نصحا مبينا إنا خلقنا مصلحين ... وما خلقنا مفسدينا إني أعادي معشرا ... كانوا لنا حصنا حصينا خلقوامع الجوزاء إذ ... خلقوا ووالدهم أبونا3 وهو العاص بن وائل، وكان من أشراف قريش، وفيه يقول ابن الزعبرى: أصاب ابن سلمى خُلة من صديقه ... ولولا ابن سلمي لم يكن لك راتق فآوى وحيا إذ أتاه بخلة ... وأعرض عنه الأقربون الأصادق فإما أصب يوما من الدهر نصرة ... أتتك وإني بابن سلمى لصادق وإلا تكن إلا لساني فإنه ... بحسن الذي أسديت عني لناطق ثمال يعيش المقترون بفضله ... وسيب ربيع ليس فيه صواعق4 وعبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي بن ربيعة بن سعيد بن سهم القرشي السهمي، من "أشعر قريش"5، وكان شديدا على المسلمين، ثم أسلم في الفتح. وذكر أنه لما فتح رسول الله مكة، هرب إلى "نجران"، ثم أسلم ومدح النبي،

_ 1 الأغاني "16/ 62"، نسب قريش "403 وما بعدها". 2 نسب قريش "404". 3 نسب قريش "99". 4 نسب قريش "408 وما بعدها". 5 تاج العروس "3/ 234"، "زبعر"، العمدة "1/ 23".

فأمر له بحلة1. وكان يهاجي "حسان بن ثابت" و "كعب بن مالك". وذكر أنه "كان من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه بلسانه ونفسه. وكان من أشعر الناس وأبلغهم. يقولون إنه أشعر قريش قاطبة. قال محمد بن سلام: بمكة شعراء فأبرعهم شعرا عبد الله بن الزبعرى، قال الزبير: "كذلك يقول رواة قريش إنه كان أشعرهم في الجاهلية. وأما ما سقط إلينا من شعره وشعر ضرار بن الخطاب، فضرار عندي أشعر منه، وأقل سقطا"2. كان "ابن الزبعرى" من المؤذين للرسول، قام يوما فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي، فانفتل النبي من صلاته، ثم أتى "أبا طالب" عمه فقال: يا عم ألا ترى إلى مافعل بي؟ فأخذ "أبو طالب" فرثا ودما فلطخ به وجوه القوم الذين كان "ابن الزبعرى" بينهم. وبقي على عداوته هذه للرسول وفي هجائه له وللمسلمين إلى عام الفتح، فأسلم3. وقد أشرت إلى ما ذكره "ابن سلام" من أمر البيتين اللذين وجدا مكتوبين على باب الندوة، وهما: ألهى قصيا عن المجد الأساطير ... ورشوة مثل ما ترشى السفاسير وأكلها اللحم بحتا لا خليط له ... وقولها رحلت عير أتت عير وما كان من إجماع أهل مكة على أنها من قول "ابن الزعبرى" ليس غير. وذلك مما أهاج أولاد قصي خاصة، فمشوا إلى "بني سهم" رهط "ابن الزعبرى" طالبين منهم تسليمه لهم ليحكموا فيه حكمهم4. وفي البيتين، هجاء مر لقصي ولآل قصي، الذين ألهتهم الأساطير عن المجد، وكانوا يرشون ويرتشون مثل ما ترشى السفاسير، وهم السماسرة، أولئك الذين يأكلون اللحم، ولا يعرفون إلا كلام: رحلت عير، أتت عير، كلام التجار. فلا يفهمون قولا غير هذا القول.

_ 1 الإصابة "2/ 300"، "رقم 4679". 2 الاستيعاب "2/ 300 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، كتاب نسب قريش "251، 300، 386، 402، 408 وما بعدها". 3 تفسير القرطبي "6/ 406 وما بعدها". 4 طبقات "58".

ومن شعر "ابن الزبعرى" قصيدته في وقعة أحد، ومطلعها: يا غراب البين أسمعت فقل ... إنما تنطق شيئا قد فعل قالها وهو مشرك، فلما أسلم قال: يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور1 وقد أشار في قصيدته في يوم أحد، إلى انتصاف أهل مكة من المسلمين بقوله: ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل حين ألقت بقُباء بركها ... وعدلنا ميل بدر فاعتدل2 وقصيدته في "أحد" من القصائد الجيدة، وقد دونها "ابن هشام في جملة ما دون من الشعر الذي قيل في هذه المعركة، وقد رد عليه "حسان بن ثابت" بقصيدة دونها "ابن هشام" بعدها3. وله شعر في مدح النبي، فيه: منع الرقاد بلابل وهموم ... والليل معتلج الرواق بهيم مما أتاني أن أحمد لامني ... فيه فبت كأنني محموم يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانة سرح اليدين رسوم إني لمعتذر اليك من الذي ... أسديت إذ أنا في الضلال أهيم أيام تأمرني بأغوى خطة ... سهم وتأمرني بها مخزوم فاغفر فدى لك والدي كلاهما ... ذنبي فإنك راحم مرحوم وعليك من أثر المليك علامة ... نور أضاء وخاتم مختوم مضت العداوة فانقضت أسبابها ... ودعت أواصر بيننا وحلوم4 وهي أبيات نظمها معتذرا فيها عما كان منه من هجاء الرسول والمسلمين،

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 549 وما بعدها". 2 ابن سلام، طبقات "58". 3 سيرة "2/ 157"، "حاشية على الروض". 4 ابن سلام، طبقات "59 وما بعدها".

ومن وقوفه مع المشركين في مواقفهم المعروفة، بعد أن سمع بما حل بغيره ممن هجا الرسول من قتل. ويذكر أهل الأخبار أن "عبد الله بن الزعبرى" و "ضرار بن الخطاب" الفهري، قدما المدينة أيام "عمر بن الخطاب"، فأتيا "أبا أحمد بن جحش" الأسدي، وكان مكفوفا، وكان مألفا يُجتمع إليه ويتحدث عنه، ويقول الشعر، فقالا له: أتيناك لترسل إلى حسان بن ثابت فنناشده ونذاكره، فإنه كان يقول في الإسلام ويقول في الكفر، فأرسل إليه، فجاء فقال: يا أبا الوليد أخواك تطربا إليك: ابن الزبعرى وضرار يذاكرانك ويناشدانك. قال: نعم إن شئتما بدأت وإن شئتما فابدآ قالا: نبدأ. فأنشداه حتى إذا صار كالمرجل يفور قعدا على رواحلهما. فخرج حسان حتى لقي عمر بن الخطاب، وتمثل ببيت ذكره ابن جعدبة لا أذكره. فقال عمر: وما ذاك؟ فأخبره خبرهما. فقال: لا جرم والله لا يفوتانك. فأرسل في أثرهما فرُدا. وقال لحسان أنشد. فأنشد حسان حاجته. قال له: اكتفيت؟ قال: نعم. قال شأنكما الآن، إن شئتما فارحلا وإن شئتما فأقيما"1. ومن شعره قوله: ألا لله قوم و ... لدت أخت بني سهم هشام وأبو عبد ... مناف مدره الخصم وذو الرمحين أشبال ... على القوة والحزم فإن أحلف وبيت الله ... لا أحلف على إثم لما أن إخوة بين ... قصور الروم والروم بأزكى من بني ريطة ... أو أوزن في حلم2 وكان "الزبير بن عبد المطلب" من فرسان قريش ومن شعرائها3، وقد روى "ابن كثير" له شعرا، ذكر أنه قاله فيما كان من أمر الحية التي كانت

_ 1 ابن سلام، طبقات "60". 2 نسب قريش "300". 3 الاشتقاق "30".

قريش تهاب بنيان الكعبة لها، هو: عجبت لما تصوبت العقاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحيانا يكون لها وثاب إذا قمنا إلى التأسيس شدت ... تهيبنا البناء وقد تهاب فلما أن خشينا الرجز جاءت ... عقاب تتلئب لها انصباب فضمتها إليها ثم خلت ... لنا البنيان ليس له حجاب فقمنا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعد والتراب غداة نرفع التأسيس منه ... وليس على مساوينا ثياب أعز به المليك بني لؤي ... فليس لأصله منهم ذهاب وقد حشدت هناك بنو عدي ... ومرة قد تقدمه كلاب فبوأنا المليك بذاك عزا ... وعند الله يلتمس الثواب1 وقد وردت هذه الأبيات في سيرة "ابن هشام"2، أخذت من سيرة "ابن إسحاق". وهي ولا شك من ذلك الشعر المصنوع الذي انتحل على الشعراء، وأعطي إلى "ابن إسحاق" فأدخله في سيرته، أسلوبها يتحدث عن نفسه، ونظمها بعيد عن نظم شاعر عاش في ذلك الوقت. وقد تعرض "ابن سلام" لشعر "الزبير"، فقال عنه: "وأجمع الناس على أن الزبير بن عبد المطلب شاعر، والحاصل من شعره قليل. فما صح عنه قوله: ولولا الحبش لم يلبس رجال ... ثياب أعزة حتى يموتوا ويقال إن: إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حليما ولا توصه للزبير3.

_ 1 تفسير ابن كثير "1/ 181". 2 سيرة ابن هشام "1/ 132"، "حاشية على الروض الأنف". 3 طبقات "61".

وكان "الزبير شاعرا مفلقا شديد العارضة مقذع الهجاء، ولما جاء "عبد الله بن الزبعرى" السهمي "بني قصي" رفعوه برمته إلى "عتبة بن ربيعة" خوفا من هجاء "الزبير" فلما وصل "عبد الله" إليهم أطلقه "حمزه بن عبد المطلب" وكساه، فمدحه. وكان "الزبير" غائبا بالطائف أو باليمن، فلما وصل إلى مكة وبلغه الخبر قال: فلولا نحن لم يلبس رجال ... ثياب أعزة حتى يموتوا ثيابهم سمال أو طمار ... بها ودك كما دسم الحميت ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... لنا الحبرات والمسك الفتيت1 وقد كان الخلعاء ينزلون على "الزبير بن عبد المطلب"، ومنهم "أبو الطمحان" القيني، وكان فاسقا ومن الشعراء2. وكان "أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم القرشي" الهاشمي، أن عم الرسول وأخيه في الرضاعة من شعراء قريش المطبوعين. وكان ممن يؤذي النبي والمسلمين، ويهجو رسول الله، وقد عارضه "حسان بن ثابت"، ثم أسلم. وكان إسلامه يوم الفتح قبل دخول رسول الله مكة3. قال "ابن سلام": "ولأبي سفيان بن الحارث شعر، كان يقوله في الجاهلية فقط، ولم يصل إلينا منه إلا القليل، ولسنا نعد ما يروي ابن إسحاق له ولا لغيره شعرا، ولإن لا يكون لهم شعر أحسن من أن يكون ذلك لهم. قال أبو سفيان: لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد أنا المدلج الحيران أظلم ليله ... بعيد أرجى حين أهدى واهتدي هداني هاد غير نفسي وقادني ... إلى الله من طردت كل مطرد4

_ ــ 1 العمدة "1/ 66". 2 الشعر والشعراء "1/ 304"، "دار الثقافة". 3 الإصابة "4/ 90"، "رقم 538"، الاستيعاب "4/ 83"، "حاشية على الإصابة"، الاشتقاق "2/ 260". 4 ابن سلام، طبقات "61"، المرزباني، معجم "271"، ابن سعد، طبقات "4/ 51"، "صادر"، وتجد فيه بعض الاختلاف في الشعر.

وروي له شعر قاله يوم تعرض المسلمون لقافلة "أبي سفيان"، ويوم أحد، وفي المناسبات الأخرى1. وله شعر يوم أحد، وقد رد عليه حسان بن ثابت2 وبقية شعراء المسلمين حيث كان بينهم وبين شعراء مكة مساجلات. وكان نديما لعمرو بن العاص السهمي، وكان الحارث بن حرب بن أمية، نديما للحارث بن عبد المطلب3، وكان الحارث بن عبد المطلب من المؤلفة قلوبهم4. ولما توفي الرسول رثاه "أبو سفيان بن الحارث" بقصيدة مطلعها: أرقت فبات ليلي لايزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كريت تسيل نبي كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول ويهدينا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي ذاك السبيل فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول5 وقد وضعت أشعار على لسان "أبي سفيان" في هجاء "حسان بن ثابت". فقد هجا "قتادة بن موسى" الجمحي حسان بن ثابت بأبيات ونحلها "أبا سفيان". وقتادة من الشعراء المخضرمين6. وضرار بن الخطاب بن مرداس بن كثير بن عمرو بن سفيان بن محارب بن فهر القرشي الفهري من ظواهر قريش، وكان لا يكون بالبطحاء إلا قليلا.

_ 1 ابن سلام، طبقات "61 وما بعدها". 2 ابن سلام "62"، أمالي المرتضى "1/ 632". 3 المحبر "177". 4 المحبر "473". 5 الروض الأنف "2/ 379 وما بعدها". 6 الإصابة "3/ 217"، "رقم 7077".

وكان أبوه رئيس بني فهر في زمانه، وكان يأخذ المرباع لقومه. وقد قدمه بعض رواة الشعر من قريش على "عبد الله بن الزبعرى"، وعدوه من الشعراء المطبوعين المجودين، قاتل المسلمين في الوقائع أشد القتال، ثم أسلم في الفتح1. وهو من الأشراف2. وذكر أنه: كان من فرسان قريش وشجعانهم وشعرائهم المطبوعين المجودين، حتى قالوا: ضرار بن الخطاب فارس قريش وشاعرهم. قال الزبير بن بكار: لم يكن في قريش أشعر منه ومن ابن الزبعرى. قال الزبير: ويقدمونه على ابن الزبعرى، لأنه أقل منه سقطا، وأحسن صنعة"3. وكان من فرسان قريش يوم الخندق. ولضرار شعر قاله في يوم "بدر"4، وشعر في رثاء "أبي جهل"5. وأشعار أخرى في أحد الوقائع الأخرى تجدها في سيرة "ابن هشام". وكان ضرار جمع من حلفاء قريش ومن مراق كنانة ناسا، فكان يأكل بهم ويغير ويسبي، ويأخذ المال. وكان خرج في الجاهلية في ركب من قريش فمروا ببلاد دوس، وهم يطالبون قريشا بدم "أبي أزيهر"، قتله "هشام بن المغيرة"، فثاروا بهم وقتلوا فيهم، فقاتلهم ضرارا، ثم لجأ إلى امرأة منهم، يقال لها: "إم غيلان" مقينة تقين العرائس، فساعدته وساعده بنوها وبناتها، فسلم. ولقي ضرار يوم أحد "عمر بن الخطاب"، فضربه بعارضه سيفه، وقال: انج يا ابن الخطاب، لأنه كان قد آلى أن لا يقتل يومئذ قرشيا، فلما ولي "عمر" الخلافة، وسمعت "أم غيلان" بذكر "ابن الخطاب" ظنته ضرارا، فقدمت المدينة، فتوسط لها "ضرارا" عند الخليفة فأثابها6.

_ 1 الإصابة "2/ 201"، "رقم 4173"، الاستيعاب "2/ 201"، "حاشية على الإصابة"، تاج العروس "3/ 234"، "زبعر" كتاب نسب قريش "126، 264، 433 وما بعدها". 2 تاج العروس "3/ 350"، "ضرر". 3 الاستيعاب "2/ 201 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 4 سيرة ابن هشام "2/ 109"، "حاشية على الروض الأنف". 5 سيرة ابن هشام "2/ 113"، "حاشية على الروض الأنف". 6 ابن سلام، طبقات "63".

وكان من مسلمة الفتح، ومن شعره في يوم الفتح، قوله: يا نبي الهدى إليك لجاحي ... حي قريش وأنت خير لجاء حيث ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السماء والتقت حلقتا البطان على القو ... م ونودوا بالصيلم الصلعاء إن سعدا يريد قاصمة الظهـ ... ـر بأهل الحجون والبطحاء خزرجي لو يستطيع من الغيـ ... ـظ رمانا بالنسر والعواء وغر الصدر لا يهم بشيء ... غير سفك الدماء وسبي النساء قد تلظى على البطاح وجاءت ... عنه هند بالسوءة السواء إذ تنادى بذل حي قريش ... وابن حرب بدا من الشهداء فلئن أقحم اللواء ونادى ... يا حماة اللواء أهل اللواء ثم ثابت إليه من نهر الخز ... رج والأوس أنجم الهيجاء لتكونن بالبطحاء قريش ... فقعة القاع في كف الإماء فانهينه فإنه أسد الأسـ ... ـد لدى الغاب والغ في الدماء إنه مطرق يدير لنا الأمـ ... ـر سكونا كالحية الصماء1 ومن الشعراء الذين هجوا الرسول والإسلام "هبيرة بن أبي وهب" المخزومي. من فرسان قريش وشعرائها، وكان مثل "الزبعرى" ممن يؤذون الإسلام، فهدر النبي دمه، فهرب إلى "نجران" حتى مات بها كافرا. وكانت عنده "أم هانئ" ابنة "أبي طالب" فأسلمت عام الفتح، فقال حين بلغه إسلامها قصيدة من بينها هذه الأبيات: أشاقتك هند أم نآك سؤالها ... كذاك النوى أسبابها وانفتالها وقد أرقت في رأس حصن ممرد ... بنجران يسري بعد نوم خيالها وإن كنت قد تابعت دين محمد ... وعطفت الأرحام منك حبالها وهي قصيدة رويت في موارد متعددة مع شيء من الاختلاف2.

_ 1 الاستيعاب "2/ 26 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 2 كتاب نسب قريش "39، 344"، الشعر والشعراء "80"، الاشتقاق "95"، البيان والتبيين "2/ 203"، العمدة "1/ 23".

وأورد "ابن هشام" قصيدة لـ "هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ" المخزومي، في معركة "أحد"1. وذكر "ابن سلام" أن "هبيرة"، كان شاعرا من رجال قريش المعدودين، وكان شديد العداوة لله ولرسوله، فأخمله الله ودحقه، وهو الذي يقول يوم أحد: قدنا كنانة من أكتاف ذي يمن ... عرض البلاد على ما كان يزجيها قالت كنانة أنى تذهبون بنا ... قلنا النخيل فأموها وما فيها وله شعر كثير وحديث"2. و"الحارث بن هشام بن المغيرة" المخزومي، أخو "أبي جهل" وابن عم "خالد بن الوليد"، كان من أشراف قومه، وقد مدحه "كعب بن الأشرف اليهودي، وكان فيمن شهد بدرا مع المشركين، وفر حينئذ وقتل أخوه أبو جهل، فعير بفراره، فمما قيل فيه قول حسان بن ثابت: إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام فأجابه الحارث: الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزيد فعلمت أني إن أقاتل واحدا ... أقتل ولايبكي عدوي مشهدي ففرت عنهم والأحبة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مرصد ويرى علماء الشعر أن هذه الأبيات أحسن ما قيل في الاعتذار من الفرار3.

_ 1 ابن هشام، سيرة "2/ 155"، "حاشية على الروض". 2 طبقات "65". 3 الإصابة "1/ 293"، "رقم 1504"، "فاعتذر إليه الحارث بن هشام من فراره يومئذ، بما زعم الأصمعي أنه لم يسمع بأحسن من اعتذاره ذلك من فراره"، الاستيعاب "1/ 308"، "حاشية على الإصابة"، نسب قريش "301 وما بعدها"، وقد روى الشعر بصورة مختلفة.

وكان الحارث يضرب به المثل في السؤدد حتى قال الشاعر: أظننت أن أباك حين تسبني ... في المجد كان الحارث بن هشام أولى قريش بالمكارم والندى ... في الجاهلية كان والإسلام1 وله أشعار في بدر وفي المناسبات الأخرى التي وقعت مع المسلمين، وله شعر في رثاء أخيه "أبي جهل". وذكر "ابن هشام" أن بعض أهل العلم بالشعر ينكر بعض هذا الشعر2. وقد شهد "أحدا" مشركا حتى أسلم يوم فتح مكة، وكان من المؤلفة قلوبهم، وشهد مع النبي حنينا فأعطاه مائة من الإبل كما أعطى المؤلفة قلوبهم، وكان من المطعمين بمكة. وخرج إلى الشام في زمن "عمر"، فتبعه أهل مكة يبكون فراقه، وتوفي هناك بطاعون عمواس سنة ثمانية عشرة في رواية، أو بيوم اليرموك رجب سنة خمسة عشرة في رواية أخرى3. ومن شعراء قريش: "مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار بن قصي" القرشي، وهو جاهلي، من معاصري "هشام بن المغيرة" المخزومي4. ومن شعراء قريش الذين أدركوا الإسلام وصاروا عليه، "ابن خطل"، "عبد الله بن خطل"، أو "آدم" القرشي الأدرمي. وهو من ولد "تميم بن غالب". وكان ممن يهجو الرسول والإسلام، ويأمر قينتين له بأن تغنيا بهجاء الرسول. فأهدر النبي دمه ولو وجد تحت أستار الكعبة. وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلما، ثم ارتد مشركا، وكانت له قينتان: فرتني وأخرى معها، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله، فأمر بقتلهما معه. فقتله "أبو برزة" الأسلمي وهو متعلق بأستار الكعبة5.

_ 1 الإصابة "1/ 293"، "رقم 1504". 2 ابن هشام، سيرة "2/ 113"، "حاشية على الروض". 3 الإصابة "1/ 293"، "رقم 1504"، الاستيعاب "1/ 307"، "حاشية على الإصابة"، ابن سلام، طبقات "33 وما بعدها". 4 المرزباني، معجم "255". 5 الطبري "3/ 59"، "فتح مكة"، العمدة "1/ 23".

ومن شعراء قريش "أبو العاصي بن أمية الأكبر بن عبد شمس"، كان يقال له "الأمين"، وكان من حكماء قريش. وينسب إليه قوله: أبلغ لديك بني أمية ... آية نصحا مبينا إنا خلقنا مصلحين ... وما خلقنا مفسدينا إني أعادي معشرا ... كانوا لنا حصنا حصينا خلقوا مع الجوزاء إذ ... خلقوا ووالدهم أبونا1 وكان "أبو عزة" واسمه "عمرو بن عبد الله بن عمير" شاعرا، كان مملقا ذا عيال، فأسر يوم بدر كافرا، فمن عليه الرسول على أن لا يهجو المسلمين، فعاهده وأطلقه. فلما كان يوم أحد، أطمعه "صفوان بن أمية بن خلف الجمحي"، وكان محتاجا، والمحتاج يطمع، فأخذ يحرض الناس على الإسلام، فقتل. وقيل إنه برص بعد ما أسن، وكانت قريش تكره الأبرص، وتخاف العدوى، فكانوا لا يؤاكلونه ولا يشاربونه ولا يجالسونه، فكبر ذلك عليه، فصعد جبل حراء، يريد قتل نفسه، فطعن بها في بطنه، فسال ماء أصفر، وذهب ما كان به، فقال في ذلك شعرا2. وذكر "الزبير" أنه أسر يوم "بدر" وكان ذا بنات؟ فقال: "دعني لبناتي" فرحمه، وأخذ عليه ألا يكثر عليه بعدها، فلما جمعت قريش لرسول الله لتسير إليه، كلمه "صفوان بن أمية" وسأله أن يخرج إلى "بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة"، وهم حلفاء قريش، فيسألهم النصر، فأبى عليه، وقال: "إن محمدا قد من علي وأعطيته ألا أكثر عليه"، فلم يزل صفوان يكلمه حتى خرج إلى بني الحارث، يحرضهم على الخروج مع قريش والنصر لهم، فقال في ذلك: أنتم بنو الحارث والناس إلهام ... أنتم بنو عبد مناة الرزام أنتم حماة وأبوكم حام ... لا تعدوني نصركم بعد العام لا تسلموني لا يحل إسلام

_ 1 كتاب نسب قريش "98 وما بعدها". 2 ابن سلام، طبقات "63 وما بعدها".

فلما انصرفت قريش من أحد، تبعهم رسول الله حتى بلغ "حمراء الأسد"، فأصاب بها "عمرا"؛ فقال له: "يامحمد! عفوك! " فقال له الرسول، "لا تمسح سبلتيك بمكة، تقول: خدعت محمدا مرتين! " "لايلدغ مؤمن من جحر مرتين، وقتله صبرا"1. ومن شعراء قريش "حرب بن أمية"2، وهو من بني أمية3، وكان رئيسا بعد المطلب4، وهو والد "أبي سفيان بن حرب"، وقد زعم أن الجن قتلته، وأنشدوا في ذلك شعرا ذكروا أن الجن قالته، هو: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر5 وقد زعموا أن الجن خنقته6. وقد نسبوا له هذه الأبيات: أبا مطر هلم إلى صلاح ... فتكفيك الندامى من قريش فتأمن وسطهم وتعيش فيهم ... أبا مطر هديت لخير عيش وتنزل بلدة عزت قديما ... وتأمن أن يزورك رب جيش قالوا إنه قالها مخاطبا بها "أبا مطر" الحضرمي، يدعوه إلى حلفه ونزول مكة7. ومن شعراء قريش الذين أدركوا الإسلام: "أبو زمعة"، واسمه "الأسود بن عبد المطلب". له شعر رثا به من قتل ببدر، منه: تبكِّي أن يضل لها بعير ... ويمنعها من النوم السهود

_ 1 نسب قريش "397 وما بعدها". 2 نسب قريش "157". 3 المحبر "132". 4 المحبر "165". 5 الحيوان "6/ 207"، معاهد التنصيص "1/ 12 وما بعدها"، المعارف "32". 6 الحيوان "1/ 302". 7 الحيوان "3/ 141".

فلا تبكي على بكر ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود على بدر سراة بني هصيص ... ومخزوم ورهط أبي الوليد وبكّي إن بكيت على عقيل ... وبكي حارثا أسد الأسود وبكي إن بكيتهم جميعا ... وما لأبي حكيمة من نديد ألا قد ساد بعدهم رجال ... ولولا يوم بدر لم يسودوا1

_ 1 نسب قريش "218 وما بعدها".

الفصل الثالث والستون بعد المائة: شعراء يثرب

الفصل الثالث والستون بعد المائة: شعراء يثرب قال "ابن سلام": "شعراؤها الفحول خمسة: ثلاثة من الخزرج واثنان من الأوس. فمن الخزرج، من بني النجار حسان بن ثابت، ومن بني سلمة، كعب بن مالك، ومن بلحارث بن الخزرج: عبد الله بن رواحة، ومن الأوس: قيس بن الخطيم من بني ظفر، وأبو قيس بن الأسلت من بني عمرو بن عوف"1. وهناك شعراء آخرون لكنهم لم يبلغوا مبلغ هؤلاء الشعراء، منهم: "أحيحة بن الجلاح" و "سويد بن الصامت"، و "أبو قيس بن مالك بن الحارث" وآخرون. ونسبوا لأبي آمنة جد النبي قوله: وإذا أتيت معاشرا في مجلس ... فاختر مجالسهم ولما تقعد ولكل أمر يستعاد ضراوة ... فالصالحات من الأمور تعود2 ويعد "مالك بن العجلان" الخزرجي في جملة شعراء يثرب، ذكر أنه القائل للربيع بن أبي الحقيق اليهودي من أبيات: إني امرؤ من بني سالم ... كريم وأنت امرؤ من يهود

_ 1 طبقات "52". 2 المصون "189".

فأجابه الربيع من أبيات أولها: أتسفه قيلة أحلامها ... وحان بقيلة عثر الجدود1 وفيه يقول الشاعر "عمرو بن امرئ القيس" من بني الحارث بن الخزرج، من شعراء الجاهلية: يا مال والسيد المعمم قد ... يبطره بعد رأيه السرف نحن بما عندنا وأنت بما عندك ... راض والرأي مختلف2 وهو من مشاهير سادة "يثرب"، وله ذكر في نزاع أهل يثرب مع اليهود، وفي حرب "سمير" بين الأوس والخزرج. وهو قاتل" الفطيون"3. وعمرو بن الإطنابة من شعراء "يثرب"، وهو من الخزرج، وهو شاعر فارسي قديم، خرجت الخزرج معه وخرجت الأوس وأحلافها مع "معاذ بن النعمان" في حرب كانت بين الأوس والخزرج، وذكر أن حسان بن ثابت جعله أشعر الناس، لقوله: إني من القوم الذين إذا انتدوا ... بدأوا بحق الله ثم النائل المانعين من الخنا جيرانهم ... والحاشدين على طعام النازل والخالطين فقيرهم بغنيهم ... والباذلين عطاءهم للسائل لا يطبعون وهم على أحسابهم ... يشفون بالأحلام داء الجاهل القائلين ولا يعاب خطيبُهم ... يوم المقامة بالكلام الفاصل ومن شعره: أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذ الحمد بالثمن الربيح وإكراهي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح

_ 1 المرزباني، معجم "256". 2 والشعر يختلط أبياته بأبيات قصيدة أخرى لقيس بن الخطيم، وأخرى لمالك بن العجلان، البيان والتبيين "3/ 100"، جمهرة أشعار العرب "127 وما بعدها"، الجمهرة "122"، ديوان قيس بن الخطيم "16 وما بعدها". 3 الاشتقاق "2/ 270".

ويقال إن معاوية قال: لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين وهممت بالفرار، فما منعني من ذلك إلا قول "ابن الإطنابة" الشعر المذكور1. ونسب "أبو الفرج" الأصبهاني إلى "أحيحة بن الجلاح بن الحريش "الجريش؟ " بن جحجبي بن كلفة" الأوسي قوله: لتبكين قنية ومزمرها ... ولتبكيني قهوة وشاربها ولتبكيني ناقة إذا رحلت ... وغاب في سربخ مناكبها وهي أبيات قبلها: يشتاق قلبي إلى مليكة لو ... أمست قريبا لمن يطالبها ماأحسن الجيد من مليكة والـ ... ـلبات إذ زانها ترائبها وقد نسبها بعض آخر لعدي بن زيد العبادي، ونسبها بعض آخر لبعض الأنصار2. و"أحيحة بن الجلاح"، من سادات الأوس. وكان سيدهم في زمانه، وكان شاعرا. وكانت عنده "سلمى بنت عمرو" من بني النجار، وأولاده منها إخوة "عبد المطلب"3 وهو من أصحاب المذهبات. وقد ذكر "ابن الشجري"، أنه وجد في كتاب لغوي أن الشعر المذكور منسوب إلى "عدي بن زيد"، وقد تصفح نسختين من ديوان عدي فلم يجده فيهما، وإنما وجد له قصيدة على هذا الوزن وهذه القافية أولها: لم أر مثل الأقوام في غبن ال ... أيام ينسون ما عواقبها وذكر "البغدادي" أن "الأصبهاني" اقتبسه في "الأغاني" لأحيحة5. وقد ذكر أهل الأخبار أن "أحيحة" كان في أيام التبع "أبو كرب بن حسان بن تبع بن أسعد" الحميري، وأن هذاالتبع لما عاد من العراق يريد

_ 1 المرزباني، معجم "8 وما بعدها". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 417". 3 الاشتقاق "262". 4 الأغاني "13/ 119"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 149". 5 الخزانة "2/ 20 وما بعدها".

"يثرب" لقتل أهلها ابنا له بها، وهو مجمع على خرابها وقطع نخلها واستئصال أهلها وسبي الذرية، نزل بسفح "أحد" فاحتفر بها بئرا، عرفت بـ "بئر الملك"، ثم أرسل إلى أشرافها ليأتوه، فكان ممن أتاه "زيد بن ضبيعة" وابن عمه "زيد بن أمية بن عبيد"، وكانوا يسمون "الأزياد"، و"أحيحة بن الجلاح: فلما جاء رسول التبع، ذهب الأزياد إليه، وكان "أحيحة" له تابع من الجن أخبره أنه يريد قتلهم جميعا، وكان لا يقول إلا صوابا، فلما قابل التبع تحدث معه عن أمواله وعن أموال المدينة، ثم خرج من عنده ودخل خباءه، وكان "تبع" قد أوكل حراسا به، فشرب وقرض أبياتا مطلعها: يشتاق قلبي إلى مليكة ... أمسي قريبا لمن يطالبها وأمر قينته أن تغنيه حتى استغفل الحرس، ففر منهم إلى أطمة "الضحيان"، وقيل "المستظل"، فجرد الملك كتيبة عليه، ثم حاصر المدينة، فلم يتمكن منها، إذ اعتصم أهلها من الأوس والخزرج واليهود بأطمهم، ثم أقنعه "حبران" من أحبار يهود بكف الحصار عنها، فرجع1. وكان "أحيحة" سيد الأوس في الجاهلية، وكان كثير المال شحيحا عليه يبيع بيع الربا بالمدينة، حتى كاد يحيط بأموالهم، وكان له تسع وتسعون بعيرا كلها ينطح عليه، وكان له أطمان، أطم في قومه يقال له "المستظل"، وأطم يقال له "الضحيان" بالعصبة في أرضه التي يقال لها الغابة، بناه بحجارة سود، ويزعمون أنه لما بناه هو وغلام له أشرف، ثم قال: لقد بنيت حصنا حصينا ما بنى مثله رجل من العرب أمنع منه، ولقد عرفت موضع حجر منه لو نزع وقع جميعا. فقال غلامه: أنا أعرفه قال: فأرنيه يا بني؟ قال: هو ذا، وصرف إليه رأسه. فلما رأى أحيحة أنه قد عرفه دفعه من رأس الأطم، فوقع على رأسه فمات2. وهي قصة تشبه قصة "سنمار"، ولها شبه عند اليونان. ويذكرون أنه لما بناه قال: بنيت بعد مستظل ضاحيا ... بنيته بعصبة من ماليا

_ 1 الخزانة "2/ 21 وما بعدها"، "بولاق"، الأغاني "13/ 119". 2 الخزانة "2/ 23"، "بولاق".

للستر مما يتبع القواضيا ... أخشى ركيبا أو رجيلا غاديا1 وينسب لأحيحة قوله: استغن أو مت ولا يغررك ذو نشب ... من ابن عم ولا عم ولا خال إني مقيم على الزوراء أعمرها ... إن الحبيب إلى الأخوان ذو المال وقوله: وما يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغني متى يعيل2 و"سويد بن صامت" أخو "عمرو بن عوف" من الأوس ومن "الكملة" ومن الأشراف أصحاب النسب، ومن الشعراء. وكانت له أشعار كثيرة. وهو الذي ذهب إليه النبي يوم قدم مكة حاجا أو معتمرا ليدعوه إلى الإسلام، فلما كلمه النبي قال له "سويد" فلعل الذي معك مثل الذي معي! فقال رسول الله وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان. فقال له رسول الله: اعرضها علي! فعرضها عليه، فقال: إن هذا لكلام حسن والذي معي أفضل من هذا: قرآن أنزله الله تعالى عليّ، هو هدى ونور. فتلا عليه رسول الله القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه. وقال: إن هذا لقول حسن، ثم انصرف عنه. فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتله الخزرج3. ويشك في إسلامه4. و"أبو قيس بن الأسلت" "أبو قيس بن عامر بن جشم" و "عامر" هو الأسلت، شاعر من الأوس. اختلف في اسمه، فقيل "صيفي" وقيل "الحرث" "الحارث"، وقيل "عبد الله"، وقيل "صرمة"، واختلف في إسلامه. ذكر أنه كان يدعى "الحنيف" لتحنفه ولم يكن أحد من الأوس والخزرج أوصف لدين الحنيفية ولا أكثر مسألة عنها منه. وكان يسأل من اليهود عن دينهم،

_ 1 الخزانة "2/ 23"، "بولاق". 2 بلوغ الأرب "3/ 127". 3 الروض الأنف "1/ 265 وما بعدها"، ابن هشام، سيرة "1/ 265 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الأغاني "2/ 169". 4 الإصابة "2/ 132"، "رقم 3818"، الاستيعاب "2/ 593"، رسالة الغفران "137".

فكان يقاربهم، ثم خرج إلى الشام فنزل على "آل جفنة" فأكرموه ووصلوه، وسأل الرهبان والأحبار، فدعوه إلى دينهم فامتنع، ثم خرج إلى مكة معتمرا، فبلغ "زيد بن عمرو بن نفيل" فكلمه، فكان يقول: "ليس أحد على دين إبراهيم إلا أنا وزيد بن عمرو بن نفيل" ولما قدم النبي إلى المدينة جاء إليه فقال: إلام تدعو؟ فذكر له شرائع الإسلام. فقال: ما أحسن هذا وأجمله! فلقيه "عبد الله بن أبي بن سلول"، فقال: لقد لذت من حزبنا كل ملاذ، تارة تحالف قريشا، وتارة تتبع محمدا. فقال: لا جرم لأتبعنه إلى آخر الناس. وقد اختلف في إسلامه، والأغلب أنه لم يسلم1. وذكر أنه كاد أن يسلم، لما اجتمع برسول الله، ولكن كلام "عبد الله بن أبي" أثر عليه، فقال: والله لا أسلم سنة. ثم انصرف إلى منزله، حتى مات قبل الحول، وذلك في ذي الحجة على رأس عشرة أشهر من الهجرة2. وفي سيرة "ابن هشام" قصيدة نسبت إلى "أبي قيس بن الأسلت" زعم أنه وجهها لقريش ينهى فيها عن الحرب ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض، ويذكر فضلهم وأحلامهم، ويأمرهم بالكف عن رسول الله، ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه عنهم الغيل وكيده عنهم. وأول القصيدة: يا راكبا أما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب رسول امرئ قد راعه ذات بينكم ... على النائي مخزون بذلك ناصب3 وهو من أصحاب المذهبات، ومطلع مذهبته: قالت ولم تقصد لقول الخنى ... مهلا فقد أبلغت أسماعي4 ونسب له قوله: ولو شا ربنا كنا يهودا ... وما دين اليهود بذي شكول

_ 1 الإصابة "4/ 160 وما بعدها"، "رقم 944"، الاستيعاب "4/ 159 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، ابن سلام، طبقات "56". 2 ابن سعد، طبقات "4/ 385". 3 سيرة ابن هشام "1/ 180"، "حاشية على الروض". 4 الأغاني "15/ 160"، الجمهرة "126"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 139".

ولو شا ربنا كنا نصارى ... مع الرهبان في جبل الجليل ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيفا ديننا عن كل جيل نسوق الهدي ترسف مذعنات ... تكشف عن مناكبها الجلول1 وكان "أبو قيس بن الأسلت" الأنصاري يهاجي "حسان بن ثابت". وهو من الأوس، وحسان من الخزرج، فكانا يتهاجيان. وكان بين الحيين هجاء، فكان شعراء كل حي، يهاجون شعراء الحي الثاني، عصبية، لما كان بينهما من تحاسد وتنافر2. والأسلت لقب "عامر بن جشم بن وائل بن يزيد" والد الشاعر المتقدم من الأوس، وهو شاعر من شعراء الجاهلية، وكانت الأوس قد أسندت أمرها في يوم "بعاث" إلى "أبي قيس بن الأسلت"، فقام في حربهم وآثرها على كل أمر آخر، حتى أنهكته وشحب لونه. وقال "ابن حجر" إن اسم "أبي قيس ابن الأسلت" "صيفي"، وقيل "الحارث"، وقيل "عبد الله"، وقيل "صرفة"، وقيل غير ذلك. واختلف في إسلامه. فمنهم من صيره مسلما، وجعله في عداد الصحابة، ومنهم من جعله متألها حنيفا على دين إبراهيم، وكان يقول: ليس أحد على دين إبراهيم إلا أنا وزيد بن عمرو بن نفيل، ومنهم من زعم أنه قال: والله لا أسلم إلى سنة، فمات قبل الحول على رأس عشرة أشهر من الهجرة بشهرين، وذكر أنه هرب إلى مكة فأقام بها مع قريش إلى عام الفتح3. وللعصبية دور في هذه الروايات، ترد في رجال آخرين من أهل يثرب ومن أهل مكة، تقدم روايات منها رجالا في الإسلام، وتؤخرهم أخرى، وتنفي عنهم بعضها الدخول في دين الله، لما لهذا التأخير أو التقديم، أو البقاء على الشرك من أهمية كبيرة بالنسبة لهم في ذلك الوقت. وذكر أن "أبا قيس بن الأسلت" كان يعدل بـ "قيس بن الخطيم" في الشجاعة والشعر4. وقيس بن الخطيم، شاعر فارس من الأوس. معدود من

_ 1 ابن سعد، طبقات "4/ 385". 2 الخزانة "4/ 68"، "بولاق". 3 الخزانة "2/ 47 وما بعدها"، "بولاق". 4 الإصابة "4/ 161"، "رقم 944"، "واسم الأسلت عامر فهو لقب له"، تاج العروس "1/ 544"، "سلت".

أصحاب "المذهبات". وتبدأ مذهبته بقوله: أتعرف رسما كاطراد المذاهب ... لعمرة وحشا غير موقف راكب وكان يلاحي الخزرج، قتل أبوه وهو صغير. قتله رجل من الخزرج، وعلم أن جده قتله رجل من "عبد القيس" فتعقب القاتلَين، حتى ظفر بقاتل والده بيثرب، وظفر بقاتل جده بذي المجاز فقتله1. أدرك الإسلام، ولكنه لم يسلم. ذكر أنه قدم على النبي بمكة قبل الهجرة، فعرض النبي عليه الإسلام، فقال: إني لأعلم أن الذي تأمرني به خير مما تأمرني به نفسي، وفيها بقية من ذاك، فاذهب فاستمتع من النساء والخمر وتقدم بلدنا فأتبعك. فقتل قبل أن يتبعه. أصابه سهم وهو راكب أمام أطم لرجل من الخزرج2. وهو الذي يقول في حرب كانت بينهم وبين الخزرج: قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع أسعى على جل بني ملك ... كل امرئ في أمره ساعي3 وذكر "المرزباني" أن قيس بن الخطيم، شاعر مجيد فحل، من الناس من يفضله على حسان شعرا. وقال حسان: إنا إذا نافرتنا العرب فأردنا أن نخرج الحبرات من شعرنا أتينا بشعر قيس بن الخطيم4. وله ديوان مطبوع5. وهو الذي يقول في يوم بعاث: أتعرف رسما كاطراد المذاهب ... لعمرة قفر غير موقف راكب وله أشعار جيدة أخرى6.

_ 1 الاشتقاق "264"، الأغاني "2/ 159 وما بعدها"، الخزانة "3/ 168"، المرزباني، معجم "196". 2 المرزباني، معجم "196"، ديوان الحماسة "3/ 104"، بروكلمان تأريخ الأدب العربي "1/ 114 وما بعدها". 3 ابن سلام، طبقات "56". 4 المرزباني، معجم "196"، ابن سلام، طبقات "56". 5 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 115". 6 ابن سلام، طبقات "56 وما بعدها".

وذكر أنه كان مقيما على شركه، وأسلمت امرأته، وكان يقال لها "حواء"، وكان يصدها عن الإسلام، ويعبث بها، وكان رسول الله وهو بمكة قبل الهجرة يخبر عن أمور الأنصار، وعن حالهم فأخبر بإسلامها وبما تلقى من قيس، فلما كان الموسم، وحضر مكة، أتاه النبي في مضربه، فلما رأى النبي رحب به وأعظمه، فأخبره النبي بما تلاقي امرأته منه بسبب إسلامها، وقال له: أحب أن لا تعرض لها، فكف عن أذاها1، ويقال إن النبي دعاه إلى الإسلام وتلا عليه القرآن، فقال: إني لأسمع كلاما عجبا فدعني أنظر في أمري هذه السنة ثم أعود إليك فمات قبل الحول2. وذكر أنه كان سيدا شاعرا، فلما هدأت حرب الأنصار، تذاكرت الخزرج قيس بن الخطيم ونكايته، فتذامروا وتواعدوا قتله، فلما مر بأطم "بني حارثة"، رمي بثلاثة أسهم، فصاح صيحة أسمعها رهطه، فجاءوه فحملوه إلى منزله، فلم يروا له كفوا إلا "أبو صعصعة بن زيد" النجاري، فاندس إليه رجل حتي اغتاله في منزله فضرب عنقه، وجاء برأسه، ووضعه أمام "قيس" وكان به رمق، فما لبث أن مات3. وله قصيدة متينة، قالها حين ظفر بقاتل أبيه وقاتل جده، فقتلهما، من أبياتها: طعنتُ ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها ملكت بها كفيّ فانهر فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها يهون علي أن ترد جراحها ... عيون الأواسي إذا حمدت بلاءها وكنت امرأ لا أسمع الدهر سبة ... أسب بها إلا كشفت غطاءها فإني في الحرب الضروس موكل ... بإقدام نفس ما أريد بقاءها متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها ثأرت عديا والخطيم فلم أضع ... ولاية أشياخ جعلت إزاءها4

_ 1 ابن سلام، طبقات "57". 2 الإصابة "3/ 266"، "رقم 7350". 3 أسماء المغتالين، "المجموعة السابعة من نوادر المخطوطات"، "274". 4 حماسة أبو تمام "1/ 94 وما بعدها"، "بولاق"، الأغاني "2/ 60"، ديوانه "3 وما بعدها"، "طبعة لايبزك 1914".

وله غزل، نابع من غزل أهل الحضر، تغزل فيه بعمرة بنت رواحة1. و"أبو قيس" "مالك بن الحارث"، وقيل "صرمة بن أبي أنس بن مالك" من بني النجار، شاعر كذلك. كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة، وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها، ودخل بيتا فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه طامث ولا جنب. وقال: أعبد رب إبراهيم، فلما قدم الرسول يثرب أسلم فحسن إسلامه، وهو شيخ كبير. وكان قوالا بالحق معظما له. يقول في الجاهلية أشعارا حسانا. وقد ذكر "ابن إسحاق" أشعارا له، في الوصايا، وفيها حث على مكارم الأخلاق والأمر بالمعروف وفي إنصاف الأيتام وغير ذلك من شعر المواعظ2. ومن شعراء يثرب: "عمرو بن امرئ القيس"، الذي سبق أن ذكرته، وهو جد "عبد الله بن رواحة" وهو شاعر خزرجي جاهلي. وله شعر في القتال الذي وقع بين الأوس والخزرج بسب "سمير" الذي عدا على "بجير" مولى "مالك بن العجلان" فقتله، فوقعت الحرب من أجل ذلك بين الحيين، فحكموا "عمرو بن امرئ القيس"، فحكم بدية المولى لمالك، فلما رفض الحكم هاجت الحرب. فلما طالت حكموا فيها "ثابت بن المنذر" والد حسان وبذلك انتهى النزاع3. وحسان بن ثابت من المخضرمين، من شعراء الخزرج، واسمه حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام. وهو شاعر رسول الله وشاعر الإسلام. وأمه "الفريعة" بنت "خالد بن حبيش بن لوذان". وهي من الخزرج أيضا. أدركت الإسلام أيضا فأسلمت، وقيل هي أخت "خالد" لا ابنته، ويكنى "أبا الوليد"، وأبا المضرب، وأبا الحسام، وأبا عبد الرحمن. "قال أبو عبيدة: فضل حسان بن ثابت على الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي صلى الله عليه وسلم في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام. وكان مع

_ 1 كارلو نالينو "93". 2 الاستيعاب "4/ 157 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، الإصابة "2/ 179"، "رقم 4061". 3 الخزانة "2/ 188 وما بعدها"، "بولاق".

ذلك جبانا"1. ولم يشهد مع النبي مشهدا لأنه كان يجبن2. وذكر أنه كان لسنا شجاعا، فأصابته علة أحدثت فيه الجبن، فكان بعد ذلك لا يقدر أن ينظر إلى قتال ولا يشهده3. وروي عن "أبي عبيدة" قوله: "اجتمعت العرب على أن أشعر أهل المدر يثرب، ثم عبد القيس، ثم ثقيف. وعلى أن أشعر أهل المدر حسان بن ثابت". "وقال الأصمعي: حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء. فقال له أبو حاتم: تأتي له أشعار لينة. فقال الأصمعي: تنسب له أشياء لا تصح عنه"4. وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شعر حسان بن ثابت، ولا كعب بن مالك، ولا عبد الله بن رواحة شعرا، ولكنه حكمة"5. وذكر أن "الحارث المري"، قال للنبي: "إني أعوذ بالله وبك من هذا، إن شعر هذا لو مزج بماء البحر لمزجه". وكان حسان قد رآه جالسا مع الرسول، فقال فيه شعرا مطلعه: يا حار من يغدر بذمة جاره ... منكم فإن محمدا لا يغدر6 ويروى أنه كان إذا عالج شعرا، وعصى عليه، ثم أحكمه وأعجبه، طرب به وربما صاح من الطرب ومن فرحة الانتهاء من الشعر. قال أحدهم: "سمعت حسان بن ثابت في جوف الليل وهو ينوه بأسمائه ويقول: أنا حسان بن ثابت، أنا ابن الفريعة، أنا الحسام، فلما أصبحت غدوت عليه فقلت له: سمعتك البارحة تنوه بأسمائك، فما الذي أعجبك؟ قال: عالجت بيتا من الشعر، فلما أحكمته نوهت بأسمائي! فقلت وما البيت؟ قال: قلت:

_ 1 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 334"، المحاسن والأضداد "48". 2 الشعر والشعراء "264"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 333"، "بغداد 1968". 3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 334". 4 الاستيعاب "1/ 338"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 334"، الأغاني "4/ 134"، المؤتلف "89"، المرزباني، معجم "401". 5 المصدر نفسه "1/ 335". 6 السيوطي، شرح شواهد "1/ 335".

وإن امرأ يمسي ويصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد1 وروي أيضا أنه قام من جوف الليل فصاح: يا آل الخزرج، فجاءوه وقد فزعوا، فقالوا: مالك؟ قال: بيت قلته فخشيت أن أموت قبل أن أصبح فيذهب ضيعة خذوه عني، قالوا: وما قلت؟ قال: قلت: رب حلم أضاعه عدم المال ... وجهل غطى عليه النعيم2 وقد حمل على "حسان" شعر كثير، بسبب تحامله على قريش، فأرادت قريش النكاية به، فوضعت شعرا على لسانه ليحط من مكانته. قال "ابن سلام": "وأشعرهم حسان بن ثابت، هو كثير الشعر جيده. وقد حمل عليه ما لم يحمل على أحد. لما تعاضهت قريش واستبت وضعوا عليه أشعار كثيرا لا تليق به"3. وأكثر علماء الشعر أن شعر "حسان" في الجاهلية أقوى منه في الإسلام، قال "الأصمعي": "الشعر نكد يقوى في الشر ويسهل، فإذا دخل في الخير ضعف ولان. هذا حسان فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره. وقال مرة أخرى: شعر حسان في الجاهلية من أجود الشعر. وقيل لحسان لان شعرك أو هرم في الإسلام يا أبا الحسام! فقال للقائل: يا ابن أخي إن الإسلام يحجز عن الكذب، أو يمنع من الكذب، وإن الشعر يزينه الكذب، يعني أن شأن التجويد في الشعر الإفراط في الوصف والتزيين بغير الحق وذلك كله كذب"4. وقال "الثعالبي": "من عجائب أمر حسان أنه كان رضي الله عنه يقول الشعر في الجاهلية فيجيد جدا ويغبر في نواصي الفحول ويدعي أن له شيطانا يقول الشعر على لسانه كعادة الشعراء في ذلك ... فلما أدرك الإسلام وتبدل الشيطان الملك تراجع شعره وكاد يرك قوله، ليعلم أن الشيطان أصلح للشاعر وأليق به وأذهب في طريقه من الملك"5. وما قوة شعر "حسان" في الجاهلية، إلا بسبب قوة شبابه

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 335 وما بعدها". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 336". 3 طبقات "52". 4 الاستيعاب "1/ 338 وما بعدها"، أسد الغابة "2/ 5"، الشعر والشعراء "1/ 224"، بروكلمان "1/ 153". 5 خاص الخاص "80"، الموشح، للمرزباني "65".

آنذاك، واندفاعه على الشراب وسماع القيان، فلما كبر وشاخ، وذهبت قوة شبابه، وامتنع من الشرب بسبب تحريم الإسلام له، لم تبق له قريحة الشباب، واندفاع ذلك الوقت، فضعف شعره لذلك، وللسن دخل في حيوية الإنسان وفي نتاجه العقلي، ومنه الشعر. ونسب إلى "الحطيئة" قوله: "أبلغوا الأنصار أن شاعرهم أشعر العرب حيث يقول: يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل وقال عبد الملك بن مروان: أمدح بيت قالته العرب بيت حسان هذا"1. وكان حسان قد أدرك النابغة وأنشده، وأنشد الأعشى، وكلاهما قال له إنك شاعر2. وله حديث مع النابغة. وُصِف بأنه كان صاحب لسان طويل، "وكان يضرب بلسانه روثة أنفه، من طوله، ويقول، ما يسرني به مقول أحد من العرب، والله لو وضعته على شعر لحلقه، أو على صخر لفلقه"3. وكانت له ناصية يسدلها بين عينيه4. وكان أبو "ثابت بن المنذر" من سادة قومه وأشرافهم، وكان "المنذر" الحاكم بن الأوس والخزرج في يوم "سميحة"، وكانوا حكموا في دمائهم يومئذ "مالك بن العجلان بن سالم بن عوف"، فتعدى في مولى له قتل يومئذ، وقال: لا آخذ إلا دية الصريح، فأبوا أن يرضوا بحكمه، فحكموا "المنذر بن حرام". فحكم بأن أهدر دماء قومه الخزرج، واحتمل دماء الأوس5. وكان حسان في أول أيامه يتنقل في الأرض طلبا للمال والعطايا والهبات، فكان يراجع ملوك الحيرة، ويعاود آل غسان وكان هواه مع الغساسنة أقوى منه مع آل لخم، حتى إنه كان يذكرهم بخير ويمدحهم وهو في الإسلام. وقد أكرموه كثيرا، وأنعموا عليه أكثر مما أنعم ملوك الحيرة عليه. والظاهر أن لبعد الشقة

_ 1 الاستيعاب "1/ 339". 2 الاستيعاب "1/ 342". 3 الشعر والشعراء "1/ 223"، الفائق "1/ 512". 4 الشعر والشعراء "1/ 223". 5 ابن سلام، طبقات "52".

التي تفصل يثرب عن الحيرة، ولكثرة ما كان يفد من الشعراء على آل لخم، وفيهم من هو أشعر من حسان، وأكثر منه مكانة في الشعر بين العرب، دخل في انصرافه إلى مدح آل غسان وذهابه في الأكثر إليهم طلبا للمال في مقابل مدحه لهم. ويروى عن "حسان" أن السعالى نصحته بمدارسة الشعر، فقد روي عنه أنه قال: "خرجت أريد عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني، فلما كنت في بعض الطريق وقفت على السعلاة صاحبة النابغة، وأخت المعلاة صاحبة "علقمة بن عبدة"، فقالت وإني مقترحة عليك بيتا، فإن أنت أجزته شفعت لك إلى أختي، وإن لم تجزه قتلتك. فقلت هات. فقالت: إذا ما ترعرع فينا الغلام ... فما إن يقال هل من هوه قالك فتبعتها من ساعتي، فقلت: فن لم يسد قبل شد الإزار ... فذلك فينا الذي لا هوه ولي صاحب من بني الشييصبان ... فحينا أقول وحينا هوه فقالت: أولى لك، نجوت، فاسمع مقالتي واحفظها عليك بمدارسة الشعر، فإنه أشرف الآداب وأكرمها وأنورها، به يسخو الرجل، وبه يتظرف، وبه يجالس الملوك، وبه يخدم، وبتركه يتصنع. ثم قالت: إنك إذا وردت على الملك وجدت عنده النابغة، وسأصرف عنك معرته، وعلقمة بن عبدة، وسأكلم المعلاة حتى ترد عنك سورته. قال حسان فقدمت على عمرو بن الحارث فاعتاض عليّ الوصول إليه فقلت للحاجب، بعد مدة: إن أذنت لي عليه، وإلا هجوت اليمن كلها. ثم انتقلت عنها. فأذن لي عليه، فلما وقفت بين يديه وجدت النابغة جالسا عن يمينه، وعلقمة جالسا عن يساره، فقال لي: يا ابن الفريعة، قد عرفت عيصك ونسبك في غسان، فارجع فإني باعث إليك بصلة سنية، ولا أحتاج إلى الشعر، فإني أخاف عليك هذين السبعين أن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي، وأنت اليوم لا تحسن أن تقول: رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيّون بالريحان يوم السباسب فقلت: لا بد منه. فقال: ذاك إلى عميك فقلت: أسألكما بحق الملك،

الجواب: إلا ما قدمتناني عليكما؟ فقالا: قد فعلنا، هات، فأنشأت أقول والقلب وجل: أسألت رسم الدار أم لم تسأل ... بين الجوابي فالبضيع فحومل حتى أتيت على آخرها. فلم يزل عمرو بن الحارث يزحل عن مجلسه سرورا حتى شاطر البيت، وهو يقول: هذه والله البتارة التي قد بترت المدائح، هذا وأبيك الشعر، لا ما تعلّلاني به منذ اليوم. يا غلام ألف دينار مرجوحة، فأعطيت ألف دينار، في كل دينار عشرة دنانير. ثم قال: لك علي مثلها في كل سنة. ثم أقبل النابغة فقال: قم يا زياد بني ذبيان فهات الثناء المسجوع، فقام النابغة فقال: ألا انعم صباحا أيها الملك المبارك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك، ووالدي فداؤك، والعرب وقاؤك، والعجم حماؤك، والحكماء وزراؤك، والعلماء جلساؤك، والمقاول سُمّارك، والعقل شعارك، والحلم دثارك، والصدق رداؤك، واليُمن حذاؤك، والبر فراشك، وأشرف الآباء آباؤك، وأطهر الأمهات أمهاتك، وأفخر الشبان أبناؤك، وأعف النساء حلائلك، وأعلى البنيات بنياتك، وأكرم الأجداد أجدادك، وأفضل الأخوال أخوالك، وأنزه الحدائق حدائقك، وأعذب المياه مياهك، وحالف الاضريح عاتقك، ولاءم المسك مسكك، وجاور العنبر تراتبك، العسجد قواريرك، واللجين صحائفك، والشهد إدامك، والخرطوم شرابك، والأبكار مستراحك، والعبير بنواسك، والخير بفنائك، والشر في ساحة أعدائك، والذهب عطاؤك، وألف دينار مرجوحة إيماؤك، وألف دينار مرهوجة إيتاؤك، والنصر منوط بلوائك، زين قولك فعلك، وطحطح عدوك غضبك، وهزم مقانبهم مشهدك. وسار في الناس عدلك، وسكَّن تباريح البلاد ظفرك. أيفاخرك ابن المنذر اللخمي؟ فوالله لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولصمتك خير من كلامه. ولأمك خير من أبيه، ولخدمك خير من علية قومه. فهب لي أساري قومي، واسترهن بذلك شكري، فإنك من أشراف قحطان وأنا من سروات عدنان. فرفع عمرو بن الحارث رأسه إلى جارية كانت على رأسه قائمة، فقال:

مثل ابن الفريعة فليمدح الملوك، ومثل ابن زياد فليثن على الملوك"1. وهكذا دبج أهل الأخبار هذا الثناء في كتبهم، وكأن رواتهم قد سجلوه ساعة وقوعه على شريط مسجل. وتعد قصيدة "حسان": أسألت رسم الدار أم لم تسأل ... بين الجوابي فالبضيع فحومل من جيد شعره، وأشهر قصائده، فهي لينة الألفاظ أسهل فهما من قصائد شعراء الصنف الأول، وفيها من المديح ما يليق بملوك أهل المدر، المتمتعين بأنواع الترف والرفاهية، ثم إن إطناب الشاعر في وصف الخمر يبعد عن أسلوب شعراء أهل البادية، كما يبعد عنه أيضا الافتخار بقومه المقصور في بلاغة خطابهم ووفدهم على أبواب الملوك. وقد أبدع فيها في وصف معيشة ملوك غسان، وفي حياتهم الحضرية التي كانوا يحيونها، كما افتخر فيها بعشيرته الخزرج2. وخير شعر حسان هو ما قيل في مدح ملوك غسان. وكان هواه فيهم، وكانوا هم يغدقون عليه العطايا والأموال، ولا يؤخرونه من الدخول إلى مجالسهم، ويؤثرونه بالمودة، فخصص جيد شعره بهم. وقد مدح ملوك الحيرة أيضا، غير أن مدحه لهم، هو دون مدحه لمنافسيهم الغساسنة، الذين كان يكثر التردد عليهم، على حين لم يكن يقصد المناذرة إلا لحاجة شديدة ولطلب. ولعل ذلك بسبب بعد الحيرة عن يثرب، وكثرة ذهاب الشعراء إلى ملوك الحيرة، واستدراج هؤلاء الملوك للشعراء وإغداقهم عليهم، للاستفادة منهم في نشر الدعاية لهم بين الأعراب. ومن جيد شعره في ملوك الغساسنة قوله: أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل يسقون مَنْ ورد البريص عليهم ... بَرَدَى يصفق بالرحيل السلسل يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل

_ 1 الأغاني "15/ 123 وما بعدها"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 379 وما بعدها". 2 كارلو نالينو "87 وما بعدها".

وابن مارية هو الحارث الأعرج بن أبي شمر الغساني، وكان أثيرا عندهم، ولذلك يقول: قد أراني هناك حق مكين ... عند ذي التاج مقعدي ومكاني1 وذلك أنه دخل يوما على "جبلة بن الأيهم" الغساني، فأذن له، فجلس بين يديه وعن يمينه رجل له ضفيرتان، وعن يساره رجل، وكان الأول هو النابغة، وكان الثاني، هو "علقمة بن عبدة" فاستنشهدهم جبلة، فأنشد النابغة قوله: كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب قال حسان فذهب نصفي. ثم قال لعلقمة أنشد، فأنشد: طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب قال حسان، فذهب نصفي الآخر. ثم قال "جبلة" لحسان، أنت أعلم الآن إن شئت سكت، وإن شئت أنشدت، فأنشد: أبناء جفنة عند قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الجواد المفضل يسقون من ورد البريص عليهم ... كأسا تصفق بالرحيل السلسل فأدناه منه، ثم أمر له بثلاثمائة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد. وقال: هذا لك عندنا في كل عام. وذكر "أبو عمرو الشيباني" هذه القصة لحسان مع "عمرو بن الحارث" الأعرج2. ونجد الرواة يختلفون في مثل هذه القصص، بسبب ركونهم إلى رواة مختلفين، لم يدونوا الأخبار وإنما سمعوها سماعا، وأكثرها من المخترعات.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 224". 2 الخزانة "2/ 240 وما بعدها"، "بولاق".

عرف بـ "فارع"1. وكان الرسول إذا خرج لغزوة أو معركة أودع أهله حصن حسان، لأنه كان حصنا حصينا. وتذكر "صفية بن عبد المطلب"، أن "حسان" كان في حصنه مع النساء والصبيان فمر يهودي به، وجعل يطيف حوله، فقالت "صفية" لحسان إن هذا اليهودي لا آمنه أن يدل على عوراتنا فانزل إليه فاقتله! فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، فنزلت صفية وأخذت عمودا وقتلت اليهودي. فقالت: يا حسان انزل فاسلبه! فقال ما لي بسلبه من حاجة يا ابنة عبد المطلب2. وقد دفع بعض العلماء الجبن عن حسان، بحجة أنه لو كان جبانا على نحو ما يقولون لما سكت عن تعييره به خصومه ممن كان يهاجيهم كضرار وابن الزبعرى، وعللوا عدم نزوله من حصنه لقتل اليهودي بحجة أنه كان معتلا في ذلك اليوم. وأنكر بعضهم أن يكون هذا الخبر صحيحا3. على كلٍ، صح هذا الخبر أم لم يصح فإنا لا نجد لحسان ذكرا في مغازي الرسول ولا في سراياه. بل نجد العلماء مجمعين على أنه "لم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهدا، لأنه كان جبانا"4. ولحسان شعر في رثاء "المطعم بن عدي" والد "جبير بن مطعم"، مات ولم يسلم. وكان "معطم" أجار النبي حين قدم الطائف لما دعا ثقيفا إلى الإسلام، وهو أحد الذين قاموا في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم وبني المطلب. وكان فيما قاله في رثاء "المطعم": فلو كان مجدا يخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبى مهل وأحرما5 ومن شعره: أهوى حديث الندمان في فلق الصـ ... ـبح وصوت المغرد الغرد

_ 1 الإصابة "2/ 325"، "رقم 1704"، "فارع حصن بالمدينة، يقال إنه حصن حسان بن ثابت"، تاج العروس "5/ 449"، "فرع". 2 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704"، سيرة ابن هشام "2/ 193"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "2/ 193". 3 الروض الأنف "2/ 194". 4 الشعر والشعراء. 5 السيوطي، شرح شواهد "2/ 875".

ذكر أن بعض أهل المدينة يقول: ما ذكرت ببيت حسان هذا إلا عدت في الفتوة1. وذكر أن الناس كانوا يتمثلون بـ "فشركما لخيركما الفداء"، وهو عجز بيت لحسان. هو: أتهجوه ولست له بندّ ... فشركما لخيركما الفداء2 وهو من قصيدة يقول بعض الرواة إن مطلعها: عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء هجا فيها "أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب". "قال مصعب الزبير: هذه القصيدة، قال حسان صدرها في الجاهلية وآخرها في الإسلام"3. وينسب إلى "حسان" قوله: تعلمتم من منطق الشيخ يعرب ... أبينا فصرتم معربين ذوي نفر وهو بيت تليه أبيات أخرى في الفخر بيعرب، وبفضله على العرب، لأنه هو صاحب العربية، ومنه تعلم العرب عربيتهم. وقد دونت هذه الأبيات في كتاب: تأريخ ملوك العرب الأولية للأصمعي4. وقد دون هذا الكتاب أبياتا من قصيدته الشهيرة في مدح الغساسنة5. وأبياتا في مدح "جبلة بن الأيهم" الذي فر إلى بلاد الروم، وواصل مع ذلك بره لحسان6. وهو شعر أراه مصنوعا، ولا يتفق مع مذهب "حسان" في النظم. وقد ذكر "حسان" قصر دومة، أي دومة الجندل في شعره، إذ قال:

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 225". 2 الشعر والشعراء "1/ 226"، "أتهجوه ولست له بكفء" الاستيعاب "1/ 336". 3 الاستيعاب "1/ 336". 4 "ص8". 5 "ص102". 6 "ص113".

أما ترى رأسي تغير لونه ... شمطا فأصبح كالثغام المجول فلقد يراني صاحباي كأنني ... في قصر دومة أو سواء الهيكل1 وورد أن الرسول لما "قدم المدينة، فهجته قريش، وهجوا الأنصار معه، فأتى المسلمون "كعب بن مالك" "؟ " فقالوا: أجب عنا، فقال: استأذنوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ادعوه، فأتى حسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني أخاف أن تصيبني معهم تهجو من بني عمي"، فقال حسان: لأسلنك منهم سل الشعرة من العجين، ولي مقول ما أحب أن لي به مقول أحد من العرب، وإنه ليفري ما لا تفريه الحربة. ثم أخرج لسانه فضرب به أنفه كأنه لسان حية بطرفه شامة سوداء، ثم ضرب به ذقنه، فأذن له رسول الله"2. وورد "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، تناولته قريش بالهجاء، فقال لعبد الله بن رواحة: "رد عني". فذهب في قديمهم وأولهم، ولم يصنع في الهجاء شيئا. فأمر كعب بن مالك" "ولم يصنع في الهجاء شيئا، فدعا حسان بن ثابت فقال: "اهجهم، وائتِ أبا بكر يخبرك بمعايب القوم". فأخرج حسان لسانه حتى ضرب به صدره، وقال: والله يا رسول الله، ما أحب أن لي به مقولا في العرب، فصب على قريش منه شآبيب شر. فقال رسول الله: "اهجهم، كأنك تنضحهم بالنبل" 3. وروي أن الرسول لما هجاه "عبد الله بن الزبعرى"، و"أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، و "عمرو بن العاص"، و "ضرار بن الخطاب" قال: "ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ " فقال حسان: أنا لها وأخذ بطرف لسانه، وقال: والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي؟ " فقال: والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال له: "ائت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك". فكان يمضي إلى أبي بكر ليقفه على أنسابهم. وكان

_ 1 الإصابة "1/ 132"، "رقم 549". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 334"، "كعب بن مالك" "هكذا"، بينما الحال يستدعي ذكر "حسان بن ثابت". 3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 354 وما بعدها".

يقول: كف عن فلانة وفلانة واذكر فلانة وفلانة، فجعل حسان يهجوهم. فلما سمعت قريش شعر حسان، قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، أو متى شعر ابن أبي قحافة. فمن شعر حسان في أبي سفيان بن الحارث: وإن سنام المجد في آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد ومن ولدت أبناء زهرة منهم ... كرام ولم يقرب عجائزك المجد ولست كعباس ولا كابن أمه ... ولكن لئيم لا يقوم له زند وإن امرأ كانت سمية أمه ... وسمراء مغمور إذا بلغ الجهد وأنت هجين نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد فلما بلغ هذا الشعر أبا سفيان، قال: هذا كلام لم يغب عنه ابن أبي قحافة"1. وذكر أن الرسول جعله شاعره الناطق باسمه إذا جاءته الوفود، وتبارى الشعراء أمامه، قام هو للرد عليهم، فحين قدم وفد "بني تميم" بخطيبهم وشاعرهم، ونادوه من الحجرات أن خرج إلينا يا محمد، خطب خطيبهم مفتخرا، ثم قام شاعرهم وهو "الزبرقان بن بدر" فقال: نحن الملوك فلا حي يقاربنا ... فينا العلاء وفينا تنصب البيع قال رسول الله لحسان: قم، فقام وقال: إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع إلى آخر الأبيات. "فقال التميميون عند ذلكم: وربكم إن خطيب القوم أخطب من خطيبنا، وإن شاعركم أشعر من شاعرنا"، ويعد شعره هذا من جيد شعره2. وقد روي أن النبي كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائما يهجو

_ 1 الاستيعاب "1/ 334 وما بعدها". 2 الاستيعاب "1/ 341".

الذين كانوا يهجون النبي1. وقد شك "كيتاني" وكذلك "بروكلمان" في صحة هذا الخبر. ولكن الروايات تؤكد أن الرسول كان يستدعيه أحيانا للرد على شعراء الوفود، وأنه كان يجلس في المسجد ينشد الشعر، والرسول يسمعه. وأن "عمر" مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله، ثم قال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فوالله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك، فما يغير عليّ ذلك، فقال عمر: صدقت2. أو أن "عمر" مر على "حسان" وهو ينشد الشعر في المسجد، فقال أفي مسجد رسول الله تنشد الشعر؟ فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك. أو ما أشبه ذلك3. وروي أن "عمر"، نهى أن ينشد الناس شيئا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحي والميت وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام4. وذكر أن أول شعر قاله "حسان بن ثابت" في الإسلام، هو قوله: فإنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضع تمرا إلى أهل خيبر5 ولما أسرت "هذيل" بعض المسلمين وباعتهم من قريش، هجاهم "حسان" هجاء مرا، وصفهم فيه باللؤم، واللؤم عند العرب من أقبح المعيبات، إذ قال فيهم: لو خلق اللؤم إنسانا يكلمهم ... لكان خير هذيل حين يأتيها ترى من اللؤم رقما بين أعينهم ... كما لوى أذرع العانات كاويها تبكي القبور إذا ما مات سيدهم ... حتى يصيح بمن في الأرض داعيها مثل القنافد تخزي أن تفاجئها ... شد النهار ويلقي الليل ساريها6

_ 1 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704"، السيوطي، شرح شواهد المغني "114". 2 العمدة "1/ 28". 3 الإصابة "1/ 325"، "رقم 1704". 4 الاستيعاب "1/ 338". 5 تاج العروس "5/ 278". 6 ديوان حسان "67"، "لندن 1910".

وهي أبيات شديدة الهجاء، موجعة، تفنن فيها الشاعر وأبدع في وصف من هجاهم باللؤم وبالأمور المخزية الأخرى. ويشك بعض المستشرقين في صحة الشعر المنسوب إلى "حسان" الوارد في التفجع على مقتل "عثمان" وفي الحث على الأخذ بثأره. وذلك أن هذا الشعر شعر ملتهب فيه قوة وحيوية ونفس شباب، فيبعد أن يكون من شعر شيخ قد تقدمت به السن1. وروي "عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج وقد فرش حسان فناء أطمه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سماطين وبينهم جارية لحسان يقال لها "شرين" ومعها مزهر تغنيهم، وهي تقول في غنائها: هل عليّ ويحكم ... إن لهوت من حرج فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "لا حرج" 2. و"شرين" لفظة فاسية بمعني "حلو" و "جميلة"، فيكون اسم الجارية من الأسماء الفارسية، معناه في العربية "حلوة" و "جميلة". ولا يستبعد أن تكون من أصل فارسي، وإن نص أهل الأخبار على أنها قبطية. و"شرين"، هي "سيرين" جارية أعطاها رسول الله لحسان لذبه بلسانه عنه في هجاء المشركين، وقيل لضربة "صفوان بن المعطل" به بالسيف. وهي أخت "مارية" القبطية. وذكر أن الرسول أعطى حسان الموضع الذي بالمدينة، وهو قصر بني "جديلة"3. وقد اختلف الناس في وفاة "حسان" الذي كان قد عمي لما تقدمت به السن. فقيل: توفي قبل الأربعين، وقيل سنة أربعين، وقيل خمسين، وقيل أربع وخمسين من سني الهجرة، والجمهور على أنه عاش مائة وعشرين سنة، ولكن منهم من ذهب إلى أنه عاش دون المائة أو ما بين المائة والمائة والعشرين.

_ 1 بروكلمان "1/ 153" TH.NOLDECKE, DIE GHASSAN., S. 41 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 334 وما بعدها". 3 الاستيعاب "1/ 340".

وقد قال "ابن سعد" إنه عاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين، ومات وهو ابن عشرين ومائة1. وذكر أنه مات في أيام معاوية2. وقد كان حسان ممن مشى بين الناس بحديث الإفك، وهو ممن نزلت بحقه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3، لأنه مشى بالإفك مع من مشى به. وهم "عبد الله بن أبي" رأس المنافقين بالمدينة، ومسطح، وحمنة بنت جحش. وقال بعضهم إن الذي تولى كبره منهم "حسان بن ثابت". قيل لعائشة، وقد دخل عليها "حسان بن ثابت: "أليس الله يقول: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . قالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم. أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف! "4. وروي أنه جلد مع "مسطح" بسبب الإفك5. واعتذر "حسان" من قوله في الإفك بقوله: فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي ثم يقول: فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكن قول امرئ بي ماحل6 وقد أسرف "حسان" في إفكه بحديث الإفك، حتى آلم النبي، ويظهر أنه لم يكن من أولئك الأشخاص الذين كانوا يتحرجون من الهجوم على أقرب الناس إليهم، في حالة تسرعه وتأثره، فهو شاعر، ومن عادة الشعراء عدم الاستقرار. وكان عليه أن يدافع عن "عائشة"، باعتباره شاعر نبيه، لا أن يساهم مع

_ 1 الإصابة "1/ 325"، "1704"، الاستيعاب "1/ 342". 2 الشعر والشعراء "1/ 223"، "الثقافة". 3 سورة "النور"، "الرقم 24"، الآية "11". 4 تفسير الطبري "18/ 68 وما بعدها"، تفسير الآلوسي. "18/ 100"، تفسير ابن كثير "3/ 235". 5 رسالة الغفران "235". 6 العمدة "1/ 24 وما بعدها".

من استغل الحادث لإيلام الرسول من المنافقين والذين لم يكن الإيمان قد دخل قلوبهم، وأن يمعن في الإفك وفي إيلام الرسول، وقد اعتذر بعد ذلك كما رأينا بعذر بارد، حاول أن يتنصل فيه مما قاله في الإفك، مع أنه كان صنوا لعبد الله بن أبي في ذلك الحديث. ولما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، قال حسان قصيدته: بطيبة رسم للرسول ومعهد ... منير وقد تعفو الرسوم وتهمد1 وقال قصيدة أخرى مطلعها: ما بال عينك لا تنام كأنها ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد جزعت على المهدي أصبح ثاويا ... يا خير من وطأ الحصى لا تبعد وقال قصائد أخرى في رثائه2. وكان حسان من المتعصبين ليثرب على مكة، ونجد في شعره عصبية لليمن، وتفاخر شديدا بالأزد، والأزد من اليمن، وبنو غسان من الأزد. وهي عصبية قديمة، تعود إلى ما قبل الإسلام. يظهر أن سببها اختلاف ما بين المديتنين في الطباع وفي الطبيعة والأحوال الاقتصادية والزعامة، وقد فرح ولا شك حين كلفه الرسول بالرد على شعراء قريش، وهو حاقد عليهم منذ أيام الجاهلية. وقد بقيت هذه العصبية كامنة في نفسه حتى في الإسلام، وكاد أن يؤجج نارها مرارا بين الأنصار والمهاجرين، وقد نهاه عمر عن التعرض لأمور الجاهلية وأيامها ومن إنشاد ما كان قد قيل من شعر الجاهلية بين أهل يثرب وقريش، حذر الفتنة، وعودة العصبية الجاهلية الأولى. وكان "عمر" قد نهى أن ينشد الناس جميعا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شتم الحي والميت وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام3. ويظهر أنه لم يكن مثاليا بدليل هذه النزوات التي صدرت منه وهو في الإسلام وكادت تثير فتن الجاهلية.

_ 1 ابن هشام، سيرة "2/ 378"، "حاشية على الروض". 2 سيرة ابن هشام "2/ 379 وما بعدها". 3 الاستيعاب "1/ 337 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

وكان حسان يهجي "أمية بن خلف" الخزاعي. وكان خلف قد هجا حسان بقوله: أليس أبوك فينا كان قينا ... لدى القينات فسلا في الحفاظ يمانيا يظل يشد كيرا ... وينفخ دائبا لهب الشواظ1 وكان قد قال: ألا من مبلغ حسان عني ... مغلغلة تدب إلى عكاظ فأجابه حسان: أتأني عن أمية زور قول ... وما هو في المغيب بذي حافظ سأنشر إن بقيت لكم كلاما ... ينشر في المجنة مع عكاظ قوافي كالسلاح إذا استمرت ... من الصم المعجرفة الغلاظ تزورك إن شتوت بكل أرض ... وترضخ في محل بالمقاظ بنيت عليك أبياتا صلابا ... كأمر الوسق قعض بالشظاظ مجللة تعممه شنارا ... مضرمة تأجج كالشواظ كهمزة ضيغم يحمي عرينا ... شديد مغارز الأضلاع خاظي تغض الطرف أن ألقاك دوني ... وترمي حين أدبر باللحاظ2 وقد هاجى "حسان بن ثابت" النجاشي، واسمه "قيس بن عمرو" من رهط "الحارث بن كعب"، وكان قد هجا الأنصار فرد عليه "حسان بن ثابت"، ثم أمر بأن يكتب رده غلمان الكتاب، ليوزع على الناس. وقد كان النجاشي قد هاجي "عبد الرحمن بن حسان"، واشتد هجاؤه عليه فأعانه والده عليه3. وكان مما قاله حسان في "الحارث بن كعب" رهط النجاشي قوله: لا بأس بالقوم من طول ومن عرض ... جسم البغال وأحلام العصافير4

_ 1 اللسان "7/ 446"، "شوظ"، تاج العروس "5/ 253"، "تشاوظ". 2 تاج العروس"5/ 254"، "عكظ". 3 الخزانة "2/ 105 وما بعدها"، "بولاق". 4 ديوان حسان "214"، رسائل الجاحظ "2/ 343"، "كتاب البغال".

ويلاحظ أن أهل الأخبار نسبوا إلى ابنه "عبد الرحمن"، وإلى حفيده "سعيد بن عبد الرحمن" مثل هذا الذي نسبوه إلى "حسان". إذ ذكروا أن "عبد الرحمن" أوقد نارا حتى اجتمع إليه الحي، ثم قال: قد قلت بيتا، فخفت أن يسقط بحدث يحدث عليَّ فجمعتكم لتسمعوه، وأن ابنه "سعيد" فعل فعله1. ويلاحظ أن الأبيات التي ذكروها هي على وزن واحد وعلى قافية واحدة. وقد تكون من وضع الرواة. وأم "عبد الرحمن بن حسان"، أخت مارية القبطية أم إبراهيم ابن الرسول. وكانت تسمي "سيرين" "شيرين" "شرين". وكان عبد الرحمن شاعرا كذلك. ذكر أن والده أشار إليه بقوله: فمن للقوافي بعد حسان وابنه ... ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت2 ونسب إلى حسان أو ابنه عبد الرحمن قوله: قلت شعرا لم أقل مثله، وهو: وإن امرأ أمسى وأصبح سالما ... من الناس إلا ما جنى لسعيد3 وكانت لحسان بنت شاعرة، أرق حسان ذات ليلة فعن له الشعر فقال: متاريك أذناب الأمور إذا اعترت ... أخذنا الفروع واجتثثنا أصولها ثم أجبل فلم يجد شيئا، فقالت له بنته: كأنك قد أجبلت يا أبه؟! قال: أجل، قالت، فهل لك أن أجيز عنك؟ قال: وهل عندك ذلك! قالت: نعم، قال، فافعلي، قالت: مقاويل بالمعروف خُرس عن الخنا ... كرام يعاطون العشيرة سولها فحمي حسان فقال: وقافية مثل السنان رزئتها ... تناولت من جو السماء نزولها

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 336". 2 الإصابة "3/ 67 وما بعدها"، رقم "5206". 3 الشعر والشعراء "1/ 226".

فقالت: يراها الذي لا ينطق الشعر عنده ... ويعجز عن أمثالها أن يقولها فقال حسان: لا أقول بيت شعر وأنت حية، قالت: أوأومنك؟ قال: وتفعلين؟ قالت نعم، لا أقول بيت شعر ما دمت حيا1. ولحسان ديوان شعر مطبوع. طبع جملة مرات. وقد شرح أيضا، وطبعت الشروح كذلك2. وكعب بن مالك من شعراء يثرب كذلك. ويكنى أبا عبد الله وقيل أبا عبد الرحمن، وهو ممن شهد العقبة، وكان أحد شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يردون الأذى عنه، وكان مجودا مطبوعا قد غلب عليه في الجاهلية أمر الشعر. وذكر أنه كان أحد الثلاثة الأنصار الذين قال الله فيهم: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ} 3 وهم كعب بن مالك الشاعر هذا، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة تخلفوا عن غزوة "تبوك" فتاب الله عليهم وعذرهم، وكانوا كلهم من الأنصار4. وكعب بن مالك من أسرة أظهرت جملة شعراء، فمالك والد كعب كان شاعرا، وعمه قيس كان شاعرا كذلك. وكان أولاد كعب وأحفاده شعراء "مجيدون مقدمون في الشعر"5. وقد ذكر "ابن سيرين" أن كعبا قال بيتين كانا سبب إسلام دوس وهما: قضينا من تهامة كل وتر ... وخيبر ثم أغمدنا السيوفا تخبرنا ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوسا أو ثقيفا

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 226". 2 للوقوف على مواضع طبع الديوان والشروح راجع بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 153 وما بعدها". 3 "التوبة"، الآية "118". 4 تفسير الطبري "11/ 41"، الإصابة "3/ 285 وما بعدها"، "رقم 7435"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 337"، الخزانة "1/ 200"، "بولاق"، البيان والتبيين "3/ 26". 5 الأغاني "15/ 37".

فلما بلغ دوسا، قالوا: خذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف1. وقال "ابن سيرين" أيضا: "كان شعراء المسلمين: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك. فكان كعب يخوفهم الحرب، وعبد الله يعيرهم بالكفر، وكان حسان يقبل على الأنساب"، وأما شعراء المشركين: فعمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث، وضرار بن الخطاب2. ولكعب شعر في يوم أحد، فيه: فجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسر ومقنع ثلاثة آلاف ونحن نصية ... ثلاث مئين إن كثرنا أو أربع فراحوا سراعا مرجعين كأنهم ... جهام هراقت ماءه الريح مقلع ورحنا وأخرانا بطاء كأننا ... أسود على لحم ببيشة ظلع وله شعر في أيام الخندق، وفي يوم بدر وفي المعارك الأخرى3. ومن شعر كعب بن مالك قوله: زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... فليغلبن مغالب الغالب وفي رواية: جاءت سخينة كي تغلب ربها ... فليغلبن مغالب الغلاب4 كانت العرب تعير قريشا بها، لأنهم كانوا يكثرون من أكلها، ولذا كانت تعير بها. والسخينة حساء يؤكل في الجدب. مازح "معاوية" الأحنف بن قيس فقال: ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: هو السخينة يا أمير المؤمنين. والملفف في البجاد وطب اللبن يلف به ليحمى ويدرك، وكانت تميم تعير به.

_ 1 الإصابة "3/ 286"، "رقم 7434". 2 الاستيعاب "3/ 272 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 3 ابن سلام، طبقات "53 وما بعدها"، الخزانة "1/ 200 وما بعدها"، "بولاق". 4 الاستيعاب "3/ 274".

فلما مازحه معاوية بما يعاب به قومه، مازحه الأحنف بمثله1. وروي أن رسول الله قال لكعب: أترى الله نسي قولك: زعمت سخينة أن ستغلب ربها ... وليغلبنّ مغالب الغلاب2 وجاء في رواية يضعفها العلماء، أن "حسان بن ثابت" وكعب بن مالك، والنعمان بن بشير، دخلوا على "علي" فناظروه في شأن "عثمان" وأنشده كعب شعرا في رثاء عثمان، ثم خرجوا من عنده، فتوجهوا إلى معاوية فأكرمهم. وروي أنه كان ممن رثى عثمان، ولم يرد في الأخبار أنه ساهم في حرب علي ومعاوية3. وذكر أنه فقد بصره في آخر عمره. وتوفي في زمن معاوية سنة خمسين، وقيل ثلاث وخمسين4. و"عبد الله بن رواحة" من الخزرج، وهو أبو محمد، ويقال "أبو رواحة"، ويقال "أبو عمرو"، وكان من شعراء يثرب المعروفين: وهو أحد النقباء ليلة العقبة وشهد بدرا، وكان ممن يكتب للنبي، وكان ممن يكتب في الجاهلية، وهو الذي جاء ببشارة وقعة بدر إلى المدينة، وبعثه رسول الله في ثلاثين راكبا إلى "أسير بن رقرام" "يسير بن رزام" اليهودي بخيبر فقتله. وقد استشهد بمؤتة سنة سبع5. وليس له عقب. وهو خال "النعمان بن بشير" الأنصاري. وكان عظيم القدر في قومه، سيدا في الجاهلية، وليس في طبقته أسود منه. وكان في حروبهم في الجاهلية يناقض قيس بن الخطيم6. وهو يختلف عن حسان في كونه محاربا، اشترك مع الرسول في معاركه، ومات قتيلا محاربا7.

_ 1 تاج العروس "9/ 232"، "سخن". 2 ابن سلام، طبقات "54". 3 الإصابة "3/ 286"، "رقم 7434"، الأغاني "15/ 28 وما بعدها". 4 الاستيعاب "3/ 272"، "حاشية على الإصابة". 5 الإصابة "2/ 298 وما بعدها"، "رقم 4676"، شرح شواهد، للسيوطي "1/ 288"، أعلام النبلاء "1/ 166"، ابن حبيب، كنى الشعراء "289"، "أسير بن زارم"، المحبر "119". 6 ابن سلام، طبقات "54"، الخزانة "2/ 304 وما بعدها"، "هارون". 7 المخبر "119، 121، 123، 269، 271، 279، 287، 421".

وأكثر ما روي من شعره، هو من الشعر الذي قاله في الإسلام. ولا سيما في معركة "مؤتة". وروي أن الرسول قال له يوما: قل شعرا تقتضيه الساعة وأنا أنظر إليك. فانبعث مكانه يقول: إني تفرست فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أن ما خانني البصر أنت النبي ومن يحرم شفاعته ... يوم الحساب لقد أزرى به القدر فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا وفي رواية ابن هشام: إني تفرست فيك الخير نافلة ... فراسة خالفت فيك الذي نظروا أنت النبي ومن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر1 وروي أن الرسول دعاه، فقال له: كيف تقول الشعر إذا قلت؟ قال أنظر في ذلك ثم أقول. قال: فعليك بالمشركين. فأنشده: فخيروني أثمان العباء متى ... كنتم بطاريق أو دانت لكم مضر فظهرت الكراهة في وجه الرسول، أن جعل قومه أثمان العباء، فقال: نجالد الناس من عرض فنأسرهم ... فينا النبي وفينا تنزل السور وقد علمتم بأنا ليس يغلبنا ... حي من الناس إن عزوا وإن كثروا يا هاشم الخير إن الله فضلكم ... على البرية فضلا ما له غير إني تفرست فيك الخير أعرفه ... فراسة خالفتهم في الذي نظروا ولو سألت أو استنصرت بعضهم ... في جل أمرك ما آووا ولا نصروا فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا فتبسم الرسول وسر به2. وروى "هشام بن عروة" عن أبيه. قال: ما سمعت بأحد أجرأ ولا أسرع شعرا من عبد الله بن رواحة، يوم يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ 1 الاستيعاب "2/ 287"، "حاشية على الإصابة". 2 ابن سلام، طبقات "55".

"قل شعرا تقتضيه الساعة وأنا أنظر إليك"، ثم أبدّه بصره، فانبعث عبد الله بن رواحة يقول: إني تفرست فيك الخير أعرفه ... والله يعلم ما إن خانني بصر1 وروي أن الرسول قال: لعبد الله بن رواحة: "ما الشعر"؟ قال: شيء يختلج في صدر الرجل، فيخرجه على لسانه شعرا2. وقد ذكر "ابن سلام" البيت المذكور وما بعده في قصيدة مطلعها: فخبروني أثمان العباء متى ... كنتم بطارق أو دانت لكم مضر ذكره في ضمن القصيدة، ولم يجعله مطلعها3. ولما دخل رسول الله مكة في عمرة القضاء، وابن رواحة بن يديه وهو يقول: خلو بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تأويله ضربا يزيل الهام من مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله قال عمر: يا ابن رواحة في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر؟ فقال النبي: "خل عنه يا عمر، فوالذي نفسه بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل" 4. وقد كانت عمرة القضاء سنة ست من الهجرة5. وقد روى هذه الرجز بزيادة واختلاف6. وقد ذكر "ابن هشام "، بعد إيراده هذه الأبيات هذه الملاحظة: "نحن قتلناكم على تأويله إلى آخر الأبيات: لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم، والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يقروا بالتنزيل، وإنما يقتل على التأويل من أقر بالتنزيل"7.

_ 1 شرح شواهد، للسيوطي" 1/ 293". 2 المصدر نفسه "1/ 289". 3 ابن سلام، طبقات "55". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 290". 5 ابن هشام سيرة "2/ 254"، "حاشية على الروض". 6 ابن هشام سيرة "2/ 255"، "حاشية على الروض"، ابن سيد الناس "2/ 149"، أعلام النبلاء "1/ 169"، ابن سعد، طبقات "3 القسم الثاني 80". الروض الأنف "2/ 255". 7 ابن هشام، سيرة "2/ 255".

وكان "النعمان بن العجلان" الزرقي لسان الأنصار وشاعرهم، وكان رجلا أحمر قصيرا تزدريه العين، وكان سيدا، له شعر يفخر بقومه على قريش من جملته: فقل لقريش نحن أصحاب مكة ... ويوم حنين والفوارس في بدر نصرنا وآوينا النبي ولم نخف ... صروف الليالي والعظيم من الأمر وقلنا لقوم هاجروا مرحبا بكم ... وأهلا وسهلا قد أمنتم من الفقر نقاسمكم أمولنا وديارنا ... كقسمة أيسار الجزور على الشطر ثم تعرض لموضوع الخلافة، وقصة انتخاب "سعد" لها، وتعيين قريش أبا بكر خليفة، ثم تعرض لحق علي فيها1. وكان "علي بن أبي طالب" استعمل "النعمان" هذا على البحرين، فجعل يعطي كل من جاء من "بني زريق"، فقال فيه "أبو الأسود" الدؤلي: أرى فتنة قد ألهت الناس عنكم ... فندلا زريق المال ندل الثعالب فإن ابن عجلان الذي قد علمتم ... يبدد مال الله فعل المناهب2

_ 1 الاستيعاب "3/ 521"، "حاشية على الإصابة". 2 الإصابة "3/ 532"، "رقم 8748".

الفصل الرابع والستون بعد المائة: شعراء ثقيف

الفصل الرابع والستون بعد المائة: شعراء ثقيف وثقيف من القبائل التي لم تنجب عددا يذكر من الشعراء. وشاعرهم الوحيد الذي نال شهرة، وظهر أمره هو "أمية بن أبي الصلت" الثقفي. وقد علل "ابن سلام" قلة الشعر بالطائف بقوله: "وبالطائف شعراء، وليس بالكثير، وإنما يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان وأهل الطائف"1. وقد عرفت ثقيف بفصاحة لسانها، وبمقدرتها في الكتابة، ولهذا ورد ذكرها في حادث تدوين القرآن. ومن شعراء ثقيف "أبو الصلت بن أبي ربيعة"، وهو والد "أمية بن أبي الصلت"، وغيلان بن سلمة، وكنانة بن عبد يا ليل2، وأبو محجن الثقفي. وكانت زوجة "أبي الصلت": "رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف"، فهي من قريش. وهي والدة "أمية"3. ونسبت إلى "أبي الصلت" قصيدة زعم أنه مدح فيها أهل فارس حين

_ 1 ابن سلام، طبقات "65 وما بعدها". 2 ابن سلام، طبقات "66". 3 الشعر والشعراء "1/ 396".

قتلوا الحبشة، ومدح "سيف بن ذي يزن"، وهنأه فيها لتوليه الملك1، وقد أشار فيه إلى قصة "سيف"، وكيف ذهب إلى "هرقل" يستنجده على الحبشة، فلم يجد عنده ما طلب، ثم كيف ذهب إلى "كسرى"، وبقي عند بابه تسع سنوات حتى أمده بالجنود وعلي رأسهم باذان ووهرز، إلى أخر القصة التي ترد في كتب الأخبار والتواريخ. وقد نسبها بعض الرواة إلى ابنه "أمية". وأمية بن أبي الصلت من الشعراء الذين رغبوا عن عبادة الأوثان وآمنوا بالله والبعث، ووقف على كتب أهل الكتاب فتأثر بها، وكان يجالسهم ويختلط بهم. وكان أبوه شاعرا، وروى رواة الشعر شيئا من شعره، وكان ابنه "القاسم بن أمية بن أبي الصلت" شاعرا كذلك وله صحبة. وذكر أن العرب اتفقت على أن "أمية" كان أشعر ثقيف2. ذكر أنه كان في الجاهلية نظر الكتب وقرأها ولبس المسوح وتعبد أولا بذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية وحرم الخمر وتجنب الأوثان. ولما ظهر الإسلام حسد النبي، فلم يسلم، لأنه كان طمع في النبوة، أو أنه أراد أن يسلم، فلما سمع بقتلى بدر، توقف ورثى قتلى المشركين، وذهب إلى الطائف فمات بها. وقد اختلف في سنة وفاته، فقيل إنه توفي سنة تسع من الهجرة، وقيل قبل ذلك. وورد في رواية أنه مات في الجاهلية ولم يدركه الإسلام. وقد صدقه النبي في بعض شعره، وقال: قد كاد أمية أن يسلم3. وقد كان يكنى بـ "أبي عثمان" وبـ "أبي القاسم"4. وورد في بعض الروايات أن في حقه نزلت الآية: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} 5. ويرجع سند القائلين بذلك إلى "عبد الله بن عمرو" وإلى "ابن الكلبي"6.

_ 1 ابن سلام، طبقات "66"، ابن قتيبة، الشعر "1/ 371". 2 الإصابة "1/ 134"، "رقم 552"، الأغاني "3/ 179 وما بعدها"، "16/ 69"، خزانة "1/ 118"، بروكلمان "1/ 13 وما بعدها". 3 الإصابة "1/ 134"، "رقم 552"، الخزانة "1/ 119 وما بعدها"، الجمان في تشبيهات القرآن "84، 384". 4 كنى الشعراء ومن غلبت كنيته عليه "289"، "نوادر الخطوط". 5 سورة "الأعراف"، الآية "175". 6 تفسير الطبري "9/ 82"، تفسير الآلوسي "9/ 98".

وروي أن النبي سأل "الرشيد بن سويد" أن ينشده من شعر أمية، فأنشده إياه، فقال: "كاد ليسلم". وأن النبي أنشد قول أمية: رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد فقال: "صدق، وهذه صفة حملة العرش". وذكر أن معظم شعر أمية كان في الآخرة، كما كان معظم شعر عنترة بذكر الحرب1. وقد دون "ابن هشام" قصيدة "أمية" التي نظمها يرثي من أصيب من قريش يوم بدر، ومطلعها: ماذا ببدر بالعقنـ ... ـقل من مرازبة جحاجح ألا بكيت على الكرا ... م بني الكرام أولي المدائح كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الغصن الجوانح2 وذكر أن النبي نهى عن روايتها لما ورد فيها من رثاء قتلى بدر3، ولكني أشك في صحة صدور هذا النهي من الرسول، إذ لو كان الرسول قد نهى عن إنشادها، فكيف دونها "ابن هشام" وغيره، ولا تزال مدونة، وقد قال "ابن هشام" إنه دون القصيدة إلا بيتين نال فيهما من أصحاب الرسول4. ودون "ابن هشام" قصيدة أخرى لأمية قالها يرثي ويبكي "زمعة بن الأسود" وقتلى "بني أسد"5 من أبياتها: عين بكى بالمسبلات أبا العا ... ص ولا تذكري على زمعه لبني مسلم لهم خرت الجو ... زاء لا خاتة ولا خدعه وهم الهامة الوسيطة من كعـ ... ـب ومن هم كذروة القمعه

_ 1 الخزانة "1/ 120 وما بعدها". 2 ابن هشام، سيرة "2/ 114"، "حاشية على الروض الأنف"، البيان والتبيين "1/ 291". 3 الحيوان، للجاحظ "1/ 291" "عبد السلام محمد هارون"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 113". 4 ابن هشام، سيرة "2/ 114". 5 ابن هشام، سيرة "2/ 114"، "حاشية على الروض الأنف".

أنبتوامن معاشر شعر الرأ ... س وقد بلغوهم المنعه وهم المطعمون إن قحط القطـ ... ـر وأصحت فلا ترى قزعه أمسى بنو عمهم إذا جلس النا ... دي عليهم أكبادهم وجعه1 ومن شعره الذي قاله في التحريض على رسول الله قوله: لله در بني علي ... أيِّم منهم وناكح إن لم يغيرواغارة ... شعواء تحجر كل نابح بزهاء ألف أو بألـ ... ـف بين ذي بدن ورامح وروي أنه كان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب، يأخذها من الكتب المتقدمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب3. وكان يسمي السماء في شعره: "صاقورة" و "حاقورة"، و "برقع". ويقول في الله عز وجل: هو السليط فوق الأرض مقتدر ويقول: وأبديت الثغرورا، ويريد الثغر4. وفي شعر "أمية" إشارة إلى قصة أصحاب الفيل، إذ قال: إن آيات ربنا بينات ... لا يماري بهن إلا الكفور حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يمشي كأنه معقور5 كل دين يوم القيامة عند الله ... إلا دين الحنيفة زور6 ونسبت إلى "أمية" قصيدة طويلة عدتها تسعة وسبعون بيتا، ذكر فيها شيئا من قصص الأنبياء: داود، وسليمان، ونوح، وموسى، وذكر قصة إبراهيم

_ 1 نسب قريش "206". 2 نسب قريش "10 وما بعدها". 3 الشعر والشعراء "1/ 369"، "دار الثقافة". 4 الشعر والشعراء "1/ 371". 5 الجمان في تشبيهات القرآن، لابن ناقياالبغدادي. "384". 6 رسالة الغفران "542".

وإسحاق، وزعم أنه هو الذبيح، وقد وردت في ديوانه الذي جمعه "محمد بن حبيب"، وفي أبياتها بيت هو: ربما تكره النفوس من الأمـ ... ـر له فرجة كحل العقال1 وقد وجد هذا البيت في قصيدة رواها "الأصمعي" لأبي قيس اليهودي، وقيل هي لابن صرمة الأنصاري مطلعها: سبحوا للمليك كل صباح ... طلعت شمسه وكل هلال ووجد أيضافي أبيات لحنيف بن عمير اليشكري، قالها لما قتل محكم بن الطفيل يوم اليمامة في أبيات هي: يا سعاد الفؤاد بنت أثال ... طال ليلي بفتنة الرحال إنها يا سعاد من حدث الدهر ... عليكم كفتنة الدجال إن دين الرسول ديني وفي القو ... م رجال على الهدى أمثالي أهلك القوم محكم بن طفيل ... ورجال ليسوا لنا برجال ربما يجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال2 وقد تحدث "أمية" في قصيدته اللامية عن الخلق وعن كيفية تكون الأرض وظهور الأنهار والعيون، ثم عن الموت والبعث والنشر، وهي قصيدة أرى أنها منحولة، وهي لا يمكن أن تكون من شعر تلك الأيام، وقد نحلت على لسان "أمية" وأظن أن ذلك في أيام الحجاج، الذي كان يتعصب له لكونه شاعر ثقيف، وهو منها3. ومما نسب إلى أمية هذا الشعر: والأرض معقلنا وكانت أمنا ... فيها مقامتنا وفيها نولد

_ 1 ربما تكره النفوس من الشر له فرجة كحل العقال. 2 الخزانة "2/ 543 وما بعدها"، "بولاق". ربما تكره النفوس من الأمـ ... ـر له فرجة كحل العقال أمالي المرتضى "1/ 486". 3 راجع ديوان أمية طبعة "شولتس" SHULTHES""، وطبعة بشير يموت.

وبها تلاميذ على قذفاتها ... حبسوا قياما فالفرائص ترعد وهذا الشعر: صاغ السماء فلم يخفض مواضعها ... لم ينتقص علمه جهل ولا هرم لا كشفت مرة عنا ولا بليت ... فيها تلاميذ في أقفائهم دغم وهذا البيت، الذي هو من الشعر الأول: فمضى وأصعد واستبد إقامة ... بأولى قوى فمبتل ومتلمد1 وروى أهل الأخبار قصصا عنه، وهو من نوع القصص الذي يروى وقوعه للأنبياء، مثل تكليم الجن له، ووقوع طير على صدره، وشقه له، لتنظيف قلبه، في قصة أخذت من خبر غسل قلب الرسول ولا شك. ثم حكاية شعوره بدنو أجله، ووفاته2. وقد حاول وضاع هذا القصص تبجيل "أمية" وإعطائه قدسية خاصة وإظهاره بمظهر الصالحين حتى كاد الوحي ينزل عليه لولا ظهور الرسول. وقد حاول بعض أهل الأخبار تخفيف أثر ما روي عن معارضة "أمية" للإسلام، ومنهم من أماته قبل الإسلام، وبذلك خلصه من تهمة اشتراكه مع المشركين في محاربة الإسلام. وهي روايات يظهر أنها ظهرت في أيام الحجاج، وبتأثير منه. وأكثر ما نسب إليه من شعره محمول عليه، ونجد في كتاب "البدء والتأريخ" لمطهر بن طاهر المقدسي شعرا فيه عبارات وألفاظ قرآنية، لا شك في أنها مصنوعة، وقد حملت عليه. وقد ذهب "كليمان هوار" إلى أن شعره كان من مصادر القرآن، ومعنى هذا أنه شعر صحيح قاله "أمية" قبل الإسلام، فتعلمه الرسول منه، ونزل به الوحي. وقد عارضه "بروكلمان" وآخرون من طائفة المستشرقين، وهم يرون أن هذاالشعر قد صنع ونسب إليه في عهد مبكر، ربما كان في القرن

_ 1 رسالة التلميذ، لعبد القادر بن عمر البغدادي "222 وما بعدها"، من "نوادر المخطوطات"، "تحقيق عبد السلام هارون"، "المجموعة الثانية، القاهرة 1951م". 2 الإصابة "1/ 135".

الأول للهجرة، وقد أدخل فيه قصص أخذ من القرآن1. وتعد قصيدة "أمية" التي مطلعها: عرفت الدار قد أقوت سنينا ... لزينب إذ تحل بها قطينا في المجمهرات. ونسب لأبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، والد أمية قوله: لن يطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن ... لجج في البحر للأعداء أحوالا أتى هرقل وقد شالت نعامته ... فلم يجد عنده القول الذي قالا ثم انتحي نحو كسرى بعد تاسعة ... من السنين لقد أبعدت إيغالا حتى أتى ببني الأحرار يحمله ... أنك عمري لقد أسرع قلقالا من مثل كسرى وباذان الجنود له ... ومثل وهرز يوم الجيش إذ صالا لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن ترى لهم في الناس أمثالا غلبا جحاجحة بيضا مراجحة ... أسدا تربب في الغيضات أشبالا يرمون عن عتل كأنها غبط ... بزمخر يعجل المرمي إعجالا أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... أضحي شريدهم في الأرض فلالا فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا ثم أطل المسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم من بُرديك إسبالا تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادوا بعد أبوالا2 وهي قصيدة زعم أنه قالها في "سيف بن ذي يزن"، وزعم أنها لابنه "أمية بن أبي الصلت". وقد رواها "الطبري" في تأريخه، على هذه الصورة:

_ 1 CI HUART, IN JA., SER., X, I, IV, "1904", P.125, TOR ANDRAE, DER URSPRUNG D. ISLAM UND D. CHRISTENTUM, STOCKHOLM, "1926", S. 48 بروكلمان. تأريخ الأدب العربي "1/ 113". 2 الشعر والشعراء "1/ 371 وما بعدها"، التيجان "305"، الأغاني "16/ 73"، الروض الأنف "1/ 52"، ابن سلام، طبقات "218"، البحتري، حماسة "16".

ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن ... ريَّم في البحر للأعداء أحوالا أتى هرقل وقد شالت نعامتهم ... فلم يجد عندهم بعض الذي قالا ثم انتحي نحو كسرى بعد سابعة ... من السنين لقد أبعدت إيغالا حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ... إنك لعمري لقد أطولت قلقالا من مثل كسرى شهنشاه الملوك له ... أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن ترى لهم في الناس أمثالا غر جحاجحة بيض مرازبه ... أسد تربب في الغيضات أشبالا يرمون عن شدف كأنها غبط ... في زمخر يعجل المرمي إعجالا أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... ضحى شريدهم في الأرض فلالا فاشرب هنيئا عليك التاج متكئا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا وأطل بالمسك إذ شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا1 وقد نسبها لوالد أمية. وقد ذكر "ابن هشام"، أن "ابن إسحاق" نسب هذه القصيدة لأبي الصلت بن أبي ربيعة، ويروي أنها لامية. وقد رواها على هذا النحو: ليطلب الوتر أمثال بن ذي يزن ... ريم في البحر للأعداء أحوالا يمم قيصر لما حان رحلته ... فلم يجد عنده بعض الذي سالا ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة ... من السنين يهين النفس والمالا حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ... إنك عمري لقد أسرعت قلقالا لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن أرى لهم في الناس أمثالا بيضا مرازبة غلبا أساورة ... أسدا تربب في الغيضات أشبالا يرمون عن شدف كأنها غبط ... بزمجر يعجل المرمي إعجالا أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم في الأرض فلالا فاشرب هينئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

_ 1 الطبري "2/ 147 وما بعدها".

وقد ذكر "ابن هشام" أن "هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها، إلا آخرها بيتا: تلك المكارم لا قعبان من لبن. فإنه للنابغة الجعدي"1. وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيدا، ولا له إلمام بأمور التأريخ، فالقصيدة التي مطلعها: لك الحمد والمن رب العبا ... د أنت المليك وأنت الحكم هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبدا أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إيمانا عميقا من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلا: محمد أرسله بالهدى ... فعاش غنيا ولم يهتضم ثم خذ الأبيات التالية له وفيها: عطاء من الله أعطيته ... وخص به الله أهل الحرم وقد علموا أنه خيرهم ... وفي بيتهم ذي الندى والكرم يعيبون ما قال لما دعا ... وقد فرج الله إحدى البهم به وهو يعدو بصدق الحديـ ... ـث إلى الله من قبل زيغ القدم أطيعوا الرسول عباد الإلـ ... ـه تنجون من شر يوم ألم تنجون من ظلمات العذاب ... ومن حر نار على من ظلم دعاني النبي به خاتم ... فمن لم يجبه أسر الندم نبي هدى صادق طيب ... رحيم رءوف بوصل الرحم به ختم الله من قبله ... ومن بعده من نبي ختم يموت كما مات من قد قضى ... يرد إلى الله باري النسم مع الأنبياء في جنان الخلود ... هم أهلها غير حل القسم وقدس فينا بحب الصلاة ... جميعا وعلّم خط القلم كتابا من الله نقرأ به ... فمن يعتريه فقدما أنم2

_ 1 ابن هشام "1/ 52 وما بعدها"، "حاشية على الروض"، الشعر والشعراء، لابن قتيبة "1/ 371". 2 ديوان أمية، قصيدة رقم 23 في طبعة "فردرش شولثيس"، "ص23 وما بعدها"، و"ص55 وما بعدها" من "طبعة بشير يموت"، الخزانة "1/ 122"، "بولاق".

اقرأ هذه المنظومة، ثم احكم على صاحبها، هل تستطيع أن تقول إنه كان شاعرا مغاضبا للرسول، وأنه مات كافرا، وأن صاحبها رثى كفار قريش في معركة بدر، وأنه قال ما قال في الإسلام وفي الرسول؟ اللهم، لا يمكن أن يقال ذلك أبدا، فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الإيمان، هو واعظ ومبشر يخطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام وإلى طاعة الله والرسول. إنه مؤمن قلبا ولسانا، مع أنهم يذكرون أن الرسول قال فيه: "آمن شعره وكفر قلبه"، أو "آمن لسانه وكفر قلبه"، ولم يقصد الرسول إيمان أمية بالله وبرسوله، وإنما إيمان لسانه وشعره بالله، وكفره برسوله، إذ لم يؤمن به، فمات على كفره وعنده وبغضه للرسول، ثم إن صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول، ويريد تثبيت الناس على الإيمان به بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، فظهر من تزلزل إيمانه بسبب وفاته، مع أن أمية، كان قد توفي في السنة التاسعة من الهجرة، أي قبل وفاة الرسول، فهل يعقل أن يكون إذن هو صاحبها وناظمها1؟ أليست هذه المنظومة وأمثالها إذن دليلا على وجود أيدٍ لصناع الشعر ومنتجيه في شعر أمية. نحمد الله على أن صناعها لم يتقنوا صنعتها، ففضحوا أنفسهم بها، ودلواعلى مقاتل النظم. وروي أن بعض الرواة نسبوا إلى أمية بيتا في قصيدة هو: الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما وفي القصيدة ضروب من التوحيد والإقرار بالبعث والجزاء والجنة والنار غير أن العارفين بالشعر ينكرون أن تكون لأمية، وإنما نسبوها إلى النابغة الجعدي، وذكروا أن هذا البيت هو من شعر النابغة الذي كان يتأله في الجاهلية وأنكر الخمر وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر دين إبراهيم2. ثم خذ قصيدة أخرى من القصائد المنسوبة لأمية، وهي في وصف الجنة والنار استهلت بهذا البيت:

_ 1 "وكانت وفاة أمية بن أبي الصلت قبل ذلك بيقين سنة تسع من الهجرة"، الإصابة "1/ 493"، "رقم 2590". 2 ابن سلام "106"، الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641".

جهنم لا تبقي بغيا ... وعدن لا يطالعها رجيم ثم استمر في قراءتها، وفي ما جاء فيها من وصف للجنة والنار، ثم أنعم النظر في عبارات هذه الأبيات: فذا عسل وذا لبن وخمر ... وقمح في منابته صريم ونخل ساقط الأكتاف عد ... خلال أصوله رطب قميم وتفاح ورمان وموز ... وماء بارد عذب سليم وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم وحور لا يرين الشمس فيها ... على صور الدُّمى فيها سهوم نواعم في الأرائك قاصرات ... فهن عقائل وهم قروم على سرر ترى متقابلات ... ألا ثم النضارة والنعيم عليهم سندس وجياد ريط ... وديباج يرى فيها قتوم وحلوا من أساور من لجين ... ومن ذهب وعسجد كريم ولا لغو ولا تأثيم فيها ... ولا غول ولا فيها مليم وكأس لا تصدع شاربيها ... يلذ بحسن رؤيتها النديم تصفق في صحاف من لجين ... ومن ذهب مباركة رذوم1 ثم احكم بعد ذلك على صاحب هذه الأبيات. لقد حاول ناظمها إدخال بعض الكلمات الجاهلية فيها، لإلباسها ثوبا جاهليا، ولإظهارها بمظهر الشعر الجاهلي الأصيل، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل صيرها في الواقع نظما لوصف الجنة والنار في الإسلام. وما بي حاجة إلى أن أحيلك على الآيات التي أخذ منها صاحب هذا الشعر وصفه من القرآن. ومن الغريب أن بعض الباحثين اتخذ هذا النظم وأمثاله حجة لتبيان عقائد الجاهليين، فذكر مثلا أن العرب في جاهليتها كانت تؤمن بالجزاء، وأن منهم

_ 1 تجد اختلافا في كلمات هذه القصيدة وأبياتها، وكذلك في قصائد هذا الشاعر الأخرى، فارجع في ذلك إلى طبعات ديوانه وإلى كتب الأدب لمعرفة مواضع الاختلاف، كتاب البدء والتأريخ "1/ 202 وما بعدها"، ثم ديوانه.

من نظر في الكتب وكان مُقرًّا بالجنة والنار. وحجته في ذلك هذه المنظومة المنسوبة إلى أمية، مع أنها من الشعر المزيف المصنوع! ثم خذ قصيدته في "عيسى بن مريم" وحمل أمه به1، وسائر قصائده الأخرى، تجد عليها هذه المسحة الإسلامية بارزة ظاهرة، ومن الممكن إدراك هذا المصنوع المزيف بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره، وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره من الهجين. ولأمية شعر في الموت، حيث يقول: من لم يمت عبطة يمت هرما ... وللموت كأس والمرء ذائقها2 ويروى له قوله في الله: وأشهد أن الله لا شيء فوقه ... عليًّا وأمسى ذكره متعاليا3 وزعم أن أمية، قال عند موته: إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك إلا ألما وقد تمثل به النبي وصار من جملة الأحاديث. قالوا في ذلك: يجوز إنشاد الشعر للنبي، وإنما المحرم إنشاؤه. وقد زعم أن البيت لأبي خراش الهذلي، وذكر أنه لا يعرف قائله ولا بقيته، وقد أخذه أبو خراش وضمه إلى بيت آخر، وكان يقولهما، وهو يسعى بين الصفا والمروة4. ومن شعر أمية قوله: زعم ابن جدعان بن ... عمرو أنني يوما مدابر ومسافر سفرا بعيدا ... لايئوب له مسافر5

_ 1 ديوان أمية "58"، "بشير يموت". 2 أمالي المرتضى "1/ 533". 3 أمالي المرتضى "2/ 196". 4 الخزانة "2/ 295"، "هارون". 5 اللسان "4/ 275"، "دبر".

ومن ولد "أمية بن أبي الصلت": عمرو، وربيعة، ووهب، والقاسم. وكان ربيعة والقاسم شاعرين1. وذكر أنه نظم شعرا رد به على أبيه في انتسابه، منها: وإنا معشر من جذم قيس ... فنسبتنا ونسبتهم سواء2 وهو القائل: وإن يك حيا من إياد فإننا ... وقيسا سواء ما بقينا وما بقوا ونحن خيار الناس طرا بطانة ... لقيس وهم خير لنا إن هم بقوا3 ولا نعرف من أمر "القاسم بن أمية بن أبي الصلت" شيئا يذكر. وقد أورد له "المرزباني" شعرا في مدح "بني دهمان"4. وذكر أنه رثى "عثمان بن عفان" في قصيدة منها: لعمري لبئس الذبح ضحيتم به ... خلاف رسول الله يوم الأضاحي فطيبوا نفوسا بالقصاص فإنه ... سيسعى به الرحمن سعي نجاح5 وأورد له "ابن قتيبة" أربعة أبيات مطلعها: قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه رب صواهل وقيان6 ورويت له مرثية في عثمان بن عفان منها: لعمري لبئس الذبح ضحيتم به ... خلاف رسول الله يوم الأضاحي فطيبوا نفوسا بالقصاص فإنه ... سيسعى به الرحمن سعي نجاح7

_ 1 رسائل الجاحظ "1/ 258". 2 الإصابة "1/ 493"، "رقم 2590". 3 رسائل الجاحظ "1/ 258"، الأغاني "3/ 179 وما بعدها"، "ربيعة بن أبي الصلت، صاحب ربيعتان نهر بقرب الأبلة، ومن ولده: كلدة بن ربيعة، كان من رجال أهل البصرة"، الاشتقاق "1/ 185". 4 الشعر والشعراء "1/ 372"، "دار الثقافة"، المرزباني، معجم "213"، الأغاني "3/ 179"، الحيوان، للجاحظ "1/ 64". 5 الإصابة "3/ 213"، "رقم 7052". 6 الشعر والشعراء "1/ 372". 7 الإصابة "3/ 213"، "7052".

وله موعظة في أسلوب يشبه أسلوب الأعشى بن ربيعة، نشرها "كاير" في ديوان الأعشى1. ومن شعراء ثقيف "عوف بن عامر بن حسان بن مالك بن حطائط بن جشم بن ثقيف" الكاهن، وكان جاهليا كاهنا شاعرا2، و "كنانة بن عبد يا ليل بن سالم بن مالك بن حطائط بن جشم بن ثقيف"، وكان يمدح النعمان بن المنذر3. و "كنانة بن عبد يا ليل بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غِيَرة بن عوف بن ثقيف"، وهو شاعر ذكره "ابن سلام"4. ومسعود بن معتب بن مالك الثقفي من شعراء ثقيف، وهو جاهلي. وابنه عروة بن مسعود، الذي دعا قومه إلى الإسلام، فقتلوه. وكان "مسعود" غنيا، وكان يخشى عليها من أن تباع إلى قريش بعد وفاته، وكانت قريش تشتري الأرض والأموال بالطائف، فخشي أن يبيع ورثته ملكه لقريش5. و"أبو محجن الثقفي" واسمه مالك، وقيل عبد الله بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف، وقيل اسمه كنيته، هو من الشعراء المطبوعين، وكان كريما منهمكا في الشراب لا يكاد يقلع عنه، أسلم مع ثقيف. جلده "عمر" مرات ثم نفاه إلى جزيرة، وبعث معه رجلا فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص، يوم القادسية فكتب عمر إلى "سعد" أن يحبسه فحبسه. فأرسل إلى امرأة سعد من يقول لها: أطلقيني ولك علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، وإن قتلت استرحتم مني. فأطلقته، فوثب على فرس لسعد، ثم أخذ رمحا ثم خرج يهاجم الفرس، فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون هذا ملك، لما يرونه يصنع، فلما هزم الفرس، رجع فوضع رجله في القيد، وترك الخمر قائلا: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، فأما الآن

_ 1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 114". 2 المرزباني، معجم "125". 3 المرزباني، معجم "246". 4 المرزباني، معجم "246". 5 المرزباني، معجم "283".

لا والله لا أشربها أبدا1 ومن شعره: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها أباكرها عند الشروق وتارة ... يعاجلني عند المساء غبوقها وللكأس والصهباء حق معظم ... فمن حقها أن لا تضاع حقوقها وحدث من رأى قبر "أبي محجن" أنه نبتت عليه ثلاثة أصول كرم وقد طالت وأثمرت وهي معرشة على قبره. ولكنهم عندما تحدثوا عن موضع قبره، اختلفوا فيه، فقال بعض منهم إنه في نواحي أذربيجان، وقال قوم بجرجان2. ويظهر أنهم اختلقوا قصة ظهور الكرم على قبره من الشعر المتقدم. ذكر بعض الرواة أن "أبا محجن" هوي امرأة من الأنصار، يقال لها "شموس" فحاول النظر إليها، فلم يقدر، فآجر نفسه من بناء يبني بيتا بجانب منزلها فأشرف عليها من كوة فأنشد: ولقد نظرت إلى الشموس ودونها ... حرج من الرحمن غير قليل فاستعدى زوجها عمر فنفاه، وبعث معه رجلا يقال له أبو جهراء، فلما رأى "أبو جهراء" من أبي محجن سيفا هرب منه إلى عمر، فكتب "عمر" إلى "سعد" يأمره بسجنه فسجنه3. وذكر "بروكلمان" أن "أبا محجن" لم يزل يشرب الخمر حتى نفاه "عمر" إلى "باصع"، وهي مدينة "مصوع" على ساحل الحبشة. وتوفي بها بعد مدة.

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 101 وما بعدها"، الأغاني "21/ 137"، الخزانة "3/ 550" ابن سلام، طبقات "225"، المؤتلف "95"، الإصابة "4/ 173" "رقم 1017"، الشعر والشعراء "1/ 336 وما بعدها"، طبقات ابن سلام "68 وما بعدها". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 103"، "إلى أصل كرمة"، ديوانه "ص14"، "ليدن 1887"، "تحقيق ABEL"، عيون الأخبار، لابن قتيبة "1/ 38"، "القاهرة 1324"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "109"، الاستيعاب "4/ 181 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 3 الإصابة "4/ 174"، "رقم 1017".

وجيزة1. وهو خبر غريب، يخالفه كل من تعرض لأمر هذا الشاعر. فقد ذكروا جميعا أنه ترك الخمر منذ يوم "القادسية" ولم يعد إليها، ولم يذكر أحد أنه عاد إليها، حتى نفترض أنه عاد بعد ذلك إلى المدينة وعاد إليها فنفاه، وقصة نفيه إلى جزيرة في البحر، ترد قبل ذهابه إلى العراق، بعد أن فر منه حارسه، وكان قد أحس أنه يريد قتله، فأمر "عمر" سعدا عندئذ بحبسه فحبس، ثم خرج فقاتل، فلما انتصر المسلمون، رجع إلى محبسه، ففك "سعد" قيوده وأطلقه. وقد جمع شعر "أبي محجن" في ديوان طُبع، كما نجد له قطعا من أشعاره في مختلف كتب الأدب ومن تعرض لسيرته من رجال الأخبار2. وكان "غيلان بن سلمة" من الأشراف، ذكر "الجمحي"، أنه كان قسم ماله كله بين ولده وطلق نساءه، فنهاه "عمر" عن ذلك، ففعل بما أمر به3.

_ 1 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 167". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 167 وما بعدها". 3 ابن سلام، طبقات "69".

الفصل الخامس والستون بعد المائة: الشعراء اليهود

الفصل الخامس والستون بعد المائة: الشعراء اليهود لا نعرف نصا جاهليا جاء فيه خبر عن شعر يهودي، وعن شاعر يهودي عاش في بلاد العرب. وكل ما ورد إلينا عن شعر يهود، مستقى من الموارد الإسلامية حسب. وكذلك لا نعرف مصدرا عبرانيا أو غير عبراني، تعرض الأمر شعر اليهود في جزيرة العرب. ولهذا فحديثي عن شعر يهود في أيام الجاهلية مستمد من الموارد الإسلامية وحدها. ومن يلقِ نظرة على أشعار اليهود لا يجد فيها أي أثر لليهودية، ولا أية مصطلحات تشعر أن صاحبها يهودي. فلا نجد فيها شيئا من قصص التوراة أو التلمود أو المشنا أو "الكمارة" أو أي شيء له صلة بعقيدة يهودية. مع أننا قد وجدنا شيئا من قصص العهد القديم في شعر "أمية بن أبي الصلت"، وهو غير يهودي. فهل يعني هذا أن شعراء اليهود لم يكن لهم ميل إلى التحدث في أمور الدين، والنظر في أحكام الشريعة، وفي التفكير في خلق السماوات والأرض والإنسان وفي الموت والفناء، أو أنهم كانوا في جهل بها، وكان أمرها عندهم إلى رجال دينهم، هم يبحثون فيها، ولهذا لم يحملوا أنفسهم مشقة التعرض لها والبحث فيها، أو أنهم كانوا قد تطرقوا فعلا إلى هذه الأمور، وجاءوا في شعرهم بأشياء مما يختص بدينهم ويميزهم عن غيرهم، وتطرقوا إلى عاداتهم وأشادوا بذكر أنبيائهم، غير أن الرواة المسلمين لم يحفلوا بشعرهم لأنه شعر يهودي،

فضاع، كما ضاع شعر الوثنيين إذ لم يرو منه القليل1. وقد ذهب "ولفنسون" إلى أن السبب في قلة ما وصل إلينا من شعر اليهود في الجاهلية ومن أسماء شعرائهم، إنما يرجع إلى ضعف إقبال اليهود على اعتناق الإسلام. والذي حافظ على القليل الذي وصل إلينا هم اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، ومن تناسل منهم تخليدا لما كان لأجدادهم من مجد أثيل وشرف عظيم. ولو لم يسلم بعض الأفراد من ذرية السموأل، لكان من الجائز عدم وصول أي شيء من شعره إلينا2. وذهب "الدكتور طه حسين" إلى أن اليهود قالوا كثيرا من الشعر في الدين وهجاء العرب، وأنهم انتحلوا وصنعوا شعرا لإثبات وجود لهم في الشعر، فنسبوه إلى شعراء يهود، ولكن الرواة العرب لم يحفلوا به فضاع3. وقد أدخل "كارلو نالينو" الشعراء اليهود مع الشعراء الوثنيين، وجعلهم في الصنف الأول من أصناف طبقات الشعراء على حسب تصنيفه لهم إلى أربع طبقات وقال: "لا تستغربوا عدم الفرق بين الوثنيين واليهود من أهل البادية ووجوده بين الوثنيين والنصارى من أهل الحضر، لأنكم إذا اطلعتم على ما وصل إلينا من أشعار اليهود قبل الإسلام ما ألفيتم فيها شيئا أو عبارة يميزها عن سائر أهل البادية. فمن طالع مثلا أبيات "السموأل بن عادياء" "مع قطع النظر عن قصيدة واضحة التزوير منسوبة إليه لم تعرف ولم تطبع إلا حديثا" لما توهم أن صاحبها تابع لدين اليهود. والأمر كذلك أيضا في سائر أشعار يهود جزيرة العرب مثل شعبة بن غريض، والربيع بن أبي الحقيق وغيرهما التي اعتنى بجمعها "نولدكه" و "فرانز دلتش" ليس من المستحيل أن ما فقد من أشعارهم "وهو كثير بالإضافة إلى ما حفظ"، قد حوى أشياء مما يختص بدينهم وليس من المحال أيضا أن الرواة المسلمين امتنعواعن نقلها لهذا السبب، ولكن لايجوز لنا الحكم إلا في الموجود المعروف الذي لا يختلف عن شعر أهل البادية الوثنيين لا لغة ولا أسلوبا ولا مأخذا، كأن دينهم لم يؤثر في شعرهم البتة4.

_ 1 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "71". 2 تأريخ اليهود في بلاد العرب "24 وما بعدها". 3 المصدر نفسه. 4 كارلو نالينو "ص71".

ولكنني أجد من مطالعتي لشعرهم نفسا يختلف عن النفس الذي نجده في شعر شعراء البادية، ذلك هو ميل هذا الشعر إلى التحدث عن المثل الأخلاقية، كالإنصاف والحكم بالعدل، والحلم، والصداقة، واحترام حق الصديق، والاتعاظ بالموت وبحوادث الدهر، وبوجوب الوفاء، خذ الأبيات المنسوبة إلى "الربيع بن أبي الحقيق"، وهي: سائل بنا خابر أكمائنا ... والعلم قد يُلقى لدى السائل لسنا إذا جارت دواعي الهوى ... واستمع المنصت للقائل واعتلج القوم بألبابهم ... بقائل الجود ولا الفاعل إنا إذا نحكم في ديننا ... نرضى بحكى العادل الفاصل لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلط دون الحق بالباطل نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمل الدهر مع الخامل1 ففيها إشارة إلى دين يأمر بالعدل والإنصاف، وبعدم مزج الباطل بالحق، ينهى عن الظلم ويأمر بالحق وفيها -إن صح بالطبع أنها من شعرهم- منطق واستماع إلى صوت متظلم، يعمد إلى رفع شكواه إلى المنصفين لإنصافه، فينصف، فأخذ الحق هنا هو بحكم الدين وقواعد العدالة لا بالسيف وبحكم العصبية والأخذ بالثأر، ونجد مثل ذلك في بقية شعرهم، وتحمل هذه الظاهرة المرء على التفكير في سبب ظهور هذا النوع من الشعر، وهل هو شعر جاهلي يهودي أصيل، أم أنه شعر مصنوع، وضع عليهم في الإسلام، لمآرب مختلفة، مثل المأرب الذي حمل الرواة على نسبة القصيدة المشهورة: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل إلى السموأل، وكذلك بعض الأشعار الأخرى! وقد ذكر "ابن سلام" أسماء فحول شعراء يهود، فجعلهم: السموأل بن الغريض بن عادياء، والربيع بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وشُرَيح بن عمران، وشُعية بن غريض، وأبو قيس بن رفاعة، وأبو الذيّال، ودرهم

_ 1 ابن سلام، طبقات "71".

ابن زيد1. وأضاف غيره إليهم: أوس بن دنى، وسماك، والغريض بن السموأل2 و "سلام بن مشكم" و "كنانة بن أبي الحقيق"3. والسموأل، هو أشهر شاعر يهودي. وهو على ما يقوله لنا الأخباريون يهودي ثري شاعر، عرف بـ "السموأل بن عاديا"، وبـ "السموأل بن عادياء" الأزدي، وبـ "السموأل بن غريض بن عاديا "عادياء" اليهودي"4، وبـ "السموأل بن حيان بن عادياء"5، وبـ "السموأل بن عادياء بن حيا"6، وبـ السموأل بن حيا بن عادياء بن رفاعة بن الحارث بن ثعلبة بن كعب"7، وبـ "السموأل بن أوفى بن عادياء"8، و "السموأل بن أوفى بن عادياء بن رفاعة بن جفنة"، وبـ "السموأل بن غريض بن عاديا بن حباء". واختلفوا في نسب "عادياء" "عاديا"، فقالوا: "عادياء بن حباء"، وقالوا: "عادياء بن رفاعة بن جفنة"، وقالوا: إنه من ولد "الكاهن بن هارون بن عمران"9، وقالوا إنه من "بني غسان"، ونسبه "دارم بن عقال"، إلى "رفاعة بن كعب بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء". وهو نسب أنكره "أبو الفرج الأصبهاني" حيث قال: "وهذا عندي محال، لأن الأعشى أدرك شريح بن السموأل، وأدرك الإسلام، وعمرو مزيقيا قديم لا يجوز أن يكون بينه وبين السموأل ثلاثة آباء ولا عشرة ولا أكثر ... وقد قيل إن أمه كانت من غسان"10. ونسب السموأل أيضا إلى الأزد 11. وذكر "ابن دريد" أن السموأل

_ 1 طبقات، ابن سلام "70". 2 الأغاني "19/ 94 وما بعدها". 3 الاستيعاب "4/ 337"، "حاشية على الإصابة". 4 "عادياء" الأغاني "19/ 89"، ابن سلام، طبقات "235"، "طبعة دار المعارف"، "تحقيق محمود محمد شاكر"، تاج العروس "7/ 382"، "سمل"، شرح شواهد المغني "2/ 535"، ENCY., IV, P. 133 5 الميداني، الأمثال "2/ 276"، المشرق، السنة الثانية عشرة، 1909م، العدد3 آذار "ص162". 6 المعرب، للجواليقي "188". 7 ابن دريد، الاشتقاق "259". 8 المشرق، العدد المذكور "162"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 531"، الأغاني "3/ 12". 9 معاهد التنصيص "1/ 131"، المشرق، العدد المذكور. 10 الأغاني "19/ 98"، المشرق، العدد المذكور. 11 المعرب "188".

من "بني غسان"، ولكنه ذكر أيضا أنه كان يهوديا1، ونسبه "محمد بن حبيب" إلى غسان كذلك، ولم يشر إلى تهوده2. وقد جعل "ابن قتيبة" السموأل ملكا على تيماء3. والسموأل جد "صفية بن حيي بن أخطب" لأمها. وهي يهودية، وقد تزوجها الرسول4. وقد نسبها "ابن عبد البر" على هذه الصورة: صفية بن حيي بن أخطب بن سعنة بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير بن النحام بن تخوم من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران. وأمها "برة بنت سموأل"5. وكانت عند "سلام بن مشكم"، وكان شاعرا، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، وهو شاعر، فقتل يوم خيبر، وتزوجها رسول الله، في سنة سبع من الهجرة. وقد اشتهر السموأل بالوفاء، أكثر من اشتهاره بالشعر، ولا زال العرب يتبجحون بوفائه ويضربون به المثل في الوفاء. واشتهر بقصره الذي ضرب به المثل بالضخامة والجسامة، وهو "الأبقل" بـ "تيماء"، أو على مقربة منها. حتى زعم أهل الأخبار أنه من أبنية "سليمان بن داود" بناه بتيماء، واستشهدوا على صحة دعواهم ببيت شعر زعموا أنه من شعر الأعشى، هو: ولا عاديا لم يمنع الموت ماله ... وورد بتيماء اليهودي أبلق بناه سليمان بن داود حقبة ... له أزج حم وطي موثق6 لكنهم يذكرون أيضا أنه من بناء "عاديا" والد السموأل، ويستشهدون على صحة روايتهم بشعر ذكروا أنه للسموأل نفسه، يقول فيه:

_ 1 الاشتقاق "259". 2 المحبر "349". 3 الشعر والشعراء "1/ 60، 61". 4 الإصابة "4/ 337 وما بعدها"، "رقم 650". 5 الاستيعاب "4/ 337"، "حاشية على الإصابة". 6 تاج العروس "6/ 298"، "بلق"، راجع قصيدة الأعشى رقم 25 في ديوانه، "له جندل صم وطي موثق"، "له أزج عال وطي موثق"، الحيوان "6/ 118"، "تحقيق عبد السلام هارون"، المشرق، الجزء المذكور "193".

بنى لي عاديا حصنا حصينا ... وعينا كلما شئت استقيت وأطما تزلق العقبان عنه ... إذا ما ضامني أمر أبيت1 وقد زعموا أنه عرف بـ "الأبلق الفرد". أخذوا ذلك من شعر نسبوه إلى السموأل، هو: هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعز على من رامه ويطول2 وذكروا أنه إنما عرف بالأبلق، لأنه كان في بنائه بياض وحمرة، وقيل لأنه بني من حجارة مختلفة الألوان3. وقد ذكر في شعر الأعشى: وحصن بتيماء اليهودي أبلق4 وفي شعر آخر له أيضا هو: بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير ختار5 وزعم أهل الأخبار، أن الزباء "ملكة الجزيرة" قصدته فعجزت عنه وعن مارد، فقالت: "تمرد مارد وعز الأبلق"، فسيرته مثلا6. ولا أستبعد كون حصن السموأل من الحصون أو القصور القديمة التي كانت بتيماء. ورثه "السموأل" من آبائه وأجداده، فقد كان البابليون قد بنوا بها قصورا وحصونا، لما اتخذت عاصمة لهم، وسكنها ملكهم، ثم إنها كانت من المدن القديمة العامرة، وقد كانت الأسر الكبيرة الغنية تبني القصور الفخمة في المدن للتحصن بها من الغزو ومن غارات الأعداء عليها، كما كانت الحكومات، ولا سيما حكومات المدن تقيم الحصون القوية المنيعة في المدن، للدفاع عنها، ولتكون مقرا للحكام، وتشاهد إلى اليوم آثار القصور والأبنية الضخمة التي كانت في تيماء. ومما يؤيد

_ 1 تاج العروس "6/ 298"، "بلق". 2 تاج العروس "6/ 298"، "بلق". 3 تاج العروس "6/ 298"، "بلق". 4 اللسان "10/ 26"، "بلق". 5 "غير غدار"، اللسان "10/ 26"، "بلق". 6 تاج العروس "6/ 298"، "بلق".

رأيي في أن قصر "السموأل"، أي حصنه من الحصون القديمة هو ما ورد في شعر "الأعشى" من أنه من أبنية "سليمان" ومن ورود لفظة "عاديا" في شعر الأعشى كذلك، وفي شعر السموأل: بنى لي عاديا حصنا حصينا ... وعينا كلما شئت استقيت ولفظة "عاديا"، وإن صيرت اسم علم لرجل، لكني أعتقد أنها ليست علما، وإنما تعني القدم، فالعادي عند العرب القديم جدا، ولو كان "عاديا" جد "السموأل"، فكيف نوفق بين الشعر المذكور المنسوب إلى الأعشى الذي يزعم أنه من أبنية سليمان، ثم قولهم إن "عاديا" من أجداد السموأل، ثم قولهم إنه من الحصون القديمة، وأنه تعزز على "الزباء" لما أرادت فتحه، في الأسطورة التي يرويها أهل الأخبار، والتي تدل على قدم الحصن. ولكن ليس من المستبعد أن يكون أحد أجداد السموأل، قد جدد في بنائه ورممه لإصلاح ما أفسده الزمان منه، وأما الحصن نفسه فربما كان من بقايا أبنية البابليين بتيماء، فقد كانت "تيماء" معروفة في أيام "البابليين"، وموجودة في أيامهم، بدليل أن "نبونيد" ملك بابل جاء إليها فاتخذها أمدا عاصمة له. وقصة وفاء السموأل قصة مشهورة، وقد تحدثت عنها، وذكر أن السموأل لما أبى دفع الدروع إلى الملك، وشاهد منظر ذبح ابنه، قال في ذلك: وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا ما خان أقوام وفيت وقالوا عنده كنز رغيب ... فلا وأبيك أغدر ما مشيت بنى لي عاديا حصنا حصينا ... وبئرا كلما شئت استقيت1 وتعد قصيدة السموأل التي مطلعها: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل من أجمل القصائد السلسة المنظومة في الوفاء وفي الفخر. وقد سجلت ثمانية أبيات منها في الكتاب المسمى: "تأريخ ملوك العرب الأولية من بني هود وغيرهم"

_ 1 المحاسن والأضداد "36 وما بعدها".

المنسوب لـ "أبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي"، رواية "أبي يوسف يعقوب بن السكيت". وقد تم استنساخا في عاشر شوال سنة ثلاث وأربعين ومائتين1. وهو كتاب لم يشر "ابن النديم" إليه، لا في أثناء حديثه عن "الأصمعي" ولا في أثناء كلامه على "ابن السكيت". وأول هذه الأبيات المدونة فيه: تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل2 وقد اختلف العلماء في قائل القصيدة، فمنهم من نسبها إلى السموأل، ومنهم من نسبها لابنه "شريح"3، ومنهم من جعلها لدكين4، ومنهم من نسبها لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي5، ومنهم من جعلها للجلاح الحارثي6. ورجح "بروكلمان" نسبتها لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، وهو شاعر إسلامي7. ويقول "التبريزي" في شرحه للبيت: فإن بني الديان قطب لقومهم ... تدور رحاهم حولهم وتجول وهو من أبيات هذه القصيدة، يذكر أنه لعبد الله الحارثي لا للسموأل8. ويلاحظ أن "أبا الفرج الأصبهاني"، قد نسب القصيدة المذكورة للسموأل ثم نسبها إلى "شريح"، الذي هو ابن السموأل في موضع آخر، ثم نسبها إلى

_ 1 نشره الشيخ محمد حسن آل ياسين، بعنوان: تأريخ العرب قبل الإسلام "بغداد 1959م"، وتجد القصيدة في ديوان الحماسة "ص39"، طبعة أوروبة"، وفي نزهة الجليس "2/ 149 وما بعدها". 2 طبع ديوانه مرارا، وطبع ببغداد سنة 1955م، راجع عن شعره، شرح شواهد المغنى "2/ 531 وما بعدها"، الحماسة "1/ 108"، الأمالي "1/ 269"، البيان والتبيين "3/ 185"، ديوان الحماسة "1/ 27"، أمالي القالي "1/ 269 وما بعدها"، الأغاني "6/ 76 وما بعدها"، عيون الأخبار "3/ 173". 3 ديوان الحماسة "39"، "طبعة أوروبة"، الحماسة "1/ 108"، الأمالي "1/ 269". 4 السيوطي، شرح شواهد "2/ 531"، الأغاني "9/ 253". 5 شرح شواهد "2/ 531". 6 السيوطي، شرح شواهد "2/ 531". 7 بروكلمان "1/ 121". 8 ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "27".

"دكين العذري" في موضع ثالث1، مما يدل على أنه أخذ من مصادر مختلفة، اختلفت فيما بينها في نسبة القصيدة إلى صاحبها2. كما نجد الرواة يختلفون فيما بينهم في ترتيب أبيات القصيدة، فمنهم من يقدم فيها، ومنهم من يؤخر، ويبعث هذا الاختلاف الريبة في صحة نسبة القصيدة إلى السموأل3. ولما تحدث "ابن قتيبة" عن الشاعر "دكين بن رجاء" من بني فُقيم الراجز، وهو من شعراء العصر الأموي، ومن المتصلين بـ "عمر بن عبد العزيز"، قال عنه: إنه هو القائل: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل وإن هو لم يضرع عن اللؤم نفسه ... فليس إلى حسن الثناء سبيل4 ويرى "ونكلر" أن قصة الوفاء هذه هي أسطورة استمدت مادتها من أسفار "صموئيل الأول" في التوراة، ومن الأساطير العربية القديمة نظمت على هذه الصورة فجعل بطلها شخصين هما: "السموأل"، و "امرؤ القيس"5. وإذا تتبعنا الروايات الواردة في قصة وفاء السموأل، وذبح ابنه، وامتناعه عن تأدية الأمانة المودعة لديه، إلا لأصحابها الشرعيين، نجد أنها ترجع إلى موردين رئيسين: قصة "دارم بن عقال" وشعر الأعشى. وذكر "ابن سلام"، أن للسموأل "كلمة له طويلة"، يقول فيها: إن حلمي إذا تغيب عني ... فاعلمي أنني عظيما رزيت6 وقد وردت في الأصمعيات7، وهي تتحدث عن نشأة الإنسان وحياته وبعثه بعد

_ 1 الأغاني "6/ 67"، "8/ 155". 2 ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "31". 3 المصدر نفسه. 4 الشعر والشعراء "2/ 508 وما بعدها". 5 H. WINCKLER, ARAABISCH-ORIENTALISCH., IN MITTEI, VORDER. ASAI. GESELLSCHAFT, "1901" 6 JAHRGANG, S., 112 6 طبقات "71". 7 الأصمعيات "84"، "دار المعارف".

موته، ويظن أنها مصنوعة1. وفي جملة ما قاله: ميتا خلقت ولم أكن من قبلها ... شيئا يموت فمت حين حييت2 وقد طبع الأب "لويس شيخو" ديوان السموأل برواية "نفطويه" "323هـ"، وقد ترجم "ابن النديم" نفطويه، وذكر أسماء كتبه، ولكنه لم يذكر من بينها اسم هذا الديوان3، وترجمه غيره، ولم ينسب له هذا الديوان4. ويرى "بروكلمان" احتمال كون الشعر المرقم "1-6" من الديوان من الشعر الأصيل، أي من شعر السموأل، أما الشعر الباقي المنشور في الديوان، فهو لشعراء يهود متأخرين5. ويرى غيره أصالة قصيدتين فقط من شعر هذا الديوان. وذكر بعضهم أن القصيدة رقم "7" ليست للسموأل، وإنما لأحد يهود المدينة6. وقد تحدث المستشرقون عن شعر "السموأل" ولهم فيه كلام، فمنهم من يؤيد أصالة أكثره، ومنهم من لا يعترف إلا بأصالة القليل منه7. والواقع أن موضوع وجود "السموأل" نفسه قضية فيها نظر، ولا أستبعد أن تكون هذه القصة من وضع "دارم بن عقال"، وهو من ولد "السموأل"، أو من وضع أناس آخرين رووا عنه. و "دارم" هو راوي خبر قصة الوفاء، والأشعار المنسوبة إلى "امرئ القيس" المتعلقة بهذا الموضوع. وقد أشار إلى ذلك مؤلف كتاب "الأغاني" في أثناء كلامه على قصيدة نسبت إلى "امرئ القيس"، ابتداؤها: طرقتك هند بعد طول تجنّب ... وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق

_ 1 العصر الجاهلي "389". 2 البيان والتبيين "3/ 127". 3 الفهرست "127"، شيخو، ديوان السموأل، بيروت 1909م، المشرق، السنة الثانية، العدد 3 آذار 1909م "ص161 وما بعدها". 4 نزهة الألباء في طبقات الأدباء، لابن الأنباري "178 وما بعدها"، "تحقيق: إبراهيم السامرائي"، ابن القفطي، الإنباه "1/ 180". 5 بروكلمان "1/ 122". 6 بروكلمان "1/ 122 وما بعدها". 7 Margoliouth, the

فقال: "وهي قصيدة طويلة، وأظنها منحولة، لأنها لا تشاكل كلام امرئ القيس، والتوليد فيها بين، وما دونها في ديوانه أحد من الثقات، وأحسبها مما صنعه دارم، لأنه من ولد السموأل، ومما صنعه من روي عنه من ذلك فلم تكتب هنا"1. ويلاحظ أن في شعر الأعشى كثيرا من أخبار السموأل، ومن شعره أخذ الأخباريون "تيماء اليهودي"2 و "الأبلق الفرد"، حيث يقول: كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كقريع الليل جرار بالأبلق الفرد من تيماء منزلة ... حصن حصين وجار غير غدار خيّره خطتي خسف فقال له ... مهما تقولن فإني سامع حار فقال ثكل وغدر أنت بينهما ... فاختر فما فيها حظ لمختار فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري3 ومن ولد السموأل "شريح" و "الغريض بن السموأل"، وكانا شاعرين كذلك4. و "برة" في رواية من جعلها ابنة للسموأل، ووالدة "صفية" زوج الرسول5. وللأعشى الشاعر الشهير شعر يرويه الرواة في مدح "الشريح بن السموأل" "شريح بن السموأل". وقد ورد في قصيدته الرائية اسم ولدين للسموأل، هما: "حوط" و "منذر"6. ولم يذكر الأخباريون اسم الولد الذي زعم أن "الحارث بن أبي شمر"، أو "الحارث بن ظالم" قتله لرفض السموأل دفع أدرع الكندي إليه، على نحو ما يذكره الرواة في قصة الوفاء. ونجد مضمون هذه القصة في هذه القصيدة المذكورة للأعشى، الموجودة في ديوانه. وهي قصيدة تتألف من واحد وعشرين بيتا، يروي الرواة أنه قالها مستجيرا بـ "شريح بن

_ 1 الأغاني "8/ 70". 2 البلدان "3/ 442"، جواد علي، تأريخ العرب قبل الإسلام "3/ 272". 3 نزهة الجليس "2/ 151"، المحاسن والأضداد "37". 4 السيوطي، شرح شواهد "2/ 531"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 122". 5 الاستيعاب "4/ 337"، "حاشية على الإصابة". 6 المشرق، العدد المذكور "163".

السموأل" ليفكه من الأسر. وكان الأعشى على ما يقوله الرواة قد هجا رجلا من "كلب"، فظفر به الكلبي وأسره، وهو لا يعرفه، فنزل بشريح بن السموأل وأحسن ضيافته، ومر بالأسرى، فناداه الأعشى بهذه القصيدة، فجاء شريح إلى الكلبي، وتوسل إليه بأن يهبه، فوهبه إياه، فأطلقه. وقال له: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك، فقال له الأعشى: إن تمام إحسانك إلي أن تعطيني ناقة ناجية، وتخليني الساعة، فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهبه لشريح هو الأعشى، فأرسل إلى شريح ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه، فقال: قد مضى، فأرسل الكلبي في أثره، فلم يلحقه"1. وقد اختلف في اسم "شريح" الذي خلص "الأعشى" من الأسر، فقد ذكر أنه "شريح بن حصن بن عمران بن السموأل"، وذكر أنه "شريح بن عمرو الكلبي" لا كما دعاه بذلك "ابن قتيبة"2. وذكر "بروكلمان" اسم شاعر آخر من شعراء "آل عاديا"، هو الشاعر "سعيد بن الغريض" "سعيد بن غريض"، أخو السموأل. كما ذكر اسم "شعبة" حفيد السموأل3. وقد ذهب "نولدكه" إلى أن "الغريض" لم يكن أخا للسموأل، بل ابنا له، وأن ما ذهب إليه "أبو الفرج الأصبهاني"، من أن "غريضا" كان أخا له، خطأ، لأن "شعبة"، كان قد اعتنق الإسلام وعاش إلى زمان الخليفة "معاوية"، أي إلى زمن بعيد عن "السموأل"، بل لا بد من أن يكون حفيدا له. أي أن الغريض كان ابنا للسموأل، وقد جعله يعيش في حوالي السنة "600" للميلاد، وجعل أيام "السموأل" في حوالي السنة "550" للميلاد4.

_ 1 الأغاني "19/ 99 وما بعدها"، ديوان الأعشى "126 وما بعدها"، "تحقيق رودلف كاير"، "rudolf geyer"، لندن 1928م"، ديوان الأعشى الكبير "179"، "تحقيق الدكتور م. محمد حسين". 2 الشعر والشعراء "1/ 182 وما بعدها". 3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 122" تأريخ دمشق، لابن عساكر "4/ 157". 4 Th. Noldeke, Beitrage Zur Kenntniss der Poesie der Alten Araber, S. 64, Hannouver, 1864

ونسبت لشعبة بن غريض بن السموأل قصيدة هي: لباب يا أخت بني مالك ... لا تشتري العاجل بالآجل لباب داويني ولا تقتلي ... قد فضل الشافي على القاتل لباب هل عندك من نائل ... لعاشق ذي حاجة سائل عللته منك بما لم ينل ... يا ربما عللت بالباطل إن تسألي بن فاسألي خابرا ... فالعلم قد يكفي لدى السائل ينبيك من كان بنا عالما ... عنا وما العالم كالجاهل أنا إذا جارت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل واعتلج القوم بألبابهم ... في المنطق الفاصل والقائل لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلطّ دون الحق بالباطل نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمل الدهر مع الخامل1 كما نسبت له أبيات أولها: يا دار سعدى بمفضى تلعة النعم ... حييت دارا على الإقواء والقدم2 ونسبوا له أبياتا في الخلان هي: أرى الخلان لما قل مالي ... وأجحفت النوائب ودعوني فلما أن غنيت وعاد مالي ... أراهم لا أبا لك راجعوني وكان القوم خلانا لمالي ... وإخوانا لما خولت دوني فلما مر مالي باعدوني ... ولما عاد مالي عاودوني3 روى أهل الأخبار أن "شعبة بن غريض"، عاش فأدرك أيام معاوية، وأن معاوية لما حج رأى شخصا يصلي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال: من هذا؟ فقالوا: شعبة بن غريض، فأرسل إليه يدعوه، فأتاه رسوله، فقال: أجب أمير المؤمنين! قال: أو ليس قد مات! قيل فأجب معاوية. فأتاه فلم يسلم عليه بالخلافة. فقال له معاوية: ما فعلت بأرضك التي تكسي منها العاري

_ 1 Noldeke, beitrage, s, 65. f 2 المصدر نفسه "ص66". 3 المصدر نفسه "ص67".

ويرد فضلها على الجار؟ قال: باقية. قال: أتبيعها؟ قال: نعم. قال: بكم؟ قال: بستين ألف دينار ولولا خلة أصابت الحي لم أبعها. قال: لقد أغليت! قال: أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف، ثم لم تبال. قال: أجل. قال: فإذا بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك الذي يرثي به نفسه. قال: قال أبي: يا ليت شعري حين أندب هالكا ... ماذا تؤبنني به أنواحي أيقلن لا تبعد فرب كريهة ... فرجتها بشجاعة وسماح لقد ضربت بفضل مالي حقه ... عند الشتاء وهبة الأرواح ولقد أخذت الحق غير مخاصم ... ولقد رددت الحق غير ملاحي وإذا دعيت لصعبة سهلتها ... أدعى بأفلح مرة ونجاح1 فقال: أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك! قال: كذبت ولولا مت. قال: أما كذبت فنعم. وأما لولا مت فكيف ولِمَ؟ قال: لأنك أنت ميت الحق في الجاهلية وميته في الإسلام. أما في الجاهلية فقاتلت النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبت الوحي حتى جعل الله تعالى كيدك المردود. وأما في الإسلام، فمنعت ولد النبي صلى الله عليه وسلم الخلافة وما أنت وهي! وأنت طليق. فقال معاوية: قد خرف الشيخ فأقيموه. فأخذ بيده فأقيم2. وقد ذكر "ابن حجر" موجز هذه القصة، أخذه من "ابن أبي طيء" وقد رواها "عمر بن شبة" بسنده إلى "الهيثم بن عدي"، وذكر أن اسمه "سعنة بن عريض بن عاديا" التيماوي، نسبه لتيماء، وهو ابن أخي السموأل. ثم قال: "وحكى الخلاف في سعنة هل هو بالنون أو الياء؟ ووردت له أشعار في مجالس ثعلب، وروي أن من شعره قوله: معتقة كانت قريش تعافها ... فلما استحلوا قتل عثمان حلت3 وقد نسب "ابن نباتة" في شرحه لرسالة "ابن زيدون" القصيدة المذكورة

_ 1 تجد هذه الأبيات بشكل آخر في طبقات ابن سلام "72". 2 th. Noldeke, beitrage 3 الاصابة "2/ 41"، "رقم 3245"، "2/ 112"، "3686".

للسموأل1. وأثبت "ابن سلام" الأبيات المذكورة في طبقاته، على أنها من شعر "شعبة بن غريض"2. و"شعبة" تصحيف "سيعة"، و "سيعة" من أسماء يهود3. وأشير في حماسة "البحتري" إلى رجل من هذه الأسرة دعي "عريض بن شعبة"، وذكرت له هذه الأبيات: ليس يعطي القوي فضلا من الرز ... ق ولا يحرم الضعيف الخبيث بل لكلٍّ من رزقه ما قضى الله ... ولو كد نفسه المستميت4 ومن شعراء يهود "الربيع بن أبي الحقيق"، وهو من "بني قريظة" على ما جاء في كتاب الأغاني، غير أننا نجد "ابن هشام" صاحب السيرة، يذكر: "سلام بن أبي الحقيق"، وهو شقيق "الربيع"، و "كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق"، وهو أحد أبناء "الربيع" في جملة سادات "بني النضير". مما يدل على أن "الربيع بن أبي الحقيق" هو من "بني النضير". وقد قتل ابن أبي الحقيق بعد "الخندق"، وذلك أن "الأوس" لما أصابت "كعب بن الأشرف"، قالت الخزرج، والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا، فاستأذنوا النبي في قتل "ابن أبي الحقيق"، وهو بخيبر، فأذن لهم فقتلوه6. وقد جعله "ابن سلام" من بني النضير، ونسب له أبياتا دونتها في أول هذا الفصل7. وذكر أن "الربيع بن أبي الحقيق" كان على رأس قومه يوم "بعاث" وذكر أنه كان قد التقى مع النابغة، وقد تسابقا في نظم أنصاف الأبيات8

_ 1 شرح رسالة ابن زيدون "54"، ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "31". 2 طبقات "72". 3 Levi Della Vida, in Rivista degli Orientali, VIII Roma, 1919-1921, and Levi Della Vida, A Proposito di AS_Samaw'al, In Rivista degli Orientali, XIII, 1931-1932, p. 52 4 الحماسة "232". Th. Noldeke beitrage, s. 71 5 ابن هشام، سيرة "2/ 178"، "حاشية على الروض الأنف"، الأغاني "21/ 61"، البيان "1/ 213"، "هارون". 6 ابن هشام، سيرة "2/ 209 وما بعدها"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "2/ 209 وما بعدها". 7 طبقات "71"، "ليدن". 8 الأغاني "21/ 61".

ونسب إلى "الربيع بن أبي الحقيق" شعر، هو: سئمت وأمسيت رهن الفرا ... ش من جرم قومي ومن مغرم ومن سفه الرأي بعد النهى ... وعيب الرشاد ولم يفهم فلو أن قومي أطاعوا الحليـ ... ـم لم يتعدوا ولم يظلم ولكن قومي أطاعوا الغوا ... ة حتى تعكس أهل الدم فأوى السفيه برأي الحليـ ... ـم وانتشر الأمر لم يبرم1 وقد نسب "المرزباني "هذا الشعر إلى "كنانة بن أبي الحقيق"2، ومن بني النضير، وهو أخ الربيع. ومن شعر الربيع قوله: فلا تكثر النجوى وأنت محارب ... تؤامر فيها كل نكس مقصر قاله يخاطب "أبا ياسر" النضيري، وهو أخو حيي بن أخطب، وكان من العلماء بالتوراة. وفيه وفي عبد الله بن صوريا، ووهب بن يهودا، نزل قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} 3. ومن الشعر المنسوب إليه قوله: إذا مات منا سيد قام بعده ... له خلف يكفي السيادة بارع من أبنائنا والعرق ينصر فرعه ... على أصله والعرق للفرع فارع وقوله: يرمي إليّ بأطراف الهوان وما ... كانت ركابي له مرحولة ذللا أنا ابن عمك إن نابتك نائبة ... ولست منك إذا ما لعبك اعتدلا

_ 1 الأغاني "21/ 92"، وهناك بعض الاختلاف في الروايات. 2 المرزباني، معجم "246"، "فراج". 3 البيان والتبيين "2/ 14".

وقوله: ترجو الغلام وقد أعياك والده ... وفي أرومته ما ينبت العود وله أشعار أخرى في بني النجار1. ولكعب بن الأشرف، وهو من سادة يهود الذين كانوا يحرضون قريشا وغيرهم على الرسول، أشعار في الحث على الانتقام من المسلمين لما أوقعوه بأهل مكة من قتل يوم بدر. ذكرت في سيرة "ابن هشام"2. وله أشعار أخرى افتخر بها بأهله وبماله وبنخيله التي تخرج التمر كأمثال الأكف، جاء فيها: رب خال لي لو أبصرته ... سبط المشية إباء أنف لين الجانب في أقربه ... وعلى الأعداء كالسم الزعف وكرام لم يشنهم حسب ... أهل عز وحفاظ وشرف يبذلون المال فيما نابهم ... لحقوق تعتريهم وعرف وليوث حين يشتد الوغى ... غير أنكاس ولا ميل كسف3 ومن شعره في رثاء قتلى بدر قوله: طحنت رحى بدر لمهلك أهله ... ولمثل بدر تستهل الأدمع قتلت سراة الناس حول حياضهم ... لا تبعدوا إن الملوك تصرع4 ويشك "ولفنسون" في صحة نسبة هذه الأبيات إلى "كعب" ويرى احتمال كونها من الشعر المحمول عليه5.

_ 1 beitrage, s.75. ff 2 ابن هشام، سيرة "2/ 123 وما بعدها"، الأغاني "19/ 106"، الجمان في تشبيهات القرآن "131/ 333"، ديوان المعاني "2/ 39"، نهاية الأرب "11/ 125"، ابن هشام "2/ 125"، "حاشية على الروض الأنف". 3 الروض الأنف "2/ 125"، "الزعف"، ابن سلام، طبقات "71"، "وعلى الأعداد سم كالزعف"، ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "32"، المرزباني، معجم "231"، ابن الأثير "2/ 53". 4 ابن هشام "2/ 338"، ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "33"، ابن هشام "2/ 123"، "حاشية على الروض الأنف". 5 ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "33".

وقد رد على شعر "كعب" هذا حسان بن ثابت، وامرأة من المسلمين، قالت: تحنن هذا العبد كل تحنن ... يبكي على قتلى وليس بناصب بكت عين من بكى لبدر وأهله ... وعلت بمثليها لؤي بن غالب إلى آخر الأبيات. فأجابها كعب بن الأشرف بقوله: ألا فازجروا منكم سفيها لتسلموا ... عن القول يأتي منه غير مقارب أتشتمني أن كنت أبكي بعبرة ... لقوم أتاني ودهم غير كاذب فإني لباك ما بقيت وذاكر ... مآثر قوم مجدهم بالجباجب1 ويقال إن والده من "طيء". أما أمه، فمن بني النضير، وأنه شبب بنساء النبي ونساء المسلمين، فأمر الرسول بقتله، فقتله محمد بن مسلمة ورهط معه من الأنصار. وله مناقضات وهجاء مع "حسان بن ثابت" وغيره في الأيام التي وقعت بين الأوس والخزرج3. ومن شعره الذي شبب فيه بأم الفضل بنت الحارث قوله: أراحل أنت لم تحلل بمنقبة ... وتارك أنت أم الفضل بالحرم صفراء رادعة لو تعصر انعصرت ... من ذي القوارير والحناء والكتم يرتج ما بين كعبيها ومرفقها ... إذا تأتت قياما ثم لم تقم أشباه أم حكيم إذ تواصلنا ... والحبل منها متين غير منجذم إحدى بني عامل جن الفؤاد بها ... ولو تشاء شَفَتْ كعبا من السقم فرع النساء وفرع القوم والدها ... أهل التحلة والإيفاء بالذمم لم أرَ شمسا بليل قبلها طلعت ... حتى تجلت لنا في ليلة الظلم4

_ 1 ابن هشام "2/ 123"، "حاشية على الروض". 2 ابن سلام، طبقات "71"، المرزباني، معجم "231"، المقريزي، إمتاع الأسماع "1/ 107 وما بعدها". 3 الأغاني "19/ 106". 4 الطبري "2/ 488".

ونسب له شعر في مدح "الحارث بن هشام"، هو: نبئت أن الحارث بن هشام ... في الناس يبني المكرمات ويجمع ليزور أثرب بالجموع وإنما ... يبني على الحسب القديم الأرفع1 ومن شعراء يهود "أوس بن دنى" القرظي. وذكر أن زوجته اعتنقت الإسلام في حياة الرسول، وطلبت منه اعتناقه كذلك، فقال: دعتني إلى الإسلام يوم لقيتها ... فقلت لها لا بل تعالي تهودي فنحن على توراة موسى ودينه ... ونعم لعمر الدين دين محمد كلانا يرى أن الرشادة دينه ... ومن يهد أبواب المراشد يرشد2 وله أبيات أخرى ذكرها "نولدكه" في أثناء حديثه عن الشعراء اليهود3. ولا نعرف من أمر "شريح بن عمران" شيئا يذكر، وقد روى له "ابن سلام" أربعة أبيات في المؤاخاة والصداقة، والبخل والمال4. وروى "نولدكه" له بيتين من قافية أخرى في الصداقة والصديق وحفظ العهد، هما: آخ الكرام إذا وجد ... ت إلى إخائهم سبيلا واشرب بكأسهم وإن ... تشرب به السم الثميلا5 وروى له قوله: بجلي منك إذا ما خنتني ... ليس لي في وصل خوان إرب لا أحب المرء إلا حافظا ... ربقة العهد على كل سبب6

_ 1 نسب قريش "301". 2 الأغاني "19/ 94"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 165"، NOLDEKE, & BEITRAGE,S.76. 3 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 77 4 ابن سلام، طبقات "72". 5 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 79. F 6 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 80

وروى "ابن سلام" أبياتا من قصيدة تنسب إلى "أبي قيس بن رفاعة"1، قال "البكري": اسمه دينار، وقيل إنه: "أبا قيس بن رفاعة" الأنصاري، فهو ليس من يهود. ومن شعره: منا الذي هو ما إن طر شاربه ... والعانسون ومنا المرد والمشيب ونسب لأبي قيس بن الأسلت الأوسي2. وروى "ابن سلام" قصيدة على قافية الدال مطلعها: هل تعرف الدار خف ساكنها ... بالحجر فالمستوى إلى الثمد دار لبهنانة خدلجة ... تبسم عن مثل بارد البرد ذكر أنها لأبي الذيّال3. وأورد "البكري": له هذه الأبيات: لم تر مثل يوم رأيته ... برعبل ما احمر الأراك وأثمرا وأيامنا بالكبس قد كان طولها ... قصيرا وأيام برعبل أقصرا فلم أر من آل السموأل عصبة ... حسان الوجوه يخعلون المعذرا4 ودرهم بن زيد الذي يقول: هجرت الرباب وجاراتها ... وهمك بالشوق قد يطرح يمانية نازح دارها ... تقيم بغمدان لاتبرح5 وأورد "ابن هشام" قصيدة لرجل من يهود سماه "سمال" اليهودي، يذكر فيها "بني النضير" مطلعها: غداة غدوتم على ختفه ... ولم يأت غدار ولم يخلف بقتل النضير وأحلافها ... وعقر النخيل ولم تقطف

_ 1 طبقات "72". 2 السيوطي، شرح شواهد "2/ 716"، الأمالي "2/ 67". 3 طبقات "73"،NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 77. F 4 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 79 5 ابن سلام، طبقات "74".

وقد رد بها على قصيدة نسبت لعلي بن أبي طالب على رأي ابن إسحاق، أو لغيره من المسلمين على رأي "ابن هشام" مطلعها: عرفت ومن يعتدل يعرف ... وأيقنت حقا ولم أصدف1 ولما قال "كعب بن مالك" شعرا في إجلاء "بني النضير" وقتل "كعب بن الأشرف" مطلعه: لقد خزيت بغدرتها الحبور ... كذاك الدهر ذو صرف يدور أجابه "سمال" اليهودي، بقوله: أرقت وضافني هم كبير ... بليل غيره ليل قصير أرى الأحبار تنكره جميعا ... وكلهم له علم خبير وكانوا الدارسين لكل علم ... به التوراة تنطق والزبور قتلتم سيد الأحبار كعبا ... وقدما كان يأمن من يجير تدلى نحو محمود أخيه ... ومحمود سريرته الفجور2 وكان "مرحب" اليهودي من الشعراء، ولما حاصر المسلمون "خيبر" خرج من حصنهم قد جمع سلاحه، وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذ الليوث أقبلت تحزب إن حماي للحمى لا يقرب3 ونسب إلى أحد اليهود بيت شعر، خاطب فيه "مالك بن العجلان" بقوله: تسقيت قبله أخلافها ... ففيمن بقيت وفيمن تسود فأجابه "مالك" بقوله: إني امرؤ من بني سالم بن ... عوف وأنت امرؤ من يهود

_ 1 ابن هشام "2/ 179"، "حاشية على الروض". 2 ابن هشام "2/ 180"، "حاشية على الروض الأنف". 3 ابن هشام "2/ 238"، "حاشية على الروض الأنف".

ولماهرب اليهود إلى بيعهم وكنائسهم، قال مالك: تحانى اليهود بتلعانها ... تحاني الحمير بأبوالها فماذا علي بأن يلعنوا ... وتأتي المنايا بإذلالها1 وفي المفضليات قصيدة لرجل يهودي لم يذكر اسمه مطلعها: سلا ربة الخدر ما شأنها ... ومن أي ما فاتنا تعجب فلسنا بأول من فاته ... على رفقة بعض ما يطلب ومن شعراء يهود "أبو أثاية" القرظي3، و "أبو ياسر" النضيري4، وأبو القرثع اليهودي5. و "عمرو بن أبي صخر بن أبي جرثوم" اليهودي، "أبو حمضة". وله شعر في الجيران6، و "كعب بن أسد بن سعيد" القرظي اليهودي، من بني قريظة، جاهلي، له مع قيس بن الخطيم في يوم "بعاث" مناقضات7، و "مالك بن عمر النضيري"، وهو جاهلي8. وذكر "المعري" اسم شاعر يهودي، ذكر أن اسمه "بُسمير بن أدكن"، "سمير بن أدكن"، من أهل خيبر، قال شعرا لما أمر "عمر" بإجلاء أهل الكتاب من جزيرة العرب، هو: يصول أبو حفص علينا بدرة ... رويدك إن المرء يطفو ويرسب كأنك لم تتبع حمولة ما قط ... لتشبع إن الزاد شيء محبب فلو كان موسى صادقا ما ظهرتم ... علينا ولكن دولة ثم تذهب

_ 1 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 83. FF 2 NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 84. F 3 المرزباني، معجم "507". 4 المرزباني، معجم "515". 5 المرزباني، معجم "513". 6 المرزباني، "59". 7 المرزباني، معجم "232". 8 المرزباني، معجم "261".

ونحن سبقناكم إلى اليمن فاعرفوا ... لنا رتبة البادي هو أكذب مشيتم على آثارنا في طريقنا ... وبغيتكم أن تسودوا وترهبوا1 وذكر أن "جبل بن جوال بن صفوان بن بلال بن أصرم بن إياس بن عبد غنم بن جحاش بن مجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان" الشاعر الذبياني ثم الثعلبي، كان يهوديًا مع "بني قريظة" وكان قد رثى "حيي بن أخطب" بأبيات منها: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل وقال بعض الناس إنها لحيي بن أخطب نفسه. وذكر أنه من ذرية "العطيون بن عامر بن ثعلبة" "الفطيون؟ "، وكان يهوديا فأسلم، وهو القائل لما فتح النبي خيبر: رميت نطاة من النبي بفيلق ... شهباء ذات مناقب وفقار وذكر أنه هو القائل: ألا يا سعد سعد بني معاذ ... لما فعلت قريظة والنضير تركتم قدركم لا شيء فيها ... وقدر القوم حامية تفور وزاد المرزباني فيها: ولكن لا خلود مع المنايا ... تخطف ثم تضمنها القبور كأنهم غنائم يوم عيد ... تذبح وهي ليس لها نكير فأجابه حسان: تعاهد معشرا نصرو علينا ... فليس لهم ببلدتهم نصير هم أوتوا الكتاب فضيعوه ... فهم عمي عن التوراة بور كذبتم بالقرآن وقد أبيتم ... بتصديق الذي قال النذير وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير2

_ 1 رسالة الغفران "441 وما بعدها"، "بنت الشاطئ". 2 الإصابة "1/ 23 وما بعدها"، "رقم 1071".

وأورد "أبو الفرج الأصبهاني" أبيات شعر، نسبها إلى شاعرة يهودية سماها "سارة" القريظية، ذكر أنها قالتها في رثاء قومها بعد أن قتل "أبو جبيلة" أشراف اليهود: بنفسي أمة لم تغن شيئا ... بذي حرض تعفيها الرياح كهول من قريظة أتلفتها ... سيوف الخزرجية والرماح رزئنا والرزية ذات ثقل ... يمر لأهلها الماء القراح ولو أربوا بأمرهم لجالت ... هنالك دونهم جأوى رداح1 وذكر "الجاحظ" بيتين نسبهما لشاعرة يهودية، قالتهما في نفث الرقية والعثار، هما: وليس لوالدة نفثها ... ولا قولها لابنها دعدع تداري غراء أحواله ... وربك أعلم بالمصرع2 وقد جمع "ديلتج" أشعار يهود وتحدث عن أصحابها3.

_ 1 الأغاني "19/ 96"، ولفنسون، تأريخ اليهود في بلاد العرب "34".، NOLDEKE, & BEITRAGE, S. 52. FF 2 الحيوان "6/ 359". 3 Delitzsch, Judisch – Arabische Poesien aus Vormuhammedanischer Zeit, Lepzig, 1874

الفصل السادس والستون بعد المائة: الشعراء النصارى

الفصل السادس والستون بعد المائة: الشعراء النصارى وحديثنا عن الشعر النصراني، مستمد من الموارد الإسلامية. أما النصوص الجاهلية، فليس فيها أي شيء عن هذا الموضوع، وأما النصوص الأعجمية، فلم تحفل به أيضا، ولم تتطرق الموارد الإسلامية إلى الشعر النصراني نفسه، من حيث طبيعته ومادته، وما امتاز به عن الشعر الوثني، أو شعر الشعراء اليهود، وما سنذكره عن الشعراء النصارى، مستمد من أسماء آبائهم ومن أسمائهم التي تدل على كونهم من النصارى ومن الشعر المنسوب إليهم. والشعراء النصارى الذين نص على نصرانيتهم أهل الأخبار، مثل "عدي بن زيد" العبادي، أو لم ينص على نصرانيتهم، وإنما يفهم من شعرهم ومن مواطنهم أنهم كانوا نصارى، هم من الحضر، من سكان القرى ومن قبائل اشتهرت بتنصرها، وقد وجدت النصرانية سبيلها إلى مواطن الحضر والأعراب فأقامت "بيعا" وكنائس للتبشير بالنصرانية، ولتعليم أتباعها أمور الديانة، وللإشراف على إدارة شئونهم الدينية، وقد كان أكثر من قام بالتبشير من غير العرب في بادئ الأمر، من روم ومن "بني إرم"، ثم انضم إليهم رجال دين عرب، كانوا قد تعلموا النصرانية في المدارس، وأظهروا فهما ونباهة فيها، فعينوا مبشرين ومعلمين لتعليم العرب والأعراب أصول النصرانية، ولنشرها في جزيرة العرب، وكان من المبشرين من يتنقل مع الأعراب، لهم خيامهم، يرتحلون بها من مكان إلى مكان، فعرفوا لذلك برهبان الخيام.

"وكانت تنوخ في المرتبة الأولى بين عرب البادية الذين عرفوا بالنصرانية قبل الإسلام بزمن طويل. وقامت جماعة تنوخ على أساس حلف عقده بنو فهم وبنو تيم اللات مع قبائل من النزاريين وغيرهم. ومن شعراء تنوخ أسد بن ناعسة التنوخي الذي كان معاصرا لعنترة، وكان مولعا بالإكثار من الألفاظ الغريبة في قصائده، حتى كان الخليل نفسه يتشكك في تفسيرها في كتاب العين"1. وقد كانت النصرانية واسعة الانتشار على عهد الرسول، في قضاعة، وربيعة وتميم، وطيء، وكان لها أتباع في القرى العربية، وبين الأعراب، وبواسطتهم عرف العرب شيئا عن النصرانية وعن رجالها الذين كانوا يقيمون في البيع، أو يسيحون في البلاد، ويرتحلون مع الأعراب طمعا في تنصيرهم، وفي تعليم المتنصرين منهم أمور الدين. فقد كان بمكة نفر من التجار النصارى، وجماعة من الرقيق الأسود والأبيض، كانوا على النصرانية2، وكان بيثرب بعض النصارى كذلك، وكذلك بالطائف. أما نجران، فكانت من مراكز النصرانية المهمة في ذلك العهد. وقد ورد أن "طلق بن علي بن طلق بن عمرو" السحيمي الحنفي، وهو من سادة بني حنيفة باليمامة، كان نصرانيا، فلما ذهب إلى المدينة وشاهد الرسول أسلم أمامه، فلما أراد العودة أخبر رسول الله أن بأرضهم بيعة، فقال له الرسول ولمن معه: "إذا قدمتم بلدكم فاكسروا بيعتكم وابنوها مسجدا"، فكسروا بيعتهم واتخذوها مسجدا، ونضحوها بماء فضل طهور رسول الله، وكانواقد جاءوا به في إداوة، وكان يدير البيعة راهب من طيء، فارتحل عنهم. وإذا صح هذا البيت المنسوب إلى حسان: فرحت نصارى يثرب ويهودها ... لما توارى في الضريح الملحد3 فإن فيه دلالة على وجود نصارى ويهود بالمدينة عند وفاة الرسول. ونحن لا نستطيع في الوقت الحاضر التحدث عن مدى تغلغل النصرانية في قلوب

_ 1 بروكلمان "1/ 124". 2 الاستيعاب "2/ 231"، "حاشية على الإصابة"، "طلق بن علي بن المنذر بن قيس ... "، خليفة بن خياط، كتاب الطبقات "65"، ابن سعد، طبقات "5/ 402"، أسد الغابة "3/ 63". 3 ديوان حسان "59"، "هرشفلد".

النصارى العرب. ولكننا نستطيع أن نقول قياسا على ما نعرفه من أحوال الأعراب وأحوال أهل القرى، أي الحضر، أن النصرانية كانت أوضح وأعمق جذورا في نفوس أهل المدر، منها في نفوس أهل الوبر. أما الأعراب فكانت نصرانيتهم اسمية في الغالب شأنهم شأن أعراب هذا اليوم، وأعراب كل زمان، متدينون بدين، ولكنهم لا يعرفون من دينهم إلا الاسم، دينهم الصحيح، الذي يغلب على نفوسهم هو دين الفطرة، أعني العرف الذي ولدوا ونشأواعليه. ولكن الرهبان ورجال الدين كانوا يتنقلون بين القبائل لتنصيرهم، حاولوا جهدهم تعليمهم قواعد النصرانية وأصولها، ومنها: عدم إغارة بعضهم على بعض، والعيش بعضهم مع بعض بسلام، حتى إنهم أثروا على بعض ساداتهم فحملوهم على الزهد والدخول في الرهبنة وكره الدماء، فذكر مثلا أنهم أثرواعلى "داود بن هبالة" سيد "بني سليح"، من قضاعة، فأدخلوه في النصرانية، "وكره الدماء وبنى ديرا، فكان ينقل الطين على ظهره والماء فسمي اللثق، فنسب الدير إليه، وأنزله الرهبان"، واعتزل الغزو إلى أن أمره ملك الروم به، فلم يجد بدا من أن يفعل، وقد كانت العرب تتهم القبائل العربية المتنصرة بعدم قدرتها على القتال، وتستهين بها إذا ما التحمت بها في قتال. والشعر النصراني، شعر سهل لين بالنسبة إلى شعر الشعراء الأعراب، وقد علل علماء الشعر ذلك بكون هؤلاء الشعراء من سكنة القرى والأرياف، ومن سكن القرية أو الريف لان لسانه ورقّ كلامه، ولهذا قالوا إن في شعر شعراء القرى لا مثل أهل مكة ويثرب ليونة، لأنهم لم ينبتوا في البوادي، ولم يقاسوا ما يقاسيه الأعراب من خشونة وشدة وضنك في الحياة، بل عاشوا في استقرار وأمان في حياة ناعمة بالقياس إلى حياة الأعراب، ولهذا لان لسانهم، وسهل شعرهم، وصار من السهل على صناع الشعر ومزوريه صنع الشعر على ألسنتهم، كالذي فعلوه من وضع شعر كثير على لسان "عدي بن زيد" العبادي النصراني، وعلى شعر أمية بن أبي الصلت، وهو من شعراء ثقيف، وعلى شعر "حسان بن ثابت"، وهو من شعراء يثرب. ولا يختلف الشعر النصراني عن شعر الشعراء الوثنيين بشيء، اللهم في تطرق

_ 1 أسماء المغتالين "المجموعة السادسة من نوادر المخطوطات" "ص127".

شعر "عدي بن زيد" وأضرابه إلى معان دينية، وإلى إشارات إلى بعض معالم نصرانية. أما فلسفة نصرانية، أو حديث عن التثليث أو عن العقائد النصرانية الأساسية التي تميز النصراني المتدين عن غيره، فلا تجد لها ولا لأمثالها موضعا في هذا الشعر. نعم لقد تطرق "عدي بن زيد"، وكذلك الأعشى إلى قصص مستمد من أصول نصرانية، كما تطرق إلى أعياد نصرانية، ولكننا نجد في شعر غيرهم إشارات إلى الأديرة والكنائس والرهبان والرهبنة ومصطلحات نصرانية وأشياء أخرى عرفوها من احتكاكهم بالنصارى، ومن سماعهم شيئا عن النصرانية من النصارى العرب، تجعل من الصعب على الباحث أن يجد فرقا كبيرا بين شعر الشعراء النصارى وشعر الشعراء الوثنيين. ولهذا ذهب بعض المستشرقين إلى أن من الصعب التحدث عن وجود نصراني عربي له ميزات امتاز بها عن الشعر الوثني قبل الإسلام1. ومن النصارى "العباد"، وهم عرب تنصروا، ولم يكونوا من قبيلة واحدة، وإنما كانوا من مختلف العرب. ولفظة "العباد" لفظة خصصت بنصارى الحيرة خاصة. ويذكر في الحديث المسند: "أبعد الناس عن الإسلام: الروم والعباد"2. ويظهر أن مرد ذلك، هو أن الروم والعباد، كانوا أصحاب ديانة ورجال دين ومؤسسات دينية منظمة، ومدارس، وثقافة، فكان من الصعب عليهم وكلهم نصارى، نبذ دينهم والدخول في الإسلام، لاعلى نحو العرب الوثنيين، الذين لم تكن لهم كتب دينية، ولا منظمات دينية، وكل ما كان عندهم عرف وعادات وتمسك بأصنام جبلوا على عبادتها، ولهذا كان تحولهم عنها أسهل من تحول العباد عن دينهم. وفي جملة "العباد" "بنو امرئ القيس بن زيد مناة" وإليهم ينسب "عدي بن زيد"3. وقد أدخل "كارلو نالينو" "أبا دؤاد" الإيادي في عداد الشعراء النصارى4،

_ 1 George Graf, Geschichte der Christlichn Arabischen Literatur, I, S. 32, Siegmund Frankel, Die Aramaischen Fremdworter im Arabischen, Leiden, 1886, S. 267, Tor Andrae, Der Hrsprung der Islams, S. 32. ff 2 الروض الأنف "1/ 53". 3 سيرة ابن هشام "1/ 53"، "حاشية على الروض الأنف"، الروض الأنف "1/ 53". 4 كارلو نالينو "89".

ولكني لم أجد في شعره ما يشير إلى تنصره، فلعله أدخله في النصرانية، لما عرف عن انتشارها بين إياد، وهو "أبو دؤاد جارية بن الحجاج"، ويقال: "جويرية بن الحجاج بن يحمر بن عصام بن منبّه بن حذافة بن زهر بن إياد بن نزار بن معد"، وقيل: "حنظلة بن الشرقي" شاعر قديم من شعراء الجاهلية، وكان وصّافا للخيل، وأكثر أشعاره في وصفها. ذكر أهل الأخبار أن "ثلاثة كانوا يصفون الخيل لا يقاربهم أحد: طفيل، وأبو دؤاد، والنابغة الجعدي. فأما أبو دؤاد، فإنه كان على خيل المنذر بن النعمان بن المنذر، وأما طفيل فإنه كان يركبها، وأما الجعدي فإنه سمع من الشعراء فأخذ عنهم". وقال "أبو عبيدة": "أبو دؤاد أوصف الناس للفرس في الجاهلية والإسلام، وبعده طفيل الغنوي والنابغة الجعدي"1. وله شعر في المدح والفخر، لكن شعره في الخيل أكثر2. ومما يلفت النظر، أن يكون أكثر شعر أبي دؤاد في وصف الخيل، ثم يكون مدحه لقومه بأنهم "أهل البغال". حيث ورد في شعر هو: نشدتكم بالله يا أهل البلد ... هل سابق فيكم لمجد من أحد إلا إياد بن نزار بن معد ... أهل البغال والقباب والعدد ما سامهم في الدهر ملك بعقد3 وإني أشك في هذاالشعر، فأسلوبه لا يدل على أنه من أساليب شعراء الجاهلية، ولا سيما الشطر الأول من البيت الأول، ثم إن هذا النسب المسطور في الشطر الأول من البيت الثاني، هو نسب ظهر في الإسلام، وعرف في أيام الأمويين. وذكر أن "الحجاج" كان معروفا بـ "حمران". ولذلك قيل لأبي دؤاد: "جارية بن حمران". وقيل له: "حارثة بن الحجاج"، كماقيل له: "جريرة"، و"حوثرة"، ويظهر أن مصدر هذا الاختلاف هو وقوع النساخ في أخطاء في أثناء تدوين الأسم، فاختلط الأمر عليهم بين "جارية" و "حارثة".

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 359"، تاج العروس "2/ 347"، "داد"، الأغاني "15/ 91"، الخزانة "4/ 190"، المؤتلف والمختلف "115"، الموشح "73"، الأغاني "16/ 91 وما بعدها"، "ساسي"، الشعر والشعراء "1/ 161 وما بعدها"، العيني "2/ 391". 2 الأغاني "15/ 95"، غرونباوم "262". 3 غرونباوم "302"، وهو من الرجز، منقول من جمهرة ابن الكلبي، الورقة أ3.

وبين "جويرية"، و "جريرة"، و "حوثرة"1، وهو اختلاف طالما نجده في أسماء وألقاب الأشخاص الجاهليين، يقع بسبب التصحيف. وهو من "بني حذاقة"، كما يظهر من شعر ينسب لطرفة، وقد أشار "أبو دؤاد" في القصيدة الميمية التي تنسب إليه إلى "حذاق" بقوله: من رجال من الأقارب فادوا ... من حذاق هم الرءوس الكرام2 وحذاق قبيلة من إياد. وكان شاعرنا من إياد، وقد تزوج امرأة من قبيلته، ماتت بعد أن تركت له صبيا اسمه "دؤاد"، فتزوج امرأة أخرى، طلقها لأنها كانت تمقت ابنه، وكان ابنه شاعرا، رثى والده يوم وفاته. وقد تزوج "أبو دؤاد" امرأة أخرى هي "أم حبتر" لكنها طلقته لتبذيره وإسرافه، وللخصومات التي كانت تقع بينهما3. ويظهر أنه ترك ابنة اسمها "دؤادة"4. وقد ذهب "بروكلمان" إلى أنه كان من المعاصرين للمنذر بن ماء السماء، الذي قدر وقته فيما بين حوالي "506" و "554" للميلاد5. وذهب "فون غرونباوم" إلى أنه كان حيا من سنة 480 إلى حوالي "540-550" للميلاد6. وقد ورد اسم "أبو دؤاد" في شعر "طرفة"، كماذكره "الأسود بن يعفر"، الشاعر نديم "النعمان بن المنذر"، حيث يقول: ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد

_ 1 "وأبو دؤاد الإيادي، وهو حوثرة بن الحارث بن الحجاج"، اليعقوبي "1/ 223"، "طبعة النجف"، العيني "3/ 445"، غوستاف فون فرغونباوم، دراسات في الأدب العربي "ص255". 2 الشعر والشعراء "1/ 162"، الخزانة "4/ 191"، "بولاق". 3 الأغاني "15/ 95 وما بعدها"، غرونباوم، دراسات "258"، الآمدي، المؤتلف "116". 4 الأغاني "15/ 98 وما بعدها"، غرونباوم، دراسات "258 وما بعدها". 5 بروكلمان "1/ 118". 6 دراسات في الأدب العربي "256 وما بعدها".

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم دؤاد1 وكعب بن مامة من إياد، وابن أم دواد، هو الشاعر أبو دؤاد "أبو داود" الإيادي. و "أنقرة" موضع بالعراق على مقربة من الحيرة2. ويظهر من هذا الشعر، أن "إيادا" أو فرعا منها، نزلوا بأنقرة، بزعامة كعب بن مامة والشاعر "أبو دؤاد". وكان في عصر "كعب بن مامة" الإيادي، الذي آثر بنصيبه من الماء رفيقه "النميري" فمات عطشا، فضرب به المثل في الجود، وبلغه عنه شيء فقال: وأتاني تقحيم كعب إلى المنـ ... ـطق إن النكيثة الأقحام في نظام ما كنت فيه فلايحـ ... ـزنك قول لكل حسناء ذام ولقد رابني ابن عمي كعب ... إنه قد يروم ما لا يرام غير ذنب بني كنانة مني ... إن أفارق فإنني مجذام وكان بعض الملوك أخافه، فصار إلى بعض ملوك اليمن فأجاره فأحسن إليه، فضرب المثل بجار أبي دؤاد، قال طرفة: إني كفاني من هم هممت به ... جار كجار الحذاقي الذي انتصفا والحذاقي هو "أبو دؤاد"، والحذاق قبيلة من إياد. ويقال: إنما أجاره الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، وذلك أن قباذ سرح جيشا إلى إياد، فيهم الحارث بن همام، فاستجار به قوم من إياد فيهم أبو دؤاد، فأجازهم. وذكر أن جار "أبي دؤاد" هو كعب بن مامة3، وكان "أبو عبيدة"

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 176"، "الأسود بن يعفر". 2 تاج العروس "2/ 582 "، "نقر". 3 الشعر والشعراء "1/ 161 وما بعدها"، الخزانة "1/ 408 وما بعدها"، "بولاق".

يذكر أن جار "أبو دؤاد"، هو "كعب بن مامة"، وأنشد لقيس بن زهير بن جذيمة في ربيعة بن قُرط: أحاول ما أحاول ثم آوي ... إلى جار كجار أبي دؤاد1 ويظهر أن "قباذ" لما أرسل جيشاعلى "إياد" هربت من مواطنها فأجازها "الحارث بن همام". وورد في رواية أن جدبا حل بإياد، فاضطرت بطونها إلى الارتحال إلى مواضع أخرى، وكانت لهم ناقة اسمها "الزباء"، كانوا يتبركون بها، فخرجت تلتمس لهم الخصب والمرعى، حتى بركت بالحارث بن همام، فنزلت إياد عنده، وأجارهم2. وتذكر رواية أن "الحارث بن همام" ودى ابنا لأبي دؤاد. غرق حين كان أبو دؤاد في جواره، فمدحه. فحلف الحارث أنه لا يموت لأبي دؤاد ولد، إلا وداه، ولا يذهب له مال إلا أخلفه عليه3. ويرى "غرونباوم" أن "أبا عبيدة"، هو الذي صير "كعب بن مامة" الإيادي جار "أبي دؤاد"، وقد تابعه من جاء بعده على ذلك، فصار "كعب" بذلك مجير شاعرنا، بينما هو "الحارث بن همام"4. وسبب ذلك أن "كعبا" كان قد اشتهر بالكرم والإيثار وتقديم الغريب على نفسه، حتى إنه ضحى بنفسه في سبيل صاحبه "النميري" حتى فضله بعض أهل الأخبار على "حاتم" الطائي في الجود5. ثم إن كعبا من إياد، فربما فضل بنو إياد أن يكون منهم أسخى وأكرم رجل في العرب، على أن يكون من غيرهم، ولذلك افتخروا به، فنسبوا الجوار له، وحذفوه من "الحارث بن همام"، وهو من "بني شيبان". وهناك رواية تجعل "المنذر" جارا لأبي دؤاد، لأنه ودى أبناء "أبي دؤاد"، ودى كل ابن بمائتي بعير، حينما قتلهم "رقبة بن عامر" البهراني، وكان رقبة

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 162". 2 غرونباوم، دراسات "259". 3 المصدر نفسه "259". 4 غرونباوم، دراسات "259 وما بعدها". 5 البخلاء، للجاحظ "158، 218، 382"، ثمار القلوب "98 وما بعدها"، المحاسن والأضداد "54"، الحيوان "2/ 37"، البيان والتبيين "1/ 112".

في جوار المنذر1. وذكر "البغدادي"، أن أحد المملوك أحسن إلى "أبي دؤاد" وأجاره، فضرب المثل بجار "أبي دؤاد"، ولم يذكر اسم الملك. قال طرفة: إني كفاني من أمر هممت به ... جار كجار الحذاقي الذي انتصفا2 وقد ذكر "البغدادي" في الجزء الأول من الخزانة في تفسير بيت قيس بن زهير بن جذيمة: أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى جار كجار أبي دواد "وأبو داود، هو أبو دواد الإيادي الشاعر المشهور، وجاره كعب بن مامة الإيادي، الجواد المشهور، وقيل: بل هو الحارث بن همام بن مرة، وكان أسر أبا دواد ناس من قومه فأطلقهم وأكرم أبا دواد وأجاره فمدحه أبو دواد وأعطاه، وحلف أن لا يذهب له شيء إلا أخلفه له. ويقال إن ولد أبي دواد لعب مع الصبيان في غدير فغمسوه فمات، فقال الحارث: لا يبقى صبي في الحي إلا غرق. فودى ابنه بديات كثيرة"3. ونسب بعض رواة الشعر إلى القصيدة التي أولها: أعني على برق أراه وميض ... يضيء حبيا في شماريخ بيض وهي قصيدة تنسب أيضا إلى "امرئ القيس". ونسب "الأصمعي" له قوله: ويصيخ أحيانا كما اسـ ... ـتمع المضل دعاء ناشد5 وقد تمثل بشعره، ومما تمثل به قوله: أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونارا تحرق بالليل نارا

_ 1 الأغاني "15/ 99"، غرونباوم "260". 2 الخزانة "4/ 191". 3 الخزانة "1/ 408"، "بولاق". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 403". 5 رسالة الغفران "409".

وقوله: الماء يجري ولا نظام له ... لو وجد الماء مخرقا خرقه1 ومن شعره: ترى جارنا آمنا وسطنا ... يروح بعقد وثيق السبب إذا ما عقدنا له ذمة ... شددنا العناج وعقد الكرب أخذه الحطيئة، فقال: قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا وكان الحطيئة من المقدرين لشعره. قيل له من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول: لا أعد الإقتار عدما ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام من قصيدة تعد من أجود شعره2. ومن شعره قطعة هجا فيها رجلا اسمه "امرؤ القيس بن أروى"، إذ يقول فيه: امرأ القيس بن أروى موليا ... إن رآني لأبوأن بسبد قلت بجلا قلت قولا كاذبا ... إنما يمنعني سيف ويد3 وقد وضع "غرونباوم" قبل هذين البيتين: بيتا هو: وفتو حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد4

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 163"، "الثقافة". 2 الشعر والشعراء "1/ 162"، "الثقافة". 3 اللسان "3/ 202"، "بحرا"، "سبد"، "بجرا"، تاج العروس "2/ 370"، "سبد". وقد ورد البيتان على هذه الصورة: قال أبو دؤاد الأيادي: امرؤ القيس بن أروى مقسم ... إن رآني لأبوأن بفند قلت بجلا قلت قولا كاذبا ... إنما يمنعني سيف ويد تاج العروس "7/ 231"، "بجل". 4 غرونباوم، دراسات "305".

وقد ورد في "اللسان" وفي "التاج" على هذه الصورة: في فتو حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن مضر1 وعندي أن هذا البيت من الشعر المصنوع، لأن هذا النسب، لم يعرف إلا في الإسلام، ولا يوجد دليل يثبت وقوف الجاهليين عليه. وهو على الصورة التي ورد عليها في لسان العرب وفي تاج العروس خطأ، لأن نزارا ليس ابن مضر في عرف أهل الأنساب، كما سبق أن تحدثت عن ذلك في باب العرب المتعربة. وقد نسب هذا البيت إلى "الحارث بن دوس الإيادي"2. ونجد الشاعر يرثي رجلا اسمه "أبو بجاد"، نعته بـ "أبي الأضياف في السنة الجماد"، وهذا الوصف هو من الأوصاف الدالة على غاية الكرم، إذ يلجأ الناس إليه في أيام الجوع وانحباس المطر وحصول القحط، حيث يجب أن يبخل الإنسان بماله من الإسراف في إنفاقه، أما هو فلكرمه لا يحفل بسنة المحل سنة الجماد، بل يعطي وينفق على كل من يلجأ إليه مستجيرا. ولا نعلم من خبر "أبي بجاد" هذا شيئا يذكر3. وقد ورد في "تاج العروس": وأبو البجاد شاعر سمي ببيت قاله: فويل الركب إذ آبوا جياعا ... ولا يدرون ما تحت البجاد4 ولكن هل توجد صلة بين "أبي بجاد" الممدوح، وبين "أبي البجاد" الشاعر؟ وجوابي: لا. وقد أشار "أبو دؤاد" إلى قتال وقع بين "بني شهران" وبين قوم آخرين لم يشر إلى اسمهم، وذلك في هذا البيت: ولت رجال بني شهران تتبعها ... خضراء يرمونها بالليل من شمم5

_ 1 اللسان "3/ 77"، "أيد"، تاج العروس "2/ 293"، "آد". 2 العمدة "2/ 79". 3 تاج العروس "5/ 99"، "هض"، اللسان "9/ 116"، "هض". 4 تاج العروس "2/ 264"، "بجد". 5 غرونباوم، دراسات "56".

وينسب رواة الشعر له شعرا زعم أنه قال فيه: ضربنا على تبع جزية ... جياد البرود وخرج الذهب وولى أبو كرب هاربا ... وكان جبانا كثير الكذب وأتبعته فهوى للجبين ... وكان العزيز لها من غلب1 وتبع، لقب يطلقه العرب على ملك حمير، فيقولون تبابعة اليمن، يريدون ملوك اليمن. والتبع "أبو كرب" هو الملك: "أبو كرب أسعد" وهو ابن الملك "ملك كرب يهأمن"، الذي حكم من سنة "385" حتى السنة "420" للميلاد2. ولكن كيف ضرب "إياد" الجزية على "تبع"، وكيف وصل الشاعر إلى اليمن البعيدة عن إياد؟ قد يقال إنه أشار إلى غزو قام به أحد ملوك الحيرة على "أبي كرب أسعد"، تبع اليمن، انتصر فيه ملك الحيرة على التبع، وكان هو وقومه قد ساهموا فيه، ولكننا لا نستطيع التأكد من ذلك، إذ من يثبت لنا أن هذا الشعر هو شعر صحيح، لم تصنعه العدنانية على لسانه في الإسلام حتى نصدق بصحة الخبر! ونجد في شعره إشارة إلى "قباذ"، والي "الحضر"، إذ يقول: أين ذو التاج والسرير قباذ ... خبنته الأيام فباد إحدى الخبون ولقد عاش آمنا للدواهي ... ذا عتاد وجوهر مخزون وأرى الموت قد تدلى من الحضر ... على رب أهله الساطرون صرعته الأيام من بعد ملك ... ونعيم وجوهر مكنون ملك الخضر والفرات فما دجلة ... شرقا فالطور من عابدين ولقد كان في كتائب خضر ... وبلاط يشاد بالآجرون3 و"قباذ" ملك من الساسانين حكم من سنة "483-531" بعد الميلاد، وأما"الساطرون" فقد تحدثت عنه في الجزء الثاني من هذا الكتاب4.

_ 1غرونباوم، دراسات "291". 2 راجع الجزء الثاني من هذاالكتاب "ص 574". 3 حماسة البحتري "87"، تاج العروس "2/ 261"، "9/ 214"، الأمالي، للشجري "1/ 100، 361"، غرونباوم، دراسات "345". 4 "615 وما بعدها".

ولدينا قطعة من الشعر نسبت إليه، وردت فيها أسماء مواضع مثل: "هضب ذي الأسناد"، و "السيلحين"، و"برقة الأثماد"، ثم أشار إلى معركة وقعت بين "إياد" قومه وبين "تنوخ" انتصفت فيها "إياد" من تنوخ إذ يقول: ولقد صببن على تنوخ صبة ... فجزيتهم يوما بيوم قحاد1 وكان علماء العربية لايستشهدون بشعر "أبي دؤاد" ولابشعر "عدي بن زيد العبادي"، لأن ألفاظهما ليست بنجدية2. ذكر "الجاحظ" أن "أبا إياس" النصري، وكان أنسب الناس، كان يقول: "كانوا يقولون: أشعر العرب أبو دواد الإيادي، وعدي بن زيد العبادي"3. ويروي "الأصمعي" أن الرواة لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زيد، لأن ألفاظهما ليست بنجدية، ولمخالفتهما مذاهب الشعراء4، ولم يكن "الأصمعي" ممن يهوى إليه كثيرا، بدليل أنه جعل شعره صالحًا غير أنه لم يجعله في عداد فحول الشعراء5. وورد في الأخبار أن "الحطيئة"، كان يرى أنه أشعر الناس. فقد ورد أن "سعيد بن العاص" سأل "الحطيئة": أي الناس أشعر؟ قال: الذي يقول: لا أعد الإقتار عدما ولكن ... فقد من قد رزئته الأيام وقائل هذا البيت، هو أبو داود الإيادي6. وكان "أبو الأسود الدؤلي"، وهو من الحذاق العالمين بالشعر، يتعصب له7.

_ 1 غرونباوم "310 وما بعدها"، وقد أشار إلى الموارد التي أخذ منها تلك الأبيات. 2 الشعر والشعراء "120"، الأغاني "16/ 91 وما بعدها"، الموشح، للمرزباني "73"، الجرجاني، الوساطة "47"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 119، 126"، الشعر والشعراء "1/ 162"، "دار الثقافة". 3 البيان والتبيين "1/ 323". 4 الأغاني "15/ 97"، "الخزانة "4/ 191"، الموشح "73". 5 غرونباوم "261". 6 رسالة الغفران "575"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 360". 7 غرونباوم "261".

وكانت "إياد" تفخر بشاعرها "أبي دؤاد"، وتقول: منا أجود العرب: كعب بن مامة، ومنا أشعر الناس: أبو دؤاد، ومناأنكح الناس: أبو الغز1. وقد ادعت إياد أن الشعر بدأ بها، لأنه بدأ بأبي دؤاد2. وقد استشهد علماء شواهد النحو ببيت له، هو: ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعناجيج بينهن المهار وقد ذكر السيوطي أنه من قصيدة طويلة عدتها ثمانية وسبعون بيتا3. وقد عده بعض أهل الأخبار في الشعراء المقلين4. ونجد له شواهد في الاتعاظ والأمثال وفي الشعر الجيد وفي أمور النحو، وفي البديع5. "ولدينا أحد عشر مطلعا لإحدى عشرة قصيدة من قصائد أبي دؤاد وكلها مصرّعة"6. ويرى "غرونباوم" قلة ما في شعر "أبي دؤاد" من الإقواء، فلم يقف في شعره إلاعلى إقواءين، ووجد بيتين، أحدهما من الرجز والآخر من الوافر، يبدو فيهما شيء من عدم الاستواء. وله مزايا خاصة استعملها في تفعيلات الخفيف. وأرى أن التشعيت الذي لاحظه "العيني" في الأصمعية "72"، "لا يعد خطأ، بل هو مظهر من مظاهر التطور الفني في هذاالوزن، مظهر استنكر أو نسي مع الزمن حين ظهر علم العروض، بعد حوالي قرنين من وفاة أبي دؤاد"7. وقد شرح ديوان "أبي دؤاد" العالم "ابن السكيت"، وقد نقل منه "البغدادي" في الخزانة8. وقد ذكر "البغدادي" أن "لأبي دؤاد" ديوانا وقف عليه وأخذ منه، غير أنه لم يذكر اسم جامعه9. وفي الشعر المنسوب إليه

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 359"، الأغاني "15/ 97 وما بعدها". 2 المزهر "2/ 477"، "تنقل الشعر في القبائل". 3 الخزانة "4/ 189 وما بعدها"، "بولاق". 4 المزهر "2/ 486"، "المقلون من الشعراء". 5 راجع البيت الخامس عشر من الأصمعية 29، والبيت الثالث من القطعة "48"، غرونباوم "262"، الباقلاني، إعجاز "79"، النويري "7/ 112". 6 غروناوم "266". 7 غرونباوم "267 وما بعدها". 8 الخزانة "4/ 190". 9 الخزانة "1/ 9".

شعر مصنوع، وقد ذكر أن "خلف الأحمر" صنع على أبي دؤاد أربعين قصيدة1. ونجد في الشعر الذي جمعه "غرونباوم" لأبي دؤاد شعرا لا يصح أنه من شعره، كما أن في شعره ما نسب لغيره، ومنهم شعراء من إياد، مثل "أبي المنذر" الإيادي2. ومن شعراء "إياد": "لقيط بن يعمر"، وقيل "معمر" الإيادي. وإياد من قبائل "نزار"، ومن أكثر قبائل هذا الحلف عددا، قيل إنهم كانوا لقاحا لا يؤدون خرجا، وهم أول معدي خرج من تهامة، فنزلوا السواد، وغلبواعلى ما بين البحرين إلى "سنداد" و "الخورنق". وكانوا أغارواعلى أموال لأنوشروان فأخذوها، فجهز إليهم الجيوش، فهزموهم مرة بعد مرة، ثم إن إيادا ارتحلوا حتى نزلوا الجزيرة، فوجه إليهم كسرى بعد ذلك ستين ألفا في السلاح، وكان "لقيط" متخلفا عنهم بالحيرة، فكتب إليهم: سلام في الصحيفة من لقيط ... إلى من بالجزيرة من إياد بأن الليث كسرى قد أتاكم ... فلا يشغلكم سوق النقاد أتاكم منهم ستون ألفا ... يزجون الكتائب كالجراد فاستعدت إياد لمحاربة جنود كسرى، ثم التقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا، أصيب فيه من الفريقين، ورجعت عنهم الخيل، ثم اختلفوا بعد ذلك، فلحقت فرقة بالشام، وفرقة رجعت إلى السواد، وأقامت فرقة بالجزيرة. ونسبوا له قصيدة أخرى، ذكروا أنه نظمها في هذه القصيدة3. من جملة ما ورد فيها: قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمر من فزعا هيهات ما زالت الأموال من أبد ... لأهلها إن أصيبوا مرة تبعا ومنها قوله في اختيار الرئيس وتدبير الحرب والانصياع للقائد: وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

_ 1 غرونباوم "260"، الموشح "252". 2 غرونباوم "281 وما بعدها". 3 الشعر والشعراء "1/ 129 وما بعدها"، الأغاني "20/ 23"، بروكلمان "1/ 112".

لا مترفا إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به جزعا ما زال يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعا طورا ومتبعا حتى استمرت على شزر مريرته ... مستحكم السن لا قحما ولا ضرعا1 وأنا إذ أذكر "لقيط بن يعمر" في هذا الفصل، فلا أريد بذلك إثبات أنه كان من الشعراء النصارى، لأني لا أملك نصا بذلك، إنما أدخلته هنا لمجرد أنه شاعر من شعراء إياد، كما أدخلت "أباد دؤاد" الإيادي فيه لما ذهب "نالينو" إلى أنه من النصارى، وقد كانت النصرانية متفشية في إياد وتغلب، وقبائل أخرى من قبائل العراق وبلاد الشام، والبادية التي بينهما. أما "عدي بن زيد" العبادي، فهو نصراني من غير شك، فالعباديون، نصارى، وأطلقت اللفظة عند العرب على النصارى، نصارى الحيرة، كما نص أهل الأخبار على تنصره. وقد كان شعره سهلا لينا، بعيدا عن شعر شعراء نجد، قال الأصمعي": "كانت الرواة لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زيد لمخالفتهما مذاهب الشعراء"2 أو "لأن ألفاظهما ليست بنجدية"3. وقد روى "الجواليقي" له شعرا في كتابه "المعرب"، وهو كتاب ألفه في المعربات، وفي استشهاده بشعره دلالة على تأثره بالآرامية وبالفارسية التي درسها في "الكتاب"4. وإذا أخذنا بمذهب "الأصمعي" من أن الرواة كانت لا تروي شعر أبي دؤاد ولا عدي بن زياد، لمخالفتهما مذاهب الشعراء، وما ذكره غيره لأن ألفاظهما ليست نجدية، ولأن عديا سكن الريف، فلأن شعره وبان ذلك على لسانه، ولأنه تأثر بلغة أهل الحيرة، واستعمل ألفاظهم، وما شاكل ذلك من حجج، وجب علينا رفض الاستشهاد بشعر "أمية بن أبي الصلت" كذلك، فقد كان من أهل قرية، وقد استعمل في شعره ألفاظا لم تعرفها العرب، وقرأ الكتب، كما يجب إدخال الأعشى معهما أيضا، لأنه خالط أهل الريف، واتصل بالحضر وبالأعاجم، واستعمل في شعره ألفاظا معربة، كما اختلف مذهبه في الشعر عن

_ 1 بلوغ الأرب "3/ 114 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 130". 2 الأغاني "2/ 18"، "15/ 91 وما بعدها". 3 الشعر والشعراء "1/ 162". 4 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "90".

مذهب شعراء البادية الأعراب، فضلا عن كونه من أهل اليمامة، وأهل اليمامة ممن اختلط لسانهم بلسان أهل اليمن، وتأثر بهم. ويخالف شعر "عدي" شعر شعراء نجد في ابتعاده عن الأعاريض الطويلة وميله إلى الأعاريض القصيرة، كما يخالفهم في أسلوب خمرياته، فهو في وصفه الخمر قريب من أسلوب "الأعشى" في الخمريات. وله أوصاف بديعة للخمر، تعبر عن مع أن حضري، نابعة من طبيعة القرى والريف، وبهذا الوصف اختلف عن وصف امرئ القيس أو غيره من الشعراء للخمر. كما امتاز بوصفه القيان ومجالس الشرب، وما كانت تولده له من نشوة وطرب، واتخذ "عدي" من الخمر، فلسفة دفعته إلى الزهد ونبذ الغرور، لأن الدنيا زائلة، وكل شيء فيها لا بد وأن ينتهي إلى زوال. وهو شعر انبثق من طبيعة "عدي بن زيد" ثم من الأحوال التي مرت عليه، والتي انتهت به إلى السجن، بعد أن وصل أعلى ما يصل إليه إنسان في زمانه وفي مكانه. واتخذ "عدي" من القصص القديم عبرا وجهها من سجنه إلى "النعمان" وإلى الشامتين به، الحاسدين له، الذين كانوا سبب نكبته، بأن قال: أيها الشامت المعير بالدهـ ... ـر أأنت المبرأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرور من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير أين كسرى كسرى الملوك ... أنو شروان أين قبله سابور وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم ... لم يبق منهم مذكور وأخو الحضر إذ بناه وإذا ... دجلة تجبي إليه والخابور شاد مرمرا وجلله كلـ ... ـسا فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فباد المـ ... ـلك عنه فبابه مهجور وتذكر رب الخورنق إذ شـ ... ـرف يوما وللهدى تفكير سره ماله وكثرة ما يمـ ... ـلك والبحر معرضا والسدير فارعوى قلبه فقال وما غبطة ... حي إلى الممات يصير ثم بعد الفلاح والملك والأ ... مة وأرتهم هناك القبور ثم أضحوا كأنهم ورق جـ ... ـف فألوت به الصبا والدبور1

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 150 وما بعدها".

وله شعر آخر أوله: أتعرف رسم الدار من أم معبد ... نعم فرماك الشوق قبل التجلد قال فيه: أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد ذريني فإني إنما لي ما مضى ... أمامي من مالي إذا خف عودي وحمت لميقات إلي منيتي ... وغودرت قد وسدت أو لم أوسد1 وهو شعر نبع من واقع حاله الذي صار إليه، فهو لا يدري متى وفي أية ساعة ستأتيه منيته. ومن زج في سجن مثل سجنه، وصار في حال مثل حاله، يكون قلقا لا يدري ما الذي سيكون مصيره، فهو شعر يعبر عن شعور إنساني ينتاب الإنسان في مثل هذه الموقف، ليس له علاقة بنصرانية أو بدين. والشعر المذكور إن صح أنه من شعر "عدي"، وأنه غير مصنوع ولا معمول عليه، يكون قد قدم لنا قصصا قديما من قصص أهل الجاهلية، وحكايات كانوا يروونها من حكايات التأريخ، ويكون بذلك شاهدا على أن أهل الحيرة، والمثقفين منهم بصورة خاصة كانوايعرفون تأريخ الماضين وقد وقفوا على تأريخ الفرس وتأريخ الروم، والحضر، وتأريخ غيرهم من شعوب معاصرة لهم، ومن شعوب غابرة، وردت أخبارها في الكتب القديمة، ولا سيما في الكتب المقدسة وفي كتب التواريخ. فنحن نجد له قصيدة أشار فيها إلى خطيئة آدم، وهذه الخطيئة تلعب دوراخطيرا في كل الأديان السماوية المعروفة التي أقرت بالكتب المقدسة، وقد صاغ قصتها على هذا النحو. قضى لستة أيام خليقته ... وكان آخرها أن صور الرجلا دعاه آدم صوتا فاستجاب له ... بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا ثمت أورثه الفردوس يعمرها ... وزوجه صنعه من ضلعه جعلا لم ينههُ ربه عن غير واحدة ... من شجر طيب أن شم أو أكلا فكانت الحية الرقشاء إذ خلقت ... كما ترى ناقة في الخلق أو جملا فعمدا للتي عن أكلها نهيا ... بأمر حواء لم تأخذ له الدغلا كلاهما خاط إذ بُزا لبوسهما ... من ورق التين ثوبا لم يكن غزلا

فلاطها الله إذ أغوت خليقته ... طوال الليالي ولم يجعل لها أجلا تمشي على بطنها في الدهر ما عمرت ... والترب تأكله حزنا وإن سهلا فأتعبا أبوانا في حياتهما ... وأوجدا الجوع والأوصاب والعلالا وأوتيا الملك والإنجيل نقرؤه ... نشفي بحكمته أحلامنا عللا من غير ما حاجة إلا ليجعلنا ... فوق البرية أربابا كما فعلا والشعر هذا مذكور في كتاب "الحيوان" للجاحظ، وفي ذكره له، دلالة على أنه قد كان معروفا في أيامه، وهو يستند على ما ورد في "سفر التكوين" السفر الأول من أسفاره التوراة، وفيه قصة الخليقة، ونجد قصة "الحية" في شعر "أمية بن أبي الصلت"، حيث يقول: كذي الأفعى ترببها لديه ... وذي الجني أرسلها تساب فلا رب البرية يأمننها ... ولا الجني أصبح يستتاب وقد دون هذين البيتين "الجاحظ" كذلك في كتابه: "الحيوان"، مما يدل على أنهما كانا معروفين، وهما من قصيدة ذكرها الجاحظ قبلهما في رطوبة الحجارة، وأن كل شيء قد كان ينطق، ثم عن منادمة الديك الغراب، واشتراط الحمامة على نوح2. وقصة "عدي" قصة أوضح وأقرب إلى الأصل المذكور في الإصحاحات الثلاثة الأولى من سفر التكوين، من القصة المذكورة في الشعر المنسوب إلى "أمية". يظهر أن ناظمها قد صاغها عن مطالعة وعن إلمام عام بها. فهي في الواقع قصيدة شملت قصة دينية، ضمت أسطورة الخلق كما جاءت في الإصحاحات المذكورة، مع بعض "الرتوش" والإصلاحات التي اقتضتها طبيعة نظم الشعر، وقد لخصها تلخيصا حسنا قريبا من الأصل، يدل على إحاطة به، ولعله من وضع شاعر أحب صوغ هذه القصة في شعر، فنظمها ونسبها إلى "عدي بن زيد". وقد ظل العباد يتغنون بخمريات وبشعر "عدي" أمدا طويلا بعد وفاته. وقد كان "القاسم بن الطويل" العبادي، أحد ندماء "الوليد" الثاني ممن يروون

_ 1 الحيوان "4/ 197 وما بعدها". 2 الحيوان "4/ 197".

شعره، وحبذه إلى الخليفة، الذي كان شاعرا يحب الخمر، وينظم الشعر فيها، مما صار بابا من أبواب الخمريات في الشعر الإسلامي1. ومن شعره قوله: أيها القلب تعلل بددن ... إن همي في سماع وأذن2 ومن الشعراء النصارى الذين نص أهل الأخبار على تنصرهم: "موسى بن جابر بن أرقم بن سلمة بن عبيد" الحنفي اليمامي، المعروف بـ "أزيرق اليمامة"، وبابن ليلى، وهي أمه، وكان نصرانيا. قال عنه "المرزباني" إنه شاعر كثير الشعر، وقد أورد له نتفا من شعره3، ويمتاز ما ذكره بالبساطة والسهولة والليونة وهو يختلف بأسلوبه عن شعر الأعراب. أما "الأعشى"، وقد تحدثت عنه، فهو من اليمامة، وقد كان معظم أهل اليمامة على النصرانية عند ظهور الإسلام، ولذلك فقد يكون على النصرانية، غير أننا لا نستطيع أن نأتي بدليل مقبول يثبت تنصره، وقد رأينا أن أهل الأخبار كانوا قد جعلوه في عداد "القدرية" و"أهل العدل"، زعموا أنه أخذها من "الحيرة"، وكانوا عبادا، وكان يزورهم بشرب الخمر عندهم، كما كان راويته "يحيى بن متى" نصرانيا، ولكن النصرانية لا تعني القدرية، وكون راويته نصرانيا، لا يعني أنه كان نفسه نصرانيا، وأما ما جاء في شعره من قصص وأمور معروفة عند النصارى، فلا يكون دليلا على تنصره، فقد وردت مثل هذه الأمور في شعر غيره، ولم ينص أحد على تنصرهم، ثم إن شعره لا ينم على تعمق في نصرانية4، ولكني لا أريد أن أثبت أنه كان وثنيا، فوثنية الأعشى أو نصرانيته تخصه وحده، وأنا لا أريد أن أنقص عدد النصارى، وأن أزيد في عدد الوثنيين، وإنما هو رأي واستنتاج ليس غير. ومن شعره الذي تطرق فيه إلى أمور نصرانية قوله: فما أيبلى على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا

_ 1 بروكلمان "1/ 125". 2 أمالي المرتضى "1/ 33". 3 المعجم "285"، "فراج"، شرح الحماسة، للمرزوقي "326"، "عبد السلام محمد هارون"، الأغاني "10/ 113"، الخزانة "1/ 126". 4 G. Graf, Geschichte der Christlichen Arabischen Literatur, I, S. 33

يراوح من صلوات المليك ... طورا سجودا وطورا جوارا بأعظم منك تقي في الحساب ... إذا النسمات نفضن الغبارا وهي من قصيدة مدح فيها "قيس بن معد يكرب" الكندي. وقد اتخذ "المعري" هذا الشعر دليلا على إيمان الأعشى بالله وبالحساب وبالبعث، مما استوجب إدخاله في الجنة1. وهناك أفكار نصرانية نجدها في شعر "النابغة" وفي شعر "زهير"، و "لبيد"، غير أننا لا نستطيع أن نقول إنهم كانوا نصارى، لوجود هذه الأفكار في شعرهم، فمن الجائز أن يكون ورودها في شعرهم نتيجة لاختلاطهم بالنصارى، وقد كانوا يكثرون من الذهاب إلى الحيرة، لمدح ملوكها طمعا في نيل عطاياهم، فاحتكوا بذلك بنصاراها، وورود قصص نصراني في شعر أو نثر لا يدل حتما على تنصر الناثر أو الشاعر، كما أن وقوف شخص على دين من الأديان، لا يدل حتما على اعتناقه لذلك الدين. ومن هنا أخطأ الأب "لويس شيخو" في دعواه بتنصر أكثر الشعراء الجاهليين2. ونجد في شعر امرئ القيس إشارات إلى معالم نصرانية، مثل الرهبان وصلواتهم وسهرهم، وإلى مصابيحهم، مثل قوله: نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لقفال3 ولكننا لا نستطيع إثبات أنه كان من النصارى. و"حاتم الطائي" من شعراء طيء، وقد مات قبل الإسلام، وقبر بـ "عوارض" جبل فيه قبره ببلاد طيء4. وهو "حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي"، ويكنى "أبا سفانة" بابنته، وابنه "عدي بن حاتم" من الصحابة. وإليه ينسب المثل "لو غير ذات سوار لطمتني". وسبب قوله إياه -كمايقول ذلك الراوي- أن حاتم الطائي كان أسيرافي "عنزة"،

_ 1 رسالة الغفران "181". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 127"، "الطبعة الثانية". 3 الخزانة "1/ 33"، "بولاق". 4 تاج العروس "5/ 48"، "عرض"، الحيوان "1/ 229".

فقالت له امرأة يوما: قم فافصد لناهذه الناقة! وكان الفصد عندهم أن يقطع عرقا من عروق الناقة، ثم يجمع الدم فيشوى. فقام حاتم إلى الناقة فنحرها فلطمته المرأة. فقال حاتم: "لو غير ذات سوار لطمتني" فذهب قوله مثلا1. وروي أيضا أنه قال: "هذا فصدي"، يريد أنه لا يصنع إلا ما تصنع الكرام. وقد نسب هذا المثل لكعب بن مامة، وذلك أنه كان أسيرا في عنزة فأمرته أم منزله أن يفصد لها ناقة، فنحرها، فلامته على نحره إياها، فقال: هكذا فصدي2. ويلاحظ أن "الجاحظ" وغيره يقدمون "كعب بن مامة" على حاتم الطائي في الجود، "لأن كعبا بذل نفسه في أعطية الكرم وبذل المجهود فساوى حاتما من هذا الوجه، وباينه ببذل المهجة"3. كما نلاحظ أن بعض أخبار الجود المنسوبة إلى "حاتم" تنسب إلى "كعب بن مامة" كالذي رأيته في تفسير المثل: "هكذافصدي". ولما بلغ حاتم قول المتلمس: قليل المال يصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وحفظ المال خير من فناء ... وعسف في البلاد بغير زاد قال: قطع الله لسانه، حمل الناس على البخل فهلا قال: فلا الجود يفني المال قبل ذهابه ... ولا البخل في مال الشحيح يزيد فلا تلتمس مالا بعيش مقتر ... لكل غد رزق يعود جديد ألم تر أن الرزق غاد ورائح ... وأن الذي أعطاك سوف يعيد4 وذكر أن "زيد الخيل" عير حاتما الطائي في خروجه من طيء ومن حرب

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 209"، الخزانة "1/ 494" الأغاني "16/ 96"، الشعر والشعراء "1/ 164 وما بعدها"، الأمالي للقالي "3/ 154 وما بعدها"، بروكلمان "1/ 111 وما بعدها". 2 الميداني، أمثال "2/ 317"، الحيوان "4/ 274"، الأغاني "16/ 102"، الحيوان "5/ 33"، البخلاء "158، 382 وما بعدها"، ثمار القلوب "98 وما بعدها". 3 الحيوان "2/ 107 وما بعدها". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 209"، وتجد بعض الاختلاف في الروايات الأخرى، المحاسن والأضداد "41".

الفساد التي وقعت بين جديلة والغوث إلى "بني بدر" حيث يقول: وفر من الحرب العوان ولم يكن ... بها حاتم طبا ولا متطببا وريب حصنا بعد أن كان آبيا ... أبوة حصن فاستقال وأعتبا أقم في بني بدر ولا ما يهمنا ... إذا ما تقضت حربنا أن تطربا1 وقد أسره "ثوب بن شحمة" العنبري، وكان شريفا في قومه، وكان يقال له "مجير الطير"، لأنه أجار الطير في أرضه، فكان لا يثار ولا يصاد بأرضه2. فقال حاتم: إذا ما بخيل الناس هرت كلابه ... وشق على الضيف الغريب عفورها فإني جبان الكلب بيتي موطأ ... جواد إذا ما النفس شح ضميرها ولكن كلابي قد أقرت وعُوّدت ... ليل على من يعتريها هريرها3 وظل "حاتم" أسيرا عنده زمانا، وقد عير "ثوب بن شحمة" بأنه وقومه أكلوا لحم المرأة، فقال شاعر: عجلتم ما صادكم علاج ... من العنوق ومن الدجاج حتى أكلتم طفلة كالعاج4 وقد وصفت ابنته أباها للرسول، وكان قد سألها عن أبيها على هذه الصفة: "كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط". ووصفه "ابن الأعرابي" بقوله: "كان جوادا يشبه شعره جوده، ويصدق قوله فعله ... إذا غنم أنهب وإذا سئل وهب ... وإذا أسر أطلق"5. ويجب أن تكون وفاة "حاتم" غير بعيدة عن ظهور الإسلام.

_ 1 الحيوان "1/ 329". 2 الحيوان "1/ 269". 3 الحيوان "1/ 383". 4 البخلاء "235، 374". 5 الأغاني "16/ 97 وما بعدها"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "79"، الخزانة "1/ 494 وما بعدها"، البيان والتبيين "2/ 28".

ولأهل الأخبار قصص عن جود حاتم وكرمه، ويبدأون به غلاما، يرعى إبل والده، فمر به "عبيد الأبرص"، و "بشر بن أبي خازم"، و "النابغة الذبياني"، وهم يريدون "النعمان" فنحر لهم ثلاثة من الإبل، وهو لا يعرفهم، ثم سألهم عن أسمائهم، فتسموا له، ففرق فيهم الإبل كلها، وبلغ أباه ما فعل، فاعتزله. ثم يروون أنه ذبح فرسه، لما جاءته جارة له، فشوى لحمها لها ولأولادها الجياع، ثم استدعى بقية جيرانه فأطعمهم، وبقي هو وأهله جياعا، ولم يكن لديه آنذاك غير فرسه هذه. ثم يروون قصصا آخر مشابها، يمتد إلى ما بعد وفاته، حيث يذكرون قصة رجل اسمه "أبو خيبري"، ذكروا أنه مر بقبر "حاتم"، وأخذ يناديه: "يا أبا عدي اقر أضيافك! فلما كان في السحر وثب أبو خيبري يصيح: وا رحلتاه! فقال له أصحابه: ما شأنك؟ فقال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليه، فنظروا إلى راحلته فإذا هي لا تنبعث، فقالوا: قد والله قراك، فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها، ثم أردفوه وانطلقوا، فبينا هم كذلك في مسيرهم، طلع عليهم "عدي بن حاتم" ومعه جمل أسود قد قرنه ببعيره، فقال: إن حاتما جاءني في المنام فذكر لي شتمك إياه، وإنه قراك وأصحابك راحلتك، وقد قال في ذلك أبياتا، ورددها عليّ حتى حفظتها: أبا خييبريّ وأنت امرؤ ... حسود العشيرة لوامها فماذا أردت إلى رمة ... بداوية صخب هامها تُبغّي أذاها وإعسارها ... وحولك عوف وأنعامها وأمرني بدفع جمل مكانها إليك، فخذه، فأخذه1. ولأهل الأخبار قصة في كيفية تزوج "حاتم" "ماوية بنت عفزر"، وكيف وجد عندها "النابغة"، ورجلا من النبيت، يريدان الزواج منها، لما وصل إليها، وكيف امتحنتهم بقولها لهم: انقلبوا إلى رحالكم، وليقل كل رجل منكم شعرا يذكر فيه فعاله ومنصبه فإني متزوجة أكرمكم وأشعركم، ثم تذكر القصة تفصيل ما وقع بأسلوب منمق مقرونا بشعر وقرار "ماوية" بتفضيل حاتم

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 170"، الخزانة "1/ 494 وما بعدها"، "بولاق"، المحاسن والأضداد "41 وما بعدها".

عليهما1. وتذكر قصة أخرى أن "ماوية" كانت ابنة من بنات ملوك اليمن، وكانت ذات جمال وكمال ومال، فآلت ألا تزوج نفسها إلا من كرام الناس، فقدم عليها حاتم، وزيد الخيل، وأوس بن حارثة لأم، فتقدم كل واحد يخطبها، فقالت ليصف كل واحد منكم نفسه في شعره، فلما أنشدوا فضلت "حاتم" الطائي عليهما. فزوجت نفسها منه. وذكر أن "معاوية" كان يهوى حديث "ماوية"2. وهم يذكرون أن جود "حاتم" جاء إليه من أمه "عنبة"، التي كانت سخية إلى حد الإسراف، حتى حبسها إخوتها سنة في بيت لعلها تكف عما كانت عليه، إذا ذاقت طعم البؤس وعرفت فضل الغنى، ثم أخرجوها ودفعوا إليها صرمة من مالها، فأتتها امرأة فسألتها، فقالت لها: دونك الصرمة، فقد والله مسني الجوع ما آليت معه ألا أمنع الدهر سائلا شيئا! ثم أنشأت تقول: لعمري لقدما عضني الجوع عضة ... فآليت ألا أمنع الدهر جائعا فقولا لهذا اللائمي الآن أعفني ... وإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا ولا ما ترون اليوم إلا طبيعة ... فكيف بتركي يا ابن أم الطبائعا3 ونسب لحاتم قوله: وإني لأستحي حياء يسرني ... إذا اللؤم من بعض الرجال تطلعا إذا كان أصحاب الإناء ثلاثة ... حييا ومسحيا وكلبا مجشعا فإني لأستحيي أكيلي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا أكف يدي من أن تمس أكفهم ... إذا نحن أهوينا وحاجتنا معا وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا4

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 167 وما بعدها"، الخزانة "2/ 164 وما بعدها"، "بولاق". 2 الخزانة "2/ 164 وما بعدها"، "بولاق". 3 الشعر والشعراء "1/ 165 وما بعدها". 4 البيان "3/ 307 وما بعدها".

إلى أن يقول: ولن يكسب الصعلوك حمدا ولا غنى ... إذا هو لم يركب من الأمر معظما لحا الله صعلوكا مناه وهمه ... من العيش أن يلقى لبوسا ومغنما ينام الضحى حتى إذا نومه استوى ... تنهب مثلوج الفؤاد مورما مقيما مع المثرين ليس ببارح ... إذا نال جدوى من طعام ومجثما ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ... ولا شبعة إن نالها عد مغنما يرى الخمص تعذيبا ولم يلق شبعة ... يبت قلبه من قلة الهم مبهما1 وهي أبيات أرى أنها من هذا الشعر الذي يشك في أكثره، مثل الشعر المَقُول على لسان عروة والصعاليك، يظهر أن الظروف الاجتماعية جعلت الأدباء ينظمون على لسانهم، يتشكون فيها من ظلم الأغنياء، لما كانوا يرونه من قسوة أصحاب المال على المعدمين والبائسين. ويشك في كثير من شعر حاتم. وقد صار حاتم بالقصص الوارد عنه من الأبطال المعروفين عند غير العرب أيضا، فنجد له ذكرا في الفارسية وفي التركية، وألف فيه في اللغات الأوروبية، وطبع ديوانه جملة طبعات2. وكان يشبه شعر النمر بن تولب بشعر حاتم الطائي، وكانا يشتركان في الجود وإتلاف الأموال وأريحية الطبع والتغني بذلك في الشعر3. وكان "حاتم" على النصرانية على ما يظن، وقد كان ابنه "عدي" عليها4. و"جابر بن حني بن حارثة بن عمرو بن بكر" من شعراء تغلب. وله قصيدة مطلعها: ألا يا لقومي للجديد المصرم ... وللحلم بعد الزلة المتوهم وللمرء يعتاد الصبابة بعدما ... أتى دونها ما فرط حول مجرم

_ 1 الخزانة "1/ 492". 2 بروكلمان "1/ 111 وما بعدها". 3 البخلاء "384". 4 الإصابة "2/ 460"، "رقم 5477".

ذكر أن سبب قوله لها، أن "المنذر بن ماء السماء" كان يبعث "عمرو بن مرثد بن سعيد بن مالك"، و "قيس بن زهير" الجشمي، على إتاوة ربيعة، وكانت ربيعة تحسدهما، فجاء "عمرو" يوما، فقال جلساء الملك حسدا له: إنه يمشي كأنه لا يرى أحدا أفضل منه! فجاء فحيا الملك بتحية، فقال جابر هذه القصيدة1. وقد أدخله "بروكلمان" في عداد الشعراء النصارى2. ويذكر أنه هو "جابر" المذكور في البيت المنسوب لامرئ القيس، وهو: فإما تريني في رحالة جابر ... على حرج كالقر تخفق أكفاني3 وكان امرؤ القيس آنذاك مريضا، فكان "جابر" و "عمرو بن قميئة"، يحملانه على الرحالة، وهي خشبات، وهي الحرج.

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 562 وما بعدها"، اللآلي "842"، المفضليات "208". 2 بروكلمان "1/ 73". 3 من قصيدة: قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان ... ورسم عفت آياته منذ أزمان ديوان امرئ القيس "89 وما بعدها"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 274"، الشعر والشعراء "1/ 53".

الفصل السابع والستون بعد المائة: آراء الشعراء الجاهليين

الفصل السابع والستون بعد المائة: آراء الشعراء الجاهليين والشعر الجاهلي مادة مهمة تعيننا في الوقوف على آراء الجاهليين، على الرغم من كون أكثره قد ورد في أمور لا صلة مباشرة لها بالرأي، أعني بالتفكير في خلق الكون وفي الإنسان نفسه، لم جاء ولم يموت، وما هي الغاية من ظهوره على هذه الأرض، وعن الخلق والخالق، من إثبات أو عدم، وعن النظم وأصول الحكم والمجتمع والمعرفة والثقافة وما شاكل ذلك من أمور لها صلة بالتأمل والتفلسف. ومع ذلك فإن في هذا الشعر المذكور، ما يكفي لاستنباط شيء منه عن الرأي عند الجاهليين. لقد حمل خلو الشعر الجاهلي من العاطفة الدينية، بعض المستشرقين على الحكم بأن الجاهليين لم يكونوا يملكون حسًّا دينيا، وأن دينهم سنتهم، وسنتهم ما ألفوه عن آبائهم وأجدادهم وأعراف قبيلتهم، وهي أعراف ورثوها وحافظوا عليها، محافظتهم على حياتهم، وقاوموا كل من كان يخرج عليها أو يتطاول عليها. ونجد الشعراء يمجدونها ويذكرونها على حين لا نشعر بوجود حس ديني في شعرهم، اللهم إلا في شعر عدد قليل من الشعراء1. والشعر الجاهلي خلو من الشعر الديني الذي يجب أن ينظم في المناسبات الدينية، مثل الحج. ولما كان الحج من المناسبات المؤثرة المثيرة، التي تجمع الناس،

_ 1 Goldziher, History of Classical Arabic Literature, p. 25

فتثير في الشاعر شعورا بروعة المناسبة وبروعة الاجتماع، فلا بد وأن ينظم الشعراء شعرا فيه، لإنشاده على المتجمعين حول الصنم، غير أننا لا نملك أي شعر قيل فيه ولا في المناسبات الدينية المماثلة التي تدفع الإنسان إلى إظهار شعوره فيها. وهو أمر يلفت إليه النظر حقا، ويجعلنا نفكر في الأسباب التي أدت إلى عدم ظهور الروح الدينية في هذاالشعر، هل هي طبيعة العربي في عدم اهتمامه بأمور الدين أم هي بسبب كره الإسلام رواية وحفظ ذلك الشعر الوثني! لقد نسب بعض المستشرقين خلو الشعر الجاهلي من الوثنية، إلى ترك المسلمين تعمدا رواية ذلك الشعر، بسبب دخولهم في الإسلام واجتثاث دين الله لمعالم الشرك فلم يجد المسلم أن من الهين عليه، حفظ شعر فيه تنويه بما أبطله وحرمه كتاب الله، فرموا منه ما كان ثقيل الوثنية، وهذبوا منه ما كان خفيف الوزن، بأن رفعوا أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله إن ناسب الاسم المعنى، أو شذبوا فيه وأضافوا شيئا عليه لإزالة معالم الوثنية منه. لأن من الصعب تصور إعراض الشاعر الجاهلي عن ذكر أصنامه في شعره، بينما هو يتوسل ويتقرب إليها، وينذر لها. فالوثني مهما كان رقيق الدين، بعيدا عن التفكير فيه، فإنه لا بد وأن يلجأ إليه ساعة الشدة وأيام المحن، حيث يبحث عمن يساعده للخروج من محنته، شأنه في ذلك شأن أي إنسان آخر، حين تتنزل به النوازل، فيلجأ حينئذ إلى إلهه أو آلهته وأصنامه وإلى القوى الطبيعية يستمد منها المساعدة والعون1. وأنا لا أستبعد احتمال موت هذا النوع من الشعر الوثني بسبب الإسلام، فليس من المعقول إبقاء الإسلام له، وفيه ما فيه من أمر الأصنام والوثنية المناهضة لدين الله. وعندي أن الجاهلي، مهما قيل عنه من إعراضه عن الدين ومن عدم احتفاله به، ومن بعده عنه، إلا أنه كان مع ذلك شديد التمسك به في الأمور التي تمس حياته، مثل التوسل إلى الآلهة بأن تبارك في إبله، وأن تمنحه الغيث، وأن تشفيه من مرضه، إلى غير ذلك من أمور، ذات صلة بالمصالح الشخصية للإنسان. ودليل ذلك، هو أن معظم ما نجده في نصوص المسند من كتابات، خلدت أسماء الأصنام، إنما دونت فيها الأسماء لمثل هذه الأمور فإذا كان الأمر كذلك فنحن لا نستطيع استثناء الشعر الجاهلي من ذكر الأصنام في أمثال هذه المناسبات

_ 1 Goldziher, History of Classical Arabic Poerty, p. 25

على الأقل، فالشاعر مثل أي إنسان آخر، لا بد وأن يشعر في يوم ما بعجزه وبحاجته إلى مخاطبة أربابه وأن يتوسل إليها لتنفعه أو لتمن عليه بالصحة والعافية وبالمال، يتوسل إليها شعرا، فيمدحها ويشيد بذكرها، ويسترضيها، اقتداء بفعله مع الملوك وسادات القبائل، حيث يكيل المدح لهم شعرا لأنهم أحسنوا إليه. وقد ورد اسم "الله" في الشعر وفي النثر الجاهليين، على نحو ما ذكرت في الجزء السادس من هذا الكتاب. لقد ذكرت هناك أن غالبية المستشرقين شكت في صحة ورود اسم الله في هذا الشعر، ورأت أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك أنهم حذفوا منه أسماء الأصنام، وأحلوا محلها اسم الله. فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم الله وهكذا1. وذلك لاعتقادهم أن الوثنيين لم يكونوا يؤمنون بالله، فلا يعقل ورود اسمه في شعرهم. وهو رأي لا أقرهم عليه، لأن الجاهليين كانوا يؤمنون بالله، ولم يكونوا ينكرون وجوده أبدا، بدليل ما نجده في القرآن من تأكيد بأنهم كانوا يؤمنون به، وأنهم كانوا إذا سألهم سائل من خلق الكون ليقولون الله. وقد ذكرت في حينه كل الآيات الواردة في القرآن الكريم عن هذا الموضوع2. وبينت أن أهل مكة وغيرهم من العرب الشماليين، كانوا يؤمنون بإله واحد هو الله، ولم يكن بينهم وبين الإسلام خلاف فيه، وخلافهم معه هو في تقربهم إلى الأصنام والأوثان، لتشفع لهم، بزعمهم، إلى الله زلفى. مع أنها أجسام جامدة وأحجار لا حياة فيها، فمن هنا حمل الإسلام عليها، وأعتبرها شركا بالله، لأنهم بتقربهم إليها يكونون قد أشركوها مع الله في ألوهيته، وهذا هو الكفر والضلال في نظر الإسلام، ولذلك أمر بالابتعاد عنها وبنبذها وبنبذ كل ما يتصل بها من عبادة، كما أمر بطمس الصور، ومحوها لأنها من دلائل هذه الوثنية ومن معالمها. وقريش نفسها لم تنكر على الرسول تعبده لله، ولم تمنعه من الصلاة في بيت الله، ومن ذكره وحمده له، لأنها لا تختلف معه في عبادته، وإنما اختلفت معه، فيما هو دون الله من أصنام وأوثان، وذلك حين عابها وسفَّه أحلامهم بتقربهم إليها وهي جامدة مخلوقة ومصنوعة، عندئذ هاجت وماجت واشتكت إلى أعمام رسول

_ 1 "ص 102 وما بعدها". 2 "ص 103 وما بعدها".

الله وإلى ذوي رحمه، ومن هنا كان عناد قريش وكفرها وعدواتها للرسول. كما نص على ذلك صراحة في القرآن وفي كتب السير1. وأخذت تؤذيه وتؤذي المسلمين كلما ازداد هجوم الإسلام على الأصنام والأوثان. ويشبه هذا النزاع ما وقع في النصرانية من هجوم على تقديس التماثيل والصور التي تمثل "الثالوث"، و "المسيح"، حيث اعتبرها البعض شركا، مما سبب وقوع شقاق في الكنيسة. فقد اعتبر بعض رجال الدين الـ "أيقونات" شركا، ولذلك حاربوا التماثيل والتصاوير. وقد كانت هذه المشكلة قد بدأت في الكنيسة نتيجة الصراع الذي وقع بين رجال الدين حول طبيعة المسيح. ولو أخذنا بصدق ما نسب إلى الجاهليين من شعر ورد فيه اسم الله، وجب إدخال عدد من شعراء الجاهلية في المتألهين، القائلين بوجود إله، هو "الله". ففي شعر ينسب إلى "عروة بن الورد"، نجد اسم الله مذكورا فيه، إذ يقول: فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا2 ويجب عد "امرئ القيس" من المتألهين أيضا، فقد زعموا أن العرب كانت لا تعد الشاعر فحلا، حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره، فلما قال: والله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرجل عدوه فحلا3. وهكذا أدخلوه بهذه الحكمة في جملة الفحول. وقد ورد اسم الله في معلقته، في البيت: فقالت يمين الله مالك حيلة ... وما إن أرى عنك الغواية تنجلي4 ونجده يحلف بالله، فيقول: "يمين الله"، و "حلفت لها بالله"، وتقول

_ 1 ابن هشام، سيرة "1/ 170"، "حاشية على الروض". 2 ديوان عروة "191". 3 الشنقيطي، شرح المعلقات "61". 4 الشنقيطي، شرح المعلقات "82".

له صاحبته: "سباك الله"1، مما يدل على أنه كان مؤمنا معتقدا به. ونجده يذكر الله في أشعاره الأخرى2. وزعم أهل الأخبار أن "الأفوه بن مالك" الأودي، كان من المتألهين كذلك، وأنه لما شعر بدنو أجله، أوصى قومه: مذحج، بتقوى الله، وصلة الأرحام، وحسن التعزي عن الدنيا بالصبر3. وورد في معلقة "عبيد بن الأبرص" قوله: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب4 ويجب إدخال زهير في جملة المتألهين أيضا، فقد ذكر أنه كان يتأله ويتعفف في شعره ويؤمن بالبعث، ونسبوا له قوله: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم5 وهو يقسم في معلقته بالبيت، فيقول: فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم6 فهو مؤمن بالله العلام بما في نفوس الناس، فلا تخفى عليه خافية، ومهما حاول الإنسان كتمان سره في قرارة نفسه، فإن الله لايخفى عليه سره، ولا يفوته أبدا7. وتنسب لزهير قصيدة مطلعها: ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى ... من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم ... وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 341". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 375". 3 المزهر "1/ 164". 4 رسالة الغفران "186". 5 الشنقيطي، شرح المعلقات "28 وما بعدها، 116". 6 الشنقيطي، شرح المعلقات "114". 7 الخزانة "1/ 436 وما بعدها".

وهي قصيدة ذكر فيها أنه عاش أكثر من مائة سنة، ثم ذكر الله، وأنه حق، وأنه كان مؤمنا به، وأن أيامنا معدودات، ولا يدوم ويبقى إلا الله الذي أهلك تبعا ولقمان بن عاد وعاديا، وأهلك ذا القرنين، وفرعون، ثم ذكر النعمان، وكيف حكم، ثم جاء يوم غير كل شيء. وقد قال الأصمعي، إنها ليست لزهير، ويقال هي لصرمة الأنصاري، ولا تشبه كلام زهير1. وربما كانت من المصنوعات، صنعها من صنع من أمثالها من شعر الوعظ والإرشاد، فنسبه إلى الجاهليين. ونجد "أبا طالب" يقسم بالله في شعره، فيقول في قصيدة له، يخاطب بهاالرسول، إنك جئت بدين سمح، هو من خير أديان البرية دينا، ولولا الملامة، أو حذار سبة، لوجدتني سمحا بذاك مبينا2. وروي أن "لبيد بن ربيعة" الشاعر المخضرم، كان من المتألهين في الجاهلية وأنه نظم قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل قبل الإسلام، أو عند ظهوره. وأن الرسول قال: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل" 3. وروي أن له أبياتا تشير إلى التوحيد والصلاح، والخير، هي: إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل وقوله: أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل وقوله: من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل4

_ 1 الخزانة "3/ 588 وما بعدها"، "بولاق". لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا السيوطي، شرح شواهد "2/ 686 وما بعدها". 3 الشنقيطي، شرح المعلقات "35، 38". 4 رسالة الغفران "267".

و "النابغة" الذبياني من المتألهين كذلك، فقد نسبوا له شعرا، ذكر أنه اعترف فيه بوجود الله، إذ قال: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب1 ونجده في معلقته يقول: إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند2 ونراه يذكر مكه في شعره: والمؤمن العائذات الطير تمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسعد3 وورد اسم الله في قوله: أبى الله إلا عدله ووفاءه ... فلا النكر معروف ولا العرف ضائع أي ما يريد الله إلا عدل النعمان بن المنذر، وإلا وفاءه، فلا يدعه أن يجور ولا أن يغدر، فلا النكر يعرفه النعمان، ولا الجميل يضيع عنده4. ومعنى هذا أن النابغة كان يرى أن الله هو الذي يقدر الأمور للناس، وأن الإنسان مسير بأمر الله. و"الحارث بن حلزة" اليشكرى من هذا الفريق كذلك، لقوله: فهداهم بالأسودين وأمر الله ... بلغ تشقى به الأشقياء5 ولقوله: وفعلنا بهم كما علم الله ... وما إن للحائنين دماء6

_ 1 الشنقيطي، شرح المعلقات "64". 2 الشنقيطي، شرح المعلقات "208". 3 كذلك "ص213". 4 الخزانة "2/ 486"، "هارون". 5 الشنقيطي، شرح المعلقات "177". 6 الشنقيطي، شرح المعلقات "179".

وإذا صدقنا بمعلقة "عبيد بن الأبرص"، وأخذنا بصدق الأبيات: من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب بالله يدرك كل خير ... والقول في بعضه تلغيب والله ليس له شريك ... علام ما أخفت القلوب1 بل يجب عده من الأحناف الموحدين، الذين آمنوا بإله واحد لا شريك له. وهو في نظري شعر إسلامي، ويبعد أن يكون من نظم ومن نفس شاعر جاهلي. وقد ذهب "ابن الأعرابي"، إلى أن البيت الأول هو لشاعر آخر، هو: يزيد بن ضبة الثقفي2. و"عمرو بن الإطنابة" سيد الخزرج في أيامه من هذا الرعيل الذي ذكر اسم الله في شعره، إذ ذكره بقوله: إني من القوم الذين إذا انتدوا ... بدأوا بحق الله ثم النائل وانتدوا: جلسوا في النادي. فهو يبدأ بذكر الله، وبحقه، إذا ما جلس في النادي3. وورد اسم "الله" في شعر لخداش بن زهير: تقوه أيها الفتيان إني ... رأيت الله قد غلب الجدودا4 ونجد ذكر الله في شعر "صريم بن معشر بن ذهل" التغلبي، وكان قد لقي كاهنا، فسأله عن موته، فقال له: إنك تموت في موضع يقال له "الإهة"، فمكث زمانا ثم سار إلى الشام في تجارة ثم رجع في ركب من "بني تغلب"، فضلوا الطريق، ثم أتوا موضعا اسمه "الإهة" قارة بالسماوة، فلدغته حية، ثم تذكر قول الكاهن، فقال:

_ 1 شرح القصائد العشر، للتبريزي "541 وما بعدها"، البيت"18 وما بعده" من المعلقة، الحيوان "3/ 89"، الشنقيطي، شرح المعلقات "221"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 266". 2 الشنقيطي "221"، الخطيب التبريزي، شرح القصائد العشر "541". 3 المرزباني، معجم "8"، "فرج". 4 العمدة "2/ 271".

لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا كفى حزنا أن يرحل الحي غدوة ... وأصبح في أعلى الإلاهة ثاويا1 وهو شعر إن صح أنه له، دل على أن صاحبه كان يؤمن بأن لكل إنسان أجل، وأنه إذا جاء الأجل، فلا مرد له، وأنه لا مرد لقضاء الله وقدره. وفي شعر "قيس بن الحدادية"، إيمان بالله، وأن الله هو الذي يقدر الأمور، إذ يقول: فقلت لها والله يدري مسافر ... إذا أضمرته الأرض ما الله صانع ويروى: فقلت لها والله ما من مسافر ... يحيط بعلم الله ما الله صانع2 وفي شعر "النمر بن تولب"، وهو من المخضرمين قوله: سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر والعرب تقول: "سبحان الله وريحانة، أي: واسترزاقه"3. ونجد في شعر الأعشى أنه كان يؤمن بالرحمن، إذ يقول: وما جعل الرحمن بيتك في العلى ... بأجياد غربي الصفا والمحرم4 ويقول: وإن تقى الرحمن لا شيء مثله ... فصبرا إذا تلقى السحاق الغراثيا ثم يبين بعده إيمانه بإله واحد لا شريك له، إذ يقول: وربك لا تشرك به إن شركه ... يحط من الخيرات تلك البواقيا

_ 1 الخزانة "4/ 460"، "بولاق". 2 المرزباني، معجم "202". 3 الجمان في تشبيهات القرآن "383". 4 القصيدة رقم 15، البيت 36، ديوانه "123".

بل الله فاعبد لا شريك لوجهه ... يكن لك فيما تكدح اليوم راعيا وإياك والميتات لا تقربنها ... كفى بكلام الله عن ذاك ناهيا1 ونجده في القصيدة رقم "15" التي فيها البيت الأول، يحلف، برب الراقصات إلى منى، ثم يذكر "ماء زمزم"، أي مكة، بينما نجده في القصيدة الثانية مؤمن بالرحمن، مؤله له، موحد، لا يشرك بربه أحدا. وهو شعر روي عن "أبي عمرو الشيباني"، ركيك ضعيف، موضوع عليه2. وروي أن "الشنفرى" كان ممن آمن بالرحمن، وذكره في شعره، إذ قال: لقد لطمت تلك الفتاة هجينها ... ألا بتر الرحمن ربي يمينها ولكنه بيت يشك في صحته، ولم ينقله الثقات3. وقد سبق لي أن تحدثت في الجزء السادس من هذا الكتاب عن عبادة الرحمن، وقلت إن قريشا قالت للرسول لما نزل الوحي بـ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} : "أتدرون ما الرحمن الذي يذكره محمد، هو كاهن باليمامة"4، وأنها قالت: "دق فوك" إنما تذكر مسيلمة رحمن اليمامة"، وكان قد تسمى بالرحمن قبل مولد عبد الله والد الرسول. وقد زعم أهل الأخبار أن الأعشى كان قدريا، وأنه أخذ رأيه هذا من أهل الحيرة. واستشهدوا على رأيه بالقدر بقوله: استأثر الله بالوفاء وبالعدل ... وولى الملامة الرجلا6

_ 1 القصيدة رقم 66، البيت رقم 8 وما بعده، ديوانه "ص329". 2 ديوانه "328". 3 الاشتقاق "37". 4 الاشتقاق "37". 5 الحيوان "4/ 89"، تفسير الطبري "1/ 57"، مغازي، الواقدي "1/ 82"، ابن كثير، البداية "6/ 326"، تاج العروس "8/ 307"، "رحم"، الروض الأنف "2/ 340"، ابن سعد، طبقات "جـ1، ق1، ص109". 6 راجع ديوان الأعشى "155"، أمالي المرتضى "1/ 21"، "دار الكتاب العربي"، شرح ديوان الأعشى "233"، "القصيدة رقم 35"، وورد "وبالحمد" بدلا من "وبالعدل"، الأغاني "8/ 76".

وأبي الشريف "المرتضى" إلا أن يجعله على مذاهب أهل العدل، أي على مثل ما ذهب إليه "المعتزلة" والشيعة الإمامية الاثنى عشرية في الإسلام. وعلل بعض أهل الأخبار سبب تحول الأعشى إلى القدرية، أنه كان يأتي أهل الحيرة في الجاهلية، وكانوا نصارى، يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك2. ورد في كتاب "الأغاني": "قال لي يحيى بن متى راوية الأعشى وكان نصرانيا عباديا، وكان معمرا، قال: كان الأعشى قدريا، وكان لبيد مثبتا. قال لبيد: من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل وقال الأعشى: استأثر الله بالوفاء وبالعدل ... وولى الملامة الرجلا قلت: فمن أين أخذ الأعشى مذهبه؟ قال: من قبل العباديين نصارى الحيرة، وكان يأتيهم يشتري منهم الخمر، فلقنوه ذلك"3. والبيت المذكور هو من قصيدة مدح فيها "سلامة ذا فائش" مطلعها: إن محلا وإن مرتحلا ... وإن في السفر ما مضى مهلا استأثر الله بالوفاء وبالـ ... ـعدل وولى الملامة الرجلا4 شك في صحتها "ابن قتيبة"، فقال: "وهذا الشعر منحول"5، والصنعة في الواقع بينة على القصيدة، وإذا كان الأمر كذلك، فيجب أن يكون القدري صاحبها، ذلك الرجل الذي نحلها الأعشى، لا الشاعر الأعشى. ويذكر أهل الأخبار أن الأعشى كان ممن أقر بالملكين الكاتبين في شعره، إذ يقول:

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 21"، "دار الكتاب العربي". 2 الأغاني "8/ 76". 3 الأغاني "8/ 79". 4 "وبالحمد"، ديوان الأعشى، القصيدة رقم "35"، "ص223"، ابن قتيبة، الشعر "1/ 15". 5 ابن قتيبة، الشعر "1/ 15".

فلا تحسبني كافرا لك نعمة ... على شاهدي يا شاهد الله فاشهد وشاهدي، يعني لساني، ويا شاهد الله، يريد الملك الموكل به. وكان هذا من إيمان العرب بالملكين. وقد نسبواهذه العقيدة إلى بقية من دين إسماعيل1، وزعموا أن العرب ممن أقام على دين إسماعيل، إذا حلفت تقول: وحق الملكين، فكان الأعشى ممن أقام على دين إسماعيل والقول بالأنبياء. "والأعشى ممن اعتزل وقال بالعدل في الجاهلية"2. ونسب إلى "لبيد" العكس، أي القول بالجبر، واستدل من نسبه إلى الجبر، بقوله: إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل3 وقد قال بعض العلماء: إن هذه الأبيات لا تشير حتما إلى مذهب لبيد في الجبر، وأنها لا تكون سببا في نسبة الجبر إليه، وقد تأولها، وأوجد لها مخارج في إبعاد القول بالجبر عنه. ثم قال: "اللهم إلا أن يكون مذهب لبيد في الإجبار معروفا بغير هذه الأبيات، فلا يتأول له هذا التأويل، بل يحمل على مراده على موافقة المعروف من مذهبه"4. وينسب إلى "زهير بن أبي سلمى" قوله: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم5

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 186"، الشنقيطي، شرح المعلقات "61". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 241". 3 أمالي المرتضى "1/ 21"، "دار الكتاب العربي"، ديوان لبيد "174"، "رقم 26"، وورد: من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل الأغاني "8/ 76"، ديوان لبيد "13"، "رقم 39"، رسالة الغفران "267". 4 الخزانة "2/ 30"، "بولاق"، الأمالي للمرتضي "1/ 21". 5 ديوان زهير "18".

وذكر أنه كان يتأله ويتعفف في شعره ويدل شعره المذكور على إيمانه بالبعث وبالحساب وبالثواب وبالعقاب1. ومن رأي الجاهليين أن الموت مكتوب على جبين الإنسان، ولا بد له من أن يواجهه في يوم محتوم مكتوب عليه. ومن لم يمت عبطة، مات هرما. وفي ذلك يقول أمية: من لم يمت عبطة يمت هرما ... وللموت كأس والمرء ذائقها2 ويقول الأعشى: ولو كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم3 ونجد رأي الجاهليين في الروح واضحا في أشعارهم وفي أقوالهم عن الموت، فالموت -كماسبق أن تحدثت عنه- في نظرهم مفارقة الروح للجسد، فإذا فارقته صارت "هامة" ترفرف فوق قبر صاحبها. هذا "عروة بن الورد"، يذكر الموت، ثم يذكر ما سيقوله الناس عنه، بقوله: أحاديث تبقى والفتى غير خالد ... إذا هو أمسى هامة فوق صير4 وقد أشير إلى "العتائر" التي تقدم في "رجب"، في شعر "طرفة": عنتا باطلا وظلما كما تعـ ... ـتر عن حجرة الربيض الظباء5 وكان الرجل من العرب ينذر نذراعلى شائه إذا بلغت مائة أن يذبح عن كل عشرة منها شاة في رجب، وكانت تسمى تلك الذبائح الرجبية، وهي العتائر.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 78"، الخزانة "1/ 376"، "بولاق". 2 أمالي المرتضى "1/ 533". 3 رسالة الغفران "571". 4 ديوانه "64"، "قال أبو عمرو: بالهزر ألف صير، يعني قبورا من قبور أهل الجاهلية"، اللسان "4/ 477"، "صير"، تاج العروس "3/ 346"، "صير". 5 مجالس العلماء "18 وما بعدها"، شرح القصائد العشر، للتبريزي "463 وما بعدها".

وكان الرجل منهم ربما بخل بشائه فيصيد ظباء فيذبحهاعن غنمه في رجب ليوفي نذره1. ومن الشعراء من غلبت عليه نزعة التبرم من هذه الدنيا، وذكر الموت والاتعاظ به، وعلى رأس هؤلاء "عدي بن زيد" العبادي، النصراني، وهو خير من يمثل هذه النزعة التصوفية، التي ترى أن اللذة لا تدوم، وأن السعادة مؤقتة زائلة، وأن على الإنسان أن يتعظ بمن عاش قبله من الملوك العظام، والأمم القوية، وممن نزع هذا المنزع وإن كان دون "عدي" بكثير "الأسود ين يعفر"، في قوله: ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم وبعد إياد أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد إلى أن قال: أين الذين بنوا فطال بناؤهم ... وتمتعوا بالأهل والأولاد فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاد وآخرها: فإذا وذلك لا نفاد لذكره ... والدهر يعقب صالحا بفساد2 غير أن هذه النزعة، لم تكن ناتجة عن رأي وعن فلسفة ودراسة تأمل لهذه الحياة، وإنما هي نزعة نجدها عند من أصيب بنكبة وعند من حلت به مصيبة، وعند المسنين الذين غلب العمر عليهم، فجعلهم حطاما وكومة عظام، لا يستطيعون الوقوف على أرجلهم، فهم متعبون لا يجدون من يصغي إليهم أو من يعطف عليهم، أو من يساعدهم في الخروج من المأزق التي وقعوا فيها، فتبرموا لذلك من الحياة، وأخذوا يذمونها، وإنما هم يذمونها لأنهم صاروا في حال لا يتمكنون

_ 1 مجالس العلماء "20". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 138"، "2/ 552 وما بعدها" المفضليات "216" الأغاني "11/ 129"، ابن سلام "119"، الشعر والشعراء "1/ 176 وما بعدها" الجمان في تشبيهات القرآن "308".

فيها من التلذذ بها ومن التمتع بنعم الحياة التي هي هي لا تتغير وإنما الذي يتغير هو الشخص، الذي كبر وعجز فصار يذم الدنيا، لأنه لم يعد قادراعلى فعل ما كان يفعله أيام كان شابا قويا يحب الدنيا، فتقبل الدنيا عليه. ونجد في شعر ينسب للأعشى إشارة إلى التطير، إذ يقول: ما تعيف اليوم في الطير الروح ... من غراب البين أو تيس برح1 وكان "النابغة" الذبياني من المتطيرين. خرج مرة مع "زبان بن منظور" الفزازي غازيا، فسقطت عليه جرادة، فتطير منها، فجرع من الغزو، ومضى زبان فظفر وغنم، فقال: تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهي الثبور بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير وقال خرز بن لوذان، ويقال مرقش السدوسي: لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم لا والتشاؤم بالعطا ... س ولا التيامن بالمقاسم ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم وإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم قد خط ذلك في الزبو ... ر الأوليات القدائم2 وفي شعر "عبيد بن الأبرص" القائل: نبئت أن بني جديلة أوعبوا ... نفراء من سلمي لنا وتكتبوا ولقد جرى لهم فلم يتعيفوا ... تيس قعيد كالهرواة أعضب وأبو الفراخ على خشاش هشيمة ... متنكب إبط الشمائل ينعب طعنوا بمران الوشيج فما ترى ... خلف الأسنة غير عرق يشجب وتبدلوا اليعبوب بعد إلههم ... صنما ففروا يا جديل وأعذبوا3

_ 1 العمدة "260". 2 العمدة "261 وما بعدها". 3 الحيوان "3/ 100"، العمدة "2/ 202"، الخزانة "3/ 256".

كلام عن العيافة، فأشار إلى تيس قعيد من الظباء، والقعيد الذي يأتي من الخلف، والأعضب المكسور القرن، وهو مما يتشاءم به العرب. وأبو الفراخ عنى به الغراب، واليعبوب صنم لجديلة، وكان لهم صنم أخذته منهم بنو أسد، رهط "عبيد بن الأبرص"، فتبدلوا اليعبوب بدله. وقد أشير إلى التشاؤم بالغراب في شعر ينسب لعلقمة الفحل: ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لا بد مشئوم1 ونجد في شعر "أبي ذؤيب" الهذلي، وهو من الشعراء المخضرمين، إشارة إلى تشاؤم العرب بطير الشمال، إذ يقول: زجرتُ لها طير الشمال فإن تكن ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها2 والعرب تتشائم من "طير الشمال"، على نحو ما تحدثت عن ذلك في الجزء السادس من هذا الكتاب. وكان "خزز بن لوذان" السدوسي على مذهب من ينكر الطيرة ولا يعتقد بها، وينسب إليه قوله: لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم وكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم قد خط ذلك في الزبو ... ر والأوليات القدائم3 وفي شعر "عبيد بن الأبرص" إشارة إلى رأي العرب في الحمامة، فالعرب تقول: "أخرق من حمامة"، وعبيد يقول في ذلك: عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة جعلت لها عودين من ... نشم وآخر من ثمامة

_ 1 رسالة الغفران "478". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 27". 3 المؤتلف والمختلف "102"، تاج العروس "4/ 34"، "خزز"، الخزانة "3/ 11".

قال ذلك تعبيرا عن حمقها، فالنشم شجر من أشجار الجبال تتخذ منه القسي، والثمامة نبت قصير يضرب به المثل في الضعف، وذلك حمقها: أن تجمع بين ضعيف وقوي، فيتكسر عشها ويقع البيض فينكسر1. وقد تطرق "العباس بن مرداس" إلى ذكر "الغول"، فقال: أصابت العام رعلا غول قومهم ... وسط البيوت ولون الغول ألوان وهو يشير بذلك إلى تلون الغول2. وفي شعر "زيد الخيل" إشارات إلى عادة تعليق الحلي، وخشخشة الخلاخيل على السليم، ليبرأ ويشفى، إذ يقول: أيم يكون النعل منه ضجيعه ... كما علقت فوق السليم الخلاخل ونجد مثل ذلك في أشعار شعراء آخرين3. ومن مذاهب أهل الجاهلية المذكورة في الشعر، أنهم كانوا يستسقون السحائب لقبور من فقدوه من أعزائهم، ويستنبتون لمواقع حفرهم الزهر والرياض، قال النابغة: فلا زال قبر بين تبنى وجاسم ... عليه من الوسمي طل ووابل فينبت حوذانا وعوفا منورا ... سأتبعه من خير ما قال قائل وكانوا يجرون هذا الدعاء مجرى الاسترحام4. وفي شعر بعض الشعراء أن الحياة لا تدوم، وأن المال وإن كان أساس هذه الحياة، لكنه متاع أيام وكل ذاهب. فبينما هو يجمعه ويحرص عليه، إذا به يعيث همج هامج، وما المال إلا عارة فاخلف وأتلف، فكله مع الدهر ذاهب، هذا "الحارث بن حلزة" اليشكري، يقول:

_ 1 الحيوان "3/ 189"، "حاشية رقم 4"، أدب الكاتب "55"، ثمار القلوب "369"، الميداني، أمثال "1/ 234"، عيون الأخبار "1/ 72". 2 الحيوان "6/ 161"، المعارف "36". 3 الحيوان "4/ 247 وما بعدها". 4 أمالي المرتضى "1/ 54".

بينا الفتى يَسعى ويُسعى له ... تاج له من أمره خالج يترك ما رقح من عيشه ... يعيث فيه همج هامج لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج وهذا تميم بن مقبل يقول: فاخلف وأتلف إنما المال عارة ... وكله مع الدهر الذي هو آكله1 ونجد في شعر الشعراء الجاهليين، ذما للأغنياء الذين يملكون ولا يعطون شيئا منه للفقير والبائس والمحتاج، وللذين يكبرون من شأن الكبير بماله، ويبتعدون عن الفقير لفقره، ويعظمون الغني على كثرة عيوبه ونواقصه، ولا لشيء إلا لماله وغناه، فنرى "عروة بن الورد"، يقول: ذريني للغنى أسعي فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير يباعده النديّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل عيبه والعيب جم ... ولكن الغني رب غفور2 وللشعراء الجاهليين رأي في النساء. رأي أغلبهم أن المرأة متعة للرجل، يلهو بها، ويقضي حاجته منها، خلقت للبيت وللولادة، وهي دون الرجل. وهي تحب الشاب القوي، والغني الكثير المال. ونجد هذا الرأي عند أكثر الشعراء اتصالا بالمرأة، وعند أكثرهم لهوا بها مثل "امرئ القيس" حيث يقول: فيا رب يوم قد أروح مرجلا ... حبيبا إلى البيض الأوانس أملسا أراهن لا يحببن من قل ماله ... ولا من رأين الشيب فيه وقوسا3

_ 1 البخلاء "164 وما بعدها". 2 أمالي المرتضى "1/ 50"، ديوان عروة "198"، العقد "1/ 212"، "ولكن للغنى"، وتجد اختلافا في الألفاظ وفي ترتيب الأبيات حسب المراجع، البيان "1/ 234"، "عبد السلام محمد هارون". 3 ديوانه "106 وما بعدها"، رسائل الجاحظ "1/ 98، 114" "مفاخرة الجواري والغلمان".

ونجد الأعشى يقول: وأرى الغواني لا يواصلن امرأ ... فقد الشباب وقد يصلن الأمردا1 وفي شعر علقمة بن عبدة ترديد لرأي امرئ القيس وزيادة: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب يردن ثراء المال حيث علمنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب2

_ 1 ديوانه "151"، رسائل الجاحظ "1/ 98"، "مفاخرة الجواري والغلمان". 2 ديوانه "131 وما بعدها"، البيان والتبيين "3/ 239"، المفضليات "131 وما بعدها"، رسائل الجاحظ "1/ 99، 114"، "مفاخرة الجواري والغلمان".

الفصل الثامن والستون بعد المائة: شعر المخضرمين

الفصل الثامن والستون بعد المائة: شعر المخضرمين المخضرم هو الذي أدرك الجاهلية والإسلام1. والشعراء المخضرمون هم الذين عاشوا في الجاهلية وفي الإسلام ونظموا الشعر في العهدين: الجاهلية والإسلام. والمخضرم من يدرك عهدين متناقضين. والشائع بين الناس أن الإسلام قد سبب في انصراف الناس عن الشعر وعن روايته "بما شغلهم من أمور الدين والنبوة والوحي وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زمانا ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره. وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه"2. وقد نسب إلى "عمر" قوله: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه، فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته"3، "لما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأن العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب، وألفوا وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم

_ 1 تاج العروس "8/ 281"، "الخضرم"، الخزانة "1/ 129"، "بولاق". 2 مقدمة ابن خلدون "581"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "103". 3 ابن سلام، طبقات "10"، المزهر "2/ 473".

كثير"1. والشائع بينهم أيضا أن الشعر قد أصيب بسبب ما تقدم بنكسة، فذبل وضعف وذهبت عنه قوة وسورة وجزالة وشدة الشعر الجاهلي، وأعرض بعض الشعراء مثل "لبيد" عن الشعر، إذ رأوا أن في كلام الله ما يغنيهم عنه، وقل بذلك عدد الشعراء ولا سيما الشعراء الفحول بالنسبة إلى أيام الجاهلية، وغلبت الليونة على الشعر الجديد، فصار شعر "حسان" الذي قاله في الإسلام ضعيفا لينا بالنسبة إلى شعره الجزل المتين الذي قاله في جاهليته. وجوابي على هذه الدعاوى: صحيح أن الشعر الجاهلي قد نقص حجمه وضاع قسم كبير منه، ولكن ضياعة ذلك لم يكن بسبب الإسلام، وإنما بسبب الأحداث والتطورات التي طرأت على جزيرة العرب، بسبب دخولها في الإسلام، كحروب الردة مثلا والفتوح، وانفتاح أرض الله الواسعة أمام المسلمين، وفرار الكثير من أهل جزيرة العرب نحو الخارج بحثا عن أرض أخصب وماء أوفر، وجو أطيب وثراء وعيشة راضية. أما حروب الردة، فقد أكلت من المسلمين ومن المرتدين جماعة عرفت برواية الشعر وبحفظها له، وبنظم الشعر أيضا، فقل بهلاكهم عدد حفاظ الشعر، كما قل في الوقت نفسه عدد حفاظ القرآن. وأما الفتوح، فقد قتل فيها قوم من الشعراء ومن حفاظ الشعر، فهلك بموتهم شطر من الشعر الجاهلي، وتقلص عدد العلماء به. كما ألهت الناس عن الشعر، بما فتحت لهم من آفاق الأرض وبما درت عليهم من أموال وأشغال قلصت من فراغهم الذي كان يكوّن معظم حياتهم في البوادي، فجعلتهم في الأرضين الجديدة يصرفون معظم وقتهم في استغلال الأرضين التي صارت من نصيبهم، وفي إحياء الموات، وفي تربية المواشي، والاشتغال بالزراعة، وهي أشغال تستبد بوقت الإنسان، وتصرف ذهنه إليها لمعالجتها، فلا يشعر في مثل هذه الحالة بما كان يشعر به يوم كان في بواديه فارغ البال، يقضي وقته بالتعبير عن نفسه بشعر يقتل به فراغه، ويسلي به نفسه بالتغني به لأصدقائه، ثم هو قد يتيعش منه، بما يناله من قبيلته من مال واحترام، وبما قد يحصل عليه من مدحه للملوك وللسادات من عطايا وهبات ثمنا للمدح. ومحيط فيه شغل وعمل، وفيه تعب جسماني وعقلي لا يساعد على نمو الشعر فيه، ومن هنا كان إقبال أهل الحضر مثل أهل مكة وأهل يثرب

_ 1 المزهر "2/ 474".

وأهل الطائف وأهل اليمامة على الشعر، ونبوغهم فيه أقل من إقبال أهل البوادي عليه، بسبب انشغال أهل القرى والحضر عامة بتدبير أمور الحياة، وبالحرف وباستغلال الأرض والمال والإتجار، وبسبب تكتلهم وتجمعهم وتلاصق بيوتهم بعضها ببعض، مما يجعلهم يطلعون على أحوال جيرانهم وعلى عوراتهم، ويقفون على أسرار حياتهم في الشعب وفي القرية، فلا يكون للهجاء عندهم لهذا الأثر الذي يكون له عند الأعراب، ولا يكون للمدح عندهم ما يكون له من أثر عند أهل البادية. ومن هنا نجد دولة الشعر وقد قل نفوذها في العالم العربي في هذا اليوم عما كان عليه نفوذها قبل ثلاثين سنة أو أكثر، بسبب التطور الحضاري الذي أخذ يغزو العالم العربي، وهو تطور يقلص من فراغ الإنسان ويستبد به، جاء له بهموم وبمشاكل نفسية وبأمراض الحضارة التي تريد المزيد من التمتع بمتع الحياة من جنسية ومادية، ليتمتع بها الإنسان في هذه الحياة التي لن يعود إليها مرة ثانية، فصار يفكر في الحصول على المادة جهد طاقته، ولو عن طريق إماتة أعصابه، ليستمتع بأقصى حد ممكن باللذة الحسية، التي صار يراها أنها سبب هذا الوجود، وذلك قبل فواتها منه، بموت يخترمه منها، فزاد الإقبال على المتعة، وعلي رأسها الاستمتاع باللذة الجنسية، وبلذة الشرب والتدخين، وقل الإقبال على الاستمتاع باللذات النفسية، وفي جملتها الشعر، فلا تجد اليوم له في أوروبة ما كان له من مكانة قبل عشرات السنين، وغلب النثر عليه، وقل عدد من كان يحفظ شعر الشعراء الماضين والمعاصرين، وعلي هذا النحو صار حالنا اليوم، فتناقص عدد حفاظ الشعر في النجف مثلا تناقصا كبيرامن حيث العدد والكم، والنجف في الشعر أو الأدب كوفة العراق بالأمس أيام الأمويين والعباسيين. فالإعراض الذي لاقاه الشعر في صدر الإسلام، لم يكن بسبب كره الإسلام له، وإنما بسبب التطور الذي طرأ على حياتهم، فغيرها من جميع الوجوه، نتيجة لخروجهم من جزيرتهم، ولاختلاطهم بأمم أعجمية ذات نظم أخرى، ونظرات متباينة مع نظرات العرب إلى مفهوم الحياة. أما إعراض "لبيد" عن قول الشعر بعد اعتناقه الإسلام، فليس مرده اعتقاده بكره الإسلام للشعر، وإنما هو في رأيي بسبب تقدمه في السن، والإنسان متى تقدم في العمر خفتت مواهبه وبرد إحساسه، ووهنت عواطفه التي تكون متقدمة في أيام المراهقة والشباب، أو قد يكون هذا العامل وعامل آخر، هو سلطان

الدين الذي استولى عليه وهو في سن الشيخوخة، بحيث صيره يشعر بوجوب الانصراف نحو العبادة وحفظ ودراسة كتاب الله، ومع ذلك فهناك روايات روت أن معظم شعره الذي فيه تدين وزهد وحث على العمل الصالح، هو شعر قاله في الإسلام، وأن ما زعم من أنه ترك الشعر، وانكب كلية على قراءة القرآن زعم غير صحيح. وأما إعراض "بشار بن عدي بن عمرو بن سيود" الطائي عن الشعر، فيظهر أنه عن وازع نفسي ديني، حمله على التفرغ لدراسة كتاب الله، وعلى الزهد، وقد يكون ذلك بسبب تقدمه في السن. وفي تركه الشعر يقول: تركت الشعر واستبدلت منه ... كتاب الله ليس له شريك وودعت المدامة والندامى ... إذا داعى منادي الصبح ديك1 وأما إعراض "مالك بن عمير" السلمي عن الشعر2، فهو حادث فردي كذلك، لا يعلم مبلغ درجته من الصحة، ومع ذلك، فإن كل من ترك الشعر من الشعراء لا يصل عددهم إلى عشرة، وهم قلة بالنسبة إلى عدد الشعراء المخضرمين الذين استمروا في نظمه في الإسلام. وأما ما قالوه عن الضعف الذي ألم بشعر "حسان" الذي قاله في الإسلام، وعن متانة شعره وجزالته في الجاهلية، فلا يعقل إرجاع سببه إلى الإسلام، فقد اتخذ الرسول "حسانا" شاعرا له، يجبُّ عنه وعن الإسلام المشركين، كما شجع غيره في الرد على شعراء الشرك، وكان الرسول يستصوب الشعر الصلد الجزل المتين ذا المعاني الجيدة العميقة، ومصدر ضعف "حسان" في شعره في الإسلام، هو بسبب تقدمه في السن، والتقدم في السن -كماسبق أن قلت- يضعف المواهب، ومنها الشاعرية، ويخمل العواطف، فقد كان حسان في جاهليته شابا ورجلا، قوي الجسم ككل رجل، متقيد الحس، متألق الحس، متألق العاطفة، ذا شاعرية حساسة ثائرة، يشرب ويلهو ويسمع الغناء ويحضر مجالس الطرب، فلما جاء الإسلام، ودخل فيه مع من دخل، كان قد تقدم في السن،

_ 1 الإصابة "1/ 174"، "رقم 767". 2 الإصابة "3/ 331"، "رقم 7672"

فبرد حسه، وضعف شعره في المعاني التي قالها في الجاهلية، وفي الدروب التي سلكها من دروب الشعر الجاهلي، ولكنه تألق في معان أخرى تنسجم مع عمره ومع المثل التي اعتنقها، فمن ثم صار شعره يختلف عن شعره في الجاهلية. ولم يقع ذلك لحسان وحده وإنما وقع هذا الحادث لكل شاعر هجم عليه العمر، واستبدت به الأعوام. ومما وقع للشعر في الإسلام، أن الزعامة انتقلت فيه من البوادي إلى الحواضر، فبعد أن كان شعر الأعراب، بجزالته وبخشونته وبصلادته، هو المقدم عند علماء الشعر والمحبين له، وبعد أن كانت القبائل هي التي تنجب الفحول، صارت الحواضر هي التي تنبت الفحول، لتبدل الزمن، ووقوع تغير في الذوق، ولتغلب الحضارة على البداوة، ولاهتمام الناس بالمعاني، أكثر من اهتمامهم بالشكل وبمظهر القوالب فقل شعر الشعراء الأعراب الفصحاء، ثم انحسر الشعر من موطنه، كما انحسر أكثر سكان البوادي عن بواديهم، ليلحقوا بخير الحضر، وصار الشعر العربي الفصيح من حصة الحضر في هذه الأيام. كما حلت الكوفة ثم "دمشق" ثم بغداد فبقية الحواضر محل "الحيرة" وقصور الغساسنة ومضارب سادات القبائل في استقبال الشعراء وفي الإنعام عليهم بالهدايا والألطاف. ولتغير الذوق بتغير المجتمع، تغير الشعر كذلك، ولا سيما في أيام بني العباس. وفي شعر المخضرمين شعر قيل في الرسول وفي حوادث الإسلام، وفي الرد على المشركين وتسفيه مقالتهم وفي دينهم ونيلهم من دين الله. قاله الشعراء بعد دخولهم في الإسلام. وعلي رأس هؤلاء من ذكرت من شعراء يثرب، يتقدمهم "حسان بن ثابت" شاعر الرسول، الذي كان يستدعيه الرسول في المناسبات ليجيب على شعر الشعراء الوافدين عليه، كالذي كان من أمره مع شاعر وفد "تميم" الزبرقان بن بدر. وكان لرد شعراء يثرب على شعراء قريش ومن لف لفهم، أثر كبير في نفوس المشركين. يروى أن النبي قال لحسان بن ثابت: "اهجهم، يعني قريشا، فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام، في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس"1. وقد كان هجاؤه شديدا عليهم، له وقع في نفوسهم أشد

_ 1 العمدة "1/ 12"، الأغاني "4/ 7"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "107".

من وقع شعر بقية الشعراء عليهم. فقد كان لسانه حادا قاطعا، لا سيما إذا ما تناول ناحية الهجاء وما يتعلق منه بالوقائع والأيام والنزاع القديم الذي كان بين أهل مكة ويثرب. فيجيد في ذلك كل الإجادة، ويتفوق بهذه الناحية على شعراء قريش. وكان حسان وكعب يعارضان شعراء قريش بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب. وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وينسبهم إلى الكفر، ويعلم أنه ليس فيهم شر من الكفر، فكانوا في ذلك الزمان أشد شيء عليهم قول حسان وكعب، وأهون شيء عليهم قول ابن رواحة، فلما أسلموا وفقهوا الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة1. وأما شعر شعراء مكة إلى عام الفتح، فكان في إيذاء الرسول والإسلام، وفي هجاء المسلمين، وتمجيد قريش ورثاء من قتل من المشركين وتعظيم أمر الجاهلية وسنة الآباء وما ألفوه عن آبائهم من أمور، وقد حفظت كتب السير والمغازي والتواريخ شيئا من شعرهم، من النوع الذي لم يتضمن قذعا شديدا بالإسلام، ولا شتما عنيفا وهجاء غليظا بالرسول وبالمسلمين. أما النوع الثاني الذي أفحش فيه أولئك الشعراء، وجاءوا فيه بشتائم وسباب، فقد أنف أصحاب السير والمغازي والتأريخ من روايته، فتركوه، ولو جمع الباقي من شعرهم مع ما رد عليه، لكُوّن منه ديوان ثمين في المعارضة التي كانت بين المشركين والمسلمين في مبدأ ظهور الإسلام، ولكان سجلا قيما لتأريخ ذلك الصراع، ولكيفية تغلب الإسلام على الشرك. فهو وثائق تأريخية من الدرجة الأولى، على أن يغربل ويفحص فحصاعلميا للتيقن من درجة صفائه ونقائه بالطبع. ونوع آخر من أنواع الشعر كان عند المخضرمين، هو شعر القتال. القتال الذي وقع بين المسلمين والمشركين واليهود، إلى أن انتصر الإسلام. فاختفى صوت الشرك وصوت يهود، وبقي صوت الإسلام وحده، لا يعارضه أحد، ولا يجابهه صوت. فقد كان من عادة العرب، أنهم إذا تقاتلوا أنشدوا شعرا يفتخرون فيه بأنفسهم وبقبيلتهم وبشجاعتهم، ولا سيما حين يخرج فارس لمبارزة فارس آخر، وقد يقف الشعراء في صفوف المحاربين يحرضونهم على القتال والاستبسال.

_ 1 الأغاني "15/ 29".

ونجد في بطون كتب السير والمغازي والتواريخ، نماذج طيبة من هذا الشعر: شعر القتال. قال المحاربون عند خروجهم من صفوف المقاتلين لمقابلهم من سيخرج من الجانب الثاني. وتولد من هذا النوع من الشعر شعر آخر قيل في معارك الفتوح. في المعارك التي وقعت مع عرب الحيرة، ثم مع الفرس، وفي المعارك التي حدثت بين المسلمين وبين الغساسنة، وبين المسلمين والروم، ثم في الفتوحات الأخرى. فقد ساهم في هذا القتال شعراء مخضرمون، حاربوا في الجاهلية، وحاربوا في الإسلام. وحافظوا على تقاليدهم وأعرافهم القديمة التي كانت لهم في الجاهلية عند القتال، من التحمس في القتال والاندفاع من الصفوف إلى الأمام لمبارزة من قد يبرز لهم لمقاتلتهم، ومن التغني بالقتال ومبارزة العدو. ونجد في كتب الفتوح والتأريخ والأخبار، نماذج من هذا الشعر. ونجد في شعر "قيس بن مكشوح" المرادي وصفا ليوم القادسية، وفخرا بسيره مع جمع من قومه من "صنعاء" إلى وادي القرى فديار كلب، إلى اليرموك، فالشام، ثم القادسية بعد شهر، ثم مقابلته جمع كسرى وأبناء المرازبة، وهجومه على رأس الفرس1، ولو جمعنا هذا الشعر الذي قيل في هذا القتال لكوّنّا منه ديوانا2، يصور هجرة القبائل العربية من مواطنها إلى البلاد المفتوحة، ويتحدث عن الأبطال الذين ساهموا في جمع هذا الديوان، والملحمة الشعرية التي تروي قصص الفتوح، وما قام به المحاربون الشجعان في حروب الفتح3. وهناك شعراء أسلموا، لكن قلوبهم بقيت على ما كانت عليه قبل الإسلام من عدم الاهتمام بأمور الدين، فلم يحفلوا بالإسلام، ولم يذكروا الرسول، وهم شعراء أهل البادية الأعراب. وطالما كان يأتي الشعراء إلى "يثرب" على طريقتهم في الجاهلية في إنشاد شعرهم أمام رجل منهم عظيم، مثل ملوك الحيرة أو الغساسنة، أو سادات القبائل. فيقف الشاعر أمام الرسول لينشده شعره الذي أعده لهذه المناسبة، أو ليقول شعرا

_ 1 الإصابة "3/ 261"، "رقم 7315"، الاستيعاب "3/ 235". 2 كارلو نالينو، تأريخ الأداب العربية "116". 3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 173".

بالمناسبة. ولما قدم وفد "تميم"، المدينة، ودخلوا المسجد، وقالوا: "يا محمد، جئناك لنفاخرك، فائذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: نعم، أذنت لخطيبكم فليقل، فخطب: "عطارد بن حاجب"، فلما انتهى قال الرسول لثابت بن قيس بن شماس، أجبه، فأجابه. ثم قالوا: يا محمد، ائذن لشاعرنا، فقال: نعم، فقام الزبرقان بن بدر فقال: نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع فلما انتهى، أجابه حسان، فحكموا أن خطيب المسلمين أخطب من خطيب تميم، وأن شاعر الرسول أشعر من شاعرهم1. وعادة التفاخر في مجالس الملوك وسادات القبائل، وإنشاد الشعر في ذلك، ورد الشعراء بعضهم على بعض، دفاعا عن قومهم، من العادات الجاهلية القديمة، التي بقيت في الإسلام كذلك، ولما أخذت الوفود تفد على الرسول بعد فتح مكة، كان في أعضائها من يخطب على طريقتهم في الخطابة، ومنهم من ينشد الشعر، ثم يعلنون إسلامهم، ومنهم من يشترط شروطا، وكان من بين المسلمين من يتولى الرد عليهم، وقد يجيبهم الرسول بنفسه. وقد كره الإسلام من الشعر الجاهلي الشعر الذي يتعرض بالأعراض ويتحرش بعورات الناس، والشعر الذي يهيج الفتن، ويلقي البغضاء بين الإخوة، فيعيدها فتنة جاهلية، ومن هنا جاء النهي عنه في قوله: "لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا" 2، ولم يأت في عامة الشعر. وأخذ الخلفاء الشعراء الهجائين متى أقذعوا في شعرهم، وتحاملوا فيه على الناس، تحاملا يغض منهم. وهنا حبس "عمر" الحطيئة، وكان يقف بالمرصاد لمن يفعل فعله في نهش أعراض الناس. ولذلك تخوف المخضرمون في شعرهم من شعر الهجاء واحترسوا فيه امتثالا للمثل الإسلامية التي تأمر بالابتعاد عن ذكر المثالب والامتناع عن إيذاء الناس، وخوفا من تأديب الخلفاء لهم إن نهشوا أعراض المسلمين.

_ 1 الطبري "3/ 115"، "قدوم وفد تميم ونزول سورة الحجرات". 2 البخاري، "كتاب الزكاة، باب قوله تعالى: {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ، وفي أبواب أخرى، شرح النووي على صحيح مسلم "9/ 100 وما بعدها"، "حاشية على إرشاد الساري"، زاد المسلم "1/ 350 وما بعدها".

والقديم من شعر المخضرمين، ولا سيما شعر المتقدمين منهم في السن، هو استمرار في الواقع للشعر الجاهلي، نظم على طريقة أهل الجاهلية وأساليبهم في نظم الشعر وعلى معانيهم التي كانوا يتطرقون إليها في شعرهم في الغالب، فقد ولدوا في الجاهلية وقضى بعض منهم أكثر سني حياته فيها، ونظموا أكثر شعرهم في تلك الأيام وفي الأحداث التي وقعت فيها. ولذلك صار شعرهم يختلف عن شعر الشعراء الإسلاميين، لأنهم لم يشهدوا الجاهلية ولم يدركوها، وهم من ثَمّ لم يتأثروا بعقليتها كثيرا، ومن هنا يجب علينا أن نوجه لشعر الشعراء المخضرمين المسنين الذين قضوا أكثر أيام حياتهم في الجاهلية عناية خاصة، وأن نقوم بدراسته دراسة نقد دقيقة، إذ نتمكن بها من الوقوف على تطور الشعر الجاهلي ومكانته عند ظهور الإسلام. ومن الشعراء المخضرمين من لقي الرسول وصحبه ومدحه وروى عنه، ومنهم من صحبه، لكنه لم يرو عنه، ومنهم من لم يره لكنه دخل في الإسلام. وقد ذكر بعض العلماء أسماء الشعراء الذين صحبوا الرسول ورووا عنه، منهم "حسان بن ثابت"، و"كعب بن مالك"، و"عبد الله بن رواحة"، و "عدي بن حاتم" الطائي، و "عباس بن مرداس" السلمي، و "أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، و "حميد بن ثور" الهلالي، و "أبو الطفيل عامر بن وائلة"، و "أيمن بن خريم" الأسدي، و "أعشى" بني مازن، و "الأسود بن سريع"، و "الحارث بن هشام"، و "عمرو بن شاس"، و "ضرار بن الأزور"، و "خفاف بن ندبة"، و "لبيد بن ربيعة"، و "ضرار بن الخطاب"، و "عبد الله بن الزبعرى"، ولم تكن للبيد، ولا لضرار ولا لابن الزبعرى رواية عنه. وكذلك "أبو ذؤيب" الهذلي، و "الشماخ بن ضرار"، وأخوه "مزرد بن ضرار"1. وقد عد "ابن سلام" "النابغة" الجعدي، والشماخ بن ضرار، ولبيد، وأبو ذؤيب الهذلي طبقة، وقال: وكان الشماخ أشد متونا من لبيد، ولبيد أحسن منه منطقا2.

_ 1 الاستيعاب "3/ 561"، "حاشية على الإصابة". 2 الاستيعاب "3/ 561"، "حاشية على الإصابة".

و "النابغة" الجعدي، هو: "أبو ليلى عبد الله بن قيس"، أو "قيس بن عبد الله بن عدس"، وقيل: "حبّان بن قيس"، "حيان بن قيس"، وغير ذلك. قيل له "النابغة"، لأنه كان يقول الشعر ثم تركه في الجاهلية، ثم عاد إليه بعد أن أسلم، فقيل: نبغ. قيل إنه كان قديما شاعرا مفلقا طويل العمر في الجاهلية وفي الإسلام، حتى زعم أنه كان أسن من النابغة الذبياني، واستدلوا على طول عمره بأبيات زعموا أنه قالها هي: ألا زعمت بنو أسد بأني ... أبو ولد كبر السن فاني فمن يك سائلا عني فإني ... من الفتيان أيام الختان أتت مائة لعام ولدت فيه ... وعشر بعد ذاك وحجتان وقد أبقت صروف الدهر مني ... كما أبقت من السيف اليماني1 وذكر "السجستاني" في كتاب المعمرين، أنه عاش مائتي سنة. وهو القائل: قال"؟ " أمامة كم عمرت زمانه ... وذبحت من عنز على الأوثان ولقد شهدت عكاظ قبل محلها ... فيها وكت أعد من الفتيان والمنذر بن محرق في ملكه ... وشهدت يوم هجائن النعمان وعمرت حتى جاء أحمد بالهدى ... وقوارع تتلى من القرآن ولبست في الإسلام ثوبا واسعا ... من سيب لا حرم ولا منان2 وهو عند الأخباريين أسن من النابغة الذبياني وأكبر، واستدلوا على أنه أكبر من النابغة الذبياني، بأن النابغة الذبياني كان مع النعمان بن المنذر، وكان النعمان ابن المنذر بن محرق. وقد أدرك النابغة الجعدي المنذر بن محرق ونادمه، ولكن النابغة الذبياني مات قبله، وعمر بعده عمرا طويلا. ذكر بعضهم أنه عمر مائة وثمانين وذكر بعضهم أنه عمر أكثر من ذلك حتى ذكر بعض منهم أنه عمر مائتين

_ 1 تختلف هذه الأبيات في النظم وفي الترتيب في كتاب الإصابة عنها في الاستيعاب وفي الكتب الأخرى، الإصابة "3/ 508 وما بعدها"، "رقم 8641"، الاستيعاب "3/ 552"، "حاشية على الإصابة"، ابن هشام "1/ 53"، "حاشية على الروض"، الروض الأنف "1/ 53". 2 الإصابة "3/ 508"، "رقم 8641"، البخلاء "202 وما بعدها، 208 وما بعدها، ومواضع أخرى راجع ص612".

وعشرين سنة. وذكروا أن "عمر" قال له: كم لبثت مع كل أهل؟ قال ستين سنة. وأنشده قوله: لقيت أناسا فأفنيتهم ... وأفنيت بعد أناس أناسا ثلاثة أهلين أفنيتهم ... وكان الإله هو المستآسا1 وجعل بعضهم عمره "240" سنة، وكان أكثرها في الجاهلية2. وهو من "الفلج" جنوب نجد، وكان يزور بني لخم في الحيرة. وكان شاعرا مغلبا، ما هاجى قط إلا غلب، هاجى أوس بن مغراء، وليلى الأخيليلة، وكعب بن جميل فغلبوه جميعا، وذكر أنه مكث إلى أيام "عبد الله بن الزبير"3. وذكروا أنه كان يذكر في الجاهلية دين إبراهيم والحنيفية ويصوم ويستغفر. وقال في الجاهلية كلمته التي أولها: الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما وفيها ضروب من دلائل التوحيد والإقرار بالبعث والجزاء والجنة والنار وصفة بعض ذلك على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل إن هذا الشعر له، ولكنه قد صححه علماء الشعر مثل: يونس بن حبيب، وحماد الراوية، ومحمد بن سلام، وعلي بن سليمان الأخفش للنابغة الجعدي4. وروي أنه كان ممن فكر في الجاهلية وأنكر الخمر والسكر وهجر الأزلام واجتنب الأوثان وذكر دين إبراهيم5.

_ 1 الاستيعاب "3/ 552"، "حاشية على الإصابة"، الأغاني "4/ 128"، الخزانة "1/ 512"، السيوطي، شرح شواهد "208"، الموشح "64"، ابن سلام، طبقات "26"، مجالس ثعلب "663"، الاشتقاق "338". 2 الروض الأنف "1/ 53"، "لبست أناسا"، أمالي المرتضى "1/ 264". 3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 614 وما بعدها"، الأغاني "5/ 1 وما بعدها"، "دار الكتب"، الجمحي، طبقات "26 وما بعدها"، الشعر والشعراء "158 وما بعدها"، المعجم، للمرزباني "321"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 614"، المعمرون للسجستاني "66"، الخزانة "1/ 512"، أسد الغابة "5/ 2 وما بعدها"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 232"، البخلاء "243". 4 الاستيعاب "3/ 552"، "حاشية على الإصابة"، الخزانة "1/ 514 وما بعدها"، رسالة الغفران "202". 5 الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641".

وذكر أن "النابغة" قدم على "عثمان" يستأذنه في السفر إلى البادية، لأن نفسه اشتاقت إليها، ليشرب من ألبانها، وليشرب من شيح البادية، فقال له عثمان: "أما علمت أن التعرب بعد الهجرة لا يصلح؟ قال: لا والله ما علمت وما كنت لأخرج حتى أستأذنك، فأذن له، وضرب له أجلا". ثم دخل على "الحسن بن علي" فودعه، فقال له: أنشدنا من بعض شعرك، فأنشده: الحمد لله لا شريك له ... من لم يقلها فنفسه ظلما فقال: يا أبا ليلى ما كنا نروي هذه الأبيات إلا لأمية بن أبي الصلت؟ قال: يا ابن بنت رسول الله، والله إني لأول الناس قالها وإن السروق من سرق أمية شعره"1. وذكر أنه كان من أصحاب "علي" وحارب معه يوم صفين، وله مع "معاوية" أخبار. ومات معمرا بأصبهان سنة "65هـ" "684م". وكان معاوية سيره إليها مع "الحرث بن عبد الله بن عوف بن أصرم". وكان ولي أصبهان من قبل علي2. وقد وفد النابغة على النبي وأنشده قصيدته الرائية التي فيها: أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ... ويتلو كتابا بالمجرة نيرا إلى أن بلغ قوله: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا3 فقال رسول الله: "إلى أين أبا ليلى"؟ فقال: إلى الجنة. فقال رسول الله: "نعم إن شاء الله" 4.

_ 1 ابن سلام، طبقات "27". 2 الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 232"، الإصابة "3/ 510". 3 تختلف الروايات في ضبط هذه الأبيات، ولعلماء الشعر روايات مختلفة عنها، رسالة الغفران "228"، أمالي المرتضى "1/ 226"، الأغاني "4/ 593". 4 الإصابة "3/ 509"، "رقم 8641"، الاستيعاب "3/ 552 وما بعدها".

ولما أنشده: ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فاستحسنه الرسول وقال: "لا يفضض الله فاك". وذكر أن كلمة النابغة هذه قصيد مطول نحو مائتي بيت أوله: خليلي غضا ساعة وتهجرا ... ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا وهو من أحسن ما قيل من الشعر في الفخر بالشجاعة سباطة ونقاوة وجزالة وحلاوة1. وقد تعرض فيها بأمور الجاهلية والإسلام. وأسلم وحسن إسلامه وكان يرد على الخلفاء ورد على عمر ثم على "عثمان". ويظهر أن القصيدة قد طولت على "النابغة" فيما بعد، وأنها لم تكن على هذا النحو من الطول لما أنشدها على الرسول. وقد روى بعض العلماء منها أربعة وعشرين بيتا2، لعلها هي الأبيات التي أنشدها أمام النبي. وذكر أنه كان بالبصرة، فرعت "بنو عامر" في الزرع، فبعث "أبو موسى" الأشعري في طلبهم، فتصارخوا يا آل عامر! فخرج النابغة الجعدي ومعه عصبة له. فضربه أسواطا. فقال النابغة في ذلك: رأيت البكر بكر بني ثمود ... وأنت أراك بكر الأشعرينا فإن تك لابن عفان أمينا ... فلم يبعث بك البر الأمينا فيا قبر النبي وصاحبيه ... ألا يا غوثنا لو تسمعونا ألا صلى إلهكم عليكم ... ولا صلى على الأمراء فينا3 وقد مدح "النابغة" الجعدي عبد الله بن الزبير، ويظهر أنه كان في ضيق. وعسر، إذ يقول فيها:

_ 1 الاستيعاب "3/ 555 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، وتجد أبياتا منها في الاستيعاب، الأغاني "5/ 8". 2 الإصابة "3/ 510"، "رقم 8641". 3 الاستيعاب "3/ 556 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

أتاك أبو ليلى تجوب به الدجى ... دجى الليل جوّاب الفلاة عرمرم لتجبر منه جانبا دعدت به ... صروف الليالي والزمان المصمم فأعطاه قلائص سبعا وفرسا وخيلا، وأوقر له الركاب برا وتمرا وثيابا1. ومن جيد شعره قوله: فتى كملت خيراته غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقيا فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا2 قال العلماء في شعر "النابغة": "خمار بواف، ومطرف بآلاف. يريدون أن في شعره تفاوتا، فبعضه جد مبرز وبعضه رديء ساقط"3. ونسب إلى "الفرزدق" قوله في النابغة الجعدي: صاحب خلقان، يكون عنده مطرف بألف دينار، وخمار بواف"4. وقد ذكر "أبو العلاء" المعري قصيدة النابغة التي يقول فيها: ولقد أغدو بشرب أنف ... قبل أن يظهر في الأرض ربش فقال على لسان "النابغة" الجعدي: "ما جعلت الشين قط رويا، وفي هذا الشعر ألفاظ لم أسمع بها قط"5. وروى "المعري" له قصيدة، استحسن منها قوله: طيبة النشر والبداهة والـ ... ـعلات عند الرقاد والنسم6 ومن شعره قوله في "زياد بن الأشهب بن أدد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة" العامري الجعدي: مقام زياد عند باب ابن هاشم ... يريد صلاحا بينكم ويقرب

_ 1 الاستيعاب "3/ 558"، "حاشية على الإصابة". 2 الاستيعاب "3/ 558"، "حاشية على الإصابة". 3 الشعراء والشعراء "1/ 210"، "دار الثقافة"، البيان والتبيين "1/ 206". 4 أمالي المرتضى "1/ 269". 5 رسالة الغفران "209". 6 رسالة الغفران "219 وما بعدها"، تهذيب الألفاظ "631"، السمط "431".

وكان قد مشى في الصلح بن علي ومعاوية. وكان من أشراف أهل الشام ومن المقربين إلى معاوية1. و"الطفيل بن عمرو بن طريف" الدوسي، من الشعراء الأشراف. كان شاعرا لبيبا. تذكر رواية أنه أسلم حين كان الرسول بمكة، وأنه لما أتى مكة ذكر ناس من قريش أمر النبي، وسألوه أن يختبر حاله، فأتاه فأنشده من شعره، فتلا النبي الإخلاص والمعوذتين فأسلم في الحال وعاد إلى قومه. وتذكر رواية أنه عاد مرة أخري إلى مكة، ثم عاد إلى قومه حتى هاجر الرسول إلى المدينة، فجاء على رأس وفد من دوس ممن أسلم، فوصل والرسول محاصر "خيبر"، فمكث بالمدينة حتى إذا فتحت مكة، بعثه الرسول إلى "ذي الكفين" صنم "عمرو بن حممة" حتى أحرقه. وقد أورد "المرزباني" شيئا من شعره2. وأعشى بن مازن، أو الأعشى المازني، هو "عبد الله بن الأعور"، وقيل إن اسم "الأعور" "رؤبة بن فزارة بن غضبان بن حبيب بن سفيان بن مكرز بن الحرماز بن مالك بن عمرو بن تميم". يكنى "أبا شعيثة". "وقال أهل الحديث: يقولون المازني وإنما هو الحرمازي، وليس في بني مازن أعشى". وذكر أنه أتى النبي فأنشده: يا مالك الناس وديّان العرب ... إني لقيت ذربة من الذرب وفيه قصة امرأته وهربها3. فكتب النبي إلى "مطرف بن نهصل"، وكانت امرأته عنده، أن يعيدها إليه، فأعادها، فقال:

_ 1 الإصابة "1/ 562"، "رقم 2985". 2 الإصابة "2/ 216 وما بعدها"، "رقم 4254"، الاستيعاب "2/ 221 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة"، سيرة ابن هشام "1/ 234 وما بعدها". 3 الإصابة "2/ 267 وما بعدها"، "رقم 4535". ورويت الأبيات على هذا النحو: يا سيد الناس وديان العرب ... أشكو إليك ذربة من الذرب كالذئبة العسلاء في طل السرب ... خرجت أبغيها الطعام في رجب فخالفتني بنزاع وهرب ... أخلفت العهد ولطت بالذنب وهن شر غالب لمن غلب الاستيعاب "2/ 257"، "حاشية على الإصابة"، "1/ 122".

لعمرك ما حبي معاذة بالذي ... يغيره الواشي ولا قدم العهد ولا سوء ما جاءت به إذ أزلها ... غواة رجال إذ ينادونها بعدي1 وذكر صاحب "الاستيعاب"، أن اسم والد "أعشى" مازن، هو "الأطول". وقيل اسم الأطول أو الأعور: "عبد الله". وروي أن اسمه "عبد بن لبيد" الأعور. وقيل: "الأعور بن قراد بن سفيان". وكان قد خرج في "رجب" يمير أهله من هجر، فهربت امرأته بعده ناشزا عليه، فعاذت برجل منهم. فجاء "الأعشى" إلى الرسول وعاذ به. وأنشأ يقول قصيدته3. ومن شعره: يا حكم بن المنذر بن الجارود ... سرادق المجد عليك ممدود أنت الجواد ابن الجواد المحمود ... نبتَّ في الجود وفي بيت الجود والعود قد ينبت في أصل العود4 و"الحطيئة"، وهو "جرول بن أوس بن مالك بن "حيوة" جؤية بن مخزون بن مالك" العبسي، ويكنى "أبا مليكة" "من فحول الشعراء ومقدميهم وفصحائهم، وكان يتصرف في جميع فنون الشعر من مدح وهجاء وفخر ونسب ويجيد في جميع ذلك. وكان ذا شر وسفه، وكان إذا غضب على قبيلة انتمى إلى أخرى، زعم مرة أنه ابن عمرو بن علقمة من بني الحارث بن سدوس. وانتمى مرة إلى ذهل بن ثعلبة، وأخرى إلى بني عمرو بن عوف. وله في ذلك أخبار مع كل قبيلة وأشعار مذكورة في ديوانه. وكان كثير الهجاء حتى هجا أباه وأمه وأخاه وزوجته ونفسه، وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام. وكان أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد ثم أسر وعاد إلى

_ 1 الاستيعاب "2/ 258"، "حاشية على الإصابة". 2 الاستيعاب "2/ 256"، "حاشية على الإصابة". 3 الفائق "1/ 422 وما بعدها". 4 الإصابة "2/ 268"، "رقم 4535".

الإسلام1. وكان ملحفا شديد البخل، لا يقف إلحافه في السؤال عند حد، ولا يخجل من التصريح في الاستكداء وفي إذلال نفسه في الحصول على مال. طاف في الآفاق يمتدح الأمائل ويستجديهم. وقد عد في البخلاء. "قيل بخلاء العرب أربعة: الحطيئة، وحميد الأرقط، وأبو الأسود الدؤلي، وخالد بن صفوان"2. وقيل عنه إنه كان "دنيء الطبع، لئيم النفس، كثير الطمع، جعل الشعر متجرا، فكان له من الهجاء معاش ومكسب لأن الناس كانوا يهدون له الهدايا خوفا من شره. فقال الأصمعي: كان الحطيئة جشعا سئولا ملحفا دنيء النفس، كثير الشر قليل الخير، بخيلا قبيح المنظر، رث الهيئة مغموز النسب، فاسد الدين، وما تشاء أن تقول في شعر شاعر ما من عيب إلا وجدته فيه، وقلما تجد ذلك في شعره"3، كان لا يبالي من هجو من سبق أن مدحه وأثنى عليه، لإغداقه المال عليه، بل يظهر أنه كان من ذلك الفريق من الناس المرضى النفوس الذين كانوا يسيئون إلى من أحسن إليهم، بل كانوا أول من يسيء إلى من أحسن إليهم، لعقد مستعصية في النفس. وكان قصير القامة، ولقصره هذا لقب بالحطيئة. وكان ذميما، قبيح الوجه، سيئ الهيئة، ولعل هذه الأمور هي التي صيرته سيئ الطبع، هجاء لكل أحد، فلا يسلم من لسانه أحد. فلما هجا أباه، بأبيات قاسية شديدة منها: فنعم الشيخ أنت لدى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي جمعت اللؤم لا حياك ربي ... وأبواب السفاهة والضلال قيل: "كان الحطيئة يرعى غنما له، وفي يده عصا. فمر به رجل فقال: يا راعي الغنم ما عندك؟ قال: عجراء من سلم. يعني عصا. قال: إني ضيف. فقال الحطيئة للضيفان أعددتها"4.

_ 1 الإصابة "1/ 377 وما بعدها"، "رقم 1991"، العمدة "1/ 81 وما بعدها"، البيان "2/ 13 وما بعدها"، الخزانة "1/ 408"، الأغاني "2/ 41 وما بعدها"، "16/ 38"، الطبقات، لابن سلام "92 وما بعدها"، ديوان الأعشى "القاهرة 1958م"، "نعمان أمين طه"، الخزانة "2/ 406"، "هارون"، "1/ 409"، "بولاق". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 477 وما بعدها". 3 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "109 وما بعدها". 4 البيان والتبيين "2/ 147"، "3/ 80".

وهجا أمه بشعر موجع منه قوله: تنحي فاقعدي مني بعيدا ... أراح الله منك العالمينا ألم أوضح لك البغضاء مني ... ولكن لا أخا لك تعقلينا أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا على المتحدثينا جزاك الله شرا من عجوز ... ولقاك العقوق من البنينا حياتك ما علمت حياة سوء ... وموت قد يسر الصالحينا ثم هجا أخاه وزوجته، فلما لم يبق أمامه أحد سلم من هجائه إلا نفسه، إذ اطلع في حوض فرأى وجهه فقال: أبت شفتاي اليوم إلا تكلما ... بسوء فما أدري لمن أنا قائله أرى لي وجها شوه الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله1 وقد جعل "المعري" هذا الشعر، سببا دخل به الجنة، لقوله بالصدق2. وله قصيدة "سينية" مشهورة، هجا فيها "الزبرقان بن بدر"، فسجنه "عمر" عليها، منها قوله: ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنياب وأضراس دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي وفيها: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس وقد قال "أبو عمرو بن العلاء" عن هذاالبيت""لم تقل العرب قط بيتا، أصدق "منه4.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 240"، "والحطيئة الرجل الدميم أو القصير، ومنه لقب جرول الشاعر العبسي لدمامته. قاله الجوهري. وقيل: كان يلعب مع الصبيان فسمع منه صوت، فضحكوا. فقال: ما لكم! إنما كانت حطيئة، فلزمته نبزا، وقيل غير ذلك"، تاج العروس "1/ 57"، "حطا"، الخزانة "2/ 409"، "هارون". 2 رسالة الغفران "307". 3 رسالة الغفران "307". 4 الأغاني "2/ 184 وما بعدها"، السيوطي شرح شواهد "2/ 916 وما بعدها".

وقد حملت دمامة خلقة الحطيئة ورثة هيئته وسوء ملبسه الناس إلى ازدراء شأنه وعدم الاهتمام به عند حضوره مجلسا لا يعرفه فيه أحد، وإلى وقوعه في مشاكل معهم. وقد يكون من الصعب عليهم رتق الخرق بعد وقوعه وإصلاح حاله غير أن منهم من كان يجد سبيلا إلى ذلك، باسترضائه بتقديم المال له، وهو ما يطلبه، فينسيه ما أصابه من ازدراء وإهمال1. وزعم أنه كان مغمور النسب، وأنه كان من أولاد الزنا الذين شرفوا2. وقد غلب الهجاء على طبعه، حتى عد من أنبغ الشعراء المتقدمين فيه. وقد ذهب "بروكلمان" إلى أن للهجاء الفضل في بقاء شعر الحطيئة3. فالهجاء باب له منفذ واسع إلى العواطف حفظه الأعداء والحساد للنيل ممن قيل بحقهم من أعدائهم وحسادهم، فحفظه الناس جيلا عن جيل. ويقال إن "عمر" لما لقي الحطيئة قال له: "كأني بك عند بعض الملوك تغنيه بأعراض الناس. أي تغني بذمهم وذم أسلافهم في شعرك وثلبهم"4. ولما هجا "الحطيئة" "الزبرقان بن بدر" استعدى عليه "عمر"، فدعا "حسان بن ثابت" فقال: أتراه هجاه؟ قال: نعم وسلح عليه فحبسه، فقال وهو في حبسه شعرا يستعطف به "عمر" حتى رق عليه، وشفع له "عمرو بن العاص"، فأطلقه على ألا يهجو أحدا5. ويقال إنه كتب إلى عمر شعرا يتوسل فيه العفو عنه، وأن يرحم حال أولاده الصغار بذي مرخ، فيه: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر

_ 1 راجع قصته مع "عتيبة بن النهاس العجلي"، ثم قصة حضوره مجلس "سعيد بن العاص" "سعيد بن العاصي"، وقصصا أخرى، وهي تتحدث عن ازدراء شأن الحطيئة لهيئته ولجهلهم به، ثم عن استرضائهم له بعد وقوفهم على أمره، الشعر والشعراء "1/ 240 وما بعدها". 2 الخزانة "2/ 407"، "هارون"، "1/ 409"، "بولاق". 3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 168". 4 اللسان "7/ 171"، "عرض". 5 الإصابة "1/ 378"، "رقم 1991"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 916 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 244 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 240".

أنت الأمين الذي من بعد صاحبه ... ألقى إليك مقاليد النهى البشر لم يؤثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بها الخير1 وإذا صح ما روي من أن الحطيئة لما قدم المدينة، يريد الرسول، أرصدت له قريش العطاء، خوفا من شره2، فيجب أن يكون قدومه قبل عام الفتح، وغلبة المسلمين على المشركين. ولكننا نجد بعض الرواة يشكون في دخوله في الإسلام في حياة الرسول. يقول "ابن قتيبة": "ولا أراه أسلم إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأني لم أسمع له بذكر فيمن وفد عليه من وفود العرب، إلا أني وجدته يقول في أول خلافة أبي بكر رضي الله عنه حين ارتدت العرب: أطعنا رسول الله إذ كان حاضرا ... فيا لهفتي ما بال دين أبي بكر أيورثها بكرا إذا مات بعده ... فتلك وبيت الله قاصمة الظهر وقد مدح شعر الحطيئة، فذكر عنه "أبو الفرج الأصبهاني" أنه "كان من فحول الشعراء ومقدميهم وفصحائهم. وكان يتصرف في جميع فنون الشعر من مدح وهجاء وفخر ونسيب، ويجيد في جميع ذلك". وقال "الأصمعي": "وما تشاء أن تقول في شعر شاعر ما من عيب إلا وجدته فيه، إلا الحطيئة، فقلما تجد ذلك في شعره". وروي عن "إسحاق الموصلي" قوله: "ما أزعم أن أحدا من الشعراء بعد زهير أشعر من الحطيئة"4. قال "الجاحظ": وكان الأصمعي يقول: "الحطيئة عبد لشعره. عاب شعره حين وجده كله متخيرا منتخبا مستويا، لمكان الصنعة والتكلف، والقيام عليه"5، ونسب للأصمعي قوله:

_ 1 ديوان "رقم 74" الشعر والشعراء "1/ 245"، البيان والتبيين "2/ 318". 2 الإصابة "1/ 378"، "رقم 1991". 3 الشعر والشعراء "1/ 238 وما بعدها"، "دار الثقافة"، الخزانة "2/ 408". 4 الإصابة "1/ 377 وما بعدها"، "رقم 1991"، الأغاني "2/ 43". 5 البيان والتبيين "1/ 206".

"زهير بن أبي سلمى، والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر"1. وكان "الحطيئة" راوية كعب بن زهير، بل يقال إنه كان راوية زهير بن أبي سلمى2. وله ديوان برواية "السكري" عن "محمد بن حبيب"، طبع مرارا3. وذكر أنه قال لكعب بن زهير: قد علمت روايتي شعر أهل البيت وانقطاعي، وقد ذهب الفحول غيري وغيرك، فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك وتضعني موضعا، فإن الناس لأشعاركم أروى. فقال كعب: فمن للقوافي شأنها من يحوكها ... إذا ما ثوى كعب وفوز جرول4 وروي "أن أعرابيا وقف على حسان وهو ينشد، فقال له كيف تسمع؟ قال ما أسمع بأسا؛ فغضب حسان. فقال له: من أنت؟ قال: أبو ملكية. قال: ما كنت قط أهون عليّ منك حتى اكتنيت بامرأة، فما اسمك؟ قال: الحطيئة، فأطرق حسان، ثم قال: امض بسلام"5. وذكر بعض الرواة أن "الحطيئة" لما حضرته الوفاة اجتمع إليه قومه فقالوا: يا أبا مليكة، أوصِ. فقال: ويل الشعر من راوية السوء. قالوا أوصِ، يرحمك الله. قال: من الذي يقول: إذا أنبض الرامون عنها ترنمت ... ترنم ثكلى أوجعتها الجنائز قالوا: الشماخ. قال أبلغوا غطفان أنه أشعر العرب. وتستمر الرواية على هذا النوع من طلب قومه منه أن يوصي، ومن إجابته أجولة لا صلة لها بالوصية. حتى انتهت بأنهم حملوه على أتان وجعلوا يذهبون به ويجيئون وهو عليها حتى مات، وهو يقول:

_ 1 البيان والتبيين "2/ 13". 2 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "110". 3 طبع سنة "1893م" بمدينة "لايبزك"، وطبع ببيروت، والقاهرة مع الشروح، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 168"، زيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 170". 4 ابن سلام، طبقات "21". 5 الإصابة "1/ 378".

لا أحد ألأم من حطيئة ... هجا بنيه وهجا المريئة من لؤمه مات على الفريئة1 وروى "ابن قتيبة" القصة على هذا النحو: "قيل له حين حضرته الوفاة: أوصِ يا أبا مليكة: فقال: مالي للذكور دون الإناث، فقالوا: إن الله لم يأمر بهذا، فقال: لكني آمر به! ثم قال: ويل للشعر من الرواة السوء، وقيل له: أوصِ للمساكين بشيء، فقال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا، فإنها تجارة لن تبور! وقيل له: أعتق عبدك يساراً، فقال: اشهدوا أنه عبد ما بقي عبسيّ! وقيل له فلان اليتيم ما توصي له؟ فقال: أوصي بأن تأكلو ماله وتنيكوا أمه! قالوا: فليس إلاهذا؟! قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم، لعلي أنجو! ثم تمثل: لكل جديد لذة غير أنني ... رأيت جديد الموت غير لذيذ له خبطة في الحلق ليست بسُكَّر ... ولا طعم راح يشتهى ونبيذ ومات مكانه"2. وهي قصة لا تخلو من أثر الوضع والصنعة، قيلت على لسانه، لما عرف عنه من اللؤم والبخل والتعرض بالناس. وقد رويت بصور مختلفة3. وقد ذكر "الحطيئة" "سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية"، القرشي الأموي في شعره، وكان سعيد ممن ندبه عثمان لكتابة القرآن. وكان جوادا، ولم ينزع قميصه قط، وكان أسود نحيفا، وكان يقال له: "عكة العسل"، قال الحطيئة فيه: سعيد فلا يغررك قلة لحمه ... تخدد عنه اللحم فهو صليب4

_ 1 الأغاني "2/ 195 وما بعدها"، "الدار"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 475 وما بعدها"، الخزانة "1/ 141"، "بولاق". 2 الشعر والشعراء "1/ 239". 3 الخزانة "2/ 412 وما بعدها"، "هارون". 4 البيان والتبيين "1/ 314 وما بعدها"، "3/ 116".

ومن شعر "الحطيئة" المشهور قوله: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا وكان الرجل من "بني أنف الناقة" إذا قيل له: ممن الرجل؟ قال: من بني قريع، فلما مدحهم "الحطيئة" بهذا الشعر صار الرجل منهم إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من بني أنف الناقة افتخارا، في قصة سبق أن تحدثت عنها1. ومن جيد شعره قوله: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد2 والشاعر "كعب بن زهير" هو ابن الشاعر الجاهلي "زهير بن أبي سلمى". فهو شاعر ابن شاعر، وأبو شعراء. فقد كان ولدا "كعب" وهما: "عقبة"، و "العوام" شاعرين. وقد ذكر أن "بجيرا" أخو "كعب"، فارق أخاه عندما بلغا "أبرق" العراق، وذهب إلى الرسول لما سمع من خبره، فأسلم. فلما بلغ "كعبا" خبر إسلامه. ذم أخاه لمفارقته سنة آبائه وأجداده، وخروجه على ما ألف عليه أباه وأمه. بشعر قال فيه: ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... على أي شيء أنت منزل ذلكا على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولم تدرك عليه أخا لكا3 أو: ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... على أي شيء ريب غيرك دلكا على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولم تدرك عليه أخا لكا سقاك أبو بكر بكأس روية ... فأنهلك المأمور منها وعلكا4

_ 1 البيان والتبيين "4/ 38". 2 ديوان الحطيئة "25"، الأغاني "2/ 59"، البيان والتبيين "2/ 29". 3 الاستيعاب "3/ 281"، "حاشية على الإصابة". 4 الإصابة "3/ 279"، "رقم 7413"، وجاءت الأبيات على هذا النحو: ففارقت أسباب الهدى واتبعته ... على أي شيء ويب غيرك دلكا على مذهب لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولم تعرف عليه أخا لكا كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "114". "الطبعة الثانية 1970م".

ورويت الأبيات على هذه الصورة أيضا: ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا سقيت بكأس عند آل محمد ... فأنهلك المأمون منها وعلكا فخالفت أسباب الهدى وتبعته ... على أي شيء وَيْبَ غيرك دلكا1 ووردت بصورة أخرى2، مما يدل على اختلاف الرواية، ووقوع خطأ في الاستنساخ. وقد لام فيها قومه لدخول أكثرهم في الإسلام، وهجاهم هجاء مرًّا3. فبلغت أبياته رسول الله فأهدر دمه. وكتب بجير بذلك إليه، ويقول له النجاء، ثم كتب إليه أنه لا يأتيه أحد مسلما إلا قبل منه وأسقط ما كان قبل ذلك، ولما انتهى إلى "كعب" قتل "ابن خطل"، قدم المدينة فسأل عن أرق أصحاب النبي، فدل على "أبي بكر"، فأخبره خبره، فمشى "أبو بكر" وكعب على أثره وقد التثم حتى صار بين يدي النبي فقال: رجل يبايعك. فمد النبي يده، فمد كعب يده فبايعه وأسفر عن وجهه فأنشده قصيدته التي مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يجز مكبول هي قصيدته الشهيرة التي طبعت مرارا وشرحت شروحا كثيرة، وتعد من "المشوبات". فكساه النبي بردة له، فاشتراها "معاوية" من ولده بعشرين ألف درهم، وهي التي يلبسها الخلفاء في الأعياد4. وهي قصيدة نظمها على نفس شعراء البادية وطريقتهم في مدح الملوك وسادات القبائل، ولولا الأبيات:

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 80"، ابن هشام "889"، "طبعة أوروبة"، الأغاني "15/ 147 وما بعدها"، المرزباني، معجم "343"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 156"، الخزانة "4/ 8". 2 المصون "200 وما بعدها"، كارلو نالينو "114". 3 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 156". 4 الشعر والشعراء "1/ 89 وما بعدها"، "دار الثقافة"، طبقات ابن سلام "83"، المرزباني، معجم "343"، الأغاني "15/ 147"، الإصابة "3/ 279"، "رقم 7413".

نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عن رسول الله مأمول مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ ... ـقرآن فيه مواعيظ وتفصيل والبيت: إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول لقلنا: إنه إنما أراد ملكا أو سيد قبيلة لا نبيا، جاء يعلن دخوله في دينه، واقتناعه بنبوته1. ويذكر علماء الشعر أن "الحطيئة" قال لكعب: قد علمتم روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم، فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك ثم تذكرني بعدك، فإن الناس أروى لأشعاركم، فقال: فمن للقوافي شأنها من يحوكها ... إذا ما مضى كعب وفوز جرول كفيتك لا تلقى من الناس واحدا ... تنخل منها كل ما يتنخل يثقفها حتى تلين كعوبها ... فيقصر عنها من يسيء ويعمل2 وقد ذكر "ابن قتيبة" هذه الأبيات في أثناء ترجمته "زهيرا" على هذه الصورة: ومن للقوافي شأنها من يحوكها ... إذا ما توى كعب وفوز جرول يقول فلا يعيا بشيء يقوله ... ومن قائليها من يسيء ويعمل يقومها حتى تلين متونها ... فيقصر عنها كل ما يتمثل كفيتك لا تلقى من الناس شاعرا ... تنخل منها مثل ما أتنخل3 "قيل لخلف الأحمر: زهير أشعر أم ابنه كعب، قال: لولا أبيات لزهير أكبرها الناس لقلت إن كعبا أشعر منه"4.

_ 1 كارلو نالينو "104 وما بعدها". 2 الشعر والشعراء "1/ 91"، الإصابة "3/ 280"، "رقم 7413". 3 الشعر والشعراء "1/ 88". 4 الشعر والشعراء "1/ 77 وما بعدها"، الإصابة "3/ 280".

وكان لكعب ابن يقال له: "عقبة بن كعب"، شاعر، وولد لعقبة العوام، وهو شاعر كذلك1. فنحن إذن أمام بيت توارث نظم الشعر. وقد جمع علماء الشعر شعر "كعب" في ديوان، كما شرحوا وفسروا قصيدة "بانت سعاد" التي نالت عندهم مكانة كبيرة، لأنها قيلت في مدح الرسول، ولتقدير الرسول لها وإعطائه البردة، تقديرا لقيمتها، حتى عرفت بقصيدة البردة، فصارت من أشهر أشعار العرب، التي يتغنى بها في المناسبات، حتى تفنن المغنون في غنائها، وخلدت اسم الشاعر حتى اليوم. وقد ترجمت إلى عدة لغات أعجمية. وشطرت وخمست، لما صار لها من مكانة في أعين الشعراء2. ومن الشعراء المخضرمين: "العباس بن مرداس" من "بني سليم"، وأمه "الخنساء". أسلم قبل فتح مكة بيسير. ولما فرغ الرسول من رد سبايا "حنين" إلى أهلها، أعطى المؤلفة قلوبهم، وكانوا أشرافا يتألفهم ويتألف بهم قومهم، فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن كلدة، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العُزَّى، وصفوان بن أمية، وكل هؤلاء من أشراف قريش، والأقرع بن حابس بن عنان بن محمد بن سفيان المجاشعي التميمي، وعيينة بن حصن الفزازي، ومالك بن عوف النصري، أعطى كل واحد من هؤلاء مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالا من قريش، وأعطى العباس بن مرداس دون المائة، أو أباعر، فسخطها، وقام بين يدي الرسول يعاتبه، فقال: أتجعل نهبي ونهب العبيـ ... ـد بين عيينة والأقرع وأبياتا أخرى. فلما أنشد هذه الأبيات بين يديه، قال: "اقطعوا عني لسانه"، فأعطي حتى رضي. وقيل أعطي مائة3.

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 80 وما بعدها". 2 للوقوف على التفاصيل المتعلقة بقصيدة البردة خاصة. وبشعر كعب، راجع بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 156 وما بعدها"، وزيدان، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 183 وما بعدها"،ودائرة المعارف الإسلامية. 3 الخزانة "1/ 73 وما بعدها"، المرزباني، معجم "262"، الشعر والشعراء "1/ 218"، "2/ 632 وما بعدها"، الطبري "3/ 137"، اللآلي "32".

ورويت الأبيات على هذه الصورة: كانت نهابا تلافيتها ... وكرّى على القوم بالأجرع وحثي الجنود لكي يدلجوا ... إذا هجع القوم لم أهجع فأصبح نهبي ونهب العبيـ ... ـد بين عيينه والأقرع إلا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمه الأربع وما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع وقد كنت في الحرب ذا تدرأ ... فلم أُعطَ شيئا ولم أمنع وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا ترفع1 ولما بلغ زوجة العباس بن مرداس نبأ إسلامه، قالت: لعمري لئن تابعت دين محمد ... وفارقت إخوان الصفا والصنائع لبدلت تلك النفس ذلا بعزة ... غداة اختلاف المرهفات القواطع2 ومن شعره قصيدته: لأسماء رسم أصبح اليوم دارسا ... وأقفر إلا رحرحان وراكسا وتعد من "المنصفات"3. وروي أن "حرب بن أمية" جد معاوية لما انصرف من حرب عكاظ هو وإخوته مرة بقرية، وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام، قال له "مرداس" والد العباس: أما ترى هذا الموضع! قال: بلى فما له؟ قال: نعم المزدرع هو، فهل لك أن تكون شريكي فيه، ونحرق هذه الغيضة ثم نزرعه بعد ذلك؟ قال: نعم. فأضرما النار في الغيضة، فلما استطارت وعلا لهبها سمع من الغيضة أنينا وضجيجا، ثم ظهرت منها حيّات بيض تطير وخرجت منها. ولم يلبث حرب ومرداس أن ماتا: فأما مرداس فدفن بالقرية، ثم ادعاها بعد ذلك

_ 1 ابن سعد، طبقات "4/ 272"، "صادر"، وقد رويت بشيء من التغيير في كتاب الشعر والشعراء "2/ 634". 2 الأغاني "13/ 66". 3 الخزانة "3/ 518"، الحماسة "1/ 168"، البيان والتبيين "3/ 61".

"كليب بن أبي عهمة" الظفري، فقال في ذلك عباس بن مرداس: أكليب مالك كل يوم ظالما ... والظلم أنكد وجهه ملعون عجبا لقومك يحسبونك سيد ... وإخال إنك سيد معيون فإذا رجعت إلى نسائك فادّهن ... إن المسالم رأسه مدهون وافعل بقومك ما أراد بوائل ... يوم الغدير سميّك المطعون1 وكان للعباس ولد اسمه "جاهمة" أسلم وصحب النبي2. وكان "زيد الخيل بن مهلهل بن زيد" الطائي ممن وفد على رسول الله سنة تسع، فسماه النبي: "زيد الخير". وكان شاعرا خطيبا شجاعا يكنى "أبا مكنف". وأمه من "كلب". وكان أحد شعراء الجاهلية وفرسانهم المعدودين، وكان جسيما طويلا. مات "زيد الخيل" منصرفه من عند النبي، وقيل في خلافة عمر3. ذكر أنه مر بغلام، فسأله من أنت؟ قال: أنا بجير بن زهير، فحمله على ناقة، ثم أرسل به إلى أبيه. فأراد "زهير بن أبي سلمى" والد الغلام إثابته، فأرسل إليه فرس ابنه "كعب" وكانت من جياد خيل العرب، فاستاء "كعب" من ذلك، وقال شعرا ليوقع بين قوم "زهير" وبين قوم "زيد الخيل"، وهجا زيدا4. وكان لزيد الخيل ابنان، يقال لهما مكنف وحريث، أسلما وصحبا النبي وشهدا قتال "الردة" مع "خالد بن الوليد". وحماد الراوية مولى "مكنف". ولحريث شعر في رثاء "أوس بن خالد"، وكان قد قتل في حرب5. وكان "مكنف" أكبر ولد أبيه، وبه كان يكنى. وأسلم وحسن إسلامه، وشهد قتال أهل الردة مع "خالد بن الوليد". وكان أسلم هو وأخوة حريث

_ 1 الحيوان "2/ 143"، الأغاني "4/ 89"، معاهد التنصيص "1/ 13"، الحيوان "6/ 208". 2 ابن سعد، طبقات "4/ 274"، الإصابة "1/ 220 وما بعدها"، "رقم 1052". 3 الإصابة "1/ 555"، "رقم 2941"، الأغاني "16/ 6"، الخزانة "2/ 446"، عيون الأثر "2/ 236"، الشعر والشعراء "1/ 205"، "الثقافة"، الحيوان "2/ 204 وما بعدها". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 4848 وما بعدها". 5 الشعر والشعراء "1/ 205 وما بعدها".

ابن زيد الخيل" ويقال له أيضا "الحارث"، وصحبا النبي. وشهدا قتال أهل الردة مع "خالد" واشترك "مكنف" في قتال "بني أسد" لما ارتدوا مع "طليحة" الأسدي. ونسبت له هذه الأبيات في قتال طليحة: ضلوا وغرهم طليحة بالمنى ... كذبا وداعي ربنا لا يكذب لما رأونا بالفضاء كتائبا ... يدعو إلى رب الرسول ويرغب ولّوا فرارا والرماح تؤزهم ... وبكل وجه وجهوا نترقب1 و"حميد بن ثور بن حزن" الهلالي، من الشعراء المخضرمين الفصحاء، وكان كل من هاجاه غلبه. وقد وفد على النبي، فأنشده شعرا فيه: أصبح قلبي من سليمى مقصدا ... إن خطأ منها وإن تعمدا حتى أتيت المصطفى محمدا ... يتلو من الله كتابا مرشدا وذكر أنه كان في عداد الصحابة الذين رووا عن الرسول، وضعفه بعضهم. قيل إنه عاش إلى خلافة عثمان. وذكر بعض العلماء أنه عاش إلى ما بعد ذلك وأنه دخل على بعض خلفاء بني أمية، فقال له: ما جاء بك؟ فقال: أتاك بي الله الذي فوق من ترى ... وبرّك معروف عليك دليل2 وقد عدّه "ابن قتيبة" في الإسلاميين3 و"الأسود بن سريع بن حمير بن عبادة" التميمي السعيد، ممن رأى الرسول وغزا معه وروى عنه. وكان شاعرا توفي في أيام "معاوية"، وذكر أنه توفي سنة "42هـ". وقيل فقد يوم الجمل، وقيل ركب سفينة وحمل معه أهله وعياله، لما قتل "عثمان"، فما رؤي بعد. وكان قاصا، قيل إنه كان أول من قص في مسجد البصرة4.

_ 1 الإصابة "3/ 436"، "رقم 8199". 2 الإصابة "1/ 355"، "1834"، تهذيب ابن عساكر "4/ 460"، ياقوت، إرشاد "4/ 153"، العيني "1/ 177"، الأغاني "4/ 97"، السيوطي، شرح شواهد "73"، ديوانه، "دار الكتب المصرية 1951م"، الفائق "2/ 354". 3 الشعر والشعراء "1/ 306 وما بعدها". 4 الإصابة "1/ 59 وما بعدها"، "رقم 161"، الاستيعاب "2/ 72"، "حاشية على الإصابة".

وكان "ضرار بن الأزور بن مرداس" الأسدي، فارسا شجاعا وشاعرا مطبوعا، استشهد يوم اليمامة، وقيل بعد ذلك. وقد أتى النبي فأنشده: خلعت القداح وعزف القيا ... ن والخمر أشربها والثمالا وكرى المجبر في غمرة ... وجهدي على المشركين القتالا وقالت جميلة بددتنا ... وطرحت أهلك شتّى شمالا فيا رب لا أغبنن صفقة ... فقد بعت أهلي ومالي بدالا1 ولضرار قصيدة قالها في يوم الردة، لما بلغه ارتداد قومه من "بني أسد"، منها: بني أسد قد ساءني ما صنعتم ... وليس لقوم حاربوا الله محرم وأعلم حقا أنكم قد غويتم ... بني أسد فاستأخروا أو تقدموا نهيتكم أن تنهبوا صدقاتكم ... وقلت لكم: يا آل ثعلبة اعلموا عصيتم ذوي أحلامكم وأطعتم ... ضجيما وأمر ابن اللقيطة أشأم وقد بعثوا وفدا إلى أهل دومة ... فقبح من وفد ومن يتيمم ولو سئلت عنا جنوب لخبرت ... عشية سالت عقرباء بها الدم وضجيم هو "طلحة بن خويلد"، كانت أمه حميرية أخيذة، وابن اللقيطة: "عيينة بن حصن"، وقوله: يا آل ثعلبة، أراد ثعلبة الحلاف بن دودان بن أسد. وعقرباء بأرض اليمامة2. وكان "عيينة" قد انضم إلى "طلحة" الذي تسميه الموارد "طليحة" استصغارا لشأنه، كما دعت "مسلمة" "مسيلمة"، وقال: "والله لأن نتبع نبيا من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبيا من قريش؛ وقد مات محمد، وبقي "طليحة"، وقاتل معه حتى هرب. وكان يدير المعركة وهو متلفف في كساء له بفناء بيت له من شعر، يتنبأ لهم، والناس يقتتلون، حتى جاءه الوحي بقوله: "إن لك رحا كرحاه، وحديثنا لا تنساه"، ثم لم يصمد، فهرب3. وضرار هو الذي قتل "مالك بن نويرة" بأمر "خالد بن الوليد"4.

_ 1 الإصابة "2/ 200"، "رقم 4172"، الاستيعاب "2/ 203"، "حاشية على الإصابة". 2 الخزانة "2/ 5 وما بعدها"، "بولاق". 3 الطبري "3/ 256". 4 الخزانة "2/ 8 وما بعدها"، "بولاق".

وكان "هوذة بن علي" الحنفي شاعرا وخطيبا، ذكر أنه كتب إلى الرسول كتابا يقول فيه: "ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر اتبعك". وقد مات عام الفتح1. وهو شاعر يجب إدخاله في الجاهليين، لأنه لم يعتنق الإسلام، وقد تحدثت عنه هنا، لأنه من المتأخرين، وله خبر مع الرسول. و"فروة بن مسيك بن الحارث بن سلمة" المرادي، شاعر، وهو صحابي مخضرم. وكان من أشراف قومه، قدم على رسول الله، مفارقا لملوك كندة، فبايعه، ونزل على "سعد بن عبادة"، فكان يحضر مجلس رسول الله ويتعلم القرآن وفرائض الإسلام. ثم استعمله الرسول على مراد وزبيد ومذحج كلها، وكتب معه كتابا إلى الأبناء باليمن يدعوهم إلى الإسلام، فأقام فيهم حتى توفي رسول الله. وذكر أن النبي، أجاز "فروة" باثني عشر أوقية، وحمله على بعير نجيب وأعطاه حلة من نسج عمان. واستعمله "عمر" -كماجاء في رواية- على صدقات مذحج2. وقد جمع شعر "فروة" في ديوان، رجع "السيوطي" إليه، ونقل منه3. و"عمرو بن معد يكرب" الزبيدي من أشراف اليمن وساداتهم، وقد اشتهر وعرف بالشجاعة، قال عنه "أبو عمرو بن العلاء": "لا يفضل عليه فارس في العرب". وكان فحلا في الشجاعة والشعر. وأكثر شعره في الحماسة. وقد اشتهر سيفه "الصمصامة"، والأرجح أنه شهد "القادسية"، وكان له أثر فيها. واختلف في صبحته للنبي، فمن العلماء من ذكر أنه لم يلق الرسول، وإنما قدم المدينة بعد وفاته، ومنهم من ذكر أنه قدم المدينة في وفد "زبيد"؛ فأسلم سنة تسع أو عشر، وصحب الرسول. ولا تخلوا أقوال الرواة فيه من أثر العصبية لليمن أو عليها، وقد اختلف في عمره، وأكثره أنهم مات بعد أن تجاوز المائة. ومنهم من جعل عمره فوق المائة والخمسين4. وهو ابن خالة "الزبرقان بن بدر".

_ 1 ابن سعد، الطبقات "1/ 262". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 82 وما بعدها". 3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 82". 4 الإصابة "3/ 18 وما بعدها"، "رقم 5972"، الأغاني "14/ 24"، المؤتلف "156"، المرزباني، معجم "208"، الخزانة "1/ 442"، "3/ 460"، الشعر والشعراء "1/ 286 وما بعدها".

التميمي، وأخته "ريحانة بنت معدي كرب" والدة "دريد بن الصمة"، و "عبد الله بن الصمة". وكانت تحت "الصمة بن الحارث"1. وورد في بعض الروايات، أنه قدم على رسول الله المدينة فأسلم، ثم ارتد بعد وفاته فيمن ارتد باليمن، ثم عاد إلى المدينة فشهد اليرموك ثم هاجر إلى العراق فأسلم، وشهد القادسية، وله بها أثره وبلاؤه، وشهد مع النعمان بن مقرن المزني فتح نهاوند، فقتل هنالك، مع النعمان وطليحة بن خويلد، فقبروهم بموضع يقال له: "الإسفيذهان"2. ومن شعره الذي يتمثل به، قوله: إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوره إلى ما تستطيع وقوله: أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليك من مراد وتمثل به علي بن أبي طالب، لما رأى عبد الرحمن بن ملجم المرادي3. ولعمرو بن معد يكرب، ديوان برواية "أبي عمرو الشيباني" رآه "ابن حجر" وقاله عنه "ورأيت في ديوانه رواية أبي عمرو الشيباني من نسخة فيها خط أبي الفتح بن جني قصيدة يقول فيها: والقادسية حين زاحم رستم ... كنا الكماة نهز كالأشطان ومضى ربيع بالجنود مشرقا ... ينوي الجهاد وطاعة الرحمن4 وأورد "ابن حجر" له أشعارا أخرى. ونجد لعمرو بن معدي كرب شعرا في وصف الحرب، ذكر أن "عمر" سأله:

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 289". 2 الشعر والشعراء "1/ 289 وما بعدها"، الخزانة "1/ 425 وما بعدها"، "بولاق". 3 المرزباني، معجم "16"، "فراج". 4 الإصابة "3/ 20"، "رقم 5972"، الأغاني "14/ 24"، الخزانة "1/ 425"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 419".

"أخبرني عن الحرب"، فقال: هي كما قال الشاعر: الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول حتي إذا استعرت وشب ضرامها ... عادت عجوزا غير ذات حليل شمطاء جزت رأسها وتنكرت ... مكروهة للضم والتقبيل وهي في بضع الروايات من شعره1. ومن شعر "عمرو بن معدي كرب" قوله: سوى أن أصوابا بأعقق لم يزل ... بها آنس من أهلها غير بارح وجدنا به العمرين عمرو بن عدية ... وعمرو بن عمرو في حلال سُلاطح وجدنا بني عمرو ثمانين فارسا ... لكل صباح كاشر الناب كالح وكان الغدانيون تحت رماحهم ... رماح بني عمرو غداة المصابح مصافين أصهارا ورحما وجيرة ... وما كان فيهم فارس غير جامح وقوله: وجدك مخصي على الوجه ناعس ... تشير به الركبان ما قام أفرع3 وله أشعار قالها في حروبه في العراق مع جيش الفتح. و"ساعدة بن جؤية" "ساعدة بن جؤين" "جؤية"، هو من الشعراء المخضرمين، أدرك الجاهلية والإسلام، وأسلم، وليست له صحبة. قيل عن شعره إنه محشو بالغريب والمعاني الغامضة4. وهو شاعر من شعراء مضر، محسن، قيل عن شعره إنه ليس فيه من الملح ما يصلح للمذاكرة5.

_ 1 شرح ديوان الحماسة "1/ 252، 368، 408"، الجمان في تشبيهات القرآن "339". 2 الصفة "115". 3 الصفة "126". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 19، 156"، ديوان الهذليين "1/ 167"، الخزانة "1/ 267 وما بعدها"، "ساعدة بن جوين ويقال ابن حرية ... قال أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي: ساعدة بن حوية"، الإصابة "2/ 106"، "رقم 3650". 5 الخزانة "1/ 476"، "بولاق".

و "أبو ذؤيب" "خويلد بن خالد بن محرث"، شاعر مخضرم، مجيد. وهو من "هذيل". رحل إلى المدينة، فوصلها والرسول مسجى، فكان ممن صلى عليه وشهد دفنه. "سئل حسان من أشعر الناس؟ فقال حيّا أم رجلا؟ قالوا حيّا، قال: هذيل، وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب. وتقدم أبو ذؤيب على جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية التي أولها: أمن المنون وريبها تتوجع1 ... التي يرثي بها بنيه. وقد قال عنه بعض المؤرخين إنه شاعر مجيد مخضرم كان أشعر هذيل، وهذيل أشعر أحياء العرب2. وقال المرزباني عنه: كان فصيحا كثير الغريب متمكنا من الشعر، وعاش في الجاهلية دهرا وأدرك الإسلام، وأسلم. وعامة ما قاله من الشعر في إسلامه3. هلك في زمان عثمان وقيل في زمن "عمر"4 وكان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي5. وتعد قصيدته المذكورة التي قالها في رثاء بنيه الخمسة أو الثمانية الذين قتلوا أو هلكوا بالطاعون في عام واحد، من أجود شعره. وهي قصيدة تفيض بالأسى والحنان على بنيه الذين ترك فراقهم أسى وحسرة في قلبه. وأولها: أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع ومن أبياتها الجيدة: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع6

_ 1 السيوطي "شرح شواهد "1/ 29"، الشعر والشعراء "2/ 547 وما بعدها"، الأغاني "6/ 56 وما بعدها"، الخزانة "1/ 201"، المؤتلف "19"، ابن سلام، طبقات "110"، معاهد التنصيص "2/ 165". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 30"، ديوان الهذليين "1/ 158"، "دار الكتب المصرية". 3 الإصابة "4/ 66"، "رقم 288"، حسن المحاضرة "1/ 113"، أسد الغابة "5/ 188"، ياقوت، إرشاد "4/ 185 وما بعدها". 4 السيوطي، شرح "1/ 30 وما بعدها"، الإصابة "4/ 66"، "رقم 288"، رسالة الغفران "151، 166، 199، 200". 5 الشعر والشعراء "2/ 547 وما بعدها". 6 جمهرة أشعار العرب "128 وما بعدها"، "بولاق"، السيوطي، شرح شواهد "92 وما بعدها"، كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "111 وما بعدها".

وقد وصف فيها حاله، وكيف أن جسمه صار شاحبا من الوجد على ما حل ببنيه، وكيف أنه صار لايعرف طعم الراحة ولا النوم، حتى صار بعيش ناصب، يخال نفسه إنه لاحق بهم مستتبع، ولقد حرص بأن يدافع عنهم، ولكن المنية متى أقبلت فلا دافع لها: ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... وإذا المنية أقبلت لا تدفع وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع ولأبي ذؤيب شعر في رثاء الرسول وردت أبيات منها في "الاستيعاب" وقد اختلف في المكان الذي توفي به هذا الشاعر، كما اختلف في سنة وفاته1. وقد طبع ديوانه2. وكان أبو ذؤيب، شاعرا فحلا، لا غميزة فيه ولا وهن3. ومن شعره في رثاء الرسول قوله: لما رأيت الناس في عسلانهم ... من بين ملحود له ومضرح متبادرين لشرجع بأكفهم ... نص الرقاب لفقد ابيض أروح فهناك صرت إلى الهموم ومن يبت ... جار الهموم يبيت غير مروح كسفت لمصرعه النجوم وبدرها ... وتزعزعت آطام بطن الأبطح وتزعزعت أجبال يثرب كلها ... ونخيلها لحلول خطب مفدح ولقد زجرت الطير قبل وفاته ... بمصابه وزجرت سعد الأذبح4 وكان لأبي ذؤيب ابن يقال له "مازن بن خويلد"، ويكنى أبا شهاب، وهو أحد شعراء هذيل5. و"أبو خراش"، "خويلد بن مرة الهذلي" من شعراء هذيل، وهو شاعر مشهور، أدرك الإسلام شيخا كبيرا ووفد على "عمر" وفي أيامه كانت وفاته. وكان أحد الفصحاء. يقال إنه كان سريع الجري. دخل مكة

_ 1 الاستيعاب "4/ 67"، "حاشية على الإصابة"، الخزانة "1/ 203"، "بولاق". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 169 وما بعدها". 3 ابن سلام، طبقات "29"، "ليدن"، أمالي المرتضى "1/ 217، 259، 293، 492، 616". 4 الروض الأنف "2/ 379". 5 الشعر والشعراء "2/ 550".

في الجاهلية، وللوليد بن المغيرة فرسان، فقال: ما تجعل لي إن سبقتهما عدوا؟ قال: إن فعلت فهما لك، فسبقهما. يقال إن ضيوفا من اليمن نزلوا عليه، فذهب يستقي لهم الماء فنهشته حية، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء، ولم يعلمهم ما أصابه. فباتوا يأكلون، فلما أصبحوا وجدوه في الموت، فأقاموا حتى دفنوه. فبلغ عمر خبره. فكتب إلى عامله أن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرمهم ديته1. ومن شعره: لا هم هذا رابع إن تما ... أتمه الله وقد أتما إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما قاله وهو يسعى بين الصفا والمروة، وثم شجر يومئذ2. ولأبي خراش أخ يقال له: "عروة بن مرة"، من شعراء هذيل المعدودين، وأخ آخر اسمه "أبو جندب بن مرة"، أحد شعراء هذيل المعدودين أيضا3. و"صخر" الغي، هو "صخر بن عبد الله" الخيثمي الهذلي، من شعراء الخلاعة، وقد عرف بشدة بأسه وكثرة شره، وله صاحبه اسمها "دهماء". وقد ذكرها في قصيدته: إني بدهماء عز ما أجد ... يعتادني من حبابها زؤد عاودني حبها وقد شحطت ... صرف نواياها فإنني كمد4

_ 1 الإصابة "1/ 457"، "رقم 2345"، الخزانة "3/ 232"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 423"، الأغاني "21/ 54"، طبع ديوانه في مجموعة الشعراء الهذليين، الخزانة "1/ 212 وما بعدها"، "بولاق". j. hell, neue hudhailiten diwane, 2 leipzig, 1933 كارلو نالينو، تأريخ الآداب العربية "111". 2 السيوطي، شرح شواهد "2/ 652"، الخزانة "1/ 211". 3 الشعر والشعراء "2/ 554 وما بعدها". 4 رسالة الغفران "345"، الشعر والشعراء "2/ 559"، الأغاني "20/ 19"، ديوان الهذليين "2/ 57"، الإصابة "2/ 192"، "رقم 4127".

وهو على رأي "المرزباني" من المخضرمين1. و"النمر بن تولب بن زهير بن أقيش"، شاعر مخضرم، يكنى "أبا ربيعة" ويسمى "الكيّس"، أدرك الإسلام وهو كبير، وهو من "الصحابة". وهو من "بني عكل". وصف بأنه كان جوادا واسع القرى، كثير الأضياف، وهابا لماله. وأنه كان أفتى الشعراء، شاعرا فصيحا جريئا على المنطق2. قال عنه "المرزباني": كان شاعرا فصيحا، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتابا، ونزل البصرة بعد ذلك. وكان أبو عمرو بن العلاء يسميه الكيّس لجودة شعره وكثرة أمثاله. وكان جوادا وعمر طويلا حتى أنكر عقله، فيقال إنه عمر مائتي سنة. وهو القائل: يحب الفتى طول السلامة جاهدا ... فكيف يرى طول السلامة يفعل وله شعر يخاطب به النبي منه: إنا أتيناك وقد طال السفر ... أقود خيلا وجعا فيها ضرر3 وفرق "ابن حزم" بين "النمر بن تولب بن أقيش" العكلي، وبين "النمر بن تولب" وبين "النمر بن قاسط". وقال إنه الذي عاش حتى خرف. ويقال إن للنمر بن تولب العكلي ابنا يقال له "ربيعة" هاجر إلى الكوفة4. وكان "النمر" شاعر الرباب في الجاهلية، ولم يمدح أحدا ولا هجا، واستحسن من شعره قوله:

_ 1 الإصابة "2/ 192"، "رقم 4127". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 181 وما بعدها"، الأغاني "22/ 287"، طبقات الشعراء "134"، الشعر والشعراء "268"، العمدة "2/ 118"، الشعر والشعراء "1/ 227 وما بعدها"، "دار الثقافة"، الأغاني "19/ 157"، "ساسي"، المعمرون "70، 87"، الخزانة "1/ 152"، ابن سلام، طبقات "133"، "37"، "ليدن"، البيان والتبيين "1/ 3، 12، 55، 154، 184، 185، 284، 408"، "2/ 134"، "3/ 44"، البخلاء "163، 229، 384"، رسالة الغفران "153". 3 تختلف روايات هذا الشعر، الإصابة "3/ 542"، "رقم 8804"، الاستيعاب "3/ 549 وما بعدها"، "حاشية على الإصابة". 4 الإصابة "3/ 543"، "رقم 8804".

تدارك ما قبل الشباب وبعده ... حوادث أيام تمر وأغفل يود الفتى طول السلامة والغنى ... فيكف يرى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل1 ومن الشعر المنسوب إليه قوله: خاطر بنفسك كي تنال رغيبة ... إن القعود مع العيال قبيح إن المخاطر مالك أو هالك ... والجد يجدي مرة فيريح وقوله: ومتي تصبك خصاصة فارج الغنى ... وإلى الذي يهب الرغائب فارغب لا تغضبن على امرئ في ماله ... وعلى كرائم أصل مالك فاغضب2 وقد تعرض "النمر بن تولب" في شعره إلى قصة "زرقاء" اليمامة وجديس، وإلى قصة غزو "تبع" لجديس واستباحته اليمامة3. وقد ورد ذكر "عادياء" في شعره بقوله: هلا سألت بعادياء وبيته ... والخيل والخمر التي لم تمنع4 وفي شعره قصص عن "لقمان" وعن "لقيم بن لقمان" من أخته5، ويظهر أنه كان من الأشخاص الذين كانوا يهتمون بالقصص والحكايات المروية عن الجاهليين، فأدبج شيئا منه في شعره. و"الخنساء بنت عمرو بن الشريد بن رياح بن ثعلبة بن عُصيّة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم" السلمية، واسمها "تماضر"، ممن أدركن الإسلام. وقد أسلمت فعدت صحابية. و "الخنساء" لقبها، قدمت على رسول الله مع قومها فأسلمت. وذكر أن الرسول كان يستنشدها ويعجبه شعرها.

_ 1 الاستيعاب "3/ 551"، الخزانة "1/ 156"، "بولاق". 2 بلوغ الأرب "3/ 134 وما بعدها". 3 الخزانة "1/ 155 وما بعدها"، "بولاق". 4 البخلاء "164". 5 البيان والتبيين "1/ 184".

"وأجمع أهل العلم بالشعر على أنه لم يكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها. وكانت أول أمرها تقول البيتين والثلاثة حتى قتل أخوها معاوية ثم أخوها صخر، فأكثرت من الشعر وأجادت"1. وهي أم الشاعر "العباس بن مرداس"، وأم إخوته الثلاثة وكلهم شاعر. ولم تلد إلا شاعرا، وذكر "الكلبي" أن أم ولد "مرداس" جميعا الخنساء، إلا العباس، فإنها ليست أمه، ولم يذكر من أمه. غير أن "أبا فرج الأصبهاني" ذكر أنها أمه. وكان النبي يعجبه شعرها ويستنشدها ويقول هيه يا خناس ويومئ بيده2. روي أنها كانت تقول الشعر في زمن النابغة الذبياني، وكان النابغة تضرب له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، وكانت "الخنساء" ممن أنشدته شعرها، ويقال إنه لما سمع شعرها، قال: "والله مارأيت ذات مثانة أشعر منك، فقالت له الخنساء: والله ولا ذا خصيين"3. ومن جيد شعرها، قولها في "صخر" أخيها: لا بد من ميتة في صرفها غير ... والدهر من شأنه حول وإضرار وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار4 وذكر أنها كانت سوّمت هودجها براية في الموسم، وعاظمت العرب بمصيبتها بابنها "عمرو" وبأخويها صخر ومعاوية، وجعلت تشهد الموسم وتبكيهم، وأن هندا ابنة عتبة لما قتل ببدر أبوها وعمها شيبة وأخوها الوليد فعلت كذلك وقالت: اقرنوا جملي بجمل الخنساء، فصارتا تبكيان وتتناشدان5. وروي أن رسول الله كان يستحسن قول الخنساء في صخر أخيها: لا بد من ميتة في صرفها غير ... والدهر من شأنه حول وإضرار

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "1/ 253 وما بعدها"، الخزانة "1/ 209"، "بولاق"، الأغاني"13/ 19"، الخزانة "3/ 403"، بروكلمان "1/ 164 وما بعدها". 2 الخزانة "1/ 208 وما بعدها"، "بولاق". 3 الشعر والشعراء "1/ 260 وما بعدها". 4 المحاسن والأضداد "93"، "أشم أبلج تأتم الهداة به"، الشعر والشعراء "1/ 263". 5 السيوطي، شرح شواهد "255".

وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وذكر أنها زارت "عائشة" وتحدثت معها1. وروي أنها حضرت حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فحثتهم على القتال والاستماتة فقتلوا جميعا، فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلتهم. وكان "عمر" أمر أن تعطى الخنساء أرزاق أولادها الأربعة حتى توفي2، وله قصة معها، وذكر أنه لما طلب منها أن تكف عن البكاء، قال لها: "ما الذي أقرح ما في عينيك؟ قالت: البكاء على سادات مضر، قال: إنهم هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاد اللهب وحشو جهنم. قالت: فداك أبي وأمي فذلك الذي زادني وجعا". ثم طلب منها أن تنشده من شعرها، فأنشدته: سقى جدثا أعراق غمرة دونه ... وبيشة ديمات الربيع ووابله3 و"خفاف بن ندبة"، هو "خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية" ويكنى أبا خراشة، وهو ابن عم الخنساء و "ندبة" أمه. وهو شاعر مشهور من المخضرمين، وله شعر يمدح به "أبا بكر"، وبقي إلى زمن "عمر"، وكان أسود حالكا4. شهد الفتح وكان معه لواء "بني سليم"، وذكر "الأصمعي"، أنه ودريد أشعر الفرسان. وله يقول: العباس بن مرداس: أبا خراشة أما أنت ذا نفر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع5 ويعد من فرسان قيس وشعرائها المذكورين. وضابئ بن الحارث بن أرطأة البجرمي، وسويد بن كراع العكلي، والحويدرة الذبياني، واسمه قطبة بن أوس بن محصن بن جرول، وسحيم عبد بني الحسحاس الأسديين، من طبقة واحدة، تكون الطبقة التاسعة في "طبقات الشعراء "،

_ 1 المحاسن والأضداد "93". 2 السيوطي، شرح شواهد "1/ 254". 3 المحاسن والأضداد "94". 4 السيوطي، شرح شواهد "1/ 325". 5 الإصابة "1/ 448"، "رقم 2273".

لابن سلام1. وكان "ضابئ"، رجلا بذيًّا كثير الشر، وكان بالمدينة، صاحب صيد وصاحب خيل، وقد حبسه عثمان، وبقي في سجنه حتى مات2. و"سحيم" عبد بني الحسحاس، شاعر مشهور مخضرم، أدرك النبي، وتمثل النبي بشيء من شعره. وكان عبدا أسود شديد السواد أعجميا. وذكر أن اسم "عبد بني الحسحاس" "حميمة"، وقيل "سُحيم"، وأنه شبب بنساء قومه، ثم ببنت سيده فقتله سيده. وقيل إن قتله كان في خلافة عثمان3. وله ديوان مطبوع4. وورد أن "عمر" أمر بقتله لأبيات فاحشة. وذكر أنه حُفر له أخدود وضع فيه وألقي عليه الحطب ثم أحرق5. وورد أن "عمر" استنشده شعره، وأنه أنشده قصيدته: ودع سليمى إن تجهزت غاديا ... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا6 وكان سحيم حبشيا معلّطا قبيحا، وهو القائل في نفسه: أتيت نساء الحارثيين غدوة ... بوجه يراه الله غير جميل فشبهني كلبا ولست بفوقه ... ولا دونه إن كان غير قليل اشتراه "عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي"، وكتب إلى "عثمان": "إني قد اشتريت لك غلاما حبشيا شاعرا، فكتب إليه عثمان: لا حاجة بنا إليه، فاردده، فإنما حظ أهل العبد الشاعر منه إذا شبع أن يشبب بنسائهم، وإذا جاع أن يهجوهم". "ويقال سمعه عمر بن الخطاب ينشد: ولقد تحدر من كريمة بعضهم ... عرق على جنب الفراش وطيب

_ 1 "ص39 وما بعدها". 2 ابن سلام، طبقات "40". 3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 327"، الخزانة "1/ 273"، الأغاني "20/ 9"، الخزانة "1/ 271"، ابن سلام، طبقات "156"، أسماء المغتالين "272"، ديوان المعاني، للعسكري "2/ 166"، الخزانة "1/ 128 وما بعدها"، "بولاق". 4 ديوان سحيم عبد بني الحساس "تحقيق عبد العزيز الميمني"، "دار الكتب المصرية 1950م". 5 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 171". 6 الإصابة "2/ 108"، "رقم 3664".

فقال له: إنك مقتول، فسقوه الخمر ثم عرضوا عليه نسوة، فلما مرت به التي كان يتهم بها أهوى إليها، فقتلوه"، إلى غير ذلك من قصص1. و"سحيم بن وثيل بن أعيقر بن أبي عمرو بن إهاب بن حميري" الرياحي، شاعر مخضرم، تفاخر هو وغالب بن صعصعة والد الفرزدق، فتناحرا الإبل وقد وصف بأنه شاعر خنذيذ شريف مشهور الذكر في الجاهلية والإسلام. وله قصيدة مطلعها: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني وماذا يدرك الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين2 و"ربيعة بن مقروم بن قيس بن جابر بن خالد" الضبي، أحد الشعراء المخضرمين، وكان أحد شعراء مضر. ذكر أنه وفد على كسرى في الجاهلية، ثم عاش إلى أن أسلم3. "وذكره دعبل في طبقات الشعراء، وقال مخضرم حبسه كسرى بالمشقر ثم أدرك القادسية"4. وكانت عبد القيس أسرته، ثم منت عليه بعد دهر5. والشاعر "أبو زيد، حرملة بن المنذر بن معد يكرب بن حنظلة" الطائي من شعراء طيء، وكان نصرانيا ومات على دينه بعد خلافة عثمان6. وكان نديم

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 320 وما بعدها"، الخزانة "2/ 102 وما بعدها"، "عبد السلام محمد هارون"، المحاسن والأضداد "143 وما بعدها". 2 الخزانة "1/ 123"، البيان والتبيين "2/ 246"، الأمالي "1/ 246"، الاشتقاق "224"، الشعر والشعراء "626"، الأصمعيات "رقم 1"، السيوطي، شرح شواهد "1/ 459 وما بعدها"، الشعر والشعراء "2/ 538"، "دار الثقافة"، ابن سلام، طبقات "489"، ذيل الأمالي "3/ 52"، الأغاني "19/ 5"، الإصابة "2/ 109"، "رقم 3665". 3 السيوطي، شرح شواهد "1/ 467"، "2/ 860"، شرح المفضليات "335"، الخزانة "3/ 569"، الأغاني "19/ 90"، السمط "37". 4 الإصابة "1/ 511"، "رقم 2736". 5 الشعر والشعراء "1/ 236وما بعدها". 6 السيوطي شرح شواهد "2/ 640 وما بعدها"، الأغاني "11/ 23"، ابن سلام، طبقات "132 وما بعدها"، الخزانة "2/ 155"، الأمالي، للقالي "3/ 183"، جمهرة أشعار العرب "138".

"الوليد بن عقبة"، يشرب الخمر معه، ولما صار "الوليد بن عقبة" إلى "الرقة"، سار "أبو زيد" إليه، فكان ينادمه، وكان يحمل في كل يوم أحد إلى البيعة، فيحضر مع النصارى، ويشرب، ولما مات دفن على "البليخ"، وهناك أيضا قبر "الوليد بن عقبة"1. وقد اشتهر بوصف الأسد، وكان مغرى بوصفه في شعره2. وورد في رواية أنه أسلم بتأثير "الوليد بن عقبة" عليه. لكن الأغلب أنه بقي على نصرانيته، وقد استعمله "عمر" على صدقات قومه، ولم يستعمل نصرانيا غيره. قيل إنه رثى "علي بن أبي طالب" وكان له أخ "من خلصة ملوك العجم". وذكر أنه بقي إلى أيام معاوية3. و"الشماخ بن ضرار" الذبياني من الشعراء كذلك، أدرك الجاهلية والإسلام. و "الشماخ" لقب، واسمه "معقل"، وقيل "الهيثم". "قال ابن الكلبي: كان الشماخ أوصف الناس للخمر وللقوس"، وأرجز الناس على بديهة، وهو كثير الهجاء، له مهاجاة مع "الحليج بن سعد" التغلبي. وله شعر في مدح "عرابة" الأوسي، وكان قدم المدينة، فأوقر له عرابة راحلته تمرا وبرا وكساه وأكرمه4. وكان له أخوان: مزرد وجزء، رويت مقطعات صغيرة من شعرهما. وللشماخ ديوان شعر مطبوع5. قال عنه "ابن سلام": "فأما الشماخ: فكان شديد متون الشعر، أشد أسر الكلام من لبيد، وفيه كزازة. ولبيد أسهل منه منطقا، وكان للشماخ إخوة، وهو أفحلهم، ومزرد هو أشبههم به6. ذكر أن "الوليد بن عبد الملك" أنشد شيئا من شعره في وصف الحمير، فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمارا. قيل: كان يهجو قومه

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 221". 2 بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 173". 3 الإصابة "4/ 80". 4 الإصابة "2/ 151 وما بعدها"، "رقم 3981"، الشعر والشعراء "1/ 234 وما بعدها"، السيوطي، شرح شواهد "2/ 896". 5 الشعر والشعراء "1/ 232 وما بعدها"، الأغاني "8/ 97"، الخزانة "1/ 526"، الموشح "67"، ابن سلام، طبقات "110"، المؤتلف "138"، ديوانه، "طبعة أحمد بن الأمين الشنقيطي"، "القاهرة 1327هـ"، بروكلمان "1/ 170"، كارلو نالينو، تأريخ آداب العرب "110 وما بعدها". 6 ابن سلام، طبقات "29".

وضيفه ويمنّ عليهم بقراه، وهو أرجز الناس على البديهة. وجعله "الجمحي" في الطبقة الثانية من شعراء الإسلام، وقرنه بالنابغة الجعدي، ولبيد، وأبي ذؤيب الهذلي. وقال: إنه كان شديد متون العشر، أشد كلاما من لبيد1. وكان معاصرا للحطيئة، ويروى أن "الحطيئة" كان يعدّه أشعر بني غطفان2. وأخوه "مزرد"، واسمه "جزء بن ضرار". وقيل يزيد وجزء أخوهما. وهو "مزرد بن ضرار بن سنان بن عمر بن جحاش بن بجالة الغطفاني" الثعلبي. يقال مزرد لقب له، لقب به لقوله: فقلت تزردها عبدي فإنني ... لزرد الشيوخ في الشباب مزرد وكان يكنى "أبا ضرار"، وقيل: "أبا الحسن"، وهو أسن من الشماخ، وكان هجّاءً حلف أن لا ينزل به ضيف إلا هجاه، ولا سكب سنه ولا بيت بيته إلا هجاء، ثم أدرك الإسلام فأسلم. قدم على رسول الله فأنشد له أبياتا منها: تعلم رسول الله لم أر مثلهم ... أحسن على الأدنى وأقرب للفضل تعلم رسول الله أنا كأننا ... أفأنا بأنمار ثعالب ذي غسل وأنمار رهطه، وكان يهجوهم. وورد عن "عائشة" أنها قالت: من صاحب هذه الأبيات: تعني التي في عمر لما مات: جزى الله خيرا من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق قالوا: مزرد، فسألت من مزرد؟ فحلف بالله أنه لم يشهد الموسم تلك السنة، ومنهم من نسب هذه الأبيات التي قبلها للشماخ3.

_ 1 الخزانة "1/ 526"، "بولاق". 2 بروكلمان، "1/ 170". 3 الإصابة "3/ 385"، "7921".

ومعن بن أوس بن نصر بن زياد المزني، شاعر مجيد فحل من المخضرمين. عمر إلى أيام ابن الزبير1، وهو من شعراء مضر. ذكر "المرزباني"، أنه كان رضيع "عبد الله بن الزبير"، وكان مصاحبا له، وكف في آخر عمره2. و"سويد بن أبي كاهل" أو "سويد بن غطيف" وقيل اسمه: "غطيف بن حارثة" اليشكري، ويقال "الوائلي"، ويقال "الغطفاني"، ويكنى "أبا سعيد"، هو شاعر مخضرم. وهو صاحب قصيدة مطلعها: بسطت رابعة الحبل لنا ... فوصلنا الحبل منها ما اتسع وهي قصيدة من أغلى الشعر وأنفسه في نظر علماء الشعر، ذكر أن العرب كانت تفضلها وتقدمها، وتعدها من حكمها، وكانت في الجاهلية تسميها "اليتيمة" لما اشتملت عليه من الأمثال. وللشاعر شعر كثير، ولكن برزت هذه على شعره3. ذكر أنه كان إذا غضب على قومه، ادعى إلى غطفان، فقال رجل من "بني شيبان": من يشتري مسجدي ذبيان إذ ظعنوا ... إلى فزارة أو من يشتري الدارا فأجابه سويد: إن المساجد لا تباع وإنما ... باعت كحيلة بظرها البيطارا4

_ 1 السيوطي، شرح شواهد "2/ 808"، جعل "زيدان" وفاته سنة "29هـ"، تأريخ آداب اللغة العربية "1/ 184". 2 الأغاني "10/ 164"، الخزانة "2/ 258"، المرزباني، معجم الشعراء "ص322"، راجع معاهد التنصيص "694"، عيون الأخبار "3/ 18"، شرح الحماسة، للمرزوقي "1126"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 172 وما بعدها"، معن بن أوس، لمصطفي كمال، القاهرة "1927م". 3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 740، حاشية2"، الشعر والشعراء "1218، 184"، "1/ 334" دار الثقافة، الخزانة "2/ 546"، الأغاني "11/ 171"، شعراء النصرانية "425"، طبقات ابن سلام "35، 128"، المزهر "2/ 487"، الإصابة "2/ 117"، "رقم 3720". 4 الاشتقاق "205".

وعدّ من المعمرين، ذكر أنه عمر في الإسلام ستين سنة بعد الهجرة1. وقد وضعه "ابن سلام" مع الحارث بن حلزة، وعنترة، وعمرو بن كلثوم في الطبقة السادسة من شعراء الجاهلية2. و"الزبرقان بن بدر" شاعر تميم من الشعراء المخضرمين. وكان اسمه "الحصين". ولما قدم وفد "تميم" إلى المدينة في أشرافهم، كان الزبرقان أحدهم، ولما تفاخروا بأنفسهم وتباهوا بفعالهم، قالوا للرسول: يامحمد ائذن لشاعرنا، فقال: نعم، فقام الزبرقان بن بدر، فقال قصيدته التي مطلعها: نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع3 وذكر أن الرسول ولاه صدقات قومه فأداها في الردّة إلى أبي بكر فأقره، ثم إلى عمر4. وقد هجا "الحطيئة" الزبرقان بن بدر، وكان سبب ذلك أن الحطيئة لقي الزبرقان بـ "قرقرى" ومعه ابناه أوس وسوادة وبناته وامرأته فعرفه الزبرقان وسأله أين تريد؟ قال: العراق لأصادف من يكفيني عيالي وأصفيه مدحي، فقال له: لقيته، قال: من؟ قال: أنا، قال: من أنت؟ قال الزبرقان بن بدر. وكتب له كتابا إلى امرأته، لتعطيه وتنفق عليه، فبلغ ذلك: "بغيض بن عامر" وإخوته وبني عمه، وكانوا ينازعون "الزبرقان" الرياسة، فدسوا إلى "أم بدرة" امرأة الزبرقان أن الزبرقان ير يد أن يتزوج بنت "الحطيئة"، ولذلك أمرك أن تكرميه، فجفته أم بدرة، فأرسل بغيض وأهله إلى "الحطيئة" أن ائتنا فنحن أحسن لك جوارا من الزبرقان، وأطمعوه ووعدوه، فتحول إليهم، فلما جاء "الزبرقان" بلغه الخبر فركب إليهم، فقال لهم: ردوا علي جاري، فأبوا حتى كاد أن يكون بينهم حرب، فحضرهم أهل الحي فاصطلحوا على أن يخيروه

_ 1 الخزانة "2/ 546 وما بعدها"، "بولاق". 2 الطبقات "35"، رسالة الغفران "137". 3 الطبري "3/ 116"، "دار المعارف"، "قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات". 4 الإصابة "1/ 524 وما بعدها"، "رقم 2782".

فاختار بغيضا ورهطه، فجعل الحطيئة يمدحهم من غير أن يتعرض بالزبرقان، فلم يزل كذلك حتى أرسل الزبرقان إلى شاعر من "النمر بن قاسط" يقال له: "دثار بن شيبان" فهجا بغيضا وآل بيته، فلما سمع الحطيئة شعر دثار، حمي لجيرانه، فقال شعره في الزبرقان معرضا به، فاستعدى الزبرقان "عمر" عليه، فحبس الحطيئة أياما، فقال وهو محبوس: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر وشفع له "عمرو بن العاص" فأطلقه1. وقيس بن عاصم بن سنان المنقري، من الصحابة ومن الشعراء الفرسان الشجعان. ومن الحلماء. قدم في وفد تميم على النبي، فقال رسول الله: "هذا سيد أهل الوبر"2. وقد عاش بعد الرسول3. و"عمرو بن سنان بن سُمي بن سنان بن خالد بمن منقر" المنقري، من "بني منقر"، فهو من شعراء تميم. ويعرف بـ "عمرو بن الأهتم"، سمي أبوه سنان الأهتم، لأن "قيس بن عاصم" المنقري ضربه بقوس فهتم فمه. وكانت أم سنان سبية من الحيرة، يقال إنها سبيت وهي حامل. قال قيس بن عاصم: نحن سبينا أمكم مقربا ... يوم صبحنا الحيرتين المنون جاءت بكم غفرة من أرضها ... حيرية ليست كما تزعمون لولا دفاعي كنتم أعبدا ... منزلها الحيرة والسيلحون و"غفرة" هي أم سنان

_ 1 الإصابة "1/ 177"، "رقم 781 في ترجمة بغيض بن عامر بن شماس"، "رقم 1991"، "في ترجمة الحطيئة". 2 الإصابة "3/ 242 وما بعدها"، "رقم 7196". 3 السيوطي، شرح شواهد "2/ 587".

وأخو "عمرو بن الأهتم"، عبد الله بن الأهتم، جد خالد بن صفوان بن عبد الله بن الأهتم الخطيب. وآل الأهتم خطباء1، وكلهم من البلغاء المشهورين2. وعمرو بن الأهتم، ممن وفد على رسول الله، وكان في الجاهلية يدعى "المُكحّل" لجماله، وكان له ابن يقال له "نعيم بن عمرو" من أجمل الناس، وفيه تأنيث، وله يقول عبد الرحمن بن حسان: قل للذي كاد لولا خط لحيته ... يكون أنثى عليه الدر والمسك هل أنت إلا فتاة الحي إن أمنوا ... يوما وأنت إذا ما حاربوا دعك3 ومن شعره قوله في حق الزبرقان بن بدر، وكان ينافسه: ظللت مفترش العلياء تشتمني ... عند النبي فلم تصدق ولم تصب إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ... والروم لا تملك البغضاء للعرب فإن سؤددنا عود وسؤددكم ... مؤخر عند أصل العجب والذنب4 و"نافع بن الأسود بن قطبة بن مالك" التميمي ثم الأسيدي، شاعر مخضرم يكنى "أبا نجيد". وقد شهد فتوح العراق، وأنشد له "سيف" في الفتوح

_ 1 الشعر والشعراء "2/ 528"، المرزباني، معجم "21". 2 الإصابة "2/ 517"، "رقم 5772". 3 الأغاني "4/ 155"، "14، 83"، المفضليات "رقم 23"، الميداني "1/ 5"، الأمثال، للعسكري "1/ 5". 4 الإصابة "مفترش الهلباء"، "2/ 518"، الاستيعاب"، "2/ 530"، "حاشية على الإصابة".

أشعارا كثيرة، يفتخر فيها بقومه، ويذكر فيها مشاهده في فتوح الشام والعراق1. ومن شعراء تميم المخضرمين: "متمم بن نويرة" الذي قتله "خالد بن الوليد" لما سار لقتال أهل الردة، وتزوج امرأته، مما أدى إلى غضب بعض الصحابة ومنهم "عمر" على "خالد"، لأمور أخذوها في قتله عليه. ومن شعره المشهور في رثاء "مالك" قوله: أبى الصبر آيات أراها وإنني ... أرى كل حبل بعد حبلك أقطعا وإني متى ما أدع باسمك لا تجب ... وكنت جديرا أن تجيب وتسمعا وكنا كندمانيْ جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا فإن تكن الأيام فرقن بيننا ... فقد بان محمودا أخي يوم ودعا أقول وقد طال السنا في ربابه ... وغيث يسح الماء حتى تريعا سقى الله أرضا حلها قبر مالك ... دهاب الغوادي المدنات فأمرعا وآثر سيل الواديين بديمة ... ترشح وسميا من النبت خروعا2 وهي قصيدة مؤثرة تعد من المراثي الجيدة القوية، تعبر عن قلب منفطر عن شدة ما حل به من ألم. قيل إن "عمر" قال لمتمم لما دخل عليه أنشدني بعض ما قلت في أخيك فأنشده شعره المتقدم، قال له "عمر": "يا متمم، لو كنت أقول الشعر لسرني أن أقول في زيد بن الخطاب مثل ما قلت في أخيك، قال متمم: يا أمير المؤمنين، لو قتل أخي قتلة أخيك ما قلت فيه شعرا أبدا، فقال عمر: يا متمم ما عزاني أحد في أخي بأحسن ما عزيتني به"3. وقد ضربت الشعراء الأمثال به وبأخيه مالك في أشعارهم.

_ 1 الإصابة "3/ 550"، "8850". 2 المفضليات "2/ 32". 3 الشعر والشعراء "1/ 255"، ابن سلام، طبقات، "169 وما بعدها"، الخزانة "1/ 234"، المرزباني، معجم "461".

ومما سبق إليه مالك، وأخذه الناس منه قوله: جزينا بني شيبان أمس بقرضهم ... وعدنا بمثل البدء والعود أحمد فقال الناس: العود أحمد1. "يروى أن عمر قال للحطيئة: هل رأيت أو سمعت بأبكى من هذا؟ قال: لا والله ما بكى بكاء عربي قط ولا يبكيه"2. وكان عمر يستمع إلى قوله في رثاء أخيه. ومن شعره المشهور قوله: وكل فتى في الناس بعد ابن أمه ... كساقطة إحدى يديه من الخبل3 وكان "مالك بن نويرة" من الشعراء كذلك. وقد عرف بـ "فارس ذي الخمار". وذو الخمار فرسه4. ولقب بـ "الجفول". وهو من شعراء وفرسان "بني يربوع" المعدودين. وكان من أشرافهم ومن أرداف الملوك. استعمله النبي على صدقات قومه. وبقي عليها إلى وفاة الرسول، فيقال إنه لما بلغه خبر وفاته أمسك الصدقة وفرقها في قومه وقال في ذلك. فقلت خذوا أموالكم غير خائف ... ولا ناظر فيما يجيء من الغد فإن قام بالدين المحوق قائم ... أطعنا وقلنا الدين دين محمد وقد قتل خالد بن الوليد، مالكا، في قصة ترد في كتب الردة والفتوح

_ 1 الشعر والشعراء "1/ 256". 2 الإصابة "3/ 340"، "رقم 7719". 3 الإصابة "3/ 340"، "رقم 7719". 4 الشعر والشعراء "1/ 254 وما بعدها"، ابن حزم، جمهرة "224"، ابن سلام، طبقات "48"، الأغاني "15/ 239"، فوات الوفيات "2/ 295".

والتأريخ، وتزوج امرأته، وكانت فائقة في الجمال، مما حمل بعض الصحابة على مؤاخذته على هذا العمر، منهم "عمر"1. ومن المخضرمين "النجاشي" "قيس بن عمرو" الحارثي2، وكان ممن لازم عليًّا وشهد معه "صفين"، ومدحه. وقد بلغ "عليًّا" وهو بالكوفة أنه كان سكران في شهر "رمضان" مع "أبي سماك" الأسدي، فهرب "أبو سماك"، وقبض على "النجاشي" فحده "علي" ثمانين سوطا، ثم زاده عشرين، فقال له: ما هذه العلاوة؟ فقال: لجرأتك على الله في شهر رمضان، ثم وقفه للناس ليروه، فهرب إلى "معاوية" وهجا "عليا" على ما يقال، وهجا أهل الكوفة. وكان هجاء، هجا "بني العجلان"، فاستعدوا عليه "عمر". فهدد "عمر" النجاشي، وقال له: إن عدت قطعت لسانك. وهجا قريشا هجاء مرا. وهجا "عبد الرحمن بن حسان بن ثابت"، ولما مات "الحسن بن علي" رثاه النجاشي، وتوفي بعد ذلك بقليل. وروي أنه هاجى "تميم بن مقبل" من "بني العجلان"، وهو من شعراء الجاهلية، الذين أدركوا الإسلام، وعمر طويلا. وكان يتهاجى مع "النجاشي"، فاستعدى "تميم" "عمر" على النجاشي، فسمع "عمر" ما قال فيه وفي بني قومه، فلما وصل إلى بيته: أولئك أولاد الهجين وأسرة ... اللئيم ورهط العاجز المتذلل وما سمي العجلان إلا لقوله ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل قال عمر: أما هذا فلا أعذرك عليه فحبسه وضربه3. وكان "عمر" قد

_ 1 الإصابة "3/ 336"، "رقم 7697"، ابن الأثير، الكامل "2/ 237 وما بعدها"، المحبر "126"، المرزباني، معجم "260". 2 الشعر والشعراء "1/ 246 وما بعدها"، الإصابة "3/ 551 وما بعدها"، "رقم 8855"، الخزانة "4/ 368"، بروكلمان، تأريخ الأدب العربي "1/ 173 وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 239". 3 الإصابة "1/ 189 وما بعدها"، "رقم 862"، ابن سلام، طبقات "34"، ديوان تميم بن مقبل "11 مقدمة ".

حكم "حسانا" في هجاء "النجاشي" لتميم، فلما حكم "حسان" بإقذاعه في هجائه له حبس "النجاشي" عليه. وقد جمع "أبو سعيد" السكري شعر "تميم بن مقبل"1، وجمعه غيره من العلماء. وهو "تميم بن أبي بن مقبل". وقد اشتهر بوصف القداح، حتى جعل من أوصف العرب للقدح، ولذلك يقال: "قدح ابن مقبل"2. ويعد "تميم بن مقبل" من عوران قيس، وعددهم خمسة شعراء، هم: تميم بن مقبل، وعمرو بن أحمر الباهلي، والشماخ معقل بن ضرار، وراعي الإبل عبيد بن حصين التميري، وحميد بن ثور الهلالي3. وهو من الجاهليين الذين أدركوا الإسلام، فأسلم، فهو من المخضرمين. وقد أدرك زمن معاوية، وكان هواه مثل هوى قبيلته مع "معاوية" على "علي". وكان عثمانيا له قصيدة في رثاء أهل الجاهلية، وكان يتذكر الجاهلية ويترحم على أيامها، ويحن إليها، ويرى أن الزمان قد تغير، وأن الأرض قد تغيرت، وتبدلت أخلاق الناس، فصار يرى نفسه غريبا في مجتمع غريب عنه، له مُثل تختلف عن مثل أهل الجاهلية، فصار يحن إلى أيام ما قبل الإسلام. قيل لتميم بن مقبل: تبكي أهل الجاهلية وأنت مسلم: فقال: وما لي لا أبكي الديار وأهلها ... وقد زارها زوار عك وحميرا وجاء قطا الأحباب من كل جانب ... فوقّع في أعطافنا ثم طيّرا وفي هذه القصيدة المؤلفة من خمسين بيتا، والمنشورة في ديوانه، والتي وردت بروايات مختلفة، حنين ظاهر إلى أيام الجاهلية، وتوجع بيّن للتغير الذي حدث فاجتث ذكريات الأيام القديمة، إذ باد أهلها، وتنكر الناس لها، وبرز من

_ 1 ابن النديم، الفهرست "123". 2 الشعر والشعراء "1/ 336 وما بعدها"، الإصابة "1/ 195"، الخزانة "1/ 113" طبقات ابن سلام "125". 3 رسالة الغفران "237"، الجمهرة "2/ 390"، المعارف "253".

لم يكن معروفا إذ ذاك من الناس. فهو يرى أن الجاهلية بأيامها وبمثلها وبرجالها وبقبائلها، وبمروءتها، أحسن حالا من الأيام الجديدة التي أخذت مكانها، والتي أحلت الموالي ونكرات الناس محل السادة الأشراف1. وكان قد تزوج "الدهماء" زوجة أبيه في الجاهلية، على عادتهم في تزوج نساء الآباء، وأحبها حبا شديدا، فلما جاء الإسلام وحرم هذا الزواج، اضطر إلى تطليقها، وهو مكره، فكان يقول: هل عاشق نال من دهماء حاجته ... في الجاهلية قبل الدين مرحوم2 ولعل هذا الطلاق، كان في جملة العوامل التي جعلته يحن إلى الجاهلية ويذكرها بخير. ومما ينسب إليه قوله: فاخلف وأتلف إنما المال عارة ... وكله مع الدهر الذي هو آكله وأيسر مفقود وأهون هالك ... على الحي من لا يبلغ الحي نائله وقوله: خليلي لا تستعجلا وانظرا غدا ... عسى أن يكون الرفق في الأمر أرشدا3

_ 1 أولها: تأمل خليلي هل ترى ضوء بارق ... يمان مرته ريح نجد ففترا وفيها يقول: أجدي أرى هذا الزمان تغيرا ... وبطن الركاء من موالي أقفرا وكائن ترى من منهل باد أهله ... وعيد على معروفه فتنكرا ديوان تميم بن مقبل "ص129 وما بعدها"، "تحقيق الدكتور عزة حسن". 2 ديوان ابن مقبل "المقدمة"، "تحقيق الدكتورة عزة حسن"، "دمشق 1962". 3 بلوغ الأرب "3/ 143".

وكان "عبد الرحمن بن حسل" الجمحي من الشعراء الهجائين. كان أبوه من أهل اليمن، فسقط إلى مكة، فولد له بها: "كلدة" و"عبد الرحمن"، وكانا ملازمين لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي، فنسبا إلى "بني جمح". وذكر أنهما كانا أخوي "صفوان" لأمه. وذكر أنه كان بعسكر "يزيد بن أبي سفيان"، وأنه كان من مسلمة الفتح. وقد هجا "عثمان" لما أعطى مروان خمسمائة ألف من خمس "إفريقية" فقال: وأحلف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله أمرا سدى ولكن جعلت لنا فتنة ... لكي نبتلي بك أو تبتلى دعوت الطريد فأدنيته ... خلافا لما سنه المصطفى ووليت قرباك أمر العباد ... خلافا لسنة من قد مضى وأعطيت مروان خمس الغنيمـ ... ـة آثرته وحميت الحمى ومالا أتاك به الأشعري ... من الفيء أعطيته من دنا فإن الأمينين قد بينا ... منار الطريق عليه الهدى فما أخذا درهما غيلة ... ولا قسما درهما في هوى1 فأمر "عثمان" به فحبس بخيبر. وقيل إن "عليا" كلم "عثمان" فيه فأطلقه وشهد الجمل مع علي، ثم صفين فقتل بها. وذكر أنه قال وهو في السجن: إلى الله أشكو لا إلى الناس ما عدا ... أبا حسن غلا شديدا أكابده بخيبر في قعر الغموص كأنها ... جوانب قبر أعمق اللحد لاحده أإن قلت حقا أو نشدت أمانة ... قتلت فمن للحق إن مات ناشده2

_ 1 تختلف هذه الأبيات بعض الاختلاف عنها في كتاب الإصابة، الإصابة "2/ 387 وما بعدها"، "رقم 5108"، الاستيعاب "2/ 406 وما بعدها"، وقد دعاه صاحب الاستيعاب "عبد الرحمن بن حنبل". 2 الإصابة "2/ 387 وما بعدها"، "رقم 5108".

و "ألس بن أبي أناس بن زنيم" الكناني، هو من الشعراء الذين كانوا قد هجوا الرسول فأهدر النبي دمه، فبلغه ذلك، فقدم عليه معتذرا، وأنشده شعرا مدحه به، وكلمه فيه "نوفل بن معاوية" الديلي، فعفا عنه، قائلا للرسول: "أنت أولى بالعفو، ومن منا لم يؤذك ولم يعادك، وكنا في الجاهلية لا ندري ما نأخذ وما ندع حتى هدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة؟ " فقال: "قد عفوت عنه". فقال: "فداك أبي وأمي". وأول القصيدة يقول فيها: فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد ويقول فيها: ونبي رسول الله أني هجوته ... فلا رفعت سوطي إليّ إذا يدي فإني لا عرضا خرقت ولا دما ... هرقت فذكر عالم الحق واقصد1 وقد ذكر "ابن قتيبة"، أن "أبا أناس"، والد "أنس"، هو القائل في رسول الله: فما حلمت من ناقة فوق حملها ... أعف وأوفى ذمة من محمد2 وقد قال "دعبل بن علي" في طبقات الشعراء، هذا أصدق بيت قالته العرب. وفي جملة ما جاء في هذه القصيدة التي تنسب إلى أنس بن زنيم قوله: ونبي رسول الله أني هجوته ... فلا رفعت سوطي إلي إذا يدي فإني لا عرضا خرقت ولا دما ... هرقت فذكر عالم الحق وأقصد3

_ 1 الإصابة "1/ 81 وما بعدها"، "رقم 267". 2 الشعر والشعراء "2/ 623". 3 الإصابة "1/ 82"، "267".

وذكر أن "عبيد الله بن زياد" كان يحرش بين الشعراء، فأمر "حارثة" أن يهجو "أنس بن زنيم"، فقال فيه أبياتا، منها قوله: وخبرت عن أنس أنه ... قليل الأمانة خوانها فأجابه أنس بأبيات أولها: أتتني رسالة مستنكر ... فكان جوابي غفرانها1 وأنس هو القائل لعبد الله بن الزبير، حين تزوج مصعب عائشة بنت طلحة على ألف ألف درهم: أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... من ناصح لك لا يريد خداعا بضع الفتاة بألف ألف كامل ... وتبيت سادات الجنود جياعا لو لأبي حفص أقول مقالتي ... وأقص شأن حديثكم لارتاعا2 وكان "أسيد بن أبي إياس بن زنيم" الكناني ابن أخي "سارية" الكناني، ممن هجوا الرسول أيضا، فأهدر النبي دمه، فخرج إلى "الطائف" وأقام بها، مثل غيره ممن هجوا الرسول فخافواعلى أنفسهم، فلجأوا إلى ثقيف. فلما كان عام الفتح، خرج مع "سارية بن زنيم"، وقدم على الرسول فأسلم. ومدحه بشعر. وذكر أنه كان قد رثى قتلى بدر، فأهدر النبي دمه. وروي أنه قال في علي بن أبي طالب وفي مخاطبة قريش: في كل مجمع غاية أخزاكم ... صدع يفوق على المذاكي القرح هذا ابن فاطمة الذي أفناكم ... ذبحا وقتلا بعضه لم يرتح لله دركم ألما تذكروا ... قد يذكر الحر الكريم ويستحي3 وورد في رواية أنه كان قد أسلم وأدرك "أحدا". وتشابه قصته في هدر

_ 1 الإصابة "1/ 82"، "رقم 267". 2 الشعر والشعراء "2/ 623 وما بعدها". 3 الإصابة "1/ 62"، "رقم 175".

النبي دمه وفي هجائه للرسول قصة "أنس بن زنيم" الكناني، المتقدم، وهو ابن أخي "أسيد" على رواية "الإصابة"1. وروي أن "سارية بن زنيم" الكناني، كان ممن هجا الرسول كذلك، فبلغ ذلك الرسول، فتوعده. فجاء إليه معتذرا فأنشد: تعلم رسول الله أنك قادر ... على كل حي من تهام ومنجد تعلم رسول الله أنك مدركي ... وأن وعيدا منك كالأخذ باليد تعلم بأن الركب إلا عويمرا ... هم الكاذبون المخلفو كل موعد ونبي رسول الله أني هجوته ... فلا رفعت سوطي إلي إذا يدي2 وتليها أبيات أخرى، نسبت كلها إلى "أنس بن زنيم". ويظهر أن التباسا قد وقع عند الرواة، فخلطوا بين الثلاثة من "آل زنيم". وقد ذكر أن "سارية" هذا كان خليعا في الجاهلية، لصا كثير الغارة، وأنه كان يسبق الفرس عدوا على رجليه، ثم أسلم، وأرسله "عمر" فيمن أرسله من المسلمين لفتح فارس. وكان "بشير بن أبيرق" "بشر بن أبيرق" الشاعر يقول الشعر ويهجو به أصحاب النبي، وينحله بعض العرب4. وجعل "ابن سلام": "أمية بن حرثان بن الأشكر" "أمية بن الأسكر" و "حريث بن مُحفّض"، و "الكميت بن معرور بن الكميت" الأسدي، و "عمرو بن شأس" الأسدي، طبقة واحدة، هي الطبقة العاشرة من طبقاته. وكلهم ممن عاش في الجاهلية والإسلام5، وكان "أمية بن الأسكر" الكناني من سادات قومه وفرسانهم، وله أيام، وابنه "كلاب بن أمية"، أدرك النبي.

_ 1 الإصابة "1/ 62، 81" 2 الإصابة "1/ 81"، "2/ 2"، "رقم 3034". 3 الإصابة "2/ 3". 4 الاشتقاق "264"، تاج العروس "8/ 129"، "نحل". 5 "ص44 وما بعدها".

فأسلم مع أبيه. وقد سكن "كلاب" البصرة1. وروى لأمية شعرا في حروب الفجار2. و"حريث بن حفض" "حريث بن محفص"، المازني من بني تميم، من "خزاعي بن مازن". وهو مخضرم له في الجاهلية أشعار، وتمثل الحجاج بأبيات من شعره، مثلا لأهل الشام في طاعتهم وبأسهم، وهي قوله: ألم تر قومي إن دعوا لملمة ... أجابوا وإن أغضب على القوم يغضبوا بني الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم ... وآباؤهم أباء صدق فأنجبوا فإن يك طعن بالرُديني يطعنوا ... وإن يك ضرب بالمناصل يضربوا3 و"عمرو بن شأس" الأسدي، المكنى بـ "أبي عرار"، شاعر كثير الشعر مقدم، شهد القادسية4، ومنهم المستوغر، واسمه "عمرو بن ربيعة"، ويكنى "أبا بهنس"، وهو من تميم، زعم أنه عاش ثلاثين وثلاثمائة سنة، وأدرك أيام معاوية5. وذكر أن "عمرو بن شأس" عاش حتى أدرك أيام عبد الملك بن مروان6. ومن الشعراء المخضرمين "المنذر بن رومانس" الكلبي، وهو أخو النعمان بن المنذر لأمه، وأمهما "رومانس". وله شعر قاله بعد فتح الحيرة، يتذكر فيه أيام الحيرة الأولى، وكيف كانوا يحكمون العراق ونجدا7.

_ 1 الخزانة "2/ 506 وما بعدها"، "بولاق". 2 الإصابة "1/ 78"، "رقم 2536". 3 الشعر والشعراء "2/ 561"، الإصابة "1/ 375"، "رقم 1972". 4 المرزباني، معجم "22 وما بعدها"، ابن سلام، طبقات "164"، الأغاني "10/ 60". 5 المرزباني، معجم "23". 6 الشعر والشعراء "1/ 338 وما بعدها". 7 المرزباني، معجم "269".

ومن المخضرمين "أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل"، وهو أحد الصحابة الذين أسلموا قديما، وفي بيته أسلم "عمر"، لأنه كان زوج أخته فاطمة، توفي سنة "50"، وقد أورد الجاحظ له شعرا، وهو شعر نسب أيضا لوالده، وتروى كذلك لنبيه بن الحجاج1. و"سالم بن دارة من الشعراء المخضرمين" وهو "سالم بن مسافع "مسافح" بن عقبة بن يربوع بن كعب بن عدي" من "غطفان". وكان رجلا هجاء وبسببه قتل. قتله "زميل بن أبير" "زميل بن عبد مناف"، "زميل بن أبرد"، "زميل بن وبير" من بين فزارة وكان "سالم" قد أمعن في هجاء فزارة، وألح عليها في الهجاء، فقال في جملة ما قاله: َ حَدَبْدبا بَدَبْدبا منك الآن ... استمعوا أنشدكم يا ولدان إن بني فزارة بن ذبيان ... قد طرقت ناقتهم بإنسان مشيا أعجب بخلق الرحمن ... غلبتم الناس بأكل الجردان كل متل كالعمود جوفان ... وسرق الجار ونيك البعران إلى غير ذلك من شعر مقذع، فلما أمعن في الهجاء، تعقبه "زميل بن أبير" "زميل بن أم دينار" الفزازي، فلحق به وضربه بالسيف ضربة جرحته، وكان قد خرج من المدينة، فعاد إليها، يتداوى، فدفعه "عثمان" إلى طبيب نصراني، ويقال إن "أم البنين" "بسرة بنت عيينة بن حصن" الفزاري، وكانت عند "عثمان"، جعلت للطبيب جعلا حتى سمه فمات2. ومن شعره في هجاء فزارة قوله: لا تأمنن فزاريًّا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار وله شعر يخاطب به "عينة بن حصن" الفزاري، وكان قد ارتد في خلافة

_ 1 البيان والتبيين "1/ 235"، الخزانة "3/ 99"، عيون الأخبار "1/ 242". 2 الخزانة "2/ 144 وما بعدها"، "عبد السلام محمد هارون"، نوادر المخطوطات "2/ 101، 156 وما بعدها"، الحيوان "1/ 267".

"أبي بكر" ثم عاد إلى الإسلام، وقال لأبي بكر: قصتي وقصة الأشعث بن قيس الكندي واحدة، فما بالكم أكرمتموه وزوجتموه، ولم تفعلوا ذلك بي، فأجاب سالم عن ذلك بقوله: يا عيينة بن حصن آل عدي ... أنت من قومك الصميم صميم لست كالأشعث المعصب بالتا ... ج غلاما قد ساد وهو فطيم جده آكل المرار وقيس ... خطبه في الملوك خطب عظيم إن تكونا أتيتما خطب العذ ... ر سواكما تقد الأديم فله هيبة الملوك وللأشـ ... ـعث إن حان حادث قديم إن للأشعث بن قيس بن معدي ... كرب عزة وأنت بهيم1 وأتى "سالم بن دارة" عدي بن حاتم، فمدحه، فشاطره "عدي" ماله2. والأغلب بن عمرو بن عبيدة بن حارثة بن دُلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم بن الصعب بن علي بن بكر بن وائل، من الشعراء المخضرمين، ويعد من أرجز الرجاز، وأرصنهم كلاما وأصحهم معاني. وهو أول من أطال الرجز، وكان الرجل قبله يقول البيت والبيتين إذا فاخر أو شاتم. وذكر أنه استشهد بنهاوند3. وله ديوان4. وقيل إن الخليفة "عمر" كتب إلى "المغيرة بن شعبة" وهو على الكوفة، أن استنشد من قبلك من الشعراء عما قالوه في الإسلام، فكتب إلى لبيد، فكتب لبيد إليه سورة البقرة في صحيفة، وقال: قد أبدلني الله بهذه في الإسلام مكان الشعر، وجاء "الأغلب" إلى المغيرة، فقال له: أرجزا تريد أم قصيدا ... لقد طلبت هينا موجودا فكتب بذلك إلى "عمر"، فكتب إليه أن أنقص من عطاء الأغلب خمسمائة

_ 1 الإصابة "2/ 107"، "2657". 2 الشعر والشعراء "2/ 315 وما بعدها". 3 الأغلب بن جشم بن عمرو بن عبيدة"، الإصابة "1/ 71"، "رقم 225"، الخزانة "2/ 239"، المؤتلف "22"، الأغاني "18/ 164". 4 الخزانة "2/ 258"، "بولاق".

فزدها في عطاء لبيد، وله قوله: المرء توّاق إلى ما لم ينل ... والموت يتلوه ويلهيه الأمل وأنشد له "أبو الفرج" أرجوزة يهجو فيها سجاح التي ادعت النبوة وتزوجت بمسيلمة الكذاب1. وكان "هريم بن جواس" التميمي، يهاجي "الأغلب"، وهو من المخضرمين، وافقه بسوق عكاظ، فقال له: قبحت من سالفة ومن قفا ... عبد إذا ما رسب القوم طفا فما صفا عدوكم ولا صفا ... كما شرار البقل أطراف السفا فقال له: من أنت ويلك؟ قال: أنا غلام من بني مقاعس ... الضاربين فلك الفوارس2 ومن الشعراء المخضرمين: "عقيبة بن هبيرة" الأسدي. وكان جريئا، وفد على معاوية بن أبي سفيان فدفع إليه رقعة فيها: فهبنا أمة ذهبت ضياعا ... يزيد أميرها وأبو يزيد أكلتم أرضنا فجردتموها ... فهل من قائم أو من حصيد أتطمع في الخلود إذا هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود ذروا خون الخلافة واستقيموا ... وتأمير الأراذل والعبيد وأعطونا السوية لا تزركم ... جنود مردفات بالجنود فقال له معاوية: ما جرأك على؟ قال: نصحتك إذ غشوك، وصدقتك إذ كذبوك! فقال: ما أظنك إلا صادقا! فقضى حوائجه3. ومنهم "حضرمي بن عامر بن مجمع بن موألة "مولة" من بني أسد،

_ 1 الإصابة "1/ 71"، "رقم 225". 2 الإصابة "3/ 584"، رقم "9094". 3 الخزانة "2/ 260 وما بعدها"، "هارون"، "1/ 343 وما بعدها"، "بولاق".

وهو شاعر فارس سيد، له في كتاب "بني أسد" أشعار وأخبار. وقدم مع وفد "بني أسد"، وفيهم ضرار بن الأزور، وسلمة بن حبيش، وقتادة بن القائف، وأبو مكعب، وكتب لهم الرسول كتابا. فتعلم "حضرمي" سورة "عبس وتولى"، فزاد فيها: "وهو الذي أنعم على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى"، فقال له النبي: "لا تزد فيها". وورد أن السورة هي سورة: سبح اسم ربك الأعلى. وكان يكنى: "أبا كدام"، وله شعر في حرب الأعاجم، أنشد بعضه "عمر بن الخطاب"، وقد نقل عنه "سيف بن عمر" في الفتوح بعض أخبار مسيلمة والردة1. ومن المخضرمين "حنيف بن عمير" اليشكري، قاتل "محكم بن الطفيل" يوم اليمامة. وله شعر في قتله2. ومن الشعراء المخضرمين: "ربيعة بن مقروم بن قيس"، وكان ممن أصفق عليه "كسرى"، ثم عاش في الإسلام زمانا. شهد القادسية وجلولاء، وهو من شعراء "مضر" المعدودين3. ومن الشعراء المخضرمين: "أبو بكر بن الأسود بن شعوب" الليثي، وهو "شداد بن الأسود"4. وقيل اسمه: "عمرو بن سُمي بن كعب بن عبد شمس" الكناني، وأمه "شعوب" من بني خزاعة، وله شعر كثير قاله وهو كافر، ثم أسلم بعد. ومن شعره، قصيدة في رثاء قتلى المشركين ببدر، يقول فيها: فماذا بالقليب قليب بدر ... من القينات والشرب الكرام إلى أن يقول: يخبرنا الرسول لسوف نحيا ... وكيف حياة أصداء وهام5

_ 1 الإصابة "1/ 340"، "رقم 1759"، الخزانة"2/ 56"، "بولاق". 2 الإصابة "1/ 381"، "رقم 2016"، الخزانة"2/ 544 وما بعدها". 3 الخزانة "3/ 565 وما بعدها"، "بولاق". 4 ابن هشام "2/ 113"، "حاشية على الروض الأنف". 5 هناك اختلاف في رواية أبيات هذه القصيدة وفي ألفاظها، ابن هشام، سيرة "2/ 113"، "حاشية على الروض الأنف"، نوادر المخطوطات، كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء "المجموعة الأولى" "ص83 وما بعدها".

ومن المخضرمين: "قطبة بن الزبعرى"، وهي أمه. وهو "قطبة بن زيد بن سعد بن امرئ القيس بن ثعلبة" من بني القين بن جسر. وكان سيد قضاعة في الجاهلية وأول الإسلام. وله مفتخرا: حميت القوم قد علمت معد ... ومن للقوم من مولى وجار حبوت بها قضاعة إن مثلي ... حقيق أن يذب عن الذمار ولست كمن يُغمز جانباه ... كغمز التين تجنيه الجواري1 ومن المخضرمين "عبدة بن الطبيب"2، "عبدة بن الطيب"3، وهو من "بني عبد شمس بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم". ومن جيد شعره في رثاء قيس بن عاصم، قوله: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما تحية من ألبسته منك نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلما فلم يك قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما4 وقوله: والمرء ساع لأمر ليس يدركه ... والعيش شح وإشفاق وتأميل5 وقد أعجب "عمر" بهذه القصيدة الطويلة التي على اللام6.

_ 1 من نسب إلى أمه "86"، نوادر المخطوطات، "المجموعة الأولى". 2 الشعر والشعراء "2/ 913"، البيان والتبيين "1/ 122". 3 بلوغ الأرب "3/ 143". 4 الشعر والشعراء "2/ 614"، وتختلف هذه الأبيات عما ورد في الإصابة "3/ 100"، "رقم 6392". 5 بلوغ الأرب "3/ 143". 6 البيان والتبيين "1/ 240".

"واسم الطيب: يزيد بن عمرو بن علي بن أنس بن عبد الله بن عبد تميم بن جشم بن عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم". وهو من مشاهير الشعراء، وقد ساهم في فتوح العراق، وهو القائل في قتال الفرس: هل حبل خولة بعد الهجر موصول ... أم أنت عنها بعيد الدار مشغول ثم يقول: يقارعون رءوس الفرس ضاحية ... منهم فوارس لاعزل ولا ميل وكان "أبو عمرو بن العلاء" يقول: قول عبدة: وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما أرثى بيت قيل. ومن شعره قوله: ولقد علمت بأن قصري حفرة ... غبراء يحملن إليها شرجع فبكت بناتي شجوهن وزوجتي ... والأقربون إليّ ثم تصدعوا وتركت في غبراء يكره وردها ... تسفى عليّ الريح حين أودع1 وقوله: لما نزلنا نصبنا ظل أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل وردا وأشقر لم يهنئه طابخه ... ما غيّر الغلي منه فهو مأكول ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل2 ومن المخضرمين "عدي بن عمرو بن سويد بن زبان" الطائي، المعروف بالأعرج. وهو القائل:

_ 1 الإصابة "3/ 100 وما بعدها"، "رقم 6392". 2 ثمار القلوب "219".

تركت الشعر واستبدلت منه ... إذا داعي صلاة الصبح قاما كتاب الله ليس له شريك ... وودعت المدامة والندامى ومن الشعراء المعمرين: "أبو الطمحان" القيني، واسمه حنظلة بن الشرقي من بني كنانة بن القين. زعم أنه عاش مائتي سنة، فقال في ذلك: حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل أدنو لصيد قصير الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أني بقيد تقارب خطو رجلك يا سويد ... وقيدك الزمان بشر قيد2 ونسب إليه قوله: إن الزمان ولا تفنى عجائبه ... فيه تقطع آلاف وأقران أمست بنو القين أفراقا موزعة ... كأنهم من بقايا حي لقمان3 وقد اختلف فيه، فزعم بعض أنه جاهلي لم يدرك الإسلام، وزعم بعض آخر أنه أدركه. وأنه قال شعرا يتبرأ فيه من الذنوب كالزنا وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، والسرقة، وكان نديما للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية، ونسب له قوله: وإني من القوم الذين هُمُ هُمُ ... إذا مات منهم ميت قام صاحبه نجوم سماء كلما غاب كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه4

_ 1 الإصابة "3/ 104 وما بعدها"، "رقم 6417"، المرزباني، معجم "251"، البيان والتبيين "1/ 246". 2 أمالي المرتضى "1/ 257". 3 البيان والتبيين "1/ 187"، "3/ 235". 4 أمالي المرتضى "1/ 257"، الإصابة "1/ 381"، "رقم 2011"، الخزانة "3/ 426"، المعمرون "57"، المؤتلف "149".

ومن المعمرين الشعراء: "الربيع بن ضبع" الفزازي، زعم أنه أدرك أيام "عبد الملك بن مروان" وأنه دخل عليه فقال له: "يا ربيع، أخبرني عما أدركت من العمر والمدى ورأيت من الخطوب الماضية، قال: أنا الذي أقول: هأنذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا فقال عبد الملك: قد رويت هذا من شعرك وأنا صبي، قال: وأنا القائل: إذا عاش الفتي مائتين عاما ... فقد ذهب اللذاذة والفتاء قال: قد رويت هذا من شعرك، وأنا غلام، وأبيك يا ربيع، لقد طلبك جد غير عاثر، ففصل لي عمرك، قال: عشت مائتي سنة في فترة عيسى عليه السلام، وعشرين ومائة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام". وأخذ عبد الملك يسأله، وهو يجيب. وقد علق "المرتضى" على هذا الخبر بقوله: "إن كان هذا الخبر صحيحا فيشبه أن يكون سؤال عبد الملك له إنما كان في أيام معاوية، لا في أيام ولايته، لأن الربيع يقول في الخبر: عشت في الإسلام ستين سنة. وعبد الملك ولي في سنة خمس وستين من الهجرة، فإن كان صحيحا فلا بد مما ذكرنا، فقد روي أن الربيع أدرك أيام معاوية"1. وزعم أنه قال شعرا لما بلغ مائتي سنة، وشعرا آخر لما بلغ مائتين وأربعين2. وهو مثل شعر المعمرين في العمر وفي ذهاب الشباب، وتقدم السن، وفي عدم تحمل السنين والشيخوخة، وغير ذلك من الأعراض التي تلازم الشيوخ. ومن شعراء بني تميم: "حارثة بن بدر بن حصين بن قطن بن غدانة" الغداني من "بني يربوع"، كان من فرسان "بني تميم" ووجوهها وساداتها، وكان يعارض الشعراء نظراءه في الشعر، ولم يكن معدودا في فحول الشعراء3.

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 253 وما بعدها"، الخزانة "3/ 306". 2 أمالي المرتضى "1/ 254 وما بعدها"، المعمرون "6 وما بعدها"، ذيل الأمالي "214"، الخزانة "3/ 306"، شرح أدب الكاتب، للجواليقي "266". 3 أمالي المرتضى "1/ 380 وما بعدها"، الأغاني "21/ 13 وما بعدها"، الإصابة "1/ 370"، "رقم 1973".

وقد نسبوا له قوله: لعمرك ما أبقى لي الدهر من أخ ... حفي ولا ذي خلة لي أواصله ولا من خليل ليس فيه غوائل ... فشر الأخلاء الكثير غوائله وقل لفؤاد إن نزا بك نزوة ... من الروع أفرخ أكثر الروع باطله وروى الشريف "المرتضى" أشعارا أخرى، أكثرها في المنايا، وفي الصدق والإخلاص، والنصح، وتجنب أمكنة السوء، وفي تجاوز الأقرباء على حقوق القريب وفي الوقوع في الفقر حيث يقول: وإذا افتقرت فلا تكن متخشعا ... ترجو الفواضل عند غير المفضل واستغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تكون خصاصة فتجمل1 وقد كان في أيام "زياد بن أبيه"، وكان مستهترا بالشراب2. وله شعر عاتب به "عبيد الله بن زياد" لما تغير عليه بعد اختصاصه بأبيه3. ومما استحسن من شعره قوله: يا كعب ما راح من قوم ولا ابتكروا ... إلا وللموت في آثارهم حادي يا كعب ما طلعت شمس ولا غربت ... إلا تقرب آجالا لميعاد4 وكانت لخفاف بن نضلة بن عمرو بن بهدلة الثقفي، وفادة على النبي، وفد عليه فقال: إني أتاني في المنام مخبر ... من جن وجرة في الأمور موات يدعو إليك لياليلا ولياليا ... ثم احزأل وقال لست بآت فركبت ناجية أضر بمتنها ... جمر تحت به على الأكمات حتى وردت إلى المدينة جاهدا ... كيما أراك فتفرج الكربات

_ 1 أمالي المرتضى "1/ 383". 2 أمالي المرتضى "1/ 384". 3 أمالي المرتضى "1/ 386". 4 أمالي المرتضى "1/ 228".

ويروى أن النبي استحسنها، وقال: إن من البيان لسحرا وإن من الشعر كالحكم1. و"بشر بن قطبة بن سنان" الفقعسي، من الشعراء الفرسان، شهد اليمامة مع "خالد بن الوليد"، وقال في ذلك: أروح وأغدو في كتيبة خالد ... على شطبة قد ضمها الغزو خيفق ومنها: إذا قال سيف الله كروا عليهم ... كررنا ولم نجعل وصاة المعوق أقول لنفسي بعدما رقّ بالها ... رويدك لما تشققي حين تشفقي وكوني مع الراعي وصاة محمد ... وإن كذبت نفسي المنافق فاصدق2 ومن شعراء "بني أشجع": "بقيلة" الأشجعي، وكان سيدا كبيرا شاعرا. ومن شعره: إلبس قريبك إن أطماره خلقت ... ولا جديد لمن لا يلبس الخلقا فإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا وإنما الشعر لب المرء يعرضه ... على المجالس إن كيسا وإن حمقا3 وكان "امرؤ القيس بن عابس بن المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية الأكرمين" الكندي، من الشعراء، وكان ممن حضر حصار حصن "النجير"، فلما أخرج المرتدون ليقتلوا، وثب على عمه ليقتله، فقال له عمه: ويحك أتقتلني وأنا عمك؟ قال: أنت عمي والله ربي، فقتله. وكان ممن ثبت على الإسلام، وأنكر على الأشعث ارتداده. وقد كتب إلى "أبي بكر" في الردة: ألا أبلغ أبا بكر رسولا ... وبلغها جميع المسلمينا فليس مجاورا بيتي بيوتا ... بما قال النبي مكذبينا4

_ 1 الإصابة "1/ 448"، "رقم 2274". 2 الإصابة "1/ 176"، "رقم 775". 3 الإصابة "1/ 166"، "رقم 721". 4 الإصابة "1/ 77 وما بعدها"، "رقم 250"، أسد الغابة "1/ 115"، الاستيعاب "1/ 94 وما بعدها". "حاشية على الإصابة".

ومن شعره: قف بالديار وقوف حابس ... وتأن إنك غير آيس ماذا عليك من الوقو ... ف بهامد الطللين دارس لعبت بهن العاصفا ... ت الرائحات من الروامس وقد أخذه الكميت كله غير القافية فقال: قف بالديار وقوف زائر ... وتأيَّ إنك غير صاغر1 ومن الشعر المنسوب إليه، المعروف بخفة رويّه، قوله: يا تملك يا تملي ... صليني وذري عذلي ذريني وسلاحي ثم ... شدي الكف بالغزل ونبلي وفقاها ... كعراقيب قطا طحل ومني نظرة بعدي ... ومني نظرة قبلي وثوباي جديدان ... وأرخي شرك النعل وإما مت يا تملي ... فكوني حرة مثلي وتروى هذه الأبيات للفند الزماني2. وشداد بن عارض الجشمي من الشعراء المشهورين، ذكره "ابن إسحاق" في المغازي، ولما سار رسول الله إلى الطائف، قال في ذلك: لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف ينصر من هو ليس ينتصر إن الرسول متى ينزل بلادكم ... يظعن وليس به من أهلها بشر3 و"هوذة بن الحرث بن عجرة بن عبد الله بن يقظة" السلمي المعروف بـ "ابن الحمامة"، وهي أمه، من الشعراء المخضرمين، قال لعمر بن الخطاب لما قدّم أناسا عليه في العطاء:

_ 1 الشعر والشعراء "2/ 486"، تهذيب ابن عساكر "3/ 113". 2 الشعر والشعراء "1/ 29"، السمط "504". 3 الإصابة "2/ 139"، "رقم 3852".

لقد دار هذا الأمر في غير أهله ... فأبصر أمين الله كيف تريد أيدعى خثيم والشريد أمامنا ... ويدعى رباح قبلنا وطرود فإن كان هذا في الكتاب فهم إذا ... ملوك بني حر ونحن عبيد ولمالك بن عامر بن هانئ بن خفاف الأشعري، قصيدة طويلة يشرح فيها أحواله، مذ كان في الجاهلية إلى دخوله في الإسلام، ومجيئه النبي، ثم اشتراكه في الفتوح والقادسية، ثم مساهمته في حرب صفين مع "علي". وقد ختمها بقوله: كأن الفتى لم يعش ليلة ... إذا صار رمساعلى صور وطول بقاء الفتى فتنة ... فأطول لعمرك أو أقصر وقيل إنه أول من عبر دجلة يوم المدائن، وله في ذلك قصيدة رجز2. ولقصيدة "مالك" الطويلة أهمية خاصة بالنسبة لدارسي الأدب العربي، لأنها تتناول ترجمة حياة الشاعر، وتسجل سيرته بشعر، وهو نموذج لم يتطرق إليه شعراء العربية بكثرة. و"مالك بن عمير" السلمي من الشعراء المعروفين، ذكر أنه جاء إلى النبي فقال: "يا رسول الله إني امرؤ شاعر، فافتني في الشعر؟ " فقال: "لأن يمتلئ ما بين لبتك إلى عاتقك قيحا خير لك من أن تمتلئ شعرا" ويذكر الخبر أنه قال للرسول: "فامسح عني الخطيئة"، فمسح الرسول يده على رأسه ثم أمرها على كبده ثم على بطنه، وترك بعد ذلك الشعر3. ومن المخضرمين "شبيل بن ورقاء" "شبيل بن وفاء" من زيد بن كليب بن يربوع، وكان شاعرا مذكورا جاهليا، فأدرك الإسلام وأسلم إسلام سوء. وكان لا يصوم رمضان، فقالت له بنته: ألا تصوم؟ فقال: تأمرني بالصوم لا در درها ... وفي القبر صوم يا تبال طويل4

_ 1 الإصابة "3/ 585"، "رقم 9095". 2 الإصابة "3/ 326"، "رقم 7642". 3 الإصابة "3/ 331"، "رقم 7672". 4 "لا أباك"، الشعر والشعراء "1/ 633"، الاشتقاق "142".

و "أنس بن مدرك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف" الخثعمي ثم الأكلبي، والمعروف بـ "أبي سفيان" هو من الشعراء الجاهليين الذين أدركوا الإسلام. وكان شاعرا وقد رأس؛ إذ كان سيد خثعم في الجاهلية، كما كان فارسها. وذكر أنه قتل "السليك بن سلكة" الشاعر المعروف، وكان قد اعتدى على امرأة من خثعم، فلحقه وقتله، فطالب "عبد ملك بن مويلك" الخثعمي بدية "السليك"، وكان "السليك" يعطيه إتاوة من غنيمته على الحيرة، فأبى "أنس" أن يديه لفجورة، كما كانت له أخبار مع "دريد بن الصمة" في الجاهلية. وقد عاش طويلا فزعموا أنه عاش مائة وأربعا وخمسين سنة1. وكان "سواد بن قارب" الدوسي من الشعراء، وكان يتكهن في الجاهلية ثم أسلم. ورووا له أبياتا فيها إشارة إلى "الرئي" والجن2.

_ 1 الإصابة "1/ 85"، "رقم 280". 2 الاستيعاب "2/ 122 ما بعدها"، "حاشية على الإصابة".

فهرس الجزء الثامن عشر

فهرس الجُزْء الثَّامِن عَشَر: الفصل السابع والخمسون بعد المائة أوائل الشعراء 5 الفصل الثامن والخمسون بعد المائة المعلقات السبع 72 الفصل التاسع والخمسون بعد المائة أصحاب المعلقات 85 الفصل الستون بعد المائة الشعراء الصعاليك 167

الفصل الحادي والستون بعد المائة شعراء القرى العربية 220 الفصل الثاني والستون بعد المائة شعراء قريش 260 الفصل الثالث والستون بعد المائة شعراء يثرب 285 الفصل الرابع والستون بعد المائة شعراء ثقيف 318 الفصل الخامس والستون بعد المائة الشعراء اليهود 334

الفصل السادس والستون بعد المائة الشعراء النصارى 358 الفصل السابع والستون بعد المائة آراء الشعراء الجاهليين 385 الفصل الثامن والستون بعد المائة شعر المخضرمين 404 الفهرست 475

المجلد التاسع عشر

المجلد التاسع عشر فهرس الأعلام الألف ... فهرس الأعلام: الألف: أب أمر بن حز فرم "ج2" 322 أب أمر أصدق "ج2" 450. أب أنس "ج2" 154، 443 "ج4" 137 "ج7" 193 أب جل "ج3" 131 أب شبم "ج2" 181، 182، 184، 233، 235، 236، 238، 239 أب علي بن شحز "ج8" 514 أب عم "أنعم" "ج2" 181، 194، 195، 238 أب كرب بن جبلة "ج3" 489، 492 أب كرب أسعد "ج3" 322 أب ود "ج6" 164، 167 أب يتئ "أب يتع" "ج1" 600، 601 أب يثع بن اليفع ريام "ج2" 88، 95، 112، 113 "ج5" 203 أب يدع يثع "ج2" 82، 86، 89، 92، 94، 95، 101، 102، 104، 105، 124، 126، 127، 136، 139 أب يزع "ج2" 167، 168 أباغ "ج3" 229 أبان بن سعيد "ج6" حا 385 "ج8" 120، 121، 127، 129 أبجد "ج8" 159، 164، 166 أبجر بن جابر "ج2" 620، 621 "ج5" 386، 407 "ج6" 596، 686 "ج9" 671 أبرام "ج1" 448 "ج3" 506 أبراموس "ج4" 172 إبراهيم "ج1" حا 19، 27، 29، 41، 199، 316، 360، 382، 410، 417، 429، 433، 445، 446، 448، 449، 452، 455، 473، 496، 498، 502، 504، 506، 582، 596 "ج2" 93، 120، 261 "ج3" 13، 219، 383، 384، 463، 464، 472 (ج4) 5، حا 7، 14، 16، 26، 42، 143، 144، 231،

463، 583، 610، 653، "ج5" 96، 183، 186 "ج6" 7، 34، 36، 50، 51، 71، 77، 80، 172، 199، 205، 219، 251، 346، 365، 383، 402، حا 404، 405، 430، 432، 435، 436، 439، 441، 449، 452، 454، 456، 458، 461، 471، 473، 475، 484، 486، 490، 500، 504، 508، 509، 512، 514، 539، 544، 551، 573، 637، 672، 675، 682، 683، 702، 704 "ج7" 124، 315 "ج8" 88، 104، 173، 266، 319، 482، 521، 775 "ج9" 126، حا 394، 702، 703، 724، 725، 728، 753، 755، 761، 848 إبراهيم بن الحا رث "ج6" 683 إبراهيم بن رسول الله "ج8" 433 إبراهيم بن السيد "ج4" حا 497 "ج5" حا 356 إبراهيم بن عباد "ج6" 683 إبراهيم بن عبد الملك الخنفري "ج1" 464، 465 إبراهيم بن عبد الله "ج9" 299 إبراهيم بن عربي "ج7" 344 إبراهيم بن عرفة "ج6" 572 إبراهيم بن قيس "ج6" 683 إبراهيم بن كتيف "ج6" 683 إبراهيم بن المحا بي "ج9" 572 إبراهيم بن موسى "ج7" 212 إبراهيم الأشهلي "ج6" 683 إبراهيم السامرائي "ج9" حا 777 إبراهيم شنتناوي "ج4" حا 498 إبراهيم القبطي أبو رافع "ج6" 683 إبراهيم كيلاني "ج4" حا 341 "ج8" حا 628 "ج9" حا 372 إبراهيم مصطفى "ج9" 46 إبراهيم الموصلي "ج1" حا 69 إبراهيم النجار "ج6" 683 إبراهيم النخعي "ج7" 428 الأبرد "ج3" 377 أبرش "ج3" 150 أبرهة "إبرام" "ج1" 23، 46، 53، 75، 171، 476 "ج2" 283، 402، 631، 658 "ج3" 315، 407، 411، 457، 459، 470، 473، 474، 480، 486، 488، 525، 529 "ج4" 78، 80، 114، 148، 150، 172، 173، 175، 183، 278، 418، 427، 429، 445، 493، 535 "ج5" 199، 204، 276، 278، 328، 329، 347، 406، 454 "ج6" 37، 112، 115، 289، 619، 650 "ج7" 73، 202، 210، 282، 283، 470، 578 "ج8" 209، 264، 275، 407، 555، 676 "ج9" 384، 495 أبرهة بن شرحبيل "ج2" 583، "ج3" 483 أبرهة بن الصباح "ج2" 584 "ج4" 383، 465 أبرهرد شرادر "ج1" 232 إبروزير كسرى بن هرمز "ج3" حا 268، 269، 272، 299، 312

الأبصر "ج4" 424 أبضعة "ج2" 155 "ج4" 17، 197 "ج7" 141 أبفأل ابن القتم "ج2" 141 أبقراط "ج8" 321 أبكرب بن مقرم "ج2" 318 أبكرب بن نبط كرب "ج2" 302 أبكرب ذو ود "ج2" 143 أبكرب يثع "ج2" 84، 85، 100، 102، 104، 125، 127 322، 328، 329 الأبلق الأزدي "ج4" 625 "ج6" 765، 773 إبليس "ج1" 74 "ج3" 79، 106، "ج4" 30 "ج6" 69، 80، 120، 144، 166، 258، 259، 668، 734، 735 "ج8" 200 ابن أبي إسحا ق "ج9" 236 ابن أبي أصيبعة "ج8" حا 197، 198، حا 382، 384، 385، حا 386، ابن أبي أوفى "ج7" 96 ابن أبي ثابت "ج9" حا 243، حا 399 ابن أبي الحديد "ج1" "حا" 470، 471 "ج4" حا 72، حا 74، 75، حا 77، 78، حا 82، حا 100، حا 112، حا 208 "ج6" 13 "ج8" حا 384 ابن أبي الخطاب "ج9" 233 ابن أبي داود "ج8" 608 ابن أبي الدمينة "ج1" حا 90 ابن أبي رباح "ج9" 20 ابن أبي رمئة التميمي "ج8" 381، 386 ابن أبي سرح "ج8" 124 ابن أبي سعد "ج8" 162 ابن أبي شيبة "ج8" 96، 67 ابن أبي طرفة "ج9" 235 ابن أبي طيء "ج9" 781 ابن أبي عيينة "ج9" 115 ابن أبي قحافة "ج8" 330 "ج9" 739 ابن أبي كبشة "ج6" 39، 81، 126 "ج8" 764 ابن أبي كرب أسعد "ج2" 580 ابن أبي كريمة "ج9" 399 ابن أبي لهيعة "ج9" 45 ابن أبي ليلى "ج8" 737 ابن أبي الملاحف "ج8" 8 ابن الأثف "ج3" حا 356 ابن الأثير "ج1" حا 28، حا 315، حا 323، حا 334، حا 337 حا 375، 417، 434، حا 449، 450، حا 452، 453، حا 470، حا 607 "ج3" 164، حا 168، 179، 181، 183، 195، 197، 198، 206، 210، 226، 227، 229، 230، 232، 234، 235، 239، 241، حا 251، حا 255، 257، حا 262، حا 266، حا 268، حا 270، 271، حا 274، 275، حا 292، حا 296، 297، حا 300، حا 322، 327، حا 334، حا 339، حا 342، حا 344، 347، حا 351، 355، حا 361، حا 363، حا 368، حا 381، حا 393، حا 395، حا 411، حا 442، حا 498، حا 515، حا 533، "ج4" حا 28، حا 40، 43، حا 45، حا 50، حا 54،

56، حا 58، 60، حا 64، 65، حا 72، حا 76، حا 79، 80، حا 82، حا 101 حا 106، حا 135، حا 143 حا 145، 146، حا 148، حا 151، حا 181، حا 197، حا 200، 201، حا 203، حا 213، 214، حا 220، 221، حا 243، 244، حا 264، حا 371، حا 374، 377، 378، حا 387، حا 394، 419، حا 428، حا 445، حا 454، حا 486، 487، حا 490، حا 493، 494، حا 496، 497، حا 685 "ج5" حا 17، 74، 75، حا 174، حا 193، حا 198، حا 203، حا 250، حا 326، جا 346، 348، حا 350، 352، حا 354، حا 356، 362، حا 365، 371، حا 373، 375 حا 377، 385، حا 436، 437، حا 440، حا 520، حا 534، 563 "ج6" حا 71، حا 130، حا 193، حا 251، حا 362، حا 436، حا 449، حا 451، حا 502، حا 517، حا 519، 521، حا 523، 524، حا 529، حا 608، حا 643، 644، حا 653، حا 660، حا 699، حا 704، حا 759، حا 765 "ج7" حا 318، حا 378، حا 496، حا 504 "ج8" حا 89، حا 116، حا 359، حا 393، حا 504، 574 "ج9" حا 306، حا 418، حا حا 784، 888 ابن الأجدابي "ج6" حا 56، 57، حا 60، حا 175 "ج8" حا 444، حا 464، حا 488، حا 490، 491 ابن ارتاس "ج3" 349 ابن إسحاق "ج1" 114 "ج3" 168، 185، 447، "ج4" 173، حا 415، حا 464 "ج5" 373 "ج6" 37، 271، 273، حا 367، حا 446، 447، حا 610، 611، 766 "ج8" 498، حا 765 "ج9" 44، 269، 359، 363، 369، 386، 396، 407، 409، 697، 698، 709، 710، 728، 759، 760، 788، 906 ابن الأسلت "ج8" 380 ابن إسماعيل "ج4" 25 ابن الأطنابة "ج9" 280 ابن الأعرابي "ج3" 235 "ج4" 204، 382، 581، حا 685 "ج5" 43، حا 303، حا 338، حا 394، حا 395، 599 "ج6" 276 "ج7" حا 365، 475، 609 "ج8" 424، 574 "ج9" 93، 164، 293، 296، 299، 302، 306، 318، 327، 352، 399، 463، 468، 544، 596، 625، 814، 826 ابن أكال "ج2" 649 ابن أكرم "ج9" 640 ابن الأكوع "ج5" 87

ابن أم أناس "ج3" 347 ابن ام دواد "ج9" 475 ابن أم قطام "ج3" 352 ابن الأنذر زعر "ابن الأنذر" "ج4" 231 ابن براق "ج6" 597 ابن بري "ج4" حا 512 "ج6" حا 686 "ج7" حا 594 ابن بطوطة "ج1" حا 28 ابن بقيلة "ج1" 388 "ج2" 649 "ج9" 682، 684 ابن بليهد "ج4" حا 211، 213 ابن بيض "ج1" 309، 321 ابن جوبة "ج9" 26 ابن جابر بن عقيل "ج5" 645 ابن جدعان بن عمرو "ج6" 736 "ج9" 736 ابن جريج "ج1" 234 "ج3" حا 370 "ج4" 58 "ج5" 115 "ج6" حا 419، 420 ابن الجزري "ج8" 186، 612 ابن جفنة "ج3" 201، 442 "ج4" 92 "ج5" 320 ابن الجلاح "ج4" 239 ابن جلجل "ج8" حا 197، 199، حا 382، حا 386 ابن جني "ج1" حا 70، حا 76، 398 "ج8" 562، حا 630، حا 645، 690 "ج9" حا 15، 19، 58، 89، 170، 212، حا 220، حا 252، حا 545، 646، 869 ابن الجهم "ج1" حا 78 ابن الجواني "ج4" حا 421، حا 430، حا 447 ابن الجوزي "ج8" 481، 698 "ج9" 272 ابن الحائك "ج1" حا 90 ابن حاجب النعمان "ج9" 365 ابن حام "ج1" 236 ابن الحباب "ج2" حا 173 ابن حبل "ج2" 564 ابن حجة الحموي "ج9" 310 ابن حجر "ج3" 327 "ج4" حا 421 "ج6" 469، حا 502 "ج8" حا 382، 711، حا 716، 761 "ج9" 37، 449، 471، 725، 781، 869 ابن الحدادية "ج4" 15 ابن الحدرجان "ج3" 395، "ج4" حا 235 ابن حزام "حمام" "ج8" 386 "ج9" 439، 443، 445، 459 ابن حزم "ج1" حا 365 حا 377، حا 381، 390، 392، 396، 397، 401، 512، 517 "ج2" حا 353، 354 حا 512 "ج3" حا 275، حا 315، حا 325، حا 330، حا 352، حا 364، حا 506 "ج4" حا 74، حا 92، حا 94، حا 133، حا 135، حا 252، حا 325، حا 416 حا 419، 426، 433، 434، 437، حا 447، 459، 462، 470، 476، حا 490، حا 492، 526 "ج5" حا 568، حا 602 "ج7" حا 383، حا 526

"ج8" حا 292 "ج9" 874، 887 ابن حصرموت "ج4" 460 ابن الحضرمي "ج8" 484 ابن حفصة "ج1" 403 ابن حلوان "ج4" حا 421 ابن حمامة "ج9" 603، 906 ابن حميد "ج3" 185 "ج6" 611 ابن حنظلة "ج3" 289 ابن حوقل "ج2" حا 621 "ج3" حا 158 "ج4" حا 142 "ج6" حا 529 ابن خالويه "ج1" حا 37، 41 "ج8" 574 "ج9" 439 ابن خذام "ج9" 158 ابن خرداذبه "ج1" حا 171، 454، "ج5" حا 112، 114، حا 121، "ج7" 334، 363، حا 522 ابن الخطاب "ج5" 115 ابن خطل "ج4" 29 "ج8" 124، 130، 131، 305 "ج9" 715، 861 ابن خلدون "ج1" حا 14، حا 226، 265، 266، 294، حا 296، حا 301، 303، حا 305، حا 310، حا 313، 334، 335، حا 337، حا 340، حا 343، 345، 347، حا 355، حا 358، 360، حا 363، حا 365، حا 375، 377، حا 380، 381، حا 499، حا 548 "ج2" حا 258، حا 353، حا 512، 513، حا 532، حا 539، حا 593، حا 616 "ج3" حا 103، 105، 181، حا 189، 193، 196، 198، حا 229، حا 231، حا 251، حا 255، حا 275، حا 296، 296، 297، حا 315، حا 319، 321، حا 351، 352، حا 367، 368 حا 381، 382، حا 394، 395، حا 398، 400، حا 428، 431، حا 433، حا 436، حا 439، حا 447، 448، 523، 527، 532، 533، 536 "ج4" حا 14، حا 55، حا 94، حا 100، حا 128، حا 133، 135، حا 138، حا 140، حا 146، 181، حا 196، 197، 234، 236، 298، حا 378، حا 392، 393، حا 416 حا 419، 422، حا 424، حا 430، حا 433، حا 439، حا 442، حا 449، 450، 454، حا 459، 463، حا 465، حا 468، 469، حا 477، حا 480، 483، حا 485، 448، 491، حا 501، 511، حا 514، حا 517، 520، حا 523، حا 525، 526، 529، 535 "ج5" حا 193، حا 197، حا 361 "ج6" حا 78، حا 265، حا 452، حا 469، حا 471، حا 484، حا 517، 520، حا 523، حا 524، حا 529، حا 557، حا 608، حا 640، حا 701 "ج7" حا 371، حا 381 "ج" 194، حا 662، 608، 630

"ج9" 123، حا 511، 512 ابن خلكان "ج1" حا 87 "ج5" حا 109 "ج8" حا 159، حا 162، 187 "ج9" 35، 36، 199، حا 287، حا 297، حا 304، حا 307، حا 310، حا 313 ابن دؤاد بن متمم "ج9" 261 ابن داب "ج1" 115 "ج9" 51، 216، 223، 272، 292 ابن دارة "ج1" 383 ابن دحية "ج8" 96، 131 ابن درزة الدعي "ج4" 569 ابن دريد الأزدي "ج1" 338، 391، 525، 527 "ج2" 220، 265، حا 402، 512، 597، 598 "ج3" حا 12، 185، 187، 214، حا 229، 231، 253، حا 256، 388، 392، 400، 403، 404، 499، 506، 527 "ج4" 43، 134، حا 347، 459، 475، حا 510 "ج5" 56، حا 645 "ج6" 67، 236، 289، حا 364، حا 366، 472، 473، حا 481، 521، 577 حا 682، 739 "ج7" حا 341 "ج8" 334، 408، 410، 555، 565، 744 "ج9" 448، 450، 463، حا 489، حا 532، حا 771 ابن الدغنة "ج4" 33، 35 ابن الدمون بن الصدف "ج4" حا 144 ابن ذبحرم ويبسم "ج2" 378 ابن الربعي "ج9" 411 ابن رستة "ج1" حا 454 "ج4" حا 13، حا 51، حا 90، حا 126، حا 129، 130، حا 132، حا 139، حا 197، حا 216، حا 225، 227، حا 241، حا 260 "ج5" حا 593، حا 605، حا 632، "ج6" حا 356، حا 407 "ج8" حا 161، حا 292 "ج7" حا 336، حا 339 ابن رشيق "ج3" حا 226، 227، حا 251، حا 360 "ج4" حا 214، 492، حا 529 "ج5" حا 289، حا 347، حا 378، 423 "ج6" حا 357 "ج7" حا 600 "ج8" حا 435 "ج9" 108، 117، 142، 167، 177، 178، 200، 230، حا 252، 294، 335، 338، 339، 512، 549 ابن روح "ج5" 309 ابن الزبعري، "ج1" 112 "ج4" 65 "ج7" 582 "ج9" 112، 115، 116، 183، 253، حا 461، 695، 696، 705، 708، 710، 712، 713، 736، 738، 747، 846 ابن الزبير "ج1" 313، 495 "ج4" 643 "ج6" 607 "ج9" 848، 850، 882، 893

ابن زرارة "ج4" 528 ابن زيابة "ج4" 427 ابن زيد "ج7" 427 ابن سريج "ج6" 713 ابن سعود "ج1" 282 ابن سعيد "ج1" حا 411 ابن سغلة الفهري "ج4" حا 32 ابن السكيت "ج1" حا 161 "ج3" 347، 365 "ج5" 269، "ج6" حا 674 "ج8" 558 "ج9" 296، 351، 352، حا 573، 636، 775، 805 ابن سلامة "ج8" حا 136 ابن سلمى "ج3" 279، 280 ابن سويد "ج5" 566 ابن سيار "ج3" 424 ابن سيد عامر "ج4" 350 ابن سيد الناس "ج4" حا 379 "ج6" حا 234 "ج7" حا 348 "ج8" حا 131 "ج9" حا 750 ابن سيدة "ج3" حا 302 "ج4" حا 149، 590، حا 685 "ج5" حا 68، حا 157، حا 160 "ج8" 455، 575، 624 ابن سيرين "محمد" "ج1" 68، 69 "ج6" 785 "ج7" 396، 465، 466 "ج8" 297، 311 "ج9" 308، 342، 343، 746، 747 ابن الشجري "ج5" حا 86 "ج9" 346، 484، 640، 721، 803 ابن شماسة المهري، "ج1" 109 ابن شمر "ج3" 506 ابن شهاب الزهري "ج9" 286، 308 ابن شهران "ج1" 119 ابن الشيباني "ج5" 369 ابن صاعد "ج4" حا 450 "ج8" حا 382، حا 386 ابن صرمة الأنصاري "ج9"756 ابن صعترة الطائي "ج5" 647 ابن صفوان "ج4" 386 ابن صلوبا السوادي "ج4" 231 ابن الصياد "ج6" 765، 768 ابن ضبة "ج8" 333 ابن ضميرة "ج7" 361 ابن الطرامة "ج9" 76 ابن الطوسم "ج1" 382 ابن عاد "ج6" 490 ابن عامر "ج6" 766 "ج7" 343 "ج8" 512 ابن عباد "ج8" 571 ابن عباس "ج1" 67، 68، 88، 113، 120، 438، 462، 464 "ج3" 13، "ج4" 25، حا 386 "ج5" 74، 80، 90، 127، 138، 259، 535، 551، 622 "ج6" 374، 452، 486، 504، 534، 551، 561، 707، 721، 752، 783، 792 "ج7" 385، 404، 428، 429، 609 "ج8" 89، 104، 157، 158، 162، 164، 186، 264، 272، 273، 281،

303، 500، حا 537، 596، 597، 600، 601، 604، 611، 617، 622، 654، 663، 665، 697، 698 735 "ج9" 52، 53، 65، 66 231، 234، 279، 321، 340، 341، 344، 392، 393، 543، 544، 587، 741 ابن عبد البر "ج1" حا 376 "ج6" حا 364 "ج8" 602، 604، حا 611 "ج9" 547، 772 ابن عبد الجن "ج6" حا 648 ابن عبد ربه "ج3" 233، 426 "ج4" حا 164 "ج9" 513 ابن عبدون "ج2" حا 594 ابن العبري "ج1" حا 611 "ج2" حا 92، 593، حا 634 "ج3" 157، حا 170، حا 220، 221، 230، 258، 259، 408، 413، 417، "ج4" حا 271 "ج6" حا 454، حا 681 "ج7" حا 296 "ج8" حا 382 ابن عدس بن زيد "ج5" 373 ابن العربي "ج4" حا 90 "ج5" حا 83، "ج6" حا 369 ابن عروة "ج9" 307 ابن عزرا "ج1" 632 ابن عساكر "ج4" حا 99، حا 103 حا 208، حا 236، 237 "ج6" حا 220، حا 524، حا 679 "ج8" 602 "ج9" حا 779 ابن عطية "ج8" 98، 604 ابن عمار عمرو بن عمار الطائي "ج8" 778 ابن عمر "ج4" 666 "ج5" 511 "ج7" 541، 603 "ج8" 104 "ج9" 53 ابن عمرو بن علقمة "ج9" 853 ابن عوف "ج1" 69 "ج9" 342 ابن الغز "ج4" 578، 632 ابن فارس "ج4" حا 528 "ج5" 137، 302 "ج6" حا 121، حا 815، 816 "ج8" حا 139، 154، 557، 562، 573، 577، 585، 653 "ج9" 6، حا 7، حا 16، 26، 43، 44، 49، 58، 196 ابن فدكي المنقري "ج5" 369 ابن الفريمة "ج9" 75، 441 ابن الفقية "ج3" حا 155 "ج6" حا 357، 363، حا 365، 366 "ج9" حا 214 ابن قتيبة الدينوري "ج1" حا 78، 264، حا 307، 309، 335، 370، 399، 409 "ج2" حا 255، 592 "ج3" حا 179، 231، 232، حا 236، حا 245، 247، حا 255، 256، 261، 272، 287، 299، 308، 312، 321، 326،

344، 345، حا 351، حا 358، حا 360، 361، 363، 365، 368، 371، 376، 388، 294، 400، 402، 410، 425، 428، حا 431، 432، 444، 458، 505، 529 "ج4" 39، حا 94، حا 96، حا 117، 136، حا 145، حا 212، حا 214، حا 216، 233، حا 258، حا 350، 423، حا 426، حا 443، حا 492، حا 526، حا 621، حا 660 "ج5" 127، حا 208، حا 291 "ج6" 147، حا 149، 274، حا 363، حا 478، حا 480، حا 485، حا 489، 590، حا 616، حا 654، حا 664، حا 673، حا 680، حا 802، حا 822 "ج8" حا 114، 117، حا 141، حا 304، 334، 519، 603، 611، 623، 663 "ج9" 9، 37، 52، 72، 77، 165، 194، 233، 239، 241، 260، 333، 335، حا 337، 353، 357، 371، 402، 423، 440، 443، 444، 446، 447، 454، 463، 473، 476، 478، 480، 485 492، 499، 507، 508، 525، 532، 533، 537، 541، 547، 548، 567 571، 589، 598، 599 حا 639، 646، حا 662، 688، 690، 692، حا 753، حا 760، 764، 766، 772، 776، 779، 829، 857، 859، 862، 866، 892 ابن قدامة "ج5" حا 552 ابن قرة "ج8" 325 ابن قردس "ج3" 265 ابن القرية "ج9" 24 ابن قسطنطين "ج9" 51، 261 ابن قعين "ج1" 399 ابن القفطي "ج1" حا 90 "ج3" حا 169، 170 "ج8" حا 198، 199، حا 382، 383، حا 386 "ج9" حا 777 ابن قميئة "ج9" 282 ابن قيس الرقيات "ج4" 94 "ج5 حا 202 ابن قيم الجوزية "ج4" حا 614 "ج5" حا 107، حا 132، حا 136، حا 140، 144، حا 151، حا 156، حا 536، "ج6" 118 "ج9" حا 8 ابن كبشة "ج1" 287 ابن كثير "ج1" حا 310، حا 317 حا 320، حا 324 "ج2" 514، 515، 593، "ج3" 500، حا 502، حا 507 "ج4" حا 24، حا 53، حا 55، 56، حا 60، حا 74، حا 80، حا 94، حا 96، 97، حا 99، حا 130، حا 134 "ج5" حا 91، حا 96

"ج6" 177، 228، حا 269، حا 289، حا 381، 447، حا 464، حا 480، حا 501 "ج7" 295، حا 382 "ج8" 104، 283، حا 461، حا 466، حا 474، حا 479، 480، حا 504، 596، 600، حا 602، 604، حا 606، 607، حا 653، حا 672، حا 759 "ج9" حا 138، حا 296، 500، 708، 828 ابن الكلبي "ج1" حا 18، 77، 80، 87، 90، 108، 114، 116، 120، 345، 350، 351، 353، 364، 365، 378، 379، 411، 419، 428، 432، 462، 509، 548، 652 "ج2" 115، 130، 354، 421، 569، 615، 617، 619، 639، 646 "ج3" 78، 104، 132، 161، 163، 167، 168، 187، 188، 193، 195، 196، 205، 208، 215، 217، 264، 270، 291، 304، 306، 308، 312، 318، 321، 328، 330، 335، 337، 339، 346، 348، 350، 352، 362، 363، 365، 368، 371، 444، 447، 459، 512 "ج4" 23، 25، 37، 58، 106، حا 144، 145، 275، 318، حا 379، حا 415، حا 422، حا 425، حا 432، 433، حا 437، 439، حا 446 حا 464، 468، 469، 473، 475، 479، 494، 532، 537، 570، 572 659، 684 "ج5" 5، 394، 395، 517 "ج6" 12، 13، 60، 66، 67، 75، 76، 78، 113، 141، 142، 217، 227، 229، 232، 235، 236، 239، 241، 244، 247، 249، 251، 254، 260، 262، 265، 268، 270، 272، 276، 278، 280، 282، 283، حا 284، 400، 416، 417 422، 435، 504، 567، 616، 682، 683، 710، 816 "ج7" 127، 351، 556 "ج8" 29، 108، 156، 157، 162، 168، 170، 321، 362، 365، 366، 385، 498، 520، 596، 600، 601، 744، 762، 782، "ج9" 67، 116، 225، 253، 254، 256، حا 502، 513، 515، 521، 529، 533، 558، 753، 880 ابن كناسة "ج9" 320 ابن الكوفي "ج8" 162 ابن كيسان "ج9" 507 ابن ليون "ج5" 310، 360 ابن اللتيبة "ج7" 444 ابن لسان الحمرة "ج8" 332، 782 ابن لهيعة "ج1" 103 ابن ماجه "ج8" 97

ابن مارية "ج3" 437 "ج9" 735 ابن مالك "ج8" حا 617 ابن المجاور "ج2" حا 399 "ج7" 58، حا 119، حا 122، حا 158، 159، حا 182، حا 273، 274، حا 517، 519، حا 538، 539 "ج8" حا 61 ابن المجدرر "ج5" حا 463 ابن محر "ج2" 563 ابن المخيط "ج5" 376 ابن المرتفع "ج7" 360 ابن المزعوق "ج6" 599 ابن مزيقيا "ج5" 379 ابن مسعود "ج5" 317، حا 550 "ج7" 366 "ج8" 134، 186، 569، 572، 596، 597، 599، 602، 603، 617، 619، 622، 668، 735، 761 "ج9" 30 ابن المسيب "ج4" 483 "ج9" 343 ابن المعتز "ج9" 233 ابن معيز "ج8" 761 ابن معين "ج8" 601 ابن مغفل "ج5" 168 ابن مقبل "ج1" حا 243، "ج5" 431، حا 434، 455، "ج6" 649 "ج9" 99، 252، 258، 271، 311، 330 ابن المقفع "ج1" حا 18، 78 "ج9" 194، 322 ابن المكرم "ج4" حا 149 ابن الملك "ج3" 488، 489 ابن المنبوش "ج6" 83 ابن مناذر "ج9" 326 ابن مندلة "ج9" 528 ابن منظور "ج9" 275 ابن منية "ج8" 97 ابن النابغة الهذلي "ج8" 739 ابن نباتة "ج3" حا 360 "ج9" حا 520 ابن النديم "ج1" 77، 89، 114، 115، 451، 469 "ج3" 159، 291 "ج4" 277، 684 "ج5" حا 342، حا 394، 517 "ج8" 118، 154، حا 157، 162، 193، 260، 311، 334، 359، 360، 379، حا 547، 557، 558، 565، 762، 782 "ج9" 34، 37، 44، 202، 255، 256، 288، 293، 295، 296، 299، 301، 303، 305، 308، 326، 344، 346، 247، 249، 353، 509، 775، 777، حا 889 ابن نصر "ج3" 177 ابن النطاح "ج8" 782 ابن النقيب "ج8" 698 ابن نوح "ج9" 261، 360 ابن هاشم "ج9" 583 ابن الهذيل الأسدي "ج9" 69 ابن هرمة "ج4" 359 "ج9" 356 ابن هشام "ج1" 83، 85، 86، 348، حا 355، حا 361، حا 375، 376، حا 379، حا 392، 396، 397، 421، 433، 437، 454، 490، "ج2" 593

"ج3" حا 236، 282، 323، حا 500، 510، 516، 533، 534 "ج4" حا 7، حا 11، حا 45، حا 57، حا 60، حا 73، حا 99، 100، حا 106، 107 حا 110، حا 121، 122، حا 135، حا 140، حا 234، 236، حا 251، حا 262، حا 377، 379، حا 397، حا 415، حا 443، 464، حا 636، حا 656 "ج5" حا 84، حا 310، حا 361، 457، 459، حا 520، حا 561، حا 593، حا 644، حا 648 حا 653 "ج6" حا 66، حا 77، 78، حا 80، حا 126، 127، حا 195، حا 203، حا 205، حا 234، حا 242، حا 246، حا 249، حا 251، حا 255، حا 263، 264، حا 266، 269، 274، 284، 287، حا 352، حا 357، حا 362، 363، حا 382، حا 384، 385، حا 387، 388، حا 402، حا 405، حا 408، حا 422، حا 469، 471، حا 475، 479، حا 485، حا 488، حا 501، 502، حا 505، حا 517، حا 523، حا 533، 534، حا 536، 537، حا 544، حا 546، 548، حا 553، حا 562، حا 581، حا 604، 608، حا 617، حا 652، حا 683 "ج7" حا 292، حا 340، حا 353، 354، حا 356، حا 361، حا 446، 447، حا 451، حا 597 "ج8" حا 89، حا 111، حا 116، حا 135، حا 141، حا 266، حا 275، حا 295، 296، حا 342، حا 377، حا 384، 385، حا 458، حا 460، حا 483، 504، 657، 665، حا 671، 684، حا 744، 745، حا 765 "ج9" 78، 80، 153، 154، 385، 386، 396، 408، 409، 412، 417، 419، 492، حا 499، 500، 514، 545، 552، 553، 679، 696، 698، 707 709، 712، 714، 715، 723، 724، 743، 749، 750، 754، 759، 760، 782، 784، 785، 787، 788، 822، 847، 861، 899 ابن الهيبان "ج8" 745 ابن واصل "ج3" حا 360 ابن الوردي "ج4" حا 446، حا 445 حا 457، 458 ابن وضاح "ج6" 597 ابن وهب "ج4" حا 7 ابنة الخس "ج8" 738 "ج9" 398، 399 ابنة النضر "ج5" 579 أبو أثاية القرظي "ج9" 789 أبو أحمد بن جحش، "ج1" 111 "ج9" 708 أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري "ج8" حا 767 أبو أحيحة "ج4" 85، 91، 108، 109، 114

"ج5" 37، 169، 530، 623 "ج6" 242، 243، 477 "ج9" 381 أبو أريخا "ج1" 658 أبو الأزهر "ج8" 737 أبو أزيهر بن أنيس الدوسي "ج5" 506 أبو أسامة "ج9" 386 أبو إسحا ق إبراهيم "ج4" حا 685 "ج5" 511 "ج8" 360 أبو إسحا ق الشيرازي "ج4" حا 369 أبو أسلم "ج1" 367 أبو الأسود الدؤلي "ج4" 299 "ج6" 693 "ج8" 185، 187، 192، 601 "ج9" 7، 12، 18، 20، 35، 54، 195، 196، 199، 217، 297، 751، 854 أبو الأعور سعيد "ج9" 886 أبو الأعور السلمي "ج4" 253 أبو أمامة الباهلي "ج7" 26 "ج8" 746 "ج9" 365 أبو امرئ القيس "ج3" 331 أبو آمنة "ج9" 719 أو أمية بن المغيرة "ج4" 80، 581، 582 "ج5" 38، 84 "ج9" 700 أبو أياس النصري "ج9" 675، 804 أبو إيلاف بن حيو "ج2" 251، 256 أبو أيوب خالد بن زيد "ج2" 570 "ج4" 137 "ج5" 17 "ج7" 193 "ج8" 597 أبو أيوب المديني "ج9" 321 أبو باهلة "ج1" 404 أبو بجاد "ج9" 802 أبو بجير "ج4" 369 أبو بحر سفيان بن العاصي "ج9" 408 أبو البختري "ج1" 114، 353 "ج5" 38 أبو براء ابن مالك بن جعفر "ج4" 673 أبو البراء عامر "ج3" 283 "ج4" 84، 256، 427، 651 "ج5" 119، 362، 363، 382، 388، 390، 445 أبو بردة "ج9" 322، 362 أبو برزة الأسلمي "ج4" 29 "ج6" 768 "ج9" 715 أبو بشير متى "ج9" 202 أبو بصير "ج6" 93، حا 127 "ج7" 299 "ج9" 75، 88 أبو بطن "ج4" 362 أبو بكر بن دريد "ج9" 640 أبو بكر بن كلاب "ج1" 406 "ج3" 230 "ج4" 572، 683 أبو بكر أحمد بن محمد الجراح "ج9" 301 أبو بكر الأنباري "ج1" حا 68، حا 87 "ج3" حا 159، حا 242، حا 244، 245، حا 365، "ج5" حا 366، حا 368 "ج6" حا 357 "ج8" 557، 558

"ج9" حا 35، 36، 38، 39، 41، 42، 45، حا 53، 54، 56، 58، 194، 279، 294، 299، 301، 304، 307، 314، 324، 341، 349، 450، 463، 507، 777 أبو بكر الصديق "ج1" 112، 281، 288، 401، 405 "ج3" 183، 528 "ج4" 33، 46، 55، 63، 94، 106، 109، 141، 177، 178، 185، 192، 194، 200، 201، 217، 223، 234، 235، 244، 255، 256، 259، 262، 265، 306، 347، 481، 502، 517، حا 567 "ج5" 186، 248، 391، 438، 589، 642 "ج6" 26، 90، 92، 98، 120، 143، 166، 342، 343، 371، 375، 464، 466، 548، 560، 564، 597، 703، 710 "ج7" 41، 147، 149، 311، 339، 353، 408، 442، 444، 453، 500، 510 "ج8" 93، 121، 126، 127، 137، 134، 259، 328، 330، 376، 387، 398، 403، 493، 495، 503، 605، 606، 622، 631، 654، 665، 703، 750، 756، 757، 764، 785، 787، 789 "ج9" 19، 118، 155، 202، 231، 235، 277، 278، 344، 337، 539، 551، 738، 751، 857، 861، 877، 883، 897، 905 أبو بكر الصولي "ج1" حا 113 أبو بكرالعبدي "ج9" 301 أبو بكر الواسطي "ج8" حا 609 أبو بكرة "ج8" 596، 597 أبو البلاد "ج9" 221 أبو بوت "ج3" 468 أبو البيداء الرباحي "ج9" 295 أبو تمام "ج3" حا 155، حا 283 "ج5" حا 356 "ج6" 570 "ج9" 142، 287، 294، 645، 646حا أبو ثعلبة الخشني "ج4" 194 أبو ثور "ج4" 186 أبو جابر "ج3" 424 أبو جبر "ج3" 495، 497، 499 "ج8" 117، 383 أبو جبيلة الغساني "ج3" 442 "ج4" 134، 136 "ج6" 519، 521 "ج9" 791 أبو جحيفة "ج8" 327 أبو الجدعاء "ج5" 369 أبو جراب "ج7" 208 أبو الجراح "ج9" 222 أبو جعفر بن حبيب النسابة "ج4" 419 أبو جعفر أحمد بن محمد "ج9" 507، 508، 511، 513 595 أبو جعفر الرؤاسي "ج9" 217 أبو جعفر محمد "ج5" حا 551 "ج9" 302 أبو جعفر المنصور "ج3" 206، 287 502

"ج4" 227 "ج5" 213، 565 "ج8" حا 487، 595، 723 "ج9" 215، 302 أبو جعفر النحاس "ج1" 71 "ج9" 510 أبو جندب الهذلي "ج4" 400 "ج6" 241 "ج9" 618، 873 أبو جهراء "ج9" 766 أبو جهل بن هشام "ج4" 47، 99، 105، 107، 125، 384، "ج5" 38، 235، 637 "ج6" 87، 217، 703 "ج7" 46، 293، 298، 356، 446 "ج8" 268، 400، 522، 710 "ج9" 712، 714، 715 أبو جهم بن حذيفة "ج8" 330، 332، 596 "ج9" 277 أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي "ج9" حا 39، 215، 220، 222، 273، 453، 483، 604، 729. أبو الحا رث بن علقمة "ج4" 191 أبو حا رثة بن علقمة "ج3" 400، 533 "ج6" 617 أبو حا رثة بن عمرو "ج4" 436 أبو حا زم "ج8" 596 أبو حباحب "ج6" 700، 701، 817 أبو حجر النعمان "ج3" 444، 445 أبو حذيفة "ج4" حا 144 "ج8" 119 أبو حرب بن أبي الأسود "ج9" 41 أبو الحسن أحمد بن فارس "ج9" 42، 194 أبو الحسن سعيد "ج5" 26، "ج6" 13 "ج9" 210 أبو الحسن الطوسي "ج9" 556 أبو الحسين "ج9" 528، 678 أبو الحصين "ج4" 253 "ج6" 588 أبو حفص "ج5" 26 أبو الحقيق "ج4" 264 أبو الحكم بن هشام "ج7" 446 أبو حمزة الضبي "ج5" حا 94 أبو حنبل "ج4" 406 أبو حنش "ج3" 353 "ج4" 489، 492 "ج5" 284، 353 أبو حنظلة "ج4" 110 أبو حنيفة الدينوري "ج1" حا 161 "ج3" 164، 183، 186، 187، 441، 504، 525 "ج6" 440 "ج7" 167، حا 594 "ج9" 218 أبو حوط الحظائر "ج3" 335 "ج4" 487 "ج5" 467 أبو حيان الأندلسي "ج4" حا 371، "ج6" حا 228، حا 236، حا 363 "ج8" 730 أبو حية "ج4" 511 "ج9" 195 أبو حيوة "ج8" 575 أبو خالف "ج9" 367 أبو خراش الهذلي "ج1" 307 "ج9" 608، 610، 613، 614، 649، 763، 872، 873 أبو خزاعة "ج1" 400 "ج6" 78

أبو الخصيب "ج6" 598 أبو الخطاب الأخفش "ج9" 235 أبو خلف الجمحي "ج4" 88 أبو خليفة "ج9" 694 أبو خيبري "ج9" 815 أبو دجانة "ج5" 441 أبو الدرداء "ج4" 365 أبو الدقيش الأعرابي "ج1" 526 أبو دلف "ج7" 337 أبو داود الأيادي "ج1" حا 308، 505 "ج2" 615، 616 "ج3" 259 "ج4" 472، 578، 632 "ج5" 428 "ج6" حا 61، 140، 664، 683 "ج9" 75، 94، 97، 117، 153، 161، 234، 267، 326، 406، 417، 418، 445، 468، 534، 672، 675، 795، 802، 804، 807 أبو الديال "ج6" 570، 571 أبو الديلم "ج1" 402 أبو ذؤيب "ج1" حا 383 "ج2" حا 513 "ج4" حا 421 "ج5" 623 "ج6" 383 "ج7" حا 623 "ج8" 111، 258، 277، 487، 664 "ج9" 75، 183، 238، 273، 327، 391، 465، 488، 834، 846، 871، 872، 881 أبو ذر بن محمد بن مسعود "ج6" حا 478 أبو ذر عبد بن أحمد الهروي "ج8" 97 أبو ذر الغفاري "ج1" 281، 282 "ج4" 590، 671 "ج5" 87 "ج6" 259، 422، 703 "ج7" 288، 338، 339، 525 "ج8" 99، 103، 134، 168، 182، 474 "ج9" 197، 418 أبو ذكوان "ج9" 204 أبو زمعة "ج4" 92 أبو الذيال "ج9" 770، 787 أبو رائشة الحوثري "ج3" 245 أبو راشد "ج1" 367 أبو رافع اليهودي "ج6" 523، 570 "ج7" 460، 561 "ج8" 264 أبو الرئيس النهشلي "ج5" 370 أبو الربيع الكلاعي "ج9" 703 أبو ربيعة بن ذهل "ج3" 198 "ج4" 480 "ج9" 474 أبو رجاء العطاردي "ج6" 355 أبو رغال "ج1" 75، 323، 406 "ج3" حا 513، 514 "ج4" 148، 150، 445 "ج5" 113 "ج6" 484 "ج7" 343 "ج8" 301 أبو رقية الداري "ج8" حا 378 أبو رهم بن عدب العزى "ج4" 80 أبو الروم بن عبد شرحبيل "ج8" 118 أبو رية "ج8" حا 328، حا 735، 737، حا 750، حا 752 أبو زبيد الطائي "ج3" 410

"ج5" 174 "ج6" 598، 602 "ج7" 608 أبو الزعراء "ج9" 362 أبو الزعفران "ج5" 397 أبو زمعة "ج3" 526 "ج9" 717 أبو الزناد "ج9" 279 أبو زهمول "ج2" 18 أبو زهير "ج4" 102 أبو زياد الكلابي "ج3" 348، 354، 355 أبو زيد "ج3" 360، 522 "ج4" 307، 559 "ج8" 373، 418، 565، 590، 616 "ج9" 75، 222، 242، 294، 300، 455، حا 520 أبو زيد القرشي "ج9" 294، 301 أبو زيد حرملة بن المنذر "ج9" 879، 880 أبو زيد محمد بن أبي الخطاب "ج9" 345 أبو زيد النحوي "ج9" 682 أبو أزيهر "ج9" 712 أبو سبرة "ج4" 195 أبو سريرة "ج9" 362 أبو السعود "ج6" 230 أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي "ج1" حا 90، 362، حا 387 "ج8" 167 "ج9" 25، حا 38، حا 219، حا 296 أبو سعيد الخدري "ج8" 735 أبو سعيد بن عمرو "ج6" 563 "ج8" 596 "ج9" 37، 880، 882، 889 أبو سفيان "ج6" 58، 62، 179، 217، 228، 234، 239، 249، 253، 459، 480، 487، حا 509، 669، 767، 780 "ج7" 236، 290، 291، 294، 295، 297، 299، 301، 307، 308، 317، 323، 328، 339، 352، 354، 356، 358، 407، 421، 439، 440، 578 "ج8" 301 أبو سفيان بن أمية "ج4" 104، 331، 465، 562، 661، 668 "ج5" 383 "ج8" 117، 118، 163، 171 أبو سفيان بن الحا رث "ج5" 37، 38 "ج6" 64 "ج8" 383، 402، 664 "ج9" 112، 214، 361، 380، 413، 495، 577، 578، 694، 696، 710، 711، 737، 739، 747، 846، 863 أبو سفيان بن حرب "ج4" 11، 33، 34، 83، 109، 114، 124، 125، 155، 192، 223، 224، 234، 253 "ج5" 250، 407، 502، 506، 604، 637، 647، "ج6" 147 "ج8" 117، 120، 789، 790 "ج9" 582، 717 أبو سفيان صخر "ج4"110، 111 أبو السكون "ج3" 382

أبو سلمى "ج5" 198، 220 "ج8" 120، 596 "ج9" 381، 431 أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي "ج4" 222 "ج7" 347 أبو سلمة موسى بن إسماعيل "ج9" 41، 67 أبو سماك الأسدي "ج9" 888 أبو سوادة "ج3" 291 أبو سيارة "ج1" 403 "ج5" 593 "ج6" 386 "ج8" 500، 779 أبو شراحيل سميفع "ج4" 182، 183 أبو الشعثاء "ج8" 252 أبو شفقل "ج9" 526 أبو شمر الأكبر "ج3" 446 أبو شمر جبلة "ج3" 400، 404، 419، 444، 445 أبو شمر بن الحارث "ج3" 445، 448، أبو شمر عمرو بن جبلة "ج3" 229 أبو الشيص "ج9" 230 أبو صالح مغمز "ج1" حا 88، 462 "ج6" 469 "ج8" 596، 600، 601 أبو صخر الهذلي "ج7" 250 أبو صعصعة بن زيد "ج9" 727 أبو الصلت بن أبي ربيعة "ج9"، 261، 274، 752، 758، 759 أبو الضباب "أبو الضبيب" "ج4" 263 أبو ضمرة "ج9" 381 أبو ضمضم "ج9" 287 أبو طالب "ج1" 509 "ج2" 653 "ج4" 61، 81، 83، 91، حا 143، 311، 318، 389، "ج5" 37، 146، 247، 525، 603، 604، 637، "ج6" 268، 404 "ج7" 192، 295، 333 "ج8" 285، 315، 664، 780 "ج9" 384، 385، 695، 701، 707، 713، 824 أبو طاهر "ج8" 118 أبو الطفيل "ج1" 334 "ج9" 846 أبو طلحة الأنصاري "ج1" 401، "ج8" 597 أبو الطمحان القيني "حنظلة بن الشرقي" "ج1" 317 "ج3" 201 "ج4" 659 "ج5" حا 520 "ج8" 203، 204، 255، 346، 77، "ج9" 76، 237، 261، 607، 621، 649، 651، 710، 796، 902 أبو الطيب اللغوي "ج9" حا 400 أبو الطيب المتنبي "ج8" 265، "ج9" 230 أبو طيبة "ج7" 584 أبو ظبيان الأزدي "ج4" 185 أبو العاص "ج4" 157، 518 "ج5" 38 "ج6" 228 "ج7" 299، 300 "ج8" 348 "ج9" 705، 713

أبو العالية الأنطاكي "ج6" 302 أبو عامر بن صيفي "ج6" 458، 602 أبو عامر الأوسي "ج1" 42 "ج4" 33 "ج6" 460، 462، 487، 510 أبو العباس ثعلب "ج1" حا 382، 383، 499 "ج3" 377 "ج4" حا 144 "ج8" 99، 265، 361 "ج9" 37، 142، 255، 288، 299، 302، 303، 306، 308، 344، 349، 351، 352 أبو عبد الله بن الفضل "ج4" 263 "ج7" حا 555 أبو عبد الله بن مقلة "ج9" 45، 299 أبو عبد الله الحسين "ج6" 13 أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي "ج1" 69، حا 146 "ج9" 301 أبو عبد الله المصعب "ج1" حا 376 "ج4" 297، 470 أبو عبد الله نفطويه "ج6" حا 572 أبو عبد الله اليزيدي "ج9" 491 أبو عبس بن كثير "ج8" 114 أبو عبس الأنصاري "ج8" 116، 160 أبو عبيد "ج2" 269 "ج3" حا 200 "ج4" 231، 517، 666، "ج5" 620 "ج7" حا 498 "ج8" 360، 600، 604، 611 "ج9" 279 أبو عبيدة بن الجراح "ج3" 376، 394، 428، 429، 447 "ج4" 27، 185، 197، 239،242، 262، 571، 579، 685 "ج5" حا 151، 158 "ج8" 119، 128، 133، 135، 572، 690، 782، "ج9"، 37، 52، 54، 115، 164، 166، 167، 176، 177، 222، 261، 280، 288، 296، 298، 304، حا 326، 349، 350، 360، 362، 398، 402، 459، 504، 506، 515، 521، 524، 540، 544، 566، 585، 587، 604، 655، 665، 674، 677، 727، 729، 796، 798، 799 أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي "ج1" 68، حا 79، 89، 90، حا 146 "ج3" 318، 324، 332، 345، 365 "ج4" 487 "ج5" 209، 341، 343، 377، 389، 442 "ج6" حا 110، 593، حا 675 "ج7" 12، 165، حا 607 "ج8" 287، 334، 360، 384، 417، 418 أبو العتاهية "ج1" حا 69، "ج9" 681 أبو عتبة "ج4" 112، 151 أبو عثمان سعيد "ج9" 294، 391 أبو عدنان "ج9" 14

أبو عرار "ج9" 295 أبو عروة بن مسعود "ج4" 85 أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي "ج4" 661 "ج8" 401 "ج9" 112، 696 أبو عطاء السندي "ج9" 320 أبو عفك "ج6" 581 أبو عقيل مسعود "ج5" 548 أبو عكرمة الضبي "ج5" 377، "ج9" 301، 302 أبو العلاء المعري "ج3" 286، 291 "ج5" 113 "ج6" 101، 146، 377، 378، 446 "ج8" 383، 537، 568، 569 "ج9" 30، 33، 118، 186، 187، 205، 216، 223، 225، 361، 364، 367، 375، 386، 400، 451، 455، 467، 490، 542، 579، 589، 660، 678، 789، 812، 851، 855 أبو علي الفارسي "ج96" 89 أبو علي لغدة الأصفهاني "ج8" 52 أبو عليم "ج1" 404 أبو عمار الوائلي "ج4" 253 أبو عمرة "ج5" 61 "ج8" 297 أبو عمرو بن أمية "ج4" 581 أبو عمرو بن حريث العذري "ج4" 204، 251، 423 أبو عمرو بن ربيعة "ج5" 209، 370 "ج8" 283 أبو عمرو بن العلاء "ج1" 68، 69 402 "ج4" 571 "ج8" 562، 600، 632، 639، 662، 686، 690، 715، 737 "ج9" 22، 28، 31، 39، 53، 54، 56، 57، 85، 110، 161، 163، 165، 175، 204، 205، 220، 221، 235، 236، 251، 259، 260، 273، 275، 296، 298، 304، 312، 324، 340، 362، 375، 398، 400، 402، 403، 407، 423، 449، 465، 503، 512، 533، 544، 585، 587، 689، 692، حا 731، 855، 868، 874، 901 أبو عمرو بندار الكرخي "ج9" 301 أبو عمرو الشيباني "ج1" 69 "ج3" حا 159، 352 "ج 8" 566 "ج9" 167، 226، 296، 305، 345، 349، 351، 352، 361، 735، 828، 869 أبو عمير بن الحباب السلمي "ج9" 104 أبو عميرة عصمة بن وهب "ج5" 371 أبو غنيش "ج9" 489 أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني "ج6" 13 أبو الفداء "ج1" 177، حا 315، حا 317 "ج3" 63، حا 159، حا 229، 233، حا 234، حا 275، حا 294، 320، 321، 367، 368 "ج4" حا 40، حا 379، حا

438، حا 442، حا 450، حا 452، حا 455، حا 457، 459، 462، حا 477، حا 481، حا 495، 496، حا 500، 501، حا 505، 507، حا 512، حا 514، حا 520، حا 525، 526، حا 532، 533 "ج5" حا 356، حا 361 "ج6" حا 78، حا 80، حا 517، 518، حا 520، حا 529 أبو فراس "ج1" 283" "ج9" 362 أبو الفرج الأصبهاني "ج3" 264، 292، 345، 375، 438 "ج5" 167، 343، "ج6" 580 "ج9" 294، 301، 353، 436، 466، 721، 771، 775، 779، 791، 857، 876، 898 أبو فضل "ج4" 177 أبو فقعس "ج9" 652 أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق "ج3" حا 281 "ج9" 307 أبو قبيس "ح4" 7، 63، 87، 108، "ج6" 221، 404، 405، 699، 712 "ج7" 446 "ج9" 683 أبو قتادة بن ربعي "ج4" 138 أبو قترة "ج6" 735 أبو قحا فة "ج4" 98، 109 أبو قحطان "ج1" حا 313 أبو القرثع اليهودي "ج9" 789أبو قردودة "ج8" 375، 778 "ج9" 498 أبو قلابة الهذلي "ج6" 158 أبو قلادة الهذلي "ج9" 491 أبو قيس بن الأسلت "ج4" 137، "ج5" 529، 536 "ج9" 385، 655، 719، 723، 725، 728، 787 أبو قيس بن رفاعة "ج6" 571 "ج9" 770، 787 أبو قيس بن صرمة "ج1" 42، 388 "ج5" 320 "ج6" 218، 242 أبو قيس بن عبد مناف "ج5" 38 "ج8" 111، 117، 161، 291، 300 أبو قيس اليهودي "ج9" 756 أبو كبشة "ج7" 459 "ج8" 98، 430 أبو كبير الهذلي "ج4" 535 "ج9" 341، 642، 644 أبو كرب بن جبلة "ج2" 657 "ج3" 411، 413، 423 "ج5" 328، 329 أبو كرب بن حسان "ج6" 538 "ج9" 721 أبو كرب بن ملكي "ج1" 504، 505 547 أبو كرب أبهر "ج2" 563 أبو كرب أحرس "ج2" 301، 379، 381، 382 "ج8" 647 أبو كرب أسعد "ج2" 464، 465، 491، 526، 529، 541، 542، 553، 563، 568، 575، 577، 578، 599 "ج3" 386 "ج4" 174 "ج9" 803

أبو كرب أصحح "2" 460 أبو كرب ربيعة بن الحرث "ج3" 244 321 أبو كرب المنذر بن الحارث "ج3" 444 أبو الكناس الكندي "ج1" 472 أبو لؤلؤة "ج8" 110، 301 أبو لؤم ثقيف "ج4" 150 أبو لبيد بن عبدة بن جابر "ج9" 697 أبو لهب "ج4" 110، 112، 567 "ج5" 37، 626 "ج6" 242، 243 "ج7" 433، 439، 445، 584 "ج9" 699 أبو مالك عمرو بن كركرة "ج1" 405 "ج3" 179 "ج4" 314، 516 "ج5" 61 "ج9" 166، 271، 295، 604، 605 أبو محجن الثقفي "ج4" 156، 581 "ج8" 664 "ج9" 752، 765، 767 أبو ملحم "ج9" 464 أبو محمد بن مفوز "ج8" 96 أبو محمد ثابت بن ثابت "ج9" حا 52، 329، 399، 556 أبو محمد جناد بن واصل الكوفي "ج1" 69 أبو محمد عبد الله بن جعفر "ج8" 557 أبو محمد القاسم الأنباري "ج9" 301 أبو مخنف لوط بن يحيى "ج1" 86، 114 "ج4" 659 "ج9" حا 308 أبو مرة بن ذي يزن "ج3" 482 أبو مرة الفياض ذا يزن "ج3" 505، 522، 524 "ج4" 183 أبو مرة معد يكرب بن أبي مرة "ج3" 482 أبو مرحب "ج5" 367، 371 أبو المرقال الزفيان "ج9، 420 أبو مروان النحوي "ج9" 222، 664 أبو المزلق "ج4" 83 أبو مطر الحضرمي "ج9" 717 أبو معن "ج6" 270 أبو المقشعر "ج4" 134 أبو مكعب "ج9" 899 أبو مليل "مليك" "ج5" 397 أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب "ج1" 83، 87 "ج3" 246، 426 أبو منصور "ج9" 136 أبو المنهال "ج8" 360 أبو المهدي "ج9" 31 أبو المهوش الأسدي "ج9" 467 أبو مهوش الفقعسي "ج8" 344 أبو موسى بن نصير "ج8" 110، 134 أبو موسى الأشعري "ج4" 192، 196، 299 "ج5" 156، 509 "ج7"541 "ج8" 170، 325 "ج9" 6، 8، 10، 42، 71، 217، 313، 322، 343، 344، 362، 850 أبو مويهبة "ج7" 459 أبو ميسرة "ج8" 697 أبو نافع الأزرق "ج6" 607 أبو النجم "ج6" 711 "ج9" 121، 175، 420 أبو نجيد "ج6" 739 "ج9" 885 أبو نخيلة "ج9" 175

أبو نصر الحنبصي "ج8" 278 أبو نصر محمد بن عبد الله اليهري "ج1" 91، 96، 97، 103، 365 "ج3" حا 272 "ج8" 692 أبو النضر محمد بن السائب "ج1" حا 87 "ج9" 45 أبو نهشل "ج5" 377 أبو نواس "ج1" 500 "ج3" 437 "ج6" 655 "ج9" 98، 115، 164، 318 323 أبو هالة "ج6" 713 أبو هدرش "ج9" 390 أبو هرم بن سنان "ج3" 211 أبو هريرة "ج1" 283 "ج4" 211 "ج5" 117 "ج6" 371، 554، 556 "ج7" 218، حا 254، 309، 608، 632 "ج8" 102، 436، 553، 596، 597، 601 749، 750 "ج9" 6، 8 أبو هلال العسكري "ج6" حا 485 "ج8" حا 332، حا 352، حا 354، حا 358، حا 360، حا 362، 363، حا 366، 367، حا 764، حا 766، حا 780، 780، 781 "ج9" حا "40، 53، 71، 89، 143، 239، 251، 273، 280، 282، 878، 885" أبو هند "ج4" 244 أبو الهياج الأسدي "ج5" حا 169 أبو الهيثم بن التيهان "ج4" 137 "ج7" 194 أبو واقد "ج4" 671 أبو وداعة "ج4" 582 "ج5" 38، 84 "ج7" 443، 500 أبو الوليد "ج1" 111 "ج3" 429 "ج9" 718 أبو وهب "ج3" 360 "ج4" 196 أبو ياسر النضيري "ج9" 783، 789 أبو يشأ "ج1" 603 أبو يشع "ج1" 603 أبو يزيد "ج9" 441 أبو اليسر "ج4" 121 أبو يعفر بن علقمة بن مالك "ج3" 216، 218، 307، 309، 311، 313، 338 أبو يعقوب "ج1" 376، 411 أبو يعلى الحنبلي "ج7" حا 453، حا 497، 502 أبو اليقظان النسابة "ج1" 115 "ج4" 528 "ج8" 782 أبو يكسوم "ج3" 483، 497، 512، 520، 521 "ج4" 183 "ج5" 468، 623، 633 أبو يوسف "ج5" حا 304، 305، "ج6" 563 أبو لودورس "ج1" 60 أبي بن خلف "ج4" 177 "ج5" 37، 502، 623 "ج6" 126، 147 "ج7" 126، 555 أبي بن كعب بن قيس "ج3" 280 "ج4" 185، 267 "ج6" 98

"ج8" 114، 120، 122، 131، 132، 160، 293، 386، 596، 598، 608 الإبياري "ج1" حا 355 "ج4" حا 96 أبيتا "ج1" 603 أبيداع "ج1" 446، 458 أبيدع ذو لحيان "اب يدع" "ج2" 244 أبيدع. ريام "أب يدع" "ج2" 97، 100، 102، 125 أبير "ج1" 588 "ج5" 353 الأبيرد الغساني "ج3" 245 الأبيض بن حمال "ج2" 583 "ج7" 147، 522 "ج8" 408 أبيل العربي "ج1" 634 "ج9" حا 766 أبيمايل "ج1" 424 أبيه "ج1" 661 "ج3" 176 أبيون "ج6" 635 الأتغم "ج1" 372 أتيد "ج1" 408 "ج4" 502 أثال بن حجر "ج5" 386، 407 أثال بن لجيم "ج4" 217 أثال بن النعمان الحنفي "ج6" 99 أثال الملك "ج2" 614 أثنا سيوس "ج3" 109 أثنياوس "ج3" 36 أثينودورس "ج3" 14، 54، 103 "ج6" 331 اثينيوس "ج3" 18، 19 أجأ "ج4" 145 أجبر "ج1" 605 الأجيول "ج1" 369 الأجع بن مالك "ج3، 498 الأجرد "الأحرد" "ج9" 284 أجرم بهنعم بن سخمان "ج2" 492 أجلة "ج1" 599 الأجلح الدهري "ج6" 765، 773 الأحدر "ج4" حا 464 الآحدي "ج8" 383 أحرار يهبأر "ج2" 147، 148 إحسان عباس "ج3" حا 263 "ج6" حا 112 "ج7" حا 526 "ج8" حا 138 "ج9" حا 546 أحشو يرش "ج1" 21، 628 أحمد "الإمام" "ج8" 28 أحمد بن أبي الأغر الشهابي "ج1" 91، 101 أحمد بن حاتم "ج8" 418 أحمد بن حنبل "ج6" حا 200، حا 380، حا 390، حا 450 "ج8" 750 "ج9" 272، 321، حا 528 أحمد بن عبد الله بن سلام "ج1" 451 أحمد بن عبد ربه "ج9" 512 أحمد بن عبيد "ج9" 269، 301 أحمد بن فارس "ج6" 816 أحمد بن يحيى "أبو العباس" "ج9" 226 أحمد أمين "ج1" 261، 265، 266، 269، 272 "ج9" 44، 46 حمد زكي باشا "ج1" حا 87، 320 "ج6" حا 12، حا 227، حا 251، 269، حا 271، حا 277، حا 280 أحمد ظافر كوجان "ج9" حا 641 أحمد فخري "ج2" 75، 272، 450 "ج3" 480 "ج7" حا 118، حا 179 أحمد فريد رفاعي "ج9" حا 313

أحمد محمد شاكر "ج5" حا 422 "ج7" حا 538، حا 590 "ج8" حا 696 أحمد يزيد "ج2" 460، 461 أحمد يغنم "ج2" 461 أحمر بن جندل "ج3" 278 "ج9" 473 الأحمر بن الحارث "ج4" 260 أحمر بن سواء "ج6" 67 الأحمر بن هوازن "ج5" 380 أحمر ثمود "ج1" 308 أحسر عاد "ج1" 308 أحمس بن ضبيعة "ج1" 406 "ج4" 482، 483 أحمس بن الغوث "ج4" حا 446 أحمس الله "ج6" 370 الأحمور "ج4" 187 الأحنف بن قيس "ج4" حا 30، 352 585، 586 "ج5" 237، 643 "ج7" 579 "ج8" 761 "ج9" 747، 748 الأحوى بن عوف "ج5" 217 أحودما "ج6" 601، 631 الأحوص بن جعفر بن كلاب "ج3" 226، 274، 354، 355 "ج4" 346، 521 "ج5" 348، 359، 388، 407، 443 أحيحة بن الجلاح "ج3" 201 "ج4" 73، 136، 151 "ج5" 360، 452 "ج6" 760 "ج7" 43، حا 85، 314 "ج8" 430، 664 "ج9" 719، 721، 723 أحيقار "ج2" 27 "ج7" 245 "ج8" 338، 341، 342، 346، 368 الأحيمر بن عبد الله "ج5" 367 الأحيمر الأعيمر بن يزيد "ج5" 353 أحيمر ثمود "ج1" 440 أحيمر السعدي "ج5" 445 أخ كرب "ج2" 309 آخاب "ج1" 575، 641 أخزم "ج1" 271 أخزيا "ج1" 640، 641 الأخسف "ج6" 418، 423 الأخطل "ج1" 496 "ج3" حا 256 "ج4" 492، حا 499 "ج6" حا 593، 633، حا 677 "ج7" حا 107 "ج9" 233، 234، 236، 246، 282، 283، 327، 419، 544 الأخطور بن مالك "ج1" 370 الأخفش "ج4" 277 "ج9" 53، 139، 164، 180، 201، 206، 218، 275، حا 302، 418، 625 أخليو "ج3" 107 الأخنس بن شريق "ج4" 156، 388، 517 الأخنس بن شهاب "ج1" 469 "ج6" 131 "ج8" 280، 367، حا 403 "ج9" 497 الأحنس بن يزيد "ج4" 258 أخنوخ "ج8" 197، 198 أخهيسمي "ج2" 201 أخيش "ج1" 644 أخيل "ج1" 369 أخيلس "ج1" 57 الأخينس "ج9" 612 أد بن طابخة "ج1" 378، 402

"ج4" حا 438، 523، 525، 528 "ج6" 255، 256 أد بن عدنان "ج1" 382 أدبئيل "ج1" 375، 434، 441، 580، 584 "ج2" 122 أدد بن زيد "ج1" 370، 372، 377 378، 443 "ج3" 462 "ج4" 433، 434 أدرم "ج3" 47 أدريس "ج1" 41، 488 الأدغم "ج1" 372 آدم "ج1" 14، 15، 41، 74، 79، 85، 256، 350، 410، 416، 464، 490، 494، "ج3" 61، 79، 106، 265، "ج4" 106، 369، 434، "ج5" 83، 149 "ج6" 69، 144، 150، 254، 259، 371، 417، حا 442، 489، 619، 668، 673، 687، 706، 707، 727، 732 "ج7" 154، 190 "ج8" 103، 161، 183، 197، 198، 436، 511، 537، 538، 612، 652 "ج9" 364، 365، 353، 403، 496، 685، 809 آدم بن ربيعة "ج6" 682 أدم بتع "ج2" 328، 408، 413 آدم القرشي الأدرمي "ج9" 715 أدم نشأ كرب "ج2" 459 أدهم بن أبي الزهراء "ج5" 645 أدور جرجي "ج2" حا 174 أدور ماير "ج3" 139 أدي شير "ج1" حا 574، 575، حا 577، 578، حا 585، حا 587، حا 590، حا 596 حا 600، حا 607 "ج6" حا 597، حا 614، حا 628، حا 632 "ج8" 702 أديا عادية "ج1" 601 الأديم العكاظي "ج7" 380 أذيل "ج1" 375، 434 أذر "ج1" 375، 434 أذهن "ج2" 152 أذينة "ج1" 660 "ج2" 634، 635، 639 "ج3" 83، 90، 103، 110، 111، 126، 177 "ج4" 79، 189 "ج5" 189 "ج6" 330 أرادوس "ج1" 564 أراش بن عمرو "ج1" 374 "ج4" حا 433، 443، 470 أراشة بن مر "ج1" 402، 407 أرام "ج1" 417، 419، 421 أرباب بن رئاب "ج6" 463 أربد بن ربيعة "ج4" 255 أربد بن قيس "ج4" 255، 521 "ج9" 551، 553، 555، 556 الأرت "ج1" 372 أرتاماس "أرتامون" "ج3" 109 أرتحشتا "ج1" 646 "ج2" 92 أرتميدورس "ج2" 15 أرثر جفري "ج8" حا 616 "ج9" حا 367 أرثر كريستنسن "ج2" حا 633، حا 635حا 644 "ج3" حا 202

ارجيز "ج3" 156 أردشير بن بابك "ج2" 13، 576، 614، 615، 617، 628، 633، 634، 639 "ج3" 90، 161، 162، 167، 169، 171، 183، 186، 306، 310، 311 "ج4" 16، 158، 202، 442 "ج7" 116، 280 أردشير بن شيرويه "ج3" 299، 308، 312 أردشير بن هرمز "ج3" 194، أردوان "ج3" 306 أرسامس "ج1" 626 أرستون "أرسطون" "ج2" 23، 24، 71 أرسطو "أرسطو طاليس" "ج1" 199 "ج2" حا 25 "ج5" 217 "ج6" 628 "ج7" 280 "ج8" 340، 731، "ج9" 47، 48، 51، 52، 57، 170، 199، 201 أرسطو بولس الأول "ج2" 14، 39 "ج3" 32، 33، 35، أرسطو بولس الثاني "ج2" 39 أرشياس "ج2" 7 أرطأة بن شراحيل "ج4" 194 أرطبان الخامس "ج3" 90، 439 أرغو "ج1" 449 أرفكشاد "أرفخشذ" "ج1" 296، 417، 418 "ج8" 537 الأرقم بن أبي الأرقم "ج4" 129، 189، 259 "ج8" 122، 125، 128، 132 أرقم بن ثعلبة "ج1" 346 "ج3" 445 الأرقم بن نضلة "ج5" 38 "ج6" 517 أرم بن سام "ج1" 296، 297، 299، 301، 303، 306، حا 322، 416، 418 "ج6" 537 "ج8" 537 أرمياء النبي "ج1" 377، 440 أرمينيوس "ج3" 128 أرنجده "ج3" 481 أرنست أوسيندر "ج1" 127، 128، 135، 136، 451 أروى "ج5" 136 أروتيموس "ج3" 29 أرياط "ج3" 457، 458، 481، 482، 504، 505، 524، 525 أريان "ج1" 199 "ج2" 5، 8 "ج3" 140 أريانوس "ج2" 159 أريتاس، "ج1" 651 "ج3" 343، 403 أريوس "ج2" 659 "ج3" 396 "ج4" 167 "ج6" 624، 625، 637 الأزاذبة "ج2" 649 آذاذبة بن بابيان "ج3" 308، 309 أزاذبة بن ماهيبيان "ج3" 299، 300، 321، 314 الآزاذبه مرد بن الأزاذبة "ج4" 228 أزار بن أبي آزار "ج6" 546 أزال "ج1" 92، 358، 428 أزانن "ج3" 484 الأزد بن الغوث "ج4" 434، حا 446

الأزدي "ج5" حا 455 آزر "ج1" 316 "ج6" 50 "ج8" 345 الأزرق "ج4" 595 الأزرقي "ج1" حا 158، 215 "ج3" حا 320، حا 482، 500، 502، حا 507، 508، حا 516، 520، "ج4" حا 5، حا 14، حا 17، حا 41، 42، حا 56، حا 59، حا 65، حا 80، حا 99، حا 115، حا 144، حا 439، 440 "ج5" حا 235، حا 250، حا 272 "ج6" حا 60، حا 75، حا 77، 79، 80، حا 189، حا 193، حا 230، حا 236، 237، حا 240، حا 242، 243، حا 245، حا 248، حا 251، حا 266، 267، حا 270، 271، حا 273، 274، حا 286، 287، حا 312، حا 328، حا 353، حا 357، 362، حا 380، 381، حا 384، حا 386، 389، حا 399، حا 404، 405، حا 411، حا 418، حا 423، حا 425، حا 435، 436، حا 438، 439، حا 441، 444، حا 488، 609، حا 712 "ج7" حا 376، حا 378، حا 380 "ج8" حا 89، حا 474، حا 500 أزرو "ج3" 497 أزقير "ج3" 467 الأزمع بن خولان "ج1" 368، 369 أزهر بن عبد عوف "ج8" 331، "ج9" 277 الأزهري "ج4" 298، حا 425 "ج5" 144 "ج6" حا 676 "ج7" 633، 635 "ج8" 315، 600، 608، 654، 684، 739 "ج9" 123، 181، 322، 601، 609 أزيدوروس الملطي "ج3" 134 أسا "ج1" 640 أساف بن عمرو "ج6" 266، 267 أسامة بن زيد بن حارثة "ج4" 244 "ج7" 603 أسانيد "ج1" 462، 463 أسبع بن عمرو بن لأم "ج4" 219، 221، 239 إسحاق بن إبراهيم "ج1" 410، 496، 497، 499 "ج5" 111 "ج6" 199، 573، 629 "ج8" 173 "ج9" 756 إسحاق بن الجصاص "ج9" 295 إسحاق بن سويد العدوي "ج1" 496 إسحاق بن الفرج "ج1" 20 إسحاق بن قبيصة "ج9" 24 إسحاق بن مراد "ج9" 304 إسحاق الأنطاكي "ج6" 238، 239 إسحاق الجاثليق "ج6" 597 إسحاق الغنوي "ج6" 683

إسحاق الموصلي "ج9" 857 أسد بن جفنة "ج6" 477 أسد بن خزيمة "ج1" 366، 372، 399 "ج3" 349 "ج4" 87، 222، 226، 471، 477، 525، 531، 534، 657 "ج5" 82، 83، 382، 647 "ج6" 249، 408 "ج7" 347 "ج8" 602، 777، 788 "ج9" 146، 447 أسد بن ربيعة "ج1" 406، 407، 525 أسد بن عبد العزى "ج4" 39، 40، 51، 61، 94، 268، "ج6" 240، 432، 440، 590، 606 "ج8" 119 الأسد بن عمران "ج2" 394 أسد بن كرز "ج9" 621، 649 أسد بن ناعسة "ج9" 793 أسد بن هاشم "ج9" 412 أسد بن وبرة "ج4" 424 أسد بن يبرح "ج4" 202 أسد ذخر "ج2" 322 الأسد الرهيف "ج5" 388 الأسد مجزت مونهان "ج2" 381 أسدة "ج1" 399 "ج4" 477 أسدم أسعد "أسد أسعد" "ج2" 374، 376 الأسدي "ج6" 724 إسرائيل "ج4" 314 إسرافيل "ج2" 269 أسرحدون "ج1" 205، 591، 595، 597، 600، 602، 603، 609 "ج6" 63 استطيفان البيزنطي "ج1" 64، 345، 362، 599 "ج2" 63، 623 "ج3" 28، 40، 41، 55، 68، 137، 157، 303، 453 "ج4" 130 أسعد بن زرارة "ج6" 68 "ج8" 393، 405 أسعد بن الغدير "ج9" 542 أسعد أبا كرب الحميري "ج1" 42، 332، 370، 525 "ج2" 570، 572، 575، 578 "ج3" 168، 251، 322، "ج4" 17 "ج6" 442، 462، 463 "ج7" 490 أسعد تبع "ج1" 502 "ج2" 219، 363، 526، 569، 571 "ج4" 536 أسعد الخير بن زرارة "ج4" 137 أسعد الكامل "ج4" 418، 448، الأسعر "الأشعر" الجعفي "ج5" حا 600 "ج9" 243 اسفنديار "ج1" 78 "ج8" 320، 377، 385، الأسقع الليثي "ج6" 56 اسقلبيوس "ج8" 198 إسكندر "ذو القرنين" "ج1" حا 53، 61، 304، 444، 488، 498، 502 "ج2" 5، 13، 19، 21، 22، 25، 31، 34، 38، 66، 71، 113، 533،

621، 622، 626 "ج3" 26، 67، 76، 85، 128، 167، 193، 503، "ج4" 15، 16 "ج5" 217 "ج7" 267، 269، 273، 280، 495، 613 "ج8" 86، 87، 519، 523 إسكندر بالس "ج1" 649، 650 إسكندر جنيوس "ج2" 39 "ج3" 18، 25، 27، 31، 32، 39، 67، 140 إسكندرة "ج3" 32 أسكيلوس "اسخيلوس، أشيلس" "ج1"21 أسلم بن الحاف "ج1" 366، 367، 370 "ج2" 328، 329 "ج4"420، 421، 457 أسلم بن سدرة "ج8" 111، 128، 158، 160 أسلم بن قمعة "ج4" 530 الأسلوم بن اليامي "ج4" 671 أسمى بنت سود "ج4" 476 أسماء بنت أبي بكر "ج3" 346 "ج5" 52 "ج6" 473 "ج7" 147 "ج9" 286 أسماء بنت عبد الله العذرية "ج4" 648 أسماء بنت عوف بن مالك "ج9" 660، 661 أسماء بنت مخربة "ج8" 293 أسماء بنت مهلهل بن ربيعة "ج5" 392 إسماعيل بن إبراهيم "إشماعيل" "ج1" 14، 16، 20، حا 28، 29، 93، 143، 252، 282، 294، 298، حا 311، 345، 356، 360، 361، 375، 378، 380، 385، 410، 423، 429، 432، 437، 440، 441، 461، 468، 473، 496، 501، 502، 506، 507، 612 "ج3" 12، 14، 16 "ج4" 13، 14، 16، 42، 56، 75، 274، 467، 469، 530، 536، 537، 583، 654، 681 "ج5" 393، 549 "ج6" 36، 76، 79، 81، 430، 433، 439، 455، 461، 475، 484، 508، 509، 514، 683 "ج7" 320 "ج8" 158، 161، 173، 467، 544، 562، 564، 605، 625، 629، 635، 653، 672 "ج9" 753، 830 إسماعيل بن بلبل "ج6" 570 إسماعيل بن المتوكل "ج1" 334 إسماعيل حقي أفندي "ج6" حا 249 الأسود بن أسد "ج4" 92 الأسود بن أوس بن الحمرة "ج8" 410 الأسود بن حارثة "ج4" 61 الأسود بن رباح "ج1" 335 الأسود بن ربيعة "ج6" 208 الأسود بن رزن "ج5" 593 الأسود بن سريع "ج8" 379 "ج9" 846، 866 الأسود بن عامر "ج4" 109 الأسود بن عبد يغوث الزهري "ج4"

103 "ج5" 37 الأسود بن عمرو "ج4" 673 "ج9" 565 الأسود بن كعب "ج8" 780 الأسود بن مسعود "ج4" 155 "ج6" 234 الأسود بن المطلب "ج4" 40، 92، 103، 581 "ج5" 37 "ج8" 385 الأسود بن مقصود "ج3" 411، 477، 514، 515 الأسود بن المنذر "ج3" 209، 212، 214، 215، 234، 328، 338 "ج4" 492 "ج5" 358 "ج9" 569 الأسود بن يزيد "ج8" 302 الأسود بن يعفر "ج3" 159، 209، 282، 302 "ج4" 475، 489 "ج5" 157، 158، 642 "ج6" 400، حا 416، 447، 558، 659، 686 "ج7" 499، 530 "ج8" 271 "ج9" 91، 220، 222، 243، 247، 797، 798، 832 الأسود العجلي "ج6" 280 الأسود العنسي "ج3" 528 "ج4" 184، 455، 456، الأسود الكذاب "ج4" 192 الأسووق "ج1" 369 أسيد بن أبي إياس "ج9" 893 أسيد بن أبي العيص "ج8" 188، 162 أسيد بن جابر "ج9" 609 أسيد بن حباءة "ج5" 367، 396 أسيد بن حضير "ج4" 137، 139، 140 "ج8" 114، 116، 160 أسيد بن عبد الله "ج4" 134 "ج6" 521 أسيد بن عمرو "ج3" 353 "ج4" 529 "ج5" 158، 642 أسيد الباهلي "ج1" 402، "ج4" 637 "ج5" 397 أسير بن رقرام "ج9" 748 أشبق "ج1" 446 الأشج "ج4" 209 أشجع "ج1" 404، 407 "ج4" 140، 424، 509 "ج5" 362 الأشجعي "ج8" 364 أشرس "ج1" 372 "ج3" 381، 382 "ج4" 464 الأشرم "ج3" 481، 520 الأشعت بن قيس خاصم "ج7" 454 الأشعث بن قيس الكندي "ج3" 331، 357، 359، 381، "ج4" 196، 199، 404، 566، 572، 591، 672، "ج5" 211، 408 "ج6" 542 "ج7" 142، "ج9" 897، 905 الأشعر "ج1" 370، 372 "ج5" 636 "ج9" 494 أشعياء "ج1" 440 "ج6" 553

الأشقر بن عمرو "ج3" 366 الأشل بن عمرو "ج5" 408 أشلاء قنص بن معد "ج3" 187 أشمس بن ريام "ج2" 369 أشنع "ج1" 371 آشة "ج3" 110، أشور بن سام "ج1" 296، 417، 418، 457 أشور بنبال "ج1" 439، 458، 562، 593، 601، 603، 607 "ج3" 15 "ج6" 63 آشور نصربال الثالث "ج3" 133 أشوريم "ج1" 446، 457 آشي "ج1" 54 أشيب بن عبد مناة "ج4" 542 أشيع "ج6" 546، 548 الأصبع الكلبي "ج4" 237، 238 الأصبهاني "ج8" 204 أصبهذ نيمروز "ج2" 647 "ج3" 525 الاصطخري "ج2" حا 621 "ج3" حا 158 الأصقع بن شريح "ج4" 240 أصم بني الحارث "ج3" 297 الأصم عمرو بن قيس "ج4" 593 الأصمعي "ج1" حا 15، 68، 90حا 155، حا 161، حا 171 حا 307، حا 490، 505، "ج2" حا 534، حا 592 "ج3" حا 202، حا 302، 318، 328، 355، حا 399، 401 "ج4" حا 133 "ج5" 94، حا 151، 216، 217، حا 425 "ج6" 488 "ج8" 35، 168، 360، 418، 558، 565، 631، 668 "ج9"، 23، 39، 51، 52، 80، 83، 105، 158، 163، 164، 166، 194، 215، 216، 222، 223، 226، 235، 236، 238، 239، 241، 260، 266، 271، 273، 287، 288، 292، 293، 297، 300، 303، 305، 312، 314، 322، 325، 326، 329، 333، 335، 339، 340، 346، 349، 351، 352، 362، 375، 399، 400، 407، 439، 455، 466، 467، 486، 494، 509، 542، 544، 545، 585، 587، 603، 636، 677، 678، 689، 699، حا 714، 729، 730، 737، 756، 775، 800، 804، 807، 824، 854، 857، 877 الأصهب الجعفي "ج3" 278 الأصيد بن سلمة "ج4" 265 الأضبط بن قريع "ج5" 18، 407، 452، "ج9" 407، 439، 445، 462، 464 اضطمري بن مهرة "ج1" 367 الأطول "ج9" 853 أظلم بن زبنر "ج2" 423 الأعشى "ج1" 150، 178، 287، 338، حا 372، 414، 415 "ج2" 617، 618 "ج3" 227، 248، 252، 262، 268، 270، 273،

292، 297، 358، 376، 377، 381، 442 "ج4" 53، 72، 196، 200، 208، 214، 216، 218، 219، 223، 273، 339، 387، حا 441، 590، 594، حا 598، 648، 664، 667، 668، 670 "ج5" 24، 41، 64، 86، 103، 108، 109، 118، 160، 173، 208، 209، 265، 270، 292، 332، 370، 411، 425، 447، 451، 516، 549، 560، حا 593، 605، 609، 648 "ج6" 74، 107، 117، 132، حا 152، 160، 337، 344، حا 417، 420، 446، 447، 496، 571، 572، 578، 579، 621، 622، 648، 657، 659، 662، 666، 667، 669، 671، 672، حا 674، حا 679، حا 684، 685، 707، 707، 722، 730، حا 734، 793، 804، 813 "ج7" 39، 74، 76 حا 79، حا 83، 91، 100، 133، 249، 251، 253، 329، 382، 413، 448، 534، 541، 550، 590، حا 604، 607، 608، 611، 612 "ج8" 270، 272، 308، 322، 337، 474، 560، 660، 661، 664، 703، 712، 718، 721، 726، 727، 766، 786 "ج9" 21، 55، 70، 75، 79، 82، 88، 91، 93، 98، 104، 105، 107، 109، 110، 112، 118، 120، 149، 151، 154، 161، 168، 183، 188، 221، 230، 233، 237، 246، 267، 268، 275، 281، 298، 349، 355، 357، 361، 362، 366، 386، 397، 398، 415، 417، 424، 433، 506، 508، 509، 511، 515، 519، 567، 586، 588، 594، 604، 656، 658، 659، 667، 668، 672، 675، 685، 686، 688، 731، 765، 771، 774 778، 779، 795، 807، 811، 812، 829، 831، 833، 837 الأعشى بن نباش "ج6" 736 "ج9" 704 أعشى باهلة "ج7" 635 أعشى بكر "ج9" 398 أعشى بني ثعلبة "ج8" 665 الأعشى الحرمازي "ج6" 7 أعشى قيس "ج9" 366 الأعشى المازني "ج9" 846، 852، 853 أعشى همدان "ج9" 214 أعصر بن سعد "ج1" 403، 404 "ج4" 334 "ج9" 440، 444، 445، 447 الأعقف "ج1" 363 الأعلم الشمنتري "ج6" حا 201 "ج9" 305، 345، 497، 509، حا 704

الأعلم الهذلي "ج9" 615، 649 الأعميدا "ج3" 451، 456 الأعور "ج6" 598 أعين "ج2" 357 أغاثر سيدس "ج2" 15، 71 "ج7" 266 اغشاذ يمون "ج8" 198 أغسطس قيصر "ج2" 6، 11، 41، 43، 44، 59 "ج3" 36، 40، 45، 97، 115، 117، 134، 503 "ج7" 235، 269، 270، 272، 278 الأغطش "ج9" 362 الأغلب بن عمرو العجلي "ج9" 169، 170، 176، 178، 402، 422، 553، 897، 898 أغناطيوس أفرام "ج3" حا 464 "ج8" حا 341 أغناطيوس غويدي "ج1" حا 101، 137 أغنور "ج8" 200 أفتل "ج4" حا 433، 443، 470 أفتميوس "ج6" 588 أفرام "ج3" 409 "ج6" 592، 597، 633، 686 أفراهم بن أرغو بن فالغ "ج1" 448 أفرهط "ج2" 610 أفريدون "ج1" 416 أفريقيس بن شمر "ج2" 539 "ج3" 483 أفصى بن جمان "ج2" 561 "ج4" 459، 462 أفصى بن سعد "ج4" 462 أفصى بن عامر "ج4" 530، 531 أفصى بن عبد القيس "ج1" 373، 407 الأفعى بن الأفعى الجرهمي "ج4" 329 "ج5" 638، 640 الأفعى بن الحصين "ج5" 637 "ج6" 618 الأفعى الجرهمي "ج1" 394، "ج3" 536 "ج5" 504، 505، 639 "ج6" 767 "ج8" 369 أفعو "ج3" 466 الأفكل "ج4" 347، 484 "ج6" 770 أفلاطون "ج8" 338، 731 "ج9" 170 أفلح بن النضر السلمي "ج1" 364، 365 "ج6" 242 أفنون التغلبي "ج3" 256 "ج6" 673 "ج8" 344 "ج9" 274، 395، 496، 561 الأفوه الأودي "ج4" 457 "ج5" 267 "ج6" 673، 820 "ج8" 353 "ج9" 98، 155، 379، 407، 440، 445، 449، 451، 452، 823 أفيفانيوس "ج3" 85 "ج6" 233، 348، 349، 635، 637 "ج8" 485، 510 أقاقيوس "ج6" 637 الأقرع بن حابس "ج1" 396 "ج4" 205، 206، 211، 528، 591 "ج5" 39، 126، 263، 368، 369، 386، 393،

407، 637، 641، 642، 653 "ج6" 225، 693 "ج7" 147، 384 "ج8" 329، 351، 740، 789 "ج9" 863 الأقرع بن عبد الله الحميري "ج4" 192 الأقعس بن مسلمة "ج4" 217 الأقواء "ج9" 22، 23، 225 الأقيشر "ج6" حا 677 الأكبر بن عبد القيس "ج4" 209 أكبرو "ج1" 594 "ج2" 41 أكثم بن صيفي "ج3" 279 "ج4" 529، 641 "ج5" 158، 237، 353، 390، 402، 504، 505، 560، 637، 638، 640 "ج8" 126، 131، 340، 349، 351، 363، 776، 778، 779 أكد "ج1" 554 أكر "ج2" 99 أكرب "ج2" 465 أكرم ضياء العمري "ج4" حا 234 "ج8" حا 752 أكسوم "ج2" 511 أكسينوفون "ج1" 610، 620، 621، 626 "ج3" 462 "ج6" 21 "ج7" 632 أكلب بن ربيعة "ج1" 406 أكنو ستوس تيوس "ج9" 673 الأكيدر "ج5" 52، 54 "ج6" 119، 600 أكيدر بن عبد الملك "ج3" 378، 382 "ج4" 233، 239، 465 "ج7" 28، 136، 371، 372، 478، 479، 526 "ج8" 111، 158، 163، 171، 291، 300 إلا أصبحة كالب "ج3" 470، 471، 477 البرايت "ج1" 59، 133، 137، 138، 198 "ج2" 78، 79، 82، 86، 92، 95، 97، 99، 101، 103، 106، 124، 125، 136، 140، 141، 143، 148، 151، 152، 158، 169، 176، 177، 180، 182، 187، 196، 202، 206، 211، 212، 214، 215، 217، 227، 238، 243، 273، 315، 316، 357، 358، 369، 476 "ج8" 46 الجون الكلبي "ج5" 372 الجون الكندي "ج4" 524 "ج5" 377 الساروس "ج2" 455 ألس بن أبي أناس بن زنيم "ج9" 892 ألفان "ج2" 537 الله "ج1" 8، 20، 35، 38، 41، 67، 84، 85، 87، 109، 112، 133، 184، 201، 267، 271، 275، 280، 281، 283، 287، 301، 304، 309، 311، 315، 316، 320، 331، 333، 342، 347، 349، 356، 366، 377، 384، 389، 406، 411، 414، 436، 437، 440، 441، 452،

حا 454، 473، 477، 483، 488، 496، 501، 502، 547، 652، 640، 642، 643، 649 "ج2" حا 354، 514، 527، 538، 582، 601، 628، حا 650، 652 "ج3" 50، 110، 112، 160، 170، حا 201، 203، 261، 324، 362، 364، 366، 368، 381، 395، 425، 428، 430، 458، 471، 491، 514، 515، 520، 531 "ج4" حا 8، 25، 30، 31، 33، 34، 37، 41، 45، 50، 53، 55، 59، 62، 65، 75، 77، 78، 89، 90، 99، 101، 103، 105، 110، 112، 119، 121، 123، 125، 137، حا 144، 149، 155، 156، 159، 166، 177، 179، 181، 182، 186، 187، 210، 211، 213، 216، 228، 235، 244، 245، 254، 256، 262، 267، 271، 295،292، 296، 301، 324، حا 350، 351، 358، 366، 369، 371، 381، 386، 396، 401، 411، 428، 435، 462، 467، 486، 499، حا 530، 542، 562، 568، 579، 599، 610، 617، 619، 623، حا 633، 641، 647، 648، 653، 683 "ج5" 28، 29، 42، 52، 59، 62، 74، 75، 80، 82، 84، 86، 88، 92، 95، 97، 98، 102، 107، 110، 112، 116، 117، 119، 120، 122 حا 132، 134، 139، 141، 142، 146، حا 155، 157، 172، 181، 184، 191، 198، 206، 210، 220، 224، 226، 236، 238، 240، 251، 259، 273، 286، 291، 292، 308، 311، 325، 341، 389، 402، 413، 437، 438، 442، 445، 468، 479، 481، 483، 494، 495، 511، 517، 529، 531، 532، 535، 536، 543، حا 550، 553، 555، 558، 561، 564، 566، 571، 579، 580، 585، حا 596، 602، 603، 610، 617، 642، 644 "ج6" 7، 12، 13، 21، 23، 27، 30، 32، 34، 36، 38، 39، 44، 45، 50، 54، 58، 61، 62، 68، 70، 74، 75، 82، 89، 93، 96، 97، 99، 101، 110، 112، 121، 124، 129، 142، 145، 147، 148، 150، 153، 156، 158، 159، 162، 166، 170، 172، 174، 176، 179، 181، 183، 193، 194، 196، 200، 201، 207، 210، 214، 216، 217، 219، 224، 229، 231، 234، 239، 243، 245، 253، 255

258، 259، 262، 265، 266، 274، 277، 279، 282، 285، 292، 299، 304، 308، 319، 321، 324، 326، 329، 333، 335، 337، 340، 342، 344، 350، 351، 355، 357، 360، 361، 365، 366، 368، 371، 373، 374، 380، 383، 390، 392، 393، 400، 402، 405، 409، 415، 419، 420، 423، 430، 432، 435، 436، 440، 441، 446، 450، 454، 456، 459، 460، حا 464، 466، 470، 472، 474، 480، 486، 489، 490، 493، 495، 497، 499، 502، 504، 506، 508، 509، 515، 525، 534، 537، 543، 545، 547، 548، 551، 554، 556، 560، 561، 563، 570، 573، 575، 582، 584، 587، 589، 590، 592، 604، 606، 609، 618، 620، حا 622، 627، 635، 637، 640، 643، 648، 650، 651، 667، 668، 672، 680 686، 691، 693، 698، 699، 702، 703، 707، 709، 710، 715، 725، 732، 735، 740، 750، 753، 756، 758، 762، 768، 769، 775، 776، 778، 780، حا 783، 789، 799، 800، 804، 805، 807، 813، 815، 816، 818، 820، 822 "ج7" 21، 27، 38، 55، 63، 119، 139، 147، 149، حا 150، 154، 155، 158، حا 164، 246، 250، 254، 291، 293، 296، 301، 303، 309، 311، 374، 382، 385، حا 389، 391، 396، 404، 413، 420، 426، 429، 433، 439، 443، 445، 451، 455، 457، 464، 466، 468، 476، 483، 484، 499، 506، 516، 525، 580، حا 605، حا 607 "ج8" 8، 92، 104، 108، 119، 121، 123، 124، 126، 130، 131، 133، 134، 136، 140، 142، 164، 167، 182، 186، حا 188، 197، 199، 249، 256، 259، 273، 274، 282، 292، 302، 305، 314، 317، 319، 322، 324، 330، 342، 343، 345، 346، 351، 357، 372، 374، 375، 377، 382، 385، 387، 390، 391، 404، 412، 426، 428، 433، 436، 437، 459، 467، 468، 472، 473، 478، 480، 483، حا 487، 489، 492، 496، 498، 500، 503، 504، 537، 538، 542، 544، 548، 549، 553، 560، 562، 571، 573، 574، 576، 595، 597، 599، 601، 603، 605،

607، 608، 610، 623، 629، 631، 636، 637، 643، 650، 652، 655، 657، 659، 663، 664، 666، 668، 383، 684، 687، 690، 694، 696، 698، 701، 710، 734، 744، 749، 752، 754، 757، 759، 762، 765، 768، 785، 787، 791 ، "ج9" 8، 10، 14، 15، 17، 18، 20، 26، 27، 35، 37، 39، 42، 45، 51، 57، 65، 67، 70، 78، 87، 88، 112، 114، 118، 126، 128، 131، 147، 148، 152، 160، 165، 170، 173، 174، 176، 178، 187، 195، 196، 200، 202، 208، 214، 216، 226، 230، 231، 234، 242، 244، 245، 247، 250، 256، 260، 262، 278، 280، 284، 292، 295، 296، 298، 309، 312، 318، 329، 337، 340، 356، 359، 364، 365، 367، 377، 378، 384، 385، 390، 392، 394، 396، 398، 406، 423، 429، 467، 472، 473، حا 478، 480، 482، 493، 494، 497، 501، 508، 530، 532، 539، 542، 544، 549، 551، 553، 555، 557، 571، 577، 578، 580، 581، 592، 593، 597، 603، 605، 608، 612، 620، 622، 630، 632، 634، 654، 661، 662، 666، 687، 696، 699، 708، 714، 720، 724، 729، 731، 733، 736، 738، 740، 742، 746، 748، 750، 753، 755، 758، 761، 763، 766، 781، 782 796، 812، 813، 815، 816، 820، 830، 838، 839، 841، 842، 849، 850، 853، 855، 859، 867، 874، 876، 878، 887، 888، 891، 892، 897، 900، 905، 907 آلوارت "ج8" 361 ألورد "ج9" 305، 372، 473 الألوسي "ج3" حا 510 "ج4" حا 287، حا 368، حا 387 "ج5" حا 94 "ج6" 54، 560، 696، 782 "ج8" 96، 97 الياس بن مضر "ج1" 397، 488 "ج4" 475، 522 "ج5" 225 "ج6" 25، 626 "ج8" 407 اليعازر "ج1" حا 54 اليفاز بن عيسو "ج1" 412 اليفاز التيماني "ج1" 640 أم أحراد "ج7" 192 أم أسرة "ج4" 405 أم إلياس "ج4" 476 أم إناس "ج3" 325، 329، 347 أم أيمن "ج4" 82 أم بدرة "ج9" 883 أم البنين "ج4"651

"ج9" 547، 548، 896 أم جرهم "ج6" 144 أم الجلاس "ج4" 384 "ج8" 268 أم جندب "ج9" 187، 239، 469، 531 أم الحا رث "ج9" 526 أم حبتر "ج9" 797 أم حبيبة "ج6" 476 أم حجر "ج3" 347 أم الحويرث "ج3" حا 379 أم خارجة "ج4" 532، 627، 637، 645 "ج5" 554 أم خالد "ج4" 606 أم الرباب "ج3" حا 379 أم الربيع "ج5" 579 أم سلمة "ج8" 283 أم سليم "ج5" 65 أم السويد "ج5" 135 أم شريك "ج9" 76 أم العباس "ج7" 441 أم عبد الله "ج6" 768 أم عطية "ج4" 638 أم عمرو "ج1" 287 "ج3" 271 "ج5" 40 أم غليظ "ج5" 135 أم الغياطل "ج6" 770 أم غيلان "ج9" 712 أم الفضل "ج7" 441 "ج9" 785 أم قرنة "ج4" 627 أم قطام "ج3" 346، 347، 349، 352 أم كحة "ج5" 566 أم كلثوم "ج8" 138 أم مالك "ج4" 339 أم محمد "ج5" 557 "ج8" 385 أم معاوية "ج4" 83 أم ملدم "ج5" 391 أم مهزول "ج5" 135 أم موسى الكلابية "ج3" 226 أم هاني "ج9" 713 أم هند "ج3" 287 أمامة بنت سلمة "ج3" 218، 255 أمامة بنت كسر "ج3" 329 أمت العزى "ج6" 238، 316 أمة يثعن بنت داد "ج6" 319 أمتحمد بنت عصم "ج6" 320 الآمدي "ج2" حا 636 "ج3" حا 245، حا 360 "ج5" حا 118، حا 153 "ج8" حا 263، حا 350 "ج9" حا 83، 89، حا 180 239، 350، 383، حا 459، حا 461، حا 475، حا 484، حا 520، 960، حا 797، 870 أمر "آمر" "ج2" 200 "ج6" 306 امرؤ القيس بن أروى "ج9" 801 امرؤ القيس بن بهثة "ج4" 518 امرؤ القيس بن ثعلبة "ج4" 435، 437، 438 امرؤ القيس بن حجر "ج5" 118 "ج9" 83، 84 امرؤ القيس بن زيد مناة "ج3" 289 "ج6"590، 682 "ج9" 795 امرؤ القيس بن عابس "ج9" 905 امرؤ القيس بن عانس "ج9" 274 امرؤ القيس بن عمرة "ج9" 183 امرؤ القيس بن عمرو "ج1" 23 "ج2" 548، 550، 552، 593، 654، 656، 658

"ج3" 309، 310 "ج4" 176 امرؤ القيس بن عوف "ج2" 432، 441، 442 امرؤ القيس بن النعمان "ج3" 205، 212، 216، 217، 311، 313، 338، 350، 352 امرؤ القيس البدء "ج3" 306، 307، 313، 326، 335 امرؤ القيس الحميري "ج9" 383 امرؤ القيس الكندي "ج1" 24، 51، 156، 309، 368، 374، 381، 382، 396، 402، 405، 407، 475 "ج3" 107، 172، 173، 187، 195، 197، 198، 218، 224، 233، 235، 248، 249، 255، حا 301، 308، 346، 349، 356، 357، 359، 374، 377، 378، 381، 386، 410، 492 "ج4" 67، 136، 174، 175، 221، 305، 339، 347، 356، 400، 404، 406، 450، 464، 488، 534، 538، 572، 612، 613، 621، 630، 646، 652، 654، 656، 663 "ج5" 17، 61، 66، 123، 160، 192، 288، 319، 321، 397، 428، 430، 451 "ج6" 16، 107، 109، 159، 195، 222، 223، 272، 282، 354، 412، 528، 555، 571، 577، 586، 646، 648، 658، 661، 672، 678، 693، 695، 729، 781، 799 "ج7" 31، 44، 71، 199، 239، 305، 318، 338، حا 343، حا 361، 373، 518، حا 525، 533، 534، حا 563، 566، 600، 606، "ج8" 98، 176، 179، 248، 259، 260، 278، 306، 386، 396، 430، 591، 644، 647، 664، 675، 679، 686، 691، 703، 715، 716، 721، 724، 764 "ج9" 21، 33، 75، 77، 80، 81، 91، 94، 95، 97، 101، 104، 105، 108، 114، 120، 143، 145، 148، 158، 161، 164، 168، 170، 176، 178، 184، 186، 188، 190، 205، 207، 208، 216، 220، 221، 224، 225، 230، 233، 235، 236، 239، 241، 254، 267، 274، 279، 284، 291، 305، 312، 326، 327، 331، 345، 350، 352، 362، 383، 390، 400، 402، 406، 407 415، 419، 422، 424، 440، 441، 443، 444، 454، 456، 459، 461، 469، 471، 475، 477، 478، 481، 506، 508، 509، 512، 513، 515، 517، 519، 535، 537، 540، 542، 559، 568، 573، 574، 586، 597، 617، 621، 672،

675، 776، 778، 800، 808، 812، 818، 822، 827، 828، 836، 837 امرؤ مناة "ج6" 16 الآمري "ج1" 93، 367 أمصيا "ج1" حا 643 "ج3" 53 آمنة "أم الرسول" "ج5" 89، 530 أمولاتي "ج1" 601 الأموي "ج9" 222 أميانوس "ج2" 640، 642، 643 "ج3" 173، 396 "ج5" 542 أمية بن أبي الصلت "ج1" 42، 112، حا 307، حا 322، 344، 396، 412، 414 "ج3" 468، 514، 520، 526 "ج4" 78، 97، 98، 102، حا 150، 151، 156، 467، 517، 580، 614، 671 "ج5" 211، 332 "ج6" 7، 8، 113، 221، 462، 463، 476، 478، 500، 555، 583، 638، 640، 668، 672، حا 674، 676، 679، 680، 696، 722، 731، 738، 749، 796 "ج7" 63، 246، 582، 610 "ج8" 114، 141، 160، 254، 296، 305، 309، 428، 560، 664، 665، 728 "ج9" 55، 64، 65، 75، 82، 107، 151، 238، 247، 262، 445، 578، 677، 685، 695، 703، 752، 761، 763، 764، 768، 794، 807، 810، 831، 848، 849، 895 أمية بن حرثان الكناني "ج5" 392 "ج9" 894 أمية بن خلف "ج4" 84، 125، 261، 279، 481، 604 "ج5" 37 "ج7" 352، 412 "ج8" 274، 660 "ج9" 744 أمية بن زيد "ج7" 194 أمية بن عبد شمس "ج3" 526 "ج4" 71، 72، 591 "ج5" 383 "ج6" 767 أمية بن عوف "ج8" 500 أمية بن قلع "ج8" 497، 499 أمية بن المغيرة "ج4" 671 أميم "ج1" 295، 296، 299، 343، 418، 446، 449، 450، 457 أميمة بنت عبد المطلب "ج4" 80، 82 أميمة بنت عميلة "ج9" 411، 735 الأمين "ج9" 250 أمين "أمينم" "ج2" 166، 168، 367 أنبروسيوس "ج3" 127 أنتيباتر "ج1" 650 "ج2" 40 "ج3" 32، 33، 35، 39 أنجشة الحادي "ج5" 116، 119 أندروستينس "ج2" 7، 14 أندس "ج3" 462، 469

الأندلسي "ج9" 221 أنس بن الهان بن مالك "ج7" 519 أنس بن زنيم "ج9" 892، 894 أنس بن عباس "ج4" حا 149، 259 "ج5" 375 أنس بن عياض "ج4" 257 "ج8" 596، 710 أنس بن مالك "ج5" 115، 612 "ج7" 460، 465، 466 "ج8" 97، 121، 123 أنس بن مدرك "ج4" 195 "ج5" 353، 637 "ج6" حا 814 "ج9" 106، 343، 648، 908 أنس الله "ج4" 457 "ج6" 16، 287 أنس الفداء "ج5" 376 أنس الفوارس "ج4" 574، 636 أنسة "ج7" 459 أنستاس "أنسطاس" "ج2" 655 "ج3" 130، 349، 350، 383، 395 "ج6" 540، 605، "ج7" 503 أنستاس ماري الكرمي "ج1" حا 28 "ج2" حا 356 أنضر يهرجب "ج2" 332 انطيغونس "ج3" 17، 19، 28، 35، 36 أنطيوخس بن الإسكندر "ج1" 650، 651 "ج2" 619 "ج7" 275، 495 أنطيوخس افيفانوس "ج1" 55 "ج2" 12 "ج3" 3، 68، 107، 125 انطيوخس الثالث "ج2" 16، 21، 22، 33 انطيوخس الثاني عشر "ج3" 29 انطيوغيوس "ج3" 10 انطونيوس بيوس "ج3" 36، 54، 63، 88 "ج7" 278 انعم بن أعلى "ج6" 261 أنعم بن عمرو "ج6" 260 أنعم بن فخش "ج8" 520 أنكناد "ج1" 238 أنكي "ج1" 562 أنمار بن أراش "ج4" حا 433، 442، 446، 470 أنمار بن بغيض "ج4" 510 أنمار بن دب "ج4" 502 أنمار بن عمرو "ج4" 483 أنمار بن نزار "ج1" 364، 374، 386، 404، 407 "ج4" 443، 469، 471، 506 "ج8" 672 أنمار يهأمن "ج2" 324، 327، 337، 341، 348، 349، 360، 391، 398، 411، 486، 522 أنوش بن حشنشبنده "ج2" 647 أنو شروان بن قباذ "ج1" حا 53 "ج9" 532، 679، 806 أنوليتمن "ج1" 137، 328 أنيس "ج3" 48، 515 "ج4" 590 "ج9" 197 أنيس فريحة "ج8" حا 173، حا 463 أنيف بن جبلة الضبي "ج5" 396 أنيف بن حارثة "ج6" 768 الاهبوب "ج4" 435 الاهتم "ج9" 482 أهون بن سبأ "ج1" 364 "ج4" 509

أو أيطع "ج1" 439 الأواس بن الحجر "ج9" 637 أوب "ج1" 593 أوبردك "ج3" 112 أوبرهداد "ج1" حا 575 أوبروبيوس "ج3" 468 أوبو "ج1" 594 أوبيل الإسماعيلي "ج1" 634 أوتو ويبر "ج1" 135 "ج2" 82 أوجين نسران "ج3" حا 172 أوجينيوس "ج3" 215 أود "ج1" 371، 404 "ج7" 462 أورانيوس "ج2" 6، 63 "ج3" 28، 40، 41 أورثاغوراس "ج2" 14 أورليان "ج2" 635 أورليوس "ج3" 123 أورودس "ج2" 612 أوربليانوس "ج3" 108، 115، 121، 123، 127 الأوزاعي "ج9" 20، 26 أوزال "ج1" 424 أوس بن بشير "ج7" حا 59 الأوس بن تغلب "ج1" 332، 365، 407 "ج4" 491 أوس بن حارثة "ج4" 135، 220، 339، 578، 579 "ج5" 176، 354 "ج8" 778 "ج9" 487، 816 أوس بن حجر "ج4" 380، 529، حا 548 "ج5" 388، 519، 534 "ج6" 233، 316، حا 660، 672، 697، 759، 804 "ج7" حا 79، 80، 503 "ج8"386، 664، 722، 775 "ج9" 94، 97، 104، 105، 150، 236، 262، 424، 434، 445، 465، 469، 486، 503، 541، 587، 684 أوس بن حذيفة "ج4" 157، 191 أوس بن الحطيئة "ج9" 883 أوس بن حمير "ج4" 416 أوس بن حي "ج2" 84، 98 أوس بن خالد "ج4" 219، 221، "ج9" 865 أوس بن خولي "ج4" 575 "ج8" 114، 116، 135، 136، 160 أوس بن دنى "ج6" 570، 581 "ج9" 771، 786 أوس بن ربيعة "ج6" 765 أوس بن الصامت "ج5" 551 أوس بن عوف "ج4" 150 أوس بن قلام "ج2" 255 "ج3" 195، 197، 217، 264، 289، 301، 307، 308، 311، 313 "ج6" 662، 663 أوس بن لأم "ج9" 237 أوس بن محصن "ج4" 503 أوس بن مخاشن "ج4" 528 "ج6" 56، 214، 281 أوس بن مغراء السعدي "ج4" حا 526 "ج5" 452، 653 "ج9" 69، 99، 848 أوس آل يضع "ج2" 356، 357، 477 أوس الله "ج1" 371، 407 "ج6" 16، 17 أوس مناة "ج4" 487

"ج6" 250، 320 أوس به "أوس يهو" "ج6" 316 أوسبيوس القيصري "ج8" 524 أوسكار لوفكرين "ج4" حا 432 أوسلة رفشان "ج2" 331، 334، 335، 352، 353، 355، 358 "ج4" 433 أوطاخي "ج6" حا 632 أوغست لودويك شلوتسر "ج1" 223 أوغست هفنر "ج1" حا 155 أوفي بن مطر المازني "ج4" 404، 405 "ج5" 392 "ج9" 609 أوفي بن عنق الحية "ج3" 331 "ج6" 577 أوفير "ج1" 424 أوكتافيوس أغسطس "ج2" 41، "ج3" 36 أولارينوس "ج2" حا 634 أولدم اذكرم "ج2" 458 أو لمستيد "ج3" 140 أوليري "ج1" 134، 265، 266، 270، 560 "ج2" 74، 78، 80، 199، 224 "ج3" 228 "ج4" 116 "ج6" 522، 524، 611، حا 627 أوليمبيوس "ج3" 216 أوليندر "ج3" حا 318، 325، 329، 332، 350، 360 أوليوس غالوس "ج1" 58، 59، 161 "ج2" 28، 30، 43، 47، 49، 52، 53، 55، 58، 61، 63، 117، 119، 247 324، 417، 441، 445، 446، 455، 483، 485، "ج3" 38، 503، 533، 535 "ج4" 415 "ج5" 188 "ج6" 539 "ج7" 266، 272 أوهن الله "ج4" 457 أويتنك "ج2" 74 "ج6" 528 أويتي "ج1" 601، 603 أويجينيوس "ج3" 216 أويسبيوس "ج1" 27، 61، 62، 455، 650 "ج3" 24، 60، 67 "ج4" 654 "ج6" 634 أياد بن معد "ج1" 367، 392، 406 "ج4" 469، 476 "ج5" 379 أياد بن نزار "ج2" 644 "ج6" 373 "ج8" 672 أياس بن قبيصة الطائي "ج1" 332، "ج2" 649 "ج3" 236، 264، 291، 293، 295، 299، 308، 310، 312، 314 "ج4" 451، 454، 501، 671 "ج5" 120، 294 "ج6" 598 أياس بن مطيع "ج9" 319 أياس بن معاوية "ج8" 493 أيا صوفيا "ج4" 134 أيا مبليخوس "ج2" 41 أيباس "ج6" 627

أيخارباثي "ج1" حا 652 أيدوك "ج3" 462، 463 أيراتوستينس "ج1" 57 "ج2" 13، 15، 73، 129، 171 أيروتيموس "ج3" 25 أيرينوس "ج1" 62 إيزانا "ج2" 344 أيزيدور الكركسي "ج3" 175 أيسوب "ج1" 318 "ج8" 346 أيشو عزخا "ايشوع زخا" "ج3" 284 أيشو عياب الأرزني "ج6" 597 أيشهورن "ج1" 223 أيفا هويك "ج2" حا 163 أيل أمر ينهب "أل أمر ينهب" "ج2" 562 أيل ذرح "ج6" 17 أيل سمع "ج6" 17 أيل كرب "ج6" 17 أيل يشع "ج6" 17 ايلاريوس "ج6" 637 أيلاغبالوس "ج3" 63 أيلاكبل "ج2" 67 أيلو أبني "ج3" 139 أيليا بن عيني "ج8" 206، 678 أيليا النصيبي "أيلية" "ج1" 64، 331 "ج4" 141 "ج5" 166 أيليشرح "ج2" 421 أيملكوئيل "ج1" 650 أيمن بن خريم "ج9" 282، 846 أيمن يهرجب "ج2" 459 أيمو "ج1" 600، 603، 605 أينو ليتمان "ج2" 611 الأيهم بن جبلة "ج3" 419، 426، 448، 533 الأيهم بن الحارث "ج3" 433، 446، 447 "ج6" 617 أيوا كريوس "ج1" 64 "ج3" 228 أيوالد "ج6" 296 أيوب "ج1" 199، 298، 316، 328، 420 "ج3" 289 "ج6" 405، 682، 683 "ج8" 345 أيوب بن رزاح "ج3" 397 أيوب بن مجروف "ج6" 683 أيوب بن مكرز "ج6" 683

الباء

الباء: با أبلو "بائلة" "ج1" 595 البابا "ج4" 168 بابابر نصر بابا بن نصر "ج1" 659 بابلون بابليون "ج2" 258 "ج3" 114 باتس "ج2" 8، 9، 259 الباجي "ج8" 96، 99 باحض "ج2" 423 باخ أوفن "ج1" 523 باذان "باذام" "ج3" 527، 528 "ج9" 753، 758، 759 بارج "ج1" 332 "ج2" 537 بارق "ج4" 185، 436، 437، 480 "ج8" 133 بارقم "ج2" 408 بارنيوس "ج3" حا 72 باروخ بن نيريا "ج1" 351، 352 بازل بن شرحبيل بن سار "ج1" 101 الباسق "ج1" 588، 605 باسل بن ضبة "ج1" 402 "ج2" 98 "ج4" 523 باطش "ج2" 9 باقل "ج6" 819 "ج8" 795 الباقلاني "ج8" 604، حا 759 "ج9" 525، حا 535، حا 646، حا 805 باقوم "بلقوم الرومي" "ج4" 122، 126 "ج6" 435، 438، 439 "ج7" 273 بانيان "ج4" 557 بانيسي "ج1" 557 باهن بن سحور "ج2" 534 باهل أسعد "ج2" 544، 545 باهلة بنت صعب "ج4" 514، 515 بتحمي "ج2" 245 بتع بن زيد "ج2" 355، 363، 575، بتع بن همدان "ج1" 101، 102 "ج2" 364، 408 بجالة بن ثعلبة بن سعد "ج4" 512 بجلة "ج1" 405 بجلة "ج4" 422 بجير بن زهير المزني "ج5" 340 "ج9" 431، 541، 542، 545، 728، 860، 861، 865 بجير بن عبد الله "ج5" 375 "ج8" 305، 522 بحير بن عتبة بن سعد "ج4" 230 بجيرة "ج3" 47 بجيلة "ج4" 329 بحتر بن عتود "ج1" 371، "ج4" 450 البحتري "ج4" حا 403 "ج5" 213،

"ج6" حا 685 "ج8" حا 343 "ج9" 226، 230، 294، حا 669، حا 758، 782 البحرجان "ج3" 292، 312 بحري بن عمرو "ج6" 546 بحيرا "الراهب" "ج2" 653 "ج3" 63 "ج6" 456، 462 "ج7" 333 البحيري "ج4" 196 البخاري "ج4" حا 652 "ج5" حا 154، حا 551، حا، حا 559، 560، 589 "ج6" حا 249، حا 357، 374، حا 381، حا 394، حا 469، حا 474، 475، حا 535، حا 550، حا 554، حا 560، حا 602، 740 "ج7" حا 58، حا 310، حا 390، 391، حا 398، حا 424، 425، حا 428، حا 432، 433، حا 435، حا 575، حا 580 "ج8" 93، 99، 750 "ج9" حا 845 بخت نصر "ج1" 166، 348، 353، 381، 390، 439، 440، 547، 548، 607، 610، 619، 658 "ج3" 160، 161، 166، 173، 186 "ج4" 390، 467، 536 "ج6" 84، 513، 517، 526، 538، 776 "ج8" 110، 296، 523، 646"ج9" 150 بدر بن حذيفة "ج5" 361 بدر بن عمرو "ج4" 509، 512 "ج5" 407 بدر بن قريش بن يخلد "ج7" 355، 376 بدر بن معسر الغفاري "ج5" 380 بدر بن يخلد "ج4" 23، 24، 479 "ج7" 355 بدن بن بكر "ج1" 408 "ج4" 500 بديل بن ورقاء "ج4" 15، 266، 267 "ج6" 432 بر "ج3" 435 البراء بن عازب "ج7" 407 "ج8" 622 البراء بن مالك "ج5" 115، 116، 119 البراء بن معرور "ج4" 138، "ج8" 405 براء بن الملاحق القرمطي "ج2" 218 البراض بن قيس "ج3" 276، 277 "ج4" 83، 84، 521 "ج5" 382 "ج9" 621 براقش "اللبة" "ج6" 802 البربر "ج1" 447 برت برات برة "ج2" 211 برة أم النضر "ج4" 525 برة بنت سموال "ج9" 772 برة بنت عبد المطلب "ج4" 80، 82 برة بن عمرو الأسدي "ج3" 283 برة بنت مر "ج4" 37، 477، 478، 531، 532

"ج5" 529 برتا سيكال "ج8" 11 برترام توماس "ج1" 132، 151، 180، 227، 343 البرج بن الجلاء "ج9" 498 برج بن خنزير المازني "ج1" 156 برج بن مسهر "ج6" 768 برج يحمد بارج يحمد "ج2" 232 برج يهرجب "ج1" 101 "ج2" 329، 334، 335، 358، 362 برجيه "ج8"628 البرج بن مسهر الطائي "ج4" 673 برحيرت "ج3" 408 برخئيل "ج1" 596 برخيا بن أحنيا "ج1" 349، 351، 547 "ج3" 160 "ج4" 467 برديصان "ج1" 31 "ج2" 67 برسميا "ج2" 614 برصوم "ج7" حا 607، حا 626، حا 628، حا 631 برعو "ج1" 585 "ج2" 121، 123 برقعة بن عبد شمس "ج6" 767 البرقوقي "ج1" حا 111، حا 384، حا 396، حا 483 حا 487، حا 489، 490، حا 492، "ج3" حا 202، حا 251، حا 280، حا 387، 388، حا 390، 391، حا 399، حا 404، حا 408، حا 427، 428 حا 431 حا 433، حا 435، 438، حا 442 "ج4" حا 25، 50، 110، حا 125، حا 140، حا 391، حا 561، حا 580، حا 584، 585، حا 589، حا 595، 596، حا 598 "ج5" حا 7، حا 23، حا 50، حا 61، حا 63، 64، حا 118، حا 265، حا 309، حا 396، حا 506، حا 518 "ج6" حا 140، حا 523، 790، 793، حا 797 ، "ج7" حا 407 حا 574، حا 582، حا 591، حا 593، حا 605 "ج8" حا 31، حا 74، حا 265، حا 293، حا 406 البرقي "ج6" 423 البرك "ج1" 366 "ج4" 250 بركر "ج1" 134 بركمن "ج1" 135 برلم برل "ج2" 450، 451 برنتن "ج1" 235 برو "ج1" 332 بروباتوس "ج3" حا 114 بروبس "ج3" حا 117 بروكلمن "ج1" 79، 88، 89، حا 142، 224، 232 "ج4" حا 578 "ج6" حا 107، حا 155، حا 479، 480، حا 489، حا 493، حا 495، حا 569 حا 670، 671 "ج8" حا 109، حا 328، حا 334، حا 360، حا 554، 627، 628 حا 748 "ج9" حا 53، 71، 149، 151، 157، 158، 177، 180، 181، 187، 207، 233، 257، 267، 288،

290، 293، 294، 297، 299، 304، 305، 307، 308، 320، 322، 327، 330، 337، 339، 340، 349، 350، 372، 373، 414، 418، 420، 435، 449، 451، 459، 467، 468، 472، 473، 476، 478، 481، 490، 491، 499، 501، 506، 510، 511، 514، 520، 528، 533، 535، 540، 543، 545، 547، 550، 551، 558، 561، 564، 566، 567، 570، 580، 583، 586، 592، 594، 623، 636، 638، 640، 641، 646، 659، 660، 662، 664، 668، 673، 689، 690، 700، 701، 726، 730، 740، 741، 746، 753، 754، 757، 758، 765، 767، 775، 777، 779، 793، 797، 804، 806، 811، 813، 817، 818، 844، 848، 849، 856، 858، 861، 863، 872، 876، 878، 880، 882، 888 بروكوبيوس "ج1" 63، 380، 387، 388 "ج2" 620، 658 "ج3" 113، 128، 135، 222، 224، 383، 386، 405، 407، 411، 461، 469، 472، 474، 477، 491، 492 "ج4" 172، 174، 176، 538، 539 "ج5" 199 "ج6" 238، 349 "ج8" 485، 511 برونوف "ج1" 132 بريثوريوز "ج8" 237 بريدو "ج2" 475، 488 بريرة "ج7" 456 بزة "ج1" 369 بزر جمهر الفارسي "ج8" 363 بساعم بسأعم "ج2" 561 بسباسة ابنة أبرهة "ج3" 482 ألبستاني "كرم" "ج3" حا 245، حا 326 "ج4" حا 392 بسر "ج1" 446 "ج4" 267 بسرة بنت غزوان "ج5" 117 بسطام بن قيس "ج4" 571، 591 "ج5" 39، حا 267، 367، 368، 378، 385، 389، 396، 397، 407، 445 بسطام بن مسعود "ج5" 446 بسقانو "ج1" 588، 605 ألبسوس بنت منقذ "ج4" 625، 626 ألبسي "ج4" 196 بشار بن برد "ج6" 711 "ج9"120، 238، 314، 318، 360، 361 بشار بن عدي "ج9" 841 بشامة بن عمرو "ج1" حا 309 "ج5" 432 بشامة بن الغدير "ج5" 198 "ج9" 431، 542 بشتاسب "ج3" 161 بشر "ج1" 369 بشر بن أبي خازم "ج1" 177، 202، 365، 382، 395، حا 400 "ج3" 325، 352

"ج4" 84، 220، 577، 578، 597 "ج5" 169، 176، 354 "ج6" 267، 268، 735، 759، 804، 809 "ج8" 326، 352، 411، 664 "ج9" 21، 23، 75، 120، 203، 232، 236، 419، 487، 488، 815 بشر بن الحارث "ج4" 253 بشر بن حصن "ج3" 495، 497، 499 بشر بن ربيعة التميمي "ج4" 229 بشر بن عبد الملك "ج3" 382 "ج4" 234، 465 "ج8" 111، 117، 118، 158، 159، 163، 171، 180، 291، 300 بشر بن عمرو بن جوين "ج3" 226 "ج4" 346، 486، 489، 492 "ج5" 118 بشر بن قطبة "ج9" 905 بشر بن المحتقر "ج4" 263 بشر بن المعلى "ج4" 156 بشر بن المغيرة "ج7" 448 بشمم بشم "ج2" 154 بشير بن أبيرق "ج9" 355، 356، 894 بشير بن الحجير الأيادي "ج6" 427 "ج8" 522 بشير بن الخصاصية "ج4" 224 بشير بن سعد "ج4" 307 "ج8" 114، 160 بشير بن كعب العدوي "ج8" 137، 349 بشير الثقفي "ج4" 671 بشير يموت "ج1" حا 307 "ج6" حا 480، 484، حا 488، 490، حا 499 "ج9" حا 756، حا 760، حا 763 بطرس "ج2" 654 "ج3" 44، 254، 384، 385 "ج4" 174، 175 "ج6" 619، 626، 630 بطرس نصري "ج6" حا 632 بطلميوس "ج1" 60، 141، 152، 159، 160، 163، 165، 305، 325، 341، 342، 344، 357، 391، 422، 425، 427، 431، 442، 444، 455، 460، 587، 591، حا 598، 599، 617، 644، 650 "ج2" 17، 18، 20، 22، 24، 56، 61، 63، 71، 74، 80، 129، 156، 159، 171، 217، 224، 232، 245، 246، 254، 412، 507، 566، 611، 632، 656 "ج3" 24، 40، 55، 65، 67، 68، 70، 136، 138، 169، 175، 349، 385، 452، 453، 461، 534 "ج4" 9، 11، 32، 130، 246، 251، 423، 431، 485، 504، 514 "ج7" 36، 264، 274، 279 "ج8" 589 بطلميوس بن بطلميوس "ج2" 34، 36، 120 "ج8" 202 بطلميوس بن منيوس "ج3" 30

بطلميوس أورغاطس الثاني "ج2" 26 بطلميوس الثاني فيلادلفوس "ج2" 23، 25، 120 "ج3" 21 "ج7" 268 بطلميوس فيلادلفوس "ج3" 68 بطلميوس فيلوباتر "ج3" 68 بطلميوس الثالث أورغاطس "ج2" 30 بطلميوس "ج1" 168، 176، 301 البطليوسي "ج1" حا 306، حا 313، 314، 382، حا 385 "ج3" حا 244، حا 399، 402، 404، حا 416، 418، 420، حا 425 "ج8" 155، 157، 173، حا 272، حا 305، 306 حا 311، 730 بعثتر "ج2" 106، 322 بعم بن شهر غيلن "ج2" 198، 233 236، 239 البعيث "ج6" حا 153، حا 674 البغدادي "ج1" حا 113 "ج3" حا 245، حا 360 "ج6" حا 473، حا 475، حا 485، حا 701 "ج8" 29، حا 141، 265، حا 729 "ج9" حا 58، 327، 338، 345، 348، 472، 489، 508، 511، 534، 556، 595، 596، 670، 721، حا 729، حا 755، 800، 805 بغيض بن ريث "ج4" 333 بغيض بن عامر "ج1" 404 "ج4" 37 "ج8" 118، 266، 308 "ج9" 113، 883، 884 بغيض بن غطفان "ج4" 509، 510 بغيض بن مالك "ج4" 512 البقوم "ج9" 638 بقية "ج1" 389 بقيلة الأشجعي "ج9" 905 البكا بن عامر "ج1" 405 بكر بن أبان "ج2" 620، 638، 640 بكر بن أشجع "ج4" 510 بكر بن جبلة الكلبي "ج6" 289 بكر بن حبيب "ج4" 337، 489، 492 بكر بن سعد "ج4" 523 "ج5" 392 بكر بن عبد مناة "ج1" 361 "ج4" 266، 478، 532، 533، 637 "ج5" 383 "ج6" 357 "ج7" 370 بكر بن عوف بن النخع "ج4" 194 بكر بن كنانة "ج6" 273 بكر بن مر "ج1" 402 "ج4" 525 بكر بن معاوية "ج1" 302، 402، 405 بكر بن هوازن "ج4" 516 بكر بن وائل "ج1" 408، 498، 526 "ج2" 637، 640، 645، 649 "ج3" 189، 227، 234، 245، 253، 293، 297، 298، 321، 322، 332، 334، 335، 346، 348، 352، 356، 359، 363، 365 "ج4" 203، 204، 207، 210، 213، 214، 222،

224، 228، 334، 335، 346، 354، 405، 454، 471، 472، 474، حا 484، 486، 488، 490، 499، 502، 509، 525، 527، 530، 571، 592، 622 "ج5" 90، 91، 353، 365، 366، 368، 369، 370، 378، 410، 444، 445 "ج6" 100، 152، 280، 281، 284، 378، 416، 421، 446 حا 464، 596، 617 "ج7" 198 "ج8" 416، 417، 581 "ج9" 114، 440، 453، 460، 509 البكري "صلاح" "ج1" حا 159، حا 171، 172، حا 303، حا 310، 311، حا 319، حا 324، 349، 381 حا 390، حا 397، 448، 454، 514 "ج2" حا 52، حا 116، 117، حا 173، 616، حا 621، حا 650 "ج3" حا 59، حا 132حا 155، حا 182، حا 200، 201، 227، حا 229، حا 231، حا 236، حا 251، حا 259، 260، حا 273، 275، حا 298، حا 302، 303، حا 353، 356 حا 361، 362، حا 439، 440، 496، 498 "ج4" حا 140، حا 142، حا 144، حا 203، 205، حا 212، 214، حا 216، حا 218، حا 232، حا 234، حا 237، حا 244، 246، حا 254، 257، حا 263، حا 269، 373، حا 422، حا 438، حا 446، حا 449، حا 453، حا 453، 455، حا 471، 473، 479، حا 481، حا 185، حا 510، حا 513، حا 515، حا 517، حا 522، 524 حا 535 "ج5" حا 83، حا 350، حا 352، 361، حا 366، حا 368، حا 373، حا 374، 378 "ج6" 257، 258، حا 284، حا 297، حا 369، حا 386، حا 404، حا 439 حا 523، حا 525، 526، حا 529، حا 598، 599، حا 653 حا 655 حا 686، 687 "ج7" حا 369، حا 372، 373، حا 378، حا 380، حا 382، 383 "ج8" حا 109، 205 "ج9" 691 بكيديس "ج3" 23 بكيل شبام "ج2" 317 البلاذري "ج1" حا 146، حا 158، حا 215 حا 377، حا 383، حا 390، حا 392، حا 394، حا 397، حا 401، حا 406، حا 470، 471، حا 507 "ج3" حا 392، حا 427، حا 429 "ج4" حا 5، حا 19، حا 27، 38، حا 31، حا 37، 38، حا 42، حا 45، 46،

حا 51، 56 حا 58، حا 60، 63، 65، 67، حا 70، حا 72، 73، حا 75، 76، حا 78، 84، حا 86، حا 90، حا 103، 105، حا 107، 110، حا 112، حا 124، 125، حا 147، 148، حا 152، 154، حا 181، حا 185، حا 191، حا 193، 197، حا 199، 201، حا 203، 205، حا 210، 211، حا 213، حا 217، 218، حا 223، حا 225، 227، حا 230، 236، حا 238، 234، حا 249، حا 254، حا 256، حا 264، 266، حا 268، حا 269، حا 350، 364، حا 498، 499، 530، حا 559، 560 "ج5" حا 83، حا 207 "ج6" حا 61، حا 86، حا 88، حا 91، حا 95، حا 97، 98، حا 242، حا 369 حا 475، 523، 524، حا 529، 530، حا 542، حا 562، حا 586، حا 593، 595، حا 600، 601، حا 607، حا 621، حا 641، حا 655، حا 687، حا 694 "ج7" حا 43، حا 142، حا 147، 149، حا 168، حا 170، حا 177، 178، حا 191، 193، حا 312، حا 343، حا 444، حا 471، حا 515، حا 555، 556 "ج8" حا 8، حا 35، حا 93، حا 110، 114، 115، حا 123، حا 138، حا 288، حا 297، حا 384، 385، حا 760، 761 "ج9" حا 19، حا 213، حا 411 بلاس بن قباذ "ج2" 540 بلاش بن فيروز "ج3" 209، 311 بلاش بن يزدجرد "ج3" 210، 207 بلاشير "ريجس" "ج4" حا 341، 342، حا 573 "ج8" حا 195، حا 249، 628 "ج9" 258، حا 268، حا 297، حا 332، حا 345، حا 350، حا 372، حا 374، 507، 508 بلال بن أبي بردة "ج9" 313 بلال بن الحارث "ج1" 194 "ج4" 263 "ج7" 147، 148، حا 514، حا 520 "ج8" 404 بلال بن رباح "بلال الحبشي" "ج5" 18 "ج6" 502، 503 "ج7" 443، 453 "ج8" 789، 790 بلال الرماح "ج4" 473 بلحارث بن كعب "ج1" 547 "ج3" 162 "ج4" 68، 185 "ج5" 374 "ج6" 352 "ج8" 579 البلخي "ج4" حا 139، حا 443، حا 446، حا 454 "ج6" حا 20، حا 363 بلدد "ج1" 457

بلشاصر "بلشصر" "ج1" 611 بلعاء بن قيس "ج3" 276 "ج4" 46، 84 "ج5" 383، 407 "ج6" 269 بلعام "ج4" 121 "ج6" 488، 603، 604 "ج8" 346 "ج9" 171 بلقيس "ج1" حا 133، 237، 547 "ج2" حا 197، 264، 265، 304، 306، 303، 421، 516، 533، 535، "ج3" 500، 502، 532، 536 "ج5" 277، حا 423 "ج6" 296، 297، 402، 490، 714، 715 "ج8" 36 "ج9" 377 بلكريف "ج1" 234 بلهاء "ج1" 382 بلي بن عمرو "ج1" 76، 367 "ج2" 400 "ج4" 263 بليزاريوس "ج3" 407 "ج4" 166 بلينيوس "بليني الأقدم" "ج1" 30، 59، 144، 174، 176، 313، 325، 344، 362، 429، 439، 442، 450، 553، 564، 582، 583 "ج2" 7، 11، 12، 15، 17، 19، 30، 51، 53، 57، 60، 63، 64، 66، 74، 80، 119، 129، 159، 171، 173، 224، 244، 405، 506، 510، 520، 551، 573، 607، 619، 621، "ج3" 55، 79، 80، 449، 534 "ج4" 415، 514، 520، 668 "ج7" 235، 277، 477، 496 "ج8" 254، 443 بمهشت "ج3" 207 بنانة "ج1" 401 بندلي صليبا الجوزي "ج1" حا 80، حا 523 "ج5" حا 537 بندر الأصبهاني "ج9" 158 بنفينيسة "ج9" 672، 672 بهثة بن سليم "ج1" 405، 407 "ج4" 517 بهدلة بن عوف "ج4" 526، 571 بهراء "ج1" 367 بهرام بن بهرام "ج3" 187، 191، 306، 311 بهرام بن سابور "ج2" 635، 636، 646 "ج3" 193، 197، 308، 311 بهرام بن هرمز "ج3" 187، 306، 307، 310 بهرام جور بن يزدجرد "ج2" 645 "ج3" 199، 202، 205، 209، 292، 311، 441 "ج4" 56 "ج6" حا 147، 597 بهرام شوبين "ج2" 646 "ج3" 175 بهران بن بهران جوبين "ج4" 474 بهز "ج1" 405 "ج4" 260 بهستون بيستون "ج1" 17، بهلم "ج2" 318

بهلوان "ج4" 557 بهلول "ج4" 557 بوذا "ج8" 78 بور "ج6" 492 بوران بنت ابرويز "ج3" 299، 312 بوران دخت بنت كسرى "ج3" 308 بورخ "ج1" 376 بورخ بن ناريا "ج1" 411، 412 بوزين "شوحا" "ج6" 200 بوز بن ناحور "ج1" 596، 598 بوزيدون "ج2" 32 بوعز "ج5" 477 بوكوك "ج9" 514 بول "ج1" 453 بولر "ج3" 268 بولس "الرسول" "ج1" 648 "ج3" 465 "ج6" 609، 624، 635، 636، 686 بولس بن عرقا "ج8" 157 بولس بروفله "ج6" حا 478 بولس السميساطي "ج3" 109، 110، 119، بوليبيوس "ج2" 15 بومبيوس "ج2" 38، 40، 622 "ج3" 9، 29، 32، 33، 60، 65، 67 بومشتارك "ج8" 769 بوون "ج7" 212 بويسونا "ج3" 466 بياضة بن رباح "ج4" 471 بيتر جونس "ج1" 520 بيجت "ج2" 376، 378 بيدع "ج1" 93، 367 بير دادا "ج1" 603 بيرادري "ج1" 575 البيروني "ج8" حا 426، حا 433، حا 455، 490، 491 "ج9" حا 211 بيرين "ج1" 138 "ج2" 56، 92، 105، 505 بيبستن "ج1" 137، 138 "ج2" 151، 536 "ج3" 496 "ج8" 445، 448، 452، 507، 515، 517 بيض "ج8" 161 البيضاء بنت عبد المطلب "أم حكيم" "ج4" 61، 80 البيضاوي "ج1" 141 "ج4" حا 12، حا 372 "ج5" حا 304 "ج6" حا 24، 232، حا 449، حا 608 "ج8" حا 318، حا 617 بيفان "ج3" حا 348 بيكر "ج1" حا 86 بينتزنكر "ج3" 137 البينجان بن المرزبان "ج3" 527 بيهس "ج5" 45 "ج6" 819 البيهقي "ج3" 447 "ج5" حا 551

التاء

التاء: تأبط شرًّا "ج1" 403 "ج2" 256 "ج4" 412، 507 "ج5" 572 "ج6" 141، 712، 717، 728 "ج7" 36، 79 "ج9" 104، 161، 293، 299، 302، 322، 323، 390، 445، 492، 493، 534، 609، 610، 612، 615، 616، 620، 622، 636، 639، 641، 646 تاج "ج4" 506 تاج بن فروان "ج1" 32 ناري "ج1" 600، 603 تارح "ج1" 448، 449 تألب ريام بن شهران "ج2" 356 تاليمونت "ج3" حا 72 التأمور "ج5" 387 تاوتيموس "ج6" 626 تاودوريطس "ج6" 614 تاوفيل الهندي "ج6" حا 612 تبؤة "ج1" 591، 593 تبان أسعد "ج1" 547 "ج2" 362، 576، 579 "ج3" 161، 185 "ج6" 537 التبريزي "ج1" حا 68 "ج3" حا 245، حا 257، حا 326، حا 360 "ج4" حا 375، 383، حا 386، حا 472، حا 490، 492، حا 498، حا 502، حا 518، حا 665 "ج5" حا 115، حا 361، حا 363، حا 379 "ج6" حا 111، حا 156، حا 162، حا 202، حا 357، حا 488 "ج7" حا 614 "ج8" حا 254، حا 270، حا 384 "ج9" حا 66، حا 87، 493، 507، 508، 510، 511 حا 562، 596، 625، 640، 775، 862، 831 تبع بن تبع تبان "ج1" 338 تبع بن حسان "ج1" 120، 338 "ج2" 402 "ج3" 204، 330 "ج4" 134 "ج6" 537 "ج9" 378، 875 تبع بن زيد "ج4" 433 تبع بن كليكرب "ج9" 378 تبع بن ملكيكرب "ج4" 383 تبع أسعد الحميري "ج6" 441، 521 التبع أسعد كامل "ج5" 21

تبع الأقرن "ج4" 15 تبع سجاح "ج5" 432، 641 تبع كرب "ج1" 374، 547 "ج2" 82، 100، 103، 104، 125، 127، 300، 301، 319، 320، 364، 439، 484، 516، 538، 547 "ج3" 193، 321 "ج4" 133 "ج5" 277 "ج7" 508 تجيب "ج3" 382 تجيب بنت ثوبان "ج4" 464، 465 تخمي "ج2" 245 تدمر بنت حسان "ج3" 79 تراجان "ج1" 166 "ج2" 65، 66، 250، 613، 622 "ج3" 49، 57، 58، 60، 62، 64، 67، 71، 73، 140 "ج7" 278 تريبليوس بوليو "ج3" 107، 115، 127 ترشيش "ج1" 640، 641 ترعة بنت يازل "ج1" 101 "ج2" 354، 355 الترمذي "ج6" حا 502 تريبونيان "ج4" 167 تريفون "ج1" 650 تزاد "تزاد" "ج2" 327 تزيد بن جتسم "ج4" حا 421 تزيد بن حلوان "ج2" 615، 617 "ج3" 103، 392 "ج4" حا 421 تزيد بن عمران "ج1" 366، 367 "ج4" 239 "ج5" 54، 55 تشارلس دوتي "ج1" 130 تشارلس فورستر "ج1" 135 تشارلس هوبر "ج1" 132 تصح بن يهزحم "ج2" 489، تغلا تبلسر الثالث "ج1" 412، 441، 577، 581، 584، 585، "ج2" 122 تغلا تبليزر "ج1" 456، 457 "ج3" 85 "ج7" 234 تغلب بن حلوان "ج4" 426 تغلب بن وائل "ج4" 489، 490 "ج6" حا 595 تغلب بن وبرة "ج1" 366، 367، 526 "ج6" 506 تغلب الغلباء "ج6" 366 التغلبي "ج4" 319 تغلت فلاسر "ج2" 20، 625 تفلاتبليزر الرابع "ج1" حا 441 تقي بن مخلد "ج8" 601 تكريت بنت وائل "ج9" 569 تلخونو "ج1" 592 تلمي بن هناس "ج2" 245، 251، 252 تكمة بنت مر "ج4" 525 تكولي، ننورتا "ج1" 561، 570 تلون "ج1" 564 تمار "ج1" 579 تماضر "ج4" 237، 520 "ج6" 477 "ج9" 628 تمرنو "ج1" 579 تملك "ج3" 361 تميم بن أبي مقبل "ج8" 274 "ج9" 76، 99، 114، 115، 236، 331، 836، 888، 889

تميم بن أوس "ج4" 244 "ج8" 378 تميم بن خرشة "ج4" 157 تميم بن غالب "ج4" 479 تميم بن مر "ج1" 399، 402، 403، 526 "ج2" 18 "ج3" 170 "ج4" 27، 363، 477، 478، 524، 531، 532، 572، 657 "ج6" 49، 357 "ج7" 191، 192 "ج8" 777 "ج9" 146، 448 تميم الداري "ج4" 463 "ج5" 398 "ج7" 254، 463 "ج8" 573 تميم مقتو لحيعت "ج2" 598 تميم يزيد "ج2" 598 تنبلتم "ج2" 427 تنف "ج2" 466، 467 التهانوي "ج6" حا 702 "ج8" حا 278 تهرجب "ج2" 320 تهنأ مناة "ج6" 320 تهوان "ج2" 399 التوأم اليشكري "ج1" 374 "ج6" 693 "ج8" 715، 716 "ج9" 189، 190، 531، 534، 535 التوزي "ج8" 558 توفيل "ج5" 36، 37 توقير "ج1" 432 توكلتي أنورتا الثاني "ج3" 139، 182 توماس يوسف أرنو "ج1" 126، 245 بويبونيانوس غالوس "ج3" 64 نويتشل "ج7" حا 122، حا 208، حا 597، حا 602 تويجل "ج1" 242 تيتوس "ج3" 108 تيكرانس "ج3" 29 تيلر "ج1" 520 تيلور "ج6" 46 تيلوس "ج1" 564 تيم بن ذهل "ج4" 523 تيم بن عبد مناة "ج1" 367، 371، 400، 402، 408 "ج9" 146 تيم بن غالب "ج4" 29 "ج9" 715 تيم بن قيس "ج4" 503 تيم بن مرة "ج1" 401 "ج4" 26، 94، 268، 480، 481، "ج7" 439، 447 "ج9" 118 تيم الأدرم "ج4" 27 تيم الله بن أسد "ج4" 424، 425 تيم الله بن ثعلبة "ج1" 371، 405، 407، 408 "ج3" 103، 127، 199 "ج4" 73، 137، 427، 450، 502، 503 "ج6" 282 تيم الله بن النمر "ج4" 487 تيم أيل "ج2" 69، 317 تيم العزى "ج6" 316 تيم اللات "ج1" 402 "ج3" 115 "ج4" 338 "ج5" 530 "ج6" 16، 17، 233، 262، 321

تيم يغوث "ج6" 313 تيما "ج1" 375، 434 تيماء "ج8" 158 تيما جينيس "ج3" 114، 115 تيمة بنت يشجب "ج1" 381 تيموتاوس "ج1" 649 "ج3" 23 تيموثيوس "ج6" 630 تيموستراتوس "ج3" 219، 383

الثاء

الثاء: ثابت بن أرقم "ج4" 242 ثابت بن رواحة "ج4" 242 ثابت بن قيس "ج1" 369، 525 "ج4" 119، 137، 203 "ج8" 122، 135، 788 "ج9" 845 ثابت بن المنذر "ج5" 573 "ج9" 728، 731 ثأر "ج1" 600 ثأرن أيفع "ج2" 525، 528، 558، 559، 562، 559 ثأرن يكرب "ج2" 525، 558، 563، 599 ثأرن يعب يهنعم "ج3" 30، 141، 143، 147، 169، 397، 474، 484، 487، 493، 494، 496، 497، 522، 525، 528، 532، 563، 568، 599 الثامر "ج6" 609 ثروت عكاشة "ج3" حا 303، حا 389، حا 392، حا 394، حا 401، حا 445، 529 "ج5" حا 45 "ج8" حا 417 الثعالبي "ج1" حا 316 "ج4" حا 20، 22، حا 25، حا 27، حا 40، حا 48، حا 51 حا 67، 69، حا 74، حا 87، 88، حا 96، حا 311، حا 333، 334، 336، حا 339، حا 353، حا 369، حا 411 "ج5" حا 39، حا 49، 50، حا 52، حا 54، 57، حا 61، حا 66حا 218، حا 240، حا 284، 337، حا 388، 392 "ج6" حا 352، حا 366، حا 368، حا 430، 432، حا 734، 765، حا 818، 820 "ج7" حا 410، حا 421 "ج8" 725، 726 "ج9" 543، 730 ثعل بن عمرو بن الغوث "ج4" حا 451 الثعلي "أبي حنبل" "ج3" 373 ثعلب "ج1" 366، 526

"ج6" حا 155، حا 506، 570، حا 675 "ج8" 600، 630، 655، "ج9" 45، 223، 463، 625 ثعلبان "ج4" 417 ثعلبة بن أسد "ج4" 338 ثعلبة بن أعصر "ج4" 514، 515 ثعلبة بن بكر "ج5" 386 ثعلبة بن بهثة "ج4" 518 ثعلبة بن تميم "ج4" 338 ثعلبة بن جذعاء "ج3" 330 "ج4" 338 ثعلبة بن جذيمة "ج4" 487 ثعلبة بن الحارث "ج5" 367، 371 ثعلبة بن الحلاف "ج9" 867 ثعلبة بن الدائل "ج4" 502 ثعلبة بن دودان "ج3" 364 "ج4" 534 ثعلبة بن ذبيان "ج4" 511 ثعلبة بن ذهل "ج3" 330 "ج4" 484 ثعلبة بن ربيعة "ج4" 338 ثعلبة بن رومان "ج3" 330 "ج4" 338، 450 ثعلبة بن سعد "ج1" 371، 374، 402، 414 "ج4" 337، 512 "ج5" 367 "ج6" 515، 682 "ج9" 491 ثعلبة بن سلامان "ج4" 244 ثعلبة بن شيبان "ج3" 330 ثعلبة بن الظرب "ج4" 508 ثعلبة بن عدي "ج4" 337، "ج5" 367 ثعلبة بن عكابة "ج4" 502، 571 "ج9" 366، 589 ثعلبة بن عمرو "ج3" 194، 388، 389، 392، 397، 398، 400، 402، 445، 446، 448 "ج4" 423، 437، 440، 483 ثعلبة بن غنم "ج4" 492 ثعلبة بن الفيطون "ج6" 546، 553، 562 ثعلبة بن فهم "ج4" 438 ثعلبة بن قيس "ج4" 503 "ج9" 366، 452 ثعلبة بن مازن "ج4" 435 ثعلبة بن مر "ج4" 525 ثعلبة بن يربوع "ج1" 403، 408، 409، 526 "ج4" 338 "ج5" 367، 375، 396، 653 "ج8" 410 "ثعلبة العنقاء بن عمرو "ج3" 390، 391 "ج4" 436 الثعيل "ج5" 408 الثعين "ج1" 367، 368 الثغراء "ج1" 368 ثقيف بن منبه "ج1" 406 "ج5" 530 ثمامة بن أثال الحنفي "ج5" 464، 465 "ج6" 99، 10 "ج7" 38 "ج8" 650، 757 "ج9" 670 ثمامة بن حجر "ج3" 484، 487 "ج4" 423 ثمود بن غائر "ج1" 295، 296، 299، 301، 305، 337، 419، 452 "ج4" 434

ثني بن أبانس "ج2" 98 ثوابة بن مالك "ج4" 438 ثوب بن شحمة "ج9" 814 ثوبان "ج2" 479 ثوبان بن سليم "ج4" حا 465 "ج7" 461 ثوبت "ج2" 119 ثوبة بن الحمير "ج9" 458 ثوبم "ج2" 227 ثور بن أد "ج2" 381 "ج4" 338، 464 ثور بن شحمة العنبري "ج4" 579 ثور بن عبد مناة "ج1" 402، 600 "ج4" 524 "ج5" 376 ثور بن عفير "ج1" 372 "ج3" 315، 316، 320 ثور بن مرة "ج8" 674 ثور بن مرتع "ج3" 381، 382 الثوري "ج9" 303 ثويبم بن يشرحعم "ج2" حا 206، 228 ثيودور لكتور "ج6" 540 ثيودور المصيصي "ج6" 627ثيودورس "ج3" 408، 409، 413 "ج6" 631 ثيودوريث "ج1" 63، 131 ثيودوسيوس "ج3" 73، 128 ثيودولس "ج6" 171، 198 ثيوفانس "ج1" 64 "ج2" 655 "ج3" 215، 228، 329، 342، 343، 345، 349، 350، 385، 403، 456، 461، 462، 469، 505 ثيوفراستوس "ج1" 57 "ج2" 73، 171، 265 "ج7" 257 ثيو فليب "ج1" 64 ثيوفيلكتس "ج1" 64، "ج3" 175، 273، 295، 425 ثيو فيلوس "ج2" 526، 567 "ج6" 612، 613 "ج7" 274 "ج8" 39

الجيم

الجيم: جابان "ج4" 231 جابر بن آرام "ج3" 12 "ج4" 595 جابر بن أبحر "ج2" 649 "ج3" 297 "ج6" 596 جابر بن حنى التغلبي "ج4" 491 "ج5" 306، 307 "ج6" 584 "ج7" 473، 474 "ج8" 735 "ج9" 459، 521، 817، 818 جابر بن رالان "ج3" 237 جابر بن شمعون "ج3" 264، 265، 301 جابر بن عبد الله "ج1" 334، 369 "ج5" حا 565 جاثر بن أرم "ج1" 295، 419، 421 جاثر أبي ثمود "ج8" 537 الجاحظ "ج1" 317، 526 "ج3" حا 187، حا 326، حا 365، حا 377 "ج4" 68، 98، حا 102، حا 205، 282، 299، 301، 307، 310، 312، 328، 368، حا 383، 419، 558، 572، 578، 580، 586، 600، 602، 605، 641، 642، 656، 657، 660، حا 685، 686، "ج5" 30، 106، 111، 144، 221، حا 260، 303، 312، 319، 320، 640 "ج6" 13، 84، 97، 98، 144، حا 227، حا 351، 364، 366، 386، 409، حا 478، 479، حا 490، حا 500، 692، 697، 700، 706، 707، 715، 716، 749، 760، 766، 786، 788، 792، 795، 819 "ج7" 285، 288، حا 378 "ج8" 100، 102، 156، 270، 281، 290، 331، 334، 343، 345، 364، 434، حا 474، 500، 511، 521، 539، 688، 689، 696، 739، 740، 742، 747، 749، 768، 771، 774، 781، 782، 788، 793، 794 "ج9" 16، 24، 35، 36، 52، 67، 68، 71، 81، 83، 103، 112، 114، 140، 146، 164، 166، 200، 206، 240، 271،

275، 288، 289، 297، 214، 318، 323، 335، 343، 344، 352، 367، 383، 384، 389، 406، 417، 429، 431، 451، 452، 462، 463، 467، 471، 476، 477، 483، 490، 523، 605، 635، 639، 644، 656، 667، 668، 675، 682، 683، 701، حا 754، حا 764، 791، حا 799، 810، 813، 857، 896 جار "ج6" 16 جارلس مونتاكو دوتي "ج2" 241 جارلس هوبر "ج2" 241 الجارود "ج4" 156، 209 "ج5" 306 "ج6" 467، 622 الجارود بن عبد الله "ج8" 417، 787 جارية بن أصرم الأجداري "ج6" 256 جارية بن مر الطائي "ج3" 373 "ج4" 406 جارية بنت سليط "ج8" 367 جاربة بنت مالك "ج4" 255 جاسم بن عمان "ج1" 295، 296، 346 جاكلين بيرين "ج8" 11 جالوت "ج6" 575 جالينوس "ج8" 321 جاماسب "ج2" 343 "جامع "ج1" 369 جامه "ج1" 138 "ج2" 211، 299، 303، 330، 333، 337، 338، 340، 341، 360، 369، 379، 387، 446، حا 451، 454، 456، 458، 459، 470، 473، 474، 478، 481، 483، 485، 489، 490، 557، 559، 562، 564، 577، 586، 588 "ج3" 316، 318 "ج8" 675 جان جاك بيرلي "ج1" حا 183، حا 208، حا 279 جاهمة بن العباس "ج9" 865 جبأ أوام هنعمت "ج8" 66، 67 جبار بن الحكيم "ج4" 258 جبار بن سلمى "ج4" 255 "ج9" 522 جبار بن فيض "ج3" 457 جبر "ج1" 369 "ج4" 121 "ج6" 603، 604 جبرائيل "ج6" 26، 117، 405، 501 "ج7" 315 "ج8" 597 جبرائيل جبور "ج2" حا 174 جبريالي "ج9" حا 311 جبريل "ج2" 269 "ج4" 143، 144 "ج8" 539، 755، 760 "ج9" 26، 842 جبل بن أبي قشير "ج6" 546 جبل بن أسعد بن ملكيكرب "ج2" 570 جبل بن جوال "ج6" 515 "ج9" 790 جبل بن عمرو "ج6" 524 جبلة بن الأيهم "ج1" 52، 492 "ج3" 418، 419، 426، 435، 444، 447 "ج4" 240، 242، 307،

473 "ج5" 120 "ج6" 594 "ج9" 735، 737 جبلة بن الحارث "ج3" 401، 404 422، 426، 445، 447 جبلة بن سالم "ج8" 320 جبلة بن عدي "ج3" 357 جبلة بن مالك "ج4" 244 جبلة بن النعمان "ج3" 232، 349، 439 جبير بن مطعم "ج1" 471 "ج3" 187، 288 "ج4" 65 "ج8" 124، 330، 331، 766، 783 "ج9" 736 جثامة بن قيس "ج5" 383 جثامة بن مساحق الكناني "ج3" 431 جحاش "ج1" 405 جحجبن بن عتيك "ج3" 196، 197 حججنا بن عبيل "ج3" 196 جحدر بن ضبيعة "ج9" 251 جحش "ج1" 405، 526 "ج4" 80 جحضم أحصن "ج2" 446 جد اللات "ج6" 17 جدان بن جديلة "ج4" حا 483 جدة بن جرم "ج1" 372 "ج4" 422، 424 جدرت "ج1" 374 "ج2" 367، 368، 376، 377 جدعاء "ج1" 371 جدعون "ج1" 455 جدلة "ج3" 47 الجدماء بنت جل "ج4" 502 جدي بن أخطب "ج6" 546 جدي بن جديلة "ج4" 483 جدلية بنت مر "ج1" 371، 373، 407 "ج4" 483، 507، 525 جديمة "ج2" 42 جذام بن أسدة "ج1" 364، 372، 399، 516 "ج4" 462 جذام بن عدي "ج4" 531 جذرة "ج1" 409 جذع بن سنان "ج3" 388، 389 "ج6" 724 "ج9" 389 جذع بن عمرو الغساني "ج3" 397، 398، 448 "ج4" 437 جذيمة الأبرش "ج1" 77، 337 "ج3" 104، 106، 122، 140، 167، 168، 178، 183، 308، 313، 389، "ج4" 618، 625، 661، 674 "ج5" 56، 210، 458 "ج6" 289، 713 "ج8" 374، 401 "ج9" 445، 685 جذيمة بن حازم "ج4" 203 جذيمة بن سالك "ج3" 167 جذيمة بن عامر "ج4" 266 "ج8" 268 جذيمة بن علقمة "ج4" 307 جذيمة بن عمرو "ج3" 186 جذيمة بن عوف "ج4" 485 جذيمة بن مالك الآزدي "ج1" 373، 407 "ج5" 396 جذيمة بن يربوع "ج4" 512 جذيمة الخزاعي "ج5" 113 جذيمة العبسي "ج6" 763، 770 جذيمة الوضاح "ج4" 438، 463

جر "جور" "ج2" 69 الجراح "ج9" 474 جراح ذو زبنور "ج3" 484 الجرادتان "ج5" 23 جرجان "ج1" 418 الجرجاني "ج3" 447، 448 "ج5" حا 478 "ج9" حا 240، 476، حا 804 جرجس "ج6" 686 جرجينسيوس "ج3" 506 جرجي زيدان "ج1" 300، 335، 336، 364، حا 518، 521، 525 "ج3" حا 191، 192، حا 476 "ج4" حا 532، حا 620 "ج5" حا 346 "ج7" حا 198، حا 209، حا 212 "ج8" 171، حا 353، حا 387، 424، حا 433 "ج9" حا "84، 89، 112، 123، 136، 277، 287"، 294، 432، 434، 438، حا 444، 456، 482، 510، 513، 553، 566، 636، 637، 640، 647، 649، 696، 721، 724، حا 786، 858، 863، 882 الجرساء الكلبي "ج3" 335 جرش بن عبد الله "ج3" 66 جرشم بن جلهمة "ج1" 349 جرشوم "كرشوم" "ج1" 453 جرم بن ربان "ج1" 367، 371، "ج4" 239، 240، حا 424 جرمانيكوس "ج3" 86 جرمة بن النجاشي "ج2" 437 جرمز بن ربيعة "ج4" 262 "ج8" 130 جرهم "ج1" 92، 295، 296، 358، 361، 427، 506 "ج6" 144 جرول بن ثعل "ج4" 452 "ج9" 75، 234، 441، حا 520 جرول بن كنانة "ج1" 371، 526 "ج4" 37، 532 جريبة بن الأشم الفقعسي "ج6" حا 130، حا 133 جريج "ج6" 686 جرير "ج3" 252، 274، 514 "ج4" حا 149، 312، حا 335، 337، حا 477 "ج5" 302 "ج6" حا 593، حا 647، 734 "ج7" 121 "ج8" 306 "ج9" 68، 75، 81، 86، 120، 136، 232، 225، 265، 283، 297، 305، 339، 340، 357، 383، 657 جرير بن عبد الله بن جابر "ج1" 470 "ج5" 642 جرير بن عبد الله البجلي "ج4" 156 182، 183، 185، 192، 194، 195، 446، 591 "ج5" 498 "ج6" 272، 273، 445 "ج8" 329 جرير بن عطية "ج1" 322، 398، 496 جزء بن الحارث "ج9" 639، 880 جزء بن سعد "ج1" 371 "ج5" 367

"ج7" 462 جزء بن غالب "ج6" 58، 81 جساس بن عمرو "ج4" 316 جساس بن مرة "ج4" 495، 498، 501، 503، 504، 625، 626 "ج5" 348، 356، 520 جستنيان (جستنيانوس) "ج3" 223، 473، 474 "ج7" 282 جسر بن عمرو "ج1" 367، 371، 373، 405 "ج4" 458، 516 جسر بن محارب "ج9" 146 جشش بن مالك "ج1" 403 جشم بن بكر "ج4" 489، 492، 513 "ج5" 348، 381 "ج8" 600، 690، "ج9" 563 جشم بن ثقيف "ج4" حا 517 جشم بن حبران "ج1" 353 "ج4" 337، 434، 447، 448، 462 جشم بن ذهل "ج5" 349 جشم بن سعد "ج1" 371، 401، 403، 405، 406، 408، 646، 648 جشم بن شهر "ج2" 247 جشم بن عبد شمس "ج2" 513، 561 "ج5" 193 جشم بن غنم "ج4" 492 جشم بن معاوية "ج4" 516، 517، 519 جشم بنت عمرت "ج8" 205 جشم مرة بن كلثوم "ج4" 489 جشيش الديلمي "ج4" 192، 193 الجصاص "ج7" حا 427 جعبر بن مالك "ج3" 303 الجعد بن صبرة الشيباني "ج5"، 505، 638 جعدة بن كعب "ج1" 406 "ج3" 356 الجعدي "ج5" 303 الجعد بن الشماخ "ج5" 371 جعفي "ج1" 371 جعفر "ج1" 405 جعفر بن أبي طالب "ج4" 242 "ج7" 259 جعفر بن خلاس الكلبي "ج6" 277 جعفر بن سراقة "ج6" 601 جعفر بن سليمان "ج7" 341 جعفر بن علية "ج9" 113، 432، 483 جعفر بن قريع "ج9" 113 جعفر بن كلاب "ج4" 339، 346، 394، 522، 572 "ج5" 388 "ج9" 547، 549، 553 جعفر بن محمد الطيلسي "ج6" 570 جعفر المنصور "ج4" 82 الجعفري "ج9" 75، 441 جفن عم يشع "ج2" 102 جفنة بن عمرو "ج3" 388، 390، 399، 400، 421، 446 "ج4" 436، 437 جفنة بن المنذر الأكبر "ج3" 446، 447 جفنة بن النعمان الجفني "ج1" 374 "ج3" 441 جفنة عبد الله بن جدعان "ج4" 97 جفينة العبادي "ج8" 109، 292، 301 جلابزين "ج3" 293، 294، 296 جلاس بن سويد "ج9" 78 الجلاس بن وهب "ج4" 251 جلال الدين همايوني "ج8" حا 716

جلان بن عتيك "ج4" 482 جلد بن مالك "ج4" 458 جلد بن مذحج "ج4" 454، 458 جلم بن عمرو "ج3" 288 الجلندي بن المستكبر "ج4" 200، 201، 411 "ج5" 320 "ج9" 533 جلهمة بن أدد "ج1" 370، 373 "ج3" 42 "ج4" 258، 434، 450 جلهمة بن الخيري "ج9" 394 جليات "ج1" 644 جليحة بن شجار "ج4" 190 جليلة بنت مرة "ج4" 495، 497، 620 "ج5" 356 جماء بن زياد "ج4" 189 جمار "ج9" 676 جمال الدين محمد بن محمد بن نباته المصري "ج4" حا 497 الجماهر "ج1" 372 جمع بن عمرو "ج4" 481 جمد "ج2" 155 "ج4" 197 جمعة بنت حابس الإيادي "ج5" 498، 638، 639 "ج8" 351، 790، 791 جميل جبر "ج8" حا 749، حا 771، 773، حا 782 "ج9" حا 85، حا 140، حا 280، حا 289، 290، حا 407 جميلة بنت الصوار "ج2" 355، "ج3" 48 الجميع الأسدي "ج1" حا 475 جميل بثينة "ج6" حا 601 جميل بن معمر الجمحي "ج6" 703 جناب بن عبد الله بن هبل "ج5" 111 جناب بن عوف "ج9" 662 جناب بن هبل "ج1" 579، 605 "ج4" 239 "ج6" 364 جناد "ج1" 76، 77 "ج9" 255، 293، 295، 303، 345، 347 جنادة بن أمية "ج8" 498، 499 جنادة بن عوف "أبو ثمامة" "ج4" 480 "ج6" 79، 206 "ج8" 498، 500 جنادة بن معد "ج1" 359، 389، 392 جنادة الأزدي "ج4" 185، 422 "ج8" 133 جنبو "ج1" 579 الجند يعلى بن أمية "ج4" 192 جندب بن الحارث "ج1" 16، 574، 576، 605 "ج4" 79، 274 جندب بن سلمى "ج4" 267 جندب بن طريف "ج9" 489 جندب بن عمرو "ج8" 322 جندب بن العنبر "ج6" 820 جندع بن ليث "ج4" 532 جندل "ج1" 526، "ج9" 203 جندلة بنت الحارث "ج4" 479 جندلة بنت فهر "ج4" 479 "ج6" 364 جنوفاس "ج3" 404، 405 جنيد "ج1" 392 جهامة "ج1" 399 جهبل بن ثعلبة اليشكري "ج4" 346 الجهشياري "ج4" حا 388 "ج8" حا 117، حا 121، حا 123، حا 126، 127 حا 129، 133، 154، 157

، 159 جهضم بن جذيمة "ج1" حا 373 "ج3" 184 "ج4" 438 جهنام "شيطان الأعش" "ج9" 120، 586 جهيم بن الصلت "ج8" 120، 122، 125 جهينة "ج1" 367 "ج3" 388 "ج6" 760 جواد علي "ج2" حا 137 "ج3" حا 157، حا 192، 193، حا 474 "ج4" حا 57، حا 130 "ج5" حا 199، حا 552 "ج6" حا 291، 292، حا 527، حا 621 "ج7" حا 73، 184، حا 273، 275 "ج8" حا 248، 447، حا 519، حا 527، حا 547، حا 553، حا 589، حا 627، حا 642، 644، حا 652، حا 678، 680 "ج9" حا 66، حا 252، حا 301، حا 507، حا 694، حا 778 الجواليقي "ج3" 274، حا 286، حا 375 "ج4" حا 123، حا 383 "ج5" حا 31، حا 40 حا 52، حا 56، حا 108، 109، 123، حا 208 "ج6" حا 13، حا 135، حا 145، حا 522، حا 586، حا 692، حا 735 "ج7" 558، 566، 590، 592، 593، 605، 607، 608 "ج8" 61، حا 262، 399، 395، 697، 698، 710، 714، 716، 720، 724، 727 "ج9" 268، 675، حا 771، 807، حا 903 جوجان "ج1" 599 جودان بن يحيى "ج6" 769 الجودي بن ربيعة الغساني "ج4" 235، 238 جوديا "غوديا" "ج1" 557، 559، 562 جوراقية "دراهم" "ج7" 498 جورج أغسطس والين "ج1" 130 جورج برتن "ج5" 542 جورج بوست "ج1" حا 53 جورج فضلو حوراني "ج7" حا 250 حا 257، حا 268، 269 حا 271، حا 278 جورج ماثيوس "ج1" حا 179 جورجيسيوس "ج6" 619 جوزيف سكالكر "ج1" 62 جوسن "ج1" 132 "ج2" 74، 241، 501 "ج6" 528 الجوشن الضبابي "ج5" 269 جول ماير "ج1" 232 جوليان "ج2" 642 جوليانوس "ج3" 472، 519 جوليو، كلوديان "ج2" 217 جون آل بني الأوس "ج3" 225، 250 جون بيترس "ج1" 238 جون لابوم "ج1" حا 40 الجوهري "ج3" حا 302 "ج4" حا 11، حا 149، حا 415، حا 430، 431 حا

433، حا 443، حا 477، حا 483، 506، حا 512 "ج5" 42، حا 151، حا 160، حا 162، حا 168 "ج6" حا 289، حا 643، حا 675 "ج7" حا 607 "ج8" 573 "ج9" حا 855 جيرالد دي كوري "ج1" 540 جيرلند "ج1" 235 جيروم "ج1" 62 "ج3" 24 "ج6" 635 جيرون بن سعد "ج1" 303 جيسمن "ج1" 558 جيفر بن جلندي "ج4" 200، 441 "ج7" 141 جيفر بن عبد عمرو "ج4" 484 جيل "ج6" 257، 294 جيمس رنل "ج1" 623 جيمس فريزر "ج5" 541 جيمس هاملتون "ج6" 235 جيهلة "ج2" 615 جيهم "ج1" 368

الحاء

الحاء: حابس "ج1" 605 حاتم بن عبد الله "ج4" 576، 577 حاتم الطائي "ج1" 383 "ج3" 106، 250، حا 271، 282 "ج4" 219، 221، 282، 339، 452، 453، 578، 579، 671 "ج5" 66، حا 85 "ج6" 133، 154، 200، 584، 634، 719 "ج7" حا 85، 442 "ج9" 75، 76، 445، 472، 601، 624، 625، 633، 799، 812، 817 حاجب بن زرارة "ج1" 383 "ج3" 274، 279 "ج5" 359، 372، 377، 390، 466، 544، 545، 632، 637، 641 "ج6" 693. "ج8" 351، 776، 779. "ج9" 146، 429. الحاجري "ج5" حا 641. "ج9" حا 476، 477. حاجز بن عوف "ج4" 412. حاجز بن الأزدي "ج1" 345. "ج9" 611، 622، 648. الحادرة "ج4" 403. حاذر "ج1" 369. الحاذي "ج1" 366. الحارب "ج1" 367، 370. الحارث الأبرص "ج4" 522. الحارث بن أبي ضرار "ج4" 266

الحارث بن أسد "ج5" 38. الحارث بن أشيم "ج4" 632. الحارث بن الأغر الآيادي "ج2" 636. الحارث بن أمية "ج5" 381. الحارث بن الأهيم "الأيهم" "ج3" 322، 323، 427. الحارث بن بهثة "ج4" 518، 520. "ج7" 161. الحارث بن بيبة المجاشعي "ج3" 226، 474. الحارث بن تميم "ج4" 529. "ج6" 257. الحارث بن التوأم اليشكري "ج9" 99. الحارث بن ثعلبة "ج3" 399، 432، 445، 446، 448. "ج4" 14، 534، 575. الحارث بن جبلة "ج2" 658. "ج3" 221، 223، 227، 230، 254، 259، 323، 343، 349، 402، 405، 408، 409، 412، 417، 420، 421، 444، 446، 447، 465، 466، 474، 477، 489، 490، 492. "ج4" 219، 221. "ج5" 199، 200، 328، 329. "ج6" 592، 631، 633. "ج8" 519. الحارث بن جفنة "ج3" 221، 222، 400، 434. الحارث بن حجر الكندي "آكل المرار" "ج3" 211، 213، 224، 225، 257، 313، 315، 322، 325، 328، 329، 339، 343، 346، 347، 349، 351، 355، 422، 447. "ج5" 350. الحارث بن حرب "ج5" 38 "ج9" 711 الحارث بن حسان البكري "ج1" 92، 321، 358، 399، 401، الحارث بن حصين "ج3" 261 الحارث بن حلزة "ج1" 304، 336 "ج3" 235، 248، 326، 358 "ج4" 376، 382، 383، 500، 561 "ج5" 435، 458، 613 "ج6" 111، 202، 207، 800 "ج8" 269، 270، 401، 426، 474، 475، 381، 384، 386 "ج9" 87، 109، 161، 243، 275، 281، 292، 329، 417، 433، 477، 509، 511، 513، 516، 519، 540، 562، 565، 567، 672، 825، 835، 883 الحارث بن الحزرج "ج4" 307 "ج9" 720 الحارث بن دوس "ج9" 820 الحارث بن الدؤل "ج4" 482 الحارث بن ذبيان "ج8" 779 الحارث بن ذي شمر "ج2" 513 "ج5" 193، 196 الحارث بن راشد "ج8" 783 الحاربن بن ربيع "ج4" 253 الحارث بن رزاح "ج4" 482 الحارث بن زهير "ج1" حا 406، 408، 409، 651 "ج4" 489، 510 الحارث بن سدوس "ج4" 651 "ج9" 853

الحارث بن سعد "ج1" 363، 369، 371، 372، 374، حا 383، 403 الحارث بن شريك "ج3" 238 "ج5" 366، 367، 386، 407 الحارث بن شهاب "ج3" 369 "ج5" 372 الحارث بن ضبيعة "ج4" 482 الحارث بن ظالم "ج3" 210، 254، 279، 376، 377، 410، 438 "ج4" 40، 102، 138، 219، 364، 480، 492، 509، 512، حا 514، 571 "ج5" 358، 359، 371 "ج8" 274، 776، 779 "ج9" 778 الحارث بن عامر "ج5" 37 الحارث بن عباد "ج3" 279، 330 "ج4" 407، 496، 797 "ج5" 390، 396، 444، 504، 638 "ج9" 457، 460 الحارث بن عبد الله "ج5" 265، 593 الحارث بن عبد العزى "ج6" 127 الحارث بن عبد كلال "ج2" 583 "ج3" 531 "ج4" 180، 181 "ج5" 309 "ج7" 141 الحارث بن عبد المطلب "ج5" 38 "ج9" 711 الحارث بن عبد مناة "ج4" 310 35، 84، 478، 533 "ج9" 716 "ج6" 364 الحارث بن عبس "ج4" 510 الحارث بن عبيد المخزومي "ج4" 671 الحارث بن عدي "ج4" 461 الحارث بن علقمة "ج3" 521 "ج5" 467، 623، 633، الحارث بن عمرو بن محرق "ج3" 195، 204، 205، 214، 215، 312، 324، 330، 339، 344، 345، 353، حا 361، 388، 399، 401، 408، 432، 435، 444، 446 "ج4" 436، 438، 483، 488، 500، 501، 503، 504، 507، 512، 529، 530 الحارث بن عمير الأزدي "ج4" 242 الحارث بن عوف "ج4" 253 "ج6" 546 الحارث بن غنم "ج4" 492 الحارث بن فهر "ج2" 584 "ج4" 16، 27، 29، 58، 61، 62، 100، 268، 479 "ج7" 440 الحارث بن قيس "ج4" 110، 137 "ج5" 249، 548 "ج6" 67، 152 الحارث بن كعب "ج1" 481 "ج2" 39، 40، 46، 49، 50، 556 "ج3" 196، 358، 532، 536 "ج4" 98، 189، 191، 202، 303، 332، 333، 337، 449، 451، 458، 511، 523، 641، 656، 657 "ج5" 30، 353، 421

"ج6" 25، 237، 260، 262، 270، 351، 363، 364، 366، 417، 514، 662 "ج7" 462، حا 597 "ج8" 474، 568، 585، 640، 777 "ج9" 19، 93، 242، 429، 430، 432، 440، 444، 454، 447، 464، 481، 580، 715، 744 الحارث بن كلدة "ج3" 374، 499، "ج4" 151، 156، 191، 517، 595، 616 "ج5" 58 "ج7" 556 "ج8" 320، 382، 384 "ج9" 863 الحارث بن كنانة "ج4" 37 الحارث بن لؤي "ج1" 401 "ج4" 29، 219، 482 الحارث بن مارية الغساني "ج3" 200، 201، 404 "ج8" 112 الحارث بن مالك "ج3" 410، 411 "ج4" 194 الحارث بن مرة "ج3" 253 "ج4" 459، 514 الحارث بن مزيقيا "ج5" 379 الحارث بن مضاض "ج1" 349 "ج4" 14، حا 438، 448، "ج9" 395 الحارث بن معاذ بن عفراء "ج9" 202 الحارث بن معاوية "ج3" 319، 320، 357، 382، 383، 406، 407 "ج4" 464 "ج6" 770 الحارث بن مندلة الضجعمي "ج3" 323 الحارث بن نبيه المجاشعي "ج5" 371 الحارث بن هانئ "ج8" 569 الحارث بن هشام "ج4" 105 "ج5" 38 "ج9" 714، 486، 863 الحارث بن همام "ج4" 29، 472 "ج5" 444 "ج9" 798، 800 الحارث بن وعلة "ج5" 265، 386، 407، 645 حارث بن يدم "ج2" 369 الحارث بن يربوع "ج4" 529 الحارث بن يزيد البكري "ج1" 321 "ج6" 551 الحارث بن يشكر "ج6" 275 الحارث أبو حجر "ج9" 443، 478، 479 الحارث الأضجم "ج4" 347، 482 "ج9" 664 الحارث الأعرج "الحارث الأصغر" "ج3" 229، 231، 239، 240، 249، 401، 403، 411، 419، 432، 433، 444، 446، 448 "ج9" 469 الحارث الأول "ج3" 22، 25 الحارث الثالث "ج3" 29، 30، 32، 34 "ج7" 493 الحارث الثاني "ج3" 25، 29، 31، 41، 45 الحارث الحراب "ج3" 328 الحارث الرائش "ج4" 416

الحارث الرابع "ج2" 247 "ج3" 46، 56 "ج7" 494 الحارث الغساني "الحارث بن أبي شمر الغساني" "ج3" 209، 231، 235، 237، 240، 327، 369، 376، 377، 401، 402، 410، 411، 422، 423، 429، 432، 435، 444، 445 "ج4" 239، 241، 454، 463، 488، 661 "ج5" 286، 640 "ج6" 249، 579، 577، 724 "ج7" 416، 479 "ج9" 111، 469، 530، 532، 548، 594 الحارث المري "ج9" 729 حارثة بن امرئ القيس "ج4" 435، 437، 478 حارثة بن أوس "ج6" 346 حارثة بن بدر "ج9" 893، 903 حارثة بن بكر "ج3" 446 حارثة بن عمرو "ج3" 388، 390، 400 "ج4" 375 "ج8" 303 الحارثة بن فهر "ج4" 17 حارثة بن لام "ج5" 176 "ج6" 142 حارثة جهينة "ج6" 769 حارثة الغطريف "ج1" 374، 438، 492، 651 "ج3" 23، 40، 41 الحارثي "ج5" 352 "ج9" 75، 441 حازم بن أبي طرفة "ج5" 153 حازي جهينة "ج8" 740، 793حاشد "ج4" 447 حاطب بن أبي بلتعة "ج6" 432 "ج8" 119، 304 حاطب بن عمرو "ج8" 119 حاطب بن قيس "ج5" 646 حاظة بن حمير "ج4" 595 الحاف "ج4" 420 الحافظ بن حجر "ج4" حا 421، حا 426 "ج8" 96 الحافظ بن عات "ج4" حا 144 الحافظ بن فهد الهاشمي "ج4" حا 144 الحافظ الذهبي "ج4" حا 421 حافظ وهبة "ج1" حا 157، حا 159، 161، 162 حا 169، حا 174، 178، حا 180، حا 194، حا 215، حا 272، 273، حا 275، 276، 292، 293 "ج2" حا 28، حا 48 حام "ج1" 224، 459، 463 "ج6" 673 "ج9" 452 حبي "ج4" 15، 41، 57، 531 حباشة "ج4" 595 حبال بن نصر "ج3" 347 حبران "ج2" حا 353 حبشية بن عمرو "ج4" 531 حبشية بن كعب "ج4" 531 الحبطات "ج9" 146 حبن أمرو "ج1" 595 الحبوبي "ج9" 259 حبيب "ج9" 230 حبيب بن بكر "ج4" 489 حبيب بن زيد "ج6" 91 حبيب بن سعد "ج4" حا 454، 463

حبيب بن عمرو "ج7" 430 حبيب بن عيينة "ج4" 254 حبيب بن كعب "ج4" 522 حبيب بن مالك "ج1" 368، 405، 408 "ج4" 153 حبيبة بنت بحالة "ج4" 480 حبيش بن دلف "ج3" 275، 276 "ج4" 523 "ج5" 351، 379، 640 حتى "ج1" حا 208، حا 235، 236، 240، 579، الحث "ج1" 408 الحجاج بن عامر "ج4" 15 حجاج بن علاط السلمي "ج6" 720 "ج7" 298، 340، 421، 522 الحجاج بن عمرو "ج6" 546 الحجاج بن قيس "ج3" 220 الحجاج بن يوسف الثقفي "ج1" 156، 338 "ج4" 151، 517، 537 "ج6" 147 "ج8" 299، 301 "ج9" 23، 25، 54، 233، 281، 283، 286، 287، 383، 756، 757، 796، 795 حجار بن أبجر "ج6" حا 677 الحجبية "ج4" 505 حجر بن أم قطام "ج3" 235، 249 "ج5" 416 حجر بن الحارث "ج3" 235، 349، 352، 356، 359، 360، 362، 364، 366، 368، 373، 403 "ج8" 333 حجر بن ربيعة "ج1" 368، 526 "ج2" 107 حجر بن زرعة "ج9" 572 حجر بن شرحبيل "ج3" 512 حجر بن عمرو "ج3" 224، 320، 321، 329، 331، 345، 347، "ج4" 488، 534، 656 حجر بن معاوية "ج3" 392 "ج9" 471 حجر بن النعمان "ج3" 422، 432، 442، 444، 445، 447 حجر بن يزيد "ج5" 408 حجر أبو امرئ القيس "ج3" 328 "ج9" 443، 444، 475، 479، 528 حجر آكل المرار "ج3" 225، 321، 324، 326، 382، 394، 395 "ج4" 217، 343، 436، 500 حجل بن نضلة "ج4" 657، 681 "ج9" 204 حجور بنت أرهير "ج1" 449 حجواني "ج1" 450 حجي أيهر "ج2" 597 حجير بن عمير "ج1" 526 "ج6" 89، 95 حداد بن ظالم "ج4" 484 حدار "حدد" "ج1" 375، 434، 443 حدال "ج4" 478 حدالة بنت وعلان "ج1" 394 "ج4" 469 حدبان "ج4" 193 حدس "ج1" 373 حدل بن أتيف "ج4" 239 حديج بن جفنة "ج5" 408 حذار "ج5" 647 حذافة بن زهر "ج6" حا 464، 598

حذافة بن غانم "ج4" 24، حا 74 حذام بنت الريان "ج5" 498، 638 حذيفة بن أنس الهذلي "ج6" حا 385، 642 "ج8" 100 "ج9" 69، 430 حذيفة بن بدر "ج1" 388، 389 "ج3" 271 "ج4" 347، 513، 562، 591 "ج5" 189، 204، 360، 385، 392، 396، 407 حذيفة بن حصن "ج4" 201، 255 حذيفة بن عبد نعيم "ج8" 499 حذيفة بن الغزاري "ج4" 509 حذيفة بن اليمان "ج4" 185 "ج8" 132، 133، 596 الحر بن قيس "ج4" 255 حرا بنت سعد "ج4" 13، 457 حرام "ج3" 42 "ج4" 462، 531 حرام بن جابر "ج9" 638 حرام بن عبد عوف "ج4" 259 "ج8" 127 حرب بن أمية "ج1" 369، 371، 405، 408 "ج3" 276 "ج4" 79، 84، 85، 91، 101، 104 "ج5" 37، 250، 381، 383، 441، 505، 638، 650 "ج6" 484، 713، 726 "ج7" 407 "ج8" 117، 118، 128، 157، 158، 161، 164 "ج9" 619، 621، 717، 764 حرب بن ضرار "ج5" 397 حرب بن يشكر "ج4" 500 حرب ينهب "ج2" 478 حريم "جد الشويعر" "ج9" 461 الحربي بن بولان "ج4" 506 الحرث بن بهثة "ج6" 519 الحرث بن عبد الله "ج9" 849 الحرث بن عمرو "ج1" 526 "ج3" حا 188 "ج4" حا 433 حرثان بن الحارث "ج5" 646 حرثان بن السموال "ج5" 646 حرثان بن عمرو "ج5" 646 حرثان بن محرث "ج5" 646 الحرقة "حريقة" "ج3" 286، 287 حرقوس بن النعمان البهراني "ج4" 233 الحرماز بن عمرو "ج4" 529 حرملة بن الأشعر المري "ج5" 637 "ج8" 140 "ج9" 577 حري بن ضمرة "ج5" 397 حريث بن حسان الشيباني "ج4" 224 حريث بن زيد "ج4" 249 "ج9" 865 حريث بن عبد الملك "ج4" 234 حريث بن عمرو "ج1" 399، 406، 407 "ج4" 126 حريث بن محفض "ج9" 894، 895 الحريش بن كعب "ج4" 522 حريم "ج1" 371 "ج4" 457 حزان بن يربوع "ج1" 403 حزفر كبير خليل "ج8" 514 حزقيال "ج1" 439 حزم "ج1" 526 حزن "ج1" 526

"ج3" 404 "ج8" 112 حزو "ج1" 596 حسان "ج6" 619، 630 حسان بن تبع "ج1" 335، 337، 338 "ج2" 578، 579، 584 "ج3" 179، 185، 321، 322، 328، 329، 331 "ج4" 675 حسان بن ثابت "ج1" 15، 72، 81، 111، 314، 334، 359، 361، 384، 385، 395، 483، 487، 492 "ج2" 255 "ج3" 202، 278، 280، 390، 391، 399، 427، 429، 431، 438، 440، 442، 446 "ج4" 124، 139، 140، 310، 354، 391، 401، 434، 439، 558، 561، 580، 584، 594، 596، حا 598، 604، حا 665 "ج5" 7، 23، 61، 66، 120، 174، 309، 388، 518، 573 "ج6" 236، 496، 523، 584، 602، 711، 734، 493 "ج7" 70، 348، 382، 507، 550، 574، 580، 605 "ج8" 134، 136، 269، 293، 330، 332، 406، 660، 662، 664، 758، 788 "ج9" 75، 76، 88، 92، 112، 114، 115، 120، 121، 147، 148، 181، 182، 191، 199، 202، 238، 245، 246، 248، 253، 327، 361، 380، 413، 424، 430، 432، 433، 578، 587، 590، 594، 654، 675، 694، 695، 706، 707، 710، 711، 714، 719، 720، 725، 726، 728، 730، 732، 734، 748، 785، 490، 493، 794، 839، 841، 843، 845، 846، 856، 858، 871، 889 حسان بن حوط "ج4" 224، 234 حسان بن زهير "ج3" 198 حسان بن عبد كلال "ج2" 584 "ج4" 16، 17 حسان بن عمرو "ج5" 85، 408، حسان بن كبشة الكندي "ج5" 373 حسان بن مصاد "ج6" 257 حسان بن معاوية "ج5" 374 حسان بن المنذر "ج3" 226، 274 حسان بن همام "ج5" 373 حسان بن وبرة "ج3" 277 "ج4" 524 "ج5" 372 حسان ذو معاهر "ج2" 579 حسان يهأمن "ج2" 526، 529، 563، 570، 572، 575، 577، 578، 599 حسريت "ج1" 367، 368 حسكة بن عتاب "ج9" 68 حسل "ج1" 401، 406 "ج4" 26 حسمي "ج7" 460 الحسن بن عبد الله الأصفهاني "ج7"

334، حا 513 الحسن بن علي بن أبي طالب "ج1" 224، 578 "ج6" 452، 485 "ج9" 5، 8، 262، 547، 888 الحسن بن هانئ "ج9" 230 الحسن بن وهب "ج6" 164 الحسن بن يحيى "ج1" 334، 462 حسن باشا "ج1" 117 حسن البصري "ج9" 66، 343 حسيل بن عمرو الكلابي "ج1" 406 "ج5" 354 الحسين بن علي بن أبي طالب "ج4" 89، 401، 522 "ج5" 269 حسين بن فيض الله الحرازي "ج9" حا 39 الحسين بن يحيى "ج9" 321 حسين نصار "ج1" حا 108، 276 حسينة "ج9" 67 حشنة بن أكارمة "ج4" 262 حشنة بن عكارمة "ج6" 525 حشيش بن نمران "ج5" 374 الحصري "ج4" حا 332 "ج5" حا 421 "ج8" حا 378 حصن بن أبي الحقيق "ج6" 526 حصن بن حذيفة "ج3" 424 "ج4" 349، 639 "ج5" 372، 377 "ج9" 146، 430 حصن بن ضرار الضبي "ج5" 379 حصن بن عصام الباهلي "ج7" 514 حصن أبو عيينة "ج4" 347 حصيصة الشيباني "ج5" 369 الحصين بن أبي الحر "ج9" 16 حصين بن الحمام "ج9" 243، 498، 504، 665 الحصين بن الحمام المري "ج5" 423، 432 "ج6" حا 684 حصين بن ذا ييم "ج2" 143 الحصين بن زهير "ج5" 358 الحصين بن ضمضم "ج5" 388 حصين بن عمرو "ج8" 367 حصين بن مشمت "ج8" 574 الحصين بن نضلة "ج4" 222 "ج6" 769 الحصين بن نمير "ج8" 130، 132 الحصين بن يزيد الحارثي "ج5" 353 الحصين العمري "ج9" 612 حضر همو بن خال أمر "ج2" 297 حضر همو بن خال كرب "ج2" 297 حضر همو ذي مفعل "ج2" 295 حضرموت "ج1" 93، 295، 358، 359، 424 "ج4" 537 حضرمي بن عامر "ج4" 222 "ج9" 898، 899 حضور بن عدي "ج1" 349، 351 "ج6" 405 حضير بن سماك "ج4" 139 حضير الكتائب "ج4" 137، 140 "ج8" 116 حطائط "ج9" 474، 475 حطان بن عوف "ج9" 497 الحطم بن ضبيعة "ج4" 210 حطم بن عمرو "ج5" 431 الحط بن محارب "ج4" 484 حطمة بن محارب "ج1" 407 "ج5" 431 حطي "ج8" 164، 166 الحطيئة "ج4" 332، حا 479،

535 "ج5" 431 "ج6" 468، 686، 781 "ج8" 544، 644، 766، 786 "ج9" 12، 43، 66، 69، 70، 76، 83، 99، 107، 113، 149، 150، 195، 198، 234، 245، 246، 262، 267، 270، 272، 313، 327، 333، 336، 338، 346، 355، 362، 381، 424، 434، 465، 544، 578، 603، 604، 636، 731، 801، 804، 845، 853، 860، 862، 881، 883، 884، 887 حطيط "ج1" 406 الحطيم بن ضبيعة "ج4" 502 "ج5" 517 حفص بن أبي بردة "ج9" 21 حفصة "ج8" 138 "ج9" 257 حفن ذرح "ج2" 86، 101، 124، 128 حفن ريام "ج2" 96، 97، 102، 104، 125، 126، 128 حفن صدق "حفنم" "ج2" 95، 104، 124، 126، 127 حفن عثت "ج2" 126 حفن يثع حفنم "ج2" 98، 100، 104، 125، 126، 128 حفني "ج1" 369 حفني بك ناصف "ج8" حا 137، حا 166، حا 182 حقة بنت وهب "ج6" 500 الحكم بن أبي أحيحة "ج8" 119 حكم بن أبي العاص "ج4" 106، 126، 157 "ج5" 38 "ج7" 442 حكم بن سعد العشيرة "ج1" 371، 500 "ج4" 457 الحكم بن الطفيل "ج4" 675 "ج5" 362، 466 "ج9" 635، 636 الحكم بن عبد غوث "ج6" 422 الحكم بن عبدل "ج1" 494 "ج9" 399 الحكم بن عمرو "ج4" 150 الحكم بن المنذر "ج6" 622 حكيم بن أمية "ج4" 518 حكيم بن حزام "ج4" 47، 48، 105، 584 "ج5" 38، 83 "ج6" 343، 369، 407 "ج7" 453 "ج9" 863 حلالة "ج5" 135 حلاوة "خلاوة" "ج4" 510 الحلبي "ج9" حا 36 حلحة بن عمرو "ج4" 15 حلحلك "ج2" 548 حلف "خلف" "ج4" 444 حلوان بن عمران "ج1" 366 "ج3" 103، 104 "ج4" 421، 423 الحليج بن سعد "ج9" 880 الحليس بن زبان "ج4" 34، 483 "ج5" 367 الحليس بن علقمة "ج4" 33، 35 الحليس بن يزيد "ج4" 33 حليس الخطاط الأسدي "ج6" 773 الحليمي الكناني "ج4" 84 الحليل بن أحمد "ج8" 950 حليل بن حبشية الخراعي "ج4" 41، 43، 440، 441

حليل بن عمرو "ج4" 531 حليل أبو غبتشان "ج4" 531 حليمة بنت الحارث "ج3" 231، 232، 234، 235، 401 "ج4" 347 حليمة بنت فضالة "ج9" 466 حليمة السعدية "ج6" 482 حم عثت "ج2" 89 حماد بن الزبرقان "ج9" 314، 318 حماد الراوية "ج1" حا 68، 70، 71، 76، 77 "ج3" 270، 289 "ج4" 149 "ج9" 21، 183، 220، 221، 223، 235، 253، 256، 262، 284، 285، 287، 290، 293، 294، 296، 299، 303، 306، 316، 318، 319، 321، 324، 327، 342، 344، 347، 359، 362، 373، 397، 398، 400، 506، 511، 513، 516، 519، 533، 566، 585، 640، 641، 848، 865 حماد عجرد "ج9" 314، 318 حمار بن مالك "ج6" 821 حمار بن مويلع "ج1" 309، 310 "ج4" 656 "ج6" 820، 821 حمار بن نصر "ج1" 374، 526 الحماس "ج1" 371، 372 "ج9" 441 حمامة "ج4" 657 حمد الجاسر "ج1" حا 90، 371 "ج7" حا 513 "ج8" حا 305، حا 211 حمدان بن عبد عمرو "ج5" 370 حمدة "ج7" 141 حمر "ج2" 434 الحمراء بنت ضمرة بن جابر "ج3" 251 "ج8" حا 367 حمران بن أبان "ج8" 296 حمران بن جابر "ج4" 217 حمرة ذو المشعار بن أيفع "ج4" 186 حمرم "ج2" 205 حمزة "عم النبي" "ج5" 426، 587 "ج6" 96 حمزة الأصفهاني "ج1" حا 18، 32، 63، حا 78، 81، 363، حا 622 "ج2" 421، حا 533، 535، حا 539 حا 569، 583، حا 593، 594، 633، حا 644، 646، 647، حا 656 "ج3" حا 103، حا 105، حا 158، 163، 164، حا 166، حا 169، حا 171، 177، 178، حا 181، حا 183، 184، حا 186، 188، حا 194، 199، حا 201، 203، حا 206، حا 209، حا 215، 218، حا 229، حا 231، حا 239، حا 241، حا 250، حا 256، 257، حا 260، حا 269، حا 272، حا 283، 286، حا 291، 292، حا 294، حا 299، 300، حا 304، 305، حا 315، 319، 322، حا 327، 339، 334، 335، حا 338 حا 340، 342، حا 344، حا 348، حا 357، حا

387، 395، 399، 400، 402، 404، 416، 418، 423، 425، 426، 431، 432، 439، 446، 448، 504، حا 511، حا 516، حا 525 "ج4" حا 11، 30، 34، 91، 560 "ج5" 23، حا 201، 240، حمزة بن حبيب "ج9" 30 حمزة بن عبد المطلب "ج7" 356 "ج8" 664، 760 "ج9" 115، 116، 710 حمزة بن مالك "ج4" 187 حمزة بن النعمان "ج4" 247 "ج7" 148 حمصيصة بن شراحيل "ج9" 474 حمعثت أرسف "ج2" 374 حمعثت أزاد "ج2" 464، 465 حمل بن سعدانة "ج4" 239، 250 حمل بن قيذار "ج1" 440 حمل بن مرداس النخعي "ج4" 307، 512 حملة "ج1" 399 "ج4" 533 حممة بن رافع الدوسي "ج5" 643 "ج8" 350 حمنة بنت جحش "ج9" 742 حمورابي "ج4" 553 حميد "ج3" 42 حميد بن ثور "ج6" حا 177 "ج8" 256، حا 479 "ج9" 846، 866، 889 حميد بن زبير "ج4" 51 حميد بن زهير "ج4" 51، 52 حميد بن عبد الرحمن "ج8" 480 حميد الأرقط "ج9" 175، 854 حمير بن سبأ بن يشجب "ج1" 359، 364، 365 "ج2" 512، "ج4" 324، 415، 417، 432 "ج8" 157 حميس بن أد "ج3" 519 "ج4" 523 حميس السكسك بن أشرس "ج1" 402 "ج3" 382 "ج4" حا 464 حميضة بن النعمان "ج4" 185 الحميم بن عوف "ج3" 200 حن بن حرام "ج3" 424 حنى بنت روق "ج1" 358 حنا نيشوع "ج6" 597 حناطة الحميري "ج3" 515 حنان "ج6" 614 حنة بلنت "ج1" 130 حنة القبطية "ج6" 686 حنش "حنشم" "ج3" 484، 487 "ج5" 150 حنظلة بن أبي سفيان "ج5" 38 "ج8" 118 حنظلة بن أبي عفراء "ج3" 291 "ج6" 598 حنظلة بن بشر "ج5" 367 حنظلة بن ثعلبة بن سيار "ج3" 295، 297 "ج6" 596 حنظلة بن الحارث "ج5" 375 حنظلة بن دارم "ج4" 206 حنظلة بن ربيعة "ج4" 529 "ج8" 126، 131، 309 حنظلة بن زيد بن مناة "ج5" 653 "ج6" 223 "ج7" 370 حنظلة بن سيار العجلي "ج3" 298

"ج5" 370 حنظلة بن صفوان "ج1" 42 "ج6" 84، 459، 462 "ج8" 365 حنظلة بن عبد المسيح "ج6" 598، 687 حنظلة بن مالك "ج1" 403 "ج2" 336، 348، 352، 353، 362 "ج4" 334، 337، 488 "ج5" 374 حنظلة بن نهد القضاعي "ج5" 505، 638 حنظلة الأسيدي "ج8" 12، 121 حنظلة الراهب بن أبي عامر "ج4" 671 حنظلة الطائي "ج3" 236 "ج4" 404 حنظلة القباب "ج3" 298 حنوك "ج1" 446، 458 حني بن جابر التغلبي "ج5" 302 حنيف "ج3" 484، 487 "ج9" 756، 899 حنيفة بن لجيم "ج1" 408 "ج9" 670 حنين بن إسحاق "ج9" 48 حنين بن حنين بن إياس "ج2" 69 حنين بن العاتق "ج3" 149 "ج5" 57 "ج6" 686 حنيناء "ج6" 686 حواء "ج4" 369 "ج6" 732 "ج9" 727 الحواري بن النعمان "ج3" 397 الحواري يحيى "ج6" 574 حوباب بن رعوئيل "ج1" 453 حوتكة "ج1" 367 الحوثرة بن قيس "ج4" 632 "ج5" 375 حوشب "ج3" 42 "ج4" 193 حوط "ج3" 376 "ج6" 580 "ج9" 778 الحوفزان بن شريك "ج4" 592، 661 "ج5" 39، 366، 370، 386، 397، 407 حوية "ج4" 535 الحويدرة الذبياني "ج9" 877 الحويرث بن أسد "ج9" 411 حويط "ج3" 50 حويطب بن عبد العزى "ج4" 224 "ج5" 650 "ج6" 604 "ج7" 443 "ج8" 120، 331، 332 "ج9" 277، 863 حويلة "ج1" 424، 459، 460 حي "ج1" 368 "ج2" 100، 152، 167، الحياء بن سعد "ج4" 30، حيادة "ج1" 359، 392 حيار "ج4" 243 حيان بن بشير "ج9" 273 حيان بن عتبة "ج4" 219 الحيان بن الفوت "ج4" حا 443 حية الطائي "ج1" 653 "ج4" 228 حيدان بن عمرو "ج1" 359، 367، 392 "ج2" 400 "ج4" 420، 422 حيدة "ج1" 392 حيرى بن أكال "ج4" 225 "ج5" 294 حيرام "ج1" 637، 638، 640

الحيقار بن الحيق "ج1" 548 "ج3" 167 الحيقطان "ج4" 312 "ج5" 302 "ج9" 383، 384 حيم بن بعثر رحضن "ج2" 276 حيم بن عم يدع "ج2" 276 حيم بن غثر بن "ج2" 370 حيو عثتر يضع "ج2" 382، 384، 386، 387، 389، 455، 493، 495 حيوم بن هوف "ج2" 99 حيوم يشعر حيو يشعر "ج2" 365 حيي بن أخطب "ج4" 253 "ج6" 523، 535، 546، 564، 757 "ج9" 783، 790 حيي بن مالك "ج9" 481

الخاء

الخاء: خابر "ج1" 358 خابص "ج1" 605 خارجة بن حصن "ج4" 254، 255 خارجه بن سعد "ج1" 370، 373 "ج4" 451 خارجة بن سود "ج8" حا 378 خارجة بن ضرار المري "ج7" 70 الخارجي "ج1" 315 الخازن "ج6" حا 231، 232، حا 452 خاطر "ج1" 579 خالد بن أرطأة الكلبي "ج4" 591 "ج5" 498 "ج8" 329 خالد بن أسيد "ج4" 267 خالد بن جبلة "ج3" 223، 405، 427، 441 خالد بن جعفر بن كلاب "ج3" 210، 212، 214، 279، 281، 359، 365 "ج4" 102، 138، 252، 346، 403، 509، 521، 637 "ج5" 358، 359، 388، 390، 396، 407 "ج6" 443 "ج8" 776، 779 خالد بن حبيش "ج9" 728 خالد بن زيد "ج4" 580 "ج6" 683 خالد بن سعيد "ج4" 154، 182، 188، 191، 192، 222، 264، 268، 269 "ج8" 120، 122، 126، 127، 131 خالد بن سلمة "ج8" 601 خالد بن سنان "ج1" 348 "ج4" 253 "ج6" 462، 463، 546، 698

خالد بن صخر "ج4" 518 خالد بن صفوان "ج7" 275 "ج9" 679، 854، 885 خالد بن ضماد الأزدي "ج4" 184 "ج8" 133 خالد بن عبد الله القسري "ج4" 446 "ج6" 766 "ج9" حا 20 خالد بن علقمة بن عبدة "ج9" 471 خالد بن عمرو "ج9" 103 خالد بن قيس "ج4" 137، 437 خالد بن كلاب "ج6" حا 763 خالد بن كلثوم "ج9" 321، 349، 351، 352 خالد بن مالك "ج4" 591 "ج5" 374، 647 خالد بن مذجح "ج1" 373 خالد بن نضلة "ج3" 236، 283 "ج4" 562، 675 "ج9" 479 خالد بن هوذة "ج4" 268 خالد بن الوليد "ج1" 388، 507، 508 "ج2" 648، 651 "ج3" 79، 183، 275، 300، 301، 312، 395، 536 "ج4" 34، 35، 188، 206، 223، 224، 230، 231، 233، 236، 239، 242، 256، 259، 325، 437، 481، 508، 659، "ج 5" 51، حا 208، 250، 288، 294، 297، حا 310، 339، 340، 438، 439، 446، 585 "ج6" 83، 84، 92، 98، 100، 240، 242، 245، 257، 409، 445، 596، 600، 617، 686، 703 "ج7" 295، 339، 432، 457، حا 597 "ج8" 34، 110، 119، 121، 295، 297، 305، 539، 645، 646، 684، 788 "ج9" 155، 670، 683، 714، 865، 867، 886، 887، 905 خالد الأصبغ "ج4" 521 خالدة بنت هاشم "ج4" 481 "ج9" 410، 412 الخالديان "ج5" حا 86 خالص بن شهم "ج6" 325 خباب بن الأرت "ج5" 424 "ج7" 555 "ج8" 393، 765 خباب بن غزي "ج6" حا 153 خبيب بن عدي "ج5" 585 خبية بنت عك "ج1" حا 395 "ج4" 469 خبيصو "ج1" 595، 605 خترنو "ج1" 579 الختف "ج5" 376 خثعم بن أنمار "ج1" 364، 374، 406، 516 "ج4" 443، 444، 470 "ج5" 320 "ج6" 446 الخثعمي "ج9" 221 خداش بن بشر "ج9" 104 خداش بن زهير "ج4" 107، 108 "ج6" 112، 114، حا 273 "ج7" 579، 580 "ج9" 159، 236، 434، 503، 826 خداش بن عبد الله "ج5" 524،

525، 602، 603، 649، 650 خديجة بنت خويلد "ج4" 50، 52، 645 "ج5" 146، 573 "ج6" 501، 722 "ج7" 192، 379، 453، 461 "ج8" 310، 651 خذ خسرو بن السيحان "ج3" 527 خذق "ج9" 692 خراش بن إسماعيل العجلي "ج1" 472 "ج4" حا 464 خرافة "ج6" 822 خرج "ج2" 249 "ج6" 314، 319، 331 خرخرة بن البينجان "ج3" 527 خر خسرة بن المروزان "ج9" 67، خرز بن لوذان "ج9" 833، 834 خرف "ج9" 448 خرقاء بنت النعمان "ج3" 287 خرقاء مكة "ج5" 45 الخرنق بنت هفان "ج4" 620 "ج5" 85 خريم بن فاتك "ج9" 387، 388 خزا ايلي "ج1" 590، 593 خزاعة "ج3" 389 "ج9" 492 خزاعة بن حارثة "ج4" حا 438، 439 خزاعة بن قمعة "ج4" 530 خزاعة بن لحي "ج1" 398، 399 "ج4" 440 خزاعي بن عبد نهم "ج4" 263 "ج6" 277 خزاعي بن مازن "ج9" 296، 895 خزاعيل "ج1" 439 الخزرج بن حارثة "ج4" 136 الخزرج تيم الله "ج1" 407 خزز "ج1" 526 "ج9" 461 خزيمة "ج5" 529 خزيمة بن طارق التغلبي "ج5" 366 خزيمة بن لؤي "ج1" 399، 401 "ج4" 29 خزيمة بن مدركة "ج4" حا 433، 443، 462، 477، 478 "ج6" 251 الخس بن حابس "ج5" 639 "ج8" 790 خسرو أنو شروان "ج6" 599 خسرو الأول "ج3" 134 "ج6" 597 خشخشة "ج6" 85 خشرم بن الحباب "ج4" 138 "ج5" 291 الخشند "ج1" 366 خصفة بن قيس عيلان "ج1" 403، 405 "ج4" 252، 507، 515، 516 خصيلة بن مرة "ج4" 380 خصيلة بنت عامر "ج5" 498، 638 الخضر "ج1" 405 الخضراء الأشهلي "ج1" 483 خضرة "ج7" 460 الخطاب بن نفيل "ج4" 119 "ج6" 470 الخطابي "ج8" 658 خطر "كاهن" "ج8" 744 خطر بن مالك "ج6" 768 "ج9" 141 خطي "ج1" 580 خطيب بن أسعد "ج2" 570 "ج8" حا 265 الخطيب البغدادي "ج8" حا 325 92 الخطيم "ج2" 42 خفاجة بن عمرو "ج1" 406 "ج4" 522 الخفاجي "ج8" حا 262، حا 716، 717 خفاف بن عمير الشريدي "ج9" 560، 620 خفاف بن ندبة السلمي "ج1" 317 "ج4" 258، 311 "ج5" 387 "ج9" 104، 106، 651، 846، 877 خفاف بن نضلة "ج9" 904 الخفلجان بن الوهم "ج8" 164 خل كرب صدق "ج2" 98، 100، 102، 125، 128، 195، 196 خلاد بن أسلم "ج8" 596 خلاد بن يزيد الباهلي "ج1" 69 "ج9" 358 الخلج "ج1" 400 الخلجان "ج1" 319 خلدو "خلد" "ج7" 494 خلف بن عبد الملك "ج6" حا 217 خلف بن وهب "ج9" 411 خلف الأحمر "ج1" 68 "ج3" 42 "ج8" 590 "ج9" 165، 166، 194، 220، 222، 223، 225، 234، 240، 262، 271، 287، 288، 294، 296، 306، 312، 321، 326، 340، 358، 359، 361، 391، 397، 399، 402، 403، 515، 640، 806، 862 الخلود بن معيد بن عاد "ج1" 310 خليدة "ج5" 118 خليف بن عبد العزى النهدي "ج5" 354 خليفة بن أحمد آل نبهان "ج4" حا 213 خليفة بن خياط "ج6" حا 98 "ج8" حا 752، 788 "ج9" حا 670، 793 خليفة بن رشوان "ج1" 369 خليل، إيل بن شبيب "ج3" 150 "ج4" 333 "ج6" 16 الخليل بن أحمد الفراهيدي "ج8" 186، 190، 193، 410، 690، 737 "ج9" 33، 44، 48، 53، 56، 58، 73، 101، 139، 140، 172، 184، 185، 193، 202، 206، 207، 210، 211، 240، 249، 272، 322، 357، 418، 713 خليل ثكمتان "ج2" 491 خليل مردم بك "ج9" حا 311 خليل يحيى نامي "ج1" حا 23، حا 329، حا 513 "ج2" حا 98، 331، 366، 370، حا 491 "ج4" حا 550 "ج5 حا 192، 462 "ج8" حا 156، 169، حا 174، 175، حا 413، 414 خمران "ج8" 110 الخمس التغلبي "ج3" 211، 212، 214 "ج6" 765 خمير "ج3" 505، 506 خميس "ج2" 546

الخطيم "ج2" 42 خفاجة بن عمرو "ج1" 406 "ج4" 522 الخفاجي "ج8" حا 262، حا 716، 717 خفاف بن عمير الشريدي "ج9" 560، 620 خفاف بن ندبة السلمي "ج1" 317 "ج4" 258، 311 "ج5" 387 "ج9" 104، 106، 651، 846، 877 خفاف بن نضلة "ج9" 904 الخفلجان بن الوهم "ج8" 164 خل كرب صدق "ج2" 98، 100، 102، 125، 128، 195، 196 خلاد بن أسلم "ج8" 596 خلاد بن يزيد الباهلي "ج1" 69 "ج9" 358 الخلج "ج1" 400 الخلجان "ج1" 319 خلدو "خلد" "ج7" 494 خلف بن عبد الملك "ج6" حا 217 خلف بن وهب "ج9" 411 خلف الأحمر "ج1" 68 "ج3" 42 "ج8" 590 "ج9" 165، 166، 194، 220، 222، 223، 225، 234، 240، 262، 271، 287، 288، 294، 296، 306، 312، 321، 326، 340، 358، 359، 361، 391، 397، 399، 402، 403، 515، 640، 806، 862 الخلود بن معيد بن عاد "ج1" 310 خليدة "ج5" 118 خليف بن عبد العزى النهدي "ج5" 354 خليفة بن أحمد آل نبهان "ج4" حا 213 خليفة بن خياط "ج6" حا 98 "ج8" حا 752، 788 "ج9" حا 670، 793 خليفة بن رشوان "ج1" 369 خليل، إيل بن شبيب "ج3" 150 "ج4" 333 "ج6" 16 الخليل بن أحمد الفراهيدي "ج8" 186، 190، 193، 410، 690، 737 "ج9" 33، 44، 48، 53، 56، 58، 73، 101، 139، 140، 172، 184، 185، 193، 202، 206، 207، 210، 211، 240، 249، 272، 322، 357، 418، 713 خليل ثكمتان "ج2" 491 خليل مردم بك "ج9" حا 311 خليل يحيى نامي "ج1" حا 23، حا 329، حا 513 "ج2" حا 98، 331، 366، 370، حا 491 "ج4" حا 550 "ج5 حا 192، 462 "ج8" حا 156، 169، حا 174، 175، حا 413، 414 خمران "ج8" 110 الخمس التغلبي "ج3" 211، 212، 214 "ج6" 765 خمير "ج3" 505، 506 خميس "ج2" 546

خنافر ين التوام الحميري "ج6" 765، 769 "ج8" 743، 744 خندف بن هنب "ج1" 397، 398 407 "ج3" 519 "ج4" حا 477 الخنساء "ج4" 255، 620، 621 "ج5" 363 "ج7" 38 "ج8" 660، 661 "ج9" 88، 89، 105، 150، 181، 283، 371، 499، 521، 594، 863، 875، 877 خنساء ابنة عمرو "ج9" 103 الخنساء بنت أبي سلمى "ج9" 542، 545 خوات بن جبير الأنصاري "ج4" 632 "ج7" 149 خوات بن كعب "ج5" 466 الخوارزمي "ج3" حا 178، 313 "ج4" حا 317، حا 319 "ج7" 587 "ج9" 56، حا 192 خورشيد أحمد فاروق "ج7" حا 485 "ج8" حا 302، حا 325 "ج9" حا 7، 10، حا 42 الخولاء "ج4" 626 خولان بن أدد "ج2" 400 خولان بن عمرو "ج1" 358، 368، 373 "ج2" 400 خولة بنت ثعلبة بن مالك "ج5" 551 "ج9" 243 خولي "ج1" 369 خويلد بن أسد "ج1" 401 "ج3" 526 "ج4" 78، 84، 91، 99، 191، 222 "ج6" 477 خويلد بن عمرو "ج8" 778، 780 خويلد بن فضيل "ج7" 383 خويلد بن مطحل "ج9" 495 خويلد بن وائلة الهذلي "ج3" 516 الخيار بن زيد بن كهلان "ج4" 447 الخيار بن عدي "ج5" 606 خيار بن مالك "ج1" 93، 358، 373 "ج4" 433 خياط "ج3" حا 318، 482، حا 501، حا 508، حا 517، حا 519 "ج6" حا 484 خيبر بن فاتيه "ج6" 526 الخيتعور "ج9" 390 خيران "حيران" "ج1" 373 "ج2" حا 353 "ج3" 91، 99، 103، 127، "ج4" حا 433 خير حماد "ج2" حا 163 خيوان "ج4" 447

الدال

الدال: داؤو هاندش ميلر "ج1" 24، 137، 427 دؤادة "ج9" 797 دابغة "ج4" 534 دادايل "ج2" 458 داذويه الاضطخري "ج4" 192، 193 الدار بن هانئ "ج1" 373 "ج4" 244 دارم بن تميم "ج3" 213 "ج5" 359 دارم بن حنظلة "ج1" 403 "ج3" 348 "ج4" 488 دارم بن عقال "ج3" 375، 377 "ج9" 776، 777 داريوس "دارا" "ج1" 17، 18، 560، 622، 624، 626 "ج2" 11، 20 "ج3" 167 "ج7" 267 "ج8" 523 الدئل "ج4" 457، 502، 532 الدؤل "ج4" 532 دانيال "ج1" حا 18، 608، 609 "ج8" 325 دانيل دينيت "ج5" حا 289 داهكة بن ربيعة "ج1" 368 داوود "ج1" 201، 316، 462، 634، 644، 648 "ج2" 513 "ج3" 67، 189، 394، 395 "ج4" 12، 129، 315، 429 "ج5" 110، 431، 432 "ج6" 490، 517، 555، 556، 685، 686 "ج8" 278، 346 "ج9" 755، 797 داوود بن بلال "ج6" 684 داوود بن حمل الهمداني "ج6" 684 داوود بن سلمة الأنصاري "ج6" 684 داوود بن هبالة "ج9" 453، 794 داوود اللثق "ج5" 407 "ج6" 683 دايل بن رباح "ج2" 201 الدب "ج1" 366 دبية بن حرمي "ج6" 242، 245 دتلف نيلسن "ج1" 137، 232 "ج2" 175، 177 "ج6" 15، 298، 300، 302 311 دثار بن شيبان "ج9" 884 دجانة بن قنافة "ج4" 430 دحوة "ج1" 405

دحية بن خليفة "ج4" 248، 250 "ج7" 293، 309 دحية بن معاوية "ج1" 405 دختنوس "ج5" 544، 545 دخراني "ج1" 599 ددان بن يقشان "ج1" 335، 446، 457، 459، 461 دراك "ج1" 525 درماء "ج4" 244 درهم بن زيد الأوسي "ج1" 364، 365 "ج4" 383 "ج6" 236، 571 "ج8" 268 "ج9" 770، 787 دريد بن الصمة "ج4" 85، 255، 258، حا 402، 516، 519 "ج5" 363، 364، 382، 391 "ج6" 262، 703 "ج9" 106، 445، 498، 500، 869، 877، 908 دريم "ج4" 423 دعبل الخزاعي "ج1" 496، 499، 500 "ج9" 230، 232، 237، 892 الدعة "ج1" 446، 458 دعثور بن الحارث "ج4" 252، 253 دعمي بن أياد "ج4" 470 دعمي بن جديلة "ج1" 407 "ج4" 483 دغة بنت منعج "ج4" 626 "ج6" 820 دغفل بن حنظلة النسابة السدوسي "ج8" 332، 333، 782 "ج9" 460 دقلة "ج1" 424 دقيوس "ج3" 129 دكين بن رجاء "ج9" 420، 775، 776 دلسبس "ج7" 268 دلج "ج1" 597 دلجي "ج1" 556 دما "دومة" "ج1" 375، 434، 442 "ج8" 158 الدمشقي "ج6" حا 701 دمنوس "ج3" 462 الدمون بن عبد الملك "ج4" 144 دميانوس "دميون" "ج3" 462، 468 الدميري "ج1" حا 348 "ج4" حا 38، 330، حا 643، 681 "ج5" حا 260، حا 550 "ج6" حا 792، 794، حا 797، حا 814، حا 817 "ج7" 466 دهقان فرات سريا "ج2" 650 دهماء "ج9" 873، 890 دهمان "ج1" 370 "ج4" 507 دهن بن معاوية "ج1" 407 "ج4" 446 "ج5" 289، 290 دهن بن وديعة "ج4" 483 دوتي "ج1" 169، 326 دودان "ج1" 399 "ج4" 533، 534، 557 دوزي "ج1" 266، 474 "ج4" 12 "ج6" 526 دوس بن عدنان "ج1" 373، 374

"ج4" 438 "ج9" 746، 747 دوس بن عدوان "ج4" 507 دوس ذو ثعلبان "ج3" 457 دوس العتق "ج1" 349 دوستل "ج2" 523 دوسو "ج3" 144 "ج8" 176 الدول بن بكر "ج1" 408 "ج4" 637 دوميان "ج6" 592، 633 دوميطيوس كوربولو "ج3" 86 دويد بن زيد "ج4" 658 "ج8" 776 دويد بن نهد القضاعي "ج9" 440، 444، 446 دويك "ج6" 428 دي غويه "ج1" 232، حا 454 "ج3" حا 69، حا 158 الديار بكري "ج5" حا 83، 381 "ج6" حا 249، حا 369، حا 486 ديبون "ج3" 67 الديث "ج4" حا 468، 504 ديرون الحميري "ج7" 517 الديري "ج1" حا 526 الديريني "ج8" حا 616 الديش "ج4" 31، 84 الديش بن مليح "ج4" حا 477 الديش بن الهون "ج1" 399 "ج4" حا 477، 533 ديفا فاوسطينا "ج3" 63 ديقيوس "ج3" 398، 400 الديل "ج1" 407 "ج4" 484، 485 ديلتج "ج9" 791 ديلج "ج1" 605 الديلم "ج4" 523 "ج9" 307 ديلمن "ج1" 423 ديم "ج4" 595 ديمتريوس الثاني "ج1" 651 ديمتريوس "ج3" 19، 20، 27 "ج7" 493 الدين "ج1" 93، 367 دينار بن هلال "ج9" 495 الدينوري "ج3" حا 206، 209، 223، 292، حا 331 "ج4" 383، حا 619، 637، حا 639 "ج5" حا 140، 141، 273، 388، 392، حا 401، 402، 408، حا 436، حا 438، حا 468، 650، 651 "ج6" حا 819، 820 "ج7" 12 "ج8" 193، 197، حا 435، ديودورس الصقلي "ج1" 58، 165، 166، 262، 325 "ج2" 23، 73، 80 "ج3" 14، 16، 20 "ج4" 10، 12 "ج5" 470 "ج6" 627 ديوسقوريدس "ج1" 27 "ج7" 583 ديوقلطيانوس "ديو قليطيان" "ج3" 63، 71، 127، 135 ديو كاسيوس "ج2" 41، 53، 57 ديوميدس الرومي "ج3" 343 ديونيسيوس "ج2" 6 "ج3" 464 "ج6" 327، 416

الذال

الذال: ذا هوزن "ج1" 92، 358 ذئب "ج1" 366، 455، 525 "ج6" 766 ذادويه "ج4" 557 ذؤيب بن كعب "ج5" 653 "ج9" 407، 439، 445، 462 ذباب "ج6" 287 ذبحان ذبحان ذو حمرو "ج2" 197 ذين اسبعين "ج2" 468 ذبيان بن بغيض "ج4" 510، 511 ذبيان بن سبيع "ج4" 510 ذبيان بن غطفان "ج1" 404 "ج4" 480 ذبيان بن كنانة "ج4" 500 ذ حرجهو "ج2" 537 ذر "ج4" 244 ذرأ أمر أيمن "ج2" 525، 526، 528، 529، 552، 553، 558، 559، 562، 563، 566، 568، 577، 599 "ج3" 318 ذرا كرب "ج2" 181، 185، 235، 240 ذران "ذرءان" "ج8" 514 ذرب بن حوط "ج5" 480، 645 ذرح أل "ذر حال" "ج2" 408 "ج6" 286، 318، 331 ذرحان "ج2" 149، 215، 467، 470 ذريح "ج9" 460 الذفراء بنت هانئ "ج4" 37 ذكران "ج4" 256 ذكوان بن رفاعة بن الحارث "ج1" 405 "ج4" حا 518 ذمر على بين "ج2" 307، 308، 323، 348، 350، 351، 356، 464، 473، 474، 486، 487، 495، 496 "ج7" 491 ذمر على ذرح "ج2" 313، 326، 327، 334، 343، 349، 351، 357، 475، 478، 482، 484، 487، 495، 496 "ج7" 210 ذمر على ذي ريدان "ج2" 520 ذمر على وتر "ج2" 183، 196، 234، 239، 280، 281، 286، 311، 313، 494، ذمر على ينف "ج2" 285، 286، 314، 322 ذمر على يهبار "ج2" 147، 472، 474، 484، 487، 496، 497، 521، 522، 525، 528، 563، 564، 566، 599 ذمر كرب بن أبكرب "ج2" 302 ذمر ملك بن شهر "ج2" 197 الذهبي "ج3" حا 426، حا 429

"ج4" حا 40، حا 656 "ج6" حا 471، حا 473 حا 501، 503 "ج8" حا 328، حا 736 "ج6" حا 297 ذهل بن ثعلبة "ج1" 402، 408، 409 "ج3" 211، 400 "ج4" 335، 496، 502، 503 "ج5" 365 "ج9" 853 ذهل بن الدئل "ج4" 505 ذهل بن شيبان "ج4" 495، حا 520 "ج5" 370 ذهل بن عجل "ج4" 484 ذهل بن ليث "ج4" 484 ذو الأذعار بن أبرهة "ج1" 547 ذو اسفعين "ج2" 248 ذو الأصبع العدواني "ج4" 508، 658 "ج5" 638، 646 "ج8" 351، 778 "ج9" 284، 483، 484 ذو بتع الأكبر "ج2" 363 ذو التاج "ج5" 365 ذو ثات "ج1" 490 "ج3" 488 ذو الثنية "ج5" 353 ذو جدن "ج3" 505، 22 "ج6" 656 "ج9" 378 ذو حجر "ج2" 360 ذو خليل "ج3" 484، 487 ذو الحمار عبهلة بن كعب "ج4" 191 ذو ذبيان "ج3" 488 ذو ذرنج "ج3" 488 ذو رعين "ج3" 488 دو الرمة "ج1" 580، 597 "ج6" 586، 760 "ج7" 528 "ج9" 72، 233، 236، 265، 401، 407، 486، 533 ذو سحر "ج3" 484، 487 ذو سهرتن "ج3" 452 ذو شعبان "ج3" 488 ذو شولمان ذو الشولم "ج3" 488 ذو ظليم "ج4" 192 ذو عمرو "ج3" 511 ذو الغصة الحارثي "ج5" 408 ذو فرنة "ج3" 488 ذو فيش "ج3" 488 ذو قيفان بن علس "ج2" 598 "ج6" 615 ذو الكف الأشل "ج9" 669 ذو الكفل "ج1" 448، 492 ذو الكلاع "ج1" 426 "ج3" 488 "ج4" 182، 183، 193 "ج6" 308، 374، 567، 663 "ج7" 141 ذو المجاز "ج9" 726 ذو المجاسد اليشكري "ج5" 652 ذة مران "ج4" 192 ذو معاهر "ج1" 338 "ج3" 489 ذو مهد "ج3" 488 ذو نفر "ج3" 513، 515 ذو نواس "ج1" 63، 75، 85 "ج2" 579، 589، 595 "ج3" 186، 220، 457، 460، 463، 466، 468، 472، 476، 477

480، 481، 487 "ج4" 312 "ج6" 263، 264، 610 "ج7" 282 ذو همدان "ج3" 488 ذو يزن "ج3" 477، 478، 487، 488، 523 "ج5" 425 ذواب بن أسماء "ج9" 500

الراء

الراء: رئاب بن البراء "ج4" 484 رئاب الشني "ج6" 462 الرائد بن تبع الأقرن "ج2" 570 "ج5" 294 رؤاس بن كلاب "ج4" 257 الرائش "ج1" 372 "ج9" 377 رائقة "ج5" 120 رئام بن نهفان بن تبع بن زيد بن عمرو بن همدان "ج1" 99، 120 "ج6" 446 رائم "ج1" 369 رؤبة "ج6" حا 792 "ج7" حا 327، 486 "ج8" 486، 544 "ج9" 12، 67، 83، 84، 101، 175، 177، 260، 262، 266، 267، 420، 531 رأبي يوحان "ج1" 54 راتجن "ج1" 132، 542 الراجز "ج4" 51 "ج5" 90 "ج6" 576، 733 "ج7" 9، 107، حا 403، حا 517 "ج9" 357 رازح بن خولان "ج1" 368 الرازي "ج5" 538 "ج6" 23، 452، 453 "ج8" 360، 490، 612 رأس الحجر "ج4" 240 راشد بن عبد ربه "ج4" 257، 259 "ج9" 387 راشد بن عبد السلمي "ج4" 259 "ج8" 127 راشدة "ج1" 373 الراعي "ج1" حا 398 الراغب الأصفهاني "ج1" حا 510 "ج4" حا 305 "ج5" حا 235، 340، 305 حا 399، حا 469، حا 478، حا 516، حا 519، حا 560، حا 571، حا 588، حا 619، 620، حا 622 "ج6" حا 24، حا 53، حا 61، حا 402، حا 451، حا 551، حا 553، 554، حا 583، حا 640، حا 643،

حا 652، 657، حا 786، حا 794 "ج7" حا 213، 549 "ج8"حا 36، 94، حا 589، حا791 "ج9" حا 121 رافع بن أبي رافع "ج6" 546 رافع بن حارثة "ج6" 546 رافع بن حريملة "ج6" 546 رافع بن خارجة "ج6" 546 رافع بن رميلة "ج6" 546 رافع بن عميرة الطائي "ج5" 438 "ج9" 388 رافع بن قيس "ج3" 276 "ج9" 619 رافع بن مالك "ج4" 138 "ج8" 114، 116، 160 الرافعي "مصطفى صادق" "ج1" حا 70، 71 "ج8" 96، حا 547، حا 551، 554، حا 563، 565، 569، 571، حا 573، 574، حا 577، 584، حا 591 حا 610، حا 629، حا 632، حا 635، حا 659، حا 662، حا 682، حا 689، 690، حا 696، حا 714، حا 725، 726، حا 730، حا 752، حا 757، 759 "ج9" حا "6، 11، 15، 17، 19، 24، 25، 28، 86، 90، 120، 122، 142، 164، 167، 215، 217، 220، 222، 254، 283، 306، 321، 324، 357، 375، 377، 385، 391، 392، 394، 396، 399، 422، 430، 440، 510، 513، 515، 516، 518، 530، 534، 535، 675، 695، 698، 699" رام ابزوذ يزدجرد "ج3" 207 رامسيس الثاني "ج1" 624 رأيت "ج3" 112 "ج9" 48 رئيه "ج8" 742، 744 رب آل بن عذم "ج2" 144، 250، 458 "ج3" 22، 27، 30، 41، 42، 47، 48 رب أوم بن شمس "ج2" 477 رب شمس "ج2" 147، 150، 153، 167، 170، 357، 409، 422، 439، 444، 445، 469، 487، 493، 496، 525، 553، 555 رب شهر "ج6" 334 الرباب بنت أياد المعدية "ج1" 402 "ج4" 476 رباح بن الأشل "ج3" 213 "ج4" 515، 521 رباح بن الحارث "ج4" 206 "ج7" 460 رباح بن ظالم "ج6" 241 رباح "رياح" بن عجلة "ج6" 765 رباح بن كحلة "ج6" 773 رباح بن مرة "ج1" 337، 526 رباح بن المغترف "ج5" 115 ربان "ج1" 366، 367 "ج4" 421، 423، 424 رباي عقيبة "ج6" 538 الربض "ج1" 372 الربعة بن رشدان "ج4" 261 ربعت ذا الثورم "ج3" 316 ربعي بن عامر "ج9" 69 ربلي "ج1" 235

ربليوس "ج3" 28 ربه بن برحنه "ج1" 653 ربولا "ج6" 627 ربيب أخطر "ج2" 375, 564 الربيع بن أبي الحقيق "ج4" 140 "ج6" 523, 570، 571, 581. "ج9" 719، 720, 769، 770, 782، 783. ربيع بن البلاد السعدي "ج9" 69 ربيع بن الحارث "ج5" 366، 367. ربيع بن حدان "ج5" 560. "ج6" 225. الربيع بن حوثرة "ج9" 537، 538. الربيع بن الربيع بن أبي الحقيق "ج6" 546. الربيع بن زياد العبسي "ج3" 283. "ج4" 510. "ج5" 37, 360. "ج8" 111, 114, 116, 141. "ج9" 86, 549, 636. الربيع بن ضبع الفزاري "ج3" 369. "ج4" 659. "ج6" 275. "ج8" 779. "ج9" 284, 903. ربيع الكامل "ج4" 574, 636. ربيعة أبا أكلب "ج4" 444. ربيعة بن أبي البراء "ج5" 398. ربيعة بن الأسود اليشكري "ج5" 75، 76. ربيعة بن أمية "ج6" 500. "ج9" 118, 764. ربيعة بن بحير التغلبي "ج2" 651. "ج4" 233. ربيعة بن جرول "ج4" 452, 455. ربيعة بن جرير السلمي "ج6" 244، 245. ربيعة بن الحارث "ج1" 364، 365, 393. "ج3" 361. "ج4" 494, 520. "ج5" 346. ربيعة بن حذار "ج3" 435. "ج5" 407, 637, 647. "ج6" 761, 769, 819. "ج8" 672, 674، 675, 740. ربيعة بن حرام "ج4" 41. ربيعة بن حنظلة "ج4" 340. ربيعة بن الخيار "ج4" 433. ربيعة بن ذهل "ج5" 369. ربيعة بن ذي مرحب الحضرمي "ج7" 119, 142, 463 "ج8" 129. ربيعة بن رياح "ج9" 541. ربيعة بن رفيع "ج4" 33, 206. ربيعة بن زمان "ج4" 428, 437، 438, 448. ربيعة بن سعد "ج1" 368, 371. "ج2" 399. "ج5" 113. "ج9" 659. ربيعة بن سفيان "ج9" 336. ربيعة بن عاصم "ج5" 557. ربيعة بن عامر "ج1" 405. "ج4" 307, 520, 522, 572, 591, 651, 675, "ج6" 363، 364. ربيعة بن عبد شمس "ج6" 479. ربيعة بن عبد ياليل "ج4" 150, 153. ربيعة بن عدي "ج4" 227. ربيعة بن عمر "ج7" 430. ربيعة بن كلاب "ج9" 481. ربيعة بن كعب "ج4" 340. "ج6" 268, 311.

ربيعة بني مازن "ج4" 226. ربيعة بن مالك "ج4" 340. "ج5" 374. ربيعة بن مخاشن "ج5" 158, 637, 642. "ج8" 350، 351, 368. ربيعة بن مرة "ج4" 493. "ج5" 347, 385, 417, 557. ربيعة بن مضر "ج4" حا 482, 487. ربيعة بن مقروم "ج4" حا 375, 633. "ج6" 607, حا 647. "ج9" 879, 899. ربيعة بن مكدم "ج4" 259, 532. "ج5" 174, 364، 365, 388, 391, 445. ربيعة بن نزار "ج1" 406, 408، 409, 498. "ج4" 469، 470, 482. "ج6" 357. ربيعة بن نصر "ج2" 576, 579. "ج3" 185، 186. "ج6" حا 765. ربيعة بن النمر "ج9" 874. ربيعة بن وائل "ج2" 561. ربيعة الأحوص "ج4" 521. "ج5" 348. ربيعة الجوع "ج1" 403. "ج4" 340. رثد ايل "ج2" 211. رثد ثون "ج2" 453. رثدم "ج2" 340, 385. رجال بن عنفوة "ج8" 755، 756. رحال بن عنفوة "ج2" 546. "ج4" 186, 217. "ج6" 88، 90, 96, 98. الرحال عروة بن عتبة "ج3" 276، 277. "ج9" 619. رخمان "ج9" 644. ردم يرحب "ج2" 409. ردمان "ج1" 372. "ج4" 457. ردينة "ج5" 425. رزاح بن ربيعة "ج3" 404. "ج4" 42, 247, 427, حا 431, 658. "ج5" 407. "ج8" 777. رزام بن ثعلبة "ج1" 372. "ج4" 512. رستم "ج1" 78. "ج2" 539. "ج4" 227. "ج8" 129, 320, 377, 385. رشدي الصالح ملحس "ج6" حا 439. رشو "ج2" 300، 301, 319، 320. رشوان بن خولان "ج1" 368، 369. رشوان الأضغر بن ربيعة "ج1" 368. الرشيد "ج2" 548. رشيد بن رميض العنزي "ج7" 171, "ج6" 152, حا 284, 421. رضوان محمد رضوان "ج9" حا 213. رضوى "ج7" 461. رعل "ج1" 405. رعلة بنت مضاض بن عمرو "ج1" 375, 434، 435. "ج4" 256. رعمة "ج1" 459، 461. "ج2" 509. رعن أمر "ج6" 319.

رعو "ج1" 449. رعوئيل "ج1" 453. رعوة بنت زمر بن يقطن بن لوذان بن جرهم بن يقطن بن عابر "ج1" 405, 447. رفائيل نخلة اليسوعي "ج8" حا 253, حا 276, 706. رفاد بن المنذر الضبي "ج5" 397. رفاعة بن زيد الجذامي "ج1" 405. "ج4" 245, 248. "ج6" 529, 546. "ج7" 460. رفاعة بن قيس "ج6" 546. رفاعة بن كعب "ج9" 771. رفاعة القرظي "ج6" 564. رفشان "ج2" 360. رفيدة "ج1" 407. "ج4" 620. "ج8" 387. رفيق وفا الدجائي "ج3" حا 72، 73. رقاش بن أذمر "ج2" 143. "ج3" 181. رقاش بنت مالك "ج3" 184. "ج4" 502، 503. رقاش زوج عدي بن الحارث "ج4" حا 433, 447, 461. رقبة بن عامر "ج9" 799. رقية أمة أسماء "ج3" 346. رقية بنت عبد شمس "ج6" 488. "ج9" 752. رقية النملة "ج8" 138. رقيقة بنت أبي صيفي "ج9" 277. ركانة بن عبد العزيز "ج5" 125. ركبان "ج2" 452. ركمنس "ج1" 137. "ج2" 143, 148, 158, حا 230, 306, 315. الرم "ريام" "ج2" 150, 216 369، 395، 456، 457. رمحيز زبيمن "رمحيز زبيمان" "ج3" 491. الرمق بن زيد "ج3" 442. "ج4" 134. "ج6" 521. رملة بنت أسد "ج3" 381. "ج4" 464. رملة بنت الحارث "ج5" 331. الرهاء بن البلندي "ج2" 620. الرهاء بن سبند "ج2" 620. رهاء بن منبه "ج4" حا 458. الرهاب العجلي "ج3" 242. رهم بن ناج "ج4" 508. رواس "ج1" 405. روبرتسن سمث "ج1" حا 234, 511, 520، 523, 527. "ج4" 629, 646. "ج5" 533. "ج6" 26, 233, 261, 361, 708. روبن هود "ج9" 622. روتشتاين "ج1" 135. "ج3" 188, 258، 259, 294. روح بن زنباع "ج4" 426. روح بن قصي "ج4" 57. رودكر "ج1" 127. رودلف كاير "ج3" حا 376، 377. "ج6" حا 616, حا 670. رودو كناكس "نيكولاوس" "ج1" 137. "ج2" 36، 37, حا 133, 175, 199, 207, 213، 214, 234، 235, 307، 309, 311. "ج4" 550. "ج5" 15, 282, 473, حا

615 "ج6" 307. "ج7" 205, 243, 264، 265, 492, 598. "ج8" 15، 23، 445 روزا روزنبركر "ج6" حا 239، 240. روزبة "ج2" 651. روستو فتزيف "ج2" 620, "ج3" 140. روسيني "ج3" 467. "ج6" 613. روفينوس تيرانيوس "ج1" 62. "ج3" 92، 93. روق بن فزارة "ج1" 358. رولنسن "ج1" 598. رومان الرومي "ج4" 304, "ج6" 686. رومانس "ج3" 349، 350. "ج4" 235. "ج6" 686. "ج9" 895. رومية "ج1" 440. رويشد الثقفي "ج4" 667. رياح بن الأسك الغنوي "ج5" 358. رياح بن يربوع "ج1" 403, 424. "ج4" 529. "ج5" 374, 396. الرياشي "ج9" 534, 585. ريام "ج2" 355. الريان بن حويص العبدي "ج5" 87, 397. الريان اليشكري "ج4" 500. ريب "ج2" 392. "ج5" 396. ريتر "ج3" 535. ريث بن غطان "ج1" 404. "ج4" 428, 509. ريحانة ابنة علقمة "ج3" 482, 505, 522. "ج4" 183. ريحانة بنت معدي كرب "ج9" 499, 869. ريدان "ج1" 365. ربطة "ج9" 643، 644. ريكمنس "ج1" 137, 638. "ج2" 127, 177, 314, 351، 352, حا 417, 454، 455, 473، 475, 482, 487, 489, 491, 495, 523, 526, 536, 553, 558. "ج3" 316, 477, 493، 494, 500. "ج8" 514 الريم يدم "الريام يدم" "ج2" 147, 150، 151, 170. ريمان ذوي حزفر "ج2" 552. رينان "ج1" 257. "ج4" 297. "ج6" 34، 35, 43. رينه ديسو "ج1" 135. "ج2" حا 601, حا 622, حا 624. "ج3" حا 153, حا 191 "ج4" حا 57 "ج6" حا 231، حا 310، 311 حا 323، 328, حا 330، 331. "ج7" حا 106. "ج8" حا 237, حا 520.

الزاي

الزاي: الزاد الزاد "ج2" 431. زاد بن يهيش "ج2" 650. زارة "ج5" 427. زاهر "ج1" 372. "ج4" 456، 457. الزباء "ج1" 660. "ج2" 68, 635. "ج3" 99، 107, 109، 114, 116، 120, 122، 127, 129, 131، 133, 135, 139، 140, 177, 180، 184, 187. "ج4" 461, 463, 616, 618, 620, 625, 675. "ج5" 189. "ج6" 330، 331, 579, 634. "ج7" 372. "ج8" 268, 373، 374. "ج9" 685, 773، 774، زبان بن أحرب "ج8" 84. زبان بن سيار "ج1" 402. "ج3" 425. "ج4" 514. "ج6" 800. "ج9" 491, 593. زبان بن العلاء "ج9" 297. زبان بن غني "ج4" 515. زبان بن منظور "ج9" 833 زباي "ج3" 94, 107. زبح "ج1" 455. زبدا "ج3" 93, 114, 117, 119. زبديئيل "زبدايل" "زبديل" "ج1" 649، 650. زبديديلوس "زبدايل" "ج2" 21, 36, 124. زبراء "ج6" 770. "ج8" 369, 741، 742. الزبرقان بن بدر "ج1" 403. "ج4" 206, 571, 594. "ج5" 50, 265, 353. "ج6" 652. "ج7" 617. "ج8" 111, 141. "ج9" 99, 106, 113, 115, 245, 261, 739، 842، 845، 855، 856، 868، 883، 85.8 زبيبي "زبيبة" "ج1" 577، 588، 605. "ج3" 103، 105، 131، 132. "ج4" 620. "ج9" 588، 560. زبيد بن عمرو "ج1" 371. "ج4" 572. "ج5" 391. زبيدة "ج7" 447.

الزبيدي "ج5" 127، 213، 410، 411. "ج9" حا 36، 40، 322، حا 361. الزبير بن باطان "ج6" 432، 524، 546. الزبير بن بكار "ج1" 472. "ج4" حا 8، حا 51، 520. "ج5" حا 83. "ج6" 423. "ج9" 712. الزبير بن عبد المطلب "ج4" 61، 82، 84، 88، 91، 208، حا 464، 465. "ج5" 38، 505، 638. "ج8" 204. "ج9" 115، 262، 621، 650، 695، 696، 706، 708، 710، 902. الزبير بن العوام "ج7" 41، 147، 149، 215. "ج8" 119، 121، 122، 125، 128، 368. الزبيري "ج1" 378، 399، 400، 402. "ج4" 38، 59، 470. "ج5" 534، حا 623، 650. "ج6" 58، حا 473، حا 477، حا 488. "ج8" حا 197، حا 261، 331، حا 384، 385، 499، 699، 704، 705، 716، 737. الزجاجي "ج5" حا 287. "ج9" 31، 276، حا 273، حا 275، حا 283، 284، 311، حا 319، حا 361، حا 391، حا 395، حا 398. زر بن حبيش "ج9" 9. زرادشت "ج4" 176. "ج6" 732. زرارة بن عدس التميمي "ج3" 250، 251. "ج4" 453، 528، 572. "ج5" 287، 348، 377، 386، 393، 407. "ج6" 693. "ج9" 146، 429. زرارة بن عمرو "ج4" 194. زرارة بن قيس "ج4" 194. زرارة بن التميني "ج4" 37. زرعة بن تبان "ج3" 458. زرعة بن عمرو "ج9" 572، 594، 595. زرعة بن النعمان "ج4" 499. زرعة ذو رعين "ج4" حا 181، "ج7" 141. زرعة ذو يزن "ج3" 531. "ج4" 180، 181، 196. زرعة قيل مرحبم "ج3" 477. زرقاء شيماء "ج6" 771. زرقاء اليمامة "ج1" 319، 337. "ج9" 152، 875. الزرقاني "ج8" حا 597، حا600، 612، 614، 621، 622. زرمهر "ج2" 651. زريق "ج4" 244. زعورا "ج6" 532. زكريا "ج1" 63. "ج3" 464. "ج4" 357. زمام بن خطام الكلبي "ج5" 133. زمان بن تم الله "ج1" 408، "ج4" 437. الزمخشري "ج1" حا 112، حا

323. "ج3" حا 458. "ج4" 443. "ج5" 537، 550. "ج6" حا 347، حا 366، حا449، حا 560، حا 644. "ج8" 186، حا 275، حا 362، حا 365، حا 392، حا764، حا 766. "ج9" حا 42، 253، 640، 686. زمران "ج1" 446، 450، 451. زمعة بن الأسود "ج4" 104، 124. "ج5" 135. "ج9" 700، 754. زمل بن عمرو العذري "ج4" 247. زنباع بن روح "ج3" 520. "ج4" 248. "ج7" 479. زنوبيا "ج3" 113، 114، 122، 131، 135. زنوبيوس "ج3" 127. زنودوروس "ج1" 444. زنيرة "ج4" 106. "ج6" 183. الزهدمان "ج5" 466. زهر بن إياد "ج4" 470. زهر بن الحارث "ج3" 167. زهران بن مالك "ج1" 370، 373، 347. زهرة بن عبد الله "ج4" 212. زهرة بن كلاب "ج1" 401. "ج3" 531. "ج4" 26، 41، 73، 480، 660. الزهري"ج4" حا 144. "ج6" 486. "ج7" 345، 434. "ج8" 259، 273، 498. "ج9" 343، 381. زهير بن أبي سملى "ج1" 302، 307، حا 360، 382، 383، 402، 408. "ج3" 270، 271. "ج4" حا 375، 380، 382 386، 579، 626، 671. "ج5" 162، 361، 377، 510، 517. "ج6" 106، 108، 129، 133، حا 149، 150، 155، 162، 201، 209، 275، 276، 430، 463، 506، 719. "ج7" حا 9، 150، 337، 466، 603. "ج8" 260، 265، 274، 277، 652، 664. "ج9" 75، 94، 98، 105، 107، 155، 161، 177، 188، 190، 198، 221، 224، 230، 231، 233، 237، 241، 245، 266، 267، 279، 315، 316، 322، 326، 327، 333، 337، 341، 345، 349، 350، 424، 431، 434، 440، 441، 444، 465، 493، 506، 508، 509، 512، 513، 515، 519، 525، 540، 541، 542، 546، 566، 568، 587، 589، 596، 597، 812، 823، 824، 830، 857، 858، 860، 862، 865. زهير بن أقيش "ج4" 254. زهير بن جذيمة "ج3" 210، 213

"ج4" 99، 508، 510، 516، 652. "ج5" 198، 357، 358، 360، 388، 396، 407. زهير بن جناب الكلبي "ج1" 383. "ج3" 404. "ج4" 250، 252، 426، 430، حا 455، 493، 494، 658، 673. "ج5" 224، 346، 347، 350، 385، 369، 407، 518، 601. "ج6" 241، 242، 253، 364، 365، 444، 763، 764، 770. "ج8" 112، 380، 773، 777. "ج9" 433، 445، 453، 455، 459، 618، 703. زهير بن عبس "ج4" 505، 529. زهير بن علس "ج4" 482. زهير بن عمرو "ج3" 167، 168 "ج4" 240. "ج6" 95. زهير بن قرضم "ج4" 199. زوبعة "ج6" 760، 769. الزوزني "ج1"، حا 38، 39، حا 309، حا 382، 383، "ج3" حا 225، حا 233، حا 243، 244، حا 248، 249، حا253، حا 322، حا 325، حا347، حا 358، حا 360. "ج4" حا 376، حا 383، حا491. "ج5" 22، 350، حا 361، حا416، حا 422، حا 435، حا458. "ج6" حا 156، حا 207 "ج7" حا 601. "ج8" حا 270، حا 401. "ج9" حا 87، 540، حا 560، 595. زوسكالس "ج2" 524. "ج3" 455. زوسيموس "ج1" 63. "ج3" 115، حا 124، زوكوموس "ج6" 592. زيابة "ج5" 346. زياد بن أبي سفيان "ج4" 227. زياد بن أبيه "ج8" 334، 512. "ج9" 37، 40، 45، 308، 547، 554، 904. زياد بن الأشهب "ج9" 851. زياد بن الحارث "ج4" 189. زياد بن جدير"ج7" 485، 497، 500. زياد بن عبد الله بن الطفيل العامري أبي محمد الكوفي المعروف بالبكائي "ج1" 86. زياد بن عجل "ج3" 211. زياد بن لبيد البياضي "ج4" 193، 198. زياد بن هبولة "ج3" حا 320، 321، 323، 324، 393، 395. "ج5" 407، 436 زيحمن بن الشرح "ج2" 502. زيد "زيدم" "ج2" 411، 501، 504، "ج6" 17. زيد بن أرقم "ج7" 407. "ج8" 596، 597. زيد بن أمية بن عبيد "ج9" 722. زيد بن أوسلة "ج4" 433. زيد بن أيل وهب "ج2" 194، 195، 560. "ج3" 25، 317. "ج7" 263، 264. زيد بن أيوب "ج3" 289.

زيد بن تميم "ج3" 336، 348. زيد بن ثابت "ج8" 102، 114، 120، 126، 127، 131، 135، 160، 187، 255، 259، 260، 265، 292، 602، 603، 606. زيد بن حارثة "ج1" 365، 370، 404، 405، 454. "ج4" 124، 224، 242، 244، 247، 255، 262، 358 "ج5" 573 "ج6" 474، 546، 682 "ج7" 299، 308، 340، 347، 379، 453، 461 زيد بن الحاف "ج1" 366. زيد بن حماد "ج3" 288، 290. زيد بن حمير "ج4" 416. زيد بن حي "ج1" 368. زيد بن خذاق "ج5" 397. زيد بن الخطاب "ج6" 89، "ج9" 886. زيد بن زيد إيل "ج7" 263. زيد بن سعية "ج6" 564. زيد بن شريك الشيباني "ج5" 368. زيد بن صوحان "ج8" 333، 783. زيد بن ضباء الأسدي "ج4" 597. زيد بن ضبيعة "ج9" 722. زيد بن عامر بن ثعلبة "ج8" 499. زيد بن عبد الله دارم "ج8" 556. زيد بن عدوان "ج4" 507. زيد بن عدي بن زيد "ج5" 272، 290. "ج8" 295، 296، 309. زيد بن علي عنان "ج1" حا 133. "ج2" حا 76، حا 83. "ج4" حا 569. "ج7" حا 179. زيد بن عمرو "ج2" 355، 408"ج4" 84، 217، 240، 434، 448، 454، 480، 489، 522، 671. "ج5" 37. "ج6" 237، 455، 463، 464، 469، 477، 501. "ج8" 323، 664. "ج9" 286، 703، 704، 724، 725. زيد بن قيس "ج4" 191. "ج9" 668. زيد بن كليب "ج9" 907. زيد بن كهلان "ج4" 434، حا464. زيد بن الكيس "ج8" 332. زيد بن ليث "ج4" 430، 432. "ج6" 546. زيد بن مالك "ج1" 370، 403. زيد بن مخلف "ج4" 41، 57، 63، 149. زيد بن مرب "ج9" 668. زيد بن مهلهل "ج5" 390. زيد بن وهب "ج8" 599. زيد الله "ج1" 371. "ج4" 437، 457. "ج7" 462. زيد الجمهور "ج2" 593. زيد خرج "ج6" 319، 332. زيد الخيل "ج3" 293، 298، 299. "ج4" 219، 221، 225، 307، 515، 663. "ج5" 172، 270، 290، 391، 397، 445. "ج6" 60، 277. "ج7" 148، 150، 337. "ج9" 241، 618، 813، 816، 835، 865. زيد ذو غابة "ج6" 314. زيد سيلان "ج2" 499، 500.

زيد العبادي "ج3" 171. "ج8" 180، 109. زيد غوث "ج6" 319. زيد الفوارس "ج4" 571. "ج5" 379، 392، 397. زيد لات "ج2" 357. "ج6" 16، 17، 233، 255. زيد مناة "ج1" 402، 408، 526. "ج4" 339، 437. "ج6" 16، 17، 250. "ج9" 471. زينب بنت أوس بن حارثة "ج3" 287. "ج4" 454. "ج5" 530. "ج6" 342. "ج8" 387. "ج9" 758. زينب بنت جحش "ج5" 65، 157. زينب بنت جذيمة "ج3" 124، 184. زينب بنت الرسول "ج7" 299، 300. زينودور "ج1" 444. زينو كوتيلوس "ج3" 68. زينون "ج2" 655.

السين

السين: السائب بن أبي السائب "ج5" 135. "ج7" 407. السائب بن الحارث "ج6" 766. "ج7" 407. السائب بن يزيد "ج7" 368. "ج8" 602. سايب حاثر "ج9" 156. ساباط بن باما "ج3" 270. سابور "ج1" 176. "ج2" 612، 615، 618، 634، 635، 638، 645. "ج3" 93، 95، 98، 102، 103، 121، 170، 173، 186، 194، 195، 200، 311. "ج4" 232، 485، 486، 500، 527. "ج6" 79، 439. "ج8" 521. "ج9" 152، 154. سابور بن أردشير "ج2" 615، 617. "ج3" 187، 193، 165، 306، 310. "ج5" 324. سابور بن أشك "ج3" 183. سابور بن خرزاذ "ج3" 185. سابور بن المبارك "ج9" 307. سابور بن هرمز "ج2" 636، 637. سابور الثالث "ج2" 644، 645. سابور الثاني "ج2" 618، 636، 643. "ج3" 140، 173، 174، 194، 195، 306، 307، 311.

"ج7" 280. ساتريبوس "ج3" 126. سارة القريظيه "ج1" 27، 29، 448. "ج6" 570. "ج9" 126، 791. سارية بن زنيم الكناني "ج9" 452. ساسان بن بابك "ج4" 16. ساع الأكبر "ج4" 433. ساعدة بن جؤية "ج9" 870، 871. ساعدة بن الشاهد "ج4" 505. "ج7" 148. ساعدة الهذلي "ج7" 129. سافينة "ج2" 241. "ج6" 528. سافينياك "ج1" 306. السالف "ج1" 358. سالم بن أبي السمحاء "ج9" 321. سالم بن دارة "ج1" 525. "ج5" حا 145. "ج9" 896، 897. سالم بن عوف "ج9" 788. سالم بن يهنعم "ج2" 267. السالمي "ج4" حا 201، 203. سام بن نوح "ج1" 223، 224، 229، 255، 256، 296، 297، 376، 416، 419، 463، 630. "ج3" 12، 531، 532، "ج4" 302. "ج6" 673. "ج8" 525، 529. "ج9" 452. سامة بن لؤي "ج1" 335، 401 "ج4" 29. ساويرس "ج6" 631. ساوينه "ج2" 74. سايس "ج1" 232. سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان "ج1" 52، 364، 365، 459. "ج2" 512. "ج4" 417، 420. "ج6" 281. سباسينس "ج2" 13. سباع بن زيد "ج4" 253. السباق بن عبد الدار "ج1" 405. "ج6" 431. سبتة "ج1" 459، 460. سبتكا "ج1" 459. سبتيموس سفيروس "ج1" 30. "ج2" 66، 67، 614، 622. سبتيموس خيران "ج3" 91، 94 سبتيميوس سويروس "ج2" 61. "ج3" 63، 65، 69، 88، 89. "ج7" 278. سبتيميوس هيرودس "ج3" 98. سبريشوع "ج3" 284. سبرة بن عمرو "ج4" 675. سبستيان رتزفال "ج3" 124، 127، 133. سبعة "ج2" 122. سبقلم سبقل "ج2" 438. السبكي "ج9" حا 528. سبنسر "ج6" 47. سبيط بن المنذر "ج3" 397. سبيع بن أشجع "ج4" 510. سبيع بن الحارث "ج4" 260. "ج8" 777. سبيع بن الخظيم "ج5" 376. سبيع بن ربيعة "ج4" 84، 433. "ج5" 382. سبيع بن هوزان "ج1" 309، 373، 404، 405، 498. سبيعة "ج6" 214. سبيعة بنت عبد شمس "ج5" 383.

"ج9" 411. ستاركي "ج3" 73. ستراب "ج1" 611. سرابون "سترابو" "ج1" 22، 30، 57، 58، 163، 205، 443، 461، 566، 596، 651 "ج2" 13، 15، 17، 19، 28، 40، 41، 44، 52، 54، 56، 59، 62، 73، 80، 119، 171، 173، 247، 455، 606، 608 "ج3" 14، 17، 27، 54، 55، 534. "ج4" 415، 548، 669. "ج5" 414، 540، 541، 544، 559. "ج6" 55. "ج7" 118، 234، 235، 266، 270، 604، 613. ستراتيجيوس "ج3" 222. سجاح بنت أوس "ج4" 217. "ج9" 178. سجاح بنت الحارث "ج4" 206. "ج6" 95، 96، 771. السجستاني "أبو حاتم" "ج1" حا83، حا 99، 100، حا 307، 314، 316، 383. "ج3" حا 288. "ج4" حا 426، 427، حا657، حا 659، 660. "ج6" حا 32، حا 462، حا 687. "ج8" حا 123، حا 133، 134، حا 154، حا 156، 171، 193، 194، حا 261، حا264، حا 281، حا 311، حا338، 353، 558، 600، حا602، حا 616. "ج9" حا 8، 9، 11، 346، 446، 462، 476، 480، 598، 651، 847، 848. السجل "ج8" 130، 285. سجلة "ج7" 192. سحبان بن زفر "ج8" 780، 791. سحبان وائل "ج6" 819. "ج8" 368. سحر "ج2" 620. "ج4" 417. سحنة بن خلف الجرهمي "ج6" 80 سحيم بن وثيل اليربوعي "ج1" 444. "ج5" 74، 128. "ج9" 879. سحيم عبد بني الحسحاس "ج9" 877، 878. السخاوي "ج8" 459. سخمان يهصبح "ج2" 338، 409، 412، 492. سخو "ج1" حا 311. سخيم بن يداع "ج2" 394. "ج3" 40. سخيم يزان "ج2" 464. سداد البطحاء "ج7" 300. سدد بن زرعة "ج2" 265. سدد بن عمر "ج2" 556. السدري "ج9" 302. سدرينس "ج3" 461، 462، 469. سدني سمث "ج1" 613. سدوس بن شيبان بن ذهل "ج1" 178، 408. "ج3" 393، 435. "ج4" 503. "ج5" 284، 349، 436. سدوم "ج6" 490.

سديف بن هوماس "ج6" 760. سراج بن قرة "ج9" 495. سراقة بن جعشم "ج4" 156. سراقة البارقي "ج9" 75. سرايا "ج1" 351. سرجون "ج1" 28، 324، 325، 545، 554، 560، 562، 564، 571، 585، 586، 558، 589، 609. "ج2" 20، 122، 277، 279، 311. "ج3" 283. "ج5" 36، 37. "ج7" 234. سرجيوس "ج3" 136، 219، 220، 285، 411، 413، 415. "ج6" 686. السرحان "ج6" 366. "ج4" 250. سرحو بن أمت منفو "ج8" 177 سرحو بن سعدو "ج8" 177. سرخسي "ج5" حا 527، حا534، حا 537، 538، حا550، 552. السرسين "ج3" 94. سركينوى "ج3" 405. سروج "ج1" 449. سريج "ج5" 423. سرير بن ثعلبة "ج4" 480. "ج8" 498، 499. سطيح "ج4" 437. "ج6" 95، 760، 765، 766. "ج8" 740، 793. سعاد "ج9" 585، 861، 863. سعد بن إبراهيم "ج8" 601. سعد بن أبي سرح "ج4" 391سعد بن أبي عبيد "ج4" 229، "ج5" 225. سعد بن أبي وقاص "ج3" 287. "ج4" 37، 125، 212، 228. "ج5" 225. "ج8" 109، 301، 382، 643، 669، 690. "ج9" 765، 767. سعد بن بكر "ج4" 260، 264، 338، 516، 621. "ج6" 240. "ج8" 573، 589، 600، 618 سعد بن بهراء "ج4" 423. سعد بن ثعلبة "ج3" 435. "ج6" 129، 134، حا 149. سعد بن حارثة "ج3" 271. "ج4" 478. سعد بن حريث المخزومي "ج4" 29. سعد بن حمير السلف "ج1" 370، 403، 405، 407. سعد بن حنيف "ج6" 546. سعد بن خولان "ج1" 368، 399، 402، 408. سعد بن خيثمة "ج4" 137. سعد بن ذبيان "ج4" 138، 511، 512 سعد بن ربيعة "ج1" 368، 484، 525. "ج7" 310، "ج8" 114 سعد بن زرارة "ج8" 114، 160، 293، 468. سعد بن زيد مناة "ج1" 332، 367، 403. "ج3" 278، 336، 348، 353. "ج4" 488، 525، 626. "ج5" 353، 376، 386

393، 410، 556، 557، 653. "ج6" 249، 387. "ج7" 182. "ج8" 579. "ج9" 471، 473. سعد بن سعد بن خولان "ج1" 368، 389. سعد بن سليح "ج3" 394. سعد بن سيل "ج4" 38. "ج8" 162. سعد بن الضباب الإيادي "ج3" 367. سعد بن ضبة "ج4" 523، 526 سعد بن ضبيعة "ج4" 477، 496. "ج9" 433، 567. سعد بن الظرب "ج4" 508. سعد بن عبادة بن دليم "ج4" 137، 188، 203، 228، 247، 250. "ج5" 210. "ج6" 713، 813، 821. "ج7" 315. "ج8" 114، 116، 129، 135. "ج9" 14، 868. سعد بن عبد الله "ج4" 228. سعد بن عدي "ج4" 436، 438. سعد بن عمرو "ج3" 250، "ج4" 483، 531. سعد بن فهم "ج4" 507. سعد بن قيس "ج1" 365، 404، 408. "ج4" 252، 503، 507. "ج5" 352. "ج9" 120، 586. سعد بن كنانة "ج4" 37، 532. سعد بن لؤي "ج1" 401، 408"ج4" 29، 480. سعد بن ليث "ج4" 532. سعد بن ملك بن ضبيعة "ج4" 247، 514، 534. "ج8" 109، 350. "ج9" 37، 69، 252، 424، 459، 461، 475، 662، 751. سعد بن مشمت بن المخيل "ج4" 585. سعد بن معاذ "ج4" 137، 234، 307، 368، 559، 560. "ج5" 512. "ج8" 387. "ج9" 14. سعد بن النعمان بن أكال "ج7" 440، 466. سعد بن هذيل "ج4" 534. سعد بن هو فعثت "ج2" 94. سعد بن ولك "ج2" 89، 138، 139. سعد أحرس بن غضب "ج2" 372. "ج3" 75. سعد آل "ج2" 18، 87. "ج6" 313، حا 319. سعد الله "ج3" 42. سعد أوام نمران "ج2" 409، 429. سعد تألب يتلف "ج2" 552، 560، 561، 566. سعد تالب يهثب "ج2" 336، 337، 370. سعد ثون "ج2" 490. سعد الجرمي "ج4" 495. سعد شمس أسرع "ج2" 149، 150، 152، 215، 216، 334، 358، 442، 446، 451، 464، 467، 470، 473، 487، 496. "ج4" 625.

سعد العشيرة "ج1" 371 "ج4" 193، 454، 457، 458، 651 "ج5" 291، 353 "ج6" 16، 287، 288 سعر القرقرة "ج3" 279 "ج5" 39، 44 "ج8" 374، 375، "ج9" 498 سعد لات "ج2" 357 "ج6" 16، 18 سعد مناة "ج6" 16، 17، 250 سعد هذيم "ج4" 246، 247، 421، 430، 431 "ج6" 288 سعد ود "ج6" 16، 18 سعدى بنت كريز بن ربيعة "ج4" 579 "ج6" 771 سعفص "ج8" 159، 164، 166 السعلاة "ج9" 732 سعية "ج9" 454 سعيد بن أبحر الهمداني "ج9" 207 سعيد بن أبي عروبة "ج1" 224، 402، 463، 525 "ج9" 343 سعيد بن جبير "ج2" 569 "ج8" 272، 273، 697 "ج9" 19، 29 سعيد بن ربيعة "ج4" 671 سعيد بن زيد بن عمرو "ج8" 765 "ج9" 704 سعيد بن سعد بن سهم "ج4" 52 سعيد بن سفيان الرعلي "ج4" 269 "ج8" 127 سعيد بن العاص "ج4" 91، 108 "ج5" 51، 530 "ج6" 243. "ج8" 121، 261، 606، 608، 609 "ج9" 381، 804، 856، 859 سعيد بن عامر "ج8" حا 769 سعيد بن عبد الرحمن "ج9" 432، 745 سعيد بن عبد العزيز "ج8" 608 سعيد بن عمرو "ج3" 319. سعيد بن الغريض "ج9" 779. سعيد بن مسجح "ج9" 156. سعيد بن مسعدة "ج9" 207. سعيد بن المسيب "ج7" 392. "ج8" 331. سعيد بن معاذ "ج9" 128. سعيد بن نشوان "ج8" 692. سعيد بن يربوع "ج8" 331. "ج9" 277. سعيد ذو زود "ج4" 193. سعيد العلاف الإباضي "ج5" 116. سعير بن العداء الفريعي "ج5" 289. سفيان بن أمية "ج5" 383. "ج8" 111، 159، 167، 171، 291. سفيان بن أوس "ج9" 501. سفيان بن الحارث "ج4" 206. سفيان بن خالد "ج4" 268. سفيان بن عبد الأسود "ج4" 98، "ج5" 548. سفيان بن عبد شمس "ج4" 253. سفيان بن عيينه "ج8" 187. سفيان بن مجاشع "ج5" 653. سفيان الثوري "ج8" 736. "ج9" 34. سفينة "ج7" 460. السقا "ج4" حا 453، حا 479، حا 481، حا 515، حا.

517، حا 523، 524، حا 535. "ج6" 331. سقام بن الحاف "ج1" 366. سقراط "ج1" 62. "ج3" 208. "ج8" 340. سقنيت مراس "ج2" 500. السكاسك "ج4" 464. سكاورس "ج7" 493. السكري "ج1" حا 383. "ج3" 254، 392، 519. "ج4" 421، 497، 661، 673. "ج5" 388. "ج9" 296، 327، 345، 348، 351، 352، 489، 542، 858. سكستيوس فلورنتيوس "ج3" 54. سكورس "ج2" 39، 40. "ج3" 32، 33. السكون "ج1" 372. "ج4" 464، 465. سكين بن أبي سكين "ج6" 546. سكينه "ج3" 42. سلام بن أبي الحقيق "ج4" 253. "ج6" 686. سلام بن الربيع "ج6" 546. سلام بن مشكم "ج6" 523، 537، 546. "ج9" 771، 772. سلامان بن غنم "ج4" 621. سلامان بن منصور "ج1" 371، 373، 405. "ج4" 516، 525. سلامان بحتر "ج4" 452. سلامة بن جندل السعدي "ج1" 383، 475. "ج3" 269. "ج6" 38، 39، حا 684، 800. "ج8" 279، 426. "ج9" 243، 443، 473، 534. سلامة بن حجر "ج3" 319. "ج4" 470. سلامة بن روح بن زنباع "ج3" 438. "ج5" 309. سلامة بن ظرب "ج5" 365، 366. سلامة بن غوي "ج5" 158. سلامة ذا فانش "ج9" 357، 571، 572، 574، 829. سلح "سليح" "سالح" "ج2" 252. سلسلة بن برهام "ج6" 547. السلف بين يقطن "ج1" 295، 358، 426. سلفان "علهان" "ج2" 167، 169. سلفية "ج1" 426. السلكة "ج5" 387. "ج9" 560. سلكمن "ج1" 227. سلم "ج6" 682. سلم اللات "ج6" 16. سلمى "ج2" 249. سلمى بن ربيعة "ج9" 207، 209، 429، 634، 878. سلمى بن نوفل الكناني "ج5" 638، 648. سلمى أم رافع "ج7" 460. سلمى بنت أبي سلمى "ج9" 542. سلمى بنت أسد "ج4" 477، 488، 489، 531. سلمى بنت ظالم "ج3" 211، 214. سلمى بنت عمرو "ج4" 73، 74، 136، 405، 564، 598، 636، 651. "ج5" 554. "ج7" 315.

"ج9" 721. سلمى بنت كعب "ج1" 526. سلمى بنت منصور "ج4" 455. سلمى بنت وائل "ج3" 261. سلمى الهمدانية "ج6" 770. "ج8" 369. سلمان "ج7" 356. "ج8" 789. سلمان بن الحاف "ج1" 366، 656. سلمان الأعشى "ج9" 321. سلمان الفارسي "ج4" 154، 304، 365. "ج5" 294، 453، 454. "ج6" 468. سلمة بن أبي حية "ج6" 769. سلمة بن حبيش "ج4" 222. "ج9" 899. سلمة بن الحرث "الحارث" "ج1" حا 322، 525. "ج3" 168، 185، 227، 336، 347، 348، 353، 356. "ج5" 350، 353، 410. سلمة بن خالد "ج4" 492. "ج5" 349، 351 سلمة بن خويلد "ج7" 347 سلمة بن عمير "ج7" 457. سلمة بن عياذ عباد "ج4" 203. سلمة بنت غيلان "ج8" 738. سلمة بن الفضل "ج6" 611. سلمة بن قيس الجرمي "ج4" 240. سلمة بن مالك "ج4" 258، 438. "ج8" 119. سلمة بن مرة بن همام "ج3" 335. السلمي "ج3" 518. سلمي بن حنظلة السحيمي "ج4" 217. "ج6" 98. سلهم "ج1" 171. سلوقس نيقاطور "ج2" 22، 33، 619، 621. سلوقيوس الثاني "ج2" 32، "ج7" 495. سلول بن عمرو "ج4" 441. سلول بن كعب "ج4" 531. سليح بن حلوان "ج2" 656. "ج3" 103، 104، 323، 392. سليح بن عمران بن الحاف "ج1" 366. سليح بن عمرو "ج3" 392. سليط بن سعد "ج3" 201. سليط بن عمرو "ج4" 213. "ج7" 527. سليط بن يربوع "ج4" 529، "ج5" 366، "ج6" 95. السليك بن السلكة "ج4" 311، 412. "ج5" 337، 387، 392، 396. "ج6" حا 814. "ج9" 104، 106، 560، 603، 606، 608، 610، 612، 618، 620، 622، 646، 648، 908. سليك بن شقيق الأسدي "ج5" 420. السليك بن عمير السعدي "ج9" 620. السليل بن قيس "ج4" 206. سليم بن عباد "ج1" 405، 525، "ج4" 247، 389. سليم بن عمرو "ج4" 42. سليم بن فهم "ج4" 438. سليم بن منصور "ج4" 510، 516

518 "ج6" 259، 686. سليمان "ج2" 263، 265، 422، حا 442، 533، 534. "ج3" 77، 79، 85، 128، 360، 532، 536. "ج6" 398، 481، 538، 540، 574، 578، 579، 603، 670، 671، 685، 686. "ج8" 203. "ج9" 133، 377، 570، 755، 772، 774، 825. سليمان بن أبي حتمه القرشي "ج6" حا 686. سليمان بن الحارث "ج6" حا686. سليمان بن داوود "الحكيم" "ج1" 74، 85، 119، 121، حا 178، 193، 237، 339، 429، 439، 504، 636، 641، 645، 648. "ج4" 204، 418، 429. "ج5" 395، حا 423، 431، 432. "ج6" 64، 200، 296، 708، 722، 722، 789. "ج7" 116، 133. "ج8" 340. سليمان بن ربيعة "ج8" 344، 346. سليمان بن صرد "ج6" حا 686. "ج8" 596. سليمان بن عبد الملك "ج7" 240. "ج9" 177، 284، 343، 381. سليمان بن عمرو "ج6" 686. سليمان بن مسهر "ج6" حا 686. سليمان بن نوفل "ج5" 504، 638. "ج6" 685. سليمان بن هاشم "ج6" حا 686سليمان أحمد حزين "ج1" 480. سليمان الصائغ "ج3" حا 172. سليمان الليثي بن أكيمة "ج6" حا686. سليمه بن مالك بن فهم "ج1" 373، "ج3" 168، 177، 178. سماك بن حرب "ج9" 267، 585، 771. سماك بن خرشة الأنصاري "ج4" 593. "ج6" 553. سماك بن عتيك "ج1" 93، 358، 405. "ج4" 137. سماك اليهودي "ج6" 561، 581. "ج9" 787، 788. سمبروتس "ج3" 456. سمخض "ج7" 224. سمرة بن جندب "ج1" 224، 463، 525. "ج8" 596. سمسي "ج1" 585. السمط بن الأسود "ج4" 198. السمع ذبيان "ج2" 94، 139، 140، 146، 166، 167. السمع نبط "ج1" 331. "ج2" 107. سمعان "ج3" 24، 204. "ج6" 467، 588، 614، 686. السمعاني "ج3" حا 204، 464. "ج8" حا 254. سمعي أفق بن سمه يفع "ج2" 411. سملقة "ج3" 388، 389. "ج6" 760، 769. السمناني "ج8" 96، 97، 99. سمه أمر بن هلكم "ج2" 318. سمه على ذرح "ج2" 177، 307، 309، 312، 314، 316

، 317، 342، 347، 349، 351، 391 سمه على وتر "ج2" 179، 182، 233، 238، 270، 283. سمع على ينف "ج2" 273، 275، 277، 280، 282، 301، 203، 307، 314، 321، 324، 347، 350، 351. "ج7" 210. "ج8" 53. سمه كرب بن كرب "ج2" 318. سمه كرب ذ ثورنهن "ج2" 318. سمه يفع "ج2" 140، 146، 166، 410، 411، 480، 493. سمهر "ج5" 425. سمهرم يهولد "ج2" 376. السمهودي "ج4" حا 134. "ج5" حا 268. السموأل بن عاديا "ج3" 367، 369، 374، 378، 410، 411. "ج4" 404. "ج5" 451. "ج6" 528، 529، 561، 570، 573، 575، 581. "ج7" 372. "ج9" 151، 182، 530، 685، 686، 769، 772، 779، 782. سمونيدس "ج8" 200. سموي بن تلمي "ج2" 251. سمي "ج2" 289. سمية "ج3" 499. "ج4" 106، 122، حا 433. "ج9" 491، 560. السميدع أشوع "ج1" 361، 387. السميدع بن هوثر "ج3" 104، 247. "ج4" 13، 440. سمير "ج4" 138، 450. "ج6" 13، 720، 728. سمير بن أدكن "ج9" 789. سميع بن ناكور "ج4" 182. السميفع أشوع "ج1" 50. "ج2" 160، 590، 596، 597. "ج3" 380، 383، 460، 472، 479، 481، 488، 491، 492، 519. "ج4" 171، 173، 175، 539 سميفع ذي الكلاع "ج4" 193. سنام بن معد "ج1" 389، 392. سنان بن أبي حارثة المري "ج3" 210، 211، 214. "ج4" 524. "ج5" 397، 504، 638، 645. "ج6" 713، 715. سنان بن سمي بن خالد "ج5" 376. سنان بن مالك "ج4" 487 سنان بن مرة "ج4" 512. سنان بن مفروق "ج4" 593. سنان الاهتم "ج9" 884. سنبس "ج1" 371. سنتروس "ج2" 617. سنحاريب "سنحريب" "ج1" 562، 588، 589، 591، 592، 597، 609، 645. "ج2" 278، 279. "ج6" 62، 63. "ج8" 342. سنحان "ج2" 555. سنداريون "ج3" 124، 125. السندري بن يزيد الكلابي "ج9" 496. السندوبي "ج1" 307، 309. حا 382، 283، 395، 469،

"ج3" حا 320، حا 360، 362، حا 364، حا 370. "ج4" حا 19، 27، 68، 71. "ج5" حا 423، 432، 433. "ج6" حا 148، حا 464، حا555، حا 657. "ج8" حا 261، حا 269، حا306، حا 643. سنطروق "ج2" 610، 615، 617. سنف مناة "ج6" 320. سنلبط الحوروني "ج1" 646. سنمار "ج1" 268. "ج3" 200. السنهدريم "ج9" 552. سنوك هرغونية "ج1" 130. سني بن سني بن مخن "ج6" 326. السهرب "ج3" 307، 309. سهل "ج3" 404. سهل بن شيبان "ج4" 500. "ج8" 112. سهل بن عمرو "ج1" 405، 444. "ج4" 61، 380، 481. "ج6" 770. سهم بن معاوية "ج9" 495. سهم بن هصيص "ج4" 73. سهمك بن سعد "ج1" 369. سهيل "ج6" 143، 144. سهيل بن عمرو "ج4" 109، 396، 421. "ج5" 135، 308. "ج6" 87. "ج8" 93، 119، 135، 304. "ج9" 863. السهيلي "ج1" 120، حا 394. "ج1" 170، 193، 200، حا275، 447. "ج4" حا 7، حا 82، حا 88، حا136، حا 144، حا 415. "ج5" 529. "ج6" حا 252. "ج8" 574. "ج9" 408، 514، 679، 703. السوابنت الأعيس "ج4" 636. "ج5" 554. سواءة بن عامر "ج4" 520. سواد بن جذيمة بن دراع "ج8" حا 378. سواد بن قارب الدوسي "ج5" 514. "ج6" 765، 768. "ج8" 738، 745. "ج9" 908. سواد بن يسلم "ج2" 70. سوادة "ج4" 437. سوادة بن أبي خازم "ج9" 23. سوادة بن الحطيئة "ج9" 883. سوادة بن عدي "ج9" 678. سوار بن المضرب "ج6" 791. سواري "ج1" 440. سوتيلس "ج2" 32. سود "ج1" 367. "ج2" 573، 574. "ج4" 437. سوداء بنت زهرة بن كلاب "ج6" 764، 771. سودة بنت زهرة "ج5" 89، 92. سودة بنت عك "ج1" 395. "ج4" حا 469. سورينا "ج2" 643. سوزوين "ج6" 514. "ج9" 127. سوزومينوس "ج1" 63. "ج3" 101. "ج4" 654. سوزيموس "ج9" 63، 410. السوس بن سام بن نوح "ج1" حا18. سوموس "ج3" 222. سوهومس "ج1" 443. سويبط بن حرملة "ج8" 376.

سويد بن أبي كاهل "ج1" حا307. "ج3" 179. "ج7" 418. "ج9" 159، 243، 540، 882. سويد بن خذاق "ج3" 246، 247، 261. "ج6" 161. "ج9" 692. سويد بن ربيعة "ج5" 504، 638، 647. سويد بن الصامت "ج1" 318. "ج7" 226. "ج8" 111، 116، 192، 288، 289، 341، 342، 776. "ج9" 333، 719. سويد بن عامر "ج6" 157، 463، 500. "ج9" 491. سويد بن عبد الله بن دارم "ج3" 251. سويد بن عدي "ج4" 671. "ج6" 224. سويد بن قطبة "ج4" 223. سويد بن كراع العكلي "ج9" 333، 877. سويد بن مسعود "ج5" 645. سويد بن المنذر "ج4" 210. سويد بن هرمي "ج4" 582. "ج5" 38، 84، "ج7" 581. السويدي "ج1" حا 303، حا322. "ج3" حا 275. "ج4" حا 41، 42، حا 45، حا55، حا 136، حا 380، حا 495. سويرس سيبخت "ج9" 48. سويروس اسكندروس "ج2" 68. "ج3" 63، 64، 70. سيار بن صعصعة "ج4" 520. سيار بن عمرو الفزاري "ج3" 214، 254. "ج4" 513، 514، 572. سيبخت "ج4" 211، 212. سيبخت بن ذكر "ج4" 197. سيبخت مرزبان "ج6" 694. سيبويه "ج4" حا 147، 277. "ج6" 117. "ج8" 167، 564، 584، 661، 737. "ج9" 33، 47، 49، 53، 55، 56، 58، 210، 217، 219، 391. سيتزن "ج1" 125. سيحان "ج1" 371. "ج8" 333. سيحون "ج3" 66. السيد "ج1" 336. "ج4" 250. سير جيمس فريزر "ج1" 520. السير ريتشارد برتن "عبد الله" "ج1" 130، 235. سيرين أبو محمد بن سيرين "ج8" 110، 297. سيف بن ذي يزن "ج2" 597. "ج3" 487، 522، 525، 527، 529. "ج4" 72، 78، 99، 418، 557. "ج5" 54. "ج6" 463، 488، 765. "ج7" 212. "ج9" 753، 758، 759. سيف بن عمرو "ج9" 885، 899. سيفيروس الكسندر "ج2" 68. سيكفريد لنكر "ج1" 129. السيل "ج1" 402. سيلاس "ج6" 614.

سيمورس "ج8" 200. السيوطي "ج3" 510، 511. "ج4" حا 528. "ج5" حا 80، حا 641. "ج6" حا 586، حا 634، حا645، حا 710. "ج7" حا 545. "ج8" 118، 284، 285، حا357، 258، حا 547، 556، 571، حا 597، حا 599، 600، حا 602، حا 604، حا606، حا 609، 611، حا614، 616، حا 620، حا633، 664، حا 697، 699. "ج9" حا 7، 14، 18، 19، 23، 29، 31، 51، 52، 55، 83، 88، 89، 120، 158، 174، 177، 194، 219، 226، 231، 236، 237، 248، 262، 274، 279، 280، 283، 315، 329، 335، 337، 343، 361، 387، 454، 456، 459، 463، 465، 474، 481، 484، 492، 495، 496، 498، 499، 508، 510، 512، 519، 521، 528، 531، 533، 535، 536، 539، 541، 544، 547، 554، 558، 561، 568، 571، 582، 584، 587، 588، 591، 594، 595، 597، 599، 641، 643، 659، 663، 666، 667، 669، 675، 677، 688، 691، 707، 721، 729، 730، 734، 736، 738، 740، 741، 745، 746، 748، 750، 766، 771، 775، 778، 787، 796، 800، 804، 805، 813، 818، 823، 824، 826، 832، 834، 848، 854، 856، 859، 865، 866، 868، 871، 873، 874، 876، 880، 882، 884

الشين

الشين: شاؤول "ج1" 347، 435، 436، 443. "ج4" 13. "ج6" 575. شابت بن عليان "ج2" 369الشابشتي "ج3" حا 302. "ج6" 599. شأس بن زهير "ج4" 484، 510، 515. "ج5" 358.

شأس بن عبدة "ج3" 213، 240، 241، 401. "ج9" 111، 469. شاس بن عدي "ج6" 546. شاس بن قيس "ج4" 137. "ج6" 546. الشافعي "ج5" حا 268. "ج6" 774. "ج9" 51، 430. شالف "ج1" 424، 426. شاهان "ج3" 289. "ج8" 109. الشاهد "ج4" حا 468. شاهنشاه "ج4" 160، 162. "ج6" 628، 629. شبا "ج1" 424، 429، 446، 457، 458، 460، 461. "ج4" 537. شبابة "ج4" 438. "ج9" 637. شبام بنت صحار "ج8" 206. شبت بن ربعى الرياحي "ج8" 759. شبديز "ج1" حا 17. شبرنكر "ج1" 176، 193، 231، 301. "ج2" 18، 48، 51، 54، 77، 401، 511 "ج4" 341، 460. "ج6" 458، 463، 467. "ج8" 104، 318، 319. شبق بن ضمرة "ج3" 283. شبل "ج1" 369. شبيب بن دريم "ج4" 423، 437. شبيل بن ورقاء "ج9" 907. شتير بن خالد "ج5" 379. شتيم بن خويلد "ج5" حا 520. شجاع بن وهب الأسدي "ج3" 423، 429، 433، 435 "ج4" 241. "ج5" 286. "ج7" 343، 416. "ج8" 135. شجبان "ج1" 359، 363. شخريت "ج4" 199. الشخيص بن وائل "ج1" 526. "ج4" 488. الشداخ "ج5" 638. شداد بن الأسود "ج1" 287. "ج6" 126، 146، 459. "ج9" 558، 559، 899. شداد بن عاد "ج1" 304، 364، 365، 504. "ج2" 539. شداد بن عارض الجشمي "ج6" 234. "ج9" 467. شداد بن عبد الله القناني "ج3" 537. "ج4" 189. شر حعثت أشوع "ج2" 397، 409، 565. الشر يحمل "ج2" 482. شراحيل بن أصهب "ج5" 408، 467. شراحيل بن جبلة "ج3" 426، 447. شراحيل بن الحارث "ج2" 535، "ج3" حا 201، 348، 356. "ج4" 448. "ج6" 16. شرادر "ج1" 582. "ج2" 123. "ج3" 25، 26. الشرح بن سمه على ذرح "ج2" 341، 342، 347، 349. الشرح بن سمه على ينف "ج2" 350.

الشرح بن يصدق ايل "ج2" 502. شرح ال شرح ايل "ج2" 409، 597. "ج6" 17. شرح آيل يقبل "ج2" 487، 525، 553، 555، 596، 597. "ج3" 380. شرح سمد بن يثار "ج2" 537. شرح عث بن عبد يل "ج2" 198. شرح عشت أريم "ج2" 453. شرح غيلان "ج2" 409. شرح ود "ج2" 548. الشرح يحسب "ج2" 496. الشرح يحمل "ج2" 496. الشرح يحضب "ج2" 56، 57، 62، 152، 316، 323، 348، 351، 355، 372، 383، 385، 387، 388، 391، 395، 397، 405، 416، 430، 432، 444، 446، 458، 462، 464، 467، 470، 474، 477، 483، 487، 489، 493، 495، 596، 505، 519، 521، 524، 525، 542، 549. "ج3" 317، 453، 532. الشرح يحضب الثاني "ج2" 547، 552. شرحاف بن المثلم "ج5" 379. شرحب ايل أسعد "ج2" 596، 597. "ج3" 380. شرحبيل بن أخضر "ج5" 372. شرحبيل بن الحارث "ج3" 210، 212، 319، 336، 347، 348، 352، 353، 362. "ج4" 249، 448، 489، 492، حا 596. "ج5" 284، 353. "ج6" 16. شرحبيل بن حسنة "ج8" 121، 127. شرحبيل بن زيد مناة "ج5" 410. شرحبيل بن السمط "ج4" 198، 199. شرحبيل بن عمرو الغمباني "ج3" 419، 435. "ج4" 242. شرحبيل بن غيلان بن سلمة "ج4" 150. شرحبيل بن مرة "ج3" 319. "ج4" 496، 501. "ج5" 85. شرحبيل لحيعت يرخم "ج3" 476، 478. شرحبيل يعفر بن أبي كرب أسعد "شرح" "ج1" 50، 369. "ج2" 152، 153، 529، 570، 579، 583، 599. "ج3" 322، 330. "ج6" 539. "ج7" 210. شرحبيل يكمل "ج2" 595، 597. "ج3" 475، 476، 478. شرحبيل يكيف "ج1" 50. "ج2" 409، 585، 587. "ج3" 330، 467، 477. "ج6" 615. شرحثت "ج2" 150، 216. شرحم يهحمد "ج2" 409. شرحبيل بن ظالم "ج3" 412. "ج6" 16، 527، 594. "ج8" 177، 549، 647، 680، 691. شرعب "ج5" 425.

الشرف "ج1" 404. الشرقي بن القطامي "ج1" 356. "ج8" 162، 168، 334، 782. شروخ "ج1" 450. شروكين "ج1" 554، 561. شريح بن أوس "ج9" 467. شريح بن حصن "ج3" 377. "ج8" 177. شريح بن السموال "ج3" 375، 376. "ج6" 571، 579، 580. "ج9" 771، 775، 778، 779. شريح بن عبد كلال "ج4" 180، 181. "ج7" 141. شريح بن عمران "ج6" 570، 571. "ج9" 770، 786. شريح بن عمرو الكلبي "ج3" 376، 377. "ج4" 521. شريح بن مالك القشيري "ج5" 377، 423، 509. الشريد بن سويد "ج6" 485، 492. "ج9" 64. الشريف الرضي "ج3" حا 158. الشريف المرتضي "ج3" 246. "ج8" 100، حا 111. "ج9" 86، حا 200، 314، 399، 458، 463، 487، 494، 539، 546، 581، 630، 651، 664، 683، 684، 691، 829، 903، 904. شريفة "ج5" 135. شريك بن مطر "ج3" 238. "ج8" 376. شرين "سيرين" "ج9" 741، 745. شظاظ "ج5" 606. شعب بن حي "ج1" 368. شعبة بن الحجاج "ج9" 585. شعبة بن غريض "ج9" 769، 770، 779، 780، 782. الشعبي "ج8" 96، 118، 168، 333، 573، 783. "ج9" 23، 281، 284. الشعثاء الكاهنة "ج8" 369. شعر أوتر بن علهان "ج1" 46، 357. "ج2" 141، 161، 169، 352، 365، 378، 380، 389، 405، 417، 419، 442، 424، 426، 440، 442، 447، 455، 493، 495، 551، 523، 528. "ج3" 316، 454. "ج5" 231، 232. "ج8" 674، 675. شعوب "ج9" 899. شعيب "النبي" "ج8" 777. "ج9" 447. شعيب بن ذي مهدم "ج6" 84. شعيب بن ذي مهرع "ج1" 347، 348، 452، 543، 488. شعيب بن مسعود "ج4" 461. "ج8" 165. شعية بن أبي معاصر "ج3" 327. شعية بن غريض "ج6" 570، 571، 580. الشعيراء "ج4" 525. الشفاء بنت عبد الله "ج8" 137. شفطيا بن مهللئيل "ج6" 526. شق بن ضمرة "ج5" حا 642، 643. "ج6" 736، 760، 765.

"ج8" 365، 366، 740، 793. شق بن مصعب "ج6" 766. شقران السلامائي "ج8" 313. شقرة "ج1" 402. الشقيقة "ج3" 218. شقيلت "شقيلة" "ج3" 42، 48، 52. "ج7" 494. شك "ج1" 392. شكسبير "ج8" 204. شكم اللات "ج6" 16، 233. شكمم سلحن بن رضون "ج2" 132، 134، 155. شكيب الأموي "ج7" 122. الشلف الكبرى "ج1" 92. شلمان ذو نعمة "ج1" حا 574. شلمنصر "ج1" 16، 456، 574، 576. شلوتسر "ج8" 525. الشليل بن مالك "ج4" 446. الشماخ بن ضرار "ج6" 552. "ج7" حا 524. "ج8" 276، 293 "ج9" 69، 241، 381، 424، 434، 494، 846، 858، 880، 881، 889. شمان "ج3" 75. شمت جشم بن لذن "ج2" 248. شمخ بن فزارة "ج1" 404. "ج4" 512. "ج5" 376. شمدر يهنعم "ج2" 482، 488، 495. شمر بن الحارث الضبي "ج6" 725. شمر بن ذي الجوشن "ج5" 269. شمر بن عمرو "ج3" 230، 232. شمر بن يزيد "ج3" 231. شمر تاران لهيعة "ج2" 222. شمر دي الجناح "ج3" 337. شمر ذي ريدان "ج2" 154، 433، 437، 439، 441، 443، 520، 550. "ج3" 380، 453، 455. شمر علن "ج2" 167. شمر يهرعش "ج1" 49، 171، 499، 504. "ج2" 149، 153، 154، 360، 362، 486، 487، 493، 494، 496، 520، 522، 524، 525، 528، 531، 533، 535، 543، 545، 547، 549، 559، 569، 576. "ج3" 190، 193، 194، 317، 456، 457، 483، 535. "ج4" 278. "ج5" 232، 614، 615، 624، 625. "ج7" 137، 210، 232، 368، 491. "ج8" 515، 517. شمر يهرعش الثالث "ج2" 528، 548، 599. شمر يهرعش الثاني "ج4" 528، 532. شمران "ج1" 371. شمرد الجناح "ج1" 338. شمس "ج1" 579، 588، 605. "ج2" 278. "ج3" 194، 439. "ج4" 620. "ج7" حا 608. "ج9" 646. شمسي "ج1" 577، 578. شمش، شوم، أوكن "ج1" 600،

602 شمشون "ج4" 612. شمعون بن جابر "ج3" 284. "ج6" 597، 686. شمعون الارشامسي "ج1" 63، 85. "ج2" 549. "ج3" 172، 219، 220، 464، 466. "ج6" 632. شمعون التيماني "ج6" 528، 540. شمعيا بن دلايا "ج1" 646. شموس "ج9" 766. شمويل بن زيد "ج6" 524. شميلة "ج8" 138. شن بن أفصى "ج1" 407. "ج4" 471، حا 483، 484. شن بن عبد القيس "ج4" 483. شناتر "ج3" 505. الشنتاوي "ج3" حا 507. الشنفرى "ج1" حا 38. "ج4" 412. "ج5" 392. "ج6" 38، 141، 275، 276. "ج9" 104، 161، 226، 322، 361، 399، 445، 534، 605، 607، 609، 611، 612، 622، 636، 638، 640، 642، 828. الشنقناق "شيطان" "ج8" 120. الشنقيطي "ج8" حا 120. "ج9" حا 100، 520، 676، حا 822، 826، حا 830، 880. شنكلن "ج1" 227. شنوق "ج6" 760، 770. شهاب بن عبد قيس "ج3" 226، 274. الشهاب المقري "ج6" 162. الشهابي "ج1" 102. شهال بن وحاظة "ج4" 182. شهر بن باذان "ج3" 528. شهر بن معقود "ج3" 510، 512. شهر أيمن "ج2" 489. شهر بجل بن يدع أب "ج2" 200، 201. شهر ذي يناف "ج4" 193. شهر علان "ج2" 85، 87، 100، 136، 166، 169، 181، 184، 198، 200، 219، 233، 235، 236، 238، 339. شهر هلال بن ذرا كرب "ج2" 196، 212، 214، 234، 235، 237. "ج5" 473، 624. شهر هلل بن يدع أب "ج2" 182، 183، 187، 195، 206، 212، 232، 233، 235، 237، 239. "ج7" 231. شعر هلل يهرجب "ج2" 232، 235، 238. شهر هلل يهقبض "ج2" 185، 188، 214، 215، 226، 240، 470، 522. شهر هلل يهنعم "ج2" 181، 184، 202، 204، 233. شهر يجر "ج8" 514. شهر يجل يهرجب "ج2" 97، 102، 103، 125، 128، 180، 184، 185، 202 203، 205، 211، 214، 220، 228، 235، 237، 239. شهر يجل يهنعم "ج2" 233، 237، 239. شهر يهرعش "ج2" 281، 416،

423 شهران بن عفرس "ج4" 444، 445. "ج5" 353. شهران ناهس "ج1" 347. "ج2" 355. شهل بن شيبان "الفند" "ج9" 104، 669. شهر براز "ج3" 134. الشهر ستاني "ج6" حا 701. شهرم بن والم "ج2" 141. شهميل "ج4" 436. "ج6" 16. الشهيد العاملي "ج5" حا 315. سوارتز "ج9" 672. الشوجم "ج1" 367، 368. شوح "ج1" 446. شورخ "ج1" 449. الشورى "ج8" 360. شوشن "ج2" 205. شوعن "ج2" 543، 545. شوقي ضيف "ج8" حا 572، حا 576، حا 585، حا 637، حا 640، حا 642، حا 658. "ج9" حا 209، 210، حا 305، حا 362، حا 419، حا 535. الشوكاني "ج5" حا 548، حا 552. "ج6" حا 236. "ج7" حا 389. شوكر "ج9" 223. شولتس "ج9" حا 756. شويس الساسي التميمي "ج4" 328. شيبان بن ثعلبة "ج1" 408. "ج3" 330. "ج4" 335، 575. شيبان بن جابر "ج6" 242. شيبان بن ذهل "ج3" 330. "ج4" 503. شيبان بن وائل "ج4" 489. شيبان النهدي "ج5" 397. شيبة بن ربيعة "ج5" 37. "ج6" 478، 479، 607. "ج8" 385. شيبة بن عثمان "ج1" 401. "ج4" 191. "ج5" 251. "ج6" 444. شيث بن ربعي "ج6" 70، 95. الشيخ خالد "ج9" 463. شيخو "لويس" "ج3" حا 245، حا 330، حا 384. "ج4" حا 484، حا 515. "ج5" حا 356. "ج6" 110، حا 467، حا 485، حا 501، حا 572، حا 586، حا 588، 607، 616، 648، 649، 665، 666، 671، 688. "ج9" حا 150، 743، 777، 812. شيرزاذ "ج2" 650. شيرويه بن ابرويز "ج3" 299، 312، 528. "ج4" 178. شيرويه بن كسرى "ج3" 308. شيشت "ج1" 656. شيشرون "أبي التاريخ" "ج1" 57. الشيطان "ج3" 284. "ج6" 70، 730، 731. الشيظم بن الحارث الغساني "ج9" 633، 686. شيع اللآت "ج4" 424، 425. "ج6" 233. شيع الله بن أسد "ج1" 367. شيلا الجاثليق "ج3" 220. شيم، ايل "ج6" 331. شييم "ج1" 402.

الصاد

الصاد: الصاحبي "ج4" حا 645. "ج5" حا 137، حا 223، 224، حا 264، حا 266، 267، حا 302، حا 306، حا 610. "ج6" حا 805. "ج8" حا 91. الصاغاني "ج4" حا 149، 150، حا 439. "ج6" حا 284. "ج7" حا 272. "ج8" 315. "ج9" 321، حا 454. صاف بن صياد "ج6" 734، 767. صالح بن عبد الرحمن "ج9" 26. صالح بن عبد القدوس "ج9" 314، 318. صالح بن عدي "ج7" 460. صالح بن الهميع بن ذي ماذن "ج1" 299، 333، 440، 448، حا 492، 502. "ج2" 45. "ج3" 38، 39. "ج6" 83، 608. صالح أحمد العلي "ج6" حا 694. "ج7" حا 286، حا 513. الصالحاني "ج3" حا 415. الصاوي "عبد الله إسماعيل" "ج1" حا 29. "ج4" حا 60. "ج5" حا 520. "ج6" حا 693. صباح "ج1" 407. "ج4" 483. "ج8" 788. صبح "ج2" 99. صبحم "ج2" 206، 228، 270. صبيح "ج1" 402. صحار بن خولان "ج1" 368، 369. "ج4" 261، 468. صحار بن عباس العبدي "ج8" 333، 359، 782. "ج9" 308، 347. صحار بن عياش "ج8" 763. صحب بن جيش "ج2" 437، 438. صحر بنت لقمان بن عاد "ج4" 625. "ج5" 498، 638، 639. "ج8" 344، 351. صحرا "ج1" 317. صخر بن حرب "ج5" 407. صخر بن عمرو "ج1" 526. "ج4" 79، 255. "ج5" 363، 396. "ج9" 106، 150، 282، 521، 876. صخر بن قيس "ج5" 643. صخر بن يعمر "ج5" 504، 638. صخر الغي المزني "ج9" 613. صخر الغي الهذلي "ج9" 616،

649، 873. صخره بنت عمرو "ج8" 367. "ج9" 612. صدى بن مالك "ج1" 403. الصدف بن أسلم "ج3" 382، "ج4" 464، 465. الصدف بن حمير "ج4" حا 465. الصدف بن الدمون "ج7" 315. الصدف بن ديسع "ج4" حا 465. الصدف بن سهلة "ج4" 465. الصدف بن عمرو "ج4" 465. الصدف بن مالك "ج4" 199. الصدف بن مرتع "ج4" حا 465. صدق ايل "ج2" 79، 83، 85، 86، 101، 104، 124، 125، 136، 166، 167، 169. صدق ذخر "ج2" 146، 152. صدق يد "ج2" 158. صدق يهب "ج2" 330، 334، 341، 350. صرافة بن عوف بن الأحوص "ج6" 703. صرد بن عبد الله "ج4" 184، 657. صرمة بن أبي أنس "ج6" 462، 504. "ج9" 545. صرمة مرة "ج1" 405. "ج4" 380، 508. "ج6" 214، 236، 242. صرمة الأنصاري "ج3" 270. "ج9" 824. صريم بن ضبة "ج4" 523. صريم بن غني "ج4" 515. صريم بن معشر بن ذهل "ج1" حا 307، حا 314، 402. "ج3" 256. "ج9" 103، 826. صريهو معد كرب "ج2" 450صعب بن أسد "ج4" 533. الصعب بن جثامة "ج7" 351. صعب بن دومان "ج1" 367، 371، 408، 503. "ج4" 449. صعب بن سعد "ج4" حا 446، حا 454، 457. صعب بن علي "ج4" 500. صعدة بن معاوية "ج8" 351. صعصعة بن صوحان "ج8" 332، 333، 783. صعصعة بن معاوية "ج1" 405. "ج4" 508، 519، 520. "ج9" 487. صعصعة بن ناجية "ج5" 96، 97. "ج7" 447. صعير بن عامر "ج4" 503. الصفدي "ج8" 610. "ج9" 199، حا 640. صفوان بن أسيد "ج6" 56، 281. صفوان بن أمية "ج4" 121، 224، 224، 671. "ج5" 135، 249، 589، 638، 648. "ج6" 224، 605. "ج7" 297، 300، 443. "ج8" 304، 499. "ج9" 112، 716، 763، 891. صفوان بن الحارث "ج4" 44. "ج5" 653. صفوان بن شجنة "ج1" 403. "ج4" 525. صفوان بن صفوان "ج4" 206. صفوان بن عبد الله بن صفوان "ج6" 500. صفوان بن المعطل "ج9" 741. صفورة "ج1" 453.

صفية بنت الحضرمي "ج1" 372، "ج6" 475، 564. صفية بنت حيي "ج5" 258، 266، 530. "ج9" 772، 778. صفية بنت عبد المطلب "ج9" 411، 736. صفية بنت هشام "ج6" 262. صقر "ج4" 657. الصعقب بن عمرو النهدي "ج3" 283. "ج4" 595. "ج8" 365، 366. صقير "ج4" 657. صلاءة "ج1" 372. "ج4" 459. الصلت بن أمية "ج1" 400. "ج6" 132. صلصل بن أوس "ج5" 653. "ج8" 476. صلمناع "ج1" 455. صلوبا بن بصبهري "ج2" 650. صلوبا بن نسطونا "ج2" 650. صليب ابنة بتأويل "ج1" 418. صليع بن عبد غنم "ج3" 393. "ج5" 436. الصمة بن الحارث "ج5" 371، 382. "ج9" 869. الصمة القشيري "ج5" 313. صموئيل "ج1" 347. "ج3" 110، 118، 278. "ج6" 579. "ج7" 477 الصموت بن عبد الله بن كلاب "ج9" 495. الصميل بن الأعور الكلابي "ج5" 354. صنبل "ج9" 459. صنح بن الحارث "ج3" 167. صنع "ج2" 197. الصهباء بنت حرب "ج3" 382. "ج4" 234. "ج8" 159، 163، 171. صهبان بن ذي خرب "ج3" 331. صهبان بن محرث "ج3" 332. صهيب "مؤذن الرسول" "ج8" 789، 790. صهيب الرومي "ج4" 102، 122، 487. "ج6" 605. صوفة "ج4" 43، 44. الصولي "ج8" حا 102، حا 154، حا 157، حا 305، حا 311. "ج9" 16. صيحان بن صوحان "ج8" 783. صيد ابرد بن مشن "ج2" 161. "ج3" 479. صيدوج "ج4" حا 145. صيفي "ج1" 363.

الضاد

الضاد: ضابيء بن الحارث "ج6" 676. "ج9" 246، 877، 878. ضب "ج1" 406، 526. الضباب بن كلاب "ج4" 521. ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب "ج8" 375. ضباعة بنت عامر "ج6" 358. ضبة بن اد "ج1" 399، 402، 526. "ج3" 275. "ج4" 332، 333، 338، 511، 523. "ج5" 351، 421. الضبع "ج1" 366. الضبي "ج7" حا 538. ضبيب "ج4" 248. ضبيس بن أبي عمرو "ج4" 157. ضبيس بن حزام "ج5" 113. ضبيعة بن أسد "ج4" 339. ضبيعة بن ثعلبة "ج4" 335. ضبيعة بن الحارث "ج4" 340. ضبيعة بن ربيعة "ج1" 406، 408، 526. "ج4" 224، 339. ضبيعة بن زيد "ج6" 510. ضبيعة بن عجل "ج4" 339. ضبيعة بن فريد "ج4" 340. ضبيعة بن قيس بن ثعلبة "ج4" 339، 503. ضبيلة بن ربيعة "ج1" 406ضبينة بن غني "ج4" 515. ضجعم بن حماطة "ج3" 394، 395. ضجعم بن سعد "ج4" 424. "ج6" 587، 592. الضحاك بن سفيان الكلابي "ج4" 265. "ج6" 446. الضحاك بن عبد الله السلمي "ج4" 258. الضحاك بن علوان "ج1" 304، 382، 497، 499، 500، 504. "ج3" 531. الضحاك بن قيس "ج5" 535، 643. الضحاك بن مزاحم "ج9" 279. الضحاك بن معد "ج1" 392. "ج4" 469. الضحيان "ج6" 443. ضرار بن الأزور "ج4" 222، 388. "ج9" 867، 899. ضرار بن الأسود الأسدي "ج3" 275. ضرار بن الخطاب "ج1" 111، 400. "ج4" 109. "ج5" 38. "ج9" 253، 696، 706، 708، 711، 712، 736،

738، 747. ضرار بن ربيعة "ج9" 846. ضرار بن عمرو "ج1" 402، 506. "ج3" 275، 276. "ج4" 523، 571. "ج5" 351. "ج8" 683. ضرغام "ج1" 525. ضريبة بنت أبرهة بن الصباح "ج4" 182، 183. ضرية بنت ربيعة بن نزار "ج4" 421. "ج5" 269. "ج7" 150. ضعينة بن هاشم "ج4" 481. ضماد بن ثعلبة "ج4" 185، "ج8" 381، 386، 387، 742. ضمام بن ثعلبة "ج4" 613، 621. "ج6" 128، 183. ضمام بن جشم "ج4" 448. ضمام بن مالك السلماني "ج4" 186، 464. ضمرة بن بكر "ج3" 276. "ج4" 532، 591. "ج7" 351. "ج9" 407، 439، 445. ضمرة بن ضمرة "ج3" 283. "ج5" 359، 378، 498، 637، 642. "ج8" 351، 366، 740. ضمرة بن لبيد "ج5" 353. ضمضم بن عمرو "ج7" 291. ضنة "ج1" 366، 408. "ج4" 502. "ج9" 489. الضهياء بنت حرب "ج4" 465. الضيزن "ج4" 404. الضيزن بن معاوية التنوخي "ج2" 614، 618.

الطاء

الطاء: طابخة بن الياس "ج1" 397، 402. "ج4" 476، حا 529. "ج9" 146. طابخة بن لحيان "ج4" 534. طارق أبو عميرة "ج1" 369، 525. "ج3" 226. "ج4" 472. طاش كبري زاده "ج6" حا 756، حا 758. طالب بن أبي طالب "ج6" 713طالوت "ج6" 575. الطاهر بن أبي هالة "ج4" 192، 195. طاووس "ج4" 557، 657. طايوس دبيت روموين "ج3" 216. الطبراني "ج6" 469. "ج9" 279. الطبرسي "ج3" حا 507، حا 516. "ج4" حا 11، 111، 112، حا 152.

"ج5" حا 83، حا 90 حا 193، حا 304، حا 534، حا 537، حا 546. "ج6" حا 190، حا 200، حا 204، 205، حا 218، حا 251، حا 258، حا 260، 264، حا 266، حا 358، حا 381، حا 429، حا 449، 452، حا 455، حا 482، حا 486، حا 560، حا 691، حا 701، حا 740، حا 744، حا 758. "ج8" 100، حا 285، حا 496، حا 502. الطبري "ج1" 52، حا 76، 77، 79، 80، حا 85، حا 146، 147، حا 158، 244، حا 281، 282، حا 296، 299، حا 302، حا 305، حا 310، حا 315، حا 319، 323، 333، 335، 338، حا 340، 341، حا 344، 346، حا 349، حا 354، 355، 361، 362، حا 375، 376، حا 381، 382، حا 387، 388، حا 390، حا 394، 395، حا 397، حا 411، حا 417، 421، حا 427، 428، حا 432، 435، حا 437، حا 440، حا 443، حا 445، 453، حا 462، 463، حا 470، 471، حا 493، 507، حا 547، 548، حا 563، حا 607، حا 611، حا 622. "ج2" حا 16، حا 22، حا 26، حا 91، حا 91، حا 155، حا 258، حا 264، 421 حا 532، 534، حا 538، 539، حا 569، حا 575، 579، حا 587، 591، 592، 615، 618، 634، حا 638، 642، حا 644، حا 646، 651. "ج3" حا 7، حا 43، حا 69، حا 87، حا 90، حا 93، حا 102، 105، حا 131، حا 132، حا 158، حا 161، 164، حا 168، 169، حا 174، حا 176، حا 178، 189، حا 193، 199، حا 201، حا 203، 210، حا 215، حا 218، حا 222، 224، حا 260، 262، حا 264، 266، حا 268، 269، حا 273، حا 275، حا 288، 289، حا 292، حا 294، 301، حا 305، 306، حا 308، حا 312، حا 315، حا 328، 330، حا 334، حا 336، 340، حا 357، حا 395، حا 405، حا 427، حا 431، حا 433، حا 435، 437، 443، 447، حا 457، 459، حا 470، حا 481، 482، حا 504، 505، حا 507، حا 513، حا 515، حا 518، حا 532، 525، حا 527، 529، حا 531، حا 533، حا 536، 537. "ج4" حا 11، حا 14، حا 16، حا 23، 25، حا 29، 30، حا 33، 35، 37، حا 40، 45، حا 52، 55، حا 58، 59، حا 62، حا

64، 66، حا 70، حا 72، 76، حا 82، حا 108، 109، حا 111، 112، حا 122، 124، حا 131، حا 134، حا 154، 155، حا 161، 162، حا 178، حا 181، 188، حا 191، 192، حا 194، 201، حا 205، 206، حا 209، حا 215، حا 217، حا 220، 221، حا 224، 225، حا 227، 228، حا 230، 231، حا 234، 236، حا 239، حا 241، 244، حا 248، 249، حا 251، 253، حا 256، حا 260، حا 262، حا 264، 267، حا 325، حا 377، حا 445، حا 454، حا 467، حا 474، حا 486، حا 500، 544، حا 613. "ج5" 16، حا 156، حا 193، حا 198، حا 199، حا 201، حا 206، حا 224، حا 250، حا 284، حا 288، حا 290، حا 294، حا 305، 306، حا 363، حا 391، حا 433، حا 447، حا 452، حا 520، 521، حا 564، حا 641. "ج6" حا 24، 25، حا 62، حا 90، 92، حا 94، 96، حا 99، حا 113، حا 143، حا 192، 193، حا 200، حا 234، حا 239، 240، حا 242، حا 244، 245، حا 247، حا 249، حا 251، حا 258، حا 266، 267، حا 272، حا 341، حا 343، 350، 409، 411، حا 431، حا 433، حا 439، 440، حا 449، حا 451، 452، حا 472، حا 482، حا 502، حا 509، حا 523، 524، حا 529، 530، حا 537، حا 551، حا 560، حا 563، 564، حا 595، حا 600، حا 608، 611، حا 617، حا 622، حا 692، حا 702، حا 712، حا 730، حا 740، حا 744، حا 765، حا 770، حا 778. "ج7" حا 116، حا 152، حا 259، حا 273، حا 282، حا 291، 292، حا 297، 299، حا 304، حا 308، حا 317، حا 339، 340، حا 348، 349، حا 352، 354، حا 356، 359، حا 361. 371، 372، حا 376، حا 421، حا 430، حا 440، 441، حا 457، حا 597. "ج8" حا 93، 95، حا 103، حا 110، حا 120، حا 126، حا 135، 250، 259، 260، حا 274، حا 292، حا 295، 297، حا 301، حا 327، حا 368، حا 381، حا 383، حا 393، 428، 458، 472، 473، حا 480، حا 482، حا 487، 499، حا 539، 543، 562، 587، 595، 596، 600، 601، 608، 625، 643، 645، 464،

665، 666، 683، 684، حا 753، 758، 760، 762، 763، حا 790. "ج9" حا 6، حا 11، 37، حا 67، حا 69، حا 155، 156، 391، حا 394، 395، 500، حا 551، 552، 683، 715، 758، 759، 785، 845، 863، 867، 883. طبريوس "ج7" 277. طخيم بن أبي الطخماء "ج6" 584. طرفة بن تميم "ج7" 384. طرفة بن العبد "ج1" 306، 318. "ج3" 241، 246، 258. "ج4" 503، 553، حا 564، 631، 679، 685. "ج5" 6، 22، 72، 153، 154، حا 164، حا 338. "ج6" حا 684، 781، حا 797، 810. "ج7" 249، 251، 253، 526، 538، 601. "ج8" 280، 362، 365، 375، 664، 666. "ج9" 55، 65، 101، 114، 148، 161، 177، 188، 233، 236، 238، 241، 243، 259، 305، 313، 345، 368، 401، 416، 417، 433، 445، 460، 475، 477، 483، 488، 506، 508، 509، 513، 515، 519، 525، 535، 541، 565، 566، 597، 659، 633، 666، 672، 673، 676، 797، 798، 800، 831. الطرماح بن حكيم "ج1" حا 307، 483، 492. "ج3" 252. "ج4" 337، 594. "ج5" 129. "ج8" 327، 325، 729. "ج9" 311، 337، 349، 540، 677. طريف بن تميم "ج4" 571. "ج5" 369. "ج9" 473. طريف بن عبس "ج4" 505، 516، 530. طريف بن عمرو "ج5" 369. طريف بن فهم "ج4" 207، حا 433، 438. طريفة الكاهنة "ج6" 760، 770. "ج8" 369. طسم "ج1" 295، 296، 334، 339، 346، 358، 418. طعيمة بن عدي "ج5" 38. الطفاوة بنت جرم بن زبان "ج1" 404. "ج4" 514. طفشيل "ج9" 650. الطفيل بن زلال "ج5" 74. طفيل بن زيد "اللجلاج الحارثي" "ج8" 113. "ج9" 432، 483، 775. طفيل بن عمرو الدوسي "ج4" 515، 651. "ج5" 560. "ج6" 274، حا 675. "ج9" 852. طفيل عوف الغنوي "ج1" 307. "ج3" 283. "ج6" 110. "ج8" 366. الطفيل بن مالك "ج5" 359، 371، 373، 396.

الطفيل الدوسي "ج9" 78. الطفيل الغنوي "ج9" 104، 267، 336، 337، 349، 541، 796. طلحة بن أبي طلحة "ج5" 38. طلحة بن خويلد "ج4" 222، 253، 534. "ج8" 788. طلحة بن عبيد الله "ج7" 311، 443. "ج8" 119، 128، 388. طلحة النميري "ج6" 94. طلق بن علي "ج4" 217. "ج9" 793. طليحة الأسدي "ج1" 281. "ج4" 183، 217، 255. "ج7" 339، 347. "ج8" 762. "ج9" 69، 866. الطماح "ج3" 367، 371. "ج9" 521، 523. الطموح بنت دارم "ج9" 464. طه الحاجري "ج4" حا 98. "ج9" حا 417. طه حسين "ج1" حا 70. "ج8" 622، 635، 640، 644. "ج9" 63، 257، 372، 375، 400، 436، 535، حا 583، 769. طفهة بن زهير النهدي "ج5" 311. طوبيا العبد العموني "ج5" 646. الطوسي "ج6" حا 194. "ج9" 296، 301، 306، 352. طويس "ج4" 657. "ج5" 45. "ج9" 156. طيء بن ادد "ج4" 334، حا 450. "ج6" 351. طيباريوس "ج3" 43، 45، 86، 228، 290، 414، 416. "ج6" 592، 633، 663. طيزانيس "ج2" 618. طيطس "ج1" 55. طيطوس "ج6" 524. طيم "ج1" 375، 434. طيموثاوس "ج6" 619، 630.

الظاء

الظاء: ظاعنة "ج4" 525. ظالم بن أسعد "ج6" 235، 241، 242، 444. ظالم بن فزارة "ج4" 512. "ج5" 45. ظالم بن وهب "ج1" 93، 358، 404، 525. "ج3" 325. ظبنم أثقف بن حلحلم "ج2" 374ظبيان بن مرثد السدوسي "ج4" 224. ظفر "ج1" 405، 407. ظليم "ج1" 403. "ج3" 251. "ج4" 337، 375. ظويلم "مانع الحريم" "ج4" 21. "ج5" 303.

العين

العين: عائد بن فهم "ج4" 507. عائذ بن حلوان "ج1" 366. "ج4" 421، 424. عائذ اللات "ج6" 233. عائذ الله بن سعد "ج1" 407. "ج4" حا 454، 457. "ج6" 16، 18. "ج7" 462. عائذة "ج1" 401، 402. "ج4" 483. عائش بن مالك "ج1" 332. "ج4" 488. عائشة بنت أبي بكر "ج1" 281. "ج3" 519. "ج4" 294، 312. "ج5" 32، 52، 105، 118، 126، 140. "ج6" 382، 560، 798، 822. "ج7" 239، 308، 351، 451، 456، 518، 601. "ج8" 273، 480، 482، 710، 711. "ج9" 30، 244، 279،

286، 539، 546، 742، 877، 881. عائشة بنت سعد "ج8" 138. عائشة بنت طلحة "ج9" 893. عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" "ج3" حا 204، حا 245، حا 286. "ج6" 101، حا 129، حا 378، حا 446، حا 725. "ج8" حا 383. "ج9" حا 568، حا 790. العائف اللهبي "ج6" 775. "ج8" 744. عابد "ج4" 421، 424. عابر بن أرم "ج1" 96، 324، 355، 356، 358، 488. "ج2" 261. عابر بن سبأ بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام "ج1" 296، 361، 366، 417، 418، 421، 427. عابر بن شالخ "ج1" 310، 311، 314، 345، 418، 498 "ج8" 200. عاتكة بنت زيد "ج6" 476. عاتكة بنت عبد المطلب "ج4" 80، 82. "ج8" 275. عاتكة بنت مرة السلمية "ج4" 70، 481، 636. "ج5" 554. عاتكة بنت يخلد "ج4" 479. عاد بن عوص بن أرم "ج1" 294، 296، 299، 309، 337، 343، 419، 452. "ج4" 434. "ج6" 537. عادة "ج1" 301. عادل "ج3" 488. عادياء بن حباء "ج3" 375. "ج6" 571، 577، 579. "ج9" 771، 772، 824، 875. عادية "ج1" 601. "ج4" 520. عاذر بن جشم "ج3" 48. عارف الشاعر "ج6" 768. عارم "ج1" 525. غازر "ج6" 546. العاص بن سعيد "ج5" 37. العاص بن منبه "ج5" 38، 423 العاص بن هشام "ج4" 125، 567. "ج5" 37، 626. العاص بن وائل "ج4" 84، 85، 87، 125. "ج5" 38، 135، 502، 637. "ج6" 126، 147. "ج7" 192، 295، 446، 447، 555. "ج8" 780. "ج9" 411، 619. عاصم بن حارث "ج1" 359. "ج4" 189، 250. "ج8" 125. عاصم بن خليفة "ج5" 446، 557. عاصم بن عمرو "ج3" حا 158. "ج5" 115. "ج9" 9، 69. عاصم بن النعمان "ج4" 489، 492. العاصي بن عمرو "ج4" 437. العاض "العاصي" "ج1" 358. عافية بن شبيب "ج9" 302. العال "ج1" 298. عامر بن أحمير السعدي "ج4" 525، 591. عامر بن الأسود "ج4" 222،

"ج8" 130. عامر بن الأطنابة "ج4" 140. عامر بن أعصر "ج4" 514. عامر بن الأكوع "ج9" 174. عامر بن بكر "ج5" 593. عامر بن ثعلبة "ج4" 435. "ج8" 408. عامر بن جدره "ج8" 111، 160، 162. عامر بن جذيم "ج4" 671. عامر بن جشم "ج5" 480، 565. "ج6" 219. "ج9" 725. عامر بن جوين الطائي "ج3" 327، 369، 370، 372، 373. "ج4" 406. "ج9" 621. عامر بن حارثة "ج4" 435، 436، 485. عامر بن الحرث "جران العود" "ج9" 489، 490. عامر بن الحضرمي "ج6" 604 عامر بن الحليس "ج9" 492، 493. عامر بن حمير "ج1" 370، 401. عامر بن حنيفة "ج6" 97. "ج8" 761. عامر بن ربيعة "ج1" 371، 374، 405، 407، 408. "ج4" 520. عامر بن رهم بن هميم "ج9" 486. عامر بن سعد "ج4" 487. عامر بن سلمة "ج5" 465. "ج6" 100. عامر بن سنان "ج5" 117. عامر بن شراحيل "ج9" 281، 296. عامر بن شهر "ج4" 192. عامر بن صعصعة "ج1" 405"ج3" 213، 275، 331، 354، 373، 498. "ج4" 145، 146، 252، 255، 257، 334، 406، 445، 448، 458، 508، 511، 516، 520، 523، 524. "ج5" 348، 351، 362، 376، 377، 381، 386، 393. "ج6" 357، 363، 366، 371. "ج7" 306، 370، 382. "ج8" 556. "ج9" 68، 348، 434، 487، 500، حا 551، 552، 577، 617. عامر الضحيان "ج4" 347، 487. "ج5" 266، 505، 638، 650 عامر بن طفيل "ج3" 279. "ج4" 255، 256، 268، 307، 311، 350، 354، 363، 514، 521، 571، 575، 590، 591. "ج5" 39، 197، 235، 362، 363، 385، 388، 391، 396، 445، 498، 564، 645 "ج7" 455. "ج8" 556، 776، 779. "ج9" 357، 416، 417، 432، 483، 496، 547، 552، 577، 595، 636، 672 عامر بن الظرب العدواني "ج1" 393، 403. "ج4" 146، 147، 150، 494، 508، 516، 671.

"ج5" 237، 346، 385، 407، 480، 496، 499، 504، 505، 530، 552، 637، 638، 643، 644، 646، 648. "ج6" 219، 224، 231، 463، 505. "ج8" 350، 352، 773. "ج9" 649. عامر بن عامر بن ثعلبة "ج4" 134. "ج6" 521. عامر بن عبد الله "ج4" 534. عامر بن عبد مناة "ج1" 404، 405. "ج4" 79، 379، 532. "ج5" 520. "ج6" 364. عامر بن عقيل "ج8" 203. عامر بن عكرمة "ج4" 268. "ج8" 127. عامر بن عمران "ج9" 301. عامر بن عتوارة "ج6" 39. عامر بن عوف "ج1" 404، 449، 525. "ج6" 256. عامر بن غنم "ج4" 534. عامر بن فهيرة "ج5" 150. "ج7" 510. "ج8" 404. عامر بن فهم "ج4" 507. عامر بن قمعة "ج4" 530. عامر بن كريز "ج4" 125. "ج7" 342. عامر بن كعب "ج5" 374. عامر بن كلاب "ج3" 498. "ج4" 405. عامر بن كنانة "ج4" 37، 478، 532. عامر بن لؤي "ج1" 363، 365، 369، 401. "ج4" 27، 60، 91، 109، 480. "ج5" 623، 650. "ج8" 473، 754، 760. عامر بن لحي "ج4" 530. عامر بن لقيم "ج1" 302. عامر بن ليث "ج4" 532. عامر بن مالك "ج3" 498. "ج4" 346، 591. "ج5" 39، 351، 373، 388، 389. "ج9" 500، 548. عامر بن مجاشع "ج1" 402. عامر بن مطر الشيباني "ج9" 307. عامر بن هاشم "ج4" 37، 62. "ج5" 272. عامر بن وهب "ج4" 515. عامر بن الأجدار "ج4" 240. "ج6" 213، 256، 257. عامر الأعور "ج3" 359، 362 عامر التغلبي "ج9" 251. عامر الجادر "ج4" 38، "ج6" 433. عامر ماء السماء "ج3" 388، 391. عامر المذمم "ج4" 226. عاملة "ج1" 364، 372، 399، 516. "ج4" 245، 477. عامي "ج1" 359. العباب الحارثي "ج5" 408. عباد بن جلندى "ج1" 92، 358 "ج4" 200، 489، 492. عباد بن حذيفة "ج8" 498، 499. عباد بن الحصين "ج9" 68. عباد بن قلع "ج8" 497. عبادة بن الحارث "ج6" 97. "ج8" 761.

عبادة بن الصامت "ج1" 366. "ج2" 48، 50. "ج3" 40، 42. "ج4" 264، 368. "ج5" 551. عبادة الأول "ج3" 22، 26، 28، 40، 41. عبادة الثالث "ج7" 494. عبادة الثاني "ج2" 44، "ج3" 22، 26، 28، 34، 38، 40. العبادي "ج4" حا 357، حا 369، 370. عباس بن أبي ربيعة "ج4" 615 عباس بن الأحنف "ج9" 116، 271، 288، 739. العباس بن أنس "ج4" 261. "ج7" 407. العباس بن الربيع "ج3" 502 عباس بن رعل "ج4" 85. "ج5" 382. العباس بن عبد المطلب "ج4" 61، 66، 82، 91، 660. "ج5" 37، 247، 249، 251، 439، 502. "ج6" 399، 419، 443، "ج7" 310، 407، 421، 429، 432، 433، 440، 441، 444، 632، 633. "ج8" 117، 118، 275. "ج9" 231. عباس بن محمد رضا القمي "ج1" حا 86. العباس بن مرداس السلمي "ج1" حا 379، 391. "ج4" 257، 259، 518، 519، 671. "ج5" 267. "ج6" 259، 284، 713، 729 "ج7" 122، حا 149، 407. "ج8" 117، 132، 347، 348، 425، 681. "ج9" 65، 106، 835، 846، 863، 865، 876، 877. العباس بن الوليد "ج8" 608. عبد بن غني "ج4" 515. عبد الأسد بن هلال "ج4" 80. "ج6" 16. "ج8" 691. عبد الأسود العجلي "ج2" 620، 649. "ج6" 596. عبد الأشهل "ج1" 438، 476. عبد أصدق "ج6" 209. عبد الأعلى "ج8" 297. عبد الله "ج1" 364، 365، 369، 374، 404، 406. "ج3" 170، 171. "ج6" 16، 83، 87، 172، 192، 193، 199، 251، 617، 619، 687. "ج7" 313. عبد الله بن إبراهيم "ج7" 208. عبد الله بن أبي "ج5" 136، 137. "ج6" 548. "ج8" 114، 116. عبد الله بن أبي إسحاق "ج9" 53، 54، 57. عبد الله بن أبي أمية "ج4" 581. عبد الله بن أبي ربيعة "ج4" 224، "ج6" 488. "ج7" 293، 307، 443. "ج9" 878. عبد الله بن أبي سرح "ج9" 120،

131 عبد الله بن أبي سلول "ج4" 123، 139، 264، 307، 368، 369. "ج5" 209، 210، 571. "ج6" 126. "ج7" 464. "ج9" 724، 742، 743. عبد الله بن أحمد المروزي "ج3" 162. عبد الله بن الأرقم "ج6" 19. "ج8" 121، 125، 131. عبد الله بن أريقط "ج7" 510. عبد الله بن الأزد "ج4" 435، 438. عبد الله بن أسود "ج4" 224. عبد الله بن أصرم "ج6" 19. عبد الله بن أفصى "ج4" 316. عبد الله بن أنيس "ج4" 250، 255، 268. "ج6" حا 456. عبد الله بن الأهتم "ج9" 885. عبد الله بن بيدرة "ج4" 336. عبد الله بن ثامر "ج3" 458. "ج6" 609، 610. عبد الله بن جحش "ج1" 42. "ج6" 462، 464، 469، 470، 476. "ج7" 361، 522. عبد الله بن جدعان "ج3" 214، 275. "ج4" 62، 63، 78، 79، 81، 82، 84، 88، 94، 96، 103، 114، 122، 125، 364، 378، 384، 481، 488، 489، 492، 502، 515، 520، 579، 580، 602، 661، 670، 672. "ج5" 23، 27، 106، 113، 118، 119، 250، 315، 351، 360، 381، 383، 441، 501، 502، 505، 521، 638. "ج6" 487، 488، 491، 605، 713، 714، 722. "ج7" 192، 438، 447، 576، 582. "ج8" 52، 164، 717، 780. "ج9" 107، 146، 155، 157، 159، 214. عبد الله بن جدل "ج5" 265. عبد الله بن الجراح "ج4" 84. عبد الله بن جرير "ج4" 445. عبد الله بن جعدة "ج5" 378. عبد الله بن جعفر "ج7" 240. "ج9" 628. عبد الله بن الجلندي "ج4" 441. "ج7" 141. عبد الله بن الحارث "ج3" 347، "ج5" 367. عبد الله بن حبيب العنبري "ج4" 579. "ج5" 81. عبد الله بن حذافة "ج9" 696. عبد الله بن الحصين "ج4" 307. عبد الله بن حميد "ج 4" 52. عبد الله بن خارجة "ج4" 504. عبد الله بن خالد "ج4" 46 عبد الله بن خير "ج 8" 249. عبد الله بن دارم "ج1" 402. "ج3" 251، 348. "ج4" 375، 571. "ج5" 359. "ج7" 374. عبد الله بن درة "ج4" 263.

عبد الله بن رباح "ج1" 310. عبد الله بن رزين "ج4" 244. عبد الله بن رواحة "ج4" 140، 242. "ج8" 121، 136، 664. "ج9" 148، 173، 248، 328، 329، 333، 432، 654، 719، 728، 729، 738، 747، 750، 843، 846. عبد الله بن الزبعري "ج1" 111 "ج3" 520. "ج4" 56، 58. "ج8" 664. عبد الله بن الزبير "ج4" 89، "ج6" 435، 436، 438، 440. "ج7" 497، 500. "ج8" 88. عبد الله بن زيد "ج4" 203. "ج7" 373. "ج8" 122، 132. "ج9" 280. عبد الله بن السائب "ج5" 37. عبد الله بن سعد بن أبي سرح "ج8" 120، 124، 754. عبد الله بن سلام "ج1" 103، 410. "ج2" 514. "ج5" 140. "ج6" 551، 562. "ج7" 419. عبد الله بن صعب "ج4" 533. عبد الله بن صفوان الأكبر "ج6" 500. عبد الله بن الصمة "ج5" 363. "ج9" 869. عبد الله بن صوري الأعور "ج6" 546، 553. عبد الله بن صيف "ج6" 546. عبد الله بن طارق "ج5" 586. عبد الله بن طاهر "ج8" 190. عبد الله بن عامر "ج6" 96. "ج7" 342، 441. عبد الله بن عباس "ج1" 167، 224. "ج4" 311، 386. "ج6" 500، 677. "ج7" 464. "ج8" 168، 303. "ج9" 42، 54. عبد الله بن عبد الله "ج9" 121. عبد الله بن عبد الحجر "ج8" 332. عبد الله بن عبد المطلب "ج5" حا 89، حا 94، 96. عبد الله بن عبد الملك "ج6" 217. "ج8" 323. عبد الله بن عبيد الله "ج4" حا 99. عبد الله بن عتبة "ج7" 368. عبد الله بن علقمة "ج4" 505. عبد الله بن عليم "ج4" 673. عبد الله بن عمار الحضرمي "ج4" 58. "ج8" 128. عبد الله بن عمر بن الخطاب "ج5" 115، 116. "ج6" 391، "ج9" 54. عبد الله بن عمرو بن العاص "ج8" 137، 266، 324، 329، 749. عبد الله بن عنمة الضبي "ج5" 267. "ج8" 256. عبد الله بن عوف الأشح "ج4" 209. عبد الله بن غطفان "ج4" 572. "ج5" 74. عبد الله بن قريظ الزيادي "ج3" 537. "ج4" 189.

عبد الله بن قلابة "ج1" 321. عبد الله بن قيس الرقيات "ج3" 520. "ج4" 187. "ج9" 327 عبد الله بن كعب "ج4" 522. عبد الله بن مالك "ج4" حا 139، 253. عبد الله بن مذحج "ج7" 364. عبد الله بن مرتد "ج4" 224. عبد الله بن مسعود "ج1" 282. "ج3" 431. "ج4" 535. "ج6" 97. "ج7" 502. "ج8" 302، 325. "ج9" 9، 217. عبد الله بن مسلم الحضرمي "ج4" 121. "ج6" حا 679. عبد الله بن معاوية "ج7" 208. عبد الله بن مغفل المرني "ج5" 167. "ج6" 385. عبد الله بن المقفع "ج1" 78. "ج9" 314. عبد الله بن ناجية "ج4" 456. عبد الله بن نهيك "ج9" 540. عبد الله بن النواحة "ج1" 89، 95، 97. عبد الله بن هبل "ج6" 435. عبد الله بن وائل "ج4" 488. عبد الله بن وهب الأسلمي "ج6" 91. عبد الله بن يزيد الحضرمي "ج9" 25. عبد الله التميمي "ج9" 164. عبد الله ذي البجادين "ج4" 263 عبد الله القضاعي "ج6" 506. عبد الله المتكبر "ج4" 32. عبد الله هشام "ج9" 309. عبد أمية "ج6" 18. عبد الأمير"ج6" 18. عبد إيل بن هاني "ج2" 192، 247. عبد تيم "ج6" 282. عبد الجبار بن أحمد "ج6" حا 627، حا 630. عبد الجد الحكمي "ج2" 583. "ج6" 17. عبد الحارث "ج3" حا 201. "ج6" 18، حا 56. عبد الحجر بن الملدان "ج4" 459. "ج6" 18. عبد الحليم النجار "ج1" حا 89. "ج4" حا 277. "ج6" حا 569. عبد حمل "ج6" 327. عبد الحميد أحمد الحنفي "ج4" حا 404. عبد الحميد الدواخلي "ج2" حا 601، حا 622. "ج4" حا 57. "ج8" حا 237. عبد الحميد العبادي "ج4" حا 324. عبد حوت "ج6" 326. عبد خرج "ج2" 251. "ج6" 319. عبد الدار "ج1" 401. "ج4" 26، 37، 42، 50، 58، 64، 84، 91، 112، 377، 480، 514. "ج6" 18، 282، 417. "ج7" 192. "ج9" 278. عبد ذو الأذعار "ج3" 483. عبد ذو الشرى "ج6" 16، 275 عبد ذو غابة "ج6" 314 عبد الرحمن بن أبي بكر "ج4" 197، 238. عبد الرحمن بن جبر "ج9" 114،

116. عبد الرحمن بن الحارث "ج7" 395. عبد الرحمن بن حسان "ج4" 622. "ج9" 99، 432، 471، 744، 745، 885. عبد الرحمن بن حسل "ج9" 891. عبد الرحمن بن عوف "ج4" 237، 647، 650. "ج5" 70، 116. "ج7" 41، 309، 310، 412. "ج8" 274، 596. عبد الرحمن بن ملجم المرادي "ج9" 869. عبد الرحمن بن هرمز "ج9" 45، 53. عبد الرحمن الأنصاري "ج8" حا211. عبد الرحمن الخزاعي "ج6" حا775. عبد الرحمن محمد "ج1" حا 85 "ج3" حا 304. عبد الرسول "ج6" 18. عبد رضى "ج6" 268، 311. عبد الزهرة "ج6" 18. عبد الستار أحمد فراج "ج9" حا52، 383، 476، 477، 567، 568، 662، 666، 676، 677، 701، 783، 811، 826، 869. عبد سعد "ج6" 16، 17، 274 عبد السلام محمد هارون "ج1" حا 483. "ج3" حا 281، حا 352. "ج4" حا 299، حا 310، 311، حا 368، حا 388، حا562، 563، حا 572، حا598، حا 600، 603، حا617، حا 633، حا 643، حا653، حا 657، حا 660، حا664، حا 674، حا 681. "ج5" حا 44، حا 61، حا 64، 65، حا 74، حا 94، حا 124 125، حا 198، حا 204، حا 220، حا 222، حا 271، حا303، حا 306، 307، حا312، حا 409، حا 422. "ج6" 386، حا 480، حا 668، حا 692، حا 707، حا713، 715، حا 719، حا723، حا 729، حا 736، 737، حا 787، 788، حا791، 795، حا 798، حا800، 804، حا 814، 815. "ج8" حا 269، حا 361، حا384، حا 643، 656، حا739، 740، حا 755، حا772، حا 784، حا 786، حا789. "ج9" حا "23، 71، 85، 113، 265، 280، 282، 285، 333، 336، 392، 455، 476، 483، 507، 537، 542، 546، 551، 553، 587، 592، 597، 599، 651، 676، 686، 697، 698، 700، 748، 754، 757، 763، 772، 782، 811، 825، 836، 854، 856، 859، 879، 896، 898" عبد السماء "ج6" 315. عبد سميا "ج2" 613. عبد شمس "ج1" 363، 364، 372، 402.

"ج2" 258، 259. "ج3" 316. "ج4" 61، 69، 72، 74، 108، 110، 483، 636. "ج6" 16، 55، 56، 164، 318. "ج7" 191، 193، 301، 303، 357. عبد شمس بن سعد "ج8" 365. "ج9" 410. عبد ضخم "ج1" 418. عبد الطابخة بن ثعلب "ج6" 463، 505. عبد العال سالم مكرم "ج9" حا39، حا 48. عبد عبادة "ج3" 42. عبد عثتر "ج2" 490، 491، 563. عبد عثتر بن موقس "ج2" 384، 385. العبد العجلاني "ج9" 236. عبد عدنون "ج1" 380. "ج3" 45. عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي "ج3" 200. "ج9" 663. عبد العزى بن عبد المطلب "ج6" 237. "ج7" 439. عبد العزى بن عبد مناف "ج6" 237. عبد العزى بن عثمان "ج5" 38. عبد العزى بن قحطان "ج1" 401، 527. "ج4" 26، 42، 58، 64، 84، 112، 161، 509، 656. "ج6" 16، 316، 669، 687. عبد العزى بن قصي "ج4" 480"ج6" 237. عبد العزى بن وديعة المزني "ج6" 248. عبد العزيز آل سعود "ج6" حا271. عبد العزيز بن عبد الرحمن "ج1" 132. عبد العزيز الرشيد "ج1" حا177. عبد العزيز فهمي "ج5" حا 469 "ج6" 311. عبد العزيز الميمني "ج6" 673. "ج9" حا 451، حا 641، حا878. عبد عشيرة "ج6" 288. عبد علي "ج6" 18. عبد عم "ج2" 545. عبد عمرو بن بشر"ج9" 537. عبد عمرو بن جبلة "ج4" 250. عبد عمرو بن سنان "ج5" 367. "ج6" 17. عبد عمرو بن صيفي "ج8" 323. عبد عمرو بن عمارة "ج3" 243، 245. "ج4" 257. عبد عوض "ج6" 314. عبد عوف "ج6" 17، 19، 288. "ج8" 691. عبد القادر بن عمر البغدادي "ج9" 757. عبد قاني "ج6" 319. عبد قصي "ج4" 26، 42، 57، 58، 64، "ج6" 330. عبد القيس "ج1" 339، 407، 527. "ج2" 637. "ج3" 169، 170، 243، 246، 261، 300، 348. "ج4" حا 423، 483، 488.

500، حا 544، 632. "ج5" 396. "ج6" 26، 286، 317، 332. "ج7" 383. "ج9" 148، 326، 472، 592 عبد الكريم بن أبي العوجاء "ج9" 314. عبد الكريم عثمان "ج6" حا 627. عبد الكعبة "ج4" 82. عبد كلال بن مثوب "ج1" 338. "ج2" 579، 582، 584، 586، 588. "ج3" 170. "ج4" 181، 196. "ج6" 610. عبد كلال الحميري "ج8" 683. عبد لات "ج1" 527. "ج2" 357. "ج6" 233. عبد المجيد عابدين "ج8" حا343. عبد محرق "ج3" 189. "ج6" 16، 281. عبد المحسن الحسيني "ج4" حا20. عبد محمد "ج6" 18. عبد المدان بن الديان "ج1" 372 "ج3" 533. "ج4" 98. "ج6" 417، 616. "ج9" 665. عبد المسيح بن بقيلة "ج6" 18، 652. عبد المسيح بن ثعلبة "ج4" 66. عبد المسيح بن دارس "ج6" 616. عبد المسيح بن عمرو "ج1" 383. "ج3" 170، 171، 288، 533. "ج4" 191، 225، 437. "ج6" حا 417، 598، 599، 617، 686. "ج8" 539. عبد المطلب بن هاشم "ج3" 507، 511، 512، 514، 516، 519. "ج4" 32، 61، 73، 82، 99، 100، 136، 311، 355، 613، 636، 656، 660 "ج5" 37، 95، 96، 156، 161، 163، 206، 315، 383، 505، 593، 605، 637، 638، 649، 651. "ج6" 18، 128، 192، 193، 199، 222، 225، 251، 368، 433، 439، 444، حا677، 761، 769. "ج7" 315، 407، 529. "ج8" 118، 162، 264، 331، 642، 738، 778، 780 "ج9" 256، 277، 403، 407، 410، 421، 439، 440، 478، 492، 495، 621، 721. عبد المعين الملوحي "ج9" حا612، حا 640. عبد الملك بن عبد الرحيم "ج6" 576. "ج9" 775. عبد الملك بن عبيش "ج3" 46، 47. عبد الملك بن مروان "ج1" 495 "ج2" 452. "ج3" 527. "ج4" 25، 96، 197، 412، 578، 632. "ج5" 298.

"ج7" 344، 496، 497، 500 "ج8" 182، 379، 760، 772، 779. "ج9" 16، 23، 221، 236، 254، 281، 283، 286، 337، 489، 510، 511، 731، 895، 903. عبد ملك بن مويلك "ج9" 908. عبد مناة "ج1" 527. "ج4" 656. "ج6" 250، 320. عبد مناة بن أد "ج4" 338، 523، 524. "ج8" 691. "ج9" 146، 670. عبد مناة بن حنيفة "ج1" 408. عبد مناة بن كنانة "ج1" 400، 401. "ج4" 532. عبد مناة بن النمر "ج4" 487. عبد مناف بن دارم "ج5" 608. عبد مناف بن قصي "ج1" 402، "ج4" 26، 31، 37، 42، 51، 56، 64، 70، 72، 73، 75، 81، 82، 91، 107، 478، 480، 481. "ج6" 164، 182. "ج7" 301، 302. عبد المنعم عامر "ج1" حا 316. "ج6" 311. عبد نجم "ج6" 59. عبد هند "ج3" 244. "ج9" 537. عبد الواحد بن علي "ج8" 256. عبد ود "ج1" 527. "ج4" 656. "ج6" 16، 18، 79، 164، 181، 255، 257، 286، 687 عبد الوهاب عزام "ج2"حا 633 عبد ياليل "ج3" 170. "ج4" 153. "ج7" 430. عبد يزيد "ج4" 91. عبد يسوع "ج6" 686. عبد يغوث بن الحارث بن وقاص "ج9" 432. عبد يغوث بن صلاة "ج5" 352، 353. "ج6" 687. "ج8" 125. "ج9" 481، 483. عبد يغوث بن وعلة الحارثي "ج4" 189. "ج7" 479، 484. عبد يغوث بن وقاص "ج5" 352، 408. "ج6" 16، 164، 182، 261، 262، 286. "ج9" 113. عبدان بن ها، نؤاس "ج2" 252. "ج5" 405. "ج6" 318. عبدة بن الطيب "ج9" 69، 105، 900، 901. عبدة بن مسهر الحارثي "ج4" 189. العبدي "ج5" 306. عبس بن بغيض "ج1" 366، 404. "ج4" 243، 252، 253، 332، 333، 505، 510، 512. عبس بن رفاعة "ج4" 518.

عبشمي بن سعد "ج1" 403. عبقر بن أنمار بن أراش "ج1" 374. "ج4" حا 433، 443، حا 446 عبلة "ج9" 559. عبهلة "ج4" 192. العبور "ج6" 20، 59. عبيد بن الأبرص "ج3" 236، 283، 351، 366، 368. "ج4" 220، 424، 534، 577، 671. "ج5" 287. "ج6" 109، 110، 155، 280، 463، 506، 507، 685، 714. "ج8" 664. "ج9" 98، 100، 120، 161، 169، 207، 209، 234، 243، 259، 260، 262، 267، 368، 369، 401، 402، 406، 416، 418، 441، 443، 467، 468، 478، 480، 508، 511، 519، 531، 534، 585، 597، 599، 672، 676، 815، 823، 824، 833، 834. عبيد بن أيوب "ج6" 698، 729. "ج9" 389. عبيد بن جحش "ج9" 703. عبيد بن الحاف "ج1" 366. عبيد بن حصين "ج9" 889. عبيد بن زيد اللات "ج4" 239. عبيد بن سالم "ج4" 134. "ج6" 521. عبيد بن السفاح القاري "ج4" 45. عبيد بن شرية الجرهمي "ج1" 83، 84، 86، 115، 118، 120، 321، 353، 361 502، 505، 506. "ج8" 332، 359، 379. "ج9" 347، 379. عبيد بن قراد "ج5" 349. عبيد الله بن بردة "ج4" 263. عبيد الله بن حميد "ج9" 119، 783. عبيد الله بن زياد "ج1" 505. "ج9" 23، 904. عبيد الله بن عثمان "ج1" 334، "ج5" 606. عبيد الله بن عمر "ج8" 110. عبيد الرماح بن معد "ج1" 392 "ج4" 469. عبيدة بن الحارث "ج7" 352. عبيدو بن غانمو بن سعدلات "ج3" 140. عبيل "ج1" 294، 296، 343، 344، 346، 419. "ج3" 196. "ج8" 537. عتاب بن أسيد "ج4" 192. "ج7" 430، 443. عتاب بن مالك "ج4" 145، 151. "ج6" 228. عتاب بن هرمي "ج3" 226. "ج5" 284. عتبان "ج4" 151. عتبة بن أبي وقاص "ج4" 125. عتبة بن جعفر "ج4" 521. عتبة بن ربيعة "ج4" 83، 85، 110. "ج5" 37، 402. "ج6" 217، 479، 761، 763 "ج9" 115، 198، 710. عتبة بن سعد "ج4" 230. عتبة بن غزوان "ج7" 81، 449. عتبة بن فرقد "ج4" 269.

"ج8" 129. عتقا الرهاوي "ج8" 157. عتودة "ج3" حا 481. عتيب "ج1" 407. عتيبة بن الحارث بن شهاب "ج4" 571. "ج5" 367، 375، 385، 389 "ج6" 737. عتيبة بن مرداس "ج8" 410. عتيبة بن النهاس العجلي "ج9" حا 856. العتيك بن الأزد "ج4" 436. العتيك بن أسلم "ج4" 417. عتيك بن عامر "ج4" 27. عتيك بن قيس "ج1" 408. "ج5" 646. عثعث بن زحر "ج4" 195. عثمان بن أبي طلحة "ج4" 125 عثمان بن أبي العاص "ج4" 150، 185، 192. عثمان بن حنيف "ج5" 305. "ج6" 459. "ج7" 475، 636. عثمان بن الحويرث "ج4" 39، 40، 91، 94، "ج5" 37، 320. "ج6" 453، 463، 464، 469، 470، 476، 590، 606. "ج8" 642. "ج9" 703. عثمان بن ربيعة "ج4" 185. عثمان بن الشريد "ج6" 606. عثمان بن طلحة "ج5" 250، 284. "ج7" 295. عثمان بن عفان "ج1" 147، 281. "ج3" حا 531. "ج4" 29، 47، 55، 115، 131، 132، 217، 331، 401. "ج5" 452، 589، 642. "ج6" 98، 256، 441، 443، 467، 500، 602، 622، 646، 771. "ج7" 168، 178، 193، 342، 432، 441، 442، 497، 499، 500، حا 607. "ج8" 8، 36، 110، 119، 122، 124، 125، 127، 128، 130، 131، 135، 136، 139، 183، 301، 331، 333، 375، 512، 596، 602، 604، 606، 608، 617، 641، 710، 788 "ج9" 19، 20، 23، 52، 246، 257، 532، 533، 547، 741، 748، 764، 849، 850، 859، 866، 871، 878، 879، 891، 896. عثمان بن مالك بن العجلان "ج4" 135، 137، 157، 183. عثمان بن مظعون "ج4" 633. "ج6" 218، 645. "ج7" 42. "ج9" 551. عثمان رستم "ج8" 184. عثمان المهري "ج9" 8. العجاج "ج1" 398. "ج4" حا 477. "ج5" 104، 291. "ج6" 816. "ج9" 170، 175، 177، 178، 420.

عجب بن ثعلبة "ج4" 512. عجبه بنت دارم "ج9" 464. عاجل بن عمرو "ج4" 484، 485. عجل بن لجيم "ج3" 211. "ج5" 365، 437. "ج6" 596. العجلان بن الثعلب "ج4" 425. العجلان بن عبد الله "ج4" 522. عجم بن قنص "ج3" 187. العداء بن خالد "ج8" 127. العداء بن هوذة "ج4" 268. عداس "ج1" 42. "ج6" 462، 607. "ج8" 385. عدانة بن يربوع "ج1" 403. عدبة "ج4" 520. عدسة بنت مالك "ج4" 226. العدل "ج1" 371. "ج5" 291. عدن بن عدنان "ج1" 382. عدنان "ج1" 93، 286، 349، 351، 376، 382، 380، 382، 384، 385، 412، 421، 463، 473، 477، 482، 487، 491، 494، 496، 499، 505، 509، 517 "ج4" 40، 414، 467، 468، 476، 504، 505، 531، 536، 537. "ج5" 344. "ج8" 641، 671، 672، 674، 689. عدنان بن أد "ج8" 159، 164. عدوان بن عمرو "ج1" 403. "ج4" 145، 146، 507. عدوان بن قيس عيلان "ج5" 385. "ج9" 53. عدي بن أخزم "ج4" 452. عدي بن أد "ج4" 338، حا 401. عدي بن الأزد "ج4" 435. عدي بن الأوس "ج3" 265، 267، "ج9" 676. عدي بن أيوب "ج4" حا 439. عدي بن ثعلبة "ج4" 480، 484. عدي بن جشم "ج1" 408. عدي بن جندب "ج6" 820. عدي بن حاتم "ج4" 221، 307، 454، 461. "ج5" 262، 265. "ج6" 74، 279، 586، 601، 644. "ج9" 76، 812، 815، 846، 897 عدي بن الحارث "ج4" 245، حا 433، 436، 447، 454، 461، 489. عدي بن حنيفة "ج4" 502. "ج8" 754. عدي بن حي "ج1" 368. عدي بن ربيعة "ج3" 185. "ج4" 405، 497. "ج5" 357. عدي بن رثاث الإيادي "ج1" 372، 401، 472. عدي بن رعلاء الغساني "ج9" 98. عدي بن الرقاع "ج4" 461. "ج8" 398. عدي بن زيد بن حمان "ج6" 682. عدي بن زيد العبادي "ج1" 374، 386، 402، 412. "ج2" 616. "ج3" 106، 202، 204، 233، 255، 262، 264، 276، 269، 271، 273، 285، 287، 291، 303، 435، 441. "ج4" 227، 528، 625.

675. "ج5" 40، 124، 272، 290، 293، 294، 318، 321، 376، 516، 586، 588. "ج6" 114، 153، 285، 496، 546، 586، 648، 654، 656، 660، 662، 669، 677، 680، 683، 726، 731، 811. "ج7" 534، 565، 605. "ج8" 26، 64، 108، 109، 250، 254، 268، 272، 273، 295، 309، 312، 343، 368، 539، 568، 569، 652، 664، 684، 703، 727. "ج9" 11، 82، 117، 151، 153، 158، 161، 209، 215، 243، 252، 257، 263، 275، 309، 332، 365، 400، 402، 417، 419، 445، 454، 540، 590، 598، 671، 672، 674، 682، 721، 792، 794، 795، 804، 807، 809، 817، 832. عدي بن زيد العمادي "ج3" 170. عدي بن سالم "ج9" 679. عدي بن عامر "ج4" 58. "ج8" 499. عدي بن عبد مناة "ج1" 402، 404. "ج9" 146. عدي بن عدي "ج1" 507، 508. "ج2" 649، 650. "ج4" 225، 325. عدي بن عمرو "ج4" 238. "ج9" 621، 901. عدي بن فزارة "ج4" 512. عدي بن كعب "ج4" 26، 60، 63، 73، 82، 480. عدي بن مالك "ج5" 371. عدي بن مرينا "ج6" 663. عدي بن النجار "ج7" 313. عدي بن نصر "ج3" 180، 181، 185، 324. عدي بن نمارة "ج4" 463. عدي بن نوفل "ج4" 582. "ج9" 412. عدي بن وداع "ج6" حا 280. عدي خلف تمنع "ج2" 216. عديد "ج4" حا 468. العديل بن الفرخ العجلي "ج3" 298. عذافر بن أوس "ج9" 175. عذالة "ج9" 645. عذبة "ج2" 524. "ج3" 455. عذذم بن أب أنس "ج2" 144. عذرايل "ج1" 332. "ج2" 283. "ج6" 313، 318، 319. عذرة بن زيد اللآت "ج4" 239. عذرة بن سعد "ج1" 367. "ج4" 246، حا 430، 525. "ج5" 386. العذري "ج4" 79. عرابة الأوسي "ج9" 880. العراقي "ج8" حا 737. عرام "ج4" 281. "ج7" حا 78، 83، حا 86، حا88، حا 124، حا 199، 201، حا 207، حا 272، حا 356، حا 532. عرايد بن الحاف "ج1" 366. عربد "ج4" 422. عرر ذو غابة "ج6" 314. عرعرة النميري "ج1" حا 148.

العرف "ج1" 392. عرفجة بن أسعد "ج8" 415، 683. عرقوب بن صخر "ج8" 364، 365. العرنج العرنجج "ج1" 364. "ج4" 415. عروان بن كنانة "ج4" 37. عروة بن أذينة "ج9" 200. عروة بن حزام "ج6" 773. عروة بن الزبير "ج4" 641. "ج8" 480. "ج9" 286. عروة بن زيد الأسدي "ج6" 765، 773، 776. عروة بن عمرو "ج7" 440. عروة بن عتبة "ج3" 210. "ج5" 283. عروة بن مسعود "ج4" 154، 156. "ج5" 548. "ج6" 214، 234، 446. عروة بن الورد "ج4" 306، 411، 413، 675. "ج5" 8، 100، 362، 466 "ج6" حا 525، 807. "ج7" 448. "ج8" 411. "ج9" 765. "ج9" 106، 279، 286، 445، 601، 603، 604، 610، 612، 614، 622، 626، 628، 635، 638، 817، 822، 831، 836، 873 عروة الرحال "ج3" 210، 211، 276. "ج4" 83، 346، 521، 559. "ج5" 382، 388. عروس "ج4" 648، 649عريب بن جشم "ج4" 448. عريب بن حمير "ج1" 365، 373. "ج4" 416، 422، 434. عريب بن زيد "ج4" 432، عريب بن يمجد "ج2" 409. عريج بن بكر "ج4" 532، 637 عريض بن شعبة "ج6" 581. "ج9" 782. عرينة بن نذير "ج4" حا 446. العز "ج2" 141، 145، 373، 376، 382، 425، 440، 473، 475. "ج4" 23. العز بن عن ذخر "ج2" 169. "ج4" حا 433. العز بن يدع أب غيلان "ج2" 168. عزال بن شمويل "ج6" 524، 546. عزانا "عيزانا "ج2" 525، "ج3" 451 حا 455، 456. عزة حسن "ج1" حا 382. "ج3" حا 352. "ج5"، حا 354، حا 434. "ج8" حا 464. "ج9" حا 331، حا 488، 890 عزرا "ج1" 473. عزيز بن أبي عزيز "ج6" 546. العزيلط بن الهان "ج2" 64، 139، 141، 145، 166، 169، 371، 403، 485، 494 العسالق بن عبس "ج4" 505. العسقلاني "ج8" حا 135. عسيب "ج9" 521. عش "عائش" "ج1" 332. العشراء بن جابر "ج8" 778، 780. عشم بن الحاف "ج1" 364. عصام بن شهير "ج4" 240، 424. "ج5" 285، 286.

العصامي "ج4" حا 580. عصر "ج1" 407. عصمة بن أبير التيمي "ج5" 353. "ج9" 482. عصية بن امرئ القيس "ج1" 405. "ج4" 256، 518. عصيم بن مالك الجشمي "ج3" 353. عصيمة بن خالد "ج4" 406. عضاهه "ج4" حا 145. عضل بن الهون "ج1" 399. "ج4" 31، 35، 84، 477، 533. عطاء بن مركبود "ج3" 529. "ج4" 184. عطارد بن حاجب "ج4" 205. "ج5" 641. "ج6" 96. "ج8" 135، 779، 780. "ج9" 845. عطل بن عبد مناة "ج1" 402. عطية "ج6" 16. عطية أيل "ج2" 357. عظيم الدين أحمد "ج1" حا 105 عفاء "ج3" 519. عفر "ج1" 446، 458. "ج2" 293. عفراء الحميرية "ج6" 770. "ج8" 369، 738. عفرس بن خلف "ج4" 444. عفزر "ج3" 106، 107. عفير بن زرعة "ج1" 332. "ج3" 527. عفير بن عدي "ج1" 372. "ج3" 381. "ج4" 464، 465. عفيف بن معد يكرب الكندي "ج4" 671، 672. "ج6" 224. عفيف الكندي "ج7" 310. عقاب "ج4" 657. العقار "ج1" 368. عقب مالك بن أشرس "ج4" 465، 515. عقبة بن أبي معيط "ج4" 125. "ج5" 37، 585. "ج6" 147. "ج7" 555. "ج8" 377. عقبة بن رؤبة "ج9" 420. عقبة بن عامر بن عبس "ج8" 130، 138. عقبة بن كعب "ج9" 546، 860، 863. عقبة بن مسلم "ج9" 313. عقبة ذر جزجان "ج2" 544. "ج8" 122. عقبهو النجاشي "ج2" 439. عقة بن أبي عقة "ج2" 650، 651. "ج4" 230. عقة بن جشم "ج5" 585. عقة بن هلال "ج4" 206. عقدة بن غيرة "ج4" 517. عقرب بن ثويب "ج2" 209. عقرب بن مر "ج2" 228، 251 عقرب بنت النابغة الذبياني "ج3" 434. "ج4" 240. عقيبة بن هبيرة "ج9" 313. عقيل بن أبي طالب "ج1" 471، 472. "ج7" 192، 440. "ج8" 331، 332، 334. "ج9" 685. عقيل بن ربيعة "ج4" 193. عقيل بن علقمة المري "ج7" حا81. عقيل بن كعب "ج1" 406.

"ج3" 179، 180. "ج4" 522. عك بن عدثان "ج1" 381. "ج4" 438، 504، 506. عك الطاهر بن أبي هالة "ج4" 192. عكاية بن الحارث "ج1" 408. "ج4" 500. عكابة بن صعب "ج4" 502. عكاشة بن محصن "ج4" 198، 388. عكب "ج3" 282. عكبرة "ج4" 468. عكرشة بنت عدوان "ج4" 479. عكرمة بن أبي جهل "ج4" 201، 267. "ج6" 75. "ج7" 298، 442، 449. "ج8" 124، 304، 392، 783 عكرمة بن جرير "ج9" 234، 341. عكرمة بن خصفة "ج4" 268، 515. عكرمة بن عامر "ج1" 67، 68، 403، 405. "ج4" 37، 50، 423. عكرمة بن هاشم "ج4" 84، 85. "ج5" 91، 135، 292. عكل عبد مناة "ج9" 146. العلاء بن حارثة "ج5" 637. العلاء بن الحضرمي "ج4" 205، 210، 212، 486، 487، 502. "ج5" 465. "ج6" 99، 100. "ج7" 484. "ج8" 120، 122، 124، 128، 129، 133. "ج9" 64. العلاء بن عقبة "ج4" 258، 262. "ج8" 122، 126، 131، 132. علاف بن شهاب "ج4" 423. "ج5" 653. "ج6" 463، 505. علاقة الكلابي "ج8" 360. علان بن جوشم "ج1" 394. علان بن أرقم اليشكري "ج5" 256. "ج6" 715. "ج8" 268، 571. علباء بن الحرث الكاهلي "ج1" 408، 409. "ج3" 351، 352، 362، 366. علة بن جلد "ج1" 371. "ج4" 458. علة بن خالد "ج1" 373. علزان بن قلزان الغلوني "ج8" 207. علس بن زيد ذي جدن "ج5" 113. "ج9" 567. علقم بن عدي "ج9" 210. علقمة بن ثعلب "ج3" 319. علقمة بن سلمة "ج5" 408. علقمة بن سهل "ج1" 470. علقمة بن سيف "ج4" 491. علقمة بن صفوان "ج6" 735، 736. علقمة بن عبدة "علقمة الفحل" "ج3" 241، حا 261، 401، 427، 436، 482. "ج4" 20. "ج8" 415، 631، 637، 662 "ج9" 75، 94، 97، 98، 104، 111، 177، 190، 208، 236، 239، 243، 345، 441، 468، 471، 508، 509، 531، 534، 577، 597، 676، 732، 735، 834، 837.

علقمة بن عدي "ج6" 598. علقمة بن عك "ج4" 505. علقمة بن علاثة "ج3" 279 "ج4" 267، 268، 514، 590، 591، 602. "ج5" 235، 389، 390، 645. "ج6" 249، 460. "ج8" 776، 779. "ج9" 246، 357، 596، 500، 553، 576، 578، 604 علقمة بن عمرو "ج5" 85. علقمة ذي جدن "ج1" 363، 369. "ج2" حا 258، "ج3" 472. "ج4" 417، علقمة ذو قيفال "ج2" 593. علمن بن عم كرب "ج2" 87. علهان "ج1" 101. "ج2" 119، 135، 144، 355 علهان نهفان "ج2" 140، 335، 350، 352، 358، 362، 370، 383، 384، 389، 419، 421، 424، 455، 456، 490، 493، 495. "ج3" 454. "ج5" 232. "ج8" 674. علي بن أبي طالب "ج2" 636، حا 650. "ج3" 506، 531. "ج4" 109، 186، 189، 299، 315، 454، 459، 656 "ج5" 50، حا 169، 289، 423، 442، 465، 468، 509، 589. "ج6" 249، 279، 369، 769. "ج7" 459، 460، 500، 505. "ج8" 98، 99، 118، 122، 131، 134، 135، حا 188، 280، 292، 327، 328، 331، 333، 349، 377، 597، 659، 751، 752، 783. "ج9" 17، 35، 45، 44، 46، 49، 52، 54، 220، 231، 291، 575، 596، 701، 702، 748، 751، 788، 789، 849، 852، 869، 880، 888، 889، 891، 893، 907. علي بن بكر "ج1" 112، 369، 400، 408. "ج4" 25، 500. علي بن ثمامة "ج3" 232. علي بن الحسن "ج8" 566. علي بن خالد الضبي "ج9" حا21. علي بن خليل الشيباني "ج9" 314، 368. علي بن زيد "ج2" 593. "ج4" 82. علي بن سعد "ج6" 431. علي بن سليمان الأخفش "ج9" 848. علي بن سنان "ج4" 217. علي بن العباس "ج9" 226. علي بن عبد الله بن العباس "ج7" 349. علي بن علقمة "ج9" 471. علي بن عيسى الجراح "ج3" حا531. علي بن الفضل "ج2" حا 218. علي بن المبارك "ج8" 737. علي بن مسعود الأزدي "ج4" 354. علي حسن عبد القادر "ج1" حا86.

"ج8" حا 615. علي الجمل "ج9" 51، 216. علي سامي النشار "ج9" حا 51. عليم بن جناب "ج1" 417، 418. "ج4" 239. عم أمر بن أب أمر ذيبرن "ج2" 274. عم أمر بن حزفرم "ج2" 318. عم أمر بن معد يكرب "ج2" 322. عم أمن بن نبط أيل "ج2" 407. عم أنس بن سنحن "ج2" 369، 401. عم ذخر "ج2" 142، 168، 371، 485. عم شفق بن سروم "ج2" 411، 412. عم صديق "ج2" 89، 138، 139. عم علي "ج2" 221. "ج8" 514. عم كرب "ج2" 138، 205. عم وقه ذ أمرم "ج2" 295. عم يثع "ج1" 580. "ج2" 85، 100، 102، 104، 125، 127، 138، 322، 501، 502، 505. عمى رتع "ج2" 97. عمار بن عبد المسيح "ج4" 226. عمار بن ياسر "ج3" 288، 289. "ج4" 106، 455. "ج8" 124، 302، 789. "ج9" 750. عمارة بن عبد العزي "ج4" 514. عمارة بن العبسي "ج5" 367، 379. عمارة بن الوليد بن المغيرة "ج5" 38. "ج6" 713. عمارة الوهاب "ج4" 574، 636. عمارة اليمني "ج3" حا 536. عمارة بن قحطان "ج1" 358، 359. "ج4" 202. عمدن بين "ج7" 491. عمدن يهقبض "عمدان" "ج2" 482، 488، 494، 496، 528. عمر بن إبراهيم "ج4" 383. عمر بن أبي ربيعة "ج9" 431، 694. عمر بن سعد تبع "ج2" 570. عمر بن الخطاب "ج1" 68، 69، 93، 109، 111، 113، 147، 267، 373، 399، 400، 401، 403، 470، 473. "ج3" 13، 106، 186، 187، حا 315، 347، 359، 428، 431، 446، 520. "ج4" 46، 53، 55، 63، 79، 119، 157، 185، 191، 197، 205، 212، 217، 228، 231، 235، 238، 248، 254، 263، 332، 370، 371، 381، 386، 414، 480، 498، 499، 535، 566، 599، 639، 667. "ج5" 48، 59، 116، 119، 123، 137، 206، 220، 249، 269، 270، 273، 284، 286، 294، 305، 318، 509، 510، 557، 573، 589، 592، 595، 602، 613، 633، 636، 641، 642، 646. "ج6" حا 71، 98، 143، 218، 253، 337، 341، 373، 440، 441، 443، 460، 467، 526، 548، 549، 564، 596، 597، 602، 610، 620، 622، 653، 660، 675،

676، 695، 703، 704، 725، 768، 775. "ج7" 41، 44، 60، 69، 136، 149، 150، 244، 245، 275، 334، 348، 356، 358، 363، 368، 369، 374، 402، 408، حا429، 454، 465، 466، 475، 479، 485، 497، 499، 500، 502، 524، 526، 540، 561، 592، 613، 632. "ج8" 110، 117، 121، 125، 127، 129، 131، 134، 137، 140، 166، 170، 172، 182، 191، 274، 287، 299، 301، 302، 311، 324، 326، 331، 340، 378، 383، 425، 460، 538، 572، 596، 599، 601، 604، 606، 617، 621، 622، 629، 641، 657، 658، 663، 665، 672، 709، 735، 750، 765، 788، 789. "ج9" 6، 8، 11، 14، 16، 18، 21، 23، 35، 36، 40، 42، 45، 52، 65، 71، 114، 115، 118، 176، 177، 200، 231، 234، 235، 245، 246، 253، 277، 278، 279، 294، 341، 342، 380، 528، 543، 544، 553، 554، 578، 587، 604، 636، 682، 704، 708، 712، 715، 717، 740، 743، 750، 765، 767، 838، 845، 848، 850، 855، 856، 865، 868، 869، 871، 873، 876، 878، 880، 881، 883، 884، 886، 888، 894، 896، 897، 899، 900، 906. عمر بن زيد "ج3" 319. "ج6" 134. عمر بن شبة "ج3" 318، 263، 365. "ج8" 162، 566. "ج9" حا 326، 350، 406، 781. عمر بن عبد العزيز "ج1" 264 "ج6" 611، 727. "ج7" 148، 245. "ج9" 24، 776. عمر بن مخزوم "ج5" 606. عمر بن مهران "ج4" 328. عمر بن هبرة "ج8" 761. عمر بن يوسف "ج4" 418. عمر التغلبي "ج9" 251. عمر الدسوقي "ج3" حا 271. عمر الديراوي "ج1" حا 133. "ج2" 225. عمر يهرعش "ج5" 631. عمران بن تغلب "ج1" 407. "ج3" حا 50. "ج4" 489، 491. عمران بن الحاف "ج1" 366. "ج4" 420، 421، 423، عمران بن الحصين "ج1" حا311. "ج5" 613. "ج6" 739. "ج8" 399، 349. عمران بن عمرو مزيقياء "ج1" 548. "ج3" 166. "ج4" 436.

عمرة بنت رواحة "ج9" 432، 728. عمرة بنت سعد "ج4" 627. "ج5" 136. "ج8" 221، 274. عمرو بن أبي ربيعة "ج3" 323، 393، 394، 397. عمرو بن أبي سلمة "ج8" 596. عمرو بن أبي صخر "ج9" 789 عمرو بن أحمر الباهلي "ج9" 889 عمرو بن الأحوص "ج5" 373، 374. عمرو بن أد "ج4" 523، 525 عمرو بن الأزد "ج4" 435، 437، 438. عمرو بن أسد "ج4" 533، 534. عمرو بن الإطنابة "ج4" 137، 138. "ج5" 86. "ج9" 720، 721، 826. عمرو بن أعصر "ج4" 514. عمرو بن الة "ج2" 615، 616، 618. "ج9" 152. عمرو بن أم أناس "ج3" 325، 326. عمرو بن أمامة "ج3" 254، 255. عمرو بن امرئ القيس "ج3" 194، 197، 306، 310، 311، 313. "ج9" 720، 728. عمرو بن أمية "ج6" 500. "ج7" 358. "ج9" 764. عمرو بن الأهتم "ج4" 205، 594. "ج9" 99، 884، 885. عمرو بن البراق "ج9" 609، 610، 638 عمرو بن بقيلة "ج3" 288، 289. عمرو بن بكر "ج4" 500. عمرو بن تبان أسعد "ج2" 579، 583. عمرو بن تبع "ج3" 328، 331. عمرو بن تميم بن مر "ج2" 637. "ج3" 336، 348، 353. "ج4" 318، 513، 529، 531، 571. "ج5" 353، 369، 373، 378 "ج6" 223. "ج7" 370. "ج8" 476. عمرو بن ثعلبة "ج4" 337، 450. "ج8" 733. عمرو بن جابر الغزاوي "ج3" 211. "ج4" 513. "ج6" 727. عمرو بن الجارود الحنفي "ج6" 97. عمرو بن جؤية "ج4" 508. "ج5" 407. عمرو بن جبلة "ج3" 426، 447. عمرو بن جحاش "ج6" 523، 546، 564. عمرو بن جعيد "ج4" 347، 484. "ج5" 189. "ج6" 765. عمرو بن جفنة الغساني "ج3" 400، 446. "ج4" 92. "ج6" 477. عمرو بن جندب "ج6" 820. عمرو بن الجون "ج5" 373. عمرو بن جوين "ج9" 528. عمرو بن الحارث "ج2" 304. "ج3" 347، 401، 419، 421، 425، 427، 436، 445، 448. "ج4" 14، 58، 483، 495، 521، 595. "ج9" 395، 407، 409،

591، 593، 670، 732، 733، 735. عمرو بن الحاف "ج1" 366، 367. "ج4" 262، 420. عمرو بن حجر "ج3" 215، 235، 321، 326، 330. "ج4" 437، 438، 488. عمرو بن حريث "ج7" 461. عمرو بن حزم "ج3" 536. "ج4" حا 145، 191، 192. "ج8" 133. عمرو بن حسان "ج3" 382، 384، 407. عمرو بن الحضرمي "ج8" 128. عمرو بن الحمق "ج4" 266. "ج6" 765، 769. عمرو بن حممة الدوسي "ج5" 505، 638، 644، 646. "ج8" 350. "ج9" 488، 852. عمرو بن حمير "ج8" 127. عمرو بن خارجة "ج1" 334. عمرو بن خالد "ج4" 268. "ج5" 365. "ج9" 622. عمرو بن الخثارم "ج5" 69. عمرو بن الخمس "ج3" 214. عمرو بن الخنس "ج4" 492. عمرو بن خويلد "ج4" 512. عمرو بن الذارع "ج9" 669. عمرو بن ربيعة "ج4" 268، 438، 439، 658. "ج5" 436. "ج6" 77، 237، 268. عمرو بن رزين "ج4" 463. عمرو بن رياح "ج9" 103. عمرو بن زبيد "ج3" 361. "ج6" 765. عمرو بن زرارة بن عدس "ج8" 111، 283، 292، 300. عمرو بن سالم الخزاعي "ج4" 266. عمرو بن سبيع "ج4" 194. عمرو بن سدوس "ج4" 496. عمرو بن سعد "ج1" 367، 373، 374، 403. "ج6" 681. "ج8" 127. عمرو بن سعود "ج9" 479. عمرو بن سفيان الكلابي "ج5" 436. "ج9" 662. عمرو بن سواد "ج4" حا 439، 440. عمرو بن شأس الأسدي "ج5" 411. "ج6" 105، 106. "ج9" 894، 895. عمرو بن شداد "ج5" 388. عمرو بن الشريد "ج3" 279. "ج5" 390. "ج8" 779. عمرو بن شمس "ج4" 84. عمرو بن شيبان "ج3" 211. "ج4" 346. عمرو بن الشيخ "ج4" 452. عمرو بن صخر بن أشنع "ج1" حا 336. "ج6" حا 285. عمرو بن صرمة "ج4" 21، 513. "ج5" 303. عمرو بن الصعق "ج2" 651. "ج3" 420. "ج4" 230. عمرو بن الظرب "ج3" 104، 106، 181. "ج4" 572. عمرو بن عائد "ج3" 519. عمرو بن العاص "ج1" 109، 110

319، 364، 365، 369، 476، 484. "ج4" 119، 125، 141، 142، 200، 245، 248، 262، 441، 481، 643. "ج5" 38، 156. "ج6" 258. "ج7" 245، 295، 196، 307. "ج8" 121، 125، 596، حا769. "ج9" 711، 738، 747، 856، 884. عمرو بن عامر "ج1" 401، 403، 405، 407، 409، 484، 491. "ج3" 388، 391، حا 399، 400. "ج4" 129، 136، 146، 191، 521، 530، 561، 654، 655. "ج6" 766، 770. "ج9" 503، 547. عمرو بن عبد الله الضبابي "ج3" 537. "ج4" 107، 189، 502. "ج9" 716. عمرو بن عبد الجن "ج9" 502، 684. عمرو بن عبد شمس "ج9" 482 عمرو بن عبد العزى "ج9" 669. عمرو بن عبد القيس "ج8" 782 عمرو بن عبد المسيح "ج2" 649. "ج4" 221، 225. "ج5" 294، 428. عمرو بن عبد ود "ج4" 109. "ج5" 37، 445. عمرو بن عبد مناف "ج4" 481"ج5" 82، 83. عمرو بن عبسة "ج4" 671. "ج6" 457. عمرو بن عثمان المخزومي "ج5" 135. عمرو بن عدس "ج4" 524، 571. "ج5" 545. "ج8" 370. عمرو بن عدي "ج1" 77. "ج2" 616، 634، 637. "ج3" 105، 156، 179، 181، 184، 187، 305، 306، 308، 310، 313، 390، 442. "ج4" 225، 437، 461، 462 "ج6" 713. "ج8" 374. عمرو بن عصم "ج4" 585. عمرو بن عصية "ج4" 518. عمرو بن العلاء "ج5" حا 151، 348. عمرو بن علة "ج1" 371. عمرو بن علقمة "ج5" 649، 650. عمرو بن عمار "ج9" 498. عمرو بن عمرو بن عبد الله "ج3" 231. "ج5" 372، 374، 396. "ج8" 118. عمرو بن عمليق "ج3" 196. عمرو بن عمير "ج4" 153. "ج7" 429، 430، 432. عمرو بن عوف "ج4" 43، 139، 144، 151. "ج6" 547. "ج9" 619، 655، 723، 853. عمرو بن غنم "ج1" 407.

"ج4" 489، 492. "ج7" 384. عمرو بن الغوث "ج4" 442، 446، 447. عمرو بن فهم "ج3" 104، 167، 168، 178. "ج4" 202. عمرو بن قبيصة "ج5" 128. عمرو بن قطش "ج9" 120، 586. عمرو بن قعين "ج4" 434. عمرو بن قميئة "ج3" حا 370. "ج4" 503. "ج9" 183، 207، 406، 417، 433، 440، 443، 460، 475، 476، 530، 534، 659، 818. عمرو بن قيس الأصم "ج4" 346، 507، 508، 510، 535. "ج5" 363، 370. "ج6" 258، 363. عمرو بن كركرة "ج9" 289. عمرو بن كلاب "ج1" 406. "ج4" 519، 521. "ج5" 379. عمرو بن كلثوم "ج1" 39، حا322، 383. "ج3" 209، 231، 235، 243، 251، 253، 255، 257، 263، 278، 355، 356، 375، 411. "ج4" 427، 433، 434، 489، 492، 603، 668، 673. "ج5" 40، حا 202، 210، 350، 392، 441. "ج6" 156. "ج7" 40، 239، 247، 382. "ج8" 664، 769، 771، 778 "ج9" 76، 87، 89، 91، 114، 122، 180، 184، 204، 235، 243، 247، 281، 293، 455، 473، 496، 506، 509، 511، 513، 515، 516، 519، 540، 561، 566، 883. عمرو بن كنانة "ج4" 37، 478، 532. عمرو بن لحي "ج2" حا 354. "ج4" 14، 15، 438، 530، 531. "ج6" 34، 69، 76، 81، 143، 189، 205، 206، 229، 232، 237، 240، 248، 251، 252، 254، 255، 257، 260، 262، 263، 266، 271، 286، 308، 384، 386، حا 408، 418، 450، 737، 760. "ج8" 497، 521. عمرو بن لقيم "ج1" 302. عمرو بن ماء السماء "ج4" 456. عمرو بن مازن "ج4" 226، 435، 437. عمرو بن مالك "ج4" 257، 419، 421، 423، 424، 458، 460، 465. "ج5" 644. "ج8" 350. عمرو بن مامة "ج5" 150. "ج9" 539. عمرو بن متى "ج8" حا 295. عمرو بن المجالد "ج3" 392. عمرو بن المحرق "ج6" 281. عمرو بن مرة الجهني "ج1" 370، 371.

"ج4" 261. عمرو بن مرثد "ج5" 85، 431 "ج7" 305، 320. "ج9" 818. عمرو بن مرداس "ج4" 259. عمرو بن المسبح الطائي "ج9" 532. عمرو بن مسعود "ج3" 236، 283، 351. "ج4" 675. عمرو بن المشمرج "ج5" حا 90. عمرو بن مضاض "ج4" 7. "ج6" 405. عمرو بن معاذ "ج4" 137. عمرو بن معاوية الكندي "ج3" 186، 320، 381. "ج4" 197، 198، 338. "ج5" 211، 374. "ج7" 151. عمرو بن معبد الجهني "ج7" 485. عمرو بن معد يكرب "ج2" 598 "ج3" 13، 279. "ج4" 156، 187، 188، 193، 456، 620. "ج5" 224، 391، 397، 423، 429، 445. "ج8" 779. "ج9" 69، 106، 243، 274، 499، 648، 868، 870. عمرو بن ملقط الطائي "ج3" 252. عمرو بن المنذر "ج3" 257، 307، 309، 310، 312، 363، 493، 495، 496، 498. "ج4" 81، 175. عمرو بن ميمون "ج8" 325. عمرو بن نابل اللخمي "ج3" 331. عمرو بن النعمان "ج3" 422، 432، 444، 445، 447. "ج4" 137، 140. عمرو بن نفاثة "ج3" 515. عمرو بن نفيل "ج5" 97. عمرو بن الهبولة الغساني "ج3" 323. عمرو بن هشام "ج4" 105. "ج5" 38. عمرو بن هصيص "ج4" 26. عمرو بن هلال "ج4" 31، 64، 65. عمرو بن هنب "ج1" 407. عمرو بن هند "ج3" 202، 209، 218، 224، 225، 234، 239، 241، 248، 250، 258، 260، 279، 280، 289، 308، 313، 326، 344، 347، 356، 363، 505، 522. "ج4" 227، 363، 375، 376، 383، 405، 450، 453، 501، 514، 579، 655، 656. "ج5" 240، 287، 330، 392، 411. "ج7" 294. "ج8" 267، 306، 365، 366، 401. "ج9" 87، 109، 329، 362، 442، 443، 468، 485، 497، 535، 537، 539، 561، 562، 565، 637، 663، 666، 689، 690، 692. عمرو بن ود "ج5" 391. "ج6" 256. عمرو بن وديعة "ج4" 483، 484. عمرو بن يثربي "ج9" 647. عمرو بن يربوع "ج6" 714، 715.

"ج8" 571. عمرو بن يعفر "ج2" 532، 533. عمرو أبو شمر الأصغر "ج3" 433، 442. عمرو أقحل بن أبي كرب "ج3" 357. عمرو الجني "ج9" 120. عمرو ذو الاذعار "ج2" 532، 533. "ج4" 19. عمرو ذو الكلب "ج9" 649. عمرو شمس "ج6" 281. عمرو اللات "ج6" 16، 17. عمرو المزدلف "ج3" 198. عمرو مزيقياء "ج4" 436. عمرو ينار ذو غمدان "ج3" 502. عملس "ج1" 525. عمليق "ج1" 295، 296، 299، 335، 337، 346، 347، 418. "ج4" 675. عمم "ج4" 463. عمولاطي "ج1" 601. عمير بن الازمع "ج1" 369. عمير بن جندب الجهني "ج6" 463، 505. عمير بن حنيفة "ج4" 217. عمير بن سلمى الحنفي "ج4" 405، 407، 448. عمير بن قيس بن جذل الطعان "ج8" حا 499، 502. عمير بن هذيل "ج1" 398، 399. عمير بن وهب "ج4" 80. "ج5" 224. عمير ذي مران "ج4" 193. عميرة بن أوس "ج5" 408. عميرة بن جعيل "ج9" 270. عميرة بن مالك الخارفي "ج1" 407. "ج3" 42. "ج4" 193، 186، 193. عميرة أبو ضمضم "ج8" 332عميرة بنت غفار الجديبة "ج9" 447، 487، 686. عميطع "ج1" 442، 580. عميكرب بن سبأ "ج1" 364. عنبة حاتم "ج9" 816. العنبر بن عمرو بن تميم "ج9" 445، 471. العنبر بن يربوع "ج4" 529. عنبسة بن معدان "ج9" 53. عنترة بن شداد العبسي "ج3" 522. "ج4" 453، 510، 511، 558. "ج5" 362، 373، 387، 396، 402، 445. "ج6" 354، حا 659، 791، 792. "ج7" حا 365، حا 592. "ج8" 373، 545، 664، 718 "ج9" 104، 106، 177، 235، 243، 345، 434، 440، 441، 508، 509، 511، 519، 558، 560، 588، 620، 623، 636، 754، 793، 883. عندل "ج1" 368. عنز "ج1" 526. "ج4" 525. عنزة بن أسد "ج1" 407. "ج3" 278، 347. "ج4" 335، 577. "ج5" 365، 437. عنزة بلج بن المحرق "ج6" 281. عنس بن مذحج "ج1" 371. "ج4" 455. العنسي "ج4" 193. عنفقير "ج3" 286. عنيزة "ج9" 526. عهر شمر "ج7" 232.

عوافة بن سعد "ج5" 653. العوام بن خويلد بن أسد "ج4" 80. العوام بن كعب "ج9" 860. العوام أبو الزبير "ج4" 125. عوانة بن الحكم "ج1" 114، 116. "ج9" 298، 299، 308، 347. عوانة بنت قيس بن عيلان "ج4" 477، 531. "ج8" 168، 362. عوبال "ج1" 343، 344، 424. عوج بن عوق "ج3" 61. عوده ذو جدن "ج3" 485. عوذ "ج1" 332. "ج6" 16. عوذ مناة "ج6" 16، 250، 320. عوز بن سرير الغافقي "ج4" 190. عوسجة بن حرملة الجهني "ج4" 261. "ج8" 130. عوص بن أرم "ج1" 294، 297، 298، 302، 303، 343، 416، 419، 420، 596، 631، 632. "ج3" 12. عوص بن حاشد "ج4" 448. عوص بن عاد "ج8" 537. عوف بن أبي حارثة "ج4" 85، 478. "ج5" 382. عوف بن أبي شمر "ج3" 432. عوف بن الأحوص "ج4" 521. عوف بن أد "ج4" 338. عوف بن الأعوص العامري "ج6" حا 404. عوف بن أمية "ج8" 498، 499. عوف بن بهتة "ج4" 518 عوف بن ثقيف "ج4" 517. "ج6" 350، 430. "ج8" حا 652. عوف بن جذيمة "ج4" 487. عوف بن الجزع "ج6" 759، 804. عوف بن جشم "ج3" 209. عوف بن دهر "ج4" 29. عوف بن ربيعة "ج3" 351. "ج8" 742. عوف بن سعد "ج4" 512. عوف بن عامر "ج9" 765. عوف بن عبد الله "ج5" 407. عوف بن عبد عوف "ج5" 37. عوف بن عبد مناة "ج4" 524، 526. عوف بن عبيد "ج5" 606. عوف بن عتاب الرياحي "ج3" 226. عوف بن عذرة "ج6" 79، 255 عوف بن عطية بن الخرع "ج5" 376. "ج9" 472. عوف بن عمرو "ج4" 340، 483، 512. "ج5" 349. عوف بن عوف "ج4" 596. عوف بن كعب "ج1" 367، 372، 392، 403. "ج4" 674. عوف بن كنانة "ج4" 37، 532، 535. عوف بن لؤي "ج1" 401، 402، 404، 407، 470. "ج4" 29، 480. "ج8" 473. عوف بن مالك "ج1" 403، 405، 407. "ج4" 437، 438. "ج9" 457.

عوف بن محلم الشيباني "ج3" 323، 325، 326، 329، 347، 393، 400. "ج4" 363، 405، 407، 488 "ج5" 349. عوف بن مسلم "ج4" 405. عوف بن معاوية "ج4" 519، 520. عوف بن همام "ج9" 348. عوف إيل "ج6" 17. عوف بن أيوب الأنصاري "ج4" 440. عويصرة "ج4" 520. عويض "ج1" 369. عويلم "عيلام" "ج1" 18، 296، 417، 418. عويمر النبهاني "ج6" 134. العي "ج1" 382. "ج4" حا 468. العيار بن عبد الله الضبي "ج3" 279. عياش بن أبي ربيعة "ج1" 332 "ج4" 181. "ج8" 683. عياص "ج4" 235. "ج6" 360، 366. العيد "ج1" 367، 405. عيد عمرو بن صيفي "ج6" 459. عيسى بن جعفر "ج9" 272. عيسى بن داب "ج1" 363. عيسى بن عمر "ج8" 737. "ج9" 31، 40، 53، 56، 72، 265، 324. عيسى بن مريم "المسيح" "ج1" 37، 41، حا 54، 59، 60، 62، 86، 244، 299، 328، 329، 651. "ج2" 77، 177، 259، 583، 585، 621. "ج3" 44، 109، 112، 130، 169، 175، 408، 409، 458، 468، 469، 477، 495. "ج4" 229، 484. "ج5" 103، 104. "ج6" 31، 120، 435، 436، 438، 490، 499، 540، 545، 573، 574، 582، 585، 601، 603، 607، 608، حا 610، 618، 619، 623، 624، 626، 627، 630، 632، 634، 637، 648، 650، 657، 665، 667، 670، 676، 678، 687، 738. "ج7" 417، 418. "ج8" 88، 113، 204، 213، 390، 519، 713. "ج9" 685، 763، 822، 903 عيسى البابي الحلبي "ج3" حا500. "ج8" حا 98. عيسى سابا "ج6" حا 572، 574. عيسو "ج1" 497، 604. عيقة "ج1" 446، 458. عيلاميده "ج3" 463، 471. عيلان "ج4" 506، 507. العيني "ج6" حا 369، حا 576 "ج9" حا 379، 418، حا 449، حا 502، 503، 641، 664، حا 796، 797، 805، حا 866. عينيل "ج6" 16. العيوق "ج6" 20، 57. عيينة بن حصن "ج1" 281. "ج4" 236، 253، 255، 259، 293، 349، 509. "ج5" 376، 407، 637، 642 "ج8" 98، حا 391، 365، 788، 789. "ج9" 430، 577، 667، 863، 867، 896، 897.

الغين

الغين: غاثر "ج1" 297، 298، 419، 420. غاشم "ج1" 358. غاصب "ج1" 358. غاضرة "ج1" 405، 406 "ج4" 531. غافق بن الشاهد بن عك "ج4" 420، 505. غالب بن حنظلة "ج4" 337، 375. غالب بن سعد "ج1" 369، 403، 520. غالب بن صعصعة "ج5" 74، حا 97. "ج9" 69، 879. غالب بن فهر "ج1" 400. "ج3" 251. "ج4" 479، 520. غالب بن مدركة "ج4" حا 468، 477، 531. غاليانوس بن والريانوس "ج3" 94، 95، 98، 112، 113، 123. غانم بن علوان "ج1" 304. غاوي بن ظالم السلمي "ج6" 259. غبر بن غنم "ج1" 402. "ج4" 500. غبشان بن عبد عمرو "ج4" 42"ج6" 58. غراب "ج1" 455، 526. "ج4" 657. الغرانيق "ج4" 657. الغرنوق "ج4" 657. الغرور بن سويد "ج4" 209، 210، 502. الغرور المنذر بن النعمان "ج3" 309. غرونباوم "ج9" حا 63، 96، 97، 101، 128، 142، 161، 162، 183، 185، 188، 189، 239، 240، 416، 418، 468، 662، 671، 673، 796، 797، 799، 806. الغريض بن السموال "ج9" 771، 778. غريض بن عادياء "ج6" 580، 713. غريض اليهودي "ج9" 454. غريغور "ج6" 632. الغزالي "ج6" حا 146. غزوان "ج4" 478. غسان "ج1" 52، 80، 364،

336، 374، 398، 476، 484، 516، 517. "ج3" 150، 183، 205، 445 "ج4" 314، 421، 436، 437. غسان بن مالك "ج4" 529. غضاضة "ج1" 407. غضب بن جشم "ج3" 442. "ج4" 134. الغطريف بن ثعلبة "ج3" 166. غطفان "ج1" 373، 406. "ج4" 428، 571. غطفان بن سعد "ج1" 404. "ج4" 508، 509، 525. "ج6" 241. غطفان بن عمرو "ج3" 167. غطفان بن مرة "ج4" 512. غطيف "ج1" 372، 406. "ج3" 498. غفار بن عبد مناة "ج1" 400. "ج4" 532. غفرة "ج9" 884. غلاب "ج1" 525. غلفاء "ج3" 348. الغلي "ج1" 371. الغمور بن مالك "ج1" 370. الغميصا "ج6" 20. غنم بن تغلب "ج1" 407. "ج4" 489، 491، 492. غنم بن حبيب "ج1" 408. غنم بن حي "ج1" 368، 399، 404. غنم بن دودان "ج3" 364. "ج4" 534. غنم بن عبس "ج4" 505. غنم بن عوف "ج4" 362. غنم بن كنانة "ج4" 37، 532. غنم بن وديعة "ج4" 483. غني بن أعصر "ج1" 404. "ج3" 213. الغوث بن زيد "ج1" 491. "ج2" 328، 329. الغوث بن طيء "ج1" 358، 370، 371، 374. "ج4" 451. الغوث بن مر "ج1" 402. "ج6" 191، 270، 357، 387 الغوث بن نبت بن مالك "ج1" 488، 489. "ج4" 433، 434. غوث أيل "ج8" 514. غورديانوس "ج3" 140. الغوري "ج8" حا 205. غوستاف لبون "ج4" 297. غوي بن سلامة الأسيدي "ج5" 158. غويدي "أغناطيوس" "ج1" حا101، 137، 230. "ج2" حا 176، حا 332، حا359، حا 541. "ج6" حا 72، 73. "ج8" حا 209، حا 217، حا219، 626. غيان "ج4" 430. الغيث "ج1" 367. الغيطلة بنت مالك "ج6" 760، 770. "ج8" 744. غيظ بن مرة "ج1" 405. "ج5" 601. غيلان بن خرشة "ج5" 52. غيلان بن سلمة "ج2" 140، 141، 146، 169. "ج4" 150، 154. "ج5" 504، 548، 637، 464، 647.

"ج7" 578. "ج8" 111، 139، 292، 301، 780. "ج9" 577، 668، 752، 767. غيلان بن مالك "ج4" 529. غيلة "ج4" 405.

الفاء

الفاء: فؤاد أفرام البستاني "ج9" حا583. فؤاد حمزة "ج1" حا 192. "ج2" حا 28، حا 48. "ج3" حا 537. "ج4" حا 438، حا 444، حا679. "ج7" حا 195، حا 209، حا512، حا 568. "ج8" 592، 593. فؤاد سفر "ج2" حا 610. فاختة "ج4" 657، "ج6" 407، 408. الفارابي "ج8" 630. فاراموس "ج3" 141. فاران بن عمرو "ج3" 196. فارس "ج1" 297، 418. الفارعة "ج6" 482، 499. فاطمة بنت بعجه "ج6" 476. فاطمة بنت الخرشت "ج4" 574، 636، 648. "ج5" 554. فاطمة بنت الخطاب "ج8" 765. فاطمة بنت ربيعة "ج3" 360، 361. "ج4" 255. فاطمة بنت سعد بن سيل "ج4" 38، 40، 41. فاطمة بنت عبد مناف "ج4" 521. فاطمة بنت العبيد بن ثعلبة "ج9" 526، 704، 896. فاطمة بنت مر الخثعمية "ج6" 770. "ج8" 137، 369. فاطمة بنت المنذر "ج9" 662. فاطمة بنت النعمان "ج6" 760، 771. فاطمة الزهراء "ج5" 157. الفاكه بن المغيرة "ج5" 37. "ج6" 761، 767. الفاكة بن النعمان "ج4" 244. فالج "ج1" 421، 449. فالغ بن هور "ج1" 314. "ج3" 397. فاليريان "فاليريانوس" "ج2" 68، 634. "ج3" 92، 93. فان دين برندن "ج1" 328. "ج2" 165.

فانس "ج1" 621. فايش بن شهاب "ج2" 570. الفتاوي "ج8" حا 547. فتحا "ج7" 463، 464. فتيان بن سبيع "ج4" 510. فتية بن النمر "ج1" 367. الفجار الأكبر، فجار البراض "ج3" 272. الفجيع بن عبد الله "ج4" 257. فدكي بن المنقري "ج4" 571. الفراء "ج6" حا 676. "ج8" 91، حا 187، حا 455، حا 461، حا 466، 548، 572، 574، 575، 737. "ج9" 217، 219، 220، 222، 391. فرات بن حيان "ج4" 124، 223، 224. "ج6" 98، 99. "ج7" 340. فراس بن تميم "ج4" 532. فراس بن حابس "ج4" 206. فراس بن غنم "ج1" 404، 525 "ج5" 174، 388، 445، 641 "ج9" 649. الفرافصة بن الأحوص "ج6" 213، 255، 256. الفرافصة الكلبي "ج5" 642. "ج7" 383. فران بن بلي "ج7" 514. فرانز دلتش "ج9" 769. فرايتاك "ج1" حا 149، حا161، حا 308. "ج9" 417. فرتز هومل "ج1" 136، 230، 232، 244، 429، 558، 562، 589. فرج بن مالك "ج3" 179. فردرش شولثيس "ج9" حا 760 فردم بن عمرو "ج6" 547. فرديش دلج "ج1" 582. الفرزدق "ج1" 318، 398، 494. "ج3" 226، 252، 514. "ج4" حا 149، 197، 337، 490، 526. "ج5" حا 96، 97، 144، حا392. "ج6" حا 820. "ج7" حا 498. "ج8" 333. "ج9" 25، 74، 75، 81، 120، 121، 184، 232، 233، 265، 283، 297، 305، 327، 339، 345، 356، 419، 441، 454، حا520، 526، 527، 533، 544، 667، 851، 879. فرسنل "ج6" 298. فرع كرب يهوضع "ج2" 181، 184، 185، 204، 206، 210، 212، 234، 237. فرعة بنت سعد "ج3" 287. "ج4" 453. فرعم بن مقرم "ج2" 457. فرعم زهمهن الشرح "ج2" 505. فرعم يهنب "ج2" 348، 351، 352، 362، 383، 384، 387، 419، 421، 423، 472، 493، 495. فرعون "ج1" 323، 453، 621. "ج2" 121، 123. "ج3" 22، حا 54. "ج6" 490. "ج8" 480. "ج9" 126، 605، 824.

فرفوريس "ج3" 108. فرنتا "ج5" 135. فرنكل "ج8" 76. فروة بن أياس "ج4" 225. فروة بن الحصيل "ج4" 253. فروة بن عمرو الجذامي "ج1" 201. "ج4" 243، 245، 462. "ج5" 398. "ج6" 529. "ج7" 416. فروة بن مسعود "ج3" 240. فروة بن مسيك المرادي "ج3" 498. "ج4" 188، 456. "ج5" 408. "ج9" 868. فروخ ماهان "ج3" 289، 290 "ج6" 663. فروذ بن ربيعة "ج1" 368. فرومنتيوس "ج3" 456. فريدرش شولتس "ج6" حا 488، حا 493، 494، حا 499. فريسنل "ج1" 127. الفريعة بنت خالد "ج9" 728. الفريعة بنت همام "ج9" 286. فزارة بن ذبيان "ج4" 254، 510، 511. "ج5" 361. فسبازيان "ج1" 55. فصائل "ج3" 48. فضالة "ج7" 461. "ج8" 775. "ج9" 466. فضج "ج2" 252. الفضل بن شراعة "ج4" 87. الفضل بن عباس "ج4" 310، 366، 563، حا 592. "ج6" 435. الفضل بن قضاعة "ج4" 87. الفضل بن نصاعة "ج4" 87الفطيون "ج9" 720، 790. الفغار الجعفي "ج5" 557. الفقعسي "ج4" 591. "ج5" 498. فقيم بن ثعلبة "ج8" 499. فقيم بن الحارث "ج8" 499. فكتوريا "ج3" 113، 116، 123. فكل "ج1" 373. فكيهة بنت هنى "ج4" 478. فلاديمير جرجاس "ج1" حا 622. "ج3" حا 206. فلافيان "ج2" 217. فلافيوس فوبسكوس "ج3" 107. فلايدلر "ج6" 43. فلبي "ج1" 132، 134، 178، 179، 181، 232، 233، 242، 329، 343، 539، 540، 558. "ج2" 18، 48، 52، 54، 58، 77، 82، 83، 85، 86، 91، 94، 98، 100، 102، 132، 135، 137، 140، 141، 143، 144، 147، 152، 157، 158، 167، 169، 177، 180، 182، 196، 207، 217، 236، 238، 242، 270، 271، 273، 277، 279، 285، 286، 307، 311، 314، 316، 317، 322، 324، 326، 330، 334، 350، 357، 369، 445، 455، 474، 476، 482، 485، 487، 489، 492، 493، 502، 504، 505، 535، 536، 557، 568، 571، 573، 557، 578، 581، 582، 585، 587، 588.

"ج3" 537. "ج7" 70، 71. "ج8" 206، 207، 211. الفلحس "ج5" 73، 74. فيوجاس "ج3" 133. فلوكل "ج5" حا 478. "ج9" 48. فليب "ج2" 68. فنابرزين "ج2" 646. فنت "ج1" 137. فنتديوس باسوس "ج3" 36. فنحاس "ج3" 467، 469. "ج6" 546، 548. الفند الزماني "ج9" 906. فنسنك "ج1" حا 41. فهد "ج4" 196، 250. فهد بن النعمان "ج9" 572، 574. فهد بن سلى "ج1" 526. "ج5" 192. "ج8" 175، 178. فهر بن مالك "ج2" 584. "ج4" 17، 19، 24، 479. فهم بن تيم الله "ج3" 167. فهم بن عمرو "ج4" 507. "ج5" 382. فهم بن غنم "ج4" 438. فهم بن هذيل "ج1" 366، 403، 548. "ج3" 167. فهيرة بنت عامر "ج4" 440. "ج6" 77. فوتيوس "ج3" 109. "ج6" 349. "ج8" 486، 511. فورستر "ج1" 301، 344، 362، 425، 429، 441، 442، 445، 587. "ج2" 19، 48. فورفيريوس "ج6" 198. فوزي فهيم جاد الله "ج5" حا 289. فوط "ج1" 297، 418. فوقاس "ج3" 134. فولا "ج6" 633. فولتير "ج1" حا 394. فولرس "ج6" حا 658، حا 669. "ج8" 547، 548، 619، 627. فون ريده "ج8" 53. فون كريمر "ج1" 229، 230، 312. "ج2" 584. "ج3" 472. "ج9" 47، 48. فون مالتزن "ج2" 157. فون وزمن "ج1" 137. "ج2" 56، 98، 103، 116، 135، 140، 144، 147، 149، 150، 165، 178، 192، 200، 214، 216، 221، 273، 289، 324، 326، 357، 358، 360، 368، 369، 378، 423، 471، 483، 484، 486، 490، 493، 494، 499، 512، 521، 527، 531، 532، 537، 548، 549، حا 551، 552، 558، 563، 566، 598. "ج3" 453، 454. "ج8" 515. فيتليوس "ج3" 44. فيثاغورس "ج8" 610. "ج9" 170. فيد "ج4" 450. "ج7" 151. فيرموس "ج3" 114، 117، 124، 126.

الفيروزآبادي "ج5" 304. "ج6" حا 451. "ج8" حا 258. فيروز بن بهرام "ج6" حا 610. فيروز بن يزدجرد "ج3" 208، 210، 307، 311. فيروز الديلمي "ج3" 528، 529. "ج4" 184، 192، 193، 557. "ج5" 320، 529 فيسبسيان "ج3" 86. فيشر "ج8" 627. فيشهرت "ج3" 260، 313فيصل آل سعود "ج7" 151. الفيطوان "ج4" 133، 135، 137. فيل "ج3" 463. فيلاستريوس "ج3" 109، 110 فيلفوس "ج1" 563. "ج3" حا 69. فيلوستورجيوس "ج2" 63. "ج6" 539، 612. فيليب "ج1" 444. "ج3" 27، 59، 64، 69. فيميون "ج1" 85. "ج6" 608، 609. فينندفل "ج3" 466.

القاف

القاف: قابض بن يزيد "ج2" حا 354. قابوس "قينة العرس" "ج3" 209. "ج9" 538 قابوس بن قابوس بن المنذر "ج4" 228، 230. قابوس بن المنذر "ج3" 158، 218، 224، 226، 233، 239، 243، 244، 254، 257، 261، 273، 274، 307، 309، 310، 312، 313، 347، 356، 357، 412، 414. "ج4" 81. "ج6" 715. قابيل "ج1" 494. "ج3" 79. "ج4" 434. "ج6" 254. "ج8" 652. "ج9" 364، 393. قاحط "ج1" 358. قادور بن هيمسع "ج8" 158. القارة "ج4" 84، 533. القارظ العنزي "ج3" 282. قاسط بن النمر "ج1" 406، 407. "ج4" 423، 487. قاسط بن هنب "ج1" 407. "ج4" 487. قاسط بن وائل "ج9" 569 القاسم "ج1" 334. "ج6" 500. القاسم بن أمية "ج9" 753، 764.

القاسم بن الطويل "ج9" 810. القاسم بن محمد "ج9" 269. القاسمي "ج6" 435. القاضي عياض "ج8" 98، 100 القالي "ج3" حا 236، حا 255، حا 275، حا 278، حا 358، حا 443. "ج4" حا 67، حا 90، حا 97، حا 455، حا 472. "ج5" حا 83، حا 85، حا 159، 639، 643، حا 646، حا 648. "ج6" حا 224، حا 465، حا 715، حا 769، حا 802. "ج8" حا 278، حا 280، حا 353، حا 489، 490، حا 587، حا 742. "ج9" حا 14، 15، 25، 36، 154، 278، 280، 281، حا 450، حا 463، حا 611، حا 633، حا 637، حا 640، حا 813، حا 879. قباث بن أشيم "ج6" حا 675. قباذ "ج9" 799، 803. قباذ بن شهريار "ج2" 538، 539، 618. قباذ بن فيروز "ج3" 186، 205، حا 209، 210، 215، 217، 219، 221، 307، 311، 328، 333، 343. قباذ أبي أنو شروان "ج3" 324، 528. "ج4" 160. "ج9" 799، 803. القبط بن حام "ج7" 603. قبيس بن شالخ "ج4" 7. "ج6" 405. قبيضة بن الأسود "ج5" 172. "ج7" 148. قبيضة بن أياس "ج4" 37، 220، 228، 671. "ج8" 643. قبيضة بن ضرار "ج5" 353. قبيضة بن مسعود "ج5" 289. قبيضة بن نعيم "ج3" 364. قتادة "ج1" 224، 463، 525. "ج4" 45، 222، 296، 544. "ج8" 103، 600، 605، 611، 631، 654. قتادة بن دعامة "ج9" 343. قتادة بن سلمة "ج5" 378، 386، 407. قتادة بن القايف "ج9" 899. قتادة بن موسى "ج9" 361، 711. قتادة بن النعمان "ج9" 53، 251، 355، 381. قتبان بن ردمان "ج2" 173، 174. قتيمة بن مسلم "ج9" 233. قتيلة "ج8" 377، 384. "ج9" 573. قتم بن سعد "ج1" 369. قحافة بن عامر "ج6" 272. القحذمي "ج9" 343، 381. قحطان "ج1" 92، 286، 354، 358، 361، 375، 376، 380، 421، 423، 432، 447، 473، 478، 482، 490، 492، 494، 496، 499، 501، 505، 509، 517. "ج2" 381، 531، 585. "ج4" 218، 274، 414، 467، 468، 477، 493، 504، 531، 536، 537. "ج5" 216، 232، 344، 355.

"ج8" 537، 539، 562، 591، 641، 653، 674، 689 القحم "ج1" 392. قحيط "ج1" 358. القدار بن الحارث "ج4" 348، 433. قدار بن سالف "ج1" 334، 374، 440. القدار بن عمرو "ج4" 348. قدامة بن جرم "ج4" 211، 424. قدامة بن سلمة "ج5" 374. قدامة بن عمر بن قدامة "ج9" 380، حا 456. قدامة بن مظعون "ج9" 37. قدامة بن موسى "ج9" 695. قدر بن عمار "ج4" 258. القدسي "ج9" حا 476. قدمة "ج1" 375، 434، 445. القرا "ج1" 367. قران الأسدي "ج9" 647. قران كرمان "ج4" حا 214. قرة بن عبد الله بن أبي نجيح "ج8" 129. قرة بن هبيرة "ج4" 256. "ج5" 376. "ج6" 598. قرد بن معاوية "ج1" 526. "ج4" 535. قردة "ج5" 391. "ج9" 555. قرشت "ج8" 159، 164، 166. القرشي "ج7" 485. قرص الغساني "ج3" 436. قرط "ج1" 406. القرطبي "ج2" حا 570. "ج3" 512، 515، 516. "ج4" 177، حا 371، حا 387، حا 544. "ج5" حا 62، 63، 82، 83، حا 88، حا 90، 91، حا 93، 97، حا 142، حا 511، حا 544. "ج6" حا 38، حا 40، حا 58، 59، حا 136، حا 190، حا 194، حا 204، 206، حا 209، 210، حا 350، حا 393، حا 452، حا 738. "ج8" 98، حا 104، حا 305، حا 488، حا 493، حا 498، حا 503، حا 599، حا 615. "ج9" 248. قرقرة الكدر "ج4" 260. قرقيسيا "ج4" 233. قرمل بن الحميم "ج3" 363، 364. قرن "ج1" 372. "ج4" 438. قرية بن ذمر "ج2" 141. قريش بن بدر "ج4" 23، 24، 479. "ج7" 323. قريط بن أنيف "ج1" 406. "ج4" 393. قرين بن سملى "ج4" 217، 405. قرينة "ج5" 135. قزما الرحالة "ج3" 461، 462، 506. القزويني "ج1" حا 342. "ج3" حا 532. "ج4" حا 145، حا 204. "ج6" حا 578، حا 765. قس بن ساعدة الإيادي "ج1" 42. "ج2" 304. "ج4" 671.

"ج5" 237، 505، 509، 638، 648. "ج6" 225، 453، 462، 469، 819. "ج7" 382. "ج8" 251، 340، 362، 368، 427، 734، 735، 766، 776، 777، 785، 787، 792. "ج9" 388. القسطلاني "ج4" حا 144، حا 149، 610، 612، 669، 683 "ج5" حا 105، حا 120، حا 152، حا 154، حا 161، حا 170، حا 290، حا 510، حا 539، حا 560، حا 591، حا 595، حا 602، 603. "ج6" حا 502، 503. "ج7" حا 390، حا 395. قسطنطين "ج2" 558، 641. "ج3" 456، 471. "ج6" 540، 612، 613، 625. "ج7" 496، 629. قسطنطين الثاني "ج2" 62، 63، 568. قسطنطين زريق "ج1" حا 80. قسميل "ج6" 16. قسي بن منبه "ج3" 513. "ج4" حا 147، 148، 406. قشن أشوع "ج2" 382. قشيرة بن كعب "ج1" 406. "ج4" 522. قصي الأبطح "ج4" 27، 28. قصي بن أذينة "ج3" 47، 153. قصي بن تعجلة "ج3" 45. قصي بن روح "ج3" 153. قصي بن كلاب "ج1" 400، 401. "ج2" 109. "ج3" 153، 389. "ج4" 8، 9، 14، 15، 18، 19، 22، 25، 27، 37، 46، 51، 61، 63، 65، 77، 78، 82، 88، 91، 97، 117، 247، 251، 427، 431، 440، 480، 531. "ج5" 234، 235، 272، 408. "ج6" 125، 148، 215، 219، 245، 330، 384، 432، 440، 448، 666، 699 "ج7" 192، حا 290. "ج8" 522، 642، 643، 647. "ج9" 412. قصير "ج3" 183. قصير بن سعد "ج3" 105، 106، 180. "ج8" 374. قضاعة بن مالك بن حمير "ج1" 392. "ج4" 419، 468، 500. قضاعة بن معد "ج1" 392. قضاعي بن عمرو "ج4" 222. القطامي "ج1" 92، 358، 359. "ج4" 657. قطبان أوكان "ج2" 376، 377. قطبة بن أوس "ج9" 491. قطبة بن الزبعري "ج9" 900. قطبة بن سيار "ج4" 514. "ج5" 235. قطبة بن عامر بن حدية "ج4" 186. "ج6" 372.

قطرب "أبو علي محمد بن المستنير" "ج8" 557. قطن بن شريح "ج6" 257. قطورة "ج1" 28، 143، 429، 445، 449، 455، 457، 582. "ج2" 93، 120، 261. قطيعة بن عبس "ج1" 404. "ج4" 510. "ج5" 648. "ج6" 83. قعضب "ج5" 425. القعقاع بن حكيم "ج1" 315. القعقاع بن خليد "ج3" 233. القعقاع بن زرارة "ج4" 591. القعقاع بن عمرو "ج4" 229. "ج5" 225. القعقاع بن معبد "ج4" 206. "ج5" 647. "ج9" 668. قعقعة "ج6" 85. قعنب "ج1" 404. قعيسيس "ج4" 461. قعين بن خليف "ج4" 220. القفطي "ج9" حا 8، 10، 38، 42، 53، 56، 194، 211، 321، 323. قلابة بنت الحارث "ج4" 154، 534. القلادة "ج1" 406. القلاعي "ج8" حا 474. قلطف الكاهن "ج6" 763، 770 قلع بن عباد قلع "ج8" 497، 499. القلقشندي "ج2" 569، 579. "ج4" حا 490. "ج6" 553، 639. "ج7" 343. "ج8" 182، 493. القلمس بن أمية "ج8" 497، 501. "ج9" 399. القلمس بن عمرو "أفعى نجران" "ج3" 536. القلمس الكناني "ج5" 638، 639، 648، 649. قلوديوس سويروس "ج3" 58، 115، 116. قليب بن عمرو "ج1" 402. "ج4" 529، 524. القليس بن عمرو "ج3" 502، 508، 510، 517، 518، 525. قمباسوس "ج1" 621. قمبيز "ج1" 622، 623. "ج6" 292. قمبيز الثاني "ج1" 621، 626. القمر "ج1" 367. قمعة بن إلياس بن مضر "ج1" 397، 398، 403. "ج4" 476، 530. قمعة بنت مضاض الجرهمي "ج6" 77. القمقام "عمرو بن عامر" "ج3" حا 399. قمير "ج4" 531. قتاصة بن معد "ج1" 392. قنافة الكلبي "ج4" 238. "ج7" 372، 479. قنان بن ثعلبة "ج8" 130. قنان بن دارم "ج4" 253. قنان بن وعلة "ج4" 189. قنان بن يزيد "ج4" 189. قنص بن معد "ج1" 389، 392، 397. "ج4" 469. "ج8" 331. قنطور بن كنعان "ج2" 527.

قعنب بن الحارث "ج5" 375. قعنب بن عتاب "ج5" 375. قنفذ بن سبيع "ج1" 405. "ج4" 510. قوسي "ج6" 629. القوط "ج3" 98، 99. قيدار بن إسماعيل "ج1" 375، 434، 438، 440. "ج4" 537. قيدما "ج1" 29، 445. قيدمان "ج1" 445. قيدر "ج1" 375، 434، 435، 437. قيدر بن إسماعيل "ج8" 158. قيذم "ج1" 375، 434. قيس بن أبي عروة "ج7" 413. قيس بن الأسلت "ج8" 430. قيس بن امرئ القيس "ج4" 85، 125. قيس بن ثعلبة "ج3" حا 370. "ج4" 335، 496، 502، 503، 520. "ج5" 386، 437، 465، 534 "ج6" 100، 820. "ج7" 305، 320. "ج8" 583، 795. "ج9" 161، 281، 475، 535، 656، 658. قيس بن جحدر "ج3" 250، 251، 384، 386، 411، 473، 474. قيس بن جزء "ج9" 551. القيس بن جسر "ج4" 240. قيس بن جندل "ج9" 586. قيس بن الحارث "ج4" 206. قيس بن الحدادية "ج4" 412. "ج9" 621، 648، 649، 827. قيس بن حسان "ج5" 386، 407. قيس بن الحصين "ج3" 537. "ج4" 189. "ج7" 484. قيس بن خالد "ج3" حا 294. "ج5" 644. "ج8" 350. قيس بن خزاعي "ج3" 518، 519. قيس بن الخطيم "ج1" 382، 438، 475، 476، 492، 493، 605. "ج4" 137، 140، 383، 400، 580، 646، 663. "ج5" 613. "ج6" 551. "ج8" 136، 268، 430. "ج9" 25، 65، 91، 247، 445، 655، 719، 720، 725، 727، 746، 748، 789. قيس بن زهير العبسي "ج3" 212. "ج4" 510، 524، 578. "ج5" 359، 361. "ج8" 780. "ج9" 106، 624، 625، 636، 799، 800، 818. قيس بن سعد "ج4" 137، 307، 661. قيس بن سلمة "ج3" 224، 359، 366. "ج4" 195، 307، 324، 382 "ج5" 408. "ج7" 457، 462. قيس بن شماس "ج8" 788. قيس بن شيبة السلمي "ج4" 88. "ج5" 502. قيس بن عازب "ج1" حا 336. قيس بن عاصم "ج1" 486.

"ج4" 205، 206، 223، 351، 362، 375، 405، 585، 586، 591، 594، 595، 671، 672. "ج5" 39، 90، 92، 189، 352، 353، 365، 366، 378، 407. "ج6" 96، 224. "ج9" 884، 900، 901. قيس بن عامر "ج8" 780. قيس بن عبد قيس "ج5" 118. قيس بن عبد يغوث "ج3" 493، 527، 528. "ج4" 188، 193. قيس بن عبس "ج4" 509. قيس بن عتاب "ج3" 226. قيس بن عدي "ج4" 73، 102، 109، حا 200، 560. "ج5" 38. قيس بن عزرة "ج4" 194. قيس بن عمرو "ج1" 481. "ج4" 15. قيس بن عيزارة "ج5" 573. قيس بن غالب بن فهر "ج2" 584. "ج4" 26، 479. قيس بن قبيصة "ج3" 291. قيس بن مالك "ج4" 187. "ج7" 462، 636. قيس بن مخرمة "ج4" 125. قيس بن مسعود "ج3" 279، 293، 295، 298، 318، 331 "ج5" 265. "ج7" 341. "ج8" 776، 779. قيس بن مضر "ج4" 506، 507، 536، 539. قيس بن معد يكرب "ج3" 249، 351، 352، 356، 358. "ج4" 196، 197، 200. "ج5" 435، 458. "ج6" حا 670. "ج9" 93، 120، 356، 574، 575، 580، 812. قيس بن مكشوح المرادي "ج4" 188، 192. "ج9" 844. قيس بن نسيبة "ج4" 257. قيس بن نشبة "ج8" 177، 347، 348. قيس بن هبرة "ج9" 69. قيس بن وائل "ج1" 332. قيس الرقيات "ج5" 210. قيسبة بن كلثوم "ج8" 203، 204، 255. قيسو "ج1" 594. قيصر "حاكم" "ج3" 22، 97، 99، 122، 123. "ج4" 20، 39، 67، 92، 93، 103، 117، 165، 172، 173، 176، 463، 618، 654 "ج6" 458، 577. "ج7" 303، 410. "ج8" 290، 305، 642، 720. "ج9" 440، 477، 519، 523، 533، 578. قيل بن عتر "ج1" 302. "ج4" حا 401. "ج5" 112. قيلة بنت الأرقم "ج4" 133، 436. قيلة بنت كاهل "ج4" 247، 432. "ج8" 574. القيم "ج5" 639. قيمس "ج8" 200. القين بن جسر "ج1" 316، 367. "ج4" 37، 428. "ج5" 385.

"ج7" 461. "ج8" 204. "ج9" 103. قين بن فهم "ج4" 507. قين مناة "ج6" 320. قين يدع إيل بين "ج2" 299. قينة "ج3" 107. قينو بن جشم "ج1" 648.

الكاف

الكاف: كابر "جابر" "ج1" 297، 416. كارسن يبور "ج1" 124. كارنلا "ج2" 61. "ج3" 66، 88. كارل مولر "ج1" 65. كارلو نالينو "ج6" حا 664، حا 672. "ج8" حا 360، 427، 428، 775، حا 781. "ج9" حا 71، 150، 171، 178، 373، 374، 410، 445، 453، 473، 499، 543، 556، 566، 587، 593، 594، 632، 639، 640، 646، 675، 728، 766، 769، 795، 807، 814، 838، 842، 844، 854، 858، 860، 862، 871، 873، 880. كاسكل "ج2" 243، 245، 248، 253، 257. "ج6" 317، 321، 325. "ج8" 231. كاسل"ج2" 243، 244كاسيوس "ج2" 40. "ج3" 108. كافور "ج9" 6. كالب إلا أصبحة "ج3" 463، 468، 470، 480، 491. كاله "ج8" 548. كاليستوس "ج3" 94، 96، 98. كامل بن ربيعة "ج1" 368. كاهل بن أسد "ج1" 399. "ج4" 533، 534. الكاهن بن هارون "ج3" 375. "ج6" 522. الكاهن الخزاعي "ج6" 761، 765، 767. الكاهن اللهبي "ج6" 366. كاير "ج8" 548. "ج9" 565، حا 779. كايوس قيصر "ج2" 61. كبرايل بن متع "ج2" 243. "ج6" 318، 331. كبرس "ج1" 227. كبشة "أخت عمرو بن معد يكرب" "ج4" 620. كبشة "عمة أبي جبر" "ج3" 374. "ج8" 383.

كبشة أم عامر "ج4" 521. كبشة بنت الحارث "ج6" 96. كبشة بمن معن بن عاصم "كبيشة" "ج5" 529، 536. كبير "ج4" 520. كتانيته "ج1" 422. كثير عزة "ج1" 454. كدام بن عمرو "ج5" 382. كدت كدة "ج2" 573. كراسوس "ج2" 40. كراع "ج8" 575. كراف كوبينو "ج1" 257. كرب بن تبع الأكبر "ج1" 502، 503. "ج2" 243. كرب بن صفوان "ج5" 372، 653. كرب بن كعب "ج5" 437. كرب أسار "ج2" 403. كرب أسرع "ج2" 402. كرب إيل بين "ج2" 307، 310، 311، 313، 348، 430، 431، 478، 479، 481، 482. "ج7" 210. كرب إيل ذي ريدان "ج2" 429، 520، 524، 528. كرب إيل وتر "ج1" 332، 369، 589. "ج2" 29، 101، 106، 136، 140، 144، 169، 182، 238، 277، 280، 286، 289، 290، 301، 303، 305، 308، 312، 314، 317، 321، 326، 338، 342، 347، 351، 359، 362، 390، 411، 474، 476، 478، 495، 496، 503، 504، 511، 522، 562، 563. "ج3" 479، 534 "ج5" 190، 255، 405. "ج7" 137، 491. كرب إيل يهصدف "ج2" 322. كرب عثت "ج2" 451، 489. الكرب يهنعم "ج2" 324، 348، 350، 564. كربال "ج1" 332. كرد بن مرد "ج1" 498. كردم بن قيس "ج6" 546. الكردوس التدمري "ج3" 89. كرز بن تعلبة "ج1" 374. "ج4" 435. كرز بن عبد الله "ج4" 518. "ج5" 408. كرز بن عصية "ج4" 518. كرشان "ج1" 367، 368. كرم البستاني "ج3" حا 245. "ج5" حا 162. كرنكو "ج1" حا 83، حا 87، 100، حا 307. "ج6" حا 110. "ج9" 257، 337، 489. كره كاد "ج2" 67. كروتندن "ج1" 126. كروهمن "ج1" 137. "ج2" 53، 177، 234، 236، 251، 369، 575. "ج8" 187. كريب بن أبرهة "ج5" 211. كريتس"ج1" 659. "ج3" 112، 177. كريز بن ربيعة "ج4" 80. كريكنتيوس "ج3" 463، 506. كريمة بنت المقداد "ج8" 138، 507. الكسائي "ج4" 277. "ج5" حا 151.

"ج8" 590، 690، 737. "ج9" 32، 58، 217، 219، 221، 222. كستر "ج3" 499. كسدم "ج2" 565. كسرى أنوشروان "ج1" حا 17، 53، 74، حا 79، 263، 388. "ج2" 25، 527، 632، 633، 636، 637، 647. "ج3" 22، 95، 141، 170، حا 174، 206، 209، 222، 223، 232، 233، 257، 260، 265، 271، 279، 289، 290، حا 292، 295، 297، 299، 307، 311، 313، 324، 335، 339، 340، 342، 343، 367، 405، 410، 438، 441، 499، 508، 522، 529. "ج4" 98، 103، 153، 160، 164، 166، 167، 204، 205، 213، 215، 225، 228، 229، 232، 233، 300، 301، 451، 454، 471، 472، 501، 530، 543، 544، 557، 591، 659. "ج5" 54، 81، 193، 207، 209، 225، 265، 272، 290، 312، 320، 352، 390، 407، 410، 545، حا 588، 640، 641، 646. "ج6" 488، 631، 663، 364، 693، 765، 766. "ج7" 322، 332، 449، 499، 577، 578، 582. "ج8" 109، 140، 163، 197، 267، 290، 301، 304، 305، 312، 382، 383، 522، 721، 735، 738، 776، 779. "ج9" 67، 110، 254، 263، 342، 593، 616، 676، 753، 758، 759، 806، 884، 879، 899. كسرى أبرويز "ج2" 646، 659. "ج3" 175، 293، 307، 528 "ج4" 162، 178، 527. كسرى بن هرمز "ج2" 637. "ج3" 264، 273، 287، 292، 299، 305، 308، 312 "ج4" 417، 474، 487، 502، 517. "ج7" 283، 294، 302، 303، 307. كسكل "ج2" 50. كسينو فون "ج7" 625. كشتاسب "ج2" 539. كعب بن أسد "ج6" 524. "ج9" 14، 789. كعب بن الأشرف "ج5" 36. "ج6" 523، 546، 547، 561، 570، 571، 757. "ج9" 714، 770، 782، 784، 785، 788. كعب بن جميل "ج2" حا 576. "ج9" 848. كعب بن الحارث "ج4" 442. كعب بن راشد "ج6" 546. كعب بن ربيعة "ج1" 405، 406، 408.

"ج4" 522، 526. كعب بن زهير "ج1" 395. "ج5" 390. "ج6" 728، 821. "ج8" 111، 114، حا 328، 364، 370. "ج9" 191، 267، 380، 381، 424، 431، 434، 441، 462، 541، 542، 545، 546، 597، 858، 860، 863، 865. كعب بن سعد "ج1" 403. "ج4" 338، 515. كعب بن سليم القرظي "ج6" 564. كعب بن عبد المدان "ج4" 333. كعب بن العجلان "ج4" 138، 139. كعب بن عجوة "ج4" 615، 630. كعب بن عدي التنوخي "ج6" 596. "ج7" 408. كعب بن علة بن جلد "ج4" 333 كعب بن عمرو الأزدي "ج3" 187. "ج4" 436، 438، 529. "ج8" 601. كعب بن لؤي "ج1" 401، 402. "ج4" 37، 38، 42، 51، 480 "ج6" 463، 506، 507. "ج7" 291. "ج8" 468، 498، 521، 601، 777، 778، 785. كعب بن مازن "ج4" 435. كعب بن مالك "ج4" حا 30، 137، حا 146. "ج5" 66. "ج6" 234. "ج7" 72، 580. "ج8" 111، 128، 136، 664"ج9" 248، 279، 333، 654، 706، 719، 729، 738، 746، 748، 788، 843، 846. كعب بن مامة الإيادي "ج4" 578، 579. "ج9" 475، 798، 800، 805، 813. كعب الأحبار "ج1" 83، 93، 103، 321، حا 324، حا 347، 359، 371، 374، 410، 440، 441، 462، 464، 465. "ج2" 514. "ج3" 337، 400، 532. "ج6" 562، 564، 681. "ج7" 123. "ج8" 162، 168. كعب الفوارس "ج5" 354. كعدان "ج2" 365. كعيب الأحوزي "ج3" 501. كلاب بن أمية "ج5" 392. "ج9" 894، 895. كلاب بن ربيعة "ج1" 405. "ج4" 520، 521، 572. كلاب بن مرة "ج1" 401. "ج4" 38، 40، 41، 54، 480، 488، 510. "ج7" 191، 192. "ج8" 458، 487، 498. كلاسر "أدوار""ج1" 129، 244، 420، 425، 429، 431، 437، 451، 457، 458، 460، 461، 560، 583، 587، 597، 599، 638. "ج2" 18، 20، 48، 50، 57، 74، 77، 78، 80، 93، 119، 171، 174، 177، 270، 306، 308،

345، 359، 372، 402، 405، 412، 430، 506، 511، 527، 530، 531. "ج3" 487، 504، 505، 535. "ج6" 401، 541. "ج7" 210. "ج8" 39، 41، 43، 44، 53، 54. الكلاعي "ج4" حا 583. كلب بن وبرة "ج1" 366، 526 "ج3" 42. "ج4" 239، 249، 334، 425، 426، 446، 515، 597، 656. "ج6" 223. "ج7" 370. الكلبي "ج4" 597. "ج5" 163. "ج9" 876. كلثوم "ج3" 255. "ج5" 646. الكلح "ج4" 346. كلدة بن جدعان "ج4" 101. كلدة بن حسل "ج9" 891. كلدة بن ربيعة "ج9" حا 764. كلفة "ج1" 403. "ج3" 251. "ج4" 337، 375. كلكمش "جلجامش" "ج1" 562. كلمن "ج8" 159، 164، 166 كلود شيفر "ج8" 148. كلوديوس "ج2" 60، 61، 659. "ج7" 277. كلوكس "ج3" 157. كلويك "ج1" 532. كلي كرب بن تبع "ج1" 238. "ج2" 569. "ج3" 322. كليب بن أبي عهمة "ج9" 865. كليب بن أسد بن كليب "ج9" 386. كليب بن الحارث "ج4" 489. كليب بن ربيعة "ج1" 393، 396، 408، 526. "ج3" 356. "ج4" 494، 496، 498، 520. "ج5" 346، 349، 356. كليب بن عدي "ج4" 316. كليب بن يربوع "ج1" 403. "ج5" 366. كليب التغلبي "ج4" 503، 504، 510. كليب وائل "ج1" 317، 393. "ج3" 255. "ج4" 250، 351، 352، 427، 492، 495، 501، 625، 626، 658. "ج5" 267، 269، 270، 349، 350، 356، 385، 407، 436. "ج7" 149، 150. "ج8" 777. "ج9" 455، 456، 458. كليبوس "ج5" 430. كليدن "ج1" 306. كليكراتس الصوري "ج3" 108. كليمان هوار "ج2" 82، 103، 236، 348. "ج4" حا 443. "ج6" 492، حا 499. "ج9" حا 473، 757. الكليني "ج9" حا 196. كليوبطرة "ج3" 36، 38، 107، 113، 121. كمدم بن عم كرب "ج2" 301. كمكم "ج3" 42.

الكميت "ج1" 372، 392، حا 398، 496، 499، 500. "ج4" 380، 534. "ج5" حا 145، 519. "ج6" 249، 408. "ج8" 456، 457، 498، 502، 503. "ج9" 235، 419، 510، 677، 894، 906. كنانة بن أبي الحقيق "ج9" 771، 772، 782، 783. كنانة بن خزيمة "ج4" 477، 478، 531. "ج5" 529. كنانة بن الربيع "ج1" 364، 399، 401، 408. "ج3" 349، 351. "ج4" 253، 456. "ج6" 523، 546. كنانة بن صورياء "ج6" 547. كنانة بن عبد ياليل الثقفي "ج4" 150، 581. "ج6" 459، 460. "ج9" 652، 765. كنانة بن القين "ج8" 778. كندة بن ثور "ج8" 675. كندة بن عفير بن الحارث "ج1" 364، 372. "ج3" 382. "ج4" حا 464. الكندي "ج3" 376. "ج5" حا 372. "ج6" 571. "ج9" 686، 778. كهال "ج6" 765. كهلان "ج1" 364، 365، 370. "ج3" 42. "ج4" 417، 419، 432، 446كهمس "ج4" 328. كوبيجك "ج3" 69. كرتيوس روفوس "ج2" 638. كورنليوس بالما "ج3" 49. كورنول "ج1" 537، 539. "ج8" 206. كوز بن علقمة "ج3" 533. كوسين دي برسفال "ج1" 134، 337. "ج3" 234، 383. كوش "ج1" 297، 417، 418، 426، 430، 447، 459. "ج2" 120، 261، 509. كوك "ج1" 232. "ج3" 7. كولد تزهير "ج1" 38، 79، 515. "ج5" 483. "ج6" حا 687. كولد زيهر "ج4" 385. "ج8" حا 611، 614. "ج9" 145، 258، 332، 414 كومودوس أوغسطس "ج3" 63. كومودوس قيصر "ج3" 63. الكونت دي ساد "ج5" 144 كونتي روسيني "ج1" 137. كوينتس كورتيوس "ج2" 9، 11 كياثوس بن مكريانوس "ج3" 95، 96. كيبن "ج4" 12. كيتاني "ج1" 134، 243، 250، 559. كيرش "ج1" 620، 622، 626 "ج2" 91. كيسان "ج1" 449، 450. كيع "ج4" 206. كيقباد "ج1" 363.

كيموش "Kemosh" "ج3" 70. كين "ج1" 235. كيو"ج1" 594. كيومرت "ج1" 340، 341، 416. "ج8" 197، 198.

اللام

اللام: لاحق بن رشوان "ج1" 369. لافظ بن لاحظ "ج9" 120. اللاحقي "ج9" 391. لامانس "ج1" 265. "ج4" 32، 36، حا 119، حا 297، حا 345. "ج6" 467، 468. "ج8" حا 769. لامك "ج1" 301. لانكستر هاردنك "ج1" 328. لاوذ بن سام "ج1" 269، 297، 299، 346، 416، 419. لاوذ بن عمليق "ج1" 340. لؤي بن غالب "ج1" 358، 400، 401، 404. "ج4" 29، 54، 479. "ج7" 191. "ج9" 724. اللبخي "ج2" 570. لبد "ج1" 315. اللبو بن عبد القيس "ج1" 407. لبيد بن أعصم "ج4" 131. "ج6" 546، 560، 743، 744. لبيد بن ربيعة الجعفري "ج1" 318، حا 322، حا 371، 379، حا 504. لبيد بن ربيعة العامري "ج3" 232، 263، 270، 282، 283، 328، 401، 482، 505 "ج4" 204، 330، حا 515، 521، 562، 575، 581، 673 "ج5" 39، حا 110، 115، 153، 155، 169، 193، 209، 284، 388، 390، 557 "ج6" 112، 140، 156، 162، 191، 363، 468، 496، 672، حا 684، 701، 719. "ج7" 150، 249، 374، 556، حا 604. "ج8" 138، 141، 254، 259، 265، حا 267، 276، 278، 282، 309، 322، 343، 391، 397، 664، 671، 729، 773، 786، 787

"ج9" 64، 65، 75، 86، 177، 188، 232، 236، 238، 245، 279، 384، 424، 434، 441، 457، 496، 503، 506، 509، 513، 515، 519، 524، 540، 546، 553، 555، 557، 558، 577، 581، 589، 812، 824، 829، 830، 839، 840، 846، 880، 881، 897، 898. لبيد بن عمرو "ج3" 232، 234، 240. "ج9" 548. اللجة ابنه النعمان "ج3" 285. لجيم بن صعب "ج1" 408. "ج4" 500، 502. "ج9" 658، 685. اللجيون "ج3" 125، 128. لحي عثت يرخم "ج2" 156، 322، 378، 387، 388، 407، 408، 466، 477، 493، 523، 595، 597. "ج3" 380، 475. "ج6" 17. لحي بن حارثة "ج4" 438. لحيان بن هذيل "ج1" 362، 399. "ج2" 255. "ج4" 534. اللحياني "ج8" 575. لحيعت ذي جدن "ج2" 598. لحيعث ينوف "ج2" 586، 588. لجعيم بن أبانس "ج2" 192. لخم "ج1" 364، 372، 399، 476، 516. لخنيعة ينوفه ذو شناتر "ج2" 579، 592. لطوشيم "ج1" 466، 457. لطيمة "ج4" 115، 521. لعز نوفان يهصدق "ج2" 387، 482، 493، 495، 496، 522، 523، 528، 535. لعززم يهنف يهصدق "ج2" 377، 387. "ج3" 455. لقمان بن عاد "ج1" حا 302، 314، 319، حا 321، حا 504. "ج2" 117. "ج4" 516، حا 522، 586، 625. "ج5" 58، 66، 639. "ج6" 112، 468، 508، 678. "ج8" 111، 288، 342، 346، 362، 392. "ج9" 171، 384، 394، 396، 824، 875. لقيط بن الجون الكلبي "ج3" 277. لقيط بن زرارة "ج5" 359، 372، 373، 377، 386، 393، 407، 545. لقيط بن مالك الأزدي "ج4" 200، 201، 233. "ج8" 783. لقيط بن معبد "ج6" 652. لقيط بن يعمر "ج4" 473، 524 "ج8" 140، 141، 267، 304، 309. "ج9" 252، 253، 429، 806، 807. لقيط الإيادي "ج5" 217، 238. "ج6" 678. "ج8" 109. لقيم بن لقمان "ج8" 343، 344. "ج9" 875. لقيم بن هزال "ج1" 302، 317،

320. "ج4" 586، 625. لكيز بن أفصى "ج1" 407. لكيز بن عبد القيس "ج4" 483. لميس بن زهير "ج3" 167. اللهبي "ج4" حا 366. اللهم بن جلحب "ج1" 382. لهيب بن مالك "ج9" 141. لهيب بن مذحج "ج4" 454. لهيعة بن حمير "ج1" 365. لوبوكوس البيروتي "ج3" 108. لود "ج1" 296، 297، 346، 416، 419، 421. لودف فرهل "ج5" حا 567. لودولف كريل "ج1" 136. "ج6" 15. لوذ بن نوح "ج1" 340، 367. لوذان بن أرم "ج1" 295. لوذان بن جرول "ج4" 452. لوذان بن عمرو "ج4" 437. لوذن بن هنواس "ج2" 251. لوذان بن وائل "ج4" 489. لوذة "ج1" 367. لورنس "ج1" 206. لوط "ج1" 450. "ج5" 143 "ج6" 145، 490. "ج8" 735. لوطان "ج1" 449. لوقا "ج1" 444. لوقان "ج7" 613. لوكال، زكه، سي "ج1" 554. لوليوس "ج3" 29. لومند "ج6" حا 625. لوجينوس "ج3" 124. لميانوس "ج2" 641، 642. ليتمان "ج1" 52، 328. "ج2" 69. "ج3" 45. "ج8" 175، 177، 237، 516، 520. الليث بن بكر "ج1" 367، 525 "ج4" 31، 532، 637. "ج6" حا 675. "ج9" 304. ليث بن دهل "ج4" 484. ليث بن كنانة "ج9" 53. الليث بن نصر بن ميار "ج9" 211. الليثي "ج9" 40، 45. ليدزبارسكي "ج2" 77. "ج3" 6. "ج6" 329. "ج8" 176، 208. ليدويك بركهارد "ج1" 125. ليسانياس "ج1" 444. ليفي بروفنسال "ج2" حا 353، حا 512. "ج4" حا 94، حا 416، حا 423، 425، حا 433، حا 447، حا 458، حا 468، حا 510، حا 512. ليفي ديلافيدا "ج1" 128، 395، 396. "ج4" 444. ليل "ليلى" "ج1" 595، 597، 605. "ج6" 63. ليلى ابنة الجودي "ج4" 238. ليلى الأخيلية "ج9" 99، 258، 283، 332، 455، 458، 539، 561، 569، حا 575، 848. ليلى بنت الحارث "ج4" 479، 489. ليلى بنت الحاف "ج1" 366. ليلى بنت حلوان "ج1" حا 397.

"ج4" 476. ليلى بنت الخطيم "ج4" 580. ليلى بنت السيد "ج4" حا 477. ليلى بنت عروة "ج9" 307. ليلى بنت عمرو "ج3" 103. ليلى بنت مهلهل بن ربيعة "ج3" 255، 256. ليو "اليون" "ج2" 654، 655. "ج3" 384. "ج4" 175.

الميم

الميم: ماء السماء "ج3" 166، 204، 209، 217، 218، 235، 339، 391. "ج4" 426. مأبور القبطي "ج5" 34. ماتع "ج5" 45. مؤثر الخير بن ذي جدن "ج3" 367. مادر "ج4" 597، 625. ماذي بن يافت بن نوح "ج2" 91 مار آبا الكبير "ج3" 286. مار أفرايم "ج3" 257. مار أيليا "ج6" 597. مار رأبة الغاؤون "ج3" 175. مار شمعون "ج3" 463، 66. مار عبدا "ج6" 599. مار فايثون "ج6" 599. مارايشو عزخا "ج6" 587. ماربة بنت كعب "ج4" 480. مارتن أشبر نكلنك "ج8" 147. مؤرج السدوسي "ج4" حا 51. "ج9" 585. مار سرجيوس "ج4" 499. "ج5" 104. "ج6" 619. مار سليانوس "ج3" 258. مارغليوث "ج1" حا 108، 109. "ج8" 205. مؤرق "ج1" 525. مارقوس أورليوس قيصر "ج3" 57، 63. مارقوس أنطونيوس "ج1" 444. مارك أنتوني "ج1" 445. ماركوس أوريليوس "ج1" 61. "ج3" 88. ماروت "ج6" 741. ماري "ج6" 614. مارية بنت الجعيد "ج4" 637. مارية بنت كلب "ج8" 433. مارية البرية "ج3" 194. "ج6" 686. "ج7" 461. مارية ذات القرطين "ج3" 401، 403، 429، 444، 445. مارية القبطية "ج5" 34. "ج9" 741، 745. مارية هوفنر "ج1" 138.

"ج3" 183، 195، 217، 285، 287، 297. مارينوس "ج3" 129. ماريوس مكسيموس "ج3" 140. مازن بن الأزد "ج1" 374. "ج4" 435. مازن بن خويلد "ج9" 872 مازن بن ريت "ج4" 509. مازن بن سدوس "ج1" 408. مازن بن صعصعة "ج1" 405. "ج4" 481. مازن بن عمرو "ج4" 531. مازن بن فزارة "ج1" 404. "ج4" 512، 513. مازن بن مالك "ج4" 529. "ج5" 653. "ج6" 364. مازن بن منصور "ج4" 261، 516. مازن بن النجار "ج4" 139. ماسخة "ج5" 427. ماسنيون "ج3" حا 72. ماش "ج1" 297، 298، 375، 419، 434. "ج2" 12. ماقدة "ج1" 237. "ج2" 263. ماك لينان "ج1" 518. ماكس مولر "ج6" 43. ماكنوس "ج3" 415، 417. مالك بن أبي رباح "ج4" 247. مالك بن أدد "ج1" 371، 374. "ج4" 454، 459، 464. مالك بن أسماء "ج9" 24، 25. مالك بن أعصر "ج4" 514. مالك بن أيفع "ج4" 186. مالك بن بكر "ج5" 379. مالك بن التيهان "ج6" 68. مالك بن جبير العامري "ج5" 638. مالك بن جعفر "ج4" 521، 651. "ج5" 371. "ج9" 547. مالك بن الحارث "ج1" 373. "ج3" 344، 347. "ج4" 307، 337، 380. "ج6" 760. مالك بن حارثة "ج2" 637. "ج6" 141، 256. مالك بن حبيب "ج4" 489. مالك بن حذيفة "ج4" 627. مالك بن حسل "ج7" 291. مالك بن الحصيب اللعوي "ج9" 208. مالك بن حطيط "ج4" 156. مالك بن جمار الشمخي "ج5" 376. "ج9" 651. مالك بن حمير "ج1" 363، 365، 366، 370، 405. "ج4" 416. مالك بن حنظلة "ج3" 213. "ج4" 529. "ج5" 359. مالك بن خالد "ج5" 364. مالك بن رافلة "ج4" 242، 243، 262. مالك بن ريعي "ج4" 524. مالك بن الريب المزني "ج5" حا 159. مالك بن زهير "ج3" 166، 167. "ج4" 424. مالك بن زيد مناة "ج1" 400، 403، 408. "ج4" 433، 434، 529. "ج5" 367. "ج9" 471. مالك بن سعد "ج1" 403، 405، 406.

"ج3" 250، 251. "ج9" 651. مالك بن سواد "ج4" 244. مالك بن الصيف "ج6" 546، 547. مالك بن عامر "ج9" 907. مالك بن عبد الله "ج4" 220. مالك بن عبس "ج4" 505. مالك بن العجلان الخزرجي "ج3" 442. "ج4" 134، 135، 137، 138، 151. "ج6" 442، 519، 520. "ج9" 536، 685، 719، 720، 731، 788، 789. مالك بن عمرو "ج1" 363، 370، 372، 402. "ج3" 388، 394، 400. "ج4" 206، 436، 437، 483، 515، 518، 525، 529 "ج9" 493، 789. مالك بن عمير "ج9" 841، 907. مالك بن عميلة "ج4" 86. "ج5" 38، 135. "ج9" 715. مالك بن عوف النصري "ج4" 192، 258، 260. "ج5" 407، 557. "ج6" 546. "ج8" 664. "ج9" 500، 863. مالك بن غنم "ج4" 492، 500، 534. مالك بن فهم "ج1" 548. "ج3" 104، 167، 168، 177، 180، 184، 308، 313. "ج4" 202، 424، 437، 438، 448. مالك بن قصي "ج4" 57. "ج6" 328. مالك بن قيس "ج2" 649. "ج4" 232. مالك بن كعب "ج4" 425، 432، 433. مالك بن كلثوم "ج6" 278، 279. مالك بن كنانة "ج1" 392. "ج3" 320، 363، 508. "ج4" 37، 469، 478، 479، 512، 532. "ج6" 216. "ج8" 497، 498، 664. مالك بن مالك بن ثعلبة "ج4" 222. "ج9" 387، 388. مالك بن مرة الرهاوي "ج4" 181. مالك بن مرتع "ج4" حا 144. مالك بن مرثد "ج6" 262. مالك بن المنتفق الضبي "ج5" 378. مالك بن مهلهل "ج9" 388. مالك بن نبط "ج6" 263. مالك بن نصر اللخمي "ج6" 765. "ج7" 193. مالك بن نمط "ج4" 186. مالك بن نويرة "ج1" 307. "ج3" 274، 286. "ج4" 201. "ج5" 208، 367، 396. "ج7" 564. "ج9" 106، 371، 867، 886، 887. مالك بن يزيد "ج1" 332، 373 مالك الأول "ج2" 42. "ج3" 22، 34، 38، 42، 46. "ج7" 390. مالك الثالث "ج3" 46، 49.

مالك الثاني "ج3" 46، 47. "ج7" 494. مالك ذو التاج "ج4" 518. مالك ذو الرقيبة "ج1" 406. "ج4" 522. "ج5" 466. مالك الطيان "ج4" 521. مالك قمرو "ج1" 442. مالك قهرو "ج1" 580. مالك النبط بن حارثة "ج3" 46. مالكوس "ج3" 34. المأمور الحارثي "ج6" 760، 763. "ج8" 745. المأمون "ج3" حا 252. "ج4" 324. "ج5" 216. "ج8" 118، 154. "ج9" 256. مانع الحريم ظويلم "ج4" 513. مانودانو "ج1" 555. مانيتو "ج1" 627. مانيكو "ج2" 623. مانيوم "ج1" 555، 556. ماهان بن هرقل "ج2" 540. الماوردي "ج5" حا 96. "ج7" حا 145، حا 147، حا 485، حا 498، 499. "ج8" 357. ماوس "ج2" 99. ماوية بنت عمرو "ج3" 187، 396، 397، 406. "ج4" 680. "ج5" 200، 359. ماوية بنت عفزر "ج9" 815. ماير "ج1" 656. "ج2" 77. مايس "ج8" 187. مايسنر "ج1" 559. مبتع "ج1" 358. مبحض بن أبحض "ج2" 535، 536. "ج8" 517. للمبرد "ج1" حا 370، حا 406 "ج2" حا 353. "ج3" حا 301. "ج4" حا 415، حا 419، حا 439، حا 441، 442، حا 446، حا 477، حا 479، 481، حا 483، 484، حا 492، حا 500، حا 502، حا 507، 508، حا 512، حا 514، 515، حا 517، حا 523، 525، حا 529، حا 532، 535، حا 569، حا 659. "ج5" حا 363، حا 410. "ج6" حا 78، 570. "ج7" حا 189. "ج8" 167، حا 299. "ج9" حا 280، 296، 360، حا 680. مبسام "ج1" 375، 434، 441. مبشا "ج1" 434. المتجردة "ج3" 288، 420. "ج4" 631. "ج9" 485، 591، 593. المتشمس بن معاوية "ج6" 93. متع إيل "ج6" 318، 331. متعان بن حمام "ج2" 98. المتغشمر "ج1" 92، 358. المتلمس "ج1" 358، 359. "ج3" 159، 217، 241، 243، 246. "ج4" 402، 483.

"ج6" 111، 655، 658. "ج7" 40. "ج8" 267، 272، 364، 365. "ج9" 102، 238، 243، 292، 424، 433، 504، 536، 538، 539، 656، 657، 663، 667، 813. المتلمس بن أمية "ج6" 505. متمم بن نويرة اليربوعي "ج1" 307. "ج3" 179. "ج9" 261، 360، 371، 886 المتمنع "ج1" 92، 358. المتنخل الهذلي "ج5" 600. "ج7" حا 57، حا 603. "ج9" 493، 494. المتوكلي "ج8" حا 284، 285 المثقب العبدي "ج1" 383، 407. "ج3" 247، 282. "ج5" 24، 292، 411. "ج6" حا 280. "ج9" 102، 417، 534، 672، 688، 690. المثنى بن حارثة "ج4" 223، 504. المثنى بن صالح "ج7" 461. مجاشع بن دارم "ج1" 403. مجاشع بن مسعود "ج4" 260. مجاعة بن مرارة "ج4" 217. "ج6" 85، 98. "ج7" 149، 457. "ج9" 670. مجالد "ج8" 96. مجاهد "ج6" 452. مجد بنت تم بن غالب "ج6" 363. مجد بنت تيم الأدرم "ج6" 364. المجذر "ج8" 289. مجربة بن حارثة "ج4" 478مجيد بن عمرو "ج1" 367، 368. محارب بن خصفة "ج3" 211، 212. "ج4" 334. "ج5" 362. "ج9" 146. محارب بن عمرو "ج4" 485، 515، 517. محارب بن فهر "ج1" 400، 405، 407. "ج4" 58، 60، 91، 479، 481، 525. محارب بن هرب "ج7" 377. محب الدين الخطيب "ج2" حا 354، حا 356. "ج5" حا 511. "ج6" حا 34. المجبر "ج9" 337. المحترش "ج4" 15، 42. محرج سيبان ذو نف "ج3" 475 محرق بن الحارث "ج3" 347، 348. محرق الغساني "ج5" 379. المحض بن جندل "ج8" 159، 165. محكم بن الطفيل "ج6" 95، 96، 98. "ج9" 756، 899. المحل "ج8" 410. المحلق "ج9" 109، 110، 584، 585. محلم بن ذهل "ج4" 363، 405 محلم بن سويط الضبي "ج1" 409. "ج4" 225. "ج5" 407. محدم بن عبد الله "ج4" 212. محدم بن أبان الخنفري "ج1" 93، 95. محمد بن أبي الخطاب "ج9" 506. محمد بن أحمد الأوساني "ج1"

91. "ج2" 498. محمد بن أحمد بن جزي الكلبي "ج8" حا 489. محمد بن أحمد القهبي "ج1" حا 95. محمد بن إدريس اليمامي "ج8" حا 205. محمد بن إسحاق "ج1" 70، 86، 120، 321، 350، 378، 379، 411، 432، 462، 463. "ج5" 122. "ج8" 162، 297. محمد بن بكر "ج4" 241. محمد بن جبير "ج4" 25. محمد بن حبيب "ج1" 114، 366. "ج3" 55، حا 159، حا 178، حا 181، 214، 308، 312، 354، 357، 359، 391، 400، 401، 403، 433، 435. "ج4" 33، 103، 108، 188، 238، حا 247، 334، 340، 432، 443، 637، 662، 663، 674. "ج5" 84، 265، حا 391، 407، 535، 540، 547، 557، 603، 606، 608، 643، 644، 649. "ج6" 81، 131، 147، 216، 236، 246، 255، 257، 267، 271، 272، 278، 286، 289، 346، 356، 357، 360، 363، 373، 375، 464، 472، 570. "ج7" 372. "ج8" 300، 315، 348، 350، 476. "ج9" 327، 349، 351، 352، 587، حا 649، 676، 756، 772، 858. محمد بن حمران "ج9" 83، 84، 461. محمد بن خزاعي "ج3" 518، 519. "ج4" 173. محمد بن ذؤيب "ج9" 420. محمد بن السائب الكلبي "ج1" 83، 86. "ج6" 256، 469. "ج8" 334. "ج9" 296. محمد بن سعد "ابن سعد" "ج1" حا 85، حا 87، حا 112، 113، حا 146، حا 149، حا 201، حا 340، حا 342، 343، حا 355، حا 376، حا 394، حا 421، حا 442، حا 445، 446، حا 448، 450، حا 464، حا 473، حا 527، حا 578. "ج3" 428، 447. "ج4" حا 19، حا 27، حا 40، 46، حا 50، حا 55، حا 58، حا 60، 63، 65، 67، حا 72، 80، حا 82، حا 85، 86، حا 100، حا 122، حا 150، حا 152، حا 180، 185، حا 187، 191، حا 194، 201، 203، حا 206، حا 208، حا 210، 212، حا 217، حا 220، 222، حا 224، حا 233، حا 240، 241، حا 244، 245، حا 247، حا 249، 251، حا 253، 255، حا 257،

259، حا 261، 264، حا 267، 269، حا 292، 294، حا 384، حا 575، حا 596، حا 616، حا 636، حا 680. "ج5" حا 48، حا 50، حا 53، حا 156، حا 286، حا 501، حا 593، حا 613، حا 647. "ج6" حا 58، حا 68، حا 88، 89، حا 98، حا 251، حا 265، حا 344، حا 363، حا 365، حا 370، حا 384، حا 433، حا 456، حا 464، حا 470، 472، حا 475، حا 485، حا 502، حا 507، حا 518، حا 530، حا 542، حا 548، حا 611، حا 617، 618، حا 641، حا 694. "ج7" حا 99، حا 102، حا 119، حا 136، حا 141، 142، حا 151، حا 193، 195، حا 290، حا 293، حا 304، حا 313، حا 330، حا 416، حا 448، حا 453، حا 457، حا 459، 463، حا 467، حا 476، حا 479، 480، حا 484، 485، حا 527، حا 538، حا 599، 600، حا 636. "ج8" 31، 110، 115، 116، 119، 121، 122، 125، 127، 128، 132، 133، 135، 141، حا 155، حا 264، حا 292، حا 297، حا 301، حا 331، حا 378، حا 387، حا 415، حا 599، حا 617، حا 683، حا 720، حا 742. "ج9" حا 9، 64، 65، 67، 70، 180، 198، 387، 413، 552، 617، 620، 710، 724، 725، 742، 750، حا 793، حا 828، حا 864، 865، 868. محمد بن سفيان "ج5" 653. محمد بن سلام "الجمحي، ابن سلام" "ج1" 34، 68، 76، 375، 377، حا 379، حا 395، حا 398، 490، 504. "ج3" 236، حا 245، حا 289، حا 302، حا 359، 365، حا 375، حا 410. "ج5" حا 350، 378، 573. "ج6" 352، 481، 483، 485، 563، حا 570، 571، حا 580. "ج8" حا 13، حا 562، حا 629، حا 639، حا 645، حا 663حا 671، 698. "ج9" حا 23، 35، 36، 40، 53، 54، 57، 66، 76، 85، 91، 93، 94، 97، 99، 115، 159، 170، 176، 178، 180، 182، 214، 217، 218، 220، 222، 230، 233، 235، 236، 240، 241، 245، 246، 252، 260، 263، 269، 313، 314، 317، 322، 333، 342، 343، 345، 346، 349، 358، 363، 368، 369، 376، 377، 380، 381، 386، 396، 401، 403، 407، 423، 424، 430، 431، 444

446، 448، 453، 455، 456، 468، 470، 471، 473، 475، 477، 504، 526، 536، 537، 598، 654، 656، 676، 688، 690، 694، 699، 706، 712، 715، 716، 719، 724، 726، 727، 730، 731، 747، 750، 752، 753، 758، 761، 765، 767، 770، 771، 776، 782، 784، 787، 832، 838، 846، 848، 849، 854، 858، 871، 872، 874، 878، 881، 883، 886، 888، 894، 895. محمد بن سلام البصري "ج4" 419. محمد بن طاهر "ج8" حا 154. محمد بن عبد الله "الرسول، النبي" "ج1" 13، 14، 38، 41، 42، 68، 72، 74، حا 108، 112، 119، 125، 129، 131، 168، 169، 174، 194، 199، 201، 224، 280، 281، 283، 287، 307، 309، حا 311، 318، 320، 321، 324، 333، 336، 348، 356، 364، 377، 384، 387، حا 389، 401، 415، 463، 471، 473، 474، 481، 483، 485، 486، 491، 493، 501، 502، 506، 516، 518. "ج2" 514، 516، 527، 570، 583، 653. "ج3" 72، 145، 193، 248، 266، 272، 274، 294، 357، 362، 381، 410، 428، 429، 432، 435، 445، 458، 498، 500، 507، 508، 513، 523، 531، 533، 536، 537. "ج4" 15، 17، 18، 29، 33، 36، 46، 52، 53، 55، 60، 63، 70، 75، 81، 82، 84، 86، 85، 90، 99، 100، 103، 105، 107، 112، 121، 122، 124، 126، 128، 130، 131، 137، 138، 140، 149، 151، 154، 158، 177، 179، 189، 191، 196، 200، 201، 209، 213، 217، 220، 225، 229، 233، 237، 239، 242، 244، 252، 254، 269، 271، 291، 296، 304، 306، 311، 324، 325، 347، 353، 358، 365، 370، 381، 386، 388، 396، 397، 402، 416، 430، 435، 441، 446، 448، 454، 459، 460، 462، 463، 465، 484، 486، 487، 498، 502، 508، 509، 515، 518، 521، 523، 527، 529، 530، 542، 556، 559، 560، 562، 563، 568، 580، 581، 586، 598، 604، 610، 613، 615، 617، 620، 621، 623، 632، 633، 638، 640، 643، 645، 647، 656، 657، 660، 668، 669، 681، 683. "ج5" 7، 16، 17، 26،

29، 31، 32، 34، 36، 42، 45، 47، 51، 56، 65، 70، 75، 81، 83، 86، 87، 89، 91، 93، 96، 98، 101، 102، 105، 108، 116، 117، 119، 121، 122، 124، 125، 134، 136، 138، 140، 142، 144، 146، 149، 150، 154، 155، 157، 160، 167، حا 169، 170، 177، 186، 189، 191، 199، 203، 206، 207، 209، 210، 220، 224، 225، 236، 247، 248، 250، 252، 258، 259، 263، 265، 266، 268، 273، 279، 286، 288، 289، 291، 293، 294، 298، 305، 308، 309، 311، 313، 315، 318، 321، 324، 327، 328، 330، 339، 341، 362، 373، 377، 389، 392، 397، 398، 402، 403، 413، 424، 427، 428، 436، 441، 442، 447، 453، 454، 456، 458، 459، 464، 465، 468، 481، 482، 501، 509، 511، 512، 515، 520، 522، 529، 539، 548، 550، 555، 557، 558، 560، 561، 565، 567، 573، 579، 585، 587، 589، 591، 593، 595، 602، 605، 609، 617، 627، 633، 639، 642، 645، 646، 649، 651. "ج6" 7، 12، 14، 19، 39، 40، 58، 60، 61، 64، 69، 70، 74، 80، 81، 86، 91، 93، 94، 97، 100، 109، 113، 123، 125، 128، 140، 142، 143، 147، 150، 160، 183، 196، 205، 208، 213، 217، 218، 224، 225، 228، 234، 240، 242، 245، 249، 253، 257، 265، 267، 268، 272، 274، 276، 277، 279، 284، 287، 337، 340، 343، 344، 353، 355، 356، 360، 366، 369، 373، 380، 382، 385، حا 394، 404، 409، 419، 420، 426، 428، 431، 436، 438، 443، 445، 454، 456، 462، 464، 468، 470، 471، 473، 474، 476، 479، 481، 483، 485، 487، 491، 493، 497، 504، 507، 509، 511، 515، 518، 521، 523، 524، 528، 530، 532، 535، 538، 542، 548، 550، 551، 554، 555، 560، 566، 570، 581، 586، 590، 595، 597، 600، 605، 607، 616، 622، 632، 639، 641، 644، 646، 669، 672، 677، 678، 682، 683، 685، 688، 692، 694، 698، 702، 704،

720، 722، 727، 728، 733، 734، 737، 740، 744، 747، 748، 753، 757، 760، 762، 763، 765، 769، 771، 774، 789، 798، 802، 803، 821، 822. "ج7" 12، 21، 22، 26، 29، 38، 40، 42، 43، 46، 53، 55، 58، 59، 63، 67، 81، 91، 96، 97، 99، 102، 109، 117، 119، 122، 126، 136، 142، 144، 147، 151، 155، 178، 182، 193، 195، 198، 201، 208، 210، 215، 217، 218، 222، 226، 236، 239، 250، 259، 265، 262، 291، 293، 295، 300، 303، 304، 308، 313، 315، 323، 329، 330، 332، 333، 337، 339، 340، 348، 349، 351، 359، 362، 363، 371، 376، 379، 380، 382، 385، 386، 389، 391، 395، 399، 404، 407، 408، 412، 413، 416، 417، 420، 424، 425، 428، 430، 432، 433، 435، 439، 441، 443، 449، 451، 453، 457، 459، 465، 467، 471، 476، 479، 481، 484، 486، 496، 499، 500، 502، 504، 509، 510، 513، 521، 522، 525، 527، 543، 547، 550، 555، 561، 564، 565، 569، 570، 575، 580، 582، 585، 587، 592، 597، 599، 603، حا 605، 608، 609، 619، 621، 629، 630، 632، 634، 636. "ج8" 22، 31، 83، 84، 88، 91، 100، 102، 104، 106، 108، 114، 116، 118، 138، 141، 164، 170، 179، 182، 184، 186، 193، 195، 196، 229، 250، 255، 257، 259، 261، 264، 266، 269، 274، 277، 282، 286، 288، 290، 292، 295، 297، 299، 302، 306، 308، 310، 317، 320، 323، 330، 332، 333، 342، 347، 349، 357، 358، 365، 371، 373، 375، 377، 378، 381، 383، 387، 391، 396، 403، 405، 412، 428، 430، 433، 436، 438، 459، 460، 480، 484، 486، 487، 491، 493، 495، 496، 498، 503، 504، 522، 523، 538، 539، 542، 544، 548، 553، 556، 560، 561، 573، 574، 576، 595، 599، 601، 602، 604، 607، 609، 611، 622، 623، 629، 632، 633، 636، 637، 641، 647، 650، 651، 654، 660، 662، 665

668، 669، 671، 683، 685، 690، 698، 699، 703، 710، 711، 720، 723، 735، 744، 748، 758، 764، 765، 768، 780، 783، 786، 793. "ج9" 5، 6، 8، 11، 14، 15، 17، 18، 21، 27، 29، 34، 41، 51، 64، 67، 70، 78، 88، 92، 111، 112، 123، 138، 140، 147، 149، 157، 169، 170، 172، 174، 176، 178، 195، 198، 213، 230، 231، 243، 251، 257، 262، 268، 272، 278، 279، 285، 292، 297، 328، 356، 359، 375، 377، 378، 380، 381، 384، 388، 395، 412، 417، 422، 423، 432، 442، 451، 471، 478، 488، 493، 496، 500، 501، 514، 516، 527، 528، 532، 533، 539، 541، 545، 551، 553، 573، 575، 578، 582، 583، 617، 620، 666، 667، 670، 677، 696، 702، 705، 708، 710، 711، 713، 715، 717، 719، 723، 724، 726، 729، 736، 743، 745، 746، 748، 751، 753، 757، 760، 761، 763، 772، 778، 781، 782، 785، 786، 790، 793، 814، 821، 822، 824، 828، 838، 841، 846، 849، 850، 852، 853، 857، 860، 863، 865، 869، 871، 872، 874، 876، 878، 881، 883، 885، 887، 892، 894، 899، 904، 907. محمد بن عبد الله بليهد النجدي "ج3" حا 11، حا 13. "ج4" حا 475. "ج7" حا 151. محمد بن عبد الملك "ج9" 24. محمد بن علي الأكوع الحوالي "ج1" 15، حا 90، 98. "ج3" حا 502. محمد بن عمير "ج5" 557. محمد بن كعب القرظمي "ج1" 333، 410. "ج6" 524، 564، 609، 611. محمد بن مسلمة الأنصاري "ج4" 201، 203، 265. "ج8" 121، 122، 135. "ج9" 785. محمد بن نشوان بن سعيد الحميري "ج1" 98. محمد أبو الفضل إبراهيم "ج1" حا 49. "ج3" حا 365. "ج6" حا 98، حا 368. "ج8" حا 697. "ج9" حا 18، حا 35، حا 40، حا 45. محمد أبو هشام "ج4" 429. محمد أحمد الغمراوي "ج1" حا 70. محمد إسماعيل عبد الله الصاوي "ج3" حا 231.

محمد الأمين "ج4" 357. محمد بهجت الأتري "ج1" 5، 10، حا 117، حا 150. محمد توفيق "ج2" حا 75، حا 87، حا 98، 116، حا 118. "ج5" 11، 12. "ج7" حا 178. محمد حامد الفقى "ج7" 498. محمد حسن آل ياسين "ج3" حا 399. "ج5" حا 216. "ج6" 572. محمد حسين "ج3" حا 248، حا 291، حا 376، حا 442. "ج4" حا 200. "ج9" حا 571، حا 873، حا 576، 580، 583، حا 690، حا 775، حا 779. محمد حميد الله "ج8" 184، 249، 269. محمد الخضري "ج1" حا 70. محمد سعيد العريان "ج3" حا 345، حا 354. "ج4" حا 494، حا 526. "ج5" 347، 348، 365. محمد عبد العظيم الزرقاني "ج8" حا 98. محمد علي صبيح "ج6" حا 485. محمد فؤاد عبد الباقي "ج1" حا 40. محمد فريد وجدي "ج1" حا 70. "ج3" حا 270. محمد لطفي جمعة "ج1" حا 70. محمد محي الدين عبد الحميد "ج1" حا 53، حا 63، حا 75، حا 78، حا 84، حا 86، حا 315، حا 319، حا 357، حا 361، حا 386، حا 394، حا 419، حا 492. "ج2" حا 512، حا 516، حا 533، حا 569. "ج3" حا 174، حا 179، حا 197، حا 261، حا 268، حا 281، حا 426، 428، حا 431، 433، حا 504، 505. "ج4" حا 40، حا 78، حا 318 "ج5" حا 115، حا 287، حا 347، 348، حا 353، حا 371، حا 375، حا 381. "ج6" حا 78، حا 111، حا 251، حا 434، حا 469، حا 476، حا 478، 479، حا 502، حا 505، حا 537، حا 553، حا 562، حا 755. "ج9" حا 170، حا 176، 456، 460، 508، 511، حا 562. محمد هاشم عطية "ج8" حا 552، حا 575. "ج9" حا 514. محمود بن دحية "ج6" 546. محمود بن سيحان "ج6" 546. محمود أبو رية "ج8" حا 601. "ج9" حا 20، حا 26. محمود حسن زناتي "ج9" حا 346. محمود شكري الألوسي "الألوسي" "ج1" حا 117، حا 140، حا 150، حا 157، حا 159، 160، 179، حا 181، 264، حا 323. "ج3" حا 500. محمود محمد شاكر "ج9" حا 771. محيصة بن مسعود "ج4" 264. مخارق بن شهاب "ج4" 602. مخاشن بن معاوية "ج5" 504، 638، 642.

"ج6" 214. المخيل الزبرقان "ج5" حا 202. للمخبل السعدي "ج3" 496، 498. "ج4" 674. "ج9" 99، 120. المختار بن أبي عبيد "ج9" 220 المختار بن أبي عبيدة "ج1" 70، 76. "ج4" 151، 517. المختار بن عبيد الثقفي "ج9" 252، 290، 342. المختار بن عوف "ج7" 380. "ج8" 660. مخربة العبدي "ج4" 203. مخرم بن حزن "ج5" 408. مخرمة بن كنانة "ج4" 37، 532. مخرمة بن المطلب "ج1" 70. "ج9" 359، 396. مخرمة بن نوفل "ج1" 471. "ج4" 84. "ج8" 331، 332، 375. "ج9" 277. مخزوم بن يقظة "ج1" 401. "ج4" 26. "ج7" 192. مخشي بن عمرو الضميري "ج4" 265. مخلد بن النضر بن كنانة "ج8" حا 160. مخلف "ج1" 369. مخوص "ج2" 155. "ج4" 197. "ج7" 141. مخيريق "ج6" 562. "ج7" 43. مخيم "ج1" 369. المدائني "ج1" 114، 116. "ج4" 487. "ج9" حا 20، 313. مدان "ج1" 446. مدرك بن عوف "ج1" 525. "ج5" 606. مدركة بن الياس "ج1" 397، 399. "ج4" 476، 477، 531. مدعم الأسود "ج6" 529. "ج7" 460. مدلج بن مرة "ج6" 346، 760، 770. مديان "ج1" 446، 450، 458. مذاب "ج2" 94. المذاذ "ج1" 367. مذحج "ج1" 364، 370. "ج2" 590. مذعور بن عدي العجلي "ج2" 620. "ج4" 223. مذكر بن عمانس "ج2" 98. مر بن أد "ج1" 364، 402. "ج2" 506. "ج4" 523، 525. "ج8" 500. مر عبدا بن حنيف "ج6" 598. مرا ذو غابة "ج6" 314. مراثا "ج6" 632. مراد بن مذجح "ج1" 371، 373. "ج4" 456. مراد الأجدع بن مالك "ج4" 188. مرارة بن ربيعة "ج9" 746. مراس مرأس "ج2" 500. مراسموا "ج2" 336. مرامر بن مرة "ج8" 111، 158، 162. مران بن جعفي جعفر "ج1" 369، 371. "ج4" 448. "ج7" 462.

مرة بن أدد "ج4" 459. "ج6" 256. مرة بن حمير "ج1" 365. "ج3" 42، 484، 487. "ج4" 244، 337، 354، 416. مرة بن خليف الفهمي "ج6" 387. مرة بن ذهل "ج1" 409. "ج4" 496، 503، 504. "ج5" 369. مرة بن ربيعة "ج9" 472، 592. مرة بن الرواغ "ج5" 118. "ج9" 481. مرة بن زيد "ج1" 370، 372، 401، 405. مرة بن صعصعة "ج4" 516، 520. مرة بن عبد الله "ج4" 534. مرة بن عبد رضا "ج6" 768. مرة بن عوف بن ذبيان "ج4" 44، 428، 434، 480، 512. "ج5" 362. "ج6" 241. "ج8" 473. مرة بن فزارة "ج4" 512. مرة بن كعب "ج4" 38، 54، 480. "ج7" 191. "ج8" 498. مرة بن كلثوم التغلبي "ج3" 209، 231، 256، 278. "ج9" 561. مرة بن مازن "ج1" 483. مرة بن همام الشبياني "ج8" 433. مرة بنت سفيان "ج5" 606. مرة ذو عثكلان "ج4" 417. مرة عبد مناة "ج4" 532. "ج6" 770. المرتاد "ج1" 92، 358. مرتضى الزبيدي "ج8" حا 157، 380. مرتع "ج3" 184. "ج8" 674. مرتع بن معاوية "ج3" 319. مرتو "ج2" 289، 291، 504، 505. مرثد "ج1" 369. "ج2" 215، 255، 326، 334، 406. "ج3" 327، 363، 484، 487 "ج4" 448. "ج5" 135. "ج7" 116. مرثد بن حي "ج1" 368. "ج2" 149، 150، 152. مرثد بن ذي يزن "ج2" 593. مرثد بن سعد "ج9" 394، 476. مرثد الخير بن ذي جدن الحميري "ج3" 365. "ج9" 530. مرثد الخير بن ينكف "ج8" 777. مرثد علن "ج2" 588، 589. "ج3" 477، 478. مرثد يهقبض "ج2" 360. مرثدم يهحمد "ج2" 397، 452، 465، 466، 470، 474، 494، 565، 583، 584، 595. مرجزف "ج3" 488. مرحب اليهودي "ج9" 788. مرداس بن أبي عامر "ج6" 713، 726. "ج7" 407. "ج9" 864، 876. مرداس بن مروان "ج4" 138، 519. مردخلبدان "مردخ بلذان" "مردخ بلادان" "ج1" 587. مرزبان البادية "ج7" 338.

المرزبان بن وهرز "ج3" 527، 528. للمرزباني "ج1" حا 112. "ج3" حا 288، حا 290، حا 360. "ج5" حا 96. "ج6" حا 98، حا 466، حا 523، حا 672، 724. "ج8" 109، حا 254، حا 261، حا 267، 268، حا 327، حا 344، حا 785، 787. "ج9" حا 21، 52، 164، 199، 280، 297، 313، 340، 390، 396، 407، 440، 448، 449، 455، 456، 471، 472، 476، 477، 481، 488، 492، 495، 567، 568، 586، 609، 618، 621، 649، 659، 662، 666، 669، 671، 676، 677، 689، 690، 701، 710، 715، 720، 721، 726، 729، 730، 764، 765، 783، 785، 789، 790، 804، 826، 827، 848، 852، 861، 863، 868، 869، 871، 874، 882، 885، 886، 888، 895، 902. مرزوق "ج1" 526. للمرزوقي "ج3" حا 245. "ج4" حا 115، حا 208، حا 362، حا 393، حا 402. "ج6" 201، حا 352، حا 363 "ج7" حا 369، حا 371، 373، حا 379، حا 388، حا 394. "ج8" 358، حا 455، 457، حا 461، حا 471، حا 476، حا 480، حا 484، حا 487. "ج9" حا 90، حا 670، حا 811، حا 882 مرس عم "ج2" 548. مرشد بن سعد "ج1" 302. مرشد بن شداد "ج1" 104. مرضعة "ج5" 648. مرعش "ج6" 626. مرقس أنطونيوس "ج3" 85. مرقس داود "ج1" حا 62. المرقش الأصغر "ج4" 503. "ج8" 109، 140، 254، 280 "ج9" 417، 424، 433، 460، 476، 477، 535، 656، 657، 661، 663، 672. والمرقش الأكبر "ج3" 260. "ج4" 503. "ج6" 555، 659، 695، 800 "ج7" حا 518. "ج8" 280. "ج9" 21، 209، 239، 241، 252، 406، 417، 419، 424، 433، 441، 457، 458، 460، 461، 476، 477، 656، 657، 659، 660، 662، 672. مرقش السدوسي "ج9" 833. مرقيانوس "ج2" 511. "ج3" 413، 414. مركبود "ج3" 529. "ج4" 184. مركليوث "مرجيلوث" "ج9" 257،

حا 318، 372، 374، 400. مرمرجي الدومنكي "ج3" حا 59. "ج6" حا 648، 667. مروان بن أبي حفصة "ج7" 468. "ج9" 311، 319، 891. مروان بن الحكم "ج1" 472، 495. "ج4" 126، 419. "ج6" 735. مروان بن زنباع العبسي "ج4" 405، 407. "ج5" 404. مروان القرظ "ج4" 363. مربة "ج5" 135. مريم "ج6" 438، 490، 607، 619، 627، 635، 637، 657، 666، 686. مزاح "ج1" 366. "ج4" 421، 423. المزافر "ج1" 367. المزاقية "ج3" 389. مزدك "ج3" 333، 334، 344. "ج4" 160. مزرد بن ضرار "ج5" 433. "ج6" 657. "ج7" 420. "ج9" 388، 424، 434، 846، 880، 881. مزون "ج4" 202. مزيقيا بن عامر "ج3" 400. "ج6" 760. مزينة بن أد "ج9" 541. مزينة بنت كلب "ج4" 525. مسا "ج1" 375، 434. سافر بن أبي عمرو "ج5" 37. "ج7" 294، 295. "ج9" 696، 700. مساور "ج4" 520. المستكبر بن مسعود "ج4" 441. المستنذر "ج4" 65. المستوغر "ج6" 268، 269. "ج9" 445، 448، 449، 895. مسحل "شيطان" "ج9" 119. مسحل بن أوثاثة "ج9" 119، 120 مسروح عبد كلال "ج4" 181، 416، 616 مسروق بن أبرهة "ج3" 466، 469، 504، 505، 522، 526. "ج4" 193 مسروق بن وائل "ج7" 377. "ج9" 533، 573. مسطح "ج9" 742. مسعد "ج4" حا 526. مسعدة بن حكمة "ج1" 525. "ج4" 254، 255. سعر بن مستعر "ج3" 319. مسعود بن رخيلة "ج4" 252، 253. مسعود بن سعد "ج4" 245. "ج7" 416. مسعود بن عمرو الثقفي "ج3" 519. "ج6" 800. "ج7" 430، 442. مسعود بن معتب الثقفي "ج3" 513. "ج4" 85، 144، 148، 151، 153، 445. "ج5" 382، 383، 548. "ج7" 442 "ج9" 765. مسعود الثقفي "ج6" 214، 234 مسعودو "ج1" 400. "ج2" 250. المسعودي "ج1" 29، 52، 53، حا 60، حا 79، 81، 84، 256، حا 303، 316، 324، حا 342، 357،

364، 365، 386، 397، حا 411، 453، حا 492، 504، 506، 507. "ج2" حا 14، حا 25، 516، 569، 594، 636، 637، 644، 645. "ج3" 11، 112، 132، 163، 164، 178، 179، 197، 206، حا 251، حا 257، حا 261، 268، 275، 281، 287، 305، 309، 310، 397، 399، 400، 403، 426، 427، 431، 432، 436، 447، 448، 504، 505، 514، 525، 526. "ج4" حا 42، حا 78، حا 83، حا 96، 300، حا 378، 535. "ج5" 112، 114، 117، 640. "ج6" 80، 141، 350، 454، حا 461، 462، حا 469، 471، حا 479، حا 484، 485، حا 502، 503، 601، 691، 695، 701، 760، 766، 769، 770، 772، 774. "ج7" حا 372. "ج8" حا 125، 126، 129، 131، 133، 137، 165، 166، 455، 461، 462، 466، 469، 461، 493، 519، حا 755. المسك بنت ثقيف "ج1" 406، 407. المسكا "ج1" 367. مسكين الدارمي "ج1" 310، حا 382. "ج4" 310. مسلم بن عمرو "ج1" 415. "ج5" 397. مسلم بن الوليد "ج9" 230. مسلمان "ج2" 439. مسلمة بن عبد الملك "ج9" 24، 230، 284. مسلمة بن يوسف بن مسلمة الخيواني "ج1" 91، 102. مسمع "ج1" 375، 434، 441. مسهر "ج1" 525. "ج9" 113، 432، 483. المسيب بن الرفل "ج3" 427. المسيب بن علس "ج3" 242. "ج9" 180، حا 238، 241، 243، 267، 270، 302، 424، 433، 504، 567، 568، 572، 665، 667، 668، 673. مسيكة "ج5" 136. مسيلمة بن الحنفي مسيلمة الكذاب "ج4" 206، 217، 502. "ج6" 26، 40، 84، 86، 88، 100، 355، 457، 493. "ج7" 37، 295، 296، 457. "ج8" 141، 274، 753، 757، 759، 763، 788. "ج9" 178، 670، 828، 898، 899. مسيلمة بن عمرو "ج1" 371. مشجعة بن التيم "ج4" 239. مشجور "ج4" 520. مشرف "ج5" 431. مشروح "مشرح" "ج1" 365. "ج2" 155.

"ج3" 381. "ج4" 197. "ج7" 141. المشظ "ج4" 226. المشفتر "ج1" 93، 358. مشك دخدمان "ج2" 98، 99. مشكاب "ج9" 533. مشماع "ج1" 375، 434، 441. مصاد بن ربيعة "ج5" 353. مصاد بن مذعور "ج4" 239، 240. مصبح "ج1" 525. مصرايم "ج1" 297. مصطفى البابي "ج4" حا 45، حا 498. "ج5" حا 478. "ج6" حا 380، حا 470، حا 482، حا 647، حا 651. مصطفى بدر "ج9" حا 48. مصطفى الشويمي "ج8" حا 630. مصطفى كمال "ج9" حا 882. مصطفى مراد الدباغ "ج3" حا 502، حا 531. مصطفى نظيف "ج9" 48. المصطلق "ج4" 84. مصعب بن الزبير "ج4" حا 433، حا 446. "ج7" 497، 500. "ج9" 893. مصعب بن عبد الله "ج1" 399. مصعب بن عمير "ج8" 135. المصلا "ج1" 367. المضاض بن جرهم "ج6" 666. مضاض بن عمرو الجرهمي "ج1" 659، 361. "ج4" 13، 72، 440. "ج6" حا 770. مضر بن الياس "ج1" 397. مضر بن نزار "ج1" 498. "ج4" 470. "ج5" 116. "ج6" 256. "ج7" 305. المضرب بن كعب "ج9" 542. المضرس الأسدي "ج6" حا 674. مطرف بن الكاهن الباهلي "ج4" 195. مطرف بن نهصل "ج7" 329. "ج9" 343، 852. مطرود بن عمرو "ج4" 531. مطرود بن كعب الخزاعي "ج1" 405. "ج4" 64، 66، 69، 90، 423 "ج5" حا 65، حا 83. "ج6" 368. "ج7" 292، 447. "ج9" 492، 621. المطعم بن عدي "ج3" 519. "ج4" 91، 110. "ج5" 37. "ج6" 703. "ج9" 697، 736. المطلب بن أبي وذاعة "ج1" 402. "ج6" 581. "ج7" 443. المطلب بن حدثان "ج8" 499. المطلب بن عبد مناف "ج4" 31، 45، 61، 69، 70، 72، 74، 91، 100، 481، 636. "ج5" 407. "ج7" 301، 303. المطلب بن المطلب "ج8" 277. المطلب السلمي "ج7" 323. مطهر بن طاهر المقدسي "ج9" 757. مطيع بن أياس "ج9" 314، 318. معاذ بن جبل "ج4" 192، 194 "ج6" 537، 769. "ج8" 302، 596، 637، 658، 659، 743، 744. معاذ بن مسلم بن رجاء "ج1" 315. 208 "ج8" 129. "ج9" 220. معاذ بن النعمان "ج9" 720. معاذ الهراء "ج9" 217. معاذة "ج5" 136. معارك "ج1" 525. المعافر "ج1" 358، 373. معانة بنت جوشم بن جلهمة "ج1" 349، 394. "ج3" 161. "ج4" 468. معاوية بن أبي سفيان "ج1" حا 83، 95، 115، 118، 120، 367، 371، 472، 484، 495، 505. "ج3" 431. "ج4" حا 30، 32، 48، 50، 125، 197، 199، 266، 291، 292، 300، 337، 419، 420، 425، 536، 586، 634، 651، 659. "ج6" 480، 580، 726، 767 "ج7" 201، 240، 342، 500، 579. "ج8" 100، 102، 117، 120، 122، 129، 159، 171، 299، 302، 303، 331، 333، 361، 375، 379، 383، 480، 481، 570، 571، 630، 688، 760، 763، 772، 781، 783، 794. "ج9" 23، 52، 280، 281، 291، 308، 337، 344، 382، 431، 449، 511، 516، 547، 554، 562، 624، 721، 742، 747، 748، 779، 781، 816، 849، 852، 861، 863، 864، 866، 876، 880، 888، 889، 895، 898، 903 معاوية بن أبي معاوية الجرمي "ج6" 389. معاوية بن بكر الجرهمي "ج1" 319. "ج4" 516، 519. "ج5" 112، 114، 363، 372، 556. "ج9" 321، 394. معاوية بن بهتة "ج4" 518. معاوية بن تميم "ج9" 103. معاوية بن ثعلبة "ج4" 483. معاوية بن ثور "ج3" 320. "ج4" 257. معاوية بن جرول "ج4" 221. "ج8" 128. معاوية بن الجون "ج4" 524. "ج5" 373، 374. معاوية بن الحارث "ج4" 129، 147، 174، 183، 204، 240، 255. معاوية بن حجر "ج3" 321، 327. "ج9" 150، 499. معاوية بن سعيد "ج8" 131. معاوية بن شريف "ج5" 653. معاوية بن شكل "ج4" 680. معاوية بن صعصعة "ج9" 26. معاوية بن عامر "ج3" 283. "ج4" 521. معاوية بن عبد العزى "ج6" 276. معاوية بن عروة "ج5" 504، 638. معاوية بن عمرو "ج1" 407، 408. "ج4" 458، 489، 524، 535. "ج5" 286، حا 289، 363.

"ج8" 129. "ج9" 220. معاذ بن النعمان "ج9" 720. معاذ الهراء "ج9" 217. معاذة "ج5" 136. معارك "ج1" 525. المعافر "ج1" 358، 373. معانة بنت جوشم بن جلهمة "ج1" 349، 394. "ج3" 161. "ج4" 468. معاوية بن أبي سفيان "ج1" حا 83، 95، 115، 118، 120، 367، 371، 472، 484، 495، 505. "ج3" 431. "ج4" حا 30، 32، 48، 50، 125، 197، 199، 266، 291، 292، 300، 337، 419، 420، 425، 536، 586، 634، 651، 659. "ج6" 480، 580، 726، 767 "ج7" 201، 240، 342، 500، 579. "ج8" 100، 102، 117، 120، 122، 129، 159، 171، 299، 302، 303، 331، 333، 361، 375، 379، 383، 480، 481، 570، 571، 630، 688، 760، 763، 772، 781، 783، 794. "ج9" 23، 52، 280، 281، 291، 308، 337، 344، 382، 431، 449، 511، 516، 547، 554، 562، 624، 721، 742، 747، 748، 779، 781، 816، 849، 852، 861، 863، 864، 866، 876، 880، 888، 889، 895، 898، 903 معاوية بن أبي معاوية الجرمي "ج6" 389. معاوية بن بكر الجرهمي "ج1" 319. "ج4" 516، 519. "ج5" 112، 114، 363، 372، 556. "ج9" 321، 394. معاوية بن بهتة "ج4" 518. معاوية بن تميم "ج9" 103. معاوية بن ثعلبة "ج4" 483. معاوية بن ثور "ج3" 320. "ج4" 257. معاوية بن جرول "ج4" 221. "ج8" 128. معاوية بن الجون "ج4" 524. "ج5" 373، 374. معاوية بن الحارث "ج4" 129، 147، 174، 183، 204، 240، 255. معاوية بن حجر "ج3" 321، 327. "ج9" 150، 499. معاوية بن سعيد "ج8" 131. معاوية بن شريف "ج5" 653. معاوية بن شكل "ج4" 680. معاوية بن صعصعة "ج9" 26. معاوية بن عامر "ج3" 283. "ج4" 521. معاوية بن عبد العزى "ج6" 276. معاوية بن عروة "ج5" 504، 638. معاوية بن عمرو "ج1" 407، 408. "ج4" 458، 489، 524، 535 "ج5" 286، حا 289، 363.

معاوية بن غنم "ج4" 492. معاوية بن قيس "ج3" 474، 475. معاوية بن كلاب "ج1" 405، 406. معاوية بن كندة "ج3" 381، 383. "ج4" 464. معاوية بن مالك بن جعفر "ج6" 112. "ج9" 103، 547. معاوية بن مرة الأيفلي "ج3" 245. "ج9" 537. معاوية بن والعة "ج2" 597. معاوية الأكرمين "ج3" 381. معاوية الخير الجنبي "ج4" 458 معبد بن أبي معبد "ج7" 358. معبد بن زرارة "ج5" 359، 371، 373. معبد بن العبد "ج9" 536، 538 معتب بن عمرو "ج5" 548. معتب بن قيس "ج4" 151. "ج6" 422، 423. المعتصم "ج1" 358. معتم "ج1" 404. المعتمد العباسي "ج6" 570. المعتمر "ج1" 359. معد آل ملحن "ج2" 499، 501، 504، 505، 549. معد بن عدنان "ج1" 349، 351، 376، 378، 380، 381، 392، 411، 412، 472، 547، 548، 607، 608. "ج3" 13، 161، 166، 244، 321. "ج4" 16، حا 245، 329، 433، 467، 468، 470، 493، 494، 500، 501، 504، 505، 509، 512، 516، 526، 539، 540. "ج5" 435. "ج6" 255، 346. معدي درب بن أبرهة "ج7" 141. معد يكرب بن أبي مرة "ج3" 522، 524، 526. معد يكرب بن حمير "ج4" 416 معد يكرب بن سيف "ج3" حا 522. معد يكرب بن سميفع "ج3" 484، 487، 488. معد يكرب بن وليعة "ج3" 381 معد يكرب بن اليفع يثع "ج1" 365. "ج2" 86، 88، 90، 94، 101، 107، 127، 136، 140، 155، 166، 167، 169، 201، 318، 449، 570، 591، 592. "ج3" 267، 325، 331، 336، 347، 348، 350، 357، 358، 379، 475، 476. "ج4" 78، 183، 197، 448، 499، 659. "ج6" 263. "ج8" 79، 691. "ج9" 486. معد يكرب ينعم "ج2" 586، 588. معدان بن جواس "ج6" 577. معرض بن عمرو "ج4" 534. "ج5" 423. معقير بن حمار "ج9" 495. معقل "ج1" 371. "ج8" 264. "ج9" 495. المعلاة "ج9" 732. المعلوط بن بدل القريعي "ج6" 161. المعلي "ج3" 369. المعلي بن تيم "ج3" 370. المعلي بن حنش العبدي "ج3" 245، 246. "ج9" 537. المعلي الطائي "ج3" 372.

"ج4" 406. معمر بن حبيب "ج4" 85. معمر بن عبد الله "ج7" 424. "ج9" 581. معمر بن كلاب "ج6" 100. معمر بن المثنى "ج7" 195. معن بن أوس "ج9" 431، 882 معن بن زايدة "ج3" 238. معن بن عدي البلوي "ج8" 114، 160. معن بن مالك "ج1" 371، 373، 404، 444. "ج2" 66، 613، 620. "ج3" 99، 103. "ج4" 353، 438، 452، 514 معوذ بن عفراء "ج8" 412. معيش "ج1" 369. معيض بن عامر "ج1" 401. "ج4" 27. معيقيب بن أبي فاطمة "ج4" 388. "ج8" 121، 130، 131. معين مصران "ج1" 645. مغرز "ج1" 358. المغمس "ج3" 511، 514، 520. مغير "ج2" 69. المغيرة بن شعبة "ج4" 145، 150، 155، 157، 189، 191 "ج6" 509. "ج8" 121، 122، 126، 129، 131، 132، 140. "ج9" 176، 553، 897. المغيرة بن عبد الله المخزومي "ج4" 21، 513. "ج5" 303، 530. "ج7" 443. المغيرة بن عبد الرحمن "ج7" 442. مفرج "ج4" 456. مفروق بن عمرو "ج4" 593. "ج5" 367. المفضل بن فضالة "ج4" 357. المفضل بن محمد الضبي الكوفي "ج1" 68، 407. "ج3" 265، حا 302. "ج8" 360، 365. "ج9" 220، 223، 272، 273، 293، 294، 296، 299، 302، 306، 315، 319، 345، 402، 506، 507، 509، 511، 514، 515، 517، 542. المفضل بن معشر "ج4" 484. "ج9" 504، 688. المفضل بن يعلى "ج4" 532. المفضل النكري "ج9" 159. مفيد "ج8" حا 122، حا 292. مقاتل بن سليمان "ج1" 525. "ج3" 512. "ج8" 385. مقار بن مالك "ج4" 417. المقتنع "ج4" حا 217. المقداد بن عمرو "ج4" 194. "ج7" 116. المقدام بن حي "ج1" 368. المقدسي "ج1" حا 159. "ج4" حا 45، حا 100، حا 129، حا 143، حا 522. مقرط "ج1" 406. المقريزي "ج4" حا 318، حا 512. "ج6" حا 643، حا 647. "ج7" 463، 500. "ج8" حا 199، حا 293، حا 327. "ج9" حا 499، حا 785. مقطعان "ج4" 433.

مقلى "ج6" 405. المقوقس "ج1" 201. "ج5" 398. "ج6" 368، 432، 597. "ج7" 287، 408، 410. المقوم بن عبد المطلب "ج4" 65 مقيس بن صبابة "ج8" 124. مقيس بن عبد قيس "ج4" 110. مقيس بن عدي السهمي "ج4" 671. مقيس بن قيس "ج5" 606. المكتفي بالله "ج5" 213. مكحول "ج8" 162، 736، 737. مكدم "ج5" 365. مكرز بن حفص "ج7" 298. مكريانوس "ج3" 93، 95، 97. المكعبر "ج3" 244. "ج4" 204، 205، 527. "ج5" 320. "ج7" 374. "ج9" 533. مكل "ج1" 126. مكنف بن زيد الخيل "ج6" 307، 865، 866. ملاكر "ج1" 137. "ج2" 78، 92، 177، 269، حا 417. ملالا "ملامس" "ج3" 94، 127، 342، 343، 345، 403، 404، 407، 461، 462، 469، 474. الملتمس بن أمية الكناني "ج1" 92. "ج6" 463. ملخوس الفيلادلفي "ج2" 653، 655، 656. "ج3" 384، 386. ملك أيل "ج6" 172. الملك الحارث "ج3" 28. ملك كرب يأمن "ج2" 566، 567. ملك كرب يهأمن "ج2" 526، 528، 553، 563، 565، 568، 569، 574، 577، 599. "ج9" 803. ملكان "ج1" 400. ملكان بن أفصى "ج4" 525، 531. ملكان بن كندة "ج3" 167. "ج4" 424، 478، 503، 532 ملكي كرب تبع "ج2" 569، 570. الملمس بن عبد المسيح "ج6" 669. مليح بن شريح "ج5" 606. مليح بن عمرو "ج6" 428. "ج7" 451. مليح الهذلي "ج9" حا 643. مليح بن الهون "ج4" 533. مليح عرابيم "ج6" 538. مليك بن كنانة "ج4" 478. الممزق العبدي "ج1" 407. "ج9" 103، 688، 690، 691. منازل "ج1" 525. مناف "ج4" 57. "ج6" 310، 312، 314، 334 منبر "ج1" 369. منبه بن بكر "ج4" 516، 517 منبه بن الحجاج "ج9" 704. منبه بن حرب "ج1" 371، 405. "ج4" 457. منبه بن سعد "ج4" 508. "ج9" 103. منبه بن هوزان "ج1" 406، 525. المنتجع التميمي "ج9" 31. منتذر بن سعد "ج9" 260. المنتشر بن وهب "ج5" 392. "ج7" 635. "ج9" 609. المنتصر بن المنذر المديني "ج8" 166.

المنتفق بن عامر "ج4" 522. منجاب بن الحارث "ج9" 299. منجش "ج7" 341. المنخل اليشكري "ج3" 247، 282. "ج7" 373. "ج9" 468، 469، 485، 486. المنداروس "ج3" 404. المنذر بن امرئ القيس "ج3" 197، 218، 219، 307، 309، 338، 354، 367، 391 "ج5" 467. المنذر بن ثعلبه "ج3" 448. المنذر بن الجارود "ج6" 622. المنذر بن جبلة "ج3" 426، 447. المنذر بن الحارث "ج3" 228، 258، 259، 261، 401، 406، 407، 412، 416، 419، 421، 433، 435، 441، 443، 445، 446، 448، 466، 489، 490، 498. "ج4" 486. "ج6" 580، 592، 596، 632، 633. المنذر بن حرام النجاري "ج4" 138. "ج9" 731. المنذر بن داوود "ج3" 398. المنذر بن رومانس "ج9" 895. المنذر بن ساوي "ج4" 203، 210، 211، 486، 487، 502، 527. "ج6" 100، 542، 694. "ج7" 373، 374، 476. "ج8" 133. المنذر بن سعد "ج9" 260. المنذر بن السموآل "ج9" 778. المنذر بن سويد "ج4" 210. المنذر بن عائد "الأشج" "ج8" 782، 783. المنذر بن عقبة "ج4" 136. المنذر بن عمرو "ج8" 114، 116، 160، 293. المنذر بن ماء السماء "ج1" 386، 492. "ج2" 480. "ج3" 159، 173، 199، 217، 226، 228، 229، 231، 233، 235، 237، 239، 241، 248، 253، 263، 274، 284، 313، 326، 334، 335، 338، 339، 346، 347، 350، 353، 357، 363، 368، 369، 372، 401، 405، 422. "ج4" 243، 406، 456، 487، 501، 502، 562، 592، 617، 655، 656، 659. "ج5" 240. "ج6" 506، 598، 802. "ج8" 365، 366، 376، 521. "ج9" حا 108، 146، 169، 478، 479، 481، 530، 532، 548، 561، 599، 662، 687، 797، 799، 800، 818. المنذر بن محرق "ج8" 306. المنذر بن المنذر "ج3" 209، 231، 239، 240، 264، 267، 290، 307، 313، 338، 445. المنذر بن النعمان "ج3" 206، 209، 214، 215، 220

، 225، 227، 230، 234، 238، 256، 264، 278، 286، 292، 300، 301، 307، 314، 330، 337، 339، 341، 344، 356، 373، 405، 408، 418، 422، 447. "ج4" 56، 209، 210، 661، 675. "ج5" 199، 200، 289، 328، 329، 356، 392، 396. "ج6" 289، 299، 338، 622، 631. "ج9" 796، 824. المنذر أبو شمر بن جبلة "ج3" 432، 445. المنذر أبو النعمان "ج9" 478. المنذر الأكبر "ج8" 112. المنذر الثالث "ج2" 480. "ج9" 591. المنذر ذي القرنين "ج3" 404. المنذر الرابع "ج9" 591. منسك بن عبس "ج4" 506. منسكو منساكو "ج1" 594. منشتوسو "ج1" 554، 555. منشخر بن منشخرباغ "ج1" 497، 499. منشم "ج4" 626. "ج5" 163. المنصور "ج9" 293، 299، 319. منصور بن عامر "ج4" 50. منصور بن عبد شرحبيل "ج8" 266. منصور بن عكرمة "ج1" 405، 503. "ج4" 260، 384، 516. "ج7" 192. "ج8" 118، 308. منصور علي ناصف "ج4" حا 381. "ج5" 509 منظور بن سيار "ج3" 425. "ج6" 714. "ج9" 593. منعى لوذان بن هانؤاس "ج1" 399. "ج2" 249. "ج3" 48. منقذ بن حيان "ج4" 209. منقد بن طريف "ج4" 524. منقذ الطماح الأسدي "ج5" 517 "ج9" 481. منقر بن عبيد "ج5" 366. المنقع بن مالك "ج4" 258. منهاد بنت لهم "ج4" 468. منهب بن دوس "ج4" 438. "ج6" 274. منودنو "ج1" 556. منوشهر "ج1" 497. منير البعلبكي "ج1" حا 142. منيع "ج1" 359. المهاجر بن أبي أمية "ج4" 192، 198. المهبوذان "ج2" 651. مهدد بنت اللهم "ج1" 382. "ج4" 468. المهدي "ج3" 392. "ج7" 171. "ج9" 293، 299، 300، 302، 307، 315، 317، 319، 320. مهرى بن الأبيض "ج4" 199، 201. "ج8" 135. مهران بن بهرام جوبين "ج2" 650. "ج4" 231، 504. مهرة بن حيدان "ج1" 93، 367 "ج3" 478. "ج4" 201، 451.

"ج5" 339. "ج6" 725. مهقبم بن وزعان "ج2" 374. مهلائيل بن قينان "ج4" 146. المهلهل بن ربيعة "ج1" حا 390. "ج3" 361. "ج4" 250، 428، 458، 489، 492، 493، 496، 498، 506. "ج5" 71، 356، 513. "ج7" 577. "ج8" 664. "ج9" 75، 102، 170، 184، 230، 233، 406، 407، 413، 421، 422، 424، 439، 441، 443، 445، 454، 455، 456، 457، 459، 462، 475، 496. مهوس بن عنمة "ج9" 395. الموبذان "ج3" 523. "ج4" 160. موثبان "ج2" 579. المود "ج1" 358، 364، 365 الموداد "ج1" 424، 425. المودد "ج1" 358. مودعة "ج4" 430. مورث الأضياف "ج5" 75. موردتمن "ج1" 137. "ج2" 77، 82، 325، 386، 445، 456، 475، 488، 508، 621. موركن "ج5" 544. موريتس "ج1" 159، 161، 168، 192، 235، حا 241، 242، 305. "ج3" 137. موريقيوس "ج3" 228، 416، 417. موزل "ج9" 339. موسى "ج1" 41، حا 54، 346، 381، 453، 455، 653. "ج3" 53، 61، 396. "ج4" 12، 13، 129. "ج6" 490، 516، 517، 522، 547، 553، 556، 558، 560، 573، 575، 636، حا 675. "ج7" 478. "ج8" 266، 480، 482. "ج9" 126، 127، 605، 755، 756. موسى بن جابر "ج9" 670، 811. موسى بن عمران "ج6" 143. موسى بن نصير "ج8" 297. موسل "ألويس" "ج1" 132، 169، 245، 250، 441. "ج2" 656. "ج3" 40، 57، 63، 133، 136، 138، 227، 337، 385، 422. "ج4" 10، حا 251. الموفق بالله "ج6" 570. مولاي الشيخ زين الله "ج9" 365. مومزن "ج3" 124. مومسن "ج2" 61. مونتكومري "ج2" 259. الموندارس "ج3" 343. مونكراما "ج2" 152. موهب ذو ذرحان "ج8" 514، 558، 560، 576، 577، 581، 584، 586، 587، 591، 597، 599، 604، 605، 643، 644. موهبة بن الدعام "ج1" 103 "ج7" 461. ميتم بن متوب "ج8" 777. ميتوخ "ج1" 137.

"ج2" 325، 386، 445، 456، 501. ميتيلوس "ج3" 29. ميخائيل السوري "ج1" 64. "ج3" 417. "ج8" 769. ميخائيل الكبير السرياني "ج3" 409. الميداني "ج1" حا 318، 319، حا 335، حا 337، حا 385، 386. "ج2" حا 117. "ج3" حا 187، حا 198، 201، حا 232، حا 241، حا 250، 251، حا 278، حا 323، حا 347، حا 375. "ج4" حا 140، حا 206، حا 405، حا 445، حا 450، حا 494، حا 497، حا 522، 523، حا 618، 626. "ج5" حا 69، حا 74، حا 112، حا 141، حا 357، حا 371، حا 373، حا 377، 378، حا 509، حا 527، حا 531، حا 548. "ج6" 386، حا 427، حا 464، حا 466، حا 504، حا 570، حا 577، حا 716، حا 719. "ج7" حا 318. "ج8" حا 332، حا 343، حا 352، حا 358، حا 360، 363، حا 367، حا 425. "ج9" 464، 548، 664، حا 771، 813، حا 835، حا 885 ميدعان "ج1" 374. ميسرة بن مسروق "ج4" 253. ميسون بنت بجدل "ج1" 495. "ج3" 234. "ج4" 240، 300. ميشا "ج1" 375، 423، 441. ميكائيل "ج2" 269. "ج6" 26، 117. "ج8" 597. ميلر "ج2" 77، 82. "ج3" 137، 138. الميمني "ج9" حا 611. ميمون بن الحضرمي "ج7" 192. "ج8" 129. ميمون بن قيس "ج4" 339. ميمون بن موسى المري "ج5" 397. ميمون الأقرن "ج9" 45، 53، 54. ميمونة بنت سعد "ج7" 351، 461. ميناس "ج6" 605. ميننذر "ج1" 64. "ج3" 254. ميوس هورمس "ج2" 47.

النون

النون: نائل بن قيس "ج4" 462. نائلة بنت سهل "ج6" 266، 267. نائلة بنت عمرو "ج3" 103. نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص "ج6" 256. نابت "ج1" 298، 375، 434، 435. النابغة التغلبي "الحارث بن عدوان" "ج9" 595. النابغة الجعدي "ج4" 522، 660، 671. "ج6" 112، حا 485، 672. "ج7" حا 76، حا 81، 409، 743، 474. "ج8" 521، 791. "ج9" 88، 93، 97، 99، 200، 241، 247، 261، 262، 274، 335، 366، 424، 434، 465، 595، 760، 761، 796، 846، 851، 881. النابغة الحارثي "زيد بن أبان" "ج9" 595. النابغة الذبياني "ج1" 306، 315، 316، 319، 382، 386. "ج3" 78، 79، 247، 253، 261، 271، 273، 280، 282، 284، 288، 401، 402، 419، 421، 423، 425، 427، 432، 434، 436، 439. "ج4" 82، 183، 220، 250، 251، 380، 512، 571، 577، 588، 631، 661، 670، 671. "ج5" 7، 55، 102، 129، 157، 223، 240، 260، 285، 362، 431، 432، 496، 511، 516. "ج6" 293، 294، 430، 581، 646، 647، 650، 659، 672، حا 674، 478، 685، 686، 719، 723، 726، 730، 790، 800، 801، 812، 814. "ج7" 114، 221، 253، 313، 381، 503. "ج8" 141، 260، 279، 287، 288، 342، 410، 416، 647، حا 652، 660، 661، 664، 666، 722. "ج9" 21، 22، 26، 28، 55، 77، 88، 91، 94، 103، 105، 107، 110، 120، 142، 147، 152، 168، 177، 188، 190

، 191، 202، 204، 206، 221، 230، 237، 239، 245، 261، 284، 292، 322، 326، 335، 337، 345، 349، 350، 362، 365، 368، 381، 399، 419، 424، 434، 472، 485، 506، 508، 509، 511، 515، 519، 540، 542، 549، 568، 586، 597، 731، 735، 782، 812، 815، 825، 833، 835، 847، 876. النابغة الذهلي "المخارق بن عبد الله" "ج9" 595. النابغة الشيباني "حمل بن سعدانة" "ج9" 595. النابغة العدواني "ج9" 595. النابغة الغنوي "ج9" 595. نابل "ج9" 531. نابليون "ج7" 269. نابية "ج4" 457. ناج "ج1" 525. ناجية "ج1" 372. "ج4" 424، 456. ناحور "ج1" 449، 596. ناخر "ج1" 605. نادان "ج8" 341. نادغم "ج1" 93، 367. ناران بن حاضرو "ج2" 247. ناس "ج2" 465. "ج4" 475، 507. الناسك "ج1" 369. ناشب بن بشامة العنبري "ج5" 437. ناصر الدين الأسد "ج4" حا 383. "ج6" حا 558. "ج7" حا 526. "ج8" حا 186، حا 256. "ج9" حا 372. ناصر النقشبندي "ج8" حا 174. ناصر يهأمن "نصرم" "ج2" 331، 334، 341، 348، 350، 352، 358، 388. ناصر يهحمد "نصرم" "ج2" 403. ناعط "ج1" 101. "ج4" 448. نافش "ج1" 445، 449، 450 نافع "ج3" 352، 356. "ج5" 589. "ج8" 119، 663، 664. "ج9" 279، 280. نافيش "ج1" 375، 434. ناهب "ج4" 444. ناهس "ج4" 444، 445. "ج5" 353. نايل "ج1" 525. نباتة "ج1" 93، 358. نباج بن عامر "ج7" 441. نباش بن زرارة "ج4" 37. "ج6" 722. نبال "ج9" 907. نبايوت بكر إسماعيل "ج1" 434، 437، 439. "ج3" 12، 14، 16. "ج4" 25، 537. نبت بن أدد "ج4" 434، 449. نبت بن إسماعيل "ج8" 158. نبت بن مالك "ج1" 374، 433. نبش "ج1" 375، 434. نبط آل "ج2" 318، 406، 535، 536. نلط بن شهر هلال "ج2" 215. نبط علي "ج2" 107، 293. نبط عم "ج2" 182، 195، 196، 199، 215، 216، 233، 234، 237، 239، 468، 470.

نبط يهنعم "ج2" 149، 150، 360. نبهان "ج1" 371. نيوفراستوس "ج2" 129. نيوكذ ناصر "ج1" حا 607. "ج8" 325. نيونيد "ج1" 609، 611، 613، 616. "ج4" 9، 130. "ج6" 513، 527، 529. "ج9" 774. نبيشة بن الحارث "ج5" 427. نبيشة بن حبيب "ج4" 259. نبيط بن ماش "ج1" 298. "ج3" 11، 12. نبية بن الحجاج السهمي "ج4" 86، 88. "ج5" 38. "ج6" 147. "ج9" 704، 896. نبيه أمين فارس "ج1" حا 97، 108، حا 142. "ج2" حا 356. "ج4" 537. نتنو "ناتنو" "ج1" 601، 603. نتيلة بنت جناب "ج6" 443. النجار بن أوس العدواني "ج1" 472. النجاشي "ج2" 376. "ج5" 144، 193، 328، 329. "ج6" 669. "ج7" 259، 287، 303، 307، 410، 574. "ج8" 410. "ج9" 99، 114، 202، 241، 246، 253، 382، 384، 574، 575، 744، 888، 889. نجدة بن عويمر "ج8" 664. "ج9" 279. النجيرمي "ج5" 514. "ج6" 34، 36، حا 351. "ج8" حا 474. النحاس "ج9" 169. نحميا "ج1" 646، 648. النخار بن أوس القضاعي "ج8" 332. نخارو "ج1" 595. نخرو نحرو "ج1" 605. النخع بن عمرو بن علة "ج1" 371، 372. "ج4" 146، 458. نخو "فرعون" "ج1" 624. النخير جان "ج3" 270. ندبة "ج5" 387. "ج9" 560، 877. نذير "ج1" 374. "ج9" 260. نرام سن "ج1" 555، 558، 559، 573. نرسى بن بهرام "ج3" 187، 191، 311. "ج7" 280 نرساي الجاثليق "ج6" 597، 619. نزار بن معد "ج1" 349، 356، 379، 386، 392، 394، 505 "ج3" 161، 334، 354، 355. "ج4" حا 433، حا 446، 469، 476، 591. "ج5" 639 "ج6" 618. "ج8" 672. نزار بن معيص "ج1" 396، 397. نزيه مؤيد العظم "ج2" حا 282، 305.

"ج3" 502. "ج5" حا 57. "ج7" حا 196، حا 209، حا 211، حا 491. "ج8" حا 64. نسى بن حالا "ج3" 134. نسا مناة "ج6" 320. نسطورس "ج2" 629. "ج3" 395، 399. "ج4" 121. النسفي "ج1" حا 40. نشاي "ج2" 461. نشا كرب بن كبر خلل "ج2" 318. نشا كرب بن نزحتان "ج2" 322. نشا كرب أوتر "ج2" 286، 408، 489. نشا كرب نهفن يجعر "ج2" 408. نشا كرب يدرم "ج2" 464، 479. نشا كرب يزان "ج2" 408، 488. نشا كرب يهأمن "ج2" 327، 330، 332، 333، 357، 397، 449، 455، 456، 458، 464، 470، 472، 474، 480، 486، 493، 495 نشبة بن غيظ "ج1" 405. "ج4" 380. نشدايل "ج2" 550، 555. نشرى هب "ج2" 613، 614. نشوان بن سعيد الحميري "ج2" 219، 304، 362، 363، 393، 591. "ج4" 460، 505. "ج9" 383. نشيبة "ج8" 112. نصر بن الأزد "ج1" 374، 402، 405. "ج4" 435. "ج5" 427. "ج6" 17، 18. النصر بن الحارث "ج1" 78، 364، 374. نصر بن ربيعة "ج3" 90، 91، 162، 305. "ج4" 463. "ج9" 254. نصر بن زروع "ج1" 356. نصر بن عاصم "ج8" 152، 181، 187، 188. "ج9" 45، 53، 54. نصر بن قعين "ج4" 534. نصر بن معاوية "ج4" 142، 519. "ج5" 310، 647. "ج6" 363، 371. "ج8" 600، 690. نصر بن نهد "ج2" 143. نصر المغازي "ج4" 471. نصران الخراساني "ج9" 352. نصرو مرى "ج2" 612، 613 نصيب مرة "ج9" 236. نصير "ج8" 110، 134، 297 نضر بن إسماعيل "ج8" 158. النضر بن الحارث "ج4" 108، 125. "ج5" 38، 110، 114، 468. "ج6" 147. "ج8" 308، 320، 348، 349، 369، 376، 377، 381، 383، 385. النضر بن شميل "ج9" 26، 37. النضر بن كنانة "ج1" 400، 503. "ج4" 15، 16، 23، 26، 37، 478، 479، 532. "ج5" 529. "ج8" 160. نضلة بن هاشم "ج4" 119. النضير "ج4" 659. "ج5" 593.

النضيرة "ج2" 615. "ج9" 154. النطاسي "ج3" 283. نعام بن الحارث "ج2" 647. نعامة "ج4" 533. نعم مناة "ج6" 320. نعمان بن أبي أوفى "ج6" 546. النعمان بن سلمى "ج3" 204، 262. النعمان بن الأسود "ج3" 215، 307، 309، 311، 313، 328، 338. نعمان بن أضنا "ج6" 546. النعمان بن امرئ القيس "ج3" 183، 197، 199، 205، 209، 212، 213، 216، 217، 231، 254، 265، 307، 308، 310، 311، 330، 337. "ج5" 357، 358. "ج9" 679. النعمان بن الأيهم "ج3" 447. النعمان بن بزرج "ج4" 184. النعمان بن بشير الأنصاري "ج1" 484، 492، حا 504. "ج2" 197، 500. "ج9" 432، 458، 748. النعمان بن جبلة "ج3" 440. النعمان بن جساس "ج4" 571. "ج5" 352، 353، 376. "ج9" 482. النعمان بن جسر "ج4" 424، 425، 453. النعمان بن الجلاح الكلبي "ج3" 423، 434. النعمان بن الحارث "ج3" 402، 404، 405، 416، 419، 421، 425، 432، 434، 438، 440، 445، 447. "ج4" 251، 255. "ج9" 593. النعمان بن زرعة التغلبي "ج3" 297. "ج4" 499. النعمان بن صيفي "ج6" 488. النعمان بن العجلان "ج4" 138. "ج5" 86. "ج9" 751. النعمان بن عدي "ج8" 60. النعمان بن عمرو "ج3" 394، 397، 421، 439، 440، 447. "ج4" 137، 504. "ج9" 591، 592. النعمان بن قبيصة "ج4" 37، 228. "ج8" 643. النعمان بن قيس "ج4" 99. النعمان بن مالك "ج3" 280. "ج4" 362. النعمان بن مجاشع "ج5" 407. النعمان بن مقرن "ج4" 263. "ج6" 622. "ج9" 869. النعمان بن المنذر "ج1" 69، 70، 74، 76، 77، 262، 263، 268، 364، 365، 386، 476، 488. "ج2" 576. "ج3" 107، 156، 157، 159، 185، 187، 198، 200، 207، 210، 212، 214، 230، 231، 233، 237، 246، 247، 260، 261، 264، 266، 288، 290، 293، 295، 301، 303، 304، 307، 310، 312، 314، 335، 337، 341، حا 344، 420،

421، 425، 441، 442، 444، 447، 448، 522. "ج4" 83، 115، 138، 163، 164، 180، 225، 228، 230، 240، 241، 324، 370، 401، 404، 501، 503، 510، حا 514، 519، 524، 526، 534، 535، 543، 544، 564، 575، 578، 588، 591، 598، 611، 631، 640، 656، 670، 674، 675، 680، 681. "ج5" 36، 37، 39، 42، 44، 46، 90، 113، 118، 193، 207، 209، 213، 217، 223، 225، 240، 256، 260، 261، 272، 285، 286، 289، 309، 320، 330، 332، 351، 354، 372، 382، 390، 397، 410، 411، 586، 608، 640. "ج6" 114، حا 273، 389، 587، 596، 598، 664، 667، 685، 739، 763، 776، 802. "ج7" 114، 141، 221، 294، 295، 305، 318، 319، 332، 418، 503، 558، 564، 569، حا 615. "ج8" 111، 112، 272، 274، 331، 365، 366، 374، 375، 522، 645، 652، 735، 776، 778، 779. "ج9" 86، 107، 108، 153، 220، 252، 256، 290، 292، 342، 356، 366، 373، 468، 469، 472، 474، 485، 498، 533، 536، 539، 545، 549، 550، 564، 568، 569، 587، 593، 595، 599، 616، 617، 619، 661، 664، 665، 674، 676، 679، 682، 689، 692، 765، 797، 808، 815، 825، 847، 895. النعمان بن النعمان "ج3" 445. النعمان بن وائل "ج3" 434. النعمان الأعور "ج3" 216، 218. النعمان الأكبر "ج8" 109. نعمان أمين طه "ج9" حا 854. النعمان الثالث "ج3" 237. النعمان الزار "ج3" 272. النهمان الغرور "ج6" 620. النعمان قيل ذي رعين "ج3" 531. نعمان قيل ذي يزن "ج4" حا 181. نعمة بن مالك "ج2" 597. نعيم بن أوس "ج4" 244. نعيم بن ثعلبة "ج8" 498، 778 نعيم بن سعد "ج4" 206. نعيم بن عبد الله "ج6" 369. "ج8" 765. نعيم بن عبد كلال "ج3" 531. "ج4" 180، 181، 616. "ج5" 309. "ج7" 141. نعيم بن عمرو "ج9" 885. نعيم الداري "ج8" 378. نعيم النحام "ج7" 454. نعيمان "ج5" 43. "ج8" 375، 376. نفاثة بن فروة "ج4" 233. نفتالي "ج6" 532.

نفطويه "ج9" 777. نفيس بن إسماعيل "ج8" 158. نفيل بن حبيب الخثعمي "ج3" 513. "ج4" 445. نفيل بن عبد العزى "ج4" 79، 119. "ج5" 37، 650. "ج6" 765. "ج8" 740. نقادة بن عبد الله "ج4" 222. نقطابيوس "ج2" حا 92. نقفور "ج1" 29. نكرة بن لكيز "ج1" 407. "ج4" 484، 485. نكلر "ج2" 78. نلينو "ج8" 627. نمارة بن إياد "ج2" 470. نمارة بن قيس بن نمارة "ج1" 372، 373. "ج3" 167. نمارة بن لخم "ج3" 167. النمر بن تولب "تولب" "ج1" 317، 338. "ج2" 578. "ج5" 56، 397. "ج6" حا 140، 676. "ج7" 592. "ج8" 343، 344. "ج9" 384، 396، 433، 628، 817، 827، 874، 875. النمر بن ثعلب "ج9" 336. النمر بن حمان "ج5" 407. النمر بن قاسط "ج1" 407، 505. "ج3" 209، 336، 348. "ج4" 230، 231، 347، 487، 488، 501. "ج5" 266، 353، 368، 410 "ج6" 605. "ج9" 874، 884. النمر بن وبرة "ج1" 367. "ج4" 425، 426. نمران "ج2" 443، 446، 492. نمره "ج4" 457. نمرود "ج1" 233. نمير بن خرشة "ج4" 150. نمير بن عامر "ج4" 333، 511، 520. "ج5" 421. النميري "ج9" 798، 799. ننخرساك "ج1" 562. نهار "ج1" 605. "ج6" 94، 96، 98. نهد "ج1" 367. "ج3" 104. "ج8" 115. نهشل بن حري "ج5" 219. "ج9" 432. نهشل بن دارم "ج1" 403. "ج3" 251. "ج4" 444. نهشل بن الربيس "ج1" 336. نهشل بن عرعرة "ج6" 285. نهشل بن مالك الوائلي "ج4" 195. "ج8" 121. نهفان "ج1" 101. "ج2" 355. "ج5" 231. نهم بن عبد الله "ج4" 522. نهيك بن أساف "ج1" حا 483. نهيكة بن أساف "ج9" 106. النوار بنت عمرو بن كلثوم "ج9" 204، 205. النواس بن عامر "ج5" 397. نوال بن عتيك "ج7" 212. نوح "ج1" 41، 229، 255، 410، 413، 414، 416، 452،

463، 465. "ج3" حا 272. "ج6" 70، 77، 112، 254، 258، 259، 263، 285، 293، 405، 489، 667، 670، 673، 816. "ج7" 76، 448، 449. "ج8" 537. "ج9" حا 394، 452، 570، 580، 755، 810. نوردن "ج9" 673. نوف بن حي "ج1" 368، 373. نوف بن يحضب "ج2" حا 353، 363، 437، 438، 586، 587. نوفل بن بشر "ج9" 487. نوفل بن الحارث "ج7" 407، 440. نوفل بن ربيعة "ج1" 402. "ج3" 351. "ج4" 61، 69، 70، 72، 433، 447، 648. نوفل بن عبد كلال "ج7" 192، 301، 303. نوفل بن عبد مناف "ج4" 481. نوفل بن معاوية الديلي "ج4" 84 "ج9" 891. نولدكه "تيودور" "ج1" حا 80، 135، 231، 235، 481، 523 "ج2" 617، 618، 640، 644. "ج3" 232، 253، 280، 294، 350، 390، 403، 405، 406، 408، 412، 414، 417، 425، 431، 435، 438، 442، 444، 448 "ج5" 199. "ج6" 26، 114، 115، حا 157، 158، 257، 258، 283، 285، 286، 295، 325، 453، 522، 708، 710، 723، 726. "ج8" 318، 319، 529، 548، 609، 626. "ج9" 369، 371، 514، 515، 566، 769، 779، 786 نونوسوس "ج3" 219، 318، 350، 383، 386، 464، 473، 474. "ج6" 628. نوهر "ج2" 614. النووي "ج4" حا 443، حا 612 "ج6" حا 354، حا 478، حا 744، 748. "ج8" 98، حا 135، حا 334، حا 378، 574. "ج9" حا 308. النويري "ج1" حا 294، حا 355، حا 376، 509. "ج3" 233، 237، حا 251، حا 275، حا 353. "ج4" حا 100، 319، 378، حا 450، حا 495، حا 497. "ج5" 339، حا 378. "ج6" حا 13، حا 227، حا 696، 763. "ج7" حا 135. "ج8" حا 466. "ج9" حا 805. نيبور "ج1" 190، 196، 426. "ج2" 74، 401. نيرخس "ج1" 61. "ج2" 13، 14. "ج7" 267. نيرون "نيرو" "ج2" 61، 66.

"ج7" 278. النيسابورس "ج1" حا 39. "ج4" حا 569. "ج8" 96، 97، حا 318، 472، 473. نيقيفورس كالستوس "ج3" 228، 461. نيلوس "ج6" 171، 198، 354، 414. "ج9" 63، 127، 410. نيوكوماخس "ج3" 108.

الهاء

الهاء: هابيل "ج1" 494. "ج3" 79. "ج4" 434. "ج8" 652. "ج9" 364، 393. هاجر "ج1" حا 28، 29، 433، 436، 461. "ج3" 48. "ج4" 13، 267. "ج6" 381. هارديان "ج2" 635. هاربة البقعاء "ج1" 404. هارتمن "ج2" 107، 177، 234، 308، 309، 408. "ج3" 228، 330. "ج5" 277. "ج8" 627. هاروت "ج6" 741. هارون الرشيد "ج1" 29، حا 54. "ج4" 357. "ج9" 306، 315، 317. هاشم بن حرملة "ج5" 363. هاشم بن عبد مناف "ج1" 402. "ج4" 20، 60، 74، 82، 89، 100، 481، 580، 584، 591، 636. "ج5" 65، 82، 85، 247، 637. "ج6" 352، 767. "ج7" 236، 292، 301، 303، 313، 315، 348، 578 "ج8" 642، 780. "ج9" 170، 403، 407، 412، 421، 439، 440، 456. هالة بنت سويد "ج4" 478. الهالك بن عمرو "ج4" 534. "ج7" 556. هاليفي "يوسف" "ج1" 128، 130، 481. "ج2" 58، 74، 75، 77. "ج3" 154، 535. "ج8" 237. الهامرز بن خلا بزر "ج3" حا 294. الهامرز التستري "ج3" 293،

294. هاملتوت "ج5" 21. "ج8" حا 251، حا 767. الهان بن مالك "ج2" 399. هانئ بن حبيب "ج4" 244، 463. هانئ بن خولان "ج1" 368. "ج2" 97، 124، 257، 582. "ج3" 47. هانئ بن قبيصة "ج3" 293، 296، 298. "ج4" 225. "ج5" 289، 367. "ج6" 596. "ج7" 263. "ج9" 616، 617. هانئ بن مسعود "ج3" 273، 294، 295، 297. "ج4" 503. "ج5" 369. هانئ بن هذلول "ج4" 146. هانوس بن شهر "ج2" 248. هاينرش أيوالد "ج1" 127. هاينرش فون مالتزن "ج1" 131 هب "ج1" 592. هبسل بن شجب "ج2" 158. هبسل قرشم "ج2" 143. هبرة بن النعمان "ج5" 557. هبيد "شيطان" "ج9" 120. هبيرة بن أبي رهم "ج9" 386. هبيرة بن أبي وهب "ج5" 38. "ج9" 696، 713، 714. هبيرة بن سعد "ج1" 403. هبيرة بن المكشوح "ج4" 456. "ج5" 408. هبيرة بن يغوث "ج3" 254. هتلر "ج1" 257. هج نيلي "ج3" 73. "ج7" 212. هجرس بن كليب "ج4" 489. "ج5" 520. الهجيم بن عمرو "ج1" 402. "ج4" 529، 637. هداج بن مالك "ج9" 453. هدبة بن خشرم "ج9" 261. هدريانوس "ج3" 54، 63، 71، 87، 88. "ج6" 522، 524. "ج7" 278. الهدم بن امرئ القيس "ج5" 646. هدم بن مسعدة "ج4" 253. الهدهاد "ج2" 265، 363، 516. هدورام "ج1" 361، 424، 427، 427. هذرم بن عابر "ج1" 358، 361. الهذيل بن عمران "ج2" 651. "ج4" 206، 230. "ج5" 407. هذيل بن مدركة "ج1" 399. "ج2" 585. "ج4" 477، 534. "ج6" 78، 357. هذيل بن مشجعة البولاني "ج9" 284. هذيل بن منقذ "ج8" 742. الهذيل بن هبيرة "ج4" 492. "ج5" 386، 407. هر بنت زيد مناة "ج3" 205. هر بنت النعمان "ج3" 215، 338. هراسة "ج1" 525. هربرت كريمة "ج1" 137، 232، 329. هرشفلد "ج1" حا 362، حا 476، حا 483. "ج2" 609، 610. "ج3" 133، حا 280، 387.

حا 436، 437، حا 446. "ج4" حا 125، حا 561، حا 594. "ج5" حا 61. "ج9" حا 793. هرقل "ج1" 624. "ج3" 427، 430، 431. "ج4" 70، 111، 141، 178، 179، 242، 243، 462، 474. "ج5" 640. "ج6" 459، 488، 594، 637 "ج7" 449، 496، 578. "ج9" 520، 753، 758، 759. هرقليانوس "ج3" 112، 113. هركانوس "ج2" 39، 43. "ج3" 32، 33، 35، 68. هركانوس الثاني "ج2" 39. هرم بن جعفر "ج5" 45. هرم بن سنان "ج4" 380، 512، 571، 579، 585. "ج5" حا 507. "ج6" 150، 715. "ج9" 107، 544، 546. هرم بن قطبة "ج4" 514، 571، 590. "ج5" 390، 498، 504، 637، 638، 645. "ج8" 740. "ج9" 357، 500، 577. هرمز بن سابور "ج3" 121، 126، 187، 193، 208، 306، 310. هرمز بن كسرى "ج2" 647، 650. "ج3" 260، 290، 291، 307، 312، 507، 529. "ج4" 81، 162. "ج6" 613، 663. "ج9" 307، 532. هرمز بن نرسي "ج3" 187، 311. هرمز الرابع "ج3" 175. هرمس الثالث "هرمس المصري" "ج8" 198. هرمس الثاني "هرمس البابلي" "ج8" 198. الهرمون "ج4" 164. هروديس "ج3" 93. هريرة "ج9" 573. هريس "ج8" 53. هزان بن صباح "ج4" 482. هزان الأولى بن مالك "ج1" 370. هزرماوت "ج2" 130. هزيلة "ج9" 686. هسفر "ج2" 249. هشام بن حكيم "ج8" 596، 598. هشام بن ربيعة "ج5" 135. هشام بن سعد "ج4" 108. "ج6" 470. هشام بن عبد العزى "ج8" 268 هشام بن عبد الملك "ج7" 344. "ج9" 24، 309، 310، 313، 679. هشام بن عبد مناف "ج7" 192. هشام بن عروة "ج9" 30، 321، 749. هشام بن محمد بن السائب "ج1" 77، 80، 103، 356، 377، 464. "ج3" 159، 195، 204، 205، 338، 340. "ج4" 426، 429، حا 450. "ج9" 296. هشام بن المغيرة "ج4" 84، 85، 104، 105، 672.

"ج5" 38، 188، 382، 441. "ج8" 522. "ج9" 159، 712، 715. هشام بن المنذر "ج9" 596. هشام الضرير "ج8" 737. هصنع "ج2" 249، 251. هصيص بن عامر "ج1" 401. هصيص بن كعب "ج4" 73، 480، 482. هعان "ج3" 484، 487. هعان أشوع "ج2" 364. هعلل "ج2" 852. هعن أسانن "ج2" 376، 595. هفان بن يزيد "ج1" 371. "ج4" 510. هل "ج3" 64. هلال بن أمية "ج9" 746. هلال بن أنس "ج5" 135. هلال بن أهيب "ج4" 26، 27. هلال بن عامر "ج4" 520، 597. "ج6" 214، 270. هلال بن عقة "ج2" 651. "ج4" 230. "ج5" 288، 585. هلال بن عمرو "ج1" 369، 402، 404، 405. هلال بن مالك "ج4" 26، 27. هلال بن الهجري "ج4" 227. الهلقام الكلبي "ج5" 397. هلك أمر بن حزفرم "ج2" 318، 475، 476، 482، 487، 495، 496. الهليلي بن بولان "ج4" 506. همام بن الأعقل "ج4" 157. همام بن مرة "ج4" 346، 496، 504. همام بن منبه بن كامل بن شيخ اليماني "ج1" 85. "ج8" 750. همثبرن "ج1" 251. همدان بن مالك "ج2" 353. الهمداني "ج1" 87، 90، 98، 100، 106، 117، 119، 120، حا 140، 143، حا 146، 148، 178، 179، 181، 184، 196، 295، 302، حا 339، 341، 345، 346، 348، 350، 362، 367، 370، 409، 413، 425، 427، 431، 451، 458، 464، 465، 487، 489، 598، 617، 639. "ج2" 18، 50، حا 73، 74، 114، 117، 135، 140، 150، 157، 197، 218، 222، 230، 284، 289، 304، 332، 344، 354، 356، 362، 364، 372، 380، 391، 394، 395، 398، 399، 402، 408، 412، 421، 440، 442، 498، 506، 570، 572، 573، 584. "ج3" 161، 181، 319، 322، 381، 382، حا 439، 483، 487، 489، 497، 502، 514، 532، 535. "ج4" حا 146، 216، 218، 281، حا 415، 432، 434، حا 438، حا 448، 450، حا 459، 460، حا 465، 475، حا 513، 536. "ج5" 196، 231.

"ج6" 297، 298، 437. "ج7" 55، 115، 132، 170، 180، 184، 198، 209، 212، 340، 344، 345، 363، 364، 371، 458، 507، 508، 512، 515، 517، 519، 522، 537، 539، 542. "ج8" 7، 23، 154، حا 208، 278، 300، 574، حا 614، 677. "ج9" 74، 207، 208، 236، 379، 383، 571، 572، 576، 578، 688. هميسع بن إسماعيل "ج8" 151. الهميسع بن حمير "ج1" 92، 94، 365. "ج4" 416، 434، 435. الهميسع بن عمرو "ج1" 503. هناءة "ج4" 438. هناس بن تلمي "ج2" 250، 251. هنام بن سلمة "ج5" 530. هنب بن أفصى "ج1" 407. "ج4" 487. هتب بن القين "ج4" 423. هنبة بن نكرة "ج1" 407. هنتسر بن عيسو بن هنتسر "ج8" 203. هند بنت أبي هالة "ج4" 528. "ج6" 56، 281. هند بنت أسماء "ج9" 25. هند بنت بكر "ج4" 354. هند بنت بياضة "ج4" 472. هند بنت تيم بن مر "ج1" 407، 408. هند بنت الحارث "ج3" 209، 218، 234، حا 303. هنج بنت حجر "ج3" 329، 336، 339، 347. هند بنت الخس الإيادية "ج5" 498، 638، 639. "ج8" 351، 498، 790، 791. هند بنت زيد مناة "ج3" 206. هند بنت سرير "ج4" 480. هند بنت ظالم "ج3" 323، 392، 403. هند بنت عتبة "ج9" 413، 876 هند بنت عجلان "ج9" 662، 663، 777. هند بنت عصية "ج4" 518. هند بنت عمرو "ج3" 239، 240، 247، 254، 257، 285، 286، 325، 326، 363، 369. "ج4" 58، 83، حا 477. هند بنت كعب "ج3" 194. هند بنت مالك "ج4" حا 433، 443، 453. هند بنت مر "ج4" 488، 525. هند بنت النعمان "ج3" 290. "ج6" 597، 599، 663، 761، 763. "ج9" 156، 286، 362، 401، 523، 661، 669. هند بنت هند "ج9" 485. هند بنت الهيجانة "ج3" 206، 248. هند بنت يامين "ج6" 542. هند الكبرى "أم عمرو" "ج6" 599. هند المغيرة بن عبد الله "ج5" 530. هنريكوس لامنس اليسوعي "ج8" حا 285. الهنو "ج1" 374. هنيء بن امرئ القيس "ج8" 177. هنيء بن بلي "ج1" 371. "ج4" 532. هنيء بن عمرو "ج4" 451.

الهنيد بن عوض "ج4" 248. هوارت "ج2" 78. هوازن بن منصور "ج1" 405. "ج3" 212، 213. "ج4" 516. هوبر العمليقي "ج3" 90. هوتر عثت يشف "ج2" 107، 489. هوتن "ج1" 126. هودج "ج4" 513. هود بن أيمن بن حلجم بن بضم بن عوضين بن شداد بن عاد بن عوص بن أرم بن عوص بن عابر بن شالخ "ج1" 96، 299، 302، 304، 312، 314، 355، 488، 489، حا 492. "ج4" 19، 20. "ج6" 83. "ج7" 377. "ج8" 111، 157، 158، 164، 345، 538. هودة بن علي "ج4" 502. هوذة بن سبأ "ج1" 364، 367. هوذة بن علي الحنفي اليمامي "ج4" 213، 215. "ج5" 81، 208، 209. "ج6" 91، 621، 660. "ج7" 460، 527، 577. "ج9" 70، 78، 570، 574، 868. هوذة بن عمرو "ج4" 240، 250، 267، 268. هوذة بن قيس الوائلي "ج4" 253. هوذة بن نبيشة السلمي "ج4" 259. هورسفيلد "ج1" 306، 532. هوز "ج8" 164، 166. هوستن ستيوارت شامبرلن "ج1" 257. هوشع "ج3" 157. "ج6" 597. هوف ال "ج2" 458. هوف عث "هوفعثت" "ج2" 86، 95، 101، 104، 124، 127، 136، 156، 408، 466 هوف عم يهنعم "ج2" 176، 179، 180، 182، 184، 205، 206، 211، 228، 233، 239، 334. هوفعم بن ثونب "ج2" 204. هوكارت "ج2" 157. هول "ج9" 48. هومل "ج2" 77، 78، 81، 83، 91، 93، 136، 137، 139، 140، 152، 166، 175، 176، 207، 232، 234، 259، 260، 272، 273، 275، 278، 280، 286، 307، 309، 315، 317، 318، 322، 324، 327، 330، 331، 334، 342، 347، 348، 386، 447، 489، 492، 577، 582، 584، 585، 587، 589. "ج3" 322. "ج6" 52، 296، 299، 300. "ج8" 146، 174. الهون بن خزيمة "ج1" 399. هيبالس "هيبالوس" "ج2" 26. "ج7" 268. هيثع بن كلب "ج2" 375. الهيثم بن عدي "ج1" 114، 116، 356، 506. "ج3" 352، 361، 363، 365. "ج8" 156، 168. "ج9" 312، 781.

الهيجانة بنت سلول "ج3" 197. هيذان بن شيخ "ج8" 791. هيرود انتيباس "ج3" 43، 44. هيرود الكبير "ج1" 444، 623 "ج2" 40. "ج3" 145. هيرودوتس "ج1" 21، 35، 57، 61، 158، 159، 205، 262، 553، 567، 591، 621، 628. "ج2" 8. "ج3" 35، 39، 43، 45، 99، 112. "ج4" 379، 408. "ج6" 229، 233، 292، 329 "ج7" 613، 625. هيروديان "ج1" 61. هيرون "ج2" 7، 8. هيرونيموس "ج1" 27. هيكل "ج1" 270. هيلين"ج1" 467.

الواو

الواو: وائل بن حجر الحضرمي "ج2" 583، 620. "ج4" 196، 198، 291، 416. "ج5" 279، 313، 628. "ج7" 69، 142، 148، 486. "ج8" 129. وائل بن حمير "ج1" 365. وائل بن ربيعة "ج4" 492. "ج5" 356. وائل بن قاسط "ج1" 365، 406، 407، 525، 526. "ج4" 487، 489، 525. وائل بن معن "ج1" 332، 359، 367، 404. "ج4" 514. "ج6" 526. وائلة "ج1" 365، 405. "ج4" 520. "ج8" 736، 737. وابصة بن خالد "ج5" 606. وابصة بن معبد "ج4" 222. الواحدي "ج4" حا 121. "ج6" 86، حا 618. "ج7" حا 293، حا 309. وادعة "ج3" 400. "ج4" حا 433. "ج5" 648. واروس الروماني "ج3" 43. الواسعي "ج1" حا 156. وافد بن عمرو "ج3" 280. واقدة "ج4" 481. الواقدي "ج1" 114، حا 311، 316، 472. "ج3" حا 435.

"ج4" حا 141، 229، 230، حا 233، حا 242. "ج5" حا 225، 226. "ج6" حا 228، حا 249، حا 264، 549. "ج7" حا 293. "ج8" حا 504. "ج9" حا 828. واكل بن عمرو "ج3" 400. والريانوس "القيصر" "ج3" 94، 95، 98، 100، 101، 103، 111. والنس "ج3" 396. وبار بن أرم "ج1" 342، 343 وبار بن أميم "ج1" 340، 341 "ج3" 178. وبر بن يحنس "ج3" 529. "ج4" 184، 192. وبرة بن تغلب "ج1" 366. "ج4" 424. وبرة بن رومانس الكلبي "ج3" 275، 276. وتر يهأمن "ج2" 288، 395، 449، 452، 453، 455، 456، 458، 463، 471، 474، 482، 495. وتر يهنعم "ج2" 476، 482. وتف "ج2" 449. وثاب السني "ج1" 42. وثيمة بن عثمان "ج1" 318. وثيمة بن موسى "ج6" 86. وج بن عبد الحي "ج4" 145. الوجد "ج1" 367. وجه أيل نبط "ج2" 102. وحشي "ج5" 426، 587. "ج6" 96. وحشية بنت شيبان "ج4" 480. الوحيد بن كلاب "ج1" 405. وداعة "ج1" 368، 373. وداك الطائي "ج6" 815. وددايل بن حيوم "ج3" 319، 371. "ج6" 17. ودلت "ج3" 42. وده "ج2" 573، 574. وديعة بنت لكيز "ج1" 366، 407. "ج4" 235، 483، 484. ورد بن مرداس "ج4" 247. وردان بن محرز "ج4" 206. وردة "ج9" 536. وردة بنت معد يكرب "ج4" 197. الودع بن ثروان "ج6" حا 820. ورقة بن عبس "ج4" 510. ورقة بن نوفل "ج1" 42، 404. "ج4" 671. "ج5" 37، 320. "ج6" 360، 453، 461، 464، 469، 471، 474، 476، 477، 500، 503، 590، 607، 651، 680. "ج8" 108، 319، 323. "ج9" 286، 454، 702، 703. الورل الطائي "ج6" 696. وروال ذرحن "ج2" 106. وروايل غيلن يهنعم "ج2" 181، 183، 185، 210، 212، 230، 234، 236، 240، 316، 504. وزر بن جابر "ج4" 220. "ج9" 561. وستنفلد "ج4" 425. الوصاف "ج3" 359. وطاح "وطح" "ج3" 485. وعلان "وعلن" "ج3" 42. وفيم أحبر "ج2" 542، 544. وقدان بن الأزد "ج4" 435. وقه "ج2" 288.

وقه آل نبط "ج2" 96، 97، 102، 125، 126. وقه أيل ريام "ج2" 88، 14، 95، 124، 126، 139. وقه أيل صديق "ج2" 83، 85، 102، 104، 125، 127. وقه أيل يثع "ج2" 96، 97، 102، 103، 125، 126، 128. وكيع بن حسان "ج6" 693. وكيع بن زهير "ج6" 463. وكيع بن سلمة "ج1" حا 81. "ج5" 505، 638، 647. "ج6" 219، 400، 426، 427، 504. ولستيد "ج2" 160، 161. ولسن "ج1" 566. "ج2" 7. ولغنسون "ج1" حا 52، حا 630. "ج3" حا 191. "ج6" حا 515، حا 524، حا 527، حا 535. "ج8" 208، 218، 250، حا 505، حا 530، حا 532، 535، حا 609، حا 677، حا 714. "ج9" 769، حا 775، 776، حا 782، حا 784، حا 791. ولهوزن "ج1" 136، 308. "ج6" 15، 26، 55، 115، 116، 158، 197، 255، 283، 286، 349، 351، 437، 439، 460، 682. "ج8" 484. ولوجس "ج2" 613. الوليد بن الحصين "ج8" 334. الوليد بن الريان "ج1" 304. الوليد بن عبد الملك "ج3" 233. "ج4" 300، 301. "ج9" 177، 241، 284، 307، 344، 510، 511، 880. الوليد بن عتبة "ج4" 89. "ج5" 37. الوليد بن عقبة "ج9" 547، 548، 557، 880. الوليد بن المغيرة "ج4" 107، 108، 114، 125، 595، 670، 672. "ج5" 37، 82، 505، 515، 603، 605، 638، 649، 652. "ج6" 147، 224، 225، 356، 407. "ج7" 555. "ج8" 764. "ج9" 174، 178، 195، 197، 417، 419، 609، 873، 876. الوليد بن هشام بن المغيرة "ج1" 471. الوليد بن الوليد "ج8" 119، 305. الوليد بن يزيد بن عبد الملك "ج1" 76، 77، حا 85. "ج9" 255، 284، 286، 293، 299، 303، 308، 310، 311، 313، 314، 334، 335، 347. الوليد الثاني "ج9" 810. وليعة بن مرثد "ج2" 584. وليم كسنيوس "ج1" 127. وليم كنت لوفتس "ج8" 203. ونت "ج2" 78، 91. ونجي "ج1" 556. وندل فيلبس "ج1" 133، 562. "ج2" حا 176، 224، 225، 299، 370. "ج6" 297.

"ج8" 46، 47، 72، 82، 420. ونست "ج2" 28. ونكلر "ج1" 28، 232، 457، 557. "ج2" 88. "ج3" 378، 460. "ج6" 349، 531، 541. "ج8" 507. "ج9" 776. وهب بن أمية "ج6" 500. "ج9" 764. وهب بن الحارث "ج3" 320. وهب بن عبد الله "ج9" 489. وهب بن عبد مناف "ج4" 99. "ج5" 89. وهب بن منبه "وهبة بن منبه" "ج1" 83، 87، 93، 103، 304، 318، 321، 410، 428، 462، 506. "ج2" 514، 538. "ج3" 460، 502، حا 510، 529، 532. "ج4" 96، 184، 275، 276، 557. "ج6" حا 489، 564، 565، 610، 611، 681. "ج8" 323، 697. "ج9" 308. وهب بن وهب "ج1" 353. وهب بن يهوذا "ج6" 546، 547. "ج9" 783. وهب أصدق "ج2" 457. "ج3" 42. وهب آل بن حيو "ج2" 87، 97، 467، 468، 472، 491. وهب آل بن رثدال "ج2" 139. وهب آل بن هكحد "ج2" 141. وهب أوم "ج2" 439، 464، 465، 552، 556، 563. وهب أوم ياذف "ج2" 397، 429. "ج3" 317. وهب أيل بن معاهر "ج2" 149، 150، 216، 251. وهب أيل يحز "ج2" 324، 326، 331، 333، 338، 341، 348، 350، 352، 357، 358، 360، 361، 398. وهب ذو سموى أليف "ج2" 326، 338، 398. وهب شمسم بن هلك "ج2" 341. وهب عثت يفد "ج2" 488. وهب اللات "ج3" 42، 91، 102، 103، 115، 117، 124، 127. "ج6" 16، 17، 233، 330، 331. وهبو "ج1" 593. وهبيل "ج4" 459. وهرز بن الكاسجار "ج2" 647. "ج3" 522، 527. "ج4" 205، 214. "ج5" 320. "ج9" 533، 753، 758، 759. وهل أيل "ج2" 338. وهيب كامل "ج6" حا 627. ويبر "ج2" 177. "ج5" 277. ويتزشتاين "ج8" 627. ويزك "ج1" 497، 499. ويلكن "ج1" 523. ويليم شميد "ج6" 36. وينان "ج2" 99. وينت "ج2" 35. ، الياء، يابال "ج1" 301.

يابتيء "ج1" 594. ياتيعة "ج1" 588. يارح "ج1" 426. يازل بين "ج2" 383، 385، 387، 388، 421، 423، 426، 428، 432، 439، 441، 442، 446، 449، 452، 454، 455، 462، 464، 472، 493، 495، 524، 547، 549، 551. يازيز "ج1" 462. ياسر بن أخطب "ج6" 523، 546. ياسر يهصدق "ج2" 357، 474، 482، 483، 487، 496، 497، 521، 526، 527. ياسر يهنعم "ج1" 48، 49، 504، 547. "ج2" 423، 487، 493، 496، 524، 526، 528، 531، 539، 558، 560، 562. "ج3" 318. "ج8" 515، 517. ياسر يهنعم الثالث "ج2" 532، 552، 558، 562، 566، 568، 599. ياسر يهنعم الثاني "ج2" 494، 532. ياسون "ج1" 651. "ج3" 22، 23. ياسين "ج4" 156. يافا "ج1" 595. يافث "ج1" 224، 463. "ج2" 91. "ج6" 673. "ج9" 452. ياقلوديوس أغسطس "ج3" 113 ياقوت الحموي "ج1" حا 17، حا 70، حا 83، حا 89، 120، حا 161، 177، 179، 306، 342، 429، 453، 583، 617 "ج2" 25، 89، 155، 172، 254، 401، 421، 621، 656 "ج3" 53، 66، 78، 132، 158، 181، 182، حا 229، 233، حا 236، 319، 348، 356، 362، 385، حا 440 "ج4" حا 99، حا 129، حا 140، 439، حا 577. "ج5" 270، 350. "ج6" 13، 15، 253، 255، 262، 578، 597، 599، 654، 655، حا 679. "ج7" حا 376. "ج9" حا 36، 194، 236، 281، 299، 303، 310، 312، 318، 320، 322، 325، 326، 507، 513، 866، 871. يأكم ياكم "ج2" 293. يام بن أصى "ج6" 263. يأمن "ج1" 358. يامين بن عمير "ج6" 562، 564. يامين بن يامين الإسرائيلي "ج6" 562، 563. يأوس أيل "ج2" 87. يايتع يايطع "ج1" 593، 600. يايتع أمر السبئي "ج1" 585، 586، 593، 594، 600. "ج6" 313. يثرب بن باثلة "ج1" 343. يثرب بن قانية "ج4" 128. يثرون "ج1" 452، 454. يثع آل ريام "ج2" 125، 127.

"ج6" 17. يشع أمر بين "ج2" 280، 282، 284، 287، 300، 303، 307، 312، 314، 319، 320، 342، 347، 349، 351، 407. "ج7" 210، 234. "ج8" 53. يثع أمر وتر "ج2" 182، 197، 238، 262، 274، 280، 303، 307، 314، 321، 348، 351. يثع أيل حيو "ج2" 128. يثع أيل صديق "ج2" 82، 96، 97، 102، 103، 125، 126، 128. يثع كرب بن ذرح علي "ج2" 322. يثعم "ج2" 393. يثل "ج2" 75. يجعر بن سخيم "ج2" 452. يجل يهنعم "ج2" 181. يحابر "ج1" 371، 373. "ج4" 454، 456. يحز "ج2" 325. يحمد "ج8" 406. يحمد آل "ج2" 379. يحمد يزان "ج2" 460، 461، 565. يحنة بن رؤبة "ج6" 686. "ج7" 348. "ج8" 125. يحنن "ج1" 367، 368. يحيي بن آدم "ج4" حا 122. "ج5" 310. يحيي بن جرير النصراني "ج2" 621. يحيي بن خالد "ج4" 277. يحيي بن زياد الحارثي "ج9" 314، 318. يحيي بن سعيد القطان "ج9" 359. يحيي بن شمعون "ج9" 513. يحيي بن عدي "ج9" 202. يحيي بن متى "ج6" 671. "ج9" 268، 570، 581، 811، 829. يحيي بن معن "ج9" 20. يحيي بن المنجم "ج9" 271، 288. يحيي بن نجيم "ج9" 166. يحيي بن وثاب "ج8" 575. يحيى بن يعمر "ج8" 182، 188. "ج9" 37، 53، 54. يحيى الخشاب "ج2" حا 633. "ج3" حا 202. يحيى النحوي "ج6" 626. يخطيانوس "ج3" 405. يخلد الصلت "ج4" 479. يدع أب ذبيان "ج2" 181، 184، 188، 192، 194، 196، 204، 205، 209، 210، 221، 231، 239. "ج5" 583. يدع أب غيلان بن أمينم "ج2" 139، 141، 145، 147، 151، 153، 166، 168، 170، 184، 186، 170، 184، 186، 187، 206، 210، 222، 232، 235، 238، 239، 309، 366، 367، 490. "ج7" 243. يدع أب يجل "ج2" 183، 184، 196، 197، 234، 236، 321، 519 يدع أب ينف "ج2" 181، 185، 206، 212، 231، 234، 237، 240. يدع آل بين بن رب شمس "ج2" 168. يدع آل بين بن سمه يفع "ج2"

166، 167، 170. يدع آل بين بن يدع أب غيلن "ج2" 168، 170. يدع أمر وتر "ج2" 311، 313. يدع أيل "ج2" 101، 136، 139، 141، 145، 150، 152، 153، 156، 158، 216، 406، 465، 479، 480، 482. "ج6" 17. يدع أيل بين "ج2" 118، 276، 277، 280، 300، 302، 303، 307، 308، 310، 311، 313، 314، 318، 319، 321، 347، 349، 351، 360، 367، 391، 554. يدع أيل ذرح "ج2" 169، 271، 275، 280، 307، 310، 312، 314، 346، 351. "ج8" 46. يدع أيل وتر "ج2" 292، 309، 310، 313، 316، 317، 323، 350، 351، 487. "ج7" 210. يدم يدرم "ج2" 397. يذرح ملك "ج2" 322. يذكر آل "ج2" 87. "ج6" 17. يذمر ملك "ج2" 106، 293، 298، 321. يربع "ج1" 579. يربعام "ج1" حا 53. يربوع بن حنظلة "ج1" 405، 579. "ج3" 369. "ج4" 332، 511. "ج6" 364، 714. يربوع بن غيظ "ج4" 512. يربوع بن مالك "ج1" 403، 504. يرح بل "ج6" 318. يرعش بن أب يشع "ج2" 132، 135، 168. يرعش أبو كرب "ج2" 539. يرفأ "ج2" 189. يرم أيمن "يريم أيمن" "ج1" 101. "ج2" 150، 329، 334، 335، 340، 341، 349، 350، 355، 358، 361، 363، 364، 367، 372، 386، 387، 389، 421، 537. يرم نمرن "ج2" 332. يرم يهرحب "ج2" 557، 569. يزدجرد بن بهرام "ج6" حا 610، 614، 630. يزدجرد بن سابور "ج2" 458، 646. "ج3" 186، 205، 209، 311. يزن "ج4" 417. يزيد بن أبي حارثة "ج4" 380. "ج6" حا 417. يزيد بن أبي حبيب "ج1" 109. يزيد بن أبي سفيان "ج8" 119، 129. "ج9" 891. يزيد بن أنس "ج5" 408. يزيد بن أياس النهشلي "ج3" 201. يزيد بن بكر "ج4" 516. يزيد بن ثروان "ج6" 820. يزيد بن جعونة "ج4" 671. يزيد بن حذيفة "ج4" 492. يزيد بن حرب "ج4" 458. يزيد بن الحكم "ج8" 313. "ج9" 356. يزيد بن حمار السكوني "ج3" 296. يزيد بن خبة "ج9" 826. يزيد بن خذاق "ج3" 246، 282.

"ج9" 692. يزيد بن ربيعة "ج1" 505. "ج9" 369، 379. يزيد بن زمعه "ج4" 104. "ج5" 248. يزيد بن سعد "ج6" حا 284. يزيد بن سنان "ج5" 396. "ج9" 106. يزيد بن شرحبيل الكندي "ج3" 227، 351، 499. يزيد بن شن "ج4" 484. يزيد بن الصعق "ج3" 277، 278. "ج4" 593. "ج5" 374، 632. "ج8" 343. "ج9" 106. يزيد بن صهر "ج9" 573. يزيد بن ضبة "ج9" 826. يزيد بن الطفيل "ج8" 125. يزيد بن عبد المدان "ج3" 536، 537. "ج4" 189. "ج5" 352. يزيد بن عبد الملك "ج9" 309. يزيد بن عبيد "ج5" 573، 633 يزيد بن عمرو الغساني "ج3" 211، 213، 214، 247، 276، 384، 438. "ج4" 521. "ج6" 763. "ج9" 565، 901. يزيد بن قنان الحارثي "ج5" 397. يزيد بن كبشة "ج3" 484، 486، 488. "ج5" 352. يزيد بن مالك "ج4" 195. يزيد بن المحجل "ج3" 537. "ج4" 189. "ج6" 88. "ج7" 479. "ج8" 130. يزيد بن مهر الشيباني "ج3" 296. "ج5" 265. يزيد بن معاوية "ج1" 309، 371، 372، 484، 495، 505. "ج3" 369. "ج4" 234، 239، 240، 419، 422. "ج8" 360. "ج9" 246. يزيد بن المفرغ "ج1" 506. يزيد بن المهلب "ج8" 778. "ج9" 54. يزيد بن ناجية "ج9" 399. يزيد بن النعمان الحميري "ج4" 182، 183. يزيد بن هوبر "ج5" 352. اليزيدي "ج8" 193. يسار "ج4" 121، 517. "ج6" 603، 604. "ج8" 297. "ج9" 859. يستنيانوس "ج2" 657. يسرة بنت غالب "ج4" 480. يسطين "ج3" 491. يسمع آل "ج2" 87. "ج6" 17. اليشاع "ج6" 597. يشباق "ج1" 446. يشجب بن يعرب "ج1" 92، 358، 359، 363، 365، 381، 437. "ج2" 258. "ج4" 434. "ج8" 537. يشرح آل "ج2" 54، 55، 133، 395.

"ج6" 17. يشرح يحضب "ج1" 428. يشكر بن بكر "ج1" 408. يشمئيل "يشمعيل" "ج1" 433، 436. "ج3" 16. يشوعه بن ليفي "ج1" 658. يصبح "ج2" 463، 464. يصبر "ج3" 478. يصحاك "ج1" 497. يصدق آل فرعم "ج2" 499، 502. يطاع "ج2" 355، 356. يطور "ج1" 375، 434، 462. "ج2" 623. يطيعة "ج1" 588. يعتق ذو خولان "ج2" 295. يعجف "ج2" 535. يعذر أيل "ج6" 313. يعرب بن قحطان "المزدغف" "ج1" 14، 15، 34، 92، 358، 360، 362، 364، 378، 382، 437، 488، 490، 506. "ج4" 202، 274، 276. "ج5" 216، 223. "ج8" 544، 546. "ج9" 424، 737. اليعزوز "ج2" 24. يعفر "ج1" 358، 373. "ج2" 532. يعقوب بن إسحاق "ج1" 410، 497، 498. "ج6" حا 385، حا 407. "ج7" 454. يعقوب بن السكيت "ج3" 352، 356، 362. "ج9" 126، 338. يعقوب أوجين "ج3" حا 12. يعقوب البرادعي "ج3" 409، 413. "ج6" 626، 631. يعقوب بكر "ج7" 250. يعقوب الرهاوي "ج3" 465. "ج8" 191. "ج9" 48. يعقوب السروجي "ج3" 465، 466. اليعقوبي "ج1" حا 454، حا 470، حا 493. "ج2" حا 264، 265، حا 642، حا 650. "ج3" حا 158، 164، 177، 180، 182، 195، 197، 207، حا 241، حا 251، حا 258، حا 260، حا 265، 266، حا 275، حا 302، حا 309، 319، حا 320، حا 327، حا 342، حا 344، حا 353، 366، 367، حا 398، 399، 436. "ج4" حا 31، حا 45، 46، حا 58، حا 60، حا 64، حا 70، حا 74، حا 76، حا 83، حا 87، 88، حا 90، حا 116، 266، 227، 232، 369، 381، 386. "ج5" حا 83، حا 128، حا 156، 157، 160، 161، 350، 351، حا 503، 505، حا 520، 638، 640. "ج6" حا 40، حا 86، حا 88، حا 91، حا 222، 223، حا 240، حا 246، 252، 258، حا 264، حا 266، حا 270، 273، 274، حا 278، حا 281، حا 288، ح337، 345،

346، 355، 357، 372، 373، 376، 377، 379، 438، حا 488، حا 501، حا 514، حا 590، 591، حا 593، 606، 607، 685. "ج7" 369، 370، حا 373، حا 375، 376، حا 378، حا 384. "ج8" 135، حا 165، حا 296، حا 334، 441، 460، 498، 499، 509، 522، حا 606، حا 754. "ج9" 77، حا 797. يعكرن "ج2" 482. يعلى بن غالب "ج1" 369. يعلى بن منبه "ج4" 388. يعمر بن الشداخ "ج5" 637. يعمر بن عوف الشداخ الكناني "ج5" 504، 598، 638، 648 يعمر أشوع "ج2" 554، 556. اليعمور بن ميسرة العبني "ج4" 228. يعيش بن ويزك "ج6" 603، 604. يغنم بن ربيعة "ج1" 368، 369. يغوث "ج1" 358، 373. يفرعم "يفرع" "ج2" 393. اليفع يثع "ج2" 79، 83، 85، 86، 101، 104، 105، 124، 125، 127. اليفع ريام "ج2" 86، 100، 101، 104، 124، 126، 127، 138، 139، 168. اليفع صدق "ج2" 126. اليفع وقه "ج2" 82، 84، 102، 104، 125، 127. اليفع يشر "ج2" 96، 97، 102، 103، 125، 126، 128، 207، 208. اليفع يشر الثاني "ج2" 103، 126. اليفع يفش "ج2" 95، 96، 100، 102، 104، 124، 128 يفعان "ج2" 97، 119. يقشان بن إبراهيم "ج1" 382، 429، 446، 447، 450، 451، 457. "ج2" 120، 261. قطان بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام "يقطن" "ج1" 295، 314، 343، 354، 356، 360، 361، 422، 424، 425، 427، 429، 433، 448، 460، 468، 482، 630، 638. "ج2" 130. "ج4" 13. يقظة بن مرة "ج4" 480، 481. يكرب ملك وتر "ج2" 286، 300، 303، 314، 318، 319، 347، 349، 351. يكرب ملك يدع أيل بين "ج2" 407. اليكسوم "ج4" 478. يكسوم بن أبرهة "ج3" 504، 505، 522، 524، 525، 529. يكفور "ج1" 448. يكلي الكبرى "ج1" 92. يلجب "ج3" 478. يمام "ج4" 657. يمامة "ج1" 338. "ج4" 216، 657. يمحش المحاش "ج4" 380. يمن بن قحطان "ج1" 92، 358 "ج2" 531. "ج4" 476، 536. يمن بن قيدار "ج2" 531. ينسن "ج1" 561. ينعم "ج2" 152، 465. يهأمن يهرحب "ج2" 325، 343،

409، 459. يهر "ج2" 119. يهرجب "ج2" 194، 343. يهعان ذبيان بن إسماعيل "ج2" 410، 411، 414. يهقم "ج2" 476، 478، 482، 496. يهنعم "ج2" 476. اليهو "ج1" 596. يهوحاز "ج1" 642. يهودا بن قريش "ج8" 526. يهوذا بن يعقوب "ج1" حا 53، 349، 640، 641. "ج2" 39. "ج6" 55، 517. يهوذا المكابي "ج1" 649. "ج3" 23، 27، 30، 33، 35، 38، 43، 45، 62، 67، 110، 118. "ج4" 314، 315. يهورام "ج1" 459، 642. يهوشافاط "ج1" 640، 642. يوباب "ج1" 341، 424، 431 يوتاب "ج3" 397. يوحنا "البطريارك" "ج8" 769. يوحنا الأفسي "ج1" 63، 64. "ج3" 23، 24، 129، 130، 157، 219، 254، 257، 259، 384، 463، 469، 474، 493. "ج4" 122، 176. "ج6" 584، 597. يوحنا بسالطس "ج3" 465. يوحنا بن رؤبة "ج4" 249. "ج6" 601، 605، 681. يوحنا بولند "ج3" 466، 469. يوحنا البيزنطي "ج3" 134. يوحنا الدمشقي "ج6" 493. يوحنا المعمدان "ج3" 412. يوحنا مكابيوس "ج3" حا 24، 67. يوحنان "ج1" 54. "ج3" 110. يودوكسوس "ج2" 26. يوسابيوس القيصري "ج1" حا 62. يوسانوس "ج2" 642. "ج3" 108. يوسطنيانوس "يوسطنيوس، يوسطنيان" "ج1" 63، 387. "ج2" 657. "ج3" 128، 130، 134، 135، 219، 222، 227، 254، 343، 372، 383، 384، 386، 405، 407، 409، 411، 413، 415، 462، 464، 466، 472، 491، 492، 506، 519. "ج4" 162، 166، 171، 175، 176، 539. "ج5" 199. يوسف بن ذي نواس "ج2" 592 "ج3" 458. يوسف بن سعد "ج9" 699. يوسف بن شراحيل "ج3" 458. يوسف بن عمر الثقفي "ج9" 309، 344. يوسف بن يعقوب "ج2" 362. "ج4" 314، 462. "ج6" 532، 563، 573، 597 يوسف أسأر "ج2" 590، 593، 595، 597. "ج3" 379، 380. يوسف البستاني "ج6" حا 625. يوسف خليف "ج9" حا 608. يوسف رزق الله غنيمة "ج3" حا 155. يوسف سابيتو "ج3" 467، 470 يوسف العش "ج8" حا 265.

يوسف الكيلاني "ج5" حا 288. يوسف النجار "ج6" 635. يوسفوس فلافيوس "يوسف" "ج1" 55، 420، 441، 455، 456، 604، 651. "ج2" 263. "ج3" 6، 9، 14، 16، 24، 26، 31، 34، 39، 43، 78. "ج4" 654. "ج6" 514. يوشع بن نون "ج4" 264. "ج6" 529. يوشع العمودي "ج3" 340. يوليادومنا "ج2" 67. "ج3" 63، 64. يولياميا "ج2" 67، 68. يوليانوس "ج3" 173، 383، 397. "ج4" 171. يوليوس أوريليوس "ج3" 89، 101، 109، 134. يوليوس أويتنك "ج1" 132. "ج2" 241. يوليوس قيصر "ج1" 58، 64، 650. "ج2" 40، 42، 43. "ج3" 35. يوناتان "ج1" 650، 651. "ج3" 23، 24. يونادب "ج6" 525. يونان "ج1" 498، 499. "ج6" 171. يونس بن حبيب "ج1" 488. "ج7" 63. "ج8" 360، 565، 588، 590، 767. "ج9" 53، 56، 221، 222، 230، 233، 236، 266، 303، 304، 314، 317، 327، 362، 430، 848. يونس بن متى "ج1" 317. "ج9" 268. يونس النحوي "ج9" 680. يوهان فك "ج4" حا 277. "ج8" حا 547، 549. "ج9" حا 21، حا 57، حا 219

فهرس الأمم والشعوب والقبائل والجماعات

فهرس الأمم والشعوب والقبائل والجماعات: الألف: أأذنان "بنو" "ج2" 460. أباديدي "العباديون" "قوم" "ج1" 585، 587. "ج3" 171. أباس "عشيرة" "ج2" 462. الأباطرة "ج4" 166. أبل "آل" "ج8" 674. الأبناء "بعو" "ج4" 206. أبي بكرة "آل" "ج8" 383. أبيداع "ج1" 586. أبيمائيل "شعب" "ج1" 429. الأبيونيون "ج6" 634، 635. أتالي قبيلة "ج2" 607. الأتراك "ج1" 32، 117، 187، 270، 499. أثابر "ج1" 295. الأثفية "قبيلة" "ج4" 334. الأثينيون "ج2" 32. الأجارب "بنو" "ج4" 338. أجازم "ج1" 545. الأجاعزة "ج3" 480. أجرم "قبيلة" "ج2" 221. "ج4" 444. أجلن "قبيلة" "ج2" 221. الأحابيش "ج3" 380. "ج4" 21، 30، 36، 45، 64، 84، 101، 118، 119، 337، 381، 386، 478، 533 "ج5" 303، 382، 407، 454 "ج6" 459، 606. "ج7" 377. الأحاليف "ج6" 11. الأجامرة "بنو" "ج4" 557. الأحباش "ج1" 50، 235، 237 "ج2" 173، حا 263، 377، 426، 428، 539، 569، 585، 591، 594، 597، 647، 659. "ج3" 379، 380، 453، 459، 467، 468، 471، 472، 476، 480، 485، 488، 494، 506، 517، 538 "ج4" 81، 628. "ج5" 245، 362، 415. "ج6" 21، 297، 538، 591، 613، 616، 619، 620، 690، 691. "ج7" 281، 282، 285، 589. "ج8" 215، 216، 620، 674. الأحرار "بنو" "ج3" 528. "ج4" 557. الأحراس "بنو" "ج2" 592. الأحلاف "بنو" "ج3" 166، 171.

الأحماس "بنو" "ج6" 364، 370. الأحمر "بنو" "ج9" 657. أحمس "بنو" "ج4" 446. "ج6" 272، 342. الأحمور "بنو" "ج7" 462. الأحناف "بنو" "ج6" 339، 342، 449، 451، 452، 455، 457، 460، 475، 476، 495، 602، 644، 674، 680. "ج7" 124. "ج8" 108، 114، 141، 309، 319، 324، 348، 482، 761، 776. "ج9" 77، 702، 703. الأخابث "جماعة" "ج4" 195، 196. الأخزم "ج4" 452، 453. الأخمينيون "ج1" 572، 620، 626، 627. أدب أيلة "قبيلة" "ج1" 441. الأدبر "بنو" "ج2" 117. أدد "قبيلة" "ج1" 474. "ج6" 56، 281. الأدرم "ج1" 400. "ج4" 27، 29. آدم "آل" "ج3" 148. أدمهمى "قبيلة" "ج2" 468. الأدوم "طبقة" "ج4" 552، 554. "ج6" 265، 286، 288، 332، 524. الأدوميون "ج1" 142، 437، 497، 590، 604، 651. "ج2" 40. "ج3" 39، 53. "ج6" 332. "ج7" 197. أديني "بيت" "ج4" 314. الأذواء "بنو" "ج4" 324، 417 أراش "بنو" "ج4" 107. الأراقم "بنو" "ج4" 337. الآرام "بنو" "ج1" 645. "ج4" 306. الأراميون "ج1" 292، 412، 420، 443، 652. "ج2" 145، 617. "ج3" 137. "ج4" 360. "ج6" 402. "ج8" 180، 182، 310، 679 "ج9" 48، 436. أربى "جماعة" "ج5" 282. أربعن "قبيلة" "ج2" 318، 321، 322، 406، 407. الأرث "ج4" 459. أرتوسه "جالية" "ج2" 30. الأرحاء "قبائل" "ج1" 25. أرحب "قبيلة" "ج4" 449. "ج7" 112، 462. الأرحبية "قبائل" "ج4" 186. الأرحبيون "قوم" "ج2" 594. "ج3" 459، 475. الأردوانيون "ج3" 161، 167، 168. أرشك "بني" "ج3" 133. الأرشكيون "قوم" "ج3" 86، 133. أرفث "قبيلة" "ج2" 393. أرفدة "بنو" "ج5" 105، 122. أرفط "بنو" "ج2" 392. الأرقم "قبيلة" "ج1" 521. أرم "بنو" "ج1" 26، 31، 309، 314، 352، 420، 437، 461، 508، 590، 613، 621، 652. "ج2" 10، 90، 145، 605، 609، 610، 617، 623، 624.

"ج3" 5، 7، 10، 12، 137، 144، 155، 166، 167، 171، 172، 538. "ج4" 290، 426. "ج5" 10، 40، 114، 158، 212، 304، 305، 451، 464، 572. "ج6" 7، 11، 72، 112، 117، 219، 269، 310، 312، 374، 385، 398، 401، 402، 454، 503، 509، 528، 532، 556، 558، 566، 599، 600، 636، 659، 673، 674، 677، 688، 690، 692، 757، 774. "ج7" 61، 109، 117، 203، 250، 374، 475، 476، 613، 615، 625، 628، 633 "ج8" 63، 108، 112، 151، 153، 156، 167، 168، 173، 200، 243، 245، 274، 295، 298، 308، 309، 316، 319، 336، 342، 528، 533، 589، 704، 711، 714، 716، 718، 723، 725. "ج9" 157، 214، 274، 291، 395، 427، 496، 579، 686، 692. الأرمانيون "ج1" 397، 548. "ج3" 167. الأرمن "شعب" "ج3" 122. "ج6" 632. الأرميون "ج1" 22، 165، 303، 574، 575. "ج2" 621. "ج3" 10، 12، 13. أريام "قبيلة" "ج2" 322. الأرية "شعب" "ج1" 257. "ج8" 746. الأريسيون "ج6" 637. الأريون "ج1" 239، 259. "ج6" 19. "ج9" 124، 206. الأزارقة "ج6" 607. أزان "بنو" "ج2" 596. الأزد "ج1" 81، 174، 314، 359، 367، 374، 390، 391، 484، 488، حا 489، 491، 495، 499، 504، 512، 516، 517، 547، 548. "ج3" 162، 166، 167، 170، 177، 229، 363، 365، 375، 387، 391، 435. "ج4" 29، 38، 41، 128، 129، 146، 184، 185، 193، 201، 202، 204، 205، 226، 227، 232، 329، 339، 417، 433، 443، 445، 450، 471، 485، 504، 505، 507، 510، 517. "ج5" 265، 266، 395، 645. "ج6" 214، 246، 248، 270، 277، 280، 286، 288، 357، 363، 376، 775 "ج7" 141. "ج8" 133، 573، 579، 591، 600، 637، 640، 643، 673. "ج9" 348، 398، 430، 432، 435، 488، 502،

638، 743، 771. أزد السراة "ج8" 581. أزد شنوءة "قبيلة" "ج8" 387، 579، 603. أزد عمان "بنو" "ج8" 669، 688. الأزرق "ج1" 295، 346. "ج6" 517. أزواد الركب "طبقة" "ج9" 700. أساف "بنو" "ج6" 18، 192. الأساورة "جماعة" "ج3" 499. "ج4" 207، 557. الأسبذيين "ج4" 203. "ج6" 61، 694. الأسبع "ج4" 250. إسترالية "شعوب" "ج5" 98. "ج6" 410. إستينوي "قبيلة" "ج3" 349. أسد "قبيلة" "ج1" 384، 389، 396، 399، 401، 512، 521 "ج2" 149، 151، 156، 393، 394، 548، 551، 593. "ج3" 172، 191، 192، 194، 212، 236، 318، 319، 331، 334، 336، 347، 352، 361، 368، 371، 401، 423، 435. "ج4" 16، 26، 29، 58، 62، 88، 91، 92، 100، 112، 176، 183، 201، 204، 208، 221، 222، 225، 226، 253، 301، 308، 329، 338، 347، 375، 378، 386، 400، 424، 450، 452، 453، 462، 482، 488، 509، 510، 520، 524، 527، 534، 539، 675. "ج5" 91، 248، 269، 270، 320، 353، 354، 361، 363، 372، 373، 376، 378، 397، 423، 647. "ج6" 167، 195، 223، 272، 280، 357، 376، 389، 477، 763، 775. "ج7" 150، 192، 305، 320، 337، 370، 444، 516 "ج8" 127، 130، 503، 567، 570، 573، 575، 578، 584، 585، 587، 588، 605، 618، 630، 632، 656، 668، 688، 690، 742، 746، 767. "ج9" 31، 32، 75، 80، 204، 295، 303، 402، 407، 426، 427، 430، 433، 435، 441، 475، 478، 479، 487، 523، 530، 546، 594، 597، 599، 754، 847، 866، 867، 898، 899. أسد القيون "بنو" "ج7" 556. إسرائيل "بنو" "ج1" حا 53، 84، 301، 316، 347، 376، 392، 411، 435، 436، 455، 467، 468، 500، 574، 575، 609، 630، 640، 642. "ج2" 179. "ج3" 60، 61، 77، 78، 161. "ج4" 469. "ج5" 310، 555. "ج6" 38، 119، 145، 306، 442، 512، 517،

529، 537، 544، 545، 548، 556، 560، 561، 564، 566، 567، 573، 575، 582، 656، 684. "ج7" 233. "ج8" 203، 314، 345، 421، 481، 505. "ج9" 127. الإسرائيلية "قبائل" "ج6" 284. الإسرائيليون "ج1" 205، 262، 434، 467، 468، 498، 499، 573، 574، 630، 641، 654. "ج2" 123. "ج3" 61، 66، 110، 111، 118. "ج4" 129. "ج5" 66. "ج6" 43، 261، 616. "ج7" 233. الأسعد "بنو" "ج4" 450، 451 الإسلاميون "ج1" 33، 107، 116، 118، 158، 167، 293، 320، 449، 469، 474، 476، 507، 579. "ج2" حا 153، 402، 421، 531. "ج3" 156، 158، 164، 165، 193، 459، 468، 520 "ج4" 600، 646. "ج5" 164، 341، 430. "ج6" 16، 35، 115، 151، 451، 551، 553، 583، 739، 785. "ج7" 272، 331، 472، 534، 616. "ج8" 154، 222، 265، 323، 371، 417، 430، 734 "ج9" 55، 62، 73، 81، 98، 102، 106، 140، 142، 160، 163، 188، 210، 255، 270، 305، 340، 349، 677، 846، 866. أسلم "بنو" "ج4" 431، 531. "ج5" 641. إسماعيل "قبيلة" "ج1" 155. "ج3" 166. "ج8" 537، 539. الإسماعيلية "ج1" 437، 441، 445، 446، 450، 580، 581، 584. "ج4" 654. الإسماعيليون "الأشماعيليون" "ج1" 20، 27، 29، 143، 252، 347، 375، 410، 412، 423، 434، 437، 445، 446، 454، 456، 461، 462، 468، 482، 502، 597، 634، 658. "ج2" 623. "ج4" 467، 537. "ج6" 442. "ج8" 638، 673. أسيد "بنو" "ج6" 91، 92. "ج8" 126. الآسيوية "شعوب" "ج4" 408. الآسيويون "ج1" 239. الأشاقر "بنو" "ج4" 442. أشجع "بنو" "ج4" 252، 253، 510. "ج5" 144، 363. "ج9" 398، 905. أشدود "بنو" "ج1" 643. الأشدوديون "ج1" 646. أشعب "قبائل" "ج2" 429.

الأشعر "بنو" "ج2" 61، 368، 380، 596. "ج4" 449، 450. "ج8" 603. "ج9" 435. الأشعريون "ج1" 364، 516. "ج2" 61، 380. "ج3" 511، 519. "ج4" 192، 195، 196، 449، 459. "ج6" 286، 377. "ج8" 674. "ج9" 24. الأشكانيون "قوم" "ج2" 612، 617، 620. أشهل "بنو" "ج4" 443. الأشوريون "ج1" 16، 18، 20، 22، 31، 35، 135، 165، 197، 205، 324، 326، 385، 418، 442، 443، 457، 543، 546، 547، 549، 568، 569، 575، 576، 578، 580، 582، 585، 587، 594، 600، 601، 604، 606، 609، 610، 612، 618، 645، 650. "ج2" 31، 123، 278، 279، 600، 601، 622، 640. "ج3" 16، 139، 171. "ج4" 274، 620. "ج5" 180، 189، 205، 230، 296، 310، 399، 445، 631. "ج6" 63، 64، 220، 290، 302، 311، 410، 744. "ج7" 15، 233، 234، 236، 618. "ج8" 22، 432. أشيب "قبيل" "ج2" 393. الأصابح "بنو" "ج3" 483. الأصفر "بنو" "ج2" 527، 534. أصمع "بنو" "ج1" 404. "ج4" 514. الأضبط "بنو" "ج7" 513. أظلم "قبيلة" "ج2" 556. "ج3" 317. الأعاريب "ج7" 72. أعجب "بنو" "ج4" 240. الأعراب "ج1" 14، 19، 21، 23، 25، 30، 31، 35، 120، 130، 131، 145، 150، 161، 169، 177، 183، 184، 204، 219، 219، 251، 261، 262، 277، 283، 285، 286، 288، 290، 301، 339، 343، 347، 385، 386، 389، 400، 436، 439، 461، 462، 467، 471، 485، 486، 493، 544، 546، 547، 549، 552، 574، 577، 578، 586، 587، 590، 592، 594، 596، 602، 603، 606، 608، 610، 613، 616، 618، 621، 622، 629، 630، 632، 634، 637، 642، 645، 648، 652، 656، 657، 659، 661. "ج2" 160، 229، 381، 523، 550، 552، 600، 602، 603، 605، 607، 608، 613، 627، 630، 640، 641، 646، 652، 653، 658. "ج3" 30، 37، 82، 84،

113، 129، 139، 142، 147، 149، 152، 222، 269، 301، 317، 340، 341، 379، 384، 396، 408، 415، 423، 492. "ج4" 15، 28، 35، 36، 39، 68، 71، 85، 117، 148، 151، 163، 164، 171، 174، 187، 202، 231، 236، 243، 260، 269، 273، 274، 277، 278، 280، 282، 287، 291، 294، 296، 298، 302، 304، 305، 327، 328، 345، 365، 377، 393، 397، 545، 554، 569، 570، 624، 628، 660. "ج5" 6، 30، 54، 58، 60، 65، 105، 132، 171، 178، 184، 199، 244، 297، 307، 324، 333، 334، 339، 340، 404، 410، 413، 421، 472، 506، 507، 556، 569، 584، 617، 631. "ج6" 28، 30، 62، 64، 75، 84، 85، 177، 191، 198، 290، 324، 325، 354، 399، 409، 415، 516، 526، 529، 531، 534، 536، 588، 589، 606، 625، 626، 631، 633، 652، 665، 706، 711، 715، 716، 718، 723، 736، 749، 751، 817. "ج7" 12، 14، 16، 18، 20، 21، 23، 26، 31، 44، 58، 64، 67، 71، 101، 107، 109، 110، 112، 113، 116، 130، 132، 135، 137، 140، 158، 171، 177، 287، 289، 301، 306، 328، 337، 347، 361، 370، 373، 374، 381، 393، 395، 396، 400، 414، 419، 447، 458، 485، 506، 508، 521، 538، 543، 551، 554، 573، 574، 583، 584، 598، 600، 614، 618. "ج8" 10، 29، 30، 61، 84، 85، 107، 113، 188، 303، 355، 358، 359، 368، 389، 392، 393، 405، 409، 412، 414، 476، 512، 520، 523، 534، 541، 544، 546، 549، 551، 561، 566، 568، 569، 575، 627، 628، 644، 649، 658، 661، 665، 679، 681، 684، 690، 701، 746، 769 "ج9" 31، 63، 81، 82، 87، 117، 127، 157، 166، 215، 218، 220، 222، 259، 271، 275، 281، 292، 295، 297، 304، 323، 362، 370، 389، 399، 400، 429، 431، 433، 436، 529، 605، 619، 655، 659، 683، 691، 734، 792، 794، 808، 840، 842، 844.

الأعرج "بنو" "ج5" 144. الأغريق "ج1" 141. "ج2" 11، 12، 25، 625. "ج3" 67. "ج4" 360. "ج5" 607. "ج6" 716. "ج9" 291. الأفارقة "قوم" "ج3" 449. أفرك "بنو" "ج1" 374. الإفرنج "قوم" "ج2" 533. الأفريقية "شعوب" "ج1" 297، 429، 431. "ج5" 542. "ج6" 410. الأفريقيون "ج1" 183، 219، 228، 237، 418، 481. "ج2" 25. "ج3" 452. "ج4" 629. "ج7" 468. "ج8" 421. الأقباط "ج4" 122. "ج6" 632. أقطاعيون "طبقة" "ج4" 547. "ج5" 230، 232، 233، 245، 258، 263، 264، 278، 415. "ج7" 25، 156. الأقطانيون "ج4" 400. أقيش "بنو" "ج6" 421. الأكاديون "ج1" 543، 553، 555، 560، 568، 569. "ج2" 31. أكاروم "قبيلة" "ج1" 545. الأكاسرة "ج1" حا 17. "ج2" 632. "ج3" 186، 306. "ج4" 70، 471، 500. "ج5" 54، 207، 213، 261، 306، 471، 629. "ج6" 691. "ج7" 604. "ج8" 108، 727. الأكال "طبقة" "ج3" 199. أكانط "قبيلة" "ج2" 570. الأكراد "شعوب" "ج1" 447، 498. "ج7" 608. أكسمن "جماعة" "ج2" 427. الأكسوميون "ج2" 60، 377، 378. "ج3" 455. آكل المرار "بنو" "ج3" 340، 344، 348، 355، 357، 369، 381. "ج5" 200، 233، 269، 284، 350. "ج7" 377. أكلب "بنو" "ج4" 482. أكيته "بنو" "ج4" 504 أكيتو "بيت" "ج1" 589. الألمان "ج1" 230، 257. "ج3" 113. "ج6" 9. "ج9" 127. ألمع "بنو" "ج4" 438، 442. الهان "بنو" "ج2" 413. "ج4" 45، 433. "ج6" 376. ألين "آل" "ج2" 561. أمامة "بنو" "ج6" 270. أمرم "بنو" "ج2" 556. الأمغر "بنو" "ج4" 191. أملكت "قبيلة" "ج3" 148. الأملوك "بنو" "ج4" 416. "ج5" 583. الأموريون "ج1" 229، 238. "ج3" 66.

الأمويون "ج1" 115، 251، 313، 395، 495، 508. "ج2" 104. "ج4" 32، 240، 420، 462، 536. "ج9" 246، 247، 251، 265، 286، 287، 290، 291، 339، 342، 345، 370، 373، 381، 382، حا 399، 420، 452، 796، 840 أمي "جماعة" "ج4" 553، 554. أمية "بنو" "ج1" 113، 398، 491، 509. "ج4" 91، 112، 136، 318، 366، 572. "ج5" 250. "ج6" 350، 765، 767. "ج7" 341، 346. "ج8" 118، 303، 400، 498، 632، 647، 648، 660، 760. "ج9" 167، 177، 246، 251، 257، 281، 309، 313، 319، 320، 322، 374، 510، 716، 717، 866. الأميركان "ج1" 133. الأميركي "الشعب" "ج4" 317. أميم "ج1" 340، 342. الأنباط "ج1" 55، 56، 125، 166، 167. "ج3" 11، 16، 52، 385. "ج7" 313. أنبر "آل" "ج2" 460. أنس "بنو" "ج4" 425. "ج6" 714، 715، 728، 730، 751. "ج8" 781. الأنصار "ج1" 111، 168، 384، 483، 485، 490، 493، 504، 505. "ج4" 202، 362، 365، 370، 386، 397، حا 436، 599، 563، 604. "ج5" 69، 86، 142، 199، 266، 520، 566، 595، 607 "ج6" 68، 246، 357، 380، 382، 459، 460، 509، 515، 547، 759. "ج7" 42، 309، 310، 312، 314، 338، 460. "ج8" 128، 135، 136، 292، 293، 433، 468، 573، 601، 607، 609، 641، 654، 659، 684. "ج9" 106، 202، 246، 253، 305، 307، 337، 341، 344، 347، 361، 375، 380، 381، 385، 655، 695، 727، 728، 731، 738، 740، 743، 746، 751. الأنطاكيون "قوم" "ج3" 119. أنعاقة "بنو" "ج1" 521. الأنعم "بنو" "ج4" 450. "ج6" 62، 214. أنف الناقة "قبيلة" "ج1" 403. "ج9" 860. الانكليز "ج1" 183. "ج2" 32. "ج8" 446. أنمار "قبيلة" "ج1" 394، 397، 505، 516. "ج4" 328، 329، 442. "ج5" 639. "ج8" 386، 603، 673.

أنموتا "بنو" "ج1" 448. أنيف "بنو" "ج4" 129. الأهتم "آل" "ج9" 885. أهرب "قبيلة" "ج2" 220. أهلني "عشيرة" "ج2" 462. أهود "بنو" "ج4" 423. أود "بنو" "ج8" 353، 387. الأوروبية "شعوب" "ج8" 152. والأوروبيون "ج1" 43، 130، 257، 265، 467. "ج2" 7، 74. "ج4" 169، 179. "ج6" 284. "ج8" 346. الأوزاع "بنو" "ج4" 416. أوس "بنو" "ج1" 314، 374، 438، 475، 476، 484، 521. "ج2" 515، 578. "ج3" 390، 391. "ج4" 129، 130، 132، 141، 151، 247، 264، 314، 329، 340، 367، 368، 383، 386، 431، 432، 436، 437، 442، 598. "ج5" 18، 180، 209، 251، 252، 311، 344، 355، 451، 536، 566. "ج6" 239، 247، 248، 279، 330، 363، 389، 459، 510، 514، 517، 519، 521، 523، 532، 533، 536، 537، 543، 547، 548، 580، 603، 611، 821. "ج7" 33، 41، 314، 338. "ج8" 36، 114، 135، 160، 295، 365، 603، 633، 634. "ج9" 14، 75، 380، 385، 429، 432، 435، 441، 518، 654، 655، 694، 713، 719، 723، 725، 728، 731، 752، 782، 785 الأوسانيون "ج2" 187، 498، 500، 502، 505. "ج3" 450. "ج6" 176. الأوطاخيون "بنو" "ج6" حا 632. أوكاروس "قبيلة" "ج3" 349. أوم "عشيرة" "ج2" 462. إياد "قبيلة" "ج1" 394، 397، 438، 469، 472، 505، 507، 515، 516، 547. "ج2" 636، 644، 645، 650، 651. "ج3" 162، 180، 181، 197، 229، 250، 295، 302، 303، 335، 339، 344. "ج4" 54، 146، 148، 204، 206، 231، 233، 241، 321، 328، 330، 334، 336، 339، 470، 475، 475، 501، 578، 632. "ج5" 367، 374، 639، 647، 648، 650. "ج6" 61، 416، 417، 427، حا 464 حا 466 حا 468 حا 489، 504، 591، 594، 595، 958. "ج8" 109، 110، 140، 141، 160، 267، 296، 368، 522، 630، 646، 651، 668، 673، 767، 781، 782، 785، 790.

، 791. "ج9" 253، 399، 406، 427، 430، 432، 434، 436، 474، 569، 570، 796، 799، 803، 807، 832. الإياديون "قوم" "ج4" 473. إيدعان "عشيرة" "ج2" 462. الإيرانيون "ج1" 32. "ج2" 90. "ج6" 708، 723. "ج7" 608. الأيونيون "ج1" 621.

الباء

الباء: البابليون "ج1" 16، 18، 20، 22، 165، 231، 418، 440، 443، 557، 559، 560، 590، 592، 607، 609، 611، 613، 620، 647. "ج4" 130. "ج5" 230، 316، 399. "ج6" 19، 52، 55، 198، 220، 295، 302، 303، 311، 317، 410، 527، 709، 716، 757، 776، 782 "ج7" 622. "ج8" 22، 199، 325، 431، 463، 469، 527، 535. "ج9" 50، 124، 125، 202، 773، 774. البارثيون "ج1" 620. "ج2" 20، 40، 42، 61، 67، 626. بارق "بنو" "ج4" 442. "ج6" 357. "ج9" 501. الباشانيون "قوم" "ج3" 62. باغت "ج1" 367. باهلة "بنو" "ج1" 399، 404، 599. "ج2" 556، 560. "ج3" 317. "ج4" 195، 205، 218، 339، 445، 508، 572. "ج6" 240، 270، 272، 760 "ج8" 791. "ج9" 68، 146، 432، 447. بتع "قبيلة" "ج2" 216، 334، 336، 338، 343، 357، 388، 407، 409، 411، 413، 415، 426، 444، 445، 480، 487، 489، 492، 494، 516، 522،

545. البتعيون "قوم" "ج2" 408، 409، 415، 426. بجيلة "قبيلة" "ج1" 364، 374، حا 381، 396، 470، 516. "ج4" 185، 194، 228، 433، 445، 447، 470، 637. "ج5" 69، 408. "ج6" 270، 272، 277، 357، 377، 378. "ج9" 242، 320، 430، 615، 649. بحرم "قبيلة" "ج2" 380. البحريون "جماعة" "ج3" 487. بخ "بنو" "ج1" 368. بدا "قبائل" "ج2" 469. بدر "قبيلة" "ج4" 255، 349، 571. "ج9" 429، 814. بدش "عشيرة" "ج2" 545. بدن "قبيلة" "ج1" 512، 521. "ج3" 147. بدون "قبيلة" "ج1" 582. بديل "قبيلة" "ج1" 295، 346. البرابرة "ج1" 33. البراجم "قوم" "ج3" 251، 252. "ج4" 484. "ج8" 366، 367. "ج9" 637. البرامكة "بنو" "ج9" 219. البربر "ج1" 235. "ج8" 604. "ج9" 154. البرتغاليين "ج1" 208. "ج2" 26، 72. برصم "قبيلة" "ج2" 221. برك "قبيلة" "ج4" 219، 424. البريطاني "شعب" "ج4" 317. بشر "بنو" "ج5" 367. البصريون "قوم" "ج7" 335، 362. "ج8" 730. "ج9" 31، 214، 217، 219، 221، 222، 302، 303، 325، 327، 363، 391. البطالسة "ج2" 25، 27، 43. البطالمة "ج2" 22، 23، 25، 27، 29، 30، 34، 35، 38، 43، 64، 81، 94، 246. "ج3" 21، 450. "ج5" 406. "ج7" 236، 265، 268. "ج8" 12. بطة "بنو" "ج1" 520. بطحان "ج6" 519، 523. بطنه "ج1" 579، 582. بعجة "بنو" "ج4" 462. بعر "قبيلة" "ج3" 147. البغداديين "ج9" 166، 216، 271، 289. بغيثت "عشيرة" "ج2" 504. بغيض "بنو" "ج2" 590. "ج3" 213. "ج4" 252. بقيلة "قبيلة" "ج3" 170، 266، 288. "ج4" 225، 227، 437. بكر "ج1" 308، 469، 512، 521. "ج2" 618، 638، 639. "ج3" 206، 216، 225، 235، 250، 253، 295، 297، 323، 332، 334، 341، 362، 365، 367. "ج4" 34، 35، 43، 44، 84، 218، 222، 242، 247، 249، 341، 346،

376، 377، 382، 394، 427، 428، 441، 491، 493، 496، 502، 504، 570، 571، 626. "ج5" 347، 348، 350، 351، 355، 356، 365، 370، 374، 378، 385. "ج6" 223، 253، 282، 416 "ج8" 270، 570، 572، 577، 630، 631، 668، 688، 689، 776. "ج9" 146، 161، 180، 329، 406، 407، 426، 429، 432، 433، 455، 460، 475، 529، 530، 562، 565، 566، 617، 618، 648، 658، 668، 669، 718. البكريون "ج4" 496. "ج5" 370. بكس "قبيلة" "ج3" 148. بكيل "ج1" 373. "ج2" 193، 354، 358، 375، 399، 422، 429، 434، 439، 441، 471، 493 "ج4" 434، 448. "ج5" 232، 278، 583. "ج7" 139. بلحارث "بنو" "ج8" 578. "ج9" 16، 654، 719. البلوج "قوم" "ج1" 174. بلي "قبائل" "ج1" 169. "ج3" 50. "ج4" 129، 242، 243، 246، 248، 249، 252، 261، 263، 421، 423، 431. "ج6" 519، 525. "ج7" 480. "ج8" 603. بندر "بنو" "ج4" 571. بهثة "بنو" "ج4" 260. بهدى "بنو" "ج4" 206. بهدلة "بنو" "ج4" 592. "ج6" 518، 519، 522. "ج9" 434. بهراء "قبيلة" "ج1" 469. "ج3" 319، 344، 353. "ج4" 194، 233، 235، 242، 243، 249، 261، 334، 421، 423، 491، 499، 501، 637. "ج5" 349. "ج6" 584، 590، 593. "ج8" 630، 655. "ج9" 155، 242، 426. بوسان "قبيلة" "ج1" 221. بولان "بنو" "ج4" 454، 505، 506. "ج6" 214، 278. "ج9" 371. البولنديون "ج3" 466، 467. بياتي "آل" "ج1" 594. بياضة "بنو" "ج4" 198. بيحان "بيحن" "آل" "ج8" 514. البيزنطية "شعوب" "ج1" 248. البيزنطيون "ج1" 166. "ج2" 60، 69، 71، 421، 511، 622، 623، 626، 631، 647، 652، 653، 656، 657، 659، 660. "ج3" 58، 59، 63، 66، 85، 146، 174، 218، 341، 343، 387، 415، 416، 418، 437، 456، 492، 503

"ج4" 39، 68، 94، 116، 162، 163، 165، 170، 172، 175، 176، 178، 180، 190، 241، 243، 549 "ج5" 199، 304، 327، 415، 481. "ج6" 549، 590، 591، 594، 595، 613، 630، 631، 650. "ج7" 279، 281، 283، 628. "ج8" 290، 643. "ج9" 426، 427. بيشع بن مليح "بنو" "ج4" 478. بيض "ج1" 345. البين "قبيلة" "ج2" 221.

التاء

التاء: التبابعة "ج1" 75، 84، 86، 87، 96، 106، 117، 179، 490، 501، 504، 506. "ج2" 73، 116، 117، 264، 513، 516، 552، 569، 572، 579، 583. "ج3" 321، 322، 332، 386، 536. "ج4" 17، 113، 176، 275، 324، 346، 417، 434، 435، 493، 500، 516. "ج5" 193، 345، 355، 432 "ج6" 673. "ج8" 373، 374، 652، 656، 664، 734، 735، 738. "ج9" 377، 379، 382، 403، 452. التباعيون "ج4" 448. تبالة "قبيلة" "ج3" 363. تبرح "بنو" "ج1" 367. تبع "بنو" "ج1" 410، 498، 505. "ج2" 513، 515، 546، 578، 585. "ج3" 22، 161، 168، 263، 331، 332، 336، 337، 451، 521. "ج4" 53، 245. "ج5" 291، 311. "ج9" 154، 393، 403، 408، 439. تبني "قبيلة" "ج2" 188، 189، 194، 219، 221، 503 التدمريون "ج3" 82، 84، 86، 89، 94، 96، 100،

108، 111، 114، 117، 120، 125، 130، 138. "ج6" 55، 329. "ج7" 278. تر "بنو" "ج3" 148. التراخونيون "قوم" "ج3" 39. الترك "ج1" 263، 449، 548. "ج2" 534، 539. "ج4" حا 282، حا 307، 308. "ج5" 30. "ج6" 522. "ج7" 286. التركي "شعب" "ج4" 317. تزاد "بنو" "ج2" 385. التزيديون "ج3" 392. التغزغز "قوم" "ج7" 286. تغلب "قبيلة" "ج1" 308، 407، 469. "ج2" 618، 638، 640، 650، 651. "ج3" 225، 227، 235، 248، 250، 253، 255، 257، 278، 282، 323، 329، 334، 348، 353، 355، 362، 363، 365، 367، 411. "ج4" 206، 217، 231، 233، 242، 250، 334، 337، 341، 376، 382، 421، 423، 424، 427، 428، 457، 458، 485، 486، 488، 490، 492، 493، 496، 498، 501، 509، 525، 527، 595، 596، 622، 626. "ج5" 347، 348، 350، 351، 353، 355، 357، 368، 374، 379، 385، 392، 396، 397، 410، 436، 444. "ج6" 262، 282، 416، 590، 591، 593، 595، 599، 631، 676. "ج7" 124. "ج8" 270، 475، 581، 668، 688، 762، 769، 770. "ج9" 76، 114، 180، 348، 406، 426، 427، 432، 433، 455، 457، 459، 460، 496، 497، 509، 530، 561، 562، 564، 566، 668، 669، 807، 817، 826. التغلبيون "التغلبيين" "ج3" 249، 250، 255، 256. "ج4" 499. "ج6" 593، 632. تفلذ "بنو" "ج4" 438. تميم "ج1" 47، 388، 469، 493، 548. "ج2" 637، 638، 640. "ج3" 240، 242، 249، 252، 267، 274، 275، 277، 278، 283، 290، 298، 310، 330، 331، 334، 348، 401، 424، 425، 527. "ج4" 37، 183، 202، 210، 214، 215، 217، 218، 222، 225، 227، 282، 295، 316، 318، 333، 334، 337، 338، 340، 341، 380، 397، 452، 485، 486، 500، 504، 520، 523، 529

535، 544، 570، 572، 585، 586، 591، 594، 675. "ج5" 39، 66، 90، 92، 96، 129، 151، 176، 189، 265، 285، 344، 351، 353، 355، 359، 365، 378، 386، 389، 393، 437، 445، 544، 608، 632، 637، 640، 644، 653، 654. "ج6" 18، 56، 57، 92، 250، 256، 262، 268، 281، 282، 315، 318، 357، 376، 378، 382، 387، 488، 506، 584، 621، 660، 693، 714، 822 "ج7" 40، 44، 283، 305، 306، 320، 336، 373، 374، 378، 379، 384، 580 "ج8" 126، 135، 315، 326، 327، 344، 349، 353، 366، 378، 475، 476، 556، 569، 572، 574، 575، 577، 584، 586، 588، 600، 603، 605، 618، 630، 633، 641، 655، 656، 658، 660، 668، 682، 688، 690، 776، 779، 781. "ج9" 16، 31، 32، 57، 68، 111، 113، 115، 242، 295، 420، 423، 424، 426، 427، 432، 436، 462، 427، 432، 436، 462، 464، 465، 469، 472، 473، 481، 647، 648، 658، 679، 684، 693، 739، 747، 793، 842، 845، 883، 884، 886، 889، 895، 903. التميميون "قوم" "ج8" 603. "ج9" 739. تنوخ "ج1" 366، 367، 507، 512، 517، 548. "ج2" 550، 552. "ج3" 166، 169، 171، 177، 184، 194، 198، 260، 297. "ج4" 232، 235، 239، 241، 242، 261، 281، 316، 325، 329، 340، 374، 375، 386، 421، 424، حا 426، 438، 499. "ج6" 590، 591، 593، 598، 599، 647. "ج8" 175، 475، 769. "ج9" 242، 426، 435، 804 التوايهة "عشيرة" "ج3" 51. تيم "قبيلة" "ج1" 579. "ج2" 649. "ج3" 148، 369، 372. "ج4" 58، 61، 62، 84، 86، 87، 91، 99، 101، 112، 335، 378، 386، 406، 425، 450، 451، 493، 513، 571، 580. "ج5" 248، 347، 368، 437 "ج7" 192. "ج8" 334، 602. "ج9" 432، 482، 793. تيم اللات "بنو" "ج8" 332، 386.

تيماء "ج1" 295، 581. التيمائيون "ج1" 581. تيمان "بنو" "ج1" 412. التيمانيون "ج1" 412.

الثاء

الثاء: ثأران "قبيلة" "ج2" 542. الثعالب "بنو" "ج4" 338، 450 ثعل "ج1" حا 382. "ج3" 237، 369. "ج4" 339، 450. "ج5" 428. "ج9" 80، 532. ثعلان "بنو" "ج4" 448. ثعلب "بنو" "ج1" 512، 520، 521. "ج4" 424. "ج8" 603. ثعلبة "ج2" 589، 590. "ج3" 141، 216، 278، 329، 330، 340، 341، 349، 364، 366، 379، 391، 425، 514. "ج4" 131، 226، 252، 425، 508، 529، 539، 572 "ج5" 375، 566. "ج6" 519، 520، 522. "ج7" 336. "ج9" 433، 478. الثعلبيون "ج3" 340. ثفيان "قبيلة" "ج2" 545. الثقفيون "ج1" 326. "ج6" 478. ثقيف "ج1" 292، 326، 396، 397، 403، 405، 502، 517. "ج3" 511، 513، 514. "ج4" 78، 79، 142، 151، 153، 157، 257، 260، 314، 319، 337، 375، 386، 388، 445، 507، 517، 518، 520، 537، 595، 638. "ج5" 16، 180، 281، 382، 423، 431، 447، 457، 548، 647. "ج6" 25، 69، 214، 227، 229، 231، 234، 236، 240، 248، 357، 363، 366، 371، 376، 446، 460، 481، 483، 484، 492، 495، 500، 509، 526، 607، 767، 791، 805، 819. "ج7" 315، 426، 429، 430، 432، 444، 465، 578 "ج8" 127، 139، 196، 269، 301، 381، 419،

572، 593، 600، 602، 603، 605، 606، 617، 631، 632، 649، 651، 669، 672، 688، 690. "ج9" 19، 23، 80، 138، 242، 284، 344، 383، 430، 434، 655، 656، 729، 736، 747، 752، 753، 756، 765، 794. مالة "قبيلة" "ج4" 203. "ج8" 135. مامة "بنو" "ج2" 507. "ج8" 573. مود "ج1" 71، 74، 84، 309، 320، 326، 328، 334، 342، 345، 347، 348، 374، 406، 410، 517، 583، 586، 587، 616. "ج2" 24، 67، 163، 295. "ج3" 55، 57، 110، 111، 118، 513. "ج4" 146، 149، 150، 245، 263، 423، 595. "ج5" 602، 338، 495. "ج6" 8، 72، 157، 256، 268، 292، 311، 315، 321، 330، 331، 334، 483، 484، 719. "ج7" 71، 348. "ج8" 113، 153، 176، 211، 240، 301، 385، 454، 457، 638، 639، 671، 735، 785. "ج9" 359، 363، 379، 383، 393، 396، 403، 439، 850. ثمودية "قبائل" "ج1" 326، 328، 330، 332. الثموديون "ج1" 324، 326، 330. "ج6" 182، 312، 313، 558. "ج8" 211. تور "بنو" "ج1" 357، 512، 520، 521. "ج2" 551. "ج3" 316. "ج4" 250، 378، 572. "ج6" 56، 281، 357. "ج8" 674، 675.

الجيم

الجيم: الجاثريون "ج1" 420. الجاديون "ج3" 60. الجارود "بنو" "ج4" 484، 486. جاهد "قبيلة" "ج1" 302. الجاهليون "قوم" "ج1" 7، 24، 25، 33، 38، 39، 42، 71، 104، 113، 118، 123، 148، 149، 162، 163، 167، 184، 190، 204، 210، 225، 261، 272، 295، 299، 307، 312، 320، 323، 331، 332، 395، حا 400، 410، 413، 416، 422، 426، 469، 470، 474، 476، 482، 507، 510، 511، 520، 521، 523، 527، 571. "ج2" 131، 202، 258، 287، 304، 540. "ج3" 79، 152، 158، 189، 203، 242، 247، 378، 499، 520، 538. "ج4" 8، 39، 46، 54، 101، 179، 275، 292، 320، 322، 334، 349، 353، 355، 358، 361، 366، 370، 371، 383، 384، 387، 391، 400، 401، 426، 495، 535، 541، 543، 544، 560، 567، 572، 574، 575، 581، 587، 589، 593، 596، 598، 600، 603، 617، 620، 622، 624، 629، 630، 633، 636، 637، 641، 642، 645، 646، 652، 656، 660، 666، 669، 674، 679، 683. "ج5" 9، 11، 16، 20، 22، 24، 26، 27، 29، 34، 46، 47، 51، 52، 54، 55، 57، 62، 63، 67، 68، 72، 73، 75، 81، 86، 95، 97، 100، 101، 103، 104، 106، 111، 118، 120، 122، 123، 126، 137، 138، 140، 142، 143، 149، 152، 155، 157، 160، 162، 165، 167، 168، 170، 176، 178، 199، 203، 205، 206، 216، 220، 224، 241، 253، 262، 287، 290، 296، 298، 305، 308، 312، 315، 318، 321، 325، 327، 335، 339، 357، 393، 395،

399، 402، 403، 412، 416، 421، 422، 424، 426، 430، 432، 433، 438، 439، 446، 449، 456، 459، 467، 471، 477، 481، 483، 486، 488، 490، 495، 500، 504، 508، 510، 515، 518، 522، 524، 524، 526، 528، 530، 534، 540، 541، 543، 544، 547، 550، 552، 554، 557، 560، 562، 563، 565، 567، 569، 570، 572، 574، 578، 580، 585، 586، 589، 591، 595، 598، 605، 607، 609، 611، 617، 618، 620، 622، 623، 626، 628، 634، 651، 652. "ج6" 12، 13، 15، 19، 20، 24، 25، 27، 31، 39، 41، 44، 45، 48، 50، 51، 54، 56، 60، 61، 67، 69، 81، 83، 87، 101، 103، 105، 110، 112، 123، 125، 129، 131، 133، 136، 139، 141، 143، 149، 151، 153، 154، 157، 158، 162، 164، 166، 169، 171، 174، 176، 180، 185، 186، 188، 189، 191، 193، 195، 197، 198، 200، 203، 204، 209، 210، 212، 217، 219، 224، 226، 227، 230، 231، 233، 235، 238، 246، 250، 253، 258، 259، 261، 268، 275، 283، 285، 293، 196، 324، 326، 336، 337، 342، 344، 346، 348، 350، 356، 361، 370، 377، 379، 380، 382، 383، 385، 386، 388، 391، 400، 407، 410، 412، 414، 416، 418، 424، 426، 433، 436، 441، 444، 445، 450، 453، 455، 457، 463، 467، 468، 481، 488، 495، 496، 499، 509، 511، 515، 550، 554، 555، 560، 561، 566، 570، 573، 575، 584، 643، 644، 646، 648، 651، 653، 656، 658، 659، 662، 664، 666، 673، 675، 676، 678، 680، 682، 684، 690، 698، 710، 708، 712، 716، 718، 721، 724، 726، 729، 731، 735، 738، 740، 743، 745، 751، 757، 758، 762، 765، 776، 781، 785، 786، 789، 791، 798، 801، 804، 810، 812، 814، 816، 818. "ج7" 14، 15، 23، 27، 47، 50، 68، 79، 80، 124، 129، 146، 157، 158، 171، 201، 207، 208، 214، 219، 227، 229، 230، 232، 237

244، 246، 248، 257، 258، 266، 290، 326، 328، 331، 334، 347، 363، 366، 372، 385، 387، 394، 395، 398، 400، 406، 411، 412، 438، 439، 443، 444، 466، 472، 474، 480، 488، 489، 491، 498، 542، 547، 553، 554، 560، 562، 565، 575، 583، 586، 587، 591، 593، 602، 604، 611، 613، 615، 622، 625، 627، 628، 630، 634، 635، 637. "ج8" 6، 8، 12، 21، 22، 52، 58، 60، 62، 75، 88، 89، 105، 110، 139، 142، 204، 238، 250، 254، 257، 260، 262، 265، 269، 271، 273، 276، 277، 279، 280، 283، 286، 289، 292، 294، 295، 297، 299، 300، 302، 303، 305، 309، 310، 313، 319، 321، 323، 325، 326، 332، 336، 339، 341، 343، 344، 351، 352، 356، 357، 362، 368، 371، 372، 374، 376، 380، 381، 386، 388، 389، 392، 399، 402، 405، 413، 415، 417، 419، 421، 423، 427، 430، 434، 437، 445، 458، 460، 462، 465، 469، 471، 473، 474، 479، 482، 483، 485، 494، 497، 501، 504، 505، 510، 511، 523، 617، 626، 628، 640، 652، 667، 676، 678، 681، 686، 691، 695، 699، 700، 703، 705، 713، 715، 720، 722، 725، 734، 739، 741، 747، 749، 751، 754، 763، 767، 768، 771، 772، 776، 777، 791، 793. "ج9" 12، 16، 20، 21، 26، 28، 29، 33، 36، 63، 64، 66، 71، 77، 79، 81، 84، 88، 90، 92، 94، 99، 101، 104، 106، 108، 117، 118، 122، 124، 136، 137، 139، 141، 143، 145، 147، 149، 151، 153، 155، 156، 160، 163، 167، 175، 177، 179، 181، 184، 188، 196، 197، 200، 202، 210، 220، 228، 238، 242، 250، 252، 255، 257، 259، 263، 264، 267، 268، 280، 284، 290، 292، 296، 305، 307، 310، 315، 325، 327، 328، 333، 337، 339، 340، 345، 347، 348، 351، 352، 357، 361، 370، 372، 376، 383، 384، 390، 391، 396، 399، 401، 403، 405، 413، 415، 416،

418، 419، 421، 423، 438، 439، 445، 465، 494، 495، 504، 505، 511، 525، 536، 560، 564، 589، 590، 669، 685، 694، 696، 762، 797، 802، 812، 819، 821، 822، 824، 831، 836، 868، 875، 889، 908 جبا جبأ "بنو" "ج2" 596. "ج3" 380. جبان "بنو" "ج2" 87. الجبأنيون "ج1" 425. "ج2" 506، 507. جبر "جبرم" "ج2" 295. جبلس "قبيلة" "ج3" 349. الجحاجح "طبقة" "ج4" 561. الجحادلة "بنو" "ج8" 593. جحاش "بنو" "ج1" 404. جحجبا "قبيلة" "ج4" 136، 139. جحدن "بنو" "ج4" 448. جحش "بنو" "ج1" 521. "ج4" 534. جد "بنو" "ج6" 18. جداعة "بنو" "ج4" 516. جدة "بنو" "ج4" 450. جدجنة "بنو" "ج4" 438. جدلت "عشيرة" "ج2" 462. الجدماء "بنو" "ج4" 129. جدن "جدنم" "قبيلة" "ج2" 218، 360، 405، 406، 447، 490، 560، 561، 593، 596، 598، 656. "ج3" 380، 385. "ج6" 673. جدوى "جدويان" "ج3" 475. جديس "بنو" "ج1" 74، 84، 92، 181، 295، 296، 324، 335، 338، 340، 358، 382، 402، 468، 469. "ج2" 578، 584. "ج3" 179، 245، 328. "ج4" 537. "ج6" 285. "ج7" 133، 458. "ج8" 373، 537، 589. "ج9" 208، 393، 408، 436، 537، 579، 686، 875 جديلة "ج1" 521. "ج3" 367، 372، 411، 424 "ج4" 219، 221، 251، 406، 450، 451، 482. "ج5" 77. "ج6" 279، 363. "ج7" 180، 342، 372. "ج9" 741، 814، 833، 834. جذام "ج1" 168، 402، 454، 547. "ج3" 50، 427. "ج4" 241، 243، 245، 248، 249، 251، 262، 296، 319، 338، 423، 425، 459، 461، 463، 473، 477، 531. "ج6" 167، 275، 363، 377، 389، 471، 514، 594، 599. "ج7" 479. "ج8" 475، 603، 632، 668، 770. "ج9" 427، 435. جذلان "ج4" 448. الجذم "ج1" 474، 510. "ج4" 419.

جذيمة "قبيلة" "ج1" 400. "ج2" 578. "ج3" 179. "ج4" 459. "ج5" 374. "ج6" 703. "ج7" 194، 443. "ج8" 175. جر "قبيلة" "ج3" 148. الجراجمة "بنو" "ج4" 557. جراد "بنو" "ج1" 521. الجرارة "قبائل" "ج4" 255. الجراريون "ج4" 456، 493. "ج5" 366، 369. الجرافيون "عشيرة" "ج3" 50. الجرامقة "ج2" 615، 617. "ج3" 186. جرت "آل" "ج2" 149، 327، 329، 330، 334، 343، 357، 360، 376، 453، 460، 471، 479، 493، 494. جرش "قبيلة" "ج2" 490. جرعاء جرهاء "قبيلة" "ج1" 624. جرعان "قبيلة" "ج2" 193. جرف "بنو" "ج2" 328. جرم "بنو" "ج2" 437، 556. "ج3" 278، 283، 291، 373، 506. "ج4" 219، 424، 625. "ج5" 285، 429. "ج6" 270، 276. "ج7" 345. "ج8" 631. "ج9" 68. جرمانية "شعوب" "ج5" 310. الجرمز "بنو" "ج7" 485. جرهائيون "ج1" 176، 559، 564. "ج2" 15، 17، 19. جرهم "ج1" 296، 345، 362، 363، حا 384، 394، 433، 435، 447، 487. "ج2" 576. "ج3" 161، 389، 536. "ج4" 7، 12، 14، 16، 38، 43، 44، 51، 75، 76، 86، 88، 95، 133، 440. "ج5" 163، 647، 648. "ج6" 68، 77، 78، 80، 266، 267، 376، 405، 427، 428، 431، 439، 504. "ج7" 363، 451. "ج8" 466، 522، 537، 538، 603، 619، 620، 629، 643. "ج9" 396، 436. جرول "بنو" "ج4" 451. جزيان "آل" "ج2" 99. جزيلة "قبيلة" "ج1" 372. "ج3" 169. "ج4" 463. جسر "بنو" "ج1" 404. "ج4" 459. جشم "بنو" "ج4" 29، 136، 137، 219، 260، 374، 425، 480. "ج5" 363، 364، 382، 391. "ج6" 240، 363، 522. "ج9" 432، 433، 498. جعبر "قبيلة" "ج3" 148. جعثمة "بنو" "ج4" 425. جعدة "بنو" "ج1" 521. "ج3" 248. "ج4" 522، 533. "ج5" 395، 467.

"ج6" 276. "ج9" 305، 366، 432، 434، 465. جعران "بنو" "ج4" 448. الجعزيون "ج3" 484. جعفى "بنو" "ج1" 548. "ج4" 195. "ج5" 60، 353، 557. "ج7" 448، 462. جعفر "قبيلة" "ج3" 290. الجعفريون "ج9" 549. جعل "بنو" "ج1" 521. جعيزان "ج3" 449. جعيل "بنو" "ج7" 479، 484. جفنة "قبيلة" "ج1" 491. "ج3" 165، حا 188، 251، 280، 321، 387، 389، 391، 395، 397، 399، 400، 403، 405، 427، 429، 437، 440، 443. "ج4" 417، 437، 442. "ج5" 518. "ج7" 550. "ج9" 182، 661، 724، 734 الجفنيون "ج3" 405. الجلحاء "ج4" 251، 432. الجلندي "بنو" "ج4" 203، 441. جلهمة "بنو" "ج4" 251، 432. جماعة "بنو" "ج9" 567، 667. الجماهير "بنو" "ج4" 450. جمح "بنو" "ج4" 58، 60، 61، 63، 73، 84، 91، 112، 140، 310، 378، 481. "ج5" 249، 502. "ج7" 192. "ج9" 411، 891. جمدان "بنو" "ج2" 427. جمع "بنو" "ج1" 401. جميلن عرجن "بنو" "ج2" 328 الجن "قوم" "ج1" 74، 205، 287، 339، 490، 494. "ج2" 583. "ج3" 78، 79، 179، 181. "ج4" 361. "ج5" 55، 144، 339. "ج6" 63، 79، 85، 103، 105، 120، 144، 163، 296، 481، 484، 670، حا 685، 697، 706، 708، 710، 711، 713، 717، 729، 731، 734، 735، 737، 738، 741، 743، 747، 751، 752، 761، 771، 775، 807، 809، 811، 814، 816، 819، 822. "ج7" 31، 114، 516. "ج8" 200، 406، 652، 656، 719، 734، 740، 744، 781، 793. "ج9" 88، 119، 370، 388، 390، 403، 577، 589، 594، 641، 685، 717، 757، 908. جناب "قبيلة" "ج1" 394. "ج4" 250، 430. "ج6" 357. جنبة "بنو" "ج6" 518، 530. الجهاضم "بنو" "ج4" 442. جهينة "قبيلة" "ج1" 168. "ج3" 50. "ج4" 246، 261، 263، 281، حا 421، 423، 430، 431. "ج5" 398، 641. "ج6" 417، 505، 756،

757، 769، 776، 822. "ج7" 355، 485. "ج8" 130، 132، 367. "ج9" 435. جوا "قبيلة" "ج3" 148. جواثي "قبيلة" "ج4" 210. الجواهرة "عشيرة" "ج3" 50. الجون "بنو" "ج1" 373. "ج3" 499. جوين "ج4" 222. "ج8" 130. جيشان "بنو" "ج4" 196.

الحاء

الحاء: الحارث "بنو" "ج1" 373. "ج3" 340. "ج4" 87، 139، 189، 258، 338، 436، 443، 458، 459، 480، 535. "ج5" 352، 353، 359، 360. "ج6" 260، 547. "ج7" 484. "ج8" 130. "ج9" 113، 482، 716، 718، 727. الحارثي "آل" "ج9" 432. حاشد "قبيلة" "ج1" 46، 196، 373. "ج2" 329، 331، 335، 352، 354، 358، 364، 393، 407، 409، 410، 437، 438، 488، 543. "ج4" حا 433، 434، 448. "ج5" 332. "ج6" 376. "ج7" 371، 519. الحاميون "ج1" 224، 235، 255، 429، 643. "ج2" 261. الحباق "جماعة" "ج4" 340. حبب "قبيلة" "ج2" 542، 596. "ج3" 380. حبة "آل" "ج2" 375. الحبش "ج1" 224، 251، 459، 510. "ج2" 253، 366، 377، 380، 387، 388، 418، 421، 426، 429، 433، 437، 438، 440، 441، 453، 510، 519، 523، 525، 542، 552، 562، 590، 591، 594، 597، 647. "ج3" 186، 380، 449، 457، 460، 462، 467، 468، 471، 475، 477، 480، 481، 485، 488، 494، 505، 509، 512، 515، 517، 522، 524،

527، 531، 358. "ج4" 32، 33، 35، 36، 39، 72، 78، 81، 113، 114، 116، 153، 162، 171، 190، 192، 278، 312، 445، 556. "ج5" 105، 122، 193، 205، 231، 245، 328، 329، 414، 415، 442، 541. "ج6" 297، 302، 538، 613، 614، 656، 693. "ج7" 230، 260، 262، 266، 274، 282، 283، 285، 287، 454، 477، 487، 541. "ج8" 40، 42، 518، 545، 560، 591، 620، 637، 738 "ج9" 384، 709. حبشية "أحزاب" "ج2" 433، 437. الحبلى "بنو" "ج4" حا 139. الحجازية "قبائل" "ج1" 250. "ج3" 14. "ج4" 318. الحجازيون "قوم" "ج8" 203، 578، 580، 584، 586، 603. حجر "بنو" "ج1" 373. "ج2" 456، 462. "ج3" 324، 325، 393. "ج4" 196، 446. "ج6" 142. "ج9" 395. حجور "بنو" "ج4" 187، 448. "ج7" 462. حد "آل" "ج3" 148. حداد "بنو" "ج9" 649. حدان "قبيلة" "ج2" 556. "ج3" 317. "ج4" 442، 448. "ج8" 135. حدلنت "عشيرة" "ج2" 462. حديد "بنو" "ج1" 368. حذافة "بنو" "ج6" 598. حذاق "بنو" "ج9" 797، 798. حذمت "بنو" "ج8" 514. حذوة "قبيلة" "ج2" 382. حراز "بنو" "ج4" 182. حرام "بنو" "ج1" 373، 405. "ج2" 462، 560. "ج3" 148. "ج4" 338، 432. "ج6" 366. حرب "آل" "ج5" 420. حرة "عشيرة" "ج2" 462، 541، 544، 555. "ج4" 637. حرر "قبيلة" "ج3" 317. حرض "ج2" 98. "ج6" 521. الحرفة "ج4" 262. "ج7" 485. حرم "بنو" "ج6" 519. حرمة "بنو" "ج2" 525. حزفر "حزفرم" "بنو" "ج2" 267، 449، 484، 522، 547 حزن "بنو" "ج3" 148. حزوة "بنو" "ج5" 648. حسل "ج4" 522. حسمونيون "ج3" 26. حسيل "ج4" 522. حسين "بنو" "ج5" 451. حشم "بنو" "ج1" 372. حشور "بنو" "ج1" 404. حصن "قبيلة" "ج4" 239، 457، 571. حضى "قبيلة" "ج3" 148.

الحضارمة "ج1" 368. "ج2" 74، 425، 480، 481، 554، 555، 561. "ج5" 584. "ج6" 54. حضران "عشيرة" "ج2" 209. حضرم "بنو" "ج2" 221. "ج6" 604. حضرموت جزرماوث "بنو" "ج1" 426. الحضرميون "ج2" 158، 186، 372، 426. "ج6" 374. "ج7" 169. حضورا "قبيلة" "ج1" 295، 347، 390. الحطيط "بنو" "ج4" 156. الحفير "قبيلة" "ج1" 388. حكم "عشيرة" "ج2" 462. "ج4" 267. "ج7" 330، 467. "ج8" 133. "ج9" 617، 620. الحلة "قبائل" "ج1" 394. "ج6" 353، 357، 358، 360، 361، 372. "ج8" 476. حلحل "عشيرة" "ج2" 458. حلوان "بنو" "ج2" 616. حليل "بنو" "ج4" 15. حليمة "قبيلة" "ج3" 198. "ج6" 765. حمار "بنو" "ج4" 338. الحماص "بنو" "ج1" 373 حماطة "بنو" "ج4" 424. حمان "قبيلة" "ج1" 403. حمد "بنو" "ج3" 148، 149. "ج8" 520. الحمراء "بنو" "ج1" 395. الحمرة "بنو" "ج8" 410. الحمس "قبيلة" "ج1" 366. "ج6" 353، 357، 361، 372، 432. "ج8" 476. حملان "ج2" 338، 343، 372، 409، 411، 425. حمي "قبيلة" "ج3" 148. حميد "بيت" "ج1" 329. حمير"ج1" 23، 46، 73، 91، 97، 99، 100، 106، 117، 179، 316، 337، 367، 368، 370، 387، 392، حا 398، 426، 464، 490، 499، 501، 505، 516، 652. "ج2" 60، 134، 135، 142، 173، 183، 197، 215، 218، 219، 266، 289، 298، 304، 343، 360، 362، 363، 366، 368، 371، 372، 396، 399، حا 402، 418، 420، 423، 425، 428، 431، 433، 436، 439، 440، 443، 453، 483، 485، 493، 507، 510، 514، 516، 522، 526، 528، 533، 534، 537، 539، 540، 552، 560، 567، 576، 579، 580، 583، 585، 589، 591، 595، 658. "ج3" 186، 222، 248، 249، 263، 318، 325، 328، 331، 363، 367، 369، 379، 382، 386، 453، 457، 459، 461

، 475، 477، 484، 485، 487، 491، 492، 504، 507، 522، 525، 527، 531، 536. "ج4" 16، 19، 70، 77، 117، 175، 180، 182، 185، 187، 193، 198، 246، 275، 282، 303، 312، 325، 329، 335، 394، 415، 419، 422. 428، 431، 432، 434، 435، 457، 465، 466، 468، 505، 536، 538، 539، 567، 616، 660، "ج5" 10، 24، 107، 163، 182، 188، 193، 194، 196، 211، 231، 239، 278، 279، 309، 349، 425، 433، 454، 474، 636، 643. "ج6" 58، 84، 263، 264، 297، 308، 376، 400، 446، 514، 539، 540، 557، 610، 612، 615، 697. "ج7" 303، 304، 341، 346، 375، 508، 527، 633 "ج8" 39، 79، 153، 154، 161، 163، 194، 209، 278، 347، 521، 538، 556، 562، 572، 576، 591، 603، 619، 620، 629، 631، 637، 639، 640، 677، 689، 692، 776، 794. "ج9" 28، 208، 348، 369، 379، 383، 403، 439، 574، 617، 803. الحميرية "قبائل" "ج2" 372، 524. "ج3" 331. "ج4" 182، 322. الحميريون "ج1" 48، 423. "ج2" 55، 63، 134، 139، 144، 147، 148، 155، 183، 208، 244، 266، 336، 366، 367، 371، 373، 379، 419، 420، 424، 426، 435، 441 493، 511، 512، 516، 524، 527، 589، 594، "ج3" 386، 453، 459، 462، 463، 468، 474، 480، 485، 492، 506. "ج4" 435، 679. "ج5" 463. "ج6" 540، 610، 613، 614. "ج7" 499. "ج8" 194. "ج9" 28. حميس "ج4" 261. حن "بنو" "ج4" 251، 450. حنبص "بيت" "ج2" 218. "ج8" 8. حنش "بنو" "ج1" 521. "ج4" 136. حنظلة "بنو" "ج1" 348، 521. "ج2" 638، 640. "ج3" 240. "ج4" 337، 486، 529، 570، 572. "ج5" 369، 371، 374، 386، 393. الحنفاء "طبقة" "ج4" 475، 672. "ج6" 449، 451، 454، 456، 458، 461، 463، 478، 479، 506، 510.

645، 667، 672، 701، 702، 704، 738. "ج8" 108، 322. حنيفة "بنو" "ج1" 309، 335. "ج3" 173، 231، 250. "ج4" 213، 214، 216، 218، 377، 406، 510. "ج6" 72، 84، 88، 96، 98، 100، 208، حا 355، 674. "ج7" 38، 40، 149، 196، 344. "ج8" 603، 669، 688، 755، 761، 762. "ج9" 429، 433، 564، 656، 658، 669. الحنيك "بنو" "ج4" 450. الحواريون "ج2" 621. "ج4" 229. "ج6" 609. حوالة "بنو" "ج1" 431. "ج3" 148. حولم "بنو" "ج2" 542. الحوليون "جماعة" "ج1" 431. حويطات بن جاد "بطن" "ج3" 50، 51. حويطات التهمة "بطن" "ج3" 50. حويطات العلويون "بطن" "ج3" 50. الحيا "بنو" "ج4" 478، 533. حيث حيثم "بنو" "ج2" 393، 394. الحيريون "قوم" "ج7" 297. "ج8" 169. حيش "بنو" "ج4" 450، 451. حيوم "قبيلة" "ج2" 564.

الخاء

الخاء: خارجة "بنو" "ج1" 403. "ج4" 508. الخارف "أخرف" "قبيلة" "ج2" 393. "ج6" 263. "ج7" 462. خالد "بنو" "ج1" 302. خثعم "ج3" 511، 513. "ج4" 68، 69، 88، 184، 186، 194، 195، 232، 379، 433، 442، 445، 455 "ج5" 309، 353، 520. "ج6" 220، 270، 273، 351، 352، 357، 363، 371، 771. "ج7" 361. "ج8" 367، 474، 475، 500، 502، 575، 578، 579، 591، 603، 609، 637، 640، 682. "ج9" 16، 19، 533، 648.

خدمان "بنو" "ج2" 98، 99. الخرج "بنو" "ج4" 216. خرشاف "بنو" "ج5" 76. "ج7" 180. خزاعة "بنو" "ج1" 360، 401، 515. "ج3" 390. "ج4" 14، 16، 19، 29، 31، 39، 42، 45، 64، 84، 110، 117، 129، حا 145، 247، 263، 266، 267، 339، 375، 412، 431، 438، 442، 478، 479، 531، 533، 544، 595. "ج5" 91، 97، 113، 162، 163، 436، 641، 648. "ج6" 58، 80، 167، 237، 240، 247، 248، 267، 277، 330، 363، 365، 419، 428، 436، 476، 710 "ج7" 451. "ج8" 128، 580، 600، 601، 603، 632، 633، 642. "ج9" 396، 435، 618، 619، 621، 649، 899. الخزاعيون "ج3" 276. "ج4" 440. الخزر "قوم" "ج1" 263. الخزرج "قوم" "ج1" 314، 374، 438، 475، 476، 484. "ج2" 515، 578. "ج3" 280، 390، 391. "ج4" 73، 129، 130، 132، 136، 138، 141، 247، 264، 314، 329، 367، 368، 383، 386، 431، 432، 436، 437، 442، 510، 598. "ج5" 18، 180، 209، 251، 252، 311، 344، 355، 451 "ج6" 239، 248، 256، 279، 315، 320، 363، 514، 519، 521، 523، 532، 533، 536، 537، 543، 547، 548، 580. "ج7" 33، 41، 315، 338. "ج8" 36، 114، 116، 132، 135، 160، 268، 295، 342، 603، 609، 633، 634، 760. "ج9" 14، 65، 380، 429، 435، 518، 654، 655، 694، 713، 719، 720، 722، 723، 725، 728، 730، 731، 734، 748، 752، 782، 785، 826. خزيمة "ج4" 443، 446، 470، 480، 531. "ج5" 363. خسأ "بنو" "ج2" 398. الخسئيون "ج2" 398. خشين "بنو" "ج4" 194، 240، 425. خصافة "عشيرة" "ج2" 255. "ج6" 817. خصبح "آل" "ج2" 149، 150، 216. الخضارمة "بنو" "ج4" 557، 563. خضم "بنو" "بنو" "ج4" 206. الخضيرات "عشيرة" "ج3" 51. خطي "بنو" "ج1" 584. الخطيون "جماعة" "ج1" 583. "ج2" 570. خفاف "بنو" "ج1" 405.

خلبان "بنو" "ج2" 221. خلفان أنمار "بنو" "ج2" 564. خلقس "جالية" "ج2" 30. الخلود "بنو" "ج1" 302. خليل "آل" "ج2" 267، 319، 337، 484، 522. خناعة "بنو" "ج4" 535. خناعة "بنو" "ج4" 535 خندف "بنو" "ج1" 492، 521. "ج4" 591، 595. "ج8" 589. خنزريت "بنو" "ج1" 367. خوزان "بنو" "ج4" 329. خولان "بنو" "ج1" 92، 95، 366، 367. "ج2" 149، 254، 216، 334، 369، 381، 384، 385، حا 394، 395، 397، 400، 404، 405، 440، 544. "ج3" 519. "ج4" حا 423، 459، 460. "ج6" 262، 265. "ج7" 142. الخولانيون "ج2" 94، 384، 401، 402، 404. "ج4" 459. خيابة خيابه "بنو" "ج1" 579، 581، 585. خيران "بنو" "ج4" 416.

الدال

الدال: دأ "بنو" "ج3" 484. الدأدويون "ج3" 363. دأرس "بنو" "ج4" 517. دأرم "بنو" "ج3" 250، 252، 348، 362. "ج4" 208، 210، 388، 527، 529، 570. "ج5" 144، 359، 386، 393 "ج6" 694. "ج7" 379. "ج8" 600. "ج9" 434، 527، 637. دئل "بنو" "ج1" 400، 521. "ج9" 433، 435. دالان "بنو" "ج4" 187. "ج7" 462. داهر "بنو" "ج1" 367. داهن "بنو" "ج8" 742. الدب "بنو" "ج1" 520، 521. دبئيله "بنو" "ج1" 441. دبير "بنو" "ج4" 534. ددان "قبائل" "ج1" 336، 581. "ج2" 93، 332، 406. الددانيون "الديدانيون" "ج1" 18، 461. "ج2" 120، 241، 243،

246. "ج6" 319، 320، 332، 402. الدرافيديون "قوم" "ج7" 256. الدراوديون "ج1" 219، 432. الدراوشة "عشيرة" "ج3" 51. دعج "بنو" "ج4" 505. الدلمونيون "ج1" 546. الدليل "ج5" 593. الدمانية "ج3" 51. الدمشقيون "ج3" 44. دمصى "ج3" 148. دهسم "دهس" "بنو" "ج2" 188، 189، 194، 219، 221، 503، 517. "ج5" 255. دهمان "بنو" "ج4" 261، 535. "ج9" 764. دهن "بنو" "ج4" 484، 505. دوات "بنو" "ج2" 462، 541. دودان "بنو" "ج1" 406. "ج3" 211، 363، 364. "ج4" 534. دوس "بنو" "ج4" 442، 445. "ج6" 270، 271، 274، 275. "ج9" 489، 852. دومان "بنو" "ج4" 449. ديار "بنو" "ج7" 195. الديان "ج3" 536. "ج4" 98. الديل "بنو" "ج1" 367. "ج4" 30، 41، 347. "ج7" 510. "ج9" 621. دينار "بنو" "ج7" 194. ، الدال، الذئب "بنو" "ج1" 468، 520، 521. الذبابيون "عشيرة" "ج3" 50. ذبحان "بنو" "ج2" 321. ذبيان "بنو" "ج1" 399. "ج3" 211، 212، 277، 423، 424، 434. "ج4" 240، 252، 254، 338، 341، 375، 382، 509، 512، 513، 516، 520، 523، 572، 585، 626 "ج5" 357، 360، 362، 372. "ج6" 730. "ج8" 661. "ج9" 107، 108، 366، 432، 434، 501، 502.

الذال

الذال ... الدال: الذئب "بنو" "ج1" 468، 520، 521. الذبابيون "عشيرة" "ج3" 50. ذبحان "بنو" "ج2" 321. ذبيان "بنو" "ج1" 399. "ج3" 211، 212، 277، 423، 424، 434. "ج4" 240، 252، 254، 338، 341، 375، 382، 509، 512، 513، 516، 520، 523، 572، 585، 626 "ج5" 357، 360، 362، 372. "ج6" 730. "ج8" 661. "ج9" 107، 108، 366، 432، 434، 501، 502.

593، 635، 882. ذخر "آل" "ج2" 458. ذرأن "بنو" "ج2" 193، 197، 220، 221، 321. ذرحن ذرحان "بنو" "ج2" 206، 210، 221. ذرنح "آل" "ج2" 485. ذكوان "بنو" "ج4" 260. "ج6" 363. ذمران "بنو" "ج2" 221، 328، 451، 471، 545. ذميل "بطن" "ج3" 216. ذنحان "بنو" "ج2" 394. ذهل "بنو" "ج1" 371، 408. "ج3" 211. "ج5" 366. "ج9" 433. ذو أصبح "آل" "ج4" 418. "ج8" 130. ذو ثعلبان "آل" "ج4" 418. ذو جدن "آل" "ج3" 475، 478، 482، 486. "ج4" 417، 418. "ج8" 556. "ج9" 496. ذو جرفم "آل" "ج2" 215، 216. ذو حذار "آل" "ج2" 87. ذو حزفر "آل" "ج4" حا 417. ذو حوال "آل" "ج4" 418. ذو خليل "آل" "ج4" حا 417، 418. ذو رعين "بنو" "ج7" 141. "ج9" 486. ذو زود "بنو" "ج4" 192. ذو سحر "بنو" "ج2" 486. ذو الشعبين "آل" "ج4" 418. ذو عثتم "آل" "ج2" 213. ذو عثكلان "آل" "ج4" 418. ذو عذهب "بنو" "ج2" 485. ذو علشن "آل" "ج2" 213. ذو فيفان "آل" "ج4" 418. ذو فينان "آل" "ج4" 418 ذو الكلاع "آل" "ج3" 364. "ج6" 258، 264. ذو اللبا "آل" "ج6" 214. ذو لعوة "آل" "ج4" 187. "ج7" 462. ذو مران "آل" "ج4" 187، 192. "ج7" 462. ذو مرحب "آل" "ج7" 142. ذو المشعار "آل" "ج4" 448. ذو معافر "آل" "ج4" 418. ذو مقار "آل" "ج4" 418. ذو مناخ آل "ج4" 418. ذو هربت "آل" "ج2" 211، 230. ذو يحضب "آل" "ج4" 418. ذو يزن "آل" "ج4" 418. "ج7" 141، 462. ذو يهر "آل" "ج4" 418. ذودان "بنو" "ج2" 312. ذيب ذيلب "قبيلة" "ج2" 512.

الراء

الراء: رأبان "بنو" "ج2" 56، 411، 414. الرابانيون "ج2" 55، 414. راجل "قبيلة" "ج1" 295. راحل "بنو" "ج1" 346. راسب "بنو" "ج4" 424، 442. الراشدون "ج2" 104. "ج8" 748، 794. "ج9" 257. رامي "آل" "ج2" 162. الراوينيون "ج3" 60. الربائع "بنو" "ج4" 338، 340، 450. الرباب "قبيلة" "ج1" 402. "ج3" 275، 336، 348، 352، 353. "ج4" 206، 225، 333، 338، 381، 386، 488، 504، 520، 524، 525، 571. "ج5" 351، 353، 368، 373، 376، 378، 421، 520. "ج6" 357، 761، 769. "ج9" 348، 482، 874. رباح "بنو" "ج1" 403. "ج2" 431. الرباريون "ج1" 151. الربض "بنو" "ج4" 457. الربعة "بنو" "ج6" 525. ربيع "بنو" "ج3" 387. ربيعة "ج1" 357، 373، 388، 393، 396، 398، 470، 472، 493، 498، 501، 505، 509، 516. "ج2" 380، 381، 383، 386، 645، 651. "ج3" 170، 185، 189، 193، 194، 300، 316، 320، 323، 327، 331، 335، 348، 350، 352، 354، 355، 393. "ج4" 196، 206، 210، 219، 224، 228، 318، 324، 326، 328، 330، 337، 338، 346، 348، 351، 383، 415، 471، 475، 482، 484، 490، 491، 493، 494، 504، 512، 526، 530، 571، 572. "ج5" 39، 90، 93، 189، 267، 347، 351، 355، 365، 367، 369، 370، 378، 385، 389، 407، 639، 644، 650. "ج6" 59، 94، 280، 281، 288، 376، 400، 416،

443، 447، 560. "ج7" 305، 320. "ج8" 329، 333، 350، 478، 482، 570، 571، 574، 578، 579، 582، 600، 605، 630، 632، 655، 673، 674. "ج9" 19، 31، 208، 229، 423، 425، 431، 433، 434، 436، 437، 460، 477، 565، 647، 658، 669، 793، 818. رجل "قبيلة" "ج2" 382. الرجم "بني" "ج2" 69. رحبة الرحابة "بنو" "ج2" 589، 590. "ج3" 149. "ج8" 520. رحضان "بنو" "ج2" 276. رحم الديرة "جماعة" "ج1" 25. ردمان "قبيلة" "ج2" 54، 57، 193، 220، 221، 323، 368، 375، 400، 401، 404، 405. الردمانيون "ج2" 372، 373، 376، 377، 401، 402، 404، 405، 425. رزام "بنو" "ج4" 459. رشم "عشيرة" "ج2" 156، 193، 208، 220، 221. "ج8" 514. رضحتن "عشيرة" "ج2" 462. رضوم "بنو" "ج3" 317. رضوى "ج1" 168. "ج2" 556. رعمة "بنو" "ج1" 430. رعنن "بنو" "ج2" 321. "ج4" 659. رغض "بنو" "ج2" 590. الرفائيون "ج3" 60، 62. رفاعة "بنو" "ج4" 432. رفد "بنو" "ج1" 301، 302. "ج4" 250. رفيدة "ج4" 430. الرقاشيون "ج4" 503. رقية "ج3" 336، 348. "ج4" 488. ركب ركبن "بنو" "ج3" 475. "ج4" 450. "ج6" 525. رمس "عشيرة" "ج2" 414. الرمسيون "ج2" 414. رمع "بنو" "ج4" 192. رمل "بنو" "ج1" 301. الرهاويون "ج4" 194. "ج5" 398. رهم "بنو" "ج1" 403. رواحة "بنو" "ج3" 270. "ج9" 545. روح "بنو" "ج3" 140. رودومانتس "بنو" "ج1" 312. الروسان "قوم" "ج3" 95. الرولة "عشيرة" "ج1" 25. الروم "ج1" 29، 51، 52، 61، 63، 65، 69، 80، 82، 108، 118، 224، 250، 263، 264، 267، 268، 281، 326، 387، 415، 471، 492، 503، 660. "ج2" 12، 23، 25، 34، 40، 57، 62، 67، 69، 72، 104، 130، 163، 421، 511، 512، 534، 540، 594، 602، 606، 618، 626، 629، 631، 633، 636، 639، 641، 643، 645، 647، 651، 659.

"ج3" 21، 22، 54، 82، 102، 103، 111، 120، 121، 128، 129، 135، 141، 145، 147، 165، 169، 170، 172، 173، 175، 191، 192، 208، 215، 216، 219، 224، 227، 228، 254، 259، 261، 272، 273، 279، 290، 292، 301، 306، 310، 330، 340، 341، 343، 350، 361، 370، 372، 384، 386، 389، 391، 393، 400، 403، 405، 409، 412، 417، 423، 426، 428، 431، 435، 437، 440، 451، 455، 457، 462، 464، 468، 472، 474، 476، 477، 489، 492، 503، 517، 519، 521، 524، 531، 533. "ج4" 15، 39، 40، 67، 69، 70، 92، 94، 111، 113، 117، 119، 120، 122، 124، 141، 159، 162، 165، 166، 168، 171، 173، 175، 177، 181، 190، 232، 235، 238، 240، 242، 244، 246، 248، 251، 257، 262، 269، 284، 290، 296، 297، 303، 304، 308، 310، 326، 409، 416، 462، 472، 474، 485، 489، 491، 499، 594، 596، 611، 613، 625، 628، 654، 664. "ج5" 30، 32، 36، 52، 63، 98، 106، 109، 112، 193، 199، 200، 208، 212، 218، 288، 293، 297، 298، 308، 320، 324، 327، 329، 340، 410، 415، 421، 424، 427، 434، 454، 591، 607، 623، 628، 640. "ج6" 79، 368، 434، 438، 439، 459، 460، 477، 479، 518، 530، 549، 587، 588، 590، 593، 595، 597، 600، 603، 605، 606، 614، 617، 620، 621، 628، 629، 632، 639، 650، 669، 676، 690، 777. "ج7" 19، 227، 230، 233، 237، 252، 253، 266، 277، 281، 284، 286، 287، 301، 303، 313، 332، 363، 370، 375، 410، 431، 442، 499، 547، 557، 578، 615، 628، 630. "ج8" 42، 86، 95، 163، 176، 290، 305، 318، 339، 347، 388، 406، 462، 485، 518، 520، 560، 572، 604، 621، 632، 637، 643، 688، 698، 702، 705، 711، 716، 720، 721، 722. "ج9" 63، 87، 93، 95، 116، 118، 140، 155، 157، 291، 342، 383، 426، 428، 453، 475، 476، 490، 498، 519

، 520، 522، 530، 533، 679، 681، 737، 792، 795، 809، 838، 844، 885 الرومان "ج1" 16، 21، 27، 56، 59، 60، 62، 75، 155، 160، 163، 164، 166، 167، 172، 175، 205، 253، 262، 266، 312، 371، 443، 445، 467، 585، 657، 658. "ج2" 11، 12، 28، 30، 34، 38، 42، 44، 51، 53، 62، 66، 68، 70، 72، 76، 80، 104، 117، 118، 129، 130، 163، 223، 246، 247، 250، 253، 420، 421، 441، 510، 520، 602، 606، 608، 612، 615، 620، 622، 629، 635، 641، 653، 657 "ج3" 6، 14، 18، 22، 29، 31، 33، 35، 39، 43، 45، 47، 49، 51، 52، 54، 57، 60، 62، 66، 69، 76، 82، 86، 88، 89، 91، 93، 97، 103، 108، 110، 129، 140، 143، 146، 176، 228، 455. "ج4" 10، 174، 179، 304، 360، 408، 566، 612، 646، 668. "ج5" 32، 98، 153، 188، 189، 195، 208، 295، 300، 309، 335، 399، 411، 412، 414، 415، 427، 433، 467، 468، 480، 484، 536، 544، 577، 585، 587. "ج6" 17، 19، 23، 79، 198، 220، 410، 415، 518، 527، 538، 624، 629، 716، 789، 801. "ج7" 110، 163، 233، 235، 237، 242، 250، 256، 267، 272، 274، 276، 279، 423، 477، 493، 568، 588، 621. "ج8" 107، 152، 199، 465، 519، 520، 545، 724. "ج9" 125، 127، 128، 136، 368. الروماني "جيش" "ج2" 605. "ج3" 69، 82، 83، 85، 86، 94، 97، 101، 113، 123، 128، 137. رومانية "حامية" "ج2" 45، 161. "ج3" 58، 128. الرومانيون "قوم" "ج1" 52. "ج2" 44، 48، 194. "ج4" 312. "ج7" 271. روميات "ج5" 120. "ج6" 589. رياح "ج3" 475، 478. ريام "بنو" "ج1" 367. "ج2" 410. "ج8" 742. ريان "ج3" 470. ريث "بنو" "ج4" 252. الريدانيون "ج2" 266، 334، 336، 366، 369، 436، 439، 517. الريمانيون "ج2" 323.

الزاي

الزاي: الزبديون "ج1" 651. زبيد "بنو" "ج1" 651. "ج3" 387. "ج4" 107، 187، 188، 192، 193، 456، 457. "ج5" 353، 501. "ج6" 270، 363، 647. "ج8" 575، 578. "ج9" 19، 868. الزبيريون "ج9" 381. زخران "بنو" "ج2" 193. زرأرأن "بنو" "ج2" 368. زرن "بنو" "ج3" 497. زريق "بنو" "ج3" 135، 683. "ج6" 546، 744. "ج7" 193. "ج9" 751. زعل "بنو" "ج4" 505. زعورا "بنو" "ج6" 519، 522 زقزقة "بنو" "ج4" 251، 432. زلتان "بنو" "ج4" 98، 99، 302. زمان "بنو" "ج1" 408. الزماهرة "عشيرة" "ج3" 50. زمر "بنو" "ج1" 302. زمل "بنو" "ج1" 302. الزنادقة "ج3" 343. الزنج "ج4" 309، 311. الزنوج "ج1" 174. "ج7" 262، 454. زنيم "آل" "ج9" 894. زهران "بطن" "ج1" 374. "ج4" 442. زهرة "بنو" "ج4" 58، 61، 62، 84، 86، 87، 91، 100، 156، 198، 378، 481 "ج6" 18، 262. "ج7" 446. زهمان "بنو" "ج4" 339. زهير "آل" "ج3" 148. "ج9" 267. زوف "بنو" "ج1" 372. زياد "بنو" "ج4" 574، 636. "ج8" 780. زيد مناة "بنو" "ج3" 148، 214. "ج4" 416. "ج6" 519، 522. "ج8" 296. الزينة "بنو" "ج1" 399.

السين

السين: السائب "آل" "ج4" 639. سأرن "بنو" "ج2" 374، 442، 542. ساسان "بنو" "ج2" 527. الساسانية "قبائل" "ج1" 248. "ج5" 40. الساسانيون "ج1" 76. "ج2" 92، 551، 593، 594، 612، 614، 618، 626، 628، 633، 635، 636، 639، 643، 648، 651، 654، 657، 659. "ج3" 90، 113، 164، 173، 175، 194، 300، 301، 306، 343، 384، 473، 498، 518، 529. "ج4" 56، 92، 114، 163، 166، 168، 173، 176، 177، 187، 207، 232، 233، 549. "ج5" 288، 290، 304، 320، 328، 421، 434، 481 "ج6" 587، 693. "ج7" 163، 266، 280، 293، 305، 487، 493. "ج8" 107، 520، 545، 688 "ج9" 161، 569، 803. الساطرون "قوم" "ج9" 803. ساطع "بنو" "ج6" 598. ساعدة "بنو" "ج4" 478. "ج5" 199. ساكلان "بنو" "ج3" 475. سالم "بنو" "ج4" 139. سام "بنو" "ج1" 629. "ج6" 347. سامية "شعوب" "ج1" 234، 244، 378، 515، 520، 528 "ج4" 314، 373، 629، 634 "ج5" 63، 122، 155، 162، 598. "ج6" 16، 17، 19، 21، 26، 29، 30، 35، 54، 81، 174، 197، 288. "ج7" 157، 227، 326، 620 "ج8" 528، 746. الساميون "ج1" 7، 35، 207، 209، 226، 227، 229، 240، 243، 250، 253، 258، 259، 347، 389، 467، 511، 522، 545. "ج2" 261، 604. "ج4" 315، 357، 561، 609، 624، 640، 655 "ج5" 10، 108، 111، 119، 155، 159، 162، 163، 172، 310، 477، 542،

587. "ج6" 10، 16، 17، 23، 26، 30، 34، 35، 43، 52، 55، 57، 60، 81، 117، 166، 168، 169، 189، 199، 257، 264، 288، 294، 296، 298، 300، 307، 309، 311، 322، 323، 325، 347، 388، 707، 726، 794، 806. "ج7" 228، 593. "ج8" 339، 349، 432، 444، 449، 452، 468، 526، 528، 532، 534، 535، 700. "ج9" 73، 124، 135، 202، 206، 210. السامريون "قوم" "ج3" 405. سبأ "بنو" "ج8" 603. سبئية "قبائل" "ج1" 166، 224 "ج2" 55، 317، 321، 323، 423، 483، 484، 494، 521، 522. السبئيون "ج1" 44، 46، 60، 180، 224، 237، 364، 430، 460، 461، 513، 514، 581، 590، 631، 632، 634، 636. "ج2" 51، 54، 58، 60، 74، 83، 94، 108، 118، 121، 132، 144، 148، 172، 186، 207، 217، 258، 262، 264، 265، 274، 276، 278، 280، 283، 287، 289، 292، 294، 301، 303، 305، 321، 323، 328، 330، 343، 346، 351، 354، 357، 371، 373، 379، 382، 385، 388، 391، 397، 400، 401، 403، 404، 416، 417، 423، 425، 427، 435، 437، 440، 442، 455، 481، 493، 503، 505، 517، 523، 528، 547، 554، 555، 561، 567، 572. "ج3" 38، 318، 450، 541، 453، 487، 502. "ج4" 128، 554. "ج5" 181، 183، 205، 227، 584. "ج6" 54، 168، 175، 176، 264، 275، 295، 296، 299، 303، 332، 347، 613 "ج7" 15، 233، 236، 241، 262، 490، 561. "ج8" 31، 44، 207، 215، 230، 447، 453، 507، 517، 674، 675، 686، 687. سبس "عشيرة" "ج2" 462. سبع "بنو" "ج2" 589، 591. "ج5" 340. سبيط "ج3" 398. "ج8" 714. سبين "ج4" 225. سخيم "بنو" "ج2" 150، 216، 334، 336، 360، 394، 397، 400، 412، 413، 450، 456، 461، 464، 465، 562، 565، 622. "ج3" 231. "ج4" حا 214، 551. "ج6" 304، 309. "ج7" 40.

سدوس "بنو" "ج3" 359. "ج4" 585. "ج6" 800. "ج7" 133. "ج8" 130، 603. "ج9" 433. السرحان "بنو" "ج1" 521. سراة الأزد "بنو" "ج9" 430. السرسين "قوم" "ج1" 387. "ج3" 383. سرسينس "ج2" 658. سرسينوى "ج3" 383. السركينوى "قبائل" "ج1" 387. سروات "قوم" "ج4" 249. السريان "ج1" 27، 65، 143، 165، 623، 661. "ج2" 621. "ج3" 11، 12، 80، 156، 157، 218، 221، 227، 230، 272، 306، 329، 330، 372، 395، 406، 409، 412، 417. "ج4" 23، 219، 452. "ج5" 200، 536. "ج6" 17، 19، 238، 302، 453، 627، 631، 689، 695 "ج7" 630. "ج8" 151، 171، 173، 284، 316، 321، 336، 368، 429، 431، 439، 485، 546، 621، 680، 704 "ج9" 47، 49، 73، 184، 185، 202. السريانيون "ج1" 256. "ج3" 11. "ج8" 311، حا 519. سريع "بنو" "ج2" 397. سعد "بنو" "ج1" 295، 341، 598، 647. "ج3" حا 200، 290، 495، 498. "ج4" 193، 215، 219، 229، 252، 263، 316، 338، 340، 442، 452، 464، 482، 520، 557، 570، 571، 592، 613. "ج5" 237، 352، 369، 376، 377، 382، 396. "ج6" 378، 517. "ج7" 180. "ج8" 579، 565، 658. "ج9" 260، 261، 295، 432، 434، 464، 482. سعد العشيرة "بنو" "ج8" 603. السعلاة "بنو" "ج6" 714. "ج8" 571. السعودي "شعب" "ج4" 317. السعيدة "بنو" "ج6" 214. سفيان "آل" "ج9" 280. سقران "ج2" 415. السقرانيون "ج2" 415. السكاسك "بنو" "ج1" 373. "ج3" 382. "ج4" 196، 198. السكس "بنو" "ج2" 533. السكون "بنو" "ج1" 547. "ج4" 196، 198. "ج6" 280. "ج8" 204. السكونيون "ج2" 38. سكينيته "بنو" "ج2" 61. السلامات "عشيرة" "ج3" 51. سلامان "بنو" "ج4" 246، 431، 451، 531. "ج9" 637، 639. السلجوقيون "ج1" 572.

سلحفاة "بنو" "ج1" 520. للسلف "بنو" "ج6" 286. سلفان "بنو" "ج1" 426. سلم "بنو" "ج3" 148. "ج9" 432. سلمى "بنو" "ج4" حا 421. سلمان "بنو" "ج2" 321. سلمة "بنو" "ج1" 404. "ج9" 454، 719، 833. السلمونيون "ج1" 656. السلوقيون "ج2" 19، 22، 30، 33، 34، 63، 92، 604، 620، 622. "ج3" 26، 27، 30، 33، 47، 52، 85. "ج7" 236، 495. "ج8" 12، 86. سلول "بنو" "ج1" 405. "ج4" 15، 319، 516، 520. "ج9" 68، 487. سليح "بنو" "ج3" 323، 325، 389، 392، 394، 397، 399، 448. "ج4" 324، 423، 424. "ج5" 355. "ج6" 593، 594، 599. "ج8" 475. "ج9" 794. سليم "بنو" "ج1" 194، 399. "ج2" 403. "ج3" 148. "ج4" 35، 106، 227، 239، 253، 255، 257، 261، 268، 311، 334، 516، 520، 525، 535، 570، 571. "ج5" 144، 340، 363، 364، 366، 382، 395، 432، 573. "ج6" 237، 240، 242، 284، 317، 363، 519، 591، 683. "ج7" 119، 338، 340، 377، 444، 514. "ج8" 125، 127، 347، 496 "ج9" 106، 434، 560، 863، 877. السليمانيون "ج3" 50. سمال "ج4" 260. سمرة "ج4" 265. سمعي "بنو" "ج2" 326، 335، 338، 343، 357، 358، 360، 395، 397، 409، 412، 414، 450، 452، 456، 461، 464، 472، 487، 494، 522، 565. "ج5" 278. السمعيون "ج2" 396، 410. سمهر "بنو" "ج2" 328، 330، 479، 545. سمهران "بنو" "ج2" 452. سميع "بنو" "ج2" 411، 413، 414. السميعيون "ج2" 414. سنان "ج1" 404. "ج9" 543. سنبس "بنو" "ج4" 219، 221. سهرة "قبائل" "ج2" 426، 429، 433، 437، 440، 445، 550، 555، 562. "ج4" 26. سهم "بنو" "ج1" 401. "ج3" 276. "ج4" 52، 56، 58، 60، 61، 63، 84، 87، 91، 112، 378، 514، 589.

"ج5" 249، 501. "ج6" 431، 712. "ج7" 192، 198. "ج9" 411، 619، 696، 706 سوى "بنو" "ج9" 155. سوجي "سواجر" "بنو" "ج1" 652. سود "ج1" 302. "ج3" 526. السودان "بنو" "ج9" 617. السوري "شعب" "ج4" 317. السوريون "ج1" 575. "ج3" 26، 27، 95. "ج6" 270. "ج9" 291، 428. السوس "ج1" 17. السومريون "ج1" 553، 560، 568، 569. "ج7" 67. "ج8" 22. السيابجة "ج4" 210. سيبان "بنو" "ج2" 290، 291. "ج3" 478. سيحان "ج4" 458. السيد "بنو" "ج1" 521. سيدعان "بنو" "ج1" 373.

الشين

الشين: شاحذ "بنو" "ج4" 448. شاكر "ج7" 462. شامية "قبائل" "ج1" 250. شبابة "بنو" "ج7" 87. "ج9" 638. شبام "بنو" "ج4" 448. شبعن شعبان "بنو" "ج2" 221. شبيع "ج3" 379. شحز "بنو" "ج2" 211، 213، 221. "ج8" 514. شحزاة "بنو" "ج4" 199. شدادم "بنو" "ج2" 477. شذب "قبيلة" "ج8" 204، 206 شرج "بنو" "ج6" 84. شرجا "بنو" "ج3" 375. شرعب "بنو" "ج4" 416. الشرق "أبناء" "ج1" 412، 445، 613، 632، 652. الشريد "بنو" "ج1" 405. "ج4" 260. "ج5" 365. "ج9" 282. شريف "بنو" "ج4" 529. الشظية "بنو" "ج6" 519، 522 شعب "آل" "ج2" 84، 291، 391، 545. "ج6" 405. "ج7" 36. شقران "بنو" "ج4" 437. شقرة "بنو" "ج4" 316. شكامة "بنو" "ج6" 280. شكر "بنو" "ج4" 442. شمخ "بنو" "ج4" 424، 513.

"ج9" 651. شمران "بنو" "ج4" 458. شمعون "بنو" "ج1" 584. الشمعونيون "ج1" 584. "ج4" 22. شميس "بنو" "ج4" 240. "ج6" 18. شنحان "بنو" "ج2" 550. شنخ "ج4" 264. شنوق "بنو" "ج4" 267. شهران "بنو" "ج2" 193، 535 "ج3" 513. "ج9" 802. شهل "بنو" "ج4" 443. شهوان "بنو" "ج4" 219. شوذب "بنو" "ج2" 302. شوذم "بنو" "ج2" 301. شيار "بنو" "ج2" 222. الشياطين "ج6" 144، 729، 741، 745، 749، 756، 757، 759. شيبان "بنو" "ج1" 401، 404، 407. "ج3" 227، 238، 252، 271، 294، 296، 297، 329، 425. "ج4" 206، 228، 334، 339، 416، 496، 501، 503، 570، 571. "ج5" 73، 361، 367، 369، 378، 385. "ج6" 214، 223، 237، 596 "ج7" 370. "ج8" 332، 417، 475. "ج9" 304، 433، 573، 799، 882، 887. شيبة "بنو" "ج9" 278. شيصيان "بنو" "ج6" 714، 724، 734. "ج9" 120، 121، 390، 332. شيعان "بنو" "ج2" 150، 221.

الصاد

الصاد: الصابئون "ج6" 701. صادر "بنو" "ج1" 405. صالح "قوم" "ج1" 310، 410. "ج3" 56، 513. صاهلة "بنو" "ج1" 535. "ج6" 214، 258. صباح "بنو" "ج1" 402. صباع "بنو" "ج4" 225. صبح "بنو" "ج3" 148، 149. صبرم "صبر" "بنو" "ج2" 321 صحار "بنو" "ج2" 541، 542. صحب "بنو" "ج1" 404. "ج4" 430. صخر "بنو" "ج4" 505. صد "بنو" "ج1" 301، 302. صداء "بنو" "ج1" 371. "ج4" 458، 459. "ج5" 353. "ج6" 241. الصدف "بنو" "ج4" 196، 198، 199، 465، 466. الصدقيون "جماعة" "ج3" 32. صرمة "بنو" "ج4" 432. صرواح "بنو" "ج2" 448، 544. الصعاليك "ج4" 68، 69، 139، 397، 411، 413، 563، 565، 595. "ج5" 61، 83، 429. الصعديون "ج1" 464. صعل "بنو" "ج4" 129. الصفد "بنو" "ج2" 538. صفوان "بنو" "ج1" 402. "ج6" 382. الصفوية "قبائل" "ج3" 148. الصفويون "ج1" 33. "ج3" 142، 144، 146، 147، 150، 154. "ج5" 102، 293، 492، 495 "ج6" 121، 229، 232، 237، 238، 269، 274، 311، 313، 314، 322، 326، 330، 331. "ج7" 106. "ج8" 242، 519، 520، 638، 639، 671. الصقالبة "بنو" "ج2" 533. الصقلبيات "ج6" 589. صلاءة "بنو" "ج7" 462. الصنائع "بنو" "ج4" 488. الصنابح "بنو" "ج1" 372. "ج4" 457. صهبان "ج4" 459. صهيبة "بنو" "ج4" 443. الصوار "بنو" "ج4" 416. صوران "بنو" "ج6" 647. الصوريون "ج1" 634، 641.

"ج6" 533. صوفة "بنو" "ج1" 402. "ج4" 438. "ج6" 387. صويعم "عشيرة" "ج2" 209. الصيداء "بنو" "ج1" 399. "ج4" 534. الصيدونيون "ج1" 32. الصينيون "ج1" 32. "ج4" 169. "ج6" 198.

الضاد

الضاد: ضاطر "بنو" "ج4" 15. ضب "بنو" "ج1" 512، 521. "ج4" 522. الضباب "بنو" "ج4" 189، 338، 394، 456، 522. "ج5" 269. "ج6" 260. ضبة "بنو" "ج1" 468، 521. "ج3" 290. "ج4" 205، 268، 378، 386، 452، 504، 524، 571 "ج5" 344، 376، 378، 379 "ج6" 56، 281، 357، 822. "ج8" 602، 630، 655، 689 "ج9" 154، 432. الضبع "بنو" "ج1" 521. "ج9" 433. الضبيب "ج4" 245، 248، 462، 522. الضبيعات "قبائل" "ج4" 339. ضبيعة "بنو" "ج2" 649. "ج3" 243. "ج4" 136، 218، 482، 503 "ج6" 459. "ج9" 432، 433، 567، 663، 664، 667. ضبينة "بنو" "ج1" 404. الضبيون "ج4" 225. الضجاعمة "قوم" "ج2" 630، 656، 657. "ج3" 325، 392، 394، 395، 398، 400. "ج4" 235، 424. "ج6" 587، 592. ضجعم "بنو" "ج9" 435. ضد "قبيلة" "ج1" 302. ضرب "بنو" "ج2" 193. ضرية "بنو" "ج4" 515. ضف "بنو" "ج3" 148. ضفجان "آل" "ج2" 94، 138، 139.

ضمرة "بنو" "ج1" 400. "ج7" 351، 353، 355، 376 ضمود "ج1" 302. الضمير "بنو" "ج4" 265. ضنبم "بنو" "ج2" 393. ضنة "بنو" "ج4" 246، 251، 430، 432.

الطاء

الطاء: الطائيون "ج4" 222، 453. "ج8" 588، 589، 668. "ج9" 31، 76، 230، 427. طابخة "بنو" "ج1" 521. "ج4" 522، 523. "ج8" 111. طدام "عشيرة" "ج2" 195، 220. طرود "بنو" "ج4" 240، 507. طريف "بنو" "ج4" 443. طسم "بنو" "ج1" 74، 84، 181، 382. "ج2" 578. "ج3" 179، 245. "ج4" 204، 216، 218، 537، 675. "ج6" 167، 285. "ج7" 133، 458. "ج8" 159، 164، 373. "ج9" 493، 537، 579، 686 الطفاوة "ج4" 572. "ج9" 447. الطقيقات "عشيرة" "ج3" 50. الطلس "ج6" 373. الطموح "ج9" 464. الطوطم "بنو" "ج1" 518، 519. "ج6" 216. الطوطميون "ج6" 708. طيء "ج1" 31، 32، 157، 306، 308، 335، 370، 373، حا 382، 493، حا 507، 547، 548، 652، 661. "ج3" 162، 173، 211، 250، 252، 271، 289، 291، 299، 330، 349، 359، 367، 369، 373، 411، 424، 428. "ج4" 68، 69، 145، 183، 208، 219، 222، 225، 227، 239، 244، 249، 251، 252، 304، 329، 338، 339، 375، 394، 424، 434، 442، 449، 454، 459، 461، 501، 508، 515، 524، 576. "ج5" 269، 354، 355، 374، 377، 378، 388، 390، 607، 647. "ج6" 59، 60، 83، 110، 167، 223، 250،

256، 260، 261، 268، 278، 280، 286، 315، 317، 352، 357، 523، 578، 590، 593، 601، 768، 770. "ج7" 28، 150، 180، 320، 337، 339، 347، 370، 372، 442، 481. "ج8" 111، 158، 160، 162، 186، 335، 474، 475، 500، 502، 573، 576، 578، 582، 589، 591، 603، 656، 676، 682، 738، 769. "ج9" 76، 341، 432، 435، 487، 498، 529، 531، 605، 618، 785، 793، 812، 813، 879. طيايا "بنو" "ج1" 31، 652، 660، 661. "ج2" 549.

الظاء

الظاء: ظاعنة "بنو" "ج1" 402، 521. "ج4" 535. "ج6" 357. ظبرن "بنو" "ج7" 263. ظفر "بنو" "ج1" 438، 476. "ج4" 139، 260. "ج9" 655، 719. ظهر "بنو" "ج2" 434.

العين

العين: عائذة "بنو" "ج4" 480. "ج9" 474. عاتية "عاينة" "بنو" "ج4" 425. عاد "بنو" "ج1" 71، 74، 84، 151، حا 159، 169، 310، 311، 314، 316، 319، 323، 325، 328، 332، 334، 342، 345،

348، 359، 420. "ج2" 163، 165. "ج3" 179، 532. "ج4" 147. "ج5" 112، 114، 338. "ج6" 83، 284، 673، 718، 820، 821. "ج7" 72، 133. "ج8" 52، 385، 537، 735، 785. "ج9" 274، 359، 363، 379، 393، 396، 403، 408، 439، 496، 579، 686 عادية "بنو" "ج4" 535. "ج9" 779. العاديون "ج1" 319، 488. العاص "آل" "ج4" 382. عاقولا "بنو" "ج8" 769. عامر "بنو" "ج1" 515. "ج3" 166، 213، 275، 277، 495، 497، 498. "ج4" 27، 147، 183، 250، 271، 341، 513، 520، 524، 526، 570، 597. "ج5" حا 145، 198، 350، 353، 354، 359، 360، 362، 371، 379، 381، 382، 395، 443، 445، 545، 603، 647. "ج6" 214، 363، 443، 719 "ج7" 177، 192، 291، 343، 383. "ج8" 186، 204، 603، 776 "ج9" 68، 204، 208، 258، 261، 274، 331، 432، 434، 501، 503، 548، 550، 576، 578، 618، 635، 850. عاملة "ج1" 547. "ج4" 251، 459، 461، 463، 531. "ج6" 275، 599. "ج8" 475. العباد "بنو" "ج3" 166، 169، 171، 310، 312. "ج4" 437، 463، 501. "ج8" 475. "ج9" 432، 795، 810. عباديدي "أباديدي" "قوم" "ج1" 585. العباديون "قوم" "ج3" 169، 171، 288، 339. "ج4" 238. "ج7" 593. "ج8" 296. العباس "بنو" "ج1" 509. "ج4" 318. "ج8" 632، 647، 648. "ج9" 319، 842. العباسيون "ج1" 251، 498. "ج2" 104. "ج4" 227، 355. "ج8" 665. "ج9" 59، 241، 290، 319، 373، 840. العباهلة "ملوك" "ج4" 68. عبد "بنو" "ج2" 393. "ج3" 148. عبد الجن "بنو" "ج9" 684. عبد الدار "بنو" "ج4" 378، 379. "ج5" 248، 250. "ج6" 213، 426. "ج8" 124. "ج9" 156، 413، 704.

عبد شمس "بنو" "ج4" 83، 84، 91، 100، 416. "ج5" 246. "ج8" 130. عبد ضخم "بنو" "ج1" 295، 296، 344، 345. "ج4" 147. "ج8" 161. عبد العزى "بنو" "ج4" 338. عبد القيس "بنو" "ج1" 177. "ج2" 638، 640. "ج4" 193، 203، 205، 209، 210، 222، 232، 321، 336، 369، 425، 438، حا 446، 471، 502، 527. "ج6" 464، 466، 467، 622، 739، 766. "ج7" 373. "ج8" 325، 359، 417، 475، 669، 688، 776، 781، 783، 787. "ج9" 37، 40، 238، 323، 324، 429، 430، 433، 453، 655، 688، 690، 691، 693، 726، 727، 729، 879. عبد المدان "بنو" "ج3" 536. "ج4" 459، 872. "ج8" 293. عبد المطلب "بنو" "ج5" 246، 247. "ج8" 275. عبد مناة "بنو" "ج4" 205، 268، 354. "ج5" 376. عبد مناف "بنو" "ج1" 509. "ج4" 277، 388، 636. "ج5" 407، 520، 603، 649، 650. "ج7" 302، 303. "ج9" 148، 492، 697. عبد ود "بنو" "ج4" 109. عبدان "بنو" "ج6" 459. عبدة "بنو" "ج4" 423. العبرانيون "ج1" 20، 21، 28، 30، 31، 33، 53، 56، 75، 141، 144، 155، 199، 201، 202، 207، 209، 224، 244، 248، 252، 299، 314، 347، 351، 357، 362، 419، 422، 429، 430، 435، 437، 440، 443، 450، 455، 459، 460، 468، 482، 514، 515، 522، 523، 528، 574، 584، 590، 604، 629، 631، 634، 636، 637، 640، 641، 646، 648، 650، 652، 658. "ج2" 77، 91، 262، 264، 268. "ج3" 14، 89، 189. "ج4" 13، 360، 373، 653. "ج5" 108، 110، 119، 152، 155، 159، 160، 172، 173، 261، 296، 305، 310، 311، 335، 422، 430، 447، 453، 467، 536، 541، 559، 585، 587، 606، 622. "ج6" 55، 64، 119، 139، 189، 197، 198، 208، 215، 235، 280، 298، 302، 316، 329، 356، 398، 407، 410، 421، 424، 515، 518، 550.

554، 558، 579، 616، 678، 708، 709، 715، 716، 719، 726، 732، 744، 782، 786، 787، 794، 795، 801، 802. "ج7" 15، 108، 233، 236، 238، 240، 326، 418، 514، 548، 549، 551، 553، 557، 560، 565، 568، 573، 578، 584، 585، 588، 597، 601، 604، 609، 614، 618، 623، 627، 634، 635. "ج8" 21، 23، 35، 64، 76، 105، 151، 153، 180، 182، 192، 255، 256، 263، 283، 286، 289، 291، 298، 310، 322، 337، 340، 349، 355، 393، 395، 396، 398، 409، 411، 421، 429، 431، 432، 440، 453، 454، 467، 482، 490، 525، 526، 545، 546، 589، 638، 786. "ج9" 124، 125، 127، 171، 184، 202، 368، 410 عبس "بنو" "ج1" 295، 344، 399، 404. "ج3" 270، 277. "ج4" 202، 254، 332، 338، 341، 382، 412، 453، 509، 511، 513، 515، 516، 520، 523، 572، 626، 636، 652. "ج5" 357، 358، 360، 363، 372، 375، 377، 379، 387. "ج6" 83، 698. "ج8" 791. "ج9" 432، 434، 545، 559، 560، 623، 636. العبسيون "ج5" 387. "ج9" 559. عبشمس "ج9" 900. عبلم "بنو" "ج2" 332، 379. عبم رشون "ج2" 221. العبود "بنو" "ج1" 302. العبيات "عشيرة" "ج3" 50. عبيد "بنو" "ج1" 404. "ج2" 615، 617. عبيل "عشيرة" "ج1" 429. "ج2" 460، 564. "ج7" 350. عتر سمين "بنو" "ج6" 291. عتريف "بنو" "ج4" 515. العتق "بنو" "ج1" 512، 517. "ج3" 325. عتيك "بنو" "ج2" 647. "ج4" 442. عثكلان "بنو" "ج2" 339. عثمان "بنو" "ج5" 340. العثمانيون "قوم" "ج3" 50. "ج8" 521. عجل "بنو" "ج2" 649. "ج3" 295، 296، 359. "ج4" 223، 335، 377، 502 "ج6" 686، 820. "ج9" 175، 295، 420، 433، 670. العجلان "بنو" "ج1" 406. "ج4" 135. "ج6" 214، 288. "ج9" 246، 588، 888. عجيب "بنو" "ج6" 373.

عداء "بنو" "ج6" 277. العدسيون "ج3" 301. "ج4" 226. عدنان "ج1" 295، 390، 391، 393، 409، 470، 478، 479. "ج2" 157، 538، 549. "ج3" 161، 166، 315، 319، 382. "ج4" 313، 316، 318، 319، 321، 322، 326، 328، 329، 331، 390، 417، 419، 420، 464، 589، 604. "ج7" 327. "ج9" 229، 379، 382، 424، 436، 437، 733. العدنانية "قبائل" "ج1" 252، 294، 362، 380، 381، 385، 447، 476، 478، 482، 485، 486، 491، 494، 498، 516، 517. "ج2" 549. "ج4" 15، 18، 440، 445، 476، 488، 489، 499، 500، 506، 507. "ج5" 344، 345، 354، 355. العدنانيون "ج1" 15، 225، 252، 266، 313، 354، 356، 361، 364، 366، 372، 375، 380، 382، 384، 393، 394، 397، 420، 421، 433، 473، 475، 477، 479، 487، 489، 491، 495، 497، 498، 501، 508. "ج2" 255، 515. "ج3" 14، 193، 319، 337، 386. "ج4" 12، 274، 275، 282، 320، 321، 327، 435، 443، 467، 500، 537، 538. "ج5" 344، 346، 351، 354، 355. "ج6" 442. "ج8" 653، 671، 672، 689. "ج9" 379، 384، 424، 436، 437، 451، 452. عدوان "بنو" "ج1" 339. "ج4" 44، 269، 508. "ج5" 382، 646، 650. "ج6" 357، 363، 364. "ج8" 350، 352، 500. "ج9" 284، 434، 484. العدوية "قبيلة" "ج1" 403. عدي "بنو" "ج3" 171، 176، 250، 436. "ج4" 64، 84، 91، 112، 254، 328، 378، 379، 386، 430، 464، 524، 528 "ج5" 249، 329، 376. "ج6" 56، 281، 369، 469، 475. "ج7" 192، 510. "ج9" 277، 411، 897. عذبهان "بنو" "ج2" 522. عذذ "آل" "ج2" 133. عذرة "بنو" "ج3" 424 "ج4" 39، 41، 42، 117، 187، 222، 246، 248، 251، 262، 388، 427، 430، 432، 502، 675. "ج6" 281، 286، 822. "ج7" 148، 195، 462.

"ج8" 603. "ج9" 106. عذل "بنو" "ج3" 148. العراقي "شعب" "ج4" 317. العراقية "شعوب" "ج1" 227، 250، 252، 546. "ج9" 428. العراقيون "ج1" 197، 546، 554، 555، 618. "ج3" 11، 172. "ج7" 204، 553، 587. "ج8" 22، 203، 683. "ج9" 50، 202. عران "عشيرة" "ج2" 392. العرب"ج1" 5، 7، 10، 13، 14، 16، 28، 37، 42، 44، 46، 48، 51، 53، 61، 63، 68، 69، 72، 75، 77، 82، 84، 86، 87، 89، 91، 92، 102، 107، 108، 114، 115، 117، 122، 123، 134، 136، 138، 143، 146، 147، 152، 158، 160، 162، 165، 166، 169، 183، 184، 192، 197، 199، 202، 204، 207، 209، 212، 214، 215، 220، 225، 227، 228، 235، 237، 248، 249، 252، 256، 258، 261، 273، 276، 277، 281، 282، 286، 288، 290، 292، 297، 299، 301، 310، 315، 317، 323، 324، 331، 332، 335، 337، 341، 345، 347، 349، 351، 353، 354، 357، 364، 366، 375، 376، 379، 385، 389، 393، 401، 403، 405، 410، 417، 420، 421، 426، 433، 435، 437، 439، 440، 445، 447، 449، 457، 459، 461، 462، 469، 474، 477، 482، 485، 493، 495، 496، 498، 500، 502، 505، 517، 520، 527، 542، 544، 546، 549، 551، 552، 570، 573، 575، 577، 579، 584، 590، 591، 593، 594، 596، 600، 604، 608، 610، 614، 616، 619، 631، 634، 636، 637، 639، 641، 646، 648، 653، 655، 661. "ج2" 6، 8، 11، 13، 16، 18، 22، 25، 27، 34، 38، 40، 42، 44، 46، 49، 54، 58، 61، 64، 66، 68، 71، 72، 77، 78، 93، 94، 103، 110، 113، 130، 131، 157، 176، 189، 198، 201، 203، 242، 258، 266، 268، 274، 339، 420، 453، 498، 501، 502، 513، 597، 601، 605، 609، 615، 617، 620، 622، 624، 626، 628، 631، 633، 636، 652، 654، 657، 658. "ج3" 5، 6، 9، 11، 14، 21، 28، 32، 35، 38، 42، 47، 50، 59، 60، 67، 75، 80، 94، 102،

104، 107، 115، 121، 130، 136، 142، 144، 145، 147، 150، 153، 156، 158، 160، 162، 164، 172، 176، 178، 184، 186، 193، 198، 200، حا 202، 205، 207، 215، 216، 220، 221، 223، 227، 230، 233، 236، 237، 240، 242، 248، 254، 255، 257، 258، 264، 267، 269، 271، 273، 276، 278، 280، 281، 286، 293، 298، 301، 304، 305، 308، 312، 316، 318، 320، 321، 324، 328، 330، 335، 338، 340، 342، 343، 348، 355، 357، 359، 363، 364، 367، 368، 370، 371، 373، 382، 384، 385، 387، 390، 392، 395، 400، 405، 406، 409، 411، 415، 417، 418، 423، 425، 431، 441، 449، 452، 456، 466، 473، 477، 490، 492، 500، 504، 508، 514، 517، 518، 520، 526، 527، 529، 538. "ج4" 10، 12، 14، 16، 18، 20، 22، 23، 26، 27، 30، 33، 38، 41، 42، 44، 47، 51، 57، 65، 67، 69، 71، 75، 78، 86، 90، 91، 99، 101، 102، 111، 116، 117، 119، 120، 126، 129، 130، 134، 141، حا 144، 147، 149، 155، 158، 164، 171، 173، 174، 176، 179، 180، 187، 202، 208، 211، 213، 217، 221، 224، 225، 227، 231، 235، 238، 240، 245، 248، 257، 263، 266، 269، 271، 273، 282، 287، 288، 290، 291، 293، 295، 297، 314، 317، 319، 328، 332، 335، 338، 341، 343، 348، 352، 354، 357، 360، 365، 366، 368، 370، 372، 374، 379، 382، 384، 387، 389، 391، 396، 399، 401، 403، 405، 408، 410، 412، 414، 420، 421، 426، 427، 432، 435، 443، 445، 446، 452، 454، 455، 462، 467، 469، 473، 475، 485، 486، 488، 491، 494، 497، 499، 501، 506، 508، 511، 514، 523، 526، 529، 530، 533، 536، 538، 543، 544، 547، 548، 550، 554، 556، 557، 561، 563، 564، 570، 572، 575، 578، 579، 581، 583، 586، 589، 591، 592، 594، 602، 609، 615، 617، 620، 625، 630، 632، 634، 643، 645، 646، 648، 650، 651،

653، 659، 664، 667، 669، 673، 676، 679، 681، 684. "ج5" 5، 7، 10، 11، 14، 16، 17، 27، 28، 30، 33، 35، 37، 40، 42، 43، 45، 47، 50، 52، 54، 61، 63، 68، 76، 78، 83، 87، 93، 95، 97، 109، 111، 117، 120، 127، 133، 139، 144، 155، 158، 160، 163، 165، 175، 181، 183، 185، 189، 193، 195، 198، 202، 205، 207، 210، 217، 218، 222، 223، 225، 227، 235، 237، 239، 241، 249، 251، 254، 257، 260، 261، 264، 268، 270، 272، 283، 285، 287، 292، 294، 295، 298، 301، 304، 307، 309، 316، 323، 326، 328، 330، 335، 337، 339، 341، 342، 344، 346، 351، 352، 355، 362، 364، 369، 378، 380، 383، 389، 392، 399، 401، 402، 404، 405، 407، 411، 415، 416، 421، 425، 427، 428، 432، 435، 439، 440، 445، 446، 460، 467، 468، 470، 474، 476، 480، 484، 488، 493، 496، 499، 500، 502، 504، 507، 510، 511، 514، 516، 517، 530، 532، 540، 542، 544، 557، 559، 564، 573، 574، 578، 582، 584، 589، 591، 593، 594، 601، 605، 609، 621، 624، 625، 628، 630، 633، 635، 640، 643، 645، 647، 649، 652. "ج6" 5، 7، 11، 13، 14، 16، 19، 20، 26، 27، 29، 34، 36، 39، 43، 44، 49، 51، 53، 59، 62، 64، 66، 68، 70، 74، 78، 84، 101، 103، 105، 107، 110، 114، 117، 120، 122، 128، 131، 140، 142، 145، 148، 153، 160، 161، 164، 168، 171، 173، 177، 186، 189، 193، 197، 200، 203، 205، 207، 209، 216، 218، 220، 222، 223، 226، 227، 229، 231، 233، 235، 236، 238، 239، 243، 248، 249، 252، 255، 257، 259، 263، 264، 267، 269، 270، 272، 275، 281، 282، 285، 290، 293، 295، 302، 304، 306، 307، 309، 315، 317، 320، 321، 323، 324، 326، 327، 329، 332، 336، 337، 339، 344، 346، 348، 349، 351، 352، 354، 356، 357، 359، 362، 364، 366،

368، 374، 376، 379، 381، 383، 385، 387، 388، 391، 392، 397، 399، 402، 407، 408، 412، 414، 418، 423، 424، 427، 429، 431، 438، 444، 446، 447، 499، 450، 452، 454، 456، 462، 465، 467، 472، 478، 480، 484، 488، 492، 493، 499، 505، 508، 511، 514، 516، 519، 520، 531، 533، 536، 541، 543، 545، 552، 557، 561، 566، 568، 578، 579، 582، 584، 586، 595، 597، 599، 602، 606، 608، 611، 612، 614، 617، 618، 621، 623، 625، 626، 628، 630، 634، 637، 638، 646، 649، 650، 653، 656، 658، 662، 663، 665، 667، 670، 673، 674، 680، 683، 685، 687، 690، 692، 702، 705، 707، 708، 710، 712، 715، 719، 723، 727، 729، 733، 735، 738، 740، 744، 746، 751، 755، 763، 764، 766، 769، 774، 781، 783، 786، 788، 792، 794، 799، 801، 704، 806، 807، 811، 815، 819، 821. "ج7" 7، 9، 12، 17، 19، 21، 22، 26، 27، 30، 37، 38، 46، 49، 57، 60، 62، 64، 67، 68، 73، 76، 81، 83، 91، 98، 100، 102، 104، 108، 109، 111، 113، 115، 117، 119، 124، 126، 128، 136، 144، 149، 151، 153، 155، 157، 159، 163، 167، 174، 177، 183، 184، 194، 199، 200، 203، 206، 216، 227، 228، 230، 233، 239، 244، 245، 256، 258، 260، 262، 264، 266، 269، 271، 276، 277، 280، 281، 285، 287، 291، 292، 294، 301، 302، 304، 321، 324، 328، 331، 335، 336، 342، 356، 369، 373، 375، 380، 382، 384، 393، 396، 397، 405، 415، 417، 419، 422، 425، 427، 435، 438، 452، 455، 459، 461، 463، 468، 474، 477، 480، 488، 490، 493، 496، 498، 502، 506، 508، 512، 513، 517، 520، 528، 530، 532، 535، 538، 539، 554، 545، 548، 555، 557، 562، 563، 565، 566، 572، 575، 577، 578، حا 594، 602، 609، 615، 616، 618، 619، 621، 623، 629، 632. "ج8" 8، 11، 12، 24،

26، 29، 36، 42، 48، 49، 54، 57، 60، 64، 69، 73، 75، 76، 81، 91، 95، 98، 101، 103، 108، 110، 112، 113، 115، 118، 120، 126، 129، 138، 141، 143، 151، 154، 156، 158، 160، 162، 168، 169، 171، 173، 178، 180، 185، 189، 191، 195، 196، 199، 202، 204، 205، 218، 223، 226، 229، 230، 238، 242، 245، 247، 248، 250، 252، 254، 258، 259، 262، 265، 266، 275، 285، 287، 295، 299، 301، 309، 311، 312، 315، 320، 321، 324، 326، 329، 331، 334، 335، 337، 340، 641، 343، 345، 347، 349، 352، 355، 359، 362، 364، 368، 369، 374، 376، 379، 381، 382، 386، 388، 390، 392، 393، 395، 404، 405، 407، 408، 410، 412، 415، 417، 421، 425، 428، 432، 435، 438، 444، 446، 449، 452، 459، 461، 469، 473، 477، 479، 480، 482، 486، 488، 493، 497، 498، 501، 505، 513، 515، 518، 521، 523، 525، 530، 535، 537، 547، 549، 550، 552، 555، 557، 558، 560، 572، 574، 575، 577، 582، 586، 588، 589، 591، 595، 596، 599، 600، 603، 608، 616، 619، 621، 623، 626، 628، 632، 634، 641، 644، 660، 662، 666، 668، 671، 673، 677، 685، 687، 689، 691، 693، 696، 698، 708، 710، 711، 713، 715، 717، 718، 721، 723، 724، 726، 727، 730، 731، 734، 741، 746، 749، 752، 753، 759، 761، 764، 767، 768، 770، 774، 776، 780، 872، 883، 886، 889، 892، 894. "ج9" 5، 11، 14، 21، 23، 26، 29، 31، 33، 36، 40، 43، 47، 49، 51، 53، 54، 56، 59، 63، 74، 79، 82، 85، 89، 91، 95، 97، 99، 104، 108، 111، 116، 118، 125، 128، 135، 136، 140، 145، 148، 151، 152، 155، 158، 160، 161، 169، 171، 175، 178، 181، 184، 192، 194، 196، 199، 201، 203، 208، 213، 215، 218، 220، 222، 225، 226، 232، 233، 235، 238، 240، 242، 251، 254، 257، 261، 264، 266، 268

272، 280، 281، 290، 295، 297، 298، 303، 308، 311، 315، 317، 321، 332، 335، 338، 340، 347، 349، 356، 357، 360، 362، 368، 370، 373، 375، 377، 381، 384، 385، 390، 392، 395، 398، 404، 406، 407، 409، 410، 412، 414، 415، 418، 421، 422، 425، 427، 431، 435، 438، 441، 443، 447، 449، 453، 456، 464، 465، 474، 475، 483، 486، 489، 495، 500، 501، 504، 506، 508، 511، 515، 517، 518، 522، 523، 526، 528، 530، 532، 535، 543، 545، 550، 559، 562، 564، 568، 569، 582، 587، 591، 594، 596، 597، 599، 601، 605، 609، 617، 620، 622، 624، 638، 642، 646، 647، 649، 651، 655، 657، 659، 662، 671، 673، 676، 694، 695، 698، 722، 726، 729، 731، 732، 737، 738، 740، 747، 753، 755، 762، 769، 772، 774، 792، 795، 799، 802، 805، 807، 817، 821، 822، 827، 830، 831، 834، 838، 840، 843، 844، 852، 854، 855، 857، 858، 863، 865، 868، 871، 876، 882، 885، 889، 892، 894. العربي "شعب" "ج1" 8، 100، 267، 271، 341، 351، 429، 574. "ج3" 32. "ج4" 317. العربية "قبائل" "ج1" 7، 10، 13، 21، 26، 27، 31، 42، 43، 61، 67، 71، 78، 165، 169، 221، 291، 292، 294، 295، 313، 326، 357، 362، 375، 380، 391، 417، 422، 424، 426، 439، 441، 443، 446، 448، 450، 455، 459، 468، 479، 482، 528، 544، 549، 552، 553، 555، 557، 576، 579، 587، 594، 602، 603، 607، 610، 612، 619، 623، 625، 628، 638، 639، 642، 651، 652، 655، 657، 659، 661 "ج2" 5، 8، 10، 30، 163، 218، 259، 405، 600، 604، 605، 610، 611، 619، 622، 624، 627، 634، 636، 638، 643. "ج3" 17، 20، 22، 35، 43، 80، 82، 120، 129، 148، 150، 153، 173، 318، 374، 395، 417، 483، 494، 519. "ج4" 10، 35، 120، 170، 328، 370، 414، 415، 422، 460، 462.

474، 482، 489، 504، 516، 526، 535. "ج5" 180، 200، 445. "ج6" 11، 15، 233، 248، 292، 309، 311، 315، 339، 342، 524، 525، 549، 593. "ج8" 619، 638، 640. "ج9" 794، 844. عرقان "بنو" "ج2" 221. العرنج "بنو" "ج4" 324. عريبي "بنو" "ج1" 348. "ج6" 64. عريج "بنو" "ج1" 400. عريض "بنو" "ج4" 264. "ج6" 518، 530. "ج8" 127. عرينة "بنو" "ج1" 374. "ج4" 250، 430. العزاجين "عشيرة" "ج3" 51. العشراء "ج4" 513. عصر "بنو" "ج4" 347، 484. عصية "قبيلة" "ج1" 404. "ج4" 259، 260. عصيون جابر "بنو" "ج1" 637 العضاريط "ج3" 424. عضدان "عشيرة" "ج2" 563. عطارد "آل" "ج1" 403. "ج6" 18. عطل "بنو" "ج6" 56. العطون "عشيرة" "ج3" 51. عطية "بنو" "ج1" 521. عفرس "بنو" "ج1" 374، 521 عقاب "بنو" "ج1" 521. "ج2" 547. عقبان "عشيرة" "ج2" 457. عقبة "بنو" "ج4" 189. "ج7" 479. عقرب "بنو" "ج1" 521 "ج2" 398، 400، 413. "ج3" 434. عتقم عقن "بنو" "ج2" 162. عقهت عقهة "ج3" 475. عقيل "بنو" "ج1" 386. "ج7" 377، 512، 513. "ج8" 280. "ج9" 17، 434، 718. عك "بنو" "ج1" 349، 390، 391. "ج2" 428، 541، 542، 544. "ج3" 161، 387، 389، 429. "ج4" 185، 192، 193، 195، 196، 390، 442، 443، 504، 506، 511. "ج6" 274، 286، 357، 373، 375، 377. عكب "بنو" "ج1" 408. "ج4" 595. عكدي "بنو" "ج3" 191. عكرمة "بنو" "ج6" 519، 522 عكل "بنو" "ج4" 254، 378، 386، 525، 528، 572. "ج5" 586. "ج6" 281، 357. "ج9" 68، 432، 874. عكم "جماعة" "ج2" 427. "ج4" 310. عل "بنو" "ج3" 495، 497. العلاء "بنو" "ج4" 458. علاج "بنو" "ج4" 154، 156. علاف "بنو" "ج1" 394. "ج6" 357، 363، 364. علاقة "بنو" "ج4" 505 العلاوين "علويون" "عشيرة" "ج3" 50. علبة "آل" "ج4" 437. علفق "بنو" "ج2" 469.

علقمة "بنو" "ج4" 446. "ج6" 654، 687. العلويون "ج4" 355. "ج8" 303. عليان "بنو" "ج2" 369. "ج4" 448. عليم "بنو" "ج4" 430، 448. العمالقة "ج1" 295، 296، 299، 319، 345، 347، 455، 456، 573، 574. "ج3" 104، 184، 229. "ج4" 13، 51، 72، 145. "ج6" 517، 821. "ج8" 365، 603. العماليق "ج1" 296، 343، 345، 347، 359، 435، 346، 504. "ج2" 221. "ج3" 90، 103، 112، 167، 181، 196. "ج4" 12، 13، 129، 133، 146، 212، 440، 443، 625 "ج5" 112، 639. "ج7" 78، 79، 252، 516. "ج7" 350 "ج8" 364، 790. العمامرة "عشيرة" "ج3" 51. عمان "بنو" "ج8" 603. العمانيون "ج1" 174. العمران "بنو" "ج3" 50. "ج7" 179. عمرت "بنو" "ج3" 148. عمرو "بنو" "ج2" 542. "ج3" 364. "ج4" 138، 139، 182، 207، 426، 570. "ج6" 286، 363، 473. "ج7" 141. "ج9" 395، 397. عمون "بنو" "ج1" 596. "ج3" 68. العمونيون "ج1" 590، 646، 649. "ج7" 67. "ج8" 714. عمير "بنو" "ج4" 482. "ج6" 281. العميرات "عشيرة" "ج3" 50. عنان "بنو" "ج2" 385، 552. العنبر "بنو" "ج4" 193. "ج5" 81، 375، 437. "ج6" 729، 820. "ج9" 474. عنة "بنو" "ج4" 444. عنزة "بنو" "ج1" 521. "ج4" 218، 335، 482، 585، 637. "ج6" 277، حا 284، 421. "ج9" 68، 488، 812، 813. العنزيون "ج4" 220. عنس "بنو" "ج4" 454. "ج7" 520. العواجة "بنو" "ج3" 51. عوج "ج3" 60. العوديون "ج2" 290. عوذ "بنو" "ج3" 148. "ج4" 250. عوذلة "بنو" "ج2" 290. عور "آل" "ج8" 206. العوصيين "ج1" 420. عوف "بنو" "ج1" 403. "ج4" 136، 137، 206، 517، 592. "ج6" 214، 519، 522. العوقة "بنو" "ج1" 407.

عوهب "بنو" "ج2" 294. عيفة "بنو" "ج1" 458، 581. العيلاميين "ج1" 224، 590. "ج8" 526.

الغين

الغين: غاديا "بنو" "ج4" 264. "ج6" 518، 530. "ج8" 127. غارب "بنو" "ج2" 193، 221. غاسل "بنو" "ج4" 450. غاضرة "بنو" "ج1" 399. "ج4" 156، 425، 534. غافق "بنو" "ج4" 438. غامد "بنو" "ج4" 442. غبراء "بنو" "ج4" 553، 564، 565. "ج5" 6، 8، 81. "ج7" حا 131، 538. غبشان "بنو" "ج1" 361. "ج6" 58. غر "بنو" "ج3" 148. غراب "بنو" "ج1" 512، 521. الغرب "بنو" "ج7" 462. الغرباء "بنو" "ج4" 553. غربان "بنو" "ج2" 193. غرية "آل" "ج2" 84. "ج5" حا 391. الغساسنة "ج1" 73، 80، 81، 86، 217، 249، 250، 438، 483، 486، 492، 576 "ج2" 623، 630، 631، 643، 656، 658. "ج3" 63، 102، 129، 136، 147، 150، 153، 154، 188، 194، 210، 245، 250، 259، 273، 279، 280، 288، 346، 369، 370، 387، 388، 390، 393، 395، 397، 401، 403، 412، 416، 418، 420، 431، 432، 434، 437، 446، 448، 492. "ج4" 39، 40، 94، 117، 134، 179، 233، 240، 242، 280، 404، 409، 424، 463، 473، 489، 501، 631، 670، 680. "ج5" 39، 61، 104، 178، 199، 200، 205، 207، 212، 218، 223، 233، 283، 287، 291، 296، 324، 325، 327، 328، 345، 355، 410، 412، 588، 632. "ج6" 520، 521، 591، 594، 596، 632، 633، 678.

"ج7" 348، 479. "ج8" 288، 520، 560، 647، 687، 720، 735. "ج9" 87، 92، 93، 155، 242، 292، 370، 426، 442، 445، 574، 591، 593، 594، 731، 734، 842، 844. غسان "آل" "ج1" 66، 72، 81، 390، 391، 469، 479، 491، 498، 501، 507، 508، 512. "ج2" 630، 652، 658. "ج3" 164، 214، 232، 235، 239، 240، 246، 248، 253، 266، 273، 280، 281، 310، 375، 387، 394، 397، 401، 406، 407، 410، 412، 418، 420، 423، 425، 426، 428، 429، 431، 436، 438، 448. "ج4" 70، 129، 134، 201، 215، 220، 227، 232، 233، 235، 239، 241، 249، 316، 325، 326، 329، 335، 339، 340، 424، 438، 442، 463، 473، 505، 530، 562، 595، 596. "ج5" 191، 199، 233، 240، 320، 324. "ج6" 248، 249، 279، 377، 382، 471، 514، 519، 521، 527، 577، 588، 590، 593، 594، 599، 607، 610، 659. "ج7" 372. "ج8" 177، 475، 519، 603، 627، 632، 668، 770 "ج9" 86، 136، 182، 291، 389، 426، 427، 435، 533، 548، 588، 591، 593، 686، 731، 732، 734، 743، 771، 772. الغسانيون "ج3" 232، 406، 418، 428، 435، 440. "ج4" 238. "ج9" 548. الغطاريف "ج5" 593. "ج6" 214، 246. غطفان "ج1" 281، 388، حا 389، 399، 470. "ج3" 213، 347، 434. "ج4" 21، 29، 31، 140، 222، 257، 260، 264، 334، 347، 375، 386، 430، 431، 462، 488، 510، 513، 516، 519، 520، 524، 527، 570، 571، 579، 652، 675. "ج5" 189، 303، 357، 358، 361، 364، 377، 382، 385. "ج6" 236، 240، 275، 363، 364، 444. "ج7" 208، 339. "ج8" 473، 474، 496، 603، 632، 778، 780. "ج9" 388، 434، 500، 541، 543، 881، 882، 896. غطيف "بنو" "ج4" 456. "ج6" 62، 260، 261. غفار "بنو" "ج1" 295، 346، 458.

"ج5" 116. "ج7" 351. غفيلة "ج6" 281. "ج9" 660. الغلباء "بنو" "ج4" 490. غمد "بنو" "ج2" 462. غمرة "بنو" "ج4" 124. غنى "بنو" "ج1" 399. "ج4" 205، 508، 515، 572 "ج5" 77، 395، 396. "ج6" 240. "ج8" 580. "ج9" 68، 146، 447. غنم "بنو" "ج1" 521. "ج4" 242، 438، 484. "ج6" 237، 287. "ج8" 582. "ج9" 703. الغوث "بنو" "ج4" 219، 221، 443، 451. "ج6" 363، 728، 729. "ج9" 814. غيلان "بنو" "ج7" حا 508. غيمان "بنو" "ج2" 338، 477. الغيمانيون"ج2" 477.

الفاء

الفاء: فائش "بنو" "ج1" 350. "ج4" 423، 448. فاتيه "ج6" 526. فالج "بنو" "ج4" 129، 425. القحامين "عشيرة" "ج3" 50. الفدوكس "قوم" "ج4" 492. فراس "بنو" "ج1" 400. "ج5" 364، 365، 388. الفراعنة "ج1" 418. "ج5" 230، 468. "ج6" 198. "ج8" 22. فران "بنو" "ج4" 423. الفراهيد "ج1" 374. "ج4" 442. فرث "قوم" "ج1" 620. "ج2" 21، 40، 41، 609، 611، 612، 614، 617، 620، 626، 628. "ج3" 18، 27، 35، 36، 79، 85، 91، 140، 148، 175 "ج5" 429 الفرثيون "ج2" 43. الفرس "ج1" 18، 22، 31، 57، 61، 65، 66، 75، 80، 108، 165، 174، 219، 246، 250، 251، 253، 263، 267، 268، 271، 340، 387، 395، 416،

437، 447، 467، 496، 499، 508، 510، 585، 611، 620، 623، 625، 626، 628، 645، 646، 658، 660. "ج2" 12، 23، 24، 31، 34، 40، 92، 93، 163، 401، 513، 539، 550، 551، 576، 594، 602، 606، 608، 615، 618، 620، 623، 626، 627، 629، 631، 632، 634، 636، 638، 640، 644، 647، 649، 657، 659. "ج3" 16، 22، 63، 82، 83، 85، 86، 90، 93، 98، 100، 103، 111، 113، 120، 122، 125، 128، 135، 145، 147، 157، 164، 165، 171، 172، 186، 189، 191، 194، 197، 199، 205، 208، 210، 215، 216، 219، 224، 228، 254، 258، 260، 267، 268، 273، 278، 289، 290، 293، 300، 304، 306، 308، 310، 312، 324، 338، 341، 343، 383، 386، 399، 404، 405، 407، 408، 413، 414، 417، 418، 422، 451، 457، 468، 472، 474، 488، 492، 503، 505، 518، 519، 521، 523، 524، 526، 530، 532. "ج4" 16، 19، 39، 40، 56، 98، 113، 116، 119، 124، 153، 159، 162، 166، 168، 170، 172، 174، 179، 183، 184، 190، 202، 205، 207، 215، 223، 225، 227، 231، 243، 257، 269، 284، 296، 297، 304، 307، 308، 321، 326، 408، 409، 442، 451، 454، 471، 474، 486، 489، 500، 502، 557، 611، 628. "ج5" 36، 40، 52، 56، 63، 65، 98، 101، 108، 112، 120، 189، 193، 199، 201، 208، 216، 218، 225، 232، 245، 266، 272، 273، 288، 290، 296، 304، 305، 321، 324، 328، 329، 335، 336، 341، 344، 410، 414، 416، 421، 424، 427، 468، 544، 591، 623. "ج6" 19، 61، 323، 528، 530، 588، 595، 605، 613، 628، 630، 660، 662، 663، 691، 694، 696، 777، 789. "ج7" 19، 64، 227، 230، 233، 256، 266، 280، 282، 283، 287، 301، 332، 374، 498، 499، 568، 575، 578، 608، 609، 615. "ج8" 42، 107، 163، 197، 199، 250، 263، 270، 295، 309، 312، 316، 336، 339، 341، 368، 369، 385، 386، 515،

518، 520، 521، 545، 561، 589، 604، 632، 637، 645، 669، 688، 696، 702، 704، 706، 711، 715، 718، 720، 722، 726، 727. "ج9" 9، 11، 48، 69، 95، 101، 116، 127، 140، 155، 157، 214، 215، 291، 368، 765، 806، 844، 901. الفرعا "بنو" "ج1" 403. الفرعان "ج3" 50. "ج8" 482. فرعون "آل" "ج5" 56. "ج6" 34. فرغانة "بنو" "ج4" 660. الفروشيم "جماعة" "ج6" 551. الفريسيون "قوم" "ج3" 32. "ج7" 478. فزارة "بنو" "ج1" 404. "ج3" 63، 369، 428، 434. "ج4" 240، 253، 255، 316، 347، 375، 512، 513، 520، 524، 570، 572، 591. "ج5" 145، 235، 362، 363، 373، 376، 385، 392، 498. "ج6" 286. "ج7" 41. "ج8" 578، 682، 778. "ج9" 68، 651، 896. فضج "بنو" "ج3" 148. فضحم "آل" "ج8" 514. الفطائريون "بنو" "ج6" 637. فطرة "بنو" "ج1" 370. "ج4" 451. فقدن "فقدان" "بنو" "ج2" 221. فقعس "بنو" "ج1" 399. "ج4" 534. فقيم "بنو" "ج1" 400. "ج3" 508، 509. "ج4" 529، 532. "ج8" 498. "ج9" 776. فكيه "بنو" "ج5" 640. الفلسطينيون "ج1" حا 590، 623، 642، 644. "ج6" 235. "ج8" 148. فهد "بنو" "ج4" 194. فهر "آل" "ج1" 168، 509. "ج4" 45، 84، 109، 479. "ج6" 722. "ج8" 117، 348. فهم "قبيلة" "ج1" 399. "ج4" 269، 424، 438، 442 "ج5" 573. "ج6" 363. "ج8" 593. "ج9" 433، 615، 638، 641، 793. الفيديد "جماعة" "ج1" 480. فيشان "قبيلة" "ج2" 297، 317، 318، 321، 390، 391، 468، 494. الفيشانيون "ج2" 390. فيلبيون "ج2" 611. الفينيقية "جالية" "ج1" 224. الفينيقيون "ج1" 224، 232، 252، 539، 540، 545، 566، 567، 575، 624، 630، 641. "ج7" 268. "ج8" 147، 148، 151، 152، 180، 243، 245، 393، 525.

القاف

القاف: قاذر "بنو" "ج1" 440. القارة "بنو" "ج1" 399. "ج4" 267. "ج7" 330، 467. "ج8" 133. قاس "بنو" "ج4" 423. قاسط "بنو" "ج4" 423. قاضية "بنو" "ج4" 505. القبط "قوم" "ج8" 604، 668، 669، 688. "ج9" 427. قبلان "بنو" "ج3" 475. قبيصة "آل" "ج3" 292. القبيضات "عشيرة" "ج3" 50. القتباني "شعب" "ج2" 217. قتبانية "قبائل" "ج2" 151، 161، 195، 218، 221. القتبانيون "ج1" 46، 514. "ج2" 74، 171، 173، 183، 193، 195، 196، 202، 217، 229، 260، 292، 294، 320، 321، 405، 429، 476، 506، 519. "ج5" 183، 205، 228، 476، 582، 584، 625. "ج6" 54، 168، 176، 187، 374. "ج7" 37، 231، 232، 490. "ج8" 56، 447، 507. قتبة "بنو" "ج4" 425. قتران أتوان "عشيرة" "ج2" 564. قتيبة "بنو" "ج1" 405. "ج4" 514. قحافة "بنو" "ج4" 444. قحطان "بنو" "ج1" 295، 300، 301، 314، 319، 348، 382، 384، 393، 409، 470، 478، 479، 488، 489. "ج2" 527، 533، 538. "ج3" 166، 316، 320، 355، 365. "ج4" 128، 245، 313، 316، 318، 319، 321، 324، 326، 328، 390، 417، 420، 436، 437، 440، 604. "ج5" 344، 345، 355. "ج6" 442. "ج7" 450. "ج8" 392، 466، 675. "ج9" 141، 379، 382، 424، 436، 733. القحطانية "اليقطانية" "ج1" 252، 294، 345، 361، 385، 466، 447، 450، 475.

، 476، 478، 482، 486، 487، 491، 494، 500. "ج3" 315. "ج4" 417، 467، 537. القحطانيون "اليقطانيون" "ج1" 15، 93، 225، 266، 290، 294، 296، 313، 345، 347، 354، 356، 363، 364، 372، 375، 385، 392، 394، 410، 418، 420، 424، 429، 432، 436، 446، 448، 473، 477، 479، 485، 489، 495، 498، 499، 501، 508، 630، 639. "ج2" 515. "ج3" 316، 319، 337، 386 "ج4" 13، 201، 245، 282، 320، 321، 327، 435، 437، 442، 538. "ج5" 344، 346، 349، 354، 355. "ج6" 442. "ج8" 392، 609، 653، 689 "ج9" 384، 436. قداري "بنو" "ج1" 439. قدران "آل" "ج2" 276. قدم "بنو" "ج4" 448. القدمان "عشيرة" "ج3" 51. القدمونيون "ج1" 29، 30، 445. قديم "بنو" "ج1" 29، 30، 456، 632، 652. قرا "بنو" "ج1" 173. قراد "بنو" "ج1" 521. القرامطة "جماعة" "ج1" 177. قردة "بنو" "ج6" 601. قرزل "بنو" "ج9" 547. القرشيون "ج4" 560. "ج8" 602، 603، 606، 633. "ج9" 361. قرط "بنو" "ج4" 265. قرعمتان "عشيرة" "ج2" 415. قريش "ج1" 20، 52، 67، 111، 112، 287، 333، 360، 378، 384، 396، 399، 401، 408، 415، حا 438، 470، 472، 476، 478، 483، 485، 490، 491، 493، 495، 503، 505، 509، 521. "ج2" 109، 143، 145، 256، 338، 390، 515، 516، 570، 584. "ج3" 13، 14، 275، 276، 389، 500، 507، 508، 510، 512، 514، 515، 517، 520، 521. "ج4" 8، 9، 14، 16، 18، 39، 41، 45، 47، 51، 53، 56، 58، 61، 64، 68، 70، 72، 74، 80، 82، 88، 90، 94، 99، 101، 103، 105، 107، 113، 117، 120، 122، 125، 126، 145، 153، 178، 207، 209، 219، 224، 228، 238، 247، 257، 261، 264، 266، 281، 292، 299، 311، 314، 318، 332، 337، 359، 363، 372، 378، 379، 381، 382، 384، 388، 427، 431، 440، 441، 478، 481، 508، 513، 517، 519،

530، 532، 533، 535، 538، 547، 558، 560، 563، 568، 572، 580، 582، 584، 589، 596، 604، 656، 661، 663، 668 "ج5" 16، 37، 38، 46، 51، 66، 69، 75، 80، 83، 84، 94، 114، 118، 121، 134، 136، 142، 156، 162، 177، 180، 188، 203، 206، 234، 236، 247، 248، 250، 251، 298، 302، 303، 315، 330، 338، 351، 381، 383، 407، 420، 427، 435، 439، 453، 454، 459، 465، 468، 483، 501، 502، 505، 517، 521، 524، 525، 530، 547، 552، 557، 593، 595، 600، 602، 603، 605، 606، 613، 623، 633، 637، 638، 648، 651، 654. "ج6" 8، حا 25، 39، 40، 57، 58، 66، 75، 81، 82، 86، 91، 92، 97، 99، 103، 105، 113، 118، 120، 125، 127، 136، 145، 148، 160، 165، 167، 177، 180، 183، 193، 216، 219، 223، 224، 228، 232، 236، 237، 239، 241، 245، 248، 250، 253، 262، 266، 269، 293، 312، 315، 318، 328، 338، 340، 342، 344، 346، 349، 350، 352، 354، 356، 359، 361، 363، 367، 369، 372، 374، 376، 380، 383، 393، 395، 404، 411، 413، 414، 417، 418، 422، 428، 431، 434، 438، 440، 441، 443، 444، 459، 460، 469، 473، 476، 479، 484، 486، 487، 492، 493، 498، 507، 510، 524، 543، 545، 596، 604، 606، 621، 669، 702، 704، 709، 710، 712، 713، 734، 738، 758، 764، 771، 779. "ج7" 27، 38، 72، 81، 99، 116، 137، 139، 191، 229، 239، 260، 273، 285، 292، 294، 295، 297، 308، 310، 311، 313، 315، 317، 318، 320، 339، 340، 342، 347، 351، 354، 356، 357، 361، 373، 375، 377، 379، 381، 382، 395، 409، 410، 419، 421، 433، 439، 440، 442، 444، 446، 449، 465، 467، 471، 479، 500، 504، 509، 579، 582 "ج8" 92، 98، 102، 108، 117، 121، 123، 124، 138، 139، 159، 161، 163، 164، 171، 196، 261، 266، 268، 275، 301، 304، 305، 318.

، 320، 323، 326، 330، 332، 334، 348، 349، 355، 377، 384، 385، 387، 400، 401، 407، 468، 472، 474، 476، 480، 482، 485، 490، 523، 547، 567، 572، 574، 576، 586، 587، 589، 600، 609، 617، 619، 621، 622، 625، 627، 629، 636، 640، 651، 653، 665، 667، 672، 684، 688، 690، 731، 741، 742، 754، 756، 758، 762، 764، 766، 768، 778، 780، 785، 790. "ج9" 14، 17، 24، 27، 28، 45، 65، 76، 78، 89، 90، 112، 117، 138، 140، 146، 147، 174، 197، 198، 236، 244، 248، 277، 278، 291، 344، 361، 374، 375، 377، 380، 381، 383، 386، 413، 429، 431، 433، 436، 492، 495، 501، 503، 512، 582، 618، 619، 622، 655، 694، 701، 703، 706، 708، 717، 724، 725، 730، 736، 738، 741، 747، 751، 752، 754، 761، 765، 784، 821، 822، 828، 842، 843، 852، 857، 863، 867، 888، 893 قريظة "قبيلة" "ج1" 388. "ج4" 140، 659. "ج5" 331، 512، 593. "ج6" 514، 515، 518، 519، 522، 524، 533، 534، 536، 538، 546، 548، 564، 570، 581، 611، 768. "ج7" 42، 177، 338. "ج8" 387. "ج9" 683، 782، 789، 790. قريع "بنو" "ج9" 113. القسامل "بنو" "ج4" 442. قسر "ج1" 374. "ج4" 446. قشم "بنو" "ج2" 221، 432، 434، 535. "ج4" 424. قشير "بنو" "ج3" 303، 496. "ج5" 376، 425، 466. "ج7" 458. "ج9" 434. فصي "بنو" "ج1" 509. "ج4" 377، 427. "ج5" 248، 286، 500، 502 "ج9" 115، 116، 411، 706، 710. القصيص "بنو" "ج6" 519، 522. قضاعة "قبيلة" "ج1" 380، 393، 394، 396، 547، 548. "ج2" 615، 619، 640، 656. "ج3" 104، 162، 250، 354، 355، 392، 394، 397، 399، 424. "ج4" 37، 38، 41، 42، 44، 68، 69، 133، 140، 202، 233، 236، 239، 241، 246، 249، 261

، 262، 324، 328، 329، 334، 390، 415، 419، 428، 431، 442، 451، 452، 460، 461، 468، 470، 473، 474، 476، 501، 532، 572، 658. "ج5" 176، 346، 348، 349، 352، 385، 407. "ج6" 275، 280، 284، 288، 351، 352، 357، 363، 377، 389، 423، 590 "ج8" 329، 474، 475، 572، 573، 575، 577، 630، 632، 668، 689، حا 741، 770، 777. "ج9" 381، 426، 427، 434، 436، 441، 453، 793، 794، 900. القضاعية "قبائل" "ج4" 459. القضاعيون "ج1" 392. "ج4" 420. قطن "قبيلة" "ج1" 357، 423. "ج4" 202. قطوراء "بنو" "ج1" 360، 361. "ج3" 104. "ج4" 13. القطورية "قبائل" "ج1" 447، 450. القطوريون "ج1" 446، 447. قطيسفون "ج2" 622. القطين "بنو" "ج4" 554. قعين "بنو" "ج4" 534. قفعن "عشيرة" "ج2" 208، 221. "ج8" 514. قلام "آل" "ج3" 289. القلامس "ج1" 400. "ج4" 91. القلامسة "ج5" 649. "ج6" 216. قلب "قبيلة" "ج2" 220. قمعة "ج4" 522. قمير "بنو" "ج4" 15، 441. القناصل "ملوك" "ج3" 8. قنان "بنو" "ج1" 373. قنفذ "بنو" "ج4" 260. قروح "جماعة" "ج1" 653، 654. القورحيون "ج1" 653، 654. قورين "قرين" "بنو" "ج2" 393 "ج4" 457. القوط "الغوط" "بنو" "ج3" 113، 114. قول "قبيلة" "ج2" 583. القياصرة "ملوك" "ج3" 61، 90، 102، 125، 306. "ج4" 68، 168. "ج5" 261. "ج6" 587. "ج7" 269، 500. قيدار "بنو" "ج1" 439، 577، 593، 601، 603، 610، 647، 648. "ج5" 6. القيانة "بطن" "ج4" 505. القيداريون "ج1" 439، 590. القيدوشيون "ج1" 658، 659. قيس "قبيلة" "ج1" 387، 393. "ج3" 63، 199، 277، 298، 334، 336، 348، 352، 424، 425. "ج4" 139، 282، 325، 332، 333، 337، 338، 430، 446، 448، 459، 488، 526، 570، 571. "ج5" 344، 358، 360، 365، 371، 375، 377

380، 383، 389، 437، 637، 643، 645، 646. "ج6" 18، 167، 287، 363، 389، حا 417. "ج8" 280، 301، 350، 473، 474، 556، 573، 574، 578، 579، 584، 587، 588، 602، 603، 605، 625، 630، 633، 668، 690. "ج9" 31، 75، 146، 242، 244، 382، 423، 424، 427، 433، 434، 436، 441، 477، 500، 503، 550، 575، 618، 619، 764، 877، 889. قيس عيلان "قبيلة" "ج1" 397، 399، 403، 408. "ج3" 348. "ج4" 83، 85، 148، 171، 173، 175، 257، 260، 334، 419، 464، 476، 447، 506، 575، 591. "ج5" 39، 143، 357. "ج6" 40، 357. "ج9" 501. القيسيون "ج1" 387، 472. "ج4" 219، 228، 506. "ج5" 646. قيلة "قبيلة" "ج1" 521. "ج4" 433، 397. "ج5" 251. قين "بنو" "ج3" 424. "ج4" 242، 243، 425، 505، 637. "ج8" 203، 346. "ج9" 612، 630، 900. قينقاع "بنو" "ج4" 264. "ج6" 519، 522، 533، 536، 546، 562. "ج7" 58، 309، 310، 562. القيني "بنو" "ج1" 454.

الكاف

الكاف: الكاثريون "ج1" 298. الكاثوليك "ج6" 642، 690. الكاسيون "ج1" 572. كاهل "قبيلة" "ج2" 380، 462. "ج3" 351، 362، 365. "ج4" 450، 534. "ج8" 674. "ج9" 530. كبراء "ج3" 475. كبسيم "آل" "ج2" 466. كثر "بنو" "ج4" 432. كحد "قبيلة" "ج2" 188، 189، 194، 198، 200، 219، 290، 503، 504.

كراذمار "ج4" 557. كرب "جرب" "قبيلة" "ج2" 162، 429. الكرد "ج2" 538. الكرمان "ج4" 486. "ج9" 657. الكرندي "آل" "ج2" 507. "ج3" 487. "ج7" 527. الكروبيون "سادة الملائكة" "ج2" 269. كريز "بنو" "ج7" 342. كزران "بنو" "ج3" 475. الكسائيين "ج6" 634، 637. كسرى "آل" "ج1" 77. "ج3" 162. كعب "ج1" 515. "ج4" 30، 63، 378، 425، 441، 456، 592. "ج6" 205، 247، 363. "ج8" 580. "ج9" 68، 434. كلاب "بنو" "ج1" 404. "ج3" 355. "ج4" 338، 481، 515، 522 "ج5" 375. "ج6" 363، 761، 769. "ج7" 198، 513. "ج8" 556. "ج9" 68، 435، 453. الكلابيون "ج5" 375. "ج8" 579، 582. "ج9" 14. كلب "قبيلة" "ج1" 378، 393، 468، 472، 479، 495، 512، 520، 521، 547، 548. "ج2" 115، 149، 157. "ج3" 162، 200، 318، 339، 344، 345، 359، 376. "ج4" 207، 208، 220، 221، 226، 235، 240، 246، 247، 249، 250، 260، 261، 265، 319، 329، 419، 424، 426، 430، 448، 455، 461، 493، 634. "ج5" 74، 111، 346، 374. "ج6" 213، 253، 255، 278، 364، 435، 770. "ج7" 320، 371، 372، 461، 479. "ج8" 334، 572، 673، 770 "ج9" 242، 426، 529، 779، 844، 865. الكلبة "بنو" "ج4" 483. الكلبيون "ج4" 427، 429. الكلدانيين "ج1" 568، 576، 607، 631، 632. "ج2" 14. "ج6" 775، 801. "ج9" 202. كلاة "بنو" "ج9" 489. كلعان "بنو" "ج3" 475. كلفة "قبيلة" "ج4" 136. كلوان "بنو" "ج2" 565. كليب "بنو" "ج1" 521. "ج3" 256، 301، 354، 355. "ج5" 144، 349، 356، 357. كنانة "ج1" 509، 516. "ج3" 277، 331، 347،

349، 362، 365، 366، 393، 422، 453، 508، 510، 514، 516، 518، 527. "ج4" 14، 15، 17، 23، 24، 26، 29، 30، 32، 33، 35، 37، 43، 44، 64، 83، 85، 91، 104، 109، 139، 153، 173، 185، 192، 199، 209، 237، 239، 267، 268، 303، 308، 354، 425، 430، 462، 471، 500، 517، 525، 526، 532، 535. "ج5" 91، 97، 344، 364، 365، 380، 384، 391، 407، 637، 648، 649. "ج6" 59، 82، 216، 237، 240، 241، 250، 253، 258، 259، 263، 273، 330، 363، 364، 371، 376، 514. "ج7" 323، 330، 351، 467 "ج8" 133، 498، 500، 502، 521، 579، 588، 589، 778. "ج9" 16، 19، 31، 112، 407، 427، 433، 435، 439، 445، 617، 619، 620، 624، 625، 649، 650، 712، 714، 902. كنب "ج2" 393. كندة "ج1" 73، 91، 292، 357، حا 382، 389، 472، 479، 486. "ج2" 381، 432، 433، 527، 550، 552، 556، 560، 575، 589، 591، 596. "ج3" 167، 211، 215، 224، 225، 235، 250، 291، 310، 315، 323، 325، 327، 328، 331، 335، 337، 340، 341، 345، 348، 352، 354، 355، 357، 359، 361، 364، 365، 373، 374، 378، 383، 386، 403، 412، 484، 486، 488، 495، 499، 519. "ج4" 191، 193، 196، 199، 216، 223، 278، 303، 325، 335، 339، 343، 347، 404، 409، 425، 430، 459، 461، 464، 466، 488، 499، 501، 503، 507، 572. "ج5" 30، 91، 94، 191، 205، 244، 269، 284، 345، 350، 352، 355، 372، 395. "ج6" 280، 286، 377، 514، 576، 593، 617. "ج7" 198، 345، 377. "ج8" 164، 486، 488، 500، 569، 600، 602، 603، 609، 627، 632، 651، 668، 673، 676، 682، 687، 689. "ج9" 208، 320، 402، 426، 432، 435، 443، 520، 523، 529، 868. الكندية "أسرة" "ج3" 340. "ج4" 409. الكنديون "ج3" 324.

"ج5" 374. الكنعانيون "ج1" 224، 412، 448، 630. "ج6" 55، 288، 302، 332. "ج8" 151، 180. كهلان "ج1" 92، 95. "ج3" 532. "ج4" 329، 415، 416، 536. "ج5" 196. "ج6" 608. الكواليان "طبقة" "ج4" 550. كوبار "قبيلة" "ج8" 583. كورش "أبناء" "ج1" 630. الكوشية "شعوب" "ج1" 237، 447. الكوشيون "ج1" 224، 237، 430، 448، 456، 459، 460، 642، 643. "ج2" 261. الكوفيون "قوم" "ج9" 214، 217، 219، 221، 222، 290، 300، 303، 325، 391 كيدار "كدار" "كدر" "قبيلة" "ج3" 488.

اللام

اللام: اللاتين "ج1" 21، 26، 27، 31، 79، 80، 141، 143، 163، 164، 262. "ج2" 14، 119، 244، 266، 625. "ج3" 9، 77، 80، 85، 127، 150، 218. "ج4" 23، 297، 372. "ج6" 19، 416، 450، 468، 689. "ج7" 195، 234، 250، 261، 274، 275، 468، 606. "ج8" 316، 423، 426، 427، 510، 546. "ج9" 49. لانديني "شعب" "ج2" 173. لافهم "قبيلة" "ج2" 650. لام "بنو" "ج4" 505. "ج5" 176. "ج7" 481. اللاوذيون "ج1" 420. اللاويون "ج1" حا 201، حا 207، 420. "ج5" حا 139، 140، 310. "ج6" 551، حا 636. لجيم "بنو" "ج4" 496. اللجيون "قبيلة" "ج3" 71. اللجيونات "عشائر" "ج3" 29، 120.

لحيان "بنو" "ج1" 548. "ج2" 243، 248، 250، 251، 253، 256. "ج4" 265. "ج6" 258، 279، 292، 312، 320، 321، 330، 334. "ج7" 358، 359. "ج8" 154، 211، 212، 240، 638. "ج9" 493، 618، 642. اللحيانيون "ج1" 33، 624. "ج2" 97، 121، 242، 243، 245، 252، 254، 256، 611. "ج5" 102، 250، 495، 572، 594، 596. "ج6" 233، 264، 307، 312، 314، 321، 326، 330. "ج8" 12، 13، 20، 29، 232، 639، 671. لخد "عشيرة" "ج2" 274. لخم "بنو" "ج1" 469، 479، 547. "ج2" 534، 631. "ج3" 159، 162، 165، 169، 170، 176، 180، 183، 185، 187، 195، 196، 204، 209، 215، 217، 223، 233، 234، 240، 251، 260، حا 268، ح279، 289، 290، 292، 302، 303، 314، 322، 333، 335، 339، 342، 358، 373، 387، 390، 391، 399، 405، 422، 427 "ج4" 227، 230، 241، 245، 251، 296، 324، 417، 425، 459، 461، 463، 464، 473، 477، 531. "ج5" 233، 240، 324، 410 "ج6" 58، 167، 238، 256، 275، 315، 389، 471، 590، 591، 594، 599، 663. "ج7" 125. "ج8" 321، 475، 579، 603، 632، 668، 770. "ج9" 242، 291، 427، 435، 539، 693، 731، 732، 848. لخميون "قوم" "ج3" 182، 259، 321، 322، 324، 346، 350. "ج4" 463، 501، 502. "ج5" حا 201، 233، 296. لطوشيم "بنو" "ج1" 335. "ج2" 93. لقمان "بنو" "ج1" 84، 317. "ج6" 673. "ج9" 496. لكيز "بنو" "ج1" 496. "ج4" 637. لمد "ج3" 485. الهازم "بنو" "ج3" 297. "ج5" 366، 437. لهب "بنو" "ج4" 339، 442. "ج6" 768، 774، 775، 791. "ج9" 141. لودين "ج1" 418، 420. "ج8" 526. لوذية "بنو" "ج1" 302.

لوط "بنو" "ج1" 322، 333. لو يميم "قوم" "ج2" 93. ليانيته "قبيلة" "ج3" 55. ليث "قبيلة" "ج1" 400. "ج4" 30. ليسان "قبيلة" "ج2" 221. ليسنياس "جماعة" "ج2" 611.

الميم

الميم: ماء السماء "بنو" "ج8" 408. ماء المزن "قبيلة" "ج1" 491. مؤاب "ج3" 53. المؤابيون "ج1" 590، 605. "ج3" 26، 66. مادينوى "قبيلة" "ج3" 318. مأذن "قبيلة" "ج2" 340، 343، 548. مازن "بنو" "ج1" 402، 515. "ج4" 442، 457، 494، 519 "ج6" 357. "ج8" 577. "ج9" 434، 487. ماسكة "بنو" "ج3" 148. "ج8" 114، 160، 196، 252، 283. ماسلة "بنو" "ج6" 519. المؤلفة قلوبهم "جماعة" "ج6" 352. "ج8" 329، 331. مالك "قبيلة" "ج1" 400. "ج2" 193، 220، 221، 432، 551، 557. "ج3" 364. "ج4" 139، 150، 189، 193، 260، 338، 503. "ج5" 367. "ج6" 142، 253، 273، 364، 714. "ج7" 479. "ج9" 434. مبحظ "أسرة" "ج8" 514. مبدول "مندول" "بنو" "ج9" 489. المبساميون "ج1" 584. مبشر "بنو" "ج4" 423. المتمير "بنو" "ج4" 557. مثلان "بنو" "ج3" 475. المجازة "بنو" "ج4" 219. مجاشع "بنو" "ج1" 402. "ج4" 529. "ج9" 104، 434. المجوس "ج1" 658. "ج2" 629. "ج4" 201، 205، 206، 211، 368، 487، 610. "ج5" 544. "ج6" 118، 147، 369.

542، 637، حا 675، 691، 693، 696، 698. "ج7" 507، 515. "ج8" 94، 95، 652، 716، 721. محارب "قبيلة" "ج4" 29، 199، 211، 252، 484. "ج9" 345، 649. المحاش "بنو" "ج4" 381. المحاميد "عشيرة" "ج3" 51. محرق "آل" "ج1" 491. "ج3" 159، 176، 188، 189، 282، 302، 303، حا 391، 394، 399، 400. "ج4" 324، 482. "ج5" 207، 240. "ج9" 474، 797، 832. محضرم "قبيلة" "ج2" 221. المحل "بنو" "ج8" 410. محمر "بنو" "ج6" 519، 522. محليم "بنو" "ج2" 374، 442. مخرمة "ج4" 462. مخزوم "قبيلة" "ج1" 509. "ج4" 58، 60، 61، 63، 84، 91، 105، 106، 112، 308، 339، 378، 481، 535، 572. "ج5" 82، 250، 383، 606. "ج6" 605. "ج7" 432، 442، 581. "ج8" 522. "ج9" 146، 622، 718، 739 مخطرن "بنو" "ج2" 334. مخلد "بنو" "ج1" 302. المخيل "بنو" "ج4" 585. المدان "بنو" "ج1" 454. مدد "بنو" "ج3" 163. مدراء "بنو" "ج1" 485. مدركة "قبيلة" "ج1" 521. "ج4" 522. "ج9" 433. مدلج "قبيلة" "ج1" 281، 400، 515. "ج4" 251، 265، 267، 312، 339، 432، 532. "ج6" 204، 774. "ج7" 353. مدهم "قبيلة" "ج2" 190. مدون "ج1" 582. مديان "مدين" "بنو" "ج1" 451، 454. "ج4" 248. "ج8" 603، 619. المديانيون "ج1" 199، 454، 455. "ج2" 21، 90، 93، 508. "ج3" 145. "ج8" 325. المدينيون "ج1" 456، 573. مذحج "قبيلة" "ج1" 501، 516 "ج2" 400، 548، 552، 556، 560، 589، 590، 596. "ج3" 172، 190، 192، 317، 318، 354، 366، 379، 380، 532، 536. "ج4" 7، 176، 185، 188، 191، 194، 329، 333، 335، 428، 434، 445، 449، 454، 456، 458، 459، 464، 497، 511، 514، 539، 598، 641. "ج5" 345، 346، 348، 352، 408، 421. "ج6" 25، 260، 262، 288، 377، 405، 417

590، 763، 770. "ج7" 520. "ج8" 127، 603، 671، 778 "ج9" 379، 435، 449، 452، 573، 823، 868. مذحيم "قبيلة" "ج2" 216، 220، 221، 290، 291. مذر "قبيلة" "ج2" 589، 591. مذرح "مذراح" "عشيرة" "ج2" 434، 545. مذمر "بنو" "ج2" 300. مر "بنو" "ج4" 437، 439. مراد "قبيلة" "ج2" 117، 525، 596. "ج3" 197، 358، 379، 380، 495، 498. "ج4" 185، 188، 445، 449، 454، 456، 519، 598. "ج5" 353، 606. "ج6" 260، 261. "ج7" 209. "ج9" 106، 539، 647، 660، 868. المرازبة "ج3" 96، 289. مراس "ج2" 439. المرايع "عشيرة" "ج5" 51. المرائيون "بنو" "ج4" 536. مربان "عشيرة" "ج2" 452. مرة "قبيلة" "ج1" 470، 521. "ج3" 421. "ج4" 136، 253، 264، 347، 416، 449، 502، 513، 572. "ج6" 256، 715. "ج8" 159. "ج9" 432، 504. مرثد "قبيلة" "ج2" 343، 348، 358، 391، 393، 422، 424. "ج4" 129، حا 417. "ج5" 278. "ج7" 139، 143. مرجزم "قبيلة" "ج2" 221. مرسماني "ج1" 585، 587. مرهبة "بنو" "ج4" 449. "ج7" 462. مروان "بنو" "ج1" 70، 76. "ج5" 213. "ج8" 512. "ج9" 251، 252، 255، 263، 280، 286، 343، 344. مرينا "بنو" "ج3" 170، 224، 225، 339، 344. "ج6" 598، 663. مريهن "عشيرة" "ج2" 144. "ج9" 542. المزواد "بنو" "ج2" 268، 289 مزينة "بنو" "ج3" 429. "ج4" 140، 254، 263، 267، 378، 386، 535، 572 "ج5" 573، 641. "ج6" 258، 277، 357. "ج7" 330، 459، 467. "ج8" 304، 603، 689. "ج9" 381، 432، 433، 542، 613، 617، 620. مسئا "قبيلة" "ج1" 442، 579، 581. مسخنان "ج5" 243. مسلمة الفتح "جماعة" "ج8" 331. "ج9" 277، 891. المسلمون "ج1" 20، 27، 28، 32، 34، 38، 42، 81

86، 88، 108، 112، 114، 115، 119، 128، 131، 144، 167، 200، 224، 250، 280، 299، 316، 379، 411، 440، 463، 464، 473، 483، 508، 551، 651. "ج2" 90، 104، 255، 512، 515، 621، 648، 649، 651، 659، 660. "ج3" 78، 102، 129، 171، 172، 174، 183، 270، 300، 340، 387، 418، 427، 430، 437، 538. "ج4" 34، 103، 110، 111، 124، 125، 127، حا 139، 141، 151، 154، 176، 178، 179، 181، 189، 198، 210، 225، 231، 233، 234، 239، 243، 248، 256، 262، 292، 295، 296، 312، 315، 318، 322، 368، 387، 398، 402، 462، 474، 498، 499، 556، 581، 603، 604، 620، 659، 668. "ج5" 16، 36، 56، 135، 136، 170، 180، 184، 191، 199، 288، 289، 294، 305، 306، 311، 324، 332، 397، 403، 413، 424، 436، 438، 441، 453، 457، 459، 469، 534، 580، 610. "ج6" 45، 54، 62، 68، 69، 80، 89، 97، 100، 110، 145، 147، 160، 172، 196، 201، 217، 224، 239، 321، 323، 338، 341، 344، 346، 380، 415، 419، 456، 459، 491، 523، 524، 542، 545، 548، 550، 551، 555، 563، 565، 581، 583، 586، 594، 596، 599، 601، 605، 620، 621، 629، 646، 649، 676، 677، 681، 689، 695، 702، 704، 710، 734، 757. "ج7" 27، 116، 137، 144، 145، 149، 152، 193، 232، 244، 245، 259، 260، 262، 263، 273، 275، 284، 291، 292، 297، 299، 303، 311، 313، 323، 329، 331، 339، 342، 347، 351، 357، 364، 385، 436، 439، 444، 445، 449، 476، 485، 489، 491، 497، حا 501، حا 503، 630 "ج8" 60، 91، 92، 95، 96، 114، 121، 133، 135، 136، 153، 157، 171، 185، 195، 197، 199، 208، 210، 250، 251، 286، 294، 300، 304، 305، 320، 321، 324، 327، 332، 340، 359، 374، 378، 383، 387، 412، 431، 434، 460، 476، 484، 487

504، 511، 523، 560، 596، 643، 646، 683، 686، 704، 721، 735، 754، 755، 765، 792، 793. "ج9" 6، 20، 49، 69، 77، 111، 112، 147، 176، 199، 245، 290، 343، 367، 378، 386، 412، 427، 429، 500، 682، 696، 705، 707، 710، 712، 715، 716، 738، 740، 747، 767، 768، 784، 785، 788، 720، 822، 839، 843، 845، 857، 894. مسماع "بنو" "ج1" 441. مسيلمة "بنو" "ج9" 658. مسيمانس "قبيلة" "ج1" 442. المشاهير "عشيرة" "ج3" 50. المشرق "بنو" "ج1" 455، 573، 610. المشماعيون "ج1" 584. مصابيح الظلام "بنو" "ج4" 338، 340، 406. مصاد "بنو" "ج4" 239. المصريون "ج1" 135، حا 161، 231، 434، 537، 553، 590. "ج2" 23، 44، 207، 257، 508. "ج3" 17، 114، 117، 125. "ج4" 611. "ج5" 98، 162، 399، 544. "ج6" 220، 317، 716، 757، 801. "ج7" 238، 264، 267، 553، 588، 596، 610، 622 "ج8" 22، 51، 146، 199، 215، 229، 256، 396، 586، 683، 687، 737. "ج9" 34، 124، 226، 312، 327. المصطلق "قبيلة" "ج4" 30، 32، 35، 266، 386، 441، 478، 533. "ج7" 377. مصلان "بنو" "ج3" 475. مضان "بنو" "ج2" 394. مضحى "مضحيم" "بنو" "ج2" 161، 193، 375، 405، 431، 433، 435، 436، 440، 467، 468، 524، 535. "ج5" 583. مضر "ج1" 388، 393، 398، 401، 470، 475، 477، 478، 483، 491، 493، 495، 505، 509، 516. "ج2" 591، 619. "ج3" 189، 193، 194، 224، 276، 320، 331، 348، 349، 352، 354، 397، 424، 518. "ج4" 15، 16، 26، 148، 149، 173، 224، 225، 245، 263، 318، 324، 326، 328، 331، 333، 351، 415، 452، 470، 471، 475، 477، 493، 506، 507، 522، 526، 529، 539، 544، 591. "ج5" 39، 91، 93، 116، 117، 189، 265، 267، 344، 348، 351، 355

، 356، 359، 376، 407، 639. "ج6" 94، 200، 237، 240، 251، 257، 387، 774. "ج7" 305، 318، 320، 373، 375. "ج8" 111، 131، 159، 161، 329، 478، 483، 570، 571، 586، 589، 602، 625، 631، 633، 640، 668، 672، 673، 689، 743، 761. "ج9" 31، 384، 423، 425، 433، 437، 465، 469، 513، 599، 658، 658، 675، 870، 877، 879، 882، 889. المضرية "قبائل" "ج4" 252. "ج8" 586. المضريون "قوم" "ج5" 164. "ج8" 171. المطالقة "عشيرة" "ج3" 51. مطر "ج1" 295، 346. مطرود "بنو" "ج4" 260. مطروق "بنو" "ج6" 517. المطلب "بنو" "ج4" 87، 91، 377، 384. "ج8" 268، 305، 308. مطلحان "بنو" "ج3" 475. مطلفان "بنو" "ج3" 475. مظعون "آل" "ج7" 43. معافر "بنو" "ج3" 531. "ج4" 459، 461. المعافريون "ج2" 380. "ج4" 460. معاهر "بنو" "ج2" 402، 404، 443، 467، 468، 578. معاوية "بنو" "ج1" 372. "ج6" 519. معبد "قبيلة" "ج1" 302. معتب "بنو" "ج4" 155، 517. معد "قبيلة" "ج1" 292، حا 362، حا 379، 382، 390، 392، 395، 397، 469، 474، 475، 477، 478، 483، 485، 487، 491، 494، 495، 501، 505. "ج2" 548، 549، 571، 573، 575، 590. "ج3" 173، 181، 190، 192، 204، 229، 249، 270، 271، 298، 318، 321، 330، 332، 346، 355، 366، 367، 381، 383، 386، 473، 474، 492، 496، 519، 536. "ج4" 148، 171، 173، 175، 176، 319، 331، 347، 350، 390، 394، 419، 421، 440، 443، حا 455، 464، حا 526، 591، 595، 659. "ج5" 344، 346، 349، 351، 385، 392، 467. "ج6" 489، 597. "ج8" 486، 499، 502، 503، 591، 627، 643. "ج9" 380، 683. معدان "ج1" 386. "ج2" 221. معدية "قبائل" "ج1" 386، 388، 486. "ج4" 176. المعديون "ج1" 375.

"ج4" حا 455. "ج6" 597. معقل "بنو" "ج4" 239. معن "بنو" "ج4" 220، 222. "ج8" 128. معهرم "معهر" "قبيلة" "ج2" 98، 154. المعونيون "ج1" 643، 644. معيص "قبيلة" "ج3" 148. معين "ج1" 425، 557. "ج4" 318. معينية "قافلة" "ج2" 260، 298، 404. "ج3" 143. "ج5" 342. "ج7" 263. المعينون "ج1" 44، 46، 128، 362، 513، 581، 590، 638 "ج2" 51، 76، 77، 80، 84، 89، 90، 94، 95، 97، 98، 101، 105، 106، 110، 112، 119، 121، 132، 134، 138، 202، 208، 241، 243، 245، 246، 260، 268، 277، 283، 323، 397، 400، 417، 423، 507. "ج3" 55، 143، 537. "ج4" 291، 414. "ج5" 12، 183، 205، 214، 215، 277، 507، 532، 584 "ج6" 5، 54، 176، 187، 293، 295، 296، 299، 308، 317، 332، 374. "ج7" 178، 235، 263، 626 "ج8" 31، 230، 447. مغالة "بنو" "ج6" 768. المغيرة "بنو" "ج4" 594، 595. "ج7" 426، 429، 430، 432. مفحيم "قبيلة" "ج2" 149. المقابلة "عشيرة" "ج3" 50. المقاصرة "بنو" "ج4" 505. مقاعس "بنو" "ج1" 403. المقدونيون "ج2" 8. "ج3" 16، 20، 85. مقنعم "مقنع" "قبيلة" "ج2" 156 المكابيون "ج1" 641، 649، 650. "ج2" 250. "ج3" 16، 26، 30. "ج4" 303. مكرب "مكربم" "بنو" "ج3" 475. المكربيون "ج2" 80، 132، 159، 162، 163، 167، 169، 176، 179، 182، 185، 210، 235، 268، 270، 275، 282، 283، 285، 286، 299، 300، 302، 305، 306، 310، 311، 312، 315، 317، 342، 343، 390، 414، 421، 493. "ج3" 487، 534. "ج4" 545، 554. "ج5" 463. المكندر "آل" "ج1" 401. ملكان "بنو" "ج6" 253، 273، 364. الملوح "بنو" "ج4" 266. مليح "قبيلة" "ج2" 326، 397، 398. "ج3" 475. "ج4" 441، 479.

"ج6" 710. المم "آل" "ج2" 192. المماليك "ملوك" "ج4" 554. منى "بنو" "ج9" 638. المنادرة "ج1" 217، 249، 250، 438، 486. "ج2" 605، 623، 631. "ج3" 159، 245، 259، 303، 390، 391، 399. "ج4" 426، 469، 489، 503 "ج5" 39، 218، 233، 327، 345، 351. "ج8" 87، 485، 560. "ج9" 93، 292، 370، 693، 734. مناف "ج1" 302. "ج6" 18. "ج9" 278. منبه "بنو" "ج4" 458. المنذر "آل" "ج1" 397. "ج3" 176، 262، 269. "ج4" 463. "ج6" 598. "ج8" 8، 722. منقر "بنو" "ج4" 585. "ج9" 884. منو "قبيلة" "ج2" 403. المنوفستيون "ج3" 408. "ج6" 630، حا 632. المنوفيزيتيون "ج6" 592. المهاجرون "ج1" 483، 485، 493. "ج4" 365، 370، 397. "ج5" 266. "ج6" 343. "ج7" 309، 310، 312، 314. "ج8" 128، 135، 136، 601، 608، 641، 654، 684 مهأمر "مهأمرم" "قبائل" "ج2" 294، 299. مهانف "قبيلة" "ج2" 302، 399، 482، 483، 535. مهرة "قبيلة" "ج2" 25. "ج3" 478. "ج4" 193، 199، 200، 422. "ج7" 377. مهزوم "بنو" "ج6" 519. مهصنعم "آل" "ج2" 206، 209، 228. الموابذة "عشيرة" "ج3" 333. المواسة "عشيرة" "ج3" 50. موان "ج4" 219. موهبة "ج4" 187. مياسر "ج2" 291. ميدعم "ميدع" "قبيلة" "ج2" 328. مينوس "بنو" "ج1" 312.

النون

النون: نائلة "ج6" 18، 192. نابش "قبيلة" "ج2" 393. ناجية "بنو" "ج4" 193، 450، 480. "ج6" 261. "ج8" 783. النار "قبيلة" "ج1" 373. "ج4" 456. "ج6" 260. "ج7" 376. ناس "عشيرة" "ج2" 321. الناصريون "ج6" 583، 624، 634، 635. الناصور "بنو" "ج9" 383. ناعظ "قبيلة" "ج1" 500. "ج4" 186. ناعم "بنو" "ج8" 742. النافرة "بنو" "ج4" 462. نافع "آل" "ج8" 383. ناهس "قبيلة" "ج3" 513. نبايوت "نبأ أتى" نبي أتي" "بنو" "ج1" 580، 581. النبط "ج1" 28، 33، 165، 166، 168، 208، 288، 298، 336، 349، 397، 438، 439، 506، 508، 604، 622، 627، 651، 656 "ج2" 16، 27، 28، 34، 39، 40، 44، 46، 50، 65، 66، 244، 247، 249، 251، 253، 254، 256، 517، 624. "ج3" 5، 6، 8، 10، 11، 13، 17، 19، 24، 26، 39، 41، 45، 47، 55، 57، 61، 66، 69، 72، 76، 80، 89، 143، 150، 153، 161، 166، 171، 172، 506، 535. "ج4" 25، 57، 72، 231، 248، 329، 426، 499، 538، 539، 586، 628، 659. "ج5" 102، 158، 185، 188، 495، 572. "ج6" 55، 229، 232، 233، 238، 250، 274، 311، 315، 316، 321، 324، 327، 328، 330، 332، 334، 396، 415، 513، 516، 602. "ج7" 28، 72، 113، 195، 278، 313، 494. "ج8" 108، 143، 151،

153، 155، 168، 169، 174، 178، 180، 181، 194، 200، 201، 243، 245، 247، 310، 311، حا 437، 514، 517، 520، 539، 604، 639، 651، 679، 680، 706. "ج9" 157، 214، 436، 438، 575. نبهان "قبيلة" "ج3" 367، 369. "ج4" 220، 450. "ج9" 432، 487، 561. النبيت "بنو" "ج1" 438. "ج4" 136. "ج8" 727. النبيط "بنو" "ج9" 574، 683، 815. النجار "قوم" "ج1" 485. "ج3" 103، 280. "ج4" 73، 137، 580. "ج5" 331. "ج6" 91، 504، 547. "ج8" 132، 134، 293، 375، 760. "ج9" 654، 719، 721، 728، 784. نجدية "قبائل" "ج1" 250. النجديون "ج1" 273. النجرانيين "ج3" 458، 467. "ج6" 609، 610. نجوا "قبيلة" "ج4" 150. نجيد "بنو" "ج7" 519. النخع "بنو" "ج4" 193، 194، 228. نخعان "قبيلة" "ج2" 556. نخلة "ج1" حا 167. نخليان "قبيلة" "ج2" 655. نزار "قبيلة" "ج1" 380، 381، 384، 393، 395، 477، 478، 483، 494، 495، 500، 501، 516. "ج2" 548، 549. "ج3" 172، 173، 190، 192، 370، 382، 536. "ج4" 176، 233، 324، 326، 327، 329، 354، 394، 419، 420، 424، 425، 468، 469، 488، 526، 539، 572. "ج5" 348، 351، 504، 638، 640. "ج6" 489. "ج7" 305، 316. "ج8" 562. "ج9" 213، 380، 451، 806 النزارية "قبائل" "ج1" 394، 396، 496. النزاريون "ج1" 375، 395، 497، 500. "ج9" 452. نزحتن "قبيلة" "ج2" 322. النسابين "ج3" 315، 320، 349، 381، 392، 478. "ج4" 94، 128، 136، 148، 245، 249، 250، 252، 261، 321، 324، 333، 343، 353، 357، 363، 414، 419، 420، 432، 434، 436، 438، 440، 443، 445، 447، 448، 450، 457، 465، 468، 476، 478، 479، 489، 490، 504، 506، 520، 523، 529، 530، 534. "ج5" 344. "ج7" 305، 603.

النسأة "بنو" "ج4" 44. "ج6" 216. النساطرة "بنو" "ج2" 648. "ج3" 285. "ج6" 597، 614، 627، 630. "ج7" 280. نسان "بنو" "ج2" 596. "ج3" 380. نسر "بنو" "ج1" 520. نسمان "قبيلة" "ج3" 148. نشئان "قبيلة" "ج2" 221. نشان "بنو" "ج2" 560. نشق "بنو" "ج2" 560. النشقيون "بنو" "ج4" 449. نصاب "ج5" 255. النصارى "ج1" 13، 27، 37، 63، 65، 81، 85، 86، 108، 256، 311، 413، 416، 434، 463. "ج2" 25، 173، 585، 590، 591، 594، 619، 628، 629، 646، 649. "ج3" 72، 73، 97، 98، 112، 119، 127، 170، 172، 186، 220، 258، 284، 288، 395، 413، 457، 458، 460، 468، 472، 477، 481، 511، 512، 518، 533، 538. "ج4" 93، 116، 117، 121، 122، 156، 165، 166، 177، 179، 191، 211، 221، 227، 235، 238، 248، 368، 487، 491، 499، 667. "ج5" 101، 104، 106، 111، 120، 122، 164، 168، 170، 327، 473، 479 "ج6" 11، 14، 39، 49، 97، 110، 114، 120، 147، 148، 153، 154، 160، 177، 218، 220، 297، 337، 339، 340، 399، 402، 417، 438، 439، 449، 452، 453، 455، 456، 460، 463، 467، 469، 471، 480، 481، 495، 496، 501، 509، 540، 542، 549، 550، 553، 557، 561، 567، 573، 582، 584، 588، 591، 592، 594، 596، 598، 603، 606، 610، 612، 615، 622، 624، 626، 628، 629، 633، 634، 638، 643، 645، 648، 655، 657، 662، 665، 667، 670، 672، 678، 680، 682، 687، 693، 701، 702، 731. "ج7" 124، 499، 591، 592. "ج8" 95، 106، 109، 114، 115، 155، 172، 178، 179، 200، 249، 252، 273، 283، 288، 292، 294، 296، 299، 312، 317، 322، 326، 329، 346، 376، 378، 379، 412، 426، 431، 467، 468، 475، 480، 520، 621، 651، 652، 668، 688، 703، 713، 769، 770، 775، 783. "ج9" 6، 49، 199، 263

268، 291، 363، 427، 428، 445، 465، 570، 580، 581، 703، 725، 769، 792، 795، 807، 811، 812، 818، 829، 880. نصر "قبيلة" "ج1" 66، 72، 76، 77، 89، 373، 397، 399، 491، 492، 660. "ج2" 630، 631، 641. "ج3" 91، 159، 176، 177، 185، 187، 196، 197، 247، 304، 305، 310، 312، 390، 551. "ج4" 260، 432، 441. "ج5" 199، 201، 233، 363، 382. "ج6" 214، 240. "ج9" 254، 689. نصرانية "قبائل" "ج1" 415. "ج3" 271. النضر"بنو" "ج4" 23، 24، 26. النضير "قبيلة" "ج1" 388. "ج4" 140، 248، 253. "ج6" 514، 518، 519، 522، 524، 533، 537، 546، 548، 562، 564، 571، 581، 768. "ج7" 43، 147، 338، 339، 480. "ج9" 634، 683، 782، 785، 787، 788، 790. نظران "بنو" "ج2" 193. نعامة "بنو" "ج1" 399. النعامنة "ملوك" "ج3" 159، 304. نعج "ج4" 505. نعم برل "آل" "ج2" 375. نعمان "بنو" "ج2" 336. "ج3" 176. نعيم "ج4" 319. نفاثة "ج4" 462. نفار "بنو" "ج4" 46. نفسيم "بنو" "ج1" 445. نكرة "بنو" "ج4" 483. "ج9" 504. نمارة "نميرة" "قبيلة" "ج3" 148. "ج4" 463. النمر "بنو" "ج1" 521. "ج2" 650، 651. "ج3" 204، 353. "ج4" 218، 231، 424. "ج6" 377. "ج8" 603. نمير "ج7" 516، 521، 522. "ج8" 603. "ج9" 68، 634، 652. نهد "بنو" "ج1" 168. "ج3" 283، 404. "ج4" 189، 246، 281، 430، 431، 474، 520، 529. "ج5" 311، 312، 353، 633. "ج7" 484. "ج8" 366، 659، 752. "ج9" 17، 623. نهشل "بنو" "ج4" 528، 529. "ج5" 396. "ج9" 246. نهم "ج4" 187. "ج7" 462. نوح "قوم" "ج1" 308، 310، 322، حا 348، 629. نوفل "بنو" "ج4" 74، 75، 83، 91، 100، 112، 377. نومادس "قبائل" "ج1" 31. نيف "بنو" "ج6" 519.

الهاء

الهاء: هاجر "بنو" "ج1" 412، 648. "ج9" 380، 451. الهاجريون "قوم" "ج1" 27، 412، 461، 462. هاشم "بنو" "ج1" 470، 509. "ج4" 37، 83، 87، 91، 208، 268، 310، 318، 377، 378، 382، 384، 572. "ج5" 246، 247، 249، 251، 363، 439، 459، 524، 525، 529، 602، 603، 613. "ج6" 237، 240، 242، 268، 443، 765، 767. "ج7" 447، 577. "ج8" 117، 118، 266، 268، 305، 308، 331، 348، 789. "ج9" 282، 699، 736، 739 الهاشميون "ج5" 69. هامل "بنو" "ج4" 505. هبان "ج2" 99. هبل "ج6" 252. هجدل "قبيلة" "ج3" 148. هجر "بنو" "ج1" 102، 177. "ج2" 461. "ج4" 486. هدورام "قبيلة" "ج1" 300. هذر "هذير" "قبيلة" "ج3" 148. الهذليون "قوم" "ج3" 276. "ج9" 345. هذيل "بنو" "ج1" 548. "ج3" 514، 516، 518. "ج4" 268، 269، 282، 531، 532، 535. "ج5" 91. "ج6" 214، 223، 248، 256، 258، 259، 269، 274، 315، 330، 376، 790 "ج7" 54، 87، 370، 375، 502، 514. "ج8" 139، 196، 572، 573، 582، 583، 588، 589، 600، 602، 603، 605، 606، 609، 617، 619، 632، 658، 668، 688، 689، 767. "ج9" 17، 20، 31، 32، 106، 242، 281، 341، 348، 349، 427، 430، 433، 435، 492، 493،

495، 615، 616، 619، 641، 643، 644، 740، 871، 873. هر "بنو" "ج1" 520. الهرابذية "قبائل" "ج6" 695. الهراطقة "بنو" "ج6" 635. هرجم "بن" "ج2" 69. هزان "قبيلة" "ج1" 295. "ج2" 193، 220، 221. "ج4" 29، 218، 219. الهزانيون "ج4" 218. هصبح "قبيلة" "ج2" 468. هصيص "بنو" "ج9" 718. هف "قبيلة" "ج1" 346. "ج6" 517. هفان "بنو" "ج1" 408. "ج4" 458. الهكسوس "ج1" 236، 244، 248، 627. هكفر "بنو" "ج5" 576. هلال "بنو" "ج1" 328، 426. "ج2" 478. "ج4" 257، 260، 519، 591 "ج5" 145، 395، 436، 498 هلم "قبيلة" "ج2" 561. همدان "قبيلة" "ج1" 17، 23، 99، 101، 103، 106، 119، 120، 348، 364، 373، 401، 404، 501. "ج2" 114، 147، 216، 219، 298، 329، 335، 341، 342، 351، 353، 357، 361، 362، 364، 367، 388، 393، 399، 406، 407، 409، 412، 418، 420، 422، 424، 426، 437، 445، 488، 490، 492، 493، 516، 524، 545، 546، 570، 593، 596. "ج3" 362، 380، حا 452، 498، 531. "ج4" 180، 185، 187، 192، 281، 318، 325، 329، 335، 340، 421، 433، 434، 447، 449، 456، 457، 480، 514. "ج5" 163، 232، 309. "ج6" 37، 258، 260، 262، 264، 304، 376، 378. "ج7" 54، 114، 141، 462، 519، 569، حا 636. "ج8" 637، 640. "ج9" 436. الهمدانية "أسر" "ج2" 350. الهمدانيون "ج2" 343، 349، 354، 367، 369، 419، 423، 494، 537. "ج4" 315، 449. همضر "قبيلة" "ج3" 148. هناءة "بنو" "ج1" 373. هند "بنو" "ج4" 198، 502. "ج6" 286. الهندو أوروبية "شعوب" "ج9" 127. هندي "شعب" "ج6" 612. الهندية "شعوب" "ج1" 480. "ج7" 604. هنود "ج1" 61، 174، 183، 219، 432، 467، 519، 520 "ج2" 25. "ج3" 462. "ج4" 308. "ج6" 49، 145، 198،

520، 613، 716. "ج7" 604. "ج8" 42، 107. "ج9" 127، 211، 212. هني "بنو" "ج4" 423، 450. هوزان "بنو" "ج1" 399. "ج3" 276، 498. "ج4" 31، 84، 85، 101، 142، 146، 148، 182، 192، 204، 222، 252، 254، 255، 257، 258، 260، 282، 334، 346، 416، 509، 510، 513، 517، 519، 520، 524، 531، 571. "ج5" 358، 359، 363، 364، 376، 380، 382، 388. "ج6" 262، 270، 276، 277، 282، 509. "ج7" 363، 377، 412. "ج8" 406، 496، 571، 589، 603، 655، 668، 669. "ج9" 242، 434، 499، 501، 550. هوجد "بنو" "ج1" 302. هود "بنو" "ج1" حا 159، 310، 311، 319، 356. "ج6" حا 449، 452. هورن هوران "بنو" "ج2" 98، 186، 188، 220. هوزن "بنو" "ج1" 521. هوميريته "قبيلة" "ج1" 387. الهون "قبيلة" "ج3" 349. "ج4" 386، 477، 531، 533. هيبر "آل" "ج2" 199. هيف "بنو" "ج1" 295. الهيجمانة "بنو" "ج3" 209. الهيصم "قبيلة" "ج3" 282. الهيليون "قوم" "ج1" 467. هينان "قبيلة" "ج2" 542.

الواو

الواو: وائل "ج1" 469. "ج3" 148، 253، 354، 424 "ج4" 139، 242، 253، 394، 425، 427، 450، 458 "ج5" 265، 348، 350. "ج6" 446. "ج8" 573. "ج9" 461. وائلة "بنو" "ج9" 487. وابش "بنو" "ج1" 403. "ج4" 508. وادعة "بنو" "ج4" 443، 446. "ج7" 462. واقدة "بنو" "ج4" 70. واقف "كتلة" "ج4" 136. والبة "بنو" "ج4" 442، 505، 534. الوبرة "بنو" "ج1" 521. "ج4" 240. "ج6" 255، 288. "ج7" 383. الوثنيون "ج1" 311، 655. "ج3" 12، 97، 119، 165، 171، 172، 466، 511. "ج4" 168، 171. "ج5" 170. "ج6" 11، 19، 23، 62، 109، 115، 141، 226، 380، 381، 402، 478، 509، 544، 566، 567، 586، 634، 636، 655، 657، 666، 669، 673، 679، 681، 682، 703، 704، 778. "ج7" 491. "ج8" 92، 94، 153، 293، 295، 346، 468، 482، 696 "ج9" 111، 590. وداعة "بنو" "ج4" 187. ورد الأجارب "ص" "ج4" 338 الوركاء "ج1" 554. وقاش "بنو" "ج4" 250. وقمر "قبيلة" "ج3" 148. وكيل "آل" "ج2" 98. وليعة "ج4" 197. "ج6" 542. "ج7" 141. الوهابيون "قوم" "ج1" 132. وهب "ج4" 401. "ج5" 76. "ج7" 180. وهران "قبيلة" "ج2" 393.

الياء

الياء: "ياديء" "ياديا" "يدع" "ج1" 595. يأرن "يرن" "قبيلة" "ج2" 162. يافث "ج1" 629. يام "قبيلة" "ج2" 149، 156. "ج7" 462. ياوان "بنو" "ج1" 634. الياوانيون "ج2" 381. يبرن "يبران" "عشيرة" "ج2" 274، 302. اليثربيون "ج4" 130. "ج5" 101. يجر "بنو" "ج2" 202، 203، 220، 221. يحر "ج2" 193. "ج5" 583. يحصب "بنو" "ج1" 370. يحمد "بنو" "ج1" 374. يدعب "قبيلة" "ج8" 206. يدوم "قبيلة" "ج2" 364. يربعل "ج4" 315. يربوع "بنو" "ج1" 521. "ج3" 226، 274، 290. "ج4" 206، 208، 337، 380، 417، 418، 452، 499، 527، 529، 570، 572. "ج5" 40، 208، 285، 366، 371، 374. "ج6" 95، حا 107، 357. "ج7" 134، 135. "ج8" 521. "ج9" 434، 887، 903. يرسم "قبيلة" "ج2" 360، 412، 413، 449، 461، 464، 465، 565. يرسميون "ج2" 396، 412. يرفأ "قبيلة" "ج2" 221. يزان "يزان" "بنو" "ج2" 596، 597. "ج3" 380. يزحم "بنو" "ج2" 281. اليزيدون "ج5" 352. يسب "بنو" "ج3" 475. يسعوان "بنو" "ج4" 557. يسقه ملك "قبيلة" "ج2" 221. يسمع "ج1" 603. يشبم "عشيرة" "ج2" 156. يشجب "ج1" 489. يشر "بنو" "ج3" 475. يشكر "بنو" "ج1" 374، 403. "ج3" 250، 252، 358. "ج4" 496. "ج6" 351. "ج7" 133، 134. "ج8" 474.

"ج6" 348، 432، 433، 485، 565، 663. يشكر بن عدوان "ج4" 335، 500، 507، 508 يشكر بن وائل "ج6" 93 اليشكريون "ج3" 249. يطور "ج1" 443. اليطوريون "ج1" 443، 445. "ج2" 611، 623. "ج3" 30. اليعاقبة "جماعة" "ج3" 409. "ج6" 629، 630، 632، 633. يعرب "قبيلة" "ج4" 13. اليعسوب "ج4" 572. بفعان "آل" "ج2" 138، 139، 322. اليقشانيون "ج2" 261. اليكسوم "آل" "ج9" 154. يلجب "بنو" "ج3" 475. اليمانية "قبائل" "ج1" 96، 217، 395، 481، 494، 496، 497، 500، 504، 516، 517. "ج2" 590، 598. "ج3" 190، 278، 327. "ج4" 218، 322، 325، 454، 459، 558، 679. "ج5" 302، 350. "ج8" 589. "ج9" 637، 647. اليمانيون "ج1" 50، 189، 290، 304، 390، 393، 394، 475، 481، 483، 488، 501، 506، 515، 547 "ج2" 51، 278، 519، 582. "ج3" 193، 337، 359، 480، 521، 522. "ج4" 183، 374، 459. "ج5" 462. "ج6" 613. "ج7" 201، 282. "ج8" 203، 209، 368، 743، 781. "ج9" 208، 382، 449. يمرى "بنو" "ج3" 24، 67. يمن "ج1" 314، 363، 393، 477، 478، 485، 494، 495. "ج4" 324، 326. اليمنية "وفود" "ج8" 637. ينبع "بنو" "ج6" 257. يهب عيل "عشيرة" "ج2" 467، 468. يهبأر "قبيلة" "ج2" 156. يهبلح "قبيلة" "ج2" 318، 319، 406. يهثة "بني" "ج1" 521. يهر "آل" "ج2" 218، 219. يهزحم "قبيلة" "ج2" 281. يهسحم "آل" "ج2" 267. يهفرع "بنو" "ج2" 393. اليهود "ج1" 13، 20، 33، 34، 42، 55، 83، 87، 93، 120، 121، 207، 208، 225، 252، 256، 299، 311، 314، 360، 377، 379، 413، 415، 416، 420، 428، 438، 440، 452، 462، 463، 473، 474، حا 598، 617، 619، 631، 634، 641، 645، 647، 649، 650، 653، 655، 660. "ج2" 40، 46، 122، 123، 256، 578. "ج3" 32، 36، 37، 43

51، 67، 108، 109، 111، 118، 119، 145، 172، 175، 177، 263، 337، 389، 442، 460، 468، 469، 502، 506. "ج4" 13، 128، 131، 133، 136، 141، 147، 156، 167، 190، 197، 202، 203، 211، 232، 245، 246، 248، 254، 257، 262، 264، 303، 367، 368، 431، 452، 519، 564، 611، 667، 668، 680. "ج5" 18، 32، 76، 101، 103، 111، 120، 122، 139، 140، 142، 143، 150، 169، 170، 251، 252، 315، 339، 451، 456، 458، 479، 483، 517، 555. "ج6" 11، 37، 38، 40، 49، 98، 114، 120، 136، 220، 236، 337، 339، 342، 372، 399، 422، 443، 449، 453، 456، 462، 463، 471، 471، 495، 501، 503، 509، 511، 519، 541، 542، 544، 548، 550، 562، 564، 571، 575، 577، 579، 583، 585، 586، 600، 602، 611، 615، 619، 621، 624، 635، 636، 640، 642، 649، 651، 658، 675، 676، 678، 679، 682، 688، 692، 693، 697، 701، 702، 731، 740، 744، 747، 748، 757، 766، 778. "ج7" 41، 58، 83، 119، 121، 142، 298، 309، 377، 419، 422، 423، 426، 433، 499، 547، 557، 575، 591، 614، 622، 630. "ج8" 92، 104، 107، 114، 115، 127، 133، 134، 160، 180، 195، 196، 252، 262، 273، 282، 284، 286، 293، 317، 318، 322، 326، 339، 346، 378، 385، 426، 453، 467، 468، 475، 476، 480، 482، 490، 492، 494، 497، 505، 507، 535، 560، 620، 621، 634، 651، 652، 703، 713، 715، 751، 775. "ج9" 9، 150، 166، 271، 288، 327، 363، 371، 445، 556، 635، 685، 719، 720، 722، 724، 768، 769، 770، 777، 782، 784، 786، 789، 791، 792، 843 اليهودية "جالية" "ج3" 83. يهوذا "قبيلة" "ج1" 634. "ج7" 233. يهيبب "قبيلة" "ج1" 431. "ج2" 411، 412. اليونان "ج1" 16، 26، 27، 31، 35، 56، 57، 60، 62، 75، 79، 81، 141، 143، 155، 160، 163، 164.

167، 172، 175، 183، 193، 205، 253، 258، 262، 266، 312، 318، 345، 352، 387، 447، 498، 520، 534، 543، 546، 564، 585، 621، 634 "ج2" 9، 11، 13، 23، 27، 29، 31، 33، 34، 41، 48، 59، 63، 71، 76، 92، 93، 104، 118، 119، 124، 129، 130، 206، 223، 227، 224، 265، 266، 381، 382، 420، 510، 607، 609، 611، 622، 629، 653، 659. "ج3" 6، 9، 18، 19، 21، 26، 29، 31، 52، 65، 68، 73، 76، 77، 80، 85، 89، 99، 102، 127، 144، 146، 150، 218، 303، 329، 395، 406، 412، 534. "ج4" 10، 23، 297، 304، 308، 372، 408، 612، 646، 655، 668. "ج5" 98، 120، 188، 195، 199، 200، 216، 234، 244، 295، 304، 309، 328، 335، 499، 414، 433، 434، 468، 480، 481، 484، 544. "ج6" 17، 19، 21، 23، 47، 76، 138، 198، 220، 233، 327، 329، 410، 415، 416، 450، 458، 465، 601، 629، 689، 789، 801 "ج7" 110، 195، 233، 236، 250، 256، 261، 263، 267، 277، 279، 280، 423، 468، 477، 490، 493، 498، 544، 561، 568، 588، 602، 604، 606، 613، 621، 625، 628، 630، 634. "ج8" 75، 81، 107، 152، 190، 198، 200، 253، 311، 312، 316، 321، 336، 338، 396، 423، 426، 427، 431، 444، 465، 510، 519، 545، 546، 701، 711. "ج9" 49، 50، 52، 121، 124، 125، 127، 136، 199، 368، 722. اليوناني "شعب" "ج4" 317. يونانية "جالية" "ج3" 119. اليونانيون "ج1" 57، 161، 569، 624. "ج2" 24، 25، 32، حا 92، 611. "ج6" 21. "ج8" 86، 200، 340، 428، 490. "ج9" 155. ييتع "بنو" "ج4" 533.

فهرس الجزء التاسع عشر

فهرس الجزء التاسع عشر: فهرس الأعلام حرف الألف 7 حرف الباء 53 حرف التاء 63 حرف الثاء 66 حرف الجيم 69 حرف الحاء 76 حرف الخاء 89 حرف الدال 94 حرف الذال 97 حرف الراء 99 حرف الزاي 105 حرف السين 110 حرف الشين 122 حرف الصاد 129 حرف الضاد 132 حرف الطاء 133 حرف الظاء 138 حرف العين 138 حرف الغين 168 حرف الفاء 170 حرف القاف 174

حرف الكاف 181 حرف اللام 187 حرف الميم 190 حرف النون 216 حرف الهاء 224 حرف الواو 230 حرف الياء 234 فهرس الأمم والشعوب والقبائل. حرف الألف 242 حرف الباء 252 حرف التاء 255 حرف الثاء 258 حرف الجيم 260 حرف الحاء 266 حرف الخاء 270 حرف الدال 272 حرف الذال 273 حرف الراء 275 حرف الزاي 279 حرف السين 280 حرف الشين 284 حرف الصاد 286 حرف الضاد 287 حرف الطاء 288 حرف الظاء 289 حرف العين 289

حرف الغين 302 حرف الفاء 304 حرف القاف 307 حرف الكاف 312 حرف اللام 315 حرف الميم 317 حرف النون 325 حرف الهاء 329 حرف الواو 332 حرف الياء 333 الفهرست 337

المجلد العشرين

المجلد العشرين فهرس الدول والممالك والأماكن الألف ... فهرس الدول والممالك والأماكن: الألف: أب "موضع" "ج2" 430 "ج8" 211 أباد "مدينة" "ج1" حا "341 الآبار السبع "موضع" "ج4" 47، 51، 52، 75 آباط موضع" "ج4" 614 أبان "مدينة" "ج1" 458 "ج2" 640 أبرد "وادي" "ج1" 189 أبرق "قعر" "ج9" 860" أبكل "موضع" "ج2" 394 الأبلق "قصر" "ج3" 106، 375 "ج6" 528، 569، 572، 576، 578، 579 "ج7" 372 "ج8" 511، 512 "ج9" 772، 773، 778 أبنة "وادي" "ج2" 119، 133، 501 أبو حراب "سد" "ج7" 208 أبو الصلابيخ "تل" "ج2" 255 أبو ظبي "ج1" 541، 571 " "ج8" 85 "ج9" 59 أبو عتبة "بئر" "ج7" 354 أبو عريش "موضع" "ج1" 188 أبو الفوارس "موضع" "ج3" 137 أبو قبيس "جبل" "ج4" حا 7، 8 "ج6" 699 الأبواء "ج7" 338، 341، 350، 351، 356، 357 359 أبو لوكس "مدينة" "ج2" 20، 21 "ج9" 211، 215، حا 764 أبو "مدينة" "ج2" 430، 431 أبير "قصر" "ج3" 404 الأبيض المتوسط "بحر" "ج1" 57، 142، 238، 352 444، 454، 546، 554، 581، 590، 624، 554، 581، 590، 624، 626، 652، "ج2" 9، 10، 12، 15، 16، 28، 31، 120، 163 165، 166، 491، 533، 653 "ج3" 6، 15، 20، 30، 81، 134 "ج4" 113، 166، 170 226

"ج7" 267، 268، 271، 273، 285، 292، 333، 348 "ج8" 148، 149، 152، 262 أبين "ج1" 321، 382 "ج2" 114، 284، 289، 269، 298، 485 "ج3"479 "ج4" 478 أتب "أرض" "ج2" 466 أتباع "ج6" 293 أتباع "ج6" 293 أتخ "حديقة" "ج2" 290 أترا "مدينة" "ج2" 609 أترله "مدينة" "ج2" 47، 57 أتريبو "موضع" "ج1" 614 أتمة "ج1" 429 أتنه "منطقة" "ج2" 17 أتوت "جبل" "ج2" 430 "ج5" 13، 20 أتينه "موضع" "ج2" 30 أثابن "موضع" "ج2" 296، 297 322 أثافت "ج7" 362، 262، 541 "ج9" 576 أثلث "جبل" "ج3" 56 الأثيل "ج8" 384 أثينا "مدينة" "ج4" 47، 168 "ج5" 481 "ج6" 233، 292، 331، "ج7" 495 "ج8" 12 أجا "جبل" ج1" 157، 306"ج3" 349 "ج4" 219، 221، 450 "ج5" 269"ج6" 278 "ج7"" 150، 180، 337، 339* "ج9" 531 الأجراد "ج7" 353 الأجمة "مدينة" "ج6" 631 أجنادين "موضع" "ج4" 179 أجياد "موضع" "ج4" 72 "ج5" 393 "ج7" 99 الأجيفر "جفر" "ج7" 333، 337 340 أحد "جبل" "ج4" 475 "ج6" 780 "ج7" 201، 257 "ج8" 184" أحرم "أرض" "ج2" 232 الأحساء "ج1" 149، 162 174، 175، 190، 194، 242، 530، 532، 454، 558، 560، 598، 599 "ج2" 18، 550 "ج3" 249 "ج4" 485 "ج5" 76، 77 "ج6" 655 "ج7" 44، 336، 350 "ج8" 60، حا 205 أحدق "موضع" "ج2" 437 أحضر "موضع" "ج2" 561 الأحقان "ج1" 151، 279، 300، 304، 305، 311، 312 335 الأحمر "بحر" "ج1" 55، 59، 141، 143، 144، 156، 159، 161، 170، 187-188، 206، 242، 245، 248، 253، 329، 362، 427، 455، 456، 479، 553، 560، 567، 604، 615، 622، 624

-262، 640، 641 "ج2" 5، 6، 23، 31، 34، 43، 44، 46، 60، 61، 63، 65، 71، 242، 352، 265، 387، 511، 520، 531، 542، 556، 594، 647، 654، 657 "ج3" 15، 16، 20، 21 49، 50، 58، 384، 450، 490 "ج4" 39، 116، 107، 172، 190، 261، 322، 430 "ج5" 415 "ج6" 79، 369، 530، 535 "ج7" 120، 122، 123 179، 241، 252، 256، 277، 280، 284 "ج8" 203، 563، 701 "ج9" 127 الأحواض "موضع" "ج7" 335 أحور "موضع" "ج7" 274 أحياء "ماء" "ج7" 352 الأخدمية "ج7" 333 الأخداد "منطقة" "ج2" 543، 591، "ج3" 458، 459، 353، 537 أخر "وادي" "ج2" 402 أخرف "ج7" 363 الأخروج "موضع" "ج3" حا 496 "ج7" 124 الأخسف "بئر" "ج6" 252 الأخضر "ج1" 145، 156، 173، 217 أخميم "موضع" "ج8" 199 الأخيضر "حصن" "ج8" 35، 269 أخيلو "مملكة" "ج1" 595 أدرج "بناء" "ج3" 403 إدفو "موضع" "ج2" 35 أدمة "ج1" 333 أدمة "ج1" 333 إدنه "ميناء" "ج2" 63، 369، 405 أدولس "مدينة" "ج2" 31 "ج3" 461، 471، 473 "ج7" 251، 279، 250 ادمو "أدوم، "أدمو-أدومو" "مملكة" "ج1" 142، 420، 442، 577، 583، 590، 592، 596، 600-601، 604، 610، 611، 631، 645 "ج2" 120 "ج3" 15، 53 "ج4" 667، 314 "ج6" 262 الأدومية "ج1" 604 "ج3" 112 أديدا "موضع" "ج3" 31 أذربيجان "ج1" 548 "ج9" 8، 766 أذرح "مدينة" "ج3" 58 "ج4" 249 "ج6" حا 595 "ج7" 348 أذرعات "مدينة" "ج3" 59، 60، 63 "ج4" 669 "ج7" 313 أذفر "موضع" "ج2" 187 أذنة "وادي" ج2" 284 "ج7" 179، 209، 211 الأر "ج1" 427" أراد "مدينة" "ج2" 19 أرادوس "موضع" "ج2" 114 أراس "ج8" 201 أراش "موضع" "ج7" 446 إربد "مدينة" "ج3" 65

أربك "شط" "ج3" 212 الأرحاء "ج4" 326 أرحب "موضع" "ج1" 189 "ج2" 114، 331 "ج3" 452 "ج4" 187، حا 449 "ج5" 20" "ج6" 262 "ج8" 39 أرزون "مدينة" "ج6" 597 أرسينو "مدينة" "ج2" 23 أرشام "مدينة" "ج2" 549 "ج3" 463، 493، "ج4" 176 أرض "موضع" "ج2" 635 أرك "مدينة" "ج1" 603 "ج2" 561 "ج3" 137 "ج4" 233 "ج7" 339 أركاديا: "موضع" "ج6" 47 ارم "بئر" "ج1" 301 إرم "جبل" "ج1" 168، 644 إرم "دمشق" "إرم ذات العماد" "ج1" 300، 305، 313، 321، أرمينية "إقليم" "ج2" 539،647 "ج7" 516 أروى "مملكة" "ج2" 288 الأروقة "بناء" "ج3" 304 أرومة "بئر" "ج4" 131 الإريتري "بحر" "ج1" 141، 158 622 إريتريا "دولة" "ج3" 450 أريتوسه "مدينة" "ج2" 41 أريحا "مدينة" "ج2" 54 "ج8" 400 أرينب "موضع" "ج7" 363 أزال "مدينة" "ج1" 427 "ج3" 532 أزريلو "ج1" 601، 604 ازلة "ج1" 603 أسأى "موضع" "ج2" 429، 430 أساحل "موضع" "ج2" 45 إساف "موضع" "ج4" 76 آسان "ملكة" "ج8" 200 إسبانية "ج1" 640 "ج3" 44 الأسيذ "قرية" "ج4" 203 "ج6" 694 أسبيل "ج7" 522 ستانبول "مدينة" "ج2" 590 "ج3" 476 "ج8" 183 إستراباذ "مدينة" "ج9" 400، 678 أسد تعشر "موضع" "ج7" 125 أسد حاملة "موضع" "ج7" 125 أسد حليلة "موضع" "ج7" 125 أسد خفان "موضع" "ج7" 125 أسد السحول "موضع" "ج7" 125 أسد الشري "موضع" "ج7" 125 أسد "عتود" "موضع" "ج7" 125 أسد الكطاء "موضع" "ج7" 125 أسد لية "موضع" "ج7" 125 أسد المقيضا "موضع" "ج7" 125 أسد الملاحيظ "مضوع" "ج2" 125 أسدود "مدينة" "ج2" 122 إسطبل عنتر "موضع" "ج1" 159، 169، حا 187 أسعد كامل "طريق" "ج2" 576 الأسفل "بحر" "ج1" 140، 554، 555، 570 الأسفيذهان "موضع" "ج9" 869 أسقفية "مدينة" "ج3" 63، 67 أسقه "مدينة" "ج2" 47 إسكندينافية "ج1" 291 الإسكندرية "ج1" 56، 60، 303

"ج2" 12، 25، 42، 46، 70، 71، 256، 266 "ج3" 35، 144، 115، 117، 125، 126، 464، 506 "ج6" 432 "ج7" 278، 408 "ج9" 673 الإسلامية "دولة" "ج1" 217 الإسماعيلية "مدينة" "ج1" 648 الأسود "بحر" "ج3" 89 الأسودة "قرية" "ج7" 345 أسورن "مدينة" "ج2" 382 آسية "ج1" 147، 228، 230 235، 238، 239، 480، 640، 645 "ج2" 5، 11، 38، 610 "ج3" 26، 95، 97، 99، 116، 133 "ج4" 303 "ج6" 625 "ج7" 233، 267، 269 275، 278 "ج8" 150، 634، 644 أشب الغياض "موضع" "ج4" 223 أشدود "مدينة" "ج1" 596 الأشرفية "مسجد" "ج8" 48 الأشعر" "أشعرن" "ج3" 380: ج8" 674 أشقلون "مدينة" "ج1" 596 الإشكانية "دولة" "ج2" 614 آشور "مملكة" "ج1" 16، 18، 561،570، 574، 575، 577، 582، 584، 585، 590، 606، 609، 626، 645 "ج2" 6، 64، 93، 122، 262، 278، 279، 604 "ج5" 205، 213 "ج6" 62، 64، 209 "ج7" 236 الآشورية "حدود" "ج1" 16 الأصافر "موضع" "ج7" 354 أصبهان "مدينة" "ج9" 849 أضاخ "مدينة" "ج7" 337، 521 ضفرم "موضع" "ج2" 188 أضم "وادي" "ج1" 161، 168 "ج4" 132 أضمير "ج7" 344 طحل "جبل" "ج4" 517 الأطلنطي "محيط" "ج4" 240 الأطلس "ج1" 181، 235 "ج7" 163 "ج9" 379 أطم الأضبط "حصن" "ج5" 452 الأطواد "موضع" "ج2" 574، 585 "ج7" 284 أظور "وادي" "ج2" 430، 431 433 الأعمشية "مدينة" "ج7" 362 الأعناك "ج7" 333 الأعيار "ج7" 353 أعين خرص "موضع" "ج2" 561 الأغور "دير" "ج7" 598 أغيار "مدينة" "ج7" 364 أفاعية "ج7" 338 أفريقية "قارة" "ج1" 59، 142، 43، 201، 217، 219، 224، 227، 229، 234، 238، 241، 255، 447، 457، 459، 460، 479، 481، 520، 530، 531، 543، 545، 558، 559، 565، 615، 625، 638، 640، 643، 645 "ج2" 5، 10، 15، 16، 20، 21، 23، 25، 27

29، 31، 38، 43، 60، 62، 70، 71، 122، 124، 135، 145، 159، 242، 253، 261، 278، 379، 502، 511، 610، 627، 628، 631، 641، 657، "ج3" 21، 81، 83، 129، 449، 450، 456، 479، 538 "ج4" 32، 33، 35، 155، 116، 119، 187، 190، 283، 303، 441، 555، 556، 628 "ج5" 414، 415 "ج6" 27، 49، 538، 589، 613، 625 "ج7" 15، 77، 227، 228 232، 237، 239، 241* 258، 260، 263، 266، 267، 270، 273، 281، 283، 284، 460، 454 547، 548، 553 "ج8" 40، 96، 122، 15، 213، 400، 453، 545، 593،620، 701، 706 أفوس "مدينة" "ج6" 625 الأفغان "ج1" 228 أفطح "جبل" "ج6" 282 أفقة "موضع" "ج3" 118 أفقن "موضع" "ج2" 295 الأفلاج "ج1" حا 179، 181، 182، 221 "ج2" 551، 552 "ج6" 629 "ج7" 345 أفيرنوس "بحيرة" "ج6" 48 الأفيعية "ج7" 341، 522 أفيق "ج7" 348 أقر "وادي" "ج3" 423، 434 الأقرع "جبل" "ج4" 259 "ج7" 348 أقريطش "كريت" "جزيرة "ج1" 312 "ج8" 146، 148، 149 أكاد "مملكة" "ج1" 556، 561 570، 610 أكرا "ضياء" "ج2" 48 أكربي "ج2" 296 أكروبولس "موضع" "ج2" 33 أكسوم "مملكة" "ج1" 237 "ج2" 60، 253، 344، 376، 378، 427، 435، 511، 582، 627، 658 "ج3" 451، 452، 454، 477، 484، 489، 510، 511 "ج7" 261، 282 "ج7" 212 أكلة "مدينة" "ج3" 32 أكنط "مدينة" "ج2" 332، 406 أكيلا "ضياء" "ج7" 276 الأهة "موضع" "ج9" 496، 497 826 الجيسيا "مدينة" "ج3" 134 ألمانيا "دولة" "ج1" 132 الو "حصن" "ج2" 317 "ج3" 485 الوسة "ج6" 233 اليس "موضع" "ج2" 649 "ج4" 231 أم أحراد "بئر" "ج9" 411 أم البرك "موضع" "ج1" 171 أم الجمال "قرية" "ج2" 65 "ج3" 184 "ج8" 175، 176، 178 248

أم خرق "ج3" 537 أم الرجوم "موضع" "ج3" 73، 74 أم الرصاص "ج3" 46 أم القرى "مكة" "مدينة" "ج9" 654 أم النار "موضع" "ج1" 541 الأمانوس "جبال" "ج1" 144 أمبلونة "مدينة" "ج2" 30 "ج3" 21 أمج "ج4" 256" "ج7" 353، 358، 359 امرة "ج7" 342 أمرم "موضع" "ج2" 283، 294 508 أمريكة "قارة" "ج6" 530 "ج8" 149، 150 أملح "وادي" "ج1" 187 "ج2" 543 أمنان "مدينة" "ج3" 70 أمور "موضع" "ج1" 238، 600، 602 الأموي "مسجد" "ج1" 313 الأموية "دولة" "ج1" 65، 356، 472، 498، 517، "ج9" 25، 463 أميركا "ج1" 291، 519، 520 "ج6" 49 الأناضول "ج3" 72 الأنبار "ج1" 122، 349، 379، 547، 548، 657 "ج2" 575، 618، 641، 644، 650، 651، 656، "ج3" 104، 161، 162، 166، 168، 173، 175، 17، 180، 182، 186، 22، 339، 342، 344، "ج4" 114، 213، 230، 232 "ج6" 84 "ج8" 110، 111، 118 154، 156، 164، 167، 169، 174، 178، 180، 186، 281، 296، 298، 310، 311، 645، 646، 648، 680، 684، 721، "ج9" 9، 49، 51، 291، 654 أنحرم "أنحر" "موضع" "ج2" 436 أندية "مدينة" "ج3" 24 الأندلس "ج8" 99، 644 أنزلكرمة "موضع" "ج1" 605 أنس "جبل" "ج1" 196"ج7" 179 أنصاص "وادي" "ج2" 157 "ج7" 179 أنصاص "وادي" "ج2" 157 "ج3" 59، 103، 109، 119، 220، 221، 223، 259، 336، 406 "ج6" 613، 626، 627، 631، 634 "ج7" 71 أنطوخية "مدينة" "ج2" 619 أنف "مدينة" "ج2" 228، 290، 298، 503 أنقد "ج7" 346 أنقرة "مدينة" "ج3" 117، 371، 367، 372 "ج4" 67 "ج9" 7987 إنكلترة "دولة" "ج1" 217، 290 "ج3" 38 نكوباريتيس ""موضع" "ج3" 174 أنود "انودم" "حصن" "ج2" 142، 143، 145، 174، 148، 150، 152، 175، 158، 485 "ج5" 204 أهوي "ج7" 344

أهوار "منطقة "ج1" 29، 164، أهواز "بلاد "ج2" 633، 638، 640 "ج4" 486، 500 أوارة "جبل" "ج3" 277، 227، "ج4" 83 "ج5" 240 "ج9" 619 أوال "جزيرة" "ج4" 212 أوتان "مدينة" "ج2" 398 أود "مدينة" "ج2" 503 أور "مدينة" "ج1" 454، 556، 559، 570، "ج2" 259 أوراد "جبل" "204" أورشليم "القدس" "ج1" 19، 53، 55، 128، 305، 351، 352، 439، 631، 643، 636، 642، 643، 645، 648، 651 "ج2" 39، 43، 262، 263 "ج3" 26، 27، 32، 33، 35، 37، 43، 44، 59، 71، 84، 108، 501 "ج4" 10، 116، 162 178 "ج5" 103 "ج6" 238، 527، 544، 552، 573، 776 "ج7" 417 "ج8" 714، 727 "ج9" 574، 575 أوروبة "أوربة" "قارة" "ج1" حا 17 حا 28، 125، 127، 128، 130، حا 146، 238، 239، 241، 287، حا 334، حا 337، حا 341، حا 345، حا 362، حا 387، حا 392، حا 378، حا 392، حا 395، 531 533، 546، 564 "ج2" 23، 174، 653، "ج3" 117، حا 214، 439 "ج4" 119، 169، 293 "ج5" 228 "ج6" 10، 35، حتا 127، 592، 603، 739، 743، حا 766 "ج7" 134، 263، 267، 269، 275، 292، 419، "ج8" 149، 152، 644، الأوروبية "بلاد" "ج1" 230، 328، "ج2" 12، 129 "ج4" 169، "ج7" 134، 263، 267، 269، 275، 292، 419، "ج9" 775، 840، حا 861 الأوروبية "بلاد" "ج1" 230، 328، "ج2" 12، 129 "ج4" 169 "ج7" 161، 561 أوونة "مدينة" "ج3" 32 أوربية "موضع" "ج3" 32 أوسان "مملكة" "ج2" 99، 150، 161، 188، 189، 191، 194، 219، 222، 289، 293، 289، 375، 469، 498، 505 "ج3" 450 "ج4" 445 "ج5" 203، 255 "ج6" 176 "ج8" 54، 69، 686 الأوساني "ساحل" "ج2" 502 أستراليا "ج1" 520 "ج6 27، 49 أوسرة "مدينة" "ج2" 382 أوسيتس "ج1" 598 أوطاس "مدينة" "ج4" 254 "ج7" 338، 342 أغادا "دولة" "ج2" 346 "ج5" 455 أوفير "ج1" 180، 192، 193

430، 637، 641 أوم "أوأم" "مدينة" "ج2" 294، 295، 457، 641، 463، 465، 467، 491، 526، 537، 538، 451، 545، 547، 557، 562، 564، 567 أيتام "برية" "ج1" 436 إيتريبو "موضع" "ج1" 617 الإيجي "بحر" "ج2" 7 أيد "موضع" "ج3" 182 "ج6" 10 إيدوم "موضع" "ج1" 297 إيديخو "ج1" 614 إيران "دولة" "ج1" 230، 498، 545، 554، 555، 559، 564 "ج2" 20، 629، 633، "ج3" 20، 81، 134، 174 179، 341 "ج4" 485، 628 "ج5" 312 "ج6" 469، 537، 629، "ج7" 261، 262، 275، 284 "ج8" 721، 731 إيرمي "موضع" "ج7" 335 إيسايتاي "أيسايته" "ج1" 598 إيضم "مدينة" "ج2" 432 إيطالية "دولة" "ج2" 653 "ج3" 7، 36، 127 "ج6" 47 "ج7" 267 إيطورية "مدينة" "ج1" 443 ايكاروس "جزيرة" "ج2" 7، 32 ايكم "مدينة" "ج2" 293 ايلاصباح "مدينة" "ج3" 469 ايلة "إيلات" و "ايلوت" "ج1" 142، 168، 643، 645 "ج2" 20، 71، 73، 161، 442، 525، 526 "ج4" 170، 213، 223، 245، 247، 249، 431، 462، 487 "ج6" 417، 417، 500، 530، حا 595، 601، 693 "ج7" 272، 275، 278، 281، 284، 323، 348، 349 "ج8" حا 203 إيليا "مدينة" "ج6" 480 ايم "موضع" "ج2" 404 ايمن "تيه" "ج1" 321 ابميسنر "مدينة" "ج2" 41 ايهي "مدينة" "ج3" 182 ايهيدأ كيرة "مدينة" "ج3" 182، ايوتابا "جزيرة" "ج2" 654 "ج3" 384 "ج4" 170

الباء

الباء: باب المندب "ج1" 142، 147، 238، 248، 479، 532، 643 "ج2" 29، 64، 172، 368، 380، 531، 597 "ج3" 459، 471، 480، 490 "ج4" 39، 170، 190، "ج6" 465 "ج7" 273، 276، 280، 281 بابل "ج1" 18، 54، 229، 231، 238، 255، 364، 349، 451، 381، 557، 559، 561، 562، 568، 569، 573، 588، 589، 591، 592، 599، 600، 606، 608، 610، 612، 614، 620، 626، 645، 658، 659 "ج2" 7، 13، 15، 540، 608 "ج3" 11، 176، 175 "ج6" 9، 130، 452، 467، "ج5" 213 "ج6" 527، 559، 745، 741، 776 "ج7" 423، 559، 609، 633 "ج8" 189 بابلون "حصن" "ج3" 11 "ج7" 278 البابلية "دولة "ج3" 80 باجرمي "موضع" "ج2" 615، 617 بادش "بدش" "ج2" 161 "ج3" 479 بئر علي "بئر" "ج2" 161 "ج3" 479 بئر الملك "بئر" "ج9" 722 بأران "ج2" 462 بارئيا "مدينة" "ج2" 21 "ج7" 236 بارق "قصر" "ج3" 159، 246، 293، 303 "ج4" 88، 471، 475، "ج5" 368 "ج6" 377، 447، 475، "ج9" 475، 502،797، 832 باروسما "قرية "ج4" 231 باريس "مدينة" "ج1" حا 313 "ج4" حا 96، حا 100 "ج6" 659 بازو "ج1" 579، 594، 596، 599 بأنس "مدينة" "ج2" 440 باشان "مملكة "ج3" 59، 62 باصع "مصوع" "مدينة" "ج9" 766 الباطن "وادي" "ج7" 344 الباطنة "ج1" 173

باعجة "ج4" 470 البالدية "ج7" 335 بالس "مدينة "ج2" 623 بالع "ج1" 333 بالميزا "ج2" 625 "ج3" 85 بالميزينا "ج3" 227 بانقيا "موضع" "ج2" 650 "ج4" 231 البتراء "بترا" "ج1" 166، 582، 627، 644 "ج2" 16، 22، 28، 43، 45، 65، 77 "ج3" 7، 18، 20، 28، 32، 33، 35، 40، 49، 53، 54، 56، 58، 59، 65، 71، 73، 80، 84، 89، 136، 166 "ج5" 195 "ج6" 233، 275، 327، 413، 415 "ج7" 236، 278، 358، "ج8" 172، 181، 518 بتع "أسد" "ج2" 326، 408 بتعة "هضبة" "ج8" 52 بتن اردشير "مدينة" "ج2" 633 بنتي "مدينة" "ج2" 619 بتينية "مدينة" "ج3" 97، 98 116، 117 بثرابسوس "موضع" "ج3" 215 بثرة "بئر" "ج7" 192 بحر حطبم "معبد" "ج2" 444، 453 "ج8" 674 بحري "موضع" "ج7" 58 بحران "موضع" "ج4" 260 "ج7" 340، 361، 522 البحرين "ج1" 131، 171، 174، 177، 192، 195، 232 252، 295، 335، 339، 364، 369، 407، 512، 517، 532، 534، 536، 539، 540، 545، 546، 548، 553، 555، 556، 558، 560، 562، 564، 568، 570، 571، 583، 588، 859، 599، 605 618، 620 "ج2" 7، 18، 19، 23، 31، 40، 633، 634، 637، 640، 646، 648، "ج3" 11، 166، 167، 223، 234، 246، 249، 252، 273، 300، 309، 323، 352، 392، 405، 441، 527، 536، " "ج4" 157، 203، 205، 209، 212، 216، 218، 232، 233، 231، 325، 374، 470، 484، 486، 587، 490، 500، 502، 522، 527، 540 "ج5" 170، حا 207، 287، 320، 384، حا 425، "ج6" 61، 100، 486، 542، 587، 621، 622، 629، "ج7" 21، 72، 90، 121، 163، 180، 184، 251، 257، 272، 280، 305، 346، 374، 376، 459، 520، 536، "ج8" 85، 128، 179، حا 205، 267، 296، 297، 365، 588، 637، 640، 644، 648، 650، 669، 681، 688، 782، 783، "ج9" 291، 426، 428-

430، 432، 468، 527، 533، 536، 538، 654، 655، 663، 665، 666، 688، 691، 751، 608 البحيرة "ج5" 210 البخراء "مدينة" "ج3" 137، 138 بخورستان "ج1" حا 18 بدا وادي "ج1" 167، 168 "ج7" 349 البدائع "موضع" "ج2" 254 بداكو "مدينة" "ج1" 614، 617 بدر "ج1" 167 "ج3" 294 "ج5" 626 "ج7" 192، 194، 323، 329، 339، 352، 356، 358، 360، 371، 376، 407 "ج8" 790 "ج9" 278 البديع "موضع" "ج1" 540، 616، 617 بذر "بئر" "ج8" 199 البرابر "جبل" "ج8" 199 البرادان "موضع" "ج3" 323، 392، "ج4" 72 براقة "جزيرة" "ج2" 64 براقش "حصن" "ج2" 63، 75، 83، 85، 114، 116، 118، 207 البرام "معدن" "ج7" 522، 524 بران "موضع" "ج2" 344، 347، 439، 446 "ج7" 446 "ج8":48 البرتغال "دولة" "ج7" 284 البرج "موضع" "ج3" 441 برديسو "ج1" 563 برقة "الأثماد "موضع" "ج9" 804 برقة الثور "موضع" "ج7" 346 برقة صادر "ج4" 251 البراك "مدينة" "ج3" 9 "ج4" 103، 260 "ج7" 346 بركة إبراهيم "موضع" "ج2" 621 "ج3" 194، 441 "ج6" حا 15 "مدينة" "ج1" 194 "ج2" 188، 192، 231، 232 برهوت "وادي" "ج1" حا 311، 312 "ج4" 198 بروه "مدينة" "ج7" 280 بريجازا "ميناء" "ج7" 257 بريدة "ج1" 161 البريص "ج3" 437 "ج4" 563 البريطاني "متحف" "ج1" 65، 129، 583 "ج2" 152، 572 "ج3" 18، 60، 467 "ج6" حا 365 "ج8" 74، 84، 207 بزاخة "ج7" 339 بستان بن عامر "ج7" 125، 338، 431، 343، 362، 441، بستان شهار "ج4" 143 البسفور "مضيق" "ج3" 117، 124، 127 بسما "موضع" "ج2" 650

بشاق "ج1" 456 البشر "موضع" "ج2" 535، 651، "ج3" 475 بصري "مدينة" "ج1" 51 "ج2" 16، 65، 69، 70، 632، 652، 653 "ج3" 8، 48، 49، 58، 60، 62، 64، 69، 71، 145، 146، 150، 190، 191، 245، 425، 435، 438 "ج4" 39، 114، 117، "ج6" 238، 275، 316، 331، 588 "ج7" 278، 262، 323، 348، 494، 495 "ج8" 176، 376، 406، 518، 520 "ج9" 663، 665، 738 البصرة "مدينة" "ج1" 161، 177، 402، 449، 495، 639،"ج2" 12، 21 "ج" 322، 353 "ج4" 157، 169، 216، 328، 557، 586، 680، "ج5" 297، 348 "ج6" 622، 716 "ج7"44، حا 254، 255، 275، 293، 334، 341، 345، 347، 362، 441، "ج8" 129، 188، 289، 352، 3779، 557، 574 586، 587، 590، 666، "ج9" 6، 8، 10، 30، 32، 34، 37، 40، 42، 47، 48، 52، 75، 211 213، 223، 226، 228، 230، 236، 252، 255، 256، 261، 288، 290، 291، 294، 295، 301، 303، 304، 312، 314، 317، 319، 324، 327، 343، 360، 362، 363، 585، 605، حا 764، 850، 866، 784، 895 البصري "خرائب" "ج3" 137 بضاعة "بئر" "ج7": 193، 194 البضيع "موضع" "ج9" 33، 734 البطائح "منطقة "ج2" 68 البطاح "ج4" 206 البطان "مضوع" "ج3" 514 "ج4" 226 "ج7" 336، 340 البطحاء "ج4" 65، 81، "ج7" 354 بطحان "وادي "ج7" 42، 178 بطرسبورغ "مدينة" "ج6" حا 701 بطمون "معبد "ج3" 42 بعدان "موضع" "ج9" 574 بعلبك "ج1" 651 "ج3" 370 "ج6" 307، 330 بغداد "مدينة": ج1" حا 177 "ج2" 608،651 "ج3" حا 155، 344 "ج4" 226 "ج5" حا 216 "ج6" 574، حا 599، 642 "ج8" 521 "ج9" 59، حا 194، 215، 217، 224، 273، 295، 400، 678، حا 629، حا 690، حا 775، حا 842 البقار "وادي "ج6" 719 البقاع "سهل" "ج1" 443، 444

"ج2" 623 "ج3" 15، 30، 36، 111 البقاد "مدينة" "ج2" 650 بقيش "قرية" "ج3" 125 بقة "موضع" "ج3" 181، 248، 363 بقتت "مدينة" "ج2" 395 البقع "بئر" "ج7" 194، 354 البقعة "مدينة" "ج7" 332 بقيع الخبخبة "موضع" "ج7" 42 بقيع الخضمات "موضع" "ج7" 42 بقيع الخيل "موضع" "ج7" 42 بقيع الزبير "موضع" "ج7" 42 بكبك "مدينة" "ج2" 119 بكلم "بكيل "ج2" 343، 348، 352، 353 "ج4" 460 بلبانا "ج1" 176 بلحاف "ج2" 161 بلحة "موضع" "ج7" 363 بلخع "ج6" 263 البلسة "ج3" 436 بلق جبل "ج7" 211 بلق الأوسط "ج7" 211 البلقاء "إقليم" "ج2" 76 "ج3" 402، 404، 438، 485 "ج4" 125، 242، 244 "ج5" 398، 467 "ج6" 452، 455، 470، 471 "ج7" 416، "ج8" 521 بلقين "مدينة" ج3" 179 بلكئة "موضع" "ج4" 262 البلوزي "نهر" "ج7" 267 بليجرد "جزيرة "ج2" 19 البليخ "موضع" "ج9" 880 بمبا "ج2" 502 بمنهج "وادي" "ج3" 495 بنات حرب "مدينة" "ج7" 361، 362، 512 بنبان "قينقاع "سوق" "ج7" 371 376 بهراء "ج3" 443 "ج4" 232 البوا "دولة" "ج4" 261 بواط "موضع" "ج4" 261 "ج7" 352 بورما "دولة" "ج5" 455 بوز "ج1" 225، 581 بوسان "مدينة" "ج2"433 بوسيديون "مدينة" "ج3" 54 بولان "موقع" "ج8" 158، 160، 186 البويرة "موضع" "ج6" 523 بيار حجار "موضع" "ج3" 136 البيت الحرام "موضع" "ج2" 516 569 "ج4" 5، 16، 17 "ج6" 413 "ج7" 300 بيت حور "مدينة" "ج6" 238 بيت غفر "موضع" "ج8" 39 بيحان "منطقة وادي" ج1" 348 "ج2" 119، 140، 141، 144، 151، 173، 176، 186، 197، 200، 222، 225، 292، 371، 373 "ج5" 12، 13، 20، 463 "ج7" 212، 364، 556، 565 "ج8" 420 بيروت "مدينة" "ج1" حا 18، حا 80، حا 307

حا 321، حا 335، حا 574 حا 578، حا 611 "ج2" حا 92 حا 163، حا 197،حا 225، 623، حا 634، حا 650 "ج3" حا 32، حا 59، حا 229، 231، حا 233، حا 236، حا 242، حا 244، 245، حا 249، حا 251، 255، حا 270، 275 حا 278، حا 294حا 297، حا 351، حا 358 حا 360، حا، حا368، حا 371، حا 420، 421، حا 423، 424 "ج4"، حا 45، حا 55، حا 94، حا 111، حا 115، حا 133، حا 231، حا 232، حا 236، حا 264، حا 307، حا 372، حا 386 491، حا 495، 497 حا 670، حا 685 "ج5" حا 90، حا 114، حا 121، حا 197، حا 356، حا "ج6" حا 127، حا 129، حا 130، حا 136، حا 145، حا 149، 150، حا 230، حا 251، حا 430، حا 451، حا 484، حا 486، حا 488، حا 502، حا 505، حا 517، حا 519، حا 572، 574، حا 586، حا 625، حا 638، حا 645، حا 647، حا 649، حا 645، حا 691، حا "ج7" حا 371، 372 "ج8" حا 276، حا 385 حا 683، حا 706، حا 749، حا 767، حا 772، 773، حا 782 "ج9"، حا 85، حا 140، حا 150، حا 224، حا 270، حا 280، حا 290، حا 335، حا 355، حا 372، حا 473، حا 509، حا 777، حا 858 البيزنطية "إمبراطورية" "ج1" 507، "ج2" 626، 647، 652، 653، 657، 659 "ج3" 67، 384 "ج4" 161، 16، 166، 167، 169، 172، 176 "ج5" 196، 199، 483 "ج6" 600، 612-613، 621، 626، 628، 631، 639 "ج7" 279 "ج8" 720 بيستون "ج1"، حا 17 بيشة ":وادي" "ج1" 192، 396 "ج2" 52، 75، 541، 542، 550، 576 "ج3" 453 "ج4" 195، 254 "ج7" 124، 361، 363، 512، 522 "ج8" 57 بيشون "ج1" 161 البيضاء "مدينة" "ج2" 27، 35، 45 "ج5" 346 "ج7" 349، بينونة "ج1"، حا 171 "ج2" 572 "ج3" 484، 5323 "ج4" 485

التاء

التاء: تاد "ج4" 206 تاران "جزيرة" "ج4" 170، 174 تارون "جزيرة" "ج1" 175، 176 "ج8" 206 تألق "موضع" "ج2" 411 تامار "موضع" "ج3" 77، 78 "ج6" 708، 723 تباسكوس "مدينة" "ج2" 15 تباله "موضع" "ج2" 51 "ج4" 186 "ج7" 176، 361، 364 "ج9" 539 التبت "هضبة" "ج1" 499 "ج2" 534، 576 التبج "وادي" "ج1" 169 تبرم "موضع" "ج2" 290 تبروبانة "جزيرة" "ج4" 169 تبني "منطقة" "ج2"290، 291، 298، 498، 502 تبوك "منقطة" "ج1" 133، 167، 169، 324، 329، 333، 454، 638 "ج2" 28 "ج3" 57 "ج4" 41، 180، 186، 244، 246، 247، 249، 251، 245، 426، 430، 431 "ج6" حا 595، 600، 601 "ج7" 73، 348 "ج8" 125، 378 تثليت "وادي" "ج1" 170، 171، 192 "ج2" 50 "ج7" 364 تيجا "يها" موضع" "ج6" 269 التحتاني "بحر" "ج1" 140، 554 تخلي "جبل "ج1" 462 تدمر "مملكة" "ج1" 132، 165، 249، 329، 376، 377، 410، 426، 597، 603، 660، "ج2" 38، 68، 145، 534، 605، 609، 611، 622، 625، 627، 630، 634، 635 "ج3" 14، 76، 93، 96، 99، 103، 107، 111، 113، 115، 116، 118، 120، 123، 131، 134، 139، 157، 166، 177، 223، 227، 408، 413، 426 "ج4" 239، 463، 616، 675

"ج5" 156، 189، 219، 234، 250، 295 "ج6" 55، 232، 233، 237، 699، 306، 307، 310، 311، 318، 408، 685، 708، 723 "ج7" 278، 322 "ج8" 200، 243، 245، 247 تراقية "موضع" "ج3" 124 "ج6" 21 تربان "موضع" "ج7" 354 تربن الترب "موضع" "ج3" 495، 498 "ج4" 254 "ج7" 176، 362، 363 ترساي "مدينة" "ج6" 597 ترعة "مدينة" "ج2" 358 تركستان "مقاطعة" "ج9" 379 تركستان"الصينية" "ج4" 164 تركية "ج7" 109 تروق "مدينة" "ج6"حا 271 تريم "موضع" "ج2" 164، 566 "ج4" 198 تسلال "ج6" 437 تعرمان "مدينة" "ج3" 434 تعز "مدينة" "ج8" 28، 48، 50 تعزية: مناطق "ج3" 450 تعشار "مدينة" "ج7" 335 تغلمين "موضع" "ج2" 503 تفشن "ماء" "ج2" 296 تفض "مدينة" "ج2" 289، 281، 298 "ج3" 479 التقه "مدينة" "ج1" 590 تكريت "جزيرة" "ج4" 470، 472، 474، 491 "ج6" 631، 632 "ج9" 569 تل الأشعري "مدينة" "ج3" 65 تلخونو "مدينة" "ج1" 590، 591 تلعة "موضع" "ج7" 335 تلقم "مدينة" "ج8" 39، 40 تلمون "منطقة" "ج1" 561، 565، 568، 599 "ج2" 19 تلن "موضع" "ج2" 294 تمس "موضع" "ج2" 249 تمنع "مدينة" "ج2" 31، 150، 176، 177، 183، 186، 196، 202، 205، 213، 217، 220، 222، 229، 470، 517 "ج5" 275، 473، 476، 582، 624، 625 "ج7" 231 "ج8" 12، 47، 56، 57، 66، 67، 81 تمنه "مدينة" "ج1" 133، 590 "ج2" 506 تمولي "مقابر" "ج5" 170 تنجانيقا "ج1" 532 "ج3" 453 تنداحة "وادي" "ج2" 271 تنع "قلعة" "ج2" 339، 466 "ج4" 46، 198، 202 "ج7" 358 تنعة "مدينة" "ج9" 386 التهائم "موضع" "ج2" 574، 580 تهامة "منطقة" تهمت، تهتم "ج1" 167، 170، 171، 181، 182، 188، 190، 219، 227، 242، 380، 389، 390، 369، 458، "ج2" 57، 171، 541-

542، 571، 572، 584، 585، 587، 589 "ج3" 166، 276، 332، 437، 350، 351، 368، 484، 494، 495، 516، 518 "ج4" 15، 32، 33، 35، 129، 145، 146، 195، 233، 254، 266، 268، حا 281، 303، 322، 428، 444، 469، 471، 484، 490، 500، 505، 507 "ج5" 345، 346، 350 "ج6" 79، 96، 97، 236، 254، حا 259، 274، 381، 769 "ج7" 64، 85، 88، 148، 200، 330، 343، 347، 350، 363، 375، 467، 539 "ج8" 133، 590، 624، 625، 690 "ج9" 112،242، 430، 433، 434، 617، 634، 746، 806 تهرجب "موضع" "ج2" 301 توج "موضع" "ج2" 639 "ج4" 197، 486 توز "جبل" "ج7" 304، 337، توما "خربة" "ج1" 612 تياس "ج7" 335، 514 تيبور "مدينة" "ج3" 127 تيت "جبل" "ج7" 339 تير "مدينة" "ج2" 14 "ج7" 150 تيران "جزيرة" "ج2" 656 "ج3" 485 "ج4" 170 تيروس "مدينة" "ج2" 19 تيلوس "جزيرة" "ج1" 560 "ج2" 7، 16، 17، 19 "ج7" 257 تيماء "ج1" 133، 152، 295، 326، 329، 330، 346، 442، 443، 581، 586 596، 610، 616، 618 "ج2" 15، 249 "ج3" 7،106، 150، 367، 369، 375، 377 "ج4" 129، 130، 136، 262، 263، 274، 423 "ج5" 17، 451 "ج6" 72، 312، 513، 516، 517، 523، 525، 527، 529، 532، 552، 558، 559، 569، 570، 578، 579 "ج7" 70 "ج8" 115، 174، 271، 276، 293، 298، "ج9" 772، 774، 782 التيه "موضع" "ج1" 168، حا 304 تيوس "مدينة" "ج2" 297

الثاء

الثاء ... التاء: ات "مدينة" "ج2" 557 تأج "خرائب" "ج8" 205 تار "وادي" "ج2" 543 ثاسوس "منطقة" "ج2" 14 ثافت "قرية" "ج7" 74 ثبير "مدينة" "ج2" 154 "ج4" 75، 381 "ج6" 386، 387، 404، 405 الثجة "موضع" "ج7" 345، 362، 363 ثربة "مدنية" "ج3" 32 الثرثار "وادي" "ج2" 609 "ج7" 192 الثفن "موضع" "ج7" 345 ثقبان "مدينة" "ج2" 163، 537 الثلج "جبل" "ج3" 438، 442 ثمال "ج2" 381 ثمر "ثمار" بئر" "ج2" 99 الثنية "موضع" "ج7" 344، 380 ثنية الأحيسي "موضع" "ج7" 344 ثنية حلق "موضع" "ج3" 437 ثنية العقاب "موضع" "ج7" 344 ثنية العقاب "موضع" "ج7" 359 ثنية الغاثر "موضع" "ج7" 353 ثنية غزال "موضع" "ج7" 359 ثنية المرة "موضع" "ج7" 298، 352، 353، 514 ثنية الوادع "موضع" "ج4" 683 "ج7" 349 ثنية الوادع "موضع" "ج4" 683 "ج7" 349 ثنين "جبل" "ج2" 331 "ج7" 360 ثوبة "حصن" "ج2" 165 "ج3" 339، 344 "ج7" 213 ثومة "مدينة" "ج2" 224

الجيم

الجيم: جاباني "موضع" "ج1" 595 الجابية "موضع" "ج3" 422، 440 الجادة "موضع" "ج7" 359 الجار "ج7" 266، 272، 281، 350، 355، 376 جازر "قرية" "ج3" 425، 436 جاش "ج7" 194، 348 الجاف "ج1" 597 الجب لجب "ج3" 295، 269 "ج7" 333، 334 "ج9" 527 جبا "مدينة" "ج2" 506، 507 "ج3" 487 جبايات "ج3" 293، 295 جبح "ج2" 475 جبيل "مدينة" "ج2" 623 "ج8" حا 205 جت "ج1" 643، 644 جحاف "جبل" "ج5" 21 الجحفة "ج1" 343، 346 "ج4" 265 "ج7" 359 "ج6" 353، 766 "ج7" 272، 281، 291، 298، 338، 341، 350، -352، 356، 360، 441 الجداجد "موضع" "ج7" 353 جدة "مدينة" "ج1" 189، 390، 427 "ج4" 46، 216 "ج6" 79، 254، 273، 463 "ج7" 122، 259، 272، 364 جدرت "مدينة" "2" 523 "ج3" 451، 454، 455 "ج7" 243 جدن "مدينة" "ج2" 405، 439 جدورا "موضع" "ج1" 443 "ج2" 623 الجر "موضع" "4" 510 جراد "موضع" "ج7" 345 جراف الطاهر "موضع" "ج4" 557 جرباء "مدينة" "ج4" 249 "ج7" 334، 348 جرت "مملكة" "ج2" 150، 216، 451، 452، 471، 619، "ج7" 350 جربان "موضع" "ج9" 766 الجرداء "ج7" 334 جردن "موضع" "ج2" 289، 290، 295، 297، 298، 503

"ج3" 475 جرسو "مدينة" "ج1" حا 557 جرش "مدينة" "ج1" 171 "ج3" 58، 59، 66، 67، 73 "ج4" 152، 154، 184 "ج6" 214، 260، 262، 327، 414 "ج7" 73، 114، 362، 537، 587 الجرعاء "مدينة" "ج1" 425 "ج2" 18 "ج3" 288 "ج6" 598، حا 652 "ج7" 495 جرف "منطقة" "ج1" 467 "ج4" 132 "ج7" 149 جرمانيقية "ج6" 626 جرمقايا "مدينة" "ج2" 617 جرها جرهاء "مدينة" "ج1" 175، 564 "ج2" 14، 18، 33، "ج3" 20 "ج7" 275، 495 جرول "ثكنة" "ج1" 276 الجرير "موضع" "ج1" 160 الجزع "موضع" "ج6" 236 "ج7" 513 جذران "ج3" 293 جزيت "مدينة" "ج2" 293 جسداء "ج7" 361، 362 جش ارم "جبل" "ج1" 306 الجعافر "موضع" "ج1" 339 "ج2" 162 الجعرانية "ج4" 46 جعلان "ج1" 173 الجفر "بئر" "ج4" 54 جفر الأملاك "موضع" "ج3" 224، 225، 339، 357 "ج6" 598 "ج7" 191، 192 الحفلات "ج4" 262 الجقار "ج5" 378 الجلال "طريق" "ج7" 346 جلتاني "دير" "ج6" 631 جلجل "دارة" "ج1" 156 جلدان "موضع" "ج8" 52 جلع "موضع" "ج2" 161 جلعاد "ج1" 412، 461 "ج3" 26، 27، 43، 61، 67، 68 "ج8" 395 جلق "بلدة" "ج3" 399، 437، 438 الجليل "إقليم" "ج1" 19، 443، 444، 651 "ج2" 623 "ج3" 43، 65، 71 "ج9" 725 جمرة العقبة "ج6" 385، 386، 390 "ج8" 499 الجمش "ج1" 169 "ج7" 519 الجمع "مدينة" "ج7" 333 جناب الهضب "ج4" 186، 253 جنب "منطقة" "بئر" "ج2" 50، 399 "ج6" 458 "ج7" 194 "ج9" 457، الجنة "ج1" 14، 15، 110، 256، 304، 431 "} 4" 234، 293، 435 "ج5" 234، 306 "ج6" 69، 475، 480، 490

495، 499، 503، 703، 707، 709، 727، 732 "ج7" 27، 33، 193، 249، 315، 474 "ج8" 19، 79، 131، 537، 538، 687 "ج9" 26، 224، 272، 286، 265، 702، 704، 761، 762، 812، 849، 855 الجند "سوق" "ج7" 371 الجندية "جامع" "ج8" 49 جنايسابور "مدينة" "ج3" 103 "ج8" 321، 381، 387، "ج9" 47، 48 الجنوبي "بحر" "ج1" 140، 445 الجنينة "ج7" 348 جهر وعلان "موضع" "ج2" 194 جهران "مدينة" "ج2" 302، 399، 483، 520 "ج7" 209، 507، 508 جهرة "منطقة" "ج1" 176، 177 "ج4" 213 جهمة "ج1" 188 جهنم "ج6" 135، 4980، 679، 680 "ج7" 246 جو "موضع" "ج2" 297، 578 "ج3" 179 "ج4" 216 "ج7" 105، 534 "ج9" 786 الجواء "ج3" 438 الجوابي "موضع" "ج3" 436 جور البعل "موضع" "ج1" 643، 644 جوعل "مدينة" "ج2" 263 الجوف "منطقة "ج1" 92، 95، 126، 128، 133، 152، 309، 348، 374، 597 "ج2" 50، 51، 54، 74، 76، 116، 119، 277، 503، 576 "ج3" 7 "ج4" 357، 455، 485 "ج5" 12 "ج6" 820، 821 "ج7" 41، 364 "ج8" 210 الجولان "منطقة" "ج3" 62، 42، 429، 440، 441 "ج4" 106 "ج46" 796 جون هوبكنس "جامعة" "ج1" 133 الجوينية "ج7" 363 الجي "ج7" 359 جيحون "نهر" "ج1" 230، 245 جيروت "موضع" "ج2" 199، 200 جيروم "مدينة" "3" 60، 67، جيزان "منطقة "ج1" 187، 194 "ج2" 380، 453، 556 الجيزة "منطقة" "ج2" 76، 80، 120 "ج7" 263 "ج8" 202

الحاء

الحاء: حائط حزمان "موضع" "ج6" 73 حائل "موضع" "ج8" 211 الحابسية "ج7" 346 الحاجر "ج7" 337، 340 حارب "قصر" "ج3" 419، 421، 439 حاز "مدينة" "ج2" 343، 348، 391، 407، 408، 421، 415، 489، 492، 494 "ج5" 12، 14 حاسو "ج1" 599 حاضور "ج1" 599 حاضور "ج1" 351، 352، 610، 627 حباب "موضع" "ج2" 298 حايل "موضع" "ج1" 273، 329 "ج2" 15 "ج7" 338 حباب "موضع" "ج2" 218، 269، 405 "ج3" 475، 486 الحبابض حببض "سد" "ج2" 284، 308، 312، 565، 566 حباشة "سوق" "ج7" 371، 375 حبان "مدينة" "ج2" 298، 503، 511، 512، 517 حبري "قرية" "ج4" 244 حيرون "مدينة" "ج1" 457، 604 :ج2" 92 "ج6" 348 الحبشة "ج1" 23، 44، 46، 149، 126، 127، 246، 387، 481، 557، 559، "ج2" 23، 31، 60، 253، 261، 263، 367، 368، 376، 378، 419، 426، 435، 439، 441، 501، 511، 513، 524، 534، 539، 589، 591، 593، 647، 657، 659 "ج3" 22، 185، 222، 223، 455، 457، 463، 465، 468، 470، 472، 476، 477، 480، 482، 489، 491، 503، 505، 507، 510، 514، 519، 521، 523، 525، 529، 538 "ج4" 19، 69، 70، 76، 99، 149، 162، 170، 190، 372، 523، 557، 645 "ج5" 31، 109، 110، 122، 157، 193، 320، 329، 426 "ج6" 53، 296، 297، 301، 268، 476، 522، 539، 553، 608 * 612

-613، 615، 626، 765 "ج7" 203، 243، 244، 251، 259، 262، 266، 272، 274، 279، 281، 282، 287، 297، 601، 303، 350، 369، 374، 410، 495 "ج8" 20، 23، 40، 216، 295، 515، 518، 604، 620، 632، 642، 670، 698، 720، 721، 727 "ج9" 182، 453، 495، 523، 573، 766 الحبشي "بحر" "ج1" 324 الحبل "وادي" "ج4" 217 "ج7" 335 حبن "وادي" ج8" 208 حبونت "حبونة" "وادي "ج2" 543 حبونن "موضع" "ج7" 364 حبيش "موضع" "ج3" 449 الحجاز "ج1" 44، 66، 125، 130، 132، 136، 147، 149، 160، 163، 167، 168، 181، 182، 184، 187، 188، 190 192 194، 204، 206، 210، 215، 218، 250، 252 272، 273، 288، 289، 294، 297، 305، 306، 313، 324، 326، 328 428، 430، 457، 460، 477، 504، 512، 513، 532، 574، 581، 585، 587، 606، 617، 619، 622، 631، 632، 636، 644، 648، 657، 661، "ج2" 9، 15، 26، 29، 43، 43، 47، 48، 57 58، 65، 76، 115، 20، 121، 245، 263، 278، 368، 527، 549، 575، 576، 594، 633، 647، 652، 645، 658 "ج3" 6، 9، 10، 47، 50، 56، 57، 143، 189، 191، 223، 224، 227، 315، 321، 329، 366، 384، 386، 405، 453، 455، 512، 527 "ج4" 9، 13، 13، 30، 38، 57، 67، 93، 112، 117، 123، 132، 138، 142، 144، 149، 151، 152، 156، 162، 163، 174، 216، 236، 247، 257، 261، 264، 276، 277، 279، 282، 294، 322، 343، حا 421، 430، 431، 438، 444، 449، 450، 462، 482، 490، 508، 510، حا 515، 516، 518، 536، 539، 540، 558، 614، 650، 656، 678 "ج5" 16، 18، 24، 31، 32، 52، 56، 65، 76، 101، 102، 120، 122، 160، 164، 167، 16، 172، 179، 199، 206، 209، 2442 246، 274، 275، 288، 291، 294، 295، 297، 305، 309، 315، 382، 384، 432، 451، 453، 454، 456، 475، 483، 516، 529، 563، 576، 588، 590 "ج6" 11، 13، 14، 32

37، 72، 81، 94، 119، 165، 212، 227، 228، 231، 233، 237، 249، 264، 283، 285، 292، 294، 309، 311، 321، 328، 333، 336، 353، 372، 374، 396، 424، 429، 434، 447، 508، 513، 515، 518، 522، 525، 532، 535، 538، 541، 553، 556، 559، 556، 571، 577، 587، 590، 596، 599، 606، 607، 611، 615، 620، 621، 653، 691، 703، 734، 790 "ج7" 21، 25، 38، 40، 48، 57، 59، 64، 74، 75، 82، 86، 116، 153، 156، 159، 164، 167، 177، 206، 214، 216، 222، 235، 259، 260، 272، 273، 282، 285، 290، 294، 298، 302، 305، 315، 320، 340، 343، 347، 349، 361، 363، 372، 375، 381، 422، 434، 445، 455، 468، 485، 487، 495، 502، 522، 523، 532، 538، 458، 550، 569، 577، 578، 599، 607، 631، 633، 636 "ج8" 9، 17، 22، 70، 83، 84، 115، 132، 134، 153، 157، 159، 161، 166، 168، 170، 174، 178، 180، 184، 195، 203، 210، 211 230، 259، 263، 265، 286، 297، 311، 321، 336، 391، 405، 419، 430، 432، 435، 485، 505، 506، 518، 554، 555، 563، 574، 575، 580، 581، 586، 587، 590، 592، 593، 603، 624، 627، 633، 635، 637، 640، 641، 649، 656، 669، 681، 682، 688، 690، 703، 710، 713، 715، 721، 724، 728 "ج9" 17، 28، 30، 32، 47، 57، 79، 118، 221، 228، 230، 231، 236، 286، 426، 432، 434، 445، 468، 558 حجت "مدينة" "ج2" 407، 415 "ج7" 179 الحجر "مدينة" "ج1" 159، 172، 178، 234، 323، 325، 326، 329، 333، 339، 340، 433 "ج2" 48، 133، 241، 244، 246، 249، 254،395-397، 409، 410، 413، 452، 466، 565 "ج3" 7، 41، 42، 45، 55، 56، 150 "ج4" 215، 216، 246، 251، 272 "ج5" 517 "ج6" 87، 232، 513، 719، 763 "ج7" 334، 335، 348، 349، 371، 373، 377 "ج8" 175، 210

"ج9" 433، 456 حجر اليمامة "موضع" "ج9" 565 حجرين "ج7" 179، 513 الحجون "ج4" 58، 81، 108 "ج5" 89، 94 "ج7" 302 الحجيرة "مدينة" "ج2" 656 "ج3" 385 حد دقل "ج1" 95 حدبة صعدة "ج1" 95 حدبة الفصن "خرائب" "ج2" 163، 164 حدثان "معبد "ج2" 331 جدقان "قصر" "ج2" 324، 362، 399، 412، 413 حدن "ج2" 517، 518 "ج3" حا 496 "ج4" 203 حدي حصن" "ج2" 518، 608 "ج7" 209 حديان "مملكة "ج6" 514 الحديبية "موضع" "ج4" 518، 608 "ج7" 198، 199 "ج8" 92، 97، 98، 129، 135 الحديثة "حديد" "ج3" 31، 70 "ج7" 333 الحديدة "مدينة" "ج1" 195 "ج2" 378، 427 "ج7" 179 حديقة "ج7" 344 حذمت "موضع" "ج2" 451، 460 حراء "ج4" 257 "ج6" 404، 470، 501، 510 "ج7" 179، 347 "ج9" 716 حرار "موضع" "ج4" 281 حراز "ج8" 406 حراض "وادي" "ج6" 235، 239، 240، 417 "ج7" 139، 514، 534 حران "منطقة" "ج1" 381، 614، 615، 617 "ج2" 262 "ج3" 95، 216، 412 "ج4" 526 "ج6" 171، 701، 702 "ج8" 169، 177، 181، 186، 488، 520، 512، 539 الحرة "ج1" 239 "ج3"191 "ج4" 197، 248، 291، 518 حرة النار "ج7" 519 حرتو "حرتت" "مدينة" "ج2" 290، 295، 555 "ج3" 22، 25 الحرجية "ج2" 637 حرحان "ج5" 359 الحردة "ج7" 364 حرض "ج4" 134 حرم بلقيس "ج2" 272، 273، 346، 481، 888 "ج8" 38، 43، 44، 53، 79 حرمة "مدينة" "ج2" 272، 293، 376، 442، 429، 430 الحرملة "موضع" "ج9" 657 حرمون "جبل" "ج3" 61 حرور "ج2" 482 حرون "مدينة" "ج2" 404، 490 حريب "موضع "ج2" 54، 185،

188، 211، 212، 214، 215،حا 225، 230، 231، 283، 371، 544، 545 "ج3" 416، 485، 486 "ج5" 12، 20 "ج8" 420 الحريضة "موضع" "ج2" 131، 132، 162، حا 225 "ج7" 213 "ج8" 12 حزرام "موضع" "ج2" 294 حزم "الدماج "قرية" "ج2" 116، 218 "ج7" 208 الحزن "ج4" 207 حزوي "ج1" 598 الحزورة "موضع" "ج5" 270 حزوي "ج1" 598 الحزورة "موضع" "ج5" 438، 647 "ج6" 400، 405، 505 الحزيز "ج7" 335 الحسارة "ج7" 363 حسان "جزيرة" "ج1" حا 187 "ج7" 333 حسبان "موضع" "ج3" 24، 66 حسمي "ج1" 167، 168، 209، 301، 305، 454، 582، 644 "ج3" 50، 57 "ج4" 10، 245، 251 "ج6" 529 الحسن "موضع" "ج7" 514 حسود "ج4" 554 الحسي "ج4" 290 الحسينية "بئر "ج1" 188 حشبون "مدينة" "ج3" 66، 67 حصي "موضع" "ج2" 222 الحصبة "موضع" "ج2" 51 حصن العر "ج5" 449 الحصيد "موضع" "ج2" 651 "ج4" 233 الحضر "موضع" "ج3" 156 الحضرمية "ج7" 345 حضرموت "منطقة" "ج1" 23، 50، 60، 131، 141، 149، 150، 171، 172، 190، 195، 204، 208، 210، 215، 218، 272، 300، 304، 305، 311، 312، 315، 321، 341، 347، 348، 423، 424، 432، 460، 479، 480، 530، 532، 535، 452، 639، 648 "ج2" 15، 59، 62، 64، 73، 74، 79، 82، 83، 85، 88، 94، 100، 101، 124، 125، 127، 129، 143، 145، 159، 161، 163، 169، 171، حا 176، 178، 186، 200، 216، 240، 260، 276، 292، 316، 375، 359، 360، 366، 368، 371، 375، 377، 382، 397، 403، 405، 407، 409، 418، 423، 425، 427، 438، 440، 443، 453، 461، 467، 469، 473، 475، 479، 482، 485، 487، 490، 493، 495، 498، 503، 505، 511، 513، 516، 520، 526، 530، 531، 540، 548، 552، 556، 560، 563، 565، 566، 568، 571، 573، 544، 578، 580، 585، 589، 598

"ج3" 190، 193، 317، 318، 375، 332، 361، 367، 374، 378، 379، 381، 382، 453، 454، 484، 486، 488* 489، 494، 495، 526، 535 "ج4" 23، 144، 139، 169، 200، 269، حا 292، 322، 374، 645، 406، حا 441، 465، 466، 538، 544 "ج5" 12، 14، 175، 183، 193، 204، 244، 276، 281، 384، 463، 467 "ج6" 176، 280، 285، 286، 299، 301، 304، 305، 333، 375، 373، 377، 409، 669، 691 "ج7" 119، 141، 142، 148، 152، 169، 213، 243، 315، 364، 371، 377، 477، 487، 545، 593 "ج8" 53، 686 "ج9" 120، 386، 387، 572، 575 حضرمي "موضع" "ج2" 164 "ج6" 98 حضرو "موضع" "ج2" 297 حضم "موضع" "ج2" 219 حضور "حضوراء" "موضع" "ج1" 348، 350، 381، 428 "ج3" 161، 496 "ج6" 84 "ج7" 179 حضوضي "جبل" "ج4" 413 حطين "ج1" 453 الحفر "وادي" 181، 334، 344، 346 حفنة "حصن" "ج3" 269 الحيفاء: ج4" 683 الحفير "ج1" 639 "ج2" 648 "ج3" 323، 404 "ج7" 192، 341، 343، 514 "ج9" 411 حقان الرمل "ج4" 186 حقة "ج1" 189 "ج8" 12، 39 حقلان "الحقل" "موضع" "ج2" 369 "ج7" 349 حلب "ج1" 51، 456، 575 "ج2" 462، حا 570، 623 "ج3" 27، 223، 233، "ج4" 242 "ج6" 465، 593 "ج9" 428 حلبن "حلبان "ج3" 495، 498 الحلبية "مدينة "ج3" 133، 135 الحلة "لواء" "ج3" 133 حلزوم "مدينة" "ج2" 468، 469 حلوان "مدينة" "ج1"، حا 17 "ج5" 249 "ج6" 410 حليت "معدن" "ج7" 521 "ج9" 527 حليل "معدن" "ج7" 521 "ج9" 527 حليل "معدن" "ج7" 329 حما "ج1" 188 "ج7" 345 حماة "ج1" 575، 600، 906، 610 "ج2"، حا 622 "ج3" 143، 370 الحماد "ج1" 152، 155 حمان "ارض" "ج2" 288، 289،

298، 503 حمدان "ج2" 290 حمراء الأسد "ج5" 321، 438 "ج7" 357 "ج9" 717 حمص "مدينة" "ج2" 41، 42، 601، 605، 609، 622، 623 "ج3" 83، 95، 96، 99، 100، 108، 199، 120، 123، 124، 136، 152، 221، 223، 370، حا 464 "ج4" 472 "ج8"، حا 431، 727 الحمض "وادي" "ج1" 159، 161، 169، 194، 244 "ج7" 176،333 حمضة "ج1"171، 192 الحملة "موضع" "ج1"159، 161، 169، 194، 244 "ج7" 176، 333 حمضة "ج1" 171، 192 الحملة "موضع" "ج1" 531 الحميرية "دولة" "ج1" 48 "ج2" 518 الحميمة "مدينة" "ج3" 40، 63 حنا "الحنأة" "موضع" "ج8" 205 حنان "موضع" "ج2" 284، 479، 481 "ج7" 356 حنة "دير" "ج6" 598، 599، حا 655، حا 686 الحنكية "ج1" 458 حنو "ج1" 458 حنو حاينو "جزيرة" "ج2" 656 "ج3" 263، 385 حنيفة "وادي" "ج1" "ج2" 656 "ج3" 263، 385 حنيفة "وادي" "ج1" 162، 180، 182، 176 حنين "ج4" 254، 255، 259، 260 "ج9" 65 الحواب "ج7" 513 الحواثر "ج3" 244 الحوارين "موضع" "ح3" 138، 416 "ج4" 230 "ج5" 74 حوالة اكهالة "موضع" "ج2" 52، 57 الحوراء "مدينة" "ج1" 161 "ج2" 28، 46، 51 "ج3" 40 "ج6" 417 "ج7" 272، 256، 522 حوران "ج1" 51، 147، 244، 297، 597، 598، 605، 631 "ج2" 566، 618، 653 "ج3" 7، 15، 37، 60، 63، 149، 154، 370، 402، 440 "ج4" 669 "ج6"255، 270، 300، 310، 328، 330، 588 "ج7" 348، 495 "ج8" 171-172، 175 "ج9" 578، 604 حوريت "جبل" "ج1" 27 الحوشي "ج7" 333 الحوطة "موضع" "ج2" 469 حولان "موضع" "ج7" 209 "ج9" 733، 734 حويلة "ج1" 375، 430، 431، 462، 436، 559، 638، 693 الحيار "موضع" "ج2" 623 "ج3" 209، 231، 233، 408 الحياران "موضع" "ج3" 233-

حيدراباد دكن "ج1"، حا 86، حا 307، حا 366 "ج3"، حا 510 "ج7"، حا 535، حا 587 "ج8"حا 135، حا 362، حا 392، حا 435، حا 471، 435 "ج9" 308 الحيرة "موضع" "ج3" 137 الحيرة "ج2" 63، 70، 75، 80، 86، 89، 122، 156، 517، 263، 352، 368، 288، 397، 492، 508، 547، 548، 573، 576، 598، 660 "ج2" 255، 513، 534،539، 549، 550، 575، 576، 578، 593، 594، 608، 609، 616، 630، 631، 634، 641، 645، 646، 649، 650 "ج3" 82، 91، 102، 104، 105، 107، 139، 149، 155، 159، 161، 173، 175، 178، 180، 182، 184، 186، 191، 204، 207، 209، 212، 213، 216، 224، 226، 229، 231، 233، 234، 236، 237، 240، 244، 250، 254، 257، 265، 267، 269، 271، 277، 280، 308، 310، 312، 313، 308، 310، 312، 313، 323، 3214، 328، 330، 333، 335، 337، 342 344، 346، 353، 375، 367، 377، 379، 381، 382، 391، 405، 408، 410، 412، 415، 417، 418، 423، 425، 441، 443، 447، 464، 466، 468، 490، 494، 498، 522 "ج4" 19، 20، 37، 56، 81، 102، 114، 115، 132، 153، 163، 164، 175، 176، 191، 196، 207، 210، 213، 215، 220، 223، 225، 230، 232، 236، 238، 243، 280، 283، 325، 326، 364، 370، 409، 426، 437، 438، 451، 453، 461، 463، 469، 488، 492، 499، 502، 509، 526-527، 531، 539، 540، 564، 628، 631، 655، 659، 670، 680 "ج5" 10، 18، 24، 40، 44، 46، 57، 90، 103، 107، 120، 178، 191، 199، 201، 205، 207، 208، 210، 212، 213 223، 225، 226، 256، 272، 273، 283، 285، 287، 294، 296، 306، 318، 320، 321، 324، 325، 328، 330، 332، 345، 354، 355، 357، 359، 351، 392، 410، 412، 427، 452، 453، 467، 588، 628، 633، 640، 643 "ج6" 14، 84، 110، 126

145، 147، 148، 199، 238، 289، 417، 474، 587، 595، 599، 614، 621، 628، 630، 632، 633، 642، 655، 662، 666، 669، 671، 672، 680، 681، 685، 687، 689، 691، 694 "ج7" 114، 294، 297، 305، 307، 318، 332، 333، 335، 338، 347، 408، 421، 442، 527، 564، 569، 593 "ج8" 8، 9، 34، 87، 88، 108، 109، 111، 112، 118، 140، 143، 155، 157، 158، 161، 164، 169، 172، 174، 178، 180، 267، 292، 295، 296، 298، 301، 311، 331، 366، 374، 430، 627، 633، 643، 648، 651، 679، 680، 683، 684، 687، 722، 726، 727، 735، 779 "ج9" 6، 9، 11، 49، 51، 78، 91، 92، 117، 155، 157، 161، 169، 214، 252، 257، 259، 263، 268، 290، 392، 232، 266، 273، 402، 416، 426، 428، 429، 438، 442، 443، 445، 468، 462، 479، 532، 533، 536، 569، 571، 574، 581، 590، 593، 619، 633، 654، 659، 662، 663، 665، 666، 671، 672، 674، 7677، 679، 683، 685، 687، 690، 693، 731، 732، 734، 795، 798، 803 806، 807، 809، 611، 812، 828، 829، 842، 844، 848، 884، 895، 908 الحيري "قصر" "ج3" 303، 304 حيس "ج6" 72 حيفا "مدينة" "ج6" 539

الخاء

الخاء: الخابور "ج1" 35، 620 "ج3" 104، 139، 216، 221 "ج4" 490 "ج9" 679 الخارد "نهر" "ج1" 329 "ج2" 56، 76، 414 "ج7" 178 خارف "مخلاف" "ج4" 186، 187 "ج7" 371 خازو "ج1" 594، 596، 599 خان أبو الشامات "موضع" "ج3" 138 خان التراب "موضع" "ج3" 138 خان عتيبة "موضع" "ج3" 138 خان المنقورة "خرائب" "ج3" 138 خان يونس "موضع" "ج1" 138 خانق "موضع" "ج4" 471 "ج7" 212 الخانوقة "مدينة" "ج3" 132، 181 الخب "موضع" "ج2" 54 خبش "وادي" "ج2" 543 "ج3" 486 خخنهن "بناء" "ج2" 301 خداج "بئر" "ج7" 71 خذوت "ج2" 439 الخرار "ج4" 268 "خ7" 352، 353 خراسان "ج2" 578، 615، 617، 618 "ج4" 324 "ج9" 54، 211، 322 خربة المسادر "ج2: 218 "ج7" 521 الخرج "موضع" "ج1" 182 "ج7" 344، 346 خرجة "ج1" 601 خرشيم "ج7" 346 خرف "حصن" "ج2" 87 خرقة الصائغ "ج7" 339 الخروج "ج2" 551 الخريبة "مدينة" "ج1" 169، 326 "ج2" 28، 97، 242، 244 "ج6" 784 "ج8" 40، 200 خزازا "جبل" "ج3" 354 خزبة "ج7" 505، 521 خزنة فرعون "هيكل" "ج3" 53، 54 الخزيمة "مدينة" "ج7" 337، 340

خساف "ج1" 155 خشاخش "مدينة" "ج7" 334 خشب "وادي" "ج7" 349 خشم كمده "ج8" 207، 208، 676، 678 الخصن "قرية" "ج4" حا 432-، 433، 495 "ج9" 527 خصصتان "موضع" "ج2" 432، 433، 549 خصلة "ج7" 513، 521 الخصوص "موضع" "ج3" 303 الخصوف "ج7" 363 الخضرمة "ج1" 340 "ج7" 344، 346 خضعة "معبد" "ج2" 406 خضنم "موضع" "ج2" 232 الخضري، "حصن" "ج2" 204 الخط "ج1" 583 "ج2" 634، 637، 638، 640 "ج7" 237، 275 خطبس "ج2" 206 خطيني "موضع" "ج1" 583 "ج2" 17 خفان "ج4" 223، 225 خفية "موضع" "ج3" 181، 183 "ج7" 333 الخل "مدينة" "ج7" 364 خلديلي "مملكة" "ج1" 594 خلقيدون "خلقيدونية" "مدينة""ج3" 60، 116، 117، 221 "ج4" 162 "ج6" 625 خليجة "ج7" 333 الخليفة "تل" "ج1" 637، 638 خم "بئر" "ج4" 54 "ج7" 191، 192، 352 الخماسين "موضع" "ج1" 187 الخنافس "ج2" 651 خندق "مدينة" "ج2" 294، 295، 618، 640 "ج3" 496 "ج7" 347 الخندمة "مدينة" "ج4" حا 8 خنفر "مدينة" "ج2" 289 الحنفرين "ج7" 212 الخنقة "ج1" 458 حو "موقع" "ج3" 70 الخوار "ج7" 364 خور البرك "موضع" "ج1" 188 خور روري "مدينة" "ج8" 12 خورة "وادي" "ج2" 291 "ج5" 297 بالخورنق "قصر" "ج1" 77، 268، 388، 492 "ج2" 646، 659 "ج3" 156، 159، 183، 189، 204، 206، 207، 224، 246، حا 273، 282، 301، 302، 304، 313، 356 "ج4" 227، 229، 232، 233، 471، 475، 665، 667، "ج5" 212 "ج6" 447، 598، 655 "ج9" 475، 540، 679، 682، 797، 806، 832 خوزستان "ج2" 638، 640 خوكرينا: ج1" 603 خولان "ج1"603 خولان "ج1" 369 "ج2" 51، 94، 150، 401، 402، 423، 448، 456، 457، 464، 467، 468، 542، 550، 555، 576 "ج3" 18، 510 "ج4" 183، 193، 449،

546،465، "ج7" 179، 518، 520، 537، 569 الخولة "الخلة" "مدينة" "ج3" 136 خوينة "ج1" 601 الخيال "ج17" 363 خيبر "ج1" 52، 149، 160، 161، 438، 614، 616، 617 "ج3" 7، 277، 401 "ج4" 136، 138، 252، 254، 645، 508 "ج5" 112، 117، 258، 382، 456، 457 "ج6" 341، 474، 514، 516، 517، 525، 527، 529، 541، 546، 548، 559، 594، 807 "ج7" 10، 41، 54، 70، 142، 179، 217، 298، 377، 481 "ج8" 115، 127، 177، 326، 364، 403، 519، 540، 680 "ج9" 174، 635، 678، 746، 748، 772، 782، 788، 790، 852، 891 خيوان "ج1" 92، 95، 102 "ج2" 354، 543، 576 "ج6" 264 "ج7" 362، 363

الدال

الدال: دائرة الأردن "ج1" 332، 333 دار العجلة "ج4" 52 دار القوارير "ج4" 65 دار الندوة "ج1" 401 "ج2" 338، 390 "ج4" 45، 47، 4، 51، 52، 59، 56، 87، 118، 655 "ج5" 16، 233، 235، 247، 248، 252، 272، 471، 480، 500 "ج6" 734 "ج7" 290 دارا "موضع" "ج3" 221، 223 الدارم "مدينة" "ج1" 176 "ج2" 640 "ج4" 205، 210 "ج6" 629 "ج8" 783 دار "ج1" 644 "ج6" 378 الدانمارك "ج1" 571 دبا "مدينة" "ج1" 174

"ج4" 200، 201، 203، 441 "ج7" 354 دباغ "جبل" "ج1" 156 دبر "دابر" "قرية" "ج2" 275، 277 دبس "موضع" "ج2"346 دتنت دتنه "مدينة" "ج2" 198، 200، 219، 232، 289، 298، 503 دث "داث" "منطقة" "ج2" 290 دثينة "ج2"289، 290، 291 "ج7" 342، 345 دجلة "نهر" "ج1" 157، 431 "ج2" 12، 20، 33، 615، 617، 643 "ج3" 174، 175، 407 "ج4" 169، 473 "ج6" 79، 628 "ج7" 160، 178، 205 "ج9" 541، 679، 907 الدحرض "ج7" 346 دخان "ج1" 531 درب بغراس "موضع" "ج4" 241 درب الفيل "ج5" 21 درجعان "سهل" "ج2" 434، 435 درداع "الدرعة" "ج2" 68 "ج3" 59 درنا "مدينة" "ج9" 576 الدورز "جبل" "ج3" 61، 191 "ج8" 176، 177 دعان "سد" "ج7" 212 دعجان "ج3"" 404 دعف "موضع" "ج2" 295 دفاء "وادي" "ج2" 550، 555 دقلة "موضع" "ج1" 428، 429 دلاميس "ج7" 345 دلل "مدينة" "ج2" 433 الدلم "ج1" 540 دلمه "جزيرة" "ج2" 19 دلمون "ج1" 545، 553، 557، 560، 562، 564، 568، 569، 588، 589، 605، 620 "ج2" 19 دماج "وادي" "ج2" 57 الدمام "ج1" 536، 539 دمشق "ج1" 10، 85، 146، 166، 297، 303، 313، 329، 382، 420، 443، 444، 549، 574، 576، 578، 598، 603، 651 "ج2" 34، 65، 88، 623، حا 624 "ج3" 7، 13، 15، 29، 31، 44، 45، 47، 61، 65، 81، 137، 138، حا 245، 290، 418، 420، 428، 460، 433، 436، 440، حا 461، حا 464، 465، حا 468، 469، حا 501 "ج4" 241، 628 "ج5" 212، 354 "ج6" 323 "ج7" 278، 333، 347، 348، 493، 494، 497، حا566، 604، 606 "ج8"، حا149، 157، حا 172، 182، حا265، حا281، حا265، حا464 706، حا329، "ج9"، حا 216، 291، 292، 488، 640، 665، 842، حا 890

دمهان "ج2" 414 دمون "مدينة" "ج2" 321، 391، 361، 374 دهر "موضع" "ج2" 561 دهس "موضع" "ج2" 289، 291، 298، 498، 502، 519 الدهناء "ج1" 150، 161، 171، 305، 348 "ج7" 182، 334، 341، 346، 539 الدو "ج1" 305 "ج7" 335 الدوادمي "وادي "ج1" 530، 533 "ج2" 573 الدواسر "وادي" "ج1" 159، 178، 179، 182، 178، 221، 535 "ج6" 629 "ج7" 176 "ج8" 208، 678 دوت "دوات" "مدينة" "ج2" 543 دوحة الزيتون "ج1" 362 دور كرباتي "مدينة" "ج3" 133 دورا "مدينة" "ج3" 81، 82، 89، 95 دورس "مدينة" "ج1" 467 دورم "موضع" "ج1" 427 "ج2" 293، 537 دوس "أرض" "ج7" 459 الدوسر "موضع" "ج7" 303 دوقة "ج7" 363 دومة الجندل "ج1" 326، 378، 442، 577، 582، 590، 610،611، 624 "ج2"، 115، 651، 624 "ج2" 115، 651، 656 "ج3" 106، 261، 278، 382، 385، 395، 461، 437 "ج4" 204، 207، 208، 233، 240، 250، 426، 430، 465 "ج5" 112، 309 "ج6" 79، 198، 321، 255، 257، 293، 315، 418، 579، 600 "ج7" 371، 372، 383، 387، 478 "ج8" 111، 112، 115، 158، 170، 171، 232، 295 دونه "ج3" 303 دياب "موضع" "ج2" 503، 511، 517 ديبون "مدينة" "ج3" 67 ديدان "ددان" "دادانو" "ج1" 169، 430، 457، 582، 596، 614، 616، 624، 645، 648 "ج2" 76، 78، 84، 97، 102، 106، 120، 121، 125، 241، 247، 249، 251، 253، 255، 256، 529 "ج3" 15 "ج5" 214، 215، 275، 475 "ج6" 314، 315، 319، 320، 331، 332 الديابان "وادي" "ج1" 169 دير الأعور "ج4" 232

دير أيوب "ج3" 400 دير بني مرينا "ج3" 357 دير جبلة "ج" 463 "ج4" 232، 471، 474 "ج4" 232، 471، 474 "ج6" 598 دير حالي "ج3" 400 دير حنظلة "ج3" 236 "ج6" 598 دير داوود "ج3" 398 دير الزور "ج3" 122 دير سعف "ج3" 419 دير ضخم "ج3" 419 دير عبد المسيح "ج3" 288 دير عطية "ج3" 138 دير علقمة "ج6" 598 دير قرة "ج3" 303 "ج4" 232 "ج6" 598 دير الكهف "ج3" 70 دير اللجة "ج3" 285 "ج6" 598 دير مار فايثون "ج6" 598 دير مر عبدا "ج6" 598 دير مرة "ج4" 471 دير النبوة "ج3" 419 دير هند "ج3" 239، 257، 339، 344، 400 "ج4" 427 "ج6" 655 "ج9" 580 الديلم "ج3" 525 ديلوس "جزيرة" "ج2" 76، 120، 123، 124 "ج7" 263 "ج8" 202 دينور "ج2"، حا 534، 538، 540 ديوم "ج3" 59، 65

الذال

الذال: ذفران "ج7" 354 ذا ليان "موضع" "ج3" 278 ذات الأساور "ج4" 258 "ج8" 199 ذات الأكيراح "ج6" 598 ذات أنمار "ج3" 426 ذات البين "ج3" 411 ذات الجيش "ج7" 354 ذات حراض "ج2" 402، 403 ذات الحناظي "ج4" 258 "ج8" 119 ذات الخيار "ج3"، حا 299 ذات الخيم "ج4"20 ذات الرئال "ج7" 334 ذات السلاسل "ج2" 649 ذات الشقوق "ج3" 356

ذات عرق "العرق" "ج1" 381، 607، 608 "ج3" 161 "ج7" 139، 336، 338، 340، 343، 347 ذات العشر "ج7" 341، 343 ذات غيل "موضع" "ج2" 366 371، 373 ذات القرون "ج3" 261 ذات ملك وقه "سد" "ج2" 293 ذات نكيف "ج4" 45 "ج5" 250 الذبا "موضع" "ج7" 345 ذبحان ذو قشر "ج2" 288، 298 ذبحة "ج2" 187، 188، 200، 232 الزبدة "موضع" "ج2" 89 ذبيان "ذبين" "ج2" 319 ذخر "جبل" "ج2" 507 الذرا:" ج4" 72 ذروان "بئر" "ج4" 132 "ج7" 193 ذغلين "مدينة" "ج2" 151 ذمار "مدينة" "ج1" 84، 189، 190 "ج2" 430، 436، 437، 440، 520، 525 "ج4" 19، 198 "ج7" 508، 517 ذمار "سد" "ج2" 485، 486 "ج7" 209 ذمران "بلد" "ج2" 281، 442 "ج5" 20 ذو الأنف "ج2" 296، 297 ذو أوثان "ج2" 296 ذو جراف "ج7" 334 ذو الحليفة "ج7" 354، 359 ذو خشب "ج4" 261 "ج7" 263، 349 ذو ذبن "ج5" 276 ذو رعين "ج1" 370، 502 "ج4" 180، 406 "ج7" 212، حا 304 ذو ريدة "ج2" 439 ذو ريدة "ج2" 439 ذو الشرفات "قصر" "ج9" 797، 832 ذو شمر "قصر" "ج5" 196 ذو شهال "سد" "ج7" 212 ذو ضأم "غوطة" "ج7" 357 ذو العشيرة "ج4" 265، 266 "ج7" 352 ذو عهرو "ج5" 243 ذو العوسج "ج7" 521 ذو فائش "ج9" 93 ذو فدهم "ج2" 296 ذو فنوتم "ج2" 322 ذو قار "ج3" 271، 293، 397 "ج9" 63 ذو القارة "ج4" 237 ذو قرد "موضع" "ج4" 354 ذو القصة "ج7" 339 ذو قفعن "ج2" 239 ذو كشد "مدينة" "ج7" 353 ذو المجاز "ج4" 68، 122، حا 376 "ج6" 353، 391 "ج7" 371، 375، 380، 382، 385 "ج8" 478 ذو مجر "موضع" "ج74" 162 ذو المجنة "سوق" "ج8" 478 ذو ملح "برج" "ج2" 138 ذو الهرم "بئر" "ج4" 78 ذيقه "ملك "ج2" 296

الراء

الراء: رئام "ج1" 120 "ج2" 514 راب "موضع" "ج2" 83 رابغ "منطقة" "ج1" 194 "ج2" 254 رابن "موضع" "ج2" 55 الرابية "سوق" "ج7" 377 الراح "ج7" 334 راذان "ج4"، حا 499 "ج6" 636 رأس تعكر "جبل" "ج1" 650 رأس الخيمة "ج1" 598 "ج2" 7، 20 "ج2" 7، 20 "ج7" 276 رأس سلية "قرية" "ج9" 574 رأس الشقيقة "ج7" 363 رأس الشمرة "ج8" 148 رأس صبر "جبل" "ج1" 350 رأس عين "ج1" 350 رأس تنورة "ج8"، حا 205 رأس الخيمة "ج1" 598 "ج2" 7، 20 "ج7" 276 رأس سلية "قرية" "ج9" 574 رأس الشقيقة "ج7" 636 رأس الشمرة "ج8" 148 رأس صبر "جبل" "ج1" 350 رأس عين "ج12" 505 "ج4" 488، 490 رأس كاظمة "ج1" 445 رأس المناقب "ج7" 363 رأسو "مدينة" "ج2" 345 رافدة "ج7" 362 رأفو "ج8" 201 رامة "ج7" 432 رانونا "وادي" "ج8" 194 الربابي "وادي" "ج6" 679 ربة "مدينة" "ج3" 68، 69، 74 الربذة "ج1" 281، 282 "ج4" 252 "ج7" 150، 338، 339، 341 ربرم "بحر" "ج1" 141 الربع الخالي "ج1" 132، 151، 159، 171، 182، 188، 190، 242، 343، 353 "ج7" "مدينة" "ج1" 609 ربوان "سد" "ج7" 212 ربيعتان "نهر" "ج6" 500 رحتم "ج2" 385 الرجلاء "حرة" "ج4" 248 رجلة "ج3" 535، 537 "ج4" 453 رجمت رجمة "مدينة" "ج1" 461 "ج2" 89، 260، 283، 284، 440، 507، 508 "ج3" 475، 535، 537 الرجيع "ج2" 255، 256 "ج4" 268

رحاب "سد" "ج2" 281، 282، 284، 307، 308، 312، 336، 360 "ج7" 210، 211 الرحبة "ج1" 329، 597 "ج2" 42، 55، 150، 194، 216، 442، 470، 484، 490، 553، 561، 565، 566، 579581 "ج3" 73، 149، 182، 183، 279، 404 "ج4" 139، 228، 539 "ج7" 181، 349، 362 رحقان "موضع" "ج7" 355 الرحمان "وادي" "ج4" 189 "ج6" 88 "ج7" 181، 349، 362 رحقان "موضع" "ج7" 355 الرحمان "وادي" "ج4" 189 "ج6" 88 "ج7" 33، 479 الرحيل "ج7" 343 رداع "مدينة" "ج2" 194، 294، 297، 430، 517، 525 "ج7" 334 ردم "بني جمح "موضع" "ج4" 481، 440، 466 "ج5" 104 "ج6" 593، 633، 650 "ج9" 309 ردمان "موضع" "ج2" 149، 150، 194، 297، 300، 337، 372، 378، 402، 424، 431، 433، 435، 436، 440، 447، 468، 524 ج3" 489 "ج4" 74 "ج5" 13، 583 "ج7" 49، 293، 302 الرده "ج3" 352 الرديف "ج1" 539 رزان "وادي" "ج7" 179 الرس "ج1" 347، 349 "ج6" 84 الرستن "مدينة" "ج2" 41، 605، 622 رشاي "ج2" 290، 298، 503 رشوة "معبد" "ج2" 211 الرشيد "بئر" "ج7" 337 الرصافة "ج2" 609 "ج3" 136، 219، 259، 411، 413، 415، 422، 440، 466 "ج4" 499 "ج5" 104 "ج6" 593، 633، 650 "ج9" 309 رصف "معبد" "ج2" 116 الرضاب "ج2" 651 رضوى "ج2" 261، 281 "ج7" 352، 365، الرضواض "ج1" 196 "ج7" 515 رعلان "ج3"، حا252 رعوة "ج1" 447 رعين "موضع" "ج2" 135، 222، 517، 519، 520 "ج5" 309 "ج7" 542 رغافة "ج7" 516 رغوان "موضع" "ج2" 54، 55 الرقادي "موضع" "ج1" 181 الرقة "ج1" 83 "ج3" 221، 229 "ج9" 880 الرقيم "موضع" "ج3" 72، 73 "ج5" 428 ركبة "ج7" 343، 362، 364 ركبتان "وادي" "ج2" 438 ركوبة "ج7" 354

رم "ج1" 168، 305، 306، 644 "ج4" 54 "ج6" 238، 253 "ج7" 191 رمان "ج6" 31 الرمة "وادي" "ج1" 160، 161، 181، 182، 244 "ج3" 322، 349 "ج7" 176، 363 رمح "مدينة" "ج8" 406 رمش "موضع" "ج2" 87 رمع "ج7" 179 الرمل "قرية" "ج2"، 640 "ج4" 185 رملة عالج "ج1" 15 "ج3" 219 الرميلة "ج2" 638، 640 "ج4" 486 رنية "ج7" 361، 362 الرها "منطقة" "ج2" 66، 601، 605، 609، 611، 619، 621 "ج3" 93، 101، 136، 223، 465 "ج6" 310، 312، 627، 628، 631، 686 "ج8" 126، 131 الرهاء "موضع" "ج1" 371 رهابتا "مدينة" "ج7" 261، 278 رهاط "موضع" "ج1"، حا 278 "ج4" 258، 259، 535 "ج6" 257، 258 رهلة جمهين "ج1" 539 الروي "بئر" "ج4" 54 روافة "ج4" 10 روثان "موضع" "ج2" 393، 364 الروحاء "ج7" 338، 341، 364، 350، 346، 353، 357، 360 روحين "ج6" 465 روديسيا "بلد" "ج2" 346 روضة الحازمي "ج7:، حا 132 الروماني "ملعب" "ج3" 73 الرومانية "إمبراطورية" "ج1" 58، 456 "ج2" 38، 39، 58، 250 "ج3" 57، 67، 73، 83، 87، 90، 94، 97، 89، 100، 116، 119، 120، 125، 136، 138، 140، 144 "ج4" 166، 167 "ج5" 178، 295، 483 "ج7" 270 "ج8" 644 رومة "بئر" "ج7" 193 رومة "مدينة" "ج2" 38، 40، 41، 43، 44، 52، 60، 61، 66، 68، 515، 626، 627، 86، 515، 626، 627، 65 "ج3" 8، 33، 36، 38، 39، 44، 69، 79، 86، 88، 90، 96، 100، 101، 120، 124، 125، 127 "ج4" 165، 169 "ج5" 234، 244، 300 "ج7" 235، 279 "ج8" 213 الروي "بئر" "ج7" 191 الرويثة "ج7" 338، 341، 350 الويق "موضع" "ج1" 539 الرياء "موضع" "ج4" 217 "ج6" 89 الرياض "ج1" 157، 179، 273

"ج2" 572 "ج4" 200، 208، حا 218 "ج8"، حا 211 ريام "ج1" 101، 119 "ج2" 355 "ج4" 449 "ج7" 179 ريدان "مملكة" "ج1" 50، 428 "ج2" 55، 142، 144، 148، 149، 152، 154، 169، 173، 186، 200، 215، 266، 267، 284، 286، 315، 443، 336، 351، 357، 359، 368، 370، 371، 374، 376، 378، 380، 382، 388، 395، 397، 400، 407، 410، 416، 421، 423، 425، 427، 429، 431، 433، 438، 440، 443، 453، 455، 464، 468، 471، 472، 474، 480، 482، 483، 487، 495، 505، 516، 523، 526، 528، 530، 531، 535، 538، 540، 542، 545، 548، 553، 554، 557، 562، 563، 565، 568، 571، 574، 578، 580، 585، 587-589، 598 "ج3" 193، 316، 317، 332، 379، 450، 456، 470، 484، 494، 495، 532، 535 "ج4" 278 "ج5" 13، 16، 20، 183، 215، 216، 228، 232، 244 "ج7" 243، 277، 363، 368، 477، 491 "ج8" 8، 514، 515، 674 "ج2" 441 "ج3"32 ريسوب "ج3" 161 ريسوت "مدينة" "ج2" 373، 382 ريشان "رشن" "ج2" 118 ريع الزلالة "ج8" 210، 211 ريع المنهوت "ج2" 576 ريعان "موضع" "ج7" 354 ربمان "ج1" 340 "ج2" 288، 260، 396، 397، 450، 452، 461، 464، 565 "ج9" 574، 607 ريمت "ج2" 194، 211، 429 رينوكولورا "موضع" "ج2" 45

الزاي

الزاي: الزاب "مدينة" "ج2" 617 الزابوفة "ج7" 333 الزارة "قرية" "ج7" 90 "ج8" 783 الزاهر "بئر" "ج7" 357 زبالة "ج4" 132، 208 "ج7" 335، 336، 340 زبد "خرائب" "ج8" 176، 181 الزبداني "قرية" "ج1" 651 زبرم "ج1" 450 زبيد "موضع" "ج1" 357، 423 "ج3" 316 "ج4" 448، 449 "ج6" 619 "ج7" 31، 179، حا 272، 273، 311، 363، 364، 446، 462 الزج "ج3" 261 "ج4" 268 زخان "موضع" "ج2" 436 زري "موضع" "ج2" 501 زرقا "ج3" 416 الزرقاء "مدينة" "ج7" 355 زرود "مدينة" "ج7" 337 زوران "بئر" "ج6" 744 الزعراء "ج7" 362 زغر "ج5" 428 زفر "موضع" "ج8" 208 الزقازيق "ج7" 267 زقونية "ج1" 657 الزلقي "ج1" 273 زمان "الرعاف "موضع" "ج8" 522 زمزم "بئر" "ج1" 312، 497، 571 "ج4" 5، 16، 55، 66، 75، 78، 132، 378 "ج5" 315 "ج6" 266، 396، 419، 435، 439، 444، 464 "ج7" 158، 193 "ج8" 84 "ج9" 410، 412، 828 الزميل "موضع" "ج2" 651 زنجبار "بلد" "ج2" 502 "ج7" 260، 278 زندخان "موضع" "ج9" 37 الزهرة "معبد" "ج3" 118 "ج6" 446 "ج7" 159 زوت "موضع" "ج2" 296 زوره "الزوراء" "موضع" "ج3" 32، 70، 287، 288

"ج4" 277 زوم "مدينة" "ج2" 439 زيد "خرائب" "ج1" 51 الزيمة" "ج3" 514 "ج7" 363

السين

السين: ساباط "ج2" 650 "ج4" 270 "ج4" 213 السابون "مدينة" "ج4" 205 ساتيدما "ج3" 292 ساد سادم "ج2" 288، 289 ساري "موضع" "ج1" 601 الساسانية "دولة" "ج2" 614، 629، 633، 634، 638، 639، 642، 645، 646، 650 "ج3" 69، 173 "ج4" 158، 161، 162، 169، 175 "ج5" 178، 283، 289، 297 "ج6" 595، 596، 695 "ج8" 387، 702 ساسباتان "ج1"، حا 17 السامرة "ج1" 326، 585، 586، 646، 647 "ج3" 43، 303 سامة "سمه" "موضع" "ج4" 69 السامي "وطن" "ج4" 265 ساية "مدينة" "ج4" 265 "ج7" 358 سبأ "ج1" 23، 49، 60، 101، 119، 127، 129، 133، 169، 215، 237، 319 348، 363، 422، 428، 429، 460، 488، 489، 514، 516، 579، 581، 589، 618، 631، 634، 636 "ج2" 23، 51، 54، 55، 58، 73، 75، 76، 78، 80، 93، 105، 106، 108، 118، 132، 163، 140، 142، 148، 150، 153، 155، 161، 168، 169، 171، 173، 176، 179، 182، 186، 191، 179، 215، 225، 238، 239، 253، 258، 270، 272، 273، 275، 276، 278، 280، 282، 289، 291، 293، 295، 298، 301، 303، 305، 307، 311، 312، 315، 307، 323، 326، 328، 330

332، 337، 340، 344، 347، 348، 350، 351، 353، 355، 357، 359، 363، 365، 367، 369، 371، 374، 376، 378، 380، 382، 391، 395، 397، 398، 401، 403، 407، 410، 411، 414، 416، 425، 431، 433، 438، 440، 443، 453، 455، 458، 461، 462، 464، 468، 471، 495، 498، 501، 503، 506، 509، 519، 524، 526، 528، 530، 533، 535، 537، 540، 542، 545، 546، 548، 552، 557، 560، 562، 563، 565، 567، 568، 571، 573، 574، 577، 578، 580، 581، 585، 587، 589، 591، 598 "ج3" 190، 193، 316، 318، 332، 379، 390، 450، 456، 470، 477، 484، 487، 477، 484، 487، 490، 493، 495، 503، 507، 532، 534، 535 "ج4" 9، 274، 278، 317، 318، 416، 468، 539، 549، 554 "ج5" 180، 183، 190، 204، 210، 215، 227، 228، 222، 243، 244، 255، 257، 275، 276، 303، 463، 583، 614، 626 "ج6" 14، 54، 55، 168، 180، 263، 297، 304 320، 333، 338، 538، 540، 609، 612 "ج7" 137، 138، 140، 164، 179، 205، 210، 234، 240، 241، 243، 271، 277، 368، 477، 491 "ج8" 29، 40، 43، 44، 46، 53، 346، 420، 447، 514، 515، 674 } 9" 262 سباخ "مدينة" "ج3" 65 السباع "وادي" "ج7" 336 سبئي "معبد" "ج3" 451 السبئية "أماكن" "ج2" 260، 264، 280، 304، 480 السبخة "مدينة" "ج3" 133 "ج7" 333، 357 السبع "بئر" "ج1" 457، 584 "ج2" 93 "ج3" 65 "ج6" 315 سل "ج2" 293 سجا "ج7" 151 سجسج "موضع" "ج7" 354 سجلة "بئر" "ج9" 412 السحامة "موضع" "ج7" 344 سحر "مدينة" "ج5" 244 "ج7" 212 سحول "موضع" "ج2" 430 "ج3" 364 "ج448 "ج5" 256 سخاليته "خليج" "ج1" 141 السخرة "طريف" "ج7" 469 السد "موضع" "ج7" 343، 344 السدي "موضع" "ج1" 321 السدانة "موضع" "ج1" 360 "ج6" 292

سدوس "موضع" "ج1" 117، 178، 179، 339 السدوسية "موضع" "ج1" 598 سدوم "موضع" "ج1" 332، 333 السدير "قصر" "ج1" 388 "ج3" 109، 201، 204، 242، 264، 247، 282، 302، 313، 402، 420 "ج4" 227، 229، 233، 475، 665 "ج5" 212 "ج6" 447، 598، 655 "ج7" 91 "ج9" 475، 679، 682، 692، 797، 832 السر "ج2" 202 سرابيط الخادم "موضع" "ج8" 147 السراة "ج1" 144، 157، 167، 171، 248، 451 "ج2" 51، 56 "ج3" 489، "ج4" 201، 254، 269، 322، 442، 470 "ج6" 270، 275، 277 "ج7" 36، 61، 75، 78، 79، 86، 117، 124، 459، 461، 533 سراة الأزد "موضع" "ج9" 242 السراة الوسطى "موضع" "ج9" 242، 430 سراقة "موضع" "ج2" 119 سرجيوبوليس "مدينة" "ج6"633 السرحان "ج1" 206، 244، 442، 579 سرحة "ج1"، حا 28 السرحتين "ج7" 349 سردد "وادي" "ج2" 427، 542 "ج7" 179 سرون "وادي" "ج2" 533، 566 سرر أمان "موضع" "ج2" 222 سرسين "باديه" "ج1" 455 "ج2" 383، 396، 492 سرعان "ج2" 421، 524 "ج7" 348 سرغ "مدينة" "ج7" 348 سرف "ج7" 360 سره كيني "ج1" 325 السرو "موضع" "ج9" 574 سرو سخيم "موضع" "ج9" 700 السروات "ج4" 520، 560، 561 سروم "موضع" "ج2" 50، 290، 298، 350، 412، 413، 517 سروم راح "ج7" 362 سروم الفيض "ج7" 363 السرين "ج7" 363، 364 سطيح "ج3" 185 سعد "حضر" "ج7" 334 سعوان "وادي" "ج1" 169 "ج7" 518، 520 سعود "خربة" "ج2" 53 سعير "جبل" "ج1" 604، 650 سفار "موضع" "ج1" 639 السفح "موضع" "ج7" 334 سفوان "صفوان" "ج3" 293 "ج7" 334، 335 سفوتم "سفوت" "موضع" "ج2" 296 سقام "وادي" "ج6" 417 سقرن "سقران" "موضع" "ج2" 336 سقطري "جزيرة "ج1" 183 "ج2" 24، 25، 627 "ج6" 612 "ج7" 279، 280، 284، 535 "ج8" 398

سقه "سقاية" "بناء" "ج2" 457 السقي "مدينة" "ج7" 343 سقيا "موضع" "ج1" 159، 167 "ج7" 192، 194، 335، 338، 341، 350، 355، 359، 360 سقيا الجزل "ج7" 195 سقيا غفار "ج7ط 195 سقيا يزيد "ج7" 195 سقيراء "ج7" 344 سكاكة "سككة" "موضع" "ج1" 133 "ج4" 237 السلاسل "ج4" 248، 262 السلامة "حصن" "ج2" 159 السلان "دج3" 275 السلجوقية "دولة" "ج1" 572 سلحين "ج2"116، 212، 254، 296، 316، 327، 330، 328، 340، 344، 368، 371، 419، 428، 439، 477، 495، 517، 538، 547 "ج3" 456، 470، 582، 532، "ج5" 212، 215، 232 "ج7" 346 "ج8" 34 السلسلة "ج1" 169 سلع "موضع" "ج2" 594 "ج4" 331 "ج8" 175، 184، 194، 249 سلعن سلعان "موضع" "ج2" 291 السلف "موضع" "ج1" 194، 195، 425 "ج3" 475 سلقن "سلقان" "موضع" "ج2" 296 سلقن "سلقان" "موضع" "ج2" 296 سلمى "جبل" "ج1" 157 "ج2" 349 :ج4" 219، 450 "ج5" 269 "ج7" 150، 337، 339، "ج9" 531 سلمان "موضع" "ج2" 20 "ج3" 189 "ج4" 72 "ج6" 280 "ج7" 292، 302 السلميه "مدينة" "ج1" 540 سلوى "بئر" "ج2" 18، 543 سلوق "قرية" "ج5" 431 سلوقية "مدينة" "ج2" 13، 15، 16، 20، 22، 33، 491، 600، 608 "ج6" 628 السليف "موضع" "ج4" 202 السليل "موضع" "ج1" 179، 182 "ج7" 241، 342 سليم "حرة" "ج1"، حا 149 "ج4" 256، 311، 518 "ج7" 341، 519 سلمية "ج7" 3343 سهاهيج "جزيرة" "ج6" 629 "ج8" 702 السماوة "مدينة" "ج1" 155، 165، 181 "ج2" 22، 639 "ج4" 233، 240 "ج5" 74 سمرا "خربة" "ج2" 65 سمرقند "مدينة" "ج1" 499 "ج2" 513، 539، 540، 578 سمطانهان "موضع" "ج2" 322 سمعي "مملكة" "ج2" 55، 150، 216

سمهرم "بناء" "ج2" 165 سميراء "مدينة" "ج7" 337، 340 السمينة "ج7" 342، 343 سن ذ مشور "معبد" "ج2" 163 السنات "مجلس" "ج2" 654 السنبلة "بئر" "ج7" 192 "ج9" 411 سنجار "موضع" "ج1" 626 "ج2" 66، 406، 539، 605، 613، 619، 622 "ج3" 140 "ج4" 490، 491 "ج8" 346 السند "أقليم" "ج1" 432 "ج2" 14، 648 "ج3" 438 "ج4" 200 "ج7" 375، 376 سنداد "موضع، نهر" "ج3" 159 200، 246، 303 "ج4" 232، 333، 470، 471، 475 "ج6" 400، 412، 415، 417، 446، 447 "ج9" 797، 806، 832 سنفرم "بيت" "ج2" 435 سنحار "قصر" "ج3" 156، 217، 301، 313 سنير "ج4" 239 سهام "وادي" "ج2" 427، 541 "ج7" 179، 363 السبهاء "ج7" 346 سهرة "مدينة" "ج2" 439 "ج8" 406 سوي "ماء" "ج4" 233 "ج7" 333 السوا "دير" "ج6" 589، 655 السواد "منطقة" "ج2" 617، 618، 640، 645، 650 "ج3" 10، 167، 233، 269، 303، 336، 337، 389، "ج4" 223، 231، 233* 472، 543 "ج5" 398 "ج6" 594 "7" 35، 156، 457 السوارفية "نخل" "ج4" 269 سوخ "موضع" "ج1" 456، 457 "ج3" 139 السوداء "خربة" "ج2" 75، 83، 118 "ج5" 20 السودان "ج1" 236، 449، 55، 643 "ج2" 23 "ج4" 15 "ج5" 105 "ج8" 345، 454 سورية "ج1" 19، 30، 247، 443، 456، 574، 575، 578 "ج2" 38، 39 "ج3" 18، 21، 32، 44، 49، 57، 60، 65، 67، 68، 71، 138، 143، 350، 409، 440 "ج6" 310، 323 "ج8" 210 "ج9"، حا 623 السوس "موضع" "ج8ط 325 سوط "موضع" "ج2" 219 سوف "بحر" "ج1" 637 سوف النعم" "ج8" 39 السوم "موضع" "ج2" 165 سومر "مملكة" "ج1" 556، 570 سون "سونة" "موضع" "ج2" 164

السويداء "مدينة" "ج3" 70، 421، 442 "ج4"، حا 8 "ج7" 349 السويس "خليج "ج1" 242 "ج2" 32 السويس "قناة" "ج1" 242 "ج3" 87 "ج7" 246، 267، 268 السويس "مدينة" "ج1" 164 "ج7" 135، 267، 334 سويقة "ج7" 343، 344، 352 السي "ج7" 343 السيالة "ج7" 338، 341، 350، 354، 360 سيام "ج5" 455 سيان "سد" "ج7" 212 سيبار "مملكة" "ج1" 561 سيبان "أرض" "ج1" 480 السيح "ج7" 344 سيح ابن مربع "ج7" 180 سيح الغمر" "ج7" 180 سيح قشير "سيح اسحاق" "ج7" 180 سيحوت "مدينة" "ج1" 172، 230 سيخا "جزيرة" "ج2" 64 السيدان "وادي" "ج7" 163، 335 سيف البحرين "ج7" 180، 601 السيق "وادي" "ج3" 53 سيل العرم "ج3" 387، 391، 436، 493 "ج4" 133، 136، 201، 436، 493 "ج6" 519 "ج7" 201، 209 سيلان "دولة" "ج1" 209 "ج2" 639، 657 "ج3" 518 "ج4" 169، 170، 303 "ج5" 415، 544 "ج6"612 "ج7" 238، 275، 281، 282، 520 "ج8" 393 "ج9" 215 السيحلون "موضع" "ج3" 273 السيلحين "موضع" "ج9" 804 سيناء "ج1" 18، 19، 21، 27، 35، 142، 144، 157، 163، 166، 235، 236، 238، 239، 252، 253، 262، 271، 329، 330، 347، 436، 457، 461، 532، 536، 552، 553، 55، 584، 620، 622، 523، 625، 624، 631، 637، 638، 643، 648، 654 "ج2" 8، 22، 34، 77، 91، 93 "ج3" 7، 8، 35، 49، 50 "ج4" 13، 247 "ج6" 26، 415، 764 "ج8" 146، 147، 151، 174، 175، 211، 214، 229 "ج9" 63، 127، 410 سيوون "موضع" "ج2" 566

الشين

الشين: الشاء "دير" "ج6" 598 شابة "مدينة" "ج1" حا 167 شاحط "ج6" 378 شئز صيهد "ج7" 378 شئز صيهد "ج4" 364 شاكر "موضع" "ج4" 186، 187 الشاكرية "موضع" "ج2" حا 83، حا 118 الشام "بادية بلاد" "ج1" 7، 18، 19، 21، 22، 26، 27، 30، 35، 44، 51، 55، 76، 80، 132، 143، 144، 146، 147، 155، 156، 164، 165، 167، 169، 177، 181، 183، 197، 199، 206، 208، 210، 211، 217، 218، 220، 234، 238، 244، 246، 248، 252، 254، 273، 288، 290، 292، 298، 306، 324، 325، 346، 347، 370، 381، 389، 393، 396، 415، 420، 423، 437، 440، 462، 471، 492، 504، 505، 507، 508، 517، 530، 543، 551 564، 581، 583، 587، 589، 590، 592، 600، 604، 608، 610، 611، 613، 615، 620، 625، 626، 631، 639، 648، 650، 652 "ج2" 10، 12، 15، 16، 20، 21، 27، 38، 40، 42، 44، 58، 90، 120، 242، 246، 250، 260، 264، 576، 600، 602، 608، 615، 617، 619، 622، 626، 627، 629، 631، 632، 635، 637، 638، 641، 651، 653، 655، 656، 659، 660 "ج3" 5، 11، 13، 16، 18، 20، 22، 25، 29، 32، 33، حا 38، 45، 52، 55، 57، 58، 60، 84، 86، 89، 95، 97، 99، 101، 111، 116، 117، 121، 122، 133

-134، 136، 143، 144، 146، 147، 150، 151، 154، 166، 169، 179، 184، 188 201، 208، 211، 212، 221، 223، 229، 231، 234، 235، 240، 245، 246، 248، 254، 258، 261، 272، 280، 283، 290، 293، 231، 223، 324، 327، 329، 342، 343، 346، 469، 370، 377، 382، 385، 387، 389، 392، 393، 395، 397، 399، 401، 405، 406، 408، 411، 413، 415، 417، 418، 427، 431، 433، 435، 437، 439، 442، 443، 445، 503، 517، 521، 427 "ج4" 6، 20، 39، 57، 56، 67، 69، 72، 74، 79، 82، 83، 86، 93، 98، 104، 108، 111، 117، 119، 120، 122، 126، 129، 134، 141، حا 144، 151، 153، 162، 166، 170، 175، 176، 178، 180، 190، 191، 199* 205، 219، 221، 224، 232، 233، 235، 237، 241، 243، 249، 251، 255، 276، 278، 283، 284، 287، 288، 290، 291، 299، 301، 234، 417، 419، 424، 426، 437، 439، 440، 454، 461 -463، 470، 472، 474، 482، 485، 486، 489، 491، 508، 515، 520، 536، 540، 548، 555، 557، 595، 616، 620، 628، 669 "ج5ط 16، 240، 37، 46، 47، 46، 64، 74، 79، 83، 105، 120، 123، 172، 185، 188، 200، 201، 211، 224، 256، 269، 295، 297، 304، 305، 308، 317، 320، 327، 339، 340، 384، 404، 410، 411، 421، 423، 428، 429، 432، 429، 432، 433436، 438، 424، 554، 602، 607، 646، 650 "ج6" 14، 23، 36، 81، 119، 125، 237، 238، 252،267، 270، 275، 316، 328، 339، 352، 353، 402، 408، 450، 455، 457، 459، 469، 472، 477، 479، 480، 486، 487، 501، 503، 508، 516، 518، 525، 528، 535، 538، 559، 565، 566، 588، 590، 596، 599، 603، 605، 606، 608، 610، 611، 615، 626، 630، 632، 633، 653، 657، 660، 663، 680، 687، 689، 713، 767 "ج7" 16، 18، 21، 43، 55، 58، 71، 73، 77، 108، 110، 116، 159، 163، 173، 181، 228

232، 233، 235، 237، 241، 344، 354، 369، 270، 275، 377، 281، 285، 288، 295، 297، 299، 301، 303، 308، 315، 317، 318، 321، 324، 328، 332، 333، 340، 341، 346، 352، 354، 356، 358، 359، 368، 369، 372، 373، 381، 406، 439، 440، 454، 479، 495، 496، 528، 553، 573، 578، 585، 598، 599، 602، 604، 608، 616، 627، 629 "ج8" 49، 59، 70، 111، 112، 115، 127، 129، 141، 146، 147، 153، 169، 174، 178، 180، 191، 302، 211، 259، 261، 262، 266، 299، 302، 312، 316، 322، 323، 325، 326، 336، 340، 349، 365، 378، 387، 394، 406 423، 431، 454، 485، 506، 518، 519، 530، 555، 560، 572، 588، 628، 633، 642، 646، 648، 651، 666، 668، 670، 680، 681، 688، 693، 701، 705، 711، 712، 724، 743، 462، 770، 790 "ج9" 15، 63، 79، 81، 82، 87، 91، 93، 155، 182، 281، 283، 291، 292، 382، 426 429، 436، 453، 496، 497، 533، 574، 590، 662، 666، 673، 687، 697، 700، 703، 715، 724، 806، 807، 826، 844، 852، 886، 895، الشامات "بناء" "ج8" 512 الشامية "نخلة" "ج7" 242 شبا "مدينة" "ج1" 430، 638 "ج2" 64 "ج3" 535 "ج7" 233، 240 "ج8" 76 شباك العرمة "ج7" 346 شبام "سد" "ج7" 212 شبام "مدينة" "ج7ط 518، 519 شبام اقيان "مدنية" "ج2" 343، 358، 424، 471، 494، 552 "ج5" 13، 277، 278 شبام سخيم "مدينة" "ج1" 117، "ج2" 157، 391، 394، 397، 410، 444، 450، 469 "ج6" 304، 308 شبام كوكبان "ج8" 39 الشبك "موضع" "ج1" 456 الشبكي "موضع" "ج3" 150 شبوت شوة "مدينة" "ج1" 189، 195، 460 "ج2" 24، 131، 134، 135، 141، 145، 149، 152، 157، 158، 168، حا 225، 243، 375، 554 "ج3" 479 "ج4" 198

"ج5ط 11، 12، 14، 20، 449، 463 "ج7" 213، 561 الشبيكة "ج7" 521 الشجي "ج7" 341، 343 الشجرة "مدينة" "ج7" 350 الشجرتين "ج7" 521 شحاط "ج2" 54 شحبة "موضع" "ج3" 62، 69 الشحر "إقليم" "ج1" 171، 172، 305، 311، 340، 343 "ج2" 513 "ج3" 479 "ج4" 201، 420، 422 "ج5" 193 "ج7" 274، 275، 364، 371، 374، 377، 536 "ج8" 575 شحرار "ج1" 103 شحران "سد" "ج7" 212 شدو "أرض" "ج2ط 203، 213، الشراة "ج6" 601 شراج الحرة "ج7" 215 الشربة "ج1" 182 "ج3" 211 "ج4" 252، 260 شرجب "مملكة" "ج2" 288، 298، 503 الشرجة "ج7" 363 شرس "ج7" 179 شرع "ج1" 329 "ج2" 114 "ج7" 209 الشرف "موضع" "ج7" 150 الشرق الأدنى "ج1" 222، 223، 227، 228، 237، 238، 418، 627 "ج2" 12، 65، 613، 624 262 "ج3" 10، 35، 85، 100 "ج4" 190، "ج5" 31، 604 "ج6" 603 "ج7" 46، 417، 419، 563 "ج8" 149، 156، 298، 338، 401، 412 الشرق الأوسط "ج8"298، 389 الشرقي "بحر" "ج1" 30 الشروق "بحر" "ج1" 140 شريفة "ج7" 344 شريكم "مدينة" "ج1" 554 شسي "ماء" "ج7" 162 ششعن "ج2" 297 شصرن "ج2" 326، 338، 444، 445 شعا ريم "بيت" "ج6" 539 شعب "موضع" "ج1" 167 "ج2" 295 الشعباني "سد" "ج7" 212 شعبت مدينة" "ج2" 162 شعف عنز "موضع" "ج1"171 شعوب "قصر" "ج4" 512 الشعيبة "ميناء" "ج4" 115، 122 "ج6" 434، 435 "ج7" 15، 529، 263، 266، 272، 364 شغب "مدينة" "ج7" 349 شفاثا "مضوع" "ج3" 183 "ج3" 231 الشفاء "ج4" 485 الشفق "ج7" 345 شفية "بئر" "ج7" 192 الشق "مدينة" "ج3" 73، 185 "ج4" 264 شق البحرين "موضع" "ج9ط 430 شق عمان "موضع" "ج9" 430

شق اليمامة "موضع" "ج9" 576 شفا شقة "مدينة" "ج3" 9 شقرا "موضع" "ج2" 191، 192 الشقوق "مدينة" "ج7" 335، 336، 340 شقير "مدينة" "ج2" 191 شقيق "موضع" "ج1" 188 شلوث "موضع" "ج2" 87 شمام "ج7" 507، 515، 522 "ج9" 657 شمتان "بيت" "ج2" 433 شمر "قصر" "1ط 152،* 157، 182، 215، 431، 547، 598 "ج3" 190، 192، 193، 349 "ج7" 305، 338 "ج7" 305، 338 "ج8" 8، 210، 679 شمران "ج7" 78 الشموس "موضع" "ج1" 339 شنوءة "مدينة" "ج3" 363، 365 "ج4" 435، 442 "ج6" 246، 248، 263 شنوكه "ج7" 354، 355 شهارة "ج7" 519، 520 شهبة "وادي" "ج1" 558 شهوان "جبل" "ج1" 181 شوحط "معبد" "ج2" 466 "ج7" 124 شور، شوم "مدينة" "ج1" 275، 435، 436 "ج2" 211، 230 شوران "جبل" "ج7" 201 "ج9" 258، 332 شوشتر "موضع" "ج2" 640 الشوط "جبل" "ج1" 156 شيبان "معدن منجم" "ج7" 513، 515 شيحان "جبل" "ج3" 61 "ج8ط 210 شيخ مبارك "ج3" 135 شيخ مسكين "قرية" "ج3" 9 الشيخين "موضع" "ج7" 357 شيزر "ج3" 370 الشيط "ج7" 335 شيع "ج7" 346 شيعان "مدينة" "ج2" 292، 469

الصاد

الصاد: صادية "ج3" 303 صادر "موضع" "ج2" 254 الصاقب "موضع" "ج3" 249 صبر "رأس" "ج1" 250 "ج2" 507 صبعة "ج1" 333 صبلقة "موضع" "ج2"، حا 255 صبيان "مدينة" "ج1" 187 "ج2" 411 "ج7" 179 صبية "ج2" 541 صحار "مدينة" "ج1" 174 "ج4" 200، 203، 431، 441، 451 "ج7" 371، 376، 527 الصحصحان "موضع" "ج3" 323 صحفتن "مدينة" "ج2" 198 الصخرة "موضع" "ج3" 19، 20 صخيرات اليمام "ج7" 354، 358، 359 صداة "ج7" 434، 344 الصدف "ج4" 144، 193، 193 صدم "صدوم" "موضع" "ج2" 294 صربان "مدينة" "ج7" 363 صرح الغدير "ج3" 402 "ج5" 638، 647، 648 صرصر "نهر" "ج3"، حا 174 صرواح "مدينة" "ج1" 126، 128، 129، 189، 368 "ج2" 57، 140، 218، 260، 269، 272، 282، 285، 287، 294، 303، 306، 308، 316، 319، 321، 322، 344، 346، 385، 388، 390، 401، 405، 430، 444، 542 "ج3" 485، 486 "ج5" 278 "ج6" 219، 302 "ج8" 38، 40، 43 الصريخ "موضع" "ج5" 374 صريفون "قرية" "ج4" 667 صعاد "موضع" "ج7" 512 صعدة "مدينة" "ج1" 92، 95، 196، 367، 464، 465 "ج2" 542، 543، 550، 555 "ج4" 557 "ج7" 179، 212، 362، 364، 537، 569 صعرة "قرية" "ج1" 333 صعفوق "ج7" 468

صعقان "ج2" 282 الصفا "مدينة" "ج1ط 329 "ج4"، حا 8، 66، 72، 78، 204، 562 "ج5" 393 "ج6" 241، 266، 267، 271، 286، 311، 375، 379، 382، 391، 394، 438، 444، 721 "ج7" 182، 345 "ج8" 125 "ج9" 436، 763، 873 الصفاة "منطقة" "ج1" 147 "ج3" 142، 153، 420 "ج8" 113، 142، 154، 211، 240 الصفارين "سوق" "ج9" 196 صفر "صقر" "ج7" 361، 362 الصفراء "وادي قرية" "ج1" 168 "ج4" 281 "ج5" 468 "ج7" 350، 354، 355، 358، 359، 376، 519 "ج8" 349، 377، 384 صفين "ج3" 422، 439، 506 "ج7" 363 صقلية "جزيرة" "ج1" 63 "ج3" 228، 419 "ج8" 96 صقونية "موضع" "ج1" 660 الصلا المعي "ج7" 350 صلب المعي "ج7" 346 صلخد "مدينة" "ج1"، حا 146، 335 "ج3"، حا 38 "ج4" 57 "ج6" 232، 328الصليف "الصليب" "موضع" "ج" 335، 364 الصمان "منطقه" "ج1" 492 "ج7" 333، 334، 364 الصنائع "منطقة" "ج1" 352 صندوداء "ج4" 233 صنعاء "مدينة" "ج1" 82، 92، 49، 95، 117، 126، 129، 170، 189، 190، 196، 304، 341، 344، 346، 357، 358، 423، 427 438، 500، 366، 635 "ج2" 150، 216، 321، 304، 324،324، 335، 362، 371، 387، 394، 401، 427، 428، 430، 433، 435، 437، 442، 444، 453، 462، 470، 477، 485، 495، 537، 538، 543، 575، 581، 538، 543، 575، 581 "ج3" 316، 459، 500، 502، 504، 506، 510 516، 523، 526، 528، 532 "ج4" 15، 17، 78، 99، 144، 180، 184، 192، 254، 557 "ج5" 18، 252 "ج6" 262، 264، 289، 400، 446، 619، 630، 650، 651، 769 "ج7" 59، 60، 176، 181، 315، 345، 362، 364، 371، 375، 394، 518، 519، 601 "ج8" 8، 40، 42، 64، 127، 196، 295، 359

"ج9" 153، 464، 738، 844 الصنمان "مدينة" "ج3" 62 صنوت "موضع" "ج2" 294 صنين "جبل" "ج1" 350 "ج3"، حا 217، 266، 267 الصنين "سجن" "ج5" 293، 318، 588 "ج6" 84 "ج9" 676 صهوة "موضع" "ج8" 53 صوارن "مدينة" "ج2" 372، 373 صوبيتي "موضع" "ج1" 601 صور "مدينة" "ج1" 62، 444، 461، 596، 637، 640، 641 "ج2" 93، 120، 428 "ج3" 535 "ج6" 25، 533 "ج7" 233 "ج8" 254 صوغر "قرية" "ج1" 333 صوف "موضع" "ج1"، حا 18 "ج2" 393 صوفة "بحر، موضع" "ج4" 381 "ج6" 382 صونة "خرائب" "ج2" 163 الصومال "دولة" "ج1" 236، 479 532، "ج2" 159 "ج2" 452 "ج7" 261، 280 الصويدره "موضع" "ج8" 195 صيدا "مدينة" "ج1"، حا 86 "ج2" 27 "ج3" 7 "ج7" 233، 245 صيدون "مدينة" "ج1" 596 صير "وادي" "ج2" 288 صيرم "موضع" "ج5" 582 صيلع "ج3" 362 الصين "بلد" "ج1" 263، 449 "ج2" 515، 534، 539، 576، 587 "ج3" 190، 279 "ج4" 116، 164، 169، 200، 270، 308، 406، 441 "ج6ط 629 "ج7" 239، 272، 275، 278، 281، 341، 364، 376 "ج8" 150، 644 "ج9" 377، 379 صيهد "ناحية" "ج1" 171، 348 "ج2" 294

الضاد

الضاد: ضارج "موضع" "ج9" 527 الضالع "هضبة" "ج5" 21 ضبا امارة "ج1" 187 "ج2" 28 الضباب "وادي" "ج2" 507 ضبر "موضع" "ج2" 288 "ج3" 216، 217 الضبيب "ج7" 514 الضيحان "ج7" 364 "ج9" 722 الضدح "موضع" "ج2" 543 ضروان "حرة" "ج1" 148 ضرية "ناحية" "ج4" 265 "ج7" 150، 342 ضفخ: وادي "ج2" 402 ضفو "ضاف" "مدينة" "ج2" 434، 483 ضلم "موضع" "ج2" 288، 293 ضمد "وادي" "ج2" 541، 542، 455، 570 "ج7" 338 ضنك "قرية" "ج4" 202 ضنكان "موضع" "ج2" 51 "ج7" 516، 518، 520، 542 الضيفة موضع" "ج3" 475، 478

الطاء

الطاء: الطائف "مدينة" "ج1" 189، حا 193، 194، 206، 208، 276، 290، 329، 344، 403، 471، 512 "ج3" 223، 224، 374، 405، 498، 499، 513، 521 "ج4" 28، 46، 78، 109، 115، 118، 130، 132، 142، 156، 185، 192، 255، 257، 279، 294، 444، 445، 507، 517، 568، 661، 669 "ج5" 16، 46، 79، 112، 139، 180، 236، 246، 248، 252، 371، 373، 447، 457، 459، 647 "ج6" 25، 228، 229، 231، 322، 235، 236، 242، 266، 351، 414، 478، 479، 482، 486، 478، 479، 482، 486، 487، 499، 530، 589، 607، 620، 769، 519 "ج8" 16، 28، 58، 72، 74، 77، 208، 287، 293، 315، 360، 361، 378، 421، 422، 426، 440، 441، 442، 444، 449، 454، 467، 471، 495، 578، 587 "ج8" 61، 111، 139، 162، 166، 187، 196، 210، 211، 301، 321، 381، 627، 634، 648، 649، 669، 688 "ج9" 115، 383، 430، 615، 654، 656، 695، 710، 736، 752 – 753، 765، 973، 840، 893، 906 طابوس "موضع" "ج3" 138 طيرية "مدينة" "ج1" 444، 644 "ج3" 110، 436، 465، 468 "ج36" 516، 540، 522، 558، 559 "ج7" 348 طبق "موضع" "ج2" 636 الطبيق "جبل" "ج1" 532 "ج2" 636 طخفة "مدينة" "ج3" 266، 374 "ج7" 333، 342

طرابزندة "نهر" "ج3"، حا 98 طرابلس الغرب "مدينة" "ج1"، حا 236، طرسوس "مدينة" "ج6" 627 طراغلوديته "مدينة" "ج1" 22 الطرف "ج7" 340، 342 طرق "موضع" "ج2" 297 طرقل "أسد" "ج2" 284 طريدم "طريدط" "موضع" "ج2" 436 طسا سيج "ج8" 200 الطف "جبل" "ج1" 175، "ج3"182، 289 طفيل "جبل" "ج7" 351 طلحة الملك "موضع" "ج2" 531 الطمح "موضع" "ج2" 580 طمحان "سد" "ج7" 2121 طمحنيان "موضع" "ج2" 546 طهران "مدينة" "ج3"، حا 299، حا 398، حا 510 "ج4"، حا 90 204، حا 236، 237، حا 491 "ج5"، حا 83، حا 90، حا 538، حا 551 "ج6" 149، حا 235، حا 369، حا 449، حا 458، حا 487، حا 560، حا 605 "ج7"، حا 371 "ج8"، حا 300، حا 489، حا 497، حا 502، حا 731 طوي "بئر" "ج7" 192، 193 طوب "طوبم" موضع" "ج2" 205 الطوبة "قصر" "ج3" 404 الطور "موضع" "ج1" 436 "ج4"، حا 143 "ج4" 573 طويق "جبل" "ج1" 157، 175، 162، 178، 182، 430 "ج2" 573 طويق "جبل" "ج1" 157، 175، 162، 178، 182، 430 "ج2"552 طويلعا "قرية" "ج7" 334، 335 طيب "موضع" "ج2" 295، 296 "ج3" 136، 137 طيرزان آباد "مدينة" "ج2" 618 طيسفون "موضع" "ج2" 20، 365، 642، 648، 651 "ج3" 95، 98، 99، 102، 173، 175 "ج6" 628 الطيور "جزيرة" "ج2" 64، 160، طيوة "مدينة" "ج3" 532

الظاء

الظاء: ظبة "قرية" "ج7" 350 ظراب "موضع" "ج2" 296 طربان "مدينة" "ج2" 438 ظرم "حمر" "ج2" 190 ظفار "مدينة" "ج1" 133، 172، 210، 423 "ج2" 55، 60، 165، 215، حا 220، 360، 373، 376، 379، 387، 3، 423، 440، 483، 510، 511، 516، 517، 519، 520، 523، 527، 530، 564، 568، 572، 595، 597 "ج3" 379، 380، حا 452، 455، 456، 463، 468، 480، 506، 531 "ج5" 13، 232 "ج6" 260، 612، 613 615، 619 "ج7" 237، 274، 275، 518 "ج8" 39، 77، 80، 556، 583 ظفار "أسد" "ج7" 518 ظفار الحقل "ج8" 518 ظفر "موضع" "ج2" 220 ظلمن "ظلمان" "ج2" 429، 435، 430، 440 ظليمة "بلدة" "ج1" 196 "ج2" 430 "ج7" 519 ظمو "موضع" "ج2" 569 الظهران "مدينة" "ج1" 186، 543 "ج4" 485، 530 "ج8"، حا 205 ظهور "الشح "ج4" 200

العين

العين: العائر "موضع" "ج7" 353 العادي "قصر" "ج1" 181 العادية "موضع" "ج2" 273 العارض، العرض "وادي" "ج1" 180، 181، 173 "ج7" 40، 344 عارمة "موضع" "ج9" 527 العاشقة "خربة" "ج3" 137 العاصي "نهر" "ج2" 41، 622 عاقر "موضع" "ج3" 322، 325، 328، 332، 345، 346 "ج9" 527 عاقولاء "مدينة "ج1" 660 "ج3" 157، 158 "ج6" 632 عالج "منقطة "ج1" 302، 305، 340 العالية "موضع" "ج1" 561 "ج8" 272، 58، 624، 625 "ج9" 32، 320، 242 عانه "مدنية" "ج1" 659 "ج3" 82، 140، 141، 157، 175 "ج9" 92 العبابيد "وادي" "ج1" 587 "ج7" 353 عباد "سد" "ج7" 208، 212 عبادان "موضع" "ج7" 333 العباسية "دولة" "ج1" 65، 115، 356، 499 "ج2" 104 عبال "قرية" "ج1" 344، 429 "ج7" 364 العباية "موضع" "ج7" 363 عبد "دير" "ج6" 655 عبدان "منقطة" "ج2" 290، 292، 560، 580 "ج5" 255 عبدة "خرائب" "ج3" 65 "ج4" 202 العبر "وادي" "ج2" 560 "ج3" 485 "ج4" 29 "ج7" 364 عبرة "موضع" "ج2" 292 "ج7" 371، 373 "ج7" 221، 363 عبقرة "ج7" 254 "ج6" 271، 272 "ج7" 363 عبيد "جبل" "ج8" 207، 676 العبيرة "بئر "ج7" 194

عتب "موضع" "ج2" 295 العتك "وادي" 335 عتود "مدينة" "ج1" 192، 203 "ج2" 550، 555 عثر "موضع" "ج1" 203، 206 "ج2" 434 "ج7" 135، 163، 364، 371 علجز "جبال" "ج3" 66 العجول "بئر" "ج4" 54، 55 "ج7" 192 "ج9" 411 عدان "مدينة" "ج3" 132 العدسيين "قصر" "ج2" 649 عدم "وادي" "ج1"، حا 172 "ج" 213 عدمان "بناء" "ج2" 284 عدن "موضع" "ج1" 129، 133، 143، 147، 171، 190، 195 243، 304، 321، 382، 432، 532، 563 "ج2" 29، 30، 60، 64، 105، 135، 160، 172، 173، 262، 399، 428، 432، 502، 526، 631، 568، 659 "ج3" 449، 479، 480، 523 "ج4" 153 "ج5" 21 "ج6" 84، 498، 530، 612، 613، 619، 630، 680 "ج7" 272، 274، 276، 277، 281، 380، 363، 364، 371، 374، 526 "ج8" 42، 208، 295 "ج9" 574 عدوة "ج3" 451 عذبت "مدينة" "ج2" 435 عذراء "موضع" "ج3" 438 العذيب "ج4" 216، 225، 226، 231 "ج5" 407 "ج7" 335، 236، 343، 347 عذية "ج7" 518، 520 العر "حصن" "ج2" 164، 165، 525 "ج7" 213 عر ذو مرمر "مدينة" "ج5" 20 عرابة "بيت" "ج1" 643 عراتوت "خليج "ج2" 20 عراد "خليج" "ج2" 19 عرارين، اراريين "موضع" "ج2" 46، 49 عراعران "موضع" "ج2" 50. العراق "دولة" "ج1" 10، 16، 19، 26، 29، 30، 40، 42، 54، 77، 122، 140، 143، 144، 155، 164، 165، 177، 180، 183، 198، 199، 206، 209، 211، 217، 218، 220، 231، 234، 244، 247، 248، 250، 254، 256، 273، 288، 292، 370، 381، 386، 388، 296، 379، 399، 412، 415، 169، 504، 505، 507، 508، 510، 534، 536، 543، 551، 553، 555، 556، 568، 570، 572، 573، 581، 583، 588، 589، 605، 608

613، 618، 621، 631، 632، 655، 657، 659 "ج2" 15، 20، 22، 28، 31، 33، 34، 38، 41، 50، 65، 92، 93، 242، 255، 278، 279، 539، 576، 579، 602، 608، 610، 613، 618، 628، 629، 631، 632، 634، 636، 639، 641، 645، 648، 651 "ج3" 11، 13، 81، 84، 85، 99، 102، 105، 111، 133، 134، 136، 138، 139، 134، 144، 147، 149، 156، 160، 162، 166، 167، 173، 178، 185، 187، 189، 191، 193، حا 200، 221، 229، 240، 253، 254 267، 285، 301، 321، 324، 335، 341، 372، 374، 377، 378، 387، 390، 408، 415، 417، 425، 443، 502، 503، 514، 522، 524 "ج4" 6، 20، 26، 41، 70، 73، 83، 144، 115، 119، 120، 122، 123، 126، 132، 153، 162، 164، 199، 201، 205، 212، 215، 218، 219، 223، 225، 228، 231، 233، 237، 238، 243، 283، 284، 287، 288، 290، 291، 299، 301، 321، 325، 326 – 343، 357، 388، 417، حا 421، 453، 462، 463، 470، 471، 473، 475، 485، 489، 491، 500، حا 515، 522، 527، 536، 550، 553، 555، 557، 559، 580، 628، 667، 669 "ج5" 16، 23، 24، 640، 104، 105، 112، 114، 120، 172، 185، 187، 189، 201، 269، 272، 289، 290، 292، 294، 297، 302، 304، 307، 317، 384، 404، 405، 421، 429، 433، 453، 479، 492، 571، 587، 596 "ج6" 11، 14، 32، 79، 119، 125، 302، 321، 235، 238، 251، 308، 309، 339، 352، 353، 402، 457، 458، 501، 503، 508، 514، 516، 525، 558، 559، 590، 591، 595، 596، 600، 605، 612، 615، 621، 626، 628، 629، 632، 653، 662، 669، 681، 687، 689، 701، 702 "ج7" 16، 18، 21، 43، 55، 64، 69، 91، 92، 108، 109، 116، 155، 156، 159، 171، 186، 219، 228، 232، 233، 236، 237، 241، 244، 256، 275، 277، 281، 283، 284، 293، 295، 298، 301، 303، 305، 307، 308، 313

320، 323، 234، 327، 239، 241، 344، 346، 347، 369، 373، 421، 439، 440، 454، 473، 480، 495، 497، 500، 508، 521، 544، 566، 567، 569، 576، 578، 582، 585، 586، 589، 602، 604، 607، 609، 615، 616، 627، 633، 635 "ج8" 6، 8، 16، 21، 43، 35، 49، 74، 79، 81، 86، 110، 81، 86، 87،110، 112، 115، 141، 141، 146، 147، 153، 155، 158، 160، 168، 174، 176، 179، 180، 191، 203، حا 205، 211، 269، 289، 295، 301، 311، 316، 320، 322، 326، 336، 431، 346، 355، 423، 431، 454، 478، 485، 506، 518، 521، 539، 560، 561، 586، 588، 590، 592، 628، 630، 631، 642، 646، 648، 651، 670، 675، 680، 681، 693، 701، 702، 704، 705، 711، 712، 722، 725، 727، 762، 779، 783، 727، 762، 779، 783 "ج9" 15، 47، 51، 63، 79، 82، 91، 93، 161، 185، 198، 199، 161، 185، 198، 199، 202، 214، 340، 255، 259، 281، 283، 291، 292، 297، 309، 340، 383، 416، 426، 429، 432 434، 443، 452، 467، 468، 569، 590، 659، 665، 671، 674، 721، 767، 798، 807، 840، 860، 869، 870، 883، 885، 886، 895، 901 عراقيب "معدن، منجم "ج7" 521 العراقية "أماكن" "ج3" 84 "ج9" 417 عرايس "أسد" "ج7" 212 العرب "بلاد" "ج1" 65، 124، 125، 129، 130، 132، 139، 142، 144، 154، 155، 157، 159، 162، 167، 172، 175، 181، 203، 205، 217، 236، 240، 241، 243، 245، 274، 343، 394، 430، 431، 529، 531، 535، 536، 557، 558، 598، 602، 605، 609، 638، 639 "ج2" 6، 10، 14، 15، 30، 32، 61، 74، 75، 328، 329، 331، 335، 336، 378، 632 } 3" 181، 199، 373، 491، 518، 526 "ج4" 323 "ج5" 280، 327 449، 472، 278، 531 "ج6" 26، 392، 531، 614، 634، 345، 689، 718، 820 "ج7" 15، 17، 24، 26، 47، 63، 73، 75، 76، 227، 237، 269، 270، 277، 279، 281، 284

261، 216، 321، 334، 511، 521، 524، 560، 586، 598 "ج8" 51، 171، 302، 208، 298، 412، 440، 524، 546، 412، 440، 524، 546، 701، 702، 705 "ج9" 47، 350، 768 العرب "جزيرة" "ج1" 7، 9، 21، 26، 105، 107، 121، 126، 137، 139، 140، 142، 145، 147، 150، 153، 154، 156، 158، 160، 162، 164، 167، 171، 180، 183، 184، 186، 188، 190، 192، 201، 211، 213، 215، 217، 221، 226، 229، 231، 248، 251، 245، 256، 271، 273، 285، 286، 288، 289، 291، 293، 297، 298، 301، 305، 324، 328، 330، 350، 352، 360، 381، 614، 420، 421، 424، 425، 460، 431، 457، 459، 461، 477، 479، 481، 512، 514، 516، 527، 529، 531، 534، 536، 540، 542، 545، 549، 552، 559، 563، 565، 574، 576، 585، 608، 612، 618، 619، 624، 626، 629، 630، 637، 640، 652، 658 "ج2" 5، 14، 17، 19، 20، 32، 26، 28، 30، 32، 43، 44، 49، 52، 59، 60، 66، 67، 80، 113، 154، 155، 80، 113، 154، 155، 217، 242، 255، 258، 260، 262، 265، 266، 268، 278، 304، 329، 378، 381، 454، 491، 498، 501، 523، 530، 539، 549، 594، 601، 628، 631، 634، 639، 657 "ج3" 5، 6، 8، 9، 21، 22، 49، 147، 152، 153، 166، 172، 267، 301، 374، 449، 479، 491، 495، 506، 529 "ج4" 19، 29، 35، 36، 49، 69، 93، 114، 116، 119، 122، 123، 125، 152، 159، 162، 163، 170، 171، 178، 190، 200، 205، 206، 216، 219، 263، 269، 272، 276، 279، 284، 289، 391، 303، 305، 311، 312، 321، 323، 373، 374، 388، 397، 398، 475، 527، 539، 454، 548، 555، 567، 614، 628، 629، 654، 656، 668، 675، 678، 679 "ج5" 9، 10، 15، 22، 29، 31، 42، 46، 48، 58، 65، 69، 76، 100، 102 131، 162، 165، 166، 170، 175، 179، 185، 188، 192، 195، 200، 269، 274، 297

307، 309، 320، 336، 337، 336، 342، 386، 363، 364، 414، 421، 430، 432، 433، 451، 455، 470، 472، 477، 484، 499، 505، 526، 533، 548، 570، 590، 592، 624، 633 "ج6" 11، 13، 26، 28، 34، 37، 52، 53، 55، 81، 88، 117، 175، 220، 229، 264، 281، 300، 315، 317، 406، 409، 415، 424، 447، 458، 471، 481، 501، 508، 511، 516، 523، 5266، 531، 532، 537، 541، 549، 552، 557، 561، 565، 567، 579، 582، 568، 590، 594، 595، 598، 600، 602، 605، 606، 612، 620، 621، 626، 628، 628، 634، 642، 653، 657، 711، 740 "ج7" 6، 8، 12، 17، 19، 26، 32، 36، 38، 40، 43، 55، 57، 59، 62، 66، 86، 70، 72، 75، 77، 78، 82، 97، 106، 108، 110، 115، 123، 124، 130، 132، 133، 144، 150، 153، 158، 163، 165، 168، 171، 176، 178، 180، 182، 195، 197، 201، 207، 209، 213، 214، 227، 230، 232، 233، 236، 237، 242 244، 256، 258، 261، 263، 267، 269، 277، 279، 284، 285، 293، 296، 305، 318، 320، 321، 326، 331، 332، 334، 343، 369، 370، 373، 406، 422، 454، 457، 459، 468، 495، 582، 483، 486، 495، 507، 511، 512، 514، 522، 524، 528، 530، 532، 534، 535، 538، 543، 545، 546، 548، 553، 556، 561، 564، 570، 576، 583، 587، 596، 597، 599، 601، 602، 609، 616، 631 "ج8" 5، 9، 10، 22، 42، 50، 75، 59، 83، 87، 92، 106، 115، 124، 141، 142، 147، 153، 179، 180، 194، 196، 202، 204، 206، 211، 213، 271، 289، 294، 295، 297، 299، 322، 368، 387، 405، 422، 424، 440، 442، 443، 447، 478، 506، 507، 541، 546، 549، 560، 563، 564، 588، 593، 606، 628، 638، 640، 644، 645، 647، 653، 683، 680، 382، 387، 688، 691، 693، 701، 703، 712، 715، 722، 728، 775 "ج9" 28، 73، 91، 92

139، 215، 291، 292، 371، 426، 343، 437، 533، 543، 575، 576، 616، 617، 620، 654، 657، 671، 768، 789، 792، 839 عرب "عربم" "موضع" "ج2" 189، 293 العرب "شط" "ج1" 143، 164، 176 عربايا "موضع" "ج1" 625 "ج2" 611 العربة "وادي" "ج1" 19، 166، 456، 637، 648، "ج3" 161 "ج7" 361 "ج8"، حا 203 عربستان "منطقة" "ج1" 555 العربي "بحر، خليج" "ج1" 61، 140، 143، 145، 151، 157، 159، 162، 165، 166، 170، 183، 206، 237، 242، 248، 252، 352، 423، 427، 460، 553، 556، 560، 563، 567، 568، 624، 625 "ج2" 5، 12، 31، 44، 531، 601، 636، 638، 639 "ج3" 81، 134، 224، 453، 479 "ج4" 204، 322، 679 "ج5" 269 "ج6" 621،629 "ج7" 120، 122، 152، 180، 241، 252، 275، 265، 267، 271، 273، 277، 280، 281، 284 333، 374 "ج8" 153، 701 العربيه "دول" "ج5" 298 العربية "قرى" "ج8" 289، 343، 349 العربية "جنوبية، شمالية، شرقية، غربية، سعيد’، جزيرة، حجرية، صحراوية، صخرية" "ج1" 9، 15، 23، 24، 30، 44، 47، 51، 75، 60، 97، 98، 102، 104، 105، 108، 118، 122، 127، 128، 131، 132، 143، 137، 138، 142، 144، 162، 168، 170، 173، 178، 179، 183، 185، 190، 210، 211، 215، 219، 222، 227، 228، 235، 237، 246، 250، 251، 273، 279، 288، 297، 304، 325، 332، 341، 351، 352، 360، 389، 416، 420، 425، 426، 432، 437، 438، 453، 461، 478، 480، 482، 513، 520، 531، 533، 534، 559، 561، 568، 597، 615، 618، 624، 625، 631، 636، 648، 656 "ج2" 12، 15، 21، 26، 27، 31، 34، 61، 65، 67، 73، 120، 122، 123، 156، 163، 166، 172، حا 197، 200، 203، 211، 216، 217، 223

، حا 225، 226، 232، 242، 244، 246، 247، 260، 265، 268، 248، 287، 299، 315، 334، 336، 354، 357، 369، 370، 387، 383، 387، 399، 400، 417، 421، 424، 440، 441، 453، 455، 473، 481، 485، حا 491، 494، 405، 512، 516، 519، 524، 531، 534، 549، 550، 552، 553، 557، 560، 562، 586، 569، 571، 577، 579، 585، 589، 591، 608، 521، 631، 633، 652، 654، 656-657، 659، 660 "ج3" 6، 8، 10، 14، 20، 24، 40، 44، 49، 51، 53، 57، 59، 60، 62، 63، 65، 67، 70، 73، 81، 94، 96، 97، 104، 144، 162، 189، 190، 193، 219، 222، 330، 343، 350، 378، 381، 383، 384، 396، 399، 413، 440، 441، 449، 451، 454، 456، 477، 479، 483، 506، 517، 533 "ج4" 6، 9، 21، 71، 93، 113، 166، 123، 130، 143، 153، 170، 172، 174، 190، 234، 273، 174، 190، 234، 273، 276، 279، 281، 283، 284، 299، 304، 313، 316، 317، 321، 322، 326، 328، 343، 372 409، 412، 416، 422، 463، 471، 472، 586، 491، 527، 537، 539، حا 445، 550، 552، 554، 555، 628، 65، 678 "ج5" 9، 10، 13، 14، 19، 22، 99، 147، 148، 166، 175، 178، 182، 184، 189، 192، 194، 195، 197، 202، 205، 207-208، 212، 214، 219، 222، 226، 229، 231، 233، 241، 243، 246، 253، 262، 263، 271، 274، 272، 274، 278، 281-283، 292، 279، 289، 300، 301، 309، 315، 322، 324، 326، 329، 384، 399، 402، 404، 414، 415، 418، 438، 446، 448، 454، 463، 465، 472، 475، 476، 481، 487، 492، 505، 507، 526، 533، 571، 578، 587، 590، 597، 612، 613، 615، 617619، 624، 630 "ج6" 14، 15، 17، 28، 36، 37، 52، 57، 68، 72، 75، 120، 164، 166، 170، 175، 176، 186، 188، 200، 227، 286، 294، 295، 304، 306، 309، 312، 313، 317، 320، 336، 348، 374، 399، 405، 408، 413، 416، 421، 434

447، 453، 454، 513، 515، 530، 538، 541، 542، 555، 600، 608، 612، 615، 621، 626، 629، 688، 693-694 "ج7" 7، 10، 11، 14، 15، 21، 24، 26، 30، 32، 36، 37، 41، 44، 70، 75، 95، 155، 118، 122، 124، 126، 137، 141، 144، 155، 156، 171، 174، 176، 186، 194، 199، 201، 302-204، 212، 214، 215، 221، 224، 230، 231، 233، 235، 237، 239، 241، 244، 256، 258، 261، 262، 270، 275، 278، 281، 283، 285، 290، 305، 313، 333، 347، 363، 373، 375، 436، 455، 459، 469، 473، 475، 477، 478، 482، 483، 487، 491، 493، 495، 518، 523، 528، 561، 587، 598، 613 "ج8" 6، 10، 12، 16، 18، 24، 26، 28، 35، 36، 39، 40، 42، 43، 48، 52، 57، 64، 70، 71، 76، 80، 81، 85، 87، 92، 122، 155، 141، 154، 156، 175، 196، 209، 210، 213، 215، 218، 226، 229، 230، 275، 307، 355 381، 406، 414، 419، 423، 435، 437، 4388442، 443، 445، 446، 450، 452، 454، 459، 465، 478، 506، 509، 514، 518، 523، 535، 537، 538، 542، 546، 563، 576، 589، 591، 593، 608، 621، 627، 633، 636، 639، 644، 651، 659، 673، 679، 681، 683، 691، 692، 703، 705، 728 "ج9" 13، 21، 63، 73، 74، 77، 275، 291، 372، 374، 376، 403، 415، 425، 434، 437، 654، 656، 657، 673، 793 العرج "ج7" 338، 341، 353، 359، 360 "ج9" 243 عرش "أرض" "ج2" 519 "ج7" 363 عرفات جبل "ج7" 360 عرفة "جبل" "ج4" 46*54، 66، 268 "ج6" 353 "ج7" 362، 363، 380، 381 عرفجا "ج7" 233 عرق الظبية "موضع" "ج7" 354 عركنن "موضع" "ج2" 328 العرم "سد" "ج1" 319 "ج7" 346 عرماوية "حصن" "ج1" 160 عرمة "وادي" "ج1" 533 "ج5" 20 "ج7" 40، 177، 182

334- عرمن "سد" "ج2" 565 العرنيين "ج5" 586 عروة "بئر" "ج4" 131 عروس "وادي" "ج5" 450 "ج7" 209 عروشتن "موضع" "ج2" 429، 430، 525 العروض "أقليم" "ج1" 121، 167، 174، 177، 195، 209، 210، 251، 545، 562، 564، 613، 641 "ج2" 14، 17، 633 "ج6" 511 3"ج7" 156 "ج8" 204، 206، 651 عريبي "اريبي "مملكة" "ج1"7 43، 439، 443، 585، 586، 590، 591، 593، 601، 645، 650 "ج2" 88، 260، 287 "ج6" 235 "ج7" 273 العريض "ج7" 339 العرين "موضع" "ج8" 39 عزان "مدينة" "جذ3" 132 عزانيا "مدينة" "ج2" 511 "ج3" 450 عزور "مدينة" "ج7" 352، 356 "ج4" 281 عسفان "ج7" 338، 341، 351، 353، 356، 358، 360 عسقلان "ج1" 584، 590 عسمت "جبل" "ج2" 288 عسيب "جبل" "ج3" 37 "ج4" 247 عسير "منقطة" "ج1" 187، 192، 194، 430، 451، 615، 639 "ج2" 57، 368، 541 "ج3" 453، 455، حا 537 "ج4" 444، حا 679 } 7" 36 العسيلة "ج7" 377، 340، 521 عشار "وادي" "ج7" 520 عشر "ج2" 292 عشم "معدن، منجم" "ج7" 568 عصي "موضع" "ج7" 233 عصيون جابر "موضع" "ج1" 640، 641، 645 "ج8" 203 عطل "موضع" "ج9" 323 عفاريات "ج1" 458 عفراء "بئر" "ج4" 246 العفافة "موضع" "ج7" 344 العقارب "جبل" "ج2" 399 عقبان "موضع" "ج2" 297، 457 العقبة "خليج" "ج1" 19، 142، 143، 166، 167، 187، 306، 431، 456، 559، 586، 587، 612، 637، 586، 587، 612، 637 "ج2" 6، 65، 91، 606 "ج3" 50، 440 "ج5" 648 "ج6" 731 "ج7" 119، 278 "ج8"، حا 203 العقبة "مدينة" "ج4" 44، 137، 189- "ج7" 335، 340، 360، 479 عقبة "هضبة" "ج5" 20 عقبة، عقيبة "موضع" "ج2" 134 عقة "بناء "ج3" 402 عقرون "موضع" "ج1"، حا 590، 596 عقلة "موضع" "ج2" 131، 141، 157، 512

العقير "منطقة" "ج1" 175، 569 "ج2" 18 العقيق "وادي" "ج1"، حا 179، 194، 348، 458، 587 "ج4" 131 "ج5" 46 "ج6" 276، 523 "ج7" 40، 42، 149، 177، 178، 194، 344، 345، 354، 357، 508، 514 "ج8" 184، 194 العقيمة "ج7" 345 عكا "ج7" 344، 345 عكاظ "سوق" "ج1"، حا 167 "ج3" 212، 213، 375، 276 "ج4" 32، 68، 84، 101، 102، 104، 208، 252، 336، 364، 403، 411، 512، 517، 512، 528 "ج5" 7، 351، 358، 363، 369، 380، 382، 652، 654 "ج6" 214، 216، 323، 282، 774 "ج7" 318، 371، 375، 377، 385، 453، 538، 583 "ج8" 316، 350، 367، 476، 478، 587، 630، 647، 650، 659، 661، 785، 787 "ج9" 88، 91، 110، 116، 247، 448، 473، 474، 513، 515، 562 584، 585، 594، 744، 876، 898 عكبراء "مدينة" "ج2" 608، 641، 644 "ج4" 667 عكوتين "موضع" "ج2" 541، 542 العلا "منطقة" "ج1" 133، 168، 169187، 457، 582، 612، 638 "ج2" 77، 84، 92، 97، 106، 119، 120، 241، 242، 244 "ج3" 7، 20، 55، 51 "ج5" 275 "ج6" 316، 353، 368، 391، 369، 406، 418، 466، 467 "ج8" 172، 210، 211 العلاة "جبل" "ج4" 219 علان "موضع" "ج2" 156 علتقه "موضع" "ج1" 590 علقان "ج4" 448 العلكومة "ج7" 345 علم "معبد" "ج2" 145، 164، 482، 535 العلم الأبيض "مرتفع" "ج1" 539 العلم الأسود "مرتفع" "ج1" 539 علمان "جبل" "ج2" 424، "ج5" 21 عمائد "مدينة" "ج1" 131، 133، 141، 145، 149، 150، 156، 163، 171، 174، 177، 190، 195، 209، 215، 219، 227، 228، 295، 304، 305، 346

359، 367، 401، 407، 426، 432، 479، 495، 532، 540، 545، 546، 555، 558، 560، 561، 565، 568، 571، 638، "ج2" 21، 145، 159، 540، 634، 638، 647، "ج3" 11، 33، 37، 58، 59، 66، 86، 72-74، 168، 178، 223، 244، 248، 223، 346، 389، 405، 453 "ج4" 25، 129، 157، 200، 203، 245، 303، 322، 435، 438، 441-442، 485 "ج5" 240، 320، 33، 384 "ج6" 629، 66، 693 "ج7" 47، 83، 88، 238، 240، 250، 256، 257، 274، 283، 333، 363، 364، 371، 374، 376، 416، 527، 536 "ج8" 575، 727، 782 "ج9" 430، 533، 574-575، 655، 752، 868 عماية "ناحية" "ج1" 639 "ج7" 514 العمايد "موضع" "ج8" 48 عمد "وادي" "ج2" 162، 391، 394، 428 "عمران" "مدينة" "ج1" 126 "ج2" 576 "ج3" 487 "ج5" 278 عمرة "عمورة" "قرية" "ج1" 332، 333 العمشية "موضع" "ج7" 363 العمق "ج7" 338، 341، 353، 522 عمواس "مدينة" "ج8" 128 عمير اللصوص "موضع" "ج3" 303 عن أن "موضع" "ج2" 297 عنصاص "موضع" "ج5" 450 عهل "قناة" "ج2" 288 العوارض "موضع" "ج1" 326 "ج9" 812 العوالق "أرض" "ج2" 221، عوالق الأحور "ج2" 512 العوالق العليا "ج2" 292 "ج5" 25، 256 عوبال "موضع" "ج1" 429 العود "منطقة" "ج1" 427 "ج2" 289، 290، 298 العوذلة "موضع" "ج2" 222 العورة "ج7" 149 "ج9" 670 العوسجة "موضع" "ج7" 132، 316، 342، 514 عوفة "ج7" 364 عونيد "ج7" 350 العويفرة "موضع" "ج1" 180 عوينات علي "رأس" "ج1" 531، 534 عويند "موضع" "ج2" 48 عيزان "موضع" "ج2" 159 عيسان "موضع" "ج7" 519 العيصان "ج7" 345، 521 العيكتين "موضع" "ج9" 610 عيلام "أرض" "ج1" 591، 603 "ج2" 638 عيلان "قصر" "ج6" 796 العين "قصر" "ج8" 296

عين أباغ "ج3" 180، 209، 228، 233، 236، 237، 240، 259، 232، 377، 393، 413، 422، 439 "ج4" 204، 232، 470، 471، 502 عين تثج "ج7" 372 عين التمر "موضع" "ج2" 615، 650، 651 "ج3" 181، 183، 291، 293 "ج4" 207، 130، 235، 238، 530 "ج5" 288، 289، 367، 585 "ج6" 604، 605 "ج7" 333، 465 "ج8" 35، 110، 180 259، 296، 645 "ج9" 49، 291 عين الرهيمة "موضع" "ج3" 183 عين السبح "مدينة" "ج1" 239 عين شمس "مدينة" "ج1" 363 "ج8" 178 عين عودايا "ج3" 227 عين الغديان "موضع" "ج1" 637 "ج7"، حا 203 عين قرية "ج8" 208 عين قنا "موضع" "ج6" 631 عينم "عين" "موضع" "ج2" 428، 429 عينونة "موضع" "ج2" 28 "ج4" 224 عيهم "ج7" 521 العيون "ج4" 290، 485

الغين

الغين: الغائط "موضع" "ج1" 171 الغاف "ج7" 521 الفال "أقيلم" "ج1" 58 "ج3" 116 غامد "معبد" "ج6" 228، 422، 423 الغدير "نهر" "ج3" 416 غراب "حصن" "ج1" 126 "ج2" 160، 161، 291، 371، 594 "ج3" 460، 478 "ج5" 278 "ج7" 174، 358 الغرابات "موضع" "ج7" 346 غرابة "ج4"217 الغراز "موضع" 395، 397 غران "ج7" 358 الغرس "وادي" "ج7" 41، 193

الغريين "قصر" "ج3" 236، 238، 284، 301 غزة "مدينة" "ج1" 441، 584589، 596، 623، 624 "ج2" 8، 10، 21، 22، 92، 93، 224، 501، 506، 563 "ج3" 5، 20، 25 "ج4" 67، 80، 114، 117، 244 "ج5" 308 "ج6" 480، 516 "ج7" 236، 292، 302313، 348 عزوان "جبل" "ج4" 142 الغزيز "ج7" 344 الغساسنة "دولة" "ج2" 605 "ج4" 19 غضرن "موضع" "ج2" 330، 450 غفار "ج7" 355 غفر "ج2" 407، 415 غلاطية "مدنية" "ج1" 19، 641، "ج3" 99، 117 علافقة "ج7" 364 غلفل "ج7" 345 غليل ضجنان "ج7" 358 غمدان "قصر" "ج1" 169، حا 202 "ج2" 371، 421، 439، 442، 444، 453، 495، 517، 539، 572، 581، "ج3" 482، 500، 502، 526، 531، 532 "ج4" 72، 78، 99 "ج5" 16، 54، 122، 215 "ج6" 25، 264، 446، 723 "ج7" 517 "ج8" 8، 27، 34، 37، 511، 512 غمار "موضع" "منطقة" "ج1" 389 "ج3" 382 "ج6" 235، 417 "ج7" 139، 192، 198، 328، 343 "ج9" 411 غمرة "موضع" "ج7" 340، 341، 343 غميس الحمام "ج7" 354 الغميصاء "بئر" "ج4" 266 الغميم "ج7" 235 غنيم "جبل" "ج1" 133 غوافة "موضع" "ج3" 57 الغور "ج7" 85، 347، 539 الغور الأقصى "ج3" 423 الغورة "ج4" 117 "ج6" 89 غول "موضع" "ج9" 527 غوي "وادي" "ج4" 261 غيبون "ج2" 1643 الغيثانة "ج7" 353 الغير "ج3" 181 غيظة "موضع" "ج2" 382 الفيل الأسود "ج7" 176 غيل الخارد "ج2" 50، 201، 202، 232 غيلان "موضع" "ج2" 186، 205، 232، 322، 581 غيمان "موضع" "ج2" 55، 339، 340، 437، 438، 465، 572 "ج3" 475 "ج5" 13، 15، 21، 22 "ج6" 437

الفاء

الفاء: فاران "برية" "ج1" 27، 432 فارس "دولة" "ج1" 69، 77، 118، 177، 273، 340، 341، 496، 624 "ج2" 12، 14، 648 "ج3" 141، 167، 180، 186، 269، 206، 310، 335، 336، 398، 442 "ج4" 11، 70، 177، 197، 205، 223، 225، 228، 231، 302، 485، 530، 543 "ج6" 526، 622، 692 "ج7" 280، 281، 286، 295، 336، 373، 375، 541، 599 "ج8" 86، 95، 198، 320، 347، 381-382، 385، 705 "ج6" 116، 175، 182، 215، 342، 533، 568، 752، 838 الفارسي "خليج" "ج1" 140، 180، 427 "ج4" 205 الفارسية "أمبراطورية" "ج3" 35، 174، 192 فاطمة "وادي" "ج1" 163 الفالوجة "موضع" "ج8" 721 فامية "مدينة" "ج3" 221، 223 الفأو "قرية" "ج1" 178-179، 539 "ج2" 115 "ج8" 207-208، 678 فترم "ج2" 297 الفتق "ج7" 361، 363 فج بني تميم "ج4" 204 فج الروحاء "ج7" 345 الفجار "بلد" "ج6" 214 فخذ علو "ج2" 290 فدك "مدينة" "ج1" 614، 616، 716 "ج3" 261، 262 "ج4" 83، 264 "ج5" 517 "ج7" 41، 142 "ج8" 115 الفرات، "نهر" "ج1" 18، 35، 51، 53، 50، 132، 143، 238، 259، 156-157، 297، 420، 431، 456، 461، 507، 545، 547، 549، 551، 560، 564، 567، 589، 631

651، 657، 659 "ج2" 7، 11، 20، 33، 41، 68، 604، 606، 607، 615، 618، 627، 625، 642، حا 650، 651 "ج3" 16، 81، 84، 87، 64، 103، 104، 110، 111، 113، 122، 128، 131، 136، 138، 140، 143، 157، 158، 160، 166، 168، 173، 174، 177، 182، 208، 215، 221، 229، 259، 292، 300، 303، 336، 337، 349، 415، 435، 466، 479 "ج4" 169، 231، 291، 471، 472، 475، 499 "ج6" 95، 600، 626، 676، 720 "ج7" 160، 178، 221، 253، 332 "ج8" 296، 626، 630، 680، 721 "ج9" 81، 291، 475، 527، 541، 798 الفراتية "جزيرة" "ج1" 491 الفراس "موضع" "ج8" 40 فران "ج7" 522 فرانكفورت "ج6"، حا 265 فرزان "جزيرة" "ج1" 540 فرسان "جزيرة" "ج1" 187 "ج7" 123، 274 فرضة "نعم "موضع" "ج2" 579 الفرع "ناحية" "ج4" 260، 265 "ج7" 34، 350، 351، 375، 515، 522 فرعة "موضع" "ج2" 297 فرق "ج7" 364 فرنسا "دولة" "ج9" 617 فروق "وادي" "ج1" 174 فريجية "مدينة" "د3" 99 فصوص البقران "موضع" "ج1" 196 الفضا "قصر "ج3" 420 الفقي "موضع" "ج1" 180 "ج7" 344، 345 الفلالد "موضع" "ج2" 650 الفلج "موضع" "ج2" 51 "ج4" 522 "ج5" 364 "ج7" 335، 342، 344، 345 "ج9" 848 فلسطين "بلد" "ج1" 35، 53، 54، 143، 163، 167، 200، 206، 238، 244، 245، 247، 248، 250، 252، 262، 271، 273، 347، 351، 352، 435، 437، 440، 445، 455، 457، 458، 530، 532، 534، 535، 580، 568، 590، 596، 600، 608، 610، 618، 632، 624، 622، 36، 632، 634، 137، 643، 645، 648، 649، 651، 652، 657، 658، 661 "ج2" 16، 27، 39، 44، 93، 120، 122، 264، 501، 655، 656، 658، 659 "ج3" 659 "ج3" 8، 15، 32، 50، 67، 86، 71، 72، 95

108، 110، 126، 143، 176، 222، 324، 343، 349، 350، 383، 386، 393، 396، 397، 402، 405، 411، 440، 474، 492، 493 "ج4" 13، 64، 141، 143، 170، 174، 176، 178، 244، 246، 364 "ج5" 16، 186، 453 "ج6" 11، 408، 511، 513، 516، 518، 522، 524، 526، 528، 531، 538، 541، 552، 558، 559، 620 "ج7" 40، 108، 116، 233، 241، 285، 314، 349، 417، 479، 494، 518 "ج8" 9، 148، 420، 432 الفلسطنينة "الأرض" "ج1" 127 فنط "أرض" "ج1" 236 الفنق "ج7" 378 فنن "موضع" "ج2" 293 فنياذ أردشير "ج2" 634 الفوارة "ج7" 347 فوط "ج1"، حا 236 "ج7" 273 فولوغيسية "مدينة" "ج3" 133 فومبديثة "منطقة" "ج1" 657، 660، 441 "ج3" 75، 176 فيد "ج4" 208، 222، 224، 454 "ج5" 267، 269، 270، 391 "ج6" 278 "ج7" 148، 150، 337، 340، 342، 347 فيروز شابور "ج2" 644 "ج3" 174، 175 فيشان "ج2" 270، 295، 371، 375 فيشون "نهر" "ج1" 245، 431 فليد "متحف" "ج1" 227 فيلكا "جزيرة" "ج1"، حا 531، 542، 543، 571 "ج2" 30، 33 "ج7" 304 "ج8" 70، 71، 85، 86 فيليبوبولس "مدينة" "ج3" 9 فينا "متحف" "ج1" 130 فينيقية "دولة" "ج1" 454، 566 "ج2" 6، 45 567، 590، 623، "ج3" 20، 39، 128 "ج3" 222، 222، 343، 350، 369، 397، 440 "ج7" 495

القاف

القاف: القابل "ج3" 535، 537 القاحة "الفاجة" "ج7" 353، 359 القادسية "مدينة" "ج3" 273 "ج4" 225، 228، 230، 453 "ج5" 225 حا 284 "ج7" 181، 336، 430 قادش "منطقة" "ج1" 27، 609 قارات حوق "ج3" 411 قارة "موضع" "ج1" 172، 173، 177 "ج4" 45، 46، 294، 478 قارع "حصن" "ج9" 736 القاع "مدينة" "ج2" 375 "ج7" 335، 336، 340، 352 القاهرة "مدينة" "ج1"، حا10، 15، حا 52، حا 62، حا 98، حا 101، حا 111، حا 117، حا 181، حا 314، حا 317، حا 320، حا 329، حا 355، حا 382، حا 469، حا 487، "ج2"، حا 75، حا 87، حا 98، حا 306، حا 354، حا 370، حا 491، حا 515، حا 633 "ج3"، حا 11، حا 13، حا 252، حا 261، حا 273، حا 304، حا 351، حا 360، حا 361، حا388، حا392، حا426، 427، حا429، حا499، حا500، حا537 "ج4"، حا 136، حا235، حا388، حا444، حا475، حا490، حا498، حا674 "ج7" 122، حا 178، 179، حا398، حا580، حا590، حا597 "ج8"، حا 135، 136، حا154، حا156، حا182، حا191، حا209، حا211، حا249، حا261، حا270، حا299، حا340، حا354، حا360، 361، حا404، حا435، حا455، حا487، حا615، 617، حا696 "ج9"، حا 35، 36، حا40

، حا 90، حا 301، حا 313، حا 410، حا 541، حا 476، حا 507، 641، 757، حا 766، 854، حا 858، حا 882، حا 882، قبا "ج7" 342 قباء "ج7" 354 القباب "جزيرة" "ج2" 64 قبرس "دولة" "ج2" 7 "ج8" 148، 149 القبيلة "ج7" 522 قتاب "سد" "ج7" 212 قتبان "مملكة" "ج1" 47، 133 "ج2" 58، 62، 73، 69، 79، 102، 103، 125، 128، 132، 141، 149، 150، 168، 171، 183، 185، 198، 200، 203، 205، 207، 209، 212، 222، 224، 225، 230، 233، 235، 236، 283، 240، 283، 300-302، 316، 320، 343، 360، 368، 372، 373، 375، 405، 407، 417، 418، 424، 429، 440، 467، 469، 471، 471، 498، 501-504، 506، 516، 519، 522، 525 "ج4" 553، 554 "ج5" 204، 307، 313، 374، 282-583 "ج6" 172-173، 176، 212، 215، 298، 300، 304، 313، 333 "ج7" 212، 231، 232، 477 "ج8" 47، 57، 66، 74 81، 477، 453، 514، 686 القتبانية "مملكة" "ج5" 474، 480 قتروعد "ج2" 377 قدابأ "مملكة" "ج1" 595 قدم "جبل" "ج2" 54، 293 القدموني "بحر" "ج1" 30 قدوم "ج7" 201 قديد "ج4" 266 "ج5" 535 "ج6" 247 "ج7" 338، 341، 351، 353، 356، 358، 360 القرى "وادي" "ج1" 161، 162، 168، 169، 323، 324، 659، 661 "ج3" 55، 424 "ج4" 146، 150، حا 245، 246، 255، 261، 263، 264، 340، 431، 513 "ج5" 12، 13، 18، 112، 236 "ج6" 79، 255، 513، 516، 517، 547، 532، 549، 567، 901، 647، 653 "ج7" 10، 40، 41، 148، 181، 184، 195، 333، 344، 349، 515 "ج8" 111، 115، 294، 289، 844 القرار "ج4" 272، 272 قرارة الكدر "ج7" 339 القرايط "ج7" 99 قران "ج4" 213 "ج7" 40، 272 قرة "مدينة" "ج3" 303 قرح "مدينة" "ج1" 158-159

169 القرحاء "موضع" "ج2" 50، 414 القردة "ج4" 224، "ج7" 148، 340، 347 قرضان "موضع" "ج2" 491 قرطاجة "مدينة" "ج6" 223 القرظ "ج3" 358 "ج7" 537 القرعاء "ج7" 333، 336، 340 قرقر "مدينة" "ج1" 575، 576 "ج3" 293 قرقري "مدينة" "ج9" 883 قوقل "ج4" 362 قرقيسياء "منطقة" "ج3" 104، 175، 181، 216، 272، 340 قرمسين "مدينة" "ج1"، حا 17 القرن "قرنة" "مدينة" "ج2" 75، 83، 87، 89، 60، 69، 98، 119، 138، 139، 141، 208 "ج7" 235 "ج8" 38 قرن المنازل "موضع" "ج7" 361، 363 قرنهن "ج2" 429، 430، 524 قريب "ج2" 435 القرية "موضع" "ج1" 539 "ج2" 380، 382 "ج3" 57، 399، 453 "ج4" 216 "ج7" 333، 515 "ج8" 674، 676، 678 القريتان "موضع" "ج2" 544 "ج3" 62 "ج7" 333، 342، 344، 347 قريس "ج2" 435 القريض "وادي" "ج6" 75 قزح "جبل" "ج6" 384 قزوين "بحر" "ج1" 199، 230 فساس "ج7" 516، 519، 521، الفسطنطينية "مدينة" "ج2" 576، 626، 628، 632، 652، 654، 659 "ج3" 59، 60، 70، 166، 337، 361، 370، 372، 384، 385، 403، 429، 431، 474، 501 "ج4" 68، 165، 174، 175 "ج5" 320، 327 "ج6" 561، 592، 613، 614، 625، 627، 630، 631، 663 "ج8" 312 "ج9" 520 القسي "قرية" "ج7" 603 القشراء "ج7" 513 قشم "جزيرة" "ج1" 561 "ج3" 318 القصة "ج7" 362 قصر ابن ثامر "ج3" 537 القصر الأبيض "قصر" "ج3" 264، 301، 357، 404 "ج5" 213 "ج8" 683 "ج9" 220، 252، 290، 342، 373 قصر البنات "موضع" "ج2" 35، 140، "ج8" 202 قصعان "سد" "ج7" 212 القصيم "منطقة" "ج1" 161، 273، 437 "ج2" 51 "ج7" 347

الفضيب "وادي" "ج2" 218 "ج6" 822 القطار "موضع" "ج3" 137 القطامي "وادي" "ج1" 597 قطبة "منطقة" "ج1" 579 قطر "بلد" "ج1" 174، 195، 531، 534، 540، 545، 571، 572 "ج4" 485 "ج6" 621، 629 "ج7" 44، 114، 333، 601 "ج7" 332 القطقطانة "مدينة" "ج1" 425، 560 "ج2" 18 "ج7" 347 قطن "جبل" "ج4" 222 قطنتن "ج2" 296 القطنية "موضع" "ج1" 427 قطورة "منطقة" "ج1" 482 "ج4" 440 القطيف "مدينة" "ج1" 175، 176، 424، 533 "ج2" 88، 550، 551 "ج4" 205، 210، 485 "ج8" 205، 206 قعطبة "ج2" 428 القعقاع "طريق" "ج7" 235، 346 القعور "منطقة" "ج1" 153 القعيطي "موضع" "ج2" 164 قيعقعان "ج1" 7، 8، 13 "ج6" 440، 699 القف "ناحية" "ج7" 335 قفادوقية "مدنية" "ج3" 117 القفاعة "مدينة" "ج1" 92 "ج7" 568 فقط "فقطس" "ج2" 46، 47 فلت "حصن" "ج1" 133، 134 "ج7" 346 الفلزم "بحر" "ج1" 141، 157، 170 "ج2" 531، 657 "ج4" 170 "ج7" 278، 281 قلعة البحرين "تل" "ج1" 571 "ج7" 516 قلعة جعبر "ج3" 303 قلعة الحصن "ج3" 65 قلهات "مدينة" "ج4" 203 "ج4" 203 القلوفي "ج7" 333 قلي "موضع" "ج2" 188، 190 القليس "كنيسة" "ج3" 500، 502 "ج6" 619 "ج7" 36 "ج8" 42 قمران "جزيرة" "ج8" 195 القموص "حصن" "ج4" 64، قنا "قانة كنا" "ميناء" "ج2" 35، 64، 133، 135، 145، 160، 161، 374، 376، 512، 518، 520، 531 "ج3" 36، 479، 480 "ج5" 449، 463 "د6" 523 "ج7" 274 "ج8" 202 قناة "ج7" 42، 149، 178، 208، 356، 363 قنسرين "منطقة" "ج1" 51، 651 "ج2" 623 "ج3" 222، 227، 233، 234، 293، 393، 401،

465 "ج4" 239، 242 "ج6" 593 "ج8" 176 "ج9" 428 قنص "موضع" "ج3" 167 قنطرة الفيوم "ج3" 337 القنفذة "منطقة" "ج1"، حا 187، 192 "ج7" 334، 512، 513 قنوات "ج3" 62، 69 قهوان "جبل" "ج7" 83 قوران "وادي" "ج7" 162 القوس "حرة" "ج1" 48 "ج3" 84 قوماجين "موضع" "ج3" 135، 221 قيادوقية "ج3" 99 قيدار "ج1" 351، 352 قير حارسة "ج3" 64 قير موآب "ج3" 64 قيصر فريدرش ويلهم "متحف" "ج3" 194 قيعان "ج4" 205 قيف رشم "موضع" "ج2" 466 قيفة "ج7" 209 قيل "طريق" "ج4" 208

الكاف

الكاف: الكابيتول "مدينة" "ج3" 126 كاراكس "ج2" 20، 65 كارون "نهر" "ج1" 431 كاظمة "مدينة" "ج1" 177 "ج2" 638، 648 "ج3" 373، 499 "ج4" 212، 213، 471، 485 "ج7" 42، 198، 323، 335 "ج8" 383 كافر "نهر" "ج3" 159، 243 كبدوم "موضع" "ج2" 339، 398 كبكب "ج7" 380 كتنة "كثبة" "مدينة" "ج1" 171 "ج7" 362، 363 كثيري "ج2" 164 كحد "ج2" 261، 292، 298، 502 كحلان "ج2" 212، 222، 224 كدار "الكدر" "ج2" 294، 297 "ج3" 485 "ج5" 339 الكدراء "ج7" 363 الكديد "ج4" 266 "ج5" 364 "ج7" 359

كرا "ج7" 358، 361، 363 كروديس "ج1" 561 الكرك "ج3" 64 كرمان "مدينة" "ج2" 633، 618، 640 "ج4" 510 كرمل "جبل" "ج1" 171 الكريتر "موضع" "ج2" 62 كسباو "ج2" 574 الكسر "وادي" "ج2" 372 كسكر "ج2" 649 الكسوة "طريق" "ج7" 348 كشد "موضع" "ج2" 145 كشر "جبل" "ج4" 184 كصر كريم "ج1" 161 كعاب "اللوذ "موضع" "ج2" 118 "ج5" 20 الكعبة "بناء مقدس" "ج1" 360، 361، 401 "ج2" 515، 531، 576، 578، 584، 585 "ج3" 272، 321، 500، 503، 508، 510، 513، 516، 520، 537 "ج4" 7، 12، 15، 1714، 29، 38، 41، 43، 45، 47، 51، 53، 54، 56، 59، 60، 62، 63، 76، 77، 80، 87، 88، 90، 95، 79، 105، 107، 110، 11، 118، 122، 126، 127، 143، 247، 329، 377، 381، 382، 384، 441، 517، 382، 531، 564، 576، 565، 662، 670 "ج5" 248، 286، 513، 520، 555، 567، 606، 613، 648 "ج6" 68، 71، 82، 83، 114، 124، 127، 171، 192، 193، 196، 220، 223، 228، 231، 232، 237، 239، 241، 242، 247، 251، 253، 266، 267، 271، 228، 336، 340، 343، 335، 356، 358، 360، 363، 364، 366، 373، 387، 389، 400، 402، حا 404، 407، 408، 411، 413، 415، 421، 423، 425، 428، 429، 431، 445، 447، 471، 473، 475، 486، 505، 590، 607، 616، 667، 733، 734، 779، 780، 782 "ج7" 15، 193، 266، 273، 283، 322، 436، 451، 547، 565 "ج8" 50، 83، 84، 88، 131، 268، 305، 308، 435، 476، 480، 521، 571، 577، 583، 631، 633، 636، 790 "ج9" 141، 252، 254، 279، 281، 506، 507، 511، 513، 515، 517، 562، 581، 590، 703، 709، 715 كعبة نجران "ج8" 512 كعبة اليمامة "ج4" 445 كعبة العرفج "ج7" 335 كفر أبيل "ج3" 65 الكفير "ج7" 343 الكلأ "سوق" "ج7"، حا 254 الكلابة "ج7" 349 كلدو "أرض" "ج1" 576

كلدية "بطائح" "ج1" 165 "ج8" 146 كلمد "موضع" "ج2" 64، 262 كلواذي "ج2" 650 كلوة "ج1" 532، 533 "ج5" 11 كليزما "القلزم" "ميناء" "ج2" 657 كمنة "مدينة" "ج2" 53، 75، 106، 108، 118، 193 الكمين "بناء" "ج3" 304 كنة "بناء" "ج2" 64، 262 "ج3" 379 كندية "مملكة" "ج3" 316، 378 كنعان "ج1" 412، 436، 604 كنين، كنن "موضع" "ج2" 494 كهالة "مدينة" "ج7" 363 الكهف "موضع" "ج3" 72، 73 كهلان "ج2" 208 "ج6" 263 كهلم "سد" "ج2" 284 الكواثل "ج4" 233 الكواظم "ج2" 648 كوتنكن، غوتنكن "مدينة" "ج1"، حا525 "ج4"، حا 157 كوثي ريا "موضع" "ج3" 13 كورة تدمر "موضع" "ج3" 136 كورنتوس "مدينة" "ج3"، حا 44 "ج6"، حا 585 كوريس "نهر" "ج1" 158، 622 كوش "ج1"، حا 557، 559 "ج4" 25 الكوفة "مدينة" "ج1" 80، حا 87، 1455، 249، 402، 415 "ج2" 655 "ج3"، حا155، 157، 158، 182، حا 200، 241، 229، 237، 267، 273، 293، 298، 303 305، 312، 344، 353، 364، 386 "ج4" 191، 199، 208، 223، 225، 227، 232، 238، 453، 557، 569 "ج5" 74، 256، 297، 318، 367، 465، 589 "ج6" 23، 99، 146، 417، 589، 600، 632 "ج7" 223، 335، 340، 341، 343، 344، 346، 347، حا 555، 262 "ج8" 8، 88، 140، 158، 171، 172، 289، 302، 352، 360، 568، 587، 590، 666، 669، 687، 688، 737 "ج9" 21، 30، 32، 34، 57، 1465، 177، 213، 223، 226، 228، 230، 236، 245، 252، 255، 257، 263، 284، 290، 291، 293، 295، 299، 301، 303، 312، 317، 321، 324، 327، 363، 401، 547، 553، 557، 676، 684، 840، 842، 874، 888 كوكب "كوكبان" "موضع" "ج1" 542 "ج2" 424، 550، 551 "ج5" 13 "ج6" 238 "ج7" 179، 344، 345، 521 "ج8" 210 كومان "ج7" 209 كومنان "موضع" "ج2" 477

الكويت "بلد" "ج1"، حا 14، حا16، حا 20، 44، 176، 177، 195، 273، حا 294، 295، حا 379، حا 531، حا 542، 571، 576 "ج2" 31، 33 "ج3"، حا 452، حا 483، 497، 498 "ج4" 304، حا 354، حا 559، 561، حا 613، حا 682 "ج5"، حا 6، 6، حا 8، حا 444، حا 102، حا 127، حا 127، حا 207، حا 428، حا 439 457، حا 563، حا 590 "ج6"، حا 702 "ج7"، حا 231، حا 428، حا 495،حا "ج8" 70، 85، 87، حا 138، 205، حا 488، 497، حا 500، حا 502، 503 "ج9"، حا 52، حا 197، حا 203، حا 282، حا 293، حا 546 كيبيوس "خليج" "ج1" 176 كيش "مدينة" "ج1" 227، 556 كينا "دولة" "ج1" 532

اللام

اللام: اللاذقية "مدينة" "ج8" 148 لار "نهر" "ج1" 159 لاريسا "مدنية" "ج2" 30 لاشوم "ج3" 284 لايبزك "مدينة" "ج1"، حا 322 "ج4"، حا 14، حا 100 "ج6"، حا 189، حا 230، حا 239، حا 267، حا 386، حا 488، حا 658، حا "ج8"، حا 455 لايدن "مدينة" "ج1" 487 اللبان "جبل" "ج7" 274 لبة "ج2" 54، 119 لبخ "موضع" "ج2" 201، 203، 232 لبن "حرة" "ج1" 148 لبنان "دولة" "ج1" 247، 567 "ج2" 38، 623، 653 "ج3" 222، 439، 440 "ج6" 25، "ج8" 146 "ج9" 132 لبنة "وادي" "ج2" 291، 518 "ج5" 449، 463

لبينة "ماء" "ج7" 196 لتك "ج2" 188، 232 اللثق "دير" "ج9" 453، 794 اللجاة "اللجاء" "مدينة" "ج1" 146، 297، 420، 443، 631 "ج3" 7، 9، 38، 39، 61، 145، 454، 412 لجاتم "ج2" 288 اللجون "ج3" 71 لجيأة "مدينة" "ج1" 288، 298 لحج "ج2" 379، 517 "ج7" 212، 364 لحيان "مملكة" "ج2" 50، 106، 121 "ج5" 213، 322 اللحية "مدينة" "د1"، حا 188، 195 "ج7" 179 اللخمية "حكومة" "ج1" 249 اللد "ج3" 31، 36 لقبق "ج2" 54 لقمح "لقاح" "ج2" 427 لقدمونيا "ج5" 481 لقظ "معبد" "ج2" 427 "ج7" 522 لقف "ماء" "ج7" 162 لقه "سوق" "ج6" 84 لكش "مدينة" "ج1" 557 لكيز "موضع" "ج9" 504 لمس "قلعة" "ج2" 466 لندن "مدينة" "ج1"، حا 68، حا 307، حا 318 "ج3"، حا 376، 532، حا 536 "ج5"، حا 539 "ج6"، حا 110 "ج9"، حا 337، حا 668، حا 740، حا 779 اللوي "ج7" 335 لوابة "ج4" 268 اللوذ "جبل" "ج5" 11 لوزة "ج7" 364 لوسه "ج3" 32 لوط "بحر" "ج3ط 24، 67 لوق "موضع" "ج2" 54، 119 لويكه كومه "مدينة" "ج1" 161 "ج2" 27، 28، 44، 47، 49، 51، 249، 253، 453 "ج7" 272 ليبيا "ج3" 126 ليبياس "ج3" 32 لية "وادي" "ج4" 142 الليث "وادي" "ج1" 167 "ج2" 543 ليدن "مدينة" "ج1"، حا 105، حا 362 ليك كوم "مدينة" "ج8ط 653 ليلى "حرة" "ج1"، حا 167 "ج4" 246 لينة "ج7" 335

الميم

الميم: ماء سماء "سد" "ج7" 208 مؤاب "مملكة" "ج1" 596، 601، 602، 605 "ج4" 242 "ج6" 781 مؤته "ج3" 871 "ج3" 435 "ج4" 242 مأتم "موضع" "ج2" 322 ماتواربي "موضع" "ج1" 652 مأجل "موضع" "ج2" 536 الماجلية "ج7" 363 مأدبا "مدينة" "ج3" 24، 23، 34، 59، 66، 67 مأن "مدينة" "ج2" 494 مأرب "سد" "ج1" 50، 75، 129، 246، 189، 215، 268، 319 "ج2" 258، 281، 284، 285، 306، 316، 320، 328، 330، 402، 425، 522، 526، 567، 579، 581، 658 "ج3" 407، 411، 425، 438، 485، 494 "ج4" 429 "ج5" 276، 328، 454 "ج6" 115، 539، 651، 770 "ج7" 73، 179، 201، 202، 209، 210، 470، 578 "ج8" 24، 37، 369، 419 "ج9" 151، 579، 686 مأرب "قصر" "ج8" 512 مأرب "قصر" "ج1" 117، 126، 128، 130، 133، 171، 195، 319، 348، 363، 386، 490، 532 "ج2" 54، 56، 57، 76، 215، 231، 260، 270، 272، 273، 282، 285، 302، 304، 338، 340، 343، 346، 360، 366، 371، 374، 383، 384، 396، 401، 411، 431، 419، 451، 453، 468، 469، 475، 480، 481، 484، 485، 489، 491، 494، 520، 522، 524، 525، 537، 538، 540، 541، 546، 547، 556، 560، 562، 567، 574، 581 "ج3" 317، 407، 456، 470، 480، 485، 486

488، 489، 500، 502، 503، 531 "ج4" 129، 192، 202، حا 423، 439، 505 "ج5" 12، 13، 20، 21، 162، 232، 328، 363، 614، 626 "ج6" 279، 400، 415، 434، 619 "ج7" 247، 306، 364، 384، 522 "ج8" 12، 38، 39، 42، 44، 48، 53، 45، 72، 420، 511 "ج9" 262، 572، 574 مارد "قصر" "ج3" 106 "ج4" 236 "ج6" 579 "ج7" 372 "ج8" 512 مازن "قصر" "ج2" 649 مازون "بلد" "ج8" 702 مأسل الجمع "وادي" "ج2" 511، 572، 573، 575 "ج3" 379 ماش "صحراء" "ج1" 298، 423، 639 مأكن "أرض" "ج1" 598 "ج2" 7، 14 ملابار "مدينة" "ج2" 59 "ج7" 269 المالح "بحر" "ج1" 141، 576 مالي "مدينة" "ج2" 6083 مأملة "ج2" 171 ماوان "مأون" "موضع" "ج2" 89، 404 "ج7" 337، 341، 521، 522 ماودن "ج2" 288 ماوية "حصن" "ج2" 161، 290 "ج3" 395، 460، 475، 476، 478 "ج7" 341، 343 مبايض "ج7" 355 مبلقت "وادي" "ج2" 151، 188، 192 "ج6" 405 "ج8" 420 متاب "معبد" "ج3" 70 مثبتم "ج2" 294 مثقب "طريق" "ج7" 346 مثوب "ج3" 526 مجاج "مدينة" "ج7" 353 المجازة "موضع" "ج3" 104 "ج7" 355، 345 مجان "منطقة" "ج1" 556، 559، 561، 563، 569 "ج2" 20 مجزاة جد "ج6" 310 مجزاة "مجزع" "مدينة" "ج2" 53 مجزرة "مدينة" "ج2" 53 مجلاني "مملكة" "ج1" 594 مجمع الأودية "ج7" 334 مجمعة ترج "ج7" 364 مجنة "سوق" "ج6" 353 "ج7" 357، 371، 380، 382، 385 "ج8" 478، 661 مجونة "موضع" "ج2" 661 مجيمنة "منطقة" "ج3" 381 "ج4" 197 "ج5" 282 "ج7" 151

محارب "قصر" "ج3" 419 المحبس "ج2ط 438 المحجة "ج7" 344، 358، 363، 522 المحدثة "ج7" 348 المحرق "جزيرة" "ج2" 19 "ج3" 188، 197 محرم "وادي" "ج8" 592 محفد حضر "ج2" 215، 220 المخفف "ج3" 398 محلم "موضع" "ج1" 177، 181 "ج4" 212 "ج7" 163، 271 المحمرة "مدينة" "ج2" 12، 20 محميان "ج2" 297 مخا "ميناء" "ج2" 29، 64، 428511، 596 "ج3" 380، 457، 471، 480 "ج7" 273، 276، 280 المخارم "ج7" 335 مختن الملك "معبد" "ج2" 190 مخضن "ج2" 300 مخطران بني محبد "ج7" 364 مخلاف حكم "ج7" 364 ملاف خولان "ج2" 401 مخلاف الركب "ج7" 364 مخلا زبيد "ج7" 364 مخلاف عك "ج7" 364 المخلفة "ج7" 513 مخمسة "ج7" 345 المخنق "ج7" 363 مخيض "ج7" 358 مخيلة "ج6" 377 مدائن الزباء "موضع" "ج3" 132 مدائن صالح "منطقة" "ج1" 133، 326، 329، 532 "ج2" 20، 48، 241، 647 "ج3" 13، 43، 45، 55، 49، 95، 98، 268، 270، 290، 336، حا 344، 524 "ج4" 628 "ج5" 213، 462 "ج6" 288، 317، 330، 331 "ج7" 283، 305 "ج8" 175 مداث "موضع" "ج5" 11 مدان "موضع" "ج1" 446 المدراس "موضع" "ج3" 33 المدرج "جبل" "ج2" 56 مدلحة تعهن "ج7" 353 المديدان "ج7" 334 مديم "مدينة" "ج1" 445 مدين "مملكة" "ج1" 27، 162، 167، 194، 199، 245، 453، 456، 559، 574، 582، 587، 639 "ج2" 48، 89، 91، 94، 98، 101، 138، 597، 658 "ج3" 15 "ج6" 233، 558، 647، 781 "ج7" 235، 236، 349 "ج8" 159، 165، 168، 194، 271 المدينة المنورة "مدينة "ج1" 10، 81، 125، 168، 193، 210، 215، 249، 273، 309، 415، 420، 458، 471، 483، 485، 631 "ج2" 48، 51، 99، 515

628، 639 "ج "3"، حا 155 "ج4" 12، 46، 130، 261، 298 "ج5" 112، 143، حا 364، 483 "ج6" 246، 247، 504، 510، 517، 519، 525، 548، 549، 564، 588، 506، 757 "ج7" 21، 22، 28، 40، 42، 58، 60، 91، 144، 148، 149، 175، 178، 181، 193، 194، 201، 219، 220، 222، 272، 281، 296، 309، 311، 313، 314، 337، 340، 343، 346، 347، 349، 350، 352، 354، 360، 376، 408، 428، 429، 480، 510، 513، 521، 522، 541، 547، 557، 620، 621، 630، 632، 636 "ج8" 31، 60، 125، 133، 135، 156، 168، 188، 194، 196، 210، 249، 275، 292، 295، 298، 301، 311، 331، 332، 342، 346، 348، 375، 402، حا 404، 412، 433، 460، 466، 480، 482، حا487، 494، 512، 587، 624، 625، 669، 683، 696، 703، 705، 756، 783 789 "ج9" 9، 41، 42، 91، 156، 200، 216، 292، 412، 483، 532، 654، 659، 737، 738، 845، 857 مديني "مملكة" "ج1" 387 مذاب "وادي" "ج2" 57، 132، 139، 161، 163، 293، 296 الذري "جبل" "ج1" 537 مذرح "مدينة" "ج2" 434 مذقنة تريش "بيت" "ج2" 411 مذقنتن "بناء" "ج2" 201 مذيق "وادي" "ج2" 402 مذينيب "ج7" 42، 177 المر "بحر" "ج1" 141 "ج3" 389 مر الظهران "ج5" 176 "ج7" 338، 431، 351، 356، 357، 359، 360 المراء "ج7" 44 مرآب "مدينة" "ج1" 580 مرابض "قصر" "ج3" 246 مراد "أرض" "ج2" 222، 405 "ج7" 569 مرارة "ج7" 344 المراض "ج4" 236 مران "منطقة" "ج7" 402، 412 مرب "ج1" 572 مرباط "ج7" 237، 275 المرباع "ج4" 221 المربد "ج5" 76 "ج7" 180

مرج حليمة "ج3ط 234، 240 مرج راهط "موضع" "ج1" 395، 472، 495 "ج4" 239 مرج الصفر "ج3" 427، 436 مرج الضيازن "موضع" "ج2" 618 مرجح ذي العضوين "ج7" 353 مرحب "ج2" 557 مرحضان "ج2" 435 "ج2" 289 "ج7" 213 مرس "ج2" 295 "ج7" 246، 512 مرسي حلي "ج7" 364 مرسي ضنكان "ج7" 364 مرسيابة "مدينة" "ج2" 56 مرشوم "ج2" 284 مرغم "حصن" "ج1" 181 مرمر "حصن" "ج1" 711 "ج2" 396 المروة "ج4" 66، 78، 269 "ج6" 241، 266، 267، 271، 287، 275، 279، 382، 391، 394، 438، 444، 604، 721 "ج7" 344، 349، 356، 514، 515 "ج9" 763، 783 المرور "نهر" "ج7" 267 المرورات "ماء" "ج5" 466 مريسة "مدينة" "ج3" 32 المريسيع "ج4" 266 مريع "ج7" 345، 364 مريغان "بئر" "ج3" 493 المريقة "ج7" 344 مريم "دير" "ج6" 598، 599 مريمات "ج2" 566 "ج5" 476 مريين "ج7" 354 المزدلفة "ج4" 55، 379، 380، 382، 384، 386، 393 "ج7" 380 "ج8" 500 مزلقة "ج7" 346 مسئولان "ج7" 350 المستظل "أطم" "ج9" 722 مسحلان "ج3" 344 المسروين "ج7" 346 مسقط "أمارة" "ج1" 131، 208، 479 "ج4" 322 "ج7" 274 مسكت ويث "موضع" "ج2ط 439، 446، 460، 608 مسلة "مدينة" "ج2" 510 المسلح "ج7" 338، 341 مسماع "جبل" "ج1" 441، 584 مسنيوس "خليج" "ج1" 165 مسور "قصر" "ج2" 290، 298 المسيجد "ج7" 355، 359، 360 المسير "ج7" 518 مسيلة "وادي" "ج5" 449 "ج7" 333، 363 مسينة "موضع" "ج1" 423 مشأرف "ج4" 424 مشاش "ج7" 139، 338 المشتي "قصر" "ج3" 304، 440 مشور "موضع" "ج2" 295 المشرق "جبل" "ج1" 639 "ج5" 423 المشرقية "مدينة" "ج2ط 468، 469 مشطة "قرية" "ج4" 198

المشعار "ج4" 186، 187 المشعرين "ج4" 66 المشقر "حصن" "ج1ط 339 "ج4" 203، 205، 207، 210، 527 "ج5" 352 "ج6" 61، 286، 621 "ج7" 371، 373، 374، 383 "ج8" 511 "ج9" 879 المشلل "ج3" 536 المشهد "موضع" "ج2" 164 "ج3" 361 "ج5" 21 مشور "موضع" "ج2" 163 المصباعة "ج4" 268 مصر "دولة" "ج1" 18، 44، 57، 166، 169، 217، 231، 236، 244، 273، 288، 297، 306، 325، 329، 346، 347، 363، 418، 436، حا 454، 504، 552، 553، 557، 559، 581، 584، 598، 606، 610، 613، 614، 620، 621، 632، 628، 643، 652 "ج2" 5، 6، 8، 12، 15، 22، 23، 26، 28، 29، 34، 36، 38، 43، 49، 51، 57، 63، 64، 76، 80، 89، 94، 101، 120، 123، 138، 159، 242، 244، 245، 258، 263، 362، 429، 433 441، 508، حا 533، 539، 561، حا 591، حا 601، 626، 627، حا 634، 653، 659 "ج3" 5، 7، 17، 20، 23، 25، 36، 49، 50، 68، 81، 95، 107، 108، 113، 117، 124، 126، 128، حا 195، 197، 275، حا 300، حا 315، 379، حا 405، حا427، حا 433، حا 459 "ج4" 13، حا 40، 43، حا 65، 66، حا 74، 162، 175، 177، 178، حا 214، حا 231، حا 244، 247، 248، 381، 408، 460، حا 684 "ج5" 16، 34، 190، 205، 213، 297، 406، 426، حا 509 "د6" 79، 292، 368، 472، 525، 559، حا 569، حا 573، حا 597، حا 605، حا 626، حا 631، حا 638، حا 671، حا 771 "ج7" 61، 233، 235، 237، 241، 263، 265، 267، 268، 273، 276، 278، 280، 281، 284، 287، 347، 350، 356، 408، 410، 526، 599، 601، 604، 610، 624، 633، 635 "ج8" 42، 51، 52، 70،

74، 122، 125، 130، 147، 166، 198، 200، 257، 261، 262، 266، 295، 343، 345، 381، 668، 669، 688 "ج9" 15، 63، 118، 374، 376، حا 410، 427 مصري "متحف، موضع" " "ج1" 457 "ج2" 28، 35، 44، 45، 122، 123، 306 المصرية "جامعة" "ج1"، حا 101 "ج2" 36، 75، 80 "ج7" 264 "ج8"، حا 169 "ج9" 373 مصنعة "موضع" "ج3" 404 "ج4" 262 مصوع "منطقة" "ج2" 31 المصيخ "ج2" 651 "ج4" 199 مضرفن "موضع" "ج2" 564، 566 المضيح "موضع" "ج4" 233 مضيقت "مدينة" "ج2" 233 "ج3" 181 مطران "موضع" "ج2" 300، 322 المظلة "موضع" "ج7" 151 المعا "ج7" 334 المعاذة "قبة" "ج3" 325 "ج4" 363 معارة "بلد" "ج1" 480 المعافر "معفرم" "موضع" "ج2" 135، 288، 328، 377، 381، 507، 519 "ج3" 475، 487 "ج4" 180 "ج5" 309 "ج7" 141، 262 "ج9" 572، 574 معاهر "مدينة" "ج2" 378، 379، 401، 404 "ج3" 504 "ج5" 13 معان "مدينة" "ج2" 77، 121، 123، 260، 404 "ج3" 404 "ج4" 242، 244 معبر "ج5" 20 المعتدل "وادي" "ج2" 242 المعجر "ج7" 363 معدن "جبل" "ج1" 565 "ج2" 429 "ج7" 345 معدن الأحسن "ج7" 345 معدن "بني سليم "منجم" "ج1" 1943 "ج7" 338، 339 معدن بني محيد "ج7" 568 معدن النقرة "ج7" 41، 337، 340، 341 المعدي "موضع": "ج8" 61 المعرس "ج7" 333 المعقر "ج7" 363 المعلاة "ج4" 216 معنق "قصر" "ج1" 339 "ج9” 408 معونة "بئر" "ج4" 136، 256، 518 "ج5" 362، 390 "ج7" 323 معين "مملكة" "ج2" 54، 58،

73-90، 92-106، 108، 111، 113، 121، 123، 127، 129، 132، 136، 139، 166، 167، 169، 171، 176، 178، 185، 203، 207، 208، 213، 214، 241، 277، 283، 308، 323، 324، 359، 396، 407، 417، 480، 498، 508 "ج4" 128، 163، 318، 564، 554 "ج5" 11، 13، 180، 182، 214، 215، 227، 257، 275، 279، 280، 314، 532 "ج6" 167، 168، 175، 180، 257، 283، 293، 295، 303، 305، 333، 493 "ج4" 137، 178، 201، 236، 521 "ج8"، حا 13، 38، 447، 507، 512، 686 معين مصران "مدينة" "ج2" 89، 91، 94، 121، 123، 139، 246، 298 المعينية "مملكة" "ج1" 645 "ج2" 73، 76، 78، 83، 88، 104، 105، 109، 114، 115، 119، 120، 123، 137، 138، 146، 241، 24 "ج5" 245، 262 مغار "جبل" "ج7" 162 مغاص اللؤلؤ "ج7" 364 المغرب "دولة" "ج1" 498 "ج4" 470 "ج7" 351، 360، 365، "ج8" 683 مغيث "وادي" "ج1" 305 مغيثة "ج7" 336، 338، 340، 348، 521 مفان "موضع" "ج1" 555 مفحيم "مفحي" "موضع" "ج2" 221 مفرشم "موضع" "ج2" 296 مفعل "موضع" "ج2" 297 مفلول "موضع" "ج2" 580 "ج3" 486 مقاعس "ج4" 206 المقام "ج5" 517 مقدونية "منطقة" "ج2" 38 المقر "ج7" 333 مقرام "موضع" "ج2"435 مقران "سد" "ج2" 284 المعقدية "ج7" 363 مقعم "موضع" "ج2" 119 مقلن "مدينة" "ج2" 434 مقنا "مدينة" "ج6" 518، 530، حا 595 مكة "مدينة" "ج1" 41، 53، 70، 75، 78، 111، 112، 122، 125، 130، 156، 168، 189، 208، 215، 288، 290، 302، 313، 315، 319، 320، 338، 345، 349، 359، 362، 381، 384، 385، 389، 392، 400، 401، 422، 433، 435، 438، 450

-452، 458، 471، 476، 481، 483، 485، 487، 491، 501، 506، 512، 539، 571، 583، 585، 589، 604، 611، 657 "ج2" 109، 143، 145، 255، 279، 412، 515، 516، 531، 572، 578، 584، 585، 631، 633، 647، 653 "ج3" 72، 104، 152، 153، 161، 191، 211، 214، 251، 272، 2756، 276، 320، 322، 357، 364، 382، 389، 390، 428، 430، 495، 498، 499، 503، 504، 507، 508، 510، 521، 526 "ج4" 5، 23، 26، 30، 32، 36، 38، 46، 48، 53، 55، 60، 62، 75، 77، 83، 86، 89، 91، 92، 94، 108، 110، 127، 127، 131، 132، 140، 142، 144، 148، 153، 156، 172، 177، 178، 181، 185، 187، 192، 207، 210، 225، 226، 234، 247، 253، 258، 259، 266، 269، 275، 279، 283، 294، 298، 304، 312، 318، 319، 355، 363، 377، 387، 381، 384 386، 388، 411، 428، 431، 432، 439، 441، 445، 465، 469، 481، 508، 517، 519، 527، 528، 530، 532، 535، 548، 560، 564، 567، 576، 580، 582، 604، 613، 628، 655، 661، 663، 667، 670، 680 "ج5" 13، 23، 24، 35، 38، 42، 45، 46، 84، 51، 54، 46، 56، 69، 75، 77، 79، 85، 101، 102، 106، 107، 112، 114، 116، 118، 120، 122، 131، 142، 136، 143، 160، 163، 178، 180، 206، 246، 252، 269، 272، 286، 298، 315، 324، 325، 329، 330، 360، حا 364، 381، 393، 426، 441، 442، 453، 454، 465، 470، 471، 481، 483، 500، 502، 517، 518، 521، 526، 549، 552، 556، 567، 588، 589، 600، 605، 622، 628، 647، 648، 650، 651، 654 "ج6" 11، 12، 14، 15، 24، 25، 37، 38، 60، 70، 75، 78، 80، 80، 84، 86، 88، 92، 99

-100، 103، 114، 127، 136، 165، 167، 175، 181، 186، 191، 193، 209، 210، 212، 225، 226، 228، 229، 231، 232، 235، 236، 239، 241، 243، 246، 247، 250، 252، 259، 262، 266، 367، 271، 272، 285، 287، 339، 340، 344، 349، 351، 354، 356، 359، 360، 362، 367، 369، 373، 376، 379، 381، 383، 384، 389، 390، 392، 396، 400، 401، 408، 410، 415، 419، 420، 422، 423، 427، 429، 437، 439، 443، 445، 446، 448، 454، 459، 446، 448، 454، 459، 470، 471، 473، 475، 477، 481، 486، 493، 493، 501، 502، 504، 507، 510، 511، 524، 530، 543، 549، 557، 562، 581، 586، 589، 602-607، 620، 653، 665، 666، 680، 682، 683، 687، 689، 691، 694، 698، 699، 702، 704، 712، 713، 716، 720، 722، 735، 740، 468 "ج7" 15، 16، 21، 22 38، 40، 43، 87، 130، 135، 137، 139، 150، 159، 164، 168، 171، 174، 191، 192، 197، 198، 218، 230، 244، 259، 260، 266، 273، 282، 283، 285، 287، 303، 306، 315، 318، 320، 322، 325، 327، 329، 325، 338، 340، 347، 350، 351، 353، 355، 364، 367، 369، 371، 375، 383، 385، 356، 406، 408، 412، 419، 422، 426، 430، 434، 436، 438، 440، 442، 444، 446، 447، 449، 451، 454، 459، 461، 465، 480، 495، 500، 503، 510، 513، 514، 521، 522، 528، 533، 538، 539، 541، 546، 547، 565، 566، 570، 576، 578، 581، 582، 584، 620، 621، 625 "ج8" 9، 55، 83، 84، 88، 90، 92، 95، 98، 108، 111، 112، 114، 117، 120، 123، 124، 128، 130، 136، 138، 141، 143، 153، 154، 156، 163، 166، 170، 172، 174، 178، 179، 195، 196، 210، 211

261، 262، 274، 285، 290، 295، 300، 303، 305، 308، 311، 318، 320، 321، 341، 342، 348، 349، 369، 372، 352، 383، 387، 391، 397، 398، 402، حا 404، 407، 422، 466، 467، 470، 476، 479، 482، 485، 487، 490، 501، 506، 521، 522، 538، 568، 587، 604، 619، 623، 625، 627، 629، 631، 633، 635، 637، 642، 643، 645، 647، 653، 655، 658، 660، 662، 666، 668، 669، 683، 684، 690، 704، 706، 721، 722، 742، 754، 755، 868، 779، 782، 783، 789 "ج9"27، 49، 51، 55، 78، 90، 91، 109، 112، 115، 156، 192، 214، 216، 256، 291، 378، 383، 385، 394، 396، 407، 408، 410، 433، 435، 493، 513، 514، 516، 59، 609، 618، 619، 62، 650، 654، 655، 670، 694، 696، 698، 700، 703، 705، 707، 710، 711، 715، 717، 723، 727، 743، 750، 751، 784، 793 794، 821، 825، 828، 839، 843، 845، 852، 863، 882، 891 المكتب "وادي" "ج8" 175 مكربة "ج4" 9، 10 المكلا "ج3" 479 مكنون "موضع" "ج2" 165 مكسوم "موضع" "ج2" 119 الملأ "ج5" 480 الملتئم "قرية" "ج3" 59 ملتده "مدينة" "ج7" 280 ملتنتم "وادي" "ج2" 403 ملتين "ج4" 197 الملح "جبل" "ج1" 195 "ج3" 66، 248 الملحات "موضع" "ج7" 364 ملكا "نهر" "ج3" 177 ملكن "موضع" "ج2" 296 "ج4"304 ملل "ج7" 350، 354، 357، 360، 361 ملهم "وادي" "ج1" 598 "ج7" 40، 134 ملوخا "موضع" "ج1" 558، 561، 569 "ج2" 122 ماليتيوس "مدينة" "ج2" 23 ممالك "حاصور "موضع" "ج1" 439 ممالي "أرض" "ج3" 171 المملكة الأردنية الهاشمية "الأردن" "دولة" "ج1" 143، 163، 184، 218، 227، 247، 306، 328، 443، 444، 461، 532، 533، 590، 611، 622، 632، 636

"ج2" 21، 26، 39، 120، 121، 242، 278، 658، "ج3" 15، 26، 27، 32، 61، 67، 68، 72، 73، 1463 "ج4" 669 "ج6" 323، 327، 635، 636 "ج7" 348 "ج8" 175، 210، 211، 681 المملكة العربية السعودية "دولة" "ج1" 44، 133، 175، 189، 193، 217، 272، 293، 328، 479، 532، 536، 544، 614 "ج2" 50، 242، 648 "ج3"، حا 155 "ج4" 216 "ج5" 13 "ج7" 36، 46، 78، 180، 273 "ج8" 185، 207، 681 منى "موضع" "ج6" 379، 382، 384، 387، 390، 391، 443، 467 "ج7" 208، 371، 375، 380 مناجم الفضة "موضع" "ج1" 554 منار "قصر" "ج3" 420 المناظر "موضع" "ج2" 618، 629، 638، 639 منهج "مدينة" "ج2" 623 "ج3" 223 منتهيتم "مدينة" "ج2" 293 المنجشانية "موضع" "ج7" 341، 343 المنجلة "ج7" 364 منخلي "موضع" "ج8" 208 منخوس "ج7" 350 المندب "طريق" "ج1" 236 "ج7" 364 منشأ "بئر" "ج7" 189 منضح "معدن" "ج7" 522 منعج "موضع" "ج9" 527 منف "مدينة" "ج8" 198 المنفطرة "ج7" 344 منفوحة "مدينة" "ج1" 178، 415 "ج4" 216 "ج6" 669 "ج9" 112، 433، 567 منقط "مسجد" "ج8" 39 المنقطع "موضع" "ج4" 446 منقل "طريق" "ج5" 21 منكث "موضع" "حج2" 567، 568 منهيتم "منهيت" "سد" "ج2" 284 منوب "مدينة" "ج2" 469 منوة "وادي" "ج2" 163 منييم "موضع" "ج2" 274 منيسة "موضع" "ج7" 280 مهامرم "مملكة" "ج2" 283، 394، 399، 508، 620 مهانفم "مدينة" "ج2" 434 المهجرة "ج7" 345، 362، 363 مهجم "مدينة" "ج2" 296 مهد الذهب "موضع" "ج1" 189، 193، 194، 430 "ج7" 514 المهدي "بئر" "ج7" 337 مهرة "مدينة" "ج1" 172-

173، 305، 312، 341، 426 "ج3" 479 المهرية "موضع" "ج4" 186 "ج7" 114 مهزور "وادي" "ج7" 42، 167، 177، 178 مهور "بناء" "ج2" 482 مهيعة "ج7" 350 موآب "منطقة" "ج1" 422، 455 "ج2" 91 "ج3" 24، 27، 64، 66، 67 موابة "منطقة" "ج1" 601 الموارد "مدينة" "ج7" 346 الموت "وادي" "ج2" 130، 372 "} 7" 33 موترم "موضع" "ج2" 288 الموخرة "ج7" 513 مودم ضمو "موضع" "ج3" 573، 574 مودينا "منقطة" "ج1" 455 مور "نهر" "ج7" 179، 363، موزح "منطقة" "ج1" 423، 639 "ج2" 64 موزر "موضع" "ج7" 513 موسج "مدينة" "ج1" 423 موسشا "ميناء" "ج7" 274، 518 الموصل "مدينة" "ج7" 317، 548 "ج2" 609 "ج3" 167، حا 172، حا 186 "ج4" 470، 490 "ج6" 470، 471، 614 "ج9" 569 المويلح "جزيرة" "ج1" 187 "ج2" 28 المويه "موضع" "ج1" 539 مويهة "ج7" 335 المياه "وادي" "ج1" 174 الميت "بحر" "ج1" 29، 143، 166، 332، 441، 445، 584، 604، 614، 658 "ج3" 17، 53، 66، 72، 77 "ج4" 462 "ج7" 236 ميدعم "موضع" "ج2" 288 ميديا "منطقة" "ج1" 614، 358 "ج2" 615 ميزا "ميناء" "ج8" 563 ميسان "موضع" "ج1" 165، 423، 639، 658 "ج2" 13، 633، 638 ميسرم "موضع" "ج2" 290، 291 ميشا "منطقة" "ج1" 424، 639 "ج2" 20 "ج7" 262، 273 ميفعة "مدينة" "ج2" 133، 134، 158، 159، حا 172، حا 290، 291، 294، 511، 512، 517، 530، 531 "ج5" 13، 275، حا 449 "ج6" 471 "ج7" 274 الميماس "نهر" "ج2" 41، 622 مينحوت "منطقة" "ج1" 654، 656

النون

النون: ناحية السيف "موضع" "ج7" 122 النازية "موضع" "ج7" 354، 355 الناصرة "مدينة" "ج6" 583 ناضحة "ج7" 513 ناظرة "موضع" "ج6" 84 ناعط "مدينة" "ج1" 46 "ج2" 231، 343، 355، 494 ناعم "حصن" "ج4" 264 ناقوس النصر "موضع" "ج4" 164 نب "موضع" "ج2" 294 النياج "ج4" 219 "ج7" 342، 343 نيالو "موضع" "ج3" 32 نيايوت "موضع" "ج1" 437 نبت "موضع" "ج1" 587 "ج3" 56، 485 "ج3" 56، 485 نبسانو "بيت" "ج1" 563 النبيطية "مملكة" "ج1" 166 "ج3" 67 "ج6" 669 نبعة "موضع" "ج7" 345 النبك "مدينة" "ج7" 350 نبيتي "مملكة" "ج1" 601، 603 نجي "موضع" "ج2" 295، 296 "ج3" 339 النجاد "ج3" 484، 494 نجد "إقليم" "ج1" 86، 121، 130، 132، 163، 145، 157، 167، 178، 179، 182، 184، 210، 215، 231، 233، 234، 248، 252، 283، 285، 288، 290، 294، 328، 330، 346، 389، 396، 420، 423، 598، 599، 631، 639 "ج5" 50، 156، 263، 278، 549، 511، 552، 571، 573، 575، 590، 604 "ج3"، حا 13، 47، 191، 322، 329، 334، 341، 361، 366، 373، 378، 450، 498، 534 "ج4" 146، 149، 199، 208، 215، 220، 226، 257، 261، 265، 276، 278، 281، 299، 304، 320، 322، 326، 343

427، 430، 449، 452، 454، 482، 490، 507، 513، 515، 516، 527، 656 "ج5" 57، 164، 179، 188، 207، 244، 269، 247، 353، 382، 384، 451 "ج6" 119، 227، 278، 309، 311، 321، 336، 353، 447، 542، 590، 773، 790، 801 "ج7" 64، 82، 85، 87، 88، 148، 167، 177، 285، 305، 336، 343، 346، 347، 372، 513، 539، 540 "ج8" 204، 205، 211، 298، 521، 575، 578، 580، 582، 588، 590، 592، 624، 627، 633، 637، 640، 648، 649، 651، 656، 675، 681، 683، 690، 723، 681، 683، 690، 723، 724 "ج9" 79، 218، 591، 426، 428، 429، 432، 434، 468، 501، 558، 587، 808، 848، 895 النجدة "موضع" "ج3" 167 النجدية "طريق" "ج7" 339 نجران "إقليم، مدينة" "ج1" 63، 75، 85، 92، 95، 128، 159، 171، 178، 180، 188، 193، 221، 339، 341، 348، 349، 351، 352، 479، 532 "ج2" 46، 49، 51، 53، 57، 74، 156، 260، 283، 284، 294، 299، 280، 381، 438، 439، حا 442، 503، 507، 508، 519، 520، 548، 550، 572، 590، 591، 594، 596 "ج3" 172، 190، 193، 219، 220، 285، 359، 380، 452، 456، 458، 460، 462، 468، 496، 498، 506، 510، 532، 537 "ج4" 51، 98، 190، 193، 254، 256، 329، 430، 436، 444، 456، 459، 469، 471 "ج5" 13، 18، 236، 281، 452، 505، 639، 641 "ج6" 25، 60، 260، 351-412، 415، 417، 437، 460، 466، 467، 450، 541، 586، 608، 612، 614، 620، 629، 630، 639، 640، 642، 650، 680، 687 "7" 67، 213، 241، 305، 344، 345، 359، 364، 371، 422، 426، 430، 454، 515، 569، 599، 600 "ج8" 39، 118، 130، 196، 295، 297، 299، 369، 637، 640، 644،

651، 675، 702، 570، 574، 580، 659، 695، 705، 713، 793 نجرر "وادي" "ج2" 435 النجع "ج4" 277 النجف "إقليم" "ج1" 32، 165، 349، 547 "ج3" 158، 303، 337 "ج4"، حا 31، حا 64، حا 87، حا 90، 232، 680 "ج5" 46 "ج6"، حا 194، حا 357، 598 "ج7"، حا 369، 371 "ج8"، حا 292، حا 296، حا 334، حا 499 "ج9" 259، حا 797، 840 النجفة "ج7" 335 النجود "ج1" 171 نجية "مدينة" "ج2" 506 النجير "قرية" "ج4" 198 "ج6" 286، 542 "ج9" 905 نحارو "نحر" "مملكة" "ج1" 595 النحيحة "ج7" 335 نخال "وادي" "ج1" 168 نخلة "مدينة" "ج3" 76، 77، 386 "ج4" 268 "ج6" 214، 232، 235، 237، 242، 257 "ج7" 340، 361، 440، 521 نخلة الحمراء "ج2" 594 "ج8" 81 النخيل "واحة" "ج4" 174، 175، 252، 492 النخيلة "ج2" 655 "ج9" 547 نزوة "مدينة" "ج1" 174 النسأة "ج3" 508، 510 نسلة "ج7" 345 نسم "موضع" "ج2" 54، 288، 290، 298 نشان "نشن" "مدينة" "ج2" 54، 83، 96، 106، 118، 119، 292، 293، 298، 299، 480، 538، 562 نشق "مدينة" "ج2" 51، 53، 75، 118، 119، 277، 279، 280، 299، 310، 323، 458، 480، 481، 491، 538، 562 "ج6" 618 نشور "موضع" "ج2" 254 نصاب "موضع" "ج2" 291 "ج3" 476 "ج7" 522 نصيبين "ج2" 593، 619 "ج3" 95، 221، 414 "ج4" 490 "ج6" 597، 627، 628، 631 "ج7" 281 نضار "سد" "ج7" 212 النضح "ج7" 362 النضخ "ج7" 345 نضدون "ج4" 199 نطاة "سوق" "ج4" 264 "ج7" 377 نطاع "ج4" 215

نعطت "مدينة" "ج2" 337 النظيم "ج7" 346 النعامة "منطقة" "ج1" 243 نعض "مدينة" "ج2" 378، 434، 435، 437، 490 نعمان "معبد" "ج2" 411، 505 "ج3" 149 "ج6" 257 "ج7" 358، 360 نعمان الأراك "وادي" "ج4" 142 نعوت "ج2" 294، 296 نعيم "جبل" "ج7" 358 نفي "موضع" "ج1" 194 نفقان "ج2" 485، 522 النفود "منطقة" "ج1" 152، 154، 161، 164، 598 نقأت "قصر" "ج2" 69 النقب "منطقة" "ج1" 648 "ج2" 77 "ج3"65 "ج4" 137 نقيت "مدينة" "ج2" 288، 298 النقرة "موضع" "ج2" 89 "ج7" 44، 521، 522 نقم "موضع" "ج1" 196 النقيرة "موضع" "ج8" 110، 295 النقيع "بئر" "ج7" 192، 358 نقيل مدرح "موضع" "ج5" 20 النمارة "موضع" "ج3" 150، 191 النمارة "قصر" "ج8" 176 نمران "بيت" "ج2" 323 نمرة "ج4" 46 "ج6" 353 النميرة "ج7" 521 النهي "وادي" "ج4" 448 نهاوند "مدينة" "ج2"، حا 534، حا538، 539 "ج6" 622 "ج9" 176، 869، 897 نهد "معبد" "ج2" 340 نهردعة "مدينة" "ج1" 657، 659، 660 "ج3" 156، 176، 177 النهروان "موضع" "ج3"، حا 344 النهرين "منطقة" "ج2" 41 نهم "أرض" "ج2" 414 نهيل "حرة" "ج1" 168 النواسي "سد" "ج7" 212 توبيا "منطقة" "ج1" 459 نوذ "جبل" "ج6" 254 النورة "جبل" "ج1" 189 نومم "نوم" "معبد" "ج2" 285 ني، تك "منطقة" "ج1" 562 نيط "مدينة" "ج2" 96 النيل "نهر" "ج1" 21، 35، 143، 157، 253، 461، 569، 627، 648 "ج2" 23، 28، 34، 46، 121 "ج3" 15، 115 "ج7" 160، 178، 267، 268، 278، 596 "ج8" 146 نينوي "مدينة" "ج1" 317، 592، 594، 595، 600، 602، 604، 606 "ج3" 11 "ج6" 63، 290، 605، 607

الهاء

الهاء: هاجم "ج3" 485 الهام "ج7" 519 هامبرغ "مدينة" "ج1" 132 الهان "موضع" "ج2" 398، 399 "ج7" 519، 520 هايدلبرك "موضع" "ج1" 532 "ج3" 514 هبود "معدن" "ج7" 522 هحبل "مجلس" "ج2" 249 هجر "مدينة" "ج1" 174، 175، 545 "ج2" 289، 380، 382، 464، 637، 638، 640 "ج3" 168، 277، 279 "ج4" 203، 205، 210، 212، 214، 215، 273، 471، 485، 524، 527 "ج5" 10، 44، 352، 361، 372، 425، 641 "ج6" 376، 621، 629، 694 "ج7" 10، 21، 44، 69، 70، 180، 258، 329، 333، 371، 373، 374، 527 "ج8" 60، 374، 569، 702، 783 هجر بن حميد "موضع" "ج1" 133 "ج2" 225، 232 "ج8" 11 هجر البحرين "موضع" "ج8" 60 هجرن "مدينة" "ج2" 469 الهجيرة "مدينة" "ج1" 171 "ج7" 363، 364، 514 الهدار "موضع" "ج1" 340، 427 "ج7" 162 الهدرة "موضع" "ج1" 185 الهدهاد "قصر" "ج3" 487 هدورام "منطقة" "ج1" 427 الهرجاب "ج7" 364 الهردة "ج7" 513 هرر "موضع" "ج8" 536 هرشي "موضع" "ج351 هرقلة "مدينة" "ج2" 647 "ج3" 98، 99 هرم "مدينة" "ج2" 106، 107، 188، 293، 298 "ج7" 224 هرموزي "هرمز" "موضع" "ج2" 20 "ج8" 39

هرن،"هران" "مدينة" "ج2" 138، 323، 391، 393، 423، 439 "ج7" 212 هزمان "مدينة" "ج2" 251 هضب ذي الإسناد "موضع" "ج9" 804 هعان، "هعن" "مدينة" "ج2" 428 الهفوف "منطقة" "ج1" 149، 175 هكرب "هكر" "مدينة" "ج2" 429، 431، 525، 572 الهلال الخصيب "منقطة" "ج1" 143، 231، 234، 239، 249، 297، 507، 530، 544، 545، 549، 573 "ج2" 5، 12، 601، 624، 627 "ج4" 276 "ج6" 600، 689 الهلباء "ج7" 345 الهمدانية "موضع" "ج2" 354، 383، 388، 492 همدان "موضع" "ج1"، حا 17 همربان "ممر" "ج2" 134، 135 همل "سوق" "ج7" 371 الهند "دولة" "ج1" 60، 61، 83، 86، 174، 177، 280، 210، 219، 221، 230، 241، 263، 264، 273، 430، 432، 479، 481، 534، 544، 546، 556، 557، 559، 565، 568، 570، 615، 624، 625 638 "ج2" 6، 10، 15، 17، 20، 21، 23، 27، 29، 32، 59، 62، 65، 68، 124، 135، 145، 159، 242، 265، 491، 531، 534، 539، 548، 627، 628، 631، 639، 648، 657 "ج3" 20، 21، 81، 133، 134، 270، 279، 343، 385، 479، 518، 537 "ج4" 116، 162، 169، 170، 174، 189، 200، 203، 303، 416، 441، 558، 628، 668 "ج5" 217، 310، 415، 424، 425، حا 449 "ج6" 612، 613، 695 "ج7" 15، 64، 77، 188، 227، 228، 237، 239، 241، 256، 258، 261، 263، 266، 270، 273، 276، 279، 282، 284، 308، 375، 276، 459، 535، 547، 548، 553، 599، 613 "ج8" 86، 150، 198، 213، 254، 282، 294، 295، 400، 669، 688، 701، 705، 725 "ج9" 95، 211، 215، 308 الهندي "المحيط" "ج1" 141، 142، 559، 615، 624، 625، 640

"ج2" 5، 23، 27، 34، 43، 61، 64، 575، 594، 647 "ج3" 461، 490، 491 "ج4" 170 "ج6" 613 "ج7" 256، 268، 270، 272، 279، 280 هنم "وادي" "ج8" 714 هنوم "بلدة" "رأس" "ج1" 196، 350 "ج2" 570 "ج7" 519 هواع "مدينة" "ج2" 428، 429 هودج "موضع" "ج8" 579 هودم "مدينة" "ج2" 288 الهون "مدينة" "ج2" 593 هيت "موضع" "ج3" 181، 182، 337 "ج6" 79 هيج "بيت" "ج2" 638، 640 "ج4" 486 هيجل "مجلس" "ج2" 252 هيروبوليس "مدينة" "ج1" 164 الهيصمية "موضع" "ج7" 458 هيلان "مدينة" "ج2" 117 هيليوبوليس "مدينة" "ج3" 173

الواو

الواو: واسط "مدينة" "ج3" 293 واشنطن "مدينة" "ج1" 291 واقصة "ج7" 335، 340 وان "بحيرة" "ج1" 554، 561 وبار "منطقة" "ج1" 151، 152، 305، 349، 431 "ج3" 161 "ج9" 686 وبنن "ج2" 403 وترن "بيت" "ج2" 332، 365 وثر "جبل" "ج1" 156 وج "موضع" "ج4"، حا 144 "ج7" 441 "ج8" 166 وجرة "منطقة" "ج1" 182 "ج7" 342، 343، 347 الوجه "منطقة" "ج1" 182، 329 "ج2" 48 "ج7" 350 "ج8" 210 وحدة "حصن" "ج2" 428 وحظة "موضع" "ج3" 475

"ج7" 198 وحقان "ج7" 354 ودان "موضع" "ج1" حا 167 "ج7" 351، 352 ودفتان "ج2" 427 الودي "موضع" "ج1" 597 الوديان "ح7" 656 "ج3" 385 وديفان "موضع" "ج2" 427 وراخ "موضع" "ج1" 427 ورخن "ج2" 295 ورفو "موضع" "ج2" 232 وركاء "موضع" "ج8" 203 الوركة "ج7" 344 الوريعة "ج7" 335 وسر "مدينة" "ج2" 221، 288، 289، 298 وسط "وادي" "ج2" 54، 209 الوشم "قرى" "ج1" 180 الوطيح "حصن" "ج4" 264 وعلان "مدينة" "ج2" 149، 150، 194، 215، 222، 294، 297، 378، 384، 402، 403، 440، 448، 459، 468 "ج3" 489، 504 } 5" 215 وغرة "ج7" 343 الوفيت "ج7" 198 وقب "موضع" "ج2" 294 وقبم "موضع" "ج2" 395 وقشة "موضع" "ج1" 451 "ج2" 451 وكل "مدينة" "ج2" 88 الولايات المتحدة "دولة" "ج1" 133، 217 "ج2" 624 ونب "موضع" "ج2" 297 الوهط "وادي" "ج4" 142

الياء

الياء: يابس "موضع" "ج3" 60 يأجج "ج7" 375 يارح "منطقة" "ج1" 427 يازل "منطقة" "ج1" 428 يافا "مدينة" "ج1" 461، 644، 651 "ج3"، حا 30 يافع "أرض" "ج2" 135، 289 يام "ج4" 186، 187 "ج5" 11 يبردو "ممر" "ج1" 601 يبرين "منطقة" "ج1" 152، 171، 305، 341، 558 "} 5" 339 "ج6" 718، 725 يبعث "وادي" "ج1" 533 يبلح "ج2" 450 يبمبم "ج7" 361، 363 يبنئيبل "يبنة" "مدينة" "ج1" 643، 644 يبوق "نهر" "ج3" 68 يتحم "موضع" "ج2" 291 يثرب "مدينة" "ج1" 81، 120، 122، 161، 288، 290، 314، 338، 343، 346 360، 384، 422، 476، 483، 487، 490، 493، 512، 585، 609، 614، 619، 661 "ج2" 51، 247، 254، 256، 454، 526، 570، 578، 593، 653 "ج3" 280، 337، 363، 389، 391، 430، 442، 460 "ج4" 9، 36، 73، 75، 118، 124، 128، 134، 136، 140، 141، 144، 147، 151، 178، 202، 220، 248، 257، 261، 269، 283، 294، 304، 355، 362، 367، 397، 417، 432، 462، 510، 564، 620، 628 "ج5" 17، 46، 84، 101، 105، 114، 118، 121، 143، 178، 180، 209، 236، 264، 251، 252، 294، 298، 324، 326، 330، 391، 428، 452

، 453، 470، 471، 483، 526، 534، 535، 556، 589، 622 "ج6" 11، 68، 97، 99، 103، 136، 248، 339، 353، 354، 381، 442، 460، 510، 511، 513، 516، 521، 523، 524، 529، 530، 532، 533، 535، 537، 543، 545، 548، 551، 554، 557، 559، 561، 566، 567، 578، 584، 589، 601، 603، 617، 620، 658، 683، 687، 689، 748، 821، 822 "ج7" 10، 28، 29، 40، 43، 71، 72، 77، 130، 132، 133، 168، 170، 193، 215، 218، 220، 241، 259، 260، 293، 297، 300، 306، 310، 315، 338، 340، 350، 354، 357، 369، 385، 386، 433، 448، 510، 536، 541، 562، 570، 584 "ج8" 9، 31، 60، 92، 106، 114، 166، 121، 127، 132، 135، 136، 141، 195، 196، 289، 294، 321، 326، 364، 364، 375، 377، 387، 404، 467، 482، 494، 498، 505، 619، 627 634، 649، 651، 653، 703، 705، 706، 743 "ج9" 9، 22، 49، 51، 90، 92، 112، 197، 203، 204، 216، 238، 239، 281، 291، 333، 361، 380، 381، 385، 388، 501، 564، 582، 583، 589، 654، 655، 659، 694، 695، 719، 720، 722، 725، 756، 728، 729، 732، 734، 735، 743، 746، 747، 793، 794، 839، 842، 844 يثعان "سد" "ج2" 284 "ج3" 475 يثل "مدينة" "ج2" 57، 83، 85، 88، 90، 98، 116، 117، 138، 294، 480، 481 "ج5" 182 يثربرن "موضع" "ج2" 460 يجر "بيت": ج2" 399 يحا "موضع" "ج3" 451 "ج6" 301 "ج8" 212 يحر "أرض" "ج2" 154، 537 اليحموم "ج7" 515 يخضور "حصن" "ج2" 230 يدع "ج6" 63 يدهن "مدينة" "ج2" 293 يذان "برج" "ج2" 133 يذقان "برج" "ج2" 133 يرت "ج2" 295 يرسم "موضع" "ج2" 397، 411

اليرموك "نهر" "ج1" 492 "ج3" 427، 441 "ج4" 179، 241 "ج5" 391 "ج9" 844 يريم "منطقة" "ج1" 426 "ج8" 39 يزر "موضع" "ج2" 61 "ج3" 475 يسبق "موضع" "ج1" 456 يسر "موضع" "ج2" 482 يسران "موضع" "ج2" 281، 282، 284، 296، 297، 300، 580 يسرم "موضع" "ج2" 232 اليسيرة "بئر" "ج4" 54 "ج7" 191، 194 يشيم "يشبوم" "حصن" "ج2" 96، 298 يعد "يعود" "بيت" "ج2" 411، 466 يعرت "موضع" "ج2" 294، 295 يعفر "موضع" "ج1" 458 يفش "بيت" "ج2" 184، 185، 195، 204، 205، 210، حا 225، 228 "ج8" 81 يفعان "يفعن" "مدينة" "ج2" 138، 450 يفعت "مملكة" "ج2" 294 يفعم "ج2" 185، 214، 226 يقتئيل "مملكة" "ج1" 424، 425 يكرن "موضع" "ج2" 535 يكلأ "مدينة" "ج2" 430، 431، 434، 435 يكن "باب" "ج2" 133 يل أي "موضع" "ج2" 291، 292 يلط، يليط "ج2" 296 "ج7" 12 يلمقه "بناء" "ج6" 297 يلملم "ج7" 363 يليل "موضع" "ج7" 162 اليم "موضع" "ج7" 162 اليم "موضع" "ج2" 451 اليمامة "واحة" "ج1" 158، 171، 174، 178، 180، 181، 221، 251، 309، 319، 335، 337، 339، 342، 347، 370، 404، 429، 431، 460، 578، 584، 638، 639، 648 "ج3" 179، 223، 242، 248، 250، 289، 327، 341، 353، 405 "ج4" 29، 113، 134، 206، 213، 219، 312، 453، 485، 500، 502، 503، 514، 522، 523، 660، 669، 675 "ج5" 77، 112، 118، 119، 160، 188، 208، 265، 385، 428، 464، 465 "ج6" 39، 63، 86، 91، 94، 98، 100، 273، 511، 521، 597، 621، 629، 662، 669، 773، 821 "ج7" 16، 21، 28، 33، 28، 40، 69، 105، 124، 133، 135، 149، 153، 177، 180، 181، 184،

196، 198، 296، 305، 333، 335، 341، 346، 367، 377، 408، 457، 459، 468، 513، 515، 534، 541 "ج8" 297، 572، 627، 637، 640، 644، 649، 650، 669، 681، 688، 754، 756، 757، 760، 761 "ج9" 92، 291، 384، 408، 426، 428، 429، 432، 433، 456، 539، 564، 567، 570، 576، 578، 589، 654، 659، 663، 669، 671، 693، 695، 756، 793، 808، 411، 828، 840، 867، 875 اليمن "يمنت" "دولة" "ج1" 9، 15، 23، حا 28، 33، 34، 46، 50، 52، 66، 83، 85، 90، 94، 96، 101، 103، 106، 117، 119، 122، 126، 128، 129، 132، 133، 136، 138، 144، 145*184، 150، 156، 159، 161، 163، 167، 170، 172، 180، 181، 185، 188، 190، 194، 196، 202، 204، 206، 211، 215، 218، 233، 237، 245، 246، 248، 252، 272، 273، 288، 290، 294، 300، 304، 305،، حا 311، 325، 329، 330، 338، 341، 344، 348، 352، 355، 358، 366، 370، 372، 380، 381، 384، 386، 387، 390، 393، 397، 399، 400، 402، 407، 408، 415، 421، 422، 424، 426، 431، 438، 451، 457، 460، 474، 480، 482، 284، 489، 491، 492، 494، 495، 498، 501، 505، 508، 510، 516، 517، 530، 532، 542، 547، 548، 583، 598، 599، 615، 627، 634، 636، 639، 642، 644، 661 "ج2" 6، 9، 38، 29، 34، 43، 45، 46، 50، 52، 55، 56، 58، 60، 61، 65، 73، 75، 76، 81، 90، 117، 119، 120، 123، 124، 149، 153، 154، حا 163، 173، 174، 191، 194، حا 207، 210، حا 225، 241، 245، 247، 258، 260، 262، 265، 276، 268، 272، 278، 279، 284، 299، 304، 324، 329، 336، 341، 344، حا 354، 356، 362، 387، 391، 394، 396، 397، حا 400، 401، 404، 416، 442، 445،

490، 494، 495، 498، 513، 515، 516، 520، 523، 525، 526، 530، 531، 534، 535، 539، 541، 548، 553، 554، 560، 562، 563، 569، 571، 574، 576، 578، 580، 582، 584، 585، 587، 598، 627، 628، 631، 632، 647، 656، 658، 659 "ج3" 7، 18، 20، 22، 38، 161، 162، حا 166، 172، 181، 185، 187، 190، 191، 193، 220، 223، 252، 254، 276، 277، 285، حا 315، 317، 319، 332، 336، 337، 348، 354، 355، 357، 359، 362، 363، 365، 367، 371، 374، 379، 387، 390، 397، 449، 451، 454، 463، 465، 468، 470، 472، 474، 476، 480، 484، 487، 489، 494، 296، 502، 513، 515، 517، 519، 535، 583 "ج4" 6، 12، 17، 19، 39، 40، 69، 72، 74، 77، 78، 82، 83، 87، 93، 97، 103، 113، 117، 126، 128، 129، 134، 136، 146، 1469، 152، 153، 156، 162، 164، 170، 173 176، 180، 181، 184، 186، 190، 182، 194، 198، 200، 205، 214، 216، 218، 219، 221، 224، 245، 249، 269، 275، 279، 282، 283، 292، 294، 299، 304، 322، 324، 326، 329، 333، 346، 650، 351، 370، 374، 383، 384، 390، 415، 421، حا 423، حا 425، 428، 432، 434، 442، 444، 450، 456، 467، 470، 476، 477، 493، 494، 501، 505، 506، 509، 514، 516، 531، 536، 538، 545، 548، 556-557، 568، 573، 595، 604، 613، 614، 616، 637، 666، 669، 678، 683 "ج5" 10، 13، 16، 18، 19، 21، 22، 55، 68، 79، 83، 106، 107، 109، 113، 123، 156، 160، 175، 178، 179، 183، 188، 190، 193، 196، 197، 204، 206، 209، 212، 222، 229، 231، 239، 245، 261، 263، 264، 278، 279، 282، 283، 287، 291، 297، 298، 308، 320، 327، 341، 345، 346، 348، 349، 352، 354، 355، 357، 377، 385، 391،

398، 408، 412، 414، 415، 419، 422، 423، 431، 433، 442، 447، 452، 453، 457، 458، 460، 463، 470، 481، 501، 524، 554، 592، 602، 628، 631، 639 "ج6" 26، 36، 38، 80، 84، 88، 143، 144، 258، 260، 264، 267، 271، 275، 286، 296، 298، 305، 306، 352، 364، 373، 374، 389، 402، 409، 415، 417، 424، 441، 442، 445، 446، 453، 462، 463، 487، 501، 511، 513، 514، 519، 520، 530، 543، 545، 549، 55، 564، 580، 587، 590، 591، 607، 608، 610، 612، 614، 617، 619، 620، 629، 630، 669، 691، 693، 697، 715، 519، 733، 761، 765، 767، 769، 770، 818 "ج7" 7، 12، 13، 19، 24، 26، 28، 35، 55، 59، 61، 69، 73، 77، 79، 83، 86، 114، 118، 121، 125، 134، 139، 144، 146، 148، 150، 156، 160، 161، 164، 169، 171، 172، 176، 190، 195، 202، 203 208، 210، 212، 235، 237، 241، 242، 262، 263، 266، 272، 273، 275، 281، 283، 285، 288، 290، 293، 294، 297، 298، 301، 303، 305، 306، 312، 315، 316، 320، 327، 33، 345، 360، 362، 374، 376، 406، 408، 421، 439، 440، 455، 461، 462، 477، 487، 491، 493، 495، 499، 508، 511، 514، 516، 518، 520، 522، 524، 529، 532، 533، 535، 538، 541، 542، 545، 547، 553، 556، 568، 570، 573، 577، 578، 583، 587، 597، 601، 605، 609، 613، 626، 636 "ج8" 6، 10، 20، 23، 27، 34، 39، 40، 42، 43، 50، 52، 57، 64، 73، 74، 78، 81، 111، 113، 115، 137، 138، 140، 153، 154، 157، 158، 164، 168، 174، 178، 194، 202، 204، 209، 211، 218، 258، 263، 375، 277، 286، 302، 307، 309، 314، 316، 336، 350، 359، 369، 382، 383، 394، 419، 422، 423، 461، 515، 518، 537

539، 55، 565، 568، 571، 573، 577، 591، 593، 600، 603، 639، 631، 633، 637، 639، 640، 642، 644، 652، 653، 658، 659، 668، 670، 674، 676، 688، 700، 703، 704، 721، 728، 735، 738، 744، 769، 77، 794 "ج9" 19، 21، 67، 79، 92، 93، 120، 146، 208، 213، 230، 242، 369، 377، 380، 382، 383، 403، 407، 424، 434، 437، 449، 451، 457، 481، 482، 502، 527، 529، 533، 571، 575، 576، 590، 619، 655، 658، 685، 686، 696، 701، 728، 732، 743، 798، 803808، 816، 868، 869، 873، 891 ينبع "مدينة" "ج1"، حا 149، 168 "ج2" 46، 48، 51 "ج3" 453 "ج4" 265، 281 "ج6" 258 "ج7" 197، 350، 352، 355، 514 "ج8" 194 الينسوعة "ج7" 341، 343 ينعب "ج4" 200 يهبشر "موضع" "ج2" 435 يهدل "موضع" "ج2" 300 يهر "حصن" "ج2" 114، 302، 433 "ج8" 8 يهرق، يهرق "مدينة" "ج6" 303 يهعان "مدينة" "ج2" 491 يهودية "مسعمرات" "ج1" 619 649، 651 "ج3" 77 يهوذا "مملكة" "ج1" 642، 645، 647، 649 اليونان "دولة" "ج1" 21، 44، 140، 217، 219، 270، 624 "ج2" 5، 38، 120، 506 "ج6" 408 "ج8" 71، 202، 257، 668، 688 "ج9" 47 يوناني "بحر" "ج2" 5 يونانية "مستعمرات، قرى" "ج1" 161، 219 "ج2" 124 "ج3" 83 "ج4" 304 "ج5" 178، 294، 295، 304، 327، 328 "ج7" 270، "ج9" 673 ييط أردشير "موضع" "ج8" 702 يين "موضع" "ج7" 358، 359

فهرس الأحداث والتواريخ

فهرس الأحداث والتواريخ: الألف: الأبواء حرب: "ج4" 265 أجنادين: يوم "ج8" 128 "ج9" 488 أحد: يوم، معركة "ج4" 33، 52، 137 "ج5" 397، 407 "ج6" 62، 180، حا 239، 288، 459، 510523، 562 "ج7"، حا 301 "ج9" 112، 156، 413، 707، 711، 714، 717، 722، 747، 893 الأحزاب: يوم "ج1" 281 "ج8" 643 أرماث: يوم "ج9" 69 الإسلامي: مجتمع، فتح، تأريخ "ج1" 108، 113، 135 "ج2" 659 "ج3" 160 "ج5" 472، 475، 477، 479، 526، 527، 584 "ج6" 195 "ج7" 312 الإسلامية: فتوحات عصور "ج2" 531 "ج3" 427، 460 "ج4" 474، 513، 527 الآشورية: أثار "ج5" 399، 413، 446، 636 أصنم: يوم "ج5" 379 الأضحى: يوم "ج6" 388 الآطام: عام "ج5" 451 أعيار: يوم "ج5" 579 اعيار: يوم "ج5" 579 الأموى: عصر "ج1" 364، 385، 393، 472، 485 "ج5" 431 "ج6" 146 "ج8" 608 "ج9" 74، 163، 200، 340، 345، 419، 489، 776 الأنقطية: تأريخ "ج1" 52 أنيق: يوم "ج4" 496 أوراة: يوم "ج3" 216، 226،

250، 252، 356 "ج4" 450، 453، 503 "ج5" 344، 345 أوارة الثاني: يوم "ج5" 344، 345 أوروبي: عصر "ج6" 60 أوس اللاة: حلف "ج4" 136 إيلاف قريش: حلف "ج9" 619 إيوسنية: عصر "ج1" 149 الإيولينية: عصر "ج1" 187

الباء

الباء: البابلي: تقويم "ج8" 454 بئر معونة: يوم "ج8" 117 بارق: "يوم "ج5" 368 البالئوليتك: عصور "ج1" 232 الباليوثية: عصور "ج1" 233، 531، 532 بدر: وقعة، يوم "ج1" 112، 278، حا 395 "ج4" 99، 106، 111، 135، 137، 140، 156، 224، 264، 305، 354 "ج5" 86، 119، 138، 236، 4021، 423، 468، 585 "ج6" 126، 260، 261، 432، 478، 479، 486، 491، 498، 521، 581 "ج7" 116، 290، 292، 301، 311، حا 317، 340، 440، 441، 443 510 "ج8" 114، 115، 118، 121، 128، 123، 195، 196، 275، 292، 349، 383، 384 "ج9" 65، 120، 386، 704، 712، 714، 718، 747، 748، 751، 753، 754، 761، 784، 786، 893 البردان: يوم: ج3" 213 "ج5" 344 البرونزي: عصر "ج8" 87 بزاخة: يوم "ج5" 379 بزرة: يوم "ج5" 365، 380 البسوس: حرب "ج3" 253، 330 "ج4" 341، 495، 498، 626 "ج5" 355، 357 "ج6" 488

"ج9" 46 البطحاء: يوم "ج3" 294 بعاث: يوم "ج4" 137، 140، 510 "ج5" 118 "ج6" 524، 536، 581 "ج8" 134، 342 "ج9" 725، 726، 782، 789 البلايستوسين: عصر "ج1" 240 البليوسينية: عصر "ج1" 149 البوارد: يوم "ج5" 361 البيداء، البيضاء: يوم "ج1" 393 "ج5" 344، 345، 407 البيزنطي: عهد "ج2" 65 "ج7" 273، 284

التاء

التاء: تبوك: غزوة "ج6" 564 "ج9" 746 تثليت: يوم "ج4" 519 "ج9" 106، 659، 669، التحالق: يوم "ج4" 497 تحلاق اللمم: يوم "ج4" 497 622 "ج5" 357 التروية: يوم "ج5" 353 "ج6" 443 "ج7" 380 التلمودي: عهد "ج6" 551

الثاء

الثاء ... التاء: الثعالب: يوم "ج5"، حا 368 ثيتل، نبتل: يوم "ج5" 365

الجيم

الجيم: الجاهلي: تأريخ، تشريع "ج1" 36، 39، 42، 44، 60، 67، 72، 74، 106، 407، 100، 133، 166، 118، 120، 123، 134، 135، 138 "ج2" 193، 268 "ج3" 160 "ج4" 320، 641 "ج5" 19، 34، 185، 470، 477، 479، 485، 488، 497، 547، 558، 592، 607 "ج7" 12، 152 الجاهلية: تأريخ، عصر "ج1" 66، 67، 80، 83، 364 "ج2" 647 "ج3" 40، 59، 79، 150 247، 274، 283، 301 جب ذي قار: معركة "ج3" 296 الجبايات: يوم "ج3" 294 جبلة: يوم "ج4" 518، 521، 523 "ج5" 343، 373، 377، 383، 386، 393 "ج9" 502 جدود: يوم "ج5" 365 الجراجر: يوم "ج5" 361 جز الدوابر: يوم "ج5" 352 جزع ظلام: يوم "ج5" 371، 376 الجفار: يوم "ج4" 347، 513 "ج5" 377، 385، 392 الجمل: معركة "ج4" 315 "ج9" 891 جواثا: يوم "ج3" 300، 309 "ج4" 210

الحاء

الحاء: حاطب: حرب "ج4" 139 الحبشي: عهد "ج5" 406 حجر: يوم "ج5" 344، 345 الجديبية: يوم "ج4" 109، 138 "ج6" 39، 87، حا 113 "ج8" 790 "ج9" 582 حرابيب: يوم "ج4" 522 الحرمان: يوم "ج3" 359 الحريرة: يوم "ج5" 383 "ج7" 378 الحزن: عام "ج5" 146 الحضري: تقويم "ج7" 306

حليمة: يوم "ج3" 234، 235، 341، 398، 402، 408 "ج5" 344 "ج9" 548 حممورابي: تشريع "ج5" 470، 475، 577 الحميري: تقويم "ج1" 48، 49 "ج2" 144، 266، 267، 353، 568، 574، 580، 583، 585، 586، 594، 595 "ج3" 379، 380، 460، 476، 484، 485، 493، 500 "ج6" 308 "ج8" 516 الحميرية: عصور "ج1" 50، 51 "ج5" 203، 433 الحنفاء: حرب "ج5" 360 الحنو: يوم "ج3" 294 "ج4" 496 "ج5" 356 حنو قراقر: يوم "ج3" 294 حنين: معركة "ج3" 33 "ج6" 217، 509، 703 "ج8" 323 "ج9" 248، 498، 500، 503، 751، 836 حوزة الأول: "ج5" 358، 363 حوزة الثاني: يوم "ج5" 358، 363

الخاء

الخاء: الخريبة: يوم "ج3"، حا 212 خزار: يوم "ج3" 355، 356 "ج5" 344، 345، 347، 351، 357 خزازي: يوم "ج1" 393 "ج4" 494 الخطار: حرب "ج5" 360 الخنان: يوم "4" 509 الخندق: غزوة "ج4" 137، حا 253 "ج5" 407، 454 "ج6" 99 "ج7" 72 "ج8" 347، 387 "ج9" 171، 712، 747 خيبر: يوم "ج5" 266

الدال

الدال: داحسن: حرب "ج4" 245، 347، 510، 512، 513 "ج5" 357، 360، 362، 372، 385، 388، 392 "ج9" 623 دار جلجل: يوم "ج9" 526 دار مأسل: يوم "ج5" 376 379 دوسر: كتيبة "ج3" 198، 278، 282 "ج9" 692 دون: حرب "ج1" 616 ديوقليطيان: خطة "ج2" 627

الذال

الذال: ذات الجرف: يوم "ج5" 374 ذات الرقاع: غزوة "ج4" 252 ذات الرمرم: يوم "ج4" 519 ذات نكيف: يوم "ج4" 32 "ج5" 407 الذنائب: يوم "ج5" 357 ذي أمر: غزوة "ج4" 252 ذي طلوح: يوم "ج5" 365، 367 ذي العجرم: يوم "ج3" 294 ذي قار: يوم "ج3" 267، 393، 394، 398 "ج4" 163، 164، 454، 474، 501، 502، 504، 544

"ج5"، حا 290، 343، 344، 423 "ج6" 569 "ج8"، حا 250 ذي المجاز: يوم "ج3" 250 "ج4" 376، 382، 383 ذي نجب: يوم "ج5" 371

الراء

الراء: بيعة: يوم "ج4" 139 "ج5" 343 الرجيع: غزوة "ج5"، حا 585 "ج4" 522، 523 "ج5" 371، 373 "ج9" 472 الردة: حرب "ج6" 493 "ج9" 472 الردة: حرب "ج6" 493 "ج9" 865، 867 الردهة: يوم "ج5" 358 الرزم: يوم "ج4" 188، 449 "ج6" 260 الرغام: يوم "ج5" 371، 575 الرقم: يوم "ج4" 508، 516، 675 "ج5" 358، 362، 466 الركوسية: فرقة "ج6" 467 الرهائن: كتيبة "ج6" 198، 278 الروماني: تقويم "ج3" 47 "ج5" 607 الرومانية: حروب "ج2" 641 "ج5" 486، 508، 584 "ج7" 265، 266، 271، 276 الرومية: جيوش، سفن "ج5" 413 "ج7" 15، 266

الزاي

الزاي: زبالة: يوم "ج5" 365، 368 زرود: يوم "ج5" 365 الزورين: يوم "ج5" 365، 369 ، 370، 445

السين

السين: ساباط: يوم "ج8" 569 ساحوق: يوم "ج9" 635 الساساني: عصر، اسطول "ج3" 175 الساسانية: سفن "ج7" 258، 279، 280، 282، 284 السامي: مجتمع "ج1" 522 الساجسي: يوم "ج2" 106، 388، 403، 536 "ج3" 496 السبع: يوم "ج5" 101 الستار: يوم "ج5" 378 السرارة: يوم "ج4" 139 السريانية: تواريخ "ج3" 358 "ج8" 523 السلان: يوم "ج1" 392 "ج3" 275 "ج4" 455، 493، 494 "ج5" 344، 345، 348، 350، 351، 385 السلوقي: تقويم، تأريخ، مجتمع "ج1" 51، 659 "ج2" 132، 612 "ج3" 8، 450، 47، 81، 139، 177، 219، 258، 464 السلوقية: تقويم "ج3" 109 "ج5" 431 سميحة: يوم "ج4" 1383 "ج9" 731 السويق: غزوة "ج7" 339، 340

الشين

الشين: الشدخة: يوم "ج5" 457 شرب: يوم "ج1" 101 شعب جبلة: يوم "ج3" 277 "ج5" 371، 372، 437، 443، 545 "ج6" 763 الشعيبة: يوم "ج5" 352 الشقيقة: يوم "ج3" 249، 252 "ج5" 376، 378، 435، 446 الشمسي: تقويم "ج8" 446، 506، 509، 511 شمطة: يوم "ج4" 101، 104 "ج5" 383 "ج6" 475 "ج7" 378 الشهباء: كتيبة "ج3" 198، 211 شهر زور: معركة "ج2" 615 شواحط: يوم "ج5" 362 شويحط: يوم "ج5" 386

الصاد

الصاد ... الصاء: الصحراء: يوم "ج5" 368 الصرائم: يوم "ج5" 371، 374 الصعقة: يوم "ج3" 527 "ج4" 215 "ج5" 344، 352 صفين: حرب "ج4" 183، 315 "ج5" 442 "ج8" 333، 378 "ج9" 52، 280، 757، 721، 849، 888، 891، 907 الصلعاء: يوم "ج5" 364

الصليب: يوم "ج4" 530 الصنائع: كتيبة "ج3" 199، 278 374 375 صيد: يوم "ج3" 298

الضاد والطاء والظاء

الضاد والطاء والظاء: الضاد: ضبة: يوم "ج5" 376 ضربة: يوم "ج4" 496 الطاء: ضخفة: يوم "ج3" 273، 375 "} 5" 344، 345 الطلابل: يوم "ج8" 415 طوالة: يوم "ج4" 508 الطوطمي: مجتمع "ج6" 46 الظاء: الظعينة: يوم "ج5" 364 ظهر الدهناء: يوم "ج5" 344- 345، 354

العين

العين: عاشوراء: يوم "ج5" 339، 342 "ج6" 443، 561، 676 "ج7" 377 "ج8" 480، 482، 485 عاقل: يوم "ج5" 365، 371 العباسي: عصر "ج6" 146، 642 "ج8" 321 "ج9" 158 العباسية: عصور "ج6" 467 العبراني: تقويم "ج8" 465، 518 العبلاء: يوم "ج5" 383 "ج7" 158 العباسية: عصور "ج6" 467 العبراني: تقويم "ج8" 467 العبلاء: يوم "ج5" 296 العذاب: يوم "ج9" 760 العذق: يوم "ج5" 361 العذيب: يوم "ج3" 278 عراعر: يوم "ج4" 510 عرفة: يوم "ج4" 15 "ج6" 379، 382، 384، 393، 394 العصيات: يوم "ج4" 496 العطيف: يوم "ج3" 261 العظالي: يوم "ج5" 368 العقبة: غزوة "ج4" 140 "ج9" 746، 748 عقرباء:" يوم "ج6" 94 العقيقة: يوم "ج4" 656 عكاظ: يوم "ج5" 383 "ج9" 864 العكاظي: دور "ج8" 653، 653 عنيزة: يوم "ج4" 496 "ج5" 356، 357 عويرضات: يوم "ج4" 496 عين أباغ: يوم "ج3" 231، 234 "ج5" 344

الغين

الغين ... العين: الغبراء: حرب "ج4" 254، 510، 512 "ج5" 358، 260، 363، 372، 385، 588 "ج9" 623 الغبيط: يوم "ج5"، حا 367، 368 الغذوان: يوم "ج3" 294 غزة هاشم: يوم "ج4" 72

الفاء

الفاء: الفارسية: حروب "ج2" 641 "ج3" 306 "ج7" 280 فارع: حرب "ج4" 139 الفتح: عام "ج1" 483 "ج4" 562 "ج6" 58، 244، 249، 259، 267، 268، 434، 436 "ج7" 342، 359، 429، 565 "ج8" 50، 122، 129، 131 "ج9" 506، 705، 706، 712، 713، 715، 725، 843، 868، 893 الفجار: يوم، حرب "ج3" 277، 520، 527 "ج4" 21، 33، 83، 85، 86، 94، 101، 102، 115، 139، 446، 481، 521، 524، 532

"ج5" 250، 251، 380، 381، 407، 439، 441 "ج6" 475، 477 "ج7" 378 "ج8" 523، 778 "ج9" 619، 895 فجار البراض: يوم "ج4" 83 الفجار الثالث: يوم "ج5" 381 الفجار الثانية: حرب "ج4" 139 "ج5" 383 فجار الرجل: يوم "ج4" 83 فجار القرد: يوم "ج4" 83 فجار المرأة: يوم "ج4" 83 الفروق: يوم "ج5" 402 الفضول: حلف "ج4" 86، 100، 117، 118، 378، 384 "ج5" 247، 501، 521 "ج8" 523 فلج: يوم "ج3" 297 فم فرات بادقلي: يوم "ج3" 300. فيف الريح: يوم "ج4" 445، 455 "ج5" 344، 345، 353 "ج9" 432، 483 الفيل: يوم، عام "ج1" 52، 53، 108، 114 "ج3" 495، 496، 499، 500، 507، 508، 511، 520 "ج4" 73، 80، 84، 85، 465، 522 "ج5" 383 "ج8" 660، 778 "ج9" 443، 478، 755

القاف

القاف: القادسية: يوم "ج4" 156 "ج5" 391، 410 "ج9" 765، 767، 844، 767، 769، 788، 879، 895، 899، 907 القبة: يوم "ج3" 298 القتباني: تقويم "ج2" 2321 "ج5" 477 قحاد: يوم "ج3" 260 قراقر: يوم، معركة "ج1" 197 "ج3" 394 القردة: يوم "ج4" 124، 247 قرن: يوم "ج4" 508 القرنتين: يوم "ج4" 508، 523 "ج5" 392 القريض: حرب "ج4" 246

قشاوة: يوم "ج5" 365، 368 القصيبات: يوم "ج4" 496 "ج5" 356، 357 قضة: يوم "ج4" 405، 496 "ج5" 356 "ج9" 104، 251، 457 القمري: تقويم "ج8" 446، 460، 504، 06، 509، 510 القمرية: سنة "ج8" 504، 506، 509

الكاف واللام

الكاف واللام: الكاف: كاظمة: يوم "ج4" 492 "ج5" 351 كالكوليتك: عصر "ج1" 241 الكديد: يوم "ج5" 380 الكفارة: يوم "ج6" 341 الكلاب: يوم، معركة "ج3" 353، 354 "ج4" 489، 482 "ج5" 237، 343، 344، 350، 352، 386، 393، 410 "ج6" 262 "ج9" 113، 273، 459 الكلاب الثاني: يوم "ج5" 344، 345، 352 "ج9" 113، 432، 481 اللام: لطيمة: عام "ج5" 351 اللوي: يوم "ج4" 517 "ج5" 358

الميم

الميم: مؤتة: يوم "ج4" 262 "ج8" 119 "ج9" 749 مأزق" يوم "ج5" 374 مبايض: يوم "ج5" 365 مرج الصفر: يوم "ج8" 128 المروت: يوم "ج5" 371، 375 المروراة "ج9" 363 المسيحية: عصور "ج3" 24 المشقر: يوم "ج4" 215 المشلل: يوم "ج5" 407 المصرية: شريعة "ج5" 470 "ج7" 474 مضرس: حرب "ج4" 139 معبس: حرب "ج4" 139 المقر: يوم "ج3" 300 ملهم: يوم "ج7" 40 منعج: يوم "ج5" 358

النون

النون: النباج: يوم "ج5" 365 النباع: يوم "ج4" 517 النتاءة: يوم "ج5" 358 النحاسي: عصر "ج1" 176 النحر: يوم "ج6" 371، 388، 390 نخلة: يوم "ج4" 84، 101 "ج5" 382، 441 النسبار: يوم "ج4" 347، 513، 524

"ج5" 376، 378، 385، 392 النسطورية: تأريخ "ج2" 6213 النصراني: تقويم "ج8" 518، 520 النفراوات: النفرات: يوم "ج4" 252 نفورة: يوم "ج4" 591 نقا الحسن: يوم "ج5" 379 النقاء: يوم "ج5" 368 النقعية: يوم "ج5" 376، 379ط النميات: تاريخ "ج2" 112 النهي: يوم "ج4" 496 "ج5" 357 نيوليتك: عصر "ج1" 241 النيوليتية: عصور "ج1" 531

الهاء والواو

الهاء والواو: الهاء: الهباءة: يوم "ج4" 347، 512، 513 "ج5" 361، 385، 393 "ج8" 780 الهجري: تقويم "ج6" 348 "ج8" 449، 451، 460 هراميت: يوم "ج4" 522 الواو: وأردات: يوم "ج4" 496 "ج5" 356 الوداع: حجة "ج8" 752، 792 ودان: غزوة "ج4" 265 الوقيط: يوم "ج5" 365 الولجة: وقعة "ج2" 649 "ج4ط"، حا 290

الياء

الياء: اليحاميم: يوم "ج3" 411 "ج4" 220، 221 "ج5" 344 اليرموك: يوم "ج4" 240 "ج6" 594 "ج8" 128، 129، 134، 324، 349 "ج9" 715، 869 اليمامة: يوم "ج8" 135 اليماني: تأريخ "ج8" 518

فهرس المذاهب والفنون والمنسوبات والطوائف واللغات

فهرس المذاهب والفنون والمنسوبات والطوائف واللغات: الألف: الإثيوبية: لغة، لهجة "ج1" 225، 451 "ج2"، حا 225 "ج8" 413 أحكيليلة: لهجة "ج1" 173 أحمسي: نسب "ج6" 360، 362، 365، 371 الأخمينية: لغة "ج1" 17 الأدومي: نسب "ج1" 650 "ج2ط 40 الأراشي: نسب "ج7" 446 آرامي: أصل "ج6" 640 "ج7" 61، 544، 628 "ج8" 394، 555، 706 آرامية: لغة، لفظة "ج6" 481، 567، 649، 655، 657 "ج7" 43، 57 "ج8" 247، 312، 390، 396، 432، 533، 555، 679، 706 "ج9" 807 الأرثوذكس: مذهب "ج3" 417 الأرثوذكسي: مذهب "ج4" 176 الأرثوذكسية: مذهب "ج4" 161، 165 "ج6" 591، 625 الأرستقراطية: نظام "ج1" 276 "ج3" 51، 101، 487 "ج5" 278 الأرمنية: لغة "ج1" 62، 229، 238 أرمي: أصل، نسب "ج1" 304، 308 "ج2" 609 "ج3" 7، 12، 22، 45، 80، 130 "ج5" 104، 166 "ح6" 453 "ج7" 413، 569 "ج8" 153، 169، 173، 174، 180، 193، 246، 263، 316، 702، 710، 712، 725 الآرمية: لغة، لهجة "ج1" 33، 122، 144، 222، 223، 225، 294، 610، 611

613 "ج3" 5، 9، 11، 14، 51، 81، 87، 144 "ج4" 130، 273، 290 "ج5" 588 "ج6" 7، 172، 311، 397، 599، 660، 664، 688، 690، 724 "ج7" 61، 117، 419، 503، 575، 627، 629 "ج8" 49، 149، 153، 175، 176، 178، 201، 244، 245، 263، 275، 295، 306، 308، 309، 337، 342، 540، 638، 687، 705، 709، 710، 715، 724، 725 "ج9" 49، 428، 674 الأروسية: فرقة "ج6" 637 الآري" عرق "ج1" 257 الآرية: لغة، نصوص "ج1" 237، 256، 257، 259 "ج6" 10، 21 "ج8" 530، 532 "ج9" 13، 51، 127 الأريوسية: دين "ج2" 659 "ج6" 624، 637 الأسبذية: مذهب "ج6" 694 الأسدي: نسبة "ج9" 80 اسرائيلي: نسب، قصص "ج1" 84، 68، 362، 363، 416، 547، 630، 640 "ج6" 563، 656، 567، 722، 738، 796 "ج8" 346 "ج9" 369 الإسرائيلية: رواية "ج1" 415، 416 "ج6" 557، 565 أسفينية: كتابة "ج8" 149 أسقية: لفظة "ج8" 320 اسكوليثا: خط "ج8" 300 الإسلام: دين "ج1" 5، 9، 10، 13، 15، 19، 24، 26، 32، 37، 41، 44، 46، 51، 52، 56، 65، 69، 72، 73، 75، 78، 81، 83، 87، 89، 90، 92، 93، 95، 96، 100، 107، 119، 121، 125، 131، 134، 137، 143، 151، 157، 172، 173، 177، 178، 181، 184، 194، 193، 196، 199، 201، 204، 206، 207، 209، 211، 215، 217، 218، 221، 223، 249، 253، 255، 261، 267، 271، 273، 277، 281، 283، 285، 286، 291، 293، 295، 299، 300، 306، 307، 313، 314، 318، 323، 326، 331، 333، 335، 336، 339، 342، 350، 354، 356، 361، 384، 385، 387، 391، 397، 406، 410، 417، 422، 430، 447، 453، 454، 430، 447، 453، 454، 470، 474، 477، 481، 483،

485، 487، 48، 494، 497، 501، 502، 504، 505، 508، 510، 512، 513، 516، 517، 523، 527، 539، 581، 585، 600، 611، 615، 616، 619، 623، 627، 659 "ج2" 12، 29، 50، 110، 115، 117، 130، 164، 173، 175، 203، 209، 218، 226، 242، 255، 256، 258، 280، 304، 344، 345، 354، 401، 421، 442، 498، 516، 531، 571، 631، 644، 647، 648، 652، 659 "ج3" 10-13، 14، 42، 51، 56، 59، 67، 79، 143، 144، 153، 159، 162، 165، 170، 174، 177، 193، 244، 248، 267، 287، 293، 298، 300، 305، 312، 318، حا 320، 655، 358، حا 361، 375، 379، 381، 387، 388، 385، 418، 4257، 431، 433، 435، 437، 439، 446، 460، 478، 498، 528، 531، 536، 538 "ج4" 15، 18، 22، 23، 30، 32، 38، 44، 48، 55، 59، 60، 66، 68، 71، 72، 88، 90، 92، 100، 102، 105، 107 -109، 111، 112، 117، 120، 122، 123، 126، 128، 130، 133، 135، 137، 139، 141، 143، 145، 148، 150، 151، 155، 158، 163، 164، 179، 182، 184، 189، 191، 193، 195، 196، 199، 202، 205، 208، 213، 216، 218، 219، 221، 223، 226، 229، 223، 245، 247، 251، 253، 255، 247، 260، 264، 266، 268، 270، 274، 276، 278، 282-284، 287، 290، 292، 293، 395، 397، 399، 301، 308، 310، 313، 320، 322، 326، 328، 330، 337، 339، 341، 348، 355، 356، 359، 368، 371، 377، 378، 383، 387، 396، 398، 401، 402، 404، 409، 414، 416، 419، 420، 422، 423، 426، 428، 431، 435، 440، 445، 447، 449، 445، 456، 460، 461، 463، 475، 476، 478، 482، 484، 486، 489، 490، 498، 500، 502، 504، 509، 514، 517، 519، 522، 528، 529، 532، 533، 535، 537، 539،

547، 556، 565، 571، 572، 574، 575، 592، 594، 603، 625، 614، 616، 617، 630، 632، 634، 641، 645، 648، 650، 652، 653، 656، 658، 660، 662، 665، 666، 668، 670، 672، 674، 683 "ج5" 11، 16، 21، 26، 28، 31، 36، 45، 53، 56، 60، 63، 63، 65، 67، 74، 75، 78، 83، 86، 87، 91، 92، 96، 98، 99، 101، 104، 107، 108، 112، 113، 126، 128، 136، 139، 142، 145، 149، 152، 154، 157، 159، 162، 168، 170، 172، 174، 175، 180، 182، 184، 186، 191، 192، 195، 197، 199، 204، 206، 209، 211، 216، 220، 221، 224، 225، 231، 232، 241، 245، 247، 251، 254، 258، 259، 262، 266، 269، 273، 278، 280، 284، 286، 287، 291، 293، 295، 297، 303، 306، 308، 310، 315، 317، 326، 330، 332، 334، 341، 342، 345، 347، 361، 362، 364، 369، 377، 384 390-392، 395، 414، 420، 423، 427، 432، 439، 458، 464، 466، 469، 470، 473، 474، 478، 480، 483، 485، 495، 496، 498، 501، 504، 505، 509، 511، 521، 526، 529، 531، 533، 535، 536، 538، 540، 544، 546، 548، 553، 555، 561، 563، 565، 568، 570، 571، 579، 581، 587، 589، 591، 593، 597، 602، 604، 605، 610، 611، 618، 622، 632، 627، 628، 633، 635، 637، 640، 642، 644، 646، 649، 651، 653 "ج6" 5، 7، 11، 16، 18، 25، 28، 31، 36، 41، 43، 45، 49، 50، 57، 60، 62، 66، 79، 81، 82، 84، 97، 99، 101، 103، 110، 112، 115، 117، 119، 130، 132، 140، 143، 146، 149، 153، 156، 160، 162، 164، 170، 172، 176، 177، 193، 201، 203، 208، 213، 214، 216، 220، 223، 225، 227، 229، 230، 234، 255، 258، 263، 272

279، 284، 287، 288، 292-294، 298، 326، 329، 333، 336، 337، 339، 342، 344، 352، 353، 356، 359، 361، 362، 365، 367، 370، 371، 374، 379، 382، 384، 387، 391، 393، 395، 397، 398، 400، 405، 407، 412، 415، 418، 426، 427، 430، 432، 433، 439، 442، 444، 446، 447، 452، 462، 467، 469، 476، 478، 479، 481، 484، 486، 489، 491، 493، 495، 500، 503، 505، 507، 508، 511، 513، 515، 517، 518، 525، 528، 530، 532، 535، 541، 543، 546، 549، 551، 553، 554، 561، 563، 567، 572، 573، 575، 579، 580، 584، 589، 590، 593، 595، 596، 599، 601، 603، 606، 617، 619، 522، 629، 630، 632، 633، 640، 643، 644، 646، 650، 654، 655، 657، 659، 666، 669، 673، 680، 681، 686، 688، 689، 691، 694، 696، 698، 699، 702، 705، 709، 710، 712 -713، 715، 719، 722، 723، 727، 431، 739، 747، 749، 762، 764، 769، 773، 774، 778، 783، 785، 798، 800، 803، 805، 808 "ج7" 7، 15، 21، 22، 25، 27، 40، 63، 79، 116، 119، 121، 127، 130، 133، 135، 141، 144، 147، 154، 156، 158، 159، 163، 164، 170، 181، 196، 216، 218، 223، 228، 232، 247، 251، 255، 257، 258، 261، 267، 273، 279-281، 283، 285، 289، 290، 293، 296، 298، 300، 302، 304، 310، 312، 314، 316، 324، 326، 327، 330، 332، 337، 342، 358، 362، 364، 369، 371، 372، 378، 380، 385، 387، 390، 339، 408، 416، 420، 442، 424، 428، 432، 436، 438، 442، 443، 445، 453، 458، 459، 462، 463، 465، 467، 471، 474، 485، 492، 500، 501، 514، 515، 520، 524، 455، 545، 555، 560، 563، 565، 572، 595

599، 603، 604، 606، 610، 614، 617، 620، 521، 624، 628، 629، 632، 636 "ج8" 6، 8، 10، 25، 48، 50، 75، 81، 83، 85، 89، 92، 96، 79، 105، 108، 120، 122-125، 128، 129، 133، 138، 140، 142، 143، 152، 155، 157، 160، 168، 170، 172، 174، 179، 182، 185، 188، 190، 191، 193، 197، 204، 209، 213، 229، 238، 248، 251، 253، 256، 259، 265، 275، 281، 285، 287، 289، 291، 292، 294، 295، 299، 300، 304، 306، 311، 316، 318، 320، 321، 323، 324، 326، 329، 330، 336، 339، 341، 342، 350، 352، 356، 361، 369، 372، 378، 379، 389، 396، 398، 409، 412، 422، 425، 427، 431، 434، 436، 440، 445، 448، 454، 457، 460، 462، 466، 468، 478، 481، 485، 487، 490، 492، 497، 501، 503، 505، 512، 514، 516، 518، 523، 535، 540، 542، 545، 547، 549، 555، 559، 561، 563، 564، 566، 586، 590، 593، 606، 616، 617، 619، 620، 626، 628، 632، 635، 637، 639، 640، 642، 644، 650، 653، 656، 658، 660، 662، 671، 672، 676، 678، 681، 382، 686، 688، 690، 691، 693، 696، 699، 701، 704، 706، 713، 721، 723، 727، 734، 735، 741، 743، 744، 746، 748، 751، 753، 756، 758، 765، 767، 769، 772، 779، 781، 783، 788، 791، 794 "ج9" 6، 10، 15، 26، 27، 29، 31، 33، 36، 38، 43، 47، 51، 59، 62، 65، 67، 70، 74، 76، 77، 80، 81، 90، 92، 92، 99، 101، 109، 112، 113، 115، 116، 120، 124، 135، 140، 142، 143، 145، 147، 157، 159، 160، 163، 170، 174، 177، 178، 183، 184، 187، 188

193، 194، 197، 199، 202، 205، 211، 215، 218، 225، 228، 230، 234، 219، 242، 243، 245، 248، 250، 253، 256، 257، 260، 264، 273، 287، 289، 261، 310، 342، 351، 355، 356، 361، 367، 370، 372، 374، 375، 377، 380، 382، 385، 389، 395، 396، 404، 406، 407، 410، 415، 416، 419، 424، 426، 429، 432، 434، 437، 441، 442، 444، 448، 449، 452، 456، 463، 470، 471، 473، 483، 489، 493، 500، 504، 506، 515، 518، 519، 525، 545، 546، 553، 555، 557، 558، 567، 583، 617، 620، 650، 656، 658، 661، 665، 668، 670، 681، 683، 694، 696، 708، 713، 715، 717، 723، 725، 728، 730، 731، 736، 737، 740، 742، 743، 749، 753، 757، 760، 762، 765، 769، 771، 779، 781، 786، 793، 795، 796، 802، 803، 811، 812، 814، 820، 822، 824 -829، 838، 848، 847، 850، 853، 854، 857، 861، 868، 870، 872، 874، 875، 878، 881، 883، 888، 890، 894، 897، 900، 902، 903، 905، 907، 908 الإسلامي: تراث، شعر، فتح "ج1" 10، 14، 42، 156، 250، 252، 283، 447، 501 "ج2" 70 "ج4" 143، 225، 627 "ج5" 151، 184، 216، 280، 304 "ج6" 8، 18، 45، 116، 131، 155، 284، 293، 322، 405، 489، 491، 494، 495، 576، 666، 667، 690، 738، 762 "ج7" 145، 189، 497، 630 "ج8" 87، 152، 297، 327، 352، 356، 372، 440، 595، 632، 681، 700 "ج9" 29، 51، 84، 100، 101، 116، 117، 123، 129، 163، 210، 233، 239، 257، 265، 291، 298، 339، 379، 389، 451، 558، 775، 811، 826 الإسلامية: مؤلفات، حضارة "ج1" 8، 10، 42، 73

92، 96، 114، 116، 122، 124، 171، 250، 252، 261، 269، 270، 326، 414، 449، 454، 486، 488، 494، 496، 475 "ج2" 50، 73، 130، 218، 393، 406، 495، 659 "ج3" 72، 158، 159، 418، 460، 461 "ج4" 398، 547، 549، 558 "ج5" 150، 193، 216، 245، 281، 282، 288، 399، 470، 479، 480، 494 "ج6" 19، 33، 101، 115، 216، 227، 336، 352، 430، 450، 456، 476، 494، 497، 499، 511، 530، 565، 608، 609، 702، 722، 748 "ج7" 25، 42، 242، 244، 259، 275، 284، 331، 332، 334، 443، 446، 480، 486، 487، 491، 499، 516 "ج8" 83، 154، 171، 172، 179، 187، 196، 200، 209، 249، 250، 253، 357، 389، 326، 339، 340، 354، 371، 388، 334، 482، 485، 540، 561، 637، 638 648، 673، 691، 695، 704، 723 "ج9" 15، 45، 50، 51، 73، 74، 95، 124، 155، 193، 242، 254، 290، 340، 379، 404، 406، 427، 556، 583، 760، 763، 792، 845 إسماعيلي: نسب "ج1" 21 الإسماعلية: نسب، لهجة "ج1" 612 "ج8" 539، 638 الأسيوي: نزاع "ج1" 57 الأسيوية: دماء "ج1" 237 شتراكية: نذهب "ج3" 334 "ج4" 161 آشوري: نسب، نص "ج1" 16، 442، 578، 580، 587، 588، 591، 597، 598، 605، 613 "ج2" 279، 311 "ج3" 54، 85 الآشيورية: لغة، كتابة، نصوص، ملامح "ج1" 20، 26، 44، 123، 141، 144، 165، 197، 199، 225، 254، 298، 324، 437، 438، 442، 480، 546، 547، 549، 559، 560، 569، 574، 576، 579، 586، 592، 594، 600، 601، 603، 605، 612، 629 "ج2" 19، 121، 122، 179، 259، 260، 604

"ج3" 12 "ج4" 274، 273، 616 "ج5" 192، 195، 310 "ج6" 11، 290، 299، 308 "ج7" 203، 228، 232، 234، 478، 553، 574 "ج8" 19، 32، 430، 543، 546 "ج9" 7 الأصمعية: قصيدة "ج9" 418، 805 أطمعية: لهجة "ج8" 230 الأعرابي: قومية، لسان، نسب "ج1" 16، 18، 19، 30، 208، 278، 281، 283، 284، 286، 467، 551، 578 "ج3" 429 "ج4" 36، 287، 288، 292، 293، 295، 297، 298، 300، 301، 308، 313، 314، 329، 395، 398، 399، 408، 541، 545، 603، 606، 607، 643 "ج5" 62، 64، 138، 144، 345، 472 "ج7" 13، 16، 18، 27، 107، 110، 113، 306، 308، 321، 551، 577، 588، 591 "ج8" 289، 434 "ج9" 9، 10، 18، 82، 265، 273، 295، 341، 655، 674 الإعرابية: فكرة، ملامح "ج1" 19، 183، 288، 551، 552، 629 "ج4" 35، 314، 517، 603، 620 "ج5" 345 "ج7" 19، 108، 176، 177 "ج9" 81، 288، 433 إغريقي: نسب "ج2" 24 "ج6" 408 الإغريقية: لغة، نصوص "ج1" 644 "ج2" 617 "ج3" 108، 161 "ج6" 154، 585، 625، 629، 639، 730 أفريقي: نسب "ج1" 143 "ج4" 118 "ج9" 116 أفريقية: لغة، لهجة "ج1" 183، 185 "ج4" 311، 391 "ج8" 705 "ج9" 638 الأفلاطونية: مذهب "ج3" 108 الآكادية: كتابة، لغة "ج1" 555، 561، 569 "ج2" 20، 179 "7" 275 "ج9" 215 الآكادي: نسب "ج1" 554، 555، 573 الألماني: نسب "ج1" 131، 132، 135، 136، 229، 244، 291، 438، 476، 523

"ج3"، حا 395، 398، حا 412، حا 430، حا 448 "ج6" 157 الألمانية: بعثة "ج2" 297 الألمانية: لغة "ج1" 38، 86، 254، 272 "ج6" 9، 13، 22، 36، 38، حا 493 "ج7" 263 "ج8" 532 "ج9" 564، 363 الأمريكي: نسب "ج1" 138، 242، 291 الأمريكية: نسب "ج1" 138، 242، 291 الأمريكية: بعثة، جمعية "ج1" 133، 138، 186، 227، 292، 637، 642 "ج2" 165، 175، 176، 204، 224، 226، 228، 229، 379 "ج3" 73 "ج6" 297 "ج8" 420 الأمهرية: لغة، لهجة "ج1" 173، 225 "ج8" 536 الأمودية: لفظة "ج1" 425 إنجيلي: قصص "ج1" 413 أنصاري: نسب "ج5" 617 "ج7" 27، 41 الإنكليزي: نسب، نص "ج1"، حا 109، 126، 130، 132، 151، 291 "ج2" 241، حا 619 "ج3"، حا 149 "ج9" 622 الإنكليزية: لغة "ج1" 38، حا 57، 125، 132، 167، 181، 270، 272، 490، 518، 555، 614 "ج2"، حا 17، 35، 180، حا 197، حا 451 "ج4" 288 "ج5" 422، 475، 495، 496، 540 "ج6" 5، 8، حا 12، 21، 24، 138، 321، 347، 410، 421، 556، 708، 730، 756، 786، 801، 802 "ج7" 33، 122، 263، 274، 491، 565، 569 "ج8" 262، 321، 545، 644 "ج9" 130، 133، 134، 145، 151، حا 300، 337 أور: نص "ج1" 564، 565 الأوروبي: نسب "ج1" 57، 126، 128، 132، 151، 291، "ج2" 624 الأوروبية: أبجدية، ملامح "ج1" 131، 257، 481 "ج2" 624 "ج7" 268 "ج8" 209، 215، 217 "ج9" 47، 817 أوسانية: كتابة "ج2" 290، 500، 505 "ج6" 11 إيادي "نسب "ج4" 470

الإيراني: نسب "ج1" 32 "ج2" 9، 617 الإيرانية: رواية: ج1" 416 "ج2" 163، 610، 611 "ج8" 66 الإيطالي: نسب "ج1" 134، 243 الإيطالية: حقوق، لهجة، لغة "ج3" 87 "ج4" 116 "ج8" 706

الباء

الباء: بابلي: نص "ج1" 563، 609، 610، 615، 618، 620، 625 "ج9" 73 البابلية: لغة – لهجة "ج1" 17، 20، 44، 123، 124، 144، 170، 222، 223، 225، 254، 425، 557، 574، 609، 610، 612، 619 "ج3" 139 "ج4" 274 "ج6" 7، 176، 299، 419، 569، 624، 627، 630، 632 "ج7" 628 "ج8" 413، 459، 469، 533، 535، 547 "ج9" 13 البراهمي: قلم "ج8" 213 البربري: خط "ج8" 213 البربرية: لغة "ج1" 255 "ج8"، حا 284 البروتستانت: دين "ج1" 411 بريطانية: بعثة "ج2" 131، 162 البصري: خط، نسب "ج8" 311، 217، 303، 425 البقرانية: نسبة "ج7" 519 البلقاوية: لهجة "ج8" 681 البيزرة: حضارة "ج9" 673 البيزنطي: أصل "ج2" 652، 658 "ج3" 415، 501 "ج7" 280 "ج8" 42، 723 البيزنطية: موارد "ج3" 444، 480، 518 "ج9" 292

التاء

التاء: التدمري: خط، نسب "ج4" 411 "ج5" 189 "ج6" 310، 325، 329 "ج8" 155، 246 التدمرية: كتابة، طريقة "ج3" 80، 82، 86، 90، 107، 130، 133، 135 "ج4" 511 "ج5" 189، 250 "ج6" 171، 300، 932 "ج8" 247 التركية: لغة "ج1" 32، 33 "ج8"، حا 284، 695، 706 "ج9" 817 التلمودية: كتابة "ج1" 87 "ج2" 245 "ج6" 514 التميمة: لغة "ج8" 583 تميمي: نسب "ج3" 288 "د9" 31، 80، 468، 474 توراتي: طابع "ج1" 413، 447، 463 التوراتية: رواية "ج1" 87، 93، 97، 296، 412، 414، 449، 463، 474 "ج9" 570

الثاء

الثاء: الثالثوث: مذهب "ج6" 634-625 ثقفي: نسب "ج2" 502 "ج5" 617 "ج6" 497 "ج9" 80 الثمودي: قلم، أدب "ج1" 585 "ج3" 75، 144

"ج5" 475 "ج6" 178، 182، 183 "ج8" 153، 175، 194، 200، 210، 230، 231، 235، 236، 240، 241 الثموديات: دراسة "دج8" 230، 236 الثمودية: لغة، كتابة، لهجة، "ج1"33، 46، 52، 133، 272، 299، 324، 380، 616 "ج4" 111، 143 "ج5" 102، 192، 475 "ج6" 8، 11، 54، 117، 170، 172، 178، 179، 192، 199، 269، 291، 294، 309، 312، 313، 316 "ج7" 242 "ج8" 113، 142، 195، 204، 211، 212، 215، 230، 232، 236، 238، 240، 241، 276، 414، 457، 510، 534، 540، 579، 640، 673، 676، 679 "ج9" 13، 59 الثنوية: مذهب "ج6" 372-373

الجيم

الجيم: الجاهلي: شعر، أثر "ج1" 24، 41، 70، 95، 147، 156، 203، 267، 283، 306، 308، 314، 322، 359، 379، 380، 382، 422، 469، 474، 489، 511 "ج2" 164 "ج3" 155، 193، 241، 247، 248، 325، 349، 442، 482 "ج4" 15، 17، 23، 92، 98، 135، 137، 225، 279، 278، 348، 377، 407، 412، 572، 583، 627، 630، 652، 667، 672 "ج5" 11، 108، 126، 148، 153، 154، 173، 293، 315، 334، 335، 341، 413، 416، 431 "ج6" 12، 18، 28، 62، 109، 113، 119، 122، 128، 132، 137، 151، 173، 346، 385، 387، 404، 430، 489، 496

449، 506، 511، 553، 569، 575، 583، 585، 589، 594، 648، 652، 656، 658، 668، 673، 680، 683، 684، 693، 724، 727، 735، 373، 739، 749، 759، 793 "ج7" 27، 44، 82، 124، 145، 169، 198، 331، 363، 372، 382، 445، 552، 455، 454، 578، 579، 616، 624، 630 "ج8" 6، 8، 22، 48، 59، 68، 75، 83، 91، 170، 174، 186، 207، 248، 250، 252، 257، 263، 300، 301، 329، 345، 356، 361، 362، 369، 371، 413، 426، 508، 550، 560، 563، 566، 576، 599، 610، 626، 627، 629، 638، 639، 648، 650، 665، 667، 671، 672، 676، 680، 692، 715، 716، 748، 751، 789، 792 "ج9" 27، 29، 33، 51، 62، 80، 81، 85، 92، 95، 97، 100، 101، 109، 116، 117، 124، 137، 139، 143، 150، 151، 157، 165، 167، 176، 180، 183 188، 193، 208، 210، 213، 221، 223، 233، 239، 240، 242، 245، 247، 250، 251، 254، 257، 263، 264، 267، 269، 280، 281، 285، 288، 294، 296، 298، 306، 308، 309، 314، 322، 327، 339، 340، 342، 352، 353، 364، 366، 372، 374، 376، 379، 383، 389، 397، 400، 404، 406، 409، 410، 415، 416، 418، 420، 421، 424، 426، 437، 442، 443، 464، 473، 475، 478، 481، 485، 487، 489، 491، 493، 503، 504، 506، 508، 511، 512، 515، 517، 525، 531، 587، 650، 668، 669، 689، 690، 715، 728، 762، 765، 768، 770، 789، 819، 820، 826، 839، 842، 845، 846، 860، 902، 907 الجاهلية: مرحلة، نص، آثار "ج1" 5، 7، 10، 16، 33، 36، 40، 44، 56، 65، 71، 73، 85، 89، 90، 93، 96، 89، 106، 114، 116، 120، 122، 124، 126، 131، 134، 136، 138، 143

151، حا 159، 162، 166، 168، 169، 174، 185، 195، 196، 206، 208، 211، 217، 225، 249، 261، 266، 267، 269، 272، 277، 283، 284، 286، 291، 292، 295، 299، 306، 308، 312، 315، 318، حا 32، 323، 332، 342، 360، 374، 379، 381، 383، 385، 381، 383، 385، 386، 392، 400، 416، 426، 428، 438، 468، 470، 474، 477، 483، 485، 487، 493، 494، 497، 504، 506، 508، 510، 511، 514، 523 "ج2" 28، 115، 164، 173، 259، 260، 408، 498 "ج3" 155، 159، 160، 189، 241، حا 320، 355، 358، حا 361، 370، 501، 507، 520 "ج4" 8، 9، 15، 17، 20، 21، 24، 28، 46، 51، 54، 56، 58، 59، 66، 91، 97، 101، 103، 107، 109، 112، 120، 123، 125، 127، 130، 133، 137، 141، 198، 209، 210، 213، 225، 229، 237، 238، 240، 243، 246، 248 250، 260، 262، 266، 269، 247، 276، 281، 283، 290، 292، 296، 299، 302، 304، 308، 310، 312، 315، 318، 322، 326، 334، 339، 341، 346، 347، 349، 350، 353، 356، 358، 359، 361، 363، 366، 369، 376، 377، 379، 383، 387، 389، 396، 398، 402، 403، 408، 410، 412، 414، 419، 420، 426، 447، 448، 451، 452، 456، 462، 469، 475، 479، 481، 482، 484، 489، 491، 492، 503، 508، 509، 512، 518، 525، 528، 529، 532، 534، 535، 538، 541، 543، 558، 560، 561، 566، 571، 574، 575، 579، 582، 585، 589، 591، 594، 597، 603، 605، 613، 616، 617، 621، 622، 624، 625، 627، 629، 633، 634، 641، 645، 646، 648، 650، 652، 653، 657، 659، 622، 663، 665، 670، 671، 673، 674، 676، 678، 681، 683، 684 "ج5" 11، 15، 19

-20، 31، 36، 37، 41، 51، 55، 56، 58، 59، 62-63، 75، 82، 85، 86، 88، 91، 96، 100، 102، 107، 110، 113، 118، 120، 122-123، 127، 131، 132، 134، 139، 141، 144، 145، 147، 149، 151، 155، 160، 162، 164، 168، 170، 174، 175، 177، 178، 179، 181، 188، 189، 199، 207، 216، 218، 221، 222، 231، 235، 239، 247، 251، 253، 245، 259، 262، 264، 266، 268، 270، 272، 273، 283، 286، 291، 296، 303، 306، 308، 311، 312، 315، 334، 335، 341، 342، 351، 352، 364، 366، 372، 380، 387، 389، 391، 392، 395، 398، 404، 410، 419، 423، 424، 426، 428، 439، 445، 451، 455، 458، 468، 470، 472، 474، 477، 480، 484، 485، 488، 491، 495، 499 – 505، 509، 511، 515، 517، 519، 521، 522، 529، 532، 534، 535، 538، 544، 546، 550، 553، 556 558، 568، 571، 573، 574، 580، 581، 585، 586، 593، 595، 602، 606، 609، 611، 621، 623، 627، 630، 633، 636، 639، 641، 645، 660، 662 "ج6" 18، 20، 24، 31، 34، 36، 38، 40، 43، 48، 50، 52، 53، 56، 61، 75، 81، 82، 86، 87، 101، 102، 106، 113، 116، 123، 127، 128، 130، 131، 133، 136، 140، 142، 147، 150، 153، 159، 163، 166، 170، 173، 178، 180، 183، 186، 191، 197، 199، 200، 202، 208، 212، 214، 216، 225، 242، 248، 269، 283، 288، 290، 292، 293، 303، 313، 336، 339، 342، 343، 345، 346، 348، 349، 351، 353، 355، 359، 361، 363، 369، 372، 374، 375، 379، 385، 387، 392، 395، 398، 399، 406، 407، 409، 413، 415، 418، 420، 422426، 429، 432، 437، 438، 441، 443، 444، 446، 448، 450

452، 455، 459، 462، 464، 465، 468، 472، 487، 488، 496، 499، 510، 512، 513، 515، 531، 533، 534، 536، 548، 557، 558، 565، 567، 569، 577، 579، 586، 593، 596، 598، 617، 640، 644، 645، 654، 660، 662، 665، 669، 672، 674، 676، 681، 683، 385، 688، 690، 696، 705، 706، 708، 709، 711، 713، 317، 720، 722، 727، 733، 735، 373، 738، 740، 743، 745، 748، 749، 751، 755، 756، 759، 760، 763، 765، 767، 770، 773، 774، 777، 779، 789، 791، 797، 799، 804، 806، 810، 815، 818 "ج7" 12، 15، 17، 20، 22، 25، 28، 30، 43، 48، 64، 70، 71، 77، 78، 92، 93، 109، 111، 118، 123، 124، 135، 145، 147، 149، 150، 154، 163، 164، 169، 174، 181، 192، 195، 197، 200، 208، 212، 216، 225، 242، 244، 245، 245، 252، 259، 281، 286، 295، 300، 302، 304، 310، 316، 324، 328331، 332، 338، 340، 363، 369، 371، 375، 378، 380، 381، 383، 385، 387، 391، 394، 394، 397، 398، 404، 407، 408، 412، 416، 417، 422، 424، 433، 438، 442، 445، 448، 450، 452، 454، 459، 463، 466، 473، 474، 479، 480، 482، 487، 489، 493، 495، 496، 498، 500، 503، 515، 525، 530، 534، 537، 455، 462، 565، 567، 575، 579، 590، 596، 620، 629، 631، 633، 637 "8" 7، 12، 28، 34، 40، 48، 52، 53، 57، 65، 68، 84، 88، 91، 105، 107، 113، 117، 120، 125، 129، 135، 136، 138، 140، 142، 153، 154، 174، 179، 182، 184، 186، 193، 195، 204، 209، 248، 250، 252، 261، 268، 270، 271، 274، 281، 282، 286، 288، 289، 291، 294، 297، 299، 301، 305، 307، 309، 311، 319، 322، 324، 329، 330، 332، 334، 340، 341

343، 347، 349، 351، 352، 354، 356، 358، 361، 363، 368، 373، 374، 376، 381، 386، 390، 392، 397، 407، 408، 413، 415، 425، 427، 431، 434، 438، 439، 454، 455، 459، 460، 462، 463، 465، 466، 480، 482، 484، 4، 490، 491، 493، 496، 497، 504، 506، 509، 512، 523، 535، 539، 540، 542، 549، 550، 555، 561، 563، 564، 566، 588، 593، 594، 598، 606، 620، 626، 628، 629، 636، 640، 643، 648، 649، 651، 652، 661، 662، 664، 667، 670، 672، 676، 678، 681، 682، 685، 691، 697، 700، 702، 704، 706، 633، 765، 769، 740، 745، 747، 751، 753، 767، 769، 771، 774، 776، 779، 780، 786، 788، 791، 795 "ج9" 13، 15، 22، 26، 29، 62، 66، 67، 70، 74، 76، 81، 83، 85، 102، 104، 115، 117 119، 135، 143، 143، 146، 150، 154، 159، 161، 163، 167، 175، 177، 178، 182، 183، 187، 189، 193، 197، 198، 201، 202، 205، 208، 210، 218، 225، 228، 231، 233، 234، 236، 237، 245، 247، 248، 250، 251، 253، 256، 260، 263، 265، 266، 273، 274، 287، 289، 290، 292، 294، 295، 297، 310، 328، 336، 340، 342، 351، 361، 366، 370، 372، 374، 376، 380، 382، 385، 389، 390، 395، 339، 403، 404، 406، 415، 418، 419، 421، 423، 424، 426، 432، 434، 436، 437، 440، 445، 449، 460، 461، 465، 474، 481، 483، 488، 489، 491، 495، 496، 498، 502، 504، 510، 511، 513، 516، 519، 542، 546، 549، 555، 557، 559، 561، 562، 567-568، 576، 578، 579، 586، 602، 605، 610، 611، 620، 636، 637، 650، 655،

657، 665، 667، 669، 670، 676، 684، 688، 694، 695، 697 699، 706، 710، 712، 715، 720، 722، 725، 728، 730، 737، 740، 742، 743، 746، 748، 753، 761، 762، 768، 769، 781، 792، 796، 781، 792، 796، 809، 822، 824، 229، 831، 835، 838، 839، 841، 848، 850، 853، 857، 865، 870، 871، 873، 874، 877، 879، 880، 882، 883، 885، 888-890، 892، 895، 900، 902-903، 907، 908 جنانية: كبانية "ج1" 425 جرشي: نسب "ج7" 114، 537 جرشية: نسبة "ج7" 114 الجرماني: جنس "ج1" 257 جرهمية: نسبة "ج1" 435 "ج5" 163 الجزم "خط "ج8" 155، 158، 163، 170، 172، 311، 353 الجعزية: لغة "ج1" 173، 237 "ج3" 449 "ج8" 213 جودية: كتابة "ج1" 559 الجيكوسلوفاكي: نسبة "ج1" 132

الحاء

الحاء: حامي: أصل "ج1" 479 الحامية: لغات "ج1" 229، 236 "ج2" 52 الحبشي: نسب "ج2"523 "ج3" 505، 506، 528، 538 "ج4" 30، 119 "ج6" 296، 652، 677، 678، 688 "ج7" 460، 544 "ج8" 42، 212، 512، 216، 697، 760 الحبشية: لغة، لهجة، مصطلح "ج1" 222، 223، 237، 255 "ج3" 451، 453، 467، 469، 471، 480، 483، 538 "ج4" 120، 122، 147، 150 "ج5" 118 "ج6"243، 401، 555، 606، 615، 651، 680، 688، 708

"ج7" 244، 259، 487 "ج8" 39، 42، 133، 190، 212، 213، حا284، 285، 431، 533، 534، 616، 620، 321، 696، 697، 704، 705 "ج9" 61 حجازي: نسب "ج6" 394 "ج7" 81، 84 "ج9" 31 الحجازية: لهجة "ج7" 88 "ج8" 455، 555، 582، 586، 633، 649، 728، 776 حران اللجاة: نص "ج1" 619 "ج6" 527 "ج8" 437، 540، 549، 679، 680 الحضرموتية: كتابة "ج1" 137 الحضرمية: لهجة "ج1" 97 "ج2" 104، 130، 132، 134، 136، 140، 143، 155، 157، 158، 163، 164، 174، 266 "ج4" 276 "ج5" 48 "ج6" 11، 302 "8" 17، 19، 212، 448، 686 الحميري: نص، خط، لسان "ج1" 96، 97، 101، 103، 502 "ج2" 513، 521، 568 "ج4" 374 "ج5" 115 "ج6"، حا 773 "ج8" 112، 118، 154، حا 168، 194، 275، 277، 278 "ج9" 256 "ج9" 256 الحميرية: لغة، لهجة، كتابة، أثر "ج1" 15، 33، 46، 84، 97، 102، 105-106، 127، 137 "ج2" 164، 173، 419، 483، 512، 527 "ج3"، حا 476 "ج4" 187، 422 "ج5" 454 "ج7" 73، 499 "ج8" 109، 212، 556، 562، 576، 619، 620، 629، 632، 639، 640، 653 "ج9" 252، 660، 867 الحنيف: مذهب "ج3" 417 "ج6" 454، 456 "ج9" 702، 723 الحنيفية: دين "ج6" 7، 31، 34، 450، 453، 455، 456، 458، 460، 463، 467، 471، 472، 482، 485، 486، 500، 506، 507 "ج8" 323، 482 "ج9" 723، 753، 848 الحوليات: قصائد "ج9" 544، 545 حيري: نسب، قلم "ج3"، حا 155 "ج8" 88، 155، 156، 171، 172

الخاء والدال

الخاء والدال: الخاء: خزاعية: نسب "ج4" 619 خزرجي: نسبة "ج9" 728 خزرجية: نسب "ج4" 74 الخلقيدوني: مذهب "ج3" 417 خندقي: نسب "ج4" 324 الدال: دارمي: نسبة "ج9" 474 الدانماركي: نسبة "ج1" 124، 137 الدانماركية: بعثة "ج1" 540، 543، 566، 570، 571 "ج2" 31، 32 "ج8" 86 الدراويدينية: دماء "ج1" 228 دمشقي: نسب "ج7" 60 ديدانية: كتابة "ج2" 243، 244 "ج6" 331 الديمقراطي: "ج5" 243، 345 الديمقراطية: نظام "ج1" 265 "ج7" 307

الراء: الروكسية: دين "ج6" 634 الروماني: فن، نسب "ج1" 55، 444، 657، "ج2" 40، 47، 50، 52، 65، 67، 401، 612، 653 "ج3" 54، 89، 91 "ج5" 414 "ج6" 408 "ج7" 269، 271، 272، 280، 625 "ج8" 722 الرومانية: أساطير، آثار "ج2" 29، 59، 62، 64، 65، 67، 69، حا227 "ج3" 15، 29، 32، 45، 54، 57، 60، 69 "ج7" 417، 477، 487، 553، 627، 634 "ج8" 42، 66، 453، 463 رومي: أصل، نسب "ج1" حا 81، 122 "ج3" 200 "ج4" 122 "ج5" 12، 37 "ج6" 493 "7" 566، 570، 629، "ج8" 722 "ج9" 93، 292 الرومية: لغة، موارد "ج1" 81 "ج2" 621 "ج4" 120، 122، 161، 391، 670، 391، 670 "ج5" 112، 118، 120، 324 "ج69" 183، 642 "ج7" 495، 497، 503 "ج8" 133، حا 284، 347، 616، 633، 695، 702، 718، 722 "ج9" 93، 292، 428، 703 ريماني: نسب "ج2" 57

الزاي والسين

الزاي والسين: الزاي: ربيدي: "ج4" 339 الزردشتية: مذهب "ج4" 160- 161 الزنجي: جنس "ج1" 239 السين: الساساني: حكم، شعر، نسب "ج2" 629 "ج3" 303 "ج4" 161 "ج6" 694 "ج8" 42، 73، 723 "ج9" 672 الساسانية: حضارة "ج7" 487، 495 "ج9" 161، 673 السامي: "طابع، أصل، جنس" "ج1" 170، 222، 229، 232، 233، 236، 239-240، 252، 254، 257، 545، 630 "ج4" 302، 303، 653 "ج6" 294، 756، 777 "ج8" 535 الساميات: دراسات، لهجات "ج1" 223، 225، 226، 228، 234، 253، 330 "ج8" 525، 526، 529، 530 السامية: لغة، ثقافة، كتابة :"ج1" 9، 16، 23، 25، 52، 124، 127، 199،

222، 226، 229، 231، 236، 238، 240، 253، 255، 270، حا 329، حا 513، 522 "ج2" 25، 123، 367، 624 "ج3" 7، 8، 153، 450 "ج4" 302، 323، 561، 565 "ج5" 191، 192، 274، 310، 528، 576 "ج6" 24، 25، 27، 29، 116، 117، 157، 284، 229، 913، 322، 323، 347، 385، 500، حا 527، 568، 707، 717، 790 "ج7" 31، 75، 157، 228، 553، 574 "ج8" 146، 147، 149، 150، 174، 188، 190، 193، 196، 200، 201، 209، 213، 215، 218، 237، 240، 310، 316، 431، 432، 437، 446، 453، 525، 532، 535، 536، 547، 707 سبأي: نسب "ج7" 147 السبئي: نسب "ج1" 103، 129، 502 "ج2" 144، 275، 278، 279، 521، 523 "ج5" 182، 583، 594، 614 "ج6" 302، 307 "ج7" 492 "دج8" 312، 413 السبئية: لغة، نصوص، "ج1" 33، 97، 121، 125، 127، 137، 169، 425، 431، 457، 459، 452، 636 "ج2" 78، 83، 104، 114، 131، 156، 163، 164، 174، 176، 266، 268، 604، 329، 490، 536، 555، 573، 575 "ج3" 451 "ج4" 276، 554 "ج5" 167، 181، 183، 215، 228، 276، 379، 280، 311، 400، 402، 405، 409، 418، 436، 439، 441، 442، 448، حا 454، 456، 461، 464، 473، 569، 588، 626 "ج7" 490 "ج8" 16، 19، 209، 212، 447، 448، 516، 517، 534، 686 السبيلية: مذهب "ج6" 624 السرطا: خط "ج8" 200 سرياني "لسان، أصل "ج1" 61، 85، 122، 256، 506 "ج2" 604، 621، 465 "ج6" 32، 582، 627، 659، 660، 667، 688

"ج7" 476، 631، 636 "ج8" 149، 161، 171، 177، 179، 190، 276، 439، 537، 569، 699، 704، 706، 707، 728 "ج9" 47، 48، 204 السريانية: لغة، موارد، لفظة "ج1" 32، 4351، 61، 65، 75، 79، 81، 84، 124، 135، 249، 256، 295، 377، 413، 451، 651، 659، 661 "ج2" 604، 619، 621، 658 "ج3" 11، 19، 102، 155، 156، 160، 174، 223، 268، 409، 418، 444، 455، 462، 465 "ج6" 238، 264، 454، 456، 458، 503، 552، 555، 557، 594، 611، 612، 614، 625، 628، 631، 639، 640، 648، 649، 651، 653، 661، 680، 689، 722 "ج7" 244، 475، 476، 553، 556، 569 "ج8" 111، 114، 134، 137، 141، 160، 171، 173، 176، 191، 200، 253، 276، 282-284، 288، 299، 309، 312، 323، 336، 340، 341، 348، 394، 403، 412، 427، 431-432، 459، 469، 508، 534، 537، 538، 455، 547، 604، 616، 695، 696، 699، 702، 704، 706، 71، 712، 715، 727، 728، 768، 770، 775 "ج9" 7، 43، 48، 49، 197، 291، 365، 427، 428، 703 السطرنجيلي: خط "ج8" 155، 156، 171، 200 السقطرية: لهجة "ج8" 593 السلطانية: أداب "ج4" 162 السلوقي: نسب "ج2" 162 "ج3" 21 سنسكريتي: أصل "ج7" 613 السنسكريتية: لغة، لهجة "ج7" 240 "ج8" 532، 725 "ج9" 211 السنهدرين: نص "ج1" 653 السواحلية: لهجة "ج8" 593 السوري: أثر "ج8" 11 سورية: نسب "ج1" 553 "ج2" 259 السومري: نسب "ج1" 553 "ج2" 259 السومرية: نص، لسان "ج1" 553، 555، حا 557، 561، 569 "ج2" 259، 260، حا "ج8" 569 السويدي: نسب "ج1" 291 السويسري: نسب "ج1" 125، 523 السينائية: أبجدية: "ج8" 214

الشين والصاد

الشين والصاد: الشين: الشآمي: نسب "ج3" 368 "ج6" 576 الشامية: نسبة "ج6" 445 الشاهنشاهية: مذهب "ج4" 162 الشحزية: لهجة "ج1" 185 "ج8" 593 الشوهاء: خطة "ج8" 781 الشيعة: وذهب "ج8" 328 "ج9"829 الصاد: الصابئة: عقيدة "ج6" 701، 702 الصعلكة: وضع "ج4" 412، 413 الصفوي: نص "ج2" 92 "ج3" 75، 152 "ج6" 325، 326 "ج8" 200، 210، 211، 230، 235، 241، 520 الصفويات: دراسات "ج3" 144 الصفوية: لغة، كتابة "ج1"ج 3، 46، 52، 272 "ج2" 68، 70، 611، 624 "ج3" 143، 145، 147، 149، 150، 153 "ج4" 354، 511، 555 "ج5" 112، 147، 148،

166، 168، 192، 293، 400 "ج6" 11، 24، 41، 170، 199، 232، 293، 307، 309، 323، 292، 307، 328، 335، 401 "ج7" 37، 106 "ج8" 85، 133، 142، 154، 211، 212، 512، 232، 236، 241، 245، 275، 276، 284، 437، 510، 450، 579، 640، 673، 676، 679 "ج9" 13، 59 الصيداني: نسب "ج7" 245 الصيني: نسب "ج6" 85 "ج7" 518 "ج8" 78

الطاء

الطاء: الطائي: نسبة "ج8" 689 طائية: نسبة "ج4" 619 "ج8" 590 "ج9" 16، 435 الطورسينائية: أبجدية "ج8" 147، 214 الطوطمية: مذهب "ج1" 512، 519، 521، 523 "ج6" 46، 48، 208، 708، 709

العين

العين: عبادي: نسب "ج3" 169 العبراني: تراث، قلم، نص :ج1" 85، 122، 238، 642، 658 "ج2"، حا 230، حا 297، 624 "ج3" 176 "ج4" 134 "ج5" 311 "ج6" 311 "ج6" 23، 135، 453، 503، 532، 658، 660، 679، 688، 732 "ج7" 544 "ج8" 108، 149، 153، 193، 241، 256، 271، 323، 695، 697، 746 "ج9" 73، 128، 130، 132، 133، 768 العبرانية: لغة، لفظة، أصل "ج1" 18، 19، 29، 30، 33، 43، 56، 87، 123، 124، 127، 138، 170، 180، 199، 202، 222، 223، 225، 229، 254، 294، 356، 376 387، 389، 411، 413، 451، 462، 488، 497، 499، 522، 563، 598، 627، 630، 632، 637، 642، 659 "ج2"، حا 92، حا 120، 121، 256، 259، 607 "ج3" 10، 77، 80، 155 "ج4" 303، 555 "ج5" 103، 163، 164، 192، 311، 422، 426، 429، 430، 477، 451، 464، 571، 581، 588، 620 "ج6" 7، 11، 17، 23، 27، 38، 72، 128، 250، 264، 299، 300، 322، 421، 422، 456، 503، 508، 512، 513، 526، 530، 532، 551، 553، 555، 559، 566، 567، 569، 582، 649، 657، 680، 682، 617، 722، 730، 747

-748، 756، 775، 777، 786، 787 "ج7" 33، 58، 61، 203، 418، 419، 422، 478، 557، 560، 569، 570، 574، 576، 584، 593، 604، 606، 607، 613، 615، 628، 634 "ج4" 33، 63-64، 108، 114، 134، 141، 169، 160، 171، 198، 300، 214، 241، 254، 256، 258، 277، 282، 284، 288، 291، 293، 294، 304، 319، 323، 324، 354، 402، 413، 423، 431، 432، 437، 440، 459، 469، 504، 523، 528، 533، 535، 545، 547، 555، 604، 606، 616، 668، 676، 679، 688، 695، 696، 699، 703، 704، 706، 714، 768، 770، 775 "ج9" 124، 128، 130، 133، 135، 182، 427 العبري: مصطلح "ج8" 545 العبرية: لغة "ج8" 653 عبسي: نسبة "ج9" 859 العبشمي: نسبة "ج9" 482 العثماني: نسب "ج2" 396 عدناني: أصل "ج1" 385، 476، 477، 479، 486، 487، 494، 501، 505، 517 "ج4" 321، 469 "ج5" 345 "ج6" 442 "ج7" 526 "ج8" 673 "ج9" 79 العدنانية: كتابة، لهجة، ثقافة، عصبية "ج1" 469، 537 "ج8" 539، 545، 562، "ج9" 379، 380، 382، 384، 424، 437، 803 العراقي: نسب "ج1" 55، 527، 562 "ج4" 325 "ج5" 487 "ج8" 11، 80 "ج9" 80، 659، 673، 674 عراقية: ثقافية، روح "ج1"، 553، 568، 570، 575، 619، 658 "ج2" 163 "ج3" 102، 134 "ج7" 564 "ج8" 11، 12، 520 العربي: نسب –تراث، لسان، شعر، مجتمع، تاريخ "ج1" 13، 14، 16، 18، 21، 22، 24، 25، 33، 100، 123، 125، 127، 134، 137، 138، 180، 184، 197، 199، 205، 213، 232، 237، 245، 251، 261، 265، 277، 282، 283، 288، 290

-292، 331، 344، 345، 360، 380، 416، 420، 448، 466، 481، 500، 506، 508، 513، 516، 525، 527، 576، 578، 588، 596، 623، 629، 631، 632، 634، 650، 653، 654، 656، 660، 661 "ج2" 8، 42، 122، 163، 262، 518، 604، 609، 612، 621، 624، 644 "ج3" 5، 10، 11، 112، 115، 144، 147، 156، 158، 302، 339، 406، 414، 440، حا 448، 449، 452 "ج4" 120، 122، 175، 272، 280، 300، 301، 315، 324، 353، 370، 374، 387، 390، 408، 455، 550، 557، 609، 611، 630 "ج5" 34، 44، 67*106، 107، 111، 133، 178، 185، 200، 201، 218، 327، 335، 393، 479 "ج6" 24، 63، 81، 176، 233، 311، 331، 453، 492، 493، 495، حا 499، 503، 514، 515، 531، 532، 577، 578، 590، 597، 599، 604، 606، 611، 625، 669 677، 680، 681، 689، 590، 698، 719 "ج7" 6، 14، 36، 66، 108، 164،227، 237، 245، 250، 261، 262، 326، 335، 461، 468، 477، 506، 534، 536، 544، 547، 574، 594، 627، 631 "ج8" 10، 12، 26، 27، 37، 38، 42، 43، 49، 51، 57، 66، 68، 70، 72، 83، 87، 108، 111، 115، 142، 143، 149، 152، 154، 156، 162، 164، 168، 170، 173، 175، 177، 179، 181، 184، 190، 193، 194، 197، 201، 203، 205، 252، 254، 262، 275، حا 325، 341، 342، 355، 356، 363، 373، 376، 426، 445، 469، 519، 537، 538، 541، 542، 544، 557، 585، 587، 588، 595، 604، 608، 624، 626، 641، 642، 645، 653، 658، 663، 664، 667، 669، 671، 674، 675، 677، 680، 686، 689، 692، 694، 695، 697، 699، 701، 705، 706، 718، 723، 726، 729، 746، 764

783 "ج9" 5، 7، 8، 11، 15، 17، 18، 29، 33، 35، 43، 47، 51، 57، 59، 64، 67، 69، 73، 74، 95، 98، 101، 102، 125، 127، 129، 135، 139، 140، 156، 157، 161، 162، 185، 189، 202، 207، 215، 267، 276، 291، حا 300، 345، 373، 376، 403، 406، 414، 418، 427، 428، 436، 442، 451، 514، 564، 574، 761، 675، 795، 820، 840، 842، 887، 907 العربية: لغة، موارد، ترجمة، ثقافة "ج1"، حا 17، 33، 35، 40، 44، 46، 49، 51، 81، 84، 85، 89، 103، 105، 109، 118، 123، 125، 127، 128، 134، 135، 138، 141، 156، 164، 173، 176، 181، 192، 199، 204، 208، 217، 222، 223، 225، 236، 236، 237، 243، 252، 254، 256، 262، 266، 268، 270، 272، 293، 299، 300، 306، 321، 322، 325، 331، 342، 346، 354، 363، 378، 398، 411، 414، 423، 427، 428، 432 434، 442، 444، 451، 460، 474، 489، 496، 498، 501، 506، 507، 647، 653 "ج2"، حا 91، 173، حا 197، حا 225، 259، 498، 517، 615، 620، 646، حا 653 "ج3" 8، 14، 35، 36، 55، 58، 75، 78، 81، 89، 102، 106، 107، 112، 113، 130، 133، 144، 156، 172، 192، 205، 218، 269، 289، 290، 302، 378، 379، 413، 450، 451، 466، 469، 471، 473، 487، 504، 524، 537، 538 "ج4" 9، 13، 32، 121، 122، 160، 181، 274، 276، 279، 286، 290، 293، 309، 323، 327، 369، 390، 391، 401، 416، 528، 544، 545، 550، 553، 555، 556، 558، 566، 575، 589، 594 "ج5" 9، 10، 15، 19، 120، 126، 144، 148، 149، 180، 185، 189، 191، 236، 289، 290، 295، 297، 304، 305، 327، 329، 641، 393، 395، 428، 453، 464، 504، 506

528، 613، 620 "ج6" 5، 7، 8، 17، 19، 23، 25، 31، 38، 55، 72، 73، 116، 117، 131، 174، 212، 250، 283، 284، 292، 308، 317، 322، 333، 397، 401، 453، 480، 490، 503، 513، 526، 527، حا 529، 531، 550، 552، 553، 555، 559، 561، 565، 566، 568، 569، 572، 582، 585، 594، 603، 607، 625، 629، 634، 639، 643، حا 646، 649، 650، 653، 657، 659، 663، 671، 678، 680، 681، 688، 690، 692، 695، 707، 708، 740، 743، 747، 756، 774، 787 "ج7" 35، 37، 43، 49، 52، 61، 63، 95، 101، 108، 175، 166، 174، 175، 186، 188، 203، 205، 228، 232، 238، 240، 243، 247، 250، 251، 253، 255، 258، 259، 262، 265، 267، 269، 271، 273، 276، 320، 324، 325، 366، 369، 401، 450، 459، 469، 476، 489، 491، 510، 532، 534، 455، 545، 549، 553 -554، 557، 561، 565، حا 567، 569، 586، 601، 604، 607، 613، 614، 622، 628 "ج8" 10، 13، 622، 628 "ج8" 10، 13، 17، 32، 34، 50، 58، 60، 63، 64، 81، 91، 106، 108، 111، 113، 118، 120، 152، 155، 158، 160، 162، 164، 167، 170، 172، 182، 184، 186، 188، 191، 193، 195، 200، 201، 207، 209، 212، 213، 215، 218، 220، 237، 240، 241، 247، 248، 250، 252، 253، 258، 262، 263، 273، 276، 279، 280، 284، 286، 289، 291، 295، 296، 298، 309، 311، 312، 315، 316، 320، 321، 323 324، 326، 332، 336، 340، 342، 347، 354، 361، 368، 369، 373، 376، 379، 392، 415، 423، 427، 432، 436، 438، 446، 454، 459، 462، 465، 467، 469، 488، 493، 501، 505، 511، 516، 520، 525، 528، 529، 531، 534، 539، 542، 544، 564، 551، 553، 560، 563، 567، 476، 588-

591، 593، 595، 600، 602، 605، 608، 609، 615، 617، 620، 621، 623، 630، 632، 640، 644، 648، 653، 657، 659، 666، 668، 672، 288، 692، 706، 711، 715، 718، 720، 721، 724، 729، 732، 749، 767، 770، 775، 781، 791 "9" 5، 7، 11، 13، 17، 20، 27، 38، 40، 51، 53، 54، 57، 63، 67، 74، 77، 79، 81، 123، 138، 141، 151، 160، 161، 164، 169، 185، 195، 196، 202، 211، 214، 218، 263، 264، 289، 291، 292، 296، 297، 303، 312، 313، 317، 332، 365، 369، 372، 374، 376، 382، 387، 419، 425، 427، 428، 435، 438، 508، 515، 551، 654، 657، 658، 674، 675، 685، 737، 741، 804، 907 العروبة: قومية "ج2" 34، 587 "ج4" 299 العيلامية: لغة "ج1" 18

الغين

الغين: الغساني: النسب "ج3" 235، 322، 323، 369، 415 "ج4" 314 "ج6" 578 "ج8" 406 غسانية: موارد "ج3" 230 الغفيلي: نسبة "ج9" 660 غنية: لهجة "ج8" 320

الفاء

الفاء: الفارسي: أصل، نص، لسان "ج1" 17، 210، 611، 626 "ج2" 265، 604، 647 "ج3" 101، 292، حا 505، 528 "ج4" 164، 325، 475 "ج5" 109، 123، 138، 201، 245، 321 "ج6" 7، 661 "ج7" 43، 61، 63، 238، 255، 259، 283، 324، 335، 460، 477، 496، 503، 516، 544، 566، 576، 592، 607، 609، 611، 618، 625، 632

636 "ج8" 61، 79، 271، 285، 341، 363، 395، 705، 716، 726 "ج9" 37، 101، 672، 720 الفارسية: لغة، موارد "ج1" 32، 33، 81، 144، 412، 426 "ج2"، حا 202، 289، حا 302، 604، 619، 634، 644 "ج3" 102، 223، حا 249، 302 "ج4" 120، 228، 391، 486، 996 "ج5" 8، 52، 56، 109، 112، 120، 138، 201، 272، 289، 291، 298، 305، 318، 323، 324، 328، 416، 429، 431، 442، 452، 543 "ج6" 146، 401، 432، 656، 663، 664، 692، 693، 724 "ج7" 33، 35، 43، 81، 121، 123، 126، 259، 283، 283، 325، 413، 558، 562، 566، 571، 572، 575، 590، 592، 604، 610، 613، 615، 625، 628 "ج8" 11، 23، 42، 580، 61، 108، 109، 133، 200، 201، 250، 253، 265، 269، 284، 287 295، 312، 320، 336، 341، 347، 384، 376، 520، 551، 616، 621، 633، 645، 695، 697، 699، 704، 706، 710، 712، 715، 716، 718، 720، 724، حا 726، 727، 729 "ج9" 11، 332، 342، 568، 672، 675، 741، 807، 817 فرثية: نسب "ج2" 611 "ج3" 157 الفرنسي: أصل "ج1" 126، 128، 143، 257، حا 294 الفرنسية: لغة "ج1"، حا 125، 272 "ج2"، حا 230 "ج3" 493 "ج4" 610 "ج8" 706 "ج9" 508، 636 فزارية: نسبة "ج4" 619 فهلوي: نسب "ج6" 695 الفهلوية: موارد: "ج4" 160 "ج6" 695 "ج7" 503، 624، 627 الفينيقي: قلم "ج1" 233 "ج2" 78 "ج8" 11، 214، 229، 246 الفينيقية: لغة، كتابة "ج1" 122، 223، 225 "ج8" 12، 147، 152، 174، 214، 244، 247

القاف

القاف: القبطي: أصل "ج4" 357 القبطية: لفظة، نسبة، لغة "ج7" 57، 603 "ج8" 133، 253، حا 284، 554، 696 "ج9" 741 قتباني: نص "ج1" 130 "ج2" 590 "ج5" 473، 582، 584 "ج6" 172، 294، 313 "ج8" 74 القتبانية: كتابة، لغة "ج1" 47، 97، 137 "ج2" 104، 171، 174، 176، 179، 180، 182، 182، 184، 186، 188، 189، 200، 202، 204، 206، 212، 218، 220، 226، 232، 266، 498، 514 "ج4" 276، 551، 553، 554، 565 "ج5" 215، 228، 238، 241، 280، 282، 307، 311، 492، 581، 584 "ج6" 11، 168، 169 172، 189، 201، 291، 299، 301، 302، 308 "ج7" 231، 232، 490 "ج8" 212، 447، 448، 686 قحطاني: أصل، نسب "ج1" 385، 397، 476، 477، 479، 486، 487، 494، 501، 505، 506، 517 "ج4" 321، 538 "ج6" 442، 599 "ج8" 673 "ج9" 79، 113، 451 قحطانية: موارد، رواية، ثقافة، عصبية، لغة "ج1" 369 "ج4" 275، 320، 322، 328، 329 "ج6" 715 "ج8" 60، 539، 455، 629، 641، 652، 653، 656 "ج9" 379، 382، 424، 436، 437، 452 القرآني: نص "ج8" 548

"ج9" 74 القرآنية: موارد، لهجة "ج6" 575 "ج8" 633، 677، 680 "ج9" 17، 59، 436، 757 قرشي: نسب "ج4" 19، 24، 26، 331، 339، 369 "ج5" 617 "ج7" 260، 323 "ج8" 564، 646، 658 "ج9" 381، 619، 712 قرشية: "ج4" 369 "ج5" 17 "ج7" 290 "ج8" 616، 633، 636، 637، 646، 649، 665 "ج9" 343، 382 القسامة: مذهب "ج4" 108 القضاعي: نسب "ج7" 603، 626 القضاع: نسب "ج4" 41 قيسي "نسب "ج4" 324 القيسية: نسبة "ج4" 506

الكاف

الكاف: كاثوليكي: نسب "ج3" 296 الكاثوليكية: مذهب "ج1"، حا 18 411، حا 436، 462، 642 الكلاسيكية: مؤلفات، موارد "ج1" 123، 142، 163، 199، 249، 298، 324، 379، 423، 439، 564 الكلبي: نسبة "ج9" 779 كلبية: نسبة "ج4" 226، 240، 429 "ج9" 382 كلداني: نسبة "ج8"695 كلدانية: لغة، لهجة "ج1" 294، 568 "ج8" 695 الكناني: نسب "ج3" 509 كندي: نسب "ج3"239 "ج4" 197 كندية: بيئة "ج8" 633 الكنعاني: خط "ج8" 147، 214، 230 الكنعانية: كتابة، لغة "ج1" 222، 223، 225 "ج8" 147، 149، 214

533 كوشي: نسب "ج6" 538 كوشية: نسبة "ج6" 538 "ج8" 213 الكوفي: خط "ج3" 7 "ج4" 143 "ج7" 208 "ج8" 137، 155، 159، 171، 173، 175، 311، 577 "ج9" 32، 214، 425 الكوفية: كتابة "ج8" 174

اللام

اللام: لاتيني: أصل، نسب "ج6" 5، 46، 369 "ج7" 503، 544، 631 "ج8" 244، 427، 720، 723، 725 اللاتينية: مؤلفات، لغة "ج1" 14، 34، 43، 56، 62، 65، 81، 123، 141، 295، 443، 445 "ج2" 28، 180، 259، 256، 266، 609، 624، 641 "ج5" 51، 189 "ج6" 11، 21، 173، 310، 401، 410، 625، 629، 688، 690، 784 "ج7" 44، 232، 244، 259، 256، 503، 586، 613، 630 "ج8" 35، 63، 105، 188، 217، 238، 243، 245، 256، 258، 285، 316، 318، 336، 423، 427، 523، 532، 454، 644، 699، 704، 707، 722، 724 "ج9" 13، 133 اللاوية: نصوص "ج6" 551 لبنيه: لبنا، كتابة "ج2" 159 اللحياني: خط، نص، نسب "ج2" 255 "ج3" 75، 144 "ج8" 153، 200، 210، 230، 232، 235، 236، 241 اللحيانية: كتابة، لغة "ج1" 33، 46، 52، 169، 272، حا 329 "ج2" 119، 244، 246، 248، 249، 253، 256

"ج4" 555 "ج5" 51، 102، 147، 167، 168، 192، 332، 350، 400، 675، 572، 576، 582، 592، 594619 "ج6" 11، 54، 72، 117، 199، 213، 294، 309، 312، 319، 321، 327، 426، 784 "ج8" 17، 20، 28، 29، 35، 54، 67، 113، 142، 211، 212، 215، 230، 234، 236، 238، 240، 241، 273، 276، 453، 510، 534، 540، 579، 640، 673، 679 "ج9" 13، 59 اللياني: خط "ج8" 240 الليانية: نصوص "ج6" 192

الميم

الميم: المجوسية: دين "ج2" 648 "ج4" 184، 528 "ج6" 6، 10، 34، 146، 399، 542، 595، 691، 695 "ج7" 476 "ج8" 270، 651، 715، 716 مخرومي: نسب "ج4" 339 مدلجي: نسب "ج6" 774 المدني: خط "ج8" 311 مرية: نسبة "ج4" 619 مريغان: نص "ج4" 549 المذهبات: قصائد "ج9" 724،726 المزدكية: مذهب "ج3" 334، 337، 341، 343 "ج4" 160، 161 "ج6" 693 المسمارية: كتابة "ج1" 625، 643، 656 "ج6" 744، 784 "ج8" 147 149، 535 المسند: كتابة "ج8" 142، 143، 153، 154، 156، 158، 163، 164، 168، 178، 179، 184، 190، 194، 202، 206، 208، 210، 212، 221

226، 229، 236، 238، 239، 241، 247، 512، 514، 516، 518، 535، 510، 564، 549، 591، 639 المسيحية: ديانة "ج8" 637 المشق: قلم "ج8" 155، 157، 173، 281، 310، 311 مصري: نسب، نطق "ج1" 557، 584، 585، 627 "ج2" 36، حا 138 "ج3" 54، 112، 115 "ج7" 264، 267 "ج8" 51، 80 المصرية: أساطير، لهجة، لغة، "ج1" 183، 236، 255، 329، 433، 435، 552 "ج2"، حا 180، حا 255، 226، 230 "ج3" 107، 112، 113 "ج6" 180 "ج7" 487، 553، 586، 634 "ج8" 12، 66، 191، 569 "ج9" 29 المضري: لسان: "ج1" 420 "ج4" 331 "ج7" 320، 375 :ج8" 633 مضرية: لهجة "ج8" 671، 689 معدي: نسب "ج1" 386 "ج9" 806 معدية: مصطلح "ج1" 385 المعلقات السبع: قصائد "ج8" 632 معلقة لبيد: قصيدة "ج8"، حا 278 المعيني: نص، نسب "ج1: 103 "ج2" 118، 323، 404 "ج5" 182، 280، 507 "ج6" 321 "ج7" 165 المعينية: كتابة، لغة "ج1" 33، 97، 129، 137، 169، 225 "ج2" 21، 51، 124، 174، 176، 207، 245، 508 "ج4" 128، 130، 276 "ج5" 22، 279، 314، 454، 462، 532، 569، 619، 620 "ج6" 11، 168، 175، 212، 313، 293، 295، 301، 302، 309، 312، 332، 426 "ج7" 511 "ج8" 14، 15، 19، 36، 203، 209، 212، 217، 230، 447، 686 المفضلية: قصيدة "ج9"، حا 472، حا 478، حا 497 المقدوين: نسب "ج2" 11 "ج3" 28 مكرب: نسب "ج2" 168، 177، 179، 187، 191، 209، 210، 268، 273، 275، 278، 281، 283 مكربي: مقربي نسب "ج1" 589 المكي: خط "ج8" 311 الملكلية: مؤلفات "ج3" 165

المنصفة: قصيدة "ج9" 504 المفولي: جنس "ج1" 239 المنوفيزيتي: مذهب "ج6" 592 المنوفيزيتية: مذهب "ج4" 167 المهري: لغة، لهجة "ج1" 173، 185 "ج6" 725 "ج8" 593 الموابية: لغة "ج1" 225

النون

النون: النازية: نزعة "ج1" 257 نبطي: نسب، قلم "ج2" 624 "ج3" 7، 11، 13، 45، 47، 54، 91، 183 "ج4" 290، 308 "ج5" 54 "ج6" 324، 434، 599 "ج7" 493، 544، 608 "ج8" 153، 169، 171، 172، 174، 176، 178، 181، 193، 194، 201، 202، 214، 246، 647، 705 "ج9" 139، 201 النبطية: نصوص –كتابة، لغة "ج1" 89، 133، 222، 305، 329، 380، 612، 647 "ج2" 9، 65، 245، 256، 620، 624 "ج3" 6، 8، 14، 16، 18، 23، 49، 51، 52، 54، 57، 89، 166 "ج4" 57، 143، 511 "ج5" 158، 168، 185، 192، 193، 521، 292 "ج6" 55، 169، 172، 253، 284، 292، 300، 303، 309، 321، 324، 328، 401، 413، 415، 513، 527 "ج7" 43، 242، 493، 494، حا 608 "ج8" 153، 168، 175، 177، 179، 186، 191، 201، 245، 247، 282، 284، 510، 540، 549، 616، 638، 640

646، 679، 680، 682، 696، 697، 706 "ج9" 13، 59، 675 النجاشي: نسبة "ج1" 171، 387، 481 "ج2" 367، 376، 377، 501، 657 "ج3" 22، 458، 459 "ج6" 368 نجدي: نسب "ج6" 80 نجدية: ألفاط "ج6" 664 "ج8" 627 "ج9" 117، 402، 674، 807 نزاري: نسبة "ج1" 506 "ج4" 324 "ج9" 451 النزارية: لهجة –لغة "ج1" 356، 485، 500، 506 "ج9" 451، 452 النسخ: خط "ج8" 172 النسناس: اسطورة "ج1" 342 نسطوري: نسبة، مذهب "3" 174، 285 "ج6" 626 "ج8" 190 النسطورية: كتابة، مذهب "ج3" 165، 172، 284 "ج6" 612، 614، 625، 627، 630 النصراني: نسب، شعر "ج1" 122، 412، 415 "ج2" 585، 621 "ج3" 12، 73، 165، 236، 258، 291، 298، 398، 429، 452، 462 469، 472، 478، 501، 510، 511 "ج4" 121، 168، 437 "ج6" 24، 256، 463، 467، 472، 492، 493، 503، 565، 583، 585، 586، 589، 592، 600، 603، 624، 642، 650، 665، 669، 671، 690، 731، 732 "ج8" 39، 111، 206، 249، 273، 301، 326، 727، 783، 788 "ج9" 117، 11، 268402، 473، 543، 570، 576، 580، 581، 590، 670، 674، 677، 683، 685، 702، 792، 794، 795، 807، 811، 812، 829، 880، 896 النصرانية: دين "ج1" 37، 38، 61، 65، 71، 85، 89، 120، 121، 123، 136، 237، 271، 280، 285، 328، 578 "ج2" 25، 63، 421، 526، 567، 582، 594، 628، 646، 648 "ج3" 68، 72، 102، 112، 130، 140، 165، 171، 172، 204، 284، 300، 385، 392، 394، 379، 430، 439، 451، 452، 456، 458، 461، 463، 466، 469، 470، 476، 491، 494

506، 517، 518، 528، 533، 538 "ج4" 120، 165، 171، 175، 189، 190، 203، 209، 213، 214، 232، 234، 237، 239، 241، 243، 248، 262، 266، 269، 290، 293، 463، 474، 489، 491، 528، 628 "ج5" 101، 103، 106، 119، 180، 183، 205، 297، 329، 542 "ج6" 6، 11، 14، 18، 34، 36، 37، 39، 40، 66، 110، 114، 132، 135، 154، 218، 219، 297، 372، 373، 402، 417، 450، 453، 458، 460، 464، 469، 471، 492، 495، 496، 501، 504، 508، 540، 549، 551، 572، 573، 582، 583، 585، 593، 595، 599، 601، 63، 605، 607، 617، 619، 631، 623، 626، 628، 630، 632، 634، 635، 638، 639، 645، 647، 650، 653، 654، 656، 659، 660، 662، 664، 666، 669، 673، 676، 677، 682، 683، 686، 690، 694، 715، 731، 738 "7" 51، 244، 280، 286، 475، 476، 604 "ج8" 40، 110، 115، 153، 156، 172، 178، 179، 196، 213، 249، 283، 293، 297، 299، 322، 326، 368، 376، 385، 412، 475، 524، 687، 699، 702، 704، 713، 715، 727، 728، 762، 783 "ج9" 47، 49، 50، 77، 93، 214، 282، 427، 428، 433، 543، 594، 659، 674، 703، 728، 793، 796، 807، 809، 811، 817، 822 نقش حران: نقش، كتابة "ج8" 177 النمارة: نص "ج1" 89، 396 "ج2" 442، 507، 548، 549 "ج3" 172، 173، 189، 190، 193، 535 "ج4" 176، 476، 538، 539 "ج5" 148، 166، 192، 207 "ج8" 169، 175، 176، 179، 181، 248، 438، 454، 510، 518، 520، 540، 644، 646، 647، 680 نمساوي: نسب "ج1" 129، 223

الهاء

الهاء: هاشمي: نسب "ج4" 339 الهاشميات: قصائد: ج9" 510 هاشمية: نسبة، ابيات "ج4" 369 "ج7" 624، 625 "ج9" 699 الهررية: لهجة "ج8" 536 الهرقلية: نسبة "ج7" 496 هرم: نص "ج8" 541 الهللينية: كتابة "ج3" 18 همدانية: كتابة "ج2" 114، 329، 355، 366 الهند أوروبية: لغات "ج8" 526 الهدو جرمانية: لغة "ج8" 526، 533 الهندواني: نسب "ج3" 247 الهندي: نسب "ج7" 64، 237، 238، 249، 265، 613 "ج8" 78، 80، 394 هندية: ديانة "ج1" 430 "ج3" 22 "ج6" 10، 173، 174، 180 "ج7" 256، "ج8"، حا 284، 696، 705 الهولندي: نسب "ج1" 130 الهيروغليفية ذ: كتابة "ج6" 784 "ج8" 146، 149، 151 الهيلليني: طابع "ج3" 18، 83 "ج8" 11، 68، 81، 82، 85، 86 الهيللينية، الهيلينية: ثقافة "ج2" 31 "ج3" 45، 83

الواو

الواو: الوثنية: دين "ج1" 121، 136، 285، 350 "ج2" 648 "ج3" 108478، 528، 531 "ج4" 269، 290، 293، 656 "ج6" 11، 15، 18، 28، 36، 41، 57، 62، 186 297، 417، 431، 525، 540، 544، 596، 609، 626، 629، 652، 665، 682، 687، 688 "ج7" 157 "ج8" 90، 115، 142، 626 الوهابية: حركة "ج1" 132

الياء

الياء: اليتيمة: قصيدة "ج9" 159، 882 يطورية: أسماء "ج2" 624 اليعقوبي: مذهب "ج6" 626-632، 633، 695 اليعقوبية: مذهب "ج3" 165،، حا 220 "ج6" 592، 625، 633 اليغاريتية: نصوص "ج8" 148، 149 اليماني: طابع نسب "ج1" 87، 93، 217، 284، 476

483، 492، 502، 505، 633 "ج2" 593، 595 "ج3" 501 "ج4" 12، 280، 234 "ج5" 338 "ج6" 59، 818 "ج7" 73، 518، 525، 626 "ج8" 7، 28، 50، 62 "ج9" 74 اليمانية: كتابة، لهجة، لغة "ج1"، حا 15، 92، 94، حا 98، 103، 104، 127، 132، 304، 356، 364، حا 390، 483، 485، 486 "ج2" 244، 283، 332 "ج4" 156، 508 "ج5" 9، 21، 54، 55، 399 "ج6" 375، 445، 715 "ج7" 48، 51، 55، 171، 492، 517، 524، 539، 597، 559، 601 "ج8" 7، 23، 83، 555، 593، 641، 656، 692 "ج9"74، 379، 380، 383، 406، 424، 451 اليمني: نسبة "ج8" 366 اليمنية: نسبة "ج8" 293، 576، 658 يهودي: نص، نسب "ج1" 84، 87، 128، حا 179، 411، 541، 443، 455، 604، 632، 656، 659 ، حا"ج27، 38، 175، 261، 358، 478 "ج6" 37، 230، 231، 463، 520، 532، 539، 549، 574، 575، 577، 578، 581، 611، 642، 757، 819 "ج7" 423، 508، 514 "ج8" 105، 160، 364، 463، 467، 699، 769 "ج9" 273، 467، 556، 673، 736، 768، 770، 772، 789، 790 اليهودية: دين "ج1" 32، 54، 120، 121، 136، 166، 237، 271، 295، 300، 311، 346، 352، 411، 428، 435، 604، 655، 656659، 661 "ج2" 40، 250، 526، 569، 582، 641، 648 "ج3" 31، 38، 71، 109، 112، 177، 460، 461، 469، 528، 536 "ج4" 146، 150، 248، 303، 370 "ج5" 101، 104، 183، 205، 432، 486، 523، 544 "ج6" 6، 11، 14، 18، 31، 34، 38، 40، 132، 145، 153، 219، 263، 306، 307، 372، 450، 453، 458، 461، 163، 469، 495، 508، 509، 511، 516، 524، 525

532، 537، 542، 549، 552، 557، 560، 569، 582، 583، 587، 608، 611، 620، 634، 636، 676، 682، 687، 688، 715، 723، 731، 738 "ج7" 476 "ج8" 293، 295، 322، 326، 453، 485، 505، 637، 699، 703، 715 "ج9" 77، 768، 772، 791 اليوناني: نص، فن "ج1" 59، 63، 268، 270، 335، 444، 447، 624 "ج2" 19، 31، 33، 113، 501، 511، 585، 604 "ج3" 29، 54، 89، 114، 143، 183، 472 "ج4" 9، 10، 122 "ج5" 168، 201، 297، 328 "ج6" 35، 233، 458، 619، 639، 642، 651، 653، 657، 688 "ج7" 254، 263، 265، 269، 270، 279، 280، 493، 496، 544، 565، 596، 606، 624 "ج8" 11، 12، 39، 68، 70، 71، 80، 86، 177، 253، 262، 316، 340، 341، 417، 427، 545، 697، 702، 720، 722، 725 "ج9" 47، 48، 50 199 اليونانية: لغة، موارد، مؤلفات "ج1" 14، 22، 30، 34، 43، 51، 52، 55، 56، 58، 61، 65، 75، 79، 81، 84، 85، 123، 135، 140، 141، 164، 180، 193، 295، 443، 445، 447، 598، 621، 627، 651 "ج2" 19، 24، 28، 33، 56، 63، 64، 133، 124، 227، 244، 253، 259، 265، 266، 500، 604، 611، 621، 624، 629، 656، 658 "ج3" 6، 15، 29، 40، 45، 51، 52، 54، 57، 60، 69، 80، 81، 86، 87،89، 92، 103، 107، 131، 165، 409، 412، 418، 441، 451، 461، 463، 466، 514 "ج4" 143، 287، 669 "ج5" 19، 53، 99، 106، 189، 219، 514، 426، 442، 455، 486، 508، 607 "ج6" 11، 21، 23، 138، 173، 174، 180، 233، 250، 310، 312، 323، 324، 327، 330، 418، 503، 527، 556، 585، 588، 608، 612، 615، 625، 628، 639، 651، 680، 681، 688

690، 692، 735، 784 "ج7" 44، 232، 244، 258، 263، 265، 266، 271، 276، 279، 281، 282، 324، 473، 476، 477، 487، 493، 495، 498، 503، 553، 564، 565، 575، 585، 586، 593، 606، 613، 627، 630، 634 "ج8" 11، 12، 42، 66، 70، 71، 74، 81، 153 176، 177، 187، 198، 199، 253، 256، 262، 312، 318، 336، 340، 348، 354، 363، 376، 412، 427، 484، 519، 523، 532، 533، 545، 644، 696، 699، 701، 715، 718، 720، 722، 724 "ج9" 7، 13، 43، 47، 49، 291، 428

فهرس السور القرآنية

فهرس السور القرآنية: الألف: إبراهيم: "ج1"، حا 322 "ج6"، حا 44، حا 72، حا 429 "ج7"، حا 287 "ج8" حا 357، حا 604، حا 607، حا 654 "ج9" حا 285 الأحزاب "ج1" حا 38، حا 40 "ج4"حا 358 "ج5" حا 479 الأحقاف "ج1" حا 25، حا 151، حا 304، حا 320 "ج8" حا 541، حا 607 الإسراء: "ج1" حا 200، حا 323، 451 "ج4" 542، 652 "ج5" حا 39، حا124، حا 136، حا 150، حا 710، حا 738 "ج7" حا 443، حا 446، حا 621 "ج8" 610، حا641 إسرائيل "ج8" 305 الأعراف "ج1" 39، حا 306، حا 323، حا 452 "ج4" حا 17، حا 143، حا 478، حا 495 "ج6" حا 44، حا 72، حا 83، حا 361، حا 371، حا 488، حا 554، حا 560، حا 710 "ج7" حا 244، حا 261 "ج8" حا 94، حا 372، حا 608، حا 615 "ج9" 715، حا 753 الأعلى: "ج"حا 226 آل عمران "ج1"، حا 200، 451 "ج3" حا 6 "ج4" حا 11، حا 111 "ج5" 184، 236، حا 627 "ج6" حا 143، حا 190، حا 329، حا 451، حا 456، حا 512، حا 547، 548، حا 552، 553،

حا 618، حا 656، حا 676 "ج7" حا 431، حا 439، حا 497، حا 631 "ج8" 94، 95، 123، حا 722 "ج9" 245، 517، 554 الأنبياء: "ج1" حا 212 "ج6" حا 44، حا 72، حا 555 "ج7" حا 157 "ج8" حا 285 "ج9" حا 244 الأنعام: "ج4" حا 12، حا 652 "ج5" حا 93، حا 95، حا 545 "ج6" حا 50، 51 حا72، حا 104، 105، 120، حا 124، حا 194، حا 265، حا 451، 456، حا 512، حا 709 "ج7" حا 75، حا 443، حا 446، حا 483، 484، حا 621 "ج8" 123، حا 262، حا 377، حا 754 "ج9" 517، حا 654 الأنفال: "ج1" حا 200 "ج4" حا 371 "ج5" حا 479 الانفطار: "ج9" 139 الإيلاف "ج6" 429

الباء

الباء: البروج "ج1" حا 66، حا 323 "ج3"حا 459، 460 "ج8" حا 264، 427، 428، حا 622 البقرة "ج1" 39، حا 311 "ج4"حا 5، حا 50، حا 296، حا 371، حا 384، حا 610 "ج5" حا 142، حا 164حا 483، حا 552، 554حا 577، حا 620حا 622 "ج6" حا 25، حا 44، حا 98، حا 201، حا 209، حا 342، حا 345، حا 350، حا 371، حا 373، حا 381، حا 382، حا 384، حا 390، حا 393

حا 429، حا 431، حا 449، حا 451، حا 456، حا 504، حا 508، حا 512، حا 534، حا 537، حا 548، حا 554، حا 557، حا 560، حا 701، حا 741، حا 756 "ج7" حا 60، حا 248، حا 400، حا 404، حا 420، حا 421، حا 429 حا 431، حا 485 "ج8" حا 91، حا 94، 95، 123، 140، حا 339، حا 484، حا 548، حا 606، حا 609، حا 245، حا 517، حا 553، 554، حا 883 البينة: "ج6" 451 "ج8" حا 266

التاء

التاء: تبت "ج4" 122 "ج7" حا 433، حا 439 تثنية "ج5" حا 139-140، حا 559، حا 562 التغابن "ج6" 124 التكاثر "ج4" حا 589 "ج7" 445 التوبة "ج1" حا 24، حا 280-281، حا 322، 452 "ج5" حا 251، حا 305، 469 "ج6" حا 216، حا 344، حا 522، حا 551، 552، حا 643 "ج7" حا 439، حا 476 "ج8" حا 315، حا 444، حا 472، 473، حا 488، حا 491، حا 495، حا 503، حا 548، حا 615 "ج9" حا 18، حا 45، حا 746 التين "ج5" حا 495 "ج7" حا 74، 75

الجيم والحاء

الجيم والحاء: الجيم: الجاثية "ج8" حا 281 الجمعة "ج6" حا 51، حا 553 "ج7" حا 293، حا 309 "ج8" 94، 95، حا 103 حا 467، 468، حا 608 الجن "ج6" حا 720، حا 746، 759، حا 807 الحاء: الحاقة "ج1" حا 66، حا 306، حا 320، حا 322 "ج6" حا 758 "ج7" 248، حا 624 "ج8"حا 138، حا 170، حا 173، حا 244 الحج "ج1" حا 66، حا 306، حا 322، حا 452، حا 473 "ج5" حا 17، حا 579 "ج6" حا 124، حا 210، حا 429، حا 451، حا 512، حا 651، حا 653، حا 691، حا 701 "ج8"حا 437 الحجر "ج3" حا 56 "ج54" حا 479 "ج7" حا 91، حا 348، حا 443 "ج8" 427، حا 609-610 "ج9" حا 517 الحجرات "ج1" 24، 280حا 510 "ج" 4 "ج" حا 295، حا 317، حا "ج5"حا 135 "ج9" حا 883 الحديد "ج4" حا 592 "ج6" حا 643 الحشر "ج1" حا 200 "ج8" حا 357

الدال والذال

الدال والذال: الدال: الدخان "ج1" 66 "ج2" حا 513 "ج5" حا 193 "ج6" حا 125 "ج8" حا 400 الدهر "ج7"حا 236 الذال: الذاريات "ج1" 323

الراء والزاي

الراء والزاي: الراء: الرحمن "ج7" حا 248، حا 446 "ج8" 85، حا 764 الرعد "ج1" حا 25 "ج4" حا 371 "ج6" حا 40، حا 87، حا 124 "ج8" حا 541، حا 607، 641 الروم "ج4" حا 116، 117 "ج6" حا 451 "ج7" حا 432 "ج9" حا 18 الزاي: الزخرف "ج1" حا 25، حا 278 "ج4" حا 49، 50، حا 109، 152 "ج5"حا 104، حا 120، حا 165 "ج6" حا 738 "ج449 "ج8"حا 541، حا 607 حا 663 "ج9" حا 654 الزمر "ج1" حا 25 "ج5" حا 482 "ج6"حا 61، حا 104، حا 148، حا 182 "ج7"حا 443 "ج8"، 541، حا 706

السين والشين

السين والشين: السين: سبأ "ج2" حا 258 "ج3" حا 390، حا 493 "ج6" حا 44، حا 125، حا 710، حا 738 "ج7"حا 201 "ج9" حا 18 الشين: الشعراء "ج1" حا 66، حا 323، حا 451 "ج4" 308 "ج5" حا 500 "ج6" حا 83، حا 555 "ج7" حا 91، حا 449، حا 621 "ج8" 136، حا 165، حا 314، حا 540، حا 544 حا 607، حا 625، حا 764 "ج9" 63، حا 109، حا 149، حا 170، حا 244 الشورى "ج1" حا 25 "ج5" حا 236، حا 482 "ج7" 248 "ج8" حا 451، حا 607، 641

الصاد والضاد

الصاد والضاد: الصاد: الصافات "ج6" حا 25، حا 120، حا 124، حا 165، حا 709، حا 733، حا 738 "ج7" حا 63 "ج8"حا 400 "ج9" حا 244 صالح "ج6"حا 83 الصف "ج6" 553، حا 676 -الضاد: الضحى "ج7" حا 446

الطاء والعين

الطاء والعين: الطاء: الطارق "ج6" حا 167، حا 296 طه "ج1" حا 25، حا 452 "ج5" حا 287، حا 482، حا 496 "ج7" حا 246 "ج8" حا 541، 606، 607، 765 "ج9" حا 18، 19، حا 30 الطور "ج6" 120، حا 165، حا 758 "ج8" حا 262، 314حا 741 "ج9" حا 244 العين: العاديات: "ج8" 618 عبس "ج8" حا 622، حا 665، حا 709 "ج9" 64 العلق "ج8" 253 العنكبوت: "ج1" 322، 323، حا 452 "ج5" 143، حا 234 "ج6" حا 103، 104 "ج7" حا 427 "ج8" حا 92، حا 96، حا 142، حا 275، حا 324

الغين والفاء

الغين والفاء: الغين: الغاشية "ج5" حا 23 غافر "ج7" 443 الفاء: الفاتحة "ج9" 518 فاطر "ج1" حا 451 "ج5" حا 479، حا 513 "ج8" حا 314، حا 548 الفتح "ج1" حا 24، حا 548 "ج4" حا 396 "6" حا 209، حا 553 الفجر "ج1" 299، 300، حا 302، حا 305، حا 323 "ج7" حا 446 "ج8" 587 الفرائض "ج5"259 الفرقان "ج1" 39، حا 306، 322 "ج4" حا 121 "ج5" حا 17، حا 287 "ج6" حا 87، حا 605 "ج8" حا 317، 318، حا 385، حا 597، 598 فصلت "ج1" حا 24، حا 306، حا 322، 323 "ج4" حا 308 "ج6" حا 51، حا 177، حا 338 "ج8" حا 608، حا 610، حا 699 الفلق "ج6" حا 743 الفيل "ج1" حا 66 "ج3" حا 507، 508، 517

القاف والكاف

القاف والكاف: القاف: قريش "ج4" حا 113 "ج5" حا 80 "ج6" حا 395، حا 666 "ج7" حا 285، حا 290 "ج8" حا 642 القصص "ج1" حا 452 "ج7" حا 244 القلم "ج8"حا 253، حا 275 القمر "ج1" حا 320، حا 323، حا 451 الكاف: الكهف "ج14" حا 503 "ج3" حا 72 "ج4" 650 "ج5" 240، حا 305 حا 479، حا 482 "ج7" 247، حا 474 "ج8" حا 356

اللام والميم

اللام والميم: اللام: لقمان "ج4" حا 295، حا 592 "ج6" 104 "ج8" حا 253، حا 319، 344، حا 385، حا 610 الميم: المائدة "ج1" حا 40، حا 278 "ج4" حا 368 "ج5" حا 62، حا 294، حا 545، حا 577، حا 585 ج6" حا 203، حا 209، 210، حا 346، حا 420، حا 429، حا 512، حا 534، حا 551، 553، حا 586، حا 640، حا 643، حا 646، حا 676، حا 701، حا 778 "ج7" حا 19 "ج8" حا 483 "ج9" حا 18-19، حا 30، حا 517 الماعون "ج5" حا 79 المؤمنون "ج5" حا 305 "ج6" حا 124، 125 "ج7" حا 474 :ح8" حا 610 المجادلة "ج5" حا 550، 551 المدثر "ج8" 765 مريم "ج6" حا 339، 340 حا 342 المزمل "ج7" حا 431 المسد "ج4" 112 المطففين "ج7" حا 229، حا 238، حا 446، حا 621 "ج8" 278 الملك "ج7" 443 "ج8" حا 610 "ج8" 304 المنافقون "ج7" حا 443 "ج9" حا 19

النون

النون: النجم "ج1" حا 301، حا 322، حا 333، 334 "ج6" حا 58، 59حا 167، حا 167، حا 227، حا 230، حا 232 "ج 8" حا 430 النحل "ج4" حا 121، حا 308، حا 544، حا 651 "ج5" حا 46، حا 92، حا 97، حا 143، حا 577، حا 579 "ج6" حا 44، حا 120، حا 124، حا 165، حا 451، حا 512، حا 560، حا 604 "ج8"، حا 619، حا 357، حا 467، حا 540، حا 607، حا 625، حا 640، حا 663، حا 764، حا 768 "ج9" 341 النساء "ج4" حا 360، حا 592، حا 619 "ج5" حا 139، حا 141، حا 259، حا 482، حا 495، حا 500، حا 531، حا 542، 543، حا 545، حا 547، 548، حا 553، حا 564، حا 566، حا 637 "ج6"حا 217، حا 451، 456، حا 217، حا 451، 456، حا 512، حا 547، حا 555، حا 756، 757 "ج7حا 426، حا 431، حا 468، حا 631 "ج8" 548، حا 763 "ج9" حا 18، 19، حا 30، 517 النمل "ج1" 14، حا 25، حا

200، حا 202، حا 323، حا 451 "ج2" حا 258، حا 264 "ج6" حا 124، حا 481، حا 492 "ج8" 305 نوح "ج2" حا 115 "ج6" حا 254، حا 258، حا 293، حا 315 النور "ج4" حا 123 "ج5" حا 135-136، حا 139، حا 513، حا 524، حا 561، حا 571 "ج6" حا 25، حا 170، حا 284 "ج7" حا 372، حا 464، حا 466 "ج8" حا 63 "ج9" حا 742

الهاء والواو

الهاء والواو: الهاء: هود "ج1" حا 39، حا 66، حا 323، حا 452 "ج5" حا 495 "ج6" حا 25، حا 83، حا 124، 125 "ج7" حا 443، حا 449، حا 621 "ج8" 305 الواو: الواقعة "ج1" 287 "ج6" 168 "ج8" 400

الياء

الياء: يس "ج6" 486 "ج9" حا 138، حا 173، حا 244 يوسف "ج1" حا 25 "ج5" حا 588 "ج6" حا 44، حا 61 "ج7" حا 443، حا 498، حا 621، حا 633 "ج8" حا 371-372، حا 541، حا 607، 610، 640، حا 698 "ج9" 41 يونس "ج5"، حا 482، حا 495 "ج6" حا 451، 456 "ج8" حا 622 "ج9" 518

فهرس الأصنام

فهرس الأصنام: الألف: أبو إيلاف "ج6" 318، 334 "ج7" 322 أبولو "ج7" 118 أبيريلو "ج1" 592 "ج6" 63، 291 أترسمين: أترسمائين "ج6" 63 أثاع: أثع "ج6" 322، 355 أثر هف "ج2" 63 أثرت "ج6" 299، 333 الأجبل: هجبل "ج3" 152 أدد "ج6" 315 أدون "ج6" 299 أرتيمس "ج2" 32 أرطميس "ج2" 7 أزيزوس "ج6" 171، 310 إساف "ج6" 266، 268، 375، 380، 399، 438 "ج8" 521 الأسحم "ج6" 282 الأسد "ج6" 60، 361 أشر "ج3" 131 الأشهل: "ج4" حا 433 "ج6" 282، 289 أفروديت "ج6" 238 "ج8" 86، 87 الأقيصر "ج4" 462، 508 "ج5" 275، 276 إلى "ج1" 331 الت "ج1" 331 "ج3" 513 إله "ج6" 331 إلهي "ج1" 331 أم عثتر "ج6" 302، 303 أأد "ج3" 84 أنبي "ج1" 119 "ج2" 184، 188، 195، 198، 204، 206، 209، 228، 231 "ج6" 299، 333 أنزاك "ج1" 546، 562 أنليل "ج1" 555 أهلن "ج2" 195 أوال "ج6" 282 أوام "ج2" 272، 273، 302، 317، 338، 328، 329، 335، 338، 340، 346، 360، 370، 371، 374، 376، 379، 380،

393، 422، 429 "ج4" 503 "ج6" 405 "ج8" 43، 47، 53، 420 أورانيا "ج4" 379 "ج6" 292 إيثاؤس "ج6" 324 أيروس "ج4ذ6" 257، 294، 304، 307، 310، 314، 318، 319، 322، 329، 331، 333، 334

الباء

الباء: باجر "ج4" 442 "ج6" 280، 282، 286 باخوس "ج4" 379، 655 "ج6" 292، 416 بحد "ج6" 257، 294 بحر حطبم "ج2" 339 بحل "ج1" 331 برم "برأم" "ج2" 212، 300 برن "ج6" 333 بشر "ج2" 482 بعدن "ج2" 333 بعل "ج1" 331 "ج2" 621 "ج3" 123، 130 "ج6" 299، 306، 307، 310، 314، 316، 322، 325، 326، 329، 330، 333، 334، 335، 402، 539 بعلت "ج1" 331 "ج1" 333، 334 بلج "ج6" 282 بلو "ج6" 295، 308 بنهدد "ج6" 311 بول "ج6" 318

التاء الثاء

التاء الثاء ... التاء والثاء: التاء: تالب "ج1" 101، 119 "ج2" 114، 325، 326، 331، 333، 335، 336، 338، 342، 343، 354، 355، 358، 361، 364، 366، 367، 369، 372، 398، 406، 409، 411، 414444، 445، 452 "ج4" 340، 447، 449 457 "ج6" 37، 304، 334 "ج8" 406 تبحر "ج1" 331 تحوت "ج8" 199 ترد "ج2" 300 تنف "ج2" 327 توت "ج2" 257 "ج6" 317 تيم "ج6" 282 الثاء: ثور بعلم "ج2" 339، 490 "ج6" 174

الجيم والحاء

الجيم والحاء: الجيم: الجبهة "ج6" 282 الجد "ج1" 309، 311، 316، 331، 334 "ج3" 131 "ج6" 282، 284 جد ضيف "ج6" 322، 323، 335 جد عوض "ج3" 148 "ج6" 322، 323، 325، 335 جريش "ج6" 282، 289 جلتقس "ج6" 332 الجلسد "ج6" 280، 305، 407، 409 جهاز "ج4" 517 "ج6" 282، 375 الحاء: حرمت "ج2" 272 "ج6" 333 حطبم: حطب "ج2" 202 حكم: حوكم "ج1" 119 "ج2" 187، 189 "ج6" 299، 300، 305، 334 حلال "ج6" 282، 286 حلفن: حلفان "ج6" 295، 305 حليم "ج6" 334 الحمام "ج6" 282، 286 حمل "ج6" 327 حمن "ج6" 300 حميد "ج6" 320 حول: حويل "ج1" 297، 331، 419 "ج6" 334

الدال

الدال: الدار "ج6" 282 داوأن "ج6" 333 دبر "ج1" 331 الدبران "ج4" 528 "ج6" 20، 57، 167 دبلات "ج1" 592 "ج6" 62 دد: داد "ج6" 331، 332 دلبات "ج1" 591 "ج6" 291 دلفي "ج6" 410 دم ذ ميفعن "ج2" 323 دين "ج6" 322

الذال

الذال: ذا الكعبات "ج4" 471، 175 "ج6" 446، 447 ذئب "ج1" 336، 455، 525 "ج6" 766 ذات انواط "ج6" 333، 406 ذات البعد "ج2" 270، 284، 317، 320، 322، 328، 338، 339، 342، 403، 414، 444، 465، 467، 486، 490 "ج3" 451، 477

"ج6" 20، 323 ذات حشولم "ج2" 146، 156، 211، 272، 276، 286، 317، 320، 322، 328، 338، 339، 342، 444، 465، 467، 482، 486 "ج6" 20، 43، 295، 300، 333 ذات رحبان "ج2" 189، 211 "ج6" 20، 333 ذات صنتم "ج1" 119 "ج2" 187، 189، 195، 204، 206، 209، 22، "ج6" 20، 165، 333 ذات الصهر "ج6" 333 ذات ظهران "ج2" 187، 189، 195، 204، 206، 209، 228، 328، 403 "ج6" 165 ذات غضران "ج2" 300، 319، 320 ذات نشق "ج2" 89 ذات الودع "ج3" 272 "ج6" 282 ذات الودع "ج3" 272 "ج6" 282 ذات برن "ج6" 333 ذريح "ج6" 282، 286، 276 ذهبم "ج2" 284 ذو جرب "ج6" 334 ذو الخلصة "ج3" 363 "ج4" 185، 442، 445، "ج6" 172، 188، 214، 272، 273، 300، 351 357، 445، 446، 781 ذو الرجل "ج6" 282، 283 ذو سموي: رب السماء "ج1" 120 "ج2" 342، 567، 568 "ج3" 131 "ج6" 36، 37، 305، 306، 326، 407، 462 "ج7" 450، 541 ذو الشري "ج1" 33 "ج3" 9، 33، 34، 41، 42، 48، 61، 64، 70، 140 "ج5" 175، 270 "ج6" 253، 275، 300، 322، 327، 328، 333، 335، 413، 415، 416 "ج7" 495 ذو عقل "ج6" 333 ذو غابة "ج1" 209 "ج5" 572 "ج6" 314، 316، 321، 3343 "ج8" 28، 29 ذو قبضم "ج6" 20، 333، 334 ذو الكفين "ج6" 274، 283، 376 "ج9" 852 ذو اللبا "ج6" 282، 286، 376 "ج7" 283

الراء والزاي

الراء والزاي: الراء: رئام "ج6" 288، 409 رب ثون "ج6" 334 ربت أثر "ج333 رتل "ج1" 331 رحاب "ج2" 188 "ج6" 333 رحمتن "ج6" 306، 324، 333 رحيم "ج3" 130 "ج6" 322، 324، 325، 333، 335 رصفم "ج2" 202 رضى "ج1" 331 "ج4" 454 "ج6" 43، 11، 170، 171168، 310، 311322، 326، 329، 334، 335 رعن "ج6" 319، 331 رفو "ج6" 295، 308 الزاي: زائدة "ج6" 289 زحل "ج6" 60، 85، 167، 298 الزهر "ج6" 168، 198، 238 زيوس كاسيوس "ج2" 32 "ج3" 65، 66، 143 "ج6" 329، 330

السين

السين: سبد "ج3" 172 ستار "ج1" 331 السبحة "ج8" 23 سحر "ج1" 331 "ج2" 188، 300، 301، 485، 486، 522 سعي "ج1" 331 سعد "ج6" 131 "ج6" 20، 273، 274، 310، 329، 330 السعيدة "ج6" 282، 288، 375 السعير "ج6" حا 152، 277، 278، 284، 421 سقام "ج7" 139 سلمان "ج2" 254، 256 "ج6" 312، 318، 334 سمهت "ج2" 289 سميع: سمع "ج1" 331 "ج2" 422 "ج6" 20، 27، 314، 334 سمين "ج1" 331 سن ذ علم "ج2" 144، 145*403 سهيل "ج4" 454 "ج6" 20، 59، 60، 150، 167، 818 سواع "ج4" 535 "ج6" 69، 40، 76، 240، 254، 257، 259، 264 سين "ج1" 119، 331 "ج2" 131، 132، 146، 148، 152، 161، 162 "ج3" 451 "ج6" 54، 176، 299، 301، 304، 333 "ج7" 477

الشين

الشين: الشارق "ج6" 282، 283، 286، 302، 333 شري "ج6" 334 شرح "ج6" 20 الشعرى العبور "ج6" 58، 59، 81، 163، 167، 377، 818 "ج8" 430 الشعرى الغميصاء "ج6" 59 شماش "ج1" 578 شمس "ج1" 331 "ج2" 195، 202، 330، 338، 403، 444، 466، 467، 486، 490، 622، 623 "ج3" 96، 120، 125، 126، 130، 152 "ج4" 528 "د6" 163، 227، 233، 281، 291، 300، 309، 318، 325، 329، 334، 335، 337، 338، 375، 539، 818 "ج8" 450 شهر "ج6" 333 شيع القوم "ج1" 331 "ج3" 48، 139 "ج6" 16، 322، 324، 327، 329، 331، 335 "ج7" 321

الصاد والضاد

الصاد والضاد: الصاد: صالح "ج6" 322، 324 صدأ "ج1" 320 صدق: صدق "ج6" 334 صلم "ج1" 329، 331 "ج6" 182، 310، 312، 313، 332، 334 "ج7" 71 صمودا "ج1" 320 "ج6" 282، 284 صنتم "ج6" 333 صهرن "ج6" 333 الضاد: الضمار "ج4" 519 "ج6" 282، 284 الضيزن "ج3" 180 "ج6" 282، 289

الطاء

الطاء: الطاغوت "ج6" 402 طنفت "ج1" 331

العين

العين: عائم "ج6" 277 عبد جد "ج1" 331 العبعب "ج6" 282، 284 عتر قرمي "ج6" 291 عثتر "ج2" 107، 152، 159، 188، 194، 195، 200، 204، 206، 209، 288، 270، 272، 281، 285، 287، 317، 319، 320، 322، 327، 335، 338، 342، 365، 403، 444، 451، 460، 465، 467، 485، 486، 288، 490، 522 "ج3" 130 "ج5" 182، 184، 202، 276، 280، 322 "ج6" 14، 57، 63، 163، 167، 169، 173، 176، 295، 301، 304، 311، 333، 334، 410 "ج7" 164، 235 "ج8" 47، 450، 451 عثتر ذذب "ج2" 327، 328، 339، 444، 453 عثتر قبضم "ج2" 87، 89، 98

99، 114، 136، 138 "ج3" 165 عتثر ذو جوفت "ج2" 535 عثتر ذو صنعتم "ج2" 403 عثتر ذو يهرق "ج2" 89، 99، 114 عثتر السماء: عثر سماين "ج1" 331، 592، 600 "ج6" 291، 310، 312، 313، 334 عثتر الشارق "ج2" 85، 87، 89، 136، 137، 340، 466، 482 "ج6" 334 عثتر عزيز "ج2" 328 عجل "ج1" 407، 408 "ج3" 130 عجلبن "ج2" 249 "ج6" 314، 318، 334 العزي "ج2" 385 "ج3" 9، 237، 238، 284 "ج4" 508، 515 "ج5" 516 "ج6" 227، 232، 234، 240، 242، 246، 253، 289، 314، 316، 329، 331، 334، 335، 351، 375، 377، 379، 406، 409، 417، 418، 422، 424، 444، 447، 473، 608 "ج7" 139 "ج9" 703 عزيز "ج2" 622 "ج3" 130 "ج6" 309، 312، 329، 334 عس "ج1" 331 عسحرد "ج1" 331 عسمت: عسمة "ج2" 300 عشتا ر "ج1" 119 "ج3" 130 "ج4" 546 عشتروت "د1" 176 "ج3" 62، 68 "ج6" 300 "ج7" 495 عطارد "ج6" 60، 167 "ج8" 199 عطير "ج1" 331 علم "ج2" 152، 284، 403 "ج6" 212، 229، 304 عليت "ج2" 403 عم "ج1" 331 "ج2" 83، 183، 187، 188، 194، 195، 198، 201، 204، 206، 209، 211، 228، 232، 231، 518، "ج5" 183 "ج6" 54، 176، 331، 333، 410 "ج8" 74 عم ذلبخ "ج2: 200، 202، 202، 205، 232 عم ذو دونم "ج2" 187 عم ذو ريمت "ج2" 189، 211، 322 عم ذو شقرم "ج2" 189، 191 عم ذو مبرم "ج2" 403 عم ذيسرم "ج2" 198

عمي شجا "ج6" 310، 334 عمبأنس "ج4" 460 "ج6" 265 عوذ "ج6" 265 عوذ "ج6" 334 عوض "ج6" 152، 282، 284، 314، 421 عوف "ج6" 282، 288 عير "ج6" 288، 289

الغين والفاء

الغين والفاء: الغين: غضرن "ج6" 333 غم "ج1" 331 "ج2" 300 غنم "ج6" 282 الفاء: فخر "ج6" 299، 307، 308 فراض "ج6" 282، 287 الفلس "ج6" 214، 249، 278، 279، 286، 314، 317، 334، 379، 601 فوسفورس "ج6" 310 فينوس "ج2" 227

القاف والكاف

القاف والكاف: القاف: قزح "ج6" 282، 287، 334، 379، 384 قشح "ج6" 327 القمر "ج1" 232 "ج6" 54، 59، 174، 252، 293، 298، 299، 330، 539 "ج7" 490 "ج8" 38، 44، 77 قوس "ج6" 256، 282، 288، 315، 317، 331، 332 قيشح "ج3" 41 قينام "ج1" 331 "ج2" 398، 399، 413 الكاف: كاهل: كهل، كهلن "ج1" 331 "ج6" 295، 310، 312، 333، 334 كبدم "ج2" 413، 452 كتم "ج2" 300 كثرى "ج1" 336 "ج6" 282، 285 الكسعة "ج6" 282 كعب "ج6" 289 الكواكب "ج6" 316 كوكب "ج6" 300 كيوبيد "ج2" 227

اللام

اللام: اللات "ج1" 311 "ج2" 356 "ج3" 9، 42، 130، 172 "ج4" 130، 145، 155، 515، 517 "ج5" 516 "ج6" 24، 49، 55، 64، 214، 227، 230، 233، 240، 246، 253، 255 292، 310، 314، 321، 323، 325، 334، 335، 351، 375، 377، 414، 423، 426، 446، 447، 669، 727، 819 "ج7" 495 "ج9" 703، 821، 609 لخامو، لخامون "ج1" 562 لود "ج6" 375 ليتو، ليطو "ج3" 67

الميم

الميم: مالك "ج1" 331 متب قبط، متبقبط "ج6" 295، 308، 334 متب مذجب "ج6" 334 متب نطين "ج6" 334 مجاور الريح "ج6" 438 محرضو "ج6" 307

محرق "ج3" 172 "ج6" 214، 280، 286، 375 محرم "ج2" 448 مختن "ج2" 188 المدن "ج6" 282 مرجب "ج6" 214، 282، 285، 376 المرزم "ج6" 59 المريخ "ج6" 60، 317 مسور "ج2" 503 مشرقيتن "ج6" 307 مطعم الطم "ج6" 438 المقه "ج1" 119، 237، 514 "ج2" 108، 156، 270، 272، 282، 286، 293، 294، 300، 303، 305، 306، 308، 316، 317، 319، 320، 322، 327، 330، 335، 338، 340، 347، 354، 360، 361، 370، 371، 374، 375، 377، 380، 382، 383، 385، 386، 391، 393، 403، 404، 422، 423، 429، 439، 440، 444، 446، 447، 451، 452، 457، 465، 467، 469، 475، 477، 484، 486، 490، 503، 504، 537، 538، 542، 544، 547، 553، 555، 561، 563، 567، 583 "ج5" 180، 183، 583، 616 "ج6" 14، 43، 54، 468، 475، 176، 180، 296، 298، 304، 333، 415، 434 "ج7" 139، 221 "ج8" 43، 44، 48، 79، 420 المقه تهوان "ج2" 328، 339، 374، 376، 379، 385، 427، 431، 443، 457، 461، 463، 4674، 490، 491، 541، 545، 548، 557، 562، 564 المقه ذهرن "ج2" 391 ملك "ج1" 331 "ج3" 130 "ج6" 299، 300، 313 ملوخ "ج6" 679 منى "ج6" 157، 567 مناة "ج1" 331 "ج3" 41، 42 "ج4" 135، 442، 515، 535 "ج6" 214، 227، 229، 235، 237، 240، 246، 250، 253، 314، 320، 321، 327، 328، 330، 334، 335، 354، 375، 382، 447 مناف "ج1" 331 "ج6" 269، 270، 279 منضح "ج6" 295، 308 المنطبق "ج6" 282، 286، 375 منهب "ج6" 282 منوات، منوت "ج6" 157 مونيموس "ج6" 171، 310، 311

النون

النون: نائلة "ج6" 266، 268، 380، 382، 399، 438 "ج8" 521 نبو "ج2" 621 "ج6" 317 نجم "ج6" 163 نرو "ج6" 334 نسور "ج2" 284 "ج6" 69، 70، 76، 240، 254، 256، 258، 263، 264، 299، 307، 308، 315، 334، 376 نشرا "ج1" 652 نشق "ج6" 333 نصر "ج6" 341 نعرجد "ج6" 310، 331، 334 نكرح "ج1" 119 "ج2" 84، 87، 89، 99، 114، 137 "ج6" 168، 176، 295، 304، 334 نهي "ج6" 331، 592 "ج6" 277 نهيك "ج6" 282، 286، 287

الهاء

الهاء: هادي "ج1" 331 هامحر "ج6" 334 هانئ كاتب "ج6" 317، 334 الهبا "ج1" 320 "ج6" 282، 284 هبل "ج1" 331

"ج3" 42 "ج4" 15، 76 "ج5" 510 "ج6" 18، 79، 250، 253، 266، 327، 328، 376، 410، 412، 418، 423، 425، 436، 779، 782 "ج8" 521، 651 "ج9" 704 هجر "ج2" 107 هجم "ج1" 612 هدد "ج3" 65 هرمس "ج6" 317 "ج8" 299 الهلال "ج1" 331 "ج2" 202 هلت "ج6" 322، 323 هوبس "ج1" 119 "ج2" 156، 272، 275، 286، 287، 320، 328، 338، 339، 342، 444، 460، 465، 467، 486، 490 "ج6" 298، 334 "ج8" 451 هون مناة "ج6" 320 هيج "ج1" 331

الواو

الواو: وتن "ج1" 331 ود "ج1" 179، 314، 331، 378، 425 "ج2" 87، 89، 99، 104، 115، 117، 137، 188، 190، 194، 322، 323، 327، 403، 404، 499، 505 "ج4" 546 "ج5" 180، 182، 183، 202، 507 "ج6" 20، 27، 54، 69، 76، 142، 164، 167، 168، 172، 173، 175، 176، 180، 209، 212، 213، 240، 253، 258، 292، 296، 299، 305، 309، 313، 315، 333، 334 "ج7" 263، 383 "ج8" 207 الودع "ج6" 74 ورح "ج6" 163، 333 ورفو ذلفن "ج2" 206، 209، 228 ورق "ج2" 300 ورود "ج3" 101 الوريعة "ج5" 396

الياء

الياء: ياليل "ج6" 282، 286 يثع "ج1" 331 "ج6" 319، 320، 324، 331، 334 يثو برآن "ج2" 339 اليعبوب "ج6" 279، 280 "ج9" 833، 834 يعوق "ج2" 354 "ج4" 449، 460 "ج6" 69، 70، 240، 254، 258، 262، 264، 308، 375، 401 يغوث "ج1" 331 "ج4" 449، 455 "ج6" 62، 69، 70، 254حا 258، 260، 264، 334، 375 يفعن "ج2" 305 يهجل "ج2" 367 يهرهم "ج6" 308 يهوه "ج1" 331، 634 "ج5" 310 "ج6" 119، 298، 316، 334، 566، 616

فهرس الخيول والحيوانات الأخرى

فهرس الخيول والحيوانات الأخرى: ابن النعامة "ج5" 396 "ج9" 461 أخدر "ج7" 116 الأعنق "ج5" 396 أعوج "ج5" 395 البحر "ج5" 398 براقش: كلبة "ج6" 802 البطين "ج5" 379 البعيث "ج5" 379 جزة "ج5" 396 حافل "ج5" 397 حذيفة "ج5" 396 الحرون "ج5" 397 حلاب "ج5" 396 الحنفاء "ج5" 396 الخطار "ج5" 396 خنثى "ج5" 396 داحس"ج5" 396 الدفوف "ج3" 286 ذو الخمار "ج9" 887 ذو العقال "ج5" 396 ذو الكبلين "ج5" 260 زاد الركب "ج5" 395 الزبد "ج5" 397 الزعفران "ج5" 396 الزليف "ج5" 397 سبحة "ج5" 398 "ج7" 116 سبل "ج5" 395 السكب "ج5" 397 سوادة "ج5" 395 الشقراء "ج5" 396 الشموس "ج5" 397 الشيط"ج5" 396 الصريح "ج5" 396 صهبي "ج5" 397 الضحياء "ج9" 503 الضرس "ج5" 397 الضيف "ج5" 397 الظرب "ج5" 398 العباية "ج5" 398 العبيد "دج9" 65 العرادة "ج3" 180 "ج5" 396 العلهان "ج5" 397 الغبراء "ج5" 396 الغراب"ج5" 396

قرزل "ج5" 396 قرمل "ج9" 611 القسامة "ج5" 395 القطيب "ج5" 397 قيد "ج5" 396 كامل "ج5" 397 الكاملة "ج5" 397 الكلب "ج5" 396 لاحق "ج5" 396 اللعاب "ج5" 397 المدعاس "ج5" 397 المذهب "ج5" 396 المراوح "ج5" 398 المرتجز "ج5" 397 المرقال، ناقة: "ج9" 650 المزنوق "ج5" 396 مكتوم "ج5" 396 مناهب "ج5" 397 النحام "ج5" 396 "ج9" 611 نصاب "ج5" 396 النعامة "ج5" 396 هبود "ج6" 770 هرارة العزاب "ج5" 397 هراوة "ج5" 87، 396 الوجيف "ج5" 396 الوجيه "ج5" 396 الورد "ج5" 396، 398 الوريعة "ج5" 3963 اليحموم "ج3" 288 "ج5" 197 "ج8" 374 "ج9" 611

فهرس الأسلحة

فهرس الأسلحة: أم الذبول: درع "ج3" 369 الخريق: درع "ج3" 396 رسوب: سيف "ج6" 249 الصمامه: سيف "ج5" 423 الضافية: درع "ج3" 369 الفضفاضة: درع "ج3" 369 المحصنة: درع "ج3" 369 مخذم: سيف "ج6" 249

فهرس المجامع والشركات والبعثات

فهرس المجامع والشركات والبعثات: اباي: مجمع "ج6" 597 أرامكو: شركة "ج1" 343، 532، 536، 537، 539، "ج8" 205، 207 أفسوس. مجمع "ج1" 62، "ج3" 59، 72 "ج6" 626، 627 أقاق: مجمع "ج6" 597 جامعة "فؤاد الأول: بعثة "ج1" حا 480، "ج2" 75 خلقيدون: خلقدونية: مجمع "ج6" 631 خلقيدون: مجمع "ج3" 130 دار يشوع: مجمع "ج3" 172 السعودية العربية شركة "ج7" 514 عهرو: نادي "ج2" 390 المزود: مجلس "ج2" 192، 193، 390، 95، 457، 452 "ج4" 554 "ج5" 214، 215، 226، 230، 233، 242 النيقاوي: مجمع "ج3" 129 نيقية "مجمع "ج3" 59، 117 "ج6" 615، 625 يهبالا: مجمع "ج6" 597

فهرس الطباعة والمطبوعات

فهرس الطباعة والمطبوعات: الألف: الآباء اليسوعيين: مكة "ج3" حا 466 الآبار "ج6" حا 625 الآبار "ج7" حا 195 الأبحاث: مجلة "ج1" 108 "ج8" حا 154، 156، حا 172، حا 190، 191، حا 463، حا 469 الأبوكريفا "ج1" 411 أبيات الاستشهاد "ج8" 361 الإتقان "ج4" حا 528 "ج7" حا 545 "ج8" حا 285، حا 357، حا 597، حا 599، 600، حا 602، حا 604، حا 606، حا 609، 610، حا 614، 616، حا 620 622، حا 663، 665، حا 679، 699 "ج9"، حا 7، حا 14، حا 18، 19، حا 23، حا 30، حا 36، حا 279، 280 الآثار الباقية "ج5"، حا 103، 104 "ج8" حا 426، حا 455، حا 457، حا 461، 462، حا 464، 466، حا 490، حا 492، حا 521، حا 523، حا 713 آثار البلاد "ج3" حا 532 "ج4" حا 145، حا 204، 205 "ج6" حا 578 "ج7" حا 373 آثار السنن "ج7" حا 309 آثار معين "ج2" 75، حا 87، حا 166، حا 118 "ج5" حا 11، 12 "ج7" حا 178 الأجناس من كلام العرب "ج8" حا 12 أحسن التقاسيم "ج1" حا 357، حا 454 الأحكام السلطانية "ج4" حا 11، حا 14، حا 22، حا 46، 47، حا 50، 51، حا 53 "ج5" حا 263، 267، حا

304، حا 501، 502، حا 509 "ج7"، حا 87، حا 145، حا 147، 149، حا 160، حا 453، حا 485، حا 489، حا 497، 502 "ج8"، حا 323 أحكام القرآن "ج7"، حا 4727 أخبار الأيام الأول "ج1"، حا 298، حا 300، حا 344، حا 361، حا 416، 417، حا 419، حا 423، حا 431، حا 488، حا 577، حا 580، 581، حا 584، حا 586، حا 629، حا 634 "ج2" حا 77، حا 91، حا 130، حا 412، حا 509، حا 623 "ج3" 77، 78، حا 535 "ج6" حا 262 أخبار الأيام الثاني "ج1" حا 577، حا 638، حا 640، 645 "ج2" حا 77 "ج6" حا 636، حا 685 "ج8" حا 346 أخبار حاتم ونسبه "ج5" حا 554 أخبار الحكماء "ج8" حا 382، 383 أخبار زيد الخيل "ج6" 130 أخبار الشعراء وطبقاتهم "ج9" 349 الأخبار الطوال "ج1" حا 161، حا 355، حا 359، حا 622 "ج3"حا 181، حا 183، 186، حا 206، حا 226، حا 331، حا 441، حا 504، حا 523، حا 525 "ج4" حا 16، 17، حا 223، حا 26، حا 230، 231، حا 383 "ج5" حا 288، حا 585 "ج9" حا 66، حا 341 أخبار عبيد "ج1"حا 86، 87، حا 171، حا 355 أخبار العرب "ج1" 115 أخبار كندة "ج3" 319 أخبار اللصوص "ج9" 327 أخبار الماضين "ج1" 115 الأخبار المعمرين "ج4" حا 657، 660 أخبار مكة "ج1" حا 313 "ج2" حا 515 "ج3" حا 11، حا 14، حا 17، حا 41، حا 56، حا 65، حا 76، 77، حا 99، 100، حا 111، حا 115 "ج6" حا 77، 81، 189، حا 320، حا 236، 237، حا 230، حا 236، 237، حا 240، حا 242، حا 246، حا 248، حا 251، 252، حا 266، 267، حا 271، حا 312، 328، 353، 361، 383، 386، 404، 418، 423، 425، حا 438، حا 442

-444، حا 609 "ج7" حا 376، 378، حا 380 أخبار النبي "ج1" 115 أخبار النحويين "ج9" حا 38، حا 219، حا 296 أخبار هشام الكلبي "ج5" حا 342، حا 517 أخلاق الملوك "ج5" حا 218 أدب الإملاء والاستملاء "ج8" حا 354 أدب الدنيا "ج4" حا 586 "ج6" حا 27 الأدب العربي وتاريخه "ج8" حا 552، حا 575 "ج9" حا 514 أدب الكاتب "ج9" 835 أدب الكتاب "ج1" 113 "ج8" حا 102، حا 154، حا 157، حا 270، حا 305، حا 311 "ج9" حا 16، حا 52 الآذان "ج6" 561 إرشاد الأريب "ج1" حا 70، حا 83، 54، حا 86، 88، حا 90، حا 105 إرشاد الساري "ج4" حا 266، حا 403، حا 610، حا 612، حا 667، حا 669، حا 683 "5"، حا 26، 28، حا 30، حا 45، حا 47، حا 50، حا 55، حا 65، حا 105، حا 116، 117، حا 120، حا 137، 138، حا 140، حا 152، حا 154، حا 159، حا 161، حا 170، حا 171، حا 291، حا 510، 511، حا 517، حا 538، 539، حا 558، حا 560، حا 568، حا 595، حا 622 "ج6" حا 82، حا 84، حا 99، حا 136، حا 218، حا 339، 341، حا 343، حا 348، حا 353، حا 355، 356، حا 363، حا 367، حا 379، 382، حا 385، 386، حا 392، حا 421، حا 436، حا 445، 446، حا 469، حا 471، 473، حا 461، حا 618، حا 740، حا 743، 744، حا 748، حا 755، 756، حا 758، حا 762، حا 789، حا 798، 799، حا 812 "ج7" حا 41، حا 48، حا 96، حا 125، حا 144، حا 147، 150، حا 173، حا 215، 220، حا 223، حا 225، حا 228، 229، حا 244، 245، حا 309، 310، حا 318، حا 385، حا 389، حا 396، حا 398، حا 400، حا 403، حا 407، حا 409، حا 411، 413، حا 417، 418، حا 426، حا 428، حا 456، 457، حا 462

حا 464، حا 466، 468، حا 504، حا 509، 510 "ج8" حا 89-90، حا 104، حا 302، حا 323، حا 327، 328، حا 380، حا 388، حا 390، 391، حا 393، 399، حا 402، 405، حا 407، حا 412، حا 446، حا 480، 481، حا 494، حا 603 "ج9" حا 35، 36، حا 64، 65، حا 123، حا 138، حا 170، حا 173، 174، حا 194، حا 219، حا 236، حا 281، حا 299، حا 303، حا 310، حا 312، حا 318، حا 320، حا 322، حا 325، 326، حا 507، حا 513، حا 866، حا 871 الإرشاد في القراءات العشر "ج8" حا 609 أرض الأنبياء "ج7" حا 70، 71 أرميا: سفر "ج1" 19، حا 236، حا 411، حا 418، حا 439، حا 581، حا 596، حا 610، حا 613 "ج2" حا 120، حا 261 "ج3" حا 66 "ج6"حا 238 "ج7" 233، 240 "ج8" حا 59 الأزمنة والأمكنة "ج4" حا 115، حا 208، حا 238 "ج6"حا 210، حا 352، حا 765 "ج7"، حا 369، حا 372، 373، حا 376، 379، حا 388، حا 394 "ج8" حا 471، حا 476، حا 480، حا 484 الأزمنة والأنواء: "ج6" حا 56، حا 60 "ج8" حا 464 الأزهر: مطبعة "ج6" حا 472 أساس البلاغة "ج1" حا 38، 40 "ج4"حا 370 "ج8" حا 283 الأساطير العربية قبل الإسلام "ج1" حا 41 "ج6" حا 714 أسباب النزول "ج4" حا 221 "ج5" حا 135، 137، حا 536 "ج6" حا 87، حا 371، 372، حا 380، حا 382، 383، حا 618، حا 640، حا 710، حا 743 "ج7" حا 293، حا 309، حا 432، حا 464 "ج8" حا 123، 124، حا 318، حا 385 الاستعانة بالشعر وما جاء في اللغات "ج8" حا 566 الاستقامة: طبعة "ج2" حا 515 "ج4" حا 111 "ج5" حا 89 "ج6" حا 251، حا 523، 524، حا 619 "ج7"حا 372

"ج8" حا 135 "ج9" حا 347 الاستيعاب "ج5" 86، حا 116، حا 119، حا 248، حا 561، حا 586، حا 643، حا 647 "ج6" حا 81، حا 100، حا 129، حا 183، حا 208، حا 457، حا 459، حا 476، حا 504 "ج7" حا 38، حا 41، حا 295، حا 300، حا 311، حا 328، حا 440، 441، حا 444، حا 454، حا 459، حا 461، حا 464 "ج8" 116، 117، 119، 121، 123، 125، 129، حا 133، 134، حا 136، 137، حا 292، حا 301، 302، حا 323، 324، حا 329، 332، حا 349، حا 358، حا 376، حا 379، حا 387، حا 553، حا 650، حا 744، حا 749، حا 766، حا 789، 790 "ج9" حا 78، حا 141، حا 147، 148، حا 277، حا 279، 380، حا 385، حا 532، حا 532، حا 547، 548، حا 553، 555، حا 655، حا 670، حا 706، حا 710، حا 712، 715، 723، 724، 728، 731، 737، 739، 743، 747، 749، 751، 766، حا 771، 772، حا 778، حا 793، حا 844، حا 846، 853، 860، 866، 867، 872، 874، 875، 885، 891، 905، 908 أسد الغابة "ج4" حا 120، 121، حا 210، 311 "ج5" حا 250، حا 389، حا 460 "ج6" حا 370، حا 469، حا 472، حا 474، حا 504، حا 562، 564، حا 606، 607، حا 643، حا 683، 684، حا 686 "ج7" حا 369 "ج8" 116، حا 125، حا 134، حا 378 "ج9" حا 177، حا 730، حا 793، حا 848، حا 871، حا 905 أسس القرن التاسع عشر "ج1" 257 الإسلام والمشكلة العنصرية "ج4" حا 324، حا 357، حا 369، 370 أسماء جبال تهامة "ج" حا 79-82، حا 86، حا 88، حا 124، حا 128، حا 126، حا 166، حا 175، حا 181، حا 184، حا 199، 201، حا 207، حا 272، حا 532 أسماء الخيل "ج4" حا 685 "ج5" حا 694، 397

أسماء المغتالين "ج3" حا 178، حا 181 "ج4" حا 562 "ج5" حا 530، حا 588، حا 643، حا 650 "ج6" حا 506، حا 521 "ج9" حا 453، 458، 474، 486، 587، 499، 538، 561، 599، 639، 642، 644، 648، 676، 685، 727، 794، حا 878 الإشارة إلى محاسن التجارة "ج7" حا 238، حا 240، حا 415، حا 518 الأشباه والنظائر "ج5" حا 86 "ج8" 547 "ج9" حا 7، حا 219، حا 294 الاشتقاق "ج1" حا 338، حا 355، حا 358، حا 363، 366، حا 370، 374، حا 381، 382، حا 385، حا 386، حا 389، 390، حا 406، حا 521، حا 525، 527، حا 579، حا 647 "ج2" حا 42، 220، حا 255، حا 265، حا 353، حا 402، حا 512، حا 590، حا 597، 598، حا 646، 647 "ج3" حا 12، حا 168، 169، حا 176، حا 178، حا 184، حا 214، حا 226، حا 229، حا 231 حا 238، حا 254، حا 256، حا 275، حا 282، حا 284، حا 291، حا 297، 298، حا 315، حا 325، حا 359، حا 361، حا 364، حا 375، حا 381، 382، حا 387، 388، حا 390، حا 392، حا 394، حا 395، حا 400، حا 403، 404، حا 434، حا 498، حا 506، حا 513، حا 520، حا 527 "ج4" حا 15، حا 21، حا 29، 30، حا 41، 43، حا 45، حا 47، حا 53، حا 57، حا 56، حا 72، حا 94، حا 103، حا 104، 105، حا 108، 110، حا 124، حا 134، 140، حا 148، حا 154، حا 156، 157، حا 186، 188+201، حا 217، 220، حا 224، 225، حا 240، حا، حا 245، 246، حا 248، حا 250، 252، حا 254، حا 256، حا 259، 262، حا 266، حا 347، 348، حا 363، حا 374، حا 378، حا 379، حا 386، حا 389، حا 405، حا 415، حا 419، حا 421، 425، حا 432، 433، حا 436، حا 438، 439، حا 441، حا 443، 446، حا 448، 451، حا 454، 460،

463، 465، حا 481، حا 485، حا 487، 493، حا 498، حا 500، حا 502، 504، حا 506، 522، حا 524، 526، حا 528، حا 531، حا 532، حا 585، حا 565، حا 680 "ج5"حا 996، حا 124، حا 188، 189، حا 208، حا 210، حا 266، 276، حا 269، حا 279، حا 284، حا 286، حا 291، حا 303، حا 351، حا 357، حا 363، 364، حا 366، حا 369، حا 372، حا 388، 389، حا 391، 392، حا 404، حا 425، حا 427، 428، حا 430، حا 638، 643، حا 645، 647، حا 650 "ج6" حا 38، 39، حا 67، حا 71، حا 77، حا 86، حا 99، حا 196، حا 204، 205، حا 237، حا 253، حا 262، حا 274، حا 279، حا 282، حا 285، حا 288، 289، حا 362، حا 364، حا 366، حا 370، حا 432، 433، حا 472، 473، حا 477، حا 481، حا 500، حا 503، حا 521، 522، حا 577، حا 678، حا 682، 683، 686، حا 710، حا 713، 714، حا 722، حا 739، حا 762، حا 765، حا 769، 770، حا 781، حا 791، 792 "ج7" حا 295، حا 384، حا 501 ج8" حا 204، حا 277، حا 319، حا 377، حا 383، حا 384، حا 407، 408، حا 416، 417، حا 426، حا 754، حا 778 "ج9" حا 65، 68، 72، 113، 114، 118، 448، 462، 483، 484، 489، 496، 497، 500، 532، 642، 649، 651، 663، 664، 668، 669، 690، 692، 697، 708، 710، 713، 720، 721، 726، 764، 771، 772، 828، 848، 879، 882، 894، 907 الأشراف "ج1" 506 أشراف عبد القيس "ج4" 487 أشعار حمير "ج9" 350 أشعار لصوص العرب "ج9" 351 أشيعاء "ج1" حا 18، حا 206، حا 439، حا 458، حا 581، 582 "ج3" حا 66، 67 "ج4" حا 611 "ج6" حا 777 "ج8" حا 437 الإصابة "ج1" 147، حا

348حا 481 "ج3" حا 439، حا 528 "ج4" حا 103، حا 108، حا 121، 122، حا 484، حا 534، حا 575، حا 586، حا 632، 633، حا 652، حا 660، حا 666، حا 669، حا 671، حا 673 "ج5" حا 34، حا 52، حا 54، حا 86، حا 96، حا 154، حا 211، حا 251، حا 289، حا 388، حا 424، حا 465، حا 529، حا 536، حا 550، حا 561، حا 585، حا 561، حا 585، حا 589، حا 640، 643، حا 647 "ج6" حا 19، حا 56، حا 61، حا 64، حا 97، 100، حا 183، حا 208، حا 217، 218، حا 234، حا 259، حا 289، حا 343، حا 369، حا 408، حا 419، حا 422، حا 432، حا 435، حا 443، حا 450، حا 457، حا 459، 460، حا 464، حا 467، حا 469، حا 476، حا 478، حا 488، حا 500، حا 502، حا 504، حا 515، حا 529، حا 562، 564، حا 597، حا 601، حا 605، حا 607، حا 622، حا 672، حا 683، 684، حا 686 720، حا 739، حا 769 "ج7" حا 38، حا 59، حا 166، حا 129، حا 147، 149، حا 288، حا 300، حا 310-311، حا 315، حا 323، حا 329، حا 342، حا 368، حا 407، 408، حا 440، 441، حا 443، 444، حا 454، حا 459، 464، حا 471، حا 479، حا 514، حا 556 "ج8" حا 116، 117، حا 119، حا 122، 123، حا 125، 251، حا 264، حا 289، حا 292، حا 301، 303، حا 305، حا 323، 324، حا 329، 333، حا 348، 349، حا 375، حا 378، 379، حا 387، حا 402، حا 405، حا 408، حا 428، حا 499، 500، حا 553، حا 569، حا 598، حا 601، حا 608، حا 735، حا 744، حا 749، حا 761، حا 763، حا 765، 766، حا 781، 783، حا 788، 791 "ج9" حا 9، حا 20، حا 37، 38، حا 52، حا 64، حا 78، حا 91، حا 155، حا 141، حا 147، حا 159، حا 177، حا 197

حا 277، حا 279، حا 286، حا 333، حا 361، حا 380، حا 385، حا 388، حا 431، حا 449، حا 471، حا 489، حا 493، حا 495، حا 496، حا 503، 504، حا 532، حا 541، حا 547، 548، 554، 555، 573، 578، 621، 650، 670، 697، 704، 706، 710، 712، 714، 715، 723، 725، 724، 729، 736، 738، 740، 742، 745، 748، 751، 753، 757، 761، 764، 766، 772، 781، 790، 817، 841، 844، 847، 850، 852، 854، 856، 858، 860، 862، 865، 871، 873، 874، 877، 889، 891، 895، 897، 903، 905، 908 الأصمعيات "ج4" حا 402، 403 "ج5" حا 267 "ج6" حا 570 "ج8" 267، 268، حا 279، 280 "ج9" حا 98، حا 159، حا 305، حا 455، حا 473، حا 481، حا 618، حا 690، حا 779 الأصنام "ج1" 87، حا 120، حا 336، حا 625 "ج2" 115، حا 354، حا 401 "ج4" حا 14، حا 74، حا 145، حا 455، حا 475 "ج6" حا 12، 13، حا 36، حا 66، حا 71، حا 73، 79، حا 143، حا 147، حا 202، حا 207، حا 227، 230، حا 233، 237، حا 239، 244، حا 248، 2549، حا 251، حا 253، 258، حا 260، حا 262، 281، حا 283، 284، حا 286، 311، حا 354، حا 389، 400، حا 402، حا 407، حا 409، حا 422، 423، حا 452، حا 682، 710، حا 780، 781 الأضداد "ج6" حا 657 "ج8" 558 أضواء على السنة المحمدية "ج8" حا 328، حا 601، 602، حا 735، 737، حا 750، حا 752 "ج9" 20، حا 26 إعجاز القرآان "ج9" حا 526، حا 535، حا 646، حا 805 الإعجاز والإيجاز "ج9" حا 543 الأعلاق النفيسة "ج1"، حا 545 "ج4" حا 51، حا 90، حا 126، حا 129، 130، حا 132، حا 139، حا 179، حا 207، حا 216، حا 225، 226، حا 241، حا 260، حا 303 "ج5" حا 593، حا 605، حا 632

"ج6" حا 72، حا 147، حا 356، حا 407، حا 514، حا 590، حا 693 "ج7" حا 39، حا 336 "ج8" حا 161، حا 292 أعلام الموقعين "ج7" 424، حا 429 "ج9" حا 8 أعلام النبلاء "ج8" حا 736 "ج9" حا 748، 750 أعلام النبوة "ج5" حا 96 أعمال الرسل "ج1" حا 38، حا 651 "ج6" 583، حا 585 الأغاني "ج1" حا 24، حا 38، حا 76، 78، حا 122، 113، حا 134، حا 324، حا 334، 335، حا 337، حا 371، حا 380، حا 183، حا 386، حا 406، حا 483، 485، حا 494، 495، حا 505 "ج2" حا 115، حا 117، حا 616، حا 636 "ج3" حا 11، حا 159، حا 170، 172، حا 181، حا 184، حا 187، حا 189، حا 199، حا 212، حا 214، حا 225، 227، حا 229، حا 231، حا 234، 236، حا 241-245، حا 248، حا 250، حا 253، حا 255، 256، حا 261، حا 263، 268، حا 271، حا 276، حا 279، 280، حا 282، حا 283، حا 285، حا 287، 292، حا 297، حا 300-301، حا 319، حا 321، حا 323، حا 325، 326، حا 329، حا 342، 345، حا 347، 348، حا 351، 353، حا 356، حا 358، 365، حا 368، حا 370، 372، حا 375، 378، حا 393، حا 404، حا 410، حا 427، 428، حا 431، حا 434، 435، حا 437، 438، حا 441، 442، حا 506، حا 527، 528 "ج4" حا 86، حا 97، 98، حا 101، 102، حا 105، حا 111، حا 115، حا 121، حا 134، حا 138، 139، حا 148، 149، حا 205، حا 214، 215، حا 220، حا 246، حا 252، حا 358، 359، حا 363، 364، حا 373، 374، حا 378، 379، حا 387، حا 411 413، حا 419، حا 431، حا 438، حا 446، حا 450، حا 453، حا 455، 457، حا 470، حا 473، حا 481، حا 484، 485، حا 488، حا 497، 499، حا 501، حا 507، حا 510، حا 515، حا 517، 519،

حا 521، حا 526، حا 529، حا، حا 32، 533، حا 544، حا 557، حا، 7، 568، حا 580، حا 659، 660، حا 668، حا 671 "ج5" حا 37، حا 42، حا 46، حا 51، حا 90، حا 96، 97، حا 103، 105، حا 107، حا 109، حا 110، 118، 120، حا 123، 124، حا 156، حا 161، حا 172، حا 208، حا 266، حا 283، حا 311، حا 318، حا 343، حا 346، حا 354، حا 356، 364، حا 371، حا 373، 374، حا 381، 382، حا 384، 385، حا 389، حا 392، حا 419، حا 426، 427، حا 436، حا 440، 441، حا 444، حا 496، حا 520، 521، حا 529، حا 531، حا 544، 545، حا 549، حا 554، حا 573، حا 591، 593، حا 633، حا 638، حا 646، 647، حا "ج6" حا 11، حا 61، حا 106، حا 130، حا 157، حا 160، حا 195، حا 200، حا 234، حا 241، حا 265، حا 268، حا 271، حا 274، 277، حا 282، حا 284، حا 352، حا 365، حا 370، حا 394، حا 451، حا 461، حا 464، 466، حا 469، حا 472، حا 474، 475، حا 478، 485، حا 487، حا 489، حا 496، حا 500، 501، حا 505، حا 509، حا 517، 523، حا 538، حا 570، 571، حا 576، 577، حا 580، 581، حا 584، حا 596، حا 601، حا 647، حا 651، حا 660، حا 665، حا 672، 673، حا 677، 678، حا 702، حا 712، 713، حا 728، حا 760، حا 763، 764، حا 770، حا 790، حا 802 "ج7" 209، حا 294، 295، حا 297، حا 307، حا 318، حا 369، حا 382، حا 578، حا 582، 583، حا 615 "ج8" حا 39، حا 108، 109، حا 111، 122، حا 116، حا 118، حا 140، 141، حا 204، حا 252، حا 254، 255، حا 261، حا 267، 268، حا 274، حا 283، حا 288، حا 295، 296، حا 304، 305، حا 323، حا 352، حا 367، حا 378، حا 631، حا 663، حا 743، حا 745، حا 777، حا 784 "ج9" حا 11، 52، 65-

66، 76، 81، 88، 91، 93، 94، 97، 102، 111، 114، 117، 118، 147، 159، 169، 176، 177، 180، 200، 238، 239، 247، 252، 253، 265، 267، 268، 293، 394، 298، 299، 301، 305، 307، 310، 312، 316، 318، 321، 323، 324، 326، 332، 333، 337، 339، 344، 369، 379، 401، 413، 419، 431، 434، 449، 453، 456، 462، 466، 468، 470، 482، 474، 476، 482، 484، 487، 491، 493، 499، 501، 504، 505، 514، 519، 529، 533، 536، 537، 541، 542، 549، 550، 553، 558، 561، 564، 567، 570، 571، 573، 581، 586، 592، 597، 598، 606، 607، 609، 612، 614، 615، 617، 618، 620، 622، 624، 625، 631، 636، 638، 640، 644، 646، 651، 659، 660، 662، 664، 669، 670، 673، 676، 681، 694، 705، 721، 724، 726، 727، 729، 734، 746، 748، 753، 758، 764، 766 771، 775، 776، 778، 779، 782، 786، 791، 796، 797، 800، 804، 806-807، 811، 813، 814، 828، 830، 832، 842، 843، 848، 850، 854، 855، 857، 861، 864، 866، 868، 869، 871، 873، 874، 876، 878، 880، 882، 885، 887، 895، 897، 903 أفسس: سفر "ج6" حا 585 الاقتراح "ج9" حا 31 الاقتضاب في شرح أدب الكتاب "ج3" حا 155، حا 186، حا 267، حا 272، حا 281، حا 305، 306، حا 311، حا 344، حا 779 الإقناع "ج6" حا 347، حا 393 الاكتفاء "ج4" حا 583 "ج8" حا 474 الإكليل "ج1" 46، 49، حا 84، حا 90، 106، حا 108، حا 115، 116، حا 119، 120، حا 126، حا 148، حا 171، حا 224، حا 302، 304، حا 308، 310، حا 341، حا 344، 346، حا 348، 350، حا 355، 356، حا 358، 359، حا 362، 369، حا 371، حا 409، حا 411، حا 413-

414، حا 425، حا 426، حا 431، حا 464، 465، حا 487، 489، حا 491، 492، حا 509، حا 521 "ج2" 117، 18، حا 157، حا 197، حا 218، حا 222، حا 304، حا 353، 356، حا 362، 363، حا 391، حا 393، 394، حا 398، 402، حا 406، 408، حا 412، حا 421، حا 498، حا 527، حا 532، 534، حا 540، حا 569، 570، حا 584، 585، حا 594 "ج3" حا 315، حا 381، 382، حا 392، 394، حا 414، حا 483، حا 502، حا 514، حا 532، حا 536 "ج4" حا 19، حا 218، حا 432، 434، حا 443، 4744، حا 447، 449459، 461، حا 464، حا 537 "ج5" حا 196، حا 231 "ج6" حا 262، حا 271 "ج7" حا 518، حا 520 "ج8" حا 8، حا 23، حا 108، حا 138، حا 161، حا 300، حا 614، حا 677، حا 692، حا 757 "ج9" حا 208، حا 379، حا 558، 571، 573، 575، 582 668 الاكمال "ج9" 54 الالفاظ "ج6" حا 674 "ج7" حا 518، حا 520، حا 607، حا 628 "ج9" 299 القاب الشعراء "ج5" 643، حا 646 "ج9" حا 496، حا 649، حا 668، 690 الالياذة "ج9" 95 الأم "ج6" حا 380 الأمالي "ج1" حا 112 "ج3" حا 172، 236، حا 358، 359 "ج4"حا 215، 299، حا 331، حا 337، حا 349، حا 355، حا 445 "ج5" حا 440، حا 512، 513، حا 561، حا 639، 644، حا 646، حا 465، حا 576، حا 715، حا 769، حا 802 "ج8" حا 587، حا 656، حا 742، حا 745 "ج9" حا "14، 15، 25، 36، 154، 278، 280، 281، 322، 450، 462، 467، 484، 493، 496، 571، 637، 646، 669، 775، 787، 813"، حا 789 أمالي الشجري "ج9" حا 496، حا 803 أمالي المرتضي "ج3" حا 244، حا

246، حا 257، حا 370، 371، حا 380، حا 383 "ج4"حا 65، حا 70، حا 90، حا 548، حا 575، حا 586، حا 636، حا 639، حا 641، حا 646، حا 657، 660، حا 671 "ج5" حا 83، حا 85، حا 96، حا 159 "ج6" 93، حا 224، حا 369، حا 672، حا 789 "ج8" حا 111، حا 116، حا 141، حا 259، حا 278، حا 280، حا 350، حا 353، حا 359، حا 381، حا 489، 490، حا 539، حا 761، حا 779 "ج9" حا "25، 52، 86، 191، 300، 283، 285، 314، 323، 399، 446، 448، 453، 458، 464، 476، 484، 486، 488، 491، 492، 494، 495، 539، 546، 547، 549، 555، 557، 562، 569، 570، 581، 582، 584، 587، 595، 597، 604، 639، 650، 651، 661، 663، 665، 668، 682، 684، 692، 711، 756، 763، 811، 828، 831، 835، 836، 848، 849، 851، 872، 902، 904" امتاع الاسماع "ج5" حا 86، حا 585 "ج6" حا 71، حا 76، حا 91، حا 243، حا 249، حا 258، حا 275، حا 510، حا 618 "ج7" حا 290، حا 298، 299، حا 313، حا 339، 340، حا 343، حا 347، حا 349، حا 351، 353، حا 356، 357، حا 359، 361، حا 363، حا 407، حا 443، حا 463 "ج8" حا 89، حا 106، حا 119، حا 121، حا 124، حا 133، حا 135، حا 268، حا 292، 293، حا 303، 305، حا 308، حا 326، حا 327، حا 460، حا 480، حا 492، حا 523، حا 755 "ج9" حا 499، حا 785 الأمثال: سفر "ج9" 128-131، 133، 135، 171، 299، 308، 347، 771، حا 813 الأمثال: كتاب "ج3" حا 3025 "ج4" حا 140، حا 392، حا 405، حا 445، حا 450 "ج6" حا 427 "ج8" حا 298، حا 340، حا 343، حا 355، حا 359، 360، حا 379، حا 782 أمثال الضبي "ج9" 464 أمثال العسكري "ج9" 885

أمثال الميداني "ج9" حا 664، 835 أمراء غسان "ج1" 80، حا 135 "ج3" حا 227 حا 390، 391، حا 394، حا 395، حا 398، حا 403، 414، حا 416، حا 417، حا 425، حا 431، حا 435، حا 438، حا 440، حا 442 "ج5" حا 200 الأموال: "ج7" 489 الأمومة عند العرب "ج1" حا 523 "ج5" حا 96، حا 537، حا 539، حا 563 الأميرية: مطبعة "ج6" حا 638، حا 649 الإنباه "ج1" حا 400، 401، حا 406 "ج3" حا 382 "ج4" حا 324، حا 419، 420، حا 424، 426، حا 460، حا 436، 437، حا 440، 451، حا 455، حا 458، 460، حا 464، 465، حا 467، حا 478، حا 481، حا 502، حا 506، 507، حا 529، حا 532، 533 "ج9" حا "8، 10، 38، 40، 42، 52، 54، 456، 194، 204، 211، 273، 299، 304، 321، 333، 777" الإنجيل "ج1" 122، 262، 413 451، 463، 464 "ج3" حا 44، حا 457 "ج4" 229 "ج5" 300 "ج6" 30، 454، 479، 490، 493، 494، 503، 548، 553، 560، 567، 583، 586، 589، 592، 604، 609، 665، 675، 678، 680، 682، 688، 689، 708، 724 "ج7" 417، 418، حا 552، 553، حا 585، 586 "ج8" 92، 94، 95، 108، 110، 192، 193، 273، 274، 294، 395، 297، 319، 323، 324، 326، 328، 342، 524، 768، 769، 775 "ج9" 135 إنجيل متي "ج6" حا 138، 635، 679 "ج7" حا 417 "ج8" 192 إنجيل مرقس "ج6" 584 إنجيل يوحنا "ج8" حا 355 أنساب الأشراف "ج1" حا 377، حا 383، حا 390، حا 392، حا 394، حا 397، حا 401، حا 406 "ج2" حا 173 "ج4" حا 27، 28، حا 31، حا 37، 38، حا 42، حا 45، 46، حا 54، 56، حا 58، حا 60، 63، حا 65، 67، حا

70، حا 72، 73، حا 75، 76، حا 78، 84، حا 90، حا 96، حا 102، 105، حا 107، 110، حا 105، حا 107، 110، حا 112، حا 124، حا 148، حا 154، حا 205، حا 232، حا 236، حا 254، حا 265، 266، حا 350، حا 419، حا 522 "ج5" حا 83، حا 169 "ج6" حا 152، حا 242، حا 269، حا 475، حا 500، حا 771 "ج8" حا 425، حا 427، حا 435، حا 440، 441، حا 443، حا 456، حا 470 الأواني والأوعية: "ج1" 655 الأوديسا: "ج9" 95 الأوروبية: طبعة "ج1" 147، حا 171، حا 492 "ج4" 236 الأوس والخزرج: "ج9" 350 إياد: "ج9" 350 الأيام: "ج1" 93، 94 "ج8" حا 455، حا 466، حا 468، 487 أيام بني حنيفة: "ج8" 762 أيام العرب: "ج3" حا 226، 227، حا 229، حا 240، حا 250، حا 252، 276، حا 345، حا 351، 353، حا 393 -394، حا 411 "ج4" حا 96، حا 99، حا 101، حا 104، حا 220 "ج5" حا 225، حا 250، حا 344، حا 350، 351، حا 353، 354، حا 357، 358، حا 365، 366، حا 369، 371، حا 373، 377، حا 379، 381، حا 383، 384 أيام قيس بن ثعلبة: "ج8" 762 إيران في عهد الساسانيين: كتاب "ج2" حا 635، حا 644، حا 646 "ج3" حا 202 الإيغال: "ج3" حا 108 الإيقاع: "ج9" 210 الإيمان: "ج5" 156، 510، 517، حا 519، 520 "إيمان العرب في الجاهلية "ج6" حا 34، حا 36، حا 351 أيوب: سفر "ج1" 201، 457، حا 581، حا 596، حا 631، 632، حا 640 "ج2" 262 "ج6" 23 "ج7" 233 "ج8" 340، 432 "ج9" 1254، 127، 132، 133 الإيناس: "ج4" حا 421

الباء

الباء ... بابا بثرا: "ج1" 653، 656 "ج3" 176 باروخ: سفر: "ج1" 412 البحار الهندية: "ج3" 461 بحث عن ديانة العرب قبل الإسلام "ج1" 136 بحث في القضاء والقدر: "ج2" 67 البحر المتوسط: "ج8" 497 البخلاء: "ج4" حا 98، حا 100، حا 102، حا 580، حا 647، حا 685، 647، حا 685، 686 "ج5" حا 72، 73، حا 740، 641، 647 "ج8" حا 378 "ج9" حا "399، 417، 464، 475، 477، 491، 597، 631، 799، 813، 814، 817، 836، 847، 848، 874، 875" البدء والتاريخ "ج1" حا 53 "ج3" حا 500 "ج4" حا 45، حا 100، 101، حا 139، حا 143، حا 443 "ج6"، 20، حا 145، حا 363، حا 490، حا 499، حا 514، حا 521، حا 524، حا 555، حا 590، حا 668، حا 685، حا 693 "ج9" 757، 762 البداية والنهاية: "ج1" حا 310، حا 317، حا 320، حا 324 "ج2" حا 515 "ج3" حا 346، حا 351، حا 363، حا 365، حا 500، حا 502، حا 507، حا 514، حا 516 "ج4" 24، حا 53، حا 55، 56، حا 60، حا 74، حا 76، حا 80، حا 94، 100، حا 103، حا 111، حا 130، حا 134، حا 378 "ج6" حا 80، حا 234، حا 284 "ج6" حا 80، حا 234، حا 246، حا 249، حا 251

-252، حا 269، حا 289، حا 464، حا 466، 467، حا 469، 477، حا 480، 483، حا 486، 487، حا 501، حا 52-524 "ج7" حا 296، حا 382 "ج8" حا 474، حا 759 "ج9" حا 90، حا 296، حا 828 برصوم "ج6" حا 7 "ج8" حا 32، حا 263، حا 276، حا 283، 284، حا 287، 288، حا 341 البرك "ج1" حا 188 البسامة: "ج3" حا 195 البستان: "ج3" حا 11، حا 13 "ج6" حا 638-640، حا 642 البغال "ج5" حا 145، 319، 630 "ج6" حا 500، حا 413، 715 "ج9" حا 221، حا 223، حا 476، حا 533، حا 744 بغية الوعاة: "ج1" حا 105 "ج9"حا "54، 56، 194، 204، 219، 299، 304، 306، 321" بلاد العرب "ج4" 668 "ج7" حا 135، حا 163، حا 166، حا 195، 1496، حا 201، حا 293، حا 613، حا 334، حا 336، حا 342، 345، حا 349 حا 356، 357، حا 359، حا 512، 514، حا 516، حا 521، 522 "ج8" حا 52، حا 589 البلاد العربية قبل الإسلام "ج1" 135 البلدان "ج1" حا 17، حا 120، حا 140، حا، حا 144، حا 146، حا 152، حا 156، 157، حا 159، 161، حا 167، 178، حا 180، 182، حا 187، حا 180، 182، حا 187، حا 192، حا 194، حا 301، 302، حا 304، حا 317، حا 324، حا 339، حا 342، 343، حا 347، 349، حا 426، 428، حا 453، 454، حا 458، حا 483، حا 587، حا 617 "ج2" حا 14، حا 18، حا 25، حا 48، حا 51، حا 55، حا 73، حا 76، حا 89، حا 116، 117، حا 130، حا 155، حا 157، حا 172، حا 400، 401، حا 421، حا 531، حا 539، حا 616، حا 621، 622، حا 650، حا 655، 656 "ج3" حا 7، 38، 40، حا 53، حا 59، حا 62، حا 65، 66، حا 78، 79، حا 95، حا 98، حا 105

132، حا 155، حا 158، حا 161، حا 166، حا 168، حا 174، حا 178، حا 181، 183، حا 196، حا 200، 201، حا 226، 227، حا 229، حا 233، 236، حا 238، حا 240، حا 244، حا 248، حا 250، حا 252، حا 268، حا 270، حا 273، 275، حا 288، حا 292، 294، حا 301، حا 319، 320، حا 322، حا 327، حا 337، حا 339، 340، حا 347، 349، حا 351، حا 353، 357، حا 361، 362، حا 377، حا 381، حا 385، 386، حا 398، حا 437، حا 439، 440، حا 502، حا 532، 533 "ج4"، 11، حا 58، حا 99، حا 115، حا 128، 129، حا 133، 136، حا 140، حا 143، حا 145، 147، حا 153، حا 197، حا 203، 204، حا 211، 213، حا 216، حا 22، 227، حا 232، حا 236، 237243، حا 245، 246، حا 251، حا 257، حا 264، حا 386، حا 394، حا 413، حا 422، حا 436، 437، حا 439، 440، حا 445، حا 448، 449451، حا 453حا 445، حا 474، 475، حا 479، حا 491، حا 517، حا 522، 523، حا 526 "ج5" حا 270، حا 348، حا 350، 351، حا 354، حا 357، حا 361، حا 365، 368، حا 373، حا 378، حا 590، حا 641 "ج6"، حا 60، حا 62، حا 69، حا 77، 78، حا 228، حا 230، حا 234، 235، حا 240، 242، حا 244، حا 246، 249، حا 252، 253، حا 255، 256، حا 258، حا 260، 262، حا 266، حا 269، حا 271، حا 275، 276، حا 278، حا 280، 281، حا 284، حا 286، حا 293، 294، حا 357، حا 363، حا 365، حا 380، حا 382، حا 384، حا 386، 389، حا 393، حا 407، حا 409، حا 416، 418، حا 422، 423، حا 430، حا 434، حا 438، 439، حا 442، حا 444، 445، حا 523، 524، حا 526، حا 528، 530، حا 578، حا 599، حا 616، 617، حا 620، حا 639، حا 647، حا 652، حا 654، 656، حا 687، حا 692،

حا 694، حا 719، حا 802 "ج8" حا 133، حا 139، حا 201، حا 209، حا 272، 274، حا 280، 281، حا 284، حا 286، 287، حا 332، حا 371، 373، حا 376، حا 378، حا 380، حا 382، 383، حا 421، حا 430، حا 512، حا 521، حا 537، 538، حا 625 "ج8" حا 110، حا 205، حا 295، حا 347، حا 384 "ج9" حا 88، حا 214، حا 778 بلدانية فلسطين العربية "ج3" حا 59، حا 62، 63، حا 65، 66 بلوغ الأرب: كتاب "ج1"، حا 24، حا 37، 41، حا 47، حا 74، حا 140، 141، حا 157، حا 167، حا 170، 171، حا 263، 264، حا 287، حا 470، حا 509، حا 511، حا 522، حا 526 "ج3" حا 181، حا 199، 200، حا 379، حا 520 "ج4" حا 53، حا 56، حا 74، حا 104، حا 248، حا 274، حا 300، حا 318، حا 324، 325، حا 344، حا 351، حا 356، حا 380، حا 389 حا 400، حا 403، حا 478، حا 498، حا 543، حا 571، حا 572، حا 577، 578، حا 580، 582، حا 586، حا 589، 592، 610، حا 623، حا 634، 636، حا 639، حا 645، حا 647، حا 653، حا 670، 672، حا 676، حا 684، حا 686 "ج5" حا 40، حا 48، 52، حا 56، حا 58، 60، حا 65، 66، حا 70، حا 72، 93، حا 77، 78، حا 81، حا 88، 92، حا 94، 96، حا 98، حا 101، 102، حا 106، حا 112، حا 117، حا 127، 132، حا 152، 156، حا 159، حا 161، حا 172، حا 174، حا 224، حا 283، حا 293، حا 294، حا 342، حا 354، حا 377، حا 388، 393، حا 395، 396، حا 398، حا 422، حا 425، حا 427، 428، حا 431، حا 433، حا 443، حا 445، حا 498، 500، حا 507، حا 519، حا 527، حا 529، حا 534، حا 537، 450، حا 544، 545، حا 549، حا 551، حا 556، 557، حا 592، 593، حا 600، حا

638، حا 639، 643، حا 645، 651 "ج6" حا 13، حا 20، حا 54، حا 57، حا 59، حا 84، حا 103، حا 106، حا 113، حا 126، حا 123، 134، حا 1437، حا 139، حا 142، حا 145، حا 201، حا 226، حا 228، حا 235، حا 242، حا 244، 245، حا 260، حا 264، حا 266، حا 269، 272، حا 274، 275، حا 277، حا 337، حا 339، حا 379، حا 389، حا 394، حا 394، حا 397، حا 427، حا 449، حا 450، 455، حا 449، 450، حا، حا 455، حا 461، 464، حا 466، حا 470، 472، حا 479، حا 485، حا 500، حا 504، 507، حا 509، حا 693، حا 696، 697، حا 699، 702، حا 707، حا 714، حا 716، 717، حا 720، 721، حا 724، حا 728، 729، حا 745، 746، حا 748، 751، حا 754، حا 758، حا 770، حا 773، 774780، حا 782، حا 782، 793، حا 797، 799، حا 806، 807 "ج7" حا 126، حا 164، حا 251، حا 254، حا 369، حا 372، حا 378، حا 388، 389، حا 552، حا 556، حا 559، حا 568، 569، حا 574، حا 578، حا 580، 583، حا 594، 595، حا 617 "ج8" حا 29، 33، حا 108، حا 139، حا 160، حا 254، 256، حا 263، حا 266، 267، حا 277، 278، حا 285، حا 287، حا 290، حا 302، حا 332، حا 344، 345، حا 352، حا 369، حا 382، حا 384، حا 386، حا 388، حا 403، حا 408، حا 411، حا 416، حا 421، حا 440، 442، حا 457، 485، حا 461، حا 464، 468، حا 470، حا 471، حا 483، حا 487، حا 492، حا 497، 498، حا 501، 502، حا 504، حا 521، 522، حا 735، حا 738، حا 740، 741، حا 771، 772، حا 776، 781، حا 784 "ج9" حا "64، 66، 107، 108، 111، 116، 161، 170، 231، 237، 238، 399، 431، 450، 463، 468، 470، 472، 480، 488، 660، 667، 680، 690، 691، 623، 807، 875، 890، 900"

بني الحارث: كتاب "ج9" 350 بني حنيفة "ج9" 350 بني القين بن جسر "ج9" 350 بني محارب "ج9" 350 بني مرة "ج9" 350 بني نهشل "ج9" 350 البهية: مطبعة "ج2" حا 594 "ج3" حا 11، حا 400 بوشيه: طبعة "ج1" 494 بولاق: طبعة "ج1" حا 294 "ج3" حا 72، حا 508، حا 510، حا 513، حا 515، حا 517، 518 "ج4" حا 684 "ج5" حا 84، حا 141، حا 394، حا 552 "ج6" 263، حا 419، حا 422، حا 504، حا 692، حا 701 "ج7" حا 624، حا 631 "ج8" حا 89، حا 112، حا 329، حا 366، حا 386، حا 569، حا 660، حا 666، 667، حا 736، حا 785، 786، حا 791 "ج9" حا "23، 52، 68، 87، 121، 138، 244، 281، 307، 310، 316، 319، 345، 351، 388، 389، 392، 396، 443، 454، 459، 465، 466، 474، 487، 482، 484، 487، 497، 498، 502، 504، 508 -509، 513، 516، 519، 520، 530، 534، 536، 545، 546، 548، 550، 552، 561، 562، 565، 566، 568، 570، 576، 578، 579، 584، 585، 592، 595، 599، 632، 637، 639، 641، 643، 646، 648، 658، 664، 665، 668، 670، 677، 685، 697، 700، 702، 704، 722، 723، 725، 727، 735، 744، 746، 747، 746، 760، 797، 798، 800، 805، 812، 815، 816، 824، 827، 830، 831، 838، 854، 856، 859، 867، 873، 875، 876، 878، 881، 883، 895، 897، 899" البيان والتبيين "ج1" حا 68، حا 163، حا 263، حا 314، حا 316، حا 318، حا 386، حا 481 "ج2" 481 "ج3" 106، حا 187، حا 315، حا 323، حا 326، حا 358، حا 442 "ج2"، حا 102، حا 108، حا 205، حا 339، حا 522، حا 557، حا 339، حا 522، حا 557، حا 580، حا 591 "ج5" 48، حا 50، 51، حا 54-56، حا 65، حا 94، حا 119،

حا 284، حا 390، حا 346، حا 446، حا 510، حا 519، حا 638، حا 643 "ج6"، حا 98، حا 159، حا 427، حا 464، حا 479، حا 504، 505، حا 507، حا 759، حا 765، 766، حا 769، حا 776، حا 792 "ج7" حا 369، حا 375، حا 384، حا 576، حا 581، 582، حا 587 "ج8" حا 19، حا 94، حا 101، 102، حا 231، حا 290، حا 299، حا 203، حا 330، حا 346، حا 350، 352، حا 364، حا 378، 379، حا 384، حا 379، حا 416، حا 521، حا 539، حا 589، حا 630، حا 626، حا 706، حا 740، حا 742، حا 746، 749، حا 753، حا 755، حا 764، حا 747، 768، حا 771، 774، حا 778، حا 780، 786، حا 788، 789، حا 791، حا 794 "ج9" حا "11، 16، 20، 21، 23، 25، 35، 76 -86، 81، 83، 85، 100، 104، 107، 108، 110، 113، 115، 140، 148، 164، 167، 171، 188، 207، 240، 267، 271، 278، 280، 289، 290، 297، 298، 333، 335، 336، 343، 344، 382، 383، 387، 407، 441، 452، 456، 457، 461، 462، 464، 466، 471، 472، 476، 477، 483، 491، 496، 498، 517، 627، 631، 637، 651، 652، 956، 663، 675، 682، 6839685، 690، 701، 704، 713، 720، 746، 754، 775، 777، 782، 783، 799، 804، 814، 816، 836، 837، 851، 854، 856، 860، 864، 874، 875، 879، 888، 8976، 900، 902" بيفان "طبعة "ج1" 396 "ج3" حا 353 "ج5" 352 البيوع "ج7" حا 27حا 309حا 389، 391حا 394، حا 398، حا 424، 425، حا 428، حا 432، 433، حا 435

التاء

التاء: التابوت "ج6" 575 "ج8" 603، 606 التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول "ج3" حا 357 "ج4" حا 381 "ج5" حا 509 "ج6" حا 679 تاج العروس "ج1" حا 14، حا 16، حا 20، حا 24، حا 70، حا 76، حا 78، حا 144، حا 146، حا 149، حا 281، 282، حا 294، 295، حا 336، حا 360، 361، حا 365، حا 375، حا 378، حا 384، 386، حا 390، 391، حا 394، حا 426، حا 428، حا 431، حا 434، حا 438، حا 440، حا 507 "ج2" 173، حا 218، 219، حا 255، حا 258، حا 269، حا 353، حا 400، حا 412 "ج3" حا 11، حا 170، حا 273، حا 303، حا 323، حا 382، حا 452، حا 497، 498، حا 508، حا 533 "ج4" حا 7، حا 8، حا 11، 12، حا 24، 30، حا 32، 33، حا 50، حا 56، حا 58، 60، حا 63، حا 965، 66، حا 63، حا 65، 66، حا 72، حا 83، حا 87، حا 103، حا 132، حا 1354، حا 140، حا 142، حا 144، 145، حا 147، حا 150، حا 182، 183، حا 200، 201، حا 203، حا 207، 208، حا 212، حا 214، حا 216، حا 217، 217، حا 223، حا 225، 227، حا 234، حا 237، حا 240، حا 244، 245، حا 255، حا 259، حا 273، حا 275، حا 277، حا 279، حا 286، 289، حا 304، 313، حا 317، 319،

حا 336، 338، حا 340، حا 344، حا 348، حا 352، حا 354، حا 356، 359، حا 352، 363، حا 365، 367، حا 370، 372، حا 375، حا 377، 380، حا 382، حا 386، 387، حا 389، حا 392، حا 396، حا 398، 401، حا 403، حا 412، 413، حا 415، حا 419، 426، حا 430، 431، حا 433، 436، حا 438، 439، حا 441، حا 443، 444، حا 446، 450، حا 457، 459، حا 461، 464، حا 475، 478، حا 480، 483، حا 487، 490، حا 502، 507، حا 509، 512، حا 514، حا 517، 520، حا 524، 525، حا 529، حا 532، 534، حا 543، حا 548، حا 550، حا 553، حا 556، 563، حا 568، 569، حا 572، حا 574، 575، حا 581، حا 583، 584، حا 593، حا 596، 597، حا 599، 601، حا 603، 604، حا 610، 616، حا 618، 625، حا 630، 633، حا 635، حا 637، 638، حا 637، 638، حا 641، 646، حا 648، 652، حا 654، 655، حا 661، 670 حا 674، 676، حا 680، 682، حا 684 "ج5" حا 5، 10، حا 15، حا 17، 19، حا 21، حا 24، 36، حا 39، 47، حا 50، حا 53، 55، حا 57، حا 59، 72، حا 74، 78، حا 80، 81، حا 85، حا 87، 89، حا 97، 104، حا 106، 113، حا 115، 116، حا 120، 127، حا 132، 134، حا 137، 155، حا 157، 158، 160، 161، حا 163، حا 164، حا 166، 170، 173، حا 181، حا 191، حا 201، 202، حا 204، حا 206، 207، حا 213، حا 223، 224، حا 226، حا 236، 237، حا 241، حا 248، حا 250، حا 256، حا 260، 262، حا 264، 270، حا 272، 273، حا 279، حا 282، حا 285، 288، حا 290، 298، حا 300، حا 302، 306، حا 308، 309، حا 311، حا 313، حا 315، حا 318، حا 321، حا 323، حا 325، 326، حا 331، حا 338، 340، حا 378، حا 380، حا 388، حا 394، حا 396، حا 397

حا 399، حا 401، حا 403، حا 405، حا 409، 411، حا 417، 418، حا 420، حا 422، 423، حا 433، حا 439، حا 442، حا 445، حا 449، حا 452، حا 455، حا 457، 458، حا 462، حا 464، 465، حا 475، حا 486، حا 503، 504، حا 510، 511، حا 517، 518، حا 521، 524، حا 534، حا 538، 539، حا 545، 546، حا 548، 549، حا 551، 553، حا 556، حا 560، حا 563، حا 565، حا 576، حا 580، حا 586، 587، حا 590، 592، حا 596، 598، حا 600، حا 602، حا 606، حا 609، 610، حا 617، 619، حا 621، 624، حا 632، 637639، حا 643، 644، حا 647، حا 649، حا 654 "ج6" حا 7، حا 14، حا 26، 27، حا 30، حا 35، حا 38، حا 40، حا 58، 60، حا 71، 75، حا 81، حا 84، حا 99، 100، حا 106، حا 112، 113، حا 117، حا 122، حا 123، حا 129، 130، حا 133، 134، حا 139-140، حا 142، 145، حا 147، حا 149، و150، حا 152، 154، حا 157، 158، حا 160، 162، حا 168، حا 170، حا 172، حا 177، حا 179، حا 186، حا 190، 192، حا 196، حا 199، 206، حا 208، حا 213، حا 216، 219، حا 224، حا 228، حا 230، حا 236، حا 241، 242، حا 244، 246، حا 250، حا 252، 253، حا 258، 260، حا 263، 264، حا 266، حا 268، 269، حا 271، حا 273، 276، حا 278، 285، حا 288، 289، حا 303، حا 343، 344، حا 347، حا 351، حا 353، 355، حا 363، 364، حا 366، 367، حا 370، 371، حا 381، 391، حا 393، حا 395، حا 395، حا 397، حا 400، 402، حا 404، 406، حا 408، حا 413، حا 413، 417، حا 419، 426، حا 430، حا 432، حا 435، حا 438، حا 441، حا 445، 447، حا 451، 452، حا 467، حا 475، حا 505، حا 510، حا 522، حا 524، 526533، حا 551، 533، حا 577، 579، حا 583،

حا 616، 618، حا 622، حا 634، حا 637، حا 661، حا 666، 367، حا 674، 677، حا 683، حا 686، حا 691، 693، حا 695، حا 702، حا 707، 708، 711، حا 714، حا 718، 719، حا 721، 723، حا 726، 732، حا 734، 735، حا 737، حا 740، حا 742، 743، حا 745، 748، حا 750، 751، حا 753، 754، حا 758، 759، حا 762، حا 765، حا 772، 773، حا 775، 777، حا 780، حا 782، 783، حا 785، حا 787، 790، حا 792، 795، حا 797، 799، حا 802، حا 803، حا 806، حا 819، 822 "ج7" حا 8، 10، حا 12، حا 15، حا 28، حا 96، حا 98، 110، حا 112، 129، حا 133، حا 136، 137، حا 139، حا 144، حا 148، 154، حا 156، حا 159، 160، حا 164، 168، حا 171، 201، حا 208، 312، حا 216، 225، حا 228، 229، حا 231، حا 237، 240، حا 243، 244، حا 246، 255، حا 257، حا 280، حا 284، حا 292، 294 حا 300، 301، حا 303، 304، حا 308، حا 314، 315، حا 317، 319، حا 321، حا 323، 328، حا 332، حا 335، 339، حا 341، 343، حا 345، 353، حا 355، 368، حا 370، حا 372، 374، حا 376، 378، حا 380، 382، حا 385، حا 388، 399، حا 401، 406، حا 408، 413، حا 415، 422، حا 428، حا 434، 436، حا 441، 443، حا 445، حا 448، 451، حا 454، 455، حا 458، 461، حا 464، 466، حا 468، 469، حا 472، 476، حا 479، 481، حا 483، حا 485، 486، حا 489، حا 491، حا 496، 98، حا 501، 507، حا 509، حا 541، حا 458، 552، حا 555، 558، حا 561، 567، حا 569، حا 571، 573، حا 576، حا 583، 585، حا 587، 611، حا 613، حا 615، حا 618، حا 620، حا 621، حا 623، 626، حا 628، 637 "ج8" حا 8، حا 13، حا 29، 30، حا 33، حا 50، حا 60، 61، حا 84، حا 91، حا 93، حا 96، حا 105، حا 154-

155، حا 159، حا 162، 163، حا 165، 167، حا 182، حا 254، حا 257، حا 259، 260، حا 262، حا 264، 267، حا 269، حا 271، 272، حا 274، 283، حا 285، 287، حا 306، 309، حا 311، حا 313، 315، حا 317، 318324، حا 327، حا 330، حا 335، حا 337، حا 342، حا 347، حا 353، حا 357، حا 365، حا 371، حا 374، حا 380، 381، حا 386، حا 388، حا 390، حا 392، 396، حا 398، 399، حا 401، 409، حا 415، 417، حا 423، 426، حا 429، حا 436، 438، حا 442، حا 446، حا 455، 458، حا 462، حا 468، حا 470، حا 473، 475، حا 478، 480، حا 483، 488، حا 494، حا 496، حا 497، 503، 511، حا 521، حا 542، حا 544، حا 546، حا 552، 556، حا 576، 576، حا 588، 589، حا 596، حا 605، 606، حا 624، 625، حا 631، حا 649، حا 652، حا 655، 657، حا 660، 661، حا 675، حا 709، 710، حا 715 حا 717، حا 739، حا 746، حا 763، حا 766، حا 774، حا 781، حا 791، حا 793 "ج9"، حا "5، 6، 8، 12، 14، 22، 35، 77، 82، 88، 102، 120، 136، 137، 144، 145، 150، 169، 171، 173، 178، 180، 182، 184، 186، 190، 192، 197، 198200، 203، 206، 212، 231، 240، 252، 262، 265*230، 332، 336، 341، 342، 345، 356، 357، 430، 446، 449، 461-462، 464، 474، 486، 495، 496، 502، 517، 520، 528، 547، 569، 576، 583، 586، 587، 591، 601، 605-606، 608، 609611، 615، 617، 619، 623، 637، 641، 643، 654، 658، 688، 705، 712، 725، 736، 740، 744، 748، 771، 773، 796، 798، 801، 803، 812، حا، 828، 831، 834، 838، 855، 894" التاج في سيرة انوشروان: "ج1" حا 78 تاج اللغة وصحاح العربية: الصحاح "ج3" حا 302 "ج6" حا 289 التاريخ: "ج1" 116

"ج4" حا 99، حا 109 تاريخ ابن خلدون "ج4"، حا 464 "ج6"، حا 639، 640، حا 642 تاريخ ابن عسكر: التاريخ الكبير "ج1"، حا 320 "ج4"، حا 208، حا 236، 237، حا "ج5"، حا 154 "ج6" 154 "ج6" حا 220، حا 345 "ج7" حا 372، حا 575، حا 580 "ج9" حا 90، حا 299، حا 308 تاريخ ابن كثير: "ج9" حا 500 تاريخ ابن الوردي "ج4" حا 443 تاريخ أداب العرب "ج1" حا 70، 71، حا 89 "ج4" حا 341 "ج6" 479، 480، حا 664 "ج8" 109، حا 630، حا 547، حا 563، 565، حا 570، حا 591، حا 529، حا 635، 636، حا 659، حا 662، حا 682، حا 689، 690، حا 696، حا 714، حا 725، 726، حا 730، حا 757، حا 759 "ج9" حا "11 ، 16، 17، 86، 120، 122، 142، 254، 357، 375*391، 398، 510، 695، 699" تاريخ الآداب العربية "ج9" حا 445، حا 453، 556، 640، 641، 676، 667، 769، 708، 814، 838، 842، 844، 854، 858، 860، 871، 873، 880 تاريخ آداب اللغة العربية "ج4" حا 620 "ج4" حا 353، حا 387، حا 424، حا 433 "ج9" حا "84، 89، 112، 123، 136، 171، 178، 277، 287، 374، 410، 432، 436، 438، 444، 456، 482، 510، 512، 553، 556، 636، 637، 640، 647، 649، 696، 721، 724، 786، 858، 863، 882" تاريخ الأدب العربي "ج4" حا 578 "ج6" حا 569، حا 670، 671 "ج8" حا 182، حا 196، حا 249، حا 360، حا 628، حا 748 "ج9" حا "53، 177، 181، 207، 258، 282، 297، 299، 304، 305، 307، 322، 330، 332، 337، 349، 350، 372، 374، 393، 399، 435، 449، 451، 477، 478، 511، 514، 528، 533، 534، 539، 540، 543، 550، 551، 558، 564، 556، 567، 570، 580، 583، 586، 592، 594

596، 641، 660، 663، 701، 726، 746، 745، 758، 765، 767، 778، 779، 804، 812، 844، 848، 849، 856، 858، 861، 863، 872، 878، 880، 882، 888" تاريخ أسرة اللخميين في الحيرة "ج1" 135 تاريخ الإسكندر: "ج2" 9 تاريخ الإسلام "ج3" حا 426، حا 429 "ج4" حا 40، 656 "ج6" حا 473، 501، 503 تاريخ الأشراف "ج1" 116 تاريخ أعمار الخلفاء: "ج1" 116 تاريخ بغداد: "ج1" حا 87 تاريخ التمدن الإسلامي "ج4" حا 368، 388 "ج8" حا 171، 182، حا 187، حا 190، 191، حا 426 تاريخ الحروب "ج1" 386 تاريخ حضرموت السياسي "ج1" حا 172، حا 311، 312 تاريخ الحكماء "ج1" حا 90، "ج3" حا 169 "ج8" حا 198، 199، حا 382 تاريخ الخط العربي وآدابه "ج8" حا 154 تاريخ خليفة بن خياط "ج4" حا 206، حا 231، حا 234، حا 239، حا 259 تاريخ الخميس "ج3" 428، 429 "ج4" حا 94، حا 96، حا 100، 101، حا 103، حا 264، حا 378 "ج5" حا 83، حا 381 "ج6" حا 249، حا 274، حا 369، 449، حا 478، حا 482، حا 486، حا 766 "ج7" حا 679 "ج9" حا 779 تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء "ج1" حا 17، حا 18 "ج2" حا 634 تاريخ الشعوب الإسلامية: "ج1" حا 142 تاريخ الطبري "ج1" حا 17، حا 41، حا 171 "ج3" حا 79 "ج4" حا 290، حا 274 "ج5" حا 7، حا 294، حا 297، حا 304 "ج6" 98، حا 459، حا 611 "ج8" حا 35، حا 274، حا 460 "ج9" حا 254 التاريخ الطبيعي "ج1" 59 تاريخ العجم وبني أمية: كتاب "ج1" 116 تاريخ العرب قبل الإسلام

"ج1" 5، 134 "ج2" حا 137، 173، 174 "ج3" حا 139، حا 157، حا 173، حا 192، 193، حا 382، حا 474، حا 493، حا 500 "ج4" حا 10، 18، حا 23، 32، حا 53، حا 130، حا 275، حا 304، حا 415، حا 424، حا 447، حا 514، حا 538، 539 "ج5" حا 199، 328، حا 552 "ج6" حا 291، 292، حا 621 "ج7" 184، حا 273، 275 "ج8" 91، حا 248، حا 447، حا 519، حا 527، حا 541، حا 547، حا 553، حا 589، حا 674، حا 678، 680، حا 723، حا 725 "ج9" حا 775 تاريخ العرب المطول: "ج1" حا 236 التاريخ على السنين "ج1" 116 تاريخ الفرس والعرب في عهد الساسانيين "ج1" 64 تاريخ القرآن "ج8" 318، حا 626 تاريخ كلدو وآثور "ج6" حا 599، حا 632 "ج8" حا 289، حا 341، حا 702 التاريخ الكنائسي "ج1" 62، 64 تاريخ الكنيسة: "ج1" حا 62 "ج3" حا 172 "ج6" حا 632، حا 634 "ج9" 128 تاريخ الكويت: "ج1" 177 تاريخ اللغات السامية: السامية "ج1" حا 52، حا 630 "ج8" حا 175، 177، حا 180، حا 208، حا 212، حا 213، حا 218، حا 250، حا 437، حا 519، حا 530، حا 532، 535، حا 609، حا 677 تاريخ مختصر الدول "ج2" حا 92 "ج3" حا 170، حا 220 "ج7" 296 تاريخ مكة "ج1" حا 215 "ج4" حا 5 "ج6" حا 488 تاريخ ملوك العرب الأولية "ج2" حا 534، حا 592 "ج3" 399 "ج5" 216 "ج9"حا 452، 530، 575حا 592، 737، 774 تاريخ ملوك الفرس "ج1" حا 117، حا 150، حا 157، 159، 160، حا 1479، حا 181، 182 تاريخ اليمن "ج1" حا 156

"ج2" حا 76، حا 83، حا 304 "ج3" حا 536 "ج7" حا 179 تاريخ اليعقوبي "ج3" حا 368 "ج6" حا 695 "ج8" حا 792 تاريخ اليهود في بلاد العرب "ج4" حا 134 "ج6"حا 515، حا 536، حا 549، حا 552، حا 567، حا 577، حا 580 "ج8" حا 505 "ج9" حا 769، 775، 776، 782، 784، 791 تاريخ يوسفوس اليهودي "ج3" حا 32، حا 35، 37، حا 44 التبادل اللغوي بين العربية والفارسية "ج8" حا 716 التثنية: سفر "ج3" حا 60، 61 التجارية: مكتبة "ج4" حا 55، حا 497 "ج5" حا 694 "ج8" حا 115، حا 137 التحفة النبهانية في تاريخ جزيرة العرب "ج4" حا 213 تحفة النظار في غرائب الأمصار "ج14" حا 28 "ج4" حا 201، 203 تحقيق ما للهند من مقولة "ج9" حا 211 تدوين الشعر الجاهلي "ج9" حا 301، حا 307 تذكرة الحفاظ "ج1" حا 87، 88، "ج8" حا 266، حا 328 الترتيب والبيان عن تفصيل آي القرآن "ج7" حا 433 التركوم: "ج1" 457 "ج2" 93 "ج3" 10، 14 تسمية ما في شعر امرئ القيس من أسماء الرجال والنساء "ج9" 529 التسهيل لعلوم التنزيل "ج8" حا 489، حا 617 التصحيف والتحريف "ج9" حا 251، حا 273، حا 281 التعبير "ج6" حا 785 التعريفات "ج5" حا 478 تعنيت: مجلة "ج3" 10. تفرق عاد: "ج1" 353 التفسر "ج6" حا 357 "ج7" حا 503 تفسسير ابن عباس "ج4" حا 12 "ج8" حا 257 تفسير ابن كثير "ج1" حا 317 "ج2" حا 513 "ج3" حا 72، حا 507، حا 510، حا 519 "ج4" حا 91، حا 98، حا 551، حا 553، 554 "ج4" حا 38، 39، حا 76، حا 82، حا 136، حا 190، حا 228، حا 230، حا 239، حا 246، حا 248، حا 255، حا 258، حا 260، حا 262، حا 350، حا 374، حا 381، 382

حا 384، حا 446، 447، حا 482، حا 485، حا 779 "ج7" 292، 293، حا 296، حا 309، حا 429، حا 431 "ج8" حا 104، حا 428، حا 459، حا 462، حا 466، حا 471، حا 473، 474حا 477، 478، حا 480، حا 483، حا 489، حا 495، 496، حا 498، حا 500، حا 502، حا 505، 506، حا 541، حا 654، حا 709 "ج9" حا 138، حا 518، حا 709، حا 742 تفسير أبي السعود "ج3" حا 510 "ج4" حا 371 "ج6" 136، حا 230، 231، حا 246، حا 260، حا 262، حا 643، 645، حا 691 تفسير الألوسي "ج3" حا 493 "ج4" 317 "ج5" حا 543 "ج7" حا 426 "ج8" حا 96، حا 314، حا 317، حا 654، حا 709 "ج9" حا 18، حا 173، حا 742، حا 753 تفسير البحر المتوسط "ج6" حا 228، حا 236، حا 363 "ج8" 503 تفسير البيضاوي "ج1" حا 141، حا 317 "ج3" حا 458، حا 510 "ج4" حا 371 "ج5" حا 90، حا 305 "ج6" حا 136، حا 190، حا 192، حا 230، حا 236، حا 247، حا 258، حا 260، حا 778 "ج8" حا 318، حا 489 تفسير التبيان "ج6" حا 194 تفسير الجلالين "ج6" حا 44، حا 556، حا 710 "ج8" 616 تفسير الخازن "ج1"حا 40 "ج2" حا 513، حا 515 "ج4" حا 371 "ج5" حا 90، حا 93، حا 97 "ج6" حا 230، حا 236، حا 246، حا 255، حا 260، حا 262، حا 451، حا 643، حا 645، حا 647 "ج8" حا 497 تفسير الزمخشري "ج5" حا 568 تفسير السيوفي "ج6" حا 136 تفسير الشربيني "ج2" حا 513 حا 515 "ج5" حا 90 تفسير الطبرسي "ج1" 321 "ج2" حا 514 "ج5" حا 550 "ج6" حا 58، حا 70، حا 127، حا 136، حا 149، حا 194، حا 231،

حا 235، 236، حا 240، حا 243، حا 264، 247، حا 250، حا 269، حا 273، حا 382، حا 390، حا 487، حا 548، حا 560، حا 604، حا 644، حا 778 "ج8"، حا 318، حا 498، حا 501، 503 "ج9" حا 518 تفسير الطبري "ج1" حا 39، حا 86، حا 314، حا 317، حا 323، حا 411 "ج2" حا 513، 515 "ج3" حا 72، حا 493، حا 500، حا 508، حا 510، حا 516، 517 "ج4" حا 23، حا 80، حا 107، حا 123، حا 152، حا 177، 178، حا 294، 296، حا 317، حا 366، حا 371، 382، حا 387، حا 396، حا 542، حا 604 "ج5" حا 17، حا 19، حا 46، حا 88، حا 90، 92، حا 94، 95، حا 79، حا 110، 111، حا 134، 137، حا 193، 142، حا 191، حا 198، حا 202، حا 236، حا 251، حا 435، حا 529، حا 532، حا 534، 536، حا 538، حا 541، حا 543، حا 546، 547، حا 550، 553، حا 555، حا 562، 567، حا 571، حا 580، حا 586، 587، حا 593، حا 605، حا 623، حا 626، حا 632، حا 637، حا 642 "ج6" حا 14، حا 26، حا 32، حا 38، 40، حا 51، حا 59، حا 67، حا 69، حا 87، حا 100، حا 120، حا 124، 127، حا 136، حا 148، حا 160، حا 165، 168، حا 170، حا 177، حا 181، حا 183، حا 190، حا 194، حا 196، حا 201، حا 204، 207، حا 209، 210، حا 216، 217، حا 219، حا 224، حا 226، حا 228، حا 230، حا 232، حا 235، 237، حا 245، 247، حا 259، حا 296، حا 338، حا 341، 342، حا 344، 347، حا 350، حا 357، 359، حا 361، حا 371، 773، حا 380، 381، حا 383، 384، حا 390، 391، حا 393، حا 395، حا 419، 421، حا 429، حا 449، حا 451، 452، حا 460، حا 472، حا 482، حا 488، حا 504، حا 509، 510، حا 515، حا 534، 535،

حا 537، حا 547، 548، حا 552، حا 560، حا 565، حا 588، حا 604، 605، حا 611، حا 618، 619، حا 640، حا 643، 647، حا 649، 650، حا 653، حا 656، حا 687، حا 691، حا 701، حا 710، حا 720، 721، حا 730، 731، حا 733، حا 738، حا 756، حا 759، حا 764، حا 768، حا 777، 778، حا 780، حا 807 "ج7" حا 63، حا 123، حا 287، حا 292، 293، حا 309، حا 317، حا 348، حا 371، حا 381، حا 385، حا 400، حا 404، حا 410، حا 419، 420، حا 424، حا 426، 446، حا 464، حا 466، حا 468، حا 474، حا 476، حا 484، 485، حا 497، 498، حا 624، حا 630، حا 632 "ج8" حا 92، حا 95، حا 104، حا 106، حا 116، حا 124، حا 165، حا 256، حا 259، 261، حا 265، حا 285، حا 305، حا 314، حا 317، 319، حا 324، حا 339، حا 345، حا 371، 372 حا 402، حا 427، 428، حا 437، حا 458، حا 469، حا 471، 473، حا 483، 484، حا 488، حا 495، 496، حا 499، 501، حا 503، حا 542، 544، حا 562، حا 585، حا 587، حا 596، 601، حا 608، 609، حا 611، حا 622، حا 625، حا 654، حا 665، 667، حا 696، حا 709، حا 741، حا 746، حا 754، حا 758، حا 764، 765، حا 768 "ج9" حا 18، 19، حا 138173، حا 244، 245، حا 341، حا 393، 395، حا 518، حا 552، حا 654، حا 742، حا 746، حا 753، حا 828 تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان "ج1" حا 39 تفسير الفخر الرازي: التفسير الكبير "ج1" حا 317، 320 "ج3" حا 510، حا 516 "ج4" حا 24، حا 451 453، حا 643، 644، حا 740 "ج8" حا 489، 490، حا 503 تفسير القاسمي "ج5" حا 90 "ج8" حا 489، حا 497 تفسير القرآن "ج6" 554

تفسير القرطبي "ج3" حا 56، 72، حا 453، حا 458، حا 500، حا 508، حا، حا 510، حا 513 "ج4" حا 66، حا 90، حا 178 "ج5" حا 543، حا 548، حا 554، حا 567، حا 585، 586، حا 567، حا 585، 586، حا 589، حا 605، حا 606، حا 623 "ج6" حا 51، حا 58، حا 87، حا 128، حا 167، حا 181، حا 183، حا 202، حا 205، حا 245، حا 338، حا 358، حا 359، 361، حا 374، حا 381، حا 429، حا 452، حا 460، حا 515، حا 534، 535، حا 547، حا 557، حا 588، حا 645، حا 746، حا 650، حا 656، حا 710 "ج7" 317، حا 410، حا 423، حا 428، حا 431، حا 632 "ج8" 91، حا 281، حا 285، حا 320، حا 434، حا 495، حا 498، حا 203، حا 614 "ج9" حا 173، حا 248، حا 706 تفسير الكشاف "ج6" 136 تفسير كلام ابنة الخس "ج8" حا 738 تفسير المنار "ج5" حا 139، حا 534، حا 537، حا 546 ، 552، 553 "ج6" حا 449 تفسير النسفي "ج 8" 495 تفسير النيسابوري "ج2" حا 513-514 "ج3" حا 72، حا 470، حا 493، حا 508، حا 510 "ج4" حا 131 "ج5" حا 46، حا 84، حا 551 "ج6" حا 359، حا 459 "ج7" حا 309، حا 410، 4116419، حا 428، حا 446، حا 497 "ج8" حا 106، حا 317، حا 320، حا 473، حا 569، حا 603، حا 741 "ج9" حا 19، حا 138، حا 341 تفضيل العرب: "ج1" 264 التقاويم "ج8" 455 التقديم: مطبعة "ج3" حا 344 "ج5" حا 381 "ج6" حا 519، حا 664 تقريب الأغاني "ج3" حا 360 تقرير: "ج2" حا 32، 33 تقويم البلدان "ج3" حا 159 "ج6" حا 529 "ج7" حا 230 تقييد العلم "ج8" 134، حا 261، حا 263، 265، حا 272، حا 273، حا 325، حا، حا 326 التكوين "ج1" حا 28، حا 155، حا 223، 224، حا 245،

حا 262، حا 283، حا 297، 299، حا 332، حا 336، حا 344، حا 360، 361، حا 375، حا 412، 414، حا 416، 419، حا 421، حا 423، 424، حا 429، حا 431، حا 433، 437، حا 443، حا 445، حا 446، حا 448، 449، حا 454، حا 456، حا 458، 459، حا 467، حا 580، 581، حا 584، حا 586، حا 596، حا 604، حا 629، حا 638، 639 "ج2" 91، حا 93، حا 120، حا 130، حا 261، حا 412، حا 509، حا 623 "ج3" حا 12، حا 62، حا 535 "ج5" 310 "6" حا 138، حا 145، حا 526، حا 280، حا 407، حا 726، 727، حا 795 "ج7" حا 478، حا 634 "ج8" حا 192، حا 440، حا 463، حا 467، حا 525، حا 555 "ج9" 125، 126، 130، 810 التلمود: "ج1" 13، 21، 31، 43، 45، 56، 87، 88، 123، 207، 415، 420، 652، 656، 658، 660، 661 "ج2" 123 "ج3" 80، 110، 156حا 175، 177، 182 "ج4" 640 "ج5" 304 "ج6" حا 264، حا 514، 515، 528، حا 565، 570، 573، 681 "ج7" 475، 476 "ج8" 193، 263 "ج9"768 التمدن الإسلامي "ج1" حا 518، 519، حا 521، حا 525، حا 527 "ج8" حا 332 التنبيه والإشراف: "ج1" حا 29، حا 52، حا 79، حا 81، حا 256، حا 308، 309، حا 313، حا 342، حا 355، 356، حا 364، حا 392، حا 395، حا 485، حا 496، 501، حا 504، حا 506 "ج2" حا 14 "ج3" حا 159، حا 179، حا 184، حا 294، حا 310، حا 399، حا 426 "ج4" حا 60، حا 132، حا 377، 378، حا 567 "ج5" حا 377، حا 452، حا 520 "ج6" حا 484، حا 524، حا 601 "ج7" حا 372 "ج8" حا 36، حا 120، حا 125، 126، حا 129، حا 131، 132، حا 134

حا 137، حا 755 التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعي "ج4" حا 369 التنبيهات على أغلاط الرواة "ج9" حا 531 تنوير الجوالك "ج5" حا 123، حا 551، حا 627 "ج8" حا 84 تنوير المقياس من تفسير ابن عباس "ج8" حا 258 تهذيب ابن عساكر "ج4" حا 111 "ج6" حا 482، 483، حا 488 "ج9" حا 52، حا 866، حا 906 تهذيب الأسماء "ج4" حا 443، حا 450 "ج6" حا 478، حا 562، 564 "ج8" حا 135، حا 334 "ج9" حا 296، حا 308، حا 466 تهذيب الألفاظ "ج9" حا 573، حا 581 تهذيب التهذيب: "ج1" حا 85، حا 87 "ج6" حا 611 "ج8" حا 135، حا 386 تهذيب اللغة "ج9" حا 322 التوراة "ج1" 13، 16، 18، 20، 21، 28، 29، 33، 43، 53، 56، 84، 87، 88، 95، 97، 99، 121، 123، 135، 143، 155، 161، 180، 192، 193، 201، 207، 223- 224، 229، 236، 238، 242، 245، 250، 252، 255، 262، 282، 295، 301، 332، 333، 335، 343، 345، 346، 350، 352، 355، 356، 358، 360، 361، 375، 376، 379، 380، 410، 425، 429، 422، 445، 451، 453، 464، 467، 468، 474، 482، 497، 557، 559، 563، 575، 577، 580، 582، 584، 586، 587، 589، 596، 598، 604، 605، 608، 623، 613، 616، 627، 628، 630، 632، 634، 636، 642، 644، 647، 651، 652 "ج2" 77، 78، 91، 93، 120، 123، 130، 157، 259، 261، 265، 412، 509، 623 "ج3" 12، 14، 15، 59، 61، 62، 66، 86، 77، 78، 378، 532، 535 "ج4" 13، 25، 26، حا 129، حا 274، حا 287، حا 303، حا 314، حا 327، 328، حا 460، حا 537، حا 565، حا 609، حا 654 "5" حا 6، حا 96، حا 108، حا 139، 140، حا 145، حا 155، حا 311، حا 585 "ج6" 18، 30، 40، 145، 198، 250، 311، 347، 356، 358، 454، 479

490، 493، 494، 509، 517، 525، 526، 535، 544، 547، 548، 550، 554، 556، 557، 559، 560، 562، 565، 567، 570، 573، 575، 579، 589، 592، 604، 605، 665، 675، 678، 680، 682، 685، 711، 724، 731، 748، 758، حا 776، حا 756، 795، 802 "ج7" 108، 232، 234، 236، 241، 321، 423، 478، 552، 553، 557، 559، 563، 570، 573، 574، 586، 596، 606، 613، 634، 637. "ج8" 63، 64، 92، 94، 95، 171، 192، 252، 263، 273، 274، 283، 284، 289، 294-298، 319، 323، 324، 326، 337، 340، 342، 347، 355، 377، 401، 440 463، 467، 524، 525، 527، 638، 674، 703، 714، 768، 775 "ج9" 125، 127، 128، 1360، 133، 134، 151، 152، حا 156، حا 171، 387، 560، حا 570، 674، 768، 776، 783، 786، 810 التيجان "ج1" حا 49، 83، 85، 87، حا 103، حا 171، حا 363، 418 "ج2" حا 264، حا 532، 534، حا 538، 540، حا 583، حا 592، حا 594 "ج3" حا 510 "ج4" 96 "ج6" حا 489 "ج9" 642، 646، 658 التيسير في علم التفسير "ج8" حا 616 تيسير الوصول "ج5" حا 96 "ج7" حا 309، حا 433

الثاء

الثاء: الثالوث "ج3" 110 الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة "ج8" حا 627 ثمار القلوب "ج4" حا 20، حا 22، حا 25، حا 51، حا 67، 69، حا 74، حا 87، 88، حا 311، حا 333، 334، حا 336، حا 339، حا 353، حا 369، حا 411، حا 564، حا 569، حا 577، 582، حا 586، 587، حا 593، حا 597، حا 603، حا 618، حا 625، 627، حا 632، حا 635، حا 638، حا 640، 641، حا 651 "ج5" حا 39، حا 49، حا 52، حا 54، حا 57، حا 61، حا 66، حا 209 حا 218، حا 240، حا 284، حا 337، حا 388، 392، "ج6"، 95، 96، حا 366، حا 368، حا 430، 432، حا 711، حا 719، حا 734، حا 764، 695، حا 769، حا 808، حا 811، حا 818، 820 "ج7" حا 410، حا 421، حا 447 "ج8" حا 475، حا 755، 757، 781، 784 "ج9" حا 119، حا 121، حا 318، حا 343، حا 609، حا 646، حا 799، حا 813، حا 835، حا 901 ثمرات الأوراق "ج4" حا 577، 579 "ج7" حا 517 "ج9" حا 310

الجيم

الجيم: جامع الأصول "ج4" 646 "ج5" حا 101 "ج6" حا 789، حا 798، حا 800، حا 802، 803، حا 805 "ج7" حا 32، حا 34، حا 48، حا 56، حا 71، حا 171، حا 175، حا 198، حا 216، 217، حا 220، حا 388، حا 392، حا 394، حا 399، حا 396، حا 549، حا 559، حا 562، 564، حا 567، حا 574، حا 590، حا 592، حا 599، 600، حا 603، حا 609، حا 611، حا 617، حا 621، حا 632 "ج8" حا 60، حا 480 جامع البيان "ج6" حا 644 "ج8" حا 611 الجامع الصحيح "ج5" حا 567 الجامع الصغير "ج8" حا 102، 103، حا 358 الجامع لأحكام القرآن "ج2" 570 "ج3" 512 "ج4" حا 371، حا 387، حا 544 "ج5" حا 46، حا 62، 63، حا 80، حا 82، 83، حا 88، حا 90، 91، حا 93، 97، حا 142، حا 511، حا 543، 544 "ج6" حا 38، 40، حا 51، حا 59، حا 136، حا 167، حا 190، حا 194، حا 205، 206، حا 209، 210، حا 350، حا 358، حا 360، 361، حا 363، حا 364، حا 381، حا 449، حا 452، حا 534، 535، حا 577، حا 546، حا 738 "ج8" حا 100، حا 104، حا 305، حا 434، حا 488، حا 493 الجامع والمكمل "ج9" 40، 54 الجامعة: سفر "ج8" 340، 346 "ج9" 125، 128 جان دارك: مطبعة "ج3" 59 جبال العرب "ج9" 326

جريدة البلاد السعودية "ج7" حا 78 الجزية والإسلام "ج5" حا 289 الجزية والموادعة "ج6" حا 550 جزيرة العرب قبل محمد في الآثار "ج1" حا 134، حا 183، حا 208، حا 272، حا 279، حا 612 "ج3" حا 512، حا 531 الجصاص "ج5" حا 529، حا 531، حا 550، حا 552، حا 567 "ج7" حا 388 جغرافيا بطليموس "ج1" 60، 339 "ج4" 9، 32 "ج6" 401 "ج7" 161، 176 الجمان في تشبيهات القرآن "ج8" حا 382، حا 427، 430 "ج9" حا "603، 604، 623، 670، 679، 780، 729، 753، 755، 784، 827، 732، 870" الجمعية الآسيوية: مجلة "ج1" 128، 136 "ج9" حا 473، حا 672 جمهرة ابن حزم "ج1" حا 365، حا 377، حا 381، حا 392، حا 396، 397، حا 401 "ج2" 353، 354، 512 "ج3" حا 315، حا 325، حا 330، حا 352، حا 364، حا 382، حا 506 "ج4" حا 92، حا 94، حا 110، حا 133، حا 135، حا 234، حا 252، حا 347، حا 416، حا 419، 426، حا 430، حا 432، 438، حا 443، 444، حا 447، حا 449، 452، حا 454، حا 457، 465، 468، 470، حا 475، 465، 468، 470، حا 475، 484، 487، 490، حا 492، حا 500، حا 502، 505، حا 507، 508، حا 510، 512، حا 514، 523، حا 525، 526، حا 528، حا 530، 535، حا 660، حا 668 "جحا 65، حا 363 "ج6"، 106، حا 11، حا 156، حا 278، حا 477، حا 479، حا 488، حا 520 "ج7" حا 372 "ج8" حا 720 "ج9" حا 453، حا 690، حا 887 جمهرة ابن الكلبي "ج9" حا 796 جمهرة أشعار العرب "ج3" حا 253، حا 275، حا 360 "ج4" حا 491، حا 498 "ج7" حا 383 "ج8" حا 141، حا 274، حا 292، حا 299 "ج9" 281، 293، 294، حا 301، حا 394، حا 457، حا 587، 588، حا 601، حا 625، حا

636، حا 720، حا 724، حا 871، حا 879، حا 889 جمهرة الأمثال "ج8" حا 332، حا 352، حا 354، حا 358، حا 360، حا 362، 362، 363، حا 366، حا 367، حا 764، حا 766، حا 780، 781، حا 783، 784 جمهرة اللغة "ج5" 455 "ج7" 8341 الجنائز "ج5" حا 159، حا 559، 560 الجهاد "ج8" حا 412 جهار مقالة "ج9" 101 الجوائب: طبعة "ج3" حا 499 جوامع السير "ج4" حا 74 "ج7" حا 526 الجوهرة في الأمثال "ج8" 363

الحاء

الحاء: حاشية الشهاب "ج4" 112 "ج8" حا 384 حاشية على إرشاد الساري "ج8" حا 740 "ج9" حا 845 حاشية على أسباب النزول "ج8" حا 136 حاشية على الإصابة "ج7" حا 454، حا 459، حا 461، حا 464، حا 502 "ج8" حا 116، 117، حا 119، حا 121، 123، حا 125، 129، حا 133، حا 134، 136، 137، حا 292، حا 301، 302، حا 323، 324، حا 329، 331 حا 358، حا 376، حا 387، حا 553، حا 650، حا 665، حا 744، حا 749، حا 789 "ج9" حا 227، حا 279، حا 380، حا 385، حا "532، 547، 5448، 553، 555، 555، 556، 670، 706، 710، 712، 715، 724، 728، 743، 747، 749، 751، 766، 771، 772، 778، 793، 846، 848، 850، 853، 860، 866، 867، 872، 874، 885، 905، 908" حاشية على تفسير الطبري

"ج7" حا 446، حا 497 "ج8" حا 106، حا 317، حا 320، حا 428، حا 473، حا 569، حا 603، حا 741 "ج9" حا 19، حا 138 حاشية على الخزانة "ج9" حا 348، حا 502، حا 664 حاشية على الروض الأنف "ج7" حا 446، 447، حا 451 "ج8" حا 89، حا 275، حا 342، حا 377، حا 460، حا 483، حا 492، حا 504، حا 744، حا 759، حا 756 "ج9" حا 15، حا 78، حا 141، حا 147، 148، حا 153، حا 385، 386، حا 396، حا 408، حا 412، حا 417، حا 419، حا 492، حا 500، حا 552، حا 679، حا 696، 996، حا 707، حا 709، حا 712، حا 714، 715، 723، 724، 736، 743، 750، 754، 760، 782، 784، 785، 788، 795، 822، 847، 899 حاشية على المستطرف "ج7" حا 517 "ج9" حا 310 الحاوي "ج8" حا 574 حب الملوك "ج2" حا 362 حبقوق: سفر "ج1" 456، حا 613 الحج: "ج6" حا 379 حجازي: مطبعة "ج8" حا 135 الحرب "ج5" حا 468 حزقيال: سفر "ج1" حا 30، 53، حا 236، حا 518، حا 440، حا 461، حا 465، حا 652 "ج2" 64، حا 120، حا 262، 509 "ج3" حا 77، حا 535 "ج4" حا 611 "ج7" 332، حا 573 "ج8" حا 76، حا 355 حسن المحاضرة "ج9" 871 الحسينية "ج1" حا 547، 548 "ج2" حا 264، حا 534، حا 591، حا 592 "ج3" حا 87، حا 103، حا 132، حا 321 "ج4" حا 82 حضارة الإسلام "ج9"حا 142، 143 الحضارة الإسلامية "ج9" حا 48 حضرت عمر "ج9" حا 7، حا 16، حا 42 حكام العرب "ج5" ح 504، 505 الحكمة: سفر "ج8" 340 حكمة الإشراق "ج8" 102، 103، حا 157، 159، حا 162، حا 164، حا 188، حا 197 الحلبي: طبعة "ج1" حا 317 حلف تميم بعضها بعضا "ج4" 528 حلقات "ج6" 244 الحماسة "أبو تمام"

"ج1"حا 149، حا 308 "ج3" حا 155، حا 229 "ج4" حا 295، حا 402-403 "ج5" حا 86، 356 "ج6" حا 572، حا 576، حا 684، حا 714 "9" حا 472، 606، 615، 631، 639، 646، 669، 727، 864 حماسة البحتري "ج6" 581، حا 685 "ج8" حا 343 "ج9" حا 669، حا 758، حا 803 الحماسة البصرية "ج9" 463 حماسة الخالدين "دج9" 294 الحور العين "ج3" حا 236 حياة الحيوان "ج1" حا 348، "ج4" حا 38، حا 330، حا 643 "ج5" حا 360، حا 550 "ج6" حا 792، 794، حا 796، 797، حا 814، حا 817 الحيرة وتسمية البيع والديارات ونسب العباديين "ج3" 159 الحيض "ج1" 656 "ج2" حا 176 "ج6" حا 561 الحيوان "ج3" 245، حا 317، حا 365، حا 377 "ج4" حا 98، حا 383، حا 392، حا 419، حا 544، حا 558، حا 562، 563، حا 572، حا 580، حا 598، حا 601، 603، حا 605، حا 645، حا 633، حا 643، حا 653، حا 657، حا 660، حا 664، حا 681 "ج5" حا 10، حا 28، حا 44، حا 64، 65، حا 74، حا 124، 1254، حا 198، حا 204، حا 219، 220، حا 222، حا 260، حا 271، حا 303، حا 306، 307، حا 312، حا 409، حا 513، حا 515، حا 519، 520، حا 640 "ج6" حا 84، 86، حا 88، حا 92، حا 96، 98، حا 144، 145، حا 150، حا 155، حا 161، حا 221، حا 351، حا 386، حا 409، حا 478، 480، حا 490، حا 669، حا 680، حا 691، 692، حا 696، 701، حا 706، 708، حا 719، 719، حا 723، 726، حا 728، 730، حا 732، 734، حا 736، 737، حا 746، 747، حا 749، حا 752، حا 760، حا 766، حا 769، حا 772، 773، حا 787، حا 788، حا 791، 798، حا 800، 804، حا 810، حا 814، 815، حا 819 "ج7" حا 378، حا 581

"ج8" حا 156، حا 269، 270، حا 281، حا 344، حا 367، حا 375، حا 434، حا 474، 475، حا 500، حا 512، حا 522، حا 739، حا 782 "ج9" "حا 71-72، 119121، 122، 146، 148، 258، 262، 263، 265حا 273، 318، 320، 323، 331، 343، 344، 367، 389، 406، 430، 451 456، 464، 466، 467، 472، 472، 476، 483، 489، 491، 497، 498، 502، 599، 622، 627، 635، 637، 639، 644، 646، 648، 650، 652، 656، 766، 778، 670، 682، 690، 691، 696، 717، 754، 764، 772، 791، 799، 810، 812، 814، 826، 828، 833، 835، 865، 896" -الخاء- خاص الخاص "ج9" حا 543، حا 730 الخالدي: مطبعة "ج6" حا 684 خبر عبد القيس "ج4" 487 خداي نامه "ج1" 87 الخراج "ج4" حا 304، 305، حا 310 "ج6" حا 593، حا 595، حا 645، حا 485 الخروج: سفر "ج1" حا 204، حا 453، 454 "ج6" حا 298 "ج7" حا 423، حا 634 "ج8" حا 192، حا 505، حا 555 "ج9" حا 125، 126، 131 خزانة الأدب "ج1" حا 113، 481 "ج3" حا 251، حا 256، حا 348، حا 351، حا 360، حا 368 "ج4" حا 357، حا 362، حا 367، حا 646

الخاء

الخاء: خاص الخاص "ج9" حا 543، حا 730 الخالدي: مطبعة "ج6" حا 684 خبر عبد القيس "ج4" 487 خداي نامه "ج1" 87 الخراج "ج4" حا 304، 305، حا 310 "ج6" حا 593، حا 595، حا 645، حا 485 الخروج: سفر "ج1" حا 204، حا 453، 454 "ج6" حا 298 "ج7" حا 423، حا 634 "ج8" حا 192، حا 505، حا 555 "ج9" حا 125، 126، 131 خزانة الأدب "ج1" حا 113، 481 "ج3" حا 251، حا 256، حا 348، حا 351، حا 360، حا 368 "ج4" حا 357، حا 362، حا 367، حا 646

"ج6"حا 66، حا 72، 73، حا 251، حا 265، حا 407، حا 473، حا 475، حا 478، 479، حا 485، حا 501، حا 503، حا 696، 698، حا 700، 701 "ج8" حا 89، حا 112، حا 141، حا 204، حا 268، حا 280، حا 326، حا 329، حا 344، 346، حا 366، حا 386، حا 424، حا 630، حا 632، حا 643، حا 660، 661، حا 736، 738، حا 755، حا 784، 787، حا 791 "ج 9" حا "22، 23، 34، 52، 58، 68، 83، 87، 89، 100، 113، 115، 121، 164، 177، 202، 247، 281، 282، 284، 285، 307، 310، 316، 319، 327، 329، 337، 338، 344، 348، 351، 378، 379، 382، 388، 389، 392، 394، 396، 432، 443، 454، 455، 458، 466، 470، 480، 482، 484، 487، 489، 492، 494، 496، 500، 502، 504، 509، 513، 516، 519، 520، 528، 530، 534، 536، 539، 541، 542، 545، 546، 548، 553، 555، 561، 562، 565، 568، 570، 570، 579، 582، 584، 585، 587، 592، 595، 599، 605، 608، 609، 617، 621، 623، 632، 643، 648، 650، 658، 663، 665، 668، 670، 676، 678، 685، 686، 688، 690، 697، 698، 700، 702، 705، 721، 723، 725، 726، 728، 735، 744، 746، 748، 753، 754، 756، 760، 763، 766، 796، 798، 800، 804، 805، 811، 817، 831، 833، 834، 838، 848، 854، 857، 859، 861، 863، 865، 867، 876، 878، 883، 886، 888، 889، 895، 899، 902، 903" الخصائص "ج1" حا 70، حا 76، حا 398 "ج6" حا 715 "ج8" حا 547، حا 562، حا 617، حا 630، حا 645، حا 669 "ج9" حا "15، 40، 45، 58، 59، 121، 220، 252، 256، 342، حا 545" خلاصة تاريخ الكنيسة "ج6" حا 625 خلاصة الكلام "ج4" حا 416، حا 419، حا 426، حا 438

حا 441، 458، حا 464، حا 470 خلق الإنسان "ج4" حا 375 "ج8" حا 351 "ج9" حا 52، حا 243، حا 399 الخليفة: سفر "ج1" 300 الخيرية: مطبعة "ج5" حا 102، حا 160، حا 166 "ج6" حا 644، حا 649

الدال

الدال: دائرة الأثار الأردنية "ج3" حا 72، 75، حا 143 دائرة المعارف الإسلامية "ج1" حا 71، حا 84، حا 87 "ج2" حا 90 "ج3" حا 72326، حا 507 "ج4" حا 72، حا 135، حا 136، حا 378، حا 498 "ج5" حا 304، 306 "ج6" حا 529، حا 646 "ج7" حا 376 "ج8" 435 "ج9" حا 534، حا 863 دار الآثار العربية "ج8" 249 دار إحياء الكتب العربية "ج5" 509 دار الأندلس: طبعة "ج3" حا 79، حا 105، 106، حا 304 حا 375، حا 497، حا 432، حا 445، حا 514، حا 522، 523، حا 526 "ج4" 256 "ج5" حا 112، حا 117 "ج6" حا 459، حا 461، حا 463، حا 466، حا 766، حا 773 "ج8" حا 165، 166، حا 455 "ج9" حا 520 دار بيروت: مطبعة "ج1" حا 392 "ج6" حا 1446 دار الثقافة: طبعة "ج3" حا 351، حا 368، حا 371 "ج6" حا 361 "ج6" حا 451، حا 485 "ج9" حا "22، 91، 93، 144، 159، 160، 165

188، 302، 204، 234، 245، 270، 287، 333، 335، 337، 355، 439، 446، 447، 445، 456، 460، 476، 521، 529، 532، 533، 536، 539، 540، 543، 545، 548، 550، 554، 557، 560، 567، 569، 577، 587، 589، 592، 593، 598، 599، 620، 623، 639، 642، 645، 648، 659، 660، 662، 665، 674، 676، 678، 688، 710، 742، 755، 764، 801، 804، 851، 857، 561، 865، 874، 879، 882" دار الرجاء "ج1" حا 320 "ج3" حا 90، حا 107، حا 194، حا 275 دار صادر "ج1" 201، حا 309، حا 383، 385 "ج2" حا 512 "ج3" حا 225 "ج4" حا 79، حا 263، حا 495 "ج5" حا 48، 49، حا 149، حا 456، حا 161، حا 164، حا 167، حا 173، حا 224، حا 278، حا 289، 290، حا 295، حا 447، حا 458، حا 548، حا 575، حا 591، حا 579، حا 605، حا 620، حا 626 "ج6" حا 365، حا 384، حا 422، حا 433، حا 449، حا 451، 452، حا 470، حا 529، حا 556، حا 560، حا 638، 641، حا 643، 644، حا 647، 649، حا 651، 652، حا 660، حا 694، حا 747، 748، حا 762، حا 777 "ج7" حا 326، حا 328، حا 431، حا 601، حا 622، حا 625، 626، حا 630، حا 636 "ج8" حا 130، حا 135، حا 164، حا 265، حا 283، حا 286، 287، حا 297، حا 354، حا 401، حا 417، حا 464، حا 488، حا 499، 500، حا 521، حا 605، حا 631 "ج9" حا "6، 123، 197، 413، 601، 617، 710، 864 دار الصاوي "ج1" حا 52، حا 313 "ج4" حا 477 "ج5" حا 520 دار العلم للملايين "ج2" حا 225 "ج8" حا 251، حا 767 "ج9" حا 372 دار الفكر: طبعة "ج6" حا 645 دار الكاتب المصري "ج5" حا 469 دار الكتاب العربي "ج9" 39، حا 828، 830

دار الكتب اللبنانية "ج1" حا 315، "ج3" حا 196، حا 294 "ج6" حا 517، 518، حا 701 دار الكتب المصرية "ج3" حا 199، حا 225، حا 231، حا 235، 236، حا 248، حا 252، 253، حا 255، حا 261، حا 264، حا 268، حا 279، 280، حا 287، 291، حا 295، حا 327، حا 344، حا 348، حا 354، حا 435، حا 441، 442 "ج4" حا 60، حا 453، حا 470، حا 494، حا 496 "ج5" حا 114، حا 162، حا 358، حا 361، حا 365 "ج6" حا 7، حا 12، حا 135، حا 202، حا 227، حا 452، حا 461، حا 465، حا 472، حا 478، حا 480، حا 484، 485، حا 507، حا 576، حا 643 "ج8" حا 112، حا 116، حا 118، حا 617 "ج9" حا 11، حا 15، حا 40، حا 64، حا 267، حا 339، حا 455، حا 474، حا 561، حا 564، حا 614، حا 623 866، 871، حا 878 دار الكرنك: مطبعة "ج1" حا 49، حا 52، حا 77، حا 224، حا 296، 297، حا 302، حا 305، حا 320، حا 323، حا 333، حا 335، حا 337، 338، حا 340، 341، حا 344، حا 346، حا 349، حا 354، 355، حا 361، حا 382، حا 397، حا 417، حا 419، حا 421، حا 427، حا 434، حا 440، حا 445، 451، حا 462 "ج2" حا 421، حا 532، 533، 566، 576، 578حا 592، حا 616، 617، حا 634، حا 638، 639، حا 647، حا 653 "ج3" حا 185، 156، حا 194، 210، حا 215، 216، حا 223، حا 260، حا 262، حا 264، حا 270، حا 273، حا 292، حا 296، حا 295، حا 300، حا 308، حا 315، حا 352، حا 365، حا 405، حا 427، حا 433، حا 435، حا 459، حا 481، 483، حا 507، حا 515، 516، حا 523، حا 252، حا 528، حا 531، حا 533

"ج4" حا 37، حا 40، 43، حا 53، حا 55، حا 56، 66، حا 73، 75، حا 82، حا 124، حا 131، حا 181، حا 184، 131، حا 181، حا 184، 185، حا 187، 189، حا 191، حا 200، 201، حا 214، حا 217، حا 221، حا 224، حا 225، حا 231، حا 234، 243، حا 260، حا 266، حا 296 "ج5" حا 224، 627 "ج6" حا 98، حا 190، حا 228240، حا 242، حا 244، حا 251، حا 258، حا 282، حا 429، حا 434، حا 439، 440، حا 481، حا 502، حا 537، حا 569، حا 600، حا 608، 610، حا 701، حا 722 "ج7" حا 526، حا 538 "ج8" حا 93، حا 120، حا 126، حا 280، حا 295، حا 324، حا 348، حا 368، حا 643، حا 762 "ج9" 8حا 11، حا 67، حا 240، حا 374، حا 410، حا 477، حا 507، حا 771، حا 776، حا 883 دار النشر للجامعيين: مطبعة "ج7" حا 372 دانيال: سفر "ج1" 54 "ج4" حا 613 الدارات "ج1" حا 155 الدر المنثور في التفسير بالمأثور "ج3"حا 511 "ج5" حا 80 "ج6" حا 586، حا 643، 645، حا 647، حا 779 الدراسات الأدبية: مجلة "ج8" حا 148، حا 173، حا 191، حا 716 دراسات عن المؤرخين العرب "ج1" حا 108، 109 دراسات في الأدب العربي: "ج9" حا 797، حا 799، حا 801، حا 803 دراسات في حضارة الإسلام "ج8" حا 251، حا 767 دراسات في اللغة واللهجات والاساليب: "ج4" 277 درة الغواص: "ج9" حا 200 الدرر اللوامع: "ج8" حا 779 دلائل البنوة: "ج3" حا 511 دليل الراغبين في لغة الاراميين "ج3" حا 12 دواوين الشعراء الستة "ج9" 305 الديارات: "ج3" حا 302 دير الاباء الدومنيكيين: طبعة "ج3" حا 12 دير بنورغ: طبعة "ج1" حا 318 ديوان ابن مقبل "ج5" 423، حا 434 "ج9" حا 258، حا 888، حا 890 ديوان أبي خراش الهذلي "ج9" 348 ديوان أبي دؤاد "ج9" 348 ديوان أبي ذءيب الهذلي "ج9" 348

ديوان أبي الطمحان القيني "ج9" 348 ديوان أبي العيال "ج9" 348 ديوان أبي كبير الهذلي "ج9" 327، 348 ديوان أبي المثلم "ج9" 348 ديوان أبي نواس "ج9" حا 318 ديوان الأخطل "ج3" 415 "ج6" حا 633، حا 677 ديوان الأعشي "ج1" حا 338 "ج2" حا 578 "ج3" حا 248، حا 270، حا 291، 292، حا 359، حا 376، 377، حا 442 "ج4" حا 196، حا 215 "ج5" حا 86، حا 104 "ج6" حا 107، حا 468، حا 616، حا 621، حا 648، حا 666، حا 670، 671 "ج8" حا 270، حا 727، حا "ج9" حا "105، 113، 348، 357، 434، 569، 571، 573، 576، 579، 580، 582، 568، 688، 779، 828، 829، 854 ديوان الافوة: "ج6" حا 673 ديوان أمرئ القيس "ج3" حا 361، حا 365 "ج4" حا 400 "ج5" حا 319 "ج6" حا 107 "ج8" حا 259، حا 278، 306 "ج9" حا "105، 305، 331، 347، 348، 459، 818 ديوان أمية "ج1" حا 396 "ج6" حا 479، 480، حا 484، حا 488-490، حا 493، 494، حا 499 "ج9" حا 756، حا 460 ديوان أوس بن حجر "ج8" حا 775 "ج9" حا 105، حا 348، حا 465، 466 ديوان بشر بن أبي خازم "ج1" حا 177، حا 202، حا 283، حا 352 "ج4" حا 335، حا 568 "ج5" حا 169، حا 176 "ج6" حا 267، 268 ديوان جرير "ج5" حا 377 "ج9" 348 ديوان حاتم الطائي "ج8" حا 263 "ج9" حا 76 ديوان الحارث بن حلزة "ج9" 348 ديوان حسان "ج1" حا 334، حا 362، حا 3956-396، حا 476، حا 483، حا 487، حا 489، 492 "ج2" حا 256 "ج3" حا 280، حا 28 388، حا 390، حا 436، 437، حا 446 "ج4" حا 50 "ج5" حا 61، حا 86 "ج6" حا 78، حا 252، حا 584، حا 602، حا 797 "ج7" حا 574 "ج8" حا 406

"ج9" حا 89، حا 200، حا 740، حا 744، حا 793 ديوان الحطيئة "ج9" 348، حا 860 ديوان الحماسة "ج9" حا 294، حا 323، حا 645، حا 726، حا 775، حا 782 ديوان زهير بن أبي سلمي "ج1" حا 382، 383 "ج4" حا 375، حا 386، حا 626 "ج5" حا 162، حا 361 "ج6" 149، حا 201، حا 430 "ج8" حا 260، حا 265، حا 274، حا 293 "ج9" 348، حا 545، حا 830 ديوان ساعدة بن جوية الهذلي "ج9" 348 ديوان سحيم عبد بني الحسحاس "ج9" 348، حا 878 ديوان سراقة "9" حا 76 ديوان السموال: "ج6" حا 574، 577 "ج8" حا 326 "ج9" حا 611، حا 777 ديوان الشريف الرضي: "ج3" حا 158 ديوان شعراء هذيل "ج1" 307 "ج8" 617 ديوان المشماخ "ج8" حا 293 ديوان الشنفري: "ج9" 348 ديوان صخر الغي "ج9" 348 ديوان طرفة بن العبد "ج3" حا 243، حا 245 "ج6" حا 684 "ج8" 263 "ج9" حا 148، 348 ديوان الطرماح "ج1" حا 305، حا 307، حا 522 "ج3" حا 252 "ج9" 337 ديوان طفيل بن عوف الغنوي "ج6" حا 110 "ج9" حا 377 ديوان عبيد الابرص "ج6" حا 370 "ج9" حا 402، حا 467، حا 501 ديوان عروة بن الورد "ج6" حا 107، 108، حا 157، 158 "ج9" حا 606، 608، 611، 612، 623، 626، 628، 632، 635، 636، 836 ديوان علقمة بن عبدة "ج9" 348 ديوان عمرو بن قميئة "ج9" 348 ديوان عمرو بن كلثوم "ج9" 348 ديوان عنترة بن شداد "ج5" حا 361 "ج9" 347، 348 ديوان الفرزدق "ج1" حا 394، حا 398 "ج9" حا 75، حا 441، حا 455، حا 520 ديوان القطامي "ج8" حا 333 ديوان قيس بن الخطيم "ج1" 627 "ج4" حا 483 "ج8" حا 267، 268 "ج9" حا 720 ديوان كعب بن زهير "ج9" حا 348 ديوان لبيد العامري "ج3" حا 483 "ج4" حا 330 "ج6" حا 107، حا 112،

حا 155، حا 191، حا 684 "ج8" حا 277 "ج9" 348، حا 457، حا 496، حا 550، حا 555، 556، 830 ديوان المتلمس "ج6" حا 658، حا 669 "ج9" 305، 347 ديوان المنتخل "ج9" 348 ديوان المعاني "ج6" حا 485 "ج9" حا 121، حا 124، 143، 204، حا 280، حا 878 ديوان النابغة الذبياني "ج1" حا 306حا 313، 314، حا 382حا 385، 386 "ج" حا 229، حا 273، حا 420، 421، حا 423، حا 425، حا 434 "ج5" حا 102، 103 "ج6" حا 678، حا 686 "ج9" حا 105، 147، 148، 587، 594 ديوان النبط: "ج3" حا 13 ديوان النمر بن تولب "ج9" 248 ديوان الهذليين "ج1" حا 307، حا 383 "ج8" حا 112، حا 263، حا 264، حا 267، حا 277، حا 617 "ج9" 162، حا 492، 493، حا 495، حا 608، حا 610، حا 614، حا 641، حا 649، حا 780، 871، حا 873 ديوان الوليد بن يزيد "ج9" حا 311 الديورة في مملكتي الفرس والعرب "ج3" حا 156، 157، حا 172 "ج6" حا 588، حا 597

الذال

الذال: ذخيمة الاذهان "ج6" 599، حا 6321 ذكر الأخبار عن بيوت النيران "ج3" حا 79 ذم أخلاق الكتاب "ج8" حا 124 ذيل أقرب الموارب "ج1" حا 38، 40 ذيل الأمالي "ج3" حا 252، حا 255، حا 275، حا 278، حا 282، حا 286، حا 373 "ج4" حا 20، حا 67، حا 70، حا 72، حا 77، حا 97، 98 "ج5" حا 354، حا 364، 365، حا 512، 513، حا 613، حا 643

"ج6" حا 108 "ج7" 302 "ج9" حا 300، حا 302، 303، حا 359، حا 460 حا 473، حا 611، حا 633، 634، 637، حا 879، حا 903 ذيل الأماني "ج9" حا 687

الراء

الراء: رأس المال "ج4" حا 651 راعوت: سفر "ج5" 477 رجيع: سفر "ج5" 132 رحلة في بلاد العرب: "ج2" حا 282، حا 306 "ج3" حا 159، حا 502 "ج7" 196، حا 492 رحلة أبن بطوطة "ج1" 323 رحلة بنيامين "ج3" 303 الرحمانية: مطبعة "ج1" 146 "ج3" حا 388 "ج4" حا 19، حا 27 رسائل الجاحظ "ج4" حا 16، حا 27، حا 68، حا 71، حا 282، حا 299، 301، حا 307، 308، حا 310، 312، حا 329، حا 368، حا 388، حا 586، حا 600، حا 617، حا 636، حا 642 "ج5" حا 30، حا 106- 107، حا 144، 145، حا 220، حا 235، حا 319، 320، حا 595، حا 640، حا 643 "ج6" حا 96، حا 352، حا 500، حا 715، حا 769، حا 773 "ج8" حا 122، حا 124، حا 346، حا 643، حا 689 "ج9" حا 200، حا 221، حا 223، حا 247، حا 284، حا 380، حا 465، 466، حا 476، حا 533، حا 744، حا 764، حا 836، 837 رسائل الشهداء الحميريين "ج1" 63 الرسالة: مجلة "ج1" حا 32 رسالة أبي غرسيه "ج3" حا 269 رسالة أبي يحيى "ج3" حا 269

رسالة بولس الرسول "ج6" 585 "ج8" حا 192 رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية "ج3" حا 44 رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنتوس "ج3" 44 رسالة التلمبذ "ج8" حا 729 "ج9" حا 757 رسالة الغفران "ج3" حا 179، حا 182، حا 184، حا 204، حا 215، حا 236، حا 245، 246، حا 286، حا 288، 289، حا 291، حا 303 "ج4" 136 "ج5" حا 112 "ج6" حا 60، حا 101، حا 129، حا 133، حا 146، حا 378، حا 446، حا 725 "ج8" حا 265، حا 383، حا 538، حا 568، 569 "ج9" حا "30، 33، 81، 118، 175، 186، 187، 205، 216، 224، 22528حا 5، 286، 361، 364، 366، 375، 389، 390، 400، 451، 455، 456، 465، 470، حا 487، 490، 492، 542، 567، 568، 570، 571، 573، 575، 580، 582، 583، 589، 637، 659، 661، 676، 678، 685، 7236742، 755، 790، 800، 804، 812، 823، 824، 830، 831، 834، 848، 849 851-855، 871، 873، 874، 883، 889" رسالة في الحنين إلى الأوطان "ج5" حا 59، 60 رسالة في ما ورد في القرآن من لغات القبائل "ج8" 616 رسالة في النقود القديمة "ج7" حا 500 رسالة القديس بطرس الثانية "ج8" حا 437 رسالة النيروز "ج6" 121 حا 815، 816 رغبة الأمل "ج5" حا 121 روح البيان "ج6" حا 249 روح المعاني "ج1" حا 323 "ج3" حا 507، حا 510، حا 516، حا 520 "ج4" حا 287، حا 387، حا 656 "ج5" حا 90، حا 94، حا 151، حا 156، حا 191، حا 193، حا 304، 305، حا 534، حا 537، حا 541، حا 543، حا 546، حا 552، 554، حا 564، حا 566، حا 571، حا 580، حا 586، حا 652 "ج6" حا 39، حا 67، حا 72، حا 87، حا 120، حا 124، 127، حا 165، 166، حا 190، حا 192، حا 194، حا 216، 217، حا 230، 232، حا 243، 244، حا 255، حا 258، حا 260، حا 262، حا 266، حا 342، حا 346، حا 381

حا 384، حا 395، حا 429، حا 449، حا 541، حا 459، 486-ة 488، حا 509، 510، حا 534، حا 537، حا 547، حا 554، حا 560، حا 604، حا 618، حا 643، 646، حا 691، 707، حا 738، حا 740، حا 752، 753، حا 777، 778 "ج7" حا 420، حا 426، حا 432، حا 474 "ج7" حا 420، حا 426، حا 432، حا 474 "ج8" حا 95، 96، حا 471، حا 483، حا 487، 488، حا 490، حا 492، حا 504 الروض الانف "ج1" حا 281، حا 394 "ج3" حا 170، حا 179، 180، حا 183، حا 187، حا 200، 201، حا 217، 218، حا 275، حا 382، حا 508، حا 538 "ج4" حا 7، 77، حا 82، حا 88، حا 92، 93، حا 136، حا 144، حا 396، حا 415، حا 421، حا 455، حا 464، حا 557، حا 565 "ج5" حا 35، حا 116، 117، حا 150، 151، حا 425، حا 427، حا 442، حا 458، حا 529، حا 561، حا 593، حا 598، حا 626، حا 624، حا 644، حا 650 "ج6" حا 40، حا 68، حا 70، 71، حا 74، حا 77، حا 79، 80، حا 84، حا 86، حا 88، حا 89، 93، حا 95، حا 97، 99، حا 127، حا 129، 130، حا 133، 135، حا 139، حا 143، 144، حا 190، 191، حا 203، حا 215، حا 246، حا 249، حا 251، 252، حا 255، حا 260، حا 263، حا 266، 274، حا 278، حا 284، حا 357، 358، حا 366، حا 369، حا 372، 373، حا 382، حا 386، 387، حا 392، حا 402، حا 408، حا 428، حا 431، حا 433، 436، حا 439، 441، حا 443، 444، حا 446، حا 476، 477، حا 505، حا 533، حا 544، حا 546، 547، حا 720، حا 734، 735، حا 755، حا 758 760، حا 764، حا 766، 768، حا 770، 771، حا 775، 776، حا 804 "ج7" حا 33، حا 67، حا 71، 72، حا 259، 260، حا 263، حا 292، حا 308، حا 376، حا 420، حا 422، حا 433، حا 447

حا 451، حا 461، حا 517، حا 593، حا 601، حا 616 "ج8" حا 52، حا 89، حا 92، 93، حا 116، حا 118، حا 137، حا 158، حا 288، حا 341، حا 377، حا 407، حا 483، حا 488، حا 492، حا 497، حا 500، حا 574، حا 744، حا 754، 755، حا 765 "ج9" حا "15، 25، 36، 122، 152، 154، 175، 386، 396، 408، 409، 411، 412، 478، 545، 552، 624، 634، 679، 700، 711، 723، 736، 750، 758، 782، 784، 795، 828، حا 847، 848، 872" روضة الشام: مطبعة "ج4" حا 237 رياض الأدب "ج9" حا 150

الزاي

الزاي: زاد المسلم "ج5" حا 558 "ج6" حا 768 "ج8" حا 27، حا 38، حا 388، حا 392، 394 "ج4" 243، حا 845 زاد المعاد "ج4"، 610، 611، حا 614 3"ج5" حا 30، حا 32، 33، حا 51، 53، حا 55، حا 125، حا 136، حا 140، حا 144، حا 530، حا 536، حا 548، حا 551، حا 579 "ج6" حا 90، 91، حا 118، حا 340، حا 355، حا 526، حا 529، 530 "ج7" حا 127، حا 389، 390، حا 397، 398، حا 463 "ج" حا 386، حا 480 الزبور "ج1" حا451، حا 464 "ج6" 553، 555، 556، 646، 647، 675 "ج8" 277حا 326 زهر الآداب "ج4" حا 206، حا 332

"ج5" حا 421 "ج8" حا 378 "ج9" حا 113، حا 456 646 الزينة "ج9" حا 6، حا 11، حا 36، حا 39

"ج8" حا 267 "ج9" حا 51 السعيدة "ج3" 502 السقا: مصطفي، طبعة "ج1" حا 303، حا 324، حا 349، حا 390، حا 397 "ج2" حا 650 "ج3" حا 155، حا 260، حا 360، حا 3712 "ج4" حا 232 "ج5" حا 368 "ج6" حا 386، حا 523، حا 525 السلطان: "ج5" حا 273، حا 641 السلفية: مطبعة "ج1" حا 117، حا 150 "ج2" حا 354 "ج4" حا 111 "ج5" 511 "ج7" حا 179 السلوك من معرفة سير الملوك "ج6" حا 643 السماع والقياس "ج9" حا 58 سمط اللآلئ "ج6" حا 577 "ج8" حا 254 "ج9" حا 21، حا 52، حا 68، حا 200، حا 337، حا 463، حا 492، 493، حا 496، حا 503، 504، حا 851، حا 879، حا 609 سمط النجوم "ج4" 94، حا 96، 101، حا 103، حا 580 "ج5" حا 83 "ج6" حا 369 سناد الإسلام "ج2" 180، حا 236، حا 270، حا 273، حا 311، حا 323، حا 581، حا 587 السنة المحمدية: مطبعة "ج1" حا 15حا 98 سنن ابن ماجة "ج6" حا 740، حا 744، حا 748 "ج8" حا 502 سنن أبي داوود "ج1" حا 283 "ج5" حا 534، حا 537، 538، حا 551، حا 553، حا 567 "ج6" حا 747، 748، حا 750، حا 783، حا 805 سنن الترمذي "ج8" 736 سنن الدرامي "ج8" حا 325 لسنن الكبرى "ج حا 498 "ج5" حا 534، حا 537، 538، حا 550، 552 "ج6" حا 108، حا 394، حا 595، حا 601، 602، حا 676 "ج8" حا 502 سنوات في اليمن وحضرموت "ج2" حا 163 سومر: مجلة "ج1": حا 22، حا 51، 52، حا 243، 244، حا 560، 561، حا 563 "ج2" حا 610، حا 617، حا 614، 615، حا 617، 619، حا 621 "ج3" حا 149 "ج8"حا 174، 175، حا 211

سير أعلام النبلاء "ج6" حا 471، حا 503 السير في الأخبار والأحداث "ج1" 115، حا 201 سير ملوك العجم "ج1" 78 "ج3" حا 529 سيراخ: سفر "ج8" 340 السيرة "ج1" 114، 321 "ج3" حا 283، حا 433، حا 435، حا 516 "ج4"حا 46، حا 63، حا 74، حا 77، حا 79، حا 83، 89، حا 122، حا 151، حا 318، حا 378، حا 656 "ج5" حا 89، حا 94، حا 96، 97، حا 381، 382، حا 384، حا 456، 458 "ج6" حا 221، 222، حا 368، حا 436، حا 524، حا 760، حا 768، حا 774، حا 805 "ج8" حا 89، حا 92، 93، حا 786 سيرة ابن اسحاق "ج6" حا 611، حا 766 "ج8" حا 297 سيرة ابن دحلان "ج4" 208 "ج6" حا 368 سيرة ابن سيد الناس "ج8" حا 787 سيرة ابن هشام "ج1" حا 78، حا 86 "ج3" حا 510، حا 537 "ج4" حا 11، حا 43، حا 45، حا 57، حا 73، حا 77، حا 110، حا 121، حا 136، حا 278، حا 636، حا 656 "ج5" حا 382، حا 520 "ج6" حا 40، حا 252، حا 358، حا 470، حا 475، حا 480، حا 485، حا 492، حا 522، حا 552، حا 562، حا 697 "ج7" حا 55، حا 72، حا 353، حا 446، 447 "ج8" حا 89، حا 92، حا 116، حا 135، حا 141، حا 254، حا 296، حا 320، حا 342، حا 384، حا 492، حا 665، حا 744، حا 759 "ج9" حا 15، حا 78، حا 153، 154، حا 385، حا 396، حا 408، حا 412، حا 417، حا "499، 500، 545، 552، 553، 679، 696، 699، 707، 709، 712، 714، 715، 723، 724، 736، 743، 750، 754، 782، 784، 795، 822، حا 852، حا 899 سيرة الرسول "ج1" 115 سيرة قسطنطين "ج1" حا 62 سيرة محمد "ج6" حا 265 سيرة معاوية وبني أمية "ج1" حا 116" "ج9" 299، 308

السين

السين: الساسي: طبعة "ج3" حا 342 "ج4" حا 453 "ج5" حا 46، حا 101، حا 105، حا 123، 124، حا 529 "ج7" حا 582 "ج8" حا 36، حا 28 "ج9" حا 874 سبائك الذهب "ج1" 303، حا 322، حا 324، حا 371، حا 392 "ج3" حا 275 "ج4" حا 41، 42، حا 45، حا 55، حا 136، حا 380، حا 416، حا 419، 420، حا 423، 424، حا 426، حا 430، حا 432، 433، حا 435، حا 437، حا 442، حا 447، 449، حا 468، 470، حا 476، حا 482، 484، حا 490، حا 495 حا 497، حا 502، حا 505، 523، حا 525، حا 531 "ج5" حا 356، حا 362، حا 366، حا 368، حا 373، حا 375، حا 379 :ج6" حا 73، حا 77، حا 228، حا 235، حا 251، حا 256، حا 264، 266، حا 269 سخاو: طبعة "ج8" حا 455 سرح العيون "ج3" حا 360 "ج4" حا 497، 498 "ج5" 381 "ج9" حا 520 السرط "ج8" حا 204 السعادة: مطبعة "ج1" حا 147 "ج3" حا 50 "ج4" حا 94، حا 134 "ج5" حا 361، حا 384 ج6" حا 485، حا 523

الشين

الشين: شذرات الذهب "ج9" حا 304 شرابع الحيريين "ج3" 506 "ج6" حا 619 شرح ابن أبي الحديد "ج6" حا 369 شرح أبن عقيل لالفية ابن مالك "ج1" حا 319 "ج5" حا 72 شرح أدب الكاتب "ج9" حا 903 شرح أشعار الهذليين "ج9" حا 615، 616، حا 618، حا 649 شرح شعار هذيل "ج9" 327 شرح الأصول الخمسة "ج6" حا 627، حا 630 شرح الأمام النووي "ج5" حا 538 "ج6" حا 353 "ج7" حا 217، 219، 220 "ج8" حا 740 شرح الأنباري "ج6" حا 364 شرح التبريزي "ج9" حا 511 شرح الحماسة "ج1" حا 68 "ج3" حا 245 "ج4" حا 362، حا 393، حا 396، 397، حا 472، حا 502، حا 518 "ج5" حا 361، حا 363، حا 379 "ج6" حا 357، حا 363، حا 488 "ج7" حا 382 "ج8" حا 269، حا 384 "ج9" 625، 642، 643، 670، حا 811، حا 870، حا 882 شرح الدريدية "ج8" 574 شرح ديوان الأعشى "ج9" حا 573، حا 575 شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري "ج1" حا 111، 112، حا 384، حا 396 "ج5" حا 50، حا 118، حا 265، حا 396، حا 506، حا 518 "ج6" حا 523

"ج8" حا 293 شرح ديوان زهير بن أبي سلمى "ج1" حا 382 "ج5" حا 162 "ج6" حا 41، حا 106، 107، حا 151، حا 155، حا 159، حا 506 شرح ديوان عروة "ج9" حا 626 شرح ديوان عنترة "ج1" حا 38 شرح ديوان لبيد "ج3" حا 239، حا 263، حا 271، حا 276، حا 284، حا 328، حا 505 "ج4" حا 204، حا 226 "ج5" 119، حا 124، حا 169، حا 209، حا 298، حا 417، حا 428، حا 440، حا 464 "ج6" حا 114، حا 283، حا 350، حا 404، حا 430 "ج7" 249، حا 318، حا 557 "ج8" 138، 140، حا 267، حا 382، حا 391، حا 397، حا 415، 416، حا 729 "ج9" حا 546، حا 550، حا 558 شرح ديوان المتلمس "ج9" 304 شرح ديوان النابغة الذبياني "ج3" حا 39 شرح رسالة أبن خلدون "ج4" حا 498 "ج9" حا 782 شرح السبع العاليات "ج9" 510 شرح السيرة "ج8" حا 474 شرح السيرة النبوية "ج6" حا 478 شرح الشهاب على البيضاوي "ج6" حا 482، حا 485 شرح الشواهد "ج8" 684 "ج9" حا "52، 83، 88، 89، 120، 158، 174، 177، 231، 236، 248، 262، 274، 283، 315، 329، 335، 337، 387، 454، 456، 459، 463، 465، 474، 481، 484، 492، 495، 496، 498، 499، 508، 510، 519، 521، 528، 531، 533، 535، 536، 539، 541، 544، 547، 554، 558، 561، 568، 571، 582، 584، 587، 588، 591، 594، 595، 597، 599، 641، 643، 956، 663، 666، 667، 669، 675، 677، 688، 691، 707، 721، 729، 730، 734، 736، 740، 741، 745، 746، 748، 750، 766، 771، 775، 778، 787، 796، 800، 804، 805، 813، 818، 823، 824، 826، 832، 834، 838، 854، 856، 859، 865، 866، 868، 871، 873، 874، 876، 880، 882، 884 شرح صحيح البخاري "ج4" حا 371 "ج6" حا 502

شرح صحيح مسلم "ج6" حا 502، 503، حا 744، حا 748 "ج8" 98 شرح العيني "ج5" حا 530، حا 539، حا 575 شرح الفصيح "ج8" 358 شرح القاموس "ج7" حا 376، حا 549، حا 554، 555، حا 633 "ج8" حا 9، حا 13، 14، حا 20، حا 23، 24، حا 30، حا 32، حا 36، حا 58، حا 63، 64، حا 254، حا 256، 257، حا 263، حا 369، حا 323، حا 399، حا 406، 407، حا 466 شرج القصائد العشر "ج3" حا 243، 245، حا 257، حا 325، 326، حا 347، حا 360 "ج4" حا 375، حا 382، حا 286، حا 490، حا 665 "ج5" حا 361 "ج6" حا 111، حا 156، حا 162، حا 202، حا 614 "ج8" حا 254، حا 269، 270 "ج9" حا 87، حا 460، حا 507، 508، حا 520، حا 540، حا 562، حا 595، 596، حا 822، حا 826، حا 830، 831 شرح القصائد المختارة "ج9" حا 508، حا 510 شرح اللمعة الدمشقية "ج5" حا 315 شرح المعلقات السببع "ج1" حا 38، 39، حا 309، حا 383 "ج3" حا 150، "ج3" حا 22، حا 223، حا 242، حا 244، 245، حا 248، 249، حا 253، حا 258، حا 260، حا 365 "ج4" حا 376، حا 491 "ج5" حا 350، حا 361، حا 416، حا 422، حا 435، حا 458 "ج6" حا 156، حا 207 "ج7" 601 "ج7" حا 270، حا 401 "ج9" حا 507، حا 510 شرح المفضليات "ج5" حا 366، حا 377، حا 646 "ج6" حا 357 "ج9" حا 320، حا 879 شرح مقامات الحريري "ج4" حا 213 شرح المواهب "ج4" حا 236 شرح موطأ الأمام مالك "ج5" حا 551 شرح النقائض "ج9" حا 497 شرح نهج البلاغة "ج4" 72، حا 74، حا 77، 78، حا 82، حا 100، حا 208 "ج8" حا 384 شرح النووي على صحيح مسلم "ج7" حا 499، حا 503 "ج9" حا 8453 الشعر "ج9" حا 64، 65، 202حا 243 شعر السموال "ج6" حا 527، 575حا 581

شرح قصيدة ابن عبدون "ج3" حا 194، حا 236 "ج4" حا 415 شعر فيس "ج1" قيس "ج1" حا 382، حا 475، 476 الشعر والشعراء "ج1" حا 113 "ج3" حا 106، حا 232، حا 236، حا 243، 245، حا 247، حا 255، 257، حا 261، حا 281، 282، حا 286، حا 288، 291، حا 298، حا 347، حا 351، حا 360، 361، حا 364، حا 365، حا 368، حا 370، 372، حا 376، حا 410، 411، حا 425، حا 431 "ج4" حا 221، حا 233، حا 258، حا 350، حا 484، حا 489، حا 577، حا 279، حا 585، حا 660، حا 558 "ج5" حا 208، حا 319، حا 354، حا 356، حا 545، حا 637 "ج6" حا 29، 149، 478، 480، حا 485، حا 488، 489، حا 500، حا 616، حا 654، حا 664، حا 673، حا 680، حا 770، حا 802 "ج8" حا 109، حا 111، حا 141، حا 304، حا 353، حا 367، حا 660 "ج9" حا 21، 23، 52، 65، 72، 77، 85، 88، 93، 102، 103، 110- 112، 117، 143، 144، 147، 152، 159، 160، 165، 166، 175، 177، 184، 188، 194، 198، 200، 203، 207، 215، 231، 233، 234، 236، 238، 239، 241، 245، 246، 252، 253، 260، 261، 267، 268، 270، 273، 284، 287، 322، 323، 329، 333، 338، 353، 355، 357، 371، 379، 389، 402، 423، 427، 439، 440، 442، 443، 445، 450، 453، 460، 463، 463، 467، 469، 470، 472، 476، 478، 480، 484، 490، 493، 495، 497، 499، 501، 503، 504، 506، 508، 521، 529، 532، 533، 536، 537، 539، 540، 542، 545، 548، 550، 552، 554، 556، 561، 565، 567، 569، 577، 582، 585، 587، 589، 591، 593، 598، 599، 620، 621، 623، 624، 636، 637، 639، 641، 650، 659، 660، 662، 668، 674، 678، 688، 692، 710، 713، 729، 731، 735، 737، 742، 745، 746، 752، 753، 755، 758، 760، 764، 766، 772،

776، 779، 796، 799، 801، 804، 806، 808، 813، 815، 816، 818، 829، 832، 848، 851، 855، 857، 859، 861، 866، 868، 869، 871، 874، 876، 789، 880، 882، 885، 889، 892، 893، 895، 897، 900، 906، 907" الشعراء الصعاليك "ج9" حا "603، 607، 608، 610، 612، 621، 622، 631، 636، 639، 641، 649، 650" شعراء النصرانية "ج2" حا 218 "ج3" حا 224، حا 236، حا 241، 242، حا 244، 246، حا 250، حا 352، حا 256، حا 267، حا 270، 271، حا 273، حا 280، حا 282، 283، حا 288، 292، حا 294، حا 330، حا 384، حا 464، 467، حا 506 "ج4" 484، حا 490، 491، حا 498، حا 502، حا 515 "ج5"، 22، حا 115، حا 207، حا 356، حا 367، حا 369 "ج6" حا 106، حا 105، 109، حا 111، حا 156، حا 294، حا 464، 466، حا 478، حا 480، 481، حا 485، حا 489، حا 501، حا 503، حا 506، 507، حا 550، 551، حا 555، حا 573، حا 576، حا 648، حا 660، حا 664، 665، حا 667، 668، حا 671، حا 673، حا 684، 685 "ج8" حا 382 "ج8" حا 204، حا 267، 268، حا 273 "ج9" حا 11، حا 562، حا 882 شفاء الغرام "ج6" 435 شفاء العليل "ح8" حا 262، حا 716 شلتيز: طبعة "ج1" حا 322 شمس العلوم "ج1" حا 40، حا 105، حا 321، حا 337، حا 345، حا 360، حا 364، حا 367، 368، حا 371، حا 390، حا 490، حا 574 "ج2" حا 591 "ج3" حا 388 "ج4" حا 124، حا 670 "ج5" حا 22، حا 56، حا 110، حا 124، حا 161، حا 295، حا 402، حا 420، 422، حا 430، حا 451، حا 474، حا 596 "ج6" حا 204، حا 281، حا 401، حا 740 "ج7" حا 248، حا 395، حا 549، حا 559، 560، حا 565، 566، حا 569، حا 585، حا 597، 601

"ج8" حا 26، حا 35، 36، حا 159، حا 264، حا 282، حا 287، حا 315، حا 384، حا 393، حا 400، حا 795 "ج9" حا 479 الشهاب الراصد "ج1" حا 70 الشهداء الحميرين "ج3" حا 464 حا 466، 467 شهداء فلسطين "ج1" حا 26 الشهداء المضيرة: "ج8" حا 601

الصاد

الصاد: الصاحبي في فقه اللغة "ج8" حا 139، حا 154، حا 158، حا 161، حا 550، 551، حا 556، 558، حا 561، 562، حا 568، حا 570، 571، حا 575، حا 57، حا 585، حا 596، حا 600، حا 603، 605، حا 617، حا 630، 631، حا 653، حا 655 "ج9" حا "6، 7، 10، 26، 43، 44، 49، 58، 123، 124، 170، 195، 196، 245، 248" الصادقة: صحيفة "ج8" 324، 750 صبح الأعشى "ج1" حا 296، حا 324، حا 345، حا 359، حا 376 "ج2" حا 513، حا 531، حا 539، حا 569، حا 576، حا 579، حا 583، 584، حا 587 "ج3" حا 275، حا 295، حا 382، حا 527، 528، حا 531، حا 533، حا 563 "ج4" حا 11، حا 115، حا 213، حا 380، حا 442، 443، حا 447، حا 449-، حا 451، حا 455، حا 458، 459، حا 461-ة 464، حا 470، حا 475، 477، حا 480، 483، حا 485، حا 487، حا 491، حا 497، 498، حا 503، حا 507، حا 510، حا 518، 520، حا 522، 523، حا 525، حا 529، 533، حا 535

"ج5" حا 90، حا 102، حا 109، حا 136، حا 129، حا 164، حا 210، 211، حا 342، حا 348، حا 356 "ج6" حا 224، 225، حا 267، حا 384، حا 407، حا 432، حا 553، حا 638، 639، حا 641، 642، حا 696، 701، حا 758، حا 761، حا 763، 764، حا 779، حا 786، 787، حا 791، حا 806، 807، حا 814 "ج7" حا 14، حا 147، حا 333، حا 344، حا 361، 362، حا 364، حا 371، حا 374، 375، حا 378، حا 384، حا 452 "ج8" 103، حا 114، حا 154، حا 157، 160، حا 182، 183، حا 185، حا 197، حا 253، 254، حا 256، حا 258، 259، حا 261، 264، حا 266، 267، حا 269، حا 416، حا 441، 442، حا 445، حا 455، 458، حا 461، 462، حا 464، حا 466، 470، حا 488، حا 493، حا 497 "ج9" حا 8، حا 10 الصبح المنير "ج1" حا 287 "ج6" حا 127 الصحاح "ج1" حا 38، حا 40، 41 "ج4" حا 11، حا 149، حا 390، حا 372، حا 375، حا 378، حا 439، حا 443، حا 449، حا 462، 463، حا 477، حا 479، حا 483، 484، حا 489، 490، حا 504، حا 506، 507، حا 511، حا 514، حا 517، حا 520، حا 525، حا 523 "ج5" حا 139، حا 160، حا 162، حا 168، حا 306، حا 477، حا 455، حا 458 "ج6" حا 263، حا 382، حا 439، حا 643 "ج8" 182 صحيح الأخبار "ج5" حا 451 "ج7" حا 151 صحيح البخاري "ج1" حا 41 "ج5" حا 161، حا 174، حا 315، حا 539، حا 589 "ج6" حا 356، حا 381، حا 472 "ج7" حا 27، حا 38، حا 60، حا، حا 309، حا 389، 390، حا 392، حا 394، حا 396 "ج8" 327، حا 399، حا 603 صحيح مسلم "ج1" حا 41، حا 109، 110 "ج4" حا 120، حا 562، حا 563، حا 568، حا 612، حا 666 "ج5" حا 123، حا 155، 156، حا 159، 160، حا

169، حا 403، حا 439، حا 442، حا 465، حا 467510، حا 537، 538، حا 557، 558، حا 560، حا 570، حا 589، حا 595، حا 602، حا 604، حا 622 "ج6" حا 49، حا 150، حا 353، 354، حا 356، حا 358، حا 371، حا 382، حا 394، حا 434، حا 436، حا 485، حا 550، حا 606، حا 644، حا 743، حا 748، حا 755، حا 758 "ج7" حا 27، حا 38، حا 216، حا 222، حا 388، 394، حا 396، حا 399، حا 429، حا 485، 486، حا 540، حا 617، حا 630، حا 632، حا 636 "ج8" 378، حا 399، حا 470 "ج9" حا 64، 65، حا 243، 244 صحيفة المتلمس "ج8" 108، حا 268، حا 328، 365، 750 صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز "ج5" حا 463 صفة جزيرة العرب "ج1" حا 96، حا 140، حا 146، حا 149، حا 151، 152، حا 157، حا 161، حا 167، حا 170، 187، حا 192، 193، حا 195، حا 203، حا 243، حا 301، حا 302 حا 312، حا 339، حا 426، 428، حا 451، حا 454، حا 458، حا 598، 599، حا 639 "ج2" حا 18، حا 50، حا 52، حا 53، 55، حا 73، حا 75، حا 83، حا 188، حا 158، حا 231، حا 284، حا 304، حا 354، حا 391، حا 398، 399، حا 406، 408، حا 412، حا 414، 442، حا 490، حا 507، حا 531 "ج3" حا 181، حا 319، 320، حا 323، حا 361، حا 439، حا 487 "ج4" حا 142، حا 146، حا 211، 213، حا 216، حا 245، حا 261، حا 438، حا 448، 449، حا 455، حا 475، حا 484، حا 504، حا 513، حا 515، حا 518، 519، حا 532، حا 535 "ج6" حا 271 "ج7" حا 9، حا 38، حا 56، حا 72، حا 114، حا 125، حا 131، 134، حا 150، حا 159، حا 163، حا 170، حا 179، 180، حا 184، حا 209، حا 211، 212، حا 273، 274، حا 317، حا 319، حا 338، حا 341، حا 344، 346، حا 363، 364، حا 371، حا 458

حا 507، 508، حا 512، 515، حا 517، 519، حا 522، 523، حا 527، حا 537، 539، حا 541 "ج8" حا 91، حا 208 "ج8" حا 91، حا 208 "ج9" حا "379، 484، 527حاحا 540، 567، 574، 576، 579، 657، حا 870" الصلاة "ج7" حا 38 صموئيل الأول: سفر "ج1" حا 436، 644 "ج4" حا 315 "ج6"حا 198، حا 325، حا 517، حا 777 "ج7" حا 477 "ج9" 776 صموئيل الثاني: سفر "ج4" حا 315، حا 609، حا 612 "ج6" حا 235 الصناعتين "ج5" حا 510 "ج9" حا 71، حا 239، حا 646 صور الكواكب الثمانية والأربعين "ج8" حا 427 صورة الأرض "ج4" 142، حا 146 "ج6" حا 529 صون المنطق والكلام "ج9" حا 51

الضاد

الضاد: ضحي الإسلام "ج8" حا 669 "ج9" حا "11، 21، 37- 37، 44، 47، 47، 58"

الطاء

الطاء: الطب "ج6" 743، حا 748 الطبقات "ج1" حا 87، حا 112، حا 146، حا 149، حا 201، حا 303، حا 311، حا 340، حا 342، 343، حا 355، حا 375، 378، حا 392، حا 394، حا 398، حا 411، حا 421، حا 433، حا 442، حا 445، 446، حا 448، 459، حا 464، حا 473، حا 527، حا 578 "ج5" حا 350، حا 501 "ج6" حا 611، حا 641 "ج6" حا 31، حا 110، حا 115، 116، حا 119، حا 121، 122، حا 125، حا 127، 130، حا 132، 133، حا 135، حا 141، حا 255، حا 261، حا 264، حا 273، حا 292، حا 297، حا 301، حا 324، حا 9378، حا 387، حا 415، حا 565، حا 629، حا 639، حا 645، حا 671، حا 725، حا 788 "ج9" حا 67، حا 70، حا 198، حا 387، حا 413، حا 552، حا 617، حا 710، حا 724، 725، حا 750، حا 793، حا 828، حا 864، 865، حا 868 طبقات الأدباء "ج9" حا 287 طبقات الأطباء والحكماء "ج8" حا 197، 199 طبقات الأمم "ج6" حا 130 طبقات الشافعية "د9" حا 528 طبقات الشعراء "ج1" حا 34، حا 41، حا 68، 71، حا 76، حا 379، حا 473 "ج3" حا 236، حا 245، حا 289، حا 359375، حا 377، حا 410، حا 428، 429 "ج4" حا 19، حا 27، حا 40، 46، حا 50، حا 55، حا 58، حا 60، 63، حا 65، 67، حا 72، 79، حا 82، حا 85، 86، حا 100، حا 122، حا 150، حا 152، حا 181، 185

حا 187، 171، حا 194، 201، حا 203، حا 206، حا 209، 212، حا 217، حا 220، 22، حا 224، حا 233، حا 240، 245، حا 247، حا 249، 251، حا 253، 255، حا 257، حا 261، 264، حا 267، 269، حا 292، حا 294، حا 384، حا 575، حا 596، حا 636، حا 680 "ج5" حا 48، حا 50، حا 52، 54، حا 156، حا 286، حا 378، حا 573، حا 593، حا 613 "ج6" حا 58، حا 68، حا 88، حا 89، حا 98، حا 251، حا 352، حا 363، حا 365، حا 370، حا 433، حا 464، حا 469، 472، حا 475، حا 480، 481، حا 483، حا 485، حا 502، حا 507، حا 518، حا 530، حا 542، حا 548، حا 570، 571، حا 580، حا 694 "ج4" حا 99، حا 102، حا 119، حا 136، حا 141، 142، حا 151، حا 193، حا 195، حا 290، حا 293، حا 304، حا 313، حا 330، حا 416، حا 448، حا 453، حا 457، حا 459، 463، حا 476، حا 484، 485، حا 502، حا 527، حا 538، حا 599، 600 حا 363 "ج8" حا 562، حا 617، حا 683، حا 710، حا 742 "ج9" حا "23، 35، 36، حا 40، 53، 54، 57، 66، 76، 85، 91، 93، 94، 97، 99، 115، 159، 177، 180، 182، 197، 214، 218، 220، 222، 230، 233، 235، 236، 240، 245، 246، 252، 260، 263، 269، 313، 314، 322، 328، 329، 333، 342، 343، 346، 350، 358، 363، 368، 377، 380، 381، 386، 401، 403، 407، 423، 424، 431، 446، 448، 453، 455، 470، 471، 473، 477، 504، 536، 537، 567، 573، 587، 598، 654، 657، 668، 670، 676، 688، 690، 694، 699، 706، 712، 714، 716، 719، 724، 726، 727، 730، 731، 747، 750، 752، 753، 758، 766، 767، 770، 771، 776، 781، 782، 784، 787، 793، 838، 848، 849، 854، 858، 861، 871، 872، 874، 877، 880، 882، 883، 886، 889، 895" طبقات النحويين "ج9" 36، 40، حا 322، حا 361

الطبوغرافية النصرانية "ج3" 461 طرفة الأصحاب "ج4" حا 416، 418، حا 420، حا 437، حا 477، حا 449، 450، حا 468، حا 476، حا 482، حا 504، حا 506، 507، حا 510، حا 517، حا 529، حا 531، 535 الطلاق "ج5" حا 551 الطهارة "ج1" 655، 656 "ج3" حا 176 الطواف حول بجر الاريتريا "ج1" 59، 325 "ج2" 21، 24، 29، 60، 61، 63، 64، 144، 158، 159، 168، 169، 502، 511، 516 "ج3" 450، 453 "ج7" حا 257، 261، 277 "ج8" 563

العين

العين: عاد الأولى والآخرة "ج1" 353 عاموس: سفر "ج1" 53، حا 693 العبر لابن خلدون "ج3"، حا 532، حا 563 "ج5" 193، حا "ج9" حا 297 عبودة زارة: "ج1" حا 352 العثمانية: مطبعة "ج8" حا 427 عجائب المخلوقات "ج1" حا 342 "ج6" حا 765، 766 العدد: سفر "ج1" حا 419، حا 453، حا 456 "ج3" حا 61، 66، 67 "ج4" حا 13 "ج5" حا 140 "ج6" حا 777، 781 "ج8" حا 192، حا 505 "ج9" حا 127، حا 131، حا 410 عدي بن زيد العبادي: كتاب "ج3" 159، 291 العرب في الشام قبل الإسلام "ج1" حا 51، 135 "ج3" حا 601، حا 622، حا 624 "ج3" حا 143، حا 149، 153، حا 191، 192، حا 476 "ج4" حا 57، حا 532

"ج5" حا 346 "ج6" حا 228، 229231، 233، حا 237، حا 269، حا 310، حا 326، حا 401، حا 414، حا 527 "ج7" 106، حا 198، حا 209، حا 212، حا 347، حا 355، حا 513، 514، حا 516، 522 "ج8" 237، حا 520، حا 725 العرب وما قيل فيها من الشعر "ج9" 322، 326 العرب والملاحة "ج2" حا 59، حا 65، حا 634، حا 639، حا 659 "ج7" حا 250 العربية: "ج2" 57 العرفان: مطبعة "ج1" حا 86 العروض: "ج9" حا 210، حا 299 العريان: طبعة "ج3" 277، حا 279، حا 332، حا 346 "ج4" حا 592 عزار: سفر: "ج1" 445 العصا "ج9" 627 العصر الجاهلي "ج8" حا 572، حا 576، حا 585، حا 637، حا 640، حا 658 "ج9" حا "209، 210، 434، 535، 586، 641، 777" العقد الثمين "ج3" حا 242، حا 271 "ج6" حا 657، حا 659، حا 678، حا 685 العقد الفريد "ج1" حا 25، حا 133، حا 263، حا 320، حا 373، 374، حا 376، حا 383، حا 401، حا 509 "ج3" حا 169، حا 181، حا 212، حا 226، 227، حا 229، 231، حا 233، حا 250، حا 274، 275، حا 277، 279، حا 295، حا 303، حا 333، حا 345، 346، حا 353، 355، حا 426، حا 429، حا 431 "ج4" حا 24، 26، حا 99، حا 112، حا 132، حا 135، حا 164، حا 206، حا 214، حا 220، حا 225، حا 308، حا 318، حا 369، حا 378، حا 402، حا 413، حا 438، حا 444، 445، حا 455، حا 494، 495، حا 568، حا 576، 579، حا 592، حا 614، حا 669، حا 681 "ج5" حا 35، حا 47، حا 54، حا 70، حا 72، 73، حا 108، 110، حا 112، حا 115، 117، حا 209، حا 247، 250، حا 311، حا 326، حا 329، حا 340، حا 347، 350، حا 352، حا 354، حا 356، 368، حا 373، حا 377، 379، حا 381، 383، حا 389، حا 395، حا 401، 402، حا 423، حا 425، حا 427، 428، حا 430، 431،

حا 435، حا 439، 440، حا 444، 446، حا 464، حا 467، حا 510، حا 521، حا 568، حا 641 "ج6" حا 465، حا 740، حا 748 "ج7" حا 133، حا 294، حا 307، حا 369، 370، حا 378، حا 384، حا 517، حا 580 "ج8" حا 120، 121، حا 154، حا 157، حا 159، 160، حا 319، حا 322، حا 345، حا 350، حا 363، حا 367، حا 382، حا 391، حا 393، 394، حا 396، حا 398، حا 415، حا 779، حا 786 "ج9" حا "21، 111، 200، 278، 280، 282، 323، 450، 484، 505، 511، 513، 590، 631، 635، 639، 679، 681، 836 عقود الجواهر "ج7" حا 428، حا 433 العقيقة "ج4" حا 652 "ج5" حا 174 العلل في النحو "ج8" 558 العلمية: مطبعة "ج3" 32 علوم اليونان "ج6" حا 627 العمدة: كتاب "ج3" حا 226، 227، حا 251، 252، حا 278، حا 286، حا 294، حا 297، حا 360 "ج4" حا 27، حا 30، حا 63، حا 83، حا 214، حا 318، حا 335، حا 337، 339، حا 368، حا 395، حا 492، حا 522، حا 529، حا 558، حا 570، حا 574، 575، حا 593، حا 646، حا 648، 650، حا 652، 653 "ج5" حا 40، حا 87، حا 111، 112، حا 116، 117، حا 121، حا 156، حا 172، حا 177، حا 223، حا 287، حا 289، حا 330، حا 342، حا 347، 348، حا 353، 354، حا 365، حا 368، 371، حا 373، 379، حا 384، 385، حا 392، حا 395، 398، حا 410، حا 423، حا 425، حا 427، 428، حا 432، حا 510، حا 527، حا 530، حا 537، 539، حا 543، حا 548، حا 550، 552، حا 563، حا 567، 568، حا 574، 575، حا 602 "ج6" حا 246، حا 357، حا 379، حا 439، حا 560، 561، حا 658، 659، حا 669، حا 678، حا 691، حا 740، 741، حا 743، حا 747، حا 753، حا 755، حا 758، حا 762، حا 785، حا 787، حا 790، حا 793، حا 797، 799، حا 801، حا 805 "ج7"، حا 32، حا 48، حا

60، حا 94، حا 175، حا 184، حا 206، حا 206218، 220، حا 223، حا 309، حا 390، حا 392، حا 394، حا 396، حا 395، حا 427، حا 501، حا 543، حا 555، 557، حا 570، حا 580، حا 584، حا 600، حا 602، حا 630، حا 632 "ج8" حا 340، حا 356، حا 366، حا 378، حا 391، حا 394، حا 409، حا 424، حا 431، حا 435، حا 483، حا 492، حا 623 "ج9" حا "64، 66، 67، 71، 77، 82، 83، 85، 86، 99، 102، 106، 111، 113، 115، 117، 142، 144، 146، 161، 163، 164، 168، 173، 175، 177، 180، 182، 184، 186، 190، 191، 200، 202، 203، 206، 230، 236، 238، 242، 243، 245، 246، 252، 258، 266، 267، 278، 329، 333، 332، 335، 339، 341، 401، 403، 413، 423، 424، 432، 434، 456، 505، 512، 517، 520، 531، 534، 544، 545، 549، 705، 710، 713، 715، 740، 742، 802، 826، 533، 842، 854، 874" عون المعبود "ج8" حا 710 العين "ج9" 211، 273، حا 793 عون الأثر "ج5" حا 640 "ج8" حا 131 "ج9" حا 499، حا 865 عيون الأخبار "ج1" حا 78، حا 309، حا 315 "ج3" حا 62، حا 179، حا 209 "ج4" حا 94، حا 97، حا 348350، حا 378، 379، 580، 586، حا 619، حا 635، 636، حا 639، 641، حا 643 "ج5"، حا 47، حا 55، حا 140، 141، حا 273، حا 292، حا 388، حا 401، 402، حا 808436، حا 438، حا 468، حا 641 "ج4" حا 234، حا 265، حا 480، حا 505، حا 611 "ج8" حا 159، حا 170، حا 197، حا 255، حا 410، حا 549، حا 617 "ج9" حا 42، حا 64، حا 280، حا 612، حا 631، حا 704، حا 766، حا 775، حا 835، حا 885، حا 896 عيون الأطباء "ج8" حا 386 عيون الابناء "ج8" حا 197، 199، حا 382، حا 384

الغين

الغين: غرائب اللغة "ج3" حا 192 "ج4" حا 273 "ج5" حا 8، حا 10، حا 19، حا 40، حا 51، حا 53، حا 99، حا 101، حا 104، حا 114، حا 123، حا 138، حا 158، حا 163، 164، حا 168 "ج5" حا 212، حا 272، حا 290، حا 305، حا 380، 381، حا 455، حا 464، حا 607 "ج6" حا 7، حا 39، حا 72، حا 75، حا 219، حا 401، 402، حا 481، حا 550، حا 582، حا 639، 640، حا 642، حا 648، 649، 653، 655، حا 657، حا 660، حا 692، حا 696، حا 730 "ج7" حا 57، حا 61، حا 117، حا 254، حا 265، حا 324، حا 413، حا 419، حا 477، حا 569، حا 593، حا 596، حا 606، حا 628، 631، حا 636 "ج8" حا 34، حا 262، 263، حا 269، حا 247، حا 276، حا 283، 288، حا 306، حا 308، حا 316، حا 337، حا 390، حا 394، 396، حا 399، حا 403، حا 417، حا 423، حا 732، حا 555، حا 606، 607، حا 709، حا 721، 725 "ج9" حا 342 غريب القرآن "ج8" حا 338، حا 603، حا 605

الفاء

الفاء: فائت العين "ج9" 210 الفائق "ج1" حا 112 "ج4" 443 "ج6" حا 366، حا 641 "ج8" 8186، حا 254، حا 258، 261، حا 267، حا 275، حا 325، حا 330، 331، حا 333، حا 342، حا 365، حا 556، حا 603، حا 631، حا 668، حا 757، 758، حا 761 "ج9" حا: 9، 14، 23، 36، 65، 91، 197، 198، 231، 246، 253، 279، 280، 287، 701، 731، 853، 866 الفاخر "ج1" حا 281، حا 315، حا 320، حا 336، حا 394 "ج3" حا 237، حا 241، حا 279، حا 283 "ج4" حا 353، حا 364، حا 400 "ج5" حا 68، حا 70، 72 حا 267، حا 403، حا 409516، حا 557، حا 587 "ج6" حا 732، 733 "ج7" 113، حا 585 "ج8" حا 358، حا 392، حا 412، حا 415 الفاضل والمفضول "ج9"حا 273 فتح الباري "ج5" حا 552 "ج6" حا 228، حا 236 "ج7" حا 573 "ج8" حا 710، 711، حا 716 فتوح البلدان "ج1" حا 158، حا 215، حا 470 "ج3" حا 392، حا 427 "ج4" حا 5، حا 11، حا 51، 53، حا 55، حا 125، حا 141، حا 147، حا 152، 153، حا 181، حا 185، حا 191، حا 193، حا 197، حا 199، 201، حا 203، حا 210، 211، حا 213، حا 216، حا 218، حا

223، حا 225، 227، حا 230، 231، حا 233، 236، حا 238، 241، حا 249، حا 251، حا 256، حا 264، حا 498، 499 "ج5" حا 207، حا 225، 226 "ج6" حا 61، حا 88، حا 91، حا 97، حا 523، 524، حا 528، 530، حا 535، حا 542، حا 562، حا 593، 594، حا 600، حا 641، حا 655، حا 676، حا 687، حا 694 "ج7" حا 43، حا 142، حا 148، 149، حا 168، حا 170، حا 177، 178، حا 191، 193، حا 201، حا 312، حا 342، حا 372، حا 444، حا 471، حا 496، 498، حا 500، حا 515 "ج8" حا 8، حا 35، حا 110، 111، حا 114، 116، حا 120، حا 124، 127، حا 133، 134، حا 137، 154، حا 156، 157، حا 273، حا 292، حا 295، حا 297، حا 301، حا 760، 761، حا 766 "ج9" حا 9، حا 155، حا 213، حا 411، حا 428 فتوح الشام "ج4" حا 229، 230 حا 233، حا 242 فتوح العراق "ج8" حا 35 فجر الإسلام "ج1" حا 38، 39، حا 152، حا 261، حا 263، حا 265، 271، حا 486 "ج8" حا 343، حا 360، حا 372، حا 376، حا 553، 554، حا 559 "ج9" حا 78، حا 95، حا 214 فخر السودان "ج4" حا 310، 312 "ج5" حا 144، حا 302 فرائد اللآل: كتاب "ج3" حا 184 "ج5" حا 356 فرائد اللغة "ج7" حا 567 "ج8" حا 253، حا 262، حا 267، حا 285 فرايتاغ: طبعة "ج6" 714 فصل ما بين العداوة الحسد "ج4" حا 586، حا 642 "ج5"حا 220 "ج9" حا 247، حا 284 الفصول المختارة "ج8" حا 122، حا 292 الفصول والغايات "ج6" حا 715 فضائل القرآن "ج8" حا 596، 600، حا 602، 604، حا 606، 607، حا 653، حا 672 فقه اللغة "ج5" حا 50، حا 54 "ج4" 725 فهارس البخاري "ج4" حا 652 الفهرست "ج1" حا 68، 69، 76، حا 78، حا 83،

حا 87، حا 89، 90، حا 99، حا 114، 116، حا 118، حا 146، حا 353، حا 411، حا 451، حا 469، حا 472 "ج3" حا 159، حا 291، حا 318، 319 "ج4" حا 377، حا 528، حا 684 "ج5" حا 335، حا 342، حا 394، حا 517 "ج6" حا 13، حا 227، حا 619، حا 701، حا 749، حا 785 "ج8" حا 108، حا 117، 118، حا 154، حا 157، 162، حا 168، حا 186، حا 188، حا 191، حا 193، حا 200، 201، حا 258، حا 260، حا 265، حا 286، حا 311، حا 320، حا 332، 334، حا 359، 360، حا 379، حا 418 حا 547، حا 557، 558، حا 565، 566، حا 616، حا 738، حا 762، حا 782 "ج9" حا "43، 38، حا 45، حا 52، 53، 55، 158، 194، 202، 210، 211، 255، 256، 293، 295، 279، 299، 302، 308، 318، 320، 322، 326، 344، 347، 349، 353، 363، 509، 539، 585، 605، 640، 777، 889" فوات الوفيات "ج9" حا 887 في الأدب الجاهلي "ج1" حا 504 "ج8" 632، 635، حا 640، حا 642، حا 644 "ج9" 375، 377، حا 436، حا 535، حا 583 في الأدب العربي "ج9" 63 في بلاد عسير "ج7" حا 512، حا 568 "ج8" 57

القاف

القاف: قاموس الكتاب المقدس "ج1" حا 19، حا 27، 28، حا 53، 54، حا 155، حا 199، 201، حا 204، حا 223، حا 236، حا 297، حا 299، حا 332، 333، حا 336، حا 346، حا 351، حا 361، حا 411، 412، حا 447، حا 451، حا 457، حا 459، حا 461، حا 574، 575، حا 577، حا 580، 581، حا 574، حا 586، حا 590، حا 596، حا 604، 605، حا 613، حا 631، 632، حا 637، 640، حا 642، 645، حا 651، حا 653 "ج2" حا 91، 93، حا 130، حا 623، حا 625 "ج3" حا 10، حا 12، حا 24، حا 53، 54، حا 59، 62، حا 64، حا 66، 68، حا 76، 77 "ج4" حا 13، حا 273، حا 609، حا 611، 613 "ج5" حا 6، حا 10، حا 32، حا 122، حا 140، حا 149، حا 153، حا 155، حا 160، حا 310، حا 316، حا 412، حا 473، حا 562، حا 605 "ج6" حا 197، حا 341، حا 552، حا 732، حا 773، 774 "ج7" حا 238، 239، حا 478، حا 553، حا 570، حا 623، 624، حا 630، حا 634 "ج8" حا 193، حا 203، حا 255، حا 290، حا 307، حا 325، حا 346، حا 395، حا 440، حا 453، 454، حا 463، حا 493+ "ج9" حا 130، حا 152 القاموس المحيط "ج1" حا 20، حا 38، حا 146، حا 155، حا 311، حا 359، حا 426، حا 431، حا 448، 449 "ج2" حا 173، حا 219 "ج3" حا 11، حا 155، حا

302، حا 323، حا 360، حا 387، حا 527 "ج4" حا 11، حا 60، حا 64، حا 319، حا 378، 379، حا 392، حا 419، حا 422، 423، حا 433، حا 442، حا 444، حا 446، 448، حا 450، حا 457، 459، حا 461، حا 479، 483، حا 485، حا 487، حا 489، 490، حا 503، حا 506، 507، حا 511، 513، حا 515، حا 517، حا 520، حا 525، حا 532، حا 590 "ج5" حا 71، 73، حا 101، حا 104، حا 109، حا 148، 149، حا 167، حا 198، حا 228، حا 304، 305، حا 308، حا 406، حا 455، حا 459، حا 462، حا 618، حا 621 "ج6" حا 71، 73، حا 133، حا 152، حا 190، حا 228، حا 258، حا 260، حا 262، حا 264، حا 283، حا 419، حا 451، 452، حا 550، حا 643، 644، حا 647، حا 649، حا 702، حا 792 "ج7" حا 32، 34، حا 47، 49، حا 63، حا 95، حا 166، حا 168، حا 216، حا 223، حا 231، حا 246 -255، حا 257، 258، حا 292، حا 365، 366، حا 378، حا 382، حا 390، 392، حا 415، حا 469، حا 513، حا 516، حا 518، حا 525، حا 527، حا 612، 613، حا 628، 529، حا 632، حا 628، 629، حا 632 "ج8" 182، حا 253 القانون المسعودي "ج8" حا 490 القراؤون والربائون "ج6" حا 553 القرآن الكريم "ج1" 13، 16، 20، 24، 33، 38، 40، 46، 66، 68، 70، 75، 81، 100، 103، 104، 113، 114، 127، 141، 168، 170، 185، 200، 202، 204، 210، 224حا 278، 304، 306، 308، 311، 313، 315، 317، 320، 323، 332، 334، 348، 353، 360، 398، 410، 414، 422، 451، 453، 473، 502، 510 "ج2" 115، 118، 258، 264، 265، 529، 283، 513، 538 "ج3" 10، 14، 56، 72، 106، 146، 148، 192، 459، 460، 468، 499، 407، 508، 517، 520، 529، 538 "ج4" 11، 49، 51، 75، 80، 109، 111، 113، 116، 120، 123، 143

152، 156، 184، 203، 217، 229، 275، 276، 290، 292، 294، 295، 308، 317، 318، 360، 371، 384، حا 416، 417، 528، 538، 542، 546، 553، 555، 556، 610، 651، 653، 676 "ج5" 11، 23، 42، 46، 67، 90، 92، 93، 95، 107، 135، 136، 139، 142، 143، 151، 164، 169، 181، 189، 193، 210، 234، 236، 251، 259، 287، 294، 296، 301، 304، 305، 316، 400، 401، 442، 464، 474، 478، 479، 482، 495، 496، 500، 513، 514، 522، 524، 527، 536، 540، 545، 548، 550، 564، 567، 571، 577، 579، 585، 588، 620، 622، 627، 649 ، "ج6" 11، 12، 14، 15، 24، 25، 27، 30، 40، 44، 45، 51، 61، 72، 74، 83، 89، 90، 98، 102، 104، 116، 118، 119، 123، 131، 147، 148، 165، 167، 169، 170، 172، 193، 203، 209، 210، 216، 217، 220، 221، 227، 237، 246 250، 258، 284، 292، 293، 296، 315، ة316، 321، 330، 336، 338، 340، 342، 346، 349، 350، 384، 391، 392، 395، 398، 420، 430، 449، 451، 455، 456، 461، 463، 467، 490، 495، 499، 508، 510، 512، 513، 533، 537، 543، 545، 547، 551، 557، 560، 566، 567، 574، 575، 583، 585، 586، 601، 604، 606، 618، 640، 643، 651، 652، 656، 676، 680، 688، 691، 701، 702، 705، 707، 709، 710، 720، 737، 740، 741، 746، 748، 756، 758، 769، 807 "ج8" 21، 33، 49، 52، 57، 60، 63، 74، 75، 91، 101، 119، 120، 122، 157، 166، 167، 175، 188، 201، 209، 229، 238، 239، 244، 248، 285، 287، 289، 294، 296، 348، 400، 401، 404، 410، 418، 420، 424، 420، 424، 426، حا 429، 431، 433، 439، 474، 476، 481، 483، 496، 545، 549،

553، 565، 566، 576، 584، 605، 607، 621، 624، 629، 630، 633 "ج8" 10، 13، 15، 17، 58، 63، 64، 92، 94، 97، 98، 100، 102، 105، 106، 108، 122، 142، 130، 132، 134، 138، 142، 154، 163، 165، 167، 170، 172، 172، 174، 176، 178، 183، 184، 186، 187، 193، 195، 196، 209، 214، 218، 229، 240، 248، 249، 252، 253، 256، 259، 266، 273، 275، 277، 278، 281، 282، 284، 286، 290، 301، 314، 322، 325، 328، 338، 339، 342، 343، 345، 346، 356، 357، 371، 372، 377، 385، 400، 427، 428، 430، 432، 437، 438، 444، 446، 454، 465، 482، 504، 522، 524، 533، 535، 538، 540، 543، 546، 548، 550، 560، 563، 564، 566، 572، 574، 576، 584، 586، 587، 590، 595، 606، 608، 609، 611، 613، 614، 616، 623، 625، 627، 629، 631، 634، 636، 638، 640، 642، 650، 651، 653 -656، 658، 662، 668، 672، 680، 683، 684، 686، 687، 698، 700، 709، 712، 713، 722، 727، 735، 738، 741، 743، 746، 748، 851، 753، 754، 756، 759، 763، 766، 776، 781 "ج9" 6، 11، 13، 14، 17، 20، 23، 27، 30، 32، 34، 36، 42، 54، 55، 75، 63، 64، 74، 77، 79، 109، 123، 138، 141، 143، 170، 172، 174، 195، 198، 217، 218، 222، 243، 245، 248، 249، 257، 268، 279، 280، 285، 289، 297، 313، 321، 324، 341، 343، 367، 374، 375، 384، 417، 436، 514، 517، حا 583، 619، 654، 727، 757، 758، 762، 821، 822، 838، 839، 841، 859، 862، 868 القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية "ج8" حا 623 "ج9" حا 24، حا 39، حا 48، حا 217، حا 280، حا 367 القصائد الست "ج9" 509 قصص الأنبياء "ج1" حا 320، حا 348، حا "ج6" حا 431 "ج7" حا 248

"ج8" حا 325 القضاة "ج1" حا 199، حا 454، 455، حا 573، 574، 604 "ج4" حا 315، حا 357 "ج6" حا 198 "ج9" حا 125 قلب جزيرة العرب "ج2" حا 28 "ج3" حا 50، 51 "ج4" حا 438 "ج8" حا 592، 593 قليم "ج1" 655 قوانين البلاد "ج2" 67 القيال: "ج4" 617

الكاف

الكاف: الكاثوليكية: مطبعة "ج1" حا 574 "ج4" حا 497 "ج5" حا 121، حا 356 "ج8" حا 285، حا 706، حا 772، 773، حا 782 "ج9" حا 85، حا 140، حا 280، حا 290 الكافي: كتاب "ج5" حا 538، حا 551 "ج8" حا 328 الكامل "ج1" حا 28، حا 296، حا 315، حا 323، حا 326، حا 337، 338، حا 375، حا 406، حا 417، 419، حا 448، 450، حا 452، 470، حا 493، 494، حا 607 "ج3" حا 168، حا 178، 181، حا 183، حا 187، حا 197، حا 206، حا 212، 214، حا 227، حا 227، حا 229، 230، حا 234، 235، حا 250، حا 262، حا 266، حا 268، حا 280، 271، حا 274، 275، حا 277، حا 294، 298، حا 300، 301، حا 32، حا 353، حا 363، حا 368، حا 442، حا 507، حا 510، حا 516 "ج4" حا 40، 42، حا 45، حا 50، حا 56، حا 64، حا 72، حا 80، حا 82، حا 101، حا 106، حا 134، 136، 139، 140، حا 143، 145

148، حا 151، حا 200، حا 214، حا 221، حا 234، 236، حا 238، حا 377، 378، حا 387، حا 490، حا 493، 484، حا 496، 498، حا 571، حا 659 "ج5" حا 35، حا 89، حا 91، حا 121، حا 193، حا 319، حا 347، حا 350، 352، حا 354، حا 356، 358، حا 360، 361، حا 365، حا 367، 368، حا 370، حا 378، حا 381، حا 384، حا 410، حا 417، حا 436، 437، حا 440 "ج6" حا 191، حا 193، حا 251، حا 263، حا 449، حا 502، حا 517، 521، حا 523، 527، حا 608، حا 966، حا 759، حا 765 "ج7" حا 189، حا 318، حا 372، حا 378 "ج8" حا 26، حا 116، حا 399 "ج9" حا 280، حا 306، حا 680، حا 88 كاوياني: مطبعة "جج1" حا 63 كاير: طبعة "ج3" حا 248، حا 442 "ج4" حا 213 "ج6" حا 107، حا 468 كتابة صرواح: "ج2" 390 كحالة "ج4" حا 438، حا 442، 448، حا 450، 451، حا 455، 460، حا 462، 466، حا 473، حا 476، حا 478، حا 480، 485، حا 487، حا 502، 508، حا 510، حا 512، حا 514، 515، حا 517 522، حا 524، 525، حا 529، حا 531، 534 الكرملي: طببعة "ج1" حا 46، حا 84، حا 90، حا 97، حا 99، 100، حا 103، 104، حا 120 "ج2" حا 117، 118، حا 197، حا 218، حا 356، حا 363 كرنكو: طبعة "ج1" 305 الكشاف "ج1" حا 323 "ج3" حا 458، حا 508، حا 510، 511، حا 515 "ج4" حا 12، حا 371، 382 "ج5" حا 19، حا 89، 90، حا 240، حا 304، 305، حا 537، حا 550، حا 553 "ج6" حا 24، حا 125، حا 194، حا 205، 206، حا 247، حا 249، حا 258، حا 260، حا 262، حا 264، حا 347، حا 350، حا 357، 359، حا 449، حا 451، حا 560، حا 643، 644، حا 647، حا 702، حا 743 "ج8" حا 278، حا 488، 489، حا 503 "ج9" حا 42

كشف الظنون "ج8" حا 547 كفاية المتحفظ ونهاية المتلفظ على الوان الحيل "ج4" حا 685 كلية الآذاب: مجلة "ج2" حا 370، حا 491 "ج5" حا 192 "ج7" حا 286 "ج8" 156، حا 169، حا 174، 175، حا 211، حا 414 "ج9" حا 47 كليلة ودمنة "ج6" حا 819 "ج8" 372 الكمارة "ج1" 656، 658 "ج9" 768 كني الشعراء "ج9" حا 748 الكنى والألقاب "ج1" 86 كنانة "ج9" 350 كنز العمال "ج8" حا 325 "ج9" حا 7، 9، حا 15، 16، حا 64 كنوز مدينةو بلقيس "ج1" 133 "ج2" حا 225، 230 كولدتزيهر: طبعة "ج1" حا 315

اللام

اللام: اللؤلؤ المنثور في تاريخ الأدب والعلوم السريانية "ج3" حا – 464، 465 "ج8" حا 341 اللالي: "ج5" حا 647 "ج5" حا 786 "ج9" حا 455، حا 463، حا 484، حا 642، حا 818، حا 863 لامية العرب "ج1" حا 38 لايبزك: طبعة "ج9" حا 727، حا 858، حا لايل: طبعة "ج4" حا 490 "ج5" حا 394، "ج6" 370 "ج9" حا 300، 301، حا 320، حا 672 لب اللباب في علم الأنساب "ج2" حا 399 اللباس "ج7" حا 389 اللجنة: طبعة "ج4" حا 220 اللسان "ج1" حا 14، حا 20، حا 38، حا 40، حا 70، حا 76، حا 79، حا 100، حا 146، حا 168، 169، حا 178، حا 282، حا 299، حا 302، حا 304، حا 308

حا 310، 312، حا 318، حا 324، حا 334، 335، 337، حا 339، حا 349، حا 360، حا 365، حا 378، حا 384، حا 385، حا 390، 392، حا 395، حا 431، حا 438، حا 448، 449، حا 454، حا 483، حا 485، 486، حا 493، حا 509، حا 522، حا 627 "ج2" حا 73، حا 117، حا 269، حا 304، حا 442، حا 512، 513، حا 515، حا 531، حا 644، حا 650 "ج3" 11، حا 13، حا 56، حا 60، 61، حا 63، حا 66، حا 79، حا 107، حا 155، حا 166، حا 170، حا 174، حا 180، حا 188، حا 198، حا 200، حا 202، حا 226، 227، حا 229، حا 236، حا 250، 251، حا 268، حا 270، حا 272، حا 283، حا 286، حا 288، حا 302، 303، حا 320، حا 358، 359، حا 382، حا 388، حا 426، حا 495، حا 497، 498، حا 527، حا 534، حا 537 "ج4" حا 13، حا 30، 32، حا 51، حا 58، 60، حا 64، حا 94، حا 97، 100، حا 131، 133، حا 135، حا 140، حا 146، حا 201 حا 208، حا 212، حا 223، حا 271، 272، حا 281، حا 286، 287، حا 289، 290، حا 292، حا 296، حا 306، حا 309، حا 318، 319، حا 332، حا 343، حا 356، حا 358، 359، حا 361، حا 365، 367، حا 370، 372، حا 374، 375، حا 377، 378، حا 380، حا 382، حا 386، 387، حا 389، 393، حا 396، 389، حا 400، حا 402، حا 404، حا 417، حا 411، 412، حا 415، حا 419، حا 424، حا 426، حا 439، حا 441، 444، حا 446، حا 448، 451، حا 455، حا 457، 459، حا 462، 465، حا 475، 480، حا 487، 490، حا 495، حا 497، حا 502، حا 504، حا 506، 507، حا 510، 515، حا 517، 520، حا 525، حا 529، حا 532-حا 534، حا 541، حا 546، 548، حا 553، 554، حا 556، حا 558، 561، حا 564، 569، حا 573، 574، حا 576، حا 581، 582، حا 584، حا 589، 590، حا 592، حا 596، 599، حا 604، حا 618، حا 622، حا 630، حا 632، 634، حا 646، حا 648

حا 650، حا 652، 653، حا 665، حا 678، 679، حا 681، 683، حا 685 "ج5" حا 6، 8، حا 17، 18، حا 21، حا 24، حا 27، حا 29، حا 35، حا 39، 44، حا 47، 49، حا 53، حا 57، 58، حا 64، 67، حا 71، 74، حا 78، حا 88، حا 95، حا 97، 99، حا 101، 104، حا 106، 107، حا 109، 114، حا 116، 129، حا 137، 140، حا 142، حا 147، 151، حا 160، 168، حا 172، 175، حا 183، حا 191، حا 193، حا 198، حا 202، حا 208، 212، حا 219، 220، حا 223، 224، حا 228، حا 236، حا 239، حا 247، حا 248، حا 258، 259، حا 264، 369، حا 272، حا 279، حا 281، 283، حا 285، حا 287، 290، حا 292، 295، حا 297، 298، حا 301، 306، حا 308، حا 311، حا 315، 316، حا 318، 321، حا 323، حا 326، حا 329، حا 332، حا 340، حا 361، حا 370، حا 378، حا 380، حا 394، حا 399، حا 401، 403، حا 405، 406، حا 409، حا 411، حا 417، 418، حا 420، حا 522، 423، حا 425، حا 430، حا 433، حا 439، 42، حا 447، 449، حا 452، حا 455، حا 457، 459، حا 462، حا 475، حا 486، حا 488، حا 495، 496، حا 506، حا 511، حا 514، 515، حا 519، 521، حا 527، حا 532، حا 534، حا 537، 539، حا 546، حا 548، حا 550، 552، حا 555، 556، حا 558، حا 560، 561، حا 564، حا 567، حا 575، حا 591، حا 594، 597، حا 600، 602، حا 604، 605، حا 607، 609، حا 617، حا 620، حا 626، حا 628، 629، حا 647، حا 650 "ج6" حا 7، حا 24، 25، حا 35، حا 40، حا 49، حا 56، حا 61، حا 67، حا 71، 74، حا 84، حا 99، حا 105، 106، حا 119، حا 123، حا 129، 130، حا 133، 135، حا 137، حا 139، 140، حا 142، 143، حا 145، 147، حا 150، حا 162، حا 190، حا 196، حا 200، 202، حا 204، 206، حا 209، 210، حا 218، حا 228، حا 230، حا 236، حا 241، حا 245، 246، حا 248، حا 252

253، حا 255، حا 257، 260، حا 363، 364، حا 366، حا 371، حا 374، 376، حا 282، 285، حا 288، 289، حا 337، حا 339، حا 343، حا 347، حا 354، حا 357، حا 359، 360، حا 363، حا 377، حا 381، 382، حا 384، 386، حا 390، حا 393، حا 396، 397، حا 400، حا 414، حا 416، حا 424، حا 438، 439، حا 441، حا 441، حا 443، حا 447، حا 449، 452، حا 466، حا 499، حا 510، حا 529، حا 550، 551، حا 553، حا 555، 556، حا 560، حا 583، حا 586، حا 617، حا 634، حا 638، 644، حا 647، 653، حا 656، 661، حا 667، حا 670، حا 672، حا 674، 678، حا 680، حا 686، حا 691، 693، حا 695، 699، حا 707، 708، حا 711، حا 714، 715، حا 719، 720، حا 723، حا 727، حا 730، 733، حا 735، حا 739، 740، حا 742، 743، حا 745، 753، حا 755، 756، حا 758، حا 762، حا 774، 775، حا 777، حا 779، 781، حا 783 786، 788، حا 792، حا 793، حا 797، حا 799، 802، حا 804، 806، حا 808، حا 813، حا 822 "ج7" حا 13، حا 60، حا 69، حا 72، حا 74، حا 152، حا 154، حا 158، حا 1654، حا 207، حا 218، 219، حا 226، حا 240، حا 244، حا 247، 250، حا 252، 256، حا 304، حا 317، 318، حا 326، 328، حا 380، 382، حا 388، 390، حا 392، حا 395، 379، حا 399، 401، حا 403، حا 408، 409، حا 413، حا 415، حا 422، حا 428، حا 430، 431، 431، حا 434، 436، حا 454، 455، حا 501، حا 503، حا 509، حا 517، حا 547، حا 551، حا 554، حا 556، 557، حا 560، حا 562، حا 565، حا 567، حا 569، حا 573، 574، حا 576، 577، حا 579، 582، حا 585، 588، حا 591، حا 593، حا 595، حا 600، 605، حا 607، 609، حا 612، 622، حا 624، 630، حا 632، 633، حا 636 "ج8" حا 16، حا 58، حا 60، 61، حا 63، حا 74، حا 91، حا 93، حا 154، حا 162، حا 182،

حا 185، حا 187، 188، حا 194، حا 258، 259، حا 265، 267، حا 269، 271، حا 274، حا 277، 283، حا 286، 287، حا 307، حا 315، حا 317، حا 326، حا 329، 330، حا 337، حا 354، حا 381، حا 386، حا 392، 395، حا 397، حا 405، حا 416، 417، حا 456، 458، حا 463، 464، حا 466، حا 469، حا 484، حا 488، حا 499، 502، حا 521، حا 605، حا 608، حا 631، حا 654، حا 660، حا 685، حا 617، 620حا 722، 738، حا 792 "ج9" حا "5، 6، 8، 10، 14، 35، 64، 67، 82، 86، 88، 119، 123، 157، 169، 173، 175، 178، 180، 182، 186، 189، 192، 197، 198، 20، 203، 205، 206، 275، 342، 356، 399، 418، 502، 503، 516، 517، 531، 547، 643، 647، 659، 744، 763 773، 801، 802، 856" لغات القرآن "ج8" حا 565، 616 لغة العرب: مجلة "ج8" حا 28 لقمان: مجلة "ج8" 288، 316، 341، 342، 766 "ج9" 723 اللهو والملاهي "ج5" حا 112، 115، حا 121 أوزاك: مطبعة "ج1" 307 ليدن: طبعة "ج1" حا 390، حا 563، حا 611، حا 622 "ج2" حا 16، حا 22، حا 26، حا 92، حا 155، حا 591 "ج3" حا 7، حا 43، حا 87، حا 90، حا 93، حا 206، حا 232، حا 236، حا 243، حا 261، حا 286، حا 336، حا 247، حا 268، حا 370، 372، حا 411 "ج4" حا 43، حا 60، حا 169، حا 374، حا 585، حا 684، 685 "ج5" حا 403، حا 520، حا 573 "ج6" حا 155، حا 469، حا 472، حا 501، حا 607 "ج9" حا "446، 510، 766، 782، 782، 874" ليس "ج1" حا 41

الميم

الميم: لسان الميزان "ج1" حا 86، 88 "ج8" حا 601 "ج9" حا 223، حا 343 المؤتلف المختلف "ج1" حا 483 "ج2" حا 636 "ج3" حا 245، حا 271

"ج5" حا 118، حا 153 "ج6" حا 466، حا 468 "ج8" حا 204، حا 263، حا 350، حا 383، حا 761 "ج9" حا "83، 104، 177، 180، 337، 383، 453، 459، 461، 475، 476، 484، 485، 487، 493، 496، 502، 504، 520، 546، 567، 648، 650، 659، 662، 670، 690، 729، 766، 796، 797، 834، 868، 871، 880، 897، 903" الماجدية: طبعة "ج3" حا 330 "ج4" حا 42 الماسورة "ج6" 552 مبادئ اللغة: "ج8" حا 268 المتبدا "ج4" حا 144 المبسوط "ج5" حا 527، حا 534، حا 537، 538، حا 550، حا 552 مثالب عبد القيس "ج4" 487 المثل السائر "ج9" حا 35، 36، 462 مجاني الأدب: "ج7" 566 المجدل "ج8" حا 385 مجرد الغريب "ج8" 566 مجالس ثغلب "ج1" حا 390، 483 "ج8" حا 271، 492، 630، 656 "ج9" حا 26، حا 64، حا 80، حا 119، حا 271، حا 280، حا 330، حا 462، حا 590، حا 637، حا 781، حا 848 مجالس العلماء "ج3" حا 267، حا 281 :ج5" حا 287 "ج9" حا 31، حا 33، حا 219، حا 273، 276، حا 283، 284، حا 311، حا 319، حا 361، حا 391، 392، حا 395، حا 398، حا 831، 832 المجتسطي: مطبعة "ج1" 60 مجمع الأمثال "ج1" حا 83، حا 307، حا 318، 319، حا 335، حا 337، حا 385، 386، حا 410 "ج2" حا 117 "ج3" حا 198، 201، حا 232، حا 241، حا 244، حا 246، حا 251، حا 278، حا 294، حا 347، حا 375، حا 507، حا 510 "ج4" حا 70، حا 152، حا 206، حا 494، حا 497، حا 523، حا 580، 581، حا 626 "ج5" حا 7، حا 36، حا 45، حا 51، حا 69، حا 74، حا 112، حا 141، حا 278، حا 356، 358حا 360، 361، حا 509، حا 531، حا 548 "ج6" 504، حا 767، حا 798حا 819 "ج7" حا 318، حا 557، حا 578، حا 582 "ج8" حا 108، حا 343

حا 350، 352، حا 360، حا 717، حا 780، حا 784، 785 "ج9" حا 548 مجمع البيان: "ج2" حا 513 "ج4" حا 11، حا 90 "ج5" حا 83، حا 90، حا 193، حا 304، حا 538، حا 546 "ج6" حا 300، حا 204، حا 218، حا 240، حا 246، 247، حا 251، حا 258، حا 449، 453، حا 455، حا 458، حا 482، حا 486، حا 560، حا 605، حا 643، 645، حا 691، حا 701 "ج8" حا 100 مجمع الزوائد "ج6" حا 502 المجمع العلمي العراقي: مجلة "ج1" حا 85، 86، حا 99 "ج3" حا 102، حا "ج4" حا 433، حا 668، 669 "ج5" حا 276 "ج6" حا 565، حا 188، حا 651 "ج7" حا 73، حا 188، حا 235، حا 266، حا 269، حا 270 "ج8" حا 14، حا 601، حا 750 "ج9" حا 252، حا 301، حا 307، حا 518، حا 694 المجمع العلمي العربي: مجلة "ج1" حا 90 "ج3" حا 461، حا 464، 465، حا 468، 469 "ج7"حا 566 "ج8" حا 149، حا 157، حا 172، حا 182، حا 329، حا 706، حا 750 "ج9" حا 311 المجمع اللغوي: مجلة "ج9" حا 48 مجموعة الوثائق السياسية "ج8" حا 269 المحاسية "ج5ط 332 المحاسن والأضداد "ج8" 344 "ج9" حا 24، حا 71، حا 194، حا 475، حا 523، حا 560، حا 591، حا 680، حا 729، حا 774، حا 778، حا 799، حا 813، حا 815، حا 876، 877، 879 محاضرات الأبرار "ج4" حا 90 "ج5" حا 83 "ج6" حا 369، حا 464، حا 698 محاضرات الأدباء "ج5" حا 512، حا 516، حا 519 محاضرات الراغب "ج6" حا 715 "ج9" حا 121، حا 498 المحبة "ج4" حا 106 المحبر "ج1" حا 357، حا 369، حا 363، حا 366، حا 363، 394 "ج2" حا 255، 256، حا 258 "ج3" حا 55، حا 202، حا 214، حا 254، 255

257، حا 260، حا 271، 272، حا 277، حا 293، 294، حا 299، 300، حا 309، حا 321، حا 337، حا 334، حا 354، حا 357—358، حا 360، حا 372، 373، حا 375، حا 377، حا 391، 392، حا 364، حا 398، حا 400، 401، حا 403، 404، حا 419، حا 426، حا 433، حا 435، حا 440، حا 445، حا 457، حا 459، حا 519، حا 536 "ج4" حا 27، 29، 31، 33، حا 43، حا 46، حا 60، حا 67، حا 73، حا 80، حا 86، حا 91، حا 94، حا 99، حا 103، 108، حا 110، حا 119، حا 154، 156، حا 173، حا 188، حا 198، حا 200، حا 203، حا 237، 238، حا 256، حا 268، حا 307، حا 316، حا 332، حا 334، حا 339، 340، حا 346، 347، حا 378، حا 404، 407، حا 441، حا 445، حا 449، حا 454، حا 456، حا 486، حا 493، 495، حا 508، 509، حا 511، حا 512، 514، حا 517، 518، حا 520، 521، حا 529، حا 535، حا 580، 582، حا 363، حا 645 حا 651، حا 661، 663، حا 668، حا 671، 673 "ج5" حا 38، حا 55، حا 69، حا 75، 76، حا 84، حا 139، حا 160، حا 248، حا 265، حا 284، حا 344، 348، حا 363، 364، حا 366، حا 369، حا 378، حا 385، حا 389، 393، حا 407، 408، حا 480، حا 521، حا 530، 531، حا 534، 537، حا 540، حا 547، 549، حا 554، حا 556، 557، حا 562، حا 565، 566، حا 585، حا 604، حا 606، حا 609، حا 638، 640، حا 642، 645، حا 647، 652 "ج6" حا 56، حا 58، حا 71، حا 82، حا 98، حا 126، حا 131، حا 147، 148، حا 156، حا 213، 216، حا 219، حا 228، حا 233، حا 235، 236، حا 244، 246، حا 248، حا 252، 253، حا 255، حا 258، حا 260، حا 262، حا 264، حا 266، 267، حا 270، 278، حا 281، 282، 285، 288، حا 338، حا 344، حا 346، حا 351، حا 356، 357، حا 360، حا 364، حا

373، حا 375، 376، حا 380، حا 409، حا 427، حا 430، حا 432، حا 459، حا 464، حا 471، 472، حا 476، 478، حا 488، حا 501، حا 504، 505، حا 509، حا 520، 521، حا 523، حا 607، حا 618 "ج7" حا 304، حا 315، حا 320، حا 336، حا 378، حا 394، حا 397، حا 439، حا 447 "ج8" حا 139، حا 292، حا 300، 301، حا 316، حا 401، 402، حا 474، حا 479، حا 497، 498، حا 501، حا 522 "ج9"، حا 72، حا 333، حا 453، حا 464، حا 561، حا 565، حا 606، حا 619، حا 642، حا 711، حا 717، حا 748، حا 772، حا 888 المحكم والمحيط الأعظم "ج5" حا 101، حا 193 المحلى "ج5" حا 568، حا 602 محيط المحيط "ج1" حا 39، 40، "ج5" حا 72، حا 323 "ج6" حا 451، حا 550، حا 560، حا 638، 640، حا 642، 644، حا 692 مختار الصحاح "ج5" 168، 169 "ج8" حا 488 مختار الشعراء الست "ج9" 508، 509 محتارات الشجري "ج8" حا 141 "ج9" حا 346، حا 487 محتصر ابن العبري "ج8" 487 مختصر تاريخ الدول: "ج2" حا 634 "ج3" حا 230، حا 536 "ج4": حا 271 المختصر في أخبار البشر "ج3" حا 227، حا 229، حا 233، حا 234، حا 294، حا 320، 321 "ج4" حا 40، حا 379 "ج5" حا 356، حا 361 "ج6" حا 78، حا 80 المختصر في علم اللغة العربية الجنوبية، "ج1" 101، 315، حا 317 "ج2" 176، 332، حا 359، حا 363، 369، حا 541 "ج4" حا 495، 496 "ج8" حا 209، حا 217 مختصر كتاب البلدان "ج6" حا 357 "ج7" حا 296 مختلف القبائل "ج4" حا 247 المخصص "ج1" 203، حا 243 "ج3" حا 370، حا 374، حا 647، حا 679، حا 685، 686 "ج5" حا 57، حا 68، حا

71، 73، حا 101، حا 103، 104، حا 107، حا 110، حا 114، حا 147، حا 151، حا 157، 158، حا 160، حا 164، حا 166، حا 168، حا 306، حا 512، 513، حا 516، حا 618، حا 621، 622 "ج6" حا 108، حا 122، حا 130، حا 135، حا 200، حا 202، حا 265، حا 640، حا 648، حا 654، 657، حا 679، حا 700، حا 715 "ج7" حا 30، حا 47، 49، حا 53، حا 55، حا 59، حا 62، حا 74، 75، حا 79، حا 94، حا 119، 120، حا 123، حا 160، حا 166، 167، حا 171، 173، حا 183، حا 185، 188، حا 190، 191، حا 197، حا 202، حا 206، حا 244، حا 46، 247، حا 249، 251، حا 255، حا 257، حا 326، حا 390، حا 392، 393، حا 473، حا 496، حا 501، 502، حا 529، حا 539، حا 577، حا 597، حا 602، حا 625، حا 607، 608، حا 612، 613، حا 616، 619، حا 626، 628، حا 632، 633، حا 636 "ج8" حا 269، حا 420، حا 424، حا 427، حا 439، حا 441، حا 443، حا 455، حا 466، حا 469، حا 577 "ج9" حا 52، حا 399، حا 639 المدارش "ج1" 420، 652 "ج6" 528، 550 مدارك التنزيل "جج1" حا 40 مدونة جستنيان "ج5" حا 469، 471، حا 481، حا 483، حا 508، حا 604، حا 607 المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن "ج1" حا 86 "ج8" حا 611، حا 614، حا 56، 57، حا 304، حا 306، حا 326، حا 362، حا 400 المراثي: "ج9" 150 مراصد الاطلاع "ج1" حا 46 "ج2" حا 650 "ج3" حا 181، 182، حا 227، حا 275، حا 302، 303 "ج4" حا 204، حا 232، حا 237، حا 514 "ج5" حا 365، حا 378 "ج6" حا 236، حا 422، حا 445 "ج7" حا 372، 373، حا 378، حا 382 مروج الذهب "ج1" حا 17، حا 42، حا 53، حا 60، حا

63، حا 75، حا 79، حا 81، حا 84، 85، حا 175، حا 294، حا 303، حا 315، حا 355، حا 357، 358، حا 362، 365، حا 376، حا 394، حا 394، 395، حا 411، حا 419، حا 432، حا 440، حا 452، حا 492، 493، حا 498، 500، حا 505، 506 "ج2" 24، 25، حا 264، حا 512، 513، حا 516، حا 532، 533، حا 594، حا 636، 637، حا 644، 645 "ج3" حا 11، حا 79، حا 90، حا 103، حا 105، 107، حا 112، حا 132، حا 162، حا 178، 179، حا 181، حا 183، 184، حا 187، حا 194، 195، حا 197، حا 260، 261، حا 266، حا 268، حا 270، حا 272، حا 275، حا 281، حا 287، حا 294، حا 301، حا 303، 305، حا 310، حا 315، حا 375، حا 387، 388، حا 397، حا 400، حا 426، 428، حا 431، 433، حا 445، 446، حا 504، 505، حا 507، حا 514، حا 516، حا 522، 523، حا 526، حا 531 "ج4" حا 13، حا 16، حا 27، حا 40، حا 42، حا 60، حا 78، حا 80، حا 83، حا 87، حا 96، حا 100، حا 256، حا 378 "ج5" حا 112، 114، حا 116، 117، حا 380، حا 640 "ج6" حا 77، 78، حا 80، حا 132، حا 141، حا 147، 148، حا 251، 252، حا 350، حا 434، حا 459، حا 461، 463، حا 466، حا 469، 471، حا 479، حا 482، حا 484، 485، حا 501، 505، حا 638، حا 691، حا 695، حا 698، حا 701، حا 755، حا 758، 760، حا 763، حا 765، 766، حا 769، 770، حا 772، 774، حا 801 "ج8" حا 165، 166، حا 439، حا 41، حا 455، حا 460، 462، حا 464، حا 466، حا 469، حا 491، 493، حا 498، حا 519، حا 754 "ج9" حا 646 المزارعة "ج7" حا 27 المزامير "ج1" حا 53، 54، حا 204، حا 439، 440، 450، 451 "ج2" حا 262 "ج3" حا 61

"جح4" حا 612 "ج5" 107، 111 "ج6" 555، 556، 711 "ج7" 233 "ج8" 277، 278، 340 "ج9" 125، 127، 130، 132، 133 المزهر "ج1" حا 14، حا 37، حا 41، حا 68، حا 70، 71حا 86، حا 118، حا 256 "ج3" حا 360 "ج4" حا 528 "ج5" حا 485، حا 594، حا 644 "ج8" حا 118، حا 128، حا 141، حا 157، 159، حا 161، حا 163، 168، حا 334، 335، حا 356، حا 358، 359، حا 363، حا 365، 368، حا 455، حا 459، 460، حا 466، حا 537، 539، حا 550، 552، حا 554، 558، حا 561، حا 568، حا 570، 573، حا 575، 577، حا 588، حا 600، حا 605، حا 617، حا 620، حا 625، 626، حا 639، 630، حا 655، 658، حا 661، حا 668، 669، حا 684، حا 686، حا 688، حا 690، 691، حا 711، حا 717، حا 726، حا 730، 732، حا 770 "ج9" حا "7، 17، 51، 54، 56، 58، 64، 66، 78، 80، 82، 83، 85، 102، 104، 111، 124، 207، 211، 215، 216، 218، 220، 222، 223، 26، 230، 237، 243، 248، 251، 253، 260، 261، 269، 272، 2748280، 292، 293، 297، 298، 300، 304، 307، 312، 314، 322، 324، 341، 343، 357، 362، 381، 386، 391، 396، 397، 407، 422، 422، 427، 430، 431، 439، 440، 445، 448، 453، 459، 462، 505، 506، 512*533، 536، 568، 588، 656، 659، 685، 690، 805، 823، 838، 839، 882" مساللك الأبصار "ج8" حا 378 المسالك والممالك "ج1" حا 192، حا 454 "ج3" حا 158 "ج7" حا 333، 334، حا 336، 338، حا 342، حا 344، 345، حا 348، 351، حا 353، 354، حا 359، 362، حا 364، حا 512 المستطرف في كل فن مستظرف "ج4" حا 404، حا 577، 578، حا 640، حا 652حا 665

"ج5" حا 94، حا 96 "ج6" حا 765، حا 767، حا 774، حا 806، 807 "ج8" حا 356، حا 359، حا 362، حا 364 "ج9" حا 321، حا 520 المستقصى "ج8" حا 358، حا 362، حا 365، حا 392764، حا 766 "ج9" حا 686 المسند "ج1" حا 23، 41، 91، 92، 97، 99، 101، 104، 106، 120، 121، 125، 127، 138، 169، 203، 211، 237، 272، 321، 330، 332، 357، 364، 461، 514، 568، 638 "ج2" 78، 124، 217، 354، 565، 570 "ج3" 315، 332، 388، 456، 487، 529، 537 "ج4" 17، 57، 278، 317، 372، 415، 518، 447، 449، 457، 460، 504، 546، 547، 550، 561، 616، 656 "ج5" 13، 21، 52، 137، 148، 166، 184، 190، 192، 195، 207، 222، 231، 243، 261، 277، 278، 280، 281، 296، 446، 462، 470، 488، 551 "ج6" 24، 27، 72، 73، 115، 120، 166، 170 174، 178، 187، 190، 192، 196، 199، 200، 209، 283، 291، ى292، 297، 301، 303، 306، 309، 333، 348، 349، حا 380، حا 390، حا 400، 402، حا 424، 425، حا 442، حا 450، حا 527، حا 541، حا 566، حا 607، 608 "ج7" 26، 30، 32، 34، 35، 37، 50، 52، 55، 57، 58، 60، 67، 73، 77، 95، 98، 101، 140، 145، 151، 157، 160، 164، 166، 167، 176، 182، 186، 18، 189، 198، 203، 205، 210، 211، 216، 224، 225، 228، 230، 237، 239، 241، 242، 245، 258، 261، 263، 305، 401، 402، 408، 450، 469، 477، 478، 481، 487، 490، 493، 501، 509، 510، 512، 514، 515، 517، 522، 523، 528، 531، 542، 548، 598، 610، 622، 626 "ج8" 10، 12، 18، 24، 74، 81، 92، 107، 111، 113، 115، حا 261، حا 275، 276، حا 281، حا 386، حا 405، 407، حا 413، 422، 423، 435، 438

الميسر والقداح "ج5" 127 نشيد الاناشيد: الانشاد "ج1" حا 439 "ج8" 340، 346 "ج9" 125 النصرانية وآدابها "ج5" حا 103، 104 "ج6" حا 583، 584، حا 586، 588، حا 592، 594، حا 596، حا 601، 602، حا 607، حا 610، حا 621، حا 625، 626، حا 629، 630، حا 632، 634، حا 637، 642، حا 646، 649، حا 651، 657، حا 659، 61، حا 666، 671، حا 679، 680، حا 682، 686، حا 688 "ج8" حا 108 النغم "ج9" 199، حا 210 النقائض "ج1" حا 149، حا 396 "ج3" حا 226، حا 251، حا 319، حا 348، حا 353، 355 "ج4" حا 207، حا 377، حا 445، حا 494، حا 530 "ج5" حا 350، حا 352، حا 354، حا 356، 357، حا 359، حا 361، حا 365، 369، حا 371، حا 373، 380 "ج6" حا 230، حا 269، حا 352 "ج7" حا 369 "ج8"حا 254، حا 333 "ج9" حا 75، حا 520 نقد العشر "ج8" حا 775 "ج9" حا 456 النقط والشكل "ج9" 210 نقوش خربة معين "ج2" حا 98، 99، حا 114 "ج4" حا 552 "ج5" حا 454، حا 462، حا 463، حا 569 "ج6" حا 426 "ج7" حا 32، حا 186، حا 511 نقوش سامية قديمة في جنوب بلاد العرب "ج8" حا 211، حا 413، 414 النكاح "ج5" حا 537، 538، حا 567 النموذجية: مطبعة "ج6"، حا 648 نهاية الأرب "ج1" حا 294، حا 310، 311، حا 313، حا 315، 317، حا 320، 324، حا 333، حا 347، 348، حا 355، حا 372، حا 375، 376، حا 381، حا 426، حا 509 "ج2" حا 615، 616 "ج3" حا 202، 203، حا 210، حا 212، حا 226، حا 233، حا 237، حا 251، حا 275، حا 295، حا 298، حا 315، حا 332، حا 3455، 346، حا 353، 354، حا 382، حا 501، 502

268، حا 271، 272، حا 308، حا 349، حا 750 "ج9" حا "23، 351، 253، 268، 270، 305، 348، 362، 372، 374، 419" 349، حا 750 "ج9" حا "23، 251، 253، 268، 270، 305، 348، 362، 372، 374، 419" مصادر كتاب القصائد الست "ج9" 305 المصحف الناموسي "ج6" 614 "ج8" 619 "ج9" 46، 47، 195، 313 المصون في الأدب "ج8" حا 738، حا 767، حا 782 "ج9" حا "40، 53، 89، 105، 106، 104، 223، 226، 273، 280، 282، 345، حا 719، 861" المضاف والمنسوب "ج6" حا 352 المعارف "ج1" حا 335، حا 337، حا 370، حا 372، 374، حا 381، حا 388، حا 392، حا 397، حا 399، 409 "ج2" حا 355، حا 592 "ج3" حا 159، حا 170، حا 176، حا 180، حا 187، 188، حا 203، حا 209، حا 231، حا 270، حا 282، حا 286، حا 293، 294، حا 303، حا 308، حا 321، 322، حا 389، حا 392، حا 394، حا 400، 402، حا 427، 428، حا 432، 433، حا 445، حا 504، حا 523، 524، حا 529، حا 531 "ج4" حا 39، 40، حا 60، حا 96، حا 99، حا 103، 104، حا 119، حا 136، حا 145، حا 151، حا 214، حا 245، حا 259، حا 334، 362، حا 377، 378، حا 386، حا 426، حا 443، حا 484، حا 492، حا 496، حا 500، حا 526، حا 529، حا 532، 533، حا 575، حا 626، حا 673، حا 671 "ج5" حا 45، حا 56، حا 110، حا 116، 117، حا 124، حا 157، حا 167، حا 189، حا 284، حا 356، حا 361، حا 398، حا 428، حا 467، حا 496، حا 520، حا 593، حا 605، حا 640، حا 649، حا 651، 652 "ج6" حا 85، 86، حا 93، حا 95، 96، حا 126، حا 147، 148، حا 363، حا 466، حا 469، حا 485، حا 514، حا 527، حا 590، حا 693، حا 713، حا 819، 820، حا 822 "ج7" حا 193، حا 379، حا 583 "ج8" حا 114، حا 116، 118، حا 120، حا 124، حا 126، حا 131، حا 137، حا 141، حا 295، حا 334

415، حا 417، حا 519، حا 642، حا 754، 755 "ج9" حا "9، 10، 37، 200، حا 286، 296، 304، 306، 308، 314، 322، 324، 377، 378، حا 474، 532، 547، 548، 717، 835، 889" معاني الشعر "ج9" 299 معاني القرآن "ج8" حا 187 المعاني الكبير "ج1" حا 304، حا 307، حا 318، حا 336، حا 372، حا 392، حا 393، 398 "ج3" حا 244، حا 248، حا 257، حا 261، 262، حا 266، حا 272، حا 280، حا 288، حا 299، حا 326، حا 358، حا 439 "ج4" حا 212، حا 216، حا 326، حا 370، حا 400، 402، حا 614 "ج5" حا 7، حا 9، حا 39، حا 264، حا 266، 267، حا 419، حا 422، 424، حا 419، حا 422، 424، حا 429، حا 431، 433، حا 458، حا 518، حا 570، حا 573، حا 597، حا 613 "ج6" حا 139، حا 200، حا 207، حا 215، حا 283حا 362، 363، حا 658، حا 790، 791، حا 795، حا 799، حا 804 "ج4" حا 160، حا 562، حا 567، حا 594، 595، حا 613 "ج8" حا 399، حا 410، حا 484، حا 501، 502 معاهد التنصيص "ج1" حا 367 "ج5" حا 369 "ج6" حا 577 "ج9" حا 379، حا 449، حا 451، حا 617، حا 717، حا 771، حا 865، حا 871، حا 882 معجم الأدباء "ج6" حا 13، حا 227 "ج9" البلدان "ج6" حا 13، حا 98، حا 598، حا 653، 656، حا 686، 687 "ج7" حا 639، حا 373، حا 376، حا 378، حا 380، حا 382 "ج8" حا 109، حا 205 "ج9" 21، حا 52، حا 88، حا 60، حا 280، حا 396، حا 407، حا 536 معجم الشعراء "ج3" حا 184، 186، 239، حا 244، 245، حا 250، حا 254، حا 255، حا 275، حا 285، حا 288، حا 295، حا 360 "ج5" حا 65، حا 96، حا 118، حا 189، حا 256، 257، حا 265، حا 645 "ج6" حا 277، حا 369، حا 387، حا 523، حا 698، حا 770 "ج8" حا 785، حا 787

"ج9" حا "65، 440، 448، 455، 456، 471، 472، 476، 477، 481، 488، 492، 495، 498، 502، 561، 564، 567، 568، 621، 649، 659، 666، 669، 671، 676، 677، 689، 690، 701، 710، 715، 720، 721، 726، 729، 764، 765، 783، 785، 789، 811، 826، 827، 848، 861، 863، 868، 869، 882، 885، 886، 888، 895، 902 معجم ما استعجم "ج1" حا 89، حا 113، حا 171، حا 303، حا 310، حا 319، حا 324، حا 349، حا 381، حا 390، حا 454، حا 486 "ج2" حا 52، حا 116، 117، حا 616، حا 650 "ج3" حا 87، حا 155، حا 227، حا 251، 252، حا 260، حا 273، حا 275، حا 302، 303، حا 361، حا 439، 440، حا 496 "ج4" حا 140، حا 142، حا 203، 204، حا 212، حا 214، حا 216، حا 218، حا 234، حا 237، حا 254، حا 257، حا 263، حا 269، حا 373 "ج5" حا 350، حا 352، حا 361، حا 378 "ج6" حا 150، حا 439، حا 523، حا 526، حا 529، حا 541 "ج8" حا 254، حا 261، حا 267، 268 المعجم المفهرست للالفاظ الحديث النبوي الشريف "ج6" حا 450، حا 550 "ج7" حا 247، حا 446 "ج8" حا 338، حا 344 معجم مقايس اللغة "ج3" حا 303 "ج5" حا 101، حا 104 "ج9" حا 16 معجميات عربية سامية "ج6" حا 648، حا 651، 653، حا 667، حا 675، حا 677، 678 المعرب "ج3" حا 375 "ج4" حا 123، حا 383، 613 "ج5ئط حا 31، حا 108، حا 109 "ج6" حا 135، حا 145، 146، حا 550، حا 552، حا 586+606، حا 651، حا 659، حا 692، حا 735 "ج7" حا 545، حا 551، 552، حا 558، 559، حا 563، 564، حا 566، 567، حا 570، 573، حا 576، حا 584، حا 590، حا 592، 593، حا 600، حا 604، حا 606، 608، حا 610، 611، حا 615، حا 617، 618

"ج8" حا 32، حا 60، 62، حا 269، حا 933، حا 696، حا 710، حا 716، 719، حا 727 "ج9" 268، حا 675، حا 771، 807 المعظم "ج8" حا 25 المعلقات العشر وأخبار شعرائها "ج6" حا 108 "ج9" 293 المعلمة الإسلامية "ج4" 444 المعمرون "ج1" حا 83، حا 315، 316، حا 383 "ج4" حا 426، حا 450 "ج5" حا 640، 641 "ج6" حا 32، حا 253، حا 282، حا 505، حا 687 "ج8" 353 "ج9"، 454، حا 476، حا 484، حا 499، 500، حا 532، حا 650، 651، حا 847، 874، حا 302، 303" المغازي والسير "ج1" حا 463 "ج7" حا 293 "ج9" 828، 906 المغرب في ترييب المعرب "ج7" حا 560، حا 584، حا 587، 588، حا 591، 592، حا 596، حا 599، 600، حا 602، 603، حا 608 "ج8" حا 9، حا 60، حا 63، حا 266، حا 399 المغني "ج8" حا 618 مفاتيح العلوم "ج3" حا 178، حا 186، 195، حا 197، 199، حا 217، حا 239، حا 257، حا 260، حا 268، حا 299، 300، حا 314 "ج4" حا 317، حا 319 "ج8" 271، حا 282، حا 285، 287 "ج9" حا 56، 57، حا 192 مفتاخ السعادة "ج6" حا 756، حا 758، 759، حا 762، حا 764، حا 772 "ج8" حا 185 "ج9" حا 20 مفتاح كنوز السنة "ج1" حا 41 المفردات "ج1" حا 510 "ج2" حا 513 "ج4" حا 11، حا 370، حا 372 "ج5" حا 23، حا 167، حا 183، حا 193، 194، حا 211، حا 235، حا 304، 305، حا 399، حا 469، حا 478، حا 482، حا 495، 496، حا 500، حا 524، حا 527، حا 550، حا 553، حا 559، 560، حا 571، حا 588، حا 602، حا 604، حا 619، 620، حا 622، حا 629، حا 632 "ج6" حا 24، حا 53، حا 61، حا 71، حا 204، حا 400، حا 402، حا 413، حا 451، حا 551، حا 553، 554، حا 56، حا 583

حا 640، حا 643، حا 651، 652، حا 657، حا 740، حا 786، حا 794 "ج7" حا 213، حا 422، حا 497، 498، حا 508، حا 549، حا 563، حا 607، حا 621، حا 622، حا 624، حا 628، حا 633 "ج8" حا 19، حا 36، حا 92، 94، حا 253، 254، حا 256، حا 262، 264، حا 266، حا 273، حا 327، حا 352، حا 488، حا 722، حا 724، حا 791 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام "ج6" حا 291 "ج7" 332 "ج8" 642، 644، 652، 680 "ج9" 59، حا 66، حا 252، حا 426، حا 506، حا 531، حا 778 المفضليات "ج1" حا 86، حا 146، حا 167، حا 176، حا 305، حا 307، 309، حا 314، حا 321، 322، حا 383، حا 395، حا 469، حا 471، حا 475، حا 522، حا 583 "ج3" حا 319، حا 327، حا 329، حا 336، حا 338، حا 346، 349، حا 353، حا 346، 349، حا 353، حا 357 "ج4" حا 139، حا 319، حا 375، حا 379، حا 398، حا 403، حا 523 "ج5" حا 362، حا 367، حا 377، 378، حا 385، حا 422، 423، حا 432، 433، حا 520 "ج6" حا 364، حا 657، حا 659، حا 673 "ج7" حا 369، حا 538 "ج8" حا 109، حا 140، حا 255، 256، حا 261، حا 269، 270 "ج9" حا 102، حا 148، حا 252، حا 270، حا 299، 302، حا 306، حا 345، حا 474، حا 481، حا 566، 567، حا 609، حا 662، حا 672، حا 689، 590، حا 789، حا 818، حا 832، حا 837، حا 885، 556 مقاتل الطالبيين "ج9" حا 300 مقاتل الفرسان "ج9" 521 المقاصد النحوية في شرح شواهد شرح الألفية "ج9" حا 502، حا 641، حا 664 مقامات الحريري "ج4" حا 497 "ج5" حا 356 المتقتبس "ج9" حا 297 المقتطف: مجلة "ج1" حا 244 مقدمة ابن خلدون "ج5" حا 144، حا 191، حا 444 "ج6" حا 639، 640، حا 642، حا 758، حا 768، حا 773، حا 784، 785 "ج8" حا 157، حا 161، حا 194، حا 262، حا 605، حا 630، حا 632

"ج9" حا 838 مقدمة الصحاح "ج5" حا 101، حا 104، حا 323 مقدمتان في علوم القرآن "ج8" حا 623 المقصورة "ج3" حا 187، حا 449 المكابيون الأول "ج1" حا 207، 649، 651 "ج3" حا 16، حا 23، 24، حا 31 المكابيون الثاني "ج3" 22، حا 23 المكتبة التاريخية "ح1" 58 "ج3" حا 464 الملاحن "ج8" 334 الملل والنحل "ج4" حا 80 "ج5" 539 "ج6" حا 451، حا 691، حا 701 الملوك الأول "ج1" 201، حا 429، حا 636، 638، حا 640، 641 "ج2" حا 260، حا "ج3" حا 777 "ج6" حا 198، حا 298، حا 795 "ج6" حا 198، حا 298، حا 795 "ج7" حا 321 "ج7" حا 346 الملوك الثاني "ج1" حا 201، حا 645 "ج6" حا 198، حا 261، حا 525، حا 685 ملوك العرب الأولية "ج4" حا 133 ملوك كندة "ج3" 318 الملوك المتوجة في حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم "ج1" 86 الملوك والأخبار الماضين "ج1" 84 "ج8" 379 المليجية: مطبعة "ج6" حا 44 المملكة العربية السعودية "ج7" حا 122، حا 208 من نسب إلى أمه من الشعراء "ج9" حا 649، حا 899، 900 مناقب الترك "ج4" حا 307، حا 388 "ج5" حا 30، حا 567، حا 595 "ج9" حا 465 مناهل العرفان في علوم القرآن "ج8" 98، حا 598، حا 600، حا 603،حا 612، 613، حا 621، 622 منتخبات "ج1" حا 100، حا 105، 106، حا 305، حا 311، حا 342، حا 355، حا 440، حا 502، 504، حا 509 "ج2" حا 55، حا 218، 219، حا 258، حا 304، حا 353، حا 362، 363، حا 400، حا 406، حا 490، حا 583 "ج3" حا 315، حا 322، حا 478 "ج4" حا 415، 416، حا 418، 419، حا 422، 424، حا 436، حا 434، 437، حا 439، حا 443

444، حا 446، 47، حا 459، 461، حا 464، 465، حا 475، حا 476، حا 505، حا 511، حا 514 "ج6" حا 56 المنذر ملك العرب "ج3" 159 المنشأ: "ج2" 123 المنيرية: طبعة "ج3" حا 262، حا 266، حا 295، حا 326، حا 344، حا 351 "ج4" حا 58، حا 60، حا 72، حا 82، حا 287 "ج5" حا 350، حا 361 "ج6" حا 759 "ج8" حا 269 الموازنة "ج8" حا 239 المواهب "ج4" حا 656 الموسوعة الإسلامية "ج1" حا 79 "ج3" حا 437 الموسوم بحمهرة أشعار العرب "ج9" 506 الموشح "ج8" حا 327 "ج9" حا "23، 80، 81، 164، 197، 199، 302، 328، 267، 313، 326، 340، 407، 465، 497، 534، 536، 585، 586، 730، 796، 804، 806، 880 الموطأ "ج6" حا 381، حا 390 "ج8" 614 مولد المسيح وحياته "ج1" حا 86 ميزان الاعتدال "ج8" حا 601 الميمنية: مطبعة "ج3" حا 507 مينارد "ج1" 3036

النون

النون: الناسخ والمنسوخ "ج8" 136 نبية: طبعة "ج1" حا 49، حا 99، حا 303، حا 349، 350، حا 362 "ج2" حا 218، حا 256، حا 304، حا 363، حا 391، حا 394، حا 399، حا 406 حا 412، حا 498 النحف: طبعة "ج2" حا 264 "ج3" حا 294، حا 309، حا 320، حا 368، حا 698، 399 "ج-8" حا 754، حا 792 النجوم الزاهرة "ج9" حا 287

نحميا: سفر "ج6" 526 "ج8" حا 307 نخبة الدهر في عجائب البر وا لبجر "ج6" حا 701 نزهة الألباء "ج9" حا "18، 23، 35، 36، 38، 39، 41، 42، 45، 53، 55، 57، 194، 219، 288، 297، 299، 304، 307، 310، 312، 322، 324، 327، 777" نزهة الجليس "ج3" حا 184، حا 283، حا 260، حا 374، حا 499 "ج4" حا 7، حا 11، حا 47، حا 51، حا 54، حا 131 "ج6" حا 696، 701، حا 768 "ج8" حا 126، حا 134، حا 159، حا 164، حا 167، حا 383، حا 455، حا 466، حا 670، حا 784 "ج9" حا 184، حا 193، حا 197، حا 521، 523، حا 529، 530540، حا 702، حا 775، حا 778 نسب عدنان "ج1" حا 370، 374، حا 376، حا 379، 398حا 474 "ج2" حا 353 "ج4" حا 415، حا 439، حا 441، 442، حا 446، حا 492 "ج6" حا 78 نسب قريش "ج1" حا 376، حا 378، حا 381، حا 472 "ج4" حا 24، حا 32، حا 37، 38، حا 50، 51، حا 59، حا 61، حا 66، حا 73، حا 86، حا 92، 94، حا 99، حا 103، 104، حا 238، حا 297، حا 379، حا 443+468، 470، حا 476، 480، حا 523، حا 530، 533، حا 560، حا 580، 582، حا 584 "ج5" حا 83، حا 320، حا 534، حا 623، حا 627، حا 624، حا 650 "ج6" حا 58، حا 95، حا 369، حا 408، حا 433، حا 473، حا 476، 478، حا 488، حا 502، 503، حا 606 "ج7" حا 126، حا 295، حا 323، حا 395، حا 441، 443 "ج8" حا 188، 119، حا 261، حا 266، حا 305، حا 323، حا 330، 331، حا 348، حا 377، حا 384، حا 755 "ج9" حا "277، 700، 702، 703، 705، 706، 708، 712، 714، 716، 718، 75، 786" النشر في القراءات العشر "ج8" حا 186، حا 611، حا 614، 615 نشوة الارتياح في بيان حقيقة

الميسر والقداح "ج5" 127 نشيد الاناشيد: الانشاد "ج1" حا 439 "ج8" 340، 346 "ج9" 125 النصرانية وآدابها "ج5" حا 103، 104 "ج6" حا 583، 584، حا 586، 588، حا 592، 594، حا 596، حا 601، 602، حا 607، حا 610، حا 621، حا 625، 626، حا 629، 630، حا 632، 634، حا 637، 642، حا 646، 649، حا 651، 657، حا 659، 61، حا 666، 671، حا 679، 680، حا 682، 686، حا 688 "ج8" حا 108 النغم "ج9" 199، حا 210 النقائض "ج1" حا 149، حا 396 "ج3" حا 226، حا 251، حا 319، حا 348، حا 353، 355 "ج4" حا 207، حا 377، حا 445، حا 494، حا 530 "ج5" حا 350، حا 352، حا 354، حا 356، 357، حا 359، حا 361، حا 365، 369، حا 371، حا 373، 380 "ج6" حا 230، حا 269، حا 352 "ج7" حا 369 "ج8"حا 254، حا 333 "ج9" حا 75، حا 520 نقد العشر "ج8" حا 775 "ج9" حا 456 النقط والشكل "ج9" 210 نقوش خربة معين "ج2" حا 98، 99، حا 114 "ج4" حا 552 "ج5" حا 454، حا 462، حا 463، حا 569 "ج6" حا 426 "ج7" حا 32، حا 186، حا 511 نقوش سامية قديمة في جنوب بلاد العرب "ج8" حا 211، حا 413، 414 النكاح "ج5" حا 537، 538، حا 567 النموذجية: مطبعة "ج6"، حا 648 نهاية الأرب "ج1" حا 294، حا 310، 311، حا 313، حا 315، 317، حا 320، 324، حا 333، حا 347، 348، حا 355، حا 372، حا 375، 376، حا 381، حا 426، حا 509 "ج2" حا 615، 616 "ج3" حا 202، 203، حا 210، حا 212، حا 226، حا 233، حا 237، حا 251، حا 275، حا 295، حا 298، حا 315، حا 332، حا 3455، 346، حا 353، 354، حا 382، حا 501، 502

"ج4"حا 7، حا 11، 12، حا 25، 27، حا 38، حا 41، حا 43، 44، حا 46، حا 51، حا 54، حا 58، حا 60، حا 62، حا 65، 67، حا 72، 73، حا 100، 102، حا 181، 182، حا 184، 188، حا 191، حا 194، 196، حا 200، حا 203، حا 2505، حا 209، حا 211، حا 213، حا 221، 222، حا 224، حا 236، حا 239، 242، حا 244، حا 246، حا 248، 249، حا 251، حا 254، 256، حا 258، 261، حا 263، 265، حا 269، حا 293، حا 318، 319، حا 324، حا 329، 331، حا 335، حا 353، حا 378، حا 380، حا 400، 401، حا 403، 404، حا 428، حا 442، 444، حا 447، 448، حا 451، حا 455، 462، حا 464، 465، حا 469، 470، حا 476، 477، حا 479، 483، حا 485، حا 487، حا 489، 490، حا 494، 497، حا 502، 510، حا 512، حا 512، 515، حا 517، 518، حا 522، 525، حا 528، حا 529، حا 531، حا 533، حا 535، حا 576، حا 578، حا 580، حا 584 حا 588، حا 594، حا 620، حا 671، حا 675، حا 682، 683، حا 685 "ج5" حا 29، حا 36، حا 43، حا 60، حا 87، 91، حا 96، حا 98، حا 103، 108، حا 112، حا 121، حا 128، 129، حا 156، حا 173، 174، حا 210، حا 217، 218، حا 221، حا 237، 238، حا 325، حا 331، حا 339، 340، حا 348، 349، حا 352، 354، حا 356، 359، حا 361، 370، حا 372، 373، حا 377، 378، حا 382، حا 393، 398، حا 409، حا 438، حا 447، حا 457، 458، حا 466، حا 585 "ج6" حا 13، حا 129، 130، حا 143، حا 227، حا 234، حا 251، حا 275، حا 278، 384، حا 386، حا 425، حا 436، حا 446، حا 510، حا 581، حا 617، حا 696، 698، حا 700، 701، حا 758، 759، حا 761، حا 763، 766، حا 769، حا 771، حا 774، حا 779، حا 781، حا 796، حا 806، 810، حا 813 "ج7" حا 135، حا 301، حا 353، 354، حا 407، حا 434، حا 444، حا

532، حا 536، حا 601 "ج8" حا 89، حا 132، حا 354، حا 370، حا 386، 387، حا 411، حا 416، حا 425، حا 433، حا 445، حا 456، حا 458466، حا 470، حا 492، حا 497، حا 499، 500، حا 502 "ج9" حا 156، حا 418، حا 784 النهاية في غريب الحديث "ج4" حا 371، حا 387، حا 646، حا 685 "ج5" حا 17، حا 162، حا 168، حا 174، حا 198، حا 220، حا 264، حا 304، حا 306، حا 308، 309، حا 521، حا 527، حا 534، حا 538، 539، حا 550، حا 554 "ج6" حا 361، 363، حا 385، حا 390، حا 449، حا 451، حا 550، حا 586، حا 639، حا 641، 644، حا 653، حا 675، حا 678، حا 691، حا 695، حا 702، حا 750، حا 762، حا 772، حا 774، 775، حا 780، حا 782، 783، حا 785، حا 790، حا 802 "ج7" حا 600، حا 608 "ج8" حا 393 نوادر أبي زيد "ج4" حا 403 "ج6" حا 715 "ج9" حا 472 نوادر المخطوطات "ج3" حا 159، حا 178، حا 180، 181، حا 268، 269، حا 443، حا 513 "ج4" حا 562، حا 674 "ج5" حا 26، حا 530، حا 588، حا 592، حا 643، حا 646، حا 650، حا "ج6" حا 259، حا 507، حا 521، حا 644 "ج8" حا 157، 159، حا 197، حا 361، حا 729 "ج9" حا 451، حا 486، 487، حا 537، حا 542، حا 561، حا 587، حا 599، حا 627، حا 647، حا 649، حا 685، حا 727، حا 753، حا 757، حا 794، حا 896، حا 899 نوافل أسد "ج5" 517 نوافل اياد "ج5" 517 نوافل تميم "ج5: 517 نوافل ربيعة "ج5" 517 نوافل قريش "ج5" 517 نوافل قضاعة "ج5" 517 نوافل قيس "ج5" 517 نوافل كنانة "ج5" 517 نوافل من نفل من عاد وثمود والعماليق وجرهم "ج5" 517 نوافل اليمن "ج5" 517 نيل الاوطار "ج5" 548، حا 552، حا 575، حا 602، حا 618 "ج7" حا 389

الهاء

الهاء: الهدي النبوي "ج5" حا 132 هرشفلد: طبعة "ج1" حا 384، حا 487 "ج2" حا 256 "ج6" حا 78، حا 252، حا 523، حا 602، حا 797 "ج8" حا 406 الهرطقات "ج6" 637 الهكادة "ج1" 420 "ج6" 554 الهلال: مجلة "ج1" حا 172، حا 234، حا 294، حا 300—301، حا 311، 312، حا 335، حا 426، حا 431، حا 523 "ج8" حا 605، حا 627 هوتسما: طبعة "ج4" حا 60، حا 377، 378 "ج5" حا 128، حا 520 "ج8" حا 135

الواو

الواو: الوثائق السياسية "ج5" حا 306 الوردت: طبعة "ج6" حا 659 وزارة الثقافة والارشاد القومي طبعة "ج6" حا 771 "ج9" حا 312، حا 623، حا 640 الوزراء والكتاب "ج8" حا 120، 121، حا 154، حا 157، 159 الوسائل في مسامرة الاوائل

"ج9" حا 280 الوساطة "ج9" حا 240، حا 804 وستنلفد: طبعة "ج1" حا 17، حا 342، حا 355، حا 396، حا 454، حا 525 "ج2" حا 52، حا 353، حا 616، حا 621 "ج3" حا 12، حا 62، حا 79، حا 132، حا 169، حا 357 "ج4" حا 14، حا 42، حا 247، حا 377، 378، حا 443، حا 526 "ج6" حا 384، حا 521، حا 577، حا 765 الوضائع: كتب "ج3" 534 وفاء الوفاء "ج5" حا 268، 269 وفيات الاعيان "ج1" حا 87، حا 89 "ج5" حا 109 "ج8" حا 162 الوقف "ج1" حا 68 ولهوزن: طبعة "ج3" حا 435 "ج8" حا 504

الياء

الياء: يشوع: سفر "ج1" حا 54، حا 644 "ج3" 60، 61، حا 157 اليمن ماضيها وحاضرها "ج7" حا 179 "ج7" 62 اليهود في جزيرة العرب "ج8" حا 714 يوئيل: سفر "ج1" 634 "ج7" 233

فهرس الجزء العشرين

فهرس الجزء العشرين ... فهرس الجزء العشرون: فهرس الدول والممالك والأماكن: حرف الألف 7 حرف الباء 16 حرف التاء 22 حرف الثاء 25 حرف الجيم 26 حرف الحاء 29 حرف الخاء 38 حرف الدال 40 حرف الذال 43 حرف الراء 45 حرف الزاي 49 حرف السين 20 حرف الشين 56 حرف الصاد 61 حرف الضاد 64 حرف الطاء 65 حرف الظاء 67 حرف العين 68 حرف الغين 80 حرف الفاء 82 حرف القاف 85

حرف الكاف 89 حرف اللام 92 حرف الميم 94 حرف النون 107 حرف الهاء 111 حرف الواو 113 حرف الياء 115 فهرس الأحداث والتواريخ: حرف الألف 122 حرف الباء 123 حرف التاء 124 حرف الثاء 124 حرف الجيم 125 حرف الحاء 125 حرف الخاء 126 حرف الدال 127 حرف الذال 127 حرف الراء 128 حرف الزاي 128 حرف السين 129 حرف الشين 130 حرف الصاد 130 حرف الضاد 131 حرف الطاء 131 جرف الظاء 131 حرف العين 132

حرف الغين 133 حرف الفاء 133 حرف القاف 134 حرف اللام 135 حرف الميم 136 حرف النون 136 حرف الهاء 137 حرف الواو 137 حرف الياء 138 فهرس المذاهب والفنون والمنسوبات والطوائف واللغات: حرف الألف 139 حرف الباء 149 حرف التاء 150 حرف الثاء 150 حرف الجيم 151 حرف الحاء 157 حرف الخاء 159 حرف الدال 159 حرف الراء 160 حرف الزاي 161 حرف السين 161 حرف الشين 164 حرف الصاد 164 حرف الطاء 165 حرف العين 166

حرف الغين 171 حرف الفاء 171 حرف القاف 173 حرف الكاف 174 حرف اللام 175 حرف الميم 176 حرف النون 178 حرف الهاء 181 حرف الواو 182 حرف الياء 182 فهرس السور القرآنية: حرف الألف 186 حرف الباء 187 حرف التاء 188 حرف الجيم 189 حرف الحاء 189 حرف الدال 190 حرف الذال 190 حرف الراء 191 حرف الزاي 191 حرف السين 192 حرف الشين 192 حرف الصاد 193 حرف الضاد 193 حرف الطاء 194 حرف العين 194

حرف الغين 195 حرف الفاء 195 حرف القاف 196 حرف الكاف 196 حرف اللام 197 حرف الميم 197 حرف النون 198 حرف الهاء 199 حرف الواو 199 حرف الياء 200 فهرس الأصنام: حرف الألف 201 حرف الباء 202 حرف التاء 203 حرف الثاء 203 حرف الجيم 204 حرف الحاء 204 حرف الدال 205 حرف الذال 205 حرف الراء 207 حرف الزاي 207 حرف السين 208 حرف الشين 209 حرف الصاد 210 حرف الضاد 211 حرف الطاء 211

حرف العين 211 حرف الغين 213 حرف الفاء 213 حرف القاف 214 حرف الكاف 214 حرف اللام 215 حرف الميم 215 حرف النون 217 حرف الهاء 217 حرف الواو 218 حرف الياء 219 فهرس الخيول والحيوانات الأخرى 220 الأسلحة 222 فهرس الجامع والشركات والبعثات فهرس الطباعة والمطبوعات حرف الألف 224 حرف الباء 240 حرف التاء 247 حرف الثاء 263 حرف الجيم 264 حرف الحاء 266 حرف الخاء 269 حرف الدال 271

حرف الذال 277 حرف الراء 278 حرف الزاي 281 حرف السين 282 حرف الشين 285 حرف الصاد 290 حرف الضاد 293 حرف الطاء 294 حرف العين 296 حرف العين 300 حرف الفاء 301 حرف القاف 304 حرف الكاف 308 حرف اللام 310 حرف الميم 314 حرف النون 330 حرف الهاء 335 حرف الهاء 335 حرف الواو 335 حرف الياء 336 الفهرست 337

§1/1